منهاج الاصول

اشارة

سرشناسه : رجايي، محمد

عنوان و نام پديدآور : منهاج الاصول/ تاليف محمد الرجائي

مشخصات نشر : محمدرجائي ، 1425ق. = 1383.

مشخصات ظاهري : ج 2

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ر3م8 1383

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 84-13294

ص: 1

المجلد 1

اشارة

منهاج الاصول

محمد الرجائي

ص: 2

الجزء الأول

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تعريف الفقه و ما يتوقّف علي معرفة الأحكام الشرعية

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام علي سيّد الأوّلين و الآخرين، و أشرف الأنبياء و المرسلين،محمّد و آله الطيّبين الطاهرين،و اللعن الدائم علي أعدائهم و غاصبي حقوقهم أجمعين.

أمّا بعد:فإنّ الفقه هي الأحكام الشرعيّة الواقعيّة و الظاهريّة التكليفيّة و الوضعيّة الموجودة في الكتاب،و السنّة،و الإجماع و الشهرة الكاشفين عن فتوي المعصوم، و العقل الضروري.

و يتوقّف معرفتها علي علوم:كالنحو،و الصرف،و اللغة،و علمي الرجال و الدراية،و غيرها،و قد تكفّل لهذه العلوم الكتب المؤلّفة فيها.

و يتوقّف معرفتها أيضا علي معرفة حجّية بعض الامور المتكفّل لها الكتب الاصوليّة.

مثلا انّ وجوب السورة في الصلاة مسألة فقهيّة موجودة في ضمن رواية وردت عن المعصومين عليهم السّلام،و يتوقّف معرفتها علي معرفة اللغة العربيّة و النحو و الصرف و معرفة الرجال و صحّة متنها.

و يتوقّف أيضا علي معرفة حجّية هذه الرواية،و حجّية ظهورها،و حجّية محصول الجمع بينها و بين معارضها لو كان.و حجّية هذه الامور هي اصول الفقه، فهي الحجج علي الأحكام الشرعيّة.

و من ذلك يظهر تعريف علم الاصول و موضوعه و مسائله.

ص: 3

فتعريفه أن يقال:اصول الفقه هي الحجج للفقه.

و موضوعه:الحجّة في الفقه.

و مسائله:خبر الواحد حجّة،و هكذا.

و اكتفيت بهذا المقدار؛لأنّ علم الاصول مقدّمة للفقه،فتركت البحث عمّا لا حاجة إليه منه في الفقه،و أدّيت المطالب ببيان واضح بلا غطاء و لا التفات ببعض المصطلحات؛لئلاّ يصير الفكر محبوسا في إطارها،و ليكون حرّا يصل إلي حقيقة الأمر،و ما أدخلت فيه مباحث سائر العلوم؛لعدم توقّفه عليها.

و حيث إنّ عمدة الأدلّة هي الكتاب و السنّة،و البحث عمّا يتعلّق بهما يعدّ من مباحث الألفاظ،فينبغي أن يذكر بعض المباحث الراجعة إلي مباحث الألفاظ.

ثمّ انّي تعرّضت لاصول الفقه في هذا الكتاب،و رتّبته علي مقدّمة و مقاصد و خاتمة.

أمّا المقدّمة،فيذكر فيها امور:

الأمر الأوّل: في دلالة اللفظ علي معناه

غير خفيّ أنّ اللفظ إذا لوحظ بما هو لفظ فهو كيف مسموع،لا دلالة له بذاته علي معني،و دلالته علي المعني ليست طبعيّة كدلالة السعال علي وجع الصدر،و لا عقليّة كدلالة الأثر علي المؤثّر،بل منشأ دلالته أحد امور:

أوّلها:إنطاق اللّه تعالي البشر عند إرادة تفهيم المعاني،كما جعل في طبيعة الطفل أن يبكي عند احتياجه إلي الطعام أو الشراب.و كون منشأ دلالة اللفظ ذلك قريب؛لأنّه يبعد أن تكون هذه اللغات المختلفة مع سعتها و صعوبتها هي من فعل غير اللّه تعالي.

ثانيها:أن يقول شخص له أتباع لأتباعه:اعلموا أنّه لا بدّ أن يخطر ببالكم عند

ص: 4

سماع الماء-أي:هذا الصوت-الجسم السيّال،كما يخطر ببالكم من مكتوبه، و إن حصل من تصفيق الرياح.

ثالثها:الاختصاص الحاصل للّفظ من كثرة الاستعمال في المعني المجازي، إلي أن صارت دلالته عليه غير محتاجة إلي قرينة.

فاللفظ بأحد هذه الأسباب يدلّ علي المعني دلالة تصوّريّة،سواء كان كلمة أو كلاما،و هذه الدلالة موجودة بالوجدان في مورد سبق اللسان و التكلّم نسيانا،أو في حال النوم ممّا يصدر الكلام بلا اختيار،و في صوت من شجر أو جبل،أو تصفيق رياح أو تلفّظ ببغاء و نحوها.

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللفظ قد جعل للمعني ممّن له حقّ الجعل من دون تعهّد من شخص علي استعماله عند إرادة تفهيم معني خاصّ،ما ورد في تسمية السقط،ففي خبز أبي بصير:فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر و الانثي،فإنّ أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة و لم تسمّوهم يقول السقط لأبيه:ألا سمّيتني الحديث (1).فانّه شامل باطلاقه ما لو لم يستعمل الاسم أصلا.

بل يمكن أن يستفاد ممّا روي في الخصال أنّ الغالط في كلامه يترتّب الأثر عليه،ففي حديث الأربعمائة:إذا غلبتك عينك و أنت في الصلاة،فاقطع الصلاة و نم،فإنّك لا تدري تدعو لك أو علي نفسك،لعلّك أن تدعو علي نفسك (2).فإنّه يدلّ علي أنّ الألفاظ الصادرة من النائم القاصد للفظ إذا صدرت منه غلطا تدلّ علي معانيها،مع أنّه لم يتعهّد ذلك.

بل يمكن الاستشهاد بتسبيح الحصي و تكلّم الحيوان،معجزة للنبي صلّي اللّه عليه و اله أو الوصي عليه السّلام،و شهادة الجوارح يوم القيامة إن كانت بالتكلّم.و في بعض الأخبار أنّ2.

ص: 5


1- جامع أحاديث الشيعة 21:331.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 592.

أمير المؤمنين عليه السّلام أحيي رجلا مات فتكلّم بغير لسانه،فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام ما مضمونه:لم لا تتكلّم بلسانك؟قال:متنا علي غير ما أراد اللّه تعالي،فانقلبت ألستنا (1).فإنّه ظاهر في أنّه أراد إلقاء المعني،فألقاه بغير اختياره بغير لسانه، فتأمّل.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ اللفظ يدلّ علي المعني بأحد الأسباب الثلاثة المذكورة،سواء كان مفردا،أو كان غير مفرد كغلام زيد،أو جملة تامّة خبريّة أو انشائيّة،حقيقة أو مجازا.

فكلام الساهي أو النائم يدلّ علي المعني،فإذا قال:زيد قائم،كان جملة خبريّة.أو قال:اضرب زيدا،كان جملة انشائيّة.نعم لا يترتّب الأثر المقصود إن لم يكن قاصدا لمضمونه،فتسبيح النائم لا ثواب له كقراءته القرآن،بل لا بدّ في ترتّب الثواب من قصد المضمون،سواء كان سامع يسمع أو لم يكن،سمعه نفس المتكلّم أو لم يسمع،و من ذلك الأذكار المستحبّة التي يقرؤها الأصمّ.

و دعوي أنّ اللفظ في جميع هذه الموارد لا يدلّ علي المعني دلالة وضعيّة؛لأنّ الوضع هو تعهّد المتكلّم،بأن يتلفّظ بلفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معني خاصّ.

تكلّف،فإنّ الحصي أو الحيوان متي تعهّدا بذلك.

ثمّ إنّ اللفظ لا يدلّ علي المراد الجدّي للمتكلّم،و إنّما يستكشف مراده إن تحقّقت هذه الامور:

أحدها:أن لا يكون المتكلّم ساهيا في كلامه،و لا سابقا إليه لسانه،و لا صادرا منه بغير اختيار،و يكون فاهما لمعناه،فربّما يقول:كل من هذا الطعام،و هو يزعم أنّ معناه لا تأكل منه.7.

ص: 6


1- اصول الكافي 1:457 ح 7.

ثانيها:أن يكون مريدا لظاهر لفظه لا لخلافه بدون نصب القرينة،أو مع تأخير نصبها.

ثالثها:أن يكون مريدا للظاهر جدّا لا تقيّة و لا مزاحا.

فاذا فقد أحدها،فلا يمكن أن يستكشف من كلامه أنّه أراد مضمون الكلام جدّا.

هذا كلّه في كشف المراد من الكلام.و أمّا الاحتجاج بظاهر الكلام علي المتكلّم أو علي السامع،فيكفي فيه إحراز كون المتكلّم في مقام البيان،أو الشكّ في كونه في مقامه،و لا يعتبر في الاحتجاج بكلامه إحراز الامور الثلاثة المعتبرة في كشف المراد؛لبناء العقلاء علي كون المتكلّم علي طبيعته السالمة من عدم النسيان،و علي كون ظاهر كلامه حجّة،و لذا لا يسمع منه الخلاف،و إلاّ لاختلّ النظام.

و قد اشير إلي بعض ذلك في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع،قال:

سألت أبا الحسن عن امرأة أحلّت لي جاريتها،فقال:ذاك لك،قلت:فإن كانت تمزح،فقال:و كيف لك بما في قلبها،فإن علمت أنّها تمزح فلا (1).

الأمر الثاني: في أقسام الوضع

و الممكن منها ثلاثة:

القسم الأوّل:الوضع الخاصّ و الموضوع له الخاصّ،و هو أن يتصوّر الواضع عند وضعه لفظ زيد معني خاصّا و هو الشخص المعيّن،و يضع اللفظ بإزائه.

القسم الثاني:الوضع العامّ و الموضوع له العامّ،و هو أن يتصوّر الواضع عند وضع لفظ كالانسان معني عامّا،و هو طبيعة الحيوان الناطق،و يضع اللفظ بإزائها.

ص: 7


1- وسائل الشيعة 14:534 ح 3.

القسم الثالث:الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ،و هو أن يتصوّر الواضع معني عامّا،كأن يتصوّر كلّ ولد ذكر يولد له،و يضع اللفظ بإزاء كلّ واحد منهم مستقلاّ، بأن يقول مثلا:سمّيت كلّ ولد يولد لي عليّا،فيكون اللفظ مشتركا لفظيّا،و ينحلّ ذلك إلي أوضاع مستقلّة،كما ينحلّ العامّ الاستغراقي إلي أفراده،فلا فرق بين أن يسمّي أوّل ولد ذكر له عليّا،ثمّ يسمّي الولد الثاني عليّا،و بين أن يقول:سمّيت كلّ ذكر يولد لي عليّا.

و أمّا الوضع الخاصّ،بأن يتصوّر المعني الخاصّ فقط من دون الانتقال إلي معني عامّ،و يضع اللفظ للمعني العامّ،فهو محال.

ثمّ إنّ العموم له معنيان:أحدهما أن يكون كلّيا طبيعيّا له أفراد،سواء كان جوهرا أو عرضا.ثانيهما:أن لا يكون مختصّا بشخص خاصّ أو مورد خاصّ و إن لم يكن كلّيا،كما إذا وضع رجل لرجل واحد،فإنّه لا يختصّ برجل معيّن و ليس كلّيا طبيعيّا،و لعلّ من هذا القبيل اسم الاشارة،و لذا يثنّي و يجمع.

فلفظة«هذا»موضوع لمفرد مذكّر يشار إليه بالاشارة الحسّية أو الذهنيّة،فهو من قبيل الوضع العامّ و الموضوع له العامّ بالمعني الثاني.و لا بدّ من اقتران الاستعمال بالاشارة الحسّية أو الذهنيّة،و لذا يكون معرفة يقع مبتدء كالأعلام.

فإذا قلنا«هذا العالم الفاضل»لم يكن تضييقا لمدلول هذا،كما في قولنا«رقبة مؤمنة»و ليس الوضع فيه عامّا و الموضوع له عامّا بمعني الكلّي الطبيعي،كما هو ظاهر الكفاية (1)،و لا الموضوع له خاصّا،كما صرّح به بعضهم.

ثمّ إنّه قد يقال:إنّ وضع الحروف عامّ و الموضوع له خاصّ،و قال في الكفاية:

إنّ الوضع و الموضوع له فيها عامّان (2).5.

ص: 8


1- كفاية الاصول ص 25.
2- كفاية الاصول ص 25.

و ينبغي لتحقيق ذلك أن يذكر معني الحرف،حتّي يتبيّن ذلك،فنقول:الحرف ما دلّ علي معني ليس معني الاسم و لا معني الفعل،فيتوقّف تمييز المعني الحرفي علي تمييز معني الاسم و الفعل.

أمّا الاسم،فهو اللفظ الدالّ علي ذات أو عرض بسيط أو مركّب لا تعلّق له بغيره صدورا منه،أو وقوعا عليه بحيث يحتاج مفهومه إلي من صدر منه أو وقع عليه، و يتصوّر فيه الوضع العامّ و الموضوع له العامّ،و الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ، و الوضع الخاصّ و الموضوع له الخاصّ.

و أمّا الفعل،فهو اللفظ الدالّ علي معني صادر من شيء أو قائم به،أو واقع عليه ينتظر عند سماعه إلي فاعله أو مفعوله كأنّه اخذ في مفهومه.و الوضع فيه عامّ و الموضوع له عامّ،مثلا ضرب يدلّ علي صدور الضرب من شخص،و هو كلّي له أفراد من حيث الزمان و المكان و آلة الضرب و غيرها.

و ما يقال من أنّ معني الهيئة حرفي،فهو خلاف الواقع،بل معناها معني الفعل.

و بذلك يظهر أنّ ما قيل من امتناع رجوع القيد في قولك«أكرم زيدا إن جاءك» إلي الهيئة لكون معناها حرفيا و الموضوع له فيها خاصّا ليس بكلّي،ليس علي ما ينبغي؛لأنّ للهيئة معني الفعل و هو كلّي قابل للتقييد.

و ما أجاب به في الكفاية (1)من أنّ الهيئة معناها حرفي لكن الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف عامّان،غير مقبول.

و قد ظهر أيضا ممّا ذكرنا الفرق بين ضارب و يضرب،فإنّ معني الأوّل الذات الصادر منها الضرب،و هو معني الاسم يقال بالفارسيّة:زننده.و معني الثاني صدور الضرب من فاعل ينتظر ذكره بعده،و هو معني الفعل يقال بالفارسيّة:ميزند.2.

ص: 9


1- كفاية الاصول ص 122.

إذا تحقّق معني الاسم و الفعل،فكلّ لفظ يدلّ علي معني ليس باسم و لا فعل فهو حرف.

و إن شئت قلت:إنّ الواضع لاحظ الأكل من الخبز،و السير من البصرة،و الأخذ من الدراهم،و غيرها من الموارد التي تذكر من معاني«من»فانتزع منها مفهوما و وضع له لفظة«من»فليس الموضوع له مرادفا لمفهوم الابتداء،و لا النسب الخاصّة بحيث يكون الوضع عامّا و الموضوع له خاصّا،كما في كلمات بعضهم،بل الموضوع له هذا المعني المنتزع المستقلّ،و يعبّر عنه بالفارسيّة«از»فقد وضعت لفظة«من»لما وضعت له«از»فهما مترادفان باختلاف اللغة،و ليس معني«من» الابتداء و لا التبعيض،و لا غيرهما من المعاني التي ذكروا لها،بل انّ تلك المعاني تستفاد من الطرفين.

فالحرف ما دلّ علي معني في نفسه لم يكن معني الاسم و لا الفعل،و ليس الحرف دالاّ علي معني في غيره،و لا دالاّ علي معني متعلّق بغيره،بل له معني مستقلّ لا فائدة فيه إلاّ إذا انضمّ إلي غيره،مثلا«من»موضوع لمعني يرادف بالفارسيّة«از»و الواو«با»و أو«يا»و إن«اگر»فهذه الحروف وضعت لهذه المعاني،و الوضع فيها عامّ و الموضوع له عامّ،بمعني عدم اختصاصها بمورد خاصّ،أو شخصّ خاصّ.

و ليس المعني كلّيا طبيعيّا له أفراد،و الكلّية و الجزئيّة مستفادتان من مدخولها و متعلّقها،مثلا قولنا«سر من البصرة إلي الكوفة»لا يختلف عن قولنا«سر سيرا سريعا من أوّل البصرة»،فما في الكفاية (1)من أنّه كلّي له مصاديق ليس علي ما ينبغي.و بهذا الضابط الذي ذكرناه يميّز اللفظ الذي ليس بمهمل أنّه اسم أو فعل أو5.

ص: 10


1- كفاية الاصول ص 25.

حرف.

ثمّ إنّ ما ذكر من أقسام الوضع،فإنّما هي في مرحلة الامكان و الثبوت.و أمّا في مرحلة الوقوع،فلا سبيل لنا إلي ما صنعه واضع لغة العرب مثلا،فلا بدّ من ملاحظة موارد الاستعمال،و إذا لاحظنا موارد استعمال«من»في الكتاب و الأخبار و التاريخ و الأشعار،رأينا استعماله في ابتداء العمل حقيقة،فنقيس عليه و نستعمله كذلك و نقول بانّه موضوع للدلالة علي ابتداء العمل و هو معني عامّ،فيكون الموضوع له عامّا،و لا ينبغي أن يخطر ببالنا أنّه موضوع في كلّ استعمال علي حدة.

و قد ظهر بما ذكرنا أنّ الحرف يختلف عن قسيميه في هويّة معناه،مثلا«إذا» في قولنا«إذا قمت قمت»اسم؛لأنّ معناه الوقت الذي قمت،و«إن»في قولنا«إن قمت»حرف؛لأنّ معناه بالفارسيّة«اگر»و«ليس»فعل يرادفه بالفارسيّة«نبود» و«لا»حرف يرادفه بالفارسيّة«نه»و يقال في جواب أرأيت زيدا؟لا،و لا يقال ليس.

و هذا الذي ذكرنا لعلّه معني ما نسب إلي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي:روي عن أبي الأسود الدؤلي أو عن أبيه،إلي أن قال:فألقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام إليّ صحيفة فيها بعد التسمية الكلمة اسم و فعل و حرف،فالاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف ما أنبأ عن معني ليس باسم و لا فعل الحديث (1).

و نحو هذا المتن مذكور في معجم الادباء (2)و كنز العمّال (3)،و مثله في تأسيس3.

ص: 11


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 181.
2- معجم الادباء 14:49.
3- كنز العمّال 10:283.

الشيعة (1).

و قال أيضا في تأسيس الشيعة:حكي عن ابن الأنباري هكذا:الاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما انبيء به،و الحرف ما جاء لمعني (2).

و قال أيضا عن سلامة بن عياض:الاسم ما دلّ علي المسمّي،و الفعل ما دلّ علي حركة المسمّي،و الحرف ما أنبأ عن معني ليس باسم و لا فعل (3).

و قال أيضا عن بعضهم:الاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف ما أوجد معني في غيره (4).

و حكي عن كتاب الرشاد:فالاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف أداة بينهما (5)انتهي.

فالحروف لها معاني كذلك،و مع ذلك توجد في غيرها معاني،فألف الاستفهام لها معني،و تبدّل الجملة الخبريّة إلي الانشائيّة،و كذلك«إن»الشرطيّة.

قال الشيخ الطوسي في العدّة:و يدخل علي الجملة حروف تغيّر معانيها، و تحدث فيها فوائد لم تكن قبل ذلك (6)انتهي.

فما في بعض العبائر من أنّ الحرف ما دلّ علي معني في غيره.ليس بصحيح؛ لأنّه إن اريد أنّ معناه كالعرض يوجد في غيره فليس كذلك.

و ذهب في نهاية الدراية إلي تفسيره بمعني النسبة،فقال:أي علي معني هو في2.

ص: 12


1- تأسيس الشيعة ص 61.
2- تأسيس الشيعة ص 49.
3- تأسيس الشيعة ص 51.
4- تأسيس الشيعة ص 53،و مثله في ص 55 و ص 57 و ص 60.
5- تأسيس الشيعة ص 59.
6- عدّة الاصول 1:31-32.

حدّ ذاته في غيره،لا أنّه موجود في غيره،فإنّ النسبة في حدّ ذاتها متقوّمة بغيرها لا في وجودها،كالعرض في الجوهر (1)انتهي.

و فيه أنّه عليه ينبغي أن يقال:إنّه ما دلّ علي معني يتقوّم بغيره.

ثمّ إنّ الحروف لها معاني حقيقيّة،و معاني مجازيّة،كما قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه:

إنّ الواو في قوله تعالي مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (2)بمعني«أو»مجازا (3).

و بعض الحروف مشترك لفظي بين معاني،كما ذكروا أنّ«من»لابتداء الغاية مكانا أو زمانا،و للتبيين مثل عندي عشرون من الدراهم،و للتبعيض مثل أخذت من الدراهم،و للتعليل مثل يغضي حياء و يغضي من مهابته،و للظرفيّة مثل قوله تعالي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ (4)و للبدليّة مثل قوله تعالي وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (5).

أقول:يمكن أن يقال:إنّ«من»في جميع هذه الموارد لها معني واحد مرادفها بالفارسيّة«از»و معناها ما يقرب من نشو ما قبلها من مدخولها نشوا ما، و الخصوصيّات المذكورة مستفادة من الطرفين.

و ما قيل من أنّها تكون بمعني البدليّة،كما في قوله تعالي لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فيمكن منعه؛لأنّه يحتمل أن يكون المعني في قوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ما ذكره البيضاوي،و هو أن يكون قد تولّد منكم ملائكة؛لأنّ الآية واردة في عيسي عليه السّلام،و انّه قد تولّد من امرأة من غير رجل.0.

ص: 13


1- نهاية الدراية 1:20 الطبع الحجري.
2- سورة النساء:3.
3- عدّة الاصول 1:33.
4- سورة الأحقاف:4.
5- سورة الزخرف:60.

ثمّ إنّ لهم مذاهب في معني الحروف،منها:ما في الكفاية من أنّه ليس المعني في كلمة«من»و لفظ الابتداء مثلا إلاّ الابتداء (1)إلي آخره.و هذا خلاف الوجدان.

و منها:أنّ الحروف موضوعة للحكاية عن واقع النسبة،و لذا يكون الوضع فيها عامّا و الموضوع له خاصّا،بحيث يكون لفظ«من»موضوعا لكلّ نسبة علي حدة، فكلّ ابتداء مثل سرت من البصرة،و دخلت من باب الدار و هكذا،له وضع مستقلّ، و يكون لفظ«من»مشتركا لفظيّا بين موارد الابتداء،و كذلك الحال في سائر معاني «من»غير الابتداء.

و فيه أنّ مفهوم«من»التي للابتداء،كمفهوم زيد لا يختلف بحسب موارد الاستعمال،و إن تباين وجود كلّ استعمال عن استعمال آخر.نعم مفهوم«من»التي للابتداء مشترك لفظي مع مفهوم«من»التي للظرفية،و هكذا.

و الحاصل أنّ الالتزام بأنّ لكلّ استعمال وضعا مستقلاّ بعيد جدّا،بأن يكون «من»موضوعا للابتداء في سرت من البصرة،و موضوعا للابتداء في سرت من الدار و هكذا،مع أنّ المعني في الجميع واحد و اللفظ واحد،فهذا يكون من اللغو، مع أنّ الاستعمال ينبغي أن يكون مسبوقا بالوضع.

و منها:أنّها علامات كالرفع و النصب،ذكره في وقاية الأذهان.و هو خلاف الوجدان.

ثمّ إنّ المعاني الكثيرة التي ذكروها لبعض الحروف تكون غالبا من المشترك المعنوي،كالتبيين و التبعيض و الابتداء في لفظة«من».6.

ص: 14


1- كفاية الاصول ص 26.

الأمر الثالث: في الانشاء و الاخبار

اشارة

اللفظ الدالّ علي معني دلالة تصوّريّة:إمّا كلمة أو كلام.و الكلمة لفظ يدلّ علي معني مفرد،و الكلام لفظ يدلّ علي معني مفيد،و هو إمّا خبر أو انشاء،و مثل اللفظ الخطّ و الاشارة.

و حدّ الخبر أنّه كلام،أو إشارة أو خطّ أو نحوهما لمعناه واقع وراء مفهومه،لو سمعه سامع احتمل مطابقته له و عدمها.

و حدّ الانشاء أنّه كلام مفيد ليس وراء مفهومه واقع يحتمل السامع مطابقته له و عدمها.

و الكلام علي أقسام:

القسم الأوّل:ما يكون إخبارا فقط،كقولنا هلك فرعون في الزمان الماضي، فإنّه لو صدر من الساهي أو النائم أو من أيّ شيء،فهو خبر عن تحقّق مضمونه في الزمان الماضي.

القسم الثاني:ما يكون إنشاء فقط،كصيغة الأمر و الاستفهام و نحوهما،صدرت من أيّ شخص.

القسم الثالث:ما يدلّ علي ثبوت المحمول للموضوع،و لا يدلّ بنفسه علي الاخبار و الانشاء،كقولنا هند طالق،و قولنا بعت الدار،فهو مشترك معنوي،و لا بدّ لتعيين أحدهما من قرينة حاليّة أو مقاليّة علي أنّ المتكلّم قصد الاخبار أو الانشاء.

نعم لو لم يكن سامع يكفي قصد المتكلّم في تعيين أحدهما،فإن قصد الانشاء وقع إنشاء،و إن قصد الاخبار وقع خبرا،و لا حاجة إلي القرينة.

و في كون الموضوع له و المستعمل فيه في هذا القسم واحدا أو متعدّدا قولان:

الأوّل:كونهما واحدا،بدعوي أنّ الهيئة التركيبيّة الكلاميّة قد وضعت لانتساب

ص: 15

الفعل إلي فاعله و مفعوله،أو انتساب المحمول لموضوعه،و كونه خبرا أو أنشاء مستفادان من القرينة الدالّة علي الانشاء أو الاخبار،أو قصد المتكلّم الحكاية و عدم قصده،من دون فرق بينهما في الوضع أو الاستعمال،فهما بمنزلة الداعي الخارج عن مدلول الكلام.

القول الثاني:تعدّد المعني،و قد بني ذلك علي كون الوضع هو التعهّد.

قال في المحاضرات:إنّ الوضع عبارة عن التزام كلّ متكلّم بأيّ لغة أنّه متي ما قصد تفهيم معني خاصّ أن يتكلّم بلفظ مخصوص،و الذي يمكن أن يتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الاخبار،و إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية في الانشاء،فالجملة الخبريّة و الانشائيّة تشتركان في إبراز الأمر الموجود في النفس، و لا يتّصفان بالصدق و الكذب من هذه الجهة،و إنّما الفرق بينهما في أنّ قصد الحكاية له واقع تطابقه أو لا تطابقه،فعلي هذا الجملة الانشائيّة موضوعة لإبراز أمر نفساني،فليس معني الانشاء و الاخبار واحدا،و الاختلاف بينهما من ناحية الدواعي.و ممّا يؤكّد عدم اتّحادهما بالذات أنّه لا يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب،فلا يقال للمتكلّم في الصلاة:معيد الصلاة،كما يقال:يعيد الصلاة (1)انتهي.

أقول:أوّلا لو سلّمنا أنّ الوضع هو التعهّد،فيمكن أن يتعهّد كلّ متكلّم أنّه متي ما أراد الاخبار يأتي بالجملة الدالّة بنفسها أو بقرينة علي وقوع النسبة و عدمها،و متي ما أراد ايجاد المعني باللفظ يأتي بجملة تدلّ عليه بنفسها أو بالقرينة،و التلفّظ أمر اختياري يقع متعلّق الالتزام.

و الانشاء و الاخبار خارجان عن مدلول صيغة«بعت»أو«هند طالق»إلاّ انّ5.

ص: 16


1- المحاضرات 1:85.

المتكلّم قد التزم بأنّه لو أراد الاخبار يأتي بصيغة«بعت»مع القرينة الدالّة علي الحكاية.و لو أراد الانشاء يأتي بصيغة«بعت»مع القرينة الدالّة علي عدم الحكاية عمّا وراء مفهوم الجملة،فصيغة«بعت»موضوعة لمعني يكون مشتركا معنويّا بين الاخبار و الانشاء.

و ثانيا:مع الغضّ عن عدم صحّة مسلك التعهّد في الوضع،فإنّ كون الانشاء إبراز الاعتبار النفساني خلاف الوجدان،ففي جملة«أزيد قائم»لم يعتبر في نفسه طلب الفهم،و ذلك واضح.

تنبيه:

قد يفصّل بين الامور الواقعيّة الخارجيّة،و بين الامور الاعتباريّة الجعليّة،بأنّ المعني الذي ذكرناه للانشاء لا يتحقّق في الأوّل،كقولنا«الشمس طالعة»و يتحقّق في الثاني،فيقال:زيد مالك.

أقول:إنشاء المعني في الأوّل متحقّق في موارد الحكومة،كما يقال:ربح المؤمن ربا،و زيد عالم،فيما إذا كان للعالم حكم اريد شموله لزيد،بل ربّما كان الأثر مترتّبا علي نفس الانشاء،بأن ينشيء فيقول:زيد ميّت،فيموت زيد.أو قائم،فيقوم.

ثمّ إنّ الانشاء قد يكون آلة لايجاد وجود اعتباري،كصيغة البيع فإنّها آلة لايجاد الملكيّة الاعتباريّة،و لعلّ ذلك ممّا يساعده الوجدان.

و هذا المعني الانشائي قد اعتبره الشارع،فكما أنّه إذا مات شخص انتقل ملكه إلي وارثه،أي:وجد للوارث ملكيّة،و هي اعتبار الشارع كون المال له،كذلك تتحقّق هذه الملكية بإنشاء صيغة البيع،أو بنبذ الحصي،أو بالتصفيق،و بكلّ شيء قصد به ذلك،و يكون نبذ الحصي آلة لوجود الملك،و كذا الصيغة و غيرها.

فإن أمضي الشارع هذه الآلة لايجاد ذلك ترتّب عليه الأثر شرعا،و إن أمضي

ص: 17

العقلاء ذلك ترتّب عليه الأثر عند العقلاء،و إن لم يمضه من له حقّ الامضاء كان إنشاء محضا.

و ممّا يؤيّد ذلك أنّ الناس يقولون في شعاراتهم:فليسقط فلان،أو فليعش فلان، يجعلون اللفظ آلة لوجود السقوط و العيش بنظرهم.

ثمّ لا يخفي أنّ الانشاء و هو قصد كون المحمول للموضوع خفيف المؤونة لا يتوقّف علي تأثيره فيما وراء عالم الانشاء،فيصحّ إنشاء الفضولي و المكره، و إنشاء الزواج بعد العلم بتحقّقه،كتكرار صيغته المتعارف في عصرنا،و التعليق في قولنا هند طالق إن كانت زوجة زيد،أو بعت الدار إن كان اليوم جمعة،راجع إلي وجوده الخارجي،و أمّا الانشاء فقد تحقّق و لا ينفكّ المنشأ عنه.

و ليس التعليق في أصل الانشاء،أي إن كان اليوم جمعة فقد أنشأت البيع،و إن لم يكن اليوم جمعة فاخبار،أو غلط لعدم الاستعمال في معني،بل التعليق في تأثير الانشاء في الوجود الخارجي،فهو جازم بالانشاء و إن لم يكن عالما بتأثيره في الخارج،فإن تبيّن له بعد ذلك أنّ اليوم جمعة،فقد علم أنّ الانشاء قد أثّر أثره.

و لا فرق في التأثير بين التعليق و عدمه،فمن شكّ في كون هند زوجته و أراد الاحتياط في أمرها،يصحّ له أن يقول عند الشاهدين العدلين:«هند طالق»من غير تعليق،فإنّه قد أنشأ هذا المعني،فهي إن كانت زوجته فقد طلّقت،و إلاّ كان الكلام إنشاء محضا،و لم ينفكّ المنشأ عن الانشاء.و لو علّقه علي كونها زوجته كان كذلك.نعم ادّعي الاجماع علي بطلان البيع أو مطلق العقود و الايقاعات إن لم تكن منجّزة.

و قد ظهر ممّا ذكر التأمّل فيما في التنقيح،حيث قال:نعم لو كان متردّدا في إنشائه،كما إذا قال:بعتك هذا المال إن كان اليوم جمعة،لقلنا ببطلانه و إن تحقّق شرطه بأن كان اليوم جمعة واقعا،و ذلك لأنّ الشكّ في أنّ اليوم جمعة يسبّب الشكّ

ص: 18

في أنّه هل باع ماله أم لم يبع،و مع عدم علمه ببيعه لا معني لأن يكون جازما بما قصده في نفسه من البيع و التمليك (1)انتهي.

فإنّ هذه الجملة أي بعتك مالي إن كان اليوم جمعة ليست غلطا و لا إخبارا،فهو إنشاء.

و قد ظهر أيضا أنّ القول بأنّ تفكيك الوجود عن الايجاد إنّما لا يعقل في الايجاد الحقيقي لا في الاعتباري (2)،غير واضح،فإنّ المنشأ لا ينفكّ عن الانشاء،فإنّ الانشاء ايجاد للمنشأ.نعم ترتيب الأثر علي المنشأ لا يكون إلاّ بعد قبول المشتري لإنشاء البايع البيع.

و ظهر أيضا أنّ ما ذكره في الاصول علي النهج الحديث،من إنكار آليّة اللفظ و علّيته لوجود المعني،و انّ المعقول من وجود المعني باللفظ هو وجوده بعين وجوده،لا وجوده بنحو وساطته للثبوت له إلي آخر تحقيقه (3).غير متعيّن،فإنّ الوجود وراء اللفظ و نحوه خارجي و ذهني و إنشائي اعتباري كالسلطان،فإنّ السلطنة وجود اعتباري ليس وجودا ذهنيّا و لا خارجيّا.

بل يمكن المناقشة فيما ذكره،بأنّ وجود المعني لو كان بعين وجود اللفظ،لكان منعدما و منصرما بانصرام اللفظ،إلاّ أن يقال بأنّ اللفظ يترتّب عليه الأثر حدوثا و بقاء،لكن المرتكز في الذهن بقاء المعني الانشائي،فمن اشتري شيئا فإنّه يغفل بعد سنين عن الشراء و يري نفسه مالكا للمثمن،و هكذا في الزوجيّة و غيرها.

و ربّما يعلم كون الشيء ملكا له و لا يعلم أنّه حصل بالارث،أو البيع اللفظي،أو المعاطاتي،أو بالحيازة،و الملكيّة ملحوظة مستقلّة عن منشأها.0.

ص: 19


1- التنقيح في شرح عروة الوثقي 1:68.
2- نهاية الاصول ص 27.
3- الاصول علي النهج الحديث ص 10.

الأمر الرابع: في الحقيقة و المجاز

اشارة

قد يتلفّظ بلفظ لا معني له،فهو لفظ مهمل،كديز مثلا.و قد يتلفّظ بلفظ له معني قد حصل له بأحد الأسباب المتقدّمة،فإن أفاد المعني الذي وضع له في اللغة سمّي حقيقة؛لأنّه حقّ في معناه و ثبت فيه.

و إن أفاد معني غير ما له في اللغة،فإن أفاد المعني الثاني بغير قرينة فهو منقول؛ لأنّ المعني الأوّل قد هجر و نقل اللفظ عنه.و إن استوي المعنيان و احتاج كلّ منهما إلي القرينة المعيّنة له،فهو مجاز مشهور،أو مشترك لفظي.و إن احتاج إفادة أحد المعاني إلي القرينة مع انصرافه من دونها إلي غيره،فهو المجاز.

ثمّ إن أراد المتكلّم إفادة المعني المطابقي للفظ حقيقة أو مجازا فمصرّح،و إن أراد إفادة لازمه فكناية.فإن كان لكلامه ظهوران أحدهما ما يخطر بذهن مطلق السامع و الآخر يعرفه اللبيب الفطن،و كان مراده ما يعرفه اللبيب،فهو تورية،كقول القائل«خليفة النبي صلّي اللّه عليه و اله من بنته في بيته»فإنّ ما يبدو من ظهوره بحسب محيط السامعين هو أبو بكر،لكن اللبيب العاقل يفهم منه أنّه علي بن أبي طالب عليه السّلام.

و أمّا إذا كان الكلام له ظهور واحد و قصد المتكلّم غير ظاهره،فلا يكون تورية، فلو قال:ما أكلت الخبز و قصد أنّه ما أكله في السماء لم يكن تورية،خلافا لبعضهم حيث جعله تورية.

هذا كلّه في دلالة اللفظ علي معناه من حيث هو.و أمّا كشف الكلام عن كونه مرادا جدّيا للمتكلّم،فلا بدّ من إحراز أنّه لم يقله لتقيّة،أو اكراه،أو هزل،أو سهو، فإن احرز ذلك فهو.و أمّا لو شكّ فيه،فبناء العقلاء علي الحمل علي الجدّ في مقام الاحتجاج.

ثمّ إنّ إفادة المعني بأحد الوجوه المذكورة في أيّ لغة كانت لا بدّ أن يصحّحها

ص: 20

أهل التلفّظ بتلك اللغة.

إذا تمهّد ما ذكرناه،فيقع البحث في المجاز في جهات:

الجهة الاولي:في أنّ المجاز هل هو التلفّظ باللفظ مرآة و حاكيا تامّا عن المعني غير الموضوع له،كحكايته عن الموضوع له،أو أنّه التلفّظ باللفظ حاكيا عن معناه الحقيقي،و يكون تطبيقه علي المعني غير الموضوع له بادّعاء أنّه فرده و مصداقه، أو هو التلفّظ بلفظ حاكيا عن معناه الحقيقي،لكن لا ليستقرّ في ذهن السامع،بل لينتقل إلي ما يشبهه من المعني غير الموضوع له؟وجوه:

الظاهر هو الأوّل؛لأنّ المتلفّظ بلفظ أسد في قوله«رأيت أسدا يرمي»قد تصرّف في مفهوم الأسد،و جعله بمعني البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،و أطلقه علي زيد كما يطلق علي الحيوان المخصوص،و ذلك لشباهته به،و كذلك في قوله زيد حاتم زمانه أو سلمان زمانه،قد تصرّف في مفهوم حاتم،و جعله بمعني البالغ أقصي مرتبة الجود،و أطلقه علي زيد.

و الفرق بينه و بين المشترك اللفظي أنّ المشترك يستعمل في كلّ واحد من المعنيين من دون مراعاة مناسبة بينهما،بخلاف المجاز.و ممّا يؤيّد ذلك رجوع ضمير يرمي إلي الأسد المذكور،فلو كان المراد به الحيوان المفترس،كان مجازا في الاسناد أو استخداما،و هو خلاف الظاهر جدّا.

و حكي الوجه الثاني عن السكّاكي،حيث وسّع أفراد الأسد و لم يتصرّف في مفهومه.علي العكس من الوجه الأوّل،فانّه مبني علي توسعة مفهوم الأسد حتّي يشمل ما يشابهه.

و لم يستبعده في المحاضرات،قال:فإنّ فيه المبالغة في الكلام الجارية علي طبق مقتضي الحال،بخلاف مسلك القوم فإنّه لا مبالغة فيه؛إذ لا فرق بين زيد أسد

ص: 21

و زيد شجاع،مع أنّ مراجعة الوجدان تشهد علي خلاف ذلك (1)انتهي.

و لا يخلو عن تكلّف في مثل الأعلام،كسلمان و حاتم،بل انّه خلاف الوجدان، فقولك«ركبت في طريقي إلي البلد الكذائي سفينة و كان جليسي أسدا»لا يخطر في ذهن السامع من جليسي إلاّ الانسان،و لا يفهم من الأسد الحيوان الذي له ذنب ادّعاء،كما يقال:زيد عالم،مع أنّه جاهل،فالذي يساعده الوجدان في مثل رأيت أسدا،هو رؤية أسدية الأسد،و أبرز خصائصه في شخص؛فإنّ أظهر خصائص الأسد هو البلوغ أقصي مرتبة الشجاعة.

و المراد من الأسد المستعمل مجازا ليس مطلق الشجاع،بل البالغ أقصي مرتبة الشجاعة التي لا يمكن التعبير عنها حقيقة إلاّ بالتعبير بممثّلها و هو الحيوان المخصوص.

و اختار الوجه الثالث في وقاية الأذهان،قائلا إنّ القائل إنّي قاتلت اليوم أسدا حصورا،و هو لم يقاتل إلاّ رجلا شجاعا مشيحا،لا يريد إلاّ إلقاء المعني الأصلي الموضوع له علي السامع و إفهامه إيّاه،و إن لم يكن مطابقا للواقع،و لم يكن ذلك منه علي سبيل الجدّ.

ثمّ أكثر من الأمثلة،و قال:و ليت شعري ماذا يقول القائل بأنّ اللفظ يستعمل في غير معناه في مثل قوله فلان شجاع بل أسد،ثمّ انّه صرّح بأنّ هذا الذي قرّرناه في المجاز غير الذي ذهب إليه السكّاكي؛لأنّ ما ذكرناه يعمّ مطلق المجاز،مرسلا (2)كان أم استعارة،و السكّاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة (3)انتهي.6.

ص: 22


1- المحاضرات 1:93.
2- و المراد به مثل استعمال الكلّ في الجزء أو العكس و نحوهما من أنحاء المجازات غير المجاز بالمشابهة.
3- وقاية الأذهان ص 40-46.

و اختار هذا المذهب في نهاية الاصول قائلا:إنّ الارادة الاستعماليّة متعلّقة بالمعني الحقيقي،و الارادة الجدّية هي انتقال السامع إلي ما يشابهه،قال:و بالجملة فنحن ندّعي في جميع المجازات ما ادّعاه السكّاكي في خصوص الاستعارة (1).

أقول:قد عرفت أنّه ليس مرادنا مرادفة أسد مع الرجل الشجاع،بل اريد من الأسد البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،فيصحّ الترقّي بأن يقال:زيد شجاع بل أسد، أي:بالغ أقصي مرتبة الشجاعة.

الجهة الثانية:في أنّ للمجاز وضعا أو أنّه يتبع حسن الاستعمال بالطبع من دون أن يكون له وضع،احتمالان،الاحتمال الأوّل:أنّ له وضعا،أي:لا بدّ من أن يكون مستعملا عند أبناء المحاورة و أهل اللسان،و قد حصروا جواز استعمال اللفظ في غير المعني الحقيقي في العلاقات المذكورة في كتب المعاني و البيان،و من البعيد جدّا أن يصحّ استعمال مجازي عند أبناء اللسان في غير ما ذكروه،و علي كلّ فالميزان صحّة الاستعمال عندهم،و هذا معني الوضع،أي:انّ أهل اللسان يخصّصون الألفاظ بمعاني تتبادر إلي الذهن بدون القرينة،و يخصّصونها بمعاني تتبادر مع القرينة.

الاحتمال الثاني:أنّه ليس له وضع،و بيانه من وجوه:

التقرير الأوّل:ما في الكفاية من أنّ صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له بالطبع،بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه و لو مع منع الواضع عنه، و باستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه (2)انتهي.

أقول:إنّ واضع اسم حاتم لو منع عن استعماله في السخي لم يضرّ و صحّ الاستعمال.8.

ص: 23


1- نهاية الاصول ص 25.
2- كفاية الاصول ص 28.

لكن قد عرفت أنّ المراد بالوضع صحّة الاستعمال عند أهل اللسان،فإن أراد صاحب الكفاية أنّ صحّته بطبع المستعمل و إن لم يرضه أهل اللسان،فهو محلّ منع،مثلا لو قال:سل الحمار،قاصدا به صاحبه،نظير وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ و كان موافقا لطبعه،لم ينفع ما لم يصحّحه أهل اللسان.

التقرير الثاني:ما في المحاضرات،من أنّ كلّ مستعمل واضع حقيقة،فهو كما تعهّد بذكر لفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معني خاصّ بدون القرينة،كذلك تعهّد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معني آخر مع القرينة،فلا مجال لهذا البحث ليقال:إنّ الواضع الأوّل للّغة هل وضع المجاز أو لا؟ (1)

أقول:لو سلّم أنّ الوضع هو التعهّد،فلا بدّ أن يكون تعهّده في استعمال المجاز مرضيّا عند أهل المحاورة،فيرجع إلي ترخيصهم،ففي المثال المذكور و هو سل الحمار،إن استعمله و قال:استعملته مجازا لم يقبل منه.

التقرير الثالث:ما يظهر من الوقاية من انكار المجاز فلا وضع له،لاحظ كلامه.

الجهة الثالثة:للمجاز أقسام:

منها:المجاز في الكلمة،و هو ما تقدّم.

و منها:المجاز في الاسناد،مثل قوله«و إذا المنيّة أنشبت أظفارها»فإنّ المراد بالمنية الموت،و المراد بالانشاب و الأظفار معناهما الحقيقي لكن الاسناد مجاز، فكأنّه جعل المنيّة حيوانا مفترسا قد أنشب أظفاره.

و منها:المجاز في الانتقال إلي غاية المدح،كقوله«بدر السماء في داري».

ثمّ إنّ الكناية و الاستعارة ليستا من المجاز في الكلمة،بل في الانتقال إلي ما يكون كأنّه هو،فالأبيات التي ذكرها في الوقاية (2)كلّها كناية و استعارة ليس من0.

ص: 24


1- المحاضرات 1:93.
2- وقاية الأذهان ص 40.

المجاز في الكلمة،فقوله:

قامت تظلّلني و من عجب شمس تظلّلني من الشمس

يريد المعاني الحقيقيّة،لكن لينتقل علي أنّ محبوبته هكذا ينبغي أن يضرب لها المثل،فتأمّل.

تتميم:

الاستعمال ذكر لفظ لإفادة مطلب،و لا يتوقّف صحّته علي كون اللفظ موضوعا لمعني،مثلا يصحّ أن يقال:ديز مهمل،فإن كان اللفظ موضوعا فقد يستعمل و يراد لفظه،كقولنا«زيد اسم لابن بكر»و قد يراد معناه،كقولنا«زيد قائم»و قد يراد كلاهما،كقولنا«زيد اسم ابن بكر قائم».و قولنا زيد لفظ أو ثلاثة أحرف،قد استعمل بدون قصد معناه و اريد منه هذه اللفظة صدرت من أيّ لافظ حتّي المتكلّم به،أو من باب حذف ما يعلم أي لفظة زيد.أو اريد نفس اللفظة من باب أنّ هذه اللفظة فرد من أفراد لفظ زيد يقوله كلّ أحد،و الاستعمال في جميع ذلك ليس مجازا،نعم لم يرد به معناه لكن الاستعمال لا يتوقّف علي إرادة المعني.

و قد يستعمل اللفظ في نوعه،مثل قولنا«من حرف جرّ»فإنّه لا يشمل نفسه؛ لأنّه لم يجر.أو صنفه،كقولنا«ضرب في ضرب زيد فعل»إذا اريد صنفه.و قد يستعمل في مثله،كقولنا«ضرب في كلام عمرو ضرب زيد فعل ماض».

الأمر الخامس: في أقسام الدلالة

قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الدلالة اللفظيّة الجعليّة علي المعني تتحقّق بوجود اللفظ، و إن صدر من لافظ بلا شعور،كببغاء أو صدي جبل،من غير فرق بين المفردات و الجمل،و كذلك الخطّ و نحوه،فإذا تكلّم متكلّم و قال:زيد قائم،دلّ علي معناه و إن كان سابقا له لسانه،و إن شئت فسمّها دلالة تصوّرية.

ص: 25

ثمّ يكون بعد ذلك مرحلتان:

المرحلة الاولي:كون المتكلّم مريدا لمضمون الكلام إرادة إستعماليّة،و العلم به لا يكون حاصلا من الوضع،بل إذا علم أنّه لم يكن ساهيا و لا سابقا لسانه و لا هازلا و كان في مقام التفهيم،دلّ علي أنّه مريد للمعني بالارادة الاستعماليّة،كما إذا قال الامام المعصوم في جواب من سأله عن المسح علي الرجلين في الوضوء:

اغسل رجليك.فإنّ الارادة الاستعماليّة موجودة للعلم بأنّه ليس ساهيا و لا هازلا.

المرحلة الثانية:كون المتكلّم مريدا جدّا ما أراده استعمالا،و هذا يتوقّف علي العلم بأنّه لم يقله تقيّة مثلا،ففي المثال المذكور لا توجد الارادة الجدّية؛لأنّ الرجلين يمسحان في الوضوء ضرورة من مذهب أهل البيت.

و هاتان المرحلتان ليستا من الوضع أصلا،بل لا بدّ من احرازهما،و يمكن أن يحرز عدمهما،و إن شكّ فبناء العقلاء علي الحمل علي الارادة الاستعماليّة و الارادة الجدّية.

و من ذلك يظهر أنّ دلالة الكلام علي معناه بالدلالة التصوّريّة ليست تابعة للارادة،و لا دلالة له علي الارادة الاستعماليّة و لا الارادة الجدّية،بل انّهما تستندان إلي الامور المذكورة.

و قد ظهر ممّا ذكرنا النظر فيما ذكره في الكفاية من أنّ دلالة اللفظ علي كون معناه مرادا للمتكلّم تابعة لارادته تفرّع الكشف علي الواقع المكشوف،و جعل ذلك مراد العلمين إلي آخر ما ذكره (1).

و ذلك لأنّ اللفظ لا دلالة له علي الارادة الاستعماليّة و لا الجدّية،بل انّهما يستكشفان من غير ناحية دلالة اللفظ.و لذا لو شكّ و لم يعلم أنّه سبق لسانه أو نسي2.

ص: 26


1- كفاية الاصول ص 32.

نصب القرينة،أو أنّه قاله تقيّة،أو غير ذلك ممّا هو دخيل في المطلوب،فبناء أبناء المحاورة العقلاء علي الأخذ بالظهور الحاصل من الدلالة التصوّرية،سواء كان الظهور من أجل الاستعمال الحقيقي أو الاستعمال المجازي.

و الحاصل أنّ جملة«هند طالق»لها دلالة واحدة،و هي ثبوت المحمول للموضوع المسمّي عندهم بالدلالة التصوّرية.و أمّا الدلالات الاخر،فليست لفظيّة،بل هي من بناء العقلاء،و هي أنّ المتكلّم ليس ساهيا و لا سابقا لسانه و لا هازلا،و انّه معتقد لمضمون الكلام،و انّه لم يقله مكرها أو تقيّة.و قد أشار إلي بعض هذه الدلالات الشيخ الأنصاري في كتاب الرسائل (1)في بحث أصالة الصحّة في الأقوال و الاعتقاد،في أواخر بحث الاستصحاب.

الأمر السادس: في وضع المركّبات

للمركّبات وضع نوعي،سواء كانت تامّة أو ناقصة،و يعبّر عنه بوضع الهيئة، فقولنا«زيد قائم»يدلّ زيد علي الذات الخارجيّة،و قائم علي صفة القيام القائم بذات مّا،و هيئة المبتدء و الخبر الدالّ عليها الرفع و التنوين في الأسماء المنصرفة تدلّ علي الهوهويّة الخارجيّة دلالة تصوّرية،و إن صدر الكلام من لافظ بلا شعور.

و هذه الهيئة أي المبتدء و الخبر الدالّة علي الهوهويّة يعبّر عنها في الفارسيّة بوجوه، فيقال:زيد ايستاد،و زيد ايستاده است،بلا فرق بين اللغات في الهوهويّة.

و هيئة تقدّم الخبر علي المبتدء تدلّ علي الحصر،كقولنا«الشجاع زيد»بلا فرق بين اللغات.فما يقال من أنّ المفهوم العربي اتّحاد الطرفين وجودا و الهوهويّة المصداقيّة بينهما بينما المفهوم الفارسي هو ثبوت شيء لشيء ليس كذلك.

ص: 27


1- فرائد الاصول ص 731.

ثمّ لا يخفي أنّ المفردات إذا كانت موضوعة و الهيئة كانت موضوعة،فيتشكّل منهما أمثال قولنا«زيد قائم»و لا وجه لوضع زيد قائم مرّة ثالثة،كما هو واضح.

الامر السابع: في علائم الحقيقة و المجاز

منها:التبادر عند أهل اللسان إذا كان مستندا إلي حاقّ اللفظ،و لا يخفي أنّه يمكن إحراز تبادر المعني عند العرب بتبادر مرادفه عندنا،كالماء مثلا فإنّ مرادفه بالفارسيّة آب،فإذا شكّ في صدقه علي السيول من الأمطار،فإن تبادر عند اطلاقه عندنا الشمول للسيول،فيقال:إنّه كذلك في لغة العرب،و ما لم يكن له مرادف انحصر أمره في الرجوع إلي أهل اللسان حتّي يعرف المعني المتبادر منه.

ثمّ لا يخفي أنّه لا يمكن الوثوق بالتبادر البدوي الحاصل من مجرّد اطلاق اللفظ أو استعماله في مورد واحد.

و عليه فلا يحرز استناده إلي حاقّ اللفظ إلاّ بتتبّع موارد الاستعمال،فإذا تبادر المعني الواحد في موارد كثيرة،يحرز كونه مستندا إلي حاقّ اللفظ بعد التتبّع الكافي،و هو مع ذلك مشكل في بعض الموارد.

و كذلك الكلام في صحّة السلب،و إلي ذلك يرجع ما في الوقاية (1)من معرفة ذلك من تتبّع موارد الاستعمال.ثمّ الظاهر أنّ عدم صحّة السلب كالعبارة الاخري عن التبادر،و كلاهما استفسار عن المرتكز الاجمالي.

و منها:تنصيص الواضع أو أتباعه،قاله في الوقاية (2).

قلت:فإن اريد بهم أرباب اللغة فهو مبنيّ علي حجيّة قولهم في اللغة.كما قال في الفصول:إنّ قول أهل اللغة حجّة لو لم يكن معارضا،و مع التعارض يقدّم

ص: 28


1- وقاية الأذهان ص 52.
2- وقاية الأذهان ص 52.

الأقوي.و قد استقصينا الكلام فيه في الأدلّة العقليّة.

و منها:الاطّراد،و المراد به علي ما يظهر من عدّة الاصول أن يقاس علي استعمال وارد استعمال آخر.

قال في عدّة الاصول:و الحقيقة إذا عقل فائدتها،فيجب حملها علي ما عقل من فائدتها أين وجدت،و لا يخصّ به موضع دون آخر و يطّرد ذلك فيها،إلي أن قال:

و علي هذا المعني يقال:إنّ الحقائق يقاس عليها،و أمّا المجاز فلا يقاس عليه، و ينبغي أن يقرّ حيث استعمل،و لذلك لا يقال سل الحمير و يراد مالكها،كما قيل سل القرية و اريد أهلها؛لأنّ ذلك لم يتعارف فيه (1)انتهي.

قلت:ليس سل الحمير مثل سل القرية؛لأنّ الحمير لها شعور فيتوهّم السؤال منها حقيقة،و لذا يقال:سل الدار و سل الأرض،و هكذا ما يشبه سل القرية،فعلاقة المجاز إن كانت موجودة اطّرد المعني المجازي أيضا،و إن لم تكن العلاقة موجودة فلا يصحّ الاستعمال مجازا.

و ذكر هذا الايراد في الكفاية (2)علي من جعله علامة.و أجاب عنه في نهاية الاصول (3)بأنّ المراد من الاطّراد هو صحّة استعمال اللفظ في معناه في جميع الموارد،و المراد بعدم الاطّراد عدم صحّته،و إن كان صنف العلاقة موجودا،بل يعتبر مضافا إلي وجود العلاقة كون المقام مقام الاستعمال مجازا،و لا يعتبر ذلك في المعني الحقيقي،مثلا يصحّ استعمال الأسد المفترس في جميع الموارد،و لا يصحّ استعماله مجازا في الرجل الشجاع البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،إلاّ إذا كان المقام مقام إظهار شجاعته،مثلا يصحّ أن يقال للرجل الشجاع المذكور:يا أسد2.

ص: 29


1- عدّة الاصول ص 145.
2- كفاية الاصول ص 35.
3- نهاية الاصول ص 42.

الهيجاء فرّق الأعداء،و لا يصحّ أن يقال له:يا أسد الهيجاء كل من طعامي؛لأنّه ليس مقامه مقام إظهار شجاعته.

قلت:بناء علي أنّ المجاز بالوضع لا بدّ من متابعة الوضع،و بناء علي أنّ الاعتبار به بالحسن الطبعي،لا بدّ من ملاحظة وجود الحسن الطبعي،فإذا وجد يطّرد المجاز أيضا.

و قد يقال:إنّ المراد من الاطّراد أن يلاحظ موارد الاستعمال،و ينتزع منها معني مشترك في تلك الموارد،مثلا إذا اريد أن يفهم أنّ معني«غنم»أعمّ من الفائدة الحاصلة في الحرب،يتمسّك بالاستعمالات المختلفة للفظ الغنيمة في الآيات و الروايات و نهج البلاغة و أشعار العرب.

قلت:تتبّع موارد الاستعمال ينفع في كشف المعني الحقيقي إن لم تكن قرينة تدلّ علي المعني،فيرجع إلي أنّ اللفظ قد استعمل في هذه الموارد المختلفة، و المتبادر منه هذا المعني بدون قرينة،و التبادر إن كان مستندا إلي حاقّ اللفظ كان علامة الحقيقة،فلم يظهر لنا المراد بدلالة الاطّراد علي كون اللفظ حقيقة.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:لو احرز المعني الحقيقي للفظ الخبر الوارد عن المعصومين عليهم السّلام في زماننا،و كان احتمال نقله عن معناه اللغوي احتمالا ضعيفا،لكان ذلك دليلا علي كونه كذلك في زمان صدور الخبر.و أمّا إذا كان الاحتمال قويّا و راجحا،فهل يصحّ اثبات اتّحاد الزمانين بالاستصحاب القهقري،أو بناء العقلاء علي ثبات المعني و عدم تغيّره عن معناه أم لا؟محلّ تأمّل و منع.

و لو سلّم بناء العقلاء،فلا يمكن الاعتماد عليه،إلاّ أن يثبت إمضاء الشارع له، و أخبار الاستصحاب كقوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»مع أنّها مختصّة بالمتيقّن السابق لا تثبت المفهوم الذي ترتّب عليه الأحكام،و مقتضي الآيات و الأخبار

ص: 30

المانعة عن اتّباع غير العلم عدم حجّيته،و سيأتي في محلّه بعض الكلام فيه.

الثاني:لو احرز بسبب إحراز المعني الحقيقي ظهور اللفظ في المعني،لكان حجّة.و أمّا لو شكّ في الظهور لاحتمال احتفاف الكلام بقرينة حاليّة احتمالا عقلائيا راجحا،بحيث شكّ في ظهور اللفظ،فهل أصالة الحقيقة أصل تعبّدي متّبع و لو مع الشكّ في الظهور؟محلّ اشكال قوي لعدم الدليل عليه.

ثمّ الظهور حجّة تعبّدا بين المولي و العبد تعبّدا عقلائيّا،و يدلّ عليه أنّه لو سبق لسان المولي في أمر عبده بشيء و علم العبد ذلك،و لم يعلم المولي أنّ العبد علم ذلك،و أتي العبد بذلك،كان له الحجّة علي المولي،مع أنّه ليس مرادا استعماليّا له فضلا عن المراد الجدّي،فلو قال لعبده:اعط فلانا دينارا،قد سبق لسانه إليه و كان مقصوده أن يعطيه درهما،فأعطاه العبد دينارا،كان له الحجّة علي المولي،و إن لم يجز له شرعا لعدم رضا المولي بالتصرّف المذكور،فتأمّل.و سيأتي التعرّض لذلك في بحث حجّية الظواهر.

الثالث:لا يخفي أنّ فهم لغات القرآن و الأخبار بحدودها سعة وضيقا،و فهم القرائن الحاليّة المكتنفة بالكلام و كذا المقاليّة،و غيرها ممّا هو دخيل في فهم ظهور الألفاظ،مشكل جدّا،و لا طريق لنا إلي ذلك،و لا يكفي لذلك كتب اللغة؛لأنّها لا تبيّن حدود المعاني،كما لا تبيّن القرائن الحالية،مثلا إذا تردّد مفهوم الآنية بين مطلق الظرف حتّي يشمل المصفاة،و بين الظرف المعدّ للطعام و الشراب،فلا طريق إلي معرفته.ثمّ إذا استظهرنا الاتّحاد أو عدمه،فلا طريق إلي كونه كذلك في حين صدور الأخبار.و هل يكفي الرجوع إلي عرف العرب الآن؟بأن يكونوا يعرفون مفهومها كما كان يعرفه المخاطبون مع هذا الاختلاط الموجود في العصر الحاضر أم لا؟محلّ إشكال.

ص: 31

الأمر الثامن: في تعارض الأحوال

إن تعيّن المراد من معني اللفظ المستعمل،سواء كان حقيقة أو مجازا،فهو المتّبع.و إن لم يتعيّن و دار الأمر بين المعني الحقيقي و غيره،فالظاهر انعقاد الظهور في المعني الحقيقي و يكون هو الحجّة.

و إن علم عدم إرادة المعني الحقيقي و دار الأمر بين الأحوال المختلفة من الاشتراك و المجاز و غيرهما،فإن لم يكن له ظهور في أحدها كان مجملا،و لا ينفع ما قيل من أنّ المجاز خير من الاشتراك و نحو ذلك من الامور الاستحسانية التي لا توجب ظهور اللفظ.

الأمر التاسع: في حمل اللفظ علي معناه اللغوي و العرفي

اشارة

يحمل اللفظ علي معناه اللغوي إن انحصر فيه،و إن كان له معني لغوي و معني عند العرف العامّ،بحيث يكون منقولا عندهم من معناه اللغوي،حمل اللفظ عليه؛ لأنّ بناء المتكلّم في العرف العامّ علي التكلّم بما هو متعارف عندهم.

و إن كان له معني خاصّ في مكان خاصّ،أو عند طائفة خاصّة و كانت المحاورة بين أهل المكان الخاصّ،أو بين أبناء الطائفة الخاصّة من حيث انّهم كذلك،حمل علي ذلك المعني،فالنحوي إذا تكلّم في النحو و قال مثلا:زيد مرفوع و عمرو منصوب،في قولك ضرب زيد عمروا،يحملان علي الضمّة و الفتحة،لا الرفع من مكانه،و أمّا لو تكلّما في غير النحو حملا علي معناهما اللغوي.

و من ذلك يظهر أنّ الشارع المقدّس لو تكلّم في الأحكام الشرعيّة،أي:فيما يرتبط بمقام التشريع و نحوه،فإنّه يحمل اللفظ علي الحقيقة الشرعيّة عنده،بناء علي ثبوتها،أو المعني المخترع و لو كان الاستعمال مجازيّا.

ص: 32

الحقيقة الشرعية

تتميم:

يقع البحث عن الحقيقة الشرعيّة في جهات:

منها:انّه قيل:لا ثمرة لهذا البحث؛لأنّه لم يقع في الشرع لفظ لم يتبيّن المراد منه أنّه حقيقة شرعيّة أو لغويّة.

أقول:يحتاج ذلك إلي الاحاطة الكاملة،و قد قال في الجواهر:إنّ الغسل حقيقة شرعيّة في الغسل الترتيبي و الارتماسي،فإذا اطلق حمل علي أحدهما و لا يحمل علي معناه اللغوي،و هو غسل تمام ظاهر البدن،و إن لم يكن ارتماسيّا و لا ترتيبا (1).

أقول:لا نسلّم صيرورة الغسل حقيقة شرعيّة في عصر الأئمّة في الترتيبي و الارتماسي.

و منها:أنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة موقوف علي أن تكون المعاني التي يقال إنّ ألفاظها حقائق شرعيّة معاني مستحدثة.لكنّها ليست مستحدثة،بل هي كانت في الأزمنة السابقة قبل الاسلام،و كان التعبير عنها باللغة العبريّة،فلا بدّ و أن يكون واضع اللغة العربية قد وضع لتلك المعاني لفظا مرادفا للفظها العبري،فالصلاة موضوعة لغة للمعني الخاصّ الذي كان موجودا في الأزمنة السابقة و ليست حقيقة شرعية.

و فيه أوّلا:أنّه إن صحّت الدعوي المذكورة في بعض المعاني،فلا وجه لدعواها في جميعها كالغسل.

و ثانيا:لا يبعد أن يكون معني الصلاة عبارة عن نحو تعبّد و توجّه،و الصوم نوع

ص: 33


1- جواهر الكلام 3:101.

إمساك،و الزكاة نوع تصدّق،وضعت ألفاظها لغة لذلك المفهوم الكلّي،و اختلفت كيفيّتها بحسب الأديان،فيمكن أن يقع النزاع في صيرورتها حقيقة شرعيّة في هذه الكيفيّة الخاصّة،و لا يبعد أنّها صارت عند المتشرّعة في عصور الصادقين عليهما السّلام و من بعدهما من الأئمّة عليهم السّلام إلي زماننا حقيقة في الفرد المخصوص،أي الأركان الخاصّة،و التصدّق الخاصّ من الحنطة و الشعير،و الامساك عن الامور المخصوصة،بحيث لو اطلق أحدها في كلامهم حمل علي المعني الخاصّ،و أمّا صيرورتها حقيقة فيها في عصر النبي صلّي اللّه عليه و اله فغير بعيد،و إن كان الجزم به مشكلا.

و منها:أنّه أورد أخبارا في الاصول الأصليّة (1)للحقيقة الشرعيّة،كالكثير و الجزء و القديم،و العدس يقال للحمص،ولكن لا يخفي أنّ ذلك ليس من الحقيقة الشرعيّة،و للأئمّة سلام اللّه عليهم التمسّك بالآيات علي نحو لا نعرف نحن دلالتها.

و منها:أنّه لو سلّم تحقّق الحقيقة الشرعيّة في بعض الألفاظ،فلا يمكن الجزم بتحقّقها في جميع الألفاظ التي ادّعي كونها حقيقة شرعيّة،كما تقدّم منع ثبوتها في الغسل في الترتيبي و الارتماسي.

الأمر العاشر: في الصحيح و الأعمّ

اشارة

و الكلام فيه في جهات:

منها:أنّه بناء علي ثبوت الحقيقة الشرعية،فهل أسماء العبادات موضوعة لخصوص الصحيح منها-و هو تامّ الأجزاء و الشرائط-أو للأعمّ منه و من الفاسد الفاقد لبعضها؟و أمّا بناء علي عدم ثبوتها،فالبحث في أنّ اللفظ المستعمل فيها هل يحمل بمقتضي القرينة العامّة علي خصوص الصحيح منها أو علي الأعمّ؟

ص: 34


1- الاصول الأصليّة ص 15.

و منها:أنّ التعبير بالصحيح و الأعمّ منه و من الفاسد يوهم تحتّم أن يكون الموضوع له،أو المستعمل فيه أسماء العبادات،هو المركّب ذا الفردين الصحيح و الفاسد،مع أنّه قد يكون معني بسيطا يدور أمره بين الوجود و العدم.

فالأولي أن يقال:إنّ أسماء العبادات هل هي موضوعة لما يسقط الأمر و يكون الاستعمال في غير المسقط مجازا للمشابهة،أم أنّها موضوعة للأعمّ منهما؟

و منها:أنّ صحيح العبادات الشرعية كالصلاة له عرض عريض و مراتب كثيرة كلّها مسقطة للأمر،فربّ صلاة بفاتحة الكتاب و هي مسقطة للأمر،و ربّ اخري من دونها،و هي مسقطة له كذلك،فبناء علي الصحيح لا بدّ أن يبحث عن الجامع بين الأفراد المسقطة للأمر،كما أنّه بناء علي الوضع للأعمّ لا بدّ من ابراز الجامع بين المسقط و غيره.

و لمّا كانت المراتب المذكورة و غيرها ممّا لا يسقط به الأمر لا يعلم إلاّ من الشرع،تبيّن أنّ الجامع علي التقديرين لا بدّ أن يؤخذ من الأخبار الواردة في هذه العبادات،أمّا الصلاة فلعلّ الجامع فيها لغة هو التمجيد و نحوه،و لذا يصحّ إطلاقها علي تمجيد اللّه تبارك و تعالي نفسه،كما في خبر علي بن أبي حمزة،قال:سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر،فقال:جعلت فداك كم عرج برسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله؟ فقال:مرّتين،فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له:مكانك يا محمّد،فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قطّ و لا نبيّ إنّ ربّك يصلّي،فقال:يا جبرئيل كيف يصلّي؟قال:يقول:

سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة و الروح،سبقت رحمتي غضبي،فقال:اللهمّ عفوك عفوك الحديث (1).و صلاته تبارك و تعالي تمجيده نفسه،كما شهد أنّه لا إله إلاّ هو (2).

و الصلاة بناء علي كونها حقيقة شرعيّة أو مجازا في المعني الشرعي عبارة عن8.

ص: 35


1- اصول الكافي 1:443 ح 13.
2- في قوله تعالي شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ... آل عمران:18.

التوجّه إلي اللّه في أوقات الصلاة بعنوانها المتحصّل من الأفعال و ذكر مّا،أو الاشارة أو الإخطار بالبال.و نشير إلي بعض الأخبار الواردة في صلاة من خاف سبعا.

ففي صحيح علي بن جعفر في من خاف الأسد،قال:يستقبل الأسد و يصلّي و يؤميء برأسه ايماء و هو قائم،و إن كان الأسد علي غير القبلة (1).

و في صحيح الفضلاء:و إن كانت المسايفة و المعانقة و تلاحم القتال،فإنّ أمير المؤمنين عليه السّلام صلّي ليلة صفّين و هي ليلة الهرير لم تكن صلاتهم الظهر و العصر و المغرب و العشاء عند وقت كلّ صلاة إلاّ التكبير و التهليل و التسبيح و التحميد و الدعاء،فكانت تلك صلاتهم و لم يأمرهم بإعادة الصلاة (2).

نعم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:فات أمير المؤمنين عليه السّلام و الناس يوما بصفّين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء،فأمرهم أمير المؤمنين عليه السّلام أن يسبّحوا الحديث (3).و هو محمول علي فوت المرتبة الكاملة.

فالصلاة عبارة عن مقدار من الخضوع و التوجّه إلي اللّه تعالي في أوقات معيّنة بإظهاره بعمل أو ذكر أو غيرهما،و هذا المعني الواحد يختلف مصاديقه و أفراده بحسب الأزمان و الأمكنة و الأشخاص،و نظيره التعظيم بالقيام للقادر المختار، و بوضع اليد علي الصدر للقاعد العاجز عن القيام،و بوضعها علي الرأس للنائم، و بتحريك الرأس لمن لا يقدر علي غيره،و بتحريك العين للعاجز،و كلّهم علي مرتبة سواء في أداء التعظيم.

فالصلاة عبادة تحصل بهذه الأفعال و الأقوال ليست منفصلة عنها،بل هي8.

ص: 36


1- جامع أحاديث الشيعة 7:9 ح 3 و 4 و 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 7:16-17 ح 10.
3- جامع أحاديث الشيعة 7:16 ح 8.

تتحقّق بمقدار ما اعتبره الشارع في الأوقات من عدد الركعات و غيرها،فهي كالمحصّلة بهذا المقدار منها،و ليس ذلك أمرا بسيطا،بل توجّه خاصّ مع اخلاص و اظهار،فإذا فقد بعضه كان غير صحيح.و لا يخفي أنّ جميع ما يعتبر فيه حتّي قصد الأمر و غيره ممّا قالوا إنّه متأخّر عن الأمر مأخوذ في الصلاة،فالجامع علي الصحيحي هو ما ذكرناه،و هو المستفاد من الأخبار.

و قال في الكفاية:إنّ الجامع علي الصحيحي موجود،و يمكن الاشارة إليه بخواصّه و آثاره،و الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذلك الجامع،فيصحّ تصوير المسمّي بلفظ الصلاة،مثلا بالناهية عن الفحشاء (1).

أقول:اورد عليه بأنّ الواحد النوعي يمكن صدوره من متعدّد،إلي غيره من الايرادات،فلاحظ.

و قال في المحاضرات:إنّه لا يعقل الجامع علي الصحيحي،فلذا لا يعقل أن يكون الموضوع له هو الصحيح،بل لا بدّ من القول بكونه الأعمّ،و الجامع علي الأعمّي هو ما حكاه عن المحقّق القمّي،و هو أركان الصلاة،فهي موضوعة للأركان لا بشرط عن الزيادة عليها،كلفظ الدار و نحوه ممّا هو موضوع لمساحة لها حائط و غرفة،فإن نقص لم يكن دارا،و إن زاد كانت الزيادة أيضا من الدار (2).

أقول:لو صلّي صلاة الظهر بجميع أجزائها و شرائطها و مستحبّاتها،و لم يركع فيها أصلا،صدق عليه الصلاة،كما يصدق علي الأركان،فهذا يكشف عن أنّ الموضوع له ليس هو الأركان،هذا مع أنّ صلاة المسايفة صلاة صحيحة و ليس لها أركان.7.

ص: 37


1- كفاية الاصول ص 39.
2- المحاضرات 1:147.

ثمّ إذ تصوّرنا الجامع علي الصحيحي فنقول:لا يبعد أن يكون الصلاة اسما للصحيح؛لأنّ الشارع المقدّس بعد ما أوجب الأجزاء و الشرائط بمراتبها المختلفة، فالحاجة ماسّة إلي التعبير عنها بلفظ واحد؛لأنّ التعبير عنها بذكرها بأجزائها و شرائطها يوجب التطويل،و يدلّ عليه تبادر الصحيح من قولنا صلّي زيد،و من قوله هذا الشيء وقف للمصلّين،أو وصية لهم،و كذا ما ورد من أنّ الرجل و المرأة لا يصلّيان متّصلين،فإنّه لو كانت صلاة أحدهما باطلة لفقد ركن و نحوه لم يكن مشمولا للنهي،و لعمري انّه واضح.

و قد استدلّ للأعمّي بوجوه أجابوا عنها،نذكر أحدها و هو أنّه لو نذر أن يصلّي صلاة ظهره مثلا علي نحو لا يكون فيها كراهة،بأن لا تكون في الأمكنة المكروهة،مثل اعطان الابل و الطرق و غيرهما،فلا ريب في انعقاد النذر،و النذر إذا انعقد وجب الوفاء به،بأن يصلّي في غير تلك الأماكن،فإن صلّي في تلك الأماكن كانت حنثا للنذر،و إذا كانت حنثا كانت محرّمة،و الحرمة في العبادة تقتضي الفساد،فإذا كانت فاسدة لم يحنث النذر؛لأنّه تعلّق بالصلاة،و هي اسم للصحيحة فرضا،و المفروض أنّه لم يصلّ الصلاة الصحيحة في تلك الأماكن،فإن كانت الصلاة اسما للصحيح لم يصحّ تعلّق النذر بتركها في الأمكنة المكروهة.

فلا بدّ و أن يقال:إنّ الصلاة اسم للأعمّ حتّي يكون النذر متعلّقا بترك الصلاة الأعمّ من الصحيحة و الفاسدة،و تكون الصلاة الفاسدة من ناحية حنث النذر حنثا للنذر.

أجاب عنه في الكفاية،فقال:لا يخفي أنّه لو صحّ ذلك لا يقتضي إلاّ عدم صحّة تعلّق النذر بالصحيح،لا عدم وضع اللفظ له شرعا،مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه،فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.و من هنا انقدح أنّ حصول الحنث إنّما يكون لأجل الصحّة لو لا تعلّقه.نعم لو فرض تعلّقه بترك الصلاة

ص: 38

المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الامكان (1)انتهي.

و حاصل كلامه أوّلا:أنّ النذر و إن كان تابعا لقصد الناذر،و قد قصد الناذر ترك الصلاة بمالها من المفهوم،لكن هذا النذر لا ينعقد للمحذور المذكور،و هو لا يدلّ علي عدم وضع الصلاة للصحيحة.

و ثانيا:أنّ الناذر و إن قصد ترك الصلاة الصحيحة،فمراده الصحيحة لو لا النذر.

قلت:يرد علي كلامه الأوّل:أنّه لا ينبغي الاشكال في صحّة نذر فعل الصلاة الخالية عن الكراهة؛لأنّها عبادة راجحة،حتّي علي القول بأنّ اسم الصلاة موضوع للأعمّ.

و يرد علي كلامه الثاني:أنّ لازم ذلك أن يكون متعلّق النذر غير راجح،مع أنّه لا بدّ أن يكون متعلّق النذر راجحا بلا إشكال،و الصلاة الفاسدة لا رجحان فيها، و الصلاة الصحيحة لو لا النذر الفاسدة من ناحية النذر،كالصلاة الصحيحة مع الركوع الفاسدة من أجل فقد الركوع لا رجحان فيها،فلا يتعلّق بها النذر.

و أجاب بعضهم عن الاستدلال المذكور بأنّ الأمر متعلّق بذات الصلاة،و النهي عن حنث النذر متعلّق بعنوان عرضي و هو الكون في الحمّام،فمتعلّق الأمر شيء و متعلّق النهي شيء آخر.

أقول:وضع الجبهة علي الأرض الذي يكون جزء الصلاة مكروه في الحمّام، و النذر متعلّق بترك هذا،فمتعلّق الأمر و النهي شيء واحد.

و التحقيق في الجواب أن يقال أوّلا:انّ الوفاء بالنذر واجب و تركه ترك للواجب لا أنّه حرام؛لعدم انحلال الحكم الواحد إلي الحكمين،و الواجب بالنذر أن يصلّي في غير تلك الأماكن المكروهة و ليس تركه و هو الصلاة في تلك8.

ص: 39


1- كفاية الاصول ص 48.

الأماكن التي بها يتحقّق الحنث حراما،بل هي ضدّ للواجب.

و ثانيا:لو سلّم حرمة عدم الوفاء بالنذر،أي حرمة الحنث،و حصلت بالصلاة في الأماكن المكروهة،لكن هذه الحرمة لا توجب الفساد؛لأنّه محال،و ذلك لأنّ الحنث لا يتحقّق بالصلاة الفاسدة،كالصلاة الفاقدة للركوع،أو لجزء،أو شرط عمدا؛لأنّه يبقي مجال للعمل بالنذر،و إنّما يتحقّق الحنث إذا صحّ الصلاة من جميع الجهات و سقط الأمر،و حينئذ-أي:بعد سقوط الأمر بالصلاة في الأمكنة المكروهة-ليس له مجال أن يصلّي صلاة ليس فيها كراهة.فيتحقّق الحنث،فإن لزم من حرمة الحنث فساد العبادة لزم عدم سقوط الأمر،و إن لم يسقط الأمر لم يتحقّق الحنث،فيلزم من حرمة الحنث عدم حرمته،و هو محال،فلا بدّ أن يقال:إنّ هذه الحرمة لا توجب الفساد.

و ثالثا:يمكن أن يقال بعد تسليم حرمة الحنث:إنّ حرمته لا تتّحد مع الصلاة، بل هي متأخّرة عنها؛لأنّه لا يحنث حتّي يتمّها و يفرغ منها،فإنّه قبل ذلك متمكّن من استثنافها في غير الحمّام و لم تسقط عنه،و لا تسقط حتّي يتمّها بالفراغ من تسليمها،فإذا فرغ سقطت و لم يتمكّن بعد من استثنافها،و تحقّق الحنث بالسقوط، فالحقيقة أنّ الحرمة لسقوط الصلاة المتأخّر عنها و ليست منطبقة علي نفس الصلاة، فتدبّر.

فقد ظهر النظر فيما ذكره في آخر كلامه،من أنّه لو فرض تعلّقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بمكان من الامكان.وجه النظر أنّ حرمة الحنث لا توجب الفساد أصلا،و يتحقّق الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه، و تجب عليه الكفّارة و صلاته صحيحة.

و ما ذكرناه يأتي فيما لو نذر أن يصلّي في الجماعة،فإنّه لو صلّي فرادي صحّت صلاته،خلافا لمن قال بالبطلان،و منهم صاحب المستمسك،فلاحظ باب صلاة

ص: 40

الجماعة.

و أمّا ثمرة البحث فأمران:

الأوّل:أنّه بناء علي الوضع للصحيح يدخل كلّ جزء و شرط في المسمّي،فإذا شكّ في وجوب شيء للصلاة جزء أو شرطا،يشكّ في تسمية الخالي عن المشكوك صلاة،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق للشكّ في الصدق،بخلافه علي الأعمّ.

أقول:لكن لا يخفي أنّه يعتبر في جواز التمسّك بالاطلاق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان،و لا بدّ من التتبّع حتّي يعثر علي إطلاق في هذه الأسامي يكون في مقام البيان،حتّي يقال مع ذلك إنّه لا يتمسّك به لاجماله.

و قيل:إنّ آية الصيام في مقام البيان.

قلت:لكنّه غير معلوم.

الثاني:قيل:بناء علي الأعمّي إذا شكّ في اعتبار شيء في الصلاة يتمسّك بالاطلاق إذا كان في مقام البيان،و إن لم يكن إطلاق في مقام البيان،فيرجع إلي البراءة،بخلافه علي الصحيحي،فإنّ المطلوب ما يصدق عليه أنّه صلاة،فلا بدّ من إحراز الصدق،فكما لا محلّ للتمسّك بالاطلاق للشكّ في صدقها علي المشكوك، لا يرجع إلي البراءة،بل يجب الاحتياط للشكّ في فراغ الذمّة ممّا اشتغلت به،و هو الاتيان بالصلاة بمالها من المفهوم.

أقول:قد تبيّن-بناء علي ما ذكرنا من أنّ الصلاة عبارة عن التوجّه إلي اللّه تعالي في أوقات خاصّة بعنوان الفريضة الصلاتيّة التي عيّنها اللّه تعالي في تلك الأوقات،مع إبرازه بفعل أو ذكر،و مع عدم التمكّن منهما بالايماء و الاخطار بالقلب-أنّ بيان ذلك وظيفة للشارع المقدّس؛لأنّه لا سبيل إليه للعرف و لا للغة.

و مجرّد بيان الشارع واقعا للوظيفة لا يكفي،بل لا بدّ من أن يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،فما لم يصل إليه بعد الفحص فهو غير مكلّف به،و ليس مأمورا باتيان

ص: 41

ما يسمّي شرعا صلاة إلاّ بما وصل إليه منها،فما لم يصل إليه و شكّ في اعتباره، فقد رفعه الشارع عنه بعموم قوله«رفع عن أمّتي ما لا يعلمون».

تتميم:

يذكر فيه امور:

الأمر الأوّل:الظاهر كما تقدّم أنّ الصلاة اسم لتامّ الأجزاء و الشرائط المسقط للأمر،بناء علي ثبوت الحقيقة الشرعيّة،أو مستعمل مجازا في تامّ الأجزاء و الشرائط المسقط للأمر،بناء علي عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛للتبادر و ملاحظة موارد الاستعمال و غيرهما.

و قيل:لا يمكن أخذ اشتراطها بقصد القربة في المسمّي؛لأنّ الأمر يتعلّق بالصلاة،فلا بدّ أن يكون مسمّاها سابقا علي الأمر و قصد الأمر متأخّر عن الأمر.

أقول:الأمر لا يتعلّق بالصلاة الفاسدة،و إن كان فسادها لفقد قصد القربة،فإنّها غير مطلوبة،فلا فرق بين الشروط في دخلها في متعلّق الأمر،و سيأتي أنّ قصد القربة المعتبرة في العبادة هو جعل العمل للّه تعالي،و لا يحتاج ذلك إلي الأمر،بل كلّ عمل قابل للاضافة إلي اللّه تعالي يمكن جعله للّه،و الأمر بفعل كاشف عن قابليّته لذلك.

الأمر الثاني:فيما وضع له أسماء المعاملات،لا يبعد أن يقال:إنّ مادّة«البيع» تدلّ علي نقل العين بعوض نقلا انشائيّا انتقل به المبيع إلي المشتري:إمّا عند العقلاء،أو عند الشارع،أو بالقهر و الغلبة،فالسفيه إذا باع ماله يقال باع ماله عند العرف و إن لم يكن صحيحا شرعا،و الحاكم الشرعي إذا باع مال الممتنع عن أداء نفقة زوجته يقال بيع ماله شرعا.و إذا غصب مال و بيع بحيث لم يتمكّن من أخذه من المشتري،يقال غصب المال و بيع.و أمّا مجرّد انشاء البيع من دون أن يحصل الانتقال،فلا يقال إنّه باع ماله.فهو اسم للنقل الموجب للانتقال،و الشارع قد منع

ص: 42

عن بعض أقسام البيع و لم يمضه،لا أنّه منع عن كونه بيعا،فبيع الخمر بيع،لكن الشارع منع عنه.و كذا الكلام في الاجارة و الصلح و الهبة و غيرها من العقود.

فالمراد بالمعاملات المذكورة في لسان الشارع هي المعاني العرفيّة،فإذا قال الشارع:البيع حلال و نافذ،فمعناه أنّ ما صدق عليه البيع لغة و عرفا نافذ إلاّ ما منع عنه،كبيع الخمر و بيع الصبي و بيع الغرر و نحوها.

و إذا شكّ في اعتبار الماضويّة أو العربيّة في صيغة البيع يتمسّك بالاطلاق، و يقال:إنّه يصدق عليه البيع،و ليس للشارع وضع خاصّ أو استعمال خاصّ،كما في الصلاة و الصوم و الزكاة،و غيرها من المخترعات الشرعيّة،بل أسماء المعاملات كسائر الألفاظ المطلقة،فكما إذا ورد أعتق رقبة،يتمسّك باطلاقه إن شكّ في اعتبار الايمان،فكذلك في أسماء المعاملات.

الأمر الثالث:أنّ ما يكون دخيلا في تحقّق الطبيعة المسقطة للأمر،إن كان أفعالا أو أذكارا متّصلة لم يفصل بينها بنواقض الصلاة،سمّي جزء.و إن كان فعلا جاز الفصل بينه و بين الصلاة بنواقضها،كالكلام و الضحك،أو هيئة مقرونة بالصلاة، سمّي شرطا من غير فرق بين الجزء و الشرط في تعلّق الأمر المولوي بهما،فلا صلاة إلاّ بطهور،كما لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب،فكلاهما دخيلان في طبيعة الصلاة شرعا،و يتعلّق الأمر بهما،و سيأتي توضيحه في محلّه.

بقي قسمان آخران:أحدهما:ما كان الواجب ظرفا له،كالأدعية المستحبّة للصائم،فإنّ الصوم ظرف لها لا يزيد ثوابه بقراءتها.

ثانيهما:ما يوجب زيادة ثواب الواجب،كالقنوت في الصلاة،و كونها في الجماعة أو المسجد،فقد تعلّق أمر وجوبي بالصلاة بأجزائه و شرائطه الواجبة، و تعلّق أمر ندبي باتيان هذه الواجبات مع القنوت،أو في المسجد،أو مع الجماعة.

ص: 43

الأمر الحادي عشر: في وقوع الاشتراك

الحقّ وقوع الاشتراك،أي:كون لفظ موضوعا لمعنيين،كالقرء للطهر و الحيض؛ لأنّ أهل اللغة نقلوا ذلك،و نري وقوعه في اللغة الفارسيّة،مثل لفظ«شير»فإنّه مشترك بين الأسد و الحليب.

الأمر الثاني عشر: في إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد

اشارة

هل يجوز الاستعمال في أكثر من معني علي أن يراد منه كلّ واحد كما إذا لم يستعمل إلاّ فيه،سواء كان المعنيان حقيقتين أو مجازين،أو مختلفين صريحين أو كنائيين أو مختلفين،نظير قوله«لامستم»في النكاح و اللمس،أم لا؟

ثمّ إنّه علي فرض إمكان الاستعمال،فهل هو حقيقة أو مجاز أو هما؟ثمّ علي فرض الامكان فهل هو واقع و يصحّ أن نستعمله أم لا؟

أمّا إمكانه،فالظاهر عدم الاشكال فيه،فإنّه لو فرضنا مولي له غلام تركي و غلام هندي و غلام فارسي،و قال للتركي:إذا قلت الخبز اريد منه الماء،و قال للهندي:إذا قلت الخبز اريد منه الفلفل،و قال للفارسي:إذا قلته اريد منه الخبز بمعناه العربي،بحيث لم يعرف كلّ واحد منهم للّفظ المعني الذي يعرفه غيره، فصاح إليهم و هم في أمكنة مختلفة كلّ يحسب أنّ الخطاب له:ائتوني بخبز،فإنّه يعرف كلّ منهم معني من اللفظ غير ما يعرفه الآخر و يحضره لديه،فيدلّ جواز ذلك علي أنّه لا استحالة في ذلك بالنسبة إلي المتكلّم من لحاظه المعاني المستقلّة في آن واحد،و افنائه اللفظ في المعاني المستقلّة.

و استدلّ القائل بالامتناع بوجوه:

ص: 44

منها:ما في الكفاية (1)،و حاصله:أنّ اللفظ غير ملحوظ حال الاستعمال إلاّ آلة، و الملحوظ استقلالا هو المعني،و لحاظ المعني مستقلاّ يستلزم عدم لحاظ اللفظ إلاّ ملحوظا معه المعني فقط،و لا يمكن لحاظ معني آخر مستقلّ؛لأنّه يحتاج إلي لحاظ لفظ آلة له،و المفروض أنّه ليس إلاّ لفظ واحد،نعم لو لوحظ مجموع المعنيين و جعل اللفظ مرآة لهما معا كان الملحوظ استقلالا شيء واحد و هو مجموع المعنيين،و هو خارج عن محلّ البحث.

و فيه أنّ فناء اللفظ في المعني ليس من قبيل فناء جسم في جسم آخر،بل هو اعتباري تابع للحاظ،فيلحظ اللفظ مرآة و فانيا في معاني مستقلّة كما مثّلنا.

و منها:ما حكاه في عدّة الاصول (2)،عن أبي هاشم و أبي عبد اللّه من عدم الجواز،بتعذّر إرادة الوطيء و العقد من قوله«لا تنكح ما نكح أبوك»قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه:إنّ ما ادّعيت تعذّره نحن نجده منّا متأتّيا.ثمّ إنّه اختار الجواز،و قال:

إنّ اللفظ المشترك إن استعمل في الأكثر مع القرينة،فيحمل علي معانيه،و إن لم يكن مع القرينة كان اللفظ مجملا؛لتصادم احتمال إرادة الجميع مع احتمال إرادة الواحد،نعم إذا كان الوقت وقت الحاجة و اطلق اللفظ وجب حمله علي جميعه؛ لأنّه ليس بأن يحمل علي بعضه بأولي من بعض،و لو كان أراد بعضه لبيّنه؛لأنّ الوقت وقت الحاجة (3).و بمثله قال في موضع آخر (4)فلاحظ.

أقول:يرد عليه أنّه إذا كان الوقت وقت الحاجة،حمل علي إرادة أحد المعاني؛ لأنّه القدر المتيقّن،و إرادة جميع معانيه متوقّفة علي القرينة،كإرادة أحدها علي3.

ص: 45


1- كفاية الاصول ص 53.
2- عدّة الاصول ص 220.
3- عدّة الاصول ص 206.
4- عدّة الاصول ص 223.

التعيين،فلا تستفاد من الاطلاق،ثمّ إنّهم ذكروا وجوها للمنع فراجع.هذا كلّه في إمكانه.

أمّا وقوعه،ففيه قولان،أحدهما:عدم الوقوع،قال في الفصول بعد اختيار عدم الجواز:الثاني الاستقراء،فإنّا تتبّعنا لغة العرب في موارد استعمالاتهم،فلم يتحقّق عندنا صدور مثل هذا الاستعمال إلي آخر كلامه (1).

ثانيهما:الوقوع،و قد استشهد في وقاية الأذهان (2)بأشعار استعمل فيها بعض ألفاظها المشتركة في معنيين و أكثر،لكن لم يعلم أنّها من أشعار الجاهلية و نحوها.

نعم يمكن أن يقال:إنّه إذا كان الاستعمال صحيحا الآن في عرف أهل اللسان يصير الاستعمال جائزا،لكن ذلك لا يثبت الجواز في عصر صدور الأخبار،فحمل اللفظ المشترك الموجود في الأخبار علي جميع معانيه موقوف علي صحّة الاستعمال كذلك في عصرهم،إلاّ أن يستشهد ببعض الأخبار،كالخبر الدالّ علي أنّ الميسر القمار بالمعني الحدثي،و الخبر الدالّ علي أنّه آلات القمار،فيكون مقتضي كليهما استعمال الميسر في قوله تعالي يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (3)فيهما علي نحو الاستعمال في كلّ واحد.

تذنيبان:
الأوّل:قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في التبيان:

إن قصد بقوله«اهدنا»الدعاء لم يكن تاليا للقرآن،فتبطل صلاته.و إن قصد التلاوة لا يكون داعيا،فلا يصحّ التأمين.و إن قصدهما،فعند كثير من الاصوليّين أنّ المعنيين المختلفين لا يصحّ أن يردا بلفظ واحد،و من أجاز ذلك و هو الصحيح منع منه؛لقيام الدلالة علي المنع من

ص: 46


1- الفصول الغروية ص 54.
2- وقاية الأذهان ص 87.
3- سورة البقرة:219.

ذلك،فلأجل ذلك لم يجز (1).

أقول:لعلّ مراده أنّه يجوز قصدهما،لكن الأخبار الواردة من أهل البيت علي أنّه لا يجوز أن يقال آمين بعد قراءة الفاتحة،تدلّ علي أنّه لا يجوز قصد الدعاء.

قلت:هذه الأخبار لا تدلّ علي المنع من قصد الدعاء،و لعلّ المنع من قول آمين من أجل كونه بدعة المخالفين،و لا دلالة له علي عدم جواز قصد الدعاء،فيقصد الدعاء و لا يقول آمين.

و أجاز بعض (2)المتأخّرين قصدهما،و يمكن توجيهه بوجوه غير الاستعمال في الأكثر من معني:

أحدها:أنّ قراءة القرآن هي حكاية ألفاظ القرآن،و قاريء القرآن يستعمل اللفظ في اللفظ،كمن يحكي بلفظه لفظ المحكي،و ربّما يجعل صوته نظير صوته و يقصد انشاء الدعاء بمعني اللفظ المحكي.

ثانيها:أن يقصد حكاية اللفظ فقط،و يكون الداعي إليها الدعاء،كما إذا كان اسم شخص يوسف و أراد أن يصرفه من أن يعمل عملا،فقرأ عليه يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا بداعي أن يلتفت إلي ذلك و لا يفعل ما أراد فعله،لا ندائه حقيقة،فإنّه لا يكون قرآنا؛لأنّه غير يوسف المذكور في القرآن.

ثالثها:أن يقصد الدعاء و ينشيء معني الآية قاصدا موافقته للقرآن،و لم يكن قصده حكاية مجرّد الألفاظ،كما هو قصده في مثل«قل»في أوائل السور الأربعة، بل قصد المعني متابعة لألفاظ القرآن،كالأدعية المذكورة في القرآن،مثل قوله تعالي رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً فيكون المستعمل فيه واحدا،و هو الدعاء مماثلا لألفاظ القرآن و تكون قراءة أيضا.ز.

ص: 47


1- التبيان 1:46.
2- تعرّض له السيّد اليزدي رحمه اللّه في العروة الوثقي في بحث القراءة و اختار الجواز.

و يؤيّده موثّق عبيد بن زرارة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر،قال:تسبّح و تحمد اللّه و تستغفر لذنبك،و إن شئت فاقرء فاتحة الكتاب فإنّها تحميد و دعاء (1).

الثاني:قيل:إنّ ما ورد من أنّ للقرآن بطونا ليس من استعمال اللفظ في أكثر من

معني

؛لأنّه ظاهر في أنّ له معاني غير ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ،و إذا قلنا بجواز استعمال المشترك في أكثر من معني،فهو من الظاهر لا الباطن،فلعلّ المراد بالباطن ما يفهمه النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام منه بحيث لا يكون ظاهرا عند غيرهم؛ لأنّ من كان له إحاطة بغير العالم المادّي يعرف من القرآن ما لا يعرفه من كان مقصورا علمه علي المادّيات.

الأمر الثالث عشر: في المشتقّ

و تنقيح البحث فيه في ضمن امور:

أحدها:قال في الكفاية:إنّ ملاك البحث موجود في الجوامد التي يزول الوصف فيها و يبقي الذات،كالزوج و الزوجة،ثمّ حكي عن فخر المحقّقين ابتناء حرمة الكبيرة الثانية التي أرضعت الصغيرة علي القول بالأعمّ في المشتق،قال:

تحرم المرضعة الاولي و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين.و أمّا المرضعة الاخري، ففي تحريمها خلاف،فاختار والدي المصنّف رحمه اللّه و ابن ادريس تحريمها لأنّ هذه يصدق عليها أمّ زوجته؛لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتقّ منه (2).

أقول:مفروض المسألة أن يكون للرجل زوجتان كبيرتان،و كان له زوجة صغيرة،فأرضعتها الكبيرتان.أمّا الكبيرة التي أرضعت أوّلا،فإنّها تحرم

ص: 48


1- جامع أحاديث الشيعة أبواب القراءة ب 27 ح 8.
2- كفاية الاصول ص 57.

لصيرورتها امّ الزوجة،و تحرم المرتضعة لصيرورتها بنت الزوجة مع الدخول بالكبيرة أو بدونها.و أمّا الكبيرة الثانية التي أرضعت المرتضعة بعد خروجها عن الزوجيّة،فحرمتها مبنية علي صدق كونها امّ الزوجة.

أقول:إذا كان البحث لغويّا،فكلّ مفهوم لا بدّ من أن يلاحظ مستقلاّ،و وحدة الملاك لا أثر لها.و أمّا المثال المذكور،فالثانية لا تحرم لأنّها ليست امّ زوجة،فهي نظير ما إذا طلّق الصغيرة فأرضعتها امرأة،فإنّها لا تصير امّ الزوجة بلا إشكال.

و أمّا الكبيرة الاولي المدخول بها أو غير المدخول بها،فقيل كما في نهاية الدراية:إنّ حرمتها أيضا مبنيّة علي الأعمّ؛لأنّ امومة المرضعة الاولي و بنتيّة المرتضعة متضائفتان متكائفتان في القوّة و الفعليّة،و بنتيّة المرتضعة و زوجيّتها متضادّتان شرعا،ففي مرتبة حصول امومة المرضعة تحصل بنتيّة المرتضعة،و تلك المرتبة مرتبة زوال زوجيّة المرتضعة،فليست في مرتبة من المراتب امومة المرضعة مضافة إلي زوجية المرتضعة،حتّي تحرم بسبب كونها امّ الزوجة (1)انتهي.

أقول:يحرم الجمع بين المرضعة و بنتها حدوثا و بقاء،فإذا أرضعت الاولي و حصلت البنتيّة و الامومة في زمان واحد،حرم الجمع بينهما في الزوجيّة،أي:لا يجوز تزويجهما معا،فإذا تزوّجهما بطل،و لا ترجيح.

و أمّا لو كانتا زوجتين له،فأرضعت الكبيرة الصغيرة،فلا يمكن الجمع بينهما بقاء،فلا تكون الامّ و البنت معا زوجتين،لكن يمكن أن يقال:إنّ البنت تكون بنت الزوجة فتحرم و الامّ ليست امّ الزوجة،فلا مانع من بقاء زوجيّتها إلاّ علي مبني كون المشتقّ أعمّ ممّا انقضي.ي.

ص: 49


1- نهاية الدراية 1:70 الطبع الحجري.

ثمّ إنّ هذه المسألة معنونة في الفقه و فيها أخبار،فهي موكولة إلي محلّها.

و قد يقال:انّ الظاهر عدم وجود عنوان امّ الزوجة في النصوص،بل الموجود امّهات النساء،و لا إشكال في عدم جريان نزاع المشتقّ فيه،فالكلام ساقط من أصله انتهي.

أقول:المراد من النساء هي الزوجات،و لا فرق قطعا بين أن يقال امّ امرأتك أو يقال امّ زوجتك.

ثانيها:قال في نهاية الاصول:إنّ كلام الأعمّي يحتمل أمرين:الأوّل:كفاية وجود اتّصاف الذات بالمبدأ في صدق المفهوم عليه بعد زواله،فيكون البحث عقليّا غير راجع إلي عالم اللغة و عالم الألفاظ.الثاني:أن يكون مراده أنّ وجود المبدأ في الذات المتّصفة بها يوجب تحقّق حيثيّة انتزاعيّة و اعتباريّة فيها باقية في جميع الأزمنة بعد زوال المبدأ،فيكون البحث لغويّا يصحّ له أن يتمسّك بالتبادر، و الظاهر أنّ مراده هو الثاني،و لا يظنّ به كون مراده الاحتمال الأوّل (1).

أقول:الظاهر أنّ البحث لغوي علي التقديرين،فإنّ اللغوي لا بدّ أن يعيّن أنّ التلبّس بالمبدأ يكون بالحيثيّة المنتزعة الاعتباريّة،و لعلّ مراد الأعمّي هو الأوّل؛ لأنّ الحيثيّة الاعتباريّة إنّما توجد في بعض المشتقّات كالسارق و نحوه،و لا توجد في جميعها كالنائم و نحوه،و علي كلّ فالبحث لغوي فيما وضع له هيئة فاعل و نحوه.

ثالثها:في بساطة مفهوم اسم الفاعل و المفعول و الصفة المشبّهة،لا يخفي أنّ المادّة الواحدة،كمادّة«ض ر ب»التي لها معني واحد يختلف معناها في الجملة بعروض الهيئات المختلفة عليها،و هي:

الاولي:هيئة المصدر،و هي أقرب التعبيرات عن المادّة؛لعدم اشتمالها علي8.

ص: 50


1- نهاية الاصول ص 58.

النسبة إلي فاعل ما،بخلاف سائر الهيئات.

الثانية:ما كان المقصود بها الاخبار عن المادّة بعد وقوعها خارجا من فاعل ما و هي هيئة الفعل الماضي،و يعبّر عن ضرب فعل ماض بالفارسيّة زد،و لا دلالة لها علي الزمان الماضي،و إن كان التسمية بالفعل الماضي موهمة لها؛و ذلك لأنّه يصحّ أن يقال:كان اللّه تعالي،مع أنّه ليس له زمان،و يصحّ أن يقال:إذا جاء زيد غدا فأكرمه،فإنّه فرض وقوعه و تحقّقه في ترتّب الجزاء عليه.

نعم إذا اسند إلي الزمانيّات يمكن استظهار وقوعه في الزمان الماضي؛لأنّ تحقّقها مساوق لمضي الزمان.و أمّا أخذ زمان الماضي في مفهومه،فهو لغو لأنّ معني تحقّق الفعل خارجا بدون قرينة عبارة اخري عن وقوعه في الزمان الماضي،و ليس المراد بالماضي المضي حقيقة،بل المضي بالنسبة في الاخبار.

الثالثة:ما كان المقصود منها الاخبار عن الحالة الفعليّة أو المستقبلة لوقوع المادّة،و هي هيئة الفعل المضارع.

الرابعة:ما كان المقصود منها اصداره من شخص،و هي هيئة فعل الأمر الغائب و الحاضر.

الخامسة:ما كان المقصود منها عدم اصداره،و الهيئة الدالّة عليه هيئة النهي.

السادسة:ما كان المقصود منها إفادة كون المادّة في محلّ صدورها أو محلّ قيامها،أي المتلبّس بالمادّة لا بنحو التركيب،و الهيئة الدالّة عليه هي هيئة فاعل،أو محلّ وقوعها و الهيئة الدالّة عليه هيئة المفعول.

و الفرق بين هيئة المصدر و هيئة فاعل أنّ الاولي تفيد نفس المادّة بشرط لا، فيقال:مثلا العلم خير من المال.و الثانية تفيد المادّة الموجودة في المحلّ أي المتلبّس بها،فيقال:مثلا نوم العالم أفضل،من دون أن يكون المحلّ مأخوذا فيها، فمفهوم فاعل ليس مركّبا من المحلّ و المادّة وجدانا،فقولنا زيد آكل ليس معناه

ص: 51

زيد ذات أو شيء له الأكل،و لذا لو لم يقيّد بزمان كان معناها وجود المادّة فيه دائما؛لأنّ الملحوظ ثبوت المادّة في المحلّ.

و قد استشهد في الكفاية (1)لبساطة المفهوم بعدم تكرّر الموصوف في مثل زيد الكاتب،فإنّه ليس معناه زيد شيء له الكتابة،ولكن أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا فرق بين جملة الانسان كاتب،و جملة الانسان شيء له الكتابة و لا تكرار؛ لأنّ التكرار إعادة عين ما ذكر أوّلا مرّة ثانية،و هو منتف هنا (2)انتهي.

أقول:مراده تكرار الموصوف لا لفظه،و هو واضح.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا يقال زيد في صدره عالم؛لأنّه لا يطلق العالم علي العلم الملحوظ في نفسه بشرط لا،و يقال:زيد في صدره علم.

و الحاصل أنّ النظر إن كان إلي نفس المبدأ بشرط لا،أي من دون نظر إلي وجوده في محلّ،فهو المعبّر عنه بالمصدر.و إن كان النظر إلي كون المبدأ ملحوظا من حيث كونه علي نحو مفاد كان الناقصة،بأن يكون النظر إلي التلبّس كان مشتقّا، و لم يعتبر كون المبدأ غير الذات المتلبّسة به،فيمكن أن يقال:اللّه تعالي عالم،مع أنّ العلم عين ذاته،فتأمّل.

رابعها:أنّ المادّة قد تلحظ فعليّة كالنائم،و قد تلحظ حرفة كالتاجر،فيطلق عليه في حال عدم تلبّسه بالتجارة كحال النوم،و يتعيّن بالقرينة أنّ المادّة ملحوظة علي أيّ الوجهين،فإن قامت قرينة علي أنّها حرفة،و إلاّ فالمناط التلبّس بالمادّة.

ثمّ إنّ الحكم علي المتلبّس بالمبدأ قد يكون دائرا مداره،فيرتفع بعد انقضاء المبدأ،و قد يكون الحكم ثابتا حدوثا و بقاء علي من تلبّس بالمبدأ،كزوال الطهارة الحدثيّة عن النائم،فإنّه محدث حال النوم و بعد انقضاء النوم عنه.8.

ص: 52


1- كفاية الاصول ص 74.
2- المحاضرات 1:268.

و من الموارد التي قامت القرينة علي المراد قوله تعالي جوابا عن سؤال إبراهيم عليه السّلام لمّا قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (1)فإنّ القرينة العقليّة تدلّ علي أنّه عليه السّلام سأل الامامة لبعض ذرّيته و هو المؤمن حال ايمانه،و ذلك لأنّ بعض ذرّيته ظالم في تمام عمره،و بعضهم ظالم في أوّل عمره ثمّ صار مؤمنا، و بعضهم مؤمن في أوّل عمره ثمّ صار ظالما،و بعضهم مؤمن في تمام عمره،و سؤاله مختصّ بالثاني حال صيرورته مؤمنا و الرابع؛لوضوح أنّ الظالم في تمام عمره لا يليق بمنصب الامامة،و كذا من كان مؤمنا ثمّ صار ظالما لا يليق بالامامة حال كونه ظالما و لا حال كونه مؤمنا؛لأنّ الامامة إن تحقّقت فلا تزول،و الجواب ينفي ثبوت عهد الامامة للثاني،أي الظالم الذي صار مؤمنا و انقضي عنه مبدأ الظلم،و لا ينفيه عن المؤمن الموحّد في تمام عمره،و إلاّ لقال:لا ينال عهدي ذرّيتك.

و ممّا ذكرنا يظهر بطلان استدلال الأعمّي بالرواية (2)الواردة في تفسير الآية، فإنّها لا تدلّ علي أنّ المشتقّ أي الظالم المذكور في الآية يراد به الأعمّ ممّن انقضي عنه الظلم،بل المراد أنّ التلبّس بالظلم علّة محدثة و مبقية لعدم نيل منصب الامامة.

خامسها:بناء علي أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ،فإن ذكر زمان التلبّس،فهو مثل زيد قائم بالأمس أو غدا،و إن لم يذكر انصرف إلي حال النطق، فقولنا زيد قائم،أي حال النطق.

و يمكن الاستدلال له بخبر فضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه،قال:سألت أبا عبد اللّه و أبا الحسن عليهما السّلام عن امرأة زنت،فأتت بولد و أقرّت عند إمام المسلمين بأنّها زنت و أنّ ولدها ذلك من الزنا،فاقيم عليها الحدّ،و إنّ ذلك الولد نشأ حتّي1.

ص: 53


1- سورة البقرة:124.
2- اصول الكافي 1:175 ح 1.

صار رجلا،فافتري عليه رجل،هل يجلد من افتري عليه؟فقال:يجلد و لا يجلد، فقلت:كيف يجلد و لا يجلد؟فقال:من قال له:يا ولد الزنا لم يجلد و يعزّر و هو دون الحدّ،و من قال له:يابن الزانية جلد الحدّ كاملا،قلت له:كيف صار جلد هكذا؟ فقال:إنّه إذا قال له:يا ولد الزنا،كان قد صدق فيه و عزّر علي تعييره امّه ثانية و قد اقيم عليها الحدّ،فإن قال له:يابن الزانية،جلد الحدّ تامّا لفريته عليها بعد اظهار التوبة و اقامة الامام عليها الحدّ (1).

إذا تحقّق ما ذكرنا،فالظاهر أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس كالجامد،فكما لا يطلق الكلب مثلا علي المستحيل ملحا كذلك المشتقّ،و لعلّه واضح عند أبناء المحاورة،و أدلّة الأعمّي ضعيفة كما ذكره الاصوليّون.

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في مادّة أمر

اشارة

الظاهر أنّ«أمر»مشترك لفظي بين معني الطلب،و بين ما يقرب من معني الحادثة و الشيء و نحوهما،و ذلك لامور:

أحدها:استعماله في هذين المعنيين استعمالا شايعا،و عدم مناسبة بينهما تقتضي أن يكون أحد الاستعمالين مجازا و الآخر حقيقة.

ثانيها:اختلافهما في الاشتقاق و الجمود،فيشتقّ من المعني الأوّل،فيقال:أمر عبده يأمره فهو آمر و ذاك مأمور،دون الثاني.

ص: 54


1- وسائل الشيعة 18:441 باب حكم قذف ولد المقرّة بالزنا المحدودة ح 1.

ثالثها:أنّ المعني الأوّل يجمع علي أوامر،و الثاني يجمع علي امور،فيكشف ذلك عن أنّ اللفظ مشترك لفظي بينهما،و ليس له معني شرعي منقول إليه،بل له لغة و عرفا و شرعا معنيان و يكون التعيين بالقرينة.و ذكر في مقاييس اللغة له معاني اخر.

و ما ذكره في الكفاية (1)من أنّه لا حجّة علي الاشتراك اللفظي،و لا يبعد ظهوره بلا قرينة في المعني الأوّل يعني الطلب.ليس علي ما ينبغي،بل هو مشترك،و لا ظهور له في المعني الأوّل إلاّ بالقرينة.

و ما ذكره أيضا من أنّه بحسب الاصطلاح قد نقل الاتّفاق علي أنّه حقيقة في القول المخصوص و مجاز في غيره،فهو غير ثابت؛لأنّا لم نر من يدّعي أنّه في اصطلاح الاصوليّين كذلك.

ثمّ إنّ المعني الأوّل و هو الطلب عبارة عن ايجاب فعل ممّن له حقّ الايجاب عرفا أو شرعا علي غيره،بحيث يستحقّ العقاب عند العقلاء علي المخالفة، كايجاب المولي فعلا علي عبده.أمّا إذا طلب المولي من عبده فعلا لا علي نحو الايجاب بل ندبا أو ارشادا،فلا يطلق عليه الأمر،كما أنّه إذا أوجب و ألزم من ليس له حقّ الالزام عرفا و لا شرعا،لا يطلق عليه الأمر إلاّ مجازا،فإلزام المكره ليس أمرا.

و يدلّ عليه التبادر و موارد الاستعمال،كقوله تعالي فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)فإنّ الأمر بالحذر إرشاد إلي أنّ مخالفة أمره توجب عذابا أليما،أو فتنة تناسب كونها عدل العذاب الأليم، و ليس المراد بالفتنة ما لا يكون مماثلا للعذاب الأليم؛لأنّه لا يكون عدلا له.3.

ص: 55


1- كفاية الاصول ص 82.
2- سورة النور:63.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ طلب المولي من عبده علي ضربين:طلب ايجابي، و طلب غير ايجابي،فإن أراد القائل باعتبار الاستعلاء في مفهوم الأمر الطلب الايجابي فلا بأس به.

و ما ذكره في الكفاية (1)من كفاية كونه عاليا و إن كان مستخفضا بجناحه،ليس علي ما ينبغي إن أراد صدق الأمر علي طلب العالي ندبا،مع أنّه لا وجه لذكره جهتين،بل ينبغي أن يقول:إنّ مادّة أمر تدلّ علي الوجوب للتبادر،و الوجوب هو طلب العالي إلي آخر كلامه.بل لا وجه لما ذكره في الجهة الرابعة،فلاحظ كلامه رحمه اللّه.

تتميم:
اشارة

يذكر فيه أمران:

الأمر الأوّل: في الطلب

قد تبيّن ممّا ذكر أنّ مادّة أمر تطلق علي إنشاء ايجاب من له حقّ الايجاب،و الايجاب فعل اختياري مسبوق بإرادته،فإذا أمر المولي عبده صحّ أن يقال إنّه أراد منه الفعل الكذائي،و ليس المقصود من قولنا أراد انشاءه الايجاب؛ لأنّ الارادة أمر قلبي لا انشائي.

و ما ذكره في الكفاية (2)من إطلاق الارادة علي الانشاء لا يمكن المساعدة عليه،نعم إن كان موطن الطلب في النفس،كما إذا طلبت نفس الانسان أو عقله منه شيئا،مثل أن تطلب نفسه شرب الخمر،أو طلب عقله ترك الشرب،فيطيعهما،صحّ أن يقال:أمرته نفسه بشرب الخمر،كما يصحّ أن يقال:أرادت نفسه منه شرب الخمر،أو أراد عقله ترك شربه.

الأمر الثاني:في المقصود من الارادة في الانسان

،و المقصود منها في الخالق

ص: 56


1- كفاية الاصول ص 83.
2- كفاية الاصول ص 85.

تبارك و تعالي.

أمّا الأوّل،فالارادة فيه هي نزوع النفس إلي فعل يري أنّه يقدر عليه،و يترتّب عليه الفعل غالبا،و هي ذاتي للمدرك للفعل العالم به القادر عليه،خلقه اللّه تبارك و تعالي كذلك،فله أن يريد و له أن لا يريد،فمن علم ضرب احدي اليدين علي الاخري مثلا و كان قادرا عليه و لم يفعل،فإن سئل عن أنّه لماذا لم يضرب؟أجاب بأنّه ما أراد ذلك،فإن أراده فعله،و ليست الارادة إراديّة بل هي نفسها.

نعم قد يكون امور هي دواعي تحقّق الارادة من المحبّة و الخوف و الحسد، و غيرها من الصفات النفسانيّة،و هي امور اختياريّة يمكن إزالتها،مثلا الحسود يحبّ زوال النعمة عن المحسود،و قد يفعل امورا يضرّ بها المحسود،لكنّه قادر علي إزالة الحسد.فالارادة هي فعل النفس و لا تحتاج إلي إرادة اخري،بل الانسان خلق عالما قادرا له أن يريد و أن لا يريد.

و ظهر ممّا ذكرنا في معني الارادة أنّها لا تتوقّف علي مقدّمات،بل لا بدّ لها من محلّ قابل،و هو الانسان الملتفت إلي الفعل القادر عليه،فإنّه مختار في أن يريد الفعل فيفعله أو لا يريده فلا يفعله،نعم ربّما يكون للفعل مقدّمات،فيتأخّر وجود الفعل عن ابتداء الارادة،كما إذا أراد الحجّ في الموسم،فإنّه يتوقّف علي طيّ المسافة و غيره.

فالارادة هي حتميّة حركة النفس للعمل،قال في مفردات الراغب:الارادة هي نزوع النفس (1).

ثمّ إنّه زاد في فوائد الاصول علي الارادة شيئا آخر،فقال:إنّ وراء الارادة شيئا آخر هو المستتبع لحركة العضلات،و هو من أفعال النفس،و إن شئت فسمّه6.

ص: 57


1- مفردات الراغب ص 206.

بحملة النفس أو حركة النفس أو تصدّي النفس إلي آخر كلامه (1).

أقول:بل لا يبعد أن يكون الارادة هي حملة النفس،أي:نزوعها إلي الفعل بحيث لا ينفكّ الفعل عنها،و ما لم يبلغ نزوع النفس إلي هذا الحدّ لم يسمّ إرادة ما لم يمنع مانع خارجي،فنزوع النفس ذاتي لها قد خلقها اللّه كذلك،أي:يريد الفعل أو لا يريده من غير حاجة إلي مقدّمة،بل يكفي كونه عالما بالفعل قادرا عليه.

ثمّ إنّه ذكر في المحاضرات أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها لا يترتّب عليها الفعل كترتّب المعلول علي علّته التامّة (2).

و يمكن المناقشة فيه بأنّ الارادة فعل النفس الذي يترتّب عليه الفعل الخارجي و ما لم يبلغ الحدّ الذي يترتّب عليه الفعل لو لا المانع الخارجي لم يكن إرادة.

و قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ الارادة و هي نزوع النفس ليست متّحدة مع طلب النفس،نعم قبل أن يريد الفعل،أي قبل نزوع النفس،ربّما يكون تنازع بين هوي النفس و العقل،كما إذا تصوّر شرب خمر حاضر عنده،فالنفس تأمره بفعله و هي النفس الأمّارة،و تزيّن له فعله و تدفع الموانع الدنيوية و الاخروية،و العقل ينهاه، فهذا طلب من النفس و العقل و ليس إرادة.

ثمّ إنّ فعل العبد هل هو مستند إلي إرادته و يكون مختارا فيه غير مستند إلي غيره أو أنّه مستند إلي الارادة الإلهيّة؟فيه أقوال.

قال المولي نصير الدين الطوسي في فصول العقائد:إنّ العبد موجده-أي:

الفعل-بالاختيار؛لأنّه يحصل بحسب دواعيه،و استدلّ عليه بعد عدم استبعاده كونه ضروريّا بأنّ القبيح محال علي الواجب،فيكون فاعله غيره،و إذا كان فاعل4.

ص: 58


1- فوائد الاصول 1:67.
2- المحاضرات 2:54.

القبيح غيره،فكذا فاعل الحسن،فإنّ الذي كذب هو الذي صدق (1)انتهي.

أقول:فعليه لا محذور في تكليف الكفّار و العصاة؛لأنّ الارادة التكوينيّة الإلهيّة لا تتعلّق بأفعال العباد.

و قيل:إنّ معني قوله عليه السّلام«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»أنّه لا جبر بمعني إلجاء العبيد و قهرهم علي أفعالهم،و لا تفويض بأن يكون اللّه سبحانه بعد إعطاء القدرة و الحياة لهم،لا يكون قادرا علي أن يحول بينهم و بين فعلهم،بل أمر بين الأمرين،و هو خلق العباد و إعطاء الحياة و القدرة لهم،و إنزال الكتب و التوفيق لهم إلي ما يوجب سعادتهم أو خذلانهم،و تركهم إلي أنفسهم مع قدرته تعالي علي إجبارهم.و حكي هذا الوجه عن العلاّمة المجلسي وجها عاشرا لمعني الحديث في كتاب مصابيح الأنوار (2).

و ظاهر الآيات و الأخبار أنّ الأفعال القبيحة صادرة عن العبيد،و أنّه تعالي لا يرضي لعباده الكفر و لا يظلمهم،و انّ أفعال العباد ليست متعلّقة لإرادة اللّه تعالي.

أمّا الثاني أي إرادة اللّه سبحانه و تعالي،فقيل:إنّها تقسّم إلي الارادة التكوينيّة و التشريعيّة،و لعلّه اصطلاح و إلاّ فالأحكام النازلة علي الأنبياء هي كسائر أفعاله تعالي تتحقّق بالارادة التكوينيّة،و لعلّ المراد بقوله تعالي يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (3)هي إرادة جعل أحكام الطهارة بالماء و التراب لتطهيركم،فالارادة المتعلّقة بتشريع الأحكام كالارادة المتعلّقة بخلق الأشياء كلتاهما تكوينيّة،لكن اصطلحوا علي تسمية الارادة المتعلّقة بالأحكام المجعولة بالارادة التشريعيّة.

و ورد عن المعصومين عليهم السّلام أنّ الارادة في اللّه تعالي هي فعله،فهي من صفات6.

ص: 59


1- فصول العقائد ص 24-25.
2- مصابيح الأنوار للسيّد عبد اللّه الشبّر 1:161.
3- سورة المائدة:6.

الفعل،كما في الخبر عن صفوان بن يحيي،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:أخبرني عن الارادة من اللّه و من المخلوق،قال:فقال:الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل،و أمّا من اللّه عزّ و جلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛لأنّه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر،و هذه الصفات منفيّة عنه،و هي من صفات الخلق، فإرادة اللّه تعالي هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك،كما أنّه بلا كيف (1).

أقول:لا ينبغي الخوض في هذه المسائل الغامضة مع عدم عصمة أفكارنا و عقولنا،و اعتقادي في هذه المسألة و المسألة السابقة و غيرها هو ما يعتقده الأنبياء و لا سيّما نبيّنا صلّي اللّه عليه و اله و أوصيائه الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،فإنّهم معصومون عن الخطأ،و بذلك يكون الانسان مستكملا ايمانه،كما في خبر يحيي بن زكريّا الأنصاري،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سمعته يقول:من سرّه أن يستكمل الايمان كلّه فليقل:القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد صلّي اللّه عليه و اله فيما أسرّوا و ما أعلنوا، و فيما بلغني عنهم و فيما لم يبلغني (2).

تذنيبان:
الأوّل: في الأوامر الامتحانيّة

أنّ الأوامر الامتحانيّة و إن كانت متعلّقة ظاهرا بالفعل،لكن ليست متعلّقة به حقيقة،بل هي تتعلّق به مجازا،و القرينة عليه تؤخّر إلي وقت الحاجة، و هو قبل تحقّق الفعل.

و في أمر إبراهيم عليه السّلام بذبح ابنه احتمالان:

أحدهما:أن يكون صورته اقطع رأس ابنك،بأن استعملت الصيغة فيه مجازا، و المراد بها جدّا أن يسلّم لقطع رأس ابنه تسليما لا يتصوّر فوقه تسليم،سواء وقع

ص: 60


1- توحيد الصدوق ص 147.
2- اصول الكافي 1:391 ح 6.

بعده إهراق دمه أو لم يقع،و هذا لا يمكن إلاّ بأن يؤمر بقطع رأسه،و إذا اشتغل بالعمل بحيث لم يبق إلاّ قطع رأسه يبيّن له ما هو المأمور به،و أنّه لا يجب عليه قطع الرأس،و علي هذا الوجه فأمره بقطع رأسه أمر امتحاني و لم يعلم إبراهيم عليه السّلام ذلك إلاّ بعد مجيء القرينة علي أنّ المراد من قطع الرأس فعل المقدّمات التي لم يبق معها إلاّ إهراق دمه،قد استعمل الأمر بالذبح في مقدّمته مجازا.

ثانيهما:أن يكون مأمورا بوضع السكّين علي رقبته و جرّه عليها،أي:الاشتغال بالذبح الذي ينجرّ ظاهرا إلي قطع الرأس،و هو لا يعلم عدم الوصول إلي قطع الرأس،و لعلّ قوله تعالي قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (1)يدلّ علي هذا الوجه،فليس الأمر أمرا امتحانيّا.

الثاني:في البحث عن الكلام النفسي.

قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الدلالات اللفظية منحصرة في المفردات،و هيئة المركّبات الخبرية و الانشائية الطلبيّة و الاستفهامية و غيرها.

أمّا دلالة المفردات،فلا ريب فيها.و أمّا دلالة هيئة الجملة أي المبتدئية و الخبرية و حمل المحمول علي الموضوع،فهي:إمّا إنشائية،و إمّا خبرية.

أمّا الانشاء،فهو قصد حمل المحمول علي الموضوع بدون قصد الحكاية عمّا وراء ما يفهم من الجملة.

و أمّا الجملة الخبرية،فلها عند التحليل ثلاث دلالات:ذات الموضوع،و ذات المحمول،و حمله علي الموضوع الذي يدلّ عليه هيئة المبتدأ و الخبر،و لها خارج دلّت الجملة عليه،مثل ضرب زيد عمروا بالأمس،أو قصد المتكلّم الحكاية عنه، إن طابقته فصدق،و إن لم تطابقه فكذب،و هذا معني كلامهم أنّ النسبة الكلاميّة لها

ص: 61


1- سورة الصافّات:105.

خارج؛لا أنّ النسبة موجودة في الخارج،فإنّ قولنا زيد قائم ليس له في الخارج إلاّ ذات زيد و عرض القيام،و هكذا كلّ جملة خبريّة،و أمّا زيد زيد و نحوها،فهي لعلّها ليست من الكلام الصحيح.

و قد ظهر ممّا ذكرنا التفكيك بين القضيّة اللفظيّة و بين واقعها،فإنّ القضيّة اللفظيّة لها مفردات و هيئة و واقعها الموضوع و عرضه.فما ذكر من أنّه إذا اشتملت القضيّة علي الدالّ علي الاضافة و النسبة بين الموضوع و المحمول،فلا بدّ و أن يكون محكيها كذلك.غير واضح.

ثمّ إنّه يقارن التلفّظ بالجملة الخبرية و الانشائية امور:

منها:أنّ التكلّم بهما فعل اختياري،و هو مسبوق بإرادة المتكلّم،المتوقّفة علي تصوّر مضمون الجملة،و تصوّر نفس الجملة و ألفاظها.

و منها:أنّ ظاهر المتكلّم الحكيم كونه معتقدا و مذعنا لمدلول الجملة.

و منها:كونه قاصدا لمضمونها لم يتكلّم بها ساهيا و لا هازلا و لا خوفا و لا تقيّة إلي غير ذلك.

و هذه الامور ليست مدلولات لفظية،بل هي تثبت ببناء العقلاء في حمل كلام المتكلّم الحكيم عليها،و لا شيء وراء هذه الامور يكون كلاما نفسيّا مدلولا للجملة،و البحث عنه لا طائل تحته.

ص: 62

الفصل الثاني: في صيغة الأمر و ما الحق بها

اشارة

و فيه مباحث:

المبحث الأوّل: في معان صيغة الأمر

قد استعملت صيغة«افعل»و«ليفعل»في معان،فهل هي مشتركة لفظا بينها،أو مشتركة معني،أو حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه؟وجوه.

يظهر من صاحب الكفاية الميل إلي الأخير،حيث قال:إنّ الصيغة في جميعها استعملت في إنشاء الطلب،و لم تستعمل في التهديد و التعجيز و غيرهما، فالمستعمل فيه في الجميع واحد،نعم يمكن أن يقال:إنّها موضوعة لإنشاء الطلب الذي يكون المنشيء له باعثا و محرّكا (1).

ثمّ قال في البحث الثاني:إنّه لا يبعد أن تكون موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث و التحريك الايجابي للتبادر،و يؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب.

ثمّ قال في البحث الرابع:إنّه لو منعنا وضع الصيغة للوجوب،فمقدّمات الحكمة تقتضي الحمل علي الوجوب،فإنّ الندب كأنّه يحتاج إلي مؤونة بيان التحديد و التقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب.

أقول:لا يبعد أن تكون مشتركة معني،و يكون معني الصيغة هو كون المخاطب أو الغائب متلبّسا بالمادّة إمّا تكوينا،كقوله كن قردا،أو صادرا منه مادّة الصيغة إباحة أو وجوبا أو غيرهما؛لأنّها تستعمل في جميع الموارد من دون عناية و تجريد،حتّي انّ الصبيان الذين يلعبون يستعملونها،و هي في استعمالها في

ص: 63


1- كفاية الاصول ص 91.

الارشاد كاستعمالها في غيره،و قد كثر استعمالها في الارشاد،كقوله من أراد البقاء فليفعل كذا،و من استبرد فليلبس كذا،إلي غير ذلك ممّا يكون المقصود منه جعل الملازمة بين الشرط و الجزاء.

و ليس في مورد الاباحة و التعجيز و التهديد إنشاء الطلب،و من هذه الاستعمالات تستكشف أنّها ليست موضوعة للطلب.فما ذكره في الكفاية من أنّها موضوعة لإنشاء طلب المادّة،و بعبارة اخري للطلب الانشائي و تختلف الدواعي، غير معلوم.

و قد يقال:إنّ هيئة افعل موضوعة للبعث و الاغراء،كالاشارة البعثيّة و الاغرائيّة،و كاغراء جوارح الطير،فهي موضوعة لإفادة ذلك و إفهامه،و انّ المعاني التي عدّت لها،كالتمنّي و الترجّي و التهديد و غيرها ليست معانيها،بل معان مجازية علي ما سبق من استعمال اللفظ فيما وضع له ليتجاوز منه إلي المعني المراد جدّا لعلاقة،فصيغة الأمر تستعمل تارة في البعث ليستقرّ ذهن السامع عليه و يفهم منها ذلك،و اخري تستعمل فيه لكن ليتجاوز ذهنه منه إلي المعني المراد جدّا بعلاقة مع نصب قرينة.

أقول:الانصاف أنّه ليس في جميع الموارد بعث و إغراء،فقول الصبي لغيره إن أحببت أن تأكل من طعامي فكل،لا بعث فيه،و كذا قوله كونوا قردة.

و لا يبعد أن يكون الاستعمال في جميع الموارد في معني واحد من دون عناية تجريد و تأويل،حتّي في خطاب الجمادات،كقوله«أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا نسيم الصبا»إلي آخره.

و قال في المحاضرات:إنّ الصيغة موضوعة للدلالة علي إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،و هي موضوعة لواحد من هذه المعاني،و هو إبراز اعتبار الفعل علي ذمّة المكلّف.و أمّا إبراز سائر المعاني،فيحتاج إلي نصب القرينة،و هو

ص: 64

علامة كونها مجازا في سائر المعاني (1).

أقول:قد سبق البحث عن الانشاء و الاخبار،و لعلّه لا يخطر في أذهان المستعملين في الموارد المختلفة أنّهم يعتبرون في أنفسهم أمرا ثمّ يظهرونه بالصيغة،بل انّهم يرون الانشاء آلة لتحقّق معناه،كما يقولون«يسقط»يريدون سقوط شخص،و يقولون«يعيش»يريدون معناه.

المبحث الثاني: في الفرق بين الايجاب و الاستحباب

و فيه أقوال و احتمالات:

الأوّل:أنّ الايجاب هو تحتّم تلبّس المخاطب أو الغائب بالمادّة،و الاستحباب تلبّسهما بالمادّة علي نحو يترجّح الفعل علي الترك،و نظيرهما الوعد،فإنّه تارة يكون وعدا إلزاميّا بحلف و شبهه،و اخري وعدا غير إلزامي بأن قيّده بمشيئته،فإن قال:أعطيك غدا درهما و حلف عليه فهو وعد مؤكّد،و إن قال:أعطيك إن شئت فهو وعد غير ملزم.و كذلك عهدة الشخص،فإنّه لو نذر فعلا كانت عهدته مشغولة به لزوما.

و إن شئت قلت إنّ الوجوب هو لزوم أن يصدر الفعل من المكلّف علي نحو يستبطن استحقاقه العقاب عند العقلاء علي المخالفة،و اللفظ الصريح أن يقول:

يجب عليك الفعل الكذائي و إن خالفت عاقبتك.

الثاني:ما في نهاية الاصول،قال:التحقيق أنّ الفرق بينهما بالشدّة و الضعف، لكن لا بالشدّة و الضعف في ذات الطبيعة؛لأنّ الأمر الاعتباري لا يقبل التشكيك الذاتي،بل بالشدّة و الضعف المنتزعين بحسب المقارنات،مثلا من يقول لعبده:

ص: 65


1- المحاضرات 2:123.

اضرب،قد يقوله ضاربا برجليه الأرض و محرّكا رأسه و يديه،و قد يقوله معقّبا إيّاه بقوله:و إن لم تفعل فلا جناح عليك.و قد يقوله بدون هذه المقارنات،فينتزع من الأوّل الوجوب،و من الثاني الندب،و اختلف في الثالث إلي آخر كلامه (1).

أقول:قد عرفت أنّ الوجوب و الندب وجودان بحسب وعائهما،فالصلاة واجبة و الصدقة مستحبّة،و شرب الماء لم يوجد فيه وجوب و ندب،و هذان الوجودان يختلفان في الحتميّة و عدمها،فإنّ هذه الامور قابلة للتأكّد،كأخذ البيعة من الناس بعد أمرهم بولاية علي عليه السّلام،و نظيره الرهن للدين،فكأنّه أوثق في الأداء من الدين الذي لا رهن له.

الثالث:ما ذكره في أجود التقريرات من أنّ الفرق بين الوجوب و الندب إنّما هو في المبادي،حيث انّ ايقاع المادّة علي المخاطب تارة ينشأ عن مصلحة لزوميّة، و اخري عن مصلحة غير لزوميّة إلي آخر كلامه (2).

و فيه أنّهما يفترقان حتّي عند من أنكر تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد.

و قد يقال:إنّه لا اختلاف بينهما ذاتا،بل الوجوب حكم العقل بلزوم إطاعة الطلب الصادر من المولي إن لم يقترن بالترخيص.

أقول:فالفرق بينهما في مرحلة الاثبات،ولكنّك عرفت أنّهما يفترقان ذاتا و ثبوتا،و أمّا إثباتا أعني طريق إثبات الوجوب أو الندب فهو أمر آخر.

المبحث الثالث
اشارة

بناء علي عدم وضع الصيغة للوجوب،فهل هي منصرفة إلي الوجوب أو أنّها تدلّ علي الوجوب بمقدّمات الحكمة،أو بحكم العقل بوجوب إطاعة العبد لمولاه، أو ببناء العقلاء و أبناء المحاورة علي حملها علي الوجوب إن صدرت ممّن تجب

ص: 66


1- نهاية الاصول ص 86-91.
2- أجود التقريرات 1:95.

إطاعته،كالصادر من الموالي إلي العبيد بدون قرينة تدلّ علي الاستحباب أو الاباحة كما هو المفروض؟

لا يبعد الأخير؛لأنّ المتبادر من صيغة افعل في موارد استعمالها هو كون المخاطب متلبّسا بالمادّة،و لا تدلّ علي الوجوب بنفسها،و إنّما تدلّ عليه بقرينة، و من القرائن خطاب المولي بها عبده،فإنّها تحمل علي الوجوب ببناء العقلاء، و ذلك لأنّ الموالي العرفيّة إن أرادوا ايجاب شيء لا يصرّحون بإرادتهم من قولهم «اشتر اللحم»مثلا الوجوب،بل يستعملونها في مقام بيان ما يطلبونه من العبيد لزوما،فلذا كان البناء من العقلاء علي حمل الصيغة الصادرة من المولي إن لم تقترن بالترخيص في الترك علي الوجوب.

و قيل:إنّ بناء العقلاء علي وجوب إطاعة الطلب الصادر من المولي ما لم يرخّص في تركه لا حمله علي الوجوب،و علي كلا التقديرين فهذا البناء ثابت في العرف و الشرع.

تتميم:الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي ص و الأئمّة ع

قال في نهاية الاصول ما حاصله:إنّ الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام علي قسمين:

القسم الأوّل:ما صدر عنهم عليهم السّلام في مقام إعمال السلطنة و إعمال المولويّة، مثل ما صدر عنهم في الجهاد و نحوه.

القسم الثاني:ما صدر عنهم عليهم السّلام في مقام التبليغ و الارشاد إلي أحكام اللّه تعالي،كقولهم«صلّ»و قولهم«اغتسل للجمعة»و نحوهما.

ثمّ إنّه يجب إطاعتهم في القسم الأوّل،و أمّا القسم الثاني فلمّا لم يكن صدورها عنهم لإعمال المولويّة،بل كان لغرض الارشاد إلي ما حكم اللّه به علي عباده، كانت في الوجوب و الندب تابعة للمرشد إليه،أعني:ما حكم اللّه به،و ليس

ص: 67

لاستظهار الوجوب أو الندب من هذا السنخ من الأوامر وجه؛لعدم كون الطلب فيها مولويّا،فتأمّل جيّدا (1).

أقول أوّلا:يجب إطاعتهم في أوامرهم الشخصيّة،فلو أمروا بإحضار ماء مثلا وجب.و ثانيا:أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله أو المعصومين عليهم السّلام في مقام تبليغ الأحكام إن قالوا إخبارا عن اللّه تعالي:قال اللّه تعالي يا عبادي افعلوا كذا،فيستظهر الوجوب من كلام اللّه تعالي المنقول علي لسانهم عليهم السّلام،و إن لم يسندوه إلي اللّه تعالي،و قالوا في مقام التبليغ:افعلوا كذا كما هو الأكثر،فيستظهر الوجوب من قولهم افعلوا؛لوجوب إطاعتهم في الأحكام التي يقولونها،و لا حاجة إلي إحراز إعمال المولويّة كما ذكر.

المبحث الرابع: في دلالة الجملة الخبرية المشتملة علي الأحكام الشرعيّة علي الوجوب

هل الجملة الخبرية المشتملة علي الأحكام الشرعيّة،مثل قوله«من شكّ بين الثلاث و الأربع بني علي الأربع»تدلّ علي الوجوب أو لا؟حكي الفاضل النراقي في المناهج عن جماعة عدم الدلالة و اختاره،قال:لأنّه لم يرد بها الإخبار قطعا، و اريد بها الانشاء مجازا،و هو متعدّد من أصل الطلب،و الطلب الوجوبي و الطلب الندبي.و إذا تعدّد المجازات و لم يترجّح بعضها علي بعض،فاللفظ يكون مجملا، و القدر المتيقّن هو أصل الطلب انتهي.

أقول:لا يبعد أن يكون استعمال فعل المضارع أو الماضي في هذه الموارد إنشاء حقيقة،كاستعمال فعل الماضي في البيع،مثل بعت و قبلت في مقام المعاملة فإنّه إنشاء،فيكون قوله«من فعل كذا أعاد أو يعيد»إنشاء و استعمالا حقيقيّا،و قد مرّ أنّ الانشائيّة و الاخباريّة خارجتان عن مرحلة الاستعمال،و بناء العقلاء علي حمل الكلام الصادر عن المولي إلي العبيد في مثل ذلك علي الوجوب،و من لاحظ

ص: 68


1- نهاية الاصول ص 97.

الأخبار يري أنّ استعمال الجملة في إنشاء الوجوب كثير.

و لا فرق بين أن يقول«ليعد»في جواب من سأله عن الشكّ في الركعتين الأوّلين،و بين أن يقول«يعيد»في الدلالة علي الوجوب.

و أمّا ما ذكره في الكفاية من أنّها أظهر من الصيغة،حيث انّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنّه لا يرضي إلاّ بوقوعه،فيكون آكد في البعث من الصيغة و لا يلزم الكذب؛لأنّه أخبر بداعي البعث كسائر الكنايات،مثل زيد كثير الرماد كناية عن جوده،فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ إلي آخر كلامه (1).

ففيه منع كونه آكد،و منع كونه إخبارا،فلا فرق بين قوله«إذا شككت فابن علي الأكثر»و قوله«من شكّ في الركعات بني علي الأكثر»في الدلالة علي إنشاء الطلب،و ليس الثاني آكد من الأوّل.

المبحث الخامس: في أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليا أم لا؟
اشارة

و لتنقيحه نذكر امورا:

أحدها:أنّ كثيرا من الأفعال يقع علي وجه العبادة تارة،و يقع علي غير وجه العبادة اخري،فإذا كان الفعل قابلا لجعله للّه تعالي،كالأفعال الحسنة من الاحسان إلي الغير و نحوه،و فعله المؤمن للّه تعالي فهو عبادة،و إذا فعله لغيره لم يكن عبادة، مثلا من وعظ الناس ابتغاء مرضاة اللّه تعالي فهو عبادة،و من وعظهم للاجرة أو لتحصيل الوجاهة عند الناس لم يكن عبادة،فالفعل قبل تعلّق الأمر به يقع علي وجهين.

هذا إن علم قابليّة جعله للّه.و إن علم عدم القابليّة،كشرب الخمر فلا معني

ص: 69


1- كفاية الاصول ص 93.

لجعله للّه و طلب مرضاته.و إن لم يعلم ذلك،فيستكشف كونه قابلا لجعله عبادة من تعلّق الأمر به،مثلا إن لم يعلم أنّ غسل الثوب النجس يمكن أن يقع عبادة، استكشف قابليّته لوقوعه عبادة من الأمر بغسل الثوب،فإذا غسله للّه تعالي ليصلّي فيه وقع عبادة و يثاب عليه.

و يدلّ علي ما ذكرنا من أنّ العبادة هو جعل العمل للّه تعالي،الآيات و الأخبار:

منها:قوله تعالي وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ الآية (1).

و منها:خبر علي بن سالم،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:قال اللّه عزّ و جلّ:

أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصا (2).

و في خبر يزيد بن خليفة،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ رياء شرك،انّه من عمل للناس كان ثوابه علي الناس،و من عمل للّه كان ثوابه علي اللّه (3).

و منها:صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ قال له رجل من الجلساء:جعلت فداك يابن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،أتخاف عليّ أن أكون منافقا؟فقال له:إذا خلوت في بيتك نهارا أو ليلا أليس تصلّي؟فقال:بلي،فقال:

فلمن تصلّي؟فقال:للّه عزّ و جلّ،قال:فكيف تكون منافقا و أنت تصلّي للّه عزّ و جلّ لا لغيره (4).

و في المجالس و الأخبار باسناده عن أبي ذرّ،عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله في وصيّته له5.

ص: 70


1- سورة البقرة:265.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:431 ب 13 ح 753 الطبعة الجديدة.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:433 ح 762.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:441 ح 795.

قال:يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّي في النوم و الأكل (1).

إلي غير ذلك،فراجع.

ثانيها:أنّ الأمر أيضا علي قسمين:أمر تعبّدي،و هو الأمر المتعلّق بالعبادة، و أمر غير تعبّدي و هو المتعلّق بغير العبادة،و الأوّل كالأمر بالصلاة فإنّه تعبّدي؛لأنّ الصلاة اسم للصلاة الصحيحة،أي المسقطة للأمر،و هي الواجدة لتمام الأجزاء و الشرائط حتّي قصد القربة،كما تقدّم من أنّه لو وقف علي المصلّين أو أوصي لهم كان المراد ذلك،و هي المراد من قوله عليه السّلام«بني الاسلام علي الخمس الصلاة» الحديث.

و قوله تعالي اَلصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (2)و قوله تعالي أَقِيمُوا الصَّلاةَ (3)يعني الصلاة الصحيحة المسقطة للاعادة و القضاء،فالأمر تعلّق بالعبادة،و هي الاتيان بالأفعال المخصوصة للّه.

و الثاني كالأمر بالانفاق علي الزوجة و أداء الدين و الوفاء بالمعاملات اللازمة، فإنّها أوامر غير تعبّديّة،فالواجب هو الانفاق علي الزوجة،سواء كان للّه أو كان لهوي نفسه،أو كان رياء،و الانفاق علي الزوجة امتثالا لأمر اللّه لا يكون عبادة إلاّ إذا جعله للّه تعالي؛لأنّ الأمر به توصّلي،و سيأتي توضيحه في الأمر الرابع.

ثالثها:أنّ العبادات كالصلاة و نحوها مشروطة بايقاعها خضوعا للّه تعالي،كما أنّها مشروطة بالطهارة و استقبال القبلة و الساتر،و الدليل علي الاشتراط إمّا الاجماع أو الأخبار أو غيرهما،و الأمر يتعلّق بالصلاة مع جميع شروطها،لأنّ الأمر يتعلّق بالشروط الشرعيّة،كما يتعلّق بالأجزاء بلا فرق بينهما.ا.

ص: 71


1- وسائل الشيعة 1:36 ح 8.
2- سورة العنكبوت:45.
3- سورة البقرة:43 و غيرها.

رابعها:أنّه يمكن أن ينبعث المكلّف عن الأمر و يقصد بعمله امتثاله،و مع ذلك لا يكون عمله عبادة،كما إذا غسل ثوبه النجس بالماء المغصوب لوجوب غسله ليصلّي فيه بحيث لو لم يكن واجبا لم يكن يغسله،أو أنفق علي زوجته بحيث لو لا وجوبه لم ينفق عليها،إلي غير ذلك،نظير امتثال المكره أمر المكره لأنّه أمره به.

خامسها:إذا شكّ في اعتبار العباديّة في عمل،أي اعتبار جعله للّه تعالي في إسقاط الأمر به،و لم يكن إطلاق في مقام البيان ليتمسّك به لنفيه،فهو من الأقلّ و الأكثر الارتباطي،يجري فيه الأصل علي الخلاف.

اذا تمهّدت الامور المذكورة،فنقول:كما تشترط الصلاة بالطهارة و غيرها من الشرائط،كذلك يشترط فيها الاتيان بها عبادة،و الأمر تعلّق بالصلاة الواجدة للشروط التي منها قصد القربة،و هذا هو الموافق للمرتكز في أذهان المتشرّعة بأنّهم مأمورون بالصلاة،و هي المركّبة من الأجزاء و الشرائط،و منها قصد القربة، و ليس قصد القربة دخيلا في تحصيل الغرض،كما ذكره في الكفاية (1).

ثمّ انّ اعتبار كون العمل عبادة،إن استفيد من مناسبة الحكم و الموضوع أو غيرها،فلا إشكال،كالطواف بالبيت و رمي الجمار و الصلاة و نحوها،فإنّه لا يأمر اللّه سبحانه بهذه الأفعال إلاّ لمصلحة فيها،و لا مصلحة في مجرّد فعلها بدون التعبّد بها،و كذا إن دلّت سيرة المتشرّعة أو إجماع قطعي أو نحوهما،و أمّا إذا لم يكن فمقتضي إطلاق الأمر إن كان في مقام البيان عدم اعتباره.

و قد يقال:إنّ الأوامر كلّها تعبّديّة إلاّ ما علم أنّه توصّلي؛لأنّ الأمر هو المحرّك للمأمور إلي فعل المأمور به،و المأمور به في إطار تحريك الأمر يكون عبادة، و لعلّه مراد من جعل الأمر بمنزلة المحرّك التكويني.7.

ص: 72


1- كفاية الاصول ص 97.

و فيه أنّ أداء الدين و الانفاق علي الزوجة و الوفاء بالعقود اللازمة مأمور بها، لكن لم يؤخذ فيها جعلها للّه،فإن تحرّك من الأمر بحيث كان الداعي الأوّل هو الأمر،لكن فعله حبّا أو رياء بحيث لو لا الأمر لم يكن يفعل،و لو لا محبّة الزوجة لم ينفق عليها،فقد امتثل الأمر بالانفاق علي الزوجة،مع أنّه لم يقع عبادة.

تتمّة:

ذكر في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المصلحة إن كانت في الفعل علي وجه لو أمر به المولي و أتي به المكلّف امتثالا لأمر المولي لصار حسنا،ولكن حيث انّه لا يعقل الأمر بالفعل أوّلا علي ذلك الوجه،فما يحمله في ايصال المكلّف إلي المصلحة المكنونة في الفعل علي الوجه المذكور أن يأمر بالفعل أوّلا تحصيلا لموضوع الحسن،ثمّ ينبّه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور علي وجه الامتثال (1)انتهي.

و أورد عليه في الكفاية أوّلا:بأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد.

و ثانيا:أنّ الأمر الأوّل إن لم يسقط بدون قصد امتثاله لعدم حصول غرضه،استقلّ العقل باتيانه بقصد الأمر،فلا حاجة في الوصول إلي غرضه إلي وسيلة تعدّد الأمر (2).

أقول:ليس في كلام الشيخ رحمه اللّه تعدّد الأمر،بل قال:إنّه يأمر بالفعل ثمّ ينبّه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور علي وجه الامتثال،فيصل المكلّف إلي المصلحة الموجودة في الفعل.

ثمّ انّ ما ذكره من أنّ قصد الأمر دخيل في غرض المولي و ليس جزء و لا شرطا،لا وجه له،بل هو إمّا جزء أو شرط لبّا،ولكن لا يمكن الأمر به و ايصال المكلّف إلي المصلحة الملزمة الموجودة في المتعلّق إلاّ بهذه الكيفيّة،فلو لم يبيّن

ص: 73


1- تقريرات الشيخ ص 49.
2- كفاية الاصول ص 97.

يتمسّك بإطلاق كلامه أو بالاطلاق المقامي علي عدم اعتباره.

المبحث السادس: في دلالة هيئة الأفعال

تقدّم أنّ هيئة الأفعال تدلّ علي معني قابل للاطلاق و التقييد،و ما قيل من أنّ معني هيئة الأفعال معني الحرف لا يلاحظ فيه الاطلاق،ليس مرضيّا عندنا،ففي قولنا ضرب زيد عمروا في الدار بالعود يوم الجمعة،قد قيّدنا نسبة صدور الضرب من زيد التي هي معني الفعل الماضي بهذه القيود.

و علي هذا فإذا شكّ في كون الوجوب نفسيا،أو غيريا،أو تعيينيا،أو تخييريا، أو عينيا،أو كفائيا،أو مباشريا،أو أعمّ منه و من التسبيبي،فمقتضي الاطلاق الأوّل من هذه الامور؛لأنّ خلافها يحتاج إلي تقييد الهيئة بأنّه يجب الفعل الكذائي عند وجوب فعل آخر،أو يجب الفعل إن لم يفعل غيره،و هكذا.

المبحث السابع: إذا وقعت صيغة«افعل»عقيب الحظر

،أو في مقام توهّمه،ففي دلالته علي الوجوب و عدمه وجهان،لا يبعد أن يقال:إنّه إن رفع الحظر الموجود أو توهّمه بهذه الصيغة،كما في قوله تعالي فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (1)فلا دلالة لها علي الوجوب.

و أمّا مجرّد أن يكون الفعل ممنوعا في زمان،ثمّ وقع بعده الصيغة،فاقتضاؤه عدم الظهور للصيغة في الوجوب غير معلوم،نعم يوجب ضعف الظهور،فلو عارضه ظاهر آخر قدّم عليه.

ص: 74


1- سورة التوبة:5.
المبحث الثامن: في المرّة و التكرار

لا دلالة لايجاب الطبيعة علي فعلها مرّة أو مرّات،سواء كان الايجاب بمادّة الأمر،أو بصيغته،أو بالجملة الخبرية المستعملة في مقام الانشاء؛لوضوح أنّ متعلّق الوجوب هو الطبيعة،و هي توجد في الخارج بايجادها مرّة واحدة،فلا دلالة للهيئة المتعلّقة بالطبيعة علي المرّة،بحيث لو قال افعل مرّة لكان تأكيدا،و لا التكرار بحيث لو قال افعل مكرّرا لكان تأكيدا.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:أنّ الطبيعة تتحقّق في الخارج بالوجود الأوّل،فإن لم تكن قابلة لايجادها بوجودات دفعة،كغسل الميّت مثلا،فلا بحث.و أمّا إن كانت قابلة لوجودات متعدّدة دفعة كالتصدّق،فإنّه يمكن تحقّقه بدرهم دفعة،كما يمكن تحقّقه بعشرة دراهم دفعة،فإن أمر بالتصدّق فقد يقال:إنّه لو تصدّق بعشرة دراهم دفعة، لكان امتثالا واحدا كالتصدّق بدرهم،و لا يختلفان في أنّ التصدّق بدرهم مصداق للواجب،كما أنّ التصدّق بعشرة دراهم مصداق للواجب.

أقول:لو نذر أن يتصدّق علي فقير بدرهم إن جاء زيد من سفره،ثمّ نذر إن رزق ولدا تصدّق علي فقير بدرهم،فجاء زيد و رزق ولدا،فتصدّق علي فقير بدرهمين قاصدا به الوفاء بالنذرين،لكان موفيا بنذريه،و كذا لو أمره المولي أن يتصدّق علي فقير بدرهم،و كان ناذرا أن يتصدّق علي فقير بدرهم،فتصدّق علي فقير بدرهمين قاصدا به امتثال أمر المولي و وفاء النذر لكان ممتثلا لهما،فكذا إن أمره بالتصدّق،فإنّه ينوي بما صدق عليه التصدّق أداء الواجب،و بالزائد عليه الاستحباب،و ليس له أن يقصد امتثال الواجب بالتصدّق بالعشرة بخصوصها،بل مقدار ما يصدق عليه التصدّق يكون واجبا و الزائد مستحبّا؛لأنّ الزيادة خصوصيّة

ص: 75

في الفرد،فإذا وجب علي شخصين أن يتصدّقا،فتصدّق أحدهما بدرهم و تصدّق الآخر بعشرة دراهم،كان ثواب الثاني أكثر؛لأنّ الفرد الذي أتي به أفضل.

و إن أمره المولي بضرب عبده،فإنّما يجوز له أن يضربه بمقدار ما يصدق عليه الضرب،فلا يجوز أن يضربه مرّة واحدة ضربا شديدا زائدا علي ما يتحقّق به أصل الضرب.

الثاني:قيل:إنّ الاتيان بالأفراد العرضيّة للطبيعة يكون امتثالا واحدا بمجموعها،فلو أمره بالتصدّق،فتصدّق دفعة علي عشرة فقراء،وقع الجميع امتثالا واحدا،كما إذا تصدّق علي فقير واحد؛لأنّ الأمر تعلّق بالطبيعة،و الخصوصيّات الفرديّة خارجة من متعلّق التكليف.

و أورد عليه في نهاية الاصول بأنّ الطبيعة الموجودة في الخارج تتكثّر بتكثّر أفرادها،و القول بكون الطبيعة الموجودة في الخارج موجودة بوجود وحداني و إن تكثّرت أفرادها ضعيف في الغاية (1).

و قيل في توضيحه:إنّ المولي إن قال:أطعم فقيرا،فأطعم في مجلس واحد فقراء مع عدم كون المطلوب بشرط لا،فإمّا لم يحصل الامتثال،و هذا لا مجال له قطعا،أو حصل بواحد لا بعينه،أو بالمجموع من حيث المجموع،و من الواضح أنّ شيئا من هذين العنوانين غير موجود في الخارج.

أو يقال:إنّ المطلوب صرف الوجود.ولكن الانصاف أنّ صرف الوجود لا يخرج عمّا ذكر،فلم يبق إلاّ أن يقال:إنّ كلّ واحد امتثال،ولكن يكون الثواب و الأجر واحدا انتهي.

أقول:لا نقول بتعدّد الامتثال للطبيعة،بل نقول بأنّ واحدا منها امتثال للواجب،ة.

ص: 76


1- نهاية الاصول ص 111،و ص 124 الطبعة الجديدة.

و ذلك لأنّ الوجوب تابع للمصلحة الملزمة للفعل في المتعلّق،و الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة للترك في المتعلّق،و هما متلازمان،أي:كلّما حكم به الشرع ففيه مصلحة أو مفسدة،و كلّما كان مصلحة فمعها حكم،و كذا المفسدة،و لا بدّ من أن يلاحظ أنّ المصلحة بأيّ مقدار،فإن كانت في وجود الطبيعة المتحقّق بوجود فرد من الطبيعة،كانت الطبيعة المتحقّقة بوجود فرد هي الواجبة،و إن كانت في خصوصيّة فرد كانت الخصوصيّة أيضا واجبة،و حيث انّ المصلحة في أصل التصدّق بما تحقّق فيه طبيعة التصدّق كان الوجوب تابعا لها،فإذا فرض تحقّق الطبيعة بتصدّق درهم علي فقير واحد كان الزائد غير واجب،فهل يجوز لو أمره بضرب العبد ضرب عشرة من عبيده دفعة؟

الثالث:لا مجال لتبديل الامتثال بعد تحقّقه؛لأنّ الامتثال فرع وجود الأمر، و مع سقوطه بامتثاله فلا أمر،نعم في العرفيات إذا لم يحصل غرض المولي يترجّح عقلا أن يأتي بفرد أحسن ممّا أتي به،و سيأتي التعرّض له.

المبحث التاسع: في الفور و التراخي

لا دلالة لصيغة الأمر علي الفور و لا علي التراخي،بل الصيغة تدلّ علي الالزام بايجاد المادّة غير مقيّد بزمان،فيجوز اتيانها متراخيا مع العلم بتمكّنه من اتيانها.

نعم إن شكّ في تمكّنه من اتيانها إن لم يأت بها فورا وجب الاتيان بها فورا وجوبا عقليّا.

و هذا غير دلالة الصيغة علي الفور،بل لو كان الواجب موسّعا فإنّما يجوز تأخيره عن أوّل وقته مع العلم بالتمكّن من فعله بعد ذلك؛لأنّ العقل الحاكم بالاستقلال في مقام الامتثال يستقلّ بأنّه لا بدّ من الامتثال بحيث لا يفوت الفعل

ص: 77

الواجب،مثلا إذا دخل الوقت وجب علي المكلّفين الصلاة بين الحدّين،فإن علم أنّه يقدر عليه في آخر الوقت،فيجوز له التأخير،و إلاّ فلا يجوز عقلا،و لو أخّر و لم يتمكّن فقد عصي،فلو أنّ امرأة كان يوم عادتها،فدخل الوقت و احتملت عروض الحيض وجب عليها المبادرة إلي الصلاة.

و بعبارة اخري:إنّ الشارع المقدّس يقول:يجب علي المكلّف فعل الصلاة بين الحدّين،و لا يقول يجوز للمكلّف أن يؤخّر الصلاة من أوّل الوقت حتّي مع عدم العلم بتمكّنه من فعلها بعد التأخير.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية (1)،حيث قال:نعم قضيّة إطلاقها جواز التراخي.في غير محلّه إن أراد تجويز الآمر التراخي،فإنّه ليس لها إطلاق يقتضي جواز التأخير،سواء علم أنّه يتمكّن من فعله بعد ذلك أو لا،و كذا إذا كان بعد دخول الوقت واجدا للطهارتين و لم يعلم أنّه يتمكّن منهما في آخر الوقت لم يجز له إبطالهما و تأخير الصلاة،و كان تأخيره تضييعا،و قد اشير في روايات الحائض أنّها تقضي لأنّها ضيّعت.و إن أراد أنّ التقييد بالفور و التراخي غير مذكور، فلا بدّ أن يحمل علي الاطلاق من ناحيتهما،و مقتضاه جواز التراخي،فهو متين.

ثمّ إنّ بعضهم قال بدلالة الصيغة علي الفور؛لأنّ العرف و العقلاء لا يعدّون العبد معذورا إذا أخّر الامتثال،مضافا إلي أنّ البعث التشريعي يطلب الانبعاث فورا عند العقل،كما في البعث التكويني.

قلت:إطلاق الصيغة يقتضي عدم اعتبار الفور و عدم اعتبار التراخي،و العقل يلزم بامتثال الأمر،و لا يجوّز التأخير إلاّ مع العلم بالتمكّن من الامتثال،و البعث التكويني إن كان إلي الشيء علي نحو السعة،فالبعث التشريعي أيضا مثله.3.

ص: 78


1- كفاية الاصول ص 103.

و لا يخفي أنّه ربّما وجب البدار و إن علم بتمكّنه من الاتيان بعد التأخير إن كان الواجب من حقوق الناس،كما في الجواهر حيث قال:نعم قد يكون متعلّقها-أي الأوامر-حقّا للفقراء مثلا يجب أداؤه فورا كغيره من الحقوق المالية،نحو الزكاة مثلا؛للأدلّة الدالّة علي ذلك.

إلي أن قال:إنّ الأصل في الحقوق المالية-سواء كانت لشخص معيّن أو غير معيّن-الفوريّة،إلاّ مع الاذن من صاحب الحقّ،و من ذلك ردّ الأمانات الشرعيّة إلي أهلها فورا،و أداء الخمس و الزكاة و غيرهما إلي آخر كلامه (1).

و حاصله:أنّ المستحقّ موجود و هو طالب للأداء،فيجب الأداء.و إطلاق وجوب الخمس مثلا لا يقتضي جواز التأخير مع وجود المستحقّ،حتّي مع العلم بالتمكّن من الأداء،فيكون ما دلّ علي وجوب أداء مال الناس من عين أو حقّ عند المطالبة و لو بلسان الحال قرينة علي التقييد في إطلاق الهيئة،فإنّ مقدّمات الحكمة و إن اقتضت اطلاقها و عدم تقييدها بالفور،لكن جريانها إنّما يكون إذا لم يكن دليل علي التقييد.

الفصل الثالث: في الاجزاء

اشارة

و يقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل:في أن امتثال الأمر يوجب سقوط الأمر

إنّ اتيان المأمور به،أعني:امتثال الأمر يوجب سقوط الأمر،فلا مجال معه لتكرار العمل،و لم يستبعد في الكفاية تبديل الامتثال و التعبّد به ثانيا بدلا عن التعبّد به أوّلا فيما علم أنّ مجرّد الامتثال ليس علّة تامّة لحصول الغرض،كما إذا

ص: 79


1- جواهر الكلام 33:168.

وجب عليه إحضار الماء لشرب المولي فأحضره،فله تبديله ما لم يشرب،و أمّا إذا كان علّة لحصول الغرض،فلا يبقي موقع للتبديل،و لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيلين فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة،و يدلّ عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة الصلاة فرادي جماعة،و انّ اللّه يختار أحبّهما إليه (1).

أقول:في غير الشرعيّات ممّا يعرف الغرض يترجّح للعبد التبديل بالأحسن لا تبديل الامتثال،فإنّه قد حصل،لكن يستحقّ المدح إذا أتي بفرد آخر أرجح.و أمّا في الشرعيّات،فلا سبيل إلي غرض الشارع،فلو صلّي الفريضة في الحمّام،فلا دليل علي جواز إعادتها في المسجد.و أمّا ما ورد في الجماعة،فالأخبار (2)فيها مختلفة.

ففي خبر أبي بصير:صلّ معهم يختار اللّه أحبّهما إليه (3).أي:يختار في مقام القبول لا الصحّة،و حاصله:أنّه يستحبّ إعادة الصلاة جماعة،و يختار اللّه في مرحلة القبول أيّهما أحبّ.و يؤيّده ما في الفقيه:وروي أنّه يحسب له أفضلهما و أتمّهما.

و في خبر حفص:يصلّي معهم و يجعلها الفريضة (4).أي:يقصد بما صلاّه الفرض،و ظاهره أنّه يجعل الثانية فريضة،فيكون ذلك من باب تبديل الامتثال، فيعارضه ما دلّ علي أنّ اللّه يختار أحبّهما إن كان الأحبّ هو الأوّل،و يحتمل أن يكون المراد قصد الفريضة و إن كان ندبا،أو المراد يجعلها قضاء.2.

ص: 80


1- كفاية الاصول ص 107.
2- جامع أحاديث الشيعة 6:526 ب 57.
3- جامع أحاديث الشيعة 6:526 ح 1.
4- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 2.

و في خبر عمّار:و هو أفضل (1).أي:الاعادة معهم.

و في خبر الحلبي:و إن شئت فصلّ معهم و اجعلها تسبيحا (2).لعلّ المراد صلّ مع العامّة و لا تنو صلاة و سبّح،أو صلّ نافلة و كن معهم صورة.

و في خبر إسحاق:صلّ و اجعلها لما فات (3).و غيرها من الأخبار.

و استفادة إعادة الصلاة بعنوان الامتثال بحيث يجعل الاولي كأنّه لم يصلّ و يقصد امتثال الأمر الوجوبي بالثانية من هذه الأخبار بعيدة.

ثمّ لا وجه للتعدّي من الصلاة جماعة إلي إعادة الصلاة التي صلاّها في الحمّام مثلا.

الموضع الثاني: في إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري
اشارة

لا يخفي أنّ محلّ الكلام ما إذا كان الأمر الاضطراري إرشادا إلي الجزئيّة و الشرطيّة كالأمر الاختياري،مثل وجوب القيام في الصلاة،و وجوب الجلوس فيها لمن لا يقدر علي القيام.

و أمّا إذا كان الأمر الاضطراري أمرا نفسيّا،فهو خارج عن محلّ الكلام،كما إذا وجب لبس ما لا يؤكل لحمه للتحفّظ عن الهلاك لبرد و نحوه،فإنّه لا تجوز الصلاة فيه إذا كان متمكّنا من نزعه و الصلاة في غيره؛لأنّ الاضطرار إلي لبس ما لا يؤكل من باب وجوب حفظ النفس لا يقيّد إطلاق المنع عن الصلاة فيه،فإنّه وجوب تكليفي،كالاضطرار إلي شرب النجس،فإنّه لا يقتضي طهارة الفم الملاقي للنجس.

ص: 81


1- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 4.
3- جامع أحاديث الشيعة 6:528 ح 8.

و قد وقع الكلام في أنّ أدلّة التقيّة هل تقتضي الوجوب النفسي،أي:وجوب حفظ النفس عن الوقوع في التهلكة بموافقة العامّة،أو أنّها تقتضي الوجوب الشرطي أيضا؟و لعلّ القائل بعدم الاجزاء يري دلالتها علي الوجوب النفسي.

إذا تمهّد ما ذكرنا،فنقول:إن كان لدليل الانتقال إلي الجزء أو الشرط الاضطراري إطلاق يشمل صورة رفع الاضطرار في الوقت،كان مقدّما علي إطلاق دليل الأمر الاختياري،كإطلاق ما دلّ علي وجوب التيمّم إن حضرت الصلاة و لم يجد الماء،فإنّه لا يبعد شموله لمن لا يجد الماء أوّل الوقت إن لم يعلم وجدانه آخر الوقت،بل يحتمل إطلاقه لمن يعلم وجدانه آخر الوقت.

و إن لم يكن له إطلاق و كان لدليل الأمر الاختياري إطلاق،فلا بدّ من العمل بإطلاقه،و مقتضاه أنّ العذر المستوعب للوقت يوجب الانتقال إلي العمل الاضطراري،فإن علم أوّل الوقت أنّه لا يتمكّن من القيام في الصلاة إلي آخر الوقت جاز له البدار،فإن انكشف الخلاف وجبت الاعادة،و إن علم أنّه يتمكّن في آخر الوقت وجب التأخير إليه،و إن شكّ فيجوز له البدار رجاء،و لا بدّ أن يلاحظ حاله بعد ذلك و يعمل بحسبها.

و قيل:إن شكّ في أوّل الوقت في بقاء العذر،يستصحب بقاء العذر استصحابا استقباليّا و يصلّي بقصد الأمر جزما،ثمّ إذا انكشف الخلاف وجبت الاعادة؛لعدم إجزاء الأمر الظاهري يعني ما ثبت بالاستصحاب عن الأمر الواقعي.

أقول:الاستصحاب الاستقبالي لا يجري،كما حقّقناه في محلّه.

هذا كلّه فيما إذا كان لهما أو لأحدهما إطلاق.و أمّا إذا لم يكن لهما إطلاق، فيكون المورد من دوران الأمر بين التعيين و التخير،كما إذا لم يعلم أنّ وجوب القيام في الصلاة تعيّني في تمام الوقت،أو يخيّر المكلّف بين الصلاة أوّل الوقت جالسا،و بين الصلاة آخر الوقت قائما،فعلي القول بالرجوع إلي البراءة تجري

ص: 82

أصالة البراءة عن تعيّن وجوب القيام في تمام الوقت.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية،حيث قال:و بالجملة فالمتّبع الاطلاق لو كان و إلاّ فالأصل (1).لعلّه يريد إطلاق الأمر الاختياري و إطلاق الأمر الاضطراري،و إن لم يكونا فالمرجع الأصل.

و قد ظهر أيضا ممّا ذكرنا أنّ المراد من إجزاء الأمر الاضطراري هو إجزاء الأمر الارشادي إلي الجزئيّة و الشرطيّة في حال الاضطرار.

و بذلك يندفع ما ذكره في نهاية الاصول في الردّ علي صاحب الكفاية،حيث قال:إنّ ما ذكره طاب ثراه لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطراريّة؛لكون ما ذكره مبنيّا علي أن يكون لنا أمران مستقلاّن:أحدهما واقعي أوّلي،و الآخر اضطراري ثانوي،فينازع حينئذ في كفاية امتثال أحدهما عن امتثال الآخر إلي آخر كلامه (2).

فإنّ محلّ البحث هي الأوامر الارشاديّة إلي الجزئيّة و الشرطيّة،كالأمر بوجوب القيام في الصلاة،و الأمر بوجوب الجلوس فيها إن لم يتمكّن من القيام، فينازع في أنّ الأمر بالجلوس لمن لا يتمكّن من القيام هل له إطلاق يقتضي صحّة الصلاة ممّن لم يتمكّن في أوّل الوقت من القيام و تمكّن منه في آخر الوقت أم لا؟

تتمّة:

قال في الكفاية ما حاصله:إذا لم يكن الفعل الاضطراري كالصلاة جالسا في أوّل الوقت وافيا بتمام المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل الاختياري في آخر الوقت،و كان بحيث لو فعله لم يمكن تدارك ذلك المقدار بإعادتها اختيارا،لم يجز البدار إلاّ لمصلحة كانت فيه،أي:في البدار لما فيه من نقض الغرض،و تفويت

ص: 83


1- كفاية الاصول ص 110.
2- نهاية الاصول ص 114.

مقدار من المصلحة لو لا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ (1).

أقول:لعلّ مراده مزاحمة المصلحة الموجودة في الصلاة مختارا في آخر الوقت مع مصلحة خارجية موجودة في الصلاة أوّل الوقت،فحينئذ يتقدّم الأهمّ و إن فات مقدار من مصلحة الصلاة.

الموضع الثالث: في كفاية الاتيان بما يقتضيه الدليل ظاهرا
اشارة

و ترتيب الآثار عليه من عدم الاعادة و القضاء و آثار العقد الصحيح و غيرها إن انكشف الخلاف و عدمها وجهان.

فنقول:إنّ الأحكام علي قسمين:واقعيّة،و ظاهريّة،كما هو الحقّ،فإنّ من شكّ في امرأة أنّها من المحارم أو من غيرها،جاز له أن يتزوّجها؛لأصالة حلّ ما لم يعلم حرمته،و قد صرّح بهذا في خبر مسعدة بن صدقة (2)،و عليه فإن تزوّجها و لم يعط مهرها و لا نفقتها ثمّ تبيّن أنّها من محارمه كعمّة مثلا،فلا يمكن أن يقال:إنّ الحرام تزويج من يعلم كونها عمّة،و هذا تزويج صحيح واقعا يجب عليه أن يعطيها مهرها و نفقتها التي لم يعطها،و بعد العلم تنفصل عنه،مع أنّ انفصال الزوجة إمّا بالطلاق أو بالكفر و نحوهما.

لكن قد يتوهّم أن يكون مقتضي الجمع بين أدلّة الأحكام الواقعيّة و بين قوله «رفع ما لا يعلمون»-الظاهر في تعلّق الرفع بنفس ما لا يعلمون لا المؤاخذة عنه، علي أن يكون الظاهر من الرفع كرفع القلم عن الصبي و عن المجنون-هو اختصاص الحكم بالعالم،فيكون معلوم البوليّة نجسا،و مجهول البولية طاهرا واقعا،و لا يكون المجهول البولية نجسا واقعا إن كان بولا،و طاهرا ظاهرا.

ص: 84


1- كفاية الاصول ص 108.
2- تهذيب الأحكام 7:226.

و قد التزم به صاحب الحدائق،حيث قال:و ليس ثبوت النجاسة لشيء و اتّصافه بها عبارة عن مجرّد ملاقاة عين النجاسة له في الواقع و نفس الأمر خاصّة،حتّي انّه يقال بالنسبة إلي الجاهل بالملاقاة انّ هذا نجس في الواقع و طاهر بحسب الظاهر، بل هو نجس بالنسبة إلي العالم بالملاقاة،أو أحد الأسباب المذكورة-من شهادة العدلين،و إخبار المالك-و طاهر بالنسبة إلي غير العالم بشيء،فإنّ الشارع كما عرفت آنفا لم يجعل الحكم بذلك منوطا بالواقع،و غاية ما يلزم اتّصاف شيء بالطهارة و النجاسة باعتبار شخصين و لا ريب فيه انتهي موضع الحاجة (1).

أقول:و هو ظاهر قوله في خبر عمّار:كلّ شيء نظيف حتّي تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فليس عليك (2).

لكن يرده خبره أو خبر إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة و قد توضّأ من ذلك الاناء مرارا و غسل منه ثيابه و اغتسل منه،و قد كانت الفأرة منسلخة،فقال:إن رآها في الاناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه،ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الاناء،فعليه أن يغسل ثيابه،و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء،و يعيد الوضوء و الصلاة،و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله،فلا يمسّ من الماء شيئا،و ليس عليه شيء؛لأنّه لا يعلم متي سقطت فيه،ثمّ قال:لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (3).

فإنّه لو كان معلوم النجاسة نجسا و غيره طاهرا واقعا لم يحتج في الحكم بالطهارة فيما رأي النجاسة بعد الفراغ من العمل إلي قوله«لعلّه إنّما سقطت فيه تلك الساعة».4.

ص: 85


1- الحدائق 1:139.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:127 ب 19 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:45 ب 12 ح 4.

و مثله خبر زرارة حيث قال:قلت:فإن ظننت أنّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،قال:تغسله و لا تعيد الصلاة،قلت:لم ذلك؟قال:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا (1).فإنّه لو كان معلوم النجاسة نجسا لم يحتج إلي استصحاب الطهارة.

و يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: فيما اذا انكشف الخلاف علما

فنقول:إنّ الأوامر الظاهريّة التي تقتضيها الامارات و الاصول علي قسمين:

القسم الأوّل:ما يثبت أصل التكليف الكلّي أو الجزئي أو يرفعهما،كالامارة الدالّة علي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا،أو الأصل النافي له إذا شكّ في الوجوب،و كالبيّنة القائمة عند المكلّف علي دخول الوقت فصلّي.و هذا القسم ليس محلّ الكلام إذا انكشف خلافه؛لأنّ الكلام في إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن الواقعي،و الصلاة قبل الوقت لا ربط لها بالصلاة الواجبة بعد دخول الوقت و لا أمر لها،كما أنّ الأمر في الأوّلين واضح؛إذ مع نفي التكليف لم يأت بشيء حتّي يبحث في اجزائه عن التكليف الواقعي،و مع ثبوته لا معني للسؤال عن اجزاء المأتي به عن الواقع،و الفرض انكشاف أنّه لا تكليف في الواقع.

قال في الكفاية:و من هذا القسم لو دلّت الامارة علي وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة،فتبيّن عدم وجوبها و وجوب الظهر،فإنّه لا معني لإجزاء صلاة الجمعة عن صلاة الظهر؛لعدم الأمر بصلاة الجمعة أصلا (2).

ص: 86


1- جامع أحاديث الشيعة 2:136 ب 23 ح 5.
2- كفاية الاصول ص 112.

أقول:يمكن أن يقال:إنّه تجب بالضرورة بعد زوال الجمعة صلاة واحدة،فإذا دلّ الدليل المعتبر علي أنّ الصلاة الواجبة هي الجمعة،ثمّ انكشف الخلاف،فيقع الكلام في أنّ امتثال الأمر الظاهري هل يوجب الاجزاء أم لا؟

القسم الثاني:الامارات و الاصول المبيّنة لمتعلّق التكليف بعد ثبوته،كما إذا دلّت الامارة علي عدم وجوب السورة في الصلاة،فصلّي بلا سورة فتبيّن الخلاف، أو أجري أصالة البراءة عن وجوبها،ثمّ تبيّن الخلاف.

ثمّ إنّ هذا القسم تارة يكون مفاد الأصل،و اخري مفاد الأمارة.و علي التقديرين:تارة يكونان في الحكم الكلّي،كعدم جزئيّة السورة للصلاة للأمارة أو للأصل،و اخري يكونان في الحكم الجزئي،كالبيّنة القائمة علي طهارة الماء الذي توضّأ به،و قاعدة التجاوز في الركوع مثلا.

و علي التقادير فإن لم ينكشف الخلاف للمكلّف إلي أن مات و كان خلافه معلوما لوليّه،كما إذا صلّي باستصحاب الطهارة و قد علم الابن الأكبر أنّه محدث، فهل يجب القضاء عنه أو لا يجب؟وجهان،لا يبعد عدم الوجوب.و أمّا إن انكشف له الخلاف علما،ففي الاجزاء و عدمه ثلاثة أقوال.

القول الأوّل:التفصيل بين الأمر الظاهري الذي هو مفاد الأصل،و بين الأمر الظاهري الذي هو مفاد الأمارة بالاجزاء في الأوّل و عدمه في الثاني،اختاره في الكفاية (1)،و استدلّ له بأنّ الأصل كقاعدة الطهارة ليست طريقا إلي الواقع،بل هو حكم في قبال الواقع يكون حاكما علي دليل اشتراط الصلاة بالطهارة،و مبيّنا لدائرة الشرط،و أنّه أعمّ من الطهارة الواقعيّة و الظاهريّة،و ليس له انكشاف الخلاف،بل العلم بالخلاف من قبيل ارتفاع الموضوع،هذا في الأصل.0.

ص: 87


1- كفاية الاصول ص 110.

و أمّا الأمارة،فمؤدّاها ليس حكما في قبال الواقع،بل هي حجّة بمعني التنجيز إن صادف الواقع،و التعذير إن خالفه،و المطلوب من المكلّف هو الاتيان بالواقع، فإذا تبيّن الخلاف علما لم يسقط عنه الأمر به،و كذا الكلام بناء علي حجّية الأمارة من باب الطريقيّة،فإن انكشف الخلاف تبيّن أنّها لم تكن طريقا.نعم بناء علي حجّية الأمارة من باب السببيّة لا يكون النظر إلي الواقع.

و أورد في فوائد الاصول (1)علي القول بالاجزاء بوجوه،ثالثها:أنّ الحاكم لا بدّ أن يكون في عرض المحكوم،مثل قوله«لا شكّ لكثير الشكّ»مع قوله«إذا شككت فابن علي الأكثر»و أمّا الحكم الظاهري فهو متأخّر عن الحكم الواقعي، و لا يتصرّف فيه،بل الحكم الواقعي علي ضيقه موجود علي أيّ حال،فلا يكون الحكم الظاهري موسّعا له.

رابعها:أنّه لو كانت قاعدة الطهارة موسّعة للطهارة،لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة بعد انكشاف نجاسته؛لأنّه قد لاقي المحكوم بالطهارة.

و أجاب عنه في نهاية الاصول (2)بأنّ الحكم الظاهري إنّما يثبت مع انحفاظ الشكّ،و أمّا بعد زواله فينقلب الموضوع،فالملاقي أيضا يحكم بطهارته مادام الشكّ،و أمّا بعد زواله فيحكم بنجاسته.

و فيه أنّه لا سبب لنجاسته بعد العلم إلاّ الملاقاة السابقة،و المفروض أنّها لم توجب النجاسة.

و قد يجاب:بأنّ القائل بالاجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة حاكمة علي أدلّة النجاسات،بأن تكون النجاسات طاهرة في زمان الشكّ،بل يقول:إنّها نجسة و ملاقيها أيضا نجس،لكن يدّعي حكومة أصالة الطهارة علي دليل اشتراط1.

ص: 88


1- فوائد الاصول 1:140.
2- نهاية الاصول ص 131.

الطهارة في الصلاة،فتوسّع الطهارة المشترطة فيها إلي الطهارة الواقعيّة و الظاهريّة، فتصحّ الصلاة حال الشكّ في الطهارة،و إن تبيّن الخلاف.

أقول:ليس لسان قاعدة الطهارة أنّ طهارة الثوب في الصلاة أو طهارة ماء الوضوء أعمّ من الظاهريّة و الواقعيّة،بل هي تقتضي طهارة المشكوك و ترتيب جميع آثار الطهارة عليه و منها عدم تنجّس ملاقيه،فالتفكيك بين الآثار ليس له وجه.

ثمّ لا يخفي أنّ ظاهر كلام صاحب الكفاية عدم تخصيص البحث بخصوص الاعادة و القضاء في العبادات،بل هو عامّ للعقود و غيرها،فلو شكّ في طهارة مايع و حكم بطهارته بقاعدة الطهارة و باعه و شربه المشتري،ثمّ تبيّن نجاسته،فينبغي أن يقال بصحّة البيع؛لحكومة الأصل علي دليل اشتراط قابليّة الانتفاع بالمبيع، و هو مشكل،و كذا أصالة الحلّ في الشيء المبيع الذي أتلفه المشتري،ثمّ تبيّن بعد البيع أنّه حرام،و لعلّه لا فرق بين وجوده و إتلاف المشتري له.

القول الثاني:ما اختاره في فوائد الاصول (1)،و هو عدم الاجزاء مطلقا في مؤدّي الأمارات القائمة علي الأحكام الكلّية،و الأمارات القائمة علي الأحكام الجزئية،و الاصول الشرعية،فالأقسام ثلاثة،ثمّ انكشاف الخلاف تارة علمي و اخري ظنّي.

أمّا عدم الاجزاء مع انكشاف الخلاف انكشافا علميا،ففي الأوّل:و هي الأمارة القائمة علي الحكم الكلّي،كما إذا قام خبر الواحد علي عدم وجوب السورة في الصلاة،فصلّي بدونها ثمّ علم وجوبها،لاستلزام الاجزاء التصويب؛لأنّ إجزاءه إنّما يكون إذا أنشيء حكم علي طبق الأمارة علي خلاف الحكم الواقعي المجعول8.

ص: 89


1- فوائد الاصول 1:138.

الأوّلي،بحيث يوجب تقييد الأحكام الواقعية الأوّلية بما إذا لم تقم أمارة علي خلافها،أو صرفها إلي مؤدّيات الطرق و الأمارات،و هذا عين التصويب المخالف لمسلك الامامية.

و في الثاني:و هي الأمارة القائمة علي الحكم الجزئي،كما إذا قامت بيّنة علي طهارة الماء فتوضّأ به،ثمّ تبيّن أنّه نجس،لأنّ الماء النجس بعنوانه الأوّلي موضوع لعدم صحّة الوضوء به،و حجّية البيّنة لمجرّد الطريقية من دون أن يكون فيها شائبة الموضوعية.

و في الثالث:و هو الأصل القائم علي الحكم الكلّي أو الجزئي،لما مرّ في الردّ علي كلام صاحب الكفاية.

و أمّا عدم الاجزاء في هذه الثلاثة إن انكشف الخلاف بالظنّ المعتبر،فسيأتي الكلام عليه.

أقول:التصويب المحال المجمع علي بطلانه هو عدم وجود حكم واقعي حتّي الحكم الانشائي،بأن يكون الحكم تابعا للأمارة و الأصل و آراء أهل الاجتهاد و النظر.

و أمّا اذا قلنا بوجود الحكم الواقعي إنشاء،لكن اشترطت باعثيته بالعلم به،أو بعدم قيام الأصل أو الأمارة علي خلافه،فلا دليل علي بطلانه،بل انّ كثرة موارد التخلّف عن الواقع في الاصول و الأمارات الجارية في الموضوعات،و التأكيد في بعض الأخبار علي العمل بالظواهر،كقولهم:إنّ الخوارج ضيّقوا علي أنفسهم و انّ الدين أوسع من ذلك.و ما ورد في الجبن،و ما ورد في القصّابين،و ما ورد في تصديق النساء في العدّة و الحيض،تقتضي أنّ الدين هو ذلك،لا أنّ الدين هو الحكم الواقعي،و هذه الموارد ممّا رخّص في خلافه،و يكون العامل فيها معذورا في مخالفة التكليف.

ص: 90

و ممّن قال بعدم الاجزاء مطلقا الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريرات (1)بحثه، فذكر مقدّمة و استنتج عدم الاجزاء.أمّا المقدّمة،فهي أنّ الطرق المفيدة للأحكام الظاهرية تتخلّف عن الواقع كثيرا،و تكون نقضا للغرض من جعل الأحكام الواقعية،إلاّ إذا اشتملت علي ما يتدارك به ما يفوت من مصلحة امتثال الأحكام الواقعية،و تلك المصلحة تتصوّر علي وجهين:

أحدهما:أن يكون في ذات الشيء مصلحة،و هي الموجبة لجعل الحكم الواقعي،و يكون فيه مصلحة بعنوان كونه ممّا قام عليه الأمارة،فهو أيضا واقعي ثانوي،فالموضوع الواحد له حكمان بلحاظين كالحاضر و المسافر،و هذا مستلزم للتصويب.

ثانيهما:أن يكون في ذات الشيء مصلحة موجبة للحكم الواقعي،و يكون في العمل بالأمارة مصلحة اخري يتدارك بها مصلحة الواقع الفائت من دون حدوث مصلحة في الشيء علي خلاف الواقع.

و الفرق بين الوجهين أنّه علي الثاني إذا انكشف الخلاف تجب الاعادة لعدم فوت مصلحة الواقع،حتّي تتدارك بمصلحة العمل بالأمارة،نعم لو فرض ترتّب فائدة علي وقوع الفعل في الزمان الذي وقع فيه علي حسب دلالة الأمر،مثل المسارعة في العمل،فمقتضي الحكمة و اللطف هو ترتّب تلك الفائدة علي الأخذ بالأمارة.

إلي أن قال:و أمّا علي الوجه الأوّل،فليس له انكشاف الخلاف.

ثمّ استظهر من الأدلّة الوجه الثاني،و قال:إنّ مقتضي الأدلّة الدالّة علي حجّية تلك الطرق هو مراعاة الواقع إلي آخر ما أفاده قدّس سرّه.5.

ص: 91


1- التقريرات ص 23-25.

أقول:تقدّم أنّه لا يبعد أن يكون الوجه الأوّل هو الذي يساعد عليه كثرة الأمارات و الاصول المخالفة للواقع،لكن الانصاف الشكّ في شمول إطلاقها لكفاية العمل بها و الاقتصار عليها بعد العلم بالخلاف.

القول الثالث:الاجزاء مطلقا،اختاره في نهاية الاصول مستظهرا ذلك من أدلّة الأحكام الظاهرية،و قال في تصوير مقام الثبوت:انّه يحتمل أن يكون المقصود الأصلي من الأمر بالصلاة مثلا حصول الاطاعة و الانقياد من العبد في مقابل المولي و تكون الصلاة مع الطهارة مثلا مشتملة علي ملاك غير ملزم،و يكون المقصود بها حصول عنوان الاطاعة لا حصول ملاكها،و إلاّ لكان الأمر المتعلّق بها ندبيا،ثمّ لمّا رأي المولي أنّ تحصيل الطهارة في بعض الأوقات موجب للعسر و انّ مقصوده الأصلي أعني انطباق عنوان الاطاعة يترتّب علي اتيان الصلاة الفاقدة للطهارة أيضا إذا أتي بها بداعي الأمر صار هذا سببا لرفع اليد عن الطهارة لحصول الغرض الملزم بدونها،و الفرض أنّ ذات العمل أيضا لا تشتمل علي ملاك ملزم، و هذا الاحتمال يكفي في رفع احتمال استحالة الاجزاء بعد دلالة الأحكام الظاهرية عليه (1)انتهي.

أقول:يمكن دعوي دلالة أدلّة الأحكام الظاهرية علي ذلك،فمن أتعب نفسه و تحمّل المشاقّ و ذهب إلي الحجّ و قد تعلّم مسائله،لكنه طاف و صلّي مستصحبا للطهارة و رجع إلي بلاده،ثمّ علم أنّه لم يكن متطهّرا واقعا،فمن البعيد أن يحكم ببطلان حجّه،نعم لا بدّ من دفع إشكالين:

أحدهما:ما ورد في الصلاة من أنّها لا تعاد إلاّ من خمس أحدها الطهور،فلو صلّي مستصحبا للطهارة،ثمّ تبيّن أنّه لم يكن متطهّرا،وجبت الاعادة،و هذا ينافي8.

ص: 92


1- نهاية الاصول ص 137-138.

القول بإجزاء الأمر الظاهري.

و يمكن الجواب بأحد وجهين علي سبيل مانعة الجمع،الأوّل:تخصيص قاعدة الاجزاء بهذه الخمسة.

الثاني:تخصيص عموم الاعادة بالاخلال بالخمسة بما إذا لم يكن بأمر الشارع،و المسألة محلّ إشكال.

ثانيهما:استلزام ذلك القول لتخصيص الأحكام بحال العلم و العمد،إن قامت الأمارة أو الأصل علي خلافها.

و الجواب عنه أنّه لا بأس به علي المختار من إمكان تخصيص الحكم بالعالم به علي ما بيّناه في محلّه.

ثمّ إنّ القائل بالاجزاء مطلقا ينبغي أن لا يفرّق بين كشف الخلاف علما أو بحجّة معتبرة.

و قد تلخّص ممّا ذكرناه التفصيل بين أن لا ينكشف الواقع للمكلّف أصلا إلي أن يموت،و بين أن ينكشف قبل أن يموت انكشافا علميا.

ففي الأوّل يمكن أن يقال:إنّه قد أدّي وظيفته من الحجّ و الصلاة و الصوم و غيرها،فلو حجّ مستصحبا للطهارة و كان جنبا مثلا،أو شكّ في الركوع بعد الدخول في السجود مثلا،فأجري قاعدة التجاوز فيه و كان تاركا واقعا،ولكنّه لم ينكشف له الخلاف إلي أن مات،فهل يمكن أن يقال مع الاطّلاع علي حاله:إنّه يجب الاستيجار للحجّ من تركته أو يجب علي الولد الأكبر قضاء صلواته و أمثال ذلك؟

نعم يشكل الأمر فيما لو باع مايعا بأصالة الطهارة و أخذ الثمن و مات و علم الوارث أنّ المايع كان نجسا فهل يرث الثمن أم لا؟

و في الثاني و هو ما لو انكشف له الخلاف علما،فإن كان مؤدّي الأمارة أو

ص: 93

الأصل الحكم الكلّي،فيمكن أن يقال بالاجزاء؛لأنّه لا تكليف بالواقع الذي لا يصل إلي المكلّف بعد الفحص،بناء علي أنّ الظاهر من أدلّة القضاء قضاء ما كان واجبا عليه و لم يفعله،و إن كان لعذر كنوم و نسيان.و أمّا بناء علي شمول أدلّة القضاء لمن لم يكن مكلّفا فعلا بالواجب في وقته فيجب القضاء،هذا كلّه في غير الفروج و الدماء و الأموال،و أمّا هي فإنّه يحتاط فيها.

و إن كان مؤدّاها الحكم الجزئي كأصالة الطهارة في مايع قد بيع أو توضّأ به و انكشف الخلاف،فالظاهر عدم الاجزاء؛لأنّ شمول إطلاق أدلّتها لصورة انكشاف الخلاف بعيد و غير معلوم،و المتيقّن من ترخيص الشارع و تسهيله انّما هي مدّة عدم انكشاف الخلاف،هذا كلّه في المقام الأوّل.

المقام الثاني: فيما إذا انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة معتبرة
اشارة

و الكلام فيه في موردين:

المورد الأوّل: في الاجزاء بالنسبة إلي عمل نفسه
اشارة

أمّا في الموضوعات بأن حكم بطهارة الماء استصحابا،أو بقاعدة الطهارة و توضّأ به و صلّي،ثمّ قامت البيّنة علي أنّ الماء كان نجسا،فالظاهر أنّه لا يجزيء؛ لأنّ حجّية البيّنة تقتضي الأخذ بمدلولها الشامل لجميع الأحوال،فيكون الماء نجسا حين الوضوء به.

و أمّا في الأحكام الكلّية،فانكشاف الخلاف فيها علي قسمين:

القسم الأوّل:أن ينكشف للمجتهد مثلا خلاف ما استفاده مع مراعاة الموازين المعتبرة فيما استفاده أوّلا و في استفادة خلافه ثانيا،لا كشف الخلاف له علما،بل حيث انّ الشارع جعل ما يفهمه المجتهد حجّة عليه،ففهم أوّلا من الأدلّة عدم

ص: 94

وجوب السورة في الصلاة ثمّ تبدّل إلي أن فهم منها وجوبها،أو زعم أنّ صيغة «افعل»لا تدلّ علي الوجوب،ثمّ اعتقد أنّها تدلّ عليه،فهو يستند في المرّة الاولي و الثانية إلي ما يفهمه من الدليل،بناء علي أنّ الشارع جعل ما فهمه حجّة عليه،أو اعتقد أنّ عبارة النجاشي مثلا تدلّ علي وثاقة شخص،ثمّ انكشف أنّه اشتبه في ذلك،ففي الاجزاء و عدمه احتمالان:

الأوّل:عدم الاجزاء،لعدم وجود أمر و لا ظاهري امتثله حتّي يقال:إنّ امتثاله يجزيء عن الأمر الواقعي.

الثاني:الاجزاء؛لأنّ الأخبار الدالّة علي مدح الفقيه و الارجاع إليه تدلّ علي العمل بما يتفقّه فيه،فيستكشف منها الأمر بالعمل بفقهه،فإذا انكشف الخلاف فيجزيء امتثال الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي،مثلا انّ زرارة و أمثاله الذين هم مصاديق الفقهاء المأمورين بالعمل بفقههم إن تبدّل قطعهم بما فهموه من الأخبار إلي القطع بالخلاف أو بالشكّ،فيمكن القول بالاجزاء،لما سنذكره فيما إذا انكشف الخلاف بحجّة معتبرة،لكن الاجزاء مشكل،فإنّي ما عثرت علي نظير له و لا أدري أنّه لو اتّفق مثل ذلك لزرارة ماذا يفعل؟

القسم الثاني:أن يكون شيء حجّة له شرعا،بأن جعله الشارع حجّة،ثمّ جعل ما يخالفه حجّة عليه،فهل يجزيء ما فعله أو لا يجزيء؟وجهان.

الأوّل:أنّه لا يجزيء،و استدلّ له في فوائد الاصول (1)برسم امور:

أحدها:أنّ الأمارات و الاصول منجزة للحكم الواقعي إن صادفته،و معذرة له إن خالفته،و ليست أحكاما في مقابل الحكم الواقعي،بحيث يكون للشارع حكمان واقعي و ظاهري؛لأنّه يستلزم التصويب،نعم في صورة المخالفة يتدارك1.

ص: 95


1- فوائد الاصول 1:141.

مصلحة الواقع بالمصلحة السلوكية،و هو التصويب الامامي،فالأمارات و الاصول حالها حال العلم،و الفرق أنّها محرزة تشريعا،و العلم محرز تكوينا.

ثانيها:أنّ الأمارات و الاصول في رتبة إحراز الحكم الواقعي،فكأنّ الشارع بجعله الطرق و الاصول خلق فردا آخر للعلم في عالم التشريع و نفخ فيها صفة الاحراز،و جعلها علما،فجعل الطرق و الاصول إنّما يكون واقعا في رتبة العلم و لا تزاحم الحكم الواقعي.

ثالثها:أنّ وجود الأمارة و الاصول إذا لم يعلم بهما لا يكون حجّة،أي:منجزة للواقع أو معذرة له؛لأنّ الحجّة هي ما يحتجّ به،و الاحتجاج به موقوف علي العلم به،فلا يكون الخبر الواحد غير الواصل حجّة و محرزا للواقع.

إذا تمهّدت هذه الامور،فنقول:إذا فرضنا أنّ المجتهد وجد خبرا عامّا و فحص عن مخصّصه و لم يجد،بحيث كان تكليفه و وظيفته العمل بالعموم،فهو الحجّة،ثمّ إذا عثر علي الخاصّ يتّصف الخاصّ بالحجّة بعد العثور،فيتبدّل الاحراز الذي كان للعامّ بالاحراز الذي يكون للخاصّ،و الاحراز الذي كان للعامّ لم يتصرّف في الواقع،بل الواقع باق علي حاله،فيكون محرزا بالحجّة المتأخّرة،و يكون الواقع الذي يجب الاتيان به هو ما يقتضيه الحجّة المتأخّرة،و الأعمال السابقة المخالفة للحجّة المتأخّرة باطلة.انتهي ملخّصا.

أقول:يرد علي المقدّمة الاولي أنّه لا محذور في تقييد الحكم الواقعي بعدم قيام الأمارة أو الأصل علي خلافه،و سيأتي توضيحه في أوّل بحث جواز التعبّد بالأمارات.

و يرد علي المقدّمة الثانية أنّ الظاهر أنّ الدين الذي يراد من الناس هو الذي يوافق هذه الأمارات و الاصول،و سيأتي ما ينفع في ذلك في مباحث الأمارات.

و يرد علي المقدّمة الثالثة أنّه لا تكليف بالواقع غير الواصل،مثلا لو فرض

ص: 96

وجوب فعل واقعا و دلالة خبر صحيح علي عدم وجوبه،فإنّه لا يجب علي من استند إلي الخبر الدالّ علي عدم الوجوب و لا علي من لم يستند إليه،و ذلك لعدم تكليفه بالواقع الذي إن فحص لا يصل إليه؛لأنّ المفروض أنّه إن فحص غاية جهده لا يصل إلاّ إلي الخبر الدالّ علي عدم الوجوب،و هو واضح.

الثاني:الاجزاء لوجهين،أحدهما:أنّه لا تكليف بالواقع الذي لا يصل إلي المكلّف،لقوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (1)و لغيره من الآيات و الأخبار.فإذا كانت الأمارة التي استند إليها المكلّف حجّة شرعا،و كانت مخالفة للواقع،فلا تكليف بالواقع لعدم وصوله،فإذا تبدّلت حجّية هذه الأمارة بحجّة اخري مخالفة للاولي جعلها الشارع حجّة،وجب بقاء العمل بالحجّة المتأخّرة، سواء كانت مطابقة للواقع أو لم تكن،و لا تجب إعادة الأعمال السابقة إن كانت غير مطابقة للواقع؛لأنّه ليس مكلّفا-حين العمل-بالواقع لعدم وصوله علما،و لا بالحجّة المتأخّرة لعدم وجودها.

و يمكن المناقشة فيه بأنّ مقتضي حجّية الأمارة المتأخّرة وجوب إعادة الأعمال السابقة،فهو و إن لم يكن مكلّفا حين العمل بالواقع لعدم وصوله،لكنّه مكلّف حين قيام الحجّة المتأخّرة بأن يكون جميع أعماله المتقدّمة و المتأخّرة مطابقة للحجّة المتأخّرة.

ثانيهما:أنّه لو صرّح الشارع بوجوب العمل بمقتضي الحجّة المتأخّرة حتّي بالنسبة إلي الأعمال السابقة،فلا إشكال في وجوب الاعادة،لكن مجرّد جعل الحجّة المتأخّرة لا يقتضي سقوط الحجّة الاولي و لا إطلاق فيها يشمل الحجّية للأعمال السابقة،و القدر المتيقّن كونه حجّة من حين قيامها،فلا يتصرّف في7.

ص: 97


1- سورة الطلاق:7.

الحجّة المتقدّمة.

و بعبارة اخري:لا تكليف إلاّ بما أمر الشارع باتّباعه،و قد أمر باتّباع الحجّة الاولي،ثمّ أمر باتّباع الحجّة الثانية،و المكلّف قد عمل بما أمر به و لم ينكشف الواقع،فلعلّ الحجّة المتأخّرة مخالفة للواقع،فلا دليل علي سقوط الحجّة الاولي بقاء.

تتميم:

قد يفصل فيما إذا اختلفت الحجّة حين العمل مع الحجّة المتأخّرة،بين أن يستند المكلّف إلي الحجّة الاولي فيجزيء،و بين ما لم يستند إليها فلا يجزيء.

و نذكر لذلك مثالا علي سبيل الفرض:فمن قلّد المجتهد الأعلم،ثمّ صار غيره أعلم،وجب عليه الرجوع إلي الثاني في المسائل التي تخالف فتواه فتوي السابق، و لم يجب عليه إعادة الأعمال السابقة المخالفة لرأي المتأخّر؛لأنّ الشارع أمره بالعمل بالحجّة الاولي.و أمّا من كان عمله بغير تقليد و كان موافقا لفتوي المجتهد الأعلم حال العمل،مخالفا لفتوي المجتهد الثاني الذي يجب الرجوع إليه الآن، فيجب عليه الاعادة؛لأنّه لم يحرز موافقته للواقع،و لم يستند إلي فتوي الأوّل حين العمل،حتّي يكون معذورا في مخالفة الواقع.

أقول:بناء علي حجّية الأوّل في ظرف العمل و حجّية الثاني،و المفروض عدم كشف الواقع علما،فإن كان دليل الحجّة المتأخّرة دالاّ علي إعادة الأعمال المتقدّمة،فلا إشكال حتّي فيما إذا استند إلي فتوي الأوّل.و أمّا مجرّد جعل المتأخّر حجّة،فلا يقتضي وجوب الاعادة بعد أن لم يكن مكلّفا بالواقع حين العمل؛لأنّه لم يكن متمكّنا من الوصول إليه،و المفروض أنّه إن فحص لم يصل إلاّ إلي فتوي الأعلم حين العمل و عمله مطابق له،و حيث انّه لا دليل علي لزوم الاستناد و عمله مطابق له فيكون مجزيا،فالأظهر عدم الفرق بين الاستناد إليه

ص: 98

و عدمه إن كان لا يصل إلي الواقع.

المورد الثاني: في الاجزاء بالنسبة إلي فعل الغير

كما إذا اعتقد المجتهد أو المقلّد خلاف ما يراه المجتهد الآخر أو المقلّد الآخر، و الاجزاء فيه بالنسبة إلي الآخر مشكل.

قال في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ قضيّة ما قرّرنا في الهداية السابقة من أنّ الطرق الشرعيّة إنّما هي طرق إلي الواقع من دون تصرّف فيه،هو عدم ترتيب آثار الواقع علي فعل الغير المخالف في الاعتقاد له،فلا يجوز الأكل من الدبس المشتري بالبيع معاطاة لمن لم يجوّز ذلك،و لا يجوز الاقتداء بمن لا يعتقد وجوب السورة مع العلم بمطابقة عمله لاعتقاده،و أمّا عند عدم العلم فيحتمل جواز الاقتداء نظرا إلي أصالة الصحّة في فعله،و لو لم يكن الصحّة معتبرة في اعتقاده،كما قرّر في محلّه،و المسألة في غاية الاشكال (1).

أقول:الانصاف أنّ المسألة في غاية الاشكال،و ينبغي أن يعمل كلّ منهما علي معتقده،إلاّ إذا كان عمل الغير صحيحا بعنوان ثانوي،كشمول حديث لا تعاد له، فإن كان الامام يعتقد كفاية تسبيحة واحدة و المأموم يعتقد بالثلاث،جاز الاقتداء به؛لأنّ صلاة الامام صحيحة حتّي بعد انكشاف الخلاف له؛لعموم حديث لا تعاد.

و كذا يجوز استيجار جنب اغتسل غسلا لا يكون صحيحا بنظر المستأجر؛لأنّ حرمة الدخول في المسجد مرفوعة عمّن يعتقد صحّة غسله.و يحتمل أن يستفاد من قوله«ما كان عليك لو سكتّ» (2)أنّ غسله صحيح و يترتّب عليه جميع الآثار، لكنّه مشكل.و المسألة محرّرة في الجملة في بحث الجماعة،و تحتاج إلي الفحص

ص: 99


1- تقريرات الشيخ ص 35.
2- فروع الكافي 3:45.

و التأمّل.

الموضع الرابع: في العمل المنبعث عن القطع بالحكم الكلّي
اشارة

العمل بالقطع إذا لم يكن مستندا إلي الشارع،بأن قطع بوجوب صلاة الجمعة و انكشف الخلاف في الوقت،أو قطع بعدم وجوب السورة و انكشف الخلاف في الوقت لا يجزيء.و أمّا إذا كان مستندا إلي الشارع،كما لو قطع بالمراد من الخبر، و كان من نظراء أصحاب الأئمّة عليهم السّلام ممّن أمروهم بالتفقّه،فيكون عمله موافقا لأمرهم بالتفقّه،و يستند فوت الواقع إلي أمرهم،فيمكن أن يقال بالاجزاء.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)أنّه لا يجزيء إلاّ إذا اشتمل فعله علي المصلحة التي لا يمكن مع استيفائها استيفاء مصلحة الأمر الواقعي،و معه لا يبقي مجال لامتثال الأمر الواقعي،كما في الاتمام و القصر و الاخفات و الجهر انتهي.

و حاصل كلامه أنّ ما فعله لم يكن مأمورا به حتّي يجزيء.و أمّا إجزاء صلاة التمام من المسافر،مع أنّه لا أمر بها،بل مجرّد قطع المصلّي بأنّ الواجب عليه هو صلاة التمام،فلاشتمالها علي مصلحة إن استوفاها المصلّي،لم يبق مجال لأمره بالصلاة قصرا.

و فيه انّ المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل تستتبع الأمر بها،فلا بدّ من الالتزام بالأمر بالتمام حال الجهل بوجوب القصر علي نحو الترتّب،أو اختصاص وجوب التمام بالعالم به،و قد ذكرنا في محلّه إمكان اختصاص وجوب القصر في السفر بالعالم بالوجوب،و كذا الجهر و الاخفات،و لا مانع من اشتراط الحكم بالعلم به،كما يأتي في مباحث القطع،و حينئذ لا تكليف علي الجاهل؛لاختصاص

ص: 100


1- كفاية الاصول ص 113.

التكليف بالعالم.

نعم إن دلّ دليل معتبر علي أنّه معاقب،فلا بدّ من توجيهه من باب الترتّب؛لأنّ المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل في حال الجهل تلازم الأمر به،كما حقّقناه في محلّه و قلنا بتلازم المصلحة في الفعل و الحكم علي وفقها.

تتميم:

يمكن الاستدلال علي القول بالاجزاء في جميع الصور المذكورة بقوله في خبر عبد الصمد بن بشير«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»و بقوله«رفع ما لا يعلمون»و نظائرهما،و يأتي الكلام فيها في أحكام الجاهل.و لا يترك الاحتياط بمراعاة الواقع في جميع المباحث المذكورة.

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب

اشارة

الظاهر أنّ البحث عن وجوبها من المسائل الفقهيّة،كقاعدة لا ضرر،و إنّما ذكرا في الاصول لعدم اختصاصهما بباب دون باب،و ليس كقاعدة الطهارة مختصّة بباب الطهارة.

و لا يخفي أنّه ليس في الأدلّة عنوان المقدّمة و السبب و الجزء،فلا حاجة إلي البحث عنها،بل ينبغي أن يقال:كلّ حكم له مقامان:مقام جعله الراجع إلي المولي من دون دخل فيه لغيره،و مقام الامتثال الراجع إلي حكم العقل بلزوم امتثال المولي من دون دخالة للمولي بمولويّته فيه أصلا.

فينبغي للمولي أن يري ما فيه المصلحة اللزوميّة و يجعل الحكم موافقا لها و يوصله إلي المكلّف بأن يجعله في معرض الوصول إليه بحيث إذا فحص عنه وصل إليه.

ثمّ إنّ العقل يحكم بامتثاله،طاعة للمولي الواجب الاطاعة،و مع ترك الامتثال

ص: 101

يحكم بأنّه مستحقّ للعقاب،و ليس للمولي أن يأمر مولويّا بامتثال أوامره و إلاّ لتسلسل.

و غير خفي أنّ الاتيان بمقدّمة حصول الشيء دخيل في امتثاله،فلا ربط له بالمولي أصلا،و من ذلك يظهر عدم الحاجة إلي هذه المباحث المذكورة بعد تفكيك المقامين،لكن نشير إلي ما ذكره في الكفاية في ضمن امور:

الأمر الأوّل: في أنّ البحث عن مقدّمة الواجب بحث عن مسألة فقهيّة

لأنّه يبحث عن وجوب المقدّمة،و يستدلّ القائل بالوجوب بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة و وجوب المقدّمة،و يستدلّ القائل بعدم الوجوب بامور اخر، لكن قال في الكفاية:إنّ البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته، فالمسألة اصوليّة (1).

و فيه أنّ وجوب المقدّمة:إمّا لدلالة وجوب ذي المقدّمة عليه باحدي الدلالات،أو للملازمة العقليّة التي لا ينفكّ أحد طرفيها عن الآخر،و علي كلّ فالبحث عن وجوب المقدّمة مسألة فقهيّة،و سيأتي التعرّض له.

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدّمة
اشارة

قال في الكفاية:منها تقسيمها إلي الداخليّة و الخارجيّة،و المراد بالداخليّة مقدّمية أجزاء المركّب للكلّ (2).

قلت:الظاهر بطلان التقسيم؛لأنّ الأمر متعلّق بالمركّب،و هو واحد لا انحلال

ص: 102


1- كفاية الاصول ص 114.
2- كفاية الاصول ص 114.

له.نعم هو منبسط علي الأجزاء و الشرائط الشرعيّة،و هو واضح جدّا،و للبحث تتمّة يذكر في بحث الأقلّ و الأكثر الارتباطيين في باب البراءة.

قال:و منها تقسيمها إلي العقليّة و الشرعية و العادية.و الشرعية علي ما قيل ما يستحيل وجود ذي المقدّمة بدونه شرعا،ولكنّه لا يخفي رجوع الشرعية إلي العقلية،ضرورة أنّه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا إلاّ إذا اخذ فيه شرطا و قيدا، و استحالة المشروط و المقيّد بدون شرطه و قيده يكون عقليا (1)انتهي.

أقول:بعد تفكيك المقامين المتقدّمين،أي:مقام وظيفة المولي و مقام وظيفة العبد،و بعد أداء المولي وظيفته،و هي بيان الأحكام الكلّية و جعلها في معرض الوصول إلي المكلّف بحيث يصل إليها بعد الفحص،يظهر أنّ بيان وجوب الطهارة في الصلاة هو نظير بيان وجوب القراءة و الركوع و السجود من وظائف المولي، و قد أدّي وظيفته و هو ايجاب الطهارة قبل الدخول في الصلاة،و الأمر متعلّق بالمركّب من الوضوء أو الطهارة الحاصلة منه و القراءة و الركوع،إلي آخر ما له دخل فيه،و لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب،كما لا صلاة إلاّ بطهور.

و ظاهر آية الوضوء وجوبه للصلاة كوجوب سائر الأجزاء،و الفرق أنّه لا يعتبر الهيئة الاتّصاليّة بينه و بين الأجزاء،و ليس جميع نواقض الأجزاء نواقضه،و كذا اعتبار الساتر في الصلاة و الاستقبال،فإنّ دخلهما في الصلاة كدخل الطهارة فيها راجع إلي المولي يأمر بهما أمرا مولويا،و سيأتي أنّ الوضوء واجب في الصلاة بعنوان العبادة،بخلاف الساتر فإنّ وجوبه في الصلاة توصّلي،نعم إن كان علي وضوء لم يجب تجديده،و سيأتي ماله نفع.

قال:و منها تقسيمها إلي المتقدّم و المتأخّر و المقارن،و حيث انّها من أجزاء العلّة6.

ص: 103


1- كفاية الاصول ص 116.

و لا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها علي المعلول اشكل الأمر في المقدّمة المتأخّرة.

إلي أن قال:بل في الشرط و المقتضي المتقدّم علي المشروط زمانا المتصرّم حينه إلي آخر كلامه (1).

أقول:المراد بالشرط ما يتمّ به فاعليّة الفاعل،أو قابليّة المحلّ،و هذا لا يعقل تقدّمه إن لم يبق له أثر،و كذا تأخّره لا في التكوينيّات و لا في الشرعيّات،فإنّ الشرعيّات و إن كانت من الاعتباريّات،لكن الاعتباريّات ليست مجرّد لقلقة اللسان،بل لها واقع غايته أنّ واقعها عين اعتبارها.

فإذا كان الصوم مشروطا بطهارة الصائم حال الصوم عن حدث الاستحاضة، استحال تأثير الغسل في الليلة المستقبلة في طهارة المستحاضة حال الصوم في النهار السابق،و كذا المقدّم الذي لا يبقي أثره أصلا.

نعم لا مانع من وجوب المركّب من الغسل و الامساك و الغسل،بأن وجب علي المستحاضة أن تغتسل ليلا و تصوم نهارا،و تغتسل في الليلة المستقبلة،بحيث لو لم تفعل بعضه لم تأت بالمركّب،فلذا يبطل صومها.

و أمّا ما ذكره في فوائد الاصول (2)و أجود التقريرات (3)و المحاضرات (4)ردّا علي صاحب الكفاية من قياسه الشرط المتقدّم بالشرط المتأخّر،بأنّ الشرط المتقدّم يكون موجبا للاعداد للمقتضي،ففي غير محلّه؛لأنّ الاعداد إذا كان شرطا فهو مقارن،و الشرط المتقدّم عبارة عن أمر وجد و انعدم بجميع آثاره ليكون شرطا متقدّما،و هو غير معقول؛لأنّ معني كونه شرطا أنّه دخيل في المشروط،فلا بدّ من5.

ص: 104


1- كفاية الاصول ص 118.
2- فوائد الاصول 1:162.
3- أجود التقريرات 1:225.
4- المحاضرات 2:305.

تلاقيهما،و مقتضي تقدّمه أنّه مع انعدامه بجميع آثاره كأنّه لم يوجد أصلا يكون شرطا.

و أمّا الموارد التي توهّم في الشرعيّات أنّها من الشرط المتقدّم أو المتأخّر، فليست كذلك،و نذكر بعضها:

منها:شرطيّة غسل الجنب في الليل للصوم الواجب،و الصوم يجب من طلوع الفجر،فإذا كان الغسل واجبا في الليل و شرطا للصوم،فقد تقدّم الشرط.

و فيه أنّه يمكن أن يقال:إنّه يجب علي الجنب في ليلة شهر رمضان أن يغتسل قبل طلوع الفجر و يصوم،فيجب عليه المركّب من الصوم و الغسل في الليل،بحيث لو لم يفعل بعضه بطل،هذا إن كان الغسل شرطا.و أمّا إن كانت الطهارة المقارنة شرطا،فهي لا تتحقّق إلاّ بالغسل ليلا،و كذا يجب علي المستحاضة أن تصوم و تغتسل في الليلة المستقبلة،فيكون الواجب عليها مجموع الصوم و غسل الليلة المستقبلة.

و منها:عقد الوصيّة،فإنّه تمليك للموصي له بالشرط المتأخّر،و هو موت الموصي.

و فيه أنّه إنشاء ملكيّة الموصي له بعد موت الموصي،و يترتّب الملكيّة علي هذا الانشاء خارجا بعد موت الموصي،و ما لم يمت فهو مجرّد إنشاء و ليس ملكا له بشرط الموت المتأخّر.

و في المحاضرات (1)أنّه يجوز اعتبار الأمر المتأخّر في المتقدّم و ليس اسمه الشرط،لكن يحتاج إلي دليل خاصّ إلاّ في موردين:

أحدهما:في اشتراط التكليف في المركّب بالقدرة علي الجزء الأخير،فالأمر6.

ص: 105


1- المحاضرات 2:316.

بالصلاة في أوّل الوقت مشروط بقدرة المكلّف علي التسليم،فلو لم يكن قادرا عليه لحيض أو موت،فلا أمر بالجزء الأوّل.

أقول:هذا ليس من الشرط المتأخّر،بل يعتبر القدرة علي امتثال التكليف، و إنّما يقدر عليه إن كان قادرا عليه في هذه المدّة،فإذا لم يقدر علي البعض فهو غير قادر علي الكلّ.

ثانيهما:عقد الفضولي إذا تعقّبه إجازة المالك،فإذا باع الفضولي لم ينتقل العين إلي المشتري،بل كان ملكا للبايع،و بعد أن أجاز المالك و رضي بالبيع يصحّ البيع من حين وقوعه؛لأنّه رضي بالبيع من حين وقوعه،فيشمله أدلّة حلّية البيع،و العين كانت ملكا للمالك إلي زمان الاجازة،و صارت بعد الاجازة ملكا للمشتري من حين وقوع البيع،و لا بأس بأن يكون الشيء ملكا لشخصين إذا كان زمان اعتبار الملكيّة مختلفا،فملكيّة المشتري للمبيع من حين العقد مشروط بالشرط المتأخّر، و هو إجازة المالك.هذا ملخّص كلامه.

و قد اختار ذلك صاحب الكفاية في حاشية المكاسب،و حكاه عنه في وقاية الأذهان (1).

أقول:يستحيل انقلاب الامور التكوينية عمّا وقعت عليه،فالطعام الذي صار مأكولا لزيد لا ينقلب عمّا وقع عليه بأن يكون مأكولا لعمرو.

و أمّا الامور الاعتبارية،فالاعتبار المتأخّر لغو إن لم يرفع الاعتبار الأوّل في زمان وقوعه،و إن رفعه لزم انقلاب الشيء عمّا وقع؛لأنّ نفس الاعتبار من التكوينيات،فلا ينقلب عمّا وقع عليه.و لا ينتقض ذلك بالحبّ لشيء في زمان ثمّ بغضه بعد زمان مع اتّحاد متعلّقهما،و ذلك لأنّ متعلّقهما في الذهن،أي المحبوب9.

ص: 106


1- وقاية الأذهان ص 369.

بالذات موجود في الذهن،و كذا المبغوض بالذات موجود في الذهن،فلا يضرّ وحدة متعلّقهما في الخارج.

هذا مع أنّه لو سلّم فليس ذلك من الشرط المتأخّر،و إنّما يكون من الشرط المتأخّر إن أثّر البيع في التمليك من حين وقوعه قبل مجيء الاجازة من المالك.

ثمّ إنّ في إجازة الفضولي احتمالات:

أحدها:الكشف الحقيقي بأن لا تكون الاجازة شرطا أصلا،و إنّما يكشف بها تحقّق الملكيّة من حين البيع.و هذا غير صحيح؛لأنّه يوجب انتقال العين بدون رضا المالك.

ثانيها:كون الاجازة شرطا مقارنا بإرجاعها إلي تعقّب العقد بالاجازة.

و فيه أنّ التعقّب ليس شيئا وراء الأمر المتأخّر.

ثالثها:كونها ناقلة؛لأنّه يعتبر في الانتقال عقد البيع و رضا المالك،و قد حصل المجموع بعد الاجازة،فينتقل العين حينئذ.

رابعها:الانقلاب،و هو الذي تقدّم عن صاحب الكفاية،و مرّ الاشكال فيه.

خامسها:كون البيع و الرضا المتأخّر موجبين لانتقال المال من حين عقد البيع إلي المشتري،بأن يكون نظير الصلاة،فإنّها تمتثل من أوّل الشروع في الصلاة إن تمّ الصلاة،فإذا سلّم سقط الأمر بالصلاة من أوّل الشروع في الصلاة،و في مسألة البيع يكون المال ملكا للمشتري فقط من أوّل العقد لا للمالك.

نعم إذا تصرّف المالك في العين بعد العقد،لم يكن مجال للاجازة من حين العقد،و إذا فرضنا أنّ المالك لم يتصرّف و أجاز،فالعين من حين العقد تكون خارجة عن ملك المالك و يكون لها مالك واحد،و لعلّه يقتضيه القاعدة و الأخبار الخاصّة.

كخبر محمّد بن قيس في وليدة باعها ابن سيّدها،ثمّ إنّ السيّد خاصم المشتري

ص: 107

و أخذ منه الوليدة،فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتّي ينفذ لك ما باعك (1).

و صحيح أبي عبيدة في نكاح غير الولي،قال:يجوز النكاح إن هو رضي (2).

و إطلاقه شامل لمجرّد الرضا و إن لم ينشأ إنفاذ العقد،و مورد هذه الأخبار عدم تصرّف المالك بما ينافي إجازته من حين العقد.

و حاصل كلامنا:أنّ المتأخّر لا يمكن أن يؤثّر في المتقدّم،فإذا كان مالك العين كارها لتصرّف غيره فيها،لكن يعلم بأنّه يرضي بعد ذلك،لم يجز له التصرّف فيها؛ لعدم وجود الرضا حين التصرّف،نعم لو رضي بعد ذلك يمكن أن يقال:إنّه يرتفع أثره الوضعي،و يكون التصرّف الواقع حلالا،و يدلّ عليه أخبار:

كحسن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة الرجل يكون لها الخادم قد فجرت فيحتاج إلي لبنها،قال:مرها فلتحلّلها يطيب اللبن (3).و خبر جعفر مرسلا (4).و خبر أبي الشبل (5).

و يمكن منع دلالتها علي انقلاب الفعل عمّا وقع عليه،بأن يكون حلالا حال وقوعه،بل غايته أنّ تحليله لفعله يوجب رفع حقّ الناس المتعلّق برقبته و أثره طيب اللبن،و أمّا رفع أثر معصية اللّه بالتصرّف في مال الغير بغير رضاه،فيحتاج إلي التوبة،فتأمّل،فإنّه يحتمل التعبّد باختصاص ذلك بمورده.2.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 14:591.
2- وسائل الشيعة 14:527.
3- وسائل الشيعة 14:543.
4- وسائل الشيعة 14:570.
5- وسائل الشيعة 14:542.
تنبيهان:

أحدهما:أنّ ما ذكرناه كان في شرط المأمور به تكليفا،أو شرط الحكم الوضعي كالملكيّة و نحوها.و أمّا شرط التكليف أو الوضع أي شرط المكلّف -بكسر اللام-و الواضع،فلا بدّ أن يكون مقارنا،و هو علمه بالمصلحة في المتعلّق من غير فرق بين القضيّة الخارجية و الحقيقية.

ثانيهما:ذكر في أجود التقريرات ما حاصله:أنّ ما ذكره في الكفاية،من إرجاع الشرط المتأخّر إلي العلم حتّي يكون مقارنا،إنّما يتمّ في القضيّة الخارجية دون الحقيقية،و ذكر من جملة ثمراتهما أنّه لو قطع أنّ زيدا صديقه لكن كان قطعه خطأ و كان زيد عدوّه،فان قال له:كل من طعامي جاز له الأكل؛لأنّ القضيّة خارجية قد أذن المالك لهذا الانسان الموجود في أكل طعامه و طاب نفسه في تصرّفه،و إن قال:من كان صديقي فليأكل من طعامي،لم يجز له الأكل؛لأنّه تابع لواقعه و لا تأثير لقطعه-أي:قطع المالك-بكونه صديقه (1).

أقول:قد ظهر ممّا ذكرناه عدم الفرق بين القضيّة الخارجية و الحقيقية في عدم جواز تأخّر شرط المكلّف-بالكسر-و الواضع.و أمّا المثال المذكور،فالظاهر عدم جواز التصرّف في القضيّة الخارجية أيضا؛لأنّ المركوز في ذهن من قطع بصداقة عدوّه فأمره بالأكل من طعامه،عدم رضاه بأكل عدوّه،لكنّه اشتبه في التطبيق،و المناط رضاه الواقعي.

و لذا لو اشتبه عليه ابنه الذي هو أحبّ الناس إليه بعدوّه،فزعمه عدوّه و قال له:

لا تأكل من طعامي جاز له الأكل؛لأنّه راض واقعا بأكله.

و لعلّه يستفاد أيضا من ذيل صحيح أبي ولاّد،بعد ما خرج هو و صاحبه من عند

ص: 109


1- أجود التقريرات 1:224.

أبي حنيفة،قال:فخرجنا من عنده،و جعل صاحب البغل يسترجع،فرحمته ممّا أفتي به أبو حنيفة،فأعطيته شيئا و تحلّلت منه.إلي أن قال ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام و أجابه.إلي أن قال:فقلت:إنّي كنت أعطيته دراهم و رضي بها و حلّلني،فقال:إنّما رضي بها و حلّلك حين قضي عليه أبو حنيفة بالجور و الظلم،ولكن ارجع إليه فاخبره بما أفتيتك به،فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك، الحديث (1).

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب
اشارة

منها:تقسيمه إلي المطلق و المشروط،و المراد بالأوّل ما كان التكليف ثابتا بدون تعليقه علي تقدير شيء غير الشرائط العامّة للتكليف من التمييز و القدرة و العقل و البلوغ.

و المراد بالثاني ما كان التكليف ثابتا بعد تحقّق شيء و لم يكن ثابتا قبل تحقّقه، و الاطلاق و الاشتراط إضافيّان،فإنّ جميع التكاليف حتّي الواجبات المطلقة هي بالنسبة إلي القدرة و التمييز و العقل مشروطة.

ثمّ إنّ مقدّمتهما تابعة لهما في الاطلاق و الاشتراط،فمقدّمة الواجب المطلق واجبة مطلقا بناء علي وجوب المقدّمة،و مقدّمة الواجب المشروط واجبة بشرط وجوب ذيها،هكذا قرّره جماعة من الاصوليّين.

أقول:إنّ وظيفة المولي جعل الحكم علي وفق المصلحة الموجودة،ثمّ جعله في معرض الوصول إلي المكلّف،بحيث لو فحص عنه لوصل إليه،و قد بيّن المولي في الواجب المشروط بأنّ تمام ما كلّف به العبد الذي لا يرضي المولي بتركه هو

ص: 110


1- وسائل الشيعة 13:255 ح 1.

وجوب الصلاة إن دخل الوقت،أو إن بلغ الصبي،أو إن طلع الفجر في الصوم، و هكذا نظائرها،ثمّ إنّ وظيفة العبد امتثال هذا الأمر بحكم العقل المستقلّ في مرحلة الامتثال،و المقدّمة دخيلة في الامتثال،و حينئذ للمكلّف بالنظر للمقدّمة ثلاث حالات:

أحدها:أن يعلم أنّه يتمكّن من فعلها بعد تحقّق شرط وجوب الواجب،فله أن يؤخّر فعلها إلي أن يجب ذو المقدّمة،و لا يتعيّن عليه أن يفعلها قبل فعليّة الوجوب.

ثانيها:أن يعلم أنّه لا يتمكّن من فعلها بعد فعليّة الوجوب،فيجب عليه بحكم العقل أن يفعلها قبل تحقّق شرط الوجوب؛لأنّ المولي كأنّه قال:لا حالة منتظرة لامتثال أمري إلاّ تحقّق هذا الشرط،و لا عذر لأحد في ترك فعل الواجب من ناحية عدم تحقّق هذا الشرط.

و بعبارة اخري:العقل الحاكم في مقام الامتثال يستقلّ بأنّ المولي أدّي وظيفته و يجب إطاعته،فيحكم بوجوب المقدّمة.

فمن علم أنّه لا يتمكّن من احراز القبلة بعد دخول الوقت،أو التستّر في الصلاة بثوب تصحّ الصلاة فيه،أو الماء و التراب للطهارة و نحوها،يجب عليه تحصيلها قبل الوقت.

و كذا الصبي يجب عليه التعلّم قبل البلوغ عقلا؛لأنّ الصبي يستقلّ عقله بأنّ من اعتقد بوجود اللّه تعالي،و بإرساله الرسل إلي الناس،و عدم إهماله الناس كالبهائم، يعلم بأنّ له أحكاما يجب الخروج عن عهدتها،فيجب عليه تعلّمها قبل البلوغ حتّي يمتثلها عند البلوغ؛لأنّ الشارع المقدّس قال:لا عذر في ترك امتثال الأحكام بعد أن يبلغ الصبيّ،و المفروض أنّ الصبي يعلم أنّ الأحكام الشرعيّة الكثيرة لا يمكن العلم بها حين البلوغ،فلذا يستقلّ عقله بأنّه يجب التعلّم قبل البلوغ،كما يستقلّ عقله باستحقاق العقاب علي قتل من لا يستحقّ القتل،فإنّه لا

ص: 111

يجوز له قبل البلوغ،و لو قتل مع استقلال عقله بقبحه و مات قبل بلوغه استحقّ العقاب،فلا يمكن المنع عن وجوب التعلّم عقلا،هذا حال غير المقدّمة الشرعيّة.

و أمّا ما سمّوه بالمقدّمة الشرعيّة،فهي ليست مقدّمة لواجب،بل هي واجبة كوجوب الجزء،فيجب شرعا علي الجنب في ليلة شهر رمضان أن يغتسل في الليل و يصوم.

و حاصل كلامنا في المقدّمة الغير الشرعيّة:أنّ من رجع إلي حكم العقلاء في امتثال أوامر الموالي للعبيد،يذعن بما ذكرنا من أنّ وجوب المقدّمة عقلا ليس تابعا لوجوب ذي المقدّمة في الاشتراط و الاطلاق،بل تابع لما لا يمكن تحصيله إلاّ به من الظرف،فيجب فعل مقدّمة الواجب المشروط إن علم عدم التمكّن من فعله بعد حصول شرط الوجوب مع العلم بحصوله،فإذا قال المولي لعبده:إن جاءنا ضيوف يوم الجمعة فأطعمهم،فإن علم بأنّه لا يقدر علي تحصيل الطعام يوم الجمعة وجب تحصيله قبل ذلك.

نعم إن دلّ دليل خاصّ علي أنّ الاعتبار في القدرة علي المقدّمة هي القدرة بعد تحقّق شرط الوجوب،فلا يجب تحصيلها قبله للدليل الخاصّ،و يؤيّد ما ذكرنا بعض الأخبار و الفتاوي التي قد تعرّض لها الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (1):

منها:خبر محمّد بن مسلم،عن أحدهما،سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ليس فيها ماء من أجل المراعي و إصلاح الابل،قال عليه السّلام:لا.و غيره فراجع.

و حكي ما ذكرناه من استقلال العقل بوجوب المقدّمة عن بعضهم،و ارتضاه، لكن في كلام له قال:لا محذور في أن يكون الشيء الواجب موقوفا علي مقدّمة يجب تحصيلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك4.

ص: 112


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 54.

الشيء،علي ما حقّقنا من أنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضا فعلي،إلي آخر كلامه (1).

أقول:لا حاجة إليه،بل لو صرّح المولي بأنّه لا تجب الصلاة قبل دخول الوقت و تجب بعد دخوله،كان الأمر ما ذكرناه.

ثالثها:أن يشكّ قبل الوقت في أنّه يتمكّن من فعل المقدّمة في الوقت،و الظاهر استقلال العقل بوجوب تحصيلها قبله فيما لا تجري العادة علي وجودها في الوقت بل مطلقا.

لكن قال الشيخ علي ما في التقريرات:و صورة الشكّ أيضا ممّا لا دخل لها بالمقام؛لأنّ المرجع في ذلك إلي الاصول العمليّة،و لعلّ الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان،و الظنّ ملحق إمّا بالعلم أو بالشكّ (2)انتهي.

فإن أراد عدم وجوب المقدّمة قبل الوقت،فوجوبها عقلي لا يكون مجري البراءة.و إن أراد عدم وجوب ذي المقدّمة لاحتمال عدم بقاء المكلّف إليه،فهو مدفوع ببناء العقلاء علي البقاء،هذا كلّه في الواجب المشروط بالوقت.

و أمّا لو كان الوجوب مشروطا بغيره،مثل إن جاء زيد فأكرمه،و مثل نذر«إن جاء زيد من السفر فاذبح قدّامه ذبيحة»فإن علم المجيء فيأتي فيه الأقسام المتقدّمة.و إن شكّ في المجيء و كان لا يتمكّن من تحصيل المقدّمة حين مجيئه، فهل له إجراء البراءة عن وجوب الاكرام لاحتمال عدم مجيئه،أو استصحاب عدم مجيئه،أو ليس له ذلك لأنّ وجوب امتثال التكليف بحيث لا يستند تركه إلي العبد وجوب عقلي،و لا عذر له إذا حصل الشرط؟لا يبعد أن يقال بأنّه يجب تحصيل المقدّمة؛لأنّ تركها إن أدّي إلي ترك الواجب بعد حصول شرطه مستند إلي العبد3.

ص: 113


1- تقريرات الشيخ ص 53.
2- تقريرات الشيخ ص 53.

لتقصيره في مقام الامتثال،فتأمّل.

الواجب المعلّق و المنجّز
اشارة

و منها:تقسيمه إلي المنجّز و المعلّق.و المراد بالثاني ما كان زمان الوجوب قبل زمان الواجب،كما إذا نذر في يوم السبت أن يصوم يوم الجمعة،و فيه أقوال:

الأوّل:أنّه غير الواجب المشروط؛بل هو من أقسام الواجب المطلق،و يترتّب عليه وجوب المقدّمة؛لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة في الاطلاق و الاشتراط، و المفروض أنّ ذا المقدّمة واجب فعلا،و إن كان زمان امتثاله متأخّرا،فهو نظير نذر صوم يوم الجمعة في يوم السبت مثلا.

الثاني:أنّه واجب فعلا و زمان الامتثال متأخّر،لكنّه من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر،و اختاره في المحاضرات (1).

الثالث:أنّه لا فرق بينه و بين الواجب المشروط إلاّ في التعبير،و هو المنصور عندنا؛لأنّا إذا راجعنا وجداننا و ما نطلبه فيما لو تجرّد طلبنا عن الكواشف اللفظيّة نجد أنّه:إمّا أن يكون في الفعل مصلحة علي كلّ تقدير،أو يكون فيه مصلحة علي تقدير خاصّ و في زمان خاصّ،و علي الثاني فالمطلوب الفعل في زمان خاصّ.

و يمكن التعبير عنه بعبارتين:احداهما تقييد الحكم أي الوجوب،بأن يقول:إن جاء يوم الجمعة فيجب إكرام زيد.ثانيتهما تقييد المتعلّق،بأن يقول:يجب إكرام زيد يوم الجمعة.

و هذا هو مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (2)،فإنّه بعد ما ادّعي وضوح عدم الفرق لبّا بين العبارتين،قال:و كيف كان فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغويّة قيدا للفعل،كما إذا قال:افعل في وقت

ص: 114


1- المحاضرات 2:348.
2- تقريرات الشيخ ص 52.

كذا،أو للحكم كما إذا قيل:إذا جاء وقت كذا افعل كذا.

ثمّ قال تأييدا لما ذكره ما حاصله:انّ اتّحاد مفاد العبارتين ظاهر علي مسلك العدليّة،بل علي مسلك غيرهم.أمّا علي المسلك الأوّل،فلأنّ المناط وجود المصلحة في المتعلّق،و إذا كان المصلحة في الفعل في زمان خاصّ،فالحكم تابع له،فإذا فرضنا أنّ الفعل ذو مصلحة في زمان خاصّ فهو الواجب،و لا فرق بين التعبيرين في ذلك،و ليس لقائل أن يقول:إنّ المصلحة في الفعل في زمان خاصّ تختلف باختلاف العبارتين.و أمّا علي الثاني،فلأنّ العاقل إمّا يريد شيئا علي تقدير أو مطلقا،فإن أراد علي تقدير فلا فرق بين التعبيرين انتهي ملخّصا.

و الحاصل أنّ قولنا«إن جاءك زيد فأكرمه»ليس إنشاء الاكرام فيه متحقّقا بعد مجيء زيد؛لأنّ الانشاء متحقّق سواء جاء زيد أو لم يجيء،و ذلك لأنّ العبارة المذكورة ليست إخبارا و لا غلطا إن لم يجيء زيد،فالتقييد راجع إلي المنشأ،أي:

لزوم الاكرام متحقّق بعد مجيء زيد،و هو متّحد مع جعل القيد للمتعلّق،بأن يقول:

أكرم زيدا يوم الجمعة.

و أمّا ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في التقريرات،من أنّ هيئة الأمر موضوعة بالوضع النوعي العامّ و الموضوع له الخاصّ،لخصوصيّات أفراد الطلب و الارادة الحتميّة الالزامية إلي آخر كلامه (1).

و قال في هذا البحث:فإنّ تقييد الطلب حقيقة ممّا لا معني له؛إذ لا إطلاق في الفرد الموجود المتعلّق بالفعل حتّي يصحّ القول بتقييده بالزمان أو نحوه،فكلّ ما يحتمل رجوعه إلي الطلب الذي يدلّ عليه الهيئة،فهو عند التحقيق راجع إلي نفس المادّة،و بعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعني الذي هو المناط في وجوب5.

ص: 115


1- تقريرات الشيخ ص 45.

المقدّمة (1)انتهي.

فلا نساعد عليه،لما سبق أنّ معني الهيئة معني الفعل،و هو معني عامّ،و الوضع و الموضوع له فيه عامّان،و ذلك لأنّ هيئة«افعل»تدلّ علي تلبّس المخاطب بالفعل إلزاما أو استحبابا أو إباحة،و تلبّسه بالفعل يقع علي وجوه من حيث الزمان و المكان و الآلة،فمعناه قابل للتقييد،فلا فرق بين إرجاع القيد إلي الهيئة أو إلي المادّة.

و أورد علي كلام الشيخ رحمه اللّه في الكفاية (2)بأنّه ينشيء من الأوّل علي التقدير الخاصّ،و صرّح بأنّ إنشاء أمر علي تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان.

أقول:إن أراد أنّ إنشاء إكرام زيد يكون بعد مجيئه،بحيث لا يكون إنشاء إن لم يجيء،كما أنّ النهار يوجد مع وجود الشمس و بعد طلوعها،فهذا غير معقول؛لأنّ الانشاء متحقّق.و إن أراد أنّ المنشأ يكون بعد مجيئه،فهذا هو الذي يشهد به الوجدان،و هو عين كلام الشيخ في التقريرات،و هذا معني أنّ الانشاء فعلي و المنشأ متأخّر،و لا فرق بين العبارتين في هذا المعني.

و أورد في الكفاية (3)علي كلامه في عدم الفرق بين العبارتين علي مسلك العدليّة و غيرهم بما لا يرد عليه،أو لم نفهم كيف يرد عليه.

و أقول تكرارا:إنّ التعليق إن كان علي الزمان أو علي الزماني،فلا يفرق أهل المحاورة في أداء المعني الواحد بالعبارتين؛لأنّهما تعبيران عن معني واحد،فلا فرق عندهم بين أن يقول الموصي:إذا متّ فثلث مالي لزيد،أو يقول:ثلث مالي لزيد بعد موتي،لكن ادّعي الاجماع علي عدم صحّة أداء العقود علي نحو التعليق،4.

ص: 116


1- تقريرات الشيخ ص 52.
2- كفاية الاصول ص 123.
3- كفاية الاصول ص 124.

و لو تمّ لا يرتبط بما نحن فيه.

ثمّ إنّنا لا ننكر اختلاف العبارتين في الجملة،فإنّ المتعارف فيما علم تحقّق الشرط هو التعبير بقولهم أكرم زيدا عند مجيئه،و فيما لم يعلم مجيئه هو التعبير بقولهم أكرم زيدا إن جاءك،من دون فرق بينهما لبّا،كما لا ننكر اختلافهما في بعض الآثار.

ثمّ لا يخفي أنّ ما ذكرناه هو أنّه لا فرق بين ما يسمّونه بالواجب المعلّق،و بين الواجب المشروط في وجوب الاتيان بمقدّماته المفوّتة عقلا،و إن كان الفرق بينهما موجودا من بعض الجهات الاخر،مثلا من استأجر دارا شهرا واحدا،و قال له الموجر:قد أجزت لك أن تتصرّف في الدار في الشهر الثاني أيضا،و قلنا بأنّه يجوز له أن يتصرّف في الشهر الثاني بكلّ تصرّف حتّي الموقوف علي الملك، فللمستأجر أن يوجر الدار شهرين.

و هذا بخلاف أن يقول له الموجر الأوّل:إن جاء الشهر الثاني،فأنت مأذون في التصرّف في الدار،فإنّه لا يجوز للمستأجر أن يوجر الدار شهرين؛لأنّه ليس مأذونا فعلا،بل هو مأذون بعد مجيء شهر،فتأمّل.

و نظيره ما ذكره في العروة الوثقي من الفرق بين أن يقول الناذر:إن جاء مسافري فللّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة،و بين أن يقول:للّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة عند مجيء مسافري،فعلي الأوّل يجب الحجّ إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره،و علي الثاني لا يجب،فيكون حكمه حكم النذر المنجّز الخ (1).

أقول:و تفصيل المسألة في الفقه.2.

ص: 117


1- العروة الوثقي،كتاب الحجّ،مسألة:32.
تتميم:

قد ظهر ممّا سبق أنّه يجب عقلا تحصيل المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط قبل تحقّق شرط الوجوب إن علم تحقّقه-أي شرط الوجوب-و عدم تمكّنه من تحصيلها بعد تحقّق الشرط،أو شكّ في تمكّنه منه،فيجب تحصيل العلم بالأحكام قبل البلوغ،و كذا في سائر الأمثلة التي ذكرها في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيرها.

و ظهر أنّ ما يقال من أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها اطلاقا و اشتراطا، ليس في محلّه؛لأنّ وجوب ذي المقدّمة شرعي،و وجوب المقدّمة عقلي،و العقل مستقلّ بوجوب تحصيل مقدّمات الواجب المشروط إن لم يعلم تمكّنه من تحصيلها بعد حصول الشرط.فما ذكروه من الوجوب في الموارد المذكورة،فهو الذي يستقلّ به العقل،و الوجوب فيها عقلي.و إن كان وجوب ذي المقدّمة مشروطا لم يتحقّق وجوبه.

هذا في غير المقدّمة الشرعيّة.و أمّا هي فواجبة شرعا،كوجوب غسل الجنابة علي الجنب في ليلة شهر رمضان للصوم.

ثمّ إنّ القائلين بتبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة في الاطلاق و الاشتراط تفصّوا عن الاشكال،أي وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها بوجوه:

أحدها:أنّ الايجاب في هذه الموارد نفسي لغيره لا لنفسه.

و فيه-مضافا إلي أنّ لازمه تعدّد العقاب عند ترك ذي المقدّمة-أنّ الظاهر كون الايجاب للمقدّمية لا للتهيّؤ.

ثانيها:القول بأنّ وجوب ذي المقدّمة في هذه الموارد فعلي و ظرف الواجب استقبالي،و سمّوه بالواجب المعلّق.

و فيه ما سبق من أنّه متّحد مع الواجب المشروط.

ص: 118

ثالثها:أنّ الوجوب في هذه الموارد فعلي غير تعليقي،لكنّه مشروط بالشرط المتأخّر.

و قد عرفت ما في الشرط المتأخّر.

رابعها:لزوم الاتيان بها بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في موطنه،لاحظ المحاضرات (1).

أقول أوّلا:من أين يحرز الملاك؟و لا طريق لنا إليه إلاّ الأوامر و النواهي.

و ثانيا:قد ذكرنا في بحث الترتّب أنّ الحكم و الملاك في الفعل متلازمان،فإن كان الملاك موجودا فالحكم موجود،و كذا العكس.

ثمّ إنّه أورد علي المختار من أنّ مقدّمة الواجب المشروط واجبة عقلا قبل وجوب الواجب في الوقاية،حيث قال:و اللازم من مقالتهم أن يطّرد الحكم في جميع الواجبات المشروطة،فتجب مقدّماتها قبل أوانها إذا علم بحصول شروطها، فيجب الغسل ليلة أوّل شعبان لصوم أوّل يوم من شهر رمضان،و السفر مع الرفقة متسكّعا في صفر،إذا علم بحصول استطاعته الحجّ في ذي الحجّة،إلي غير ذلك من اللوازم البعيدة بل الفاسدة إلي آخر كلامه (2).

أقول:لو كان جنبا آخر يوم من شعبان قبل الغروب،و يعلم أنّه لا يتمكّن من الغسل في الليل لبرودة الجوّ،و لا يوجد في الليل ماء حارّ ليغتسل به و كان متمكّنا من الغسل قبل الغروب،فهل يلتزم بأنّه لا يجب عليه أن يغتسل؟و أولي بالاشكال ما إذا علم عدم التمكّن من التيمّم في الليل أيضا،أو أنّه إن علم في آخر يوم من شعبان أنّه ليس له ما يتسحّر به و لا يوجد بعد دخول الليل،فهل يلتزم بأنّه لا يجب عليه تهيئة ما يتسحّر به؟و لا فرق بين طول الزمان و قصره.م.

ص: 119


1- المحاضرات 2:355.
2- وقاية الأذهان ص 133 ط قديم.

و أمّا مسألة الحجّ فلا يرد النقض؛لأنّ الشرط في وجوبه أن يكون مستطيعا، و هو أن يكون له زاد و راحلة،و يكون صحيحا في بدنه مخلّي سربه،و له وقت يسع المسير إلي الحجّ،و الاستطاعة عبارة عنها،و النصوص علي بعض ذلك مستفيضة، فمن تحقّق له هذه الشروط في أيّ وقت كان يجب عليه الحجّ،و إن كان قطع المسافة إليه يكون في سنتين،فالحجّ لو كان واجبا مطلقا لكان الواجب المسير إليه،و إن لم يكن مستطيعا بالمعني المذكور،لكنّه مشروط و بعد الاستطاعة يصير واجبا مطلقا.

ثمّ إنّه ذكر في المحاضرات (1)عدم وجوب التعلّم علي غير البالغ،و إن علم أنّه لا يتمكّن من امتثال الأحكام بعد البلوغ؛لأنّه لا تثبت عليه الأحكام قبل البلوغ ثبوتا معلّقا،و لا يجب عليه مراعاة عدم تفويت الملاك الملزم لرفع القلم عنه.

أقول:معني رفع القلم عنه حتّي يبلغ أنّه في أوّل زمان بلوغه يجري القلم عليه، و عليه فإذا بلغ فلا عذر له في ترك الأحكام،و إذا عرف الصبي بأنّه إذا بلغ فهو غير معذور في ترك العمل بالأحكام،استقلّ عقله بالتعلّم قبل البلوغ،بحيث إن ترك التعلّم و بلغ و ترك بعض الواجبات لعدم التعلّم قبل البلوغ استحقّ العقاب علي تركه،و لعلّه واضح.

تنبيه:

قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ الحكم يدور مدار المصلحة في المتعلّق،فإذا كانت الصلاة ذات مصلحة عند دخول الوقت،فلا بدّ أن يكون الحكم علي وفقها،سواء قال:تجب الصلاة عند دخول الوقت علي نحو الواجب المعلّق،أو قال:إذا زالت الشمس وجبت الصلاة،و لا فرق بين العبارتين في إفادة ذلك،و هذا مراد

ص: 120


1- المحاضرات 2:374.

الشيخ رحمه اللّه و هو عدم الفرق بين العبارتين لبّا.

ولكن قال في الكفاية:إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعني الذي يكون هو ظاهر المشهور و القواعد العربيّة لا الواجب المعلّق بالتفسير المذكور إلي آخر كلامه (1).

و قال بخلاف ذلك في الوقاية،قال:خفي علي غير واحد من الأساتيذ فزعموا أنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه يجعل الجميع من قبيل المعلّق و ينكر الواجب المشروط، و هذا كان معتقد أهل العلم في النجف الأشرف حتّي قدم عليهم السيّد الاستاذ، فعرّفهم بأنّ الشيخ الأعظم ينكر الواجب المعلّق و يجعل الجميع من قبيل المشروط إلي آخر كلامه (2).

أقول:المستفاد من بعض كلامه في التقريرات أنّه يري اتّحاد العبارتين لبّا و إن اختلفتا في التعبير،فلا فرق بين قولنا أكرم زيدا يوم الجمعة،و بين قولنا أكرم زيدا إن جاء يوم الجمعة.

تذنيب:

ظهر ممّا سبق أنّ الوجوب المشروط بشيء إنّما يصير فعليّا بعد تحقّق شرطه، و لا يجب تحصيل شرطه،فالحجّ إنّما يجب بعد حصول الاستطاعة و لا يجب تحصيل الاستطاعة.

و أمّا شرط الواجب،فيجب تحصيله،كالطهارة للصلاة بعد دخول الوقت،هذا فيما علم كون الشيء شرطا للوجوب،أو شرطا للواجب.

و أمّا إذا شكّ في ذلك،كما إذا شكّ في أنّ وجوب قضاء الصوم قبل مجيء شهر رمضان المقبل هل هو مطلق بالنسبة إلي المسافر،فيجب عليه أن يقيم و يصوم،أم

ص: 121


1- كفاية الاصول ص 128.
2- وقاية الأذهان ص 72.

أنّ وجوب القضاء إلي شهر رمضان المقبل مشروط بأن لا يكون مسافرا،ففيه تفصيل.

فإنّه إمّا أن يكون دليل الوجوب لفظيا،أو غير لفظي كإجماع و نحوه،و علي الأوّل:فإمّا أن يكون القيد المشكوك متّصلا أو منفصلا،فالأقسام ثلاثة:

الأوّل:أن يكون الدليل لفظيّا و القيد المشكوك كونه قيدا للوجوب أو للواجب متّصلا،كقولنا مثلا من أفطر في شهر رمضان وجب عليه القضاء قبل مجيء شهر رمضان المقبل،و كان حاضرا و شكّ في أنّ التقييد بالحضور شرط الوجوب،فلا يجب الفور في القضاء علي من كان مسافرا بين رمضانين،أو شرط الواجب فيجب علي المسافر بينهما الحضور و قضاء الصوم،و في مثل هذا المثال يكون الكلام مجملا لاحتفافه بما أوجب الاجمال.

الثاني:أن يكون الدليل لفظيّا،و دليل القيد منفصلا،كقولنا يجب القضاء علي من أفطر في شهر رمضان قبل مجيء رمضان المقبل مع قولنا منفصلا«لا صيام في السفر»و فيه احتمالان:

الأوّل:أنّه كالمتّصل لتساوي احتمالي رجوع القيد إلي الوجوب،و رجوعه إلي الواجب،فلا بدّ من الرجوع إلي الاصول العملية.

الثاني:لزوم تقييد المادّة-أي:رجوع القيد إلي الواجب لا إلي الوجوب- لوجوه:

أحدها:أنّ كون الصوم في الحضر لا في السفر متيقّن علي كلّ حال،سواء كان الوجوب مشروطا،أو كان الواجب مشروطا؛لأنّه لو كان الوجوب مشروطا فالصوم بعد الاقامة أيضا،و يشكّ في تقييد الهيئة،فهو شكّ بدوي يرفع بالاطلاق.

و اجيب عنه بأنّه لا متيقّن في البين؛لأنّ الحضور و ترك السفر يكون واجبا علي تقدير كونه قيدا للواجب،و لا يكون واجبا علي تقدير كونه قيدا للوجوب،فهما

ص: 122

متباينان،و قد أوضحه الشيخ رحمه اللّه في التقريرات،فراجع.

ثانيها:أنّ إطلاق الهيئة لحال وجود القيد و عدمه إطلاق شمولي،و إطلاق المادّة إطلاق بدلي،و الاطلاق الشمولي مقدّم علي الاطلاق البدلي.

و اجيب عنه بأنّ ذلك مسلّم في العامّ و المطلق،فالعموم الشمولي يتقدّم علي المطلق البدلي؛لأنّ دلالة العموم بالوضع،فيكون بيانا لتقييد المطلق.و أمّا المطلق الشمولي،فإنّما يثبت إطلاقه بمقدّمات الحكمة،كالاطلاق البدلي و لا ترجيح.

ثالثها:أنّ تقييد الهيئة يوجب عدم تحقّق اطلاقين،بخلاف تقييد المادّة،فإنّه يوجب تقييدا واحدا،و يبقي إطلاق الهيئة علي حاله،و الثاني مقدّم عرفا علي الأوّل؛لأنّه لا فرق عندهم بين التقييد بعد وجود الاطلاق،أو أن يعمل عملا يوجب عدم تحقّق إطلاقين.

أقول:لا يبعد أن يكون المرجع إطلاق الهيئة؛لأنّ قولنا من أفطر فليقض صومه قبل أن يأتي شهر رمضان المقبل،ظاهر في الوجوب مطلقا،فإذا ورد ما علم توقّف صحّة الصوم عليه كعدم السفر،و تردّد بين أن يكون شرطا للوجوب حتّي يقيّد إطلاق الوجوب،أو أنّه شرط للصحّة،فمقتضي الاطلاق أنّه ليس شرطا للوجوب.

و حاصل الكلام:أنّ توقّف وجود المادّة علي الشرط قطعي،أي:لا بدّ أن يكون الصوم في الحضر؛لأنّه لا يصحّ الصوم الواجب قضاء في السفر.و أمّا الشكّ في وجوبه علي المسافر لاحتمال كون الحضر شرط الوجوب،فينفي بإطلاق الوجوب،فيكون الحضور واجبا كسائر شرائط صحّة الصوم،مثل غسل الجنابة في الليل و نحوه،فتأمّل.

الثالث:أن يكون دليل الوجوب لبّيا،و لم يكن له إطلاق لفظي،و تردّد بين كون الوجوب مطلقا أو مشروطا،فمرجعه إلي الشكّ في أصل الوجوب،و هو مجري

ص: 123

البراءة،و للشيخ رحمه اللّه تفصيل في التقريرات،فلاحظ.

الواجب النفسي و الغيري
اشارة

و منها:تقسيمه إلي النفسي و الغيري،و لا يخفي أنّه ليس لنا واجب غيري،لما تقدّم من أنّ المقدّمة ليست واجبة شرعا،نعم يمكن تقسيمه إلي النفسي و الضمني، فإنّ الوضوء يمكن أن يكون واجبا لنفسه،كما إذا نذر أن يتوضّأ،و يمكن أن يكون واجبا ضمنا كوجوبه للصلاة،و حينئذ إذا تردّد الواجب بين كونه واجبا نفسيّا أو واجبا ضمنيّا،فلا يخلو أن يكون وجوبه مدلولا لدليل لفظي له إطلاق أو لا يكون كذلك.

أمّا الأوّل و هو أن يكون لدليله إطلاق،كما إذا ورد بعد دخول الوقت توضّأ، و تردّد بين كونه واجبا لنفسه،أو واجبا في ضمن الصلاة،فلو ترك الصلاة و ترك الوضوء،عوقب عقابين إذا كان الوضوء واجبا لنفسه،و عوقب عقابا واحدا إن كان واجبا ضمنا،و حينئذ يتمسّك بإطلاق وجوب التوضّأ علي وجوبه مطلقا و إن لم يصلّ،و ذلك لأنّ الوضوء علي كلا التقديرين واجب،سواء قيل بأنّ الوضع في الهيئة عامّ و الموضوع له خاصّ،أو الوضع عامّ و الموضوع له عامّ.

و ليس التقييد راجعا إلي الطلب،بأن يكون الطلب مقيّدا،بأن قال:توضّأ إن صلّيت،حتّي يقال:إنّ الموضوع له أفراد الطلب،و لا يمكن تقييد الفرد بل الطلب غير مقيّد،و المطلوب و هو الوضوء مردّد بين كونه مطلوبا استقلالا أو مطلوبا مع غيره و هو الصلاة،و حيث انّ المولي في مقام البيان،فلا بدّ أن يذكر جميع ما هو مطلوبه،فلو كان مطلوبه الشيء مع غيره و لم يذكر كونه مطلوبا مع غيره،فقد أخلّ ببيان الواجب في وقت الحاجة،و المولي الحكيم لا يفعل ذلك،فمقتضي الاطلاق وجوب الاتيان بمتعلّق الأمر علي كلّ حال.

نعم لو كان الوجوب الضمني مشروطا،كما إذا قال قبل وقت دخول الصلاة:

ص: 124

توضّأ إن دخل وقت الصلاة،و تردّد بين أن يكون واجبا لنفسه أو واجبا للصلاة بعد دخول وقته،فإذا قلنا بأنّ تقييد الهيئة لا يمكن،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق.

و لا يخفي أنّه علي المختار من أنّ معني الهيئة معني الفعل و ليس معني حرفيا، و معني الفعل مطلق قابل للتقييد،فلا مجال لهذه الأبحاث.

و أمّا الثاني و هو أن لا يكون الوجوب مدلولا لدليل لفظي له إطلاق،بأن علم أنّ الوضوء إمّا واجب نفسا أو ضمنا،فله أقسام:

الأوّل:أن يدور الأمر بين الوجوب النفسي و بين الوجوب الضمني غير الفعلي، كما إذا علمت المرأة بوجوب الوضوء إذا زالت الشمس إمّا نفسا أو للصلاة، فحاضت قبل دخول الوقت،فإنّا بعد دخول الوقت نشكّ في الوجوب النفسي فقط؛ لانتفاء الوجوب الضمني بعدم وجوب الصلاة عليها،فتجري البراءة،كما في الكفاية (1)من أنّ التكليف بالغيري-الضمني عندنا-إن لم يكن فعليا يكون الشكّ بدويا.

الثاني أن يكون الوجوب الضمني فعليّا،كما إذا تردّد في أنّه نذر الوضوء أو نذر صلاة جعفر مثلا،فإنّه يعلم بوجوب الوضوء نفسا أو ضمنا،فهل يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الصلاة أو لا يجب؟احتمالان:

أحدهما:أنّه يجب الوضوء علي كلّ حال و يشكّ في وجوب الصلاة،و الأصل البراءة.

قال في المحاضرات:إنّ وجوب الوضوء معلوم تفصيلا،سواء كان نفسيّا أو غيريا،و لا مانع من الرجوع إلي أصالة البراءة عن وجوب الصلاة للشكّ فيه و عدم قيام حجّة عليه إلي آخر ما أفاده (2).0.

ص: 125


1- كفاية الاصول ص 138.
2- المحاضرات 2:390.

ثانيهما:وجوب الصلاة أيضا؛لأنّ وجوب الوضوء نفسا مغاير لوجوبه ضمنا، و العلم قد تعلّق بالخارج و قد نجزه،فيجب الخروج عن الاشتغال اليقيني؛لأنّ العلم قد تعلّق بوجوب الوضوء،أو بوجوبه مع الصلاة،فيدور الأمر بين وجوب الوضوء بشرط لا و بين وجوبه بشرط شيء،و هما متباينان.و لا يبعد قوّة هذا الوجه.

تذنيبات:
التذنيب الأوّل:أنّ المقدّمات التي ليست شرعيّة لا ثواب عليها و لا عقاب علي تركها

، فإن قصد بها وجه اللّه و الاتيان بها ليتمكّن من امتثال ذي المقدّمة اثيب عليها.

و أمّا المقدّمة الشرعيّة،فقد سبق أنّه ليس لنا مقدّمة شرعيّة،و مثل الوضوء و نحوه واجب كوجوب أجزاء الصلاة.

و قال في المحاضرات:إنّ فعل المقدّمة بقصد التوصّل بها إلي ذي المقدّمة يترتّب عليه ثواب الانقياد (1).

أقول:مجرّد قصد التوصّل و لو لأجل اللابدّية لا يجعل فعلها له تعالي،و لا يوجب ترتّب الثواب.

التذنيب الثاني:قال في الكفاية:إنّ الأمر الغيري توصّلي،فكيف صارت الطهارات

الثلاث عبادات؟

و أجاب بأنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة و عبادة (2).

أقول:الطهارات و ستر العورة و الاستقبال واجبات في الصلاة كوجوب الأجزاء،لكن ثبت اعتبار قصد التقرّب في الطهارات،و لا يعتبر في ستر العورة، و يتحقّق قصد التقرّب بفعل الطهارات للّه تعالي،أو قصد الأمر بالصلاة،أو قصد الأمر بالكون علي الطهارة الذي هو مطلوب شرعا.

ص: 126


1- المحاضرات 2:317.
2- كفاية الاصول ص 139.

ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة هو وجوب الوضوء علي من لم يكن علي وضوء إذا أراد أن يصلّي،و أمّا من كان علي وضوء،فيجب عليه أن لا ينقضه و يبقيه إلي آخر الصلاة،أو يتوضّأ إن أبطل وضوءه.

ثمّ إنّ الوضوء مستحبّ نفسي،فكيف يصير واجبا للصلاة؛فإنّه يستلزم اجتماع الضدّين؟

و اجيب (1)عنه بأنّ المرتفع حدّ الاستحباب لا ملاكه،فيصحّ قصد الاستحباب.

و هذا الكلام محلّ إشكال؛لأنّ لازم رفع حدّ الاستحباب هو ارتفاع الأمر الاستحبابي و بقاء ملاكه،فلا بدّ أن يقصد الملاك الاستحبابي لا الأمر الاستحبابي.

أقول:يمكن أن يقال:إنّ الوضوء مستحبّ نفسي،أو أنّ رفع الحدث أي الكون علي الطهارة مستحبّ نفسي،و الوجوب يتعلّق باتيان هذا المستحب،كأمر الوالد ابنه بصلاة الليل إذا وجب امتثاله،فإنّه يجب عليه أن يصلّي صلاة الليل بقصد أمرها الاستحبابي.

نعم إن كان علي وضوء،فالوجوب يتعلّق بإبقاء الوضوء من أوّل الصلاة إلي آخره،هذا علي المختار من استحباب الوضوء لرفع الحدث نفسا و وجوبه شرطا شرعا للصلاة،و الأولي أن يقال:إنّ الوضوء يجب للصلاة،كما يجب الركوع لها، فإذا أراد أن يصلّي يجب أن يتوضّأ للصلاة.نعم له أن يكتفي بالوضوء المستحبّ الذي توضّأ حيث لم يكن مريدا للصلاة.

و علي مختار القوم من استحبابه مقدّمة و وجوبه مقدّمة،فلا نعقل اتّصاف الوضوء في ضيق الوقت بالاستحباب بمعني جواز تركه،و بالوجوب بمعني عدم جواز تركه،بل و كذا في سعة الوقت،فلا بدّ من القول بعدم اتّصافه بالوجوب إن لم3.

ص: 127


1- المحاضرات 2:403.

يلحقه الصلاة،و باتّصافه بالوجوب فقط إن أرادها و بقاء ملاك الندب،و تفصيله في باب الوضوء.

التذنيب الثالث:ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي

قال في المحاضرات:اختلفوا في وجه ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي،فذهب معظم الفقهاء و المتكلّمين إلي أنّه بالاستحقاق،و ذهب جماعة منهم المفيد رحمه اللّه إلي أنّه بالتفضّل،و الصحيح أن يقال:إنّه لا يستحقّ علي المولي الثواب،كاستحقاق الأجير للاجرة علي المستأجر،و يستحقّه بمعني أنّه يصير بالامتثال أهلا لتفضّل المولي الثواب عليه،فقد أصبح النزاع لفظيا (1).

أقول:قيل:إنّ للعبد الاعتراض علي اللّه أنّه لماذا خلقه؟و جوابه أنّه تعالي خلقه ليكسب بعمله الجنان و لا يدخل النار،فالجنّة جزاء عمله،فهو يستحقّ استحقاق الأجير،و إلاّ كان اعتراضه علي أنّه لماذا خلقه؟في محلّه.و في الأخبار:العبادة علي ثلاثة أقسام،منها العبادة لدخول الجنان،و تلك عبادة الاجراء.

و لا يخفي أنّه لا يضرّ الجهل بهذا المطلب،فنحن مسلّمون لما هو الواقع.

الواجب الأصلي و التبعي

و منها:تقسيمه إلي الأصلي و التبعي،و ظاهر هذا التقسيم أنّ وجوب واجب إن لم يكن تابعا لواجب آخر فهو أصلي،و إن كان تابعا لواجب أصلي فهو تبعي،فإن اريد مقام جعل الحكم،بأن يكون جعل حكم بالأصالة،و جعل حكم بالتبع،فلا يحضرني مورد كذلك بل لا وجه له.و إن اريد في مقام الاثبات و الدلالة،فهو معقول.

و إن اريد من التبعي المقدّمة الواجبة،فهو معقول لو سلّم وجوبها،ولكن قال في الكفاية:إنّ المراد تبعيّة الارادة للارادة إذا لم يلتفت إلي التبعيّة تفصيلا،و إن التفت

ص: 128


1- المحاضرات 2:395.

يكون أصليا،و الواجب الغيري كالمقدّمة ينقسم إلي الأصلي و التبعي،لكن الواجب النفسي لا ينقسم،إلي آخر ما أفاده (1)،و لا ثمرة مهمّة.

ثمّ إنّه كان ينبغي تقديم هذا التقسيم علي التنبيهات،ولكن تعرّض له في الكفاية في هذا المقام و نحن اتّبعناه.

الأمر الرابع تبعية المقدّمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط
اشارة

قال في الكفاية (2):إنّ وجوب المقدّمة بناء علي الملازمة ليس مشروطا بإرادة ذي المقدّمة،و لا يعتبر في وقوعها علي صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بقصد التوصّل بها إلي ذي المقدّمة،و لا بترتّب ذي المقدّمة عليها،بحيث لو لم يترتّب عليها لكشف عن عدم وقوعها علي صفة الوجوب.

أمّا الأوّل،فلأنّ وجوب المقدّمة بناء علي الملازمة يتبع في الاطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدّمة،فكما أنّ وجوب ذي المقدّمة غير مشروط بإرادته،و إلاّ أدّي إلي إباحته،فكذلك وجوب المقدّمة.

و أمّا الثاني،فلأنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلاّ لأجل المقدّمية،و توقّف ذي المقدّمة عليها واقعا،سواء قصد التوصّل بها إلي ذيها أم لا،فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدّمة لإنقاذ غريق لا حراما،و إن لم يلتفت إلي التوقّف و المقدّمية،غاية الأمر يكون حينئذ متجرّيا.

و أمّا الثالث،فلأنّه لا يعتبر في الواجب أيّ واجب كان إلاّ ما له دخل في غرضه الداعي إلي ايجابه،و ليس الغرض من المقدّمة إلاّ التمكّن من فعل ذي المقدّمة، و هو يتحقّق بفعلها،سواء ترتّب عليها ذو المقدّمة أم لا.

أقول:أمّا ما ذكره أوّلا و ثانيا فلا بأس به،بناء علي وجوب المقدّمة،ولكن في

ص: 129


1- راجع:كفاية الاصول ص 135.
2- كفاية الاصول ص 142.

المثال المذكور و هو دخول الدار لإنقاذ الغريق صور:

الصورة الاولي:من لم يعلم بغريق في ملك الغير لا يكون مكلّفا بإنقاذه؛لعدم وصول وجوب الانقاذ إليه،و لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،فلا تكليف بواقع لم يصل إلي المكلّف،و حينئذ أي مع عدم العلم بوجود غريق في الدار إن دخل في ملك الغير كان حراما؛لأنّه دخل في ملك الغير بغير إذنه.نعم يجب عليه بعد العلم بالغريق أن ينقذه،نظير من دخل في ملك الغير بغير إذنه،و بعد دخوله وقع في الماء نفس محترمة،فإنّه يجب عليه إنقاذه.فتأمّل.

الصورة الثانية:من رأي غريقا في ملك الغير،فهو مكلّف بالانقاذ،فإن دخل في ملك الغير بقصد عدم الانقاذ فأنقذ،كان دخوله جائزا واقعا علي إشكال،و متجرّيا فيحرم بعنوان التجرّي بناء علي حرمة التجرّي.

الصورة الثالثة:من رأي غريقا في ملك غيره،و اعتقد أنّه يقدر علي إنقاذه، و دخل في ملك الغير و لم يقدر علي الانقاذ،فإن دخل بقصد التوصّل إلي الانقاذ كان معذورا،و إن دخل بدون قصد التوصّل إلي الانقاذ كان حراما.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قصد التوصّل يوجب رفع الحرمة عن المقدّمة في الصورة الثالثة و بعض الموارد.

ثمّ إنّه يمكن الانتصار للقول الأوّل المختار لصاحب المعالم بأنّه لا دليل علي أنّ وجوب المقدّمة تابعة لوجوب ذيها في الاشتراط و الاطلاق،فيمكن أن يكون ذو المقدّمة واجبا مطلقا،أي:سواء أراده أو لم يرده،و تكون المقدّمة واجبة عند إرادة ذي المقدّمة؛لأنّ الغرض منها التوصّل إلي الواجب،و عند عدم الارادة يكون ايجاب المقدّمة لغوا.

ثمّ إنّه قد تحقّق ممّا ذكرناه عدم وجوب المقدّمة،فلا مجال لهذه الأبحاث.و لو سلّم الوجوب،فالواجب الحصّة التي يترتّب عليها ذو المقدّمة؛لأنّ ايجاب غيرها

ص: 130

لغو،و هذا مختار صاحب الفصول،و صاحب الكفاية حكي استدلال صاحب الفصول علي وجوب ذي المقدّمة الموصلة و أجاب عنه.

و من جملة ما استدلّ به في الفصول أنّه قال:الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بأنّي اريد المقدّمة التي يترتّب عليها الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه.

و أورد عليه في الكفاية فقال:إنّه محلّ نظر؛لأنّه لو صرّح كذلك لزم أن لا يكون ترك الواجب عصيانا؛لأنّ ايجاب ذي المقدّمة يتوقّف علي جواز المقدّمة، و جوازها يتوقّف علي ترتّب ذي المقدّمة،فيكون ايجاب ذي المقدّمة موقوفا علي حصوله،و هو محال؛لأنّه تحصيل للحاصل،و مع عدم الترتّب لا تكون المقدّمة جائزة،فلا يقدر شرعا علي العصيان (1).

أقول:الظاهر أنّ الدخول في ملك الغير إن لم يترتّب عليه إنقاذ الغريق يكون حراما،فيصحّ أن يصرّح بأنّه يجوز الدخول إن أنقذت الغريق،و لا يجوز إن لم تنقذ،و حينئذ إن لم يكن قادرا علي الانقاذ لعمق الماء و نحوه،فليس مكلّفا بالانقاذ،و أمّا إن كان قادرا،فإنّه يجب عليه الدخول في ملك الغير و إنقاذ الغريق، و حينئذ إن دخل و لم ينقذ اختيارا فعل الحرام،و هو الدخول في ملك الغير و ترك واجبا و هو الانقاذ،فما ذكره في الفصول هو الصحيح.

ثمّ إنّ الثمرة بين القول بوجوب المقدّمة مطلقا،و القول بوجوب خصوص الموصلة منها،تظهر في صحّة العبادة المزاحمة لواجب أهمّ،فإنّها تقع فاسدة بناء علي وجوب المقدّمة مطلقا؛لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للازالة،فإذا كان واجبا مطلقا كان فعل الصلاة حراما،و الحرمة في العبادة توجب الفساد،و أمّا بناء علي القول بوجوب المقدّمة الموصلة،فلا تفسد العبادة؛لأنّ الواجب هو ترك الصلاة المترتّب0.

ص: 131


1- كفاية الاصول ص 150.

عليه فعل الازالة،و مع ترك الازالة لا يكون ترك الصلاة واجبا؛لأنّه ليس موصلا إلي فعل الازالة،و قد ارتضاه في الكفاية و غيره في غيرها.

أقول:سيأتي في بحث أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا،أنّه يرد علي دعوي مقدّمية ترك الصلاة للازالة،أوّلا:أنّ ترك الصلاة ليس مقدّمة للازالة.و ثانيا:أنّ مقدّمة الواجب ليست واجبة.و ثالثا:أنّ ترك الواجب ليس حراما،كما أنّ ترك الحرام ليس واجبا.و رابعا:أنّه لو سلّم الجميع فالوجوب إن كان غيريّا،فالنهي أيضا يكون غيريّا،و هو لا يوجب الفساد،فتأمّل.

تذنيبان:
التذنيب الأوّل:قال في الكفاية:البحث عن ملازمة ايجاب شيء لايجاب مقدّمته مسألة

اصوليّة

؛لأنّ نتيجتها تقع في طريق الاستنباط،فإذا قلنا بالملازمة بمعني أنّ العقل يدرك وجدانا أنّ ايجاب شيء و إن لم يكن مدلول دليل لفظي بل ثبت بإجماع يستلزم ايجاب مقدّمته،كما سيأتي في الاستدلال علي الوجوب،فتكون المسألة عقليّة اصوليّة،و نتيجتها وجوب المقدّمة شرعا،و هذه الملازمة غير اللابدّية العقليّة في مقام الامتثال كما هو واضح (1).

قلت:سبق في أوّل البحث احتمال كون المسألة فقهيّة.

التذنيب الثاني:ذكروا ثمرات للقول بوجوب المقدّمة شرعا:

احداها:في النذر،فإن نذر الاتيان بواجب،أي:بما صدق عليه الواجب،يبرّ نذره بالاتيان بالمقدّمة،كما يراه صاحب الكفاية.

ثانيتها:حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات كثيرة؛ لصدق الاصرار علي الحرام بذلك.

ص: 132


1- كفاية الاصول ص 153-154.

و أورد عليه في الكفاية بأنّه عند ترك احدي المقدّمات يتحقّق ترك ذي المقدّمة،و معه لا يجب سائر المقدّمات لعدم الحاجة إليها.

و فيه أنّه بناء علي الملازمة،أي:ترشّح إرادة المقدّمات من إرادة ذيها،قد تحقّق وجوب المقدّمات،و يكون ترك احداها تركا لجميعها.

و أورد عليه في المحاضرات (1)بعدم صدق الاصرار.

ثالثتها:عدم جواز أخذ الاجرة عليها.

و فيه أنّه لو كان لها نفع عائد إلي الغير،فليس وجوبها وجوبا مجّانيا،فيجوز أخذ الاجرة إن كان توصّليا،و يكون من الداعي للاتيان بالعمل قربيّا إن كان تعبّديا.

رابعتها:إن كان المقدّمة غير منحصرة في الحرام،كان الفرد المحرّم مجمعا للأمر و النهي.

تأسيس الأصل في المسألة:

إذا شكّ في ترشّح الارادة من ذي المقدّمة إلي المقدّمة،فالأصل عدم وجود إرادة المقدّمة؛لأنّ إرادة ذي المقدّمة حادثة مسبوقة بالعدم،كإرادة المقدّمة و قد علم حدوث إرادة ذي المقدّمة و يشكّ في حدوث إرادة المقدّمة،و الأصل عدمه.

و يجوز إجراء الأصل في عدم وجود الملازمة؛لأنّ وجود الملازمة موقوف علي تحقّق إرادة ذي المقدّمة،و قبلها لم تكن الملازمة موجودة خارجا،فإذا وجدت إرادة ذي المقدّمة يشكّ في وجود الملازمة،و الأصل عدمها.و في الكفاية (2)منع عن استصحاب عدم الملازمة،و أجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة،أي:عدم إرادتها،لكن لا يبعد جريانهما.

ص: 133


1- المحاضرات 2:429.
2- كفاية الاصول ص 156.
الأدلّة التي اقيمت علي وجوب المقدّمة و المناقشة فيها
اشارة

إذا تمهّدت الامور الأربعة و تبيّنت ثمرة المسألة،فقد استدلّ علي وجوب المقدّمة بامور:

الأوّل:أنّه لو لم تكن واجبة شرعا جاز تركها،و إذا تركها لم يتمكّن من فعل الواجب،فلا عصيان في تركه؛لأنّ تركه مستند إلي ترك المقدّمة،و تركها مستند إلي تجويز الشارع.

و فيه أنّ جواز تركها شرعا لا يستلزم جواز تركها عقلا من حيث توقّف امتثال الواجب عليها.

الثاني:الوجدان،و حيث انّه أقوي شاهد علي أنّ الانسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها،بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله و يقول مولويّا:ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا،إلي آخر ما أفاده في الكفاية (1).

و فيه أوّلا:أنّه ليس كلّ إرادة حكما مولويّا،بل الحكم المولوي هو الالزام المستبطن للعقاب علي تركه،و لا عقاب علي ترك المقدّمة.

و ثانيا:أنّ العقل مستقلّ في الحكم بالاطاعة و الامتثال،و الاتيان بالمقدّمة دخيل في الامتثال،و لا دخل للمولي فيه،فليس له أن يجعلها في قالب الطلب مولويا.

الثالث:وجود الأوامر الغيريّة في الشرعيّات و العرفيّات.

و فيه أنّ الأوامر الغيريّة في الشرعيّات مثل الطهارة و الستر و الاستقبال واجبات ضمنيّة كوجوب الأجزاء،و الأوامر الغيريّة في العرفيّات كلّها أوامر

ص: 134


1- كفاية الاصول ص 156-157.

إرشاديّة.

ثمّ لا يخفي أنّ مقتضي هذه الأدلّة هو ترشّح الارادة من ذي المقدّمة إلي المقدّمة التي يترتّب عليها ذوها،فلا بدّ من القول علي تقدير تسليم الملازمة بوجوب المقدّمة الموصلة،فإنّ من أراد شيئا لا يريد ما لا يوصل إليه تبعا لإرادة ذلك الشيء.

و أمّا التفصيل بين السبب و غيره،بوجوب المقدّمة السببيّة لعدم القدرة علي المسبّب،فالأمر به أمر بالسبب حقيقة،فلا وجه له،لأنّ القول بأنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسبب حقيقة يرجع إلي انكار المقدّمية،أي:كون وجوب السبب غيريّا،بل يكون وجوبه نفسيّا،و هو غير صحيح؛لأنّ التكليف من الوجوب أو الحرمة تابع للمصلحة و المفسدة،و هما موجودان في المسبّب،و هو مقدور بالقدرة علي سببه، فالأمر المتعلّق بالمسبّب هو الأمر المولوي.

و أمّا التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره بوجوب الشرط الشرعي وجوبا غيريّا،و عدم وجوب غيره،فقد استدلّ عليه بأنّه لو لا وجوبه شرعا لم يكن شرطا.

و أجاب عنه في الكفاية أوّلا:بأنّ الشرط الشرعي يرجع إلي العقلي؛لأنّ الأمر به إرشاد إلي الشرطيّة،و توقّف المشروط علي الشرط عقلي.

و ثانيا:أنّ الأمر الغيري يتعلّق بمقدّمة الواجب،فلو كان مقدّميته موقوفة علي تعلّق الأمر الغيري به لدار،فلا بدّ و أن يجعل الأمر به إرشادا إلي شرطيّته،ثمّ بعد ثبوت شرطيّته يتعلّق الأمر الغيري به،كغيره من الشرائط العقليّة (1).

أقول:الصحيح ما أجاب به إذا قلنا بأنّ الشرط الشرعي واجب غيري،لكن سبق أنّا نقول:إنّ الشرط الشرعي واجب ضمني كالجزء،بلا فرق بينهما في تعلّق9.

ص: 135


1- كفاية الاصول ص 159.

الأمر بهما،و علي هذا فإن قلنا بوجوب المقدّمة كان مختصّا بغير الشرط الشرعي.

تتمّة:

قال في الكفاية:لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب،فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة (1).

أقول:الاستحباب بمعني ترتّب الثواب علي فعله موقوف علي الاتيان بها للّه تعالي،و بدونه يكون مستحبّا توصّليا.

و قال في الكفاية:إنّ مقدّمة الحرام علي قسمين:

الأوّل:ما يتمكّن معه من ترك الحرام اختيارا،فلا يترشّح من طلب تركه طلب تركها،فلو فرض أنّه لم يكن لحرام مقدّمة يزول معها اختيار ترك الحرام لم يكن مقدّمته حراما،و حينئذ يمكن أن يكون فعل الحرام مستندا إلي مقدّمة غير اختياريّة،و هي لا تتّصف بالحرمة.

الثاني:أن لا يتمكّن معه من فعل الحرام اختيارا،و يترشّح من طلب ترك الحرام طلب تركها،فتكون هذه المقدّمة حراما غيريّا (2).

أقول:ما ذكره من الترشّح مبنيّ علي تسليم ذلك في مقدّمة الواجب،لكن سبق منعه.

فصل في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟فيه أقوال،ثالثها:التفصيل بين الضدّ العامّ و هو ترك المأمور به،و الضدّ الخاصّ و هو كلّ فعل وجودي مضادّ له، فيقتضي الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العامّ دون الضدّ الخاصّ.

ص: 136


1- كفاية الاصول ص 159.
2- كفاية الاصول ص 159-160.

التحقيق أنّه لا يقتضي النهي عن الضدّ مطلقا،كما أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه،و ذلك لأنّ الايجاب تابع لوجود المصلحة في المتعلّق،و النهي تابع لوجود المفسدة في المتعلّق،و لا ينحلّ الحكم الواحد إلي حكمين،فالصلاة واجبة،و ترك الصلاة ليس بحرام،و الخمر حرام شربه،و ليس ترك الشرب واجبا.

نعم ربّما يكون في الفعل مصلحة و في الترك مفسدة،فلا بدّ من ايجاب الفعل و تحريم الترك استقلالا،كصلة الوالدين فإنّ فعلها واجب و تركها عقوق حرام، و ليس ذلك من اقتضاء الايجاب حرمة الترك،أو النهي وجوب الفعل.

ثمّ إنّه يستدلّ لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ بوجوه،بعضها مختصّ بالضدّ الخاصّ،و بعضها بالضدّ العامّ،و ما يمكن أن يستدلّ به عليه وجوه:

الأوّل:أنّ الأمر بما يجب فعله فورا يقتضي وجوب مقدّمته،و ترك ضدّ المأمور به مقدّمة لفعله،بداهة توقّف إزالة النجاسة عن المسجد فورا علي ترك الصلاة،فإذا وجب ترك الصلاة حرم فعلها؛لأنّ ما يكون تركه مطلوبا يكون فعله مبغوضا، و حرمة الصلاة توجب فسادها؛لأنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها.

و قد أفتي العلاّمة بالبطلان قال في القواعد:و يجب علي المديون السعي في قضاء الدين،إلي أن قال:و لا تصحّ صلاته في أوّل وقتها،و لا شيء من الواجبات المتأتّية في أوّل أوقاتها قبل القضاء مع المطالبة،و كذا غير الدين من الحقوق كالزكاة و الخمس.قال في مفتاح الكرامة بعد العبارة المذكورة:كما صرّح بذلك في السرائر و المختلف و التذكرة و مجمع الفائدة (1).

و فيه أوّلا:أنّ ترك أحد الفعلين الضدّين ليس مقدّمة لفعل الآخر؛لأنّ الفعل الاختياري هو الفعل المسبوق بالارادة،و إذا تحقّقت إرادة الازالة لم يوجد إرادة3.

ص: 137


1- مفتاح الكرامة 5:10،و راجع:السرائر 2:303.

الصلاة،من غير فرق بين كون الفعل الاختياري موجودا أو لا،فإذا تحقّقت إرادة القيام مثلا زالت إرادة الجلوس بقاء،فلا يتوقّف فعل أحد الضدّين علي ترك الفعل الاختياري المضادّ له،سواء كان الفعل الاختياري موجودا أو لم يكن موجودا، فلا موقع لتفصيل المحقّق الخوانساري بين الضدّ الموجود و غيره.

و ثانيا:أنّ مقدّمة الواجب ليست واجبة،كما تقدّم.

و ثالثا:أنّ القائل بوجوب المقدّمة إنّما يقول به لاستلزام إرادة ذي المقدّمة إرادة مقدّمته،كما تقدّم،و واضح أنّ إرادة ذي المقدّمة إنّما تستلزم إرادة المقدّمة التي يترتّب عليها ذوها لا مطلق المقدّمة و إن لم يترتّب عليها،و فيما نحن فيه يكون المطلوب ترك الصلاة الذي معه إزالة النجاسة،فإذا لم يزل النجاسة عن المسجد،فليس ترك الصلاة حينئذ مطلوبا.

و رابعا:أنّ وجوب ترك الصلاة وجوب غيري لا لمصلحة فيه،و لازمه أنّ النهي عن الصلاة نهي غيري لا لمفسدة و مبغوضيّة في الصلاة،فالنهي و إن كان مولويّا لكن النهي المولوي الغيري عن العبادة لم يثبت اقتضاؤه بطلانها،فتأمّل.

الوجه الثاني:أنّ فعل الازالة ملازم لترك الصلاة،و المتلازمان متّحدان في الحكم،فإذا كانت الازالة واجبة،فيكون ترك الصلاة واجبا.

و فيه:أنّه لا يمكن اختلاف حكم المتلازمين بأن يكون أحدهما واجبا و الآخر حراما،و أمّا اتّحادهما في الحكم فلا وجه له،فإذا كان فعل الازالة واجبا لم يكن ترك الصلاة محكوما بالحرمة،و أمّا أنّه محكوم بالوجوب فلا وجه له.

الوجه الثالث:انّ الايجاب هو طلب الفعل مع المنع عن الترك،فكلّ ايجاب و إن كان لدليل لبّي من اجماع و نحوه عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن تركه.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا يكون الوجوب إلاّ طلبا بسيطا و مرتبة وحيدة

ص: 138

أكيدة من الطلب لا مركّبا من طلبين (1)انتهي،و هو متين.

و أقول:بل لو كان الوجوب طلب الفعل مع المنع عن تركه،كان الترك حراما لا الضدّ الخاصّ أي الصلاة،فإنّه ملازم للترك و ليس عين الترك.

الرابع:أنّه لا يجوز الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد فورا،أو بأداء الدين المطالب به مع الأمر بالصلاة في زمان واحد؛لعدم قدرة المكلّف علي فعلهما في زمان واحد،و كذلك كلّما دار الأمر بين الأهمّ و المهمّ لم يجز الأمر بهما في زمان واحد لعدم القدرة عليهما،و حيث انّ الأمر بالازالة فوريّ،و كذلك الأمر بالأهمّ متعيّن عند المزاحمة مع المهمّ،فيتعيّن الأمر بالازالة و الأمر بالأهمّ،فلا أمر بالصلاة و لا بالمهمّ،فتبطل العبادة لتوقّفها علي الأمر بها،فإذا وجبت إزالة النجاسة عن المسجد لم تصحّ الصلاة إن ترك الازالة لعدم الأمر بالصلاة.

و اجيب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل:أنّ عدم الأمر بالمهمّ:إمّا لفقد جزء أو شرط أو وجود مانع،و إمّا لأنّ المكلّف لا يقدر علي امتثال الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ،فينتفي الأمر بالمهمّ و يبقي ملاكه،و حيث إنّ الصلاة واجدة لأجزائها و شرائطها و فاقدة لموانعها؛لأنّه ليس من شرائطها عدم اشتغال ذمّة المكلّف بواجب،كما يشترط في الصوم المندوب أن لا يكون علي المكلّف صوم واجب،و إنّما ارتفع مجرّد الأمر بها، فيصحّ التقرّب بمحبوبيّتها الذاتيّة للّه تعالي.

الوجه الثاني:ثبوت الأمر بالمهمّ و يسمّي بالترتّب،و لهم في ذلك تقريرات ثلاثة:

الأوّل:أنّ عدم الأمر بالمهمّ إنّما يكون لأجل عدم القدرة علي امتثاله و علي5.

ص: 139


1- كفاية الاصول ص 165.

امتثال الأهمّ،فإذا فرض وجود القدرة علي امتثال المهمّ،بقي الأمر به علي حاله، و المكلّف لا يقدر علي فعل المهمّ و فعل الأهمّ لو كان وجوب المهمّ مطلقا غير مقيّد بعصيان الأهمّ،و أمّا إذا عصي الأمر بالأهمّ،فيكون قادرا علي المهمّ،فيقيّد الأمر بالمهمّ بعصيان الأمر بالأهمّ في ظرفه علي نحو الشرط المتأخّر،أي:افعل المهمّ إن تحقّق منك عصيان الأهمّ بعد ذلك،أو يقيّد الأمر بالمهمّ بالعزم علي العصيان علي نحو الشرط المتقدّم أو المقارن،أي:إن عزمت علي عصيان الأهمّ فافعل المهمّ.

الثاني:ما ذكر في التقرير الأوّل مع جعل الشرط نفس عصيان الأهمّ علي نحو الشرط المقارن،أي:افعل الأهمّ فإن عصيت فافعل المهمّ.و لا بدّ من أن يعلم أنّه يعصي الأهمّ و يكون عازما علي تركه،و الفرق بين التقريرين أنّ العزم يكون شرطا علي الأوّل،بخلافه علي هذا التقرير،فإنّ نفس العصيان يكون شرطا، و العزم طريق إلي العلم بتحقّق عصيان الأهمّ.

و اورد علي هذين التقريرين بأنّ الأمر بالأهمّ يكون فعليّا في زمان الأمر بالمهمّ؛لأنّ زمان الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ و عصيان الأهمّ واحد،فيلزم طلب الأهمّ و طلب فعل المهمّ في زمان واحد،فيكون المطلوب من المكلّف الجمع بين فعل الأهمّ و فعل المهمّ،و هو غير قادر عليه.

و اجيب عن هذا الايراد بأنّ القبيح طلب الفعلين جمعا؛لأنّه غير قادر عليه، ولكن مرجع الاشتراط المذكور إلي طلب الفعلين لا جمعا،و هو ليس بقبيح.

و قد مثّل السيّد الاستاذ الشيرازي (1)قدّس اللّه روحه بهذا المثال،و هو انّ الوالد إن أمر ابنه بالتزوّج بزينب مثلا تعيينا،و أمره بالتزوّج باختها تعيينا في زمان واحد،فقد أمر بالجمع بين الاختين،و لا يجور إطاعته،فإنّه لا طاعة لمخلوق فيه.

ص: 140


1- هو العلاّمة الفقيه الورع السيّد عبد الهادي الشيرازي رحمه اللّه.

معصية الخالق.و أمّا لو أمره بالتزوّج بزينب تعيينا،فإن عصي و لم يمتثل أمره و لم يتزوّج بها،فأمره بالتزوّج باختها في زمان واحد،كان آمرا بالتزوّج بالاختين في زمان واحد لا جمعا،و هو جائز و يجب إطاعته؛لأنّه ليس آمرا بالمعصية.و لهم تقريبات في بيان ذلك لعلّ مرجع الجميع إلي ما ذكرناه.

و قرّبه في نهاية الدراية بأنّ الأمر لمتعلّقه كالمقتضي لمقتضاه،و لا تنافي بين المقتضيات إلاّ في التأثير،فإذا كان المقتضيات في عرض بأن كان الغرض منهما فعلية المقتضي عند انقياد المكلّف حصل التنافي،و إذا كانا مترتّبين،بأن كان أحدهما لا اقتضاء له إلاّ مع عدم تأثير الآخر فلا مانع منه (1).

أقول:في جميع هذه الوجوه نظر؛لأنّهم إن التزموا بتعدّد العقاب،فهو غير صحيح و سنتعرّض له.

الثالث:تصحيح الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ عرضا من دون ترتّب الأمر بالمهمّ علي عصيان الأهمّ بتمهيد مقدّمات نذكر الثلاث منها الدخيلة في استنتاج ذلك، و هي:

المقدّمة الخامسة:كلّ حكم قانوني فهو خطاب واحد لا تكثّر في ناحية الخطاب،بل الكثرة في ناحية المتعلّق،و ما اشتهر من انحلال الخطاب الواحد إلي الخطابات حسب عدد المكلّفين غير تامّ،كما أنّ الإخبار لا ينحلّ،فلو قال قائل:

النار باردة لم يكذب بعدد أفراد النار.

ثمّ انّ الميزان في صحّة الخطاب الكلّي إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كلّ واحد منهم،لبطلان القول بالانحلال،و يبتني علي الانحلال عدم منجّزية العلم الاجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.ة.

ص: 141


1- نهاية الدراية 1:243 الطبعة الحجرية.

و أمّا علي ما ذكرنا فيصحّ الخطاب لعامّة المكلّفين لو وجد ملاك الخطاب، أعني:الابتلاء في عدّة منهم كما في المقام.

و أيضا يبتني علي الانحلال عدم صحّة خطاب العاجز و العاصي و الكافر،و أمّا علي ما ذكرنا فيصحّ الخطاب الكلّي للناس إذا كان فيهم من ينبعث عنه.

أقول:قال اللّه تعالي: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (1)المستفاد منه و من غيره أنّ كلّ إنسان ملزم بتكليفه،فكلّ واحد مكلّف علي حدة سمّي الخطاب منحلاّ أو غير منحلّ،و الأمر واضح.و أمّا قولنا النار باردة،فالحكم علي الجنس بخلاف ما لو قلنا كلّ نار باردة.

قال:المقدّمة السادسة:انّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعا و لا عقلا،و إن كان حكم العقل بالاطاعة و العصيان في صورة القدرة،و لا يتصرّف العقل في إرادة المولي و جعله.

أقول:عدم صحّة تكليف العاجز من البديهيّات الأوّلية لا حاجة فيه إلي حكم العقل.

قال:المقدّمة السابعة:انّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن،و الذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الاتيان،و هو غير متعلّق للتكليف،ثمّ انّ متعلّقي التكليفين إن كانا متساويين في الجهة و المصلحة،فالعقل يحكم بأنّه إن اشتغل بأحدهما فهو في مخالفة الآخر معذور،و أمّا إذا لم يصرف قدرته في شيء منهما،فقد ترك دعوة كلّ واحد بلا عذر،فيستحقّ عقابين.و إن كان أحدهما أهمّ و أتي به،فهو معذور في ترك المهمّ،و إن اشتغل بالمهمّ فيثاب عليه و يعاقب علي ترك الأهمّ،و لو تركهما لاستحقّ عقوبتين،فلاحظ.5.

ص: 142


1- سورة المائدة:105.

أقول:كون إنسان مكلّفا بإلزامين في زمان واحد بأيّ نحو كان إذا لم يتمكّن من فعلهما قبيح بداهة،إذا كان كلّ إلزام مستبطنا للعقاب علي مخالفته،و لا بدّ من علاج تعدّد العقاب،و كيف يصحّ عقابه علي ترك الأهمّ كما إذا كان وحده،و عقابه علي ترك المهمّ كما إذا كان وحده،و هل هو إلاّ تكليف بما لا يطاق و ظلم العباد؟

و من الغريب التزام القائلين بوجود أمرين مترتّبا أو غير مترتّب بعقابين،حتّي انّه جاء في وقاية الأذهان بعد ما حكي عن كفاية الاصول أنّه قال:كان السيّد الاستاذ لا يلتزم بتعدّد العقاب علي ما هو ببالي.قال:إذا كان علي شكّ منه فنحن قاطعون ببراءة عالم مثله عن مثله،بل لا بدّ للقائل بالترتّب من الالتزام بعقوبات متعدّدة إذا ترتّب أوامر كذلك إلي آخر كلامه (1).

و التحقيق أن يقال:إنّ الفعلين اللذين لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما،إمّا متساويان ملاكا،أو أحدهما أهمّ من الآخر.أمّا في المتساويين ملاكا فيحكم العقل بالتخيير الواقعي بينهما،و كلّ ما حكم به العقل في مرحلة جعل الحكم، بحيث أحرز الملاك و عدم المنع عن الحكم علي طبقه،حكم به الشرع،فإذا تركهما عوقب عقابا واحدا،و أمّا الأهمّ و المهمّ فبمقدار مساواة مصلحة المهمّ للأهمّ يتخيّر المكلّف بين المهمّ و الأهمّ،و لا وجه لتعيين المهمّ أو الأهمّ،و بمقدار الزائد علي مصلحة المهمّ يتعيّن الأهمّ،فإذا فعل المهمّ عوقب علي الزائد من الملاك المتروك من الأهمّ،و إذا تركهما عوقب بمقدار ترك الأهمّ فقط،و ذكرنا تفصيل المسألة في رسالة مستقلّة مطبوعة.

و حاصله:أنّ المنكر للترتّب كالمحقّق الخراساني رحمه اللّه إن كان يقول بأنّ الأمر متعلّق بالأهمّ فقط و لا أمر بالمهمّ،فلا يجب علي المكلّف إن ترك الأهمّ أن يأتي4.

ص: 143


1- وقاية الأذهان ص 314.

بالمهمّ،حيث قال:إنّ ما يقع من الأمر بالمهمّ إرشاد إلي أنّ الاتيان به يوجب استحقاقه المثوبة،فيذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة علي مخالفة الأمر بالأهمّ،لا أنّه أمر مولوي فعلي كالأمر به (1)إلي آخر كلامه.فلازمه جواز ترك المهمّ.

لكنّا نقول:إنّ الأمر المولوي متعلّق بالمهمّ،و القائل بالترتّب إن كان يقول بتعدّد العقاب فهو غير معقول،و نحن نقول بوحدة العقاب و تعلّق الأمر المولوي بالمهمّ علي النحو الذي ذكرناه.

و ملخّص ذلك:أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل؛لأنّ الشرع لا يحكم بشيء إلاّ لمصلحة ملزمة،و كلّ ما علم الملاك الملزم و علم عدم المانع من الحكم علي طبقه،يحكم به العقل و يستكشف به حكم الشرع،نعم لو احرز الملاك و لم يعلم عدم المانع لكن علم عدم المنع شرعا،ألزم العقل به و لا يستكشف به حكم الشرع.

و ينبغي بيان امور:

الأمر الأوّل:أنّ اشتراط القدرة البدنية علي امتثال التكليف،و التمكّن من الوصول إلي التكليف بتعلّمه في تكاليف الموالي عبيدهم،من البديهيات يعرفه كلّ ملتفت،فلا تصحّ عقوبة غير القادر،و لا الجاهل غير المتمكّن من رفع جهله،و ليس من الأحكام العقلية النظرية،و لو قال المولي:إنّي لا اكلّف العبد ما لا يقدر عليه، لعدّ من ذكر الواضحات التي لا فائدة فيها.

و أمّا قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2)فلعلّ المراد بالوسع هو التمكّن من الفعل في راحة بلا حرج،لا القدرة البدنيّة التي لا يمكن صدور الفعل6.

ص: 144


1- كفاية الاصول ص 168.
2- سورة البقرة:286.

بدونها.

فما في المحاضرات من أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور و غيره (1)الخ.لا يمكن المساعدة عليه.

و من ذلك يظهر أنّه لا يصحّ التكليف بالأهمّ و المهمّ إذا كانا في وقت واحد،كما إذا غرق مؤمنان حفظ أحدهما أهمّ،فلا يصحّ أن يقول له:انقذ الأهمّ،و إن لم تصرف قدرتك إلي إنقاذه فانقذ المهمّ،فإنّه يرجع إلي قول:اصرف قدرة واحدة في انقاذ الأهمّ و المهمّ و إلاّ عاقبتك عقوبتين.و محلّ الكلام في بحث الأمر بالضدّين هو توجّه إلزامين إلي مكلّف عاجز عن فعلهما،له قدرة واحدة لا بدّ له من صرفها في امتثال تكليفين في عرض واحد،و هل يمكن تصحيحه بوجه أم لا؟ و الأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل:توجّهما إليه علي نحو الاشتراط من الجانبين إن كانا متساويين، كمؤمنين متساويين اشرفا علي الغرق،فيجب إنقاذ كلّ واحد إن ترك إنقاذ الآخر، فإذا ترك إنقاذهما حصل شرط كليهما فيعاقب عقابين،أو الاشتراط من جانب واحد إن كان أحدهما أهمّ،و اشتهر التعبير عنه بالترتّب.

الثاني:القول بعدم توجّه تكليفين إلي شخص واحد،بل يتعلّق التكليف بالكلّي.

الثالث:المختار و هو توجّه أمرين بالأهمّ و المهمّ تخييرا في المقدار من المصلحة الموجودة فيهما،و تعيّن الأمر بالأهمّ في المقدار الزائد الذي يختصّ به الأهمّ،و لازمه أن يكون العقاب عقابا واحدا إن تركهما،هذا كلّه في إلزامين لفعلين علي من ليس له إلاّ قدرة واحدة علي فعل أحدهما.

الأمر الثاني:إذا كان إلزامان لفعلين لم يستلزما إعمال قدرة واحدة فيهما،7.

ص: 145


1- المحاضرات 3:67.

فليس بمستحيل و خارج عن الترتّب.

فإذا كان إلزام واحد فقط و المكلّف عصي بحيث سقط الأمر بعصيانه ثمّ أمره بفعل آخر،فلا بأس به،و إن كان بحيث لو امتثل الأمر الأوّل لم يبق له قدرة علي امتثال الأمر الثاني و لم يتوجّه إليه،و ليس هذا من الترتّب،مثلا من كان يقدر علي صوم خمسة عشر يوما فقط من شهر رمضان،يجب عليه أن يصوم اليوم الأوّل، فإن أفطر فقد أفطر متعمّدا،و عليه القضاء و الكفّارة،ثمّ يتوجّه إليه الأمر بصوم اليوم الثاني،و هكذا إلي آخر الشهر،و ليس ذلك من الترتّب،مع أنّه يعاقب علي ترك صوم ثلاثين يوما (1)،و ذلك لأنّه لم يستلزم استعمال قدرة واحدة في صومين في عرض واحد.

و قد ذكروا أمثلة عرفيّة و شرعيّة علي وقوع الترتّب،و هذه الأمثلة ليست من الترتّب،أو أنّ العرف يساعد علي قلّة عقاب فاعل المهمّ،و نذكر بعضها:

منها:ما في المحاضرات،و هو ما (2)إذا وجبت الاقامة علي المسافر في بلد، فإذا قصد الاقامة عشرة أيّام وجب عليه الصوم و الصلاة تماما،و إن عصي و لم يقصد الاقامة عشرا حرم عليه الصوم و وجب الصلاة قصرا،فيقال له:يجب عليك الاقامة و الصلاة تماما و الصوم،و إن عصيت حرم عليك الصوم (3).

أقول:يعني بذلك أنّه يقال له:أقم و صم و أتمّ الصلاة،و إن عصيت يحرم عليك الصوم و يجب عليك الصلاة قصرا.

و فيه نظر؛لأنّ حرمة الصوم و وجوب القصر موضوعهما المسافر،عصي في ترك قصد الاقامة عشرا أو لم يعص،فالمسافر يجب عليه الافطار،و المسافر3.

ص: 146


1- سيأتي في بعض التنبيهات توضيح ذلك.
2- المثال المذكور جاء في فوائد الاصول 1:213 الطبعة الاولي.
3- المحاضرات 3:103.

المقيم يجب عليه الصوم و إتمام الصلاة،و هو مكلّف بايجاد موضوع المسافر المقيم،لكنّه يعصي و لا يحقّق موضوعه،و ليس ذلك من توجّه تكليفين إليه في زمان واحد لا يقدر علي امتثالهما.

و منها:ما إذا حرم عليه الاقامة في مكان مخصوص فأقام،فإنّه يقال له:لا تقم في هذا المكان و سافر و قصّر و أفطر،فإن أقمت فصلّ تماما و صم.

و فيه نظر؛لأنّ موضوع التمام هو المقيم،سواء كان الاقامة واجبة أو حراما أو جائزة،فإذا عصي و أقام صار موضوعا للتكليف بالتمام.

و منها:ما في وقاية الأذهان،قال:لو كان لرجل في فلاة من الماء ما يكفيه للوضوء،فعصي و لم يتوضّأ حتّي انقضي الوقت،ثمّ صادف مسلما بلغ به العطش حدّ الهلاك،فهل في أهل الشرع من يتوقّف في وجوب حفظ نفسه،و في صحّة الأمر به و جواز العقاب علي تركه الي آخر كلامه (1).و غيره من الأمثلة المذكورة فإنّها ليست من الترتّب.

الأمر الثالث:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ محلّ الكلام في ثبوت الأمر الترتّبي إنّما هو فيما إذا كان إلزامان بشيئين تامّين ملاكا من جميع الجهات،إلاّ انّ المكلّف لا يتمكّن من امتثالهما؛لعدم القدرة علي فعلهما في زمان واحد،فإن كان أحدهما أهمّ،فالأمر به إمّا يقتضي النهي عن المهمّ،أو لا يقتضي النهي عنه،بل يوجب رفع الأمر به،كما يقوله المنكر للترتّب،أو لا يوجب رفع الأمر به،بل يبقي الأمر علي نحو الترتّب.

و علي كلّ حال فالمهمّ تامّ الملاك و عدم الأمر به لا لبطلان العمل بل لوجود المانع،و هو الأمر بالأهمّ،فلو كان صحّة المهمّ مشروطة بعدم وجوب الأهمّ عليه،5.

ص: 147


1- وقاية الأذهان ص 314-315.

لم يكن مورد الترتّب،و إلاّ فهو مورد للترتّب،سواء كانت القدرة المعتبرة فيهما- أي:في الأهمّ و المهمّ-عقلية،أو شرعية أي قدرة خاصّة كالزاد و الراحلة و تخلية السرب في وجوب الحجّ،أو مختلفة،مثلا القدرة المأخوذة في الحجّ هي الزاد و الراحلة و تخلية السرب،فإذا زاحمه واجب آخر،كأن نذر قبل أن يستطيع أن يكون يوم عرفة في كربلاء،ثمّ تمكّن من الزاد و الراحلة و تخلية السرب،فحينئذ يجب عليه الوفاء بالنذر،و يجب عليه الحجّ لتحقّق ملاكهما،فإن قلنا إنّ النذر أهمّ وجب فعله،فإن تركه وجب الحجّ،و إن قلنا بالعكس فبالعكس.

و أمّا لو كان وجوب المهمّ مشروطا بعدم وجوب الأهمّ عليه،بحيث لم يكن للمهمّ ملاك عند وجوب الأهمّ،فلا يكون محلّ الترتّب.

و لتوضيحه نمثّل مثالا،و هو أنّ الشرط في صحّة الصوم المندوب أن لا يكون عليه صوم القضاء،فلا يصحّ أن يقال له:لا تصم الصوم المندوب و عليك قضاء الصوم،فإن لم تقض و عصيت فصم ندبا،و ذلك لأنّه لا يصحّ الصوم إن كان عليه قضاء الصوم.

و بما ذكرنا ظهر بعض المناقشات في بعض الكلمات:

منها:ما في المحاضرات و هو أنّ الأمر إذا سقط فلا طريق إلي إحراز الملاك؛ لاحتمال كونه لعدم المقتضي لا لوجود المانع (1).

أقول:هذا خلف؛لأنّ المفروض أنّ المهمّ صحيح من جميع الجهات،و ليس من شرائط صحّته عدم وجوب واجب آخر،فلا يكون سقوط الأمر حينئذ إلاّ للمانع و هو الأمر بالأهمّ،مع أنّه لو احتمل ذلك،أي:اشتراط المهمّ بعدم اشتغال ذمّة المكلّف بواجب آخر،فلا يصحّ أن يقال:افعل الأهمّ و إن عصيت فافعل المهمّ؛لأنّه0.

ص: 148


1- المحاضرات 3:70.

إذا كان مشروطا بعدم وجوب الأهمّ لم يصحّ مع وجوبه،فلا يتعلّق به الأمر لا مترتّبا و لا غير مترتّب.

و بعبارة اخري:لو كان التقييد بعصيان الأهمّ مذكورا في دليل المهمّ،صحّ ما ذكره من كشف الملاك،لكن هذا التقييد عقلي،و إلاّ فالدليل قوله«أزل النجاسة عن المسجد»و قوله«صلّ».

و منها:ما فيها أيضا من أنّ القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين علي نحو الترتّب لا يتوقّف علي إحراز الملاك في الواجب المهمّ،و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواجب المهمّ مشروطا بالقدرة عقلا،أو مشروطا بها شرعا إلي آخر الكلام (1).

أقول:قد تقدّم آنفا أنّه يعتبر في القول بالترتّب إحراز الملاك في الواجب المهمّ.

و أمّا ما ذكره من عدم الفرق بين كون الواجب المهمّ مشروطا بالقدرة عقلا أو شرعا،ففيه أنّ المراد بالقدرة الشرعيّة إن كان القدرة البدنيّة المأخوذة في الدليل، فهي ترجع إلي القدرة العقليّة.و إن كان المراد القدرة الخاصّة،كالزاد و الراحلة و تخلية السرب،أو عدم وجوب واجب آخر،فالأوّل يجري فيه الترتّب،و الثاني لا يجري كما تقدّم.

الأمر الرابع:قال في وقاية الأذهان:قال في كشف الغطاء:و أيّ مانع يمنع المولي الحكيم أن يقول لعبده:لا تدخل الدار و إن دخلت فاقعد في الزاوية الفلانية (2).

أقول:إن قال المولي لا تكن في الدار،فإن عصيت فكن في الزاوية الفلانية، و لم يكن مراده أنّ حرمة الكون في غير الزاوية الفلانية أشدّ منها في الزاوية الفلانية،بل انّ حرمة الكون في جميع مواضع الدار علي السواء،لكن يجب الكون7.

ص: 149


1- المحاضرات 3:98.
2- وقاية الأذهان ص 317.

في الزاوية الفلانية،فهذا القول غير صحيح.

و إن قال:لا تدخل الدار،فإن عصيت و دخلت الدار وجب عليك القعود في الزاوية الفلانية،أو وجب عليك أن تقرأ القرآن،أو وجب عليك أن تأتي بالعقد الثمين الموجود في الدار،فلا مانع من ذلك؛لأنّ دخول الدار موضوع لحكم آخر قد أوجده المكلّف باختياره.و ليس ذلك من الترتّب،بل انّ عصيان الأوّل يوجب وجود موضوع للحكم الثاني.

و منه يظهر أنّ المنكر للترتّب ليس منكرا لهذا،و من هذا القبيل ما إذا انحصر الماء المباح في الظرف المغصوب،فإنّه يجب علي المكلّف التيمّم؛لحرمة التصرّف في هذا الماء،و لو توضّأ فيه بالارتماس أو بالصبّ من الاناء علي مواضع الوضوء بطل علي إشكال في الأخير.و أمّا ان اغترف غرفة و توضّأ،ففي صحّة الوضوء قولان،الأوّل:البطلان اختاره في متن العروة.الثاني:الصحّة،قيل:للترتّب،أي يقال له:لا تغصب فإن عصيت فتوضّأ.

أقول:ليس ذلك من الترتّب المصطلح،فإنّه يحرم عليه الغصب و يجب عليه التيمّم،لكن إذا كان بحيث يأخذ الماء من الاناء غرفة غرفة و إن لم يكن مأمورا بالأخذ،فهو متمكّن من استعمال الماء تدريجا،نظير ما إذا جاء المطر و لم يكن له إناء يجمع الماء فيه،فإنّه يجب عليه أن يأخذ من المطر بقدر غرفة و يغسل وجهه، ثمّ يأخذ و يغسل يده.و من هذا القبيل استيجار الجنب الذي يكون في المسجد لكنسه.

كما لا ينبغي أن يعدّ من باب الترتّب ما لو قال له:لا تأكل الرمّان،فإن عصيت فلا تشرب الماء؛لأنّه يرجع إلي أنّ من أكل الرمّان فلا يشرب الماء.و كذا ما لو قال:كل الرمّان،فإن عصيت و لم تأكله فلا تأكل الحلوي مثلا.

الأمر الخامس:تعرّض بعضهم هنا للفرق بين التعارض و التزاحم.

ص: 150

أقول:الفرق بينهما أنّ الحكم الواقعي في مورد التعارض حكم واحد معيّن تعارض الأدلّة في إثباته؛لأنّ العمل الذي دلّ أحد الخبرين علي وجوبه و الآخر علي عدم وجوبه مثلا:إمّا أن يكون مشتملا علي المصلحة الملزمة واقعا فهو واجب،أو مفسدة ملزمة فهو حرام،أو علي كلتيهما مع غلبة احداهما فالحكم تابع للغالب منهما،أو مع تساويهما فالحكم الاباحة،و علي كلّ حال فهو حكم واحد تعارض في إثباته خبران.

و أمّا التزاحم،فهو حكم الشارع تخييرا فقط في المتساويين ملاكا،أو تخييرا و تعيينا في الأهمّ و المهمّ.

ثمّ إنّ مرجّحات التعارض موكولة إلي باب التعادل و التراجيح.و أمّا مرجّحات باب التزاحم،فالظاهر انحصارها في ترجيح الأهمّ علي المهمّ.

الأمر السادس:في مرجّحات باب التزاحم ذكروا امورا:

الأوّل:أن يكون أحدهما أهمّ،سواء كان سابقا علي المهمّ أو مقارنا أو متأخّرا، كما إذا علم العبد أنّ أخ المولي يغرق و بعده يغرق ابنه،و هو لا يقدر علي إنقاذهما، فإنّه يجب عليه أن يؤخّر الانقاذ،و هل يجري فيه الترتّب؟قيل:لا لعدم الخطاب بالأهمّ،و الظاهر جريانه إن علم ذلك،فإنّ الشرط للأمر بالمهمّ إنّما هو القدرة عليه،سواء كانت حاصلة بالعصيان أو بغيره،فإذا كان يعلم أنّه لا ينقذ ابن المولي عصيانا،فهو قادر علي إنقاذ أخ المولي،فهو مأمور بإنقاذه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق بين الواجبات النفسيّة و الضمنيّة،فإذا دار الأمر بين أن يقرأ سورة في الركعة الاولي من الصلاة،أو يقرأ الفاتحة في الركعة الثانية مثلا،لم يقرأ السورة و قرأ الفاتحة لأنّها أهمّ،خلافا لما في المحاضرات،حيث قال:إنّ ذلك ليس من التزاحم بل من التعارض؛لأنّ الأمر بالمركّب التامّ قد سقط بتعذّر بعضه ثمّ ثبت أمر آخر:إمّا متعلّق بالفاقد للسورة،أو بالفاقد للفاتحة،فيتعارض ما دلّ

ص: 151

علي وجوب السورة مع ما دلّ علي وجوب الفاتحة إلي آخر كلامه (1).

أقول:لم يسقط الأمر بالمركّب،بل الأمر بالصلاة متعلّق بالصلاة بمراتبها،و كلّ جزء أو شرط من الأوّل دخيل في الصلاة علي ما هما-أي:الجزء و الشرط-عليه من الأهمّية و غيرها.

الثاني:أن يكون لأحد الواجبين بدل و لم يكن للآخر،كما إذا تنجّس موضع من المسجد و كان عنده من الماء ما يكفيه لغسل المسجد أو للوضوء،فإنّه يتقدّم غسل المسجد؛لأنّ للوضوء بدلا و هو التيمّم (2).

أقول:إذا كان أحدهما أهمّ فإنّه يتقدّم،فلو علم أنّ الوضوء أهمّ من غسل المسجد تقدّم،و أمّا إن لم يعلم ذلك فإنّ وجوب ما ليس له البدل فعلي،و مع فعليّته يزاحم وجوب الآخر،فإذا كان لوجوبه مزاحم انتقل إلي بدله و هو التيمّم،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن نظر.

و قيل:منه ما إذا كان ثوبه نجسا و كان عنده ماء يكفي للوضوء أو لغسل الثوب، فإنّ الوضوء له بدل،فيغسل ثوبه و يتيمّم،خلافا للمحاضرات (3).

الأمر السابع:إذا كان الفعلان طوليين زمانا و هو يقدر علي أحدهما،فإن كانت قدرته علي السابق توجب عدم الملاك للاّحق،وجب صرف قدرته في السابق، كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوء واحد و قد وجب عليه صلاة الظهرين،و كان يجب أن يتوضّأ لكلّ منهما،فإنّه يجب عليه أن يتوضّأ لصلاة الظهر و يتمّم لصلاة العصر،و ليس له أن يعكس.

و أمّا إذا كان الملاك لكليهما موجودا،مثل أن يغرق مؤمنان متساويان أو كان8.

ص: 152


1- المحاضرات 3:230.
2- المحاضرات 3:234.
3- المحاضرات 3:238.

أحدهما أهمّ،لكن أحدهما متقدّم زمانا علي الآخر،بأن غرق أحدهما اليوم، و يعلم بأنّ الآخر يغرق عصر اليوم،و هو لا يقدر علي إنقاذهما،فإنّه لو كانا متساويين يتخيّر،و لو كان الثاني أهمّ وجب عليه إنقاذ الأهمّ و يجري فيه ما تقدّم؛ لأنّ الملاك موجود في كليهما،و إن لم يقدر المكلّف علي استيفائهما.

إن قلت:إنّه لا تكليف له بالمتأخّر زمانا.

قلت:إن علم تحقّق الغرق بعد ذلك،فهو يعلم بتحقّق الوجوب،و لا بدّ له من حفظ قدرته،فمن علم أنّ مؤمنا يغرق بعد ساعة مثلا ليس له أن يتركه و يذهب إلي مكان آخر،و لا يعذر بعدم فعليّة التكليف.

و هذه النكتة من الفرق لا بدّ أن تلاحظ في الأمثلة المذكورة لئلاّ يختلط مورد الترتّب مع غيره.

فصل في اشتراط القدرة في المأمور علي المأمور به

لا يجوز للآمر الأمر مع العلم بعدم قدرة المأمور علي الامتثال،فإنّ تكليف ما لا يطاق قبيح،كما لا يقع الأمر مع عدم تحقّق شرط الأمر للآمر.نعم يجوز انشاء الأمر مجازا لمصلحة فيه مع عدم إرادة فعليّته مع دلالة عليه بقرينة منفصلة.

و قال في الكفاية:يجوز إنشاء الأمر مع العلم بعدم صيرورته فعليّا،بأن يكون الداعي هو الامتحان لا التحريك جدّا،و يصحّ إطلاق الأمر عليه مجازا (1).

ثمّ إنّه قيل:إنّ الأمر الشخصي يمتنع توجّهه بعثا لغرض الانبعاث إلي من علم الآمر فقدانه شرط التكليف،بل لا يمكن ذلك بالنسبة إلي من يعلم أنّه لا ينبعث و لو عصيانا،و أمّا الأوامر الكلّية القانويّة فيمكن تعلّقها.

ص: 153


1- كفاية الاصول ص 170.

أقول:لا يقتضي صيغة«افعل»التحريك القولي الذي هو بمنزلة التحريك الخارجي باليد و نحوها،بل هو إنشاء كون المخاطب مع مادّة ما امر به و لو بداعي إعلامه ما يوجب سعادته في الدارين،و إن علم أنّه لا يمتثل.

فصل في أنّ الأوامر و النواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

لا يخفي أنّ مادّة«افعل»التي تعلّقت بها الهيئة لها وجودات متماثلة،و يسمّي كلّ وجود منها من حيث انّ له نظيرا يشترك معه في الجنس و الفصل وجود الطبيعي،و من حيث نفسه بشرط لا عن ملاحظة نظيره وجود الفرد.

و أمّا التشخّصات و اللوازم التي لا ينفكّ وجود الفرد عنها،فهي ليست دخيلة في الفرد بما هو فرد للطبيعي،و المراد من تعلّق الأمر بالطبيعة هو طلب ايجادها من دون نظر إلي خصوص وجود من هذه الوجودات،و المراد من تعلّقه بالفرد هو لحاظ كلّ وجود من حيث هو.

و من ثمرة الاحتمالين أنّه بناء علي تعلّق الأمر بالطبيعة،فليس للمكلّف قصد امتثال الأمر بايجاد وجود منها من حيث كونه متعلّق الأمر،لا من حيث اشتراكه مع وجود آخر مثله،بخلافه بناء علي تعلّقه بالفرد.

و علي كلا القولين فالتخيير بين الأفراد تخيير عقلي،بمعني أنّ العقل يدرك عدم تفاوت هذه الوجودات المتماثلة في تعلّق الأمر بها،بخلاف التخيير الشرعي،فإنّ الشارع يوجب امورا غير متماثلة علي نحو التخيير كخصال الكفّارة.

ثمّ إنّ ما يترأي من عبارة الكفاية،من أنّ معني تعلّق الأمر بالفرد هو كون الخصوصيّات الملازمة له متعلّقا للغرض،حيث قال في مقام الاستدلال علي تعلّقه بالطبيعة،بأنّ من راجع وجدانه يري أنّه لا غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع، و لا نظر له إلاّ إليها من دون نظر إلي خصوصيّاتها الخارجيّة و عوارضها العينيّة إلي

ص: 154

آخر كلامه (1).غير مقبول.

و كذا ما في الاصول علي نهج الحديث،قال:إن تعلّق الأمر بوجود الطبيعي كان ايجاده بايجاد فرد من أفراده بنحو التخيير العقلي،و إن تعلّق الأمر بوجود الفرد لا خصوص فرد،كان لا محالة بنحو التخيير الشرعي (2)انتهي.غير واضح؛لأنّه إن تعلّق بالفرد،فالمراد فرد ما،و التخيير بين الأفراد عقلي،فتأمّل.و سيظهر في الواجب الموسّع ملاك كون التخيير عقليّا أو شرعيّا.

فصل إذا نسخ الوجوب،فلا دلالة علي بقاء أصل الجواز أو الرجحان

؛لأنّ الوجوب ليس مركّبا يرتفع بعضه و يبقي بعضه،بل هو طلب شديد يرتفع كلّه.

و دعوي أنّه مع الشكّ في زوال المرتبة الضعيفة من الطلب بعد العلم بارتفاع المرتبة الشديدة يستصحب أصل الطلب.غير مسموعة؛لأنّهما عرفا موضوعان، فيكون من اسراء حكم موضوع إلي موضوع آخر،و أمّا علي المختار في الاستصحاب-كما يأتي في محلّه-فعدم الجريان واضح.

فصل في الواجب التخييري الشرعي

اشارة

لا يخفي أنّ الحكم الشرعي تابع للمصلحة في المتعلّق،فيمكن أن تكون المصلحة الملزمة التي لها دخل في الغرض حاصلة بفعل واحد من الفعلين،مع اشتمالهما علي المصلحة،لكن يكفي الواحدة منهما لتحصيل الغرض،سواء اتّحد سنخ مصلحة الفعلين أو اختلف،بأن كان للصوم مصلحة ملزمة و للعتق مصلحة اخري ملزمة؛لكن كان تحصيل مصلحة الأكثر من واحد فيه نوع عسر ينافي

ص: 155


1- كفاية الاصول ص 171.
2- الاصول علي نهج الحديث ص 73.

مصلحة التسهيل التي هي أهمّ في نظر الشارع،فمقتضي ذلك لزوم فعل أحدهما، و كلّ واحد سبق فلا لزوم للآخر مع بقاء محبوبيّته،و لو فعلهما معا كان أحدهما محبوبا لزوما و الآخر محبوبا غير لزومي،و الحكم الشرعي تابع لكيفيّة المصلحة.

هذا كلّه في مقام الثبوت.و أمّا في مقام الاثبات،فيفيد ذلك كلمة«أو»فيقال:

صم أو أطعم المسكين،و هذا نحو وجوب مقتضاه العقاب علي واحد لو ترك الجميع،و وجوب واحد و استحباب الآخر إن أتي بهما دفعة أو تدريجا،و هذا النحو من الايجاب أمر عرفي واقع في الخارج،و هو أدلّ دليل علي إمكانه.

بل يمكن أن يدّعي أنّ الارادة التكوينيّة تتعلّق بنحو ذلك،فإذا كانت المصلحة في فعلين كذلك،كإطفاء حرارة البدن بالدخول في الماء البارد،أو الذهاب إلي مكان بارد،فربّما يشتاق الانسان إلي أحدهما و يختاره من دون ترجيح في خصوصيّة كلّ واحد منهما،و الوجدان شاهد علي ذلك.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية فصّل بين أن يكون الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما،بحيث إذا أتي بأحدهما حصل به تمام الغرض،فيكون الواجب هو الأمر الجامع بين الشيئين؛لأنّ الغرض الواحد لا يصدر إلاّ من أمر واحد إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ مراده أنّ ما يتولّد و يخرج من شيء لا بدّ من أن يكون من سنخه و إن كان واحدا بالنوع؛لأنّ المعلول هو فعليّة ما بالقوّة في العلّة من دون فرق بين الواحد الشخصي و الواحد النوعي.

و فيه أنّه لو سلّم ذلك لم يتمّ في الأفعال،مثلا حرارة البدن تتحقّق من قربه إلي الحارّ،و من حركة الانسان سريعا،و لا جامع بينهما.4.

ص: 156


1- كفاية الاصول ص 174.

و قال في الاصول علي النهج الحديث:و يمكن أن يقال:إنّ الايجاب التخييري ايجاب مشوب بجواز الترك إلي بدل،و مقتضاه جواز ترك كلّ منهما مقرونا بفعل الآخر،فمع الاتيان بهما يكون آتيا بواجبين يجوز ترك كلّ منهما إلي البدل،و مع تركهما يكون له عقاب واحد (1)انتهي ملخّصا.

أقول:كونهما واجبين إذا أتي بهما دفعة خلاف ظاهر الدليل.

تتمّة:

هل يمكن الوجوب التخييري بين الأقلّ و الأكثر غير الارتباطيين،بأن يكون المصلّي مخيّرا بين تسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين و بين ثلاث تسبيحات؟

أقول:يمكن تصويره ثبوتا بأن كان الغرض مترتّبا علي التسبيحة بشرط لا أو بشرط شيء.

فصل في الوجوب الكفائي

اشارة

و هو وجوب الفعل علي جماعة يتحقّق امتثاله بفعل واحد منهم يكون هو الممتثل للتكليف و يسقط عن الباقين،هذا فيما إذا لم يكن الفعل قابلا للتعدّد،و أمّا لو كان قابلا له كالصلاة علي الميّت،فإن صلّي واحد سقط عن الباقين،و أمّا إن صلّي جماعة في زمان واحد،فهل الواجب واحد منها غير معيّن،أو الجميع واجب كلّ منها مستقلاّ،أو المجموع واجب كلّ منها جزء الواجب؟وجوه.

أحدها:أن يكون الواجب واحدا منها و ما عداه مندوب؛لأنّ المصلحة الملزمة في واحد منها و ما عداه ليس فيه مصلحة ملزمة،و لا يضرّ عدم تعيّنه.

ثانيها:أن يكون الجميع امتثالات للواجب،فيكون كلّ واحد قد امتثل الواجب

ص: 157


1- الاصول علي النهج الحديث ص 39.

مستقلاّ نظير امتثاله الواجب العيني،فإن صلّي عدّة علي ميّت في زمان واحد بغير الائتمام بناء علي مشروعيّته كان الجميع واجبا.و فيه أنّ الواجب صلاة واحدة.

ثالثها:أن يكون الجميع امتثالا من الجميع،كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة علي معلول واحد،و يستند المعلول الواحد إلي مجموع العلل،بحيث يكون كلّ علّة جزء المؤثّر.

و فيه أنّ الصلاة علي الميّت ليست كذلك،إلاّ أن يقال بأنّ الجميع يؤثّر أثرا واحدا،لكنّه بعيد.

قد يقال:إنّ كلّ واحد من المكلّفين قادر علي ايجاد الطبيعة،فلا محالة يتوجّه التكليف إلي كلّ واحد منهم،ففي مسألة تجهيز الميّت مثلا يكون كلّ واحد منهم مكلّفا،لكن المكلّف به في الجميع أمر وحداني،فزيد مكلّف بايجاد الدفن من غير أن يكون الدفن مقيّدا بصدوره عن نفسه إلي آخر كلامه (1).

أقول:إن أراد أنّه يجب علي كلّ واحد منهم مباشرة أو تسبيبا،ففيه أنّه لو فعله بعضهم سقط عن غيره و إن لم يتسبّب.

و إن أراد أنّه يجب علي كلّ واحد لكن يسقط بفعل بعضهم،فيمكن المناقشة فيه بأنّه إن كانت المصلحة في تعدّد الفعل،فلا وجه لسقوطه بفعل بعضهم،و إن كانت المصلحة في الصلاة الواحدة،فلا وجه لوجوبه علي كلّ واحد منهم.

و قال في الاصول علي النهج الحديث:إنّ كلّ واحد من المكلّفين يجب عليه الفعل مع جواز الترك عند فعل الآخر،و مقتضاه حصول الامتثال من الجميع إذا أتوا به دفعة،و استحقاق العقاب إذا ترك الكلّ لوجوبه عليهم و عدم تحقّق الفعل من أحدهم،و هو موافق لمقام الثبوت.إلي آخر كلامه (2).2.

ص: 158


1- نهاية الاصول ص 211.
2- الاصول علي النهج الحديث ص 42.

أقول:إن ثبت مشروعيّة قصد الوجوب من كلّ واحد منهم إذا أتوا بالصلاة دفعة واحدة،فلهذه التصويرات مجال،لكنّه يحتاج إلي المراجعة،و لم يثبت كون الجميع متّصفا بالوجوب،فلاحظ.

تتميم:

قال في الكفاية:إذا شكّ في واجب أنّه عيني أو كفائي،فمقتضي الاطلاق كونه عينيّا،كما إذا شكّ في أنّ تجهيز الميّت واجب عينيّ علي الولي،أو واجب كفائي، فالخطاب متوجّه إلي الولي،و مقتضي إطلاقه وجوب التجهيز عليه،فلا يجب علي غيره (1).

و لو لم يكن إطلاق يقتضي الوجوب العيني علي الولي،فيمكن أن يقال:إنّ تعيّنه علي الولي مشكوك يرفع بأصل البراءة،و أيضا لا يجب علي غيره لاحتمال كونه عينيّا علي الولي و الأصل البراءة عنه،و لا يتعارض الأصلان،أي:الأصل الذي يجريه الولي و الأصل الذي يجريه غيره؛لأنّهما كواجدي المني يلحظ كلّ واحد تكليف نفسه،لكن إن لم يفعل غير الولي وجب علي الولي؛لأنّه إمّا واجب كفائي أو واجب عيني عليه.

فصل في الواجب الموسّع و المضيّق

و الأوّل ما كان الوقت المقدّر له أزيد ممّا لا بدّ منه.و المضيّق ما كان المقّدر له مساويا لما يقتضيه الواجب كصوم يوم شهر رمضان.

و قد يشكل في الموسّع بأنّ أجزاء الوقت إن كانت قيودا للواجب،كان التخيير شرعيا،فهناك واجبات مضيّقة علي نحو الواجب المخيّر شرعا.

ص: 159


1- كفاية الاصول ص 177.

أقول:تقدّم أنّ الطبيعة المحدودة بحدّ يكون التخيير بين أفراده تخييرا عقليّا، و علي هذا فالصلاة التّي لها وقت موسّع يكون التخيير بين ايقاعها في أجزاء الوقت تخييرا عقليّا؛لأنّ الأفراد متماثلة.

فصل في الأمر بالأمر

قال في الكفاية:لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر بشيء علي كونه أمرا به،و لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة (1).

أقول:ما ذكره متين،فإنّ ظاهر اللفظ كون المأمور به هو الأمر بالشيء،ففي مثل قولك مر ابنك يفعل كذا،اريد تأدّب الابن بواسطة وليّه أعني أباه،فيجب علي الآباء أمر الأبناء بالصلاة،و ليس أمرا من الآمر الأوّل للمأمور الثاني،إلاّ إذا كان المأمور الأوّل واسطة في التبليغ،و هو يحتاج إلي دلالة.

و من ذلك يظهر المناقشة في دلالة أمر الأولياء بأن يأمروا صبيانهم بالعبادات علي تعلّق أمر اللّه تعالي بعباداتهم حتّي تكون شرعية.

فصل إن أمر بشيء ثمّ قبل امتثاله أمر به مرّة اخري،فهل يكون تأكيدا أو تأسيسا؟

قال في الكفاية:يحمل الأمر الثاني علي التأكيد لاطلاق المادّة،و أمّا إطلاق الهيئة فهو و إن كان يقتضي التكرار لكنّه فيما لم يكن مسبوقا بالأمر (2).

أقول:بل يمكن أن يقال:إنّ إطلاق الهيئة أيضا يقتضي ذلك؛لأنّه لم يقيّده بمرّة اخري،فمقتضاه التأكيد بأن يكون الوجوب مؤكّدا لا أن يكون تكرارا محضا،فإنّه يحمل علي التكرار المحض إن ساعدة القرينة،فتأمّل.

ص: 160


1- كفاية الاصول ص 178-179.
2- كفاية الاصول ص 179.

المقصد الثاني: في النواهي

اشارة

و فيه فصول:

فصل في مادّة النهي و صيغته

أمّا مادّة النهي،فالظاهر أنّها تدلّ علي المنع،فإذا استعملت في كلام الشارع دلّت علي الحرمة،و يشهد لذلك موارد الاستعمال في القرآن و الأخبار (1).

و أمّا صيغة«لا تفعل»ففي دلالتها علي حرمة الفعل،أو كراهته،أو الأعمّ منهما، أقوال و احتمالات،ينبغي أن تذكر في ضمن مباحث:

الأوّل:في مدلولها لغة،و لا يبعد أن تكون دالّة علي عدم تحقّق نسبة بين المخاطب و الفعل،كما أنّ صيغة«افعل»تدلّ علي ايقاع النسبة بين الفعل و المخاطب،و تختلف الدواعي من التحريم و الكراهة و الارشاد و السؤال و غيرها، سواء علم انبعاث المخاطب أو لا،بأن يكون الداعي إتمام الحجّة عليه،فهي بنفسها ليست موضوعة للتحريم و لا تدلّ عليه لانصراف و نحوه.

نعم لو صدر من المولي إلي العبد حمل علي التحريم؛لأنّ المحاورة الواقعة بين الموالي و العبيد تكون بهذه الصيغة علي حسب محاورات غيرهم،و لم يتّخذ الموالي طريقا خاصّا لإفادة مقصودهم،و لذا كان البناء من العقلاء علي عمل العبيد بما يقوله الموالي،إلاّ أن يقترن بها قرينة الكراهة أو الارشاد و نحوهما،و مرّ نظيره

ص: 161


1- لا يخفي أنّه يستفاد من بعض الأخبار أنّ النهي عن الشيء يغاير تحريمه و هو خبر علي بن يقطين(جامع أحاديث الشيعة 24-159-13)قال:سأل المهدي أبا الحسن عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ،فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها و لا يعرفون التحريم لها،فقال له أبو الحسن:بل هي محرّمة في كتاب اللّه الخبر.

في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب إن صدرت من الموالي إلي العبيد.

و قيل:إنّ حقيقة النهي عبارة عن الزجر و المنع عن المتعلّق (1).

أقول:إنّ كلمة«لا»الناهية مثل كلمة«لا»النافية يرادفها بالفارسية«نه»و ليس معناها المنع و الزجر،بل الفصل بين مادّة الفعل و بين الفاعل،نعم نتيجته المنع و الزجر.

الثاني:أنّ مدلولها إلزام بعدم ايقاع النسبة بين المخاطب و الفعل،و هو إنّما يصحّ إذا كان الايقاع ممكنا و مقدورا للمخاطب،و إلاّ فيكون لغوا.نعم لا دلالة فيه علي الكفّ،أي:صرف الميل عنه،بل يكفي مجرّد القدرة،فيصحّ تكليف من لا يرغب في شرب الخمر بترك شربه إن كان قادرا علي الشرب.

الثالث:لا دلالة لها علي الفور و التراخي،كما لا دلالة لصيغة الأمر عليهما، ولكن بمجرّد صدورها من المولي و وصولها إلي العبد يجب عليه عقلا امتثالها،بأن لا يقترن مع الفعل من أوّل أزمنة الامكان.

الرابع:يتحقّق وجود الطبيعة بوجود فرد منها،و أمّا نفيها فإنّما يتحقّق بنفي جميع أفرادها،و هو واضح.

الخامس:هل يكفي تحقّق نفي الطبيعة بجميع أفرادها في بعض الأزمنة،أو لا بدّ من تحقّق نفيها في جميع الأزمنة؟

قلت:ظاهر النهي عدم النسبة بين المخاطب و المنهي عنه،و هو ظاهر في عدمها في جميع الأزمنة.

السادس:إن عصي النهي،فهل يسقط أو أنّ النهي عن شيء ينحلّ إلي نواهي، فيكون كلّ فرد من أفراد المنهي عنه له نهي علي حدة في كلّ زمان؟قولان،الأوّل3.

ص: 162


1- نهاية الاصول 223.

أنّه يقتضي التكرار لوجهين:

الأوّل:أنّ معني النهي هو الزجر و المنع،و إذا تعلّق الزجر بالطبيعة اقتضي المنع عن كلّ فرد منها.

أقول:إنّ المنع عن الطبيعة يكون منعا عن تحقّق أصل الطبيعة،و أمّا بعد العصيان و ايجاد الطبيعة في ضمن فرد،فالمنع عن سائر الأفراد يحتاج إلي دليل آخر.

الوجه الثاني:أنّه يدلّ عليه عقلا،قال في الكفاية:إنّ تعلّق الأمر بالطبيعة يقتضي الاتيان بها،و يكفي اتيان فرد واحد لتحقّقها في ضمنه،و كذا النهي عن الطبيعة يقتضي عدم تحقّق الطبيعة في جميع الأزمان (1).

و أورد عليه في نهاية الدراية بأنّه قد يلاحظ الوجود إلي الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا علي ذاتها و ذاتيّاتها،فيقابله إضافة العدم إلي مثلها،و نتيجة المهملة جزئيّة،فكما أنّ مثل هذه الطبيعة تتحقّق بوجود واحد كذلك عدم مثلها إلي آخر كلامه (2).

أقول:ما ذكره في الكفاية من خلوّ صفحة الوجود عن وجود المنهي عنه مستندا إلي اقتضاء ترك الطبيعة عقلا لو سلّم،فلا يقتضي الانحلال،بحيث لو عصي لزمه ترك الطبيعة بعد المعصية.

القول الثاني:أنّه لا يقتضي التكرار،ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة،قال:

فأمّا اقتضاؤه التكرار أو الامتناع مرّة واحدة،فأكثر المتكلّمين و الفقهاء ممّن قال إنّ الأمر يقتضي الفعل مرّة واحدة،و من قال إنّه يقتضي التكرار،قالوا في النهي إنّه يقتضي التكرار.و الذي يقوي في نفسي أنّ ظاهره يقتضي الامتناع مرّة واحدة،1.

ص: 163


1- كفاية الاصول ص 182.
2- نهاية الدراية 1:261.

و ما زاد علي ذلك يحتاج إلي دليل.إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ ظاهر النهي عن طبيعة اشتمالها علي سعتها علي المفسدة الموجبة لمبغوضيّة الطبيعة أينما وجدت،فيكون قرينة علي انحلال النهي إلي نواهي عن كلّ فرد في كلّ زمان إلاّ إذا اقترن به قرينة علي الخلاف.

و ممّا يؤيّد دلالة النهي علي الانحلال في جميع الأزمنة أنّه لو كان المراد به ترك الطبيعة،فإنّه يتحقّق بعد وصول النهي إلي المكلّف في الآن الأوّل،فيصير بلا فائدة؛ لأنّ ترك الطبيعة في الجملة حاصل من كلّ أحد،إلاّ أن يقال بأنّ النهي عن الطبيعة يقتضي استمرار الترك من أوّل الآنات إلي آخرها،لكن إن عصي النهي فاقتضاؤه النهي عن الأفراد الاخر يحتاج إلي دليل.

و قال في نهاية الاصول بالمنع عن انحلال التكليف التحريمي المتعلّق بشرب الخمر إلي أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع و هو الخمر،بل الحقّ كونه تكليفا واحدا له عصيانات متعدّدة (2).

أقول:لا فرق بين أن يقال إنّ النهي عبارة عن المنع عن الفعل،أو عبارة عن طلب ترك الفعل في الانحلال و عدمه،و ذلك لأنّ النهي ليس زجرا خارجيّا،بل هو لفظ يريد به الناهي من المكلّف أن لا يفعل،و كما أنّ الزجر عن طبيعة الفعل يتحقّق في الآن الأوّل و يحتاج ثبوته للآن الثاني إلي إثبات شمول إطلاق الزجر له،كذلك طلب ترك الطبيعة في الآن الأوّل يثبت للآن الثاني بالاطلاق.6.

ص: 164


1- عدّة الاصول 1:256.
2- نهاية الاصول 1:176.

فصل في جواز اجتماع الأمر و النهي

اشارة

لا يبعد جواز اجتماع الأمر و النهي،ولكن لا تصحّ العبادة في حال العلم و العمد و ما الحق به لعدم إمكان التقرّب،و يقع الكلام في تحرير محلّ النزاع في مقامين:

المقام الأوّل:في مرحلة الثبوت،فنقول:إنّ الحكم الشرعي الالزامي تابع للملاك الموجود في المتعلّق من المصلحة و المفسدة الملزمتين،فإن كان فيه مصلحة ملزمة للفعل فقط كان واجبا،و إن كان فيه مفسدة ملزمة للترك فقط كان حراما.

و إن كانت المصلحة الملزمة في جميع أفراد الطبيعة إلاّ في فرد منها،فكان فيه مفسدة ملزمة فقط،فلا بدّ من ايجاب الطبيعة إلاّ هذا الفرد،فلا بدّ من تحريمه، كالنهي عن صوم العيدين،و عن صلاة الحائض.

و إن اجتمعت المصلحة و المفسدة في فعل،و كانت المصلحة منحصرة فيه و لم توجد في غيره،فإن كانت المصلحة غالبة علي المفسدة،فلا بدّ من ايجاب الفعل، و إن انعكس فلا بدّ من تحريمه،و إن تساويا فلا ايجاب و لا تحريم.

و ان اجتمعت المفسدة الملزمة و المصلحة الملزمة في فرد،و كانت المصلحة الملزمة غير منحصرة فيه،بل كانت المصلحة الموجودة فيه مساوية للمصلحة الموجودة في غيره من أفراد الطبيعة،فهذا هو محلّ النزاع.

و نمثّل لجميع ما ذكرنا مثالا عرفيّا،و هو أنّ من احتاج إلي شرب الماء لحفظ نفسه عن الهلاك و لم يضرّه الماء،وجب عليه الشرب.

و من كان غير محتاج إلي شرب الماء،و كان الشرب مضرّا بحاله،حرم عليه الشرب.و من احتاج إلي شرب الماء كلّ يوم و لم يحتج إليه في يوم الجمعة مثلا و أضرّه الماء فيه،وجب عليه الشرب في جميع الأيّام،و حرم عليه الشرب في يوم

ص: 165

الجمعة.

و من احتاج إلي شربه لحفظ نفسه عن الهلاك عطشا،و كان شرب الماء البارد مضرّا بحاله،و انحصر الماء في البارد،ينبغي أن يلاحظ الأقوي مناطا،فإن لم يكن أحدهما أقوي تخيّر.

و من احتاج إلي شرب الماء لحفظ نفسه عن الهلاك من العطش،و كان الماء البارد مضرّا به مثلا،و لم يكن الماء منحصرا في البارد،فشربه،فقد حفظ نفسه عن الهلاك؛لزوال عطشه بشربه و أضرّ بمعدته بالماء البارد،و هذا هو محلّ النزاع.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه مع انحصار المصلحة و المفسدة في فعل واحد لا يجتمع فيه الأمر و النهي؛لأنّهما تابعان للملاك الموجود في الفعل،فإمّا يكون أحدهما غالبا فالفعل واجب أو حرام،أو يكونان متساويين فلا وجوب و لا حرمة.

و منه يظهر أنّه إن لم يكن مندوحة لم يجتمع الأمر و النهي؛لعدم وجود ملاكهما، لا لعدم قدرة المكلّف علي الامتثال،و لا فرق بين الاتّحاد الموردي و بين اتّحاد متعلّق الأمر و النهي.

و من ذلك يظهر أيضا أنّ ما ذكره في الكفاية (1)في التنبيه الثاني في ترجيح جانب النهي من جهة أنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة،و شهادة الاستقراء بتغليب جانب الحرام إنّما يتمّ في فعل لا مندوحة عنه،و هو خارج عن محلّ النزاع،و كذا ما ذكره في التنبيه الثالث،و سيأتي بيانه.

المقام الثاني:في مرحلة الاثبات،فنقول:إن كانت الدلالة علي وجوب الطبيعة و تحريم الفرد،مثل قولك اشرب الماء لحفظ نفسك عن أن تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لأنّه يضرّك لمن كان به مرض يضرّه الماء البارد،فهي من محلّ1.

ص: 166


1- كفاية الاصول ص 211.

النزاع.

و منه صلّ و لا تغصب،حيث كان مفهوم الصلاة معلوما بأجزائه و شرائطه،و لم يكن من شرائطها عدم وقوعها في الغصب،كما يكون من شرائطها عدم لبس الرجال للذهب حالها.و منه أكرم العلماء أو أكرم زيدا و لا تغصب فأكرم بالمغصوب،و قد يستظهر كونه من محلّ النزاع من كون متعلّقي الأمر و النهي عنوانين اتّحدا وجودا،مثل عنواني الاكرام و الغصب.

أقول:ليس محلّ النزاع مختصّا بهما،بل المدار علي إحراز وجود الملاكين في محلّ الاجتماع،مع وجود ملاك الوجوب في غير مورد الاجتماع،فإن احرز بإجماع و نحوه و إلاّ فلا بدّ من اتّباع ظاهر الدليل،و هذا الذي ذكرناه صحيح فيما إذا كان للمأمور مندوحة عن ترك الحرام.

و أمّا إذا لم يكن له مندوحة،فليس من محلّ النزاع،كما إذا قال:أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق،فإنّ العالم الفاسق لا يمكن أن يجتمع فيه حكمان؛لأنّ في إكرامه:إمّا مفسدة غالبة فحرام إكرامه،أو مصلحة غالبة فواجب إكرامه،أو متساويتان فلا وجوب و لا حرمة،فهما متعارضان؛لأنّ العالم الفاسق محكوم بحكم واحد.أو قال:الربا حرام و البيع حلال،فإنّهما يتساقطان في البيع الربوي، فيرجع إلي العامّ الفوقاني إن كان،و إلاّ فإلي الأصل العملي.

و قد يحتمل الكلام الوجهين،أي:يمكن أن يكون دلالته علي النحو الأوّل، فيكون من محلّ النزاع،أو يكون علي النحو الثاني،فلا يكون من محلّ النزاع،كما إذا قال:أكرم عالما و لا تكرم الفاسق،فإن كان في إكرام العالم الفاسق مصلحة ملزمة،كالمصلحة الملزمة الموجودة في العالم غير الفاسق بلا تفاوت أصلا،و كان في إكرام العالم الفاسق مفسدة ملزمة،كان من محلّ النزاع.و إن لم يكن في إكرام العالم الفاسق مصلحة ملزمة،كالمصلحة الملزمة الموجودة في غير الفاسق،لم

ص: 167

يكن من محلّ النزاع.

و حيث لم يحرز ذلك فلا بدّ من ملاحظة نفس الدليلين،فإن قلنا بالجمع الدلالي من جهة أظهريّة النهي من الأمر فيقدّم النهي،و إن قلنا بأنّه ليس لهما جمع عرفي فهما متعارضان،و ينبغي ملاحظة مرجّحات باب التعارض،و لا فرق في ذلك بين القول بالجواز و القول بالامتناع.

و قد تلخّص من جميع ذلك أنّ مثل صلّ و لا تغصب من باب الاجتماع؛لأنّ مفهوم الصلاة معلوم بأجزائها و شرائطها،و ليس من شرائطها أن لا يكون في الغصب،كما أنّ من شرائطها أن لا يكون الرجل لابسا للذهب في حال الصلاة،مع أنّه حرام لبسه في غير الصلاة أيضا،و كما أنّ من شرائط صحّة الصوم المندوب عدم اشتغال الذّمة بالصوم.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ جواز الاجتماع في المورد الذي ذكرناه واضح، و اختاره الفضل بن شاذان علي ما حكاه عنه في الكافي (1)فيما إذا اعتدّت المرأة من الطلاق في غير بيت زوجها.

قال الفضل بن شاذان:و إنّما قياس الخروج و الاخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّي فيها،فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة؛لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ.

إلي أن قال:لو أنّه لبس ثوبا غير طاهر أو لم يطهر نفسه،أو لم يتوجّه نحو القبلة، لكانت صلاته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الصلاة إلي آخر كلامه.

أقول:ما ذكره متين جدّا،لكن سيأتي أنّ اشتراط القربة في الصلاة يقتضي بطلان الصلاة في المغصوب؛لأنّه لا يتقرّب بالمبعد،فالصلاة تبطل إن كان عالما4.

ص: 168


1- فروع الكافي 6:94.

عامدا،أو ملحقا به كالمقصّر الملتفت بل غير الملتفت علي الأحوط،و أمّا الغافل و الناسي فصلاته صحيحة،لما ذكرنا من أنّه ليس من شرائط الصلاة عدم ايقاعها في المغصوب،فالصلاة في المكان المغصوب تامّة الأجزاء و الشرائط فهي صحيحة،نعم في حال العلم و العمد لا يتحقّق أحد شرائط الصلاة،و هو شرط التقرّب،فيبطل من ناحية فقد الشرط.

ثمّ إنّ من المانعين صاحب الكفاية،و نذكر ما أفاده،و قد مهّد امورا بعد أن عنون المسألة بجواز اجتماع الأمر و النهي في واحد و امتناعه،قال:الأوّل المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين و مندرجا تحت عنوانين،بأحدهما كان موردا للأمر، و بالآخر للنهي،و إن كان كلّيا مقولا علي كثيرين،كالصلاة في المغصوب (1).

أقول:ينبغي أن يكون عنوان المسألة هكذا:في جواز الأمر بالطبيعة و النهي عن بعض أفرادها لجهتين و عدمه،بلا فرق بين العنوانين و العنوان الواحد،كالمثال المتقدّم،و هو اشرب الماء لئلاّ تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لاضراره بك، فإنّ شرب الماء البارد من أفراد الواجب مع أنّه حرام،فمناط الجواز ليس تعدّد المتعلّق،بل يكفي وحدة المتعلّق إن كان متعلّق الأمر طبيعة و متعلّق النهي فردا منها لجهتين.

فما في وقاية الأذهان (2)من أنّ الجهتين التعليليتين من قبيل تعدّد العلّة، و تعدّد العلّة لا يقضي بتعدّد متعلّق الأمر،ليس في محلّه.

قال:الثاني الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة،هو أنّ تعدّد الوجه و العنوان في الواحد يوجب تعدّد متعلّق الأمر و النهي بحيث يرتفع به غائلة3.

ص: 169


1- كفاية الاصول ص 183.
2- وقاية الأذهان ص 333.

استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد أو لا يوجبه الي آخر كلامه (1).

أقول:بل الفرق بينهما أنّ مورد النهي في العبادة قد تعلّقت فيه الحرمة بالعبادة بما أنّها عبادة خاصّة،و هو أخصّ من عموم الحكم المتعلّق بتلك العبادة،كحرمة صوم العيدين و صلاة الحائض،و مورد هذه المسألة أن يكون الوجوب متعلّقا بطبيعة،و لم يكن من شرائط صحّة تلك الطبيعة عدم تحقّقها في ضمن الفرد المحرّم و يكون النهي متعلّقا بفرد منها.

قال:و أمّا ما أفاده في الفصول إلي آخر كلامه (2).

أقول:أمّا ما ذكره في الفصول من أنّه يمكن أن تكون النسبة بينهما في مورد الاجتماع العموم المطلق فهو صحيح،لكن لا يعتبر أن يكون متعلّقا الأمر و النهي طبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة،كما يظهر من تمثيله بالأمر بالحركة و النهي عن التداني إلي موضع مخصوص فتحرّك إليه،فإنّ الحركة و التداني طبيعتان متخالفتان و قد أوجدهما في فرد واحد و الاولي أعمّ.

بل يصحّ إذا كان متعلّق الوجوب الطبيعة كشرب الماء،و متعلّق النهي بعض أفرادها كشرب الماء البارد،و الميزان في الصحّة أن لا يكون عدم التلبّس بالحرام من شرائط الصحّة.

قال:الثالث أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا يقع في طريق الاستنباط كانت المسألة من المسائل الاصوليّة الي آخر كلامه (3).

أقول:بل ينبغي ذكر هذا البحث في بحث التزاحم،فيقول القائل بالجواز إنّه حرام و واجب،و يقول القائل بالامتناع بتعيّن كونه حراما و عدم صحّة اتيان5.

ص: 170


1- كفاية الاصول ص 184.
2- كفاية الاصول ص 184.
3- كفاية الاصول ص 185.

الواجب في ضمنه مع اعترافه بالتزاحم.

قال:الخامس لا يخفي أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع و الامتناع يعمّ جميع أقسام الايجاب و التحريم الي آخر كلامه (1).

أقول:ما أفاده صحيح،و اجتماع الواجب التخييري و النهي التخييري ليس محالا جعلا،و لا يخفي أنّ عصيان النهي التخييري إنّما يتحقّق بفعلهما.

قال:السادس إلي أن قال:ولكن التحقيق عدم اعتبار المندوحة فيما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال الي آخر كلامه (2).

أقول:تقدّم أنّه إن لم يتمكّن المكلّف من الصلاة أصلا إلاّ في المكان المغصوب، فلا بدّ للشارع من ملاحظة أقوي الملاكين،أي:ملاك الصلاة و ملاك الغصب،و مع التساوي فلا ايجاب و لا تحريم،و علي كلّ تقدير فلا يمكن جعل الحكمين،و ليس المحذور عدم قدرة المكلّف علي الامتثال.

و ممّا ذكر يظهر ما في نهاية الدراية،حيث قال:إنّه يمكن أن يقال بعدم لزوم التقييد بعدم المندوحة من طريق آخر،و هو أنّه لو كان تعدّد الوجه مجديا في تعدّد المعنون لكان مجديا في التقرّب به من حيث رجحانه في نفسه الي آخر كلامه (3).

أقول:ليس اعتبار المندوحة من ناحية عدم التمكّن من الامتثال،كما تقدّم بيانه.

قال:السابع الي أن قال:إنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود و الايجاد لكان يجدي و لو علي القول بالافراد الي آخر4.

ص: 171


1- كفاية الاصول ص 186.
2- كفاية الاصول ص 187.
3- نهاية الدراية 1:264.

كلامه (1).

أقول:قد تقدّم أنّ مناط الجواز هو اشتمال الفرد المحرّم علي عين المصلحة الموجودة في غيره من غير فرق بين القول بتعلّق الأمر بالطبيعة أو بالفرد.

قال:الثامن أنّ محلّ النزاع ما إذا كان مناط الحكمين موجودا في مورد التصادق كي يحكم علي الجواز بكونه محكوما بالحكمين،و علي الامتناع بأقوي المناطين،أو بحكم آخر غيرهما لو لم يكن أحدهما أقوي.و أمّا إذا لم يكن لهما مناط كذلك،فيكون مورد الاجتماع محكوما بحكم واحد علي القولين،هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الاثبات،فالروايتان متعارضتان إن احرز أنّ المناط من قبيل الثاني،و إلاّ فلا تعارض بينهما إن كانتا في مقام بيان الحكم الاقتضائي،بل هما متزاحمان،نعم إن كانتا في مقام بيان الحكم الفعلي كانتا متعارضتين (2).

أقول:يرد علي قوله«و علي الامتناع بأقوي المناطين»أنّه علي الامتناع لا بدّ من اختصاص الوجوب بماعدا الفرد المحرّم،و إن كان أضعف ملاكا من الواجب؛ لأنّه متمكّن من امتثاله بغير المحرّم.و ما ذكره يتمّ فيما إذا لم يكن مندوحة،و هو خارج عن محلّ البحث.

قوله«و إلاّ فلا تعارض»يعني إن لم يحرز وجود المناط في أحدهما فقط،بل احتمل وجود المناطين،أو علم وجود أحد المناطين،و يرد عليه أنّه إن لم يحرز وجود المناطين لم يحكم بالتزاحم،بل لا بدّ من ملاحظة ظاهر الروايتين،سواء كانتا في مقام الحكم الاقتضائي أو الفعلي.و إن احرز وجود المناطين،فلا تعارض علي تقديري كون الحكم اقتضائيّا أو فعليّا علي الجواز،بل يكون المورد محكوما9.

ص: 172


1- كفاية الاصول ص 188.
2- كفاية الاصول ص 189.

بالحكمين،و علي الامتناع يكون محكوما بالحرمة،و يختصّ الوجوب بماعدا الفرد المحرّم.

ثمّ إنّ قوله«نعم»يريد أنّهما متعارضان علي الامتناع لتصريحه في الأمر التاسع به.

ثمّ لا يخفي أنّ الأمر الثامن كان في بيان ما يمكن أن يقع عليه ثبوتا و اثباتا، و الأمر التاسع في بيان وقوع الدليلين.

قال:التاسع ما ملخّصه:إن احرز وجود الملاكين في مورد الاجتماع من إجماع أو غيره فلا إشكال،و لو لم يكن دليل إلاّ إطلاق دليلي الحكمين،فلو كان في بيان الحكم الاقتضائي،لكان دليلا علي ثبوت المقتضي،و المناط في مورد الاجتماع فيكون من هذا الباب.و إن كانا بصدد بيان الحكم الفعلي،فعلي الجواز يستكشف ثبوت المقتضي للحكمين،و علي الامتناع فالاطلاقان متنافيان.

إلي أن قال:فتلخّص أنّه كلّما كانت دلالة علي ثبوت المقتضي في كلا الحكمين،فهو محلّ النزاع علي القولين،و كلّما لم تكن دلالة عليه،فإن كان دلالة علي عدم وجود المقتضي في أحدهما،فهو من باب التعارض علي القولين،و إن لم يكن دلالة علي عدم وجود المقتضي في أحدهما،فهو من باب التعارض علي الامتناع لا علي الجواز (1).

أقول:تقدّم أنّ محلّ النزاع هو تعلّق الأمر بالطبيعة،و تعلّق النهي بفرد من الطبيعة فيما لم يؤخذ من شرائط صحّة الطبيعة أن لا تكون في الفرد المشتمل علي الحرام،فإن علم ذلك أي تعلّق الأمر بالطبيعة و النهي بفرد منها كذلك من إجماع أو غيره،فلا إشكال.0.

ص: 173


1- كفاية الاصول ص 190.

و إن لم يكن إلاّ الدليلان،فإن كانا ظاهرين في ذلك،أي في تعلّق الأمر بالطبيعة و النهي بفرد منها،فلا فرق بين الحكم الاقتضائي و الحكم الفعلي،و لا بين القول بالجواز و القول بالامتناع،فعلي الجواز يكون مورد الاجتماع محكوما بالحكمين، و علي الامتناع يكون محكوما بالحرمة.و إن لم يكونا ظاهرين في ذلك،بل احتمل وجود الملاكين،و احتمل أيضا أن يكون النهي مخصّصا لإطلاق الأمر حتّي لا يكون للأمر ملاك.

و بعبارة اخري:إن شكّ في كون الدليلين يدلاّن علي المتزاحمين،أو يكون دليل النهي مقدّما علي دليل الأمر و مخصّصا لإطلاقه،فيصيران مجملين و لا بدّ من الرجوع إلي الأصل العملي علي كلا القولين.

فما يقال من أنّه علي الامتناع يكون من المتعارضين،لا وجه له؛لأنّ المفروض وجود المصلحة و المفسدة في الفرد المحرّم،و حيث انّ المصلحة موجودة في غيره،فلا بدّ من تخصيص الوجوب بماعدا الفرد المحرّم.

و بذلك يظهر أنّ ما يقال من أنّه علي الامتناع يكون من باب النهي في العبادة هو الصحيح؛لأنّ الفرد المحرّم يخرج عن دائرة متعلّق الأمر من أجل كونه حراما للوجوه المذكورة لترجيح النهي من أولويّة دفع المفسدة من المصلحة و الاستقراء، و لأنّه متمكّن من امتثال الواجب بالاتيان بالفرد غير المحرّم،فلا يتعلّق الأمر بالفرد المحرّم.

قال:العاشر لا إشكال في حصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر علي الجواز في العبادات و غيرها،و إن كان معصية للنهي أيضا (1).

أقول:علي الجواز يشكل في صورة العلم و العمد من ناحية قصد القربة المعتبرة1.

ص: 174


1- كفاية الاصول ص 191.

في العبادة؛لأنّ من شرائط الصلاة التقرّب بها،و لا يمكن التقرّب بالمبعد،و لعلّ المستفاد من الاهتمام بأمر الصلاة و كونها الناهية عن الفحشاء و المنكر و معراج المؤمن و غير ذلك أنّها توجب قرب المصلّي إلي اللّه تعالي،و بلوغه مرتبة من الروحانيّة و المعنويّة،فكيف يتقرّب بما هو مبعّد و معصية،بل يحتمل عدم تحقّق قصد القربة في الاتّحاد الموردي أيضا إذا كان المبعد في جميع أحوال الصلاة بأن استمع إلي الغناء من أوّل الصلاة إلي آخرها و نحو ذلك.

و قد اعترف السيّد المرتضي رحمه اللّه في الذريعة بمنافاة الصلاة في المغصوب مع القربة (1).

و قال الشيخ رحمه اللّه في العدّة:و أمّا الوضوء بالماء المغصوب فلا يصحّ؛لأنّ الوضوء عندنا لا يصحّ إلاّ بنيّة القربة،و ذلك يقتضي كون الفعل حسنا و زيادة،و ذلك لا يمكن في المغصوب لأنّه قبيح،و كذلك الصلاة في الدار المغصوبة لا تصحّ؛لأنّ نيّة القربة بها لا تصحّ إلي آخر كلامه (2).

و خالف في نهاية الدراية،فقال بأنّه لا ينافي القربة،حيث قال:إن اريد ما هو نظير القرب و البعد المكانيين،ففيه أنّ لازمه بطلان العمل حتّي في الاجتماع الموردي.و إن اريد منه سقوط الأمر و النهي و ترتّب الغرض و عدمه،فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطا للأمر حيث انّه مطابق ما تعلّق به،و مسقطا للنهي بالعصيان إلي آخر كلامه (3).

أقول:ليس البطلان في الاجتماع الموردي ضروري البطلان،فيمكن القول بالبطلان فيه أيضا؛لأنّه يعتبر في العبادة التقرّب،و الفعل الذي يلازمه العصيان لا9.

ص: 175


1- الذريعة 1:191.
2- عدّة الاصول ص 100.
3- نهاية الدراية 1:279.

يتقرّب به،فينافي التقرّب بالمبعد حتّي في الاجتماع الموردي.

قال في الكفاية في تتمّة كلامه:و كذا الحال علي الامتناع مع ترجيح جانب الأمر (1).

أقول:لا وجه لترجيحه بعد وجود المندوحة،فيتقدّم النهي و إن كان ملاكه أضعف،و بدون المندوحة فليس من محلّ النزاع.

قال:و أمّا عليه-أي علي الامتناع و ترجيح جانب النهي-فلا يسقط الأمر باتيان المجمع مع الالتفات إلي الحرمة أو بدونه تقصيرا إلي آخر كلامه (2).

أقول:تارة يعلم الحرمة و يعتقد أنّها لا تنافي قصد القربة قصورا أو اجتهادا،أو تقليدا لمن يقول بأنّه يصحّ قصد القربة،فلا يبعد الصحّة لشمول قوله عليه السّلام«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»له؛لأنّ قصد القربة داخل في المستثني منه،بل يحتمل الصحّة بدون شمولها؛لوجود ملاك الواجب و حصول قصد القربة.نعم يشكل لو علم الحرمة و جهل تقصيرا منافاتها لقصد القربة،بناء علي أنّ المقصّر كالعامد.

و اخري لا يعلم الحرمة تقصيرا مع الالتفات إلي احتمال كون الغصب حراما،أو بدون الالتفات إليه،فإن قلنا إنّه في حكم العامد من جميع الجهات فيشكل الصحّة، و إلاّ فيحتمل الصحّة لحصول قصد القربة منه.

و ثالثة لا يعلم الحرمة قصورا أو اجتهادا أو تقليدا أو نسيانا،أو معتقدا لعدم كونه حراما،فحيث إنّ الامتناع إنّما يكون من جهة فعليّة التكليف بالحرمة،و إذا لم يكن الفعل محرّما لم يكن معاقبا عليه،و كان ملاك الواجب فيه موجودا و حصل منه قصد القربة،فلا مانع من صحّته.

و بعبارة اخري:شمول إطلاق الأمر لهذا المورد بلا مانع؛لأنّ المانع هو كونه1.

ص: 176


1- كفاية الاصول ص 191.
2- كفاية الاصول ص 191.

معاقبا علي فعله و مبعدا عن المولي،و المفروض أنّه ليس معاقبا علي الفعل.

قال في الكفاية بعد تمهيد الامور العشرة:الحقّ هو القول بالامتناع،و نمهّد له مقدّمات:أحدها أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها الي آخر كلامه (1).

أقول:الذي يظهر من مطاوي كلماته أنّ مراده بالحكم الانشائي وجود ملاك الوجوب أو ملاك الحرمة،لكن لوجود مانع لم يبعث نحوه،و لذا لو كان الدليلان في مقام بيان وجود الملاكين،فلا تعارض و لا تزاحم بينهما؛لعدم مطلوبيّة الفعل من المكلّف لمانع أو غيره،فالتضادّ إنّما يكون إذا كانا بعثين فعليين،و لذا يقول بعدم مضادّة الحكم الواقعي للحكم الظاهري؛لأنّ الواقعي إنشائي.

ثمّ لعلّ مراده بتضادّ الأحكام هو تنافيها عند العقلاء،لا التضادّ اصطلاحا،و هو عدم اجتماع الوجودين بأن يكون الشيء مرّا و حلوا،و الأحكام الشرعيّة لها وجود اعتباري،و الوجود الاعتباري منشأ للآثار عند العقلاء،كالرئاسة و الأمارة و الزوجيّة و الملكيّة،فاعتبار شخص رئيسا في زمان و اعتباره مرؤوسا في ذلك الزمان بعينه ليس أمرا عقلائيا.

و كذا ايجاب شيء علي عهدة العبد مع ايجاب عدمه في زمان واحد أمر غير عقلائي،و الوجه فيه أنّهما متنافيان حتّي عند الأشعري،و مع الغضّ عن عدم تمكّن المكلّف من امتثالهما.

قلت في الجواب عن هذه المقدّمة:إنّه لا ننكر وجود التنافي بين الوجوب و الحرمة،بمعني عدم اجتماعهما من جهة واحدة و في محلّ واحد،ولكن نمنع التنافي بين حرمة الشيء من حيث كونه ذا مفسدة ملزمة،و بين كونه مصداقا للواجب من حيث اشتراكه مع غيره في وجود المصلحة الملزمة،فلا تنافي بين3.

ص: 177


1- كفاية الاصول ص 193.

كون الصلاة في المغصوب حراما،و بين كونها من أفراد الطبيعة الواجبة من حيث المصلحة،و لا تنافي بينهما من حيث المبدأ و لا من حيث القدرة علي الامتثال؛ لأنّ له أن يمتثل الواجب في ضمن الفرد المباح،و له أن يمتثله بسوء اختياره في ضمن الفرد المحرّم.

قال:ثانيها أنّ ايجاد متعلّق الأمر و عدم ايجاد متعلّق النهي عبارتان عمّا يصدر من المكلّف لا اسمه و لا العنوان الانتزاعي منه،فإنّ تعدّد الاسم و تعدّد انتزاع العناوين لا يوجبان تعدّده (1).

أقول:وحدة ما صدر من المكلّف وجودا و إسما و وحدته انتزاعا لا توجب امتناع الاجتماع،لما تقدّم من أنّ الفعل بعنوان واحد يمكن أن يكون مورد الاجتماع إن كان واجدا للمصلحة و المفسدة و كان له مندوحة.

قال:ثالثها أنّ تعدّد الوجه لا يوجب تعدّد المعنون الي آخر كلامه (2).

لعلّه يريد أنّ الجهات التعليليّة لا توجب تعدّد الشيء الواحد،لكن قياسه بذات الواجب محلّ إشكال،فإنّ مثل العلم و الحياة و القدرة موجودات متعدّدة في المخلوق،مع أنّها في الواجب عين ذاته المقدّسة جلّت عظمته.

أقول:قد عرفت أنّ تعدّد الجهة التعليليّة و إن لم يوجب تعدّد الشيء،لكنّه يوجب جواز كونه مصداقا للواجب و فردا محرّما.

قال:رابعها أنّ الموجود الواحد له ماهيّة واحدة الي آخر ما أفاده (3).

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه المقدّمة لا توجب المنع عن جواز الاجتماع.

ثمّ قال:إذا تمهّد ما ذكر عرفت أنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا و ذاتا كان4.

ص: 178


1- كفاية الاصول ص 193.
2- كفاية الاصول ص 193.
3- كفاية الاصول ص 194.

تعلّق الأمر و النهي به محالا و لو بعنوانين؛لأنّهما يتعلّقان حقيقة بفعل المكلّف لا بالأسامي و العناوين المنتزعة (1).

أقول:ما أفاده صحيح فيما لم يكن له مندوحة حتّي في الاجتماع الموردي و التركيب الانضمامي،و قد سبق أنّه خارج عن محلّ النزاع،و أمّا الذي يكون محلّ النزاع،فهو أن يكون المورد متعلّق النهي و مصداقا للطبيعة الواجبة بحيث لم يكن فرق بينه و بين سائر الأفراد،و لم يكن من شروط صحّة الطبيعة أن لا تكون في الحرام،فلا مانع من الاجتماع،و يكفي تعدّد الجهة التعليليّة.

نعم اشتراط الصلاة بالتقرّب يقتضي عدم كونها مبعّدة،و الصلاة في المغصوب مبعّدة،فلا يتقرّب بها مع العلم بالغصب.

و أمّا في صورة الجهل و السهو و غيرهما ممّا هو معذور فيه فلا مانع من الصحّة، و ذلك لأنّ المفروض عدم اشتراط الصلاة بأن لا تقع في المغصوب،كاشتراطها بالطهارة،و اشتراطها بأن لا تقع في الذهب بالنسبة إلي الرجال،و العلم بالغصبيّة يوجب عدم تحقّق القربة المعتبرة فيها؛لأنّه مع الالتفات إلي كون العمل حراما معاقبا عليه فلا يتمشّي من المصلّي التقرّب،و أمّا إذا لم يكن الفعل حراما فعليّا معاقبا عليه و المفروض أنّ إطلاق الأمر بالطبيعة شامل له و قصد القربة يتحقّق من المصلّي،فلا وجه للتوقّف في الصحّة.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بالجواز لا يرتبط بتعلّق الأمر بالطبائع و لا بكون الفرد مقدّمة لوجود الطبيعة،بل انّه يجوز تعلّق الأمر بالطبيعة و تعلّق النهي بفرد منه علي ما بيّناه.

قال في الكفاية:استدلّ علي الجواز بامور:منها العبادات المكروهة الي آخر5.

ص: 179


1- كفاية الاصول ص 195.

كلامه (1).

أقول:لا يبعد أن يقال إنّ صوم يوم عاشورا لا يفترق عن غيره في مقدار مصلحة الصوم المندوب،ولكن ينطبق عليه عنوان التشبّه ببني اميّة مثلا،فيكون ثواب صومه كسائر الأيّام،لكن مع عنوان مكروه منطبق عليه ربما يزيد منقصته علي ما يصل إلي المكلّف من ثواب الصوم،و لذا قيل:إنّ الأئمّة عليهم السّلام كانوا يتركون صومه،و كذلك الكلام في الصلاة في الحمّام،و لا حاجة إلي تكلّف و تأويل.

و لا فرق في صحّة الصوم قضاء من شهر رمضان بين الصوم في يوم عاشوراء و بين غيره في أداء الواجب،و إن كان صومه في يوم عاشوراء مكروها.

قال في الكفاية:و منها أنّ أهل العرف يعدّون من أتي بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعا و عاصيا الي آخر كلامه (2).

أقول:الأولي في المثال أن يقول:إذا أمر المولي عبده بانجاء ابنه من الهلاك فيما إذا غشي عليه من العطش مثلا،فأرواه بالماء المغصوب،فإنّه يعدّ مطيعا عاصيا.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال علي جواز الاجتماع بالخروج من الدار المغصوبة لمن توسّطها باختياره،فإنّه مأمور به للتخلّص عن الحرام،و منهي عنه لكونه غاصبا، فقد اجتمع الواجب و الحرام،فيدلّ ذلك علي جواز اجتماع الأمر و النهي،و جعله في الكفاية من التنبيهات،و الأقوال فيه كثيرة،لكن لا يبعد أن يكون حراما فقط و يكون النهي متوجّها إليه إلي أن يخرج؛لأنّ التصرّف في مال الغير بغير رضاه حرام،و هو في جميع هذا الوقت متصرّف في مال الغير بغير رضاه،و هو قادر علي الترك من أوّل الأمر،و ليس في الخروج مصلحة توجب وجوب الخروج شرعا،2.

ص: 180


1- كفاية الاصول ص 196.
2- كفاية الاصول ص 202.

و إنّما يجب الخروج عقلا تقليلا للغصب.

نعم في بعض الموارد يمكن أن يكون مأمورا و منهيّا،كما إذا اضطرّ بسوء اختياره إلي أكل الميتة لحفظ نفسه عن الهلاك،فإنّه يجب عليه أكل الميتة لحفظ نفسه عن الموت،و مع ذلك يحرم عليه الأكل.

و لا بأس بذكر بعض الأقوال في مسألة الخروج من الدار المغصوبة:

أحدها:أنّه مأمور بالخروج من باب التخلّص،و منهي عنه من باب التصرّف في مال الغير،فهو معاقب علي الخروج لأنّه بسوء اختياره،و يجب عليه الخروج للتخلّص عن الغصب،و نظيره ما إذا ذهب بالميتة إلي موضع يتوقّف حفظ نفسه علي أكلها،فإنّه يجب عليه أكلها لحفظ نفسه بحيث لو لم يأكل فمات كان هو المعين علي نفسه،مع أنّه يحرم أكله لأنّه بسوء اختياره.

أقول:في مورد الغصب ليس مأمورا شرعا بالخروج تخلّصا بل منهي عنه،لكن يجب الخروج عقلا فرارا عن الغصب الزائد.

و ما في الوقاية (1)من أنّ المالك راض بالخروج فلا حرمة.ممنوع بل له أن يصرّح بأنّه لا يرضي بكونه في داره مطلقا،و إنّما يجب الخروج عقلا لكونه موجبا لقلّة الغصب.نعم في مسألة الميتة إن لم يأكلها لم يعاقب علي أكل الميتة و عوقب علي إهلاك نفسه،و إن أكلها عوقب علي أكل الميتة.

و حاصل المختار التفصيل بين الموارد،فقد يتمحّض في النهي،و قد يكون حراما و واجبا و لا محذور فيه،و المحذور المذكور في الكفاية (2)من أنّه طلب المحال حيث انّه لا مندوحة،مدفوع بأنّ ما كان له الفرار منه فليس طلب المحال، و المكلّف يتمكّن من عدم فعل ما ينجرّ إلي ذلك.9.

ص: 181


1- وقاية الأذهان ص 352.
2- كفاية الاصول ص 209.

ثانيها:أن يكون مأمورا بالخروج و عاصيا بالنظر إلي النهي السابق،عزاه في الوقاية إلي صاحب الفصول،و أوضح مراده بأنّه يقول إنّه مأمور بالخروج و النهي ساقط لأنّه لا يقدر علي امتثاله،لكن يجري عليه حكم المعصية،ثمّ إنّه أيّده و أوضحه فقال:لو نهيت عبدك عن السباحة مخافة الغرق عليه،فخالف و بعد عن سيف البحر حتّي وصل قبّته،أتراك لا تأمره بالخروج و تطلب منه الرجوع إلي آخر كلامه (1).

أقول:المولي ينهي عبده عن الغرق،فما لم يغرق ينهاه عنه بعبارات مختلفة من قوله لا تسبّح،و قوله إذا بعد عن الساحل اخرج،و غير ذلك.و كلّ ذلك تأكيد للنهي.

ثمّ إنّه يرد علي هذا الوجه أنّه إن كان عاصيا،فلا وجه لسقوط النهي و إجراء حكم المعصية عليه.

و أورد عليه في الكفاية (2)بأنّ اختلاف زمان الأمر و زمان النهي مع وحدة المتعلّق لا يرفع غائلة اجتماع الوجوب و الحرمة.

و أورد عليه في الوقاية (3)بأنّه التزم بنظيره فيما بين عقد البيع الفضولي و الاجازة، فقال-أي صاحب الكفاية-في تعليقة المكاسب بأنّ المال ملك لمالكه قبل الاجازة،و بعدها يكون ملكا للمشتري من زمان العقد.

أقول:لعلّ نظره إلي أنّ البعث إلي الشيء و الزجر عنه لا يجتمعان؛لأنّهما كالتحريك الخارجي و الزجر الخارجي.

ثمّ إنّه لا بأس بالالتزام بكونه واجبا و حراما فيما نحن فيه،كما ذكرنا في من اضطرّ إلي أكل الميتة بسوء اختياره.و أمّا اجتماع مالكين علي مملوك واحد مع9.

ص: 182


1- وقاية الأذهان ص 357.
2- كفاية الاصول ص 208.
3- وقاية الأذهان ص 369.

تعدّد زمان اعتبار الملكيّة،فهو غير صحيح كما مرّ،و قد مرّ أنّه يمكن أن يقال بكون المبيع الفضولي ملكا للمشتري فقط من حين العقد إذا وقع الاجازة،فهو نظير سائر المركّبات كالأمر بالصلاة،فإنّه يتعلّق بالتكبير إلي السلام و يسقط الأمر بالتكبير، و هكذا سائر الأجزاء من حين وقوعها إن تحقّق التسليم واقعا.

و ما ذكرناه ظاهر قوله عليه السّلام«خذ ابنه حتّي ينفذ لك البيع» (1)و إلاّ فمقتضي القاعدة لو لا النصوص الخاصّة الواردة في العقد الفضولي هو النقل،و تقدّم بعض الكلام في الشرط المتأخّر،فلاحظ.

ثالثها:ما عن التقريرات من أنّه مأمور بالخروج فقط،و ذكر وجهه و الايراد عليه في الكفاية (2)فلاحظ.

رابعها:ما اختاره في الكفاية من أنّه معاقب فقط بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه،و عصيان له بسوء الاختيار الي آخر ما أفاده (3).

أقول:النهي ينحلّ بحسب الأزمان،فكلّ آن من الغصب له نهي علي حدة،و لا معني لسقوط الخطاب إلاّ عدم القدرة،و لا مانع من نهي من لا يقدر إن كان عدم قدرته بسوء اختياره.

تتمّة:

قال في الكفاية:لا إشكال في صحّة الصلاة علي القول بالامتناع مع الاضطرار إلي الغصب لا بسوء اختياره،أو معه ولكنّها وقعت في حال الخروج علي القول بكونه مأمورا به،بدون إجراء حكم المعصية عليه،أو مع غلبة ملاك الأمر علي النهي مع ضيق الوقت،أمّا مع السعة فالصحّة و عدمها مبنيّان علي عدم اقتضاء

ص: 183


1- وسائل الشيعة 14:591 ح 1.
2- كفاية الاصول ص 206.
3- كفاية الاصول ص 203.

الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ و اقتضائه،فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة علي ما فيها من المفسدة،إلاّ انّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تضادّها بناء علي أنّه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخري،مع كونها أهمّ منها لخلوّها عن المنقصة الناشئة من قبل اتّحادها مع الغصب،لكنّه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه،فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة و إن لم تكن مأمورا بها (1).

أقول:يرد علي قوله«فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة علي ما فيها»أوّلا ما تقدّم أنّه علي الامتناع لا يصحّ الفرد المنهي،و إن كان ملاكه أضعف من ملاك الواجب؛لأنّه يتمكّن من امتثال الواجب بغير الفرد المنهي.

و ثانيا:ليس هنا إلاّ الأمر بالصلاة،فإن شمل الفرد المنهي فيشمله و يشمل غيره، و إن لم يشمله فلا وجه للصحّة،و ليس للفرد الغير المنهي أمر علي حدة أهمّ من الأمر المتعلّق بالفرد المنهي.

ثمّ إنّه إذا دخل المكان المغصوب جهلا بكونه مغصوبا،أو سهوا،أو بغير اختيار، فعلم في الأثناء جاز له الخروج فقط؛لأنّه مضطرّ إليه بغير سوء اختياره،و يحرم عليه المكث و لو بمقدار الخروج فضلا عن الزائد عليه.

فما يقال من جواز أن يصلّي مختارا بأن يمكث بمقدار زمان الخروج،إن كان زمان الصلاة أقلّ أو مساويا لزمان الخروج (2).في غير محلّه،و هو واضح.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:المورد الذي يدّعي القائل بجواز الاجتماع فيه،هو الذي يدّعي

القائل بالامتناع امتناعه

،و هو ما يكون ملاك الوجوب و ملاك الحرمة موجودين

ص: 184


1- كفاية الاصول ص 210.
2- مستمسك العروة الوثقي 5:348.

فيه و لم يكن ملاك الوجوب منحصرا به؛لأنّ المورد المنحصر لا يجتمع فيه الأمر و النهي؛لأنّ أحد الملاكين إن كان غالبا،فالحكم علي وفقه من الحرمة أو الوجوب فلم يجتمعا،و إن كانا متساويين فلا وجوب و لا حرمة.

فمحلّ النزاع أن يكون المورد مصداقا للطبيعة التي لها مصاديق اخر كلّها مساوية في ملاك الوجوب،و يكون فيه ملاك الحرمة،كالصلاة في المغصوب،فإنّ الصلاة لها مفهوم مبيّن شرعا،و ليس من شروطها أن لا تكون في المغصوب،كما أنّ من شروطها أن لا تكون في لباس الذهب بالنسبة إلي الرجال،فالفرد المتّحد مع الغصب فيه عين الملاك الموجود في غير المغصوب،و فيه ملاك الحرمة.

فالقائل بالجواز يدّعي جواز اجتماعهما،و القائل بالامتناع لا بدّ له أن يقول بأنّ الفرد الواجد لملاك الحرمة ليس مشمولا للطبيعة الواجبة،بل الأمر متعلّق بالطبيعة المتحقّقة في ضمن الفرد المباح،و إن كان ملاك النهي أضعف من ملاك الوجوب.

و المراد بملاك الحرمة هو الملاك الموجب للمنع الفعلي المستتبع لاستحقاق عقاب مرتكبه،فالجاهل بالحكم قصورا و القاطع بالخلاف موضوعا و الناسي لا حرمة عليهم واقعا،فليس ملاك الحرمة الموجب للتحريم عليهم فعلا موجودا، و لذا لا بدّ للقائل بالامتناع من القول بصحّة الصلاة في هذه الحالات.

و دعوي أنّ تقييد الواجب بعدم وقوعه في الحرام واقعي لا فرق فيه بين الجاهل و العالم،ممنوعة بما مرّ من أنّ الاجتماع من باب التزاحم،و المتزاحمان لا مانع من فعليّة أحدهما إلاّ فعليّة الآخر،فإن لم يكن أحدهما فعليّا فلا مزاحم للآخر.هذا كلّه في مرحلة الثبوت.

و أمّا في مرحلة الاثبات،فإن فهم من دلالة الدليلين،أو من خارجهما وجود الملاكين،كما إذا قال:اشرب الماء لئلاّ تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لأنّه يضرّك ضررا كثيرا،فدلالة الدليلين مطابقة لمرحلة الثبوت،و يكونان من محلّ

ص: 185

النزاع.و كذا إن قال صلّ،و كان مفهوم الصلاة معلوما و قال:لا تغصب،فإنّه من محلّ النزاع.

و أمّا إن قال أكرم عالما و لا تكرم أيّ فاسق من أيّ قبيل كان،فهو خارج عن محلّ النزاع؛لأنّ الدليل الثاني من حيث دلالته الوضعيّة يكون قرينة علي المراد من الدليل الأوّل.

و إن قال أكرم عالما و لا تكرم الفاسق،و لم يحرز من الخارج وجود الملاكين، فيحتمل أن يكونا من محلّ النزاع إن كان الملاكان موجودين،و يحتمل أن لا يكونا من محلّ النزاع إن لم يكونا موجودين.

و حينئذ إن قلنا بأنّ المطلق الشمولي يكون قرينة علي المطلق البدلي،لم يكونا من محلّ النزاع.و علي كلّ حال لا فرق بين القول بالجواز و الامتناع ثبوتا و إثباتا في أنّ محلّ النزاع يكون من باب التزاحم لا التعارض.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا المناقشة فيما ذكره في الكفاية في الأمر الثاني،قال:

علي الامتناع يقدّم الأقوي ملاكا،و إن كان دليله أضعف من دليل الآخر إن احرز الغالب،و كان الدليلان في مقام الحكم الفعلي.و ان احرز أنّ أحدهما غالب لكن لم يعلم بعينه،و كان الدليلان في مقام الحكم الفعلي،كانا متعارضين؛لأنّ كلّ واحد منهما يخبر عن الغالب،فيتعارضان فيرجع إلي المرجّحات الدلاليّة إن كانت،و إلاّ فإلي المرجّحات السنديّة.و بطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوي مقتضيا،و إن كان أحد الدليلين متكفّلا للحكم الفعلي اخذ به،و إن كانا في مقام الحكم الاقتضائي، فلا بدّ من الرجوع إلي ما تقتضيه الاصول العملية (1).

أقول:لازم قوله«يقدّم الأقوي ملاكا»أنّه إن كان ملاك الأمر أقوي قدّم علي1.

ص: 186


1- كفاية الاصول ص 211.

النهي.و فيه أنّه إذا لم تكن الطبيعة منحصرة في الفرد المحرّم،فهو قادر علي امتثالها بالفرد المباح.

و يرد علي قوله«كانا متعارضين»أنّه لو سلّم تقديم الغالب،فإذا لم يعلم أيّهما الغالب تعيينا،فلا بدّ من الاحتياط إن أمكن و إلاّ تخيّر،و لا يكون من باب التعارض حتّي يرجع إلي الجمع الدلالي أو السندي،و كذا الكلام إن لم يحرز الغالب منهما.

ثمّ قال في الكفاية:إنّه إذا قدّم الغالب منهما ملاكا،فهو في مورد يكون فعليّا، فلو منع عن فعليته مانع من اضطرار أو جهل أو نسيان،لم يكن مانع من تأثير مقتضي الملاك المغلوب،فهو نظير عدم التمكّن من فعل الأهمّ،فإنّ الأمر بالمهمّ يصير فعليّا حينئذ لعدم وجود المانع و هو الأمر بالأهمّ (1).

أقول:الأولي أن يقال:إنّ إطلاق الطبيعة المأمور بها شامل للمورد الذي منع فيه عن فعلية النهي مانع،و المفروض أنّه لا تكليف بالحرام و لا عقاب عليه؛لأنّ التكليف به موقوف علي القدرة عليه و وصوله،و مع الاضطرار لا قدرة عليه،و مع الجهل و النسيان لم يصل التكليف.

التنبيه الثاني:ذكر في الكفاية لترجيح النهي وجوها:

منها:أنّ إطلاق النهي لجميع الأفراد شمولي و إطلاق الأمر بدلي،و الاطلاق الشمولي يكون قرينة علي التصرّف في الاطلاق البدلي،ثمّ أجاب عنه بالمنع عنه فراجع (2).

أقول:لا يمكن تصديق ذلك في مثل لا تكرم الفاسق مع أكرم عالما؛لأنّهما متنافيان عرفا،إلاّ أن يعلم من الخارج أنّ مصلحة الأمر موجودة حتّي في العالم

ص: 187


1- كفاية الاصول ص 211.
2- كفاية الاصول ص 212.

الفاسق.و أمّا إن لم يعلم و قدّم الاطلاق الشمولي،فيكون خارجا عن محلّ النزاع.

و أمّا مثل صلّ و لا تغصب إن كان مفهوم الصلاة معلوما،فلا تنافي بينهما علي القول بالجواز،و علي الامتناع لا بدّ من تقديم النهي علي ما بيّنا من تمكّنه من امتثال الواجب في ضمن الفرد المباح.

و منها:أنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة،و أجاب عنه في الكفاية فراجع (1).

أقول:الترجيح به يكون في صورة الانحصار التي ليست من محلّ النزاع.

و منها:الاستقراء،فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة علي الوجوب،كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار،و عدم جواز الوضوء من الماءين المشتبهين.

و فيه أوّلا:أنّه ليس الأمر كذلك.و ثانيا:أنّه لو سلّم تحقّقه فإنّه لا يفيد في غير الشرعيّات إلاّ الظنّ،و هو ليس بحجّة في الشرعيّات.

ثمّ إنّه ليس من ترجيح الحرمة علي الوجوب ترك الوضوء من الانائين،فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس حرمة تشريعيّة،و لا تشريع فيما لو توضّأ منهما احتياطا.

ثمّ انّه تعرّض في الكفاية لمسألة التوضّي من الانائين اللذين علم نجاسة أحدهما،قال ما حاصله:إن توضّأ بأحدهما،ثمّ غسل مواضع الوضوء بالآخر و توضّأ به،فإنّه يعلم بصيرورته متطهّرا من الحدث،فإن كان الماء الثاني قليلا، فعند ملاقاته للموضع يحصل العلم التفصيلي بنجاسة الموضع:إمّا من ملاقاته للماء الأوّل،أو من ملاقاته للثاني،فيشكّ بعد انفصال الغسالة في تطهّره؛لاحتمال كون الماء الثاني طاهرا فيستصحب نجاسته.و إن كان الماء الثاني كرّا،فلا يحصل العلم4.

ص: 188


1- كفاية الاصول ص 214.

بنجاسة الموضع،فتجري أصالة الطهارة (1).

قلت:أمّا ما ذكره فيما إذا كان الماء الثاني قليلا،فإنّه لا دليل علي أنّه لو صبّ الماء علي الموضع لتطهيره أنّ الموضع ينجّس الماء،بل يحتمل أنّه يطهر و الغسالة كأنّها أخذت النجاسة الموجودة في الموضع،و لم ينجس الماء بملاقاة النجاسة، فلا علم تفصيلي بنجاسة الموضع؛لأنّه لو كان نجسا فقد طهر بملاقاة الماء قبل انفصال الغسالة إن تعقّبه الانفصال،فلا فرق بين القليل و الكرّ.نعم لا بدّ من تكرار الصلاة بالاتيان بها مرّة بعد كلّ وضوء.

التنبيه الثالث:قال في الكفاية:يلحق بتعدّد العنوان تعدّد الانتساب،فانتساب الاكرام إلي الفاسق مغاير لانتسابه إلي العالم،كمغايرة عنواني الغصب و الصلاة، فمثل قولك أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق خارج عن باب التعارض و داخل في باب التزاحم،و ذكره في باب التعارض مبني علي القول بالامتناع (2).

أقول:فيه أوّلا أنّه خارج عن محلّ النزاع؛لأنّ متعلّقهما وجود واحد منحصر، فإنّ العالم الفاسق لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين؛لأنّ المصلحة إن كانت غالبة علي المفسدة وجب إكرامه،و إن انعكس حرم إكرامه،و إن تساوتا فلا وجوب و لا تحريم،و لذلك يكون من باب التعارض.

و ثانيا:أنّ ما ذكره من أنّ ذكره في باب التعارض مبني علي القول بالامتناع في غير محلّه،لما عرفت من عدم الفرق بين القولين.

ثمّ إنّه ذكر في نهاية الدراية:الصحيح مثل أكرم العالم بنحو العموم البدلي (3).

أقول:ظاهره أنّ الصحيح أكرم العالم و لا تكرم الفسّاق،و ليس كذلك؛لأنّ لا5.

ص: 189


1- كفاية الاصول ص 216.
2- كفاية الاصول ص 216.
3- نهاية الدراية 1:305.

تكرم الفسّاق علي نحو العموم يكون قرينة علي إرادة غير الفاسق من أكرم العالم؛ لأنّ دلالته علي العموم بالوضع علي ما قيل،بل الصحيح أكرم عالما و لا تكرم الفاسق.

فصل في أنّ النهي عن العبادة أو المعاملة هل يقتضي فسادهما أم لا؟

اشارة

و ينبغي أن يعلم أنّ المراد النهي التكليفي لا النهي الوضعي الذي ادّعي أنّ ظاهر بيان المخترع لشيء مركّب أن يكون الأوامر و النواهي المتعلّقة به إرشادا إلي الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة،فمثل لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ليس نهيا تكليفيّا حتّي تكون الصلاة فيما لا يؤكل لحمه من المحرّمات التكليفيّة كشرب الخمر،بل هو إرشاد إلي مانعيّة لبس ما لا يؤكل لحمه في الصلاة،فتكون باطلة معه.

أقول:إن كانت قرينة خاصّة أوجبت صرف الأمر و النهي عن ظاهرهما،و إلاّ فلا وجه لصرفهما عنه،بل ينبغي إبقاؤهما علي ظاهرهما،و هو أنّ الصلاة الصحيحة من جميع الجهات حتّي مع قصد القربة يحرم ايقاعها فيما لا يؤكل لحمه حرمة تكليفيّة،و حرمة العبادة لا تجتمع مع الأمر بها.نعم مثل قوله«لا صلاة إلاّ بفاتحة» ظاهر في جزئيّة الفاتحة للصلاة،و مقتضاه أنّ الصلاة الصحيحة من جميع الجهات حتّي مع قصد القربة إن كانت بدون الفاتحة ليست محرّمة تكليفا،بل هي حرام تشريعا.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)امورا قبل الدخول في البحث:

الأوّل:الفرق بين هذه المسألة و مسألة الاجتماع أنّه يبحث في هذه المسألة في دلالة النهي علي الفساد،و أمّا في مسألة الاجتماع فيبحث عن أنّ تعدّد العنوان هل

ص: 190


1- كفاية الاصول ص 217.

يوجب تعدّد متعلّق الأمر و النهي أم لا؟

أقول:الفرق بين المسألتين أنّ البحث في هذه المسألة في أنّ النهي عن العبادة بعنوان العبادة،كالنهي عن صلاة الحائض و النهي عن صوم العيدين،يوجب فسادها أم لا،و كذا النهي عن المعاملة.و أمّا في مسألة الاجتماع،فيبحث في أنّ الواحد وجودا و ماهيّة هل يتعلّق به النهي و الأمر من جهتين تعليلتين أم لا؟ فالسجود في الصلاة في المكان المغصوب قد تعلّق به النهي من حيث كونه غصبا، و تعلّق به الأمر من حيث كونه جزء للصلاة،و لم يتعلّق النهي بالسجود بما هو عبادة.

قال في الكفاية:الثالث ظاهر النهي هو النهي التحريمي إلاّ انّ ملاك البحث يعمّ التنزيهي في العبادات؛لأنّ الملاك إن كان المضادّة،فالأحكام الخمسة كلّها متضادّة،فالنهي التنزيهي يضادّ الأمر الوجوبي و الندبي (1).

أقول:معني النهي التنزيهي أنّ متعلّقه جائز الوقوع،و جواز وقوع العبادة يتوقّف علي الأمر بها،فالنهي التنزيهي عن العبادة ملازم للأمر الاستحبابي أو الوجوبي بها،فلا مضادّة بينهما،لأنّ النهي التنزيهي عن العبادة الواجبة ينشأ عن وجود مفسدة غير ملزمة في المتعلّق من دون تصرّف في المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل الواجب،كالصلاة في الحمّام،فإنّ مصلحتها الملزمة متّحدة مع الصلاة في غير الحمّام،إلاّ انّها مشتملة علي مفسدة غير ملزمة،و كذا المصلحة الراجحة في المستحبّ.

قال في الكفاية:و يعمّ النهي الغيري (2).

أقول:أوّلا قد أنكرنا وجود النهي الغيري المولوي؛لأنّ أمر المولي و نهيه8.

ص: 191


1- كفاية الاصول ص 218.
2- كفاية الاصول ص 218.

المولوي تابعان للمصلحة و المفسدة في المتعلّق،و النهي الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة و لا مصلحة و لا مفسدة فيها أصلا،و إنّما هي دخيلة في الامتثال،و ليس للمولي شأن في مرحلة الامتثال إلاّ إرشادا لا مولويّا.نعم لو سلّم وجود النهي المولوي الغيري و تعلّق بالعبادة،لكان منافيا لقصد التقرّب مع العلم و العمد.

و ثانيا:أنّ النهي الغيري لا يتعلّق بالعبادة بما هي عبادة،بل يتعلّق بالعمل بعنوان كونه مقدّمة للحرام من حيث كونه مقدّمة،فيكون من باب اجتماع الأمر و النهي.

قال في الكفاية:الرابع ما يتعلّق به النهي إمّا أن يكون عبادة أو غيرها،و المراد بالعبادة هنا ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة للّه تعالي موجبا بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته،كالسجود و الخضوع و الخشوع للّه و تسبيحه و تقديسه،أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمرا عباديّا لا يسقط إلاّ إذا أتي به بنحو قربي كسائر أمثاله،نحو صوم العيدين و الصلاة في أيّام العادة (1).

أقول:تقدّم في بحث التعبّدي و التوصّلي أنّ بعض الأفعال يمكن أن يصير عبادة بالنيّة،مع أنّه ليس عبادة في ذاته،كالنوم فإنّه مباح في نفسه،لكن من نام بنيّة أن يتقوّي بدنه ليقدر علي العبادة،كان مثابا عليه،و كذا كلّ عمل قصد كونه للّه إن كان قابلا للانتساب إليه كان عبادة و مثابا عليه،فإن فرض تعلّق النهي بالتعبّد بالنوم،فإن فعله للّه تعالي فقد ارتكب محرّما واحدا،و إن بني علي أنّه مأمور به و قصد الأمر به،فقد عصي حرمتين:الحرمة الذاتية،و الحرمة التشريعية.

و أمّا ما ذكره من أنّ النهي عن صوم يوم العيد نهي عن العبادة؛لأنّ الصوم إن تعلّق الأمر به كان عبادة.ففيه نظر؛لأنّ الامساك بدون نية القربة ليس صوما و لا حراما.و من صام يوم العيد غير متقرّب إلي اللّه لم يكن حراما؛لأنّ صوم يوم العيد9.

ص: 192


1- كفاية الاصول ص 218-219.

حرام.

قال في الكفاية:الخامس أنّه لا يدخل في عنوان النزاع إلاّ ما كان قابلا للاتّصاف بالصحّة و الفساد الي آخر كلامه (1).

أقول:الظاهر عدم الحاجة إلي هذا الأمر،و الأولي أن يقال:إن تعلّق النهي التحريمي بالعبادة و صارت محرّمة بعنوان العبادة،فلا يعقل تعلّق الأمر بها،و إن تعلّق بأثر المعاملات اقتضي عدم امضاء الشارع لها،فلا تؤثّر في الملكيّة،و أمّا الصحّة و الفساد فهما في مقام تطبيق ما أتي به علي المأمور به و عدمه،فلا ربط لهما بمقام الأمر و النهي،و الصحّة في العبادات و المعاملات أمر واحد،و هو انطباق المجعول الشرعي من العبادة كالصلاة،و المعاملة كالبيع المشروع مع المأتي به في الخارج،فهي أمر انتزاعي في كليهما.

قال:السابع لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ الي آخره (2).

أقول:إن شكّ في أنّ حرمة العمل هل تنافي الأمر به أم لا و كان للأمر إطلاق، فمرجع الشكّ إلي الشكّ في التقييد،فيتمسّك لصحّة العمل بإطلاق الأمر،و إن لم يكن له إطلاق فمرجعه إلي الشكّ في أصل الأمر،فلا يجوز الاتيان به بقصد الأمر، هذا في العبادات،و أمّا المعاملات فإن كان لأدلّتها إطلاق فيتمسّك به لصحّتها،و إلاّ فيرجع الشكّ إلي إمضاء الشارع للمعاملة،و الأصل عدمه.

قال:الثامن أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة كصوم يوم العيدين،أو جزءها كقراءة العزائم في الفريضة،أو شرطها الخارج عنها،أو وصفها الملازم كالجهر و الاخفات للقراءة،أو الغير الملازم كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة2.

ص: 193


1- كفاية الاصول ص 219.
2- كفاية الاصول ص 222.

عنها (1).

أقول:لا ريب في كون القسمين الأوّلين محلّ النزاع.

و أمّا الثالث،فإن أريد من الشرط الخارج ما كان متقدّما أو متأخّرا و كان عبادة،فلا ريب في دخوله في محلّ النزاع،كالوضوء للصلاة مثلا إن جعلناه شرطا لا الطهارة الحاصلة منها المقارنة للعمل،لكن لا يحضرني أن يكون متعلّق النهي الشرط الخارج بعنوان العبادة،أمّا الوضوء بالماء المغصوب،فهو من باب الاجتماع.

و أمّا الرابع،فيمكن فرضه فيما إذا أجهر بالقراءة رياء في الاجهار لا في أصل القراءة،بأن يكون الاجهار المتّحد مع القراءة متعلّق النهي لا بعنوان آخر حتّي يكون من باب الاجتماع.

و أمّا الخامس،فلا يحضرني له مثال يكون متعلّق النهي الوصف الغير الملازم من حيث كونه وصفا للعبادة،و لا يكون من باب الاجتماع.

و بعد تمهيد الامور المذكورة يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادات بما هي عبادات
اشارة

فنقول:إن تعلّق النهي بالعمل العبادي،كصوم العيدين،و هو الامساك عن المفطرات للّه تعالي،و كصلاة الحائض،و هي الأفعال المخصوصة للّه تعالي،كان العمل المأتي به للّه حراما و مبغوضا،فإن بني علي كونه مأمورا به و قصد تعلّق الأمر به مضافا إلي ذلك كان مشرّعا أيضا،فالعمل المجعول للّه تعالي حرام،و قصد كونه مأمورا به حرام آخر،و لا ضير في اجتماعهما،كشرب الخمر بقصد الأمر به.

ص: 194


1- كفاية الاصول ص 222-223.

و قد يقال:إنّ العمل قد يكون عبادة إن تعلّق به الأمر،و قد يكون عبادة في ذاته كالسجود.

أقول:لا فرق بين السجود و غيره في أنّ النهي إن تعلّق بأصل السجود إن لم يكن للّه تعالي،فلم يتعلّق بالعبادة.و إن تعلّق بالسجود للّه تعالي،فقد تعلّق بما هو عبادة،و الفرق بين السجود للّه تعالي و غيره من الأفعال القابلة لجعلها للّه،أنّ السجود قابل في ذاته لجعله للّه.فالمراد بالعبادية في ذاته ما علم كونه قابلا للعبادة بدون الأمر به،هذا فيما كان عبادة مع قطع النظر عن الأمر به.

و أمّا ما كان عبادة لو امر به،كصوم يوم العيدين و صلاة الحائض و نحوهما، فالنهي المتعلّق بالصوم قد تعلّق بالامساك بقصد التقرّب أي بأن يكون للّه تعالي، فإنّه معني الصوم الذي تعلّق به النهي كصوم سائر الأيّام،و هذا حرام.

و أمّا الامساك عن جميع المفطرات بدون قصد القربة فليس بحرام،و لذا ذكرنا أنّ من أراد الاحتياط في بعض الأسفار،كما إذا سافر بريدا و أقام ليلة ثمّ رجع بريدا أنّه يصوم و يقصد إن كان الصوم في هذا السفر مشروعا فإمساكي للّه،و إن لم يكن مشروعا فإمساكي مجرّد إمساك.

إشكال و دفع:

أمّا الأوّل،فهو أنّ النهي إن تعلّق بذات العمل،فهي ليست عبادة.و إن تعلّق بإتيانه بقصد الأمر مع أنّه لا أمر به،كان حراما تشريعا،و محلّ الكلام الحرمة التكليفية لا التشريعية.

و أمّا الثاني،فهو أنّ النهي إن تعلّق بإتيان العمل للّه تعالي،كان حراما تكليفا، فإن قصد الأمر مع ذلك كان حراما في نفسه و حراما تشريعا،كما إذا قصد الأمر بشرب الخمر.

و أجاب عن الاشكال في الكفاية،بأنّ معني حرمة صوم العيدين أنّه لو امر به

ص: 195

كان عبادة لا يسقط الأمر به إلاّ إذا أتي به بقصد القربة،كصوم سائر الأيّام (1).

و قريب منه ما ذكر في فوائد الاصول (2)و غيره.

أقول:ظاهر كلامه أنّ قصد الصوم في العيدين حرام حتّي مع عدم قصد القربة في حين أنّ الأمر ليس كذلك؛لأنّ الحرام هو الصوم الصحيح،أي:الامساك بقصد القربة.

و أجاب بوجه آخر،فقال:مع أنّه لو لم يكن النهي في العبادات دالاّ علي الحرمة لكان دالاّ علي الحرمة التشريعيّة،فيدلّ علي أنّها ليست بمأمور به (3).

أقول:حمل النهي علي الحرمة التشريعيّة خلاف الظاهر.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:

تقدّم أنّ العبادة التي اجتمع فيها الأمر و النهي إن وقعت حال الجهل بالحرمة أو النسيان أو غيرهما من الأعذار،صحيحة حتّي علي الامتناع؛لأنّ المانع هي فعليّة النهي،و لا يتوهّم أنّ ذلك يقتضي أن يكون النهي في العبادة أيضا كذلك،و تكون العبادة المنهيّة صحيحة حال العذر لعدم فعليّة النهي،و ذلك للفرق بين اجتماع الأمر و النهي و بين النهي في العبادة،فإنّه يوجب تخصيص الأمر بالعبادة بغير مورد النهي،فصلاة الحائض ليست مأمورا بها،هذا إن كان إطلاق النهي شاملا لجميع الأحوال.

و أمّا إن لم يكن له إطلاق،فيمكن أن يقال بأنّ القدر المتيقّن من النهي هو حال العلم و العمد لا حال العذر،فلا نهي حال العذر.

التنبيه الثاني:

قد تقدّم أنّ من نذر أن يصلّي صلاة الفريضة الواجبة في الجماعة،إن

ص: 196


1- كفاية الاصول ص 225.
2- فوائد الاصول 1:286.
3- كفاية الاصول ص 225.

صلّي فرادي كانت صلاته حنثا للنذر،و الحنث منهي عنه،فتكون الصلاة فرادي منهيّا عنها،لكن هذا النهي عن العبادة لا يوجب فسادها؛لأنّها إن اقتضت الفساد انتفي الحنث،و إن انتفي الحنث انتفي الحرمة،فهذه الحرمة لا توجب الفساد لاستلزامه المحال،أي:يستلزم من وجوده عدمه،و سبق في مسألة الصحيح و الأعمّ،فلاحظ.

المقام الثاني: في النهي في المعاملات
اشارة

و المراد به النهي التحريمي التكليفي لا النهي الارشادي إلي المانعيّة الذي منه النهي عن شيء في المركّبات المخترعة،فقد يقال بأنّ الظاهر من الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمركّبات الارشاد إلي الجزئية و الشرطية،من حيث انّ بيان المركّب علي عهدة مخترعه،و ذلك قرينة علي صرف الأمر و النهي عن ظاهرهما في التكليفي إلي بيان ماهيّة المركّبات المخترعة.

ثمّ إنّ النهي المتعلّق بالمعاملات يتصوّر علي وجوه:

أحدها:النهي المتعلّق بالعقد بما هو فعل مباشري للعاقد،لا بما هو تسبيب إلي الملكيّة،كعقد المرأة البيع بصوتها الفاتن للأجنبي،و حرمته لا توجب عدم انعقاد البيع حتّي لا ينتقل المال،بل العقد صحيح وضعا و مشمول لأدلّة نفوذ العقود، و كالبيع وقت النداء يوم الجمعة،و تسمّي الحرمة المذكورة بحرمة السبب في الاصطلاح.

ثانيها:النهي المتعلّق بمضمون المعاملة بما هو فعل توليدي للعاقد،أي:انتقال المبيع إلي المشتري و ملكيّته له،و حرمته موقوفة علي تحقّق الملكيّة؛لأنّ المفروض أنّ ملكيّة المشتري للعين حرام تكليفا،و إن لم يتحقّق الملكيّة فلا يكون حراما،و يسمّي بحرمة التسبيب؛لأنّه فعل توليدي غير مباشري بل تسبيبي،كما

ص: 197

يسمّي بالمسبّب أيضا.

و يمكن أن يجعل ملكيّة الكافر للمسلم من هذا القبيل،بناء علي أنّ إسلام عبده لا يوجب خروجه عن ملكه،بل يجب ابتياعه منه و يحرم ملكيّته له.

ثالثها:النهي المتعلّق بالنقل بالمعني المصدري،أي النقل البيعي،و هو يكون علي وجهين:

الأوّل أن يعلم كون البيع واجدا لجميع شرائط الصحّة،و لازمه نفوذه،و يكون المحرّم النقل البيعي،كنهي الوالد ابنه عن بيع داره إذا تأذّي من بيعه،أي:نقل ماله بالبيع و إن لم يتأذّ من نقله بهبة و نحوها.

و حرمة البيع المذكور لا تنافي صحّته؛لأنّ النسبة بين دليل إمضاء البيع و حرمة ايذاء الوالدين العموم من وجه،فدليل حرمة الايذاء ليس أخصّ من عموم دليل إمضاء البيع،و لم يثبت اشتراط صحّة البيع بعدم الايذاء.

الثاني:أن يكون النهي متعلّقا بالنقل بالمعني المصدري،كالبيع الربوي مثلا،و لم يعلم كون صحّته غير مشروطة بأن لا يكون ربويا،و حينئذ حيث انّ النسبة بين دليل حرمة البيع الربوي و دليل إمضاء البيع و مطلق العقود العموم و الخصوص المطلق،فيكون دليل الحرمة مخصّصا لدليل الامضاء،فلا يوجب البيع ملكيّته للمشتري،و يعبّر عنه بالتسبّب بالمعاملة،و هو حرام و إن لم يكن السبب حراما و لم يكن المسبّب-أعني:انتقال المال من البايع إلي المشتري-حراما بغير البيع،فإنّ انتقال الزيادة إلي المشتري بهبة و نحوها ليس بحرام.

و قال في الكفاية بعد نقل دلالة النهي علي الصحّة عن أبي حنيفة:و التحقيق أنّه كذلك،أي يدلّ علي الصحّة إذا كان عن المسبّب أو التسبيب؛لأنّه إذا لم يؤثّر العقد

ص: 198

في النقل،فأيّ شيء يكون متعلّق النهي؟مع أنّه لا بدّ أن يكون متعلّقه مقدورا (1).

أقول:ما ذكره صحيح في النهي عن المسبّب،أي:النهي عن ملكيّة الكافر للمسلم مثلا.

و أمّا النهي عن التسبيب،فإن كان نهيا عن التسبيب الشرعي الذي أمضاه الشارع،فالنهي عنه يدلّ علي الصحّة.و أمّا إن كان النهي عن التسبيب نهيا عن قصد النقل العرفي،فالمحرّم هو قصد النقل بالعقد الذي يقصده عرف العقلاء عند بيعهم الخمر و الميتة و البيع الربوي،و هو حرام تكليفا،و لا تدلّ الحرمة التكليفية علي صحّة المعاملة؛لأنّ متعلّق الحرمة التكليفيّة قصد النقل عند عرف الناس، و البايع يتمكّن من قصد المعاملة،كما يقصده عرف العقلاء.ثمّ إنّه إن دلّ دليل علي الحرمة الوضعيّة،كان البيع حراما وضعا و تكليفا،كبيع الميتة.و أمّا إن لم يدلّ دليل علي الحرمة وضعا،فهل الحرمة التكليفيّة توجب عدم إمضاء المعاملة أم لا؟ وجهان،لا يبعد أن يقال:إنّ بيع الميتة مثلا إنّما يصحّ شرعا بعد إمضاء الشارع له، و مع النهي التكليفي عن النقل،فحيث انّ النهي عنه أخصّ من عموم إمضاء البيع، فيخصّصه بغير بيع الميتة.

رابعها:النهي المتعلّق بالتصرّف في الثمن أو المثمن،مثل قوله«ثمن الميتة سحت»و«آكل الربا آكل النار»و نحوهما،فإن كان ظاهرا في أنّ حرمة التصرّف ناشئة عن عدم تأثير البيع في انتقال الثمن أو المثمن،و انّهما باقيان علي ملك أربابهما،و يحرم التصرّف في ملك الغير،فيدلّ علي بطلان المعاملة.و إن لم يكن ظاهرا في ذلك،فلا ينافي نفوذ المعاملة،كما قيل في المال المأخوذ بحكم الجائر إن كان عين مال الآخذ،إنّ العين ملك للآخذ و يحرم التصرّف فيه،لقوله في خبر8.

ص: 199


1- كفاية الاصول ص 228.

عمر بن حنظلة«و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا،و إن كان حقّه ثابتا»فإنّه مع أنّه ملكه يحرم له التصرّف فيه،لكنّه بعيد.

و الأقرب دلالته علي فساد المعاملة،و لعلّ المراد من حرمة التصرّف في الثمن من أجل كونه مال الغير مبغوضيّة التصرّف في مال الغير بهذا الطريق،و يكون مبغوضيته بالسرقة أقلّ منه.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:ذكر في فوائد الاصول (1)أنّ النهي في المعاملات يتعلّق بثلاثة أشياء:

أحدها:الانشاء،كالبيع وقت النداء،و إنشاء البيع أثناء الصلاة بناء علي حرمة إبطال الفريضة،و إنشاء المرأة البيع بصوتها الذي لا يجوز لها إسماعه الرجال، و حرمته لا تستلزم مبغوضية المنشأ،فلا يبطل البيع.

ثانيها:المنشأ،و هو النقل و الانتقال،و النهي عنه يقتضي الفساد؛لأنّ المنشأ إذا كان حراما فهو ممنوع عنه شرعا،و المانع الشرعي كالمانع العقلي،و ذلك لأنّ الأمر و النهي الشرعيّين موجبان لخروج متعلّقهما عن سلطنة المكلّف،و يكون في عالم التشريع مقهورا علي الفعل أو الترك،و من هنا كان أخذ الاجرة علي الواجبات حراما لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته و سلطانه،و كذا النهي يكون مخصّصا لعموم«الناس مسلّطون علي أموالهم»و علي ذلك يبتني عدم جواز بيع منذور الصدقة.

ثالثها:آثار المنشأ،كقوله«ثمن العذرة سحت»و هو يكشف إنّا عن عدم تحقّق المنشأ،أي:النقل و الانتقال.

أقول:الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمركّبات المخترعة الظاهرة في الارشاد إلي

ص: 200

كيفيّة المركّب من الأجزاء و الشرائط و الموانع خارجة عن محلّ الكلام.

و محلّ النزاع ما إذا كان النهي نهيا تكليفيّا،و النهي التكليفي إن تعلّق بالمنشأ فلا يقتضي فساده؛لأنّ مفهوم البيع معلوم من الأدلّة الشرعيّة،و المفروض أنّه لم يؤخذ في مفهومه عدم حرمة المنشأ،فإذا حرم المنشأ كان صحيحا؛لشمول دليل نفوذ البيع له،فإذا نهي الوالد ابنه عن بيع داره كان البيع صحيحا لاشتماله علي جميع الشرائط و يكون النقل الحاصل به الانتقال محرّما.

و أمّا ما أفاده من كونه ممنوعا شرعا،فلا ريب فيه إلاّ انّ كون الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ليس له دليل؛لأنّه إذا صدق مفهوم البيع مع وجود سائر الشرائط المعتبرة فيه شرعا،فالحرمة التكليفيّة لا توجب البطلان.

و أمّا عدم جواز أخذ الاجرة علي الواجبات،فهو مخصوص بما إذا علم أنّ الواجب ممّا يعتبر في صحّته كونه مجّانا بلا عوض،و إلاّ فلا يمنع مجرّد الوجوب عن أخذ الاجرة.

و أمّا بيع منذور التصدّق،فإنّه يشمله عموم أدلّة نفوذ البيع،فيكون بيعه صحيحا نافذا و حنثا للنذر و تجب الكفّارة،بناء علي عدم اقتضاء وجوب التصدّق وجوب إبقاء العين،و إلاّ فيبطل البيع؛لعدم القدرة علي التسليم شرعا.

و مثله بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا،فإنّه يمكن منع صحّة البيع؛لأنّ تسليم العنب ممّن يعمله خمرا إعانة علي الحرام،و هو محرّم و سابق علي وجوب الوفاء بالعقد،فلا يتعلّق بالتسليم وجوب الوفاء؛لكون وجوب الوفاء بالعقد أمرا بالمعصية،و يمكن أن يجعل منذور التصدّق من هذا القبيل؛لأنّه إذا وجب حفظه للتصدّق به،فالأمر بالوفاء بالعقد يكون أمرا بإتلافه،فتأمّل.

التنبيه الثاني: في دلالة النهي علي الفساد

استدلّ لدلالة النهي علي الفساد بما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده،فقال:ذاك إلي سيّده إن شاء أجازه،و إن

ص: 201

شاء فرّق بينهما،قلت:أصلحك اللّه إنّ الحكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما يقولون:إنّ أصل النكاح فاسد،و لا تحلّ إجازة السيّد له،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إنّه لم يعص اللّه إنّما عصي سيّده،فاذا أجازه فهو له جائز (1).

فإنّه يدلّ علي أنّه لو كان التزوّج حراما و معصية للّه فسد،و لا فرق بين عقد التزوّج و سائر العقود.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّ المراد أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه كالعقد علي الاختين (2).

و اجيب بأنّ نكاح العبد ليس بما هو نكاح معصية للّه،بل عنوان مخالفة مولاه حرام و معصية للّه،و لا تسري حرمتها إلي النكاح،نظير ما قلنا إنّ النافلة المنذورة لا تصير واجبة،بل يجب الوفاء بالنذر و هو الاتيان بالنافلة بقصد كونها نافلة مندوبة.

أقول:ما ذكره خلاف عموم النفي في قوله«إنّه لم يعص اللّه»فإنّه يقتضي أنّ تزويجه بغير إذن سيّده لا يكون معصية للّه تعالي لا بعنوان مخالفة سيّده و لا بغيره، فما ذكره في الكفاية لعلّه الأظهر.

المقصد الثالث: في المفاهيم

اشارة

و فيه مقدمة و فصول،أمّا المقدّمة فيذكر فيها جهات:

الجهة الاولي:أنّ التعبير بالمنطوق و المفهوم إنّما هو إصطلاح المتأخّرين،و أمّا القدماء كالشيخ الطوسي رحمه اللّه،فإنّه عبّر عن المفهوم المخالف بدليل الخطاب،و عن

ص: 202


1- فروع الكافي 5:478 ح 3.
2- كفاية الاصول ص 227.

المفهوم الموافق بالفحوي (1).

و قال في تعداد القرائن المقترنة بالخبر التي توجب العلم بمضمون الخبر:و منها أن يكون الخبر مطابقا لنصّ الكتاب إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه (2).

و هذا التعبير أولي،فإنّ الاصطلاح الحادث يوهم أنّ القضية لا تدلّ عليه دلالة لفظيّة منطوقية.

الجهة الثانية:في أنّ مفهوم هل هو حكم غير مذكور بحيث يكون كقضية مقدّرة مثلا،أو أنّه مدلول القضية المذكورة؟اختار في الكفاية الأوّل،قال:فمفهوم إن جاءك زيد فأكرمه مثلا لو قيل به قضية شرطية سالبة بشرطها و جزائها،أي:إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه (3).

أقول:و الظاهر هو الثاني،كما لعلّه الظاهر من الشيخ الطوسي و غيره؛لأنّ القول بالمفهوم موقوف علي دلالة القضيّة علي الحصر،بأن يكون مفاد قوله أكرم زيدا إن جاءك عبارة اخري عن قوله ينحصر وجوب إكرام زيد في مجيئه إليك،فلا تنحلّ القضيّة الشرطيّة إلي قضيّتين موجبة مذكورة و قضيّة سالبة غير مذكورة.

الجهة الثالثة:في أنّ الدلالة علي المفهوم دلالة لفظيّة أو عقليّة،اختار ثانيهما في نهاية الاصول (4)،فإنّه فسّر المفهوم بأنّه دلالة علي معني لم ينطق به المتكلّم؛لأنّه إذا قال:إن جاءك زيد فأكرمه،فهم منه عدم ثبوت الوجوب عند عدم المجيء، لكن لو قيل له أنت قلت هذا،أمكنه إنكار ذلك بأن يقول ما قلت.

ثمّ قال:بأنّ استفادة المعني من اللفظ يتوقّف علي أن لا يكون المتكلّم لاغيا3.

ص: 203


1- عدة الاصول 2:187 ط قديم.
2- العدة 1:59.
3- كفاية الاصول ص 230.
4- نهاية الاصول ص 263.

و كونه مريدا لإفادة ما هو ظاهر اللفظ،و عدم إجماله و حجّية الظهور.

و المتكفّل لإثبات الأمر الأوّل و الثاني ليس هو اللفظ،بل بناء العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحّة،و هذا البناء ثابت في أبعاض الكلام،فإذا قال المولي:إن جاءك زيد فأكرمه،حكم العقلاء بدخالة مجيء زيد في وجوب إكرامه،إلي آخر ما أفاده في المقام،فلاحظ جميعه.

أقول:أمّا ما ذكره من تفسير المفهوم،فمنقوض بمثل الكنايات،كقولك زيد كثير الرماد المقصود به الكناية عن كونه جوادا،مع أنّه ليس من المفهوم.

و أمّا كون المفهوم مستفادا من بناء العقلاء،ففيه أنّ كون المتكلّم مريدا للمعني معتبر في كشف الكلام عن إرادة المتكلّم،لكن هل وجوب الاكرام منحصر بمجيء زيد أو هو ساكت عنه،فهو لا يرتبط ببناء العقلاء،بل هو تابع لظهور القضيّة في ذلك.

الجهة الرابعة:في أنّ النزاع صغروي أو كبروي،قال في نهاية الاصول:إنّه كبروي،لأنّ بناء العقلاء علي حمل القيد علي دخله في المطلوب ثابت،و يقع النزاع في حجّيتها (1).

أقول:إنّ القيد دخيل في المطلوب،لكن النزاع واقع في كونه دخيلا بنحو الانحصار أو مجرّد ثبوت الجزاء عند ثبوته:فإن دلّت الجملة دلالة عرفيّة يعتمد عليها في المحاورات علي الحصر فالمفهوم موجود،و إلاّ فلا فالنزاع صغروي في أنّه هل تدلّ علي الحصر أم لا.6.

ص: 204


1- نهاية الاصول ص 266.

فصل في دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم

اشارة

في دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم وضعا أو عرفا أو بقرينة عامّة أو بمقدّمات الحكمة و عدمها،احتمالان:

الأوّل عدم الدلالة،فإنّ مفادها تحقّق التالي علي تقدير وجود المقدّم المسمّي بالشرط في جميع موارد استعمالها من دون عناية و لا تجريد،بلا فرق بين قولك إن رزقت ولدا فاختنه،و قولك إن جاءك زيد فأكرمه،و قولك إن كان النهار موجودا فالشمس لم تغب و غيرها.

و ذلك لأنّ معني«إن»هو الفرض و التقدير،و معني«ف»الملازمة بين مدخولها و مدخول سابقه،و الأمثلة المذكورة مشتركة في ذلك،بخلاف مثل قولك إن كان زيد جوادا فالحمار ناهق،فإنّه يعدّ من الأغلاط؛لعدم الملازمة.

ثمّ إنّه لا دلالة لها علي حصر التالي في المقدّم،نعم لا بدّ أن يكون للقيد فائدة، كدخالته في الحكم،أو في تعليله،أو تقريبه إلي الذهن،أو غير ذلك،فقولك«إن جاءك زيد فأكرمه»يقتضي دخالة الشرط في وجوب الاكرام،فلو كان إكرام زيد واجبا علي كلّ حال جاء زيد أو لم يجيء،لكان لغوا،بخلاف ما إذا كان له دخالة في وجوب الاكرام،ولكن لا ينافي أن يكون لإكرامه لك أيضا دخالة في وجوب إكرامه،فإن قال بعد ذلك إن أكرمك زيد فأكرمه،لم يكن منافيا لقوله إن جاءك فأكرمه.

الثاني:الدلالة،اختاره جماعة و استدلّ عليه بوجوه:

أحدها:ما في فوائد الاصول،و هو جريان مقدّمات الحكمة في الجزاء؛لأنّ معني التقييد هو إناطة الجزاء بالشرط،و مقتضي إناطته به بخصوصه هو دوران الجزاء مداره وجودا و عدما،سواء سبقه شيء آخر أو قارنه؛لأنّ المتكلّم قيّد

ص: 205

الجزاء بذلك الشرط بخصوصه،و لم يقيّده بشيء آخر لا علي نحو الاشتراك،بأن جعل شيئا آخر موجبا لذلك الشرط قيدا للجزاء،و لا علي نحو الاستقلال بأن جعل شيئا آخر موجبا لترتّب الجزاء عليه عند انفراده.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:إن كان المتكلّم في مقام بيان حصر الجزاء في الشرط،فلا ريب في الدلالة علي المفهوم،و أمّا إذا كان في مقام بيان تعليق وجود الجزاء علي وجود الشرط كما هو ظاهر القضيّة،فيكفي كون الشرط موجبا لتحقّق الجزاء عنده، و يكون ساكتا عن عدم ثبوت الجزاء عند شرط آخر هو شرط مستقلّ لتحقّق الجزاء عنده.

ثانيها:ما ذكره في المحاضرات،قال:لا مفهوم لها علي نظر المشهور في معني الاخبار و الانشاء،و لها مفهوم علي نظرنا،قال في بيان ثبوت المفهوم علي مختاره:إنّ الجملة الشرطيّة الاخباريّة تدلّ علي قصد المتكلّم الحكاية و الاخبار عن ثبوت شيء في الواقع علي تقدير ثبوت شيء آخر فيه لا علي نحو الاطلاق، فهو أخبر عن الشيء علي تقدير خاصّ،و ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير.

و أمّا الانشائيّة كقضيّة إن استطعت فحجّ مثلا،دلّت علي أنّ اعتبار المولي مفاد الجزاء علي ذمّة المكلّف،كالحجّ لا يكون علي نحو الاطلاق،بل هو علي تقدير تحقّق الشرط كالاستطاعة،و لازم ذلك دلالتها علي عدم اعتباره علي تقدير عدم تحقّقه،إلي آخر ما افيد في هذا المقام فلاحظ (2).

أقول:لا إشكال في انتفاء هذا الخبر عند انتفاء القيد؛لأنّه إخبار علي تقدير.

و أمّا الدلالة علي حصر الاخبار في ذلك بحيث ينافي الاخبار بعده بما ينافي الحصر،فهي ممنوعة،مثلا لو قيل:إنّما يأكل زيد التفّاح إن كان مريضا،أي:9.

ص: 206


1- فوائد الاصول 1:300.
2- المحاضرات 4:79.

ينحصر أكله التفّاح عند مرضه،فإنّه ينافي قولك زيد يأكل التفّاح إن سافر،بخلاف ما لو قيل زيد يأكل التفّاح إن كان مريضا،فإنّه لا ينافي قولك ثانيا زيد يأكل التفّاح إن سافر.

و أمّا الفرق بين نظر المشهور و بين هذه النظريّة فلا أعرفه،هذا في الجملة الاخباريّة.

و أمّا الانشائية،فلا ريب في دلالتها علي أنّه اعتبر علي ذمّة العبد وجوب الحجّ علي تقدير استطاعته.و أمّا دلالتها علي أنّه لم يعتبر الحجّ علي ذمّته علي تقدير آخر،فغير ثابت،بحيث لو ورد أنّ من كان بينه و بين مكّة مسافة قليلة يجب عليه الحجّ،و إن لم يكن مستطيعا لكان منافيا للمفهوم.

ثالثها:تبادر اللزوم و الترتّب بنحو الترتّب علي العلّة المنحصرة،و اعتمد علي هذا الوجه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (1).

رابعها:انصراف العلاقة اللزوميّة إلي أكمل الأفراد،و هو اللزوم بنحو العلّة المنحصرة.

خامسها:جريان مقدّمات الحكمة في اللزوم؛لأنّ اللزوم بنحو العلّة الغير المنحصرة له عدل،و مقتضي الاطلاق اللزوم في جميع الأحوال،وجد عدل آخر أو لم يوجد،و هو مساوق للزوم بنحو العلّة المنحصرة.

و أجاب عنه في الكفاية (2)أوّلا:بأنّ اللزوم مستفاد من أداة الشرط،و المعني الحرفي لا يجري فيه مقدّمات الحكمة.و ثانيا:بأنّ اللزوم بنحو العلّة المنحصرة لا يختلف عن اللزوم بغيرها.

سادسها:إجراء مقدّمات الحكمة في الشرط،فإنّه لو لم يكن شرطا علي2.

ص: 207


1- تقريرات الشيخ ص 171.
2- كفاية الاصول ص 232.

الاطلاق أي:منحصرا،لزم تقييده بأنّه شرط إن قارنه شرط آخر أو إن لم يسبقه شرط آخر،و مقتضي الاطلاق أنّه شرط و إن لم يقارنه شرط آخر أو سبقه شرط آخر.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لو كان له إطلاق كذلك لدلّ علي المفهوم لكنّه نادر لو لم نقل بعدم وجوده.

أقول:هو كما أفاده ليس له إطلاق كذلك،فإنّ مقتضي مقدّمات الحكمة أنّ وجوب الاكرام ثابت عند مجيء زيد في قول القائل«إن جاءك زيد فأكرمه»سواء جاء معه عمرو أم لا،و سواء أكرمه قبل مجيئه أم لا.و أمّا عدم وجوبه عند عدم مجيئه،فالقضيّة لا تدلّ عليه بحيث لو ورد دليل علي وجوب إكرامه عند صيرورته عالما مثلا يكون منافيا لهذا المفهوم.

سابعها:ما في الكفاية من إجراء مقدّمات الحكمة في الشرط أيضا بتقريب آخر،و هو أنّه لو كان الحكم المذكور في الجزاء ثابتا إن وجد شرط آخر أيضا لم يكن الشرط شرطا تعيينا،بل كان تخييرا بينه و بين الشرط الآخر و كان كلاهما شرطا مستقلا.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا يختلف الشرطيّة إن كان شيء آخر شرطا أيضا، فالشرط المتعدّد لا يغاير الشرط المتّحد (1)..

تتميم:استدلّ في الحدائق (2)بجملة من النصوص علي حجيّة مفهوم الشرط، و ذكرها في الاصول الأصليّة (3)فراجع،لكنّها لا تدلّ علي دلالة القضيّة الشرطيّة علي المفهوم.8.

ص: 208


1- كفاية الاصول ص 233.
2- الحدائق الناضرة 1:58.
3- الاصول الأصليّة ص 38.

منها:ما روي في قصّة إبراهيم،رواه في معاني الأخبار بسنده عن صالح بن سعيد،عن رجل من أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ في قصّة إبراهيم عليه السّلام قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ قال:ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم عليه السّلام،فقلت:فكيف ذلك؟قال:

إنّما قال إبراهيم عليه السّلام:فأسألوهم إن كانوا ينطقون،إن نطقوا فكبيرهم فعل،و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا،فما نطقوا و ما كذب إبراهيم عليه السّلام (1).

و الرواية مرسلة ليست بحجّة،مع أنّ صدق الشرطيّة تابع لصدق الملازمة،و لا يصدق الملازمة في قوله«بل فعله كبيرهم»إن كانوا ينطقون،و لعلّ معني الآية إخبار إبراهيم أنّ كبيرهم فعل احتجاجا عليهم كقوله«هذا ربّي»ثمّ قال:فاسألوهم فيجيبون إن كانوا ينطقون.و يمكن إرجاع ضمير الفاعل إلي إبراهيم في قوله بَلْ فَعَلَهُ علي وجه التورية.

تذنيب:

لا يخفي أنّ الفحوي و تسمّي بلحن الخطاب و مفهوم الموافقة عبارة عن ثبوت الحكم للفرد الأعلي المشارك في العلّة للفرد الأدني الثابت له الحكم بالدليل،مثلا إهانة الوالدين بالتأفيف أقلّ من إهانتهم بالضرب،فإذا حرم الأوّل حرم الثاني، و هذا ليس من القياس،فإنّ القياس حمل حكم شيء علي شيء آخر مماثل له من دون العلم بعلّة حكم المقيس عليه،فلعلّ له علّة لا توجد في المقيس.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:بناء علي ما ذكرنا من أنّ القول بالمفهوم مرجعه إلي القول بظهور القضيّة

في حصر الجزاء في الشرط

،فلا محلّ للبحث عن أنّ المنفي سنخ الحكم.

ص: 209


1- معاني الأخبار ص 209-210.

و أمّا علي القول الآخر،و هو أنّ المفهوم قضيّة اخري خلاف المنطوق،فالمفهوم ليس هو نفي الحكم المذكور،فإنّ نفيه عن موضوعه عقلي،مثلا قولك«أكرم زيدا» حكم خاصّ بزيد،و هذا الحكم الخاصّ منفي عن غير زيد،و كذا قولك«أكرم زيدا إن جاءك»فإنّه حكم خاصّ بزيد الجائي،و هو منفي عقلا عن زيد في حين لم يجيء؛لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه،بل المفهوم هو نفي سنخ الحكم،مثلا قولك «أكرم زيدا»مغاير لقولك«أكرم عمروا»لكنّهما من سنخ واحد و هو وجوب الاكرام،و هو المراد بسنخ الحكم المنفي في المفهوم،مثلا في قولك«إن جاءك زيد فأكرمه»انتفاء شخص الحكم المذكور عن زيد عند عدم مجيئه عقلي لا يحتاج إلي المفهوم؛لأنّه منفي أيضا فيما يتعلّق بالعين من غير شرط مثل أكرم زيدا،و أمّا مفهومه فهو قولك«إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه»فالمنفي سنخ وجوب الاكرام المذكور في المنطوق.

و هنا إشكال:و هو أنّ الوجوب المستفاد من هيئة«أكرم»شخصي؛لأنّ معني الهيئة معني حرفي،و الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف خاصّان،و الانشاء الخاصّ ينتفي عن غير موضوعه عقلا،فلا يكون مقيّدا بالشرط،كما أنّ إنشاء أكرم زيدا غير إنشاء أكرم عمروا.

و اجيب عن الاشكال بأنّ الانشاء و إن كان خاصّا،لكن المنشأ هو وجوب الاكرام الكلّي،فيمكن تقييده بالشرط.

و في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن نقل الاشكال و الجواب،أورد عليهما جميعا.أمّا علي الاشكال،فبأنّ الكلام إن كان خبرا كقولك«يجب علي زيد كذا إن فعل كذا»فالوجوب المذكور في المنطوق كلّي،و إن كان إنشاء فهو خاصّ و الموضوع له خاصّ،لكن استفادة العموم يكون من الشرط الظاهر في كونه علّة منحصرة.و أورد علي الجواب بأنّ الموضوع له في الانشاء ليس عامّا بل

ص: 210

الموضوع له خاصّ،نقلنا الكلام تقريبا (1).

و في الكفاية أورد علي الشيخ بأنّ الهيئة وضعها عامّ و الموضوع له عامّ،فلا يتوجّه ايراده علي الاشكال و الجواب (2).

أقول:تقدّم أنّ معني الهيئة معني الفعل و هو كلّي،و ليس معني الفعل معني حرفيا كما هو المشهور،فقولك«أكرم زيدا»يدلّ علي ايجاب إكرام زيد،و ايجاب إكرام زيد كلّي قابل للتقييد بمجيء زيد أو مجيء عمرو معه أو غيرهما،و القائل بالمفهوم -أي دلالة الجملة علي قضيّة سالبة-يدّعي بأنّ تقييد الايجاب بمجيء زيد يدلّ دلالة عرفيّة علي أنّه لا ايجاب عند عدم مجيئه.

التنبيه الثاني:إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء

،و علم عدم إرادة التعدّد من الجزاء،مثل إذا خفي الأذان فقصّر،و إذا خفيت الجدران فقصّر،فإنّ المعلوم وجوب صلاة واحدة،فعلي المختار من عدم الدلالة علي المفهوم فلا تعارض بينهما؛لأنّ كلّ شرط يقتضي ترتّب الجزاء عليه،و المفروض عدم تعدّد الجزاء، فإذا خفي الأذان قصّر و إن لم تخف الجدران،و إذا خفيت الجدران قصّر و إن لم يخف الأذان،و لا يخفي أنّ في خصوص المثالين كلاما محرّرا في الفقه.

و أمّا بناء علي دلالة القضيّة علي المفهوم،فعلي المختار من أنّ المفهوم عبارة عن دلالة القضيّة علي الحصر يقع التعارض بين الحصرين،و أمّا بناء علي أنّ المفهوم قضيّة غير مذكورة،فيقع التعارض بين مفهوم كلّ منهما مع منطوق الآخر، فيدور الأمر بين أمرين:

الأوّل:اعتبار أحد الأمرين.الثاني:اعتبار كليهما.

أمّا الأوّل،فيكون بأحد وجوه:

ص: 211


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 173.
2- كفاية الاصول ص 238.

أوّلها:تقييد كلّ مفهوم بمنطوق الآخر،أي:إذا لم يخف الأذان فلا يقصّر إلاّ إذا خفي الجدار،و هكذا مفهوم الآخر،فتكون النتيجة كفاية أحدهما،و عدم الاعتبار لغيرهما للمفهوم فيهما.

ثانيها:إلغاء المفهوم فيهما؛لأنّ المفهوم مستفاد من الحصر،فيرفع اليد عن الحصر،و لا دلالة علي عدم اعتبار غيرهما.

ثالثها:جعل الجامع بين الأمرين شرطا؛لأنّ تأثير المتباينين في أمر واحد، و هو وجوب القصر يوجب صدور الواحد عن المتعدّد.

و قال في الكفاية:لعلّ العرف يساعد علي إلغاء المفهوم و هو الوجه الثاني، و العقل يساعد علي جعل الجامع شرطا و هو الوجه الثالث؛لأنّ كلّ واحد لا يمكن أن يكون شرطا لاستلزامه صدور معلول واحد عن علّتين مستقلّتين،فلا بدّ من إلغاء خصوصيّة كلّ واحد و إرجاعهما إلي الجامع بينهما يكون كلّ واحد مؤثّرا بذلك الجامع الموجود في ضمنه (1).

قلت:لا يخفي أنّ الأحكام من الاعتباريات،مثلا لحفظ نظم البلاد يجعل لكلّ بلد قانون يكون مراعاته موجبا لحفظ النظم،و هو اعتبار محض تابع لاعتبار المعتبر،ليس فيه علّية و لا معلوليّة حتّي يجري فيه قاعدة عدم صدور الواحد من الكثير.

ثمّ لا يخفي أنّ هذا ليس وجها آخر،بل هو الوجه الأوّل أو الثاني،غايته أنّ الشرط تارة كلّ واحد بخصوصه،و اخري الشرط هو الجامع بينهما،فما في الكفاية من ذكر أربعة أوجه،ثمّ قال:و لعلّ العرف يساعد علي الوجه الثاني-أي عدم المفهوم فيهما-كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه أي الوجه الرابع في كلامه،9.

ص: 212


1- كفاية الاصول ص 239.

و هو الوجه الثالث المذكور (1).غير واضح؛لأنّ الوجه الرابع بيان للوجه الأوّل و الثاني،و أمّا الثاني فبتقييد كلّ منطوق بالآخر فيكون الشرط كليهما،و هذا هو الوجه الثالث في الكفاية.

التنبيه الثالث:إذا تعدّد الشرط و كان الجزاء قابلا للتعدّد

،فهل يتعدّد الجزاء أم يكفي المرّة الواحدة؟وجهان،هذا إن لم يعلم من الخارج تداخل الشرطين،مثل قوله«إذا بلت فتوضّأ»و قوله«إذا نمت فتوضّأ»فإنّه قد علم تداخل النوم و البول، و يسمّي بالتداخل في الأسباب.

قال في الكفاية:فإن قلنا إنّ تعدّد الشرط يقتضي تقييد كلّ منهما بالآخر،فلا اشكال (2).و هو الوجه الثالث في كلامه في الأمر الثاني،فحينئذ يتّحد الجزاء.

أقول:الظاهر عدم الارتباط بين المسألة المذكورة في التنبيه الثاني و المسألة المذكورة في هذا التنبيه،فإنّ مفروض المسألة في التنبيه الثاني العلم بوحدة الجزاء،كالقصر في المثال المتقدّم.

و أمّا هذه المسألة،فالمفروض فيها عدم ارتباط بين الشرطين،بل كلّ شرط مستقلّ،و الجزاء يمكن تعدّده،نظير قوله«إذا استمعت إلي آية السجدة فاسجد»مع قوله«إذا قرأت آية السجدة فاسجد»فاستمع و قرأ مقارنا أو متعاقبا،فهل يجب أن يسجد مرّتين أو يكفي مرّة واحدة؟

و المسألة مذكورة في كتاب العروة الوثقي في أبواب السجود،في«فصل في سائر أقسام السجود»مسألة«8»قال:يتكرّر السجود مع تكرار القراءة أو السماع أو الاختلاف،بل و إن كان في زمان واحد،بأن قرأها جماعة،أو قرأها شخص حين قراءته علي الأحوط.

ص: 213


1- كفاية الاصول ص 239.
2- كفاية الاصول ص 239.

أقول:الظاهر كفاية السجدة الواحدة إن استمعها من جماعة في زمان واحد؛ لأنّه استماع واحد،و الأحوط في غيره التكرار.و اختار في الكفاية عدم التداخل، و عمدة الوجه فيه أنّ الظاهر من القضيّة الشرطيّة حدوث الجزاء،مستندا إلي السبب بحيث يكون له حصول مستقلّ لكلّ سبب،فالاستماع يوجب سجدة مستقلّة،كما توجب القراءة سجدة مستقلّة،و هذا الظهور العرفي يقتضي عدم انعقاد الاطلاق في الجزاء لأنّه بمقدّمات الحكمة،و الظهور المذكور قرينة علي عدم إرادة الاطلاق.

و استدلّ القائل بالتداخل بأنّ السجدة تجب لقراءة السجدة و تجب لاستماعها، و يصدقان علي سجدة واحدة،كصدق العالم الهاشمي علي فرد يكون مصداقا لقوله«أكرم عالما و أضف هاشميّا»فيكون الوجوب مؤكّدا فيه،و لذا يتعيّن عليه إكرامه إن لم يوجد فرد غيره،و لو تركه يعاقب عقابين،و هذا معني التأكّد.

و بعبارة اخري:مقتضي الشرطيّة حدوث وجوب الطبيعة المطلقة من غير تقييد بكونها غير الفرد الآخر،فيجب عند القراءة طبيعة السجدة،و يجب عند الاستماع طبيعة السجدة،فتكون طبيعة السجدة واجبة بوجوبين،إن ترك السجدة عوقب بعقابين؛لأنّهما وجوبان قد تأكّدا في طبيعة واحدة،و لا ظهور للشرط في تحقّق الجزاء لهذا الشرط مستقلاّ حتّي يكون قرينة علي تقييد إطلاق الجزاء.

أقول:لازم ذلك أنّه إن استمع ألف مرّة و قرأ كذلك و أخّر السجود و لو عصيانا، ثمّ سجد سجدة واحدة كفي عن الجميع،ولكن لا يبعد دعوي ظهور القضيّة في وجود طبيعة السجدة لكلّ سبب بحيث يستقلّ كلّ جزاء لسبب،مع أنّه الأحوط.

و أمّا الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي إن قال:أكرم عالما،و قال:أكرم هاشميّا، فلا طلاق عالم و هاشمي،فإنّهما يشملان العالم الهاشمي،فلذا يكتفي به في مقام الامتثال،و لا ظهور يقتضي تقييدهما،فتدبّر.

ص: 214

ولكن الانصاف أنّ الاكتفاء بمورد واحد أي العالم الهاشمي لا يخلو عن إشكال؛لأنّه لو قال:اعط عالما ألفا،و قال:اعط هاشميا ألفا،فهل يمكن الاكتفاء بألف واحد للعالم الهاشمي،أو يجوز الامتثال فيه بأن يعطي العالم الهاشمي ألفين؟ الجزم به مشكل،فلا فرق بين ما إذا كانت النسبة من وجه أو غيره،فما لم يحرز التداخل وجب التكرار.

و أمّا الاتيان بنافلة الليل بعنوان صلاة جعفر فهو منصوص ظاهرا،كما أنّه نعلم بتحقّق أداء الزكاة و صلة الرحم الواجبة إن أعطي الزكاة للرحم الفقير.و أمّا تداخل صلاة الغفيلة و نافلة المغرب،فليست مسلّمة.

فصل في مفهوم الوصف

لا يخفي أنّ التقييد بوصف لا بدّ أن يكون له فائدة،ولكن مع فرض وجود فائدة فهل يدلّ التعليق علي وصف دلالة عرفية علي انتفاء الحكم المذكور عند انتفاء الوصف،بحيث لو دلّ دليل آخر علي ثبوت الحكم في غير مورد الوصف كان معارضا له،أم لا يدلّ بل هو ساكت؟الظاهر كونه ساكتا.

فإذا قيل يجب الحجّ علي المستطيع،فإنّما يثبت الوجوب علي تقدير خاصّ بعد ما لم يكن الحجّ واجبا في أوّل الاسلام،أو قبل بعثة النبي صلّي اللّه عليه و اله و لا يدلّ علي النفي عن غيره،فإذا ورد يجب الحجّ علي من كان بينه و بين مكّة كذا مقدارا من المسافة،فلا تنافي بينهما.

فصل فيما يدلّ علي الحصر

منه:أداة الاستثناء و هو«إلاّ»و ليس من المفهوم بل هو منطوق،و الدالّ علي الحصر كلمة«إلاّ»و هو:إمّا بمعني غير،أو بمعني لكن أي الاستدراك.

ص: 215

و هنا إشكال في إفادة كلمة«لا إله إلاّ اللّه»التوحيد،و هو أنّ الخبر في قوله«لا إله إلاّ اللّه»إن كان موجودا،فلا تنفي إمكان غيره تعالي،و إن كان ممكنا فلا تثبت وجوده تعالي.

و لذا قيل:بأنّ«إلاّ»ليست استثناء،بل هي بمعني الغير،أي:لا إله غير اللّه موجود،فتكون صفة،فيجوز تقدير الخبر الامكان،أي:لا إله غير اللّه الموجود ممكن.و يجوز تقدير الوجود،أي:لا إله غير اللّه الموجود موجود،و لا ينفي الامكان حينئذ إلاّ بالملازمة بين الوجود و الامكان،أي:إذا كان ممكنا فهو موجود،و إذا لم يكن موجودا فليس بممكن.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود،و نفي ثبوته و وجوده في الخارج و إثبات فرد منه فيه و هو اللّه،يدلّ بالملازمة البيّنة علي امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك و تعالي،ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد؛لكونه من أفراد الواجب (1).

و توضيحه:أنّ الخبر موجود،و المراد من الإله الواجب الوجود لذاته،أي:لا واجب الوجود لذاته موجود إلاّ اللّه،و هذا مدلوله المطابقي،و يدلّ بالالتزام علي عدم إمكان غيره؛لأنّ واجب الوجود لذاته لا يمكن أن لا يوجد؛لأنّ عدم وجوده إن كان مستندا إلي عدم علّته،فهو خلف كونه واجب الوجود لذاته،و كذا إن استند إلي امتناع وجوده لذاته فإنّه خلف أيضا.

أقول:كون الإله بمعني الواجب الوجود لذاته غير معلوم،مضافا إلي أنّ واجب الوجود لذاته موجود قطعا؛لأنّ عدم وجوده:إمّا لامتناع وجوده لذاته،أو لعدم وجود علّته،و كلاهما خلف،فلا يقال ليس واجب الوجود لذاته موجودا؛لأنّه لا8.

ص: 216


1- كفاية الاصول ص 248.

يمكن نفي الوجود عن واجب الوجود لذاته،إلاّ أن يريد أنّ مفهوم واجب الوجود لذاته ليس موجودا إلاّ في واحد و هو اللّه.

و احتمل في فوائد الاصول أن لا يكون له خبر،أي:لا هويّة واجب الوجود إلاّ وجوده تعالي.و نفي واجب الوجود و إثبات فرد منه هو عين التوحيد.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:نفي الهويّة لا بدّ أن يراد به نفي الامكان أو نفي الوجود.

و قال في نهاية الاصول:إنّ العرب في صدر الاسلام لم يكونوا مشركين في أصل واجب الوجود،بحيث يعتقدون وجود آلهة متعدّدة في عرض واحد،بل التوحيد في أصل الالوهيّة كان ثابتا عندهم،و كلمة الاخلاص للتوحيد في العبادة (2).

أقول:لا اختصاص لكلمة«لا إله إلاّ اللّه»بصدر الاسلام،فهي كلمة التوحيد تقبل من كلّ كافر أظهرها معتقدا مضمونها.

و لا يبعد أن يقال:إنّ معني الإله كان معلوما عند العرب؛لأنّه استعمل في القرآن الكريم،و المراد به المستحقّ للعبودية و من هو فوق كلّ شيء،و خضع له كلّ شيء، كما يظهر ذلك من موارد استعماله،قال اللّه تعالي وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ (3)و قال تعالي أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (4)و قال تعالي وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ (5)و قال تعالي لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ4.

ص: 217


1- فوائد الاصول 1:319.
2- نهاية الاصول ص 283.
3- سورة المؤمنون:91.
4- سورة الجاثية:23.
5- سورة الزخرف:84.

إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (1) .

و علي هذا المعني يكون مفاد كلمة التوحيد لا إله،أي:من هو فوق كلّ شيء و خالق كلّ شيء،الذي ينبغي أن يخضع له كلّ شيء موجود أزلا و أبدا،إلاّ اللّه.

ثمّ انّه قال في الكفاية:انّ دلالة الاستثناء علي الحكم في طرف المستثني بالمفهوم،نعم لا يبعد كون الدلالة بنفس الاستثناء (2).

أقول:يبتني ذلك علي أنّ الاستثناء غاية للموضوع،كما في قوله تعالي لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (3)و قد يعبّر عنه ب«الاّ الصفتيّة»أي:غير اللّه،و لو كان استثناء كان المعني لو كان آلهة باستثناء اللّه لفسدتا،و أمّا إذا كان آلهة مع اللّه فلا تفسدان،و هو غير مراد.أو أنّه استثناء من الحكم الثابت علي المستثني منه، بأن يكون نظير الغاية للحكم.

و علي الأوّل فهو تحديد للموضوع و لا مفهوم له،و علي الثاني يمكن دعوي أنّ تعليق الحكم إلي غاية يدلّ علي عدمه بعد الغاية،لكن الظاهر أنّ الاستثناء يفيد الحصر بالمنطوق،فلا ينبغي عدّه من المفهوم.

المقصد الرابع: في العامّ و الخاصّ

اشارة

العامّ ما دلّ علي شمول مفهومه أو مفهوم متعلّقه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، مثل أكرم العلماء،فإنّ لفظة«العلماء»تشمل كلّ ما يحكي أن ينطبق عليه،و مثل أكرم كلّ عالم،فإنّ لفظ«كلّ»يدلّ علي شمول متعلّقه لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه،و سنبيّن الفرق بينه و بين المطلق في بحث المطلق و المقيّد.

ص: 218


1- سورة الأنبياء:22.
2- كفاية الاصول ص 248.
3- سورة الأنبياء:22.

ثمّ إنّ شمول العامّ قد يكون علي نحو الاستغراق الأفرادي،مثل أكرم كلّ عالم، أو المجموعي مثل أكرم جميع العلماء من حيث المجموع،أو البدلي مثل أعط درهما أيّ فقير شئت.

و اللفظ الدالّ علي العموم ينقسم إلي الأقسام الثلاثة قبل تعلّق الحكم به، فيلاحظ في نفسه عامّا استغراقيّا أو مجموعيّا أو بدليّا.

فما يظهر من الكفاية من أنّ تعلّق الحكم يفيد الاستغراقي أو المجموعي أو البدلي،و الكلمة مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بها ليست كذلك (1).فهو غير سديد.

فصل في دلالة ألفاظ العموم علي العموم:

ذكر للعموم ألفاظ،منها:لفظ«كلّ»و«أيّ»و لا يبعد وضعهما للدلالة علي عموم المدخول من دون حاجة إلي إجراء مقدّمات الحكمة في مدخولهما.و أمّا عدم سقوط القرينة الدالّة علي التخصيص،و عدم نسيان المتكلّم لذكرها،و عدم سبق لسانه،فهي اصول عقلائيّة لا ربط لها بمقدّمات الحكمة.

و منها:الجمع المحلّي باللام،ولكن لم يثبت وضعه للعموم،و قال في الكفاية:

دلالته علي العموم وضعا محلّ منع (2).

لكن لا يبعد وجود الفرق بينه و بين المفرد المحلّي باللام،فإنّ الجمع يدلّ علي الافراد و لذا صار جمعا،فدلالته علي العموم أظهر من المفرد.

و منها:النكرة في سياق النهي أو النفي،و هل دلالتها علي العموم وضعيّة أو عقلية؟يظهر من الكفاية أنّها عقليّة؛لأنّ نفي الجنس يقتضي عقلا انتفاء كلّ فرد منه (3).

ص: 219


1- كفاية الاصول ص 253.
2- كفاية الاصول ص 255.
3- كفاية الاصول ص 254.

قلت:لا يبعد أن يكون ذلك منشأ لدلالته عرفا علي العموم،فتأمّل.

فصل في العامّ المخصّص بالمتّصل و المنفصل

العامّ المخصّص بالمتّصل حجّة في الباقي؛لأنّ الظهور المنعقد له هو الظهور في الباقي.و أمّا العامّ المخصّص بالمنفصل،فلا يبعد أن يكون بناء العقلاء علي الأخذ بالعموم إلاّ فيما ثبت التخصيص،و ليس ذلك مبنيّا علي كون العامّ بعد التخصيص مجازا أو ليس بمجاز.

و لا يخفي أنّ العامّ إذا اريد به الخاصّ يقع علي وجهين:

الأوّل:أن يستعمل في واحد أو أكثر من أفراد العامّ،مثل أن يقال:زارني كلّ العلماء،إذا زاره أحد العلماء مثلا،و هذا مجاز،و ليس ذلك من التخصيص؛لأنّه عبارة عن إخراج بعض ما كان داخلا في العموم.

الثاني:أن يستعمل في العموم لضرب القاعدة و تسهيل تعداد الأفراد،فيقول:

أكرم العلماء يوم الجمعة،ثمّ يقول قبل مجيء يوم الجمعة:لا تكرم زيدا العالم أو لا تكرم النحويّين مثلا،فلا إشكال في تخصيص العموم.

و في كونه مجازا أو حقيقة وجهان،اختار أوّلهما الشيخ الطوسي في العدّة،قال:

إنّ الحروف التي تدخل علي الجمل لا تغيّر معانيها،و ليس كذلك ألفاظ العموم؛ لأنّها بعد التخصيص لا تفيد ما كانت تفيده قبل التخصيص،فينبغي أن تكون مجازا،علي أنّ هذا يوجب أن لا يكون قول القائل رأيت سبعا،ثمّ قال عقيب ذلك:إنّي أردت رجلا شجاعا،أو قال:رأيت حمارا أو حائطا،ثمّ قال:أردت بليدا،مجازا؛لأنّه قد وصل بالكلام لفظا دلّ به علي مراده.إلي آخر كلامه (1).

ص: 220


1- عدّة الاصول ص 119.

و اختار ثانيهما في الكفاية،قال:أمّا في المنفصل فلأنّ إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه و كون الخاصّ قرينة عليه،بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة،و كون الخاصّ مانعا عن حجّية ظهوره تحكيما للنصّ أو الأظهر علي الظاهر لا مصادما لأصل ظهوره.إلي آخر كلامه (1).

أقول:لا يبعد التفصيل بين التقييد المتّصل و التخصيص المستقل،و إن كان متّصلا بالكلام،فاذا قال:أكرم كلّ عالم عادل،لم يكن تخصيصا؛لأنّ«كلّ»يدلّ علي عموم مدخوله.و إذا قال:أكرم كلّ عالم،و قال متّصلا به:أردت العالم العادل، كان خلاف ما فهم من اللفظ،و كذلك لو قاله منفصلا عن الكلام.

و لا ينبغي الريب في أنّ العرف لا يفرّقون بين الاتّصال و الانفصال المذكورين، و القول بأنّه مجاز أقرب،لكن حجّيته في الباقي لا تبتني علي ذلك،بل أبناء العرف إن اطلّعوا علي صدور الكلامين من المولي إلي العبد يجعلون القرينة المنفصلة متّصلة بكلامه،و لا يفرّقون بين أن تكون متّصلة أو منفصلة،و يجعلون الكلام مع القرينة كاشفا عن المراد الجدّي و حجّة علي العبد.

ثمّ انّ صاحب الكفاية ذكر أنّ المخصّص المتّصل لا يتصرّف في العامّ،بل يكون قيدا لمدخوله.

قلت:قولك«أكرم كلّ عالم إلاّ الفسّاق»إن كان بمعني أكرم كلّ عالم غير فاسق، كان الاستثناء قيدا لمدخول العموم.و أمّا الاستثناء عن الحكم،فيقتضي أن يكون العام مستعملا في العموم حتّي يخرج عن الحكم بالاستثناء،فلا يستعمل فيها العامّ في غير العموم.6.

ص: 221


1- كفاية الاصول ص 256.

فصل في إجمال الخاصّ و اشتباه مصداقه

اشارة

الخاصّ المجمل علي ضربين:الضرب الأوّل أن يكون الخاصّ لفظيّا،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:ما إذا كان الخاصّ دائرا بين المتباينين،و حينئذ يسري إجماله إلي العامّ،سواء كان متّصلا أو كان منفصلا،مثلا إن قال:أكرم كلّ عالم إلاّ زيدا،أو قال:أكرم كلّ عالم،ثمّ قال بعد يوم قبل مجيء وقت العمل:لا تكرم زيدا،و تردّد زيد بين أن يكون المراد به زيد بن عمرو و أن يكون زيد بن بكر،كان العامّ مجملا بالنسبة إليهما.

القسم الثاني:ما إذا كان مفهوم الخاصّ دائرا بين الأقلّ و الأكثر،كالفاسق المردّد بين كونه مطلق مرتكب المعصية،أو خصوص مرتكب الكبيرة،ففي سراية إجماله إلي العامّ تفصيل.

فإن كان متّصلا سري إجماله إلي العامّ؛لأنّ العامّ يكون معنونا بعنوان عدم الخاصّ،فإذا قال:أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم،كان مرجعه إلي وجوب إكرام العالم غير الفاسق.

و أمّا إن كان منفصلا،فلا يسري إجماله إليه،بل يرفع إجماله بظهور العامّ في العموم،و يحكم بوجوب إكرام مرتكب الصغيرة،و ذلك لأنّ العامّ قد انعقد ظهوره في العموم،فهو حجّة في العموم،و الخاصّ دليل آخر معارض للعامّ،و هو في مقدار المتيقّن منه أظهر من ظهور العموم فيتقدّم عليه.و أمّا في المقدار الذي هو مجمل فالعامّ يتقدّم عليه و يرفع إجماله،اختار هذا المبني في الكفاية (1)و غيره

ص: 222


1- كفاية الاصول ص 258.

في غيرها.

أقول:الخاصّ المنفصل في حكم القرينة علي المراد بالعامّ،و إجماله يسري إلي العامّ،و ذلك لأنّ ظهور العامّ في العموم غير مستقرّ،فلذا لا يكون حجّة؛لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق قبل مجيء وقت العمل،و له بيان مراده من العموم بالخاصّ مادام لم يحضر وقت العمل.

و لمّا كان مفهوم الفاسق بماله من المفهوم مخصّصا للعموم،فمن فهم منه الأعمّ من مرتكب الكبيرة و الصغيرة يخصّص العامّ بالأعمّ،و من فهم منه خصوص مرتكب الكبيرة يخصّصه بالأخصّ،و من تردّد في ذلك يكون عنده مجملا،فهو بمفهومه يكون مخصّصا للعامّ،و علم المكلّف و جهله لا دخل لهما في تطبيق المفاهيم علي مصاديقها.

و لتوضيحه نذكر مثالا،و هو أنّه إن قال المولي لأحد عبديه في يوم السبت:

أكرم العلماء إلاّ الفسّاق يوم الجمعة،و قال لعبده الآخر في يوم السبت:أكرم العلماء يوم الجمعة،ثمّ قال له في يوم الأحد:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة.

فلازم القول بسراية إجمال المخصّص المتّصل إلي العامّ،و عدم سراية إجمال المخصّص المنفصل إليه،الفرق بين حكم العبدين،بعدم وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة علي العبد الأوّل،لاجمال الدليل و قبح العقاب بلا بيان، و وجوب إكرامه علي العبد الآخر،لشمول عموم وجوب الاكرام له و رفع إجمال المخصّص بعموم العامّ.و هذا الفرق لا يخطر ببال أبناء المحاورة الذين عليهم المدار في دلالة الألفاظ.

هذا كلّه إذا كان المفهوم مجملا.و أمّا إذا كان مفهوم الخاصّ مبيّنا و اشتبه مصداقه،مثل أن كان عموم أكرم العلماء مخصّصا بمرتكب الكبيرة،و تردّد زيد العالم بين كونه مرتكبا للكبيرة و عدمه،فهل يتمسّك بالعموم علي وجوب إكرام

ص: 223

زيد أم لا؟وجهان.

يستدلّ للأوّل بأنّه مصداق للعامّ قطعا،و لم يعلم خروجه عنه بالخاصّ؛ لاحتمال عدم كونه مرتكب الكبيرة،و يشكّ في خروجه منه.

و يستدلّ للثاني بأنّ العامّ هو العالم غير مرتكب الكبيرة،و الخاصّ هو العالم المرتكب للكبيرة،و هذا الفرد:إمّا داخل في العامّ واقعا،أو داخل في الخاصّ،و لا يلزم من خروجه لو كان داخلا في الخاصّ تخصيص زائد لينفي بالأصل؛لأنّ الألفاظ تنطبق علي مصاديقها الواقعيّة،و لا تناط بعلم المكلّف و جهله،و هذا الوجه أظهر،فلا يصحّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص.

الضرب الثاني:ما إذا كان المخصّص غير لفظي و يسمّي بالمخصّص اللبّي،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يتعارف عرفا إلقاء العموم إلي المخاطبين اتّكالا علي المخصّص اللبّي،فهو كالمتّصل اللفظي ينعقد معه ظهور للعامّ في الخصوص، و إجماله يسري إلي العموم،و هذا مختار صاحب الكفاية (1).

القسم الثاني:ما لم يكن كالقرينة المتّصلة،بل كان ممّا اقتضاه حكم العقل،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يكون نظير الشبهة المفهوميّة،كما إذا قال المولي:أكرم كلّ عالم،و علم من الخارج أنّه لا يريد إكرام عدوّه من العلماء،و تردّد المراد بالعدوّ بين الأقلّ و الأكثر،فلا يبعد أن يكون حكمه حكم المخصّص اللفظي المنفصل، فتأمّل.و لم يتعرّض في الكفاية لهذا القسم.

القسم الثاني:ما إذا كان المراد بالخاصّ معلوما،لكن تردّد فرد بين كونه9.

ص: 224


1- كفاية الاصول ص 259.

مصداقا للعامّ أو للمخصّص،ففي جواز التمسّك بالعموم مطلقا،كما اختاره في الكفاية و عدمه مطلقا،و التفصيل بين القضيّة الخارجيّة و الحقيقيّة وجوه.

قال في الكفاية:و إن لم يكن كذلك،فالظاهر بقاء العامّ في المصداق المشتبه علي حجّيته كظهوره فيه؛لأنّ العموم حجّة إلاّ فيما قطع بخلافه،و أمّا مع الشكّ فيعمل بالعموم،و عليه بناء العقلاء و سيرتهم،بل يمكن أنّ يتمسّك بالعموم ليتبيّن حال المشكوك،كما إذا شكّ في ايمان واحد من بني اميّة،فإنّه يتمسّك بعموم لعن اللّه بني اميّة قاطبة علي عدم ايمانه.هذا ملخّص كلامه (1).

أقول:إن كان ظاهر كلام المتكلّم الاخبار عن اتّصاف أفراد العامّ بغير عنوان الخاصّ الخارج من العموم عقلا فيؤخذ بالعموم،و إلاّ فهو مشكل،مثلا إن قال:بع كلّ واحد من كتبي الموجودة في المكتبة،فإنّه مشتمل علي الاخبار عن مالكيّته لكلّ كتاب تحت يده،فإذا اطلعنا علي واحد منها أنّه وقف أو ملك لغيره و قطع بذلك،فهو خارج عن العموم.

و أمّا إذا شكّ في كتاب منها أنّه ملكه أو لا،فمقتضي عموم كلامه أنّه ملكه،و لعلّ منه لعن بني اميّة الوارد في زيارة عاشوراء.

و أمّا إن كان تعيين الفرد علي عهدة المكلّف،بأن قال أكرم كلّ عالم،و علمنا من الخارج أنّه يريد إكرام العالم الشيعي،فإن شككنا في عالم أنّه شيعي أو سنّي، فالتمسّك بالعموم يكون من التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمخصّص،و هو مشكل.

ايقاظ:

تقدّم أنّه لا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص،فإن كان

ص: 225


1- كفاية الاصول ص 259-261.

المخصّص عنوانا وجوديّا،مثل قوله«أكرم كلّ عالم عادل»فلا يجوز التمسّك به علي وجوب إكرام عالم شكّ في أنّه عادل أو ليس بعادل،و أمّا إن كان كالاستثناء من المتّصل،أو كان التخصيص بالمنفصل كالاستثناء،فقد يقال بأن الفرد المشتبه كونه داخلا في المستثني منه أو في المستثني يكون من أفراد العامّ لاحراز عدم تعنونه بعنوان الخاصّ باستصحاب العدم الأزلي.

و اختاره في الكفاية،قال ما حاصله:إنّ العامّ ليس معنونا بعنوان،بل يشمل كلّ ما صدق عليه إلاّ ما صدق عليه عنوان الخاصّ،و الأصل ينفي عنوان الخاصّ و انتفاء عنوانه،كما يكون بالانتفاء بعد وجود الموضوع،كما إذا وجد زيد و بعد وجوده لم يكن قائما،كذلك يكون بالانتفاء قبل وجود الموضوع بانتفاء القيام المنسوب إلي زيد،فإذا وجد زيد صحّ أن يقال:إنّ زيدا موجود،و القيام المنسوب إليه قبل وجوده لم يكن و يشك في وجوده،و انتفاء القيام المنسوب إليه مستصحب،فلا يشمله عنوان الخاصّ،و هو يكفي في شمول العامّ له (1).

و قال بنظيره أيضا في تعليقته علي المكاسب في بحث الشروط،فيما إذا شكّ في أنّ المشروط مخالف للكتاب أو لا،و صرّح بأنّ المخالفة مسبوقة بالعدم المحمولي إلي آخر كلامه (2).

و قال في المحاضرات ما حاصله:إنّ ما أصرّ عليه المحقّق النائيني رحمه اللّه،و هو أنّ التخصيص بعنوان وجودي يقتضي أخذ عدمه النعتي في العامّ،و استصحاب العدم الأزلي لا يثبت ذلك غير صحيح،بل لا يقتضي إلاّ أخذ عدمه بمفاد ليس التامّة في العامّ،نظرا إلي أنّ أخذ عدم عرض مّا في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلاّ أخذه9.

ص: 226


1- كفاية الاصول ص 261.
2- التعليقة علي المكاسب ص 129.

كذلك،فلاحظ كلامه (1).

و أفاد قدّس سرّه في رسالته في اللباس المشكوك،قال:الخامسة قد عرفت أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه،فإذا اخذ في الموضوع المركّب منه و من معروضه،فلا بدّ و أن يكون ناعتيّا،و أمّا عدم العرض فهو و إن كان بعدمه لموضوعه،بمعني أنّ العرض إذا لم يتحقّق لا يتحقّق النسبة الثبوتيّة و الناعتيّة الايجابيّة قهرا،إلاّ انّه لا يلزم أن يكون نعتا،بأن يلاحظ النسبة بينه و بين الذات كما في طرف الوجود،فعدم قيام زيد بعدم نسبته إلي زيد لا بانتساب العدم إليه، ضرورة أنّ ما يكون متقوّما بالمحلّ و محتاجا إليه هو وجود العرض لا عدمه، فالربط مأخوذ في طرف الوجود لا العدم،فإنّ العدم يكون بعدم النسبة بل بعدم الموضوع أيضا،الي آخر ما أفاده (2).

أقول:يرد علي هذا التقريب أوّلا:في المثال المعروف،و هو ما إذا شكّ في هاشميّة رجل أو امرأة،يقال:إنّ عدم هاشميّة هذا الموجود الذي شكّ في هاشميّته ليس له حاله سابقة،و العدم الذي كان سابقا يمكن تحليله إلي عدمين:أحدهما عدم تحقّق وجود هاشمي فإنّه كان متيقّنا،فإذا شكّ في وجوده استصحب عدمه.

ثانيهما:العدم الخاصّ أي:عدم هاشميّة زيد مثلا،فإنّه كان متيقّنا،و بعد وجوده يشكّ في وجود هاشميّة زيد،فإن كان له أثر فالأصل ينفيه.

مثال الأوّل:أن ينذر أن يتصدّق بدرهم إن زاد أفراد الهاشميّين الذين كانوا مثلا قبل ولادة زيد ألفا،فإذا شكّ في أنّ زيدا هاشمي أو لا،لم يجب التصدّق بعد ولادته؛لاستصحاب بقاء الألف بحاله و عدم زيادته.

مثال الثاني:أن ينذر أن يتصدّق إن وجدت هاشميّة زيد بخصوصها،من دون6.

ص: 227


1- المحاضرات 5:232.
2- اللباس المشكوك ص 56.

نظر إلي كون هذا الموجود خارجا هاشميّا،و هي مسبوقة بالعدم،فإن شكّ في الوجود،فالأصل بقاء العدم.

و أمّا انتساب العدم إلي الموجود الخارجي المسمّي بزيد،فليس له حالة سابقة.

و بتقريب آخر نقول:إنّ في حمل العرض علي موضوع خاصّ عند التحليل ثلاثة امور:الموضوع و هو زيد،و ذات المحمول أي كون شيء قائما،و الموضوع الخاصّ المتّصف بالعرض،أي كون زيد قائما،و يتكفّل الدلالة عليه المبتدئية و الخبرية،و في طرف العدم يكون السلب راجعا إلي عدم قيام العرض بالموضوع الخاصّ،أي:سلب العرض عن الموضوع،فإن كان الموضوع هو الموجود الخارجي مثل زيد ليس بقائم،رجع القضيّة إلي أنّ زيدا موجود و ليس بقائم،و إن كان الموضوع هو الموجود الذهني مثل زيد ليس بكلّي،رجع القضيّة إلي القضيّة الذهنية،أي:المفهوم من زيد ليس بكلّي.

و أمّا ما يقال من صحّة السالبة بانتفاء الموضوع،مثل زيد لا يتنفّس،أو زيد ليس بإنسان سالبة بانتفاء الموضوع،فإنّه يسأل قائله إن كان المراد الوجود الذهني من زيد ليس بقائم،فإنّه ليس من السالبة بانتفاء الموضوع،بل الوجود الذهني موجود ليس بقائم.

و إن اريد ماهيّة زيد،فهو أيضا كذلك.

و إن اريد وجود زيد في الخارج،فهو خلاف الواقع؛لأنّه غير موجود،كما أنّ الموجبة المعدولة المحمول من فرضيّات المنطقيّين ليس لها حقيقة.

ثمّ المراد من العدم النعتي و مفاد ليس الناقصة هو نفي المحمول عن وجود الموضوع،و المراد من العدم المحمولي و مفاد ليس التامّة هو عدم الصفة الخاصّة، أي عدم وجود قيام زيد،و ليس المراد من العدم النعتي القضيّة المعدولة المحمول، أي:زيد لا قائم،فإنّه مجرّد فرض،بل المراد السالبة المحصّلة،نعم يصحّ أن يقال:

ص: 228

جاءنا زيد اللاقائم مثلا.

و في المثال المعروف لاستصحاب العدم الأزلي و هو«كلّ امرأة تحيض إلي خمسين سنة إلاّ أن تكون امرأة من قريش»نقول:إنّ عمدة الاشكال هي أنّ الانتساب بين المرأة الموجودة و قريش ليس له حالة سابقة لا وجودا و لا عدما، نعم وجود قرشيّة متحقّقة لهذه المرأة بنت زيد مثلا لم يكن،فإنّه حين لم تتولّد بنت زيد كانت صفحة الوجود خالية حقيقة عن وجود ذات هذه المرأة و عن وجود قرشيّة المرأة،و عن وجود القرشيّة المتحقّقة في خصوص هذه المرأة،و بعد وجود المرأة نشكّ في بقاء عدم وجود قرشيّة المرأة و الأصل بقاؤه،كما نشكّ في بقاء عدم قرشيّة خاصّة في خصوص هذه المرأة و يستصحب بقاء العدم،لكن ذلك لا يرتبط بهذه المرأة الموجودة،فلا يمكن أن يقال:إنّ الانتساب بين هذه المرأة الموجودة و قريش لم يكن.

و يظهر من المحاضرات (1)أنّه يكتفي بعدم عدالة زيد الذي كان في الأزل فيما إذا كان الأثر مترتّبا علي عدالة زيد،لكن الاشكال في أنّ هذا العدم لا نسبة له إلي هذا الموجود.

و بعبارة اخري:عدم القرشية المتحقّقة في بنت زيد لم يكن في موضوع، و مقتضي الاستصحاب بقاء ذلك العدم،أي:عدم القرشيّة في غير موضوع،و لا يلصق هذا الاستصحاب العدم بالمرأة الموجودة.

و ببيان أوضح:إن كان الموضوع وجود المرأة و عدم القرشيّة الذي كان قبل الوجود،كان الموضوع مركّبا،نظير أن يكون الأثر مترتّبا علي قيام زيد و عدم قيام عمرو،فإذا احرز قيام زيد بالوجدان و استصحب عدم قيام عمرو ترتّب الأثر،9.

ص: 229


1- المحاضرات 4:229.

بخلاف ما إذا كان الأثر مترتّبا علي قيام زيد في حال عدم قيام عمرو،فإنّه لا يترتّب الأثر باستصحاب عدم قيام عمرو،و فيما نحن فيه الأثر مترتّب علي أن لا تكون المرأة الموجودة قرشيّة،و هذا العدم ليس له حالة سابقة،و إن كان عدم وجود الصفة له حالة سابقة.

و بما ذكرنا يندفع ما ذكره في المستمسك من أنّ العدم قبل وجود زيد متّحد مع العدم بعده،و إن اختلفا في أنّ العدم الأوّل عدم بعدم الموضوع،و الثاني عدم لعدم المقتضي أو لوجود المانع،و ذلك لا يوجب التعدّد عرفا،كاستصحاب ترك أكل الصائم بعد الغروب،مع أنّ الأوّل بداعي الأمر و الثاني بداع آخر،إلي آخر ما أفاده (1).فإنّ العدم الأوّل لم يكن في موضوع،و استصحاب بقائه عبارة عن ابقائه لا في موضوع،فلا يرتبط بالموجود.

و أمّا ما ذكره في نهاية الدراية في جواب الاشكال عن لزوم انتساب عدم القرشيّة إلي المرأة،حيث قال:التقييد بمعني ارتباط العدم به غير لازم،و بمعني عدم الانتساب لها بنفسه متيقّن فيستصحب،و إضافة عدم الانتساب إلي المرأة الموجودة لازمة في ظرف ترتّب الحكم،و هو ظرف التعبّد الاستصحابي لا ظرف اليقين حتّي ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع في ظرف اليقين (2)انتهي.

ففيه أنّ العدم لم يكن في موضوع خارجي،و بقاؤه هو بقاؤه لا في موضوع، و يترتّب عليه الأثر المترتّب علي العدم لا في موضوع،و لا يجري بالنسبة إلي الانتساب إلي الموجود؛لأنّه يصير مثبتا،فهذا نظير أن يحلف إن وجد في هذه الغرفة كرّ من الماء تصدّق بكذا،ثمّ اتي بماء ليس له حالة سابقة لا يعلم كونه كرّا،2.

ص: 230


1- المستمسك 1:136.
2- نهاية الدراية 1:342.

فإنّ استصحاب عدم وجود الكرّ في الغرفة يجري و يترتّب عليه الأثر،و لا يحكم علي الماء الموجود أنّه ليس بكرّ،فلا يقال هذا ماء و ليس في الغرفة ماء كرّ ليثبت عدم كرّيته.و لذا لا يقال إنّ الكرّية الموجودة في هذا الماء لم تكن متحقّقة في الغرفة و الأصل عدمها،ليثبت عدم كرّية هذا الماء الموجود.

نعم لو كان الأثر مترتّبا علي وجود كرّية هذا الماء ينتفي الأثر بالاستصحاب، أي:استصحاب عدم وجود الكرّية في هذا الماء علي نحو العدم المحمولي،ولكن لا يثبت أنّ هذا الماء الموجود ليس كرّا.

هذا هو الايراد الأوّل علي التقريب المذكور لاستصحاب العدم الأزلي.

و ثانيا:أنّ مفاهيم الألفاظ تنطبق علي مصاديقها الواقعية،سواء علم بتحقّقها أو علم بعدمه أو شكّ فيه،فإذا شكّ في مايع أنّه ماء أو خمر،أو قطع أنّه خمر و هو ماء، أو قطع أنّه ماء و هو خمر،فالماء ينطبق علي الماء الواقعي لا علي ما قطع أنّه ماء و هو خمر واقعا،و ينطبق علي ما قطع أنّه خمر إذا كان ماء واقعا.

ثمّ إنّ تخصيص العموم أيضا واقعي لا دخل للعلم و الجهل به،فقوله«أكرم كلّ عالم إلاّ مرتكب الكبيرة»يصدق علي من هو عالم غير المرتكب للكبيرة واقعا، فإذا شكّ في عالم أنّه مرتكب للكبيرة أو لا،فإن لم يكن مرتكبا لها واقعا،فينطبق عليه العامّ قهرا.و إن كان مرتكبا لها،فينطبق عليه الخاصّ قهرا من دون أن يكون العامّ معنونا بعنوان،بل هو تابع لواقعه،فللمستثني منه أفراد واقعيّة،و للمستثني أفراد واقعيّة،و المشكوك فرد من أحدهما واقعا،و ليس فردا ثالثا من غيرهما.

إذا تحقّق ذلك فنقول:في قوله«كلّ امرأة تحيض إلي خمسين إلاّ امرأة من قريش»ينطبق المستثني منه قهرا علي المرأة التي نحن شككنا في نسبها إن كانت منتسبة إلي غير قريش،و ينطبق المستثني قهرا عليها إن كانت منتسبة إلي قريش، و هذه المرأة قبل وجودها لم تكن ممّن ينطبق عليها المستثني منه،و الأصل بقاؤها

ص: 231

علي العدم،فيعارض أصالة عدم انطباق المستثني عليها؛لأنّها قبل وجودها لم تكن ممّن ينطبق عليها المستثني أيضا.

و لا يخفي أنّ ما ذكرناه ليس مبنيّا علي تعنون العامّ بعنوان ما عدا الخاصّ،فلا يرد عليه ما ذكره في نهاية الدراية،حيث قال بعد ردّ تعنون العامّ بالعنوان:و يشهد له مضافا إلي البرهان أنّ المخصّص إذا كان مثل لا تكرم زيدا العالم لا يوجب إلاّ قصر الحكم علي ما عداه،لا علي المعنون بعنوان ما عدا زيد أو شبهه (1)انتهي.

فانّه إن تردّد واحد بين أن يكون زيدا أو غيره،فنقول:إنّ عموم أكرم العلماء بعد ضمّ لا تكرم زيدا العالم إليه له مصاديق خارجيّة ينطبق عليها من دون دخل في ذلك للعلم و الجهل،و لا نقول إنّ العامّ تعنون بعنوان ما عدا زيد.

و ثالثا:ما قيل من أنّه لا يخطر للأذهان المتعارفة هذا الاستصحاب،فإنّ عموم «لا تنقض»و إن شمله بالدقّة العقليّة،لكنّه منصرف عرفا إلي غيره،و يؤيّده أنّ الاستصحاب حاكم علي أصالة الحلّ و نحوها،فإن جري لم تجر،لأنّه في جميع موارد الشبهة الموضوعيّة التي هي محلّ جريان أصالة الحلّ يجري هذا الاستصحاب،فإذا تردّد المايع الموجود في الاناء بين كونه ماء أو خمرا، استصحب عدم كونه خمرا حين لم يكن أصلا،و لا حاجة إلي إثبات كونه ماء؛لأنّ كلّ شيء حلال إلاّ المحرّمات،و كذلك فيما شكّ في طهارته و نجاسته و لم يكن له حالة سابقة،فإذا شكّ في أنّ الشعر الواقع علي ثوبه شعر كلب أو شعر هرّة،يجري استصحاب عدم كونه شعر كلب،كما قالوا فيما إذا شكّ في أنّه شعر هرّة أو شعر معز،إنّ هذا الشعر لم يكن شعر ما لا يؤكل لحمه و الآن كما كان.

هذا كلّه علي مختار القوم في الاستصحاب.و أمّا علي المختار من اعتبار كون1.

ص: 232


1- نهاية الدراية 1:341.

الشكّ ناقضا لليقين،بأن كان اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،و لا يجري فيما إذا كان علي شكّ و يقين،كما إذا كان أمد اليقين من الأوّل معلوما ففي مثله لا يكون الشكّ ناقضا،و اليقين بعدم الانتساب بين قريش و هذه المرأة كان محدودا إلي زمان وجود هذه المرأة،و الشكّ في كونها قرشيّة كان موجودا من الأوّل و ليس عارضا،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّه يشكّ قبل انعقاد نطفتها أنّ هذه لو وجدت تكون قرشية أو لا،و لا يقين حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

فلا يجري الاستصحاب بمفاد ليس التامّة،و لا بمفاد ليس الناقصة؛لأنّ الشكّ من الأوّل موجود و ليس طارئا و ناقضا لليقين.

فصل في نذر الوضوء بالماء المضاف:

اشارة

إن لم يثبت من الأدلّة الاجتهاديّة عدم صحّة الوضوء بالماء المضاف و شككنا في صحّته،فهل يمكن تصحيحه بالنذر بأن ينذر الوضوء بالماء المضاف و يتمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر،فإذا وجب الوفاء بالنذر كان العمل صحيحا أم لا؟ وجهان.

قال في الكفاية:و ربّما يؤيّد الأوّل بما ورد من صحّة الاحرام و الصيام قبل الميقات و في السفر إذا تعلّق بهما النذر كذلك (1).

أقول:النذر و شبهه لا يكون مشرّعا يتصرّف فيما تعلّق به،و يجعله حلالا بعد أن كان حراما،أو مشروعا بعد أن لم يكن مشروعا،و لا بدّ في النذر من كون متعلّقه حال العمل به عبادة و راحجا،و الوضوء بالماء المضاف إن ثبت عدم صحّته،فلا ينعقد النذر به،و إن ثبت صحّته انعقد به النذر،و إن شكّ في ذلك و تعلّق به نذر،فهو تابع لواقعه إن كان الوضوء به صحيحا انعقد النذر و إلاّ لم ينعقد،و التمسّك بعموم

ص: 233


1- كفاية الاصول ص 262.

وجوب الوفاء بالنذر تمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة.

و أمّا نذر الاحرام قبل الميقات،و نذر الصوم في السفر،فلدليل خاصّ يدلّ علي أنّ تعلّق النذر بهما يوجب رجحانهما حين العمل،و لم يرد دليل علي انعقاد نذر شرب الخمر مثلا.

تتميم:

في دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص

إذا كان فرد محكوما بحكم علي خلاف العامّ،و شكّ في أنّ العامّ مخصّص أم لا، للشكّ في أنّه فرد للعامّ،كما إذا ورد أكرم العلماء،ثمّ ورد لا تكرم زيدا،و شكّ في أنّ زيدا عالم قد خصّص العامّ،أو أنّه جاهل و خارج عن العامّ تخصّصا،فهل يجوز التمسّك بأصالة الحقيقة أو أصالة العموم علي أنّ زيدا جاهل أم لا؟وجهان.

أقول:لو كان لأصالة العموم أثر جرت و ترتّب عليها الأثر،ولكن لا تثبت عدم فرديّة زيد للعموم؛لأنّه لا يتكفّل إلاّ بيان الحكم دون التطبيق علي مصاديقه.

و قال في الكفاية:إنّ دليل حجيّة العموم السيرة و بناء العقلاء،و لم يعلم استقراره علي إثبات خروج الفرد تخصّصا.إلي آخر كلامه (1).

لكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جواز التمسّك بالعموم لإثبات خروج زيد عن العامّ تخصّصا،قال بعد التنبيهات التي ذكرها في حجّية الكتاب في الفرائد:

و لذا لو قال المولي أكرم العلماء،ثمّ ورد قول آخر من المولي إنّه لا تكرم زيدا، و اشترك زيد بين عالم و جاهل،فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال،بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم،فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي (2)انتهي.و لا يخفي أنّ ما ذكره غير ما نحن فيه.

ص: 234


1- كفاية الاصول ص 264.
2- فرائد الاصول ص 73 ط قم.

فصل في وجوب الفحص عن المخصّص

هل يجوز التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أم لا؟

أقول:ينبغي أن يقال:هل يجوز التمسّك بما يبدو من ظواهر الكتاب و السنّة قبل الفحص عن القرائن الحاليّة و المقاليّة و الأخبار المعارضة أم لا؟

و ذلك لأنّ علّة لزوم الفحص مشتركة بين جميع الموارد،و هي أنّ بيان آيات القرآن موكول إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله و أهل بيته عليهم السّلام و الأخبار قد صدرت متدرّجة و خفي بعضها و خفيت قرائن الحال و المقال،و ربّما كانت القرينة موجودة و لم ينقلها الراوي اعتمادا علي وضوحها و عدم احتماله خفائها،و ما ذكرناه واضح لمن تتبّع الأخبار،فلذا يجب الفحص عن قرائن الحال و المقال و الأخبار،فربّ عامّ كان مقرونا بقرينة لم ينقل لنا قرينته،و لمعرفة ظروف صدور الأخبار و فتاوي العامّة المعاصرين للأئمّة عليهم السّلام دخل في معرفة ذلك.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ ما ذكره في الكفاية من أنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان و لم يصل،بل حاله حال احتمال قرينة المجاز،و قد اتّفقت كلمتهم علي عدم الاعتناء به مطلقا و لو قبل الفحص عنها كما لا يخفي الي آخر كلامه (1).غير واضح،بل لا بدّ من الفحص عن قرينة الخلاف فيه أيضا،فهذا البحث لا يختصّ بالعموم،بل كلّ ظاهر من ظواهر الآيات و الأخبار لا يتمسّك به إلاّ بعد الفحص عن قرينة الخلاف.

بقي الكلام في مقدار الفحص،و الظاهر أنّه يختلف بحسب أبواب الفقه،ففي مثل كتاب الطهارة و الصلاة ربّما يكفي مراجعة الكتب الاستدلاليّة المطوّلة مع

ص: 235


1- كفاية الاصول ص 265.

فحص إجمالي لأبوابه،و ملاحظة الروايات غير المقطّعة،فإنّ في ملاحظة مجموعها العثور علي معني الحديث و علي قرائن خفيّة.و أمّا سائر الكتب و الأبواب،فينبغي الفحص و مراجعة نظائر الأبواب،بل المرور علي جميع كتب المعاملات و ملاحظة الأخبار إلي أن يحصل اليأس بعد الفحص التامّ.

فصل في الخطابات الشفاهيّة

هل الخطابات الشفاهيّة تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب أو تعمّ غيره؟

أقول:ينبغي تعميم الخطابات إلي ألفاظ العموم و غيرها،مثل قاتلوا و جاهدوا، و إلي ما وقع منها في القرآن الكريم،و ما وقع في الأخبار،و لا يخفي أنّ جعل التكليف علي نحو القضيّة الحقيقيّة معقول و لا ريب فيه،بأن يقال:من كان موجودا و من يوجد إن استطاعوا فعليهم الحجّ.

بل يمكن جعل شيء لمن يوجد بعد زمان طويل أو علي عهدته،بأن يقال:

يجب علي من يوجد بعد مائة سنة أن يفعل كذا أو له كذا،و لا يجوز بعث المعدوم حال الخطاب الذي يوجد بعد ذلك إلي عمل بعثا حقيقيّا،أو مخاطبته مخاطبة حقيقيّة،و كذا الغائب عن مجلس المخاطبة،و لعلّ هذا مراد صاحب الكفاية (1)من أنّه لا يصحّ التكليف الفعلي للمعدوم،أي:تحريكه إلي الفعل.نعم الظاهر صحّة فرضه موجودا و مخاطبته إنشاء.

و أمّا الخطابات الشفاهيّة،مثل«يا أيّها الناس»فهل تعمّ الغائبين عن محلّ الخطاب أم لا؟و هل تعمّ الموجودين بعد ذلك المعدومين حال الخطاب أم لا؟فيه خلاف،و الاحتمالات فيها ثلاثة:

ص: 236


1- كفاية الاصول ص 267.

الأوّل:أن تكون إنشاء يستفيد منه الحاضر و الغائب،نظير ما يذكرونه في أوّل الكتب المؤلّفة من قولهم«اعلم»و من هذا القبيل ضبط الصوت المعمول في هذا العصر.

الثاني:أن تكون خطابا حقيقيّا إلي المشافهين بما هم مشافهون بخصوصهم.

الثالث:أن تكون خطابا حقيقيّا إلي المشافهين لا بما هم مشافهون،بل من حيث انّهم جماعة من الناس أو المؤمنين.

و ينبغي أن يكون النزاع في شمول الخطاب للغائبين و المعدومين و عدمه مبنيّا علي الاحتمال الأوّل و الثالث،فالقائل بشمولها لغير المشافهين يقول:إنّ الخطابات من قبيل ضبط الصوت،و من قبيل الخطابات المذكورة في الكتب المؤلّفة،و القائل بعدمه يقول:إنّها خطابات إلي خصوص المشافهين،لكن لا لخصوصيّتهم بل لأنّهم بعض المؤمنين الذين خوطبوا،و مضمون الخطاب يشمل غيرهم أيضا،و هذا متعارف أن ينسب إلي شخص واحد ما صدر له و لمن يجمعه في الوصف جميعا.

و أمّا الاحتمال الثاني،و هو اختصاص المشافهين بالحكم بحيث لا يكون الحكم المذكور لهم حكما لغيرهم،و يكون اشتراك غيرهم معهم ثابتا بدليل آخر من إجماع و نحوه،فبعيد جدّا؛لأنّ أفراد المؤمنين بالنسبة إلي الأحكام متساوية غالبا،و إن كان يحتمل ظاهر كلام بعضهم أنّ النزاع في ذلك،و علي كلّ حال فلا يبعد أن تكون الخطابات القرآنيّة متوجّهة إلي الناس أو المؤمنين علي النحو الثالث،إلاّ إذا كانت قرينة تقتضي أن تكون من النحو الثاني.

ثمّ انّه ذكر للقولين ثمرتان:

الاولي:حجّية الخطاب للغائبين و المعدومين بناء علي شمول الخطاب لهم، و عدم حجّية الخطاب لهم بناء علي عدم الشمول؛لأنّ الخطاب حجّة لمن قصد

ص: 237

إفهامه.

و اجيب بأنّه قد ثبت في محلّه عدم اختصاص الخطاب بمن قصد إفهامه.

قلت:لا يختصّ حجّية الخطاب بمن قصد إفهامه إن كان ظهور اللفظ و القرائن الحاليّة و المقاليّة متّحدة مع غير من قصد إفهامه.و أمّا مع الاختلاف و لو احتمالا، فلا دليل علي حجّية الخطاب لغير من قصد إفهامه؛لأنّ المتكلّم بالخطاب إنّما تكلّم مع المشافهين،و له أن يتّكل علي القرائن الحاليّة و المقاليّة التي لا حاجة لحكايتها لغير من يتكلّم معه.

الثانية:فيما لو اختلف المعدومون مع المخاطبين في الصنف،كما في قوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللّهِ فإنّ المخاطبين كان فيهم المعصوم عليه السّلام،فإن كان الخطاب شاملا للمعدومين،فلا يضرّ اختلافهم مع المخاطبين في الصنف،و إن لم يكن شاملا لهم فلا بدّ لإثبات شمول الحكم لهم من اثبات عدم دخالة الاختلاف في الصنف في الحكم،و هو وجود المعصوم عليه السّلام بينهم.

ثمّ إنّه قال في الكفاية:ان بعث الغائب و مخاطبته حقيقة غير معقولين،فلا بدّ أن يكون النزاع في المعني اللغوي،و هو أنّ الموضوع له للخطابات هل هو الخطاب حقيقة أو هو إنشاء الخطاب؟و اختار كونها موضوعة لإنشاء الخطاب بأحد الدواعي،و إن كان مع عدم القرينة تنصرف إلي الخطاب الحقيقي،لكن قرينة عدم اختصاص الحكم بالمشافهين تقتضي أن تكون لمجرّد إنشاء الخطاب.

ثمّ ذكر أنّ الثمرة تظهر في صحّة التمسّك بالاطلاق إن كانت خطابات إنشائيّة، و إن لم يكن الغائبون متّحدين في الصنف مع المشافهين،و عدم صحّته إن كانت خطابات حقيقية إلي المشافهين،و يثبت حكمهم في حقّ الغائبين إن كانوا متّحدين معهم في الصنف بالاجماع.

ص: 238

ثمّ إنّه منع عن وجود هذه الثمرة بأنّه يمكن نفي اعتبار خصوصيّة المشافهين بإطلاق الخطاب إليهم إن كان الوصف مفارقا كالعلم و نحوه،لا ما إذا كان ملازما كحضورهم في زمان الرسول صلّي اللّه عليه و اله.الي آخر ما أفاده (1).

قلت:التمسّك بالاطلاق محلّ إشكال قوي فيما إذا اختلف الصنف و احتمل خصوصية صنف المشافهين.

فإن سلّمنا أنّ الخطاب علي النحو الثالث و يشمل الغائبين و المعدومين كما لا يبعد،ففي قوله تعالي في سورة الجمعة يحتمل الاختصاص بالحاضرين؛لاحتمال أن يكون المعني يا أيّها المؤمنون الحاضرون في زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله،مثل آية النجوي،و إنّما لم يذكر التقييد بالحاضرين لكونه مفروضا.

و ما ذكره في الكفاية من أنّها حقيقة في إنشاء الخطاب غير معلوم،فلعلّها حقيقة في الخطاب حقيقة،بأن يكون المخاطب خصوص المشافهين لا بما هم مشافهون، بل بما هم طائفة من المؤمنين.

فصل في تعقّب العامّ بضمير يرجع إلي بعض أفراده

اختلف الأعلام في أنّه إن تعقّب العامّ ضمير يرجع إلي بعضه،فهل يوجب ذلك تخصيصه أم لا؟الظاهر هو التخصيص إن كان العامّ و الضمير في جملة واحدة،و لو سلّم عدم ظهوره في التخصيص،فلا أقلّ من عدم انعقاد ظهور العام في العموم، مثل و المطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ،فإنّ المراد من ضمير أزواجهنّ المطلّقات الرجعيّات.و أمّا إذا كانا في جملتين،مثل قوله تعالي وَ الْمُطَلَّقاتُ (2)إلي قوله أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ الآية،ففي تخصيص العموم لأنّ ظاهر الضمير كون مرجعه متّحدا

ص: 239


1- كفاية الاصول ص 269-270.
2- سورة البقرة:228.

معه،أو إبقاء العموم بحاله و إرجاع الضمير إلي بعضه،احتمالان.

فصل في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف

اتّفقوا في جواز تخصيص العموم بمفهوم الموافقة؛لأنّه في الدلالة أبلغ من دلالة المنطوق.و أمّا المفهوم المخالف بناء علي أن يكون للجملة الشرطيّة مفهوم، فالظاهر أنّه يخصّص العموم علي المختار من أنّه من دلالة المنطوق علي الحصر، إلاّ أن يكون دلالة العموم أظهر من دلالته بحيث يكون موجبا للتصرّف فيه.

و قال في الكفاية:إنّ الدلالة علي العموم و الدلالة علي المفهوم إن كانتا بمقدّمات الحكمة،أو كانتا بالوضع،فلا عموم و لا مفهوم؛لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة،كما في مزاحمة أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك،فلا بدّ من العمل بالاصول العمليّة فيما دار بين العموم و المفهوم إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر (1).

أقول:محلّ الكلام معارضة ما دلّ علي العموم بالوضع مع المفهوم الأخصّ منه، فإذا كانت الدلالة علي المفهوم دلالة معتبرة عرفا و كان أخصّ من العامّ،و كان كلاهما بالوضع أو بالدلالة العرفيّة،فلا يبعد أن يكون الجمع العرفي يقتضي التخصيص،إلاّ إذا كان العامّ أقوي دلالة و أظهر من الخاصّ،بحيث لا يكون رفع اليد عنه بالخاصّ من الجمع العرفي.

و لا يخفي أنّه علي المختار من إنكار دلالة القضيّة علي الحصر،و أنّه لا بدّ أن يكون للقيد المذكور في الكلام فائدة،فينبغي ايكال الأمر إلي نظر الفقيه في كلّ مورد بخصوصه ليري الدلالة العرفيّة،مثلا رجحان النوافل اليوميّة لو ثبت بعموم

ص: 240


1- كفاية الاصول ص 273.

كان قوله«يسقط النوافل في السفر نهارا»دالاّ علي حصر السقوط في السفر بالنوافل النهاريّة فيخصّصه بالنهار؛لأنّ قوله«نهارا»يدلّ علي خصوصيّة النهار، حيث انّ المتفاهم عرفا من القيد ذلك،فالميزان صحّة الجمع بالتخصيص عرفا.

فصل في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

اختلفوا فيه علي قولين،الأوّل:جواز التخصيص،و استدلّ له في المعالم (1)بأنّ الخبر حجّة سندا و دلالة،و الكتاب قطعي سندا و حجّة دلالة،و لا تعارض بين حجّية سند الخبر و الكتاب،إنّما المعارضة بين دلالة الكتاب و دلالة الخبر، و مقتضي حجّيتهما كون دلالة الخبر قرينة علي تخصيص العموم.

الثاني:عدم الجواز،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في عدّة الاصول (2)في هذا البحث،و في بحث حجّية الأخبار قال:إلاّ أن يدلّ دليل يوجب العلم يقترن بذلك الخبر يدلّ علي جواز تخصيص العموم به،أو ترك دليل الخطاب،فيجب حينئذ المصير إليه،و إنّما قلنا ذلك لما نبيّنه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الآحاد إن شاء اللّه تعالي (3).

و في كنز الفوائد،عن الشيخ المفيد،قال:و لا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، لأنّه لا يوجب علما و لا عملا،و إنّما يخصّصه من الأخبار ما قطع العذر لصحّته عن النبي صلّي اللّه عليه و اله أو عن أحد الأئمّة عليهم السّلام (4).

و الأدلّة التي اقيمت علي عدم الجواز وجوه:

ص: 241


1- معالم الاصول ص 140.
2- عدّة الاصول 1:344.
3- عدّة الاصول 1:370.
4- كنز الفوائد 2:23.

أحدها:أنّ الكتاب قطعي و الخبر ظنّي،و لا يرفع اليد عن القطعي بالظنّي.

و اجيب بأنّ الخبر الواحد قطعي الحجّية،و الكتاب ظنّي الدلالة،فيرفع اليد عنه بدلالة الخبر التي أظهر من دلالته.

أقول:هذا الجواب يتمّ بالنسبة إلي بعض الأخبار لا جميعها،و يأتي تفصيل ذلك.

ثانيها:أنّه لو جاز التخصيص لجاز النسخ،و الثاني باطل فكذا الأوّل.بيان الملازمة:أنّ جواز التخصيص فرع قطعيّة حجّية الخبر،و معها لا فرق بين التخصيص و النسخ.

و اجيب بأنّه لا مانع من النسخ،و لو سلّم فالفارق بين الأمرين الاجماع علي عدم جواز النسخ.

ثالثها:أنّ الدليل علي حجّية الخبر إجماع الطائفة،و هو غير ثابت في مورد معارضة الخبر للكتاب.

و اجيب بأنّ الدليل ليس منحصرا به،بل هو السيرة العقلائية بل سيرة المتشرّعة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام.

أقول:ذكرنا في محلّه أنّ المتيقّن من السيرة هو الاعتماد علي خبر من يعلم وثاقته بالمعاشرة و نحوها،أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته واقعا،و الأخبار الموجودة بأيدينا ليست كلّها كذلك،و تفصيله في محلّه و هو البحث عن حجّية خبر الواحد.

رابعها:ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّ عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار لم يدلّ علي العمل بما يخصّ القرآن،بل قد ورد عنهم عليهم السّلام ما لا خلاف فيه من قولهم«إذا جاءكم منّا حديث فاعرضوه علي كتاب اللّه،فإن وافق كتاب اللّه فخذوه،و إن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»علي حسب اختلاف الألفاظ فيه،

ص: 242

و ذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القرآن.إلي آخر كلامه (1).

و اجيب عنه و عن أمثاله بأنّ المراد من المخالفة تباين مضمون الخبر مع الكتاب،و ذلك للعلم بصدور المخصّصات لعمومات الكتاب من النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لأنّ الخاصّ لا يكون مخالفا للعامّ عرفا،بل هو قرينة علي أنّ المراد بالعموم ما عدا الخاصّ.

أقول:الظاهر صدق المخالف علي الخاصّ،إذ لو سلّم عدم صدق المخالفة بين العامّ و الخاصّ إن وقعا في كلام متكلّم واحد،أو متكلّمين كانا بحكم متكلّم واحد، فالظاهر صدقها إن لوحظ الخاصّ بالنسبة إلي كلام متكلّم آخر.

فلو قال المولي لعبيده:اعملوا بما يأمركم ابني إلاّ إذا خالف كلامه كلامي، و فرضنا أنّ المولي قال لعبيده:لا تكرموا الفسّاق،و قال ابنه:أكرموا فسّاق العلماء، لقال العبيد له:إنّ هذا الكلام مخالف لكلام المولي.

و الخبر إن لوحظ بالاضافة إلي عموم الكتاب يصدق عليه أنّه مخالف له،و قد ورد في الخبر أنّه إن تعارض الخبران يؤخذ بما وافق الكتاب و يترك ما خالف الكتاب،و المراد به المخالفة بنحو العموم و الخصوص.

و أمّا الخبر المباين للكتاب،فإنّه ساقط من رأسه.

و دعوي أنّ العلم بصدور المخصّصات من النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام قرينة علي أنّ المراد من المخالف للكتاب المخالفة بالتباين،ممنوعة،بل يصدق المخالفة بدوا،لكن حيث انّهم عليهم السّلام العارفون بالكتاب،العالمون بالمراد من العمومات،المبيّنون لها،فما سمعناه منهم أو علمنا بصدوره عنهم،أو علمنا بأنّهم جعلوه حجّة كخبر الثقة الأمين كزرارة و أضرابه،نعلم بأنّه بيان للكتاب و مخصّص5.

ص: 243


1- عدّة الاصول 1:135.

للعموم إن كان خاصّا،و ليس ذلك محلّ النزاع،بل محلّ النزاع مجيء خبر لا يعلم و لا يطمأنّ بصدوره عنهم،و مقتضي هذه الأخبار التي وردت عنهم علي طرح ما خالف الكتاب هو طرح المخالف للكتاب فيما لم يعلم صدوره عنهم،و هي شاملة للخبر الواحد الخاصّ.

و بذلك نجيب عن سيرة المتشرّعة في زمان المعصومين،فلعلّهم كانوا يعملون بخبر حصل لهم العلم بصدوره عنهم لقلّة الواسطة و جلالة الراوي،كأخبار زرارة و أمثاله،و إن كان مخصّصا للعامّ.

ثمّ الأخبار المذكورة الدالّة علي طرح ما خالف الكتاب:إمّا محمولة علي صورة عدم العلم بصدور الخبر المخالف إن كان ضعيفا بالاصطلاحين،أي:

اصطلاح القدماء و المتأخّرين،أو محمولة علي مورد خاصّ،مثلا يحمل خبر هشام بن الحكم و غيره في قول النبي صلّي اللّه عليه و اله«ما جاءكم عنّي يخالف كتاب اللّه فلم أقله» (1)علي خصوص خبر جاء عنه صلّي اللّه عليه و اله و لم يعلم صدوره عنه،لا ما سمع منه أو علم بصدوره عنه،فما رواه أبو بكر عنه صلّي اللّه عليه و اله من أنّ ما تركه الأنبياء صدقة،مطروح لأنّه مخالف للكتاب.

و يحمل ما ورد علي أنّه إن وجد للحديث شاهد،علي الشاهد علي صدقه،فقد ورد في القرآن مدح المؤمنين،و انّهم يتواصون بالحقّ،فما لم يعلم صدوره عن المعصومين و لم يكن صادرا عن عادل ثقة فهو مردود،و قد فصّلنا البحث عن حجّية الأخبار في محلّه،فلاحظ.

فصل الخاصّ المقارن للعامّ يخصّص العموم بلا ريب

اشارة

الخاصّ المقارن للعامّ يخصّص العموم بلا ريب،و أمّا غير المقارن فله صور:

ص: 244


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 15.
الصورة الاولي:أن يكون الخاصّ صادرا متأخّرا عن العامّ و قبل حضور وقت

العمل بالعامّ

،قال في الكفاية:فلا محيص عن كون الخاصّ مخصّصا و بيانا للعامّ (1).

أقول:الخاصّ المتأخّر عن العامّ الوارد قبل وقت العمل بالعامّ يجب العمل به، سواء كان ناسخا أو مخصّصا،فلا ثمرة في إثبات كونه مخصّصا أو ناسخا.

الصورة الثانية:أن يكون الخاصّ متقدّما زمانا علي العامّ و جاء العامّ قبل وقت

العمل بالخاصّ

،فهل الخاصّ مخصّص للعامّ،أو أنّ العامّ ناسخ له؟قولان:

الأوّل:أنّ الخاصّ مخصّص له؛لأنّ التخصيص أكثر من النسخ،حتّي قيل:ما من عامّ إلاّ و قد خصّ.

الثاني:أنّه ناسخ،قال الشيخ الطوسي عليه السّلام:إنّ المتأخّر ناسخ؛لأنّ تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب،و كذلك لو كان المتقدّم خاصّا و المتأخّر عامّا، فإنّه يكون ناسخا،إلاّ أن يدلّ دليل علي أنّه اريد به ما عدا ما تقدّمه،و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم (2).

أقول:لعلّ العرف يتوقّف في مثل ذلك إن صدر عن المولي العرفي،لاحتمال حصول البداء له،فإذا قال المولي العرفي يوم السبت:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة،و قال يوم الأربعاء:أكرم كلّ عالم يوم الجمعة،لم يثبت أنّهم يخصّصون العموم،بل ربّما يأخذون بالعموم،لقوّة احتمال البداء في حقّ المتكلّم.

و إن صدر من الشارع المقدّس،فيشكل إحراز كون العامّ مخصّصا بالخاصّ المتقدّم؛لأنّه لا مانع من النسخ قبل وقت العمل بالحكم؛لأنّ المصلحة ربّما اقتضت ذكر حكم خاصّ ثمّ نسخه قبل العمل به،فإذا لم يكن مانع من ذلك،فمقتضي

ص: 245


1- كفاية الاصول ص 276.
2- عدّة الاصول 2:448.

إطلاق الأخبار الدالّة علي الأخذ بالخبر الأحدث العمل بالخبر المتأخّر،فتأمّل.

الصورة الثالثة:أن يكون الخاصّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ

، و الظاهر تعيّن العمل بالخاصّ و كونه ناسخا كما في الكفاية (1)،و ما قيل من أنّ العامّ قد يكون في الشرعيّات لبيان ضرب القاعدة،لا محصّل له بل الأحكام كانت تدريجية.

الصورة الرابعة:أن يكون العامّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ

،و فيه أقوال:

الأوّل:أنّ العامّ ناسخ،و هو الذي يظهر من العبارة التي نقلناها عن عدّة الاصول.

الثاني:أنّ الخاصّ يخصّص العموم،قال في الكفاية:انّه أظهر لكثرة التخصيص و ندرة النسخ،فيصير ذلك سببا لأظهريّة الخاصّ في الدوام،و إن كان دلالته علي الدوام بالاطلاق و دلالة العموم بالوضع (2).

أقول:يريد أنّ دلالة العموم علي شموله للخاصّ بالوضع،و هو مقدّم علي استمرار حكم الخاصّ إلي ما بعد مجيء العموم لأنّه بالاطلاق،إلاّ انّ كثرة التخصيص أوجبت أقوائيّة ظهور الخاصّ في الدوام من ظهور العامّ.

و في المحاضرات بعد الاعتراض علي الكلام المتقدّم و الاعتراف بأنّ مقتضي القاعدة في مثل ذلك تقديم العامّ،قال:إلاّ إنّ ذلك في غير الأحكام الشرعيّة،و أمّا فيها فيخصّص العامّ؛لأنّ الأحكام الشرعيّة ثابتة لا تقدّم و لا تأخّر بينها،و إنّما التأخّر و التقدّم في مرحلة البيان،فقد يكون الخاصّ متأخّرا في مقام البيان و قد

ص: 246


1- كفاية الاصول ص 277.
2- كفاية الاصول ص 277.

يكون بالعكس،مع أنّه لا تقدّم و لا تأخّر في نفس الأحكام.الي آخر كلامه (1).

أقول:إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و إن كانوا مبيّنين للأحكام،لكن يحتمل أن يكون فعليّة الأحكام تختلف بحسب الأزمنة،فكان بعض الأحكام في أوّل الشريعة غير فعلي ثمّ صار فعليا،و كان بعضها حكما مؤقّتا بزمان خاصّ،و كلّها نازلة علي النبي صلّي اللّه عليه و اله و قد بيّنها الأئمّة عليهم السّلام،و يؤيّد ذلك أخبار الأخذ بالأحدث.

الثالث:التفصيل بين الموارد،فقد يكون العامّ ناسخا إذا كان صادرا لبيان الحكم الواقعي،و قد يكون محمولا علي التقيّة إن لم يكن صادرا لبيان الحكم الواقعي،و ذلك لأنّه ورد في جملة من الأخبار،كخبر الحسين بن المختار،و خبر محمّد بن مسلم،و منصور بن حازم (2)و غيرها،العمل بالأحدث و هو الخبر الأخير،فإن استظهر كون الأخير للتقيّة تعيّن العمل بالأوّل،و إلاّ يجب العمل بالأخير.

بل قيل ذلك في الآية المتأخّرة أنّها تكون ناسخة للاولي،ففي آية حرمة الدم المسفوح في سورة الأنعام التي يقال إنّها مكّية،و في آية اخري نزلت بعدها علي ما قيل حرمة الدم مطلقا،و هو في سورة البقرة التي يقال:إنّها مدنيّة،فيؤخذ بالأخير،و كذلك أحاديث النبي صلّي اللّه عليه و اله،و في بعض الأخبار إشارة إلي ذلك.و لا يترك مراعاة الاحتياط في ذلك.

الصورة الخامسة:أن يعلم أنّ الخاصّ ورد بعد العامّ

،و تردّد بين أن يكون الخاصّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ حتّي يكون ناسخا،و بين أن يكون قبله حتّي يكون مخصّصا،قال في الكفاية:يرجع إلي الاصول العمليّة لعدم ترجيح

ص: 247


1- المحاضرات 5:326.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 37 و 38 و 39.

بين الاحتمالين الي آخر ما أفاده (1).

أقول:لا أثر للتردّد المذكور بالنسبة إلينا؛لأنّه يجب علينا العمل بالخاصّ، سواء كان ناسخا أو مخصّصا،نعم المدرك لزمان صدور الخبرين له بالنسبة إليه أثر عملي.

الصورة السادسة:أن يعلم صدور العامّ بعد الخاصّ
اشارة

،و تردّد بين أن يكون بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ليكون العام ناسخا،و بين أن يكون قبله ليكون الخاصّ مخصّصا للعامّ،مقتضي ما ذكره في الكفاية فيما لو علم ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ من تخصيص العموم لكثرته حتّي قيل:ما من عامّ إلاّ و قد خصّ،الحمل علي التخصيص في صورة الجهل أيضا،ولكن مقتضي ما ذكرناه من احتمال لزوم الأخذ بالأخير هو الرجوع إلي الاصول العمليّة.

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الطوسي في عدّة الاصول لزوم التخصيص في الصورتين الرابعة و الخامسة،قال في الاستدلال عليه:إنّ من حقّ من ثبتت حكمته أن لا يلغي كلامه إذا أمكن حمله علي وجه يفيد،و إذا صحّ ذلك فمتي أوجبنا استعمال العامّ لأدّي إلي إلغاء الخاصّ،و متي استعملنا الخاصّ لم يوجب إطراح العامّ،بل يوجب حمله علي ما يصحّ أن يريده الحكيم،فوجب بهذه الجملة بناء العامّ علي الخاصّ.الي آخر كلامه (2).

أقول:إن كان الخاصّ حكما إلزاميّا و العامّ حكما ترخيصيّا،فالأحوط العمل بالخاصّ،و إن انعكس فالأحوط العمل بالعامّ.و إن كان الخاصّ حكما إلزاميّا من وجوب أو حرمة و العامّ أيضا حكما إلزاميّا ضدّ الخاصّ،فهو من باب الدوران بين المحذورين،فإنّه إذا كان العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ وجب العمل بالعامّ

ص: 248


1- كفاية الاصول ص 277.
2- عدّة الاصول 1:150.

لكونه الأخير،و إن كان قبله فيحتمل الأخذ بالعامّ لأنّه متأخّر،فيشمله ما دلّ علي الأخذ بالأخير،و إن كان لا يبعد دعوي عدم شمول ما دلّ علي الأخذ بالأخير للعامّ المتأخّر عن الخاصّ الوارد قبل العمل بالخاصّ،و عليه فيحتمل التخصيص، فيدور الأمر بين كون العامّ ناسخا أو مخصّصا،فتبقي المسألة في قالب الاشكال.

تتميم

في النسخ و البداء

النسخ لغة كما في عدّة الاصول:الازالة كما يقال:نسخت الشمس الظلّ و نسخت الريح آثارهم،و بمعني النقل كما يقال:نسخت الكتاب (1).

و بالمعني الأوّل استعمل في نسخ الحكم،فسمّي بيان أمد الحكم الذي كان ظاهرا في الدوام نسخا؛لأنّه أزال دوام ما ظاهره الدوام،فهو في الحقيقة ليس رفعا للحكم و لا دفعا له،بل بيان أمد الحكم.فما في الكفاية من أنّه دفع ثبوتا (2)لا يخلو عن مسامحة.

و البداء لغة:الظهور،يقال:بدا لنا سور البلد.

قيل:و يستعمل في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا.

أقول:هو أيضا ظهور المعلوم.

و يمكن إطلاقه علي نسخ الحكم،فيقال:بدا الحكم أي:ظهر الحكم علي واقعه بعد ما كان بعض أحواله مخفيا،فإنّ الحكم كان ظاهرا في الدوام فظهر أمده و أنّه لا دوام له،أو ظهر للمكلّفين أمد الحكم الذي لم يكن ظاهرا لهم،و يطلق في الامور التكوينيّة،فيقال:بدا للّه تعالي،أي:كان المقتضي للشيء موجودا ظاهرا،و المانع مفقودا ظاهرا،و وجود المقتضي و فقد المانع مستندان إليه تعالي،فإذا تحقّق

ص: 249


1- عدّة الاصول 2:485.
2- كفاية الاصول ص 278.

المقتضي بالفتح،فقد أوجده اللّه تعالي،لكن لمّا كان الواقع علي خلافه،فإذا وجد خلاف ما يقتضيه الظاهر و هو أيضا مستند إلي اللّه تعالي،صحّ أن يقال مجازا:بدا للّه،لكن حقيقته أنّه أبدي أي:أظهر خلاف ما هو ظاهر عند الناس،مع أنّه كان من الأوّل كذلك،أي:انّ المصلحة كانت موقّتة.

و في عدّة الاصول حكي عن السيّد الأجلّ المرتضي وجها آخر،و هو أن قال:

يمكن حمل ذلك علي حقيقته،بأن يقال:بدا له تعالي،بمعني أنّه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهرا له،و بدا له من النهي ما لم يكن ظاهرا له؛لأنّ قبل وجود الأمر و النهي لا يكونان ظاهرين مدركين،و إنّما يعلم انّه يأمر أو ينهي في المستقبل،فأمّا كونه آمرا أو ناهيا،فلا يصحّ أن يعلمه إلاّ إذا وجد الأمر و النهي،و جري ذلك مجري أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالي وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّي نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ (1)بأن نحمله علي أنّ المراد حتّي نعلم جهادكم موجودا،لأنّ قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا،و إنّما يعلم كذلك بعد حصوله،فكذا القول في البداء،و هذا وجه حسن جدّا (2)انتهي.

و فائدة الاعتقاد بالبداء هو الاعتقاد بالتوحيد و قدرة اللّه سبحانه،و التضرّع و التوكّل و الالتجاء إليه،و عدم الاعتقاد بما هو الظاهر،فلا ييأس من رحمة اللّه تعالي،و التضرّع إلي اللّه تعالي مطلوب بنفسه.

و قد وردت روايات في مدح البداء،أي:الاعتقاد به.ففي خبر زرارة عن أحدهما قال:ما عبد اللّه بشيء مثل البداء (3).

و في بعضها فسّر المراد به،ففي صحيح عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام1.

ص: 250


1- سورة محمّد صلّي اللّه عليه و اله:31.
2- عدّة الاصول 2:496.
3- أصول الكافي 1:146 ح 1.

قال:ما بدا للّه في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له (1).

و في خبر عمرو بن عثمان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه لم يبد له من جهل (2).

و في الأخبار:أنّ عبد المطّلب أوّل من قال بالبداء (3).

و بعبارة اخري:أنّ الامور التي تقع بعضها حتمي لا يتغيّر،كالقيامة و الجنّة و النار،و هي ثابتة في كتاب.

و بعضها غير حتمي قد ثبت في كتاب و يمكن تغييرها،كما يمكن إثباتها و اللّه تبارك و تعالي قادر علي المحو و الاثبات،فإن علم العبد بأنّ أمرا من الامور حتمي،فليس له إلاّ التسليم لوقوعه.و إن علم أنّه ليس بحتمي،فله السعي بالدعاء و نحوه علي وقوعه أو عدم وقوعه،و إن لم يعلم فله السعي لاحتمال كونه غير حتمي.

ثمّ إنّ العبد حيث لا سبيل له إلي أن يعلم كون أمر من الامور حتميّا،فحينئذ لا بدّ له من الرجاء و الخوف و السعي بأنواع القربات،و عدم الاغترار بما هو واجد له و عدم اليأس ممّا هو فاقد،فإنّه ربّما يكون الشيء بحسب ما هو الظاهر عنده ممّا يقع لتحقّق المقتضي و فقد المانع لكن ينعكس الأمر،و لم يوجد في الشرع اسم لهذا المعني و للاعتقاد به إلاّ لفظ البداء،فتدبّر.

و المراد به ما ذكرناه،و هذه اللفظة وردت في أخبار أهل البيت عليهم السّلام و فسّروه بأنّه لم يبد للّه من جهل.

و قالوا:إنّ المراد من قوله تعالي يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ (4)هو ذلك،و إن9.

ص: 251


1- اصول الكافي 1:148 ح 9.
2- اصول الكافي 1:148 ح 10.
3- اصول الكافي 1:447 ح 23.
4- سورة الرعد:39.

أبيت عن التسمية فلا مشاحّة في الاصطلاح،فإن شئت فسمه بقدرة اللّه علي المحو و الاثبات،كما في الآية الشريفة.

المقصد الخامس: في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن

اشارة

و فيه فصول:

فصل: ي تعريف المطلق

المطلق مأخوذ من الاطلاق لغة بمعني المرسل،و اصطلاحا إسم لإرسال خاصّ،و هو ما دلّ علي معني يصلح للشيوع،و له أقسام من الاطلاق الشمولي و البدلي،و الاطلاق الذاتي و اللحاظي،و الاطلاق الأحوالي،و الاطلاق اللفظي، و الاطلاق المقامي.

و الفرق بين العامّ و المطلق من جهات:

منها:أنّ العامّ يدلّ علي الشمول بالوضع،و المطلق يدلّ بالوضع علي الطبيعة المهملة،و إنّما يدلّ علي الشمول بمقدّمات الحكمة،و لذا لو تعارض المطلق مع العامّ،قدّم العامّ علي المطلق؛لأنّه يصير قرينة علي المراد من المطلق،فلا يتمّ مع وجود العامّ مقدّمات الحكمة.

و منها:أنّ العامّ إن استعمل في بعض أفراده كان مجازا؛لأنّه استعمل في غير ما وضع له،بخلاف المطلق فإنّه لو استعمل في الفرد من باب أنّه أحد مصاديق الطبيعة لم يكن مجازا.نعم لو استعمل في الفرد بعنوان أنّه تمام معني الطبيعة كان مجازا.

و منها:أنّ العامّ لا يكون إلاّ من الأسماء،فلا يوجد فعل أو حرف عامّ،بخلاف المطلق فإنّ الفعل يكون مطلقا،كما مرّ انّ ضرب زيد مطلق من حيث الزمان و المكان و آلة الضرب.

و منها:أنّ عموم العامّ يكون لحاظيّا؛لأنّ لحاظ المعني يقتضي ذلك بخلاف

ص: 252

المطلق،فقد يكون اطلاقه ذاتيّا و قد يكون لحاظيّا.

و منها:أنّ الاطلاق يكون إضافيّا،فزيد في قولك«جاء زيد»يدلّ علي معناه و لا إطلاق له،لكنّه بالاضافة إلي أحواله يكون مطلقا قابلا للتقييد،كقولك«جاء زيد راكبا»و أمّا العامّ فليس عمومه إضافيّا.

و قد ظهر ممّا ذكرنا الحاجة إلي تعريف المطلق و العامّ حتّي يميّزا،و ليقدّم العامّ علي المطلق عند التعارض.فما ذكره في الكفاية من أنّه لا وجه للايراد علي تعريف المطلق،بأنّه غير جامع و لا مانع؛لأنّ هذه التعريفات ليست بيانا لماهيّة الشيء بل هي شرح الاسم،فلذا لا حاجة إلي تعريف المطلق لوضوح معناه (1).غير واضح.

ثمّ إنّه علي ما ذكرناه لا حصر لألفاظ المطلق،لكنّه ذكر في الكفاية أسماء قيل:

إنّها مطلقات،منها أسماء الأجناس،قال:إنّها موضوعة لمعانيها بلا لحاظ أيّ شيء معها،لصدقها علي أفرادها بغير تجريد المعني،فيقال:جاءني إنسان و يريد به أحد مصاديقه.و لو كان ملحوظا معه شيء من إرسال،أو عموم بدلي،أو لحاظ كونه مهملا غير مقيّد بشيء،لزم تجريده في صدقه علي مصاديقه الي آخر كلامه (2).

أقول:ما ذكره متين،و ذلك أنّ الطبيب إن قال للمريض:لا بدّ لك من أن تشرب الدواء،لم يستعمل كلمة الدواء فيما يشمل كلّ دواء،بل انّه في مقام بيان احتياجه إلي أصل الدواء،و الاستعمال المذكور ليس بعناية و لا تجريد،و هذا يكشف عن أنّ اللفظ موضوع لذات المعني،فلم يؤخذ في الموضوع له الشمول لكلّ ما صدق عليه المفهوم من اللفظ.

و من ذلك يظهر أنّ التقييد بالمتّصل لا يوجب استعمال اللفظ في غير معناه في3.

ص: 253


1- كفاية الاصول ص 282.
2- كفاية الاصول ص 282-283.

قولنا«أعتق رقبة مؤمنة»فإنّ المراد الاستعمالي بالرقبة أصل الرقبة لا كلّ رقبة حتّي يكون التقييد بالمؤمنة موجبا للمجازيّة،و المراد الواقعي صنف خاصّ من الرقبة و هو المؤمنة قد افيد بتعدّد الدالّ و المدلول.و التقييد راجع إلي مفهوم اللفظ؛ لأنّه يصلح في نفسه للشمول لكلّ ما صدق عليه الرقبة.

و بذلك يصحّ أن يقال:إنّ المطلق الذاتي مقيّد بكونه مؤمنة،ولكن في الواقع لا إطلاق للرقبة؛لأنّ المراد بها أصل الرقبة،فيصحّ أن يقال:إنّها ليست مطلقة لحاظا.

و أمّا التقييد بالمنفصل فيما إذا كان المطلق في مقام البيان،بأن كان ظاهرا في الاطلاق،كما لو قال:أعتق رقبة،ثمّ قال بعد ذلك:لا تعتق رقبة كافرة،فهل يوجب ذلك أن يكون الاستعمال مجازا،أو أنّه يكشف عن كون المراد بالرقبة بعضها لا كلّ ما صدق عليه الرقبة من دون أن يكون الاستعمال مجازا؟الظاهر أنّه لا يوجب كونه مجازا؛لأنّ الحكم بأنّ المتكلّم أراد الاطلاق حيث لم ينصب قرينة كان معلّقا علي عدم الاتيان بالقرينة قبل وقت العمل،و المفروض أنّ المتكلّم أتي بالقرينة قبل وقت العمل،و سيأتي توضيحه.

ثمّ إنّ المعني إن لوحظ تحقّقه و وجوده،كان موطنه الخارج.و إن لوحظ من حيث كونه قابلا للصدق علي الكثيرين و عدمه،لم يكن النظر إلي وجوده الخارجي و كان موطنه الذهن،و كلّية المعني في الانسان و جزئيّته في زيد من أوصاف المعني غير الملحوظ معه الوجود الخارجي.

و منها:علم الجنس كاسامة،قال في الكفاية:التحقيق أنّه كاسم الجنس، و التعريف فيه لفظي كالتأنيث اللفظي (1).

أقول:إن كان علما للجنس،فيجري عليه أحكام العلم،فإن قال المولي:جئني3.

ص: 254


1- كفاية الاصول ص 283.

باسامة،فليس لنا أن نقول:لعلّه ليس في مقام البيان،كما إذا قال الطبيب للمريض:

اشرب الدواء و لم يكن في مقام البيان،و ذلك لأنّ اسامة علم كزيد،فكما أنّه إذا قال:جئني بزيد،لا يمكن أن لا يكون في مقام البيان كذلك في اسامة.

و منها:المفرد المعرّف باللام.قال في الكفاية:الظاهر أنّ اللام مطلقا للتزيين، كما في الحسن و الحسين،و استفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن (1).

أقول:اللام في الأعلام للتزيين،و أمّا في أسماء الأجناس،فإنّها تعيّن مدخولها للجنس،فقولك«أكرم عالما»يحتمل الوحدة،أي:عالما واحدا،و يحتمل أن يكون تنوين التمكّن و يكون المراد به الجنس،و أمّا إذا قلت أكرم العالم،فهو يتعيّن في الجنس.

ثمّ إنّ اللام قد تكون للعهد الذكري أو الذهني،كما تكون للجنس و للاستغراق، و يفهم ذلك من القرينة،فهي تعيّن كون اللام للجنس،لا أنّ مدخولها للجنس كما في الكفاية،حيث قال:و استفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيّنها علي كلّ حال إلي آخر كلامه (2).

و منها:النكرة في الاخبار،كقولك«جاءني رجل»و في الانشاء كقولك«جئني برجل».

قال في الكفاية:المراد من الاوّل فرد معيّن في الواقع غير معيّن عند المخاطب، و المراد بالثاني طبيعة الرجل المقيّد بقيد الوحدة،و ليس المراد بالنكرة الفرد المردّد (3).

أقول:لا فرق بين النكرة المستعملة في الاخبار و المستعملة في الانشاء،فإنّها5.

ص: 255


1- كفاية الاصول ص 284.
2- كفاية الاصول ص 285.
3- كفاية الأصول ص 285.

في كلا الموردين مستعملة في الطبيعة المقيّدة بالوحدة،لكن في الاخبار يستفاد التعيّن عند التكلّم من إخباره،فإنّه ظاهر في أنّه يعرف شخصه.

فصل في مقدّمات الحكمة

اشارة

يتوقّف الدلالة علي الاطلاق علي مقدّمات الحكمة لو لم تكن قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ عليه.

و لا يخفي أنّ هذه المقدّمات ممّا يحتاج إليها في إثبات ظهور الألفاظ الواقعة في الكلام في مقدار ظهورها،لا في مقدار نصوصيتها و صراحتها،و سمّيت مقدّمات الحكمة لأنّ ظاهر كلام الحكيم حجّة بعد هذه المقدّمات،و هي ثلاث:

أوّلها:كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد،فلو لم يكن في مقام بيانه،لم يصحّ التمسّك بالاطلاق،كالمريض الذي يرجع إلي الطبيب،فيقول له الطبيب:

تحتاج إلي الدواء لشفاء مرضك.

ثانيتها:أن لا تكون قرينة توجب تعيين المراد من القرائن الحالية أو المقالية.

ثالثتها:انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

أقول:إن كان القدر المتيقّن في مقام التخاطب موجبا للانصراف بمراتبه التي يأتي الكلام عليها في كلام صاحب الكفاية،فهو داخل في المقدّمة الثانية كما يشير إليه،فينبغي أن يكون المراد به ما لا يوجب الانصراف،بل عدم الظهور في الاطلاق،كما إذا كان ماء بلد مضرّا،فقال المولي:إن دخلت ذلك البلد فلا تشرب الماء،و لم ينصرف إلي ماء ذلك البلد،لكن المتيقّن منه ماء البلد،فلو أتي بماء مثلا من خارج البلد،فشمول الاطلاق له غير معلوم؛لأنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو شرب ماء البلد.

و نظيره ما لو ذكر ابن سينا في كتابه معجونا مركّبا من مقدار من الدهن و اللوز،

ص: 256

فإنّ القدر المتيقّن ممّا كان يفهم و يقع مورد المحاورة هو الدهن الحيواني،و أمّا الدهن النباتي الموجود في عصرنا،فإنّه لم يكن يخطر بالبال،فلو شككنا في اعتبار خصوصيّة الدهن الحيواني لم يجز التمسّك بالاطلاق.

و أورد علي هذه المقدّمة في المحاضرات بأنّه ليس القدر المتيقّن و هو حمل إطلاق الجواب علي خصوص مورد السؤال مانعا عن التمسّك بإطلاق الجواب (1).فراجع كلامه.

قلت:بما ذكرنا عرفت أنّه يوجب الاجمال في شمول الاطلاق بالبيان المتقدّم.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:قيل بإضافة مقدّمة اخري إلي مقدّمات الحكمة

،و هي كون المعني قابلا للتقييد و إلاّ فلا إطلاق،و لعلّ عدم ذكرها للايكال إلي وضوحها،أو لدخولها في المقدّمة الاولي؛لأنّ المراد من كونه في مقام البيان أن يكون في مقام بيان ظاهر كلامه،و هو ظهوره في الاطلاق،فإذا لم يمكن الاطلاق،فلا يمكن أن يكون في مقام بيان الاطلاق.

و منع عن اعتباره في المحاضرات،قال ما حاصله:إنّ شيخنا الاستاذ قال:إنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من تقابل العدم و الملكة،ففي مورد يمكن التقييد يمكن الاطلاق،فإذا استحال التقييد استحال الاطلاق،ثمّ أجاب عنه بأنّ التقابل بينهما من تقابل التضادّ،فلاحظ (2).

أقول:قد تقدّم أنّ الاطلاق ذاتي و لحاظي،و التقابل بين الاطلاق الذاتي و التقييد من تقابل التضادّ،لكن الاطلاق الذاتي لا يكون حجّة،فإنّ مورده ما كان في مقام بيان أصل المعني المراد،و إنّ إطلاق الكلام فيه ليس حجّة.

ص: 257


1- المحاضرات 5:371.
2- المحاضرات 5:364.

و التقابل بين الاطلاق اللحاظي و التقييد يكون من تقابل العدم و الملكة ثبوتا و إثباتا.

أمّا ثبوتا،فلأنّه لا بدّ من لحاظ القيود و رفضها.و بعبارة اخري:لا بدّ من لحاظ عدم دخل القيد،و حينئذ إن امتنع التقييد لم يمكن رفض القيد،مثلا تقييد الصلاة بقصد الأمر الفعلي قبل تعلّق الأمر به غير معقول؛لأنّ الموضوع سابق علي الحكم، إلاّ علي ما قيل بنتيجة التقييد،فلاحظ.

و أمّا إثباتا أي:كشف تعلّق الارادة الجدّية من المتكلّم بالمطلق من إطلاق لفظه،فهو تابع لإمكانه ثبوتا.

التنبيه الثاني:قال في الكفاية ما حاصله:

إنّ مرادنا ممّا ذكرناه في المقدّمة الاولي، و هو أن يكون في مقام بيان تمام مراده،هو كونه في مقامه في مرحلة الاستعمال لضرب القانون لا الارادة الجدّية،فلا يضرّ بالاطلاق صدور التقييد المنفصل؛لأنّه كاشف عن المراد الجدّي (1).

أقول:فيه نظر؛لأنّ الظهور الذي يعتمد عليه العقلاء هو الظهور المستقرّ،و ظهور الكلام ما لم يأت وقت العمل لا يكون مستقرّا و يكون مراعي؛لأنّ للمتكلّم أن يبيّن مراده قبل وقت العمل،فإذا قال لعبده يوم السبت:أكرم العلماء يوم الجمعة، لم يكن ظهور كلامه في العموم مستقرّا،فله أن يقيّده بكونهم عدولا إلي يوم الخميس.فعلي هذا لا فرق بين التقييد المتّصل و التقييد المنفصل،فإن شكّ في تقييده بشيء لم يجز التمسّك بإطلاقه ما لم يأت وقت العمل.

ثمّ إنّ حكم التقييد إن كان بعد المطلق قبل وقت العمل أو بعده،و حكمه إن كان قبل المطلق قبل حضور العمل به أو بعده حكم الخاصّ و العامّ الذي تقدّم البحث

ص: 258


1- كفاية الاصول ص 288.

عنه علي إشكال في بعض صوره.

التنبيه الثالث:قال في الكفاية ما حاصله:إنّ ما ذكرناه في المقدّمة الاولي

،و هو أن يكون في مقام البيان إن احرز فلا إشكال،و إن شكّ أنّه في مقام بيان تمام مراده، فالسيرة العقلائيّة الممضاة شرعا تقتضي الحمل علي كونه في مقام بيان تمام مراده (1).

أقول:إن كان احتمال عدم كونه في مقام بيان تمام مراده احتمالا ضعيفا لا يعتني به عند العقلاء فلا إشكال.و أمّا إن كان احتمالا قويا كما لو كان مساويا للاحتمال الآخر أو أقوي،فلم تثبت السيرة المشار إليها،نعم لعلّه في مورد أكثر الأخبار يكون الاحتمال مرجوحا.

و في المحاضرات فصّل بين ما إذا شكّ في أنّه في مقام البيان،فقال بأنّه يبني علي أنّه في مقام البيان للسيرة،و بين ما إذا علم كونه في مقام البيان من جهة و شكّ في كونه في مقام البيان من جهة اخري فلا يبني عليه،مثل قوله تعالي فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (2)فإنّه في مقام البيان من جهة موضع أخذ الكلب،فلو شكّ في اعتبار امساكه من الحلقوم في تذكيته جاز التمسّك بالاطلاق من هذه الجهة.و لو شكّ في كونه في مقام البيان من جهة طهارة محلّ إمساك الكلب لم يتمسّك بإطلاقه (3).

قلت:إن شكّ في كونه في مقام البيان من جهة طهارة محلّ إمساك الكلب،فلا يبعد التمسّك بالاطلاق،لكنّا نقول:إنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

و قال في نهاية الاصول:إنّ إحراز كون المولي بصدد البيان هل يتوقّف علي

ص: 259


1- كفاية الاصول ص 288.
2- سورة المائدة:4.
3- المحاضرات 5:366.

العلم به،أو أنّه يوجد هناك امارة عقلائيّة يحرز بها ذلك؟الظاهر هو الثاني،فإنّ الظاهر من كلام المتكلّم العاقل بما أنّه تكلّم و فعل اختياري له هو أنّه صدر عنه ذلك بداعي الافهام و البيان لا الاهمال و الاجمال.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:إنّ الغرض قد يتعلّق ببيان أصل الوجوب،فيكون في مقام الاجمال، و ايكال تبيينه إلي زمان متأخّر،و يحتمل أن يكون الواجبات المذكورة في القرآن في مقام بيان أصل وجوبها،و ايكال بيان كيفيّتها إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله و أهل بيته عليهم السّلام.

التنبيه الرابع:قال في الكفاية فيما يرجع إلي المقدّمة الثانية و الثالثة:

إنّه لا إطلاق فيما كان للمطلق انصراف إلي خصوص بعض الأفراد أو الأصناف لظهوره فيه،أو كونه متيقّنا منه و لو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه حسب اختلاف مراتب الانصراف (2).

و حاصل كلامه أنّ الانصراف يكون قرينة علي صرف الاطلاق عن إطلاقه، كقوله«لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»فإنّه يشمل بإطلاقه الانسان لكنّه منصرف عنه،و قد لا يوجب الانصراف و يوجب عدم انعقاد الاطلاق،فيصير مجملا كالمجاز المشهور الذي يوجب الاجمال،و ذلك لأنّ الظروف التي وقع فيها الاستعمال يوجب كون بعض الأفراد قدرا متيقّنا حال الخطاب،و أمّا الانصراف البدوي فإنّه لا يوجب شيئا،و من هذا البيان يظهر المراد من المقدّمة الثالثة،فإنّ قوله«ثمّ إنّه قد انقدح»بيان للمقدّمة الثانية و المقدّمة الثالثة.

و ما ذكرناه في تفسير المقدّمة الثالثة هو الصحيح؛لأنّ اللفظ و إن كان له ظهور في معناه لكن بملاحظة ظروف صدوره و حال المتكلّم و السامع ربما تكون هذه الجهات موجبة لأن لا يكون الاطلاق ملحوظا،و إن لم توجب انصرافه إلي بعض الأفراد،نظير صيغة الأمر علي ما ذكره صاحب المعالم من أنّها صارت مجازا

ص: 260


1- نهاية الاصول ص 344.
2- كفاية الاصول ص 289.

مشهورا لكثرة الاستعمال في الندب.

فصل فيما اذا ورد مطلق و مقيّد

إذا ورد مطلق و مقيّد فهما علي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون المقيّد إرشادا إلي الشرطيّة،أو الجزئيّة،أو المانعيّة،و لا ريب في حمل المطلق علي المقيّد،كقوله«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»فلو ورد صلّ في مقام البيان،بحيث تمّت فيه مقدّمات الحكمة،كان المقيّد في قوّة التصريح بأنّه المراد من المطلق،و لا فرق بين العبادات و المعاملات،و لا بين الواجبات و المستحبّات،كما إذا ورد أنّ النافلة لا تتحقّق في وقت الفريضة،بأن يكون شرط صحّتها عدم وقوعها في وقت الفريضة.

القسم الثاني:أن يكونا مسبّبين من سبب واحد مذكور،مثل قوله«إن ظاهرت فاعتق رقبة»و«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة أو لا تعتق رقبة كافرة»قال في الكفاية:لا ريب في حمل المطلق علي المقيّد في الثاني،أي في المنفي (1).

و أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا فرق بين المقيّد المثبت و المقيّد المنفي.

قلت:الفرق بينهما ظاهر عند العرف،فإنّ المقيّد المنفي بالقياس إلي المطلق المثبت أظهر من المقيّد المثبت بالقياس إليه،و الظاهر أنّ وجه الأظهرية هو من جهة خصوصية النفي في الأوّل الموجبة لكون المقيّد مع المطلق من قبيل الاستثناء.و أمّا المثبت فغايته اثبات الخصوصية في مورده،و هي أعمّ من أن توجب حمل المطلق عليه و من الأخذ بظاهرهما مع اثبات الميزة للمقيّد،نظير التخصيص بعد التعميم المفيد لمزيد الاهتمام،فليتدبّر.

ص: 261


1- كفاية الاصول ص 290.

القسم الثالث:أن يكونا مسبّبين لسببين مذكورين،بأن قال:إن ظاهرت فاعتق رقبة،و إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة،و هذا يدخل في مسألة ما إذا اتّحد الجزاء و تعدّد الشرط،فهل يتداخل المسبّب،أو أنّ كلّ سبب يقتضي غير ما يقتضيه الآخر؟و علي ما تقدّم من عدم التداخل فلا مجال لحمل المطلق علي المقيّد.

ثمّ إنّه لا فرق ظاهرا بين ذكر السبب و عدم ذكره إذا علم من الخارج وحدة السبب أو علم تعدّده.

القسم الرابع:أن لا يعلم وحدة السبب و تعدّده لاجمال السبب المذكور فصار موجبا للشكّ،فإن كان السبب المذكور سببا واحدا واقعا،حمل المطلق علي المقيّد.و إن كان السبب المذكور متعدّدا لم يحمل،فحيث لا سبيل إلي إحراز أنّه واحد أو متعدّد،فلا بدّ من الرجوع إلي الأصل العملي.

القسم الخامس:أن لا يكون سبب مذكور،بل مجرّد أن قال:أعتق رقبة،و قال:

أعتق رقبة مؤمنة،و لم يعلم تعدّد السبب و عدمه،فهل هما تكليفان،و إن تحقّق امتثالهما بعتق رقبة مؤمنة،بخلاف ما لو أعتق الكافرة،فإنّه امتثل الأمر الأوّل، و بقي عليه امتثال الثاني،أو أنّهما تكليف واحد و يحمل المطلق علي المقيّد؟ الظاهر أنّه لا وجه للحمل.

و ذكر في المحاضرات فيه أربعة احتمالات،و اختار منها الحمل علي المقيّد (1).

و قال في فوائد الاصول بتعيّن حمل المطلق علي المقيّد.

قلت:مقتضي وجوب عتق مطلق الرقبة،و مقتضي وجوب عتق رقبة مؤمنة، و إن كان كفاية عتق المؤمنة لكونه ممّا يتحقّق به مصداقهما،ولكن لا منافاة بينهما حتّي يحملا علي التقييد،فالمطلق باق علي حاله و المقيّد علي حاله،و الثمرة فيما7.

ص: 262


1- المحاضرات 5:377.

لو اعتق غير المؤمنة أو لا كما أشرنا إليه.

القسم السادس:أن يذكر السبب في أحدهما دون الآخر،كما لو قال:أعتق رقبة،و قال أيضا:إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة.و قد أشكل في فوائد الاصول في حمل المطلق علي المقيّد (1).

قلت:الظاهر أنّ حكمه حكم القسم الخامس.

القسم السابع:أن يكونا مستحبّين،و لم يكن لسان المقيّد لسان الارشاد إلي الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة،سواء علم وحدة السبب أو علم تعدّده،ذكر السبب أو لم يذكره،و الظاهر عدم حمل المطلق علي المقيّد في جميع الصور لعدم التنافي بينهما.

فصل في المجمل و المبيّن

المبيّن ما له ظاهر عند العرف،و المجمل ما ليس له ظاهر كذلك،فإذا كان أحد الدليلين مجملا لم يكن حجّة و يتعيّن العمل بالمبيّن؛لأنّه لا يزاحمه المجمل،و لا وجه لحمل المجمل علي المبيّن،بل ينبغي السكوت عنه.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية أنّ لهما أفرادا مشتبهة وقعت محلّ البحث و الكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما الي آخره (2).

أقول:لا بدّ من التثبّت و الفحص عن المعني،فإن تحقّق أنّه مجمل أو مبيّن، فحكمه ما ذكرنا،و إن لم يثبت ذلك ينبغي العمل بالمبيّن و يحتاط في المجمل.

ص: 263


1- فوائد الاصول 1:368.
2- كفاية الاصول ص 293.

المقصد السادس: في الحجج المعتبرة شرعا أو عقلا

اشارة

لا يخفي أنّ المسلم إن التفت إلي الأحكام الشرعيّة،فله ثلاث حالات:

الحالة الاولي:أن يحصل له العلم بها،و لا ريب في وجوب العمل بها.

الحالة الثانية:أن يحصل له الحجّة علي ثبوتها أو نفيها،من قطع أو أمارة معتبرة،فإن كان متعلّقها معيّنا وجب العمل به،و إن كان مردّدا وجب الاحتياط إن أمكن،و إلاّ تخيّر.

الحالة الثالثة:أن لا يكون له حجّة عليها،فيرجع إلي البراءة أو الاحتياط علي الخلاف.فيقع الكلام في مباحث:

المبحث الأوّل: في العلم و القطع و الاطمئنان

اشارة

و إنّما ذكرنا هذا البحث في الاصول؛لأنّها كما تقدّم هي الحجج في الفقه،و قد وقع الخلاف في حجّية بعض أقسام القطع،فلذا كان المناسب البحث عنه في الاصول.

ثمّ إنّ من التفت إلي شيء:فقد يحصل له العلم به،أو القطع،أو الاطمئنان.

و العلم هو إدراك الشيء علي ما هو عليه،فالعلم بالشيء تابع لوجود الشيء إذا تعلّق به لا يتخلّف عنه.و لا يخفي أنّه لا دليل علي لزوم أن يكون للمعلوم وجودان:

وجود بالذات في افق النفس،و وجود في الخارج يكون معلوما بالعرض،و ذلك لأنّا نعلم وجود واجب الوجود لذاته،مع أنّه ليس له وجود ذهني.

و القطع هو الاعتقاد بوجود الشيء،سواء كان مطابقا للواقع،فيكون علما أيضا، أو كان مخالفا له،فيكون جهلا مركّبا.

و سمّي قطعا لقطعه تردّد النفس،و الفرق بينه و بين العلم أنّه لا يعتبر مطابقته

ص: 264

للواقع بخلاف العلم.و الاطمئنان هو الاعتقاد بوجود الشيء،مع احتمال عدم وجوده احتمالا ضعيفا كواحد في مائة مثلا.

ثمّ إنّ هذه الثلاثة قد تزول بتشكيك المشكّك و قد لا تزول،و أيضا قد تحصل من الأسباب المتعارفة العقلائيّة،و قد تحصل من الأسباب غير العقلائية،فيقع الكلام في ثلاثة مواضع:

الموضع الأوّل: في العلم

قال في فروق اللغة في الفرق بين العلم و اليقين:العلم هو اعتقاد الشيء علي ما هو به علي سبيل الثقة،و اليقين هو سكون النفس و ثلج الصدر بما علم انتهي (1).

و قال الخليل في العين:العلم نقيض الجهل.و قال:الجهل نقيض العلم (2).و مثله قال الأزهري في تهذيب اللغة.

أقول:القطع بالشيء المخالف للواقع جهل مركّب و ليس علما؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و الظاهر صدق العلم لغة و عرفا علي حضور المعلوم عند العالم من أيّ سبب حصل،و سواء زال بالتروّي و التشكيك أو لم يزل، خلافا لسيّد المفاتيح (3)فيما إذا كان يزول بالتروّي،فمنع صدق العلم عليه،مع أنّه اعتقاد مطابق للواقع.

نعم العلم المعتبر في اصول الدين هو الذي لا يزول و إن حصل بالتقليد،و لعلّ من اعتبر أن يكون الاعتقاد باصول الدين حاصلا من الدليل إنّما اعتبره لئلاّ يزول بتشكيك المشكّك،و إلاّ فلا دليل علي حصول العلم من الدليل،بل يعتبر كونه

ص: 265


1- فروق اللغة ص 63.
2- العين 2:152.
3- مفاتيح الاصول ص 335.

مستقرّا لا يزول بتشكيك المشكّك،فيكفي الاعتقاد الذي لا يزول و إن كان عن تقليد.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه كفاية الجزم،و إن كان حاصلا من التقليد،حيث قال:و أمّا الجازم فلا يجب عليه النظر و الاستدلال،و إن علم من عمومات الآيات و الأخبار وجوب النظر و الاستدلال؛لأنّ وجوب ذلك توصّلي لأجل حصول المعرفة،فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها (1).

ثمّ المعتقد بشيء إن كان اعتقاده مطابقا للواقع فهو عالم،و إن لم يكن مطابقا له فهو قاطع،ولكن غالبا لا يعلم أنّه عالم أو قاطع،فيجب عليه التشكيك في قطعه و الرجوع إلي أهل الاطّلاع و متعارف الناس،و حينئذ إذا كان يزول بالتروّي،أو كان حاصلا من أسباب غير عقلائية،فلا يستقلّ العقل بترتيب الأثر عليه.

ثمّ إنّ ترتيب الأثر علي العلم قد يكون طبعيّا،و قد يكون عقليّا،فالانسان الجائع إن حضر الخبز عنده و علم به يأكل منه طبعا كسائر الحيوانات و المجانين لو كانوا جائعين أو عطاشي و حضر عندهم الطعام أو الشراب فإنّهم يتناولونهما، فليس العمل بالعلم في هذه الموارد عقليّا.

و قد يكون ترتيب الأثر علي العلم بحكم العقل،مثلا لو علم المكلّف حرمة شرب الخمر و حضر عنده الخمر فهو يعلم به،و يعلم أنّ شاربه يستحقّ العقاب في الآخرة،فالنفس تميل إلي شربه،و العقل يمنع عنه؛لأنّه يري أنّ الالتذاذ الدنيوي اليسير في حدّ ذاته لا يجوز لأجله الوقوع في العقاب الاخروي علي شدّته.

ثمّ إنّ الانسان:إمّا يرجّح حكم العقل،أو يرجّح هوي النفس.و في مثله يحكم العقل بترك الشرب.م.

ص: 266


1- فرائد الاصول ص 289 طبع قم.

ثمّ إنّ المعلوم قد يكون محسوسا،و قد يكون غير محسوس،كالعلم بحسن العدل و قبح الظلم.

و قد ظهر ممّا ذكرنا من أنّ العلم بالشيء هو الاعتقاد المطابق للواقع أي حضوره،أنّه لا معني لحجّية العلم أو عدمها،بل هو أمر تكويني،فلا مجال للبحث عن إمكان جعلها أو عدم إمكانه،مثلا يجب الوضوء بالماء بنصّ الكتاب،فإذا علم أنّ مائعا ماء و توضّأ به،فلا يسأل لماذا توضّأت بالماء ليحتجّ،بخلاف ما لو قطع أنّ مائعا ماء و كان خمرا،فإنّه لو شرب يسأل لماذا شربت الخمر،فيحتجّ بأنّه قطع بأنّه ماء.

الموضع الثاني: في القطع

الاعتقاد المطابق للواقع يسمّي قطعا و علما،و أمّا المخالف فيسمّي قطعا و هو جهل مركّب يكون العامل به معذورا،و هل هو عذر مطلقا أو فيما إذا لم يكن القاطع مقصّرا في حصول القطع له.

و بعبارة اخري:هل القطع المخالف للواقع حجّة مطلقا،أو في خصوص ما إذا حصل من غير تقصير و من أسباب عقلائيّة؟

و المراد بالحجّية التنجيز و التعذير،و لا تنجيز له لمخالفته للواقع،فيتعيّن كونه معذّرا.و الظاهر أنّ العقل الذي أرجع اللّه تعالي إليه يستقلّ باختصاص المعذّرية بغير المقصّر؛لأنّ المطلوب هو الواقع،و لا يعذر في تركه إذا كان الترك مستندا إلي سوء اختياره،و المقصّر التارك للواقع يكون الترك مستندا إلي اختياره.

إن قلت:إنّ المقصّر القاطع يري الواقع في اعتقاده،فإذا قيل له لا ترتّب أثر الواقع كان ذلك من التناقض في اعتقاده،و لا يمكن له الانبعاث و الامتثال.

قلت:إنّ القطع الحاصل من الأسباب العقلائيّة،و منها خبر الثقة الضابط إذا

ص: 267

حصل القطع من قوله،أو القطع الحاصل للمطّلع علي أوضاع الزمان،حجّة و القاطع معذور.

ولكن الذي يحصل له القطع من الأسباب الغير المتعارفة كالحلم مثلا،أو من يكون غير مطّلع علي الامور و حصل له القطع من شايعة،أو خبر غير موثّق،أو حصل له اضطراب و حالة تخرج عن المتعارف،كالوسواسي و القطّاع،فإنّهم يمنعون عن العمل بقطعهم،لكن بغير عنوان يوجب التناقض،بأن يقال لكلّ واحد منهم إنّه يجب عليه أن يتروّي و يشكّك نفسه بعض التشكيك،و يشاور العقلاء، و يزيد في الفحص و أمثال ذلك،و يرجع في اموره إلي متعارف الناس،بحيث ينتهي إلي أن يكون معذورا،فمن قطع بشيء لا يسرع في العمل به إلاّ بعد التروّي و التدبّر،فيكون بعد ذلك معذورا في العمل بقطعه المخالف للواقع.

و لذا قيل:إنّ الوسواسي يرجع إلي متعارف الناس،فيخالف القطع الحاصل له بنجاسة شيء إن لم يكن حاصلا لمتعارف الناس.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الذي ينبغي أن يجعل محلّ الكلام هو القطع المخالف للواقع،أي:الجهل المركّب من القاصر.و صرّح في الكفاية بأنّه عذر إن خالف الواقع لو كان عن قصور (1).

و ممّا ذكرنا ظهر النظر في سائر كلامه،من وجوب العمل علي وفق القطع عقلا، فإنّه قد يكون طبعا،و من أنّه لا جعل تأليفي بين الشيء و لوازمه،فإن أراد أنّ لازم الجهل المركّب من القاصر عدم صحّة عقوبته،فليس هناك لازم و ملزوم،بل عقابه نظير ضرب غير المستحقّ فإنّه قبيح.

و لعلّ مراده كما هو صريح غيره أنّ الكشف و اراءة الواقع من لوازم وجود7.

ص: 268


1- كفاية الاصول ص 297.

القطع،و لازم الوجود يتحقّق مع الوجود،كالحرارة التي توجد بوجود النار مثلا، و لا جعل تأليفي بين النار و الحرارة.

و فيه نظر؛لأنّ الجهل المركّب ليس كاشفا عن شيء،بل إنّ المتّصف به يتخيّل أنّه يري الشيء،و إلاّ فلا اراءة للجهل،و إنّما هذه أحكام العلم قد اختلطت بأحكام القطع.

ثمّ إنّ القاطع بإباحة الحرام الواقعي إذا لم يكن مقصّرا في قطعه لا يكون مكلّفا بالواقع؛لأنّه لم يصل إليه و لم يؤته،و لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،لا أنّه مكلّف به و معذور،هذا في الحكم الكلّي.و أمّا في الموضوعات،كما إذا قطع بأنّ مايعا ماء و هو خمر واقعا،فإنّ حرمة الخمر واصلة إليه،لكنّه معذور في ترك امتثاله.

الموضع الثالث: في الاطمئنان
اشارة

لا يخفي أنّ من اعتقد بشيء مع احتماله خلافه،فإن كان احتمال الخلاف و هميّا بحيث لا يعتني به،فهو في حكم العلم لو لم يكن علما،كما ذكره في الجواهر،قال:نعم لو كان ظنّا تسكن النفس و تطمئنّ علي وجه يكون الاحتمال و هميّا،يقوي لحوقه بالعلم في الحكم،كما حرّرناه في محلّه (1)انتهي.

و قال أيضا:خصوصا مع فرض كون المراد من العلم الذي عليه المدار الطمأنينة (2)انتهي.

و أمّا إن لم يكن وهميا،بل كان احتمالا كواحد في المائة مثلا،ففي كونه علما موضوعا أو حكما،أو أنّه ليس بعلم موضوعا و لا حكما،بل هو ظنّ قوي،و في أنّه حجّة أم ليس بحجّة؟وجوه و احتمالات:

ص: 269


1- جواهر الكلام 22:154.
2- جواهر الكلام 36:231.

الأوّل:أنّه يكون علما موضوعا؛لصحّة إطلاق العلم عليه عرفا.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:أو بالرجوع إلي الظنّ الاطمئناني الذي يسكن إليه النفس،و يطلق عليه العلم عرفا و لو تسامحا في إلغاء احتمال الخلاف،و هو الذي حمل عليه كلام السيّد حيث ادّعي انفتاح باب العلم (1)انتهي.

لكن قال في موضع آخر:الظنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكما بل موضوعا (2)انتهي.

أقول:أمّا ما ذكره من صدق العلم عليه عرفا،فيمكن المناقشة فيه،بأنّ العرف متّبع في تعيين مفاهيم الألفاظ،و لا اعتبار بمسامحاتهم،مثلا لو اعترف العرف بأنّ «كيلو»اسم لألف غرام،ثمّ كان وزن شيء يتسامح فيه كالفواكه ألف غرام إلاّ مثقالا مثلا،فالعرف يعبّرون عنه أنّ مقداره كيلو و يتسامحون فيه،مع اعترافهم أنّه ليس كذلك.

و لذا لو سئل العرف عن الاطمئنان هل هو علم حقيقة أو لا؟ربّما يتوقّفون في كونه علما.

و أمّا الاستشهاد بكلام السيّد،فهو في غير محلّه،فإنّه ذكر في موارد من الذريعة أنّ العلم هو سكون النفس الذي لا يكشف عن خلاف و لا يحتمل فيه الخلاف.

قال:العلم ما اقتضي سكون النفس (3).

و قال:لا بدّ من كونه اعتقادا يتعلّق بالشيء علي ما هو به.و قال:و أمّا الظنّ فهو ما يقوي كون ما ظنّه علي ما يتناوله الظنّ و إن جوّز خلافه (4)انتهي.3.

ص: 270


1- فرائد الاصول ص 129 ط رحمت اللّه.
2- فرائد الاصول ص 142.
3- الذريعة 1:20.
4- الذريعة 1:23.

فكلّ ما جوّز خلافه فهو ظنّ.ثمّ إنّ من حمل كلام السيّد علي ما ذكره لعلّه صاحب هداية الأبرار (1)،فإنّه ذكر أنّ لفظ العلم يطلق في اللغة علي الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع،و هذا يسمّي اليقين،و علوم الأنبياء و الأئمّة من هذا القبيل،و يطلق أيضا علي ما تسكن إليه النفس و تقضي العادة بصدقه،و هذا يسمّي العلم العادي،و يحصل بخبر الثقة.

إلي أن قال:و لو اعتبرنا في العلم عدم تجويز النقيض عقلا لم يتحقق لنا علم قطّ بوجود شيء و لا عدمه ممّا غاب عنّا أو حضر عندنا.

إلي أن قال:و هذا هو الذي عناه القدماء بقولهم لا يجوز العمل في الشريعة إلاّ بما يوجب العلم،يدلّك علي ذلك تعريف السيّد المرتضي في الذريعة العلم بأنّه ما اقتضي سكون النفس،و هذا التعريف يشمل نوعي العلم،أعني:اليقين و العادي، و هذا هو العلم الشرعي،فإن شئت سمّه علما،و إن شئت سمّه ظنّا،فلا مشاحة في الاصطلاح.

إلي أن قال:و كيف كان فالنزاع في هذه المسألة لفظي.و سبقه غيره فقال ما حاصله:إنّ اليقين يشمل اليقين العادي،و باب اليقين العادي واسع.

و تنظّر في كلامه في تنقيح المقال (2)،بأنّ العلم عقلي و عادي و عرفي.و العلم العادي ما لا يحتمل النقيض أصلا ما دام الشخص عالما بواسطتها،ككون الجبل حجرا.

و لا ينافي إمكان تبدّل الحجر ذهبا بالذات من حيث عموم قدرة اللّه.و أمّا مجرّد الاطمئنان و عدم الدغدغة الحاصل للشخص من جهة عدم الالتفات إلي ما يوجب زوال العلم،فليس بعلم حقيقة في نفس الأمر،بل هو جزم حصل للشخص9.

ص: 271


1- هداية الأبرار ص 13-15.
2- تنقيح المقال 1:179.

و يتفاوت بتفاوت الأشخاص من حيث التنبّه للاحتمالات و عدمه،فالأولي أن يسمّي ما يدّعيه من الجزم أو الاطمئنان بالعلم العرفي لا العلم العادي الذي هو مثل العلم العقلي في عدم احتمال النقيض مادام العلم و العادة.

أقول:صدق العلم عرفا علي ما ذكر إن كان تسامحا فليس بحجّة،و إن كان تبادرا من حاقّ اللفظ،فإثبات كونه كذلك في عصر نزول القرآن و الأخبار مشكل جدّا.

القول الثاني:أنّه ليس علما ولكنّه ملحق به حكما،فإنّه حجّة عند المتشرّعة و العقلاء،و لم يردع عنها الشارع،فهو علم حكما.

قال في تنقيح العروة ما حاصله:إنّ الاطمئنان علم عادي عقلائي،و هو ما يكون احتمال خلافه موهوما غايته و لا يعتني به العقلاء،فهو حجّة عقلائيّة يعتمد عليه العقلاء في جميع امورهم،و لم يردع عن عملهم في الشريعة المقدّسة (1).

أقول:يمكن المناقشة أوّلا بالمنع من سيرة العقلاء،فإنّ المتيقّن منها عملهم علي سكون النفس الحاصل من الأسباب المتعارفة الذي لا يكون معه احتمال الخلاف.

و أمّا مع احتمال الخلاف احتمالا غير موهوم،فيتوقّفون إلاّ إذا كان العمل ممّا يتسامح فيه فيتسامحون،فلا يرتّبون آثار الموت علي الظنّ الاطمئناني.فإن اريد من العلم العادي ما كان احتمال خلافه موهوما لا يلتفت إليه و لم يحصل مقتضي الشكّ حتّي احتمال الخلاف واحدا في مائة،فلا بأس به،لكن إن اريد مع حصول مقتضي الشكّ و احتمال واحد في المائة،فسيرة العقلاء علي ترتيب آثار العلم عليه في الامور المهمّة كموت و نحوه غير ثابتة.0.

ص: 272


1- تنقيح العروة الوثقي 2:170.

و ثانيا:أنّه يشمله الأدلّة المانعة عن العمل بالظنّ،فإنّه إذا لم يصدق عليه العلم دخل في قوله«من أفتي الناس بغير علم فليتبوّء مقعده من النار».

بل منع عن حجّيته في المفاتيح و إن صدق عليه العلم،قال:سلّمنا أنّ لفظ العلم موضوع لمعني يشمل مطلق ما يطمئنّ النفس إليه،ولكن نمنع من حجّية ذلك علي الاطلاق،و نطالب من يدّعي حجّيته بالدليل،و إنّما نسلّم حجّية الفرد الذي فيه الجزم،و هو الذي فسّر به العلم في كلام الاصوليّين و المتكلّمين،و ذلك لأنّ البديهة تشهد بحجّيته (1)انتهي.

القول الثالث:أنّه ليس علما موضوعا لعدم سكون النفس،و لا حكما،بل هو ظنّ يجري عليه أحكام العلم بالنسبة إلي إثبات التكليف و إسقاطه،لبناء العقلاء و السيرة الممضاة شرعا.و قد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إثبات التكليف بالاطمئنان في كلامه الآتي.

القول الرابع:أنّه ظنّ يجري عليه أحكام الظنّ،و هو الذي يظهر من السيّد في الذريعة،قال:و أمّا الظنّ فهو ما يقوي كون ما ظنّه علي ما يتناوله الظنّ،و إن جوّز خلافه،فالذي يبين به الظنّ التقوية و الترجيح (2).

و قال أيضا:إنّ خبر الواحد لا يوجب علما،و إنّما يقتضي غلبة الظنّ بصدقه إذا كان عدلا،إلي أن قال:و قال بعضهم:إنّ خبر الواحد يوجب العلم الظاهر،و يقسم العلم إلي قسمين.إلي أن قال في جوابه:فأمّا من يقول إنّه يقتضي العلم الظاهر، فخلافه في عبارة؛لأنّه سمّي غالب الظنّ علما (3)انتهي.

و قال أيضا:و قد علمنا أنّ الخبر عن موت إنسان بعينه مع حصول الأسباب التي7.

ص: 273


1- مفاتيح الاصول ص 335.
2- الذريعة 1:23.
3- الذريعة 2:517.

يراعيها من البكاء عليه و الصراخ و إحضار الجنازة و الأكفان قد ينكشف عن باطل،فيقال:إنّه اغمي عليه أو لحقه السكتة أو ما أشبه ذلك،و العلم لا يجوز انكشافه عن باطل (1).

و يظهر هذا القول من الشيخ في العدّة،قال في حدّ الظنّ:ما قوي عند الظانّ كون المظنون علي ما ظنّه،و يجوز مع ذلك كونه علي خلافه (2)انتهي.

و هو الذي قوّاه في المفاتيح،قال:نمنع إطلاق لفظ العلم علي مطلق ما يطمئنّ النفس إليه،أو الاعتقاد الراجح الشامل للظنّ حقيقة،بل هو حقيقة في الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شكّ،و لا يعتريه ريب مطلقا و لو بحسب العادة،و ذلك لتبادره عند الاطلاق،و صحّة سلب لفظ العلم عن الظنّ،و جعله مقابلا للعلم في العرف و العادة،و عدم صحّة امتثال الأمر المعلّق علي العلم بتحصيل الظنّ،و لغير ذلك.و بالجملة لا شبهة في أنّ لفظ العلم موضوع لمعني غير ما وضع له لفظ الظنّ، و ذلك هو المعني الذي ذكره الاصوليّون و المتكلّمون،و احتمال أنّ ذلك من مصطلحاتهم ممّا يقطع بفساده.

نعم قد شاع إطلاق لفظ العلم علي الظنّ،خصوصا إذا كان غالبا و كان ممّا علم حجّيته،كالظنون التي جرت العادة باعتبارها،و لذا قد يتوهّم أنّ الأسباب المفيدة لتلك الظنون مفيدة للعلم،لكن مجرّد شيوع الاطلاق غير كاف في حمل اللفظ عليه كما لا يخفي إلي آخر كلامه (3).

و لعلّ الظاهر من موارد الاستعمال فيما جعلت المقابلة بين العلم و الظنّ كونه داخلا في الظنّ.5.

ص: 274


1- الذريعة 1:517.
2- العدّة ص 77.
3- مفاتيح الاصول ص 335.

قال في مجمع البيان في تفسير قوله تعالي: وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا أي:

ليس يتّبع أكثر هؤلاء الكفّار إلاّ ظنّا،الظنّ الذي لا يجدي شيئا من تقليد آبائهم و رؤسائهم إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً لأنّ الحقّ إنّما ينتفع به من علمه حقّا و عرفه معرفة صحيحة،و الظنّ يكون فيه تجويز أن يكون المظنون علي خلاف ما ظنّ،فلا يكون مثل العلم (1)انتهي.

القول الخامس:التوقّف،قاله المحقّق الاصفهاني في كتاب الاجتهاد و التقليد، قال:و منها الوثوق بالعدالة و يمكن الاستدلال له عموما بأنّ الوثوق و الاطمئنان علم عادي في نظر العرف و العقلاء،و هو بمجرّده غير مجد،إذا الحكم إن كان مرتّبا علي الموضوع المعلوم صحّ أن يدّعي أنّ المراد من العلم و المعرفة عرفا ما يعمّ الوثوق و الاطمئنان،و أمّا إذا كان الحكم مرتّبا علي الواقع،فالتوسعة في مفهوم العلم غير مجدية في إحراز موضوع الحكم حقيقة،بل لا بدّ من دليل علي تنزيل ما يوثق به منزلة الواقع،و لا دليل عليه إلاّ ما يدّعي من السيرة المستمرّة علي ترتيب آثار الواقع علي ما يوثق به،و بناء العقلاء علي المعاملة مع الوثوق و الاطمئنان معاملة العلم الحقيقي.

و الأوّل راجع في الحقيقة إلي الثاني،حيث لم تعلم سيرة من المتشرّعة إلاّ بما هم عقلاء،و الالتزام بالثاني لا يخلو من تأمّل،و إلاّ لزم به في جميع الموارد، فيكتفي به في تنجّز كلّ حكم لم تقم عليه حجّة شرعيّة أو عقليّة،بل كان ممّا يوثق به و يكتفي به في الخروج عن عهدة ما تنجّز و لو مع التمكّن من العلم الحقيقي في كلا المقامين (2)انتهي.

و لعلّه يظهر أيضا من كلام صاحب الجواهر في الشياع الموجب للاطمئنان،4.

ص: 275


1- مجمع البيان 3:109.
2- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 104.

قال:الاستفاضة التي تسمّي بالشياع الذي يحصل غالبا منه سكون النفس و اطمئنانها بمضمونه،خصوصا قبل حصول مقتضي الشكّ،بل لعلّ ذلك هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما،و حينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضي الشكّ،أمّا معه فقد يشكّ فيه (1)انتهي.

قلت:لا ينبغي الريب في عدم كفايته في الاعتقاديّات من العلم بالمبدأ و المعاد و النبوّة و الامامة و صفاته سبحانه و تعالي و غيرها،و أمّا في غير ذلك،فان اخذ في الدليل العلم الحاصل من الحسّ مثل الشهادة،كما ورد فيها«أنّه يشهد كما يري كفّه»فكذلك لا يكون معتبرا،و يقع الاشكال فيما إذا اخذ العلم في الدليل مثل قوله «كلّ شيء لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام»و قوله«بل انقضه بيقين مثله»فهل يصدق العلم عليه عرفا و إن لم يصدق لغة؟محلّ إشكال؛لأنّه لا يكفي الصدق عرفا إلاّ إذا احرز أنّه ليس إطلاقهم العلم عليه تسامحا منهم؛لأنّ تسامحات العرف غير متّبعة،و المتّبع هو إطلاقهم حقيقة و بلا تسامح.

و كذا يقع الاشكال فيما لم يؤخذ العلم فيه،في أنّ الاطمئنان هل هو حجّة لا لكونه علما،بل لبناء العقلاء عليه مع عدم ردع الشارع عنه،فيجوز التصرّف في مال كان لزيد قطعا إذا اطمأنّ أنّه انتقل إليه،و إن كان احتمال عدم الانتقال احتمالا ضعيفا موجودا،و كذا قتل من يطمئنّ أنّه كافر حربي أو قاتل أبيه عمدا،و كذا في الفروج و غيرها،الانصاف أنّه مشكل.

و الحاصل أنّ هنا أقساما ثلاثة:

الأوّل:العلم اليقيني الذي لا يزول.

الثاني:القطع العادي،و هو سكون النفس إلي وجود الشيء أو عدمه،بحيث لا5.

ص: 276


1- جواهر الكلام 40:55.

يكون في النفس احتمال الخلاف قبل تشكيك المشكّك،و هو الذي عليه سيرة العقلاء،فنراهم في جميع أعمالهم الراجعة إلي إدارة معاشهم و حوائجهم يعلمون عليه،فتسكن نفس من حصل له إلي ما يقوله صديقه و زوجته و ولده و خادمه،و لذا لو رأي من واحد منهم الخلاف مرّات بل و لو مرّتين مثلا يتوقّف عند إخباره مع التفاته إلي أنّه قد تخلّف.

و لا يبعد أن يكون المتيقّن من سيرة العقلاء اعتبار أن يكون القاطع مطّلعا علي الجهات التي لا ينبغي أن يقطع معها،و أمّا قطع من لا خبرة له بالامور فيشكل حجيّته.

الثالث:الظنّ المتاخم للعلم،و هو أن يظنّ بوجود شيء و يكون احتمال عدمه واحدا بالمائة مثلا،قيل:إنّه حجّة لسيرة العقلاء علي العمل به.و فيه منع قيام السيرة علي اتّباعه.

و ما يدّعي من أنّ سيرة العقلاء علي العمل بالاطمئنان،فهو القسم الثاني الذي لا يكون احتمال الخلاف موجودا،و أمّا هذا القسم فإمّا يتسامحون أو يتوقّفون و يحتاطون،و لا بدّ من الاحتياط في بعض الموارد.

نعم يحتمل أن يكون بناء العقلاء في الامور المستقبلة،كبقاء الحياة و المال و السلامة و نحوها علي الاكتفاء بالظنّ،لكنّه يحتاج إلي إثبات الامضاء شرعا في جميعها،بل يحتمل أن يكون لهم بناء تعبّدي علي البقاء حتّي مع الشكّ إن لم يكن أمارة علي عدمه،كما ذكرناه في بحث الاستصحاب.

و كذا يحتمل أن يكون بناءهم علي حجّية الظنّ الاطمئناني في مقام وصول أحكام الموالي إلي العبيد،كما ذكره الشيخ الانصاري رحمه اللّه،قال:و بالجملة فمن المحتمل قريبا إحالة الشارع للعباد في طريق امتثال الأحكام إلي ما هو المتعارف

ص: 277

بينهم في امتثال أحكامهم العرفيّة من الرجوع إلي العلم أو الظنّ الاطمئناني (1)انتهي.

و ذكر النراقي رحمه اللّه في العوائد عائدة(44):إنّ العلم العادي هو الذي لا يلتفت أهل العرف و معظم الناس إلي احتمال خلافه،و لا يعتبرونه في مطالبهم و لا يعتنون به في مقاصدهم،ثمّ ذكر أنّه حجّة،فراجع.

و قد تلخّص من جميع ما ذكر عدم صحّة إطلاق الحجّة علي العلم و صحّة إطلاقها علي القطع و الاطمئنان.

تنبيه:

الأحكام التي أنشأها الشارع المقدّس لكن لم يوصلها إلي الناس لمانع فيهم أو في غيرهم،تكون أحكاما إنشائية محضة،و منها الأحكام الموجودة في كتاب علي عليه السّلام التي لم يظهروها للناس،و أمّا إذا أنشأها الشارع المقدّس و جعلها في معرض الوصول إليهم بحيث لو تفحّص المكلّف عن الحكم الذي أنشأه وصل إليه، فهو الحكم الفعلي يعاقب علي ترك امتثاله،سواء علم به أو جهل به تقصيرا.

و أمّا الجاهل به قصورا،فالحكم التكليفي يكون بالنسبة إليه إنشائيّا فقط، و ليس فعليّا،فإنّ اللّه تعالي لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،فلا يكون مكلّفا به،و لا يتوجّه إليه تكليف،نعم الحكم الوضعي ثابت بالنسبة إليه،فلو أكل الميتة تنجّس فمه بالمباشرة لها كما ينجس الجدار،و لا يحرم عليه أكلها.

ثمّ لا يخفي أنّ الحكم الشرعي له مرتبة واحدة،و هو إنشاؤه و جعله في معرض الوصول إلي المكلّف،بحيث لو فحص وصل إليه،و أمّا انطباقه علي موضوعه فهو أمر تكويني لا يرتبط بالشارع،فهو يوجب الحجّ علي المستطيع،و إذا تحقّقت استطاعة البالغ العاقل فقهرا ينطبق الحكم عليه.

ص: 278


1- فرائد الاصول ص 274.

ثمّ إن علم المكلّف سعة مجعول الشارع أو ضيقه فهو،و إن شكّ في سعته وضيقه،كما إذا شكّ في سعة الحكم بنجاسة الماء المتغيّر لما بعد زوال التغيّر بنفسه، فيبني علي بقائه إن صحّ جريان الاستصحاب،و إلاّ فيجري أصل آخر.

و هذا كلّه في مقام الجعل،فإن وجد موضوع الحكم الواقعي انطبق عليه الحكم الواقعي قهرا.ثمّ إن وجد بعده الشكّ خارجا،انطبق الحكم الانشائي المجعول للشكّ في الحكم الواقعي علي المشكوك قهرا و تكوينا.

مثلا الشارع حكم بنجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة،فإن علم أنّه أنشأ نجاسته أبدا و إن زال تغيّره بنفسه،أو علم أنّه أنشأ نجاسته إلي زوال تغيّره بنفسه،فلا إشكال.

و إن شكّ أنّه أنشأ النجاسة علي نحو الدوام،أو أنّه أنشأها مقيّدة ببقاء التغيّر،شمله قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»فيقال:هذا الحكم الانشائي بنجاسة الماء المتغيّر باق إلي ما بعد التغيّر لوحدة الموضوع،بناء علي جريان الاستصحاب من غير جهة تعارض استصحابي المجعول و عدم الجعل،ثمّ إذا وجد في الخارج ماء متغيّر بالنجاسة انطبق عليه الحكم الانشائي بنجاسة الماء المتغيّر،أي الحكم الواقعي قهرا،فإذا بقي و زال تغيّره بنفسه انطبق عليه الحكم الانشائي الذي أنشأه الشارع علي المشكوك انطباقا قهريا.

و ليس للحكم مرتبتان خلافا لما في مصباح الاصول (1)حيث جعل استصحاب النجاسة معارضا لاستصحاب عدم الجعل،بتقريب أنّ الحكم له مرحلتان:مرحلة الجعل،و هو إنشاء حكم النجاسة للماء المتغيّر بنحو القضيّة الحقيقيّة.و مرحلة المجعول،و هي مرحلة فعليّة الحكم خارجا بوجود الماء المتغيّر،و حينئذ إن زال التغيّر بنفسه يتعارض استصحاب النجاسة الفعليّة مع عدم9.

ص: 279


1- مصباح الاصول 2:39.

جعل النجاسة للماء بعد زوال تغيّره.

أقول:ليس للحكم مرحلتان،بل الحكم هو إنشاء النجاسة للماء المتغيّر بقوله «الماء المتغيّر نجس»و إذا وجد الماء المتغيّر فالانطباق عليه قهري ليس بيد المولي.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)أنّ الحكم له مرتبة الانشاء،و هي المرتبة التي لا يريد الشارع فيها امتثاله لمانع في الناس أو في غيرهم و كان ممّا سكت اللّه عنه.

و قال في بحث المطلق و المشروط:فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام غير عزيز،كما في موارد الاصول و الأمارات علي خلافها،و في بعض الأحكام في أوّل البعثة،بل إلي قيام القائم عجّل اللّه فرجه.إلي آخر كلامه (2).

و له مرتبة الفعلية،و هي التي يريده الشارع فيها من المكلّف،فإن كان جاهلا قاصرا لم يتنجّز،و إنّما يتنجّز بالعلم به،و يلحق به الجاهل المقصّر،هذا ما يستفاد من مجموع كلماته.

لكن فسّر في مباني الاستنباط مرتبة الانشاء بالحكم المجعول علي نحو القضية الحقيقيّة إلي آخر كلامه (3).و الظاهر أنّه ليس مراده.

و قد يقال:إنّ الحكم له مرتبتان:مرتبة الانشاء بمعني جعل الحكم القانوني بلا ملاحظة تخصيصاته و موانع إجرائه،و مرتبة الفعليّة و هو جعله مع ملاحظة تخصيصاته.

أقول:إنّ الشارع العالم بجميع الخصوصيات ينشيء الحكم من الأوّل مطلقا أو مقيّدا،و تأخير بيان القيد ليس مرتبة اخري للحكم،هذا كلّه في الحكم الكلّي.7.

ص: 280


1- كفاية الاصول ص 297.
2- كفاية الاصول ص 124.
3- مباني الاستنباط ص 37.

و أمّا مرحلة التطبيق،بأن قطع قصورا أنّ الخمر ماء فشربه،فهو معذور في تطبيقه،لأنّ حرمة الخمر واصلة إليه،فهو مكلّف معذور في ترك امتثالها.

و أمّا البيّنة أو أصالة الحلّ،فسيأتي الكلام فيهما في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

المبحث الثاني: في التجرّي

لا إشكال في حرمة مخالفة الحجّة المصيبة للواقع.و أمّا حرمة مخالفة الحجّة المخالفة للواقع من قطع مخالف للواقع أو أمارة أو أصل مخالفين له،عقلا و شرعا، أو عدمها عقلا و شرعا،أو حرمتها عقلا و عدمها شرعا،أو حرمتها شرعا لكنّها معفوّ عنها،ففيها أقوال و احتمالات.

ثمّ إنّ متعلّق الحرمة علي القول بها هل هو الفعل أو العزم عليه؟قولان،و هذا هو بحث التجرّي،و هو أقسام يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلّتها:

أحدها:مجرّد القصد إلي المعصية.

الثاني:القصد مع الاشتغال بمقدّمة الحرام.

الثالث:القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية للحكم الواقعي،أو للحكم الظاهري الثابت بأمارة أو أصل،كارتكاب أحد أطراف الشبهة المحصورة،و في الأخير تارة يرتكبه رجاء تحقّق المعصية الواقعيّة به،و ثانية يرتكبه لعدم المبالاة بالحرام،و ثالثة يرتكبه رجاء أن لا يصادف الحرام.و لنذكر صور المسألة:

الصورة الاولي:القصد إلي المعصية مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية واقعا أو ظاهرا،و فيه أقوال:

الأوّل:حرمة الفعل عقلا و شرعا.أمّا الحرمة العقليّة،فلحكم العقل بأنّ إظهار المخالفة للمولي بالفعل الذي قطع بحرمته خلاف احترام المولي،و هتك لحرمته،

ص: 281

و العبد الهاتك لحرمة المولي مستحقّ للعقاب عقلا من حيث انّه بارز المولي بالمخالفة،نعم يختلف مراتب التجرّي كالمعصية الواقعيّة،فإنّ بعض الذنوب أكبر من بعض،و يختلف العصاة،فربّ شخص لا يرتكب القتل مثلا و يرتكب الكذب أو الغيبة،و هذا الاختلاف موجود في التجرّي أيضا،و إبراز المخالفة جهة مشتركة بين التجرّي و المعصية الواقعيّة فيستحقّ عليه العقاب،و يختصّ المعصية الواقعيّة بكون الفعل أيضا حراما،و لعلّ المستدلّ ببناء العقلاء و حكم العقل بقبح التجرّي أراد ذلك.

ولكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ بناء العقلاء لو سلّم فإنّما هو علي مذمّة الشخص علي وجود صفة الشقاوة في نفسه المنكشفة بهذا الفعل لا علي نفس الفعل،كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر علي قتل سيّده لقتله،فإنّ المذمّة علي المنكشف لا الكاشف،و كذا الكلام في حكم العقل بقبح التجرّي انتهي ملخّصا (1).

و فيه نظر؛لأنّ استحقاق الذمّ علي سوء سريرته،بحيث لو قدر علي قتل سيّده لقتله غير هتكه حرمة سيّده بالمبارزة له بإظهار العداوة.

و أمّا حرمة الفعل شرعا،فلوجوه:

الأوّل:الاجماع علي أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصي و إن انكشف بقاء الوقت و صلّي،و لا خلاف ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية و إن لم يتضرّر.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ الاجماع المحصّل غير حاصل،و المسألة عقليّة لا تثبت بالتعبّد (2).9.

ص: 282


1- فرائد الاصول ص 9.
2- فرائد الاصول ص 9.

أقول:و يمكن أن يقال باستفادة حرمة مخالفة الظنّ في الموردين المذكورين من إجماع أو غيره،و لا يتعدّي إلي غيرهما.

الثاني:دعوي أنّ المراد من تحريم الخمر مثلا تحريم الخمر الواقعي و الاعتقادي بترتيب مقدّمات ممنوعة لا تنتج ذلك،راجع فوائد الاصول (1).

الثالث:استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي من باب قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع،و العقل يحكم بقبح الفعل المتجرّي به؛ لأنّه هتك لحرمة المولي فيحرم شرعا.

و اجيب عنه بأنّ الحكم العقلي إن كان منشأه درك العقل المصلحة الملزمة في الفعل أو المفسدة كذلك،استكشف منه الحكم الشرعي.و أمّا حكمه في مرحلة العصيان باستحقاق العبد العقاب علي المخالفة،فلا يكون في مورده حكم مولوي؛ لأنّه ينقل الكلام إلي عصيانه و هكذا،فيتسلسل.

و فيه نظر؛لأنّ حكم العقل باستحقاق العقاب علي الفعل المتجرّي به من أجل انطباق عنوان هتك المولي،ناش عن درك العقل المفسدة في الفعل بعنوان الهتك، كدركه حسن الفعل أو قبحه،و هذا الحكم العقلي ملازم للحكم الشرعي؛لأنّ الشارع أعقل العقلاء فيحكم بذلك،و هو غير حكمه باستحقاق العقاب علي معصيته هذا الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي.

و بعبارة اخري:إنّما يحكم العقل باستحقاق العقاب علي الفعل المتجرّي به؛ لأنّه ينطبق عليه عنوان هتك المولي،فهو من باب أنّه قبيح يستحقّ عليه العقاب، و كلّ قبيح محرّم عقلا فكذلك شرعا،و لا ينقض ذلك بحكم العقل باستحقاق العقاب علي فعل الحرام الواقعي،لأنّه يحكم باستحقاق العقاب علي الفعل5.

ص: 283


1- فوائد الاصول 3:15.

المتجرّي به أيضا،و هذا الحكم غير حكمه بقبح الفعل المتجرّي به؛لانطباق عنوان الهتك عليه.

و لو تنزّلنا عن ذلك،فنقول:المعصية الواقعيّة هتك للمولي و ارتكاب للحرام، و الفعل المتجرّي به هتك للمولي فقط،و لا بأس باجتماع الجهات،ففي نهج البلاغة «و علي الداخل إثمان:إثم الرضا،و إثم الدخول» (1)و اجتماع العناوين علي الفعل الواحد غير بعيد،فشرب الخمر من الجاهل بالحرمة المقصّر أهون من شربه من العالم،و هو أهون من شربه من المستحلّ،و هو أهون من شربه ممّن يشرّع و يشربه لوجوبه.

الرابع:الآيات،منها:قوله تعالي لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ (2)دلّت الآية علي أنّ ما في النفس من العزم يحاسب عليه،و ليس العزم علي المعصية حسنا بلا إشكال.

و منها:قوله تعالي لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (3)فإنّ العزم علي المعصية من أفعال القلب و ليس حسنا بلا ريب.

و منها:قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (4)و الفؤاد هو القلب فهو مسؤول عن أفعاله.

و يمكن المناقشة في دلالة الآيات بأنّا نعلم أنّ العزم علي المعصية ليس حسنا،6.

ص: 284


1- نهج البلاغة ص 499 ح 154.
2- سورة البقرة:284.
3- سورة البقرة:245.
4- سورة الاسراء:36.

و أمّا أنّه معصية يعاقب عليه فلا يتكفّل الآيات لإثباته،مع أنّه قد روي أنّ اللّه تعالي رفع الحكم في الآية الاولي منّة علي هذه الامّة.

و يحتمل في الآية الثانية أن يكون المراد عدم المؤاخذة علي الأيمان التي اعتادها اللسان،و أنّ المؤاخذة علي الأيمان التي يعزم عليها القلوب،لا أقلّ من الشكّ في العموم.

الخامس:الأخبار،و يمكن الاستدلال بطائفتين منها:

الاولي:ما دلّ علي أنّ العمل تابع للنيّة،فإن كانت نيّته بعمله مخالفة اللّه كان عمله مخالفا له و يكون معصية.

منها:خبر أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهما السّلام،قال:لا عمل إلاّ بنيّة (1).

و المراد بأبي حمزة هو الثمالي؛لأنّه روي هذه الرواية مع الزيادة في الخصال و صرّح بذلك (2).

و منها:خبر أبي عثمان العبدي (3)،و هو متّحد مع الحديث الرابع مع زيادة.

و منها:المرسل (4).

و منها:خبر علي بن حمزة العلوي (5).

و منها:خبر علي بن جعفر و أبي الحسن علي بن موسي عليهما السّلام،عن موسي بن جعفر عليهما السّلام،عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله أنّه قال:إنّما الأعمال بالنيّات و لكلّ امريء ما نوي،فمن غزي ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره علي اللّه عزّ و جلّ،9.

ص: 285


1- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 1.
2- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 3.
3- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 2.
4- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 7.
5- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 9.

و من غزي يريد عرض الدنيا أو نوي عقالا لم يكن له إلاّ ما نوي (1).

يمكن أن يقال:إنّ ظواهر هذه الأخبار تدلّ علي أنّ العمل يقع علي ما نواه، فمن قطع أنّ مايعا ماء و شربه بداعي القربة،يثاب علي عمله و إن كان خمرا واقعا، و كذلك العكس بالعكس.

و يؤيّده ما روي عن أبي ذرّ عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله في وصيّة له،قال:يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّي في النوم و الأكل (2).دلّ علي أنّ الأكل يصير مستحبّا بالنيّة علي أن يكون للتقوّي علي طاعة اللّه تعالي.

و أمّا الأخبار التي تدلّ علي حرمة نيّة المعصية،فلا تدلّ علي كون الفعل المتجرّي به معصية؛لأنّ المراد بها لعلّه المعصية الواقعيّة،فهي لا تدلّ علي مفروض المسألة،أعني:التلبّس بالعمل بزعم المعصية.

و الحاصل أنّه يمكن أن يقال بدلالة هذه الأخبار علي أنّ الفعل يتغيّر عنوانه الذاتي بالنيّة،فإن نوي به الأمر الراجح يصير الفعل مستحبّا،و إن نوي به عنوان المعصية يصير حراما،فالعمل يحسب علي حسب ما نوي.

ثمّ إن لم يتمّ دلالتها علي حرمة الفعل أو رجحانه بالنية يمكن أن يستفاد منها ثبوت العقاب و الثواب علي النيّة المتعقّبة بما يزعم كونه معصية أو طاعة،بأن يثاب الانسان علي النيّات و يعاقب عليها،لا أنّ الفعل يصير راجحا أو حراما.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّه يجب الخوف من اللّه،و يحرم انتهاك حرمته و يجب الاستحياء منه،و الفعل المتجرّي به ترك للخوف و ترك الاستحياء.و يستفاد ذلك من أخبار:

منها:ما دلّ علي ذكر اللّه علي كلّ حال،و أنّه ليس الذكر المتعارف مثل سبحان8.

ص: 286


1- وسائل الشيعة 1:34-35 ب 5 ح 10.
2- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 8.

اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر فقط،بل إذا ورد عليك شيء أمر اللّه به أخذت به،و إذا ورد عليك شيء نهي عنه تركته (1).و غيره من روايات الباب، فإنّها تدلّ علي أنّ المراد من الذكر احترام توجّه اللّه إلي العبد،و القاطع بالحرمة عند ارتكاب المحرّم لم يحترم توجّه اللّه إليه.

و منها:ما ورد في مدح من لم يقدّم رجلا و لم يؤخّر رجلا حتّي يعلم أنّ ذلك للّه رضا (2).

و منها:خبر إسحاق بن عمّار،قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا إسحاق خف اللّه كأنّك تراه،و إن كنت لا تراه فإنّه يراك،و إن كنت تري أنّه لا يراك فقد كفرت،و إن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين عليك (3).و غيره من روايات الباب.

و منها:ما رواه في تفسير علي بن إبراهيم،حكي عنه السيّد ابن طاووس في كتاب سعد السعود،قال في جملة منه:يا حفص إنّ اللّه يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحدا الحديث (4).

القول الثاني:عدم حرمة الفعل شرعا و عقلا.قال المحقّق الخراساني في الكفاية و في تعليقته علي الفرائد:إنّه ليس بحرام شرعا لوجوه نذكر حاصلها بتوضيح:

الأوّل:أنّه إذا قيل يحرم الفعل الذي قد قطع المكلّف بحرمته لزم اجتماع المثلين لدي القاطع.

و فيه أنّه يكون تأكيدا للحرمة،كما ورد أنّه يؤاخذ العالم بما لا يؤاخذ الجاهل،1.

ص: 287


1- وسائل الشيعة 11:200 ب 23 ح 11.
2- وسائل الشيعة 11:228 ب 36 ح 1.
3- وسائل الشيعة 11:171 ب 14 ح 6.
4- سعد السعود ص 87 عنه،و رواه في الكافي 1:47 باب لزوم الحجّة ح 1.

بناء علي إرادة الجاهل المقصّر الذي هو أيضا مكلّف،أي:من علم حرمة الخمر، فليعلم أنّه يعاقب علي شربه أكثر ما يعاقب الجاهل علي شربه.

الثاني:أنّ الفعل المتجرّي به بما هو مقطوع الحرمة لا يصدر من المكلّف بالقصد إلي كونه مقطوع الحرمة،و الفعل غير المقصود ليس فعلا اختياريّا،فلو قطع بحرمة التتن و لم يكن حراما واقعا فشربه،فإنّه متعمّد إلي شرب التتن،و هو فعل اختياري له،لكن لا يقصد شربه بعنوان مقطوع الحرمة،و ما لم يقصد هذا العنوان لم يكن مريدا له،فلا يكون الفعل بهذا العنوان اختياريّا،و إن كان اختياريّا في أصل شرب التتن،و العنوان غير الاختياري لا يوجب القبح.

أقول:هذا علي مبناه من أنّ الفعل الاختياري أو العنوان الاختياري لا بدّ أن يكون مسبوقا بالقصد.و أمّا علي ما ذكرناه من أنّ الفعل الاختياري في مقابل الفعل الاضطراري كحركة المرتعش،فالفعل صادر باختياره يصحّ عقابه عليه.

الثالث:عدم صدور فعل اختياري منه أصلا إن كان تجرّيه في مصداق الحرام، كما إذا قطع أنّ مايعا خمر،مع أنّه ماء،فإنّ حرمة الخمر معلومة له،ولكن حيث قطع بأنّ هذا المايع خمر فشربه علي أنّه خمر،فالمقصود شرب الخمر لا شرب المايع أو الماء.و ما قصده لم يقع فليس بمراد فليس اختياريّا.

أقول:هذا أيضا علي مبناه،و علي ما ذكرناه فهو مختار في شرب هذا المايع.

الرابع:أنّه لا وجه لتحريم مقطوع الحرمة؛لأنّ الأحكام الشرعيّة تتبع الملاكات،و الوجدان السليم يشهد بأنّ القطع بالحرمة لا يوجب ملاكا في الفعل حتّي يوجب الحرمة الشرعيّة.

أقول:انطباق إظهار المخالفة عليه ممّا يوجب قبحه،كما إذا كان الهواء حارّا و العبد لإظهار الاستخفاف بالمولي و هتك حرمته ألقي عليه الماء مثلا،فإنّ استبراده بالماء مطلوب له،لكن عمل العبد بإلقاء الماء عليه يكون مثل أن يلقي

ص: 288

عليه التراب في توهينه به،و هذا العنوان يوجب تعنونا للفعل.نعم القطع بحرمة شرب المايع المقطوع كونه خمرا لا يوجب وجود ملاك حرمة الخمر في الفعل.

الخامس:لو سلّم أنّه يوجب ملاكا بأن يغيّره عمّا هو عليه،لكن لا يصحّ النهي المولوي عنه؛لأنّ الغرض من النهي المولوي حصول الخوف للعبد من العقوبة حتّي يترك المنهي عنه،و هو حاصل هنا قبل هذا النهي،لأنّه بقطعه أنّه منهي يحصل له الخوف (1).

أقول:يمكن أن لا ينتهي المكلّف بالنهي الأوّل،ولكن إذا علم أنّه منهي بنهي آخر صار ذلك موجبا لخوفه،كما إذا التفت بأنّ مسؤوليّة العالم أشدّ من الجاهل، و بالجملة لا مانع من أن يكون الشيء محرّما بعناوين،كقتل ذي الرحم،فإنّه قتل و قطع رحم و قساوة و غيرها،فلا مانع من أن يكون مقطوع الحرمة حراما بهذا العنوان.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)بعد ردّ الأدلّة التي اقيمت علي الحرمة الشرعيّة اعترف باستحقاق المذمّة علي ما كشف عنه الفعل من سوء السريرة،يعني القبح الفاعلي،و من المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل،و يظهر من بعض كلماته الاستشكال في استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّي به.

القول الثالث:التفصيل المحكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه بين ما لو زاحم التجرّي جهة رجحان الفعل في ذاته،فلا يبعد عدم العقاب،و إلاّ فيستحقّ العقاب، فإذا قطع بحرمة شيء غير محرّم واقعا،فالأرجح استحقاق العقاب،و إذا اعتقد تحريم شيء واجب غير مشروط بقصد القربة،فلا يبعد عدم العقاب.9.

ص: 289


1- كفاية الاصول ص 299،و التعليقة علي الفرائد ص 37.
2- فرائد الاصول ص 9.

و أورد عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)بأنّ قبح التجرّي ذاتي لا عرضي حتّي يختلف باختلاف العوارض.

القول الرابع:استحقاق العقاب علي العزم علي فعل مقطوع الحرمة،قال في الكفاية:قلت العقاب إنّما يكون علي قصد العصيان و العزم علي الطغيان،لا علي الفعل الصادر بهذا العنوان،و كأنّه استدلّ عليه بحكم الوجدان الحاكم علي الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة،لاحظ كلامه (2).

أقول:استحقاق العقاب عقلا علي مجرّد العزم و إن لم يصدر منه فعل أصلا غير واضح،و لا إشكال في استحقاقه الذمّ.

ثمّ لو سلّم استحقاق العقوبة علي العزم،لكن ربّما يستفاد من الأخبار أنّه معفوّ عنه ما لم يتلبّس بفعل،و سيأتي توضيحه.

الصورة الثانية:أن يقصد المعصية الواقعيّة،كشرب الخمر مثلا،فإن ارتدع اختيارا و لم يفعل فلا عقاب عليه،و إن لم يرتدع بل نواه فلم يوفّق حتّي مات مثلا، فالأخبار فيه علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي أنّ نيّة المعصية الواقعيّة لا تكتب إن لم يتعقّبها المعصية الواقعيّة و إن لم يتب عنها،و هي عدّة أخبار:

منها:خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام،قال:إنّ اللّه تبارك و تعالي جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة،و من همّ بحسنة و عملها كتبت له عشرا،و من همّ بسيّئة لم تكتب عليه،و من همّ بها و عملها كتبت عليه سيّئة (3).6.

ص: 290


1- فرائد الاصول ص 11.
2- كفاية الاصول ص 300.
3- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 6.

و مثله خبر أبي بصير (1).و خبر بكير (2).و خبر جميل (3).و خبر حمزة بن حمران (4).

و خبر مسعدة بن صدقة (5).و خبر عبد اللّه بن موسي بن جعفر (6).

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّ نيّة المعصية معصية،و هي عدّة أخبار:

منها:خبر أبي عروة السلمي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه يحشر الناس علي نيّاتهم يوم القيامة (7).

و منها:خبر أبي هاشم،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا،و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا، فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء،ثمّ تلا قوله تعالي قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلي شاكِلَتِهِ قال:

علي نيّته (8).

و خبر السكوني (9)،و مرسل الأنصاري (10)،و خبر فضيل بن يسار (11)،2.

ص: 291


1- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 7.
2- وسائل الشيعة 1:37 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 8.
3- وسائل الشيعة 1:37 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 10.
4- وسائل الشيعة 1:39 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 20.
5- وسائل الشيعة 1:40 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 21.
6- وسائل الشيعة 1:41 أبواب مقدّمات العبادات ب 7 ح 3.
7- وسائل الشيعة 1:34 أبواب مقدّمات العبادات ب 5 ح 5.
8- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 4.
9- وسائل الشيعة 1:35 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 3.
10- وسائل الشيعة 1:39 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 17.
11- وسائل الشيعة 1:40 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 22.

و مضمونها أنّ نيّة الكافر شرّ من عمله.

الطائفة الثالثة:ما دلّ علي كتابة نيّة الكافر،عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قال لي:يا جابر يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصالح ما كان يكتب في صحّته،و يكتب للكافر في سقمه من العمل السيّء ما كان يكتب في صحّته الحديث (1).

و يمكن الجمع بين هذه الأخبار بأنّ نية المعصية بمجرّدها لا تكتب و يعفي عنها،و عليه يحمل الطائفة الاولي،و أمّا إن كان الانسان بلغ من المعصية حدّا لا خير فيه،بأن كان نيّته أن يعصي أبد الآبدين،فهو يدخل في النار التي اعدّت للكافرين،و عليه يحمل الطائفة الثانية.

و يحمل خبر السكوني و نحوه علي أنّ نيّة الكافر لفعل الشرّ أكثر ممّا يعمله خارجا،كما أنّ المؤمن ينوي من الخير ما هو أكثر ممّا يفعله.و يحمل الطائفة الثالثة علي الكافر المستحقّ للعقاب لا القاصر،فتتّحد مع الطائفة الثانية،فتأمّل.

الصورة الثالثة:أن يقصد المعصية الواقعيّة و يتلبّس ببعض مقدّماتها،و لا يبعد استحقاقه العقاب؛لأنّه قد بارز بالمخالفة،لكن مقتضي الأخبار الدالّة علي أنّه ما لم يرتكب الحرام لا تكتب عليه أنّه يعفي عنه و لا يعاقب.

و قد تحصّل من جميع ما ذكر أنّه يمكن القول بحرمة الفعل الذي ارتكبه بعنوان كونه معصية،و لا دليل علي العفو عنه؛لأنّ مورد الأخبار النافية للعقاب عمّن همّ بالمعصية و لم يفعلها هو الهمّ بالمعصية الواقعيّة و لم يفعلها،و أمّا من همّ بما يعتقده معصية و ارتكبه فشمولها له غير معلوم.

و أمّا سائر الصور،كمن قصد ارتكاب ما يعتقده حراما و لم يكن حراما واقعا5.

ص: 292


1- وسائل الشيعة 1:42 أبواب مقدّمات العبادات ب 7 ح 5.

و ارتدع اختيارا،أو لم يرتدع حتّي مات،فالظاهر العفو عنه،و من تلبّس بمقدّمات ما يعتقده حراما و لم يكن حراما واقعا،ففيه تأمّل لامكان صدق الهتك،و ظهر أحكام بقيّة الصور.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بحرمة امور بعناوينها،قيل:إنّها تدلّ علي حرمة التجرّي شرعا،لكن الظاهر عدم دلالتها،و هي:

الأوّل:الرضا بالمعصية حرام،يدلّ عليه خبر طلحة بن زيد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثة (1).و هذا لا يشمل المتجرّي؛لأنّه إذا قتل من يعتقده مؤمنا و كان كافرا مهدورا فقد رضي بهذا القتل و هو ليس بظلم.نعم لو رضي بقتل مؤمن آخر فله حكمه،لكن رضاه متعلّق بقتل هذا الشخص،و هذا ليس بمؤمن،فتأمّل.

الثاني:من شهر سيفه قاصدا به القتل،فإنّه إمّا من مصاديق المحارب،أو ملحق به حكما.

الثالث:الأشخاص الذين شاركوا في ايجاد الخمر بايجاد مقدّماته.

الرابع:من قال كلمة صارت سببا لقتل مؤمن.

هذا ما تيسّر لي من الفحص و البحث في هذه المسألة،و لا ينبغي الاقتصار عليه في مقام الفتوي.

المبحث الثالث: في العلم و القطع المأخوذين في الموضوع

اشارة

و يقع الكلام في مواضع:

ص: 293


1- جامع أحاديث الشيعة 13:425 ب 19.
الموضع الأوّل: في العلم المأخوذ في الموضوع

قد يؤخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر،كما إذا قيل:إذا علمت وجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا.و قد يؤخذ العلم بموضوع في ترتّب حكمه عليه، كما إذا قيل:إذا علمت مايعا خمرا حرم عليك شربه.

و في كلا الموردين تارة يؤخذ علي نحو الصفتيّة،و اخري علي نحو الطريقيّة.

و المراد بأخذه في الموضوع علي نحو الصفتية أحد نحوين:الأوّل:أن يؤخذ في الموضوع العلم الحاصل من سبب خاصّ،كالحاصل من الكتاب و السنّة،لا الحاصل من الجفر و الرمل مثلا،أو العلم الحاصل لشخص خاصّ،كالحاصل للمجتهد،فيكون قد أخذ في الموضوع علي نحو الصفتية.أو يؤخذ في الموضوع من حيث كونه حضور المعلوم،بلا فرق فيه في حصوله بين الأسباب أو الأشخاص،فيكون أخذه فيه علي نحو الطريقية،و علي كلا اللحاظين لا يقوم مقامه الأمارة؛لأنّها ليست علما.

و بعبارة اخري:قد اخذ العلم بما هو علم في الموضوع تارة بعض أفراده، كالعلم الحاصل من الكتاب و السنّة،و الحاصل للمجتهد مثلا،و اخري كلّ ما صدق عليه العلم.

الثاني:أن يؤخذ في الموضوع من حيث هو علم من أيّ سبب و لأيّ شخص حصل،فيكون أخذه علي نحو الصفتيّة،و لا يقوم مقامه الأمارات و الاصول؛لأنّها ليست علما،و المراد بأخذه في الموضوع علي نحو الطريقية حينئذ أن يؤخذ فيه من حيث انّه أحد الطرق إلي ثبوت الشيء،أو من حيث انّه حجّة علي الشيء، فيصحّ التعدّي عنه إلي سائر الطرق المطابقة للواقع،أو الاصول التي اتّفقت فيها المطابقة للواقع،و يكون ذكر العلم في الدليل المأخوذ فيه كقوله«كلّ شيء طاهر

ص: 294

حتّي تعلم»كناية عن إرادة الطريق المعتبر،و إنّما خصّ بالذكر لأنّه أكمل الطرق المعتبرة،فيقوم مقامه الأمارة و الاصول المصيبة للواقع.

ثمّ إنّ العلم المأخوذ في الموضوع لا ينقسم إلي قسمين،و هو أخذه تارة جزء الموضوع و جزؤه الآخر الواقع،و اخري تمام الموضوع،سواء طابق الواقع أو لم يطابق؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،فيكون مطابقا للواقع دائما، و إلاّ كان جهلا مركّبا.

و من أمثلته قوله«رجل قضي بالحقّ و هو يعلم» (1)فإنّه اعتبر الحقّ مع العلم به، فلا يكفي أن يقضي إن كان مطابقا للواقع و لا يعلم به،و لا أن يقضي إن قطع بالواقع و كان مخالفا له.

الموضع الثاني: في القطع المأخوذ في الموضوع

قد يؤخذ القطع في الموضوع علي وجه الصفتيّة تمام الموضوع أو جزئه،و قد يؤخذ في الموضوع علي وجه الطريقيّة تمام الموضوع أو جزئه،بالتفسيرين اللذين ذكرناهما للعلم الصفتي و العلم الطريقي.

و توضيحه:أنّ القطع بالشيء طريق إلي الشيء،و انكشاف له في نظر القاطع، فإذا اخذ في الموضوع بما هو كاشف عن متعلّقه عند القاطع،فتارة يؤخذ بما هو كاشف كشفا جزميّا تمام الموضوع،أي:سواء طابق الواقع أم لم يطابق الواقع،أو يؤخذ جزؤه و جزئه الآخر الواقع،و علي التقديرين فلا يقوم مقامه الأمارة، و اخري يؤخذ بما هو أحد الطرق إلي ثبوت الشيء،كما إذا قال:إن قطعت أنّ شيئا ملك لزيد فاشتر منه من باب أنّه أحد الطرق،و الطرق الاخر قول ذي اليد و البيّنة

ص: 295


1- وسائل الشيعة 18:11.

و استصحاب الملكيّة،إمّا تمام الموضوع أو جزؤه،و علي التقديرين يقوم مقامه سائر الطرق،و هذا التعبير مسامحة،بل انّ نفس أخذ القطع من باب أنّه أحد الطرق معناه الاكتفاء بسائر الطرق.

فينبغي في كلّ مورد أخذ اليقين و القطع في الموضوع تشخيص ذلك،مثلا صحيح زرارة:إذا دخلت أرضا فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيّام (1)الحديث.

يدلّ علي أنّ وجوب إتمام الصلاة علي المسافر متوقّف علي أن يتيقّن بمقامه في محلّ واحد عشرة أيّام،و ساكت عن أنّ اليقين أي القطع بمقامه عشرة أيّام هل هو طريق إلي مقامه واقعا،أو أنّه تمام الموضوع و إن لم يقم واقعا.

لكن بضميمة الخبر الآخر:انّ من صلّي بتمام ثمّ عدل يتمّ مادام لم يسافر، يستفاد اعتبار اليقين تمام الموضوع و إن لم يطابق الواقع.و ظاهره اعتبار اليقين بما هو يقين،فلا يقوم مقامه البيّنة،لكن لو استفدنا أنّ المراد من اليقين المأخوذ فيه هو الطريق المعتبر إلي الشيء قامت الأمارة مقامه،فحينئذ يكتفي بما إذا أخبرت البيّنة مثلا بمقامه عشرة أيّام.

و الحاصل أنّه إن اخذ القطع في الموضوع بما هو كاشف خاصّ لم يقم مقامه شيء،و هو المراد بكونه مأخوذا علي نحو الصفتيّة.و إن اخذ في الموضوع بما هو أحد الكواشف لا لخصوصيّة فيه قام مقامه الأمارة المصيبة للواقع إن اخذ جزء الموضوع،و قام مقامه الأمارة مطلقا مصيبة أو غيرها إن اخذ تمام الموضوع.

و ينبغي ذكر امور لتوضيح المذكورات:

الأوّل:قال في الكفاية:إنّ القطع المأخوذ في الموضوع ينقسم إلي أربعة أقسام:

و ذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الاضافة،و لذا كان العلم نورا6.

ص: 296


1- وسائل الشيعة 5:526.

لنفسه و نورا لغيره،صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة و حالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه،أو اعتبار خصوصيّة اخري فيه معها،كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه و حاك عنه،فيكون أقسامه أربعة (1).

أقول:فيه نظر،أمّا أوّلا:فلما تقدّم من الفرق بين القطع و العلم،فإنّ العلم نور دائما،و أمّا القطع فقد يكون جهلا مركّبا.

و ثانيا:أنّ القطع علي كلّ حال له جهة كشف و لو زعما عند القاطع،فلا معني لإلغاء جهة كشفه،إلاّ أن يؤخذ في الموضوع بما هو صفة نفسانيّة،كالحسد و سائر الصفات النفسيّة،و هذا فرض لا يقع،فتفسيره القطع الصفتي و الطريقي بذلك علي خلاف التفسيرين اللذين ذكرناهما ليس بسديد.

الثاني:قال في الكفاية:لا ريب في عدم قيام الطرق و الأمارات المعتبرة بمجرّد ذلك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الصفتيّة،إلي أن قال:و منه انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الكشف،فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا كسائر مالها دخل في الموضوعات أيضا، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته،و قيام دليل علي اعتباره ما لم يقم علي تنزيله و دخله في الموضوع كدخله (2).

قلت:أخذ القطع بما هو صفة كالحسد مثلا في الموضوع ليس له وجود في الأدلّة التي عثرنا عليها،و ما ذكره من عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الكشف إن أراد الكشف الخاصّ،فهو الذي ذكرنا أنّه المأخوذ في الموضوع علي نحو الصفتيّة،و التحقيق ما تقدّم بيانه.

الثالث:قيل:إنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي الذي اخذ جزء الموضوع؛4.

ص: 297


1- كفاية الاصول ص 303.
2- كفاية الاصول ص 304.

لأنّ دليلها جعلها علما تعبّدا،و لازمه تنزيل متعلّقها منزلة الواقع تعبّدا،فيتحقّق تنزيلان:تنزيل الأمارة منزلة القطع،و تنزيل متعلّقها منزلة الواقع.

و فيه نظر أمّا أوّلا:فلأنّ دليل الأمارة يقتضي حجّيتها لا تنزيلها منزلة العلم،كما سيأتي بيانه.و ثانيا:أنّ القطع الذي اخذ جزء الموضوع يكون جزؤه الآخر الوجود الواقعي المقيّد بكونه واقعيّا،فهو في قوّة التصريح بأنّه لا يكفي التنزيل.

الرابع:قد اشكل علي تقسيم القطع المأخوذ في الموضوع أربعة أقسام،بأنّه لا يمكن أخذ القطع في الموضوع علي نحو الطريقيّة تمام الموضوع؛لأنّ معني كونه طريقا كون النظر إلي الواقع،و معني أخذه تمام الموضوع عدم النظر إلي الواقع.

قال في مصباح الاصول:أخذ القطع في الموضوع علي نحو الطريقيّة تمام الموضوع يكون من قبيل الجمع بين المتناقضين،فالصحيح تثليث الأقسام (1).

و فيه أنّ التقسيم لا يصحّ في العلم؛لأنّه حضور المعلوم،ولكن القطع ليس كالعلم،فإنّه قد يكون مخالفا للواقع إذا كان جهلا مركّبا،و حينئذ إن اخذ في الموضوع علي أنّه إن حصل من سبب خاصّ،أو لشخص خاصّ تمام الموضوع، أي:سواء طابق الواقع أم لم يطابق الواقع أو جزءه،أي:إن طابق الواقع كان مأخوذا علي نحو الصفتيّة،و إن اخذ في الموضوع علي أنّه إن حصل من أيّ سبب أو لأيّ شخص تمام الموضوع أو جزءه،كان مأخوذا علي نحو الطريقيّة.هذا علي التفسير الأوّل الذي ذكرناه للعلم الصفتي و الطريقي.و كذا يصحّ التقسيم علي التفسير الآخر للعلم الصفتي و الطريقي.فلاحظ.

و المراد بأخذ القطع في الموضوع تمام الموضوع علي نحو الطريقيّة،أخذه في الموضوع من باب أنّه أحد الطرق في اعتقاد القاطع بلا خصوصيّة له،سواء وافق4.

ص: 298


1- مصباح الاصول 2:34.

اعتقاده للواقع أم لم يوافق.

مثلا إن قيل:إن قطعت بطهارة الثوب فصلّ فيه،لا لخصوصيّة في القطع،بل من باب أنّ القطع أحد الطرق المعتبرة،و البيّنة و قول ذي اليد أيضا من الطرق المعتبرة، فإن قامت البيّنة علي طهارة الثوب جاز الصلاة فيه،و إن تبيّن بعد الصلاة مخالفة قطعك أو البيّنة للواقع.

الخامس:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه يصحّ أخذ القطع في الموضوع بما هو حجّة، فيقوم مقامه الاصول العمليّة لأنّها حجّة،فإن قال:يحرم ما قطع أنّه خمر،أي:ما له دليل معتبر عليه،قام استصحاب الخمريّة للمايع المشكوك زوال خمريّته مقامه، و هكذا.

المبحث الرابع: في جواز أخذ العلم بالحكم في موضوعه

قيل:لا يمكن أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه،بأن يختصّ الحكم بالعالم به للزوم الدور؛لأنّ الحكم يتوقّف علي موضوعه،فالموضوع يكون قبل الحكم، فلو اخذ العلم بالحكم في موضوعه لزم تقدّم الحكم علي الموضوع؛لأنّ العلم بالحكم متوقّف علي وجود الحكم،و قد يقال:إنّه يستلزم الخلف.

أقول:لا استحالة في ذلك،فإنّ الدور دور معيّ.بيان ذلك:أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله أو الامام المعصوم عليه السّلام إذا بيّن الحكم للحاضرين في مجلسه المشافهين له،فقال مثلا:يجب عليكم أن تقصروا من الصلاة إن سافرتم بريدين،ثبت لهم الحكم و حصل لهم العلم به في آن واحد،ثمّ يقول:إنّ من بلغه صدفة أنّي أمرتكم بالتقصير في السفر من دون فحص عن هذا الحكم و إن كان قادرا عليه،يجب عليه التقصير و إلاّ فلا يجب،كان وجوب التقصير في السفر مختصّا بالعالم بالحكم،و الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد،و مصلحة هذا الحكم مختصّه بصورة العلم به صدفة.

ص: 299

و هذا الذي ذكرناه معني صحيح زرارة و محمّد بن مسلم،قالا:قلنا لأبي جعفر عليه السّلام:رجل صلّي في السفر أربعا أيعيد أم لا؟قال:إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّي أربعا أعاد،و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه (1).

و ينبغي ذكر امور:

أحدها:أنّه يمكن أخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مماثل للمقطوع،مثل أن يقول:من قطع بحرمة شرب التتن حرم عليه الشرب،أو من اعتقد وجوب شيء وجب عليه و لا محذور فيه؛لأنّ القطع بالوجوب يعني الاعتقاد به يمكن تحقّقه مع عدم وجود الحكم إذا كان قطعه جهلا مركّبا،بخلاف العلم لأنّه الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،فإنّه لا يمكن تخلّفه عن الحكم،فلا بدّ من تأخّره عنه أو مقارنته له علي الكيفية التي ذكرناها.

ثمّ إنّه يمكن حمل ما ورد علي أنّ عقاب العالم أكثر من الجاهل علي ذلك،كما تقدّم في بحث التجرّي احتمال حرمة ما يعتقده حراما،و وجوب ما يعتقده واجبا.

ثانيها:أنّه يمكن أخذ العلم التفصيلي بالموضوع في موضوع الحكم،كما إذا حرم شرب الخمر علي من علم تفصيلا أنّ مايعا خمر،و يمكن أخذ العلم التفصيلي و الاجمالي في موضوعه،كما إذا حرم شرب الخمر علي من علم تفصيلا أو إجمالا أنّ مايعا خمر،و سيأتي التعرّض لذلك.

ثالثها:التحقيق اختصاص الأحكام بالمتمكّن من الوصول إليها؛لأنّ الحكم الذي يترتّب العقاب علي ترك امتثاله هو ما أنشأه المولي و جعله في معرض الوصول إلي المكلّفين،بحيث لو فحصوا عنه وصلوا إليه.و أمّا الانشاء الذي لا4.

ص: 300


1- وسائل الشيعة 5:531 ب 17 ح 4.

يصل إلي المكلّف أصلا حتّي لو بلغ من الفحص غايته،فلا يجب عليه امتثاله عقلا، فهو نظير أن ينشيء المولي عند نفسه.

و من ذلك يظهر أنّ الجاهل القاصر،و هو الذي لا يخطر بباله وجود تكليف ليس مكلّفا لا عقلا لقبح مؤاخذته،و لا شرعا كتابا و سنّة لعدم إمكان وصوله إلي الحكم،كما حقّقناه في محلّه.

رابعها:قد يقال بأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من تقابل العدم و الملكة،لأنّ الاطلاق رفض القيود في مورد إمكان التقييد،كالعمي فإنّه عدم البصر ممّن له البصر،فلا يقال للجدار أعمي.

و علي هذا فإذا استحال التقييد استحال الاطلاق،و حيث إنّ العلم و الجهل من الانقسامات اللاحقة،لأنّهما بعد وجود الحكم،فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به أو بالجهل به،فإذا استحال التقييد،يستحيل إطلاق الحكم لصورة العلم به و الجهل به.

و اجيب عنه بأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة،لكن استحالة التقييد توجب ضروريّة الاطلاق؛لأنّ استحالة اتّصاف الشيء بملكة ربّما يستلزم وجوب اتّصافه بعدمها،فإنّ علم الانسان بكنه ذات الباري عزّ اسمه غير ممكن؛لاستحالة إحاطة الممكن بكنه الواجب،مع أنّ جهله به ضروري.

أقول:المراد من تقابل العدم و الملكة أنّ العدم عدم خاصّ،و هو عدم ما له الوجود،فالعمي هو عدم الرؤية ممّن له عين لا عدم الرؤية مطلقا،و أمّا قابليّة الاتّصاف فليست موجبة لكون التقابل من العدم و الملكة،فإنّ الاتّصاف بالقيام إنّما يكون في محلّ قابل،فلا يقال للأرض:إنّها قاعدة أو قائمة،مع أنّ التقابل بين القيام و القعود من التضادّ،و كذا العلم و الجهل ضدّان ليس التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة.و الجواب الصحيح أنّ التقييد بالعلم ممكن علي ما بيّناه،فمع عدم الدلالة عليه و لو منفصلا يكون الاطلاق محكّما.

ص: 301

خامسها:إن منعنا إمكان تخصيص الحكم بالعالمين،أو بالعلم الحاصل من سبب خاصّ علي النحو الذي تصوّرناه،فيمكن تخصيص الحكم بالعالمين علي نحو نتيجة التقييد،بإنشاء الحكم مهملا ثمّ تتميم بيانه،بأن يقول:الحكم المذكور خاصّ بالعالمين.

و قد سبق في بحث إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر نظيره عن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و الفرق بين هذا الوجه و ما ذكرناه أنّ هذا الوجه يكون تقييد الحكم بالعالم بنتيجة التقييد،بخلاف الوجه الذي ذكرناه،فإنّ الحكم متعلّق بالعالم ثبوتا من أوّل الأمر.

سادسها:قال في الكفاية:يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخري منه أو مثله أو ضدّه (1).

و اورد عليه (2)بأنّ الحكم له مرتبتان:مرتبة الجعل و هو الحكم علي نحو القضيّة الحقيقيّة،كوجوب الحجّ علي المستطيع.و مرحلة الفعليّة و هو تحقّق الاستطاعة للمكلّف،و حينئذ إن كان مستطيعا،ثمّ علم بوجوب الحجّ علي المستطيع،فمتعلّق العلم حينئذ بنفسه يكون فعليّا،لا أنّه بتعلّقه يصير فعليّا و إن لم يكن مستطيعا،ثمّ علم بوجوب الحجّ علي المستطيع لم يصر الحكم فعليّا لعدم تحقّق موضوعه.

أقول:مراد صاحب الكفاية من مرتبة الانشاء هي المرتبة التي لا تصير فعلية، و هي الأحكام المودعة عند وليّ العصر عجّل اللّه تعالي فرجه التي ليست تكاليف فعليّة في زمان غيبته،فيمكن أن يؤخذ العلم بها في الفعليّة،فيقال:من علم الحكم الفلاني يجب عليه،و مراده من مرتبة الفعليّة هو إنشاء الحكم بحيث لو علم به8.

ص: 302


1- كفاية الاصول ص 307.
2- مباني الاستنباط ص 98.

المكلّف تنجّز،و تقدّم بيان مراده من مرتبة الانشاء.و تقدّم أنّه ليس للحكم إلاّ مرتبة واحدة و هو إنشاء الحكم علي من علم به أو جهل به مقصّرا،و أمّا القاصر فليس مكلّفا به،و أمّا انطباق الحكم بعد تحقّق موضوعه في الخارج فليس مرتبة للحكم،بل هو أمر قهري تكويني.

سابعها:قال في الكفاية:لا يكاد يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع مثله للزوم اجتماع المثلين،و لا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين (1)انتهي.

أقول:لعلّه ليس المراد من اجتماع المثلين و الضدّين معناهما الاصطلاحي؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة اعتبارات إنشائيّة لا وجودات حقيقيّة.نعم لا يجتمع المثلان و لا الضدّان في الاعتباريّات عقلائيّا،بأن يجب الشيء ثمّ يجب ثانيا مولويّا من غير تأكيد للأوّل و لا تغيير جهة،فإنّه ليس عقلائيّا،فلا يتحقّق خارجا و كذا لا يجتمع الحرمة و الوجوب.

لكن لقائل أن يمنع لزوم اجتماع المثلين،كما تقدّم أنّه يمكن أخذ العلم بالحكم في موضوع مثله،و مثّلنا له بالصلاة تماما في السفر،و كذا يجوز أخذ القطع بالحكم،سواء كان مطابقا للواقع أم كان مخالفا موضوعا لحكم مثله،فمن علم حرمة شرب الخمر و شرب الخمر عالما بحرمته كان عقابه علي فعله أشدّ،فيحرم علي العالم حرمة زائدة علي الجاهل المقصّر.و في خبر حفص«إنّ اللّه يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحدا»أورده ابن طاووس في سعد السعود (2)و أوضحه،فراجع.و لعلّ المراد الجاهل المقصّر؛لأنّ القاصر لا عقاب عليه،فلا يرتكب حراما حتّي يغفر له.

فموضوع الحرمة الاولي ذات الشيء،و موضوع الحرمة الثانية المقطوع7.

ص: 303


1- كفاية الاصول ص 307.
2- سعد السعود ص 87.

الحرمة،فعلي هذا يصحّ أن يقول المولي:إن قطعت بحرمة شيء يحرم عليك،فإن أصاب كان عقابه أشدّ،و إن أخطأ كان معاقبا علي مخالفة قطعه و لم يجتمع المثلان.

و أمّا في صورة أخذه في موضوع ضدّه،بأن يقول:إن قطعت بوجوب شيء حرم عليك فعله،فهو أيضا ممكن بتخصيص الحكم الواقعي بإخراج شخص خاصّ،مثلا من كان وسواسيّا أو متوهّما كثير الوهم،فحيث إنّ المصلحة تقتضي إزالة هذه الحالة عنه،و هي أهمّ من مصلحة الواقع،فيقول له المولي:إن قطعت بحرمة شيء فافعله،أي:لا اريد منك الواقع الذي اريده من غيرك،و ذلك لأنّ المولي يعلم أنّ أكثر قطوعه خلاف الواقع،ففي صورة كون قطعه خلاف الواقع لم يجتمع الضدّان.

و أمّا في صورة كون قطعه مطابقا للواقع،فالمولي يرفع اليد عن الواقع لمصلحة أهمّ،و بذلك يظهر معني ما ذكره في العروة الوثقي،حيث قال:لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة و النجاسة (1).

المبحث الخامس:في وجوب الموافقه الالتزاميّة

اشارة

قال في الكفاية:الحقّ عدم وجوب الموافقه الالتزاميّة؛لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة و العصيان بذلك،و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلاّ المثوبة دون العقوبة،و لو لم يكن مسلّما و ملتزما به و معتقدا و منقادا له الي آخر كلامه (2).

أقول:إن كان مراده أنّ الكراهة القلبيّة و الاعتراض القلبي علي المولي بأنّه لماذا أمره بكذا،أو انتظار أن يموت المولي حتّي يستريح منه و أمثال ذلك،لا

ص: 304


1- العروة الوثقي ص 74 مسألة 1.
2- كفاية الاصول ص 308.

يوجب استحقاق العقاب إن كان ممتثلا عملا بما يأمره المولي أو ينهاه،فهو صحيح في الموالي العرفيّة.

لكن لقائل أن يقول:إنّ الأدلّة الشرعيّة تدلّ علي اعتبار الرضا بأوامر اللّه و التسليم و الانقياد لها،كقوله تعالي فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1)فإنّه عامّ لكلّ ما يحكم به النبي صلّي اللّه عليه و اله و يجب التسليم له،و قوله تعالي وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ (2)فذمّهم علي كراهتهم،فمن أعطي زكاة ماله كارها يكون مشمولا له.

و في الحديث:بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (3).

و في الكافي في صحيح الكاهلي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له،و أقاموا الصلاة،و آتوا الزكاة،و حجّوا البيت،و صاموا شهر رمضان،ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:ألا صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم،لكانوا بذلك مشركين (4).

و يؤيّده ما دلّ علي إنكار المنكر بقلبه،و ما دلّ علي أنّ من دان بأنّ الحصاة نواة فهو شرك.و سيأتي التعرّض له في أوّل البحث عن الأمارات.

و إن كان المراد من الالتزام ما كان مقدّمة للعمل؛لأنّ الانسان لا يفعل واجبا إلاّ معتقدا أنّه واجب قد نزل من اللّه علي رسوله،و لذا لو قطع بعدم وجوب فعل واجب واقعا،لا يلتزم بأنّه نزل علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله؛لأنّه لا يريد امتثاله.1.

ص: 305


1- سورة النساء:65.
2- سورة التوبة:54.
3- جامع أحاديث الشيعة ج 1 ب 6 ح 7 و ح 22.
4- اصول الكافي 2:291 باب الشرك ح 6 و ح 1.

كما يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه هذا المعني،حيث قال:و وجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت؛لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعيّة إنّما يجب مقدّمة للعمل،و ليست كالاصول الاعتقاديّة يطلب فيها الالتزام و الاعتقاد من حيث الذات،و لو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا علي وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع الي آخر كلامه (1).

فيمكن أن يقال:بأنّه لا بدّ من الاعتقاد بأنّ ما نزل علي النبي صلّي اللّه عليه و اله حقّ و إن لم يعلمه تفصيلا،فلو لم يعتقد الانسان بحكم نزل علي النبي لا إجمالا و لا تفصيلا،بل اعتقد عدمه مع الالتفات فهو مشكل،مثلا إذا كان شيئان نجسين،ثمّ علم بطهارة أحدهما،و قلنا بجريان الاستصحاب فيهما،فصورة المسألة في الرسالة العمليّة أنّهما نجسان،و المقلّد يعتقد نجاستهما،كما كان يعتقد نجاستهما قبل علمه بطهارة أحدهما،فهو لا يعتقد بطهارة أحدهما واقعا،فهل يضرّ ذلك و يجب إعلامه بذلك بأن يلتزم بالحكم الواقعي أيضا،أو لا يجب لأنّ عليه أن يقصد نجاستهما كما قصده المجتهد الذي يقلّده إلاّ إذا وقع في خلاف؟وجهان.

تتميم:

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة (2)أنّه لا شكّ في أنّ الاسلام عرفا و شرعا عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاصّ الذي يراد منه مجموع حدود شرعيّة منجّزة علي العباد،كما قال اللّه تعالي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (3)فمن خرج عن ذلك و لم يتديّن به كان كافرا غير مسلم.

و قال في بيان شمول إطلاق النصوص و الفتاوي في كفر المنكر،قال:و يؤيّدها

ص: 306


1- فرائد الاصول ص 31.
2- كتاب الطهارة ص 310 السطر 24 الطبع الحجري.
3- سورة آل عمران:19.

ما ذكرنا من أنّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن الدين (1).

و قال في بيان الناصب و انّه المبغض لأهل البيت مطلقا،قال:و توهّم تقييد الناصب بمن تديّن ببغضهم دون من يبغضهم مطلقا،خلاف ما يظهر من الأخبار الكثيرة،و إن توهّمه ظاهر تفسيري المعتبر و المنتهي و المحكي عن القاموس (2).

أقول:الظاهر أنّ التديّن هو الالتزام.

المبحث السادس: في إمكان المنع عن القطع غير المأخوذ في الحكم و لا في موضوعه

اشارة

تقدّم إمكان تقييد القطع المأخوذ في الموضوع بحصوله من سبب خاصّ،أو شخص خاصّ.و كذا القطع المأخوذ في الحكم.

و أمّا فيما لم يؤخذ في الموضوع،و لا في الحكم،فهل يمكن المنع عن بعض أقسام القطع بالحكم أو الموضوع مع عدم تقييد الحكم بالقطع به،كقطع القطّاع و الوسواسي،و القطع الحاصل من غير الأخبار،و الحاصل من مخالطة أهل الباطل، و الحاصل من السبق بالشبهات أم لا؟

قال في كشف الغطاء:و كثير الشكّ عرفا و يعرف بعرض الحال علي عادة الناس،لا اعتبار بشكّه،و كذا من خرج عن العادة في قطعه و ظنّه،فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه (3).

و في الجواهر بعد أن ذكر عدم الاعتبار بكثرة الشكّ،قال:ثمّ الظاهر أنّ كثير الظنّ ككثير الشكّ في المقام لما عرفت سابقا.و أمّا القطع،فإن كان في جانب العدم،فلا يلتفت أيضا،إلاّ إذا علم سبب القطع،و كان ممّا يفيد صحيح المزاج قطعا.

ص: 307


1- كتاب الطهارة ص 311 قبل السطر الآخر.
2- كتاب الطهارة ص 313.
3- كشف الغطاء ص 64.

و إن كان في الوجود،فالظاهر اعتبار قطعه،إلاّ إذا حفظ سبب القطع و كان ممّا لا يفيد صحيح المزاج قطعا،فتأمّل جيّدا (1).

و أورد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه علي كاشف الغطاء بقوله:فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ،فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ و غير العالم لا تجري في حقّه،و كيف يحكم علي القاطع بالتكليف بالرجوع إلي ما دلّ علي عدم الوجوب عند عدم العلم و القاطع بأنّه صلّي ثلاثا بالبناء علي أنّه صلّي أربعا و نحو ذلك (2).

و وافقه في الكفاية،فقال:لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما رتّب علي القطع من الآثار عقلا بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف،و من سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه،كما هو الحال غالبا في القطّاع.

إلي أن قال:القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع و لا من حيث المورد،و لا من حيث السبب،لا عقلا و هو واضح،و لا شرعا لما عرفت من أنّه لا تناله يد الجعل نفيا و لا إثباتا (3)انتهي.

أقول:يقع الكلام في امور:

الأمر الأوّل:الجهل المركّب يعني القطع المخالف للواقع لا يكون عذرا إذا كان حاصلا من تقصير أو من الأسباب الغير العقلائيّة،بل الظاهر أنّه عذر عند العقلاء إذا كان عن قصور أو عن أسباب عقلائيّة.و أمّا إذا كان حاصلا عن تقصير لمعاشرة المخالفين و فاسدي العقيدة فتأثّر منهم،أو مساورة الطريقة غير الصحيحة في الوصول إلي الأحكام الشرعيّة أو غيرها،فلا يكون عذرا.

و ذكره في المفاتيح،قال:إنّ اطمئنان النفس الحاصل لمن لا يكون من أهل1.

ص: 308


1- جواهر الكلام 2:359.
2- فرائد الاصول ص 22.
3- كفاية الاصول ص 310-311.

الحرفة التي يدّعيها،كالجزم الحاصل لأهل التقليد بصحّة فتوي المفتي جزما يزيد علي جزم المفتي لو كان له جزم لا يعدّ علما و لا معتبرا عند العقلاء؛لأنّ العلم هو الذي لا يزول بأدني التفات و احتمال،فمجرّد الاطمئنان و سكون النفس ليس علما؛لأنّه قد يحصل من المسامحة و عدم التدبّر و الالتفات (1)انتهي.

و الاستشهاد بكلامه لنفي اعتبار كلّ جزم حصل للناس.

الأمر الثاني:الحاكم بعدم حجّية بعض أقسام القطع و حجّية بعضه الآخر هو العقل،و يمكن أن يقال في كيفية منع القاطع عن حجّية قطعه:بأنّه يجب عليه مقايسة نفسه مع العرف العام أو العرف الخاصّ،فإذا كان من أهل الاستنباط، فليراع الطريقة الواصلة من أكابر العلماء،و يمارس الأخبار،و يخلي ذهنه عمّا ألفه،و عن الخوض في بعض المباحث التي توجب الاعوجاج و غير ذلك.

و إذا كان من أهل الوسواس،فيرجع إلي متعارف الناس،و لعلّ ذلك مراد السيّد رحمه اللّه في العروة الوثقي في فصل طريق ثبوت النجاسة،حيث قال:مسألة لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة و النجاسة (2)انتهي.

و بعبارة اخري يمكن أن يقال في حقّه:إنّه لا يجب عليك الواقع،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في بحث الانسداد:ألا تري أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه:ما اريد منك الصلاة بطهارة الثوب،و إن كان ثوبه في الواقع نجسا،حسما لمادّة وسواسه (3).

و الحاصل أنّه ينبغي أن يكون قطعه حاصلا من الأسباب الصحيحة الخاصّة بموضوع خاصّ بالتروّي و التأمّل و تشكيك نفسه،و الرجوع إلي متعارف الناس،2.

ص: 309


1- مفاتيح الاصول ص 330.
2- العروة الوثقي ص 74 مسألة 1.
3- فرائد الاصول ص 252.

فإن لم يزل قطعه كان معذورا علي تقدير المخالفة.

الأمر الثالث:نسب إلي بعض إنكار حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة.

فإن أراد إنكار إدراك العقل المصلحة الملزمة في الأشياء،أو المفسدة الملزمة، فهو غير صحيح،فإنّ العقل يستقلّ-كما في فوائد الاصول-بقبح الكذب الضارّ الموجب لهلاك النبي،مع عدم رجوع نفع إلي الكاذب (1).و مع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيّا بحرمته شرعا.

و إن اريد أنّ التورّط في تلفيق المطالب العقلية،و الابتعاد عن المتفاهم العرفي لأصحاب الأئمّة و سائر الفقهاء العظام،و التثقّف بالاعتماد علي الاستحسانات العقليّة،و نحو ذلك ممّا يكون القطع الحاصل منها ناشئا عن التقصير في السلوك الصحيح إلي استنباط الحكم الشرعي،فإنكار حجّيته غير بعيد؛لأنّ العقل لا يري القطع المخالف للواقع حجّة،إلاّ إذا كان القطع حاصلا من الأسباب المتعارفة،فلو قطع بحكم من الرمل و الجفر لا بدّ له من الاحتياط؛لأنّه لا يدري أنّ قطعه حجّة أو لا.

و أمّا الوسواسي،فإنّه يمكن دعوي أنّ الشارع يريد زواله عن المبتلي به،و لا طريق له إلاّ عدم اعتنائه بقطوعه،و إن كان بعضها مطابقا للواقع،فإنّ زواله عنه أهمّ.و لو صحّ ما ذكر كان الحكم الواقعي مقيّدا بوصوله بالطريق المتعارف و لا بأس به.

ثمّ إنّه ذكر هنا في فوائد الاصول أنّ المصلحة تكون في المتعلّق،و أنّ المصلحة في الأمر ممّا لا معني له (2).

و اورد عليه بتحقّقها في نفس الأمر،قال:مثلا لو مرّ المولي علي عدّة غلمان له،2.

ص: 310


1- فوائد الاصول 3:23.
2- فوائد الاصول 3:22.

فتعلّق غرضه بمجرّد الآمريّة و الناهويّة،فإنّهما بنفسهما لذيذان،فأمرهم و نهاهم بلا انتظار عمل منهم،فلا إشكال في كون المصلحة في نفس الأمر.

أقول أوّلا:هذا غير متصوّر في الشرعيّات.

و ثانيا:إن علم غلمانه أنّه مجرّد أمر لا إطاعة له استهزؤوا به،و إن لم يعلموا و أعلمهم بقصده بعد ذلك قبل العمل استهزؤوا به أيضا،إلاّ أن يعلمهم أنّه لا يريد بأن نسخ قبل العمل و تبدّل رأيه.

تتمّة:

حيث إنّ مقتضي المنع عن حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة منع الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع،كما اختاره بعضهم،فلا بأس بالتعرّض لإثبات الملازمة،فنقول:يقع الكلام في جهات:

الجهة الاولي:أنّ محلّ النزاع هو درك العقل حسن الفعل للمصلحة الملزمة الموجودة فيه،أو قبح الفعل للمفسدة الموجودة فيه،فإذا حكم العقل بلزوم الفعل، فهل يستكشف من حكم العقل حكم الشرع بلزومه أم لا؟و هذا غير بناء العقلاء علي شيء،كبنائهم علي حجّية الظواهر،فإنّ ذلك يحتاج إلي الامضاء شرعا،و لو بأن يكون بمرأي من الشارع و لم يردع عنه.

و أيضا غير إلزام العقل بالفرار عن الضرر المتوجّه إليه،فإنّه ممّا جعله اللّه تعالي في طبيعة الحيوان،فإنّ كلّ حيوان يفرّ عمّا يضرّه.نعم يختلف قوّة الادراك و ضعفه.

و من هذا الباب إلزام العقل بامتثال التكليف فرارا عن العقاب الاخروي،سواء كان التكليف ثابتا عنده بالسمع،أو ثابتا بالعقل المستكشف منه حكم الشرع،و كذا كيفيّة الامتثال،فإنّها راجعة إلي حكم العقل بالفرار عن العقاب،و من جملة كيفيات الامتثال الاكتفاء بالظنّ في مقام الامتثال بعد تماميّة مقدّمات الانسداد.

كما في الكفاية،حيث قال:و لا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم

ص: 311

العقل لقاعدة الملازمة،ضرورة أنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، و المورد هاهنا غير قابل له،فإنّ الاطاعة الظنّية التي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعني عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها،و عدم جواز اقتصار المكلّف بدونها،و مؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه،و هو واضح إلي آخر كلامه (1).

الجهة الثانية:المراد بالعقل الحاكم بشيء العقل غير المشوب بالجهالات و الأهواء و العادات و الشهوات المانعة عن درك حقيقة الأشياء.

و بعبارة اخري:عقل يرتضيه جميع العقلاء لا عقل شخص واحد،فإنّه لا طريق إلي إحراز صحّته،كما قال:

كدعواك كلّ يدّعي صحّة العقل و من ذا الذي يدري بما فيه من جهل

و قد عبّر الشيخ الطوسي رحمه اللّه عن حكم العقل الذي هو حجّة بالعقل الضروري، قال:فالعقليّات كلّ ما لا يعلم منها ضرورة أو ما يجري مجري الضرورة،فلا بدّ من بيان كما لا بدّ من دلالة (2)انتهي.

وحدّده في كشف القناع،فقال:الأخبار المتواترة ناطقة صريحا بانحصار المدرك بعد دليل العقل القاطع الذي لا يختلف باختلاف الأزمنة في الكتاب إلي آخر كلامه (3).

الجهة الثالثة:الالزام بشيء شرعا تابع للمصلحة الملزمة في المتعلّق،كما أنّ المصلحة الملزمة في الفعل تستتبع الالزام به شرعا،فهما متلازمان؛لأنّ الالزام بدون أيّ مصلحة يكون لغوا لا يصدر من الحكيم،و عدم الالزام بفعل فيه مصلحة1.

ص: 312


1- كفاية الاصول ص 368.
2- عدّة الاصول 2:418.
3- كشف القناع ص 461.

ملزمة تفويت للمصلحة الملزمة،و هو خلاف مصلحة العبد،و المولي الكريم لا يفوتها علي عبده المسكين،و كذلك حكم العقل،فإنّه إنّما يلزم بشيء فيه مصلحة ملزمة،و إلاّ فيكون لغوا،و العقل لا يفعل ذلك،و لا يري تفويت المصلحة الملزمة، و إلاّ لم يكن عقلا،و بهذا البيان يظهر أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل؛لأنّ الشرع يحكم بالالزام إذا كان في الفعل مصلحة ملزمة،و كلّما حكم به العقل حكم به الشرع؛لأنّ العقل لا يلزم بشيء إلاّ إذا كان فيه مصلحة ملزمة،و الشرع يلزم بما فيه مصلحة ملزمة.

الجهة الرابعة:قد يقال بأنّ العقل لا إحاطة له بالمصالح و المفاسد،و لعلّ المصلحة الموجودة في الفعل مقرونة بمانع لا يحيط العقل به.

قلت:قد مدح اللّه تعالي في كتابه الكريم العقل في آيات،و قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (1)و العقل الضروري مستقلّ ببعض الأشياء،كالكذب الضارّ الموجب لقتل النبي مثلا مع عدم رجوع نفع إلي الكاذب و لا إلي غيره،فلا ريب في كونه قبيحا.

نعم يحكي عن صاحب الفصول أنّه قال:إنّ العقل و إن كان مدركا للمصالح و المفاسد و الجهات المحسنة و المقبحة،إلاّ انّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع و مزاحمات في نظر الشارع لم يصل إليها العقل،فلذا يحكم ظاهرا بما يدركه،فالملازمة متحقّقة بين حكم العقل ظاهرا و حكم الشرع.

و فيه أنّه ليس كذلك دائما،نعم يحتمل ذلك في بعض الموارد،و حيث انّ اللّه تعالي أمر باتّباع العقل فينبغي متابعته،و حينئذ لا بأس بدعوي الملازمة ظاهرا.

الجهة الخامسة:نسب إلي بعضهم أنّ القاعدة و إن كانت تقتضي الملازمة بين2.

ص: 313


1- سورة الحشر:2.

حكم العقل و الشرع،إلاّ انّه قامت الأدلّة السمعيّة علي منع هذه الملازمة،بل لا بدّ من توسيط تبليغ الحجّة،و من الأدلّة قوله تعالي وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1)فإنّه يدلّ علي أنّ اللّه تعالي لا يعذّب علي عمل عمله المكلّف إن لم يكن حراما من ناحية الشرع و إن كان حراما عقلا،و سيأتي الجواب عنه في بحث البراءة.

و أمّا الأخبار المانعة عن العمل بالقياس،و انّ دين اللّه لا يصاب بالعقول،فهي لا تنافي ما حكم به العقل الضروري من عدم جواز اجتماع الضدّين و النقيضين و ارتفاعهما،و إن شئت الاحاطة بهذه الجهات،فراجع تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،كما في فوائد الاصول (2).

المبحث السابع: في العلم الاجمالي

يقع الكلام في ماهيّته،و في إثبات التكليف به.

أمّا ماهيّته،فلا إشكال في أنّ القطع المخالف للواقع،أي:الجهل المركّب لا يتعلّق بالخارج،و متعلّقه في افق النفس:فقد يكون قطعا تفصيلا بالشيء،و قد يكون قطعا مجملا،فالاختلاف في القطعيّة نظير ما سنذكره في العلم.

و أمّا العلم،فهل يتعلّق بالخارج أو يتعلّق بالمعلوم ذهنا و الخارج معلوم بالعرض؟احتمالان،قد تقدّم قوّة الاحتمال الأوّل،ثمّ إنّ التفصيل و الاجمال يكونان في نفس العلم،فهما يختلفان في العلميّة.

لكن قال في نهاية الدراية:إنّ العلم الاجمالي المصطلح عليه في هذا الفنّ لا يفارق العلم التفصيلي في حدّ العلميّة.

ص: 314


1- سورة الاسراء:15.
2- فوائد الاصول 3:22.

إلي أن قال:بداهة أنّ العلم المطلق لا يوجد،كما أنّ وجوده في افق النفس و تعلّقه بالخارج عن افق النفس غير معقول،بل المقوّم لهذه الصفة الجزئيّة لا بدّ من أن يكون في افقها،فهو المعلوم بالذات و ما في الخارج معلوم بالعرض،و عليه فمتعلّق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس،غاية الأمر أنّ طرف متعلّقه مجهول أي غير معلوم بخصوصه (1)انتهي.

قلت:فيه نظر؛لأنّ المعلومات التفصيلية في مورد العلم الاجمالي ليست من العلم،بل متعلّقه الخصوصية التي لا جامع لها،مثلا إذا علم وجود زيد أو شاة في الدار،فوجود الحيوان في الدار معلوم تفصيلي،و كذا وجود الجسم،و كذا وجود النامي،و الذي يكون متعلّق العلم الاجمالي هو كونه زيدا أو شاة،و لا جامع بين الخصوصيّتين معلوما بالتفصيل،فالحقّ أنّ العلم الاجمالي يغاير بنفسه العلم التفصيلي في العلميّة،فهو نوع علم فيه إجمال.

ثمّ إنّ العلم يتعلّق بالخارج،لا أنّه يتعلّق بالمعلوم بالذات كما تقدّم،و لبيان كيفيّة ربط العلم بالخارج محلّ آخر،و يتفرّع علي ما ذكر ثمرات:

منها:أنّه لو علم أنّه مديون لزيد بعشرة دنانير،أو مديون لعمرو بخمسة دنانير، فعلي القول بتعلّق العلم بالجامع ينحّل العلم الاجمالي إلي العلم التفصيلي بكونه مديونا بخمسة دنانير إمّا لزيد أو لعمرو،فيعطي كلّ واحد خمسة دنانير،و إلي الشكّ البدوي في الخمسة الزائدة،فتجري أصالة البراءة.و أمّا علي المختار فيكون من المتباينين؛لأنّ متعلّق العلم عشرة لزيد أو خمسة لعمرو.

و منها:ما لو صلّي صلاتين في ثوبين يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ تبيّن نجاستهما،فقد يقال ببطلان الصلاة الاولي،لانطباق الجامع المعلوم نجاسته عليي.

ص: 315


1- نهاية الدراية 2:243 الطبع الحجري.

الاولي.و أمّا علي المختار فيكون إحداهما غير المعيّنة باطلة.

إذا تبيّن ماهيّة العلم الاجمالي،فنقول:إنّ العلم الاجمالي قد يتعلّق بالحكم، و قد يتعلّق بمتعلّق الحكم،و قد يتعلّق بهما،و قد يكون العلم الاجمالي في مكلّف واحد،و قد يكون في أكثر من واحد،فهنا مسائل:

المسألة الاولي:إذا كان العلم الاجمالي متعلّقا بالحكم،كما إذا علم إجمالا وجوب صلاة الجمعة أو الظهر،أو كان العلم الاجمالي متعلّقا بمتعلّق الحكم،كما إذا علم أنّ أحد المايعين خمر،فإن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل في جميع حالات المكلّف من العلم بالحكم و بالموضوع و الجهل بهما،فالحكم المجعول ثابت في جميع الأحوال،فإن علم به إجمالا كان العلم علّة تامّة للتنجّز،و تجب الموافقة القطعيّة،و تحرم المخالفة القطعيّة.

و إن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل في بعض حالات المكلّف،و هو أن يكون عالما به تفصيلا حين الارتكاب،فالحكم المجعول ثابت في حال العلم التفصيلي بالحكم أو بالموضوع،و يجوز ارتكاب الأطراف في العلم الاجمالي تدريجا،فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد المايعين جاز ارتكابهما تدريجا،إن كانت مفسدة النجاسة مختصّة بصورة العلم التفصيلي.

و إن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل فيما إذا لم يحصل له العلم بالمخالفة لا تفصيلا و لا إجمالا،و إن حصلت المخالفة واقعا و احتملها المكلّف،جاز ارتكاب أحد الطرفين.

هذا كلّه في مقام الثبوت،و لا بدّ من كشف أحد هذه الوجوه من الأدلّة.

و يمكن أن يقال:إنّ حرمة دم المؤمن حكم واقعي لا يختصّ إحراز موضوعه بكيفيّة خاصّة،فلو رأي شبحين علم أنّ أحدهما مؤمن و الآخر حيوان غير محترم، فلا يجوز قتلهما و لا قتل أحدهما؛لأنّه علم من الشرع الاهتمام في حفظ نفس

ص: 316

المؤمن،فلا يشمله أدلّة الاصول العمليّة.

و أمّا لو تردّد ماء متنجّس بين مائين،فمقتضي إطلاق حرمة شرب المتنجّس وجوب التحرّز عنه،فيجب التحرّز عن كليهما مقدّمة للفراغ اليقيني،لكن لا مانع من الترخيص في ارتكابهما شرعا؛لأنّ الحرمة فيه ليست كحرمة دم المؤمن.

و ذكر في الكفاية أنّ العلم الاجمالي مقتض للتنجّز لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما إذا كان الأطراف غير محصورة،أو شرعا كما هو ظاهر كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام منه بعينه (1).

أقول:أمّا ما ذكره من أنّ العلم الاجمالي مقتض للتنجّز و يفترق عن العلم التفصيلي،ففيه أنّه يمكن أن يقال بعدم الفرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي في كونهما علّة لوجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية إن كانت مصلحة الحكم الواقعي أهمّ،و لا فرق بينهما إن كانت مصلحة اخري أهمّ من الواقع،مثلا إن توقّف زوال الوسواس علي عدم اعتناء الوسواسي بعلومه و كان زواله أهمّ،جاز أن يقال:لا يعتني بعلمه التفصيلي بالنجاسة و إن طابق الواقع.

و سنتعرّض إن شاء اللّه في بحث الاشتغال للأخبار الدالّة علي الترخيص في أطراف العلم الاجمالي.

المسألة الثانية:إذا تردّد التكليف بين شخصين،كالجنابة المردّدة بينهما، فمقتضي الأصل في كلّ منهما بقاء طهارته،و لا يعارض بالأصل في الطرف الآخر لعدم ارتباط أحدهما بالآخر،و لكلّ منهما تكليف علي حدة،نعم لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه التكليف إليه وجب العمل به،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)لذلك أمثلة،فراجع.5.

ص: 317


1- كفاية الاصول ص 314.
2- فرائد الاصول ص 35.

المسألة الثالثة:في تردّد التكليف في شخص واحد،و هو الخنثي المشكل،و يقع الكلام فيه في مقامات ثلاثة:

الأوّل:في معاملته في نفسه،فالظاهر أنّه يحتاط في العمل بالتكاليف الخاصّة بالرجال و النساء؛لأنّه يعلم إجمالا بكونه مكلّفا بأحدهما.

الثاني:في معاملته مع معلوم الرجولية و الانوثية أو مجهولهما،و الظاهر أنّ هذا أيضا من فروع الأوّل،فيحتاط في النظر إليهما،للعلم بحرمة النظر إلي إحدي الطائفتين،و كذا لا ينظر إلي خنثي آخر؛لكونه إمّا رجلا أو امرأة،فيكون من أطراف العلم الاجمالي.و للشيخ الأنصاري كلام في كتاب النكاح،فراجع.

الثالث:في معاملة الغير معه،و فيه احتمالان:

الأوّل:جواز نظر الرجال إليه،للشكّ في كونه امرأة،فيكون من الشبهة الموضوعيّة.و كذا يجوز للنساء النظر إليه،نعم في عورتيه ينحلّ العلم الاجمالي في الرجال بحرمة النظر تفصيلا إلي ما يماثل عورتهم؛لأنّه إمّا عورة رجل أو جسد امرأة أجنبيّة،فيكون ما لا يماثل عورتهم شبهة بدويّة،لاحتمال كونه ثقبة في بدن رجل،و المرأة بالعكس.

الثاني:عدم الجواز،لما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في حاشية الفرائد،حيث قال:و يمكن أن يقال:إنّ ما نحن فيه من قبيل ما تعلّق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج و لو بين شخصين،فترخّص كلّ منهما للمخالطة مع الخنثي مخالف لغرضه المقصود من عدم مخالطة الأجنبي مع الأجنبيّة،و لا يرد النقض بترخيص الشارع ذلك في الشبهة الابتدائيّة إلي آخر كلامه (1).و لعلّه الأظهر الأحوط.

هذا كلّه في إثبات التكليف بالعلم الاجمالي،و أمّا إسقاط التكليف به،ه.

ص: 318


1- فرائد الاصول ص 24 طبع رحمت اللّه.

فسيجيء البحث عنه في مباحث الاشتغال.

المبحث الثامن: في عدم مانع عن التعبّد بالامارات و الاصول الشرعية

اشارة

في الحكم الكلّي و الجزئي،فيقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في جواز التعبّد بالأمارة و الأصل في الحكم الكلّي

فنقول:الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و اله،أو الأئمّة المعصومون عليهم السّلام من غير تقيّة علي تفصيل في محلّه،هو الذي يكون وظيفة لعامّة المكلّفين،و لا بدّ أن يجعلوه في معرض الوصول إليهم،بحيث لو فحص المكلّف وصل إليه.

فالأحكام الموجودة في كتاب علي عليه السّلام التي لم يبيّنوها للناس لا يجب عليهم امتثالها،و كذا الأحكام الصادرة عنهم عليهم السّلام تقيّة في بيان الحكم لا يجب العمل بها إن علم كونها صادرة تقيّة،و كذا الأحكام التي بيّنوها و لم تصل إلينا،و إنّما يجب العمل بالأحكام التي جعلها الأئمّة عليهم السّلام في معرض الوصول بحيث إن فحص المكلّفون وصلوا إليها،فإن أوصلوها بواسطة أخبار الآحاد،فإن وصل جميعه علي وجه تكون جميع هذه الأخبار مطابقة لما بيّنوه فلا إشكال،و إن لم يصل بعضها،بأن كان الخبر علي خلاف الواقع،أي:خلاف ما بيّنوه للرواة لاشتباه الرواة أو لجهات اخر،لزم من تعبّد الشارع به اجتماع الضدّين و الالقاء في المفسدة،إن كان الخبر دالاّ علي الوجوب،و كان حراما واقعا.

و إن كان الخبر دالاّ علي الحرمة و كان ما بيّنوه واجبا واقعا،لزم من التعبّد به اجتماع الضدّين و فوت مصلحة الواجب.و إن كان الخبر دالاّ علي إباحة ما كان واجبا أو حراما،لزم اجتماع الضدّين و تفويت مصلحة الواقع،أو الالقاء في المفسدة،و هناك إشكالات اخر أيضا علي إمكان التعبّد بالأمارات أهمّها ما ذكر.

ص: 319

و الجواب:أنّه يمكن أن تكون المصلحة أو المفسدة التي في متعلّقات الأحكام التي بيّنوها و لم تصل بهذه الأخبار بسبب مخالفتها لها مختصّة بمن علمها،فلا يلزم ايصالها إلي المكلّفين،أو يكون ايصالها بغير الخبر الواحد موجبا للعسر و الحرج، أو يكون مبتلي بالمانع،أو تتدارك مصلحة الواقع بالعمل بالخبر،أو تضمحلّ مفسدة الواقع بالعمل بالخبر.

و علي جميع التقادير لا حكم واقعي فعلي،بل هو حكم مشروط بالوصول، سواء قلنا إنّ الخبر الواحد طريق عقلائي أمضاه الشرع،أو جعله علما تعبّدا،أو كان مؤدّاه حكما ظاهريّا طريقيّا،أو حكما ظاهريّا نفسيّا،و لا فرق مع وجود المصلحة أو المانع المذكورين بين انفتاح باب العلم و انسداده.و كذا الكلام في الاصول الشرعيّة بل العقليّة بعد توجّه الشارع إلي أنّ المكلّف يجري الأصل العقلي لو شكّ في التكليف.

فقد ظهر بما ذكر جواز التعبّد بالأمارة و الأصل،فلا بدّ من ملاحظة دليل اعتبارهما.

و قد ظهر بما ذكرنا الجواب عن أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله و الامام المعصوم عليه السّلام كيف قنعا بايصال الحكم بواسطة الخبر،مع أنّه قد يخالف الحكم الذي بيّناه.

و حاصل الجواب:أنّه كان مانع من ايصاله علما حتّي بالأمر بالاحتياط غير العسر الموصل للواقع أقوي من مراعاة مصلحة الواقع،و علي ذلك لا فرق بين صورة انفتاح باب العلم يعني قدرة المكلّف علي الوصول إليهما و التعلّم منهما و نحوه،و بين صورة الانسداد.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لم يرض ذلك في صورة الانفتاح،و قال:فالأولي

ص: 320

الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع (1).

و فيه أنّه ليس علي إطلاقه،فإنّه مع فرض التمكّن منه يمكن فرض أن لا يكون مصلحة الحكم بمقدار يلزم ايصالها إلي المكلّف بغير الخبر،فلو فرض أنّ الأمارات في نظر الشارع غالبة المطابقة للواقع،جاز التعبّد بها إن كانت مصلحة الواقع ليست بمقدار من الأهمّية يوجب أن يوصلها الشارع بغيرها،أو كان مانع عن ايصالها بغيرها.

ثمّ إنّ اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به تارة يكون لاختصاص المصلحة بالعالم به،و اخري يكون للمزاحمة،بأن تكون المصلحة موجودة مع عدم العلم لكنّها مزاحمة بمصلحة أقوي أو مفسدة أقوي،فيختصّ الحكم بالغالب منهما.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال في هذا المقام ما حاصله:إنّ التعبّد بالأمارة يتصوّر علي وجهين:

الوجه الأوّل:أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع،و هو لا يخلو عن وجوه ثلاثة،أحدها:كون الشارع عالما بدوام موافقة هذه الأمارات.ثانيها:

كونها أغلب مطابقة للواقع من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع.و هذان الوجهان يوجبان الأمر بسلوك الأمارة حتّي مع انفتاح باب العلم.ثالثها:كونها في نظر الشارع غالبة المطابقة.و هذا الوجه لا يصحّ عليه التعبّد بالأمارة إلاّ مع تعذّر العلم (2).

قلت:يرد علي قوله في الوجه الثالث«لا يصحّ التعبّد بالأمارة»ما ذكرنا من جواز التعبّد بالأمارة مع انفتاح باب العلم إن كانت مصلحة الحكم مختصّة بمن اتّفق له العلم بالحكم،أو كانت مزاحمة بمصلحة أقوي أو مانع أقوي،أو لا يتمكّن3.

ص: 321


1- فرائد الاصول ص 42.
2- فرائد الاصول ص 43.

من ايصاله إلي المكلّف عادة بغير الخبر.

و أمّا إذا كان متمكّنا من ايصاله إلي المكلّف بلا مانع،وجب ايصاله إليه،و إن كانت الأمارة أغلب مطابقة للواقع من العلوم الحاصلة للمكلّف،فلا يصحّ التعبّد علي الوجه الثاني الذي ذكر أنّه يصحّ عليه في هذا الفرض.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:الوجه الثاني:أن يكون المصلحة في سلوك الأمارة،و هو علي ثلاثة أوجه:

أحدها:أن يكون الحكم تابعا لتلك الأمارة بحيث لا يكون حكم في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة،فيكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في الواقع بالعالمين بها،و هذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطّئة،و قد تواتر الأخبار و الآثار بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل.

ثانيها:أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة،بمعني أنّ للّه حكما يشترك فيه العالم و الجاهل لو لا قيام الأمارة علي خلافه،فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير من قامت عنده الأمارة علي خلافه،و شأني في حقّه،و هذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعي.

ثالثها:أن يكون سلوك الأمارة ذا مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع،و لا مانع علي هذا الوجه من التعبّد بالأمارة (1).

قلت:يجوز التعبّد بالأمارة علي الوجهين الأوّلين أيضا.

و دعوي استلزام ذلك التصويب و هو إمّا محال أو مجمع علي بطلانه،ممنوعة؛ لعدم استلزامه التصويب المحال،و لا المجمع علي بطلانه.

و لتوضيحه ينبغي أن نشير إلي مسألة التخطئة و التصويب،حتّي يظهر أنّه لا4.

ص: 322


1- فرائد الاصول ص 43-44.

استحالة و لا إجماع،فنقول:موضوع التصويب الاجتهاد المستند إلي القياس و الأخبار التي يعتمدها العامّة التي ليست حجّة عند الفرقة المحقّة.

ذكر الشيخ الطوسي في كتاب العدّة (1)أقوال العامّة في ذلك،ثمّ قال:و الذي أذهب إليه و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين و المتأخّرين،و هو الذي اختاره سيّدنا المرتضي قدّس اللّه روحه،و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه أنّ الحقّ واحد،و انّ عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا (2)انتهي.

و مراده أنّ لكلّ شيء حكما،و الدليل عليه ما تواتر عن صاحب الشرع و ظواهر القرآن،و قد تواتر عنه حجّية الأخبار المرويّة من طرق الشيعة،و بطلان العمل بالقياس و خبر الواحد الذي يختصّ المخالفون بروايته،فالحقّ في حكم كلّ مسألة في الفرقة المحقّة أي الشيعة و في أدلّتهم،و من تعدّي تلك الأدلّة و استدلّ بغيرها من القياس و الاستحسان و خبر الواحد المروي عن طرق المخالفين فهو مخطيء فاسق،هذا خلاصة مراده.

و قال أيضا حكاية عن العامّة:إنّ الصحابة اختلفوا في مسائل لو كانت خطأ لكانت كبيرة،نحو اختلافهم في الفروج و الدماء و الأموال،و قضي بعضهم بإراقة الدم و إباحة المال و الفروج،فلو كان منهم من أخطأ لم يجز أن يكون خطأه كبيرا، و يكون سبيله سبيل من ابتدأ إراقة دم محرّم بغير حقّ و أخذ مالا عظيما بغير حقّ و أعطاه من لا يستحقّه،و في ذلك تفسيقه و وجوب البراءة منه،و في علمنا بفقد كلّ ذلك دليل علي أنّهم قالوا بالاجتهاد و انّ الجماعة مصيبة.

ثمّ قال:و هذه الطريقة هي عمدتهم في أنّ كلّ مجتهد مصيب في أحكام5.

ص: 323


1- عدّة الاصول 2:724.
2- عدّة الاصول 2:725.

الشريعة (1)انتهي.

و قال أيضا ما ينبغي أن يلحظ في موضع آخر (2).

أقول:ظهر أنّ موضوع البحث عن التخطئة و التصويب إنّما هو فتاوي العامّة.

و أمّا الذي ذكرناه،فلا موضوع للتصويب فيه،و ذلك لأنّه كما ذكرنا لا تكليف بما لم يظهره الأئمّة عليهم السّلام من كتاب علي عليه السّلام و الأحكام المودعة فيه عند ولي العصر عجّل اللّه فرجه،و هو عليه السلام يبيّنه للناس.و في كفاية الاصول سمّي هذه الأحكام أحكاما إنشائية (3).و عدم التكليف بها:إمّا لكون مصلحتها لا تقتضي العمل بها في حال عدم بسط يد المعصوم،أو لابتلائها بالمانع،كذلك الأحكام التي بيّنوها و لم تصل إلي المكلّفين،فإنّها ليست تكاليف فعليّة للناس.

و علي ما ذكرناه فلا حكم واقعي علي المكلّف يخالف الخبر؛لأنّ ما بيّنوه إن لم يوافقه الخبر لا يكون حكما يترتّب علي تركه العقاب؛لأنّه لم يصل إلي المكلّفين، فانحصر التكليف بما بيّنوه الذي يكون موجودا في ضمن هذه الأخبار التي بأيدينا.

فإن قلت:لو أخبر زرارة مثلا بجواز شيء اشتباها،و لم يعمل المكلّف به،بل عمل علي ضدّه و حصل منه قصد القربة،ثمّ تبيّن له بعد أنّ زرارة مثلا اشتبه،فلا ينبغي الاشكال في الاجزاء،و هذا يدلّ علي أنّ الحكم فعلي غير منجّز.

قلت:انكشاف خلافه يكون وصولا للحكم الواقعي،و الحكم الواصل يجب متابعته،و حاصل الكلام أنّ التصويب بمعني أنّ المكلّفين ليس عليهم واقع خارج عن هذه الأخبار لم يقم دليل علي امتناعه.

و أمّا ما ادّعي من تواتر الأخبار و الآثار علي وجود حكم مشترك بين العالم1.

ص: 324


1- عدّة الاصول 2:703.
2- عدّة الاصول 2:699.
3- كفاية الاصول ص 321.

و الجاهل،فالمراد به الحكم الذي إن فحص الجاهل وصل إليه،و إنّما لم يصل إليه لتقصيره.و أمّا الجاهل القاصر،فلا حكم عليه حتّي يشترك مع العالم؛لأنّ اللّه تعالي قال في كتابه المجيد، لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها و في الخبر يقال للجاهل:

هلاّ عملت،فإن قال:لم أعلم،يقال له:هلاّ تعلّمت.و هذا مختصّ بمن يتمكّن من التعلّم،و هو الجاهل المقصّر.

و فذلك البحث أنّ الوجوب الشرعي تابع للمصلحة الملزمة غير المزاحمة بالمانع،فهما متلازمان فلا وجوب بدونها،و إلاّ كان جزافا قبيحا،و لا بدّ من الايجاب مع وجودها،و إلاّ كان تفويتا للمصلحة الملزمة،و هو قبيح،فمع وجود المصلحة كذلك لا بدّ أن يكون المكلّف فاعلا،و مع وجود المفسدة الملزمة للترك لا بدّ أن يكون تاركا،و مع اجتماعهما و غلبة إحداهما الاخري لا بدّ أن يكون علي حسب الغالبة منهما فعلا أو تركا،و مع تساويهما فهو مخيّر.

هذا بحسب مقام الثبوت.و أمّا بحسب مقام الاثبات،فلا تكليف بما بيّنه المعصومون عليهم السّلام و لم يكن موجودا فيما بأيدينا من الأخبار،سواء لم يصل أو وصل خلافه لاشتباه الراوي،لعدم وصوله إلينا،و ليس من تحليل الحرام أو عكسه؛لأنّ في ايصال الحكم الواقعي إلينا مانع أهمّ منه،فلا مجال لأن يقال بأنّ التعبّد بالخبر يوجب تحليل الحرام و الجمع بين الضدّين.

نعم يقع الكلام في اختلاف الاستنباطات من هذه الأخبار،و نحن مخطئة نعتقد خطأ بعضهم،و أنّ الحكم المستفاد من الأخبار التي بأيدينا واحد،ولكن العامّة قائلون بتصويب المجتهدين المختلفين،فإذا خالف الاستنباط الذي ثبت حجّيته علي ما بيّناه في محلّه مع الحكم الواقعي المستفاد من هذه الأخبار،فلا بدّ من الجمع بينه و بين ما أدّي إليه الاستنباط المذكور.

و نحن نقول في مقام الجمع بين الحكم الواقعي الذي يدلّ عليه هذه الأخبار مع

ص: 325

ما استنبطه المجتهد بالشرائط المقرّرة،أنّ الحكم المشتمل عليه الأخبار لذات الشيء و ما استنبطه المجتهد حكمه بالعنوان الثانوي،أي:بعنوان الجهل بالواقع.

فإذا كان الشيء واجبا واقعا،أي:في مفاد الأخبار التي بأيدينا،فما يستلزم جوازه سواء كان حكما أو امضاء لبناء العقلاء أو غيرهما من الترخيص الظاهري، يوجب تفويت المصلحة،إلاّ أن تكون المصلحة الواقعيّة:إمّا غير ملزمة حال عدم الوصول،أو مبتلاة بالمانع،و هذا المورد من اختلاف الحكم الواقعي الكلّي مع الظاهري متّحد مع الحكم الواقعي في الموضوعات و الحكم الظاهري فيها،و وجه الجمع بينهما واحد،و إذا انكشف الخلاف فالمصلحة تكون متداركة بمقدار ما يفوت منها علي المكلّف،و يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة،و الالتجاء إليها للفرار عن إشكالين:

أحدهما:فيما إذا لم ينكشف الحكم الواقعي الذي هو مخالف للاستنباط المذكور،ففات مصلحته علي المكلّف.فنقول:حينئذ انّها متداركة بالعمل بما أدّي إليه الاستنباط.

ثانيهما:فيما إذا انكشف الحكم الواقعي في الوقت،فإنّ إجزاء العمل بالأمارة عنه موجب لتفويت مصلحة الواقع إن لم يتدارك بالعمل به جميع مصلحته،إلاّ أن يقال بوجوب امتثال الحكم الواقعي،و يتدارك مقدار ما فات من المصلحة الموجودة أوّل الوقت بالعمل به،و بما ذكر يندفع بعض المناقشات.

الموضع الثاني: في الأمارة القائمة علي الموضوع و الأصل الجاري فيه

إن قامت أمارة كالبيّنة بناء علي كونها أمارة،أو أصل علي خلاف الحكم الواقعي الواصل،مثلا قامت بيّنة علي مايع أنّه ليس بخمر و كان خمرا واقعا، و المكلّف قادر علي تركه و علي تحصيل اليقين بعدم شرب الخمر،و كذا إذا شكّ في

ص: 326

مايع أنّه خمر و كان خمرا واقعا،فإنّه محكوم بأصالة الاباحة.

فهل في جعل الأمارة المخالفة للواقع أو الأصل كذلك مانع أم لا؟الظاهر إمكان الجعل بالتفصيل المتقدّم،و هو أنّ الحكم الواقعي إن كان له أهمّية حتّي في حال الجهل بمصاديق متعلّقه لم يكن مجال للأمارة أو الأصل علي خلافه،كقتل المؤمن مثلا.

فإذا شكّ في شبح أنّه مؤمن أو حيوان غير محترم،لم تجر أصالة البراءة عن حرمة القتل،و إن لم يكن له أهمّية بهذا المقدار،أو كان في استيفائها نوع مشقّة ينافي سهولة الدين و نحو ذلك،جاز الترخيص في خلافه علي الوجوه المتقدّمة.

و يتعيّن الفرار من الاشكال بالالتزام بالوجه الثالث من القسم الثاني،يعني المصلحة السلوكيّة،كما التزم به الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و بالجملة فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة علي حكم شرعي حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة علي الموضوع الخارجي،كحياة زيد و موت عمرو،فكما أنّ الأمر بالعمل في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع،و إنّما يوجب جعل أحكامه الي آخر كلامه (1).و صرّح بذلك في موضع آخر،و قال:و ممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة علي الموضوعات الخارجيّة،فإنّها من القسم الثالث (2)انتهي.

ثمّ إنّه ينبغي أن يذكر عمدة الوجوه لرفع التنافي بين الحكم الواقعي و الظاهري فيما إذا كان الحكم الظاهري ترخيصا في خلاف الحكم الواقعي،و هي:

الأوّل:تعدّد الموضوع،فالحكم الواقعي علي ذات الموضوع،و الحكم الظاهري علي الموضوع بوصف كونه مشكوكا،كالغنم المغصوب إذا ذبح،فإنّه حلال في ذاته و حرام بعنوان الغصب،و كلا الحكمين موجودان،فشرب التتن7.

ص: 327


1- فرائد الاصول ص 46.
2- فرائد الاصول ص 47.

حرام بذاته،ولكن حلال بعنوان كونه مجهول الحرمة،و الخمر في ذاته حرام، و بعنوان كونه مشكوك الخمريّة حلال فيما يجري فيه أصالة الحلّ،و إلاّ فلا بدّ من الاحتياط كما قيل في الدماء.

مثل أن يشكّ في أنّ الشبح المتحرّك مؤمن أو كافر مهدور الدم،فإنّ أصالة البراءة عن حرمة إراقة دمه لا تجري؛لأنّ مراعاة الواقع أهمّ.

الثاني:عدم اجتماعهما،ضرورة أنّه مع وصول الحكم الواقعي إلي المكلّف لا يتحقّق الحكم الظاهري،و مع عدم وصوله إليه لا يتنجّز الحكم الواقعي (1).

و فيه أنّه مع عدم وصول الحكم الواقعي إن كان المولي يريد العمل به،فكيف رخّص في خلافه ظاهرا.و إن كان لا يريد العمل به،فمرجعه إلي أنّه لا حكم واقعا.

و دعوي أنّه موجود لكن لم يتنجّز.ممنوعة؛لأنّ المولي هو الذي رخّص في خلافه،فإن لم يقل بالتفصيل بين مثل الدماء و الفروج و غيرهما،فلا معني لوجوده إلاّ الوجود الانشائي.

الثالث:ما ذكره في الكفاية في مخالفة الأمارة للواقع،بأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته،و الحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة الي آخر كلامه (2).

و فيه أنّ الحكم الواقعي إن كان له أهمّية لا بدّ من مراعاته حتّي مع الشكّ،فلا مجال لجعل حجّة قد تخالف الواقع.و إن لم يكن ذا أهمّية في حال الشكّ،فمرجع جعل الحجّة التي ربّما تخالف الواقع إلي كون الحكم الواقعي مشروطا بالعلم به.

الرابع:ما ذكره أيضا من أنّ مؤدّي الأمارة حكم طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه.و ذكر هذا الوجه في تعليقته علي الفرائد،فقال:إنّ مؤدّيات9.

ص: 328


1- مباني الاستنباط ص 200.
2- كفاية الاصول ص 319.

الأمارات في صورة الخطأ أحكام صوريّة،و المقصود الأصلي هو التوصّل بها إلي الأحكام الواقعية في صورة الاصابة.و أمّا الحكم الواقعي،فهو متعلّق بالشيء بعنوانه (1).

أقول:إن كان المولي يريد الحكم الواقعي بحيث يعاقب علي تركه حتّي في صورة خطأ الأمارة،لزم من جعل الأمارة الترخيص في تركه،فاجتمع المتنافيان، و إلاّ كان الحكم الواقعي مشروطا بالوصول علما أو بدليل معتبر.

الخامس:ما ذكره في الاصول العملية،كأصالة الاباحة في المشكوك الذي يكون حراما واقعا،كشرب التتن المشكوك حرمته إن فرض كونه حراما واقعا، فإنّه بعد أن سلّم أنّ المصلحة في الترخيص اعترف بأنّه ينافي كراهة الفعل،فالتزم بأنّ الحكم الواقعي موجود،ولكنّه بحيث لو علم به يتنجّز.

أقول:إن رجع كلامه إلي ما ذكرناه،و إلاّ فمحلّ منع.

و قد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ الحكم الفعلي الكلّي هو الواصل،أو ما تقتضيه الأمارة أو الأصل،و الحكم الواقعي في موارد الشبهة الحكميّة إنشائي محض إذا لم يصل إلي المكلّف،و في موارد الشبهة الموضوعيّة كالمشكوك خمريّته مثلا يكون الحكم الواقعي التكليفي مشروطا بالعلم به،أو قيام حجّة عليه من بيّنة أو يد بناء علي أماريّتهما،فتدبّر جيّدا.

و أمّا الحكم الوضعي كالنجاسة و الملكية و نحوهما،فهو تابع للواقع علي تفصيل في محلّه،فلو شكّ في امرأة أنّها اخته من الرضاعة جاز التزوّج بها،فإن كانت اخته واقعا كان الجواز تكليفيا محضا،و أمّا الزوجيّة فلا تتحقّق بينهما.

و قد تبيّن أنّه لا فرق بين صورتي انفتاح باب العلم و انسداده،و دعوي أنّ4.

ص: 329


1- التعليقة علي الفرائد ص 74.

الأمارة المخالفة للواقع،و كذا الأصل المخالف له في الموضوعات،أعذار هي غير مسموعة للفرق بينهما و بين القطع بالخلاف من غير تقصير،فإنّه عذر عقلا بخلافهما،حيث انّ الشارع المقدّس قد أذن في مخالفة الواقع.

المبحث التاسع: في عدم حجّية ما لم يقم دليل علي حجّيته

اشارة

لا يخفي أنّ البالغ العاقل إن لم يعلم حكم عمل،فحيث انّه يعلم إجمالا بأحكام تكليفيّة و وضعيّة يجب عليه الاحتياط في الخروج عن عهدتها،فإذا اشتري شيئا بالعقد الفارسي مثلا،فيجب عليه أن لا يتصرّف في المثمن؛لاحتمال صحّة البيع شرعا،و لا الثمن لاحتمال فساد البيع،فلا بدّ له في كلّ حركة و سكون من الاحتياط و الاعتماد علي ما جعله الشارع حجّة،و ما لم يثبت حجّيته عقلا أو شرعا،لا يصحّ الاعتماد عليه في مرحلتي سقوط التكليف عن المكلّف و إثباته، و لا يجوز الاعتماد علي غير العلم إلاّ علي ما قام الدليل العلمي علي حجّيته.و يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل:في أنّ سقوط التكليف الثابت علي ذمّة المكلّف مترتّب علي امتثاله،أو علي ما يكتفي الشارع به في مقام الامتثال،و العقل الحاكم في مرحلة الامتثال لا يحكم بالخروج عن عهدة التكليف إلاّ في صورة العلم بالامتثال،أو العلم بإتيان ما اكتفي الشارع به في مقام الامتثال،و لا يحكم بكفاية الظنّ بالامتثال و نحوه،و هو واضح.

المقام الثاني:في أنّ عدم إثبات التكليف و لا تعيينه بغير العلم إلاّ ما قام الدليل العلمي علي حجّيته و اعتباره أمر واضح،فإن عمل بما لا يعلم حجّيته و كان عمله موافقا للواقع،فإن لم يقصد التعبّد و التديّن به،كان جائزا و مجزيا إن كان توصّليا، و كذا إن كان تعبّديا و حصل منه قصد التقرّب.و إن قصد التديّن به كان تشريعا،فإن

ص: 330

كان توصّليا أجزأ،و إن كان تعبّديا،ففي الاجزاء إشكال إن حصل قصد التقرّب.

و إن عمل بما لا يعلم حجّيته و كان عمله مخالفا للواقع،فإن لم يقصد التعبّد به،كان جائزا غير مجز.و إن قصد التعبّد به،كان تشريعا حراما و غير مجز،فإن لم يتبيّن موافقة عمله للواقع لم يجز الاكتفاء بما عمله.

فالكلام يقع في موضعين:الأوّل:في العمل بما لا يعلم حجيته من غير تشريع.

الثاني:في العمل به تشريعا.

الموضع الأوّل: في عدم حجّية ما لم يعلم حجيّته و عدم إجزاء العمل به إن لم يقصد التشريع

و يدلّ عليه الأدلّة الأربعة:

الأوّل:الكتاب،و نذكر بعض الآيات،منها:قوله تعالي هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (1).

و منها:قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (2).

و منها:قوله تعالي قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (3).

و منها:قوله تعالي وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (4)و غيرها.

ص: 331


1- سورة الأنعام:148.
2- الاسراء:36.
3- سورة يونس:35-36.
4- سورة النجم:28.

و هذه الآيات تدلّ علي المنع عن تعيين الأحكام بغير العلم،و عن العمل بغير العلم،حتّي فيما كانت سيرة العقلاء علي العمل به ما لم يثبت امضاؤها بخصوصها.

و دعوي دلالة هذه الآيات علي المنع عن اتّباع غير العلم بالعموم أو الاطلاق، و هما ظاهران في مدلوليهما،و دلالتهما ليست علميّة،فيستلزم من منعها عن اتّباع غير العلم المنع عن العمل بعمومها أو اطلاقها،فيلزم من وجود المنع عدمه ممنوعة.

أمّا أوّلا:فلأنّ دلالتها صارت علمية لتعدّدها و تقوّي مضمون بعضها ببعض.

و ثانيا:أنّا نعلم أنّ ظواهر الكلام حجّة؛لأنّ المحاورات الواقعة بين النبي صلّي اللّه عليه و اله و بين الناس،و كذا المحاورات الواقعة بين الأئمّة عليهم السّلام و بين الناس كانت بالظواهر،فالعمل بظاهر الألفاظ ممضي شرعا قطعا،و من الظواهر الممضاة العمومات و الاطلاقات،و هذه تمنع عن اتّباع غير العلم،و رادعة عن السير المدّعاة في غير مورد ممّا لم يثبت امضاؤها.

و بعض هذه الآيات في غير اصول الدين.

فما ذكره في الكفاية في بحث حجّية خبر الواحد،من أنّ هذه الآيات كلّها وردت إرشادا إلي عدم كفاية الظنّ في اصول الدين في غير محلّه،كما أنّ ما ذكره من أنّه لا يمكن الردع بها لاستلزامه الدور؛لأنّ الردع بها يتوقّف علي عدم تخصيص عمومها و عدم تقييد إطلاقها بالسيرة القائمة علي اعتبار خبر الثقة، و عدم تخصيص عمومها موقوف علي الردع بها.إلي آخر كلامه (1).

غير صحيح في محلّ كلامنا؛لأنّ السيرة القائمة علي العمل بالظواهر و منها العمومات و المطلقات ممضاة شرعا،فهي حجّة مخصّصة لعمومات المنع عن العمل بغير العلم،لأنّها معلومة الحجّية.8.

ص: 332


1- كفاية الاصول ص 348.

و بعبارة اخري:لنا سيرتان قد علم إمضاء إحداهما،و يشكّ في إمضاء الاخري،فالسيرة علي العمل بعموم ما دلّ علي الردع ممضاة قطعا،و سائر السير هي ممّا شكّ في اعتبارها،فهي مردوعة بهذه العمومات.

ثمّ إنّه قيل:إنّ ما جري عليه العقلاء لا يكفي في ردعهم العمومات،بل لا بدّ من الردع الخاصّ،كما ورد في القياس.

و هذا الكلام غير صحيح؛لأنّ المقصود إن كان أنّ العقلاء لا يكتفون بهذه الآيات و الأخبار الرادعة عن اتّباع غير العلم،المذكورة في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة و غيرها بعد المراجعة إليها،فلا يظنّ بهم ذلك،و إن كان أنّهم يبقون علي سيرتهم من دون المراجعة إليها،فهذا ممّا لا ينتظر منهم بعد معرفتهم أنّ شارع الاسلام له أحكام خاصّة،فلا بدّ لهم من الرجوع إلي الكتاب و الأخبار.

و أمّا القياس،فإنّه كان قد شاع في عصر المعصومين عليهم السّلام و كان يدّعي دلالة بعض الآيات عليه،فلذلك ردعوا عنه ردعا خاصّا.

الثاني:الأخبار،منها:خبر عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك،إيّاك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم (1).

الثالث:العقل،فإنّه لا ريب في تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم وروده عنه و لو كان عن جهل مع تقصير.

الرابع:الاجماع و هو معلوم.

فقد تبيّن من جميع ما ذكر أنّ العلم الاجمالي بالتكاليف لا ينحلّ إلاّ بما علم اعتباره شرعا،و هذا هو الأصل الذي يرجع إليه.0.

ص: 333


1- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 50.
الموضع الثاني: في حرمة التشريع بالعمل بما لا يعلم حجّيته
اشارة

و البحث عنه يقع في جهات:

الجهة الاولي: في ماهيّة التشريع

و هل أنّها و البدعة بمعني واحد أو أنّهما مختلفتان؟

فنقول:التشريع لغة:هو تعيين كيفيّة مسير الانسان في أعماله الفرديّة و الاجتماعيّة الاعتقاديّة و العمليّة،كما قال اللّه تبارك و تعالي: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّي بِهِ (1).و اصطلاحا عبارة عن البناء عملا علي فعل بما أنّه دين مسندا إلي الشارع المقدّس.

و البدعة لغة:هي الاختراع،كما قال اللّه تبارك و تعالي وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ (2)و اصطلاحا عبارة عن ايجاب عمل أو تحريمه لم يسبقه إذن من الشارع المقدّس،و إن لم يسنده إلي الشارع،بل لمجرّد جعله دينا يتديّن به، مثلا من صلّي النافلة جماعة،كصلاة التراويح بعنوان أنّه دين و مشروع لا بالبناء علي أنّ الشارع أمر به كان ما فعله بدعة،فإن قصد أنّ الشارع أمر بها كما أمر بسائر المندوبات كان ما فعله تشريعا.

و يحتمل أن يكون التشريع و البدعة مصداقين لمعني واحد،و هو التديّن بما لم يأمر اللّه به،كما قال اللّه تعالي: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ (3)و إطلاقه شامل للتشريع و البدعة بالمعني المذكور.

ص: 334


1- سورة الشوري:13.
2- سورة الحديد:27.
3- سورة الشوري:21.

ثمّ إنّه أنكر النراقي رحمه اللّه في العوائد أن يكون التشريع الاسناد قلبا ما ليس من الدين إلي الشارع؛لأنّ القصد ليس أمرا اختياريّا،بل هو متفرّع علي الاعتقاد،فإن حصل الاعتقاد من دليل فهو معذور،و لا يحصل الاعتقاد من غير دليل،و مجرّد تصوّر كون فعل مأمورا به ليس تشريعا.

إلي أن قال:و التحقيق أنّ كلّ فعل لم يثبت من الشرع،لا يمكن الاتيان به باعتقاد أنّه من الشرع،لكن يمكن فعله بإراءة أنّه من الشرع،أو جعله شرعا للغير، و هو تشريع و إدخال في الدين و إن لم يعتقده المشرع-بالكسر-و هذه هي البدعة (1).

أقول:الاعتقاد ليس أمرا اختياريّا،و إن كان بعض مقدّماته ربما يكون اختياريّا،لكن البناء القلبي لعله اختياري،فيبني علي مشروعيّة التكتّف في الصلاة مثلا.

و عن بعضهم أنّ التشريع هو العمل لا الاعتقاد و البناء قلبا،فمن عمل شيئا بقصد أن يكون له أتباع،أو للحكم بقاء مسندا له إلي الشرع،فهو مبدع.و من عمل شيئا من ذلك مدخلا له في الشريعة من غير قصد السراية إلي غيره،كان مشرعا في الدين،سواء كان عن علم بالمخالفة،أو جهل بسيط،أو مركّب لا يعذر فيه، و يجري حكم مؤاخذة التشريع عليه،وافق الواقع أو خالفه،و إن كان في الثاني أظهر،فمن أخذ الأحكام من الأدلّة مع عدم أهليّته،فلا يشكّ في فسقه و معصيته، و لا فرق بين ما اخذ من كتب أهل الحقّ،أو كتب أهل الباطل،و كذا المقلّد لغير القابل و الآخذ بقول الأموات من غير عذر.

فصلاة الضحي و التراويح و نحوهما من البدعة،و بيع الحصاة و الملامسة5.

ص: 335


1- عوائد الأيّام للنراقي ص 325.

و المنابذة،إن جعل عبارة عن الفعل،أو عن القول بشرط الفعل،و كذا المغارسة و جميع العقود من التشريع،و من هذا القبيل طلاق الكنايات و الثلاث دفعة أو من غير رجعة،و العول و التعصيب و نحوهما (1)انتهي.

قلت:تصوّر كون العمل مشروعا أو دينا و إخطاره بالبال ليس محرّما،لكن البناء علي أنّه دين و التديّن به،سواء أسنده إلي الشارع أو لم يسنده يكون مصداقا لقوله تعالي فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً (2)هذا إن تجرّد عن الفعل،كتديّن العامّة بعدم وجوب طواف النساء و إن لم يصدر من المتديّن به الحجّ،و لو فعل مع ذلك كان الفعل تشريعا و بدعة،هذا ما يتحصّل لي بدوا من أدلّة التشريع.

فالمحرّم شرعا أمران:الأوّل التديّن بما ليس من الدين،الثاني العمل المقصود به كونه من الدين.

الجهة الثانية: في أدلّة حرمة التشريع

و هي آيات تدلّ علي حرمة التشريع،أي:البناء علي كون حكم شرعيّا،سواء أسنده إلي الشارع أو لم يسنده،فيكون بدعة و تشريعا أيضا،و التشريع مأخوذ من هذه الآيات:

قوله تعالي أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ (3)و قوله تعالي وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَي اللّهِ الْكَذِبَ (4)و قوله تعالي فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي

ص: 336


1- كشف الغطاء 1:53.
2- سورة يونس:59.
3- سورة الشوري:21.
4- سورة النحل:116.

اَللّهِ تَفْتَرُونَ (1) و قوله تعالي وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِراءً عَلَي اللّهِ (2).

و أمّا الأخبار الدالّة علي حرمة البدعة و التشريع،فهي عدّة أخبار:

منها:ما رواه الكليني،عن علي بن إبراهيم،عن محمّد بن عيسي،عن يونس، عن بريد العجلي،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:سألته عن أدني ما يكون العبد به مشركا؟فقال:من قال للنواة إنّها حصاة و للحصاة إنّها نواة ثمّ دان به (3).

و منها:ما رواه أيضا عن علي،عن أبيه،عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر،عن عبد اللّه بن يحيي الكاهلي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له،و أقاموا الصلاة،و آتوا الزكاة،و حجّوا البيت،و صاموا شهر رمضان،ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه النبي صلّي اللّه عليه و اله:ألاّ صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين،ثمّ تلا هذه الآية فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (4)ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:فعليكم بالتسليم (5).

و منها:ما رواه أيضا عن عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمّد بن خالد،عن أبيه،عن عبد اللّه بن يحيي،عن عبد اللّه بن مسكان،عن أبي بصير،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (6)فقال:أمّا و اللّه ما دعوهم إلي عبادة أنفسهم،و لو دعوهم إلي عبادة أنفسهم2.

ص: 337


1- سورة يونس:59.
2- سورة الأنعام:140.
3- اصول الكافي 2:397 ح 1.
4- سورة النساء:64.
5- اصول الكافي 2:398 ح 6.
6- سورة التوبة:32.

لما أجابوهم،ولكن أحلّوا لهم حراما،و حرّموا عليهم حلالا،فعبدوهم من حيث لا يشعرون (1).

و منها:ما رواه أيضا باسناده عن محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:

خطب أمير المؤمنين عليه السّلام الناس،فقال:أيّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، و أحكام تبتدع،يخالف فيها كتاب اللّه يتولّي فيها رجال رجالا (2).

و عقد في الجزء الثاني من البحار بابين لذلك فلاحظ،و لاحظ الباب الرابع من الجزء الثامن عشر من الوسائل في صفات القاضي،و الباب العاشر منه،إلي غير ذلك.

الجهة الثالثة: ذكر المحقّق الخراساني رحمه اللّه في تعليقة الفرائد

،أنّ التشريع موجب لاستحقاق العقاب عقلا،قال:إنّ العمل بسبب ذلك لا يتغيّر عمّا هو عليه واقعا،و لا يوجب ذلك فيه مبغوضيّة و لا حرمة مولويّة شرعيّة.

إلي أن قال:نعم يوجب إثما قلبيّا حيث إنّه بهذا البناء و الالتزام تصرّف فيما هو سلطان المولي من تشريع الأحكام،فيستحقّ بذلك ذمّا و عقابا،حيث انّه بنفسه هتك لحرمة المولي.

إلي أن قال:فالحرمة التشريعية عقلية صرفة لا شرعية كحرمة قصد المعصية؛ لما عرفت في ذلك الباب أنّ كلّ ما يوجب العقاب و الثواب بلا خطاب معه لا يكون قابلا للأمر أو النهي الشرعي،فلو ورد في الشرع فهو من باب الارشاد، و إطباق العقلاء علي ذمّ المشرع إنّما هو علي نفس البناء و الالتزام الذي هو من

ص: 338


1- اصول الكافي 2:398 ح 7.
2- اصول الكافي 1:54 ح 1.

أفعال القلب أتي بالعمل الذي هو بني علي أنّه واجب أو حرام أم لا انتهي (1).

قلت:مجرّد البناء بدون مبرز له لا مانع من كونه حراما شرعا،فإنّ أفعال النفس كالتعبّد المذكور و نحوه يمكن اتّصافها بالوجوب أو الحرمة،كصفات النفس من الحسد و الحقد و الكبر،و ظاهر الأخبار حرمة التعبّد بغير العلم متديّنا به و إن لم يعمل.

الجهة الرابعة: ينبغي أن يعلم أنّ هناك امورا محرّمة بعناوينها

و إن كانت تشريعا أيضا.

الأوّل:الاخبار عن اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام مع العلم بعدم صدور المخبر به عنهم،أو مع الجهل به،فإنّه حرام،لقوله تعالي أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)و قوله تعالي آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (3).

الثاني:الافتاء بأن يبيّن وظيفة الناس شرعا،فإنّه حرام مع العلم بعدم كونها وظيفة أو الجهل بها،و إنّما يجوز الافتاء مع العلم بصحّة المضمون،أو قيام العلمي علي صحّته.

يدلّ عليه أخبار،كصحيح أبي عبيدة الحذّاء،قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب،و لحقه وزر من عمل بفتياه (4).

و خبر عبيدة السلماني (5).

ص: 339


1- التعليقة علي الفرائد ص 78.
2- سورة يونس:68.
3- سورة يونس:59.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:145-146 ب 1 ح 40 الطبعة الأخيرة.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41 الطبعة الأخيرة.

و خبر مفضّل بن يزيد (1)،و حسن عبد الرحمن بن الحجّاج (2)،و خبره الآخر (3)،إلي غير ذلك من الأخبار.

الثالث:استحلال ما حرّمه اللّه،أو إباحة ما أوجبه اللّه،فإنّه يوجب الارتداد و الكفر،و في كتاب الصوم في رواية:إن أفطر يقال له:هل في إفطارك إثم،فإن قال:لا،قتل (4).

و في حسن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الاسلام؟و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين،أم له مدّة و انقطاع؟فقال:من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الاسلام و عذّب أشدّ العذاب (5).و خبر مسعدة (6).

الرابع:عدم التسليم قلبا لأحكام اللّه،يدلّ عليه حسن الكاهلي المتقدّم (7).

الجهة الخامسة: في ما لا دليل علي حرمته

فهو أن يعمل بما يظنّ به من الوجوب أو الحرمة بما هو مظنون من دون البناء علي وجوبه أو حرمته.

و بعبارة اخري:مجرّد العمل بالظنّ بدون التشريع و الابتداع،و كذا فعل ما

ص: 340


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 43 الطبعة الأخيرة.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 46 الطبعة الأخيرة.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 49 و 50 الطبعة الأخيرة.
4- جامع أحاديث الشيعة 9:116 ب 2 ح 20.
5- اصول الكافي 2:285 ح 23.
6- اصول الكافي 2:280 ح 10.
7- اصول الكافي 2:398 ح 6.

يحتمل وجوبه،فإن كان بقصد الاحتياط فلا ريب في رجحانه،و إن لم يكن بقصد الاحتياط،فلا دليل علي حرمته،فإن طابق الواقع و كان الفعل توصّليا صحّ،و إن طابقه و تحقّق منه قصد القربة في العبادات صحّ كذلك.

الجهة السادسة: في ما يتوهّم أنّه من التشريع ممّا لا يمكن أن يقع

و هو أن يعمل عملا يعلم أنّه حرام أو مباح بقصد أمر الشارع به،أي:بداعي أمره،و كذا إن جهل ذلك،فإنّه لا يمكن تحقّقه مع الالتفات إلي جهله،فهو نظير أن يقصد بشرب الماء أكل الخبز.

نعم إن كان عالما بإباحة شيء،لكن كان معتقدا بجواز الاتيان به بقصد الوجوب لاعتقاده بجوازه،و كان هذا الاعتقاد حاصلا له عن جهل قصورا أو تقصيرا،أمكن صدور الفعل منه بقصد الأمر به.

المبحث العاشر: في حجّية ظواهر الكتاب و السنّة

اشارة

لا يخفي أنّ نصوص الكتاب و السنّة الثابتة عن المعصومين عليهم السّلام حجّة و لا ريب فيها.و أمّا ظواهرهما مع احراز الظهور،سواء كان اللفظ مستعملا في المعني الحقيقي أو في غيره،ففي حجّيتها خلاف،و كذا إذا كان المعني الحقيقي و المجازي معلومين و شكّ في ظهور اللفظ،ففي الاعتماد علي أصالة الحقيقة خلاف،فيقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: في حجّية ظواهر السنّة مع احراز الظهور
اشارة

و لا ريب في كون الظاهر مع إحرازه حجّة عند جميع الناس في جميع الأماكن و الأعصار،و من المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده

ص: 341

للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم،هذا في الأحكام الشرعيّة،ولكن الاشكال في ظواهر الأخبار من وجهين:

الوجه الأوّل:كيف يمكن الوصول إلي إحراز ظواهرها مع التشابه و الغموض و الاختلاف فيها،كما يستفاد ممّا روي عن الامام الرضا عليه السّلام،قال:من ردّ متشابه القرآن إلي محكمه،فقد هدي إلي صراط مستقيم،ثمّ قال عليه السّلام:إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن،و متشابها كمتشابه القرآن،فردّوا متشابهها إلي محكمها الحديث (1).

و في خبر إبراهيم الكرخي:و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا الحديث (2).و معاريض الكلام رموزه و إشاراته.

و في خبر الأحول المروي في بصائر الدرجات عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها (3).

و مثله خبر داود بن فرقد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب (4).

و خبر زيد الزرّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:يا بنيّ اعرف منازل الشيعة علي قدر روايتهم و معرفتهم،فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، و بالدرايات يعلو المؤمن إلي أقصي درجات الايمان،إنّي نظرت في كتاب7.

ص: 342


1- وسائل الشيعة 27:115 ح 22 الطبعة الأخيرة.
2- بحار الأنوار 2:184 ح 5.
3- بحار الأنوار 2:199 ح 57 عن بصائر الدرجات.
4- وسائل الشيعة 27:117 ح 27.

لعلي عليه السّلام فوجدت في الكتاب:إنّ قيمة كلّ امريء و قدره معرفته،إنّ اللّه يحاسب الناس علي قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا (1).

و خبر عبد الأعلي،قال:دخلت أنا و علي بن حنظلة علي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فسأله علي بن حنظلة عن مسألة فأجاب فيها،فقال علي:فإن كان كذا و كذا، فأجابه فيها بوجه آخر،قال:فإن كان كذا و كذا،فأجابه بوجه آخر حتّي أجابه فيها بأربعة وجوه،فالتفت علي بن حنظلة،و قال:يا أبا محمّد قد أحكمناه،فسمعه أبو عبد اللّه عليه السّلام،فقال:لا تقل هكذا يا أبا الحسن فإنّك رجل ورع،إنّ من الأشياء أشياء ضيّقة،و ليس تجري إلاّ علي وجه واحد،منها وقت الجمعة ليس إلاّ واحد حين تزول الشمس،و من الأشياء أشياء موسّعة تجري علي وجوه كثيرة و هذا منها،إنّ له عندي سبعين وجها (2).و غير ذلك من الأخبار.

و ذكر ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:إنّ الانصاف يقتضي الظنّ بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا إلاّ قليلا في غاية القلّة،لمن اطّلع علي كيفية تنقيح الأخبار و ضبطها.

ثمّ قال:الذي يقتضيه النظر هو أن يقال:إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار:إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار،أو نقلها بالمعني،أو منفصلة مختفية من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين،أو مقالية اختفت بالانطماس.و إمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الامام عليه السّلام من تقيّة علي ما اخترناه علي وجه التورية،أو غير التقيّة من المصالح الاخر.

و إلي ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع0.

ص: 343


1- بحار الأنوار 2:184 ح 4.
2- بحار الأنوار 2:197 ح 50.

بين متعارضات الأخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلي معني بعيد.

و ربّما يظهر من الأخبار محامل و تأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ رحمه اللّه تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من المحامل غير بعيد عن مراد الامام عليه السّلام و إن بعدت عن ظاهر الكلام،إلاّ أن يظهر فيه قرينة عليها إلي آخر كلامه (1).

و قال في كشف القناع:انّ كلام الصادقين عليهما السّلام و كلام سائر الأئمّة عليهم السّلام كان ككلام اللّه و كلام رسوله صلّي اللّه عليه و اله فيه عامّ و خاصّ،و ظاهر و مؤوّل و مطلق و مقيّد و محكم و متشابه و مبيّن و مفصّل،لا يصل إلي حقيقة معناه إلاّ أوحدي من الناس، فكان كما قال الصدوق:إنّ لكلامهم وجوها و معاني لا يعقلها إلاّ العالمون،و من ثمّ قال الصادق عليه السّلام لأصحابه:حديث تدريه خير من ألف ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،فإنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف علي سبعين وجها لنا من جميعها المخرج.

و يقرب منه أخبار اخر تنبيء عن غموض كلامهم و صعوبته علي معظم أصحابهم أو جميعهم،و احتياجهم إلي التأديب حتّي يتفقّهوا في دينهم.

فربّ واحد منهم يسمع بعض كلماتهم دون بعض،و لا يستقصي جميع ما روي عنهم فيما تعلّق به الغرض:إمّا لعدم تمكّنه من ذلك،أو عدم تفطّنه،أو لتسامحه و قلّة اعتنائه به،فيشتبه عليه الأمر،و ربّ آخر كانت فطنته قاصرة عن فهم دقائق مطالبهم و حقائق مقاصدهم.

و إنّما ألقوا إليه بعض أحاديثهم من باب ربّ حامل فقه ليس بفقيه،و ربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه،و ربّما ينقل ما سمعه أو بلغه لغيره بالمعني بحسب فهمه،م.

ص: 344


1- فرائد الاصول ص 810 طبع قم.

فيوقع غيره في الغلط و الاشتباه أيضا.

و ربّ آخر كما قال الباقر عليه السّلام:إنّ لنا أوعية نملؤها علما و حكما و ليست لها بأهل،فما نملؤها إلاّ لتنقل إلي شيعتنا،انظروا إلي ما في الأوعية فخذوها،ثمّ صفوها من الكدورة تأخذوا منها بيضاء نقيّة صافية،و ايّاكم و الأوعية فإنّها وعاء سوء فتنكبوها.

و قال الصادق عليه السّلام:ذهب العلم و بقي غبرات العلم في أوعية سوء فاحذروا باطنها،فإنّ في باطنها الهلاك،و عليكم بظاهرها فإنّ في ظاهرها النجاة.

و لا ريب في صعوبة تمييز أوعية السوء من المحمودة و الصافية من الكدورة، و الظواهر المطلوبة المنتخبة من البواطن المهلكة،فيؤدّي ذلك كثيرا إلي اشتباه الأمر علي اولي العلم و الفضل فضلا عن غيرهم (1)انتهي.

و قال في موضع آخر:و في خبر أبي بصير عنه عليه السّلام،قال:رحم اللّه عبدا أحببنا إلي الناس و لم يبغضنا إليهم،أما و اللّه لو يروون محاسن كلامنا لكانوا أعزّ،و ما استطاع أحد أن يتعلّق عليهم بشيء،لكن أحدهم يسمع الكلمة فيحطّ إليها عشرا.

إلي غير ذلك من الأخبار التي ذكرت في محالّها،و لو لا الضرورة التي أدّت إلي ايراد جملة منها هنا لما ذكرناها،و لرأينا الاعراض و الاغماض عنها أولي و أحري،كما لا يخفي،و هذا تكشّف عمّا ذكرنا من وجوه شتّي،و قد عاضد كلامنا أخبار اخر في معناه،و لذا أعرضنا عن التعرّض لأحوال أسانيدها،و إن كان كثير منها صحيحا أو قويّا.

ثمّ تسافل الأمر بعد الصادق عليه السّلام إلي زمان الغيبة ثمّ إلي زماننا،فكان كما قال الباقر عليه السّلام:كأنّي بدينكم هذا لا يزال مولّيا يفحص بدمه،ثمّ لا يردّ عليكم إلاّ رجل1.

ص: 345


1- كشف القناع ص 70-71.

منّا أهل البيت،و ذلك لاشتداد التقيّة في أزمنة سائر الأئمّة و حبس الخلفاء بعضهم مدّة طويلة و بعد العهد عمّن كان قبلهم،و كذلك عنهم بالنسبة إلي من بعدهم،فكان عمل الشيعة غالبا بما بلغهم من الأخبار عن الصادقين عليهما السّلام أو غيرهما من الأئمّة عليهم السّلام علي ما فيها من الوضع و الخطأ و التحريف و التصحيف و التقطيع و الغموض و التأويل و التعارض و الاخلال بقرائن الحال و المقال كما هو المعلوم، و خلّط كثير من الرواة من أصحابنا بين أخبار العامّة و أخبار الخاصّة و روايتهم أحاديث كلّ من الفريقين عن الآخر (1)انتهي.

أقول:ينبغي التثبّت و مراعاة القرائن،و لعلّ منها مراعاة زمان صدور الأخبار، و ملاحظة المسائل المشابهة للمسألة المطروحة عند العامّة.

الوجه الثاني لعدم حجيّة ظواهر الأخبار:أنّه يستظهر بعض الفقهاء منها خلاف ما يستظهره الآخر،و لذا يختلفون في الفتوي،فيكشف عن أنّه ليس بظاهر.

و الجواب:أنّه يعتبر-مضافا إلي مراعاة ما ذكر في الوجه الأوّل-أن يكون حسن الطريقة و السليقة،متتبّعا لموارد الاستعمالات،فما يبدو من ظواهر الأخبار ليس بحجّة إلاّ بعد الاطّلاع الكامل علي معاني الألفاظ و معاني هيئاتها و تمييز الظاهر من غيره،و الممارسة للأخبار،و التتبّع التامّ لمواردها،و إخلاء الذهن عن ملابساتها،فمثلا يستظهر فقيه من غسل الثوب اعتبار العصر في تحقّق مفهومه، و يستظهر فقيه آخر عدم اعتباره.

فهذه الاستظهارات لا بدّ من أن تكون حاصلة له بعد التتبّع في اللغة و المحاورات العربية،و الاطّلاع علي الأخبار و معانيها و زمان صدورها و محلّه، و الاطّلاع علي القرائن الحالية و المقالية و الأشباه و النظائر و جمع الأخبار،و مثلا9.

ص: 346


1- كشف القناع ص 79.

آخر:يستظهر من قوله صلّي اللّه عليه و اله«لا ضرر و لا ضرار»كلّ واحد من الفقهاء معني غير ما يستظهره الآخر،فأيّ دليل علي حجّية هذه الاستظهارات،ففي أمثال ذلك لا بدّ من الأخذ بالقدر الظاهر من الدليل و ترك تلك التكلّفات.

و قال في وقاية الأذهان:و هنا أمر مهمّ لا بدّ من التنبّه له،و هو أنّ الظهور الذي عرفت حجّيته هو الذي يفهمه أهل تلك اللغة من اللفظ،أو من زاولها و قتلها خبرا، حتّي عاد كأحدهم،بل كاد أن يعدّ منهم،فلا بدّ لمن يروم استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة من ممارسة هذه اللغة الشريفة،و معرفة عوائد أهلها و درس أخلاقها و طبايعها،و الاطّلاع علي أيّامها و مذاهبها في جاهليّتها و إسلامها إلي آخر ما أفاده (1).

و الغرض أنّه لا بدّ من التثبّت و تتبّع الموارد حتّي يعرف لحن خطابات الشارع.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكر أنّ منشأ اختلاف فتاوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام ليس منحصرا في أخذ بعضهم بالخبر الصادر لبيان الحكم الواقعي،و أخذ الآخر بالخبر الصادر تقيّة،بل ربّما كان منشأه اختلافهم في فهم الأخبار و كيفيّة الجمع بينها،فإذا كان هذا حال أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،فالعلماء الذين لم يدركوا الأئمّة عليهم السّلام و خفي عليهم قرائن الحال يختلفون عادة في الاستظهار من الأخبار.

تتميم:

هل العبرة بظواهر الكلام في زمان صدور الأخبار،أي:ما يكون اللفظ ظاهرا فيه في زمان صدورها،أو العبرة بظهور الكلام علي حسب ما يفهم منه في كلّ عصر؟الظاهر أنّ المناط هو الظهور في عصر الصدور؛لأنّ الشارع لم يبدع طريقا غير ما هو المتعارف عند أهل العرف،و هو التكلّم بالظواهر عند المخاطبين

ص: 347


1- وقاية الأذهان ص 514-515.

الحاصلة من المعني اللغوي و العرفي و القرائن الحالية و المقالية في حال التخاطب.

مثلا ما دلّ علي جواز السجود علي القرطاس،منزّل علي القرطاس المتداول حال صدور الأخبار،فإذا كان القرطاس المتداول في زمان صدور الأخبار متّخذا ممّا يصحّ السجود عليه،فلا يصحّ التمسّك بإطلاق ما صدق عليه القرطاس في عصرنا؛لأنّ المخاطبين لم يفهموا من اللفظ غير ذلك،و لم يكن ظاهرا إلاّ فيه، و حيث لم يوجد في زمانه إلاّ القرطاس المتّخذ ممّا يصحّ السجود عليه،فلا يحتاج التقييد إلي ذكر القيد.

و تقدّم في بحث العامّ و الخاصّ أنّه لو وجد عقد في زماننا لم يكن موجودا في زمان صدور العموم،و شكّ في صحّته و فساده،لا يجوز التمسّك بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّه لو فرض أنّ هذا العقد لم يكن مرادا من العموم لما احتاج إلي التخصيص؛لعدم وجوده في ذلك الزمان.

ولكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ صاحب القوانين أنّ المناط فهم أهل كلّ عصر؛لأنّ احتمال خلاف ما يكون ظاهرا عندهم ناش عن احتمال وجود قرينة حالية قد خفيت،و هو مدفوع بأصالة عدم القرينة.

و حاصل ما أفاده أنّ إجماع العلماء و أهل اللسان علي حجّية الظاهر،فإنّ أهل اللسان إذا نظروا إلي كلام صادر من متكلّم إلي مخاطب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها.الي آخر ما أفاده (1).

أقول:سيأتي إن شاء اللّه في مبحث التعادل و التراجيح أنّ من جملة علل اختلاف الأخبار خفاء القرائن الحالية و المقالية،فينبغي مراعاته.ن.

ص: 348


1- لاحظ فرائد الاصول للشيخ الأنصاري رحمه اللّه ص 810 طبع جامعة المدرّسين.

ثمّ لو سلّم أنّ أهل اللسان و العلماء يفعلون ذلك،فإن كانت سيرة ممضاة شرعا و إلاّ فلا يجوز الاعتماد علي ما لا يوجب العلم،و إثبات السيرة الممضاة مع اختلاف الأخبار و خفاء القرائن الحالية و المقالية مشكل جدّا.

ثمّ الظاهر أنّ مراد الشيخ رحمه اللّه فهم كلّ عصر إن لم يعلم مخالفته لفهم المخاطبين.

الموضع الثاني: في حجّية ظواهر الكتاب العزيز

لا يخفي أنّ آيات الكتاب علي أنواع:

النوع الأوّل:ما يكون نصّا في معناه،كالآيات الواردة في التوحيد و صفات اللّه تعالي،و رسالة الأنبياء و الجنّة و النار و نحوها،و لا شكّ في صحّة الاستدلال بها علي متضمّنها،و هذه الآيات من المحكمات.

النوع الثاني:ما يكون ظاهرا في معناه،يعرفه كلّ من عرف اللغة التي خوطب بها،أو كان ظهوره حاصلا من تأيّد بعض الآيات ببعض بحيث صار ظهوره كالنصّ،و لم يحتمل غير المعني الذي هو ظاهر فيه،و لا ينبغي الريب في حجّيته، لكن يشترط في حجّية الظاهر عدم وجود حجّة علي خلافه من ناحية المعصومين عليهم السّلام،و هذا النوع أيضا من المحكم.

النوع الثالث:ما هو متشابه كبعض الآيات الظاهرة في الجبر و نحوه،أو مجمل مثل ما دلّ علي وجوب الصلاة،فإنّ مفهوم الصلاة مجمل يبيّن كيفيّته المعصوم عليه السّلام.

النوع الرابع:ما كان اللفظ محتملا للمعنيين أو أكثر،و تترجّح بعض هذه المعاني عند الناظر إليه بحسب ذوقه أو فهمه المعني اللغوي أو العرفي،فهل استظهاره معني من هذه المعاني من الآية من دون تأيّده بالآيات الاخر و لا بتفسير المعصومين عليهم السّلام و لا العلم بأنّ المتفاهم عند الجميع و المتبادر عندهم هذا المعني

ص: 349

حجّة أم لا؟و ينبغي أن يكون محلّ النزاع حجّية مثل هذا الظهور،فللنافين امور:

أحدها:أنّه حيث لم يعلم ظهور اللفظ،و كان ظهوره مظنونا كان الاعتماد عليه متابعة لغير العلم،و هو ممنوع بالآيات و الأخبار.

ثانيها:الأخبار الدالّة علي أنّ ما لم يكن من المحكمات ممّا يتطرّق فيه الاحتمال ينحصر علمه بعلماء آل محمّد صلّي اللّه عليه و اله،يعني الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و هو خبر عبيدة السلماني،قال:سمعت عليّا عليه السّلام يقول:يا أيّها الناس اتّقوا اللّه و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون،فإنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله قد قال قولا آل منه إلي غيره،و قد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه،فقام عبيدة و علقمة و الأسود و اناس منهم فقالوا:يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبّرنا به في المصحف،قال:يسأل عن ذلك علماء آل محمّد (1).و لاحظ خبر زياد بن أبي رجاء (2).

ثالثها:ما دلّ علي أنّ في القرآن ناسخا و منسوخا و عامّا و خاصّا و محكما و متشابها،في حديث طويل رواه في الكافي،عن سليم بن قيس (3).

و ما ورد في حديث منصور بن حازم،من أنّ عليّا عليه السّلام قيّم القرآن و يعرف كلّه، و لا يعرف كلّه غيره (4).

و في حديث يونس أنّ عند الأئمّة علم ما اختلفت الامّة من كتاب اللّه (5).

و غيرها من الأخبار الدالّة علي اختصاص علم ذلك كلّه بالمعصومين عليهم السّلام، و لا يجوز لغيرهم التفسير بالرأي.4.

ص: 350


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ح 55.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:196 ب 4 ح 62.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:200 ب 4 ح 63.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:206 ب 4 ح 74.

و المستفاد من جميع ذلك أنّ الكتاب المجيد مشتمل علي جميع الأحكام الشرعيّة،و أنّه يحتاج إلي بيان المعصوم،فما كان منه واضحا دلالته نصّا في مدلوله،أو ظاهرا لا يحتمل الخلاف و إن كان بواسطة تأيّد بعض الظواهر ببعض، فهو من المحكم،و ما عداه فلا يجوز ترجيح أحد الاحتمالات بالاستظهارات و الظنون خصوصا ما يعمل منها لأجل تحديد المعاني اللغوية و نحوها.

هذا مضافا إلي أنّ القرائن الحاليّة الموجودة في زمان نزول الآيات و مكانه قد خفيت علينا؛لأنّه لم يصل إلينا شأن نزول الآيات بطرق صحيحة.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر أخبار المنع عن تفسير القرآن بالرأي:

و الجواب أنّها لا تدلّ علي المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعني بعد الفحص عن نسخها و تخصيصها و إرادة خلاف ظاهرها في الأخبار.

إلي أن قال:فالمراد بالتفسير بالرأي إمّا حمل اللفظ علي خلاف ظاهره،أو أحد احتماليه،لرجحان في نظره القاصر و عقله الفاتر،ثمّ استشهد له بحديث و قال:و إمّا الحمل علي ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفيّة و اللغويّة من دون تأمّل في الأدلّة العقليّة،و من دون تتبّع في القرائن النقليّة،مثل الآيات الاخر الدالّة علي خلاف هذا المعني،و الأخبار الواردة في بيان المراد منها،و تعيين ناسخها من منسوخها.انتهي موضع الحاجة (1).

و يمكن الاستدلال للقول بالحجّية بأخبار:

منها:خبر الثقلين.و فيه أنّه يدلّ علي أنّهما لا يفترقان،و أنّه لا بدّ من التمسّك بهما،ففي نصوص القرآن و ظاهره الذي لا يحتمل الخلاف يؤخذ به،و في ظواهره المحتملة للخلاف يرجع إلي العترة،و بالجملة لو لم يدلّ علي العدم فلا يدلّ علي7.

ص: 351


1- فرائد الاصول ص 57.

الحجّية.

و منها:ما دلّ علي أنّ ما خالف الكتاب فهو مردود،فإنّه يدلّ علي حجّية ظاهر الكتاب؛لأنّه يصدق علي الخبر المخالف لظاهر القرآن أنّه مخالف له.و فيه أنّه ليس في مقام بيان أنّ كلّ ما يستظهره كلّ شخص فهو حجّة.

و منها:ما دلّ علي ترجيح الخبر الموافق للكتاب علي مخالفه.و فيه ما تقدّم.

و منها:ما في خبر زرارة من سؤاله الامام عليه السّلام عن أنّه من أين عرف أنّ المسح ببعض الرأس؟فقال:لمكان الباء.

و فيه أنّه لو كان ذلك أمرا مسلّما عرفيا لم يكن لسؤاله وجه،فنفس السؤال يدلّ علي اختصاص فهم الكتاب بالمعصوم عليه السّلام.

و منها:ما ورد من أنّ الشرط المخالف للكتاب لا يكون نافذا.

و فيه أنّ المتيقّن منه هو الشرط المخالف لدلالة الكتاب قطعا،لا ما يحتمل فيه وجوه،فتأمّل.

و منها:ما ورد من الاستشهاد بالآيات في الروايات.

و فيه أنّ دلالتها واضحة،فهي من المحكمات،و من جملة الروايات ما ذكره في مقدّمات جامع أحاديث الشيعة،فراجع (1).

نذكر رواية واحدة،و هو ما رواه ابن محبوب،عن محمّد بن الحسين،عن ذبيان،عن داود بن الحصين،عن عمر بن حنظلة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل قال لآخر:اخطب لي فلانة،فما فعلت من شيء ممّا قاولت من صداق،أو ضمنت من شيء أو شرطت،فذلك رضا لي و هو لازم لي،و لم يشهد علي ذلك،فذهب فخطب له و بذل عنه الصداق و غير ذلك ممّا طالبوه و سألوه،فلمّا رجع إليه أنكر2.

ص: 352


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 1 ح 11 و ح 12 و ح 44 و ح 45 و ح 52.

ذلك كلّه،قال:يغرم لها نصف الصداق عنه،و ذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها،فلمّا أن لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له حلّ لها أن تتزوّج و لا يحلّ للأوّل فيما بينه و بين اللّه إلاّ أن يطلّقها؛لأنّ اللّه تعالي يقول: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فإن لم يفعل فإنّه مأثوم فيما بينه و بين اللّه جلّ و عزّ،و كان الحكم الظاهر حكم الاسلام قد أباح اللّه لها أن تتزوّج (1).

و لا يخفي أنّ الآية ظاهرة في معناها بحيث لا يحتمل الخلاف.

و الانصاف عدم الدليل علي حجّية استظهار كلّ مستظهر،بل لا بدّ من التثبّت و التتبّع،بل لا يكتفي بقطعه بظهور اللفظ في معناه إن لم يحصل من ممارسة ما هو دخيل في فهم الظهور.

الموضع الثالث: إذا علم ظهور اللفظ عند المخاطبين

،فلا فرق في حجيّته بين من قصد إفهامه،و بين من لم يقصد إفهامه،للسيرة القطعيّة الممضاة شرعا،و لعلّ من فصّل بينهما أراد أنّه ربّما يكون قرينة حاليّة يعرفها من قصد إفهامه،خفيت علي من لم يقصد إفهامه.و أمّا مع إحراز عدم القرينة الصارفة لظاهر اللفظ،فهو حجّة علي من لم يقصد إفهامه أيضا.

و الحاصل أنّ من لم يقصد إفهامه إن كان من جميع الجهات كمن قصد إفهامه فالظاهر حجّة عليه.و أمّا إن احتمل خصوصيّة في من قصد إفهامه،أو قرينة حاليّة بينهما،فلا وجه لحجّيته علي غير من قصد إفهامه و لا أقلّ من الشكّ فيها،و سيأتي في بيان علل اختلاف الأخبار ماله نفع.

ص: 353


1- تهذيب الأحكام 6:213-214 ح 3.
الموضع الرابع: إذا أحرز ظهور اللفظ فهل يعتبر الظن بالمراد أو لا يعتبر؟

الظاهر عدم الاعتبار.

و هل يضر الظن بأنّه غير مراد أو لا؟وجوه:

الأوّل:التفصيل بين ما كان بين الموالي و العبيد فلا يضرّ الظنّ بأنّه غير مراد؛ لأنّه في مقام الاحتجاج يحتجّ العبد علي المولي بظاهر لفظه،و كذا المولي علي العبد،و بين ما كان المقصود من الأخذ بالظاهر إدراك الواقع.

فلو أنّ الطبيب وصف دواء للمريض،و ظنّ أنّه لا يريد الاطلاق،بل يريد كون الدواء في وقت خاصّ أو علي صفة خاصّة مثلا،ففي مثل ذلك يضرّ الظنّ بالعدم، فإنّه لا بناء من العقلاء علي الأخذ به،لا أقلّ من الشكّ في بنائهم.

الثاني:التفصيل بين الأمور التي يمكن الاحتياط فيها،و بين غيرها ممّا لا يمكن الاحتياط فيها،فيضرّ الظنّ بالعدم في الأوّل.

الثالث:التفصيل بين الظنّ بالعدم الحاصل من تعارض الأدلّة و غيره،بناء علي التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي كلّ ما يوجب القرب إلي الواقع،و منه الظنّ بأقربية أحدهما.

كالجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل أحدهما علي الاستحباب،فإنّه في حدّ ذاته أقرب من الحمل علي التقيّة الذي هو في الحقيقة بحكم الطرح،ولكنّه في غير ما يكون احتمال التقيّة فيه أقوي،فإنّ الحمل علي التقيّة حينئذ أقرب إلي الواقع من الحمل علي الاستحباب.

أقول:سيأتي الكلام في تعارض الخبرين،و لا يبعد التفصيل الأوّل.

الموضع الخامس: في منشأ الشك في إرادة ظهور اللفظ في المعني

إذا كان اللفظ ظاهرا في معني في نفسه و شكّ في إرادة ظهوره،فمنشأ الشكّ امور:

ص: 354

أحدها:احتمال غفلة المتكلّم عن نصب القرينة،أو غفلة السامع عن سماع القرينة،أو غفلة الواسطة في نقلها،و في جميع ذلك بناء العقلاء الممضي شرعا علي عدم الاعتناء باحتمال الغفلة،بل البناء علي ما هو الظاهر،إلاّ إذا كان احتمال الغفلة قويّا،فلم يثبت بناؤهم،بل المتيقّن منه كون احتمال الغفلة احتمالا غير معتني به،و هذا كلّه مع إحراز كون المتكلّم و الوسائط ضابطين،و مع عدمه فلا بناء، و مع الشكّ يشكل.

ثانيها:احتمال قرينيّة الموجود،كالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة،أو اقتران حالة مخصوصة احتمل دخلها في المطلوب،كحضور المعصوم عليه السّلام في وجوب صلاة الجمعة،فلا بناء من العقلاء علي عدم قرينيّة الموجود،لا أقل من الشكّ في بنائهم.و لا دليل علي حجّية أصالة الحقيقة من باب التعبّد.

ثالثها:احتمال وجود قرينة حاليّة مثلا اعتمد عليها المتكلّم،أو لفظية لم تصل إلينا.

قال في الكفاية:لا خلاف في أنّ الأصل عدمها،لكن الظاهر أنّه معه يبني علي المعني الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء،لا أنّه يبني عليه بعد البناء علي عدمها كما لا يخفي،فافهم (1).

قلت:يظهر منهم أنّه يبني علي أصالة عدم القرينة،و أنّها من الاصول العقلائية، ولكن للمناقشة في ذلك مجال،فإنّه لم يثبت ذلك إلاّ إذا كان الاحتمال ضعيفا لا يعتني به.

أمّا إذا كان احتمال اعتماد المتكلّم علي قرينة حالية قويا،فلم يثبت حجّية ظهور الكلام،و كذلك إن كان احتمال عدم وصول القرينة قويّا،و لذا يشكل الأمر9.

ص: 355


1- كفاية الاصول ص 329.

في حجّية ظواهر بعض الأخبار؛لأنّ أصالة عدم غفلة الراوي لا تجري فيما لم يحرز كونه ضابطا،و كذا أصالة عدم السقط و نحوها من الاصول العدميّة لا تجري في الأخبار الواصلة إلينا لتطاول الأزمنة و اختلاف نسخ الأخبار و نحوها،بل لا بدّ من الاحتياط.

مثلا لو كان عامّ في خبر،و كان خبر آخر مخصّصا له علي نسخة،و لم يكن مخصّصا له علي نسخة اخري،لم يجر في أمثال ذلك أصالة العموم،أي:أصالة عدم القرينة.و الحاصل أنّه لا بدّ من ملاحظة الموارد في أخبارنا لابتلائها بامور خرجت عن تحت هذا البناء،لكن إذا كان عامّ أو غيره،و لم نجد قرينة علي الخلاف بعد الفحص و التتبّع،و احتمل سقوطها و كونها في الكتب التي فقدت من الرواة أو احرقت،كان اللازم الأخذ بالعامّ؛لأنّه لا تكليف بما لم يصل،فتأمّل فإنّ مراعاة الاحتياط سبيل النجاة.

الموضع السادس: في حجية ظهور اللفظ في معناه
اشارة

إذا علم أو اطمئنّ بظهور اللفظ في معناه فهو حجّة،و إذا ظنّ ظهور اللفظ،فلا دليل علي حجّيته،و في حجّية قول اللغوي و عدمها،و التفصيل وجوه و احتمالات:

أحدها:أنّه حجّة مطلقا،و إن كان قول واحد فاسق.

ثانيها:عدمها مطلقا.

ثالثها:التفصيل بين تحقّق شرائط الشهادة من العدد و العدالة و بين عدمه.

رابعها:التفصيل بين كونه ثقة أخبر عن حسّ أو قريب منه و بين غيره.

خامسها:التفصيل بين دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها و بين غيرهما.

و الظاهر عدم الحجّية مطلقا ما لم يحصل العلم-أي:سكون النفس-من قولهم،إلاّ إذا كانا عدلين أخبرا عن حسّ أو قريب منه،بناء علي عموم حجّية البيّنة،و هو محلّ إشكال.

ص: 356

استدلّ للأوّل أي لحجّية قولهم بوجهين:

الأوّل:سيرة العقلاء علي الرجوع إلي أهل الخبرة،قال الشيخ في الفرائد:قال الفاضل السبزواري فيما حكي عنه في هذا المقام ما هذا لفظه:صحّة المراجعة إلي أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر و زمان إلي آخر ما ذكره (1).

و قد يؤيّد ذلك بأنّه ثبت شرعا إمضاء هذا البناء العقلائي في خصوص الرجوع إلي أهل اللغة،فإنّ الخليل قد ألّف كتاب العين في اللغة و كان في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هكذا كان سيبويه و الكسائي و أضرابهم من علماء أهل اللغة في عصر الأئمّة عليهم السّلام و يراجع إليهم.و الشيخ الطوسي حكي عن ابن دريد عن أبي عبيدة معني الكعب،ثمّ قال:و قوله حجّة في اللغة (2).

و فيه أوّلا:أنّهم ليسوا أهل الخبرة في تمييز سعة المفاهيم وضيقها،أو تمييز المعني الحقيقي عن المعني المجازي فيما إذا تعدّد المعني المستعمل فيه،و ذلك لأنّهم و إن كانوا ربّما يستندون إلي سماع المعني من الأعرابي في البادية،لكن ليس ذلك ديدنهم غالبا،فراجع تهذيب اللغة و غيره تجد صدق ذلك.

نعم في بيان أصل المعني في الجملة و معاني اللغات الواضحة لا إشكال في صحّة المراجعة إليهم،مثل معني الماء و الخبز و الذهاب و المجيء،و لذا تري أنّ من أراد تعلّم اللغة العربية أو غيرها يرجع إلي كتب تلك اللغة و يحصل له العلم من ذلك،و هذه الموارد خارجة عن محلّ النزاع،و محلّ النزاع هو تشخيص سعة مفهوم الصعيد مثلا و الغنيمة و أمثال ذلك.و أمّا أصل المعني في الجملة،فهو ممّا لا إشكال في ثبوته بكلامهم،و كذا في مثل بيان معاني مفردات الأحاديث الأخلاقية6.

ص: 357


1- فرائد الاصول 75 طبع قم.
2- تهذيب الأحكام 1:186.

أو التاريخ و نحوهما ممّا لا يترتّب عليه آثار شرعية.

و أجاب عن هذا الاشكال في وقاية الاصول،قال:و أطرف من هذا الباب منع كون أهل اللغة أهل الخبرة بها،و يقال لهذا المانع هل هذه الصنعة ابتليت من بين سائر الصنائع بفقد أهل الخبرة بها،أو أنّ أهلها غير أهلها إلي آخر ما ذكره فراجع (1).

قلت:لا ننكر كونهم أهل الخبرة في الجملة،ولكن اطّلاعهم علي سعة المفاهيم وضيقها أو كون المعاني المتعدّدة التي لبعض الألفاظ هي موارد الاستعمال من غير نظر إلي كونها أو بعضها حقيقة،أو أنّ اللفظ مشترك لفظي بينها غير معلوم،و يظهر ذلك ممّا يأتي نقله بعد ذلك من كشف القناع.

و ثانيا:أنّ الآيات و الروايات واضحة الدلالة علي المنع عن اتّباع غير العلم، و لم يثبت جواز الرجوع إلي آحاد اللغويّين في زمان المعصومين لتشخيص سعة المفهوم وضيقه،حتّي يقال:إنّهم قد أمضوا ذلك.

و بعبارة اخري:لا شكّ في حجّية ظهور الألفاظ،و كان ديدن النبي صلّي اللّه عليه و اله و أصحابه علي العمل به،كما هو سيرة أبناء أهل المحاورة،فهذه السيرة ممضاة قطعا،و عليه فمن الظواهر الممضاة شرعا قطعا ظواهر العمومات من الآيات و الروايات،و هي رادعة عن هذه السيرة التي ادّعيت في الرجوع إلي أهل اللغة.

ثمّ إنّه قد يمنع كون اللغوي من أهل الخبرة؛إذ يعتبر في أهل اللغة كون خبره مبنيا علي إعمال نظر و رأي.

و فيه عدم اعتبار ذلك في أهل الخبرة،بل المراد بهم من كان مطّلعا علي ذلك الفنّ و لو حسّا،مضافا إلي أنّ أهل اللغة يجتهدون في اللغة و يستشهدون بالأشعار0.

ص: 358


1- وقاية الأذهان ص 510.

و نحوها.

الثاني:انسداد باب العلم باللغة،فيرجع إلي الظنّ الحاصل من قول اللغوي فإنّه أقرب.

و فيه أنّ المناط هو انسداد باب العلم بالأحكام،و من مقدّماته بطلان الاحتياط؛لاستلزامه العسر و الحرج،ولكن الاحتياط في مثل مفهوم الصعيد و الغناء و الغيبة و أمثالها لا يستلزم العسر و الحرج.

ثمّ إنّ صاحب كشف القناع قال بحجّية قولهم من باب الظنّ،فإنّه قال بعد عبارته التي ننقلها عن قريب:و قد تبيّن بما ذكرناه أنّ الاعتماد علي آحاد علماء الرجال و اللغة و العربيّة ليس لقطعهم،بل لحصول الظنّ من كلام حذّاقهم و مهرتهم و ثقاتهم و الوثوق بهم فيما يتعلّق بفنونهم التي صرفوا عليها كثيرا من أعمارهم و أوقاتهم،مع جودة أفهامهم وحدّة أذهانهم،و بذل المجهود علي حسب ما أمكنهم و وسعهم في أزمانهم،فهو نظير الاعتماد علي قول أهل الخبرة السوقيّة و الأطبّاء (1).انتهي كلامه.

و يستدلّ للثاني و هو عدم الحجّية مطلقا إن لم يحصل العلم من قولهم،بعدم جواز الاعتماد علي غير العلم.

و يستدلّ للثالث بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد نقل كلام الفاضل السبزواري المتقدّم،حيث قال:و فيه أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا،ألا تري أنّ أكثر علمائنا علي اعتبار العدالة في من يرجع إليه من أهل الرجال،بل و بعضهم علي اعتبار التعدّد،و الظاهر اتّفاقهم علي اشتراط التعدّد و العدالة في أهل الخبرة في8.

ص: 359


1- كشف القناع ص 418.

مسألة التقويم و غيرها (1)انتهي.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ من جملة شرائط الشهادة أن يخبر الشاهد عن حسّ، أو عمّا يكون آثاره محسوسة،و هذا الشرط مفقود في اللغوي،و ذلك لاستنادهم إلي آرائهم و اجتهاداتهم و استنباطاتهم الظنّية،و لأجل الشرط المذكور لا تثبت النجاسة بفتوي مجتهدين عادلين،و أمّا قبول قول المقوّم فلأنّه يخبر عن أمر محسوس و هو القيمة السوقية،فلو أخبر عن قيمة الشيء ظنّا و تخمينا كأن يخبر عن قيمته في الأزمان المتقدّمة باعتقاد بقائها،فلا يكون إخباره حجّة.

و يستدلّ للرابع بأنّ خبر الثقة إذا كان عن حسّ أو أمر محسوس بآثاره حجّة في الأحكام و الموضوعات،لسيرة العقلاء الممضاة شرعا.

و فيه أنّه لا دليل علي حجّية خبر الثقة في الموضوعات إن لم يحصل منه الوثوق،و الأخبار الدالّة علي حجّيته فيها مخصوصة بمواضع خاصّة،و لو سلّم فإنّما يكون حجّة إذا كان عن حسّ أو قريب منه،بحيث كان احتمال كونه عن حدس احتمالا غير معتدّ به،و إخبار اللغوي عن سعة بعض المفاهيم ليس كذلك.

و يستدلّ للخامس بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في هامش الفرائد بعد ذكر دليل الانسداد في اللغة و المناقشة فيه،قال:و الانصاف أنّ مورد الحاجة إلي قول اللغويّين أكثر من أن يحصي في تفاصيل المعاني،بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها،و إن كان المعني في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوي،كما في مثل ألفاظ الوطن و المفازة و التمر و الفاكهة و الكنز و المعدن و الغوص،و غير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصي،و إن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذورا،و لعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضةم.

ص: 360


1- فرائد الاصول 75 طبع نشر الاسلامي قم.

كاف في المطلب،فتأمّل (1)انتهي.

و قال في الذريعة:فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلي أخبار الآحاد في الاسم العامّ،فما الذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلّق بالاسم،ألا تري أنّا عند الاختلاف نثبت الأسماء بالرجوع إلي أهل اللغة (2)انتهي.

قلت:الاتّفاقات المذكورة ليست إجماعات تعبّدية،و لم يثبت سيرة ممضاة، فلا بدّ من الاحتياط ما لم يستلزم العسر و الحرج.

فتلخّص أنّه لا دليل علي حجّية قول اللغوي في بيان سعة المفاهيم وضيقها،و لا في كون المعني حقيقيّا أو مجازيّا،ما لم يستند إلي السماع من أعراب البادية مثلا، و أوجب قوله أو قولهم العلم،أو اجتمع شرائط البيّنة إن قلنا بحجّيتها مطلقا،و من ذلك يظهر عدم حجّية قول المتأخّرين منهم،مثل قول صاحب مجمع البحرين و المنجد و أضرابهما،فإنّهم يلاحظون كتب القدماء و ينقلون منها،فيكون راجعا إليهم،أو يجتهدون آراءهم،كما ذكرنا نظيره في محلّه بالنسبة إلي متأخّري الرجاليّين،فلا دليل علي حجّية أقوالهم.

و ذكر ذلك في كشف القناع،حيث قال:فإنّك إذا لاحظت ما عدا المشاهير من الألفاظ و المعاني،وجدت كلامهم فيه مبنيّا علي استقراء المحاورات و تتبّع الأمارات،و كثيرا مّا يعتبرون الاستعمال الواقع لبعض العرب في بعض المقامات و الأخبار النبويّة العاميّة التي لا نعتدّ بها أصلا في الأحكام الشرعيّة،و إنّما نعتدّ بها في اللغة لظنّ أنّها إن لم تصدر من النبي صلّي اللّه عليه و اله فقد وضعها بعض أهل اللسان من العرب.

و قد كثر الاختلاف بينهم،و الطعن عليهم و علي أئمّتهم و رؤسائهم بما هو مذكور3.

ص: 361


1- الفرائد ص 47.
2- الذريعة 1:283.

مفصّلا في محلّه،و من المعلوم فسق كثير منهم،و فساد مذهبهم،و تفرّد كلّ منهم بما لم يذكره غيره،و قد جرت طريقة متأخّريهم علي النظر إلي كلمات متقدّميهم و كتبهم و البناء علي ما يترجّح في أنظارهم،و ليس لهم غالبا سبيل إلي تحصيل العلم و اليقين،و لا طرق متّصلة إلي واضع اللغة،و إن قلنا إنّ الوضع بالاصطلاح لا التوقيف.

و قد حكي ابن الأثير أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال للنبي صلّي اللّه عليه و اله و قد سمعه و هو يخاطب وفد بني فهد:يا رسول اللّه نحن بنو أب واحد،و نراك تكلّم وفد العرب بما لا نفهم أكثره،فقال:أدّبني ربّي فأحسن تأديبي،و ربّيت في بني سعد.

قال ابن الأثير:فكان صلّي اللّه عليه و اله يخاطب العرب علي اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم و فصائلهم كلاّ منهم بما يفهمون،و يحادثهم بما يعلمون، و لهذا قال صدّق اللّه قوله:امرت أن اخاطب الناس علي قدر عقولهم،فكان اللّه عزّ و جلّ قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بني أبيه،و جمع فيه المعارف ما تفرّق، و لم يوجد في قاصي العرب و دانيه،و كان أصحابه و من يفد عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله،و ما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم (1)انتهي.

فإذا كان هذا حال اللغات في ذلك الزمان،فكيف حالها بعد ذلك (2).انتهي.

و لاحظ تتمّة كلام صاحب كشف القناع،ثمّ إنّه ذكر ابن الأثير في تتمّة كلامه من جمع اللغة،فلاحظ.

و الانصاف أنّ من لاحظ كتب اللغة يري اجتهاد أربابها في غير اصول معاني الألفاظ،قال في تهذيب اللغة:و الصحيح في تفسير الحلّة ما قال أبو عبيد؛لأنّ7.

ص: 362


1- النهاية لابن الأثير 1:4.
2- كشف القناع ص 417.

أحاديث السلف تدلّ علي ما قال (1)انتهي.فاستشهد لصحّة التفسير المذكور بأحاديث السلف.

و قال الثعالبي في فقه اللغة في معني كرّ:إنّه الماء الذي إذا اخذ من أحد أطرافه لم يتحرّك الطرف الآخر (2)انتهي.

و هذا موافق لفتوي بعض فقهاء العامّة.

و قال في تهذيب اللغة في معني آل:حكي عن الشافعي معناه بلحاظ ما ورد أنّ الصدقة محرّمة علي محمّد و آله صلّي اللّه عليهم.إلي غير ذلك.

و قال في مادّة وصي:إنّه بمعني الوصل،و سمّي علي عليه السّلام وصيّا لاتّصال نسبه و حسبه برسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله.

تنبيه:

بناء علي ما بيّنا من أنّ اللغويّين يجتهدون في بيان معاني الألفاظ،فلا يجوز للمجتهد تقليدهم،كما لا يجوز له تقليد الاصوليّين في آرائهم،و إنّما يتحقّق الاجتهاد في المسألة الفقهيّة إذا كان جميع مقدّماته اجتهاديّة،و إلاّ فالنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات،فلا بدّ للمجتهد أن يتتبّع كتب اللغة جميعها أو أكثرها بمقدار يحصل له الوثوق بمعني اللفظ،بحيث لا يحتمل العثور علي معارض له،و إلاّ فيحتاط.

قال في كشف القناع:إنّ حصول العلم يتّفق كثيرا في إجماع سائر أرباب الفنون،كأهل اللغة و غيرهم ممّا يتعلّق بفنونهم،فإنّ كثيرا ما يحصل من إجماع المتشاركين منهم في فنّ،و إن لم يكونوا عدولا و لا مسلمين بإصابتهم لما يعتبر في فنّهم،بحيث لو وقفنا عليه لحكمنا بما حكموا به،و لا سيّما مع عدم الوقوف بعد

ص: 363


1- تهذيب اللغة 2:442.
2- فقه اللغة للثعالبي ص 279.

النظر و التتبّع علي خلافه (1)انتهي.

البحث الحادي عشر: في حجّية الشهرة علي الحكم

ممّا قيل بحجّيته بالخصوص الشهرة الفتوائيّة،و لا بأس بذكر أقسام الشهرة.

فنقول:الشهرة:إمّا أن تكون من رواة الأخبار،و هم أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،أو تكون من القدماء،و هم الشيخ المفيد و الصدوقان و السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي و نظرائهم،أو تكون من المتأخّرين.

و علي التقادير:إمّا أن تكون الشهرة في الفتوي فقط بأن لا يكون خبر علي مضمونها،و إمّا أن تكون الشهرة في نقل الخبر عن المعصوم فقط بدون عملهم به، بأن ينقل كلّ واحد عن المعصوم،أو ينقل واحد عن المعصوم و ينقل عنه الرواة الثقات المشاهير،و إمّا أن تكون في العمل بالخبر،و يلحق به نقلهم الخبر مع عدم إحراز عدم عملهم به،فإنّه في قوّة عملهم به إذا تناقلوه في كتبهم؛لأنّ الظاهر أنّهم يعملون بالأخبار التي يودعونها في كتبهم.

و علي تقدير كون الشهرة في العمل بالخبر:إمّا أن تكون في فهم معناه من ظاهره،أو من قرينة خفيت علينا فتكون جابرة للدلالة،و إمّا أن تكون في صدور الخبر فتكون جابرة للسند،و تفصيل الأقسام:

القسم الأوّل:الشهرة في الفتوي من دون أن يكون خبر علي مضمونها،و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة في الفتوي من رواة الحديث و أصحاب الأئمّة،و الظاهر أنّها تكشف عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره؛لاستبعاد خطأ جميعهم،أو اختفاء

ص: 364


1- كشف القناع ص 184.

وجه الحكم عليهم من تقيّة أو غيرها.و قال الشيخ المفيد في الرسالة العدديّة:إنّ ما صدر منهم عليهم السّلام تقيّة لا يشتهر كشهرة غيره.

النوع الثاني:شهرة الفتوي من القدماء،فإن كشفت عن شهرة فتوي أصحاب الأئمّة،فحكمها حكم شهرتهم،و إلاّ فلا دليل علي حجّيتها مطلقا،و سنتعرّض لما استدلّ به علي حجّية مطلق الشهرة.

النوع الثالث:شهرة فتوي المتأخّرين،و لا دليل علي حجّيتها.

و قد يستدلّ لحجّية الشهرة في الفتوي بامور:

أحدها:أنّها تفيد الظنّ،فيشمله أدلّة حجّية الخبر الواحد؛لأنّه حجّة من باب إفادته الظنّ.

و فيه أنّ المناط في حجّية الخبر ليس إفادة الظنّ.

ثانيها:التعليل في قوله تعالي أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1)بناء علي أنّ الاقدام علي العمل بالظنّ ليس سفاهة.

و فيه أنّه لو سلّم أنّ الممنوع ما كان العمل به سفاهة،لكن لا دلالة له علي وجوب العمل بما لا يكون فيه سفاهة.

ثالثها:المرفوعة و المقبولة؛لأنّ المراد بقوله فيهما«خذ بما اشتهر بين أصحابك»إمّا الشهرة في الرواية و الفتوي معا،أو خصوص الرواية،و يثبت حجّية الشهرة في غير الرواية بتنقيح المناط،لأنّ حجّية الرواية المشهورة إنّما هي من أجل الشهرة،و هي موجودة في شهرة الفتوي،فتكون حجّة أيضا.

و فيه أنّهما تدلاّن علي الأخذ بالمشهور في الرواية.و لو سلّم دلالتهما علي الشهرة الفتوائية،فهي خاصّة بشهرة فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،لأنّ الخطاب6.

ص: 365


1- سورة الحجرات:6.

متوجّه إلي عمر بن حنظلة و زرارة بقوله«أصحابك»و شهرة الفتوي عند رواة الحديث تكشف عن الدليل المعتبر،و لا تدلّ علي حجّية شهرة فتوي العلماء المتقدّمين فضلا عن المتأخّرين،و احتمال الخصوصيّة فيهم يمنع عن التمسّك بالاطلاق،مع أنّ قوله في ذيل الخبر«فأرجه حتّي تلقي إمامك»يقتضي الاختصاص بزمان حضور الامام،إلاّ فيما لا يعلم اختصاصه بزمان الحضور.

و قد اجيب عنهما أوّلا:بضعف سند الاولي للارتفاع و غيره،و ضعف الثانية بعمر بن حنظلة،فإنّه لم يثبت وثاقته،و في سند الخبر الوارد في مدحه ضعف.

و ثانيا:أنّ المراد بالشهرة فيهما خصوص الشهرة في الرواية،لا الأعمّ منها و من الفتوي؛لأنّ موردهما الشهرة في الرواية،و لا يصحّ التعدّي منها إلي الشهرة في الفتوي،ألا تري أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟قلت:ما كان الاجتماع فيه أكثر،لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر،و يدلّ عليه قوله«إنّهما معا مشهوران»فإنّه لا يتحقّق شهرة الفتوي فيهما.نعم يحصل في الرواية،فيمكن أن يكون كلاهما مشهورين.

و ما قيل من إمكان فتوي كثير من الأصحاب بطرف و فتوي كثير منهم بطرف آخر،مدفوع بأنّ قوله«قد رواهما الثقات»يدلّ علي أنّ المراد الشهرة في الرواية.

و ثالثا:أنّ المراد بالمشهور فيهما هو المعني اللغوي،أي:الظاهر الواضح، فيكون متّحدا مع المجمع عليه،و يكون المراد المتّفق عليه،و هو الاجماع الاصطلاحي لا المشهور الاصطلاحي.

و قد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المراد بالشهرة فيهما الاجماع،فقال عند كلامه حول المقبولة:المشهور هو الواضح المعروف،و منه شهر فلان سيفه و سيف شاهر،فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك و لا ينكرها أحد منهم،و يترك ما لا يعرفه إلاّ الشاذّ،و لا يعرفها الباقي،فالشاذّ مشارك للمشهور في

ص: 366

معرفة الرواية المشهورة،و المشهور لا يشارك الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة، و بهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد،و الشاذّ من قبيل المشكل الذي يرد علمه إلي أهله،و إلاّ فلا معني للاستشهاد بحديث التثليث (1)انتهي.

أقول:يرد علي ما ذكره الشيخ رحمه اللّه أوّلا:بأنّه لا يبعد صدق المشهور علي ما رواه الكثير،و صدق الشاذّ علي الرواية المخالفة له،و إن كان الراوي مختصّا بروايته و لم يرو ما رواه غيره،بل يصدق الشاذّ علي ما يرويه راويان أو ثلاثة إذا روي الكثير خلافه.

و ثانيا:أنّ الراوي قال هما مشهوران قد رواهما الثقات،فقد فهم أنّ المشهور هو ما يرويه الثقات،و ليس مراده كلّ الثقات،بل و إن كانوا ثلاثة أو أكثر.

و ممّا يؤيّد أن يكون المراد الشهرة الاصطلاحيّة لا الاجماع،إضافتها إلي أصحاب عمر بن حنظلة،حيث قال:المجمع عليه من أصحابك،فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك الحديث.فإنّه يدلّ علي كفاية أن تكون الرواية مشهورة في الكوفة-بلد الراوي-مثلا،و ليس عليه تتبّع الرواية في سائر البلدان التي يعيش فيها الرواة.

ثمّ إنّه أورد علي الاستدلال بخبر عمر بن حنظلة في فوائد الاصول،بأنّ المراد من المجمع عليه إن كان الاجماع الاصطلاحي،فلا يشمل الشهرة.و إن كان المراد منه-أي:من قوله«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»-المشهور،فلا يصحّ حمل قوله«لا ريب فيه»عليه بقول مطلق،بل لا بدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالاضافة إلي ما يقابله،و هذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبري كلّية؛لأنّه يعتبر في الكبري الكلّية صحّة التكليف بها ابتداء بلا ضمّ المورد إليها،كما في قولهم.

ص: 367


1- فرائد الاصول ص 107 طبع قم.

«الخمر حرام لأنّه مسكر»فإنّه يصحّ أن يقال:لا تشرب المسكر بلا ضمّ الخمر إليه.

و التعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق علي ذلك؛لأنّه لا يصحّ أن يقال:يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالاضافة إلي ما يقابله،و إلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلي غيره،و بأقوي الشهرتين،و بالظنّ المطلق،و غير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها،فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبري الكلّية التي لا يصحّ التعدّي عن موردها (1)انتهي.

أقول:يرد عليه أوّلا:أنّ التعليل يكون،تعبّديا حينئذ،و هو خلاف الظاهر.

و ثانيا:أنّ مورد المقبولة هو الاضطرار إلي العمل بأحد الطرفين،و في مثله أي متي دار الأمر بين ما لا ريب فيه بالاضافة إلي ما يقابله لزم الأخذ به عقلا حتّي ابتداء،و لذا يؤخذ بالظنّ في مقابل المشكوك و هكذا.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ شهرة الفتوي من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام حجّة،و لا دليل علي حجّية شهرة فتوي القدماء إن لم تكشف عن شهرة فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

لكن قد يقال:إنّ الشهرة الفتوائيّة-من القدماء في كتبهم المعدّة لذكر الاصول المتلقّاة من المعصومين،و هي المقنعة و الفقيه و الهداية و الانتصار و الناصريات و النهاية و المراسم و الغنية و أمثالها،إذا لم تكن مستندة إلي وجه ظاهر-تكشف عن وصول نصّ معتبر إليهم قد خفي علينا،و ذلك لأنّ دأب القدماء كان علي تقسيم المسائل إلي الأصليّة و الفرعيّة.

و المراد بالاولي هي اصول المسائل المتلقّاة من المعصومين،كنجاسة الماء4.

ص: 368


1- فوائد الاصول 3:54.

بالتغيّر.و المراد بالثانية التفريعات علي المسائل الأصليّة،كنجاسة الماء إذا تغيّر أحد أوصافه بمجموع الداخل و الخارج من الميتة.

و قد كان بعض كتب القدماء يقتصر علي ذكر المسائل الأصلية،كنهاية الشيخ و الفقيه و المقنع و الهداية،و بعضها علي المسائل الأصلية أوّلا،ثمّ يذكر التفريعات بعنوان اللواحق أو المسائل،و كانت هذه الكيفيّة في تدوين الفقه متداولة إلي زمان المحقّق،و ألّف الشرائع علي هذا المنوال،ثمّ وقع الخلط بين المسائل الأصليّة و الفرعيّة في كتب الشهيد رحمه اللّه و من بعده.

فالشهرة القدمائية في المسائل الأصلية حجّة،و إن لم تبلغ حدّ الاجماع، لكشفها عن نصّ،أو كون الحكم واصلا إليهم يدا بيد إلي زمان المعصومين، و إجماعهم في المسائل الفرعية ليست بحجّة فضلا عن شهرتهم.و أمّا إجماع المتأخّرين،فليس حجّة فضلا عن شهرتهم؛لعدم كشفه عن نصّ وصل إليهم لم يذكروه لنا،فإنّه لو كان نصّ وصل إليهم لذكروه.

و الحاصل أنّ هنا دعاوي:

إحداها:أنّ بعض كتب القدماء مقصور علي المسائل الأصليّة.

ثانيتها:أنّ المسائل الأصليّة متّخذة من النصوص.

ثالثتها:أنّ النصوص غير منحصرة فيما أودعوه في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المشهورة،بل كانت نصوص لم تصل إلينا.

يدلّ علي الاوليين ما في مقدّمة المبسوط،حيث قال:و كنت علي قديم الوقت و حديثه متشوّق النفس إلي عمل كتاب يشتمل علي ذلك تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع و شغلني الشواغل،و تضعف نيّتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه،و ترك عنايتهم به؛لأنّهم ألفوا الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ، حتّي انّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها

ص: 369

و قصّر فهمهم عنها.

و كنت عملت علي قديم الوقت كتاب النهاية،و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم و أصّلوها من المسائل،و فرّقوه في كتبهم،و رتّبته ترتيب الفقه، و جمعت من النظائر،و رتّبت فيه الكتب علي ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك،و لم أتعرّض للتفريع علي المسائل،و لا لتعقيد الأبواب و ترتيب المسائل و تعليقها و الجمع بين نظائرها،بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّي لا يستوحشوا من ذلك،و عملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات،سلكت فيه طريق الايجاز و الاختصار،و عقود الأبواب فيما يتعلّق بالعبادات،و وعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصّة يضاف إلي كتاب النهاية،و يجتمع معه يكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج إليه (1).

فقد صرّح بأنّ كتاب النهاية مشتمل علي المسائل الأصليّة المتّخذة من النصوص المذكورة بعين عبارات النصوص،و لم يذكر فيه المسائل التفريعيّة.

و يدلّ علي الأخيرة،و هي أنّ الكتب الموجودة ليست حاصرة لجميع الأخبار، أنّه كانت جوامع قد اختار منها كلّ من المحمّدين الثلاثة رضوان اللّه عليهم أخبارا أودعوها في الكتب الأربعة،و لذا اشتمل بعضها علي ما لم يشتمل عليه الآخر.

قال الشيخ في أوّل التهذيب:لأنّي إن شاء اللّه تعالي إذا وفّق اللّه الفراغ من هذا الكتاب أبتديء بشرح كتاب يجتمع علي جميع أحاديث أصحابنا،أو أكثرها ممّا يبلغ إليه جهدي،و أستوفي ما يتعلّق بها إن شاء اللّه (2)انتهي.

و هذا الكلام يدلّ علي وجود روايات غير ما ذكره في التهذيبين،و استطرف ابن ادريس في آخر السرائر من تلك الكتب أحاديث ليست موجودة في الكتب4.

ص: 370


1- المبسوط 1:2-3.
2- تهذيب الأحكام 1:4.

الأربعة.

و أسند السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي بعض فتاويهم إلي الأخبار،و هي غير موجودة في الكتب التي بأيدينا.

منها:ما ذكره السيّد المرتضي رحمه اللّه في مسألة من زنا بذات بعل تحرم عليه أبدا، قال في الانتصار بعد الاستدلال علي الحرمة بالاجماع:و قد ورد من طرق الشيعة في حظر ما ذكرناه أخبار معروفة (1)الي آخر كلامه.مع أنّه لا يوجد فيما لدينا خبر يدلّ علي التحريم.

و منها:ما ذكره الشيخ في النهاية في مسألة ميراث المجوس،قال:و به تشهد الروايات،و طعن عليه ابن ادريس بأنّه ليس في المسألة إلاّ رواية واحدة (2).

أقول:ذكر في كشف القناع في الوجه السابع من وجوه الاجماع الذي اعتمد عليه بعض ما ذكرناه أو كلّه فراجع،و ما ذكرناه منقول عن بعض الأعاظم رحمه اللّه.

و الانصاف أنّه لو وجد شهرة بين القدماء غير مسندة إلي وجه،كظاهر الكتاب، أو ظاهر خبر من الأخبار الموجودة،أو وجه عقلي،فاحتمال وجود نصّ معتبر وصل إليهم،أو وصول الحكم يدا بيد إليهم قريب جدّا،فلا بدّ من الاحتياط في مثل ذلك.

و أمّا الفتوي فأمر مشكل،فإنّه لا يخفي أنّ نهاية الشيخ ليس جميع ما فيها متون الأخبار،فقد عثر علي بعض مواضع تشهد بذلك:

منها:قوله في كتاب الوصيّة:و إذا أوصي بثلث ماله لقرابته و لم يسمّ أحدا،كان ذلك في جميع ذوي نسبه الراجعين إلي آخر أب و امّ له في الاسلام،و يكون ذلك8.

ص: 371


1- الانتصار ص 106.
2- السرائر 3:288.

بين الجماعة بالسويّة (1).

و قال في المبسوط:و في أصحابنا من قال:إنّه يصرف ذلك إلي آخر أب و امّ له في الاسلام،و لم أجد به نصّا،و لا عليه دليلا مستخرجا و لا به شاهدا (2)انتهي.

فإنّه نفي ما ذكره في النهاية أن يكون مأخوذا من الخبر،و لعلّ المتتبّع يجد غير ذلك.

ثمّ إنّ الشهرة الفتوائيّة القدمائيّة ربّما تكون مؤيّدة للخبر،و قد تكون موهنة له، مثلا ظاهر الأخبار وجوب الاقامة للصلوات اليوميّة و لا معارض لها،ولكن يضعّف دلالتها علي الوجوب أنّ المسألة محلّ ابتلاء المسلمين في كل يوم خمس مرّات،و في مثلها ينبغي وضوح حكمها بين المسلمين،و لو خفي علي عامّة الشيعة لم تكن تخفي علي رؤساء الدين و علماء الشيعة،فكيف صار عدم الوجوب مشهورا بين القدماء أساطين الفقه؟مع أنّ هذه الأخبار الظاهرة في الوجوب بمرأي منهم.

أقول:لا بأس بهذا الكلام في الجملة،و لا كلام لنا في مسألة الاقامة فعلا.

القسم الثاني:الشهرة في الرواية،و هي تحصل بنقل جماعة مضمون خبر عن أحد المعصومين عليهم السّلام،أو نقل واحد عن المعصومين عليهم السّلام و نقل جماعة عنه،أو تكرّر ذكرها في الكتب و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و الرواية المشهورة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام حجّة؛لأنّ اشتهارها بينهم يكشف عن عملهم بها،لكن إن علم عدم عملهم بها بأن كانت الشهرة في مجرّد الرواية و لم يعملوا بها و أعرضوا عنها،فهذا يوجب سقوط الخبر عن الحجّية؛لأنّهم مع تمكّنهم من الوصول إلي0.

ص: 372


1- النهاية ص 614.
2- المبسوط 4:40.

حضور الامام المعصوم عليه السّلام و كون الخبر بمرأي منهم،و مع ذلك قد أعرضوا عنه، فلذلك يكشف عن أنّهم عثروا علي خلل فيه دلالة أو سندا.

و هذه الشهرة هي التي جعلت مرجّحة لأحد الخبرين علي الآخر في مقبولة عمر بن حنظلة،و هي شهرة الرواية التي عملوا بها،أو الأعمّ منها و ممّا لم يعلم أنّهم عملوا بها لا التي أعرضوا عنها،بل صدر المقبولة يدلّ علي الأخذ بقول الأفقه و إن كان مخالفا للخبر المشهور،و ذلك لأنّه ربّما أحرز علي صدور الخبر عن المعصوم تقيّة.

و في كشف القناع منع حصول العلم بقول المعصوم أو فعله أو تقريره من فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،لاحظ الأمر الثالث (1).ولكن يستفاد من كلامه في الوجه السابع من وجوه تقرير الاجماع أنّه يعتقد كشفها عن دليل معتبر،و إن لم تكشف علما عن الحكم الواقعي.

النوع الثاني:شهرة الرواية عند القدماء،فإن كشفت عن الشهرة بين الرواة فهي توجب حجّية الرواية؛لأنّ الحجّة من الأخبار هو ظاهر خبر الثقة الذي فهمه المخبر أو المخاطبون بالخبر،سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له،لسهو الراوي أو خطأه،سواء كان كلام المعصوم عليه السّلام صادرا لبيان الحكم الواقعي،أو كان صادرا تقيّة و خفي علي الراوي و غيره.فإن كشفت الشهرة عن ذلك،أي:عن ظاهر خبر صادر من المعصومين عليهم السّلام كشفا علميّا فهو،و إلاّ فالكشف الظنّي لا دليل علي حجّيته.

و ليست الشهرة بنفسها حجّة،كما أنّ الاعراض عن الخبر لا يكون مسقطا لحجيّته،إلاّ إذا كشف عن وجود قرينة حاليّة أو مقاليّة لم تصل إلينا توجب وهن0.

ص: 373


1- كشف القناع ص 60.

دلالة الخبر،أو كشف عن خلل في صدور الخبر:إمّا لضعف راويه،أو صدوره تقيّة،ولكن يظهر من الشيخ الطوسي أنّ الاجماع علي النقل إن لم يعلم الفتوي علي وفاقه و خلافه يقتضي حجّية الخبر.

النوع الثالث:شهرة الخبر بين المتأخّرين،و الظاهر أنّه لا تثبت صحّة صدوره بمجرّد اشتهار ذكره في كتبهم.

القسم الثالث:الشهرة في العمل بالخبر،بأن استدلّوا علي مطلوبهم بالخبر و استندوا إليه،و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و هي توجب جبر السند،و هي المرجّح في باب تعارض الخبرين،كما يدلّ عليه المقبولة،حيث انّ الخطاب بالأخذ بالمجمع عليه بين«أصحابك»متوجّه إلي عمر بن حنظلة.

النوع الثاني:شهرة العمل بالخبر بين القدماء،و لا يخفي أنّ عملهم بالخبر لا يوجب وثاقة رواته،و لا يوجب الوثوق بصدور الخبر عن المعصومين؛لأنّ كيفيّة عملهم بالأخبار غير معلومة،فإن كشفت عن الشهرة بين الرواة فهو،و إلاّ فيشكل الاكتفاء بعملهم،و سيأتي في بحث الأخبار بيان ذلك.

النوع الثالث:شهرة العمل بالخبر بين المتأخّرين،فإن كشفت عن شهرة العمل بين الرواة،و إلاّ فلا دليل علي حجيّتها و لا علي جبرها سند الخبر،و سيأتي البحث عن كون الشهرة جابرة و الاعراض موهنا في بحث الخبر الواحد.

المبحث الثاني عشر: في الاجماع

لا يخفي أنّ الاجماع عند الاماميّة ليس حجّة من حيث انّه إجماع،بل هو كاشف عن الحجّة و هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره،أو خبر واجد لشرائط الحجّية،فإن كشف اتّفاق جماعة علما و لو عرفيا عن ذلك فهو،و إلاّ فليس بحجّة،

ص: 374

و لا يعتبر اتّفاق الجميع.

هذا حال الاجماع المحصّل،و أمّا منقوله فهو تابع له،فيمكن أن يكون الاجماع يراد به اتّفاق جماعة يكشف قولهم عن ذلك فيكون حجّة و إلاّ فلا.

و ذكر في كشف القناع اثني عشر وجها،و ناقش في جميعها إلاّ الوجه السابع، و حاصله يرجع إلي كشف حجّة معتبرة،فلاحظ.

و أقول:إن كشف إجماعهم أو شهرتهم عن حجّة معتبرة فهو،و إلاّ فلا يعتمد عليه،و ينبغي الاحتياط بعدم مخالفته في بعض الموارد.

المبحث الثالث عشر: في حجّية خبر الواحد

اشارة

و فيه مطالب:

المطلب الأوّل: في وجوب العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين عليهم السلام

لا يخفي أنّه يجب العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام في صورتين:

الصورة الاولي:إذا كانت ظاهرة في معناها و علم صحّة مضمونها،أو علم صدورها عن المعصومين بشرط أن لا يعلم أنّها صدرت تقيّة.

الصورة الثانية:إذا كانت ظاهرة في معناها و علم تعبّد الشارع بالعمل بها،و لا يجب العمل بما عداهما،بل لا يجوز إسناده إلي الشارع.فإن علم المجتهد تفصيلا الصورتين عمل بهما و لم يجب العمل بغيرهما،و لو علم إجمالا باشتمال الأخبار علي الصورتين المذكورتين وجب العمل بالجميع حتّي يكون عاملا بهما، و المذهب المنصور المختار هو العمل بجميع الأخبار؛للعلم الاجمالي الذي لا ينحلّ بالعمل ببعضها،و سيأتي كيفيّة العمل بجميعها.

هذا و قد اختلف الأصحاب في حجّية الأخبار المدوّنة في الكتب التي بأيدينا علي قولين:الأوّل:أنّ مناط العمل هو العلم بصحّة مضمون الخبر من أيّ طريق

ص: 375

حصل العلم،سواء حصل من القرائن،أو حصل من وثاقة الرواة.الثاني:العلم بالتعبّد بالخبر بملاحظة حال رواتها؛لانسداد باب العلم بصحّة المضمون.

و أشار إلي الطريقين في أوّل كتاب منتقي الجمان،قال:و لقد كانت حاله-أي:

الخبر-مع السلف الأوّلين علي طرف النقيض ممّا هو فيه مع الخلف الآخرين، فأكثروا لذلك فيه المصنّفات،و توسّعوا في طرق الروايات،و أوردوا في كتبهم ما اقتضي رأيهم ايراده من غير التفات إلي التفرقة بين صحيح الطريق و ضعيفه،و لا تعرّض للتميز بين سليم الاسناد و سقيمه،اعتمادا منهم في الغالب علي القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه،و تعويلا علي الأمارات الملحقة لمنحطّ الرتبة بما فوقه.

كما أشار إليه الشيخ رحمه اللّه في فهرسته،حيث قال:إنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة و كتبهم معتمدة.

قال المرتضي رضي اللّه عنه في جواب المسائل التبّانيّات المتعلّقة بأخبار الآحاد:إنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع علي صحّتها:إمّا بالتواتر من طريق الاشاعة و الاذاعة،أو بأمارة و علامة دلّت علي صحّتها و صدق رواتها،فهي موجبة للعلم،مقتضية للقطع،و إن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص معيّن من طريق الآحاد.

و غير خاف أنّه لم يبق لنا سبيل إلي الاطّلاع علي الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظّوا بالعين و أصبح حظّنا الأثر،و فازوا بالعيان،و عوّضنا عنه بالخبر،فلا جرم انسدّ عنّا باب الاعتماد علي ما كانت لهم أبوابه مشرعة،و ضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متّسعة،و لو لم يكن إلاّ انقطاع طريق الرواية عناّ من غير جهة الاجازة التي هي أدني مراتبها لكفي به سببا لإباء الدراية علي

ص: 376

طالبها (1)انتهي.

و يتشعّب من هذين المذهبين مذاهب:

أحدها:دعوي قطعيّة صدور الأخبار الموجودة في الكتب المتداولة،أو قطعيّة حجّيتها،أو دعوي الاطمئنان بصدورها أو حجّيتها،أو دعوي ذلك في خصوص الكتب الأربعة،و ادّعي صاحب الوسائل (2)حجّية الأخبار التي أودعها في الوسائل للقرائن الموجبة للوثوق و العلم العادي بصدورها،و ذكر القرائن في الفوائد المذكورة في خاتمة الوسائل.

و قال النراقي في المناهج:الثاني وجودها في أحد الاصول المعتبرة عندنا معاشر الاماميّة،و المراد بالأصل المعتبر ما كان جامعا لوصفين:أحدهما كون صاحب الأصل ثقة ضابطا متديّنا بدينه،عالما بوجوه صحّة الخبر و سقمه،متمكّنا من تمييز صحّة الخبر عن غيره في الجملة،أي:قريب العهد بأزمنة المعصومين عليهم السّلام.ثانيهما:أن يكون الأصل ثابتا من هذا الشخص بأخبار متواترة أو محفوفة بالقرائن (3)انتهي.

و قال في موضع آخر في ذكر بعض شرائط اخر لا دليل عليها:و منها التحرّز عن الكذب و الوثاقة،و قد يستدلّ علي اشتراطه باتّفاق الأصحاب،فإنّا نراهم يردون روايات كثيرة بجهالة راويها أو إرسالها،و أمثال ذلك.و فيه أنّ المسلّم إلي أن قال:و أمّا فيما كان مذكورا في كتاب معروف أو أصل مشهور،و كان صاحبه ثقة ممّن يعرف وجوه صحّة الحديث و فساده،سيّما إذا شهد بصحّة ما جمعه،فلاط.

ص: 377


1- منتقي الجمان 1:2.
2- وسائل الشيعة 20:96.
3- المناهج،منهاج:للعمل بالأحاديث شرائط.

نسلم البحث عن راويه (1).

ثانيها:ما اختاره في المعتبر،قال:فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب طرحه (2).و له كلام في المعارج ربما ينافي ذلك.

ثالثها:خبر العدل المعدّل رواة سلسلة سنده بعدلين،اختاره صاحب المعالم.

رابعها:خبر العدل المزكّي و لو بعدل واحد.

خامسها:خبر العدل و الموثّق و الحسن.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه اختار حجّية الخبر الموجب للاطمئنان،و نسبه إلي الشيخ الطوسي،و احتمل موافقة القدماء له،فلا فرق بين مذهبه و مذهب القدماء علي رأيه،قال:و الانصاف أنّ الدالّ منها-أي:من أدلّة حجّية الخبر الواحد-لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة، فافهم (3)انتهي.

و بعضهم نسب إلي القدماء أنّ الصحيح عندهم ما وثقوا بكونه من المعصوم،أعمّ من أن يكون منشأه وثوقهم بكون الراوي من الثقات أو أمارات اخر.

ثمّ إنّ الأخبار علي أنواع:ة.

ص: 378


1- نفس المصدر.
2- المعتبر 1:29.
3- فرائد الاصول ص 106 الطبع الحجري و ص 174 الطبعة المحقّقة.

الأوّل:ما علم صدوره بتواتر و نحوه،ممّا ذكره الشيخ الطوسي في العدّة (1).

الثاني:ما اقترن بقرائن تدلّ علي صدوره.

الثالث:ما لم يعلم صدوره و لا اقترن بما يوجب العلم بصدوره.

أمّا الأوّل،فهو خارج عن محلّ البحث؛لأنّ العلم هو حضور المعلوم،فإنّ معناه اللغوي هو سكون النفس بالشيء علي ما هو به،فلا بدّ أن يكون مطابقا للواقع و إلاّ كان جهلا.

قال في العدّة:حدّ العلم ما اقتضي سكون النفس (2).و مراده سكون النفس للشيء علي ما هو به لتصريحه به بعد ذلك،قال:و ليس من حيث أنّ ما اقتضي سكون النفس لا يكون اعتقادا للشيء علي ما هو به ينبغي أن يذكر في الحدّ (3)، فراجع.

أقول:و هذا أيضا مراد السيّد في الذريعة،و إن قال:العلم ما اقتضي سكون النفس (4).

و لا يخفي أنّ تواتر الخبر سبب عقلائي لحصول العلم الشخصي،فقد يحصل العلم عند إخبار جماعة دفعة،و قد يحصل تدريجا بتقوي الظنّ حتّي يصل إلي مرتبة العلم،أو بتقوي الاحتمال حتّي يحصل العلم،و لم يقع عنوان التواتر في دليل ليبحث عن مفهومه،فيختلف موارد حصول العلم من التواتر.

و أمّا الثاني و هو ما اقترن بالقرينة الموجبة للعلم،فليس القرائن القطعيّة إلاّ الضروريّات التي لا حاجة فيها إلي الأخبار و إلاّ نصّ الكتاب.0.

ص: 379


1- عدّة الاصول 1:235.
2- عدّة الاصول 1:12.
3- عدّة الاصول 1:12.
4- الذريعة 1:20.

و أمّا القرائن التي ذكرها الشيخ الطوسي رحمه اللّه لإفادة العلم بمقتضي الخبر،فهي لا تفيد العلم بمضمون الخبر،نعم توجب العلم بحجّية مضمون الخبر كما قيل.

قال في أوّل الاستبصار:و اعلم أنّ الأخبار علي ضربين:متواتر،و غير متواتر.

فالمتواتر ما أوجب العلم.

إلي أن قال:و ما ليس بمتواتر علي ضربين:فضرب منه يوجب العلم أيضا،و هو كلّ خبر يقترن إليه قرينة توجب العلم،و ما يجري هذا المجري يجب أيضا العمل به،و هو لاحق بالقسم الأوّل.

و القرائن منها:أن تكون مطابقة لأدلّة العقل و مقتضاه.

و منها:أن تكون مطابقة لظاهر القرآن إمّا لظاهره أو عمومه،أو دليل خطابه أو فحواه،فكلّ هذه القرائن توجب العلم و تخرج الخبر عن حيّز الآحاد و تدخله في باب المعلوم.

و منها:أن تكون مطابقة للسنّة المقطوع بها إمّا صريحا أو دليلا أو فحوي أو عموما.

و منها:أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه.

و منها:أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحقّة،فإنّ جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيّز الآحاد و تدخله في باب المعلوم و توجب العمل به (1)انتهي.

و لا يخفي أنّه لا يبعد أن يكون مراده العلم بالحجّية لموافقة الخبر للحجّة،و لا ينافي ذلك أن يكون الخبر الواحد العدل بشرائطه حجّة عنده أيضا؛لأنّ ذلك من أجل الدليل علي حجّية الخبر.

و قال العلاّمة المجلسي قدّس سرّه:مراده الظنّ القوي (2).2.

ص: 380


1- الاستبصار 1:3-4.
2- ملاذ الأخيار 1:22.

و أمّا الثالث،و هو ما لا يقترن بما يوجب العلم،فهو أصناف:

الأوّل:الخبر الذي حصل سكون النفس منه لا لسبب يقتضيه بل لمجرّد الخبر، كما يحصل لبسطاء الناس العلم بالمخبر به إذا أخبر به مخبر واحد،فالعلم المذكور لا اعتبار به؛لأنّه يزول بالتروّي و الاطّلاع علي كثرة الأخبار الكاذبة.

الثاني:الخبر الذي يحصل العلم من أجل كون المخبر ثقة واقعا،أو عدلا كذلك، فالظاهر أنّه حجّة؛لأنّه قد حصل من سبب عقلائي،و قد وقع الكلام في حصول العلم من خبر العادل و عدمه.و لعلّ ظاهر كلام السيّد المرتضي رحمه اللّه أنّه لو حصل العلم من خبر الواحد لم يكن الخبر حجّة؛لأنّ العلم الحاصل منه ليس علما.

قال السيّد في الذريعة:اعلم أنّ الصحيح أنّ خبر الواحد لا يوجب علما،و إنّما يقتضي غلبة الظنّ بصدقه إذا كان عدلا،و كان النظّام يذهب إلي أنّ العلم يجوز أن يحصل عنده و إن لم يجب؛لأنّه يتبع قرائن و أسبابا،و يجعل العمل تابعا للعلم، فمهما لم يحصل علم فلا عمل.

و قال بعضهم:إنّ خبر الواحد يوجب العلم الظاهر،و يقسّم العلم إلي قسمين.

و في الناس من يقول:إنّ كلّ خبر وجب العمل به فلا بدّ من ايجابه العلم،و يجعل العلم تابعا للعمل.

و أقوي ما أبطل قول النظّام أنّ الخبر مع الأسباب التي يذكرها لو حصل عندها العلم كما ادّعي،لما جاز انكشافه عن الباطل،و قد علمنا أنّ الخبر عن موت انسان بعينه مع حصول الأسباب التي يراعيها من البكاء عليه و الصراخ و احضار الجنازة و الأكفان قد ينكشف عن باطل،فيقال:إنّه اغمي عليه،أو لحقه السكتة،أو ما أشبه ذلك،و العلم لا يجوز انكشافه عن باطل (1).7.

ص: 381


1- الذريعة 2:517.

قلت:لعلّ مراتب وثاقة الراوي تختلف،و كذا مراتب إحساس المخبر بالمخبر عنه و نحوه،فيمكن حصول العلم في بعض الموارد.

الثالث:الخبر الذي يحصل الظنّ الاطمئناني بصدوره أو بصحّة مضمونه،و قد مرّ الكلام في حجّية الاطمئنان في مباحث القطع،فإن قلنا بحجّيته فهو،و إلاّ فقد يقال بحجّيته في خصوص الأخبار،و إن كان حاصلا من قول الفاسق.و هو مختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و ذكر ذلك بعد كلّ واحد من أدلّة حجّية الخبر الواحد.

قال رحمه اللّه:فمادّة التبيّن و لفظ الجهالة و ظاهر التعليل كلّها آبية عن إرادة مجرّد الظنّ.نعم يمكن دعوي صدقه علي الاطمئنان الخارج عن التحيّر و التزلزل،بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم،فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به،لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالاّ علي حجّية الظنّ الاطمئناني المذكور،و إن لم يكن معه خبر فاسق الي آخر كلامه (1).

قلت:التبيّن هو الظهور و الكشف الواقعي،و لا يصدق علي الظنّ الاطمئناني، بل يمكن أن يقال:إنّ وجوب التبيّن يقتضي عدم كفاية الاطمئنان،كما هو الظاهر في مورد نزول الآية الشريفة؛لأنّه لا يجوز قتل من يطمئنّ بكونه مهدور الدم، و سيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالي في أدلّة حجّية الخبر.

الرابع:أن يحصل الاطمئنان بصدور الخبر من الامور الخارجة عن الخبر، و حجّيته مبنيّة علي حجّية الاطمئنان.

الخامس:خبر الثقة الواقعي الذي أحرز وثاقته أهل الفطانة و الاطّلاع علي أحوال الناس،إن لم يحصل الوثوق من خبره.

السادس:خبر الثقة الظاهري،و المراد به من ثبت وثاقته بالاستصحاب أو6.

ص: 382


1- فرائد الاصول ص 126.

بالبيّنة و أمثال ذلك.

و هناك أقسام اخر،و جميعها محلّ النزاع،و العمدة منها صنفان:

الأوّل:الخبر الذي يطمأنّ بصحّته،و هو الذي اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حجّيته،و أقام الأدلّة عليه،ولكنّه لا يمكن تطبيقه علي الأخبار التي يتمسّك بها في الفقه إلاّ القليل.لأنّ أكثر الأخبار لا يحصل الاطمئنان بصدورها.

الثاني:الخبر الذي لا يطمئنّ بصحّته،و هو أقسام:الصحيح،و الحسن، و الضعيف،و غيرها.و هذه الأقسام أعمّ ممّا حصل الاطمئنان بمضمونه أو لم يحصل.إذا عرفت محلّ النزاع،و هو الخبر الذي لا يحصل عنده العلم القطعي،و إن حصل الاطمئنان بمضمونه،فيقع الكلام في الدليل علي حجّيته و عدمه.

المطلب الثاني: في أدلّة النافين لحجّية خبر الواحد و المثبتين
اشارة

استدلّ النافون بوجوه:

الدليل الأوّل:الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،و الذامّة لاتّباع الظنّ.

و الجواب عنها من وجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدّة،قال:فأمّا قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)فلا يدلّ علي ذلك أيضا؛لأنّ من عمل بخبر الواحد،فإنّما يعمل به إذا دلّه الدليل علي وجوب العمل به:إمّا من الكتاب،أو السنّة،أو الاجماع،فلا يكون قد عمل بغير علم،و إنّما الآية مانعة من العمل بغير علم أصلا الي آخر كلامه (2).

الثاني:أنّ المراد بالعلم الحجّة،أي:لا تتّبع غير الحجّة،اختاره في نهاية الاصول،قال:المراد بالعلم الحجّة العقلائيّة التي يعتمد عليها عند العقلاء،و الشاهد

ص: 383


1- سورة الاسراء:36.
2- عدّة الاصول 1:303.

علي ذلك قوله تعالي مخاطبا للكفّار اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)و قوله تعالي قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (2)فإنّ المراد بالعلم مدارك مأثورة واصلة إليهم من الأسلاف، فالمراد بالعلم هو الحجّة العقلائية (3).

الثالث:ما ذكره في كفاية الاصول،قال:إنّ الظاهر من الآيات الناهية عن متابعة غير العلم،أو المتيقّن من إطلاقها هو اتّباع غير العلم في الاصول الاعتقادية (4).

و فيه أنّ بعض الآيات أعمّ،و بعضها ذكر فيه الفروع،مثل قوله تعالي لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ (5)الآية فإنّ السمع مسؤول عمّا يسمع، و قوله تعالي قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (6)و لعلّ المراد أنّ ما يفعلون مردّد بين المأذون و المفتري،فاتّباع ما لم يعلم كونه مأذونا يكون مفتري.

الرابع:ما ذكره في مصباح الاصول،قال:إنّ خبر الواحد علم تعبّدا؛لأنّ أدلّة حجّية الخبر تدلّ علي أنّ الشارع المقدّس جعل خبر الثقة طريقا إلي الواقع بتتميم الكشف،فهو علم بالتعبّد الشرعي (7).2.

ص: 384


1- سورة الأحقاف:4.
2- سورة الأنعام:148.
3- نهاية الاصول ص 489.
4- كفاية الاصول ص 339.
5- سورة الاسراء:36.
6- سورة يونس:59.
7- مصباح الاصول 2:152.

أقول:جميع ما يمكن أن يستدلّ به علي أنّه علم تعبّدا هو ما أفاده في نهاية الدراية و غيرها،و هي امور:

الأوّل:قوله عليه السّلام«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (1)دلّ علي إلغاء الشكّ عند رواية الثقة،و مرجعه إلي أنّه لا شكّ عند روايته،و هو معني كونه موجبا للعلم تعبّدا.

و اجيب عنه بأنّ المراد من التشكيك ليس التشكيك لسانا،بأن يقولوا نحن شاكّون،و لا التشكيك جنانا،بل المراد التشكيك العملي الذي يحصل بترك ما روي الثقة أنّه واجب،أو بفعل ما روي أنّه حرام (2).

و فيه أنّ التشكيك كان باللسان المتعقّب لترك روايته،ففي صدر الخبر أنّه ورد نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال.إلي أن قال:و قد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه و كتبوا منه،فأنكروا ما ورد في مذمّته.

ولكن يرد عليه أوّلا:أنّ في سنده أحمد بن إبراهيم المراغي.

و ثانيا:أنّه يدلّ علي عدم جواز التشكيك في رواية من وثّقه الامام المعصوم، و لا يدلّ علي عدم جواز التشكيك فيما يروي غيره من الثقات،فغاية ما يدلّ عليه أنّ ما رواه من وثّقه الامام يفيد العلم و هو كذلك.

الثاني:قوله عليه السلام:نعم،بعد سؤاله أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟دلّ علي أنّ معالم الدين يثبت بخبره ثبوتا تعبّديّا،و هو في معني أنّ قوله بمنزلة المعلوم تعبّدا،و العالم بقوله عالم تعبّدا.

و اجيب عنه بأنّه يدلّ علي أخذ المعالم منه،و لازمه العمل حيث لا عمل بلا5.

ص: 385


1- رجال الكشي ص 449 طبع النجف الأشرف.
2- نهاية الدراية 3:145.

أخذ،فالأمر بالأخذ كناية عن الأمر بالعمل (1).

و فيه أنّه يحتمل أن يكون المراد معالم الدين الواقعيّة التي عند المعصومين، فيكون الأخذ كناية عن طريقيّة قوله،و غاية ما يدلّ عليه أنّ الذي وثّقه المعصوم يفيد قوله العلم.

الثالث:قوله تعالي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2)فإنّه إن كان من أدلّة حجّية الخبر أمكن استفادة تنزيل الخبر منزلة العلم؛إذ الظاهر منه الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد علي الجواب.

و فيه ما ذكرناه في محلّه من أنّ الذكر عبارة عن الذكر الواقعي الذي لا خطأ فيه،و هو مخصوص بالمعصوم،و من كان يعلم الشيء بحيث يحصل من قوله العلم الوجداني.و أمّا السؤال من غير المعصوم،فلا يوجب جوابه العلم؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و السؤال من المعصوم يفيده.و أمّا غيره فلا،بل لو حصل القطع من قوله لم يحرز كونه علما؛لاحتمال كونه جهلا مركّبا.

الرابع:قوله عليه السّلام في المقبولة«و عرف أحكامنا»مع أنّ أدلّتها ظنّية سندا و دلالة.

و فيه أنّ المقبولة واردة في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و المتيقّن من غيرها أيضا أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و من ماثلهم،و هم لقرب العهد كانوا يعلمون بصدور بعض الأخبار،أو كانوا يعلمون أنّ الحجّية هي لقسم خاصّ من الأخبار بحيث كانوا يعتمدون علي العلم بالصدور أو العلم بالحجّية.

الخامس:السيرة العقلائية،فإنّهم يرون العامل بخبر الثقة عالما.

و فيه أنّ سيرتهم علي اتّباع العلم الحاصل من الخبر لا العمل بالخبر تعبّدا و جعله بمنزلة العلم.7.

ص: 386


1- نهاية الدراية 3:145.
2- سورة الأنبياء:7.

فالانصاف أنّه لا دليل علي تنزيل قول الثقة منزلة العلم تعبّدا إن لم يحصل منه العلم الوجداني،أو الاطمئنان بناء علي كونه علما عرفيّا.

الدليل الثاني:الأخبار،كخبر داود بن سليمان،عن الرضا،عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،قال:من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات و الأرض (1).

و صحيح أبي عبيدة (2)،و سائر الأخبار المذكورة في الباب الأوّل من مقدّمات جامع الأحاديث.و هذه الأخبار تدلّ علي لزوم التثبّت في مقامي الافتاء و العمل، فينبغي مراعاة الاحتياط في المقامين،إلاّ في المقدار الذي قام الدليل العلمي علي حجّيته،فلا يكون افتاء بغير علم.

الدليل الثالث:الاجماع الذي ذكره السيّد المرتضي رحمه اللّه في مواضع من كلامه.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّه لم يتحقّق لنا هذا الاجماع،و الاعتماد علي نقله تعويل علي خبر الواحد،مع معارضته بما سيجيء من دعوي الشيخ الاجماع المعتضدة بدعوي جماعة اخري الاجماع علي حجّية خبر الواحد في الجملة،و تحقّق الشهرة علي خلافها بين القدماء و المتأخّرين (3).

أقول:دعوي السيّد المرتضي الاجماع علي عدم حجّية خبر الواحد مؤيّدة بكلام العلماء القدماء،و انّ المشهور بين القدماء المنع عن العمل بخبر الواحد.

و سيأتي الكلام عليه.

و استدلّ المثبتون بوجوه:

الدليل الأوّل:الاجماع،ادّعاه الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة (4)،و جعله الدليل7.

ص: 387


1- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 38 الطبعة الجديدة.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 40.
3- فرائد الاصول ص 115.
4- عدّة الاصول ص 337.

الوحيد علي حجّية خبر الواحد،و هو عمل الطائفة المحقّة بالأخبار،ففي زمان حضور المعصومين يكون إجماعهم حجّة من باب قاعدة اللطف،و في زمان غيبتهم من باب اللطف و دخول المعصوم،ثمّ استدلّ علي تحقّق إجماعهم بثلاثة امور:إحالتهم إلي الكتب المصنّفة في الأخبار،و عدم قطع أحد منهم موالاة مخالفه و لا تضليله و تفسيقه و البراءة منه،و تمييزهم بين ثقات الرواة و ضعافهم ليعمل بما رواه الثقات.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قرّر الاجماع بوجوه ستّة ينبغي التعرّض لثلاثة منها:

الوجه الأوّل:الاجماع القولي علي حجّية خبر الواحد،و طريق تحصيله أحد وجهين،أوّلهما:تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلي زمان الشيخين،فيحصل من ذلك القطع بالاتّفاق الكاشف عن رضا الامام عليه السّلام.

أقول:ستعرف كلمات العلماء و أنّها تدلّ علي المنع عن حجّية خبر الواحد.

ثانيهما:تتبّع الاجماعات المنقولة،فمنها:ما ذكره الشيخ في العدّة من الاجماع علي العمل بخبر الواحد من عهد النبي صلّي اللّه عليه و اله إلي زمانه،و تمييز الطائفة رواة الأخبار ثقاتهم و ضعافهم،فلو لم يكن خبر الواحد حجّة لم يكن وجه للتمييز،و أيضا أنّه لو كان العمل به فسقا كالعمل بالقياس كان ينبغي أن تنقطع الموالاة بينهم؛لأنّهم عملوا بأخبار الآحاد،و لذلك اختلفوا فيما بينهم لاختلاف الأخبار.

أقول:أمّا الاجماع علي العمل بخبر الواحد،فنحن نطالب الشيخ بدعوي الاجماع علي كونهم يعملون بخبر الثقة تعبّدا،فلعلّهم عملوا بما عملوا من الأخبار لوجودها في الكتب المعروضة علي الأئمّة عليهم السّلام،أو لكونها متكرّرة يطمأنّ بعدم اتّفاقهم علي الكذب فيها،أو لأنّهم يعلمون صدق رواتها،فحصل لهم العلم من أخبارهم،و المطلوب في باب حجّية الخبر الواحد حجّية خبر الواحد العدل علي

ص: 388

الظاهر الذي لا يعلم صدقه،أو الأعمّ منه و من العدل الواقعي فيما لم يحصل العلم.

و قد ذكر السيّد المرتضي في الرسائل المنسوبة إليه:إنّا نعلم علما ضروريّا لا يدخل في مثله ريب و لا شكّ أنّ علماء الشيعة الاماميّة يذهبون إلي أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة،و لا التعويل عليها،و انّها ليست بحجّة و لا دلالة،و قد ملؤوا الطوامير و سطروا الأساطير في الاحتجاج علي ذلك،و النقض علي مخالفيهم،إلي آخر كلامه،فلاحظ (1).

لكن قد يقال علي السيّد المرتضي رحمه اللّه أنّه لو لم ينكر عملهم بما أودعوه و أنكر كونه آحادا كان أحسن.

و أمّا ما ذكره من أنّهم لم يقاطع بعضهم بعضا،ففيه ما ذكره السيّد المرتضي و حاصله:أنّا نكفر في مخالفة الاصول لا في مخالفة الفروع (2).

و أمّا تصنيف الكتب في أحوال الرجال،فهو لتكثير قرائن الصحّة و الضعف.

و نقل ابن ادريس في السرائر (3)في مسألة سهم الامام روايتين في أنّه يصرف إلي الذرّية،و أجاب عنهما بضعف الخبر بالارسال و كفر الراوي لأنّه من الفطحيّة، و مخالفة الخبر للقرآن انتهي.فردّ الخبر بوجوه منها كون رواتها فطحيّة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري (4)استشهد لدعوي الاجماع بكلام السيّد رضي الدين ابن طاووس رحمه اللّه،و كلام العلاّمة الحلّي رحمه اللّه،و بكلام المجلسي رحمه اللّه،و باعتراف السيّد المرتضي رحمه اللّه بذلك.لكن السيّد في بعض رسائله منع من ذلك،و قال الشيخ6.

ص: 389


1- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:24.
2- راجع رسائل الشريف المرتضي 3:270.
3- السرائر 1:495.
4- فرائد الاصول ص 156.

الأنصاري رحمه اللّه (1):إنّ هذا الاجماع المنقول مؤيّد بقرائن:

منها:دعوي الكشي الاجماع علي تصحيح ما يصحّ عن جماعة،فإنّه يدلّ علي عملهم بخبر الواحد.

و فيه أنّه يحتمل أن يكون هؤلاء منصوصا عليهم من قبل الأئمّة عليهم السّلام بالأخبار الواردة في مدحهم و التي عثرنا علي بعضها،أو علم جلالتهم بحيث حصل العلم من قولهم لا من باب الخبر الواحد.

و ناقش في حجّية الاجماع المذكور في كشف القناع،حيث قال:يظهر من جملة كلماته-أي:الشيخ الطوسي-عدم الاعتماد علي ما حكاه الكشي من الاجماع في شأن جملة من رواة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،مع أنّه هو الذي رتّب كتاب الكشي،و ألّف كتاب اختيار رجاله،فيكون معتمدا عليه،و واقفا علي كلامه، و مع ذلك يصحّ أن يعوّل علي ما حكاه من الاجماع،و إن لم يعوّل علي الاجماع المنقول في الأحكام،فالأمر فيه أهون بلا ارتياب،و لا سيّما مع وجود موافق واحد للكشي بل أكثر علي ما ادّعاه،كما يظهر من كلامه فيما حكاه من الاختلاف في تعيين أولئك الرواة،إلي آخر ما أفاده (2).

و منها:دعوي النجاشي أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيل ابن أبي عمير.

و فيه ما سيأتي أنّ كتب أمثال ابن أبي عمير كانت معتمدة،و لمّا كانت كتب ابن أبي عمير قد تلفت أيّام استتاره،فكان يحدّث بما كان في كتبه من حفظه،فلهذا- أي:لأجل كون مرسلاته هي مسنداته-يسكنون إلي مرسلاته،و ليس ذلك من باب خبر الواحد،و لعلّه للاعتماد علي الكتب.

و منها:ما ذكره ابن إدريس في مقام دعوي الاجماع علي المضايقة،أنّ ابني2.

ص: 390


1- فرائد الاصول ص 158-159.
2- كشف القناع ص 242.

بابويه و الأشعريّين،كسعد بن عبد اللّه،و سعيد بن سعد،و محمّد بن علي بن محبوب و القمّيين أجمع،كعلي بن إبراهيم،و محمّد بن الحسن بن الوليد،عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة؛لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته إلي آخر كلامه.

أقول:إنّ ابن ادريس أراد إثبات دعوي الاجماع،بأنّ الاصوليّين و الأخباريّين يفتون بالمضايقة،ثمّ ذكر رحمه اللّه أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام الذين هم الرواة يعملون بالأخبار،ولكنّه مع ذلك لا يقول بحجّية خبر الواحد.

و منها:ما ذكره المحقّق إلي آخر كلامه (1).

أقول:إنّ ما ذكره المحقّق أولي بأن يدلّ علي عدم ثبوت الاجماع علي العمل بخبر الواحد؛حكي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه كلامه في الفرائد،و من جملة كلامه:

و أفرط آخرون في طريق ردّ الخبر حتّي أحالوا استعماله عقلا،و اقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا،لكن الشرع لم يأذن في العمل به.

ثمّ قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و الانصاف أنّه لم يحصل في مسألة يدّعي فيها الاجماع من الاجماعات المنقولة و الشهرة القطعيّة و الأمارات الكثيرة الدالّة علي العمل ما حصل في هذه المسألة،فالشاكّ في تحقّق الاجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة،اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب،لكن الانصاف أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان لا مطلق الظنّ،و لعلّه مراد السيّد من العلم،كما أشرنا إليه آنفا (2)انتهي.

و فيه مواقع للتأمّل،منها:أنّ الاجماع المحصّل في عصر واحد فضلا عن تمام الأعصار لم يتحقّق مع مخالفة من عرفت.1.

ص: 391


1- فرائد الاصول ص 160.
2- فرائد الاصول ص 161.

و منها:أنّه لو سلّم ثبوته،فيحتمل استنادهم إلي بناء العقلاء،أو الآيات و الأخبار.

و منها:أنّه لو سلّم ثبوته،فليس مقيّدا بحصول الاطمئنان في كلام واحد من المدّعين للاجماع،إلاّ أن يكون مراده أنّه مع ضمّ الشهرة و العمل الخارجي إليه يكون القدر المتيقّن صورة حصول الاطمئنان.

و منها:ما عرفت من أنّ مراد السيّد من العلم الاعتقاد المطابق للواقع.

و منها:أنّه لو سلّم جميع ذلك،فكيف يحصل الاطمئنان بصدور هذه الأخبار التي بأيدينا من كون رواتها ثقات،مع اشتراك بعض الأسماء و التمييز بالظنون، و كذا إثبات الوثاقة بالظنون و نحوها.

لكن الانصاف أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من العلم برضاء المعصوم بالاعتماد علي خبر الثقة المفيد للاطمئنان قريب جدّا،و انّ دعوي عدم حجّية خبر الثقة الواقعي الذي أحرز وثاقته أهل الاطّلاع و أهل الخبرة مع حصول الاطمئنان بمضمون الخبر بعيدة جدّا.

الوجه الثاني:الاجماع العملي من العلماء و المتشرّعة علي العمل بخبر الواحد، و هو المسمّي بالسيرة.

و فيه أنّه إن اريد سيرة المتشرّعة المتّصلة بزمان المعصومين عليهم السّلام التي علم امضاؤهم لها،فهي مسلّمة لا يمكن الخدشة فيها،لكن القدر المتيقّن منها هو خبر العدل الواقعي،أو الثقة في النقل الذي علم تحرّزه عن الكذب،و يحصل العلم من قولهما،إن كان إحراز عدالته أو وثاقته حاصلا من أسباب صحيحة عقلائية.

و لا يضرّ إن لم يحصل العلم من قولهما،لاحتمالات غير معتني بها عند العقلاء، كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر سيرة المسلمين،قال:و دعوي حصول القطع لهم في جميع الموارد بعيدة عن الانصاف،نعم المتيقّن من ذلك حصول الاطمئنان

ص: 392

بحيث لا يعتني باحتمال الخلاف (1).

أقول:الاشكال في حصول الاطمئنان،بحيث لا يلتفت إلي احتمال الخلاف لكونه احتمالا ضعيفا و أنّه كيف يحصل لنا ذلك من هذه الأخبار.

الوجه الثالث:السيرة العقلائية.قيل في توضيحها:إنّ من المعلوم أنّ حجّية الخبر ليست من تأسيسات الشارع قطعا،بل العمل بالخبر ممّا استقرّت عليه سيرة العقلاء،و لم يكن عمل الصحابة به و لا العلماء أيضا من جهة تلقّيهم ذلك من الامام عليه السّلام،بل عملوا به بما هم عقلاء،بل استقرّ بناء العقلاء طرّا من المسلمين و غيرهم من سائر الفرق حتّي الملاحدة و الدهريّة علي ترتيب الأثر علي خبر الثقة و الاعتماد عليه،و هكذا كان بناء الصحابة،ولكن لا من جهة تلقّيهم في ذلك شيئا من الأئمّة عليهم السّلام بل بما هم عقلاء،و لم يردع عن هذه الطريقة العقلائية الأئمّة عليهم السّلام مع كونهم بمرآهم و مسمعهم،فيكشف بذلك رضاهم بما عليه بناء العقلاء،و لا تكفي الآيات الناهية عن العمل بالظنّ للردع عنها لرسوخ العمل بها في أذهانهم بحدّ يحتاج الردع عنه إلي تنبيهات صريحة بتأكيدات شديدة (2)انتهي.

ثمّ إنّه جعل جميع ما استدلّ به علي حجّية الخبر من الآيات و الأخبار إمضاء لهذه السيرة،و لذا أورد علي الشيخ الطوسي رحمه اللّه حيث قال في العدّة:و أمّا ما اخترته من المذهب،فهو أنّ خبر الواحد إذا ورد من طريق أصحابنا الاماميّة الخ.

بأنّ ظاهر كلامه في العدّة بملاحظة القيود التي اعتبرها في موضوع الحجّية كون حجّيته بتأسيس من الشارع و تعبّد منه،و كون بناء الأصحاب علي العمل بها كاشفا عن ورود التعبّد بها من قبله،و هذا ينافي ما مرّ منّا من رجوع جميع أدلّة حجّية الخبر حتّي بناء الأصحاب علي العمل بها إلي جريان سيرة العقلاء بما هم عقلاء9.

ص: 393


1- فرائد الاصول ص 99.
2- نهاية الاصول ص 519.

علي العمل بخبر الثقة و انّها الدليل العمدة في هذا الباب،و الأدلّة النقليّة أيضا وردت إمضاء لها و ليست بصدد التأسيس أصلا إلي آخر ما أفاده (1).

و ذكر في مورد آخر أنّ تقييد الشيخ بكون الخبر واردا من طريق أصحابنا ينافي سيرة العقلاء في العمل بخبر الواحد إن كان ثقة،ثمّ وجّهه.

و فيه أوّلا:أنّ سيرة العقلاء في الأمور المهمّة علي ترتيب الأثر علي ما يسكن إليه نفوسهم،و هو المسمّي بالعلم العادي بحيث لا يحتملون الخلاف احتمالا يعتني به،و نمنع تحقّق سيرتهم علي العمل بدون حصول سكون النفس و اعتقاد تحقّق المخبر به،كما في الاخبار عن موت زوج بحيث تعتدّ المرأة بمجرّد خبر الثقة،و إن لم تسكن نفسها إلي خبره،و هكذا غيره من الامور المهمّة.

و ثانيا:أنّه لو سلّمنا أنّهم يعتمدون علي الخبر و إن لم يحصل لهم العلم،لكن لو التفتوا إلي ما ورد عن الشرع من الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،و كذا الأخبار الناهية كذلك لرأوها رادعة عن سيرتهم،و حينئذ لا يعتمدون في الشرعيّات علي الخبر الواحد،بل انّ آية النبأ ربّما تدلّ علي لزوم التثبّت و التأمّل فيما حصل العلم به بدوا لعموم الناس،فإنّهم لبساطتهم يثقون بالأخبار.

و ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)من بنائهم علي العمل بالخبر الموجب للاطمئنان.إن أراد مع وجود احتمال الخلاف احتمالا عقلائيّا،و التفاتهم إلي مفاد الآيات و الأخبار،فهو ممنوع.

و اجيب عن ردع السيرة بالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم بوجوه:

أحدها:أنّها لا تكون رادعة عن سيرة العقلاء؛لاستلزامه الدور،و ذلك لأنّها تدلّ علي النهي بالعموم أو الاطلاق الظاهرين في أفرادهما،و حجّية الظهور من4.

ص: 394


1- نهاية الاصول ص 524.
2- فرائد الاصول ص 164.

باب سيرة العقلاء،فيتوقّف منعها عن السيرة علي حجّية السيرة،و يتوقّف حجّية السيرة علي عدم نهيها عنها،فلا بدّ من فرض حجّية سيرة العقلاء مطلقا،لتكون سيرتهم مخصّصة للعمومات،و إلاّ فيلزم من وجودها عدمها،فإنّ سيرة العقلاء إن كانت حجّة،فهي تدلّ علي حجّية العامّ و المطلق في أفرادهما.

و إن كان العامّ و المطلق حجّتين في مدلولهما،لزم من ردعهما عن سيرة العقلاء عدم حجّية العمومات و المطلقات،فلا بدّ من الالتزام بأنّ العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم لا تمنع عن سيرة العقلاء.

و فيه أنّ سيرتهم علي العمل بالظهور قد أمضاها الشارع قطعا؛للعلم بأنّه كان بناء محاورته علي إلقاء مقاصده بالظواهر،بخلاف سيرتهم علي العمل بخبر الثقة، فإنّه لا يعلم إمضاؤها،فتكون العمومات رادعة عنها،فهما سيرتان:سيرة علي حجّية الظهور و هذه ممضاة شرعا قطعا،و سيرة علي حجّية خبر الواحد و لم يثبت إمضاء الشرع لها،فيردعها ظهور العمومات،مضافا إلي أنّ ما دلّ علي المنع عن اتّباع غير العلم من الآيات و الأخبار كالنصّ في الدلالة عليه.

ثانيها:ما ذكره في الكفاية،قال:لا يكاد يكون الردع بها إلاّ علي وجه دائر، و ذلك لأنّ الردع بها يتوقّف علي عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة علي اعتبار خبر الثقة،و هو-أي:عدم التخصيص-يتوقّف علي الردع عنها بها- أي:ردع العموم عن السيرة-و إلاّ لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها (1).

و فيه نظر واضح؛لأنّ العقلاء لا يمكنهم تخصيص حكم الشارع،نعم يتوقّف ردع العمومات علي عدم تخصيص الشارع لها.

ثالثها:ما ذكره في مباني الاستنباط أوّلا من أنّ النهي في الآيات الناهية ليس8.

ص: 395


1- كفاية الاصول ص 348.

مولويا،بل هي إرشاد إلي ما يحكم به العقل من عدم اغناء الظنّ،فلا تكون رادعة عن سيرة العقلاء.و ثانيا بأنّه لو سلّم كونها مولويّة و رادعة لكن عدم ارتداع المسلمين بعد نزول الآيات و استمرار عملهم علي العمل بخبر الثقة يدلّ علي عدم ردعها (1).

قلت:ظاهر النهي كونه مولويّا،و لا وجه لصرفه عن ظاهره بدون قيام قرينة عليه،و لو سلّم عدم كون الآيات الناهية مولويّة،فظاهر الأخبار الناهية كونها مولويّة،و لا وجه لصرفها عن ظاهرها.و أمّا عمل أصحاب الأئمّة عليهم السّلام بالأخبار، فلعلّه لوثوقهم و حصول العلم لهم.

و أمّا عمل المسلمين بخبر الثقة تعبّدا و عدم ارتداعهم عن العمل به،بعد التفاتهم إلي عمومات النهي عن اتّباع غير العلم في الكتاب و السنّة،فهو أوّل الكلام لو لم يكن ممنوعا.نعم يعملون بخبر الثقة إن كان معه سكون النفس إلي مضمونه،فيكون متابعة للعلم.

و لو سلّم عمل المسلمين بخبر الثقة مطلقا و إن لم يفد العلم،فالقدر المتيقّن منه خبر الثقة الذي يضعف معه احتمال عدم صدور مضمونه،لا مثل أخبارنا المبتلاة بدسّ الأخبار فيها علي ما قيل،و كون بعض رواتها فطحيّة و واقفيّة ممّن يصعب تحصيل العلم بوثاقتهم،خصوصا مع بعد العهد و خفاء القرائن،و كون تمييز المشتركات بالامور الظنّية.

و لو سلّم عملهم بخبر الثقة مطلقا،و إن لم يضعف معه احتمال عدم صدوره، فالقدر المتيقّن خبر من احرز وثاقته وجدانا،أو أخبر ثقة واقعي عن حسّ أو قريب منه بحيث لا يكون إخباره مستندا إلي رأيه و نظره.2.

ص: 396


1- مباني الاستنباط ص 352.

ثمّ إنّه كيف يمكن القول باتّصال سيرة المتشرّعة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام؟ مع أنّ القدماء منعوا عن العمل بخبر الواحد،و دليلهم عدم جواز الاعتماد علي غير العلم.

تتميم:

يمكن أن يقال بأنّ العقلاء ليس لهم بناء تعبّدي في العمل بخبر الثقة فيما يرجع إليهم،بل إنّما يعملون به إذا حصل لهم سكون النفس،بحيث يكون احتمال الخلاف غير معتني به عندهم.و أمّا في مقام احتجاج المولي علي العبد،فلهم بناء تعبّدي علي حجّية خبر الثقة الضابط المتثبّت،و إن لم يحصل الوثوق و سكون النفس من إخباره،لكن لا بدّ من إثبات إمضاء الشارع لسيرتهم،أو عدم ثبوت ردعه عنها.

و لا يبعد أن يكون المستفاد من مجموع ما استدلّ به علي حجّية الخبر الواحد، حجّية خبر من أحرز وثاقته أهل الاطّلاع بالمعاشرة،أو أخبر ثقة واقعي بوثاقته واقعا،و في هذين الموردين يحصل لعامّة الناس السكون إلي مضمون الخبر،و لعلّه يدلّ عليه قولهم عليهم السّلام«فلان ثقتي»بالاضافة إلي ياء المتكلّم،أو فلان ثقة مأمون، و أمثال هذه التعبيرات،لكن الاشكال في تعيين الثقات،و لا يمكن تعيينهم بمراجعة كتب الرجال،فلذا نقول بوجوب العمل بجميع الأخبار إلاّ القليل منها بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:المشهور بين القدماء المنع عن العمل بخبر الواحد

،فنذكر بعض كلماتهم:

قال في السرائر:قال المرتضي قدّس اللّه روحه:و إنّما أردنا بهذه الاشارة أنّ أصحابنا كلّهم سلفهم و خلفهم،متقدّمهم و متأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد،و من العمل بالقياس في الشريعة،و يعيبون أشدّ عيب علي الذاهب إليهما

ص: 397

و المتعلّق في الشريعة بهما،حتّي صار هذا المذهب لظهوره و انتشاره معلوما ضرورة منهم،و غير مشكوك فيه من أقوالهم (1)انتهي.

و يؤيّد ما ادّعاه من معلومية عدم عملهم بخبر الواحد تتبّع كلام جماعة من القدماء:

منهم:الشيخ المفيد،حكي كلامه الكراجكي في كنز الفوائد عن رسالة له في اصول الفقه،قال:ثالثها الأخبار و هي السبيل إلي إثبات أعيان الاصول من الكتاب و السنّة و أقوال الأئمّة عليهم السّلام،و الأخبار الموصلة إلي العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار:خبر متواتر،و خبر واحد معه قرينة تشهد بصدقه،و مرسل في الاسناد يعمل به أهل الحقّ علي الاتّفاق (2).

و قال أيضا:و الحجّة في الأخبار ما أوجب العلم من جهة النظر فيها بصحّة مخبرها و نفي الشكّ فيه و الارتياب،و كلّ خبر لا يوصل بالاعتبار إلي صحّة مخبره،فليس بحجّة في الدين،و لا يلزم به عمل علي حال.

و الأخبار التي توجب العلم بالنظر فيها علي ضربين:

أحدهما:التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ علي ذلك،أو ما يقوم مقامه في الاتّفاق.

و الثاني:خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان علي صحّة مخبره و ارتفاع الباطل منه و الفساد.

و التواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة و الانتشار إلي حدّ قد منعت العادة من اجتماعهم علي الكذب بالاتّفاق،كما يتّفق الاثنان أن يتواردا بالارجاف،و هذا حدّ يعرفه كلّ من عرف العادات.5.

ص: 398


1- السرائر 1:48.
2- كنز الفوائد 2:15.

و قد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم و مخارج كلامهم،و ما يبدو في ظاهر وجوههم،و يبين من قصورهم أنّهم لم يتواطؤوا لتعذّر التعارف بينهم و التشاور،فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا علي صدقهم و رافعا للاشكال في خبرهم،و إن لم يكونوا في الكثرة علي ما قدّمناه.

فأمّا خبر الواحد القاطع للعذر،فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلي العلم بصحّة مخبره،و ربّما كان الدليل حجّة من عقل،و ربّما كان شاهدا من عرف، و ربّما كان إجماعا بغير خلف،فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها علي صحّة مخبره،فإنّه كما قدّمناه ليس بحجّة،و لا موجب علما و لا عملا علي كلّ وجه (1)انتهي.

و محلّ الاستشهاد ما ذكره أخيرا بقوله«فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها علي صحّة مخبره،فإنّه كما قدّمناه ليس بحجّة»و خبر العدل أو الثقة خارج عن الأقسام الثلاثة التي ذكرها،و هي الحجّة من عقل أو شاهد من عرف أو إجماع.

و قال في أوائل المقالات:لا يجب العلم و لا العمل بشيء من أخبار الآحاد، و لا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين،إلاّ أن يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه علي البيان،و هذا مذهب جمهور الشيعة و كثير من المعتزلة و المحكمة و طائفة من المرجئة،و هو خلاف لما عليه متفقّهة العامّة و أصحاب الرأي (2)انتهي.

قوله«ما يدلّ علي صدق راويه»لا يشمل خبر العدل أو الثقة.

قوله«خلاف لما عليه متفقّهة العامّة»لعلّه يريد أنّهم يعملون بخبر الواحد الذي لا يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه.9.

ص: 399


1- كنز الفوائد 2:28.
2- أوائل المقالات ص 139.

و حكي عن المفيد و المرتضي في السرائر المنع عن العمل بخبر الواحد،حيث قال:فإن كان شيخنا أبو جعفر عاملا بأخبار الآحاد،فلا يجوز له أن يعمل بهذه الرواية إذا سلّمنا له العمل بأخبار الآحاد تسليم جدل علي ما يقترحه و ذكره في عدّته،و إن كان مخالفا لإجماع أصحابنا سلفهم و خلفهم،حتّي انّ المخالفين من أصحاب المقالات يذكرون في كتبهم و مقالات أهل الآراء و المذاهب أنّ الشيعة الاماميّة لا تري العمل في الشرعيّات بأخبار الآحاد،و شيخنا المفيد ذكر ذلك أيضا في كتاب المقالات الذي صنّفه.و مذهب السيّد المرتضي و مقالته في ذلك فأشهر من أن يذكر.

و ما أظنّ خفي علي هذين السيّدين الأوحدين العالمين مقالة أهل مذهبهما،بل ربّما لم يكن لأصحابنا في المتقدّمين و المتأخّرين أقوم منهما بمعرفة المقالات و تحقيق اصول المذهب و معرفة الرجال،و خصوصا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان،فإنّه خرّيت هذه الصناعة (1)انتهي.

لكن ربما يظهر من بعض كلماته مراعاة السند في الحكم بصحّة الخبر،كما قال الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق:و الذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معوّل به و لا مرضي الاسناد،و الأخبار الصحيحة بخلافه (2).

لكن كلماته الاخر أصرح في عدم الاعتماد علي الخبر الواحد،كما قال أيضا:

و كتاب اللّه تعالي مقدّم علي الأحاديث و الروايات،و إليه يتقاضي في صحيح الأخبار و سقيمها،فما قضي به فهو الحقّ دون ما سواه (3).

و قال ابن البرّاج في المهذّب:و أمّا السنّة فيحتاج أن يعرف منها شيئا المتواتر0.

ص: 400


1- السرائر 3:289.
2- شرح الاعتقادات ص 189.
3- شرح الاعتقادات ص 200.

و الآحاد ليعمل بالمتواتر دون الآحاد (1)انتهي.فحصر الأخبار بين المتواتر و غيره.

أقول:و من لاحظ المهذّب عرف أنّه يعمل بالأخبار المودعة في الكتب الأربعة،فلعلّه يعتقد تواتر ما عمل به.

و قال الشيخ علاء الدين في إشارة السبق:و السنّة و حكمها في عدم الاحاطة بجميع الأحكام حكم الكتاب،و متواترها قليل بالنسبة إلي الآحاد الذي هو كثير، و اتّصاله به جائز إمّا بإعراض الناقلين عنه،أو باختلافهم فيه،أو بغيرهما من الأسباب،و ليس الآحاد مثمرا علما و لا موجبا عملا،و لا طريقا إلي العلم بشيء من الأحكام الشرعيّة (2)انتهي.

و قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي:و طريق العلم بفتياهم عليهم السّلام سماعه شفاها عنهم،أو بالتواتر عنهم،أو قول من نصّوا علي صدقه لكون كلّ واحد من هذه طريقا للعلم علي ما سلف لنا في أوّل الكتاب إلي آخر كلامه (3).

فخبر الواحد لا يدخل في السماع عنهم عليهم السّلام و لا التواتر و لا في نصّهم علي صدقه.

و قال ابن زهرة في الغنية:فإن قيل:إذا كنتم لا تعملون بأخبار الآحاد،فما الفائدة فيما يرويه آحادكم و يفتي به علماؤكم؟و هل هذا إلاّ مناقضة؟قيل:الفائدة في رواية كلّ واحد من محدّثي الشيعة ما سمعه من شيوخه الناقلين عن الأئمّة أن يؤدّي الأمانة في تبليغ ما سمعه ليحصل بروايته و رواية غيره للمكلّف طريق إلي العلم بالتواتر،و كذلك الفائدة في فتياكلّ واحد من علمائنا تأدية الأمانة بإذاعة ما6.

ص: 401


1- المهذّب 2:598.
2- اشارة السبق ص 113.
3- الكافي ص 506.

علمه ليصير بفتياه و فتيا أمثاله من العلماء لكلّ مكلّف سبيل من العلم بما أجمعوا عليه؛إذ لو لم يرو المحدّث ما سمعه و لا يفتي العالم بما علمه لانسدّ طريق العلم بالشرعيّات،و ليس في ذلك خلاف في اصولنا انتهي.

و قال ابن ادريس في السرائر:فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق:إمّا كتاب اللّه سبحانه،أو سنّة رسوله صلّي اللّه عليه و اله المتواترة المتّفق عليها أو الاجماع،أو دليل العقل (1).

و قال أيضا:و لا أعرج إلي أخبار الآحاد،فهل هدم الاسلام إلاّ هي (2).

و يظهر عدم الاعتماد علي خبر الواحد من الشيخ محمود الحمّصي،حكي كلامه في السرائر،و حكي عنه اعتراضه علي الشيخ الطوسي رحمه اللّه بإلزامه بأن يقول بحجّية خبر الثقة،و عليه فيصير إلي مذهب المخالفين في أخبار الآحاد (3).

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا من كلمات القدماء أنّ دعوي السيّد الاجماع علي عدم العمل بخبر الواحد غير بعيدة؛لأنّها مقرونة بقرائن الصدق.

و بذلك يندفع ما قيل من أنّ دعوي السيّد المرتضي الاجماع علي عدم حجّية خبر الواحد إنّما تكون حجّة من أجل أنّ الاجماع المنقول يرجع إلي نقل الحكم عن المعصوم،فهو خبر واحد،و لا يجوز ردّ حجّية خبر الواحد بخبر الواحد.

قال في كشف القناع:إلاّ انّهم-أي:الاماميّة-مع ذلك علي أصناف،فمنهم من أحال التعبّد بخبر الواحد في أحكام الشريعة من طريق العقل،و منع من وقوعه في الشرع،كالشيخ أبي جعفر بن قبة و أتباعه،و حكي المرتضي رحمه اللّه في التبانيات أنّ كثيرا من أصحابنا علي ذلك.و منهم من منع من وقوعه في الشرع خاصّة،كالسيّد المرتضي رحمه اللّه و ابني زهرة و إدريس و غيرهم،و هؤلاء كثير من قدماء الأصحاب أو1.

ص: 402


1- السرائر 1:46.
2- السرائر 1:51.
3- السرائر 3:291.

أكثرهم علي ما بيّن في محلّه.

و ادّعي السيّد و غيره أنّه مجمع عليه بين الاماميّة،بل من ضروريّات مذهبهم، و حكي ابن ادريس في آخر ميراث السرائر عن المفيد في كتاب المقالات أنّه عزي إلي الشيعة الاماميّة أنّها لا تري العمل بأخبار الآحاد في الشرعيات.

إلي أن قال:فكيف يقول بحجّيته-أي:حجّية الاجماع المنقول بخبر الواحد- من أشرنا إليهم من الأصحاب،مع استنادهم في حجّية الاجماع إلي العقل،و كثرة مداركهم العلميّة عندهم،و لا سيّما في تلك الأعصار الماضية،كما تنادي به كتبهم و يشهد به كلامهم في إنكار أخبار الآحاد و حججهم و من لم يصدق مثل زرارة فيما يتفرّد بنقله عن الصادق عليه السّلام بطريق السماع و المشاهدة بلا شائبة ريبة، و لا يقول بحجّيته و لا يعمل به،و لو ادّعي سماعه و مشاهدته و أخذه مرارا كثيرة عنه أو عن الباقر عليه السّلام أيضا،و كذا لو كان معه من لا يكمل عدد التواتر و لم توجد قرائن اخر موجبة للقطع بصدقه انتهي (1).

التنبيه الثاني:في كيفيّة عمل أصحاب الأئمّة و قدماء الأصحاب بالأخبار

؛لأنّ معرفتها دخيلة في اثبات الاجماع علي العمل بخبر الواحد،و الاجماع علي عدمه، و ذكروا في كيفيّة عمل القدماء وجوها:

أحدها:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و هو أنّهم يعملون بالخبر الذي يثقون و يطمئنّون بمؤدّاه،تقدّم نقل كلامه في المذاهب في العمل بخبر الواحد (2).

و كذلك نسب إليهم في هداية الأبرار (3).

و قال في الوسائل:الصحيح باصطلاح القدماء بمعني الثابت عن المعصوم

ص: 403


1- كشف القناع ص 240.
2- راجع الرسائل ص 176 ط المحقّقة و ص 106 ط الحجري.
3- هداية الأبرار ص 7-8.

بالقرائن القطعيّة و التواتر (1).

ثانيها:ما ذكره في مواضع من معجم الرجال،منها:ما في الجزء الأوّل في الردّ علي دعوي أنّ منشأ عمل الطائفة بمرسل ابن أبي عمير و أضرابه كونهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،قال:بل من المظنون قويّا أنّ منشأ ذلك هو بناء العامل علي حجّية خبر كلّ إمامي لم يظهر منه فسق،و عدم اعتبار الوثاقة فيه،كما نسب هذا إلي القدماء، و اختاره جمع من المتأخّرين،منهم العلاّمة كما في ترجمة أحمد بن إسماعيل (2).

قلت:سيتّضح أنّ النسبة المذكورة في غير محلّها.

و أمّا العلاّمة رحمه اللّه فقد حكي عنه الشهيد الثاني رحمه اللّه في الدراية اشتراط العدالة في قبول الخبر.

و ما ذكره في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن عبيد اللّه،حيث قال:و لم ينصّ علماؤنا عليه بتعديل و لم يرد فيه جرح،فالأقوي قبول روايته مع سلامتها من المعارض (3).فهو مناف لما ذكره في إسماعيل بن عمّار،قال:أخو إسحاق روي الكشي حديثا في طريقه ضعف أنّ الصادق عليه السّلام كان إذا رآهما قال:و قد يجمعهما لأقوام يعني الدنيا و الآخرة،و قد ذكرنا سند الحديث في الكتاب الكبير،و الأقوي عندي التوقّف في روايته حتّي تثبت عدالته (4).

ثالثها:العمل بخبر رواته مهملون،قال في قاموس الرجال:و هو الحقّ الحقيق بالاتّباع و عليه عمل الاجماع،فنري القدماء كما يعملون بالخبر الذي رواته ممدوحون يعملون بالخبر الذي رواته غير مجروحين،و إنّما يردون المطعونين،0.

ص: 404


1- وسائل الشيعة 20:64.
2- معجم رجال الحديث 1:77.
3- رجال العلاّمة الحلّي ص 17.
4- رجال العلاّمة الحلّي ص 200.

فاستثني ابن الوليد و ابن بابويه من كتاب نوادر الحكمة-إلي أن قال:-و استثني المفيد من شرائع علي بن إبراهيم حديثا واحدا في تحريم لحم البعير-إلي أن قال:-قال الشيخ في العدّة:و كذلك القول فيما يرويه المتّهمون و المضعفون إن كان هناك ما يعضد روايتهم و يدلّ علي صحّتها وجب العمل به،و إن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحّة وجب التوقّف في أخبارهم،فلأجل ذلك توقّف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها و لم يرووها و استثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من المصنفات انتهي كلام الشيخ.

بل المفهوم منه أنّه كما يكون الاجماع علي العمل بالمهمل يكون الاجماع علي العمل بخبر الفاسق إذا كان ثقة في مجرّد الحديث-إلي أن قال:-طريقة القدماء أوّلا الترجيح بالقرينة من دليل العقل أو النقل من الكتاب و السنّة و الاجماع الشامل للشهرة المحقّقة،و فيما ليس عليه قرينة العمل بالصحيح و الحسن و المهمل، و أمّا الموثّق فلا يعملون به إلاّ إذا لم يعارضه خبر إمامي و لو من المهمل و لم يكن فتواهم بخلافه،و الضعيف لا يعملون به أصلا انتهي كلام قاموس الرجال (1).

قلت:أمّا استثناء ابن الوليد الجماعة،فليس لكونهم مطعونين،بل لكون روايتهم في الغلوّ و التخليط كما سيأتي.

و أمّا استثناء المفيد الخبر المذكور،فلأنّ مضمونه خلاف الواقع،و إن كان رواته ثقاة،فلعلّه من الروايات المدسوسة،أو كونه صادرا علي خلاف الواقع لعلّة.

و أمّا ما استشهد به من كلام الشيخ في العدّة،فينبغي بيان مختاره حتّي يظهر أنّه ليس قائلا بحجّية خبر المهمل،قال:و أمّا ما اخترته من المذهب،فهو انّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالامامة،و كان ذلك مرويّا عن7.

ص: 405


1- القاموس 1:25-27.

النبي صلّي اللّه عليه و اله،أو عن واحد من الأئمّة عليهم السّلام،و كان ممّن لا يطعن في روايته،و يكون سديدا في نقله...جاز العمل بها (1).

أقول:اشترط في جواز العمل بالخبر الواحد ثلاثة امور:

الأوّل:كون الخبر من طريق أصحابنا.فأمّا أخبار العامّة و إن كان الراوي ممّن لا يطعن في روايته و كان سديدا في روايته،فسيأتي الكلام عليه.

الثاني:أن لا يكون ممّن يطعن في روايته،فلا يقبل خبر من طعن عليه بالغلوّ، فلو كان الراوي من أصحابنا و كان سديدا في نقله،لكنّه يروي أخبار الجبر و التشبيه اعتقادا بل للأعمّ منه كأن لا يشذّ عنه خبر،كما يأتي التصريح به،لا يكون خبره حجّة.

الثالث:أن يكون سديدا في نقله،بأن يكون ممّن يتحرّي الصدق و يكون ضابطا،فهو مساو للتعبير بكونه ثقة،المفسّر بكونه ثقة في مذهبه،و ثقة في نقله، و ثقة في ضبطه،و يدلّ علي أنّ المراد كونه ثقة عباراته الآتية.

منها:قوله في جواب من اعترض بأنّ هؤلاء رووا أخبار الجبر و التشبيه قيل لهم:ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر و التشبيه الخ (2).فلو كان يكتفي بأن لا يكون مطعونا لقال:ليس كلّ من لم يطعن عليه نقل حديث الجبر و التشبيه.

و منها:قوله في اشتراط العمل بأخبار الفطحيّة:إذا كانوا ثقاة في النقل (3).

و منها:ما ذكره في اشتراط العمل بأخبار الغلاة،قال:فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد،فإذا انضاف إلي روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك،و يكون ذلك لأجل4.

ص: 406


1- عدّة الاصول 1:126.
2- عدّة الاصول 1:131.
3- عدّة الاصول 1:134.

رواية الثقة دون روايته (1).إلي غير ذلك.

و لو كان ما ذكره صحيحا من أنّهم يعملون بخبر راويه مهمل،لجاز العمل بالمرسل إذا علم أنّ مرسله لا يرسل عن ضعيف،مع أنّ الشيخ قال:إنّما يعمل بمرسلات ابن أبي عمير لأنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة،و لم يقل يعملون به لأنّه لا يرسل إلاّ عن غير المطعون،و قد ردّ خبر عمران الزعفراني لأنّه مجهول (2).

بل المستفاد من كلام الشيخ في العدّة اعتبار الوثاقة في الراوي عند الجميع، و لو كانوا يكتفون بكونه مهملا لم يكن وجه لذلك.

حيث قال:و الذي يدلّ علي ذلك إجماع الفرقة المحقّة علي العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في اصولهم لا يتناكرون ذلك،و لا يتدافعونه حتّي انّ واحدا منهم إذا أفتي بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟فإذا أحالهم إلي كتاب معروف أو أصل مشهور،و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا، و سلّموا الأمر في ذلك و قبلوا قوله،هذه عادتهم و سجيّتهم من عهد النبي صلّي اللّه عليه و اله و من بعده من الأئمّة و من زمان الصادق عليه السّلام الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته (3)انتهي.

و كذا يستفاد ذلك ممّا ذكروه في أوائل كتبهم من أنّ رواياتها عن الثقات،كما في المقنع و كامل الزيارة و تفسير علي بن إبراهيم و كمال الدين و تحف العقول و الاحتجاج و غيرها.فالظاهر أنّه ينبغي القطع بأنّ القدماء لا يعملون بخبر يكون جميع رواته إماميّين مجهولي الحال فضلا عن مطلق مجهول الحال.7.

ص: 407


1- عدّة الاصول 1:135.
2- الاستبصار 2:76 باب ذكر جمل من الاخبار يتعلّق بها أصحاب العدد ح 230- 231.
3- عدّة الاصول 1:126-127.

و أمّا ما ذكره من أنّهم يردون خبر المطعونين،فليس الأمر كذلك؛لأنّهم يعملون بالكتب المعتمدة،ككتب حسين بن سعيد و علي بن مهزيار و أضرابهما،مع اشتمالها علي الرواية عن محمّد بن سنان و غيره ممّن طعن عليه.

ثمّ لا يخفي أنّ كلام الشيخ الطوسي في مسألة حجّية خبر الواحد لا يخلو عن إجمال،و لذا قال في كشف القناع،بعد نقل عبارة من العدّة،قال:و قد اضطربت عباراته في أنّ ما ذكره يختصّ بما إذا كان الراوي عدلا إماميّا،أو ثقة بالمعني الخاصّ أو العامّ،أو لا يختصّ به بل يجري في كلّ ما وجد مرويّا في اصول أصحابنا الخ (1).

أقول:ظاهر كلامه في أوّل التهذيب،حيث قال:ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك،إلي قوله:و أجتهد أن أروي الخ.انّ محلّ كلامه الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب،و انّه في مقام التعارض ربّما طعن في الاسناد إن لم يمكن التأويل،و مهما أمكنه يؤوّل حتّي لا يطعن في السند،و إن لم يمكن الترجيح فيتخيّر،و لعلّ الوجه في حجّية هذه الأخبار عنده كونها محلّ عمل الطائفة،أو إجماعهم علي نقلها،و هذا يوجب اعتبار الخبر.

و الذي يظهر منه هو العمل بالأخبار التي أودعها في التهذيب و الاستبصار مع مراعاة فتاوي العلماء المتّفقه علي المسألة،فربّما طرح الخبر لكونه شاذّا مخالفا لما اتّفق عليه الاماميّة،و في مقام تعارض الأخبار رجّح بعضها علي بعض،و إن لم يكن ترجيح قال بالتخيير،و إذا كان خبر لم يعارضه خبر آخر و لا يعرف فتوي الطائفة بخلافه عمل به أيضا؛لأنّه إجماع منهم علي نقله،فيظهر منه أنّه لا يريد طرح الأخبار،بل يريد العمل بها مهما أمكن،و هو طريق احتياط،فقد رأي أنّ7.

ص: 408


1- كشف القناع ص 217.

الأصحاب يعملون بهذه الأخبار،و رأي أنّ بعضها متعارض،و رأي أنّ الأصحاب صنّفوا كتبا في الرجال،و وثّقوا بعض الرواة و ضعّفوا بعضهم،و رأي أنّ بعض الأخبار مخالف لعمل الأصحاب،فأراد الجمع بين جميع ذلك.

فهو يعمل بخبر الثقة الواقعي الذي احرز عدم تعمّده الكذب،إلاّ إذا كان الخبر مخالفا لعمل الطائفة و يسمّيه شاذّا،و يعمل أيضا بخبر موافق لعمل الطائفة أو لنقلهم له من دون عمل،و يري أنّ عمل الطائفة مفيد للعلم،و نقلهم له بدون عمل علي خلافه من القرائن المفيدة لاعتبار الخبر،فلذا لا يلاحظ السند،هذا إذا لم تتعارض الأخبار،و إلاّ رجح بعضها علي بعض بالسند و غيره.

و لعلّه بذلك يندفع ما أورده الشهيد الثاني رحمه اللّه في كتاب الدراية،قال:و العجب أنّ الشيخ رحمه اللّه اشترط الايمان و العدالة في كتب الاصول،و وقع له في الحديث و كتب الفروع الغرائب،فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا،حتّي انّه يخصّص به أخبارا كثيرة صحيحة حيث تعارضه باطلاقها،و تارة يرد الحديث الضعيف لضعفه، و اخري يرد الصحيح معلّلا بأنّه خبر واحد لا يوجب علما و لا عملا كما هي عبارة المرتضي (1)انتهي.

ولكن قال في قبول الخبر الضعيف المعتضد بالشهرة رواية:و بهذا اعتذر للشيخ في عمله بالخبر الضعيف (2).

أقول:و الذي استقرّ بالبال القاصر بعد التتبّع في الجملة في كيفية عمل القدماء أنّه يظهر من بعضهم أنّهم كانوا يعملون بالكتب المعتمدة عندهم،و لعلّ ذلك كان إجماعا منهم علي العمل،فتكون أخبار تلك الكتب بهذا الاجماع،ممّا هي مقترنة بما يوجب العلم،و لعلّه مراد الصدوق في أوّل الفقيه من عدّ بعض الكتب أنّها7.

ص: 409


1- الدراية ص 26.
2- الدراية ص 27.

المرجع و عليها المعوّل،و سيأتي في محلّه نقل أقوالهم.و يظهر من بعض آخر العمل بما كان سنده معتبرا و لم يكن مخالفا للعقل و الكتاب،و من ثالث العمل بما اقترن بالقرينة.

التنبيه الثالث:أنّ ما ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حجّيته من خبر الثقة المتحرّز من

الكذب

الذي يحصل الاطمئنان من خبره،بحيث كان الاعتناء باحتمال الخلاف قبيحا هو قليل في الأخبار،و إن قيّدناه مضافا إلي ذلك بما ذكرناه من أن يكون تشخيص وثاقته من طريق عقلائي و معاشرة أهل الفطنة و الاطّلاع يصير أقل،و هو القدر المتيقّن من سيرة العقلاء و سائر الأدلّة،و هذا المقدار لا يفي بمعظم الفقه، و الاقتصار عليه يوجب طرح أخبار كثيرة،فلذا نقول بلزوم العمل بجميع الأخبار بالكيفية التي بيّناها،و سيأتي مزيد توضيح لهذا.

التنبيه الرابع: في في التدافع الواقع حجّية الخبر الواحد

في التدافع الواقع بين ما عزاه السيّد إلي الأصحاب من عدم حجّية الخبر الواحد و بين ما عزاه الشيخ إليهم من خلافه،و لهم وجوه لرفع التنافي:

أحدها:أن يكون مراد السيّد من منع العمل بخبر الواحد هو الخبر الذي يرويه المخالفون،كما أشار اليه الشيخ في العدّة،قال:الذين أشرتم إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما كلّموا من خالفهم في الاعتقاد،و دفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار الخ (1).

و فيه أنّ السيّد ذكر في الذريعة (2)أنّه إذا لم يكن خبر الواحد حجّة سقط البحث عن المراسيل و تعارض الأخبار و نحو ذلك ممّا يتفرّع علي ثبوت الحجّية،و مراده مراسيل الشيعة و أخبارهم المتعارضة،و صرّح في مواضع من رسائله بأنّه لا يعمل بهذه الأخبار.

ص: 410


1- عدّة الاصول 1:128.
2- الذريعة ص 504.

ثانيها:أن يكون مراد الشيخ من حجّية خبر الواحد هو الخبر الموجود في مصنّفات أصحابنا،و يكون مراد السيّد من عدم حجّية خبر الواحد هو الخبر الواحد الذي ليس في مصنّفات أصحابنا،و إن كان راويه عدلا إماميّا،و هما متّفقان علي العمل بأخبار الآحاد الموجودة في مصنّفات أصحابنا،لكن الشيخ يدّعي أنّها آحاد و السيّد يدّعي أنّها مقرونة بقرائن تفيد العلم بمضمونها و صحّتها،و هذا الوجه يظهر من المحقّق،و ارتضاه في المعالم (1)،و اختاره بعض السابقين،و في هداية الأبرار (2).

و فيه أنّ السيّد صرّح في رسائله بعدم حجّية هذه الأخبار الموجودة في مصنّفاتنا،و الشيخ ادّعي الاجماع علي العمل بخبر الواحد من زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله، و لم يكن مصنّف منّا في زمانه.فالشيخ يعتقد حجّية خبر الواحد و إن لم يكن في مصنّفاتنا،و السيّد يدّعي عدم حجّية الأخبار المدوّنة في مصنّفاتنا و غير المدوّنة.

و أيضا قال الشيخ:إنّ الخبر إذا اقترن باحدي القرائن الأربع،فهو معلوم الصحّة، و الأصحاب قد عملوا بغير المقرون بالقرينة،سواء كان في المصنّفات أو لم يكن، لاحظ منع السيّد عن العمل بها في رسائله (3).

و لم يرض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (4)بهذا الجمع،و انتصر للعلاّمة و قال:انّه فهم مراد الشيخ،لا كما فهمه المحقّق،قال:و الانصاف أنّ ما فهمه العلاّمة من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الامامي أظهر ممّا فهمه المحقّق من التقييد؛لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع علي العمل بالروايات المدوّنة في كتب2.

ص: 411


1- المعالم ص 198.
2- هداية الأبرار ص 68 و 96.
3- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:210 و 1:410 و 2:331 و 3:309 و غيرها.
4- فرائد الاصول ص 152.

الأصحاب علي حجّية مطلق خبر العدل الامامي،بناء منه علي أنّ الوجه في عملهم بها كونها أخبار عدول إلي آخر ما أفاده (1).

قلت:لا يبعد أن يكون مراد الشيخ كلا الأمرين،فهو يقول بحجّية خبر العدل أيضا-و إن لم يكن في المصنّفات-و هو الامامي المتحرّز عن الكذب،أي:العادل في الرواية؛لأنّه لم يكن لأصحابنا مصنّفات قبل زمان الباقر عليه السّلام،مع أنّ الشيخ استدلّ علي حجّية الخبر بالعمل من زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله.

ثالثها:أن يكون مراد السيّد من اعتبار العلم هو الوثوق و الاطمئنان،و من منعه عن العمل بخبر الواحد الخبر الذي لا يفيد الوثوق،و مراد الشيخ من العمل بالخبر الواحد هو الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان.استحسنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

حيث قال:و يمكن الجمع بينهما بوجه أحسن،و هو أنّ مراد السيّد قدّس سرّه من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان،فإنّ المحكي عنه في تعريف العلم ما اقتضي سكون النفس،و هو الذي ادّعي بعض الأخباريين أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعني لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.

الي أن قال:فيحمل انكار الاماميّة للعمل بخبر الواحد علي إنكارهم للعمل به تعبّدا،أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه علي ما يقوله المخالفون.

و الانصاف أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوي الاجماع علي أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس،و لو بمجرّد وثاقة الراوي،و كونه سديدا في نقله لم يطعن في روايته (2)انتهي.

و مراده من بعض الأخباريين هو صاحب هداية الأبرار (3)،فإنّه قال:فيكفي5.

ص: 412


1- فرائد الاصول ص 154.
2- فرائد الاصول ص 156.
3- هداية الأبرار ص 14-15.

النقل الي آخر كلامه.

أقول:هذا الوجه خلاف ظاهرهما،فقد عرفت أنّ مراد السيّد من العلم هو العلم الذي لا يحتمل معه الخلاف (1)،فإنّه قال في الذريعة:إنّ خبر الواحد لا يفيد العلم، بل يفيد غالب الظنّ و لا يكون حجّة (2).و لعلّه لا يساعده كلام الشيخ،فإنّه قال في العدّة:و إنّما قلنا ذلك لأنّ هذه الأدلّة توجب العلم،و الخبر الواحد لا يوجب العلم، و إنّما يقتضي غالب الظنّ،و الظنّ لا يقابل العلم (3)انتهي.

رابعها:ما حكاه في كشف القناع عن الاستاذ،و الظاهر أنّ مراده به الوحيد البهبهاني رحمه اللّه،من أنّ الاجماعات المتناقضة المنقولة في حجّية خبر الواحد و عدمها مبنيّة علي أنّ الأئمّة عليهم السّلام منعوا أوّلا من العمل به،و اشتهر ذلك بين الشيعة و لا سيّما متكلّميهم.و ادّعي المرتضي الاجماع عليه نظرا إلي مزيد انسه بكلامهم و كونه منهم،و جوّزوه ثانيا لما رأوا من اضطرار الشيعة إلي العمل به،ثمّ اشتهر ذلك بينهم و لا سيّما محدّثيهم،و ادّعي الشيخ الاجماع عليه لمزيد انسه بكلامهم و كونه منهم،قال في كشف القناع بعد حكايته:و لا يخفي ما فيه من الفساد من وجوه شتّي (4).

أقول:لو سلّم ما ذكر ففيه أنّ السيّد لم يدرك الزمان الأوّل،بل كان بعد الزمانين، فينبغي أن يعتقد جواز العمل به،مع أنّه خلاف ما في الذريعة،قال:و ذهب الفقهاء و أكثر المتكلّمين إلي أنّ العبادة قد وردت بالعمل بخبر الواحد في الشريعة (5).9.

ص: 413


1- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:15 و 1:204.
2- الذريعة 2:517.
3- عدّة الاصول 1:100.
4- كشف القناع ص 453.
5- الذريعة 2:529.

أقول:و في نسخة:و ذهب أكثر الفقهاء و المتكلّمين.

فإذا لم تصحّ وجوه الجمع المذكورة،فإمّا أن يكون السيّد مخطئا في دعواه الاجماع،أو يسند الخطأ إلي الشيخ،لكن اسناده إلي السيّد بعيد؛لتأيّد دعواه بحكاية المنع عن غيره من القدماء.

فالجمع بين ادّعائهما الاجماع بإرجاع أحدهما إلي الآخر غير وجيه.

قال في كشف القناع:و أمّا ما سبق إلي بعض (1)الأفهام من تأويل كلام المنكرين لأخبار الآحاد بحيث يوافق كلام المثبتين،فوهم ظاهر كما بيّن في محلّه،و ناهيك في ذلك ترك المرتضي في الذريعة البحث عن المراسيل و التراجيح و نحوها؛لذهابه إلي عدم حجّية أخبار الآحاد مطلقا.نعم لو قيل انّه اشتبه عليهم كثير من أخبار الآحاد فعملوا بها لذلك كان ممكنا (2)انتهي.

أقول:و يحتمل أن يكون ما تسالمت عليه الطائفة المحقّة هو عدم حجّية خبر الواحد بنحو القضية المهملة،بحيث يشمل ما كان مرسلا أو مسندا بواسطة رواة ضعاف،و اشتبه ذلك علي السيّد فظنّ أنّه ليس بحجّة مطلقا،و إن كان الراوي عدلا ثقة،و إن لم يشتبه في أصل نسبة عدم حجّية الخبر الواحد إلي الطائفة.

لكن الذي يظهر من رسائله و غيرها أنّه يعتقد أنّ الطائفة لا تعمل بالأخبار مطلقا،لا بهذه الأخبار المودعة في الكتب،و لا بخبر العدل الواحد الامامي أيضا (3).

التنبيه الخامس:في بيان ما يمكن أن يستند إليه السيّد المرتضي رحمه اللّه في

ص: 414


1- اشارة الي ما في الفوائد المدنيّة،و هداية الأبرار.
2- كشف القناع ص 241.
3- لاحظ الانتصار مسألة حرمة المزنيّ بها اذا كانت ذات بعل علي الزاني،و رسائله 1: 202،205،212 و 408 و 2:321 الي آخر المسألة الخامسة و 3:309.

مواضع بعد عدم اعتماده علي أخبار الآحاد:

الأوّل:في ما اعتمد عليه السيّد في المسائل الفقهية.

الثاني في ما يمكن أن يكون جوابا لما يرد علي السيّد،من أنّه ماذا كان يعتمد في شؤونه،و الحاجة ملحة إلي الأخذ بخبر الواحد.

الثالث:في موضع النزاع في خبر الواحد.

أمّا الأوّل،فالذي يمكن أن يقال:أنّه يظهر من الانتصار و الناصريات أنّ المسائل الشرعيّة كانت معنونة عند القدماء،و قد كتب فيها كتب،كمقنعة الشيخ المفيد،و كتاب ابن الجنيد،و ابن أبي عقيل و غيرهم،فكان بعض المسائل مفتي به، و السيّد كان يعتقد صحّته،فاحتاج إلي دليل يستدلّ به لهذه المسائل،و الدليل لا بدّ أن يكون علما أو علميا،و خبر الواحد لا يفيد العلم،و لا يعتقد حجّيته،فذكر من الآيات ما يستدلّ به (1)،و إن كان عندنا لا يدلّ.و من الأخبار ما اعتقد كونه متواترا،و ربما استدلّ بالاجماع أو الاحتياط أو دليل العقل،لكنّه لم يستدلّ بما هو خبر واحد في نظره.

و أمّا الثاني،فالسؤال أنّه ماذا كان يعتمد في اموره؟أكان يعتمد علي الظنون أم كان يحتاط فيها،بعد فرض ذهابه إلي عدم حجّية خبر الواحد؟

و يمكن أن يقال:إنّه كان في ذلك كسائر الناس يعتمد ما قامت عليه سيرتهم من العمل بالإخبارات المفيدة للعلم،و لو العادّي منه.

و أمّا الثالث،فالذي استفاده في كشف القناع من كلامهم،هو النزاع في حجّية الخبر الذي لم يبلغ حدّ التواتر،فلذا قال في ردّ القول بحجّية الاجماع المنقول:إنّا.

ص: 415


1- راجع الانتصار ص 165 و 166 تمسّك بقوله تعالي وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و تمسّك لعدم اعتاق ولد الزنا بقوله تعالي وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ و في ص 191 تمسّك بقوله تعالي وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و ص 218 و غيرها.

المانعين عن حجّية الخبر الواحد لا يقولون بحجّية الاجماع المنقول،قال:و من لم يصدّق مثل زرارة فيما يتفرّد بنقله من الصادق عليه السّلام بطريق السماع و المشاهدة بلا شائبة ريبة و لا يقول بحجّية و لا يعمل به و لو ادّعي سماعه و مشاهدته و أخذه مرارا كثيرة عنه،أو عن الباقر عليه السّلام أيضا،و كذا لو كان معه من لا يكمل به عدد التواتر و لم يوجد قرائن اخر موجبة للقطع بصدقه،فكيف يصدّق من كان جالسا في بيته لم ير إمام العصر و لم يسمع منه و لا ممّن سمع منه،إلي آخر كلامه فلاحظ (1).

و لذا أصرّ الشيخ الطوسي علي اثبات حجّية خبر العدل و الثقة.و أصرّ الشيخ الأنصاري علي اثبات حجّية خبر الثقة الموثوق بصدوره عن المعصوم بحيث كان احتمال الخلاف لا يعتني به.

و لكن الشيخ الطوسي جعل موضع النزاع خبر العدل علي الظاهر،ذكر ذلك في التبيان (2)،و سيأتي نقله،و في كلام المفيد رحمه اللّه عبارات يمكن أن يستفاد منها أنّ الخبر الصحيح حجّة.

منها:ما ذكره في المسائل السرويّة،قال:و الصحيح في حديث الأشباح الرواية التي جاءت من الثقات بأنّ آدم عليه السّلام الحديث،قال بعد ذكر الرواية:و هذا غير منكر في العقول،و لا مضادّ للشرع المنقول،و لو رواه الثقات المأمونون و سلّم لروايته طائفة الحقّ،فلا طريق إلي إنكاره (3)انتهي.فتأمّل،فإنّه لا يبعد أن يكون مراده رواية عدّة من الثقات له،مع تسلم الطائفة و قبولها ايّاه.

و تقدّم في عبارته المنقولة في كنز الكراجي،قال:و ربّما كان شاهدا من عرف، فإنّ وثاقة الراوي المحرزة بالوجدان من الشواهد العرفيّة علي الصدق.و تقدّم1.

ص: 416


1- كشف القناع ص 241.
2- التبيان 9:44.
3- المسائل السرويّة ص 210-211.

أيضا ما ذكره في أوائل المقالات من استثناء ما يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه علي البيان.

و ما ذكره في شرح اعتقادات الصدوق،قال:هذا إن سلّمنا الأخبار التي رواها أبو جعفر رحمه اللّه،فأمّا إن بطلت أو اختلّ سندها،فقد سقط عنّا عهدة الكلام فيها، و الحديث الذي رواه عن زرارة حديث صحيح من بين ما روي إلي آخر كلامه (1).

لكن قال السيّد في الذريعة:اعلم أنّ من يذهب إلي وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يكثر كلامه في هذا الباب و يتفرّع؛لأنّه يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته و أمانته،فأمّا من لا يذهب إلي ذلك و يقول:إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي،فلا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا الي آخر كلامه (2).

الآيات الدالّة علي حجّية خبر الواحد

الدليل الثاني لحجّية خبر الواحد:الآيات،منها:قوله سبحانه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (3)و في قراءة فتثبّتوا.قال الطبري:و الصواب من القول انّهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعني (4)انتهي.

بيان الفسق كما في المقاييس:هو الخروج عن الطاعة،تقول العرب:فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت،حكاه الفرّاء (5).

ص: 417


1- شرح اعتقادات الصدوق ص 196.
2- الذريعة 2:555.
3- الحجرات:6.
4- تفسير الطبري 26:78.
5- مقاييس اللغة 4:502.

أقول:و الشايع إطلاقه في الكتاب في مقابل الايمان،و هو الكافر و الخارج عن المذهب،كالواقفي و الفطحي.

و النبأ كما في المقاييس:الاتيان من مكان إلي مكان،يقال للذي ينبأ من أرض إلي أرض نابي،و سيل نابي أتي من بلد إلي بلد،و رجل نابي مثله،و من هذا القياس النبأ الخبر لأنّه يأتي من مكان إلي مكان،و المنبيء المخبر (1).

و في تبيان الشيخ الطوسي:بنبأ أي:بخبر عظيم الشأن (2).

و التبيّن قريب من التثبّت،قال الأزهري:و يقال تبيّنت الأمر أي تأمّلته و توسّمته،و قال:قال النبي صلّي اللّه عليه و اله:ألا انّ التبيّن من اللّه و العجلة من الشيطان فتبيّنوا.

قال أبو عبيدة:قال الكسائي و غيره:التبيّن التثبّت في الأمر و التأنّي،و قرأ قول اللّه فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا (3)و قريء فتثبّتوا،و المعنيان متقاربان،و كذلك قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (4).

و قال ابن فارس:بين أصل واحد،و هو بعد الشيء و انكشافه،فالبين الفراق، و بان الشيء و أبان إذا اتّضح و انكشف (5).

و في المستدرك عن القطب الراوندي في لبّ اللباب،عن الصادق عليه السّلام:من له أدب فعليه أن يتثبّت فيما يعلم،و من الورع أن لا يقول ما لا يعلم (6).

و في فروق اللغة:الفرق بين العلم و التبيّن أنّ العلم هو اعتقاد الشيء علي ما هو3.

ص: 418


1- مقاييس اللغة 5:385.
2- التبيان 9:341.
3- النساء:94.
4- تهذيب اللغة 15:496 و 499.
5- مقاييس اللغة 1:327.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:151 ب 1 فرض طلب العلم ح 63.

به علي سبيل الثقة،كان ذلك بعد لبس أو لا،و التبيّن علم يقع بالشيء بعد لبس فقط،و لهذا لا يقال:تبيّنت أنّ السماء فوقي كما تقول علمتها فوقي،و لا يقال للّه «متبيّن»لذلك (1).

و في الصحاح:و استبان الشيء وضح،و استبنته أنا عرفته،و تبيّن الشيء وضح و ظهر (2).

و في أساس البلاغة:و تبيّن في أمرك تثبّت و تأنّ (3).

قلت:المستفاد من كلام اللغويّين و موارد استعمال الكلمة أنّ التبيّن هو العلم ببينونة شيء عن شيء،فهو لا يكشف عن خلاف،و النبأ الذي جاء به الوليد في ابهام،و لا بدّ من بينونة خبره عن الابهام علي نحو محسوس،و ذلك لا يمكن إلاّ بالفحص حتّي يحصل العلم،و هو الذي لا ينكشف عن خلاف.

و الجهل:خلوّ النفس عن العلم،و يطلق علي فعل الشيء بخلاف ما هو عليه، و لعلّ منه قوله تعالي قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (4)فجعل الهزء جهلا.

قال في المقاييس:جهل أصلان أحدهما خلاف العلم،و الآخر الخفّة و خلاف الطمأنينة (5).

قال الطبري في شأن نزول الآية:إنّه انزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لمّا بعثه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله إلي بني المصطلق ليأخذ منهم صدقاتهم،و انّه رجع إلي9.

ص: 419


1- فروق اللغة ص 76.
2- صحاح اللغة 5:2083.
3- أساس البلاغة ص 58.
4- سورة البقرة:67.
5- مقاييس اللغة 1:489.

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله و كذب علي بني المصطلق أنّهم لا يؤدّون الصدقات (1)انتهي.

أقول:في معني الآية احتمالان:

الاحتمال الأوّل:أن يكون فاسق نكرة اريد به الفرد المعيّن،و هو الوليد بن عقبة،نظير قوله تعالي وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ المراد به الفرد المعيّن، أي:إن جاءكم فاسق الذي هو الوليد بنبأ يجب تبيّن الحال عن نبأه،بحيث يصير المنبأ به محسوسا لا ينكشف عن خلاف،فإنّه لو لم يتبيّن الحال كذلك فربّما قتلتم قوما أبرياء فتندمون علي ذلك،فلا دلالة للآية علي حكم نبأ سائر الفسّاق،لكن يفهم عرفا حكم ما هو نظير موردها،فلو جاء فاسق غير الوليد بنبأ كذلك وجب التبيّن أيضا.

و يمكن أن يستفاد ذلك من التعليل؛لأنّ العلّة المذكورة في بيان الحكم تعمّم و تخصّص،و علّة وجوب التبيّن للنبأ المذكور هو الندم علي كشف خلاف ما ينبغي ترتّبه علي النبأ،نظير قوله«لا تأكل الرمّان فإنّه حامض»فإنّ التعليل يفيد عدم حرمة أكل لرمّان الحلو،و حرمة أكل حامض غير الرمّان،بل يمكن التعميم لكلّ نبأ الفاسق؛لأنّ العلّة هي الندم و هو موجود في جميع أخباره.

الاحتمال الثاني:أن يكون حكما كلّيا لكلّ فاسق و لكلّ نبأ،أي:كلّما جاءكم فاسق بنبأ يجب التبيّن عنه،و مفهومه لو كان له مفهوم أنّه لو كان المنبيء غير فاسق لم تكن هذه الكلّية ثابتة،نظير قوله«إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»فإنّه يدلّ علي أنّ كلّ ماء بلغ هذا الحدّ لم ينجّسه شيء،و ليس كذلك كلّ ماء لم يبلغ الكرّ فإنّه ينجّسه شيء و لو في الجملة.

و قد استدلّ بها علي حجّية خبر الواحد بوجهين:8.

ص: 420


1- تفسير الطبري 26:78.

الأوّل:مفهوم الشرط؛لأنّ حاصل معني الآية أنّ النبأ الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقا فتبيّنوا،و مفهومه أنّ النبأ الذي جيء به إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبيّنوا.

و فيه أنّ ظاهر القضية الشرطية أنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع،و هو نظير إن رزقت ولدا فاختنه و ليس له مفهوم؛لأنّ مفهومه أنّه إن لم يجيء فاسق بنبأ فلا موضوع للتبيّن.

الثاني:مفهوم الوصف،فإنّ التبيّن لو كان واجبا مطلقا في خبر الفاسق و العادل لم يكن وجه للتقييد بكون الجائي به فاسقا،بل يقول:إن جاءكم نبأ فتبيّنوا.

و فيه أنّه يحتمل أن يكون الآية لا يقاظ المؤمنين و إرشادهم إلي ما يحكم به العقل و الفطرة،فلا يبعد أن يكون المراد بالآية الاخبار بفسق الوليد،و التنبيه علي أنّ من لا يبالي بالكذب و سائر المعاصي لا يعتمد علي خبره أصلا،حتّي لو حصل من خبره علم عادي،بل لا بدّ من التثبّت و استكشاف الأمر من غير ناحية خبره.

فإنّ الآيات القرآنية في غاية البلاغة،و هي تلقي المطالب مستدلّة بحيث تقبلها العقول السليمة،مثل قوله سبحانه أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (1)فكأنّه استدلّ علي علمه تعالي بأنّ الخالق للشيء يكون عالما به،و قوله سبحانه أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ (2)ففي هذه الآية أوجب التثبّت عند الاخبار،معلّلا بأنّ الفاسق و هو الذي لا يبالي لا ينبغي العمل بإخباره ما لم يتثبّت،فربّما يصاب قوم بجهالة،و هذا المقدار يكفي أن يكون فائدة للقضيّة الشرطيّة و للوصف المذكور.

و الحاصل أنّ الآية في مقام الردع عن الاعتماد علي الأسباب غير الصحيحة كخبر الفاسق،فإنّه ربما يحصل سكون النفس من خبره لكثير من البسطاء.و لما0.

ص: 421


1- سورة الملك:14.
2- سورة إبراهيم:10.

كان الوليد مبعوث النبي صلّي اللّه عليه و اله،فالعادة قاضية باعتماد المسلمين علي خبره،فبيّنت الآية الكريمة أنّه فاسق،و لا ينبغي الاعتماد علي خبر من لا يبالي بالكذب.

و يشعر بما يقتضيه الفطرة السليمة أنّه بخلاف العادل المتحرّز من الكذب،فلا بأس بالاعتماد علي سكون النفس الحاصل من خبره،فلا يدلّ علي حجّية خبر العادل تعبّدا إن كان عدلا علي الظاهر الذي لا يحصل العلم من خبره.

و لو سلّم دلالته علي حجّية خبر العادل،فأوّلا:أنّ المنطوق يدلّ علي عدم حجّية خبر الفاسق واحدا كان أو أكثر،و مفهومه حجّية خبر العادل في الجملة و لو فيما إذا كان أكثر من واحد.

و ثانيا:أنّه يدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي؛لأنّ المراد بالفاسق ما ينطبق عليه مفهومه،و هو الفاسق الواقعي،لكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الواقعية من دون مدخليّة للعلم به و عدمه،فيقابله العادل الواقعي و يحصل من خبره سكون النفس.

و أمّا ما ذكره الشهيد الثاني في الدراية من أنّ مقتضي الآية كون الفسق مانعا من قبول الرواية،فإذا جهل حال الراوي لا يصلح الحكم عليه بالفسق،فلا يجب التثبّت عند خبره بمقتضي مفهوم الشرط،و لا نسلّم أنّ الشرط عدم الفسق،بل المانع ظهوره،فلا يجب العلم بانتفائه حيث يجهل،و الأصل عدم الفسق في المسلم و صحّة قوله،و هذه بعض آراء شيخنا أبي جعفر طوسي رحمه اللّه،فإنّه كثيرا ما يقبل خبر غير العدل و لا يبيّن سبب ذلك (1)انتهي.

ففيه أوّلا:أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة،و المخبر إمّا فاسق أو ليس بفاسق،و لا يخلو من أحدهما من دون دخل للعلم و الجهل في انطباق مفهوم5.

ص: 422


1- الدراية ص 65.

الفاسق علي مصداقه،فكما أنّه إن قطع إنسان بأنّ مايعا ماء في حين أنّه خمر لم يكن مصداقا للماء،كذلك إن جهل حاله.

و ثانيا:أنّ مذهب الشيخ هو اعتبار الوثاقة في الراوي،نعم اكتفي بالاسلام و عدم ظهور الفسق في باب الشهادة عند القاضي لا في باب حجّية الخبر.

و ينبغي التنبيه علي امور:

التنبيه الأوّل:أنّه ربّما يتمسّك بالآية الشريفة علي عدم حجّية خبر الواحد،كما يأتي عن الشيخ في التبيان،و حاصله:أنّ التعليل يعمّم و يخصّص،و مقتضي التعليل أنّ علّة التبيّن هو عدم الوقوع جهلا فيما يندم منه،و هذه العلّة موجودة في خبر العدل علي الظاهر.و أمّا العدل الواقعي أي الصادق قطعا،فيحصل العلم من خبره.

و الجواب من وجوه:

أحدها:أنّه ليس علّة،بل هو من فوائد تبيّن خبر الفاسق.

و فيه أنّ الظاهر كونه تعليلا.

ثانيها:أنّ الجهالة بمعني فعل ما لا ينبغي فعله،و بعبارة اخري:الجهالة العمليّة، كقوله تعالي يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ (1)و المعني أنّ العمل بخبر الفاسق من زيّ أرباب الجهالة لا من زيّ أرباب البصيرة،و خبر العادل و إن لم يفد العلم لاحتمال اشتباه و نحوه،لكن ليس العمل به من فعل ما لا ينبغي فعله،بل يمكن أن يقال بناء علي هذا المعني أنّ التبيّن الاطمئناني يكفي؛لأنّ الفعل معه لا يكون جهالة، فالتبيّن لو سلّم أنّ معناه التبيّن العلمي لكن بقرينة التعليل يحمل علي التبيّن الاطمئناني (2).

و فيه نظر،أوّلا:أنّا لا نسلّم أنّ الاقدام علي قتل القوم باطمئنان استحقاقهم ليس5.

ص: 423


1- سورة النساء:17.
2- لاحظ فرائد الاصول ص 125.

بسفاهة.

و ثانيا:أنّ إصابة القوم بالقتل إن كانوا مرتدّين واقعا و أرادوا قتل مبعوث النبي صلّي اللّه عليه و اله أمر حسن،و إن لم يكونوا كذلك فهو ظلم و قبيح،و المسلمون لا يدرون أنّ القوم علي أيّ الحالين،و حينئذ إن أصابوهم مع عدم العلم بحالهم ندموا إن تبيّن أنّهم لا يستحقّون القتل،فالغاية من التبيّن أن لا يندموا علي قتل القوم،و عدم الندم بعد قتلهم لا يكون إلاّ إذا صار الشيء بالتبيّن محسوسا لم يكن فيه احتمال الخلاف،فيكون قرينة علي أنّ المراد من الجهالة هو عدم العلم.

ثالثها:أنّ التعليل خاصّ بإصابة القوم و هو قتلهم،و لا يشمل سائر الموارد التي ليس فيها قتل النفس المحترمة،فيقتضي اختصاص التبيّن في خبر الفاسق في خصوص القتل،و لا يدلّ علي وجوب التبيّن في سائر أخبار الفاسق فضلا عن خبر العادل.

و فيه أنّ مقتضي إطلاق الصدر العموم،و كذا الغرض من التعليل عدم تحقّق الندامة،فالانصاف أنّ الآية في الدلالة علي المنع عن اتّباع غير العلم بل غير ما يتبيّن أظهر.

التنبيه الثاني:قيل:إنّ الفاسق مختصّ بالخارج عن الدين،و لا يشمل الامامي الفاسق؛لشيوع إطلاق الفاسق في الكتاب العزيز في مقابل المؤمن.

و الجواب:أنّ الروايات التي تمسّك فيها بالآية الشريفة علي أنّ من مصاديقه الكاذب تقتضي التعميم للكاذب (1).

التنبيه الثالث:أنّه يمكن أن يقال:إنّ ما دلّ علي ترتيب الأثر علي موضوع العدل علي الظاهر و هو المحرزة عدالته بالأمارات،كحسن الظاهر و الحكم علي2.

ص: 424


1- لاحظ تفسير نور الثقلين 5:82.

شخص بالعدالة بالاستصحاب،و البيّنة،يكون حاكما علي منطوق الآية،فيخرج العدل علي الظاهر من منطوقه،فلا تكون الآية مانعة عن قبول خبره.

قلت أوّلا:انّ الآية تدلّ علي أنّ جواز العمل بالخبر مشروط بأن لا يترتّب عليه الندم،أي:كان بحيث لم يحتمل فيه خلاف الواقع،و استصحاب عدم الفسق لا يثبت ذلك،و كذلك الأمارات الدالّة عليه.

و ثانيا:لا إطلاق فيما يدلّ علي ترتيب أثر العدالة علي موضوع العدل علي الظاهر بحيث يشمل ترتيب الأثر عليه مطلقا،بل هو مخصوص بباب الشهادة و باب الجماعة.

قال بعض الأخباريّين:الحقّ أنّ العدالة في الشاهد و إمام الجماعة مبنيّة علي الظاهر،و هي كونه مستور الحال إذا سئل عنه خلطاؤه و جيرانه قالوا:لا نعلم منه إلاّ خيرا،و في الراوي كونه متحرّجا عن الكذب ضابطا لما ينقله (1).

و سيأتي أنّه يعتبر كون المخبر أمينا ثقة.

التنبيه الرابع:ظاهر الأمر وجوب التبيّن عن خبر الفاسق،سواء اريد العمل بخبره أم لم يرد العمل به،فإذا أخبر الفاسق فليس لهم غمض العين عن خبره إن كان ممّا يتّصل بهم،بل يجب التبيّن عنه لئلاّ يقع الخلاف،و يمكن الاقتصار علي مورده،فإنّ النبأ علي ما ذكره الشيخ الطوسي هو الخبر العظيم الشأن،فإذا أخبر الفاسق بخبر عظيم الشأن وجب التبيّن عنه،و لو صحّ شأن نزول الآية كان موضوعه خبرا عظيما.

التنبيه الخامس:أنّه ربّما اشكل في شمول أدلّة حجّية الخبر الواحد للإخبار مع الواسطة.3.

ص: 425


1- هداية الأبرار ص 123.

و الجواب:أنّ الحكم ثبت علي طبيعة الخبر،فيشمل الخبر المتولّد من الخبر المحكوم بصدقه،مع أنّ الأخبار الدالّة علي حجّية الخبر تشمل الإخبار مع الواسطة،كما يأتي إن شاء اللّه.

و منها:قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1).

وجه الاستدلال:أنّ قوله تعالي لِيَتَفَقَّهُوا معناه أمر و هو ظاهر في الوجوب، أو خبر و غاية للنفر.و قوله تعالي وَ لِيُنْذِرُوا غاية مترتّبة علي التفقّه،أو واجب في نفسه يتوقّف علي التفقّه.و قوله تعالي لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ غاية للانذار الواجب،فيكون الحذر بقبول قولهم تعبّدا واجبا؛لأنّ غاية الواجب واجب.

و يمكن المناقشة في الاستدلال المذكور بأنّ الفقيه،بل كلّ عالم كالطبيب و المهندس و غيرهما،في خبره عمّا يعلمه من الفقه و غيره،جهتان:

الاولي كونه أهل الخبرة و المعرفة بما يخبر به.

الثانية:أنّه صادق في إخباره،أو غير صادق،فالفقيه المخبر عن حكم الميتة من جهة لا بدّ أن يكون عارفا بما يخبر به من نجاستها أو طهارتها،و من جهة اخري لا بدّ أن ينظر في صدق اخباره و عدمه،و الآية الشريفة في مقام البيان من الجهة الاولي،و هي أن تكون طائفة من أهل المعرفة و الخبرة في الفقه لينتفع غيرهم بفقههم،و أمّا اعتبار كونهم صادقين في الاخبار عن فقههم،فهو مفروغ عنه و موكول إلي ما بني عليه العقلاء في قبول أخبار المخبرين،بعد إمضاء الشرع له،أو ما اعتبره الشارع حجّة.

و نظيره أن يقال لجماعة ليس لهم طبيب:لو لا أنفذتم من يتعلّم الطبّ لتنتفعوا2.

ص: 426


1- سورة التوبة:122.

بطبّه،فإنّ الغرض منه لزوم الانتفاع بطبابة الطبيب،و أمّا اعتبار صدقه فهو مفروغ عنه،فلا يمكن التمسّك بإطلاقه علي قبول قول الطبيب و إن لم يعلم كونه صادقا.

و لعلّه لذا أطلق في الآية و لم يقيّده بكونهم عدولا أو ثقات.

و ما ورد في تفسيرها في العلل حيث قال:«و ما فيه-أي:في الحجّ-من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة عليهم السّلام إلي كلّ صقع و ناحية كما قال اللّه الآية» (1)ليس في مقام بيان حجّية الخبر.و كذا خبر عبد المؤمن الأنصاري (2)و غيره.

ثمّ إنّه ربما يقال بأنّ صدر الآية في النفر إلي الجهاد،و هو قوله تعالي وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فلا يناسب النفر إلي محضر الرسول و تعلّم الفقه منه.

قلت:يحتمل أن يكون المراد من صدره النفر إلي تعلّم الفقه،أي:لا يقع خارجا نفر جميع المؤمنين؛لأنّ بعضهم لا يقدر جسما أو مالا،فهذا إخبار عن واقع خارجي توطئة لقوله فَلَوْ لا نَفَرَ و لا يخفي أنّ معني«لعلّ»هو الاحتمال الذي يبرز بصورة أنّه ينبغي وقوع متلوه،فليس مرادفا مع«شايد»و لا«اميد»في الفارسية،بل احتمال الوقوع الذي ينبغي أن يقع،و ليس إخبارا عن رجاء وقوع مدخوله.

و منها:قوله سبحانه وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (3)و الكلام فيه كالكلام في الآية المتقدّمة،فإنّه في مقام بيان تحصيل العلم من أهله،و أمّا اعتبار كون أهل العلم الذين يرجع إليهم صادقين في قولهم،فهو مفروغ عنه و موكول إلي طريقة العقلاء.

مع أنّه يدلّ علي لزوم تحصيل العلم،و هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و لا7.

ص: 427


1- جامع أحاديث الشيعة 10:226.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:92 ح 11.
3- سورة النحل:43،و الأنبياء:7.

يحصل إلاّ بالسؤال من المعصوم من الخطأ أو الحاصل علمه من تواتر و نحوه، و خبر العدل علي الظاهر أو الثقة لا يفيد العلم،و كذا فتوي المجتهد،فلذا لا تكون الآية دليلا علي حجّية أيّ منهما.

مع أنّ الذكر هو الكتاب،أو العلم الذي لا يتخلّف عن الواقع،كالعلم النازل من السماء،قال هود لقومه: أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ (1)فأهل الذكر من كان عنده التوراة الصحيحة غير المحرّفة،أو الانجيل،أو يعرف القرآن حقّ معرفته،و قد كان حين نزول الآيات علماء من اليهود عندهم التوراة الصحيحة،فهو عنوان كلّي ينطبق حين نزول الآية علي علماء أهل الكتاب الذين عندهم التوراة و الانجيل الصحيحتان غير المحرّفتين،و لو فيما يتعلّق بصفات الأنبياء كما هو مورد الآية، و ينطبق علي المعصومين عليهم السّلام أيضا.

و لو لم يعلم المراد بأهل الذكر لعدم معلوميّة المراد من الذكر،كفي ظهور قوله تعالي إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في أنّ السؤال لا بدّ أن يكون ممّن يحصل العلم من جوابهم بعد السؤال،بحيث يكون حصول العلم مستندا إلي جوابهم،في إفادة الاختصاص بمن يفيد قوله العلم،ليبطل الاستدلال بالآية علي حجّية خبر الواحد، أو حجّية فتوي المجتهد للمقلّد.

و منها:قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدي مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (2)قيل:إنّ الآية تدلّ علي قبول أخبارهم،و إلاّ كان وجوب الاظهار لغوا.

و فيه أنّ الآية تدلّ علي حرمة الكتمان و وجوب الاظهار لما يترتّب عليه من الفوائد،و لا دلالة فيها علي وجوب قبول الخبر تعبّدا،و إن لم يحصل العلم من9.

ص: 428


1- سورة الأعراف:63 و 69.
2- سورة البقرة:159.

خبره؛لأنّ الفاسق أيضا يحرم عليه كتمان الحقّ مع أنّه لا يقبل قوله تعبّدا.

و منها:قوله تعالي وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)قوله تعالي أُذُنٌ إسم للجارحة المخصوصة،و اطلق علي النبي صلّي اللّه عليه و اله مبالغة في أنّه يقبل كلّ ما سمع،قوله يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي:

يصدّقهم،كما في قوله سبحانه وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ (2).

وجه الاستدلال:أنّه سبحانه و تعالي مدح النبي صلّي اللّه عليه و اله بأنّه يصدّق المؤمنين، فيكون تصديق المؤمنين حسنا،و مقتضي حسنه ترتّب الأثر عليه.

و في حسن حريز التمسّك بالآية لإثبات تصديق المؤمنين،قال فيه:فقال إسماعيل:يا أبه انّي لم أره يشرب الخمر،إنّما سمعت الناس يقولون،فقال:يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول:يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين،فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم (3).

و في خبر حمّاد بن بشير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام،إنّي أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلي اليمن،فأتيت أبا جعفر عليه السّلام فقلت:إنّي اريد أن أستبضع فلانا،فقال لي:أما علمت أنّه يشرب الخمر؟فقلت:قد بلغني من المؤمنين أنّهم يقولون ذلك،فقال لي:صدّقهم،فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الحديث (4).

أقول:في معني الآية الشريفة احتمالات:3.

ص: 429


1- سورة التوبة:61.
2- سورة يوسف:17.
3- وسائل الشيعة 13:230 ح 1 و جامع أحاديث الشيعة 18:521 ح 5.
4- جامع أحاديث الشيعة 20:87 ح 3.

الأوّل:أنّه أذن خير لكم يصغي إلي ما تقولون،و لا يريد لكم ما هو شرّ لكم،و لا يرتّب الأثر علي ما تقولون،فإنّه يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين ما تبديه ألسنتهم دون ما تخفيه قلوبهم،أي:يظهر القبول عنهم و لا يكذّبهم مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلي المخبر به،فتصديقه للّه تصديق حقيقة و تصديقه للمؤمنين تصديق صورة.

و يشهد لاختلاف تصديق اللّه و تصديقه للمؤمنين،تكرار جملة«يؤمن» و تعدية الأوّل بالباء،و تعدية الثاني باللام،و يؤيّده ما في تفسير علي بن إبراهيم من أنّ المراد بالمؤمنين المقرّون بالايمان من غير اعتقاد (1).و علي هذا المعني من التصديق يحمل ما في خبر إسماعيل«إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم»فيكون قوله«يصدّق للمؤمنين»بيانا لقوله«اذن خير لكم».

قلت:هذا الاحتمال بعيد عن مساق الآية؛لأنّ صدر الآية في المنافقين الذين يؤذون النبي صلّي اللّه عليه و اله،و في ذيله انّ الذين يؤذون النبي لهم عذاب أليم،فيبعد إرادتهم من المؤمنين،بل ينبغي أن يكون المراد من المؤمنين الذين جعلوا في قبال الذين يؤذون رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله المؤمنين الخلّص.

قوله وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ لعلّ المراد به و رحمة لمن آمن مخلصا و حقيقة منكم،أي:من جميع الناس المؤمنين منهم و المنافقين الذين يتوبون عن نفاقهم و يؤمنون حقيقة،و أمّا ما ذكره علي بن إبراهيم فلم يسنده إلي الرواية.

الاحتمال الثاني:أن يكون المعني أنّه اذن خير لكم أيّها الناس الذين حوله،ثمّ بيّن المراد من كونه اذن خير،و هو أنّه يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين الخلّص،و كلمة اللام لعلّها علي تضمين معني التسليم لهم بقبول قولهم،فيصدّقهم و يرتّب الأثر0.

ص: 430


1- تفسير القمّي 1:300.

علي إخبارهم،و رحمة للذين آمنوا بألسنتهم،فيجاملهم و لا يعاقبهم بما يسمع فيهم،ثمّ قال تعالي:لا يغر هؤلاء انّه اذن خير لهم،و انّه رحمة لهم أن يؤذوه،و هم يزعمون أن لا شيء عليهم بل لهم عذاب أليم،و هذا المعني أقرب من الأوّل.

و ذكره في الكشّاف (1).

الاحتمال الثالث:أن يكون المعني اذن خير لكم لا يضرّكم بما سمع و يستر عليكم،ثمّ استأنف و قال:يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين الخلّص و رحمة لهم.

و أمّا خبر حريز،فالمحتمل فيه امور:

الأوّل:أن يكون المراد به تصديق جماعة من المؤمنين،و هم الذين حكم عليهم بالايمان الواقعي و إن لم يكونوا عدولا،أو لم يثبت عدالتهم؛لأنّه لو اريد تصديق كلّ واحد لقال:إن شهد عندك مؤمن،و لعلّه لا يقال بالجمع المحلّي إلاّ إذا كان هناك جماعة،كما أنّ الأمر كذلك في مثل أكرم العلماء،أي:أكرم كلّ عالم، فإنّه يقال ذلك إذا كان هناك علماء،فيدلّ علي حجّية الشياع،كما حمله عليه في الجواهر.

حيث قال:إذ هو كما تري كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلي أفراده قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما ممّا هو مذكور فيه،و به أدرجه فيما دلّ علي النهي عن ائتمان شارب الخمر،و منه يعلم أنّه لا مدخليّة لمفاده الذي يكون تارة علما،و اخري متاخما له،و ثالثة ظنّا غالبا في حجّيته،و إنّما المدار علي تحقّقه (2).

و فيه أنّ تصديق النبي صلّي اللّه عليه و اله للمؤمنين كان لآحادهم،و الاستشهاد بالآية يدلّ علي إرادة الآحاد.7.

ص: 431


1- الكشّاف 2:284.
2- جواهر الكلام 40:57.

الثاني:أن يكون المراد بالمؤمنين كلّ من أظهر الايمان،سواء كان مؤمنا واقعا أم كان منافقا واقعا،و حينئذ لا بدّ من التصرّف إمّا بتقييد المؤمن بالعادل أو الثقة،أو إرادة التصديق الصوري من قوله فصدّقهم.

الثالث:أن يكون المراد تصديق المؤمن الواقعي الذي لا يتعمّد الكذب و لا يعصي اللّه،و يحصل من قوله الوثوق.

الرابع:ما علّقه صاحب الوسائل علي هذا الخبر،فقال:فيه حجّية التواتر و الأخبار المحفوفة بالقرائن انتهي.و فيه أنّ العموم في المؤمنين للاستغراق الأفرادي.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بالآية أوّلا:بأنّ المراد بالاذن السريع التصديق و الاعتقاد بكلّ ما يسمع لا من يعمل تعبّدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد.

و فيه نظر؛لأنّه نقص،و النبي صلّي اللّه عليه و اله منزّه عن ذلك،مع أنّه لا وجه للتقييد بكونه اذن خير،فإنّ من يعتقد ما يسمع لا فرق فيه بين الخير و الشرّ.

و أجاب ثانيا:بأن ليس المراد بالتصديق ترتيب آثار الواقع،و إلاّ لم يكن اذن خير لجميع الناس،إذ لو أخبره أحد بزنا مثلا فجلده لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبر عنه،بل المراد إظهار القبول عنه و عدم تكذيبه و طرح قوله رأسا،مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلي المخبر عنه الي آخر كلامه فراجع (1).

و أيّده بما عن تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام من أنّه يصدّق المؤمنين؛لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين (2).فإنّ تعليل التصديق بالرأفة و الرحمة علي كافّة3.

ص: 432


1- فرائد الاصول ص 134.
2- تفسير العيّاشي 2:95 ح 83.

المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم علي الآخر،بحيث يترتّب عليه آثاره و إن أنكر المخبر عنه وقوعه؛إذ مع الانكار لا بدّ من تكذيب أحدهما،و هو مناف لكونه اذن خير و رؤوفا رحيما لجميع المؤمنين،فتعيّن إرادة التصديق بالمعني الذي ذكرنا (1).

و أيّده أيضا بما في تفسير علي بن إبراهيم من أنّ سبب النزول أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقا،و كان يقعد لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله فيسمع كلامه و ينقله إلي المنافقين و ينمّ عليه،فنزل عليه جبرئيل و قال:إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك،فدعاه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله فأخبره،فحلف أنّه لم يفعل،فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:قد قبلت منك فلا تعد.إلي آخره (2).فإنّ تصديقه للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه.

ثمّ وجّه خبر حريز بأنّ المراد من تصديق المؤمنين حمل إخبار المؤمن من حيث انّه فعل من أفعال المكلّفين علي أحسنه و صحيحه،و هو حمله علي أنّه صادق و ليس بكاذب،لا حمل أخباره علي كونه مطابقا للواقع بترتيب آثار الواقع عليه،و هو ظاهر الأخبار الواردة في أنّ حقّ المؤمن علي المؤمن أن يصدّقه و لا يتّهمه،خصوصا مثل قوله عليه السّلام:يا أبا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا،و قال:لم أقله،فصدّقه و كذّبهم (3).فإنّك إذا تأمّلت هذه الرواية و لاحظتها مع الرواية المتقدّمة-أي:خبر حريز-لم يكن لك بدّ من حمل التصديق علي ما ذكر انتهي ملخّصا (4).و ذكر نحوه في كتاب5.

ص: 433


1- فرائد الاصول ص 135.
2- تفسير القمّي 2:300.
3- بحار الأنوار 75:255.
4- فرائد الاصول ص 134-135.

القضاء و الشهادات (1).

أقول:ما ذكره من التأييد لا دلالة فيه،فإنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين الخلّص لا المنافقين،نعم يجاملهم و يداريهم،فإنّه علي خلق عظيم،و ليس فيما نقله القمّي أنّ ذلك تفسير لقوله«يؤمن»بل ظاهره أنّه تفسير لقوله«اذن خير لكم».

مع أنّ ظاهر هذا الخبر غير صحيح و مطروح؛لأنّ قبول كلام المنافق يستلزم تكذيب اللّه سبحانه،فهذا الخبر مطروح لمخالفته المذهب،إلاّ أن يحمل قوله صلّي اللّه عليه و اله «قد قبلت منك»علي أنّه أعذره،و لعلّه الظاهر من قوله صلّي اللّه عليه و اله«فلا تعد»بعد قوله:قد قبلت منك.

و أمّا استشهاده بخبر محمّد بن الفضيل علي حمل التصديق علي التصديق الصوري،ففيه أنّه خلاف الظاهر،و المراد بالتصديق فيه التصديق الواقعي،لكن يتعارض تصديق القسامة مع تصديق الذي نفي ما ذكرته القسامة في إثبات الواقع، و لذا يحتاط في ترتيب الآثار؛لأنّه يحتمل صدق القسامة،و المراد بتكذيبهم اسناد الخطأ إليهم كتكذيب البصر،كما يحتمل صدق من أنكر ما شهدت به القسامة.

و لا يبعد قوّة الاحتمال الثالث،و هو أن يكون قوله«يؤمن»جملة مستأنفة.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا عدم دلالة الآيات علي حجّية خبر العادل تعبّدا،بل لو سلّمنا دلالتها فإنّما تدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي.

و لذا قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الآيات:ثمّ إنّ هذه الآيات علي تقدير تسليم دلالة كلّ واحدة منها علي حجّية الخبر،إنّما تدلّ بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل و غيره بمنطوق آية النبأ علي حجّية خبر العادل الواقعي،أو من أخبر عدل واقعي بعدالته،بل يمكن انصراف المفهوم بحكم الغلبة و شهادة7.

ص: 434


1- القضاء و الشهادات ص 77.

التعليل بمخافة الوقوع في الندم إلي صورة إفادة خبر العادل الظنّ الاطمئناني بالصدق،كما هو الغالب مع القطع بالعدالة (1).

أقول:ينبغي أن يقول أو من أخبر عدل واقعي بعدالته واقعا،و لعلّه المراد.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ التبيّن فوق العلم البدوي الحاصل من الخبر،و انّ الاطمئنان بوجود شيء ليس تبيّنا له.

الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد

الدليل الثالث:الأخبار التي تدلّ علي حجّية خبر الواحد.

ينبغي قبل ذكر الأخبار تقديم مقدّمة،و هي أنّ بعض الاصوليّين من المتأخّرين قالوا:إنّ الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد لا تدلّ علي جعل الحجّية للخبر، و إنّما تدلّ علي إمضاء ما هو المسلّم عند العقلاء،و هو الاعتماد علي خبر الثقة،فإنّ عليه بناء العقلاء في جميع امورهم.و في بعض الأخبار تعيين أنّ فلانا ثقة،و هو يدلّ علي أنّ كبري حجّية قول الثقة أمر مفروغ عنه.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ايراده خبر عبد العزيز بن المهتدي:و ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي،فسأل عن وثاقة يونس ليرتّب عليه أخذ المعالم منه (2).

قلت:نمنع بناء العقلاء علي العمل بخبر الثقة تعبّدا في جميع امورهم حتّي في غير مقام الاحتجاج،بل بناؤهم علي العمل بما يوجب سكون النفس،فإذا أخبرهم من يعلمون صدقه حصل لهم العلم،و هو سكون النفس إلي قوله،و مضمون خبره.

و إن شئت استيضاح ذلك فارجع إليهم،تراهم أنّهم يثقون في امورهم بما يخبر به أهلهم و جيرانهم و أصدقاؤهم.نعم ربّما يتساهلون في بعض الامور الجزئيّة،

ص: 435


1- فرائد الاصول ص 136.
2- فرائد الاصول ص 139.

فيعملون بكلّ خبر،و أمّا ترتيب الأثر علي المخبر به المهمّ من موت قريب أو تجارة أو بيع دار أو غير ذلك،فلا يكون إلاّ مع حصول سكون النفس،و الناس مختلفون في حصول سكون النفس،فيثق بالأخبار أكثر البسطاء،بينما أهل الاطّلاع علي أحوال الناس لا يثقون إلاّ ببعض الأخبار.

و علي كلّ حال فليس بناء عملهم علي خبر الثقة مطلقا،حتّي مع عدم حصول سكون النفس،و لذا تراهم لو أخطأ الثقة مرّة واحدة في إخباره بأن أخبر بموت قريب قد رتّبوا آثار الموت علي إخباره،من النوح عليه و اعتداد امرأته،ثمّ تبيّن عدم موته،لم يقبلوا خبره بموت قريب آخر،أو ما هو بمنزلته في الأهمية،بل يتوقّفون عند خبره.

و بالجملة إنّ عمل العقلاء في امورهم التي لا يتساهلون فيها،و يريدون الوصول إلي الواقع،علي العلم الذي يحصل لهم من الأسباب العادية،و إن لم يكن حاصلا من الأسباب البرهانيّة،و يحصل العلم لهم من خبر الثقة،بل ربّما يحصل من خبر غيره ممّا لا يكون من الأسباب العقلائيّة،و قد ذكرنا في بحث دلالة الآيات أنّه يحتمل أن تكون آية النبأ رادعة عن القطع الحاصل لهم من خبر الفاسق،فلاحظ.

نعم يمكن أن يقال:إنّ العقلاء في مقام الاحتجاج يتعبّدون بخبر الثقة الواقعي، أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته،فإذا أخبر عن المولي ثقة ثابت الوثاقة عندهم بالمعاشرة أنّه أمر بكذا،أخذوا بقوله و إن لم يحصل العلم من قوله.

و أمّا الاكتفاء بخبر غير من ذكرناه ممّن وثّقه الثقة لا عن حسّ،بل عن امور اجتهاديّة،فلم يثبت بناؤهم عليه حتّي في مقام الاحتجاج،و سيأتي ما يوضح ذلك.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة،نقول:إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن نقل الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد،قال:و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل

ص: 436

بخبر الثقة (1).

ولكن قال في نهاية الاصول:إنّ الأخبار التي ذكرها الشيخ قدّس سرّه لا تبلغ حدّ التواتر الاجمالي.إلي أن قال:بأنّ الأخبار لا تنحصر فيما ذكر،بل هي كثيرة جدّا.

إلي أن قال:و بالجملة فكثرة الأخبار بحدّ يحصل القطع منها بكون حجّية الخبر أمرا مفروغا عنه بين العامّة و الخاصّة في عصر النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام،ثمّ ذكر أخبارا لا بدّ من المراجعة إليها (2)،فراجع.

ثمّ إنّي أذكر الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام لبيان حال الأخبار المرويّة عنهم عليهم السّلام من حيث الحجّية و عدمها،و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم،و غير خاف أنّ من وثّقه المعصوم يحصل العلم من خبره،فهو ثقة واقعي؛لأنّ المعصوم لا يخطيء في كونه ثقة،و هي أخبار:

أحدها:ما رواه في الكافي عن محمّد بن عبد اللّه و محمّد بن يحيي جميعا،عن عبد اللّه بن جعفر الحميري،قال:اجتمعت أنا و الشيخ أبو عمرو رحمه اللّه عند أحمد بن إسحاق،فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف،إلي أن قال:و قد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:سألته و قلت:من اعامل أو عمّن آخذ و قول من أقبل؟فقال له:العمري ثقتي،فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول،فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون.و أخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد عليه السّلام عن مثل ذلك،فقال له:العمري و ابنه ثقتان،فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان،و ما قالا لك فعنّي يقولان،فاسمع لهما و أطعهما فإنّهما الثقتان9.

ص: 437


1- فرائد الاصول ص 144.
2- نهاية الاصول ص 519.

المأمونان الحديث (1).

أمّا السند،فقال النجاشي:محمّد بن يحيي أبو جعفر العطّار القمّي شيخ أصحابنا في زمانه،ثقة عين كثير الحديث (2).

و قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في رجاله في باب من لم يرو عنهم:محمّد بن يحيي العطّار،روي عنه الكليني،قمّي كثير الرواية (3).و لم يذكره غيرهما،فهو غير معدّل بعدلين.

و لعلّ المراد بمحمّد بن عبد اللّه هو ابن جعفر الحميري،قال فيه النجاشي:كان ثقة وجها.و في كامل الزيارات روي عنه جعفر بن محمّد بن قولويه (4).

و قال النجاشي:عبد اللّه بن جعفر بن الحسن بن مالك بن الجامع الحميري أبو العبّاس القمّي شيخ القمّيين و وجههم (5).

و قال الشيخ في الفهرست:يكنّي أبا العبّاس ثقة (6).فهو أيضا غير مصرّح فيه بالوثاقة بعدلين،و إن كانت عبارة النجاشي يفيد الاعتماد عليه.

و أمّا دلالته،فهو يدلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم،فلا يتعدّي إلي غيره، أو خبر كلّ من كان ثقة واقعا،و كان الطريق إلي ثبوت وثاقته كلام مثل المعصوم.

و لا يخفي أنّ كبري حجّية قول الثقة الواقعي الموجب لسكون النفس إليه عادة مسلّمة،و السؤال عن وثاقة الأشخاص قد يكون لتطبيق الكبري علي الصغري،2.

ص: 438


1- جامع أحاديث الشيعة 1:269 ب 5 ح 1 عن اصول الكافي 1:329.
2- رجال النجاشي ص 353.
3- رجال الشيخ الطوسي ص 439.
4- معجم الرجال 16:259.
5- رجال النجاشي ص 219.
6- فهرست الشيخ الطوسي ص 102.

و قد يكون علي ما قيل لرفع بعض الاحتمالات الخاصّة بالأخبار المأثورة عن المعصومين من أجل ابتلاء أخبار أهل البيت عليهم السّلام ببليّة هي إدخال بعض الأخبار المجعولة و المكذوبة و المحرّفة فيها،و انتحال بعض الرواة المذاهب الفاسدة من الواقفيّة و الفطحيّة و غيرهما،و بعد اطّلاع الشيعة علي ذلك سألوا الأئمّة عليهم السّلام عن وثاقة بعض الأشخاص حتّي يرتفع عنهم احتمال الجعل و الكذب،و السؤال عن الوثاقة وقع بعد زمان الصادقين عليهما السّلام.

و علي كلّ حال فالمراد بقوله«فإنّه الثقة المأمون»الثقة الواقعي المأمون عن الخطأ،و كلّ من كان كذلك فقوله حجّة،فقول أبي الحسن عليه السّلام«ما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي»إخبار منه عليه السّلام علي أنّ ما يؤدّي مطابق للواقع.

كما قال السيّد في الذريعة:لو قال النبي صلّي اللّه عليه و اله:إذا أخبركم عنّي أبوذرّ بشيء فهو حقّ،لكانت الثقة حاصلة عند خبره.و لو قال صلّي اللّه عليه و اله:اعملوا بما يخبركم به فلان فهو صلاح لكم،وجب العمل به و إن لم يحصل الثقة،و يجري مجري تعبّد الحاكم بأن يعمل بعلمه،فتحصل له الثقة و تعبّده بأن يعمل بالاقرار فلا تحصل الثقة إلي آخر كلامه (1).

و الثقة المأمون في قوله عليه السّلام:«فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون»هو الثقة المأمون واقعا الذي ثبت عند أبي الحسن عليه السّلام و عند أبي محمّد عليه السّلام،و الثقة المأمون عن الكذب و الخطأ يحصل من قوله سكون النفس،و لا يبعد أن يكون هذا الارجاع للأعمّ من إخباره عن المعصومين و من افتائه بحرمة شيء أو حلّيته.

و إنّما قلنا إنّ المراد كونه ثقة مأمونا عند أبي الحسن عليه السّلام،لأنّ الثقة في اللغة هو أمن الخاطر و عدم التزلزل.5.

ص: 439


1- الذريعة 2:45.

قال في الصحاح:وثقت بفلان أثق بالكسر فيهما ثقة إذا ائتمنته،و الوثيق الشيء المحكم،و الجمع الوثاق،و يقال:أخذ بالوثيقة في أمره أي بالثقة (1)انتهي.

و إطلاقها علي الشخص:إمّا مبالغة إن كان مصدرا،أو هو وصف نظير عدل، يقال:رجل عدل،و رجلان عدلان،و رجال عدول.فالثقة هو الشخص الذي يأتمنه الانسان،و هذا يختلف باختلاف الأشخاص،فإذا كان الانسان من البسطاء،فربّما يثق بمن لا يثق به أهل الفطنة و الذكاء،فالثقة صفة قائمة بالشخص باعتبار وثوق الآخر به،و لذا يكون ثقة عند شخص و لا يكون ثقة عند الآخر.

و من أخبر المعصوم بوثاقته يكون معناه أنّ المعصوم يثق به،و هذا لا يحتمل في خبره الكذب،بل لو قلنا إنّ الثقة أمر خارجي،و هو كون الشخص ضابطا صادقا متحرّزا عن الكذب،و الطريق إليه هو علم المخبر،فإذا كان المخبر معصوما و أخبر بوثاقته،فهو ثقة واقعي بخلاف غيره،فلا يمكن إثبات حجّية خبر الثقة عند غير المعصوم من هذا الخبر؛لأنّه يدلّ علي حجّية خبر الثقة عند المعصوم عليه السّلام.

إن قلت:إنّ الثقة الواقعي ربّما يخطيء؛لأنّ الانسان في معرض السهو و النسيان.

قلت:إنّ قوله«فما قالا لك فعنّي يقولان»ظاهر في الاخبار عن عدم سهوهما علي الأقلّ فيما يخبران عنه عليه السّلام.

ثمّ لا يخفي أنّه يمكن أن يقال:إنّ الكبري الكليّة المرتكزة حجّية خبر كلّ من كان ثقة عند المعصوم،و الامام علّل قبول قوله بأنّه الثقة المأمون أي:عندي،فإذا كان عنده ثقة فلا بدّ أن يكون ثقة عند غيره أيضا،و أمّا إذا كان ثقة عند غيره فربّما لا يكون ثقة عند الامام.3.

ص: 440


1- صحاح الثقة 4:1562-1563.

ثانيها:ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة،عن جماعة،عن جعفر بن محمّد بن قولويه،و أبي غالب الزراري و غيرهما،عن محمّد بن يعقوب الكليني،عن إسحاق بن يعقوب،قال:سألت محمّد بن عثمان العمري رضي اللّه عنه أن يوصل،إلي أن قال في الجواب:و أمّا محمّد بن عثمان العمري فرضي اللّه عنه و عن أبيه من قبل،فإنّه ثقتي و كتابه كتابي (1).و الكلام فيه ما تقدّم.

ثالثها:خبر أحمد بن إبراهيم المراغي،قال عليه السّلام:فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روي عنّا ثقاتنا (2).و هو توبيخ في التشكيك فيما يرويه من هو ثقة عند المعصوم عليه السّلام،و مثله لا ينبغي التشكيك في خبره،فإنّهم راجعوا القاسم بن علاء فيما ورد في أحمد بن هلال و شكّكوا فيه،راجع القصّة في الكشي (3).فليس الخبر في مقام جعل الحجّة لخبر الثقة مطلقا عند المعصوم و غيره.

رابعها:ما في الكشي:محمّد بن مسعود،قال:حدّثني محمّد بن نصير،قال:

حدّثنا محمّد بن عيسي،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي القمّي،قال محمّد بن نصير:و حدّث الحسن بن علي بن يقطين بذلك أيضا،قال:قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام:جعلت فداك انّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني،أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال:نعم (4).

أقول:الظاهر أنّ محمّد بن نصير روي عن محمّد بن عيسي عن عبد العزيز، و روي أيضا عن الحسن بن علي بن يقطين عن عبد العزيز،و ظاهره أنّ لفظ«ثقة»4.

ص: 441


1- جامع أحاديث الشيعة 1:270-271 ب 5 ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:271 ب 5 ح 3.
3- رجال الكشي ص 449.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 24 عن الكشي ص 414.

موجود في رواية محمّد بن عيسي عن عبد العزيز،و موجود أيضا في رواية حسن بن علي عن عبد العزيز.

و قال النجاشي:قال أبو عمرو الكشي:فيما أخبرني به غير واحد من أصحابنا، عن جعفر بن محمّد عنه،حدّثني علي بن محمّد بن قتيبة،قال:حدّثني الفضل بن شاذان،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي،و كان خير قمّي رأيته،و كان وكيل الرضا عليه السّلام و خاصّته،فقال:إنّي سألته فقلت:إنّي لا أقدر علي لقائك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟فقال:خذ عن يونس بن عبد الرحمن.و هذه منزلة عظيمة.

و مثله رواه الكشي عن الحسن بن علي بن يقطين سواء (1).

و روي الكشي،قال:حدّثني علي بن محمّد القتيبي،قال:حدّثني الفضل بن شاذان،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي،و كان خير قمّي رأيته،و كان وكيل الرضا عليه السّلام و خاصّته،قال:سألت الرضا عليه السّلام فقلت:إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟قال:خذ عن يونس بن عبد الرحمن (2).

استدلّ بالخبر الأوّل علي أنّ كبري حجّية قول الثقة كانت مسلّمة عند الراوي و سأل عن صغراها و تطبيقها علي يونس بن عبد الرحمن.

و فيه نظر أمّا أوّلا:فلاحتمال أن يكون الكبري المركوزة عنده حجّية من وثّقه المعصوم في خصوص الأخبار الواردة من المعصومين عليهم السّلام؛لأنّهم كانوا يعيّنون أشخاصا للأخذ منهم،و كان في الرواة من يكذب و من ينتحل المذاهب الفاسدة.

و ثانيا:لو سلّم دلالته علي حجّية خبر كلّ ثقة،فإنّما يدلّ علي حجّية خبر الثقة الواقعي الذي يكون طريق إحرازه قول المعصوم و نحوه ممّا لا يحتمل فيه الخلاف.

و ثالثا:أنّه لا يبعد أن يكون هذه الأخبار الثلاثة متّحدة،فلا يثبت الخبر9.

ص: 442


1- رجال النجاشي ص 447.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 23 عن الكشي ص 409.

المشتمل علي تطبيق عنوان الثقة علي يونس بن عبد الرحمن،فلعلّه اختصّ به نسخة الكشي التي قال النجاشي:فيها أغلاط كثيرة.

و رابعا:أنّ الكشي روي عن عبد العزيز روايتين:احداهما مشتملة علي كلمة ثقة،و قال:إنّ حسن بن علي بن يقطين رواه أيضا،فتكون في روايته أيضا كلمة ثقة،لكن النجاشي روي عن الكشي الرواية التي ليس فيها كلمة ثقة،ثمّ قال:و مثله روي حسن بن علي بن يقطين.و ظاهره أنّ رواية حسن بن علي بن يقطين خالية عن كلمة ثقة،فيظهر خلوّ نسخة الكشي التي عند النجاشي عن تلك الكلمة.

خامسها:مرسل الصدوق،قال الصادق عليه السّلام لأبان بن عثمان:إنّ أبان بن تغلب قد روي عنّي رواية كثيرة،فما رواه لك فاروه عنّي (1).

سادسها:خبر مسلم بن أبي حيّة،إلي أن قال:ائت أبان بن تغلب،فإنّه سمع منّي حديثا كثيرا،فما روي لك عنّي فاروه عنّي (2).

سابعها:خبر أبان،إلي أن قال:صدق سليم (3).

و لعلّه يوجد أخبار اخر بهذا المضمون،فهذه الطائفة من الأخبار لا إطلاق لها يشمل من ثبت وثاقته من غير ناحية المعصوم،و لو سلّم شمولها لمن كان ثقة واقعا،فالقدر المتيقّن من ثبت وثاقته بمعاشرة أهل الاطّلاع علي سرائر الأشخاص لا كلّ من اعتقد في حقّه أنّه ثقة.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي حجّية خبر الصادق،و هو خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال:سارعوا في طلب العلم،فو الذي نفسي بيده لحديث واحد في2.

ص: 443


1- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 13.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:273-274 ب 5 ح 14.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 32.

حلال و حرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا الحديث (1).و يحتمل إرادة الصادق الذي لا يخطيء و هو المعصوم.

و مثله خبره الآخر (2).و خبر عبد السلام (3).و خبر ميسر (4).و مرسل البلاذري (5).

و هذه الأخبار تدلّ علي حجّية خبر الصادق،و هو من كان خبره مطابقا للواقع قطعا،و هو منحصر في المعصوم و شبهه،أو من أحرز العقلاء صدقه،و التعدّي منها إلي من لم يحرز صدقه لا وجه له.

الطائفة الثالثة:ما دلّ علي إرجاعهم عليهم السّلام إلي أشخاص معيّنين تحفّظا للوصول إلي الأخبار الصحيحة الصادرة عنهم،أو أمرهم شخصا معيّنا أن يروي عنهم،أو تصحيحهم كتابا من كتب الرواة،و غير خفي أنّ التعدّي من هؤلاء إلي غيرهم لا يجوز إلاّ إذا كان مثلهم،لكن معرفة المماثلة مشكلة لنا،و هذه الأخبار هي:

خبر أبي حمّاد الرازي (6)،أرجعه علي بن محمّد عليهما السّلام إلي عبد العظيم،لكن سند الخبر غير واضح.و خبر أبان بن تغلب (7)،قد أمر فيه أبان بن تغلب أن يروي حديثا معيّنا،و في سنده أبو الحسن السوّاق.و خبر جميل (8)،أمره أبو عبد اللّه عليه السّلام6.

ص: 444


1- جامع أحاديث الشيعة 1:272 ب 5 ح 7.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:272 ب 5 ح 8.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:272-273 ب 5 ح 9.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 10.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 18.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 12.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 15.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 16.

أن يروي حديثا.و خبر أبي العبّاس البقباق (1)،أمره أبو عبد اللّه عليه السّلام أن يروي حديثا.

و صحيح ابن أبي يعفور،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي،فإنّه قد سمع من أبي،و كان عنده مرضيّا وجيها (2).دلّ بعموم التعليل علي حجّية رواية من كان مرضيّا وجيها عند المعصوم.

و خبر مفضّل بن عمر،إلي أن قال:إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس،و أومأ إلي رجل من أصحابه،فسألت أصحابنا عنه،فقالوا:زرارة بن أعين (3).و يستفاد من صدر الخبر أنّ الامام عليه السّلام لا يرضي عن كلّ راو؛لأنّ بعضهم يتأوّل الحديث علي غير تأويله،و عيّن زرارة بن أعين لأنّه يعرف الحديث و ينقل صحيحا.

و خبر يونس بن يعقوب (4).و خبر علي بن المسيّب (5).و خبر داود بن القاسم (6).و خبر أحمد بن أبي خلف (7).و خبر داود بن القاسم الجعفري (8).و خبر السمرقندي (9).و خبر فورا (10).0.

ص: 445


1- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 17.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:274-275 ب 5 ح 19.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 20.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 21.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:275-276 ب 5 ح 22.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 26.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 27.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 28.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 29.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 30.

و مرسل الكشي (1).و مرسل النجاشي (2).و خبر سعد بن عبد اللّه (3).

و خبر محمّد بن الحسن بن شنبولة (4).و خبر عبد اللّه الكوفي (5).و خبر مفضّل بن عمر (6).و خبر داود بن سرحان (7).و مرسل جعفر (8).و سائر الأخبار الواردة في الباب (9).راجع هذه الأخبار في مظانّها و انظر ما تستفيد منها.

الطائفة الرابعة:ما دلّ علي أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كانوا يعملون بروايات الرواة،و هي حكاية فعلهم هذا،و القدر المتيقّن منه اعتمادهم علي رواية من يعلمون صدقه أو وثاقته،و هي أخبار كثيرة واردة في الباب الخامس من مقدّمة جامع أحاديث الشيعة (10).و خبر سماعة (11).و خبر محمّد بن حكيم (12).

الطائفة الخامسة:ما دلّ علي الترغيب في الرواية و تعليم الناس و حفظ رواياتهم بلا زيادة و لا نقصان و جواز نقل المعني.ا.

ص: 446


1- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 32.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 33.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:278-279 ب 5 ح 33.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 36.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 37.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 50.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 61.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:297 ب 5 ح 84.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:298 ب 5 الي ح 88.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:301-305 ب 5 ح 100-ح 113.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:329 ب 7 ح 15 و 17 و 18 و 19،و 20 و يحتمل اتّحاد الجميع.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:321 ب 7 ح 20 و 21 و يحتمل اتّحادهما.

و الظاهر أنّها ساكتة عن كون الخبر حجّة،لأنّها في مقام بيان رجحان نشر الحديث و حفظه،و هي:

خبر ابن أبي يعفور (1).و مرسل حكم بن المسكين (2).و خبر معاوية (3).

و مرسل محمّد بن أحمد (4).و مرسل محمّد بن عيسي (5).

و أخبار أخر واردة في الباب،فإنّها واردة في كيفيّة التحدّث و فضله،و لا دلالة لها علي حجّية خبر الواحد،فلعلّه لو تكرّر الحديث صار مستفيضا،و مثل هذه الأخبار في أنّها ليست في مقام حجّية الخبر الأخبار الواردة في علاج المتعارضين.

الطائفة السادسة:ما دلّ علي حجّية خبر الثقة،و هو خبر عمر بن حنظلة،قال:

ينظران إلي من كان منكم ممّن قد روي حديثنا الحديث (6).فإنّ إطلاقه يشمل كلّ من روي ممّن يكون عادلا فقيها صادقا،بقرينة قوله بعد ذلك«الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث»فإنّه قد فرض كون الراوي صادقا،و لذا يترجّح قول الأصدق عند التعارض.

و يمكن الاستدلال بقوله«قد رواهما الثقات عنكم»علي أنّ حجّية خبر الثقات كانت مفروغا عنها،و لكن المتيقّن منه من احرز وثاقته.و ناقش في نهاية الاصول في دلالة هذا الخبر،فراجع.0.

ص: 447


1- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 38.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:280 ب 5 ح 39.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 51.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 52.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:287 ب 5 ح 53.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:380 ب 7 ح 130.

و مثله مرفوعة زرارة (1).و خبر داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجلين اتّفقا علي عدلين الحديث (2).فإنّه يشمل العدل علي الظاهر،لكن قوله بعد ذلك«أورعهما»لعلّه يوجب إرادة العدل الواقعي.

و خبر الحسن بن الجهم (3)،لكن لا سند له،مع أنّه لا دلالة له علي حجّية خبر الثقة إلاّ ما هو المرتكز في ذهن السائل.و خبر الحارث بن المغيرة (4)،و لا سند له.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ايراد بعض هذه الأخبار:الظاهر أنّ دلالتها علي اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور واضحة،إلاّ انّه لا إطلاق لها؛لأنّ السؤال عن الخبرين اللذين فرض السائل كلاّ منهما حجّة و يتعيّن العمل بهما لولا المعارض (5).

الطائفة السابعة:ما يمكن أن يستدلّ بها علي حجّية خبر العدل علي الظاهر و الممدوح مدحا لا يبلغ العدالة و لا الوثاقة،و هي خبر محمّد بن عبيد الهمداني، قال:قال الرضا عليه السّلام:ما يقول أصحابك في الرضاع؟قال:قلت:كانوا يقولون:

اللبن للفحل حتّي جاءتهم الرواية عنك أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فرجعوا إلي قولك الحديث (6).و في دلالتها نظر؛لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و خبر موسي بن أكيل النميري،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سئل عن رجل يكون1.

ص: 448


1- جامع أحاديث الشيعة 1:309 ب 6 ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 5.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 20.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 21.
5- فرائد الاصول ص 138.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:306 ب 5 ح 121.

بينه و بين أخ له منازعة في حقّ،فيتّفقان علي رجلين يكونان بينهما،فحكما فاختلفا فيما حكما،قال:و كيف يختلفان؟قلت:حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان،فقال عليه السّلام:ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه (1).

و الحكم يتحقّق بإخباره عن المعصوم،و مقتضي مراعاة الأعدليّة كفاية الأعدليّة ظاهرا.أو يقال:إنّه تعتبر العدالة الواقعيّة لكن حسن الظاهر امارة عليها.

و خبر سماعة في رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه (2).

و فيه أوّلا:أنّه يحتمل صيرورة المورد من موارد الشبهة التي يكون الوقوف عندها خيرا من الاقتحام في الهلكة،فأجاب الامام عليه السّلام بأنّه موسّع.

و ثانيا:أنّه ليس في مقام بيان حجّية خبرهما.

و خبر محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:ما بال أقوام يروون عن فلان و فلان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله لا يتّهمون بالكذب،فيجيء منكم خلافه،قال:

إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (3).

و فيه أوّلا:أنّ السؤال عن وجه الخلاف لا عن حجّية خبر غير المتّهم.

و ثانيا:أنّ معني عدم الاتّهام أنّه لا مجال لاحتمال الكذب فيهم،فتأمّل.

و خبر محمّد بن حكيم،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:جعلت فداك فقّهنا في الدين و أغنانا اللّه بكم عن الناس،حتّي انّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما8.

ص: 449


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 7.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:323 ب 6 ح 38.

يسأل رجل صاحبه إلاّ و تحضره المسألة (1).

و خبر علي بن سويد:لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا (2).

و خبر أحمد بن الفضل:إنّهم أقعدوا رجلا له حظّ من عقل يرد الخبر إليهم،قال:

لا بأس (3).

و خبر أبي خديجة:انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا.و في خبره الآخر:اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا (4).

و الانصاف أنّ هذه الأخبار ليست في مقام جعل حجّية خبر الواحد،بل هي في مقام بيان الانتفاع بعلم هؤلاء،و أمّا اعتبار كونهم صادقين في إخبارهم فهو أمر مفروغ عنه،لا أقلّ من الشكّ في كونها في مقام البيان من جعل الحجّية للخبر.

و خبر أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أيّما رجل كان بينه و بين أخ له مماراة،فدعاه إلي رجل من إخوانه ليحكم بينه الحديث (5).و هذا الخبر كسوابقه ليس في مقام جعل حجّية خبر الواحد.

و خبره الآخر:يا أبا محمّد انّه لو كان لك علي رجل حقّ،فدعوته إلي حكّام أهل العدل الحديث (6).و لا بأس بدلالته علي حجّية خبر العدل علي الظاهر،بناء علي ثبوت عدالة الحاكم بالبيّنة و نحوها،و يكون قوله حجّة حتّي فيما يكون حكمه حكما كلّيا مستندا إلي الاخبار عن المعصوم.7.

ص: 450


1- جامع أحاديث الشيعة 1:331 ب 7 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:373 ب 7 ح 117.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:373-374 ب 7 ح 118.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:378 ب 7 ح 126 و 127.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:381 ب 7 ح 132.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:382 ب 7 ح 127.

و صحيح الحلبي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء،فيتراضيا برجل منّا الحديث (1).و في دلالته علي حجّية الخبر نظر.

فالانصاف أنّ التمسّك بهذه الأخبار لإثبات حجّية خبر العدل علي الظاهر مشكل،و يظهر من الشيخ الطوسي في التبيان و عدّة الاصول أنّه لا يري حجّيته، و صرّح بعدم دلالة الأخبار الشيخ الأنصاري،و سيأتي نقل عبارته.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال بعد ايراد الأخبار:إلي غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضا الأئمّة عليهم السّلام بالعمل بالخبر و إن لم يفد القطع،و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة،إلاّ انّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك،كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة،و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها.إلي آخر ما أفاده (2).

ثمّ لا يخفي أنّ المتيقّن من الأخبار السابقة هو الرجوع إلي من علم كونه ثقة، أي:غير متعمّد للكذب معتقدا بدينه ضابطا،و إن لم يحصل من خبره الوثوق بالصدور عن المعصوم؛لأنّه ادّعي أنّ بناء العقلاء في مقام امتثال أوامر الموالي التي تصل بواسطة إلي العبيد علي كون الواسطة ثقة،و إن لم يكن بناؤهم علي العمل به في غير مقام الاحتجاج ما لم يحصل لهم العلم العرفي.هذا بناء علي أنّ حجّية خبر الثقة من باب إمضاء بناء العقلاء،و هو لا يخلو من إشكال؛لاحتمال التعبّد بحجّية خبر الثقة الواقعي.4.

ص: 451


1- جامع أحاديث الشيعة 1:382 ب 7 ح 134.
2- فرائد الاصول ص 144.

ثمّ إنّه في الكفاية في مقام الجواب عن الاستدلال علي حجّية خبر الواحد بخبر الواحد،قال:إنّ الأخبار التي تدلّ علي الحجّية متواترة إجمالا،ضرورة أنّه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم السّلام،و قضيّته و إن كان حجّية خبر دلّ علي حجّية أخصّها مضمونا،إلاّ انّه يتعدّي عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة،و قد دلّ علي حجّية ما كان أعمّ،فافهم (1).

و قال الشيخ الأنصاري:عليك بمراجعة ما قدّمنا من الأمارات علي حجّية الأخبار عساك تظفر فيها بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة عرفا إذا أفاد الظنّ و إن لم يفد الاطمئنان،بل لعلّك تظفر فيها بخبر مصحّح بعدلين مطابق لعمل المشهور مفيد للاطمئنان،يدلّ علي حجّية المصحّح بواحد عدل،نظرا إلي حجّية قول الثقة العدل في تعديله إلي آخر كلامه (2).

قلت:لا نجد خبرا كذلك،فان كان هو خبر عبد اللّه بن جعفر الحميري (3)المتقدّم،المشتمل علي التعليل في قوله«فاسمع له فإنّه الثقة المأمون».

ففيه أوّلا:أنّ رواته ليسوا كلّهم معدّلين بعدلين،فتأمّل.

و ثانيا:لعلّ المرتكز في ذهن السائل حجّية كبري قول من كان ثقة عند المعصوم،فطبّقه المعصوم علي المورد الخاصّ.

و ثالثا:لو سلّم فإنّما يدلّ علي حجّية خبر الثقة المأمون واقعا،و لا طريق إليه إلاّ العلم الحاصل من الأسباب الصحيحة،و اعتبار هكذا ثقة في أسناد الأخبار يوجب عدم وفائها بالأحكام الفقهيّة.

الطائفة الثامنة:ما دلّ علي عدم حجّية الخبر المعارض للكتاب و إن لم يكن له1.

ص: 452


1- كفاية الاصول ص 346.
2- فرائد الاصول ص 251.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:269 ب 5 ح 1.

معارض،أو الخبر الذي لا يوافق كتاب اللّه،و هو خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:إنّ علي كلّ حقّ حقيقة،و علي كلّ صواب نورا،فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فدعوه (1).

لهذا الخبر سندان:في سند أحدهما السكوني،و سنده الآخر صحيح مروي في رسالة الراوندي الموجودة و لم يثبت كونها رسالته،و أن يكون طريق صاحب الوسائل إليها طريقا إليها بمناولته،بل لعلّه تيقّن من القرائن أنّ الرسالة للراوندي، ثمّ ذكر الطريق إلي الرسالة الواقعيّة.و إطلاق المخالف شامل للمخالفة بالعموم و الخصوص و الاطلاق و التقييد.

و خبر محمّد بن مسلم (2)،و الطريق إليه مرسل.و إطلاق المخالفة شامل للمخالفة بالعموم و الخصوص،و البرّ المذكور فيه شامل للعادل و غيره.

و المرسل الآخر (3).

و خبر هشام بن الحكم و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:خطب النبي صلّي اللّه عليه و اله بمني،فقال:أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته،و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (4).و لا بأس بسنده خصوصا علي رواية المحاسن،و هو خاصّ بما يجيء عن النبي صلّي اللّه عليه و اله فيمكن الاختصاص به.

و خبر الحسن بن الجهم (5).و لعلّه متّحد مع حديثه الآخر (6)،و لا سند لكليهما،0.

ص: 453


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 8.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 12.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 13.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:314 ب 6 ح 18.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 20.

و موردهما الحديثان المختلفان.

و منها:ما دلّ علي طرح ما لا يوافق الكتاب،و هو خبر أيّوب بن الحرّ،قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:كلّ حديث مردود إلي الكتاب و السنّة،و كلّ شيء لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف (1).في السند أيّوب بن الحرّ،و هو الجعفي الثقة،فلا بأس بالسند.

و يمكن حمله علي أنّ كلّ شيء أصله في الكتاب و السنّة،و كلّ شيء في القرآن فما لا يوافقه فهو زخرف،و جميع ما صدر عن المعصومين من الأحكام فهو موجود في الكتاب ولكن لا تبلغه عقول الناس،بخلاف ما صدر عن أبي حنيفة و أضرابه.

و خبر أيّوب بن راشد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (2).في السند علي بن عقبة و هو ثقة،و أيّوب بن راشد عدّه الشيخ في أصحاب الصادق عليه السّلام،و ليس له توثيق و لا مدح في الرجال.و يحتمل أن يكون المراد عدم الموافقة واقعا،كما تقدّم في خبر أيّوب بن الحرّ.

و خبر كليب الأسدي (3)أرسله العيّاشي عنه.

و مرسل ابن بكير،عن أبي جعفر عليه السّلام إلي أن قال:و إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده،ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم (4).و لعلّه خاصّ بجماعة،أو وارد في زمان خاصّ و هو زمان حضور المعصوم عليه السّلام،لأنّه قال:ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم.4.

ص: 454


1- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 10.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 11.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 14.

و خبر عبد اللّه بن أبي يعفور،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق به،قال:إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،و إلاّ فالذي جاءكم به أولي به (1).

و لا بأس بسنده،بل هو موثّق علي رواية المحاسن،و الجواب حكم كلّي لا يختصّ بصورة الاختلاف،بل تشمل صورة كون الخبر واحدا و راويه ثقة،و يمكن حمله علي زمان خاصّ.

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الأخبار الدالّة علي طرح المخالف أوّلا:بأنّ المراد بالمخالفة هي المخالفة بالتباين لا الخصوص و العموم؛لأنّا نعلم صدور مخصّصات و مقيّدات لعموم الكتاب و إطلاقه عنهم عليهم السّلام.و قد صرّح بعض الأخبار بأنّه يوجد أحكام لا تفهم من القرآن،و منه يظهر أنّه ليست المخالفة للعمومات التي من قبيل قوله تعالي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مخالفة،و إلاّ لم يكن حكم إلاّ و هو داخل في احدي هذه العمومات.

و ثانيا:أنّا نفرض الكلام في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن و السنّة.

و ثالثا:أنّ تخصيص العموم لو سلّم عدّه مخالفة،فتقييد الاطلاق أو بيان المجمل لا يكون مخالفة،فلا بدّ من حمل هذه الأخبار علي أحد امور ثلاثة:

أحدها:حملها علي الأخبار الواردة في اصول الدين من مسائل الغلوّ و الجبر و التفويض.

ثانيها:حملها علي صورة تعارض الخبرين،كما يشهد به مورد بعضها.

ثالثها:حملها علي خبر غير الثقة.

و أجاب عن الطائفة الدالّة علي عدم الأخذ بما لا يوافق الكتاب بعد العلم6.

ص: 455


1- جامع أحاديث الشيعة 1:314 ب 6 ح 16.

بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب عنهم عليهم السّلام بحملها علي محامل:

أحدها:الحمل علي ما ورد في اصول الدين من مسائل الغلوّ و نحوه.

ثانيها:الحمل علي أنّ ما لا يوافق القرآن عند أهله العالم به المعصوم عليه السّلام لم يصدر منهم و إن كنّا لا نفهمه من القرآن.

ثالثها:الحمل علي غير خبر الثقة بتخصيص ما دلّ علي اعتباره لهذه الأخبار.

رابعها:الحمل علي صورة التعارض،كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة.

ثمّ قال:لو سلّم دلالة الطائفتين علي حصر الحجّية بالخبر الموافق،فينبغي طرحهما؛لأنّهما لا تقاومان الأدلّة الدالّة الموجبة للقطع علي حجّية خبر الثقة انتهي مع توضيح (1).

و فيه أوّلا:أنّ هذه الأخبار ظاهرة في أنّ الأخبار التي لا يعلم صدورها عن المعصومين تقاس بالكتاب،و لا تشمل ما سمع الانسان من المعصوم عليه السّلام،أو علم صدوره عنه عليه السّلام،أو سمع ممّن أرجع المعصوم عليه السّلام إليه،فلا تشمل المخصّصات المعلومة للعمومات،و لا المقيّدات المعلومة للمطلقات،و العلم بصدورها لا يوجب حمل المخالفة في هذه الأخبار التي وردت في الأخبار التي لا يعلم صدورها عنهم علي المخالفة بالمباينة،فإنّ ما صدر عنهم يقينا من غير تقيّة بيان للكتاب، فإنّهم العالمون به المعصومون عن الخطأ.فالانصاف أنّ ما خالف الكتاب يشمل المخالفة لعموم الكتاب.

و ثانيا:أنّ الكلام المشتمل علي العموم و الخصوص إذا كان لمتكلّم واحد يكون5.

ص: 456


1- فرائد الاصول ص 115.

الخاصّ قرينة علي العامّ،و أمّا إذا كان الخاصّ في مقابل العامّ الصادر عن متكلّم آخر فإنّه يصدق المخالفة،مثلا جواز أكل المارّة مخالف لقوله تعالي لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ (1)و كذا جواز الربا بين الوالد و الولد بالنسبة إلي آية تحريم الربا من دون فرق بين العامّ و المطلق الذي في مقام البيان.

فالأولي في الجواب بعد ما عرفت من المناقشة في سندها و دلالتها أن يقال:إنّ بعضها خاصّ بمورد خاصّ لا يتعدّي إلي غيره و هو خبر هشام بن الحكم (2)و غيره.و بعضها محمول علي أنّ كلّ ما يقوله المعصوم فهو مأخوذ من الكتاب و إن لم يبلغه عقول الرجال،كما ورد في خبر حمّاد (3)،و خبر سماعة (4)،و خبر سعيد الأعرج (5)،و خبر مرازم (6)،إنّ كلّ ما يقولون فهو موجود في الكتاب،فيحمل خبر أيّوب بن الحرّ (7)،و خبر أيّوب بن راشد (8)علي ذلك.

و بعضها محمول علي طرح الخبر المخالف للعموم أو الاطلاق الذي في مقام البيان إذا لم يعلم صدوره عن المعصومين عليهم السّلام.

و بعضها و إن كان عامّا لجميع الأخبار،لكن يخصّص بما دلّ علي الارجاع إلي خبر الثقة المأمون المستفاد من جميع هذه الأخبار اعتباره.0.

ص: 457


1- سورة النساء:29.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 19.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 20.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 21.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 22.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 10.

و يحتمل قويّا أن يكون قد شاع اختلاف الروايات المكذوبة و المؤوّلة و المدسوسة في زمان خاصّ،فأراد المعصوم دفعها بهذه الأخبار،نظير تحليل الخمس المخصوص بزمان خاصّ،لاحظ الأخبار الدالّة علي كثرة الأخبار المكذوبة،و أنّه لا بدّ من تمييز السقيم عن الصحيح،و هي خبر مفضّل بن عمر (1).

و خبر داود بن سرحان (2).و خبر أبي بصير (3).و خبر يونس بن عبد الرحمن (4).

و قد تحصّل من جميع هذه الطوائف أمران ايجابي و سلبي:

الأوّل:حجّية خبر الثقة المأمون الثابت وثاقته و أمانته بالوجدان،و مثله يفيد العلم،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الأخبار،قال:و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة،إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال،كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق،و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة،و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها (5).

الثاني:نفي حجّية خبر غير الثقة،فهذه الأخبار لها عقد ايجابي و عقد سلبي، و تردع بعقدها السلبي السيرة العقلائيّة إن كانت علي الأعمّ،فإنّ التعليل بأنّه الثقة المأمون،أو المأمون علي الدين و الدنيا،أو أمناء اللّه علي حلاله و حرامه،و نحوها يمنع عن خبر غير الثقة،فلو سلّم وجود السيرة علي الأعمّ فقد ردعت بهذه الأخبار.4.

ص: 458


1- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 20.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 61.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 62.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 6 ح 23.
5- فرائد الاصول ص 144.

ثمّ لا بأس بذكر مواضع من كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

منها قوله بعد ذكر أدلّة حجّية الخبر:هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها علي حجّية الخبر،و قد علمت دلالة بعضها و عدم دلالة البعض الآخر.

و الانصاف أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي حصول مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة،فافهم (1).

أقول:هذا الذي اختاره إن كان مراده الاطمئنان الشخصي،فحصوله لنا مع خفاء القرائن التي اعتمد عليها القدماء قليل في الأخبار الموجودة.

و منها:ما ذكره في إفادة مقدّمات الانسداد نصب الطريق،قال:و ثانيا:سلّمنا نصب الطريق لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.

بيان ذلك:أنّ ما حكم بطريقيّته لعلّه قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلاّ قليل كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن،و لا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان،أو خبر العادل،أو الثقة الثابتة عدالته أو وثاقته بالقطع،أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع،مع إفادته الظنّ الفعلي بالحكم.

و يمكن دعوي ندرة هذا القسم في هذا الزمان؛إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجاليّة محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي و النجاشي و غيرهما،و من المعلوم أنّ مثل هذا لا يعدّ بيّنة شرعية،و لذا لا يقبل مثله في4.

ص: 459


1- فرائد الاصول ص 174.

الحقوق.و دعوي حجّية مثل ذلك بالاجماع ممنوعة،بل المسلّم أنّ الخبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتّفاق،لكن قد عرفت سابقا عند تقرير الاجماع علي حجّية خبر الواحد أنّ مثل هذا الاتّفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجّة،مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة،خصوصا إذا انضمّ إليه إفادة الظنّ الفعلي (1).

و منها:ما ذكره في بيان قلّة القدر المتيقّن،بأن يكون معلوم الحجّية و غيره مشكوك الحجّية حتّي يبقي تحت أصالة عدم الحجّية،قال:لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي زكّي بعدلين،و لم يعمل في تصحيح رجاله و لا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعا من سائر الأمارات الاخر،و لم يوهن لمعارضة شيء منها،و كان معمولا به عند الأصحاب كلاّ أو جلاّ،و مفيدا للظنّ الاطمئناني بالصدور؛إذ لا ريب أنّه كلّما انتفي أحد هذه الامور الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجّة دونه،فلا يكون متيقّن الحجّية علي كلّ تقدير،و أمّا عدم كفاية هذا الخبر لندرته فهو واضح (2)انتهي.

أقول:ينبغي أن يضيّق الدائرة أضيق ممّا ذكره بإضافة أن تكون تزكية العدلين مستندة إلي المعاشرة مع الراوي أو إلي شهرته،و لا يكون أحد المعدّلين آخذا من غيره،فلا ينفع تزكية العلاّمة و النجاشي؛لأنّ العلاّمة يستند إلي النجاشي،مع أنّه لا تكون تزكيته مستندة إلي الحسّ.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه مع تضييقاته فيما دلّ عليه أدلّة حجّية الخبر الواحد وسّع من ناحية اخري،فقال:إنّ حصول الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها غير عزيز.أمّا في غير الأخبار،فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء و الأولويّة.و أمّا الأخبار،فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا1.

ص: 460


1- فرائد الاصول ص 215.
2- فرائد الاصول ص 231.

المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية و إن لم يكن إماميّا،أو ثقة علي الاطلاق،إذ ربما يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.و أمّا احتمال الارسال،فمخالف لظاهر كلام الراوي، و هو داخل في ظواهر الألفاظ،فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئناني منه، فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد،لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر؛لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئناني هي جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه،و أمّا انّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظي فلا بأس بعدم إفادته الظنّ،فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا؛لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

إلي أن قال:و كيف كان فلا أري الظنّ الاطمئناني الحاصل من الأخبار و غيرها من الأمارات أقلّ عددا من الأخبار المصحّحة بعدلين،بل لعلّ هذا أكثر (1)انتهي.

أقول:ما ذكره قدّس سرّه إن بلغ إلي حدّ ينحلّ به العلم الاجمالي بحجيّة طائفة من الأخبار الموجودة بأيدينا فهو،و إلاّ فينبغي العمل بالجميع،مراعاة للعمل بالأخبار التي أمضي المعصومون عليهم السّلام حجّيتها.

ثمّ إنّ بعضهم ذكر أنّ من شرط حجّية خبر الثقة موافقته لروح القرآن،قال:إنّ الاعتبار السندي علي المختار لا يكفي في حجّية الخبر،بل لا بدّ في تحقيق مضمون الخبر من مقايسته بشواهد الكتاب و السنّة و نقده نقدا داخليّا.

إلي أن قال:و مبني اعتماد هذا المعني في قبول الخبر دخالته في الوثوق به عقلا،بناء علي ما هو الصحيح من حجّية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة،علي ما أوضحناه في بحث حجّية خبر الواحد.7.

ص: 461


1- فرائد الاصول ص 247.

إلي أن قال:و قد نبّه علي اعتبار هذا الشرط في حجّية الخبر جملة من الروايات،حيث اعتبرت في قبوله موافقة الكتاب و السنّة،و أمرت بطرح ما خالفهما،فإنّ المقصود بذلك علي التفسير المختار لها التوافق و التخالف الروحي بينه و بينهما علي ما تشهد به قرائن داخليّة و خارجيّة.

ثمّ استشهد بخبر هشام المتقدّم (1)،و خبر السكوني المتقدّم (2)،و قال:الحقيقة هي الراية،و المعني أنّ علي كلّ حقّ راية و علي كلّ صواب وضوح،و راية الحقّ هي الموافقة مع القرآن الكريم.

ثمّ ذكر خبر أيّوب بن الحرّ المتقدّم (3)،ثمّ قال:و لو اريد بالتوافق في هذه الأخبار التوافق في المؤدّي علي أن يكون مضمون الحديث مفادا بإطلاق أو عموم كتابي،لزم من ذلك عدم جواز الأخذ بالمخصّصات،فهذا قرينة واضحة علي أنّ المعني بها التوافق الروحي.

أقول:أمّا خبر هشام،فإنّه مخصوص بما جاء عن النبي صلّي اللّه عليه و اله ممّا لم يعلم صدوره عنه،فلا يشمل ما صدر عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لا ما حكاه المعصومون عن النبي،بل جميع أخبارهم كما في بعض الأخبار ينتهي إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله؛و يحتمل أن يكون المراد من الموافقة الموافقة للكتاب في متابعة اولي الأمر؛لأنّ الكتاب قد أمر باتّباع اولي الأمر،و قد تواتر الأخبار عنهم علي حجّية خبر الثقة،فيكون خبر الثقة موافقا للقرآن،فتأمّل.

و أمّا خبر السكوني،فمضافا إلي ما ذكرناه في خبر هشام،لا يشمل الخبر الذي ليس بمخالف و لا موافق.9.

ص: 462


1- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 8.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.

و يرد علي ما ذكره من معني الموافقة لروح القرآن،أنّ القرآن إنّما يعرفه من خوطب به،فكيف بمعرفة روح القرآن،و كلّ يدّعي أنّ روح القرآن يقتضي شيئا!!.

و في خبر منصور بن حازم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام-إلي أن قال:و قلت للناس:تعلمون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله كان هو الحجّة من اللّه علي خلقه؟قالوا:بلي، قلت:فحين مضي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله من كان الحجّة علي خلقه؟فقالوا:القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجيء و القدري و الزنديق الذي لا يؤمن به حتّي يغلب الرجال بخصومته،فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم الحديث (1).

الطائفة التاسعة:ما دلّ علي عدم جواز ردّ ما روي عن المعصومين عليهم السّلام.

منها:ما روي عن علي بن سويد،قال:كتبت إلي أبي الحسن موسي عليه السّلام و هو في الحبس كتابا أسأله عن حاله و عن مسائل كثيرة،فاحتبس الجواب عليّ أشهرا، ثمّ أجاب بجواب هذه نسخته،إلي قوله:و لا تقل لما بلغك عنّا و نسب إلينا هذا باطل،و إن كنت تعرف منّا خلافه،فإنّك لا تدري لما قلناه و علي أيّ وجه وصفناه الحديث (2).

و منها:ما في الكشي،عن أحمد بن محمّد بن عيسي:كتبت إليه في قوم يتكلّمون و يقرأون أحاديث ينسبونها إليك و إلي آبائك فيها ما تشمئزّ منها القلوب، و لا يجوز لنا ردّها إذ كانوا يروون عن آبائك عليهم السّلام و لا قبولها لما فيها الحديث (3).

ففي هذا الخبر أنّ أحمد بن محمّد بن عيسي رويت له أحاديث أنكر ما فيها فكتب فيها فأتاه الجواب أنّه ليس هذا ديننا،و مع ذلك تراه قال:ليس لنا ردّه إذ5.

ص: 463


1- اصول الكافي 1:168 باب الاضطرار إلي الحجّة ح 2.
2- روضة الكافي 8:125 ح 95.
3- رجال الكشي ص 435.

نسب إلي آبائك.

و في صحيح أبي عبيدة،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:و اللّه إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم و أفقههم و أكتمهم لحديثنا،و إنّ أسوأهم عندي حالا و أمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا و يروي عنّا فلم يقبله اشمأزّ منه و جحده،و كفّر من دان به،و هو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج و إلينا اسند،فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا (1).

و في خبر المسمعي،عن الرضا عليه السّلام،إلي أن قال في آخره:و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه،فنحن أولي بذلك،و لا تقولوا فيه بآرائكم (2).

أقول:فينبغي الاحتياط في مقام العمل،و عدم طرح الأحاديث مهما أمكن،كما حكينا عن الشيخ الطوسي،و ما لا يعمل به لا ينسب إلي الكذب،بل يقال فيه:يردّ علمه إلي أهله،إلاّ إذا علم بطلانه.

الدليل العقلي علي حجّية خبر الواحد
اشارة

الدليل الرابع:العقل،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوها بعضها تثبت حجّية خبر الواحد،و بعضها تثبت حجّية مطلق الظنّ،فيدخل فيه الخبر الواحد.

أمّا الأوّل و هو ما يثبت حجّية خبر الواحد،فقرّره بثلاثة أوجه،فلاحظ.

ثمّ قال:هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها علي حجّية الخبر،و قد علمت دلالة بعضها و عدم دلالة البعض الآخر.و الانصاف أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا،بحيث لا

ص: 464


1- جامع أحاديث الشيعة 1:271 ب 5 ح 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 22.و لاحظ البحار 2:186.

يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي حصول مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة، فافهم وليكن علي ذكر منك لينفعك فيما بعد (1)انتهي.

ثمّ قال:أمّا الثاني أي ما يثبت به حجّية مطلق الظنّ،فذكر له وجوها.

إلي أن قال:الرابع:دليل الانسداد،و هو مركّب من مقدّمات:

الاولي:انسداد باب العلم و الظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

الثانية:عدم جواز إهمال الأحكام المشتبهة،و الاقتصار علي التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا،و المظنونة بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع.

الثالثة:ليس امتثالها بالاحتياط،أو بالأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتّبع شرعا في تلك المسألة،أو بالأخذ بفتوي العالم بتلك المسألة.

الرابعة:أنّه لا يجوز بحكم العقل الرجوع إلي الموافقة الوهميّة و لا الموافقة الشكّية،فلا بدّ من الامتثال بالموافقة الظنّية.

أقول:الظاهر تمامية المقدّمات إن تمّت المقدّمة الاولي،و لذا نتعرّض لها علي وجه الخصوص.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و أمّا المقدّمة الاولي،فهي بالنسبة إلي انسداد باب العلم واضحة،و أمّا انسداد باب الظن الخاصّ،فهي مبنيّة علي أن لا يثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية خبر الواحد حجّية مقدار منه يفي بضميمة الأدلّة العلميّة، و باقي الظنون الحاصلة بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة،بحيث لا يبقي مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر و أخواته من الظنون الخاصّة إلي ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير،و قال:4.

ص: 465


1- فرائد الاصول ص 174.

هذه عمدة المقدّمات (1).

ثمّ إنّه ذكر سابقا أنّ أدلّة حجّية الخبر الواحد تدلّ علي حجّية خبر يطمأنّ بصدوره،و هذا قليل و لازمه أنّه لا يفي بمعظم الفقه.

لكن ذكر في ردّ الثاني من طرق تعميم نتيجة دليل الانسداد،أنّه مبنيّ علي زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر الصحيح بتزكية العدلين،و ليس كذلك،بل الأمارات الظنّية من الشهرة و ما دلّ علي اعتبار قول الثقة،مضافا إلي ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات و في تشخيص أحوال الرواة،توجب الظنّ القوي بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد، و الخبر الموثّق و الضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية،و من المعلوم كفاية ذلك،و عدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلي الاصول (2)انتهي.

و حاصل كلامه:أنّه يري حجّية الأخبار المذكورة،و الرجوع إلي البراءة في غيرها،أو الاستصحاب أو التخيير أو الاحتياط بحسب مجاريها.

و قال في الردّ علي الثالث من طرق التعميم:إنّ العمل بالظنّ الاطمئناني لا يوجب العسر و الحرج في الاحتياط في الظنّ غير الاطمئناني،و ليس غرضه وجوب الاحتياط،بل غرضه الردّ علي دعوي التعميم،ولكن يظهر منه أنّه يري أنّ الظنّ الاطمئناني كثير،فإذا انضمّ إلي ما سبق من كلامه،فيكون مراده أنّ الظنّ الاطمئناني الذي يفي بمعظم الفقه موجود،فيرجع في غيره إلي ما يقتضيه الأصل.

و لفظه هكذا:الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها ليس بعزيز،أمّا في غيرها فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء2.

ص: 466


1- فرائد الاصول ص 183-184.
2- فرائد الاصول ص 242.

و الأولويّة.و أمّا الأخبار فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية.

إلي أن قال:و بالجملة فدعوي كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار و غيرها من الأمارات بحيث لا يحتاج إلي ما دونها،و لا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلي الاحتياط محذور،و إن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان قريبة جدّا،إلاّ انّه يحتاج إلي مزيد تتبّع في الروايات و أحوال الرواة و فتاوي العلماء (1).

أقول:لعلّه يظهر منه أنّه يري حجّية الظنّ الاطمئناني،و هو موجود بمقدار واف بمعظم الفقه،بحيث لا مانع من الرجوع إلي الاصول فيما عداه.

لكن قد يقال بأنّه لا يظهر منه ذلك؛لأنّه يقول بأنّ نتيجة دليل الانسداد حكومة العقل،و هو يحكم بالعمل بما يطمأنّ به و الاحتياط فيما عداه.

أقول:إنّ الخبر الذي يكون رواته ثقاة واقعا،أو وثّقهم الثقة الواقعي عن حسّ أو قريب منه قليل،و حيث لا علم بالتكليف إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب،أو قام عليه الاجماع أو الشهرة الكاشفان عن فتوي المعصوم،أو دلّ العقل الضروري عليه،أو كان في ضمن الأخبار الموجودة بأيدينا،و لا يخرج من عهدة التكليف بالعمل بما دلّت الأدلّة علي حجّيته من الأخبار لكونه قليلا،فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بجميع الأخبار بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

و قال في الكفاية:الرابع دليل الانسداد،و هو مركّب من مقدّمات:

الاولي:العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعليّة.

الثانية:انسداد باب العلم و العلمي إليها.

الثالثة:عدم جواز ترك امتثالها.8.

ص: 467


1- فرائد الاصول ص 247-248.

الرابعة:عدم وجوب الاحتياط.

الخامسة:قبح ترجيح المرجوح علي الراجح،و هو ترجيح المشكوك كونه تكليفا علي المظنون كونه كذلك.

و نتيجة هذه المقدّمات تعيّن العمل بالأخبار لأنّها مظنونة الصدور.

و أجاب في الكفاية عن المقدّمة الاولي بانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف إلي العلم الاجمالي بما في أيدينا من الأخبار،و الاحتياط فيها ليس بعسير،فيعمل بجميع الأخبار (1).

أقول:إنّ شرط صحّة التكليف أن يجعله المكلّف-بالكسر-في معرض يمكن للمكلّف-بالفتح-أن يصل إليه بعد الفحص،فإنّه يقبح عقلا عقاب من لا يتمكّن من الوصول إلي التكليف علي مخالفته،بل مقتضي قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (2)إن فسّرت بما أوصله إليها،و قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (3)المفسّر بأنّه يقال له:هلاّ عملت؟فيقول:لم أعلم،فيقال له:هلاّ تعلّمت؟عدم التكليف إن لم يمكن الوصول إليه،فالتكاليف التي يجب امتثالها هي الموجودة في ضمن الأخبار التي بأيدينا،و في ضمن الاجماعات،و الشهرات الكاشفة عن النصّ المعتبر،و لا تكليف بما عداها.

هذا علي المختار من عدم التكليف بواجب أو حرام بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و اله أو الامام عليه السّلام و لم يصل إلي المكلّفين بعد الفحص لإخفاء الظالمين،و أمّا إن قلنا بمعذوريّة المكلّفين في مثل ذلك،فيكون التكليف ممّا لا يعلمون و هو مرفوع؛لأنّ العلم الاجمالي بوجود التكليف في ضمن الأخبار و الاجماعات و الشهرات9.

ص: 468


1- كفاية الاصول ص 356.
2- سورة الطلاق:7.
3- سورة الأنعام:149.

يوجب الشكّ البدوي فيما عداه.

و من هذا البيان يظهر أنّ نتيجة دليل الانسداد هي العمل بالتكليف الموجود في ضمن الأخبار التي بأيدينا و الشهرات الكاشفة عن النصّ المعتبر،لا مطلق الظنّ بالحكم الواقعي.و سيأتي بيانه.

و أجاب في الكفاية عن المقدّمة الثانية بانفتاح باب العلمي لنهوض الأدلّة علي حجّية خبر يوثق بصدقه.

و الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الذي جعل الحاصل من أدلّة حجّية الخبر الواحد،هو الخبر الذي يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،قال بأنّ الخبر الموثوق به ليس بعزيز، لاحظ كلامه (1).و سيأتي نقل عبارته.

و بعض المتأخّرين من الذين جعلوا الاعتبار في حجّية الخبر الواحد بوثاقة رواته كثّر الثقات،فقال:إنّ كلّ من كان من أصحاب الصادق عليه السّلام ثقة،و كلّ من روي عنه ابن أبي عمير أو صفوان أو البزنطي ثقة.

أقول:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام الشرعيّة في ضمن الأخبار التي بأيدينا لا ينحلّ بالأخذ بطائفة من الأخبار؛لأنّه لم يثبت حجّية خبر الثقة ما لم يحصل معه سكون النفس إلي مضمونه فيما إذا اريد درك الواقع،إلاّ أن يقال بأنّه يكفي في مقام الاحتجاج حجّية خبر الثقة مطلقا و إن لم يفد العلم،كما قيل:إنّ طريقة السلف من زمن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام اعتمادهم عليه؛إذ لم يوجب النبي صلّي اللّه عليه و اله علي جميع من في بلده من الرجال و النسوان السماع منه في تبليغ الأحكام،أو حصول التواتر لآحادهم،أو قيام القرينة القاطعة علي عدم تعمّد الكذب،أو الغلط في الفهم،أو سماع اللفظ بالنسبة إلي الجميع،بل لو سمعوه من7.

ص: 469


1- فرائد الاصول ص 247.

الثقة اكتفوا به.

لكن لا طريق إلي إثبات الوثاقة،كما يأتي بيانه في المطلب الرابع،كما ظهر أنّه لا دليل علي حجّية الوثوق إذا كان المراد به الظنّ المتاخم للعلم،و لو سلّم كفايته فلا طريق إلي الوثوق بالصدور،و لا يجوز الاقتصار علي خبر علم وثاقة رواته و عدم اشتراكهم،بحيث لم يكن فيه إعمال للظنون؛للزوم طرح كثير من الأخبار يعلم بصدور بعضها،كما لا طريق إلي سائر القرائن التي يدّعي أنّها كانت موجودة عند القدماء.

و ليس لنا أن نقول:لعلّ تلك القرائن لو وصلت إلينا لم تكن تامّة عندنا،و ذلك للعلم العادي بأنّا لو كنّا في زمان القدماء لكنّا نعتمد علي تلك القرائن،فإنّ قدماء أصحابنا كالمفيد و الشيخ الطوسي و الصدوقين و أضرابهم،عارفون بالأحاديث و رجالها،مع قرب عهدهم بعصر الغيبة الصغري،و قد تقدّم نقل كلام ابن البرّاج من أنّه لا بدّ من العمل بالخبر المتواتر.

و من تأمّل جيّدا يحصل له الاطمئنان بل العلم بأنّ القدماء لم يكن عملهم بالأخبار مقتصرا علي مراعاة آحاد رجال السند،فكانوا يعملون بالكتب المعتمدة و بالأخبار المدوّنة،و كانت عندهم قرائن علي حجّيتها،و هم أهل الاطّلاع علي أحوال الرجال،و سائر القرائن التي توجب الاعتماد علي الأخبار،و نحن نعلم إجمالا بوجود أخبار في ضمن جميع الأخبار التي بأيدينا هي حجّة شرعا،إمّا للاقتران بالقرائن المعتمدة،و إمّا لوثاقة رواتها وثاقة واقعيّة،و لا يمكننا تمييز ذلك،فلا بدّ من العمل بجميع الأخبار بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

و أمّا المقدّمة الثالثة،فهي زائدة؛لأنّ المقدّمة الاولي تكفي عنها؛لأنّ معني العلم بثبوت تكاليف فعليّة هو العلم بوجوب امتثالها،و إلاّ لم تكن تكاليف فعليّة بل انشائيّة أو غيرها.

ص: 470

و أمّا المقدّمة الرابعة،فنعلم بعدم وجوب الاحتياط التامّ لتعذّره أو تعسّره،لكن الاحتياط في العمل بالأخبار الموجودة ليس عسرا.

فإذا لم ينحلّ العلم الاجمالي بالعلم و العلمي،فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بالأخبار و الاجماعات الكاشفة عن النصّ،و كذا الشهرات الكاشفة عنه.

و الذي ينبغي أن يقال هو انّا نعلم بتكاليف يلزم علينا عقلا امتثالها،و هي ما دلّ عليه العقل الفطري الذي يتّفق عليه العقلاء،و ما دلّ عليه الكتاب الذي هو كلام اللّه تعالي،و السنّة النبويّة و الاماميّة التي هي القول المسموع من النبي صلّي اللّه عليه و اله أو خلفائه عليهم السّلام و فعلهم و تقريرهم صلوات اللّه عليهم،الموجودة في ضمن الأخبار المودعة في كتب الأخبار،كالوسائل و غيرها،أو الثابتة بسيرة المسلمين المتّصلة إلي زمانهم التي ثبت امضاؤهم لها،أو بشهرة كاشفة عن السنّة.

و أمّا وجود حكم واقعي في غيرها،فلا علم لنا به،بل لو فرض وجوده واقعا و لم يكن في ضمن المذكورات فلا تكليف به؛لأنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها، و نعلم قطعا بالأخبار المتواترة الناطقة صريحا بعدم الاعتبار بالقياس و الاستحسان و الآراء،و نعلم أنّه ليس طريق إثبات الحكم عند الشارع بالقرعة و الاستخارة و الرؤية في المنام و نحوها.

ثمّ إنّ هذه التكاليف من حيث المدرك علي أقسام:

القسم الأوّل:ما هو معلوم بالضرورة،كوجوب صلاة الظهر أربع ركعات، و هكذا سائر الصلوات اليوميّة،و وجوب الصوم و الحجّ و نحوها.

القسم الثاني:ما هو معلوم السند ظاهر الدلالة،كعموم الكتاب و مطلقه الوارد في مقام البيان،و عموم الخبر المتواتر أو إطلاقه كذلك.

القسم الثالث:ما عداهما ممّا اشتمل عليه الأخبار،أو الشهرة الكاشفة عنها، و هي علي ثلاثة أصناف:

ص: 471

الصنف الأوّل:ما ليس له معارض أصلا،مثلا إذا دلّ خبر علي أنّ من لا يحسن التلبية يستنيب،ففي مثله يعمل بالخبر فيستنيب و يأتي بما قدر من ملحون التلبية، فيحصل العلم ببراءة الذمّة.

الصنف الثاني:ما له معارض من الأخبار،و في مثله لو كان في أحدهما مرجّح علي الآخر لصدوره يؤخذ به و إلاّ فيتخيّر.

الصنف الثالث:ما يكون له معارض من عموم الكتاب أو اطلاقه أو عموم الخبر المتواتر أو اطلاقه،و في مثله إن كان الخبر محقّق الحجّية يخصّص أو يقيّد،مثل ما ورد من أنّ الزوجة لا ترث من العقار،فإنّه مخالف للكتاب،لكن يخصّص الكتاب لتعدّد الخبر و فيه صحيح و موثّق و غيرهما،و إن لم يكن معلوم الحجّية و دالاّ علي حكم إلزامي،فيحتاط في العمل به إن كان العامّ رخصة،و إن كان العامّ حكما إلزاميّا و الخبر رخصة يعمل بالعامّ.مثلا قوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ (1)الآية أوجب علي المحدث بالأصغر الوضوء و علي الجنب الغسل،و تخصيصه بكفاية غسل الجمعة مثلا للمحدث بالأصغر في جواز الدخول في الصلاة يحتاج إلي مخصّص قويّ سندا و دلالة،و لا دليل كذلك،فلا يكتفي به عن الوضوء،و تفصيله في محلّه.

و حاصل الكلام في كيفيّة الاحتياط:انّ الخبر الموجود بأيدينا إذا كان ضعيفا لإرسال مع ضعف رواته و عدم فتوي به من أحد من الأصحاب،خصوصا إذا كانت المسألة محلّ الابتلاء،و بالجملة كان ضعيفا باصطلاح القدماء و المتأخّرين، و لم يكن مضمونه مفتي به،فيطرح أي لا يعمل به،و يرد علمه إلي أهله.

و أمّا إذا لم يكن كذلك و إن كان في سنده من طعن عليه،سواء كان موجودا في6.

ص: 472


1- سورة المائدة:6.

الكتب الأربعة أو لم يكن،فإن لم يكن مخالفا لعموم إلزامي في الكتاب،و لا لرواية معتبرة مشتملة علي الحكم الالزامي،و لم يكن مخالفا للقاعدة المصطادة من الكتاب و الروايات،و لا مخالفا للاحتياط،و لا لما يعلم من الشرع الاهتمام به، فإنّه يعمل به.

و إن كان مخالفا لعموم الكتاب،أو رواية متواترة أو رواية معتبرة بالاصطلاحين،أو لقاعدة مسلّمة مصطادة من الكتاب و السنّة،أو لما علم الاهتمام به شرعا،ففي مثله لا بدّ من التحقيق حول صدور الخبر عن المعصومين عليهم السّلام.

فإن كان صحيحا بالاصطلاحين و لم يكن القدماء أعرضوا عن الفتوي به، فيخصّص العموم،أو يقيّد الاطلاق الوارد في مقام البيان علي إشكال،و إلاّ بأن كان صحيحا باصطلاح المتأخّرين و كانت رواته من المشاهير الذين ثبتت وثاقتهم، و لم يكن الخبر معرضا عنه،فيخصّص به علي إشكال.

و إذا كان صحيحا باصطلاح القدماء أو باصطلاح المتأخّرين،مع كون إثبات وثاقة الرواة مستندا إلي غير الحسّ،فإنّه لا بدّ من الاحتياط.

و الحاصل أنّه لا بدّ من عدم طرح الأخبار الموجودة بأيدينا مهما أمكن،مع مراعاة أن تكون الأخبار المخصّصة للعمومات،أو المقيّدة للمطلقات المعتبرة مثلها في الاعتبار،و لا يبعد عدم استلزام هذا الاحتياط العسر و الحرج،كما اعترف به صاحب الكفاية.

و لو فرض أنّه استلزم العسر و الحرج،فيرتفعان بالعمل بالخبر المقرون بما يوجب قوّة الصدور:إمّا لوجوده في الكتب التي شهد أرباب الرجال بأنّها معمولة، مثل كتب الحسين بن سعيد،أو لتعدّد الخبر بطرق مختلفة،و كون رواته ممّن وثّقهم أو مدحهم علماء الرجال فيما يحتمل فيه كون توثيقهم و مدحهم عن اجتهادهم، و أمثال ذلك من القرائن،و يحتاط فيما عداه،و كذا لا بدّ من الاحتياط بالعمل

ص: 473

بالشهرات الكاشفة عن النصّ.

و الأحوط ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بناء علي تقرير دليل الانسداد علي الحكومة،كما هو مختاره.

قال:و حاصل الأمر عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه (1)انتهي.

هذا إن لم تتعارض الأخبار.و أمّا مع تعارضها،فإن أمكن الاحتياط بأن دلّ أحدهما علي الوجوب و الآخر علي الاباحة،احتاط بالعمل به؛لأنّا مأمورون بالعمل بهذه الأخبار و لا نعلم صدورهما،بل نحتمله،فيكون ما دلّ علي الوجوب من أطراف العلم الاجمالي و إن لم يمكن الاحتياط يعمل بما فيه مرجّح،فإن لم يكن لأحدهما ترجيح فيتخيّر لا محالة.

و هذه الطريقة أي العمل بالأخبار المودعة في كتب الأخبار بالنحو المذكور هي طريقة الشيخ تقريبا،قال في أوّل التهذيب:و مهما تمكّنت من تأويل بعض الأحاديث من غير طعن في اسنادها فإنّي لا أتعدّاه.و لعلّه يظهر ذلك ممّا ذكره في العدّة من أنّ الأصحاب إذا رجعوا إلي أصل أو كتاب و كان راويه-أي:راوي الكتاب أو الأصل-ثقة سلّموا الأمر (2).بارجاع الضمير إلي الكتاب و إن روي عن ضعيف.

و يظهر من النجاشي فيما ذكره في ترجمة ابن أبي عمير من أنّ الأصحاب يعملون بمراسيله لكونها مسانيده،فلو لا أنّهم يعملون بجميع مسانيد كتبه لم يكن وجه لما ذكره من أنّ مراسيله مسانيده.

و كذا يظهر ممّا ذكره الصدوق في أوّل الفقيه.و كذا ممّا ذكره الكليني في أوّل3.

ص: 474


1- فرائد الاصول ص 251.
2- و يقرب ممّا ذكرناه ما اختاره في كتاب هداية الأبرار ص 195-203.

الكافي.و كذا ممّا يحكي عن ابن الوليد في مواضع،منها:ما عنه في محمّد بن عيسي بن عبيد،قال في الفهرست:و قال أبو جعفر بن بابويه،سمعت ابن الوليد رحمه اللّه يقول:كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات صحيحة يعتمد عليها،إلاّ ما ينفرد به محمّد بن عيسي بن عبيد عن يونس و لم يروه غيره،فإنّه لا يعتمد عليه و لا يفتي به (1)انتهي.و سيأتي عند ذكر القرائن الكلام في ذلك.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

إنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوب الامتثال الظنّي للأحكام المجهولة،بلا فرق بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي،كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبي،و بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري،كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّية أمر لا يفيد الظنّ،كالقرعة مثلا،فإذا ظنّ حجّية القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة، و إن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعي (2)انتهي.

فعلي هذا يكون نتيجة مقدّمات الانسداد حكومة العقل،و هو يحكم بكفاية الامتثال الظنّي.

و ذهب إليها في الكفاية،حيث قال:لا يخفي انّ قضية ذلك هو التنزّل إلي الظنّ بكلّ من الواقع و الطريق الخ (3).

أقول:إنّا نعلم بأنّ الشارع المقدّس ليس له طريق إلي ثبوت أحكامه عند غير المشافهين من الغائبين و المعدومين حال الخطاب إلاّ الطرق المتعارفة،و هي الاستحسان و القياس و الأخبار و الشهرة بين العلماء و سيرة المسلمين،و أمّا القرعة

ص: 475


1- الفهرست ص 212.
2- فرائد الاصول ص 212.
3- كفاية الاصول ص 362.

و الاستخارة و الرؤية في النوم و نحوها فليست طرقا إلي ثبوت الحكم،و الشارع منع عن اثبات الحكم بالاستحسان و القياس بأخبار متواترة،فيتعيّن اثباتها بالأخبار و الشهرة الكاشفة عن فتوي المعصومين عليهم السّلام،و السيرة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام،فدائرة العلم الاجمالي بالأحكام الشرعيّة محصورة من الأوّل في هذه الطرق،فإن حصل ظنّ بالواقع من غير هذه الطرق،فهو ممنوع شرعا؛ لعموم النهي عن اتّباع الظنّ،فيكون كالقياس.

و علي ما ذكرنا فإن حصل الظنّ بالحكم الشرعي من غير ما ذكرنا لم يكن حجّة،بل لا بدّ من أخذ الأحكام من الطرق التي ذكرناها.

التنبيه الثاني:في كون نتيجة المقدّمات حكم العقل بالاكتفاء بالامتثال الظنّي،

أو حكم العقل بأنّ الظنّ طريق أو حجّة،و ما حكم به العقل حكم به الشرع،أو الكشف عن جعل الشارع الظنّ حجّة أو التفصيل،وجوه و احتمالات:

الأوّل:حكومة العقل بكفاية الامتثال الظنّي،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و كذلك صاحب الكفاية (2)،و هو الأظهر،فإنّ الأحكام الشرعيّة الموجودة في ضمن هذه الطرق أي الأخبار و الاجماعات و الشهرات لا سبيل إلي تعيينها؛ لانسداد باب العلم و العلمي إليها،و لذا لا يمكن امتثالها تعيينا،و امتثالها بالاحتياط امّا متعذّر أو لا يجب،فالعقل يحكم بأنّ كيفيّة امتثالها هي اتيان المظنون منها.

الثاني:حكم العقل بأنّه إذا انسدّ باب العلم و العلمي حتّي بالاحتياط،و الحكم الواقعي لم يرتفع و كان باقيا،فلا بدّ أن يكون الظنّ طريقا إليه و حجّة،و ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و فيه أنّه لا يحكم العقل بكون الظنّ حجّة:بل انّه يري العمل به كافيا في

ص: 476


1- فرائد الاصول ص 212.
2- كفاية الاصول ص 368.

الامتثال.

الثالث:جعل الشارع الظنّ حجّة؛لأنّ الحكم الذي يجب علي العبد امتثاله هو الحكم الذي بيّنه المولي و جعل له طريقا يوصله إلي العبد،فإنّه لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،و بعد تعذّر العلم و العلمي و عدم وجوب الاحتياط التامّ،فقد جعل الشارع الظنّ طريقا موصلا إلي الواقع.

قلت:هذا مسلّم،لكن لو كان له طريق و اشتبه-كما فيما نحن فيه-فليس علي المولي وضع طريق آخر،و حينئذ لا بدّ من امتثال التكاليف المعلومة اجمالا، و كيفية امتثالها تكون بالعمل بالظنّ.

الرابع:ما قيل من أنّ الاحتياط إن كان لا يجب شرعا،و مع ذلك يجب تعيين المأمور به و تمييزه،فيكشف ذلك عن جعل الظنّ حجّة؛لأنّه بعد انسداد باب العلم و العلمي، و قيام الاجماع علي إتيان المأمور به علي وجهه مميّزا له عن غيره،و بقاء التكليف لا يمكن الامتثال إلاّ بجعل الشارع الظنّ طريقا و حجّة،و إن كان عدم وجوب الاحتياط من أجل اختلال النظام،فنتيجة المقدّمات الحكومة.

و فيه نظر؛لأنّ مدّعي الاجماع يدّعي عدم وجوب الاحتياط التامّ لا ايجاب الاتيان بالعمل بالتعيين حتّي يقال:إنّه لا بدّ من جعل طريق إلي تعيينه.

التنبيه الثالث:في نتيجة دليل الانسداد

في أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي تعميم العمل بالظنّ في جميع المسائل الفقهيّة و من أيّ سبب حصل و في أيّ مرتبة كان من القوّة و الضعف أم لا؟ لا يبعد أن يقال:إنّ ما علم اهتمام الشارع به يحتاط فيه،و أمّا الظنّ الحاصل من الأخبار،فلا يبعد تقدّمه علي الحاصل من الشهرة.و أمّا الظنّ القوي البالغ حدّ الاطمئنان فهو مقدّم علي غيره،و وجهه ظاهر بناء علي حجّية الاطمئنان.

التنبيه الرابع:في أنّ الظنّ هل يكون جابرا أو موهنا أو مرجّحا؟

أمّا الظنّ الذي نهي عن العمل به بخصوصه كالقياس،فلا يترتّب عليه أثر؛لأنّ

ص: 477

ترتيب الأثر عليه من العمل به و هو منهي عنه.و أمّا غيره فليس حجّة في نفسه، فإن كان شهرة العمل من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و بطانتهم،سواء استندوا إلي الخبر أم لم يستندوا،فهو يوجب انجبار السند،كما أنّه إن استندوا إلي الخبر و أفتوا بفتوي واضحة و كان في الخبر إجمال،كان استنادهم موجبا لانجبار الدلالة،حيث انّهم أقرب إلي زمان المعصومين عليهم السّلام،و لا يخفي أنّه لا كلّية لهذه الامور.

و إن كانت الشهرة عند القدماء،فإن كانت المسألة من المسائل الأصليّة التي ينحصر دليلها في الخبر المأثور عن المعصومين عليهم السّلام،فيمكن دعوي أنّ اتّفاقهم علي الفتوي مع اختلاف مذاهبهم في الجملة يكشف عن وجود نصّ معتبر وصل إليهم،سواء استندوا إلي الخبر الضعيف الواصل إلينا،أو لم يستندوا،كما أنّ ما فهموه من الخبر هو الذي ينبغي أن يكون معني الخبر؛لأنّهم أقرب عهدا بزمان المعصومين عليهم السّلام،و هم مع ذلك أهل اللسان و أهل اللغة العربيّة.و أمّا الشهرة من المتأخّرين،فلا يترتّب عليها أثر أصلا.

هذا كلّه إن لم توجب شهرة العمل من العلماء الاطمئنان بصدور الخبر،أو الاطمئنان بمضمونه.و أمّا إن أوجبت الاطمئنان،فإن كان بحيث يضعف احتمال الخلاف و كان ممّا لا يعتني به،فاحتمال حجّيته بنفسه قوي،لكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ الخبر يصير حجّة حتّي لو لم يكن الاطمئنان بنفسه حجّة؛لأنّه يدخل في منطوق آية النبأ؛لشمول التبيّن للاطمئنان بصدور الخبر.و فيه ما تقدّم من منع ذلك.

التنبيه الخامس:في حكم الظنّ في غير الأحكام الفرعيّة.

نتعرّض له تبعا لهم.

أمّا الظنّ المطلق،فلا دليل علي حجّيته فيه.و أمّا الظنّ الخاصّ الذي هو حجّة في الفروع،كظواهر الكتاب،و ظواهر الخبر المتواتر أو ما يلحق به و نصوص و ظواهر الخبر الواحد الذي يكون حجّة في الفروع،فهو إمّا أن يكون في الامور

ص: 478

التكوينيّة أو التاريخيّة،كما إذا دلّ خبر صحيح علي أنّ السماء الرابعة كذا،أو دلّ خبر علي أنّ فرعون ولد في سنة كذا مثلا،و إمّا أن يكون في الامور الاعتقاديّة.

أمّا في الامور التكوينية أو التاريخية،كما إذا دلّ خبر صحيح مثلا عليهما،فلا يجوز تكذيبه لما ورد عنهم عليهم السّلام من أنّه لا يجوز تكذيب ما روي عنهم،و لا يجب الاعتقاد بمضمونه،و يجوز الاخبار بإسناده إلي الخبر،بأن يقول:إنّ السماء الرابعة كذا كما في الخبر،و هل يجوز الاخبار جزما عنه أم لا؟فيه قولان:

الأوّل:جواز الاخبار بتّا،اختاره في مصباح الاصول،قال:لأنّ جواز الاخبار عن الشيء منوط بالعلم به،و قد علمنا به بالتعبّد الشرعي؛لأنّ الأمارة علم تعبّدا، نعم علي مسلك من يقول بأنّ المجعول فيها المنجّزية و المعذّرية،كما اختاره صاحب الكفاية،فلا يجوز الاخبار،كما لا يجوز الاخبار علي مسلكه بالثواب المترتّب علي بعض الأعمال،فإذا دلّ خبر صحيح علي وجوب شيء و انّ ثوابه كذا ثبت به الحكم الفرعي،لكن لا يجوز الاخبار عن الثواب المترتّب عليه (1).

و فيه أوّلا:أنّه ليس المجعول في الأمارة العلم تعبّدا،كما تقدّم.

و ثانيا:لو سلّم أنّ المجعول فيها أنّها علم تعبّدا،لكن القدر المتيقّن أنّه علم بالنسبة إلي الأحكام الفرعيّة لا بالنسبة إلي الاخبار عن مضمون لا يرتبط بها.

و ثالثا:أنّ الخبر الواحد الذي ثبت من الأدلّة حجّيته إن دلّ علي وجوب شيء مثلا مع ذكر ثوابه،فمعني حجّيته جواز الاخبار بمضمونه،لا إثبات الحكم الشرعي فقط و عدم الاخبار بثوابه،و لا يتبادر إلي الذهن التفكيك بين أبعاض الخبر،و هو جواز الاخبار عن مضمونه في الحكم الشرعي،و عدم جوازه في الثواب الذي ذكر فيه،فينبغي في مثل ذلك جواز الاخبار عن الثواب حتّي علي9.

ص: 479


1- مصباح الاصول 2:239.

مبني صاحب الكفاية.

القول الثاني:عدم جواز الاخبار بتّا من غير نسبة إلي الخبر إن لم يحصل العلم و لا الاطمئنان الملحق بالعلم،و المراد ما يضعف فيه احتمال الخلاف بحيث يقبح عند العقلاء الاعتناء به،و الدليل علي عدم الجواز ما دلّ علي عدم اتّباع غير العلم من الآيات و الأخبار،فتأمّل.

و أمّا الامور الاعتقادية،فهل يجب الاعتقاد بمضامين تلك الأخبار أم لا؟بعد عدم جواز ردّ الخبر إلاّ إذا كان معلوم الكذب،فإن كان الأمر الاعتقادي ممّا يعتبر فيه العلم حتّي يتّصف العالم به بكونه مسلما و مؤمنا،فلا يثبت بالخبر الواحد.

و دعوي أنّ الشارع جعله علما تعبّدا ممنوعة،أمّا أوّلا فلما مرّ من أنّه لم يجعل علما.و ثانيا أنّ المطلوب في الامور الاعتقاديّة التي يعتبر فيها العلم هو العلم الوجداني،و إن كان الأمر الاعتقادي لم يعتبر فيه العلم،كتفاصيل كيفيّة الجنّة أو النار،فينبغي الاعتقاد بالواقع إجمالا،و يجوز الاخبار إسنادا إلي الخبر.

المطلب الثالث: في أقسام الخبر
اشارة

يعتبر في حجّية جميع أقسام الخبر أن يكون المخبر ضابطا،قد أخبر عن شيء محسوس بنفسه أو بآثاره كالشجاعة التي تعرف بآثارها،و أن لا يكون مضمون الخبر شاذّا،و ينقسم باعتبار حالات المخبر و مضمون الخبر إلي أقسام:

القسم الأوّل:الصحيح،و هو ما كان مخبره بالغا عاقلا مسلما مؤمنا عادلا، و العدالة هي الاستقامة،و المتّصف بها علي ثلاثة أقسام:

أحدها:العدل الواقعي،و هو المستقيم في جميع أفعاله و أقواله غير المتعمّد للكذب،و كثيرا مّا يحصل من خبره سكون النفس،و هو الذي جعله الشيخ الأنصاري رحمه اللّه المتيقّن حجّيته من أدلّة حجّية خبر الواحد،لكن إن حصل منه العلم

ص: 480

خرج عن الخبر الواحد،هذا إذا لم يحتمل تعمّد كذبه في هذا الخبر،و أمّا لو احتمل تعمّد كذبه في هذا الخبر،فحينئذ يكون خبرا واحدا،و هل يشمله الأدلّة الدالّة علي حجّية خبر العدل،أو لا لانصرافها إلي من لا يحتمل في خبره تعمّد الكذب؟ وجهان.

إختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الأوّل؛لشمول مفهوم آية النبأ له،قال:و أمّا احتمال فسقه بهذا الخبر للكذب به فهو غير قادح؛لأنّ ظاهر قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ تحقّق الفسق قبل النبأ لا به،فالمفهوم يدلّ علي قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا النبأ و احتمال فسقه به (1)انتهي.

لكن تقدّم المناقشة في دلالة آية النبأ علي حجّية خبر الواحد،و لو سلّم دلالتها عليها فإنّها تدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي حتّي في هذا الخبر.

ثانيها:العدل علي الظاهر،و المراد به من كان محكوما بالعدالة للمعاشرة معه بحيث لم يظهر منه الفسق،في مقابل من كان عادلا واقعا،أو كانت فيه إحدي أمارات العدالة من حسن الظاهر و نحوه،و لعلّ منه من كان مستصحب العدالة،أو قامت البيّنة العادلة واقعا علي عدالته ظاهرا،أو قامت البيّنة العادلة ظاهرا علي عدالته واقعا أو ظاهرا،فإنّه لا يحصل العلم في جميع ذلك،و هو محلّ الكلام في حجّية خبر الواحد علي ما يظهر من كلام الشيخ الطوسي.

حيث قال في ذيل آية النبأ:و في الآية دلالة علي أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم و لا العمل؛لأنّ المعني إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقّفوا فيه،و هذا التعليل موجود في خبر العدل؛لأنّ العدل علي الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره،فالأمان غير حاصل في العمل بخبره،و في الناس من7.

ص: 481


1- فرائد الاصول ص 77.

استدلّ به علي وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا،من حيث انّه أوجب تعالي التوقّف في خبر الفاسق،فدلّ علي أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه،و هذا الذي ذكروه غير صحيح؛لأنّه استدلال بدليل الخطاب،و دليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء،و لو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدلّ بدليلها علي وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولي من أن يستدلّ بتعليلها في دفع الأمان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها علي أنّ خبر العدل مثله (1)انتهي.

و المستفاد من كلامه أنّ محلّ البحث في حجّية خبر الواحد هو العدل علي الظاهر،و انّه منكر لحجّيته،و إنّما يقول بحجّية خبر الثقة الواقعي الذي يكون الأمان موجودا عند خبره.

و قال في عدّة الاصول في بيان استدلال القوم بآية النبأ:إنّه أوجب علينا التوقّف عند خبر الفاسق،فينبغي أن يكون خبر العدل بخلافه.

و أجاب عنه بأنّه استدلال بدليل الخطاب،و بعض الأصحاب لا يقول به،و أمّا من قال به فلا يصحّ الاستدلال أيضا.أوّلا:انّ مورد الآية الاخبار بردّة القوم،و لا خلاف أنّه لا يقبل فيه أيضا خبر العدل.و ثانيا:انّ التعليل بإصابة القوم بجهالة قائم في خبر العدل؛لأنّ خبره إذا كان لا يوجب العلم،فالتجويز في خبره حاصل مثل التجويز في خبر الفاسق (2)انتهي.

و لعلّ المستفاد من قوله«إذا كان لا يوجب العلم»حجّيته إن أوجب العلم، و سيأتي نقل كلامه من العدّة علي حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّه قد ظهر من الأدلّة المتقدّمة أنّه يعتبر في حجّية الخبر كون راويه ثقة واقعا.و أمّا الثقة علي الظاهر أي من لم يعلم وثاقته لكن احرزت وثاقته بظاهر4.

ص: 482


1- التبيان 9:343.
2- عدّة الاصول ص 314.

حاله و سلوكه للمعاشرين له،أو ثبتت وثاقته بحجّة،فليس خبره حجّة،ولكن يمكن أن يستدلّ لحجّية خبر العدل علي الظاهر أو الثقة علي الظاهر بامور:

الأوّل:الآية الشريفة المتقدّمة التي سبق الجواب عنها.

الثاني:سيرة المتشرّعة.و فيه نظر؛لأنّه لم يثبت سيرتهم علي ذلك،و لا سيّما بملاحظة مخالفة كثير من القدماء في حجّية خبر الواحد.

الثالث:الأخبار المتقدّمة في الطائفة السابعة.و قد عرفت المناقشة في دلالتها بأنّها في مقام بيان من يؤخذ عنه العلم،و أمّا اعتبار كونه صادقا في إخباره عن علمه،فهو موكول إلي طريقة العقلاء في اعتبارهم ذلك،فهي تدلّ علي أنّه يؤخذ من علماء الشيعة العارفين بالأحكام،و لو سلّم كون بعضها مطلقا،فهو مقيّد بما دلّ علي اعتبار كونه ثقة مأمونا،كما قال الشيخ الأنصاري في عبارته المتقدّمة (1).

و الحقّ أنّه لا دليل علي حجّية خبر العدل علي الظاهر،قال بعضهم:بل الحقّ أنّ العدالة في الشاهد و إمام الجماعة مبنيّة علي الظاهر،و هي كونه مستور الحال،إذا سئل عنه خلطاؤه و جيرانه قالوا:لا نعلم منه إلاّ خيرا،و في الراوي كونه متحرّجا عن الكذب ضابطا لما ينقله،و أمّا الايمان فهو مع ذلك شرط لقبول خبر الواحد المجرّد عمّا يوجب العلم (2)انتهي.

ثمّ إنّه لو سلّم حجّية خبر العدل علي الظاهر،فينبغي الاقتصار علي من قطع علي عدالته ظاهرا لا مظنون العدالة ظاهرا،بل لا يكفي مظنون العدالة واقعا،لكن نسب بعض إلي العلاّمة أنّه اكتفي بمظنون العدالة.

ثالثها و هو الذي ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه:العدل في الاخبار،أي:الاستقامة في خصوص الاخبار،بأن يكون إماميّا متحرّزا عن الكذب،و ذكر الشيخ3.

ص: 483


1- فرائد الاصول ص 144.
2- هداية الأبرار ص 123.

الطوسي رحمه اللّه أنّه المراد بالعدالة في الراوي،فإنّه قال:و قد ورد جواز العمل به-أي الخبر الواحد-في الشرع،إلاّ انّ ذلك موقوف علي طريق مخصوص،و هو ما يرويه من كان من الطائفة المحقّة،و يختصّ بروايته،و يكون علي صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة و غيرها (1).

قوله«و يختصّ بروايته»لعلّه يريد أن لا يكون معه قرينة توجب العلم.

و قال أيضا:علي أنّ من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلا بلا خلاف (2).

و قال أيضا:فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح، و كان ثقة في روايته متحرّزا فيها،فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره و يجوز العمل به؛ لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه،و إنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته،و ليس بمانع من قبول خبره،و لأجل ذلك عملت الطائفة بأخبار جماعة هذه صفتهم (3)انتهي.

و قال في المعارج بعد حكاية ذلك عن الشيخ:و نحن نمنع هذه الدعوي و نطالب بدليلها،و لو سلّمنا لاقتصرنا علي المواضع التي عملت فيها بأخبار خاصّة،و لم يجز التعدّي في العمل إلي غيرها،و دعوي التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعدة؛إذ الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرّجه عن الكذب (4)انتهي.

فقد منع عمل الطائفة بأخبار الفسّاق،و لو سلّم عملهم فيقتصر علي مورد عملهم،و منع أخيرا عن حصول العلم بتحرّز الفاسق عن الكذب.9.

ص: 484


1- عدّة الاصول ص 290.
2- عدّة الاصول 341.
3- عدّة الاصول ص 381.
4- معارج الاصول ص 149.

قلت:لو سلّم عمل الطائفة فلعلّه للقرينة،أو لكون الراوي له حالة استقامة حملت رواياته عليها،نعم لو ثبت تحرّزه عن الكذب و علم أو اطمئنّ بذلك منه، فيحصل من خبره سكون النفس،و يكون خبره حجّة،و هو ثقة واقعي،و لا يبعد أن يكون أدلّة حجّية الخبر شاملة له؛لأنّ من احرز أنّه صادق في قوله لا يحتمل فيه الخلاف،و حينئذ لا يشترط كونه إماميّا كما اشترطه الشيخ؛لأنّ من كان كذلك يحصل من خبره سكون النفس.و أمّا لو احتمل كذبه في هذا الخبر،فلا دليل علي حجّية خبره من بناء العقلاء الممضي شرعا،و لا يشمله سائر أدلّة حجّية الخبر.

ثمّ إنّ النسبة بين العدل الواقعي و الثقة في الحديث العموم و الخصوص المطلق، و النسبة بين المحكوم بالعدالة ظاهرا و الثقة العموم من وجه؛لأنّ من علم أو حكم بعدالته ظاهرا ربّما لا يعلم و لا يحكم بوثاقته في الحديث.

قيل:إنّ النسبة بين الثقة في الاخبار و بين ظنّ العدالة الذي اعتبره العلاّمة رحمه اللّه و من وافقه من أصحابنا علي وفق العامّة عموم من وجه،صرّح بذلك الشهيد الثاني في بعض تصانيفه في جواز الاعتماد علي خبر البايع الثقة في استبراء الجارية.

و قال في وسائل الشيعة:و معلوم أنّ النسبة بين الثقة و العدل العموم و الخصوص من وجه،كما ذكره الشهيد الثاني في بعض مؤلّفاته في بحث استبراء الجارية (1).

ثمّ إنّه ذكر في مقباس الهداية أنّ الصحيح ينقسم إلي أعلي و أوسط و أدني، فلاحظ.

القسم الثاني:الحسن (2)،و هو خبر الامامي الممدوح في إخباره مدحا لا يبلغه.

ص: 485


1- وسائل الشيعة 20:93.
2- عرّفه في المعالم بأنّه متّصل السند إلي المعصوم الامامي الممدوح من غير معارضة ذمّ مقبول و لا ثبوت عدالة.و قال والد الشيخ البهائي في وصول الأخيار ص 95:هو ما رواه الممدوح من غير نصّ علي عدالته.و قال أيضا في ص 97:أكثر علمائنا لم يعملوا به.بناء علي قاعدتهم من اشتراط علم العدالة.

حدّ الوثاقة،و استدلّ علي حجّيته بوجوه:

الوجه الأوّل:كون الممدوح لأجل كونه ممدوحا محكوما بكونه عادلا.

قال الشهيد في الدراية:و اختلفوا في العمل بالحسن،فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح،و هو الشيخ رحمه اللّه علي ما يظهر من عمله،و كلّ من اكتفي في العدالة بظاهر الاسلام و لم يشترط ظهورها،و منهم من ردّه مطلقا و هم الأكثرون،حيث اشترطوا في قبول الرواية الايمان و العدالة،كما قطع به العلاّمة في كتبه الاصوليّة و غيره.

إلي أن قال:و فصّل آخرون في الحسن،كالمحقّق في المعتبر و الشهيد في الذكري،فقبلوا الحسن بل الموثّق،و ربّما ترقّوا إلي الضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين الأصحاب،حتّي قدّموه حينئذ علي الخبر الصحيح حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا (1)انتهي.

قوله«و هو الشيخ رحمه اللّه»قلت:قد صرّح في العدّة بخلافه كما مرّ.

و قال السيّد بحر العلوم:التحقيق أنّ الحسن يشارك الصحيح في أصل العدالة، و إنّما يخالفه في الكاشف عنها،فإنّه في الصحيح هو التوثيق أو ما يستلزمه، بخلاف الحسن فإنّ الكاشف فيه هو حسن الظاهر المكتفي به في ثبوت العدالة علي أصحّ الأقوال،و بهذا يزول الاشكال في القول بحجّية الحسن مع القول باشتراط عدالة الراوي،كما هو المعروف بين الأصحاب (2).

قلت:ما ذكره السيّد راجع إلي العدل علي الظاهر الذي مرّ الكلام فيه،و أمّا الحسن بالتفسير الذي ذكرناه فهو مغاير للعدل علي الظاهر،و علي كلّ لا يشمله دليل حجّية خبر العادل كما مرّ.

ص: 486


1- الدراية ص 26.
2- رجال السيّد بحر العلوم 1:460.

الوجه الثاني:ما ذكره الشهيد الثاني في الدراية قائلا:إنّه دليل لحجّية الخبر الصحيح و الحسن و الموثّق،و هو أنّ المانع من قبول خبر الفاسق هو فسقه لقوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فمتي لم يعلم الفسق لا يجب التثبّت عند خبر المخبر مع جهل حاله،فكيف مع توثيقه و مدحه و إن لم يبلغ حدّ التعديل، و بهذا احتجّ من قبل المراسيل.

و قد أجابوا عنه بأنّ الفسق لمّا كان علّة التثبّت وجب العلم بنفيه حتّي يعلم انتفاء التثبّت،فيجب التفحّص عن الفسق ليعلم هو أو عدمه حتّي يعلم التثبّت أو عدمه.و فيه نظر؛لأنّ الأصل عدم وجود المانع في المسلم،و لأنّ مجهول الحال لا يمكن الحكم عليه بالفسق،و المراد في الآية المحكوم عليه بالفسق (1)انتهي.

و فيه نظر أوّلا:أنّه في مورد الآية و هو الارتداد لا يقبل خبر الموثّق و الممدوح فضلا عن المجهول.

و ثانيا:ما تقدّم من منع دلالة الآية علي حجّية خبر العادل فضلا عن غيره.

و ثالثا:أنّ الآية دلّت علي أنّ الفاسق واقعا لا بدّ من التثبّت عند خبره؛لأنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة،و لا دخل للعلم و الجهل في مفاهيم الألفاظ.

و ما ذكره من أنّ الأصل عدم المانع لو سلّم،فهو فيما إذا كان المقتضي للشيء معلوما و شكّ في وجود المانع،و لمانع أن يمنع وجود المقتضي في قبول خبر المسلم،و لعلّ المقتضي هو عدالة المخبر،و ما ذكره من أنّ المراد في الآية المحكوم عليه بالفسق،إن أراد أنّ المراد به من يصحّ خطابه بأيّها الفاسق،ففيه أنّه ليس في الآية كون المانع صحّة خطابه بأيّها الفاسق،بل الحكم مترتّب علي عنوان الفاسق، كسائر الموضوعات و هو من صدق عليه الفاسق،مثل قوله«يتوضّأ بالماء»فإنّ6.

ص: 487


1- الدراية ص 26.

المراد به ما صدق عليه الماء واقعا لا ما اعتقده المكلّف ماء.

الوجه الثالث:إطلاق الأخبار المتقدّمة في الطائفة السابعة،لكن تقدّم النظر في دلالتها.

الوجه الرابع:سيرة العقلاء،قال في مباني الاستنباط:الخبر الحسن و هو الذي يكون جميع سلسلة رواته إماميّين ممدوحين بالخير و التحرّز عن الكذب من دون تصريح بعدالتهم كلاّ أو بعضا،و هذا القسم أيضا داخل في السيرة،فإنّ سيرة العقلاء مستقرّة علي العمل بخبر من يتحرّز عن الكذب و إن لم يكن عادلا (1).

و فيه أنّه لا بناء للعقلاء علي ذلك فيما لا يتساهلون فيه،فلو أخبر رجل ممدوح بموت رجل لا يكتفون بمجرّد خبره مع التمكّن من الاستعلام،فلا يرتّبون آثار موته إذا لم يحصل لهم العلم بموته،و لا يقيمون عليه النوائح،و لا تتزوّج زوجته إلي غير ذلك،و لو سلّم سيرتهم علي قبول الخبر الحسن فهي مردوعة بالآيات و الروايات الناهية عن اتّباع غير العلم.

ثمّ إنّ ما ذكر في تعريف الحسن من التحرّز عن الكذب يرادف الوثاقة.

الوجه الخامس:ما قيل من دعوي الشيخ في العدّة الاجماع علي قبول حجّيته، حيث قال:و مدحوا الممدوح و ذمّوا المذموم (2).

قلت:هذا لا يدلّ علي أنّ الشيخ يري جواز العمل بخبر الممدوح،و لا علي ادّعائه الاجماع علي العمل به،كما هو واضح للمراجع،فإنّه قال بعد ذلك:فلو لا أنّ العمل بمن يسلم من الطعن و يرويه من هو موثوق به جائز لما كان بينه و بين غيره فرق (3).7.

ص: 488


1- مباني الاستنباط ص 354.
2- عدّة الاصول ص 366.
3- عدّة الاصول ص 367.

ثمّ إنّه ينبغي أن يقسّم الحسن إلي الواقعي،و هو من احرز حسنه بالمعاشرة، و إلي الحسن علي الظاهر،و هو من ثبت حسنه بالاستصحاب و نحوه،و لقائل أن يقول:إن سلّم حجّية الحسن الواقعي،فلا يسلّم حجّية الحسن علي الظاهر.

القسم الثالث:الموثّق،و عرّفه في المعالم بأنّه ما دخل في طريقه من ليس بإمامي،ولكنّه منصوص علي توثيقه بين الأصحاب،و لم يشتمل باقي الطريق علي ضعف من جهة اخري (1)انتهي.

أقول:من غير فرق بين المخالف و سائر فرق الشيعة،كالفطحيّة و الواقفيّة و غيرهما.ثمّ إنّه إن كان متعبّدا بدينه،يكون عادلا في مذهبه.

و استدلّ علي حجّيته بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الأخبار علي حجّية خبر الواحد من أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة، و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها،و أمّا العدالة فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها، بل في كثير منها التصريح بخلافه،مثل رواية العدّة الآمرة بالأخذ بما رووه عن علي عليه السّلام،و الواردة في كتب بني فضّال،و مرفوعة الكناني و تاليها.

نعم في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في الشيعة،لكنّه محمول علي غير الثقة،أو علي أخذ الفتوي جمعا بينها و بين ما هو أكثر منها،و في رواية بني فضّال شهادة علي هذا الجمع،مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرواية بأنّهم ممّن خانوا اللّه و رسوله يدلّ علي انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة،فإنّ غير الامامي الثقة مثل ابن فضّال و ابن بكير ليسوا خائنين في كلّ نقل6.

ص: 489


1- معالم الاصول ص 216.

الرواية (1)انتهي.

و لا يبعد أن يقال:إنّه لا فرق في الاعتماد علي خبر الثقة،و هو المتحرّز عن الكذب المعلوم من حاله أنّه صادق بين الامامي و غيره،فإنّه يحصل سكون النفس من إخباره.نعم يحتمل الفرق في من يحتمل كذبه في هذا الخبر بين العادل و الفاسق بأفعال الجوارح،بأنّ العادل يقبل قوله حملا علي الصحّة،لكن لا يبعد أن يكون المدار علي قوّة احتمال الكذب و ضعفه،فإذا كان عادلا كان احتمال كذبه ضعيفا جدّا.و أمّا لو كان الاحتمال ممّا يعتني به،فالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم تدلّ علي عدم الحجّية.

و قد يفصّل-كما تقدّم-بين ما إذا كان الغرض ترتيب آثار الواقع،فهي لا تترتّب علي خبر الثقة المذكور ما لم يحصل سكون النفس،و بين ما إذا كان الغرض احتجاج العبد علي المولي أو العكس،فيكون قول الثقة حجّة و إن لم يحصل سكون النفس.

و يمكن تقسيمه إلي الموثّق واقعا،و الموثّق ظاهرا،و هو من احرز وثاقته بالمعاشرة الظاهرية معه.

القسم الرابع:الضعيف،و هو المشتمل علي المجروح،أو المطعون،أو المجهول، أو الارسال،أو الوقف و نحوها،و له أصناف:

الصنف الأوّل:المضمر،و هو ما اضمر فيه المسؤول أو المخبر عنه،بأن قال:

سألته،أو نحو ذلك.و هذا ليس بحجّة إلاّ إذا احرز أنّ المراد به هو المعصوم عليه السّلام، كما قيل في مضمرات زرارة:إنّه أجلّ من أن يروي عن غير المعصوم عليه السّلام.

و قد تكون الرواية مضمرة،لكن بعد التأمّل يظهر أنّها ليست كذلك؛لأنّ الراوي4.

ص: 490


1- فرائد الاصول ص 144.

ذكر المعصوم الذي روي عنه في أوّل كتابه،ثمّ قال:و سألته،و يرجع الضمير إلي المذكور أوّلا،ثمّ لمّا رتّبت الأخبار و وزّعت علي الأبواب و حصل التقطيع،فظنّ أنّ الخبر مضمر،مع أنّه ليس كذلك.

و قد أشار إلي ذلك في الفائدة الحادية عشرة في خاتمة الوسائل (1)بعد حكايته عن الشيخ حسن رحمه اللّه في المنتقي (2)في الفائدة الثامنة مضمون ما ذكرناه.

و قد يقال بأنّ مضمرات سماعة من هذا القبيل،لكن ينافيه أنّ الشيخ الطوسي رحمه اللّه الذي هو أقرب منّا إلي زمان تدوين كتب الأخبار ناقش في مضمرات سماعة،قال في التهذيب بعد ذكر خبر عنه:فأوّل ما فيه أنّ سماعة قال:سألته،و لم يذكر المسؤول بعينه،و يحتمل أن قد يكون قد سأل غير الامام فأجابه بذلك،و إذا احتمل ما قلناه لم يكن فيه حجّة علينا (3)انتهي.

قلت:ما ذكر من أنّ الاضمار حصل من تقطيع الأخبار يحتاج إلي دليل لإثباته،مع أنّ مقتضي الأمانة في التقطيع ذكر المسؤول عنه،مثلا إنّ سماعة يروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و يروي عن أبي الحسن عليه السّلام،فإذا كان ذكر أوّل كتابه أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام،فينبغي عند التقطيع أن يذكر ذلك.

ولكن يمكن أن يستفاد من بعض الأخبار أنّ سماعة و آخرين لا يضمرون إلاّ عن المعصوم عليه السّلام،و هو خبر سماعة عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:قلت:أصلحك اللّه انّا نجتمع فنتذاكر ما عندنا،فلا يرد علينا شيء إلاّ و عندنا فيه شيء مسطّر،و ذلك ممّا أنعم اللّه به علينا،ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء،فينظر بعضنا إلي بعض،و عندنا ما يشبهه فنقيس علي أحسنه،فقال:و ما لكم و للقياس،إنّما هلك6.

ص: 491


1- وسائل الشيعة 20:112.
2- منتقي الجمان 1:35.
3- تهذيب الأحكام 1:16.

من هلك من قبلكم بالقياس.

ثمّ قال:إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به،و إن جاءكم مالا تعلمون فها-و أهوي بيده إلي فيه-ثمّ قال:لعن اللّه أبا حنيفة كان يقول:قال علي و قلت أنا،و قالت الصحابة و قلت،ثمّ قال:أكنت تجلس إليه؟فقلت:لا ولكن هذا كلامه،فقلت:

أصلحك اللّه أتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله الناس بما يكتفون به في عهده؟قال:نعم و ما يحتاجون إليه إلي يوم القيامة،فقلت:فضاع من ذلك شيء؟فقال:لا هو عند أهله (1).

و قريب منه خبر محمّد بن حكيم (2).

بناء علي إرادته أنّ عندنا فيه شيء مسطّر منكم كما لعلّه الظاهر،لكن قوله «فنقيس عليه»يقتضي أنّهم ربّما يقولون بالقياس فمنعهم.

الصنف الثاني:المرسل،و هو ما لم يذكر فيه اسم بعض الرواة،سواء ذكر بعنوان رجل أو بعض أصحابنا،أو لم يذكر أصلا،كما إذا علم بحسب الطبقة سقوط الواسطة.و المرسل ليس بحجّة بناء علي اعتبار وثاقة الرواة أو حسنهم.

و لعلّ الظاهر من كلام النجاشي في ترجمة أحمد بن محمّد بن خالد (3)أنّ القدماء لا يعتمدون علي المراسيل،و كذا يظهر ممّا ذكره في ترجمة محمّد بن أبي عمير أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيله (4).فإنّه يدلّ علي أنّ المراسيل ليست بحجّة،و لمراسيل ابن أبي عمير خصوصيّة توجب سكون أصحابنا إليها.

و قد استثني من عدم حجّية المراسيل مواضع:6.

ص: 492


1- اصول الكافي 1:57 ح 13.
2- اصول الكافي 1:56 ح 9.
3- رجال النجاشي ص 76.
4- رجال النجاشي ص 326.

الموضع الأوّل:ما إذا كان الراوي لا يرسل إلاّ عن ثقة.

قال الشيخ في العدّة:فأمّا إذا انفردت المراسيل،فيجوز العمل بها علي الشرط الذي ذكرناه،إلي آخر كلامه.و مراده بالشرط الذي ذكره أن يكون المرسل ممّن لا يرسل إلاّ عن ثقة،فلاحظ كلامه.

قال:و إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا،نظر في حال المرسل،فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به،فلا ترجيح لخبر غيره علي خبره، و لأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير،و صفوان بن يحيي، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر،و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون و لا يرسلون إلاّ ممّن يوثق به،و بين ما أسنده غيرهم،و لذلك عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم،فأمّا إذا لم يكن كذلك و يكون ممّن يرسل عن ثقة و عن غير ثقة، فإنّه يقدّم خبر غيره عليه،و إذا انفرد وجب التوقّف في خبره إلي أن يدلّ دليل علي وجوب العمل به،فأمّا إذا انفردت المراسيل،فيجوز العمل بها علي الشرط الذي ذكرناه (1)انتهي.

فإنّ قوله«و لذلك عملوا بمرسلهم»نصّ في أنّ وجه العمل بمرسل ابن أبي عمير و أضرابه كونه لا يرسل إلاّ عن ثقة.و كذلك قوله«و إذا انفرد وجب التوقّف»نصّ في أنّه إذا كانه يرسل عن ثقة تارة،و يرسل عن غيرهم اخري يتوقّف،مع أنّ قوله «بالشرط»أيضا ظاهر في أنّ الشرط قوله«فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به»و ليس في كلامه اشتراط عدم المعارض.

و من ذلك يظهر أنّ ما نسبه إليه المحقّق في المعارج في غير محلّه،حيث قال:

المسألة السادسة:إذا أرسل الراوي الرواية،قال الشيخ رحمه اللّه:إن كان ممّن عرف أنّه6.

ص: 493


1- عدّة الاصول ص 386.

لا يروي إلاّ عن ثقة،قبلت مطلقا.و إن لم يكن كذلك،قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة،و احتجّ لذلك بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد،فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر (1).

فإنّه حمل قوله«علي الشرط الذي ذكرناه»علي انفراد المرسل عن المعارض، لكن لعلّ ظاهر كلامه اشتراط أن يكون المرسل ممّن لا يرسل إلاّ عن ثقة.

ثمّ إنّ الشيخ رحمه اللّه ذكر في العدّة جماعة عرفوا أنّهم لا يروون و لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و لعلّ حاصل كلام الشيخ رحمه اللّه أنّه قد عرف معاشروهم،و هكذا الذين عاشروا معاشريهم،و هكذا في جميع الأعصار إلي زمان الشيخ رحمه اللّه أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و قد عرف ذلك من شدّة تورّعهم في نقل الحديث.و هذا إخبار من الشيخ مستند إلي الحسّ،و اورد علي ذلك بوجوه:

أحدها:ما ذكره المحقّق،قال في المعتبر:و لو قال مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك؛لأنّ في رجاله من طعن الأصحاب فيه،و إذا أرسل احتمل أن يكون أحدهم (2)انتهي.

و فيه أنّه لا طريق للأصحاب إلي الطعن في من يروي عنهم هؤلاء في جميع رواياتهم و في جميع أحوالهم؛لعدم الاطّلاع الكامل علي أحوالهم من أوّل بلوغهم إلي موتهم،فيمكن أن يكونوا في بعض الأوقات ثقات،و هؤلاء إنّما رووا عنهم في حال كونهم ثقات.

ثانيها:أنّ الشيخ رحمه اللّه لم يلتزم به في التهذيبين،فطعن في رواية رواها ابن أبي عمير عن بعض بالارسال.

و يمكن الجواب بأنّ تأليف عدّته كان بعد تأليف التهذيبين،فقد عدل عن ذلك،1.

ص: 494


1- معارج الاصول ص 151.
2- المعتبر ص 41.

و يكون نظره المتأخّر هو الحجّة.

و فيه أنّه قال في عدّته:و قد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السّلام من الأحاديث المختلفة التي تخصّ بالفقه في كتابي المعروف بالاستبصار و في كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد علي خمسة آلاف حديث،و ذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها الي آخر كلامه (1).

و يظهر من هذه العبارة ارتضاؤه بما صنعه في كتابيه و عدم عدوله عنه،فيكون كلامه في العدّة مناقضا له،إلاّ أن يقال:إنّ الشيخ اعتقد ذلك من تورّعهم في الحديث،و ليس إخبار الشيخ عن ذلك إخبارا عن حسّ،فيحتمل روايتهم عن ضعيف قد خفي عليهم في بعض الموارد،فتأمّل.

ثالثها:أنّ المشهور بين القدماء عدم العمل بالخبر الواحد كما تقدّم،فكيف يسند إليهم أنّهم عملوا بمرسلاتهم؟

و فيه أنّه أخبر بأمرين:أحدهما أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و ثانيهما أنّ الأصحاب عملوا بمرسلاتهم،و عدم ثبوت الأمر الثاني لا يضرّ بدعواه الاولي.

و الانصاف أنّ الوثوق بكون إخبار الشيخ عن ذلك أمرا حسّيا أو قريبا منه مشكل، و سيأتي الكلام عليه.

الموضع الثاني:خصوص مرسلات ابن أبي عمير؛لأنّ النجاشي قال:فلهذا انّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيله (2).

و نوقش فيه أوّلا:باحتمال أن لا يكون هذا كلام النجاشي،بل يكون تتمّة للكلام الذي حكاه بقوله«و قيل»و ثانيا:أنّ السكون بمعني عدم الاعتراض علي ابن أبي عمير في إرساله لا العمل به.6.

ص: 495


1- عدّة الاصول ص 356.
2- رجال النجاشي ص 326.

قلت:الظاهر من عبارة النجاشي هو العمل،أي:يسكنون عن احتمال أن يكون ما أرسله غير مودع في الكتب المعتبرة؛لأنّهم علموا أنّ مرسلاته عين مسنداته، فكما أنّهم يسكنون إلي مسنداته،كذلك يسكنون إلي مرسلاته؛لأنّها كانت مسندة في ضمن كتبه،فلعلّه لبناء الأصحاب علي العمل بالكتب المعتبرة التي منها كتب ابن أبي عمير،و الحاصل أنّ المستفاد من هذه العبارة أنّ حكم هذه المراسيل حكم مسانيد ابن أبي عمير،فمن يعمل بها يعمل بمراسيله أيضا،و لا يدلّ علي حجّية المرسل.

هذا مضافا إلي أنّ الظاهر من قوله«يسكنون إلي مراسيله»إرادة العمل بها،كما هو الظاهر في ترجمة عدّة من الرواة،مثل قول النجاشي في ترجمة محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب:جليل من أصحابنا،عظيم القدر،كثير الرواية،ثقة عين، حسن التصانيف،مسكون إلي روايته (1).انتهي.

ثمّ إنّه ذكر في مقباس الهداية أنّ للقائلين بحجّية المرسل المذكور مسلكين:

أحدهما:أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة.و نوقش عليه بأنّه شهادة علي مجهول.ثمّ ذكر مناقشة الشهيد في الدراية و صاحب البشري و المحقّق في المعتبر فلاحظ.

ثانيهما:ما حكاه عن الميرزا القمّي من أنّه لو فرض أنّ الواسطة كان فاسقا يجوز العمل بروايته بعد التثبّت،و التثبّت يتحقّق بما ذكره الشيخ في العدّة أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و بما ذكره الكشي من إجماع العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنهم،و ما ذكره النجاشي من أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيلهم،فإنّ رواية ابن أبي عمير يفيد الاطمئنان بكون المروي عنه ثقة معتمدا عليه،و ليس الاطمئنان الحاصل من ذلك بأقلّ من الاطمئنان الحاصل من توثيق من لم يدرك الراوي من0.

ص: 496


1- رجال النجاشي 2:220.

علماء الرجال،كما لا يخفي (1).

أقول:فيه أوّلا:أنّ التبيّن هو العلم الذي لا يكون فيه احتمال الخلاف،كما تقدّم.

و ثانيا:أنّ الاطمئنان بصدور الخبر لا يحصل من هذه الكلمات،فانتظر زيادة تحقيق.

الموضع الثالث:إذا قال الصدوق:قال الصادق عليه السّلام،فإنّه يعتمد عليه لأنّه لا يكذب،و إذا قال:روي عن الصادق عليه السّلام،فلا يكون حجّة.

و اعترض عليه في كشف القناع،حيث قال في مقام الردّ علي دعوي حجّية قطع الثقة مثل قول الصدوق قال الصادق عليه السّلام:و أمّا ما صدر من جملة من الأعاظم من الاعتماد علي مراسيل الصدوق في الفقيه،و غيره نادرا،و ما صدر من غيرهم ممّن لا يعتمد عليه من الاعتماد عليها دائما أو كثيرا،و لا سيّما إذا كان الارسال بلفظ«قال الصادق عليه السّلام»مثلا لا نحو روي و شبهه.

فالأوّل مبني علي المسامحة في الاستدلال،حيث يوجد دليل آخر علي الحكم ينهض بالحجّة بدونها،كما أشرنا إليه سابقا،و لذا لم يعتدوا بها غالبا.

و الثاني علي الغفلة و الجهالة،كما بيّن في محلّه مفصّلا.

علي أنّ الارسال بلفظ«قال»فضلا عن روي و نقل،مع عدم العلم بصدور القول من المنسوب إليه شايع متداول بين الأصحاب و غيرهم في نقل الأخبار و الأقوال في الأحكام الشرعيّة و غيرها إلي آخر كلامه (2).

أقول:ذكر الصدوق في أوّل الفقيه أنّه يورد في كتابه ما هو حجّة بينه و بين ربّه، فيمكن أن يقال:لا فرق عنده بين ما قال فيه:و قال الصادق عليه السّلام،و بين ما قال فيه:7.

ص: 497


1- مقباس الهداية ص 48-49.
2- كشف القناع ص 407.

و روي عن الصادق عليه السّلام.و أمّا احتمال الفرق بينهما مع حجّيتهما بأنّه قطع بقول الصادق عليه السّلام في الأوّل،بخلاف الثاني فإنّه حجّة بينه و بين ربّه فقط،فهو غير معلوم.

ثمّ إنّ لازم ذلك أن يكون مرسلات الصدوق أقوي من مسنداته،مع أنّه ليس كذلك للعلم بأنّه لم يلق الصادق عليه السّلام،و لأنّ منشأه الأسانيد الموجودة في كتاب آخر،أو اعتماده علي شيخه،و علي كلّ فمع بعد العهد لا يكون إخبارا عن حسّ، بل بواسطة اعتمد عليها،و لعلّه يعتقد أنّ الكتب المشهورة المعروفة صادرة عن المعصومين عليهم السّلام قطعا.

و من ذلك يظهر أنّ دعوي حجّية مراسيل الكليني مبنيّة علي ما ذكره من ايراده الأخبار الصحيحة،فليس ذلك لقطعه بل لكونه يحتمل وصوله إليه مسندا.

الموضع الرابع:إذا كان المرسل عنه عدّة،مثل أن يقول:أبان عن عدّة،أو غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،فهل هو مرسل أم ملحق بالصحيح؟عبّر العلاّمة المجلسي رحمه اللّه عن مثله بالمرسل كالصحيح،و قيل بحجّيته؛لأنّ العدّة تشتمل علي جماعة و يبعد اجتماعهم علي الكذب.

الموضع الخامس:ما اختاره المحقّق في المعارج،قال:المسألة الخامسة:إذا قال أخبرني بعض أصحابنا و عني الاماميّة يقبل و إن لم يصفه بالعدالة إذا لم يصفه بالفسوق؛لأنّ إخباره بمذهبه شهادة بأنّه من أهل الأمانة و لم يعلم منه الفسوق المانع من القبول،فإن قال عن بعض أصحابه لم يقبل؛لإمكان أن يعني نسبته إلي الرواة أو أهل العلم،فيكون البحث فيه كالمجهول (1)انتهي.

و فيه أوّلا:أنّ«بعض أصحابنا»أعمّ من أن يكون من الشيعة الاثني عشريّة، كما قال الشيخ في أوّل الفهرست:فإنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أرباب الاصول8.

ص: 498


1- معارج الاصول ص 217-218.

ينتحلون المذاهب الفاسدة.

و ثانيا:أنّ كونه من الشيعة الاماميّة أعمّ من كونه عادلا.

إن قلت:إنّ المحقّق يدّعي أنّ الفقهاء يكتفون في حجّية الخبر بأن يكون الراوي من الشيعة الاثني عشريّة إن لم يظهر منه فسق.

قلت:أوّلا أنّه لم ينسب ما ذكره إلي الفقهاء.

و ثانيا:أنّه مذهبه في هذا الكتاب،و هو مخالف لمذهبه في أوّل المعتبر.

و ثالثا:أنّه مناف لما ذكره في المسألة الثامنة من اعتبار الضبط في الراوي،فإنّ كونه من الشيعة لا يدلّ علي كونه ضابطا.

الموضع السادس:الحق بمرسل ابن أبي عمير مرسل الشيخ الطوسي و ابن أبي عقيل و ابن الجنيد و النجاشي،لاحظ مقباس الهداية (1).

الموضع السابع:قيل:إذا قيل عن بعض رجاله،مثل أن يقال:يونس عن بعض رجاله،فلعلّه ظاهر في من يعتمد عليه و يتخذه ليكون من رجاله في الحديث.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:أنّ لفظ الخبر ربّما يكون صريحا في عدم الارسال،مثل قوله«سمعت»

و ربّما يكون صريحا في الارسال،مثل عن بعض أصحابنا،و قد يكون محتملا لهما،مثل قوله«قال فلان»فإنّه يحتمل سماعه عنه،و يحتمل عدم سماعه،و نسب القول إليه اعتمادا علي الواسطة التي لم يذكرها.

التنبيه الثاني: في إعراض المشهور عن الخبر المعتبر

أنّ الخبر المعتبر سواء كان صحيحا أو حسنا أو موثّقا أو مرسلا معتبرا، إن أعرض المشهور عنه،فهل يوجب ذلك سقوطه عن الحجّية أم لا؟فيه كلام يأتي.

ص: 499


1- مقباس الهداية 3:49.

الصنف الثالث:ما اشتمل علي مجهول أو مهمل أو مطعون،و أدلّة الحجّية لا تشمله.

ثمّ إنّ الضعيف بأقسامه له تقسيم آخر،و هو أنّه قد يكون مشهورا،و قد يكون غير مشهور،فنقول:

أمّا الأوّل:و هو الخبر المشهور فهو أقسام:

أحدها:الخبر الذي روي مضمونه كثير من الرواة الذين لم يحرز عدالتهم و لا وثاقتهم و لا حسنهم،و لم يثبت عمل الرواة به و لا إعراضهم عنه،بل كان مضمونه منقولا،فإن حصل سكون النفس الذي لا يعتني باحتمال خلافه عند العقلاء إلي صدوره عن المعصوم عليه السّلام فهو حجّة؛لبناء العقلاء و عدم الردع،بل يدلّ عليه مقبولة ابن حنظلة،فإنّ المراد بالشهرة فيها الشهرة في الرواية بين أصحاب عمر بن حنظلة و هم الرواة.و إن لم يحصل الوثوق و سكون النفس،فليس بحجّة،و لكن لا بدّ من الاحتياط في العمل بالخبر المذكور لما تقدّم و يأتي.

ثمّ إنّه يستفاد من كلام الشيخ المفيد رحمه اللّه اعتبار الخبر المشهور،قال في شرح اعتقادات الصدوق رحمه اللّه:ليس كلّ حديث عزي إلي الصادقين عليهم السّلام حقّا عنهم،و قد اضيف إليهم ما ليس بحقّ عنهم،و من لا معرفة له لا يفرق بين الحقّ و الباطل.

إلي أن قال:إلاّ أنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد انتشار الصحيح المصدوق علي الأئمّة عليهم السّلام فيه،و ما خرج للتقيّة لا يكثر روايته عنهم،كما تكثر رواية المعمول به،بل لا بدّ من الرجحان في أحد الطرفين علي الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرناه،و لم تجمع العصابة علي شيء كان الحكم فيه تقيّة،و لا شيء دلس فيه و وضع مخروصا عليهم و كذب في إضافته إليهم،فإذا وجدنا أحد الحديثين متّفقا علي العمل به دون الآخر،علمنا أنّ الذي اتّفق علي العمل به هو الحقّ في ظاهره و باطنه،و أنّ الآخر غير معمول به:إمّا للقول فيه علي وجه التقيّة،

ص: 500

أو لوقوع الكذب فيه.

و إذا وجدنا حديثا يرويه عشرة من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام يخالفه حديث آخر في لفظه و معناه،و لا يصحّ الجمع بينهما علي حال رواه اثنان أو ثلاثة،قضينا بما رواه العشرة و نحوهم علي الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة،و حملنا ما رواه القليل علي وجه التقيّة أو توهّم ناقله.

و إذا وجدنا حديثا قد تكرّر العمل به من خاصّة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام في زمان بعد زمان و عصر إمام بعد إمام،قضينا به علي ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرّر الرواية و العمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه.

فإذا وجدنا حديثا رواه شيوخ العصابة و لم يوردوا[يرووا]علي أنفسهم خلافه،علمنا أنّه ثابت و إن روي غيرهم ممّن ليس في العداد و في التخصيص بالأئمّة عليهم السّلام مثلهم؛إذ ذاك علامة الحقّ فيه،و فرق ما بين الباطل و بين الحقّ في معناه،و إنّه لا يجوز أن يفتي الامام علي وجه التقيّة في حادثة،فيسمع ذلك المختصّون بعلم الدين من أصحابهم،و لا يعلمون مخرجه علي أيّ وجه كان القول فيه،و لو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة،لا سيّما و هم المعروفون بالفتيا و الحلال و الحرام و نقل الفرائض و السنن و الأحكام إلي آخر كلامه (1).

ثانيها:الخبر الذي يطابقه عمل جميع الشيعة،أو جميع المسلمين،بحيث ينتهي إلي تقرير المعصوم،فالظاهر كونه حجّة إذا علم أو حصل الوثوق بكونه كذلك إلي زمان المعصومين عليهم السّلام.

ثالثها:الخبر الذي يوافقه عمل كثير من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و بطانتهم و خواصّهم،و الظاهر أنّ عملهم يكشف علما عاديا عن صدور الخبر عن4.

ص: 501


1- شرح اعتقادات الصدوق ص 264.

المعصوم عليه السّلام و إن لم يستندوا إليه.

لكن قال في كشف القناع:إنّ عملهم و آراءهم لا يوجب العلم بالحكم لامور تعرّضنا لها في بحث الاجماع،لكن يظهر منه تسليم كشفه عن الحجّة المعتبرة،كما تقدّم في بحث الاجماع (1).

رابعها:الخبر الذي يوافقه شهرة فتوي قدماء العلماء بدون الاستناد إليه،فإن لم يحتمل عادة استنادهم إلي دليل قابل للمناقشة أو وجه اعتباري،ففي مثل ذلك يكشف عن وجود نصّ معتبر عندهم،أو وصول الحكم إليهم يدا بيد عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،أو عن شهرة عند رواة الأئمّة عليهم السّلام التي تكشف عادة عن أخذهم عن الأئمّة عليهم السّلام،فيكون مضمون هذا الخبر علي جميع هذه الوجوه صحيحا.

بل قد يقال:إنّ مجرّد شهرة فتواهم في الفرض المزبور يكشف عن وجود نصّ معتبر عندهم؛لأنّهم لم يكونوا يفتون علي القواعد الاصوليّة،بل كان دأبهم الافتاء علي طبق النصّ،و قد مرّ الكلام فيه في بحث الشهرة و الاجماع،و ذكرنا أنّه لا يكشف علما عن ذلك،و قلنا إنّه لا بدّ من الاحتياط في العمل به.

و أمّا إن احتمل استناد فتواهم إلي أمر اجتهادي،كالاستظهار من خبر صحيح موجود عندنا و نحو ذلك،فلا توجب شهرة فتواهم حجّية هذا الخبر،و كذلك موافقة شهرة فتوي المتأخّرين لا توجب حجّية الخبر؛لعدم حجّية آرائهم و اجتهاداتهم علي مجتهد آخر.

و قال الشهيد في الدراية في الطعن علي كون الشهرة جابرة لضعف الخبر:إنّا نمنع من كون هذه الشهرة التي ادّعوها مؤثّرة في جبر الخبر الضعيف،فإنّ هذا إنّما9.

ص: 502


1- كشف القناع ص 69.

يتمّ لو كانت الشهرة متحقّقة قبل زمن الشيخ،و الأمر ليس كذلك فإنّ من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقا،كالسيّد المرتضي و الأكثر علي ما نقله جماعة،و بين جامع للأحاديث من غير التفات إلي تصحيح ما يصحّ وردّ ما يردّ، و كان البحث عن الفتوي مجرّدة لغير الفريقين قليلا جدّا،كما لا يخفي علي من اطّلع علي حالهم،فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشيخ علي وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقّق،و لمّا عمل الشيخ بمضمونه في كتبه الفقهيّة جاء من بعده من العلماء و اتّبعه منهم عليها الأكثر تقليدا له إلاّ من شذّ منهم إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ كلامه أعمّ ممّا إذا استند المشهور إلي العمل بالخبر،أو كانت الشهرة موافقة للخبر،و كأنّه اعترف بأنّ الشهرة جابرة لكنّها ليست شهرة حقيقة لاستنادها إلي الشيخ فقط.

خامسها:الخبر الذي استند إليه قدماء الأصحاب،بحيث علم انحصار مدركهم فيه،و هو تارة يكون راويه معلوم الاسم مجهول الحال،و ثانية يكون مجهول الاسم و الحال،و ثالثة يكون متّصفا بما يمنع عن قبول خبره.

ففي الأوّل يمكن أن يكون استنادهم توثيقا للراوي لجهلنا بحاله،فيصحّ أن يقال:إنّ الخبر مجبور بالشهرة.ولكن فيه نظر؛لأنّه يحتمل أن يكون استنادهم إليه لوجود قرينة عندهم موجبة لعلمهم بصدق الراوي في هذا الخبر لو اطّلعنا عليها لم نعتمد عليها،أو كان استنادهم إلي الخبر من أجل وجوده في الكتب التي كانت محلّ العمل و الاعتماد،و ذلك لعدم حصر الخبر الحجّة عند القدماء في خصوص ما كان رواته ثقات.

و في الثاني يمكن أن يكون استنادهم توثيقا،ولكن فيه نظر أوّلا:ما مرّ من7.

ص: 503


1- الدراية ص 27.

احتمال كون استنادهم إليه لقرينة لم نكن نعتمد عليها لو اطّلعنا عليها.

و ثانيا:أنّه يمكن أن يكون الراوي بحيث لو علمنا اسمه عرفنا ضعفه.

و لا يخفي أنّ القرينة التي يعتمد عليها القدماء المطّلعون العلماء الأتقياء،ينبغي أن نعتمد عليها لو وصلتنا،و أيضا لا طريق إلي إحراز ضعف الراوي لو اطّلعنا علي اسمه بحيث يحكم بضعفه،حتّي في هذا الخبر الذي عملوا به و استندوا إليه.

و في الثالث قيل:إنّه لا يحتمل أن يكون استنادهم إليه توثيقا للراوي؛لأنّه علي الفرض ضعيف،فينحصر أن يكون لقرينة أوجبت وثوقهم بصدق الراوي،و هو لا يكون حجّة لنا؛لأنّه ربّما لا تكون القرينة التي كانت عندهم حجّة لنا لو عرفناها.

و فيه نظر؛لأنّه لو ثبت ضعف الراوي في جميع الأزمنة كان للمناقشة المذكورة مجال،و لكن لا يثبت بقول الرجاليّين ضعف الراوي في جميع أحواله،فلعلّه كان ثقة حال هذه الرواية،و علي كلّ حال فاستنادهم إليه لو كان لتوثيق الراوي حال الرواية فهو جابر لضعفه،و إلاّ فلا.

و قال في نهاية الدراية:إنّ دليل حجّية الخبر حيث دلّ علي حجّية الخبر الموثوق بصدوره،فإذا حصل الوثوق بصدوره و لو من طريق غير معتبر،فقد تحقّق موضوع الحكم وجدانا،فيعمّه دليل الحجّية،هذا كلّه في الكبري.و أمّا الصغري،فربّما يجعل منها استناد المشهور إلي الخبر الضعيف.

إلي أن قال:إنّ استناد المشهور إلي الخبر لعلّه من أجل الوثوق بخبره شخصا، لقرينة لا توجب الوثوق نوعا،فمجرّد العمل لا يكشف عن قرينة نوعية موجبة للوثوق،بل عن وثوقهم شخصا فعلا و هو غير حجّة إلاّ للشخص،فتدبّر.

نعم الانصاف أنّ استناد المشهور إذا كشف عن ظفر الكلّ بموجب الوثوق كان ذلك مفيدا للوثوق نوعا،لكنّه غالبا ليس كذلك،بل الغالب في تحقّق الشهرة تبعيّة

ص: 504

المتأخّر للمتقدّم في الاستناد إلي ما استند إليه لحسن ظنّه به (1).

أقول:لو كان بناء القدماء في العمل بالأخبار منحصرا في العمل بالأخبار الصحيحة أو الموثّقة أو الحسنة و نحوها،أمكن تسليم ما ذكره،لكن لم يعلم كيفيّة عملهم.و يحتمل أن يكون اعتمادهم علي الخبر من أجل وجوده في بعض الكتب التي يعتمد عليها لقرائن عندهم لم يثبت تماميّتها عندنا.

و الحاصل أنّه يمكن منع حصول الوثوق النوعي بصحّة مضمون الخبر من استناد مشهور القدماء إلي الخبر.

نعم تقدّم في القسم الرابع أنّه لا بدّ من الاحتياط في مثل ذلك،سواء استندوا إلي الخبر أو لم يستندوا،ثمّ إنّه لو سلّم حصول الوثوق النوعي،لكن لم يثبت كفاية الوثوق لأنّه ظنّ قوي لم يثبت حجّيته.

و قد اكتفي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بالوثوق بالصدور،و انّه يكفي الظنّ الاطمئناني،قال في الشهرة الجابرة الموجبة للظنّ:و إن اريد البالغ حدّ الاطمئنان، فله وجه،غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت و لو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان،و لا يختصّ بالشهرة،فالآية تدلّ علي حجّية الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان،و لا بعد فيه،و قد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده،أو يدلّ عليه من حكايات الاجماع و الاخبار (2)انتهي.

قلت:ظاهره صدق التبيّن المأمور به في الآية علي الاطمئنان،لكن تقدّم ضعفه.

و قال في الكفاية في جبر الظنّ الذي لم يقم دليل علي حجّيته لسند الخبر:فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظنّ بصدوره،أو بصحّة مضمونه و دخوله بذلك2.

ص: 505


1- نهاية الدراية 2:166.
2- فرائد الاصول ص 292.

تحت ما دلّ علي حجّية ما يوثق به،فراجع أدلّة اعتباره (1)انتهي.

و كلامه أعمّ من الظنّ الحاصل من الشهرة و من غيرها.

أقول:لم يثبت عندنا حجّية الوثوق بالصدور أو المضمون،مع أنّه لا يحصل ذلك بالظنّ.

ثمّ إنّ المحقّق رحمه اللّه قال في أوّل المعتبر:و اقتصر بعض عن هذا الافراط،فقال:

كلّ سليم السند يعمل به و ما علم أنّ الكاذب قد يلصق و الفاسق قد يصدق،و لم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة و قدح في المذهب؛إذ لا مصنّف إلاّ و هو يعمل بخبر المجروح،كما يعمل بخبر الواحد المعدّل.

إلي أن قال:و التوسّط أصوب،فما قبله الأصحاب و دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطراحه،ثمّ ذكر الأدلّة علي عدم العمل بالخبر الخالي عن المزيّة.

إلي أن قال:و لا يقال الاماميّة عاملة بالأخبار و عملها حجّة.لأنّا نمنع ذلك، فإنّ أكثرهم يرد الخبر بأنّه واحد و بأنّه شاذّ،فلو لا استنادهم مع الاخبار إلي وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا،و هذا لا يظنّ بالفرقة الناجية.

و أمّا أنّه مع عدم الظفر بالطاعن و المخالف لمضمونه يعمل به،فلأنّ مع عدم الوثوق علي الطاعن و المخالف له يتيقّن أنّه حقّ؛لاستحالة تمادي الأصحاب علي القول بالباطل و خفاء الحقّ بينهم،و أمّا مع القرائن فلأنّها حجّة بانفرادها، فتكون دالّة علي صدق مضمون الحديث،و يراد بالاحتجاج به التأكيد الي آخر كلامه (2).

قلت:مراده من قوله في صدر كلامه«أو دلّت القرائن علي صحّته»هي القرائن0.

ص: 506


1- كفاية الاصول ص 381.
2- المعتبر 1:29-30.

التي تكون حجّة بانفرادها،كعموم الكتاب و الاجماع و نحوهما،فيكون المستفاد من مجموع كلامه أنّ الخبر المعمول به يعمل به لا لكشفه عن كون الراوي ثقة،بل لأنّ طرحه يكون قدحا في علماء الفرقة الناجية،و كذلك يظهر من الشيخ الطوسي أنّ الخبر المطابق لفتوي الطائفة يكون مجمعا علي صحّته،و لعلّه لا يريد فتوي جميع الطائفة بل مشهورهم.

قال الشيخ رحمه اللّه في العدّة في البحث عن جواز العمل بالأخبار التي يخصّ بها عموم الكتاب،قال:ما دلّ علي عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار من إجماعهم علي ذلك،لم يدلّ علي العمل بما يخصّ القرآن،و يحتاج في ثبوت ذلك إلي دلالة، بل قد ورد عنهم ما لا خلاف فيه من قولهم«إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه علي كتاب اللّه فإن وافق كتاب اللّه فخذوه،و إن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»علي حسب اختلاف الألفاظ فيه،و ذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القرآن.

إلي أن قال:إنّ الأخبار الصادرة من جهتهم علي ضربين:أحدهما أن يكون خبرا و ليس هناك ما يخالفه،و يكون فتيا الطائفة به،فما هذا حكمه يكون مجمعا علي صحّته و يجوز العمل به و تخصيص العموم به،و إن كان هناك ما يخالفه من الأخبار،فالعمل بما يطابق العموم أولي؛لأنّه يصير معلوما صحّته مثل العموم، و بيّنا أنّ ذلك وجه يرجّح به أحد الخبرين علي الآخر.و إن كان خبر لا يعلم فتيا الطائفة أصلا فيه و هناك عموم يقتضي خلافه،فالعمل بالعموم أولي بما قدّمناه من الدلالة (1)انتهي.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)ذكر وجوها لمستند المشهور في كون الشهرة1.

ص: 507


1- عدّة الاصول 1:350.
2- فرائد الاصول ص 291.

في الفتوي جابرة لضعف سند الخبر:

أحدها:من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر.

و اورد عليه أوّلا:بأنّه لا يفيد الظنّ بالصدور،بل يفيد الظنّ بمضمون الخبر.

و ثانيا:أنّ جلّ الأصحاب لا يقولون بحجّية الخبر المظنون مطلقا؛لأنّ المحكي عن المشهور اعتبار الايمان في الراوي،و لازمه أن لا يكون خبر الموثّق حجّة،مع أنّه يفيد الظنّ،و الفرق بين الموثّق بعدم حجّيته و بين الخبر الضعيف المجبور بالشهرة بالقول بحجّيته في غاية الاشكال.

ثانيها:الاجماع.

و فيه أنّه لم يثبت.

ثالثها:أنّ التبيّن المأمور به في آية النبأ يشمل الظنّ الحاصل من ذهاب المشهور إلي مضمون الخبر.

و فيه أنّ شموله لمطلق الظنّ بعيد،نعم شموله للظنّ الاطمئناني غير بعيد،ولكن لا يختصّ بالشهرة،بل الآية تدلّ علي حجّية الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان علي إشكال في صدق العلم عليه.

رابعها:الأمر بالأخذ بالمشهور في مقبولة عمر بن حنظلة و مرفوعة زرارة،فإنّ المراد بالشهرة فيهما شهرة الرواية،كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك فإنّهما معا مشهوران.هذا ما يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

أقول:نمنع كون عمل المشهور بالخبر موجبا للوثوق و الاطمئنان بالصدور أو بصحّة المضمون،و تقدّم منع صدق التبيّن علي الوثوق بل منع صدقه علي العلم، فإنّ التبيّن هو التفحّص عن ثبوت الشيء بحيث يصير وجوده أو عدمه كالمحسوس،و تقدّم في محلّه أنّ المراد بالشهرة في المقبولة و المرفوعة هي شهرة الرواية التي عليها العمل عند أصحاب عمر بن حنظلة و زرارة،و شهرة الخبر

ص: 508

عندهم توجب الاطمئنان بل العلم بصدوره عن المعصوم.

ثمّ إنّ الأحوط كما تقدّم مراعاة شهرة فتوي القدماء في المسائل الأصليّة المذكورة في كتبهم،كالمقنع و الهداية و المقنعة و كتب السيّد المرتضي و النهاية و الكافي و المهذّب و المراسم و نحوها؛لاحتمال وصول نصّ معتبر إليهم،و لو لاحتفافه بقرينة توجب اعتباره،أو كون المسألة مشهورة بين الشيعة بحيث وصلت إليهم يدا بيد من زمان المعصومين عليهم السّلام.

و أمّا الثاني و هو الخبر غير المشهور،فهو مقابل المشهور بأقسامه الخمسة المتقدّمة،فمقابل الأقسام الأربعة الاولي ليس بحجّة،و قد أشار إلي بعض ذلك الشيخ المفيد رحمه اللّه و قد حكينا كلامه فلاحظ.

و أمّا مقابل القسم الخامس،أي:الخبر المخالف للشهرة الفتوائية من قدماء الأصحاب،فإن كان إعراضهم كاشفا عن خلل في سند الخبر:إمّا لقرينة موجبة للعلم بخطأ المخبر قد عثروا عليها أو لغيرها،و إمّا لخلل في الدلالة لاحتفاف الكلام بما يوجب عدم انعقاد الظهور له،فلا ينبغي الاشكال.و إن لم يكشف عن ذلك،بل احتمل كونه لاجتهادهم و اعتمادهم علي خبر آخر أظهر بنظرهم،فلا يوجب سقوط الخبر عن الحجّية،لكن لا بدّ من الاحتياط فيما إذا كان الخبر بمرأي من القدماء و أعرضوا عن الفتوي علي طبقه كما تقدّم.

و في الكفاية لا يسقط الخبر عن الاعتبار،قال:و عدم و هن السند بالظنّ بعدم صدوره إلي آخر كلامه (1).

أقول:ينبغي مراعاة شهرة القدماء إن أعرضوا عن الخبر.

الصنف الرابع:ما رواه العامّة،ذكر الشيخ الطوسي رحمه اللّه أنّ ما رواه العامّة و ان لم1.

ص: 509


1- الكفاية ص 381.

يكونوا ثقات عن أئمّة أهل البيت فيما إذا لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك و لا يخالفه و لا يعرف لهم قول فيه،يجب العمل به لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلي ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به،و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلوب و نوح بن درّاج و السكوني،و غيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السّلام فيما لم ينكروه،و لم يكن عندهم خلافه (1)انتهي.

أقول:قد حقّق في محلّه أنّ موضوع كلامه أعمّ من أخبار ثقاتهم،كما يشهد له أيضا إطلاق الرواية التي ذكرها.

ولكن يرد عليه أوّلا:أنّ الرواية مرسلة.و ثانيا:أنّها مختصّة بما رووه عن علي عليه السّلام و لا تعمّ غيره.

و ثالثا:أنّ عمل الأصحاب لعلّه أعمّ،فيجعلون أخبار المذكورين معارضة لسائر الأخبار فتأمّل.

و رابعا:أنّه يمكن أن يكون وجه عملهم هو الاعتماد علي نقل الثقات و ايداعهم في كتبهم المعتمدة لا لهذه الرواية المرسلة.

الصنف الخامس:الخبر الشاذّ،و هو الخبر المخالف للسنّة القطعيّة،كخبر عمّار الدالّ علي بلوغ البنت في ثلاث عشرة سنة،و هذا القسم ليس حجّة و إن كان سنده صحيحا،و وجهه واضح.9.

ص: 510


1- عدّة الاصول ص 379.
المطلب الرابع: في طرق إثبات العدالة و الوثاقة
اشارة

المطلب الرابع: في طرق إثبات العدالة و الوثاقة (1)

قد تلخّص من جميع ما ذكر أنّ المستفاد من مجموع أدلّة حجّية خبر الواحد حجّية خبر المعلوم كونه عادلا واقعا الضابط المخبر عن أمر محسوس بنفسه أو بآثاره،أو الأعمّ منه و من الثقة المتحرّز عن الكذب الضابط المخبر عن محسوس بنفسه أو بآثاره،فيقع الكلام في إثبات ذلك.

فنقول:تثبت العدالة و الوثاقة بالمعاشرة المفيدة للعلم،و هو سكون النفس بعد التأمّل و التحقيق،أو للاطمئنان بناء علي حجّيته،بشرط أن لا يكون المعاشر من بسطاء الناس الذين يثقون بأدني شيء.

و بالشياع المفيد للعلم،أو للاطمئنان بناء علي حجّيته،بشرط أن يكون الشياع في جميع الأعصار السابقة.

و بالقرائن المفيدة للعلم،أو الوثوق و الاطمئنان بناء علي حجّيته،مثل كونه مرجعا للفقهاء،و ممّن اعتمد عليه المشايخ في التوثيق و التضعيف،و يمكن أن يجعل من ذلك إبراهيم بن هاشم،فإنّ إكثار رواية ابنه الجليل علي بن إبراهيم عنه، و إكثار ايراد الكليني رواياته في الكافي،و ما قيل في حقّه من أنّه أوّل من نشر حديث الكوفيّين في قم،و أمثال هذه القرائن تفيد الوثوق بوثاقته.

و قد يقال بثبوتها بامور:

ص: 511


1- لا يخفي أنّ الامور المذكورة في هذا المطلب من التشكيك في بعض الكتب و التشكيك في التوثيقات و التضعيفات و غيرها يحتاج إلي التثبّت و التتبّع،و ما ذكرناه فقد ذكرناه احتمالا و ابداء لبعض الشبهات حتّي يتثبّت في مقام ردّ الأخبار،و المرجوّ أن لا يعتمد القاريء علي هذه الأوراق ما لم يتثبّت بنفسه،و كذا سائر المطالب التي ذكرناها في هذا الكتاب،فإنّ الانسان لا يصل إلي الواقع إلاّ العالم المعصوم.
الأمر الأوّل:حجّية قول الرجاليين و عدمها
اشارة

قول الرجاليّين،و حجّية قولهم من وجوه:

أحدها:كونهم أهل الخبرة،فلا فرق بين قدمائهم و متأخّريهم،و لا يعتبر التعدّد و لا العدالة،و لا الاخبار عن محسوس بنفسه أو بآثاره،بل يكفي إخبار من كان من أهل الخبرة عن رأيه بشرط أن لا يكون كاذبا في إخباره عن رأيه،فقول أهل الخبرة من حيث أنّهم أهل الخبرة حجّة؛لاتّفاق العقلاء عليه،و عدم ردع الشارع عن اتّفاقهم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد في الاستدلال علي حجّية قول اللغوي:

قال الفاضل السبزواري رحمه اللّه فيما حكي عنه في هذا المقام ما هذا لفظه:صحّة المراجعة إلي أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر و زمان انتهي.أي كلام الفاضل السبزواري.

و فيه أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا،ألا تري أنّ أكثر علمائنا علي اعتبار العدالة في من يرجع إليه من أهل الرجال،بل و بعضهم علي اعتبار التعدّد إلي آخر ما أفاده (1).

و ظاهر ايراده علي الفاضل السبزواري رحمه اللّه اعتباره الاخبار عن محسوس بنفسه أو بآثاره؛لأنّه يعتبر في الشهادة العدد و العدالة و الاخبار عن حسّ أو محسوس بآثاره،فلازم ما ذكره إنكار حجّية قول أهل الخبرة من حيث هو،و لذا لا يكون فتوي المجتهد حجّة علي مجتهد آخر،بل ليس حجّة علي مقلّد من حيث كونه من أهل الخبرة.

ص: 512


1- فرائد الاصول ص 75.

لكن قال:و أمّا المقلّد فلا كلام في نصب الطريق الخاصّ له،و هو فتوي مجتهده مع احتمال عدم النصب في حقّه أيضا،فيكون رجوعه إلي المجتهد من باب الرجوع إلي أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء،و يكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريرا لهم لا تأسيسا (1)انتهي.

قلت:لا إشكال في المراجعة إلي أهل الخبرة،فمن يريد علم الفلسفة لا يرجع إلي البقّال و البزّاز،و يرجع إلي أهل الخبرة في كلّ فنّ لتحصيل علم ذلك الفنّ منهم، و إنّما الكلام في أنّه هل يرجع إليهم و يؤخذ قولهم تعبّدا و إن لم يحصل العلم من قولهم أم لا؟بل يرجع إليهم ليحصل العلم،فإنّما يؤخذ عنهم إذا حصل سكون النفس إلي قولهم.

و الرجوع إلي أهل الخبرة و قبول قولهم تعبّدا محلّ إشكال.

أمّا أوّلا:فبمنع رجوع العقلاء الذين يعتني بهم في امورهم إلي أهل الخبرة ما لم يطمئنّوا باخبارهم و بخبرويّتهم،فإذا كان الأمر ممّا يهتمّ به مثل أن كان المريض في خطر يخاف عليه و كان ممّن يهتمّ بشأنه،فلا يراجعون في معالجته إلي كلّ من كان طبيبا،بل يراعون من يثقون به،نعم ربما يكون المرض ممّا لا يهتمّ به،أو ينحصر العلاج في الرجوع إلي طبيب معيّن فهو أمر آخر.

و علي كلّ حال ففي الامور المهمّة لم يثبت بناؤهم،و من المعلوم أن لا أمر أهمّ من أحكام الدين،فإنّ العمل بها و تركه يوجب دخول الجنّة و النار.

و ثانيا:لو سلّم رجوع العقلاء إلي أهل الخبرة مطلقا و إن لم يحصل العلم،فهو خاصّ بما إذا كان إخبارهم مستندا إلي امور محسوسة بنفسها أو بآثارها،و أمّا إذا أخبروا مستندين إلي بعض ظنونهم فلم يثبت بناؤهم علي الرجوع إليهم،و لذا لا4.

ص: 513


1- فرائد الاصول ص 214.

تثبت نجاسة الشيء و لا حرمته بفتوي مجتهدين عادلين؛لاستناد قولهما إلي الرأي،مع أنّهما من أهل الخبرة في الفقه.

و بعبارة اخري:الرجوع إلي أهل الخبرة المعتبر عند العقلاء إنّما يكون فيما إذا أخبر أهل الخبرة عن أمر محسوس بنفسه أو بآثاره.

و ثالثا:و هو العمدة الآيات و الروايات الرادعة عن العمل بغير العلم،و لا دليل علي تخصيصها يدلّ علي جواز الاعتماد علي غير العلم بالأخذ بقول أهل الخبرة.

و ممّا ذكرنا من اشتراط استناد أهل الخبرة إلي أمر محسوس بنفسه أو بآثاره، ظهر عدم حجّية أقوال متأخّري الرجاليّين؛لأنّهم إمّا ناقلون لكلام المتقدّمين،و إمّا يجتهدون بالجمع بين أقوال المتقدّمين و ترجيح بعضه علي بعضها،و يعتمدون علي قرائن زعموا دلالتها علي الوثاقة أو الضعف،بخلاف المتقدّمين فإنّهم لا يستندون إلي آرائهم في جميع الموارد،فربّما يثبت عندهم وثاقة الأشخاص بالمعاشرة أو الشهرة أو غيرهما.

نعم لا بدّ من الرجوع إلي كتب المتأخّرين،فإنّهم يستدلّون علي وثاقة الرجال و ضعفهم بامور،و يتنبّهون إلي نكات ربما يوجب الاعتقاد بضعف الراوي أو وثاقته،و هذا غير كون قولهم حجّة تعبّدا.

ثانيها:أن تكون حجّية قول الرجاليّين من باب الشهادة،فيعتبر فيها شرائط الشهادة من تزكية العدلين منهم،و لا يكفي تزكية العدل الواحد،اختاره الشيخ حسن رحمه اللّه صاحب المعالم،قال في مقدّمة كتابه منتفي الجمان:إنّ اشتراط العدالة في الراوي يقتضي اعتبار حصول العلم به،و ظاهر أنّ تزكية الواحد لا تفيده بمجرّدها،و الاكتفاء بالعدلين مع عدم إفادتهما العلم إنّما هو لقيامهما مقامه

ص: 514

شرعا (1)انتهي.

قلت:و ظاهر كلامه كفاية تعديل النجاشي و العلاّمة مثلا للراوي؛لتحقّق شهادة عدلين.

و يرد عليه أوّلا:أنّ شرط حجّية خبر الواحد أن يكون الراوي عادلا واقعا أو ثقة واقعا،و الرجاليّون علماء ثقات عدول لا اطّلاع لهم علي الواقع إلاّ في المشهورين أو المعاشرين لهم،فاختلّ أحد شروط الشهادة،و هو الاخبار عن حسّ أو محسوس بآثاره.

و ثانيا:لو سلّم كفاية العدالة الظاهريّة في الراوي،و سلّمنا اطّلاع الرجاليّين عليها،لكن ليس شهادتهم علي العدالة الظاهريّة أو الوثاقة الظاهريّة عن حسّ أو بمحسوس بآثاره في حقّ غير المشهورين و غير المقاربين لعصرهم،بل تستند إلي اجتهادهم.

و ثالثا:في ثبوت حجّية البيّنة مطلقا تأمّل و إشكال،نعم دلّ الدليل علي حجّيتها لاثبات عدالة الشهود عند القاضي و إمام الجماعة و أمثالهما،و أمّا حجّيتها علي عدالة الراوي فهي غير ثابتة؛لأنّه لم يثبت عموم دليل حجّيتها،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:لو ثبت الدليل علي حجّية شهادة العدلين عموما و لم أظفر به كما اعترف به جماعة (2)،و تعرّض لحجّية البيّنة في العوائد،و تعرّضنا في محلّه لعدم ثبوتها في جميع الموارد.

و رابعا:إنّما يتمّ في إخبار المتقدّمين لو لم يعتمد كلّ واحد منهم علي إخبار عدل واحد،قال الشيخ البهائي في أوّل مشرق الشمسين في الايراد علي بعض أفاضل معاصريه المراد به صاحب المعالم ما حاصله:إنّه لا تكفي شهادة الاثنين4.

ص: 515


1- منتفي الجمان 1:16.
2- كتاب الصوم ص 144.

إلاّ إذا كان كلّ واحد منهما يعتمد في التعديل علي شهادة الاثنين،و الذي يستفاد من كلام الكشي و النجاشي و الشيخ و ابن طاووس و غيرهم اعتمادهم في التعديل و الجرح علي النقل عن الواحد الي آخر كلامه (1).

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا تكفي شهادة المتأخّرين من الرجاليّين؛لأنّها غير مستندة إلي الحسّ أو الحدس القريب منه.

ثالثها:أن تكون حجّية قول الرجاليّين من باب إخبار الثقة،و تسمّي بالحجّية من باب الرواية،و إخبار الثقة حجّة في الأحكام و الموضوعات؛لبناء العقلاء علي حجّيته مطلقا إذا علم كون إخباره عن حسّ،بل و لو لم يعلم و احتمل كونه عن حسّ أو حدس لبنائهم علي العمل به ما لم يعلم أنّه عن حدس.

نعم لو لم يحتمل كون إخباره عن حسّ فلا يكون حجّة،و إخبار الرجاليّين الأقدمين كالنجاشي و الكشي و الشيخ و أضرابهم ممّا يحتمل كونه عن حسّ؛لأنّ كتب الرجال كانت كثيرة،و أنهاها بعضهم إلي نيّف و مائة كتاب إلي زمان الشيخ، و ممّا يؤيّد احتمال أن يكون أحوال الرجال مشهورة أنّ النجاشي قد يسند ما يذكره إلي أصحاب الرجال.

و قال الشيخ في العدّة:إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثقات منهم و ضعّفت الضعفاء الي آخر ما ذكره.

فإنّ المستفاد من هذه العبارات أنّ التوثيقات و غيرها كانت من الامور الشايعة المتعارفة بين العلماء،و كانوا ينصّون عليها في كتبهم،و هذا بخلاف إخبار مثل العلاّمة و المحقّق و السيّد التفرشي،فإنّهم يجتهدون في أحوال الرجال من الكتب الخمسة الرجاليّة غالبا،و لم يكن بأيديهم تلك الكتب الرجاليّة التي كانت بأيدي7.

ص: 516


1- مشرق الشمسين ص 47.

الأقدمين.

أقول:حاصل هذا الوجه أنّ كتب الرجال كانت كثيرة في أزمنة الكشي و النجاشي و الشيخ و أضرابهم،و كانت أحوال الرجال مذكورة فيها،مضافا إلي وجود المشايخ المطّلعين علي أحوال الرجال،فقد عدّ للنجاشي نيّف و ثلاثون شيخا،و ربّما لا يكون لبعضهم كتاب،بل تلقّي النجاشي منهم شفاها،و كان من أهمّ الامور تمييز صحاح الأخبار عن ضعافها و تحقيق حال رجالها و تنقيحها،فتكون أحوال الرجال واضحة،فهو نظير وضوح وثاقة الشيخ الطوسي رحمه اللّه عندنا مثلا،فإذا أخبرنا عن وثاقة الشيخ كان إخبارا حسّيا أو في حكمه.

و حينئذ يحتمل في توثيق كلّ واحد ممّن وثّقه الأقدمون أن يكون مستند توثيقهم وضوح وثاقته عندهم،كما يحتمل أن يكون مستنده اجتهادهم من ترجيح بعض القرائن و نقل بعض الأصحاب،و نحن نعلم أنّ وثاقة أمثال ابن أبي عمير و صفوان قد شاعت،بحيث كان الاخبار عنها إخبارا عن حسّ تقريبا.

اختار هذا الوجه في معجم الرجال (1).

و يمكن المناقشة فيه أمّا أوّلا:فبعدم دليل علي حجّية خبر الثقة في الموضوعات ما لم يحصل العلم أو سكون النفس،و لو ثبتت حجّية قول الثقة في بعض الموارد المنصوصة،فلا وجه للتعدّي إلي غيره.

و ثانيا:أنّ بناء العقلاء علي اتّباع خبر الثقة يكون فيما إذا حصل منه العلم،أي:

سكون النفس،و هو إنّما يكون إذا كان المخبر ضابطا صادقا مخبرا عن حسّ أو عن أمر يكون آثاره الملازمة له حسّية ليرجع الاخبار عنه إلي الاخبار عن حسّ، و كان احتمال كون إخباره إخبارا عن حدس احتمالا ضعيفا موهوما لا يعتني به5.

ص: 517


1- معجم رجال الحديث 1:55.

العقلاء و إن لم يحصل العلم؛حيث انّ الاحتمال الضعيف ينافي العلم.

فإذا قال الثقة:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام قال كذا،فلا ريب في حجّية قوله، و احتمال أنّه لم يسمع و أخطأ لا يعتني به،و كذا لو قال:رأيت.و أمّا إذا قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام مثلا،و احتمل أنّه سمع منه عليه السّلام،أو سمع بواسطة،أو علم أنّه قوله عليه السّلام، فإن كان الاحتمال ضعيفا كان بحكم الاخبار عن حسّ،و إن كان راجحا فلا بناء من العقلاء علي جعله إخبارا عن حسّ،بل و لا بناء لهم إذا كان الاحتمالان متساويين.

و أمّا دعوي أنّ سيرة العقلاء علي العمل بخبر الثقة إن لم يعلم أنّ إخباره عن حسّ أو حدس،و قد ذكرها صاحب الكفاية،حيث قال:فإنّ عمدة أدلّة حجّية الأخبار هو بناء العقلاء،و هم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنّه عن حسّ يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس،حيث انّه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء علي التوقّف و التفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ،بل العمل علي طبقه و الجري علي وفقه بدون ذلك.نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم علي ذلك فيما لا يكون هناك أمارة علي الحدس الي آخر كلامه (1).

فهي دعوي ممنوعة كبري فيما إذا كان الاحتمال قوّيا أو مساويا،و لو سلّمنا الكبري فالاشكال في الصغري في تطبيقها علي إخبار الرجاليّين،فإن اريد أنّ وثاقة الراوي الذي لم يعاشره الرجالي و لم يكن قريبا من عصره كان مشهورا كشهرة وثاقة الكليني و أضرابه،فكما أنّ الكتب الكثيرة التي تتعرّض لحال الكليني توثقه،فكذلك يحتمل أن يكون كلّ واحد ممّن وثّقه الرجاليّون كان مذكورا في الكتب المتعدّدة بحيث كان مشهورا،و يكون مستند توثيق النجاشي مثلا ذلك،2.

ص: 518


1- الكفاية 2:72.

فيكون توثيقه إخبارا عن شهرة وثاقته،و هي-أي:الشهرة-أمر محسوس له.

فمن البعيد جدّا احتمال ذلك في حقّ كلّ راو وثّقوه،و إلاّ لم يقع الخلاف بين الرجاليّين في التوثيق و التضعيف،و لم يسكت بعضهم عن التعرّض لحال بعض من تعرّض له الآخر.

و إن اريد أنّ وثاقة الراوي قد أخبر بها الشيخ المفيد حاكيا عن الصدوق مثلا إلي أن ينتهي إلي من أخبر بالوثاقة بالمعاشرة،أو بالاستناد إلي الشهرة في ذلك الزمان و إن لم يكن مشهورا بعد ذلك،أو أنّه وجد في كتاب علم كونه كتاب أحد المعاشرين له أنّه قد وثّقه،كما إذا وجدنا في كتب الشيخ مثلا توثيقه لاستاده الذي عاشره،فاحتمال ذلك أيضا بعيد في كلّ راو،مع ما يري من اجتهاد الرجاليّين في الترجيح في حال الراوي و الاستناد إلي روايته،و غير ذلك ممّا نذكره إن شاء اللّه تعالي في المطلب الخامس،حيث نبيّن إن شاء اللّه أنّ إخبار الرجاليّين عن حال معاصريهم أو من قرب من عصرهم أو من اشتهر حاله يمكن أن يكون عن حسّ، و أمّا غيرهم فلا يحتمل في كلّ واحد منهم أن يكون كذلك.

و أمّا ما ذكره من كثرة الكتب الرجاليّة،فيحتمل أنّها كانت مختصرات،كما قال الشيخ في أوّل رجاله،قال:و لم أجد لأصحابنا كتابا جامعا في هذا الفنّ-أي:

أسماء الرجال-إلاّ مختصرات قد ذكر كلّ انسان منهم طرفا إلاّ ما ذكره ابن عقدة الي آخر كلامه.و مع ذلك يحتمل أنّها لم تكن مشتملة علي التوثيق و التضعيف إلاّ نادرا،كرجال البرقي الموجود بأيدينا.

و أمّا كلام الشيخ رحمه اللّه في العدّة،فهو في مقام بيان حجّية خبر الواحد و إثبات حجّيته في الجملة،و لا دلالة في كلامه علي أنّهم ميّزوا جميع الرواة و كان تمييزهم عن حسّ،بل لا ينافي أن يكون عن حدس،مع أنّه في فهرسته و رجاله ضعّف قليلا من الرجال و وثّق قليلا منهم،فلعلّ نظره إلي أنّ هذا المقدار أو أزيد منه

ص: 519

قليلا كان مذكورا في كلامهم.

و بالجملة انّ المتقدّمين لا يكون قولهم حجّة بالنسبة إلي غير المشهورين و المعاصرين لهم و المقاربين لعصرهم.و أمّا المتأخّرون كالمحقّق و العلاّمة و الشهيد و غيرهم،فإنّهم إذا اختصّوا بتضعيف أو توثيق لم يكن في كلام المتقدّمين،فهو من اجتهادهم و آرائهم و ليست حجّة علي غيرهم.نعم ربّما يستدلّون بأدلّة ينبغي ملاحظتها،كما ينبغي ملاحظة ما ينقلون عن المتقدّمين.

فإنّه ذكر في قاموس الرجال أنّه كان عند العلاّمة جزء من رجال العقيقي، و جزء من رجال ابن عقدة،و جزء من ثقات كتاب ابن الغضائري،و من كتاب آخر له في المذمومين لم يصل إلينا،كما يظهر منه في سليمان النخعي،و من كتابه الواصل إلينا ممّا ليس موجودا في نسخنا،و كذا من النجاشي فيما لم يكن في نسخنا،فكان عنده الكاملة من النجاشي،و أكمل من الموجود من ابن الغضائري، كما في ليث البختري،و هشام بن إبراهيم العبّاسي،و محمّد بن نصير،و محمّد بن أحمد بن محمّد بن سنان،و محمّد بن أحمد بن قضاعة،و محمّد بن الوليد الصيرفي، و المغيرة بن سعيد،و نقيع بن الحارث،و كما ينقل في بعضهم أخبارا لم نقف علي مأخذها،كما في إسماعيل بن الفضل الهاشمي،و فيما أخذه من مطاوي الكتب، كمحمّد بن أحمد النطنزي (1).

تنبيه:

ظهر من جميع ما ذكرناه من المناقشة في الوجوه المذكورة أنّ الوجوه الثلاثة ترجع إلي وجه واحد،و هو إخبار الثقة أو العدل الواحد أو العدلين عن شيء محسوس بنفسه أو بآثاره،و ظهر المنع عن اثباته.

رابعها:أنّ أقوال الرجاليّين في حقّ الرواة تفيد القطع بالعدالة أو الوثاقة،قال

ص: 520


1- قاموس الرجال 1:15.

في الفوائد المدنيّة:إنّ انتفاعنا بما في كتب الرجال من جهة أنّه من جملة القرائن المفيدة للقطع بحال الراوي لا من جهة أنّه من باب تزكية العدل الواحد أو العدلين (1)انتهي.

وردّه في كشف القناع،قال:و فساده أوضح من أن يحتاج إلي بيان و أجلي (2).

قلت:و مثله دعوي حصول الوثوق و الاطمئنان بوثاقة الراوي من توثيقاتهم في جميع الأشخاص،و سيتّضح ذلك.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الرجاليّين لا يستندون إلي الحسّ ليكون كلامهم حجّة من باب البيّنة،أو إخبار الثقة في الموضوعات،و أشار إلي ذلك في كشف القناع.

حيث قال:إنّ الاعتماد علي كلام علماء الرجال و أرباب اللغة و العربيّة ليس لقطعهم بما ذكروه،كما يظهر من كلام من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية، و من حصر طريق معرفة اللغات في التواتر و الآحاد،أو ضمّ معها الأمارات و العلامات المقرّرة المعلومة الثابتة التي مرجعها إليهما-أي:إلي الشهادة و الرواية-أيضا.

أمّا الأوّل-أي:علماء الرجال-فلأنّك إذا جاوزت المعاصرين لهم و المقارنين لأزمانهم،أو جملة من معروفيهم و مشاهديهم و المشاهير الذين أغنت شهرة عدالتهم أو فسقهم عن البحث عن أحوالهم،و أردت معرفة أحوال غيرهم، رأيت كلامهم فيها مبنيّا علي مجرّد الحكم الذي يبني عليه العمل،كما هو الشأن في نفس الأحكام،و منشأه الاستنباط و الاجتهاد المستند إلي النقل أو غيره من الشواهد و الامارات،لا القطع و اليقين الحاصل من الأخبار المتواترة و نحوها ممّا يوجب العلم.7.

ص: 521


1- الفوائد المدنيّة ص 252.
2- كشف القناع ص 417.

و قد جرت طريقة المتأخّرين منهم علي ملاحظة كتب المتقدّمين عليهم و أقوالهم و غيرها من الأخبار و الآثار،و البناء علي ما يقتضيه نظرهم و يترجّح عندهم،و عمدة اعتمادهم علي ما في كتب الرجال خاصّة معّ قلّتها و عدم اقتضائها العلم لو اتّفقت،فكيف و الغالب تفرّد بعضها بما لا يوجد في غيره أو اختلافها.

و إذا لو حظت نفس أسباب الجرح و التعديل و المدح،فلا محيص فيما اختلف فيه منها عن البناء علي كون الحكم فيها بطريق الاجتهاد حتّي في المعاصرين، و هذه المطالب عندي من البديهيات التي لا ينبغي خفاؤها علي من تتبّع كتبهم و راجعها و أمعن النظر فيها.

و ينبّئك عليها ما ذكره الشيخ في أوّل الفهرست،حيث قال:فإذا ذكرت كلّ واحد من المصنّفين و أصحاب الاصول،فلا بدّ من أن اشير إلي ما قيل فيه من التعديل و التجريح،و هل يعوّل علي روايته أو لا؟و ابيّن عن اعتقاده،و هل هو موافق للحقّ أو مخالف له؟لأنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة،و إن كانت كتبهم معتمدة انتهي.

و هذا و إن كان أوّله يقتضي الاشارة إلي كلّ ما قيل فيه أو بعضه كيفما اتّفق،لكن الظاهر أنّه إنّما يذكر منه ما يعتمد عليه و يترجّح في نظره،إلاّ ما يصرّح بردّه أو يتوقّف فيه،و علي الوجهين فبينه و بين دعوي القطع بون بعيد.

ثمّ إنّه قد ذكر التعديل و التجريح و سائر أحوال الرجال و ألقابهم و كناهم و أسماء كتبهم و أحوالها علي نهج واحد،فيكتفي بالنقل مرّة و يحكم اخري،و لا يذكر التعديل بل بعبارة مغايرة لعبارته في سائر ما ذكر ممّا يمتنع عادة مع ما فيها من الاختلاف و الخفاء دعوي القطع بجميعها،و يشهد ما يستشهد به من الآثار و الأخبار بخلافه،و من تأمّل كتابه الآخر في الرجال وقف أيضا فيه علي شواهد كثيرة علي ذلك.

ص: 522

و مثلهما كتاب النجاشي و ما كتب علي أوّل جزئيه و سائر كتب الرجال، و لا سيّما الخلاصة للعلاّمة الحلّي،فإنّه رتّبها علي قسمين:الأوّل في من اعتمد علي روايته،أو يترجّح عنده قبول قوله.و الثاني في من ترك روايته أو توقّف فيه، و هذا أقوي شاهد علي ما قلنا.

ثمّ إنّه جرت عادته علي ذكر التراجم و ضبطها من دون نقل أو تردّد مع تعذّر العلم بها أو تعسّره غالبا،و علي ذكر أحوال الرجال علي نحو ما في جملة من كتب النجاشي و الشيخ و غيرهما أو واحد منها،أو في الأخبار التي رواها الكشي بطريق صحيح،أو غيره من دون تصريح بالمأخذ غالبا،و لا يرتاب الناقد البصير الواقف علي طريقته و مذهبه في أنّ اعتماده علي ما ذكر ممّا لا يوجب العلم غالبا،و ربّما يتّفق له الخطأ لتعويله علي تلك الكتب مع عدم إمعان النظر فيها،و ربّما يقتصر علي ما نقله السيّد جمال الدين بن طاووس و انتخبه منها من دون مراجعة لها.

و لذا قال صاحب المنتقي:إنّ الذي تحقّقته من حاله أنّه كثير التتبّع للسيّد بحيث يقوي في الظنّ أنّه لم يكن يتجاوز كتابه في المراجعة لكلام السلف غالبا،و كثيرا ما يذكر ما وقع في شأن بعض الرجال من الاختلاف بين علماء الرجال و غيرهم أو بين الأخبار،و يرجّح ما يقتضيه نظره معبّرا بالأقرب أو الأرجح و نحوهما، و هذه كلّها موافقة لطريقته في الفقه المبتني علي الظنّ غالبا،و تختلف عبارته باختلاف مراتبه و اختلاف المقاصد،كإرادة التنبيه علي الخلاف أو الاشكال و عدمها،و جميع ذلك ظاهر للمتدبّر.

و من العجيب أنّ صاحب المنتقي جعل التزكية من باب الشهادة و اعتبر فيها التعدّد،و اكتفي مع ذلك بتزكية العلاّمة مع واحد آخر هو الأصل في تزكيته،و قد تبعه اعتمادا عليه لوثاقته لا لحصول العلم له من قوله ليكون شاهدا آخر.

و لقد أجاد السيّد المعاصر أيّده اللّه تعالي حيث قال:إنّ ما في كتب علماء

ص: 523

الرجال من الجرح و التعديل لم يكن عن مشاهدة،بل عن حكاية عن آخر مثلهم أو عن اجتهاد و ليس ذلك شهادة؛لأنّ الشاهد ما يحكي لك عن علم لا ما يوجد في كتاب عن أحد الأمرين انتهي.

و صرّح الاستاذ الأعظم طاب ثراه بأنّ بناء قدمائهم فضلا عن غيرهم علي الاكتفاء بالظنّ في ذلك،و علي الاعتماد علي توثيق الغير و تلقّيه بالقبول،و بناء التوثيق عليه كالجرح،و إنّ غالب توثيقات المتأخّرين إنّما هو من القدماء،و قد تبيّن بما بيّنا ما في كلامهم من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية المقتضيين لاعتبار علم المخبر و قطعه،أو نقله بطريق الرواية و لو بوسائط عن عالم بما أخبر به.و لم أجد هذه المسألة محرّرة منقّحة في كتبهم علي ما ينبغي لأمثالهم،و كم رأينا من أمثالها و أشكالها،فكشفنا بعون اللّه و تأييده عن اعضالها و اشكالها،و رفعنا أستار أسرارها و اسبال اجمالها.

و التحقيق هنا أنّه إن اريد بيان ما يجب بناء العمل عليه و يقتضيه النظر،كما في سائر المسائل،فالحقّ الاكتفاء بما يوجب الوثوق بعدالة الراوي حيث اعتبرت،أو بكونه ثقة بأحد معانيه الثلاثة،أو ممدوحا بما يعتدّ به كما هو الأقرب،سواء استند الوثوق إلي القطع الحاصل من المعاشرة و الاختيار أو الشياع و الاشتهار،أو الأخبار المتواترة و نحوها،أو إلي الظنّ الحاصل من إخبار عدلين عن علم و يقين، بحيث يسمّي في باب تزكية الشهود و غيرها بالشهادة في مقابل الرواية؛لاعتبار العدد أو غيره أيضا في هذه-أي:في الشهادة-دونها-أي:الرواية-أو من اخبار واحد عن علم أيضا بحيث يسمّي رواية،أو من خبر صحيح مروي عن الأئمّة عليهم السّلام أو من سائر الأخبار و الآثار و الأمارات التي تورث الظنّ بما ذكر،أو من حكم جماعة أو واحد من أهل الرجال المستند إلي أحد هذه الأشياء،فليس قبولنا لتزكية المزكّي لكونه شاهدا أو راويا حتّي يعتبر فيه ما يعتبر فيهما من

ص: 524

الشروط المقرّرة،بل لحصول الظنّ من قوله،فيكتفي بحصوله منه أو من غيره ممّا سبق من وجهه و ما يأتي الاشارة إليه إجمالا،و التفصيل موكول إلي محلّه.

و إن اريد بيان ما عليه مبني أهل الرجال في التزكية و الجرح،هل كان علي القطع و اليقين أو الظنّ الاجتهادي،أو الاعتماد علي شهادة العدلين،أو رواية الآحاد بشرائطها المقرّرة،أو مجرّد نقل كلام من سبق و قوله المعلوم أو المسند أو المرسل (1)،فالظاهر بطلان الأخير بأقسامه (2)،إلاّ مع التصريح به،و أمّا بالنسبة إلي ما عداه أي إلي ما عدا الأخير،فالحقّ اختلاف أحوالهم في ذلك باختلاف أحوال الرواة و باختلاف آرائهم و مذاهبهم.

و إن اريد الاستناد إلي كلامهم،فينبغي تنزيله حيث لم يظهر حقيقته علي أدني المراتب؛لعدم العلم بأكثر من ذلك،و شهادة الأمارات عليه في كثير من المواضع، و لأنّ الأمر في التعديل و الجرح مع بعد العصر و كثرة الاختلاف فيهما قولا و رواية معني و سببا صعب جدّا،و كثيرا ما يخفي حال الانسان علي أهله و أصحابه و معاصريه فضلا عن غيرهم،و ربّما يتغيّر من حال إلي غيره،و قد وقع الاختلاف العظيم في كثير (3)من أصحاب الأئمّة،و كثر القدح و الطعن من بعضهم في بعض و من غيرهم،كما أشرنا إليه سابقا في الاجماع المحصّل في الوجه الأوّل.

فيبعد أو يمتنع عادة اطّلاع أحد من أهل الرجال في كثير من الرواة علي أكثر ممّا ذكر،كما لا يخفي علي المتدبّر.

و لقد أحسن و أصاب الشيخ البهائي في مشرق الشمسين،حيث قال في جملة ايراده علي من اعتبر تعدّد المزكّي ما لفظه:و أنت خبير بأنّ علماء الرجال الذينن.

ص: 525


1- أي:قول من سبق إمّا معلوم أو منقول عنه مسندا أو منقول عنه مرسلا.
2- أي:المعلوم و المنقول المسند و المنقول المرسل.
3- لم يثبت الكثرة في الموضعين.

وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلّهم ناقلون تعديل أكثر الرواة عن غيرهم، و توافق الاثنين منهم علي التعديل لا ينفعه في الحكم بصحّة الحديث،إلاّ إذا ثبت أنّ مذهب كلّ من ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد، و دون ثبوته خرط القتاد،بل الذي يظهر خلافه،ثمّ استند إلي تصريح العلاّمة بالاكتفاء بالواحد و تلويح الكشي و النجاشي و الشيخ و غيرهم إليه.

و قال أيضا:مع أنّ شهادة الشاهد لا يتحقّق بما يوجد في كتابه انتهي.

قلت:و لا تتحقّق أيضا بحكم اثنين و لا بشهادتهما الناشئة من شهادة اثنين إلاّ مع اتّحاد الاثنين في الأصل و شهادتهما بالتعديل و الجرح علي الوجه المعتبر في الشهادة بها،و عدم كون الشهادة من باب شهادة فرع الفرع كما لا يخفي،انتهي كلام صاحب كشف القناع (1).

قلت:قوله في صدر كلامه«ليس لقطعهم بما ذكروه،كما يظهر من كلام من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية»محلّ إشكال؛لعدم كفاية القطع،بل لا بدّ من كون إخباره عن محسوس بنفسه أو بآثاره.و قوله«فالحقّ الاكتفاء بما يوجب الوثوق بعدالة الراوي»مناف لقوله«بل لحصول الظنّ»من قوله فيكتفي بحصوله منه،فهو قائل بكفاية الظنّ إلاّ أن يريد منه الظنّ الاطمئناني.

الأمر الثاني: من الامور التي يثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته

الظنّ الحاصل من قول الرجاليّين،أو خبر ضعيف،أو غيرهما من رواية نفس الراوي مدح نفسه، و يمكن أن يستدلّ لحجّيته بوجوه:

الوجه الأوّل:انسداد باب العلم إلي معرفة الرجال،فلا طريق أقرب من الرجوع إلي الكتب الرجاليّة،و إعمال الظنون في تمييز الرواة و ملاحظة الطبقات،

ص: 526


1- كشف القناع ص 414-417.

و الامور الاخر التي كلّها ظنّية،فإنّ الاحتياط التامّ متعذّر،فيتعيّن العمل بالظنّ فرارا عن ترجيح المرجوح.

قال في الكفاية:لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظنّ بالحكم من أمارة عليه،و بين الظنّ به من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية أو الرواية،كقول اللغوي فيما يورث الظنّ بمراد الشارع من لفظه.

إلي أن قال:فانقدح أنّ الظنون الرجاليّة مجدية في حال الانسداد،و لو لم يقم دليل علي اعتبار قول الرجالي،لا من باب الشهادة،و لا من باب الرواية (1)انتهي.

ثمّ نبّه علي أنّه لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرّقة إلي مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية.

و اختار كفاية الظنّ الحاصل من منشأ صحيح في كشف القناع (2)،و قد تقدّم نقل عبارته.

و فيه أوّلا:أنّه لا بدّ من العلم بامتثال الأحكام الشرعيّة و لو بالاحتياط التامّ، و مع تعذّره فلا بدّ من تحصيل الوثوق؛لأنّه كما قيل علم عرفا و مقدّم علي مطلق الظنّ،و عليه عمل العقلاء عند تعذّر العلم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:ثمّ إنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القوي الاطمئناني أقرب إلي العلم عند تعذّره،و انّه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع و ترك ما يكرهه وجب تحصيل ذلك الظنّ الأقرب إلي العلم (3)انتهي.

و الوثوق ربّما يحصل من ضمّ بعض القرائن إلي بعض من تعدّد الخبر الوارد في المسألة،و موافقة الشهرة القدمائيّة،و وجود الخبر في الكتب التي شهدوا بصحّتها،5.

ص: 527


1- كفاية الاصول ص 376.
2- كشف القناع ص 416.
3- فرائد الاصول ص 245.

و أنّ العمل كان عليها،إلي غير ذلك من القرائن التي سنشير إليها إن شاء اللّه،و في ما عدا ذلك لا يكون الاحتياط عسرا،فلا ينتهي الأمر إلي حجّية الظنّ الحاصل من قول الرجاليّين.

و ثانيا:لو سلّم كون الاحتياط عسرا،فلا بدّ من العمل بالخبر المظنون الصدور، سواء كان حاصلا من قول الرجاليّين،أو حاصلا من سائر القرائن،فكما يحصل الظنّ بالصدور من توثيق الرجاليّين لرواة الخبر،كذلك يحصل الظنّ بالصدور من قول الصدوق رحمه اللّه في أوّل الفقيه:إنّ ما أورده في الفقيه حجّة بينه و بين ربّه.

فإنّ المستفاد منه أنّ الكتاب الذي أخذ الحديث منه:إمّا كان مشهورا بحيث لا يحتاج الي الطريق نظير كتاب الكافي بالنسبة إلينا،و يكون ذكر السند للخروج عن الوجادة،أو للتيمّن و التبرّك،و إمّا كان مشكوك الانتساب إلي صاحبه،و قد اعتمد الصدوق رحمه اللّه في وصول الكتاب إليه علي شيخه الذي كان معاشرا معه و عرف وثاقته،و سيأتي توضيح ذلك.

و بالجملة إذا انتهي الأمر إلي العمل بالظنّ،فلا يختصّ بإعماله في حال الرواة، بل يقدّم الظنّ بصدور بعض الأخبار علي بعضها الذي ليس كذلك.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)بعد أن اعتبر الظنّ القوي الاطمئناني إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع،قال:انّ حصول الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها غير عزيز،أمّا في غيرها فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء و الأولويّة.و أمّا الأخبار،فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية،و إن لم يكن إماميّا أو ثقة علي الاطلاق؛إذ ربّما يتسامح5.

ص: 528


1- فرائد الاصول ص 245.

في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.

و أمّا احتمال الارسال،فمخالف لظاهر كلام الراوي،و هو داخل في ظواهر الألفاظ،فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئناني منه،فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد،لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر؛ لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئناني هو جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه.و أمّا أنّ إخباره بلا واسطة،فهو ظهور لفظي لا بأس بعدم إفادته للظنّ،فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا؛لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

و بالجملة فدعوي كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار و غيرها من الأمارات بحيث لا يحتاج إلي ما دونها،و لا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلي الاحتياط محذور،و إن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان،قريبة جدّا إلاّ انّه يحتاج إلي مزيد تتبّع في الروايات و أحوال الرواة و فتاوي العلماء (1)انتهي.

قلت:يمكن حصول الظنّ الاطمئناني فيما إذا تعدّد الخبر علي مضمون واحد مع شهرة القدماء عليه و سائر القرائن.و أمّا حصوله فيما إذا لم يكن الخبر متعدّدا و كان بعض رواة الخبر مشتركا و لم يكن الاعتماد علي رواته متّفقا عليه،فبعيد.

و بالجملة التتبّع و التعمّق في الرجال و نسخ الأخبار و فتاوي العلماء الأقدمين و ما يستندون إليه إن لم يوجب عدم الظنّ،فلا يوجب الظنّ بالصدور،فضلا عن الاطمئنان به.

و الحاصل أنّ مطلق الظنّ بحال الراوي إن حصل من قول الرجالي،فلا دليل علي اعتباره،و الظنّ الاطمئناني بمعني الوثوق الشخصي،حصوله غير معلوم، و الوثوق النوعي أيضا لا يعلم حصوله،مع ما مرّ من الاشكال في حجّية الثلاثة.7.

ص: 529


1- فرائد الاصول ص 247.

الوجه الثاني لحجّية الظنّ:ما ذكره حجّة الاسلام السيّد الكيلاني في رسالة إبراهيم بن هاشم (1)،و هو امور:

الأوّل:إطباق الأصحاب عليه.

قلت:الموارد التي ذكرها من كلمات الأصحاب هي باب الشهادات في المرافعات و عدالة إمام الجماعة،و قد سبق الفرق بينهما و بين باب الاخبار باعتبار الوثاقة الواقعية فيها،و عدم كفاية العدالة الظاهرية.

و الحاصل أنّ ثبوت الاجماع علي العمل بالظنّ في الرجال محلّ منع،علي ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:تخيّل بعض أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام،بل المقتصر علي الظنون الخاصّة في الأحكام أيضا عامل بالظنّ المطلق في الرجال.

و فيه نظر يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال،فإنّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها علي العمل بكلّ أمارة انتهي (2).

الثاني:مرسل يونس:خمسة أشياء يجب علي الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال (3).

الثالث:صحيح عبد اللّه بن المغيرة (4).

الرابع:صحيح عبد اللّه بن أبي يعفور (5).0.

ص: 530


1- الرسائل الرجاليّة ص 87.
2- فرائد الاصول ص 265.
3- وسائل الشيعة 27:289-290،فروع الكافي 7:431 ح 15 و الاستبصار 3:13 ح 3 و التهذيب 6:283 و 288.
4- من لا يحضره الفقيه 3:46 برقم:3298.
5- من لا يحضره الفقيه 3:38 برقم:3280.

قلت:هذه الأخبار خاصّة بباب الشهادة،و يمكن الفرق بين باب الشهادة و إمام الجماعة و بين الاخبار؛لأنّ عدالة إمام الجماعة إن اعتبر فيها العلم لزم العسر.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الصلاة:إنّ العدالة تعرف بالصحبة المتأكّدة الموجبة للاطّلاع علي سريرته،و لا يعتبر حصول العلم لتعسّره بل تعذّره، فلو لم يكتف بالظنّ لزم تعطيل الشهادات و الجماعات و ما قام للمسلمين سوق،مع ما علم من الشارع من تسهيل الأمر فيها و الأخبار الدالّة علي كفاية حسن الظاهر (1).

الوجه الثالث:أنّ التبيّن المأمور به في آية النبأ يكفي فيه تحصيل الظنّ بصدق الخبر؛لأنّ مفهوم الآية عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل،سواء كان عادلا واقعا أو محكوما بعدالته لحسن ظاهره و نحوه.

و من الواضح أنّ المحكوم بعدالته ظاهرا لا يحصل من قوله أكثر من الظنّ بصدق الخبر،فيكون مناط قبول الخبر وردّه حصول الظنّ بصدق الخبر و عدمه، و الظنّ بصدق الراوي الحاصل من قول الرجاليّين ظنّ بصدق الخبر.

و إذا كان الميزان الظنّ بصدق الخبر،فلا فرق بين إخبار الرجاليين الموجب لحصول الظنّ،و بين سائر الامور الموجبة للظن،كالظنّ بتعيين الراوي المشترك بالقرائن.

و هذا ما قيل من حجّية الظنون الرجالية.

قال في تنقيح المقال في المقدّمة:الحقّ الحقيق بالقبول-كما نقّحناه في علم الاصول-أنّ العمل بالأخبار إنّما هو من باب الوثوق و الاطمئنان العقلائي،و من البيّن الذي لا مرية فيه لذي مسكة في مدخليّة ملاحظة أحوال الرجال في حصولة.

ص: 531


1- كتاب الصلاة ص 257 الطبعة الحجرية.

الوثوق و عدمه و حدوثه و زواله.

و قال:و إن شئت قلت إنّ الآية قد منعت من قبول خبر الفاسق من غير تبيّن و تثبّت،و مراجعة حال الراوي و تحصيل الوثوق العادي بصدقه نوع تثبّت و تبيّن فيلزم.إلي آخر كلامه (1).

و فيه أوّلا:أنّ التبيّن هو الظهور الذي لا يحتمل فيه الخلاف،بحيث يصير الأمر محسوسا أو كالمحسوس،فهو فوق العلم،كما في سائر موارد استعماله في الكتاب العزيز،فلا يصدق علي الظنّ بصدق الخبر أنّه تبيّن للخبر،و ليس الاطمئنان تبيّنا، و ليس للتبيّن مراتب حتّي يقال:إنّ الظنّ الاطمئناني نوع تبيّن.

و ثانيا:نمنع حصول الاطمئنان.

ثمّ لا يخفي أنّه لو سلّم أنّ مفهومه عدم التبيّن عن خبر المحكوم بالعدالة في الظاهر الموجب للظنّ،لم يجز التعدّي إلي مطلق الظنّ؛لاحتمال خصوصية الظنّ الحاصل من خبر المحكوم بالعدالة ظاهرا.

الأمر الثالث من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:النصّ المعتبر من أحد المعصومين عليهم السّلام علي العدالة أو الوثاقة،مثل ما ورد في علي بن حنظلة أنّ الصادق عليه السّلام خاطبه و قال:يا أبا الحسن فإنّك رجل ورع (2).و يؤخذ بمقدار دلالة النصّ،فقد يكون المتيقّن منه الوثاقة حال النصّ،و لا تثبت الوثاقة قبل ذلك.

ثمّ إنّ النصّ إن كان متواترا أو مقترنا بما يوجب العلم بصدوره ثبت ما دلّ عليه.

و أمّا إن كان خبرا واحدا،فيحتاج إثباته إلي العلم بوثاقة رواته.و لا يخفي أنّ اعتبار سند النصّ لو ثبت بقول الرجاليّين،فلا بدّ من إثبات حجّية قولهم.

الأمر الرابع:أن يكون الشخص معروفا في زمانه عند الناس بالعدالة

و الوثاقة

من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:الاستفاضة

ص: 532


1- تنقيح المقال 1:174.
2- بصائر الدرجات ص 328 ح 1.

و يسمّي بالشياع،بمعني أن يكون الشخص معروفا في زمانه عند الناس بالعدالة و الوثاقة،بأن يكونوا معتقدين لعدالته أو وثاقته،لا مجرّد شيوع عدالته بين الناس من غير اعتقادهم بها،و يسمّي في العصر الحاضر بالشايعة،فإن كان مفيدا للعلم أو سكون النفس الذي هو علم عادي علي ما قيل قبل حصول موجب التشكيك، فالظاهر حجّيته كما تقدّم عن الجواهر (1).

و أمّا مع حصول مقتضي الشكّ،فإن كان الاحتمال موهوما جدّا بحيث لا يعتني به العقلاء،فهو ملحق بالعلم أيضا.و أمّا إذا لم يكن كذلك،فلا يلحق بالعلم،لكن قد يستدلّ علي حجّيته و إن لم يفد العلم بصحيح حريز،قال فيه بعد ائتمان إسماعيل شارب الخمر و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:و قد بلغك أنّه يشرب الخمر،فقال:يا أبة أنّي لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون،فقال:يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول:يصدّق للّه و يصدّق للمؤمنين،فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم،و لا تأتمن شارب الخمر الحديث (2).

قال في الجواهر:إذ هو كما تري كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلي أفراده قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما ممّا هو مذكور فيه،و به أدرجه فيما دلّ علي النهي عن ائتمان شارب الخمر،و منه يعلم أنّه لا مدخليّة لمفاده الذي يكون تارة علما،و اخري متاخما له،و ثالثة ظنّا غالبا في حجّيته،و إنّما المدار علي تحقّقه (3)انتهي موضع الحاجة.

قلت:الظاهر من الجمع المحلّي هو العموم الأفرادي،أي:إذا شهد عندك كلّ واحد من المؤمنين فصدّقهم،كما أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله كان يصدّق كلّ واحد من المؤمنين،7.

ص: 533


1- جواهر الكلام 40:55.
2- وسائل الشيعة كتاب الوديعة ب 6 ح 1.
3- جواهر الكلام 40:57.

و هذا غير الشياع،و قد سبق الكلام فيه في أدلّة حجّية الخبر.

و لعلّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه نظر إلي ردّ الجواهر،حيث قال:و فيه أوّلا أنّ الرواية لا تدلّ علي حجّية الاستفاضة بالخصوص،و إنّما تدلّ علي وجوب قبول شهادة جنس المؤمن واحدا كان أو أكثر،فإن عمل علي هذا الاطلاق،فلا يبقي عنوان للاستفاضة،بل الحجّة شهادة المؤمن.

و دعوي تقييد إطلاقها بأحد الأمرين عدالة الشهود أو كثرة الشهود،ممّا يأبي عنه سوق كلام الامام عليه السّلام في جواب إسماعيل و استشهاده بالآية.

هذا مع أنّ الايمان غير شرط في الاستفاضة،و لو حمل الجمع فيها علي إرادة جنس الجمع،ففيه مع مخالفته لظاهر الجمع المحلّي إذا تعذّر حمله علي العموم، و مع مخالفته للاستشهاد بقوله تعالي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ مخالفة للاجماع في مورده،فإنّ الظاهر انعقاد الاجماع علي عدم ثبوت الفسق بالاستفاضة الظنّية.

مع أنّ الرواية معارضة برواية أظنّها عن أبي بصير،و فيها:يا أبا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا و قال:لم أقله فصدّقه و كذّبهم.فإنّ تكذيب السمع كالصريح في مخالفة ما دلّت عليه الصحيحة،فالظاهر لزوم الجمع بينهما بتكذيب السمع عنه في عدم سوء الظنّ به، و المراد من تصديق المؤمنين إذا شهدوا عليه أن لا يكذّبهم.إلي أن قال:و بالجملة فلم نعثر علي دليل علي حجّية الاستفاضة الظنّية في المقام (1).

أقول:يحتمل أن يكون اللام في قوله«إذا شهد عندك المؤمنون»للعهد الذكري، فيراد بالمؤمنين الناس المذكورون قبل ذلك في كلام إسماعيل،حيث قال:إنّي7.

ص: 534


1- كتاب القضاء ص 77.

سمعت الناس يقولون،فيدلّ علي حجّية الشياع،كما يحتمل أن تكون للجنس، فتفيد العموم الاستغراقي،كقولك«أكرم العلماء»و لا وجه لحمله علي الاستغراق؛ لأنّه لم يثبت كونها حقيقة فيه.

و أمّا الرواية التي جعلها معارضة،فهي مرويّة في الوسائل،عن محمّد بن فضيل،عن أبي الحسن موسي عليه السّلام،قال:قلت له:جعلت فداك الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه،فأسأله عنه فينكر ذلك،و قد أخبرني عنه قوم ثقات،فقال لي:يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم،و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروءته الحديث (1).

قال العلاّمة المجلسي في بيان الحديث:و لعلّ هذا مختصّ بما إذا كان فيما يتعلّق بنفسه من غيبته أو الازراء به،و نحو ذلك،فإذا أنكرها و اعتذر إليه يلزمه أن يقبل عذره،و لا يؤاخذه بما بلغه عنه،و يحتمل التعميم أيضا،فإنّ الثبوت عند الحاكم بعدلين أو أربعة و إجراء الحدّ عليه لا ينافي أن يكون غير الحاكم مكلّفا باستتار ما ثبت عنده من أخيه من الفسوق التي كان مستترا بها (2).

و الحاصل أنّ القرائن الموجودة في الخبر تؤيّد حمل قوله علي الصحّة،و إن ثبت ظاهرا أنّه كذلك،فلا ينافي ما ذكر في قصّة إسماعيل من ثبوت فسق من قال الناس فيه أنّه فاسق.نعم إن قال لم أفعل حمل علي الصحّة،فتأمّل فإنّه يحتاج إليه.

الأمر الخامس من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:دعوي

الاجماع من الأقدمين

،فإنّه لا يقصر عن توثيق مدّعي الاجماع نفسه،بل إنّ دعوي الاجماع علي الوثاقة يعتمد عليها حتّي إذا كانت من المتأخّرين،كدعوي

ص: 535


1- وسائل الشيعة 8:609 ب 157 ح 4،و روضة الكافي 8:147.
2- مرآة العقول 25:357.

ابن طاووس رحمه اللّه الاتّفاق علي وثاقة إبراهيم بن هاشم،فإنّها تكشف عن توثيق بعض القدماء لا محالة (1).

قلت:يحتمل استناد ابن طاووس رحمه اللّه إلي الحدس،حيث رأي أنّ الكتب الأربعة و غيرها مشحونة برواياته الكثيرة،و الظاهر أنّهم اعتمدوا عليه و لا يكون إلاّ لوثاقته،و ليس ذلك إخبارا عن توثيق أحد القدماء له مع خلوّ كلماتهم عن التعرّض لوثاقته،و احتمال وصول كتب إليه غير ما بأيدينا أوجب صحّة دعوي الاجماع بعيد.

الأمر السادس:رواية أجلاّء الرواة في الأزمنة المختلفة

من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:رواية أجلاّء الرواة في الأزمنة المختلفة،فإنّها تكشف عن وثاقة من رووا عنه؛لأنّه يبعد جدّا خفاء حاله عليهم في المدّة الطويلة.نعم رواية جليل مرّة لا تدلّ علي الوثاقة، فلعلّه وثق به في حال تلك الرواية،أو خفي حاله عليه،بخلاف ما إذا استمرّ في مدّة طويلة في الرواية عنه،فإنّه يبعد خفاء حاله.

ثمّ إنّ احتمال رواية الأجلاّء عنه مع علمهم بضعفه و احتمال تعمّده الكذب بعيد جدّا،بل كانوا يجتنبون عن الواقفة،و لذا قيل:إنّهم كانوا يسمّون الواقفة ممطورين.

قال النجاشي في ترجمة محمّد بن أحمد بن عبد اللّه بن قضاعة في كتبه:له كتاب الردّ علي ابن رباح الممطور (2).

و قال الشيخ في كتاب الغيبة:و روي أبو علي محمّد بن همام،عن علي بن رباح، قال:سألت القاسم بن إسماعيل القرشي-و كان ممطورا-أيّ شيء سمعت من محمّد بن حمزة (3).

ص: 536


1- معجم رجال الحديث 1:60.
2- رجال النجاشي ص 307.
3- كتاب الغيبة ص 45.

و في الكشي:روي إبراهيم بن عقبة،قال:كتبت إلي العسكري عليه السّلام جعلت فداك قد عرفت هؤلاء الممطورة،فأقنت عليهم في الصلاة؟قال:نعم أقنت عليهم.

و روي إبراهيم بن أبي البلاد،عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام،قال:ذكرت الممطورة و شكّهم،فقال:يعيشون ما عاشوا في شكّ ثمّ يموتون زنادقة (1).

و في كتاب فرق الشيعة:و قد لقّب الواقفة بعض مخالفيها ممّن قال بإمامة علي بن موسي عليهما السّلام الممطورة،و غلب عليها هذا الاسم و شاع لها،و كان سبب ذلك أنّ علي بن إسماعيل الميثمي و يونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهم،فقال له علي بن إسماعيل و قد اشتدّ الكلام بينهم:ما أنتم إلاّ كلاب ممطورة،أراد أنّكم أنتن من جيف؛لأنّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف،فلزمهم هذا اللقب،فهم يعرفون به اليوم؛لأنّه إذا قيل للرجل إنّه ممطور،فقد عرف أنّه من الواقفة علي موسي بن جعفر عليهما السّلام خاصّة؛لأنّ كلّ من مضي منهم فله واقفة وقفت عليه،و هذا اللقب لأصحاب موسي عليه السّلام خاصّة (2)انتهي.

و كشف الوثاقة من هذا الطريق غير بعيد،و قد اشير إليه في كلماتهم.

قال الكشي في ترجمة محمّد بن سنان:قد روي عنه الفضل،و أبوه،و يونس، و محمّد بن عيسي العبيدي،و محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب،و الحسن و الحسين ابنا سعيد الأهوازيّان،و ابنا دندان،و أيّوب بن نوح،و غيرهم من العدول و الثقات من أهل العلم (3)انتهي.

و ان احتمل أنّه قاله ردّا علي كلام الفضل بن شاذان،فراجع.

و قال النجاشي في ترجمة جعفر بن محمّد بن مالك بعد تضعيفه:و لا أدري كيف9.

ص: 537


1- رجال الكشي ص 391-392 ط النجف.
2- فرق الشيعة ص 81.
3- رجال الكشي 2:796 برقم:979.

روي عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي بن همام و شيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري رحمها اللّه (1).

و قال الصدوق في كمال الدين في تجليل عبد اللّه بن الصلت:و كان أحمد بن محمّد بن عيسي في فضله و جلالته يروي عن أبي طالب عبد اللّه بن الصلت القمّي رضي اللّه عنه،و بقي حتّي لقيه محمّد بن الحسن الصفّار و روي عنه (2).

و قال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد:روي عنه جماعة غمز فيهم و ضعّفوا، منهم عمرو بن شمر،و مفضّل بن صالح،و منخّل بن جميل،و يوسف بن يعقوب (3).

المطلب الخامس:في الطرق إلي كتب الرجال الخمسة،و وثاقة مؤلّفيها

،و ما يظهر من كلماتهم من الاعتقاد في الضعف و ما اختلفوا فيه،و سائر الامور التي توجب ثبوت استنادهم إلي غير الحسّ في توثيقاتهم و تضعيفاتهم،تركناه هنا لأنّه أنسب بأن يكون مقدّمة للرجال.

تمّ الجزء الأوّل من منهاج الاصول،علي يد مؤلّفه القاصر الأقلّ محمّد الرجائي عفي عنه.

ص: 538


1- رجال النجاشي ص 122.
2- كمال الدين ص 3.
3- رجال النجاشي ص 128.

فهرس الكتاب

تعريف الفقه و ما يتوقّف علي معرفة الأحكام الشرعية 3

دلالة اللفظ علي معناه 4

أقسام الوضع 7

الانشاء و الاخبار 15

الحقيقة و المجاز 20

أقسام الدلالة 25

وضع المركّبات 27

علائم الحقيقة و المجاز 28

تعارض الأحوال 32

حمل اللفظ علي معناه اللغوي و العرفي 32

الحقيقة الشرعية 33

الصحيح و الأعمّ 34

وقوع الاشتراك 44

إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد 44

مباحث المشتق 48

مباحث الأوامر،مادّة أمر 54

ص: 539

الطلب و الارادة 56

الأوامر الامتحانية 60

صيغة الأمر و ما الحق بها 63

الفرق بين الايجاب و الاستحباب 65

الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام 67

اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليا أم لا؟69

هيئة الأفعال 74

إذا وقعت صيغة افعل عقيب الحظر 74

المرّة و التكرار 75

الفور و التراخي 77

مباحث الاجزاء 79

اجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري 81

كفاية الاتيان بما يقتضيه الدليل ظاهرا 84

فيما اذا انكشف الخلاف علما 86

فيما إذا انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة معتبرة،الاجزاء بالنسبة إلي عمل نفسه 94

الاجزاء بالنسبة إلي فعل الغير 99

العمل المنبعث عن القطع بالحكم الكلّي 100

مقدّمة الواجب 101

البحث عن مقدّمة الواجب بحث عن مسألة فقهية 102

تقسيمات المقدّمة 102

تقسيمات الواجب،المطلق و المشروط 110

ص: 540

الواجب المعلّق و المنجّز 114

الواجب النفسي و الغيري 124

الواجب الأصلي و التبعي 128

تبعية المقدّمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط 129

الأدلّة التي اقيمت علي وجوب المقدّمة و المناقشة فيها 134

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه 136

اشتراط القدرة في المأمور علي المأمور به 153

الأوامر و النواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟154

الواجب التخييري الشرعي 155

الوجوب الكفائي 157

الواجب الموسّع و المضيّق 159

الأمر بالأمر 160

مباحث النواهي،مادّة النهي وصيغته 161

جواز اجتماع الأمر و النهي 165

النهي عن العبادة أو المعاملة هل يقتضي فسادهما أم لا؟190

النهي عن العبادات بما هي عبادات 194

النهي في المعاملات 197

مباحث المفاهيم 202

دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم 205

مفهوم الوصف 215

فيما يدلّ علي الحصر 215

العامّ و الخاصّ 218

ص: 541

العامّ المخصّص بالمتّصل و المنفصل 220

إجمال الخاصّ و اشتباه مصداقه 222

دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص 234

وجوب الفحص عن المخصّص 235

الخطابات الشفاهية 236

تعقيب العامّ بضمير يرجع إلي بعض أفراده 239

جواز التخصيص بالمفهوم المخالف 240

جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد 241

تخصيص العامّ بالخاصّ المقارن للعموم 244

النسخ و البداء 249

المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن 252

مقدّمات الحكمة 256

فيما إذا ورد مطلق و مقيّد 261

المجمل و المبيّن 263

الحجج المعتبرة شرعا أو عقلا 264

العلم و القطع و الاطمئنان 264

تعريف العلم و حجّيته 265

تعريف القطع و حجّيته 267

حجّية الاطمئنان و عدمها 269

مبحث حرمة التجرّي 281

العلم المأخوذ في الموضوع 294

القطع المأخوذ في الموضوع 295

ص: 542

جواز أخذ العلم بالحكم في موضوعه 299

عدم وجوب الموافقة الالتزامية 304

امكان المنع عن القطع الغير المأخوذ في الحكم و لا في موضوعه 307

الملازمة بين حكم العقل و الشرع 311

مباحث العلم الاجمالي 314

جواز التعبّد بالأمارة و الأصل في الحكم الكلّي 319

الأمارة القائمة علي الموضوع و الأصل الجاري فيه 326

عدم حجّية ما لم يقم دليل علي حجّيته 330

عدم حجّية ما لم يعلم حجيته و عدم إجزاء العمل به إن لم يقصد التشريع 331

ماهية التشريع 334

أدلّة حرمة التشريع 336

ما لا دليل علي حرمته 340

ما يتوهّم أنّه من التشريع ممّا لا يمكن أن يقع 341

حجّية ظواهر الكتاب و السنّة 341

حجّية ظواهر السنّة مع القطع بالظهور 341

هل العبرة بظواهر الكلام في زمان صدور الأخبار؟347

حجّية ظواهر الكتاب العزيز 349

عدم الفرق في الحجّية بين من قصد افهامه و من لم يقصد افهامه 353

إذا علم ظهور اللفظ فهل يعتبر الظنّ بالمراد أم لا يعتبر؟354

الشكّ في إرادة الظهور 354

حجّية قول اللغوي و عدمها 356

حجّية الشهرة علي الحكم 364

ص: 543

حجّية الاجماع 374

أدلّة النافين لحجّية خبر الواحد و المثبتين 383

كيفية عمل أصحاب الأئمّة و القدماء بالأخبار 403

الآيات الدالّة علي حجّية خبر الواحد 417

آية النبأ،آية النفر،آية الكتمان 417،426،428

الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد 435

ما دلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم 437

ما دلّ علي ارجاعهم عليهم السّلام إلي أشخاص معيّنين 444

ما دلّ علي أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كانوا يعملون بروايات الرواة 446

ما دلّ علي حجّية خبر الثقة 447

ما يمكن أن يستدلّ بها علي حجّية خبر العدل علي الظاهر 448

ما دلّ علي عدم حجّية الخبر المعارض للكتاب 452

المتحصّل من جميع الأخبار 458

ما دلّ علي عدم جواز ردّ ما روي عن المعصومين عليهم السّلام 463

الدليل العقلي علي حجّية خبر الواحد 464

دليل الانسداد 465

نتيجة دليل الانسداد 477

الظنّ هل يكون جابرا أو موهنا أو مرجّحا؟477

حكم الظنّ في غير الأحكام الفرعية 478

أقسام الخبر،الخبر الصحيح،و الحسن الموثّق،و الضعيف 480،485،489،490

الخبر المرسل:و المشهور 492،500

طرق إثبات العدالة و الوثاقة،حجّية قول الرجاليين و عدمها 511،512

ص: 544

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : رجايي، محمد

عنوان و نام پديدآور : منهاج الاصول/ تاليف محمد الرجائي

مشخصات نشر : محمدرجائي ، 1425ق. = 1383.

مشخصات ظاهري : ج 2

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ر3م8 1383

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 84-13294

ص: 1

اشارة

منهاج الاصول

محمد الرجائي

ص: 2

الجزء الثاني

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة علي سيّدنا محمّد و آله الطاهرين.

المقصد السابع: في الاصول العمليّة

اشارة

و هي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل،قالوا:

و المهمّ منها أربعة،و هي:البراءة،و الاحتياط،و التخيير،و الاستصحاب.

أقول:إنّما نتعرّض لهذه الأربعة لأنّها محلّ الكلام بين الأصحاب،و أمّا علي المختار فالاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،فهو مسألة فقهيّة،فيقع الكلام في فصلين:

الفصل الأوّل في الشكّ في أصل التكليف و هو مجري البراءة عند الاصوليّين، أو في المكلّف به و هو مجري الاحتياط أو التخيير.

الفصل الثاني في الاستصحاب.أمّا:

الفصل الأوّل

اشارة

فيقع الكلام فيه في مقامين:

المقام الأوّل: في الشكّ في أصل التكليف
اشارة

و يجري فيه البراءة،و يعبّر عنها باستصحاب حال العقل،قال في المعتبر بعد أن ذكر أنّ الأدلّة خمسة:الكتاب،و السنّة،و الاجماع،و دليل العقل،و الاستصحاب،

ص: 3

قال:و أمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة:استصحاب حال العقل،و هو التمسّك بالبراءة الأصليّة،كما تقول:ليس الوتر واجبا؛لأنّ الأصل براءة العهدة منه الخ (1).

و المراد باستصحاب حال العقل استصحاب عدم التكليف في حال عدم التمييز قبل البلوغ.

و أوضحه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بما ملخّصه:أنّ المقتضي للحكم الشرعي تارة يكون موجودا في مورد الحكم العقلي نظير ناسي السورة،فإنّه لا يصحّ تكليفه حال النسيان عقلا،فإذا تذكّر ارتفع الحكم العقلي،فلا مجال لاستصحاب عدم تكليفه بالسورة حال النسيان.و اخري لا يكون المقتضي موجودا،كعدم تكليف غير المميّز،فإنّ المقتضي للتكليف الشرعي لم يكن موجودا في حال أنّه ليس قابلا للتكليف عقلا،و حينئذ إذا ارتفعت تلك الحالة جاز استصحاب عدم التكليف.

قال:و من هذا الباب استصحاب حال العقل المراد به في اصطلاحهم استصحاب البراءة و النفي،فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل علي طبقها و هو عدم التكليف (2)الخ.

ثمّ إنّ

البحث عن أصالة البراءة يقع في مقدّمة و مطالب.
أمّا المقدّمة،فيبحث فيها عن أمور:
الأمر الأوّل

لا يخفي أنّ ما يكون علي عهدة المكلّفين من قبل الشارع المقدّس بحيث يستحقّون العقاب علي عدم امتثاله هو الحكم الصادر منه الذي جعله في معرض الوصول إليهم،بحيث لو فحص المكلّف لوصل إليه تفصيلا أو اجمالا،فلا تكليف له بغير ذلك،و يدلّ عليه من الكتاب الكريم قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما

ص: 4


1- المعتبر 1:32.
2- فرائد الاصول ص 555.

آتاها (1) و غيره من الآيات و الأخبار الدالّة علي أنّه لا شيء علي الناس ما لم يتمّ الحجّة و البيان لهم.

ثمّ إنّه إن شكّ المكلّف في الحكم بعد الفحص عنه،فهل المرجع البراءة شرعا أو الاحتياط؟قولان،و ينبغي تحرير محلّ البحث،فنقول:إن لم يبيّن الشارع الحكم أصلا فهو ممّا سكت اللّه عنه و ليس علي العباد أن يتكلّفوه،و كذا إن بيّنه لواحد و نحوه و لم يجعله في معرض الوصول إلي نوع المكلّفين،ففي هاتين الصورتين لا تكليف واقعا.

و أمّا إن احتمل أنّه بيّنه،فإن كان الحكم محلّ ابتلاء المكلّفين و لم يكن عليه دليل و لم يفت أحد من العلماء به،فعدم الدليل في مثله دليل العدم،فلا حكم واقعا للدليل علي عدمه.

و إن لم يكن الحكم كذلك،مع احتمال صدوره عن الشارع،فهو علي قسمين:

الأوّل:أن يكون منشأ الشكّ احتمال وجود خبر دالّ عليه قد خفي علينا،و كان في ضمن الكتب التي فقدت من الشيعة،ففي مثله لا تكليف واقعا،أمّا عدم التكليف واقعا،فلأنّ الواقع الذي لا يصل إليه المكلّف بعد الفحص،هو كالحكم الذي لم يجعل في معرض الوصول أصلا.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الدليل المصحّح للتكليف هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه و الاستفادة منه،فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف أصلا، أو كان و لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف، أو تيسّر و لم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ،فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح إلي آخر كلامه (2).8.

ص: 5


1- سورة الطلاق:7.
2- فرائد الاصول ص 358.

و أمّا الوظيفة الظاهريّة في ذلك،فلا بدّ من مراجعة الأدلّة الشرعيّة علي الاحتياط و البراءة.

القسم الثاني:أن يصل إليه خبر مجمل،أو تتعارض عنده الأخبار،أو كان الحكم في ضمن خبر ضعيف علي اصطلاح المتأخّرين و أمثال ذلك،ففي هذه الموارد هل يرجع إلي البراءة أم إلي الاحتياط؟احتمالان،لا يبعد لزوم الاحتياط في بعضها،و إن قلنا بالبراءة في القسم الأوّل،فإنّه لا ملازمة في الحكم بين القسمين.

الأمر الثاني

انّ أصالة البراءة ليست دليلا لنفي الحكم واقعا،بل هي في رتبة متأخّرة عن الحكم الواقعي،فهي المرجع بعد عدم الدليل علي الحكم الواقعي،و فرق بين الاباحة الواقعيّة كإباحة شرب الماء مثلا و الاباحة الظاهريّة.

فما ذكره بعض (1)الأخباريّين من أنّ القائل بالبراءة يستدلّ علي عدم الحرمة واقعا بالبراءة،في غير محلّه،بل يقول:انّ الحكم الواقعي لا يتنجّز لا أنّه منفي واقعا،و هذا هو عين ما قاله هذا الشخص بعد ايراد بعض أخبار البراءة.

حيث قال:و هو يدلّ علي أنّ عادم العلم بالحكم الشرعي بعد التفحّص عنه غير مؤاخذ في تركه و لا مكلّف به من باب الرخصة،حيث انّه بذل جهده،فهو معذور عند اللّه تعالي،و لا يدلّ علي نفي نفس الحكم،بل و لا علي حصول الظنّ بنفيه في الواقع،كما هو معني البراءة عند من يقول بها (2)انتهي.

و هذا الكلام مناقض لما ذكره بعد،من أنّ المسألة التي لا تتكرّر و لا تكون عمّا تعمّ به البلوي ليكثر السؤال عنه هي ممّا يجب التوقّف فيه عن نفي الحكم و اثباته

ص: 6


1- هو الشيخ حسين العاملي في هداية الأبرار ص 266.
2- هداية الأبرار ص 269.

إلاّ بالنصّ (1)انتهي ملخّصا.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه ليس مذهب المجتهدين التمسّك بالبراءة لنفي الحكم الواقعي (2).

الأمر الثالث

إذا خالفت أصالة الاباحة الواقع،بأن كان شرب التتن المشكوك حرمته حراما واقعا،أو كان المايع المشكوك كونه خمرا المحكوم بأصالة الاباحة خمرا واقعا، فلا تنافي بين الحرمة الواقعيّة و بين حلّية شربه ظاهرا،فإنّ حلّيته ظاهرا حكم واقعي ثانوي نظير حكم الحرام المضطرّ إليه كالميتة،فكما أنّها حرام بذاتها كالميتة و حلال لمن اضطرّ إليها،كذلك شرب التتن حرام في ذاته و حلال بعنوان كونه مشكوكا.

و هذا مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق،و هذا الوارد ظاهري،لكونه المعمول به في الظاهر،و واقعي ثانوي لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم لتأخّر موضوعه عنه (3)انتهي.

و قد اندفع بذلك ما ذكره في الكفاية،قال:كما لا يصحّ بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين،ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين،و ذلك لا يكاد يجدي،فإنّ الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ انّه يكون في مرتبته أيضا،و علي تقدير المنافاة يلزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (4)انتهي.

ص: 7


1- هداية الأبرار ص 271.
2- فرائد الاصول ص 380.
3- فرائد الاصول ص 190.
4- كفاية الاصول ص 322.

وجه الاندفاع:أنّه إذا كان من قبيل العناوين الثانويّة،فلا تنافي بينها و بين العناوين الأوّليّة؛لأنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد،و هي تتغيّر أحيانا بتغيّر الأحوال كالميتة،فإنّها محرّمة ذاتا للمفسدة الموجودة فيها،و لكن يحلّ أكلها للمضطرّ،لكون حفظ النفس عن التلف أهمّ منها،و ربّما لا تتغيّر كقتل المؤمن مثلا، فإنّه لا يجوز و لو اضطرارا لحفظ نفسه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه يأتي في سائر الأمارات و الاصول المعتبرة شرعا بالنسبة إلي الأحكام الواقعيّة،فإنّها أحكام فعليّة لا تنافي الأحكام الواقعيّة؛لأنّها أحكام فعليّة أوّليّة و هي أحكام فعليّة ثانويّة،أو أنّ الأحكام الواقعيّة أحكام إنشائيّة و شأنيّة، و الأحكام الظاهريّة أحكام فعليّة،كما هو الأظهر عندنا.

و قد أشار الشيخ رحمه اللّه إلي الأمرين في ردّ ما حكي عن الاسترابادي،قال:فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح،علي ما صرّح به المحقّق رحمه اللّه في كلامه السابق،سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعلي حكما آخر يسمّي حكما واقعيّا،أو حكما شأنيّا علي ما هو مقتضي مذهب المخطّئة،أم قلنا ليس وراءه حكم آخر (1)إلي آخر كلامه.

الأمر الرابع

المراد من جواز ارتكاب مشكوك الحرمة شرعا امور:

أحدها:الحكم شرعا بالاباحة،فكما أنّ الماء محكوم بالاباحة الواقعيّة،كذلك شرب التتن محكوم بالاباحة الظاهريّة،أي:الاباحة الواقعيّة الثانويّة،و لعلّ ذلك ظاهر قوله عليه السّلام«كلّ شيء لك حلال»بناء علي شموله للشبهة الحكميّة.

ثانيها:عدم المؤاخذة علي الحكم الواقعي،و لعلّ ذلك ظاهر قوله عليه السّلام«رفع ما

ص: 8


1- فرائد الاصول ص 357.

لا يعلمون».

ثالثها:عدم جعل الاحتياط شرعا في موارد الشكّ تحفّظا علي الواقعيّات،كما جعل في مورد الدماء و الفروج و الأموال علي ما قيل.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية جعل جميع مسائل الشبهة تحت عنوان واحد،و الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جعل كلّ مسألة عنوانا مستقلا،و لعلّه الأولي؛لاختصاص بعض المسائل بما ينبغي أن يذكر فيه و لذا نقتفي أثره.

و قبل ذلك نقول:ذكر في نهاية الاصول أنّ الحيثيّة المبحوث عنها إن كانت انّ صرف احتمال التكليف هل يكفي لتنجّزه أم لا؟فلا مجال إلاّ لدليل العقل،و لا مجال للاستدلال بالأدلّة الشرعيّة،فإنّ الحاكم في باب التنجيز هو العقل،و إن كانت الحيثيّة المبحوث عنها أنّه هل تحقّق من قبل الشارع التحفّظ علي الواقع بعد تسليم عدم كفاية صرف الاحتمال للتنجيز،فلا مجال للاستدلال بدليل العقل،بل يقتصر علي الاستدلال بدليل الشرع.

و إن كانت الحيثيّة المبحوث عنها أنّه هل يجب علي العبد الاحتياط في مورد الشكّ في الحكم:إمّا لكون صرف الاحتمال منجّزا،أو لا يجاب الشارع للاحتياط،فعلي القائل بالبراءة نفي كلا الدليلين حتّي يثبت بأحدهما جزء المدّعي،أي:عدم كون الاحتمال منجّزا،و يثبت بعدم جعل الاحتياط شرعا جزءه الآخر (1).

أقول:لا إحاطة للعقل بالمصالح الواقعيّة الموجودة في متعلّق التكاليف،فلو فرض أنّ العقل استقلّ بقبح عقاب المولي عبده علي ما لم يصل إليه،لم يكن له أن يستقلّ بالقبح في الشرعيّات؛لأنّ المصالح التي يلاحظها الشارع علي قسمين:4.

ص: 9


1- نهاية الاصول ص 564.

الأوّل:المصالح التي هي أهمّ من مصلحة التسهيل،فلا بدّ من مراعاتها حتّي حال الشكّ كالدماء و الأعراض،ففي مثله يجب الاحتياط في مورد الشكّ.

الثاني:ما كان مرجوحا بالنسبة إلي مصلحة التسهيل،فلا يجب فيه الاحتياط، بناء علي أنّ المرجع في الشبهة التحريميّة البراءة،لكن تمييز الأمرين ليس في وسع العقل و لا بدّ من الرجوع إلي الشرع،فتأمّل.

و أمّا المطالب،فهي ثلاثة:
المطلب الأوّل: في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب
اشارة

و يقع الكلام في مسائل:

المسألة الاولي:الشبهة التحريميّة الحكميّة فيما لا نصّ فيه
اشارة

،أي:لم يوجد دليل علي الحرمة بعد الفحص التامّ،لا عدم النصّ واقعا،فإنّه إذا لم يصدر الحكم من الشارع كان ممّا سكت اللّه عنه،و ليس محلّ النزاع في الرجوع إلي البراءة أو الاحتياط،أمّا ما لا يوجد فيه نصّ و احتمل وجوده واقعا،ففي الرجوع إلي البراءة و عدمه قولان،و يستدلّ للأوّل بآيات من الكتاب و بالأخبار.

أمّا الآيات فمنها:قوله سبحانه و تعالي لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (1)قيل:إنّ دلالته ظاهرة،فإنّه حصر التكليف في التكليف الواصل إلي الناس،فلا تكليف لهم بالحكم الذي لم يصل إليهم بعد الفحص عنه،و لكن نوقش في دلالته من وجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)،و هو أنّ«ما»موصولة و محتملاتها أربعة:

ص: 10


1- سورة الطلاق:7.
2- فرائد الاصول ص 316.

الأوّل:أن يكون المراد بها المال بقرينة صدر الآية،أي:لا يكلّف اللّه نفسا أن تنفق مالا إلاّ مالا آتاها ايّاها.

الثاني:الفعل الذي أتاها ايّاها،و هو الانفاق و فعل الصلاة و الصوم و نحو ذلك، أي:يكلّفها بفعل أعطاها ايّاه بأن أقدرها عليه،و هو أعمّ من الأوّل.

الثالث:أن يكون المراد التكليف،أي:لا يكلّفها إلاّ تكليفا أعطاها أي:أعلمها، و يوافقه قوله عليه السّلام«اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه».

الرابع:الجمع بين المعني الثالث و سابقيه،و هو مستلزم للاستعمال في أكثر من معني،لانّ«ما»علي الأوّلين يراد بها متعلّق التكليف،و علي الثالث يراد بها نفس التكليف و لا جامع بينهما،و المعني الثالث مناف لمورد الآية،فيتعيّن أحد الأوّلين، فيخرج عن محلّ الاستدلال.

قلت:يحتمل أن يكون المراد منه الاخبار عن أنّ اللّه تعالي لا يلقي عبده في كلفة و لا في مشقّة إلاّ فيما أعطاه،فإن كان فعل الانفاق أو فعل الصلاة و نحوهما، فإعطاؤه إقداره عليه بأن يكون له مال و له قدرة علي القيام في الصلاة.

و إن كان وجوب فعل فإعطاءه ايصال الوجوب إليه؛لأنّ الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و آله للحاضرين في مجلسه تكليف ثابت منجّز عليهم،و أمّا الغائبون عن مجلسه،فمن بلغه الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و آله،فيصدق عليه أنّه أوتي الحكم،فإنّ ايتاء كلّ شيء بحسبه،قال اللّه سبحانه و تعالي ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)فإذا أوتي هذا الحكم أي بلغه كلّف به.

فحينئذ يمكن إرادة المعني الجامع بين الحكم و الفعل من الموصول،أي:لا يكلّف اللّه سبحانه نفسا و لا يحمّلها إلاّ أمرا أعطاها إيّاها،ففعل الصلاة أمر قد9.

ص: 11


1- سورة الحشر:59.

أعطي للمكلّف،حيث أقدره اللّه سبحانه عليها،و وجوب الصلاة عليه أمر قد أعطي له؛لأنّ اللّه أعلمه به،فالمراد من الموصول المفعول به،لكن يختلف ايتاؤه،ففي التكليف الاعلام به،و في متعلّقه الاقدار عليه،فالايتاء معني جامع و هو في كلّ مورد بحسبه.

و قد يستظهر إرادة المعني الشامل للتكليف من خبر عبد الأعلي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:أصلحك اللّه هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟قال:

فقال:لا،قلت:فهل كلّفوا المعرفة؟قال:لا علي اللّه البيان لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها قال:و سألته عن قوله تعالي وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه (1).

بأن يكون المراد من البيان ايجاب اللّه تعالي المعرفة علي الناس،فيكون ايتاؤه أي الاعلام بوجوبها داخلا في قوله لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها فكلّ حكم لم يبيّنه اللّه لا يكون مكلّفا به،فإذا شكّ في حرمة التتن و فحص عنها و لم يجد دليلا علي الحرمة،فلم يعلم اللّه تعالي الحرمة.

و فيه أنّ الظاهر أنّ السائل سأل عن جعل أداة في الناس ينالون بها معرفة اللّه تبارك و تعالي و صفاته معرفة تفصيليّة،فأجاب عليه السّلام بعدم جعلها،ثمّ سأل عن أنّه هل تعلّق التكليف بالمعرفة التفصيليّة؟فأجاب عليه السّلام بأنّه لا بدّ أن يكون العبد قادرا عليها حتّي يتعلّق التكليف بها،و حيث لا يقدر فاللّه تبارك و تعالي لا يكلّفه بالمعرفة لأنّه لا يسعه ذلك و ما أوتي القدرة عليها،إلاّ إذا بيّن اللّه له صفاته التفصيليّة،فالمراد من البيان بيان صفاته التفصيليّة لا وجوب المعرفة،مضافا إلي5.

ص: 12


1- اصول الكافي 1:125 ح 5.

ما مرّ من أنّ ما لم يبيّن واقعا ليس مورد جريان أصالة البراءة.

الثاني:ما ذكره في فوائد الاصول من أنّ أقصي ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة و العقوبة لا تحسن إلاّ بعد بعث الرسل و إنزال الكتب و تبليغ الأحكام و التكاليف إلي العباد،و هذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث و الانزال و التبليغ و عروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها،فالآية المباركة لا تدلّ علي البراءة،بل مفادها مفاد قوله تعالي وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1).

قلت:المذكور في الآية إيتاء كلّ نفس علي حدة،فلا يكفي تبليغ الأحكام لمن بلغه من الشارع في ثبوت التكليف لمن لم يبلغه،بل لا بدّ من ايتاء كلّ شخص علي حدة،و الشاكّ لم يؤت الحكم.و يحتمل أن يكون مراده ما تقدّم من أنّ محلّ جريان البراءة احتمال خفاء الحكم لا عدم وجوده لعدم جعله أصلا.

الثالث:الاجمال و عدم ثبوت العموم لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة علي عدمه،و هو قوله تعالي في صدر الآية انّ من كان له سعة ينفق بحسب سعته،و من كان في ضيق ينفق بحسب ما آتاه اللّه،لا كما ينفق ذو السعة،فإنّه لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما أقدرها عليه من الانفاق،فشموله لغير الانفاق مشكل.

و منها:قوله تعالي مَنِ اهْتَدي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (2)المعني:أنّ كلّ إنسان مقياس مستقلّ لا هتدائه و ضلاله،و هو يعامل معاملة عادلة،فما يكسب من خير أو شرّ فهو لنفسه أو عليها،و إنّ اللّه لا يعذّب أحدا حتّي يتمّ عليه الحجّة ببعث الرسول إليه،فيعذّبه علي المخالفة،و ما لم يتمّ عليه الحجّة علي وجوب فعل أو8.

ص: 13


1- فوائد الاصول 3:121.
2- سورة فاطر:18.

حرمته،فلا يعذّب علي مخالفته.

و يقرب من هذه الآية في مفادها آيات،و هي:

قوله تعالي وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُري حَتّي يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُري إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (1).

و قوله تعالي وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (2).

و قوله تعالي وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ (3).

و قوله تعالي وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ (4).

و قوله تعالي رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (5).

و مشكوك الحرمة بعد الفحص عن الدليل لم يتمّ الحجّة علي حرمته من قول الرسول فلا عذاب عليه هذا.و الاحتمالات في معني الآية ثلاثة:

أحدها:إرادة الأعمّ من الرسول في الظاهر و الرسول في الباطن،كما ورد أنّ للّه حجّتين:حجّة في الباطن و هو العقل،و حجّة في الظاهر و هو الرسول.

ثانيها:إرادة الرسول في الظاهر،و لكن إنّما ذكر لأنّ أغلب التكاليف الشرعيّة ممّا لا يستقلّ به العقل،و يحتاج فيها إلي الرسول الظاهر لا للاختصاص به.

ثالثها:خصوص الرسول في الظاهر،فيختصّ بالأفعال التي لا حكم للعقل فيها5.

ص: 14


1- سورة القصص:59.
2- سورة طه:134.
3- سورة الزمر:71.
4- سورة النحل:113.
5- سورة النساء:165.

بالأمر و النهي.و علي جميع هذه الاحتمالات لا يعذّب من لم يثبت عنده حرمة الشيء.

و قد نوقش في دلالة الآية علي البراءة بوجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)من أنّ المراد نفي العذاب الدنيوي، و المنفي بالبراءة هو العذاب الاخروي،فلا تدلّ علي البراءة.

و فيه أوّلا:عدم قرينة علي اختصاص نفي العذاب بالدنيوي،كما أنّ سائر الآيات التي ذكرناها لا اختصاص لها ظاهرا به.

و ثانيا:أولويّة عدم التعذيب بالعذاب الاخروي؛لأنّه أشدّ من العذاب الدنيوي، فإذا لم يعذّبوا في الدنيا لعدم إتمام الحجّة عليهم،فهم أولي بأن لا يعذّبوا في الآخرة.

الثاني:ما أورده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أيضا،بأنّ الآية مخصوصة بالامم الماضية.

و فيه أوّلا:أنّ ظاهر الآية أنّ هذا شأن اللّه تعالي و سنّته،فلا يختصّ ببعض الامم و لا يتخلّف.

و ثانيا:أنّ الأفعال المنسوبة إلي اللّه تعالي منسلخة عن الزمان.و اورد علي هذا بأنّ الفعل الزماني يسند إلي الفاعل الزماني،و اللّه تعالي و إن لم يكن في الزمان لكنه مع الزمان معيّة قيّومية.

و ثالثا:أنّ سائر الآيات لا تختصّ بالامم الماضية.

الثالث:ما ذكره في فوائد الاصول من أنّ مفادها الاخبار بنفي التعذيب قبل اتمام الحجّة،كما هو حال الامم السابقة،فلا دلالة لها علي مشتبه الحكم من حيث7.

ص: 15


1- فرائد الاصول ص 317.

انّه مشتبه الي آخر كلامه (1).

و حاصله:أنّ الآية تدلّ علي أنّه لا عقوبة إلاّ بعد بعث الرسل،و هذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث و الانزال و التبليغ و عروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها،و هذا الاحتمال غير بعيد، فيشكل التمسّك بالآية.

الرابع:أنّها تدلّ علي عدم فعليّة التعذيب قبل بعث الرسول،و هو أعمّ من نفي الاستحقاق،و القائل بالبراءة يريد إثبات نفي استحقاق العذاب،و الآية الشريفة لا تنفيه؛لإمكان أن يكون الاستحقاق موجودا و كان نفيه قبل بعث الرسول منّة منه تعالي علي عباده.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّه يكفي عدم الفعليّة؛لأنّ الخصم يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع في الهلاك و العقاب من حيث لا يعلم،كما هو مقتضي رواية التثليث و نحوها التي هي عمدة أدلّتهم،و يعترف بأنّه لا مقتضي للاستحقاق علي تقدير عدم الفعليّة،فإذا ثبت عدم الفعليّة ثبت عدم الاستحقاق.

و أورد علي هذا الجواب في الكفاية،بأنّه لو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق و الفعليّة،لما صحّ الاستدلال بها إلاّ جدلا،مع وضوح منعه،ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس بأعظم ممّا علم بحكمه،و ليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلاّ كالوعيد به فيه،فافهم (2).

توضيحه:انّ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعليّة و نفي الاستحقاق يصحّح الاستدلال به جدلا،و لإسكات الخصم،و ليس علي نحو البرهان المنتج للقطع و الاذعان.هذا مع أنّه ليس للخصم أن يدّعي الملازمة بين فعليّة العقاب5.

ص: 16


1- فوائد الاصول 3:121.
2- كفاية الاصول ص 385.

و الاستحقاق،حتّي يكون نفي فعليّة العذاب مستلزما لنفي الاستحقاق.

و ذلك لأنّ ما علم حرمته أو وجوبه يكون الوعيد في مخالفتهما إخبارا بالاستحقاق،لا إخبارا عن فعليّة العقاب،و لعلّ العقاب يرتفع لتوبة أو شفاعة، و ليس ما شكّ في وجوبه أو حرمته بأعظم ممّا علم،فلا بدّ و أن يقول:إنّ الوعيد في اتيان ما شكّ إخبار عن استحقاق العقاب،فإذا دلّ دليل علي نفي فعليّة العقاب بارتكابه،فهو لا ينفي الاستحقاق،اللهمّ إلاّ أن يكون همّ القائل بالبراءة هو الأمن من العقاب و لو مع استحقاقه.

أقول:المهمّ هو الأمن من العقاب،و هو يكفي للقائل بالبراءة.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال:إنّ الآية تنفي الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع؛ لأنّه ينفي التعذيب خارجا قبل بعث الرسول،بناء علي إرادة النبي من الرسول، حتّي في صورة حكم العقل باستحقاق العقاب،فتنفي الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

و قد اجيب بأنّ من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقلّ بقبحه العقل مثلا،أي:كما أنّ العقل يحكم باستحقاق العقاب،كذلك الشرع يحكم بالاستحقاق،فالملازمة متحقّقة،لكن الشارع تفضّل بالعفو،كما تفضّل بالعفو عن نيّة السيّئة،و بالعفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر،و بالعفو عن الظهار مع حرمته علي ما قيل.

و أورد علي الجواب المذكور في فوائد الاصول (1)أوّلا:بأنّه لو كان المراد نفي فعليّة التعذيب لم يصحّ الاستدلال به للبراءة.

قلت:تقدّم الكلام فيه.1.

ص: 17


1- فوائد الاصول 3:121.

و ثانيا:بأنّ ثبوت الحرمة الشرعيّة مع إخبار الشارع بنفي التعذيب و التفضّل بالعفو يوجب التجرّي بفعل الحرام.و أمّا الأمثلة المذكورة،فالاخبار بالعفو عن نيّة السيّئة لا يوجب التجرّي؛لأنّ القصد و التجرّي علي النيّة المجرّدة لا يعقل،و كذا الاخبار بالعفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر؛لأنّه لا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنّه يجتنب عن الكبائر ما دام العمر و تمام أزمنة حياته،و أمّا العفو عن الظهار،فلم يثبت و إن قيل به (1).

أقول:لو سلّم أنّ المراد نفي التعذيب فعلا لا لمانع،فلا بدّ و أن يكون لعدم المقتضي،و مع عدم المقتضي لا يستحقّ العقاب،فتأمّل.

و منها:قوله سبحانه وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (2)دلّ علي أنّ كلّ قوم هداهم اللّه فلا يضلّهم إلاّ بعد أن يبيّن لهم المحرّمات ليتّقوها،فإذا لم يتّقوا أضلّهم بسوء فعلهم،و لا يتحقّق البيان لهم إلاّ مع وصوله إليهم،أو كونه في معرض وصولهم إليه بالفحص.

و في خبر عبد الأعلي قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه.و في خبر شاهويه لمّا شكّ في الامام بعد أبي الحسن العسكري عليه السّلام كتب إليه العسكري عليه السّلام:

إنّ اللّه لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم،صاحبكم بعدي أبو محمّد (3).

و أورد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه علي الاستدلال به أوّلا:بأنّه ناظر إلي الامم السابقة.

و فيه أنّ«كان»مسلوب عنه معني المضي كما هو ظاهر،و لو سلّم فيتعدّي عمّا ثبت في الامم الماضية إلي غيرها بقوله تعالي سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ1.

ص: 18


1- فوائد الاصول 3:121.
2- سورة التوبة:115.
3- الغيبة ص 121.

تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً (1) .

و ثانيا:بأنّ توقّف الخذلان علي البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب،اللهمّ إلاّ بالفحوي (2)انتهي.

قلت:يريد أنّ توقّف سدّ باب التوفيق للطاعة و ايكاله إلي نفسه و استحقاق العقاب الدائمي علي البيان لا يستلزم توقّف عقاب مجهول الحكم علي ايصال البيان إلاّ بالفحوي،بأن يقال:إنّه إذا توقّف الخذلان علي البيان،فأولي بأن يتوقّف عقاب مجهول الحكم علي البيان.

و فيه أنّ الخذلان أعلي مرتبة من العقاب علي عمل واحد مثلا،و لا يكون ما ثبت للأعلي ثابتا للأدني بالأولويّة،فيمكن أن يعاقب علي ما لم يبيّن.

و منها:قوله سبحانه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3)الهلاك شامل لارتكاب المعصية،حيث انّه يؤدّي إلي استحقاق العقاب،و في الخبر «هلكت جامعت أهلي علي غير ماء»الحديث (4).فأطلق الهلاك علي المجامعة التي هي حرام.

و معني الآية و اللّه العالم:أنّ الهلاك باستحقاق العقاب لا يكون إلاّ عن بيّنة،فمع الشكّ في حرمة شيء بعد الفحص التامّ لا هلاك في ارتكابه؛لكونه لا عن بيّنة.

و يمكن المناقشة في العموم الشامل لكلّ معصية،بأنّ مورد الآية تحقّق آية من آيات اللّه العجيبة علي النبوّة و نصرة المؤمنين،و هي تلاقي المسلمين و الكفّار علي غير ميعاد،و غلبة المسلمين علي الكفّار،فكان ذلك آية من لم يعترف بها هلك عن4.

ص: 19


1- سورة الفتح:23.
2- فرائد الاصول ص 318.
3- سورة الأنفال:43.
4- تهذيب الأحكام 1:194.

بيّنة،فالهلاك في مورد الآية لا يقتضي الهلاك في غيره.

و منها:قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1)يدلّ بمقتضي إطلاقه علي أنّه لا يكون للعبد حجّة علي اللّه تعالي،فلو ارتكب فعلا لم يكن دليل علي حرمته و كان حراما واقعا و عوقب عليه،كان للعبد حجّة علي اللّه تعالي أنّه لماذا عاقبه،فلا بدّ و أن لا يكون معاقبا عليه حتّي لا يكون للعبد عليه تعالي حجّة،بناء علي استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

و في خبر مسعدة،قال:سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام و قد سئل عن قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فقال:إنّ للّه تعالي يقول للعبد يوم القيامة:عبدي أكنت عالما؟فإن قال:نعم،قال:أفلا عملت بما علمت.و إن قال:كنت جاهلا،قال له:

أفلا تعلّمت حتّي تعمل؟فيخصمه،و ذلك الحجّة البالغة (2).

فإنّ التوبيخ علي ترك التعلّم لا يكون إلاّ مع إمكان التعلّم،فلو فرض أنّه فحص عن دليل الحرمة في مظانّها فلم يجده،فهو غير متمكّن من تعلّم حكمه،فلم يتمّ عليه الحجّة.

و منها:قوله تعالي قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلي طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ (3)الآية.دلّ علي أنّ عدم الوجدان يدلّ علي عدم الوجود.

و في دلالته نظر؛لأنّ عدم وجدانه صلّي اللّه عليه و آله مساو لعدم الوجود،و ليس ذلك لكبري أنّ عدم الوجدان يدلّ علي عدم الوجود،بل لعلّ التعبير به هو لتلقين أن يجادلهم بالتي هي أحسن،فإنّ في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة عدم المعارضة بردّ كلام المخاطب ما لا يكون في التعبير بعدم الوجود.5.

ص: 20


1- سورة الأنعام:149.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:144 ب 1 ح 33.
3- سورة الأنعام:145.

و منها:قوله تعالي وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (1)دلّ علي أنّه بعد تفصيل المحرّمات لا مجال لامتناع الانسان عن ارتكاب بعض ما يشكّ في حرمته.

و في دلالته علي جواز ارتكاب المشتبه نظر؛لأنّه يدلّ علي أنّ الأشياء إمّا حلال و إمّا حرام،فإذا عدّ المحرّمات من المأكولات علي نحو واضح مفصّل،فلا يكون ما عداها حراما،و هذا ليس محلّ كلام؛لما بيّنا من أنّ ما سكت اللّه تعالي عن تحريمه واقعا،فليس بحرام واقعا بل هو مباح.

ثمّ لا يخفي أنّ أخبار الاحتياط لو تمّت دلالتها و لم تكن معارضة لأخبار البراءة،فهي بيان و تعريف،فلا يمكن معها التمسّك بالآيات المذكورة للبراءة.

و أمّا الأخبار،فهي علي طائفتين:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي أنّ الحكم المجهول مرفوع لا يعاقب عليه، و يعارضه أخبار وجوب الاحتياط.

فمنها:ما رواه في الكافي مرفوعا،و في الفقيه مرسلا،و الظاهر اتّحاد ما رواه في الفقيه مرسلا مع ما رواه في التوحيد (2)،عن أحمد بن محمّد بن يحيي،قال:

حدّثنا سعد بن عبد اللّه،عن يعقوب بن يزيد،عن حمّاد بن عيسي،عن حريز.و في الخصال (3):حدّثنا محمّد بن أحمد بن يحيي العطّار،قال:حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد،عن حمّاد بن عيسي،عن حريز بن عبد اللّه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:رفع عن امّتي تسعة:الخطأ،و النسيان،و ما اكرهوا عليه،و ما لا يطيقون،و ما لا يعلمون،و ما اضطرّوا إليه،و الحسد،و الطيرة،7.

ص: 21


1- سورة الأنعام:119.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 353.
3- الخصال ص 387.

و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة (1).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:السند صحيح في الخصال كما عن التوحيد (2).

أقول:ما في الخصال عن محمّد بن أحمد بن يحيي العطّار،هو محرّف، و الصحيح ما في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيي،لأنّه ليس في طبقة الصدوق محمّد بن أحمد بن يحيي،فإن كان المراد به صاحب نوادر الحكمة، فالصدوق يروي عنه بواسطتين،مع أنّه لا يوصف بالعطّار.و أمّا أحمد بن محمّد بن يحيي،فهو معتمد عليه،مع أنّ المحتمل قويّا أنّ ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا هو الذي رواه في التوحيد مسندا،فيكون أحمد بن محمّد بن يحيي في سند الرواية في الفقيه أيضا.

و الراوي الأوّل في روايات الصدوق في الفقيه لا حاجة إلي إثبات و ثاقته، مضافا إلي قوّة احتمال أن تكون الرواية مأخوذة عن كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه؛لأنّ أحمد بن محمّد بن يحيي ليس له كتاب،بل هو شيخ إجازة،و كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه قد ثبت عند الصدوق أنّه كتابه:إمّا لكونه مشهورا و مسلّما أنّه كتابه،أو لكون أحمد بن محمّد بن يحيي ثقة عنده و اعتمد عليه في وصول الخبر،إذ لا يحتمل رواية الصدوق عن سعد بن عبد اللّه بطريق مجهول لم يثبت وصوله عنده؛لأنّه قد التزم في الفقيه بايراد ما يكون حجّة بينه و بين ربّه.

و رواه في الوسائل عن نوادر أحمد بن محمّد بن عيسي،عن إسماعيل الجعفي، و لكن لم يثبت طريق إلي كون النوادر الموجود هو نوادر أحمد بن محمّد بن عيسي،و ما ذكره في آخر الوسائل من الطرق إلي الكتب،فهي ليست طرقا إليها بمعني وصول الكتب إليه يدا بيد بهذه الطرق،بل انّها طرق إلي كتب مؤلّفيها،0.

ص: 22


1- جامع أحاديث الشيعة 1:325 ب 8 ح 1 و ح 2 و ح 3.
2- فرائد الاصول ص 320.

و صاحب الوسائل تيقّن أنّ هذه الكتب الموجودة هي كتب أولئك المؤلّفين،و هذا لا ينفع لمن لا يتيقّن بذلك.

هذا مع أنّ الظاهر من كلام الشيخ في الفهرست (1)«و روي المبوّبة-أي النوادر- ابن الوليد»أن يكون متفرّعا علي سابقه،و هو رواية أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد عن أبيه،فلاحظ.

و أحمد بن محمّد بن الحسن لم يرد فيه توثيق و لا مدح،مع أنّ كون النوادر الموجود هو المبوّبة غير معلوم،فالطريق إلي النوادر أيضا محلّ إشكال.

و اسماعيل الجعفي مردّد بين جماعة علي ما بيّناه في الرجال،و لم يثبت و ثاقة جميعهم،و رواه في الدعائم مرسلا هذا.

و أمّا فقه الحديث فبيانه بذكر أمور:

الأوّل:الرفع عن شخص مساوق للوضع عنه،لكن قيل:الرفع ظاهر في إزالة الشيء الثابت و مفهومه يغاير مفهوم الدفع،فمقتضي مفهومه أن يكون التكليف الموجود مرفوعا،مع أنّه لا تكليف.

و الجواب عنه:أنّه يكفي في صدق الرفع وجود المقتضي،كما يقال للعقرب:

أعمي،مع أنّ الأعمي بمعني من له عين لا يبصر بها،و لذا لا يقال للجدار أعمي، و العقرب و إن لم يكن له عين لكن حيث إنّه حيوان،فمقتضي وجود العين له موجود،فيقال له:أعمي.

و إلي ذلك أشار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إنّ المراد بالرفع ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له،فيعمّ الدفع،و لو بأن يوجّه التكليف علي وجه يختصّ بالعامد (2)انتهي.2.

ص: 23


1- الفهرست للشيخ الطوسي ص 48.
2- فرائد الاصول ص 322.

أقول:علي هذا المعني يكون رفع ما لا يعلمون نظير رفع القلم عن الصبي، و نتيجته اختصاص الحكم بالعالم به و لا محذور فيه،لما تقدّم من جواز اختصاص الحكم بالعالم به،لكن تعلّق الرفع بالحكم خلاف ظواهر سائر الأدلّة،فلذا يكون المعني رفع المؤاخذة عمّا لا يعلمون،و سيأتي توضيحه.

الثاني:ظاهر قوله صلّي اللّه عليه و آله«عن امّتي»اختصاص هذه الامّة برفع المذكورات، لكن ينبغي صرفه إلي ما يكون مقدورا عقلا.و أمّا ما لا يكون مقدورا بالقدرة العقليّة،أو يكون منسيّا بحيث لا يتمكّن من التحفّظ من نسيانه،أو كان جاهلا قاصرا لا يخطر بباله،فالمؤاخذة في هذه الموارد قبيحة عقلا بلا فرق بين هذه الامّة و سائر الامم.

الأمر الثالث:يمكن أن يقال:إنّ قوله«ما لا يعلمون»منصرف عمّا إذا لم يعلم تقصيرا،لأنّ المطلوب من المسلمين تعلّم الدين و أحكامه بالضرورة،و لو منعنا الانصراف فإطلاقه شامل للجاهل المقصّر و الشاكّ في الحكم قبل الفحص، و القاصر المذكور في خبر عبد الصمد بقوله«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة»و من يعتقد خلاف الواقع لاجتهاد أو تقليد أو غيرهما من المعذورين.و الشبهة التحريميّة و الوجوبيّة بعد الفحص الكامل،فيقيّد بما دلّ علي عدم معذوريّة المقصّر،و بما دلّ علي لزوم الفحص عن الأحكام الشرعيّة،و هل يقيّد بغير الشبهة التحريميّة لأخبار التثليث؟سيأتي الكلام عليه.

الأمر الرابع:مقتضي إطلاق ما لا يعلمون أن يكون كلّ ما لا يعلمه المكلّف ممّا يكون قابلا للوضع و الرفع شرعا مرفوعا،و هو الحكم الكلّي أو الجزئي المستتبع رفعها لرفع المؤاخذة عليهما،لا رفع بعض آثار خاصّة كالمؤاخذة علي فعلهما، فالالزام الواقعي في الشبهة الحكميّة و الالزام في الموضوع الخارجي،كالمايع المردّد بين الخمر و الخلّ مرفوعان حقيقة.

ص: 24

مثلا شرب التتن لو كان حراما فهو مخصوص بمن يعلم حكمه،و من لا يعلم فهو حلال له واقعا.

و يمكن أن يقال بأنّه تخصيص لفعليّة الحكم،فالحكم الانشائي موجود في حقّ من لا يعلم،لكن ليس فعليّا بمعني أنّ الشارع لا يريده منه فعلا،بقرينة وحدة السياق،فإنّ المضطرّ إلي أكل الميتة إنّما يرفع عنه الحرمة الفعليّة؛لأنّ الميتة حرام ذاتا،و حلال بعنوان كونها مضطرّا إليها.و شرب التتن لو كان حراما واقعا،فهو حرام ذاتا،فمن علم بذلك كان حراما عليه،و من لم يعلم كان حلالا له بعنوان كونه غير معلوم الحرمة،فهو ليس بحرام فعلي عليه.

و كذا الكلام في سائر الفقرات،فمن نسي حرمة شيء كان حراما ذاتا غير مؤاخذ عليه بعنوان كونه منسي الحرمة،فالحكم الواقعي في هذه الموارد شأنيّ، و لعلّه مراد صاحب الكفاية في قوله:فالالزام المجهول ممّا لا يعلمون،فهو مرفوع فعلا و إن كان ثابتا في الواقع (1).و في قوله:فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقا بنفسه قابل للرفع و الوضع شرعا (2).لا ما ذكره في المصباح من أنّه ليس مراده الفعليّة الاصطلاحيّة في مقابل الانشائيّة (3)الي آخر كلامه.

فإنّ المستفاد من كلامه أنّه يريد الفعليّة في مقابل الانشائيّة،كما يقول في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري،و لعلّه أيضا مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و حاصل الكلام أنّ التكليف الواقعي مقيّد بالعلم و الرفع عمّا لا يعلمون،كالرفع عن سائر التسعة،كالفعل المضطرّ إليه،فإنّه قد رفع عنه حكمه.

و فصّل في المصباح بين ما لا يعلمون،فقال:الرفع فيه ظاهري،و بين سائر8.

ص: 25


1- كفاية الاصول ص 386.
2- كفاية الاصول ص 387.
3- مصباح الاصول 2:258.

التسعة فالرفع فيها واقعي،فيختصّ الحكم الواقعي بغير الضرورة،و استدلّ علي أنّ الرفع فيما لا يعلمون ظاهري،بأنّ الشكّ في الحرمة مثلا فرع وجودها الواقعي، و لو كان المرفوع وجودها الواقعي بمجرّد الجهل به لكان الجهل به مساوقا للعلم بعدمه كما هو ظاهر،و أيضا من ضروريّات المذهب اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم و الجاهل (1).

أقول:إن لم يكن حكم واقعي في صورة النسيان،فلا معني للنسيان،و كذا في صورة الاضطرار،فلا فرق بين نسيان الحكم و الاضطرار إلي فعل الحرام و بين الجهل بالحكم،فلا حكم في هذه الصور واقعا،لكن كيفيّة رفعه تكون بهذا البيان، بأن يكون الحكم المنشأ غير مقيّد بالعلم به،كقوله«حرّمت عليكم الخمر»و هو مشترك بين العالم و الجاهل،و العلم به يوجب فعليّته،و الجهل به حتّي مع التمكّن من الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة و درك الواقع موجب لعدم فعليّته بمقتضي حديث الرفع،فالحكم الواقعي مرفوع عن الجاهل كرفع النسيان.

و الحاصل أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد الغير المزاحمة بالمصالح و المفاسد الأهمّ،فإن كان الحكم الواقعي أهمّ من مصلحة التسهيل و نحوه يجب الاحتياط للتحفّظ عليه،كما قيل بوجوبه في الدماء،فلو شكّ أنّ إنسانا كافر أو مؤمن لم يجز قتله؛لأنّ التحفّظ علي حفظ النفس المحترمة أهمّ،و أمّا لو شكّ في مايع أنّه خمر أو خلّ جاز شربه؛لأنّه إن كان خمرا فمراعاة مفسدته بترك الشرب مزاحمة بمصلحة التسهيل مثلا التي هي أهمّ.

و بهذا البيان يظهر أنّ الحكم الفعلي واحد،و هو إلزام المكلّف بالفعل المشتمل علي المصلحة غير المزاحمة بالأهمّ،و إنّما يستحبّ الاحتياط لدرك ملاك الحكم7.

ص: 26


1- مصباح الاصول 2:257.

الواقعي؛لأنّ الترخيص تسهيل،فإن اختار المكلّف المشقّة لدرك ملاك الواقع كان حسنا.

و التحقيق أنّ يقال:إنّ الحكم الواقعي في جميع هذه الموارد موجود،و المرفوع خصوص المؤاخذة،بأن يكون المكلّف معذورا في هذه الموارد؛لأنّ رفع الحكم الواقعي و اختصاصه بصورة العلم و عدم النسيان و عدم الاضطرار و إن كان ممكنا، لكنّه يستلزم توالي فاسدة،مثلا من شكّ في امرأة أنّها اخته من الرضاعة أو أجنبيّة، أو نسي أنّها اخته فتزوّجها و كانت اخته واقعا،فالتزويج باطل.و لا يصحّ أن يقال:

إنّ معلوم المحرمية حرام تزويجه لا المجهول المحرمية،و إلاّ استلزم وجوب النفقة و المهر علي من تزوّج اخته جاهلا.

الأمر الخامس:لا يجري حديث الرفع فيما شكّ في استحبابه أو كراهته؛لأنّ الرفع يناسب الأمر الثقيل و لا ثقل فيهما،و في جريانه في الأجزاء و الشرائط للمستحبّ احتمالان.

إختار الجريان في المصباح؛لأنّ الأجزاء و الشرائط المشكوكة في المستحبّ واجبة فيه شرطا،و يترتّب عليها عدم جواز الاتيان بالفاقد بداعي الأمر لو كانت شرطا فيها،مثلا لو شكّ في اعتبار الطمأنينة في صلاة النافلة،فمرجعه إلي الشكّ في جواز الاتيان بالنافلة بدون الطمأنينة بداعي الأمر و عدمه فيرفع حرمته (1).

أقول:إن كان المشكوك ممّا يعتبر في طبيعة الصلاة المشتركة بين الواجبة و غيرها،فيجري حديث الرفع؛لأنّه لا فرق بين النافلة و الفريضة،فلو شكّ في اعتبار رفع اليدين حال التكبير،فالأصل البراءة عن الاشتراط.و أمّا لو شكّ في اعتبار شيء خاصّ بالنافلة،كالسور المخصوصة في صلاة جعفر الطيّار مثلا،فلا7.

ص: 27


1- مصباح الاصول 2:27.

مجال لحديث الرفع فيه لأنّه تابع لواقعه.

الأمر السادس:قيل:لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة في نفس الحديث،كوجوب سجدتي السهو المترتّب علي نسيان السجدة الواحدة مثلا،بل يرفع الحكم الثابت للشيء في نفسه.

أقول:مقتضي الاطلاق رفع جميع الآثار،أي:لا أثر للسهو و لا يوجب شيئا، فينا فيه ما دلّ علي وجوب السجود للسهو فيقيّد إطلاقه به.

الأمر السابع:قيل باختصاص الحديث بالشبهة الموضوعيّة لوحدة السياق، فإنّ المراد من الخطأ و النسيان و غيرهما الفعل الصادر خطأ أو نسيانا و نحوهما.

و أجاب في المصباح بأنّ«ما»الموصولة يرادف معناها الشيء،و في المذكورات اريد بها معني الشيء لكن مصاديقه تختلف (1).

أقول:التسعة المذكورة خمسة منها ليس فيها«ما»الموصولة،و الصحيح في الجواب منع اعتبار وحدة السياق،و يؤخذ بإطلاق كلّ واحد منها.

و منها:المرسل في الفقيه روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:كلّ شيء مطلق حتّي يرد فيه نهي (2).

و يمكن المناقشة في دلالته علي إباحة المشكوك باحتمال أن يكون المراد به أنّ إباحة الأشياء لا تحتاج إلي تصريح بالاباحة،بل كلّ شيء لم يكن فيه نهي واقعا فهو مباح واقعا،فهذا الخبر من الطائفة الثانية التي تدلّ علي أنّ ما سكت اللّه عنه فلا تتكلّفوه.و أمّا المشتبه حكمه،فلم يعلم أنّه لم يصدر فيه نهي ليكون مطلقا، أو ورد فيه نهي لئلاّ يكون مطلقا،فيكون شبهة مصداقيّة للعموم.

و يمكن حمل كلام الصدوق عليه،حيث استدلّ لجواز القنوت بالفارسيّة بهذا5.

ص: 28


1- مصباح الاصول 2:259.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ب 8 ح 15.

المرسل،قال بعد ذكره:و النهي عن الدعاء بالفارسيّة في الصلاة غير موجود (1)انتهي.و لعلّ مراده أنّه غير موجود واقعا،فيكون جائزا واقعا.و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه دلالته علي إباحة المشكوك،حيث قال:و دلالته علي المطلب أوضح من الكلّ (2).

و قال في المصباح في توجيهه:إنّه لو كان المراد من الورود الصدور،أي:كلّ شيء مباح واقعا حتّي يصدر النهي عنه من الشارع،فهذا لغو؛لأنّه من قبيل أن يقال:كلّ جسم ساكن حتّي يتحرّك،مع أنّه غير مقيّد بزمان دون زمان،أي:ليس فيه حتّي يرد النهي من الشارع،فالمراد من الورود الوصول (3).

قلت:فائدته بيان أنّ الأصل في الأشياء الاباحة واقعا،فمساقها مساق ما دلّ علي السكوت عمّا سكت اللّه و عدم تكلّفه،فمنع دلالته كما في الكفاية هو الأظهر.

نعم ما رواه الشيخ الطوسي في أماليه مسندا عن الحسين بن أبي غندر،عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر و نهي،و كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه (4).ظاهر في الورود علي المكلّف لا الورود واقعا،فيكون صدره في الشبهة الحكميّة و ذيله في الشبهة الموضوعيّة،لكن السند غير واضح،مع أنّ تواتر النسخة غير ثابت،فمن أين يعلم ثبوت كلمة«عليك»؟فتأمّل.

و منها:خبر حفص بن غياث،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:من عمل بما6.

ص: 29


1- من لا يحضره الفقيه 1:208.
2- فرائد الاصول ص 327.
3- مصباح الاصول 2:280.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ح 16.

علم كفي ما لم يعلم (1).أي:يكفي في النجاة عن العذاب العمل بما يعلم،و إن لم يعمل بما لا يعلم،فلو عمل بما علم من الصلاة و الصوم و غيرهما كفي و جاز له ترك ما لم يعلم وجوبه أو فعل ما لم يعلم حرمته بعد الفحص،لكن يحتمل أن يكون المراد ما ذكره العلاّمة المجلسي في البحار،قال:كفي ما لم يعلم،أي:علّمه اللّه ما لم يعلمه بلا تعب (2).

و منها:خبر عبد الأعلي بن أعين،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟قال:لا (3).بأن يكون المراد من لم يعرف حرمة شيء مثلا،فليس عليه شيء في ارتكابه،لكن يحتمل أن يكون السؤال عمّن لا يعرف أصلا،بأن تكون النكرة في سياق النفي للعموم،أي:لا يعرف أصلا لأنّه قاصر،فإنّه ليس عليه شيء،فيكون مجملا؛لتردّده بين المعنيين،و المعني الأوّل أخصّ من الثاني.

و منها:المرسل:الناس في سعة ما لم يعلموا (4).بناء علي كون«ما»موصولة، فتكون مضافا إليه،أي:في سعة من الحكم الذي لا يعلمونه فإنّه ليس عليهم، و ينافيه أخبار الاحتياط،و يحتمل كونها زمانية،أي:ما دام لم يعلموا،قيل:إنّه الأظهر و ليس ببعيد،و يدلّ علي المطلوب أيضا،لكن قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّه لا ينافي أخبار الاحتياط،فإنّ من لم يعلم الحكم حتّي وجوب الاحتياط في سعة (5).

قلت:لم يظهر الفرق بينه و بين رفع ما لا يعلمون في منافاته لأخبار الاحتياط،7.

ص: 30


1- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ح 17.
2- بحار الأنوار 2:30.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:391 ب 8 ح 9.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:390 ب 8 ح 6.
5- فرائد الاصول ص 327.

لكنّه مطلق مثل رفع ما لا يعلمون يمكن تقييده كما مرّ.

و منها:خبر عبد الأعلي المتقدّم في أوّل آية استدلّ بها علي البراءة.

و منها:خبر حمزة بن محمّد الطيّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه:و قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قال:بيّن لها ما تأتي و ما تترك،و قال: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً قال:عرّفناه إمّا آخذ و إمّا تارك.و عن قوله وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمي عَلَي الْهُدي قال:عرّفناهم فاستحبّوا العمي علي الهدي و هم يعرفون،و في رواية بيّنا لهم (1).

و منها:خبر ابن الطيّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه احتجّ علي الناس بما آتاهم و عرّفهم (2).

و منها:ما دلّ علي حلّية ما لم يعلم حرمته،و هي عدّة أخبار:

أوّلها:خبر الحسين بن أبي غندر عن أبيه،و قد مرّ.

ثانيها:صحيح عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (3).

و اختصاصهما بالشبهة الموضوعيّة ظاهر؛لظهور قوله«فيه حلال و حرام»في وجودهما فعلا.و المراد بالشيء الجنس الذي بعض أفراده حلال و بعضها حرام.

ثالثها:خبر مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة،و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه،أو خدع1.

ص: 31


1- جامع أحاديث الشيعة 1:327 ح 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:327 ح 12.
3- وسائل الشيعة 12:59 ح 1.

فبيع قهرا،أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك،و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (1).

استدلّ به في الكفاية (2)علي حلّية مشكوك الحرمة حكما و موضوعا.

و نوقش فيه بأنّه ظاهر في الشبهة الموضوعيّة بقرينة الأمثلة المذكورة،و ذكر البيّنة الظاهرة في شهادة العدلين.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ مقتضي عمومه أنّ كلّ شيء حلال واقعا أو ظاهرا كالمشكوك لشبهة موضوعيّة أو حكميّة حتّي تعلم أنّه حرام،فالخمر قد علم أنّه حرام،لكن المايع المردّد بين الخمر و الماء لم يعلم حرمته،و التتن لا يعلم كونه حراما،فهو حلال حتّي يعثر علي خبر يدلّ علي حرمته،فيحصل العلم بحرمته، فيشمل العموم جميع هذه الموارد،سواء كان منشأ الحكم بالحلّية الأمارة علي الحكم الكلّي،أو علي الموضوع الخارجي،أو أصلا من الاصول المعتبرة،أو لم يكن منشأه ذلك.

و المراد من البيّنة الحجّة الشرعية،فيشمل كلّ أمارة معتبرة و أصل كذلك،كما يشمل شهادة العدلين باعتبارها أحد المصاديق،لكن الجزم بهذا الاطلاق مشكل؛ لاحتفاف الكلام بما يوجب الشكّ في الظهور.

رابعها:خبر عبد اللّه بن سليمان،و خبره الآخر،و المرسل (3).و هذه الأخبار ظاهرة في الشبهة الموضوعية.

و منها:صحيح عبد الصمد بن بشير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أيّ رجل ركب7.

ص: 32


1- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.
2- كفاية الاصول ص 338.
3- وسائل الشيعة 17:90 ح 1 و ح 2 و ح 7.

أمرا بجهالة فلا شيء عليه (1).و الجهل شامل للجهل عن قصور و تقصير،و الشاكّ قبل الفحص و بعده ليس بعالم بل هو جاهل،فلا شيء عليه إن ركب ما لا يعلم حرمته.

و فيه أنّه منصرف إلي الجهل بدون الشكّ،كما اريد منه ذلك في كثير من الروايات،و لا بدّ من تخصيصه بالقاصر جمعا بينه و بين ما دلّ علي عدم معذوريّة المقصّر.

ثمّ إنّ السند صحيح؛لأنّ موسي بن القاسم يروي عن أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام فإنّه يروي عن حمّاد،لكن ناقش في السند في منتقي الجمان (2).

و منها:صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،عن أبي إبراهيم عليه السّلام،إلي أن قال:و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك،فقلت:بأيّ الجهالتين يعذر بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه،أم بجهالته أنّها في عدّة؟فقال:إحدي الجهالتين أهون من الاخري،الجهالة بأنّ اللّه حرّم عليه،و ذلك بأنّه لا يقدر علي الاحتياط معها الحديث (3).

و فيه أنّ المراد بالجاهل الغافل،بقرينة قوله«لا يقدر علي الاحتياط»لأنّ الشاكّ يقدر علي الاحتياط.

و منها:أخبار الاستصحاب،بأن يقال:إنّ حرمة شرب التتن حادثة لم تكن قبل تشريع الأحكام،و لا تنقض اليقين بالشكّ،و مقتضاها و إن كان عدم وجوب الفحص إن انحلّ العلم الاجمالي بثبوت أحكام علي المكلّفين،لكن أدلّة وجوب الفحص و التعلّم خصّصتها بما بعد الفحص،ثمّ إنّه إن تمّت أدلّة البراءة فلا تصل4.

ص: 33


1- وسائل الشيعة 9:125 ح 3.
2- منتقي الجمان 3:224.
3- وسائل الشيعة 14:345 ح 4.

النوبة إليها؛لأنّها تدلّ علي أنّ مجرّد الشكّ يكفي في نفي التكليف بلا حاجة إلي جرّ الحالة السابقة،فهي تتقدّم علي الاستصحاب،و إن لم تتمّ فهو المدرك.و قرّره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)باستصحاب عدم التكليف حال الصغر،و أجاب بتبدّل الموضوع.

أقول:لا يجري هذا الاستصحاب عندنا؛لأنّا نعتبر بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة، و هنا يحتمل اختلاف حال الصغر و حال البلوغ،لكن عدم تشريع الحرمة كما ذكرناه لعلّه لا يرد عليه إشكال.

الطائفة الثانية:ما يدلّ علي أنّ ما لم يبيّن حرمته أو وجوبه واقعا،فهو ممّا سكت اللّه عنه و لا يتكلّف له،و هو خارج عن محلّ الكلام في جريان البراءة أو الاحتياط؛لأنّ الناس غير مكلّفين بما لم يبيّنه الشارع لهم،سواء كان موجودا في كتاب علي عليه السّلام مثلا أو لم يكن،و ربّما استدلّ بهذه الأخبار علي البراءة،لكنّه في غير محلّه،و هي عدّة أخبار:

منها:ما رواه الصدوق رحمه اللّه في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيي العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسي،عن ابن فضّال،عن داود بن فرقد،عن أبي الحسن زكريّا بن يحيي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (2).و رواه في الكافي عن محمّد بن يحيي بالسند،و فيه:ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم.

و الراوي و إن كان مهملا أو مشتركا بين عدّة فيهم الضعفاء،إلاّ أنّه يمكن تصحيح روايته برواية داود بن فرقد ايّاها عنه،خصوصا مع وجود أحمد بن محمّد بن عيسي في الطريق.8.

ص: 34


1- فرائد الاصول ص 338.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:326 ح 8.

لكن يمكن المناقشة في دلالته بأنّه ظاهر فيما كان يستند حجبه إلي اللّه سبحانه،فهو نظير رواية علي بن ربيعة الوالبي (1)،و رواية الفقيه عن خطب أمير المؤمنين عليه السّلام (2)و كذا ما في نهج البلاغة (3).

و حاصل الجميع أنّ الأشياء علي الاباحة ما لم يرد فيها نهي واقعا أو وجوب واقعا،و كان حكمها مسكوتا عنه،فلا يصحّ التمسّك بها لإباحة مشتبه الحكم.

ثمّ إنّه قد يتمسّك بالاجماع علي عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التي لم يعثر فيها علي ما يدلّ علي التحريم بعد الفحص،لكن في كونه إجماعا تعبّديا كاشفا عن وصول نصّ معتبر إليهم إشكال،بل من المحتمل أن يكون مدركه حكم العقل أو غيره.

و أمّا حكم العقل،فهو مستقلّ بقبح عقاب المولي عبده علي ما لم يبيّنه أصلا،أو بيّنه و لم يجعله في معرض الوصول إليه،أو جعله في معرض الوصول إليه،لكن لم يصل إليه و خفي عليه بسبب لم يعرف العبد ذلك السبب.

و أمّا إذا بيّن المولي الحكم،و جعله في معرض الوصول،لكن خفي لحوادث علم العبد بحدوثها من إخفاء بعض الظالمين،و إحراق بعض الكتب و أمثال ذلك، فلو تفحّص العبد و لم يصل إليه و احتمل وجوده احتمالا عقلائيّا و أمكنه مع ذلك الاحتياط لتحصيل غرض المولي،ففي استقلال العقل بقبح عقابه تأمّل،و لكن المختار عدم التكليف بما لا يصل إلي العبد إن فحص عنه،سواء كان بسبب إخفاء الظالمين أو بغيره ما لم يعلم الحكم.

ثمّ إنّه قد صرّح الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في بعض كلماته بأنّ قاعدة قبح العقاب3.

ص: 35


1- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 22.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 23.

بلا بيان تجري فيما صرّح الآمر بعدم نصب دلالة،قال:و يشهد له حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولي عبده علي فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه (1).

و قال في موضع آخر:خصوصا مع اعتراف المولي بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة (2)انتهي.

و فيه أنّ هذا ليس من موارد أصالة البراءة،بل هو مورد قوله عليه السّلام«اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه»لأنّ عدم إعلامه أصلا هو سكوته عنه،و محلّ الكلام ما إذا احتمل احتمالا عقلائيّا وجود بيان قد خفي عليه،و فحص و لم يصل إليه و إن كان المولي معذورا في عدم وصول بيانه إلي العبد،فإن ارتكبه فهل يرتفع العقاب لعدم وصول البيان إليه،أو يجب الاحتياط عقلا في بعض الموارد التي تتضارب فيها الاحتمالات؟

و الذي ينبغي أن يقال:إنّه لو لم يرسل اللّه تعالي نبيّا أصلا،فحينئذ كنّا كسائر الحيوانات،و يمكن أن يستقلّ عقلنا بقبح الظلم و استحقاق الظالم عقوبة ظلمه، لكن لا يخطر أصلا ببالنا عدم الانتفاع بما يوجد في الأرض،فإن تكلّمنا في حكم العقل قبل أن يبعث اللّه الرسل لم يكن له حكم بحظر و لا بشي آخر.

و إن كان الكلام في حكم العقل بعد إدراكه وجوده تعالي و بعثه الرسل و دركه أنّه تعالي يريد منّا عملا حيث بعث إلينا رسولا،فالعقل يحكم بلزوم الرجوع إلي الشرع في كلّ فعل و ترك جوارحي أو جوانحي،فإذا رجع إليه يثبت عنده امور:

الأوّل:أنّه تعالي و إن كان خالقه و مالكه،لكن يعامل عبده معاملة غير الخالق و غير المالك،فيشتري منه نفسه و يستقرض منه،كما قال سبحانه إِنَّ اللّهَ اشْتَري0.

ص: 36


1- فرائد الاصول ص 335.
2- فرائد الاصول ص 460.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (1) و قال تعالي: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً (2).

الثاني:أنّه تعالي حرّم أشياء و أحلّ أشياء،و ممّا أحلّه ما يشكّ كونه حراما أو حلالا إن كان الشكّ في الموضوع.

الثالث:أنّه تعالي قال: وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)و معناه انّ النهي الذي صدر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله ممّا لا بدّ من الانتهاء عنه،سواء وصل إلينا أو لم يصل،فلا بدّ لتحقّق امتثاله من ترك جميع الأفعال التي علم النهي عنها أو شكّ فيه حتّي يعلم بالانتهاء عمّا نهي عنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أو خلفاؤه الأئمّة المعصومون عليهم السّلام،و لكن ثبت بالأدلّة أنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان و الوصول،و هذا يقيّد الأوّل بأنّه لا تكليف ما لم يصل،فإذا فحص و لم يصل إليه فلا تكليف به.

و دلّت أخبار علي أنّه إذا تردّد الأمر بين حرمة الفعل و إباحته لا لعدم النصّ بل لتعارض النصّين،أو تعارض اللغويّين في مفهوم موضوع الحرام الواصل حرمته سعة و ضيقا كالغناء،و نحو ذلك من الموارد التي يطلق عليها الشبهة و تردّد المكلّف بين الحرام و المباح،فترك الاقتحام فيه متعيّن لهذه القاعدة العقلائيّة،و هي أنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

و قد ظهر من ذلك أنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا صدور بيان أصلا بعد فرض أنّه تعالي عامل الانسان معاملة المولي و العبد،و أمّا إذا صدر منه البيان لكن خفي فيمكن أن يوجب المولي الاحتياط.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا معني لأصالة الحظر أو الاباحة و لا سائر ما قيل في هذا المقام،فتدبّر جيّدا.7.

ص: 37


1- سورة التوبة:111.
2- سورة البقرة:245.
3- سورة الحشر:7.

و اورد علي قاعدة قبح العقاب بلا بيان بامور:

الأوّل:قاعدة دفع الضرر المحتمل،فإنّ العقل لمّا كان حافظا للانسان من أن يتضرّر و يبتلي بما لا ينبغي أن يبتلي به،يستقلّ بأنّه متي احتمل بلاء يتوجّه إلي الانسان،فلا بدّ له من التحرّز عنه،سواء كان عقابا اخرويّا،أو منقصة و ضررا في جسده،أو مفسدة يلزم التحرّز عنها لا يدرك العقل وجودها و الشارع عالم بها، و قد اجتمعت هذه الامور في شرب التتن؛لأنّه لو كان حراما واقعا يعاقب علي شربه،فاحتمال حرمته يوجب احتمال العقاب عليه،فيجب التحرّز عنه،و لو كان حراما فلمفسدة فيه دنيويّة كتضرّر الجسد،أو أخرويّة،فاحتمال الحرمة فيه يوجب احتمال تضرّر الجسد،أو وصول مفسدة إليه و يجب التحرّز عنه.

و فيه أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تنفي احتمال العقاب فلا عقاب،و أمّا احتمال وجود مفسدة فيه اخرويّة أو دنيويّة ففيه أنّ دفع المفسدة المحتملة و إن كان واجبا عقلا،لكن لا إحاطة للعقل بمزاحمة تلك المفسدة بمصلحة أهمّ موجبة لعدم الحرمة،فلذا يحتمل أن يكون الفعل جائزا شرعا.

و بعبارة اخري:الشبهة تكون حينئذ موضوعيّة،فإنّ شرب التتن مردّد بين كونه ذا مفسدة موجبة للحرمة،أو غير موجبة للحرمة،كالمايع المردّد بين الخمر و الماء، و قد أحلّه الشارع و أجاز ارتكابه.

و قد أشار إليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:و إن اريد مضرّة اخري غير العقاب التي لا يتوقّف ترتّبها علي العلم،فهو و إن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان،إلاّ انّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريّين،فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود،فلا بدّ علي كلا القولين:إمّا من منع وجوب الدفع،و إمّا من دعوي

ص: 38

ترخيص الشارع و إذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر (1)انتهي.

و الأولي أن يقال:إن دفع المفسدة المحتملة الموجودة في متعلّق الأحكام كالمفسدة الموجودة في الخمر ليس بواجب عقلا ما لم تكن موجبة لنقص عضو أو هلاك نفس،فإذا كان المحتمل هلاك النفس وجب التحرّز عقلا،بل الأدلّة النقليّة لا تشمل مثل ذلك،كما إذا تردّد مايع بين كونه سمّا أو ماء،فإنّه لا يجوز شربه،و ما دلّ شرعا علي جواز ارتكاب الشبهة الموضوعيّة منصرف عن هذه الموارد.

الايراد الثاني علي قاعدة قبح العقاب بغير بيان:ما دلّ علي أصالة الحظر، و سيأتي الكلام عليه في أدلّة القائلين بالاحتياط.

الايراد الثالث:العلم الاجمالي بثبوت تكاليف تحريميّة يجب الاحتياط لها لتحصيل الفراغ اليقيني،و سيأتي الكلام عليه.

فتلخّص أنّ الشبهة التحريميّة الحكميّة لعدم النصّ الواصل فيما بأيدينا من الأدلّة لا يجب فيها الاحتياط،إلاّ إذا صدق عليها الشبهة،فالوقوف عندها لازم.

مثال ذلك:ما إذا دلّ علي الحرمة خبر لم يثبت ضعف رواته و لا وثاقتهم،و كان مرويّا في الكتب الأربعة و كان معمولا به عند قدماء الأصحاب،و أمثال هذه الأمارات التي لم يثبت حجّيتها،فإنّه يصدق علي الشيء الذي دلّ مثل هذا الخبر علي حرمته أنّه شبهة.

احتجّ للقول بالاحتياط بالكتاب و السنّة و العقل.

أمّا الكتاب،فبآيات،و هي أقسام:

القسم الأوّل:ما دلّ علي عدم جواز الافتراء علي اللّه،علي نحو يشمل من لم يعلم حرمة شيء شرعا،و أنّه لا يجوز له أن يحرّمه أو يحلّله مسندا لهما إلي اللّه5.

ص: 39


1- فرائد الاصول ص 335.

تعالي،لأنّه افتراء علي اللّه،كما يدلّ عليه قوله تعالي قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (1)فلا يجوز تحليل الشبهة التحريميّة؛لأنّه يكون افتراء،فلا بدّ من الاحتياط.

و فيه نظر؛لأنّ القول بالبراءة مستند إلي الأدلّة المتقدّمة في الشبهة التحريميّة، فليس تحليلا للشيء من دون دليل شرعي ليكون افتراء.

القسم الثاني:ما دلّ علي أنّ ما لا يعلم حكمه من اللّه،فلا يجوز التعبّد به و القول به،و منه قوله تعالي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)و قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3)و قوله تعالي اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ (4).

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بهذه الآيات علي الاحتياط و عدم الحكم بالبراءة فيما لا يعلم حرمته،بأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا علي قبح العقاب من غير بيان المتّفق عليه بين المجتهدين و الاخباريّين ليس عملا بغير علم (5).

أقول:إنّ العقل يستقلّ بالحكم علي فعل بعض الأشياء و علي ترك بعضها مع قطع النظر عن الشرع،كحسن العدل،و وجوب ردّ الأمانات،و شكر المنعم،و قبح الظلم،و لا يستقلّ في إباحة الأشياء و حظرها،بل يتوقّف و يلزم الانسان بالرجوع إلي الشرع،و المستفاد من الشرع أنّ كلّ شيء أو فعل يجوز ارتكابه و فعله ما عدا5.

ص: 40


1- سورة يونس:59.
2- سورة يونس:68.
3- سورة الاسراء:36.
4- سورة الأحقاف:4.
5- فرائد الاصول ص 205.

المحكوم بالأحكام الالزاميّة من المحرّمات،فلا حاجة في حلّية بعض الأشياء المحدثة كالبرتقال مثلا إلي إجراء البراءة عن حرمته،و إنّما يحتاج إلي إجراء البراءة في مورد يحتمل ورود النصّ.

فإذا فحص عنه و لم يعثر عليه أصلا،و احتمل اختفاؤه،أو احتمل صدور الحكم من الشارع و لم يجزم به كالمثال المتقدّم،و هو دلالة خبر علي حرمة شيء مثلا موافق لفتوي كثير من العلماء،لم يثبت حجّية الخبر و لا حجّية شهرتهم،فلا يستقلّ العقل بقبح العقاب علي ارتكابه،فلا بدّ من أن يعلم ما هو وظيفته حينئذ بالرجوع إلي الشرع،فإن ثبت شرعا إباحة ما لم يعلم حكمه فهو متابعة للعلم و لو بالحكم الظاهري.

القسم الثالث:ما دلّ علي الأمر بالاتّقاء،كقوله تعالي و اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)و قوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2).

و اورد عليه بأنّه لا يدلّ إلاّ علي الرجحان.

و أمّا السنّة،فهي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي حرمة القول بغير علم،و ردّ ما لم يعلم إلي أهله، و عدم الدخول فيما لا يعلم و الكفّ عنه،كقوله:من أفتي الناس بغير علم و لا هدي لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه (3).

و خبر داود بن سليمان (4).و خبر عبيدة السلماني (5).1.

ص: 41


1- سورة آل عمران:102.
2- سورة التغابن:16.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:145 ب 1 ح 40.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:145 ب 1 ح 38.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41.

و خبره الآخر (1).و خبر مفضّل بن مزيد (2).و النبوي (3).و النبويّ الآخر (4).

و خبر حمزة بن حمران (5).و خبر عبد الرحمن بن الحجّاج (6).و خبره الآخر (7).

و خبره الآخر أيضا (8).و خبر علي بن جعفر (9).و مرسل الفقيه (10).و خبر زياد بن أبي رجاء (11).و خبر زرارة بن أعين (12).

و صحيح هشام بن سالم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما حقّ اللّه علي خلقه؟ فقال:أن يقولوا ما يعلمون،و يكفّوا عمّا لا يعلمون،فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلي اللّه حقّه (13).و خبر سليم بن قيس (14).و ينبغي مراجعة هذه الروايات.

قلت:إن تمّت أدلّة البراءة،فليس القول بها قولا بغير علم،و هي تامّة في الشبهة الموضوعيّة،و أمّا الشبهة الحكميّة فمقتضي ظهور هذه الأخبار في المقابلة بين ما يعلم و ما لا يعلم وجوب التوقّف،فتكون أخصّ من قوله«رفع ما لا يعلمون»فيقيّد8.

ص: 42


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 42.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 42.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 44.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 45.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 47.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 48.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 49.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 50.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 53.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 54.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 55.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:150 ب 1 ح 59.
13- جامع أحاديث الشيعة 1:150-151 ب 1 ح 60.
14- جامع أحاديث الشيعة 1:393 ب 8 ح 18.

الاطلاق،فيكون المرفوع ما لا يعلمه القاصر و المعتقد للخلاف لاجتهاد أو تقليد و نحوهم،لكن لا يبعد أن يكون المراد من هذه الروايات ما لا يعلمون حكمه واقعا و ظاهرا،فيكون ما دلّ علي البراءة موجبا للعلم بالحكم الظاهري.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و هي لا تحصي كثرة (1).و الأمر كما ذكره إن أراد ما يدلّ علي الوقوف،فينبغي ذكرها ثمّ بيان مفهومها.

فمنها:مقبولة عمر بن حنظلة،و فيها بعد فقد المرجّحات قال:إذا كان كذلك فأرجه حتّي تلقي إمامك،فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكة (2).و خبر جميل المروي في ذيل خبر السكوني (3).و غيرهما من الروايات.

كرواية السيّد بن طاووس في كتاب الطرف (4)،و هي مختصّة بالشبهة الحكميّة التي يمكن الفحص عنها؛لأنّ الردّ إلي الامام إنّما يكون فيها.

و رواية الكراجكي في كتاب كنز الفوائد (5).

و رواية نهج البلاغة (6)،و يحتمل اختصاصه بعثمان بن حنيف.و رواية الآمدي في الغرر (7)،و لا دلالة له علي الوجوب.و رواية القمّي في كتاب الغايات (8).3.

ص: 43


1- فرائد الاصول ص 340.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:308 ب 6 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 8.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 26.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 27 و ح 28.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 31.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 32.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 33.

و رواية نهج البلاغة (1).و رواية الصدوق في الخصال (2).و رواية الشيخ في أماليه (3).و رواية نهج البلاغة (4)،و يحتمل اختصاصه بمالك بن أشتر.و رواية ابن همام في كتاب التمحيص (5).

و رواية أبي سعيد الزهري (6).و رواية الحسين بن سعيد في كتاب الزهد (7).

و رواية الشيخ المفيد في رسالة المهر (8).و رواية الشيخ في أماليه (9).و رواية عوالي اللئالي (10).و هذه الروايات ضعيفة السند.

و رواية كنز الكراجكي (11)،و سندها غير واضح.و خبر جابر (12).و ينبغي ملاحظة هذه الروايات بالمراجعة إليها.

و خبر حمزة بن الطيّار أنّه عرض علي أبي عبد اللّه عليه السّلام بعض خطب أبيه حتّي إذا بلغ موضعا منها،قال له:كف و اسكت،ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه و التثبّت و الردّ إلي أئمّة الهدي حتّي8.

ص: 44


1- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 34 و ح 35.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 36.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:397-398 ب 8 ح 37.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 38.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 39.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 40.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 41.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:398-399 ب 8 ح 42.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 43.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 44.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:176 ب 3 ح 9.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:401 ب 8 ح 48.

يحملوكم فيه علي القصد،و يجلوا عنكم فيه العمي،و يعرّفوكم فيه الحقّ،قال اللّه تعالي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (1)هذا.

وعدّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الخبر الأخير من أخبار هذه الطائفة،لكن يحتمل أن يكون من الطائفة الاولي.و قوله«كف و اسكت»قيل:معناه إنّه لم يكن حافظا للخطبة كما هو حقّها،فكان ينسج علي طبق ظنّه،فاشتمل علي أمر خلاف الواقع، و في مثل ذلك يكون النقل مصداقا للافتراء مع التمكّن من الفحص انتهي.

و قال الشيخ الأنصاري:إنّه خاصّ بالقادر علي إزالة الشبهة (2).

أقول:لا يبعد أن لا يكون مختصّا بالمخاطبين و يعمّ كلّ من لا يعلم.

و خبر المسمعي (3).و خبر جابر المروي في أمالي الشيخ (4).وعدّهما الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أخبار هذه الطائفة،و قال:إنّهما مخصوصان بالقادر علي إزالة شبهته (5)،لكن يحتمل أن يكونا من الطائفة الاولي،و لا يبعد الاختصاص كما ذكره.

و هذه الأخبار مختصّة بالشبهة الحكميّة،و مطلقة لما قبل الفحص و ما بعده، فتكون أدلّة البراءة أخصّ منها؛لأنّها مختصّة بما بعد الفحص فتخصّصها،لكنّه بعيد في بعضها.

ثمّ إنّه قد أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بهذه الأخبار علي وجوب الاحتياط،بأنّ الشبهة علي قسمين:2.

ص: 45


1- جامع أحاديث الشيعة 1:393 ب 8 ح 19.
2- فرائد الاصول ص 342.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 22.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 19.
5- فرائد الاصول ص 342.

القسم الأوّل:الشبهة التي يجب الاحتياط فيها،و هي في موارد:

أحدها:ما إذا كان الفاعل قادرا علي إزالة الشبهة بالرجوع إلي الامام،أو إلي الطرق المنصوبة من ناحيته،كما هو ظاهر المقبولة،و موثّقة حمزة بن الطيّار، و رواية جابر،و رواية المسمعي.

ثانيها:ما إذا كان الفاعل متّكلا علي الاستنباطات الظنّية.

ثالثها:كون المسألة من الاعتقاديات،كما يظهر من خبر زرارة.

رابعها:الشبهة المحصورة.

و التوقّف في هذه المقامات واجب.

القسم الثاني:الشبهة التي لا يجب الاحتياط فيها،و الأخبار الواردة فيها ظاهرة في الاستحباب،مثل قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة»و قوله«لا ورع كالوقوف عند الشبهة»و غير ذلك.

إذا تحقّق أنّ الشبهة علي قسمين،فنقول:الشبهة في قوله«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»يراد بها الأعمّ ممّا يجب الاحتياط فيها و ما يستحبّ،و لا تدلّ هذه الأخبار علي حكم تأسيسي،بل لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للارشاد من قبيل أوامر الأطبّاء المقصود منها عدم الوقوع في المضارّ.

فإن كان الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاخروي كالقسم الأوّل،يكون التوقّف لازما عقلا و شرعا من باب الارشاد،كأوامر الطبيب بترك المضارّ.

و إن كان الهلاك المحتمل مفسدة غير العقاب كالقسم الثاني،فمجرّد احتماله لا يوجب العقاب بل يكون الوقوف راجحا،و الأمر فيه بالتوقّف للارشاد،و هو بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب،و ما نحن فيه و هي الشبهة الحكميّة التحريميّة من القسم الثاني؛لأنّ العقل يستقلّ بأنّه لا عقاب علي الحرمة الواقعيّة باتّفاق الاخباريّين أيضا،فلا هلكة بمعني العقاب في ارتكابها،و إن زعموا ثبوت العقاب

ص: 46

من جهة هذه الأخبار،أعني:أخبار التوقّف عند الشبهة،فإذا لم يكن المحتمل فيها العقاب الاخروي كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة،كأموال الظلمة،و الشبهة الوجوبيّة في أنّه لا يحتمل فيها إلاّ غير العقاب من المضارّ،و المفروض كون الأمر بالتوقّف فيها للارشاد و التخويف عن تلك المضرّة المحتملة.

ثمّ قال:و هذا الاحتمال أولي من التخصيص،أي:احتمال أن يكون إرشادا شاملا لجميع الشبهات،بخلاف حملها علي اللزوم و إخراج الشبهة الموضوعيّة و الوجوبية منه تخصيصا؛لإبائها عن التخصيص (1)انتهي.

أقول:تقدّم أنّ العقل يستقلّ بقبح العقاب علي حكم لم يبيّنه المولي أصلا،أو بيّنه و لم يجعله في معرض الوصول إلي العبد،أو جعله و خفي بسبب لا يعلمه العبد، و كذا إذا خفي لا من ناحية المولي بل لعوارض خارجيّة،فالحكم الغير الواصل إلي العبد بحيث لو فحص لم يصل إليه لا يكون مكلّفا به،فلا شبهة فيه،فلم يتحقّق موضوع القضيّة و هي«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».و أمّا في غير هذا المورد،فالعقل لا يستقلّ بقبح العقاب،و يحكم بأنّه لا بدّ من الرجوع إلي الشرع،و بالرجوع إلي الشرع يعثر علي أخبار التوقّف،و مقتضاها لزوم التوقّف إن صدقت الشبهة إلاّ في الشبهة الموضوعية.

ثمّ لا يخفي أنّ بعض الأخبار التي ذكرت في هذه الطائفة ليست منها،بل هي من الطائفة الاولي،و الخبر الذي يعدّ من هذه الطائفة هو المشتمل علي قوله «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»أو قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة»و نحوهما،فينبغي بيان معناه.

فنقول:قوله«الشبهات»جمع الشبهة،قال في الصحاح:و الشبهة الالتباس،2.

ص: 47


1- فرائد الاصول ص 342.

و المشتبهات من الامور:المشكلات،و المتشابهات المتماثلات،و التشبيه التمثيل، و أشبهت فلانا و شابهته و اشتبه عليّ الشيء (1).

و قال الأزهري:و قال الليث:المشتبهات من الامور المشكلات،و تقول:

شبّهت عليّ يا فلان إذا خلط عليك و اشتبه الأمر إذا اختلط (2)انتهي.

و الهلكة قال في المقاييس:هلك يدلّ علي كسر و سقوط،منه الهلاك،و لذا يقال للميّت هلك (3).

فالهلكة هو السقوط و ما يقارب الفناء،و إطلاقه علي العذاب الاخروي صحيح؛ لأنّه موجب للسقوط.و أمّا الضرر الدنيوي أو الاخروي الذي لا يوجب السقوط كالمكروهات،فإطلاق الهلكة عليه مجاز.

قوله«خير من الاقتحام»يستعمل في موارد اللزوم،مثل قوله تعالي أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ (4)و قوله تعالي أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (5)و قوله تعالي أَ فَمَنْ يُلْقي فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ (6)و غيرها.

إذا تحقّق مفاهيم مفردات هذا الحديث،فيظهر أنّ حاصل المعني أنّ الوقوف عند ما يشتبه الأمر و يشكل تمييز الحقّ خير من المضي فيه و ارتكابه الذي هو سقوط و موجب للعذاب الاخروي.

و التعبير بقوله«خير»من أجل أنّ ارتكاب الشبهة ليس هلاكا دائما،بل هلاك0.

ص: 48


1- صحاح اللغة 6:2236.
2- تهذيب اللغة 6:92.
3- مقاييس اللغة 6:62.
4- سورة الفرقان:15.
5- سورة الصافّات:62.
6- سورة فصّلت:40.

إن كان المشتبه حراما واقعا،فالأمر يدور بين ارتكاب مباح لتشهّي النفس لا عقاب فيه،أو ارتكاب حرام موجب للعقاب،و متي لا يعلم أنّ ما يرتكبه ليس فيه هلاك،فيتعيّن عليه الوقوف،فهذه الجملة-أي:الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة-لا يصحّ استعمالها إلاّ في مورد لزوم التوقّف،فهو نظير أمر الطبيب المريض بالاحتراز عن بعض ما يضرّه،فإن كان ما يضرّه موجبا لشدّة مرضه أو بطء برئه أو لموته صحّ ذكر هذه القضيّة،و إن لم يكن موجبا لذلك بل كان موجبا لصداع خفيف جدّا سريع الزوال،لم يصحّ ذكرها.

مثلا يصحّ أن يقول الطبيب:لا تشرب المايع الفلاني لأنّه يحتمل أن لا تبرأ من مرضك،و الوقوف عند ما يحتمل فيه عدم البرء خير من أن لا تبرأ.و لا يصحّ أن يقول:لا تشرب المايع الفلاني الذي لا يضرّك و تركه أنفع؛لأنّ الوقوف عند ما يحتمل فيه عدم البرء خير من أن لا تبرأ.

و بالجملة هذه القضيّة تستعمل إرشادا إلي لزوم التحرّز،فتدلّ علي أنّ الواقع المحتمل يجب التحفّظ عليه في موارد الشبهة،لكن لا يصدق الشبهة علي ما إذا احتمل صدور الحكم واقعا،مع فرض عدم وصوله.

و لا يراد من الشبهة في هذه الأخبار الشبهة الموضوعيّة؛لأنّه قد استفاضت الأخبار و قام الاجماع و السيرة القطعيّة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام علي عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الموضوعيّة؛لأنّه لا يمكن العلم بحلّية الأشياء و لا بطهارتها و لا بعدم اشتمالها علي حقوق اللّه أو حقوق الناس،فلو لا جواز ارتكاب الشبهة الموضوعيّة لا ختلّ النظام،فتخصّص هذه الأخبار و يخرج منها الشبهة الموضوعيّة لو لم نقل بخروجها تخصّصا،بل يستفاد من بعض الأخبار مرجوحيّة الاجتناب إلاّ في النكاح،فيمكن أن يقال برجحان الاحتياط.

و الحاصل أنّ من لاحظ الأخبار المستفيضة الدالّة علي جواز ارتكاب الشبهة

ص: 49

الموضوعيّة في باب الطهارة و النجاسة و فيما يشتري من سوق المسلمين من اللحم و الجلد و الجبن،و الحكم بصحّة العقود الواقعة في سوق المسلمين،و ملكيّة صاحب اليد،إلي غير ذلك ممّا يظهر منه تسهيل الأمر في الشبهات الموضوعيّة، بحيث يكون الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة لدرك الواقع،خلاف سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و خلاف ما ورد من سهولة الأمر،فحمل الشبهة في هذه الروايات علي رجحان الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ربما ينافي ذلك،فينبغي حملها علي الشبهة المفهوميّة،و علي الموارد التي يصدق فيها الشبهة في الحكم.

و أمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من الموارد التي استعملت هذه الجملة فيها في غير اللزوم فهو غير مسلّم،منها قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة» (1).

فإنّه-مضافا إلي أنّ هذا الخبر ليس من قبيل قوله«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»و مثله قوله«لا ورع كالوقوف عند الشبهة»-لا دلالة له علي أنّه مستحبّ،بل يمكن أن يكون لازما،نظير ما ورد من قوله«أورع الناس من ترك الحرام».

و منها:قوله في خبر«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،و تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» (2).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ من المعلوم رجحان ترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو دلالته لا لزومه (3)انتهي.

قلت:بل يجب الوقوف عنده،و المعني تركك حديثا بأن لم تروه خير من أن تروي حديثا لم تحط بمعناه و سنده،فإنّه ربما يوقع غيره في خلاف الواقع،4.

ص: 50


1- فرائد الاصول ص 342.
2- فرائد الاصول ص 340.
3- فرائد الاصول ص 344.

و يدخل في من أفتي بغير علم.

و الحاصل أنّ موارد استعمال الجملة المذكورة هي الموارد التي يلزم الوقوف فيها،كخبر عمر بن حنظلة،فإنّ تعليل وجوب الارجاء بكون الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام،يقتضي وجوب الاجتناب في جميع الشبهات لوجود العلّة فيها.

و يمكن أن لا يكون وجوب الارجاء من ناحية تمكّنه من الوصول إلي الامام،بل هو غاية التوقّف،فلا فرق بين التمكّن من رفع الجهل و عدمه إن لم يتمّ ما دلّ علي البراءة.

و أمّا موثّق مسعدة بن زياد،عن جعفر عليه السّلام،عن آبائه عليهم السّلام،أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:

لا تجامعوا في النكاح علي الشبهة وقفوا عند الشبهة،يقول:إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها و أنّها لك محرّم و ما أشبه ذلك،فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (1).فهو أيضا ظاهر في الحرمة.لكنّه معارض بأخبار كثيرة (2)

و بخبر مسعدة بن صدقة (3)،و يؤيّد المطلوب أخبار اخر (4).

و حيث انّ الأخبار المعارضة أكثر،فينبغي العمل علي الأكثر،و يرد علم هذا الخبر إلي أهله،أو يحمل علي الكراهة الشديدة،أو علي ما إذا قامت البيّنة أو أخبر الثقة بذلك.

ثمّ انّه قد اجيب عن أخبار الوقوف عند الشبهة بأنّها معارضة بأخبار البراءة، و هي أقوي سندا و دلالة و اعتضادا بالكتاب الدالّ علي البراءة،و العقل مستقلّ بقبح العقاب من غير بيان،و لو سلّم التكافؤ فيكون من تعارض النصّين،و المختار فيه5.

ص: 51


1- وسائل الشيعة 14:193 ب 157 ح 2.
2- وسائل الشيعة 14:303 ب 12،و ج 14:456 ب 10.
3- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.
4- وسائل الشيعة 14:226 ب 23 و ب 25.

التخيير.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذا الجواب بأنّ مقتضي أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة،و هي جميع آيات الكتاب و العقل و أكثر السنّة و بعض تقريرات الاجماع عدم استحقاق العقاب علي مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف،و من المعلوم أنّ هذا من مستقلاّت العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقّف و لا غيرها من الأدلّة النقليّة علي خلافه،و إنّما يثبت أخبار التوقّف بعد الاعتراف بتماميّتها علي ما هو المفروض تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ و ترك المضي عند الشبهة،و الأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب،فتلك الأدلّة بالنسبة إلي هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلي الدليل،فلا معني لأخذ الترجيح بينهما،و ما يبقي من السنّة من قبيل قوله عليه السّلام«كلّ شيء مطلق»لا تكافيء أخبار التوقّف لكونها أكثر و أصحّ سندا.

و أمّا قوّة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم،و ظهر أنّ الكتاب و العقل لا ينافي وجوب التوقّف الي آخر كلامه (1).

قلت:ما ذكره متين،بل يمكن منع الاستدلال بالعقل علي البراءة في ما صدق عليه الشبهة.

الطائفة الثالثة:أخبار الاحتياط،و هي مرسل كنز الفوائد (2)و لا دلالة فيه علي الوجوب.و خبر أمالي ابن الشيخ (3)و في دلالته علي الوجوب نظر.

و صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:سألت أبا الحسين عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا و هما محرمان،الجزاء بينهما أو علي كلّ واحد منهما جزاء؟قال:لا بل0.

ص: 52


1- فرائد الاصول ص 345.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 27.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 30.

عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد،قلت:إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه،فقال:إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّي تسألوا فتعلموا (1).

و أورد عليه أوّلا:بأنّه غير معمول به في مورده؛لأنّه في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة.و ثانيا:أنّه مخصوص بما علم الوجوب في الجملة.و ثالثا:أنّه مخصوص بزمان الحضور و قبل الفحص عن الدليل،و القائل بالبراءة لا يتمسّك بها قبل الفحص.

قلت:لا يبعد أن يكون المراد من قوله عليه السّلام«إذا أصبتم مثل هذا»أي:إذا ابتليتم بمسألة لا تدرون حكمها مطلقا في الشبهة الوجوبيّة و غيرها،سواء كان أصل الوجوب معلوما أولا،و سواء كان في زمان الحضور أو غيره،فعليكم بالاحتياط، فيشمل جميع الموارد.

و المناقشات المذكورة مدفوعة،أمّا الأوّل،فلأنّه لا فرق بين الشبهة الوجوبيّة و التحريمية في الاحتياط في موارد الشبهة بحسب الأخبار.

و أمّا الثاني،فلأنّ المورد من دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر غير الارتباطيين، و الأكثر المشكوك في مثله يكون كالمشكوك البدوي،لأنّه لا فرق بينهما في كون الشكّ في كليهما ابتدائيا،فإذا وجب الاحتياط في الأوّل وجب في الثاني.

و أمّا الثالث،فلا وجه لتخصيصه بزمان الحضور،و الغاية المذكورة هي السؤال و تعلّم الحكم،و مجرّد إمكان حصول الغاية في زمان الحضور دون زمان الغيبة لا يوجب تخصيص المغيّي بحال الحضور،فتأمّل.

و الأولي عدّ هذه الرواية من الطائفة الأولي؛لأنّها تدلّ علي عدم القول بغير1.

ص: 53


1- وسائل الشيعة 18:111 ح 1.

علم.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)ذكر روايات اخر في هذه الطائفة قاصرة الدلالة علي عموم الاحتياط.

الطائفة الرابعة:ما يدلّ علي تثليث الامور،و هي مقبولة عمر بن حنظلة، قال عليه السّلام:و إنّما الامور ثلاثة:أمر بيّن رشده فمتّبع،و أمر بيّن غيّه فمجتنب،و أمر مشكل يرد حكمه إلي اللّه تعالي،قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجي من المحرّمات،و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم (2).

قيل:لا ظهور له في لزوم الاجتناب عن المشتبهات،لكن لا يبعد ظهوره في ذلك.

و خبر جميل بن صالح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إلي أن قال:الامور ثلاثة:أمر بيّن رشده فاتّبعه،و أمر بيّن غيّه فاجتنبه، و أمر اختلف فيه فردّه إلي اللّه (3)،و لا بأس بدلالته؛لأنّ قوله«فردّه إلي اللّه»ظاهر في الوجوب،و في سنده الحارث بن محمّد،و هو الحارث بن أبي جعفر،ذكره النجاشي و الشيخ،و لم يذكرا له مدحا،و جميل بن صالح ثقة.

و مرسل الفقيه،قال:و شبهات بين ذلك،فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم،فهو لما استبان له أترك (4).و لعلّه لا دلالة له علي الوجوب.و خبر نعمان بن بشير (5).4.

ص: 54


1- فرائد الاصول ص 347.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:308 ب 6 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:400 ب 8 ح 46.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:394 ب 8 ح 22.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 44.

و خبر سلام (1).

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذه الأخبار بما يقرب من الجواب عمّا دلّ علي أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،بأنّه إرشاد إلي التحرّز عن المضرّة المحتملة فيها،فقد تكون المضرّة عقابا،فالاجتناب لازم،و قد تكون غيرها فلا عقاب.و يؤيّد عدم ورودها في مقام الالزام بترك المشتبهات امور:

أحدها:عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة،و لا يجب الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة إجماعا،و ليست الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن،لأدلّة جواز ارتكابها،مع أنّها لو كانت منه فالشبهة الحكميّة أيضا كذلك لأدلّة البراءة،و لا يصحّ تخصيص الشبهات بغير الموضوعيّة لإباء سياقها.

ثانيها:أنّه رتّب علي ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات و الهلاك من حيث لا يعلم،أي:من ارتكب الشبهة وقع في الحرام قطعا،لكن هذا المعني غير مراد،لعدم العلم بارتكاب الحرام إن ارتكب المشتبه،فيراد به مجازا أنّه إذا ارتكب الشبهة أشرف علي الوقوع في الحرام،و أعدّ نفسه لذلك،فإنّ من يرتكب الشبهة يسهل عليه ارتكاب الحرام،و يشرف علي الوقوع في الحرام،فلا بدّ من حمل الرواية علي الاستحباب؛لأنّ مجرّد الاشراف علي الوقوع في الحرام ليس بحرام.

ثالثها:الأخبار المساوقة لهذا الخبر ظاهرة في الاستحباب،فتكون قرينة علي حمل هذا الخبر علي الاستحباب أيضا (2).

قلت:إنّ الشبهة الموضوعيّة خارجة قطعا،لما عرفت من أنّ تحصيل الواقع غير ممكن،فهو من الحلال البيّن بعد ترخيص الشارع في ارتكابها،بخلاف الشبهة1.

ص: 55


1- جامع أحاديث الشيعة 1:176 ب 3 ح 8.
2- فرائد الاصول ص 351.

الحكميّة فإنّها محلّ إشكال؛لأنّه لم يتّضح دليل البراءة فيها،مضافا إلي أنّ الشبهة هي التباس الأمر و لا تشمل الموضوعيّة،فتأمّل.

و أمّا ما ذكره ثانيا،ففيه أنّ الظاهر من هذا الخبر الوقوع في الحرام الذي يحتمل انطباق الشبهة عليه لا حرام آخر؛لأنّه لو كان المراد حراما آخر غير ما في مورد الشبهة،كان حقّ العبارة أن يقال:وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يريد لا من حيث لا يعلم،فهذا التعبير يناسب الحرمة الموجودة في مورد الشبهة،ففي الشبهة الحكميّة يجب الاجتناب؛لأنّ الحكم الواقعي إن كان موجودا،فهو غير معذور في ارتكابه،و لمّا كان ارتكاب كثير من الشبهات يوجب الوقوع في الحرام الواقعي كان ذلك مانعا عن ارتكاب شبهة واحدة أيضا.

و أمّا ما ذكره ثالثا،فلأنّه لا تنافي بين الأخبار،بأن يكون ارتكاب الشبهات موجبا للوقوع في الحرام،و موجبا أيضا للتجرّي علي ارتكاب المحرّمات المعلومة.

و أمّا حكم العقل،فمن وجوه:

الوجه الأوّل:أنّه يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل الدنيوي و الاخروي، و احتمال حرمة الفعل يستلزم احتمال اشتماله علي مفسدة مقتضية للحرمة.

و فيه ما مرّ من أنّ الضرر المحتمل إن كان هلاك النفس أو قطع عضو و نحوهما، فالعقل يستقلّ بلزوم دفعه حتّي في الشبهة الموضوعيّة؛لأنّ الحكم العقلي لا يخصّص،فإذا شكّ في حرمة شرب التتن جاز شربه؛لعدم ترتّب ضرر عليه، بخلاف ما لو شكّ في كون بعض الموادّ المخدّرة سمّا يوجب استعماله هلاك النفس،فإنّه يستقلّ العقل بلزوم الاجتناب عنه.و أمّا احتمال العقاب الاخروي، فلا دافع له إلاّ إذا تمّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الوجه الثاني:استقلال العقل بلزوم امتثال المحرّمات الشرعيّة التي يعلم

ص: 56

المكلّف بوجودها إجمالا المتوقّف علي ترك جميع ما يحتمل حرمته.

و فيه أوّلا:أنّ المعلوم حرمته ما كان مؤدّي الأخبار و الشهرات الكاشفة عن النصّ،و لا علم بحرمة أشياء غير مؤدّياتها.

و ثانيا:لو سلّم كون الحكم الواقعي غير ملحوظ كونه مؤدّي الطرق،لكن العلم الاجمالي ينحلّ تعبّدا بقيام الأخبار و سائر الأدلّة علي حرمة بعض الأشياء، و نظيره في الانحلال تعبّدا،العلم بنجاسة أحد الثوبين ثمّ قامت بيّنة علي نجاسة أحدهما المعيّن قبل العلم الاجمالي،فيصير العلم الاجمالي منحلا تعبّدا،هكذا أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)فلاحظ.

أقول:إنّ الحكم الالزامي المدلول لنصّ الكتاب أو لظاهره أو للخبر الذي رواه ثقة واقعي،أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته قليل،و لو اضيف إليه ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من كونه مع ذلك موجبا للاطمئنان بصدوره كان مصداقه أقلّ،و لا ينحلّ العلم الاجمالي بالعمل بهذا المقدار.

فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بالأخبار علي الكيفية التي تقدّمت في بحث حجّية خبر الواحد،فلو فرض دلالة خبر عمر بن حنظلة مثلا علي حرمة شيء،و كان موافقا لشهرة القدماء،و كان في سند الخبر أصحاب الاجماع،و كان في الكتب الأربعة،إلي غير ذلك من الجهات التي يناقش بعضهم في حجّيتها،فلا يجوز طرحه و الرجوع إلي أصالة البراءة،لما ذكرنا من عدم انحلال العلم الاجمالي.

نعم إن عمل بجميع الأخبار و الشهرات المحتملة كاشفيّتها عن النصّ،خرج المشكوك عن أطراف العلم الاجمالي.

الوجه الثالث:أنّا مأمورون بترك ما نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله و الامام المعصوم عليه السّلام عنه4.

ص: 57


1- فرائد الاصول ص 354.

واقعا،بمقتضي قوله تعالي وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)يعني كلّ نهي صدر من النبي صلّي اللّه عليه و آله يجب الانتهاء عنه،فإذا احتمل كون شيء قد صدر النهي عنه،فلا بدّ من الانتهاء عنه حتّي يتحقّق الامتثال.

و فيه أنّه كذلك لو لا معارضته بما دلّ علي أنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان،و قد تقدّم الآيات و الأخبار الدالّة علي أنّه ما لم يصل الحكم إلي الناس،فلا يكونون مكلّفين بالعمل به،و هي تبيّن أنّ المراد هو ما نهاكم عنه ممّا وصل النهي إليكم.

الوجه الرابع:ما قيل من استقلال العقل بأنّ العبد من حيث انّه مملوك للّه سبحانه،فلا بدّ أن يكون صدوره و وروده عن إذن مالكه،ففعل ما لم يأذن به مالكه إذنا مالكيّا كشرب التتن خروج عن زيّ الرقّية،و هو قبيح مذموم عليه.

أقول أوّلا:إنّ معاملة الموالي مع العبيد أن يكون العبد ممتثلا لمولاه لا أن يكون مأذونا في كلّ فعل من نوم و قيام و قعود،نعم ليس للعبد أن يؤجر نفسه بدون إذن مولاه،و ليس له أن يبيع بعض أعضائه مثل احدي كليته،و لذا لو أراد المولي من العبد أن يشتري له اللحم و لم يأمره بذلك،قبح منه توبيخه علي عدم الشراء،و ليس ذلك إلاّ لهذا البناء الخارجي بين الموالي العرفيين و العبيد،و هذا المعني المرتكز في أذهان العرف يجرونه بين اللّه تعالي و عبيده.

و ثانيا:إنّ اللّه تبارك و تعالي يعامل العبد معاملة من كان مستقلا في أمره، فيشتري من المؤمنين أنفسهم و أموالهم و يدلّهم علي تجارة تنجيهم من عذاب النار.و حاصل هذا الوجه أنّ العبد مملوك للّه و المملوكيّة تقتضي أن يكون جميع حركاته و سكناته بإذن اللّه.و الجواب عنه ما ذكرناه.

الوجه الخامس:أنّ المخلوقات التي يتصرّف فيها كالتتن مثلا و غيره ملك للّه7.

ص: 58


1- سورة الحشر:7.

تعالي،و لا يجوز عقلا أن يتصرّف في ملك المالك إلاّ بإذنه و إباحته،فإذا فقد الإذن و الإباحة قطعنا علي الحظر،إلاّ إذا أذن الشارع في ارتكابه،و هذه المسألة تفترق عن مسألة أصالة البراءة،فإنّها في مورد الشكّ في الحكم الواقعي،و هذه المسألة في إثبات الحظر في التصرّف في الأشياء بالعنوان الواقعي بحكم العقل، لكن إثبات الحظر في الأفعال يكفي في القول بالاحتياط في مورد الشكّ في الحكم الواقعي.

و الجواب:أنّ العقل لا يستقلّ بقبح التصرّف في ملك الغير بما هو ملك الغير،إلاّ إذا كان إضرارا بالغير أو ظلما عليه،و أمّا مجرّد التصرّف فلا،و حيث انّ الناس يقصدون الانتفاع بأملاكهم يكون تصرّف الغير فيها إضرارا أو ظلما بهم،و أمّا اللّه تعالي فلا ينتفع بمخلوقاته،و لا يضرّه الانتفاع بها،فكما أنّ الاستظلال بظلّ حائط الغير لا يضرّه و لا يستقلّ العقل بقبحه،فكذا ملك اللّه تعالي،بل الانسان و وضع الأشياء تحت يديه و خلق الحيوانات و هي تنتفع بهذه الأشياء،فلا يستقلّ العقل بمنع الانسان من التصرّف فيها و الانتفاع بها.

و قد أجاب السيّد الأجلّ المرتضي رحمه اللّه بما يقرب ممّا ذكرنا في الذريعة (1)، و كأنّه يختار أنّ الأصل في الأشياء الاباحة،لكن الشيخ الطوسي في العدّة يذهب إلي الوقف،و لعلّه الأظهر؛لأنّ العقل لا إحاطة له بالمصالح و المفاسد،و ما ينبغي للمكلّف التصرّف فيه،و ما لا ينبغي له ذلك فيتوقّف في كلّ تصرّف بعد ملاحظة ورود الشرع؛لأنّه يراه ملزما بمراعاة الشرع.

الوجه السادس:استقلال العقل بلزوم أن يكون الانسان مطيعا للّه في جميع1.

ص: 59


1- الذريعة 2:821.

أعماله شكرا للمنعم الحقيقي،فما احتمل كونه حراما ينبغي تركه،و ما احتمل كونه واجبا ينبغي فعله،و ما علم أنّه رخّص فيه،جاز له ارتكابه.

و فيه أنّ العقل فيما لا يستقلّ بحسنه أو بقبحه يحكم بلزوم الرجوع إلي الشرع، فإن تمّ عنده أدلّة البراءة فيما يشكّ في حرمته أو الاحتياط فهو،و إلاّ ففي استقلال العقل بعدم التكليف حيث لم يصل إليه الحجّة مع احتمال وجود التكليف و عدم تقصير المولي،و إنّما خفي الحكم لاعتداء الظالمين،تأمّل و اشكال،فتأمّل.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الذي ينبغي أن يقال:انّه إذا لم يوجد دليل علي حرمة شيء أو وجوبه،و لم يقل بحرمته أحد من العلماء،فلا تكليف لعدم تماميّة البيان علي التكليف حيث لم يصل إلي المكلّف،و يدلّ عليه الآيات و الأخبار.

و أمّا إذا كان عليه دليل لم يتمّ حجّيته،كما إذا كان الخبر ممّا صحّحه القدماء و لم يثبت عندنا صحّته،أو كانت شهرة من القدماء غير مستندة إلي الخبر،أو كان سنده مشتملا علي رجل اختلفت الأقوال في وثاقته،أو رجل لم يضعّف،و أمثال هذه الموارد ممّا يكون فيه شبهة،أي:اشتبه الأمر و لم يظهر الترجيح بين هذه الامور، فيشمله أخبار التثليث و أخبار الوقوف عند الشبهة،و هي أقوي دلالة و سندا و أكثر عددا من أدلّة البراءة،و ربّما يقع الشبهة في تعيين المصداق الخارجي،كما إذا لم يعلم كون ذلك ربا لأجل الشكّ في كونه شرطا أو ليس شرطا ممّا يلتبس الأمر فيه، ففي جميع هذه الموارد يحتاط.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:قد يفصّل بين كون المسألة ممّا تعمّ بها البلوي

،بحيث لو ورد فيها تحريم لظهر،فإذا لم يوجد فيها ما يدلّ علي التحريم بعد الفحص،فيقال:عدم الدليل دليل علي عدم الحرمة واقعا،و بين كون المسألة محلّ الابتلاء و احتمل ورود نصّ فيها

ص: 60

قد خفي علينا،فحينئذ تجري أصالة البراءة،فيكون الفعل محكوما بالحلّية الظاهريّة،و لا ثمرة عمليّة بينهما،لكن عندنا و عند من يجعل بعض الموارد من باب الشبهة التي يجب فيها الاحتياط،فهذا التفصيل متين في الجملة.

و في المورد الأوّل يكون الفعل محكوما بالاباحة الواقعيّة،و في المورد الثاني بالاباحة ظاهرا.و أمّا إذا صدق الشبهة،فإنّه يجب التوقّف و الاحتياط.

و أمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ هذا التفصيل،من قوله:إنّ الدليل المصحّح للتكليف هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه و الاستفادة منه،فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف أصلا،أو كان و لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف،أو تيسّر و لم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ، فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح.

إلي أن قال:إنّ المستنبط صحّ له دعوي القطع بانتفاء الحكم الفعلي،و لا فرق بين العامّ البلوي و غيره إلي آخر ما أفاده (1).

فيمكن المناقشة فيه بأنّه يصدق الشبهة في بعض هذه الموارد كما تقدّم،فإذا لم يتمّ عند المجتهد حجّية خبر من وثّقه الرجاليّون من الفطحيّة و الواقفيّة،و لم يثبت عنده حجّية شهرة القدماء،و لا غير ذلك ممّا يوجب اعتبار الخبر عند غيره، كوجوده في الكتب التي شهد الرجاليّون بأنّها معمول بها،ككتب الحسين بن سعيد، و كتكرّره في الاصول،و قام خبر معتضد بهذه الامور علي حرمة شيء،فلا يبعد صدق الشبهة،و يشملها ما دلّ علي الوقوف عند الشبهة،و لعلّ ذلك و شبهه وجه الاحتياط اللازم من بعض الفقهاء في بعض الموارد.

التنبيه الثاني:أنّ أصالة البراءة لا تنفي الحكم الواقعي

،و لا توجب الظنّ بعدم الحرمة،

ص: 61


1- فرائد الاصول ص 358.

بل هي وظيفة من لم يقم عنده دليل،و إن ظنّ ظنّا غير معتبر بالحرمة،كما أنّ الاستصحاب أيضا لا يفيد الظنّ،و سيأتي في محلّه.

التنبيه الثالث:لا إشكال في أنّ ترك المشكوك حرمته راجح عقلا

،و يستحقّ التارك ثواب الانقياد،و هل هو راجح شرعا؟بأن يكون أحد المستحبّات الشرعيّة، استظهر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من بعض الأخبار،كقوله عليه السّلام«من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلي أن يقع في المحرّمات»و قوله«من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك»و قوله«من يرتع حول الحمي يوشك أن يقع فيه»كون الأمر به للاستحباب،و حكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة إلي آخر كلامه (1).

أقول:استفادة الاستحباب من هذه الأخبار مشكل،لكن يمكن أن يقال:إنّ الاحتياط مرتبة من التقوي و الزهد و الورع،و هي بمراتبها مستحبّة:لقوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2).

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين الاستحباب و التحريم،فالأرجح هو الترك.

التنبيه الرابع:تعرّض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لحكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة

البراءة

،و سنتعرّض له في الشبهة الموضوعيّة.

المسألة الثانية: ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة و غير الوجوب من جهة إجمال النصّ

عندنا،و كان معلوما عند المخاطبين،مثل النهي المجرّد عن القرينة،بناء علي القول باشتراكه لفظا بين الحرمة و الكراهة،و مفهوم الغناء أو الصعيد اللذين ربّما كانا معلومين عند المكلّفين المخاطبين،و لكن لبعد العهد و التصرّف باللغة و تداخل

ص: 62


1- فرائد الاصول ص 360.
2- سورة التغابن:16.

اللغات و غير ذلك،كما صرّح ابن الأثير في أوّل نهايته (1)صارا مجملين.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و حكمه كما في المسألة الاولي،و الأدلّة المذكورة من الطرفين جارية (2).

قلت:الانصاف أنّ هذا من موارد الشبهات،التي يشملها أخبار التثليث، و أخبار الوقوف عند الشبهة،و أخبار الكفّ عمّا لا يعلم،و هي حاكمة علي بعض أدلّة البراءة و مخصّصة لبعضها،مثل حديث الرفع؛لأنّه أعمّ من الشبهة الموضوعيّة و الحكميّة و ممّا لم يرد فيه نصّ أو ورد مجملا بحيث يكون مصداقا للشبهة.

المسألة الثالثة: أن يكون احتمال الحرمة لتعارض النصّين

،فإن كان وجه التقيّة معلوما موافقا لأحدهما حمل هذا علي التقية،و كذا إن ظهر موافقة أحدهما للكتاب.و أمّا إن لم يمكن الجزم بحمل أحدهما علي التقيّة للجهل بأقوال العامّة؛حيث انّ أقوالها علي ما قيل إنّما انضبطت في الأربعة في زمان السيّد المرتضي رحمه اللّه،أو لم يمكن الجزم بموافقة أحدهما للكتاب لاجمال الكتاب و نحو ذلك،أو تعارض النصّان و لم يتمّ الدليل علي التخيير،ففي جميعها يصدق الشبهة،فيجب الوقوف عندها و لا بدّ من الاحتياط.

المسألة الرابعة: في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة
و يستدلّ علي البراءة فيها بالادلّة الأربعة:
الأوّل:الكتاب

،و لعلّ المراد به قوله تعالي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

الثاني:الاجماع

،لكن يحتمل كون مدركه الأخبار و سيرة المتشرّعة.

ص: 63


1- نهاية ابن الأثير 1:5.
2- فرائد الاصول ص 365.
الثالث:الأخبار الكثيرة

،و نتعرّض لها في بحث الشكّ في المكلّف به.

و ذكر الشيخ الأنصاري خبر مسعدة بن صدقة و المناقشة فيه،و عبّر عنه بالموثّقة،ثمّ قال:و لكن في باقي الأخبار المتقدّمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب و العقل كفاية،مع أنّ صدرها و ذيلها ظاهران في المدّعي (1).

أقول:عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، و الأخبار مستفيضة علي الحلّ فيها.

الرابع:العقل

،فإنّه يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

توضيحه:أنّ الحرمة المتعلّقة بشرب الخمر تنحلّ إلي حرمة كلّ فرد من الخمر، بحيث يكون لكلّ فرد عصيان مستقلّ،و الحكم يتوقّف علي وجود موضوعه، و قبل وجوده يكون إنشاء محضا،فوجود الموضوع شرط التكليف،فإذا شكّ في مايع أنّه خمر أو ماء،فإن كان خمرا واقعا فهو حرام مستقلّ لا ربط له بسائر أفراد الخمر،و حيث انّ كونه خمرا مشكوك،فيكون موضوع الحرمة مشكوكا،و الشكّ في الموضوع يوجب الشكّ في الحرمة،و العقاب علي ارتكاب مشكوك الحرمة عقاب بلا بيان.

و أورد عليه بأنّ البيان الذي لا بدّ منه في كون العقاب مع البيان هو بيان الحكم الكلّي و ايصاله إلي العبد،و أمّا بيان المصاديق فليس وظيفة المولي،و قد أدّي المولي ما عليه،حيث بيّن حرمة الخمر.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذا الايراد بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا و المعلومة إجمالا بين محصورين،و أمّا ما احتمل كونه خمرا فلم يعلم من النهي تحريمه،و ليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم

ص: 64


1- فرائد الاصول ص 269.

يحسن العقاب عليه،ثمّ ذكر أنّ هذا التوهّم،أي توهّم عدم لزوم بيان المصاديق جار في الموضوع الكلّي المشتبه حكمه كشرب التتن؛لأنّ العمومات الدالّة علي حرمة الخبائث و الفواحش و ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا تدلّ علي حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها (1).

و فيه أنّ العقل يحكم بأنّ المولي إن بيّن الحكم الكلّي و أوصله إلي العبد،فليس عليه بيان مصاديقه؛لأنّ انطباق الحكم الكلّي علي موضوعه قهري لا يرتبط بالمولي كشارع،فإذا حرّم ما صدق عليه مفهوم الخمر،فلا عذر للعبد في شرب ما صدق عليه الخمر واقعا،فيلزم عليه أن يجتنب ما يشكّ في كونه خمرا حتّي يحرز أنّه امتثل الحكم الصادر من المولي.

و أمّا النقض الذي ذكره الشيخ،فيلتزم به إن كان المراد من قوله وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ إنشاء حرمة ما صدق عليه الخبائث واقعا،و احتمل كون شرب التتن مثلا من الخبائث،و لكن في معني الآية احتمال آخر،و هو أن يكون المراد أنّ ما حرّمه الشارع من الميتة و الخمر و الدم و غيرها هي خبائث،فهو إخبار عن المحرّمات الشرعيّة أنّها خبائث.و أمّا إذا قلنا بحرمة الخبائث بهذا العنوان،فإن صدق الخبيث علي شيء حكم عليه بالحرمة،و أمّا إن لم يصدق الخبيث فلا،و إن شكّ في شيء أنّه خبيث وجب الاحتياط عقلا،و مرّ الجواب عن التمسّك بقوله تعالي وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

و حاصل كلامنا أنّ العقل يستقلّ بلزوم مراعاة احتمال انطباق المكلّف به علي المشكوك،فإذا قال المولي:لا تشرب الخمر،المراد به ما صدق عليه الخمر و هو الخمر الواقعي،فالعقل يستقلّ بأنّ الفرد المشكوك يجب الاجتناب عنه؛لأنّه لا9.

ص: 65


1- فرائد الاصول ص 369.

تقصير من ناحية المولي في بيان الحكم،و ليس عليه بيان تطبيق المتعلّق علي أفراده،و مطلوبه الاجتناب عن الخمر الواقعي،فلا يراه العقل معذورا لو شرب مشكوك الخمريّة الذي يكون خمرا واقعا؛لأنّ الاحتمال هنا يكون منجّزا للتكليف.

و لو سلّم دلالة الآيات المذكورة علي حرمة ما نهي عنه الشارع واقعا في الشبهة الحكمية،و إن لم يصل إلي المكلّفين بعد ما صدر عن الشارع،فلا يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان،و لكن يكفي الأدلّة المتقدّمة الدالّة علي أنّه لا يعاقب اللّه ما لم يتمّ البيان و ما لم يصل البيان في تقييد إطلاق أمثال قوله تعالي ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

و قد يستدلّ للاحتياط في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة بأنّ دفع الضرر المحتمل واجب عقلا؛لأنّ العقل يكون مدبّرا للبدن،و يري أنّ ما يكون فيه مصلحة له ملزمة يجب فعله،و ما يكون فيه مفسدة ملزمة يجب تركه،و لذا نقول:إنّ ما حكم به الشرع قد حكم به العقل أيضا؛لأنّ الشرع إذا حرّم شيئا كشف ذلك عن مفسدة فيه يلزم التجنّب عنها،و لا فرق فيما يلزم التحرّز عنه ممّا يرجع إليه بين الأمور الدنيوية و الامور الاخروية،فلذا يجب ملاحظة دعوي مدّعي النبوّة، المخبر عن وجود حياة بعد الموت،المحذّر من دخول النار بسبب بعض الأفعال.

ثمّ إنّ الاضرار التي يجب دفعها عقلا و الاجتناب عن مورد احتمالها امور:

الأوّل:العقاب الاخروي،فإن شرب المايع المردّد بين الخمر و الماء يحتمل فيه العقاب إن كان خمرا واقعا.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عنه بأنّ ضرر العقاب مأمون بحكم العقل بقبح

ص: 66

العقاب من غير بيان (1).

ثمّ اورد عليه بأنّه يحتمل وجود مصلحة في عدم البيان،و وكول الأمر إلي ما يقتضيه حكم العقل من وجوب دفع الضرر المحتمل.

و أجاب عنه بأنّ قوله«كلّ شيء لك حلال»بيان لعدم الضرر الاخروي.

أقول:تقدّم أنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعيّة، فلو لا الأخبار الدالّة علي حلّية المشكوك كانت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل محكّمة.و من المستبعد ما ذكره في فوائد الاصول (2)من إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعيّة قبل الفحص.

الثاني:الضرر الدنيوي،فإنّ بعض المحرّمات يضرّ بالبدن،فله مفسدة ملزمة لا بدّ من عدم ارتكابها قد اطّلع عليها الشارع و حرّمه لأجلها،و ما حكم به الشرع حكم به العقل،فإن احتمل ذلك وجب دفع الضرر المحتمل.

و ما ذكره في فوائد الاصول (3)في الايراد علي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ باب المصلحة و المفسدة غير باب الضرر الذي يستقلّ العقل بلزوم التحرّز عن محتمله.و كذلك في مصباح الاصول (4).في غير محلّه؛لأنّ حرمة بعض المحرّمات هي للاضرار بالبدن كما في بعض الأخبار.

و الصحيح في الجواب أن يقال:إنّ العقل و إن حكم بدفع احتمال المفسدة الملزمة الموجبة للضرر الدنيوي،لكن الشارع اطّلع علي انطباق عنوان آخر مزاحم لذلك،و لعلّه مصلحة التسهيل،فحكم بالحلّية بقوله«كلّ شيء لك حلال7.

ص: 67


1- فرائد الاصول ص 369-370.
2- فوائد الاصول 3:144.
3- فوائد الاصول 3:135.
4- مصباح الاصول 2:287.

حتّي تعلم أنّه حرام»إلاّ إذا كان المحتمل قتل النفس،كما إذا تردّد المايع بين كونه سمّا أو ماء،فإنّه يكون مصداقا لقوله تعالي وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ فيخصّص به عموم كلّ شيء لك حلال.

الثالث:الضرر المعنوي،بأن كان موجبا لسلب توفيقه عن فعل الواجبات، بحيث كانت هذه المفسدة ملزمة للترك،فهو أيضا ممّا يحكم عقل المتديّن بالدين بلزوم دفع الضرر محتمله لو لا ترخيص الشارع بقوله«كلّ شيء لك حلال».

ثمّ إنّ بعض الاصوليّين قال:ليست البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة قبح العقاب بلا بيان،بل البراءة العقليّة فيها من باب قبح العقاب بلا حجّة؛لأنّ كبري حرمة الخمر إنّما تكون حجّة في الأفراد المعلومة تفصيلا أو إجمالا،و لا تكون حجّة في الأفراد المشكوكة إلي آخر ما افيد.

أقول:لا نسلّم ذلك بل نقول:إنّ احتمال التكليف في مثل ذلك يكون منجّزا عقلا.

فتلخّص أنّ البراءة الشرعية تجري في الشبهة الموضوعية،و أمّا البراءة العقلية فلا محلّ لها فيها،هذا.و استدلّ علي وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة بما مرّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة.و الجواب الجواب.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:أنّ أصالة البراءة عن الحكم الالزامي و أصالة الحلّ في الشبهة الحكميّة

و الموضوعيّة اصول حكميّة

إنّما تجري إن لم يكن أصل موضوعي فإنّه حاكم عليها،فإذا شكّ في امرأة أنّها زوجة حتّي يجوز النظر إليها،أو أجنبيّة حتّي لا يجوز،فاستصحاب كونها أجنبيّة يكون رافعا للشكّ،فلا تصل النوبة إلي الأصل الحكمي،أي:أصالة البراءة عن حرمة النظر؛لأنّ الأصل الموضوعي سواء كان موافقا أو مخالفا يكون حاكما علي الأصل الحكمي؛لأنّه يرفع الشكّ تعبّدا،

ص: 68

و توضيحه يأتي في محلّه،و من ذلك أصالة عدم التذكية في الحيوان بعد زهاق روحه،فإنّها حاكمة علي أصالة البراءة عن الحرمة.

و تفصيله:أنّ الشبهة في اللحم المشكوك تذكيته:إمّا موضوعيّة،أو حكميّة.

أمّا الاولي و هي الشبهة الموضوعيّة فعلي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون الحيوان قابلا للتذكية و شكّ في حلّيته و حرمته،كما إذا تردّد الحيوان بين كونه ذئبا أو شاة،فإنّ التذكية تقع عليهما،و بعد التذكية يكون طاهرا،و يحكم بحلّيته بأصالة الحلّ و جواز الصلاة فيه،بناء علي جوازها في المشكوك،إلاّ أن يقال بأنّ أكل لحم هذا الحيوان كان حراما و يشكّ في صيرورته حلالا بالتذكية،و الأصل بقاء الحرمة.و فيه اشكال علي المختار.

القسم الثاني:أن يتردّد الحيوان بين ما يقبل التذكية و ما لا يقبلها،كما إذا تردّد بين الكلب و الشاة،فهو في حال حياته مشكوك الطهارة و النجاسة و محكوم بطهارته ظاهرا و طهارة بوله و خرئه،و بعد وقوع التذكية عليه،أي الذبح مع سائر الشرائط،يشكّ في كونه مذكّي أو ميتة،للشكّ في تأثير التذكية فيه بعد أن لم يكن مذكّي،و الأصل بقاؤه علي ما كان،كما أنّه يشكّ في كونه ميتة للشكّ في كونه كلبا.

و بعبارة اخري:هذا الحيوان المذبوح مع سائر الشرائط لا يعلم كونه مذكّي أو ميتة،و لا أصل يعيّن أحدهما،فيحكم بطهارته لكونه مشكوك النجاسة.

و هل يجوز أكله أو لا؟يمكن أن يقال بأنّ قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ (1)لا تدلّ علي حرمته؛لما بيّناه من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة،و لا دخل للعلم و الجهل في تحقّق مفاهيمها،و الآية الشريفة تدلّ علي تنويع الحيوان إلي الميتة و المذكّي،و هذا الحيوان المذبوح علي نحو التذكية داخل في أحد العنوانين،3.

ص: 69


1- سورة المائدة:3.

فهو مشكوك الحلّية و الحرمة،و مثل الآية الشريفة الأخبار الدالّة علي حرمة الميتة و حلّية المذكّي.

و أمّا الأخبار الدالّة علي أنّه إن رمي و لم يعلم أنّ رميته قتلته لم يحلّ،فلا تشمل المورد للعلم باستناد موته في هذا المورد إلي الذبح.

ثمّ إنّه قد يقال (1)بأنّ المستفاد من الأخبار الدالّة علي الحكم بتذكية اللحم أو الجلد المأخوذين من يد المسلم أو سوق المسلمين،أنّ كلّ لحم أو جلد لم يعلم كونه مذكّي و لم يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين،فهو محكوم بحرمة الأكل و النجاسة و عدم التذكية،و يمكن تأييده بأنّ قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ يدلّ علي اعتبار انتساب التذكية إلي المسلمين،فإن لم يحرز يبقي تحت العموم.

لكن يحتمل أن يقال:إنّ المتيقّن منها عدم جواز الصلاة و عدم الأكل،و أمّا النجاسة فمحلّ إشكال،و في كثير من الأخبار رتّبت النجاسة علي عنوان الميتة.

و قال في المصباح:إن قلنا بثبوت عموم يدلّ علي أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية، كما ادّعاه في الجواهر،و استدلّ له برواية علي بن يقطين (2)،و قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتيّة،فحينئذ يجري استصحاب عدم كون هذا الحيوان كلبا،و يتمسّك بالعموم علي قبول التذكية.

و إن منعنا أحد الأمرين،فإن قلنا بأنّ التذكية أمر وجودي مسبّب عن الذبح بشرائطه،كما هو الظاهر من لفظ المذكّي فالأصل عدمه.و إن قلنا بأنّ التذكية هي الأفعال الخارجيّة،كما استظهره المحقّق النائيني،فلا تجري أصالة عدم التذكية للقطع بتحقّقها علي الفرض،لكن هذا المبني فاسد (3)انتهي ملخّصا.1.

ص: 70


1- قاله في الجواهر 36:في مسألة تردّد اللحم المطروح بين المذكّي و غير المذكّي.
2- وسائل الشيعة أبواب لباس المصلّي ب 5،و راجع التنقيح 1:488.
3- مصباح الاصول 2:311.

أقول:لا يصحّ استصحاب عدم كون هذا الحيوان قبل وجوده كلبا،لما حقّقناه من عدم جريان استصحاب العدم الأزلي.

و أمّا ما ذكره من عدم جريان أصالة عدم التذكية علي القول بأنّ التذكية هي الأفعال الخارجية كما لا يبعد،علي ما يستفاد من الأخبار،من أنّها فري الأوداج و التسمية و الاستقبال،ففيه أنّ هذه الأفعال لا تؤثر في الكلب،و مع الشكّ في كونه كلبا أو شاة يشكّ في تأثير التذكية،و الأصل عدم تأثيرها،فالتذكية نظير التيمّم حيث انّه أفعال لكن لا تؤثّر هذه الأفعال في من ليس له عذر عن استعمال الماء.

ثمّ إن كان الحكم مترتّبا علي عنوان الميتة،فلا يثبت بالاستصحاب من غير فرق بين القول بأنّ التذكية أمر وجودي مسبّب عن الأفعال الخاصّة،أو أنّها نفس الأفعال.

أمّا علي الأوّل،فلأنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت كون الحيوان ميتة؛لأنّ الميتة عنوان وجودي عبارة عن زهاق روح حيوان بسبب غير التذكية:إمّا لعدم قابليّة الحيوان للتذكية،أو لعدم وقوع الذبح بشرائطه عليه.

و أمّا علي الثاني،فلأنّ التذكية هي الأفعال الواقعة علي غير الكلب و الخنزير، و أصالة عدم تحقّقها لا تثبت كون الحيوان ميتة.

ثمّ إنّ التذكية لغة:النفوذ و الحدة،و منها الذكاء لنفوذ الذهن وحدّته،و التهاب النار.

قال في المقاييس:ذكي يدلّ علي حدّة في الشيء و نفاذ،إلي أن قال:و من الباب ذكّيت الذبيحة اذكّيها إلي آخر ما ذكره (1).

و لكن ذكر في مجمع البحرين من معانيه التطهير،كما استظهره المحقّق الهمداني7.

ص: 71


1- مقاييس اللغة 2:357.

في كتاب الطهارة من مصباحه،و استشهد بمثل كلّ يابس ذكي،و ذكاة الأرض يبسها،و ذكاة الجلد دباغه إلي آخر كلامه (1).

و علي كلّ فلا فرق بين أن تكون التذكية زهاق الروح بهذه الامور،أي:التسمية و الذبح و غيرهما،و بين أن يكون نفس هذه الأفعال.

القسم الثالث:أن يشكّ في وقوع التذكية علي مأكول اللحم كالشاة،و الأصل فيه متعارض؛لأنّ استناد زهاق روحه إلي الذبح بشرائطه مشكوك و الأصل عدمه، كما أنّ استناد زهاق روحه إلي الموت بسبب غير شرعي أيضا مشكوك و الأصل عدم كونه ميتة فيتعارضان،و كما أنّ الحرمة و النجاسة متفرّعتان علي الميتة،كذلك الحلّية و الطهارة مترتّبتان علي المذكّي.نعم لا تجوز الصلاة فيه؛لقوله في موثّق ابن بكير«إذا علمت أنّه ذكي» (2).

و قد يقال كما مرّ بأنّ المستفاد ممّا ورد في الصيد من أنّه إذا علم أنّ رميته قتلته، و ممّا ورد من اعتبار سوق المسلمين،انّ أجزاء الحيوان إنّما تكون محكومة بالتذكية و الطهارة إن كانت مأخوذة من المسلمين،و إلاّ فلا يحكم عليها بالتذكية و الطهارة.

و فيه نظر؛لأنّي لم أجد في الأدلّة إلاّ عدم جواز الأكل لا الحكم بكونه ميتة،إلاّ أن يكون ملازمة عرفيّة بين عدم الأكل و كونه ميتة.

ثمّ لا يخفي أنّ الميتة ليست عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه،بل هي ما زهق روحه بسبب غير شرعي،و المذكّي ما زهق روحه بسبب شرعي و لا ثالث، و يترتّب علي كلّ واحد من العنوانين أثر،فإذا جري الأصل لنفي الأثر تعارض الأصلان.4.

ص: 72


1- مصباح الفقيه ص 139.
2- الاستبصار 1:384.

إلاّ أن يقال بأنّ التذكية هي الأفعال من الذبح و ذكر اسم اللّه و استقبال القبلة و الموت،فإذا شكّ في تحقّق أحدها فالأصل عدمه.و يمكن استظهاره من قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ أي:إنّ أكيل السبع لا يؤكل إلاّ ما وقع عليه الأفعال،فإذا كان الحيوان أكيل السبع و شكّ في وقوع التذكية عليه،فالأصل عدمه.

و فيه أنّه لا يدلّ علي أنّ الميتة عبارة عن موت الحيوان و عدم وقوع التذكية عليه،بل هي موته حال عدم وقوع التذكية عليه،و أصالة عدم وقوع التذكية عليه لا تثبت حاله.

و لا يتوهّم أن يقال:إنّ الموت وجداني،و يشكّ في أنّه ذكر اسم اللّه عليه أو لا، و الأصل عدم ذكر اسم اللّه تعالي عليه،و ذلك لأنّ الموضوع ليس مركّبا من الموت و عدم ذكر الاسم،بل الموت حال عدم ذكر اسم اللّه عليه،فلا أثر لعدم ذكر اسم اللّه تعالي حتّي يستصحب عدمه.

و قد ظهر ممّا ذكر النظر فيما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ من جعل استصحاب عدم تذكيته معارضا بأصالة عدم الموت،قال:أوّلا أنّ حرمة الأكل لا تتوقّف علي ثبوت الموت،بل الحلّية متوقّفة علي التذكية،و الدليل عليه استثناء «ما ذكّيتم»من قوله«ما أكل السبع»فلم يبح الشارع إلاّ ما ذكي،و إناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم اللّه عليه،و غيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية،فإذا انتفي بعضها و لو بحكم الأصل انتفت الاباحة.

و ثانيا:أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّي،و ليست الميتة ما مات حتف أنفه،بل كلّ زهاق روح انتفي معه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا (1).

فإنّ فيه أوّلا:أنّ حرمة الأكل لا تتوقّف علي ثبوت الموت،لكن النجاسة1.

ص: 73


1- فرائد الاصول ص 371.

متوقّفة علي تحقّق عنوان الميتة،و هو أمر وجودي عبارة عن الموت حال عدم وقوع التذكية.

و ثانيا:أنّ الاستثناء يوجب التنويع،فيكون مفاد الآية أنّ الميتة و هي ما زهق روحه حتف أنفه،و ما أكل السبع و ما مات بسبب غير التذكية،حرام أكلها.و ما مات بسبب التذكية حلال،و كذا قوله وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (1)يعني:ما مات في حال لم يذكر اسم اللّه عليه،و الموت في حال لم يذكر اسم اللّه عليه مشكوك،كما أنّ الموت في حال ذكر اسم اللّه عليه أيضا مشكوك.و الميتة شرعا ما مات في حال لم يجر عليه التذكية،و الدليل عليه ما بيّنا في بحث العامّ و الخاصّ و غيره من أنّ العلم و الجهل لا مدخليّة لهما في معاني الألفاظ، و الاستثناء يوجب التنويع،إلاّ أن يقال بما مرّ من استفادة الحكم بعدم التذكية و كونه ميتة ممّا دلّ علي أنّ المشكوك بحكم الميتة،إلاّ أن تقوم أمارة علي تذكيته، كسوق المسلمين و نحو ذلك.

و أمّا الثانية أي:الشبهة الحكميّة،فلها أيضا أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون قابلا للتذكية كالأرنب و شكّ في حلّية لحمه و حرمته، فتجري فيه أصالة البراءة عن الحرمة،أو أصالة الاحتياط علي الخلاف في الشبهة الحكمية التحريمية.

القسم الثاني:أن يشكّ في حلّيته و حرمته،و مع ذلك يشكّ أيضا في قابليّته للتذكية،كالمتولّد من الشاة و الكلب إن لم يسمّ باسم أحدهما،فإن ثبت من الأدلّة قابلية كلّ حيوان للتذكية،تمسّك بالعموم علي جواز تذكيته و تجري أصالة الحلّ لأكل لحمه أو الاحتياط علي الخلاف.1.

ص: 74


1- سورة الأنعام:121.

و إن لم يثبت من الأدلّة عموم ذلك،فأصالة عدم تحقّق التذكية لا تجري؛لأنّها أصل في الشبهة الحكميّة،و الاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،و لو سلّم جريانها فهي معارضة بأصالة عدم كونها ميتة.

و بعد التعارض يمكن القول بحلّية اللحم و عدم كونه نجسا،إلاّ أن يستفاد من الأخبار لزوم العلم بكون الحيوان مذكّي،أو قيام أمارة علي التذكية من سوق المسلمين و نحوه،و مع عدمهما يحكم بالحرمة و النجاسة و لو لعدم التذكية.

و لعلّ ما حكي عن المحقّق و الشهيد الثانيين من حرمة أكل اللحم و طهارته مبنيّ علي أنّ الحلّية متفرّعة علي إحراز التذكية،و النجاسة متفرّعة علي عنوان الميتة،و لا يثبت عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية.

و لا يخفي أنّ كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه هنا لا يخلو عن إجمال،فراجع.

و أمّا ما ذكره في الكفاية من أنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج مع سائر شرائطها عن خصوصيّة في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلّية،و مع الشكّ في تحقّق تلك الخصوصيّة فالأصل عدم تحقّق التذكية (1).

ففيه نظر؛لأنّه إن كان عموم يقتضي قابليّة كلّ حيوان للتذكية فيتمسّك بالعموم، و إن لم يكن عموم كذلك،فأصالة عدم التذكية من الاستصحاب في الشبهة الحكمية لا تجري،لما بيّناه في محلّه من أنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،مع أنّها لو جرت فهي معارضة بأصالة عدم تحقّق عنوان الميتة،فإنّها عبارة عمّا زهق روحه في حيوان قابل للتذكية بسبب غير شرعي،أو زهاق الروح في حيوان غير قابل للتذكية،و هذا العنوان لم يكن فيستصحب،و يعارض مع أصالة عدم التذكية،هذا في الشبهة الحكميّة،و أمّا في الشبهة الموضوعيّة،فقد تقدّم7.

ص: 75


1- كفاية الاصول ص 397.

تعارض الأصلين،فلاحظ.

القسم الثالث:أن يشكّ في اعتبار الحديد مثلا في التذكية،فإن ذبح بغير الحديد،يشكّ في كونه مذكّي أو ميتة،و لا أصل يقتضي عدم التذكية،أو عدم كونها ميتة،فيرجع إلي أصالة البراءة عن الحرمة،فتأمّل لأنّه يمكن أن يستفاد من الأخبار توقّف حلّية الأكل علي إحراز التذكية.

ثمّ إنّه ذكر في المصباح أنّ حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة مترتّبان علي عدم التذكية،و النجاسة مترتّبة علي عنوان الميتة،و يجري الأصلان بلا معارضة،فتثبت حرمة الأكل و عدم النجاسة،كما في المتوضّي بمايع مردّد بين البول و الماء مثلا، فإنّه محكوم ببقاء حدثه و بقاء طهارة بدنه (1).

أقول:فيه مضافا إلي أنّ حرمة الأكل أيضا مترتّبة علي عنوان الميتة،أنّ الأصل لا يجري في أطراف العلم الاجمالي.و أمّا المثال المذكور،فإنّه لا يجري الاستصحابان و يحكم بطهارة البدن لقاعدة الطهارة و وجوب الوضوء لقاعدة الاشتغال.

التنبيه الثاني:في جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة في الدماء و الفروج

و الأموال و عدمه

احتمالان:

الأوّل:عدم الجريان،و هو الذي يظهر من الشيخ الأنصاري عليهم السّلام،حيث قال:

إنّ الاحتياط راجح مطلقا عقلا و نقلا،إلاّ إنّه موجب لاختلال النظام بل أكثر،و هو مناف لغرض الحكيم،و التبعيض بحيث لا يلزم اختلال النظام مشكل تحديده، فيحتمل أحد أمور:

الأوّل:التبعيض بحسب الاحتمالات،فيحتاط في المظنونات دون

ص: 76


1- مصباح الاصول 2:313.

المشكوكات.

الثاني:التبعيض بحسب المحتملات،فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع كالدماء و الفروج،بل مطلق حقّ الناس بالنسبة إلي حقوق اللّه تعالي (1).

الثالث:التبعيض بين مورد الأمارة علي الاباحة و مورد لا يوجد إلاّ أصالة الاباحة،فيحتاط فيها،إلي أن قال:فالأولي الحكم برجحان الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام،و يحدّد بصورة عدم اختلال النظام،و ما ذكر من أنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر،فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه انتهي ملخّصا (2).

أقول:يمكن أن يقال:إنّ الاحتياط في غير الثلاثة مرجوح في بعض الموارد، منها مسألة الطهارة و النجاسة،فلا يبعد أن يكون الاحتياط فيها مرجوحا.و منها:

ما كان في سوق المسلمين من اللحوم و الشحوم،فالاحتياط فيه مرجوح،و كذا ما في أيديهم من الأموال التي لا يعلم كونها حلالا أو حراما.و منها:الاحتياط في الصلاة و الوضوء بالتكرار فيهما.

بقي الاحتياط فيما يصير جزء البدن في بعض الموارد التي علم الاهتمام به، مثل الخمر و لحم الخنزير و الكلب و النكاح الذي منه الولد و نحو ذلك فهو راجح.

و أمّا الثلاثة فإن كان في موردها استصحاب أو أمارة عمل علي وفقهما،و إلاّ فيحتاط،كما إذا طلّق زوجته ثمّ علم أنّه وطأها:إمّا قبل الطلاق حتّي تكون أجنبية،و إمّا بعد الطلاق في العدّة حتّي تكون زوجة؛لأنّ الوطء في العدّة رجوع قهرا،و لم يعلم تاريخ الوطء،فاستصحاب الطلاق يقتضي كونها أجنبية،6.

ص: 77


1- هكذا العبارة في الأصل،و الظاهر أنّ خبر قوله رحمه اللّه«فالحرام المحتمل»ساقط.
2- فرائد الاصول ص 376.

و استصحاب بقاء الزوجية حال الوطء إلي ما بعده يقتضي كونها زوجة،و بعد تعارض الاستصحابين لا يرجع إلي أصالة الحلّ،و كذا لو شكّ في مال أنّه لنفسه أو لغيره إذا لم يكن له حالة سابقة،و كذا إذا شكّ أنّ الشبح المترائي من بعيد مؤمن أو غيره ممّن لا يكون دمه محترما،فالاصول في هذه الشبهات الموضوعيّة لا تجري.

و استدلّ في فوائد الاصول علي عدم جريان البراءة و وجوب الاحتياط في الثلاثة،بأنّ تعليق الحكم علي أمر وجودي يقتضي إحرازه،فمع الشكّ في تحقّق ذلك الأمر الوجودي الذي علّق الحكم عليه يبني ظاهرا علي عدم تحقّقه لا من جهة استصحاب العدم؛إذ ربما لا يكون لذلك الشيء حالة سابقة قابلة للاستصحاب،بل من جهة الملازمة العرفيّة بين تعليق الحكم علي أمر وجودي، و بين عدمه عند عدم إحرازه،و هذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم،و لكن لا ملازمة واقعية،بل ملازمة ظاهريّة،أي:في مقام العمل يبني علي عدم الحكم مع الشكّ في وجود ما علّق الحكم عليه،و يترتّب علي ذلك فروع مهمّة،منها-إلي أن قال:-و منها:أصالة الحرمة في الدماء و الفروج و الأموال (1).

أقول:الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة من غير دخل للعلم و الجهل و الشكّ في معانيها،فالمايع المقطوع أنّه خمر إن كان ماء واقعا فهو ماء و ليس بخمر، و التعليق علي الأمر الوجودي تابع لواقعه،فإذا قال ينجس الماء إلاّ إذا بلغ قدر كرّ، كان ذلك تنويعا للماء علي نوعين كرّ واقعي لا ينفعل،و ما عداه و هو لا ينفعل، فالماء مخلوق الساعة إن شكّ في كونه بحدّ الكرّ،فحيث إنّه لو كان كرّا لم ينفعل، و إن لم يكن كرّا انفعل،فإذا شكّ في كرّيته لا ينفعل للشكّ في انفعاله.0.

ص: 78


1- فوائد الاصول 3:140.

فالأولي أن يستدلّ أمّا في الأعراض فبالأخبار الواردة في الاحتياط فيها، كخبر مسعدة«لا تجامعوا علي الشبهة».

و يستدلّ بما دلّ علي أنّ الوطء حرام إلاّ بنكاح أو ملك أو متعة،المستفاد منه أنّه لا بدّ من الاحراز.

و أمّا في الدماء،فيمكن أن يتمسّك بقوله تعالي وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ (1)قيل:لو أريد عدم الوقوع فيها بعد إحرازها كالالقاء من شاهق،فلعلّه نادر،فينبغي أن يجتنب موارد احتمال الوقوع في الحرام،و لا فرق في وقوع النفس في التهلكة،أو نفس محترمة مسلمة،و أمثال ذلك ممّا يؤكّد الاهتمام شرعا بعدم الوقوع في قتل النفوس و اهراق الدماء.

و أمّا في الأموال،فبأنّ المال لو كان مسبوقا بملك شخص آخر استصحب بقاؤه علي ملكيته،و إن كان مسبوقا بالاباحة استصحب بقاؤه علي إباحته،و إن كان الاستصحاب فيه متعارضا،كما إذا علم بأنّه اشتري الكتاب من زيد أو عمرو و علم بأنّه ملكه زيد في زمان و عمرو في آخر و جهل الزمانان،فاستصحاب كونه ملكا لزيد متعارض مع استصحاب كونه ملكا لعمرو،فيتساقطان،لكن لا يرجع بعد التساقط إلي أصالة الحلّ؛لأنّها لا تثبت رضا المالك،و لا يحلّ مال امريء إلاّ بطيب نفسه.

و بعبارة اخري:عموم كلّ شيء لك حلال،حيث انّه لا يثبت كون هذا الشيء ليس ملكا للغير يخصّص بقوله«لا يحلّ مال امريء إلاّ بطيب نفسه»فإنّه لو كان ملكا للغير توقّف جواز التصرّف فيه علي طيب نفس الغير،فلا يحلّ التصرّف فيه إلاّ بطيب نفسه،و ما دام يشكّ فيه فلا يجوز.5.

ص: 79


1- سورة البقرة:195.

و الحاصل أنّ حلّية التصرّف في المال منحصرة بالطرق التي يحلّه بها مالك المال،كالبيع و الهبة و الاذن في التصرّف،و أشار إليه الشيخ في التنبيه الثاني بأنّه مستفاد من قوله«لا يحلّ مال إلاّ من حيث أحلّه اللّه»فلاحظ.

و الحاصل أنّه في غير هذه الثلاثة إن لم يثبت بالاستصحاب الحرمة أو الاباحة، كالماء مخلوق الساعة لا يعلم أنّه كرّ أو ليس بكرّ،أو إذا تعارض الاستصحابان للحالة السابقة فيهما،كما إذا تعارض استصحاب النجاسة مع الطهارة في مجهولي التاريخ،فإنّه يرجع الي أصالة الطهارة أو أصالة الاباحة،و هذا بخلاف الدماء و الأموال و النفوس،فلا يرجع فيها إلي أصالة الاباحة،و لا ريب في أنّ مراعاة الاحتياط فيها مطلوبة.

المطلب الثاني: في دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولي:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة احتمال وجود نصّ
اشارة

يحتمل كونه مدركا للوجوب.و الظاهر عدم الفرق بينه و بين الشبهة التحريميّة،فيجري فيه التفصيل المتقدّم،و هو أنّه في بعض الموارد يصدق الشبهة،فيجب الوقوف عندها، و الوقوف عند كلّ شيء بحسب اقتضائه،ففي مثل الدوران بين الوجوب و غيره لا بدّ من العمل به.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:لا إشكال في رجحان الاحتياط في التوصّليات و التعبّديات.

أمّا في التوصّليات،فإن قصد كونه-أي:كون احتياطه-للّه اثيب بالثواب الاخروي،كمن غسل يده بالماء القليل مرّتين لزوال نجاسته الحاصلة من غير البول احتياطا،و إن لم يقصد بفعله القربة كان فعله حسنا لدرك الواقع،لكن لا

ص: 80

ثواب عليه؛لأنّ الثواب إنّما يترتّب علي قصد أنّ هذا الفعل الاحتياطي-أي:

الغسل-هو للّه،كما إذا نوي القربة بالنوم و الأكل.

و أمّا إن كان عبادة،فإن قصد القربة باحتياطه اثيب.و أمّا إن لم يقصد القربة،بل كان قصده مجرّد درك الواقع و أتي بالفعل رجاء أن يكون أمره الواقعي باقيا،فإنّه يترتّب عليه درك الواقع إن كان العمل السابق باطلا،مثلا لو صلّي باستصحاب الطهارة من الحدث و كان محدثا واقعا،فصلاته مجزية،فإن أعاد الصلاة حينئذ ترتّب عليها إدراك الواقع،و هل يثاب بثواب آخر لانقياده إن كانت الصلاة الاولي باطلة؟أو أنّه لو كانت صلاته الاولي مع الطهارة واقعا،فهل يثاب علي انقياده؟ محلّ إشكال.

نعم لا إشكال في استحقاقه المدح،و هل ينطبق علي فعله عنوان آخر مثل كونه مرتبة راقية من التقوي؟لا يبعد ذلك،فيترجّح الاتيان بالعمل رجاء درك الواقع من حيث كونه أتقي،فيشمله قوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1)و قوله اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (2)فيكون اتيان الفعل رجاء في أمثال ذلك مستحبّا من حيث كونه اتّقاء للّه حقّ تقاته.نعم إن قصد القربة بهذا الفعل-كما قلنا في التوصّلي -كان له ثواب اخروي.

ثمّ انّ منشأ الاحتياط امور:

الأمر الأوّل:احتمال الاخلال بما يعلم دخله في العمل،كالمثال المتقدّم بأن صلّي مستصحبا للطهارة،فإنّه يحتمل بطلان وضوئه واقعا بنوم و نحوه،فأعادها مع الطهارة القطعية،أو نحو ذلك ممّا لا يستند احتمال الاخلال إلي وجود خبر غير جامع لشرائط الحجّية،ففي مثل ذلك لا بدّ من أن يقصد بعمله احتمال امتثال الأمر،2.

ص: 81


1- سورة التغابن:16.
2- آل عمران:102.

و إلاّ فيكون تشريعا لاحتمال أن لا يكون أمر واقعي أصلا،و ليس للمجتهد أن يفتي لمقلّده باستحباب الاعادة.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه نسب إلي أهل الفتوي خلافه،قال:و لو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي،و هو إتيان الفعل الداعي احتمال المطلوبيّة،لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلاّ مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال،حتّي يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوي علي خلافه (1)انتهي.

ثمّ إنّه لا ينبغي الارتياب في تحقّق العبادة إن أتي بالفعل للّه تعالي بداعي احتمال الأمر،سواء قلنا بأنّ قصد الأمر مأخوذ في متعلّق الأمر الأوّل،أو مأخوذ فيه بالأمر الثاني،أو ليس مأخوذا فيه،بل هو بحكم العقل،كما اختاره صاحب الكفاية،فما ذكره في الكفاية (2)من أنّ الاشكال في تحقّق العبادة بقصد احتمال الأمر،يندفع بما اختاره من أنّ قصد الأمر معتبر عقلا،لا وجه له.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ في جريان الاحتياط في العبادات وجهين، أحدهما:عدم الجريان؛لأنّ المعتبر في تحقّق العبادة العلم بالأمر تفصيلا أو اجمالا.ثانيهما:الجريان لكفاية احتمال الأمر،و لعلّه لذا استقرّت سيرة العلماء و الصلحاء فتوي و عملا علي إعادة العبادات لمجرّد الخروج عن النصوص الغير المعتبرة و الفتاوي النادرة (3)انتهي.

ثمّ ذكر أنّه بناء علي اعتبار العلم بالأمر إن ثبت أمر بإتيان العبادة احتياطا، فلا بدّ من أن يقال:إنّ الأمر قد تعلّق بالعمل الصحيح عدانيّة القربة،كالأوامر2.

ص: 82


1- فرائد الاصول ص 382.
2- كفاية الاصول ص 400.
3- فرائد الاصول ص 382.

الواقعيّة بالعبادات،مثل قوله تعالي أَقِيمُوا الصَّلاةَ قال رحمه اللّه:فمعني الاحتياط بالصلاة الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة،فأوامر الاحتياط تتعلّق بهذا الفعل،و حينئذ فيقصد المكلّف التقرّب بإطاعة هذا الأمر،و من هنا يتّجه الفتوي باستحباب هذا الفعل و إن لم يعلم المقلّد كون هذا الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة و لم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة (1)انتهي.

أقول:إن ثبت أمر بالاحتياط،فهو متعلّق بالعمل بداعي احتمال الأمر؛لأنّه معني الاحتياط،و علي هذا فلا يجوز للمجتهد أن يفتي بالاستحباب المطلق،بل ينبغي أن يقول:يستحبّ الاعادة احتياطا،كما هو ديدن المتأخّرين في كتب الفتاوي،فيقولون:يفعل كذا احتياطا مستحبّا.

و أمّا ما ذكره من تعلّق الأمر بما عدا قصد القربة،ففيه أنّ قصد القربة مأخوذ في العمل جزء أو شرطا،فكيف يتعلّق الأمر بماعداه،و قد أجبنا عن إشكال دعوي استحالة أخذ ما ينشأ عن الأمر كقصد الأمر في متعلّقه،بأنّ المراد من قصد القربة جعل العمل للّه،و هو مأخوذ في العمل لا قصد الأمر،بل ذكرنا أنّه يمكن أن يقصد الأمر و لا يكون العمل عبادة.

ثمّ إنّ ما ذكر من تعلّق الأمر بذات العمل،مبني علي أن يكون قصد القربة مأخوذا بأمر ثانوي متعلّق بالعمل،كما نبّه عليه في التقريرات في بحث التعبّدي و التوصّلي،و قد مرّ الكلام فيه.

الأمر الثاني:عدم معرفة الحكم من الدليل،كما إذا دلّ خبر علي وجوب الجلوس بعد السجود،و لم يظهر من الدليل شموله لجلسة الاستراحة بعد أن كان المتيقّن منه الجلوس للتشهّد.2.

ص: 83


1- فرائد الاصول ص 382.

الأمر الثالث:أن يكون منشأ الاحتياط دلالة خبر غير معتبر علي وجوب عمل، كما إذا دلّ خبر ضعيف علي وجوب جلسة الاستراحة،فالأحوط الاتيان بها عملا بالخبر،و هل هو مستحبّ بعنوان كونه عملا بالخبر الدالّ علي رجحان العمل أم لا؟ فيه وجه مبني علي تمامية دلالة أخبار من بلغ علي ذلك،فإن تمّت دلالتها علي استحباب العمل البالغ عليه الثواب كما قيل،كفي قصد الأمر المستفاد من هذه الأخبار،فيأتي بالعبادة بقصد هذا الأمر جزما،و للمجتهد أن يفتي باستحباب الاعادة حتّي يكون الاتيان بالعمل بداعي الأمر المستفاد من أخبار من بلغ،و إلاّ فينبغي أن يقول:يستحبّ الاعادة احتياطا.

ثمّ إنّه لا بأس بالاستطراد في البحث عن أخبار من بلغ تبعا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه.فنقول:إن ورد خبر ضعيف دالّ علي وجوب عمل أو علي استحبابه،فأخبار من بلغ تدلّ علي رجحان فعله،و هل هي تدلّ علي أنّه مستحبّ شرعا،كالمستحبّات القطعية كصلاة الليل مثلا،و لا يعتبر أن يؤتي بالعمل برجاء الأمر،أو تدلّ علي استحباب العمل البالغ عليه الثواب إن أتي به بقصد احتمال الأمر،أو أنّها لا تدلّ علي استحباب العمل أصلا،بل هي إخبار عن تفضّل اللّه علي العبد إن أتي بعمل رجاء أمره بأنّه يثاب بالثواب الموعود،أو إنشاء و إرشاد إلي حكم العقل برجحان الاتيان بالعمل رجاء أمره؟وجوه.

و لا يخفي أنّه علي الأوّل يجوز للمجتهد أن يفتي بالاستحباب،فيقول:يستحبّ الوضوء لكذا،أو يستحبّ أن يصلّي ركعتين في ليلة كذا.و أمّا علي الوجه الثاني، فلا بدّ أن يفتي باستحباب الوضوء رجاء.

و علي الوجهين الأخيرين لا يفتي باستحباب الفعل،بل يقول:يتفضّل اللّه عليه بالثواب الذي بلغه؛لأنّ قصد الأمر القطعي انّما يصحّ في المستحبّات القطعية،فإن قصد بالفعل الذي بلغ عليه الثواب الأمر المتعلّق به قطعا كان تشريعا.

ص: 84

لكن قيل بجواز إفتاء المجتهد استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب علي جميع الاحتمالات الأربعة،و يندفع إشكال استلزام فتوي المجتهد تشريع المقلّد بما حاصله:انّ المقلّد لا يقصد بفعله إلاّ امتثال الأمر الخاصّ المتعلّق بفعله المعلوم وجهه عند اللّه تعالي علي حسب نظر مقلّده،فلا يكون ذلك تشريعا الخ.

أقول:إن كان عنوان الاحتياط مأخوذا في العمل،فلا بدّ من قصده،و إن لم يكن مأخوذا كان العمل مستحبّا بدون قصد رجاء الأمر.

ثمّ إنّ هذه الأخبار لا تقتضي استحباب عنوان الوضوء بما هو وضوء،بل تقتضي استحبابه بعنوان العمل البالغ عليه الثواب،و ليس للمقلّد أن يقصد استحبابه بعنوانه الخاصّ،بل بالعنوان الذي هو به مستحبّ،فعلي المجتهد القائل بذلك أن يبيّن أنّه مستحبّ لا بعنوانه.

و تظهر الثمرة فيما كان الحكم مترتّبا علي المستحبّ بعنوانه،كما قيل بأنّ الغسل المستحبّ بعنوانه يكفي عن الوضوء لا الغسل لا بعنوانه،بل بعنوان بلوغ الثواب عليه.

أقول:في المثال نظر؛لأنّه بناء علي اجزاء الغسل عن الوضوء،فلقائل أن يقول:

الغسل المشروع بأيّ عنوان يجزيء.

ثمّ إنّه ينبغي ذكر الأخبار التي موضوعها بلوغ الثواب علي عمل:

أحدها:حسن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من سمع شيئا من الثواب علي شيء فصنعه (1)كان له (2)و إن لم يكن علي (3)ما بلغه (4).1.

ص: 85


1- في الاقبال ص 627 عن الكافي:و صنعه.
2- في عدّة الداعي،عن الكافي:كان له أجره.
3- في الاقبال:كما بلغه.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 1.

قوله«من سمع»عامّ لكلّ من سمع بخبر،حصل له القطع منه أو لم يحصل،كان الخبر حجّة أو لا.

قوله«الثواب»شامل لمطلق الثواب و للثواب الخاصّ.

قوله«فصنعه»في المراد به احتمالان،الأوّل:أن يكون صنعه مترتّبا علي السماع خارجا،و إن لم يكن السماع محرّكا له،بأن يكون غرضه وصول الثواب إليه،و يكون الفاء لمجرّد الترتّب خارجا،أي:بلغه و بعده فعل ذلك.

الثاني:أن يكون السماع علّة تامّة لصنعه و يكون هو المحرّك له،و هو الظاهر من هذا الخبر و غيره.

قوله«كان له»يحتمل أن يكون إخبارا عن ترتّب الثواب علي ما عمله بدون الالتفات إلي هذا الخبر.و يحتمل أن يكون إخبارا عن ترتّب الثواب علي عمله بعد الالتفات إلي هذا الخبر،و كان صنعه بداعي ما يفيده هذا الخبر.

قوله«و إن لم يكن علي ما بلغه»يعني:انّ الأجر ليس تابعا لمطابقة الخبر للواقع.

و لا يخفي أنّ استحباب العمل كما يستفاد من الأمر به،كقوله«اغتسل للجمعة» كذلك يستفاد من ترتّب الثواب علي العمل،كقوله«من اغتسل للجمعة كان له كذا».

و اذا تبيّن معاني المفردات،فنقول:إذا سمع مؤمن خبرا غير معتبر يدلّ علي أنّ من فعل كذا كان له كذا مثلا،فإن التفت إلي أنّ هذا الخبر غير معتبر فلربّما خطر بباله أنّه مكذوب فلا يفعله،لكن بعد أن يعثر علي قوله عليه السّلام«من سمع شيئا من الثواب علي شيء فصنعه كان له و إن لم يكن علي ما بلغه»يقول:هذا العمل قد سمعت الثواب عليه،فإن صنعته كان لي الثواب،و لا يكون الثواب علي عمل إلاّ إذا كان مطلوبا،فأنا أصنعه لكونه مطلوبا.

ثانيها:خبر صفوان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من بلغه شيء من الثواب علي

ص: 86

خير فعمله كان له (1).و رواه في ثواب الأعمال،و في سنده علي بن موسي،و هو ابن جعفر الكمنداني،قال المامقاني:هو من العدّة التي روي عنهم محمّد بن يعقوب عن أحمد بن محمّد بن عيسي (2).

و مضمونه متّحد مع الأوّل،بل يحتمل اتّحادهما،و انّ هشام سمع عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و رواه مرّة عن صفوان،و مرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام لعلمه بصدق صفوان،و المراد بصفوان لعلّه الجمّال،فإنّ صفوان بن يحيي من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السّلام.فما في فلاح السائل (3)لابن طاووس من قوله«صفوان بن يحيي»لعلّه غلط.و في الاقبال صفوان بدون ابن يحيي.و متن ثواب الأعمال الموجود يختلف عن متنه الذي نقل عنه ابن طاووس في الاقبال و في فلاح السائل.

أمّا المتن في ثواب الأعمال الموجود عندنا،فإنّه يحتمل أن يكون المراد ما لو كان عمل راجحا في نفسه،بأن كان خيرا و بلغه ثواب خاصّ عليه،كان له الثواب الخاصّ،فلا يشمل ما لو ورد ثواب علي الجلوس علي الصفا مثلا،فإنّه في نفسه ليس خيرا،فتأمّل.

و أمّا المتن الذي ذكره السيّد،و هو هكذا:في الاقبال عن ثواب الأعمال باسناده عن صفوان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:من بلغه شيء من الخير فعمل به، كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (4).فهو أعمّ؛لأنّ ما فيه ثواب فهو خير.7.

ص: 87


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 4.
2- تنقيح المقال 2:310.
3- فلاح السائل ص 11.
4- الاقبال ص 627.

ثالثها:خبر هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:من بلغه عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (1).

و يحتمل اتّحاده مع سابقيه،لكنّه مختصّ بالبلوغ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله.و يمكن دعوي شموله لما يبلغه عن الأئمّة عليهم السّلام لأنّهم يبلّغون عن النبي صلّي اللّه عليه و آله.و مضمونه متّحد مع الحديث الأوّل.

رابعها:خبر محمّد بن مروان،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:من بلغه ثواب من اللّه عزّ و جلّ علي عمل،فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه و إن لم يكن الحديث كما بلغه (2).

في سنده عمران الزعفراني،قال الشيخ في موضع من الاستبصار:مجهول (3).

و لعلّ ظاهر كلامه أنّ شخصه مجهول،و هو مشترك بين جماعة مجهولي الحال.

و محمّد بن مروان مشترك بين جماعة مجهولي الحال،إلاّ محمّد بن مروان الجلاّب،و محمّد بن مروان الحنّاط المديني،فإنّ الشيخ عدّ الأوّل من أصحاب الهادي عليه السّلام،و قال:ثقة (4).وعدّ الثاني من أصحاب الهادي عليه السّلام،و قال فيه النجاشي:ثقة قليل الحديث (5).و راوي الخبر غيرهما؛لأنّ الخبرين مرويّان عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و مضمونه متّحد مع الحديث الأوّل،إلاّ زيادة التماس ذلك الثواب،و معناه أن يفعل الفعل طلب وصول الثواب إليه،و لعلّه إشارة إلي أنّه يفعله طمعا لثوابه لا لهوي0.

ص: 88


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 2.
3- الاستبصار 2:76.
4- رجال الشيخ ص 391.
5- رجال النجاشي ص 360.

نفسه،كما في العبادة التي قد علم كونها مأمورا بها،فإنّه يعملها طلب وصول الثواب إليه.

خامسها:خبر محمّد بن مروان أيضا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من بلغه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله شيء فيه الثواب،ففعل ذلك طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله،كان له ذلك الثواب، و إن كان النبي صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (1).

و في سنده أحمد بن النضر و هو ثقة،و محمّد بن مروان مشترك كما تقدّم.

قوله«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»يحتمل أمرين:أحدهما أن يرجو أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:افعل،فيفعل العمل لاحتمال أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله،فيكون إتيان العمل بداعي احتمال أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قاله راجحا،فإن فعله لا بداعي احتمال قوله صلّي اللّه عليه و آله،و ان فعله قربة إلي اللّه،لم يشمله هذا الخبر.

ثانيهما:أن يرجو مضمون قوله صلّي اللّه عليه و آله«و هو الثواب»أي:طلب الثواب؛لأنّ أمره بفعل ملازم للثواب عليه،فطلبه قول النبي صلّي اللّه عليه و آله لا ستلزامه الثواب،فيتّحد معناه مع التماس الثواب،و لا يبعد ذلك.

و أمّا خبر عدّة الداعي (2)،و خبر الاقبال (3)،فالظاهر اتّحادهما مع سوابقهما.

و بعد إرجاع الأخبار بعضها إلي بعض،يكون الأخبار خبر هشام،و خبر محمّد بن مروان،و يحتمل خبر صفوان.

و بعد ذكر الأخبار يقع الكلام في بيان ترجيح الاحتمالات المذكورة،فنقول:

يستدلّ للأوّل-أي:لاستحباب العمل البالغ عليه الثواب الذي نسب إلي7.

ص: 89


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 3.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 7.

المشهور،و هو اختيار صاحب الكفاية (1)-بأنّ الأمر الاستحبابي بفعل يقع علي وجهين،أحدهما:ذكر الأمر كقوله«اغتسل للجمعة»و هو يدلّ علي الثواب؛لأنّ جزاء العمل متفرّع عليه.

ثانيهما:ذكر الثواب،كقوله«من اغتسل للجمعة كان له كذا»فإنّه يدلّ علي الأمر بغسل الجمعة،و هو واضح.و هذه الأخبار من قبيل الثاني؛لأنّ قوله«من سمع الثواب»مطلق يشمل من سمع بخبر معتبر،أو سمع بخبر غير معتبر،و من قطع بمضمون الخبر أو لم يقطع،و إذا لم يقطع بمضمونه لم يكن الخبر محرّكا له إلي فعله لضعف رواته،أو كان محرّكا له برجاء الأمر.

قوله«فصنعه كان له»معناه الأمر بصنعه،نظير أن يقال:من أدرك زوال الجمعة و فعل كذا كان له،فإنّ معناه إذا زالت الشمس يوم الجمعة فليفعل كذا و له الثواب البالغ عليه،و يدلّ علي الأمر بالعمل مولويّا و يكون مستحبّا كسائر المستحبّات القطعيّة،لكن بعنوان العمل البالغ عليه الثواب.

و يستدلّ للثاني و هو الاستحباب شرعا للعمل المأتي به بداعي احتمال الأمر، بأن يكون العمل البالغ عليه الثواب أحد المستحبّات الشرعيّة إن قصد به احتمال وجود الأمر الواقعي،بعموم الخبر المتقدّم بعد تقييده بما في خبري مروان بن محمّد،من أن يكون عمله التماس ذلك الثواب،أو طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله،و نتيجته أن يكون أمرا مولويّا بالعمل المقصود به الاحتياط و رجاء درك الواقع.

و فيه مضافا إلي ما في سند الخبرين ما عرفت من أنّ معني التماس ذلك الثواب أنّ داعيه الوصول إلي الثواب،فيكون رجاؤه ذلك موجبا لئلاّ يخيب اللّه تعالي رجاءه،و كذا قوله«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»يعني طلب الثواب،و التماس الثواب1.

ص: 90


1- كفاية الاصول ص 401.

و طلب الثواب موجودان أيضا في سماع الخبر المعتبر الذي حصل القطع منه،مع أنّه يأتي بالعمل بداعي الأمر القطعي و لا يقصد رجاء الأمر.

و يستدلّ للثالث الذي أيّده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و هو كون هذه الأحاديث إخبارا عن تفضّل اللّه سبحانه علي عبده بالثواب الذي بلغه علي عمل و أتي به بداعي الأمر جزما إن بلغه بخبر معتبر،أو احتمالا إن بلغه بخبر غير معتبر،بأنّ الفاء في قوله«فعمله»تدلّ علي أنّ مدخولها معلول لسابقه،و هو بلوغ الثواب،و البلوغ إن كان بخبر معتبر صحيح الاسناد يوجب الاتيان بالعمل بداعي الأمر القطعي.و إن كان بخبر غير معتبر،فهو يوجب الاتيان بالعمل لاحتمال موافقة الأمر.

و حاصل المعني أنّه يثاب علي انقياده من دون دلالة في هذه الأحاديث علي الأمر باتيان العمل.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا علي البلوغ،و كونه الداعي علي العمل،و يؤيّده ما في بعض الأخبار«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»و العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المدح و الثواب.

و حينئذ فإن كان الثابت بهذه الأخبار أصل الثواب كانت مؤيّدة لحكم العقل.

و أمّا طلب الشارع لهذا الفعل المستفاد من هذه الأخبار،فإن كان إرشادا لأجل تحصيل هذا الثواب،فهو عين الأمر بالاحتياط.و إن كان طلبا مولويّا المعبّر عنه بالاستحباب،فهو غير لازم للحكم بتنجّز الثواب؛لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه،فيشبه قوله تعالي مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي إلاّ أنّ هذا وعد علي الاطاعة الحقيقيّة،و ما نحن فيه وعد علي الاطاعة الحكميّة.

و توهّم أنّ ذكر ترتّب الثواب علي عمل يدلّ علي الأمر به،نظير من سرّح لحيته فله كذا.مدفوع بالفرق بينهما،بأنّ مرجع قوله«من سرّح»إلي بيان الثواب علي إطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل،فيكشف عن الأمر به،أمّا الثواب الموعود في هذه

ص: 91

الأخبار،فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة،فهو لازم لنفس عمله المتفرّع علي السماع و احتمال الصدق و لو لم يرد به أمر آخر أصلا،فلا يدلّ علي طلب شرعي آخر.

نعم يلزم من الوعد علي الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود، فالغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتياط تأييد حكم العقل و الترغيب في تحصيل وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.إلي آخر ما أفاده و نقلناه مع تلخيص (1).

أقول:التفريع بقوله«فعمله»علي السماع لعلّه من أجل أنّه إن لم يسمع لا يخطر بباله أن يعمل،و لكن كما يمكن أن يكون داعيه الأمر الذي سمعه و قطع بصدق قائله،أو كان قوله حجّة شرعا و أتي بالعمل بداعي الأمر القطعي،أو سمعه و لم يقطع بصدق قائله،بل احتمل صدقه و أتي بالعمل بداعي احتمال الأمر،كذلك يمكن أن يكون داعيه و محرّكه هذه الأخبار الدالّة علي الاتيان بما سمعه.

توضيحه:أنّه لو كانت هذه الأخبار ناظرة إلي العمل الواقع في الخارج بداعي الأمر أو بداعي احتماله،أمكن حمله علي بيان التفضّل علي الانقياد،و لا يشمل من سمع و لم يقطع بصدق قائله،و لا احتمل صدقه احتمالا يحرّكه نحو العمل بداعي احتمال الأمر،كما إذا كان الراوي عاميّا و مطعونا عليه بحيث لا يكون إخباره محرّكا إلي العمل،و حينئذ يتوقّف في العمل و لم يظهر أنّ العقل يأمره بأن يعمل بداعي الأمر ليكون له ثواب الانقياد؛لأنّه إذا كان السماع ممّن لا يعتمد عليه،فالعقل لا يستقلّ بأنّ العمل له ثواب،لكن هذا السامع المفروض إن عثر علي هذه الأخبار الصحيحة أي أخبار من بلغ،تصير داعية و محرّكة له إلي الاتيان بالعمل في الفرض المزبور،فإمّا أن يلتزم بأنّ هذه الأخبار لا تشمله و هو بعيد،و إن3.

ص: 92


1- فرائد الاصول ص 383.

شملته فهي تكشف عن الأمر بالعمل الذي سمع عليه الثواب باتيانه له تعالي،و هذا معني الاستحباب الشرعي،أي:اتيان العمل الذي سمع أنّ عليه ثوابا بداعي الأمر المستفاد من هذه الأخبار.

و المتحصّل من أخبار من بلغ امور:

الأوّل:رجحان العمل ممّن بلغه ثواب من اللّه علي عمله إن أتي به بداعي وصول الثواب الذي بلغه عليه،مثلا من بلغه ثواب علي المشي إلي المسجد يوم الجمعة،فمشي إليه بداعي وصول الثواب إليه كان له،فالمناط هو العمل بداعي ثواب ما بلغه،و يختلف باختلاف الثواب الذي بلغه،فمن بلغه علي المشي إلي المسجد عشر حسنات يعطي عشر حسنات،و من بلغه عشرون يعطي عشرون حسنة و هكذا.

الثاني:انّ جملة«من سمع شيئا من الثواب علي عمل فصنعه كان له»خبريّة، تنحلّ إلي الاخبار عمّا صنعه بداعي وصول الثواب إليه قبل الاطّلاع علي هذه الأخبار،و إلي الانشاء بطلب فعل ما بلغه الثواب عليه بداعي وصوله إليه،و هذا الطلب توصّلي لا يعتبر قصد القربة فيه.نعم يختلف فعل ما بلغ فيه الثواب،فقد لا يعتبر فيه قصد القربة و قد يعتبر فيه.

مثال الأوّل:ما إذا بلغه بخبر ضعيف علي أن من أتي أهله طلبا للذّة كان له كذا من الثواب الاخروي،فصنعه بداعي وصول هذا الثواب إليه بدون قصد القربة،كان له ذلك.

و مثال الثاني:ما إذا بلغه بخبر ضعيف أنّ من صلّي صلاة الصبح،كان له كذا من الأجر،فصلّي صلاة الصبح مع قصد القربة المعتبر فيها بغرض الوصول إلي الثواب الذي بلغه،كان له ذلك.

و أمّا إن لم يتبيّن حال الفعل الذي بلغ عليه الثواب أنّه توصّلي أو تعبّدي،كما إذا

ص: 93

بلغه بخبر ضعيف أنّ من مشي إلي المسجد يوم الجمعة كان له كذا من الأجر،فهل يعتبر قصد التقرّب في المشي أو لا يعتبر؟و جهان،مبنيّان علي أنّ الثواب الاخروي لا يترتّب علي الأفعال المباحة إلاّ إذا صرّح بترتّبه عليها،كما ورد في اتيان الأهل و ترك شرب الخمر صيانة للنفس،فلا بدّ من قصد القربة،أو أنّه يترتّب علي الأفعال المباحة لاطلاق الدليل،و البحث عنه موكول إلي محلّه.

و نحن نتكلّم بناء علي اعتبار قصد القربة فيه،فنقول:إذا مشي يوم الجمعة إلي المسجد للّه تعالي بغرض وصول الثواب المذكور في الخبر الضعيف إليه،ترتّب الثواب علي مشيه.

فإن قلت:كيف أضاف المشي المباح إلي اللّه تعالي؟

قلت:ثبت عنده بهذه الأخبار المستفيضة أنّ الفعل الذي بلغ عليه الثواب بخبر ضعيف مطلوب للّه؛لأنّه يعطي عليه الثواب،و لذا لا يعطي الثواب علي شرب الماء مثلا؛لأنّه لم يبلغ علي شربه ثواب،و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ من بلغه الثواب بخبر حصل له القطع منه،مشمول لهذه الأخبار و إن لم يكن عمله مستحبّا،و لا يشمل من قطع بالثواب من غير ناحية بلوغ الخبر إليه.

الثالث:أنّ من بلغه ثواب علي عمل،فهل يعتبر في عمله أمران:الفعل الجوارحي،و الفعل الجوانحي،بأن يمشي مثلا إلي المسجد للثواب الذي بلغه عليه،و يرجو في نفسه أن يكون الثواب الذي بلغه مطابقا للواقع،بأنّ قاله النبي صلّي اللّه عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السّلام،أو لا يعتبر إلاّ الفعل الخارجي بغرض وصول الثواب إليه،كما أنّ من يفعل الواجبات القطعيّة كالصلوات اليوميّة إنّما يفعل الفعل الجوارحي و هو الصلاة،و لا يقارنه رجاء أن يكون وجوبه مطابقا للواقع؟و جهان.

المستفاد من أخباره المطلقة الأوّل،و قيل:المستفاد من خبرين الثاني،و فيه نظر؛لأنّ قوله في أحدهما«فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»يعني:انّه مشي

ص: 94

مثلا إلي المسجد بغرض وصول الثواب الذي بلغه احترازا عمّن مشي و لم يبلغه الخبر أو بلغه و نسيه،فإنّ معني الالتماس هو قصد النيل إلي الثواب.

و قوله في ثانيهما«ففعل ذلك طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»محتمل لأن يريد طلب الثواب لا رجاء مطابقة الخبر للواقع،لكن لا يبعد ظهوره في طلب مطابقة الخبر للواقع،و علي هذا فيمكن أن يقال بأنّه مخيّر بين الأمرين،فمن بلغه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله بخبر ضعيف أنّ من مشي إلي المسجد يوم الجمعة فله كذا من الأجر،مخيّر بين أن يمشي إلي المسجد بغرض وصول الثواب المذكور في الخبر إليه مع قصد القربة في مشيه،و بين أن يمشي إلي المسجد بداعي أن يكون الخبر المذكور مطابقا للواقع، و لا حاجة إلي قصد القربة؛لأنّه قد انبعث عن احتمال الأمر،و هو يكفي في التقرّب،و لا يخفي أنّ كلّ واحد منهما يستلزم الآخر في الجملة.

ثمّ إنّه لا فرق بين أن تكون هذه الأخبار إخبارا عن تفضّل اللّه سبحانه،أو إنشاء و إرشادا إلي ما استقلّ العقل به من رجحان الانقياد،كما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،و أنّه يعطي ثواب الانقياد،و بين كونها دالّة علي استحباب العمل في أنّها لا تدلّ علي حجّية الخبر الضعيف في المستحبّات.

و أمّا احتمال أنّ هذه الأخبار تدلّ علي أنّ كلّ خبر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله يدلّ علي الثواب علي العمل فهو حجّة،فلا دلالة فيها،و لعلّه لم يقل به أحد،و مرادهم من التسامح في أدلّة السنن أنّه لا يشترط في الأخبار الواردة في السنن الوثاقة في الراوي و غيرها،لا أنّ كلّ خبر يدلّ علي الثواب علي عمل طريق لاثبات المستحبّات الواقعيّة،و أظهر الاحتمالات هو الأوّل،و لهذه القاعدة مسائل أفردناها مستقلا.4.

ص: 95


1- فرائد الاصول ص 384.
التنبيه الثاني:أنّ ما تقدّم كان حكم الشكّ في الوجوب العيني التعيّني.
اشارة

و أمّا الشكّ في سائر أقسام الوجوب،فهو علي أقسام:

القسم الأوّل:الشكّ في سعة الوجوب التخييري العقلي،

كما إذا وجب عتق الرقبة و شكّ في تعلّقه بالرقبة المؤمنة أو بمطلق الرقبة،فإنّه من الشكّ في وجوب الرقبة الكافرة،من باب أنّها فرد للكلّي،و التخيير بين أفراد الكلّي عقلي علي ما قيل،فإن تعذّر الرقبة المؤمنة،فحينئذ يشكّ في وجوب عتق الكافرة،و الأصل البراءة عنه.

و إن تمكّن من عتق الرقبة المؤمنة و الكافرة،ففي إجراء البراءة عن تعيّن وجوب الرقبة المؤمنة ليكتفي بالرقبة الكافرة،أو تعيّن عتق المؤمنة للاشتغال اليقيني المقتضي للبراءة اليقينيّة المتوقّفة علي الاتيان بالرقبة المؤمنة احتمالان:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:يشكل جريان أصالة عدم الوجوب؛ إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد متردّد بين الكلّي و الفرد،فيتعيّن هنا إجراء عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك،فيجب عتق الرقبة المؤمنة، بل يمكن أن يقال:الأصل عدم تعلّق الوجوب بالكافرة،و بضميمته إلي وجوب المؤمنة علي كلّ تقدير،أي:ضميمة الأصل إلي الوجدان يثبت وجوب المؤمنة.

الثاني:إجراء أصالة البراءة العقليّة و الشرعيّة؛لأنّ العقاب علي ترك الرقبة المؤمنة إن أتي برقبة كافرة،عقاب علي ما لا يعلم،فيكون من العقاب بلا بيان، لأنّه لا يعلم من الأوّل تعلّق وجوب تعيّني بالاتيان بالرقبة المؤمنة،و يشمله حديث رفع ما لا يعلمون أيضا.

أقول:لا بأس بالاحتمال الثاني لو لا المناقشة بأنّ العرف لا يساعد علي هذه التحليلات.هذا إن لم يكن الأمر تعبّديا،و إلاّ فيشكّ في مشروعيّة عتق الكافرة؛ لأصالة عدم تعلّق الأمر به.

ص: 96

القسم الثاني:الشكّ في تعلّق الوجوب التخييري الشرعي بعمل،
اشارة

و هو علي نوعين:

النوع الأوّل:أن لا يعلم سقوط الواجب به،

كما إذا علم وجوب عتق الرقبة:إمّا تعيينا،أو تخييرا بينه و بين إطعام ستّين مسكينا،فإن تعذّر عتق الرقبة،فيشكّ في وجوب إطعام ستّين مسكينا،و الأصل البراءة عنه،و أمّا إن تمكّن من عتق الرقبة، ففي إجراء البراءة عن تعيّن عتق الرقبة و الاكتفاء بإطعام ستّين مسكينا و جهان تقدّما من أنّ المعلوم أصل الوجوب،و أمّا وجوب خصوص عتق المؤمنة فهو مجهول،و من أنّ الاشتغال اليقيني بوجوب عتق المؤمنة إمّا تعيينا أو تخييرا معلوم، و هو يقتضي البراءة اليقينيّة.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الوجه الثاني،حيث قال:و أمّا إذا كان الشكّ في ايجابه بالخصوص،جري أصالة عدم الوجوب،و أصالة عدم لازمه الوضعي،و هو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له (1)انتهي.

النوع الثاني:أن يعلم سقوط الواجب به،

كما إذا علم وجوب الصلاة فرادي مع القراءة تعيينا،أو تخييرا بينها و بين صلاة الجماعة،مع العلم بأنّها مسقطة للواجب، فإذا تعذّرت الصلاة فرادي مع القراءة،فهل يمكن أن يقال بكفاية الصلاة فرادي بدون القراءة و عدم وجوب الجماعة للشكّ في وجوبها و الأصل البراءة عنه أم لا؟.

أقول:إن تعذّر الصلاة فرادي مع القراءة و بدونها وجبت الصلاة جماعة بلا إشكال،و أمّا إن تمكّن من الصلاة فرادي بلا قراءة و الصلاة جماعة،ففي وجوب الجماعة لأنّها صلاة كاملة معادلة للصلاة فرادي مع القراءة،أو عدم وجوبها للشكّ في وجوبها تعيينا مع تعذّر القراءة،و الأصل البراءة عن وجوبها فيصلّي بلا قراءة،

ص: 97


1- فرائد الاصول ص 385.

و جهان.

هذا مقتضي الأصل إن لم يكن دليل،و لكن مقتضي إطلاق استحباب الجماعة استحبابها حتّي مع تعذّر القراءة،و كذا مقتضي إطلاق أنّ من لم يتمكّن من القراءة يسبّح و يصلّي عدم وجوب الجماعة،فإنّه شامل لمن تمكّن من الصلاة جماعة، و المسألة موكولة إلي محلّها.

القسم الثالث:الشكّ في الوجوب الكفائي،

كما إذا نجّس المكلّف موضعا من المسجد فيجب تطهيره،لكن هل يجب علي من نجّسه تعيينا أو يجب عليه و علي من علم تنجّسه كفاية؟و تظهر الثمرة فيما إذا لم يطهّره غير من نجّسه،فإنّه يتعيّن علي من نجّسه؛لكونه واجبا عليه تعيينا أو كفاية،و إن لم يطهّره من نجّسه فهل يجب علي غيره؟يمكن أن يقال بعدم الوجوب للشكّ في الوجوب الكفائي عليه.

هذه الفروع في الشبهة الحكميّة،و يأتي الأقسام المتقدّمة من عدم النصّ، و تعارض النصّين،و إجمال النصّ،و الظاهر أنّ حكم الشبهة الموضوعيّة حكم عدم النصّ.

المسألة الثانية:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ

،و كان موجبا لإجمال نفس التكليف،مثل ما إذا أثبتنا اشتراك لفظ الأمر بين الوجوب و الاستحباب،و وجد أمر بلا قرينة تعيّن أحدهما،أو لم يثبت كونه حقيقة في أحدهما،ففي مثله تجري البراءة.

نعم لو كان الاجمال من جهة مفهوم متعلّق الوجوب،نظير إجمال مفهوم الصعيد الذي يجب التيمّم به عند عدم وجدان الماء بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب،فيشكل الرجوع إلي البراءة عن تعيّن وجوب التيمّم بالتراب،بل هو من الشبهات،و ينبغي التوقّف و الاحتياط،إن كان المطلوب طبيعة التيمّم بالصعيد التي تتحقّق بتيمّم واحد؛لأنّ الحكم متعلّق بمفهوم يعتبر صدقه علي المأتي به،و مع

ص: 98

الشكّ في الصدق يكون الشكّ في تحقّق الامتثال.

و إن كان المطلوب استيعاب تمام المفهوم،مثل أن يكون الواجب إهانة كلّ فاسق و تردّد مفهومه اللغوي أو العرفي بين مرتكب الكبيرة و بين الأعمّ منها و من مرتكب الصغيرة،وجب الاحتياط إن لم يزاحمه أمر آخر.

و قد خفي ذلك علي من قال بأنّه من قبيل الأقلّ و الأكثر الارتباطيين،كالصلاة بناء علي وضعها للصحيح،فكما أنّه إن شكّ في وجوب الاستعاذة فيها جري البراءة عن وجوبها،مع أنّه يشكّ في صدق مفهوم الصلاة علي فاقدها،فكذلك إن شكّ في موضع أنّه من مني حتّي يجوز الوقوف فيها في أيّام التشريق،فإنّ الأصل البراءة عن وجوب الوقوف بالموضع المتيقّن كونه منها،و يجوز الوقوف في الموضع المشكوك؛لأنّه من الأقلّ و الأكثر الارتباطيين،مثل الشكّ في اعتبار الاستعاذة في الصلاة.

قلت:فرق واضح بين المخترع الشرعي كالصلاة و نحوها،فإنّ اسمه إشارة إلي الماهية المخترعة،و بين المفهوم اللغوي أو العرفي،فإنّ الحكم تابع له و المكلّف مأمور بتحصيل تطبيق المفهوم عليه،ففي المثال المذكور يجب الوقوف فيما هو مصداق لمني لغة أو في العرف العامّ.

المسألة الثالثة:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين

،و حكمه موكول إلي مباحث التعادل و التراجيح.و قال الشيخ:إنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف و الاحتياط،قال:إنّ أخبار التوقّف مضافا إلي ما فيها من قصور الدلالة أعمّ ممّا دلّ علي التخيير في الخبرين فتخصّص.

أقول:الأولي ايكال هذا البحث إلي مباحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:في دوران الأمر بين الوجوب و غيره من جهة الاشتباه في
اشارة

موضوع الحكم

،و تجري فيه أدلّة الاباحة الشرعيّة،و استصحاب عدم اشتغال

ص: 99

الذمّة بالواجب.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:إن كان رفع الشبهة ممكنا بلا حرج،فهل يجب الفحص أو لا

يجب لاطلاق دليل الرفع؟لا يبعد أن يقال بعدم صدق الشكّ و الشبهة و نحوهما فيما إذا كان رفع الشكّ سهلا.

قيل:إذا كان مريدا لأن يصوم فله أن يأكل حتّي يطلع الفجر و إن شكّ في طلوعه،لكن يتبيّن طلوعه برفع رأسه،فهل يجوز له أن يأكل حيث أنّه شاكّ في طلوع الفجر أم لا؟يشكل الاطلاق في أدلّة البراءة لو لم يدّع الانصراف إلي غيره.

و أمّا قوله«فهل عليّ إن شككت أن أنظر فيه؟قال:لا»فيحتمل اختصاصه بالاجتناب عن النجاسة و إن كان معلّلا بالاستصحاب الذي لا يختصّ بالنجاسة بل يجري في غيرها،فتأمّل.

التنبيه الثاني:قيل:المشهور أنّه إذا لم يدر كم فاته من الصلاة لا يجوز له الاقتصار

علي الأقلّ و إجراء البراءة عن الأكثر

،بل يجب الاتيان بالصلاة حتّي يحصل له العلم بالفراغ.

أقول:مقتضي أصالة عدم الاتيان بالصلاة في وقتها تحقّق الفوت،فإنّه عبارة عن عدم الفعل في وقته ممّن يكون واجبا عليه.

فلا يقال:إنّ الصبي فاته الصلاة لأنّه لم يكن عليه،و الفوت ليس عدم الفعل مطلقا،بل عدمه ممّن يكون عليه.و إذا تحقّق الفوت وجب القضاء،فلا تجري أصالة البراءة عن وجوب القضاء لتقدّم الاستصحاب عليها،و لكن مقتضي قاعدة الحيلولة و هي عدم الاعتناء بالشكّ بعد انقضاء الوقت عدم الوجوب في كلّ ما شكّ في اتيانه.

و حينئذ يمكن أن يقال:إنّ قاعدة الحيلولة مختصّة بما إذا كان الشكّ غير

ص: 100

مسبوق بالعلم،كما إذا انتبه من نومه و شكّ في أنّه نام يوما أو يومين،و أمّا إذا علم مقدار الفوت ثمّ نسيه،فلا تجري قاعدة الوقت حائل،بل مقتضي استصحاب عدم الاتيان في الوقت تحقّق الفوت فيجب القضاء.

و في جريان هذا التفصيل في غير القضاء احتمالان،فلو شكّ في أنّه استدان من زيد درهما أو درهمين لم يجب الأكثر،لكن إن سجّل المقدار في قرطاس فتلف ذلك القرطاس،فهل يرجع إلي البراءة أو لا؟و جهان.

المطلب الثالث: في دوران حكم الفعل بين الوجوب و الحرمة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:دورانه بينهما من جهة عدم الدليل علي التعيين بعد قيام الدليل علي أحدهما.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر وجوه المسألة:و محلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب و التحريم توصّليا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة؛إذ لو كانا تعبّديين محتاجين إلي قصد امتثال التكليف،أو كان أحدهما المعيّن كذلك،لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلي الاباحة؛لأنّه مخالفة قطعيّة في العمل (1)انتهي.

قلت:الدوران المذكور علي أقسام:

الأوّل:أن يكون كلّ من الوجوب و التحريم تعبّديّين،كصلاة الجمعة إذا تردّدت بين الوجوب و الحرمة،ففي مثله ممّا لا يكون ذات العمل بدون قصد القربة حراما يجب عليه أن يأتي بالفعل قاصدا به أنّه إن كان حراما،أي تعبّدا كما هو المفروض

ص: 101


1- فرائد الاصول ص 395.

لا يكون عمله للّه بل ذات الفعل،و هو ليس بحرام.

لأنّ الحرام الاتيان به قربة إلي اللّه،و إن كان واجبا،أي تعبّدا كما هو المفروض يكون عمله برجاء وجود الأمر،كصلاة من تردّدت بين كونها حائضا أو مستحاضة،فتصلّي برجاء الأمر إن كانت الصلاة واجبة عليها بأن كانت مستحاضة،و إن كانت حراما عليها بأن كانت حائضا،فإنّ الصلاة حينئذ محرّمة عليها بجميع شرائطها و منها قصد القربة،فلا تقصد الأمر،بل مجرّد أفعال خارجيّة بدون قصد الأمر،فتعلم بالامتثال و يتحقّق الموافقة القطعيّة.

و قد ذكرنا نظيره في صيام يوم الشكّ أنّه من شوّال،إن حكم الحاكم الجامع للشرائط بكونه عيدا قبل الزوال،و أراد شخص أن يحتاط،فلا يتحقّق بالسفر الاحتياط،لعدم تبييته نيّة السفر من الليل،بل حتّي مع تبييته إن سافر بعد الفجر؛ لأنّ المدّة التي يكون فيها غير مسافر يجب عليه قصد القربة إن كان شهر رمضان، و حيث إنّ ثبوت الهلال بحكم الفقيه ليس إجماعيّا،فيتردّد الأمر بين وجوب الصوم قربة إلي اللّه إن كان آخر شهر رمضان،و حرمة الصوم قربة إلي اللّه إن كان أوّل شوّال،فله أن يمسك عن المفطرات بداعي أنّه إن كان اليوم من شهر رمضان فهو صائم للّه تعالي،و إن كان يوم العيد فهو ممسك عمّا يمسك عنه الصائم بدون قصد الأمر،و له نظائر.

الثاني:أن يكون الفعل واجبا تعبّديا أو حراما توصّليا،ففي مثله لو فعل بدون قصد القربة فقد خالف قطعا،فلا بدّ من الترك أو الفعل بقصد القربة رجاء،كما إذا قيل بحرمة ذات الصلاة علي الحائض و إن لم تقصد القربة،ففي اليوم الذي لا تعلم أنّها حائض أو طاهرة يتردّد الصلاة بين الوجوب التعبّدي و بين حرمة ذات العمل، فتتخيّر بين أن تصلّي بقصد القربة رجاء الأمر،أو تترك هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب أو دليل آخر.

ص: 102

الثالث:أن يكون الفعل حراما تعبّديا أو واجبا توصّليا،و يجب عليه أن يأتي بالفعل بدون قصد الأمر؛لأنّه إن كان واجبا فقد تحقّق،و إن كان حراما فلم يتحقّق لأنّه لم يقصد به الأمر و لم يأت به للتعبّد.

و قد ظهر ممّا ذكرناه النظر فيما أفاده في الكفاية،من دخول التعبّد بين و التعبّدي و التوصّلي في محلّ النزاع،و انّ التخيير يأتي فيهما،حيث قال:فانقدح أنّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصّليين بالنسبة إلي ما هو المهمّ في المقام،و إن اختصّ بعض الوجوه بهما،كما لا يخفي (1)انتهي.

الرابع:أن يكونا توصّليين،و فيه أقوال و احتمالات:

الأوّل:التخيير بينهما عقلا مع الحكم بالاباحة شرعا،اختاره في الكفاية لعدم مانع عن إجراء أدلّة الاباحة الشرعيّة،و الموافقة الالتزاميّة للواقع علي ما هو عليه متحقّقة بقصد الالتزام بما هو الواقع،و لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق البيان بأصل الالزام،و لمّا كان دائرا بين المحذورين يحكم العقل بالتخيير،لكن إنّما يحكم العقل بالتخيير فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما علي التعيين،و إلاّ فيتعيّن العمل به.انتهي ملخّصا (2).

و فيه أوّلا:أنّ قوله«كلّ شيء لك حلال»لعلّه منصرف إلي ما لا يعلم الالزام أصلا.

و ثانيا:أنّه مع احتمال الأهمّية يرجع إلي البراءة الشرعيّة عن وجوبه أو عن حرمته.فتأمّل فإنّه موافق علي ذلك شرعا.

الثاني:التخيير بينهما عقلا مع عدم الحكم بالاباحة ظاهرا و لا واقعا،اختاره الشيخ الأنصاري؛لانصراف أدلّة الاباحة إلي ما دار الأمر بين الحرمة و غير4.

ص: 103


1- كفاية الاصول ص 405.
2- كفاية الاصول ص 404.

الوجوب.

الثالث:الحكم بالبراءة عقلا و شرعا مع عدم الحكم بإباحته؛لأنّ العقاب بدون البيان الواصل بنوعه قبيح،و أدلّة البراءة تشمل كلّ واحد للشكّ في خصوص الوجوب و الشكّ في خصوص الحرمة،و لا مانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الاجمالي ما لم يلزم مخالفة عمليّة.و لا يحكم عليه بالاباحة لكونه مخالفا للعلم بالالزام علي الفعل أو الترك،و لا فرق في جريان البراءة بين احتمال وجود الترجيح في أحدهما و عدمه.

الرابع:تعيين الحكم بالحرمة؛لأنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة، و لاستقراء الموارد التي يدور الأمر فيها بين الحرمة و الوجوب،و فيهما منع.

الخامس:التخيير شرعا قياسا علي الخبرين المتعارضين،و فيه أنّه قياس مع الفارق.

أقول:الظاهر قوّة القول الثاني،و هو التخيير عقلا و عدم التعبّد شرعا بشيء؛لأنّ ايجاب التخيير بمعني البعث إليه لا وجه له؛لأنّه إمّا فاعل أو تارك قهرا،و الحكم بالاباحة أيضا لا وجه له؛لأنّ التعبّد بشيء لا بدّ و أن يكون له أثر شرعي،و كذا البراءة عن الوجوب أو الحرمة لا تجري لعدم الأثر.

ثمّ إنّه لو احتمل كون أحدهما أرجح،قيل:قدّم علي الآخر؛لحكم العقل بتقديم الأهمّ إذا دار الأمر بين أمرين،فإنّه يحكم بتقديم محتمل الأهمّية أيضا،فلو دار أمر إنسان بين كونه ممّن يجب قتله لكفر و نحوه،و بين أن يكون نبيّا يجب حفظه، فالعقل يحكم بلزوم ترك قتله؛لأنّه أهمّ من فعله لو كان.

و فيه أنّ البراءة لا تجري في المثال المذكور؛لعدم جريانها في الدماء المحترمة،و أمّا غيرها ممّا يجري فيه البراءة،فالظاهر جريانها؛لأنّه مخيّر بينهما، و إنّما يتعيّن أحدهما لو كان أهمّ إن علم ذلك،و أمّا مع الشكّ فيه فهو غير معلوم،

ص: 104

و الأصل يقتضي البراءة عنه.

ثمّ إن التخيير لمّا كان بحكم العقل،فهو حاكم بالتخيير ابتداء لا استمرارا،خلافا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)فاختار كونه استمراريّا،فراجع.

المسألة الثانية:دورانه من جهة إجمال الدليل،و الظاهر أنّ حكمه كالمسألة الأولي.

المسألة الثالثة:دورانه من جهة تعارض الأدلّة،فإن لم يكن ترجيح لأحد الدليلين كما هو المفروض،فحكمه التخيير عقلا،و يأتي تفصيله في بحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:إذا كان الاشتباه لأمر خارجي،و يجري فيه الأقسام المتقدّمة و حكمها حكمها.

المقام الثاني: في الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف
اشارة

و فيه مطلبان:

المطلب الأوّل: في دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي: في الشبهة التحريمية الموضوعية
اشارة

كما إذا علم بأنّ أحد المايعين خمر،و حيث إنّ الحرمة متعلّقة بالخمر الواقعي لا المعلوم الخمريّة تفصيلا،فالعقل يستقلّ بلزوم الامتثال،فتحرم المخالفة القطعيّة

ص: 105


1- فرائد الاصول ص 400.

عقلا،و تجب الموافقة القطعيّة أيضا،و ليس للمولي التصرّف في مرحلة الامتثال، نعم يمكن أن تكون المفسدة الموجودة في الشيء مختصّة بصورة العلم بالموضوع تفصيلا،فيختصّ الحكم بالحرمة به.

و بعبارة اخري:لا مانع من تقييد الموضوع بالعلم به تفصيلا،بأن يكون معلوم الخمريّة تفصيلا حراما،و كذا لا مانع من تقييد الحكم بالعلم به بنحو نتيجة التقييد، أو علي النحو الذي تقدّم،بأن تكون الحرمة مختصّة بالعالم بالحرمة تفصيلا،كما تقدّم بيانه في مباحث القطع.

فإن كان الحكم الواقعي مقيّدا بالعلم التفصيلي،فلا حكم واقعي في أطراف العلم الاجمالي لعدم وصوله تفصيلا.و إن لم يكن مقيّدا بالعلم التفصيلي،بل كان الحكم مترتّبا علي ما صدق عليه مفهوم الخمر مثلا،فمع قطع النظر عن الأخبار الواردة في عدم لزوم الاجتناب عن المشتبه يستقلّ العقل بحرمة المخالفة القطعيّة، و بوجوب الموافقة القطعيّة؛لأنّه لا فرق بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي و وصوله بالعلم الاجمالي.

و أمّا بالنظر إلي الأخبار الواردة في جواز ارتكاب المشتبه،فإن دلّت علي الترخيص في كلا الطرفين،فيكون الحكم الواقعي مقيّدا بالعلم التفصيلي بالموضوع،و إن دلّت علي جواز ارتكاب الطرفين لكن بحيث لا يلزم العلم بالمخالفة حين الارتكاب،فيكون الحكم الواقعي مختصّا بما إذا لم يحصل حين الارتكاب العلم بالمخالفة،فيجوز ارتكاب الطرفين تدريجا.و إن دلّت علي جواز ارتكاب أحد الطرفين بحيث لا يلزم العلم بالمخالفة أصلا مطلقا لا دفعة و لا تدريجا،اختصّ الحكم الواقعي بذلك و جاز ارتكاب أحد الطرفين.و إن دلّت علي جواز الارتكاب في الشبهة البدويّة اختصّت بغير أطراف العلم الاجمالي،فلا بدّ من ملاحظة الأخبار.

ص: 106

و لتوضيح ما ذكرنا يقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: في إمكان جعل الحكم ظاهرا في الطرفين علي خلاف الواقع

فنقول:لا مانع منه بمعني تخصيص الحكم الواقعي بصورة العلم التفصيلي بالموضوع،و أمّا إذا لم يكن مقيّدا بالعلم التفصيلي،بل كان الموضوع الواقعي حراما،كان العلم الاجمالي به كالتفصيلي في وصول الحكم الواقعي،و معه لا يمكن جعل حكم علي خلافه في الطرفين؛للتنافي و التضادّ بين الحكم الواقعي الواصل و إن كان غير إلزامي،و بين الحكم بخلافه في الطرفين.

مثلا إذا كان الماء ان القليلان متنجّسين،ثمّ طهر أحدهما غير المعيّن،ترتّب عليه آثار الطاهر،فلو شربهما يكون معاقبا بعقاب واحد،و يكون الملاقي للطاهر الموجود في البين طاهرا،إلي غير ذلك من آثار طهارة أحدهما واقعا.

و حينئذ لو جري استصحاب النجاسة في الطرفين،بأن يكون في شربهما عقابان،و يكون ملاقي كلّ منهما نجسا،فمرجعه إلي الحكم بنجاسة الطاهر الواقعي،و ترتيب آثار النجاسة عليه،مع أنّه طاهر يترتّب عليه آثار الطهارة،و هذا غير معقول،و حيث إنّ الحكم الواقعي و هو طهارة أحدهما ليس مرتفعا لعدم تقييده بوصوله بالعلم التفصيلي،و إلاّ لم يحتج إلي إجراء الاصول،بل كانا نجسين واقعا، فلا بدّ من عدم الحكم الظاهري.

و حاصل الكلام أنّ الحكم الظاهري في كلا الطرفين علي خلاف الحكم الواقعي الموجود في البين غير معقول،مع عدم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به تفصيلا،فالمانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الاجمالي هو المخالفة للحكم الواقعي الواصل لا المخالفة العمليّة ليجري الاستصحابان في الطرفين.

ص: 107

الموضع الثاني: في إمكان جعل الحكم الظاهري في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن علي خلاف الحكم الواقعي

فنقول:لا مانع ثبوتا من تقييد الحكم الواقعي بالعلم بالموضوع تفصيلا أو إجمالا بحيث يكون الحرمة متعلّقة بمن علم أنّه شرب الخمر تفصيلا أو إجمالا، فيجوز شربهما تدريجا إن كان مقيّدا بالعلم بالموضوع تفصيلا،و يجوز شرب أحدهما إن كان مقيّدا بالعلم بكون المشروب خمرا تفصيلا أو إجمالا.

و أمّا إذا لم يكن مقيّدا بذلك،فلا يمكن الترخيص في أحدهما؛لأنّ المفروض أنّ العلم الاجمالي حينئذ كالعلم التفصيلي في وصول الواقع،و معه يكون الترخيص في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن ترخيصا في الحرام الواقعي،إن صادف ما ارتكبه الحرام الواقعي.

الموضع الثالث: في وجود الدليل علي الترخيص في الطرفين

إمّا بنحو الخصوص أو العموم.أمّا الدليل علي خصوص بعض الموارد،فيحتمل وجوده في خصوص الربا و في مال السلطان،و سنتعرّض للأخبار الدالّة علي ذلك في الطائفة الثانية.

و أمّا علي نحو العموم،فقال في الكفاية في بحث القطع:إنّ قوله في خبر مسعدة بن صدقة«كلّ شيء لك حلال حتّي تعرف أنّه حرام بعينه»يدلّ علي الترخيص في أطراف الشبهة المحصورة؛لأنّه لم يعرف الحرام بعينه (1).

أقول:سنتعرّض لبيان أنّ قوله«بعينه»ليس معناه العلم التفصيلي بالحرام في

ص: 108


1- كفاية الاصول ص 314.

الشبهة المحصورة التي تمام أطرافها تحت اليد و محلّ الابتلاء،بل انّ قوله«حتّي تعرف الحرام بعينه»يشمل العلم الإجمالي المذكور.

الموضع الرابع: في وجود الدليل علي جواز ارتكاب بعض الأطراف
اشارة

و لتوضيح الموضعين الأخيرين،أعني:شمول دليل الأصل لكليهما أو لأحدهما ينبغي ذكر الأخبار الواردة في موارد الشبهة،و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما توهم دلالتها علي جواز ارتكاب كليهما ما لم يتميّز الحرام بالاشارة الحسّية إليه،لكنّها محمولة علي حلّية المشتبه شبهة بدويّة أو غير محصورة،أو محصورة إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.و هي عدّة أخبار:

منها:الصحيح إلي عبد اللّه بن سليمان،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن،فقال لي:لقد سألتني عن طعام يعجبني،ثمّ أعطي الغلام درهما،فقال:يا غلام ابتع لنا جبنا،ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه،فاتي بالجبن فأكل و أكلنا،فلمّا فرغنا من الغداء قلت:ما تقول في الجبن؟قال:أو لم ترني آكله؟قلت:بلي و لكنّي احبّ أن أسمعه منك،فقال:ساخبرك عن الجبن و غيره،كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام بعينه فتدعه (1).

و في السند عبد اللّه بن سليمان،لكن رواية عبد اللّه بن سنان الجليل الذي قال النجاشي في حقّه:إنّه لا يطعن عليه (2).و موافقة مضمون خبره لسائر الأخبار تؤيّد صدوره.

قوله«ساخبرك عن الجبن و غيره»يدلّ علي أنّ موضوع العموم هو طبيعة

ص: 109


1- وسائل الشيعة 17:90 ب 61 ح 1.
2- رجال النجاشي ص 214.

الجبن،فذكره مقدّمة للعموم المذكور بعده،و العموم وارد علي الجبن و غيره.

و قوله«كلّ ما كان»عامّ و أفراده الأنواع،أي:الجبن و المايع و نحوهما.و ضمير «فيه»راجع إلي«ما»أي:الجبن و غيره فيه صنفان:صنف حلال و هو الذي لا يكون فيه لبن الخنزير،و صنف حرام و هو المجلوب من بلد خاصّ مثلا يجعل فيه لبن الخنزير.

قوله«فهو حلال»أي:جنس الجبن الموجود في الخارج حلال حتّي تعرف وجود الصنف الذي هو حرام.

قوله«بعينه»تأكيد لمعرفة ذلك الحرام،أي:حتّي تكون قاطعا بالحرمة،و لا يكفي في الحرمة الظنّ بكونه حراما،أو إخبار من لا يكون إخباره حجّة.

إذا تحقّق معني مفردات الخبر،فنقول:إذا كان في يد الانسان قطعتان من الجبن،أحدهما مجلوب من البلد الذي يجعل فيه لبن الخنزير،و الآخر ليس فيه لبن الخنزير،صدق علي الجبن الموجود بينهما أنّه يعرف حرمته بعينه،أي:يعرف وجود الجبن الذي فيه لبن الخنزير في يده و إن لم يميّز شخصه.

إن قلت:إنّ قوله«بعينه»قيد للمعروف و هو الحرام،و المعرفة تتعلّق بالجزئيّات،فيكون المراد معرفة الحرام متميّزا بشخصه مشيرا إليه،و كلّ واحد من الطرفين لا يعرف كونه حراما متميّزا بحيث يشار إليه أنّه حرام.

قلت:علي ما بيّناه يكون معرفة الصنف بعينه متحقّقة،و لو سلّم ظهوره في تمييز الحرام،فلا بدّ من صرفه عنه؛لأنّه لا إشكال في أنّه لو مزج الجبنين و صارا شيئا واحدا لم يجز أكله،كما إذا صبّ أحد المايعين اللذين علم خمريّة أحدهما في الآخر،فإنّه لا يجوز شربه قطعا،و لا فرق عرفا بينه و بين أكلهما أو شربهما تدريجا،بل لو جاز ذلك لكان سببا لتحليل المحرّمات،فيشرب أحد الزوجين أحد المايعين و يشرب الآخر المايع الآخر،و يكون احتيالا في ارتكاب

ص: 110

المحرّمات،بالقاء الحرام في جملة الحلال حتّي يشتبه.

فهذه الامور تصير قرينة علي عدم شموله للشبهة المحصورة التي يكون جميع أطرافها محلّ الابتلاء،فيكون بعينه تأكيدا لكون المعرفة متحقّقة حتما لا ادّعاء المعرفة،و لا فيما إذا كان مثلا يشتري من دكّان يعلم بأنّ بعض ما فيه حرام،فإنّه لا يمكن أن يشير إلي خصوص ما يشتريه أنّه حرام،و يؤيّد هذا المعني صحيح أبي عبيدة الآتي و غيره.

و توهّم أنّ المراد ما إذا لم يتميّز الحرام حتّي مع العلم بوجود الحرام،كما إذا علم وجود الحرام في مقدار من الدقيق،فحيث يصدق علي مجموعه أنّه شيء فيه حلال و حرام و لا يعرف الحرام بعينه فهو حلال،فإن عرف الحرام بعينه فهو حرام، و هو ظاهر خبر علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليهما السّلام،قال:سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟قال:إذا لم تعرفه فلا بأس،و إن عرفته فلتطرحه (1).فإنّه ظاهر في الخرء الواقع في الدقيق إن عرف يطرح،و إن لم يعرف فلا بأس.

مدفوع بأنّه محمول علي أنّ المراد من قوله«إذا لم تعرفه»أنّه لم يعرف وقوع الخرء في الدقيق لا أنّه لا يميّزه،و يؤيّد ما ذكرنا ما في الدعائم:روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه سئل عن خرء الفأر يكون في الدقيق،قال:إن علم به أخرج، و إن لم يعلم به فلا بأس (2).

مع أنّه معارض بخبر ضريس الكناسي الآتي،فلا بدّ من صرفه عن ظاهره،مع ما في سنده من الضعف بعبد اللّه بن الحسن فإنّه مجهول.و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يبعد أن يكون المراد من قوله«بعينه»أنّه لو اشتري من السوق و علم أنّ في السوق5.

ص: 111


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 23:254 ح 5.

شيئا حراما،أو اشتري من مسلم و علم أنّ في أمواله حراما،كان ما يأخذه منه حلالا إلاّ أن يعلم أنّه حرام بعينه،و مجرّد علمه الاجمالي بأنّ في أمواله حراما لا يوجب حرمة الشيء المعيّن المأخوذ منه.

و منها:صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال،فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (1).و قد ظهر ممّا ذكرناه في الخبر السابق عدم دلالته علي جواز ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة.

و يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ظهوره في الشمول،حيث قال:و أمّا قوله عليه السّلام «فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام منه بعينه»فله ظهور فيما ذكر،حيث إنّ قوله «بعينه»قيد للمعرفة،فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه،و لا يتحقّق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه.ثمّ أجاب عنه فراجع (2).

قلت:لم يظهر الفرق بينه و بين الخبر المتقدّم،بل يحتمل كونه قطعة منه،رواه عبد اللّه بن سنان مرّة عن عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و مرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام اعتمادا علي عبد اللّه بن سليمان.

و منها:خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة،و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه،أو خدع فبيع قهرا،أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك،و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك (3).و الكلام فيه كسابقه.4.

ص: 112


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 2.
2- فرائد الاصول ص 241.
3- وسائل الشيعة 12:60 ب 4 ح 4.

قوله«و ذلك مثل الثوب»يحتمل أن يكون تنظيرا،أي:كما أنّ هذه الأشياء حلال مع الشكّ في الحلّية من ناحية اليد و استصحاب عدم النسبة،كذلك كلّ شيء لك حلال حتّي تعرف أنّه حرام،لكن الظاهر أنّه تمثيل للكلّية المذكورة لا تنظير؛ لأنّه الظاهر من صدره و ذيله،حيث جعلها من مصاديق قوله«و الأشياء كلّها علي هذا».

و عليه قد يناقش في هذه الأمثلة بما ذكره الشيخ الأنصاري (1)بأنّ الثوب الذي اشتراه من بايعه لم يكن ملكا لبايعه،فيستصحب عدم كونه ملكا له،و كذا العبد،و أصالة الحلّ تكون محكومة بالاستصحاب،و إذا قيل بالحلّية فيهما،فهي مستندة إلي يد البايع،و هي حاكمة علي استصحاب عدم الملكيّة،و علي أصالة الحلّ،و كذا جواز التزوّج بالمرأة المشكوك كونها اختا رضاعيّة ليس لأصالة الحلّ بل لاستصحاب عدم النسبة بينه و بينها.

قلت:الثوب الذي عند البايع محكوم بالحلّية من باب كلّ شيء لك حلال،و لذا جاز الشراء منه،و هذا أحد الأدلّة علي جواز الأخذ من صاحب اليد،و كذا العبد الذي عند البايع يحتمل كونه حرّا؛للاحتمال المذكور في الخبر،و كلّ امرأة يريد أن يتزوّجها الانسان و يشكّ في حلّيتها،فالدليل علي الحلّية في هذه الموارد هو أصالة الحلّ المذكورة في هذا الخبر و غيره،و لا حاجة إلي الاستصحاب.

و يمكن أن يقال في معني صدر الخبر و ذيله:إنّ كلّ شيء لم يعلم حرمته،فهو حلال إلاّ إذا قامت حجّة علي حرمته،أو كان فيه أصل يقتضي حرمته:إمّا بأن يراد من البيّنة مطلق ما يكون معتبرا بمعناها اللغوي،و إمّا للجمع بين هذا الخبر و أخبار الاستصحاب،و منشأ الحلّ في بعضها مجرّد الشكّ في حلّية الشيء و حرمته،و في8.

ص: 113


1- فرائد الاصول ص 368.

بعضها اليد،و في بعضها أصالة عدم النسبة بينه و بين المرأة،و ليس في الخبر أنّ الشكّ يكون موضوعا للحلّ،بل جعل العلم بالحرمة غاية للحكم بالحلّية.

كما يمكن أن يقال بأنّ هذه الأمثلة محكومة بالحلّية من باب«كلّ شيء لك حلال»فلها طريقان إلي الحلّية،أحدهما هذا العموم،ثانيهما ما ذكر من اليد و أصالة عدم النسبة،مع أنّه في بعض الموارد لا تجري أصالة الصحّة و قاعدة اليد، فهذا العموم محكّم.

ثمّ إنّه قد وردت أخبار اخر في موارد خاصّة،كالصحيح إلي ضريس الكناسي، قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟فقال:أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكله،و أمّا ما لم تعلم فكله حتّي تعلم أنّه حرام (1).

قوله«ما علمت أنّه قد خلطه»يعني:مزجه الحرام و هو أنفحة الميتة،أو لبن ما لا يؤكل لحمه كلبن الخنزير و نحوه.

و قوله«و ما لم تعلم»يعني:لم تعلم أنّه خلطه الحرام فهو حلال،و مقتضي إطلاقه أنّه حلال و إن باشروه بأيديهم؛لأنّه لا يمكن صنع السمن و الجبن في تلك الأزمنة بدون ذلك،فتأمّل.

و خبر عبد اللّه بن سليمان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الجبن،قال:كلّ شيء لك حلال حتّي يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة (2).

قوله«كلّ شيء»عامّ لكن بقرينة قوله«يشهدان أنّ فيه ميتة»يمكن اختصاصه بالجبن.

و خبر أبي الجارود،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن،فقلت له:أخبرني من2.

ص: 114


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 1.
2- وسائل الشيعة 17:91 ب 61 ح 2.

رأي أنّه يجعل فيه الميتة،فقال:أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرض؟إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله،و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل،و اللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن،و اللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر و هذه السودان (1).و في السند أبو الجارود و هو مضعف.

قوله«يجعل فيه الميتة»المراد بالميتة شحم الميتة،فإنّه يجعل في الجبن.

قوله«لأعترض السوق»أي:سوق المسلمين الذي في المدينة أو في غيرها.

و مرسل معاوية بن عمّار،عن رجل من أصحابنا،قال:كنت عند أبي جعفر عليه السّلام فسأله رجل عن الجبن،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إنّه لطعام يعجبني و ساخبرك عن الجبن و غيره،كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام فتدعه بعينه (2).

و حسن حنان بن سدير،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عنده عن جدي رضع من لبن خنزيرة،حتّي شبّ و كبر و اشتدّ عظمه،ثمّ إنّ رجلا استفحله في غنمه،فخرج له نسل،فقال:أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنّه،و أمّا ما لم تعرفه فهو بمنزلة الجبن و لا تسأل عنه (3).

قوله«بعينه»لعلّه لبيان أنّ الشبهة غير المحصورة التي يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء محكومة بالحلّية،و لا يشمل ما إذا تردّد بين شاتين، و منه يظهر حكم الجبن.

و خبر بشر بن مسلمة عن أبي الحسن عليه السّلام في جدي رضع من خنزيرة،ثمّ ضرب في الغنم،فقال:هو بمنزلة الجبن،فما عرفت أنّه ضربه فلا تأكله،و ما لم1.

ص: 115


1- وسائل الشيعة 17:62 ب 61 ح 5.
2- وسائل الشيعة 17:62 ب 61 ح 7.
3- وسائل الشيعة 16:353 ب 25 ح 1.

تعرف فكل (1).

أقول:يمكن أن يستفاد من الخبرين أنّ ما تولّد من الكلب و الشاة مثلا فهو حرام؛لأنّه إذا كان نسل الحرام بالعرض حراما،فنسل الحرام بالذات حرام بالأولي.

و الظاهر منهما أنّ بعض الأطراف ليس محلّ ابتلائه.و يستفاد من التنظير فيهما بالجبن بضميمة ما ورد في الروايات المتقدّمة الدالّة علي عدم الخصوصيّة للجبن جواز الأخذ إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.

و خبر الحميري أنّه كتب إلي صاحب الزمان عليه السّلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلّ لما في يده لا يرع عن أخذ ماله إلي آخره،الجواب:إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه و اقبل برّه و إلاّ فلا (2).

يدلّ علي أنّ العلم الاجمالي بوجود الحرام في ماله إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء لا يوجب الاجتناب عن المشتبه.

و صحيح أبي عبيدة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من ابل الصدقة و غنم الصدقة،و هو يعلم أنّهم يأخدون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم،قال:فقال:ما الابل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتّي تعرف الحرام بعينه (3).

و مورده ما إذا كان المبيع بعض أطراف الشبهة.

و موثّق إسحاق بن عمّار،قال:سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم،5.

ص: 116


1- وسائل الشيعة 16:353 ب 25 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:160 ب 51 ح 15.
3- وسائل الشيعة 12:162 ب 52 ح 5.

قال:يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا (1).

و الأخبار في أخذ المال من العامل متعارضة،بعضها يدلّ علي عدم جواز قبول الهديّة و اشتراء السرقة و الخيانة منه،و هي الأخبار المذكورة.

و بعضها يدلّ علي جوازه،كصحيح أبي ولاّد،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما تري في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم،و أنا أمرّ به فأنزل عليه،فيضيفني و يحسن إليّ،و ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة،و قد ضاق صدري من ذلك،فقال لي:كل و خذ منه فلك المهنا-الحظّ-و عليه الوزر (2).

و صحيح أبي المغرا (3).

و خبر محمّد بن هشام (4).و صحيح محمّد بن مسلم و زرارة (5).و صحيح معاوية بن وهب (6).و مضمر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه (7).و موثّق سماعة (8).

الطائفة الثانية:الأخبار الواردة في بعض الموارد الخاصّة الدالّة علي جواز ارتكاب أطراف العلم الاجمالي،و هي صحيح أبي بصير،قال:سألت أحدهما عن شراء الخيانة و السرقة،قال:لا إلاّ أن يكون قد اختلط معه غيره،فأمّا السرقة بعينها فلا إلاّ أن يكون من متاع السلطان فلا بأس به (9).4.

ص: 117


1- وسائل الشيعة 12:163 ب 53 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:156 ب 51 ح 1.
3- وسائل الشيعة 12:156 ب 51 ح 2.
4- وسائل الشيعة 12:157 ب 51 ح 3.
5- وسائل الشيعة 12:157 ب 51 ح 5.
6- وسائل الشيعة 12:161 ب 52 ح 4.
7- وسائل الشيعة 12:163 ب 53 ح 3.
8- وسائل الشيعة 12:250 ب 1 ح 6.
9- وسائل الشيعة 12:246 ب 1 ح 4.

قوله«قد اختلط معه غيره»و لو بنحو العلم الاجمالي،و يحمل علي ما إذا لم يكن الجميع محلّ الابتلاء،بل يريد شراء البعض.

و قوله«إلاّ أن يكون من متاع السلطان»أي:فلا بأس بشراء الخيانة و السرقة، و لعلّه لولايتهم عليهم السّلام علي أمواله رخصوا لشيعتهم.

و موثّق سماعة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني اميّة،و هو يتصدّق منه و يصل منه قرباته،و يحجّ ليغفر له ما اكتسب،و يقول:إنّ الحسنات يذهبن السيّئات،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة،و إنّ الحسنة تحطّ الخطيئة،ثمّ قال:إن كان قد خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا،فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس (1).

و حمل علي أنّه اختلط الحرام و الحلال،و لم يعرف مقدار الحرام و لا صاحبه، و انّه حلال بعد أداء الخمس.

و صحيح الحلبي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أتي رجل أبي عليه السّلام،فقال إنّي ورثت مالا و قد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي،و قد عرف أنّ فيه رباء و استيقن ذلك،و ليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه،و قد سألت الفقهاء أهل العراق و أهل الحجاز،فقالوا:لا يحلّ أكله،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا رباء و تعرف أهله،فخذ رأس مالك و ردّ ما سوي ذلك،و إن كان مختلطا فكله هنيئا،فإنّ المال مالك و اجتنب ما كان يصنع صاحبه،فإنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قد وضع ما مضي من الربا و حرّم عليهم ما بقي،فمن جهل وسع له جهله حتّي يعرفه،فإذا عرف تحريمه حرم عليه و وجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب علي من يأكل الربا (2).3.

ص: 118


1- وسائل الشيعة 12:59 ب 4 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:431 ب 5 ح 3.

و مقتضي ترك الاستفصال في هذا الصحيح عن علم الميّت بحرمة الربا و جهله هو عموم الجواب،و هو أنّ ما علم تفصيلا أنّه ربا يجب ردّه إلي مالكه،و أمّا إذا علم بأنّ في المال ربا،فله التصرّف في الجميع،فلعلّ ضمانه كوزره علي الميّت، و الوارث جاهل تفصيلا بالحرمة لجهله بالموضوع و عدم علمه به تفصيلا.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي (1)حمل هذه الأخبار علي صورة جهل الميّت،و حمل الردّ إلي المالك مع كونه معزولا علي الاستحباب.

و علي كلّ حال لو تمّت دلالة الأخبار في أموال السلطان و في الرباء لشمولها لطرفي العلم الاجمالي،فلا يمكن التعدّي منهما إلي غيرهما،و البحث فيهما موكول إلي الفقه.

الطائفة الثالثة:ما يدلّ علي وجوب التحرّز عمّا علم إجمالا حرمته،و هو المرسل،قال عليه السّلام:ما اجتمع الحلال و الحرام إلاّ غلب الحرام الحلال (2).

و خبر ضريس المتقدّم عن السمن في أرض المشركين،قال:أما ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ الخلط يصدق مع الاشتباه.

أقول:فلو كان في يده جبنان يعلم بحرمة أحدهما صدق أنّ ما في يده قد خلطه الحرام،لكن لا يبعد كون المراد بالخلط فيه هو المزج كما تقدّم،و يصدق علي مزج ما لا تميّز له و مزج ما له تميّز،فلو خلط الحنطة بغيرها صدق الخلط و إن لم يمتزج.

و خبر عبد اللّه بن سليمان (3)المتقدّم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الخبر:فإنّه يصدق علي مجموع قطعات2.

ص: 119


1- ملحقات العروة الوثقي ص 13 مسألة 9.
2- عوالي اللئالي 3:466 برقم:17.
3- وسائل الشيعة 17:91 ب 61 ح 2.

اللحم أنّ فيه الميتة (1).

و الأخبار المتقدّمة في تثليث الامور،و انّه وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم،فإنّ كلّ واحد من الأطراف يحتمل فيه الوقوع في الحرام،و الهلاك من حيث لا يعلم.

و صحيح الحلبي،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه (2).و لعلّ ضمير«باعه»راجع إلي الذكي،و إلاّ كان المناسب باعهما لو كان الضمير راجعا إليهما،فيدلّ علي أنّه لا يجوز استعمال الحرام الموجود بينهما،و المستحلّ للميتة و هو المشتري لا يعلم بالحرمة.

قيل:يحتمل رجوع الضمير إلي المختلط،أي:باع المختلط من الكافر المستحلّ للميتة،فيدلّ علي حرمة التصرّف فيهما علي المسلم،فإن لم يثبت إعراض الأصحاب عن الخبر اختصّ بجواز بيعها بالمستحلّ.

و موثّق عمّار و موثّق سماعة«يهريقهما و يتيمّم»و ما ورد من غسل تمام الثوب إن علم بنجاسة بعضه.

و هذه الطائفة تكون كالشارحة للطائفة الاولي،و مانعة لشمولها لطرفي العلم الاجمالي إن كانا تحت يده و ابتلائه.

فتلخّص أنّه لا يمكن استفادة الترخيص فيهما من هذه الأخبار.

و أمّا الترخيص في أحدهما،فإن كان المراد أحدهما المعيّن،فلا وجه له لعدم دلالتها علي حلّية المعيّن منهما،و إن كان المراد أحدهما مخيّرا بينهما،فأيضا لا وجه له؛لأنّها إمّا تدلّ علي حلّية كليهما،أو لا تدلّ علي حلّية أيّ منهما،و لا قرينة توجب شمولها لأحد الأطراف.2.

ص: 120


1- فرائد الاصول ص 414.
2- وسائل الشيعة 12:67 ب 7 ح 1 و ح 2.

و قيل:إنّ الترخيص يكون لأحدهما،و المكلّف مخيّر في ارتكاب أحدهما ظاهرا،حيث إنّه شاكّ في كلّ واحد منهما،نظير ما قيل من أنّ قول القائل أكرم كلّ عالم يدلّ علي وجوب إكرام كلّ عالم،فإذا علمنا بأنّه لا يجب إكرام زيد العالم و بكر العالم معا،لكن احتملنا وجوب إكرامهما تخييرا،فلا بدّ من الاقتصار علي المتيقّن خروجه،و هو إكرام كلّ واحد تعيينا،لكن يبقي تحت العموم إكرام واحد منهما تخييرا.

و فيه نظر؛لأنّه إذا كان المكلّف مأمورا بفعل،كما في قوله«أكرم كلّ عالم»صحّ التخيير في الفعل،بخلاف ما إذا ترتّب الحكم علي موضوعه،كما في قوله«كلّ مشكوك طاهر أو حلال»فإنّه لا يمكن تطبيقه علي أحد الفردين.

إن قلت:إنّه إن علم إصابة أحد الثوبين بنجاسة و شكّ في إصابة الآخر،فلا مانع من شمول أصالة الطهارة للمشكوك منهما،و نقول يجب عليه أن يكرّر الصلاة فيهما مع الانحصار.

قلت:كلّ واحد من الطرفين له جهتان:جهة أنّه يحتمل كونه متعلّق العلم بالنجاسة،و جهة كونه مشكوك الاصابة،و الأصل في كلّ واحد منهما من حيث نفسه يجري و لا يجري فيه من حيث منافاته للعلم.

تتميم:

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الاصول لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا،سواء استلزم جريانها مخالفة عملية أم لم يستلزم.

ثمّ إنّ القائلين بجريانها ذكروا موارد يسقط فيها بعض الاصول و يجري بعضها:

منها:ما لو وقع نجاسة لم يعلم أنّها وقعت في الماء القليل أو علي الثوب، فيسقط استصحاب الطهارة و قاعدتها فيهما،و ذلك لأنّ الاصول السببيّة مقدّمة علي الاصول المسبّبية،و الشكّ في حلّية شرب الماء مسبّب عن نجاسته،فيجري

ص: 121

استصحاب الطهارة،لكنّه معارض باستصحابها في الثوب،فيسقطان،ثمّ تجري أصالة الطهارة لكنّها معارضة بها في الثوب فيسقطان،و تجري أصالة الحلّ في الماء بلا معارض (1).

و فيه أوّلا:أنّ الاجتناب عن النجاسة المعلومة التي تنجّز الاجتناب عنها بالعلم الاجمالي لا يتحقّق إلاّ بعدم شرب الماء،و عدم الصلاة في الثوب.

و ثانيا:أنّ جميع الاصول بناء علي جريانها في أطراف العلم الاجمالي في طرف الماء معارضة بالأصل في الثوب؛لأنّ الاصول الجارية في الماء بعضها مسبّب عن بعض،لكنها ليست مسبّبة عن الأصل الجاري في الثوب،و سيأتي زيادة توضيح له.

و منها:ما إذا علم إجمالا بزيادة ركوع في صلاة المغرب،أو نقصانه في صلاة العشاء بعد الفراغ عنهما،فقاعدة الفراغ تسقط فيهما بالمعارضة،فيرجع إلي استصحاب عدم زيادة الركوع في المغرب،و عدم الاتيان بالركوع في العشاء، فيحكم بصحّة صلاة المغرب و بطلان صلاة العشاء (2).

و فيه أنّ الشكّ في صحّة المغرب ناش عن زيادة الركوع،فلا تجري قاعدة الفراغ إلاّ إذا لم يجر استصحاب عدم زيادة الركوع؛لأنّ الأصل السببي مقدّم علي المسبّبي و إن كانا موافقين،و حينئذ يتعارض استصحاب عدم زيادة الركوع مع قاعدة الفراغ في العشاء،و إن منعنا السببيّة جريا معا مع قاعدة الفراغ في العشاء، فلا بدّ من إعادتهما.

و منها:ما إذا صلّي المغرب و هو في الوقت،فعلم إجمالا نقصان ركعة من صلاة المغرب،أو عدم إتيان صلاة العصر،فإنّ قاعدة الفراغ في صلاة المغرب و قاعدة0.

ص: 122


1- مصباح الاصول 2:357.
2- مصباح الاصول 2:360.

الحيلولة في صلاة العصر تسقطان بالمعارضة،للعلم الاجمالي بوجوب احداهما، فيجري استصحاب عدم الاتيان بركعة من صلاة المغرب و أصالة البراءة عن وجوب قضاء العصر؛لأنّ استصحاب عدم الاتيان به لا يثبت الفوت،فيجب إعادة المغرب فقط (1).

و فيه أوّلا:أنّ استصحاب عدم الاتيان بصلاة العصر يثبت الفوت،كما حقّقنا في محلّه أنّ فوت الصلاة هو ترك البالغ العاقل الصلاة في وقتها و لو لعذر من نوم أو نسيان و نحوهما،و لعلّه مقتضي دليل أنّ الوقت حائل،فأنّه يدلّ علي القضاء لو لا كون الوقت حائلا.

و ثانيا:أنّ الأصل السببي و المسبّبي في طرف يعارضان الأصل في الطرف الآخر،فأصالة البراءة عن القضاء و إن كانت متأخّرة عن قاعدة الحيلولة،لكنّها ليست متأخّرة عن عدم جريان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب،فتكون قاعدة الفراغ في صلاة المغرب معارضة بأصالة البراءة عن قضاء العصر.

و بعبارة اخري:قاعدة الفراغ في صلاة المغرب معارضة بقاعدة الحيلولة و أصالة البراءة عن قضاء صلاة العصر و غيرهما من الاصول النافية للتكليف بالقضاء.

و منها:ما لو علم بعد صلاة الصبح مثلا ترك سجدتين إمّا من ركعة أو من ركعتين.

قال في فوائد الاصول ما ملخّصه:إنّه لا تجري قاعدة الفراغ في الصلاة حتّي لا يجب شيء لأنّه مخالف للعلم،و قاعدة التجاوز في كلّ ركعة متعارضة،فتنتهي النوبة إلي استصحاب عدم السجدتين من ركعة المقتضي لإعادة الصلاة، و استصحاب عدم الاتيان بسجدة من كلّ ركعة المقتضي لقضاء السجدتين،0.

ص: 123


1- مصباح الاصول 2:360.

فيتعارضان،للعلم بعدم وجوب الجمع بين الاعادة و قضاء السجدتين،فينتهي النوبة إلي الاصول التي توجب حلّ العلم الاجمالي،و هي قاعدة الاشتغال المقتضي لإعادة الصلاة،و أصالة البراءة عن وجوب قضاء السجدتين (1).

أقول:فيه أوّلا:أنّ استصحاب عدم السجدتين من الركعة الاولي يوجب البطلان و لا معارض له؛لأنّها سابقة علي الركعة اللاحقة.

و ثانيا:أنّ قاعدة التجاوز في الركن مقدّمة عليها في غير الركن،لتوقّف جريان قاعدة التجاوز في غير الركن علي صحّة الصلاة المتوقّفة علي عدم الاخلال بالركن،و السجدة الواحدة في كلّ ركعة ركن،فتجري قاعدة التجاوز فيها بلا مزاحم حتّي يحكم بصحّة الصلاة،و بعد جريانها في السجدة الواحدة من كلّ ركعة لا يبقي مجال لجريانها في السجدة الثانية من كلّ ركعة؛لأنّه يعلم بأنّه لم يأت بالسجدة الثانية صحيحة:إمّا لأنّه لم يأت بها،أو لأنّه ترك السجدتين من ركعة و بطلت الصلاة،فيحكم بصحّة الصلاة و يسجد سجدتين قضاء؛لأنّ صحّة الركعة الاولي مثلا بعد الدخول في ركوع الثانية مع ترك سجدة واحدة منها توجب قضاء السجدة،و كذلك السجدة من الركعة الثانية،و لكن لا يترك الاحتياط بإعادة الصلاة.

تنبيهات:
الأوّل:لا فرق في وجوب الاجتناب عقلا و شرعا في الشبهة المحصورة بين

مواردها،

فإن علم إجمالا كون هذه المرأة أجنبيّة،أو كون هذا المايع خمرا،وجب الاجتناب عنهما،فلا يخصّ بما إذا كان الجامع بينهما واحدا،كتردّد الخمر بين المايعين.

ص: 124


1- فوائد الاصول 4:15.
التنبيه الثاني:وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين طريقي إلي ترك الحرام

الواقعي الموجود في البين،فلو ارتكبهما لم يعاقب إلاّ بعقاب واحد علي الواقع، و إن تبيّن كونهما خمرين؛لعدم العلم إلاّ بخمريّة أحدهما.

التنبيه الثالث:وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف

بالحرام الواقعي علي كلّ تقدير،فإذا لم يكن كذلك فلا ينجّز التكليف بالعلم الاجمالي،و ذكروا لذلك موارد:

أحدها:ما إذا كان أحد الأطراف محكوما بحكم قبل العلم الاجمالي،بحيث لا يحدث العلم الاجمالي تكليفا،فلو علم بوقوع نجس علي يده الطاهرة،أو علي الماء الكثير،أو علي الموضع النجس،لم يحدث العلم بوقوع النجس تكليفا، لاحتمال وقوع النجس علي الماء الكثير،أو علي اليد النجسة،فيشكّ في تنجّس اليد الطاهرة،و الشكّ البدوي يكون مجري الأصل.

ثانيها:ما إذا كان أحد الطرفين غير مقدور أصلا،بأن علم إجمالا بنجاسة ثوبه أو ثوب رجل في مكان بعيد مثلا لا يتّفق الابتلاء به،فالتكليف بالاجتناب عن غير المقدور غير موجود أصلا،فيكون الشكّ فيه في الطرف الآخر بدويّا.

ثالثها:ما إذا كان أحد الطرفين مقدورا عادة،و الطرف الآخر مقدورا عقلا لا مكان ابتلاء المكلّف به،لكن المكلّف بحسب حاله لا يبتلي به عادة،فهل التكليف به غير منجّز،فينحلّ العلم الاجمالي،أو يكفي صحّة التكليف به فيتنجّز العلم الاجمالي؟و جهان:

الأوّل:الانحلال،اختاره الشيخ لأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و لهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به.

إلي أن قال:و الحاصل أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف علي الترك

ص: 125

مختصّة بحكم العقل و العرف بمن يعدّ مبتلي بالواقعة المنهي عنها،و لذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا،إلاّ علي وجه التقييد بصورة الابتلاء.

إلي أن قال:في مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه،أو في موضع من الأرض التي لا يبتلي به (1)المكلّف عادة بعدم وجوب الاجتناب عن إنائه.

إلي أن قال:إنّ خارج الاناء،سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ليس ممّا يبتلي به المكلّف عادة،و لو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا وجوب الاجتناب عنهما؛للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس و حرمة السجدة علي الأرض النجسة.

و يؤيّد ما ذكرنا صحيح علي بن جعفر الوارد في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،هل يصلح الوضوء منه؟فقال عليه السّلام:إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به،و ان كان بيّنا فلا.حيث استدلّ به الشيخ الطوسي قدّس سرّه علي العفو عمّا لا يدركه الطرف،و حملها المشهور علي أنّ إصابة الاناء لا يستلزم إصابة الماء،فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء في الماء يحكم بطهارته،و معلوم أنّ ظهر الاناء و باطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة الخ (2).

قلت:لا يشترط في صحّة التكليف سوي القدرة العقليّة،و لا نسلّم قبح تكليف من لا يبتلي بالشيء عادة مع تمكّنه منه عقلا،و إلاّ لم يكن من ليس له الداعي إلي شرب الخمر منهيّا عن شربه،و لا الهرم الذي لا شهوة له إلي الزنا منهيّا عن الزنا، و الأمثلة التي ذكرها الشيخ محلّ إشكال.

و أمّا الصحيحة،فلعلّ الظاهر منها أنّه قطع بإصابة الدم الاناء،و لعلّه رآه علي0.

ص: 126


1- كذا في الأصل،و الصحيح تذكير الموصول«الذي»أو تأنيث الضمير«بها»و لعلّه وقع في أحدهما تصحيف.
2- فرائد الاصول ص 416-420.

الاناء،لكن يشكّ في وصوله إلي الماء أيضا،فأجاب عليه السّلام بأنّه إن تبيّن أنّ فيه الدم فهو نجس،و إن لم يتبيّن و شكّ فالأصل الطهارة،و هذا السؤال بهذه الكيفيّة يدلّ علي أنّه شاكّ في إصابة الدم للماء،كما هو واضح.

و بالجملة مقتضي العلم الاجمالي وجوب الاجتناب عن الطرفين،مع إمكان الابتلاء عقلا،إلاّ أن يقال في من يشتري من شخص معيّن شيئا مع العلم الاجمالي بأنّ في أمواله حراما،و كان متمكّنا من التصرّف في الجميع عقلا،إنّ مقتضي العلم الاجمالي و إن كان وجوب الاجتناب،إلاّ انّ الأخبار المتقدّمة و عموم كلّ شيء لك حلال تقتضي الحكم بالحلّية في الطرف الذي هو محلّ ابتلائه إن لم يكن جميعه محلّ ابتلائه.

و الحاصل أنّ مقتضي القاعدة وجوب الاجتناب عن الطرفين،إلاّ انّ الأخبار الخاصّة دلّت علي عدم وجوب الاجتناب فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء فيما يشتري.

التنبيه الرابع:أنّ متعلّق العلم الاجمالي علي قسمين:
القسم الأوّل:أن يكون أمرا واحدا بالصنف أو النوع أو الجنس

،كما إذا علم أنّ أحد المايعين خمر،أو علم أنّ أحد الثوبين تنجّس بالدم أو بملاقاة الميتة،فإنّهما من أعيان النجاسات،و لا فرق بينهما في نوع النجاسة بخلاف البول و الدم.

القسم الثاني:أن يكون متعلّق العلم متعدّدا من حيث الخصوصيّة التي لها أثر

، كتردّد ما خرج من المتطهّر بين البول و المني،فإنّ البول يوجب الحدث الأصغر الموجب للوضوء للصلاة و حرمة مسّ الكتاب،و المني يوجب الحدث الأكبر الموجب للغسل للصلاة،و حرمة مسّ الكتاب،و المكث في المسجد،و العلم تعلّق بالمردّد بين خصوصية البول بما له من الأثر،و خصوصيّة المني بما له من الأثر، و ليس لهما جامع مشتمل علي كلتا الخصوصيّتين،كنجاسة الدم و نجاسة الميتة.

ص: 127

أمّا القسم الأوّل،فمقتضي العلم إجمالا بكون أحد المايعين خمرا حرمة شرب الخمر الموجود في البين،و نجاسة ملاقي الخمر الموجود،و حدّ شارب الخمر الموجود،و لو شربهما فقد شرب الخمر الموجود،و جري عليه الأحكام الثلاثة، و العلم إجمالا بوجود الخمر في البين يوجب الاشتغال اليقيني،فتجب البراءة اليقينيّة،و لا تحصل إلاّ باجتناب كلّ واحد منهما،فيحرم شرب كلّ واحد عقلا، و إن شرب أحدهما و لم يتبيّن كونه خمرا كان متجرّيا و لم يحدّ للشكّ في أنّه شرب الخمر و يستصحب عدمه و لم يحكم بنجاسة فمه،للشكّ في ملاقاته للخمر الموجود،فإنّه لا يزيد حكمه عن الخمر المعلوم تفصيلا،و من شكّ في ملاقاة الخمر المعلوم تفصيلا،لا يحكم بالنجاسة.

و أمّا إن تبيّن كونه خمرا،فقد ارتكب الحرام و يحدّ و يحكم بنجاسة فمه،بخلاف المايع المشكوك ابتداء،فإنّه يجوز شربه،و إن تبيّن كونه خمرا لم يرتكب الحرام و كان معذورا،و لم يحدّ حدّ الخمر.

و دعوي أنّه يعلم حرمة شرب هذا الطرف و نجاسة ملاقيه،أو حرمة شرب الطرف الآخر و نجاسة ملاقيه،فنجاسة الملاقي لأحد الطرفين طرف العلم الاجمالي.

ممنوعة أوّلا:بإنّه يلزم أن يحدّ أيضا،لأنّه يعلم حرمة شرب هذا الطرف و حدّ شاربه و نجاسة ملاقيه،مع أنّه لا يحدّ إن لم يتبيّن كونه خمرا.

و ثانيا:أنّ التحليل المذكور هو معني الشكّ،فإنّ ما يعلم تفصيلا هو وجود الخمر في البين،و يعلم أنّه إن ارتكب أحد الطرفين و كان خمرا،فهو غير معذور، كما يكون معذورا إن ارتكب المشكوك ابتداء،و لكن يشكّ إن لاقي شيء أحد الطرفين أنّه لاقي الخمر الموجود المعلوم وجوده إجمالا،كما إذا كان الخمر معلوما تفصيلا و شكّ في ملاقاة يده له،و يشكّ في أنّه يستحقّ الحدّ للشكّ في أنّه

ص: 128

شرب الخمر الموجود،و الأصل عدمهما.

و أمّا القسم الثاني،فمقتضي العلم الاجمالي العمل بكلّ خصوصيّة في كلّ طرف،فإذا خرج من المتطهّر ما يتردّد بين البول و المني،فلا بدّ من ترتيب أثر البول،و هو الوضوء للصلاة و ترك مسّ الكتاب،و ترتيب أثر المني و هو الاغتسال للصلاة،و ترك مسّ الكتاب،و المكث في المسجد.

و لا يصحّ أن يقال:إنّه لا يعلم خصوصيّة البول و خصوصيّة المني؛لأنّه عالم باحدي الخصوصيّتين،و لكلّ واحد أثر خاصّ.

و من ذلك يظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب (1)من أنّه إذا علم بحدوث البول أو المني و لم يعلم الحالة السابقة، وجب الجمع بين الطهارتين،و إن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة،فيجوز له ما يحرم علي الجنب.لا يمكن المساعدة عليه،لأنّه يعلم إجمالا:إمّا وجوب الوضوء للصلاة و حرمة مسّ الكتاب،و إمّا وجوب الغسل و حرمة مسّ الكتاب و المكث في المسجد.

و من أمثلة ذلك:ما إذا علم إجمالا وقوع نجاسة في ماء قليل أو علي الثوب، فإنّه إن وقع علي الثوب،فأثره عدم جواز الصلاة فيه قبل غسله،و إن وقع في الماء فأثره نجاسة الماء و ظرفه،فيجب الاجتناب عن الثوب و عن الماء و ظرفه،و لا يصحّ أن يقال بأنّ العلم بنجاسة الماء أو الثوب حاصل،لكن العلم بملاقاة الظرف للنجس غير حاصل،كما إذا كان الملاقاة بعد العلم الاجمالي بالنجاسة و ذلك للفرق بينهما،فإنّ المعلوم خصوصيّة هذا الطرف الذي هو نجاسة الماء و ظرفه،أو خصوصيّة الطرف الآخر.8.

ص: 129


1- فرائد الاصول ص 638.

و من أمثلة ذلك:ما لو تردّد النجس الواقع علي الجسد بين البول و الدم،فلا بدّ من غسله بالماء القليل مرّتين؛لأنّ البول يوجب الغسل مرّتين،و لا جامع بين خصوصيّة البول و الدم،بخلاف الميتة و الدم.و يأتي في بحث الاستصحاب مزيد بيان.

التنبيه الخامس:في حكم ملاقاة أحد الطرفين إن كان المعلوم إجمالا نجاسة

أحدهما

،كما إذا علم إجمالا كون أحدهما دما أو ميتة أو خمرا،و لاقي أحد الطرفين شيء برطوبة،فهل يحكم بنجاسته أم لا؟فيه أقسام ينبغي ذكرها،و هي:

القسم الأوّل:أن يلاقي كلا الطرفين،و لا إشكال في نجاسته.

القسم الثاني:أن يكون لكلّ منهما ملاق،فيجب الاجتناب عن كليهما،و لو حصل ملاق آخر لأحدهما وجب الاجتناب عنه أيضا؛لأنّه يكون طرفا أيضا للملاقي الآخر.

القسم الثالث:أن يكون لأحد الطرفين ملاق،ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة:إمّا في الطرف الذي له ملاق،أو في الطرف الآخر،فيجب الاجتناب عن الجميع،أي:

عن الملاقي بالكسر و الملاقي بالفتح و الطرف الآخر،و ظهر وجهه ممّا ذكرناه،و هو مختار صاحب الكفاية،خلافا لما يظهر من إطلاق كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

القسم الرابع:أن يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ حصل ملاقاة أحدهما، و الظاهر أنّه لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر،و ذلك لأنّ المعلوم نجاسته إجمالا يكون كالمعلوم تفصيلا،فكما إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم تفصيلا لم يحكم بالنجاسة،فكذلك إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم نجاسته إجمالا.

و بعبارة اخري:أنّ النجس المعلوم لا بدّ من الاجتناب عنه و عن ملاقيه،و لا يتحقّق إلاّ بترك الطرفين و ترك ملاقيهما.و أمّا الملاقي لأحدهما،فيشكّ في

ص: 130

ملاقاته للنجس المعلوم،و الأصل الطهارة.

و الحاصل أنّه لمّا علم إجمالا أنّ أحد المايعين خمر،فقد علم أنّه يحرم شرب ذلك الخمر الموجود في البين،و من شربه يحدّ،و يكون ما لاقاه نجسا،فلا بدّ عقلا من الاجتناب عن الطرفين.و لو شرب أحدهما و كان واقعا خمرا لم يكن معذورا، لكن إن لاقي شيء أحد الطرفين،فمقتضي عموم ما دلّ علي أنّه إن شكّ في ملاقاة شيء للنجس،فهو طاهر طهارته.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ المسألة مبنيّة علي أنّ الاجتناب عن النجس لا يتحقّق إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه،أو أنّ الملاقي فرد آخر يجب الاجتناب عنه،و علي الأوّل فتنجّس الملاقي جاء من وجوب الاجتناب عن النجس بأن يكون معني وجوب الاجتناب عن النجس الاجتناب عنه حتّي بالاجتناب عن ملاقيه،فيكون الاجتناب عن ملاقيه اجتنابا عنه،و علي هذا يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين؛لأنّ نجاسة أحد الطرفين معلومة،و لا يتحقّق الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه.

و قد استدلّ ابن زهرة علي نجاسة الماء القليل بقوله تعالي وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1).

و في رواية جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:أتاه رجل فقال:وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت،فما تري في أكله؟قال:فقال له أبو جعفر عليه السّلام:لا تأكله، فقال له الرجل:الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها،قال:فقال له أبو جعفر عليه السّلام:إنّك لم تستخفّ بالفأرة و إنّما استخففت بدينك،إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء (2).

استدلّ علي نجاسة ملاقي الميتة بقوله«حرّم اللّه الميتة من كلّ شيء»2.

ص: 131


1- سورة المدثّر:5.
2- وسائل الشيعة 1:149 ح 2.

و الاجتناب عن الميتة لا يتحقّق إلاّ إذا اجتنب عنها و عن ملاقيها معا.

و هذا مراد العلاّمة في المنتهي،حيث قال:إنّ الشارع أعطاهما حكم النجس.

و علي الثاني و هو فنجاسة الملاقي صارت سببا للنجاسة الملاقي؛لأنّ الاجتناب عن النجس يقتضي الاجتناب عن ملاقيه،فلا يجب الاجتناب عن الملاقي؛لأنّ العلم بوجود النجاسة لا يقتضي إلاّ الاجتناب عنه،بحيث لو لم يجتنب عن ملاقيه،فقد امتثل الأمر بالاجتناب عن النجس،و حينئذ يشكّ في ملاقاة ذلك النجس الموجود في البين،فيجري أصل الطهارة في الملاقي،ثمّ إنّه قوّي الوجه الثاني،و أجاب عن الخبر بضعف السند (1).

أقول:الرواية تدلّ علي أنّ الاجتناب عن السمن إنّما يكون من ناحية ملاقاته للميتة،و لذا قال الرجل:الفأرة أهون عليّ،فأجاب عليه السّلام بأنّ الفأرة ميتة،و انّ اللّه تعالي حرّمها،و مقتضي حرمتها الاجتناب عن عينها و عن أثرها،فإنّ الفأرة التي وقعت في السمن قد أثّرت فيه،و لذا لو لاقت الفأرة يابسة شيئا يابسا لم تؤثّر فيه، و لم يجب الاجتناب عن ملاقيه،و هذا لا يقتضي إلاّ الاجتناب عن ملاقي الميتة لا عمّا شكّ في ملاقاته للميتة.

و الحاصل أنّ الرواية تدلّ علي الملازمة بين نجاسة الشيء و ملاقيه،لا الملازمة بين ما يكون بحكم النجس و بين نجاسة ملاقيه.

و علي كلّ حال فالمعلوم نجاسته إجمالا كالمعلوم تفصيلا،فكما أنّه إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم تفصيلا لم يحكم بنجاسته،فكذلك إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم إجمالا،و قد تقدّم أنّ العلم بكون أحد المايعين خمرا مقتضاه حرمة شرب الخمر الموجود و نجاسة ملاقيه و ثبوت الحدّ،و ملاقاته عند ملاقاة أحد الطرفين4.

ص: 132


1- فرائد الاصول ص 422-424.

مشكوكة.

ثمّ إنّه قد استثني من الحكم بعدم نجاسة ملاقي أحد الطرفين موردان يحكم بنجاسته فيهما:

الأوّل:ما إذا علم وقوع نجاسة علي الثوب أو علي ماء قليل،فإن لاقي شيء الثوب لم يحكم بطهارته،مع أنّه ملاق لأحد أطراف الشبهة؛لأنّ استصحاب الطهارة و أصالة الطهارة في الثوب و الماء يسقطان،فتجري أصالة الحلّ في الماء، فإذا لاقي شيء الثوب حدث علم إجمالا بنجاسة الملاقي أو حرمة شرب الماء، فتكون أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر معارضة بأصالة الحلّ في الماء (1).

و قد يدفع الاشكال بما حاصله:أنّ طهارة الملاقي أو حلّيته ليستا من آثار طهارة الملاقي بالفتح و حلّيته،فليس الأصل الجاري في الملاقي بالكسر متأخّرا عن الأصل الجاري في الملاقي بالفتح إلي آخر كلامه فلاحظ.

و فيه أنّ أصالة الطهارة لا تجري في الملاقي-بالكسر-إن جرت في الملاقي بالفتح؛لعدم الحاجة لأنّ الملاقي بالفتح يكون طاهرا حكما كالطاهر الواقعي،نعم لو لم يجر فيه جري في الملاقي بالكسر.

و يندفع أصل الاشكال بأنّ تأخّر جريان أصالة الحلّ في الماء عن أصالة الطهارة فيه لا تقتضي تأخّرها عن أصالة الطهارة في الثوب،فهي في عرض أصالة الحلّ و ما قبلها من الاصول الجارية في الماء.

و بعبارة اخري:انّ الأصل في أحد الطرفين يعارض الاصول الطوليّة في الطرف الآخر،فلا يجوز شرب الماء لسقوط أصالة الحلّ فيه بالمعارضة،و حينئذ إن لاقي شيء الثوب يحكم بطهارته للشكّ في ملاقاته للنجس.6.

ص: 133


1- مصباح الاصول 2:415-416.

و أمّا علي المختار،فلا تجري الاصول في الطرفين؛لمنافاتها للعلم الاجمالي بعدم جواز استعمال الماء في الطهارة الخبثيّة و الحدثيّة و الشرب،أو عدم جواز استعمال الثوب في الصلاة،فيكون الأصل في الملاقي-بالكسر-بلا معارض.

الثاني:ملاقي أحد الطرفين إذا لاقي الطرف الآخر أيضا بعد تطهيره،و هو المسمّي بالشبهة العبائيّة،بأن علم نجاسة أحد الانائين،فإن وضع في أحدهما شيئا مرطوبا لم يتنجّس،لكن إن طهر الاناء الآخر و وضع هذا الشيء فيه أيضا،مع أنّه إناء طاهر حكم بنجاسته.و التحقيق فيه طهارة الملاقي أيضا،و الشبهة واهية جدّا، و حرّرنا الكلام فيه في الاستصحاب.

القسم الخامس:أن يكون الملاقاة قبل العلم بالنجاسة،و كان الملاقي بالفتح تالفا قبل العلم بالنجاسة،فإذا علم بنجاسة الملاقي و الملاقي أو الطرف الآخر، وجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر و الطرف الآخر.

القسم السادس:أن يكون الملاقاة قبل العلم و خرج الملاقي بالفتح عن محلّ الابتلاء،ثمّ علم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ صار الملاقي بالفتح داخلا في محلّ الابتلاء،قال في الكفاية:يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر،و لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالفتح (1).

أقول:إنّ وجوب الاجتناب في زمان خروج الملاقي بالفتح عن محلّ الابتلاء حكم انشائي،و إذا دخل في محلّ الابتلاء صار التكليف الانشائي فعليّا، و الحاصل أنّ ما كان خارجا عن محلّ الابتلاء ليس متعلّقا للتكليف لعدم قدرة المكلّف،و بعد دخوله في محلّ الابتلاء يكون التكليف به فعليا.

و بعبارة اخري:مقتضي العلم الاجمالي العلم بالنجاسة الفعليّة للملاقي بالكسر2.

ص: 134


1- كفاية الاصول ص 412.

و الانشائيّة للملاقي بالفتح،أو بالنجاسة الفعليّة للطرف الآخر.

القسم السابع:أن يعلم نجاسة أحد الشيئين،كما إذا علم نجاسة إنائه أو جسده، ثمّ علم أنّ جسده قد التقي سابقا مع ثوب برطوبة،و انّ نجاسة جسده إن كانت فهي من جهة ملاقاته لذلك الثوب إن كان نجسا،قال في الكفاية (1)و مصباح الاصول (2)بوجوب الاجتناب عن الاناء و جسده،و لا يجب الاجتناب عن الثوب الملاقي.

أقول:إنّ العلم الاجمالي بنجاسة الثوب و ملاقيه أو الطرف الآخر،يكشف عن بطلان حدّ العلم الاجمالي الأوّل،فإنّه تعلّق بنجاسة الاناء أو جسده بشرط لا، و تبيّن بالعلم الثاني أنّ نجاسة الجسد ليست بشرط لا بل نجاسة الجسد و نجاسة الثوب معا،فيكون العلم الاجمالي قد تعلّق بنجاسة الاناء أو جسده و ثوبه.

و بعبارة اخري:العلم الاجمالي الأوّل قد زال،فلا تأثير له حتّي يقال بأنّه نجّز الاجتناب،و العلم الثاني لا ينجّز ما نجّز.

و حاصل هذه الأقسام أنّ ملاقي أحد الطرفين محكوم بالطهارة إن كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي،و محكوم بالنجاسة إن كانت الملاقاة قبل العلم الاجمالي،و يندرج فيه القسم الثالث و الخامس و السادس.

و ممّا ذكرنا يظهر وجوب التحرّز عن نماء أحدهما؛لأنّ نماء الشيء و أصله واحد،كماء يقسّم في ظرفين.

التنبيه السادس:الاضطرار إلي أحد الطرفين

علي ستّة أقسام:

القسم الأوّل:الاضطرار إلي أحدهما المعيّن قبل تعلّق العلم الاجمالي بحرمة أحدهما،كما إذا اضطرّ إلي شرب أحد المائين معيّنا،ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما بعد الاضطرار إلي أحدهما المعيّن،و هذا العلم لا يوجب تكليفا؛لأنّه

ص: 135


1- كفاية الاصول ص 412.
2- مصباح الاصول 2:424.

مضطرّ إلي شرب أحدهما المعيّن،و يحتمل وقوع النجاسة فيه،و لو كانت النجاسة واقعة فيه ما أوجبت حرمة شربه،لأنّ الاضطرار كما يرفع الحكم التكليفي يدفعه أيضا.و أمّا الطرف الآخر،فهو مشكوك بدوا،نعم الحكم الوضعي و هو نجاسة ملاقيه حاصل إن مسّهما ببدنه أو ثوبه.

القسم الثاني:أن يكون الاضطرار إلي أحدهما المعيّن بعد تعلّق التكليف و قبل العلم الاجمالي بحرمة أحدهما،كما إذا اضطرّ إلي شرب أحد المايعين معيّنا،ثمّ علم وقوع نجاسة في أحدهما قبل الاضطرار إلي شرب المعيّن،قيل:لا يجب الاجتناب عن الآخر لعدم تنجّز الحرمة،و يحتمل وجوب الاجتناب لما يأتي في القسم الثالث.

القسم الثالث:أن يكون الاضطرار إلي أحدهما المعيّن بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو حرمته،اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و صاحب الكفاية (2)في هامشها و غيرهما تنجيز العلم الاجمالي،و مقتضاه وجوب الاجتناب عن الطرف غير المضطرّ إليه؛لأنّه يعلم بحرمة هذا الطرف إلي الأبد،أو الطرف الآخر إلي زمان الاضطرار.

نظير أن يعلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعة إلي ساعة من الزوال،أو صلاة الظهر إلي المغرب،لكن اختار في متن الكفاية عدم تنجيز العلم،لارتفاع الحرمة بالاضطرار،فإذا علم أنّ أحد المايعين خمر،فقد علم عدم حرمة شرب المعيّن إن كان خمرا بعد الاضطرار إليه،و الطرف الآخر لا علم بالتكليف فيه من الأوّل بعد الاضطرار إلي المعيّن.

و بعبارة اخري:من الأوّل يشكّ في حرمة الطرف غير المضطرّ إليه بعد زمان9.

ص: 136


1- فرائد الاصول ص 425.
2- كفاية الاصول ص 409.

الاضطرار إلي المعيّن؛لأنّ الشارع المقدّس قيّد الحرمة بأن لا يضطرّ المكلّف إلي الفعل،و حرمة الخمر الموجود متيقّنة إلي زمان الاضطرار،فهو من الأوّل شاكّ في حرمة الطرف غير المضطرّ إليه إن اضطرّ إلي الطرف الآخر؛لاحتمال أن يكون الحرام هو المعيّن الذي اضطرّ إليه،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن نظر؛لأنّ الاضطرار لم يتعلّق بالحرام في البين بالعلم التفصيلي،فالعلم الاجمالي بحرمة هذا الطرف إلي زمان الاضطرار إلي الطرف الآخر منجّز.

القسم الرابع:أن يضطرّ إلي أحدهما غير المعيّن،ثمّ علم بحدوث نجاسة بعد الاضطرار في أحدهما.

القسم الخامس:أن يضطرّ إلي أحدهما،ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما قبل الاضطرار.و الظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الآخر؛لأنّه لمّا اضطرّ إلي ارتكاب أحدهما،كان عقلا مخيّرا في تعيينه،فإذا علم بحرمة أحدهما بعد ذلك لم يعلم بحرمة منجزّة؛لاحتمال كون الحرام هو ما يختاره.

القسم السادس:أن يضطرّ إلي أحدهما بعد العلم بنجاسة أحدهما.

و جعل حكم هذه الأقسام الثلاثة متّحدا في الكفاية،حيث اختار عدم وجوب الاجتناب عن الآخر بعد ارتكاب أحدهما للاضطرار إليه؛لأنّه إذا جاز ارتكاب أحدهما تخييرا،فلا يجتمع الجواز مع العلم بالحرمة؛لأنّ العلم بالحرمة يقتضي ترك كليهما حتّي يتحقّق ترك الحرام الموجود،و هو ينافي جواز اختيار فعل أحدهما،فلا بدّ و أن لا يكون العلم بالحرمة منجّزا بعد الاضطرار إلي أحدهما.

و اختار الشيخ رحمه اللّه لزوم الاجتناب،قال:لأنّ ترخيص الشارع في بعض المقدّمات العلميّة يرجع إلي الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة (1).5.

ص: 137


1- فرائد الاصول ص 425.

و هو كلام متين؛لأنّه لمّا علم إجمالا بحرمة أحدهما،فهو غير معذور لو صادف ما ارتكبه الواقع،و لذا يجب الاحتراز عنهما،ثمّ لمّا اضطرّ إلي أحدهما كان مخيّرا عقلا في ارتكاب أحدهما،لكنّه ليس معذورا عقلا في ارتكاب الآخر لو صادف الحرام الواقعي.

أقول:الفرق بين الاضطرار إلي المعيّن و بين الاضطرار إلي غير المعيّن واضح؛ لأنّ الاضطرار إلي المعيّن يكون حدّا للحرمة إن كان حراما بخلاف غير المعيّن، فإنّ المكلّف يجب عليه أن يفعل ما اضطرّ إليه،فهو مضطرّ إلي الحلال الموجود، و يحرم عليه فعل الحرام،و العقل مستقلّ بأنّ ترك كليهما يوجب ترك ما اضطرّ إليه، مع أنّه يجب عليه فعله للاضطرار،و فعلهما يوجب ارتكاب الحرام،فلا يقدر علي الموافقة القطعيّة،فلا بدّ من الموافقة الاحتماليّة.

التنبيه السابع:في الشبهة غير المحصورة،

و المشهور فيها عدم وجوب الاجتناب،و استدلّ له بامور:

الأوّل:الاجماع.و فيه أنّه لم يتعرّض له في الكتب الأصليّة للقدماء ليكون كاشفا عن وصول نصّ معتبر إليهم بعنوان أنّ الشبهة غير المحصورة لا يجب الاجتناب عنها،و يحتمل استناد المجمعين غير القدماء إلي الوجوه الآتية.

الثاني:لزوم المشقّة،فيرفع وجوب الاجتناب عنها بالأدلّة الدالّة علي نفي العسر و الحرج.

و فيه أنّ الحرج مرفوع لو كان جميع الأطراف محلّ الابتلاء،و أمّا لو كان بعضه خارجا عن محلّ الابتلاء،فلا يجب الاجتناب عمّا هو محلّ الابتلاء؛لعمومات حلّية كلّ شيء علي ما تقدّم بيانه في شمولها لبعض الأطراف الذي هو محلّ الابتلاء.

الثالث:الأخبار الدالّة علي حلّية ما لم يعلم حرمته بعد الجمع بينها و بين ما دلّ

ص: 138

علي وجوب الاجتناب بقول مطلق بحملها علي غير المحصورة،و حمل الثانية علي المحصورة.

قلت:تقدّم الكلام فيها.

الرابع:خبر أبي الجارود،و هو زياد بن منذر ضعّفه بعض الرجاليّين،و قد جاء فيه:«أمن أجل مكان واحد حرم ما في الأرض»و قد تقدّم نقله.

و فيه أنّ مورده خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

الخامس:حكم العقل،فإنّ العقل لا يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات،فليس هنا ما يوجب الاجتناب عن كلّ محتمل،فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان.

قلت:إذا كان جميع الأطراف محلّ الابتلاء،فلا حكم للعقل و لا بناء من العقلاء علي دفع الاحتمال،و لو سلّم بناءهم فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل التحريم.

السادس:و هو أحسن الوجوه،هو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، و هذا صحيح إذا لم يكن في سلطنته و ملكه،فالتفصيل بين الشبهة المحصورة و غيرها يرجع إلي ما تقدّم من أنّ الأطراف إن كانت محلّ الابتلاء،يجب الاجتناب عن الجميع و إلاّ فلا.

التنبيه الثامن:للعلم الاجمالي المتعلّق بما يوجد تدريجا صور:
الصورة الاولي:أن يكون الحكم فعليا،

كما إذا حلف علي ترك وطء الزوجة في ليلة خاصّة،ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد،و تجب الموافقة القطعيّة؛لأنّ الحكم فعلي فيجب ترك الوطء ليلتين،و جعل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوب الاحتياط فيه أظهر.

الصورة الثانية:أن يعلم التاجر إجمالا بابتلائه في شهره أو يومه بمعاملة ربويّة،

فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في شهره أو يومه أم

ص: 139

لا؟قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في أوّل كلامه:الأظهر وجوب الاحتياط،ثمّ قال:

و إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الامور التدريجيّة،فيرجع إلي أصالة الاباحة في أصل جواز المعاملة،و إلي أصالة الفساد في تأثير المعاملة،ثمّ قال:اللهمّ إلاّ أن يقال الخ (1).

أقول:يحرم علي المكلّفين الربا وضعا و تكليفا،و لا فرق بين العلم بالوقوع في الربا بين الدفعي و التدريجي،فيجب علي التاجر أن يتعلّم أحكام الربا الكلّية و الجزئيّة حتّي لا يقع في الربا.

الصورة الثالثة:أن لا يكون الحكم فعليّا،لكن يعلم بتحقّق موضوعه في الشهر،

كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها،بأن نسيت وقتها و إن حفظت عددها،فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيّام مثلا،فهل يجب علي الزوج الاجتناب عنها تمام الشهر و يجب علي الزوجة أيضا الامساك عن دخول المسجد و قراءة العزائم تمام الشهر أم لا؟

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع.

إلي أن قال:إنّ الظاهر جواز المخالفة القطعيّة؛لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه.

إلي أن قال:فيرجع إلي استصحاب الطهر إلي أن يبقي مقدار الحيض،فيرجع فيه إلي أصالة الاباحة لعدم جريان الاستصحاب (2).

و اختاره في الكفاية،حيث قال:إنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به إجمالا إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه،أو من جهة الاضطرار إلي بعضها معيّنا أو

ص: 140


1- فرائد الاصول ص 427.
2- فرائد الاصول ص 427.

مردّدا،أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر،كأيّام حيض المستحاضة مثلا،لما وجب موافقته بل جاز مخالفته (1)انتهي.

أقول:يمكن أن يقال:العلم منجّز،لما ذكرنا في محلّه من أنّ وظيفة المولي بيان الحكم و وظيفة العبد امتثاله،فإذا بيّن المولي أنّه يجب علي العبد أن يكرم مائة ضيف إن جاؤوا يوم الجمعة علي وجه الواجب المشروط،و احتمل العبد عدم تمكّنه من إكرامهم يوم الجمعة،وجب عليه أن يتهيّأ له قبل ذلك،و ليس له أن يقول:

إنّ الوجوب مشروط،و فيما نحن فيه حيث إنّها تعلم بتحقّق الحيض في هذا الشهر، و المولي بيّن وظيفتها و أوصل البيان إليها،فيجب عليها بحكم العقل المستقلّ في مقام الامتثال أن تعمل حتّي يسقط التكليف.

و اختار في فوائد الاصول في الأمر السادس استقلال العقل بحرمة المخالفة القطعيّة،فلاحظ (2).

التنبيه التاسع:إن انعدم أحد طرفي العلم الاجمالي،

فإن انعدم بعد العلم الاجمالي،كما إذا علم نجاسة أحد المايعين ثمّ اريق أحدهما،فيجب الاجتناب عن الباقي،و إذا اريق أحدهما ثمّ علم إجمالا نجاسة أحدهما لم يجب الاجتناب عن الآخر،و ذلك واضح،إن لم يكن الموضع الذي اريق فيه الماء محلّ الابتلاء.

المسألة الثانية:دوران الأمر بين أن يكون أحد الفعلين حراما لشبهة حكميّة و لم يكن في البين نصّ،بل علم ذلك من اجماع أو غيره.

المسألة الثالثة:دورانه من أجل إجمال النصّ.

المسألة الرابعة:دروانه من أجل تعارض النصّين،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

حكم هذه المسائل يظهر ممّا ذكرنا في الشبهة المحصورة،لكن أكثر ما يوجد من

ص: 141


1- كفاية الاصول ص 408.
2- فوائد الاصول 4:36.

هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني،كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه،فانّ مادّتي الافتراق من هذا القسم (1)انتهي.

قلت:بعض أفراد القسم الثاني داخل في الشبهة،و مرّ وجوب التوقّف فيها، و ظهر ممّا سبق حكم القسمين الأخيرين.

المطلب الثاني: في دوران الأمر بين الواجب و غير الحرام
اشارة

و فيه مقصدان:

المقصد الأوّل: في دورانه بين المتباينين
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:دورانه بينهما في الشبهة الحكميّة و لم يكن نصّ علي تعيّن

أحدهما

،و الحقّ فيه حرمة المخالفة القطعيّة،و وجوب الموافقة القطعيّة؛لأنّ البيان قد وصل من الشرع،و لا طريق إلي إثبات متعلّقه،فالعقل الحاكم في مقام الامتثال يحكم بوجوب الامتثال الذي يحصل بالموافقة القطعيّة،و غير خفي أنّه لا دليل علي اعتبار نيّة الوجه في العبادة،و لا تميّز المأمور به في مقام الامتثال.

و قد فصّل المسألة الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بما لا مزيد عليه.

و لا فرق في الواجب المردّد بين المتنافيين بين كونهما عباديّين أو توصّليين، أو أحدهما عباديّا و الآخر توصّليا.

المسألة الثانية:ما إذا تردّد الواجب بين المتنافيين من جهة إجمال الدليل

المعتبر،

كتردّد الصلاة الوسطي بين الظهر و العصر مثلا،و الحقّ فيه أنّ حكمه حكم

ص: 142


1- فرائد الاصول 440.

المسألة السابقة من دون فرق بين أن يكون الاجمال عند صدور الخطاب و كان الخطاب مجملا عند المشافهين،و بين عروض الاجمال عليه بالنسبة إلي الغائبين؛ لأنّ التكليف علي كلّ حال موجود،و العقل يلزم بالامتثال،و لا يري عروض الاجمال عليه موجبا لسقوط التكليف عنهم رأسا.

المسألة الثالثة:أن يكون ذلك لتعارض النصّين،

و هو موكول إلي مباحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع

،كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق،و الأقوي فيه وجوب الاحتياط أيضا.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه تنبيهات فلاحظ (1).

المقصد الثاني: في دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و اعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريميّة دوران الحرمة بين الأقلّ و الأكثر،بأن يكون الأقلّ حراما أو الأكثر؛لأنّ المتيقّن حرمة الأكثر،و أمّا الأقلّ فهو مشكوك الحرمة،و الأصل البراءة عن حرمته (2).

ثمّ إنّ دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر يكون علي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون الشكّ في الأكثر من جهة الشكّ في اعتبار جزء زائد، و فيه مسائل:

المسألة الأولي:أن يكون الشكّ في الأكثر من جهة عدم النصّ،كما إذا شكّ في وجوب الاستعاذة و نحوها في الصلاة بناء علي وضعها للأعمّ،و أمّا بناء علي

ص: 143


1- فرائد الاصول ص 454.
2- فرائد الاصول ص 441.

وضعها للصحيح،فيدخل في المسألة الثانية،و علي القول بجريان البراءة في الشكّ في التكليف،ففي جريان البراءة العقلية و النقلية،أو التفصيل بجريان النقلية دون العقليّة قولان،اختار ثانيهما في الكفاية،و لعلّه الأظهر.

و اختار الأوّل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:أمّا البراءة العقليّة،فلاستقلال العقل بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء،و يشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر و هو الشيء الفلاني،ثمّ بذل جهده في طلب الدليل علي جزئيّة ذلك الأمر،فلم يقدر فأتي بما علم و ترك المشكوك،خصوصا مع اعتراف المولي بأنّه ما نصبت لك عليه دلالة،فإنّ القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب و اختفي،غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمر قبيح،و هذا لا يرفع التكليف عن المكلّف الخ (1).

أقول:إذا لم ينصب علي الحكم دلالة،فلا تكليف به علي المكلّف و ليس من محلّ النزاع،كما مرّ في أوّل بحث البراءة من أنّ الانسان غير مكلّف بالواقع،بل مكلّف بما وصل إليه،فإذا لم ينصب الآمر دليلا فلا تكليف،فلا يصحّ عقابه، و يكون ممّا سكت اللّه عنه،و كذا إذا نصب الآمر و اختفي إذا لم يعلم المأمور وجه الاختفاء،فإنّه لا تكليف عليه بالواقع،لاشتراط التكليف بإمكان الوصول إليه.

و أمّا إذا لم يكن الاختفاء من تقصير المولي،بل كان لفعل الظالمين و خفاء القرائن،فحينئذ يمكن منع استقلال العقل بالبراءة،إن التفت إلي التكليف و شكّ فيه، بل إسناد«ما لا يعلم»إلي المولي قولا و عملا و اعتقادا غير صحيح،و لا يعلم المكلّف أمر المولي بالأقلّ،فكيف يعتقد كونه مأمورا به و ينسبه إلي المولي مع عدم تقصير المولي؟و الشكّ في المشروعيّة مساوق لعدم المشروعيّة،و نحن بحاجة إلي0.

ص: 144


1- فرائد الاصول ص 460.

إثبات الأمر بالأقلّ.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن قال بانحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ و الشكّ في وجوب الأكثر،أورد علي نفسه بقوله:إن قلت إنّ بناء العقلاء علي وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي،و أجاب بأنّ أوامرهم إرشاديّة إلي حصول الغرض من المأمور به.و أمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الاطاعة،فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولي و قدر علي رفع جهله و لو علي بعض الوجوه الغير المتعارفة إلاّ أنّه اكتفي بالبيان المتعارف،فاختفي علي العبد لبعض العوارض الي آخر كلامه.

ثمّ أشكل علي نفسه بأنّ الواجبات الشرعيّة علي مذاق العدليّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة،فاللطف إمّا هو المأمور به أو الغرض منه.

و أجاب أوّلا بأنّا نتكلّم علي مذهب غيرهم،و ثانيا أنّه لا يمكن تحصيل اللطف لاحتمال اعتبار قصد الوجه،و مع فعل الأكثر يخلّ بقصد الوجه،فلم يبق إلاّ الفرار من تبعة العقاب،و هو يحصل بفعل الأقلّ؛لأنّه يعلم العقاب علي ترك الأقلّ و لا يعلم علي ترك الأكثر،فالعقاب عليه عقاب بلا بيان (1).

أقول:توضيح قاعدة اللطف أنّهم قالوا:إنّ غرض الآمر هو امتثال المأمور، و لا بدّ له لتحصيل غرضه و هو امتثال المأمور من فعل جميع ما يترتّب عليه غرضه، و منه ترغيب العبد بأن يفعل المولي ما يقرّبه إلي الطاعة،و بهذه القاعدة قالوا بلزوم وجود الامام المعصوم فيهم؛لأنّ المكلّفين بالواجبات و المحرّمات يكونون أقرب إلي الطاعة إذا كان فيهم إمام معصوم يقوّمهم و يجري الحدود فيهم،فيجب علي اللّه نصبه.1.

ص: 145


1- فرائد الاصول ص 461.

و فيما نحن فيه نقول:إنّ الواجب العقلي هو شكر المنعم و تعظيمه،و ايجاب الصلاة لما فيها من النهي عن الفحشاء و المنكر،يوجب أن يوفّق المصلّي لشكر المنعم،فالصلاة إنّما وجبت لكونها موجبة للنهي عن الفحشاء و المنكر،و هو مقرّب للعبد إلي أن يشكر المنعم،فإنّ من لا يصلّي ربّما يكون غير مبال بشكر المنعم، و حينئذ يكون الواجب تحصيل الناهي عن الفحشاء و المنكر،فإذا شكّ في حصوله بفعل الأقلّ وجب فعل الأكثر،و هذا التفسير لقولهم الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة،أخذناه من كلام العلاّمة في شرح التجريد في بحث النبوّة،و ذكر قبله اللطف و ماهيّته فراجع،و ذكر في تعليق قلائد الفرائد وجوها لهذا الكلام فلاحظ.

و قال في عدّة الاصول في بيان قاعدة اللطف:الفعل الذي يجب لا بدّ أن يكون لأجل غرض،و هو قسمان:

الأوّل:ما يكون الغرض فيه نفسه،و هو جميع الواجبات العقليّة،كردّ الوديعة، و الانصاف و شكر المنعم.

القسم الثاني:ما يجب لكونه لطفا في غيره،بأن يكون الاتيان بهذا الواجب سببا لأن يختار المكلّف واجبا آخر،أي يكون فيه صفة تدعو إلي اختيار ما يختار عنده،و هذا علي قسمين:

الأوّل:ما يعلم وجود الصفة بدون السماع من الشرع،كوجوب معرفة اللّه،فإنّه يجب لكونه لطفا في امتثال الواجبات و ترك المحرّمات العقليّة؛لأنّ من كان عارفا باللّه أقرب إلي فعل الواجبات،و كذا وجود الامام واجب لكونه لطفا في صلاح الناس.

الثاني:ما يعلم بالسمع،و هو الواجبات الشرعيّة من الصلاة،فإنّها وجبت لكونها لطفا في ترك المحرّمات،لكن لا يعلم ذلك إلاّ من السمع،و هو قوله تعالي

ص: 146

اَلصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) انتهي.

قلت:المستفاد من الآيات و الأخبار أنّ اللّه تبارك و تعالي يتمّ الحجّة علي العباد ببعث الرسل،و يكلّفهم بما يقدرون عليه،و لا دليل لما ذكروه من اللطف و وجوبه.

ثمّ إنّه نسب إلي القائل بالانحلال و جهان،الأوّل:أنّ الأقلّ واجب علي كلّ حال إمّا نفسا أو مقدّمة،و الأكثر مشكوك،و الأصل عدم وجوبه.

و يرد عليه أنّ الأجزاء ليست مقدّمة للكلّ،و لو سلّم فأصالة عدم وجوب الأكثر الموجبة لعدم وجوبه يوجب عدم الانحلال؛لأنّه إذا لم يجب الأكثر فلا يجب مقدّمته،فلا يكون الأقلّ متيقّن الوجوب،كما ذكره في الكفاية (2).

الثاني:أنّ الأقلّ واجب نفسا أو ضمنا،و ارتضاه في المصباح (3)و غيره في غيره.

و فيه أنّه لا معني للوجوب الضمني إلاّ ارتباط الجزء بجزء آخر،و هو المراد بالوجوب المقدّمي،و علي أيّ حال فيرد عليه ما يرد علي الوجوب المقدّمي؛لأنّ الأقلّ إنّما يجب بالوجوب الضمني إذا كان الأكثر واجبا،و مع عدمه فلا وجوب ضمني.

و حاصل الاشكال علي دعوي الانحلال أنّه لو كان المشكوك جزء و لم يأت به، فلم يأت بالمأمور به أصلا،فالصلاة بدونه كالصلاة بلا ركوع،فالعلم الاجمالي متعلّق بأمر المولي بالأقلّ أو بأمره بالأكثر،و من الواضح تباين المشروط بشيء مع ما لا يشترط به،فلا استقلال للعقل بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم.9.

ص: 147


1- عدّة الاصول 2:669.
2- كفاية الاصول ص 413.
3- مصباح الاصول 2:429.

فتحصّل ممّا ذكرناه عدم جريان البراءة العقليّة عن تنجّز وجوب الأكثر بعد احتمال صدور نصّ علي وجوبه قد خفي علينا،فتأمّل.

و أمّا البراءة الشرعيّة،فلا مانع من اجرائها؛لأنّه إذا وجب علي المكلّف مركّب مخترع شرعا،فلا بدّ في معرفته من الرجوع إلي الطرق المثبتة له شرعا،و هي الكتاب و السنّة و الاجماع،فإذا رجع المكلّف إلي الأدلّة الشرعيّة،و أخذ منها ما يدلّ عليه من الأجزاء و الشرائط،و احتمل دخل شيء آخر،فقد بيّن الشارع وظيفته،و هي أنّه يجب عليه الفحص،فإذا لم يعثر علي وجوبه بعد الفحص،فهو مرفوع عنه بعموم رفع ما لا يعلمون،و غيره من أدلّة البراءة.

و بعبارة اخري:أنّ الأمر الواقعي قد تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر،لكنّا لسنا مأمورين بالواقع إلاّ الواصل في ضمن هذه الأدلّة الموجودة في أيدينا،و بعد التفحّص فيها و الأخذ بما دلّت علي لزومه إن شككنا في شيء زائد علي ما علمنا،فالأخبار التي بأيدينا و الآيات دلّت علي أنّ ما لم يعلم فهو غير واجب،فيثبت الأمر الظاهري بالصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط المشكوكين.

و يمكن إجراء استصحاب عدم وجوب الأكثر،و أورد عليه في مصباح الاصول (1)بأنّه معارض بمثله.

أقول:إن كان للأقلّ أثر خاصّ صحّ المعارضة،لكنّه لا أثر له فلا يجري؛لأنّه إن اريد به عدم الاتيان بالأقلّ رأسا فهو مقطوع العدم.و إن اريد به إثبات وجوب الأكثر فهو مثبت،و اعترف الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بجريانه،لكن قال:إن كان الغرض رفع العقاب،فالعقل مستقلّ بعدمه،فلا حاجة إلي الاستصحاب (2).

أقول:إذا ناقشنا في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان،فلا بأس3.

ص: 148


1- مصباح الاصول 2:445.
2- فرائد الاصول ص 463.

بالاستصحاب.بقي التنبيه علي أمرين:

الأمر الأوّل:قد يشكل علي إجراء البراءة،بأنّ معني عدم وجوب الجزء المشكوك هو عدم الأمر المتعلّق بالأكثر،و ذلك لا يثبت الأمر بالأقلّ؛لأنّ نفي أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر.

و الجواب:أنّ الصلاة مأمور بها قطعا،و الأمر متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر،و علي تقدير تعلّقه بالأكثر واقعا يجب الجزء المشكوك،لكن حيث لا يعلم جزئيّة المشكوك حال الجهل بالجزئيّة،فمقتضي حديث الرفع و غيره من أدلّة البراءة عدم المؤاخذة علي تركه لا الرفع حقيقة،لكن عدم المؤاخذة علي الترك يساوق عدم وجوبه حال الجهل،و كان ذلك في حكم تخصيص الجزئيّة لو كان الأمر متعلّقا بالأكثر بحال العلم بها.

فهو نظير ما إذا شكّ في وجوب الساتر في الصلاة علي من صلّي بلا ساتر نسيانا،فإنّه بعد العلم بوجوب الصلاة إن شكّ في اعتبار الساتر مطلقا كاعتبار الطهارة الحدثيّة،أو اعتباره حال الذكر،كان مقتضي حديث لا تعاد و قوله«رفع النسيان»تخصيص الشرطيّة بحال الذكر،كالأجزاء الغير الركنيّة،و هذا الذي ذكرناه مراد صاحب الكفاية،حيث قال:إنّ نسبة حديث الرفع الناظر إلي الأدلّة الدالّة علي بيان الأجزاء إليها نسبة الاستثناء،و هو معها تكون دالّة علي جزئيّتها إلاّ مع الجهل بها،كما لا يخفي فتدبّر (1)انتهي.

و أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ نفس العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه بنحو الاطلاق أو التقييد كاف في وجوبه،فالاشكال المذكور و جوابه ساقط من أصله (2).2.

ص: 149


1- كفاية الاصول ص 417.
2- مصباح الاصول 2:442.

أقول:بعد جريان البراءة عن وجوب الأكثر،فلا علم بوجوب الأقلّ علي كلّ تقدير كما سبق بيانه،بخلاف ما قلناه من أنّ الأمر إمّا متعلّق بالأقل أو متعلّق بالأكثر،و علي تقدير تعلّقه بالأكثر،أي:كون الجزء المشكوك فيه جزء واقعا، فمقتضي حديث الرفع و غيره تخصيص الجزئيّة بحال العلم بالبيان المتقدّم.

الأمر الثاني:ذكر في مصباح الاصول وجها لجريان البراءة العقليّة و النقليّة، حاصله أنّ الأمر دائر بين أن يكون الواجب الأجزاء المعلومة مطلقا،سواء انضمّ إليها الجزء المشكوك أم لم ينضمّ،و بين تقييد الأجزاء المعلومة بانضمام الجزء المشكوك إليها،و حيث إنّ الاطلاق لا يكون تضييقا علي المكلّف،فلا معني لجريان البراءة العقليّة و النقليّة فيه،فإنّه لا يحتمل العقاب في صورة الاطلاق حتّي ندفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان،أو بحديث الرفع،فتجري البراءة العقليّة في التقييد بلا معارض،إلي آخر ما أفاده (1).

و قال في موضع آخر:لا يمكن التفكيك بين البراءة العقليّة و الشرعيّة؛لأنّ الوجه في عدم جريان البراءة العقليّة أمران:

أحدهما:أنّ تحصيل الغرض لازم،و هو لا يحصل إلاّ مع فعل الأكثر.

و ثانيهما:عدم انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ،و من الظاهر أنّ كلا هذين الوجهين لو تمّ لكان مانعا عن الرجوع إلي البراءة الشرعيّة أيضا (2).

أقول:إذا كان الأمر متعلّقا بالأكثر فالأقلّ لا أمر له،و الأمر دائر بين الأمر بالأكثر و بين الأمر بالأقلّ،و لا معني لتقييد الأجزاء بعضها ببعض إلاّ مجرّد تغيير العبارة.

و الأمر بالأقلّ مبائن للأمر بالأكثر،مضافا إلي أنّه إذا ارتفع الأمر بالأكثر فلم9.

ص: 150


1- مصباح الاصول 2:429.
2- مصباح الاصول 2:439.

يثبت الأمر بالأقلّ بما هو أقلّ،و العبادة تحتاج إلي الأمر،فإن لم يحرز الأمر فالأصل عدم المشروعيّة بخلاف ما قلنا من أنّ الأمر إن كان متعلّقا بالأكثر، فمرجع الشكّ في اعتبار المشكوك إلي أنّ الأمر المتعلّق بالأكثر مختصّ بالعالم، و أمّا الجاهل فالواجب عليه هو الأقلّ لحديث الرفع،و بالجملة لا ينحلّ العلم الاجمالي وجدانا،حتّي يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان،بل ينحلّ تعبّدا بالبيان الذي ذكرناه.

و الحاصل أنّ العقل يحكم بوجوب فعل الأكثر،و أمّا الشرع فإنّه لا يتصرّف في الواقع بأن يرفع وجوب الأكثر واقعا،بل يحكم بأنّ ما لا يعلم فليس عليه فعله، فيكون المركّب المخترع كالصلاة عبارة عن الأجزاء المعلومة ظاهرا،فهو يتصرّف في مرحلة الظاهر،و ليس ذلك التصرّف للعقل،فلذا ثبت التفكيك بين البراءة العقليّة و الشرعيّة.

المسألة الثانية:أن يكون التردّد بين الأقلّ و الأكثر في الجزء المشكوك لاجمال النصّ،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يكون الاجمال في المفهوم،أي:ما يفهم عرفا من اللفظ الملقي إلي المخاطبين،كما إذا وجب غسل ظاهر البدن و شكّ في أنّ الجزء الفلاني كباطن الاذن أو عكنة البطن من الظاهر أو الباطن،أو كان الاجمال من أجل اختلاف اللغويّين كاختلافهم في معني الصعيد،فقال جمع منهم:إنّه مطلق وجه الأرض، و قال جمع:إنّه التراب الخالص و لا ترجيح،فلا يبعد أن يكون ذلك من مصاديق الشبهة؛لأنّه نظير تعارض النصّين مع عدم مرجّح لأحدهما،و جعله في مقبولة عمر ابن حنظلة من الشبهة التي يكون الوقوف عندها خيرا من الاقتحام في الهلكة، فلا بدّ من الاحتياط.

ثمّ إنّ هذا الاجمال إن كان طارئا في الأزمنة المتأخّرة عن صدور الخطاب،

ص: 151

فالظاهر وجوب الاحتياط عقلا؛لعدم تقصير من ناحية المولي.و أمّا البراءة الشرعيّة فتجري؛لأنّه يمكن أن يقال:إنّه ما آتاه و لا يعلمه فلا يجب عليه،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن شيء،و ذلك لعدم تقصير من ناحية الشارع،فلذا يجب عقلا الخروج عن الاشتغال اليقيني بالاحتياط.و تقدّم أنّه إذا صدق الشبهة،فأخبار وجوب الوقوف عندها تقيّد أخبار البراءة بغيرها.

و إن كان موجودا حين الخطاب،ففي وجوب الاحتياط عقلا لتعلّق غرض الشارع بالاجمال حتّي يحتاط أو البراءة عقلا،و إن لم تجر فالبراءة شرعا إشكال، و منع الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاحتياط،حيث قال:إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ و الأكثر ممنوع؛لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي و المقدّمي،فلا محيص عن الاتيان به؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب.و أمّا وجوب الأكثر،فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقي مشكوكا،فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي و النقلي (1)انتهي.

أقول:التفصيل بين أن يكون رفع الاجمال وظيفة المولي فتجري البراءة،و بين ما لم يكن وظيفته بحيث لم يقصر في ايصال الحكم فيجب الاحتياط لعلّه أولي.

القسم الثاني:أن يكون الاجمال في المفهوم المخترع شرعا كالصلاة و الصوم و نحوهما بناء علي وضعها للصحيح،قيل:إن كانت الماهيّات الشرعيّة أسامي للصحيح،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق للشكّ في صدق الصلاة،و لا الرجوع إلي أصالة البراءة لأنّه مكلّف بتحصيل ما يصدق عليه الصلاة،فلا بدّ من الاتيان بما يتيقّن معه الفراغ،حتّي يعلم صدق الصلاة علي ما فعله.و إن كانت أسامي للأعمّ جاز التمسّك بالاطلاق و الرجوع إلي أصالة البراءة.1.

ص: 152


1- فرائد الاصول ص 471.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:لا يتمسّك بالاطلاق علي القولين؛لأنّه ليس لنا مطلق في مقام البيان يمكن التمسّك بإطلاقه،و يجوز الرجوع إلي البراءة علي القولين (1).

أقول:قد يؤيّد القول بالبراءة بأنّ المأمور به ليس هو الاسم،بل المأمور به هو المخترع الشرعي،و اسم الصلاة و الصوم إشارة إليهما،و حينئذ الاجمال فيه يكون إجمالا في المأمور به و راجعا إلي الاجمال في التكليف،فلا يعلم وجوب الأمر الزائد.

و قد يقال:إنّ القائل بالأعمّ لا يقول بتعلّق الوجوب بالفاسد،بل مراد اللّه هو الصحيح،فالوجوب تعلّق بما هو مراد اللّه و يشكّ في تحصيله،فيكون شكّا في فراغ الذمّة.

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ و مدلوله حتّي يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّي يجب الاحتياط الي آخر كلامه (2).

و حاصل الكلام أنّ المأمور به هو المسمّي بالصلاة،لكن الطريق إلي إثبات كيفية المخترعات الشرعية هي الأدلّة المثبتة للأجزاء و الشرائط،و هي متعلّق التكليف و الأسامي إشارة إليها،فما ثبت جزئيّته و شرطيّته يكون هو المركّب المأمور به،و ما لم يثبت جزئيّته أو شرطيّته بدليل،فلا تكليف به ظاهرا،و لا يكون جزء أو شرطا للمركّب.

المسألة الثالثة:فيما إذا تعارض نصّان في جزئيّة شيء و عدمها،و هي موكولة إلي مباحث التعادل و التراجيح،و إن كان الأحوط مع التساوي مراعاة الاحتياط2.

ص: 153


1- فرائد الاصول ص 473.
2- فرائد الاصول ص 472.

لكونه من الشبهة.

المسألة الرابعة:الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي،كما إذا وجب صوم ما بين الهلالين فشكّ في أنّه ثلاثون أو تسعة و عشرون،و في مثله يجب الاحتياط؛لأنّ رفع الشبهة في الموضوع ليس وظيفة المولي،و إنّما الشكّ في التحقّق الخارجي لما هو مبيّن شرعا،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لذلك مثالا لا يخلو عن إشكال،قال:و كذا لو كان الواجب الغسل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة،فشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل الرافعين، و اللازم في المقام الاحتياط (1).

أقول:إن كان مراده في الشبهة الموضوعيّة كان من أمثلة ما نحن فيه،و إن كان مراده في الشبهة الحكميّة بأن يقول بوجوب الاحتياط في المحصّلات الشرعيّة، فيمكن منع وجوبه لأنّ بيانها وظيفة الشارع.

القسم الثاني من أقسام دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر:أن يكون الشكّ في شرط المأمور به،و هو علي نوعين:

الأوّل:أن يكون منشأه فعلا خارجيّا مغايرا للمشروط في الوجود الخارجي كالوضوء،إن جعلناه شرطا للصلاة لا الطهارة الحاصلة منه،و هو ملحق بالجزء في جميع ما ذكر.

الثاني:أن يكون متّحدا معه خارجا،و هو علي صنفين:

الأوّل:أن يكون من قبيل العارض و المعروض،كالايمان للرقبة.

الثاني:أن يكون من قبيل الجنس و الفصل،كالحيوان و الانسان.

فصّل في الكفاية بين الصنفين،فاختار عدم جريان البراءة العقليّة فيهما،8.

ص: 154


1- فرائد الاصول ص 478.

و جريان البراءة الشرعيّة في الأوّل دون الثاني.

و اختار الشيخ رحمه اللّه جريانهما،و المثال المذكور في كلامه هو الرقبة المؤمنة و الكافرة،قال:و لا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل علي كلفة زائدة و إلزام زائد علي ما في التكليف بالمطلق الي آخر كلامه (1).

قلت:إذا علم تفصيلا بوجوب عتق الرقبة،و لكن لم يعلم أنّ الواجب مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة،كان مرجع الشكّ إلي شمول الوجوب للرقبة الكافرة، و مقتضي الأصل عدم شموله لها حتّي تكون الرقبة الكافرة مصداقا للواجب، و يكون عتقها امتثالا للواجب،كما أنّ الأصل عدم اختصاص الوجوب بالرقبة المؤمنة حتّي يجب عتقها تعيينا،فيسقط الأصلان بالمعارضة،فإن ترك عتق الرقبة فهو معاقب،و أمّا إن أعتق رقبة كافرة و كان الواجب واقعا عتق المؤمنة،فيكون العقاب علي ترك عتق المؤمنة عقابا بلا بيان،و هو غير عالم بوجوب عتق المؤمنة، فتجري البراءة العقليّة و الشرعيّة عن تعيّن عتقها،و كذا الكلام في الانسان و الحيوان.

و لا يخفي أنّ كون الفصل ذاتي الجنس،و ليس شيئا يشار إليه،بل هو جزء تحليلي لا يرتبط بقبح العقاب بلا بيان،فإنّ ذلك بناء من العقلاء علي عدم المؤاخذة علي ما لم يبيّن للمكلّف،و عرف العقلاء لا يفرّقون بين الجزء التحليلي و غيره،فلا إشكال من هذه الجهة،فلو كان الواجب توصّليا و تردّد بين الاطلاق و التقييد،جري البراءة لنفي العقاب علي المقيّد،لكن لو كان تعبّديا فالشكّ في كون المطلق مأمورا به يوجب عدم جواز اسناده إلي الشارع.

و بعبارة اخري:عتق الرقبة الكافرة بقصد أمره مع الشكّ في تعلّق الأمر به0.

ص: 155


1- فرائد الاصول ص 480.

تشريع،و كذا ما تردّد بين الجنس و الفصل إلاّ بالبيان الذي ذكرناه من أنّ مقتضي حديث الرفع اختصاص وجوب عتق المؤمنة بالعالم بالوجوب.فتأمّل.

القسم الثالث من أقسام دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر:أن يكون الأقلّ أمرا انتزاعيّا،و يذكر له أربعة موارد:

الأوّل:دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحكم التكليفي،كدوران الواجب يوم الجمعة بين كونه الجمعة أو الظهر تخييرا و بين تعيّن الجمعة.

الثاني:دورانه بينهما في الحجّية،كدوران جواز التقليد بين التخيير في تقليد العالم و الأعلم و بين تعيين تقليد الأعلم.

الثالث:دوران الأمر في المتزاحمين بين أن يكونا متساويين،و بين أن يكون أحدهما المعيّن أهمّ،كأن يكون الغريقان مؤمنين،و احتمل أن يكون حفظ أحدهما المعيّن أهمّ.

الرابع:دوران الأمر بين أن يكون العمل عدلا تخييريا،أو مسقطا للواجب كصلاة الجماعة،فإنّ الصلاة فرادي مع القراءة واجب تعيينا إن كانت الصلاة جماعة مسقطا للقراءة،و واجب تخييري إن كانت قراءة الامام بمنزلة قراءة المأموم.

أمّا المورد الأوّل:فقد قوّي الشيخ رحمه اللّه (1)إلحاقه بالمتباينين،قال:إذا تردّد الواجب بين التعيين و التخيير،كما لو دار الواجب في كفّارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه و بين إحدي الخصال الثلاث،ثمّ ذكر وجه إجراء البراءة،و وجه إجراء الاشتغال،إلي أن قال:فلعلّ الحكم بوجوب الاحتياط و إلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوّة.1.

ص: 156


1- فرائد الاصول ص 481.

قلت:كان بعض مشايخنا رحمه اللّه يقوّي إجراء البراءة،بتقريب أنّ العقاب علي ترك ما احتمل تعيّنه عقاب بلا بيان،و وجوبه تعيينا غير معلوم،فهو مرفوع.

و لكن يمكن أن يقال:إنّ تعلّق الأمر بما احتمل كونه عدلا تخييريّا غير معلوم، فالتعبّد به تشريع،إلاّ أن يأتي بالعمل رجاء المطلوبيّة قربة إلي اللّه تعالي،و هذا الاشكال لا يأتي في الأقلّ و الأكثر إذا كان المشكوك الجزء أو الشرط؛لأنّ الأمر إن كان متعلّقا بالأكثر يتقيّد بصورة العلم،و يكون الجاهل مأمورا بماعدا المشكوك،و هذا في الدوران بين التعيين و التخيير في التعبّديين يرجع إلي الشكّ في أصل وجود الأمر التخييري.

و أمّا المورد الثاني:و هو التخيير بين فتوي الأعلم و غيره في صورة مخالفتهما في الفتوي،و بين تعيّن تقليد الأعلم،فمرجعه إلي الشكّ في حجّية فتوي غير الأعلم،و الشكّ في الحجّية مساوق لعدم الحجّية،كما تقدّم في المقصد السادس في الأمارات،فإذا لم يكن لدليل الحجّية إطلاق يشمل كلا الفتويين:إمّا لعدم أصل الدليل،و إمّا لتساقط الدليل في صورة التعارض،تعيّن حجّية فتوي الأعلم.

و أمّا المورد الثالث:فعلي المختار في تزاحم الواجبين من الوجوب التخييري الشرعي بينهما إن كانا متساويين في الملاك،و التخييري في مقدار الملاك الموجود فيهما،و تعيّن وجوب ما اشتمل علي الملاك الزائد إن كان أحدهما أهمّ من الآخر،فمرجع الشكّ إلي تعيّن وجوب محتمل الأهميّة،و الأصل البراءة عنه.

و أمّا علي غير المذهب المختار،و هو تقييد إطلاق وجوب كلّ واحد منهما بترك الآخر إن كانا متساويين،و تقييد وجوب المهمّ فقط بترك الأهمّ،فمرجعه إلي الشكّ في تقييد إطلاق محتمل الأهميّة؛لاحتمال كونه أهمّ،فيتمسّك بإطلاقه علي وجوبه،فيتعيّن الاتيان بمحتمل الأهميّة.

و أمّا المورد الرابع:فمرجعه إلي الشكّ في وجوب الجماعة تعيينا عند تعذّر

ص: 157

الصلاة فرادي مع القراءة؛لاحتمال كون الجماعة مسقطة عن الواجب،و الأصل البراءة عن وجوبها،فيجوز الاتيان بالصلاة فرادي بلا قراءة.

و ينبغي التنبيه علي امور متعلّقة بالجزء و الشرط:

الأمر الأوّل:إن شكّ في كون الشيء جزء أو شرطا مطلقا،بأن يكون تركه موجبا للبطلان عمدا و سهوا،أو كونه جزء أو شرطا عمدا فقط،بأن يكون تركه عمدا فقط موجبا للبطلان،فهل تجري البراءة عن الجزئيّة و الشرطيّة في حال السهو أم لا؟

فنقول:إنّه متوقّف علي إمكان اختصاص الجزئيّة أو الشرطيّة بصورة العمد و لا مانع منه،لكن ذهب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إلي امتناعه،و إلي إمكان اجتزاء الشارع بالفاقد للجزء و الذي ليس بمأمور به عن المأمور به.

و استدلّ للأوّل-أي:للامتناع-بأنّ الغافل عن السورة في الأثناء لا يمكن أن يقال له:أيّها الغافل أتمّ صلاتك و أنت مأمور بفعل الصلاة بلا سورة؛لأنّه غافل عن غفلته،و إن توجّه إلي الخطاب زالت غفلته.

و استدلّ للثاني-أي:لإمكان الاجتزاء عن المأمور به-فقال:و إن اريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعيّة،فهو حسن،لكن إذا شكّ فيه فالأصل العدم،أي:عدم الامضاء،ثمّ قال:إنّ قوله«رفع النسيان»لا يثبت إمضاء الخالي عن السورة،نعم يثبته في الصلاة قوله«لا تعاد»فهو يدلّ علي أنّ العمل الخالي عن الجزء الغير الركني و إن لم يكن مأمورا به لكنّه ممضي (1).

و أورد عليه في الكفاية بأنّه يمكن خطاب الناسي بأمر يلازم النسيان،أو بأمره بماعداه،ثمّ أمر الملتفت بفعل ذلك.4.

ص: 158


1- فرائد الاصول ص 484.

أقول:الحقّ إمكانه؛لأنّ الناسي إن تذكّر قبل فوات محلّ التدارك يتداركه،و إن تذكّر بعد فوات محلّ التدارك أو بعد الصلاة،فهو بمجرّد النسيان سقط عنه و هو مأمور ببقيّة الأجزاء،و المفروض أنّه قاصد له،فتدبّر.

و عليه فإذا شكّ في أنّه واجب حال السهو أيضا،كما هو واجب حال الالتفات يكون من الشكّ في الأقلّ و الأكثر،لأنّه يعلم بأنّه واجب في حال التذكّر،و أمّا وجوبه في حال السهو فهو مشكوك،فيرجع إلي أصالة البراءة.

الأمر الثاني:إن شكّ في اعتبار عدم فعل خاصّ،فمرجعه إلي الشكّ في شرطيّة عدمه،و كان من باب الأقلّ و الأكثر،فلو شكّ في اعتبار عدم البكاء،أو شكّ في اعتبار عدم تكرار الفاتحة مثلا لا بقصد الجزئيّة،فالأصل البراءة عن اعتبار عدمهما.

نعم إن فعل شيئا بقصد الجزئيّة للصلاة،فتارة يتكلّم في إبطالها للصلاة بالنظر إلي الروايات الخاصّة،كقوله«من زاد في صلاته فعليه الاعادة»فيتعرضّ لها في الفقه.و اخري يتكلّم بالنظر إلي منافاتها لقصد الأمر.

فنقول:الزيادة علي قسمين:الأوّل الزيادة شرعا،بأن اعتقد وجوب الاستعاذة في الركعة الثانية اجتهادا أو تقليدا،أو اشتباها في تلقّي المسألة و نحو ذلك،ممّا لم يكن عمله تشريعا.و الثاني الزيادة تشريعا.

أمّا الأوّل،فإن قصد الأمر المتعلّق بالصلاة مع هذه الزيادة بخصوصه بأن اخترع في ذهنه امتثال الأمر الخاصّ،كان العمل باطلا لعدم وجود أمر كذلك.و أمّا إن كان قصده امتثال الأمر الشرعي بالصلاة،و اعتقد تعلّقه بالزيادة أيضا،لم يضرّ الزيادة؛لأنّه انبعث عن الأمر الواقعي،و لعلّ الغالب ذلك في الموارد المذكورة.

و أمّا الثاني،و هو تشريع الأمر،فيتصوّر علي وجوه:

أحدها:أن يخترع في ذهنه أمرا بالصلاة مع هذه الزيادة،بحيث لو لم تكن

ص: 159

مشتملة علي هذه الزيادة لما كان الأمر داعيا له،و هذا أظهر مصاديق التشريع و يبطل العمل؛لأنّ المفروض عدم الانبعاث عن الأمر الواقعي،سواء في ذلك العمد و الجهل قصورا أو تقصيرا أو سهوا.

ثانيها:أن يشرّع في تعلّق الأمر الموجود بشيء به و بالزائد،بأن يبني علي أنّ الأمر الواقعي أمر بما يعمّ الزائد.

قال في نهاية الدراية:إنّه صحيح؛لأنّه تصرّف منه في أمر عقلي،بدعوي تطبيق الأمر المحقّق علي ما نزّله منزلته،فالعمل صادر عن نفس الأمر الواقعي بعد تنزيله منزلة الأمر بما يعمّ الزائد (1)انتهي.

أقول:إن كان جاهلا بأنّه لا يمكن و لا يجوز أن يبني علي ذلك قاصرا أو مقصّرا،فقد انبعث من الأمر الموجود.و أمّا العالم المتعمّد،فيشكل حصول قصد التقرّب منه،لكن الاشكال ضعيف.

و قال في الكفاية:أمّا لو أتي به علي نحو يدعوه إليه علي أيّ حال كان صحيحا و لو كان مشرّعا في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه بدخله،فإنّ تشريعه في تطبيق المأتي مع المأمور به،و هو لا ينافي قصد الامتثال و التقرّب به علي كلّ حال (2)انتهي.

ثالثها:أن يشرع في تطبيق المأمور به علي المأتي به خارجا،كما لو شرّع بعد الزوال في كون الصلاة مع قراءة فاتحتين في كلّ ركعة مصداقا لأربع ركعات التي هي متعلّق الأمر.

أقول:إن لم يرجع إلي التصرّف في الأمر لا أصلا و لا تطبيقا فهو صحيح،و إذا كان متعمّدا عالما لا جاهلا،فيشكل قصد القربة.9.

ص: 160


1- نهاية الدراية 2:286 الطبع الحجري.
2- كفاية الاصول ص 419.

رابعها:التشريع في خصوصيّات الأمر،بأن يبني علي أنّ الأمر الموجود وجوبي و انبعث منه حقيقة،فإنّ البناء المذكور لو كان عن جهل لم يضرّ بالتقرّب.

ثمّ لا يخفي أنّ التشريع هو البناء القلبي لا الفعل بقصد الأمر به مع العلم بعدم الأمر،فإنّه لا يتمشّي القصد من العالم بعدمه،كما لا يمكن أن يأكل الخبز بقصد شرب الماء عالما عامدا.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذكر وجها للبطلان و وجوها للصحّة فلاحظها.

الأمر الثالث:بناء علي بطلان الصلاة إن قرأ في التشهّد مثلا سورة بعنوان الجزئيّة للصلاة عمدا،فإن فعل مثل ذلك سهوا و شكّ في أنّه يضرّ زيادته سهوا و عمدا كالركوع،أو يضرّ زيادته عمدا فقط،فمرجعه إلي اعتبار عدمه حال السهو، و الأصل البراءة كما ذكره الشيخ رحمه اللّه (1).

الأمر الرابع:إن شكّ في وجوب الجزء أو الشرط في حال تعذّرهما حتّي لا يجب الأجزاء المقدورة و الشرائط المقدورة،أو اختصاص وجوبهما بحال القدرة حتّي يجب الأجزاء المقدورة،فإن كان لدليل المركّب إطلاق،و لم يكن لدليل الجزء المتعذّر إطلاق،وجب الباقي تمسّكا بإطلاق دليل المركّب.و إن كان لدليل الجزء المتعذّر إطلاق،و لم يكن لدليل المركّب إطلاق،لم يجب الباقي تمسّكا بإطلاق دليل الجزء.

و إن كان لهما إطلاق،كان إطلاق دليل الجزء حاكما علي إطلاق دليل المركّب، فلا يجب المركّب بعد تعذّرهما.و إن لم يكن لهما إطلاق،كان مرجعه إلي الشكّ في وجوب الباقي بعد تعذّر المركّب الموجب لسقوط الأمر به،و الأصل البراءة عن الوجوب.4.

ص: 161


1- فرائد الاصول ص 494.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّه يمكن إجراء استصحاب بقاء وجوب الباقي المتيقّن حال عدم تعذّر الجزء المردّد بين النفسي و الضمني،إذا كان تعذّر الجزء بحيث كان موضوع الوجوب باقيا عرفا،كماء كثير كرّ أخذ منه مقدار يسير يشكّ في بقاء الكرّية،و هو حاكم علي أصالة البراءة عن الوجوب (1).

قلت:علي المختار من اعتبار وحدة الموضوع بالدقّة العقليّة لا مجال لجريان الاستصحاب؛لعدم صدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ.ثمّ إنّه قد يتمسّك لوجوب الباقي بأدلّة اخري،منها:النبوي،و هو قوله«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

قلت:هذا المضمون غير موجود في أخبارنا،و لم ينقل وجوده في كلام القدماء،و هو وارد من طريق العامّة عن أبي هريرة بعبارات مختلفة.روي في سنن القرطبي عنه«فأتوه ما استطعتم» (2).

و رواه عنه في ذيل الصفحة المذكورة«فأتوا منه ما استطعتم»و رواه في سنن النسائي عنه«فخذوا به ما استطعتم» (3)و مع اختلاف النسخ فلا وجه للتكلّم في دلالته مع ضعف سنده.

و منها:قوله«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»و«الميسور لا يترك بالمعسور» و هما ضعيفان سندا،و لا جابر لهذه الأخبار،كما ذكره النراقي رحمه اللّه في عوائد الأيّام؛ لعدم وجودها في كلام القدماء،و إن اختار في العناوين جبرها،و كذا الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و ضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسّك بها بين1.

ص: 162


1- فرائد الاصول ص 497.
2- سنن القرطبي 2:281.
3- سنن النسائي 5:111.

الأصحاب في أبواب العبادات،كما لا يخفي علي المتتبّع (1)انتهي.

و قال أيضا:مقتضي الانصاف تماميّة الاستدلال بهذه الروايات،و لذا شاع بين العلماء بل جميع الناس الاستدلال بها في المطالب،حتّي انّه يعرفه العوام بل النسوان و الصبيان (2)انتهي.

أقول:لكن المغروس في أذهان العوام و النساء الاتيان ببعضه أو ميسوره إن كان المنفعة المقصودة من الكلّ موجودة في الجملة في بعضه أو في ميسوره،و لذا يتعدّون إلي ما يشابه الكلّ في الخاصية.

هذا كلّه إن احرز ذلك.و أمّا إذا لم يحرز اشتمال غير المتعذّر علي مصلحة الكلّ في الجملة فلا يعملون به،و العبادات الشرعيّة ممّا لم يحرز اشتمال أجزائها علي مصلحة الكلّ في الجملة،لكن لا يترك الاحتياط بمراعاة الميسور،لما أورده المير فتّاح في العناوين من استقراء أبواب الفقه،فلاحظها.

المطلب الثالث: في اشتباه الواجب بالحرام

بأن يعلم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام،فإن فعلهما علم فعل الحرام، و إن تركهما علم ترك الواجب،فيستقلّ العقل بفعل أحدهما و ترك الآخر.

خاتمة
اشارة

في موارد جريان الاحتياط و التخيير و البراءة

و يقع الكلام في مواضع:

ص: 163


1- فرائد الاصول ص 497.
2- فرائد الاصول ص 499.
الموضع الأوّل: في الاحتياط

و هو إمّا راجح،و إمّا واجب،و إمّا حرام،و إمّا غير ممكن.

أمّا الأوّل،فهو حسن علي كلّ حال لدرك الواقع،حتّي فيما قام حجّة معتبرة علي خلافه؛لأنّ الواقع لا يتغيّر و لا شرط له ما لم ينجرّ إلي الوسواس و الحرج، و ثقالة الدين علي المكلّف.

و أمّا الثاني،فقد مرّ موارده.

و أمّا الثالث،فهو ما أوجب اختلال النظام،أو الوسواس بناء علي حرمته.

و أمّا الرابع،فقد ذكر له موارد:

منها:ما أوجب الاخلال بنيّة الوجه،كما إذا تردّد الواجب بين الأقلّ و الأكثر، فإنّ الاحتياط بإتيان الأكثر يوجب الاخلال بقصد الوجوب و الندب،و الاقتصار علي الأقلّ يوجب الاخلال بالأكثر إن كان واجبا واقعا،فإن كان مجتهدا لم يثبت عنده أحدهما بعد الفحص عن الأدلّة و قال بالاشتغال،لم يضرّه الاخلال بنيّة الوجه كما مرّ.

و أمّا إن لم يكن مجتهدا،ففي جواز الاحتياط له مع تمكّنه من التقليد إشكال، من اخلاله بالاحتياط في قصد الوجه إن أتي بالأكثر،لكن الأظهر أنّه لا دليل علي اعتبار نيّة الوجوب أو الندب،و لا إجماع يكشف عن قول المعصوم؛لعدم تعرّض أكثر القدماء له،و لا شكّ في تحقّق الاطاعة بالاتيان بما يشكّ كونه واجبا أو ندبا إذا قصد التقرّب به.

و لو شكّ في اعتبار نيّة الوجوب أو الندب،فهل يكون مرجع الشكّ إلي الشكّ في اعتبار الشارع قصد الوجوب أو الندب ليكون مجري البراءة؟أو أنّ مرجعه إلي الشكّ في تحقّق الاطاعة التي ليس للشرع فيها دخالة أصلا ليجب مراعاته

ص: 164

عقلا؟كما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،لا يبعد الثاني.

و منها:ما إذا استلزم الاحتياط التكرار،فإمّا أن يكون في العبادة،و إمّا أن يكون في المعاملة.

أمّا الاحتياط في العبادة،فقد فصّل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بين من لا يتمكّن من الامتثال التفصيلي فاحتياطه محمود مشكور،و بين من يتمكّن منه،فإنّه يعدّ تكراره أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة،كمن صلّي مائة صلاة مع التمكّن من صلاة واحدة،فهو لاعب بأمر المولي،و الفرق بين الصلوات الكثيرة و صلاتين لا يرجع الي محصّل (2)انتهي.و حكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه مثله.

و أجاب عنه في الكفاية أوّلا بأنّ التكرار ربّما يكون بداع صحيح عقلائي، و ثانيا أنّه لو لم يكن بداع عقلائي،فإن كان أصل اتيانه بداعي أمر مولاه كان ممتثلا،و إن كان لاغيا في كيفيّة الامتثال فافهم (3)انتهي.

قلت:مراده من كونه لاغيا في كيفيّة الامتثال لا في أصله أن يكون داعيه هو امتثال المولي،لكن كما أنّه إذا أراد أن يتوضّأ له أن يتوضّأ بالماء البارد أو الحارّ أو غيرهما،فله أن يصلّي بهذه الكيفيّة و هو التكرار أو بكيفيّة واحدة.و يحتمل أن يكون مراده أنّ الاطاعة تتحقّق بواحد من الأفراد،و الباقي يكون عبثا و لعبا، فالعبثيّة تكون فيما عداه.

أقول:إنّ اللعب يتحقّق بالمجموع بحيث يكون كلّ واحد كالجزء لا يستغني عنه،فلا يمكنه قصد التقرّب في المجموع؛لأنّه ليس عبادة عند المتشرّعة بل لعب و عبث،و لا تميّز للفرد المطابق للواقع ليتحقّق فيه قصد التقرّب.4.

ص: 165


1- فرائد الاصول ص 507.
2- فرائد الاصول ص 508.
3- كفاية الاصول ص 424.

نعم الانصاف أنّه لا يطّرد،فإذا كانت الأطراف قليلة مثلا و كان له داع عقلائي في الاحتياط لم يصدق عليه اللعب.

و أمّا الاحتياط في المعاملة بالتكرار،فيجوز لكونها توصّلية.

و قد يتوهّم منافاة التكرار للانشاء المعتبر في المعاملات.

و فيه أنّ الانشاء خفيف المؤونة،و هو قصد ايجاد المعني باللفظ،و إن كان تحقّق المعني محالا أو كان محقّقا،و قد بيّناه في مبحث الانشاء و الاخبار من مباحث الألفاظ.

ثمّ إنّه لا فرق فيما إذا استلزم التكرار في العبادات و المعاملات بين أن يكون منشأه الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة.

و منها:ما إذا كان الاحتياط قبل الفحص مع التمكّن منه،سواء كان مجتهدا أو كان مقلّدا،فإذا دخل في العبادة رجاء بانيا علي الفحص عن صحّة ما فعله بعد الفراغ،أو دخل جازما ثمّ اتّفق له في الأثناء ما يوجب تردّده،فأتمّ علي أحد الوجهين بانيا علي الفحص،فاتّفق موافقة عمله للواقع،ففي صحّته مطلقا أو في بعض الموارد و جهان.

اختار ثانيهما الشيخ الأنصاري،حيث قال:و كما لا يجوز الدخول في العمل بانيا علي إحراز الواقع بالتكرار،كذا لا يجوز بانيا علي الفحص بعد الفراغ،فإن طابق الواقع و إلاّ أعاده،و لو دخل بنيّة الجزم ثمّ اتّفق له ما يوجب تردّده في الصحّة و وجوب الاتمام و في البطلان و وجوب الاستئناف،ففي جواز الاتمام بانيا علي الفحص بعد الفراغ و الاعادة مع المخالفة و عدمه و جهان،ثمّ قوّي الصحّة،ثمّ احتمل التفصيل بين ما وجب تعلّمه علي المكلّف لعموم البلوي و بين ما لا يجب،

ص: 166

بالصحّة في الثاني دون الأوّل فراجع (1).

قلت:و الظاهر الصحّة مطلقا إن طابق الواقع و لو بعد مضيّ الوقت،و إن كان متجرّيا لو صادف الواقع و لم يفحص في الوقت.

الموضع الثاني: في التخيير

و هو في صورة دوران الحكم بين الوجوب و الحرمة،لشبهة حكمية أو موضوعية،فهو بعد الفحص التامّ في الشبهتين،بحيث يعلم أنّه لا دليل علي إثبات أحد الطرفين،إذا علم أنّه لا ترجيح لأحد الطرفين تخيّر،و الأحوط لزوما مراعاة ترجيح مراتب الاعتقاد،فيقدّم ما حصل له الاطمئنان فيه علي غيره،كما أنّ الأحوط ترجيح المظنون علي غيره.

الموضع الثالث: في البراءة

و هي في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.أمّا الاولي،فإن كان الشكّ في الحكم من جهة عدم النصّ،فشرط الرجوع إليها الفحص عن الأدلّة الشرعيّة.و إن كان من جهة إجمال المفهوم،فلا بدّ من الفحص في كتب اللغة و ملاحظة موارد الاستعمال حتّي يحصل اليأس.و إن كان من جهة تعارض الأدلّة،فلا بدّ من ملاحظة قواعد التعادل و الترجيح.و يقع الكلام في الدليل علي الفحص و مقداره في مقامين:

المقام الأوّل:في وجوب أصل الفحص،و يدلّ عليه الأدلّة الدالّة علي وجوب تحصيل العلم و مؤاخذة الجاهل،فيكون مقتضي الجمع بينها و بين قوله«رفع ما لا يعلمون»هو رفع ما لا يعلم بعد الفحص،فإنّه يكون جمعا بين ما دلّ علي طلب

ص: 167


1- فرائد الاصول ص 508.

العلم و رفع ما لا يعلم،بل إنّ بعض أدلّة البراءة كان بعنوان«ما لم يبيّن»لا«ما لا يعلم».و عنوان«ما لم يبيّن»لا يصدق إلاّ بعد الفحص.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوها لوجوب الفحص،إلي أن قال:فالأولي ما ذكر في الوجه الرابع من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر علي الفحص،كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا (1).و لعلّ الأولي ما ذكرناه.

المقام الثاني:في مقدار الفحص،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلّة،و يختلف ذلك باختلاف الأعصار إلي آخر ما ذكره (2).

و حدّده بعضهم بالمقدار الذي يستلزم الأكثر منه الحرج.

قلت:مرجع ذلك إلي اختصاص الأحكام الشرعيّة بالأحكام التي تصل إلي المكلّفين بغير حرج.

و فيه منع لعدم استلزام الفحص عنها الحرج،إن وزّع الفقهاء الفحص،بأن اختصّ بعضهم بالفحص في مسألة يبلغ فيها غاية الفحص و لو في مدّة طويلة، و يكون ذلك كافيا لغيره،و ممّا ذكر ظهر اعتبار اليأس.

و أمّا الثانية و هي الشبهة الموضوعيّة،فقال الشيخ الأنصاري:لا إشكال و لا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص،و يدلّ عليه إطلاق الأخبار.و إن كانت الشبهة وجوبيّة،فمقتضي الأدلّة عدم وجوب الفحص إلاّ انّه في بعض الموارد إلي آخر كلامه (3).

قلت:أوّلا في صدق الشكّ في بعض الموارد إشكال من جهة عدم صدق الشكّ4.

ص: 168


1- فرائد الاصول ص 510.
2- فرائد الاصول ص 528.
3- فرائد الاصول ص 524.

و الشبهة.

و ثانيا أنّه في بعض الموارد منصوص،ففي صحيح زرارة«هل عليّ إن شككت أن أنظر فيه؟قال:لا».

تتميم

في حكم الجاهل من حيث استحقاق العقاب و صحّة العمل و بطلانه

و يقع الكلام فيه في مسائل:

المسألة الاولي:لا عقاب علي الجاهل القاصر؛لأنّه علي عصيان التكليف و هو غير مكلّف؛لأنّه لا يقدر علي تعلّم الحكم،فهو غير قابل للتكليف عقلا،و ثبت عدم تكليفه شرعا بالآيات و الأخبار.

و أمّا الجاهل المقصّر،فحيث انّه ملتفت و يحتمل وجود الحكم الالزامي، فاحتماله للتكليف منجّز عقلا،فإن خالفه فهو معاقب عليه.

و لا فرق في الواجبات و المحرّمات بين المطلقة و المشروطة و المعلّقة؛لأنّ الذي علي المولي هو بيان الحكم،و جعله في معرض الوصول إلي المكلّف بحيث لو فحص عنه وصل إليه،و مرحلة الامتثال إنّما تكون بحكم العقل و لا دخل فيه للمولي،و عقل العبد مستقلّ في لزوم تعلّم الحكم حتّي لا يفوته امتثاله.

و هذا الحكم العقلي ليس بيد المولي حتّي يكون قابلا للوضع و الرفع،فهو غير مرفوع عن الصبي قبل بلوغه بقوله عليه السّلام«رفع القلم عن الصبي حتّي يحتلم»لأنّ المرفوع هو الحكم الشرعي المجعول لا العقلي الذي يستقلّ به عقل الصبي،و ممّا يستقلّ عقله به وجوب التعلّم بعد ما علم أنّ الشارع يريد منه امتثال الأحكام بمجرّد البلوغ،مع علمه بأنّه لا يتمكّن من تعلّمها بمجرّد البلوغ،و الأخبار الواردة في التعلّم إرشاد إلي ذلك،و لا تدلّ علي الوجوب النفسي لنفسه،و لا النفسي التهيّؤي لغيره،و قد فصّلنا الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب،و ذكرنا أنّ العقاب

ص: 169

يكون علي ترك الواجب و فعل الحرام.

المسألة الثانية:إذا كان الفعل حراما واقعا،و لكن كان خبر صحيح دلّ علي إباحته،فإن ارتكبه المكلّف مستندا إلي الخبر المذكور فلا عقاب عليه،كما إذا فرضنا أنّ العصير العنبي كان حراما واقعا و دلّ خبر صحيح علي إباحته،و شربه المكلّف مستندا إلي الخبر المذكور.و أمّا إن لم يستند إليه و ارتكبه،و كان محتملا لحرمته و عالما بوجوب الفحص عن التكليف،فهل هو معاقب علي الواقع أو لا؟ قولان،اختار أوّلهما الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيره.

قال الشيخ رحمه اللّه:إنّ التكليف الثابت في الواقع و إن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا،إلاّ انّه لا مانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملا له قادرا عليه غير مطّلع علي طريق شرعي ينفيه،و لا واجدا لدليل يؤمن من العقاب عليه مع بقاء تردّده (1)الخ.

و فيه أنّ ما دلّ من الآيات و الأخبار علي أنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،و لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها،ينفي كونه مكلّفا بالواقع؛لأنّه لا يصل إليه مهما تفحّص عنه، فإنّه لو تفحّص يصل إلي الخبر الدالّ علي الاباحة،و العقل أيضا مستقلّ بأنّه غير مكلّف.و من ذلك يظهر قوّة القول الثاني،و هو أنّه لا يكون معاقبا علي الواقع و إن كان متجرّيا.

المسألة الثالثة:لا ينبغي الاشكال في صحّة عمل الجاهل القاصر في المعاملات إن طابق الواقع،و كذا في العبادات إن حصل منه قصد القربة جزما بأن كان غافلا، أو قصد القربة رجاء و قلنا بكفايته مع التمكّن من القصد جزما.

و أمّا إن خالف الواقع و وافق الخبر المعتبر أو الحجّة المعتبرة المخالفين للواقع،2.

ص: 170


1- فرائد الاصول ص 522.

ثمّ التفت بعد ذلك،ففي صحّة عمله احتمالان:

أحدهما:أنّه لا يصحّ؛لأنّه مخالف للواقع و ليس معذورا في ذلك؛لأنّه لم يستند إلي الحجّة.

ثانيهما:إجزاء عمله و صحّته بناء علي إجزاء الأمر الظاهري؛لأنّه في زمان العمل لم يكن مكلّفا بالواقع لعدم وصوله إليه و لم يكن يتمكّن من الوصول إليه،إذ لو فحص و تعلّم لم يصل إلاّ إلي الحجّة المعتبرة،و المفروض أنّ عمله مطابق لها، هذا كلّه في الجاهل القاصر،و يلحق به المعذور لاجتهاد أو غيره.و أمّا الجاهل المقصّر،فلا إشكال في صحّة معاملاته إن طابقت الواقع،و كذا عباداته إن حصل منه قصد القربة.و أمّا إن طابق الحجّة المعتبرة في حقّه من دون استناده إليها في المعاملات و في العبادات إن حصل منه قصد القربة،كما إذا كان عمله موافقا لرأي من يجب تقليده حين العمل فيصحّ عمله؛لأنّه ليس مكلّفا بالواقع،و لا تكليف عليه إلاّ مطابقة رأي من يجب تقليده حين العمل.

ثمّ إن كان العمل مخالفا لرأي من وجب تقليده حين العمل و كان موافقا لرأي من يرجع إليه فعلا صحّ أيضا؛لأنّه يقلّده فعلا في عدم وجوب قضاء ما سبق، فيكفي مطابقة عمله لاحدي الفتويين،و تفصيله في محلّه.

المسألة الرابعة:لا يجب علي المسافر الجاهل بوجوب القصر عليه أن يصلّي قصرا،و لا علي الجاهل بوجوب الجهر بالقراءة في الصلوات الجهرية،أو وجوب الاخفات في الاخفاتية،الجهر أو الاخفات بالقراءة؛لعدم المانع من اختصاص الحكم بالعالم به،كما حقّقناه في بحث القطع،و لم يرد دليل خاصّ علي استحقاقهما العقاب إن كانا مقصّرين،و استفادته ممّا دلّ علي وجوب تعلّم الحكم و أنّه لا يعذّر من لم يتعلّم،بعيد؛لعدم شموله لما إذا كان العمل صحيحا.

و إن سلّمنا وجوب تعلّم الحكمين،أي:وجوب القصر علي المسافر،و وجوب

ص: 171

الجهر و الاخفات في صلاتيهما،فلم يتعلّم تقصيرا،و كان معاقبا مع فرض صحّة عمله،فيمكن تصحيحه بالترتّب،بأن يكون الواجب عليه القصر،و هو متمكّن منه لكونه مقصّرا،فإن عصي و لم يمتثل وجب عليه التمام بالبيان الذي ذكرناه في رسالة مفردة في الترتّب.

الفصل الثاني: في الاستصحاب

اشارة

يقع الكلام فيه في مقدّمة و مقصدين و خاتمة:

أمّا المقدّمة:

فيذكر فيها امور:

الأوّل:الاستصحاب لغة:مطلق مصاحبة شيء لشيء.

و في اصطلاح الاصوليّين:خصوص مصاحبة الحالة الثانية للحالة الاولي في الأثر الشرعي،إن عرض الشكّ في بقاء الحالة الاولي.

و قد عرّف اصطلاحا بتعريفات:

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ أسدّها و أخصرها هو إبقاء ما كان،ثمّ قال:المراد بالابقاء الحكم بالبقاء،و تعليق الحكم علي الوصف يشعر بالعلّية (1).

أقول:لعلّ مراده أنّ الابقاء من باب الافعال متعدّ إلي مفعول به و فاعله الشارع، أي:حكم الشارع ببقاء ما كان،و المراد من«ما»الموصولة الحكم،أي:حكم الشارع ببقاء حكم كان و الحكم بالبقاء حيث إنّه ورد علي ما كان،و هو المتّصف بالكون سابقا يشعر بأنّ علّة الابقاء هو وجوده سابقا،فخرج عن التعريف المذكور إبقاء غير الحكم الشرعي،و كذا إبقاء الحكم الشرعي لعلّة وجود علّته فعلا كحرمة الخمر،فإنّه إذا وجد الخمر كان حراما،و ببقائه تبقي الحرمة،لكن لكونه حراما

ص: 172


1- فرائد الاصول ص 541.

فعلا لا سابقا،بخلاف حرمة شرب الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه،فإنّه يشكّ في حرمته فعلا،و يحكم بحرمته لكونه حراما سابقا.

و فيه أوّلا:أنّ التعريف ينبغي أن يكون واضحا جليّا غير محتاج إلي التأويل الذي ذكره.

و ثانيا:حيث إنّ الاستصحاب مستنبط من الأدلّة،و قد اختلفوا فيما يستفاد منها،فينبغي أن يعرّفه كلّ علي حسب استنباطه من عموم الحجّية أو الاختصاص بالشكّ في الرافع.

فالأولي أن يقال:الاستصحاب الحكم ببقاء ما تيقّن إن عرض الشكّ في بقائه، و يتحقّق في موردين:

أحدهما:في موارد بناء العقلاء التي أمضاها الشارع.

ثانيهما:فيما تعلّق اليقين بشيء له أثر شرعا إن عرض الشكّ في بقائه،و سيأتي بيان ذلك في ضمن المباحث الآتية.

الثاني:أنّ البحث عن حجّية الاستصحاب حيث إنّه بحث عن الحجّة في الفقه و لو عند بعض الاصوليّين،فهو من المسائل الاصوليّة،يبحث في الاصول عن حجّيته و عدمه،كالبحث عن حجّية القياس،فإنّه من المباحث الاصوليّة،و إن كان مذهب جميع علماء الشيعة عدم حجّيته.

الثالث:الاستصحاب من الاصول العمليّة لا الأمارات،و الفرق بينهما أنّ الأمارة ما جعله الشارع حجّة من حيث كونه حاكيا عن الواقع،و الأصل ما جعله الشارع وظيفة عند عدم العلم بالواقع،لا من حيث كونه حاكيا عنه،و علي هذا إذا جعل الظنّ حجّة لا من حيث كشفه عن الواقع لم يكن أمارة،و حيث إنّ الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين إلاّ باليقين حتّي و لو ظنّ ظنّا قويّا بالانتقاض فهو من الاصول؛لأنّه لم يجعل وظيفة من حيث كشفه عن الواقع.

ص: 173

الرابع:في الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع، و حاصله انّ الأوّل هو اليقين بشي عرض الشكّ في بقائه،و الثاني هو اليقين بشيء موجود في زمان ثمّ الشكّ في وجوده في ذلك الزمان بحيث زال اليقين،و الثالث هو الحكم علي وفق المقتضي عند عدم إحراز المانع من دون نظر إلي اليقين.

و بعد هذه المقدّمة يقع الكلام في المقصدين:

المقصد الأوّل: في الأقوال في الاستصحاب و أدلّتها

و هي:

الأوّل:المختار،و هو أنّ الاستصحاب حكم الشارع ببقاء ما تيقّن فيما له أثر شرعي إن عرض الشكّ في بقائه لو لا عروضه كان اليقين باقيا،أو ما بني العقلاء علي بقائه فيما أمضاه الشارع،فللاستصحاب موردان:

المورد الأوّل:ما استقرّ بناء العقلاء عليه،و هو بناؤهم علي بقاء ما غاب عنهم من أهلهم و أصدقائهم و أمتعتهم و دورهم علي حسب اقتضائها البقاء،و بناؤهم علي البقاء في الأيّام المستقبلة علي حسب اقتضائها،و قد تعبّد العقلاء بهذا البناء حفظا للنظام،لا لحصول العلم أو الظنّ لهم بالبقاء،فهذا البناء منهم عمل بغير علم قد أمضاه الشارع؛لأنّا نعلم بأنّ المعاصرين للمعصومين عليهم السّلام كانوا يبنون علي البقاء في مرأي و مسمع منهم عليهم السّلام،و لم يردعوهم عن ذلك،و حينئذ يخصّص عموم المنع من اتّباع غير العلم بذلك.

و يؤيّده ما ذكره الكشي في ترجمة هشام بن الحكم،قال:و حدّثني يونس، قال:كنت مع هشام بن الحكم في مسجده بالعشي حيث أتاه مسلم صاحب بيت الحكمة،فقال له:إنّ يحيي بن خالد يقول:قد أفسدت علي الرفضة دينهم؛لأنّهم يقولون:إنّ الدين لا يقوم إلاّ بإمام حيّ،و هم لا يدرون أنّ إمامهم اليوم حيّ أو

ص: 174

ميّت،فقال هشام عند ذلك:إنّما علينا أن ندين بحياة الامام أنّه حيّ،حاضرا كان عندنا أو متواريا عنّا حتّي يأتينا موته،فما لم يأتنا موته فنحن مقيمون علي حياته،و مثّل مثالا،فقال:الرجل إذا جامع أهله و سافر إلي مكّة،أو تواري عنه ببعض الحيطان،فعلينا أن نقيم علي حياته حتّي يأتينا خلاف ذلك الخ (1).

أقول:هذا الكلام ليس تامّا بالنسبة إلي الامام؛لأنّه لو مات واقعا كان له خلف إمام،فلا يقوم الأرض و الدين إلاّ بإمام حيّ،و هو موجود دائما.

و قد اختلف الاصوليّون في وجود هذا البناء من العقلاء و في حجّيته علي قولين:

الأوّل:عدم وجود بنائهم علي البقاء تعبّدا،و لو سلّم وجوده فليس بحجّة، اختاره في الكفاية،حيث قال في ردّ الاستدلال علي حجّية الاستصحاب ببناء العقلاء:و فيه أوّلا:منع استقرار بنائهم علي ذلك تعبّدا،بل إمّا رجاء و احتياطا أو اطمئنانا بالبقاء أو ظنّا و لو نوعا أو غفلة،كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما و في الانسان أحيانا.

و ثانيا:سلّمنا ذلك لكنّه لم يعلم أنّ الشارع به راض و هو عنده ماض،و يكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب و السنّة علي النهي عن اتّباع غير العلم،و ما دلّ علي البراءة أو الاحتياط في الشبهات الحكميّة (2)انتهي.

و منع الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن بنائهم علي البقاء تعبّدا في صورة الشكّ المتساوي الطرفين،حيث قال:عمل العقلاء في معاشهم علي ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم،و المضي في امورهم بمحض الشكّ و التردّد في غاية البعد،بل خلاف9.

ص: 175


1- إختيار معرفة الرجال 2:542-543 برقم:480.
2- كفاية الاصول ص 439.

ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء (1).

و منع في مصباح الاصول عن وجود بنائهم علي البقاء في صورة الشكّ،لكن قال انّه علي فرض وجود بنائهم،فلا يشمله ما دلّ علي النهي عن العمل بغير العلم (2).

أقول:لا وجه للمنع عن وجود بناء العقلاء في صورة الشكّ المحض؛لأنّا نري أنّ من سافر أو غاب يبنون علي حياته،مع أنّ احتمال إصابته بالسكتة أو انقلاب مركوبه أو غيرهما من الحوادث المؤدّية إلي موته موجود،و لذا لو سألت شخصا عمّن سافر:انّك قاطع بحياته أو ظانّ بها؟لا يجيب أنّه قاطع أو ظانّ،و هكذا في كلّ أسفارهم التي هي مظنّة الحوادث،فإنّ بناءهم علي بقائهم و بقاء أمتعتهم، فأصل بناء العقلاء ممّا لا ينبغي الريب فيه.نعم في سعته و ضيقه لا بدّ من الاقتصار علي القدر المتيقّن.

و أمّا المنع عن حجّيته علي فرض وجوده للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم،فهو جيّد لولا إحراز إمضاء الشارع لهذا البناء،و الظاهر أنّ الشارع قد أمضاه،فيخصّص العمومات الناهية.نعم لو لم يمض الشارع بناءهم،فلا مانع من شمول عمومات المنع له؛لأنّ الشرع مبنيّ علي التعبّد المحض،و لذا لا يجوز الاعتماد علي القياس و لا الاستحسان و لا الرأي،و العقلاء بما هم عقلاء ليس لهم جعل الحجّية و لا جعل عدمها ممّا هو مربوط بالشرع،فلذا نقول:إنّ كلّ بناء منهم أو سيرة لهم لا يصحّ الاعتماد عليهما في الشرعيات إلاّ ما أمضاه الشارع،كحجّية الظواهر،فإنّ السيرة علي الاعتماد عليها ممضاة شرعا؛لأنّا نعلم أنّ محاورات الشارع مع أصحابه و معاشريه كانت بالظواهر.1.

ص: 176


1- فرائد الاصول ص 589.
2- مصباح الاصول 3:11.

ثمّ إنّه قد ذكر وجوه للمنع عن شمول عمومات المنع لبناء العقلاء أو سيرتهم علي فرض وجودهما في المقام و في غيره.

أحدها:أنّ استقرار بناء العقلاء أو سيرتهم علي شيء يجعلهم ملازمين له لا يرفعون اليد عنه،فلا يلتفتون إلي ردعه بالعمومات،فلا بدّ لردعهم عن بنائهم من الردع عنه بخصوصه،بأن يصرّح لهم بعدم جواز البناء علي البقاء مثلا،كما ورد الردع عن القياس بخصوصه.

و فيه أنّ العقلاء بعد إذعانهم بوجود شريعة الاسلام و اعتقادهم باشتمال الاسلام علي أحكام تعبّديّة كسائر الشرائع،يتعلّمون أحكام الشريعة في كيفيّة الوضوء و الصلاة و الصوم إلي آخر الأبواب،فإذا اتّفق لهم مسألة شرعيّة نظير من كان متيقّنا بوضوئه ثمّ شكّ في أنّه نام،فهل يرجعون إلي الشرع ليتعلّموا حكمه أو لا يرجعون و يبنون علي البقاء لبناء العقلاء علي بقاء ما كان؟أو لا يحتملون أنّ الحكم في شريعة الاسلام الاحتياط؟الانصاف أنّهم يتوقّفون بعد علمهم بأنّ أحكام الشرع تعبّديّة محضة،و يراجعون إلي الشرع.

و حينئذ نقول:إذا رجعوا إلي ما ورد في الشرع من الآيات و الأخبار المستفيضة الناهية عن العمل بغير علم،فلا نسلّم أنّهم لا يرتدعون عن بنائهم و يبنون علي البقاء إذا شكّوا في بقاء أمر راجع إلي الشرع.

ثانيها:أنّ الآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم مخصوصة باصول الدين و الاعتقاديات.

و فيه أنّ بعضها و إن كان مخصوصا بالاعتقاديات،لكن فيها ما يكون شاملا لغيرها.

ثالثها:أنّ المراد بهذه النواهي النهي عن اتّباع الظنون الواهية و التخيّلات و الخرص.و بعبارة اخري:النهي عمّا لا يليق بالعقلاء متابعته؛لأنّها واردة في مقام

ص: 177

توبيخ الكفّار،و التوبيخ لا يصحّ إلاّ علي أمر معلوم وجه فساده،بحيث يكون مخالفا لعمل العقلاء بماهم عقلاء،فلا تشمل بناء العقلاء.

و فيه أنّ إطلاق بعض الآيات و بعض الأخبار شامل لكلّ عمل بغير علم.

رابعها:أنّ حجّية ظهور العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم إنّما ثبتت ببناء العقلاء،فإذا كانت هذه العمومات ناهية عن اتّباع بناء العقلاء حيث لا يحصل العلم من بنائهم،لزم من حجّيتها عدم حجّيتها.

و بعبارة اخري:يتوقّف ردع هذه العمومات عن بناء العقلاء علي حجّيتها،و هي موقوفة علي حجّية بناء العقلاء،فإذا كانت ناهية عن حجّيتها لزم من وجوده عدمه.

و فيه أنّ هذه العمومات مخصّصة بما دلّ علي إمضاء بناء العقلاء علي حجّية الظواهر،و هو أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و جميع المعاصرين لهم كانت محاوراتهم بالظواهر،و مقتضاه أن يكون بناء العقلاء علي حجّية الظواهر ممضي قطعا،و علي ذلك فالعمومات حجّة قطعا،فتكون رادعة عن العمل بغير العلم،و بناء العقلاء علي بقاء ما كان لا يفيد العلم،فلا يجوز العمل به.

القول الثاني:وجود بناء العقلاء و حجّيته،اختاره في منتهي الوصول في خصوص الشكّ في الرافع،قال ما حاصله:إنّ مقتضي الانصاف صحّة بناء العقلاء؛ لأنّهم يعاملون مع المشكوك معاملة المتيقّن عند الشكّ وجدانا،و هذا أمر جبلّي مرتكز في الأذهان مودع في طبائعهم من قبل بارئهم لحكم و مصالح و أمر غريزي جعل طبيعة لهم لا يعلم وجهه إلاّ اللّه تبارك و تعالي،كسائر الغرائز الطبيعيّة،لكن لا يبعد اختصاص السيرة بالشكّ في الرافع و المزيل دون الشكّ في المقتضي،و ذلك

ص: 178

أيضا بشهادة الوجدان (1)انتهي.

أقول:الظاهر وجود بناء العقلاء في الأعمّ من الشكّ في الرافع،كما ذكرنا من أنّ من غاب أو سافر و شكّ في حياته يبنون علي حياته،و ليس بناؤهم في الشكّ في المزيل دائما،فإنّه لو شكّ في حياة زيد بعد عمر مائة و عشرين سنة و كان مريضا مثلا،لم يبنوا علي بقائه مع أنّ الموت مزيل للحياة.

ثمّ إنّه قد يقال:إنّ قولهم عليهم السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»إمضاء لبناء العقلاء.

و فيه أنّ نقض اليقين كما يأتي بيانه لا يصدق إلاّ إذا كان اليقين متعلّقا بشيء يبقي لو لا عروض الشكّ في بقائه،و بناء العقلاء أعمّ من ذلك،و النسبة بين بناء العقلاء و نقض اليقين بالشكّ العموم من وجه،فمن كان متطهّرا ثمّ ظنّ ظنّا قويّا أنّه نام،فهو محكوم شرعا بعدم نقض اليقين بالشكّ،مع أنّ العقلاء في مثله لا يبنون علي البقاء،و من غاب أو سافر و احتمل أنّه مات يبنون علي بقائه،أو أراد أن يسافر و لا يعلم ماذا يصير عليه و هل ينقلب مركوبه فيموت أم لا يبنون علي البقاء،مع أنّه لا يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ.

و قد ظهر ممّا ذكرناه النظر فيما اشتهر من أنّ التعليل في قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ،فإنّ اليقين لا ينبغي أن ينقض بالشكّ»تعليل بما هو المرتكز في أذهان العقلاء من أنّ اليقين بشيء مستحكم لا يزول بما لا استحكام فيه،كما أنّ البناء القوي لا يهدم إلاّ بالمعاول القويّة،فهذه الأخبار واردة علي وفق مرتكزات العقلاء.

وجه النظر أنّ هذا الخبر مشتمل علي جملتين:إحداهما قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»ثانيهما قوله«بل ينقضه بيقين آخر»و مقتضاهما أنّه لو ظنّ ظنّا قويّا0.

ص: 179


1- منتهي الوصول تقريرات بحث المرجع الكبير السيّد الاصفهاني رحمه اللّه ص 20.

أنّه نام بني علي اليقين السابق،مع أنّه خلاف بناء العقلاء،و خلاف مرتكزاتهم.

و المحتمل في معني التعليل المذكور أمران:

الأوّل:أنّه لا يليق بالعاقل أن يعتني بالشكّ في حال من الأحوال،بل يأخذ باليقين،كما ورد في حسن زرارة:و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الأحوال.

الثاني:أنّه لا بدّ و أن يتعبّد الانسان باليقين،و لا يشكّ بل لا يشكّك نفسه حتّي يقع في الشكّ،ففي خبر الحسين بن حكيم،قال:كتبت إلي العبد الصالح أخبره أنّي شاكّ و قد قال إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتي و إنّي احبّ أن تريني شيئا، فكتب:إنّ إبراهيم كان مؤمنا و أحبّ أن يزداد ايمانا،و أنت شاكّ و الشاكّ لا خير فيه،و كتب إنّما الشكّ ما لم يأت اليقين،فإذا جاء اليقين لم يجز الشكّ الحديث (1).

و في خبر أبي إسحاق الخراساني،قال:كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول في خطبته:

لا ترتابوا فتشكّوا،و لا تشكّوا فتكفروا (2).

نعم يمكن أن يقال:إنّ حمل التعليل علي المرتكز عند العقلاء من البناء علي البقاء فيما إذا كان اليقين باقيا لو لا الشكّ،كما هو مفاد أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ علي ما نبيّنه،قريب.

المورد الثاني:اليقين بشيء ذي أثر شرعا يبقي لو لا طروّ الشكّ عليه،كاليقين بالطهارة الحدثيّة أو الخبثيّة إن طرأ الشكّ في الحدث أو الخبث،و يدلّ عليه الأخبار،و هي مضمرة زرارة،قال:قلت له:الرجل ينام و هو علي وضوء أتوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟فقال:يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن،فإذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء،قلت:فإن حرّك إلي جنبه شيء و لم يعلم به،قال:لا حتّي يستيقن أنّه قد نام حتّي يجيء من ذلك أمر2.

ص: 180


1- اصول الكافي 2:293 ح 1.
2- اصول الكافي 2:293 ح 2.

بيّن،و إلاّ فإنّه علي يقين من وضوئه،و لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ و لكن ينقضه بيقين آخر (1).

قيل:إنّ إضمار زرارة لا يضرّ بصحّة الحديث؛لأنّ مثل زرارة لا يستفتي إلاّ من المعصوم عليه السّلام أو ممّن يعتمد عليه في الاستفتاء،كمحمّد بن مسلم و أضرابه،لا سيّما مع هذا الاهتمام.

هذا الخبر يدلّ علي جريان الاستصحاب في باب الوضوء،فالمتوضّيء إن شكّ في صدور حدث منه ناقض للوضوء لم يعتن بشكّه،نوما كان الحدث أو غيره.

و أمّا الاستدلال به لعموم حجّيته لباب الوضوء و غيره،فموقوف علي أن يكون المراد من اللام في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»جنس اليقين الشامل لجميع الموارد،و لا يكون عهدا ذكريّا،أو علي أن يكون المراد من قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»مطلق اليقين،و حينئذ إن كان المراد من اليقين في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»العهد الذكري يكون المعهود المذكور مطلق اليقين،بأن يكون قوله «من وضوئه»متعلّقا بما تعلّق به علي يقين،أي:فإنّه كائن من وضوئه علي يقين لا أن يكون متعلّقا باليقين،أي:فإنّه علي يقين خاصّ،و هو اليقين الكائن الحاصل من وضوئه.

و ينبغي لتوضيح الخبر بيان جملاته،فنقول:قوله«ينام»يعني به ما ذكره من الخفقة،لا النوم الذي يزيل العقل،بقرينة قوله«أيوجب الخفقة و الخفقتان»الخ.

قوله«أيوجب الخفقة»يعني:انّ هذا المقدار من النوم أيوجب الوضوء؟

قوله«قد تنام العين»يعني:انّ الخفقة ليست موجبة للنوم مطلقا،بل هي علي قسمين:إحداهما الخفقة الناشئة من نوم القلب و السمع و العين،فهي موجبة3.

ص: 181


1- جامع أحاديث الشيعة 2:350 ح 33.

للوضوء لتحقّق النوم.ثانيتهما:الناشئة من نوم العين فقط،فهي ليست نوما موجبا للوضوء.

قوله«قلت:فإن حرّك»يعني:أنّه لو شكّ في أنّ الخفقة من أيّ القسمين و كان هناك واقعة و هي حركة شيء في جنبه لم يعلم بها و هو كاشف عن نومه،فهل يحكم عليه بالنوم المبطل للوضوء أم لا؟

قوله«قال:لا»أي:لا يوجب الشكّ في النوم الوضوء و لا الظنّ به حتّي يستيقن.

قوله«و إلاّ»أي:و إن لم يستيقن أنّه نام،أو و إن لم يكن كذلك بأن وجب عليه الوضوء،و لعلّ الأوّل أظهر.

قوله«فإنّه»قيل في جواب الشرطيّة وجوه:

الأوّل:أنّه محذوف،أي:و إن لا يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، لدخوله تحت كبري«لا ينقض اليقين بالشكّ»حيث إنّه كان علي يقين من وضوئه و شكّ في نقضه،و حذف الجواب و أقيم العلّة مقامه،و هو قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»أي:و شكّ في زواله،و هذه صغري لكبري و هي لا ينقض اليقين بالشكّ، و هذه الكبري تشمل الوضوء و غيره،فتدلّ علي حجّية الاستصحاب مطلقا.

و يمكن المناقشة في دلالته علي حجّية الاستصحاب مطلقا.أمّا أوّلا فلأنّه مبني علي أن يكون اللام في قوله«لا ينقض اليقين»للجنس،مع أنّه يحتمل أن يكون للعهد،أي:لا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ في الحدث،و هذه كبري كلّية في باب الوضوء،يندرج فيها مورد السؤال،و هو الشكّ في النوم بعد اليقين بالوضوء،كما يدلّ عليه خبر ابن بكير الآتي.

ص: 182

و لكن قد أيّد دلالته علي العموم و عدم اختصاصه بباب الوضوء في الكفاية (1)و غيرها بامور ثلاثة:

الأوّل:أنّ الظاهر أنّ اللام للجنس؛لأنّ الأصل فيه أن يكون للجنس،و اللفظ محمول علي ما هو الأصل فيه.

الثاني:أنّ الظاهر من التعليل بأنّه علي يقين من وضوئه«و لا ينقض اليقين بالشكّ»هو بيان اندراج اليقين و الشكّ في مورد السؤال في القضيّة الكلّية الارتكازيّة الغير المختصّة بباب دون باب.

و المراد من كونها قضية ارتكازية ما ذكره في الكفاية من أنّ المرتكز في الأذهان أنّ الأمر المحكم المبرم لا يزول بما لا استحكام فيه.أو ما ذكره في مصباح الاصول،حيث قال:إنّ اليقين و الشكّ بمنزلة طريقين،يكون أحدهما مأمونا من الضرر و الآخر محتمل الضرر،فإذا دار الأمر بينهما لا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون (2)انتهي.

الثالث:قوله«أبدا»فإنّه يدلّ علي عدم الاختصاص بباب الوضوء.

قلت:يرد علي الأوّل أنّه لم يثبت أنّ الأصل في اللام أن تكون للجنس،فهي قابلة له و للعهد،بل قد ذكر الفاضل التوني رحمه اللّه في بعض مباحث العامّ و الخاصّ من الوافية أنّه مع تساوي احتمالي العهد و الجنس،فالعهد أظهر كما ذكره الأكثر (3).

و احتفاف الكلام بما يحتمل كونه قرينة علي العهد،و هو قوله قبل ذلك«علي يقين من وضوئه»يوجب عدم انعقاد الظهور في الجنس.

و يرد علي الثاني أنّ كون التعليل تعليلا بأمر ارتكازي ممنوع؛لأنّ المراد4.

ص: 183


1- كفاية الاصول ص 442.
2- مصباح الاصول 3:19.
3- الوافيه ص 114.

بالشكّ أعمّ منه و من الظنّ،و إن كان قويّا ما لم يبلغ حدّ الاطمئنان،يعني الحدّ الذي لا يعتني فيه باحتمال الخلاف عرفا،و يدلّ عليه قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر» و في مثله لم يثبت ارتكاز العقلاء و لا بناؤهم علي عدم النقض،بل يمكن أن يقال بأنّه ثبت عدم بنائهم،فهو حكم تعبّدي.

و لو سلّم وجود القاعدة الارتكازيّة،و كون الاستصحاب داخلا فيها،فلا يكون الشكّ ناقضا لليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم،إلاّ إذا كان اليقين متعلّقا بما فيه البقاء حتّي يكون اليقين باقيا بتبعه.و أمّا تقارن الشكّ و اليقين،فلا يكون الشكّ فيه ناقضا لليقين،فالمكلّف علي يقين و شكّ في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه، أي:هو من أوّل الأمر علي يقين بالنجاسة إلي زوال التغيّر و شكّ في زوالها بزواله، لا علي يقين بنجاسة الماء يطرأ عليه الشكّ في بقائها الذي هو معني نقض اليقين بالشك،هذا علي الوجه الارتكازي المذكور في الكفاية.

و يرد علي ما في المصباح أوّلا:أنّه ليس اليقين و الشكّ طريقين.و ثانيا:أنّهما إنّما يكونان طريقين إذا اجتمعا،و هو مخصوص باليقين الذي يبقي لو لا عروض الشكّ.

ثمّ إنّه قد منع وجود بناء العقلاء علي البقاء،فكيف يستدلّ علي البقاء بالقاعدة الارتكازيّة في أذهان العقلاء.

و أمّا ما أجاب به من أنّ القاعدة الكلّية الارتكازيّة مسلّمة عندهم،لكنّهم لا يطبقونها علي الاستصحاب و تطبيق هذه الكبري الارتكازيّة علي الاستصحاب إنّما هو بالتعبّد الشرعي لأجل هذه الصحيحة و غيرها من الروايات (1)انتهي.

ففيه نظر؛لأنّ التطبيق لو لم يكن ارتكازيّا فلا يصحّ التعليل؛لأنّه يكون بأمر9.

ص: 184


1- مصباح الاصول 3:19.

تعبّدي،و لا يعلّل الأمر التعبّدي بأمر تعبّدي،و إلاّ خرج عن التعليل.

و يرد علي الثالث و هو قوله«أبدا»أنّه تأكيد في باب الوضوء،كما ورد في خبر ابن بكير التأكيد بقوله«فايّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّي تستيقن أنّك قد أحدثت» (1).

و ثانيا:إن سلّمنا كون اللام للجنس،فالكبري الكلّية عدم نقض اليقين بالشكّ، و هو إنّما يصدق في بعض الموارد،و هو المختار عندنا.

الوجه الثاني:أن يكون جواب الشرط محذوفا أيضا،أي:و ان لا يجب الوضوء حتّي يستيقن أنّه نام،بل وجب الوضوء قبل أن يستيقن النوم لزم نقض اليقين بالشكّ،فالجواب المحذوف جملة«لزم نقض اليقين بالشكّ»و يدلّ عليه التعليل.

قلت:لا فرق بينه و بين الوجه الأوّل في جميع ما ذكر.

الوجه الثالث:أن يكون الجواب قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»بأن يكون إنشاء بمعني أنّه في حكم الشرع هو علي يقين من وضوئه،أي تنزيلا،كما يقال:

إنّه متطهّر شرعا و لا يراد من ذلك الطلب،أي:ابن علي اليقين،حتّي يناقش فيه بأنّ الجملة الاسميّة لا تستعمل في إنشاء الطلب.

أقول:هذا بعيد؛لأنّ ذلك مستلزم للتكرار،فإنّه يساوق قوله بعد ذلك«و لا ينقض اليقين بالشكّ»مع أنّ الظاهر اتّحاد هذه القضيّة مع القضيّة المذكورة في صحيحة اخري لزرارة و فيها:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك فشككت و لا ينبغي الحديث.حيث إنّ جملة«علي يقين من طهارتك»جعلت صغري لكبري لا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

و الحاصل أنّ قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»إن كان حكما معناه أنّك علي1.

ص: 185


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 12 نواقض الوضوء ح 1.

يقين من الوضوء تعبّدا،فيكون قوله«و لا ينقض اليقين»الظاهر في أنّه لا ينقض اليقين المذكور تكرارا لا تعليلا.

الوجه الرابع:أن يكون الجواب قوله«و لا ينقض»و قد ذكر فإنّه علي يقين من وضوئه توطئة له،و إخبارا عن أنّه علي يقين من الوضوء و شكّ في زواله،فيكون قوله«و لا ينقض»إنشاء و جوابا للشرط.

و اورد عليه بأنّ الجواب لم يدخل عليه الفاء مع أنّها لازمة له.

و فيه أنّ فاء الجواب هي المذكورة في قوله«فإنّه علي يقين».

و علي جميع هذه الوجوه الأربعة دلالته علي حجّية الاستصحاب مطلقا موقوفة علي أن يكون اللام للجنس،أو يكون اليقين في قوله«علي يقين من وضوئه» مطلقا،و يكون اللام للعهد الذكري.

و يمكن تأييد كون اللام للجنس بأمرين:الأوّل:أنّه لو كانت اللام للعهد كان الأنسب أن يقال:فإنّه علي يقين من وضوئه و لا ينقضه بالشكّ،أو لا ينقض يقينه بالشكّ،فذكر الاسم الظاهر المحلّي باللام أي اليقين يناسب كونه للجنس حتّي لا يستلزم تكرار أنّه علي يقين من الوضوء،و يكون صغري و كبري،الثاني:ذكر هذه القضية في غير باب الوضوء،فهي كبري كلّية لكلّ مورد صدق نقض اليقين بالشكّ.

قوله«علي يقين»خبر متعلّق بمقدّر،أي:فإنّه كائن علي يقين.

قوله«من وضوئه»الظاهر أنّ الجار و المجرور صفة،فإنّ الجملة بعد النكرة صفة فيتعلّق بمقدّر،أي:فإنّه كائن علي يقين كائن من وضوئه،و ما ذكره في الكفاية من احتمال تعلّقه بالظرف،أي:فإنّه من وضوئه علي يقين تكلّف.

قوله«و لا ينقض اليقين»بفتح الياء بقرينة قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»و هو نهي أو نفي اريد به إنشاء النهي.

قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»يدلّ علي أنّ الظنّ و إن كان قويّا ما لم يبلغ حدّ

ص: 186

اليقين عرفا لا يكون ناقضا،و يدلّ علي أنّ المناط صدق نقض اليقين بالشكّ و صدق نقض اليقين باليقين،و لا يصدقان إلاّ إذا لم يكن اليقين من الأوّل محدودا، بل كان باقيا لو خلّي و طبعه،و صار الشكّ أو اليقين ناقضين له،فيختصّ صدقه ببعض الشبهات الموضوعية التي يبقي فيها اليقين لو لا طروء الشكّ،كما في الطهارة التي تبقي إن لم يطرأ عليها النجاسة،و الملكيّة التي تبقي لو لا عروض ما يزيلها،و كذا الزوجية و نحوها.

و لتوضيح ذلك ينبغي ذكر معني النقض،ثمّ بيان معني النهي عن النقض.

فنقول:المستفاد من كلام اللغويّين أنّ النقض هدم شيء له نحو قرار و إبطاله، و هو المراد من كونه مبرما،أي:مبرما بحسبه لا الابرام بمعني الاستحكام الذي لا يمكن هدمه إلاّ بآلة قويّة،فلا يقال نقضت الصوف؛لأنّه لا إبرام له،و ليس له هيئة تنقض.

إن قلت:إن غزل فقد انتقض.

قلت:الظاهر من الانتقاض التفرّق لا الاجتماع.

و لا يختصّ بالامور المحسوسة،فيصدق علي نقض العهد و العقد و نحوهما،بل يصدق علي نقض الشكّ،فإن كانت الألفاظ موضوعة للمعاني المحسوسة،فيكون صدق النقض علي نقض العهد مجازا.و أمّا بناء علي أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني و لها وجودات متعدّدة،مثلا الرزق موضوع لما ينتفع به ممّا به قوام وجود الشيء، فالمأكول رزق البدن و العلم رزق الروح،فيكون اطلاقه علي نقض العهد و اليقين حقيقة.و إليك بعض كلماتهم في معني النقض:

قال في تهذيب اللغة:قال الليث:النقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء،إلي

ص: 187

أن قال:و يقال:انتقض الجرح بعد البرء،و انتقض الأمر بعد التيامه (1).

و قال في المقاييس:يدلّ علي نكث شيء نقضت الحبل و البناء و النقض المنقوض،و لذلك يقال للبعير المهزول نقض،كأنّ الأسفار نقضته جمعه أنقاض، و المناقضة في الشعر من هذا،كأنّه يريد أن ينقض ما أراد صاحبه و نقض العهد منه (2).

و قال ابن الأثير في النهاية:النكث نقض العهد،و في حديث عمر أنّه كان يأخذ النكث و النوي من الطريق،فإن مرّ بدار قوم رمي بهما فيها،و قال:انقضوا بهذا النكث بالكسر الخيط الخلق من صوف أو شعر أو وبر،سمّي به لأنّه ينقض ثمّ يعاد فتله (3).

و قال أيضا:و في حديث صوم التطوّع«فناقضني و ناقضته»و هي مفاعلة من نقض البناء و هو هدمه،أي:ينقض قولي و أنقض قوله،و أراد به المراجعة و المراودة.و منه حديث«نقض الوتر»أي:إبطاله و تشفيعه بركعة لمن يريد أن يتنفّل بعد أن أوتر (4)انتهي.

و قال في القاموس:النقض في البناء و الحبل و العهد و غيرها ضدّ الابرام (5).

و في مصباح المنير:عن الأزهري قال:النقض اسم البناء المنقوض إذا هدم، و بعضهم يقتصر علي الكسر و يمنع الضمّ،و الجمع النقوض،و نقضت الحبل نقضا7.

ص: 188


1- تهذيب اللغة 8:344.
2- مقاييس اللغة 5:470.
3- نهاية ابن الأثير 5:114.
4- نهاية ابن الأثير 5:107.
5- القاموس المحيط 2:347.

أيضا حللت برمه (1).و أمّا القول بأنّ النقض مجرّد الازالة،ففيه أوّلا:ما عرفت من أنّ معناه الهدم.و ثانيا:لو سلّم فلا يصدق علي الشكّ أنّه مزيل أو مفسد أو مخالف لليقين إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو لا الشكّ.

ثمّ إنّ نقض الحبل هو هدمه،أي:جعله كما قبل فتله لا قطعه،فإنّ القطع ليس نقضا،لكن ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة،كما في نقض الحبل،و لعلّه يريد به قطعه،بقرينة قوله في الاستدلال علي القول التاسع الذي اختاره،حيث قال:النقض رفع الأمر المستمرّ في نفسه،و قطع الشيء المتّصل كذلك (2)انتهي.و فيه أنّه خلاف المعني اللغوي.و استعمل في الأخبار نقض الشكّ باليقين،و نقض الصلاة،و نقض الوضوء،و نقض الصوم.و الظاهر أنّ نقض كلّ شيء بحسبه،فيكون استعمال النقض في نقض العهد و نقض العقد و نقض الشكّ حقيقة،فلا يعتبر أن يكون الشيء المنقوض مستحكما.

و لكن في أساس البلاغة:و من المجاز نقض العهد،و ناقض قوله الثاني الأوّل، و في كلامه تناقض،و هذا نقيض ذاك،أي:مناقضة (3)إلي آخر كلامه.

و هذا اجتهاد منه.و لو سلّمنا أنّه مجاز،فهو أقرب إلي المعني الحقيقي،فينبغي إرادته بدون قرينة علي غيره من المعاني المجازيّة.

و لو سلّم أنّ معني النقض هو قطع الهيئة الاتّصاليّة،أو أنّ النقض هو الرفع بشدّة إمّا في المرفوع أو في الرفع،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا لم يكن اليقين محدودا،و إلاّ فهو علي يقين و شكّ معا من الأوّل.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ نقض اليقين باليقين إسناد حقيقي،إن كان المراد بالنقض1.

ص: 189


1- مصباح المنير ص 231.
2- فرائد الاصول ص 620.
3- أساس البلاغة ص 651.

إفساده بقاء،و لو سلّم كونه مجازا فأقرب المجازات أن يكون اليقين باقيا لو لا الشكّ،و كذا نقض اليقين بالشكّ،و كذلك نقض الشكّ باليقين فيما إذا كان المنقوض باقيا لو لا طروء الناقض،كالبناء الذي ينقض بالهادم.

فإذا فرضنا أنّه تيقّن بزوجيّة امرأة لزيد مثلا،فهذا اليقين يبقي لو لا طروء اليقين الناقض عليه،أو طروء الشكّ الناقض عليه،فإن تيقّن بأنّه طلّقها،فقد نقض اليقين بالزوجيّة باليقين بالطلاق،و إذا شكّ في أنّه طلّقها،فقد نقض اليقين بالشكّ،و إذا كان شاكّا في زوجيّتها،ثمّ تيقّن أنّه تزوّجها،فقد نقض الشكّ باليقين.

و أمّا إذا فرضنا أنّه تيقّن بزوجيّة امرأة لزيد من أوّل الشهر إلي آخره متعة،فإذا جاء اليوم الآخر لا يصحّ أن يقال:نقض اليقين بالزوجيّة باليقين بعدم الزوجيّة،بل يقال:انتهي اليقين بها.

و قد تفطّن لذلك في الجملة المحقّق السبزواري في الذخيرة،و المحقّق الخوانساري في شرح الدروس،و الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد، و المحقّق النائيني في فوائد الاصول.

قال الأوّل:إنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين الذي دلّ علي استمراره إن شكّ في رفعه،فهو علي أربعة أقسام:

الأوّل:الشكّ في الرافع،كالشكّ في خروج البول من المتطهّر.

الثاني،الشكّ في رافعيّة الموجود لاجمال معني الرافع،كالشكّ في صدق البول علي الخارج عن غير السبيلين.

الثالث:الشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما.

الرابع:الشكّ في كونه رافعا مستقلا،كالشكّ في كون المذي رافعا.ثمّ قال باختصاص معني نقض اليقين بالشكّ بخصوص الأوّل.إلي أن قال في بعض كلامه:

إنّ الشكّ في الصور الثلاث الأخيرة كان حاصلا من قبل و لم يكن بسببه نقض

ص: 190

الخ (1).

و لا يخفي بأنّ في نقض اليقين باليقين أيضا يعتبر أن يكون اليقين المنقوض مستمرّا،و علي أيّ حال فإنّه قد قرب إلي المعني الذي ذكرناه.

و أمّا ما أورده عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ الشكّ في رافعيّة الموجود يصير منشأ للشكّ في الرافع،أي:يتولّد منه شكّ بعد ذلك و هو الناقض (2).فهو غير واضح،بل إنّه هو الشكّ الموجود من قبل،فلا فرق بين الشكّ في رافعيّة الموجود و الشكّ في زوال النجاسة،لزوال تغيّرها عن الماء بنفسه.

و قال الثاني أعني المحقّق الخوانساري،فيما حكاه عنه الشيخ الأنصاري في جملة كلامه (3).

قلت:الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض، و المراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ،و فيما ذكروه ليس كذلك؛لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ،و هو ظاهر.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ما تقدّم.

و قال الرابع في فوائد الاصول:يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ علي أن يكون زمان الشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به في زمان حدوثه،بمعني أنّ الزمان اللاحق الذي يشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه،و هذا إنّما يكون إذا كان المتيقّن مرسلا بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدودا بزمان خاصّ،و مقيّدا بوقت خاصّ،و إلاّ ففيما بعد ذلك الحدّ و الوقت يكون7.

ص: 191


1- ذخيرة المعاد ص 115.
2- فرائد الاصول ص 623.
3- فرائد الاصول ص 625 عن مشارق الشموس ص 75-77.

المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر،فلا يكون رفع اليد عن آثار وجود المتيقّن من نقض اليقين بالشكّ؛لأنّ اليقين ما كان يقتضي ترتيب آثار وجود المتيقّن بعد ذلك الحدّ،فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقين بالشكّ الخ (1).

إذا تحقّق ذلك فنقول:الظاهر أنّ الجملة نهي،و ليس المراد النهي عن نقض اليقين المأخوذ في الموضوع بما هو يقين،كمن نذر أن يتصدّق كلّ يوم ما دام متيقّنا بحياة زيد؛لأنّ الموضوع ينعدم إذا شكّ في حياته.

و أيضا ليس المراد النهي عن نقض اليقين إذا كان الشكّ ساريا؛لأنّ المورد المفروض في الخبر بقاء اليقين و عدم زواله،و إن أطلق عليه نقض اليقين بالشكّ في الفقه الرضوي.

و أيضا ليس النهي عن نقض اليقين السابق بالشكّ الطاري،بمعني إبقاء اليقين حقيقة،فإنّه غير مقدور،كما يكون نقض العهد و نقض البيع بالاقالة أو الخيار مقدورين،و يسند النقض إليهما حقيقة،فلا بدّ أن يكون النهي متوجّها إلي نقض اليقين بالشكّ عملا من دون تصرّف في مفهوم اليقين،و لا في مفهوم النقض،و لا في إسناد النقض إلي اليقين،و لا في كون الشكّ ناقضا لليقين،و لا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو خلّي و نفسه إن لم يطرأ عليه الشكّ.

و بعبارة اخري:إنّما يصدق النقض إذا لم يكن اليقين من الأوّل محدودا و معيّنا، بل كان اليقين متعلّقا بالشيء يبقي إلي أن يرفعه رافع،و حينئذ يصدق نقض اليقين بالشكّ إن طرأ الشكّ،و يصدق أيضا نقض اليقين باليقين إن طرأ اليقين المذكور في قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»و أمّا إذا كان أمد اليقين من الأوّل معلوما و كان الشكّ من الأوّل موجودا،فلا يصدق نقض اليقين باليقين و لا نقضه بالشكّ.6.

ص: 192


1- فوائد الاصول 4:136.

نعم لو كانت العبارة من كان علي يقين و شكّ أبقي اليقين في زمان الشكّ شملت اليقين المحدود،فيكون من تزوّج متعة و لم يعلم أنّ المدّة المجعولة فيه شهر أو شهران علي يقين بالزوجيّة إلي شهر و شكّ في الشهر الثاني،فعليه أن يبقي يقينه بخلاف أن تكون العبارة نقض اليقين بالشكّ،فإنّها لا تشمله؛لأنّ اليقين محدود ينتهي بنفسه بعد الشهر،و لا يكون الشكّ في الزوجيّة في الشهر الثاني نقضا لليقين.

و إن أبيت عن أن يكون الاسناد حقيقيّا،فأقرب المجازات ما ذكرنا،فيكون المراد من نقض اليقين هو اليقين الموجود بلحاظ وجوده حال الشكّ لو لم يشكّ.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية من صحّة أن يقال:انتقض اليقين باشتعال السراج فيما إذا شكّ في بقائه للشكّ في استعداده (1).في غير محلّه لأنّه إذا تردّد في أنّ النفط الموجود في السراج بمقدار يشتعل السراج إلي نصف الليل، أو بمقدار يشتعل إلي طلوع الفجر،فقد تيقّن من الأوّل بأنّه يشتعل إلي نصف الليل، و شكّ من الأوّل في اشتعاله من نصف الليل إلي طلوع الفجر،فإذا صار نصف الليل لم يصحّ أن يقال:انتقض اليقين باشتعال السراج بالشكّ؛لأنّ اليقين قد زال بنفسه و لو لم يكن شكّ،و لذا لو كان النفط الموجود فيه بمقدار يشتعل إلي نصف الليل لم يصحّ أن يقال حين صار نصف الليل انتقض اليقين بالاشتعال باليقين بعدمه.

و حاصل ما ذكرنا أنّ اليقين قد اخذ طريقا إلي متعلّقه،و المكلّف يجب عليه أن يكون عمله علي وفقه،و هذا اليقين الموجود له بقاء في نفسه،و النقض يسند إليه بقاء،و الشكّ أو اليقين بالخلاف ناقض لهذا الموجود من حيث إنّ له بقاء،أي:لو لم يكن الناقض موجودا كان اليقين موجودا و الشكّ ناقض لهذا اليقين بلحاظ وجوده، كما أنّ نقض البناء هو هدمه بقاء،و كذا نقض العهد نكثه بقاء،فلا وجه لارجاع3.

ص: 193


1- كفاية الاصول ص 443.

اليقين إلي المتيقّن،بأن يكون المعني لا تنقض الوضوء بالشكّ في الحدث،فإنّ الشكّ ليس ناقضا للوضوء،و ناقضه النوم و البول و غيرهما،و لا وجه لإلغاء زمان الشكّ و اليقين؛لأنّ النقض يكون في زمان بعد زمان حدوث اليقين كنقض البناء، فكما ينقض البناء بقاءه،كذلك ينقض اليقين بقاءه.

و حاصل ما ذكرناه في معني الخبر خلافا لما استفادوه من الأخبار امور:

الأوّل:قيل:إنّ مفهوم النقض يتعلّق بالشيء المستحكم،و حيث إنّ اليقين مستحكم مع قطع النظر عن متعلّقه،فنقض اليقين صادق فيما إذا كان الشكّ في المقتضي.

و فيه أنّ النقض عبارة عن إفساد الشيء و هدمه،و قد سبق ما حكي عن عمر أنّه لمّا وجد خيطا خلقا أخذه و رماه في بعض البيوت،و قال:انقضوه،فلا يعتبر في متعلّق النقض الاستحكام،و لذا ورد و ينقض الشكّ باليقين.

الثاني:أنّ الشكّ حيث كان في البقاء و اليقين كان بالحدوث،فلا ينقض اليقين الشكّ؛لعدم ورود الشكّ علي اليقين،و المفروض في مورد الخبر أنّه كان علي يقين من طهارته و لا ينقضه بالشكّ،و هو الاستصحاب.

فلذا قال في الكفاية:إنّ الظاهر أنّ وجه الاسناد هو لحاظ اتّحاد متعلّقي اليقين و الشكّ ذاتا،و عدم ملاحظة تعدّدهما زمانا،و هو كاف عرفا في صحّة إسناد النقض إليه و استعارته (1)انتهي.

و مثله الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و لا ريب أنّ المراد باليقين و الشكّ في قوله عليه السّلام في صدر الصحيحة«لأنّك كنت علي يقين من طهارتك و شككت» و غيرها من أخبار الاستصحاب،هو اليقين و الشكّ المتعلّقان بشيء واحد،أعني:3.

ص: 194


1- كفاية الاصول ص 443.

الطهارة المطلقة.و حينئذ فالنقض المنهي عنه هو نقض اليقين بهذا الشكّ المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين (1).

و فيه نظر فإنّ اليقين بحدوث الطهارة الي زمان حدوث الشكّ موجود و الشكّ ليس بناقضه،بل انّ اليقين حيث تعلّق بأمر يبقي إلي أن يرفعه الرافع فهو باق،فإذا جاء الشكّ هدم اليقين بقاء،كما أنّ البناء يهدم بقاء بآلة حيث كان له البقاء،و ما ذكره من عدم ملاحظة تعدّد زمانهما تأويل لا ينطبق علي الخبر؛لأنّ الشكّ لا يكون ناقضا لليقين مع قطع النظر عن ملاحظة كونه باقيا لو لا عروض الشكّ.

الثالث:أنّ التعليل المذكور في الخبر تعليل بأمر ارتكازي،و هو أنّ الأمر المحكم المبرم لا يزول بما لا قوّة فيه،و اليقين أمر مستحكم و الشكّ لا قوّة له.

و فيه أوّلا:أنّ الارتكاز إنّما يسلّم فيما إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ عليه.

و ثانيا:لا يتعيّن كون التعليل إشارة إلي ذلك بل يحتمل ما تقدّم.

و قد ظهر بما ذكرنا وجه عدم استدلال القدماء بهذا الخبر علي الاستصحاب، لاختصاصه بخصوص باب الوضوء.

قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة:و استدلّ من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبي أنّه قال:و إنّ الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إلييه فيقول:أحدثت،فلا ينصرفنّ حتّي يسمع صوتا أو يجد ريحا.فبقّاه علي الحالة الاولي.

و أيضا فقد اتّفقوا علي أنّ من تيقّن الطهارة ثمّ شكّ في الحدث أنّ عليه أن يستصحب الحالة الاولي،فينبغي أن يجعل ذلك عبرة في نظائره.

و اعترض ذلك من نفي القول به،بأن قال:إنّما قلنا في هذين الموضعين لقيام3.

ص: 195


1- فرائد الاصول ص 623.

دليل،و هو قول النبي صلّي اللّه عليه و آله و تسويته بين الحالين،و كذلك الاتّفاق علي أنّ حال الشكّ في الحدث مثل حال يقين الطهارة فلا شكّ معها،فنظير ذلك أن يقوم في كلّ موضع دليل علي أنّ الحالة الثانية مثل الحالة الاولي حتّي يصير إليه (1)انتهي.

فلم يتعدّ عن الخبر إلي الشكّ في بقاء الحدث إن كان متيقّنا به و شكّ في أنّه تطهّر حتّي قال به للاتّفاق،لكن الظاهر دلالته علي كلّ ما كان مثل الشكّ في بقاء الطهارة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ المراد من اليقين المتيقّن الذي له بقاء أو أحكام المتيقّن المثبتة له من جهة اليقين،و هذه الأحكام كنفس المتيقّن أيضا لها استمرار شأني لا يرتفع إلاّ برافع،و يكون هو المصحّح لاسناد النقض إليه (2).

و صاحب الكفاية لم يرض هذا الكلام من الشيخ،و قال:إنّ النقض مسند إلي اليقين،قال في الكفاية ما حاصله:إنّ النقض ضدّ الابرام،و هو مسند إلي اليقين، فإنّه مبرم من غير حاجة إلي تأويله إلي المتيقّن الذي له استمرار البقاء؛لعدم صحّة قول القائل نقضت الحجر من مكانه،مع أنّ الحجر يستمرّ في موضعه لو لم يرفعه رافع،و صحّة قوله انتقض اليقين باشتعال السراج بالشكّ فيه فيما إذا كان الشكّ في مقدار استعداده للاشتعال (3).

أقول:قد عرفت عدم صحّة المثال الثاني،و أمّا المثال الأوّل فإن كان مقصود القائل أنّه هدم هيئة كون الحجر في المكان،أي:هدم البناء صدق النقض،لكن ينبغي أن يقول:انتقض البناء؛لأنّه بمعني هدم البناء،و إن كان مقصوده رفع الحجر و نقله من مكانه،فاستعمال النقض غلط؛لأنّه ليس بمعني النقل،بل هو بمعني الهدم.3.

ص: 196


1- عدّة الاصول 2:757.
2- فرائد الاصول ص 575.
3- كفاية الاصول ص 443.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ النقض مسند إلي اليقين،و انّه إنّما يصحّ إسناده إليه إذا كان اليقين غير محدود،بل كان باقيا لو لا طروء الشكّ،و يكون الشكّ ناقضا له.

و أمّا إذا كان اليقين له حدّ محدود معيّن عند المتيقّن بالكسر،كما إذا تردّد في وقوع عقد المتعة علي المرأة شهرا أو شهرين،فاليقين محدود إلي شهر،و الزائد من الأوّل مشكوك،و في مثله لا يصدق نقض اليقين بالشكّ بعد انقضاء شهر،بل يقال قد انتهي اليقين،و هو من الأوّل كان علي يقين و شكّ،لا أنّه كان علي يقين و نقضه الشكّ حتّي ينهي عن نقض اليقين بالشكّ،كما لا يصحّ فيما إذا تزوّج بامرأة متعة إلي عشرة أيّام بعد انقضاء العشرة أن يقال:قد انتقض اليقين بالزوجيّة باليقين بعدمها،بل يقال:انتهي اليقين بالزوجيّة.

و لا يخفي أنّ جميع الشبهات الحكمية مبتلاة بهذا الاشكال،أعني:عدم صدق نقض اليقين بالشكّ.

و الحاصل أنّه فرق بين نقض اليقين بالشكّ،و نقض اليقين باليقين،و نقض الشكّ باليقين،و بين انتهاء اليقين،و بين كونه علي يقين و شكّ،فمن شكّ في أنّ الماء المتغيّر نجس بعد زوال تغيّره بنفسه،فهو من الأوّل لمّا نظر إلي قوله«الماء إذا تغيّر ينجس»حصل له يقين و شكّ،و ينتهي أمد يقينه عند زوال التغيّر،و الشكّ في النجاسة بعد زوال التغيّر لا يرتبط باليقين،و ليس ناقضا له،بل محلّه بعد اليقين.

و بهذا البيان الذي ذكرناه لمعني قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»يظهر عدم الدليل علي الاستصحاب في الشبهة الحكميّة،و لا الاستصحاب القهقري،و لا الاستصحاب الاستقبالي،و لا القسم الثاني من الكلّي،و لا استصحاب الزمان،و لا الاستصحاب التعليقي و نحوها،و انّه يعتبر وحدة القضيّة المشكوكة و المتيقّنة بالدقّة العقليّة.و سيأتي بيانها.

و منها:مضمر زرارة في التهذيب و الاستبصار المسند عن أبي جعفر عليه السّلام في

ص: 197

العلل (1)و محلّ الاستشهاد منه فقرتان:

الفقرة الاولي:قلت:فإن ظننت أنّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك،فنظرت فلم أر شيئا،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،قال:تغسله و لا تعيد الصلاة،قلت:لم ذلك؟قال:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت،فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قوله«فنظرت فلم أر شيئا»يحتمل وجوها:

أحدها:فنظرت و تيقّنت أنّه لم يصبه شيء،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،أي:تبيّن لي خطأ يقيني الأوّل،و حصل لي اليقين بالاصابة،فلم يمرّ عليّ زمان أكون شاكّا في طهارة الثوب.

و يرد علي هذا الاحتمال أنّه لا يساعده الجواب،حيث فرض فيه نقض اليقين بالشكّ،فلا يفهم من العبارة هذا الوجه.

ثانيها:فنظرت و تيقّنت أنّه لم يصبه شيء،ثمّ صلّيت فرأيت فيه نجاسة لم أعلم أنّها وقعت عليه الآن،فيكون يقيني بعدم الاصابة موجودا،أو كان يقيني بعدم الاصابة خطأ،فيكون الشكّ ساريا إلي اليقين،و موجبا لزواله حين الرؤية،و يكون معني الجواب هكذا،أي:لأنّك كنت حين نظرت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت بعد الصلاة،فليس ينبغي لك أن تنقض هذا اليقين بالشكّ،فيكون دليلا علي قاعدة اليقين.

و هذا الاحتمال أيضا مشكلّ؛لأنّ الظاهر من نقض اليقين بالشكّ وجود اليقين المطابق للواقع،و أمّا اليقين الذي يحتمل كونه خطأ فليس يقينا واقعيّا.

ثالثها:فنظرت فلم أر شيئا،أي:لم أر شيئا ظاهرا و بقي شكّي في الاصابة،و هذا6.

ص: 198


1- جامع أحاديث الشيعة 2:165-165 ب 23 ح 6.

الوجه أظهر؛لأنّه قال:ظننت أنّه أصابه و لم أتيقّن،فنظرت و لم أر شيئا أي ظاهرا و لم يزل شكّي،و ينطبق عليه التعليل المذكور،و يكون دليلا علي حجّية الاستصحاب.

و ينبغي أن يعلم أنّ الصلاة بلحاظ وقوعها مع الطهارة عن الخبث تكون علي أنحاء:

الأوّل:أن تكون الصلاة مع الطهارة الواقعيّة،و إن اعتقد المصلّي نجاسة ثوبه، و لا ريب أنّ الصلاة صحيحة.

الثاني:أن يكون جاهلا بالنجاسة جهلا بسيطا،و بعد الصلاة علم وقوع الصلاة في النجس،و الصلاة صحيحة.

الثالث:أن يحرز الطهارة بأصل أو أمارة،و بعد الصلاة تبيّن وقوعها في النجس،و الصلاة صحيحة؛لأنّ الطهارة قد احرزت.

الرابع:أن يكون شاكّا فيها قبل الصلاة و لم يحرزها،لتعاقب الحالتين و نحوه و صلّي شاكّا و لم يتبيّن الواقع،و هذا لا يحكم بصحّة صلاته.

الخامس:أن يكون جاهلا بنجاسته،و تبيّن في أثناء الصلاة أنّه نجس من قبل الدخول في الصلاة،أو وقع بعض الصلاة في النجس مع التبيّن في الاثناء،و الصلاة باطلة علي خلاف في الأخير.

السادس:أن يكون شاكّا في النجاسة قبل الدخول في الصلاة و استصحب الطهارة،ثمّ علم في أثناء الصلاة بالنجاسة و وقوع بعض الصلاة فيها،فالصلاة باطلة.

السابع:أن تقع النجاسة في الأثناء،فإن تمكّن من التطهير بني علي الصلاة.

الثامن:أن يري في أثناء الصلاة نجاسة لم يعلم وقوعها عليه في الأثناء أو قبل الصلاة،فإنّه يستصحب الطهارة و يحكم بصحّة الصلاة.

ص: 199

الفقرة الثانية:قوله«قلت:إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة،قال:تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته،و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثمّ بنيت علي الصلاة؛لأنّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك،فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ».

قوله«إذا شككت في موضع منه»يحتمل وجهين:الأوّل:أن يكون المعني علمت الاصابة قبل الدخول في الصلاة لكن لم تعلم موضعها.أي:كنت عالما بالاصابة شاكّا في موضعها،و عليه فالصلاة باطلة لوقوعها في معلوم النجاسة.

الثاني:أنّه كان في شكّ في أصل الاصابة قبل الصلاة و في أثناء الصلاة علم أنّه أصابه قبل الصلاة،فإنّه يجري استصحاب الطهارة إلي حين العلم بالنجاسة،لكن حيث علم في الأثناء وقوع بعض الصلاة واقعا في النجاسة،فالصلاة باطلة للفرق بين العلم بكون الصلاة مع النجاسة بعد الصلاة فتصحّ الصلاة،و بين العلم بوقوع بعضها مع النجاسة في الأثناء،كما اختاره في العروة الوثقي في كتاب الطهارة في الفصل الذي أعدّه للصلاة في النجس.و لا يبعد ظهوره في الوجه الأوّل.

قوله«و إن لم تشكّ»يعني و إن لم تشكّ في الاصابة بأن كنت غافلا قبل الصلاة أو متيقّنا بعدم الاصابة قبل الصلاة«ثمّ رأيته رطبا»قيّده بكونه رطبا؛لأنّه لو كان يابسا فهو يكون من إصابة قبل الصلاة،و حيث إنّه وقع بعض الصلاة في النجس مع حصول العلم به في أثناء الصلاة فالصلاة باطلة،بخلاف ما إذا كان رطبا،فإنّه يحتمل أن يكون قد أصابه قبل الصلاة.و يحتمل أن يكون قد وقع عليه الآن،فلا يعلم وقوع جزء من الصلاة مع النجاسة،بل يستصحب بقاء طهارة الثوب إلي الآن، و هذا مبني علي الفرق بين العلم بوقوع بعض الصلاة في النجس في أثناء الصلاة و بعده،و لكن لا يضرّ بالاستدلال.

و منها:حسن زرارة كالصحيح عن أحدهما عليهما السّلام،قال:قلت له:من لم يدر في

ص: 200

أربع هو أم في ثنتين و قد أحرز الثنتين؟قال:يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و يتشهّد و لا شيء عليه،و إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها ركعة اخري و لا شيء عليه،و لا ينقض اليقين بالشكّ،و لا يدخل الشكّ في اليقين،و لا يخلط أحدهما بالآخر و لكنّه ينقض الشكّ باليقين و يتمّ علي اليقين،فيبني عليه و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (1).

و في معني هذا الخبر احتمالات:

أحدها:أن يؤخذ بظاهر قوله«يركع ركعتين»و هو إلحاق الركعات متّصلة،لكن قيل:إنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين،أعني:صلاة الاحتياط،فيمكن جعله قرينة علي إرادة الانفصال من قوله بعد ذلك«قام فأضاف إليها ركعة».

و قوله«لا ينقض»أي:اليقين بعدم الاتيان بالركعتين الأخيرتين إن كان الشكّ بين الاثنتين و الأربع،أو بالرابعة إن كان الشكّ بين الثلاث و الأربع بالشكّ في الاتيان،بأن لا يأتي بالركعتين أو بالركعة.

و قوله«و لا يدخل الشكّ»أي:لا يعتني بالشكّ و لا يجعله شيئا.

و قوله«و لا يخلط»عطف تفسيري.

و قوله«لكنّه ينقض الشكّ»أي:في الاتيان بالثالثة و الرابعة،أو بالرابعة باليقين، فيأتي بالركعتين أو بالرابعة متّصلة و يتمّ علي اليقين فيبني عليه.و علي هذا الاحتمال ينبغي أن يحمل علي التقيّة،فلا يصحّ الاستدلال به،و اجيب عنه بوجوه:

الأوّل:أنّ التقيّة في التطبيق،و أمّا صحّة أصل الحكم و هو الاستصحاب،فلا تقيّة فيه نظير قوله عليه السّلام في الافطار يوم العيد مع الخليفة:«ذاك إلي الامام إن صام4.

ص: 201


1- جامع أحاديث الشيعة 6:335 ب 24 الخلل ح 4.

صمنا»حيث طبّق عنوان الامام علي أبي العبّاس (1).

الثاني:ما ذكره في الكفاية (2)،من أنّ قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»يقتضي الاتيان بالركعة مطلقا متّصلة أو منفصلة.و الأخبار دلّت علي تقييده بأن تكون منفصلة.

قلت:فيه منع ظاهر.

الثالث:أنّ الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة منفصلة.

قال في مصباح الاصول:إنّ وظيفة الشاكّ بين الثلاث و الأربع مثلا هي أربع ركعات فيها زيادة التشهّد و التسليم،لكن مع التقييد بعدم الاتيان بالركعة الرابعة واقعا،فالموضوع لوجوب الركعة المنفصلة المكلّف المقيّد بأمرين:الأوّل كونه شاكّا،الثاني كونه غير آت بالرابعة واقعا،و الأوّل موجود وجدانا،و الثاني يحرز بالاستصحاب،فيحكم بوجوب الاتيان بالركعة المنفصلة (3).

قلت:فيه أوّلا أنّ ظاهر الصحيح علي هذا المعني-أي:البناء علي عدم الاتيان بالرابعة للاستصحاب-هو عدم الاتيان بالرابعة علي الكيفيّة التي وجبت،و هي وجوب الاتيان بها متّصلة،فيعارض مع الأخبار الدالّة علي الاتيان بها منفصلة.

و ثانيا:لازمه أن يقصد الجزئيّة بصلاة الاحتياط،مع أنّه مناف للأخبار الدالّة علي أنّ الركعة نافلة إن كانت الصلاة تامّة و جزء إن كانت ناقصة،و مقتضاها عدم قصد الجزئيّة.

و ثالثا:لا يجري الاستصحاب و كذا البيّنة و غيرهما من التعبّديات فيما كان الأثر مترتّبا علي الواقع،فلو صرّح بأنّه يجب الوضوء بالماء الطاهر واقعا،فلا3.

ص: 202


1- جامع أحاديث الشيعة 9:153 ب 18 ح 1.
2- كفاية الاصول ص 450.
3- مصباح الاصول 3:63.

تكفي البيّنة و لا الاستصحاب،لأنّهما يثبتان الطهارة ظاهرا،و ما نحن فيه من هذا القبيل؛لأنّ الأخبار دلّت علي أنّه إن كانت الصلاة ناقصة واقعا،فالركعتان جزء.

و إن كانت تامّة فهما نافلة،و الاستصحاب لا يقتضي النقص الواقعي.

و بعبارة اخري:الصلاة الناقصة واقعا تكون الركعة الرابعة منها مفصولة، و الاستصحاب لا يثبت ذلك.

ثانيها:أن يكون المعني لا ينقض اليقين ببراءة الذمّة بالشكّ في براءة الذمّة،أو لا ينقض اليقين باشتغال الذمّة بالشكّ في فراغ الذمّة،باتيان الركعة المشكوكة متّصلة كما يقوله العامّة؛لاحتمال أن يكون قد صلّي واقعا أربعا و زاد ركعة فصارت الصلاة خمسا،فهو شاكّ في أنّه صلّي خمسا أو أربعا مع اليقين باشتغال الذمّة بالصلاة أربعا،بخلاف ما إذا أتي بالركعة منفصلة،فإنّه لو كانت الصلاة ناقصة لزم زيادة التشهّد و السّلام و التكبيرة،و هي لا تضرّ بالصلاة إن وقعت نسيانا،أو غير متعمّد للزيادة.

و قوله«و لا يدخل»أي:في الصلاة المشغول بها الذمّة المتحقّقة في المأتي به.

و قوله«و لا يخلط»عطف تفسيري.

و قوله«و يتمّ علي اليقين»أي:يتمّ الصلاة علي اليقين بأن يأتي بركعات الاحتياط منفصلة،فيتيقّن ببراءة ذمّته.

أقول:علي هذا المعني لا يدلّ علي الاستصحاب.

ثالثها:أن يكون المراد من قوله«لا ينقض اليقين»ما ذكره من قوله و قد أحرز الثلاث،أي:لا ينقض اليقين بالثلاث بالشكّ في الرابعة،برفع اليد عن الثلاث و إبطالها«و لا يدخل الشكّ»أي:الركعة المشكوكة في اليقين،أي:الثلاث المحرزة و لا يخلط أحدهما بالآخر،بل يأتي بها منفصلة و ينقض الشكّ في الرابعة باليقين بفعلها،و هو إتيانها منفصلة«و يتمّ علي اليقين»أي:يتمّ الصلاة التي اشتغل بها علي

ص: 203

اليقين بصحّتها،و يبني علي اليقين بالصحّة.

و هذا الوجه أقرب من حيث وحدة السياق،و إن كان متحّدا مع الاحتمال الثاني في النتيجة،و هي أنّ الخبر لا يدلّ علي الاستصحاب،لكن يمكن أن يقال:إنّ عموم«لا ينقض اليقين بالشكّ»شامل لهذا المورد،و لما إذا كان متيقّنا بالطهارة مثلا و شكّ في ناقضه،فيكون من روايات الاستصحاب أيضا.نعم هذا مبني علي أن يجعل اللام في اليقين للجنس.

و منها:خبر إسحاق بن عمّار أنّه قال:قال لي أبو الحسن الأوّل عليه السّلام:إذا شككت فابن علي اليقين،قال:قلت:هذا أصل؟قال:نعم (1).

أورده الصدوق رحمه اللّه في باب شكوك الصلاة (2)،و لعلّه فهم ذلك من الأصل الذي أخذ الحديث منه.و لا يخفي أنّه ليس فيه أنّه علي يقين فشكّ بقاء،أو شكّ شكّا ساريا إلي اليقين،فيحتمل في معناه امور:

أحدها:إذا شككت في شيء فاعمل علي ما يقتضيه اليقين،أي:يحتاط حتّي يتيقّن،فإذا شكّ في الطهارة و كان متطهّرا يبني علي اليقين،أي:يجدّد الوضوء و يتطهّر،و كذا في ركعات الصلاة يستأنف الصلاة،و كذا يبني علي اليقين لو شكّ في أثناء الصلاة في بعض الأجزاء،فإنّه يحتاط ما لم يدخل في الجزء المترتّب عليه.

ثانيها:أن يكون المعني إذا كنت متيقّنا و شاكّا فابن علي اليقين و اجعله باقيا، فإذا تيقّنت بنجاسة الماء المتغيّر إلي زوال التغيّر بنفسه،و شككت من الأوّل في نجاسته بعد زوال التغيّر بنفسه،فابن علي اليقين،فيكون مفاده الاستصحاب علي مبني القول بحجّيته مطلقا.

ثالثها:أن يكون المعني اقتصر علي اليقين،ففي المثال المتقدّم يبني علي مقدار0.

ص: 204


1- جامع أحاديث الشيعة 6:330 ب 22 ح 4.
2- من لا يحضره الفقيه 1:230.

اليقين،و هو نجاسة الماء ما دام متغيّرا،و لا تحكم بنجاسته بعد زوال تغيّره،فلو عقد علي امرأة متعة و لم يدر أنّه عقد عليها شهرا أو شهرين،فإذا انقضي الشهر يشكّ في زوجيّتها،فيبني علي اليقين بعدم الزوجيّة،و يقتصر علي اليقين به في شهر.

رابعها:أن يكون المعني أنّه إذا قام مثلا من السجدتين،فشكّ بعد القيام في السجود بني علي يقينه و هو القيام و حكم بصحّته و لم يعتن بشكّه.

خامسها:أن يكون دليلا لقاعدة اليقين،أي:إذا تيقّنت بشيء ثمّ شككت في صحّة يقينك،فابن علي اليقين.

سادسها:أن يكون المعني البناء علي اليقين علي نحو تيقّن بعدم الزيادة،فإنّ الصدوق قال:و روي عن علي بن أبي حمزة،عن العبد الصالح عليه السّلام قال:سألته عن الرجل يشكّ فلا يدري أواحدة صلّي أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا،تلتبس عليه صلاته؟فقال:كلّ ذا فقلت:نعم،قال:فليمض في صلاته و ليتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم،فإنّه يوشك أن يذهب عنه.

و روي سهل بن اليسع ذلك عن الرضا عليه السّلام أنّه قال:يبني علي يقينه و يسجد سجدتي السهو بعد التسليم و يتشهّد تشهّدا خفيفا.

و قد روي أنّه يصلّي ركعة من قيام و ركعتين من جلوس.و ليست هذه الأخبار بمختلفة،و صاحب هذا السهو بالخيار بأيّ خبر منها أخذ فهو مصيب،و روي عن إسحاق بن عمّار الخبر المذكور.

فيحتمل أن يكون المراد من قوله«ابن علي اليقين»البناء علي عمل يتيقّن أنّه لم يزد في صلاته.

ثمّ إنّه يحتمل إرادة هذا المعني من الصحيحة الثالثة لزرارة،فإنّه بعد أن قال عليه السّلام:إنّه يتمّ الصلاة و يصلّي ركعتين منفصلتين إن كان الشكّ بين الاثنتين و الأربع و يتمّ الصلاة و يصلّي ركعة منفصلة إن كان الشكّ بين الثلاث و الأربع،قال:

ص: 205

و لا ينقض اليقين بالشكّ.أي:اليقين بأنّه لم يزد علي أربع،و لا يدخل الشكّ في اليقين،أي:الركعتين المفصولتين المشكوك كونهما نافلة أو تمام الأربع في الأربع، و لا يخلط أحدهما بالآخر و لكنّه ينقض الشكّ باليقين و يتمّ علي اليقين فيبني عليه.

و قال الشيخ رحمه اللّه:نعم يمكن أن يقال بعدم الدليل علي اختصاص الموثّقة بشكوك الصلاة فضلا عن الشكّ في ركعاتها،فهذا أصل كلّي خرج منه الشكّ في عدد الركعات،و هو غير قادح،لكن يرد عليه عدم الدلالة علي إرادة اليقين السابق علي الشكّ و لا المتيقّن السابق علي المشكوك اللاحق الخ (1).

أقول:لا ظهور له في أحد المعاني،و لا سيّما الاحتمال الثاني الذي مفاده الاستصحاب علي معني غير المختار عندنا.

و منها:المروي في الخصال بسنده عن أبي بصير و محمّد بن مسلم،قال:من كان علي يقين فشكّ،فليمض علي يقينه،فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين (2).

و في السند قاسم بن يحيي و لم يوثّق،بل ضعّفه ابن الغضائري،و إن لم يثبت الاعتماد علي تضعيفه،قيل:إنّ وجوده في طريق الصدوق إلي الحسن بن راشد يدلّ علي توثيق الصدوق له،حيث قال بعد أن روي عنه و روي رواية الكناسي، قال:و قد أخرجت في كتاب الزيارات و في كتاب مقتل الحسين عليه السّلام أنواعا من الزيارات،و اخترت هذه لهذا الكتاب؛لأنّها أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية و فيها بلاغ و كفاية (3).

يدلّ قوله«أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية»أنّه وثّق القاسم بن يحيي.1.

ص: 206


1- فرائد الاصول ص 568.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:384 ب 12 النواقض ح 2،و سنده مذكور في باب التخلي ص 179 ب 1 ح 179.و الخبر أيضا مذكور في الارشاد للمفيد و تحف العقول ص 109.
3- من لا يحضره الفقيه 2:361.

أقول:ذكر في طريقه إليه سعد بن عبد اللّه،فيحتمل أن يكون الخبر موجودا في كتاب الرحمة له و قد قرأه علي ابن الوليد فرواه له،فإنّه قال بعد ذكر خبر:كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد سيّيء الرأي في محمّد بن عبد اللّه المسمعي راوي هذا الحديث،و إنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنّه كان في كتاب الرحمة و قد قرأته عليه فلم ينكره و رواه لي (1).

و لا يخفي أنّ النجاشي قال في ترجمة محمّد بن مسلم:له كتاب يسمّي الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام،أخبرنا أحمد بن علي،قال:حدّثنا ابن سفيان،عن حميد،قال:حدّثنا حمدان القلانسي،قال:حدّثنا السندي بن محمّد،عن العلاء بن رزين عنه (2)انتهي.

فيمكن أن يقال:إنّ حديث الأربعمائة وصل أيضا بالطريق المذكور في رجال النجاشي.

و نوقش في دلالته علي الاستصحاب بأنّ المعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان المتيقّن علي زمان المشكوك،و في قاعدة اليقين تقدّم زمان اليقين علي الشكّ، و ظاهر الخبر تقدّم زمان اليقين علي الشكّ،فينطبق علي قاعدة اليقين.

و أيضا نقض الشكّ باليقين يكون حقيقيّا في مورد قاعدة اليقين،بخلاف الاستصحاب.

و ناقش الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في دلالته علي الاستصحاب،بأنّه يدلّ علي قاعدة اليقين،حيث قال:لا يخفي أنّ الشكّ و اليقين لا يجتمعان حتّي ينقض أحدهما الآخر،بل لا بدّ من اختلافهما:إمّا في زمان نفس الوصفين،كأن يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمان ثمّ يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان،و إمّا4.

ص: 207


1- جامع أحاديث الشيعة 1:317.
2- رجال النجاشي ص 423-424.

في زمان متعلّقهما و إن اتّحد زمانهما،كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة و يشكّ أيضا بعدالته في يوم السبت،و هذا هو الاستصحاب،و ليس منوطا بتعدّد زمان الشكّ و اليقين،كما عرفت في المثال،فضلا عن تأخّر الأوّل عن الثاني.

و حيث إنّ صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين و ظاهرها اتّحاد زمان متعلّقيهما، تعيّن حملها علي القاعدة الاولي،و حاصلها عدم العبرة بطروّ الشكّ في شيء بعد اليقين بذلك الشيء.

و يؤيّده أنّ النقض حينئذ محمول علي حقيقته؛لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا علي المتيقّن بخلاف الاستصحاب،فإنّ المراد بنقض اليقين فيه رفع اليد عن ترتّب الآثار في غير زمان اليقين،و هذا ليس نقضا لليقين السابق،إلاّ إذا اخذ متعلّقه مجرّدا عن التقييد بالزمان الأوّل.

و بالجملة فمن تأمّل في الرواية و أغمض عن ذكر بعض أدلّة الاستصحاب جزم بما ذكرناه في معني الرواية (1).

و اجيب بأنّ ظاهر قوله«فليمض علي يقينه»و قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ» وجود اليقين حقيقة،فيكون منطبقا علي الاستصحاب،و ظاهره و إن كان تقدّم اليقين علي الشكّ لكنّه ذكر ذلك لكونه كذلك غالبا.

أقول:سيأتي إن شاء اللّه تعالي أنّه يعتبر في الاستصحاب تقدّم اليقين علي الشكّ حتّي يكون الشكّ ناقضا له،حتّي فيما إذا كان زمان حدوث الشكّ متقدّما علي زمان حدوث اليقين،فإذا شكّ في أنّه متطهّر ثم حدث له اليقين بأنّه تطهّر قبل حدوث الشكّ و هو الآن شاكّ في أنّه متطهّر،فالشكّ السابق ليس موردا للاستصحاب،بل الشكّ الباقي بعد حصول اليقين يكون موردا له،و اليقين متقدّم9.

ص: 208


1- فرائد الاصول ص 569.

عليه.

و بعبارة اخري:مجرّد حصول الشكّ ليس موردا للاستصحاب ما لم يحصل اليقين،و بعد حدوثه يكون الشكّ الباقي بعد اليقين موردا للاستصحاب.

ثمّ إنّه لو كان دالاّ علي الاستصحاب،فلا دلالة له علي أزيد ممّا يدلّ عليه صحيح زرارة،و هو أن يكون الشكّ ناقضا؛لأنّ ظاهره أن يكون علي يقين فطرأ عليه الشكّ،لا أن يكون يقين و شكّ من أوّل الأمر،فيتّحد مفاده مع قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»و لا سيّما بملاحظة تعليله بأنّ الشكّ لا ينقض اليقين.

و لو سلّم ظهوره في قاعدة اليقين،فحينئذ يعارضه أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ؛لأنّ المراد من قوله في أخبار زرارة«بل ينقضه بيقين مثله»اليقين الباقي لا اليقين الذي يسري الشكّ إليه و يزول،فإنّه شكّ و لا ينقض اليقين بالشكّ،فإذا كان علي يقين من الوضوء ثمّ تيقّن بالحدث ثمّ شكّ شكّا ساريا إلي اليقين بالحدث صار موردا لاستصحاب الوضوء؛لأنّه علي يقين من الوضوء و شكّ ناقض ليقينه،فيبني علي أنّه متوضّيء،و مقتضي قاعدة اليقين أن يبني علي أنّه محدث،و لا ريب في أظهريّة دلالة خبر زرارة و أقوائية سنده من هذا الخبر،فعليه المعوّل.

و منها:ما رواه في تحف العقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام إلي أن قال:من كان علي يقين فأصابه ما يشكّ فليمض علي يقينه،فإنّ الشكّ لا يدفع اليقين و لا ينقضه (1).

و رواه الشيخ المفيد رحمه اللّه باختلاف يسير في الارشاد في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال:و من كلامه عليه السّلام:من كان علي يقين فأصابه شكّ،فليمض علي يقينه، فإنّ اليقين لا يدفع بالشك (2).3.

ص: 209


1- تحف العقول ص 109.
2- الارشاد ص 143.

و ظاهر أنّ الدفع إنّما يكون للشيء الموجود،فينطبق علي ما قلناه من اعتبار أن يكون اليقين يبقي لو لا عروض الشكّ.و لا يخفي أنّ الصادر كلام واحد، و الاختلاف الموجود بينهما لا يضرّ بالدلالة علي ما ذكرناه.

و منها:ما رواه الشيخ باسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار،عن علي بن محمّد القاساني،قال:كتبت إليه أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان هل يصام أم لا؟فكتب:اليقين لا يدخل فيه الشكّ،صم للرؤية و أفطر للرؤية (1).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم و الافطار علي رؤية هلالي رمضان و شوّال لا يستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ و مزاحما به،و الانصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب إلاّ انّ سندها غير سليم (2)انتهي.

أقول:ظاهر قوله«اليقين لا يدخل فيه الشكّ»أنّ اليقين الموجود لا يدخل عليه الشكّ و لا يرفعه بدخوله عليه.

فإن كان المراد اليقين بأنّه في شهر شعبان لا يدخل فيه الشكّ و لا يرفعه حتّي ينطبق علي الاستصحاب كما استظهره،ففيه أنّه علي يقين من شعبان في يوم التاسع و العشرين،و علي شكّ في شعبان في يوم الثلاثين،و لم يدخل الشكّ في اليقين،و لا يصدق دخول اليقين في الشكّ،إلاّ إذا كان الشكّ ناقضا لليقين بأن كان اليقين يبقي لو لا طروء الشكّ عليه،فإذا طرأ الشكّ علي اليقين و اعتني بالشكّ أدخل الشكّ في اليقين،فهذا الاحتمال خلاف الظاهر.

و هنا احتمال آخر أقرب،و هو إرادة أنّ اليقين بوجوب الصوم لا يدخل فيه الشكّ،بأن يصوم مع الشكّ في وجوب الصوم،و هذا المعني أوفق بظاهر اللفظ،0.

ص: 210


1- جامع أحاديث الشيعة 9:150 ب 17 ح 16.
2- فرائد الاصول ص 570.

أي:اليقين بوجوب الصوم لا يحلّ محلّه الشكّ في وجوب الصوم،فمن صام يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو من رمضان،فقد دخل الشكّ في اليقين؛لأنّ صوم شهر رمضان و إفطاره لا بدّ أن يكون باليقين،فعليه فلا ربط له بالاستصحاب،فكما أنّه إذا لم يدر أنّه مديون لزيد بخمسة أو بستّة لا يقال إنّه دخل الشكّ بالستّة في اليقين بالخمسة،فكذلك لا يقال دخل الشكّ في الثلاثين في اليقين بتسعة و عشرين.

و يؤيّد ذلك أنّ هذا المضمون و هو قوله«صم للرؤية و أفطر للرؤية»وارد في الخبر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله (1)و عن أمير المؤمنين عليه السّلام (2)في موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:في كتاب علي عليه السّلام:صم لرؤيته و أفطر لرؤيته،و ايّاك و الشكّ و الظنّ،فإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين يوما.

فإنّ قوله«و ايّاك و الشكّ»ليس المراد به التحذير عن الصوم المشكوك كونه من رمضان؛لأنّ صوم يوم الشكّ في آخر شهر رمضان واجب و هو مشكوك،فالمراد الاعتبار باليقين و هو الصوم للرؤية حتّي يبتدأ بالصوم علي يقين،و الفطر للرؤية حتّي يفطر بيقين،و لاحظ الحديث الآخر (3)و غيره.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري حيث اختار اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع، و مورد هذه المكاتبة استصحاب بقاء رمضان أو استصحاب بقاء شعبان،و الشكّ فيهما ليس شكّا في الرافع كما لا يخفي،أجاب بأنّ تفرّع الافطار للرؤية عليه من جهة الاشتغال بصوم رمضان إلي أن يحصل الرافع (4).

أقول:فيه أنّ الاشتغال بالصوم ينحلّ بعدد أيّام الشهر،فيكون الشكّ في أصل5.

ص: 211


1- جامع أحاديث الشيعة 9:125 ح 26.
2- جامع أحاديث الشيعة 9:125 ح 25.
3- جامعه أحاديث الشيعة 9:124 ب 3 ح 22.
4- فرائد الاصول ص 575.

الاشتغال بالنسبة إلي اليوم المشكوك.

و منها:أخبار خاصّة ببعض الموارد،و هي:ما رواه في التهذيب و الفقيه عن عمّار بن موسي،و في الاستبصار عن إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة،إلي أن قال:و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله،فلا يمسّ من الماء شيئا و ليس عليه شيء؛لأنّه لا يعلم متي سقطت فيه.ثمّ قال:لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (1).

يدلّ علي أنّه متي شكّ في نجاسة شيء بعد كونه طاهرا لم يحكم بنجاسته؛لأنّ التعليل لا يقتضي أكثر من ذلك،فلا يتعدّي إلي غيره.و لكنّه يحتمل قاعدة الطهارة؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّه محكوم بالطهارة.

و صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر انّي أعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير،فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك،فإنّك أعرته و لم تستيقن أنّه نجّسه،فلا بأس أن تصلّي فيه (2).

يدلّ علي أنّ ما كان طاهرا لا يحكم بنجاسته ما لم يستيقن نجاسته،و لكن يحتمل قاعدة الطهارة كما مرّ.

و خبر علي بن مهزيار،قال:كتب إليه سليمان بن رشيد،إلي قوله:فأجابه بجواب قرأته بخطّه:أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق الحديث (3).و هو يدلّ علي الاستصحاب في مورده،و يحتمل كونه لقاعدة الطهارة.

و خبر حفص بن غياث،عن جعفر،عن أبيه،عن علي عليه السّلام،قال:ما أبالي أبول4.

ص: 212


1- جامع أحاديث الشيعة 2:45 ب 12 المياه ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:ب 24 النجاسات ح 16.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:134 ب 23 ح 4.

أصابني أو ماء إذا لم أعلم (1).و يحتمل كونه لقاعدة الطهارة.

و خبر بكير،قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا استيقنت أنّك قد توضّأت،فايّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّي تستيقن أنّك قد أحدثت (2).

و دلالته علي الاستصحاب ظاهرة،لكنّه مختصّ بباب الوضوء.

ثمّ إنّ هذه الروايات الخمس تدلّ علي أنّ الشكّ في بقاء الطهارة الخبثيّة و الحدثيّة بعد اليقين بهما لا يعتني به،و اليقين فيهما يبقي لو لا طروّ الشكّ،فيمكن القول بالتعدّي منهما إلي نظيرهما،كالملكيّة و الزوجيّة.

و خبر حمّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:الماء كلّه طاهر حتّي يعلم أنّه قذر (3).

و في سنده اختلافات فراجع،و لا بأس بدلالته؛لأنّ كون الماء كلّه طاهرا قد ثبت أيضا من غير هذا الخبر،فلا يحكم بنجاسته إلي أن يعلم قذارته.و يحتمل قاعدة الطهارة أيضا.

و استدلّ في الوافية (4)بأخبار أخر:

منها:خبر مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك (5).دلّ علي أنّ كلّ ما هو حلال واقعا إذا شكّ فيه فهو محكوم بالحلية ظاهرا حكما مستمرا حتّي يعلم أنّه صار حراما.

و لم يوثّق مسعدة بن صدقة،و اتّحاده مع مسعدة بن زياد الربعي لم يثبت.4.

ص: 213


1- جامع أحاديث الشيعة 2:164 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:384 ب 12 النواقض ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:44 ب 12 المياه ح 1.
4- الوافية ص 207.
5- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.

و هذا الخبر ظاهر صدرا و ذيلا في الشبهة الموضوعيّة البدويّة،فإنّ الشيء في قوله«كلّ شيء»يراد به الشيء المشكوك حاله؛لأنّ الضمير في قوله«إنّه»راجع إلي ذلك الشيء،الذي ما دام لا يعلم كونه حراما فهو حلال،و لو كان المراد به الاستصحاب لقال:كلّ شيء حلال إلي أن تعلم أنّه صار حراما كالعصير،فإنّه حلال،إلي أن تعلم أنّه غلي،فما دام لا يعلم فهو حلال،و كذا قوله«و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك»ظاهر في أنّ الحكم فيه بالحلية منوط بالشكّ الفعلي المفروض مع قطع النظر عمّا له من حالة سابقة لو كانت،و يؤيّده أنّه بموضوعه شامل لما حالته السابقة هي الحرمة،و لو كان من باب الاستصحاب لم يصحّ اطلاق الحكم فيه بالحلية حتّي لتلك الصورة.

و يؤيّده أيضا قوله«لك»المقتضي لاختلاف الحكم باختلاف الأشخاص،و هو مناسب للحكم الظاهري.

و يمكن التعميم للشبهة الحكميّة،بأن يكون المراد من البيّنة الحجّة،ففي الشبهة الحكميّة إن دلّ خبر صحيح علي ذلك،فقد قامت البيّنة،و في الشبهة الموضوعيّة شهادة عدلين،و غيرها من الحجج الشرعيّة.

و احتمال إرادة الحكم الواقعي من صدره،و استفادة حجّية الاستصحاب من ذيله،كما في الكفاية (1)،في غير محلّه؛لأنّ المراد من قوله حتّي تعلم أنّه ينكشف لك أنّه من الأوّل كان حراما؛لأنّ العلم بالحرمة غاية للحكم الظاهري،و إن أمكن جعله غاية للحكم الواقعي أيضا،لكنّه لا يقول به،و التقدير خلاف الظاهر،بأن يكون قوله«كلّ شيء»بعنوانه الأوّلي حلال واقعا،و تستمرّ هذه الحلّية ظاهرا إلي أن يعلم ضدّه.2.

ص: 214


1- كفاية الاصول ص 452.

فنقول:هذا الخبر إمّا مختصّ بالشبهة الموضوعيّة،أو عامّ لها و للحكميّة؛ لإطلاق الشيء الشامل لمشكوك الحكم،كالأرنب مثلا،و ظاهره أنّ الحرمة الواقعيّة مخصوصة بالعالم بها،و هو و إن كان ممكنا لإمكان تخصيص الحكم واقعا بالعالم به،لكن يرفع اليد عن هذا الظهور للروايات الدالّة علي أنّ الحرمة متعلّقة بالمحرّمات بعناويها الواقعيّة.

و خبر عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (1).

و ظهوره في الشبهة الموضوعيّة واضح،و لا ربط له بالاستصحاب؛لأنّ الحلّية الظاهريّة باقية ما لم يحصل العلم لا لاستصحاب الحالة السابقة.

و موثّق عمّار:كلّ شيء نظيف حتّي تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فليس عليك (2).

و ظاهره أنّ ما لم يعلم كونه من الاعيان النجسة،فهو نظيف واقعا و هو ممكن، أي:اختصاص الحكم بالنجاسة بمعلوم البوليّة مثلا،و ظاهر الحدائق (3)اختياره.

أقول:مقتضي الجمع بين الأدلّة أن يقال:المراد من هذا الخبر الحكم بنظافة ما لم يعلم قذارته موضوعا أو حكما.

و قوله«فإذا علمت فقد قذر»و إن كان ظاهرا في حدوث القذارة بالعلم،لكن يرفع اليد عنه أوّلا:لعدم العلم بصدور عين هذه العبارة عن المعصوم من نقل عمّار، و ثانيا:لو سلّم صدوره فهو محمول علي كون العلم طريقا إليها.

و ما ذكره في الكفاية من أنّ صدره لبيان الحكم الواقعي،و يستفاد حجّية6.

ص: 215


1- وسائل الشيعة 12:59 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:156 ب 19 النجاسات ح 1.
3- الحدائق الناضرة 1:136.

الاستصحاب من ذيله،قد عرفت منعه.

و يمكن أن يكون المعني أنّ ما يشكّ في كونه نجسا،سواء كان الشكّ مسبوقا بالعلم بالنجاسة،أو بالطهارة،أو لم يكن له حالة سابقة،فهو محكوم بالطهارة، فالمعني كلّ شيء يشكّ في نظافته فهو نظيف،لكن يقيّد إطلاقه بما إذا لم يكن حالته السابقة النجاسة بأخبار الاستصحاب.

و خبر ضريس،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟فقال:أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل،و أمّا ما لم تعلم فكله حتّي تعلم أنّه حرام (1).

قوله«نجده»يعني في سوقهم و بأيديهم،و ليس المراد نجده في الأرض.

قوله«خلطه الحرام»يعني لبن الخنزير و نحوه كشحم الميتة.

أقول:المنع عن دلالته واضح.

و خبر أبي هاشم الجعفري،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل أبق منه مملوكه يجوز أن يعتقه في كفّارة اليمين و الظهار؟قال:لا بأس به ما لم تعرف منه موتا[ما علم أنّه حيّ مرزوق-خ]الحديث.

و خبر أحمد بن هلال،قال:كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام كان عليّ عتق رقبة، فهرب لي مملوك لست أعلم أين هو يجزئني عتقه؟فكتب:نعم (2).

أقول:الخبر الأوّل علي نسخة مذكورة في الوسائل فقط غير مذكورة في الكافي و لا الفقيه و لا التهذيب علي الطبع الجديد من هذه الثلاثة،يدلّ علي عكس المطلوب،مع أنّه لو سلّم دلالته علي الاستصحاب،فلا وجه للتعدّي إلي غيره.

و ظاهر الخبر الثاني أنّه يعلم حياته،و لكن لا يعلم أين هو.1.

ص: 216


1- جامع أحاديث الشيعة 28:307-308 ب 52 ح 1.
2- وسائل الشيعة 16:53 ح 1 و ح 2،و جامع أحاديث الشيعة 19:360 ب 41 ح 1.

ثمّ إنّه في الوسائل عنون بابا هو باب جواز البناء في الشهادة علي استصحاب بقاء الملك و عدم المشارك في الارث و الشهادة بالعلم و نفيه و الحلف عليهما،أورد فيه هذه الأخبار (1)،و هي:

خبر معاوية بن وهب،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الرجل يكون في داره،ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله،ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره،و لا ندري ما أحدث له من الولد،إلاّ انّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئا و لا حدث له ولد،و لا تقسم هذه الدار علي ورثته الذين ترك في الدار حتّي يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثا بين فلان و فلان، أ و نشهد علي هذا؟قال:نعم،قلت:الرجل يكون له العبد و الأمة،فيقول:أبق غلامي أو أبقت أمتي،فيؤخذ بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه،أفنشهد علي هذا إذا كلّفناه و نحن لم نعلم أنّه أحدث شيئا؟فقال:كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته،أو غاب عنك لم تشهد به (2).

أقول:إن كان المراد من قوله«أو غاب عنك»غيبوبة المرء المسلم عنك، فينافي صدر الحديث،و يحتمل أن يكون المراد غيبوبة غلام المرء المسلم عنك.

ثمّ إنّ العموم المذكور في ذيله«كلّما غاب»معارض بخبره الآخر،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرف ذلك،فيقول:أبق غلامي أو أمتي،فيكلّفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم يبع و لم يهب،أنشهد علي هذا إذا كلّفناه؟قال:نعم (3).

و يمكن أن يقال:إنّهما يصيران من المجمل،و لا بدّ من الرجوع إلي غيرهما،3.

ص: 217


1- وسائل الشيعة 18:245،و جامع أحاديث الشيعة 25:173 ب 14.
2- وسائل الشيعة 18:246 ح 2.
3- وسائل الشيعة 18:246 ح 3.

فيبقي مقتضي صدر الحديث الأوّل و هو جواز الشهادة تعويلا علي الاستصحاب سليما عن المعارض،مؤيّدا بخبره الآخر،قال:قلت له:إنّ ابن أبي ليلي يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان و تركها ميراثا،و أنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له،فقال:اشهد بما هو علمك،قلت:إنّ ابن أبي ليلي يحلفنا الغموس،فقال:

احلف إنّما هو علي علمك (1).أي:تشهد لأنّك عالم بالمشهود به،و إن كنت شاكّا فعلا.

و هذه الروايات كلّها عن معاوية بن وهب،فيشكل الأمر.

ثمّ إنّ مورد أكثر هذه الروايات لو سلّم دلالتها علي الاستصحاب هو الحكم ببقاء الحكم السابق فيما كان باقيا لو لا طروء الشكّ عليه.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ عمدة دليل الاستصحاب هي أخبار زرارة المشتملة علي قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»الواردة في الطهارة الحدثيّة و الخبثيّة و ركعات الصلاة،و خبر محمّد بن مسلم المروي في الخصال،فينبغي الاقتصار علي صدق نقض اليقين بالشكّ،و لا يصدق نقض اليقين إلاّ إذا كان اليقين موجودا لو لا طروء الشكّ،بحيث كان الشكّ ناقضا،كما كان اليقين الطاريء ناقضا.

و أمّا إذا كان يقين و شكّ من الأوّل،فليس نقضا لليقين بالشكّ،فكلّ مورد كان اليقين غير محدود،و طرأ شكّ في تحقّق الناقض جري الاستصحاب،فإنّه فرق بين نقض اليقين باليقين،و بين انتهاء أمد اليقين،فإذا علم وجوب الجلوس في المسجد يوم الجمعة إلي الزوال،و شكّ في وجوبه بعد الزوال،فإنّ اليقين ينتهي أمده عند الزوال.

و بعبارة اخري:اليقين في جميع الموارد موجود إلي زمان الشكّ،فإن كان1.

ص: 218


1- وسائل الشيعة 18:246 ح 1.

اليقين باقيا لو لم يطرأ الشكّ صدق نقض اليقين بالشكّ.أمّا لو لم يحرز بقاء اليقين، فلا يصدق النقض.

ففي المثال المذكور لو لم يكن يشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال لكان متيقّنا بعدم الوجوب،أو متيقّنا بالوجوب،فليس الشكّ عارضا بحيث لو لم يكن لكان اليقين بوجوب الجلوس باقيا،بل لعلّه يتيقّن بعدم الوجوب،و هذا بخلاف مثل الطهارة،فإنّه لو لم يطرأ هذا الشكّ في الحدث لكان اليقين بالطهارة باقيا.

و علي ما ذكرنا يختصّ جريان الاستصحاب ببعض الشبهات الموضوعيّة، كالملكيّة و الزوجيّة و الطهارة و النجاسة.و أمّا الموضوعات الخارجية كحياة زيد و بقاء المال الكذائي،فالحكم بالبقاء فيها ليس من باب عدم نقض اليقين بالشكّ، بل هو تابع لبناء العقلاء الذي أمضاه الشارع،و تقدّم بيانه.

و عليه لا يجري الاستصحاب القهقرائي،و لا الاستقبالي،و لا في الشبهة الحكميّة،و إن كان منشؤها رافعيّة الموجود،و سيأتي توضيح ذلك.

القول الثاني:حجّيته مطلقا،و استدلّ له بأمور:

الأوّل:عدم الدليل علي عدم الحكم بعد ثبوته دليل علي ثبوته،ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه،قال:فأمّا استصحاب الحال،فصورته ما يقوله أصحاب الشافعي من أنّ المتيمّم إذا دخل في الصلاة ثمّ رأي الماء،فإنّه قد ثبت أنّه قبل رؤيته للماء يجب عليه المضيّ في الصلاة بالاتّفاق،فإذا حدث رؤية الماء،فيجب أن يكون علي ما كان عليه من حكم الحال الاولي،و غير ذلك من المسائل.

و قد اختلف العلماء في ذلك،فذهب أكثر المتكلّمين و كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة إلي أنّ ذلك ليس بدليل،و هو الذي ينصره المرتضي قدّس سرّه،و ذهب أكثر أصحاب الشافعي و غيرهم،و هو الذي كان ينصره شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه إلي أنّ ذلك دليل،ثمّ أخذ في الردّ عليه.

ص: 219

إلي أن قال:و لأنّه لا فرق بين من عوّل في ذلك علي ما قالوه،و بين من عوّل في حمل مسألة علي اخري.

إلي أن قال:و الذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال:لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل لكان علي ذلك دليل،و إذا تتبّعنا جميع الأدلّة،فلم نجد ما فيها ما يدلّ علي أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولي،دلّ علي أنّ حكم الحالة الاولي باق علي ما كان إلي آخر كلامه (1).

و ظاهره ارتضاء دليليّة الاستصحاب،و لعلّ المراد بدليل العقل علي حجّية الاستصحاب هو هذا الوجه،و حاصله أنّ عدم الدليل علي كون الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولي دليل علي العدم.

أقول:يمكن المناقشة فيه بأنّه لم لا يدلّ عدم الدليل علي كون الحالة الثانية مخالفة للاولي؟نعم إذا كانت مسألة ابتدائيّة غير مسبوقة بحرمة أو حلّية،كحرمة أكل بعض ما يشكّ في حرمته،يمكن أن يقال:إن كانت محلّ الابتلاء بحيث لو كان دليل علي حرمته لبان،فيكشف عدم الوجدان عن عدم الوجود،فيتمّ ما ذكره.

و أمّا مجرّد عدم الدليل فليس دليلا علي العدم،و لا يخفي أنّ محلّ كلامه الشبهة الحكميّة.

الثاني:الاجماع،و هو ممنوع تحقّقه و حجّيته.و ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ ظاهر كلمات جماعة الاتّفاق علي صورة الشكّ في الرافع (2).ممنوع،فإنّه لم يثبت ذكره في كلام المتقدّمين.و دعوي الاجماع ممّن ذكره،إجماع منقول، مضافا إلي احتمال كونه ذا مدرك،و لا إجماع علي المستصحب العدمي.

الثالث:أنّ الشيء إذا ثبت و لم يعلم زواله كان بقاؤه مظنونا.2.

ص: 220


1- العدّة ص 303 الطبع الحجري.
2- فرائد الاصول ص 562.

و فيه أنّه ليس كذلك دائما،و لو فرض حصول الظنّ لم يكن دليل علي حجّيته.

الرابع:الأخبار،و تقدّم كيفيّة الاستدلال بها عن كفاية الاصول و الجواب عنه، و اختار القول بالحجّية مطلقا في مصباح الاصول،لكن قال:إنّ الاستصحاب في بعض الشبهات الحكميّة يكون معارضا بأصالة عدم الجعل.

بيان ذلك:أنّه إن شكّ في نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه، فاستصحاب النجاسة معارض باستصحاب عدم جعل النجاسة للماء بعد زوال تغيّره بنفسه فيسقطان؛لأنّ الماء المتغيّر الذي هو موضوع الحكم إذا فرض زوال تغيّره يكون هو الماء المتغيّر الأوّل عرفا؛لأنّهم يرون التغيّر من أحواله،كزيد في حال قيامه و قعوده،فإذا ألغي الزمان حتّي يكون شيء واحد متعلّقا لليقين و الشكّ ليصدق نقض اليقين بالشكّ،يكون الماء بعد زوال تغيّره بنفسه مسبوقا بأمرين:

أحدهما الحكم عليه بالنجاسة،ثانيهما عدم جعل النجاسة له،و كلّ واحد منهما محكوم بعدم نقض اليقين بالشكّ،و الموضوع واحد عرفا بالنسبة إلي كلا الاستصحابين.

و الشكّ في النجاسة و إن كان مسبّبا عن الشكّ في الجعل،و الأصل السببي حاكم علي المسبّبي إلاّ انّه ليس المقام من ذلك؛لأنّ الحكم بعدم النجاسة ليس أثرا شرعيّا لعدم الجعل،بل هو من آثاره التكوينيّة،هكذا أجاب في المصباح (1).

و فيه أوّلا:ما مرّ من أنّه ليس من نقض اليقين بالشكّ،فإنّه من الأوّل له يقين محدود إلي زمان زوال التغيّر و شكّ،فهو علي يقين و شكّ،لا علي يقين ينقضه الشكّ.

و ثانيا:إذا شكّ في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر بنفسه فهو شكّ واحد،و هو5.

ص: 221


1- مصباح الاصول 3:45.

الشكّ في أنّ إنشاء نجاسة الماء المتغيّر هل هو إلي الأبد أو إلي زوال التغيّر بنفسه، و حيث إنّ موضوع حكم الشارع و هو إنشاء نجاسة الماء المتغيّر هو الماء و التغيّر من الحالات،كقيام زيد الذي لا يوجب تعدّد زيد،فيقال:إنّ قوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»يقتضي أنّ الحكم الانشائي الذي ثبت علي الماء المتغيّر باق بعد زوال التغيّر بنفسه.

هذا كلّه في مرحلة إنشاء الحكم،و ليس للحكم الشرعي مرحلتان؛مرحلة الجعل،و مرحلة الفعليّة،بل تمام ما بيد الشارع هو إنشاء الحكم.و لذا نقول:الماء المتغيّر نجس واقعا إلي زمان زوال التغيّر بنفسه،و نجس ظاهرا بعد زواله بنفسه بالاستصحاب،ثمّ إذا وجد الماء المتغيّر يكون انطباق الحكم بالنجاسة عليه أمرا تكوينيّا قهريّا،و كذا إن زال التغيّر بنفسه يكون انطباق الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب علي موضوعه تكوينيّا و قهريّا،و ليس للحكم إلاّ مرحلة واحدة، و هو إنشاء الحكم علي موضوعه،فليس هناك إلاّ استصحاب الجعل،هذا إن اخذ موضوع الاستصحاب من العرف،فيقال:إنّ العرف يري الماء المتغيّر كزيد القائم و زوال التغيّر كقعود زيد بعد القيام.

نعم إن اعتبر وحدة الموضوع من جميع الجهات و بالدقّة العقليّة،كان زيد القائم غير زيد القاعد،و كان الماء المتغيّر غير الماء الذي زال تغيّره بنفسه،و حينئذ يقال:

إنّ القدر المتيقّن من جعل النجاسة هو جعله علي الماء المتغيّر،و أمّا الفرد الآخر المبائن للفرد الأوّل،و هو هذا الماء بعد زوال تغيّره،فالأصل عدم إنشاء النجاسة له.

و ما ذكرناه مراد صاحب الكفاية في الأمر الرابع،بقوله:لا يقال فإنّه يقال... (1).6.

ص: 222


1- كفاية الاصول ص 466.

القول الثالث:التفصيل بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليله أو من الخارج استمراره،فشكّ في الغاية الرافعة و بين غيره،فيعتبر في الأوّل دون الثاني،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،و يظهر منه التعميم للشكّ في الرافع و رافعيّة الموجود، فإنّه حكي عن المحقّق أنّه قال في المعارج:فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق،فالمستدلّ علي أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال حلّ الوطء ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ،فكذا بعده كان صحيحا الخ.

و جعله موافقا لمختاره،و استدلّ (2)له بثلاثة امور:

الأوّل:الاجماع،و تقدّم الكلام فيه.

الثاني:الاستقراء،قال:إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع،فلم نجد من أوّل الفقه إلي آخره موردا الاّ حكم الشارع فيه بالبقاء،إلي أن قال:و الانصاف أنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع الخ (3).

أقول:لم أجد التعرّض للاستصحاب في كتب المتقدّمين إلاّ قليلا.

الثالث:الأخبار المشتملة علي عدم نقض اليقين بالشكّ،قال:إنّ قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»لا يراد به النقض حقيقة كنقض الحبل،و المعني المجازي أحد أمرين لا بدّ من الحمل علي ما كان منه أقرب إلي المعني الحقيقي.أحدهما:

مطلق ترك العمل بالشيء،ثانيهما:ترك العمل بالشيء الذي له بقاء.

و المعني الثاني أقرب إلي معني النقض؛لأنّه لم يتصرّف في مفهوم النقض، و إبقاء مفهوم النقض يوجب كون متعلّقه ما له بقاء بخلاف المعني الأوّل،فإنّه يوجب التصرّف في مفهوم النقض و يبقي متعلّقه عامّا،و إذا دار الأمر بين التصرّف3.

ص: 223


1- فرائد الاصول ص 561.
2- فرائد الاصول ص 561-570.
3- فرائد الاصول ص 563.

في الفعل أو في متعلّقه،فالتصرّف في المتعلّق أولي؛لأنّ الفعل يكون قرينة علي التصرّف في المتعلّق،كما في قول القائل لا تضرب أحدا،فإنّ الضرب قرينة علي اختصاص العامّ بالأحياء،لأنّ الضرب ظاهر في المولم،و لا يكون شمول عموم «أحدا»للأموات قرينة علي إرادة مطلق الضرب الشامل للجمادات.

و قال في موضع آخر:إنّ النقض رفع الأمر المستمرّ في نفسه،و قطع الشيء المتّصل كذلك،فلا بدّ أن يكون متعلّقه ما يكون له استمرار و اتّصال،و ليس ذلك نفس اليقين لانتقاضه بغير اختيار المكلّف،فلا يقع في حيّز التحريم و لا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف؛لارتفاعها بارتفاعه قطعا،بل المراد به بدلالة الاقتضاء الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين؛لأنّ نقض اليقين بعد ارتفاعه لا يعقل له معني سوي هذا،و حينئذ لا بدّ أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لو لا الناقض (1)انتهي.

أقول:قد عرفت أنّ النقض هو هدم ما له مادّة و هيئة مّا بقاء،لا قطع الحبل و نحوه،و هو متعلّق باليقين،و اليقين ينقض بقاء بالشكّ،و النهي عنه بدلالة الاقتضاء يكون نهيا عنه عملا.

و هذا المعني يختصّ بما إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ،بأن يكون عروضه ناقضا له،فيختصّ بالشكّ في الناقض،و لا يشمل الشكّ في رافعيّة الموجود لأجل الشبهة الحكميّة أو المفهوميّة أو الموضوعيّة.

ثمّ إنّه قد أورد في مصباح الاصول (2)نقوضا علي مختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و هو اختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع،ترد هذه النقوض علي مختارنا،و هي:8.

ص: 224


1- فرائد الاصول ص 620.
2- مصباح الاصول 3:28.

الأوّل:استصحاب عدم النسخ،فإنّه قائل به مع أنّ الشكّ فيه شكّ في المقتضي.

الثاني:الاستصحاب في الموضوعات،فإنّه قائل به مع أنّ الشكّ في حياة زيد و عدالته من الشكّ في المقتضي.

الثالث:استصحاب عدم الغاية،كالشكّ في مجيء شوّال،مع أنّ الشكّ في بقاء شهر رمضان من الشكّ في المقتضي.

أقول:لعلّ الشيخ رحمه اللّه يقول بأنّ ما ثبت من دليله أو من الخارج أنّه أمر مستمرّ لا يكون من الشكّ في المقتضي.أمّا في مورد النسخ،فلأنّ دليل الحكم ظاهر في بقائه،و يكون النسخ رافعا له.و أمّا الموضوعات،فالعرف يري زيدا باقيا إلاّ أن يأتيه هادم اللذّات.و كذا الشكّ في الغاية،فإنّ شهر رمضان من أوّله إلي آخره كأنّه شيء واحد يرفعه رافع.

و أمّا علي المختار،فلا يجري استصحاب عدم النسخ.أمّا في شريعتنا،فلأنّ الأحكام ظاهرة في البقاء فيتمسّك بذلك حتّي يرد النسخ و لا يقع الشكّ.و أمّا بالنسبة إلي الشرائع السابقة،فالاستصحاب فيها بالنسبة إلينا غير جار علي ما سيأتي.و أمّا في الموضوعات،فليس ذلك استصحابا مستفادا من الأخبار،بل هو بناء العقلاء الممضي شرعا في بعض الموارد.

و أمّا في الشكّ في مجيء الغاية،فلا يجري الاستصحاب.

القول الرابع:عدم الحجّية مطلقا،حكاه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)عن السيّد المرتضي رحمه اللّه،و استدلّ له بامور:

الأوّل:أنّ الدليل الأوّل إذا كان لا يتناول إلا الحالة الاولي و كانت الحالة الاخري عارية منه،كان إثبات الحكم في الحالة الثانية جمعا بين الحالتين في4.

ص: 225


1- فرائد الاصول ص 584.

الحكم من غير دليل.و فيه أنّ إثبات الحكم في الحالة الثانية ليس للقياس علي الحالة الاولي،بل لأدلّة حجّية الاستصحاب.

الثاني:أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب في من علم زيدا في الدار ثمّ غاب عنه أن يحسن اعتقاده باستمراره في الدار،مع أنّه لا يستحسن إلاّ بدليل.

و فيه أنّ ما ذكره صحيح فيما لم يبن العقلاء عليه كالمثال المذكور و سائر الصفات التي في معرض الزوال؛لما تقدّم من أنّ أخبار لا ينقض اليقين بالشكّ لا تشمل هذه الموارد،و بناء العقلاء الممضي شرعا مختصّ ببعض الموارد،كحياة زيد إن غاب،و بقاء بعض الأشياء.

و ذكر له وجوه اخر لا يتمّ الاستدلال بها علي حجّيته مطلقا.

القول الخامس:التفصيل بين العدمي و الوجودي.

و الظاهر عدم الفرق بينهما في توقّف صدق نقض اليقين بالشكّ علي أن يكون اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،ففي مثل استصحاب عدم غروب الشمس لا يكون اليقين موجودا؛لأنّ عدم الغروب في هذه الساعة غير عدم الغروب في الساعة المتقدّمة.و من ذلك يظهر أنّ دعوي أنّ الشكّ في بقاء العدم يكون دائما من الشكّ في مجيء الرافع؛لأنّ علّة الوجود رافعة للعدم.ممنوعة كما هو واضح.

و أمّا أصالة عدم القرينة و نحوها من الاصول العقلائيّة المعتبرة في المحاورات الممضاة شرعا من أجل أنّ الشارع كانت محاوراته كسائر أرباب المحاورات، فليست حجّيتها من باب الاستصحاب.

و قيل:بناء علي عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي و اختصاصه بالشكّ في الرافع يكون الشكّ في انتقاض العدم من الشكّ في الرافع دائما لعدم احتياج العدم إلي المقتضي.

أقول:ليس في الدليل عنوان الشكّ في المقتضي و الرافع،و الميزان عندنا أن

ص: 226

يكون علي يقين لو لا عروض الشكّ حتّي يصدق نقض اليقين بالشكّ و العدم في زمان غيره في زمان آخر،فلا فرق بين الوجود و العدم.

القول السادس:التفصيل بين الحكم التكليفي و الوضعي.

و الظاهر عدم الفرق بينهما،و المناط صدق النقض.ثمّ إنّ الفرق بين الحكم التكليفي و الوضعي،أنّ الأوّل متعلّق بفعل المكلّف ابتداء،فتجب عليه الصلاة و يحرم عليه شرب الخمر،و يستحبّ صلاة الليل و يكره بعض الأفعال،و يباح له المباحات.و الحكم الوضعي هو الاعتبار بشيء لشيء،كاعتبار ملكيّة الشيء للطفل الغير المميّز الذي مات أبوه مثلا،فإنّه يملك أمواله بالارث،و يترتّب عليه الأحكام التكليفية،و أمّا تسمية الجزئيّة حكما وضعيّا فمسامحة؛لأنّ الجزئيّة و ما ماثلها من الامور الانتزاعيّة ليست شيئا وراء منشأ الانتزاع.

ثمّ إنّه نسب إلي الشيخ رحمه اللّه أنّه يقول:إنّ الاحكام الوضعيّة كلّها منتزعة عن الأحكام التكليفية،لكن له عبارة ربما توجب الترديد في النسبة المذكورة، فلاحظ (1).

ثمّ إنّ صاحب الكفاية فصّل بين أسباب التكليف و شرائطه،و بين أسباب المكلّف به و شروطه،فقال:إنّ السببيّة في الأوّل ليست جعليّة،بل لمصلحة إنشاء الحكم عنده،كسببيّة الدلوك لوجوب الصلاة،و الاستطاعة لوجوب الحجّ، و الشرطيّة في الثاني كالطهارة للصلاة أيضا غير مجعولة استقلالا،لكن يمكن أن يقال:إنّها مجعولة تبعا؛لأنّها منتزعة عن الأمر بالصلاة مع الطهارة (2)،و لا بأس بكلامه،و نسبة الخلط إليه-كما في المصباح (3)-لا وجه لها.1.

ص: 227


1- فرائد الاصول ص 603.
2- كفاية الاصول ص 455.
3- مصباح الاصول 3:81.

و أمّا النجاسة الثابتة لبعض الأشياء،فيمكن أن تكون اعتباريّة لمصلحة في الاعتبار،و يمكن أن تكون واقعيّة:إمّا حسّية كالعذرة و البول،أو معنويّة توجب قذارة الجسم الملاقي و إن لم تكن محسوسة.

القول السابع:التفصيل بين الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي،فلا يجري فيه الاستصحاب و بين غيره.

القول الثامن:التفصيل بين الحكم الثابت بالاجماع فلا يجري فيه و بين غيره.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم ببقاء ما تيقّن إن شكّ في بقائه يكون في موردين:

الأوّل:فيما إذا غاب شخص و لم يعلم حياته،فإنّه يبني علي البقاء حتّي في صورة الشكّ المحض لبناء العقلاء الممضي شرعا،و مثله الاصول التي يعتمدها أهل المحاورات،كأصالة عدم القرينة و نحوها من الاصول العقلائيّة التي عليها عمل أصحاب الأئمّة و محاورات أهل اللسان.

الثاني:ما إذا تيقّن بأمر يبقي لو لا وجود الرافع،فيكون اليقين باقيا ببقاء المتيقّن،فإذا شكّ في بقائه للشكّ في طروّ الرافع يكون علي يقين لو لا الشكّ الطاريء،و ليس ينقض اليقين المفروض وجوده لو لا الشكّ بالشكّ،و الدليل عليه أخبار لا ينقض اليقين بالشكّ.

المقصد الثاني: في تبيين ما يستفاد من قولهم لا ينقض اليقين بالشكّ
اشارة

الذي هو العمدة من مدرك الاستصحاب،فنقول:إنّه يدلّ علي اعتبار امور في الاستصحاب،و هي:

الأوّل:اليقين غير المحدود،فلو كان اليقين محدودا،كما إذا تردّد مدّة العقد المنفطع بين كونه إلي شهر أو شهرين،لم يجر الاستصحاب بعد انقضاء شهر؛لأنّ

ص: 228

اليقين كان محدودا إلي شهر،و معه لا يصدق نقض اليقين بالشكّ بناء علي وحدة الموضوع،و إن نوقش في اتّحاد الموضوع،بناء علي أنّ الزمان قيد في العقد المنقطع،فهو خارج عن المسألة،و يمكن فرضه فيما إذا كان الشكّ في أنّ العقد منقطع إلي شهر أو عقد دائم.

و كذا لو شكّ في طهارة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه؛لأنّ اليقين بالنجاسة محدود إلي زوال التغيّر،فمن سمع قوله«ينجس الماء إذا تغيّر بوقوع النجاسة فيه» يحصل له من هذا الكلام يقين و شكّ،اليقين بنجاسة الماء ما دام متغيّرا،و الشكّ في نجاسته بعد زوال التغيّر بنفسه،فلا يصدق في حقّه أنّه علي يقين ينقضه الشكّ،بل هو علي يقين و شكّ من أوّل ما سمع هذا الكلام.

الثاني:أن يكون اليقين موجودا و لو تقديرا،فلا يكفي كون المكلّف علي حال لو فحص أو تأمّل كان يحصل له اليقين.

الثالث:سبق اليقين علي الشكّ حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

الرابع:أن يكون اليقين موجودا حال الشكّ بأن تعلّق اليقين بالحدوث و الشكّ بالبقاء،فلو سري الشكّ إلي اليقين زال حدوثه و لم يكن مورد الاستصحاب.

الخامس:أن يكون الشكّ موجودا و لو تقديرا.

السادس:أن يكون الشكّ متعلّقا بالبقاء بمعني وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة بالدقّة العقليّة.

السابع:وجود الأثر الشرعي في بقاء المتيقّن حال الشكّ.

الثامن:أن يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين،و عدم العمل به بقاء له بحيث يكون ما تعلّق به اليقين باقيا،و لذا لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بعد تلف أحد الطرفين،فمن تيقّن كون أحد المايعين خمرا،فقد حصل له في زمان واحد اليقين بوجود الخمر خارجا،و الشكّ في كون كلّ واحد بخصوصه خمرا،

ص: 229

فإذا تلف أحدهما لم يحدث شكّ في بقاء ما تيقّنه،و هو كون أحدهما خمرا،مضافا إلي أنّ هذا الشكّ كان موجودا مع اليقين،و ليس طارئا و ناقضا لليقين.

و نذكر هذه الشرائط في الاستصحاب في ضمن امور:

الأمر الأوّل:يعتبر في جريان الاستصحاب وجود اليقين و الشكّ و لو تقديرا، بأن يكون اليقين موجودا و لو علي تقدير تحقّق شيء آخر،كمن لا يعلم أنّه تزوّج بهند أم لا،و علي فرض أنّه تزوّجها فهل طلّقها أو لا؟فإنّه يستصحب بقاءها علي الزوجيّة علي تقدير كونها زوجة،فله أن يطلّقها علي تقدير أنّه لم يطلّقها،و كذا لو كان شيء نجسا،ثمّ أخبره مخبر ذو يد أو غيره أنّه طهّره بحيث يحتمل صدقه،ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّه أصابه بول،فله أن يقول:إنّ هذا الشيء طاهر إن كان المخبر بطهارته صادقا واقعا،و شكّ في تنجّسه،فيستصحب الطهارة،فإنّه علي يقين بالملازمة المذكورة و يشكّ في رفعه.

و أمّا لو لم يكن اليقين و الشكّ موجودين أصلا،لكن كان بحيث لو تفحّص مثلا حصل له اليقين أو الشكّ،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّ اليقين و الشكّ كسائر الموضوعات من الماء و الجبن و نحوهما لا يصدقان إلاّ علي ما كان له وجود.

ثمّ إنّ اليقين و الشكّ إذا تحقّقا،فقد يبقي الالتفات إليهما،أو يغفل عنهما لنسيان أو غفلة بل و لإغماء،كسائر الامور الباقية في خزانة النفس،فاليقين و الشكّ موجودان في حال النوم و الغفلة.

فما في المصباح (1)من أنّ استصحاب الحدث قبل الصلاة لا يجري لانتفاء الشكّ بالغفلة.غير مقبول،فلو أنّ شخصا تيقّن أنّه متطهّر فنسي،ثمّ حصل له حالة شكّ في أنّه نام أو لا ثمّ نسي و صلّي،صحّت صلاته بلا إشكال.4.

ص: 230


1- مصباح الاصول 3:94.

ثمّ إنّهم ذكروا تفريعا علي ذلك فرعين:

الفرع الأوّل:إن تيقّن الحدث و شكّ في الطهارة و غفل و صلّي،فإنّ صلاته باطلة و لا تجري قاعدة الفراغ؛لأنّ موردها الشكّ الحادث،و هذا الشكّ ليس حادثا.

الفرع الثاني:إن تيقّن الحدث و لم يمرّ عليه زمان شكّ في بقائه و صلّي، و احتمل كون الصلاة مع الطهارة،فله صور:

الصورة الاولي:أن يعلم أنّه قبل دخوله في الصلاة كان متذكّرا للحدث،لكن احتمل أنّه صلّي غفلة بدون طهارة،و احتمل أيضا أنّه تطهّر،فالشكّ حادث بعد الفراغ و تجري فيه قاعدة الفراغ بالاتّفاق؛لأنّ احتمال الأذكريّة حال العمل في قاعدة الفراغ لو كان معتبرا فهو موجود.

الصورة الثانية:أن يعلم أنّه كان غافلا حين الدخول في الصلاة،و انّه لو تذكّر علم الحدث أو عدمه،و لكن احتمل أنّه تطهّر،و تجري قاعدة الفراغ في حقّه بناء علي كونها أصلا تعبّديّا.

الصورة الثالثة:أن يعلم أنّه كان غافلا حين الدخول في الصلاة،و يعلم أنّه لو تذكّر كان يشكّ في أنّه محدث أو ليس بمحدث،فهل تجري قاعدة الفراغ بناء علي كونها أصلا تعبّديّا؛لأنّ الشكّ حادث و لم يمرّ عليه زمان قبل الصلاة يشكّ،أو لا تجري؛لأنّ هذا الشكّ ليس بحادث و إن لم يجر الاستصحاب قبل الصلاة؟ و جهان،أظهرهما الجريان بناء علي كونها أصلا تعبّديا؛لأنّ الشكّ حادث بعد الفراغ،و لم يمرّ عليه قبل الصلاة زمان يشكّ فيه في الطهارة،فلا يجري الاستصحاب لعدم وجود ركنه و هو الشكّ لا حقيقة و لا تقديرا،و بما ذكرنا ظهر أنّ

ص: 231

عنوان هذا الفرع في الفرائد (1)لا يخلو عن تعقيد و مسامحة،فلاحظ.

الأمر الثاني:قالوا:لا اعتبار بزمان حدوث الشكّ و اليقين،بل العبرة بزمان المشكوك و المتيقّن،و المشكوك:إمّا أن يكون متقدّما علي المتيقّن،و يسمّي الاستصحاب فيه بالاستصحاب القهقري،أو يكون متأخّرا و هو علي قسمين:

أحدهما:أن يكون المشكوك حاليّا.ثانيهما:أن يكون استقباليّا،فهذه ثلاثة أقسام.

أمّا الأوّل و هو ما إذا كان المشكوك متقدّما،و يعبّر عنه بالاستصحاب القهقري، فهو خارج عن مورد الأخبار؛لأنّ موردها علي ما عرفت هو نقض اليقين بالشكّ، و هو لا يصدق إلاّ إذا لم يكن اليقين محدودا،بل كان بحيث يبقي لو لا طروء الشكّ.

و أمّا إذا كانت حدود اليقين معلومة،فهو يقين و شكّ،و ليس الشكّ ناقضا لليقين،و فيما نحن فيه يكون اليقين محدودا بالزمان الحالي،و الشكّ متعلّقا بالزمان السابق،فهو علي يقين و شكّ،و ليس علي يقين غير محدود حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

و يظهر من صاحب الجواهر حجّيته،حيث قال فيما ذكره الأصحاب من أنّ الاعتبار بكون الشيء مكيلا أو موزونا بالمكيل و الموزون في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله، و إذا جهل حال عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله لكن كان الآن متعارفا و معلوما كفي،قال:

لاستصحاب هذا الحال إلي زمن الخطاب (2).

و قال في ملحقات العروة:نعم يمكن أن يقرّر الاستصحاب علي وجه آخر، و هو أن يقال:المراد من قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»صعودا و نزولا (3).3.

ص: 232


1- فرائد الاصول ص 548.
2- جواهر الكلام 23:364.
3- ملحقات العروة ص 33.

و قال في مصباح الاصول:إنّ الاستصحاب في مثله ليس بحجّة إلاّ فيما إذا علم معني اللفظ فعلا و شكّ في كونه كذلك سابقا،فإنّه يجري الاستصحاب،و لولاه لانسدّ باب الاجتهاد،و ذلك لبناء العقلاء لا لأخبار الاستصحاب (1).

و ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ذيل الأمر السابع حيث قال:و اعلم أنّه قد يوجد شيء في زمان و يشكّ في مبدئه و يحكم بتقدّمه؛لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله،و الأصل عدمه،و قد يسمّي ذلك بالاستصحاب القهقري.

مثاله:إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا،و شكّ في كونها كذلك قبل ذلك حتّي يحمل خطابات الشارع علي ذلك،فيقال:مقتضي الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان بل قبله؛إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل و تعدّد الوضع و الأصل عدمه،و هذا إنّما يصحّ بناء علي الأصل المثبت،و قد استظهرنا سابقا أنّه متّفق عليه في الاصول اللفظيّة،و مورده صورة الشكّ في وحدة المعني و تعدّده،أمّا إذا علم التعدّد و شكّ في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا،فمقتضي الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم،و لذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة علي أنّ الأصل فيها عدم الثبوت (2)انتهي.

قوله«و مثاله»،أقول:توضيح كلامه أنّه إن ثبت أنّ الصيغة عندنا حقيقة في الوجوب و شكّ في أنّه كان كذلك من أوّل وضع الصيغة،و هو ابتداء وضع لغة العرب،و هذا مراده من قوله«بل قبله»أي:قبل زمان الشارع،ففي مثله يحكم بأنّه وضع للوجوب؛لأنّ تأخّر صيرورتها حقيقة في الوجوب يستلزم حدوث وضع للوجوب،و هو حادث آخر قبل استعمالها في الوجوب،و الأصل عدم حدوث وضع جديد للوجوب،فقد تمسّك لاثبات التقدّم بأصالة عدم وضع جديد،و لذا9.

ص: 233


1- مصباح الاصول 3:90.
2- فرائد الاصول ص 669.

قال بأنّه يكون من الأصل المثبت؛لأنّ أصالة عدم حدوث الوضع الجديد لاثبات كونه حقيقة في الوجوب من أوّل ما وضع تكون من الاصول المثبتة.

و فيه منع بنائهم علي ذلك،و لو سلّم بناؤهم فنمنع إمضاء الشارع له،و الموارد التي يحتمل تغيّر المعني لا بأس بالاحتياط فيها،و لا ينسدّ باب الاجتهاد،و لو سلّم انسداده فلا بدّ من الرجوع إلي أقوي الظنون لو كان الاحتياط عسرا غير لازم.

و أمّا الثاني و هو ما كان المشكوك حاليّا،فهو الاستصحاب المستفاد من الأخبار،قيل:الاعتبار فيه بتقدّم المتيقّن علي المشكوك لا بحدوث اليقين و الشكّ، و الحقّ عندنا أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب في جميع موارد جريانه تقدّم اليقين علي الشكّ حتّي يكون رفع اليد عن اليقين بالشكّ نقضا لليقين بالشكّ،مثلا من شكّ في كونه متطهّرا،ثمّ حدث له اليقين أنّه تطهّر قبل زمان حدوث الشكّ،إنّما يجري الاستصحاب بعد حدوث اليقين،فيكون اليقين متقدّما علي الشكّ.

و أمّا الثالث و هو ما كان المشكوك استقباليّا،فلا يجري الاستصحاب لكون اليقين محدودا،كما إذا علم أوّل الوقت بأنّه مريض إلي ساعة،أو ليس له ماء إلي ساعة،و شكّ في برئه أو وجود الماء بعد ساعة،فهو علي يقين من الأوّل إلي ساعة و شكّ من الأوّل بالنسبة لما بعدها،و ليس الشكّ ناقضا لليقين،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ.نعم إذا صدق نقض اليقين بالشكّ جري.

و لم أر موردا في الشرع عمل فيه علي الاستصحاب الاستقبالي،بل ورد خلافه،كما في استظهار المرأة بعد العادة،و لو جري الاستصحاب في الاستقبالي لكانت تعمل ما تعمله الحائض جزما،و إن احتمل أنّه لا يجري الاستصحاب لكونه في الامور التدريجيّة،و يدلّ صحيح البزنطي علي أنّه لا يجعل عمل الشهر المستقبل مهرا لعدم العلم ببقائه.

روي الكليني باسناده عن البزنطي،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:قول شعيب

ص: 234

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أيّ الأجلين قضي؟قال:الوفاء منهما أبعد هما عشر سنين،قلت:فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟قال:قبل أن ينقضي، قلت:فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين يجوز ذلك؟فقال:إنّ موسي عليه السّلام قد علم أنّه سيتمّ له شرطه،فكيف لهذا بأن يعلم أن سيبقي حتّي يفي؟ و قد كان الرجل علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتزوّج المرأة علي السورة من القرآن، و علي الدرهم و علي القبضة من الحنطة (1).فيمكن أن يستدلّ به علي عدم جريان الاستصحاب الاستقبالي.

ثمّ لا يخفي أنّ عدم الاعتناء بالشكّ في الموت،و البناء علي البقاء أمر مركوز في الأذهان،و عليه بناء العقلاء الممضي في زمان الشارع،و لذا لو ظهر عليه أمارات الموت وجب الوصيّة،مع أنّ الاستصحاب التعبّدي موجود لو جري في الامور المستقبلة،لكن ليس بناء العقلاء علي الجريان.

و في مصباح الاصول (2)اختار جريان الاستصحاب.

و ممّا ذكر ظهر أنّه لو شكّ في سعة الوقت للطهارة المائيّة أو ضيقه لم يجر الاستصحاب؛لكونه استصحابا لبقاء الوقت إلي أن يتطهّر طهارة مائيّة و يصلّي،فهو استصحاب استقبالي.

الأمر الثالث:في حلّ معضلة جريان الاستصحاب في موارد قيام الأمارة، و هي أنّ الأمارة لا توجب اليقين،فكيف يستصحب ما قامت عليه الأمارة؟مثلا إن قامت بيّنة علي نجاسة شيء،ثمّ شكّ في تطهيره كيف يستصحب نجاسته مع أنّه لا يقين بنجاسته حدوثا؟9.

ص: 235


1- وسائل الشيعة 15:33 ب 22 ح 1.
2- مصباح الاصول 3:89.

و التحقيق في الجواب أن يقال:إنّ الأمارة القائمة علي الشيء توجب اليقين بالوظيفة الظاهريّة،فيستصحب هذا اليقين لو شكّ في طروء الناقض.و أمّا ما ثبت بالأصل فهو باق إلي العلم بالخلاف،و لا حاجة إلي الاستصحاب،لكن قيل:إنّه لو غسل الثوب المتنجّس في الماء المستصحب الطهارة طهر الثوب،ثمّ إن شكّ في إصابة نجاسة للثوب استصحب طهارة الثوب.

قلت:طهارة الثوب طهارة ظاهريّة،و هي باقية إلي حصول اليقين بالنجاسة،فلا حاجة إلي استصحاب طهارته.

ثمّ إنّهم ذكروا لحلّ هذه المعضلة وجوها:

الأوّل:ما في كفاية الاصول (1)من أنّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّي الطريق حينئذ محكوم بالبقاء،فتكون الحجّة علي ثبوته حجّة علي بقائه تعبّدا؛للملازمة بينه و بين ثبوته واقعا.

و اورد عليه بأنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب كون اليقين موضوعا كالشكّ،و انّ قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ»راجع إلي القضيّة الارتكازيّة،و هي أنّ الأمر المبرم كاليقين لا ينقض بغير المبرم.

أقول:إنّه في صورة إصابة البيّنة يكون الشيء موجودا،فهو علي فرض الوجود متيقّن،فاليقين موجود علي تقدير،كما أوضحناه في الأمر الأوّل.

الثاني:أنّ التعبّد بالأمارة يجعلها علما تعبّدا،فيكون دليل حجّية الأمارة موجبا لتوسعة اليقين إلي اليقين الوجداني و اليقين التعبّدي.

و فيه أوّلا:ما مرّ من أنّ دليل الحجّية لا يجعل الأمارة علما تعبّدا.

و ثانيا:أنّ اليقين و الشكّ المأخوذين في الاستصحاب منقوضا و ناقضا هما1.

ص: 236


1- كفاية الاصول ص 461.

الوجدانيان،و ليس في دليل حجّية الأمارة أنّها بمنزلة الوجداني في جميع الموارد.

الثالث:أنّ المستفاد من مجموع أخبار الاستصحاب و من مناسبة الحكم و الموضوع أنّ المراد باليقين الحجّة،و بالشكّ غير الحجّة،أي:لا تنقض الحجّة القائمة علي شيء بالشكّ في زواله.

و فيه نظر إن لم يرجع إلي ما ذكرناه.

ثمّ إنّ دعوي أنّ الموضوع في باب الاستصحاب اليقين العرفي و هو حاصل في باب الأمارات،غير مسموعة،بل الموضوع في باب الاستصحاب اليقين الوجداني،مع أنّه ليس في مورد الأمارات يقين عرفي.

الأمر الرابع:قد يكون اليقين متعلّقا بأمر جزئي،فيكون المستصحب جزئيّا معيّنا،كما إذا كان الأثر مترتّبا علي وجود خصوص زيد،أو جزئيّا مردّدا بين شخصين أو أكثر،كما إذا كان الأثر مترتّبا علي وجود زيد أو عمرو،و قد يتعلّق بأمر كلّي فيكون المستصحب كلّيا،قال الاصوليّون:و هو علي أقسام:

القسم الأوّل:ما كان الكلّي في ضمن فرد معيّن كالانسان الموجود بوجود زيد، أو غير معيّن كالانسان الموجود إمّا بوجود زيد أو وجود عمرو شكّ في بقائه، للشكّ في انعدام ذلك الفرد الذي تحقّق الكلّي في ضمنه،كما إذا كان متطهّرا و خرج منه رطوبة مردّدة بين البول و المني،ثمّ شكّ في أنّه توضّأ و اغتسل معا أو لم يتوضّأ و لم يغتسل،فإنّه مورد استصحاب كلّي الحدث.

ثمّ إنّ الأثر إن كان مترتّبا علي الكلّي،فلا إشكال في استصحابه،و هل يصحّ استصحاب الفرد ليترتّب عليه أثر الكلّي أو لا؟الظاهر عدم صحّة استصحاب الفرد؛لأنّ التعبّد ببقاء ما ليس له أثر غير صحيح.

القسم الثاني:قالوا:قد يكون المستصحب وجود الكلّي في ضمن أحد فردين يعلم بزوال أحدهما،فيصير منشأ للشكّ في بقاء الكلّي.

ص: 237

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في التنبيه الأوّل:الظاهر جريان الاستصحاب في الكلّي مطلقا،في الشكّ في المقتضي و الرافع،أي:عند القوم،و أمّا عنده ففي خصوص الشكّ في الرافع.نعم لا يتعيّن أحكام الفرد الباقي،مثاله في الشكّ في الرافع ما إذا علم المتطهّر بخروج رطوبة مردّدة بين البول و المني،فإنّه يجب عليه الجمع بين الطهارتين،فإذا توضّأ يشكّ في بقاء الحدث،فالأصل بقاؤه.و إن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة،فيجوز له المكث في المسجد،و مثاله في الشكّ في المقتضي ما لو تردّد ما في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة،أو كونه حيوانا يعيش مائة سنة،فيجوز بعد السنة الاولي استصحاب كلّي الحيوان إلي آخر ما أفاده (1).

و اورد علي استصحاب الكلّي القسم الثاني بأمرين:

الأوّل:أنّ فقد الفرد القصير وجداني،و الفرد الطويل مشكوك الحدوث، و الأصل عدمه،فهو مفقود تعبّدا.

و اجيب عنه-كما في الرسائل و الكفاية-بأنّ ذلك لا يضرّ باستصحاب الكلّي لوجود أركانه.

الثاني:أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن وجود الفرد الطويل،و أصل العدم الجاري فيه سببي يكون حاكما علي استصحاب الكلّي.

و اجيب عنه أوّلا:بأنّ الكلّي عين الفرد و ليس لازما له،و لا الفرد سبب لوجود الكلّي.

و ثانيا:لو سلّمت السببية فليست شرعية.

و ثالثا:أنّ بقاء الكلّي مسبّب عن كون الحادث هو الزائل أو الباقي و لا أصل8.

ص: 238


1- فرائد الاصول ص 638.

يعيّنه،لا عن حدوث الفرد الباقي.

أقول:الظاهر عدم صحّة الاستصحاب في الكلّي الذي يسمّونه القسم الثاني مطلقا،لا في الشكّ في المقتضي،و لا في الشكّ في الرافع،علي ما يقولون انّه شكّ في الرافع.

أمّا أوّلا:فلأنّ اليقين محدود،فإنّه يتيقّن من الأوّل بكونه محدثا إلي تحقّق الرافع الأوّل و بوجود الجيوان في السنة الاولي،و ليس علي يقين يبقي لو لا عروض الشكّ،بل هو علي يقين و شكّ.

و ثانيا:بعد تحقّق الرافع الأوّل أو انقضاء السنة الاولي لا متيقّن حتّي يستصحب؛لأنّه لا يصحّ أن يقال:إنّ الحدث المتيقّن سواء كان أصغر أو أكبر مشكوك البقاء؛و ذلك لأنّ الحدث الأصغر قد زال إن توضّأ،و إن اغتسل فالحدث الأكبر قد زال،و الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر أو الأكبر كان متيقّنا،و الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر قد زال،و الكلّي المتحقّق بالأكبر كان من الأوّل مشكوكا،فكيف يستصحب بعد زوال الحدث الأصغر،فلا بدّ في مثل ذلك من إجراء أحكام العلم الاجمالي بين الفرد الزائل و الفرد الباقي.

و ليس الحدث الكلّي حدثا مغايرا للحدث الأصغر بما هو أصغر،و للحدث الأكبر بما هو أكبر،فالمتطهّر إن خرج منه ما يتردّد بين البول و المني يعلم إجمالا بأنّ الخارج إن كان بولا يحرم الدخول في الصلاة،و يحرم عليه مسّ كتابة القرآن، و إن كان منيا يحرم عليه بالاضافة إلي حرمتهما المكث في المسجد،فإذا توضّأ مثلا لم ينحلّ العلم الاجمالي،غايته أنّه أتي بأحد طرفيه.

و الحاصل أنّ معني«لا تنقض اليقين بالشكّ»يرجع إلي أنّ المكلّف المتيقّن بشيء إن شكّ في بقائه،فهو يبقي اليقين و لا يرفعه بالشكّ.و في المثال المذكور و نحوه لا يمكن إبقاء اليقين؛لأنّ اليقين تعلّق بالحدث الأصغر أو الأكبر،و لا يمكن

ص: 239

إبقاؤه بعد زوال الأصغر بالوضوء.

و لا بأس بتوضيح أصل المطلب،فنقول:إنّ الكلّي أي المفهوم القابل للصدق علي كثيرين لا وجود له في الخارج؛لأنّ الوجود الخارجي متشخّص،و الكلّي موطنه الذهن.

و معني وجود الكلّي في الخارج أنّ الموجود في الخارج إن لوحظ إلي موجود آخر في الخارج،تارة يكون مماثلا له،و اخري يكون مباينا له،مثلا زيد موجود خارجي إن قيس إلي عمرو،فإن لوحظ كونه إنسانا أي موجودا مدركا،كان مماثلا لعمرو،فيقال لزيد بعد وجوده:الانسان موجود،كما يقال لعمرو بعد وجوده:الانسان موجود،فوجود الكلّي في زيد و عمرو من حيث ملاحظة المماثلة في الانسانية،و إن لوحظ زيد من حيث إنّه ابن خالد و طويل و غير ذلك من الخصوصيّات،كان مباينا لعمرو،و يقال له:جزئي.

و من البديهي أنّ الكلّي بما هو كلّي لا وجود له في الخارج،و المراد بوجوده في الخارج وجوده الذي له مماثل،أي:وجوده في ضمن زيد أو عمرو،لا أنّ له وجودا في الخارج،و هو متّحد مع وجود زيد و وجود عمرو معا ملغي عنه خصوصيّاتهما.

إذا تحقّق ذلك نقول:الحدث الكلّي لا يوجد في الخارج،أي:بما هو كلّي،بل الموجود الحدث الأصغر و الحدث الأكبر،فإن كان الأثر مترتّبا علي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالحدث الأكبر،مثل عدم المكث في المسجد فالأثر للجزئي؛لأنّه ليس الحدث الأصغر مثيلا له من هذه الجهة،و إن كان الأثر مترتّبا علي الحالة النفسيّة التي تتحقّق بالحدث الأصغر و الأكبر،مثل عدم الدخول في الصلاة،فالأثر للكلّي بمعني أنّه إن أحدث بالأصغر ثمّ شكّ في زواله استصحب الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر.و إن أحدث بالأكبر ثمّ شكّ في زواله،استصحب

ص: 240

الكلّي المتحقّق بالحدث الأكبر.

و مثال آخر:إذا كان زيد في الدار،ثمّ شكّ في خروجه منها،فإن كان الأثر مترتّبا علي وجوده من حيث إنّه ليس له مماثل،استصحب بقاء زيد.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في العلم،استصحب بقاء العالم.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الانسانيّة،استصحب بقاء الانسان.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الحيوانيّة،استصحب بقاء الحيوان.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في النموّ،استصحب بقاء النامي.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الجسميّة،استصحب بقاء الجسم،و في جميع هذه الموارد الموجود خارجا هو زيد.

و بهذا البيان يظهر أنّه لا معني لاستصحاب الكلّي القسم الثاني؛لأنّ الحدث الجامع بين الأصغر و الأكبر لا يوجد في الخارج،بل في الخارج:إمّا حدث أصغر أو أكبر،و كلّ منهما إن لوحظ بما هو هو كان جزئيّا،و إن لوحظ بما أنّ له مماثلا كان كلّيا،فمن كان متطهّرا و خرج منه رطوبة مردّدة بين البول و المني،فإن شكّ في أنّه توضّأ و اغتسل،فإن أراد الدخول في الصلاة،استصحب الحدث المتحقّق خارجا في ضمن الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر،و ليس له استصحاب الحدث الأصغر بما هو أصغر أو الأكبر بما هو أكبر.

و أمّا إن توضّأ،فليس له استصحاب الحدث من حيث الحدثيّة؛لعدم متيقّن يشكّ في بقائه،فلا متيقّن يحتمل بقاؤه؛لأنّ متيقّنه الحدث الأصغر أو الأكبر،و هذا المتيقّن لا يحتمل بقاؤه.

وهم و دفع:أمّا الوهم،فهو توهّم الفرق بين مورد العلم الاجمالي،و بين الاستصحاب الكلّي من القسم الثاني،بأن يقال:إنّ مثل الحدث الأصغر و الأكبر من موارد العلم الاجمالي.و أمّا إذا رأي الانسان طائرا بحيث يشير إليه حسّا،لكن

ص: 241

لا يدري أنّه عصفور أو غراب،و المفروض أنّ الأوّل يموت بعد اسبوع،فإذا مضي اسبوع يشير إلي الحيوان المذكور و يقول:أيقنت وجوده و أشكّ في وجود ذلك بعينه،و هذا هو الاستصحاب القسم الثاني من الكلّي.

و أمّا الدفع،فلأنّ اليقين من الأوّل محدود لم يتيقّن بشيء يبقي إن عرضه الشكّ،بل هو من الأوّل علي يقين و شكّ.

ثمّ إنّه لا بأس بذكر بعض الأمثلة لما ذكر:

منها:ما إذا علم وجود مؤمن في الدار،فإنّه لا يجوز هدمه عليه،فلو دار وجوده بين زيد الذي قد علم موته بعد شهر مثلا و عمرو الذي قد بقي إلي شهرين، فقد تنجّز عليه حفظ نفس المؤمن إمّا في زيد أو في عمرو،و لا يجوز هدم الدار؛ لأنّه علم إجمالا بعدم جواز هدمه علي زيد الذي مات،أو علي عمرو الذي بقي، و لا يجري بعد موت زيد استصحاب بقاء المؤمن؛لأنّ المؤمن الكلّي موطنه الذهن،و المؤمن الخارجي الذي هو زيد ميّت،و المؤمن الحيّ الذي يحتمل بقاؤه الذي هو عمرو مشكوك الحدوث.

و منها:ما لو تنجّس أحد موضعي العباءة:إمّا الطرف الأسفل،أو الطرف الأعلي،ثمّ طهر الطرف الأسفل،فقد يقال بعد تطهيره:قد علمت نجاسة بعض العباءة،إمّا طرفها الأسفل أو الأعلي و أشكّ في بقائها،أي:بقاء ذلك البعض النجس علي نجاسته،فاستصحب نجاسته أي:بعض العباءة،و إن شئت قلت أستصحب نجاسة الخيط الذي كان نجسا،فإذا لاقي الطرف الأعلي الماء القليل لم يحكم بنجاسة الماء؛لأنّه ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة.

لكن إذا لاقاه مع ذلك الطرف الأسفل الذي هو طاهر حكم بنجاسة الماء؛لأنّ ملاقاة الجزء الذي كان نجسا وجدانيّة،و ذلك الجزء محكوم بنجاسته تعبّدا للاستصحاب.و هذا الاستصحاب استصحاب الجزئي؛لأنّه كان علي يقين من

ص: 242

نجاسة ذلك الخيط من العباءة و يشكّ في بقائها،كما إذا علم أنّ أحد الرجلين زيد ثمّ مات أحدهما،فإنّه علي يقين من وجود زيد و يشكّ في بقائه.

أقول:لا يصحّ ذلك؛لأنّه لا شكّ في طهارة الأسفل،فهو الآن بمنزلة ما لم يتنجّس أصلا،و لا فرق بالبداهة بين الشيء الطاهر الذي لم يتنجّس و بين المتنجّس الذي طهر،و الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين أو المتيقّن السابق،و لا يمكن هنا إبقاؤه؛لأنّ المتيقّن نجاسة أحد الطرفين و قد ارتفعت،فلا يقال هذه العباءة:إمّا طرفها الأسفل أو أعلاها كان نجسا و الآن أشكّ في بقائها؛لعدم الشكّ في بقاء ذلك؛لأنّ الأسفل قد طهر يقينا،فهو بعد التطهير مساو لما إذا لم يتنجّس أصلا،و ضمّه إلي الطرف الأعلي من ضمّ الحجر إلي جنب الانسان،و لعمري إنّه واضح.

و بعبارة اخري:نعلم بلا شكّ أنّ نجاسة الماء من ملاقاة الطرف الأعلي، و الاستصحاب لا يجري،لا أنّه يجري و يكون مثبتا لنجاسة الطرف الأعلي،فلا يكون حجّة.و ذلك لأنّه إن اريد أنّ ذلك الخيط النجس الذي لم يعلم كونه من الطرف الأعلي أو الطرف الأسفل،قد شكّ في بقائه علي النجاسة،فهذا غير صحيح؛لعدم احتمال بقائها في الطرف الأسفل.و إن اريد أنّه كان علي يقين من نجاسة الطرف الأعلي و قد شكّ في بقائها،فهذا أيضا غير صحيح لعدم اليقين بها من الأوّل.

و الحاصل أنّا نعلم علما لا يشوبه شكّ أنّ مقتضي الأدلّة الشرعية كون نجاسة الماء القليل الملاقي للعباءة حاصلة من ملاقاة الطرف الأعلي و لا أصل يقتضي نجاسته.

و لا يتوهّم أنّ ذلك نظير أنّ يتردّد بين كون زيد في الجانب الشرقي من الدار، و كونه في الجانب الغربي،فانهدم الجانب الشرقي و شكّ في موت زيد،لاحتمال

ص: 243

كونه في الجانب الشرقي،فإنّه يجري استصحاب حياة زيد،و ذلك لعدم أثر للجانب الشرقي و الغربي،بل الأثر لوجود زيد،بخلاف مسألة العباءة فإنّ الأثر لخصوص الطرف الأسفل فإنّه متنجّس،أو الطرف الأعلي فإنّه متنجّس.

و منها:ما لو تردّد متنجّس بين تنجّسه بما يكفي لتطهيره الغسلة الواحدة بالماء القليل كالمتنجّس بالدم،و بين ما يحتاج في تطهيره إلي الغسلتين كالمتنجّس بالبول،فإنّه بعد الغسل مرّة يستصحب بقاء النجاسة.

و فيه ما مرّ من أنّه لا يمكن إبقاء المتيقّن السابق.و قيل:بكفاية الغسل مرّة واحدة لوجهين:

الأوّل ما ذكره في مصباح الاصول بأنّ استصحاب العدم الأزلي في النجاسة يقتضي أن لا تكون بولا (1).

و فيه أنّ استصحاب العدم الأزلي غير واضح و لا نقول به.

الثاني:استصحاب عدم تنجّس الموضع بالبول،و لا يعارضه استصحاب عدم التنجّس بالدم لعدم الأثر له؛لأنّ الغسل مرّة واحدة متيقّن علي كلّ حال.

و فيه أنّ استصحاب عدم تنجّس الثوب بالبول لإثبات تنجّسه بالدم لا يجري لأنّه مثبت،و استصحاب عدم تنجّسه بالبول لئلاّ يجب غسله مرّتين معارض باستصحاب عدم تنجّسه بالدم،فإنّ أثره الغسل مرّة بشرط لا.

أقول:العلم الاجمالي بوجوب إزالة الدم بالغسل مرّة،أو إزالة البول بالغسل مرّتين يقتضي وجوب الغسل مرّتين،فهو من قبيل أن يعلم إجمالا أنّه مديون لزيد بدينار أو لعمرو بدينارين،فإنّه يجب الاحتياط؛لأنّه لو كان بولا فهو مأمور بإزالة البول.و قال في نهاية الدارية مثل ما قلناه (2).ي.

ص: 244


1- مصباح الاصول 3:106-107.
2- نهاية الدارية 3:76 الطبع الحجري.

و منها:أنّ الحليّ التي يصوغها الكافر إن علم ملاقاته لها مع الرطوبة يجب غسلها و يطهر ظاهرها،و يبقي باطنها علي النجاسة،و اذا استعملت مدّة و شكّ في طهور الباطن وجب تطهيرها (1).

أقول:وجهه أنّ هذا الموضع من الحلي كان نجسا قبل تطهيره و يشكّ في بقاء النجاسة.و فيه أنّ الاشارة إلي هذا المورد و أنّه سواء كان ظاهرا أو باطنا كان نجسا غير صحيح؛لأنّ الظاهر صار طاهرا،فلا معني لضمّه إلي الباطن.

و منها:ما لو علم بجنابة ليلة الخميس و الاغتسال بعدها،ثمّ رأي يوم الجمعة في ثوبه جنابة و شكّ في أنّها من ليلة الخميس التي اغتسل منها،أو حدثت ليلة الجمعة و لم يعلم بها،فيشير إلي زمان خروج المني الذي بثوبه و يقول:إنّه في ذلك الحين كان جنبا،سواء كان ليلة الخميس أو ليلة الجمعة،و يشكّ في بقائه، فيستصحب إلي هذا الوقت،و يستصحب الطهر الحاصل له بعد الاغتسال، فيتعارضان.و كذا لو علم باحتلامين و باغتسال و كان تاريخ الاغتسال معلوما و احتمل وقوع الاحتلامين قبله.

أقول:اليقين بالجنابة في ليلة الخميس قد زال؛لأنّ الجنابة التي اغتسل منها غير باقية،فلا يصحّ استصحاب بقائها،فإنّه بعد الاغتسال منها بمنزلة من خلق طاهرا،و الأثر الموجود علي الثوب أثر جنابة هي مشكوكة بعد الغسل، فاستصحاب الطهر بعد غسل الجنابة الحاصلة ليلة الخميس يجري بلا مزاحم.

و كذا الكلام فيما علم تكرار السبب،فإنّه في زمان الغسل المعلوم قد زال جنابته و يشكّ في جنابته بعده؛لاحتمال وقوع الاحتلامين قبله.

و بعبارة اخري:لا يوجد جنابة كلّية في الخارج،بل الموجود في الخارج إمّا5.

ص: 245


1- منهاج الصالحين 1:مسألة 475.

جنابة ليلة الخميس فقط،أو هي مع جنابة ليلة الجمعة إن كان أجنب فيها،فلا يمكن أن يقال:تلك الجنابة التي كانت ليلة الخميس أو بعدها مشكوك بقاؤها، و ذلك لأنّ جنابة ليلة الخميس كعدم الجنابة؛لأنّه لا فرق بين أن لا يجنب أصلا و بين أن يجنب و تزول جنابته بالغسل.

و منها:أنّ من شكّ في يوم الثلاثين أنّه آخر يوم من شهر رمضان،أو أوّل يوم من شوّال،يجب عليه أن يصوم لاستصحاب بقاء الشهر بناء علي جريان الاستصحاب،أو لقوله«أفطر للرؤية».

ثمّ إنّ الشكّ المذكور يستلزم الشكّ في كون اليوم بعد اليوم المشكوك أوّل شوّال أو اليوم الثاني من شوّال،و استصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين لا يثبت أنّ غده أوّل شوّال.

و تمسّك في مصباح الاصول لإثبات كونه أوّل شوّال باستصحاب آخر حيث قال:إنّه بعد مضي دقيقة من اليوم الذي نشكّ في أوّليته،نقطع بدخول أوّل الشهر، لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقيا،أو اليوم الذي قبله ليكون ماضيا، فنحكم ببقائه بالاستصحاب و تترتّب عليه الآثار الشرعيّة،كحرمة الصوم مثلا (1).

و فيه أوّلا:أنّه في الآن الأوّل يعلم إجمالا بأنّه عيد،أو اليوم السابق عيد،و لا مجال للاستصحاب.و ثانيا:بعد مضي دقيقة لا يمكن أن يقول:إمّا أنّ اليوم الماضي عيد أشكّ في بقائه،أو هذا اليوم عيد؛لأنّ ضمّ اليوم الماضي إلي هذا اليوم كضمّ الحجر إلي جنب الانسان.و بعبارة اخري:مضي اليوم السابق لا يحتمل بقاؤه في اليوم اللاحق.

و منها:ما لو علم نجاسة ثوب صوف:إمّا لكونه من شعر الخنزير،أو لكونه شعر5.

ص: 246


1- مصباح الاصول 3:165.

معز متنجّسا بالبول،فإنّه لو غسل بالماء يشكّ في صيرورته طاهرا،فيستصحب نجاسته.

و فيه أنّه إذا غسله،فليس له أن يستصحب النجاسة السابقة علي أيّ تقدير من كونها ذاتية أو عرضية لزوال العرضية،و حينئذ يشكّ في أنّ هذا الشعر طاهر أو نجس،و مقتضي أصالة الطهارة الحكم بطهارته.

و قال في المصباح:إنّ مقتضي استصحاب العدم الأزلي عدم كونه شعر خنزير، و تزول النجاسة البولية لو كانت بغسله (1).

و فيه عدم صحّة استصحاب العدم الأزلي.

و قيل:إذا شكّ في ثوب أنّه من شعر الخنزير،أو من غيره الطاهر،فأصالة الطهارة تقتضي طهارته،فإذا تنجّس بالبول و غسله طهر بالغسل؛لأنّه طاهر قد تنجّس،و كلّ طاهر تنجّس يطهر بالغسل،بخلاف الأوّل؛لأنّه يعلم ابتداء أنّه نجس.

و فيه أنّا نعلم عدم الفرق بين الصورتين بالبداهة و الضرورة.

القسم الثالث:أن يعلم بتحقّق الكلّي في الدار في ضمن زيد مثلا،و احتمل دخول عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد،بحيث لم يتخلّل زمان لم يكن في الدار انسان،أو احتمل من الأوّل وجود عمرو معه،ثمّ علم بخروج زيد من الدار،فإنّه يشكّ في خروج الكلّي؛لاحتمال بقائه في ضمن عمرو،أو علم بوجود سواد شديد و علم بزوال السواد،لكن لم يعلم زوال شدّته،أو زوال أصل السواد، و الظاهر عدم جريان الاستصحاب في الموردين الأخيرين فضلا عن الأوّل؛لأنّه ليس علي يقين قد طرأ عليه الشكّ،فتأمّل.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)جريانه في القسمين الأخيرين.0.

ص: 247


1- مصباح الاصول 3:113.
2- فرائد الاصول ص 640.

و نوقش عليه في الصورة الثانية بأنّه لم يكن وجود الكلّي في ضمن عمرو متيقّنا،مع أنّه يلزمه أن يحكم علي من قام من نومه و شكّ في أنّه محتلم أن يستصحب الحدث بعد أن يتوضّأ.

و أجاب عن النقض في مصباح الاصول (1)بأنّ الأصل عدم جنابته،فهو محدث بالأصغر،و محكوم عليه بعدم الجنابة تعبّدا.

و نوقش عليه في الصورة الثالثة بأنّه من قبيل استصحاب الفرد؛لأنّه يجري الاستصحاب في بقاء أصل السواد؛إذ العرف يري الشدّة و الضعف من الحالات.

قلت:علي المختار لا يجري الاستصحاب إن كان الشكّ في المقتضي.و أمّا إن كان الشكّ في الرافع فيجري الاستصحاب؛لأنّ المتيقّن أنّ الموضع مسودّ حتّي يزيل السواد زائل،فهو من نقض اليقين بالشكّ.

تتميم:

إذا شكّ في لحم من حيوان مأكول كالشاة أنّه مذكّي أو ليس بمذكّي،حرم أكله لا لاستصحاب عدم تذكيته؛لأنّه معارض باستصحاب عدم الموت بغير التذكية،بل للأخبار (2).نعم في خصوص التسمية لو شكّ فيها دلّ خبر عيسي (3)علي أنّه لا بأس به.و للمسألة محلّ آخر بالنسبة للحكم بحلّية أكل اللحم و عدمها.

و إنّما تعرّضنا لهذه المسألة هنا لأنّها تشبه باستصحاب القسم الثالث،علي ما قاله الفاضل التوني،من حيث إنّ التذكية في حال الحياة قد انتفت بالموت،لكن استمرّت في ضمن فرد آخر و هو عدمها بعد الموت.و هل يحكم بنجاسته؟ احتمالان،يستدلّ علي القول بنجاسته بأنّ زهاق روحه وجداني،و الأصل عدم

ص: 248


1- مصباح الاصول 3:119.
2- راجع:وسائل الشيعة 16:230 ب 18 و ب 20.
3- وسائل الشيعة 16:237 ب 25.

التسمية عليه و عدم استقباله القبلة و عدم فري أوداجه.

و فيه ما ذكرنا غير مرّة من أنّ العلم و الجهل لا مدخليّة لهما في مفاهيم الألفاظ و موضوعات الأحكام الشرعيّة،و الموضوع لحلّية الأكل و الطهارة هو المذكّي، أي:ما مات بسبب التذكية الشرعيّة،و الموضوع لحرمة الأكل و النجاسة هو الحيوان الذي لم يذكّ،يعني الذي مات بسبب آخر غير التذكية،و كلا الأمرين حادثان،و الأصل عدم الموت بسبب غير شرعي،و الأصل عدم الموت بسبب التذكية،فيتعارضان و يتساقطان،و مقتضي أصالة الطهارة و حلّية أكل المشتبه الطهارة و الحلّية،لكن الأخبار دلّت علي حرمة أكل ما لم يعلم وقوع التذكية عليه.

و أمّا النجاسة،فهي متفرّعة علي عنوان الميتة،إلاّ أن يقال بأنّ المستفاد من هذه الأخبار الدالّة علي عدم أكل ما لم يحرز تذكيته أنّ ما لا يجوز أكله ميتة شرعا، و يجري عليه أحكام الميتة،و هو غير معلوم،و لا بدّ من الاحتياط.

الأمر الخامس:في اليقين المتعلّق بالامور غير القارّة إن شكّ في بقائها.

و يبحث فيه علي مسلك القوم،و أمّا علي المختار من اعتبار عروض الشكّ علي اليقين،بحيث يكون اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،فلا مجال لهذا البحث،و الامور غير القارّة ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل:الزمان،و هو متّصل واحد بعضه يسمّي نهارا،و بعضه أسود يسمّي ليلا،كما يسمّي قطعة منه اسبوعا،و اخري شهرا،و ثالثة سنة.

و اورد علي جريان الاستصحاب في الزمان،بأنّه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالحدوث و الشكّ في البقاء،و الجزء المشكوك من الزمان ليس بقاء للجزء المتيقّن، فلا يكون الشكّ في البقاء.

و اجيب عنه بأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصوّر له من الوجود، فيصدق عرفا علي النهار أنّه باق؛لأنّ النهار عبارة عن القطعة من الزمان من أوّل

ص: 249

طلوع الفجر إلي الغروب و هو شيء واحد،بل قد يقال بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب عنوان البقاء،بل المعتبر فيه وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة،و هي متحقّقة،فإنّ اليقين كان متعلّقا بالنهار و الشكّ متعلّق به.

أقول:الظاهر أنّهما تعبيران عن معني واحد.

ثمّ إنّ الزمان حيث إنّه من الموضوعات الخارجية،فالشكّ في بقائه من الشبهة الموضوعيّة،و لا يخفي أنّ فروعا كثيرة تترتّب علي استصحاب الزمان،كما إذا طهرت المرأة من الحيض و لا تدري بقاء الوقت حتّي تصلّي،و المسافر جاء إلي وطنه و لا يدري قبل الزوال أو بعده،إلي غير ذلك من الموارد ممّا يكون الزمان شرطا للتكليف أو ظرفا للمكلّف به،و الاستصحاب المتصوّر في هذه الموارد ستّة:

الأوّل:استصحاب الزمان بنحو مفاد كان التامّة،و ذلك لأنّ اليوم له وجود من أوّل طلوع الشمس إلي الغروب كسائر الموجودات،فإذا شكّ في بقائه استصحب بقاؤه،و قد جعل جماعة من الاصوليّين جريان الاستصحاب فيه خاليا عن الاشكال،لكن قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيره:انّه لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو من الليل.

الثاني:استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة،أي يشير إلي هذا الزمان،و هو الواحد المستمرّ المتّصل بأنّه كان نهارا،فهو الآن نهار،و اشكل عليه بأنّ هذا الآن متي كان نهارا؟.

الثالث:استصحاب عدم تحقّق الزوال،أو عدم طلوع الفجر بمفاد ليس التامّة.

و الظاهر أنّ الاشكال فيه هو الاشكال في جريانه في بقاء النهار،كما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

لكن في المصباح قال:لا إشكال في جريانه حتّي مع المنع عن جريان

ص: 250

الاستصحاب في الزمان (1).و فيه نظر واضح؛لأنّ هذا العدم غير العدم السابق.

الرابع:استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة.و فيه ما مرّ.

الخامس:استصحاب الحكم أي استصحاب وجوب الامساك.اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)،نظير استصحاب وجوب الصلاة لمن شكّ بعد دخول الوقت في أنّه صلّي أو لم يصلّ،و لكن ذكر هناك عدم الحاجة إلي جرّ الحالة السابقة؛لأنّ نفس الشكّ في الفراغ عن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

و أورد عليه في المصباح بأنّ وجوب الامساك لا يثبت كون الامساك في النهار.و فيه نظر؛لعدم الحاجة إلي إثبات كون الامساك في النهار بعد وجوب الامساك.

السادس:استصحاب كون الامساك في النهار،ذكره في الكفاية،لكن لا يأتي في الفعل الذي لم يكن موجودا،كالصلاة إلاّ بالاستصحاب التعليقي أي لو كان يصلّي قبل ذلك كان في النهار.

ثمّ إنّه اختار في المصباح (3)كفاية استصحاب الزمان بمفاد كان التامّة؛لأنّ الموضوع إذا كان مركّبا من العرض و معروضه احتاج إلي إثبات الاتّصاف،و أمّا إذا لم يكن كذلك لم يحتج إلي إثبات الاتّصاف و كفي وجود الجزئين،كالطهارة في الصلاة،و الامساك صفة للصائم،و الزمان جوهر فيكفي استصحاب الزمان و الامساك.

أقول:اتّصاف كلّ شيء بحسبه،و إمساك الانسان في النهار غير إمساكه في الليل،و الواجب صوم يوم شهر رمضان لا صيام المكلّف و وجود اليوم،بخلاف6.

ص: 251


1- مصباح الاصول 2:123.
2- فرائد الاصول ص 645.
3- مصباح الاصول 3:126.

الصلاة مع طهارة المصلّي.هذا كلّه بناء علي جريان الاستصحاب.

و أمّا علي المختار،فأقول:الزمان منصرم و المبحوث عنه هو ما فرض له أوّل و آخر،كالسنة و الشهر و الاسبوع و الليل و النهار،و هي أسماء للزمان بين مبدئها و منتهاها،فيوم الجمعة من أوّل الطلوع إلي الغروب،و ليلة السبت من أوّل الغروب إلي الطلوع،فإن كان لا يعلم أنّ النهار عشر ساعات أو احدي عشرة ساعة، و الشهر تسعة و عشرون يوما أو ثلاثون،فهو من الأوّل علي يقين و شكّ،لا علي يقين يكون الشكّ ناقضا له.

و إن كان يعلم بأنّ النهار عشر ساعات،و كان نائما فاستيقظ،و لا يدري أنّها الساعة العاشرة،أو الساعة التاسعة،فلا يقال إنّه متيقّن بأنّ هذه الساعة نهار،و كونه علي يقين في الساعة الثامنة لا يقتضي كون الشكّ ناقضا له،فإذا لم يجر الاستصحاب،فلا بدّ من العمل بالعلم الاجمالي بكون هذه الساعة من اليوم أو من الليل،و ليس شكّا في البقاء لا في المقتضي و لا في الرافع،و هكذا الاسبوع و الشهر و السنة،و ليس عدم الغروب إلاّ الزمان الذي يكون قبل الغروب،و هذا لم يكن في حال الشكّ علي يقين منه لو لا الشكّ،بل يعلم إجمالا بعدم النهار أو بعدم الليل في هذه الساعة،فينبغي في هذه الموارد الاحتياط،أو الرجوع إلي الاصول الاخر.

و قد ظهر ممّا ذكرنا عدم الفرق بين استصحاب بقاء النهار و استصحاب عدم الغروب،في أنّ كلاّ منهما ليس له حالة سابقة،لكن قال في مصباح الاصول:إنّه لا إشكال في جريان استصحاب عدم طلوع الفجر حتّي علي القول بعدم جريانه في الزمان (1).

و فيه أنّه لا فرق بينهما؛لأنّ هذا الزمان ليس له حالة سابقة؛لأنّ عدم الطلوع في3.

ص: 252


1- مصباح الاصول 3:123.

السابق غير عدم الطلوع فعلا،و لعلّه يظهر بالتأمّل.

و أيضا ظهر أنّ المانع عدم وجود الحالة السابقة لهذا الزمان،لكن قال في مصباح الاصول:إن شكّ في بقاء النهار مثلا،و قلنا إنّ النهار إسم لما بين طلوع الشمس إلي الغروب،فالاستصحاب يجري لوحدة القضيّة الميقّنة و المشكوكة بالدقّة العقليّة (1)انتهي.

و لعلّ نظره إلي استصحاب بقاء النهار بعنوان وجوده المحمولي لا لإثبات أنّ هذا الزمان نهار.و لكن فيه نظر؛لأنّ الزمان ليس شيئا قارّا يبقي،فتأمّل ليظهر مرادنا.

هذا كلّه في الشبهة الموضوعيّة،كالشكّ في طلوع الشمس مثلا،و قد يكون الشكّ في بقاء الزمان لشبهة حكميّة،كما إذا تردّد مفهوم الغروب بين غروب الشمس و بين ذهاب الحمرة المشرقيّة،أو دلّ خبر علي أنّ آخر وقت الظهرين غروب الشمس،و دلّ خبر آخر علي أنّه ذهاب الحمرة المشرقيّة،و تعارضا فصار سببا للشكّ،فهل يجري بعد غروب الشمس استصحاب بقاء النهار،بناء علي جريان استصحاب الزمان أم لا؟فيه إشكال،من اتّحاد الزمان عرفا،نظير الشكّ في صدق الأرض علي الآجر،فإنّه يعدّ من الحالات،كاللحم المطبوخ و غيره، فيستصحب الأرضيّة.و من عدم الشكّ في البقاء،و هو الأظهر.

القسم الثاني:الامور التدريجية،كالتكلّم و جريان الماء و قذف دم الحيض و يكون فيها الأقسام الثلاثة للكلّي،فلو أنّ زيدا كان مشغولا بقراءة سورة الجمعة مثلا و شككنا في أنّه ما زال يقرأ أو قطعها أو أتمّها،فيستصحب قراءته سورة الجمعة،كما يستصحب قراءته كلّي السورة،و هذا القسم هو القسم الأوّل.2.

ص: 253


1- مصباح الاصول 3:122.

و لو تردّد بين سورة الجمعة و سورة إنّا أنزلناه،و علم أنّه لو كان المقروّ سورة إنّا أنزلناه فقد أتمّها،كان من القسم الثاني.و لو علم أنّه شرع في سورة إنّا أنزلناه و علم باتمامها و شكّ في شروعه في سورة ثانية،كان من القسم الثالث.

أقول:ينبغي التفصيل بين ما تيقّن وجود الأمر المتصرّم و شكّ في رافعه،فهو علي يقين لو لم يطرأ الشكّ،و يكون الشكّ ناقضا لليقين،فيجري الاستصحاب، كما لو علم أنّ الماء يجري إلي ساعة لوجود ماء كثير في الخزانة،و شكّ في انسداد الانبوب،فإنّه علي يقين لو لا طروء الشكّ،فيجري الاستصحاب علي إشكال، و بين غيره فلا يجري؛لأنّ اليقين فيه محدود،فلو لم يعلم أنّ الماء الموجود في الخزانة بمقدار كرّين حتّي يجري منه إلي ساعة،أو بمقدار كرّ حتّي يجري إلي نصف ساعة،فهو من الأوّل له يقين و شكّ محدود،و ليس علي يقين لو لا طروء الشكّ.

ثمّ إنّه لا بدّ من اتّصال جري الماء أو الدم أو التكلّم في جريان الاستصحاب؛ لأنّه يعتبر وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة،نعم ذكروا أنّه لا يضرّ بالاتّصال الوقفات اليسيرة.

و فصّل في مصباح الاصول (1)بين التكلّم و غيره،لكن الظاهر عدم الفرق.

القسم الثالث:ما إذا كان الزمان مأخوذا في الحكم و تردّد بين الزمان القصير و الطويل،كخيار الغبن المردّد بين أوّل زمان اطّلاع المغبون علي الغبن،و بين استمراره بعد الاطّلاع إلي أن يختار المغبون،فهل يجري استصحاب الغبن بعد انقضاء أوّل أزمنة اطّلاع المغبون و تمكّنه من الردّ أم لا يجري؟أو علم وجوب الجلوس في المسجد يوم الجمعة إلي الزوال و لم يعلم وجوبه إلي ما بعد الزوال.9.

ص: 254


1- مصباح الاصول 3:129.

أمّا علي المختار فلا يجري؛لأنّ اليقين معيّن و محدود،و ليس الشكّ ناقضا له.

و أمّا علي مختار القوم،فإن كان الزمان ظرفا للجلوس،فيكون ما بعد الزوال و قبله شيئا واحدا،جري استصحاب وجوب الجلوس؛لأنّ هذا الزمان لا يلاحظ مستقلاّ ليقال:الأصل عدم جعل الوجوب له،بل يكون تمام النظر إلي وجوب الجلوس،و إن اخذ قيدا،بأن كان الجلوس في كلّ ساعة من ساعات اليوم فردا غير الفرد الآخر،لم يجر استصحاب الوجوب لتبدّل الموضوع،و لو لم يعلم أنّه من أيّ النحوين لم يجر استصحاب وجوب الجلوس؛لاحتمال تبدّل الموضوع.

لكن قيل:إنّ الزمان و إن اخذ ظرفا فهو قيد واقعا؛لأنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فلا محالة يكون قيدا.

و فيه نظر؛لأنّ المناط صدق نقض اليقين بالشكّ عرفا،و هو صادق فيما اخذ الزمان ظرفا في لسان الدليل لا ما اخذ قيدا.

ثمّ إنّ الحكم الذي بيد المولي هو إنشاء الوجوب،أو إنشاء طهارة الشيء.و أمّا انطباقه علي مصداقه،فهو تكويني قهري و ليس حكما آخر،و تسميته بفعلية الحكم من جهة انطباقه عليه تكوينا،لا أنّه مرتبة اخري من الحكم،فالمولي ينشيء وجوب الحجّ علي من يستطيع،و انطباقه علي من حصل له الاستطاعة قهري تكويني لا ربط له بالمولي كشارع.

ثمّ إنّ إنشاء وجوب الجلوس:إمّا أن يكون إلي الزوال،أو إلي الغروب،فإن علم ذلك فهو.و إن شكّ في أنّه من أيّهما،و كان الزمان ظرفا للحكم بنظر العرف، و كان الجلوس بعد الزوال هو الجلوس قبله عرفا،فحينئذ يصدق أنّه علي يقين من الوجوب و شكّ في بقائه،فبمقتضي أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ يحكم ببقاء الوجوب في مرحلة الانشاء.

ثمّ إنّه بعد تحقّق الوجود التكويني للنهار ينطبق الحكم الواقعي و الحكم

ص: 255

الظاهري علي الخارج قهرا و تكوينا،فليس هناك إلاّ حكم واحد،و ما بيد المولي الذي هو الحكم فقط هو إنشاء الحكم الواقعي،ثمّ إنشاء تعميمه إلي زمان الشكّ في بقاء الحكم إن كان الموضوع متّحدا عرفا بأخبار الاستصحاب.

و أمّا مرحلة انطباق الحكم الواقعي و الظاهري علي خارجه،فهو تكويني قهري،و ليس للحكم مرتبة جعل غير مرتبة المجعول،بل الجعل هو الانشاء و المجعول هو المنشأ؛لعدم انفكاك الايجاد عن الوجود.

و أمّا الانطباق القهري،فليس مرتبة للحكم يكون بيد المولي يعمّمه أو يخصّصه،أو يجري فيه الاستصحاب.

و بما ذكر ظهر النظر فيما أفاده النراقي رحمه اللّه و غيره،فلاحظ ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و غيره.

الأمر السادس:لا فرق بين اليقين المتعلّق بالحكم الذي يكون فعليّا أو معلّقا أو مشروطا في الاستصحاب.فعلي المختار من اعتبار أن يكون علي يقين لو لا طروء الشكّ ليصدق نقض اليقين بالشكّ يجري الاستصحاب لو كان كذلك.

فإذا نذر في يوم السبت أن يصوم يوم الجمعة بنحو الواجب المعلّق،أو نذر إن جاء ولده من السفر أن يصوم يوم الجمعة علي نحو الوجوب المشروط بمجيء المسافر،ثمّ شكّ في يوم الأحد أنّ والده حلّ نذره أم لا،بناء علي أنّ للوالد حلّ نذر ولده لا اشتراط انعقاده بإذته،جري استصحاب الالزام الحاصل من النذر.

و كذا لو أوصي أو دبّر ثمّ شكّ في أنّه هل رجع عن وصيّته أم لا؟بناء علي جواز الرجوع في الوصيّة.هذا في الشبهة الموضوعية.

و أمّا في الشبهة الحكمية،فلا يجري الاستصحاب علي المختار؛لأنّه إن احرز6.

ص: 256


1- فرائد الاصول ص 646.

من الدليل التعميم لجميع الأحوال فهو،و إلاّ فهو علي يقين و شكّ من أوّل الأمر، و لا يجري فيه الاستصحاب.

و من أمثلة الواجب المشروط ما لو شكّ المدرك لزماني حضور المعصوم و غيبته في وجوب صلاة الجمعة عليه،فإنّه يجري استصحاب الوجوب،بناء علي تعميمه للشكّ في المقتضي،مع أنّ وجوب الصلاة مشروط بدخول الوقت و هو مجيء الزوال.

و اورد عليه بأنّ استصحاب الوجوب إن دخل الوقت معارض باستصحاب عدمه قبل دخول الوقت.

أقول:علي المختار لا يجري استصحاب الوجوب؛لأنّ اليقين محدود بزمان حضور المعصوم.

و من الأمثلة المعروفة للإستصحاب التعليقي غليان الزبيب،فإنّه لا يجري فيه الاستصحاب علي المختار.و أمّا علي سائر المباني،ففي جريانه و عدمه قولان:

الأوّل:الجريان،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)؛لأنّ حرمة العصير العنبي عند الغليان كانت ثابتة في العنب،فيستصحب بقاؤها بعد صيرورته زبيبا،و الحرمة المذكورة كانت موجودة في العنب لا في غيره،و عبّر الشيخ عنها بأنّ سببيّة الغليان للحرمة كانت موجودة.

و أورد عليه في فوائد الاصول،فقال:و العجب من الشيخ رحمه اللّه حيث إنّه شدّد النكير علي من قال بجعل السببيّة و الملازمة،و مع ذلك ذهب إلي جريان استصحاب الملازمة في الاستصحاب التعليقي (2)انتهي.

و فيه أنّه صرّح في بحث الحكم التكليفي و الوضعي بأنّ سببيّة الدلوك لوجوب3.

ص: 257


1- فرائد الاصول ص 654.
2- فوائد الاصول ص 173.

الصلاة ليست إلاّ وجوب الصلاة عند الدلوك،و بأنّ سببيّة اتلاف الصبي لضمانه بعد البلوغ ليست إلاّ الوجوب المستفاد من قوله«أغرم ما أتلفته في صغرك»ففيما نحن فيه أيضا يكون كذلك.

الثاني:عدم الجريان،قال في المصباح:إنّ القيود ترجع إلي الموضوع،فمعني وجوب الحجّ إن استطاع هو وجوب الحجّ علي المستطيع،و كذا حرمة العنب إذا غلي ترجع إلي حرمة العصير المغليّ،و هذه الحرمة لم تتحقّق في الخارج كي يستصحب (1).

و فيه أنّ الشارع أنشأ الحكم علي العصير المغليّ،و المفروض أنّ العرف يري اتّحاد الزبيب مع العنب،فيستصحب حكم العصير المغليّ إلي الزبيب في مرحلة الجعل،ثمّ يكون التطبيق علي الخارج قهريّا.

ثمّ إنّه اورد علي استصحاب الحكم المعلّق أنّه معارض باستصحاب عدمه.

و اجيب عن المعارضة بوجهين:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)من حكومة استصحاب المعلّق علي المنجّز،أي:استصحاب وجوب صلاة الجمعة إن دخل الوقت علي استصحاب عدم وجوبها قبل دخول الوقت؛لأنّ الشكّ في وجوبها ناش عن بقاء الوجوب إلي زمان غيبة المعصوم.و كذا استصحاب حرمة العصير المغليّ حاكم علي استصحاب الاباحة؛لأنّ منشأ الشكّ في الحرمة و الاباحة شمول حكم العصير العنبي للزبيب المغليّ،فإذا جري الاستصحاب ارتفع الشكّ.

و اورد عليه بأنّ الشكّين في رتبة واحدة مسبّبان عن العلم الاجمالي بجعل الوجوب أو عدمه،و كلاهما مسبوقان باليقين.4.

ص: 258


1- مصباح الاصول 3:138.
2- فرائد الاصول ص 654.

الثاني:ما ذكره في الكفاية،قال:و بالجملة يكون الاستصحاب متمّما لدلالة الدليل علي الحكم فيما أهمل أو اجمل،كان الحكم مطلقا أو معلّقا،فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة.إلي أن قال:فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلّية،فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه شكّ في حلّيته المغياة لا محالة أيضا (1).

أقول:ليس حلّية الزبيب حلّية ثابتة للعنب،بل الزبيب حلال واقعي،و إن فرض كون العنب حراما،مع أنّه لو سلّم في المثال المذكور،فليس الأمر كذلك في جميع الموارد.

و ينبغي التنبيه علي أمرين:

الأوّل:أنّهم ذكروا أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري في الشبهة الموضوعيّة، و مثّلوا له بما لو كان الماء كرّا،فنقص منه ما يوجب الشكّ في بقائه علي الكرّية،فلا يحكم بطهارة متنجّس غسل فيه؛لاستصحاب تطهّره لو غسل فيه قبل أن ينقص منه شيء؛لأنّه لم يتحقّق شيء حتّي يكون متيقّنا و يستصحب بقاؤه بعد الشكّ فيه، فلا بأس باستصحاب عدم انغساله بالكرّ.

الثاني:أنّ المثال المعروف خارج عن مسألة التعليقي؛لأنّ الزبيب ليس له ماء.

و فيه أنّ الموضوع للحرمة و لو بمناسبة الحكم و الموضوع هي الحلاوة الباقية في الزبيب،و لذا ربّما لا يحتاج إلي الاستصحاب.

الأمر السابع:لا شكّ في عدم نسخ شريعتنا،و أنّ كلّ حكم ثبت من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السّلام،فهو باق إلي أن يعلم بيان تخصيص الحكم من المعصوم المتأخّر.8.

ص: 259


1- كفاية الاصول ص 468.

و أمّا الحكم الثابت في الشرائع السابقة إن شكّ في نسخه بهذه الشريعة،ففي استصحابه و عدمه و جهان،المختار عدم جريانه؛لاحتمال اختصاص الحكم بأهل تلك الشرائع،فلا يقين بالحكم لو لا طروء الشكّ،و هو معتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ،كما تقدّم.

و أمّا علي مختار القوم و تعميم الاستصحاب للشكّ في المقتضي،فلا بأس بجريانه.

و نوقش فيه من وجوه:

أحدها:تبدّل الموضوع.

و فيه أنّه لا دخالة لخصوصية الأشخاص في الحكم،بل الحكم متعلّق بالمكلّف، و هو باق عرفا،مضافا إلي أنّه قد لا ينقرض أهل الشريعة السابقة،بل يبقي طائفة منهم يدركون الزمانين.

ثانيها:العلم الاجمالي بنسخ بعض الأحكام.

و فيه أنّ المتيقّن هو المقدار المعلوم نسخه،و يكون ما عداه مشكوكا و ليس طرفا للعلم.

ثالثها:ما في مصباح الاصول من أنّ النسخ بمعني الدفع،أي:بيان أمد الحكم، فمرجع الشكّ إلي سعة المجعول وضيقه،و احتمال سعته و شموله لغير أهل الشرائع السابقة،يكون من الشكّ في التكليف ابتداء،إلي آخر ما أفاده (1)،فلاحظ كلامه.

قلت:بناء علي صدق وحدة الموضوع يكون من الاستصحاب في الشكّ في المقتضي،فعلي القول بجريانه ينبغي القول به،و يكون معارضا لاستصحاب عدم7.

ص: 260


1- مصباح الاصول 3:147.

جعل الوجوب علي من لم يدرك الشريعة السابقة.

رابعها:أنّه لم يبق حكم لم يشرعه نبيّنا ليستصحب من الشرائع السابقة،فإنّه روي عنه صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال:ما من شيء يقرّبكم إلي الجنّة إلاّ أمرتكم به،و ما من شيء يبعدّكم عن النار إلاّ نهيتكم عنه.و مقتضاه نسخ جميع الشرائع السابقة.

و فيه أنّ من أحكام هذه الشريعة عدم نقض اليقين بالشكّ،فهو نظير تقليد الميّت بالتقليد عن الحيّ المفتي بجواز تقليد الميّت.

تتمّة:لا يخفي أن مكارم الأخلاق و الأفعال القبيحة بالذات أو الحسنة كذلك، امور لا تختلف فيها الشرائع،و لذا ورد في أخبارنا أنّ المسيح عليه السّلام قال كذا،و انّ الشيطان قال ليحيي عليه السّلام كذا.و منه ما حكي عن الامام الحسن العسكري عليه السّلام من شقّ ثوبه علي أخيه السيّد محمّد،حيث أجاب عن المعترض عليه بأنّ موسي عليه السّلام قد شقّ ثوبه علي أخيه هارون،فإنّ الغرض من الحكاية أنّ هذا الفعل لو كان قبيحا لم يفعله نبي اللّه موسي عليه السّلام،و لا ربط له بالاستصحاب.

الأمر الثامن:المستفاد من الأخبار التي استدلّ بها علي الاستصحاب هو التعبّد بمثل الحالة السابقة فيما كان بيد الشارع وضعه و رفعه،بلا واسطة أمر غير شرعي و لا إطلاق لها يشمل الأثر الشرعي المترتّب علي الأمر الغير الشرعي،فإذا شكّ في حياة زيد الملفوف باللحاف،فاستصحاب حياته يجري لترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة علي حياته من عدم جواز تزويج زوجته،و عدم جواز التصرّف في أمواله.

و إن قدّ اللحاف المذكور مع من فيه بنصفين،فاستصحاب حياة زيد الملفوف لا يثبت كون القدّ قتلا و القادّ قاتلا؛لأنّ القتل هو إزهاق روح الحيّ واقعا، و الاستصحاب لا يثبت الحياة الواقعيّة،بل مجرّد التعبّد بكونه حيّا ظاهرا،و هذا واضح.

ص: 261

ثمّ إنّ جميع الامور التعبّدية تابعة لمقدار التعبّد،فإذا قامت البيّنة علي أنّ زيدا شرب الخمر،ثبت بها نجاسة فمه و غيرها من الآثار الشرعيّة،و لكن لا يثبت بذلك سكره؛لأنّه ليس بيد الشارع بل هو أمر تكويني،فإذا كان للسكر أثر شرعي لم يترتّب لعدم ثبوته،فلا فرق بين الأصل و الأمارة في أنّ المتّبع مقدار دلالة دليل حجّيتهما،إلاّ إذا كان شرب الخمر مستلزما للاسكار بحيث لم ينفكّ عنه،فيكون الاخبار عن شربه إخبارا عن سكره.

ثمّ إنّ الاستصحاب كما تقدّم أصل تعبّدي؛لأنّه يجري فيما إذا ظنّ ظنّا قويّا علي خلاف الحالة السابقة،فلو ظنّ المتطهّر ظنّا قويّا لم يبلغ حدّ الاطمئنان أنّه قد نام،فإنّه يستصحب الطهارة،بل الاطمئنان إن لم يطلق عليه اليقين عرفا لا يكون ناقضا،و فيه إشكال.

و الفرق بين الأصل و الأمارة أنّ لسان الأوّل جعل الحكم في مورد عدم العلم بالواقع في نفسه من دون نظر إلي الواقع،بل و حتّي لو خالف الواقع.و لسان الثاني جعل الحجّية في مورد عدم العلم بالواقع بعنوان أنّه الواقع لا في مقابل الواقع.

و أشار إلي ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إنّ المراد بالدليل الاجتهادي كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث انّها تحكي عن الواقع و تكشف عنه بالقوّة، و تسمّي في نفس الأحكام أدلّة اجتهاديّة،و في الموضوعات أمارات معتبرة،فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظر إلي الواقع،أو كان ناظرا لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة،بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع،فليس دليلا اجتهاديا،بل هو من الاصول،و إن كان مقدّما علي بعض الاصول الاخر،و الظاهر أنّ الاستصحاب و القرعة من هذا القبيل،إلي آخر ما أفاده (1).4.

ص: 262


1- فرائد الاصول ص 704.

نعم النتيجة بين الأصل و الأمارة واحدة فيما إذا لم يكن الاخبار عن الشيء منحلاّ إلي الاخبار عنه و عن لازمه،و أمّا إذا كان كذلك ترتّب الأثر المترتّب علي لازمه.و لكن ذكر صاحب الكفاية في مبحث الاجزاء أنّ الأمر الظاهري إن كان مفاد الأصل يجزيء؛لأنّه حكم ظاهري يوسّع الحكم الواقعي.و إن كان مفاد الأمارة لم يجزيء؛لأنّه يحكي عن الواقع.و تقدّم الكلام عليه.

و أمّا ما يقال من أنّ المجعول في الاستصحاب الطريقيّة و اعتبار غير العالم عالما بالتعبّد،فإنّه الظاهر من الأمر بإبقاء اليقين و عدم نقضه بالشكّ،فلا فرق بين الأمارة و الاستصحاب من هذه الجهة،بل التحقيق أنّ الاستصحاب أيضا من الأمارات،و لا ينافي ذلك تقديم الأمارات عليه إلي آخر ما أفاده (1).ففيه أنّ التحقيق أنّ الاستصحاب أصل تعبّدي،و أنّ المجعول في الأمارات ليس علما، و قد تقدّم بيانه في بحث الأمارات.

ثمّ إنّه استدلّ بوجهين لثبوت الأثر المترتّب علي الواسطة غير الشرعية، و هو المسمّي عندهم بالأصل المثبت:

الأوّل:أنّ الأثر الشرعي يثبت بالاستصحاب،سواء كان مع الواسطة أو بدونها.

و فيه نظر؛لأنّ الأثر الشرعي مع الواسطة إنّما يثبت إذا ثبتت الواسطة؛لأنّه متفرّع عليها.

الثاني:أنّ التعبّد بثبوت الشيء يكون تعبّدا به و بلوازمه.

و فيه أنّ اللازم ليس مورد التعبّد.

ثمّ إنّه استثني من عدم حجّية مثبتات الاصول مواضع:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:إنّ بعض الموضوعات الخارجية4.

ص: 263


1- مصباح الاصول 3:154.

المتوسّطة بين المستصحب و بين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما للمستصحب.

إلي أن قال:و كيف كان فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي و العقلي بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب (1).و ارتضاه في الكفاية.

و أورد عليه في المصباح (2)بأنّه فرق بين المسامحات العرفيّة و الانفهام العرفي من اللفظ،و الاولي ليست حجّة و ما نحن فيه منها.

أقول:و هو جيّد،و لكن ذكر صاحب الكفاية في تعليقة الرسائل أنّ ذلك ليس من المسامحات العرفيّة،بل من باب الانفهام من اللفظ.

أقول:يريد أنّ خطاب«لا تنقض اليقين بالشكّ»حيث إنّه إلي العرف،فما فهمه العرف هو المتّبع،و العرف يفهم من الخطاب مع خفاء الواسطة ترتيب الأثر.

الثاني و الثالث:ما ذكره في الكفاية،قال:كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه و بين المستصحب تنزيلا،كما لا تفكيك بينهما واقعا أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثرا لهما الخ (3).

و مثّلوا لما ذكره بالعلّة و المعلول و بالمتضايفين.

و اورد عليه بأنّ اليقين بأحدهما مستلزم لليقين بالآخر،فيجري الاستصحاب فيه.

الرابع:استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ،معناه أنّ غده أوّل شوّال، فالواسطة خفية.

لكن قال في مصباح الاصول:إنّ استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الثلاثين3.

ص: 264


1- فرائد الاصول ص 664.
2- مصباح الاصول 3:159.
3- كفاية الاصول ص 473.

لا ثبات كون اليوم الواحد و الثلاثين يوم العيد يكون مثبتا؛لأنّ أوّل شوّال أمر بسيط منتزع عن ذهاب شهر رمضان واقعا،لكن يجري الاستصحاب بنحو لا يكون من الأصل المثبت،بتقريب أنّه بعد مضيّ دقيقة من اليوم الذي نشكّ في أوليّته نقطع بدخول أوّل الشهر،لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقيا،أو اليوم الذي قبله ليكون ماضيا،فنحكم ببقائه بالاستصحاب (1).

و فيه نظر واضح؛لأنّه في آن أوّل الدقيقة يعلم إجمالا أنّ اليوم الماضي أوّل شوّال أو هذا اليوم،فهذا من موارد العلم الاجمالي،و الشكّ الموجود ليس شكّا في البقاء،بل هو شكّ في أطراف العلم الاجمالي.

و بعبارة اخري:لا يشكّ في البقاء؛لأنّه كان في أوّل شوّال بالأمس،فلا معني لإبقائه،أو في هذا اليوم متي كان هذا اليوم أوّل شوّال.

و ذكر في الكفاية أنّ الأثر المترتّب علي الكلّي المحمول علي الشيء بالحمل الذاتي أو الخارج عن الشيء المحمول عليه لا بالضميمة يترتّب علي استصحاب الفرد،و ليس بمثبت لاتّحاد الفرد مع الكلّي (2).

و فيه ما تقدّم من أنّ وجود الكلّي عين وجود الفرد،و يختلف باللحاظ،فإن لوحظ من حيث إنّ له مماثلا فهو الكلّي،و إن لوحظ من حيث هو هو يكون فردا، و الأثر إن كان مترتّبا علي الكلّي،فلا بدّ من استصحابه باللحاظ الأوّل.و إن كان مترتّبا علي الفرد،فلا بدّ من استصحابه باللحاظ الثاني،فإن كان الشكّ في موت زيد ليقسم ميراثه،فيستصحب بقاء الجزئي أعني زيدا.و إن كان الأثر مترتّبا علي الانسان،فاستصحاب بقاء زيد و هو الانسان مع خصوصيّاته لغو.

الأمر التاسع:يعتبر في التعبّد بالاستصحاب أن يكون بيد الشارع وضعا و رفعا،4.

ص: 265


1- مصباح الاصول 3:165.
2- كفاية الاصول ص 474.

فلا بأس باستصحاب الوجوب؛لأنّ الشارع يوجب و يحرّم و إن ترتّب عليه وجوب الامتثال عقلا،و هذا داخل في الأمر الثامن.

الأمر العاشر:يعتبر في التعبّد بالاستصحاب أن يكون له الأثر بقاء،فلا يعتبر أن يكون له أثر حدوثا؛لأنّ التعبّد بما لا أثر لوجوده التعبّدي لغو،فلا بدّ من أن يكون له أثر شرعا،و يكفي وجوده حين التعبّد،و هو في مرحلة البقاء.

الأمر الحادي عشر:في استصحاب العدم،و له أقسام:

الأوّل:أن يكون الأثر لوجود شيء بمفاد كان التامّة،فإذا شكّ في وجوده جري استصحاب العدم لنفيه.

الثاني:أن يكون الأثر لعدم الوجود بمفاد ليس التامّة،فإذا شكّ في الوجود جري استصحاب العدم لإثبات الموضوع،و هو عدم الوجود.

الثالث:أن يكون الأثر لاتّصاف شيء بصفة وجوديّة أو عدميّة،فإن كان الاتّصاف بالوجود متحقّقا سابقا،كما إذا كان زيد قائما قبل ذلك،أو كان الاتّصاف بالعدم متحقّقا سابقا،كما إذا كان زيد متّصفا بعدم القيام،فلا إشكال في جريان استصحاب الوجود في الأوّل،و استصحاب العدم في الثاني.

و أمّا إذا لم يكن الاتّصاف موجودا لعدم وجود الموضوع،ففي جريان استصحاب العدم و هو المسمّي باستصحاب العدم الأزلي و عدمه قولان:

الأوّل:الجريان،قال في الكفاية:إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة،فهي و إن كانت وجدت إمّا قرشيّة أو غيرها،فلا أصل يحرز أنّها قرشيّة أو غيرها،إلاّ أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها و بين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلاّ إلي خمسين (1)انتهي موضع الحاجة.1.

ص: 266


1- كفاية الاصول ص 261.

أقول:الأحكام تجري علي الموضوعات الخارجيّة،فقوله«كلّ امرأة»يعني كلّ امرأة موجودة خارجا تحيض إلي خمسين إلاّ امرأة موجودة منسوبة إلي قريش،و هذه العبارة معناها تنويع المرأة إلي قرشيّة و غير قرشيّة،و لا حالة سابقة لهذه المرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة.

توضيحه:أنّ استصحاب عدم القرشيّة يكون علي ثلاثة أوجه:

الأوّل:عدم وجود المرأة القرشية،مثلا كان عدد النساء القرشيات ألف نسمة، و بعد وجود هذه المرأة يشكّ في أنّ عددهنّ صار واحدة و ألفا،فيستصحب عدم وجود امرأة قرشية اخري و بقاء الألف.

الثاني:عدم وجود المرأة القرشية المخصوصة التي هي بنت فلان مع جميع الخصوصيات الموجودة في هذه المرأة حيث يشكّ إنّها وجدت أم لا؟و هذه أيضا لها حالة سابقة،فيستصحب عدم وجود المرأة القرشيّة بهذه الأوصاف.

الثالث:إذا كان الشكّ في أنّ هذه الموجودة خارجا التي يشار إليها بالاشارة الحسّية هل هي قرشية أم لا؟و هذه ليست لها حالة سابقة؛لأنّ هذه الموجودة قبل وجودها لا معني لأن تكون قرشية أو غير قرشية،و قد تقدّم بيان عدم الجريان في باب العامّ و الخاصّ.

هذا كلّه إذا كان الشكّ في وجود الشيء،و مثله الشكّ في مبدء وجوده،فلو علم كون زيد ميتا يوم الجمعة،لكن شكّ في مبدئه،فالأصل عدمه إلي يوم الجمعة،نعم لا يثبت الموت يوم الجمعة.

و أمّا إذا كان الشكّ في شيئين حدثا لم يعلم تقدّم أحدهما علي الآخر،أو تأخّره أو تقارنه،أو كان الشكّ في تقدّم احدي الحالتين لشخص علي الاخري، فيقع الكلام في مقامين:

أمّا المقام الأوّل:ففي الحادثين،و هما علي قسمين:

ص: 267

القسم الأوّل:أن يكون تاريخ وقوعهما مجهولا،و هو يتصوّر علي وجهين:

أحدهما:أن يكون الأثر مترتّبا علي الوجود،أي:علي تقدّم كلّ منهما علي الآخر،أو علي وجود كلّ منهما في زمان وقوع الحادث الآخر منهما.

ثانيهما:أن يكون الأثر مترتّبا علي العدم.

و الأوّل:إمّا أن يكون الأثر مترتّبا علي الوجود بمفاد كان التامّة،أو يكون الأثر مترتّبا علي الوجود بمفاد كان الناقصة.

و الثاني أيضا كذلك،فهذه أربعة أقسام،ذكرها في الكفاية (1)،و يمكن أن يكون الأثر لتقدّم أحدهما علي نحو الوجود المحمولي الذي هو مفاد كان التامّة،فيجري استصحاب عدمه،و يكون أثر الآخر لاتّصافه بالتقدّم،فلا يجري فيه استصحاب العدم؛لأنّه ليس له حالة سابقة.

بيان الوجوه:الأوّل:ما كان الأثر مترتبا علي الوجود بمفاد كان التامّة،كما إذا مات زيد و عمرو و كان الأثر لتقدّم موت زيد علي عمرو،فإنّ استصحاب عدم تحقّق تقدّم موت زيد علي عمرو يجري لنفي موضوع الحكم.و كذا الكلام إذا كان الأثر لحياة زيد في زمان موت عمرو،فإنّ استصحاب حياته يجري إلي زمان موت عمرو.

الثاني:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي اتّصاف موت زيد مثلا بكونه متقدّما،و لا يجري استصحاب العدم؛لأنّه ليس لعدمه حالة سابقة حتّي يستصحب العدم لنفي موضوع الحكم.

الثالث:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي اتّصاف موت زيد بعدم كونه متقدّما،و ليس له حالة سابقة ليستصحب لإثبات موضوع الحكم.7.

ص: 268


1- كفاية الاصول ص 477.

الرابع:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي عدم موت زيد في زمان موت عمرو علي نحو العدم المحمولي،فيجري الاستصحاب لإثبات موضوع الحكم،و هو عدم موت زيد في زمان موت عمرو،و لكن إن كان لهما أثر تعارض الاستصحابان عند جماعة و لم يجريا عند صاحب الكفاية لعدم اتّصال زمان الشكّ باليقين.و إن كان الأثر لأحدهما جري الاستصحاب فيه،و لم يجر عند صاحب الكفاية.

و التحقيق عندي في جميع الأقسام عدم الجريان إن كان لهما أثر،و جريانه في الذي له أثر فيما إذا كان لأحدهما أثر في الوجود و العدم المحموليين،و لا يجري في الاتّصاف لعدم حالة سابقة له.

القسم الثاني:أن يكون تاريخ أحدهما معلوما،و كان لكليهما أثر،بحيث يجري الأصل في كلّ واحد لو كان وحده،فحينئذ يكون الطرفان طرفي العلم الاجمالي، و الأصل لا يجري في طرفي العلم الاجمالي إن كان لهما أثر،سواء استلزم المخالفة القطعية أو لم يستلزم،و أمّا إن كان الأثر لواحد منهما جري الأصل فيه فقط،فلو كان الأثر لوجود المعلوم تاريخه في حين وجود المجهول تاريخه، جري أصالة عدم وجود المعلوم كذلك بمفاد ليس التامّة،و لا يجري الأصل إن كان علي نحو مفاد ليس الناقصة،أو كان الناقصة.

و أمّا المجهول،فإن كان الأثر مترتّبا علي عدم تقدّم المجهول،أو عدم تقارنه، أو عدم تأخّره بنحو مفاد ليس التامّة،جري استصحاب عدمه.و إن كان الأثر مترتّبا علي عدم اتّصافه بأحد الثلاثة علي نحو مفاد ليس الناقصة لم يجر الاستصحاب لعدم الحالة السابقة،و استصحاب العدم الأزلي غير صحيح.

و إن كان الأثر مترتّبا علي عدم وجود المجهول في زمان المعلوم، فالاستصحاب يجري،فلو علم موت الابن يوم الخميس لكن لم يعلم موت الأب يوم الأربعاء أو يوم الجمعة،فاستصحاب حياة الأب يوم الخميس يجري،فهو

ص: 269

وارث حيّ علي إشكال في إجراء الاستصحاب لإثبات الارث.

و أمّا المقام الثاني:ففي تعاقب الحالتين علي موضوع واحد،كالطهارة و الحدث و الطهارة و النجاسة،فإن كانتا مجهولتي التاريخ اخذ بضدّ الحالة السابقة؛ لأنّها انتقضت قطعا باليقين بضدّها و يشكّ في انتقاضه أي الضدّ.فإذا كان متطهّرا أوّل الزوال،ثمّ علم بحدوث نوم و وضوء بعد الزوال،و كانا مجهولي التاريخ، فالطهارة التي كانت عند الزوال قد انتقضت بالنوم،لكن يشكّ في انتقاض النوم لاحتمال وقوع الوضوء قبله.

و اورد عليه بأنّه كما أنّ ضدّ الحالة السابقة وجد قطعا و هو مشكوك الارتفاع، كذلك الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة قطعي الوجود و مشكوك الارتفاع، فيستصحب و يقع التعارض و يتساقطان.

و فيه أنّ الحادث الآخر إن وجد قبل ضدّ الحالة السابقة،فلا أثر له و وجوده لغو لعدم تكرّر الحدث،و يتمحّض الشكّ في أنّه هل انتقض ضدّ الحالة السابقة أم لا؟ و مقتضي استصحاب ضدّ الحالة السابقة بقاؤه و عدم انتقاضه،و قوّاه في الجواهر.

و لكن ورد في خصوص مسألة الطهارة و الحدث عبارة في الفقه الرضوي، و هي:و إن كنت علي يقين من الوضوء و الحدث و لا تدري أيّهما أسبق فتوضّأ.

و حكي في الجواهر (1)عن القدماء الفتوي بهذا المضمون،فيحتمل وجود نصّ معتبر وصل إليهم،و في مثله نحتاط بعدم مخالفتهم.

و إن كان تاريخ احداهما معلوما،جري استصحاب المعلومة،فإذا علم أنّه كان متطهّرا أوّل الزوال،و علم أنّه نام و لم يعلم أنّه نام قبل الزوال أو بعده،فهو عند الزوال متطهّر،كالمخلوق متطهّرا عند الزوال،و لا اعتبار بالحدث قبل الزوال،0.

ص: 270


1- جواهر الكلام 2:350.

و وجوده و عدمه سيّان،فلا يقول:إنّي حين النوم كنت محدثا و أستصحب بقاء الحدث ليعارض استصحاب الطهارة؛لأنّ اليقين بالحدث إمّا قبل الزوال أو بعده لا معني لبقائه؛لأنّ ما قبل الزوال قد انتقض قطعا بالطهارة عند الزوال،فيكون احتمال نقض الطهارة المعلومة عند الزوال احتمالا بدويّا،و يجري استصحاب الطهارة الحاصلة عند الزوال.

و بعبارة اخري:من تطهّر عند الزوال،فهو مثل من خلقه اللّه متطهّرا عند الزوال، لا يلاحظ فيه حالته قبل الزوال،و ذلك من البديهيّات،و ضمّ الحالة قبل الزوال إلي ما بعد الزوال كضمّ الحجر إلي جنب الانسان،و الظاهر أنّه واضح جدّا،إلاّ عند من يقول بالفرق بين من خلق عند الزوال متطهّرا،و بين من كان متطهّرا عند الزوال و كان مخلوقا قبل الزوال.

و في المسألة أقوال اخر:

الأوّل:أصالة تأخّر المجهول،فيكون محدثا في المثال المذكور.و حكاه في الجواهر عن السيّد بحر العلوم،و قال في منظومته:

فإن يكن يعلم كلاّ منهما مشتبها عليه ما تقدّما

فهو علي الأظهر مثل المحدث إلاّ إذا عيّن وقت الحدث

كما إذا علم أنّه كان محدثا عند الزوال و علم بوضوء إمّا قبله أو بعده،فيجري أصالة تأخّر المجهول و هو الوضوء،فلذا لا يكون مثل المحدث.

و فيه أنّ أصالة التأخّر لا تثبت وقوع الحدث بعد الطهارة المعلومة في المثال المذكور،و كذا في المثال الذي ذكره،أصالة تأخّر الوضوء لا يثبت كونه متوضّئا.

الثاني:تعارض استصحاب الحدث و استصحاب الطهارة،و هو مقتضي إطلاق بعض فتاوي الأصحاب،و نسبه في الجواهر إليهم.

و فيه منع واضح جدّا؛لما ذكرنا من أنّ المتطهّر عند الزوال كالمخلوق متطهّرا

ص: 271

عنده،و قد انتقض اليقين بالحدث قبل الزوال باليقين بالطهارة عند الزوال، و ينحصر الأمر في اليقين بالطهارة و الشكّ في الحدث بعدها،فيجري استصحاب الطهارة.

الثالث:الأخذ بمثل الحالة السابقة،نسبه في الجواهر إلي العلاّمة في بعض كتبه.

تتميم:

إنّ ما ذكرنا من الأخذ بضدّ الحالة السابقة في مجهولي التاريخ و استصحاب المعلوم في معلومه حكم المسألة في نفسها إذا لم يكن أثر خاصّ يوجب التعارض،فلو كان أوّل الصبح متطهّرا و صلّي و تطهّر عند الزوال و صلّي،ثمّ علم بحدث قبل الصلاة الاولي أو قبل الصلاة الثانية،وجب إعادة الصلاتين، و الاستصحابان متعارضان؛لأنّ استصحاب الطهارة إلي الزوال مع استصحاب الطهارة من الزوال إلي الغروب مخالفان للعلم الاجمالي ببطلان احدي الصلاتين، فلا يجريان في المعلوم،أي:الطهارة عند الصباح و عند الزوال.

الأمر الثاني عشر:لا يجري الاستصحاب إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب؛لعدم اليقين بالوجوب لو لا طروء الشكّ.

الأمر الثالث عشر:قيل:إن شكّ في اعتبار وجود شيء في المأمور به لشبهة حكميّة فتركه،أو مانعيّة شيء لشبهة حكميّة فأتي به،جري استصحاب الصحّة، مثلا إن شكّ في وجوب السورة فتركها و ركع،يجري استصحاب صحّة الأجزاء التي أتي بها.

و فيه أنّ الأجزاء صحيحة لا معني لاستصحاب صحّتها؛لأنّ الجزء ليس مشروطا بلحوق الجزء الآخر،فإن ترك الركوع في الصلاة بطلت الصلاة لا لبطلان الفاتحة.نعم لو كان المانع شرطا في صحّة الجزء جري الاستصحاب،و هذا مراد

ص: 272

الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)من التفصيل بين المانع و القاطع،كما هو صريح كلامه.

و أمّا علي المختار فالشبهة في كليهما حكمية و لا يجري الاستصحاب.

و لذا لو شكّ في كون السورة جزء و تركها،لم يجر استصحاب صحّة الأجزاء السابقة؛لعدم اليقين لو لا الشكّ.و لا فرق في ذلك بين الهيئة الاتّصاليّة للصلاة و غيرها؛لأنّ الشبهة حكميّة،و اختار الشيخ رحمه اللّه التفصيل بينهما،فأجري الاستصحاب في الأوّل؛لأنّ الهيئة الاتّصاليّة شرط للأجزاء،هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

و أمّا لو شكّ في وقوع مبطل لشبهة خارجيّة،فيجري الاستصحاب؛لأنّه علي يقين لو لا طروء الشكّ،كما لو شكّ في أنّه تكلّم بكلام آدمي.

الأمر الرابع عشر:لا فرق في الأثر المترتّب شرعا بين العمل بالجوارح أو بالجوانح،فإذا كان علي يقين لو لا طروء الشكّ فشكّ،جري الاستصحاب لترتيب الأثر الاعتقادي الجوانحي،مثلا كان الحسد حراما،فلو شكّ في بقاء حرمته استصحب حرمته.و أمّا إذا كان المطلوب اليقين المأخوذ في الموضوع،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّ الشكّ ينافيه.و لو سلّم جريان الاستصحاب،فلا يجري فيما إذا لم يكن الشكّ طارئا.

و من ذلك يظهر عدم جريان استصحاب نبوّة موسي و عيسي عليهما السّلام؛لأنّ اليقين بنبوّتهما محدود من الأوّل.

ثمّ إنّ هذا مماشاة مع الخصم،و إلاّ فحجّية الاستصحاب ثابتة من أخبارنا الموقوفة علي الاعتراف بنبوّة نبيّنا،و أمّا حجّيته من باب الظنّ،فإنّه لا يفيد ظنّا فضلا عن أن يكون حجّة.1.

ص: 273


1- فرائد الاصول ص 670-671.

ثمّ إنّهم أجابوا عن استصحاب نبوّة عيسي عليه السّلام بأجوبة مذكورة في فرائد الشيخ رحمه اللّه (1)،فلاحظ.

و روي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال:أنا مقرّ بنبوّة عيسي و كتابه و ما بشّر به امّته و أقرّ به الحواريّون،و كافر بنبوّة كلّ عيسي لم يقرّ بنبوّة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و كتابه و لم يبشّر به أمّته الحديث (2).

فقد يناقش فيه بأنّ عيسي عليه السّلام فرد خارجي و ليس كلّيا.

قلت:يمكن توجيه الخبر بأنّه لو فرض أنّ عيسي عليه السّلام الذي نتّفق عليه لم يبشّر بنبوّة نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله،فإنّا لا نعترف بنبوّته،كقوله تعالي وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (3)الآية،مع أنّه لا يتقوّل أبدا،و عيسي عليه السّلام قد بشّر قطعا بخاتم النبيّين محمّد صلّي اللّه عليه و آله.

الأمر الخامس عشر:إذا خصّص العامّ،أو قيّد المطلق،و شكّ في مقدار زمان خروج المخصّص أو المقيّد،ففي استصحاب المخصّص أو المقيّد،أو الرجوع إلي العامّ،تفصيل عند الاصوليّين،و هو أنّ الزمان إن اخذ علي نحو يكون كلّ زمان فردا للعامّ علي نحو العموم الاستغراقي.مثل أنّه وجب صوم شهر رمضان كلّ يوم، فإذا خصّص بعض الأيّام،فلم يجب الصوم للمرض،لكن شكّ في أنّ المراد من المرض هل هو خصوص المرض الذي يضرّه الصوم ضررا كثيرا،أو يعمّ الضرر اليسير،فإذا أفطر يوما لمرض يضرّه الصوم كثيرا،ثمّ صار المرض في اليوم الذي بعده يضرّه الصوم يسيرا،فهل يستصحب جواز الافطار،أم يرجع إلي عموم وجوب صوم كلّ يوم من شهر رمضان؟الظاهر وجوب الصوم؛لكون الدليل4.

ص: 274


1- فرائد الاصول ص 673.
2- عيون أخبار الرضا 1:128.
3- سورة الحاقّة:44.

اللفظي و هو العموم محكّما،و لا ينتهي الأمر إلي الاصول العمليّة من استصحاب و غيره.

و إن اخذ الزمان علي نحو يكون التكليف واحدا مستمرّا لا انحلال له بعدد أفراد الزمان في الاطاعة و العصيان،فإن خرج فرد عن العموم و شكّ في مقدار زمان خروجه،فلا يرجع إلي العام لعدم دلالته علي حكمه،و يرجع إلي الاصول العمليّة من استصحاب أو غيره.مثلا قوله تعالي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يدلّ علي وجوب الوفاء بكلّ عقد مستمرّا في الزمان،فإذا خرج البيع المغبون من عموم وجوب الوفاء في أوّل زمان الاطّلاع و شكّ في امتداد الخيار إلي آخر زمان إمكان الوفاء بالعقد،فلا يرجع إلي عموم وجوب الوفاء بكلّ عقد؛لأنّ هذا العقد خرج عن العموم،و لا وجه لدخوله في العموم بعد خروجه.

ثمّ إنّ المفروض في هذه المسألة الشكّ في مقدار المخصّص،فيكون الشبهة حكميّة،و لا محلّ لهذا البحث؛لعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة.

ثمّ إنّ محلّ الكلام هو تعيين صغري الرجوع إلي العامّ أو المخصّص،و لا نظر إلي مورد لم يجر استصحاب المخصّص لمانع آخر،و هو عدم اتّحاد الموضوع، فتقسيم صاحب الكفاية (1)إلي أربعة أقسام ليس دخيلا في المطلوب المبحوث عنه.

و ما ذكره من التفصيل بين الخروج في الابتداء أو في الأثناء،ليس علي إطلاقه،لأنّه لو علم الخروج في الجملة و الدخول بعد الخروج،فلا فرق بين الابتداء و الأثناء،و إن علم الخروج و الدخول بعده،لكن لم يعلم مقدار الخروج، ففي إجراء الاستصحاب إلي زمان العلم بالدخول،أو الرجوع إلي العامّ؛لأنّ المخصّص المنفصل المجمل يرجع إلي العموم في مقدار إجماله علي مبني القوم،3.

ص: 275


1- كفاية الاصول ص 483.

و جهان،و لا يبعد الرجوع إلي الاستصحاب؛لأنّ العموم ليس أزمانيّا،و لذا لا يكون زيادة الخروج تخصيصا زائدا،و إن لم يعلم الدخول بعد خروجه،فلا فرق أيضا بين الابتداء و الأثناء،فلاحظ.

الأمر السادس عشر:الشكّ المأخوذ موضوعا للاستصحاب هو عدم اليقين أو عدم الاطمئنان،بناء علي عدّه يقينا عرفا،فلو ظنّ قويّا علي خلاف الحالة السابقة استصحبها،كما يستصحب لو شكّ فيها،لقوله«لا حتّي يستيقن حتّي يجيء من ذلك أمر بيّن»و قوله«بل ينقضه بيقين آخر»و إبقاء ما كان مع الظنّ القوي علي خلافه،لا يكون إلاّ تعبّدا بالبقاء،و سيرة العقلاء لو لم تكن علي خلافه فليست علي وفاقه.

الأمر السابع عشر:يعتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة.

أمّا علي المختار من أنّ معني عدم نقض اليقين بالشكّ،هو عروض الشكّ علي اليقين،بحيث لو لا عروضه كان اليقين باقيا،و يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين، فيعتبر الوحدة بالدقّة العقليّة؛لأنّه إذا اختلف الموضوع لبعض الجهات لم يكن اليقين يبقي لو لا عروض الشكّ،فيكون علي يقين و شكّ من الأوّل،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ،فالماء المتغيّر بالنجاسة متنجّس،و المكلّف علي يقين من نجاسته إلي زوال التغيّر بنفسه،و علي شكّ من طهارته بعد زواله بنفسه من الأوّل، لا أنّه علي يقين من نجاسته لو لا عروض الشكّ.

و أمّا علي مختار الأصحاب،فهل المدار علي الوحدة عقلا،أو الوحدة بحسب لسان الدليل،أو الوحدة عرفا؟و يختلف جريان الاستصحاب علي هذه الوجوه.

أمّا علي اعتبار الوحدة عقلا،فقال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الموضوع إن اخذ من العقل،فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة

ص: 276

الرافع ذاتا أو وصفا،و فيما كان من جهة مدخليّة الزمان،نعم يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها (1)انتهي.

و يعني بالرافع ذاتا ما هو كالملكيّة المرفوعة بالبيع و نحوه.و بالرافع وصفا رافعيّة المذي للوضوء،فإنّه من الشكّ في رافعيّة الموجود.

و فيه أنّ الموضوع غير متّحد عقلا في الشكّ في رافعيّة الموجود.

و أمّا اعتبار وحدة الموضوع علي حسب لسان الدليل،فهو في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ الشبهة الموضوعيّة لا ربط لها بالدليل.

قيل في بيان ذلك:إنّه يلاحظ الموضوع المأخوذ في الدليل،فيفرق بين قوله «الماء المتغيّر نجس»و بين قوله«الماء ينجس إذا تغيّر»فإنّ المعني و إن كان لا يختلف إلاّ انّ الأوّل ظاهر في كون التغيّر قيدا للماء،فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغيّر،و الثاني ظاهر في كون التغيّر علّة لعروض النجاسة علي الماء،فيكون الموضوع ذات الماء (2).

أقول:إن فهم العرف من الدليل ما هو موضوع الحكم،فلا يحتاج إلي الاستصحاب،و إن لم يفهم،فلا وجه للرجوع إلي الدليل،إلاّ أن يقال:إنّ المراد ما يتسامح فيه العرف أنّه موضوع الدليل،و إن لم يكن مشمولا للدليل،لكن لا وجه له.

و أمّا أخذ وحدة الموضوع من العرف،فإن اريد به العرف العامّ،فهو لا يدري ما هو موضوع الحكم الشرعي،إلاّ أن يراد الموضوع العرفي لو كانت القضيّة عرفيّة، بأن يفرض الحكم الشرعي حكما عرفيّا،و يكون موضوعه كموضوع الحكم الشرعي.5.

ص: 277


1- فرائد الاصول ص 693.
2- فوائد الاصول 4:215.

و إن اريد عرف المتشرّعة،فهم مقلّدون لا اعتبار بما هو المرتكز في ذهنهم، و لا طريق إلي ما هو المرتكز في أذهان عرف المتشرّعة في حال صدور الأخبار.

ثمّ إنّ أقوي الاحتمالات عندهم هو أخذ الموضوع من العرف،و استدلّوا علي أنّ الاعتبار بنظر العرف بأنّ الوحدة لا يمكن أن تعتبر بالأنظار الثلاثة لعدم الجامع بينها،فلا بدّ من اعتبار أحدها،و حيث إنّ الخطاب متوجّه إلي العرف،فلا بدّ أن ينزل علي ما يفهمون منه؛لأنّ خطاب«لا ينقض»متوجّه إلي العرف العامّ،فما صدق عليه نقض اليقين بالشكّ عرفا فهو موضوع الاستصحاب،كسائر الموارد ممّا يستظهرونها من الخطاب.

و ليعلم أنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهة المفهوميّة بالمعني الأعمّ،حتّي علي القول بجريانه في الشبهة الحكميّة؛لأنّ الاستصحاب عبارة عن اليقين بشيء شكّ في بقائه،فلا بدّ أن يكون موضوع الحكم معلوما،مثلا موضوع الحكم في قوله «الماء متنجّس إذا تغيّر»هو الماء،و التغيّر يعتبر من حالات الماء،و يشكّ في أنّ العلّة للتنجّس و هي التغيّر هل هي علّة حدوثا و بقاء،أو حدوثا فقط،فيجري استصحاب النجاسة؛لأنّ الموضوع الماء و التغيّر يعدّ من الحالات عرفا.

و أمّا إذا لم يعلم الموضوع من الأوّل،و كانت الشبهة مفهوميّة،كالمغرب المردّد بين سقوط القرص و ذهاب الحمرة،و الفاسق المردّد بين مرتكب الكبيرة و الأعمّ منها و مرتكب الصغيرة،ففي هذه الموارد لا يجري الاستصحاب في الموضوع و لا الحكم.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:أمّا عدم جريانه في الموضوع،فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا تثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة إلاّ بناء علي القول بالأصل المثبت،كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة لكرّية المشكوك بقاؤه علي الكرّية.

ص: 278

و أمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا،فهي في معني استصحاب الحكم؛لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.

و أمّا عدم جريان استصحاب الحكم،فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه،و بقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به أوّلا حتّي يكون إثباته إبقاء و نفيه نقضا (1)انتهي.

أقول:و يلحق بالشبهة المفهوميّة ما إذا لم يعلم أنّ النجاسة الثابتة للكلب هل هي للكلب بوصف كونه حيوانا،أو الأعمّ منه و ممّا استحال إليه و صار ملحا.و علي المختار عدم جريان الاستصحاب واضح في الشبهة المفهوميّة و ما الحق بها؛لأنّه ليس علي يقين يبقي لو لم يعرضه الشكّ في البقاء،بل هو علي يقين و شكّ من أوّل الأمر.

الأمر الثامن عشر:يعتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ أن يكون الشكّ في البقاء،فإذا كان الشكّ ساريا إلي اليقين و موجبا لزواله،فليس من الاستصحاب، بل إن صحّ القول بالعمل باليقين فهو قاعدة اخري،و هي حدوث اليقين بشيء ثمّ زواله بالشكّ،بحيث زال اليقين،و يمكن أن يستدلّ له بأمرين:

الأوّل:قوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»بأن يكون معناه لا تنقض اليقين بالشكّ الساري إليه،أو يكون أعمّ من الشكّ في البقاء و من الشكّ الساري و شاملا لكليهما.

و فيه أوّلا:أنّ الموضوع في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»هو اليقين،و لفظ اليقين كسائر الألفاظ إنّما يطلق علي مصداقه الحقيقي،فيطلق لفظ«الماء»علي ما2.

ص: 279


1- فرائد الاصول ص 692.

يكون ماء حقيقة،لا علي ما توهّم أنّه ماء،فكذلك اليقين لا يطلق إلاّ علي ما هو يقين واقعا،و اليقين في مورد قاعدة اليقين ليس يقينا واقعا،بل هو توهّم اليقين و قد زال بالشكّ،فلا يطلق عليه اليقين بعد زواله بالشكّ.

علي مبني صاحب المفاتيح كما مرّ خصوصا إذا حدث اليقين و زال بالشكّ في أقلّ من نصف دقيقة مثلا

و ثانيا:أنّ النقض عبارة عن هدم أمر محقّق،فلا بدّ من وجود اليقين،و يكون الشكّ هادما له،كالبناء الذي ينقض،و الشكّ الساري لا يكون ناقضا لليقين،بل يكون رافعا له من رأس.

الثاني:قوله في الخبر المروي في الخصال«من كان علي يقين فشكّ فليمض علي يقينه»فإنّه يصدق أنّه كان علي يقين،فشكّ شكّا ساريا الي اليقين.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ الخبر ظاهر في قاعدة اليقين (1).

و فيه نظر؛لأنّ اليقين إنّما يطلق علي ما هو يقين واقعا،أي:من كان علي يقين واقعا فشكّ مع كونه علي يقين،فليمض علي ذلك اليقين المتحقّق الموجود.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة في مسألة الشكّ في حال الوضوء و بعده،قال:و إنّما أطلنا الكلام لما رأينا في المقام من توهّم غير واحد من الأعلام -اغترارا بما يتراءي من عبارة السرائر هنا،و في باب الشكّ في السجود بعد ما قام-انّ عدم نقض اليقين بالشكّ بمعني عدم رفع اليد عن الاعتقاد السابق عند طروء الشكّ في نفس ذلك المعتقد،و التردّد بين صحّة ذلك الاعتقاد و فساده قاعدة معتبرة نظير قاعدة الاستصحاب الخ (2).

أقول:راجع كلامه،فإنّه رحمه اللّه أبطل القاعدة المتوهّمة،و إن كان في خصوص مورد الفراغ قد اعتبرها صاحب الجواهر،فقال:لو اعتقد الفراغ آنا ما من الوضوء،ة.

ص: 280


1- فرائد الاصول ص 569.
2- كتاب الطهارة 2:487 الطبعة المحقّقة.

فشكّ في الجزء الأخير و هو مسح الرجلين،لم يعتن بشكّه (1).

أقول:يمكن توجيهه بالاستدلال له بقوله«هو حين يتوضّأ أذكر»أي:حين تيقّن بالفراغ أذكر من حين الشكّ.و بقوله«هو حين ينصرف أقرب إلي الحقّ»في من شكّ في الصلاة بعد ما اعتقد إتمامها.

ثمّ إنّه لو سلّم دلالته علي قاعدة اليقين،فهو معارض بالأخبار الدالّة علي الاستصحاب؛لأنّه بعد ما سري الشكّ إلي اليقين،يكون علي يقين قبل اليقين الذي صار شكّا،و لا ينقض اليقين بالشكّ،و قد تقدّم بيان ذلك.

الأمر التاسع عشر:لا إشكال في العمل بالأمارة الدالّة علي الحكم الشرعي في نقض اليقين بعدم الحكم.و أمّا في الشبهة الموضوعيّة،فيعتبر نقض اليقين باليقين، و هل يلحق باليقين الناقض الأمارة و ما بحكمها أم لا؟قولان،الأوّل:الالحاق، قال في الكفاية:لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده (2).

أقول:علي المختار لا يجري الاستصحاب في الشكّ في بقاء الحكم الكلّي، و يختصّ جريانه بغير الشكّ في الحكم الكلّي فيما يكون الشكّ ناقضا لليقين،فإذا عارضه ما هو أخصّ مطلقا منه يخصّص عموم الاستصحاب،كحجّية قول ذي اليد في طهارة ما كان نجسا سابقا،فإنّ مقتضي الاستصحاب بقاء نجاسته،لكن إن أخبر ذو اليد بطهارته قدّم قوله علي الاستصحاب لأنّه أخصّ.

و أمّا إذا كانت النسبة من وجه،فيشكل تقديم الأمارة،مثلا قوله في صحيح زرارة«لا حتّي يستيقن أنّه قد نام حتّي يجيء من ذلك أمر بيّن»مطلق،أي:سواء قامت البيّنة علي النوم أو لم تقم.8.

ص: 281


1- جواهر الكلام 2:361.
2- كفاية الاصول ص 488.

فإذا ورد أنّ البيّنة حجّة مطلقا،سواء كان في مورد الاستصحاب أو في غيره، فيتعارضان في مورد قيام البيّنة علي طهارة ما شكّ في بقاء نجاسته،فمقتضي الاستصحاب النجاسة،و مقتضي الأخذ بالبيّنة الحكم بالطهارة.

و لا وجه للتصرّف في اليقين الظاهر في اليقين الوجداني بجعله كناية عن الحجّة،أي:لا ينقض اليقين بالشكّ بل ينقضه بالحجّة،ليكون واردا،كما اختاره في الكفاية.

كما لا وجه للقول بأنّ الشارع جعل الأمارة يقينا تعبّدا،فيكون حاكما علي ما دلّ علي أنّ اليقين ناقض لليقين بتوسعته حتّي يشمل اليقين التعبّدي.

و أمّا ما استدلّ له في مصباح الاصول (1)بصدق العارف و الفقيه و العالم علي المجتهد لاستنباطه الأحكام من الأمارات.ففيه أنّه عارف و عالم بالحكم الظاهري،فإذا عثر المجتهد علي خبر جامع لشرائط الحجّية يدلّ علي حرمة شيء،رفع اليد عن استصحاب عدم جعل الحكم لحصول اليقين له بالحكم الظاهري،و لكن إذا قامت البيّنة علي نجاسة شيء،فلم يدلّ دليل علي أنّ البيّنة يقين تعبّدا،حتّي تكون حاكمة علي استصحاب الطهارة،ففي مثل البيّنة لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليل اعتبارها و دليل الاستصحاب.

الأمر العشرون:في توارد الاستصحاب،و أصل آخر كأصالة الطهارة، و أصالة البراءة،و أصالة الحلّ،و أصالة الاحتياط،علي مورد واحد،فهل يتقدّم الاستصحاب،أو يتقدّم الأصل الآخر؟الظاهر تقديم الاستصحاب.

أمّا تقديمه علي أصالة الطهارة،سواء كان استصحاب الطهارة أو استصحاب النجاسة،فلقوله عليه السّلام في صحيح زرارة في من شكّ في إصابة النجاسة ثوبه،أنّه1.

ص: 282


1- مصباح الاصول 3:251.

يحكم بالطهارة؛لأنّه كان علي يقين من طهارة ثوبه،و لا ينقض اليقين بالشكّ، فأجري الاستصحاب،و لم يجر أصالة الطهارة،مع أنها مترتّبة علي مجرّد الشكّ من دون حاجة إلي جرّ السابقة.

ثمّ إنّ تقديم استصحاب الطهارة علي أصالة الطهارة،يدلّ بالأولي علي تقديم استصحاب النجاسة علي أصالة الطهارة.

أقول:و لو لا ما استفيد من صحيح زرارة أمكن المناقشة في ذلك بأنّه يحتمل أن يكون الاصول المتوافقة جارية جميعها،فما كان طاهرا إن شكّ في نجاسته يجري فيه الاستصحاب و قاعدة الطهارة،كما يحتمل أن يكون قوله«كلّ شيء لك حلال» شاملا لمورد قاعدة اليد و الاستصحاب و غيرهما،و تكون الأمثلة المذكورة في خبر مسعدة بن صدقة مصاديق لعموم«كلّ شيء لك حلال».

و منه يظهر وجه تقديم استصحاب الحرمة علي أصالة الحلّ،و ذلك لأنّ تقديم الاستصحاب علي أصالة الطهارة في صحيح زرارة معلّلا بكونه علي يقين فشكّ يقتضي ذلك؛لأن هذه العلّة موجودة فيما إذا اقتضي الاستصحاب حرمة الشيء.

و أمّا تقديم الاستصحاب علي قاعدة قبح العقاب بلا بيان،فلأنّ الاستصحاب بيان،كما هو واضح،و يكون حاكما علي البراءة النقليّة؛لأنّ قوله«رفع ما لا يعلمون»معناه ما لم يعلم حكمه واقعا و ظاهرا،و بالاستصحاب يعلم الحكم الظاهري.

و أمّا تقديم الاستصحاب علي الاحتياط،فواضح.

الأمر الواحد و العشرون:في تعارض الاستصحابين علي مورد أو موردين.

و مثله في حكمة تعارض غيره من الاصول.

أمّا الأوّل،فإن كان أحدهما سببا شرعيّا للآخر،جري و لم يبق مجال لجريان الأصل في المسبّب،و إن لم يكن تسبيب بينهما،قيل بجريان الاستصحاب فيهما

ص: 283

إن لم يستلزم المخالفة العمليّة،ففي ما إذا توضّأ غفلة بمايع مردّد بين البول و الماء، فإنّه يستصحب الحدث و يستصحب طهارة بدنه،و هما متعارضان؛لأنّه إن كان بدنه طاهرا فلأنّ المايع ماء،فلازمه أن يكون متطهّرا،و إن كان محدثا فلأنّ المايع بول،فلازمه أن يكون نجسا.

و علي القول بعدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي مطلقا،يمكن أن يقال:إنّ الشكّ في طهارة البدن مسبّب عن طهارة المايع،فإذا جري فيه أصالة الطهارة،فلا يجري استصحاب طهارة البدن بعد الحكم بطهارة المايع.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال:إنّه إن لم يغسل بدنه و لم يحدث،فلا مجال للتوضّي بماء للعلم بعدم تأثير هذا الوضوء،فإنّه إن كان متوضّأ فلا حاجة إليه،و إن كان بدنه نجسا فلا يصحّ وضوءه.

و كذا لا يجري استصحاب الحدث؛لأنّ الشكّ فيه ناش عن الشكّ في المايع أنّه بول أو ماء،فإذا لم يجر أصل لإثبات كونه ماء،فيكون شاكّا في حصول الطهارة به،و الشكّ في الشرط شكّ في المشروط،فلا يجوز له الدخول في الصلاة،و لا يجري استصحاب الحدث لعدم الحاجة إليه،فإنّ رفع الحدث موقوف علي كون المايع ماء و لا مثبت له.

ثمّ إنّه إن اغتسل غفلة بهذا المايع المردّد بين الماء و البول،فإن حكم بطهارة بدنه و بطلان غسله،و أحدث بعد غسله بالحدث الأصغر،فمقتضي الأصلين طهارة بدنه و بقاء جنابته،فإذا اغتسل للجنابة حصل له العلم إجمالا بنجاسة بدنه،أو وجوب الوضوء للصلاة،فلذا نقول:ليس له بعد الاغتسال أو الوضوء بهذا المايع غفلة أن ينوي غسل الجنابة بتّا،و لا الوضوء،بل لا بدّ أن ينوي أنّه يغتسل رجاء، و إن أحدث بالأصغر بعد الاغتسال بالمايع المذكور وجب الوضوء أيضا.

و أمّا الثاني،فهو علي قسمين:

ص: 284

أحدهما:أن يكون الشكّ في أحدهما مسبّبا شرعا عن الشكّ في الآخر، و حينئذ إذا جري الأصل في السبب ارتفع الشكّ المسبّبي شرعا،فلا محلّ لجريانه في المسبّب لارتفاع الشكّ شرعا.

ثانيهما:أن لا يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر،بأن كانا في طرفي العلم الاجمالي،فإن استلزم من جريانها المخالفة العمليّة فيتساقطان.و في جريانهما في أطراف العلم الاجمالي إن لم يستلزم المخالفة العمليّة و عدمه قولان.

و التحقيق عدم جريان الاصول مطلقا في أطراف العلم الاجمالي،سواء لزم منه مخالفة عمليّة أو لا.

فإذا كان جسمان نجسين،ثمّ طهّر أحدهما و لم يعلم به تعيينا،و علم بطهارة أحدهما غير المعيّن،فلا يجري استصحاب النجاسة في كلّ منهما؛لأنّ التعبّد بنجاستهما إن كان لتقيّد الطاهر من الجسمين بالعلم التفصيلي بطهارته،فلا حاجة إلي الاستصحاب؛لأنّهما نجسان واقعا حيث لا يعلم الطاهر تفصيلا.

و إن كان مع عدم تقيّد الطاهر بالعلم التفصيلي،بل المعلوم إجمالا طهارته طاهر يترتّب عليه آثار الطاهر،فلا يجتمع الحكم بطهارته مع الحكم بنجاسة الطرفين ظاهرا،و ترتيب آثار النجاسة عليهما،من نجاسة ملاقي أحدهما،و العقاب علي شربه و إن كان طاهرا واقعا،و حيث إنّه لا ترجيح لجريان الأصل في أحد الطرفين، فلا يجري الأصل فيهما،لا استصحاب نجاستهما،و لا أصالة الطهارة فيهما،بل يجري عليهما حكم العلم الاجمالي.

مضافا إلي أنّ الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين المتّصل بالشكّ لا اليقين السابق،فمن كان علي وضوء أوّل الزوال مثلا إلي ساعة بعد الزوال فشكّ، فلا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ،و المراد اليقين قبل آن الشكّ،و لا يلحظ اليقين الذي هو أوّل الزوال للاستصحاب،فكما لو خلق شيئان في ساعة واحدة،و كان

ص: 285

أحدهما نجسا و الآخر طاهرا،لم يجر الاستصحاب لعدم الحالة السابقة،كذا لو كان لهما حالة سابقة،فإنّه لا اعتبار بها،بل الاعتبار بحال العلم الاجمالي.

و بعبارة اخري:لا فرق بين ما كان له حالة سابقة أو لم يكن،و ذلك لأنّ ضمّ الحالة السابقة و إجراء حكمها يكون من ضمّ الحجر إلي الانسان،فلا يشكّ متشرّع في عدم الفرق بين ما لو خلق شيئان في آن واحد كان أحدهما نجسا،و بين ما لو كانا نجسين طهر أحدهما في ذلك الآن.

و قال في الكفاية بجريان الاصول إن لم يستلزم المخالفة العمليّة،قال:لوجود المقتضي إثباتا و فقد المانع عقلا.أمّا الأوّل،فلإطلاق الخطاب و اشتمال بعض الأخبار علي قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر»الموجب للاجمال؛لأنّ مقتضي الصدر الشمول و مقتضي الذيل عدمه لا يوجب الاجمال في الخبر الغير المشتمل علي هذه الجملة.و أمّا الثاني،فلأنّ المخالفة الالتزاميّة غير ضائرة (1).

أقول:أوّلا لا مجال للاطلاق مع وجود المحذور الذي تقدّم بيانه.

و ثانيا:أنّ الاجمال إن كان موجبا لعدم التعبّد بصدور المجمل،فيصحّ أن يقال باختصاص التعبّد بصدور الخبر غير المشتمل علي الذيل،و أمّا إن صحّ التعبّد بصدور المجمل،فلازمه سراية الاجمال في أحد الخبرين إلي الآخر؛لأنّه بعد التعبّد بصدور ذيل الخبر المشتمل علي قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر»يسري الاجمال إلي الخبر الآخر؛لعدم الترجيح في التعبّد بصدور أحدهما دون الآخر.

و ثالثا:أنّ الالتزام و الاعتقاد بطهارتهما ظاهرا إن كا التزاما و اعتقادا بعدم نجاسة أحدهما،فهو مخالف لوجوب الالتزام بأحكام اللّه الذي تقدّم وجوبه في مباحث القطع.2.

ص: 286


1- كفاية الاصول ص 492.

و أمّا النقض علي ذلك بأنّ من صلّي و شكّ بعد الصلاة في أنّه تطهّر للصلاة أو لم يتطهّر،و كان متذكّرا حين الدخول في الصلاة،حيث إنّه يجري قاعدة الفراغ في الصلاة،و يستصحب الحدث لسائر الصلوات،مع العلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع.

فمدفوع بأنّ قاعدة الفراغ مخصّصة للاستصحاب بالنسبة إلي هذه الصلاة، فيكون الشارع قد اكتفي بهذه الصلاة و إن كان المصلّي محدثا واقعا،فلا علم ببطلان القاعدة و الاستصحاب،أو يقال:إنّ استصحاب الحدث لا يجري؛لأنّ الشكّ في الطهارة يكفي لعدم جواز الدخول في الصلاة،فإنّه لا بدّ من إحراز الشرط،و لا حاجة إلي جرّ الحالة السابقة.

ثمّ إنّه لو سلّم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي،فالأصل في أحد الطرفين معارض بالأصول السببية و المسبّبية في الطرف الآخر؛لأنّ السببية و المسبّبية بينها لا توجب التأخّر أو التقدّم علي الأصل الجاري في الطرف الآخر.

و بذلك ينحلّ ما ذكره بعضهم من أنّه إذا علم إجمالا وقوع نجس إمّا علي مأكول أو علي ملبوس،فاستصحاب الطهارة فيهما يسقطان،ثمّ يسقط أصالة الطهارة فيهما،ثمّ يجري أصالة الحلّ في المأكول بلا معارض.

و فيه نظر،و ذلك لأنّ استصحاب الطهارة في الملبوس يعارض جميع الاصول في الطرف الآخر؛لأنّه يعلم بعدم جواز الصلاة في الملبوس،أو عدم جواز أكل المأكول،كما يعلم ببطلان استصحاب الطهارة،و أصالة الطهارة،و أصالة الحلّ للمأكول،أو بطلان استصحاب طهارة الملبوس،و بطلان أصالة الطهارة فيه.

ص: 287

خاتمه

اشارة

يذكر فيها مطالب في فصلين:

الفصل الأوّل: في اختلاف الأدلّة
اشارة

علي وجه لا يمكن الجمع بينها بوجه يساعد عليه أهل العرف عند عرضها عليهم.

و إنّما جعلنا البحث فيه خاتمة؛لأنّ المراد آخر الأبواب بعد الفراغ عن إثبات الأدلّة للفقه،و ليس ذلك لخروج البحث عنه عن الاصول؛لأنّ الخاتمة لا بدّ أن تكون من جنس المختوم،و ما صنعه في الكفاية (1)من جعل مبحث الاجتهاد و التقليد خاتمة لمباحث الاصول،لعلّه مبني علي أنّ الاجتهاد غاية الاصول؛لأنّه إعمال القواعد المذكورة في الاصول.

و عدلنا عن لفظ التعارض؛لأنّ أهمّ مباحثها مبحث الأخبار المتعارضة، و المذكور في الأخبار العلاجيّة لفظ المختلف و الخلاف و نحوهما،إلاّ في مرفوعة زرارة،فذكر فيها«الحديثان المتعارضان»مع أنّه في بعض الموارد لا يصدق المختلفان و إن صدق المتعارضان،و سيأتي التعرّض له.

و المراد بالأدلّة الاثنان فما فوق،كما إذا ورد دليل علي وجوب عمل و دليل علي استحبابه و دليل علي إباحته،و في هذا المثال الدليلان متعارضان أيضا، كتعارض الجميع،و قد لا يكون الدليلان متعارضين،بل التعارض في الأكثر خاصّة،مثل أكرم زيدا يوم الجمعة،و أكرم عمروا يوم الجمعة،و لا يجب إكرامان في يوم الجمعة،كما أنّ المراد بالأدلّة ما كانت أدلّة في نفسها و حجّة كذلك،مع قطع

ص: 288


1- كفاية الاصول ص 528.

النظر عن الاختلاف.

نعم المسؤول عنه في بعض الأخبار العلاجية مطلق الخبر و إن لم يكن حجّة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:التعارض لغة من العرض،و غلب في الاصطلاح علي تنافي الدليلين،و تخالفهما باعتبار مدلولهما،و لذا ذكروا أنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين علي وجه التناقض أو التضادّ (1).

فيظهر منه أنّه لا فرق بين أن يقال:التعارض تنافي الدالّين،أو تنافي المدلولين، و هو كذلك؛لأنّ المدلولين بوصف كونهما مدلولين يرجعان إلي الدالّين.

و قال في الكفاية:إنّه تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة و مقام الاثبات علي وجه التناقض أو التضادّ أو عرضا،بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما (2).

و المراد بالتضادّ معناه اللغوي،و يظهر منه أنّه جعله وصفا للدالّين،و إن كان منشؤه تنافي المدلولين.

أقول:الدلالات ثلاث:

الاولي:دلالة اللفظ علي معناه الموضوع له أو المفهوم منه،و لو بالقرينة كالمجاز،فيما تكون القرينة متّصلة باللفظ،و هذه هي الدلالة الاستعماليّة،أي:

المفهوم من استعمال اللفظ،سواء كان المتكلّم مريدا أو لم يكن،و هذه الدلالة موجودة و إن صدر الكلام من النائم.

الثانية:دلالته علي مراد المتكلّم و ما يطلبه من المأمور،و هذه الدلالة موقوفة علي مجيء وقت الحاجة؛لأنّ للمتكلّم تأخير القرينة إلي وقت مجيئها،فإذا قال المولي لعبده في يوم الأربعاء:أكرم العلماء يوم الجمعة،تحقّقت الدلالة الاولي،6.

ص: 289


1- فرائد الاصول ص 750.
2- كفاية الاصول ص 496.

لكن الدلالة الثانية معلّقة علي أن لا يبيّن خلافه قبل مجيء يوم الجمعة،فإذا قال يوم الخميس:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة،تحقّقت الثانية،و هي إكرام العلماء غير الفسّاق منهم.

الثالثة:الدلالة علي أنّ المتكلّم يريد ذلك جدّا لا تقيّة و لا مكرها،و لا مزاحا و لا مماشاة و نحوها،و هذه الدلالة متحقّقة ببناء العقلاء علي الحمل علي الجدّ إلاّ إذا كانت قرينة علي الخلاف.

و في صحيح ابن بزيع،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن امرأة أحلّت لي جاريتها، فقال:ذلك لك،قلت:فإن كانت تمزح؟فقال:و كيف لك بما في قلبها،فإن علمت أنّها تمزح فلا (1).

ثمّ إنّ مفهوم التعارض و مفهوم الاختلاف يصدقان علي الحكمين لموضوع واحد،سواء كان الاختلاف و التعارض بالذات أو كان بالعرض،فإذا دلّ خبر علي أنّ الصلاة الواجبة يوم الجمعة هي الظهر،و ورد خبر علي أنّها الجمعة،صدق عليهما تعارض الخبرين و اختلاف الخبرين في الصلاة يوم الجمعة،بعد الضرورة من المسلمين علي أنّه لا يجب في ظهر يوم الجمعة إلاّ صلاة واحدة،و سمّاه في الكفاية بالتعارض بالعرض،و قال السيّد الطباطبائي اليزدي:إنّه تعارض في المدلول الالتزامي النقلي.

و أمّا إذا ورد خبر علي وجوب غسل الجمعة،و ورد خبر آخر علي أنّ دية العبد المدبّر دية الحرّ،و علم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع،فلا يصدق أنّه اختلفت الأخبار،و في صدق تعارض الأخبار احتمالان بل قولان:

أحدهما:ما صرّح به صاحب الكفاية في تعليقته و يقتضيه كلامه في الكفاية،ء.

ص: 290


1- وسائل الشيعة 14:534 ب 32 أبواب نكاح العبيد و الاماء.

من أنّه من التعارض بالعرض،قال في تعليقته:إنّ كلّ واحد مستلزم لنفي مدلول الآخر،فموضوع كلّ موضوع للآخر.

و وافقه في منتهي الوصول،قال:إنّ أحد الدليلين ناف لمدلول الآخر بالالتزام العقلي (1).

أقول:لا يخلو ما ذكراه عن تكلّف؛لأنّ العلم بعدم شمول دليل حجّية الخبر لهما لا يوجب تعارضهما.نعم يصحّ إطلاق التعارض في شمول دليل الحجّية،بمعني أنّ كلّ واحد من الخبرين في نفسه مشمول لدليل حجّية الخبر،مع أنّه لا يشملهما.

ثانيهما:أنّه ليس من التعارض؛لأنّ الموضوع ليس واحدا،و هو الذي يقتضيه ظاهر كلام الشيخ رحمه اللّه (2)،و صرّح به السيّد الطباطبائي في رسالة التعادل و التراجيح،قال:لعدم التنافي بين المدلولين و لو في مقتضاهما.

و قال في فوائد الاصول:إنّه من قبيل اشتباه الحجّة باللاحجّة؛لأنّه يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران:أحدهما أن يكون كلّ منهما واجدا لشرائط الحجّية.ثانيهما:أن يمتنع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم الجعل و التشريع (3)انتهي.

أقول:حيث إنّه لا يمتنع اجتماعهما في عالم التشريع فليسا من المتعارضين.

فالتحقيق أن يقال:إذا اختلفت الأخبار في موضوع واحد،و لو كان مثل الظهر و الجمعة،و كانت واجدة لشرائط الحجّية في نفسها،فهي التي تشملها الأخبار العلاجيّة،سواء علم بعدم مطابقة بعضها للواقع أو لم يعلم؛لصدق مجيء خبرين مختلفين،بل ورد في خبر سماعة«انّ أحد الخبرين يأمر و الخبر الآخر ينهي»مع3.

ص: 291


1- منتهي الوصول ص 255.
2- فرائد الاصول ص 750.
3- فوائد الاصول 4:263.

أنّه يعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،لكن يحتمل صدورهما عن المعصوم،و لا يبعد صدق الخبرين المختلفين إن علم عدم صدور أحدهما عن المعصوم.

و أمّا إذا لم يكن الموضوع واحدا،و علم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،فهو من اشتباه الحجّة باللاحجّة،حتّي لو كانا واجدين لشرائط الحجّية،فلا يشملهما الأخبار العلاجيّة،و حينئذ يعمل بهما إن لم يلزم طرح تكليف منجّز معلوم،فإذا ورد خبر علي وجوب غسل الجمعة،و خبر علي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، و علم كذب أحدهما،وجب الجمع بينهما،و إلاّ-أي:إن لزم من العمل بهما طرح تكليف منجّز-وجب طرحهما و العمل بالاحتياط.

و قد ظهر ممّا ذكرنا تعريف التعارض اصطلاحا،و هو اختلاف الأدلّة علي موضوع واحد لا يمكن الجمع بينها بوجه يساعد عليه عرف أهل المحاورة.

ثمّ إنّهم ذكروا موارد ليست من التعارض،و هي:

المورد الأوّل:تزاحم التكليفين،و الفرق بينه و بين التعارض أنّ أحد المتعارضين ليس واجدا للملاك الذي يقتضي أن يكون علي وفقه الحكم،و إن فرض اشتماله علي الملاك في الجملة،فهو غير مطلوب،بخلاف المتزاحمين فإنّهما واجدان للملاك علي السويّة،أو بزيادة أحدهما و هو الأهمّ،و في الأوّل يكون المجعول واحدا منهما،و في الثاني يكون الأهمّ بمقدار المصلحة الزائدة واجبا تعيينيّا،و في المقدار المشترك يكون واجبا تخييريّا،فلا تقييد لأحد المتزاحمين بترك الآخر.

و قد فصّلنا الكلام في بحث الترتّب،و أنكرنا لزوم عقابين علي ترك الأهمّ و المهمّ إن كان أحدهما أهمّ،أو عقابين متساويين إن كانا متساويين.

و لهم مسلكان آخران:

الأوّل:تقييد إطلاق كلّ واحد بترك الآخر،و لازمه وجوبهما عند تركهما،

ص: 292

اختاره الشيخ النائيني رحمه اللّه.

أقول:لازمه أن يعاقب بعقابين،و لا يصحّ الالتزام بتعدّد العقاب علي من لم يقدر إلاّ علي عمل واحد.

الثاني:ما سلكه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه في رسالة التعادل و التراجيح،من أنّ القدرة في بعض التكاليف شرط للتنجّز،و ليس شرطا لأصل التكليف؛لأنّ المصلحة في الفعل تامّة للايجاب،و العجز لا يغيّره عن مصلحته،فيثبت الحكم الواقعي في حدّ نفسه،نظير ثبوت الحكم حال الجهل،و يكون المكلّف معذورا لجهله،فلا تقييد في مرحلة الحكم انتهي ملخّصا.

أقول:ظاهر الآيات و الأخبار أنّ التكليف لا يكون إلاّ مع الوصول و القدرة علي العمل به،فالجاهل القاصر ليس مكلّفا أصلا لعدم الوصول إليه،و كذا غير القادر لقوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها فما ذكره من ثبوت التكليف في مرحلة الحكم غير سديد لعدم القدرة عليهما.

تتميم:
اشارة

يذكر فيه امور:

الأمر الأوّل:أنّ مسألة اجتماع الأمر و النهي ليست من باب التعارض

؛لأنّ المفروض فيها إمّا وجود المندوحة أو عدمها.

أمّا الأوّل،فلا تعارض بين النهي التعييني و الأمر بالطبيعة الشاملة لمورد النهي و غيره؛لأنّه لا مانع من اجتماع المصلحة و المفسدة في الشيء الواحد،فإذا كانت المصلحة الموجودة فيه مساوية للمصلحة الموجودة في سائر الأفراد،فالأمر متعلّق بالطبيعة الشاملة للفرد المنهي عنه،فلا وجه لتخصيص الأمر بالطبيعة بغيره، و تفصيله في بحث اجتماع الأمر و النهي.

و أمّا الثاني،فالحكم فيه تابع لأقوي الملاكين؛لأنّ المكلّف لا يقدر علي الجمع

ص: 293

بين إدراك المصلحة و ترك المفسدة،و لا يكلّف ما لا يقدر عليه.

و ذكر في الكفاية (1)في الأمر الثامن في بحث اجتماع الأمر و النهي:أنّه إذا كان المناط للحكمين موجودا،كانت الروايتان الدالّتان عليهما من باب التزاحم بين المقتضيين،و الترجيح مع الأقوي مناطا و إن كان أضعف سندا.

ثمّ قال:نعم لو كان كلّ منهما متكفّلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض،فلا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة.

و قال في الأمر الثاني من تنبيهات المسألة نظير ذلك.

أقول:إن كان مفروض كلامه صورة وجود المندوحة،فلا معارضة بين الحكمين حتّي مع كون الروايتين متكفّلتين للحكم الفعلي.و إن كان في صورة عدم وجود المندوحة،فالحكم تابع لأقوي الملاكين في مرحلة جعله؛لأنّ المصلحة و المفسدة في الشيء الواحد إن كانتا متساويين فهو كالمباح،و إن كانت احداهما غالبة فالحكم تابع لها،و علي كلّ ليس هناك حكمان.

و قال في التنبيه الثالث من بحث الاجتماع:فيكون مثل أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق من باب الاجتماع،كصلّ و لا تغصب،لا من باب التعارض.

إلي أن قال:فما يترآي منهم من المعاملة مع مثل أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق معاملة تعارض العموم من وجه،إنّما يكون بناء علي الامتناع،أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

أقول:مورد الاجتماع في العموم من وجه ليس من مسألة الاجتماع لعدم المندوحة،فلا بدّ للآمر من ملاحظة المناطين،و يحكم علي وفق الأقوي منهما، و إن لم يكن أحدهما أقوي فيكون مباحا.و يحتمل أن تكون النسخة مغلوطة،و أن9.

ص: 294


1- كفاية الاصول ص 189.

تكون العبارة أكرم العلماء و لا تكرم الفاسق.

الأمر الثاني: مرجّحات باب التزاحم

حيث بيّنا الفرق بين التزاحم و التعارض،فلا بأس بالاشارة إلي مرجّحات باب التزاحم.

فنقول:ذكر للترجيح في باب التزاحم امور نذكر بعضها:

منها:أن يكون أحدهما أهمّ،و هو مقدّم علي المهمّ و إن كان أسبق زمانا.

و منها:أن يكون أحدهما أسبق زمانا،فلو كان واجبان فعليّان متساويان في الملاك وجب الأسبق،و إن علم بأنّه قادر علي فعل اللاحق مع ترك السابق.

قال في المصباح:إنّ الاتيان بالمقدّم زمانا يوجب عجزه عن المتأخّر،فيكون التكليف به منتفيا بانتفاء القدرة علي موضوعه (1).

قلت:لا يخلو عن إشكال إن علم أنّه باق و يقدر علي فعل اللاحق؛لأنّ التكليف بهما فعلي،أو كالفعلي،و هو مخيّر بينهما.

و منها:تزاحم الواجب الموسّع و المضيّق،و يترجّح المضيّق عقلا،و إن تركه و أتي بالموسّع صحّ،و لكن أنكر في مصباح الاصول كونه مرجّحا،قال:لقدرة المكلّف علي امتثال كليهما،فلا تزاحم بينهما (2).

و فيه أنّه في أوّل أزمنة التكليف لا يقدر علي الجمع بينهما،فيتعيّن المضيّق عقلا،لكن مع وجود ملاك الموسّع،و لذا لو ترك المضيّق صحّ الموسّع،مع أنّهما لو لم يكونا متزاحمين لم يكن لأحدهما ملاك،فالظاهر أنّهما متزاحمان في أوّل أزمنة التكليف و هكذا.

و منها:أن يكون لأحد الواجبين بدل،فإنّه يتقدّم ما ليس له البدل عليه،مثلا لو كان جنبا عنده من الماء ما يكفي لشربه المتوقّف عليه الصوم،و هو يكفي لغسل

ص: 295


1- مصباح الاصول 3:362.
2- مصباح الاصول 3:358.

جنابته،فإنّه يجب شربه و يتيمّم؛لأنّه لو اغتسل لم يتمكّن من الصوم.

و مثله ما لو كان عنده مقدار من الماء يكفيه لغسل ثوبه،أو تطهيره من الحدث، فانّه يتيمّم و يطهر ثوبه؛لأنّ الوضوء له بدل.

و ناقش فيه في المصباح أوّلا:بأنّ الثوب الطاهر أيضا له بدل،و هو الصلاة في الثوب النجس أو عاريا.

و ثانيا:بأنّ التزاحم لا يكون في الأوامر الضمنيّة؛لأنّه إن لم يقدر علي بعض الأجزاء أو الشرائط سقط الأمر بالمركّب،و لكن في خصوص الصلاة حدث أمر آخر:إمّا متعلّق بأحدهما معيّنا،و هو الصلاة في الثوب النجس متطهّرا بالماء،أو الصلاة في الثوب الطاهر متيمّما،و إمّا متعلّق بهما مخيّرا؛لأنّ الصلاة لا تترك بحال.

و حيث إنّ التعيين في كلّ منهما مشكوك،فالأصل البراءة عنه،فيثبت التخيير (1).

و قال أيضا في نظائر المسألة بأنّه من باب التعارض؛إذ وجوب كلا الجزئين معلوم الانتفاء؛لعدم القدرة إلاّ علي أحدهما،و لا ندري أنّ الواجب أيّهما،فلا بدّ من الرجوع إلي أدلّة الأجزاء،فإن كان دليل أحد الطرفين لفظيّا و الدليل الآخر لبّيا،وجب الأخذ بالدليل اللفظي،و لو كانا لفظيّين و كان أحدهما عامّا و الآخر مطلقا قدّم العامّ،و لو كانا مطلقين سقطا و يرجع إلي الأصل العملي،و لو كانا عامّين فلا بدّ من الرجوع إلي المرجّحات السنديّة (2).

أقول:معني عدم سقوط الصلاة بحال أنّ الأمر بالصلاة متوجّه إلي كلّ شخص في كلّ حال بمراتب التمكّن منها،و الأدلّة الدالّة علي الأجزاء و الشرائط هي أدلّة عليهما في كلّ صلاة،فإذا كان بعضها ركنا و بعضها غير ركن،فهي كذلك في جميع مراتب الصلاة،مثلا لو دار الأمر بين الصلاة في الثوب الطاهر مستدبر القبلة3.

ص: 296


1- مصباح الاصول 3:360.
2- مصباح الاصول 3:363.

و الصلاة عاريا مستقبل القبلة،كان مراعاة القبلة أهمّ فيتقدّم علي مقتضي قاعدة تقدّم الأهمّ،فتكون الصلاة المأمور بها هذه الصلاة،و هذا معني التزاحم.

فسواء قلنا بأنّ الأمر متعلّق بالأجزاء و الشرائط الركنيّة،و يسقط ما لا يكون ركنا إلي آخر المراتب،أو قلنا بسقوط الأمر بالمركّب من الجميع و حدوث أمر ببقيّة الأجزاء،فإنّه لا بدّ من تعلّق الأمر بالأجزاء و الشرائط التي هي أهمّ من غيرها؛لأنّ ما دلّ علي أنّ الصلاة ثلث ركوع و ثلث سجود و ثلث طهور،لا يختصّ بمرتبة كاملة من الصلاة.

الأمر الثالث:أنّ التزاحم لا يتحقّق إلاّ مع العجز عن الاتيان بالمتزاحمين

،و قال في فوائد الاصول بتحقّقه في غيره أيضا،مثل ما إذا ملك خمسا و عشرين إبلا و مضي عليه ستّة أشهر،فملك واحدا آخر،فصارت ستّا و عشرين،فمضت ستّة أشهر،فإنّه يجب عليه خمس شياة لحلول الحول،فإذا مضت ستّة أشهر وجب عليه بنت مخاض لحلول الحول من حين ملك واحدا،لكن لا يجب الجمع؛لأنّ المال لا يزكّي في العام مرّتين (1).

و أورد عليه في مصباح الاصول بأنّه من التعارض من قبيل صلاة الجمعة و الظهر،فإنّه و إن أمكن الجمع بينهما لكن لا يجب بالضرورة (2).

أقول:الظاهر أنّه بعد ما وجبت خمس شياه بعد حلول الحول صارت العين مشتركة بين المالك و الفقراء،و خرج عن ملكه مقدار الزكاة،فلا يملك خمسا و عشرين،فإن أعطي الزكاة ملك من هذا الحين،فإذا مضي ستّة أشهر لم يمض حول علي ستّ و عشرين،لكن إن ملك أكثر من ستّة لا يرد هذا الاشكال، و المسألة محلّها كتاب الزكاة.

ص: 297


1- فوائد الاصول 4:264.
2- مصباح الاصول 3:359.

و الأولي أن يقال:يجب خمسة شياه عند حلول الحول،فإذا زكّي المال لم يتعلّق به الزكاة؛لقوله«لا يزكّي المال في العام مرّتين»أي:المال المزكّي لا يكون متعلّق الزكاة،و حينئذ إن مضي ستّة أشهر لم يمض علي مال لم يزكّ حول حتّي تجب الزكاة.

المورد الثاني:التنزيل،مثل قول القائل«لا صلاة إلاّ بوضوء»«و التيمّم بمنزلة الوضوء»فإنّه لا معارضة بينهما؛لأنّ لسان التنزيل في الحقيقة لسان تقرير العموم، بخلاف قوله«يجوز الصلاة بالتيمّم»فإنّه معارض لقوله«لا صلاة إلاّ بوضوء» هكذا ذكره السيّد في رسالة التعادل و التراجيح.

أقول:و منه قوله«الطواف بالبيت صلاة»و نحوه،فإنّه من باب التنزيل.

المورد الثالث:الورود،و هو أن يكون الدليل الوارد موجبا لنفي موضوع دليل المورود وجدانا كالتخصّص،و الفرق بينهما أنّه في التخصّص يكون الخروج من الأوّل،و في الورود يكون الخروج بعد مجيء الدليل.

ثمّ إنّ الدليل إنّما يكون واردا إذا لم يكن موضوع المورود مقيّدا بعدم الوارد، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان،فإنّه مع البيان لا موضوع للقاعدة،و مثال الورود أن يكون موضوع البراءة الشرعية عدم العلم بالتكليف الفعلي،فإذا دلّ خبر الثقة الثابت حجّيته بالأدلّة القطعيّة علي حرمة شيء يرتفع عدم العلم بالتكليف الفعلي وجدانا،و الفرق بين الورود و الحكومة أنّ الموضوع يرتفع في الحكومة تعبّدا.

ثمّ إنّ في مورد ورود أحد الدليلين علي الآخر لا موضوع للتعارض.

المورد الرابع:الحكومة،و الكلام فيها في مواضع:

الموضع الأوّل:في بيان حقيقتها،و هي أن يكون المتفاهم عرفا من أحد الدليلين كونه بمنزلة الشرح للدليل الآخر،سواء كان موافقا له أو مخالفا له بنحو التضييق أو التوسعة،و سواء كان الشرح و النظر عمديّا مقصودا للمتكلّم أو قهريّا

ص: 298

لازما للمدلول.

و بعبارة اخري:الحكومة رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر أو محموله تعبّدا.

مثال ذلك:لا ضرر بالنسبة إلي التكاليف،فإنّه حاكم علي المحمول بالنظر العمدي،و الاستصحاب السببي فإنّه حاكم علي المسبّبي بالنظر القهري،و الدليل الاجتهادي فإنّه حاكم علي الأصل الشرعي،و استصحاب موضوع الحكم لترتيب الحكم عليه،أو قيام البيّنة لترتيبه،كاستصحاب العدالة،أو قيام البيّنة عليها لترتيب جواز الصلاة خلفه.

الموضع الثاني:قيل في الفرق بينها و بين التخصيص أنّ التخصيص بيان للعامّ بحكم العقل،و الحاكم بيان بمقتضي دلالة اللفظ لأنّه شارح و ناظر،و يتفرّع عليه أنّه لو كان النسبة بينه و بين المحكوم العموم من وجه قدّم عليه.

و أيضا يقدّم عليه و إن كان ظهوره أضعف من ظهور المحكوم،بخلاف المخصّص،فإنّه يتقدّم العامّ علي الخاصّ إن كان أظهر.

قلت:أورد عليه السيّد في رسالة التعادل و التراجيح بأنّ الحاكم لو كان نصّا في النظر إلي المحكوم،أو أقوي من دلالة المحكوم علي مدلوله،فهو صحيح.

و أمّا إذا فرض كون دلالة المحكوم علي مدلوله أقوي من دلالة الحاكم في نظره إلي موضوع المحكوم،بحيث يمكن صرفه عن نظره فلا يتمّ؛إذ مدلول المحكوم في عرض مدلول الحاكم و في عرض نظره إلي آخر ما أفاده.

ثمّ قال:و بعد اللتيّا و التي فالمدار في الحاكم و المحكوم أيضا علي الأظهريّة، إلاّ انّه لا يلاحظ المدلول الأصلي فقط،بل يلاحظ مع حيثيّة النظر،فإن كان نصّا أو أظهر مع تلك الملاحظة يقدّم علي المحكوم و إلاّ فلا.

أقول:إنّ الخاصّ يقدّم علي العامّ،و يكون قرينة علي المراد به،لا من أجل

ص: 299

نظره و شرحه لفظا له،بل لأنّه لا يجتمع مع العامّ،و هو أظهر منه،فلو كان العامّ أظهر من الخاصّ،كالعام الآبي عن التخصيص قدّم علي الخاصّ.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بأنّ الحاكم يتقدّم علي المحكوم،و إن كانت النسبة بينهما من وجه،ليس علي إطلاقه،بل فيما إذا كان الحاكم أظهر في مورد الاجتماع من المحكوم علي النحو الذي ذكرناه و ذكره السيّد الطباطبائي رحمه اللّه.

الموضع الثالث:في بيان عدم كون الحاكم معارضا و مخالفا للمحكوم،قيل:إنّ لسان الحاكم لسان الصلح لا الخصومة،و لسان البيان و المبيّن بالكسر لا يعدّ معارضا و منافيا للمبيّن بالفتح.

قلت:لا يخفي أنّه لا يبعد صدق المخالفة،فقوله في خبر«لا ربا بين الوالد و الولد»يعدّ عرفا مخالفا لعموم«و حرّم الربا»فلو فرض وجود خبر آخر علي أنّ الربا يكون بين الوالد و الولد،جري عليهما قواعد التعارض و يرجع إلي المرجّحات،و منها ترجيح موافقة الكتاب،و الخبر الثاني موافق للكتاب،و الأوّل مخالف له.

و في رسالة التعادل و التراجيح:لا بأس بعدّ الحاكم و المحكوم من المتعارضين، غاية الأمر أنّ الحاكم مقدّم علي المحكوم،و الوجه في تقديمه كونه مبيّنا و مفسّرا، بخلاف العامّ و الخاصّ،فإنّ تقديم الخاصّ من دلالة العقل.

أقول:الحاكم كالمخصّص بعبارة أبلغ و ألطف،و هو مخالف للمحكوم كالخاصّ الذي هو مخالف للعامّ،و يتقدّم الحاكم لأنّه كالتصريح بكونه بيانا،و يتقدّم الخاصّ أيضا لكونه بيانا للعامّ،لكن بدون التصريح بكونه بيانا.

المورد الخامس:التوفيق العرفي،و قد يعبّر عنه بالحكومة العرفيّة،و هو عبارة عن كون الدليلين بحيث إذا عرضا علي العرف يوفّقون بينهما بالتصرّف في أحدهما أو في كليهما بالحمل علي معني لا ينافي الآخر بلا ملاحظة النسبة بينهما،

ص: 300

فيحمل مثلا أحدهما علي الحكم الاقتضائي،و يحمل الآخر علي الحكم الفعلي و نحو ذلك.

و منه التوفيق بين لا ضرر و لا حرج،و الأحكام المطلقة الشاملة له و لغيره، فجمع صاحب الكفاية رحمه اللّه بينهما و بين الأحكام بحملها علي الحكم الأوّلي، و حملهما علي الحكم الثانوي (1).

أقول:و من التوفيق العرفي أن يكون أحد الخبرين قرينة علي المراد من الآخر، بأن يكون أحدهما عامّا و الآخر خاصّا نصّا،أو أظهر من العامّ،لكنّهم يعدّون العامّ و الخاصّ مستقلا،و هو صحيح علي مذهب من يعتقد تقديم الخاصّ علي العامّ، و إن كان أضعف منه ظهورا،لكن المختار تقديم العامّ الأظهر القويّ علي الخاصّ.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة في كون التوفيق العرفي عنوانا مستقلا،بل هو راجع إلي تقديم الأظهر علي الظاهر،فلو انعكس الأمر انعكس،مثلا لو كان معتادا لشرب الخمر ثمّ تاب،فإنّ ترك شربه حرج عليه أشدّ الحرج،فلا يصحّ أن يقال:إنّ نفي الحرج يرفع الحرمة؛و ذلك لأنّ دليل المحرّمات أقوي في الدلالة علي وجوب الاجتناب حتّي في حال الحرج.

تتميم:
اشارة

لا يقع التعارض بين الأمارات و الاصول العمليّة،و لا بين النصّ و الظاهر،و لا بين الأظهر و الظاهر،و يتقدّم الظاهر علي أصالة الحقيقة.

و لتوضيح ذلك يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل:في وجه تقديم الأمارات علي الاصول العمليّة العقليّة

و الشرعيّة

،و ينبغي ذكر أمرين،ثمّ بيان وجه تقديمها عليها:

ص: 301


1- كفاية الاصول ص 433.

الأمر الأوّل:الفرق بين الأمارة و الأصل،أنّ الأمارة ما اعتبرها الشارع في حال الشكّ طريقا إلي الواقع و كاشفا عنه،و إن لم يكن له كشف في نفسه.و الأصل ما اعتبره وظيفة عمليّة في حال الشكّ،و إن كان له كشف في نفسه لكن الشارع لم يعتبره لكشفه،سواء قلنا إنّها أحكام ظاهريّة أو أعذار إن خالفت الواقع.

و قيل في الفرق بينهما وجهان آخران:

أحدهما:أنّ الأمارة ما اعتبرها الشارع حجّة و لم يأخذ في موضوعها الشكّ، و الأصل ما اخذ في موضوعه الشكّ.

ثانيهما:أنّ الأمارة ما له كشف في نفسه و لو نوعا،و الشارع قد تمّم كشفه، و الأصل ما ليس له كشف في نفسه،و هذا الوجه لا بأس به إن استظهر من إمضاء الشارع،أو تعبّده أنّه اعتبره من حيث كشفه.

الأمر الثاني:المراد من تقدّم الأمارة علي الأصل تقدّم مؤدّي الخبر الواحد الدالّ علي حرمة الشيء علي مؤدّي الأصل الدالّ علي حلّية المشكوك مثلا،و لا يلاحظ التعارض بين دليل اعتبارهما،فدليل اعتبارهما ربما يكون دليلا واحدا، و هو صدق العادل المستفاد من الأدلّة الأربعة.

و بعد بيان الأمرين يقع الكلام في مسائل:

المسألة الاولي:يتقدّم الأمارات-كظاهر الخبر المتواتر و خبر الواحد و غيرهما-علي الاصول العقليّة بالورود،فإنّه قد علم حجّيتها بالأدلّة التي اقيمت علي حجّيتها،فليس العقاب معها عقابا بلا حجّة،و لا تحيّر عقلا حتّي يحتاط أو يتخيّر.

المسألة الثانية:يتقدّم الأمارة علي أصالة البراءة الشرعيّة في الشبهة الحكميّة علي نحو الورود،إن كان المراد ممّا لا يعلمون ما لم يعلم الأعمّ من حكمه الواقعي و الوظيفة الظاهريّة،و يتقدّم علي نحو الحكومة إن كان المراد عدم العلم بالحكم

ص: 302

الواقعي،فإنّ قيام الأمارة علي حرمة الشيء لا يوجب العلم بالحرمة الواقعيّة، لاحتمال خطئها،لكن بعد أن اعتبرها الشارع حاكيا عن الواقع يكون الواقع كأنّه واصل تعبّدا،فيرتفع الشكّ تعبّدا،و كذا الكلام في الاستصحاب بناء علي جريانه في الشبهة الحكمية.

و قيل في تقديمها علي الاصول وجوه اخر:

الأوّل:تقديمها علي نحو الحكومة،و قرّرها السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه في رسالته بثلاثة أوجه،منها:كون المجعول فيها العلم،كأنّه قال الشارع:الخبر الواحد علم تعبّدا،و قد مضي المناقشة في دليله في أوّل بحث الأمارات.و لاحظ بقيّة تقريراته.

الثاني:الورود.

الثالث:التخصيص بتقريرات ثلاثة ذكرها السيّد.

الرابع:التوفيق العرفي،قال في الكفاية:و لذلك تقدّم الأمارات المعتبرة علي الاصول الشرعيّة،فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتها، حيث لا يلزم محذور تخصيص أصلا بخلاف العكس،فإنّه يلزم محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر (1)انتهي.

أقول:قد عرفت أنّ التقديم من باب الورود.

المسألة الثالثة:في تقديم الأمارات علي الاصول الشرعيّة في الشبهة الموضوعيّة،فإن ثبت أنّ البيّنة مثلا اعتبرت طريقا إلي الواقع و كاشفة عنه،فهي تتقدّم علي أصالة الطهارة بالحكومة،و إلاّ فيحتمل أن يكون اعتبارها تعبّدا محضا، فيتعارضان و لا بدّ من ملاحظة النسبة.7.

ص: 303


1- كفاية الاصول ص 497.

و قد تحصّل ممّا ذكر أنّه لا تعارض بين الأمارات القائمة علي الحكم الكلّي كخبر الواحد،و الاصول العمليّة،فلا يشملها الأخبار العلاجيّة.و مورد الأخبار العلاجية مخالفة الأخبار بعضها مع بعض علي وجه يتحيّر في الجمع بينهما عرفا.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا تعارض.

ثمّ لا يخفي أنّه إذا لم يكن أحد الخبرين ظاهرا في كونه شرحا للخبر الآخر، فإنّما يتقدّم عليه إن كانت النسبة بينهما العموم و الخصوص من ناحية أنّ الخاصّ أظهر من العامّ.و ما عن المحقّق الخراساني رحمه اللّه (1)من الجمع بين الأمارات و الاصول الشرعيّة بالتوفيق العرفي،فقد بيّنا أنّه لا مجال له في الأمارات و الاصول.

و أمّا مثل العناوين الأوّلية و الثانوية،كنفي الضرر و الحرج و الاكراه و غيرها، حيث قال فيها:إنّ العرف يوفّق بينها بحمل الأحكام الأوّلية علي الحكم الاقتضائي الثابت فعلا لو لا المانع،و هو طروء العنوان الثانوي،و إن كانت النسبة من وجه،فلا نسلّم ذلك،فإذا ورد مثلا لا تقتلوا النفس المحترمة،و ورد من اضطرّ إلي شيء فليفعله،و النسبة بينهما من وجه،فلا يجمع بينهما بجواز قتل النفس المحترمة عند الاضطرار،بل لو قيل بأنّ ما علم اهتمام الشارع به كقتل النفوس لا يرتفع حرمته بهذه العناوين،فيمكن أن يقال:إنّ وجه تقديمها في غير أمثال القتل علي سائر الأدلّة أنّها أخصّ من مجموع الأحكام،بناء علي أنّها بأدلّتها ناظرة إلي جميع التكاليف،و تكون بالنسبة إليها أخصّ و لذا تقدّم.

و كذا الكلام فيما سمّوه بالحاكم،و انّه يقدّم علي المحكوم و إن كانت النسبة من وجه.

و فيه منع إلاّ أن يكون بمنزلة الشرح،و ناظرا إلي المحكوم ببيان كونه شارحا،7.

ص: 304


1- كفاية الاصول ص 497.

و كلّ عامين من وجه لو كان أحدهما أظهر في مورد الاجتماع يقدّم علي الآخر.

الموضع الثاني: في تعارض الأمارات و الاصول الجارية في الألفاظ
اشارة

و المراد من الأمارات هي النصوص و الظواهر،فإنّها كاشفة عن المراد و لو تعبّدا،و المراد من الاصول هي التعبّد في حمل اللفظ علي معني من دون نظر إلي الكاشفيّة،كأصالة الحقيقة و أصالة عدم القرينة.

ثمّ البحث عنها يقع في موردين:في تقديم بعضها علي بعض،و في شمول الأخبار العلاجية لها.

أمّا المورد الأوّل،فالذي ينبغي أن يقال:انّ اللفظ النصّ في معناه يتقدّم علي الظاهر،و الأظهر يتقدّم علي الظاهر،و يتقدّم الظاهر و الأظهر علي الاصول اللفظيّة، كأصالة عدم القرينة و نحوها،و ينبغي بيان أمرين:

الأوّل:أنّ الظاهر حجّة،و عليه بناء العقلاء في محاوراتهم،فإذا كان اللفظ ظاهرا في معني فهو المتّبع،إلاّ أن يصرفه قرينة عن ظهوره،و اللفظ الأظهر يكون كالقرينة علي صرف الظاهر عن ظهوره،فلذا يتقدّم الأظهر علي الظاهر،و هذا هو الملاك في التقدّم.

الثاني:إن لم يعلم كون اللفظ ظاهرا في معني،فهل يكون أصالة الحقيقة- و بعبارة اخري أصالة عدم القرينة-حجّة تعبّدا أم لا؟مثلا إذا صدر لفظ من المولي،فله أن يعتمد في صرفه عن ظاهره علي القرينة الحالية الموجودة بينه و بين العبد،فإذا شكّ من لم يكن حاضرا في مجلس التخاطب في ظهور اللفظ لاحتمال وجود قرينة حالية علي صرف الظاهر عن ظهوره،فيبني علي أصالة عدم القرينة.

يمكن أن يقال:إنّ منشأ الشكّ في الظهور إن كان غفلة المتكلّم عن نصب

ص: 305

القرينة،أو غفلة المخاطب عن سماعها و نحو ذلك،فالعقلاء لا يعتنون بهذه الاحتمالات.

و أمّا إذا كان ذلك من احتمال وجود قرينة حالية،فلا دليل علي حجّية أصالة عدم القرينة،كما إذا كان احتمال السقوط احتمالا عقلائيّا،كأخبارنا التي يحتمل فيها خفاء القرينة لتقطيع الرواية و لضياعها و نحو ذلك،فلا دليل علي حجّيتها.

و بعد بيان الأمرين نقول:عند تعارض الخاصّ مع النصّ أو الأظهر مع العامّ، يقدّم الأظهر منهما في الدلالة،و يتصرّف في الآخر أو يطرح؛لأنّ ظهور الأظهر يقلب ظهور الظاهر إليه،فيكون كالقرينة الصارفة.

و لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جعل الظاهر أصلا و الأظهر دليلا،و الدليل يرفع موضوع الأصل،حيث قال:إنّ مرجع التعارض بين النصّ و الظاهر إلي التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر و دليل حجّية النصّ،و من المعلوم ارتفاع الأصل بالدليل،و كذا الكلام في الظاهر و الأظهر،فإنّ دليل حجّية الأظهر يجعل قرينة صارفة عن إرادة الظاهر،و لا يمكن طرحه لأجل أصالة الظهور،و لا طرح ظهوره لظهور الظاهر،فتعيّن العمل به و تأويل الظاهر منهما (1)انتهي.

أقول:الأولي أن يعبّر عن التعارض بين الأمارة و الأصل اللفظي بالتعارض البدوي بين الظاهر و الأظهر و الظاهرين،فإنّ ظهور العامّ و المطلق و اللفظ في المعني الحقيقي متّبع ببناء العقلاء،فالعموم يعارض بدوا دلالة الخاصّ النصّ أو الأظهر،و لكن العقلاء لا يرون ظهور العامّ بل مطلق الظهور حجّة إلاّ إذا حضر وقت العمل و لم يبيّن المولي خلاف العموم،فالخاصّ النصّ أو الأظهر لا يعارض العامّ، بل يكون قرينة علي التخصيص،و حينئذ لا مانع من شمول دليل الحجّية لسند خبر6.

ص: 306


1- فرائد الاصول ص 786.

الخاصّ،فيصير كالمقطوع الصدور،نعم في الخاصّ الظاهر يكون شمول الدليل له موجبا للاجمال،و فائدته نفي الثالث،كمورد الاجتماع في العامّين من وجه،و لعلّه يأتي مزيد بيان له.

و حاصل الكلام أنّ الأظهر يكون قرينة علي التصرّف في الظاهر،فإذا كان العامّ أظهر يتصرّف في الخاصّ،و اختاره في الفصول،قال:إنّ تقديم الخاصّ علي العامّ فيما لم يكن العموم مؤكّدا بالقرائن و إلاّ قدّم العامّ،و مثّل لذلك بقوله تعالي فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (1)المؤكّد بالعقل و النقل علي عدم جواز التصرّف في مال الغير بدون إذنه،و لذا لم يخصّصه الأكثرون بصحيحة سيف بن عميرة،أو حسنته الدالّة علي جواز التمتّع بأمة المرأة بغير إذنها.

و لكن قال في فوائد الاصول:الأقوي وجوب الأخذ بظهور الخاصّ و تخصيص العامّ به و لو كان ظهوره أضعف من ظهور العامّ،فإنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة علي أصالة الظهور في طرف العامّ؛لأنّ الخاصّ بمنزلة القرينة علي التصرّف في العامّ (2).

و قال في مصباح الاصول:إنّ الخاصّ يتقدّم علي العامّ و إن كان أدني منه ظهورا؛لأنّ الخاصّ حاكم علي دليل حجّية العامّ (3).

أقول:حجّية العامّ عبارة عن بناء العقلاء علي العمل بالظاهر،و هم لا يرفعون اليد عن الظاهر إلاّ بالأظهر،و دليل حجّية الخاصّ هو دليل حجّية العامّ،أي:بناء العقلاء علي العمل بالظاهر،فتدبّر.

ثمّ إنّه يأتي الكلام في تعيين الأظهر و تمييزه من الظاهر.3.

ص: 307


1- سورة النساء:25.
2- فوائد الاصول 4:269.
3- مصباح الاصول 3:353.

المورد الثاني:لا إشكال في شمول الأخبار العلاجيّة لما إذا كان الدليلان نصّين،و في شمولها للعامّ و الخاصّ و نحوهما من تعارض الظاهر و الأظهر كلام، قيل:يظهر من الشيخ الطوسي رحمه اللّه و بعض آخر الشمول،و احتمله في الكفاية في فصل عقده له،إلي أن قال:اللهمّ إلاّ أن يقال:إنّ التوفيق في مثل الخاصّ و العامّ و المقيّد و المطلق كان عليه السيرة القطعيّة الخ (1).

و في شمولها للظاهرين بالترجيح أو التخيير،أو عدم الشمول و الجمع بينهما بالجمع التبرّعي،كلام.

الذي ينبغي أن يقال:إنّ الميزان في عدم تحقّق التعارض بين الدليلين أن يكون بينهما جمع دلالي عرفي.

و أمّا إذا لم يكن بينهما جمع دلالي عرفي،و كان للجمع بينهما بتأويل الظاهر فيهما أو في أحدهما شاهد من عقل أو نقل،فهو المتّبع،كما إذا ورد يقصّر في أربعة فراسخ،و ورد لا يقصّر في أربعة فراسخ،و ورد إذا سافر بريدا و رجع من يومه قصّر،و إن لم يرجع من يومه لم يقصّر كان شاهدا للجمع.و كذا الجمع بتأويل أحدهما أو كليهما إن علم عدم إرادة ظاهرهما علي نحو لو عرض علي العرف تعيّن ذلك عندهم،فهو أيضا صحيح.

و أمّا الجمع التبرّعي،و هو تأويل أحدهما أو كليهما اقتراحا و تشهّيا،فهو غير صحيح.و كذا الجمع بالعمل ببعض مدلول كلّ من الدليلن،كالأخذ من قوله«ثمن العذرة سحت»ببعض مدلوله،و هو عذرة غير ما يؤكل،و من قوله«لا بأس ببيع العذرة»ببعض مدلوله،و هو عذرة المأكول،و حيث لم يكن وجه للجمع التبرّعي وجب الترجيح أو التخيير.1.

ص: 308


1- كفاية الاصول ص 511.

و قد يستدلّ للجمع بين الدليلن تبرّعا بوجوه:

أحدها:الاجماع،و هو ممنوع.

ثانيهما:أنّ الأصل في الدليلين العمل بهما لا طرح أحدهما من دون دليل عليه.

ثالثها:أنّ دلالة اللفظ علي أصل معناه أصليّة و علي جزئه تبعيّة،و علي تقدير الجمع يلزم إهمال الدلالة التبعيّة،و هو أولي من طرح أحدهما الموجب لطرح دلالة أصلية.

و اورد علي الدليل الثاني بأنّه كما يجب العمل بالسندين لقوله صدّق العادل، فيحكم بصدورهما،كذلك يجب العمل بظاهرهما،و لا يمكن العمل بالجميع، و حينئذ العمل بسند أحدهما معلوم،و يدور الأمر بين العمل بظاهره و العمل بالسند الآخر،و تأويل ظاهره الذي يكون مرجعه إلي عدم العمل بظاهره،و بين ترجيح أحد السندين إن كان له مرجّح،و التخيير بينهما إن لم يكن مرجّح.و لا دليل علي تعيين أحدهما إلاّ الأخذ بالأخبار العلاجيّة.

فتلخّص أنّه لا يمكن الجمع بين وجوب الأخذ بالسندين و الأخذ بالظاهرين.

و اورد علي الدليل الثالث بأنّ شمول دليل التعبّد للجميع علي حدّ سواء،يعني شموله للسندين باعتبار ظاهريهما.

و حيث انّه لا وجه لتأويل ظاهريهما،فالتعبّد بالسند يقتضي الحكم بنفي الثالث و إجمال الدليلين في محلّ المعارضة.

ثمّ إنّه قد يفصّل بين المتباينين و العامّين من وجه بلزوم الجمع في الثاني،فإنّ الطرح في أحدهما يستلزم طرح مادّة الافتراق.

و فيه أنّ الطرح بمعني عدم الحجّية في مقدار المعارضة لا طرح مادّة الافتراق، فلا مانع من كون الخبر حجّة في بعض مدلوله غير حجّة في بعض آخر،فلاحظ.

إذا تحقّق معني التعارض و موارد عدم التعارض،فيقع الكلام في مقامات:

ص: 309

المقام الأوّل: في المتعادلين
اشارة

و يقع الكلام فيه في فصلين:

الفصل الأوّل: في تعارض الخبرين المتعادلين
اشارة

و يقع الكلام في موضعين:الموضع الأوّل في مقتضي القاعدة.الموضع الثاني في أقسام المتعارضين.و محلّ البحث ما لم يعلم صدق أحدهما و تعمّد كذب الآخر،لانصراف الأخبار العلاجيّة إلي ما إذا كان كلّ واحد من الخبرين حجّة في نفسه.

أمّا

الموضع الأوّل،فالأقوال و الاحتمالات فيه سبعة:

الأوّل:التساقط (1)،و له معنيان:أحدهما عدم شمول الدليل لهما.

ثانيهما:شموله لكلّ واحد في نفسه،لكن يسقط كلّ واحد منهما الآخر،و ذلك علي حسب اختلاف المباني في حجّية الخبر،فإن قلنا إنّ معني الحجّية هو جعل مؤدّي الخبر حكما شرعيّا ظاهريّا،فالتساقط يكون بالمعني الأوّل؛لأنّه لا يمكن جعل المتناقضين.

و إن قلنا إنّ معني الحجّية جعل الكاشفيّة و الاراءة عن الواقع للخبر،فالتساقط يكون بالمعني الثاني،فإنّ الكاشفيّة و الاراءة للواقع في كلّ واحد منهما موجودة في نفسها،فالمقتضي موجود لكن يمنع عن تأثير المقتضي في كلّ واحد منهما مقتضي الموجود في الآخر فيسقطه،فهو نظير ما إذا عقد الوليّان أو الوكيلان في آن واحد لشخصين امرأة معيّنة.

ص: 310


1- نهاية الدراية 3:148.

و استدلّ القائل بالتساقط بأنّ كلّ واقعة لها أحد الأحكام الخمسة التكليفيّة،أو أحد الأحكام الوضعيّة،و الخبر طريق إلي إثباته لا شأن له سوي ذلك،فإذا أخبر مخبر عن المعصوم أنّ الفعل الكذائي حرام،و أخبر آخر عنه أنّه مباح،فدليل الحجّية إن شملهما استلزم التناقض،بأن يكون الشيء في الواقع حراما و مباحا، و لا وجه لتخصيصه بواحد معيّن منهما؛لأنّه ترجيح بلا مرجّح،و أحدهما لا بعينه ليس فردا غير هذا معيّنا و ذاك معيّنا،و هذا معني التساقط،و فرضهما كالعدم،فلذا لا ينفيان الثالث.

أقول:إنّا نعلم إجمالا بصدور الأخبار المتعارضة عن المعصومين،و لا بدّ من العمل بها،فإن كان مؤدّيا الخبرين متناقضين لم يمكن العمل بهما فيتخيّر،و إلاّ فيعمل بالأحوط منهما،و لا يجب الاحتياط التامّ الخارج عن مدلول الأخبار؛ لعدم التكليف بالواقع غير الواصل إلينا،فالخبران المتعارضان ينفيان الثالث لوجوب العمل بهما،و سيأتي مزيد توضيح.

الثاني:ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من التوقّف و الرجوع إلي الأصل الموافق لأحدهما،بناء علي العمل بالخبر من باب الطريقيّة،و الظاهر أنّ مراده من التوقّف هو نفي الثالث،و التوقّف في كلّ واحد من الخصوصيّتين،فإنّه قال في صدر المبحث:الأصل في المتكافئين التساقط أوّلا،و مع عدمه إمّا الاحتياط أو التخيير أو التوقّف و الرجوع إلي الأصل الموافق.

و قال في معني الطريقيّة:إنّ الشارع لاحظ الواقع و أمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق لغلبة ايصاله إلي الواقع،فإذا تعارض الخبران لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما،و من هنا يتّجه التوقّف بمعني أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه

ص: 311

بالخصوص (1)انتهي ملخّصا.

و قال:و المفروض عدم جواز الرجوع إلي الثالث؛لأنّه طرح للأمارتين (2).

و مقتضي الجمع بين كلماته أنّه يقول بالتوقّف و نفي الثالث و العمل بالأصل الموافق لأحدهما.

و قال أيضا:و أمّا بناء علي العمل بالخبر من باب السببيّة،فإنّه يتخيّر بينهما؛لأنّه لا يقدر علي العمل بهما،فيتخيّر عقلا بمقدار قدرته،و هو القدرة علي أحدهما، و يعاقب علي تركهما عقابا واحدا (3)انتهي ملخّصا.

أقول:نسب إلي الشيخ أنّه يقول بالترتّب من هذه العبارة،لكن ليس ذلك من باب الترتّب كما بيّناه في رسالة الترتّب؛لأنّ القائلين بالترتّب يقولون بأنّه يعاقب بعقابين.

و أورد عليه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه بأنّه لا يمكن جعل حكمين تعبّديّين لواقع واحد،إلاّ إذا لم يكن واقع أصلا،و هو تصويب محال (4).

أقول:التصويب المحال إنكار إنشاء أحكام واقعيّة،بأن يكون الأحكام تابعة للأمارة،و أمّا إذا قلنا بوجود الحكم الواقعي،لكن إذا قامت أمارة علي خلافه لم يكن الواقع فعليا،و كانت الأمارة سببا لايجاد مصلحة في الفعل مساوية للواقع، فليس بمحال،و إثبات الدليل علي بطلانه مشكل،بل في بعض الأخبار«أمّا قول زرارة فلا أستطيع ردّه»و لعلّ المستفاد من بعضها الاخر أنّ المطلوب هو التسليم للأخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام.9.

ص: 312


1- فرائد الاصول ص 762.
2- فرائد الاصول ص 765.
3- فرائد الاصول ص 762.
4- رسالة التعادل و التراجيح ص 9.

القول الثالث:التخيير بينهما،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في المتعادلين،قال في أوّل الاستبصار:و إذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلاّ بعد طرح الآخر جملة لتضادّهما و بعد التأويل بينهما،كان العامل أيضا مخيّرا في العمل بأيّهما شاء من جهة التسليم.

إلي أن قال:و لأنّه إذا ورد خبران متعارضان،و ليس بين الطائفة إجماع علي صحّة أحد الخبرين و لا علي إبطال الآخر،فكأنّه إجماع علي صحّة الخبرين،و إذا كان الاجماع علي صحّتهما كان العمل بهما جائزا سائغا (1)انتهي.

أقول:لا تكليف لنا إلاّ بمؤدّيات الأخبار،و مع تعارضهما يمكن التعبّد بصدورهما،و حيث لا يمكن العمل بهما فيتخيّر بينهما،و لعلّ الظاهر من كلام الشيخ وجوب العمل بالخبر لا كون الخبر حجّة أو علما تعبّدا.

و ذكر السيّد الطباطبائي رحمه اللّه في رسالته في تصوير التخيير:إنّه عبارة عن حكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما بعد فرض شمول الدليل لكلّ منهما،فالوجوب التخييري الظاهري بحكم العقل نظير الوجوب التخييري الشرعي،فإنّه سنخ وجوب غير الوجوب العيني،و ليس المراد أنّ واحدا لا بعينه حجّة،لاحظ كلامه (2).

القول الرابع:حجّية أحدهما لا بعينه،ذهب إليه في الكفاية (3)،قال:إنّهما و إن كانا يسقطان و لا يحكم بالتخيير بينهما،لكنّهما ينفيان الثالث،قال:إنّ الحجّة من الخبر ما احتمل إصابته للواقع،و مع التعارض يعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،فلا يكون الخبران حجّتين،لكن لا مانع من حجّية أحدهما بلا تعيين،و ثمرتها نفي9.

ص: 313


1- الاستبصار 1:4-5.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 79.
3- كفاية الاصول ص 499.

الثالث.

و اورد عليه بأنّ أحدهما لا بعينه لا وجود له ذهنا و لا خارجا،فلا يكون حجّة، و ليس واحد منهما مطابقا للواقع و الآخر غير مطابق؛لاحتمال عدم مطابقتهما للواقع.

أقول:عموم صدّق العادل ينحلّ إلي صدّق زيدا،و صدّق عمروا،و صدّق بكرا، فإذا علم إجمالا بكذب أحدهم،فيمكن التعبّد بصدق الآخرين،و هذا أمر عرفي.

و حاصل ما اختاره في الكفاية هو تعلّق الاعتبار بالموجود الذي لا يمكن تعيّنه.

و يمكن توجيه كلامه بأن يقال:إنّ مفهوم الماء في قوله«الماء كلّه طاهر»ليس طاهرا،بل الأحكام تتعلّق بوجود الماء،و الوجود مساوق للتعيّن و التشخّص، و كذا الأفعال الحقيقيّة كالأكل و الشرب لا تتعلّق إلاّ بموجود متعيّن،و أمّا الامور الاعتباريّة،فلا بأس بتعلّقها بموجود ليس له تعيّن،كالملك المشاع،فإذا مات شخص و ورثه ابنان،كان المال مشتركا بينهما علي نحو الاشاعة،أي:يملك كلّ واحد منهما نصفه مشاعا لا تعيّن لنصفه واقعا بالنسبة إلي كلّ واحد منهما؛لأنّ الملكية أمر اعتباري،فيصحّ اعتبار ملكيّة النصف مشاعا،بخلاف الأفعال الحقيقية،فلا يقال أكل أحدهما نصفه المشاع،أو جلس علي النصف المشاع لأنّه لا يأكل إلاّ المعيّن،و لا يجلس إلاّ علي المعيّن.

و مثل الامور الاعتباريّة ما اخذ فيه القطع أو الشكّ،فإذا قيل:كلّ موجود مشكوك الطهارة طاهر،شمل الموجود الذي لا تعيّن له،فلو كان ثوب الشخص منحصرا في ثوبين طاهرين،ثمّ طفر إليهما بول و علم بإصابته لأحدهما و شكّ في إصابته للآخر،جاز له أن يقول:علمت بنجاسة ثوب موجود منهما،و أشكّ في نجاسة ثوب موجود منهما،و الأصل طهارته،و وجب عليه أن يكرّر الصلاة فيهما؛

ص: 314

لأنّ أحدهما محكوم بالطهارة الظاهريّة لا الواقعيّة؛لأنّه يمكن أن يكون قد أصابهما النجاسة،فلا واقع لنجاسة أحدهما و طهارة الآخر،و لا تعيّن لمشكوكيّة أحدهما،و مقتضي هذا البيان صحّة بيع أحد الشيئين،و يكون اختيار التعيين بعد ذلك بيد البايع أو المشتري،و كذا الاجارة علي أحد العملين.

نعم في مثل الامور التي دلّ الدليل علي تحقّقها بمجرّد الايقاع أو العقد لا يصحّ ذلك؛لعدم اعتبار للتعيين بعد الايقاع،فلا يصحّ أنكحت هندا أو زينبا،و لا أحد عبديّ حرّ،و نحو ذلك.

القول الخامس:العمل بأحوطهما،و الوجه فيه أنّا مكلّفون بالعمل بالحكم الالزامي الموجود في هذه الأخبار،و الخبران المتعارضان من أطراف العلم الاجمالي،فينبغي العمل بهما،و هو يحصل بالعمل بأحوطهما.

و فيه نظر يظهر وجهه ممّا يأتي.

القول السادس:العمل بالاحتياط التامّ و لو كان مخالفا لهما،كما إذا دلّ أحد الخبرين علي غسل المتنجّس مرّة،و دلّ الخبر الآخر علي غسله مرّتين،و احتمل وجوب غسله ثلاث مرّات،فإنّه يجب غسله ثلاث مرّات.

و فيه أنّه لا تكليف بواقع لا يكون في ضمن الأخبار؛لاشتراط التكليف بإمكان الوصول إليه.

القول السابع:التفصيل بين الموارد،ففي بعضها يتخيّر،و في بعضها يحتاط،و هو المختار،بيانه:انّ الحكم الواقعي الذي هو مطلوب من الناس هو الحكم الذي بيّنه المعصوم عليه السّلام بشرط أن لا يعلم كونه صادرا منه تقيّة،و كان قابلا لوصول المكلّف إليه إن فحص عنه،و الخبر طريق إلي هذا الحكم،كما هو ظاهر أدلّة حجّية الخبر.

هذا إن لم يكن للخبر معارض،و أمّا إن كان له خبر معارض،فهما علي قسمين:

القسم الأوّل:الخبران المتعارضان المتكفّلان للحكم التكليفي المحض،و هو

ص: 315

علي ضربين:

الأوّل:أن يعلم خطأ أحدهما،بأن قال أحدهما:إنّ المعصوم عليه السّلام قال:إنّ الشيء الكذائي حرام،و قال الآخر:كنت في ذلك المجلس،و قال:إنّ ذلك شيء حلال،بأن حكيا قضيّة واحدة متضادّة.

الثاني:أن لا يعلم خطأ أحدهما،بل احتمل صدورهما،أو صدور أحدهما،أو عدم صدورهما واقعا.

و علي كلا التقديرين فإمّا:أن يكون أحدهما إلزاميّا و الآخر ترخيصيّا و حكمه التخيير؛لعدم وصول الحكم الإلزامي بعد المعارضة.و احتمال الرجوع إلي عموم دليل الأصل،مدفوع بأنّه إن كان عمومه الاستصحاب،فهو لا يجري في الشبهة الحكميّة،و إن كان البراءة فهو موافق للتخيير.و إن كانا إلزاميّين و أمكن الاحتياط يحتاط و إلاّ يتخيّر.

القسم الثاني:أن يكون مضمون الخبرين حكما وضعيّا،كما إذا دلّ أحد الخبرين علي بطلان الطلاق بالصيغة الفارسيّة مثلا،و دلّ الخبر الآخر علي صحّته، فإن طلّق زوجته بالفارسيّة،فحيث إنّ الشبهة حكميّة،فلا يرجع إلي استصحاب بقاء الزوجيّة،فهو شاكّ في زوجيّة المرأة بعد إجراء هذه الصيغة،و شاكّ في جواز النظر و سائر أحكام الزوجيّة،و الحكم الواقعي الذي يجب عليه مراعاته لا يخرج عن مضمون الخبرين،فلا بدّ من الاحتياط.

ثمّ إنّه علي المختار ينفي الثالث من جهة عدم وصول واقع غير المتعارضين، و أمّا علي التساقط فقد يقال كما في نهاية الدراية (1)بأنّ مقتضي الدلالة الالتزاميّة للخبرين نفي الثالث،فإنّها تابعة للدلالة المطابقيّة في الوجود لا في الحجّية،فإذا لم0.

ص: 316


1- نهاية الدراية 3:150.

تكن الدلالة المطابقيّة حجّة للتعارض،فلا مانع من حجّية الدلالة الالتزاميّة.

و أورد عليه في مصباح الاصول بعد نقوض بأنّ الدلالة الالتزاميّة هي نفي ما عدا المدلول المطابقي الملازم لوجود المدلول المطابقي لا نفيه مطلقا.

قلت:هذا الجواب متين،و الأولي أن يقال:إنّ إخبار المخبر إن انحلّ إلي الخبر بالمدلول المطابقي و الالتزامي و لو عادة،كانت الدلالة الالتزامية حجّة و إلاّ فلا، مثلا إن أخبر أحدهم أنّ زيدا ضرب عمروا مرّة،و أخبر آخر أنّه ضربه مرّتين، فإنّهما أخبرا عن أنّه لم يضربه ثلاث مرّات،فهما حجّتان في نفي الثالث.

الموضع الثاني: في بيان أقسام الخبرين المتعارضين حتّي يتبيّن موارد التعارض
اشارة

الخبران من حيث الدلالة هما:إمّا نصّان،و إمّا ظاهران،و إمّا مختلفان،و من حيث السند:إمّا قطعيّان،و إمّا ظنّيان،و إمّا مختلفان،فهذه تسعة أقسام.

القسم الأوّل:أن يكونا نصّين قطعيّي السند،صادرين لبيان الحكم الواقعي في زمان واحد،و هذا غير معقول،و لعلّ هذا الفرض مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:ثمّ إنّ التعارض لا يكون في الأدلّة القطعيّة؛لأنّ حجّيتها إنّما هي من حيث صفة القطع،و القطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن،و منه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجّيتهما باعتبار الظنّ الفعلي؛لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال (1).

نعم إن لم يدلّ دليل علي صدورهما لبيان الحكم الواقعي،فهو فرض معقول بأن يكونا صدرا من المعصوم قطعا،لكن يكون أحدهما صادرا تقيّة أو لغير ذلك،و قد حمل المجلسي الأوّل رحمه اللّه أخبار سهو النبي صلّي اللّه عليه و آله علي التقية،مع أنّه ادّعي فيها

ص: 317


1- فرائد الاصول ص 752.

قطعية الصدور و الدلالة،لاحظ (1).

و من لاحظ الأخبار يجد صدور المتعارضات عنهم،ففي كتاب الحجّ:إنّ زرارة نقل عن المعصوم عليه السّلام شيئا و هو قال غيره.لاحظ قصّة عمر بن رباح المذكورة في كتاب فرق الشيعة.

القسم الثاني:أن يكونا نصّين غير قطعيّي السند،و هما متعارضان،تقدّم مقتضي القاعدة فيهما،و يشملهما أخبار العلاج.

القسم الثالث:أن يكون أحدهما قطعي السند و الآخر غير قطعي السند مع كونهما نصّين،و حكمه حكم القسم السادس،و سيأتي أنّ المختار جريان أخبار العلاج علي تفصيل يأتي.

القسم الرابع:أن يكونا ظاهري الدلالة قطعيّي السند،و فيه أقوال:

أحدها:وجوب التأويل في الظاهرين؛لأنّ قطعيّة الصدور قرينة عليه،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:و لا إشكال و لا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور كآيتين أو خبرين متواترين،وجب تأويلهما و العمل بخلاف ظاهرهما،فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين (2)انتهي.

أقول:أمّا الآيتان،فلا بدّ من أن يكون لهما تأويل.و أمّا الأخبار،فمقتضي القاعدة الاجمال،و يشملهما أخبار العلاج من الحمل علي التقيّة و التخيير.

ثانيها:ما اختاره صاحب الكفاية في تعليقته (3)،فإنّه جعل ذلك علي قسمين:

القسم الأوّل:ما يتعيّن فيه الجمع،و هو ما إذا لم يتحيّر العرف في تعيين المراد5.

ص: 318


1- بحار الأنوار 17:121.
2- فرائد الاصول ص 754.
3- التعليقة علي الفرائد ص 435.

بعد صرفهما عن ظاهرهما.

القسم الثاني:ما يتعيّن فيه الطرح بلا إشكال،و هو كلّ مورد يوجب صرفهما عن ظاهرهما الاجمال؛لعدم ما يعيّن ما ينصرفان إليه.

ثالثها:ما اختاره السيّد الطباطبائي رحمه اللّه،قال:إنّ المعني التأويلي لهما:إمّا أن يكون متّحدا،أو متعدّدا.أمّا الصورة الاولي،فالأقوي تعيّن إرادته،فإنّه بعد العلم بعدم إرادة الظاهر و فرض قطعيّة الصدور يجعله العرف من المداليل للّفظ،و لا يعتني باحتمال عدم إرادة شيء من اللفظ،مثلا إذا قال أكرم زيدا و لا تكرم زيدا، فإنّ العرف لا يساعد علي إرادة الاباحة منهما لبعدها،إلاّ انّه إذا لاحظ قطعيّة الصدور و فرض العلم بعدم إرادة الكراهة أو الاستحباب يقول بتعيّن إرادة الاباحة.و أمّا الصورة الثانية،فهي ما إذا كان التأويل متعدّدا،فلا يجوز الأخذ بأحد التأويلات اقتراحا.

رابعها:تساقطهما و فرضهما كالعدم،اختاره في مصباح الاصول (1).

و فيه أنّه بعد القطع بصدورهما لا تجوز مخالفتهما،و لذا ينفيان الثالث،بل إمّا يحتاط بينهما،أو يؤخذ بالأصل الموافق لأحدهما،هذا مقتضي القاعدة،و يشمله الأخبار العلاجية من الحمل علي التقية و نحوه.

تتميم:

إذا لم يكن له معني تأويلي،أو كان متعدّدا،فهل يتساقطان أو يتخيّر بينهما؟ قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إذ علي العمل بقاعدة الجمع يجب أن يحكم بصدورهما و إجمالهما كمقطوعي الصدور (2)انتهي.

و لعلّ ظاهر كلامه أنّ الاجمال بواسطة التعارض،لكن قد يقال:التحقيق أنّ بناء

ص: 319


1- مصباح الاصول 3:403.
2- فرائد الاصول ص 757.

العقلاء أو إجماع العلماء التعبّدي لا يشملان صورة تعارض الظاهرين،لا أنّهما يشملانها و يتساقطان،ثمّ إنّه بناء علي الاجمال حيث أنّه يعلم بصدورهما فينفيان الثالث،فلا بدّ من الرجوع إلي الأصل الموافق لأحدهما.

القسم الخامس:أن يكونا ظاهري الدلالة غير قطعيّي السند،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ما ملخّصه:إنّ مقتضي شمول دليل حجّية السند الحكم بإجمالهما و الأخذ بالأصل المطابق لأحدهما؛لأنّه بعد الحكم بصدورهما لا يجوز الرجوع إلي الثالث،و لا يجب الأخذ بالأحوط منهما،لكن الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة،فإن كان لأحدهما مرجّح أخذ به،و إلاّ فمقتضي الأخبار العلاجية التخيير،لكن الظاهر من سيرة العلماء عدا الشيخ التوقّف و الرجوع إلي الأصل المطابق لأحدهما (1).

أقول:و لا وجه للجمع كما تقدّم،فمقتضي القاعدة التعبّد بصدورهما لترتيب أثر عدم جواز الرجوع إلي الثالث،و يجري فيه الأخبار العلاجيّة.

القسم السادس:أن يكونا ظاهري الدلالة،أحدهما قطعي السند و الآخر غير قطعي السند،فإن كان دلالة السند القطعي أظهر قدّم علي الآخر و كان قرينة علي تأويل الآخر.و أمّا إذا كان دلالة السند غير القطعي أظهر،فهل يتقدّم علي القطعي أو لا؟قالوا بالتقدّم للجمع العرفي،و هو محلّ إشكال عندنا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.و أمّا تخصيص الخبر بالخبر،فلعلّه لا بأس به.

و أمّا إذا كانا ظاهرين لم يكن أحدهما أظهر من آخر،فلا وجه للتأويل فيهما؛ لعدم القطع بصدورهما،بل ربما يقطع بصدور واحد منهما،و حينئذ فهل يشملهما الأخبار العلاجيّة أو يطرح الظنّي السند؟اختار ثانيهما في المصباح،قال:لأنّه7.

ص: 320


1- فرائد الاصول ص 757.

مخالف للسنّة القطعيّة،فيطرح بمقتضي الأخبار الكثيرة الدالّة علي طرح الخبر المخالف للكتاب أو السنّة (1).

و في الكفاية قال:و أمّا إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه،كالكتاب و السنّة القطعيّة،فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلّية، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح؛لعدم حجّية الخبر المخالف كذلك من أصله و لو مع عدم المعارض،فإنّه المتيقّن من الأخبار الدالّة علي أنّه زخرف أو باطل أو لم نقله (2)انتهي.

أقول:إذا كان القطع حاصلا من شهرة الخبر،و كان الخبر الآخر شاذّا فهو،و أمّا إذا انعكس و كان القطع حاصلا من ناحية اخري،و كان الخبر الآخر مشهورا مخالفا للعامّة،فلا يبعد جريان الأخبار العلاجيّة.

لكن ينبغي التفصيل بين سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا عارضها الخبر عن الأئمّة رحمه اللّه،فإنّه يتقدّم سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله لقوله في خبر المسمعي:فما لم يكن في الكتاب فاعرضوه علي سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله،فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و أمره (3).

و بين تعارض الخبر الصادر عنهم مع الخبر غير قطعي الصدور،فيجري فيه ما يقتضيه الأخبار العلاجيّة.و لعلّ مراد صاحب الكفاية من السنّة خصوص السنّة النبويّة،فتأمّل و ينبغي الاحتياط.

القسم السابع:أن يكونا قطعيّي السند و أحدهما نصّ و الآخر ظاهر،فإن كان النصّ قرينة عرفا علي التصرّف في الظاهر فهو جمع عرفي،و إن لم يكن كذلك3.

ص: 321


1- مصباح الاصول 3:403.
2- كفاية الاصول ص 524.
3- بحار الأنوار 2:233.

فهما متعارضان و يشملهما أخبار العلاج.

القسم الثامن:أن يكونا غير قطعيّي السند و أحدهما نصّ و الآخر ظاهر، و حكمه حكم السابع.

القسم التاسع:أن يكون أحدهما قطعي السند و الدلالة،و الآخر ظنّي السند و الدلالة،و مقتضي ما تقدّم في السادس أن لا يكون ظنّي السند و الدلالة حجّة لمعارضته السنّة القطعيّة،لكن التفصيل المتقدّم يجري فيه.

القسم العاشر:أن يكون أحدهما ظنّي السند نصّا و الآخر قطعي السند ظاهرا، و حكمه حكم السابع،فتأمّل.

و ملخّص الكلام:أنّه إن كان الجمع العرفي ممكنا بتقديم النصّ علي الظاهر و التصرّف في الظاهر،تعيّن علي تأمّل في بعض الموارد،و إن لم يمكن كان جميع الأقسام المذكورة داخلا في أخبار العلاج،فانتظر الكلام فيها.

ثمّ إنّ ما ذكر في هذا المقام يحتاج إلي تفصيل لعلّه نتعرّض له.

الفصل الثاني: في تعارض غير الخبرين
اشارة

و هو أقسام:

القسم الأوّل:تعارض الأحكام العقليّة

،و هو غير واقع.

القسم الثاني:تعارض بناء العقلاء

،كظاهرين مقطوعي الصدور مثل الآيتين،و ذلك غير ممكن؛لأنّه لا بناء لهم علي اتّباع الظهورين فيصيران مجملين،قال السيّد اليزدي رحمه اللّه:إنّ بناء العقلاء حكم عقلي إجمالي.

القسم الثالث:تعارض الخبر القطعي الصدور لبيان الحكم الواقعي القطعي الدلالة مع

ظاهر الكتاب

،و هو مقدّم علي الكتاب،و يكون قرينة علي صرفه عن ظاهره.

القسم الرابع:تعارض الخبر الظنّي الصدور قطعي الدلالة أو الأظهر مع ظاهر الكتاب

،

ص: 322

قالوا:إنّه يتقدّم علي ظاهر الآية و هو مشكل،و منه تخصيص الكتاب بخبر الواحد، و سبق الكلام فيه.

القسم الخامس:تعارض العقل مع ظاهر الآية

،قال السيّد في رسالته في الموضع الثاني في بيان كيفيّة تقديم الأدلّة علي الاصول اللفظيّة،قال:و أيضا من المعروف أنّ حكم العقل بعدم الجبر يقدّم علي الآيات الظاهرة فيه،و يقال:إنّها معارضة لحكم العقل.

القسم السادس:تعارض العقل مع الخبر

،و حكمه كسابقه.

القسم السابع:تعارض الخبر مع الاجماع المحصّل أو المنقول

،و هذا يكون من الاعراض عن الخبر في بعض الموارد.

القسم الثامن:تعارض الأصلين

،و سبق في بحث الاستصحاب و غيره.

القسم التاسع:تعارض اللغويّين بناء علي حجّية قول اللغوي

،و لا يبعد أن يكون مقتضي القاعدة التساقط،و في بعض الموارد يمكن إثبات نفي الثالث.

القسم العاشر:تعارض المجتهدين المتساويين في الفتوي

،بناء علي وجوب تقليد الحيّ الأعلم،فإذا كانا متساويين و تعارضا لم يصل الحكم الواقعي إلي المقلّد، فهل يرجع إلي البراءة أو الاحتياط أو الأحوط منهما؟وجوه.

المقام الثاني: في ذكر الأخبار العلاجية
اشارة

الدالّة علي الترجيح الدلالي و السندي و الجهتي و المضموني،و مع عدمها فالتخيير،و هي طوائف:

الطائفة الاولي:ما تدلّ علي أنّ في كلامهم خاصّا و عامّا و متشابها

،و هي عدّة أخبار:

أحدها:ما عن معاني الأخبار،عن داود بن فرقد،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام

ص: 323

يقول:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرفه كيف شاء و لا يكذب (1).

ثانيها:ما عن البصائر،عن الأحول،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها (2).

ثالثها:ما عن البصائر،عن علي بن أبي حمزة،قال:دخلت أنا و أبو بصير علي أبي عبد اللّه عليه السّلام،فبينما نحن قعود إذ تكلّم أبو عبد اللّه عليه السّلام بحرف،فقلت في نفسي:

هذا و اللّه حديث لم أسمع مثله قطّ،قال:فنظر في وجهي،ثمّ قال:إنّي أتكلّم بالحرف الواحد لي فيه سبعون وجها،إن شئت أخذت كذا،و إن شئت أخذت كذا (3).

رابعها:ما عن معاني الأخبار،عن إبراهيم الكرخي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،إنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف إلي سبعين وجها لنا من جميع ذلك المخرج (4).إلي غير ذلك من الأخبار.

الطائفة الثانية:ما تدلّ علي التخيير بين الخبرين
اشارة

،و قبل بيانه نذكر امورا:

أحدها:إذا دلّ خبر واحد علي التخيير في مورد الخبرين المتعارضين صار طرف المعارضة لهما،فإنّ نسبة صدّق العادل إلي جميعها علي السواء،فكلّ واحد من هذه الأخبار الثلاثة مشمول له في نفسه،مثلا إذا ورد خبر علي أنّ الكرّ سبعة و عشرون شبرا،و خبر علي أنّه أكثر منها،و خبر علي التخيير بينهما.

ص: 324


1- معاني الأخبار ص 1 ح 1.
2- بصائر الدرجات ص 329.
3- بصائر الدرجات ص 329 ح 3.
4- معاني الأخبار ص 2 ح 3.

فهذه الأخبار كلّها متعارضة؛لأنّ مقتضي ما دلّ منها علي سبعة و عشرين تعيّن أن يكون الكرّ كذلك،و هو ينفي التخيير كما ينفي التعيين بغير سبعة و عشرين،و كذا مقتضي ما دلّ علي أنّه أكثر من سبعة و عشرين تعيّنه و نفي التخيير و التعيين بغير ما دلّ عليه،و مقتضي ما دلّ علي التخيير بينهما عدم تعيّنهما.نعم إن دلّ خبر علي أنّه إن تعارض خبران،فهو مخيّر في الأخذ بأحدهما لم يعارضهما لأنّ موضوعه وجودهما.

ثانيها:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت علي عدم التساقط مع فقد المرجّح،فإذا لم يحكم بالتساقط فهل الحكم التخيير،أو العمل بما طابق منهما الاحتياط،أو بالاحتياط و لو كان مخالفا لهما،كالجمع بين الظهر و الجمعة و القصر و الاتمام؟وجوه المشهور الأوّل؛للأخبار المستفيضة بل المتواترة (1)انتهي.

أقول:دعواه التواتر في المقامين ممنوعة و سيظهر ذلك.

ثالثها:قال في الكفاية:إنّ إطلاق أخبار التخيير محكّم،و أخبار الترجيح لو سلّم دلالتها علي الترجيح محمولة علي الندب.

أقول:لا يوجد خبر صحيح مطلق يدلّ علي التخيير،و سيظهر ذلك بعد ذكر الأخبار،و هي:

أوّلها:خبر الحسن بن الجهم،عن الرضا عليه السّلام أنّه قال:قلت للرضا عليه السّلام:تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة،قال:ما جاءك عنّا فقسه علي كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا،فإن كان يشبهها فهو منّا،و إن لم يشبهها فليس منّا،قلت:يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين،فلا نعلم أيّهما الحقّ؟فقال:إذا لم تعلم2.

ص: 325


1- فرائد الاصول ص 762.

فموسّع عليك بأيّهما أخذت (1).

و روي العيّاشي في تفسيره عن الحسن بن الجهم،عن العبد الصالح،قال عليه السّلام:

إذا جاءك الحديثان المختلفان،فقسهما علي كتاب اللّه و أحاديثنا،فإن أشبهها فهو حقّ،و إن لم يشبهها فهو باطل (2).

يحتمل أن يكون المراد من العبد الصالح أبا الحسن الرضا عليه السّلام،فيكون بعض الخبر الأوّل.

قوله«ما جاءك عنّا»مطلق شامل لخبر الثقة المأمون و غيره،فيقيّده ما دلّ علي حجّية خبر الثقة،فيختصّ هذا الخبر بالأخبار التي ليست حجّة.

قوله«يشبهها»لعلّه محمول علي وجوده فيه.

قوله«قلت:يجيئنا الرجلان»إلي آخره،يعني في مورد لا يعلم الحقّ لا بالقياس علي الكتاب و أحاديثهم و لا بغيره«فقال:إذا لم تعلم»ظاهره أنّه لم تعلم وجدانا فموسّع عليك،لكن لو دلّ خبر صحيح مثلا علي أنّ الحقّ فيما خالف العامّة،كان مبيّنا للمراد من العلم بالحقّ،فيكون التخيير بعد فقد المرجّحات،إن تمّت أخبار الترجيح سندا و دلالة،فلا بأس بدلالته علي التخيير بعد فقد المرجّح، مضافا إلي دلالة صدره علي الترجيح بموافقة الكتاب،لكن سنده غير ثابت؛لأنّه لم يذكر الرواة عن الحسن بن الجهم لا في الاحتجاج و لا في تفسير العيّاشي،فقد روياه مرسلا عنه.

ثانيها:ما رواه في الاحتجاج عن الحارث بن المغيرة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتّي تري القائم8.

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 1:260 ب 6 ح 20.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 20 ح 18.

فترده عليه (1).و السند إلي الحارث غير مذكور.

و نوقش فيه بأنّ مورده التمكّن من لقاء الامام القائم بالأمر في كلّ عصر،فيدلّ علي التخيير في مدّة قليلة،و لا تلازم بينها و بين زمان الغيبة؛و بأنّ الخطاب متوجّه إلي الحارث،و«أصحابك»لا تشمل الوسائط الكثيرة،بل أصحابه هم الرواة بلا واسطة أو بواسطة واحدة.

ثمّ إنّ إطلاقه شامل للخبرين المتعارضين،سواء كان مع أحدهما ترجيح أو لم يكن،فيمكن تقييده بصورة عدم وجود مرجّح لأحد الخبرين،أو إبقاؤه علي إطلاقه بالنسبة إلي شخص الحارث.

و أيضا إطلاقه يشمل غير المتعارضين،و مقتضاه اشتراط العمل بخبر الثقة في زمان الحضور بالردّ إلي القائم بالأمر.

و لازمه أن يكون-كما في مصباح الاصول-من شرط العمل بخبر الثقة في زمان الحضور و الغيبة ردّه إلي الحجّة بن الحسن عليهما السّلام.

ثالثها:ما رواه في التهذيب عن أحمد بن محمّد،عن العبّاس بن معروف،عن علي بن مهزيار،قال:قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلي أبي الحسن عليه السّلام:

اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في ركعتي الفجر في السفر، فروي بعضهم أن صلّهما في المحمل،و روي بعضهم لا تصلّهما إلاّ علي الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟فوقّع عليه السّلام:موسّع عليك بأيّة عملت (2).

و نوقش فيه بأنّ قوله«موسّع عليك بأيّة عملت»يحتمل إرادة جواز الأمرين واقعا لا العمل بأيّ الخبرين،و يؤيّده أنّ الراوي سأل عن فعل الامام و أنّه كيف2.

ص: 327


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 20 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 5:69 كتاب الصلاة،القبلة،ب 10 ح 22.

يصنع ليقتدي به،و وظيفة الامام بيان الحكم الواقعي.

أقول:بل لو اريد العمل بأيّ الخبرين،فلعلّه من أجل كون الحكم الواقعي هو التخيير،و دلّ كلّ واحد من الخبرين علي أحد عدلي التخيير.

و قد ورد في صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،عن أبي الحسن عليه السّلام،إلي أن قال:

فإنّ صلاتك علي الأرض أحبّ إليّ (1).

و لو سلّم اختلاف الخبرين،فلعلّه من باب إلقائهم الخلاف بين أصحابهم أو لغير ذلك.و علي أيّ تقدير لو سلّم دلالته علي التخيير في العمل بالخبرين،فمورده المستحبّات،و لا يتعدّي إلي الأحكام الالزاميّة؛لاحتمال التوسعة في المستحبّات، بل لا عموم فيه يشمل غير موردهما من المستحبّات،فهذا حكم خاصّ بالصلاة في المحمل أو علي الأرض.

رابعها:ما روي في كتاب الغيبة،عن كتاب آخر:فرأيك أدام اللّه عزّك في تأمّل رقعتي و التفضّل بما يسهل لأضيفه إلي سائر أياديك عليّ،و احتجت أدام اللّه عزّك أن تسأل لي بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل للركعة الثالثة،هل يجب عليه أن يكبّر؟فإنّ بعض أصحابنا قال:لا يجب عليه التكبير و يجزيه أن يقول بحول اللّه و قوّته أقوم و أقعد.

الجواب قال:إنّ فيه حديثين:أمّا أحدهما،فإنّه إذا انتقل من حالة إلي حالة اخري فعليه تكبير،و أمّا الآخر،فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام،فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير،و كذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجري،و بأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا (2).

و المناقشة فيه من جهات:أوّلا:يحتمل كون المسؤول غير المعصوم،و لو سلّم9.

ص: 328


1- جامع أحاديث الشيعة 5:69 ب 10 ح 20.
2- جامع الأحاديث الشيعة 5:545-546 ب 24 السجود ح 9.

كونه المعصوم عليه السّلام،لكن سند الخبر محلّ إشكال؛لأنّ السند المتقدّم هكذا:وجدت بخطّ أحمد بن إبراهيم النوبختي،و لم يثبت و ثاقته،فطريق الخبر غير معلوم، فتأمّل.

و ثانيا:أنّ مورده المستحبّات المبني أمرها علي التخفيف و السهولة،فلا يتعدّي منها إلي الإلزاميّات،و قوله«فعليه تكبير»يراد به عليه تكبير إستحبابا.

و ثالثا:ظهور قوله«بأيّهما أخذت»في الرخصة الواقعيّة لا التخيير بين الحجّتين من جهة ظهور السؤال في الاستفهام عن الحكم الواقعي،و ظاهر حال الامام بيان الحكم الواقعي،لكن فيه أنّ قوله«بأيّهما أخذت من باب التسليم» ظاهر في التخيير بين الحجّتين مع التسليم،و التخيير الواقعي لا حاجة فيه إلي التسليم،فإنّ مصلحة التسليم توجب التعبّد بالتخيير بين الخبرين.

و رابعا:عدم التعارض بين الحديثين؛لأنّ ثانيهما أخصّ من الأوّل لو لم يكن حاكما.و فيه أنّه قد فهم ناقل الحديثين أنّ إطلاق حديث الأوّل غير قابل للتقييد، و لعلّه لعدم معارضة العامّ مع الخاصّ في المستحبّات؛لاحتمال الحمل علي مراتب المطلوبية.

و خامسا:مورد هذه الرواية الحديثان القطعيّان اللذان نقلهما الامام عليه السّلام،فلا يتعدّي إلي التعارض بين الخبرين الظنّيين سندا.

و فيه احتمال أن يكون المراد من قوله«فيه حديثان»أنّه قد روي فيه حديثان و إن لم يكونا صادرين واقعا،أو كان أحدهما صادرا.

و سادسا:أنّه لو سلّم دلالته علي التخيير في الأخذ،فلا عموم فيه يشمل غير مورد الرواية.

خامسها:ما عن الفقه الرضوي:و النفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضة، و هي عشرة أيّام،و تستظهر بثلاثة أيّام،ثمّ تغتسل،فإذا رأت الدم عملت كما تعمل

ص: 329

المستحاضة،و قد روي ثمانية عشر يوما،و روي ثلاث و عشرين يوما،و بأيّ هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز (1).

و فيه مضافا إلي عدم ثبوت سنده أنّه لا وجه للتعدّي إلي غيره؛لأنّه حكم مورد خاصّ.

سادسها:مرفوعة زرارة،قال:سألت الباقر عليه السّلام،فقلت:جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّها آخذ؟قال عليه السّلام:يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذّ النادر،فقلت:يا سيّدي انّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم،فقال عليه السّلام:خذ بقول أعدلهما عندك و أوثقهما في نفسك،فقلت:

إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان،فقال عليه السّلام:انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه و خذ بما خالفهم،قلت:ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال عليه السّلام:إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك ما خالف الاحتياط،فقلت:إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟فقال عليه السّلام:إذا فتخيّر أحدهما فتأخذ به و تدع الآخر (2).

و فيه أنّها تدلّ علي التخيير بعد عدم إمكان الاحتياط.

و نوقش في سندها بالارسال،و عدم ثبوت نسبتها لكتب العلاّمة،لتفرّد صاحب عوالي اللئالي في نسبتها إليها،و بغرابة متنها،فإنّه كيف يصل لزرارة أخبار متعارضة عن الامام أبي جعفر عليه السّلام؟!لكن يحتمل أن يكون السؤال سؤالا فرضيا.

سابعها:خبر الميثمي أنّه سأل الرضا عليه السّلام يوما و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه و قد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في الشيء الواحد،إلي أن قال:فما جاء في النهي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي حرام ثمّ جاء2.

ص: 330


1- جامع أحاديث الشيعة 2:551 ب 28 ح 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:255 ب 6 ح 2.

خلافه لم يسع استعمال ذلك.

أقول:و المراد من المجيء الأوّل كونه مرويّا عن الأئمّة عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بطريق قطعي،أو كونه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قطعيّا،و المراد من الثاني أن يكون بخبر الواحد.و أمّا لو كان قد صدر عنهم قطعا خلاف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فذلك لا يكون إلاّ لعلّة خوف ضرورة.

إلي أن قال:فما كان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي إعافة أو أمر فضل،فذلك الذي يسع استعمال الرخص فيه.أي:روي عن الأئمّة المعصومين عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أو روي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي نحو قطعي السند و الدلالة،ثمّ جاء الخبر عن الأئمّة في الترخيص.

إلي أن قال:إذا ورد عليكم عنّا فيه الخبر باتّفاق يرويه من يرويه في النهي و لا ينكره،و كان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعا،أو بأيّهما شئت و أحببت موسّع ذلك لك من باب التسليم لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و الردّ إليه و إلينا،و كان تارك ذلك من باب العناد و الانكار و ترك التسليم لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله مشركا باللّه العظيم،فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما علي كتاب اللّه،فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب.

و ما لم يكن في الكتاب فأعرضوه علي سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله،فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه و أمره.

و ما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة،ثمّ كان الخبر الآخر خلافه،فذلك رحصة فيما عافه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و كرهه و لم يحرمه،فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا،أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم و الاتّباع و الردّ إلي رسول

ص: 331

اللّه صلّي اللّه عليه و آله،و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه،فنحن أولي بذلك و لا تقولوا فيه بآرائكم،و عليكم بالكفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتّي يأتيكم البيان من عندنا (1).

قوله«إذا ورد عليكم عنّا فيه الخبران»لعلّ المراد بالخبرين الخبر الوارد عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله المشتمل علي نهي إعافة،و الخبر الوارد عنهم في الرخصة بقرينة ما بعده.

قوله«يجب الأخذ بأحدهما أو بهما أو بأيّهما»لعلّ المراد العمل بأحدهما المعيّن أو بهما،بأن يعتقد الكراهة،أو بأيّهما تخييرا استمراريّا،و يحتمل عدم صحّة النسخة.

قوله«موسّع»يحتمل قريبا أن يكون التوسيع من جهة أنّ الحكم غير إلزامي يجوز تركه،فالعمل بالخبر المخالف في الحقيقة عمل بقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حيث انّه لمّا أمر أو نهي لا مع الالزام،فقد أذن و رخص في خلافه،فلا يستفاد منه التخيير في غير الالزاميّات الذي ورد فيه خبران عن غير النبي صلّي اللّه عليه و آله،فضلا عن الالزاميّات،بل قوله«عليكم بالكفّ»يدلّ علي التوقّف.

ثامنها:ما رواه في الكافي،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن عثمان بن عيسي،و الحسن بن محبوب،جميعا عن سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه.

و في رواية اخري:بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (2).7.

ص: 332


1- جامع أحاديث الشيعة 1:261-262 ح 22.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:257 ح 7.

قوله«رجلان من أهل دينه»إطلاقه شامل لما إذا لم يكونا ثقتين عنده،بل كانا مثلا من الشيعة،و شامل لما إذا لم يكونا من الفقهاء و العلماء،لكن لا يبعد أن يكون المراد رجلان من أهل دينه ممّن يقبل قوله لو لا المعارضة.

قوله«في أمر»إطلاقه شامل للاصول الاعتقاديّة و الفروع لو لم يكن ظاهرا في الفروع،فإنّ الأخذ ظاهر في كونه للعمل.

قوله«يأمر»أي:إلزاما،و يحتمل إرادة الأعمّ منه و من الترخيص.

قوله«و الآخر ينهاه»إطلاقه شامل لما إذا كان للمأمور مندوحة،و لما إذا كان لا بدّ له من العمل.

قوله«يرجئه»يعني:يجب عليه أن يوخّر حكم الأمر الذي اختلف في حكمه، و مقتضي ترك الاستفصال أنّه يرجئه و إن كان في أحدهما ترجيح،و يمكن تقييده بما إذا لم يعرف التراجيح أو لم يكن ترجيح،و الأوّل أظهر.

قوله«حتّي يلقي»يحتمل وجهين،أحدهما:أنّه يجب عليه أن يؤخّر و يجب عليه أن يلقي من يخبره،فيكون«حتّي»تعليليّة،أي:يرجئه ليلقي.

ثانيهما:أنّه يؤخّر إلي أن يتّفق أن يلقي من يخبره،و ليس عليه شدّ الرحال إلي من يخبره.

قوله«من يخبره»ممّن يعتمد علي قوله من إمام معصوم،أو راو فقيه يعتمد عليه.

قوله«فهو في سعة حتّي يلقاه»يحتمل امورا:

أحدها:في سعة في الأخذ بكلّ واحد من الحجّتين و إرجاء تعيين الواقعة.

و فيه أنّه ينافي قوله«يرجئه»فإنّه ظاهر في أنّه لا يعمل بواحد منهما لا أنّه يؤخّر تعيين الواقعة.

ثانيهما:أنّه تأكيد للجملة الاولي،أي:يرجئه و ليس عليه الفحص عن الواقع

ص: 333

المجهول،فهو في سعة عن الفحص و الوصول إلي الحكم الواقعي،و أمّا الوظيفة العمليّة فهو كما كان قبل ورود الخبرين،فيكون من أخبار التساقط.

ثالثها:ما ذكره السيّد الطباطبائي اليزدي في رسالة التعادل و التراجيح،و هو أنّه في سعة من حيث الرجوع إلي الأصل،فيكون دليلا علي التساقط أو التوقّف و الرجوع إلي الأصل المطابق (1).

قلت:هذا الاحتمال بعيد.

رابعها:ما ذكره أيضا و هو السعة في الارجاء،فيكون دليلا علي الاحتياط.

خامسها:أن يكون في سعة من حيث العمل.

أقول:الظاهر هو المعني الأخير.

ثمّ إنّ هذا الخبر ربّما يوهم أنّه لا وجه لتقديم النصّ علي الظاهر،فإنّه يدلّ علي أنّ إفعل و لا تفعل من المتعارضين.

و الجواب:أنّ ظاهر قوله«يأمره»دلالة كلامه علي الوجوب؛لأنّ مادّة أمر تستعمل في الوجوب،و لا يدلّ علي أنّه كان بصيغة إفعل.

و ناقش في نهاية الدراية (2)بأنّ حالها حال الثانية من حيث التقيّد بالتمكّن من لقاء الامام عليه السّلام،بل كلّ من يخبره بحكم الواقعة كنوّابه عموما أو خصوصا،بل سيأتي إن شاء اللّه تعالي أنّها من أدلّة التوقّف لا من أدلّة التخيير.

و قال بعد كلام:مع أنّ الظاهر أنّ قوله عليه السّلام«فهو في سعة حتّي يلقاه»ليس حكما بالتخيير بين الخبرين،بل هي التوسعة التي يحكم بها العقل مع عدم الحجّة علي شيء من الطرفين؛لقوله عليه السّلام«يرجئه حتّي يلقي من يخبره»فقد أمر بالتوقّف و عدم التعبّد بأحدهما لا معيّنا و لا مخيّرا،فهذه الرواية موافقة للأصل،و هو3.

ص: 334


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 111.
2- نهاية الدراية 3:163.

التساقط مع تعارض الحجّتين،فيؤكّد ما عليه الطريقة العرفيّة من التساقط عند تعارض الحجّتين (1)انتهي.

أقول:لسماعة رواية اخري مذكورة في الاحتجاج مرسلا،يمكن لنا الاستشهاد ببعض فقراتها علي ما يدلّ عليه خبره هذا؛لأنّه يحتمل اتّحاد الخبرين في الجملة،فنذكرها:

روي في الاحتجاج،عن سماعة بن مهران،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام،قلت:

يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا عنه،قال:لا تعمل بواحد منهما حتّي تلقي صاحبك فتسأله عنه،قال:قلت:لا بدّ من أن نعمل بأحدهما،قال:

خذ بما فيه خلاف العامّة (2).

فلا يبعد أن يكون معني الخبر الأوّل أنّه إذا اختلف عليه اثنان أحدهما يأمر و الآخر ينهي،فإنّه يجب عليه التوقّف و لا يعمل بالخبرين،و يؤخّر الواقعة إن لم يكن مضطرّا إلي العمل بأحدهما،و هو في سعة في جهله بالحكم.و إن كان لا بدّ من العمل،فإنّه يؤخّر تبيّن كون الواقعة حراما أو واجبا و في الزمان الذي لا يمكنه عادة من تبيّن حكم الواقعة يكون في سعة عملا؛لأنّه لا يمكنه تعيين وظيفته، و المفروض أنّه مضطرّ إلي العمل بأحدهما.

و الحاصل أنّ الخبرين المتعارضين بالوجوب و التحريم لا يسقطان عن الحجّية و فرضهما كعدمهما،بل يتوقّف في الواقعة حتّي يفحص و يصل إلي من يخبره بأنّ أحدهما مخالف للعامّة أو واجد للترجيح و نحو ذلك،فالمتيقّن منه هو وجوب الفحص،و في زمان الفحص عمّن يخبره إن كان مضطرّا للعمل فهو في سعة، و حينئذ يكون موافقا لحكم العقل،فتدبّر و تأمّل.2.

ص: 335


1- نهاية الدراية 3:176.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:266 ح 32.

و بالجملة المتيقّن من هذا الخبر أنّه إذا تعارض الخبران في الوجوب و الحرمة في زمان يمكن استعلام حالهما و هو زمان الحضور،فإنّه يؤخّر الواقعة و يستعلم حال الخبرين،و إن كان لا بدّ له من العمل،فإنّه في سعة لعدم تمكّنه من العمل بالاحتياط،فهذا الخبر يدلّ علي التخيير في غير الالزامي من نهي إعافة أو أمر فضل،و يدلّ علي الاحتياط و التوقّف في الالزاميّات.

و لعلّ الشيخ الكليني فهم منه التوقّف؛لأنّه ذكر بعده ما يأتي في التاسع،و هو قوله«و في رواية اخري».

تاسعها:ما ذكره في الكافي في ذيل خبر سماعة،و هو قوله:و في رواية اخري:

بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك.

عاشرها:ما ذكره في ديباجة الكافي،قال:يا أخي أرشدك اللّه إنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّ علي ما أطلقه العالم بقوله «أعرضوها علي كتاب اللّه،فما وافق كتاب اللّه عزّ و جلّ فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فردّوه»و قوله«دعوا ما وافق القوم،فإنّ الرشد في خلافهم»و قوله«خذوا بالمجمع عليه،فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»و لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه، و لا نجد شيئا أحوط و لا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلي العالم عليه السّلام،و قبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله«بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم».

أقول:يحتمل اتّحاده مع التاسع،كما يحتمل أن يكون مأخوذا من رواية الميثمي،و علي أيّ حال لا سند لهما،كما أنّ ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في أوّل الاستبصار لعلّه متّحد مع ذلك،قال:إذ روي عنهم عليهم السّلام قالوا:إذا ورد عليكم حديثان و لا تجدون ما ترجّحون به أحدهما علي الآخر ممّا ذكرناه كنتم مخيّرين في العمل

ص: 336

بهما (1).

ثمّ إنّ قوله في ديباجة الكافي«و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه»يحتمل أن يكون مراده لا نعرف إلاّ القليل من الخبر المجمع عليه،أو الموافق للكتاب،أو المخالف للعامّة،و حينئذ نعمل في القليل بالترجيح و في ما عداه بالتخيير.و يحتمل أن يكون المراد أنّ مورد الترجيح قليل،فلا يؤخذ بالترجيح في مورد القليل،بل نعمل في الجميع بالتخيير،و علي الاحتمال الثاني فيكون خلاف الاحتياط؛لأنّ الأحوط هو العمل بذي المزيّة مع إحرازها.

قوله«و لا نجد شيئا أحوط»محلّ إشكال؛لأنّ الأحوط هو العمل بذي المزيّة.

و قد يوجّه كلامه (2)بأنّ مراده الاحتياط في مقام الفتوي.و يحتمل أن يكون قوله «من ردّ علم ذلك»بيانا للأحوط،فإنّ الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة خلاف الاحتياط،بل ينبغي ردّ ذلك إلي العالم.

و قوله«و قبول»بيانا للأوسع.

و قد تحصل أنّه لم يتمّ سند خبر يدلّ علي التخيير مطلقا،و لو وجد فيما ذكر خبر يدلّ علي التخيير مطلقا،فهو قابل للتقييد بفقد المرجّحات في أحدهما.

تنبيهات:

الأوّل:لو سلّم دلالة الأخبار علي التخيير،فهو لا يدلّ علي كون حجّية الأخبار من باب السببيّة؛لأنّ التخيير علي أنحاء:

أحدها:التخيير العقلي الواقعي كما في المتزاحمين،قيل في ميزانه:هو ايجاب الشارع لكلّ من الشيئين عينا بعد الفراغ عن تماميّة الطلب و المصلحة في كلّ منهما مع كون المكلّف عاجزا عن الاتيان بهما.

ص: 337


1- الاستبصار 1:5.
2- منتهي الوصول ص 289.

أقول:و هو محتمل ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بناء علي كون حجّية الأخبار من باب السببيّة.كما يمكن أن يجعله تخييرا شرعيّا أيضا؛لأنّ الشارع لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها و إلاّ ما آتاها،و المكلّف لا يقدر إلاّ علي أحدهما،فالتكليف هنا يكون بواحد منهما،ثمّ إنّه علي التخيير العقلي أيضا لا يستحقّ إلاّ عقابا واحدا.

ثانيها:التخيير العقلي الظاهري،كما في دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثها:التخيير الشرعي،كما في خصال الكفّارة.

رابعها:التخيير الشرعي الظاهري،كما في الخبرين إذا قلنا بالتخيير من جهة الأخبار العلاجيّة،فيمكن أن يجعل التخيير تخييرا ظاهريّا.

الثاني:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد:قيل:لا خلاف في أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا،و إن وقع للمفتي فحكمه أن يخيّر المستفتي،و وجه الأوّل واضح،و وجه الثاني أنّ الشارع نصب الأمارات للمفتي و المستفتي،لكن المستفتي عاجز عن تشخيص ذلك فينوب عنه المفتي (1)انتهي.

الثالث:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد:الظاهر أنّ الحاكم يتخيّر أحدهما و يقضي به و لا يخيّر المتخاصمين (2).

أقول:لا يخلو عن إشكال،و محلّ المسألة في كتاب القضاء.

الرابع:هل التخيير بدوي أو استمراري؟وجهان،يستدلّ للأوّل بأنّه وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر،فلا إطلاق فيها بالنسبة إلي حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما.و أمّا العقل الحاكم بعدم طرح كليهما،فهو ساكت من هذه الجهة، و استصحاب التخيير غير جار لتبدّل الموضوع،هذا علي الطريقيّة.

و أمّا علي السببيّة،فالتخيير باق؛لأنّ ملاكه تزاحم الواجبين.و يستدلّ للثاني4.

ص: 338


1- فرائد الاصول ص 763.
2- فرائد الاصول ص 764.

بإطلاق ما دلّ علي التخيير.

أقول:قد تقدّم أنّ المتيقّن من مورد أدلّة التخيير هو المستحبّات،و إطلاقها يقتضي التخيير الاستمراري.و أمّا في الواجبات،فالحكم الواقعي المنجّز لم يثبت مع تعادل الخبرين من جميع الجهات،فإن لم يكن أحد الخبرين أحوط،فهو مخيّر دائما لعدم وصول التكليف المعيّن،فتأمّل فإنّ الأحوط الجمع بين الخبرين؛لأنّه مكلّف بالعمل بخبر يحتمل موافقته للواقع،بناء علي الطريقيّة،و حيث إنّه يحتمل موافقة أحد الخبرين للواقع،فيجب العمل بهما حتّي يكون عاملا بالخبر المحتمل موافقته للواقع.

الخامس:حيث يجب متابعة النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لازمه الاعتقاد بالأحكام الصادرة عنهم،فلذا يجب في مورد الخبرين الاعتقاد بما هو الصادر منهم و التسليم لهم،فلذا يحتمل وجوب الأخذ مسلّما لهم.

الطائفة الثالثة:الأخبار الدالّة علي التوقّف و الاحتياط:

الأوّل:قوله عليهم السّلام في خبر عمر بن حنظلة:إذا كان ذلك فأرجه حتّي تلقي إمامك،فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).

و يمكن المناقشة فيه مضافا إلي ما يقولون في سنده أوّلا:أنّه خاصّ بمثل عمر بن حنظلة ممّن يلقي الامام،و لا يشمل من لا يلقاه.

أقول:إنّ تعليل الارجاء بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات يدلّ علي أنّ قوله«أرجئه حتّي تلقي إمامك»ليس له خصوصيّة لزمان الحضور و التمكّن؛لأنّ هذه العلّة موجودة في زمان الغيبة أيضا،كما أنّ هذه العلّة موجودة في الخبرين المتعارضين،و الحاصل أنّ الارجاء إذا كان لأجل الوقوف

ص: 339


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 ح 124.

عند الشبهة،فلا اختصاص له بزمان الحضور،و كذا لا فرق بين الحكومة و الرواية، لا شتراكهما في الشبهة الموجبة للوقوف.

و دعوي أنّ جملة الوقوف عند الشبهة قد وردت في موارد الشبهة البدويّة، و هي محمولة علي الندب.مدفوعة بأنّ ظاهرها الوجوب إلاّ اذا ثبت المعارض له، كالشبهة الموضوعيّة حيث دلّت الأدلّة علي عدم لزوم الاجتناب.

و ثانيا:أنّه لا يمكن التخيير في مورده إذا لم يكن ترجيح لأحد الطرفين؛لأنّ النزاع لا ينتهي بالتخيير،فلا طريق إلاّ الارجاء؛لأنّه شبهة لا يعلم الحقّ لأيّهما و لا سبيل إلي رفع الشبهة،فلا بدّ من الاحتياط.

نعم يدلّ علي كفاية الاعتماد علي الأمارات لحلّ النزاع،و لذا قدّم المرجّحات علي تحصيل العلم بالرجوع إلي الامام؛لأنّ الشارع لا يرضي بأن يبقي التنازع في الدين حتّي انّه أجاز بيع الوقف إذا حصل النزاع بين الموقوف عليهم،فلا وجه للتعدّي من مورد الخبر إلي غيره ممّا لا يكون فيه نزاع.

الثاني:خبر سماعة المتقدّم (1)،بناء علي أن يكون المعني من قوله فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه،أنّه مع التمكّن من تحصيل العلم لا بدّ من تحصيل العلم بالحكم،و لا يرجع إلي مرجّحات أحد الخبرين إن كان له مرجّح،و لا إلي التخيير إن لم يكن مرجّح.نعم هو في هذا المقدار من الزمان الذي يذهب إلي لقاء من يخبره حيث إنّه مضطرّ إلي العمل،فهو في سعة،كما ورد أنّ الامام عليه السّلام إذا توفّي وجب علي الناس أن يرسلوا إلي المدينة ليحقّقوا حول الامام بعده،فهم معذورون في هذه المدّة،و حينئذ يتقدّم تحصيل العلم بالحكم علي إعمال التراجيح مع وجودها و علي التخيير مع فقدها،فيجب الاحتياط إلاّ في7.

ص: 340


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 7.

المقدار المضطرّ إليه فهو في سعة.

و فيه أنّ القدر المتيقّن منه تقديم تحصيل العلم علي التراجيح و التخيير لمن يتمكّن من تحصيل العلم،و ذلك زمان حضور المعصوم عليه السّلام،و لا إطلاق له لزمان الغيبة الذي لا يتمكّن فيه من تحصيل العلم.

الثالث:خبره الآخر المتقدّم (1)،فإنّه يدلّ علي أنّه مع التمكّن من العلم لا بدّ من تحصيله،و ليس له الترجيح أو التخيير.قيل:إنّه معارض بالمقبولة،أي:خبر عمر بن حنظلة.

و فيه أنّ المقبولة واردة في مورد لا يمكن التخيير،و هذا في مورد يمكن التخيير،فقدّم فيه تحصيل العلم.فما ذكره الشيخ (2)من طرح هذا الخبر لمعارضته المقبولة مخدوش لعدم المعارضة.

الرابع:مرفوعة زرارة (3)،و هي محمولة علي ما إذا تعذّر العلم،فيرجّح ثمّ يحتاط ثمّ يتخيّر.

الخامس:ما رواه في السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال مسائل محمّد بن علي بن عيسي،قال:حدّثنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد،و موسي بن محمّد بن علي بن عيسي،قال:كتبت إلي الشيخ موسي الكاظم أعزّه اللّه تعالي و أيّده، أسأله عن الصلاة،إلي أن قال:و سألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك و أجدادك قد اختلف علينا فيه كيف العمل به علي اختلافه و الردّ إليك فيما اختلف فيه، فكتب:ما علمتم أنّه قولنا فالزموه،و ما لم تعلموه فردّوه إلينا (4).3.

ص: 341


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 32.
2- فرائد الاصول ص 777.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 33.

السادس:ما روي مثل الخامس في بصائر الدرجات،عن أبي الحسن عليه السّلام (1)، فإنّ وجوب ردّ الخبر الذي لا يعلم صدوره عنهم عليهم السّلام إليهم عبارة اخري عن الاحتياط،و عدم الأخذ بالخبرين لا ترجيحا و لا تخييرا.

ثمّ إنّ وجوب الردّ إن كان كناية عن التوقّف و الاحتياط،فهو ممكن في حال عدم إمكان الوصول إلي الامام عليه السّلام كزمان الغيبة.

أقول:لكن لا دلالة له علي ما يصنع بعد ردّ علم ما لا يعلم أنّه قولهم إليهم، فيمكن أن يكون تكليفه الرجوع إلي البراءة،فتأمّل.

و قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه لا دليل علي الاحتياط في الخبرين المتعارضين لمن لا يتمكّن من تحصيل العلم إلاّ مرفوعة زرارة،و هي مخدوشة سندا،و مقبولة عمر بن حنظلة بالبيان الذي ذكرناه.

السابع:عموم ما دلّ علي التوقّف عند الشبهة،و ما دلّ علي الاحتياط في الدين،كقوله عليه السّلام«أخوك دينك فاحتط لدينك».

و فيه أنّ ما دلّ علي التخيير إن تمّ سندا و دلالة فهو أخصّ،فيخصّص العموم به.

الثامن:خبر الميثمي المتقدّم،حيث قال في ذيله:و عليكم بالكفّ و الوقوف الخ.

ثمّ إنّ مقتضي الجمع بين الطائفة الثانية و الثالثة هو تأخير الواقعة ليعلم الحكم فيعمل به إذا كان متمكّنا من تحصيل العلم،و لم يكن مضطرّا في عدم تأخير الواقعة،و إلاّ فيرجع إلي الترجيحات،ثمّ بعد ذلك يتخيّر أو يحتاط علي كلام يأتي.

و قد ذكر السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه،و سبقه صاحب الحدائق في الدرر النجفية وجوه الجمع بين الطائفتين:

أحدها:حمل أخبار التوقّف علي الاستحباب،أو كراهة العمل بأخبار التخيير.3.

ص: 342


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 33.

ثانيها:حمل أخبار التوقّف علي الفتوي،و أخبار التخيير علي العمل،فيعمل بأيّهما شاء.

ثالثها:حمل أخبار التوقّف علي زمان الحضور،و أخبار التخيير علي زمان الغيبة.

رابعها:حمل أخبار التوقّف علي صورة إمكان الاحتياط،و حمل أخبار التخيير علي صورة عدم الامكان،كالدوران بين المحذورين.

خامسها:حمل أخبار التخيير علي صورة الاضطرار إلي العمل،و حمل أخبار التوقّف علي صورة عدمه.

سادسها:حمل أخبار التوقّف علي حقوق الناس،و حمل أخبار التخيير علي حقوق اللّه.

سابعها:حمل أخبار التوقّف علي الالزاميّات،و أخبار التخيير علي غيرها.

ثامنها:حمل أخبار التخيير علي التخيير في زمان الغيبة في حقوق اللّه تخييرا عمليا.

أقول:راجع تفاصيلها في رسالته،و سنبيّن المختار عندنا.

الطائفة الرابعة:ما يدلّ علي مراعاة الترجيحات،و هي أنواع:
النوع الأوّل:الصفات،و هي الأعدلية و الأفقهية و الأصدقية في الحديث

، و الأورعيّة المذكورة في خبر عمر بن حنظلة (1)،و الأوثقية المذكورة في مرفوعة زرارة.

و نوقش في الخبر بعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة،و قد يقال بوثاقته لرواية يزيد بن خليفة الثابتة وثاقته برواية صفوان عنه،قال للمعصوم عليه السّلام:إنّ عمر بن

ص: 343


1- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 7 ح 124.

حنظلة أتانا عنك بوقت،فقال عليه السّلام:إذن لا يكذب علينا.و في جميع ذلك إشكال، لكن الرواية لا ينبغي طرحها علي المختار.

و أمّا دلالتها،فقوله«ينظر إلي من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا،فليرضوا به حكما،فإنّي قد جعلته عليكم حاكما،إلي أن قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعههما»إلي آخر الحديث،يحتمل وجوها:

الأوّل:أن يكون المراد الحاكم المنصوب من قبل الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و هو الفقيه،لكن يرد عليه:

أوّلا:أنّه لا يناسبه تعدّد القضاة في مرافعة واحدة،بل ينبغي المراجعة إلي واحد من الفقهاء.

و ثانيا:لا يناسبه اختيار كلّ من المترافعين حكما؛إذ أمر المرافعة بيد المدّعي، و حمله علي صورة التداعي بعيد،خصوصا في مسألة الدين.

و ثالثا:لا يناسب غفلة كلّ من الحكمين عن مستند الآخر؛إذ يعتبر في القاضي الاجتهاد و استفراغ الوسع في تحصيل الأدلّة و معارضاتها.

و رابعا:لا يناسبه الحكم بعد الحكم،و حمله علي صورة حكمهما دفعة واحدة بعيد،مع أنّها يتساقطان و يحتاج إلي حكم ثالث.

و خامسا:لا وجه لتحرّي المترافعين في مدرك الحكم من الأخبار،و الأخذ بالأرجح منهما.

و سادسا:أنّ الحكومة غالبا في الترافع في الموضوعات،و مورد الخبر يشمل صورة المراجعة إليهما لتعلّم الحكم الكلّي.

الثاني:أن يكون المراد قاضي التحكيم،فيرتفع بعض الايرادات المتقدّمة:

فأوّلا:أنّه لا بأس بتعدّده،بأن يكون قصد المترافعين العمل بقولهما من غير نظر

ص: 344

إلي اشتراط اتّفاقهما،و لا تعيين الحال في صورة اختلافهما.

و ثانيا:أنّه يمكن تراضيهما بالرجوع إلي الاثنين،و كون أمر المرافعة بيد المدّعي مسلّم مع عدم تراضيهما.

و ثالثا:منع منافاة الغفلة خصوصا في ذلك الزمان،بل احتمال اطّلاع كلّ منهما علي فساد مدرك الآخر قائم.

و رابعا:أنّ التحرّي ممكن بسؤال غيرهما من الفقهاء عن الحكم.

الثالث:أن يكون المراد الفتوي،فإنّ منشأ الاختلاف ربّما كان الجهل بالمسألة، كما في قضيّة أبي ولاّد التي رجعا فيها إلي أبي حنيفة،و لفظ الحكم و القضاء أعمّ من الفتوي و الحكم.

الرابع:أن يكون المراد أعمّ من الفتوي و الحكم،و هذا هو الأنسب بالاطلاق.

و بناء علي كونه للأعمّ من الفتوي و الحكومة،فإذا كان منشأ المنازعة جهلهما بالحكم،فرجع كلّ واحد إلي فقيه قد اختلفا في الحديث،فلا يرفع نزاعهما إلاّ بتعيين فتوي أحدهما،و لذا سئل الامام عليه السّلام عن ذلك،فأجابه بأنّه يرجع إلي الأفقه الأعدل الأصدق منهما،و يرتفع النزاع بأخذ قوله،و يرتفع بعض الاشكالات المذكورة.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:ثمّ إنّ المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي من العدالة و الفقاهة و الصداقة و الورع،لكن الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها،و لذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض،أو تعارض الصفات بعضها مع بعض،بل ذكر في السؤال أنّهما معا عدلان مرضيّان لا يفضل أحدهما علي صاحبه،فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل (1).3.

ص: 345


1- فرائد الاصول ص 773.

ثمّ إنّ المتفاهم عرفا من ذلك أمران:

الأوّل:أنّ المتنازعين إن علما اختلافهما قبل الرجوع،وجب عليهما الرجوع ابتداء إلي الأفقه.

الثاني:أنّه لا ينحصر الرجوع إلي الأفقه بمورد النزاع،فلو احتاج شخص إلي فتوي فقيه وجب الرجوع إلي الأفقه إذا علم اختلافه مع غيره،لعدم فرق عرفا في حجّية الفتوي بين الرجوع الي الفقيه فظهر اختلافه مع فقيه آخر و عدمه،في أنّه لا بدّ أن يكون فتواه حجّة حتّي يرجع إليه،بل إن خصّصنا قوله«جعلته حاكما» بالحكومة،فيمكن أن يستفاد منه أنّه مع الاختلاف،سواء كان في الفتوي،أو كان في تطبيق الحكم الكلّي علي الموضوع،لا بدّ من مراعاة الأقرب إلي الواقع،و هو قول الأفقه،فإنّه أعرف بمعاني الألفاظ و موارد التقيّة،و الأصدق في الحديث،فإنّه أقرب إلي مطابقة الواقع من الصادق.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ الخبر يشمل صورتين يشكل فيهما تقديم الأفقه:الاولي أن يكون خبر غير الأفقه موافقا لخبر الأفقه من الآخر.الثانية:أن تكون واسطة الراوي غير الأفقه أفقه من واسطة الراوي الأفقه (1).

أقول:الخطاب متوجّه إلي عمر بن حنظلة،و لا يبتلي في عصره بهاتين الصورتين.

ثمّ لا يخفي أنّ الأفقهيه مقدّمة علي سائر المرجّحات؛لأنّ الأفقهيّة تقتضي مراعاة الجهات الدخيلة في صدور الخبر وجهة صدوره،فأمّا إذا كان الغرض هو الحكاية و الاخبار،و نقل ما سمعوه من دون أيّ خصوصيّة،فلا ترجيح للأفقه علي غيره،نعم يرجّح الأصدق إلاّ أن يرجع الأفقهيّة إلي أنّه لا ينقل ما صدر تقيّة،أو أنّه3.

ص: 346


1- فرائد الاصول ص 773.

عارف بالقرائن و غيره لا يعرفها.

و الحاصل أنّ الترجيح بالصفات إن كان دخيلا في أقوائيّة الطريق،أو الاطّلاع علي القرائن المكتنفة بالكلام و نحوها،أمكن عدّها من المرجّحات.و أمّا إذا كان موجبا لأقوائيّة المضمون،بحيث يكون استنباط الأفقه دخيلا،فلا يمكن جعلها من مرجّحات الخبر.

و لا يبعد أن يكون الظاهر من خبر عمر بن حنظلة و غيره أنّ الصفات من مرجّحات مضمون الخبر إذا عمل به و اعتقده الأفقه الأعدل.و أمّا ترجيح مجرّد نقل الأفقه علي نقل غيره،فلا يستفاد منه.نعم الأصدقيّة في الحديث من مرجّحات النقل،لكن ظاهر الخبر اعتبار اجتماع الصفات،إلاّ أن يحمل علي كون كلّ واحد منها مرجّحا.و يدلّ علي الترجيح بالصفات مرفوعة زرارة،فلاحظ.

ثمّ لا يخفي أنّ الطريق إلي هذه الصفات في الراوي إن كان اشتهاره،كزرارة و محمّد بن مسلم،فيمكن الاعتماد عليه.و أمّا قول الرجاليّين في غير المشهورين و غير المعاصرين و من قرب من عصرهم،ففي إثباته إشكال تقدّم.

النوع الثاني:موافقة الكتاب
اشارة

،و ينبغي ذكر الأخبار الواردة في نسبة الأخبار إلي الكتاب،و هي أقسام:

القسم الأوّل:ما يدلّ علي أنّ كلّ خبر لا يوافق كتاب اللّه واقعا لم يصدر عن

المعصومين عليهم السّلام

،بل كلّ خبر صدر عنهم فهو موافق للكتاب واقعا،و إن لم يفهم غيرهم موافقته للكتاب،و ذلك لأنّ الكتاب مشتمل علي جميع الأحكام،فما صدر عنهم عليهم السّلام من الأحكام فهو موجود فيه.

و يدلّ علي ذلك خبر أيّوب بن الحرّ،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:كلّ

ص: 347

حديث مردود إلي الكتاب و السنّة،و كلّ شيء لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف (1).

و رواته موثّقون،إلاّ محمّد بن خالد،فقال النجاشي:ضعيف في الحديث (2).

و لا بأس بسنده في المحاسن.

و خبر أيّوب بن راشد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (3).

و هذا القسم من الأخبار لعلّه وارد في مقام الردّ علي العامّة القائلين بأنّ الكتاب و سنّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله لا يكفيان لجميع الأحكام،و يحتاج إلي القياس و الرأي،و ليست في مقام بيان أنّ الناس يفهموم الكتاب،فمضمون هذه الأخبار موافق للأخبار المستفيضة الدالّة علي أنّ كلّ شيء في الكتاب و السنّة.

كخبر حمّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته بقول:ما من شيء إلاّ و فيه كتاب و سنّة.

و خبر سماعة،عن أبي الحسن موسي عليه السّلام،قال:قلت له:أكلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه أو تقولون فيه؟قال:بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه (4).

و لعلّ معني كونه في الكتاب أنّه يستفيد الأئمّة المعصومون عليهم السّلام منه ذلك،لا أنّه مذكور فيه.و يحتمل أن يكون معني تفويض الحكم إليهم أنّهم يفهمون ذلك من الكتاب،كما ورد أنّ جبرئيل أشار إلي الأوقات و النبي صلّي اللّه عليه و آله وضعها.

ثمّ إنّ معني موافقة الكتاب وجود مضمونه في الكتاب،فمعني عدم الموافقة عدم وجود مضمونه في الكتاب،فحمله علي عدم مخالفة الكتاب خلاف الظاهر.2.

ص: 348


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 9.
2- رجال النجاشي ص 335.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 10.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:113 ب 2 ح 18-ح 22.
القسم الثاني:ما يدلّ علي أنّ الخبر المروي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا لم يعلم صدوره

عنه صلّي اللّه عليه و آله و كان مخالفا لعموم الكتاب أو إطلاقه،فهو غير صادر عنه.

و هو خبر هشام بن الحكم و غيره،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:خطب النبي صلّي اللّه عليه و آله بمني،فقال:أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته،و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (1).

أقول:إنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله مدّة حياته بيّن أحكاما لا يفهمها الناس من الكتاب،و هي من سنّته الواجبة الاتّباع،و ليس الغرض من هذا الخبر تخطئة تلك الأحكام،بل المراد أنّ ما لم تسمعوه منّي و لم تعلموا صدوره عنّي،فلا تقبلوه إلاّ إذا كان موافقا للكتاب،و أمّا المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم و الخصوص المطلق فلم أقله، و ظاهر أنّ المبائن للقرآن لا يصدّق علي النبي صلّي اللّه عليه و آله،فالمنع عن قبول الخبر راجع إلي الخبر المخالف لعموم الكتاب أو إطلاقه،فلا يقبل ما رواه أبو بكر أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله،قال:ما تركناه صدقة؛لأنّه ليس موافقا للكتاب و مخالف له.

و ينبغي مراجعة كتاب الاحتجاج (2)،فقد ذكر فيه أسئلة يحيي بن أكثم و جواب أبي جعفر عليه السّلام في بيان مخالفة الأخبار للقرآن.

و لا يخفي أنّ ما قاله الأئمّة المعصومون عليهم السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله موافق للكتاب؛ لأنّ الكتاب أمر باتّباع اولي الأمر،و المراد بهم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام،فإذا قال الصادق عليه السّلام:خذ بقول زرارة،يكون الأخذ بقول زرارة موافقا للكتاب،و بهذا البيان يظهر أنّ أخبار الثقات يجب العمل بها؛لأنّه قد تواترت الأخبار عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بحجّيتها.

القسم الثالث:ما يدلّ علي حجّية خبر له شاهد أو شاهدان من القرآن

و ردّ

ص: 349


1- جامع أحاديث الشيعة 1:259.
2- الاحتجاج 2:246.

ما عداه،أو التوقّف فيه،و هو مرسل ابن بكير،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:دخلنا عليه جماعة،فقلنا:يابن رسول اللّه انّا نريد العراق فأوصنا،فقال أبو جعفر عليه السّلام:ليقوّ شديدكم ضعيفكم،و ليعد غنيّكم علي فقيركم،و لا تبثّوا سرّنا،و لا تذيعوا أمرنا، و إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده،ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم الحديث (1).

و خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام (2).و خبر عبد اللّه بن أبي يعفور (3)،و لا بأس بسنده في المحاسن.قوله في هذا الخبر،أي:خبر ابن أبي يعفور«اختلاف الحديث»يحتمل إرادة الأنواع من الحديث،أو تعارض الحديثين،أو تعارض الحديث مع المسلّمات من الكتاب و السنّة.

قيل في تفسير الشاهد و الشاهدين و جهان:

الأوّل:طرح ما يخالف الروح العامّة للقرآن،و ما لا يكون نظائره موجودة فيه.

و فيه أنّه لا يبعد أن يكون هذه الأخبار في مقام ردّ الأحاديث المدسوسة،و لا يمكن ذلك إلاّ بالعرض علي المحكم الذي لا اختلاف فيه،كما ورد في خبر المستدرك (4)،و تحف العقول (5).و أمّا روح القرآن،فلا يعرفه إلاّ أهله،و أمّا غيرهم فكلّ يدّعي موافقة روحه لمذاقه و مذهبه،و قد صرّح في خبر الميثمي بأنّ المراد من العرض علي الكتاب وجود مضمونه في الكتاب.

الثاني:أن يكون المراد مطابقة مضمون الخبر للكتاب،و يؤيّده مرسل5.

ص: 350


1- جامع أحاديث الشيعة 1:258 ح 14.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 19.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 16.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 24.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 25.

المفيد (1).

أقول:علي هذا المعني يحتمل أن يكون ذلك حكما في مقطع خاصّ من الزمان؛لأنّ معني الخبر أنّه إذا أتاكم بعد ذلك خبر و لم يكن له شاهد فقفوا عنده، و لا ينفي الأخبار التي قد جاءتهم قبل ذلك،و كذا لا ينفي ما علم صدوره عنهم.

و يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الحكم لمقطع من الزمان خبر يونس بن عبد الرحمن، و فيه حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن و السنّة،أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة،فإنّ المغيرة بن سعيد الحديث (2).

فإنّ ما علم صدوره عنهم أو أمروا بأخذه ليس ممّا دسّه المغيرة بن سعيد.

ثمّ لا يبعد أن يكون المراد من الشاهد أعمّ ممّا يكون مضمونه موجودا،أو يكون مناسبا لمضمونه،و قد استشهد أبو جعفر الجواد عليه السّلام لصحّة حديث«إنّي تارك فيكم الثقلين»بقوله تعالي إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ و أيضا لا يبعد حجّية أخبار العدول و الثقات؛لأنّها تناسب مفهوم قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية.

و اورد علي التفسير الثاني أوّلا:بأنّ مفادها عرفا إلغاء حجّية خبر الواحد؛لأنّ جعل الحجّية للخبر الموجود مضمونه في الكتاب أو السنّة القطعيّة غير محتاج إليه.

و فيه أنّه إن كان المراد من وجود مضمونه ما يشمل مثل حجّية خبر العدل التي هي مشمولة لآية النبأ،فلا يوجب إلاّ إلغاء خبر غير الثقات.

و ثانيا:أنّ هذا خبر واحد لا يمكن أن يمنع حجّية خبر الواحد؛لأنّه يلزم من وجوده عدمه.و فيه أنّه يكون مخصّصا لدليل الحجّية ببعض الأفراد.3.

ص: 351


1- جامع أحاديث الشيعة 1:255 ب 6 ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 23.

و ثالثا:أنّ هذا الخبر أيضا ليس له شاهد من القرآن،إلاّ أن يقال:إنّ شاهد صدقه الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،لكن نفس هذا الخبر أيضا لا يفيد العلم، فقبول هذا الخبر أيضا مناف للآيات الناهية عن قبول غير العلم.

القسم الرابع:ما يدلّ علي أنّ الخبر الموافق للكتاب يؤخذ به،و الخبر المخالف

يطرح

،و يتوقّف في الخبر الذي لا يعلم أنّه موافق أو مخالف،و هو خبر السكوني (1)،و محمّد بن مسلم (2)و لا سند له،و المرسل (3)،و مرسل الاحتجاج (4)،و خبر كليب الأسدي (5)،و خبر سدير (6)،و إطلاق الجواب في خبر الحسن بن الجهم (7).

و قيل في توجيهها وجوه:

أحدها:أنّ المراد بالمخالفة للكتاب هي المخالفة علي نحو التباين أو العموم من وجه في مادّة الاجتماع،و لا تشمل المخالفة علي نحو العموم و الخصوص للعلم بصدور المقيّدات و المخصّصات منهم عليهم السّلام،فتكون قرينة علي إرادة المخالفة بالتباين أو العموم من وجه،و اختاره في الكفاية (8)،و قال:إنّ هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن غيرها،لا ترجيح الحجّة علي الحجّة،فافهم.

أقول:الظاهر صدق المخالفة علي المخالفة بالعموم و الخصوص و الاطلاق

ص: 352


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 8.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 12.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 13.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 20.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 11.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 17.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 18.
8- كفاية الاصول ص 506.

و التقييد.

ثانيها:حملها علي الخبر المخالف بالتباين أو العموم من وجه في مادّة الاجتماع،و كذا إن كان بالعموم و الخصوص المطلق إذا احرز أنّ العامّ في مقام البيان،أو علم إرادة العموم منه،و يشهد له خبر الميثمي قوله فيه:فما جاء في تحليل ما حرّم اللّه أو تحريم ما أحلّ اللّه،أو رفع فريضة في كتاب اللّه رسمها بيّن قائم بلا ناسخ نسخ ذلك،فذلك ممّا لا يسع الأخذ به الحديث (1).

أقول:الظاهر صدق المخالفة علي المخالفة بالعموم و الخصوص،كما تقدّم.

و ذلك لصدق المخالفة بين العامّ و الخاصّ إذا كانا في كلامين،فالكتاب كلام اللّه،و الخبر كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله،فإذا قيل إنّ كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يخالف القرآن،فمعناه أنّه لا يخالفه حتّي في العموم و الخصوص.نعم لو كانا في كلام متكلّم واحد،كان الأظهر منهما قرينة للتصرّف في الظاهر.

ثمّ إنّ المراد من هذه الأخبار ما إذا لم يعلم صدور الخبر عنهم عليهم السّلام.و أمّا إذا علم ذلك،فإنّهم الكتاب الناطق،يعرفون العامّ و الخاصّ منه،فيخصّص كلامهم عامّ الكتاب.

و اختار الشيخ الطوسي رحمه اللّه في بحث العامّ و الخاصّ عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد،مستدلاّ بما أرسله من سنخ هذه الأخبار.و تقدّم كلامه في بحث العامّ و الخاصّ.

و اورد علي هذا الوجه بأنّ هذه الأخبار مضافا إلي أنّها لا تخلو من ضعف السند،ظاهرة في الأخبار عن عدم صدور الخبر الذي لا يوافق القرآن،فيعارضها الأخبار المستفيضة التي هي أخصّ من عمومات الكتاب و مطلقاته،فإنّها لمّا3.

ص: 353


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 23.

كانت مستفيضة فهي صادرة عنهم عليهم السّلام.و كذا الأخبار التي لا تخالف الكتاب و لا توافقه،فإنّها أخبار تحكي عن المعصومين عليهم السّلام صدور الأخبار المخالفة بالعموم و الخصوص،و الأخبار التي لا تخالف الكتاب و لا توافقه،و الترجيح لهذه الأخبار لأنّها مستفيضة.

و بعبارة اخري:هذه الأخبار إن كانت في مقام بيان عدم حجّية الأخبار غير الموافقة للكتاب و تقييد إطلاق دليل حجّية الخبر الواحد بالخبر الموافق للكتاب، فيرد عليها أنّ دليل حجّية الخبر الواحد يتكفّل لحجّية ما لا يكون في الكتاب،و أمّا ما كان فيه فلا يحتاج إلي دليل الحجّية،و إن كانت في مقام الإخبار عن عدم صدور الأخبار غير الموافقة،فهي معارضة بتلك الأخبار غير الموافقة؛لأنّ رواتها يشهدون بصدورها،فلا بدّ من العلاج بالتخيير أو الترجيح.

أقول:لعلّ المستفاد من مجموع الأخبار أنّه لا يخصّص و لا يقيّد العموم و المطلق اللذين هما في مقام البيان بخبر الواحد الذي لم يعلم صدوره عنهم عليهم السّلام.

و أمّا ما ليس في الكتاب،أو كان فيه علي نحو الاطلاق الذي لم يكن في مقام البيان،مثل ما دلّ علي وجوب أصل الصلاة مثلا،فهذه الأخبار لا تدلّ علي عدم حجّيته.

ثالثها:حملها علي المخالفة لروح القرآن.

و فيه أنّه إن كان القرآن يدلّ عليه باحدي الدلالات،فهو موجود فيه.و إن لم يدلّ عليه إلاّ باستحسان من ينظر في القرآن بذوقه،فليس بحجّة،و لا سيّما بعد ما ورد من المنع عن التفسير بالرأي.

القسم الخامس:ما يدلّ علي أنّ الخبرين المتعارضين يعرضان علي الكتاب،

فيطرح المخالف له

،نذكر منه خبرين:

الأوّل:خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه،قال:قال الصادق عليه السّلام:إذا ورد عليكم

ص: 354

حديثان مختلفان،فأعرضوهما علي كتاب اللّه،فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فردّوه،فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما علي أخبار العامّة،فما وافق أخبارهم فذروه،و ما خالف أخبارهم فخذوه (1).

فإذا كان مضمون الخبر موجودا في الكتاب،كان أحد الخبرين موافقا له و الخبر الآخر مخالفا،فهما متلازمان.و إن لم يكن موجودا،فيؤخذ بما خالف العامّة.

و هذا الخبر لا يخلو عن مناقشة في السند؛لعدم ثبوت رسالة الراوندي، و سيأتي الكلام فيه.

و يمكن المناقشة في دلالته أوّلا:بأنّه شامل لخبر الثقة و غيره،فيمكن تقييده بما إذا لم يكونا ثقتين.

و ثانيا:أنّه يحتمل في المراد من عرض الخبر علي الكتاب أن يكون ذلك لتمييز الحجّة عن غيرها،بأن يكون الخبر مباينا للكتاب،لا لترجيح أحد الخبرين علي الآخر،إلاّ أن يقال بأنّ إطلاقه شامل لغير صورة مباينة الخبر للكتاب.

الثاني:قوله في خبر عمر بن حنظلة:ما وافق حكمه الكتاب و السنّة الحديث.

و الظاهر أنّ المراد من الموافقة و عدمها وجود مضمون الخبر في الكتاب و مخالفته له.

و للشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)تحقيق في بيان المراد من المخالفة المذكورة في هذه الأخبار،هل المراد بها المخالفة بالتباين،أو الأعمّ منه و من المخالفة بالعموم و الخصوص،أو الأعمّ منهما و من مخالفة الظهور؟ثمّ رجّح أن تكون المراد بالمخالفة الأعمّ من المخالفة للظهور علي غير وجه التباين و المخالفة بالعموم9.

ص: 355


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 26.
2- فرائد الاصول ص 819.

و الخصوص،و أمّا المخالفة بالتباين فالخبر ساقط من الأوّل.

أقول:ما أفاده جيّد.

ثمّ إنّ موافقة الكتاب أو مخالفته إن كانتا معلومتين فبها،و لكن ربما يخفي ذلك، مثلا بعض الأخبار موافق لعموم نفي الحرج و إرادة اليسر بالعباد،و بعضها يكون موافقا لبعض الآيات و مخالفا لبعضها الآخر،فينبغي الاقتصار علي المتيقّن و الاحتياط في غيره.

النوع الثالث و الرابع:موافقة سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله

،و موافقة الأخبار المقطوعة الصدور عن الأئمّة عليهم السّلام أو المعتبرة،و يدلّ عليه رواية الميثمي،و فيها:فما جاء في النهي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي حرام،ثمّ جاء خلافه،لم يسع استعمال ذلك الحديث (1).

و ما رواه هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن و السنّة،أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة (2).

و خبر سدير:لا تصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه أو سنّة نبيّه (3).

و خبر الحسن بن الجهم (4).

النوع الخامس: موافقة الشهرة

،فإنّها مرجّحة للخبر المشهور علي غيره.

أقول:الشهرة إمّا عمليّة أو روائيّة،و المراد بها الشهرة عند أصحاب الأئمّة.

فالشهرة التي تكون مرجّحة هي:إمّا شهرة صدور مضمون الخبر عن المعصوم،بأن رواه عن المعصوم رواة كثيرون.و إمّا شهرة عمل أصحاب الأئمّة بخبر و إن كان

ص: 356


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 22.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 27.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 17.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 18 و 20.

راويه واحدا.

و لا ريب في أنّه إذا دار الأمر بين الأخذ بالخبر الموافق للشهرة و بين مقابله، كان الأوّل أقرب إلي الواقع،إلاّ إذا كان راوي مقابله أفقه و رواه للعمل،فإنّه يكون أقرب إلي الواقع،و يدلّ عليه المقبولة أيضا.

و اورد عليها أوّلا:أنّ المقبولة قدّمت الترجيح بالصفات علي الشهرة، و الأصحاب قد أعرضوا عنه؛لأنّهم يقدّمون الشهرة علي الصفات علي وفق المرفوعة،و هي ضعيفة مجبورة بالعمل.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إلاّ أن يقال:إنّ المرفوعة تدلّ علي تقديم المشهور رواية،و هي هنا المقبولة،و لا دليل علي ترجيح المشهور عملا و هو المرفوعة،مع أنّه لم يثبت تقديم المشهور رواية علي المشتمل علي وصف الأفقهيّة (1)انتهي.

و فيه أنّ المقبولة رواها واحد،و هو عمر بن حنظلة،و لم يظهر كونها مقبولة عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و مشهورة بينهم.

ثمّ إنّه ذكر في بحث الشهرة أنّ المجمع عليه هو الخبر الذي رواه راوي الشاذ أيضا.و أمّا الخبر الشاذّ فهو الذي انفرد به.و فيه أنّ هذا خلاف الاطلاق،بل يصحّ إطلاق المشهور علي رواية رواها أصحاب عمر بن حنظلة،و إن لم يروها من روي الخبر المقابل للمشهور.

و ناقش في المصباح في كون الشهرة المذكورة من المرجّحات،بأنّ الشهرة بمعني الواضح المعلوم صدوره عن المعصوم،و حينئذ يكون الخبر المعارض له ساقطا عن الحجّية؛لأنّه مخالف للسنّة القطعيّة،و لا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي6.

ص: 357


1- فرائد الاصول ص 776.

الشهرة في كلتا الروايتين،فإنّ الشهرة بمعني الوضوح،فمعني كون الروايتين مشهورتين أنّهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب و علم صدورهما عن المعصوم،و كذا الكلام في المرفوعة،فلم يثبت كون الشهرة الاصطلاحيّة من المرجّحات.

و ظهر بما ذكرناه أنّه لا يمكن الاستدلال بالمقبولة و لا بالمرفوعة علي الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامّة،لكون موردهما الخبرين المشهورين،أي المقطوع صدورهما،فلا تدلاّن علي الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامّة فيما إذا كان الخبران مظنوني الصدور (1)انتهي.

أقول:يرد علي ما ذكر أوّلا:أنّ الشهرة بمعني الظهور و المعروفية عند أصحاب عمر بن حنظلة،لا المعلوم الصدور،فلو أخبر زرارة و حصل من قوله العلم كان الخبر مقطوع الصدور،لكن لا يسمّي مشهورا؛لأنّه ليس ظاهرا عند الأصحاب.

و ثانيا:أنّ المراد من قوله«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»إمّا إجماع جميع الأصحاب،و إمّا المشهور بينهم.و علي التقديرين:إمّا يراد الاجماع في الرواية،أو في الفتوي.أمّا إرادة الاجماع في الرواية،فهو غير واقع قطعا؛إذ لا يوجد رواية رواها جميع أرباب الاصول و المجاميع،و كذا الاجماع في الفتوي،فتعيّن الشهرة في الرواية أو الشهرة عملا.

و تقدّم الكلام في الشهرة في بحث الأمارات،و نزيده بيانا،فنقول:إنّ الشيخ الطوسي رحمه اللّه جعل الاجماع قرينة صدق الخبر الموافق له،و قرينة عدم صحّة مضمون الخبر المخالف له،و في موضع آخر جعل الأكثر عددا من المرجّحات.

حيث قال في العدّة:فإن كان رواتهما جميعا عدلين،نظر في أكثرهما رواة2.

ص: 358


1- مصباح الاصول 3:412.

و عمل به،و ترك العمل بقليل الرواة،فإن كان رواتهما متساويين في العدد و العدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة،و يترك العمل بما يوافقهم انتهي (1).

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الشهرة غير معتبرة في نفسها؛لعدم الدليل عليها.

و مثلها كلّ أمارة مستقلّة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل لا لوجود الدليل علي العدم (2).و يمكن جعلها مرجّحة للخبر الموافق لها.

ثمّ استدلّ علي الترجيح بامور:

الأوّل:ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع،كعموم التعليل في قوله«لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه»و قوله«دع ما يريبك إلي ما لا يريبك»و قوله«فإنّ الرشد في خلافهم»و كذا التعليل في رواية الأرجاني«لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة؟».

الثاني:دخولها في الأوثقيّة المنصوص عليها في الأخبار.

الثالث:الاجماع المدّعي في كلام جماعة،فإنّ الظاهر أنّ المراد من معقد الاجماعات هو الأقرب إلي الواقع و الأرجح مدلولا و لو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما و حديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلي الواقع (3)انتهي ملخّصا.

و قيل:إنّ المراد بالشهرة في الرواية أن ينقل مضمون الخبر جماعة عن المعصوم،و مقابلها أن ينقله واحد عنه،و هي أدلّة علي مضمون الخبر،و هي أرجح من دليل واحد علي مضمون الخبر المخالف للشهرة.

أقول:قد اورد علي الأدلّة المذكورة للترجيح بالشهرة بضعف سند الأخبار،5.

ص: 359


1- عدّة الاصول 1:376.
2- فرائد الاصول ص 814.
3- فرائد الاصول ص 815.

و بأنّ المراد من المشهور في خبري عمر بن حنظلة و مرفوعة زرارة،الواضح الذي لا شكّ فيه لا الشهرة المصطلحة،و بعدم ثبوت إجماع كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

و هذه المناقشات و إن كان بعضها ضعيفا،لكن الأولي أن يستدلّ علي الترجيح بالشهرة و نحوها ممّا يوجب أقوائيّة في الطريق،بأنّ الاختلاف في الأخبار لا ينحصر في الأخبار الصادرة عن المعصومين،بل تكون لامور اخر من سوء فهم الراوي و حذفه بعض القرائن،و عدم ذكره بعضها لحسبانه عدم الحاجة إليه، و تقطيع الأخبار و غير ذلك،و المشهور أرجح من النادر من حيث تقليل هذه الاحتمالات،و لاحظ ما تقدّم في الشهرة،فإنّها قد تكون مرجّحة للخبر من حيث الصدور و من حيث كونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة،كما إذا كان مشهورا بين أصحاب الأئمّة شهرة عمليّة.

النوع السادس و السابع و الثامن و التاسع:مخالفة العامّة،و مخالفة أخبارهم
اشارة

، و مخالفة ميل حكّامهم،و عدم مشابهة الخبر لأخبارهم و أقوالهم في طرز البيان.

يدلّ علي الأوّل من خبر عمر بن حنظلة قوله عليه السّلام:ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامّة اخذ به (1).و مرفوعة زرارة (2).

و يدلّ علي الثاني خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه،و فيه:و ما خالف أخبارهم فخذوه.

و يدلّ علي الثالث قوله في خبر عمر بن حنظلة:ينظر إلي ما كان حكّامهم إليه أميل.

و يدلّ علي الرابع خبر عبيد بن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما سمعت منّي

ص: 360


1- جامع أحاديث الشيعة 1:254 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:254 ح 2 و ح 3.

يشبه قول الناس فيه التقيّة و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1).

و لنذكر الأخبار الواردة في حمل الأخبار علي التقيّة:

الأوّل:خبر عبد الرحمن المتقدّم قوله عليه السّلام:فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما علي أخبار العامّة،فما وافق أخبارهم فذروه،و ما خالف أخبارهم فخذوه (2).

الثاني:خبر الحسين بن السري،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم (3).

الثالث:خبر محمّد بن عبد اللّه،قال:قلت للرضا عليه السّلام:كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟فقال:إذا ورد عليكم خبران مختلفان،فانظروا إلي ما يخالف منهما العامّة فخذوه،و انظروا إلي ما يوافق أخبارهم فدعوه (4).

و هذه الروايات الثلاث مرويّة في رسالة سعيد بن هبة اللّه الراوندي،و ناقش النراقي رحمه اللّه في كتاب المناهج في رسالة القطب بأنّها غير ثابتة منه ثبوتا شائعا،فلا حجّية فيما نقل عنها.

و اجيب بأنّ صاحب الوسائل أسند الكتاب إلي سعيد بن هبة اللّه الراوندي، و ذكر طريقه إليه في خاتمة الوسائل.

و يمكن إثبات طريق لصاحب الوسائل إلي هذا الكتاب بضمّ كلامين له أحدهما إلي الآخر،فقد ذكر:نروي كتاب الخرائج و الجرائح و كتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة اللّه الراوندي بالاسناد السابق عن العلاّمة عن والده،عن8.

ص: 361


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 31.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 26.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 27.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 28.

الشيخ مهذّب الدين الحسين بن ردة،عن القاضي أحمد بن علي بن عبد الجبّار الطوسي،عن سعيد بن هبة اللّه الراوندي.ثمّ يقول:و نروي باقي الكتب بالطرق السابقة.

فإنّا نستظهر من مجموع هذين الكلامين أنّه ينقل سائر الكتب التي ذكرها في متن الوسائل و التي لم يصرّح بها في المشيخة عن مؤلّفها بالاسناد المذكور أيضا.

أقول:لا تصريح بل و لا ظهور في كلامه في أنّه وصلت إليه الكتب المذكورة بالطرق المذكورة؛لأنّه قال في الفائدة الخامسة في بيان بعض الطرق التي يروي بها الكتب المذكورة عن مؤلّفيها:و إنّما ذكرنا ذلك تيمّنا و تبرّكا باتّصال السلسلة بأصحاب العصمة عليهم السّلام،لا لتوقّف العمل عليه؛لتواتر تلك الكتب و قيام القرائن علي صحّتها و ثبوتها،كما يأتي إن شاء اللّه.

فإنّه يظهر منه أنّه قد قطع بكون الكتب المذكورة لمؤلّفيها من القرائن،لا أنّها وصلت إليه بهذه الطرق،و ذكرنا في محلّه شواهد علي ذلك،لا أقلّ من احتمال ذلك.و قد أتعب بعضهم نفسه في تصحيح السند بما هو محلّ تأمّل.

الرابع:خبر أبي إسحاق الأرجاني رفعه،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟فقلت:لا ندري،فقال:إنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالف عليه الأمّة إلي غيره إرادة لإبطال أمره،و كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشيء الذي لا يعلمونه،فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا علي الناس (1).

الخامس:خبر علي بن أسباط،قال:قلت له:يحدث الأمر من أمري لا أجد بدّا من معرفته،و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه،قال:فقال:ائت فقيه البلد إذا9.

ص: 362


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 29.

كان ذلك فاستفته في أمرك،فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه،فإنّ الحقّ فيه (1).

السادس:خبر عبيد بن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما سمعت منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة،و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس،فلا تقيّة فيه (2).

و في السند حسن بن أيّوب،و هو مهمل.

السابع:خبر سماعة قوله عليه السّلام:خذ بما فيه خلاف العامّة (3).

الثامن:خبر الحسن بن الجهم،قال عليه السّلام:خذ بما خالف القوم،و ما وافق القوم فاجتنبه (4).

التاسع:ما أرسله المفيد في الرسالة العدديّة (5).

العاشر:خبر عمر بن حنظلة (6).

الحادي عشر:مرفوعة زرارة (7).

الثاني عشر:ما أرسله في أوّل الكافي (8).

الثالث عشر:خبر أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما أنتم و اللّه علي شيء ممّا هم فيه،و لا هم علي شيء ممّا أنتم فيه،فخالفوهم فما هم من الحنيفية علي شيء.

الرابع عشر:مرسل داود بن الحصين،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:و اللّه ما جعل3.

ص: 363


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 30.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 31.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 32.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 5 ح 6.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 4.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 1.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 2.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 3.

اللّه لأحد خيرة في أتباع غيرنا،و إنّ من وافقنا خالف عدوّنا،و من وافق عدوّنا في قول أو عمل فليس منّا و لا نحن منهم (1).

ثمّ إنّ المرجّحات المذكورة بعضها للصدور،و بعضها لجهة الصدور،و بعضها للمضمون.

و في كون الترجيح بمخالفة العامّة من أيّ أقسام الترجيح وجوه:

الأوّل:أنّه مرجّح تعبّدي،فيكون من المرجّحات الخارجية،و لكن لا يلائمه التعليل في بعض الأخبار.

الثاني:أنّ نفس مخالفتهم محبوبة،نظير مخالفة الكفّار و عدم التشبّه بهم،فيكون أيضا مرجّحا تعبّديّا،و لكن لا يلائمه التعليل في بعض الأخبار.

الثالث:أن يكون الخبر المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فيكون مرجّحا مضمونيّا نظير الشهرة الفتوائيّة.

و الوجه فيه أنّ أساس فتاوي المخالفين علي القياس و الاستحسان،و الأخبار النبويّة المروية عن أبي هريرة و أضرابه من الوضّاعين،فيكون المخالف لهم إذا كان مستندا إلي خبر معتبر هو الصحيح المطابق للواقع.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في أواخر بحث الانسداد ما معناه:أنّه يدلّ علي أنّ المدار علي أقربية الخبر المخالف لهم للواقع قوله عليهم السّلام«فإنّ الرشد في خلافهم، و ما خالف العامّة ففيه الرشاد»فإنّ هذه القضيّة قضيّة غالبة (2).

بل لو لم يكن خبر كانت مخالفتهم أيضا أقرب إلي الواقع،خصوصا بناء علي ما يستفاد من بعض الأخبار من أنّهم كانوا يصنعون خلاف ما يقوله أمير المؤمنين عليه السّلام.

الرابع:أن يكون الموافق للعامّة صادرا للتقيّة،و الآخر المخالف صادرا لغير4.

ص: 364


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 7 ح 109.
2- فرائد الاصول ص 304.

تقيّة،فتكون المخالفة للعامّة من المرجّحات الجهتيّة،و لا يتعدّي إلي غيره،فإنّ الخبر الصادر لغير تقيّة و إن كان أقرب مضمونا إلي الواقع من الصادر تقيّة،لكن الترجيح بمجرّد الصدور بغير تقيّة لا يدلّ علي الترجيح بكلّ ما يكون أقرب.

ثمّ إنّ ظاهر أخبار الترجيح بمخالفة العامّة لعلّه الوجه الثالث،و لا دليل علي الوجه الرابع،إلاّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من رواية عبيد بن زرارة:ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة،و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1).

أسباب التقية

و لا بأس لتتميم الفائدة أن نذكر بعض ما قيل من أسباب التقية:

السبب الأوّل:التقية من الشيعة،ففي خبر أبي بصير قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام متي أصلّي ركعتي الفجر؟قال:فقال لي:بعد طلوع الفجر.قلت له:إنّ أبا جعفر عليه السّلام أمرني أن اصلّيهما قبل طلوع الفجر،فقال:يا أبا محمّد إنّ الشيعة أتوا أبي مسترشدين فأفتاهم بمرّ الحقّ،و أتوني شكّاكا فأفتيتهم بالتقية (2).و مثله خبره الآخر الوارد في القنوت (3).دلاّ علي أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام أفتي أصحابه بما يوافق العامّة اتّقاء من أصحابه؛لأنّهم كانوا شكّاكا ضعيفي الاعتقاد،لا يؤمن عليهم أن يفتوا بمرّ الحقّ،خلافا لما فعله أبوه عليه السّلام معهم.

السبب الثاني:إلقاء الخلاف بين الشيعة،قد ذكر ذلك في بعض الأخبار، و اختاره في مقدّمات الحدائق و في الدرر النجفيّة،قال فيما حكي عنه:و لعلّ السرّ في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كلّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله

ص: 365


1- فرائد الاصول ص 304.
2- التهذيب 2:135،و الاستبصار 1:285.
3- الكافي 3:339،التهذيب 2:91،و الاستبصار 1:340.

الآخر سخف مذهبهم في نظر العامّة،و كذّبوهم في نقلهم و نسبوهم إلي الجهل و عدم الدين،و هانوا في نظرهم بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم و تعاضدت مقالتهم، فإنّهم يصدّقونهم و يشتدّ بغضهم لهم و لا مامهم و مذهبهم،فيصير ذلك سببا لثوران العدواة (1)انتهي.

أقول:إنّ الظالمين المتقمّصين منصب الخلافة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في طول الزمان كانوا يريدون حفظ مقامهم و بقاء رئاستهم،و أن لا يزاحمهم أحد في سلطانهم.

و أيضا كانوا يريدون مع كونهم عند الناس مسلمين بل أميرهم أن ينسبوا بعض ما يرتكبونه من الفواحش إلي الاسلام حتّي تحفظ عند الناس و جاهتهم،فكانوا بحاجة إلي علماء لا يخرجون عليهم و لا يأمرون الناس بالخروج عليهم،بل يأمرونهم بعدم الخروج علي سلطان الوقت،و يفتون بعض الفتاوي المناسبة لشهوات هؤلاء الامراء و الحكّام،و علماء العامّة كأبي حنيفة و أضرابه كانوا كما يريدهم الحكّام.

و أمّا أئمّة أهل البيت المعصومون عليهم السّلام،فإنّهم العالمون بحدود اللّه تعالي لا يتعدّون عمّا أمر اللّه به أو نهي عنه،و الخلفاء المتصدّون للامور كانوا علي خوف من أن يعارضوهم علي خلاف ميولهم،فلذا كانوا يخافون من اجتماع الناس حولهم و من رواج مذهبهم،فإذا رأوهم مجتمعين شدّدوا عليهم و علي إمامهم،فلذا أوقع الامام عليه السّلام الخلاف بينهم.

ثم لا يخفي أنّ إلقاء الخلاف يكون وظيفة واقعيّة لهم لا بدّ لهم من العمل بها في مقطع من الزمان،و ليس ذلك من مرجّحات حمل أحد الخبرين علي التقيّة،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)أنّ ذلك نادر.7.

ص: 366


1- رسالة التعادل و التراجيح للسيّد الطباطبائي اليزدي ص 247،الحدائق 1:6.
2- فرائد الاصول ص 807.

السبب الثالث:التقية من غير الشيعة،و لها أسباب:

أحدها:المحافظة علي السائل،فيكون اتّقاء عليه؛لأنّه كان مبتلي بالعامّة.

و قال المجلسي الأوّل رحمه اللّه:إنّ الأغلب فيما يصدر عنهم علي وفق فتوي العامّة هو الاتّقاء علي السائل لا تقيّة لأنفسهم.

ثانيها:كون السائل من العامّة،و حينئذ ربّما يفتي الامام علي وفق مذهبه،كما ورد في خبر معاذ بن مسلم (1).

ثالثها:خوف الأئمّة علي أنفسهم،فيفتون بالتقية،كما ربّما يتّقون بالعمل الموافق لهم،و قد ورد ذلك في صيد البزاة (2).

رابعها:نقلهم الروايات المسلّمة عند العامّة تقيّة ليوهم أنّهم موافقون،و قد احتمل المجلسي الأوّل رحمه اللّه في شرحه الفارسي أن يكون نقل الأئمّة لروايات سهو النبي صلّي اللّه عليه و آله في الصلاة،أن يكون تقية كذلك.

ثم إنّه لا ريب في أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام ربّما كانوا يظهرون فتوي علي خلاف الواقع تقيّة من الأعداء،لكن هل هو كثير شايع بحيث يكون منشأ اختلاف الأخبار كثرة التقيّة منهم،و علي فرض التسليم فهل نقل ذلك منهم نقلا شايعا؟ و علي تقديره فهل هو موجود في أخبارنا أو أنّها قد هذّبت عن ذلك؟نذكر هنا قولين:

أحدهما:أنّه من المرجّحات،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في عدّته،و تقدّم نقل عبارته في الترجيح بالشهرة،و يظهر منه ذلك في كتابي الأخبار،فإنّه حمل أخبارا كثيرة علي التقيّة.

ثانيهما:أنّه ليس من المرجّحات،اختاره المحقّق رحمه اللّه في المعارج،قال:المسألة7.

ص: 367


1- وسائل الشيعة 11:482.
2- فروع الكافي 6:207.

التاسعة،قال الشيخ رحمه اللّه:إذا تساوت الروايتان في العدالة و العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة،و الظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السّلام و هو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد،و لا يخفي عليك ما فيه،مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد و غيره الخ (1).

و مراده من طعن المفيد رحمه اللّه قوله في رسالة الردّ علي أهل العدد و الرؤية:و إنّما المعني من قولهم«خذوا بأبعدهما من قول العامّة»يختصّ بما روي عنهم في مدائح أعداء اللّه و الترحّم علي خصماء الدين،إلي أن قال:و بعد فإنّ الذي يرد عنهم علي سبيل التقيّة لا ينقله جمهور فقهائهم،و يعمل به أكثر علمائهم،و إنّما ينقله الشكّاك من الطوائف و يرويه خصماؤهم في المذهب و يرد علي الشذوذ دون التواتر (2)انتهي.

و ممّن أنكر أن يكون عمدة تنافي الأخبار لأجل التقيّة الشيخ الأنصاري رحمه اللّه، قال:إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار:إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار،أو نقلها بالمعني،أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين،أو مقالية اختفت بالانظماس، و إمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الامام عليه السّلام من تقية،علي ما اخترناه من أنّ التقية علي وجه التورية أو غير التقية من المصالح الاخر.

و إلي ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار،من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الأخبار،باخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلي معني بعيد،ربّما يظهر من الأخبار محامل و تأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ إلي7.

ص: 368


1- المعارج ص 156.
2- رسالة الردّ علي أهل العدد و الرؤية للشيخ المفيد ص 47.

آخر الأمر الثاني (1).

و يستدلّ للقول بعدم كونه مرجّحا بأمور:

أحدها:ما ذكره المحقّق رحمه اللّه في المعارج من أنّه يحتمل في الخبر المخالف التأويل.و فيه أنّ الحمل علي التقيّة أغلب،فاحتماله أقوي.

ثانيها:ما ذكره المفيد من أنّه لا تنقل أخبار التقيّة كنقل غيرها،و لو كان فقد هذّبها المحدّثون.و فيه أنّ الشيخ الطوسي قد أكثر من الحمل علي التقيّة.

ثالثها:أنّ الأئمّة عليهم السّلام إذا أفتوا بالتقيّة تداركوها بإصدار الحكم الواقعي بعد زوال سبب التقيّة،كما في رواية صيد البزاة،حيث كان الامام الباقر عليه السّلام يفتي بحلّية صيدها زمان بني اميّة تقيّة،و بعد زوال دولتهم صرّح الامام الصادق عليه السّلام بالخلاف.

و فيه أنّه ربّما كان كذلك لا دائما في التقيّة علي أنفسهم لا الاتّقاء.

رابعها:أنّهم لم يتّقوا في الاصول العقائديّة و الفروع الواقعة محلّ النزاع الشديد، كالمتعة و المسح علي الخفّين و العول و التعصيب،فكيف يتّقون في المسائل الفرعيّة الجانبيّة.

و فيه أوّلا:أنّها ليست محلّ الاتّقاء.و ثانيا:أنّ صريح صحيح زرارة أنّه كان يخلو بأبي جعفر عليه السّلام مخافة أن يفتي بالتقيّة لأجل من حضر مجلسه.

خامسها:أنّ الأخبار الواردة في الترجيح بمخالفة العامّة وردت عن الصادقين عليهما السّلام،بينما نري أنّ الأخبار المتعارضة عند ما عرضت علي الأئمّة المتأخّرين عليهم السّلام لم يعيّنوا حملها علي التقيّة،فيدلّ علي عدم رجحان هذا الاحتمال في عصورهم بعد تنقيحهم الأخبار.0.

ص: 369


1- فرائد الاصول ص 810.

و فيه أنّه لم تعرض جميع الأخبار المتعارضة علي الأئمّة المتأخّرين عليهم السّلام.

سادسها:أنّ علماء العامّة لم يكن لديهم الشخصيّة الاجتماعيّة بحيث كان الأئمّة يخافون من الافتاء بخلافهم،مع أنّ بعضهم كان بعيدا عن الأجواء المحيطة بالأئمّة عليهم السّلام.

و فيه أنّ المدينة محطّ رحال الناس من أقطار العالم قبل حجّهم أو بعده، و الاتّقاء علي أنفس شيعتهم للخوف عليهم و التقيّة لأنفسهم ربّما كان خوفا من الجمهور التابع لعلمائهم،أو السلطة الزمنية التابعة لهم.

سابعها:أنّ أخبار التقيّة تنصّ علي أنّ التقيّة في الضرورة،فكيف يقال بصدور مئات من الأخبار تقيّة؟

و فيه أنّ الضرورة تحقّقت للأسباب المتقدّمة.

أقول:يدلّ علي الحمل علي التقيّة الأخبار المتقدّمة،و في أخبار صحيحة أنّ الأئمّة عليهم السّلام كانوا يتّقون من حضر مجلسهم،فيفتون علي خلاف الواقع،ففي صحيح زرارة الوارد في إرث الجدّ،قال زرارة:فأتيته من الغد بعد الظهر و كانت ساعتي التي أخلو به فيما بين الظهر و العصر،و كنت أكره أن أسأله إلاّ خاليا خشية أن يفتيني بالتقيّة من أجل من يحضر الحديث (1).نقلنا مضمونه.

و في خبر حمران،قال:صلّوا معهم،فقال زرارة:هذا ما يكون إلاّ بتأويل (2).

و في خبر ابن محرز:اتّقاك (3).إلي غير ذلك.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأمر الأوّل:أنّ الخبر الصادر تقيّة من الكذب المجوّز للمصلحة،و يحتمل أن8.

ص: 370


1- الكافي 7:94.
2- الكافي 3:375.
3- الكافي 4:378.

يكون تورية.قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و هذا أليق بالامام (1).

أقول:قد أشار في بعض الأخبار إلي التورية،ففي خبر حمران قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:في كتاب علي عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت الصلاة فصلّوا معهم الحديث.و أراد الصلاة معهم لا مقتديا بهم؛لأنّه قال:فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين الحديث.و لكن لا يترتّب علي ذلك ثمرة عمليّة؛لأنّه لا قرينة عرفيّة و لا عقليّة تقتضي الأخذ بالمعني التأويلي.

قال السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه في رسالته:فما عن بعض الفقهاء من استحباب الوضوء عند خروج المذي و بعد الرعاف و القيء و نحوها،من جهة حمل الأخبار الواردة في ذلك علي الاستحباب بعد حملها علي التقيّة،بدعوي أنّ التقيّة في إظهار الوجوب؛لأنّه مذهب العامّة،فيكون المراد الاستحباب،لا وجه له إلاّ إذا احرز أنّ الامام لم يكن مضطرّا في أصل صدور الخبر الخ (2).

ثمّ لا يخفي أنّ ما قيل من أنّ التورية قصد خلاف ظاهر الكلام و ليست من الكذب،في غير محلّه،فإنّ من قال:ما أكلت مدّة عمري طعاما،مريدا به أنّه لم يأكله في السماء فهو كذب،و التورية التي ليست بكذب هو إلقاء كلام قابل للحمل علي معنيين،أراد القائل معني لا يفهمه السامع،و كان اللفظ قابلا للحمل عليه، كقول القائل:خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من بنته في بيته.

الأمر الثاني:في بعض الأخبار إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها،و لهم فيه تفسيران:

أحدهما:أنّ لهم أجوبة متعدّدة لمورد واحد علي اسلوب التورية.2.

ص: 371


1- فرائد الاصول ص 809.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 242.

ثانيهما:أنّ اللفظ الواحد الذي يستعملونه له معاني متعدّدة يفهم بعض السامعين بعضها،و اختار السيّد اليزدي رحمه اللّه التفسير الثاني بعد ذكر الأخبار.

قال:فانظر إلي صراحة هذه الأخبار في أنّ الكلام الواحد الصادر منهم له محامل تبلغ السبعين،لا أنّ لهم أن يعدلوا عن الجواب إلي مطلب آخر و انّ لهم أن يتكلّموا بسبعين كلاما (1).

أقول:لا يبعد وقوع كلا الأمرين.

الأمر الثالث:موافقة العامّة علي أنحاء:

الأوّل:الموافقة لهم في الفتوي.

الثاني:الموافقة لأخبارهم التي رووها،كما في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المروي في رسالة الراوندي.

الثالث:الموافقة لميل حكّامهم.

الرابع:أن يكون أشبه بقواعدهم و أصولهم في دينهم و فروعهم من التعليلات الموافقة لمسلكهم.

الأمر الرابع:أنّه لم يكن فتاوي العامّة و أقوالهم مضبوطة،و لا طريق لنا الآن إلي أنّ أيّا منها كان موجودا في زمانهم عليهم السّلام في جميع فتاويهم،فلا بدّ من مراجعة التاريخ الموثّق و النقل المعتبر،و لهذا الكلام تتّمة لعلّنا نتعرّض لها.

الأمر الخامس:لو دار الأمر بين الحمل علي التقيّة و بين الحمل علي المعني المجازي كالاستحباب و الكراهة فيما ظاهره الوجوب أو الحرمة بعد العلم بعدم إرادة الظاهر،فهل يحمل علي التقيّة أو المجاز؟و جهان.

قال السيّد الطباطبائي في رسالته:أقواهما الثاني؛لأنّه مقتضي كون الأصل في5.

ص: 372


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 245.

الدليل الاعمال،مع أنّ الأصل عدم وجود سبب التقيّة،و الأصل إرادة بيان الحكم الواقعي الخ (1).

أقول:إقامة الدليل علي هذه الاستظهارات و الاصول المذكورة مشكل جدّا، فينبغي مراعاة الاحتياط.

النوع العاشر:الأحدثيّة

،فلو علم بصدور خبرين عن معصوم أو معصومين،فإن علم صدور أحدهما المعيّن تقيّة لم يعمل به،سواء كان هو المتقدّم أو المتأخّر و عمل بالآخر.

و إن علم أنّ أحدهما المعيّن تكليف المتّقي،فإن علم أنّ الأوّل تكليف المتّقي أخذ بالمتأخّر،و إن علم أنّ المتأخّر تكليف المتّقي أخذ بالأوّل،كتكليف علي بن يقطين بالوضوء علي وفق مذهب العامّة،فإنّه لو علم ارتفاع التقيّة كان يتوضّأ مثل الشيعة،لكن لم يعلم حتّي أعلمه الامام عليه السّلام.

و إن علم أنّ أحدهما غير المعيّن حكم زمان التقيّة،و لم يعلم أيّهما،عمل بالثاني،و كذا لو لم يعلم كونه حكم زمان التقيّة أو صدر تقيّة،فإنّه يعمل بالثاني؛ لأنّه لا تكليف بالواقع الذي لم يصل،و إنّما التكليف بما يقوله المعصوم،و المعصوم المتأخّر عالم بما قاله المتقدّم،فلذا يكون التكليف ما يقوله المتأخّر،هذا ما يقتضيه القاعدة.

و قد ورد أخبار في هذا الباب،و هي قسمان:

القسم الأوّل:ما يدلّ علي أنّ من سمع من الامام أمرين،فإنّه يجب عليه العمل بالمتأخّر،و هو خبر أبي عمر،رواه في الكافي،عن محمّد بن يحيي،عن أحمد بن محمّد بن عيسي،عن الحسن بن محبوب،عن هشام بن سالم،عن أبي عمر

ص: 373


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 252.

الكناني،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا أبا عمر أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا،ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه،فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك،بأيّهما كنت تأخذ؟قلت:بأحدثهما و أدع الآخر،فقال:قد أصبت يا أبا عمر،أبي اللّه إلاّ أن يعبد سرّا،أما و اللّه لئن فعلتم ذلك انّه لخير لي و لكم،و أبي اللّه عزّ و جلّ لنا و لكم في دينه إلاّ التقيّة.

و رواه في المحاسن أحمد بن محمّد بن خالد،عن أبيه،عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثله (1).

و الظاهر سقوط أبي عمر بقرينة الخطاب إليه في أثناء الخبر،و لم يرد فيه توثيق.

قوله«أرأيت لو حدّثتك»لعلّه ظاهر في أنّه ليس ذلك تقيّة في بيان الحكم،بل هو اتّقاء علي السامع،و لكن يحتمل الأعمّ من التقيّة في بيان الحكم و الصدور تقيّة.

قوله«و أدع الآخر»و ظاهره أنّه يبقي علي الثاني إلي الأبد،إلاّ إذا أخبره معصوم آخر بخلافه فيأخذ بقول المعصوم الآخر.

و مرسل الحسين بن المختار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أ رأيت لو حدّثتك بحديث العام،ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه،بأيّهما كنت تأخذ؟قال:قلت:

كنت آخذ بالأخير،فقال لي:رحمك اللّه (2).

القسم الثاني:ما لا يختصّ بمن سمع عن المعصوم،بل عامّ له و لغيره،و هو خبر المعلّي بن خنيس،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟فقال:خذوا به حتّي يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله،قال:ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّا و اللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم.7.

ص: 374


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 36.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 37.

و في حديث آخر:خذوا بالأحدث (1).

و في السند إسماعيل بن مرّار،و لم يرد فيه توثيق،لكن قال ابن الوليد:روايات يونس يؤخذ بها إلاّ ما اختصّ بروايته محمّد بن عيسي.و فيه أيضا المعلّي بن خنيس،و فيه كلام.

قوله«عن أوّلكم»إن أراد الأوّل حقيقة،فهو أمير المؤمنين عليه السّلام،و لعلّه يبعد إرادته،و المراد الأوّل بالاضافة إلي المتأخّر،فالباقر عليه السّلام أوّل بالنسبة إلي الصادق عليه السّلام.

قوله«عن آخركم»إن أراد الآخر الذي أدركه الراوي،فيكون الآخر حقيقة.

و إن أراد الآخر بالاضافة إلي الأوّل،فيشمل من لم يدركه،فلو جاء حديث عن السجّاد عليه السّلام،و حديث عن الباقر عليه السّلام،و لم يدركه من جاء إليه الحديث،صدق ذلك،لكن بقرينة الجواب يمكن حمله علي الآخر الذي أدركه.

ثمّ إنّ المراد ما إذا تعارض الخبران،و لعلّه يشمل التعارض بالعموم و الخصوص؛لأنّه لا مجال للسؤال عن صورة عدم التعارض.

قوله«خذوا به»أي:بالحديث الذي عن الأوّل إلي أن يبلغكم الحديث عن الآخر الذي هو حيّ،فيكون خاصّا بزمان الحضور.و يمكن أن يراد ذلك من باب ذكر أحد أفراد الآخر،أي:خذوا بالحديث عن الأوّل إلي أن يأتيكم الحديث عن الآخر،فيوافق قوله«و في حديث آخر:خذوا بالأحدث».

و أورد علي دلالته علي الترجيح بالأحدثيّة في نهاية الدراية،بأنّه بقرينة امتداد الحكم إلي أن يبلغ عن الحيّ ظاهر في أنّ الحكم الفعلي أيّاما كان هو الثاني إلي أن ينكشف حاله،لا أنّ وظيفة عامّة المكلّفين ذلك،و لو في غير زمان الحضور الذي5.

ص: 375


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 35.

يتفاوت حال الأئمّة و شيعتهم من حيث الاتّقاء من الأعداء (1)انتهي.

أقول:يدلّ علي الأخذ بما جاء عن الحيّ،مثلا إن جاء حديث عن الباقر عليه السّلام يؤخذ به إلي أن يجيء من أدرك الرضا عليه السّلام الخبر عنه،فيؤخذ به إلي أن يجيء عن العسكري عليه السّلام لمن أدرك العسكري فإذا أتاه الخبر منه علي خلافه،فإنّه يجب عليه أن يعمل بالخبر الأخير،مع أنّه لا يأتيه بعده خبر عن إمام،و لا فرق بينه و بين سائر الموارد.

و إن شئت قلت:إنّ الحديث الآخر يعمل به من سمعه علي أنّه حكم واقعي،لكن من اطّلع علي الأوّل،يتردّد أمره بين العمل بأحدهما،و ينبغي أن يعمل بالثاني،كما في تبدّل الرأي و نحوه،لكن بالنسبة إلي المعصومين يكون ذلك من مصلحة الحكم بحسب الأزمان.

و موثّق محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:ما بال أقوام يروون عن فلان و فلان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لا يتّهمون بالكذب،فيجيء منكم خلافه،قال:

إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (2).

قوله«أقوام يروون»يحتمل أنّه أراد أقواما من العامّة يعتقد الراوي وثاقتهم، و إن كان يبعد ذلك من محمّد بن مسلم الذي هو من خواصّ الأئمّة عليهم السّلام.

قوله«انّ الحديث ينسخ»يحتمل امورا:

أحدهما:أنّ حديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله ينسخ بحديثه الذي ننقله نحن عنه،و لكن الناس لم يحفظوا حديث الناسخ،و هو عندنا كما ورد في خبر سليم:و رجل ثالث سمع من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله شيئا أمر به،ثمّ نهي عنه و هو لا يعلم أو سمعه ينهي عن شيء ثمّ أمر به و هو لا يعلم،فحفظ منسوخه و لم يحفظ الناسخ،و لو علم أنّه8.

ص: 376


1- نهاية الدراية 3:164.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 38.

منسوخ لرفضه،و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه الحديث (1).

و يدلّ علي ذلك حسن منصور بن حازم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب،ثمّ يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟فقال:إنّا نجيب الناس علي الزيادة و النقصان،قال:قلت:فأخبرني عن أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله صدقوا علي محمّد أم كذبوا؟قال:بل صدقوا،قال:قلت:

فما بالهم اختلفوا؟فقال:أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب،ثمّ يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب،فنسخت الأحاديث بعضها بعضا (2).

ثانيهما:أن يكون المراد نسخ الأئمّة حديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله،يعني:بيان أمد الحكم،و هو يحتمل وجهين:

الأوّل:أن يكون النسخ من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله،و يكون مودعا عند الأئمّة عليهم السّلام.

الثاني:أن يكون لهم حقّ التشريع،فإنّهم معصومون عن الخطأ قد فوّض إليهم ذلك.

ثالثها:تخصيص الحديث أو تقييده،و قد استعمل النسخ في هذا المعني في خبر محمّد بن سوقة،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالي فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ قال:نسختها التي بعدها قوله عزّ و جلّ (فمن خاف من موص جنفا فلا إثم عليه) الحديث (3).

ثمّ إنّه قد تقدّم أنّ مقتضي القاعدة هو العمل بالخبر الذي يأتي عن المعصوم متأخّرا،أو عن المعصوم المتأخّر.2.

ص: 377


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 4 ح 62.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 39.
3- جامع أحاديث الشيعة 19:273 ب 61 ح 12.

و ممّن اعترف بذلك الشيخ الصدوق رحمه اللّه،قال بعد ايراد خبرين،أحدهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و الآخر خطّ أبي محمّد الحسن العسكري عليه السّلام:قال مصنّف هذا الكتاب:لست أفتي بهذا الحديث،بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن علي عليهما السّلام.

و لو صحّ الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير،كما أمر به الصادق عليه السّلام،و ذلك أنّ الأخبار لها وجوه و معان و كلّ إمام أعلم بزمانه و أحكامه من غيره من الناس،و باللّه التوفيق (1)انتهي.

و استشكل السيّد اليزدي رحمه اللّه في رسالته في هذا المرجّح،بأنّ ذلك إن كان من جهة احتمال النسخ،فيختصّ بما إذا كان كلا الخبرين أو الأوّل منهما منقولا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله،و إن كان من جهة احتمال التقيّة،فلا بدّ أن يكون مخصوصا بزمان الحضور،حيث إنّه إمّا أن يكون الأوّل تقيّة أو الثاني،و علي كلا التقديرين يجب الأخذ بالثاني في ذلك الزمان،أمّا علي الأوّل فواضح،و أمّا علي الثاني فلأنّ ذلك مقتضي مصلحة التقيّة،و أمّا في زماننا فحيث لا مقتضي للتقيّة،فلا يجب الأخذ بالأحدث،فتدبّر (2)انتهي.

أقول:لم يظهر انحصار اختلاف الأخبار في النسخ و التقيّة،و لها علل اخر لا نعرفها،و ظاهر الحكم الذي يذكره المعصوم هو الاستمرار إلاّ أن يقوم قرينة علي التوقيت و الاختصاص بزمان خاصّ،فما لم يعلم ذلك فالواجب متابعة ظاهر الحكم،و كلّ إمام أعلم بما يكون في عصره و عصر غيره،فيجب متابعة أهل العصر المتأخّر للحكم الصادر من الامام متأخّرا.

النوع الحادي عشر:الأيسريّة

،يدلّ عليه خبر حنان بن سدير،عن أبي جعفر عليه السّلام،إلي أن قال:و لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلاّ أخذت باليسير،

ص: 378


1- من لا يحضره الفقيه 4:151 ب 99.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 200.

و ذلك أنّ اللّه يسير يحبّ اليسير،و يعطي علي اليسير ما لا يعطي علي العنف (1).

و في رواية جعفر بن سماعة:يا بنيّ رواية علي بن أبي حمزة أوسع علي الناس الحديث (2).

و قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:إذا حدّثتم عنّي بالحديث فانحلوني أهنأه و أسهله و أرشده الحديث (3).استفيد منه الترجيح بالأسهليّة،لكن في رسالة السيّد اليزدي رحمه اللّه عن الفصول أنّ المراد بها موافقة القرآن،فلاحظ.

و أخذ بذلك الصدوق رحمه اللّه،قال في كتاب الصلاة فيما يصلّي فيه و ما لا يصلّي فيه من الثياب،بعد نقل حديثين:مع أنّ الأوّل عن الكاظم عليه السّلام،و الثاني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:انّ الثاني رخصة اقترنت بها علّة الخ (4).

و قال في كتاب الحجّ في إحرام الحائض،إلي أن قال:و الحديث الأوّل رخصة و رحمة الخ (5).

و يمكن استظهاره من الكليني في أوّل الكتاب،حيث قال:و لا نجد شيئا أحوط و لا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلي العالم عليه السّلام،و قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله:

بأيّهما أخذتم من باب التسليم و سعكم انتهي.حيث إنّه يري الأخذ بما هو السعة فتأمّل،و الأحوط مراعاة الترجيحات المنصوصة،ثمّ التخيير بالأخذ بالأيسر.3.

ص: 379


1- وسائل الشيعة 8:235 ح 7.
2- وسائل الشيعة 15:321 ح 6.
3- المحاسن 1:348.
4- من لا يحضره الفقيه 1:162 ح 763.
5- من لا يحضره الفقيه 2:242 ح 1153.
المقام الثالث: في التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي غيرها
اشارة

و يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في الدليل علي التعدّي

فنقول:إنّ المرجّحات المنصوصة علي أنحاء:

أحدها:المرجّحات الصدوريّة،بمعني أنّه يرجّح صدور أحدهما علي الآخر في أنّه ليس مكذوبا و لا اشتبه الأمر علي الراوي.

ثانيها:المرجّحات الجهتيّة،بمعني أنّه أرجح من الآخر في كونه حكما واقعيّا لم يصدر تقيّة و لا لمصلحة وقتيّة قد انقضت.

ثالثها:المرجّحات المضمونيّة،بمعني أنّ مضمون أحدهما أقرب إلي الواقع من الآخر،كما إذا كان أحدهما مقرونا بالشهرة الفتوائيّة أو موافقا للكتاب.

رابعها:المرجّحات التعبّديّة كالأيسريّة و نحوها.

ثمّ إنّ الدليل علي التعدّي و جهان:

الأوّل:أنّه لم يثبت عندنا دليل علي اعتبار التوثيقات و التضعيفات الرجاليّة في كلّ واحد ممّن وثّق أو ضعّف،إلاّ انّها كالقرائن،و يوجد قرائن اخر من وجود الخبر في الكتب المعتمدة،و لذا نقول:لا بدّ من العمل بجميع الأخبار غير المتعارضة ما أمكن.

و أمّا الأخبار المتعارضة،فإنّها طرف العلم الإجمالي بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السّلام،فلا بدّ أوّلا من الاحتياط إن أمكن،ثمّ ملاحظة المرجّحات المذكورة و غيرها ممّا يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع؛لوجود احتمال اشتمال الأخبار الموجودة علي المدسوس و المشتبه عند الراوي،و التقطيع و النقل

ص: 380

بالمعني،و اختفاء القرائن و غيرها،فلا بدّ من تقليل هذه الاحتمالات،و لم يثبت عندنا أخبار قويّة السند و الدلالة تدلّ علي التخيير حتّي تكون محكّمة،و مقتضي الشكّ في الحجّية عدم العمل عندنا بما ليس فيه قرينة.

فمقتضي العلم الاجمالي بصدور بعض الأخبار الاحتياط في العمل بها إن أمكن،و إن لم يمكن فالعمل بما هو أقرب إلي الواقع إن أمكن،و إلاّ فيتخيّر.

الثاني:استفادة التعدّي من المرجّحات المنصوصة،و هي:

الأوّل:قوله في خبر عمر بن حنظلة«و أصدقهما في الحديث»قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّا نعلم أنّ وجه الترجيح بهذه الصفة ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقرب إلي الواقع من الخبر الغير الموصوف بها،لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق (1).

قلت:و الصدق هو مطابقة مضمون الخبر للواقع،و المخبر يتّصف بأنّه صادق باعتبار خبره،و يتّصف بالأصدقيّة و هي قلّة خطئه بالاضافة إلي غيره.و جميع المرجّحات الصفتيّة الدخيلة في مطابقة الخبر للواقع تكون مصاديق للأصدقيّة و الناقل باللفظ أصدق،أي:أقلّ خطا من الناقل بالمعني و كذا الأضبط.

و نوقش فيه أوّلا:بضعف السند.

و ثانيا:بأنّ الصفات المذكورة للحكمين لا للراوي بما هو راو.

و ثالثا:بما ذكره في الكفاية بأنّ الترجيح بالأصدقيّة لا إشعار فيه علي أنّ الملاك هو الأقربية صدورا؛لاحتمال خصوصيّة في مرجّحيّته.

و أيّده في نهاية الدراية بأنّ الحكم لم يعلّق علي الصدق الخبري،بل علي الصدق المخبري،فإنّه لو علّق الحكم علي ما كان أصدق و أطبق علي الواقع من2.

ص: 381


1- فرائد الاصول ص 302.

غيره لجاء احتمال التعدّي إلي كلّ ما كان أطبق علي الواقع من غيره،بل علّق الحكم علي ما إذا كان أحد الراويين أصدق من الآخر؛لمداقّته بحسب اعتقاده في نقله،فإنّ اعتبار هذه الصفة و إن كان أيضا للملازمة العادية بين الصدق المخبري و الصدق الخبري بعد البناء علي عدم الخطأ في الحسّ المشترك بين الراويين،إلاّ انّ المرجّح هو الملزوم لهذا الوصف في الخبر دون لازمه،فلا يتعدّي إلي ما يشترك مع هذا اللازم و لو لملزوم آخر (1)انتهي.

قلت:سياق الخبر يدلّ علي أنّه في مقام ما يوجب الأقربيّة إلي الواقع، و المذكورات فيه مذكورات من باب الفرد الغالب،فتأمّل.

ثمّ إنّ اعتبار الأعدليّة و الأفقهيّة لعلّه بلحاظ مراعاة التثبّت في الخبر و فهم قرائن الحال و المقال ليكون في النقل بالمعني ضابطا،و يكون أقرب إلي الواقع.

الثاني:التعليل في خبر عمر بن حنظلة«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ ترجيح أحد الخبرين علي الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث يعرفه كلّهم،و كون الآخر غير مشهور الرواية بينهم بل ينفرد بروايته بعضهم دون بعض،معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه إلي آخر ما أفاده (2).

قلت:بل بناء علي إرادة الشهرة المصطلحة من الاجماع،فإنّه يطلق عرفا و مسامحة أنّها إجماع.و قد يؤيّد بأنّ الخطاب متوجّه إلي عمر بن حنظلة،فيكون المراد إجماع أصحابه الذين بالكوفة مثلا،و لعلّه لم يكن الخبر مجمعا عليه عند رواة الشيعة في غير الكوفة،فيكون مرجع التعليل إلي أنّ المشهور لا ريب فيه بالاضافة إلي غيره،أي:كلّما كان في أحد المتعارضين ما يوجب الأقربيّة إلي3.

ص: 382


1- نهاية الدراية 3:173.
2- فرائد الاصول ص 303.

الواقع كان مقدّما علي الآخر الفاقد له.

و اعترف في الكفاية بذلك،لكن خصّ التعدّي بما يكون مثل الشهرة ممّا يوجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور لا إلي كلّ مزيّة و إن لم توجب أقربيّة ذي المزيّة.

و أجيب عنه بأنّ المراد من الاجماع هو اتّفاق الكلّ علي نقل الخبر حتّي من الشاذّ،فيكون مقطوع الصدور،و يطرح الشاذّ لمخالفته للسنّة القطعيّة.

و فيه أنّ الشهرة بمعني الظهور،و هو يتحقّق في الشهرة المصطلحة،و لا سيّما مع قوله«إنّهما معا مشهوران قد رواهما الثقات»فإنّه لعلّه يشمل الشهرة المصطلحة في الرواية.

الثالث:قوله«ما خالف العامّة ففيه الرشاد»و سائر الأخبار الواردة في ترجيح الخبر المخالف للعامّة،فإنّه ربّما يستفاد منه أنّ ذلك من أجل أقربيّته إلي الواقع، فإنّ احتمال عدم مطابقة الحكم الواقعي في الخبر الموافق أقوي منها في المخالف، فيكون المدار علي الأقربيّة.

الرابع:قوله«دع ما يريبك إلي ما لا يريبك»دلّ علي أنّه إذا دار الأمر بين أمرين كان أحدهما أقرب من الآخر إلي الواقع،فهو بالاضافة إلي الآخر لا ريب فيه،و لعلّه يمكن الاستدلال بوجوه اخر،و الأولي ما ذكرناه،فتأمّل.

الموضع الثاني: في تعداد بعض المرجّحات التي يتعدّي إليها

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)جملة منها،و هي مرجّحات الصدور،وجهة الصدور و المضمون،فذكر في مرجّحات الصدور قسما يرجع إلي السند،و قسما يرجع إلي

ص: 383


1- فرائد الاصول ص 801.

المتن،و هي كون أحدهما عدلا و الآخر ثقة غير عدل،و كون أحدهما أعدل أو أصدق أو مزكّي رواته بعدلين،أو غير محتاج إلي تمييز الراوي بالظنون،أو كونه عالي السند،أو عدم حذف الواسطة مع حذفها من الآخر مع اعترافه بأنّه ثقة،أو كون الراوي متعدّدا،أو كيفيّة تحمّل الراوي من سماعه من الشيخ و قراءته عليه.

هذه المرجّحات ترجّح صدور أحد الخبرين من ناحية الراوي.

و أمّا الصدور من حيث المتن،فالمرجّحات هي فصاحة أحدهما،أو أفصحيّته، أو عدم اضطراب متنه،أو كونه منقولا بلفظه،و لاحظ تتمّة كلامه.

و ذكر الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة من المرجّحات أن يكون أحد الراويين يروي الخبر بلفظه و الآخر بمعناه،إلاّ أن يكون الراوي بمعناه ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح.و أن يكون أحد الراويين أعلم و أفقه و أضبط من الآخر،فينبغي أن يقدّم خبره علي خبر الآخر و يرجّح عليه.و أن يكون أحد الراويين متيقّظا في روايته و الآخر ممّن يلحقه غفلة و نسيان في بعض الأوقات.و أن يكون أحد الراويين يروي سماعا و قراءة و الآخر يروي إجازة،فينبغي أن يقدّم رواية السامع علي المستجيز،إلاّ أن يروي المستجيز بإجازته أصلا معروفا أو مصنّفا مشهورا، و لاحظ سائر ما ذكره من المرجّحات (1).

أقول:ينبغي للفقيه مراعاة هذه المرجّحات و غيرها ممّا هو دخيل في صدور الحكم تقيّة و ظروف صدوره و زمان صدوره،و ملاحظة حال أخبار العامّة و فتاويهم لها مدخل في العثور علي قرائن ربّما توجب عدم انعقاد الاطلاق في مفهوم الأخبار.2.

ص: 384


1- عدّة الاصول 1:152.
المقام الرابع: في الترتيب بين المرجّحات عند تعارض بعضها مع بعض
اشارة

و يقع الكلام في ثلاثة أقسام:الأوّل:في الترتيب بين مرجّحات الدلالة مع مرجّحات غير الدلالة.الثاني:في الترتيب بين مرجّحات الدلالة.الثالث:الترتيب بين مرجّحات غير الدلالة.

أمّا القسم الأوّل:و هو تعارض مرجّحات الدلالة مع مرجّحات غير الدلالة

،فلا ريب في تقديم مرجّحات الدلالة علي غيرها؛لأنّها ترفع موضوع التعارض،فلا يبقي محلّ لمرجّحات غير الدلالة،كالترجيح بصفات الراوي و مخالفة العامّة و غيرهما،إلاّ إذا كانت المرجّحات توهن دلالة الخبر الآخر.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:نعم لو بلغ المرجّح الخارجي إلي حيث يوهن الأرجح دلالة،فهو يسقط عن الحجّية،و يخرج الفرض عن تعارض الدليلين،و من هنا قد يقدّم العامّ المشهور و المعتضد بالامور الخارجية الاخر علي الخاصّ (1)انتهي.

و يمكن أن يستدلّ لتقدّم الترجيح بالدلالة علي سائر المرجّحات بوجوه:

أحدها:أنّ المرجّحات الاخر لا تجعل الخبر أعلي من المتواتر،و لا أعلي من الكتاب الذي هو مقطوع الصدور،و قد قرّروا أنّه لا تعارض بين مقطوعي الصدور إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر من الآخر،و لذا قالوا بتخصيص الكتاب بالخبر الواحد لعدم المعارضة بينهما.

و بعبارة اخري:إذا أمكن فرض صدور كلامين من متكلّم واحد بحيث صار أحدهما قرينة علي التصرّف في الآخر كانا كالكلام المتّصل،فلا فرق بين أن يقول

ص: 385


1- فرائد الاصول ص 817.

المتكلّم أكرم العلماء إلاّ زيدا،و بين أن يقول أكرم العلماء،ثمّ يقول بعد يوم مثلا قبل مجيء وقت العمل:لا تكرم زيدا،و هذا يكشف عن عدم التعارض بينهما.

و من هذا الباب أن يكون أحد الخبرين أقوي دلالة من الآخر،مع كونه مخالفا للكتاب،و الآخر موافقا له،فإنّه يتقدّم الأقوي دلالة علي الآخر و يخصّص به الكتاب.

أقول:إنّ ذلك مسلّم فيما إذا صدر الكلامان من متكلّم واحد،أو متكلّمين كانا كالمتكلّم الواحد قبل حضور وقت العمل،و لم يكن احتمالات عقلائيّة تقتضي غير حمل الكلامين علي معني واحد.

و أمّا في مثل أخبارنا ممّا يكون من متكلّمين بعد وقت العمل،كما إذا تعارض الخبر الخاصّ مع عموم الكتاب،أو كانا في حكم كلام واحد،كالأخبار الصادرة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،لكن كان فيهما إحتمال آخر،و هو أن يكون التكليف هو الأحدث،و أن يكون أحدهما صادرا تقيّة،فهو غير مسلّم،فإذا ورد عن الباقر عليه السّلام لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر،ثمّ ورد عنه عليه السّلام اجتنب الصلاة في الثوب الذي أصابه خمر،يشكل الجمع الدلالي بحمل الأمر علي التنزّه،حيث إنّه ظاهر في وجوب الاجتناب و الخبر الأخر نصّ في عدم الوجوب،بل يدخل تحت قوله«أرأيتك إن حدّثتك بحديث ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه»هذا لو صدر عن إمام واحد،فكيف بما يصدر عن الامامين.

ثانيها:أنّ حمل الظاهر علي الأظهر و علي النصّ،يكون من ردّ المتشابه إلي المحكم،فيدخل في الطائفة الاولي من قوله«أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»و قوله«إنّ في كلامنا محكما و متشابها،فردّوا متشابهها إلي محكمها».

أقول:يشكل أن يكون الجمع العرفي مرادا من ردّ المتشابه إلي المحكم،فإنّ الجمع العرفي و هو كون أحد الكلامين قرينة علي الآخر كما هو المتعارف بين

ص: 386

الناس،حتّي انّ الصبيان يستعملون المعاني المجازية مع القرينة،ليس من الفقه حتّي يكون من يعرف ذلك أفقه الناس،بل لعلّ المراد بالخبر هو معرفة المعاريض و التورية و أمثال ذلك.

ثالثها:عدم شمول أخبار العلاج لهما،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:بل موارد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما بل اقترانهما تحيّر السائل فيهما،و لم يظهر المراد منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما،إلي أن قال:و ما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه،كما استظهره بعض مشايخنا الخ (1).

أقول:المورد الذي لا يتحيّر السائل هو صدورهما من معصوم واحد أو معصومين قبل مجيء وقت العمل بالنسبة إلي شخص واحد،و لم يكن احتمال التقيّة موجودا.و أمّا أخبارنا التي تختلف بالنسبة إلي أشخاص مختلفين في الأزمنة المختلفة،فيتحيّر السائل.

فالانصاف أنّ الجزم بما ذكر مشكل،و من ذلك يقرب كلام الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الاستبصار و العدّة.

ففي أوّل الاستبصار بعد أن ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه،قال:و إن كان هناك ما يعارضه،فينبغي أن ينظر في المتعارضين،فيعمل علي أعدل الرواة في الطريقين،و إن كانا سواء في العدالة عمل علي أكثر الرواة عددا،و إن كانا متساويين في العدالة و العدد،و هما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها،نظر فإن كان متي عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر علي بعض الوجوه و ضرب من التأويل،كان العمل به أولي من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلي4.

ص: 387


1- فرائد الاصول ص 784.

طرح الخبر الآخر؛لأنّه يكون العامل بذلك عاملا بالخبرين معا.

و إذا كان الخبران يمكن العمل بكلّ واحد منهما و حمل الآخر علي بعض الوجوه و ضرب من التأويل،و كان لأحد التأويلين خبر يعضده،أو يشهد به علي بعض الوجوه،صريحا أو تلويحا،لفظا أو دليلا،و كان الآخر عاريا من ذلك،كان العمل به أولي من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار،و إذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر و كان متحاذيا،كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (1)انتهي.

قلت:يمكن أن يكون مراده غير النصّ الذي يكون قرينة عرفيّة علي إرادة خلاف الظاهر؛لعدم صدق المعارضة،و كذا غير التخصيص،فإنّه لا يقال إنّ العامّ أوّل إذا خصّص.

و قال في العدّة في بحث العامّ و الخاصّ في الأدلّة التي يعلم بها التخصيص:

و هذه الأدلّة كلّها لا خلاف بين أهل العلم في جواز تخصيص العموم بها،و إنّما قالوا ذلك لأنّه لا يجوز القول بتكافؤ الأدلّة،فإذا كان العامّ دليلا علي الاستغراق و ما دلّ علي الخصوص دالاّ علي تخصيصه،فلا بدّ من تخصيص العامّ به،و إلاّ أدّي إلي إسقاط أحد الدليلين و إبطاله،أو إبطالهما معا و العدول إلي الآخر،و كلّ ذلك فاسد انتهي.

فمراده من التأويل نظير لا تبل في الماء الجاري،و لا بأس بالبول فيه،حيث يؤوّل الأوّل بالكراهة.ثمّ إنّه ذكر في العدّة ما يخالف ما في الاستبصار،قال فيها:

فإن كان رواتهما جميعا عدلين،نظر في أكثرهما رواة و عمل به و ترك العمل بقليل الرواة،فإن كان رواتهما متساويين في العدد و العدالة،عمل بأبعدهما من قول العامّة،و ترك العمل بما يوافقهم.و إن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهما،4.

ص: 388


1- الاستبصار 1:4.

نظر في حالهما،فإن كان متي عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر علي وجه من الوجوه و ضرب من التأويل الخ.

فجعل أوّل المرجّحات الشهرة،ثمّ مخالفة العامّة،ثمّ التأويل،و مورد الجمع الدلالي العرفي و تخصيص العامّ ليسا من التعارض و لا من التأويل،و ما صنعه قريب جدّا.و الأولي مراعاة الاحتياط بين الجمع الدلالي و ملاحظة الترجيحات، و سيأتي للبحث تتمّة إن شاء اللّه تعالي.

القسم الثاني: التعارض بين مرجّحات الدلالة
اشارة

منها:تعارض الظاهر في خبر مع الخبر الآخر الذي استعين علي دلالته علي معناه بأصالة الحقيقة،أو أصالة عدم القرينة،و الظاهر تقديم الأوّل و جعله قرينة علي الثاني.و منها:معارضة الظاهر مع الأظهر،و يقدّم الأظهر علي إشكال في خصوص أخبارنا.

ثمّ إنّه يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في الامور التي توجب أظهريّة دلالة أحد الخبرين

منها:دوران الأمر بين ما دلّ علي العموم بالوضع،و ما دلّ عليه بالاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة،فيقدّم العامّ،كقوله«كلّ فاسق مهان»علي قوله«العالم مكرم»لأنّ المفرد المحلّي باللام لا يدلّ بنفسه علي سريان الحكم إلي جميع الأفراد،و إنّما يدلّ علي ثبوت الحكم علي الجنس،فلا ينافيه ما دلّ علي عدم ثبوت الحكم علي بعض أفراده بخلاف العموم،فإنّه يدلّ علي ثبوت الحكم علي جميع الأفراد،فينافيه عدم ثبوته علي بعض الأفراد،فإذا صدرا من متكلّم واحد قبل حضور وقت العمل،يقدّم العامّ عرفا علي المطلق لأنّه أظهر.

ص: 389

و قرّر الاستدلال في الكفاية بأنّ ظهور العامّ تنجيزي،بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق،فإنّه معلّق علي عدم البيان و العامّ يصلح بيانا الخ (1).

و اورد عليه بأنّ عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة،إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلي الأبد،فإذا لم يكن قرينة في مقام التخاطب،صار ظهور المطلق في الاطلاق تنجيزيّا.

فالمطلق ظاهر في الاطلاق مع عدم البيان في مقام التخاطب،فظهوره كظهور العامّ تنجيزي،لكن بعد مجيء العام يكشف عن أنّ الظهور لم يكن مرادا من الأوّل (2).

أقول:الأولي أن يقال:إنّ كشف ظهور المطلق عن مراد المتكلّم و إن كان تنجيزيّا،لكنّه معلّق علي عدم مجيء قرينة علي الخلاف،كما أنّ ظهور العام في العموم و إن كان بالوضع،لكن كشفه عن المراد معلّق علي عدم مجيء قرينة علي الخلاف قبل وقت العمل.

و إذا صدر العامّ و المطلق من متكلّم واحد كان العامّ أظهر من المطلق،لكن لا يحمل أحدهما علي الآخر إلي حضور وقت العمل؛لاحتمال صدور قرينة علي التصرّف في أحدهما من المتكلّم،فإذا لم يصدر قرينة من المتكلّم كان العامّ و المطلق في حكم الصادرين في زمان واحد،و يكون العامّ كاشفا عن المراد بالمطلق لأقوائيّة دلالته،لأنّ ظهور العامّ بالوضع لا يزاحمه إطلاق المطلق.

و بعبارة اخري:بعد اجتماعهما يتقدّم العامّ.فتأمّل فإنّه ربما تختلف الموارد.

و منها:دوران الأمر بين التخصيص و النسخ،بأن ورد خاصّ و عمل به،ثمّ ورد عامّ،فهل هو مخصّص-بالفتح-بالخاصّ المتقدّم أو هو ناسخ؟قيل:إنّه مخصّص7.

ص: 390


1- كفاية الاصول ص 513.
2- مصباح الاصول 3:377.

لوجوه:

أحدها:غلبة التخصيص.

و فيه أنّ النسخ عندنا تقييد أو تخصيص في الزمان،فهو في حكم التخصيص.

إلاّ أن يقال:إنّ الغالب تخصيص الأفراد دون الأزمان.

ثانيها:ما في المصباح،فإنّه ذكر وجهين،قال:ثانيهما أوضح،و هو أنّ الخاصّ المتأخّر يجب العمل به،سواء كان ناسخا أو كان مخصّصا للعموم،و العامّ المتأخّر يعني الصادر عن المعصوم المتأخّر بعد حضور وقت العمل بالخاصّ المتقدّم يجب تخصيصه بالخاصّ المتقدّم؛لأنّ الأئمّة عليهم السّلام في مقام بيان الأحكام لا تشريعها، فالأحكام التي بيّنوها و إن كانت متأخّرة إثباتا لكنّها متقدّمة ثبوتا،فتكون الأحكام الصادرة عن الأئمّة بمنزلة الأحكام الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله،و التدريج إنّما هو في بيان الحكم لا في أصل الحكم،فالعامّ المتأخّر متقدّم،فيكون العامّ و الخاصّ في زمان واحد و كلام واحد،فيخصّص العامّ بالخاصّ (1).

قلت أوّلا:يمكن أن يكون الأحكام التي جاء بها النبي صلّي اللّه عليه و آله تختلف باختلاف الأزمان،فيكون الحكم الواقعي لطائفة مضمون الخاصّ،و الحكم الواقعي لمن جاء بعدهم مضمون العامّ،و يقوّي هذا الاحتمال الأخبار الدالّة علي الأخذ بالأحدث.

و ثانيا:إنّما يتمّ ما ذكر إذا كانت الأحكام الأوّلية هي الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام،و لكن لم يثبت ذلك لابتلاء أخبارنا بجهات:

منها:عدم تمييز الحكم الولائي،يعني الحكم الذي يصدر أوّلا أو ثانيا ولاية.

و منها:تقيّة المعصوم المتقدّم في بيان الحكم أو المتأخّر.

و منها:كون الحكم حكم مورد التقيّة،بأن كان السائل أو جماعة من الشيعة في4.

ص: 391


1- مصباح الاصول 3:384.

التقيّة.

و منها:الارفاق بالشيعة لمصلحتهم.

و منها:إلقاء الخلاف بينهم لمصالح.

و منها:غير ذلك.هذا فيما علم صدوره عنهم،و أمّا غيره فمن هذه الجهات و من جهات اخر أيضا:

منها:دسّ الأخبار المكذوبة.

و منها:سوء فهم الراوي في عدم ذكر القرائن و نحوه.و غير ذلك.

ثمّ إنّه لا بدّ من متابعة ما يوجب العلم بالحكم بتعيين النسخ أو التخصيص إن أمكن،و إلاّ فينبغي الاحتياط في العمل بالجمع بين ما يقتضيه التخصيص و ما يقتضيه النسخ.

و إذا كانت النسبة بين الدليلين من وجه،ففيه احتمالان:

الأوّل:لزوم تأويل أحدهما أو كليهما في مادّة الاجتماع؛لأنّه لا مجال للرجوع إلي المرجّحات السنديّة أو الجهتيّة أو المضمونيّة؛لأنّ الحكم في مادّة الافتراق بلا معارض.

و فيه أنّه لا بأس بالتبعيض في مدلول بعض الرواية.

الثاني:تساقطهما و الرجوع إلي العامّ الفوقاني أو الأصل؛لحصول الاجمال لهما.أو التفصيل بين العامّين من وجه و المطلقين من وجه،بالرجوع إلي المرجّحات السنديّة و غيرها في الأوّل؛لأنّهما متعارضان في مادّة الاجتماع، و الاجمال في الثاني؛لأنّ دلالة المطلق متوقّفة علي عدم البيان علي الخلاف،و كلّ منهما صالح لأن يكون بيانا لتقييد الآخر.أو الرجوع إلي المرجّحات مطلقا.

ص: 392

الموضع الثاني: في كيفية الجمع بين العامّ و الخاصّ إن كانا في أكثر من خبرين

إنّ العامّ و الخاصّ إن كانا في أكثر من خبر،فلهما صور:

الصورة الاولي:أن يكون عامّ و خاصّان،و هو علي أصناف:

الصنف الأوّل:أن يكون بين الخاصّين العموم و الخصوص المطلق،و هو أقسام:

القسم الأوّل:أن يكونا لفظيّين منفصلين،مثل قوله يجب إكرام العلماء،و يحرم إكرام فسّاق العلماء،و يحرم إكرام فسّاق النحويّين،فأعمّ الخاصّين يخصّص العموم،و أخصّهما يكون مؤكّدا للتخصيص في مورده،و هل يجوز تخصيص العموم بأخصّ الخاصّين أو لا ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ المخصّص به و بين أعمّ الخاصّين فتنقلب النسبة إلي العموم من وجه أم لا؟الظاهر عدم ملاحظتها؛لأنّ كلاّ من الخاصّين في مرتبة واحدة و نسبتهما إلي العامّ علي السواء،و هما يخصّصان العامّ،إلاّ إذا كان التخصيص موجبا للاستهجان،فتكون الثلاثة متباينة،و يرجع إلي المرجّحات السندية.

القسم الثاني:أن يكون الخاصّ الأخصّ متّصلا،و الخاصّ الأعمّ منفصلا،مثل قوله يجب أكرام العلماء،و يجب إكرام العلماء إلاّ مرتكب الكبيرة،و يحرم إكرام العالم العاصي،و في كيفيّة الجمع بينها احتمالان،الأوّل:تخصيص العموم بالمخصّص الأعمّ؛لأنّه أخصّ من العموم،الثاني ملاحظة النسبة بين الخاصّين و هي العموم من وجه،و في محلّ الاجتماع و هو العالم المرتكب للصغيرة يتعارضان،و يكون المرجع عموم العامّ؛لأنّ الخاصّ الأعمّ له معارض في رتبته و هو الأخصّ المتّصل،و هذا هو الصحيح.

قال في مصباح الاصول:إذا ورد في رواية يجب إكرام العلماء إلاّ العالم المرتكب للكبيرة،و ورد في رواية:يحرم إكرام العالم العاصي،فالنسبة من وجه؛

ص: 393

لأنّ اتّصال الأخصّ بالعامّ كاشف عن عدم تعلّق الارادة الاستعمالية بالنسبة إلي ما يشمله الأخصّ،فلا ينعقد للعامّ ظهور بالنسبة إليه من أوّل الأمر،فتكون النسبة بين العامّ و الخاصّ المنفصل العموم من وجه؛لاجتماعهما في العالم العاصي غير المرتكب للكبائر و افتراقهما في العالم العادل و العالم المرتكب للكبائر (1).

أقول:حاصله أنّ معني العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّين وجوب إكرام العالم العادل و مرتكب الصغيرة،و معني الخاصّ المنفصل حرمة إكرام العالم المرتكب للكبيرة أو الصغيرة.

القسم الثالث:أن يكون الخاصّ الأخصّ غير لفظي،و كان كالقرينة المحذوفة، بحيث كان للمتكلّم أن يتّكل عليه في الكشف عن مراده،فإذا قال:أكرم العلماء، فمعلوم إرادته علماء الشيعة مثلا،فكأنّه قال:أكرم علماء الشيعة،فإذا قال:لا تكرم فسّاق العلماء كانت النسبة من وجه،و هو ظاهر؛لأنّ فسّاق العلماء شامل للعالم السنّي و غيره.

لكن أورد عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري الدليلين الخ (2).

قلت:لا يبعد أن يكون بحكم المتّصل اللفظي من قبيل حذف ما يعلم،فيكون كالظاهر فيما عدا الخاصّ.

القسم الرابع:أن يكون الخاصّ الأخصّ منفصلا بدليل غير لفظي من إجماع أو عقل،ففيه و جهان:

الوجه الأوّل:تخصيص العامّ به،ثمّ يلاحظ النسبة بينه و بين الخاصّ الآخر، فتنقلب النسبة و تكون من وجه؛لأنّ المخصّص المذكور يكون كالمتّصل،فكأنّ5.

ص: 394


1- مصباح الاصول 3:395.
2- فرائد الاصول ص 795.

العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج،و التعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين،لا بين ما وضع له اللفظ المعلوم عدم استعماله فيه.

الوجه الثاني:عدم تخصيص العامّ به،بل هو و المخصّص اللفظي المنفصل في رتبة واحدة يردان علي العموم،فيخصّصانه،و لعلّ هذا الوجه قوي؛لأنّ العامّ قد انعقد له الظهور،و النسبة بينه و بين الخاصّ اللفظي الأعمّ نسبة العموم و الخصوص،

الصنف الثاني:أن تكون النسبة بين الخاصّين التباين،مثل أكرم العلماء،و لا تكرم العالم النحوي،و لا تكرم العالم الصرفي،فيخصّصان العموم،و هو ظاهر.

الصنف الثالث:أن تكون النسبة بين الخاصّين من وجه من دون أن ينفي أحدهما الآخر،مثل أكرم العلماء،و لا تكرم العالم الشاعر،و لا تكرم العالم النحوي،أو ينفي أحدهما الآخر،مثل أكرم العلماء،و أكرم العلماء الشعراء،و أكرم العلماء إلاّ النحاة،ففي الأوّل يخصّصان العموم،و في الثاني لا يخلو عن إشكال.

هذا إذا كانا منفصلين،و أمّا إذا كان أحدهما متّصلا،فإنّ النسبة تصير من وجه.

الصورة الثانية:أن يكون اثنان منهما عامّين متباينين،و الثالث خاصّا بالنسبة إلي كليهما،أو خاصّا بالنسبة إلي أحدهما،فإن كان خاصّا بالنسبة إليهما خصّصهما،مثل قوله لا تكرم فسّاق العلماء،و يستحبّ إكرام عدول العلماء، و يجب إكرام العالم الاصولي،و إن كان خاصّا بالنسبة إلي أحدهما خصّصه،مثل قوله في المثال المتقدّم يجب إكرام العالم العادل الاصولي،ثمّ يصير هو أخصّ من الآخر،فهل يخصّصه و تنقلب النسبة أو لا؟وجهان،يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه ربما تنقلب النسبة.

قال:و إن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة،فإن كان فيها ما يقدّم علي بعض آخر منها:إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ و الظاهر أو الظاهر و الأظهر،و إمّا لأجل مرجّح آخر،قدّم ما حقّه التقديم،ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات،

ص: 395

فقد تنقلب النسبة،كما إذ ورد أكرم العلماء،و لا تكرم فسّاق العلماء،و يستحبّ إكرام العدول،فإنّه يخصّص عموم أكرم العلماء،فيختصّ بعدولهم،فيصير أخصّ من عموم يستحبّ إكرام العدول،فيخصّصه بغير العلماء؛إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ،أو طرح الظاهر المنافي له رأسا،و كلاهما باطل (1).

و أنكر المحقّق الخراساني إنقلاب النسبة،قال:إذا ورد عامّان من وجه مع ما هو أخصّ مطلقا من أحدهما،فإنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ علي العامّ،و معاملة العموم من وجه بين العامّين الخ (2).

أقول:إنّ الأخصّ يكون قرينة علي إرادة غيره،و قد ظهر من بعض ما ذكرنا أنّه لا فرق بين القرينة المتّصلة و المنفصلة،فإذا ورد أخبار معتبرة أحدها أنّ المرأة ترث من العقار،ثانيها أنّها لا ترث منه،و ثالثها أنّها ترث إن كان لها ولد،فيخصّص الثاني بالثالث،فيصير أنّها لا ترث إن لم يكن لها ولد،فيصير أخصّ من الأوّل فيخصّصه،و هذا الوجه قريب.

الصورة الثالثة:أن يكون اثنان منهما عامّين من وجه،و الثالث خاصّا بالنسبة إليهما فيخصّصهما،فإن كان الثالث خاصّا بالنسبة إلي مورد الاجتماع ارتفع التعارض،مثل قوله يجب إكرام العلماء،و يحرم إكرام الفاسق،و يكره إكرام العالم الفاسق،فإنّ الثالث يخصّص كلاّ منهما،و يكون النتيجة كراهة إكرام العالم الفاسق.

و إن كان الخاصّ بالنسبة إلي مورد الافتراق من كلّ منهما،بقي التعارض،مثل قوله يستحبّ إكرام العلماء،و يكره إكرام العالم العادل،و يحرم إكرام الفاسق الجاهل، فيقع التعارض في إكرام العالم الفاسق في استحبابه أو كراهته.

أو خاصّا بالنسبة إلي أحدهما،فيخصّصه فتنقلب النسبة،مثل قوله يستحبّ6.

ص: 396


1- فرائد الاصول ص 799.
2- كفاية الاصول ص 516.

إكرام العلماء،و يحرم إكرام الفسّاق،و يجب إكرام العالم العادل،و الثالث يخصّص الأوّل بالعالم الفاسق،فيخصّص الثاني،و يختصّ التحريم بالفاسق الجاهل.

الصورة الرابعة:أن تكون النسبة بين الجميع العموم من وجه.

الصورة الخامسة:أن تكون النسبة بين الجميع التباين.و حكم الصورتين حكم الدليلين المتعارضين.

فرع:في ضمان عارية الدينار و الدرهم و الذهب و الفضّة روايات:

إحداها:حسن عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير،فإنّها مضمونة و إن لم يشترط فيها ضمانا،و عموم المستثني منه موهون؛لأنّه مقيّد بالدراهم،بل لا بأس بتقيّده بالفضّة.

ثانيها:خبر عبد الملك بن عمرو-و لم يثبت و ثاقته-عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:

ليس علي صاحب العارية ضمان،إلاّ أن يشترط صاحبها إلاّ الدراهم فإنّها مضمونة،اشترط صاحبها أو لم يشترط.

و عموم المستثني منه مخصّص بالذهب أو بالدينار.

ثالثها:حسن زرارة،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:العارية مضمونة،فقال:جميع ما استعرته فتوي،فلا يلزمك تواه إلاّ الذهب و الفضّة فإنّهما يلزمان الحديث.

و خبر إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أو أبي إبراهيم عليه السّلام،قال:العارية ليس علي مستعيرها ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضّة،فانّهما مضمونان اشترط أو لم يشترط (1).

و لا يخفي أنّ مقتضي الحصر في الخبر الأوّل عدم ضمان الذهب غير الدينار،9.

ص: 397


1- وسائل الشيعة 13:239.

و مقتضي الثالث ضمان الذهب غير الدينار،و تخصيص الأوّل بضمان الذهب غير الدينار ليس تخصيصا عرفيّا؛لأنّه يوجب إلغاء عنوان الدنانير،فإنّه لو كان الذهب مضمونا،فلا وجه لحصر الضمان في الدنانير،فيكون تقييد الذهب في الخبر الثالث بكونه دينارا أقرب في الجمع العرفي،إلاّ انّ الحصر في الأوّل موهون؛لأنّه مخصّص بالفضّة أو بالدراهم،و عليه فيكون الخبر الثالث أخصّ من الأوّل، فيخصّص بالذهب،فالأحوط ضمان الذهب و الفضّة،فتأمّل.

القسم الثالث: التعارض بين مرجّحات غير الدلالة
اشارة

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المرجّح:إمّا أن يكون راجعا إلي الصدور،فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلي الصدور و أبعد عن الكذب،سواء كان راجعا إلي سنده كصفات الراوي،أو إلي متنه كالأفصحيّة،و هذا لا يكون إلاّ في أخبار الآحاد.و إمّا راجعا إلي وجه الصدور،ككون أحدهما مخالفا للعامّة،أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور،بناء علي احتمال كون مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة.و إمّا أن يكون راجعا إلي مضمونه،كالمنقول باللفظ بالنسبة إلي المنقول بالمعني؛إذ يحتمل الاشتباه في التعبير،فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلي الواقع،و كالترجيح بشهرة الرواية و نحوها (1)انتهي.

أقول:هذا التقسيم مخالف للتراجيح المستفادة من الأخبار،فلذا ينبغي التكلّم في موضعين:الموضع الأوّل في مقتضي القاعدة،الموضع الثاني فيما يستفاد من الأخبار.

أمّا الموضع الأوّل،فمقتضي القاعدة ترجيح الأقرب إلي الحكم الواقعي

ص: 398


1- فرائد الاصول ص 783.

الصادر عن المعصوم،و ينبغي ذكر مورده،فنذكره في ضمن أقسام:

الأوّل:أن يكون أحد الخبرين مشهورا و معمولا به عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام، أو موافقا لشهرة عمل أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و كان الآخر موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم المشهور،بناء علي حصول العلم أو الاطمئنان بصدوره،فيكون مخصّصا للكتاب.

الثاني:أن يكون أحدهما أقوي مضمونا من حيث السند أو المتن،و كان الآخر موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم الموافق للكتاب،لعدم العلم بصدور المخالف له حتّي يكون مخصّصا للكتاب فيما كان عموم الكتاب في مقام البيان،و تقدّم الاشكال في تخصيص الخبر الواحد للكتاب.

الثالث:أن يكون أحدهما مخالفا للعامّة،و كان الآخر الموافق لهم موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم الموافق للكتاب لما تقدّم.

الرابع:أن يكون أحد الخبرين مشهورا و معمولا به،أو موافقا لشهرة عمل أصحاب الأئمّة،و كان الآخر مخالفا للعامّة،و الظاهر تقديم المشهور؛للاطمئنان بصدوره لبيان الحكم الواقعي عن المعصوم بخلاف المخالف للعامّة.

الخامس:أن يكون أحدهما أقوي من حيث السند أو المتن،و كان الآخر مخالفا للعامّة،و مقتضي القاعدة تقديم الأقوي سندا،لكن مقتضي الأخبار تقديم المخالف.

السادس:أن يكون أحدهما مخالفا للعامّة،و كان الآخر أقرب مضمونا إلي الواقع،و مقتضي القاعدة تقديم الأقرب مضمونا،و مقتضي الأخبار تقديم المخالف للعامّة.

و أمّا الموضع الثاني،ففي ما يستفاد من الأخبار،و أنّه هل يستفاد الترجيح لبعضها علي بعض أم لا؟فيه قولان.

ص: 399

الأوّل:ما اختاره في الكفاية من أنّه لا ترتيب بينها،لأنّها كلّها مرجّحات سنديّة.قال:إنّ المرجّحات موجبة لتقديم أحد السندين و ترجيحه و طرح الآخر، فإنّ أخبار العلاج دلّت علي تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها و نواحيها، فجميع هذه من مرجّحات السند حتّي موافقة الخبر للتقيّة،إلي أن قال:ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي و إناطة الترجيح بالظنّ،أو بالأقربيّة إلي الواقع.إلي أن قال:و أمّا لو قيل بالاقتصار علي المرجّحات المنصوصة فله وجه الخ (1).

ثمّ إنّه أشكل علي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه القائل بتقديم المرجّح الصدوري علي المرجّح الجهتي،بأنّ كليهما مرجّحان للصدور،ثمّ ذكر ما أورده في بدائع الأفكار علي الشيخ من تقديم المرجّح الجهتي علي المرجّح الصدوري إلي آخر كلامه.

القول الثاني:الترتيب بينها،و القائلون به علي أقوال:

الأوّل:تقديم موافقة الكتاب علي مخالفة العامّة،اختاره في مصباح الاصول.

الثاني:تقديم المرجّح المضموني علي غيره إن كان أحدهما أرجح مضمونا، و إن لم يكن أحدهما أرجح مضمونا يقدّم المرجّح الصدوري.

الثالث:تقديم المرجّح الصدوري علي غيره،ثمّ تقديم المرجّح المضموني علي مرجّح جهة الصدور.

الرابع:تقديم المرجّح المضموني،ثمّ تقديم مرجّح جهة الصدور.

و ينبغي ذكر المرجّحات المذكورة في الأخبار و بيان ما يستفاد منها:

الترجيح الأوّل:الترجيح بالصفات بناء علي الترجيح بها،ففي تقديمها علي سائر المرجّحات أو تأخيرها وجهان،اختار الشيخ الطوسي رحمه اللّه في أوّل7.

ص: 400


1- كفاية الاصول ص 517.

الاستبصار تقديمها علي الشهرة و غيرها،قال:فينبغي أن ينظر في المتعارضين، فيعمل علي أعدل الرواة في الطريق،و إن كانا سواء في العدالة،عمل علي أكثر الرواة عددا،لكن لم يذكر الترجيح بها في العدّة،فلاحظ.

و نسب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إلي المشهور الثاني،قال:فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي علي الترجيح بالشهرة و الشذوذ،مع أنّ عمل العلماء قديما و حديثا علي العكس علي ما يدلّ عليه المرفوعة الخ (1).

أقول:إن كان المدرك للترجيح بالصفات خبر عمر بن حنظلة،فمقتضاه التقديم في مورد يكون النظر دخيلا،فإذا كان الراوي يعمل بالخبر مع اطّلاعه علي الخبر الآخر فأفقهيّته مرجّحة لخبره.و أمّا ترجيح الأخبار بعضها علي بعض من حيث الخبريّة،فإنّما يكون بالأقربيّة إلي الصدور،فقد لا يكون فرق بين نقل الأفقه و الفقيه.

و إن كان المدرك للترجيح عدم حجّية بعض الأخبار لعدم كون مضمونه حكما واقعيّا؛لاشتمال الأخبار علي أخبار ليست بحجّة:إمّا لكونها صادرة تقيّة،أو لعدم حجّية دلالتها لعدم نقل القرائن،أو لعدم تلقّي مضمون الخبر من أجل سوء فهم الراوي أو غير ذلك،فينبغي تقليل الاحتمالات مهما أمكن،فإن كان الخبر ذو الصفات أقرب من الخبر المخالف للعامّة،فينبغي أن يقدّم عليه،مثلا لو سئل زرارة عن مسألة،فروي فيها رواية كان معتقدا بمضمونها،و كان مطّلعا علي صدور خبر آخر مخالف رواه عمّار مثلا،قدّم خبر زرارة،و إن كان خبر عمّار مشهورا و كان فيه سائر المرجّحات،لكن ليس لنا سبيل إلي تشخيص ذلك إلاّ نادرا.

و أمّا مجرّد كون الراوي لأحد الخبرين أفقه،فهذا لا يدلّ علي اطّلاعه علي2.

ص: 401


1- فرائد الاصول ص 772.

المعارض و ترك عمله به،فلا يستفاد من الأخبار الترجيح بمجرّد صفات الراوي.

نعم مقتضي القاعدة تقديم ما فيه الصفات علي خبر ليس فيه الصفات،لا تقديم خبر فيه الصفات علي الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

و الحاصل أنّ الترجيح بالصفات المنصوصة في المقبولة و المرفوعة و خبر «يأخذ بأعدلهما»إنّما يكون في مورد يعتقد الراوي صحّة مضمونه،و هذا لا سبيل لنا إلي إثباته،فهذه الصفات المذكورة في المقبولة و المرفوعة مرجّحات الصدور و المضمون،و لا خبر يدلّ علي مرجّحات الصدور فقط.

و أمّا الصفات الاخر،فهي توجب أقربيّة الصدور،و ينبغي مراعاتها مع عدم المعارضة بوجود مرجّح في الطرف الآخر،و أمّا مع وجوده فمقتضي إطلاق دليل المرجّح الآخر عدم اعتبار مرجّح الصدور،مثلا إطلاق قوله«خذ بما خالف العامّة»يشمل ما لو كان الخبر الموافق أصدق من الخبر المخالف للعامّة.

و لا يبعد أن يكون سائر المرجّحات مقدّما علي المرجّح الصدوري؛لأنّ كون الراوي أصدق من راوي الخبر الآخر لا يجعله أفضل من الخبر القطعي الصدور، و هو قد يصدر تقيّة.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذهب إلي أنّ المرجّح الصدوري مقدّم علي المرجّح الجهتي،قال:لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا، كما في المتواترين،أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما و ترك التعبّد بصدور الآخر،و فيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضي أدلّة الترجيح،إلي آخر ما أفاده (1).

قلت:إن كان لنا دليل علي مرجّح الصدور فقط المقتضي لعدم صدور الآخر2.

ص: 402


1- فرائد الاصول ص 812.

كان ما أفاده صحيحا،لكن لا نجد ذلك.

الترجيح الثاني:الترجيح بشهرة أحد الخبرين عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و له صور:

الصورة الاولي:أن يكون أحدهما مشهورا،بأن روي مضمون أحدهما جمع كثير،نظير ما روي في عدم إرث الزوجة من العقار،فقد رواه جماعة تقرب من عشرة،و إن كان عدد الحديث في الوسائل سبعة عشر،و روي معارضه واحد أو اثنان،أو يكون عملهم بأحد الخبرين مشهورا،بأن لا يمتاز أحدهما علي الآخر بشهرة أو كثرة رواية،لكن كان عمل أصحاب الأئمّة علي أحدهما.

ففي كلا الموردين يكون الخبر المشهور رواية أو عملا،أرجح من الخبر الآخر الموافق للكتاب،و يخصّص به الكتاب،و لا ينظر إلي الآخر،لكن بشرط عملهم بالخبر.قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة:فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة،ينبغي أن يرجّح علي الخبر الذي عمل به قليل منهم (1)انتهي.

و لعلّ مراده الأعمّ من عمل أصحاب الأئمّة،أو عمل الطائفة المعاصرة للشيخ ما لم يعلم مخالفتهم لعمل أصحاب الأئمّة.

الصورة الثانية:أن يكون أحد الخبرين مشهورا،و لم يعلم عمل أصحاب الأئمّة به،و عارضه خبر آخر من فقيه عالم بالخبر،ففي تقديم المشهور لأنّه أقرب صدورا،أو تقديم الخبر الذي يعمل به الأفقه كزرارة لاطّلاعه علي أنّ الخبر المشهور صادر تقيّة أو لمصلحة اخري،إشكال.

و يمكن ترجيح الثاني،و هو ظاهر المقبولة،حيث رجّح الأفقه و قدّمه علي الترجيح بالشهرة،لكن لا سبيل لنا إلي إحراز ذلك،و مضي الكلام في أقسام8.

ص: 403


1- عدّة الاصول ص 388.

الشهرة،فلاحظ.

و لا يبعد أن يكون الترجيح بالشهرة المذكورة عند الرواة باحدي الصورتين مقدّما علي الترجيح بموافقة الكتاب؛لأنّها تكشف عن صدور الخبر عن المعصوم لبيان الحكم الواقعي،فيكون مخصّصا لعموم الكتاب،فيكون الخبر الآخر الموافق للكتاب:إمّا غير صادر عن المعصوم،أو صادر علي نحو لا يكون بيانا للحكم الذي يجب العمل به.

و كذا يكون الترجيح بها مقدّما علي جهة الصدور؛لأنّ الشهرة العمليّة بين الرواة كاشفة عن صدور الحكم الواقعي عن المعصوم،فيكون الحكم الواقعي موافقا للعامّة.و كذا يتقدّم علي المرجّح الصدوري المحض؛لأنّ الشهرة المذكورة من المرجّحات الصدوريّة المضمونيّة.

الصورة الثالثة:مجرّد شهرة الخبر من دون العمل به،و لم يحرز عدم العمل و لا الاعراض عن الخبر،فتكون من المرجّحات الصدوريّة المحضة،فيتقدّم عليها المرجّح المضموني،أعني:موافقة الكتاب،و كذا يتقدّم عليه مرجّح جهة الصدور، و وجهه ظاهر ممّا مرّ،فتأمّل و لا بدّ من مراعاة الاحتياط.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذكر أنّ الشهرة من المرجّحات الخارجيّة،و قسّم المرجّح الخارجي إلي قسمين:

القسم الأوّل:المرجّح الذي هو معتبر في نفسه،و هو موافقة الكتاب،و جعله مرجّحا مضمونيّا،و قدّمه علي جميع المرجّحات،لكن لم يستبعد تقديم شهرة احدي الروايتين عليه (1).

القسم الثاني:المرجّح الذي ليس معتبرا في نفسه،كالشهرة و جعله مرجّحا0.

ص: 404


1- فرائد الاصول ص 820.

مضمونيّا،قال:ثمّ الدليل علي الترجيح بهذا النحو من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع،و إن كان خارجا عن الخبرين.ثمّ أخذ في بيان الدليل و رفع ما يمنع عنه (1).

و لم يستبعد تقدّمه علي جميع المرجّحات،أي:علي الترجيح بموافقة الكتاب، و علي الترجيح السندي و الترجيح الجهتي،علي فرض أن يكون ترجيح المخالف للعامّة من أجل احتمال صدور الموافق تقيّة،لا من أجل كون فتاوي العامّة تستند إلي الأخبار المكذوبة و القياس و الاستحسان،فيكون المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فيكون مرجّحا مضمونيّا.

قال:و أمّا الترجيح من حيث السند،فظاهر مقبولة عمر بن حنظلة تقديمه علي المرجّح الخارجي،لكن الظاهر أنّ الأمر بالعكس؛لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلي الواقع،فإنّ الأعدل أقرب إلي الصدق من غيره،بمعني أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل و كذب العادل،فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع،و خبر الأعدل مظنون المخالفة،فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة،و كذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة،بناء علي أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة (2)انتهي.

و حاصله أنّ الميزان هو الأقربيّة إلي الواقع،و خبر العادل الموافق للشهرة أقرب من خبر الأعدل،و كذلك الخبر الموافق للشهرة مقدّم علي الخبر المخالف للعامّة،فإنّه بناء علي أنّ الخبر المخالف للعامّة أقرب إلي الواقع يكون أرجح من الخبر الموافق للشهرة أو مساويا له،و أمّا بناء علي أنّ احتمال التقيّة موجود في الخبر الموافق،يكون الخبر الموافق لهم الموافق للشهرة مقدّما.7.

ص: 405


1- فرائد الاصول ص 814.
2- فرائد الاصول ص 817.

و قال أيضا:إنّ أوّل المرجّحات الخبريّة في المقبولة هي شهرة احدي الروايتين و شذوذ الاخري،و لا بعد في تقديمه علي موافقة الكتاب (1)انتهي.

أقول:إنّ شهرة الرواية فقط من دون إحراز عمل رواة الرواية و عدم عملهم بها تكون من مرجّحات الصدور فقط،و سائر المرجّحات مقدّمة عليها،و شهرتها مع عملهم بها تكون من مرجّحات المضمون و الصدور،فتتقدّم علي المرجّح الصدوري المحض و علي موافقة الكتاب وجهة الصدور،و مع إحراز عدم عملهم بها تكون موهنة لها.

و حيث إنّ حجّية شهرتهم للكشف عن نصّ واصل إليهم من المعصوم يكون مخصّصا للكتاب،فلا بدّ من إحراز ذلك،و هو قليل،فينبغي مراعاة الاحتياط.

تنبيه:

لا يخفي أنّ الشهرة إن أوجبت أن يكون الخبر قطعيّ الصدور و لو مضمونا،كان المخالف للخبر المشهور شاذّا ساقطا عن الحجّية؛لمخالفته السنّة القطعيّة،و لا يكون تقديم الخبر المشهور عليه من باب ترجيح أحد الخبرين علي الآخر،حتّي يقال:إنّ من قال بعدم وجوب الترجيحات-كصاحب الكفاية-يقول بحجّية خبر الشاذّ،بل انّه يكون من تمييز الحجّة عن اللاحجّة،و من ذلك يظهر أنّ خبر عمّار الدالّ علي أنّ البنت تبلغ بثلاث عشرة سنة ليس معارضا لسائر الأخبار حتّي يلاحظ الترجيح بينها،بل هو خبر شاذّ ليس بحجّة حتّي عند صاحب الكفاية.

الترجيح الثالث:الترجيح بموافقة الكتاب،و له صورتان:

الصورة الاولي:أن يكون الخبر المخالف للكتاب بحيث لو كان وحده و لم يكن له معارض،كان مخصّصا للكتاب،بناء علي تخصيص الكتاب بخبر الواحد،

ص: 406


1- فرائد الاصول ص 820.

و المانع عن تخصيصه ابتلاؤه بمعارض مثله،كما إذا تعارض أكرم زيدا العالم،و لا تكرم زيدا العالم،و كان في الكتاب عموم يدلّ علي وجوب إكرام العلماء،و حينئذ لو لم يكن في الخبر المخالف سائر المرجّحات،قدّم الموافق عليه؛لموافقته للكتاب و ابتلاء الآخر بمعارض في رتبته.و أمّا إن كان في المخالف مرجّح علي الموافق من الأصدقيّة أو المخالفة للعامّة،ففي ترجيح أيّهما و جهان.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ مقتضي القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ الخبران مع قطع النظر عن الكتاب،فإن كان الخبر المخالف أرجح من الموافق صدورا وجهة اخذ به و يخصّص به الكتاب،و إن لم يكن أرجح اخذ به تخييرا و يخصّص به الكتاب،و وجهه أنّ الخاص ليس معارضا للعامّ؛لأنّه قرينة علي المراد به،فلا معارضة بين الخبر الخاصّ و الكتاب،لكن لمّا كان مبتلي بالمعارض و هو الخبر الموافق،فلا بدّ من علاج معارضته بالترجيح أو التخيير.

إن قلت:إنّ أخبار العرض علي الكتاب تدلّ علي لزوم أخذ الخبر الموافق للكتاب.

قلت:هذه الأخبار محمولة علي ما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بالمباينة (1)انتهي ملخّصا.

ثمّ عدل عنه و قال:إنّ من أخبار العرض علي الكتاب ما دلّ علي ترجيح الخبر الموافق علي المخالف،و المراد به في مقام الترجيح ترجيح الموافق للعموم علي المخالف للعموم،و المراد بالمخالفة في أخبار العرض الدالّة علي أنّ المخالف زخرف المخالفة بالمباينة و لا بأس بالتفكيك.

أقول:تقدّم أنّ المخالف للكتاب أعمّ من المخالفة بالتباين و العموم8.

ص: 407


1- فرائد الاصول ص 818.

و الخصوص،و لكن الظاهر الأخذ بالخبر الموافق للكتاب إن كان الخبر المخالف أصدق راويا أو مخالفا للعامّة فقط.

الصورة الثانية:أن يكون ظاهر الكتاب الأمر بشيء بصيغة افعل مثلا،و كان الخبران المتعارضان أحدهما دالاّ علي جواز الترك،و الآخر دالاّ علي وجوب العمل،و حينئذ لو كان الخبر الدالّ علي جواز الترك وحده،لكان قرينة علي التصرّف في ظاهر الكتاب،لكن الخبر الآخر يترجّح عليه بموافقته للكتاب فيقدّم عليه.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الموافق كذلك للكتاب يتقدّم علي المخالف إن لم يكن فيه مرجّح،و هو واضح.و إن كان فيه مرجّح،فإن كان أعدليّة الراوي،فأيضا يتقدّم الموافق؛لأنّ أعدليّة المخالف لا يقاوم قطعيّة الكتاب الموافق للخبر الآخر، و أيضا يتقدّم علي الترجيح بمخالفة العامّة؛لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة،و يتقدّم علي المرجّحات الخارجيّة؛لأنّ الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار (1)انتهي.

و الحاصل أنّ المرجّح المضموني مقدّم علي سائر المرجّحات.

أقول:إن كان الخبر المخالف للكتاب مشهورا و معمولا به عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كشف ذلك عن صدوره عنهم عليهم السّلام فينبغي الأخذ به.

الترجيح الرابع:الترجيح بمخالفة العامّة،فإن كان ترجيح المخالف من أجل دلالته علي صدور الآخر تقيّة،كان مرجّحا جهتيّا،أي:يرجّح كون الخبر المخالف صادرا لبيان الحكم الواقعي،و الآخر صادرا تقيّة،و إن كان ترجيح المخالف من أجل أقربيّة مضمونه للواقع و مخالفة الآخر له من حيث انّ أحكام العامّة تستند إلي9.

ص: 408


1- فرائد الاصول ص 819.

القياس و الاستحسان و الأخبار المكذوبة،فيكون الترجيح بمخالفة العامّة مرجّحا مضمونيّا،كالشهرة عند الأصحاب،أي:انّ مضمون الخبر مطابق للواقع بالنسبة إلي الخبر الآخر.

و علي الأوّل،أي:كونه مرجّحا جهتيّا،فإذا عارضه مرجّح صدوري،بأن كان الخبر المخالف للعامّة خبر الصادق،و الخبر الموافق لهم خبر الأصدق،ففي تقدّم الأصدق كما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،أو تقديم الصادق المخالف للعامّة،كما اختاره الوحيد رحمه اللّه (1)و الميرزا الرشتي رحمه اللّه (2)،أو التخيير بينها إن لم يحرز أقوائيّة أحدهما مناطا،كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه اللّه،وجوه.

و لا يخفي أنّه علي الثاني،أي:كونه مرجّحا مضمونيّا،فالظاهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه مقدّم علي المرجّح الصدوري،فإنّه قال في ذيل كلامه في تقديم المرجّح الصدوري علي الخبر المخالف للعامّة:هذا كلّه علي تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة.أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلي الحقّ و أبعد عن الباطل،كما يدلّ عليه جملة من الأخبار،فهي من المرجّحات المضمونيّة،و سيجيء حالها مع غيرها (3)انتهي.

و قال في الأمر الثاني في ذيل المرجّح الخارجي غير المعتبر،بعد أن ذكر أنّ المرجّح المضموني مقدّم علي المرجّح السندي،قال:و كذلك الكلام-أي:تقديم المرجّح المضموني علي مخالفة العامّة-في الترجيح بمخالفة العامّة،بناء علي أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة (4)انتهي.7.

ص: 409


1- الفوائد ص 120.
2- بدائع الأفكار ص 455 و 457.
3- فرائد الاصول ص 813.
4- فرائد الاصول ص 817.

أي:يقدّم المرجّح المضموني الموجود في الخبر الموافق للعامّة علي المخالف لهم،بناء علي أنّ تقديم المخالف من باب احتمال التقيّة في الموافق دونه.و أمّا بناء علي أنّ المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فهو أيضا مرجّح مضموني،فلا يتقدّم الموافق لهم المشتمل علي المرجّح المضموني علي المخالف؛لأنّهما متساويان في الاشتمال علي المرجّح المضموني.

و بما ذكرنا ظهر أنّ ما أورده عليه في الكفاية:بأنّ حديث فرعيّة جهة الصدور علي أصله إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصدور بل من مرجّحاتها (1).إنّما يتوجّه عليه بناء علي أن لا يكون مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة،و إلاّ فإنّها مقدّمة علي المرجّح السندي عنده.

و الذي ينبغي أن يقال:هو أنّ الأمر إن دار بين أصل صدور الخبر الموافق للعامّة و عدم صدور الخبر الآخر المخالف،يقدّم أصل الصدور،و هو الخبر الموافق للعامّة؛لأنّه لا يبقي مجالا للحمل علي التقيّة،فكلام الشيخ متين.و أمّا ما أورده عليه في الكفاية،فهو خلاف المعهود من صدور أخبار التقيّة عنهم،كما تقدّم.

و أمّا ما أورده عليه الوحيد رحمه اللّه،و اختاره في بدائع الأفكار،علي ما حكاه في الكفاية من أنّه إذا اختلف الخبران من حيث الصدور،قدّم الأرجح صدورا،و لا يجوز التعبّد بصدورهما و حمل أحدهما علي التقيّة،و لازمه عدم جواز التعبّد بما إذا لم يكن أحدهما أرجح صدورا،بل كانا متساويين و حمل أحدهما علي التقيّة مع أنّه يلتزم به.فيرد عليه أنّه يحتمل صدور الموافق و كونه موافقا للواقع،و يحتمل عدم صدور المخالف للعامّة،و صدوره مخالفا للحكم الواقعي.

و الحاصل أنّ دليل التعبّد بحجّية الخبر يشملهما علي السواء،و حينئذ يحمل9.

ص: 410


1- كفاية الاصول ص 519.

أحدهما علي التقيّة،بخلاف ما إذا كان أحدهما أرجح صدورا،فإنّ تقديمه يوجب عدم شمول دليل حجّية الخبر للآخر.فتأمّل.

و أمّا إن دار بين الأصدق و سائر صفات الراوي بدون عمله بالخبر،قدّم المخالف للعامّة،و أمّا مع عمل الأصدق الأفقه،فينبغي مراعاة الاحتياط؛لأنّ مقتضي مقبولة عمر بن حنظلة تقديم الخبر الواجد للصفات.

فذلكة:

ينبغي أن يقال:إنّ الناس مكلّفون بما تضمّنته الأخبار التي بأيدينا،فكلّ خبر لم يكن له معارض يعمل به إلاّ إذا كان موجبا لتخصيص الكتاب و نحوه فيحتاط،و قد تقدّم كيفيّته،و إن تعارضت عمل بالمشهور منها عملا عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام لأنّه يستبعد عملهم به من دون معرفة بصدوره،أو صدوره تقيّة،فيكون كالمقطوع الصدور يخصّص به الكتاب،لكن لا طريق لنا غالبا إلي إثبات شهرة عملهم.

و يمكن إحرازها بكثرة رواية مضمون الخبر،كالأخبار الواردة في عدم إرث الزوجة من العقار.

فأوّل المرجّحات شهرة عمل أصحاب الأئمّة الكاشفة علما أو اطمئنانا عن فتوي المعصوم.

ثمّ بعد ذلك يرجّح بموافقة الكتاب؛لأنّ الخبرين مشمولان لدليل الحجّية،و لا يقوي الخبر المخالف علي تخصيص الكتاب؛لأنّ له معارضا في مرتبة ظهوره،فلا دليل علي رفع اليد عن ظاهر الكتاب،فالترجيح بموافقة الكتاب ثاني الترجيحات.

ثمّ بعد ذلك لا بدّ من الاحتياط بين الخبرين،إن لم يحرز صدور أحدهما تقيّة من حيث عدم وضوح مذهب المخالفين و نحوه،فالترجيح بمخالفة العامّة يكون بإحراز موافقة أحد الخبرين لجميع العامّة بحيث لا يحتمل التقيّة في الخبر الآخر،

ص: 411

و هو ثالث المرجّحات،و إن لم يمكن الاحتياط بين الخبرين و لم يحرز الصادر تقيّة و دار الأمر بين الأحدث و مخالف العامّة،علي حسب ما يقال من أنّه مخالف للعامّة،احتاط بين الأحدث و مخالف العامّة إن أمكن و إلاّ تخيّر.

و الوجه فيما ذكرنا أنّ اختلاف الأخبار ليس منشؤها منحصرا في التقيّة، و أخبار العلاج مع عدم وضوح سند بعضها متعارضة في أنفسها،فمقتضي ملاحظة جميع الاحتمالات ما ذكرناه من تقديم الشهرة المذكورة،ثمّ موافقة الكتاب،ثمّ الاحتياط،ثمّ الترجيح بما يكون أقرب إلي الواقع،فتدبّر.

الفصل الثاني: في الاجتهاد و التقليد
اشارة

لا يخفي أنّه يجب بحكم العقل علي كلّ أحد أن يعمل بما يستقلّ به العقل الضروري،فإذا استقلّ عقل غير البالغ بقبح قتل من لا يستحقّ القتل فقتله،فإنّه يستحقّ العقاب،و حديث رفع القلم يرفع الأحكام الشرعية غير ما استقلّ به عقله؛ لأنّ الظاهر من القلم ما كتبه الشارع عليه.و أمّا ما استقلّ به عقله،فلم يضعه عليه قلم التكليف حتّي يرفع عنه برفع القلم.

و يجب علي البالغ أن يعمل في كلّ ما لا يستقلّ به عقله بما ورد في الشرع من الضروريات،و إلاّ وجب عليه تعلّمه بالاجتهاد أو بالتقليد أو بغيرهما إذا أفاد العلم،أو بالاحتياط و لو بالتبعيض،بأن يكون في البعض مقلّدا،و محتاطا في بعض آخر،و ذلك لأنّ الأحكام علي قسمين:

القسم الأوّل:الأحكام الشرعيّة،و هي أحكام واقعية أوّلية و أحكام ظاهرية مجعولة للشكّ،فإنّ الأحكام التي جاء بها النبي صلّي اللّه عليه و آله قد بيّن قسما منها،و أودع قسما منها عند أوصيائه المعصومين عليهم السّلام،لكن بعد وقوع واقعة السقيفة و عدم

ص: 412

التصدّي لأمر الامّة ممّن هو منصوص عليه من اللّه سبحانه اختفي بعضها و لم يظهر بعضها الآخر،فصار التكليف الواقعي الثانوي للشيعة هو ما دلّ عليه الكتاب العزيز بشرائطه المقرّرة،و ما دلّت عليه الأخبار الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام، و ما استقلّ به العقل بشرائطه.

و ما خفي من الأحكام الأوّلية و لم يصل إلينا فهو موضوع عنّا،فإنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،فكلّ واقعة لها حكم واقعي أوّلي مودع عند الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و حكم ثانوي و هو ما بيّنوه مع ما فيه من التقية صدورا أو موردا.

و قد استفاضت الأخبار بأنّ لكلّ واقعة حكما معيّنا عند المعصومين عليهم السّلام،و قد أورد جملة من أخبارها في كتاب هداية الأبرار (1).

ثمّ إنّ العمل بهذه الأحكام يتوقّف خارجا علي تعلّمها،أو تعلّم الحجّة عليها، أي:ما جعله الشارع حجّة،أو استقلّ العقل بحجّيته،و لتعلّمها طرق:

الأوّل:تعلّمها من الأدلّة،و هو يحصل من وجهين:

أحدهما:تعلّم الأحكام المعلومة،كالذي قامت الضرورة عليه،أو دلّ نصّ الكتاب،أو النصّ المسموع عن المعصوم،و نحو ذلك ممّا يكون طريقا لثبوت الحكم حسّا.

ثانيهما:تعلّمها من الدليل فيما إذا كان محتاجا إلي إعمال النظر بإثبات دليلة الدليل و دلالته،و حمل أحد الدليلين علي الآخر،و حمله علي بيان الحكم الواقعي أو غيره،و أمثال ذلك ممّا هو مذكور في اصول الفقه.

و لا بدّ أن يصل المكلّف إلي العلم بالحجّة علي الحكم،سواء حصل له العلم3.

ص: 413


1- هداية الأبرار ص 137-143.

بالحكم الواقعي أم لم يحصل.و عبّر في الأخبار عمّن اتّصف بذلك بالفقيه و العارف بالأحكام،و في الاصطلاح بالمجتهد؛لأنّه يتحمّل الجهد و المشقّة في الوصول إلي الحجّة علي الحكم من مداركه.

الثاني:تعلّم الحكم ممّن تعلّم الحكم،أو ممّن تعلّم الحجّة عليه علي النحو الأوّل،و إن لم يصدق عليه عنوان التقليد،كما إذا سمع من الخطباء فحصل له اليقين،و عبّر عنه في الاصطلاح بالتقليد،و إن لم يصدق مفهوم التقليد علي بعضه، و يوجد لفظ التقليد في بعض الأخبار.

الثالث:أن يتعلّم كيفية الاتيان بالجامع لمحتملات الأدلّة،أو أقوال من تعلّم الحكم علي النحو الأوّل،و يعبّر عنه بالاحتياط،فعمل المحتاط موقوف علي تعلّم كيفيته،و هو أصعب من تعلّم الحكم تقليدا.

القسم الثاني:الأحكام العقلية،و هي علي قسمين:

القسم الأوّل:حكم العقل بلزوم فعل أو تركه بعد إدراكه المصلحة الملزمة بالفعل أو المفسدة الملزمة بالترك،كحسن العدل و قبح الظلم،و هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي أيضا،لأنّ الشارع أكبر العقلاء،فهو أيضا يحكم بهما.و هذا ما يقال من أنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و هذه الأحكام تعمّ البالغ الحدّ الشرعي و غير البالغ،فإذا استقلّ عقل غير البالغ علي قبح قتل نفس ظلما،فإن ارتكبه فهو يستحقّ العقاب عليه.

القسم الثاني:حكمه بلزوم العمل بالأحكام الشرعية و الأحكام العقلية المذكورة دفعا للضرر،كالفرار من العقاب أو شكر المنعم.و هذا حكم العقل في مرحلة الامتثال.

و مرحلة الامتثال و كيفيته و ما يتوقّف عليه لا دخل للمولي فيها لا وضعا و لا رفعا؛لأنّ المولوية فيها إن اقتضت الامتثال تسلسل.

ص: 414

ثمّ إنّ العمل بالأحكام الشرعية يتوقّف عادة علي تعلّمها،فهو راجع إلي مرحلة الامتثال،فيكون وجوب التعلّم من القسم الثاني من الأحكام العقلية،يجب عقلا علي البالغ كما يجب علي غيره قبل بلوغه إذا علم أنّه لا يقدر علي الامتثال بعد البلوغ إن ترك التعلّم قبله؛لأنّه إذا التفت إلي أنّه مكلّف عند البلوغ استقلّ عقله الضروري به.

و ذكرنا في بحث مقدّمة الواجب أنّ التكليف سواء كان منجّزا أو معلّقا أو مشروطا له مقامان:مقام جعل الحكم و هو يرتبط بالمولي،و عليه بيان جميع ما يرتبط به،و بعد بيانه فلا حالة منتظرة حتّي في التكليف المشروط إلاّ حصول شرطه.و مقام يرتبط بالعبد و هو الامتثال،و لا عذر له في ترك امتثاله من غير ناحية وجود شرطه،فإذا علم تحقّق الشرط بعد ذلك،و علم أنّه لا يتمكّن من امتثاله إلاّ بتحصيل مقدّماته قبل وجود الشرط وجب عليه تحصيله،و لذا نقول:إنّه لو علم بأنّه لا يتمكّن من الماء و التراب بعد دخول الوقت وجب عليه تحصيله قبله.

و إن شئت توضيح ذلك،فارجع إلي عرف الموالي و العبيد،فإذا أمر المولي عبده بأن يكرم زيدا إن جاءه علي نحو الواجب المشروط،و علم العبد بمجيئه و أنّه لا يتمكّن من تحصيل مقدّمات ضيافته و إكرامه بعد مجيئه،وجب عليه تحصيله قبل ذلك.و أمّا ما قيل من أنّ المقدّمة تابعة لذيها في الاطلاق و الاشتراط،فهو غير صحيح،بناء علي عدم وجوبها شرعا،كما هو المحقّق.

و قد تلخّص ممّا ذكر أنّه لا عقاب علي ترك التعلّم؛لأنّ وجوبه عقلي في مرحلة الامتثال،و لذا لو اتّفق مطابقة العمل للواقع صحّ و لم يعاقب،هذا كلّه في الأحكام الالزامية.

و أمّا الأحكام غير الالزامية،فلا يجب امتثالها و لا تعلّمها،لكن لمّا كانت

ص: 415

الاحاطة بالأحكام الالزامية غير ميسّرة إلاّ بعد الاحاطة بغيرها وجب تعلّمها.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ وجوب التعلّم عقلي مقدّمة للامتثال لتوقّفه عادة عليه،و إن كان قد يتّفق الامتثال بدون التعلّم.و قيل في وجوب التعلّم وجوه اخر:

الأوّل:أن يكون وجوبا شرعيا نفسيا لنفسه،بأن يكون عمل من طابق عمله الواقع بدون التعلّم صحيحا لكنّه يعاقب علي ترك التعلّم،للأمر بالسؤال من أهل الذكر،و لما روي أنّ طلب العلم فريضة،و لما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام:انّ كمال الدين طلب العلم و العمل به،ألا و انّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال.و غيرها.

و قد جمع الأخبار الدالّة علي وجوب التعلّم في الباب الأوّل من مقدّمات جامع الأحاديث.

و فيه نظر،فإنّه مخالف للأخبار؛لظهورها في الارشاد إلي توقّف الاعتقادات الصحيحة في اصول الدين و العمل بالأحكام الشرعية علي التعلّم،و لا تدلّ علي الوجوب النفسي الموجب لتعدّد العقاب علي تارك العمل جهلا تقصيرا،أحدهما علي ترك العمل،و ثانيهما علي ترك تعلّم الحكم.

الثاني:أن يكون وجوبه نفسيّا لا لنفسه بل لغيره:إمّا للتهيّؤ لايجاب غيره،أو لانبعاثه عن نفس مصلحة الواقع ايصالا له بعنوان آخر.اختاره المحقّق الخراساني في متن الكفاية (1)،بناء علي عدم اتّصاف الواجب المشروط و الموقّت بالوجوب إلاّ بعد الشرط و الوقت،كما هو ظاهر الأدلّة و فتاوي المشهور.

و فيه نظر،لما تقدّم من أنّ الوجوب عقلي محض.

الثالث:أن يكون الوجوب عقليّا يستقلّ به العقل،و لعلّه مراد المحقّق7.

ص: 416


1- كفاية الاصول ص 427.

الخراساني في هامش الكفاية (1)،فلاحظ،و لعلّه يرجع إلي ما ذكرناه.

الرابع:أن يكون الوجوب شرطيّا لتوقّف صحّة العبادة و المعاملة عليه،و علي ذلك فالعبادة المطابقة للواقع المقرونة مع قصد القربة باطلة؛لفقد شرطها و هو التعلّم،و كذا المعاملة.

قال في الحدائق:المشهور بينهم عدم معذورية الجاهل،و فرّعوا علي ذلك بطلان عبادته،و هو عندهم من لم يكن مجتهدا و لا مقلّدا و إن طابقت الواقع (2)انتهي.

أقول:و سيأتي عدم اشتراط التعلّم في صحّة العبادة.

الخامس:أن يكون الوجوب طريقيا،بمعني ايجابه بداعي تنجيز الواقع عند الموافقة،و الإعذار عند المخالفة.

أقول:هذا شبيه بالوجوب المقدّمي،ثمّ إنّه هل يجب التقليد بناء علي أنّه الالتزام و نحوه زائدا علي وجوب التعلّم وجوبا مقدّميا أو وجوبا نفسيا،أو لا يجب كما هو الأظهر؟يأتي الكلام عليه في مسائل التقليد.

تتميم:إنّ حجّية الاجتهاد بالمعني الذي يقوله العامّة و المعني الذي يقوله الخاصّة أي الشيعة،ممّا ينبغي أن يبحث عنها في الاصول،كما بحث عنها في الذريعة و العدّة؛لأنّ مسائل الاصول هي مباحث الحجّة في الفقه،و عليه ينبغي تقديمه علي بحث التعادل و الترجيح؛لأنّ الترتيب الطبيعي يقتضي البحث عن كلّ واحد من الحجج،ثمّ البحث عن تعارضها،و عليه جري في القوانين و الفصول، لكن من لاحظ أنّ الاجتهاد هو إعمال القواعد المذكورة في الاصول،فهو غاية الاصول،كان ينبغي له أن يبحث عنه في الخاتمة،كما صنعه في الكفاية.

و يقع الكلام في الاجتهاد و التقليد و العمل بالاحتياط في ثلاثة مقامات:7.

ص: 417


1- كفاية الاصول ص 426.
2- الحدائق الناظرة 1:77.
المقام الأوّل: في الاجتهاد
اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف الاجتهاد
اشارة

لا يخفي أنّ كلمة الاجتهاد ما وردت في الأخبار بالمعني الذي اصطلحه الاصوليون من الامامية،و إنّما ذكروه في كتبهم،قال السيّد المرتضي رحمه اللّه في الذريعة:فأمّا الاجتهاد،فموضوع في اللغة لبذل الوسع و الطاقة في الفعل الذي يلحق في التوصّل إليه بالمشقّة،كحمل الثقيل و ما جري مجراه،ثمّ استعمل فيما يتوصّل به إلي الأحكام من الأدلّة علي وجه يشقّ (1).

و قال المحقّق في المعارج:الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية،و بهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهادا؛لأنّها تبتني علي اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر،سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره،فيكون القياس علي هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل:يلزم علي هذا أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.

قلنا:الأمر كذلك،لكن فيه إبهام من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد،فإن استثني القياس كنّا أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس (2)انتهي.

ثمّ إنّ الاجتهاد اصطلاحا قد عرّف بتعاريف:

ص: 418


1- الذريعة للشريف المرتضي 2:672.
2- المعارج ص 179.

الأوّل:ما ذكره العلاّمة الحلّي رحمه اللّه في مباديء الوصول،قال:الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّية الشرعية علي وجه لا زيادة فيه.ثمّ ذكر أنّ الاجتهاد يفيد الظنّ،و انّه قد يخطيء و يصيب،و لا يجوز للمعصومين،و يجوز للعلماء الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن و السنّة و بترجيح الأدلّة المتعارضة،أمّا بأخذ الحكم من القياس و الاستحسان فلا (1)انتهي.

أقول:لعلّ ظاهر كلامه عدم إطلاق الاجتهاد علي اليقين الحاصل بالحكم الواقعي من الكتاب و السنّة،و مراده من الظنّ بالحكم الظنّ بالحكم الواقعي.

أمّا الحكم الظاهري-و بعبارة اخري:وظيفة المكلّف في الظاهر-فهو قطعي إن دلّ الدليل القطعي علي حجّية الاجتهاد،أو دلّ دليل قطعي علي حجّية ظنّ المجتهد الحاصل من كلمات العلماء و الأخبار،كما يظهر من صاحب الجواهر أنّه يري حجّية ظنّ المجتهد الحاصل من كلمات العلماء و الأخبار.

حيث قال:لكن الانصاف أنّ التأمّل في عبارات الأصحاب و الروايات يورث الفقيه الظنّ بالجواز لظهورها في إرادة المسح بما بقي عدم استئناف الماء الجديد، كما هو مذهب العامّة (2).

و قال:فإنّ الآية«فليستعفف»و إن اشتملت علي الأمر الظاهر في الوجوب خصوصا في أوامر الكتاب،لكن المادّة تشعر بالندب،فيضعف الظنّ بإرادته.

و قال:نعم يقوي الظنّ بما سمعته من انطباق ذلك علي اجرة المثل (3).

إن قلت:إنّ مراده بالظنّ في مقابل الأدلّة القطعية،كالظواهر و خبر الواحد،لا4.

ص: 419


1- مباديء الوصول ص 240.
2- جواهر الكلام 2:192.
3- جواهر الكلام 28:443-444.

الظنّ الشخصي.

قلت:ظاهر كلامه الظنّ الشخصي؛لأنّ قوله تعالي وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ (1)نظير قوله تعالي وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً (2)فكيف صار مادّة«فليستعفف»مشعرة بالندب إلاّ بظنّه الشخصي،و لاحظ سائر الموارد التي يذكر فيها اعتبار ظنّ المجتهد.

و قد تعرّض لحجّية ظنّ المجتهد مفصّلا في مفاتيح الاصول،قال:و للآخرين أيضا وجوه أي لمن قال بحجّية ظنّ المجتهد (3)فلاحظ.

و قال أيضا:الثاني:قال جدّي في جملة كلام له:و بالجملة الأصل عدم حجّية الظنّ،خرج من ذلك ظنّ المجتهد بالاجماع و الضرورة الخ (4).

و قال أيضا:الثامن حاصله بناء علي أصالة حجّية الظنّ أنّ الظنّ الذي قام دليل ظنّي علي حجّيته حجّة،و هل يلحق به الظنّ الذي يشكّ في حجّيته و لم يقم دليل ظنّي علي حجّيته و لا علي عدم حجّيته،فيكون الأصل فيه الحجّية أو لا؟المعتمد الأوّل (5).

الثاني:ما عن الشيخ البهائي من أنّه ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة (6).

قوله«أو قوّة»عطف علي«فعلا»أي:يقتدر فعلا أو قوّة قريبة لفقد بعض5.

ص: 420


1- سورة النساء:6.
2- سورة النور:33.
3- مفاتيح الاصول ص 460.
4- مفاتيح الاصول ص 491.
5- مفاتيح الاصول ص 492.
6- الزبدة ص 115.

شروط الاستنباط الفعلي،كالالتفات إلي المسألة و دليلها و استحضار مداركها، و قيل:عطف علي«ملكة»و هو بعيد.

و لعلّ ظاهر قوله«يقتدر»أنّه يقتدر علي القطع بوظيفة المكلّف بسبب استنباط الحكم الفرعي لا الاستنباط الظنّي،إلاّ إذا قام دليل قطعي علي حجّية ظنّ المجتهد.

و ظاهر قوله«ملكة»أنّ الاجتهاد هي الملكة نفسها و إن لم يستنبط بالفعل،و لذا اورد عليه بأنّ عنوان الفقيه و العارف بالأحكام و نحوهما المذكور في الأخبار لا يصدق إلاّ علي من كانت له حجّة علي أحكامهم،و ملكة الاجتهاد تحصل دائما بسبب معرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط لا بنفس الاستنباط،بخلاف ملكة السخاوة و الشجاعة و نحوهما،فإنّها قد تحصل بتكرّر الفعل المناسب لها.

أقول:ظاهر هذا التعريف للاجتهاد أنّ ملكة الاجتهاد تحصل و إن لم يستنبط صاحبها أصلا.

و فيه نظر أوّلا:أنّ الاستنباط يتوقّف علي معرفة لحن كلامهم،و لا يحصل ذلك إلاّ بعد الاطّلاع علي الأخبار و تطبيق الكبريات علي الصغريات،و لا تحصل الملكة بدون المرور علي الأخبار.

و ثانيا:أنّ ملكة الاستنباط لا تحصل إلاّ بعد معرفة علم الاصول،و هي لا تحصل إلاّ بعد الاستنباط،فإنّ من مسائله مسألة حجّية الخبر الواحد،و حجّية الاستصحاب،و البراءة الشرعية،و هذه المسائل لا تنقح إلاّ بعد ايراد أدلّة الطرفين و ترجيح أحد الطرفين،و هذا الاستنباط مسانخ للاستنباط في الحكم الفرعي.

الثالث:ما جعله في الكفاية (1)أولي،و هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة علي الحكم،و زاد عليه بعضهم،فقال:تحصيل الحجّة علي الحكم عن ملكة،9.

ص: 421


1- كفاية الاصول ص 529.

و الأولي أن يقال:تحصيل الوظيفة الفعلية بإقامة المؤمّن عليها،و لا يخفي أنّ ذلك لا يحصل بدون الملكة.

و الذي ينبغي أن يقال:إنّ بعض الأحكام يترتّب علي الاجتهاد بمعني الملكة، و بعضها يترتّب علي الاستنباط عن ملكة،فمن الأوّل حرمة التقليد عليه،لعدم شمول أدلّته لمن يتمكّن من تحصيل الوظيفة العملية بإقامة الحجّة عليه.

و من الثاني وجوب عمله بما استنبطه و نفوذ قضائه و جواز تقليده،و هي متفرّعة علي عنوان الفقيه و العارف بأحكامهم الناظر في الكتاب و السنّة،إن استخرج الوظيفة العملية من ظاهر الكتاب و الأخبار،مع ملاحظة القرائن الحالية و المقالية علي حسب استفادة المشافهين و المخاطبين بهما،نظير فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كزرارة و أضرابه،أو من حكم العقل المتّفق عليه،أو الاجماع و الشهرة الكاشفين عن رأي المعصوم،فإذا استنبط الفقيه كذلك جاز تقليده و نفذ حكمه فيما استنبطه و إن كان حكما واحدا.

مسألتان:
المسألة الأولي:لا فرق في حجّية فتوي المجتهد بين الانسدادي و الانفتاحي

إذا كان مجتهدا بالمعني المذكور،أي:مستنبطا من الكتاب و السنّة،سواء علي القول بالكشف أو الحكومة،و أمّا إذا كان مقتضي الانسداد حجّية كلّ ظنّ و إن كان حاصلا من غير الكتاب و السنّة،فهو و إن كان حجّة علي نفسه،لكن في نفوذ قضائه و جواز تقليده في المسألة التي ظنّ بها إشكال.

و أمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ الانسدادي ليس عالما بالحكم،فالرجوع إليه ليس من رجوع الجاهل إلي العالم بل إلي الجاهل،و قضية مقدّمات الانسداد حجّية ظنّه عليه،لأنّه الذي انسدّ عليه باب العلم و العلمي،و العقل يحكم بحجّيته عليه،أو يكشف عن جعل الشارع ظنّه حجّة عليه،فيشكل جواز تقليده،و كذا نفوذ

ص: 422

قضائه؛لأنّه ليس ممّن يعرف الأحكام،مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم كما في المقبولة إلي آخر ما أفاده (1).

ففيه أنّه ينبغي التفصيل الذي ذكرناه،فإن كانت نتيجة المقدّمات حجّية الأخبار و ظواهرها العرفية كان مثل القائل بالانفتاح و إن كانت مطلق ظنّ المجتهد و إن كان خارجا عن الانفهام العرفي مثلا،أو كان حاصلا من غير الكتاب و السنّة،فهو كالقائل بالانفتاح القائل بحجّية ظنّ المجتهد لا دليل علي جواز تقليده و نفوذ حكمه (2).

المسألة الثانية:الاجتهاد ينقسم إلي مطلق و متجزّيء

،و المراد بالأوّل القدرة علي استنباط جميع الفروع من أدلّتها،و المراد بالثاني القدرة علي استنباط بعض المسائل علي وجه لم يكن فرق بينه و بين المطلق في استنباطه،فمن لا يقدر علي استنباط المسائل المبنية علي مسألة اجتماع الأمر و النهي،أو لا يقدر علي استنباط بعض المسائل التي تختلف الروايات فيها اختلافا شديدا،لكنّه يقدر علي استنباط أحكام المياه مثلا كما يستنبط المجتهد المطلق فهو متجزّيء،و لا ريب في امكانه و وقوعه،و الظاهر جواز عمله به و جواز تقليده و نفوذ قضائه و إن كان في مسألة واحدة.

نعم يعتبر فيه و في المجتهد المطلق أيضا أن يمرّ علي المسألة مرّة بعد اخري، فلو أدّي نظره إلي ما يخالف الفقهاء لم يجتريء علي العمل بنظره،بل يتأمّل في المسألة و يمرّ علي سائر المسائل؛لأنّا نري بالوجدان ازدياد قوّة الاستنباط و لذا يتبدّل الرأي،و لا يقاس الاجتهاد في هذه الأعصار باجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام، و بالجملة لا بدّ من أن يطمئنّ بأنّه لا يتبدّل رأيه بعد طول المدّة.

ص: 423


1- كفاية الاصول ص 530.
2- راجع:التنقيح في شرح العروة الوثقي 1:241.
الفصل الثاني: في شرائط الاجتهاد
اشارة

و قد ذكروا له شروطا:

الشرط الأوّل:معرفة اللغة العربية و قواعد النحو و الصرف

ممّا يتوقّف عليه فهم الكتاب و السنّة.و يعتبر أن يمارس اللغة العربية حتّي يعرف ظهور الألفاظ في معانيها، و لا بدّ له من التتبّع بعد ذلك و الاستئناس بالروايات ليكون بصيرا بموارد استعمالاتها.

و حيث قلنا في محلّه:إنّ المعتبر هو ظهور اللفظ عند المخاطبين و عرف الأئمّة عليهم السّلام و رواتهم،فلا بدّ أن يكون عارفا بالعربية،بحيث يصير نظير المخاطبين و ابن عرفهم،و يستظهر من الألفاظ بمعونة القرينة و ممارسة الأخبار مثل استظهارهم.

و بالجملة لا بدّ أن يكون في مقام الاستظهار خاليا ذهنه عن جميع ما يوجب صرف الظاهر عن ظهوره،بأن لا يكون عظمة استاذه و حسن الاعتقاد به و ما ألفه ذهنه من المحيط الذي يعيش فيه،و من التسالم الذي ربما يتّفق في المتأخّرين في بعض المسائل دخيلا في استظهار المعني من اللفظ،و قد ذكرنا في بحث حجّية الظواهر تفصيل ذلك،و حصول هذا الشرط صعب،كما أنّ إحراز وجوده في من يدّعي الاجتهاد صعب أيضا.

ثمّ إنّه هل يكفي التقليد في معرفة هذه العلوم الدخيلة في فهم ظواهر الكلام، فيكتفي بقول لغوي واحد أو نحوي واحد،أو لا بدّ من تحصيل الوثوق من الاستقراء لكلام جماعة من اللغويّين و النحويّين،فإن لم يحصل يرجع إلي ما يقتضيه دليل الانسداد في الأحكام الشرعية،أو يكفي تحصيل الظنّ من مراجعة الكتب المعدّة لذلك؟وجوه أقواها أوسطها،و لا يعتمد علي مجرّد استظهاره و ظنّه

ص: 424

ما لم يكن مؤيّدا بفهم أهل العرف المعاصرين للمعصومين عليهم السّلام.

و قيل:إنّ الأصوليين و الفقهاء لم يتركوا شيئا ممّا يحتاج إليه المجتهد من اللغة و غيرها إلاّ و تعرّضوا له.

أقول:و مع ذلك ينبغي التثبّت.

الشرط الشرط الثاني:تعلّم العلوم العقلية،كعلم المنطق و علم الكلام

،حتّي يعرف قبح التكليف بما لا يطاق،و أنّ اللّه لا يفعل القبيح،و بطلان الدور و التسلسل،و قاعدة اللطف،و عدم جواز الترجيح من غير مرجّح.

أقول:المقدار اللازم من ذلك مذكور في الاصول،و بعضه معلوم ضرورة.

الشرط الثالث:معرفة علم الحديث من حيث الاسناد و الارسال و الصحّة

و الضعف

،و أنّ الراوي عادل أو غير عادل.و الاحتياج إلي معرفة الرجال ينبغي أن يعدّ شرطا علي جميع المباني بعد أن لم يكن جميع أخبارنا قطعية الصدور،بل و لو كان جميعها قطعي الصدور،لكن ربما يكون بعضها معارضا بالبعض،و تمييز الأرجح سندا يتوقّف علي معرفة الرجال،بل ربما يكون تمييز ما صدر تقيّة موقوفا عليه؛لأنّ رواته من العامّة،و هذا العلم قد دوّن في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هو يكشف عن أنّه لم يكن مستغني عنه.

قال النجاشي في عبد اللّه بن جبلة:كان واقفا،و كان فقيها ثقة مشهورا،له كتب منها كتاب الرجال.إلي أن قال:و مات سنة تسع عشرة و مائتين (1).

ثمّ إنّ الحاجة إليه تشتدّ علي بعض المباني في حجّية الأخبار،فنذكر بعضها:

أحدها:أن يكون المعتبر هو خبر العدل الضابط،أو الثقة الضابط،و من البيّن أنّ علم الرجال متكفّل لصغري ذلك،و لكن لا يخفي أنّه ذكرنا في مسألة حجّية أقوال

ص: 425


1- رجال النجاشي ص 216 برقم:563.

الرجاليين أنّ أقوالهم لا تكون حجّة من باب الشهادة؛لأنّ مستند الشهادة لا بدّ و أن يكون محسوسا،و الرجاليون ربما يجتهدون في توثيقاتهم و تضعيفاتهم،و لا تكون من باب إخبار العدل الواحد أو الثقة في الموضوعات؛لعدم إحراز كون إخبارهم عن حسّ،مع أنّه لا دليل علي حجّيته في الموضوعات.و لا من باب حجّية قول أهل الخبرة فإنّه نوع تقليد،فإن قيل بحجّية قول أهل الخبرة،فينبغي جواز الرجوع إلي علماء الاصول لكونهم أهل الخبرة،مع أنّ الأمر ليس كذلك، حيث إنّ كلّ مجتهد له مباني اصوليّة،بل الرجوع إلي الرجاليين لإفادة العلم أو الاطمئنان بصدور الخبر،أو لتقوية القرائن الموجبة لهما،و تفصيله في محلّه.

ثانيها:أن يكون المعتبر الخبر المظنون الصدور،و الاحتجاج فيه واضح.

ثالثها:أن يكون المعتبر الخبر المقطوع الصدور لاحتفائه بالقرائن،و أخبار الكتب الأربعة مقطوعة الصدور،و عليه لا حاجة إليه إلاّ في موارد التعارض، خصوصا بناء علي الترجيح بأوصاف الراوي.

رابعها:أن يكون المدار علي الوثوق بالصدور،فيكفي الوثوق بالصدور و إن حصل من غير مراجعة علم الرجال،كما يكفي الوثوق الحاصل من تصحيح القدماء،كأرباب الكتب الأربعة و غيرهم.

اختاره الفقيه الهمداني في كتاب الصلاة،قال:إذ ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية علي اتّصافها بالصحّة المصطلحة،و إلاّ فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها علي سبيل التحقيق،لو لا البناء علي المسامحة في طريقها و العمل بظنون غير ثابتة الحجّية،بل المدار علي وثاقة الراوي،أو الوثوق بصدور الرواية،و إن كان بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة،أو مأخوذة من الاصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها و عدم إعراضهم عنها.

ص: 426

و لا شبهة في أنّ قول بعض المزكّين لا يؤثّر في الوثوق أزيد ممّا يحصل من إخبارهم بكونه من مشايخ الاجازة،و لأجل ما تقدّمت الاشارة إليه جرت سيرتي علي ترك الفحص عن حال الرجال،و الاكتفاء في توصيف الرواية بالصحّة كونها موصوفة بها في ألسنة مشايخنا المتقدّمين الذين تفحّصوا عن حالهم (1).

و يقرب منه ما ذكره المحقّق النراقي رحمه اللّه في المناهج.

خامسها:الحشويّة الذين ذكرهم المحقّق في أوّل المعتبر،حيث قال:أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد،حتّي انقادوا لكلّ خبر،و ما فطنوا ما تحته من التناقض،فإنّ من جملة الأخبار قول النبي صلّي اللّه عليه و آله«ستكثر بعدي القالة»و قول الصادق عليه السّلام«إنّ لكلّ رجل (2)منّا رجل يكذب عليه» (3).

سادسها:أن يكون المدار علي عمل المشهور بالخبر و إعراضهم عنه،فكلّ خبر عمل به المشهور فهو حجّة،و كلّ خبر أعرضوا عنه فليس بحجّة.

و هو مختار المحقّق،حيث قال بعد الكلام السابق:و التوسّط أصوب،فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب إطراحه (4).

ثمّ إنّ عمدة الأقوال في عدم الحاجة إلي علم الرجال هو القول الثالث، و لأربابه أدلّة علي قطعية الأخبار و عدم الحاجة إلي علم الرجال،ذكرناها في بحث حجّية الخبر الواحد،و ذكرنا المختار عندنا في لزوم مراجعة كتب الرجال و الحديث و تقليل احتمال عدم الصدور عن المعصومين.9.

ص: 427


1- مصباح الفقيه كتاب الصلاة ص 12.
2- كذا في المعتبر،و الصحيح كما في المصادر:إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه.
3- المعتبر 1:29.
4- المعتبر 1:29.
الشرط الرابع: معرفة علم الاصول

،و هو ممّا يتوقّف عليه الاستنباط،و ينقسم إلي مباحث:

أحدها:ما يرجع إلي ظهور اللفظ و إثبات أنّ اللفظ ظاهر في معناه،و من هذه الجهة يدخل في الشرط الأوّل،و هي مباحث الحقيقة الشرعية،و المشتقّ،و صيغة الأمر و النهي،و العامّ و الخاصّ،و المطلق و المقيّد.

ثانيها:ما يرجع إلي ما يقطع به عقلا،كمباحث الاستلزامات.

و ثالثها:ما يستنبط من الأخبار و الكتاب،كحجّية خبر الواحد،و حجّية ظواهر الكتاب،و البراءة و الأستصحاب،و التعادل و الترجيح،و من هذه الجهة يتوقّف علي الممارسة،و أن يكون في فهم الأخبار كأحد أبناء عرف المخاطبين،و من هذه الجهة يكون كاستنباط المسائل الفقهية في الاستظهار من الأدلّة.

و لا يخفي أنّ المقدار المحتاج إليه من الاصول هو أن لا يحتمل الاصولي احتمالا عقلائيا أنّه يوجد مباني اصولية توجب تغيير مبني مسألة فقهية،فإذا احتمل فعليه المراجعة إلي آرائهم و إن كان إلي المتأخّر عنه في الرتبة.

الشرط الخامس:التمكّن من الاطّلاع علي آيات الأحكام و محالّ الأخبار

و الاجماعات و الشهرات و آراء العامّة و محيط صدور الأخبار

،فإنّ ذلك دخيل في علاج الأخبار المختلفة المتعارضة،فإنّ منشأه في الأغلب التقية:إمّا من المخالفين،أو التقية من أصحابهم عليهم السّلام لقصورهم،أو لمصلحة وقوع الخلاف بينهم،أو لعمل السائل بالتقية،و متي لم يعلم صدوره تقية و عمل به فإنّه يجزيء، و قد فصّلنا ذلك في بحث التعادل و الترجيح.

الشرط السادس:أن يكون مضافا إلي ما اكتسبه من ممارسة العلوم ذا قوّة في

الفهم

،و شدّة إدراك،و مزيد فطنة،ليضمّ القواعد بعضها إلي بعض،و يطبقها علي صغرياتها،معتدل السليقة،مستقيم الطبيعة،دون بلادة في الذهن،و شذوذ في

ص: 428

التفكير،و اعوجاج في الفهم،و لعلّ من التزم بعد تحصيل العلوم بكثرة المذاكرة و الحضور عند الأساتذة المهرة مع إخلاص النيّة يصل إلي ذلك.

الشرط السابع:ما قيل من أن يكون ذا قوّة قدسية،بأن يكون متجنّبا عن

المعاصي متّقيا متوكّلا علي اللّه تعالي

،مستمدّا من مدده،قال اللّه تعالي وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ (1)و في بعض الأخبار أنّ علي كلّ صواب نورا،و انّ الخبر الصحيح ما كان عليه نور،و لا يدرك نوره إلاّ من كان ذا قلب نوراني.

و ذكر له شروط اخري هي مطوية فيما تقدّم:

أحدها:أن لا يكون معوج السليقة و الفهم.

ثانيها:أن لا يكون في قلبه محبّة الاعتراض و إن كان من الزهّاد و العبّاد.

ثالثها:أن لا يكون لجوجا عنودا.

رابعها:أن لا يكون مستبدّا برأيه.

خامسها:أن لا يكون له حدة زائدة و يسمّي جربذة.

سادسها:أن لا يكون بليدا.

سابعها:أن لا يكون مدّة عمره متوغّلا في الكلام أو الرياضيات أو الاصول أو النحو.

ثامنها:أن لا يأنس بالتوجيه و التأويل.

تاسعها:أن لا يكون جريئا في الفتوي.

عاشرها:أن لا يكون مفرطا في الاحتياط.

ص: 429


1- سورة البقرة:282.
الفصل الثالث: في الأدلّة علي حجّية الاجتهاد
اشارة

الاجتهاد بالمعني الذي ذكرناه حجّة،و يجب العمل علي طبقه لوجوه:

أحدها:الأدلّة التي أقامها الاصوليون في كلّ مسألة من المسائل الاصولية، و من جملتها:مسألة الخبر الواحد،و حجّية مطلق الظنّ عند انسداد باب العلم و العلمي،و بهذه الأدلّة التي أقاموها يقطع بحجّية الاجتهاد،و ينبغي أن يعلم أنّ دعوي قطعية دلالة الأخبار و قطعية سندها مجازفة،و لكن لا بدّ في مقام الاجتهاد من مراعاة الاحتمالات الراجحة الحاصلة بعد التتبّع في آيات الكتاب و الأخبار و الأسانيد،فإن كان هناك عامّ قطعي السند واضح الدلالة،فلا يخصّصه إلاّ بما يعلم صحّته دلالة و سندا،و إن لم يكن عامّ كذلك فيعمل بالخبر.

و لا بدّ من ملاحظة زمان صدور الأخبار،فلعلّ هناك قرينة حالية أو مقالية خفيت،و يلاحظ أقوال العامّة و أخبارهم،فإنّ لملاحظتها دخلا في الاطّلاع علي صدور الأخبار تقية أو بغير تقية.

و ينبغي ملاحظة معاني الألفاظ حين صدورها،كما ينبغي ملاحظة نسخ كتب الأحاديث.و ترجيح الكتب الأربعة علي غيرها،لاشتهارها و قراءة التلاميذ علي أساتذتها في الطبقات،و هذا الوجه أوسع و أشمل من الوجهين الآتيين؛لأنّهما مقصوران علي القدر المتيقّن.

ثانيها:أنّه الأحوط،فإنّ ملاحظة الشهرة القدمائية غير المستندة إلي أمر اعتباري الكاشفة احتمالا عن النصّ،و ملاحظة تقوية السند و تصحيحه بالاصطلاحين فيما إذا كان في مقابل الخبر نصّ عام قطعي السند و العمل بالأخبار المودعة في كتب الأصحاب،مع عدم معارضته لعام قطعي إلاّ إذا كان الخبر شاذّا أو ضعيفا جدّا،و القول بالبراءة مع عدم النصّ،و الاحتياط في بعض الموارد التي لا

ص: 430

يحصل فيها الجزم،هو أحسن الطرق للوصول إلي الأحكام الشرعية،و لعلّ ذلك ملاك الأعلمية.

ثالثها:الأخبار الدالّة علي أمر الأئمّة عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد و إمضاء اجتهاداتهم،فيقع الكلام في موضعين:الأوّل أمرهم بالاجتهاد،و الثاني كون بعض أصحابهم مجتهدا.

الموضع الأوّل: أمرهم عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد

و يدلّ عليه عدّة أخبار،منها:ما رواه في مستطرفات السرائر عن كتاب البزنطي،عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول و عليكم أن تفرّعوا.

و روي البزنطي عن الرضا عليه السّلام قال:علينا إلقاء الاصول و عليكم التفريع (1).

و في البحار باب علل اختلاف الأخبار،عن عوالي اللالي مرسلا عن زرارة و أبي بصير عن الباقر عليه السّلام و الصادق عليه السّلام مثله (2).لكن في هداية المسترشدين قال:و صحيح زرارة و أبي بصير.لكنّا لم نعثر عليه.

أقول:لعلّ المراد بالتفريع تطبيق العام علي أفراده،و المطلق علي مصداقه،كما يصنعه الفقهاء و الرواة،مع أنّ أفهامهم تختلف لعدم وضوح ذلك في جميع الموارد.

و يؤيّده خبر إسحاق بن عمّار أنّه قال:قال لي أبو الحسن الأوّل عليه السّلام:إذا شككت فابن علي اليقين،قلت:هذا أصل؟قال:نعم (3).

و منها:ما رواه إبراهيم الكرخي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:حديث تدريه خير

ص: 431


1- وسائل الشيعة 18:41 ب 6 ح 51 و ح 52.
2- بحار الأنوار 2:245.
3- من لا يحضره الفقيه 1:351.

من ألف ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،و انّ الكلمة من كلامنا لتنصرف علي سبعين وجها لنا من جميعها المخرج (1).

و عن مصباح اللغة:المعراض التورية و أصله الستر،يقال:عرفته في معراض كلامه و في لحن كلامه و فحوي كلامه بمعني (2).

و منها:خبر علي بن حسّان الواسطي،عمّن ذكره عن داود بن فرقد،قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب (3).

و منها:خبر أبي جعفر الأحول،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف علي سبعين وجها (4).

أقول:لأنّهم لم يتمكّنوا من التصريح بالحقّ للتقية من المخالفين و حفظ مقامهم، لئلاّ يكثر الطعن عليهم،فكانوا يبيّنون الحقّ بالاشارة إليه،بحيث إنّ المخاطب لو كان فقيها عارفا بمذاقهم عرف مرادهم،و إن كان ظاهر الكلام يمكن توجيهه علي نحو لا ينافي التقية.

كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما رواه زرارة،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:إنّ اناسا رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه صلّي أربع ركعات بعد الجمعة لم يفصلهنّ بتسليم، فقال:يا زرارة انّ أمير المؤمنين عليه السّلام صلّي خلف فاسق،فلمّا سلّم و انصرف قام أمير المؤمنين عليه السّلام فصلّي أربع ركعات لم يفصل بينهنّ بتسليم،فقال له رجل إلي جنبه:يا أبا الحسن صلّيت أربع ركعات لم تفصل بينهنّ،فقال:أمّا أنّه أربع ركعات7.

ص: 432


1- بحار الأنوار 2:184 ح 5.
2- المصباح المنير ص 403.
3- وسائل الشيعة 27:117 عن معاني الأخبار ص 1.
4- بحار الأنوار 2:199 ح 57.

مشبّهات،فسكت،فو اللّه ما عقل ما قال (1).فإنّه عليه السّلام لم يصرّح ببطلان الصلاة خلف الفاسق.

و منها:ما عن المفضّل،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:خبر تدريه خير من عشرة ترويه،إنّ لكلّ حقيقة حقّا،و لكلّ صواب نورا،ثمّ قال:إنّا و اللّه لا نعدّ الرجل من شيعتنا فقيها حتّي يلحن له فيعرف اللحن (2).

و منها:ما عن أبي عبيدة الحذّاء،قال:قال لي أبو جعفر عليه السّلام في حديث:يا أبا عبيدة إنّا لا نعدّ الرجل فقيها عالما حتّي يعرف لحن القول،و هو قول اللّه عزّ و جلّ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (3).

و قال الصادق عليه السّلام في مرفوعة أبي علي:إعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا،فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّي يكون محدّثا،فقيل له:أو يكون المؤمن محدّثا؟قال:يكون مفهّما،و المفهّم المحدّث (4).

و عن زيد الزرّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:يا بني اعرف منازل الشيعة علي قدر روايتهم و معرفتهم،فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، و بالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلي أقصي درجات الايمان الحديث (5).

و عن الرضا عليه السّلام قال:من ردّ متشابه القرآن إلي محكمه،فقد هدي إلي صراط مستقيم،ثمّ قال عليه السّلام:إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن،و متشابها كمتشابه القرآن،فردّوا متشابهها إلي محكمها،و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها4.

ص: 433


1- فروع الكافي 3:374،و التهذيب 3:266.
2- بحار الأنوار 2:208 ح 101 و 51:112.
3- وسائل الشيعة 16:202.
4- وسائل الشيعة 27:149 ح 38.
5- بحار الأنوار 1:106 و 2:184.

فتضلّوا (1).

و منها:خبر عمر بن حنظلة،و فيه قوله عليه السّلام:انظروا إلي من كان منكم قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا.

و فيه أيضا:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقههما في الحديث (2).

و مثله خبر داود بن الحصين،و خبر موسي بن أكيل (3).

و منها:خبر حمزة بن حمران،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:ما أعاد الصلاة فقيه قطّ يحتال لها و يدبّرها حتّي لا يعيدها (4).

فإنّه لاطّلاعه علي القواعد الفقهية يعرف وجوه تصحيح الصلاة.

و منها:موثّق زرارة،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:أحبّ للرجل الفقيه إذا أراد أن يطلّق امرأته أن يطلّقها طلاق السنّة الحديث (5).

الموضع الثاني: في اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام
اشارة

و نذكر بعض ما عثرنا عليه ممّا ورد في بعض الرواة:

منهم:زرارة،فإنّه كان فقيها يعرف ما صدر عنهم تقية و غير ذلك.

روي حمران بن أعين،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:جعلت فداك إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة و هم يصلّون في الوقت،فكيف نصنع؟فقال:صلّوا معهم،فخرج حمران إلي زرارة،فقال له:قد امرنا أن نصلّي معهم بصلاتهم،فقال زرارة:هذا ما

ص: 434


1- وسائل الشيعة 27:115 ح 22 باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة.
2- اصول الكافي 1:67.
3- من لا يحضره الفقيه 3:8،و بحار الأنوار 2:220.
4- جامع أحاديث الشيعة 2:456.
5- فروع الكافي 6:65 ح 3.

يكون إلاّ بتأويل،فقال له حمران:قم حتّي نسمع منه،قال:فدخلنا عليه،فقال له زرارة:إنّ حمران أخبرنا عنك أنّك أمرتنا أن نصلّي معهم فأنكرت ذلك،فقال لنا:

كان الحسين بن علي عليهما السّلام يصلّي معهم الركعتين،فإذا فرغوا قام فأضاف إليهما الركعتين (1).و المستفاد منه ممّا يرتبط بالاجتهاد امور:

أحدها:أنّه لا يصحّ دعوي تخصيص العموم في كلّ مورد،و إلاّ كان يقول زرارة:إنّ جواز الصلاة في يوم الجمعة أخصّ من عموم ما دلّ علي المنع عن الصلاة معهم،و لعلّه لكون ما دلّ علي المنع آبيا عن التخصيص،أو لكونه حيث علم أنّ الامام يتّقي كثيرا لم يكن العموم حجّة بنظره.

الثاني:أنّ المعصوم عليه السّلام ربما يجمل و يكل البيان إلي سائر ما ورد عنهم.

الثالث:تقرير المعصوم لاجتهاد زرارة،حيث عرف أنّ ظاهر الكلام غير مراد.

و يحتمل أن يكون الامام أراد ايقاع الاختلاف،و كان الوظيفة هو جواز الصلاة معهم في الجمعة؛لأنّ العامّة يهتمّون بصلاة الجمعة ما لا يهتمّون بغيرها،لكن حيث أصرّ زرارة علي ذلك،فأجاب عليه السّلام بأنّ التقية تتأدّي بذلك،لكن هذا إذا لم يعرفوا أنّ عمل الشيعة علي ذلك.

و روي زرارة عن حمران بزيادة علي ما مرّ،أنّه قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إنّ في كتاب علي عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،قال زرارة:قلت له أي لحمران:هذا ما لا يكون،اتّقاك،عدوّ اللّه أقتدي به؟قال حمران،كيف اتّقاني و أنا لم أسأله هو الذي ابتدأني؟و قال:في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،كيف يكون هذا منه تقية؟قال:قلت:قد اتّقاك هذا ممّا لا يجوز حتّي قضي أنّا اجتمعنا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام،فقال له حمران:أصلحك اللّه حدّثت2.

ص: 435


1- جامع أحاديث الشيعة 6:78 ب 13 ح 2.

هذا الحديث الذي حدّثتني به أنّ في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،فقال:هذا ما لا يكون عدوّ اللّه فاسق لا ينبغي لنا أن نقتدي به و لا نصلّي معه،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين اخريين.قلت:فأكون قد صلّيت أربعا لنفسي لم أقتد به،فقال:نعم فسكّت و سكت صاحبي و رضينا (1).

و المستفاد منه امور زائدة علي الخبر السابق:

أحدها:إنكار حمران أن يكون ذلك تقية،لأنّ الامام ابتدأ في الكلام و أسنده إلي كتاب علي عليه السّلام،فلو اقتضت التقية أن يتّقي الامام،فإنّما يقتضيه إن كان بعض العامّة حاضرا في مجلسه،ثمّ إنّه لا حاجة إلي إسناد الحكم الصادر تقية إلي كتاب علي عليه السّلام؛لأنّ التقية من الضرورة،و الضرورة تقدّر بقدرها،و هذا اجتهاد منه.

ثانيها:إصابة زرارة في عدم الأخذ بظاهر الخبر،و خطأه في الحمل علي التقية، و هذا هو الاجتهاد.

ثالثها:ما فهمه من أنّه يصلّي لنفسه و لا يقتدي به،فإذا ورد نظيره فنفهم ذلك منه،فيكون مثل ما فهمه حمران،لكن الانصاف أنّ بعض اجتهاد المتأخّرين لا يكون من هذا القبيل.

ثمّ لا يخفي أنّ احتمال تعدّد الواقعة بعيد،و الخبر الأوّل مروي عن أبي جعفر عليه السّلام،و الثاني مروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،لكن سند الأوّل أقوي،فإنّ في السند الثاني علي بن حديد.

و منها:ما روي عن سلمة بن محرز،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:إنّ رجلا أرمانيا،قال:و ما الأرماني؟قلت:نبطي من أنباط الجبال مات و أوصي إليّ بتركته1.

ص: 436


1- وسائل الشيعة 5:46،و جامع أحاديث الشيعة 6:77 ب 13 ح 1.

و ترك ابنته،قال:فقال لي:اعطها النصف،قال:فأخبرت زرارة بذلك،فقال لي:

اتّقاك إنّما المال لها،قال:فدخلت عليه بعد فقلت:أصلحك اللّه إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني،فقال:لا و اللّه ما اتّقيتك و لكن اتّقيت عليك ان تضمن،فهل علم بذلك أحد؟قلت:لا،قال:فاعطها ما بقي.

و قريب منه خبر عبد اللّه بن محرز،و خبره الآخر،لكن فيهما قال أصحابنا:

اتّقاك (1).

و المستفاد منها امور:

أحدها:اجتهاد زرارة و الأصحاب.

ثانيها:خطأهم في زعم أنّه عليه السّلام اتّقي منه مع أنّه عليه السّلام اتّقي عليه.

ثالثها:عدم الضمان في مورد التقية،لكن يحتمل أن يكون ذلك لخصوص سلمة.

ثمّ إنّه عليه السّلام يمكن أن يكون عالما بأنّه يعمل بالحكم الواقعي،أو أنّه يجوز لسلمة أن يعمل بذلك.

و عن ابن أبي يعفور،قال:كنّا بالمدينة،فلاحاني زرارة في نتف الأبط و حلقه، فقلت:حلقه أفضل،و قال زرارة:نتفه أفضل،فاستأذنّا علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فأذن لنا و هو في الحمّام مطلي قد اطلي ابطيه،فقلت لزرارة:يكفيك،فقال:لا لعلّه فعل هذا لما لا يجوز لي أن أفعله،فقال عليه السّلام:فيما أنتما؟فقال:إنّ زرارة لا حاني في نتف الأبط و حلقه،قلت:حلقه أفضل،و قال زرارة:نتفه أفضل،فقال عليه السّلام:أصبت السنّة و أخطأها زرارة،حلقه أفضل من نتفه،و طليه أفضل من حلقه (2).3.

ص: 437


1- فروع الكافي 7:86 ح 3 و 7 و 9.
2- جامع أحاديث الشيعة 16:545 ب 15 ح 14.و رواه بطريق آخر موثّق و فيه اختلاف في بعض مضمونه،جامع أحاديث الشيعة 16:537 ب 2 ح 3.

و هذا الخبر يدلّ علي أنّ زرارة قد اجتهد في ذلك،و تفطّن إلي نكتة دقيقة،و هو أنّ فعل المعصوم ما لم يعلم وجهه لا يكون حجّة علي غيره،بناء علي أنّه سمع عن المعصوم أنّ نتفه أفضل،و يدلّ علي اجتهاد ابن أبي يعفور،حيث استنبط من طلي المعصوم أنّ نتفه ليس أفضل.

و كان لزرارة وقت معيّن لا يكون معه غيره حتّي إذا سأل الامام عليه السّلام عن شيء لا يجيبه بالتقية.

ففي صحيحه الوارد في إرث الجدّ،قال:فأتيته من الغد بعد الظهر و كانت ساعتي التي كنت أخلو به فيها بين الظهر و العصر،و كنت أكره أن أسأله إلاّ خاليا خشية أن يفتيني من أجل من يحضره بالتقية الحديث (1).

و كان الأصحاب يعتقدون بفقاهته،فروي عمر بن اذينة،قال:قلت لزرارة:إنّ اناسا حدّثوني عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام بأشياء في الفرائض فأعرضها عليك،فما كان منها باطلا فقل هذا باطل،و ما كان حقّا فقل هذا حقّ و لا تروه و اسكت،فحدّثته بما حدّثني به محمّد بن مسلم في الزوج و الأبوين،فقال:هو و اللّه الحقّ (2).

إلي غير ذلك ممّا روي في شأنه.و لعلّ المستفاد من جميع ما ورد في شأنه أنّه كان مطّلعا علي الأخبار الكثيرة عالما بمواضع التقية،و كان كثيرا ما يحمل الأخبار علي التقية.

و منهم:أبو بصير الذي كان من الأجلاء،روي الكشي بسند لا بأس به عن شعيب العقرقوفي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء1.

ص: 438


1- فروع الكافي 7:94.
2- فروع الكافي 7:91.

فمن نسأل؟قال:عليك بالأسدي يعني أبا بصير (1).

و قد كان يجتهد و يرجّح بعض الأخبار علي بعض،روي شعيب العرقوفي،قال:

كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا أبو بصير و اناس من أهل جبل يسألونه عن ذبائح أهل الكتاب،فقال لهم أبو عبد اللّه عليه السّلام:قد سمعتم ما قال اللّه في كتابه،فقالوا له:

نحبّ أن تخبرنا،فقال:لا تأكلوها،فلمّا خرجنا من عنده قال أبو بصير:كلها،في عنقي ما فيها،فقد سمعته و سمعت أباه جميعا يأمران بأكلها،فرجعنا إليه،فقال لي أبو بصير:سله،فقلت له:جعلت فداك ما تقول في ذبائح أهل الكتاب؟فقال:أليس قد شهدتنا بالغداة و سمعت؟قلت:بلي،فقال:لا تأكلها؟فقال لي أبو بصير:في عنقي كلها،ثمّ قال لي سله الثانية،فقال لي مثل مقالته الاولي و عاد أبو بصير فقال لي قوله الأوّل في عنقي كلها،ثمّ قال لي:سله،فقلت:لا أسأله بعد مرّتين (2).

و يستفاد منه أمران:

الأوّل:أنّ الامام لم يرد أن يصرّح بالمنع،و لذا أرجعهم إلي كتاب اللّه سبحانه في قوله وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (3)لكن لعلّ ذلك من أجل أنّه لا يقبلون منه،فأراد أن يبيّن أنّ ذلك موجود في كتاب اللّه،و يدلّ عليه ما سبق أنّه قال:إنّ أصحاب أبي خير من أصحابي.

الثاني:أنّ أبا بصير اجتهد و زعم أنّ الامام لم يجوّز لمصلحة يراها،و أنّه لو أصرّ علي الترخيص ربما يرخّص فيه،و لعلّه لم يتوجّه إلي أنّ الأخبار المجوّزة قد صدرت تقية،و أنّه لا بدّ من الأخذ بالأخير في المتعارضين.

و روي ذريح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:ذكر لي أبو سعيد-إلي أن قال:و إذا1.

ص: 439


1- وسائل الشيعة 18:103.
2- تهذيب الأحكام 9:66.
3- سورة الأنعام:121.

وجّهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس، فإنّي رأيت أصحابنا يفعلون ذلك،و قد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض،أخبرني بذلك علي بن أبي حمزة الحديث (1).

و منهم:أبو حمزة الثمالي،ففي خبر حنان بن سدير،قال:كنت أنا و أبي و أبو حمزة الثمالي و عبد الرحيم القصير و زياد الأحلام حجّاجا،فدخلنا علي أبي جعفر عليه السّلام،فرأي زياد قد انسلخ جلده،فقال له:من أين أحرمت؟قال:من الكوفة،قال:و لم أحرمت من الكوفة؟فقال:بلغني عن بعضكم أنّه قال ما بعد الاحرام فهو أعظم للأجر،فقال:ما بلّغك هذا إلاّ كذّاب،ثمّ قال لأبي حمزة الثمالي:

من أين أحرمت؟فقال:من الربذة،فقال له:و لم؟قال:لأنّي سمعت أنّ قبر أبي ذرّ بها فأحببت أن لا أجوزه،ثمّ قال لأبي و لعبد الرحيم:من أين أحرمتما؟فقالا:من العقيق،فقال:أصبتما الرخصة و اتّبعتما السنّة،و لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلاّ أخذت باليسير،و ذلك أنّ اللّه يسير يحبّ اليسير،و يعطي علي اليسير ما لا يعطي علي العنف (2).

يستفاد منه اجتهاد أبي حمزة و أنّه أخطأ في ذلك،و أنّ زيادا اعتمد علي رواية مع أنّها كانت كذبا،و أنّه لو فرض أنّه كان ما فعل جميعهم صحيحا،لكن القاعدة الكلّية التي ينبغي أن يعتمد عليها هو الأخذ باليسير و هو الاحرام من العقيق.

و منهم:يونس بن عبد الرحمن الذي كان يجتهد،لاحظ الكافي (3)،فقد حكي عن يونس امورا تدلّ علي اجتهاده،نذكر أحدها،قال:و نظير ذلك نظير رجل سرق درهما فتصدّق به،ففعله سرقة حرام و فعله في الصدقة حلال؛لأنّهما فعلان0.

ص: 440


1- جامع أحاديث الشيعة 1:251.
2- وسائل الشيعة 8:235.
3- فروع الكافي 5:570.

مختلفان لا يفسد أحدهما الآخر إلاّ انّه غير مقبول فعله ذلك الحلال لعلّة مقامه علي الحرام حتّي يتوب و يرجع،فيكون محسوبا له فعله في الصدقة.

و منهم:ابن أبي عمير،روي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل يطلّق المرأة و قد مسّ كلّ شيء منها إلاّ أنّه لم يجامعها،ألها عدّة؟فقال:ابتلي أبو جعفر عليه السّلام بذلك،فقال له أبوه علي بن الحسين عليهما السّلام:إذا أغلق بابا و أرخي سترا وجب المهر و العدّة،قال ابن أبي عمير:اختلف الحديث في أنّ لها المهر كملا، و بعضهم قال:نصف المهر،و انّما معني ذلك أنّ الوالي إنّما يحكم بالحكم الظاهر إذا أغلق الباب و أرخي الستر وجب المهر،و إنّما هذا عليها،إذا علمت أنّه لم يمسّها فليس لها فيما بينها و بين اللّه إلاّ نصف المهر (1).

و منهم:جميل بن درّاج،روي ابن أبي عمير عنه،عن منصور بن حازم،قال:إنّ المولي يجبر علي أن يطلّق تطليقة بائنة،و عن غير منصور أنّه يطلّق تطليقة يملك الرجعة،فقال بعض أصحابه:إنّ هذا منتقض،فقال:لا التي تشكو فتقول يجبرني و يضرّني و يمنعني من الزوج يجبر علي أن يطلّقها تطليقة بائنة و التي تسكت و لا تشكو إن شاء يطلّقها تطليقة يملك الرجعة (2).

و عن جعفر بن سماعة أنّ جميلا شهد بعض أصحابنا و قد أراد أن يخلع ابنته من بعض أصحابنا،فقال جميل للرجل:ما تقول رضيت بهذا الذي أخذت و تركتها؟ فقال:نعم،فقال لهم جميل:قوموا،فقالوا:يا أبا علي ليس تريد يتبعها الطلاق،قال:

لا،و كان جعفر بن سماعة يتبعها الطلاق في العدّة و يحتجّ الحديث (3).

و عن جعفر بن سماعة أنّه سئل عن امرأة طلّقت علي غير السنّة ألي أن1.

ص: 441


1- فروع الكافي 6:109.
2- فروع الكافي 6:132.
3- فروع الكافي 6:141.

أتزوّجها؟فقال:نعم،فقلت له:ألست تعلم أنّ علي بن حنظلة روي:إيّاكم و المطلّقات ثلاثا علي غير السنّة،فإنّهنّ ذوات أزواج،فقال:يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع علي الناس،روي عن أبي الحسن أنّه قال:ألزموهم من ذلك ما ألزموا أنفسهم،و تزوّجوهنّ فلا بأس بذلك (1).

و منهم:الفضل بن شاذان،فإنّه كان له اجتهاد كاجتهاد أهل هذه العصور في الجملة.

روي الكليني في الكافي عن الحسين بن محمّد،قال:حدّثني حمدان القلانسي،قال:قال لي عمر بن شهاب العبدي:من أين زعم أصحابك أنّ من طلّق ثلاثا لم يقع الطلاق؟فقلت له:زعموا أنّ الطلاق للكتاب و السنّة،فمن خالفهما ردّ إليهما.

قال:فما تقول في من طلّق علي الكتاب و السنّة؟فخرجت امرأته أو أخرجها فاعتدّت في غير بيتها تجوز عليها العدّة أو يردّها إلي بيته حتّي تعتدّ عدّة اخري، فإنّ اللّه عزّ و جلّ قال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ.

قال:فأجبته بجواب لم يكن عندي جوابا و مضيت،فلقيت أيّوب بن نوح فسألته عن ذلك،فأخبرته بقول عمر،فقال:ليس نحن أصحاب القياس إنّما نقول بالآثار،فلقيت علي بن راشد فسألته عن ذلك و أخبرته بقول عمر،فقال:قد قاس عليك و هو يلزمك إن لم يجز الطلاق إلاّ للكتاب،فلا تجوز العدّة إلاّ للكتاب، فسألت معاوية بن حكيم عن ذلك،و أخبرته بقول عمر،فقال معاوية:ليس العدّة مثل الطلاق و بينهما فرق،و ذلك أنّ الطلاق فعل المطلّق،فإذا فعل المطلّق خلاف الكتاب و ما امر به قلنا له:ارجع إلي الكتاب و إلاّ فلا يقع الطلاق،و العدّة ليست6.

ص: 442


1- وسائل الشيعة 15:321 ب 30 ح 6.

فعل الرجل و لا فعل المرأة إنّما هي أيّام تمضي و حيض يحدث ليس من فعله و لا من فعلها،إنّما هو فعل اللّه تبارك و تعالي،فليس يقاس فعل اللّه عزّ و جلّ بفعله و فعلها،فإذا عصت و خالفت فقد مضت العدّة و باءت بإثم الخلاف،و لو كانت العدّة فعلها لما أوقعنا عليها العدّة كما لم يقع الطلاق إذا خالف.

و قال الفضل بن شاذان في جواب أجاب به أبا عبيد في كتاب الطلاق،ذكر أبو عبيد أنّ بعض أصحاب الكلام قال:إنّ اللّه تبارك و تعالي حين جعل الطلاق للعدّة لم يخبرنا أنّ من طلّق لغير العدّة كان طلاقه عنه ساقطا،و لكنّه شيء تعبّد به الرجال كما تعبّد النساء بأن لا يخرجن من بيوتهنّ ما دمن يعتددن،و إنّما أخبرنا في ذلك بالمعصية،فقال: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فهل المعصية في الطلاق إلاّ كالمعصية في خروج المعتدّة من بيتها؟ أ لستم ترون أنّ الامّة مجمعة علي أنّ المرأة المطلّقة إذا خرجت من بيتها أيّاما أنّ تلك الأيّام محسوبة لها في عدّتها و إن كانت للّه فيه عاصية،فكذلك الطلاق في الحيض محسوب علي المطلّق و إن كان فيه عاصيا.

قال الفضل بن شاذان:أمّا قوله إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا جعل الطلاق للعدّة لم يخبرنا أنّ من طلّق لغير العدّة كان الطلاق عنه ساقطا،فليعلم أنّ مثل هذا إنّما هو تعلّق بالسراب إنّما يقال لهم:إنّ أمر اللّه عزّ و جلّ بالشيء هو نهي عن خلافه،و ذلك أنّه جلّ ذكره حيث أباح نكاح أربع نسوة لم يخبرنا أنّ أكثر من ذلك لا يجوز،و حيث جعل الكعبة قبلة لم يخبرنا أنّ قبلة غير الكعبة لا تجوز،و حيث جعل الحجّ في ذي الحجّة لم يخبرنا أنّ الحجّ في غير ذي الحجّة لا يجوز.و حيث جعل الصلاة ركعة و سجدتين لم يخبرنا أنّ ركعتين و ثلاث سجدات لا يجوز.

فلو أنّ إنسانا تزوّج خمس نسوة لكان نكاحه الخامسة باطلا،و لو اتّخذ قبلة غير الكعبة لكان ضالاّ مخطئا غير جائز له،و كانت صلاته غير جائزة،و لو حجّ في

ص: 443

غير ذي الحجّة لم يكن حاجّا و كان فعله باطلا،و لو جعل صلاته بدل كلّ ركعة ركعتين و ثلاث سجدات لكانت صلاته فاسدة و كان غير مصلّ؛لأنّ كلّ من تعدّي ما امر به و لم يطلق له ذلك كان فعله باطلا فاسدا غير جائز و لا مقبول،فكذلك الأمر و الحكم في الطلاق كسائر ما بيّنا و الحمد للّه.

و أمّا قولهم:إنّ ذلك شيء تعبّد به الرجال كما تعبّد به النساء أن لا يخرجن ما دمن يعتددن من بيوتهنّ،فأخبرنا ذلك لهنّ بالمعصية،و هل المعصية في الطلاق إلاّ كالمعصية في خروج المعتدّة من بيتها في عدّتها،فلو خرجت من بيتها أيّاما لكان ذلك محسوبا لها،فكذلك الطلاق في الحيض محسوب و إن كان عاصيا.

فيقال لهم:إنّ هذه شبهة دخلت عليكم من حيث لا تعلمون،و ذلك أنّ الخروج و الاخراج ليس من شرائط الطلاق كالعدّة؛لأنّ العدّة من شرائط الطلاق،ذلك أنّه لا يحلّ للمرأة أن تخرج من بيتها قبل الطلاق و لا بعد الطلاق،و لا يحلّ للرجل أن يخرجها من بيتها قبل الطلاق و لا بعد الطلاق،فالطلاق و غير الطلاق في حظر ذلك و منعه واحد،و العدّة لا تقع إلاّ مع الطلاق،و لا تجب إلاّ بالطلاق،و لا يكون الطلاق لمدخول بها و لا عدّة،كما قد يكون خروجا و إخراجا بلا طلاق و لا عدّة،فليس يشبه الخروج و الاخراج بالعدّة و الطلاق في هذا الباب.

و إنّما قياس الخروج و الاخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّي فيها، فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة؛لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ،و كذلك لو أنّ رجلا غصب ثوبا أو أخذه و لبسه بغير إذنه فصلّي فيه لكانت صلاته جائزة و كان عاصيا في لبسه ذلك الثوب،لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ.

و كذلك لو أنّه لبس ثوبا غير طاهر أو لم يطهّر نفسه أو لم يتوجّه نحو القبلة لكانت صلاته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الصلاة و حدودها لا يجب

ص: 444

إلاّ للصلاة،و كذلك لو كذب في شهر رمضان و هو صائم بعد أن لا يخرجه كذبه من الايمان لكان عاصيا في كذبه ذلك و كان صومه جائزا؛لأنّه منهي عن الكذب صام أو أفطر.و لو ترك العزم علي الصوم أو جامع لكان صومه باطلا فاسدا؛لأنّ ذلك من شرائط الصوم و حدوده لا يجب إلاّ مع الصوم.

و كذلك لو حجّ و هو عاقّ لوالديه و لم يخرج لغرمائه من حقوقهم لكان عاصيا في ذلك و كانت حجّته جائزة؛لأنّه منهي عن ذلك حجّ أو لم يحجّ.و لو ترك الاحرام أو جامع في إحرامه قبل الوقوف لكانت حجّته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الحجّ و حدوده لا يجب إلاّ مع الحجّ و من أجل الحجّ.

فكلّ ما كان واجبا قبل الفرض و بعده فليس ذلك من شرائط الفرض؛لأنّ ذلك أتي علي حدّه و الفرض جائز معه،فكلّ ما لم يجب إلاّ مع الفرض و من أجل الفرض،فإنّ ذلك من شرائطه،لا يجوز الفرض إلاّ بذلك علي ما بيّناه،و لكن القوم لا يعرفون و لا يميّزون و يريدون أن يلبسوا الحقّ بالباطل.

فأمّا ترك الخروج و الاخراج فواجب قبل العدّة و مع العدّة،و قبل الطلاق و بعد الطلاق،و ليس هو من شرائط الطلاق و لا من شرائط العدّة،و العدّة جائزة معه،و لا تجب العدّة إلاّ مع الطلاق و من أجل الطلاق،فهي من حدود الطلاق و شرائطه علي ما مثّلنا و بيّنا،و هو فرق واضح و الحمد للّه.

و بعد فليعلم أنّ معني الخروج و الاخراج ليس هو أن تخرج المرأة إلي أبيها أو تخرج في حاجة لها أو في حقّ بإذن زوجها مثل مأتم أو ما أشبه ذلك،و إنّما الخروج و الاخراج أن تخرج مراغمة أو يخرجها زوجها مراغمة،فهذا الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه،فلو أنّ امرأة استأذنت أن تخرج إلي أبويها أو تخرج إلي حقّ لم نقل إنّها خرجت من بيت زوجها،و لا يقال إنّ فلانا أخرج زوجته من بيتها،إنّما يقال ذلك إذا كان ذلك علي الرغم و السخط،و علي أنّها لا تريد العود إلي بيتها

ص: 445

فأمسكها علي ذلك،و فيما بيّنا كفاية.

فإن قال قائل:لها أن تخرج قبل الطلاق بإذن زوجها و ليس لها أن تخرج بعد الطلاق و إن أذن لها زوجها،فحكم هذا الخروج غير ذلك الخروج،و إنّما سألناك عنه في ذلك الموضع الذي يشتبه،و لم نسألك في هذا الموضع الذي لا يشتبه، أليس قد نهيت عن العدّة في غير بيتها،فإن هي فعلت كانت عاصية و كانت العدّة جائزة،فكذلك أيضا إذا طلّق لغير العدّة كان خاطئا و كان الطلاق واقعا و إلاّ فما الفرق؟

قيل له:إنّ فيما بيّنا كفاية من معني الخروج و الاخراج ما يجتزيء له عن هذا القول؛لأنّ أصحاب الأثر و أصحاب الرأي و أصحاب التشيّع قد رخّصوا لها في الخروج الذي ليس علي السخط و الرغم و أجمعوا علي ذلك.

فمن ذلك ما روي ابن جريح عن ابن الزبير،عن جابر أنّ خالته طلّقت فأرادت الخروج إلي نخل لها تجذّه،فلقيت رجلا فنهاها،فجاءت إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقال لها:اخرجي فجذّي نخلك لعلّك أن تصدّقي أو تفعلي معروفا.

و روي الحسن،عن حبيب بن أبي ثابت،عن طاووس أنّ رجلا من أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله سئل عن المرأة المطلّقة هل تخرج في عدّتها؟فرخّص في ذلك.

و ابن بشير،عن المغيرة،عن إبراهيم أنّه قال في المطلّقة ثلاثا:إنّها لا تخرج من بيت زوجها إلاّ في حقّ،من عيادة مريض،أو قرابة،أو أمر لا بدّ منه.

مالك،عن نافع،عن ابن عمر أنّه كان يقول:لا تبيت المبتوتة و المتوفّي عنها زوجها إلاّ في بيتها.و هذا يدلّ علي أنّه قد رخّص لها في الخروج بالنهار.

و قال أصحاب الرأي:لو أنّ مطلّقة في منزل ليس معها فيه رجل تخاف فيه علي نفسها أو متاعها كانت في سعة من النقلة،و قالوا:لو كانت بالسواد فطلّقها زوجها هناك فدخل عليها خوف من سلطان أو غير ذلك كانت في سعة من دخول المصر،

ص: 446

و قالوا:للأمة المطلّقة أن تخرج في عدّتها،أو تبيت عن بيت زوجها.و كذلك قالوا أيضا في الصبية المطلّقة.

قال:و هذا كلّه يدلّ علي أنّ الخروج غير الخروج الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه، و إنّما الخروج الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه هو ما قلنا أن يكون خروجها علي السخط و المراغمة،و هو الذي يجوز في اللغة أن يقال:فلانة خرجت من بيت زوجها،و إنّ فلانا أخرج امرأته من بيته،و لا يجوز أن يقال لسائر الخروج الذي ذكرنا عن أصحاب الرأي و الأثر و التشيّع:إنّ فلانة خرجت من بيت زوجها،و إنّ فلانا أخرج امرأته من بيته؛لأنّ المستعمل في اللغة هذا الذي وصفنا،و باللّه التوفيق (1).

فإنّك تري اختلاف هؤلاء من جهة الفقاهة و الاجتهاد،و انّ الفضل تنبّه إلي مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه،و مسألة اجتماع الأمر و النهي، و التمسّك باللغة في معني الخروج،و هذه كلّها اجتهادات.

ثمّ لا يبعد أن يكون قوله«و قال الفضل بن شاذان»من كلام الكليني حكاه عن كتابه،كما قال في المدارك:لكن الظاهر أنّ كتب الفضل رحمه اللّه كانت موجودة بعينها في زمن الكليني رضي اللّه عنه (2).

و قال في الفقيه:و قال الفضل بن شاذان:اعلم أنّ الجدّ بمنزلة الأخ أبدا يرث، و يسقط حيث يسقط،و غلط الفضل في ذلك،إلي آخر كلامه و نقل استدلاله و ردّ عليه (3).فيظهر أنّ كتاب الفضل كان بأيديهم.8.

ص: 447


1- فروع الكافي 6:92-96.
2- مدارك الأحكام 3:380.
3- من لا يحضره الفقيه 4:208.
تنبيه:

إنّ الرواة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام كانوا علي صنفين:

الصنف الأوّل:من يروي ما سمع عن المعصومين بلا واسطة أو بواسطة، و هؤلاء يعتمد علي سماعهم و روايتهم إن كانوا ثقات.

الصنف الثاني:الفقهاء،و قد أمضوا عليهم السّلام فقاهتهم بما تقدّم بيانه،و كان الاجتهاد و الفقاهة عندهم هو تمييز الخبر الصادر تقية عن غيره،و تطبيق العام علي الأفراد الظاهرة،و نحو ذلك ممّا لا يخرج عن المحاورة و الاستظهار،و تمييز الثقة عن غيره بالمعاشرة أو قريب منها.

و أمّا الاجتهاد في الأعصار المتأخّرة،فهل هو عين اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام أو مغاير له؟فيه قولان:

الأوّل:أنّ الاجتهاد في العصرين واحد لا اختلاف بينهما إلاّ في الصعوبة و السهولة،اختاره في التنقيح (1).

الثاني:أنّه يختلف في العصرين،يظهر من المحقّق الاصفهاني حيث قال:و من الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل الأحكام بالسماع من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو الإمام عليه السّلام.

إلي أن قال:بل الافتاء و القضاء أيضا كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر.

إلي أن قال:و ممّا ذكرنا في طيّ الكلام من أنّ الافتاء في الصدر الأوّل كان بنقل الخبر لا بإظهار الرأي،تعرف ما في الاستدلال بما دلّ علي جواز الافتاء و الاستفتاء،كما يظهر بالمراجعة إلي موارد إطلاقاته في الأخبار،و هكذا الأمر في قوله«فللعوام أن يقلّدوه»فإنّ التقليد عرفا صادق علي قبول ما أخبر به الغير أيضا

ص: 448


1- التنقيح في شرح عروة الوثقي 1:87.

من غير دليل علي المخبر به،بل الظاهر من نفس هذه الرواية المتضمّنة لهذه الفقرة هذا المعني،فراجع (1).

و أقول:و الظاهر الإختلاف الفاحش بين الاجتهاد في هذا العصر و الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السّلام و يظهر ذلك في امور:

منها:اجتهادهم في هذا العصر في رجال الحديث،فيعتمدون علي الظنون الرجالية،و يعتمدون علي الظنون في تمييز الثقات من غيرهم،مثلا عمر بن يزيد مشترك بين الثقة و غيره،فيرجّح كونه الثقة بدعوي الانصراف،و هذا من الظنّ.

و منها:الاعتماد علي شهرة العلماء في جبر السند و الدلالة.

و منها:الجمع بين الأخبار علي نحو لم يعلم كونه كذلك،لا سيّما مثل انقلاب النسبة،إلي غير ذلك ممّا يظهر للمتتبّع.

و لعلّ الفقه الذي يكون شبيها بفقه أصحاب الأئمّة عليهم السّلام هو عدم طرح الأخبار مهما أمكن،و العمل بظواهر الكتاب الواضحة،مع الاطّلاع علي قرائن الحال و المقال حين صدور الأخبار،و الاطّلاع علي اللغة و قواعدها.و حمل الاطلاق علي الأفراد الشايعة المتكثّرة الغالبة،فإنّها هي التي يتبادر إليها الاطلاق،أو تكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب مع مراعاة خصوصيات الموارد.

و مع بعد العهد عن زمان المعصومين،و عدم وضوح بعض الامور،فينبغي العمل بالاحتياط،و قد ذكرنا كيفية العمل بالأخبار في بحث حجّية الأخبار.

الفصل الرابع: في أحكام الاجتهاد
اشارة

و هي وجوبه الكفائي أو العيني،و حجّيته لنفسه،و جواز تقليده،و نفوذ قضائه

ص: 449


1- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 13.

و ولايته،و كون المجتهدين مصيبين إذا اختلفوا،أو المصيب واحد منهم،و إجزاء رأيه السابق في صحّة أعماله لو تبدّل رأيه،فيقع الكلام في مسائل:

المسألة الأولي: في وجوب الاجتهاد و عدمه

قيل بوجوبه؛لأنّ لازم عدم وجوب الاجتهاد أن يكون جميع الناس مقلّدين للعلماء السابقين،بأن يقلّدوا الشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو المحقّق أو العلاّمة مثلا،أو يحتاطون،أو يعملون بالأخبار و لو بترجمتها إلي لغتهم من العارف بها، و الأوّل يكون من تقليد الميت ابتداء و هو غير جائز،كما أنّ الثاني مستلزم للعسر و الحرج (1)،و الثالث متعذّر علي الجميع،و لا ينفع الترجمة مع عدم حمل العام علي الخاص و نحوه.

قلت:يأتي في محلّه عدم ثبوت المنع عن تقليد الميت ابتداء.

و الذي ينبغي أن يقال:إنّ المسائل تتجدّد،فلا بدّ من الاجتهاد بمقدار رفع حوائج الناس في المسائل التي يبتلي بها،و يدلّ عليه قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ (2)الآية،فإنّ المستفاد منها أنّ المطلوب شرعا أن يكون هناك جماعة يعرفون كلّ ما يحتاج إليه الامّة في كلّ زمان.

المسألة الثانية: في جواز تقليد من له ملكة الاجتهاد لغيره

هل يجوز له التقليد مع تمكّنه من فعلية الاستنباط أو لا؟و جهان:من كونه جاهلا بالحكم الشرعي بالفعل،و من انصراف أدلّة جواز التقليد عمّن يتمكّن من الاستنباط،و سيأتي التعرّض له إن شاء اللّه تعالي.

ص: 450


1- التنقيح 1:65.
2- سورة التوبة:122.
المسألة الثالثة: في حجّية رأي المجتهد لنفسه

قال في الكفاية:ينقسم الاجتهاد إلي مطلق و تجزّ،فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به علي استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها،و التجزّي هو ما يقتدر به علي استنباط بعض الأحكام.إلي أن قال:كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به (1).و مقتضي كلامه أنّ المجتهد المطلق لو استنبط حكما أو حكمين كان حجّة له.

و قال في التجزّي في الاجتهاد بحجّيته لنفسه (2).

أقول:يشكل كفاية الاعتماد علي استنباط الحكم في المرّة الاولي بدون التكرار في استنباط ذلك الحكم بعينه،بل انّ ما يري من صعوبة الاجتهاد و ما يري من تبدّل الرأي يزيد الاشكال،فلا بدّ من استنباط أكثر الأحكام حتّي يصير ماهرا و مطّلعا علي النظائر حتّي لا يبتلي بتبدّل الرأي،و لا بدّ من تكرار المراجعة للمسألة التي استنبطها.

المسألة الرابعة: في التخطئة و التصويب

هل المجتهدون المختلفون مصيبون أو المصيب أحدهم و الباقون مخطئون؟ لا بدّ لتنقيح البحث من بيان المراد من التخطئة و التصويب.

فنقول في بيان المراد من التخطئة و التصويب:كلّ شيء يمكن أن يتغيّر عمّا هو عليه من حسن إلي قبح،و من وجوب إلي حظر،فيجري فيه بحث التخطئة و التصويب،و أمّا ما لا يتغيّر فلا يجري فيه،فلذا لا يجري في الموضوعات

ص: 451


1- كفاية الاصول ص 529.
2- كفاية الاصول ص 533.

الخارجية،كالاجتهاد في القبلة،و إلاّ لزم تبعية الامور الخارجية لرأي المجتهد، و لا يجري أيضا في التوحيد و العدل و النبوّة و الامامة،فاعتقاد من اعتقد كون النبي كاذبا لا يكون إلاّ جهلا،هكذا قرّره الشيخ في العدّة،و قال:و حكي عن قوم شذاذ لا يعتدّ بأقوالهم أنّهم قالوا:كلّ مجتهد فيها مصيب (1).

و لا يجري البحث في الضروريات،و كذا في المستقلاّت العقلية،و إلاّ لزم اجتماع النقيضين.و أمّا المستقلاّت غير العقلية،فيمكن إجراء البحث فيها،و محلّ البحث الأحكام الفرعية الشرعية،و مدركها أحد أمور:

الأوّل:أن يكون مدركها القياس و الاستحسان،و المصالح المرسلة،و الأخبار الضعيفة المروية من طرق العامّة،و اجتهاد الرأي الذي يقول به العامّة،و التصويب فيه قول العامّة،و ليس من مذهبنا الاعتماد في الحكم إليها.

الثاني:أن يكون المدرك الخبر الصحيح،كالخبر المتواتر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أو المعصومين عليهم السّلام،و كان الاختلاف ناشئا عن اختلاف الأفهام و التفاسير، كالاختلاف في معني حديث لا ضرر و لا ضرار،و لا يكون كلا النظرين المتباينين مصيبين؛لأنّ المراد واحد واقعا،و كذا لو استظهر أحدهما من قوله«لا تنقض اليقين»عموم حجّية الاستصحاب،و استظهر آخر اختصاصه بالشكّ في الرافع، فيكون أحدهما مخطئا،أي:غير مصيب إلي الواقع و إن كان معذورا.

الثالث:أن يكون المنشأ للاختلاف اختلاف الأخبار مع عدم مرجّح لأحدهما، و في مثله:إمّا يكون الحكم الواقعي التخيير و يكون المختلفان مصيبين،أو يكون الحكم الظاهري التخيير.و ظاهر الشيخ في العدّة الأوّل في الخبرين المتعارضين إذا لم يكن ترجيح لأحدهما،قال:و إن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما0.

ص: 452


1- عدّة الاصول ص 290.

و تنافيهما،و أمكن حمل كلّ واحد منهما علي ما يوافق الخبر الآخر،علي وجه كان الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (1).

و قد يقال:إنّ المسألة كلامية اقترحتها العامّة لتبرير ما صدر عن أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالوا:إنّهم مجتهدون،و كلّ مجتهد مصيب.

أقول:الذي يظهر من الشيخ الطوسي أنّه لا مجال لهذا البحث علي مذهب الشيعة،و محلّ البحث هو الاجتهاد الذي يراه العامّة،و هو تحصيل الرأي بأمر من الاستحسانات الوهمية و الأقيسة و الاستقراءات و نحوها ممّا لا يكون له واقع، فاختلفوا في أنّ كلّ مجتهد مصيب بمعني إنشاء حكم واقعي علي ما تعلّق به رأي المجتهد المذكور.

و قال الشيخ بعد حكاية أقوالهم:و الذي أذهب إليه،و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين و المتأخّرين،و هو الذي اختاره سيّدنا المرتضي قدّس اللّه روحه،و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه:أنّ الحقّ واحد و أنّ عليه دليلا،من خالفه كان مخطئا فاسقا،و اعلم أنّ الأصل في هذه المسألة القول بالقياس و العمل بأخبار الآحاد؛لأنّ ما طريقه التواتر و ظواهر القرآن،فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك،و إنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، و قد دللنا علي بطلان العمل بالقياس و خبر الواحد الذي يختصّ المخالف بروايته، و إذا ثبت ذلك دلّ علي أنّ الحقّ في الجهة التي فيها الطائفة المحقّة إلي آخر ما أفاده فلاحظ (2).

و المستفاد من مجموع كلامه أنّ المجتهد من العامّة مخطيء فاسق،لا المجتهد من الشيعة،بل المجتهدون المختلفون منهم مصيبون إن كان مدركهم الأخبارة.

ص: 453


1- عدة الاصول 1:148.
2- عدّة الاصول 2:725 الطبعة المحقّقة الجديدة.

المختلفة التي لا ترجيح لبعضها علي بعض،كما صرّح به في بحث حجّية خبر الواحد،و مثله في بحث الاجماع.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العامّة إن كانوا قائلين بإنشاء أحكام علي عدد اجتهادات المجتهدين بالآراء لم يكن محالا؛لأنّهم لا يفحصون عن واقع موجود، بل يجتهدون رأيهم.

فما في الكفاية،حيث قال:و لو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحكام علي وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد،فهو ممّا لا يكاد يعقل،فكيف يتفحّص عمّا لا يكون له عين و لا أثر،أو يستظهر من الآية أو الخبر (1).ليس في محلّه.نعم هو مناف لما دلّ علي أنّ كلّ واقعة لها حكم واحد،مع قطع النظر عن اجتهاد المجتهدين،و أنّه ليس هناك أحكام متعدّدة في الواقع.

ثمّ إنّا نتعرّض للتخطئة و التصويب مع قطع النظر عن اختصاص البحث فيهما بالعامّة بالنسبة للاجتهاد الخاصّ بهم،فنتعرّض أوّلا للوجوه المذكورة للتصويب:

الأوّل:أن يكون المراد به الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء،و كلّ مجتهد يصل في رأيه إلي أحدها:إمّا أنّه تعالي يجبره في تفكيره حتّي يصل إليه،أو أنّه يصل إليه اتّفاقا و صدفة.

و أورد عليه في الفرائد (2)و الكفاية (3)بأنّه لو فرض إمكانه فهو خلاف الاجماع و الأخبار.

قلت:الاجماع في المسألة ليس إجماعا فقهيّا،كما أشار إليه في نهاية الاصول (4).1.

ص: 454


1- كفاية الاصول ص 536.
2- فرائد الاصول ص 44.
3- كفاية الاصول ص 536.
4- نهاية الاصول ص 151.

نعم ظاهر الأخبار أنّ هناك حكما واحدا ما لم يكن أخبار مختلفة صادرة عن المعصومين عليهم السّلام.

الثاني:أن لا يكون حكم واقعي أصلا،و ينشأ الحكم علي وفق آراء المجتهدين،و هذا لا يمكن في مثل الخبر الواحد الحاكي عن الواقع،كما نقلناه عن الكفاية.

و قال الشيخ الأنصاري:إنّه تصويب باطل مناف للاجماع و الأخبار الدالّة علي أنّ كلّ واقعة لها حكم واحد.قال في ضمن الوجه الأوّل:أو محكوم بما يعلم اللّه أنّ الأمارة تؤدّي إليه (1).

الثالث:أن يكون الحكم الواقعي في كلّ واقعة فعليّا بالنسبة إلي من يمكنه الوصول إليه،و إن لم يتفحّص عنه تقصيرا.و أمّا الجاهل القاصر،فليس مكلّفا بالواقع؛لأنّ إمكان الوصول إلي الحكم الواقعي شرط لصحّة التكليف،فمن لم يقصر في الفحص و اجتهد علي حسب الموازين و لم يصل إلي الواقع،فإنّه لا تكليف له بالواقع،بل عليه أن يعمل باجتهاده،و ليس ذلك تصويبا باطلا،لكن يظهر من الشيخ في الوجه الأوّل أنّه تصويب باطل،و أنّ الأخبار قد تواترت علي اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل (2).

أقول:يمكن منعه لما دلّ علي أنّ التكليف مشروط بالوصول،قال اللّه تعالي:

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (3) و ورد مضمونه في الأخبار،فيصحّ أن يقال:

إنّ كلّ مجتهد ليس بمخطيء،فإنّه إن وصل إلي الواقع فمصيب،و إن لم يصل إليه فلا تكليف له بالواقع،فتأمّل.7.

ص: 455


1- فرائد الاصول ص 44.
2- فرائد الاصول ص 44.
3- سورة الطلاق:7.

الرابع:الفرض المذكور في الوجه الثالث،لكن مع فرض كون الحكم الواقعي إنشائيا في حقّ من قامت الأمارة عنده علي خلافه،فالمجتهد يفحص عنه لكن قد يصل إليه و قد لا يصل،و إذا لم يصل فالحكم الفعلي هو ما أدّي إليه اجتهاده،فلا مانع من القول بالتصويب بالنسبة إلي الحكم الفعلي.

كما قال في الكفاية:إلاّ أن يراد التصويب بالنسبة إلي الحكم الفعلي،ثمّ قال:إنّه لا استحالة فيه،بل لا محيص عنه بناء علي اعتبار الأخبار من باب السببية (1).

و أمّا بناء علي أنّ مؤدّيات الطرق و الأمارات أحكام طريقية،أي:يجب العمل بها لمجرّد كونها طرقا إلي الواقع و كواشف ظنّية عنه،بحيث لم يلحظ فيها مصلحة سوي الكشف عن الواقع (2)،فهي ليست أحكاما حقيقية،فلا تنافي الحكم الواقعي،و كذا بناء علي ما يعتقده صاحب الكفاية من أنّ الأمارات منجّزات و معذّرات،و كذا علي ما يراه المحقّق النائيني من أنّ المجعول فيها العلم تعبّدا.

الخامس:أن تكون مصلحة الحكم الظاهري غالبة علي مصلحة الواقع،و هذا هو الوجه الثاني في كلام الشيخ،و يظهر ذلك من الشيخ الطوسي في العدّة.

السادس:أن تكون مصلحة الحكم الظاهري مصلحة اخري يتدارك بها مصلحة الواقع بمقدار تركها،و هو الوجه الثالث في كلام الشيخ (3).

و التحقيق أن يقال:إنّه لا تكليف بالحكم الواقعي الأوّلي الموجود في كتاب علي عليه السّلام و غيره ممّا لم يظهره المعصومون عليهم السّلام،أو أظهروه و لم يصل إلينا،و ما صدر عنهم و وصل إلينا فيجب العمل به،فإن وصل إلينا و لم يتّضح المراد،فيمكن أيضا أن يقال:إنّ الحكم لم يصل إلينا لكن ينبغي الاحتياط في بعض الموارد.4.

ص: 456


1- كفاية الاصول ص 536.
2- هذا التفسير للحكم الطريقي مذكور في كلام الشيخ،راجع فرائد الاصول ص 41.
3- فرائد الاصول ص 44.
المسألة الخامسة: ما إذا تبدّل رأي المجتهد

إن تبدّل رأي المجتهد برأي آخر،أو زال بالتردّد،فلا ينبغي الريب في أنّه لا يعمل عليه في الأعمال المستقبلة.و أمّا الأعمال السابقة،فعلي القول بالتصويب فلا إشكال في صحّتها؛لأنّ التبدّل يكون من قبيل نسخ الحكم الواقعي بحكم آخر.

و أمّا بناء علي التخطئة،فإن كان مجرّد مخالفة التكليف،كما إذا كانت الفتوي السابقة جواز فعل و الفتوي اللاحقة حرمته،فلا إشكال؛لأنّه كان معذورا.و أمّا إن كان له أثر وضعي كالاعادة أو القضاء و بطلان العقود و الايقاعات،ففي ترتيب الآثار و عدمه وجوه و احتمالات:

أحدها:ترتيب الآثار مطلقا.

ثانيها:عدمه مطلقا.

ثالثها:التفصيل بين ما كان مستند الرأي الأوّل الاصول النقلية الشرعية،أو الأمارة بناء علي القول بالسببية فيجزيء و إلاّ فلا يجزيء،إختاره في الكفاية (1).

رابعها:التفصيل بين أن يكون مدرك الأوّل القطع فلا يجزيء،و عدمه فيجزيء.

خامسها:التفصيل بين أن يكون مدرك الأوّل القطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة و الاجماع مثلا فلا يجزيء و إلاّ فيجزيء،و لا يخلو عن وجه.

سادسها:التفصيل بين ما لا بقاء له كالعقد و الصلاة فيجزيء،و ما له بقاء كالحيوان المذبوح بدون قطع المريّ إن عدل مع بقائه،إختاره في الفصول،قال:إذا قطع ببطلان الأعمال السابقة واقعا،فإنّ الظاهر وجوب التعويل علي مقتضي قطعه فيها بعد الرجوع،عملا بإطلاق ما دلّ علي ثبوت الحكم المقطوع به،فإنّ الأحكام

ص: 457


1- كفاية الاصول ص 539.

لا حقة لمواردها الواقعيّة لا الاعتقاديّة،فيترتّب عليه آثاره الوضعية ما لم تكن مشروطة بالعلم،و كذا إذا قطع ببطلان دليله و إن لم يقطع ببطلان الحكم.

إلي أن قال:و إن لم يقطع ببطلانها و لا ببطلانه،فإن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضي الفتوي،فالظاهر بقاؤها علي مقتضاها السابق، فيترتّب عليها لوازمها بعد الرجوع؛إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين و لو بحسب زمانين.

إلي أن قال:و لو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن أخذها بمقتضي الفتوي،فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد،كما لو بني علي حلّية حيوان فذّكته (1)ثمّ رجع،بني علي تحريم المذكّي منه و غيره (2).

و لعلّ مراده أنّ المكلّف بعد ما دخل وقت الصلاة يجب عليه الصلاة،فإن صلّي علي حسب اجتهاده الذي أمره الشارع فقد أدّي وظيفته،فإن عدل عن رأيه بعد الصلاة،فلا محلّ للاجتهاد في الصلاة التي وقعت صحيحة؛لأنّ الصلاة واقعة واحدة لا بقاء لها.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ العدول عن الرأي ربما يكشف عن التقصير في الاجتهاد الأوّل.

ثمّ إنّ للمسألة صورا:

الاولي:أن يكون المجتهد قد قطع بالرأي الأوّل،ثمّ زال قطعه بالقطع بالخلاف أو بأمارة معتبرة،قال في الكفاية:إنّه لا يجزيء الرأي الأوّل؛لأنّ الواقع محفوظ، و لا أمر ظاهرا يقتضي الاجزاء؛لأنّ القطع هو تخيّل الأمر و لا حكم معه شرعا، غايته المعذورية في المخالفة عقلا،إلاّ إذا نهض دليل علي صحّة العمل فيما إذا9.

ص: 458


1- كذا في الأصل،و الظاهر أنّ الصحيح:فذكّاه.
2- الفصول الغروية ص 409.

اختلّ فيه لعذر،كما نهض في الصلاة و غيرها،مثل لا تعاد،و حديث الرفع،بل الاجماع علي الاجزاء في العبادات علي ما ادّعي (1).

أقول:ينبغي التفصيل بين القطع الذي يحصل له من غير الأدلّة فكلامه صحيح، و بين القطع الذي يحصل له من دلالة الآية أو الخبر،كما إذا قطع بأنّ الغسل لا يعتبر فيه العصر،ثمّ قطع باعتباره في مفهوم الغسل،فيمكن القول بالاجزاء؛لأنّه مأمور بالتفقّه و العمل بما يتفقّه فيه،فليس من تخيّل الأمر كما في الأوّل،و حينئذ إن قلنا إنّ الأمر بالاجتهاد يدلّ علي الموضوعية لم تجب الاعادة،و إن قلنا إنّه حكم طريقي أو منجّز و معذّر لم يجز علي كلام تقدّم في بحث الاجزاء.

الثانية:أن يكون مستند الرأي الأوّل الأمارة المعتبرة،ثمّ زال بالقطع بالخلاف أو بحجّة معتبرة،قال في الكفاية:إنّ الأوّل لا يجزيء بناء علي ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطريقية،قيل بأنّ قضيّة اعتباره إنشاء أحكام طريقية أم لا (2).

أقول:بناء علي السببية إن قلنا بأنّ قيام الأمارة يوجب حصول مصلحة في الفعل يجب العمل به،و أمّا مصلحة الواقع فهي علي حالها،فلا وجه للاجزاء،إلاّ أن يقال بأنّه يتدارك مصلحته،ثمّ إنّه ينبغي البحث عن أنّ الأمر بالاجتهاد هل هو طريقي أو موضوعي،و أنّه يدلّ علي إجزاء الاجتهاد أو لا؟

الثالثة:أن يكون مدرك الأوّل الاصول الشرعية النقلية،كالبراءة النقلية و الاستصحاب،و قد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل علي الخلاف،قال في الكفاية بالاجزاء،فإنّه عمل بما هو وظيفته في تلك الحال (3).9.

ص: 459


1- كفاية الاصول ص 537.
2- كفاية الاصول ص 537.
3- كفاية الاصول ص 539.

أقول:لم يثبت الفرق بين الأصل و الأمارة،بل يحتمل أنّ الأصل إذا خالف الواقع يكون عذرا.

ثمّ إنّ ما يمكن أن يستدلّ به لترتيب آثار الصحّة علي الأعمال السابقة بعد تبدّل الرأي بحيث يحكم بصحّة العبادات حتّي لا يحتاج إلي الاعادة و القضاء و بصحّة العقود و الايقاعات وجوه:

الأوّل:قوله في صحيح عبد الصمد بن بشير«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (1)فإنّه شامل للمعتقد بالخلاف و لمن استند إلي أمارة أو أصل انكشف خلافهما،و مقتضي العموم أنّه لا شيء عليه من الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاعات،إلاّ إذا ثبت بدليل خاصّ،و احتمال إرادة لا شيء عليه من المؤاخذة و العقاب مدفوع بأنّ مورده صحّة عمل الرجل الأعجمي الذي أحرم في المخيط، مع أنّه لا دليل علي تقييد عموم لا شيء عليه من العقاب و غيره،فتأمّل.

إن قلت:إن اعتقد صحّة الصلاة مع الغسل المندوب،ثمّ عدل عنه،فالصلاة التي صلاّها باطلة؛لأنّها بلا طهور،فإنّ قوله«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»أخصّ من عموم«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»فيخصّص به،و يكون الحاصل بعد التخصيص وجوب إعادة الصلاة إن أخلّ بأحد الخمسة.

قلت:النسبة من وجه،فإنّ حديث لا تعاد يشمل الجاهل و الناسي،و الصحيح المذكور يشمل الصلاة و غيرها،و مقتضاه صحّة الصلاة مع الغسل المندوب،و مع الحكم بصحّته فلا يشمله حديث لا تعاد؛لأنّ ظاهره إعادة ما وقع باطلا جهلا أو نسيانا،فتأمّل.

الثاني:قوله«رفع ما لا يعلمون»بناء علي أنّ المرفوع نفس ما لا يعلمون،و هو2.

ص: 460


1- تهذيب الأحكام 5:72.

الحكم الذي جهله،فلا يكون موضوعا عليه و مكلّفا به،لا رفع المؤاخذة و العقاب.

و فيه أنّ عدم التكليف بالجزء أو الشرط المجهولين لا يقتضي صحّة ما أتي به، بحيث لا يترتّب عليه الاعادة و القضاء،مع أنّه لا يبعد أن يقال:إنّ المراد رفعهما ما دام لا يعلم،لا رفعهما حتّي بعد حصول العلم،مع أنّ التحقيق في المعني المراد رفع المؤاخذة.

الثالث:عموم المستثني منه في حديث لا تعاد،لكنّه مخصوص بباب الصلاة.

الرابع:الاجماع في العبادات،كما قال في الكفاية:بل الاجماع علي الاجزاء في العبادات كما ادّعي (1).

الخامس:العسر و الحرج،لكنّه مخصوص بما إذا استلزم الاعادة و القضاء و تجديد العقد العسر و الحرج،مع أنّه لم يثبت أنّ المراد من عدم جعل العسر و الحرج التصرّف في الأحكام المجعولة بثبوتها مع عدم استلزامهما خاصّة،بل لعلّ المراد أنّ الأحكام الشرعية المجعولة ليست عسرا و لا حرجا.

السادس:ظهور الأخبار الدالّة علي أنّ ما جعل علي العباد فهو يسعهم و أنّهم ليسوا في ضيق منها،و الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاع ضيق عليهم، فتأمّل.

السابع:عموم قوله«كلّ ما مضي فامضه كما هو»أي:يحكم عليه بأنّه قد مضي كما ينبغي أن يمضي عليه واقعا،فلا إعادة و لا قضاء.

و فيه أنّه ظاهر في مضيّه علي النحو الذي يعتقد أنّه يمضي عليه،فتأمّل.

الثامن:أنّ المجتهد في زمان رأيه الأوّل الذي كان حجّة:إمّا أن يكون مكلّفا برأيه بحيث يكون صحيحا موجبا لترتّب جميع الآثار عليه فهو المطلوب،و إمّا أن7.

ص: 461


1- كفاية الاصول ص 537.

يكون مكلّفا بالواقع الذي لم يصل إليه فهو غير صحيح؛لأنّه لا يكلّف إلاّ بما وصل إليه.

و فيه أنّه يصير مكلّفا بالواقع بعد وصوله بالنسبة إلي آثاره الآتية من القضاء و الاعادة و تجديد العقد.

التاسع:أنّ الوجوه المذكورة إن تمّت،و إلاّ فلا أقلّ من ايجابها الشكّ في وجوب الاعادة و القضاء و حرمة المرأة المعقودة،و الأصل البراءة عن الوجوب و الحرمة.

أقول:الأظهر الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاع في صورة القطع بالخلاف،و هو الأحوط في صورة تبدّل الاجتهاد بالاجتهاد بالخلاف؛لأنّ الاجتهاد المخالف يكشف عن القصور أو التقصير في الاجتهاد الأوّل.

المسألة السادسة: من ليس أهلا للفتوي يحرم عليه الافتاء

المراد بالافتاء إظهار ما استنبطه من الأدلّة.و عدم الأهلية تارة لعدم الاجتهاد، و اخري لفقده سائر الشرائط.

أمّا الأوّل و هو أن لا يكون مجتهدا،فإمّا:يعلم بأنّه يعمل أحد بفتواه،أو يعلم أنّه لا يعمل بها،أو يشكّ.و علي جميع التقادير يحرم عليه الافتاء؛لأنّه كذب حيث أخبر عن استنباطه مع أنّه لم يستنبط،فإن عمل أحد به كان وزره عليه إن كان مخالفا للواقع،بل يمكن أن يقال:إنّ تصدّيه للافتاء كذب فعلي،بل قيل:إنّ افتاءه داخل في التشريع.

و أمّا الثاني،و هو كونه مجتهدا فاقدا لسائر الشرائط،فإنّه لا بأس بإفتائه من حيث الافتاء،لكن إن عمل به و استند ذلك إلي تصدّيه للافتاء كان وزره عليه،إن كان مخالفا لفتوي من يجب تقليده.

ص: 462

و أمّا إن لم يستند إليه،بأن زعم الناس أنّه عادل أو ولد حلال أو غيرهما،ففي حرمته و جهان،الأوّل:الحرمة لأنّه تصدّي للمنصب أي الافتاء بغير مجوّز.الثاني:

عدم الحرمة؛لأنّه لم يغر الناس بشيء و لم يضلّهم و هو أهل للفتوي،و مجرّد أنّه يعلم أنّ فتواه ليست حجّة علي السائل و هو يزعم أنّها حجّة عليه ليس إغراء منه، فهو نظير أن يخبر فاسقان واقعا يزعم السائل عدالتهما بنجاسة شيء،فإنّه لا بأس به؛لأنّهما يعلمان النجاسة و السائل قد اعتقد فيهما العدالة و إنّ شهادتهما حجّة عليه،مع أنّها ليست بحجّة واقعا.

قلت:فرق بين المثال المذكور و بيان الفتوي التي ليست حجّة واقعا،فتدبّر.

المسألة السابعة: من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ

من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ

و عدم الأهليّة:إمّا لعدم كونه مجتهدا،و إمّا لفقده سائر الشرائط.

أمّا الأوّل،و هو أن يكون لعدم الاجتهاد،و كان مورد النزاع الشبهة الحكمية، فإن كان يحكم علي طبق رأيه،فلا إشكال في الحرمة.و أمّا إن حكم علي طبق فتوي أعلم العلماء التي تكون حجّة،فهو ليس قضاء بل هو بيان فتوي من يكون قوله حجّة علي المتخاصمين،و لا دليل علي عدم جواز فصله الخصومة علي ما ذكرناه في محلّه من أنّ المتنازعين إن كانا جاهلين بالمسألة فرجعا إلي الأعلم، فإنّه يبيّن فتواه،و لا داعي لانشاء الحكم كما لا وجه له.نعم زعم المتنازعين كونه مجتهدا،فيشكل قضاؤه من جهة تصدّيه ما لا ينبغي أن يتصدّي له.

نعم إن علما بأنّه ليس بمجتهد و يفصل الخصومة بفتوي الأعلم الذي يقلّدانه، فإنّه لم يتصدّ لأمر لا ينبغي له أن يتصدّي له،فلا بأس به.

و إن كانت الشبهة موضوعية و حكم علي موازين البيّنة و اليمين،فإنّما يفصل الخصومة بإنشائه الحكم علي الموازين،و نفوذ حكمه عليهما خلاف الأصل،

ص: 463

فيحتاج إلي دليل و لا دليل عليه،فيكون تصدّيه للمنصب الذي لم يجعل له بناء علي حرمته حراما.

و أمّا الثاني و هو كونه مجتهدا فاقدا لسائر الشروط،فعلي ما ذكرنا من أنّه ليس في الشبهة الحكمية إنشاء حكم،بل مجرّد الفتوي،فحكمه ما سبق من إفتاء من ليس بأهل.و أمّا الشبهة الموضوعية،فالأصل عدم نفوذ إنشائه فصل الخصومة و تصدّيه للمنصب حرام.و هذه المسألة حيث انّها مربوطة بكتاب القضاء اختصرناها،و بعض ما ذكرناه يحتاج إلي التأمّل.

المسألة الثامنة: عدم جواز الترافع إلي من ليس أهلا للفتوي

لا يجوز الترافع إلي من ليس أهلا للفتوي،و لا الشهادة عنده،أي:في الشبهة الموضوعية،فإنّه إن لم يكن إماميا فهو طاغوت.و أمّا إن كان من الامامية،فإنّ تصدّيه إن كان حراما لعدم الأهلية،فهو طاغوت من هذه الجهة،فمضافا إلي أنّ الترافع و الشهادة عنده من الاعانة علي الاثم،يمكن دعوي شمول ما ورد في الروايات من ذمّ التحاكم إلي الطاغوت له.

المسألة التاسعة: حرمة المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي

المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي حرام،و إن كان الآخذ محقّا.

و المال المأخوذ:إمّا دين،و إمّا عين.و الأوّل:إمّا مؤجّل لم يبلغ أجله،أو حلّ أجله.و الثاني:إمّا عين مختصّة به،أو مشتركة كالميراث إذا كانت العين بين الورثة.و منشأ النزاع:إمّا الجهل بالحكم،أو الاختلاف في الموضوع،فإن لم يكن الآخذ محقّا أو لم يعلم كونه محقّا،فالمال المأخوذ سحت،و منه ما إذا كان الدين مؤجّلا و لكن أخذه قبل أجله بحكم الحاكم.

ص: 464

و أمّا إذا كان الآخذ محقّا،كما إذا كان دينا معجّلا أو مؤجّلا حلّ أجله،أو كان عين ماله المختصّ به،سواء كان النزاع في الموضوع أو للجهل بالحكم،فهل المحرّم الأخذ دون المأخوذ،أو يحرم التصرّف في المأخوذ و إن كان ملكه؛لأنّه و إن كان عين ماله،لكنّه بعنوان المأخوذ بحكم من ليس أهلا يكون التصرّف فيه حراما،أو يفصّل بين ما لا يحتاج إلي تعيين،كالعين الشخصية غير المشتركة،و ما يحتاج إلي التعيين كالدين و العين المشتركة؟وجوه.

و عمدة ما يستدلّ به علي الحرمة خبر عمر بن حنظلة،قال فيه:من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل،فإنّما تحاكم إلي الطاغوت،و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّه ثابتا؛لأنّه أخذه بحكم الطاغوت.

و نوقش في الاستدلال به أوّلا:بضعف السند،لعدم توثيق عمر بن حنظلة في كتب الرجال.

و فيه-مضافا إلي أنّ وجود صفوان في سند هذا الخبر يوجب أن يكون مشمولا للاجماع الذي ادّعاه الكشي علي العمل بأخباره،فإنّ القدر المتيقّن من الاجماع المدّعي في أصحاب الاجماع هو العمل بالخبر المشتمل عليهم-أنّ عمر بن حنظلة معروف قد روي عنه الأجلاّء.

و ثانيا:أنّه خاصّ بقضاة الجور،فلا تشمل مطلق من لا أهلية له.

و فيه أنّ التعليل بقوله«لأنّه أخذه بحكم الطاغوت»المراد به من طغي و جاوز حدّه،و مقابلته بالرجوع إلي من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا ربما يقتضيان التعميم.

و ثالثا:أنّه لا إطلاق فيه يشمل صورة كونه عين مال الآخذ المحقّ لأمرين:

الأوّل:أنّ مورده الشبهة الحكمية؛لأنّ مورد التنازع فيه هو الدين أو الميراث الذي لا يعلم حكمه،كالنزاع في أنّ الزوجة تستحقّ الارث من الأرض أم لا.

ص: 465

و فيه أنّه إذا لم يجز الأخذ في الشبهة الحكمية مع كونه محقّا و عين المال له،فلا فرق بينه و بين الشبهة الموضوعية،بل لا يبعد شمول الاطلاق لهما،و قد يقال:إنّ المراد من الميراث غير العين الشخصية،بل العين المشتركة التي يحتاج تقسيمها إلي تعيين حاكم العدل.

كما في التنقيح حيث قال:إنّ الميراث غير مختصّ بالعين الشخصية،بل يشمل العين المشتركة التي تتوقّف فيها الحلّية علي رضا الطرفين بتقسيمها،فيكون تقسيم الحاكم الجائر بدون رضا الطرفين في غير محلّه،فالمأخوذ بحكمه يكون سحتا (1).

و فيه أنّ الاطلاق شامل لما إذا لم تكن العين مشتركة،مع أنّ قوله«في دين أو ميراث»من باب المثال،فلعلّه يشمل مطلق التنازع في الأموال،و لذا قال:من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل،فالانصاف أنّه شامل بإطلاقه للعين الشخصية،فإنّ التحاكم فيها تحاكم في حقّ.

الثاني:ما في التنقيح من أنّ السحت يطلق علي ما لا يحلّ كسبه،و علي ما هو خبيث بالذات من المحرّمات،و لا يطلق علي مال نفسه؛لأنّه لا يكون سحتا،و إن حرم بعنوان طار عليه،فمن أفطر في نهار شهر رمضان بمال نفسه لا يقال إنّه أكل سحتا،و إن كان إفطاره و أكله محرّما (2).

و فيه أنّ المدار علي إطلاق«ما يأخذ»و هو شامل للعين،و حمل السحت عليه مبالغة في حرمة المأخوذ،و هو استعمال شايع.و السحت كما في فقه اللغة للثعالبي:

كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار،كثمن الكلب و الخنزير و الخمر فهو سحت (3).1.

ص: 466


1- التنقيح 1:362.
2- التنقيح 1:362.
3- فقه اللغة للثعالبي ص 31.

و رابعا:أنّ سحتا كما يحتمل أن يكون مفعولا و يكون المراد به المأخوذ،يحتمل أن يكون صفة للمفعول المطلق المحذوف اقيم مقامه،أي:فإنّما يأخذ أخذا سحتا، فيدلّ علي حرمة الأخذ مطلقا دينا كان أو عينا شخصية،و أمّا المأخوذ فلا يدلّ علي حرمته،بل لو كان المقصود هو كون المأخوذ سحتا لقال و ما يحكم به فهو سحت،فإنّه أخصر و أوضح.

و فيه أنّه لو كان المقصود ما ذكر كان ينبغي أن يقول في التعليل لأنّه أخذ بحكم الطاغوت بدون الضمير.و أمّا قوله«لأنّه أخذه»فهو ظاهر في كون المأخوذ سحتا، مع أنّ المستفاد من بعض اللغويين أنّ السحت اسم للذات لا للحدث،فلا يقال علي الأخذ إنّه سحت.

و خامسا:أنّه معارض بخبر الحسن بن علي بن فضّال،قال:قرأت في كتاب أبي الأسد إلي أبي الحسن الثاني عليه السّلام و قرأته بخطّه:سأله ما تفسير قوله تعالي وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ فكتب بخطّه:الحكّام القضاة،ثمّ كتب تحته:هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم،فيحكم له القاضي،فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذ كان قد علم أنّه ظالم (1).دلّ علي أنّه لو علم الرجل أنّه ليس ظالما بل محقّا،فهو معذور في أخذه.

و فيه ما قيل من أنّه يحتمل ارجاع ضمير«انّه ظالم»إلي القاضي لا إلي الرجل الآخذ بحكمه،أي:إذا علم الرجل أنّ القاضي ظالم لجلوسه مجلس القضاء بدون إذن من النبي أو الوصي،فما يأخذه منه فهو غير معذور،و مقتضي إطلاقه أنّه غير معذور و إن كان حقّا ثابتا،أو كان المأخوذ عينا.

و فيه نظر؛لأنّ قوله«يعلم الرجل أنّه ظالم»ظاهر في رجوعه إلي الرجل لعدم9.

ص: 467


1- وسائل الشيعة 18:5 ح 9.

ذكر القاضي،و لو كان المرجع القاضي لم يكن وجه لذكره في قوله«فيحكم له القاضي».و قد يناقش فيه من وجوه:

أحدها:ما في التنقيح من ضعف السند؛لأنّ في سندها محمّد بن أحمد بن يحيي،عن محمّد بن عيسي،و هو ممّا استثناه ابن الوليد من رواياته (1).

و الجواب:ما ذكرناه في محلّه من أنّ استثناء لا يدلّ علي التضعيف،مع أنّه حقّق في محلّه وثاقة محمّد بن عيسي المراد به العبيدي،و ابن الوليد استثني ما يرويه باسناد منقطع،و هذا السند متّصل.

ثانيها:ما في المستمسك من أنّه وارد في تفسير الآية لا بيان موضوع الحرمة مطلقا،ففي صدق الباطل يعتبر العلم بكون الآخذ ظالما،و لا ينفي ذلك عدم اعتباره في صدق الحرمة و لو بعنوان آخر،كالأخذ بحكم الطاغوت (2).

و الجواب:أنّ ظاهره أنّ الأخذ من الحاكم الجائر حرام في صورة صدق الباطل،و ليس بحرام في صورة عدم صدق الباطل،فإذا لم يصدق الباطل لزم أن يصدق الحقّ و يكون حلالا،مع أنّ المحتمل قويا أنّ الامام عليه السّلام في مقام بيان شرح المسألة لا تفسير الباطل.

ثالثها:ما فيه أيضا من إمكان حمله علي قضاة العدل و لو من جهة الجمع العرفي بينه و بين المقبولة،فيكون المعني أنّه لا يجوز للرجل إن كان ظالما أن يأخذ من قضاة العدل،بأن قضي القاضي علي الموازين الشرعية،لكن الآخذ يعلم أنّه ليس بمستحقّ.

و فيه أنّ قوله تعالي وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ ظاهر في الرشوة للقاضي ليحكم له بالباطل،فيكون موجبا لظهوره في قضاة أهل الجور،لا أقلّ من احتمال ذلك2.

ص: 468


1- التنقيح 1:362.
2- المستمسك 1:72.

الموجب لعدم كون الجمع المذكور عرفيا.

مضافا لما ورد من تفسير الحكّام بقضاة الجور في رواية أبي بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ فقال:يا أبا بصير انّ اللّه عزّ و جلّ قد علم أنّ في الأمّة حكّاما يجورون،أمّا أنّه لم يعن حكّام أهل العدل،و لكنّه عني حكّام أهل الجور، يا أبا محمّد انّه لو كان لك علي رجل حقّ فدعوته إلي حكّام أهل العدل،فأبي عليك إلاّ أن يرافعك إلي حكّام أهل الجور ليقضوا له،لكان ممّن حاكم إلي الطاغوت،و هو قول اللّه عزّ و جلّ أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطّاغُوتِ (1).

أقول:لا يبعد أن يقال في الجمع بين الخبرين،أنّ خبر عمر بن حنظلة ليس صريحا في حرمة التصرّف في المأخوذ،فإنّ العبارة الصريحة أن يقول:فإنّما يأكل سحتا.و أمّا قوله«فإنّما يأخذ سحتا»فمحمول علي أنّ المأخوذ سحت مبالغة،و لذا كان أخذه أخذ سحت،و المراد حرمة الأخذ.و أمّا خبر ابن فضّال،فمحمول علي أنّه إن لم يكن الآخذ ظالما،فليس ما يأخذه أكلا للمال بالباطل المذكور في الآية، فلا ينافي أن يكون الأخذ حراما،و أن لا يكون التصرّف في المأخوذ حراما.

و الانصاف أنّ كون عين ماله سحتا لا يجوز له التصرّف فيها ببيع و لا هبة و لا أكل بعيد جدّا،فإنّه ماذا يصنع بها بعد أخذها،حيث لا يحتمل وجوب إرجاعها إلي من كانت بيده من سارق أو غيره،فلو تاب حلّ له التصرّف،و يدلّ علي أنّ الانسان أحقّ بماله صحيح هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:المسلم أخو المسلم،و المسلم أحقّ بماله أينما وجده (2).3.

ص: 469


1- وسائل الشيعة 18:3 ح 3.
2- وسائل الشيعة 11:74 ح 3.
المسألة العاشرة

قيل:يجوز الترافع عند من ليس أهلا للفتوي إذا انحصر استنقاذ حقّه بالترافع عنده.و لا يخفي أنّه تارة يكون خصمه من العامّة و يكون القاضي منهم أيضا، و ثانية يكون الخصم و القاضي من الشيعة،و علي التقديرين فقد يكون الرجوع إليهم تقوية لهم،و قد لا يكون تقوية،و علي التقادير فقد يكون المال يسيرا و قد يكون كثيرا،و قد يتضرّر بحسب حاله و قد لا يتضرّر.

و يستدلّ للجواز بقاعدة لا ضرر،فإنّها ترفع الأحكام الضررية،و منها حرمة الترافع إلي الجائر لاستنقاذ حقّه.

أقول:يشكل التمسّك بقاعدة لا ضرر علي تحليل الحرام،فلو توقّف أخذ ماله علي شرب الخمر أو لمس الأجنبية و نحوهما،فالقول بجوازهما لأنّ ترك ماله ضرر و هو منفي،مشكل جدّا.

فينبغي التفصيل في خصوص هذه المسألة بأنّه يجوز إذا كان ضرر كثير و لم توجب المراجعة إلي الجائر تقويته،و يدلّ علي الجواز حينئذ لو كان القاضي أو السلطان من قضاة العامّة ما دلّ علي المراجعة إليهم إذا كانت تقية.و للكلام تتمّة تحتاج إلي المراجعة.

المسألة الحادية عشرة: حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه و لو لمجتهد آخر
اشارة

حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه و لو لمجتهد آخر

حكم الحاكم تارة يكون في مورد المخاصمات و المرافعات.إمّا في الموضوعات كتنازع الزوجين في الطلاق و عدمه،و إمّا للاختلاف في الحكم الكلّي،كاختلاف الورثة في إرث الزوجة ذات الولد من الأرض،و اخري في غير المرافعات،كحكم الحاكم بثبوت الهلال،فالكلام يقع في مواضع:

ص: 470

الموضع الأوّل: حكم الحاكم في المرافعات في الموضوعات

و لا ينبغي الاشكال في نفوذه إن كان الحاكم جامعا للشرائط،و المراد من نفوذه هو قطع الخصومة به،و ذلك لمشروعية القضاء في الشريعة المقدّسة،و القضاء هو فصل الخصومة،و الأخبار الواردة فيه مستفيضة،و لكن الواقع علي حاله و لا يتغيّر.

و يدلّ عليه صحيح هشام بن الحكم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان،و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا،فإنّما قطعت له به قطعة من النار (1).

فالمحكوم عليه لا يجوز له النقض جهارا،و يجب عليه الالتزام ظاهرا بالحكم، و إلاّ لزم نقض أغلب الأحكام في الموضوعات من حيث ادّعاء المحكوم عليه كذب الشهود أو غفلتهم أو كذب المدّعي،أو عدم أهلية الحاكم،لكن يجوز له النقض سرّا بمعني عدم الالتزام به،بل قد يجب عليه العمل بما يعلم بينه و بين اللّه، بل يجوز له التقاصّ ما لم يحلف علي تفصيل في باب القضاء.

الموضع الثاني: في الترافع في الحكم

و التحقيق عندي أنّ المترافعين إن كانا جاهلين بالحكم،أو كان أحدهما جاهلا،وجب عليه تقليد المجتهد الأعلم،و لا معني لحكم الحاكم،و إن كانا عالمين بالتقليد أو الاجتهاد وجب العمل علي طبق تقليدهما أو اجتهادهما،و لا معني لرجوعهما إلي مجتهد لا يقلّدانه أو لا يقلّده أحدهما،و لا دليل علي اعتبار إنشاء الحكم،فإذا اعتقد المجتهد نجاسة العصير،فله أن يفتي بنجاسته،و لا تكون

ص: 471


1- وسائل الشيعة 1:ب 2 من أبواب الحكم ح 1.

فتواه حجّة علي مجتهد آخر.

لكن قد استدلّ في التنقيح علي ثبوت الحكم فيه بالاطلاقات،قال:و منه يظهر أنّ الاطلاقات شاملة للشبهات الحكمية أيضا كذلك و انّ حكم الحاكم نافذ فيها و لو مع العلم بالمخالفة للواقع أو الخطأ في طريقه (1).

و فيه أنّ الحكم في المقبولة يراد به الحكم الشرعي لا الحكم الاصطلاحي،بأن يقول:حكمت مثلا.

و كذا الحكم في خبر أبي خديجة محمول علي الأعمّ من الفتوي و الحكم في الموضوعات؛لأنّ الحكم كما في آيات الكتاب أعمّ من الحكم الاصطلاحي،و كذا في الأخبار،و الحاكمان اللذان اختلفا قد اختلفا في الفتوي لا في الحكم الاصطلاحي،و إلاّ فمن البعيد صدور حكمهما في آن واحد،و إذا كان أحدهما أسبق من الآخر كان الثاني لغوا لأنّه نقض للأوّل،و لم يكن مجال لمعالجة اختلاف الحكمين بالأخذ بالمجمع عليه و بما وافق الكتاب و خالف السنّة،فلا إطلاق في أدلّة الحكم يشمل الحكم الاصطلاحي،بأن يحكم أحد المجتهدين علي طبق فتواه و يكون حجّة علي مجتهد آخر مخالف له في الفتوي.

ثمّ إنّه بناء علي ثبوت القضاء في الحكم الكلّي فالفرق بين فتوي المجتهد بحرمة شيء و حكمه بحرمته،أنّ الأوّل إخبار و الثاني إنشاء.

قال في الجواهر:و الظاهر أنّ المراد بالاولي الاخبار عن اللّه تعالي بحكم شرعي متعلّق بكلّي.و أمّا الحكم فهو إنشاء إنفاذ الحاكم لا منه تعالي لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص (2).

و قال في تكملة المنهاج:و الفرق بين الحكم و الفتوي أنّ الفتوي عبارة عن بيان0.

ص: 472


1- التنقيح 1:390.
2- جواهر الكلام 40:100.

الأحكام الكلّية من دون نظر إلي تطبيقها علي مواردها.إلي أن قال:و أمّا القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي مورد الترافع (1).

ثمّ انّهم ذكروا أنّ الفتوي تنقض بالحكم،و الفتوي تنقض بالفتوي،و أمّا الحكم فلا ينقض بالحكم و لا بالفتوي،و لم يظهر لنا دليل علي ذلك كلّه،فإنّه لا دليل علي أنّ المجتهد يحكم علي طبق فتواه.

الموضع الثالث: في حكم الحاكم في غير المرافعات

كحكمه أنّ اليوم يوم عيد الفطر مثلا،فهل يثبت به أم لا؟فيه خلاف،و لا دليل علي الثبوت به،و تفصيله في كتاب الصوم.

المسألة الثانية عشرة: إذا ظهر خطأ حكم الحاكم و عدم موافقته للواقع

إذا ظهر خطأ حكم الحاكم و عدم موافقته للواقع،فيجوز نقضه للحاكم الآخر، بأن ينشيء النقض،و هل يجوز لغير الحاكم نقضه؟ظاهر السيّد في العروة الوثقي عدمه.

أقول:إن كان المراد بالنقض إنشاء النقض فلا دليل عليه،لا من الحاكم و لا غيره.و إن كان المراد الاعلان ببطلان الحكم،فله وجه بالنسبة إلي الحاكم الآخر.

و إن كان المراد عدم ترتيب آثار الواقع بالنسبة إلي من يعلم مخالفته للواقع،فهذا ليس نقضا له.

فإذا كان الحكم في الموضوعات علي حسب الموازين الشرعية لم يجز نقضه، و لكن لا يجوز ترتيب آثار الواقع عليه إذا علم مخالفته للواقع،فإذا اشتري من زيد ثوبا و طالبه زيد بالثمن،فأنكر عند الحاكم و حلف،فإنّ الثوب لا يكون ملكا

ص: 473


1- تكملة المنهاج 1:2.

له،و إن كان النزاع قد انفصل بقضاء الحاكم.و إذا كان منشأ النزاع الاختلاف في الحكم و قلنا بجريان القضاء فيه،ففيه وجهان،لاحظ الجواهر (1).

ثمّ إنّه ذكر لنقض الحكم موارد:

الأوّل:ما إذا تراضي الخصمان علي تجديد الدعوي،قال في الجواهر:و قد بان لك من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم ينقض و لو بالظنّ إذا تراضي الخصمان علي تجديد الدعوي و قبول حكم الحاكم الثاني (2).

و قال أيضا:بل ربما يتوهّم عدم محلّ للدعوي،و ان تراضي الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني،و إن كان الأقوي خلافه،بل الأقوي نفوذ حكمه و إن اقتضي نقض الأوّل و لو بدليل اجتهادي يعذر فيه (3).

المورد الثاني:إذا علم مخالفة الحكم للواقع،فإنّه يجب علي العالم به نقضه، سواء كان المترافعين أو الحاكم؛لأنّ حكمه ليس حكمه تعالي.

و اورد عليه أوّلا:بأنّ حكم الحاكم قد فصلت به الخصومة،و أيّ دليل علي أنّ العلم بالخلاف موجب لرفع ذلك،مع أنّ المترافعين أو أحدهما في الأغلب يعلم بمخالفة الحكم للواقع،كما يشعر به صحيح هشام بن الحكم المحكي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال:إنّما أقضي الحديث.

و اجيب بأنّ العلم بالخلاف يكشف عن أنّ الخصومة لم تنفصل بحكم الشرع، فهي باقية.

و ثانيا:أنّ قوله«إذا حكم بحكمنا»و غيره يدلّ علي أنّ مجرّد الحكم مانع من الردّ و النقض،سواء علم بالخلاف أم لا.4.

ص: 474


1- جواهر الكلام 40:97.
2- جواهر الكلام 40:97.
3- )جواهر الكلام 40:94.

و اجيب بأنّ قوله«إذا حكم بحكمنا»ظاهر في كون حكمه كاشفا عن حكمهم، و مع العلم بالخلاف لا كاشفية لحكمه.

و ثالثا:أنّ الميزان في اعتبار حكم الحاكم هو كونه حكما للّه سبحانه في نظر الحاكم لا في نظر غيره،و لا يشترط علم الحاكم بالحكم،بل يكفي كونه عن اجتهاد صحيح.

المسألة الثالثة عشر: في كيفية معرفة الاجتهاد و أعلمية المجتهد

يعرف الاجتهاد و كذا أعلمية المجتهد بامور:

الأوّل:العلم الوجداني بأن كان الشخص المجتهد عرف اجتهاد الآخر.

و قال في العروة الوثقي في مسألة(20):إنّ المقلّد إن كان من أهل الخبرة و علم باجتهاد شخص كفي.و يظهر منه عدم اعتبار كونه مجتهدا.و فيه نظر؛لأنّ حصول العلم بالاجتهاد لغير المجتهد بعيد،و إن حصل له القطع،فربما كان مستندا إلي قلّة اطّلاع و تقصير،و ليس أهل الخبرة من كان من أهل الفضل،بل أهلها المجتهدون لا المقلّدون من أهل الفضل.

و علي ما ذكرنا من أنّ أهل الخبرة هم المجتهدون،فإن قلنا بجواز تقليد من كان له ملكة الاجتهاد قبل أن يستنبط الحكم جاز له التقليد،و إلاّ فلا وجه لقوله،كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة،لما عرفت أنّ أهل الخبرة خصوص المجتهدين.

و في التنقيح:إنّه يثبت بالاطمئنان؛لأنّه علم عادي،و هو حجّة عقلائية،و لم يردع عنها في الشريعة المقدّسة (1).

أقول:إن كان المراد من الاطمئنان الظنّ القوي،فيمكن التشكيك في حجّيته،

ص: 475


1- التنقيح 1:208.

و إن كان المراد القطع بالشيء الذي يزول بتشكيك المشكّك،فهو حجّة عند العقلاء إن حصل من أسباب صحيحة،و لذلك يشكل الاكتفاء به؛لأنّه غالبا لا يحصل من أسباب عقلائية،فالقول بعدم كفاية الاطمئنان قوي جدّا.

الثاني:شهادة عدلين،و بناء علي ما ذكرنا يعتبر أن يكونا مجتهدين،فإن كانا عدلين واقعا فلا إشكال في الثبوت.و أمّا شهادة العدلين علي الظاهر،فحجّيتها مبنية علي القول بحجّية البيّنة مطلقا،و هو مشكل عندنا،فإنّ خبر مسعدة بن صدقة إنّما يدلّ علي إثبات حرمة الأشياء بالبيّنة.و أمّا إثبات الاجتهاد و نحوه فلا دلالة له عليه.

و استدلّ لحجّيته مطلقا في التنقيح بأنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:إنّما أقضي بينكم بالبيّنات.و قد اعتمد علي أخبار العدلين في موارد الترافع،و هو يدلّ علي أنّ شهادتهما أيضا من مصاديق الحجّة (1).

أقول:إنّما يدلّ علي أنّها من مصاديق الحجّة في مورد المرافعة،و هو ظاهر.فلم يثبت دليل علي حجّية البيّنة مطلقا،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الصوم، قال:إنّي لم أظفر بدليل علي حجّية شهادة العدلين عموما،كما اعترف به جماعة (2).

الثالث:الشياع المفيد للعلم.أقول:العلم و هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو عليه حجّة من أيّ سبب حصل،و القطع حجّة عقلا إن حصل من الأسباب العقلائية،فإن حصل القطع من مجرّد كون شيء مشهورا و إن لم يكن معتقد الناس،فلا دليل علي حجّيته.نعم إن حصل من الشياع،و المراد به شهرة اعتقاد الناس بشيء،لا مجرّد كون الشيء مشهورا إن لم يعتقده الناس،كان القطع الحاصل منه حجّة.4.

ص: 476


1- التنقيح 1:210.
2- كتاب الصوم ص 144.

و ينبغي تقييده بما إذا كان الناس الذين يعتقدون بالشيء من الأذكياء الملتفتين إلي الامور،بل قيل:إنّ الشياع بالمعني الذي ذكرناه حجّة و إن لم يحصل منه القطع، و استدلّ له بقوله في صحيح حريز«إذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»و تفصيله في محلّه.

الرابع:مراعاة الظنّ بأعلمية أحد المجتهدين،أو احتمالها فيما إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلمية أحدهما و لا البينة،فإن حصل الظنّ بأعلمية أحدهما تعيّن تقليده،و كذا لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية.

و الوجه فيهما بناء علي التخيير بين المجتهدين المتساويين أنّ مظنون الأعلمية أو محتملها جائز التقليد علي كلّ حال،و يشكّ في جواز تقليد الآخر لاحتمال أعلمية مظنون الأعلمية أو محتملها.و أمّا بناء علي وجوب الاحتياط فيما إذا كانا متساويين،فلا حجّية للظنّ بأعلمية أحدهما المعيّن،و لا أثر لاحتمال أعلميته،بل يجب الاحتياط بين قوليهما.

المقام الثاني: في التقليد
اشارة

لا يخفي أنّ صحّة العمل لا تتوقّف علي التقليد.نعم غالبا تكون مترتّبة عليه،و الكلام يقع في التقليد في مفهومه و حكمه و في المقلّد و المقلّد فيه في فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف التقليد

أمّا التقليد،فقد ورد لفظه في روايات،كخبر البزنطي،قال:قلت للرضا عليه السّلام:

جعلت فداك فأين التقليد الذي كانوا يقلّدون جعفرا و أبا جعفر؟قال:لا تحملوا

ص: 477

علي القياس (1).

و في خبر محمّد بن مسلم:أنتم أشدّ تقليدا (2).

و في الرواية المروية في الاحتجاج و تفسير العسكري تكرار كلمة التقليد (3).

و في رواية أبي بصير:قد قلّدتك ديني (4).

و نظيرها بغير كلمة التقليد خبر عبد الرحمن بن الحجّاج قال له الأعرابي:أهو في عنقك (5).

و التقليد لغة من باب التفعيل متعدّ إلي مفعولين.

قال في ترتيب العين:و تقلّدت السيف و الأمر و نحوه:ألزمته نفسي،و قلّدنيه فلان،أي:ألزمنيه و جعله في عنقي (6).

و قال الأزهري في تهذيب اللغة:عن ليث القلادة ما جعل في العنق جامع للانسان و البدنة و الكلب،و تقليد البدنة أن يعلّق في عنقها (7).

و في أساس البلاغة:قلّدته السيف ألقيت حمالته في عنقه فتقلّده،و من المجاز قلّد العمل فتقلّده (8).

و في اللسان:و قد قلّده قلادة و تقلّدها،و منه التقليد في الدين،و تقليد الولاة9.

ص: 478


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 26.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 113.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 118.
4- جامع أحاديث الشيعة 24:203 ح 4.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 1 المقدّمات ح 37.
6- ترتيب العين ص 683.
7- تهذيب اللغة 9:32.
8- أساس البلاغة ص 519.

الأعمال،و تقليد البدن (1).

و في المقاييس:إنّه تعليق شيء علي شيء وليّه به،و تقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنّها هدي (2).

قد يقال:التقليد من المصادر الجعلية المأخوذة من الموادّ الجامدة،نظير حجّر المأخوذ من الحجر،و بحّر المأخوذ من البحر،فالتقليد مأخوذ من القلادة.

أقول:لعلّ المتبادر عرفا من قولهم«قلّدت المجتهد»هو تقليد الامور الدينية المجتهد،قدّم المفعول الثاني،و أصله قلّدت ديني المجتهد،أي:جعلتها مرتبطة به و في عهدته و منوطة برأيه،كارتباط القلادة بعنق شخص.

ثمّ إنّ استعمال التقليد في العمل بقول الغير استعمال مجازي،فإنّ المقلّد جعل عهدة عمله و ضمانه علي رقبة الغير،و ليس في الخارج تقليد محسوس.

و الظاهر أنّ معني التقليد الذي في الروايات هو العمل موافقا لقول الغير ملتفتا إلي ذلك،فليس هو الالتزام و لا نفس العمل،بل النظر إلي الغير في العمل.

ثمّ إنّه لا حاجة إلي متابعة كلمة التقليد،بل نقول:إنّ العامل لا بدّ أن يعلم صحّة عمله بالتعلّم من الأدلّة التفصيلية،و هو الفقيه العارف الناظر في الحلال و الحرام،أو بالتعلّم ممّن تعلّم كذلك و إن لم ينو التقليد،كما أنّ الانسان يسمع المواعظ فيتّعظ منها،فلو فرضنا أنّه سمع من شخص أنّ الحكم الفلاني كذا مثلا،و لم يكن المتكلّم من المجتهدين و لم ينسب الحكم إليهم،و نفرض أنّ الحكم محلّ وفاق الفتاوي، لكن السامع عمل بما سمع،لم يتحقّق عنوان التقليد و يصحّ عمله،بل يصحّ عمله إن كان جاهلا و طابق الواقع.

ثمّ لا بأس بمتابعة القوم في تعريف التقليد،فنقول:عرّف التقليد بتعاريف9.

ص: 479


1- لسان العرب 3:367.
2- مقاييس اللغة 5:19.

أرجعها الشيخ الأنصاري إلي واحد و هو العمل،أو إلي أمرين:

الأوّل:العمل،قال:و يشهد له أنّ كلامهم بين صريح في العمل الخ.

الثاني:الالتزام القلبي،قال:و يشهد له كونه أوفق بالمعني اللغوي،و أظهر في عرف المتشرّعة،و لذا يقال:إنّ العمل الفلاني وقع عن تقليد،إلاّ أن يراد أنّه وقع علي جهة التقليد انتهي ملخّصا (1).

أقول:يمكن أن يقال:ليس التقليد هو العمل المستند إلي فتوي المجتهد،و لا الالتزام و التسليم للعمل بفتواه،بل هو قصد إسناد الفعل إليه،و هو قبل العمل، و العمل ينشأ و يتولّد منه،و لو قلنا بوجوب التقليد كان وجوبه توصّليا لم يحتج إلي قصد القربة،بل يكفي قصد القربة بالعمل،و هذا يكشف عن أنّ الاستناد واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض،فليس التقليد لونا للعمل،بل هو نيّته كون تبعة الفعل و مسؤوليّته علي عهدة المقلّد بالفتح.

و يمكن أن يستدلّ للقول بأنّه الالتزام بالعمل كما في العروة الوثقي بوجوه:

منها:اعتبار كون التقليد سابقا علي العمل حتّي يكون العمل صادرا عن تقليد.

و فيه منع ذلك،بل يكفي المقارنة بأن يكون العمل محقّقا للتقليد.

و منها:استلزامه الدور؛لأنّ التقليد لو كان هو العمل توقّف تحقّقه علي العمل، فإذا توقّف العمل علي التقليد دار.

و فيه أنّ التقليد يتحقّق بالعمل المستند إلي فتوي المجتهد،فيكون شبيه الدور المعي.

و منها:أنّه في صورة اختلاف الفتاوي و تساوي المجتهدين لا يمكن حجّية فتاويهم للتكاذب،بناء علي مذهبنا من التخطئة و لا الواحد بلا تعيين،و لا يجب7.

ص: 480


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 47.

الاحتياط،فتعيّن أن تكون الحجّة هو ما التزم بالعمل به،فيكون الالتزام تقليدا، و بعدم القول بالفصل يقال به في صورة اتّفاق الفتاوي.

و فيه أنّ التقليد في صورة الاختلاف هو العمل بفتوي أحدهما المعيّن،بناء علي كون التخيير بينهما ابتدائيا،فلا وجه لاعتبار الالتزام.

و أجاب عن هذا الوجه في التنقيح بأنّه مع تساوي المجتهدين لا بدّ من الاحتياط لا تقليد أحدهما (1).

أقول:قد عرفت أنّه علي فرضه أيضا لا حاجة إلي الالتزام.و هل يعتبر في تحقّق التقليد تعيين المجتهد أم يكفي الموافقة لمن قوله حجّة؟فلو فرض اتّفاق العلماء المجتهدين في مسألة،فقصد استناد العمل إلي أحدهم لا بعينه لكفي، الظاهر صدق التقليد،و لا حاجة إلي التعيين.

الفصل الثاني: في حكم التقليد

الظاهر عدم وجوبه عقلا و لا شرعا،أمّا الأوّل فلأنّ الواجب عقلا تعلّم الأحكام؛لتوقّف امتثالها عليه عادة و غالبا لا دائما؛لأنّ الامتثال يتحقّق بموافقة العمل للواقع،أو لفتوي المجتهد و لو بدون التقليد،نعم له أن يسند صحّة عمله إلي المجتهد فيكون تقليدا.

و أمّا عدم الوجوب شرعا،فلأنّ الأدلّة التي أقاموها علي وجوب التقليد لا تدلّ علي وجوبه شرعا،و سيأتي الكلام عليها.

ثمّ علي القول بوجوب التقليد،فإنّما يجب تعلّم فتوي المجتهد لتوقّف التقليد عليه،و إلاّ فالمناط في صحّة العمل مطابقته للواقع أو فتوي من يجب تقليده،

ص: 481


1- التنقيح 1:81.

و ربما تتحقّق بدون التقليد،و لعلّه الذي اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في رسالته (1)من أنّ وجوبه مقدّمي.

حيث قال:ثمّ إنّ التقليد إنّما يجب مقدّمة للامتثال الظاهري للأحكام الواقعية؛ لأنّ هذا هو المستفاد من جميع أدلّته،و ليس له وجوب نفسي و لا شرطي للعمل شرطا شرعيا،و يترتّب علي ذلك امور،ثمّ ذكر الامور المترتّبة عليه.

و اختار المحقّق الاصفهاني رحمه اللّه كون الوجوب نفسيا،قال:لكنّك بعد ما عرفت من معني التقليد و ما سمعت في وجه وجوبه تعرف أنّ وجوبه نفسي؛لأنّ التقليد هو العمل استنادا إلي فتوي المفتي،و ليس هو إلاّ فعل الصلاة مثلا استنادا إلي الفتوي،فليس التقليد إلاّ عين الصلاة الواجبة واقعا علي تقدير الموافقة و غيرها علي تقدير المخالفة الخ (2).

أقول:يمكن المناقشة فيه بأنّ التقليد ليس عين العمل،بل هو نظير الجماعة في الصلاة عبارة عن قصد كون العمل موافقا لفتوي من يقلّده،و هو توصّلي و العمل تعبّدي.

الفصل الثالث: في الأدلّة علي التقليد

و هي امور:

الأوّل:ما يستدلّ به العامي و يستقلّ عقله به،و هو أنّ العامي المسلم يعلم أنّ في الاسلام أحكاما ثابتة عليه،بل يري خارجا عمل المسلمين بالأحكام،و يعلم بأنّه لا يمكن العمل بها مع الجهل بها،و هو قاطع بجواز رجوع الجاهل إلي العالم،و هذا القطع قد حصل له بما أودع اللّه تعالي فيه من العقل،كما هو قاطع بحسن الاحسان

ص: 482


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 48.
2- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 13.

و قبح الظلم،و هو مرتكز في نفسه من غير مقدّمات علمية و لا برهان عقلي،و القطع حجّة بنفسه لا يحتاج إلي إمضاء الشارع.

أقول:إنّ طبع الانسان يشتاق إلي الكمال،و لذا يرجع الانسان الجاهل بطبعه إلي العالم،و ليس هذا الرجوع من أجل كونه جائزا أو حراما،بل هو جبلي له،كما يشتاق إلي سائر ما يلائم طبعه.

و حيث إنّه يرجع في تعلّم كلّ علم إلي العالم به،فإذا أراد تعلّم النحو يرجع إلي النحوي،فكذا إن أراد تعلّم الشرع يرجع إلي علماء الدين و يسألهم عن وظيفته الشرعية،و أنّه هل يجوز التقليد في الشرعيات أو لا يجوز؟و هذا المقدار لا ينكره أحد حتّي من لا يجوّز التقليد،كما إذا رجع إلي من لا يجوّز التقليد في الفروع، كابن زهرة الذي يقول بأنّ فائدة فتوي الفقهاء أن يرجع إليهم العامي،ليحصل له الاجماع في المسألة.قال:و كذلك الفائدة في فتيا كلّ واحد من علمائنا تأدية الأمانة بإذاعة ما علمه ليصير بفتياه و فتيا أمثاله من العلماء لكلّ مكلّف سبيل من العلم بما أجمعوا عليه (1).

أو رجع إلي بعض الأخباريين الذي ينسب إليه أنّ العامي يرجع إلي من يبيّن له مدارك المسألة.

فهذا المقدار إنّما ينفع العامي في أصل الرجوع إلي العالم لا في الرجوع إليه في كلّ مسألة غير ضرورية،فإنّه يحتاج إلي دليل شرعي،و هذا القطع حاصل لكلّ طائفة من الناس،فالعامي السنّي قاطع و بديهي عنده الرجوع إلي علماء السنّة، و عامّة من اليهود و النصاري قاطعون بالرجوع إلي علمائهم،مع أنّهم ليسوا معذورين في قطعهم.7.

ص: 483


1- الجوامع الفقهية ص 477.

و الحاصل أنّ العامي يرجع بطبعه إلي العالم،و هذا ليس حجّة شرعية،بل إنّ شعوره يقتضي ذلك،فإذا رجع إلي العالم لا بدّ له أن يسأله عن الحجّة التي يعتمد عليها شرعا.و هل يجوز له تقليد العلماء في المسائل الشرعية أم لا؟هذا إن لم يلتفت إلي أنّ مسألة التقليد اختلافية،و إلاّ لا بدّ له من ترجيح العالم الذي يجوّز التقليد علي الذي لا يجوّز،و إلاّ فيتوقّف و يعمل بما اتّفق عليه العلماء و يحتاط في غيره.

و الحاصل أنّ الذي يكون بديهيا هو الرجوع إلي العالم لا تقليده في الأحكام الشرعية.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية بداهة الأمر،حيث قال:إنّ جواز التقليد و رجوع الجاهل إلي العالم في الجملة يكون بديهيا جبلّيا فطريا لا يحتاج إلي دليل،و إلاّ لزم سدّ باب العلم به علي العامي مطلقا غالبا،لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتابا و سنّة،و لا يجوز التقليد فيه أيضا،و إلاّ لدار أو تسلسل،بل هذه هي العمدة في أدلّته (1)انتهي

قوله«في الجملة»أي:أصل الرجوع،و أمّا فيما إذا كان أحد العلماء أعلم أو إذا كانوا متساويين،فهل يرجع إلي الأعلم أو إلي أحدهم؟ففيه كلام.

قوله«بديهيا»أي:كما أنّه إذا جاع يأكل،و إذا عطش يشرب الماء،و إذا رأي أمرا مهولا يهرب منه و غير ذلك،فهذا الأمر مركوز في ذهنه و يحكم به عقله الفطري،أي:من دون تعلّم و لا اكتساب،و كأنّه قد جبل عليه و خلق هكذا،و لا يخفي أنّ هذا التفسير للبديهي و الفطري و الجبلّي موجود في تقرير بحث السيّد الاصفهاني (2).6.

ص: 484


1- كفاية الاصول ص 539.
2- منتهي الوصول ص 386.

قوله«باب العلم به»أي:بجواز التقليد.

قوله«مطلقا»أي:سواء كان عاميا محضا أو عاميا فطنا.

قوله«غالبا»أي:سدّ بابه غالبا،فإنّه يمكن أن يتنبّه لجواز التقليد بتذكير عالم يعلمه جواز التقليد.

و ناقشه المحقّق الاصفهاني في كتابه (1)في استعمال البداهة و الجبلّة و الفطرة.

أقول:ما ذكره ليس دليلا لجواز التقليد في مقابل دليل عدم جواز التقليد،فإنّ القائل بعدم الجواز كابن زهرة لا يمنع عن رجوع العامي إليه ليسأله كيف يتعلّم الأحكام الشرعية حتّي يعمل بها،بل يقول:إنّه لا بدّ له أن يرجع إليه و يعمل بما يقوله،و هو أن يسأل العلماء حتّي يحصّل اجماعهم فيعتمد عليه.

و بما ذكرنا ظهر أنّه لا يرد عليه ما ذكره بعضهم من أنّه لو كان بديهيا لما خالف الأخباريون و فقهاء حلب،فإنّه ذكرنا أنّهم لا يخالفون في رجوع الجاهل إلي العالم.

قوله في الكفاية«و إلاّ لدار»أي:لو جاز التقليد في جواز التقليد لدار.

أقول:لا دور؛لأنّ عقل العامي يستقلّ في أصل الرجوع إلي العالم،فإذا رجع إليه،فإن أفتاه بعدم جواز التقليد في الأحكام الشرعية عمل به إن اعتقد بذلك العالم،كما إذا كان في محيط و قرية أهلها أخباريون مثلا.و إن أفتاه بجواز التقليد عمل به.و الحاصل أنّ جواز التقليد في الأحكام الشرعية أو حرمته موقوفان علي التقليد،أي:رجوع الجاهل إلي العالم،و هو غير موقوف علي جواز التقليد في الأحكام الشرعية أو حرمته؛لأنّ تقليده أمر طبعي له و إن كان هذا الرجوع حراما ذاتا،كرجوع العامي السنّي إلي عالمهم.1.

ص: 485


1- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 11.

الثاني:ما ذكره المحقّق الاصفهاني من أنّ العقل يذعن بلزوم امتثال الأحكام، و كيفيته:إمّا بتحصيل العلم،أو بالاحتياط التامّ،و مع التنزّل لعدم التمكّن من تحصيل العلم و الاحتياط التامّ يذعن العقل بنصب طريق آخر،و هو منحصر في أمرين:إمّا الاجتهاد و هو تحصيل الحجّة علي الحكم،أو الاستناد إلي من له الحجّة علي الحكم و هو التقليد انتهي ملخّصا (1).

و في منتهي الوصول أرجع الأوّل إلي الثاني،و قال:إنّ المرتكز في ذهنه هو دليل الانسداد.

أقول:هذا الدليل لا يقتضي إلاّ أصل الرجوع إلي العالم،فإن كان العامي يعتقد بالعالم الذي رجع إليه،فيأخذ بما يقول من جواز التقليد في الأحكام و عدمه،و أمّا إن كان من أهل العلم و يعلم اختلاف العلماء في جواز التقليد في الأحكام،فإنّ عقله يحكم بأنّه إذا لم يتمكّن من العلم لا بدّ من الرجوع إلي أقرب الطرق و الاحتياط بمقدار لا يكون متعسّرا،و لعلّ أقرب الطرق هو فتوي العلماء الكبار الذين يهتمّون بالأخبار و يعرفون الصواب من الخطأ،ذوي الأفهام الثاقبة و الأفكار المستقيمة،المطّلعين علي أحوال الرواة الورعين،و يحتاط في غير ذلك بمقدار لا يلزم العسر،إن قطع بأنّ الشارع لا يريد منه ما يوجب العسر،و له مراتب يمكن له القطع بعدم إرادة المرتبة العالية منه.

و لا يخفي أنّ العامي المحض لا يتمكّن من إجراء هذا الدليل،فهذا الدليل خاصّ بالعامي الملتفت إلي بعض هذه الجهات.

و قال في التنقيح:إنّ الذي يحمله علي التقليد أمران:

الأوّل:الارتكاز الثابت ببناء العقلاء من رجوع الجاهل إلي العالم،و لم يرد من2.

ص: 486


1- الاجتهاد و التقليد ص 12.

هذه السيرة ردع في الشريعة المقدّسة.

و فيه أنّ العامي من أين يعرف أنّ الشارع لم يردع عنه.

الثاني:دليل الانسداد (1).

و فيه أنّه يقتضي أصل الرجوع إلي الفقهاء،لا أن تكون كلّ واحدة واحدة من فتاويهم حجّة عليه،و سيأتي توضيحه.

الثالث:السيرة العقلائية،و هي تبانيهم علي ذلك حفظا لنظام اجتماعهم و امورهم التي يهتمّون بها،و المتشرّعة بما أنّهم عقلاء بانون علي ذلك و يرجعون إلي أهل الخبرة.

و قد ذكر هذا البناء الشيخ الأنصاري في الفرائد (2)في بحث حجّية قول اللغوي.و أورد عليه بأنّه ليس كذلك إلاّ أن يجتمع فيه شروط حجّية البيّنة من التعدّد و العدالة حتّي يكون بيّنة،و قد مضي الكلام فيه.

أقول:إنّ العقلاء إذا بنوا علي شيء في أمر حياتهم و نظامهم الاجتماعي ليس لهم أن يحكموا بهذا البناء فيما يرجع إلي أحكام الدين و شرائع الأنبياء المرسلين، بل لا بدّ لهم من الرجوع إلي الشريعة،و حينئذ إن رجعوا إلي الكتاب و السنّة وجدوا الآيات و الأخبار الدالّة علي عدم الاعتماد علي غير العلم في أحكام الدين، فتكون هذه العمومات رادعة لهم عن بنائهم.

و قد يورد علي رادعية هذه العمومات بوجوه:

أوّلا:اختصاصها باصول الدين و الاعتقاديات.

و فيه عدم الاختصاص و يظهر ذلك بالمراجعة إليها.

و ثانيا:أنّ حجّية هذه العمومات قد ثبتت بالسيرة،فلو كانت رادعة للسيرة لزم5.

ص: 487


1- التنقيح 1:83.
2- فرائد الاصول ص 75.

من حجّيتها عدم حجّيتها.

و فيه أنّا قاطعون بإمضاء السيرة القائمة علي حجّية الظواهر التي منها العمومات؛لأنّ النبي الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و أوصياءه عليهم السّلام كانوا يحاورون و يتكلّمون بالظواهر.

و ثالثا:أنّ هذا البناء المحكم من العقلاء في جميع امورهم حيث يرجعون فيها إلي أهل الخبرة لا تكفي العمومات في الردع عنه؛لعدم التفاتهم إلي شمولها له،و لو كان الشارع يريد الردع عنه لنصّ عليه،كما نصّ في مسألة القياس علي المنع.

و فيه أنّ أهل السنّة يرجعون في الامور الاعتقادية و غيرها إلي علمائهم،و هم مع أنّهم في من أهل الاسلام ظاهرا لا يلتفتون إلي هذه العمومات الرادعة عن غير العلم،و لا الأخبار الخاصّة الرادعة عن القياس،و هم غير معذورين في ذلك لتقصيرهم.

و الحاصل انّا نقول بأنّه لا بدّ للعقلاء من ملاحظة هذه العمومات،فإن حصل لهم العلم بمنع الشارع عن بنائهم فهو المطلوب،و إلاّ فلا أقلّ من أنّ ملاحظة هذه العمومات توجب عدم إحرازهم إمضاء الشارع لبنائهم.

و رابعا:أنّ هذه السيرة قبل ورود المنع من الشارع قد تمّت حجّيتها،و كانت أخصّ من تلك الروايات و الآيات،فهي مخصّصة لها،هذا مع أنّه يمكن دعوي انصراف العمومات المانعة عن اتّباع غير العلم إلي الأمارات غير المعتبرة عند العقلاء.

و فيه منع ظاهر؛لأنّها واضحة الدلالة و شاملة لكلّ أمر ديني من الاعتقادات و الفروع لمن رجع إليها،و قد جمعت في مقدّمة جامع الأحاديث،فراجع.

الرابع:سيرة المتديّنين بما هم متشرّعون.

قال الشيخ الطوسي في عدّة الاصول:إنّي وجدت عامّة الطائفة من عهد أمير

ص: 488

المؤمنين عليه السّلام إلي زماننا هذا يرجعون إلي علمائها،و يستفتونهم في الأحكام و العبادات،و يفتونهم العلماء فيها،و يسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به،و ما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت لا يجوز لك الاستفتاء و لا العمل به،بل ينبغي أن تنظر كما نظرت و تعلم كما علمت،و لا أنكر عليه العمل بما يفتونهم،و قد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمّة عليهم السّلام و لم يحك عن واحد من الأئمّة النكير علي أحد من هؤلاء و لا ايجاب القول بخلافه،بل كانوا يصوّبونهم في ذلك،فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه (1)انتهي.

و منع عنها في الكفاية بأنّ هذه السيرة لعلّها لأجل كون رجوع العامي من الأمور الفطرية الارتكازية (2).

و فيه أنّ أصل رجوع الجاهل إلي العالم فطري،لكن رجوعه إليه في كلّ مسألة من المسائل الشرعية ليس فطريا،بل إنّه يرجع إلي العالم و يسأله عن جواز التقليد.

ثمّ المتيقّن من هذه السيرة التي يمكن دعوي إمضاء الشارع لها بالأخبار الواردة هو الرجوع إلي ذي الفقاهة المتداولة في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هي العمل بالأخبار في مداليلها الواضحة و ردّ ما يعلمون أنّه صادر تقية،و الجمع بين الأخبار المتعارضة بما هو منصوص،لكن إحرازه مشكل؛لأنّه قد خفي ذلك حتّي أنّ مثل الكليني يقول:إنّك لا تجد إلاّ أقلّه.

و أمّا الفقه الموجود في عصرنا الذي يقول فيه شيخ الفقهاء المجتهد الأكبر الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر رحمه اللّه بكفاية ظنّ المجتهد الحاصل من الأدلّة، فهو غير الفقه الموجود في عصر الأئمّة،و قد جمع بعض المحقّقين أخبارا لإثبات أنّ الفقاهة متّحدة في العصرين.0.

ص: 489


1- عدّة الاصول 2:730.
2- كفاية الاصول ص 540.

لكن الانصاف أنّه يختلف كما اعترف به المحقّق الاصفهاني في المناقشة في دلالة آية النفر علي حجّية الفتوي،حيث قال:و من الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل العلم بالأحكام بالسماع من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو الامام عليه السّلام،فلا دلالة لها حينئذ إلاّ علي حجّية الخبر فقط،و الانذار بحكاية ما سمعوه من المعصوم من بيان ترتّب العقاب علي شيء فعلا أو تركا لا ينبغي الريب فيه،بل الافتاء و القضاء أيضا كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر (1)انتهي.

أقول:لا نسلّم كون الاجتهاد في الصدر الأوّل كان مجرّد نقل الخبر،بل كان اجتهادا بسيطا لا يخرج غالبا عن مضمون الخبر.

و ممّا يؤيّد اختصاص سيرة المتشرّعة بالفقه المتداول في عصر المعصومين عليهم السّلام،ما ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في أوّل المبسوط من أنّ كتب أصحابنا كانت مقصورة علي ما يقرب من الروايات.

حيث قال:و تضعف نيّتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه و ترك عنايتهم به؛ لأنّهم ألفوا الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ،حتّي انّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها و قصر فهمهم عنها،و كنت عملت علي قديم الوقت كتاب النهاية.

إلي أن قال:و أمّا أصحابنا،فليس لهم في هذا المعني من يشار إليه بل لهم مختصرات،و أوفي ما عمل في هذا المعني كتابنا النهاية و هو علي ما قلت انتهي.

و يؤيّده كتب فتاوي القدماء،و منها كتاب من لا يحضره الفقيه كتبه لمّا رأي كتاب من لا يحضره الطبيب.

و قد أنكر ابن زهرة جواز التقليد،ثمّ إنّه لو سلّم سيرتهم علي ذلك فالمتيقّن منها3.

ص: 490


1- الاجتهاد و التقليد ص 13.

رجوعهم إلي الفقهاء إن لم يعلموا اختلافهم في الفتوي،و أمّا في صورة علمهم باختلافهم كما في عصرنا،فلم يثبت رجوعهم إليهم.

الخامس:الاجماع،قال السيّد في الذريعة:و الذي يدلّ علي حسن تقليد العامي للمفتي أنّه لا خلاف بين الأمّة قديما و حديثا في وجوب رجوع العامي إلي المفتي و أنّه يلزمه قبول قوله؛لأنّه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث،و من خالف في ذلك كان خارقا للإجماع (1)انتهي.

و أورد عليه في الكفاية ببعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ممّا يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الامور الفطرية الارتكازية،و المنقول منه غير حجّة في مثلها (2).

و فيه أنّ الرجوع إلي العالم فطري لا الرجوع في المسائل الشرعية كما تقدّم، و لكن المتيقّن من الاجماع رجوع المستفتي إلي المفتي فيما يماثل فقه عصر المعصومين عليهم السّلام مع أنّه يحتمل استناد المجمعين إلي الآيات و الأخبار و السيرة، مع أنّ المخالف من القدماء في ذلك موجود.

السادس:آية النفر،و هي قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (3)و تقريب الاستدلال بها من وجوه:

أحدها:أنّها تدلّ علي وجوب النفر بكلمة«لولا»التحضيضية الدالّة علي التوبيخ،و غاية وجوب النفر هو التفقّه و إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم،و وجوب النفر للتفقّه و الانذار مستلزم لوجوبهما،و وجوب الانذار يقتضي وجوب الحذر،و هو2.

ص: 491


1- الذريعة 2:796.
2- كفاية الاصول ص 540.
3- سورة التوبة:122.

قبول قول المنذر و العمل به،سواء حصل العلم من قوله أو لم يحصل،لأنّ الانذار مقدّمة للحذر،و المقدّمة لا تكون واجبة إلاّ إذا وجب ذو المقدّمة،فوجوب الحذر يستلزم وجوب العمل به.

ثانيها:أنّ الحذر إن لم يكن واجبا لزم لغويّة التفقّه و الانذار.

ثالثها:أنّ كلمة«لعلّ»بعد انسلاخها عن معني الترجّي تفيد محبوبية مدخولها، و هي مساوقة للوجوب؛لأنّ المقتضي للحذر لو كان موجودا كان الحذر واجبا، و إن لم يكن موجودا فلا وجه للحذر،فلا يتصوّر استحباب الحذر.

و الجواب أوّلا:أنّ الآية في مقام إرشاد الناس إلي وجوب تعلّمهم الأحكام وجوبا كفائيا علي طائفة منهم ثمّ تعليمها غيرهم،فهو كما إذا وجب علي طائفة أن يتعلّموا اللغة العربية و يعلّموها غيرهم،و هو عادة فيما إذا علم صدق المعلّم، فيحصل العلم من قوله،و ليس في مقام بيان قبول كلّ خبر من كلّ أحد ممّن لا يوثق بإخباره،و لا علي حجّية قول الفقيه و إن لم يحصل العلم بالواقع،فلا دلالة للآية علي حجّية فتوي الفقيه و لا حجّية خبر الواحد ما لم يحصل العلم من قولهما.

و لعلّ إلي ذلك يرجع كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ المقصود منه اهتداء الناس إلي الحقّ الواقعي،لا إنشاء حكم ظاهري لهم بقبول كلّ ما يخبرون به تعبّدا، و إن لم يعلم مطابقته للواقع (1).

أقول:و يشهد لذلك تمسّك المعصوم به فيما يعتبر فيه العلم،كما ذكر في خبر عبد الأعلي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول العامّة إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهلية،قال:حقّ و اللّه،قلت:فإن إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟قال:لا يسعه،إنّ الامام إذا مات وقعت0.

ص: 492


1- فرائد الاصول ص 130.

حجّة وصيّه علي من هو في البلد،و حقّ النفر علي من ليس بحضرته إذا بلغهم،إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ الآية (1).

و ثانيا:إجمال الآية من حيث احتمال أن يكون المراد النفر إلي الجهاد بقرينة ما قبلها،و ليس النفر للتفقّه و الانذار،بل إنّهما من الفوائد المترتّبة علي النفر صدفة و اتّفاقا لما فيه من مشاهدة آيات اللّه و غلبة أوليائه و نحوهما،بأن يكون المراد من التفقّه هو الاطّلاع علي آيات اللّه و غلبة الاسلام،لا التفقّه في أحكام الدين.

و ثالثا:لو سلّم وجوب النفر إلي التفقّه،فالمراد به هو أخذ الأحكام عن المعصوم عليه السّلام،و ذلك لأنّ الاجتهاد لم يكن متعارفا زمن نزول الآية،بل المتعارف حينذاك إنّما هو الرجوع إلي الحجّة،أو إلي الأعمّ منه و من الرواة الآخذين عن المعصوم.

و يشهد لذلك تمسّك الامام بالآية علي وجوب نقل الأخبار في خبر الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السّلام،قال:إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلي اللّه،و طلب الزيادة و الخروج عن كلّ ما اقترف العبد.إلي أن قال:و لأجل ما فيه من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة عليهم السّلام إلي كلّ صقع و ناحية،كما قال اللّه عزّ و جلّ (2)ثمّ ذكر الآية.فتكون الآية مختصّة بحجّية خبر الواحد.

و أورد علي دعوي اختصاص الآية بحجّية خبر الواحد في التنقيح أوّلا:بأنّ الآية لمكان أخذها عنوان الفقاهة في الموضوع ليست لها دلالة علي حجّية الخبر من جهتين:إحداهما أنّه لا يعتبر في حجّية الخبر كون الناقل ملتفتا إلي معناها فضلا عن أن يكون فقيها لكفاية الوثاقة.ثانيتهما:أنّه لا يعتبر صدق الفقيه علي9.

ص: 493


1- اصول الكافي 1:378.
2- وسائل الشيعة 18:69.

الراوي،فلو روي رواية أو روايتين لم يصدق عليه الفقيه مع حجّية رواياته (1).

و فيه أنّ الناقلين للخبر في عصر المعصومين كانوا أهل اللسان و يعرفون مضامين الأخبار،فيصدق علي من سمع من المعصوم الفقيه عرفا بالنسبة إلي ما عرفه،فتأمّل.

و رابعا:لو سلّم شمول الآية للفتوي،فلا إطلاق لها يشمل الفتوي المستنبطة بالطرق المعاصرة المغايرة لطرق الاستنباط في زمان نزول الآية و زمان المعصومين عليهم السّلام.

و ما ذكره في التنقيح من أنّه لا فرق بين الفقاهة في الأعصار السابقة و الحاضرة،و إنّما التفاوت في السهولة و الصعوبة (2).فممنوع لما قد سبق من بيان وجود الاختلاف بين الاجتهادين.

السابع:آية الذكر،و هو قوله تعالي وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (3)و الفقيه من أهل الذكر،و السؤال مقدّمة لقبول الجواب و إلاّ كان لغوا.

و فيه أنّ السؤال معلّق علي عدم العلم،و العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو عليه،أي:الاعتقاد المطابق للواقع،فما لم يتحقّق العلم فالسؤال واجب، و المسؤول إن كان معصوما أو من علم صدقه،كعلماء اليهود الذين يعلم بأنّهم يعرفون النبي صلّي اللّه عليه و آله بأوصافه في التوراة،حصل العلم من قوله.

و أمّا المجتهد فلا يحصل العلم من قوله بالواقع؛لاحتمال خطأ رأيه،فإذا سئل4.

ص: 494


1- التنقيح في شرح العروة الوثقي،كتاب الاجتهاد و التقليد ص 86.
2- التنقيح ص 86.
3- سورة النحل:43-44.

المجتهد عن عرق الجنب من الحرام و أفتي بنجاسته،لم يحصل العلم بها.

و دعوي حصول العلم بالوظيفة الظاهرية ممنوعة،فإنّ كون فتواه وظيفة ظاهرية أوّل الكلام،فإن ثبت من دليل آخر فلا حاجة إلي الاستدلال بهذه الآية.

و كذا خبر العادل علي الظاهر،فإنّه لا يحصل العلم منه،فلا تكون الآية دليلا لحجّية خبر الواحد،كما لا تكون دليلا علي حجّية فتوي الفقيه.هذا مع أنّ صدق الذكر علي اعتقاد العالم بالأحكام الشرعية غير معلوم،بل هو معني مساوق للعلم النبوّة و الامامة،و قد فسّر أهل الذكر في الأخبار بالأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

ثمّ إنّه ذكر في مطارح الأنظار (1)آية الكتمان و آية النبأ من جملة أدلّة التقليد، و ناقش فيهما،و كلامه جيّد،فلاحظه.

الثامن:الأخبار و هي طوائف،منها:ما دلّ علي حجّية خبر الواحد؛لأنّ المفتي بفتواه ينقل معاني العمومات الدالّة علي الأحكام و معاني المخصّصات،مثلا لو ورد خبر علي أنّ الكذب حرام،و ورد خبر آخر علي أنّ الكذب لإصلاح ذات البين جائز،بل ربما يكون واجبا إذا توقّف حفظ النفوس علي الاصلاح،كان معني الخبر الأوّل أنّ الكذب حرام في غير إصلاح ذات البين،و المجتهد يخبر عن المعصوم عليه السّلام أنّه قال:الكذب حرام في غير الاصلاح،و هذا يشمله أدلّة حجّية أخبار الثقات.

و قد أجازوا عليهم السّلام النقل بالمعني،ففي صحيح محمّد بن مسلم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام،أسمع الحديث منك فأزيد و أنقص،قال:إن كنت تريد معانيه فلا بأس.و قريب منه خبر داود بن فرقد (2).

و بعبارة اخري:أنّه يخبر عن مصاديق العمومات،أو ما يستفاد منها حتّي في0.

ص: 495


1- مطارح الأنظار ص 262.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:60.

مقتضيات الاصول من البراءة و الاحتياط و الاستصحاب.

و يمكن المناقشة في الدليل المذكور بأنّ بعضا من الفقه من هذا القبيل،لكن الكثير منه لا يخلو عن إعمال الآراء الموجبة للخروج عن نقل الخبر بمعناه.

و المراد بالخبرين المجوّزين للنقل بالمعني ترجمة المضمون بعبارة قريبة منه، حتّي انّ زرارة الذي كان يرجّح بعض الأخبار علي بعض كان ذلك منه اجتهادا لا نقلا للخبر بالمعني.

و منها:ما عن تفسير العسكري عليه السّلام:و أمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه،فللعوام أن يقلّدوه.

و قد يورد عليه بالمناقشة في سنده.

كما قال في الوسائل في كتاب القضاء:التقليد المرخّص فيه هنا إنّما هو قبول الرواية لا قبول الرأي و الاجتهاد و الظنّ.إلي أن قال:علي أنّ هذا الحديث لا يجوز عند الاصوليّين الاعتماد عليه في الاصول و لا في الفروع؛لأنّه خبر واحد مرسل ظنّي السند و المتن ضعيفا عندهم،و معارضه متواتر قطعي السند و الدلالة، و مع ذلك يحتمل الحمل علي التقية (1).

قلت:ليس المراد بالفقهاء الأئمّة عليهم السّلام،فإنّه قال:فللعوام أن يقلّدوه،و ذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم،فإنّ من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامّة،فلا تقلبوا منهم عنّا شيئا و لا كرامة الحديث.

بل المراد به الفقيه باصطلاح الأخبار،أي:العارف بالحكم،سواء كان بالرواية الواضحة،أو بالجمع بين الروايات بحمل بعضها علي التقية،نظير فقه زرارة و أضرابه،فالانصاف أنّ الخبر عامّ لكلّ فقيه،لكن للفقيه في زمان صدور الأخبار5.

ص: 496


1- وسائل الشيعة 18:95.

و من يشبهه،إلاّ أنّ الاشكال في سنده باق بحاله.

و منها:التوقيع الشريف:و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم (1).يدلّ علي حجّية فتوي الفقيه من وجهين:

الأوّل:عموم الحوادث لكلّ مسألة.

الثاني:التعليل بقوله«فإنّهم حجّتي»يدلّ علي أنّ كلّ ما كان فتوي صاحب الزمان-عجّل اللّه تعالي فرجه-حجّة فيه،فقول رواة أحاديثهم حجّة فيه.

و يمكن المناقشة في دلالته بأنّ قوله«و أمّا الحوادث»جواب عن أسئلة غير مذكورة،فلعلّ السؤال كان عن الحوادث الواقعة قبل الظهور،فأجاب عليه السّلام بأنّ الرواة رووا تلك الحوادث و هم حجّة فيما يروون،كما أنّ الامام حجّة فيما يقول، و ليس فيه دلالة علي حجّية رأي الفقيه.

و قد حملوا قوله عليه السّلام في هذا التوقيع«و أمّا الخمس فقد ابيح لشيعتنا»علي أنّه يمكن أن يكون السؤال عن التصرّف في الأموال التي تصل إليهم من العامّة و فيها الخمس،فأحلّه عليه السّلام لهم؛لأنّ السؤال غير مذكور.

و منها:خبر عمر بن حنظلة،فإنّه ظاهر في الرجوع إلي الناظر في حلالهم و حرامهم في المسألة الكلّية أيضا.

أقول:المراد بالنظر في الحلال و الحرام معرفتهما بالاطّلاع علي النصوص الواردة عنهم،لا إعمال الرأي المتعارف في هذه الأعصار،و يؤيّده قوله«و كلاهما قد اختلفا في حديثكم».

و منها:ما اشتمل علي تقرير المعصوم عليه السّلام للافتاء و الاستفتاء،و هو خبر علي بن أسباط المروي في التهذيب و العلل و العيون و المحاسن،قال:قلت له يعني9.

ص: 497


1- وسائل الشيعة 18:101 ح 9.

الرضا عليه السّلام:يحدث الأمر من أمري لا أجد بدّا من معرفته،و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه،قال:فقال:ائت فقيه البلد إذا كان ذلك فاستفته في أمرك،فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه (1).و مرفوعة إبراهيم بن هاشم (2).فإنّ المستفاد منهما تقرير المعصوم للاستفتاء.

و فيه-مضافا إلي ضعف سند الأوّل بالسياري،و احتمال سقوطه عن المحاسن حيث لم يذكر السياري،و الثاني بالرفع-أنّ الاستفتاء في الصدر الأوّل كان بنقل الخبر لا إعمال الاجتهاد المتعارف في عصرنا،و مفهوم الفتوي أعمّ من الرأي،ففي قوله تعالي اَللّهُ يُفْتِيكُمْ (3)الآية.

و قد اطلق علي أقوال المعصومين الفتوي،ففي مرفوعة الأرجاني إلي أن قال:

و كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشيء الذي لا يعلمونه،فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا علي الناس (4).

و في خبر أبي عمرو،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا الحديث (5).

و ربّما نوقش في دلالة هذه الطائفة من الأخبار علي حجّية قول الفقيه تعبّدا بأنّه لا إطلاق لها لعدم كونها في مقام البيان،و القدر المتيقّن ما إذا حصل الوثوق و العلم من قوله.

و فيه نظر؛و الظاهر ثبوت الاطلاق.6.

ص: 498


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 30.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 5 ح 113.
3- سورة النساء:127 و 176.
4- جامع أحاديث الشيعة 1 ب 6 ح 29.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 36.

و منها:ما يدلّ علي النهي عن الفتيا بغير علم،فإنّه يدلّ علي الجواز إذا كان عالما،و إلاّ لنهي عن الفتيا مطلقا علم أو لم يعلم.

و فيه أنّ المراد من جواز الفتيا مع العلم بالحكم الواقعي،هو الاعتقاد بالحكم علي ما هو عليه،و لا يمكن إحرازه،فلا بدّ و أن يراد الفتيا بشيء مع العلم بالحجّية، و العلم بالحجّية هو الفقه الموافق لفقه أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

و منها:ما يدلّ علي وجوب التحاكم عند فقهاء الشيعة و وجوب قبول حكمهم، و الحكم هو الفصل بين المتخاصمين و قطع الامر و تثبيته،و هو يعمّ الحكم الشرعي من وجوب السورة مثلا في الصلاة و نحوه،و الحكم بين المتنازعين ببيان الحكم الإلهي،و الحكم بينهم بتطبيق الكبري الكلّية علي مصداقها لقيام البيّنة أو حلف المنكر.

و الانصاف أنّ هذه الأخبار تدلّ علي جواز تقليد المجتهد،كما اعترف به في الجواهر،حيث قال:و نفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجّية ظنّه في كليها،و انّه من الحقّ و القسط و العدل و ما أنزل اللّه،فيجوز الرجوع إليه تقليدا أيضا (1).

لكن القدر المتيقّن هو الاجتهاد المماثل لاجتهاد زرارة و أمثاله ممّن يكون من فقهاء عصر المعصومين عليهم السّلام.

الفصل الرابع: ما يشترط في المجتهد المقلّد
اشارة

لا يخفي أنّ بعض هذه الشرائط الآتية إن تمّ الدليل عليها كالذكورة و الحرّية و نحوهما،يقتضي أن يكون قول المجتهد حجّة تعبّدا،فلا يصحّ الاستدلال علي

ص: 499


1- جواهر الكلام 40:44.

حجّيته بالسيرة العقلائية علي رجوع الجاهل إلي العالم؛لأنّ الملاك عندهم الأقربية إلي الواقع،فلذا يقدّمون قول الأعلم علي غيره و إن كان عبدا أو فاسقا أو انثي.

و بعض هذه الشرائط يقتضي أن يكون قول المجتهد حجّة من باب الطريقية كالأعلمية،فهذه الشرائط مبنية علي كون فتوي المجتهد حجّة تعبّدا،أو حجّة من باب الطريقية.و حيث تقدّم المناقشة في الاستدلال علي حجّية قول المفتي بالسيرة العقلائية،كان المدرك سيرة المتشرّعة أو الآيات و الأخبار،فتكون حجّية قول المفتي تعبّدية لا بدّ فيها من ملاحظة مقدار التعبّد.

أمّا سيرة المتشرّعة،فينبغي الأخذ بالقدر المتيقّن منها.و أمّا الآيات و الأخبار، فإن كان فيها إطلاق و لم يثبت مقيّد له فهو المتّبع،و إلاّ فينبغي الاقتصار علي المجتهد الجامع للشروط المذكورة،و لكن تقدّم أنّه لا يمكن الاستدلال بالآيات و الأخبار.

و حينئذ و بعد انسداد طريق العلم فحيث إنّ المدار علي الأقربية إلي الواقع عقلا،فينبغي مراعاة فتوي الأعلم لكونه أقرب إلي الواقع،و العقل يري تقدّمه علي سائر الشرائط المذكورة،و لكن حيث ادّعي الاجماع علي بعضها فلا يترك مراعاة الاحتياط.و ينبغي ذكر كلّ واحد من الشرائط المذكورة و ما استدلّ به علي اعتباره.و هي امور:

الأوّل:البلوغ،و لا إجماع علي اعتباره؛لعدم تعرّض القدماء له،و لو سلّم تحقّقه فلا يكون حجّة؛لاحتمال استناده إلي الوجوه المذكورة.

قال في التنقيح:بل مقتضي السيرة المتشرّعة العقلائية الرجوع إليه (1).4.

ص: 500


1- التنقيح 1:214.

أقول:بناء علي أن تكون حجّية الفتوي من باب التعبّد الشرعي،فإن ثبت إطلاق يشمل غير البالغ،و إلاّ فمقتضي الأصل عدم الحجّية،و هذا البيان يأتي في سائر الشروط الآتية،لكن ينبغي القطع بأنّ غير البالغ لا يصل إلي مرحلة الاجتهاد عادة.

الثاني:العقل،لا يخفي أنّ المجنون لا يبلغ مرتبة الاجتهاد،فالمراد من اشتراط العقل بقاء العقل،و حينئذ فهل يعتبر أن يكون عاقلا حال تقليده،أو يكفي أن يكون عاقلا حين ابتداء التقليد،و إن زال عنه بعد ذلك،أو لا يعتبر الأمران،بأن كان مجتهدا ثمّ عرض عليه الجنون،فيجوز ابتداء تقليده حين الجنون؟وجوه،مبنية علي أنّ حجّية فتوي المجتهد إن كانت من باب أنّها أقرب الطرق إلي الوصول إلي الأحكام الواقعية،فالمدار علي الأعلمية،فإن كان أعلم وجب تقليده ابتداء بعد عروض الجنون.و إن كانت تعبّدية،فالقدر المتيقّن حجّية فتوي العاقل،نعم يكفي كونه عاقلا حال التقليد و إن كان له جنون أدواري،كما يقتضيه إطلاق كلام بعضهم.

الثالث:الايمان،لا يخفي أنّ ذكر العدالة يغني عنه،و الانصاف أنّ بلوغ غير المؤمن مراتب العلم العالية بحسب موازين أهل الايمان العلمية نادر جدّا، فاشتراطه هو الصحيح لعدم تقوي غيره.و استدلّ لاعتباره بوجوه:

أحدها:الاجماع بمعني أنّ المطّلع علي فتاوي العلماء و مذاقهم يعرف أنّهم متّفقون علي عدم حجّية رأي غير المؤمن.نعم لو فهم من اللفظ شيئا و استظهر منه معني ربما كان أقرب من غيره لكثرة اطّلاعه،و لم يثبت إجماع علي عدم الاعتماد علي استظهاره و فهمه،فلذا يتقدّم استظهار بعض اللغويين في بعض الموارد مع أنّه من العامّة.

ثمّ إنّه نوقش فيه باحتمال كون مدركهم الوجوه الآتية،فليس الاجماع بما هو إجماع دليلا علي عدم الجواز.

ص: 501

ثانيها:قوله في خبر عمر بن حنظلة«ينظر إلي من كان منكم»و قوله في خبر أبي خديجة«انظروا إلي رجل منكم»فإنّهما يدلاّن علي أن يكون من الشيعة، فيقيّدان إطلاق الأدلّة إن كان لها إطلاق.

و اجيب عنهما أوّلا:بأنّهما في مورد القضاء.

و فيه أنّ القضاء ربما يكون بعنوان الفتوي،فعلي المتنازعين إذا جهلا الحكم أن يرجعا إلي الفقيه و يأخذا منه الفتوي.

و ثانيا:أنّ المستفاد من مجموعهما أنّ عدم جواز الأخذ من غير الشيعة إنّما هو لأجل أنّهم غير عارفين بأحكام اللّه سبحانه؛لأنّهم لا يأخذون الحكم عن أهله،فلا يدلّ الخبران علي أنّه لو كان مجتهدا علي طريقتنا لا يكون قوله حجّة.

و في التنقيح:إنّه لو سلّم اعتباره في الرجوع الابتدائي،فلا دليل علي اعتبار بقائه (1).

أقول:اعتبار هذه الامور ينافي اعتبار الفتوي من باب الطريقية،فهي امور تعبّدية لا فرق فيها بين الرجوع الابتدائي و البقائي.

ثالثها:ما في التنقيح:أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يدا بيد عدم رضا الشارع بزعامة من لا عقل له،أو لا ايمان،أو لا عدالة؛لأنّ المرجعية في التقليد من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية (2).

و فيه أنّ الافتاء-بناء علي أن يكون مدرك جواز التقليد هو رجوع الجاهل إلي العالم-هو كالطبابة و سائر العلوم طريق محض ليس منصبا،نعم يعتبر الايمان بناء علي تعبّديته،أو كونه قدرا متيقّنا من الأدلّة مع الشكّ،نعم الزعامة التي هي الولاية علي امور المسلمين من المناصب،كما أنّ القضاء الذي يكون أقلّ رتبة منه أيضا3.

ص: 502


1- التنقيح 1:220.
2- التنقيح 1:223.

من المناصب المجعولة،و يعتبر فيها الامور المذكورة.

و الأولي أن يقال:إنّ غير المؤمن أي المخالف للشيعة إن تربّي علي فقه الشيعة من الأوّل بحيث لم يكن فكره مشوبا بما يعتقده،فيمكن دعوي وصوله إلي مرتبة الاجتهاد.و أمّا في غير ذلك فلا يمكنه بلوغ الاجتهاد الصحيح عندنا.

هذا بناء علي الطريقية المحضة،لكن سبق احتمال كون قوله حجّة للتعبّد الشرعي،و حينئذ إن شكّ في حجّيته فالأصل عدمها.

الرابع:العدالة،و يستدلّ علي اعتبارها بامور:

أحدها:أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في القضاء كون عدالة القاضي مفروغا عنها،فإنّه ذكر فيها في مقام الترجيح الأخذ بقول الأعدل،و المناقشة بأنّها في مورد القضاء و لا ملازمة بينه و بين اعتباره في حجّية الفتوي.تقدّم الجواب عنها.

ثانيها:الاجماع.و فيه ما تقدّم.

ثالثها:المروي عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام،و سنتعرّض له.

رابعها:ما تقدّم عن التنقيح من أنّ الفاسق لا يليق للزعامة.هذا.

و استدلّ علي عدم اعتبارها بأنّ السيرة العقلائية في الرجوع إلي العالم لا تختصّ بالعادل،و إطلاق ما جاء في الأخبار من الفقيه و العارف بالأحكام و العالم بها شامل للفاسق أيضا.لكن لا يترك مراعاة الاحتياط من حيث احتمال الحجّية من باب التعبّد،و جعل العدالة مفروغا عنها في خبر عمر بن حنظلة.

الخامس:الذكورة،لا يخفي أنّ المرأة إن حصلت علي ملكة الاستنباط كما يحصل الرجل عليها و اجتهدت،فاجتهادها حجّة لنفسها،و هل يجوز تقليدها و ينفذ قضاؤها و يكون لها الولاية كما للرجل الفقيه؟قد تعرّضنا لهذه الامور في رسالة مستقلّة فلاحظها.

السادس:الحرّية،الانصاف أنّه لا دليل عليه.فلو اجتهد العبد و كان واجدا

ص: 503

لسائر الشرائط و كان أعلم،فعدم حجّية قوله بعيد جدّا.

السابع:كونه مجتهدا مطلقا،فلا يجوز تقليد المتجزّيء،و المراد به من كان له ملكة استنباط بعض المسائل،بأن كان عارفا بجميع ما له دخل في استنباط المسألة التي استنبطها من دون فرق بينه و بين المجتهد المطلق،مثلا لا يعرف مسألة الترتّب،أو تعارض الاستصحابين في مجهولي التأريخ،لكن المسألة التي اجتهد فيها لا ربط لها بهذين الأمرين،كمسألة مقدار الكر،و الظاهر جواز تقليده؛ لعدم الفرق بينه و بين المطلق،و لذا لو كان أعلم فيما يستنبطه من المجتهد المطلق وجب تقليده في تلك المسألة بناء علي وجوب تقليد الأعلم.

و قال في الكفاية:إنّ رجوع غير المتّصف بالاجتهاد إلي المتجزّيء محلّ إشكال،من أنّه من رجوع الجاهل إلي العالم فتعمّه أدلّة جواز التقليد،و من دعوي عدم إطلاق فيها إلي آخر ما أفاده (1).

الثامن:أن يكون استنبط بالفعل مقدارا معتدّا به من الفقه،فإن استنبط مسألة أو مسألتين لم يجز تقليده.و فيه نظر بل يجوز تقليده.

و لكن يمنع من الرجوع إلي من استنبط مسألة واحدة،و كذا يمنع من نفوذ حكمه،كما في الكفاية،حيث قال:جواز تقليده محلّ اشكال،من أنّه من رجوع الجاهل إلي العالم،و من دعوي عدم الاطلاق في أدلّة التقليد،و نفوذ حكمه أشكل، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدّا بها و اجتهد فيها بحيث يصحّ أن يقال في حقّه عرفا:إنّه ممّن عرف أحكامهم الخ (2).

و يظهر منه أنّ المجتهد المطلق أيضا كذلك،أي:إن استنبط مسألة أو مسألتين لم يجز تقليده،بل لا بدّ أن يستنبط جملة معتدّا بها.4.

ص: 504


1- كفاية الاصول ص 534.
2- كفاية الاصول ص 534.

و استدلّ له في مصباح الاصول بقوله عليه السّلام في خبر أبي خديجة«و لكن انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا»بأنّ كلمة«شيء»مع التنكير و إن كانت ظاهرة في القلّة في غير المقام إلاّ انّها كناية عن الكثرة في هذا المقام باعتبار أنّه لوحظت قلّته بالنسبة إلي علوم الأئمّة عليهم السّلام،فلا بدّ أن يكون كثيرا في نفسه،و إلاّ لا يعدّ شيئا من علومهم،فإنّ علمهم بمنزلة البحر المحيط،و شيء منه لا يكون إلاّ كثيرا في نفسه (1).

أقول:المراد من قولهم العارف بأحكامهم المعرفة بالحكم المبتلي به و لا تأثير للعلم بغيره و عدمه،و في عصر المعصومين من كان يعرف حكما واحدا قد سمعه من المعصوم كان له القضاء به،و يصدق عليه أنّه شيء من علومهم.و إلاّ فمقدار كرّ من الماء بالنسبة إلي البحر المحيط قليل جدّا،مع أنّه لا شكّ في صدق ماء البحر عليه،بل يصدق علي مقدار قليل منه أنّه ماء من البحر.

التاسع:أن يكون أعلم،فإذا لم يعلم وجود الأعلم وجب الفحص عن وجوده و عدمه،و سيأتي دليله.و إذا علم وجود الأعلم،فتارة يعلم اتّفاقه في الفتوي مع غيره،و اخري يعلم اختلافه معه،و ثالثة لا يعلم اختلافه.لا ينبغي البحث في صورة العلم بتوافقهما في الفتوي،فإنّ إسناد عمله إلي غير الأعلم لغو،و يبقي الكلام فيما إذا علم الاختلاف أو لم يعلم في مقامين:

المقام الأوّل: في وظيفة العاجز عن الاجتهاد

قال في الكفاية:إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوي مع اختلافهم في العلم و الفقاهة،فلا بدّ من الرجوع إلي الأفضل إذا احتمل تعيّنه؛للقطع بحجّيته

ص: 505


1- مصباح الاصول ص 437.و راجع:التنقيح 1:223.

و الشكّ في حجّية غيره،و لا وجه لرجوعه إلي الغير في تقليده إلاّ علي نحو دائر.

نعم لا بأس برجوعه إليه-أي:إلي غير الأفضل-إذا استقلّ عقله بالتساوي، و جواز الرجوع إليه أيضا،أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه (1).

أقول:الذي يكون بديهيا للعاجز عن الاجتهاد هو الرجوع إلي الفقهاء،من دون فرق بين الأحياء و الأموات،فإن كان بعضهم أعلم كان مقدّما عنده علي غيره، و رجع إليه في أصل جواز التقليد،و هذا المقدار بديهي له و يستقلّ عقله به.و أمّا إن استقلّ عقله بتساوي الأعلم و غير الأعلم،فلا دليل علي حجّيته؛لأنّ المسألة غامضة تحتاج إلي إتعاب النظر في الأدلّة،و مجرّد اعتقاده لا دليل علي حجّيته في الشرعيات.

ثمّ إنّه لا وجه لما ذكره من التقييد بالأحياء في علم المقلّد بالاختلاف،فإنّه من أين يعلم عدم حجّية فتوي الأموات.

ثمّ إنّ المحيط الذي يعيش فيه له تأثير في من يرجع إليه،لكن الكلام مع خلوّ ذهنه عن كلّ ما يوجب تأثّره به.

و الحاصل أنّه لا يستقلّ عقله بالتقليد في الأحكام الشرعية،و إنّما يستقلّ عقله بالرجوع إلي الفقهاء،فإن جوّزوا له التقليد في الشرعيات جاز له التقليد.

المقام الثاني: فيما تقتضيه الأدلّة
اشارة

و ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل:في كيفية حجّية رأي المجتهد للمقلّد و فيها احتمالان:

أحدهما:أن يكون رأي كلّ واحد من المجتهدين حجّة علي نحو العام

ص: 506


1- كفاية الاصول ص 541.

الاستغراقي.

ثانيهما:أن يكون رأي طبيعي المجتهد الصادق علي الواحد حجّة.

يظهر من صاحب الجواهر الوجه الثاني و سيأتي،و يحتمل غير بعيد الوجه الأوّل؛لأنّ الظاهر أنّ قول كلّ واحد حجّة و لا بدّ من اتّباع الحجّة.

الأمر الثاني:أنّ حجّية رأي المجتهد تتصوّر علي وجهين:

الوجه الأوّل:أن لا يكون تعبّد شرعي بحجّيته أصلا،بل تكون حجّيته بأحد أنحاء:

أحدها:أن يكون لحكم العقل بأنّ من تعذّر عليه العلم بالتكليف و لم يكن الاحتياط ميسورا له،فأحسن ما يعتمد عليه في مقام العمل هو رأي المفتي،بناء علي أن تكون نتيجة الانسداد الحكومة.

ثانيها:أن يكون رأيه أحد الطرق العقلائية،كسائر الطرق العقلائية التي لا تعبّد فيها،و إنّما النظر إلي الواقع الذي يوصل إليه الطريق،فيكون نظير القطع الذي يكون طريقا محضا إلي الواقع.

اختاره في التنقيح،حيث قال:إنّ حجّية الطرق و الأمارات في الشريعة المقدّسة ليست تأسيسية و جعلية،و إنّما هي إمضائية في الجميع،بمعني أنّ أيّة أمارة كانت معتبرة عند العقلاء علي ما استكشفنا من سيرتهم قد أبقاها الشارع علي حجّيتها و أمضي اعتبارها،و العقلاء إنّما كانوا يعاملون مع بعض الأشياء معاملة القطع الخ (1).

ثالثها:أن يكون حجّة تعبّدية عند العقلاء،نظير ظاهر الكلام في مقام احتجاج العبد علي المولي،فإنّه لا نظر له إلي ما هو مراد المولي واقعا،بل يريد أن يحتجّ7.

ص: 507


1- التنقيح 1:47.

عليه،و كذا خبر الثقة و إن ظنّ عدم مطابقته للواقع.

الوجه الثاني:أن يكون وجوب اتّباعه للتعبّد شرعا،و هو يتصوّر علي وجوه:

أحدها:أن يكون تعبّدا محضا لم يلحظ فيه كشفه عن الواقع أصلا،نظير أصالة الاباحة و أصالة الطهارة.

ثانيها:أن يكون التعبّد علي نحو الطريقية من دون ملاحظة القرب إلي الواقع.

قال في الكفاية:إنّ ملاك حجّية قول الغير تعبّدا و لو علي نحو الطريقية لم يعلم أنّه القرب من الواقع،فلعلّه يكون ما هو في الأفضل و غيره سيّان،و لم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا (1).

و يظهر من صاحب الجواهر اختيار أحد الوجهين،قال في مسألة جواز تقليد المفضول:و الظاهر الجواز لاطلاق أدلّة النصب المقتضي حجّية الجميع علي جميع الناس الخ (2).

و أصرّ عليه فقال:و نفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجّية ظنّه في كلّيها،إلي أن قال:بل لعلّ أصل تأهّل المفضول و كونه منصوبا يجري علي قبضه و ولايته مجري قبض الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها الخ (3).

ثالثها:أن يكون التعبّد علي نحو الطريقية بملاحظة الوصول إلي الواقع،فيعتبر القرب إلي الواقع بمراعاة المزايا الموجبة للقرب إليه بالظنّ الشخصي.

رابعها:الفرض الثالث لكن يعتبر مراعاة ما يفيد الظنّ النوعي.

و يظهر من تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المختار عنده الوجه الرابع،و سمّاه بالأمر بين الأمرين،قال:إنّ كلّ الأمارات الشرعية أو جلّها حجّيتها إنّما هي من4.

ص: 508


1- كفاية الاصول ص 440.
2- جواهر الكلام 40:43.
3- جواهر الكلام 40:44.

أجل إفادتها الظنّ شأنا و نوعا لا شخصا و فعلا و لا تعبّدا محضا،إلي أن قال:إنّه ليس تعبّدا محضا و لا مبنيا علي الظنّ،بل أمر بين الأمرين،و قصد بين الافراط و التفريط (1).

و لا يخفي أنّ الأدلّة المستدلّ بها علي حجّية فتوي المجتهد يختلف مفادها، فيدلّ بعضها علي الحجّية من باب الطريقية المحضة،و يدلّ بعضها الاخر علي التعبّد بالعمل برأي المجتهد،و كذا الشرائط التي اعتبروها في من يجوز تقليده، فإنّ بعضها يصحّ علي الطريقية كالأعلمية،و بعضها يصحّ علي التعبّدية،كالذكورة و الحرّية و العدالة؛لأنّه إذا فرض كون الفاقد لشروط الذكورة و الحياة و نحوهما أعلم و اختلفت فتواه مع غيره،فوجوب الأخذ بفتوي غيره ينافي الطريقية.و تظهر الثمرة في الإجزاء أيضا،و سيأتي التعرّض لهذه الامور بعد البحث عن تقليد الأعلم.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فيقع

الكلام في موضعين:
الموضع الأوّل: وجوب تقليد الأعلم

أن تختلف فتوي الأعلم مع غيره و علم اختلافهما،ففي وجوب تقليد الأعلم،أي:حجّية رأيه تعيينا،أو تخييرا بينه و بين غير الأعلم قولان، الأوّل:وجوب تقليد الأعلم،و قد استدلّ عليه بوجوه:

الأوّل:الاجماع.و فيه أنّ المنقول منه ليس بحجّة،و المحصّل منه غير ثابت؛ لأنّ السيّد المرتضي قال في الذريعة بعد ذكر شروط المفتي:و لا شبهة في أنّ هذه الصفات إذا كانت ليست عند المسفتي إلاّ لعالم واحد في البلد لزمه استفتاؤه تعيينا، و إن كانت لجماعة هم متساوون كان مخيّرا.و إن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع و أدين،فقد اختلفوا،فمنهم من جعله مخيّرا،و منهم من أوجب أن يستفتي

ص: 509


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 306.

المقدّم في العلم و الدين،و هو أولي لأنّ الثقة هاهنا أقرب و أوكد،و الاصول كلّها بذلك شاهدة (1).

قوله«و هو أولي»ظاهر في مجرّد الرجحان.

و أجاب في الجواهر عن الاجماع المدّعي علي وجوب تقليد الأعلم،بأنّه لا يرتبط بما نحن فيه،حيث قال:و إجماع المرتضي مبني علي مسألة تقليد المفضول الامامة العظمي مع وجود الأفضل،و هو غير ما نحن فيه،ضرورة ابتنائها علي قبح ترجيح المرجوح علي الراجح،إلي أن قال:و ظنّي و اللّه أعلم اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك (2).

أقول:عبارة المرتضي رحمه اللّه التي نقلناها صريحة في اختصاص كلامه بالاستفتاء من الفقهاء غير مسألة الامامة العظمي،و ظاهره أنّ مسألة تقليد الأعلم خلافية.

الثاني:سيرة العقلاء فإنّها قد جرت علي الرجوع إلي الأعلم عند العلم بالاختلاف مع غير الأعلم،و لم يردع عنها في الشريعة المقدّسة،و أدلّة مشروعية التقليد لا تشمل صورة اختلاف الأعلم و غيره؛لأنّ المطلقات من الآيات و الأخبار غير شاملة للمتعارضين؛بناء علي حجّية الفتوي من باب الطريقية،حيث لا يمكن جعل طريقين متخالفين إلي الواقع،و دليل الانسداد بناء علي الكشف يقتضي أنّ الشارع نصب للمقلّد طريقا،و القدر المتيقّن من الطريق المنصوب هو فتوي الأعلم،و بناء علي الحكومة فالقدر المتيقّن الذي يحكم العقل بكفايته هو موافقة فتوي الأعلم.

قال في المستمسك:مقتضي بناء العقلاء تعيّن الرجوع إلي الأفضل،و التشكيك5.

ص: 510


1- الذريعة 2:801.
2- جواهر الكلام 40:45.

في ثبوت البناء علي ذلك يندفع بأقلّ تأمّل (1).

و قال في التنقيح:فالصحيح في الحكم بوجوب تقليد الأعلم هو السيرة العقلائية التي استكشفنا امضاءها من عدم الردع عنها في الشريعة المقدّسة (2).

أقول:و يرشد إليه حسن عيص بن القاسم،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

عليكم بتقوي اللّه وحده لا شريك له،و انظروا لأنفسكم،فو اللّه انّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي،فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها الحديث (3).

فإنّه نبّه إلي ما ارتكز في أذهان العقلاء من مراعاة نظر الأعلم في الأمر غير الخطير فضلا عن الأمر الخطير.

و فيه أوّلا:أنّ بناء العقلاء علي قسمين:

القسم الأوّل:بناؤهم في مقام الاحتجاج،كظاهر الكلام،فلو قال المولي لعبده:

اذهب إلي المسجد،و سبق لسانه و كان مقصوده أن يذهب إلي الدار،و العبد عرف مراد المولي،و لكن لم يخبر المولي أنّه يعلم مراده و ذهب إلي المسجد،لم يكن للمولي معاقبته،لاحتجاج العبد عليه بظاهر كلامه،و إن لم يجز له الذهاب إلي المسجد؛لعدم رضا مولاه بذلك.

القسم الثاني:بناؤهم في مقام إحراز الواقع.و في هذا القسم يبنون علي ما كان أوصل إلي الواقع،و حينئذ نقول:لو سلّم أنّ بناء العقلاء علي الرجوع إلي المجتهد، لكن لعلّه كان بناؤهم من قبيل القسم الأوّل،و لا يتعيّن كونه أعلم؛لأنّ الغرض الاحتجاج علي ما ارتكب من الأعمال.4.

ص: 511


1- المستمسك 1:28.
2- التنقيح 1:148.
3- روضة الكافي 8:264.

و ثانيا:أنّ الاستناد في حجّية رأي المجتهد-أي:ظنّه الحاصل من الأدلّة-إلي سيرة العقلاء علي فرض عدم شمول ما دلّ من الكتاب و الأخبار لحجّية رأي الأعلم و غيره للتعارض،غير صحيح؛لأنّها مردوعة بالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم.

إن قلت:إنّ العامي مكلّف بالأحكام الشرعية،و قد اختلف الأعلم و غيره،و لا طريق له إلي الأحكام إلاّ رأيهما،و المتيقّن منهما رأي الأعلم.

قلت:ينبغي له أن يحتاط إن لم يكن حرجا،و إن لم يتمكّن من الاحتياط التامّ، فلا بدّ له من الاحتياط بالقدر الميسور له.نعم القدر المتيقّن في العاجز عن الاستنباط و الاحتياط حجّية قول الفقيه المتعارف في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

و لو دار الأمر في الفقيه الذي في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام بين الأعلم و غيره، يمكن أن يقال بعدم لزوم الرجوع إلي الأعلم،لكن في هذه الأعصار التي يختلف الفقه فيها عن فقه أصحاب الأئمّة إن لم يمكن الاحتياط،وجب الرجوع إلي الأقرب إلي الواقع و لو بالاحتياط في بعض الموارد،و إن لم يمكن فيرجع إلي الأعلم من الأحياء و الأموات،و إن لم يمكن فإلي المتيقّن،و هو قول الأعلم الذي يتمكّن من الوصول إليه؛لأنّه أقرب إلي الواقع.

الثالث:لا إشكال في أنّه لا بدّ من تحصيل العلم بالأحكام الشرعية،و مع تعذّره يجب تحصيل الأقرب إلي الأحكام الصادرة عن المعصوم،و مع تعذّره ففتوي الأعلم أقرب.

و اجيب أوّلا:بأنّ فتوي غير الأعلم ربما تكون أقرب إلي الواقع،لموافقتها لفتوي الأموات ممّن هو أعلم من الحيّ الأعلم (1).7.

ص: 512


1- التنقيح 1:147.

و فيه ما تقدّم من أنّ المدار علي الأقرب إلي الواقع،و مع تعذّره فيؤخذ بقول أعلم الأموات و الأحياء؛لأنّه لا يشترط الحياة في حجّية رأي المجتهد.

و ثانيا:بأنّ إطلاق دليل جواز تقليد طبيعي المجتهد شامل لهما.

قال في التنقيح:إنّا نطالب الدليل علي أنّ الأقربية مرجّحة،و لم يقم أيّ دليل علي أنّ الملاك في التقليد و وجوبه هو الأقربية إلي الواقع؛إذ العناوين المأخوذة كعنوان العالم و الفقيه و غيرهما صادقة علي كلّ من الأعلم و غير الأعلم،و هما في ذلك سواء لا يختلفان،و هذا يكفي في الحكم بجواز تقليدهما (1).

أقول:و حاصل هذه الدعوي أنّ الاطلاقات شاملة لهما،و لو بالتعبّد علي نحو الطريقية،فلا وجه لترجيح شمول الاطلاق للأعلم فقط دون غيره.

و أجاب عنه في تقريرات الشيخ بأنّه لو كان المدار علي الظنّ الشخصي أمكن المنع عن الظنّ بأقربية الأعلم من غيره،و لو كان المدار علي التعبّد المحض لكان مقتضاه التخيير،و لكن هناك أمر بين الأمرين،و هو اعتبار إلي آخر ما حكيناه عنه، و حاصله أنّه تعبّد بالطريق النوعي،و الأعلم أقرب طريقا إلي الواقع.

الرابع:أنّ المراد بالأعلم من كان مطّلعا علي ما لا يطّلع عليه غير الأعلم ممّا هو دخيل في استفادة الحكم،بحيث يختلف ما يستنبطه الأعلم عمّا يستنبطه غير الأعلم،فيكون غير الأعلم بالنسبة إلي الأعلم بمنزلة الجاهل بالنسبة إلي العالم، فالرجوع إليه مع التمكّن من الرجوع إلي الأعلم من الرجوع إلي الجاهل.

و أجاب في التنقيح عن كونه من الرجوع إلي الجاهل بأنّه صحيح بالاضافة إلي المزايا و الخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة و الاستدلال،و أمّا بالاضافة إلي الاستنباط أصله و ردّ الفرع إلي الأصل فهما علي حدّ سواء بالاضافة إلي العناوين7.

ص: 513


1- التنقيح 1:147.

الواردة في أدلّة التقليد انتهي ملخّصا (1).

أقول:المراد من الأعلم كما تقدّم من كان مطّلعا علي امور دخيلة في استنباط الحكم لم يطّلع عليها غيره،و المدار علي الأعلمية في كلّ مسألة علي حدة.

و الانصاف أنّ هذا الوجه وجيه،فإنّ الناس مكلّفون بما صدر عن المعصومين عليهم السّلام،و مع عدم التمكّن من الوصول إليه يستقلّ العقل بالأخذ بالأقرب إلي ما صدر عنهم و فتوي الأعلم أقرب؛لاطّلاعه علي ما لم يطّلع عليه غيره.

بل قال المحقّق الاصفهاني:إنّه و إن لم يكن أقرب إلي الواقع،لكن الرجوع إلي غير الأعلم مع وجوده من باب الرجوع إلي الجاهل،قال:و رأي الأعلم و إن لم يعلم أنّه أقرب إلي الواقع،لكنّه أوفق بما قامت عليه الحجج الشرعية و العقلية،و لا معني للأوفقية بها إلاّ بلوغ نظره إلي ما لم يبلغ إليه نظر غيره،فيكون بالاضافة إلي القاصر نظره،كالعالم بالاضافة إلي الجاهل،فيكون متعيّنا في مقام إبراء الذمّة (2).

الخامس:الأخبار،فمنها:خبر عمر بن حنظلة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث،فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة،إلي أن قال:قلت:فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما،و كلاهما اختلفا في حديثكم،قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما الحديث (3).

دلّ علي أنّه عند اختلاف الفقهاء يرجع إلي الأفقه.

أقول:لا يبعد أن يكون المراد من قوله«فتحاكما إلي السلطان»أو«إلي4.

ص: 514


1- التنقيح 1:148.
2- الاجتهاد و التقليد ص 40.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 7 ح 124.

القضاة»أعمّ من الحكم بمعني فصل الخصومة في الموضوعات و الحكم الشرعي الكلّي أي الفتوي؛لأنّ الحكم هو ما يرفع التحيّر،و قد كان المتداول بين المعاصرين للأئمّة عليهم السّلام الرجوع في تعلّم الأحكام الكلّية إلي قضاة العامّة،كابن أبي ليلي و أبي حنيفة،ففي صحيح أبي ولاّد«فتراضيا بأبي حنيفة فذهبا إليه،و قال:

ليس علي أبي ولاّد اجرة البغل»و هذه فتوي منه قد حكم بها و قطع بها نزاعهما.

و في ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:اشتريت محملا،فأعطيت بعض ثمنه و تركته عند صاحبه،ثمّ احتبست أيّاما،ثمّ جئت إلي بايع المحمل لآخذه، فقال:قد بعته،فضحكت ثمّ قلت:لا و اللّه لا أدعك أو اقاضيك،فقال لي:ترضي بأبي بكر بن عياش؟قلت:نعم،فأتيته فقصصنا عليه قصّتنا،فقال أبو بكر:بقول من تريد أن أقضي بينكما،بقول صاحبك أو غيره؟قال:قلت:بقول صاحبي،قال:

سمعته يقول:من اشتري شيئا فجاء بالثمن ما بينه و بين ثلاثة أيّام،و إلاّ فلا بيع له (1).

و من ذلك يظهر أنّ قوله عليه السّلام«فليرضوا به حكما»أيضا أعمّ و يشمل جميع هذه الأقسام.و حاصل ما يستفاد من الخبر أنّه عليه السّلام قال:لا تتحاكموا إلي هؤلاء و تحاكموا إلي فقهائكم،فإن اختلفوا فالحكم ما حكم به الأعلم،فإن تساووا فينفذ حكم من مدرك حكمه مجمع عليه،فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه.

و لا يجوز الرجوع إلي من استند في حكمه إلي خبر شاذّ،فإنّ التعليل بقوله فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه و تثليث الأقسام و انّ الخبر الشاذّ من الشبهات،يقتضي عدم الأخذ بالشاذّ مطلقا،أي قبل الحكم و بعده.ثمّ إنّه ذكر للخبر معنيان آخران:

الأوّل:ما قد يقال من اختصاص الحكم بالفتوي؛لأنّ قوله«و كلاهما اختلفا في2.

ص: 515


1- وسائل الشيعة 12:356 ب 9 ح 2.

حديثكم»ظاهر في كون الاختلاف بينهما ليس من جهة اختلاف البيّنات أو الأيمان،و إنّما كان منشؤه عدم معرفة الحكم الشرعي،سواء كان المراد بالاختلاف في الحديث،الاختلاف في فهم حديث واحد،أو الاختلاف في أصل وجود الحديث،بأن اعتمد أحدهما علي حديث و اعتمد الآخر علي آخر.و لعلّ هذا هو الظاهر من الاختلاف في الحديث،خصوصا بقرينة قوله بعد ذلك«ينظر إلي ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه»الخ،فإنّه ظاهر في أنّ الاختلاف في أصل الرواية.

و علي أيّ حال فالظاهر أنّ الاختلاف في الحديث صار منشأ الاختلاف في الحكم الشرعي،مضافا إلي أنّ الترجيح بالأصدقية و الأفقهية يناسب الفتوي،و كذا إرجاع المتنازعين إلي النظر في مدرك الحكمين من الروايات و الأخذ بالمشهور، و هذا شأن ترجيح الفتوي؛لأنّ الحكم في الموضوعات إذا تحقّق فلا يجوز نقضه، مضافا إلي أنّ فرض اجتماع الحكمين في الموضوعات في المسألة الواحدة يتصوّر علي وجوه ثلاثة كلّها بعيدة:

الأوّل:صدور الحكمين المتخالفين منهما في زمان واحد.

الثاني:صدور الحكم من واحد منهم و إعانة الآخر علي مقدّمات الحكم.

الثالث:صدوره من واحد منهم و تنفيذه من الآخر.

فانحصر في الفتوي من رجلين من أصحابنا،و هو الذي يصحّ ترجيحه بالأفقهية و الأعلمية حتّي المتأخّر منهما.

المعني الثاني:ما قد يقال من اختصاص الحكم فيه بالحكم الاصطلاحي،و هو ما يفصل به الخصومة في مورد الترافع،لقوله«بينهما منازعة في دين أو ميراث» و قوله«و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا»و قوله«فإنّي قد جعلته عليكم حاكما».

أقول:الأولي ما ذكرناه من أنّ الحكم أعمّ من الفتوي و ما يفصل به الخصومة،

ص: 516

و الوجوه المذكورة لا تنافي ذلك؛لأنّ الأورعية و الأعدلية توجبان التثبّت،و عدم التسرّع إلي الفتوي،فكلّها دخيلة في الفقاهة،و المال المأخوذ بالفتوي الباطلة سحت و إن لم يكن حكما اصطلاحيا.

نعم لا يبعد أن يقال:إنّ صدره-أي:صدر خبر عمر بن حنظلة-لا يشمل مجرّد نقل الرواية،إن لم يتعبّد الناقل بالعمل بمضمونه،مثلا لو نقل زرارة عن الامام شيئا، و نقل ثقة آخر ليس بفقيه عن الامام خلافه و لم يكن زرارة متعبّدا بالعمل بما نقله بل نقل مجرّد سماعه،لم يترجّح سماعه علي سماع غيره (1).

نعم لو تعبّد بالعمل به كان مقدّما؛لأنّه أبصر بمذاق الامام.و من ذلك يظهر أنّ الترجيح بين الخبرين المتعارضين بالصفات مبني علي استفادة أنّ ظاهر الراوي أنّه يعمل و يفتي بما يرويه،فلذا يرجّح الأفقه علي غيره،فلو فرض أنّ الراويين ناقلان فقط لم يكن ترجيح،إلاّ إذا كان في سلسلة السند من هو أفقه و يفتي بمضمون الخبر.

مثلا لو فرضنا أنّه روي علي بن الحسن بن فضّال عن زرارة ما يفتي به زرارة من دون أن يفتي ابن فضّال بذلك،بل كان مجرّد النقل،و روي محمّد بن مسلم عمّن دون زرارة،بمجرّد النقل عنه لا يمكن ترجيح خبر محمّد بن مسلم علي خبر ابن فضّال بأنّه ثقة جليل،و ابن فضّال فطحي،بل ينبغي ترجيح خبر ابن فضّال الذي ينتهي إلي زرارة علي الآخر الذي ينتهي إلي من دونه لأنّ زرارة أفقه من راوي الآخر،و هذا مناط الترجيح.

و بهذا البيان اندفع ما يقال:من أنّ الامام قد طبق الترجيح بالصفات علي أوّل سلسلة السند و هما الحاكمان الخ.فيدلّ علي أنّه من باب ترجيح الحاكمين،و لوة.

ص: 517


1- و أشار إليه الشيخ في العدّة.

كان من باب ترجيح الخبر كان ينبغي التطبيق علي الراويين المباشرين،مع أنّ الغالب أن يكون الخبر مع الواسطة.وجه الاندفاع أنّ الغالب في زمانهم الخبر بلا واسطة،مضافا إلي ما ذكرنا من وجه.

و ممّا يؤيّد شمول الحكم للحكم بنحو الفتوي قوله عليه السّلام«فيؤخذ به من حكمنا» فإنّ المراد به الحكم الشرعي.و كذا قوله عليه السّلام«ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة».و أيضا التعليل بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه،و أنّ ما خالف العامّة ففيه الرشاد،يناسب الفتوي و الحكم الكلّي الإلهي،لا تطبيق الحكم علي موضوعه بالبيّنة و الحلف.

فهذه الرواية صدرها يدلّ علي وجوب الرجوع إلي الفقهاء في جميع الأحكام الشرعية،سواء كانت بنحو الفتوي،أو بنحو الحكم الاصطلاحي.

و بقيّة الرواية تدلّ علي الرجوع إلي المرجّحات المذكورة إذا اختلفوا في الفتوي،و من المرجّحات المذكورة فيها هي الأفقهية.

إن قلت:إنّ قوله«قلت:فإن كان كلّ منهما اختار رجلا الخ»يدلّ علي الترجيح بعد المراجعة،و يدلّ علي عدم الترجيح قبلها،و إلاّ لقال في صدر الحديث،انظروا إلي أفقه من عرف حكمنا.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ الراوي أراد السؤال عن صورة اختلاف الفقهاء، و سؤاله كان هكذا،و هو أنّه إن رجعنا إلي رجلين منهما فاختلفا.

و من البعيد بناء علي ما قلنا من شمول الحكم للفتوي التفصيل في جواز الرجوع إلي غير الأفقه بين صورة المنازعة فلا يجوز،و بين صورة عدم المنازعة فيجوز،بأن يقول له الامام عليه السّلام:إذا علمت المخالفة بين الفقيه و الأفقه،يجوز لك أن ترجع إلي غير الأفقه لرفع الخصومة بحكمه،أو لأخذ الفتوي منه،و لكن لو رجعت إليهما و لم تعلم اختلافهما ثمّ علمت بعد المراجعة مخالفتهما،فلا يجوز لك

ص: 518

الأخذ من غير الأفقه بل يتعيّن الأفقه.

و لو سلّمنا اختصاص الرواية بالحكم الاصطلاحي،أي:الحكم في الموضوعات،و انّ الترجيح بالصفات لرفع النزاع في صورة اختلاف الحاكمين، فنقول:يستفاد منه الترجيح للفتوي أيضا؛لأنّ رفع النزاع في صورة اختلافهما يمكن بالأخذ بمن سبق حكمه،لبعد اجتماعهما في الحكم بأن ينشئا في آن واحد.

و الترجيح بأسبقية الحكمين هو الذي يقولون من أنّه لا يجوز نقض حكم المجتهد حتّي من مجتهد آخر.

ملخّص الكلام:أنّه لا يبقي ظهور للصدر في الاطلاق لأخذ الفتوي من الفقيه و الأفقه يشمل صورة الاختلاف،خصوصا مع احتفاف الكلام بما يحتمل أن يكون قرينة رافعة للظهور.

ثمّ إنّه قد نوقش في دلالته بوجوه اخر:

أحدها:ما في المستمسك،حيث قال:إنّه بقرينة التنازع الذي لا يكون إلاّ مع العلم حقيقة أو تعبّدا،و بقرينة ما في ذيلها من الرجوع إلي المرجّحات الداخلية و الخارجية ظاهرة في الحكم الفاصل للخصومة و لا تشمل الفتوي الخ (1).

أقول:لعلّ المراد بالتنازع هو الاختلاف،كالحاصل بين أبي ولاّد و صاحب البغل،مع أنّهما كانا جاهلين بالمسألة،فرجعا إلي أبي حنيفة و أفتي بما فصل به الخصومة.

ثانيها:ما في التنقيح من أنّ الأعلمية المعتبرة في المفتي هي الأعلمية المطلقة، و الأعلمية المذكورة في الخبر نفوذ حكم أعلمهما و إن وجد أعلم منهما (2).

أقول:في مفروض الخبر لا نظر إلي مثل هذا الفرض،فإنّه لم يكن في عصر4.

ص: 519


1- المستمسك 1:29.
2- التنقيح 1:144.

الأئمّة هذه وسائل الاتّصال و الاطّلاع الموجودة في عصرنا،و لا يعلم وجود أعلم مخالف لهما،مع أنّ مستند فقهاء الشيعة غالبا هي الأخبار لا آراؤهم.

ثالثها:ما ذكره في الكفاية من أنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلاّ به لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوي (1)انتهي.

و في نهاية الدراية بعد تشقيقات للمسألة،و ذكر أنّه يمكن فصل الخصومة بفتوي الحاكم،قال:إنّ اعتبار الأفضلية في مقام الفتوي الفاصلة للنزاع مع فتوي اخري في هذه المرحلة لا يلازم اعتبارها في الفتوي بما هو فتوي،و لذا قلنا إنّ فتوي المجتهد ليست حجّة علي مجتهد آخر،لكنّها نافذة عليه في مقام فصل الخصومة إلي آخره (2).

أقول:لعلّ المستفاد من مجموع الخبر أنّه يلاحظ الأقربية إلي الواقع في الحكم، سواء كان بنحو الحكم للعمل أو بالفتوي أو بنقل الخبر الاصطلاحي،و قول الأفقه و المجمع عليه و مخالف العامّة أقرب إلي الواقع،بلا فرق في هذه الترجيحات بين الترافع ابتداء إلي الأفضل،أو بعد الترافع إلي الأفضل و المفضول.

و بالجملة انّ المتخاصمين إن كانا يعلمان فتوي الأفضل و فتوي المفضول و مخالفتهما في الفتوي،و كان اختلافهما في الحكم الكلّي،فلا إطلاق في الخبر يشمل الرجوع إلي غير الأفضل،و رجوع المجتهدين إلي ثالث محلّ إشكال خصوصا إن علما فتوي الثالث و كان مفضولا بالنسبة إليهما.

ثمّ إنّ في هذا الخبر إشكالا،و هو أنّ الحكمين إن كانا يحكمان علي التعاقب، فلا مجال للثاني،و حكمهما دفعة واحدة بعيد.4.

ص: 520


1- كفاية الاصول ص 543.
2- نهاية الدراية 3:214.

أجاب عنه في نهاية الدراية بحمله علي فصل الخصومة بنقل الخبر الفاصل، فيخرج مورد المقبولة عن القضاء و الفتوي معا،بل إنّ المتعارف في الصدر الأوّل هو القضاء و الافتاء بنقل الرواية،و الأمر بالترجيحات بملاحظة الرواية لا بملاحظة الفتوي و لا القضاء الخ (1).

أقول:و يمكن الجواب عن الاشكال بحمله علي الفتوي،فيفتي أحدهما بشيء ثمّ يفتي الآخر بخلافه،فيرتفع الاشكال،و لو حمل علي الحكم الاصطلاحي في الموضوعات،فيمكن أن يقال:إنّ ما رضي به الخصمان هو حكمهما دفعة،فلا استقلال لحكم أحدهما حتّي لا ينقض بحكم الآخر،بل المناط حكمهما،كما يحتمل ذلك في خبر النميري و داود بن الحصين الآتيان.

و في الجواهر:هذه النصوص إنّما هي في المتنازعين في حقّ و قد حكّما في أمرهما رجلين دفعة،فحكم كلّ واحد منهما لكلّ واحد منهما،و لا وجه للتخيير هنا،و لا يبطل حكم كلّ منهما بحكم الآخر،فليس حينئذ إلاّ الترجيح للحكم في كلّي الواقعة بالمرجّحات التي ذكرها الامام انتهي ملخّصا (2).

و منها:خبر داود بن الحصين في رجلين اتّفقا علي عدلين،إلي أن قال:

و اختلف العدلان،إلي أن قال:ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه الخ.و قريب منه خبر النميري (3).

و لا يبعد أن يكون موردهما صورة جهلهما بنظر العدلين،و إنّما اتّفقا عليهما للتوثّق بالحكم ثمّ إنّهما اختلفا،و أمّا صورة علمهما من الأوّل باختلافهما ففي مثله لا يرجع الخصمان إليهما لعلمهما بنظرهما،فينبغي أن يقلّدا الأعلم حينئذ و يرفعا6.

ص: 521


1- نهاية الدراية 3:214.
2- جواهر الكلام 40:44.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:252 ب 6 ح 5 و ح 6.

خصومتهما بفتواه.

و حاصل الكلام في هذه الروايات أنّ التنازع و الاختلاف الناشيء عن الجهل بالحكم كان أمرا متعارفا،و لم يكونوا يعرفون حكم المسألة،فيرجعون إلي الفقهاء لتعلّم الحكم،فإذا اختلفوا وجب تقديم أعلمهم،أمّا إذا كانوا يعرفون فتوي الفقهاء فلا وجه للرجوع إليهم،بل ينبغي لهم فصل الخصومة بفتوي الأعلم.

و منها:ما في نهج البلاغة من عهده عليه السّلام إلي مالك الأشتر،و ما فيه أيضا و ما في عيون المعجزات و قد تعرّض لها في التنقيح (1)و أخبار تشبهها قد تعرّض لها غيره، فلو سلّم دلالتها و صحّة سندها و عدم اختصاصها بأمر الامامة،فلا بأس بها.

القول الثاني:حجّية قول غير الأعلم،و استدلّ لحجّيته بوجوه:

الأوّل:ما ذكره في الجواهر:و هو إطلاق أدلّة النصب المقتضي حجّية الجميع علي جميع الناس (2).

أقول:يريد باطلاق أدلّة النصب قوله«انظروا إلي رجل منكم روي حديثنا» و قوله«من كان روي حديثنا»و غيرهما،بل يمكن التمسّك بآية النفر و السؤال، و هو مبني علي ما اختاره من أنّ أدلّة النصب تدلّ علي حجّية رأي طبيعي الفقيه لا علي حجّية كلّ واحد حتّي تكون الأدلّة متعارضة.

و لكن صحّحه في نهاية الدراية علي مبني حجّية كلّ واحد أيضا،فقال:و أمّا علي الطريقية،فالأصل الأوّلي و إن كان يقتضي التساقط،لكنّه بناء علي عدمه:إمّا للأخبار العلاجية كما في الخبرين المتعارضين،أو للاجماع كما فيما نحن فيه، يمكن استكشاف المنجزية و المعذّرية بنحو التخيير (3).2.

ص: 522


1- التنقيح 1:145.
2- جواهر الكلام 40:43.
3- نهاية الدراية 3:212.

و أورد في الكفاية علي الاطلاق،فقال:و لا إطلاق في أدلّة التقليد بعد الغضّ عن نهوضها علي مشروعية أصله،لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم،لا في كلّ حال من غير تعرّض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل،كما هو شأن سائر الطرق و الأمارات علي ما لا يخفي (1).

و قال في توضيحه في نهاية الدراية:إنّ مورد الاطلاقات هي الرواية دون الفتوي،مضافا إلي أنّ الافتاء في الصدر الأوّل في مقام نشر الأحكام كان بنقل الروايات لا بإظهار الرأي و النظر الخ (2).

أقول:قد عرفت وجود الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السّلام بالحمل علي التقية و الأخذ بالمتأخّر و التمسّك بالعموم،و لعلّه المراد بقوله«و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا»فلا يبعد شمولها لذلك،و كذا شمولها لصورة الاختلاف في الفضيلة،لكن المتيقّن منه صورة عدم العلم بمخالفة المفضول للأفضل.

و أمّا ما ذكره في التنقيح (3)بأنّ إطلاق أدلّة الحجّية لا يشمل المتعارضين؛ لاستلزامه الجمع بين النقيضين أو الضدّين فيتساقطان.فإنّما يتوجّه بناء علي أن يكون قول الفقيه حجّة محضة كالقطع،و أمّا بناء علي التعبّد فلا بأس بالتعبّد بالعمل بطبيعي قول الفقيه الصادق علي المفضول و الفاضل،فمع قطع النظر عن الايراد المتقدّم،و هو عدم شمول الاطلاق لصورة العلم بمخالفتهما في الفتوي لا مانع من التمسّك بالاطلاق.

و يحتمل أن يقال بأنّ الافتاء في زمان المعصومين من الرواة كان بنقل الرواية التي وصلت إليهم غالبا،و الأمر بالرجوع إليهم و إن كان مطلقا لكن الأخبار7.

ص: 523


1- كفاية الاصول ص 542.
2- نهاية الدراية 3:213.
3- التنقيح 1:137.

العلاجية تشمل الخبر الذي يؤدّيه الراوي بعنوان الفتوي،فحينئذ يقيّد إطلاق هذه الأخبار بتلك الترجيحات المذكورة في الأخبار العلاجية،و من أخبار الباب ما اشتمل علي الترجيح بالأفقهية،و هو خبر عمر بن حنظلة.

الثاني:ما ذكره في الجواهر،و هو السيرة المستمرّة في الافتاء و الاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة.

أجاب عنه في الكفاية بأنّ دعوي السيرة علي الأخذ بفتوي أحد المخالفين في الفتوي من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما ممنوعة (1).

أقول:يريد أنّه إذا علم أعلمية أحدهما و علم اختلافهما،لا يستفتي من أحدهما إلاّ بعد الفحص عن الأعلم و الاستفتاء منه خاصة،و لعلّ مفهوم كلامه أنّه إذا لم يعلم أعلمية أحدهما و إن علم الاختلاف،أو لم يعلم اختلافهما و إن علم أعلمية أحدهما،ففي هاتين الصورتين يمكن دعوي السيرة علي الرجوع إلي كلّ واحد منهما.

أقول:لا يخفي أنّ المفتين من الفقهاء في عصر الأئمّة عليهم السّلام إلي زمان الشيخ المفيد لعلّهم كانوا غالبا يفتون بمتون الروايات،فإن كان بينهم خلاف كان منشأه غالبا اختلاف الأخبار،و المتشرّعة لعلّهم يرون ذلك الاختلاف من المعصوم عليه السّلام، فلا يلتفتون إلي أنّ هذا الاختلاف يضرّ.و هذا بخلاف هذه الأزمنة التي تستعمل فيها القواعد التي لم يكونوا يستعملونها،فينبغي الفحص عن الأقرب إلي ما صدر عن المعصوم،ثمّ إن لم يمكن فعن الأعلم؛لأنّ العقل لا يعذر في الامتثال بغير ذلك.

الثالث:لزوم العسر؛لأنّه لو وجب التقليد عن الأعلم في كلّ مسألة لاحتاج إلي2.

ص: 524


1- كفاية الاصول ص 542.

الفحص عن جميع الفقهاء في البلاد،ثمّ عسر تشخيص الأعلم؛لأنّ الأعلمية أمر إضافي،و ليس لأحد أن يدّعي وجود عالم أعلم من الكلّ في جميع المسائل الشرعية،فإنّ المحيط الذي عاش فيه العالم و الجوّ المسيطر علي العلوم و شياع بعضها،و تدخّل بعضها في بعض،و البعد عن اللغة الصحيحة الدارجة في عصر الأئمّة عليهم السّلام و غير ذلك ممّا يوجب صعوبة تشخيص الأعلم.

أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا عسر في تقليد الأعلم،و ليس تشخيصه بأشكل من أصل الاجتهاد،مع أنّ قضيّة العسر الاقتصار علي موضعه (1).

أقول:الانصاف أنّ تشخيصه مشكل في عصرنا؛لأنّ الفقيه قد يصير مشهورا بعد بلوغه سبعين سنة مثلا،و حينئذ يظهر أراءه التي ارتضاها قبل سنوات طويلة جدّا،فهو الآن من حيث قيمة آرائه و مستوي علمه ذلك الرجل صاحب آراء ذلك الوقت،و لم يكن في ذلك الوقت معروفا بأنّه أعلم أهل الوقت،لأنّه لم يطّلع عليه أحد مثلا،فينبغي أن يقال بالتثبّت و الفحص.

الموضع الثاني: في جواز تقليد غير الأعلم و عدمه

أن يعلم أعلمية أحدهما،لكن لا يعلم اختلافهما في هذه الفتوي،و إن علم اختلافهما في بعضها تفصيلا أو إجمالا،إن لم تكن جميعها محلّ الابتلاء،ففي جواز تقليد غير الأعلم و عدمه و جهان،اختار الأوّل جماعة، و استدلّ له في منتهي الوصول (2)بأنّ فتوي المفضول حجّة و فتوي الأفضل تكون مزاحمة لها،فالمقتضي موجود،و يدفع المانع بالأصل.

و هذا ما ذكره في الجواهر،حيث قال:ثمّ إنّه بناء علي تقدّم الأفضل،فهل هو من حكم المانع أو الشرط؟و جهان،لا يخفي عليك الثمرة بينهما (3).

ص: 525


1- كفاية الاصول ص 543.
2- منتهي الوصول ص 404.
3- جواهر الكلام 40:36.

و اختاره في التنقيح (1)،و استدلّ له بامور:

أحدها:الاطلاقات خرج منها صورة العلم بالمخالفة.

فإن قلت:بعد خروج صورة المخالفة تكون الشبهة مصداقية،و لا يجوز التمسّك بالعامّ فيها.

قلت:نعم لو لا الأصل المقتضي لعدم المخالفة،و هو استصحاب عدم مخالفة رأي الأعلم بغير الأعلم.

ثانيها:أنّ الأئمّة عليهم السّلام قد أرجعوا عوام الشيعة إلي آحاد مخصوصة،مع وجودهم بينهم،و لا شكّ أنّه لا يؤخذ بقولهم مع العلم بمخالفتهم للأئمّة عليهم السّلام، فيتعيّن أن يكون مورد الرجوع إليهم صورة عدم العلم بمخالفتهم للأئمّة عليهم السّلام،و إذا جاز الرجوع إلي من لا يعلم مخالفته للمعصوم،فأولي أن يكون الرجوع إلي من لا يعلم مخالفته لمن لا يكون معصوما جائزا.

ثالثها:السيرة العقلائية.

أقول:يرد علي الأوّل أوّلا:أنّ المطلقات إذا كانت لا تشمل صورة مخالفة الفتويين،فتختصّ بصورة موافقتهما،فإذا شكّ في موافقتهما استصحب عدم الموافقة.

و ثانيا:أنّ أصالة عدم المخالفة من استصحاب العدم الأزلي،و هو غير حجّة، و استصحاب عدم وجود رأي مخالف لرأي غير الأعلم لا يثبت عدم مخالفة الرأي الموجود لرأي الأعلم،فتأمّل.

و يرد علي الثاني أوّلا:احتمال أن يكون الذين قد أرجع الأئمّة عليهم السّلام إليهم قد علموا موافقتهم لهم فيما يقولون.9.

ص: 526


1- التنقيح 1:159.

و ثانيا:أنّ مصلحة التسهيل لعدم امكان اجتماع الشيعة كلّهم حول الأئمّة عليهم السّلام أهمّ من مخالفتهم واقعا في بعض الموارد.

و يرد علي الثالث أوّلا:بأنّها تحتاج إلي الامضاء،و الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم تنهي عنها.

و ثانيا:لا نسلّم وجودها فيما كثر الاختلاف مثل الاختلاف الموجود بين الفقهاء في هذه الأعصار.

و ينبغي التنبيه علي امور:
الأمر الأوّل:يجب الفحص عن الأعلم

،و يقع الكلام في صور المسألة،و هي خمس:

إحداها:العلم بالتفاضل و باختلافهما في الفتوي.

الثانية:العلم بالتفاضل و الجهل باختلافهما في الفتوي.

الثالثة:العلم باختلافهما في الفتوي و الجهل بالتفاضل.

الرابعة:الجهل باختلافهما في الفتوي مع الجهل باختلافهما في التفاضل.

الخامسة:أن يشكّ في وجود مجتهد آخر.

أمّا الصورة الأولي،فيتعيّن فيها تقليد الأفضل.و لو جهل شخصه،وجب الفحص عنه،و لو لم يتمكّن من الفحص احتاط بالجمع بين القولين ليدرك العمل بقول الأفضل.

و أمّا الصورة الثانية،فقد اختلف كلامهم في جواز العمل بفتوي المفضول بدون الفحص عن فتوي الأفضل و عدمه،و المسألة مبنية علي أنّ موافقة فتوي المفضول للفاضل شرط حجّيته،أو أنّ فتوي الفاضل علي خلاف فتوي المفضول مانع،فعلي الأوّل لا بدّ من الفحص؛لأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط،و علي الثاني فالأصل عدم تحقّق المخالفة.

ص: 527

أقول:لو كان إطلاق الآيات و الأخبار شاملا للاجتهاد في مثل عصرنا كانت فتوي الأفضل مانعا،لكنّه لا يشمل أو يشكّ في شموله،و المتعيّن هو الأجود استنباطا من الأخبار و الآيات،فلا بدّ من الفحص عنه و العمل بقوله.

و أمّا الصورة الثالثة و هي أنّ يحتمل أعلمية كلّ واحد منهما مع اختلافهما في الفتوي،فيجب عليه الفحص؛لاحتمال عدم حجّية فتوي كلّ واحد منهما،فإنّ فتوي المفضول ليست حجّة،و يحتمل في كلّ واحد منهما أن يكون مفضولا.

و أمّا الصورة الرابعة،فهي كالثانية.

و أمّا الصورة الخامسة،فيجب الفحص؛لأنّ الحجّة هي فتوي الأعلم،فلا بدّ من الفحص عنه.هذا كلّه مع إمكان الفحص،و إن لم يمكن فإن تمكّن من الاحتياط و درك الواقع احتاط،و إلاّ كان مخيّرا،فتأمّل.

الأمر الثاني:إذا انحصر المجتهد في المتساويين في الفضيلة

،فللمسألة صورتان:تارة يفرض تساوي جميع العلماء أحياء و أمواتا،و اخري يفرض تساوي الأحياء فقط.

أمّا الصورة الاولي،فإن لم يكن أحد الطرفين أكثر،أو لم يعلم كونه أكثر بعد الفحص تخيّر،و إلاّ فالأحوط الأخذ بقول الأكثر.

و ذلك لأنّه لا يكلّف أحد بالأحكام المودعة عند المعصومين التي لم يبيّنوها، و لا يكلّف بالأحكام الموجودة ضمن الأخبار التي لم تصل إلينا،لأنّه تكليف بما لا يعلم و هو قبيح،بل التكليف الواقعي هو الموجود في ضمن الكتاب و الأخبار التي وصلت إلينا،و وظيفة المجتهد استخراج الحكم منها،و المقلّد لا يكون مكلّفا بالموجود في ضمن الكتاب و الأخبار،لأنّه لا يقدر علي العلم بها،فالتكليف بها يكون قبيحا،بل وظيفته ما تيسّر له من فتوي العلماء.

فإذا اختلف فتوي العلماء و لم يكن مرجّح لأحد الطرفين من كثرة المفتين فهو

ص: 528

يتخيّر؛لأنّ الواقع غير واصل إليه فلا تكليف به.

و إن كان لأحدهما مرجّح لكثرة المفتين تعيّن عليه؛لأنّه أقرب إلي الوصول إلي الحكم الموجود في ضمن الآيات و الأخبار من غيره،و يستقلّ العقل بالعمل به، و الميزان مراعاة الأقرب إلي الواقع.

هذا إن لم يعلم إجمالا بأنّ التكليف الواقعي أحدهما،و إلاّ وجب الاحتياط للعلم الاجمالي،فإذا أفتي أحدهما بوجوب تسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين،و أفتي الآخر بوجوب الثلاث،وجبت التسبيحة الواحدة و يشكّ في وجوب الثلاث.

و أمّا إذا حصل العلم الاجمالي،كما إذا أفتي أحدهما بوجوب القصر في الصلاة،و أفتي الآخر بوجوب الاتمام فيها،فإنّه يعلم إجمالا بوجوب إحداهما، فيجب عليه الاحتياط.و لا يترك الاحتياط في المثال الأوّل.

نعم لو كانت فقاهتهما نظير فقاهة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،فإطلاق أدلّة التقليد يشملهما،و تكون الحجّة رأي طبيعي الفقيه.

و قال مثل ذلك في الذريعة في صورة تساويهما،و قد مرّ نقل عبارته.

و أمّا الصورة الثانية،فإن كان في الأموات أعلم تعيّن العمل بما يوافقه،و إلاّ فبالطرف الأكثر فتوي،و إلاّ فيتخيّر،و قد علم وجهه ممّا سبق.

الأمر الثالث:في الترجيح بالأورعية

،نقول:إن كان أحدهما أورع في الفتوي، أي:كان أكثر تثبّتا و احتياطا في الجهات الدخيلة في الافتاء،ففتواه أقرب إلي الواقع،و يتعيّن الأخذ بها لأقربيتها.

و أمّا إن كان أحدهما أورع في ترك المباحات أو الشبهات،فلا أثر له في افتائه و لا يكون مرجّحا.

نعم يمكن أن يقال:إنّه مرجّح تعبّدي.و يستفاد ذلك من قوله في خبر عمر بن

ص: 529

حنظلة«يختار أورعهما»لكن ظاهر المقبولة أن تكون الأورعية مع بقيّة الصفات، إلاّ أن يقال بأنّه في مقام تعداد المرجّحات لا بيان اعتبار الجمع بينها،فتأمّل.

الأمر الرابع:قال في العروة الوثقي في المسألة(17):المراد من الأعلم من

يكون أعرف بالقواعد و المدارك للمسألة

و أكثر اطّلاعا لنظائرها و للأخبار،و أجود فهما للأخبار،و الحاصل أن يكون أجود استنباطا.

أقول:لا يبعد ترجيح الأقرب إلي الواقع بحسب الموازين،و إن لم يتيسّر فالأجود استنباطا الأوصل إلي الأحكام الواقعية من جميع الفقهاء الأحياء و الأموات.

و المراد من الأقرب إلي الوصول إلي الأحكام الصادرة ما ذكرناه في الاصول في كيفية العمل بالأخبار،و الاحتياط في الموارد التي ليس عليها واضح الأخبار، فيتعيّن الأقرب،ثمّ بعده الأجود استنباطا،و المراد به من كان مطّلعا علي الأخبار و معاني مفرداتها،قد حقّق الرجال و اطّلع علي كيفية الجمع بين الأخبار.

و علي هذا فلا بدّ من الأخذ بقول الأعلم من الجميع الأحياء و الأموات،و لو لزمه التبعيض في المسائل،و هو غير متيسّر لصعوبة تشخيصه،فينبغي في موارد الخلاف ملاحظة الأقرب الأحوط إن تيسّر،و إلاّ فلعلّ فتوي الأكثر أقرب و هكذا.

الأمر الخامس:المرجع في تعيين المجتهد و كذا تعيين الأعلم أهل الاستنباط،

و هم أهل خبرة تشخيص المجتهد،لأنّ الاجتهاد صعب،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:وفّقنا اللّه للاجتهاد الذي هو أصعب من طول الجهاد (1)انتهي.فمن لم يكن مجتهدا لا يميّز المجتهد عن غيره.

الأمر السادس:قد عرفت ممّا سبق أنّ الواجب علي العامي أن يكون عمله

ص: 530


1- فرائد الاصول 1:493.

موافقا لما جعله الشارع حجّة عليه،فإذا كان عمله مطابقا لفتوي الأفضل صحّ،و لا يضرّه تقييد عمله بكونه مستندا إلي فتوي المفضول فإنّه لغو،فلا وجه لهذا الاحتياط بعد العلم بالمطابقة لفتوي الأفضل.

و أمّا إن خالف فتوي المفضول فتوي الأفضل،فيجب تقليد الأفضل بناء علي وجوب تقليده كما مرّ.

حكم تقليد الميت ابتداء و استدامة

الشرط العاشر:الحياة،المعروف كما قيل عدم جواز تقليد الميت مطلقا،و قيل بجوازه مطلقا،و قيل بالتفصيل بين الابتداء و البقاء،و هذه المسألة تتفرّع علي المباني التي تقدّمت في حجّية رأي المفتي،فإن قلنا بالتعبّد و لو بالتعبّد علي نحو الطريقية،فيمكن القول بعدم الجواز أو بالتفصيل بين الابتداء و البقاء.و إن قلنا بالطريقية المحضة من دون تعبّد أصلا،فيتعيّن القول بوجوب تقليد أعلم العلماء حيّا و ميتا علي ما مرّ من وجوب تقليد الأعلم فيما إذا كانت فتوي غير الأعلم مخالفة للاحتياط.

و يستدلّ لعدم الجواز مطلقا بوجوه:

الأوّل:الاجماع،تعرّض له فيما طبع في آخر تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه، حيث قال:ظهور الاجماع المحقّق من الطائفة المحقّة،و يمكن الاطّلاع عليه و استعلامه من كلمات أصحابنا الامامية في المسألة،فإنّ نقل الاتّفاق و الاجماع فوق حدّ الاستفاضة (1).و تعرّض له في موضع آخر.

أقول:و نحن ننقل كلام من عثرنا عليه.

قال في المسالك في كتاب الأمر بالمعروف:و قد صرّح الأصحاب في هذا الباب في كتبهم المختصرة و المطوّلة و في غيره باشتراط حياة المجتهد في جواز

ص: 531


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 253.

العمل بقوله،و أنّ الميت لا يجوز العمل بقوله،و لم يتحقّق إلي الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا،و إن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور،و تحقيق المسألة في موضع آخر (1)انتهي.

و قال الشهيد الأوّل في الألفية:ثمّ المكلّف بها الآن من الرعية صنفان:مجتهد و فرضه الأخذ بالاستدلال علي كلّ فعل من أفعال الصلاة،و مقلّد يكفيه الأخذ عن المجتهد و لو بالواسطة أو وسائط مع عدالة الجميع (2)انتهي.

و قال الشهيد الثاني في شرحها:التاسع اللام في قوله«عن المجتهد»للعهد الذكري،و هو المذكور قبله بيسير،أي:عن المجتهد المتقدّم الآخذ بالاستدلال.

و فيه إشارة لطيفة إلي اشتراط حياة المجتهد المأخوذ عنه،فإنّ ذلك هو المعروف من مذهب الامامية،لا نعلم فيه مخالفا منهم،و إن كان الجمهور قد اختلفوا في ذلك،و تحقيق المسألة في الاصول (3).

إلي أن قال في الأمر الثاني عشر:و اعتماد خلاف ذلك باطل بالاجماع، خصوصا في تقليد الموتي،مع تقادم عهدهم و بعد زمانهم،فما يفعله كثير من أهل زماننا غير جائز،بل هو غير معروف في المذاهب أصلا،و بيانه من وجوه:

الأوّل:اعتمادهم علي تقليد الميت،و قد ثبت أنّ القائل به غير معروف في أصحابنا،بل الذين توجد كتبهم منهم الآن و تنقل فتواهم قد أكثروا في كتبهم الاصولية و الفروعية من إنكار ذلك،و نادوا بأنّ الميت لا قول له،و أسمعوا من كان حيّا.

فعلي مدّعي الجواز بيان القائل علي وجه يجوز الاعتماد عليه،فإنّا قد تتبّعنا ما1.

ص: 532


1- المسالك 3:109.
2- الألفية ص 416-418 المطبوع مع حاشية الشهيد الثاني.
3- المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة ص 51.

أمكننا تتبّعه من كتب القوم،فلم نظفر بقائل به من فقهائنا المعتمدين،بل وجدنا لأصحابنا قولين:

أحدهما:قول كثير من القدماء و فقهاء حلب،كأبي الصلاح و ابن حمزة بوجوب الاجتهاد عينا،و عدم جواز التقليد لأحد البتّة،و هو قول غريب عجيب مستلزم للمحنة الكبري و الطامّة العظمي.

و ثانيهما:قول المتأخّرين و المحقّقين من أصحابنا أنّه واجب علي الكفاية،و أنّه متي قام به أحد وجب علي من قصر عن مرتبة الاستدلال الرجوع إليه،و إن أخلّ به الجميع اشتركوا جميعا في الاخلال بالواجب،و يستثني منه من عجز عن بلوغ تلك المرتبة يقينا،لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق.

و تفصيل ذلك يتوقّف علي بسط كلام لا يليق بهذا المقام.

و علي القولين فالتفقّه واجب في الجملة إجماعا،فترك الاشتغال بالتفقّه و الاكباب علي تقليد الموتي باطل بالاجماع،و ما يتناقلونه بينهم من تجويز تقليد الميت باطل مردود عليهم،و لا طريق لهم في إسناده إلي أحد من علمائنا الذين يعتمد عليهم،و إنّما هو نقل مرسل لا يجوز التعويل علي مثله،و علي تقدير إسناده الصحيح لا يمكن المصير إليه إلاّ إذا اسند إلي مجتهد حيّ يجد له موافقا عليه من الأموات علي وجه لا يستلزم خرق الاجماع.و أمّا اسناده إلي الميت فجواز العمل به يتوقّف علي جواز النقل عن الميت،فلو توقّف جواز النقل عن الميت علي هذا النقل لزم الدور (1)انتهي موضع الحاجة،و لاحظ تتمّة كلامه فإنّه لا يخلو عن ارتباط بالمطلب.

و قال الكركي في حاشية الألفيّة السابقة:اللام في قوله«المجتهد»للعهد3.

ص: 533


1- المقاصد العليّة ص 52-53.

الذكري و المعهود ما قبله بيسير،فكأنّه قال:عن المجتهد المذكور،و يكون فيه ايماء لطيف إلي اعتبار كون المجتهد المأخوذ عنه حيّا،فإنّ ذلك مذهب أصحابنا الامامية قاطبة،و قد نادوا به في مصنّفاتهم الاصولية و الفروعية،فأسمعوا من كان حيّا،و الأدلّة علي ذلك كثيرة نبّهنا علي بعضها في بعض مظانّها،و يرشد إلي هذا الايماء قوله في المعهود:و فرضه؛لأنّ الميت لا فرض عليه لخروجه عن التكليف، و حينئذ فيعتبر في المأخوذ عنه أن يكون مجتهدا و أن يكون حيّا (1)انتهي محلّ الحاجة.

و قال الكركي أيضا في رسالة الجعفرية:و الرجوع إلي المجتهد و لو بواسطة و إن تعدّدت إن كان مقلّدا،و اشترط الأكثر كونه حيّا (2)انتهي.

أقول:أوّلا:يمكن أن يجعل اللام في عبارة الشهيد الأوّل«عن المجتهد» للجنس،و إطلاقه شامل للحي و الميت،مضافا إلي أنّه ليس في مقام بيان شرائط المجتهد المأخوذ عنه حتّي يستفاد من عبارته اشتراط الحياة،بل قوله«و لو بوسائط»يشمل الوسائط الناقلة عن الميت و لو بمراجعة مصنّفاتهم.

و ثانيا:انّ الشهيد الثاني صرّح في المقاصد العلية التي نقلنا الكلام المتقدّم منها، بقول كثير من القدماء و فقهاء حلب كأبي الصلاح و ابن حمزة بوجوب الاجتهاد عينا،و عدم جواز التقليد لأحد البتّة،فكيف تكون المسألة اجماعية،بل يظهر من بعض القدماء جواز تقليد الميت كالصدوق رحمه اللّه،حيث وضع كتابه من لا يحضره الفقيه ليعمل به كلّ من لا يحضره الفقيه في زمانه و بعد وفاته إلي آخر وقت حاجة الناس،كما أنّ كتاب من لا يحضره الطبيب الذي صار سببا لتأليفه من لا يحضره الفقيه موضوع لكلّ من يستفيد منه و إن مات مؤلّفه،و الصدوق مجتهد في الجملة؛0.

ص: 534


1- رسائل المحقّق الكركي 3:176.
2- رسائل المحقّق الكركي 1:80.

لأنّه يرجّح بعض الأخبار علي بعض و يجمع بينها في كتابه من لا يحضره الفقيه.

قال في ذيل حديثين:أحدهما يدلّ علي أنّ ما يوصي به في سبيل اللّه يصرف في الحجّ،و قال الآخر في شيعتنا.قال مصنّف هذا الكتاب:هذان الحديثان متّفقان و ذلك أنّه يصرف ما اوصي به في السبيل إلي رجل من الشيعة يحجّ عنه،فهو موافق للخبر الذي قال:سبيل اللّه شيعتنا (1).

و يقول في بعض الموارد:أفتي بهذا الحديث،و يطرح الحديث الآخر لضعف السند،فهو يجتهد.و ليس مرادنا من الاجتهاد إلاّ التمييز بين صحيح الأخبار و سقيمها و الجمع بينها.

و قال بعد ايراد حديثين،:و هذا حديث مفسّر،و المفسّر يحكم علي المجمل (2).

و كذلك الشيخ رحمه اللّه وضع كتاب نهايته لكلّ من يستفيد منه و لو بعد وفاته.بل الكليني،و لاحظ سائر المصنّفين من علمائنا المتقدّمين.

بل الذي تطمئنّ به النفس أنّ الأولاد و البنات يتعلّمون المسائل من آبائهم و أمّهاتهم،و ربما كان المفتي لهم ميتا،فإذا بلغوا حدّ التكليف يعملون بما تعلّموا، و هذه سيرتهم متّصلة إلي عصر الأئمّة عليهم السّلام،فإنّا نطمئنّ أنّ من استفتي من زرارة فإنّه يعمل به و يعلّم أولاده،و لا يخطر بباله سقوط فتوي زرارة عن الاعتبار بموته، و لو كان ذلك ممنوعا كان اللازم التنبيه عليه في رواية من الروايات،فإنّ عامّة من يرجع إلي أهل العلم لا يفرقون بين موتهم و حياتهم.

و هكذا من كان يرجع إلي الرواة و يأخذ عنهم الفتوي الاجتهادية علي ما بيّنا سابقا من وجود الاجتهاد في عصرهم لا يفرقون بين الحياة و الممات.و لو كان آلة التسجيل موجودة في عصرهم و سجل صوت زرارة لم يشكّ أحد ممّن سمع مدحه0.

ص: 535


1- من لا يحضره الفقيه 4:153.
2- من لا يحضره الفقيه 4:150.

من الامام عليه السّلام و إرجاعه إليه في شمول ذلك لصوته،و كتابه مثل صوته بلا فرق.

و ثالثا:لو سلّم ثبوت الاجماع فإنّا نطمئنّ أنّه ليس إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه السّلام،بل هو معلّل في كلام بعضهم بأنّ الميّت لا رأي له أو لا قول،أو أنّ الاكباب علي تقليد الموتي باطل بالاجماع،و قد تقدّم بعض عبارات الشهيد، فالانصاف أنّه ليس حجّة تعبّديّة،مع أنّ المسألة غير مذكورة في كتب القدماء.

و أمّا ما ذكره من أنّ القول بجواز تقليد الميت يوجب عدم وجوب الاجتهاد لا كفاية و لا عينا،فيلزم الاكباب علي تقليد الموتي،و هو باطل بالضرورة.

فممنوع؛لأنّ المسائل تتجدّد و يبتلي الناس بمسائل جديدة فيحتاج إلي المجتهد،فيجب الاجتهاد كفاية.و إذا صار شخص مجتهدا أي:ذا ملكة،فلا يجوز له تقليد الموتي حتّي فيما لم يستنبط،فلا بدّ من أن يصير مجتهدا مطلقا،و حينئذ ربما يكون أعلم من السابقين،فيجب علي الناس الرجوع إليه إلي أن يصير غيره أعلم علي مختاره من وجوب تقليد الأعلم،فلا يلزم الاكباب علي تقليد الموتي، ليكون خلاف الضرورة.

الدليل الثاني:أنّ الاجماع المتقدّم إن لم يكن حجّة،فلا أقلّ من أنّه يوجب الشكّ في حجّية قول الميت،فيدور الأمر بين تعيّن قول الحي و بين التخيير بين الحي و الميت،و مقتضي الأصل اللفظي و العملي هو تعيّن تقليد الحيّ.

أمّا الأوّل،فعمومات المنع عن العمل بغير العلم تقتضي المنع مطلقا،لكن قد علم تخصيصها بقول الحيّ،و يشكّ في تخصيصها بقول الميت،فيتمسّك بالعموم و يحكم بعدم الحجّية.

و أمّا الثاني:فلأنّ الشكّ في الحجّية مساوق لعدم الحجّية،و لاستصحاب عدم جعل الحجّية.

و الجواب:أنّ ما دلّ علي الرجوع إلي المجتهد يعمّ الحيّ و الميت،و هو المرتكز

ص: 536

في أذهان العقلاء،من رجوع الجاهل إلي العالم في كلّ فنّ،فلا يفرقون بين العالم الحيّ و بين العالم الميت في الرجوع إليه و إلي كتابه،و كذا في باب التقليد.

بل يمكن أن يقال بتقديم فتوي الأعلم الميت علي فتوي الحيّ،و ذلك لأنّا مكلّفون بالعمل بالأحكام التي تستفاد من القرآن و من هذه الأخبار،و لا يتمكّن كلّ أحد من الاستفادة من هذه الأخبار،بل إذا رجعنا القهقري نري أنّ عامّة المكلّفين لم يكونوا يستنبطون الحكم بأنفسهم،و لا سبيل أقرب من أن يتصدّي لذلك من كملت فيه الأهلية له،و يرجع إليه من لم يكن أهلا للاستنباط،و يظهر من الأخبار الدالّة علي الرجوع إلي من استنبط الحكم تقديم الأفقه و الأعلم بالأحاديث و أمثال ذلك،فنحتمل الخصوصية لقول الأفقه،فإذا كان الميت أفقه فيكون هو المتيقّن في الحجّية.

فإن تمّ حجّية الاجماع المتقدّم،فيتعيّن تقليد الحيّ،و إلا فيدور الأمر بين تعيّن الأعلم حيّا كان أو ميتا،و بين التخيير بينه و بين غيره،و من لاحظ الأخبار الواصلة إلينا يري فيها الاشارة إلي ترجيح الأفقه،و ليس فيها أيّ إشارة إلي تقديم قول الحيّ.

و ممّا ذكر ظهر الجواب عن أصالة حرمة العمل بغير العلم.

الدليل الثالث:ما عن المحقّق الثاني،من أنّ المفتي إذا مات سقط قوله؛ للاجماع علي أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل العصر يمنع من انعقاد الاجماع اعتدادا بقوله،فإذا مات و انحصر أهل العصر بالمخالفين له انعقد الاجماع.

و الجواب:أنّ الاجماع المذكور ليس بحجّة؛لأنّه مبني علي القول بحجّية الاجماع من طريقة دخول شخص المعصوم في المجمعين،فإذا مات أحد العلماء ينكشف أنّه ليس بإمام.

و هذا المبني غير صحيح عند المتأخّرين،و كذا سائر مباني حجّية الاجماع،إلاّ

ص: 537

ما قرّر في محلّه من أنّ الاجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف عن استنادهم إلي نصّ وصل إليهم لم يصل إلينا،أو عن وصول الحكم إليهم يدا بيد.و من المعلوم عدم وصول نصّ إليهم يدلّ علي عدم حجّية قول الميت.

الدليل الرابع:أنّ اجتهاد المجتهد هو ظنّه بالحكم الشرعي،و هذا الظنّ يمتنع أن يبقي بعد الموت،أمّا أوّلا:فلضعف الادراكات بضعف البدن،فيزول ظنّه بالموت، و لذا لا يجوز البقاء علي التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا.

و أمّا ثانيا:فلانكشاف الواقع عنده،فيزول الظنّ بالحكم الواقعي.

و دعوي أنّه يحتمل في حقّه بعد الموت أن يقطع بالحكم المماثل لظنّه،و ليس ذلك تبدّلا في الموضوع،بل هو من قبيل شدّة السواد و ضعفه،فيستصحب بقاء رأيه.مدفوعة بأنّ الاستصحاب لا يجري لتبدّل الموضوع عرفا.

قلت:يرد علي الأوّل:أنّ الادراكات باقية في خزانة النفس في الهرم و المرض، كما في نهاية الدراية (1).

و يرد علي الثاني:أنّ دعوي انكشاف الخلاف بمجرّد الموت بلا دليل.

و الصحيح في الجواب أن يقال:إنّ رأي المجتهد طريق إلي الحكم بمعني أنّه انّما يتبع قوله لا لخصوصية شخصه من حيث انّه ابن فلان،و أنّه يسكن بلدة كذا، و أنّ جسمه و لونه كذا،بل لكون فقاهته أقرب الطرق للوصول إلي قول الامام عليه السّلام، حيث انّ تمييز قولهم عليهم السّلام من أجل ما وقع من الاختلاف في الأخبار و سائر جهات موجبات خفاء الأحكام صار صعبا.و أقرب الطرق ما يعمله الفقيه البارع الذكي الفطن كزرارة و أضرابه،و هذا لا مدخلية لحياته فيه،كما هو واضح.

و من ذلك يظهر أنّه لا دليل علي عدم جواز الرجوع إلي فتوي الأعلم إذاي.

ص: 538


1- نهاية الدراية 3:219 الطبع الحجري.

عرض له النسيان أو الضعف في حال نزع أو فقد سائر الشرائط.

الدليل الخامس:أنّه بناء علي وجوب تقليد الأعلم في مورد اختلاف الفتاوي إن جاز تقليد الميت ابتداء لزم حصر المجتهد المقلّد في شخص واحد؛لأنّ أعلم علمائنا من الأموات و الأحياء شخص واحد،و هو ممّا لا يمكن الالتزام به؛لأنّه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة،و يؤدّي إلي أن يكون الأئمّة ثلاثة عشر.

و جوابه أوّلا:أنّ الأنظار تختلف،فبعض يري الأعلم غير من يراه الآخر،فلا ينحصر في شخص واحد.

و ثانيا:أنّه ربما يصير المتأخّر أعلم من سابقه،فيتغيّر الأعلم،كما هو ظاهر.

و ثالثا:أنّه تتجدّد مسائل يحتاج فيها إلي المجتهد الحيّ لعدم تعرّض الميت لها.

و رابعا:أنّ الميت الأعلم ربما يفتي بحرمة تقليد الميت،أو جواز تقليد غير الأعلم.

و خامسا:أنّ تولّي الامور الراجعة إلي الحاكم الشرعي منحصر في المجتهد الحيّ.

الدليل السادس:أنّ ما دلّ علي حجّية فتوي المجتهد ظاهر في اعتبار الحياة في المفتي؛لأنّ الدليل علي التقليد:إمّا لبّي كالاجماع و بناء العقلاء و السيرة و المتيقّن منها تقليد الحيّ،و إمّا لفظي من الكتاب كآية الذكر و آية النفر،و سؤال أهل الذكر حقيقة في الاستعلام من الحيّ،و الانذار لا يكون إلاّ من الحيّ،أو من الأخبار،كقوله«انظروا»في خبر أبي خديجة،و قوله«ينظران»في حديث عمر بن حنظلة،و هما ظاهران في الحيّ؛لأنّ النظر إلي الرجل معناه الحقيقي لا يتحقّق إلاّ بالنسبة إلي الحيّ.

و كذا قوله«من الفقهاء صائنا لنفسه»ظاهر في الحيّ،و كذا قوله«ارجعوا إلي رواة حديثنا»فإنّه لو كان أعمّ لقال:ارجعوا إلي رواية رواتنا.

ص: 539

و الجواب أوّلا:أنّ الأدلّة المذكورة علي ما تقدّم كلّها تدلّ علي حجّية فقه الفقيه لا بما هو قائم به،أي:بوصف القيام بهذه القوي المحسوسة ليقال:إنّه لا يصدق علي ميّته أنّه فقيه؛بدعوي أنّ جسد الميت جماد،بل نمنع عدم الصدق.

و كيف لا يصدق علي زرارة بعد موته أنّه أهل الذكر أو الفقيه أو رواة الأحاديث،بل كلّها تصدق عليه،و هل يشكّ أحد في جواز الرجوع إلي كتاب الفتوي لزرارة في زمان حياته؟مع أنّه ليس ذلك رجوعا إلي الفقيه و راوي الحديث،بل رجوع إلي كتابه،فإذا صدق ذلك فلا فرق بين حياته و موته.

الدليل السابع:أنّ المهمّ في محلّ الكلام هو فيما إذا اختلفت فتوي الحيّ مع فتوي الميت،و أدلّة التقليد من الآيات و الروايات لا يشملهما،لتكاذبهما المانع من شمول الدليل لهما،و لا ترجيح للشمول لأحدهما المعيّن،فلا بدّ في إثبات الحجّة من رأي الميت أو الحيّ من الرجوع إلي الاجماع أو بناء العقلاء أو السيرة،و هي مشكوكة بالنسبة إلي تقليد الميت،و عند دوران الأمر بين تعيّن الحيّ أو التخيير بينه و بين الميت يتعيّن الحيّ،للشكّ في حجّية رأي الميت.

و جوابه:أنّ أدلّة التقليد إن كانت تدلّ علي الوجه الثاني،و هو كون رأي الفقيه حجّة بما هو رأيه،فيمكن شمولها لهما؛لأنّه علي هذا لا نظر إلي الواقع.و إن كانت تدلّ علي الوجه الأوّل،و هو كون رأيه طريقا أو أقرب الطرق إلي الواقع،كما هو الأقرب،فتتعارض الأدلّة و لا مرجّح للحياة أصلا.

فينبغي مع تساويهما في العلم:إمّا الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين،بناء علي كونه مكلّفا بالواقع،أو الرجوع إلي البراءة،لتساقطهما و عدم طريق آخر للمقلّد و عدم تمكّنه من الفحص ليجب عليه الفحص،فيكون الحكم الواقعي غير واصل إلي المقلّد.و أمّا مع أعلمية أحدهما،فيحتمل تعيّن تقليده،فيجب،سواء كان حيّا أم ميتا.

ص: 540

و استدلّ المجوّزون بامور:

أحدها:استصحاب جواز تقليده في حال حياته.

و أورد عليه في الكفاية بأنّه لا مجال له؛لعدم بقاء موضوعه عرفا؛لعدم بقاء الرأي معه،فإنّه متقوّم بالحياة بنظر العرف،و إن لم يكن كذلك واقعا،حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميت و رأيه (1).

هذا بالنسبة إلي التقليد الابتدائي.و أمّا الاستمراري،فربما يقال بأنّه قضية استصحاب الأحكام التي قلّده فيها.

و أورد عليه في الكفاية بما حاصله:أنّ استصحاب الحكم الذي قلّده فيه و هو وجوب السورة في الصلاة مثلا،لا يجري؛لأنّه لم يكن حكم حتّي يستصحب؛لأنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل الفطري،فهو لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصاب و العذر فيما أخطأ،و كذا إن كان بالنقل؛لأنّ الحجّية لا تقتضي إنشاء الحكم،بل لو سلّم إنشاء الحكم فيحتمل أن يكون موضوعه الرأي،و هو منتف بعد الموت،و مع الشكّ في الموضوع لا مجري للاستصحاب (2).

أقول:قد حقّقنا في محلّه أنّ مورد الاستصحاب هو اليقين الذي يبقي لو لا عروض الشكّ،و فيما نحن فيه ليس كذلك،فإنّه علي يقين و شكّ،لا علي يقين ينقضه الشكّ.

ثانيها:إطلاق الآيات و الأخبار،فإنّه شامل للحيّ و الميت.

و نوقش فيه بأنّها في مقام أصل تشريع تقليد الفقهاء.و لو سلّم كونها في مقام البيان من جميع الجهات،فلا يصدق الفقيه و أهل الذكر و العارف بأحكامهم علي الموتي،و لو سلّم صدقها في أنفسها عليهم،فهي منصرفة إلي الأحياء.6.

ص: 541


1- كفاية الاصول ص 545.
2- كفاية الاصول ص 546.

أقول:لا يشكّ العرف في دلالتها علي الأعمّ؛لأنّ المقصود من السؤال من الفقيه هو الانتفاع بعلمه من غير فرق بين الموتي و الأحياء،و لا يختصّ السؤال بمراجعة شخصه،بل المراجعة إلي كتابه تكون سؤالا منه.و لا شكّ في صدق الفقهاء و أهل الذكر و العارف بالأحكام علي الموتي.و الانصاف أنّه لو كان صوت زرارة مسجّلا كان الأخذ به أخذا عنه،مع ما ورد في مدحه حيّا و ميتا.

و أجاب عنه المحقّق الاصفهاني بأنّ قول القائل اعمل علي رأي فلان أو التزم برأيه من دون تقييد و عناية،ظاهر في ثبوت الرأي عند تعلّق العمل (1).

أقول:ليس في الأدلّة اعمل علي رأي فلان،بل هي تدلّ علي حجّية الرأي لكونه أقرب الطرق للوصول إلي التكاليف،بل لو سلّم وجود العبارة المذكورة،فقد تقدّم أنّه بمناسبة الحكم و الموضوع لا يشكّ في الدلالة علي الأعمّ من الحيّ و الميت.

ثالثها:السيرة العقلائية،فإنّه لو راجع مريض إلي طبيب و عالجه،ثمّ مات الطبيب،و اتّفق أن مرض آخر بنفس مرض الأوّل و علم بنحو علاج الطبيب له و كان الطبيب أعلم من الطبيب الحيّ،فهل يأخذ بقول الميت،أو يراج الحيّ غير الأعلم؟لا ينبغي الريب في أنّه يأخذ بقول الميت.هذا ما تقتضيه الصناعة العلمية، لكن لا يترك الاحتياط بالعمل بفتوي أعلم العلماء حيّا و ميتا مع موافقة فتوي حيّ.

ثمّ إنّه قد يفصّل في تقليد الميت بين التقليد ابتداء و بين البقاء عليه،بالمنع عن الأوّل و الجواز في الثاني.أمّا المنع عن الأوّل،فلما سبق.

و أمّا الجواز في الثاني،فلأنّ مقتضي إطلاق آية النفر وجوب العمل علي طبق إنذار المنذر إذا أنذر و هو حيّ،سواء بقي حال العمل أم لم يبق،و كذا سؤال من7.

ص: 542


1- الاجتهاد و التقليد ص 17.

هو من أهل الذكر في حال حياته،سواء عمل به حال حياته أو بعد موته،و كذا الأخبار الآمرة بالأخذ من الفقيه حال حياته شاملة لما إذا عمل به في حال حياته أو بعدها،و كذا السيرة العقلائية،فإنّ المريض لو رجع إلي الطبيب و أخذ منه العلاج،ثمّ مات الطبيب قبل أن يعمل المريض بقوله،لم يترك العمل علي طبق علاجه (1).

أقول:هذه الأدلّة تقتضي الرجوع إلي الفقيه مطلقا كما تقدّم.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:في كون البقاء علي تقليد الميت يتحقّق بتعلّم فتاويه و عدم نسيانها،أو بالالتزام بها،أو بالعمل بها و لو بعضها،أو بالعمل في كلّ مسألة،وجوه.

قد يقال بأنّه يكفي التعلّم؛لأنّ الاطلاقات و السيرة تشمله ما لم ينس،فإذا نسي كان جاهلا،فإن رجع إليه كان من التقليد الابتدائي (2).

قلت:فيه نظر واضح،فإنّ النسيان لا يوجب أن يكون التقليد ابتدائيا.

الثاني:قد يقال بوجوب البقاء إن كان الميت أعلم من الحيّ لوجوب تقليد الأعلم.و فيه أنّه يمكن أن يكون الميت أعلم من الحيّ،و لكن كانت فتوي الحيّ موافقة للأعلم من الميت ممّن لم يقلّده.و علي المختار يجب تقليد الأعلم من الجميع.

الثالث:قيل:إذا عدل عن الميت إلي الحيّ لم يجز له العدول إلي الميت.

أقول:علي ما سبق من وجوب تقليد أعلم العلماء من غير فرق بين الحيّ و الميت لا محلّ لهذه المسألة؛لأنّ الميت إن كان أعلم من الجميع وجب تقليده ابتداء و بقاء و يكون العدول عنه باطلا.و إن كان الحيّ أعلم كذلك وجب تقليده2.

ص: 543


1- التنقيح 1:110.
2- التنقيح 1:112.

ابتداء و بقاء.

الرابع:من قلّد ثلاثة،بأن قلّد مجتهدا فمات،ثمّ قلّد مجتهدا فمات،ثمّ قلّد مجتهدا ثالثا،ففيه تسع صور؛لأنّ فتوي الثاني:إمّا وجوب البقاء،أو حرمته،أو جوازه،و كذا الثالث،و مضروب الثلاث في الثلاث تسع صور،فإذا أفتي الثالث بحرمة البقاء أي عدم حجّية قول الميت لم يجز البقاء،و هذه ثلاث صور حكمها واضح،يبقي ستّ صور.

الاولي:أن يكون فتوي الثاني و الثالث وجوب البقاء،فإن اتّفقا في معني التقليد،وجب البقاء فعلا علي فتوي الأوّل و علي فتوي الثاني،و لم يجز العمل بسائر فتاوي الثالث.و إن اختلفا في معني التقليد،بأن كانت فتوي الثاني في معني التقليد العمل بقول الغير،و فتوي الثالث الالتزام بالعمل بقول الغير،و إن لم يتعلّم فتواه و لم يعمل بها و كانت فتوي الثاني وجوب البقاء،فبقي في المسائل التي عمل بها و رجع فيما لم يعمل إلي الثاني،و كانت فتوي الثالث وجوب البقاء،و قد التزم بجميع فتاوي الأوّل،و كذا بجميع فتاوي الثاني،فهل يبقي علي فتاوي الأوّل أو الثاني؟و جهان،و المختار عندنا البقاء علي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم،هذا إذا كان المستند لوجوب البقاء كون الميت أعلم.

الثانية:أن يكون فتوي الثاني جواز البقاء،و فتوي الثالث وجوب البقاء،و علي ما بيّناه يجب البقاء علي فتاوي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم.نعم إن كان الثاني أعلم وجب البقاء علي تقليده،و حيث إنّ فتواه جواز البقاء علي فتوي غير الأعلم،فيجوز البقاء علي الأوّل بفتواه،فهو نظير أن يفتي الأعلم بجواز الأخذ من غير الأعلم، كما يجوز الرجوع منه إلي الثالث؛لأنّ الثالث أفتي بوجوب البقاء علي الثاني،كما

ص: 544

إذا أفتي غير الأعلم بوجوب الرجوع إلي الأعلم،و الثاني أفتي بجواز الرجوع إلي الثالث،كما إذا أفتي الأعلم بالرجوع إلي غير الأعلم.هذا كلّه مع اتّفاق فتوي الثاني و الثالث في مفهوم التقليد،و لو اختلفا بأن كانت فتوي أحدهما العمل و فتوي الآخر الالتزام فربما يختلف.

الثالثة:أن تكون فتوي الثاني حرمة البقاء،و فتوي الثالث وجوب البقاء،فإنّها تكون علي وجهين:

الأوّل:أن يكون قد قلّد الثاني في خصوص وجوب الرجوع و لم يكن له مسألة تحتاج إلي التقليد؛لأنّه كان عالما بالضروريات،و هذا يصحّ علي مبني الالتزام بفتوي الثاني،ثمّ مات و قلّد ثالثا كان يقول بوجوب البقاء،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في رسالة:إنّ فتوي الثالث لا تشمل فتوي الثاني بوجوب الرجوع، قال:لو قلّد المجتهد الحيّ في مسألة وجوب الرجوع،فمات فرجع إلي من يفتيه بوجوب البقاء لم تشمل فتواه تلك المسألة للزوم التناقض (1)انتهي.

أقول:لا تناقض،فهو نظير أن يفتي غير الأعلم بوجوب تقليد الأعلم،و أفتي الأعلم بوجوب تقليد غير الأعلم لمصلحة يراها مثلا.

الثاني:الفرض المتقدّم لكن قلّد الثاني في المسائل الفرعية،فمات و أفتي الثالث بوجوب البقاء،فلا يشمل فتوي الثالث بوجوب البقاء فتوي الثاني بوجوب الرجوع إلي الحيّ للتناقض،و لا مانع من شموله للمسائل الفرعية التي قلّد فيها الثاني،فهل يجب البقاء علي المسائل التي قلّد فيها الأوّل،أو علي المسائل التي قلّد فيها الثاني؟و جهان.

قوّي الشيخ الأنصاري الثاني،حيث قال:أقواهما الثاني؛لأنّ تقليد الثاني6.

ص: 545


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 66.

و رجوعه عن الأوّل بالنسبة إلي المسائل التي رجع فيها في حال حياة الثاني وقع صحيحا،و إن لم يجز له البقاء علي مسألة الرجوع بالنسبة إلي ما بعد موته،فلا ينافي ما ذكرناه من عدم شمول حكم الحيّ بالبقاء لمسألة وجوب الرجوع التي قلّد فيها من مات،و ربما قيل بالأوّل،و لعلّه لأنّ التقليد الثاني في المسائل المعدول عنها إنّما هو تقليد في وجوب الرجوع،فإذا كان الافتاء بالبقاء لا يشمل فلا يشمل ما يترتّب عليه،و المسألة محلّ إشكال (1).

أقول:إن كان القول بوجوب البقاء مشروطا بكون الميت أعلم،فيبقي علي فتوي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم منهما.

الرابعة و الخامسة:أن يفتي الثاني بوجوب البقاء أو بحرمته و الثالث بجوازه، فيجوز البقاء علي تقليد الأوّل،كما يجوز البقاء علي تقليد الثاني.

السادسة:أن يفتي الثاني بجوازه و الثالث أيضا بجوازه،فإن لم يختلف الثاني و الثالث في مفهوم التقليد،فلا معني لجواز البقاء بفتوي الثالث علي جواز البقاء علي فتوي الثاني.نعم يجوز إن اختلفا بأن كانت فتوي الثاني في مفهوم التقليد هو الالتزام بالعمل بفتوي المجتهد،و كانت فتوي الثالث أنّه نفس العمل،و المكلّف قد التزم بالعمل بفتاوي الأوّل،و التزم بالعمل بفتاوي الثاني،و عمل بفتواه بالبقاء علي فتوي الميت،و هو التزامه بالعمل بفتاوي الأوّل،و حينئذ بعد موت الثالث لا يجوز له العمل علي ما لم يعمل به من فتاوي الأوّل،لكن له أن يبقي علي فتوي الثاني الذي عمل به و هو الالتزام بالعمل بفتوي المجتهد،و حينئذ يجوز له البقاء في المسائل التي لم يعمل بها من فتاوي الأوّل.6.

ص: 546


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 66.
الفصل الخامس: فيما لا يقلّد فيه
اشارة

و هو امور:

الأمر الأوّل:الضروريات و اليقينيات

،فإنّه لا معني للتقليد في الضروريات.و أمّا اليقينيات فالمكلّف إذا حصل له اليقين و لم يكن مقصّرا في مقدّمات حصوله لم يجب عليه التقليد،احترازا عن بعض الشباب المعاشرين و أصحاب الشبهات الذين لا يظهرون انحرافهم،فيلقون إليهم بعض المطالب بحيث ربما حصل لهم اليقين بأنّ الوظيفة الشرعية كذا و كذا.

و بهذا التفصيل يندفع ما اورد علي عدم الحاجة إلي التقليد في اليقينيات بأنّ القطع إن كان يكفي للشيعي لأنّه لا يحتمل الخلاف،فلازمه كفايته للسنّي و الكتابي و غيرهما.

الأمر الثاني:لا تقليد في غير الفرعيات

،قال في العروة الوثقي في مسألة(46):إن أفتي الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم،يشكل جواز الاعتماد عليه،فالقدر المتيقّن للعامي تقليد الأعلم في الفرعيات انتهي.

و قال في الكفاية:يجوز رجوع العاجز عن الاجتهاد إلي غير الأفضل إذا جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه (1).

أقول:إذا كانت فتوي الأعلم نجاسة أهل الكتاب مثلا،و كانت فتوي غيره طهارتهم،وجب تقليد الأعلم؛لأنّه أقرب إلي الواقع،فإن أفتي الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم،فيرجع فتواه إلي أنّه لو كانت حجّتان عند المقلّد متخالفتان،فهو مخيّر بينهما علي حسب استنباط الأعلم،فيكون أخذه بقول غير الأعلم من باب تقليد

ص: 547


1- كفاية الاصول ص 542.

الأعلم،و قد مرّ ما له نفع في المقام.

فلا ينبغي الاشكال في جواز تقليد غير الأعلم إن أفتي الأعلم به،و المراد بالأعلم علي المختار أعلم العلماء أحياء و أمواتا.

و من ذلك ظهر قوّة ما اختاره في الكفاية.

و لكن قال في نهاية الدراية:إنّ تجويز الأفضل تقليد المفضول لا يخلو عن محذور؛إذ ليس كلّ ما يقتضيه الأدلّة و يستنبطه المجتهد تقليديا،ألا تري أنّ مقتضي الأدلّة جواز التقليد،مع أنّه ليس بتقليدي للزوم الدور و التسلسل،فليس كلّ ما يستفيده المجتهد قابلا للفتوي علي طبقه،كما تبيّن أنّ عموم جواز التقليد لا ينافي عدم جواز التقليد في مسألة جواز التقليد الخ (1).

و ذكره في كتاب الاجتهاد و التقليد (2)،ثمّ أجاب عنه،فراجع.

و لا يخلو عن نظر؛لما مرّ من أنّ فطرة الجاهل تحمله علي الرجوع إلي العالم، فإن لم يعرف إلاّ العالم الاصولي رجع إليه و سأله عن جواز التقليد و لا دور؛لأنّ جواز التقليد موقوف علي التقليد،و هو غير موقوف علي جواز التقليد بل يتحقّق بفطرته.و إن لم يعرف إلاّ الأخباري،رجع إليه و سأله عن جواز التقليد و أجابه بعدم الجواز.و إن عرفهما جميعا رجع إليهما و أخذ بما اتّفقا عليه،و إن استقلّ عقله بالرجوع إلي أعلم العلماء حيث إنّه أقرب إلي الواقع رجع إليه بفطرته.

فظهر أنّ أصل جواز التقليد،و كذا تقليد الأعلم،و سائر صفات المقلّد تقليدية، و الفطري الذي ليس بتقليدي هو أصل رجوع الجاهل إلي العالم،لا جواز التقليد في الامور الشرعية،و قد مرّ ما له نفع.

الأمر الثالث:اصول الدين

؛لأنّ المطلوب فيها العلم بها،فلا يكفي التقليد إن لم

ص: 548


1- نهاية الدراية 3:211.
2- الاجتهاد و التقليد ص 48.

يحصل العلم،و أمّا إن حصل العلم بحيث لا يزول بتشكيك المشكّك،فالظاهر كفايته،و لا يلزم أن يكون حاصلا من الاستدلال لعدم الدليل عليه.

الأمر الرابع:اصول الفقه.

و فيه انّ مقتضي الأدلّة عدم الفرق بينها و بين فروع الدين؛ لشمول أدلّة التقليد فيما إذا كان المقلّد عارفا بتطبيق المسألة الاصولية،كأن يقلّد أعلم العلماء في صحّة الترتّب ثمّ يطبّقه علي موارده.

الأمر الخامس:مباديء الاستنباط،من النحو و الصرف و نحوهما

،فإنّ أدلّة التقليد لا تشملها،فلا بدّ من العلم و إن انسدّ بابه،فلا بدّ من الاطمئنان و هكذا.نعم بناء علي حجّية قول أهل الخبرة يكون قولهم حجّة فيها،فيجوز للمستنبط أن يقلّدهم فيها، لكن قد ذكرنا في محلّه في حجّية قول اللغوي الاشكال في ذلك.

الأمر السادس:الموضوعات الصرفة،ككون المايع ماء مثلا،و الموضوعات

المستنبطة العرفية أو اللغوية.

و ينبغي أن يقال بعدم الجواز إن كان عالما بها؛لأنّه من رجوع العالم إلي العالم،و لا سيّما إذا كان أعلم لا طّلاعه علي المعني العرفي و اللغوي أكثر،بل يشكل جواز تقليده إن كان متمكّنا من فهم المعني.

و أمّا إذا لم يكن عالما بها و احتاج إليها للعمل،فإنّه يجوز التقليد فيها،و الدليل علي الجواز ما تقدّم من أنّ أهل اللغات غير العربية الذين لا يعرفون اللغة العربية يجوز لهم التقليد في الأحكام المستنبطة من المدارك العربية،و المستنبط يترجم لهم ما يفهمه،فتكون ترجمته حجّة عليهم.

الفصل السادس: في أحكام التقليد

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:إذا مضت مدّة من بلوغ المقلّد،و علم أنّ أعماله كانت عن تقليد لكن لا يعلم أنّها كانت عن تقليد صحيح أم لا،فإن كان المجتهد الذي كان يقلّده

ص: 549

سابقا و يقلّده فعلا واحدا،و شكّ في استجماعه للشرائط شكّا ساريا،فلا بدّ له من النظر في أمره للأعمال الآتية،فإن ظهرت جامعيته،فأعماله السابقة صحيحة أيضا.

و إن ظهر عدمها،فأعماله السابقة باطلة إلاّ فيما كان منه معذورا.

و إن لم يظهر له شيء،فينبغي مراعاة الاحتياط في أعماله الآتية،أو الرجوع إلي من يعلم استجماعه للشرائط،و أمّا أعماله السابقة فهل يحكم بصحّتها مطلقا، أو يفصّل بين أن يحتمل كونه متذكّرا للتحقيق عن مقلّد جامع للشرائط و عدمه؟ أحوطهما اعتبار كونه متذكّرا لذلك.

و أمّا من يعلم أنّه لم يكن بصدد التقليد الصحيح و يشكّ في واجدية مرجعه للشرائط،فإجراء قاعدة الفراغ في مثله مشكل جدّا.

المسألة الثانية:قال في العروة الوثقي في مسألة(51):المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقات أو في أموال القصّر ينعزل بموت المجتهد، بخلاف المنصوب من قبله،كما إذا نصبه متولّيا للوقف أو قيّما علي القصّر،فإنّه لا تبطل توليته و قيمومته علي الأظهر.

أقول:الأمر المأذون فيه ربما يكون له استمرار،فلا يبطل بموت الآذن،كمن أذن في دفن الميت في ملكه،فإنّه لو مات الآذن لم يبطل الاذن.

فإن قلنا إنّ للفقيه ولاية أن يأذن في التصرّف دائما،فلا ينعزل المأذون بموته، و كذا إن أذن من قبل صاحب الزمان-عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف-دائما لم يبطل إن قلنا بأنّ له أن يأذن من قبله.

و أمّا إن أذن من قبل نفسه من حيث الولاية الفعلية له،فيبطل بالموت.ثمّ إنّه بناء علي انكار الولاية له ينبغي أن يبحث عن أنّ له حقّ الاذن أم لا.

و أمّا الوكيل فإنّه ينعزل بموت الموكّل،إلاّ أن يكون للفقيه ولاية التوكيل من قبل صاحب الأمر عليه السّلام،فلا تبطل بموته.

ص: 550

المسألة الثالثة:إذا قلّد مجتهدا جامعا للشرائط،ففقد الشرائط المعتبرة فيه لموت أو لغيره،فقلّد مجتهدا آخر،و كانت أعماله السابقة مخالفة لفتوي الثاني،ففي صحّة جميع أعماله،أو صحّة خصوص ما يشمله المستثني منه في حديث لا تعاد، و ما لا يضرّ فعله جهلا كبعض أعمال الحج،أو عدم صحّتها مطلقا،أو التفصيل بين ما بقي كذبيحة ذبحها بغير حديدة علي فتوي السابق و هي باقية في حين رجوعه إلي الثاني الذي فتواه حرمتها،أو كون الميزان في صحّة أعماله فتوي الأعلم، وجوه.

أقول:يجب عقلا تحصيل العلم بالأحكام الصادرة عن الشارع المقدّس،كما يجب امتثال تلك الأحكام.و إن لم يتمكّن من تحصيل العلم بها،فيجب تحصيل ما هو الأقرب إلي الوصول إلي الواقع.و إن لم يتمكّن منه،فيجب تحصيل فتوي أعلم العلماء من الأحياء و الأموات.و إن لم يتمكّن،فيعمل بالأقرب فالأقرب.

و علي هذا فلا محلّ لهذه المسألة إلاّ إذا صار أحد العلماء أعلم من الجميع، و إحرازه مشكل في المسائل المعنونة دون المسائل المستحدثة.و لو فرض صيرورته أعلم،فإن لم يكن المورد للتقليد الأوّل باقيا كالعبادات التي فعلها،فلا يبعد الاجزاء لعدم التكليف بالواقع؛لأنّه غير واصل،و كذا لا تكليف بما يفتي به من يصير أعلم بعد ذلك.

و أمّا إذا كان باقيا،كمتعلّق العقد و الايقاع و الغسالة و الذبيحة،فيكون معذورا فيما وقع منه،لكن يجب عليه العمل بقاء بفتوي هذا المجتهد الذي صار أعلم؛لأنّ مقتضي حجّية فتوي الأعلم أنّه لم يكن ما فعله موافقا للواقع و كان معذورا في مخالفته،فلا بدّ أن يعمل فيها بفتوي الأعلم،و دعوي القطع بالاجزاء للاجماع القطعي علي ذلك أو لغيره تحتاج إلي الاثبات،و تفصيله في بحث الاجزاء.

و لازم ذلك تجديد العقد علي المرأة التي عقد عليها بعقد غير صحيح عند

ص: 551

الثاني،و أن ينفصل عن المرأة فيما إذا كانت رضيعة له بعشر رضعات،و كانت فتوي المتقدّم عدم نشر الحرمة بها فتزوّجها،و لكن فتوي الثاني كفايتها في الحرمة.و الانصاف أنّ الحكم في هذه المسائل مشكل،و إقامة الدليل غير الاجماع الذي لم يثبت حجّيته مشكلة.

المسألة الرابعة:قال في العروة الوثقي في مسألة(54):الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد أو ايقاع أو إعطاء خمس أو زكاة أو كفّارة أو نحو ذلك،يجب أن يعمل بمقتضي تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين،و كذلك الوصي في مثل ما لو كان وصيا في استيجار الصلاة عنه يجب أن يكون علي وفق فتوي مجتهد الميت.

أقول:إن كان الوكيل وكيلا في أمر معيّن،كإجراء العقد بكيفية خاصّة،أو إعطاء خمس خاصّ شخصا خاصّا،و كذلك الوصي،فلا إشكال في لزوم الاتيان بما عيّنه الموكّل أو الموصي،إلاّ أن يقطع بعدم الصحّة،فلا تصحّ الوكالة فيه و لا الوصاية في نحو ذلك.

و أمّا إن كان وكيلا في الاتيان بعمل صحيح و كذلك الوصي،فالعمل الصحيح هو المطابق لما قاله المعصومون عليهم السّلام،فإن أمكن إحرازه و إلاّ فيأتي بعمل يكون بحسب الدليل أقرب إلي قول المعصومين عليهم السّلام،و هو العمل الموافق للاحتياط،أو فتوي أعلم العلماء من الأحياء و الأموات أو أكثرهم،فعلي الوكيل أن يعمل بذلك و كذلك الوصي،و إن كان مخالفا لفتوي من يقلّده الموكّل أو الموصي؛لأنّ وظيفته ذلك.

و قد يستدلّ لما ذكره في العروة من وجوب أن يعمل بمقتضي تقليد الموكّل أو الموصي،بأنّ الموكّل لو صرّح بأن يأتي الوكيل بالعمل علي وفق نظر الموكّل، وجب علي الوكيل أن يأتي كذلك،و لمّا كان غرضه من التوكيل ذلك،فيكون ذلك

ص: 552

قرينة علي إرادة ذلك من إطلاق التوكيل.

و فيه أنّه لو صار ذلك قرينة صارفة لاطلاق التوكيل إلي أن يعمل علي رأي مقلّد الموكّل فهو،و أمّا إذا كان غرض الوكيل العمل الصحيح المبريء لذمّته فهو ما ذكرناه،و الأحوط الذي لا يترك في هذه الصورة أن يأتي بالعمل علي نحو يكون صحيحا علي التقليدين.

المسألة الخامسة:قال في العروة الوثقي في مسألة(55):إذا كان البايع مقلّدا لمن يقول بصحّة المعاطاة مثلا أو العقد بالفارسية،و المشتري مقلّدا لمن يقول بالبطلان،لا يصحّ البيع بالنسبة إلي البايع أيضا؛لأنّه متقوّم بطرفين،فاللازم أن يكون صحيحا من الطرفين،و كذا في كلّ عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه و مذهب الآخر صحّته.

أقول:لا يخفي أنّه يعتبر في البيع إنشاء البايع مبادلة ماله بمال المشتري و رضاه،بأن يكون ماله عوضا عن مال المشتري و كذلك المشتري،و حينئذ إن اعتقد المشتري بطلان البيع لم يحصل له الرضا بالمبادلة،فيبطل البيع من هذه الجهة،فلو فرضنا أنّ البايع أنشأ البيع حيث إنّ الانشاء خفيف المؤونة و رضي بأن يعطي المبيع للمشتري إن كان البيع صحيحا واقعا،و كذلك المشتري رضي بالمبادلة و أنشأ القبول حيث إنّه خفيف المؤونة،فلا بأس بالقول بصحّة البيع ظاهرا بحسب الموازين الشرعية بالنسبة إلي البايع،و باطلا بحسبها بالنسبة إلي المشتري، و التلازم الواقعي لا يستلزم التلازم في الظاهر.

المسألة السادسة:قال في العروة الوثقي في مسألة(33):إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء،و يجوز التبعيض في المسائل،و إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك، فالأولي بل الأحوط اختياره.

ص: 553

أقول:قد يقال بجواز التبعيض إذا لم ينته إلي العلم بمخالفتهما.و أمّا إذا كان العمل الواحد مخالفا لهما كما إذا كان فتوي أحدهما وجوب السورة و عدم وجوب جلسة الاستراحة،و كان فتوي الآخر وجوب جلسة الاستراحة و عدم وجوب السورة،فصلّي بدون جلسة الاستراحة و بدون السورة،فصلاته باطلة بفتوي كليهما.

لكن يمكن أن يقال:إنّ المقلّد غير مكلّف إلاّ بما يتضمّنه فتاوي العلماء و لم تتمّ الحجّة عليه بوجوب الأمرين لتعارض الفتويين،و الأصل البراءة فتأمّل،لوجوب الاحتياط عليه إن أمكن له درك الواقع فلا يجوز التبعيض.

و المدار في الترجيح في مقام التقليد أقربية الفتوي إلي الواقع،فإن كانت المزية الموجودة في أحدهما توجب أقربية فتواه إلي الواقع،فلا يبعد وجوب تقديمه، و إن كانت لا توجب الأقربية،فلا وجه للتقديم حتّي بالأولوية.

المسألة السابعة:قال في العروة الوثقي في مسألة(35):إذا قلّد شخصا يتخيّل أنّه زيد فبان عمروا،فإن كانا متساويين في الفضيلة و لم يكن علي وجه التقييد صحّ،و إلاّ فمشكل.

أقول:لا يخفي أنّ الفعل المنسوب إلي شخص-كتقليد شخص معيّن يشار إليه إشارة حسّية و نحوها،سواء كان مقصودا بعنوان خاصّ أو لم يكن،و سواء كان المقصود مطابقا لما قصده أو لم يكن-قد وقع علي موجود خارجي لا إطلاق فيه و لا تقييد.و أمّا ترتيب آثار ما قصده،فهو مختلف في أقسام ثلاثة:

الأوّل:أن يكون الأثر مترتّبا علي الفعل المقصود المطابق للواقع،مثل الطلاق فإذا أراد أن يطلّق زوجته هندا فاشتبهت عليه لتدليس زوجته زينب و زعمها أنّها هند،فوضع يده علي رأسها-أي:رأس زينب-و قال:هذه زوجتي هند طالق،لم يقع الطلاق علي زينب؛لأنّ طلاقها غير مقصود،و لا يقع الطلاق علي هند؛لأنّ

ص: 554

المقصود هو الطلاق المقيّد بوقوعه علي هند،و هذه المرأة التي وضع يده علي رأسها و طلّقها ليست هندا،فلا يترتّب علي الطلاق الواقع علي زينب أثر،لا طلاق هند و لا طلاق زينب،فإنّه و إن وقع الطلاق خارجا علي زينب،لكن الأثر مترتّب علي الطلاق الواقع علي هند بقصد كونها هندا،و هذا غير متحقّق.

الثاني:أن يكون له مقصودان،مثل من أكرم زيدا باعتقاد كونه عالما،و كان يكرمه أيضا لو علم أنّه ليس بعالم لكن أكرمه لاعتقاده كونه عالما،فهو قاصد لاكرام زيد مطلقا،و قاصد لاكرامه من أجل كونه عالما،فتخلّف كونه عالما يوجب انتفاء أحد مقصوديه،و قد يسمّي اعتقاده كونه عالما بالداعي،و يقال:إن تخلّف الداعي لا يضرّ.

و أمّا إذا لم يكن يكرمه لو لم يكن عالما،فكان رضاه بإكرامه و أكله من ماله مقيّدا بكونه عالما لم يجز لزيد أكل ماله،كما بيّناه في محلّ آخر.

الثالث:أن يكون الأثر مترتّبا علي الفعل بما هو فعل و إن كان المقصود غيره، و ذلك كالتقليد فإنّه لا بدّ فيه من اتّباع رأي مجتهد جامع للشرائط،و قصد خصوصيّة زيد أو عمرو لا مدخل له.

و بناء علي عدم الحاجة إلي الالتزام بل حتّي بناء عليه،فقول كلّ منهما حجّة و التقييد لغو،كما إذا اعتقد كون شاهدي البيّنة هاشميين مثلا و قيّدها بذلك،فإنّه لا أثر له في حجّية البيّنة،ففي صورة تساوي المجتهدين يكون تقليده صحيحا،بناء علي أنّه مع تساوي المجتهدين يكون قول كلّ واحد حجّة و يكون المقلّد مخيّرا.

و أمّا بناء علي تساقط قوليهما مع المخالفة،فلا يكون واحد منهما حجّة،و علي كلا التقديرين لا أثر للتقييد.

و أمّا إن كان أحدهما أعلم،و قلنا بوجوب تقليد الأعلم،و نفرض أنّه زيد و قلّده بتقييد كونه زيدا و تبيّن كونه عمروا لم يصحّ تقليده؛لأنّ الموجود الخارجي الذي

ص: 555

أخذ قوله و هو عمرو ليس قوله حجّة،و إن عكس بأن كان عمرو أعلم صحّ تقليده، و إن كان مقصوده أنّه زيد؛لأنّ رأي هذا الموجود الخارجي الذي أخذ قوله و تبعه حجّة عليه.

المسألة الثامنة:قال في العروة الوثقي في مسألة(16):عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل و إن كان مطابقا للواقع.و أمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلا حين العمل و حصل منه قصد القربة،فإن كان مطابقا لفتوي المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحا.

أقول:مراده من عمل الجاهل المقصّر العبادات،بقرينة قوله بعد ذلك «و قصد القربة»و أمّا العمل الذي لا يعتبر فيه قصد القربة،فلا ينبغي الاشكال في صحّته كمعاملاته إن طابق الواقع و حصل منه قصد الانشاء،أو طابق فتوي من يجب موافقته علي ما يأتي.

و أمّا عباداته،فمع عدم حصول قصد القربة،فالبطلان مستند إليه،و لعلّه مراده، حيث قيّد الجاهل بالملتفت؛لأنّ الملتفت لا يحصل منه قصد القربة.و مراده حينئذ من المطابقة للواقع مطابقة صورة العمل.

و التحقيق أن يقال:إنّ الجاهل المقصّر الملتفت إن كان عمله مطابقا للواقع و حصل منه قصد القربة جزما،فينبغي عدم الاشكال في الصحّة.و كذا إن كان مطابقا لفتوي من يجب مطابقة عمله له و حصل منه قصد القربة جزما،و كذا إن قصد القربة رجاء مع المطابقة للواقع،أو للفتوي التي سنبيّن لزوم موافقتها.

و أمّا استحقاقه العقاب علي مخالفة الواقع،فهو موقوف علي تمكّنه من الوصول إليه،و إلاّ فلا يستحقّ العقاب علي تركه،لكون العقاب عليه عقابا بلا بيان واصل؛ لأنّه لو بلغ جهده في الفحص عن الواقع لم يصل إلاّ إلي فتوي المجتهد،فإن كان عمله مطابقا لها،لم يستحقّ العقاب أصلا.و إن كان عمله مخالفا لها كان متجرّيا؛

ص: 556

لأنّ مخالفتها للواقع لا توجب العقوبة؛لعدم تمكّنه من الوصول إليه،و مخالفته لفتوي من يجب تقليده التي هي مخالفة للواقع لا توجب عقابا إلاّ التجرّي.

و بما ذكر يظهر المناقشة فيما في التنقيح و غيره أنّه يستحقّ العقاب علي مخالفة الواقع،و إن طابق عمله لفتوي من يجب تقليده حال العمل أو حال الرجوع؛لأنّ الحجّة بوجودها الواقعي غير كافية في المعذورية الخ (1).

وجه المناقشة ما ذكرناه من استقلال العقل بأنّ العقاب علي الواقع غير الواصل علي فرض الفحص البليغ قبيح جدّا،سواء عمل علي خلافه موافقا لفتوي المجتهد أم لم يعمل.

و أمّا القاصر و هو من كان معذورا في جهله،فلا يستحقّ العقاب علي ترك الواقع لعدم وصوله إليه.

و أمّا المقصّر الغافل،فإن كان يصل إلي الواقع إن فحص عنه،فهو معاقب علي ترك الواقع،و إلاّ فلا يعاقب علي تركه،سواء وافق عمله فتوي من يجب تقليده أم لا.هذا بالنسبة إلي استحقاقهما-أي:القاضر و المقصّر الغافل-العقاب و عدمه.

و أمّا من حيث صحّة عملهما،ففيه تفصيل.أمّا عمل الجاهل القاصر،فإن كان مطابقا للواقع فهو صحيح،و إن كان مخالفا لفتوي من وجب تقليده حال العمل و من يرجع إليه حال الرجوع،و هو فرض نادر،لعدم طريق إلي الواقع.و كذا المقصّر الغافل إن طابق الواقع،بل تقدّم أنّ المقصّر الملتفت كذلك إن حصل منه قصد القربة.

و أمّا لو لم يكن عمل القاصر أو المقصّر الغافل مطابقا للواقع،أو لم يحرز مطابقته للواقع،فإن كان مطابقا لفتوي من وجب عليه تقليده حين العمل و من6.

ص: 557


1- التنقيح 1:196.

يجب عليه الرجوع إليه فعلا،بأن يكون المرجع واحدا أو متعدّدا توافق نظرهما، فإنّ عمله صحيح؛لأنّه ليس مكلّفا بالواقع بل هو مكلّف بما يفتيان؛لعدم تمكّنه من الوصول إلي الواقع و إن فحص عنه جهده،و إنّما يصل إلي الفتاوي إن فحص عنها و المفروض مطابقة عمله لها.

و أمّا لو كانا مختلفين،فهل يحكم بالبطلان مطلقا،أو بالصحّة إن وافق أحدهما، أو بالصحّة إن وافق الأوّل،أو بها إن وافق الثاني،أو التفصيل بين القاصر و المقصّر، فيعتبر في صحّة عمل القاصر موافقة فتوي من يرجع إليه،و في المقصّر موافقة فتوي من وجب عليه موافقته حين العمل،أو أنّ المناط لصحّة العمل موافقة الأعلم من الكلّ،و مع عدمه أو عدم العلم به،فموافقة فتوي الأكثر،و مع التساوي فالتخيير؟وجوه:

وجه الأوّل:أنّه مكلّف بالواقع،إلاّ أن يستند إلي حجّة مخالفة له،فيكون معذورا في تركه،و المفروض أنّه لم يستند إلي الحجّة و لم يحرز مطابقة عمله للواقع،و الفتويان متعارضتان فتسقطان،فلا يقين بالخروج عمّا اشتغلت به الذمّة.

و فيه ما سيأتي بيانه.

و وجه الثاني:أنّ الكيفية التي عمل بها بعد الالتفات إليها مورد لفتوي الأوّل بعدم الصحّة و وجوب القضاء،و مورد لفتوي الثاني بالصحّة،و عدم وجوب القضاء أو بالعكس،و مقتضي إطلاق حجّية رأي طبيعي الفقيه كفاية مطابقة العمل لإحداهما.

و يمكن أن يكون وجهه:أنّ المفروض عدم وصول الواقع؛لأنّه لو فحص لا يصل إلاّ إلي فتاوي المجتهدين،فهو حين العمل ليس مكلّفا بالواقع،و لا بمن يرجع إليه بعد ذلك،بل هو مكلّف بالعمل بفتوي من يجب تقليده حين العمل، فيكفي موافقته.

ص: 558

و أمّا إذا كان عمله مخالفا لمن يجب تقليده حين العمل،فلا يجزيء عمله حينما عمل لعدم إحراز موافقته للواقع،و عدم موافقته لفتوي من يجب تقليده حين العمل،فيجب عليه القضاء،لكن علي حسب فتوي من يرجع إليه فعلا لا يجب القضاء عليه،و مقتضي إطلاق حجّية فتواه صحّة العمل لمن يقلّده فعلا،سواء عمل سابقا موافقا له أو عمل فعلا.

و يمكن المناقشة فيه بأنّه إذا كان من يتعيّن تقليده حين العمل أعلم ممّن يرجع إليه فعلا،فقد تعيّن العمل بقوله حتّي بقاء.نعم إن كان من يرجع إليه فعلا أعلم، يحتمل كفاية عمله المطابق لفتوي من يجب تقليده حين العمل؛لعدم تكليفه حين العمل بما يفتي به من يرجع إليه فعلا.

و وجه الثالث:أنّ تكليفه بالواقع حين العمل قبيح؛لكون العقاب علي مخالفته بلا بيان.و كذا تكليفه بالعمل بما يطابق فتوي من يرجع إليه بعد ذلك لعدم وجود فتواه،بل ربما لم يكن موجودا،فيتعيّن أن يكون تكليفه العمل بما يطابق فتوي من يجب تقليده حال العمل.نعم لو لم يعلم فتوي من يجب تقليده حين العمل،كان فتوي من يرجع إليه فعلا طريقا إلي الواقع،فيكفي موافقتها حينئذ.

و وجه الرابع:أنّ فتوي الأوّل لا تكون حجّة؛لعدم وصولها إلي المكلّف؛لأنّ الحجّية التي هي عبارة عن المنجّزية و المعذّرية متقوّمة بالوصول،فلا تتّصف فتوي المجتهد بالحجّة ما لم تصل إلي المكلّف،بل هو مكلّف بالواقع،و الطريق إليه بعد الالتفات فتوي من يجب الرجوع إليه فعلا،اختاره في العروة.

و اختاره أيضا في التنقيح،قال:إنّه حين الالتفات إلي أعماله السابقة لا يدري حكمها،و من لا يدري حكم المسألة يجب عليه التقليد بمقتضي إطلاق أدلّة التقليد،و هي خاصّة بالمجتهد الذي يرجع إليه فعلا؛لأنّ المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده في ظرف العمل قد سقط فتواه عن الحجّية فعلا بموت أو غيره من

ص: 559

الشرائط المفقودة الخ (1).

و فيه أنّه ليس مكلّفا بالواقع لعدم وصوله إليه،حتّي لو تفحّص عنه،و ليس مكلّفا حين العمل بموافقة فتوي من يرجع إليه فعلا لعدم وجوده،فلا يكون مكلّفا إلاّ بما يمكن أن يصل إليه إن تفحّص،و هو فتوي من يجب تقليده حين العمل.

و وجه الخامس:أنّ القاصر غير مكلّف بالواقع،و لا بفتوي من يجب تقليده حين العمل لقصوره،فلا يعقل تكليفه بهما،و بعد خروجه عن القصور و تعلّمه الأحكام يكلّف،فيجب عليه العمل بفتوي من يرجع إليه فعلا،فإن أفتي بوجوب قضاء الأعمال السابقة وجب القضاء،و إلاّ لم يجب بخلاف المقصّر؛لأنّه كان حين العمل مكلّفا بالواقع،أو بما يكون معذّرا له مع مخالفة الواقع،و ليس المعذّر له إلاّ فتوي من يجب تقليده حين العمل،فالاعتبار بموافقته فتواه.

و فيه أنّ القاصر غير مكلّف بالواقع لعدم وصوله إليه،و لا يكون مكلّفا حين العمل بالرجوع إلي من يوجد بعد و هو من يرجع إليه فعلا،و المفروض أنّ عمله مطابق لفتوي من يجب تقليده حين العمل لو كان ملتفتا،فيكفي في صحّة عمله موافقة عمله لفتوي من يجب تقليده حين العمل.

و وجه السادس:أنّ العامي غير مكلّف بالواقع؛لعدم تمكّنه من الوصول إليه،بل هو مكلّف بما هو الأقرب إليه،و قد تقدّم كيفيته،فإن لم يتمكّن من تحصيل الأقرب،فيكلّف بما يفتي به أعلم العلماء لو كان و تمكّن من الوصول إليه،من غير فرق بين الحيّ و الميت،أو ما يفتي به أكثر العلماء مع تساوي جميعهم في العلم و غيره،أو التخيير مع تساوي الطرفين،كما مرّ ذلك،فينبغي تطبيق ذلك علي هذا المورد.0.

ص: 560


1- التنقيح 1:200.

فنقول:إذا كان فتوي من يجب تقليده حين العمل أقرب إلي الواقع،أو مع عدم تيسّره كان أعلم من الجميع،فالواجب عليه موافقة عمله لفتواه دائما،أي:حال العمل و حال الرجوع و إن مات؛لما تقدّم من كون فتوي الأعلم أقرب إلي الواقع من غير فرق بين الميت و الحيّ.و إن لم يكن أو لم يمكن إحرازه،فالواجب عليه موافقة فتوي الأكثر دائما،أي:حال العمل و حال الرجوع.

و إن تساوي الطرفان،فهو مخيّر لعدم تكليفه بالواقع لعدم وصوله،و تعارض الفتاوي،و الأصل البراءة عن تعيّن العمل ببعضها.

نعم إذا كان عمله موافقا لفتوي من يجب تقليده حين العمل مخالفا لمن يرجع إليه فعلا،و كان من يرجع إليه فعلا أعلم من الكلّ،ففي صحّة عمله إشكال،و لا يبعد الصحّة؛لأنّه لم يكن مكلّفا حين العمل إلاّ بموافقة فتوي من يجب تقليده حين العمل،و لم ينكشف خلافها بالعلم القطعي،و فتوي الثاني و إن تعلّقت بكون الحكم في الشريعة المقدّسة ذلك،لكنّها ليست حجّة بالنسبة إليه؛لعدم وجوده أو عدم إمكان وصوله حال العمل.نعم إن كان الشيء الذي هو مورد العمل بفتوي من وجب تقليده حين صدور العمل باقيا،ففي كفاية فتواه بقاء إشكال،مرّ الكلام فيه.

المقام الثالث: في الاحتياط

يجب العلم بكيفية الاحتياط بالاجتهاد،أو بالتقليد،أو بالعلم و إن لم يكن مستندا إليهما،ثمّ إنّ التقليد في كيفية الاحتياط راجع إلي التقليد غالبا كما هو واضح،و ليس مقابلا للاجتهاد و التقليد،كما أنّ الاحتياط بالاتيان بعمل يوافق فتوي عدّة لا يحتمل حجّية قول غيرهم أيضا راجع إلي التقليد.

و يمكن الاحتياط في بعض موارد دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة،كما إذا حكم الحاكم الشرعي بكون يوم الشكّ يوم عيد،و لم يثبت عند المكلّف حجّية

ص: 561

حكم الحاكم و أراد الاحتياط،فإنّه يمسك بقصد أنّه إن كان اليوم من شهر رمضان يكون إمساكه صوما قربة إلي اللّه تعالي.و إن لم يكن من شهر رمضان فيكون مجرّد الامساك بدون قصد القربة.و كذا لو سافر في شهر رمضان قبل الزوال من دون أن يقصد السفر في الليل،فإنّه يصوم بالقصد المذكور و يقضيه.و كذا له أن يقيم للصلاة بالنيّة المذكورة فيما إذا دار أمر الاقامة بين السقوط عزيمة أو رخصة.

مسألة:في جواز الاحتياط إن كان مستلزما للتكرار.لا يخفي أنّ الاحتياط قد يكون في العبادات،و قد يكون في العقود و الايقاعات،و قد يكون في غير ذلك.

و علي التقادير تارة يكون الاحتياط في الاتيان بمتعلّق الحكم،كالجمع بين صلاة الظهر و الجمعة،و اخري يكون في الموضوع كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين.

و علي التقادير تارة يتمكّن من العلم،و اخري لا يتمكّن،و مع عدم التمكّن من العلم تارة يتمكّن من الاجتهاد أو التقليد،و اخري لا يتمكّن.

و علي التقادير تارة يكون في الاحتياط غرض عقلائي،و اخري لا يكون، و تارة يستلزم العسر و الحرج،و اخري لا يستلزم.

و علي التقادير تارة يستلزم التكرار و اخري لا يستلزمه.

و الظاهر جواز الاحتياط في العبادات و المعاملات و غيرهما،إلاّ في العبادات إذا استلزم التكرار بدون داع عقلائي مع التمكّن من الامتثال علما،أو استلزم العسر و الحرج أو الملعبة بالدين،فيقع الكلام في جهات:

الاولي:الدليل علي جواز الاحتياط هو استقلال العقل بتحقّق امتثال التكليف الواقعي به،و هو الحاكم في وجوب الامتثال و كيفيته.

الثانية:غير العبادات لا يحتاج إلي قصد القربة،فيجوز الاحتياط فيه مطلقا ما لم ينجر إلي الوسواس،أو اختلال النظام،أو تضييع العمر،فالاحتياط من حيث هو لا مانع فيه.و قد يقال بعدم تحقّقه في العقود و الايقاعات؛لأنّها تتوقّف علي

ص: 562

الانشاء،و هو موقوف علي الجزم و الاحتياط ينافيه.

و فصّل في التنقيح بأنّه إذا كرّر صيغة الطلاق مثلا بالجملة الفعلية و الاسمية احتياطا كان الجزم حاصلا؛لأنّه اعتبر في ذهنه بينونة الزوجة عن زوجها و أبرزها بالجملة الفعلية و الاسمية،و الشكّ في أنّ الشارع أمضي أيّهما أمر آخر.و أمّا إذا علّقه علي شيء بأن قال:بعتك هذا الشيء إن كان اليوم جمعة لم يصح؛لأنّه لا يكون جازما بقصد التمليك في نفسه (1).

أقول:لازم كلامه أنّه إن شكّ في أنّ هندا زوجته أو لا،فأراد الاحتياط،فإن قال:هند طالق،صحّ،و أمّا إن قال:هند طالق إن كانت زوجتي،لم يصح؛لعدم الجزم بالطلاق.

و فيه نظر؛لأنّ الانشاء هو ايجاد المعني باللفظ،أو ابرازه في عالم الانشاء، و يمكن تعلّقه بما يعلم أنّه لا يتحقّق،كتطليق زوجة الغير فضولا،و لا فرق فيه بين الموارد.و في صورة التعليق أيضا قد أنشأ معلّقا،و عدم العلم بوجود المعلّق عليه لا يضرّ بتحقّق الانشاء.

و ممّا يوضحه:أنّ قول القائل«بعتك إن كان اليوم جمعة»مثل أكرم زيدا إن جاءك،ليس إخبارا و لا غلطا،فيكون إنشاء،فهو ينشيء جزما علي تقدير كون اليوم جمعة.

الثالثة:قيل:لا يجوز الاحتياط في العبادات مع التمكّن من الاجتهاد أو التقليد؛ لأنّ الاحتياط في العبادة يستلزم الاخلال بنيّة الوجه و التمييز و اللعب في كيفيّة الاطاعة،فإذا لم يكن متمكّنا من العلم و لا من الاجتهاد و لا التقليد فهو معذور، و أمّا مع التمكّن منها فلا تصحّ عبادته.8.

ص: 563


1- التنقيح في شرح العروة الوثقي 1:68.

و يستدلّ لعدم الجواز بوجوه:

الأوّل:الاجماع،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في مبحث القطع:لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتّفاق علي عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف علي تكرار العبادة،بل الظاهر المحكي من الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين عدم جواز التكرار حتّي مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي (1).

أقول:قد استدلّ الحلّي علي أنّه يصلّي عاريا و لا يكرّر الصلاة في الثوبين بأنّ المؤثّرات في وجوه الأفعال يجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها،و الواجب عليه عند افتتاح كلّ فريضة أن يقطع علي ثوبه بالطهارة،إلي آخر ما ذكره و حكاه عن السيّد المرتضي (2).لكن الانصاف أنّه دعوي لا يمكن المساعدة عليها،و لا وجه لطرح الرواية الدالّة علي التكرار.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الخاتمة فيما يعتبر في العمل بالأصل:إنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد و التقليد بالاحتياط لشهرة القول بذلك بين الأصحاب و نقل غير واحد اتّفاق المتكلّمين علي وجوب اتيان الواجب أو المندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما،و نقل السيّد الرضي رحمه اللّه إجماع أصحابنا علي بطلان صلاة من صلّي صلاة لا يعلم أحكامها،و تقرير أخيه الأجل علم الهدي رحمه اللّه له علي ذلك في مسألة الجاهل بالقصر،بل يمكن أن يجعل هذان الاتّفاقان المحكيان من أهل المعقول و المنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة، فضلا عن كونهما منشأ للشكّ الملزم للاحتياط (3).

أقول:ثبوت إجماع كاشف عن قول المعصوم،أو عن رواية معتبرة لم تصل إلينا9.

ص: 564


1- فرائد الاصول ص 15.
2- السرائر 1:185.
3- فرائد الاصول ص 299.

ممنوع؛لعدم تعرّض أكثر كتب القدماء له ظاهرا،و ابن ادريس قد استدلّ عليه بوجه عقلي،و كذلك حكاه عن السيّد المرتضي.

الثاني:أنّه إذا استلزم التكرار كان عبثا و لعبا بأمر المولي،و قد تعرّضنا له في بحث البراءة.

الثالث:أنّ الفعل العبادي لا بدّ أن يؤتي به بداعي الأمر لا بداعي احتمال الأمر، فإذا تردّد كونه واجبا أو مباحا،كالوضوء بعد غسل غير الجنابة،يكون الاتيان به بداعي احتمال الأمر،و كذا فيما إذا استلزم التكرار.

و فيه أنّه لا دليل علي اعتبار ذلك بل عبادية الفعل تتحقّق بإضافته إلي المولي و لو بداعي احتمال الأمر.

و أجاب في المستمسك بأنّه في صورة التكرار يكون فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئا عن داعي الأمر بفعل الواجب،و الاحتمال دخيل في دعوائية الأمر لا أنّه الداعي إليه،و إلاّ كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء علي كون الفعل ناشئا عن داعي العلم بالأمر (1).

و في التنقيح نظيره (2).

و فيه نظر؛لأنّ العلم طريق لا ينظر إليه،ففي صورة العلم يكون الانبعاث عن نفس الأمر،و أمّا فيما إذا كان الامتثال التفصيلي ممكنا،فالأمر المعلوم تفصيلا يدعو إلي متعلّقه.

و أمّا العمل المكرّر الذي يكون أحدهما غير مأمور به،فالأمر لا يدعو إليه، و الموجود في النفس هو الاحتمال و هو يدعو إليه.3.

ص: 565


1- المستمسك 1:8.
2- التنقيح 1:73.

هذا آخر ما أردت ايراده ممّا خطر ببالي القاصر من الخواطر و لا أقول بإصابتها للواقع،و الرجاء ممّن اتّفق وقوع نظره إليها أن لا يعتمد عليها،و ليثبّت في المراجعة إلي الروايات المذكورة و أسانيدها و غيرها،و تمّ كتابته علي يد مؤلّفه القاصر الأقلّ محمّد الرجائي عفي اللّه عنه.

ص: 566

فهرس الكتاب

الاصول العملية 3

الشكّ في أصل التكليف،أصالة البراءة 3

أصالة البراءة ليست دليلا لنفي الحكم واقعا 6

ما لو خالفت أصالة الاباحة للواقع 7

المراد من جواز ارتكاب مشكوك الحرمة شرعا 8

دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب 10

دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب من جهة إجمال النصّ 62

الشبهة التحريمية الموضوعية 63

حكم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية في الدماء و الفروج 76

دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة 80

البحث عن أخبار من بلغ 84

الشكّ في سعة الوجوب التخييري العقلي 96

الشكّ في تعلّق الوجوب التخييري الشرعي بعمل 97

الشكّ في الوجوب الكفائي 98

فيما لو اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين 99

دوران حكم الفعل بين الوجوب و الحرمة 101

ص: 567

الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف،دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب، الشبهة التحريمية الموضوعية 105

إمكان جعل الحكم ظاهرا في الطرفين علي خلاف الواقع 107

إمكان جعل الحكم الظاهري في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن علي خلاف الحكم الواقعي 108

وجود الدليل علي الترخيص في الطرفين 108

وجود الدليل علي جواز ارتكاب بعض الأطراف 109

عدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي 121

عدم الفرق في وجوب الاجتناب عقلا و شرعا في الشبهة المحصورة 124

متعلّق العلم الاجمالي 127

حكم ملاقاة أحد الطرفين 130

الاضطرار إلي أحد الطرفين 135

الشبهة غير المحصورة 138

صور العلم الاجمالي 139

دوران الأمر بين الواجب و غير الحرام،دورانه بين المتباينين 142

دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين 143

التردّد بين الأقلّ و الأكثر في الجزء المشكوك لاجمال النصّ 151

الشكّ في شرط المأمور به 154

اشتباه الواجب بالحرام 163

موارد جريان الاحتياط و التخيير و البراءة 163

رجحان الاحتياط 164

أصالة التخيير 167

ص: 568

أصالة البراءة 167

حكم الجاهل من حيث استحقاق العقاب و صحّة العمل و بطلانه 169

مباحث الاستصحاب 172

تعريف الاستصحاب 172

الأقوال في الاستصحاب و أدلّتها 174

ما استدلّ علي حجّية الاستصحاب مطلقا و المناقشة في أدلّتها 219

تبيين ما يستفاد من قولهم لا ينقض اليقين بالشكّ 228

حلّ معضلة جريان الاستصحاب في موارد قيام الأمارة 235

أقسام الاستصحاب الكلّي 237

الاستصحاب في الزمانيات 249

عدم جريان الاستصحاب في المعلّق و المشروط 256

عدم حجّية الأصل المثبت 261

استصحاب العدم 266

الاستصحاب في الاعتقاديات 273

الشكّ في مقدار زمان المخصّص و المقيّد 274

اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة 276

عدم جريان الاستصحاب في الشكّ الساري 279

جريان الاستصحاب في الأمارات 281

تعارض الاستصحابين علي مورد أو موردين 283

الخاتمة،اختلاف الأدلّة 287

مسألة اجتماع الأمر و النهي ليست من باب التعارض 293

مرجّحات باب التزاحم 295

ص: 569

التنزيل و الورود و الحكومة 298

عدم وقوع التعارض بين الأمارات و الاصول العملية 301

تقديم الأمارات علي الاصول العملية 302

تعارض الأمارات و الاصول الجارية في الألفاظ 305

تعارض الخبرين المتعادلين 310

أقسام الخبرين المتعارضين 317

تعارض غير الخبرين 322

الأخبار العلاجية 323

ما تدلّ علي أنّ في كلامهم خاصّا و عامّا و متشابها 323

ما تدلّ علي التخيير بين الخبرين 324

الأخبار الدالّة علي التوقّف و الاحتياط 339

ما يدلّ علي مراعاة الترجيحات 343

موافقة الكتاب 347

ما يدلّ علي حجّية خبر له شاهد من القرآن 349

ما يدلّ علي أنّ الخبر الموافق للكتاب يؤخذ به 352

موافقة الشهرة 356

مخالفة العامّة و أخبارهم 360

أسباب التقية 365

الأحدثية 373

الأيسرية 378

التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي غيرها،الدليل علي التعدّي 380

تعداد بعض المرجّحات التي يتعدّي إليها 383

ص: 570

الترتيب بين المرجّحات عند تعارض بعضها مع بعض 385

التعارض بين مرجّحات الدلالة 389

الامور التي توجب أظهرية دلالة أحد الخبرين 389

كيفية الجمع بين العام و الخاص إن كانا في أكثر من خبرين 393

التعارض بين مرجّحات غير الدلالة 398

الاجتهاد و التقليد 412

وجوب تعلّم الأحكام الشرعية 413

تعريف الاجتهاد 418

شرائط الاجتهاد 424

الأدلّة علي حجّية الاجتهاد 430

أمر الأئمّة عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد 431

اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام 434

أحكام الاجتهاد،وجوب الاجتهاد و عدمه 449

جواز تقليد من له ملكة الاجتهاد لغيره 450

حجّية رأي المجتهد لنفسه 451

التخطئة و التصويب 451

ما إذا تبدلّ رأي المجتهد 457

من ليس أهلا للفتوي و القضاء يحرم عليه الافتاء و القضاء 462

حرمة المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي 464

حكم الحاكم في المرافعات في الموضوعات 441

الترافع في الحكم 471

حكم نقض حكم الحاكم 473

ص: 571

كيفية معرفة الاجتهاد و أعلمية المجتهد 475

تعريف التقليد 477

حكم التقليد 481

الأدلّة علي التقليد 482

ما يشترط في المقلّد 499

وظيفة العاجز عن الاجتهاد 505

وجوب تقليد الأعلم 509

وجوب الفحص عن الأعلم 527

ما لو انحصر المجتهد في المتساويين 528

الترجيح بالأورعية 529

حكم تقليد الميت ابتداء و استدامة 531

فيما لا يقلّد فيه 547

أحكام و مسائل التقليد 549

وجوب الاحتياط في المسائل 561

فهرس الكتاب 567

ص: 572

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.