منهاج الاصول المجلد 2

اشارة

سرشناسه : رجايي ، محمد

عنوان و نام پديدآور : منهاج الاصول / تاليف محمد الرجائي

مشخصات نشر : محمدرجائي ، 1425ق . = 1383.

مشخصات ظاهري : ج 2

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : ‫ BP159/8 ‫ /ر3م8 1383

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 84-13294

ص: 1

اشارة

منهاج الاصول

محمد الرجائي

ص: 2

الجزء الثاني

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة علي سيّدنا محمّد و آله الطاهرين.

المقصد السابع: في الاصول العمليّة

اشارة

و هي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل،قالوا:

و المهمّ منها أربعة،و هي:البراءة،و الاحتياط،و التخيير،و الاستصحاب.

أقول:إنّما نتعرّض لهذه الأربعة لأنّها محلّ الكلام بين الأصحاب،و أمّا علي المختار فالاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،فهو مسألة فقهيّة،فيقع الكلام في فصلين:

الفصل الأوّل في الشكّ في أصل التكليف و هو مجري البراءة عند الاصوليّين، أو في المكلّف به و هو مجري الاحتياط أو التخيير.

الفصل الثاني في الاستصحاب.أمّا:

الفصل الأوّل

اشارة

فيقع الكلام فيه في مقامين:

المقام الأوّل: في الشكّ في أصل التكليف

اشارة

و يجري فيه البراءة،و يعبّر عنها باستصحاب حال العقل،قال في المعتبر بعد أن ذكر أنّ الأدلّة خمسة:الكتاب،و السنّة،و الاجماع،و دليل العقل،و الاستصحاب،

ص: 3

قال:و أمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة:استصحاب حال العقل،و هو التمسّك بالبراءة الأصليّة،كما تقول:ليس الوتر واجبا؛لأنّ الأصل براءة العهدة منه الخ (1).

و المراد باستصحاب حال العقل استصحاب عدم التكليف في حال عدم التمييز قبل البلوغ.

و أوضحه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بما ملخّصه:أنّ المقتضي للحكم الشرعي تارة يكون موجودا في مورد الحكم العقلي نظير ناسي السورة،فإنّه لا يصحّ تكليفه حال النسيان عقلا،فإذا تذكّر ارتفع الحكم العقلي،فلا مجال لاستصحاب عدم تكليفه بالسورة حال النسيان.و اخري لا يكون المقتضي موجودا،كعدم تكليف غير المميّز،فإنّ المقتضي للتكليف الشرعي لم يكن موجودا في حال أنّه ليس قابلا للتكليف عقلا،و حينئذ إذا ارتفعت تلك الحالة جاز استصحاب عدم التكليف.

قال:و من هذا الباب استصحاب حال العقل المراد به في اصطلاحهم استصحاب البراءة و النفي،فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل علي طبقها و هو عدم التكليف (2)الخ.

ثمّ إنّ

البحث عن أصالة البراءة يقع في مقدّمة و مطالب.
أمّا المقدّمة،فيبحث فيها عن أمور:
الأمر الأوّل

لا يخفي أنّ ما يكون علي عهدة المكلّفين من قبل الشارع المقدّس بحيث يستحقّون العقاب علي عدم امتثاله هو الحكم الصادر منه الذي جعله في معرض الوصول إليهم،بحيث لو فحص المكلّف لوصل إليه تفصيلا أو اجمالا،فلا تكليف له بغير ذلك،و يدلّ عليه من الكتاب الكريم قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما

ص: 4


1- المعتبر 1:32.
2- فرائد الاصول ص 555.

آتاها (1) و غيره من الآيات و الأخبار الدالّة علي أنّه لا شيء علي الناس ما لم يتمّ الحجّة و البيان لهم.

ثمّ إنّه إن شكّ المكلّف في الحكم بعد الفحص عنه،فهل المرجع البراءة شرعا أو الاحتياط؟قولان،و ينبغي تحرير محلّ البحث،فنقول:إن لم يبيّن الشارع الحكم أصلا فهو ممّا سكت اللّه عنه و ليس علي العباد أن يتكلّفوه،و كذا إن بيّنه لواحد و نحوه و لم يجعله في معرض الوصول إلي نوع المكلّفين،ففي هاتين الصورتين لا تكليف واقعا.

و أمّا إن احتمل أنّه بيّنه،فإن كان الحكم محلّ ابتلاء المكلّفين و لم يكن عليه دليل و لم يفت أحد من العلماء به،فعدم الدليل في مثله دليل العدم،فلا حكم واقعا للدليل علي عدمه.

و إن لم يكن الحكم كذلك،مع احتمال صدوره عن الشارع،فهو علي قسمين:

الأوّل:أن يكون منشأ الشكّ احتمال وجود خبر دالّ عليه قد خفي علينا،و كان في ضمن الكتب التي فقدت من الشيعة،ففي مثله لا تكليف واقعا،أمّا عدم التكليف واقعا،فلأنّ الواقع الذي لا يصل إليه المكلّف بعد الفحص،هو كالحكم الذي لم يجعل في معرض الوصول أصلا.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الدليل المصحّح للتكليف هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه و الاستفادة منه،فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف أصلا، أو كان و لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف، أو تيسّر و لم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ،فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح إلي آخر كلامه (2).8.

ص: 5


1- سورة الطلاق:7.
2- فرائد الاصول ص 358.

و أمّا الوظيفة الظاهريّة في ذلك،فلا بدّ من مراجعة الأدلّة الشرعيّة علي الاحتياط و البراءة.

القسم الثاني:أن يصل إليه خبر مجمل،أو تتعارض عنده الأخبار،أو كان الحكم في ضمن خبر ضعيف علي اصطلاح المتأخّرين و أمثال ذلك،ففي هذه الموارد هل يرجع إلي البراءة أم إلي الاحتياط؟احتمالان،لا يبعد لزوم الاحتياط في بعضها،و إن قلنا بالبراءة في القسم الأوّل،فإنّه لا ملازمة في الحكم بين القسمين.

الأمر الثاني

انّ أصالة البراءة ليست دليلا لنفي الحكم واقعا،بل هي في رتبة متأخّرة عن الحكم الواقعي،فهي المرجع بعد عدم الدليل علي الحكم الواقعي،و فرق بين الاباحة الواقعيّة كإباحة شرب الماء مثلا و الاباحة الظاهريّة.

فما ذكره بعض (1)الأخباريّين من أنّ القائل بالبراءة يستدلّ علي عدم الحرمة واقعا بالبراءة،في غير محلّه،بل يقول:انّ الحكم الواقعي لا يتنجّز لا أنّه منفي واقعا،و هذا هو عين ما قاله هذا الشخص بعد ايراد بعض أخبار البراءة.

حيث قال:و هو يدلّ علي أنّ عادم العلم بالحكم الشرعي بعد التفحّص عنه غير مؤاخذ في تركه و لا مكلّف به من باب الرخصة،حيث انّه بذل جهده،فهو معذور عند اللّه تعالي،و لا يدلّ علي نفي نفس الحكم،بل و لا علي حصول الظنّ بنفيه في الواقع،كما هو معني البراءة عند من يقول بها (2)انتهي.

و هذا الكلام مناقض لما ذكره بعد،من أنّ المسألة التي لا تتكرّر و لا تكون عمّا تعمّ به البلوي ليكثر السؤال عنه هي ممّا يجب التوقّف فيه عن نفي الحكم و اثباته

ص: 6


1- هو الشيخ حسين العاملي في هداية الأبرار ص 266.
2- هداية الأبرار ص 269.

إلاّ بالنصّ (1)انتهي ملخّصا.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه ليس مذهب المجتهدين التمسّك بالبراءة لنفي الحكم الواقعي (2).

الأمر الثالث

إذا خالفت أصالة الاباحة الواقع،بأن كان شرب التتن المشكوك حرمته حراما واقعا،أو كان المايع المشكوك كونه خمرا المحكوم بأصالة الاباحة خمرا واقعا، فلا تنافي بين الحرمة الواقعيّة و بين حلّية شربه ظاهرا،فإنّ حلّيته ظاهرا حكم واقعي ثانوي نظير حكم الحرام المضطرّ إليه كالميتة،فكما أنّها حرام بذاتها كالميتة و حلال لمن اضطرّ إليها،كذلك شرب التتن حرام في ذاته و حلال بعنوان كونه مشكوكا.

و هذا مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق،و هذا الوارد ظاهري،لكونه المعمول به في الظاهر،و واقعي ثانوي لأنّه متأخّر عن ذلك الحكم لتأخّر موضوعه عنه (3)انتهي.

و قد اندفع بذلك ما ذكره في الكفاية،قال:كما لا يصحّ بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين،ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين،و ذلك لا يكاد يجدي،فإنّ الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ انّه يكون في مرتبته أيضا،و علي تقدير المنافاة يلزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (4)انتهي.

ص: 7


1- هداية الأبرار ص 271.
2- فرائد الاصول ص 380.
3- فرائد الاصول ص 190.
4- كفاية الاصول ص 322.

وجه الاندفاع:أنّه إذا كان من قبيل العناوين الثانويّة،فلا تنافي بينها و بين العناوين الأوّليّة؛لأنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد،و هي تتغيّر أحيانا بتغيّر الأحوال كالميتة،فإنّها محرّمة ذاتا للمفسدة الموجودة فيها،و لكن يحلّ أكلها للمضطرّ،لكون حفظ النفس عن التلف أهمّ منها،و ربّما لا تتغيّر كقتل المؤمن مثلا، فإنّه لا يجوز و لو اضطرارا لحفظ نفسه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه يأتي في سائر الأمارات و الاصول المعتبرة شرعا بالنسبة إلي الأحكام الواقعيّة،فإنّها أحكام فعليّة لا تنافي الأحكام الواقعيّة؛لأنّها أحكام فعليّة أوّليّة و هي أحكام فعليّة ثانويّة،أو أنّ الأحكام الواقعيّة أحكام إنشائيّة و شأنيّة، و الأحكام الظاهريّة أحكام فعليّة،كما هو الأظهر عندنا.

و قد أشار الشيخ رحمه اللّه إلي الأمرين في ردّ ما حكي عن الاسترابادي،قال:فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح،علي ما صرّح به المحقّق رحمه اللّه في كلامه السابق،سواء قلنا بأنّ وراء الحكم الفعلي حكما آخر يسمّي حكما واقعيّا،أو حكما شأنيّا علي ما هو مقتضي مذهب المخطّئة،أم قلنا ليس وراءه حكم آخر (1)إلي آخر كلامه.

الأمر الرابع

المراد من جواز ارتكاب مشكوك الحرمة شرعا امور:

أحدها:الحكم شرعا بالاباحة،فكما أنّ الماء محكوم بالاباحة الواقعيّة،كذلك شرب التتن محكوم بالاباحة الظاهريّة،أي:الاباحة الواقعيّة الثانويّة،و لعلّ ذلك ظاهر قوله عليه السّلام«كلّ شيء لك حلال»بناء علي شموله للشبهة الحكميّة.

ثانيها:عدم المؤاخذة علي الحكم الواقعي،و لعلّ ذلك ظاهر قوله عليه السّلام«رفع ما

ص: 8


1- فرائد الاصول ص 357.

لا يعلمون».

ثالثها:عدم جعل الاحتياط شرعا في موارد الشكّ تحفّظا علي الواقعيّات،كما جعل في مورد الدماء و الفروج و الأموال علي ما قيل.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية جعل جميع مسائل الشبهة تحت عنوان واحد،و الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جعل كلّ مسألة عنوانا مستقلا،و لعلّه الأولي؛لاختصاص بعض المسائل بما ينبغي أن يذكر فيه و لذا نقتفي أثره.

و قبل ذلك نقول:ذكر في نهاية الاصول أنّ الحيثيّة المبحوث عنها إن كانت انّ صرف احتمال التكليف هل يكفي لتنجّزه أم لا؟فلا مجال إلاّ لدليل العقل،و لا مجال للاستدلال بالأدلّة الشرعيّة،فإنّ الحاكم في باب التنجيز هو العقل،و إن كانت الحيثيّة المبحوث عنها أنّه هل تحقّق من قبل الشارع التحفّظ علي الواقع بعد تسليم عدم كفاية صرف الاحتمال للتنجيز،فلا مجال للاستدلال بدليل العقل،بل يقتصر علي الاستدلال بدليل الشرع.

و إن كانت الحيثيّة المبحوث عنها أنّه هل يجب علي العبد الاحتياط في مورد الشكّ في الحكم:إمّا لكون صرف الاحتمال منجّزا،أو لا يجاب الشارع للاحتياط،فعلي القائل بالبراءة نفي كلا الدليلين حتّي يثبت بأحدهما جزء المدّعي،أي:عدم كون الاحتمال منجّزا،و يثبت بعدم جعل الاحتياط شرعا جزءه الآخر (1).

أقول:لا إحاطة للعقل بالمصالح الواقعيّة الموجودة في متعلّق التكاليف،فلو فرض أنّ العقل استقلّ بقبح عقاب المولي عبده علي ما لم يصل إليه،لم يكن له أن يستقلّ بالقبح في الشرعيّات؛لأنّ المصالح التي يلاحظها الشارع علي قسمين:4.

ص: 9


1- نهاية الاصول ص 564.

الأوّل:المصالح التي هي أهمّ من مصلحة التسهيل،فلا بدّ من مراعاتها حتّي حال الشكّ كالدماء و الأعراض،ففي مثله يجب الاحتياط في مورد الشكّ.

الثاني:ما كان مرجوحا بالنسبة إلي مصلحة التسهيل،فلا يجب فيه الاحتياط، بناء علي أنّ المرجع في الشبهة التحريميّة البراءة،لكن تمييز الأمرين ليس في وسع العقل و لا بدّ من الرجوع إلي الشرع،فتأمّل.

و أمّا المطالب،فهي ثلاثة:
المطلب الأوّل: في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب
اشارة

و يقع الكلام في مسائل:

المسألة الاولي:الشبهة التحريميّة الحكميّة فيما لا نصّ فيه
اشارة

،أي:لم يوجد دليل علي الحرمة بعد الفحص التامّ،لا عدم النصّ واقعا،فإنّه إذا لم يصدر الحكم من الشارع كان ممّا سكت اللّه عنه،و ليس محلّ النزاع في الرجوع إلي البراءة أو الاحتياط،أمّا ما لا يوجد فيه نصّ و احتمل وجوده واقعا،ففي الرجوع إلي البراءة و عدمه قولان،و يستدلّ للأوّل بآيات من الكتاب و بالأخبار.

أمّا الآيات فمنها:قوله سبحانه و تعالي لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (1)قيل:إنّ دلالته ظاهرة،فإنّه حصر التكليف في التكليف الواصل إلي الناس،فلا تكليف لهم بالحكم الذي لم يصل إليهم بعد الفحص عنه،و لكن نوقش في دلالته من وجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)،و هو أنّ«ما»موصولة و محتملاتها أربعة:

ص: 10


1- سورة الطلاق:7.
2- فرائد الاصول ص 316.

الأوّل:أن يكون المراد بها المال بقرينة صدر الآية،أي:لا يكلّف اللّه نفسا أن تنفق مالا إلاّ مالا آتاها ايّاها.

الثاني:الفعل الذي أتاها ايّاها،و هو الانفاق و فعل الصلاة و الصوم و نحو ذلك، أي:يكلّفها بفعل أعطاها ايّاه بأن أقدرها عليه،و هو أعمّ من الأوّل.

الثالث:أن يكون المراد التكليف،أي:لا يكلّفها إلاّ تكليفا أعطاها أي:أعلمها، و يوافقه قوله عليه السّلام«اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه».

الرابع:الجمع بين المعني الثالث و سابقيه،و هو مستلزم للاستعمال في أكثر من معني،لانّ«ما»علي الأوّلين يراد بها متعلّق التكليف،و علي الثالث يراد بها نفس التكليف و لا جامع بينهما،و المعني الثالث مناف لمورد الآية،فيتعيّن أحد الأوّلين، فيخرج عن محلّ الاستدلال.

قلت:يحتمل أن يكون المراد منه الاخبار عن أنّ اللّه تعالي لا يلقي عبده في كلفة و لا في مشقّة إلاّ فيما أعطاه،فإن كان فعل الانفاق أو فعل الصلاة و نحوهما، فإعطاؤه إقداره عليه بأن يكون له مال و له قدرة علي القيام في الصلاة.

و إن كان وجوب فعل فإعطاءه ايصال الوجوب إليه؛لأنّ الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و آله للحاضرين في مجلسه تكليف ثابت منجّز عليهم،و أمّا الغائبون عن مجلسه،فمن بلغه الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و آله،فيصدق عليه أنّه أوتي الحكم،فإنّ ايتاء كلّ شيء بحسبه،قال اللّه سبحانه و تعالي ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)فإذا أوتي هذا الحكم أي بلغه كلّف به.

فحينئذ يمكن إرادة المعني الجامع بين الحكم و الفعل من الموصول،أي:لا يكلّف اللّه سبحانه نفسا و لا يحمّلها إلاّ أمرا أعطاها إيّاها،ففعل الصلاة أمر قد9.

ص: 11


1- سورة الحشر:59.

أعطي للمكلّف،حيث أقدره اللّه سبحانه عليها،و وجوب الصلاة عليه أمر قد أعطي له؛لأنّ اللّه أعلمه به،فالمراد من الموصول المفعول به،لكن يختلف ايتاؤه،ففي التكليف الاعلام به،و في متعلّقه الاقدار عليه،فالايتاء معني جامع و هو في كلّ مورد بحسبه.

و قد يستظهر إرادة المعني الشامل للتكليف من خبر عبد الأعلي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:أصلحك اللّه هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟قال:

فقال:لا،قلت:فهل كلّفوا المعرفة؟قال:لا علي اللّه البيان لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها و لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها قال:و سألته عن قوله تعالي وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه (1).

بأن يكون المراد من البيان ايجاب اللّه تعالي المعرفة علي الناس،فيكون ايتاؤه أي الاعلام بوجوبها داخلا في قوله لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها فكلّ حكم لم يبيّنه اللّه لا يكون مكلّفا به،فإذا شكّ في حرمة التتن و فحص عنها و لم يجد دليلا علي الحرمة،فلم يعلم اللّه تعالي الحرمة.

و فيه أنّ الظاهر أنّ السائل سأل عن جعل أداة في الناس ينالون بها معرفة اللّه تبارك و تعالي و صفاته معرفة تفصيليّة،فأجاب عليه السّلام بعدم جعلها،ثمّ سأل عن أنّه هل تعلّق التكليف بالمعرفة التفصيليّة؟فأجاب عليه السّلام بأنّه لا بدّ أن يكون العبد قادرا عليها حتّي يتعلّق التكليف بها،و حيث لا يقدر فاللّه تبارك و تعالي لا يكلّفه بالمعرفة لأنّه لا يسعه ذلك و ما أوتي القدرة عليها،إلاّ إذا بيّن اللّه له صفاته التفصيليّة،فالمراد من البيان بيان صفاته التفصيليّة لا وجوب المعرفة،مضافا إلي5.

ص: 12


1- اصول الكافي 1:125 ح 5.

ما مرّ من أنّ ما لم يبيّن واقعا ليس مورد جريان أصالة البراءة.

الثاني:ما ذكره في فوائد الاصول من أنّ أقصي ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة و العقوبة لا تحسن إلاّ بعد بعث الرسل و إنزال الكتب و تبليغ الأحكام و التكاليف إلي العباد،و هذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث و الانزال و التبليغ و عروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها،فالآية المباركة لا تدلّ علي البراءة،بل مفادها مفاد قوله تعالي وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1).

قلت:المذكور في الآية إيتاء كلّ نفس علي حدة،فلا يكفي تبليغ الأحكام لمن بلغه من الشارع في ثبوت التكليف لمن لم يبلغه،بل لا بدّ من ايتاء كلّ شخص علي حدة،و الشاكّ لم يؤت الحكم.و يحتمل أن يكون مراده ما تقدّم من أنّ محلّ جريان البراءة احتمال خفاء الحكم لا عدم وجوده لعدم جعله أصلا.

الثالث:الاجمال و عدم ثبوت العموم لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة علي عدمه،و هو قوله تعالي في صدر الآية انّ من كان له سعة ينفق بحسب سعته،و من كان في ضيق ينفق بحسب ما آتاه اللّه،لا كما ينفق ذو السعة،فإنّه لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما أقدرها عليه من الانفاق،فشموله لغير الانفاق مشكل.

و منها:قوله تعالي مَنِ اهْتَدي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (2)المعني:أنّ كلّ إنسان مقياس مستقلّ لا هتدائه و ضلاله،و هو يعامل معاملة عادلة،فما يكسب من خير أو شرّ فهو لنفسه أو عليها،و إنّ اللّه لا يعذّب أحدا حتّي يتمّ عليه الحجّة ببعث الرسول إليه،فيعذّبه علي المخالفة،و ما لم يتمّ عليه الحجّة علي وجوب فعل أو8.

ص: 13


1- فوائد الاصول 3:121.
2- سورة فاطر:18.

حرمته،فلا يعذّب علي مخالفته.

و يقرب من هذه الآية في مفادها آيات،و هي:

قوله تعالي وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُري حَتّي يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُري إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (1).

و قوله تعالي وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزي (2).

و قوله تعالي وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ (3).

و قوله تعالي وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ (4).

و قوله تعالي رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (5).

و مشكوك الحرمة بعد الفحص عن الدليل لم يتمّ الحجّة علي حرمته من قول الرسول فلا عذاب عليه هذا.و الاحتمالات في معني الآية ثلاثة:

أحدها:إرادة الأعمّ من الرسول في الظاهر و الرسول في الباطن،كما ورد أنّ للّه حجّتين:حجّة في الباطن و هو العقل،و حجّة في الظاهر و هو الرسول.

ثانيها:إرادة الرسول في الظاهر،و لكن إنّما ذكر لأنّ أغلب التكاليف الشرعيّة ممّا لا يستقلّ به العقل،و يحتاج فيها إلي الرسول الظاهر لا للاختصاص به.

ثالثها:خصوص الرسول في الظاهر،فيختصّ بالأفعال التي لا حكم للعقل فيها5.

ص: 14


1- سورة القصص:59.
2- سورة طه:134.
3- سورة الزمر:71.
4- سورة النحل:113.
5- سورة النساء:165.

بالأمر و النهي.و علي جميع هذه الاحتمالات لا يعذّب من لم يثبت عنده حرمة الشيء.

و قد نوقش في دلالة الآية علي البراءة بوجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)من أنّ المراد نفي العذاب الدنيوي، و المنفي بالبراءة هو العذاب الاخروي،فلا تدلّ علي البراءة.

و فيه أوّلا:عدم قرينة علي اختصاص نفي العذاب بالدنيوي،كما أنّ سائر الآيات التي ذكرناها لا اختصاص لها ظاهرا به.

و ثانيا:أولويّة عدم التعذيب بالعذاب الاخروي؛لأنّه أشدّ من العذاب الدنيوي، فإذا لم يعذّبوا في الدنيا لعدم إتمام الحجّة عليهم،فهم أولي بأن لا يعذّبوا في الآخرة.

الثاني:ما أورده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أيضا،بأنّ الآية مخصوصة بالامم الماضية.

و فيه أوّلا:أنّ ظاهر الآية أنّ هذا شأن اللّه تعالي و سنّته،فلا يختصّ ببعض الامم و لا يتخلّف.

و ثانيا:أنّ الأفعال المنسوبة إلي اللّه تعالي منسلخة عن الزمان.و اورد علي هذا بأنّ الفعل الزماني يسند إلي الفاعل الزماني،و اللّه تعالي و إن لم يكن في الزمان لكنه مع الزمان معيّة قيّومية.

و ثالثا:أنّ سائر الآيات لا تختصّ بالامم الماضية.

الثالث:ما ذكره في فوائد الاصول من أنّ مفادها الاخبار بنفي التعذيب قبل اتمام الحجّة،كما هو حال الامم السابقة،فلا دلالة لها علي مشتبه الحكم من حيث7.

ص: 15


1- فرائد الاصول ص 317.

انّه مشتبه الي آخر كلامه (1).

و حاصله:أنّ الآية تدلّ علي أنّه لا عقوبة إلاّ بعد بعث الرسل،و هذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث و الانزال و التبليغ و عروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها،و هذا الاحتمال غير بعيد، فيشكل التمسّك بالآية.

الرابع:أنّها تدلّ علي عدم فعليّة التعذيب قبل بعث الرسول،و هو أعمّ من نفي الاستحقاق،و القائل بالبراءة يريد إثبات نفي استحقاق العذاب،و الآية الشريفة لا تنفيه؛لإمكان أن يكون الاستحقاق موجودا و كان نفيه قبل بعث الرسول منّة منه تعالي علي عباده.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّه يكفي عدم الفعليّة؛لأنّ الخصم يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع في الهلاك و العقاب من حيث لا يعلم،كما هو مقتضي رواية التثليث و نحوها التي هي عمدة أدلّتهم،و يعترف بأنّه لا مقتضي للاستحقاق علي تقدير عدم الفعليّة،فإذا ثبت عدم الفعليّة ثبت عدم الاستحقاق.

و أورد علي هذا الجواب في الكفاية،بأنّه لو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق و الفعليّة،لما صحّ الاستدلال بها إلاّ جدلا،مع وضوح منعه،ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس بأعظم ممّا علم بحكمه،و ليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلاّ كالوعيد به فيه،فافهم (2).

توضيحه:انّ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعليّة و نفي الاستحقاق يصحّح الاستدلال به جدلا،و لإسكات الخصم،و ليس علي نحو البرهان المنتج للقطع و الاذعان.هذا مع أنّه ليس للخصم أن يدّعي الملازمة بين فعليّة العقاب5.

ص: 16


1- فوائد الاصول 3:121.
2- كفاية الاصول ص 385.

و الاستحقاق،حتّي يكون نفي فعليّة العذاب مستلزما لنفي الاستحقاق.

و ذلك لأنّ ما علم حرمته أو وجوبه يكون الوعيد في مخالفتهما إخبارا بالاستحقاق،لا إخبارا عن فعليّة العقاب،و لعلّ العقاب يرتفع لتوبة أو شفاعة، و ليس ما شكّ في وجوبه أو حرمته بأعظم ممّا علم،فلا بدّ و أن يقول:إنّ الوعيد في اتيان ما شكّ إخبار عن استحقاق العقاب،فإذا دلّ دليل علي نفي فعليّة العقاب بارتكابه،فهو لا ينفي الاستحقاق،اللهمّ إلاّ أن يكون همّ القائل بالبراءة هو الأمن من العقاب و لو مع استحقاقه.

أقول:المهمّ هو الأمن من العقاب،و هو يكفي للقائل بالبراءة.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال:إنّ الآية تنفي الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع؛ لأنّه ينفي التعذيب خارجا قبل بعث الرسول،بناء علي إرادة النبي من الرسول، حتّي في صورة حكم العقل باستحقاق العقاب،فتنفي الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

و قد اجيب بأنّ من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقلّ بقبحه العقل مثلا،أي:كما أنّ العقل يحكم باستحقاق العقاب،كذلك الشرع يحكم بالاستحقاق،فالملازمة متحقّقة،لكن الشارع تفضّل بالعفو،كما تفضّل بالعفو عن نيّة السيّئة،و بالعفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر،و بالعفو عن الظهار مع حرمته علي ما قيل.

و أورد علي الجواب المذكور في فوائد الاصول (1)أوّلا:بأنّه لو كان المراد نفي فعليّة التعذيب لم يصحّ الاستدلال به للبراءة.

قلت:تقدّم الكلام فيه.1.

ص: 17


1- فوائد الاصول 3:121.

و ثانيا:بأنّ ثبوت الحرمة الشرعيّة مع إخبار الشارع بنفي التعذيب و التفضّل بالعفو يوجب التجرّي بفعل الحرام.و أمّا الأمثلة المذكورة،فالاخبار بالعفو عن نيّة السيّئة لا يوجب التجرّي؛لأنّ القصد و التجرّي علي النيّة المجرّدة لا يعقل،و كذا الاخبار بالعفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر؛لأنّه لا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنّه يجتنب عن الكبائر ما دام العمر و تمام أزمنة حياته،و أمّا العفو عن الظهار،فلم يثبت و إن قيل به (1).

أقول:لو سلّم أنّ المراد نفي التعذيب فعلا لا لمانع،فلا بدّ و أن يكون لعدم المقتضي،و مع عدم المقتضي لا يستحقّ العقاب،فتأمّل.

و منها:قوله سبحانه وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (2)دلّ علي أنّ كلّ قوم هداهم اللّه فلا يضلّهم إلاّ بعد أن يبيّن لهم المحرّمات ليتّقوها،فإذا لم يتّقوا أضلّهم بسوء فعلهم،و لا يتحقّق البيان لهم إلاّ مع وصوله إليهم،أو كونه في معرض وصولهم إليه بالفحص.

و في خبر عبد الأعلي قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه.و في خبر شاهويه لمّا شكّ في الامام بعد أبي الحسن العسكري عليه السّلام كتب إليه العسكري عليه السّلام:

إنّ اللّه لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم،صاحبكم بعدي أبو محمّد (3).

و أورد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه علي الاستدلال به أوّلا:بأنّه ناظر إلي الامم السابقة.

و فيه أنّ«كان»مسلوب عنه معني المضي كما هو ظاهر،و لو سلّم فيتعدّي عمّا ثبت في الامم الماضية إلي غيرها بقوله تعالي سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ1.

ص: 18


1- فوائد الاصول 3:121.
2- سورة التوبة:115.
3- الغيبة ص 121.

تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً (1) .

و ثانيا:بأنّ توقّف الخذلان علي البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب،اللهمّ إلاّ بالفحوي (2)انتهي.

قلت:يريد أنّ توقّف سدّ باب التوفيق للطاعة و ايكاله إلي نفسه و استحقاق العقاب الدائمي علي البيان لا يستلزم توقّف عقاب مجهول الحكم علي ايصال البيان إلاّ بالفحوي،بأن يقال:إنّه إذا توقّف الخذلان علي البيان،فأولي بأن يتوقّف عقاب مجهول الحكم علي البيان.

و فيه أنّ الخذلان أعلي مرتبة من العقاب علي عمل واحد مثلا،و لا يكون ما ثبت للأعلي ثابتا للأدني بالأولويّة،فيمكن أن يعاقب علي ما لم يبيّن.

و منها:قوله سبحانه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3)الهلاك شامل لارتكاب المعصية،حيث انّه يؤدّي إلي استحقاق العقاب،و في الخبر «هلكت جامعت أهلي علي غير ماء»الحديث (4).فأطلق الهلاك علي المجامعة التي هي حرام.

و معني الآية و اللّه العالم:أنّ الهلاك باستحقاق العقاب لا يكون إلاّ عن بيّنة،فمع الشكّ في حرمة شيء بعد الفحص التامّ لا هلاك في ارتكابه؛لكونه لا عن بيّنة.

و يمكن المناقشة في العموم الشامل لكلّ معصية،بأنّ مورد الآية تحقّق آية من آيات اللّه العجيبة علي النبوّة و نصرة المؤمنين،و هي تلاقي المسلمين و الكفّار علي غير ميعاد،و غلبة المسلمين علي الكفّار،فكان ذلك آية من لم يعترف بها هلك عن4.

ص: 19


1- سورة الفتح:23.
2- فرائد الاصول ص 318.
3- سورة الأنفال:43.
4- تهذيب الأحكام 1:194.

بيّنة،فالهلاك في مورد الآية لا يقتضي الهلاك في غيره.

و منها:قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1)يدلّ بمقتضي إطلاقه علي أنّه لا يكون للعبد حجّة علي اللّه تعالي،فلو ارتكب فعلا لم يكن دليل علي حرمته و كان حراما واقعا و عوقب عليه،كان للعبد حجّة علي اللّه تعالي أنّه لماذا عاقبه،فلا بدّ و أن لا يكون معاقبا عليه حتّي لا يكون للعبد عليه تعالي حجّة،بناء علي استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

و في خبر مسعدة،قال:سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام و قد سئل عن قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فقال:إنّ للّه تعالي يقول للعبد يوم القيامة:عبدي أكنت عالما؟فإن قال:نعم،قال:أفلا عملت بما علمت.و إن قال:كنت جاهلا،قال له:

أفلا تعلّمت حتّي تعمل؟فيخصمه،و ذلك الحجّة البالغة (2).

فإنّ التوبيخ علي ترك التعلّم لا يكون إلاّ مع إمكان التعلّم،فلو فرض أنّه فحص عن دليل الحرمة في مظانّها فلم يجده،فهو غير متمكّن من تعلّم حكمه،فلم يتمّ عليه الحجّة.

و منها:قوله تعالي قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلي طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ (3)الآية.دلّ علي أنّ عدم الوجدان يدلّ علي عدم الوجود.

و في دلالته نظر؛لأنّ عدم وجدانه صلّي اللّه عليه و آله مساو لعدم الوجود،و ليس ذلك لكبري أنّ عدم الوجدان يدلّ علي عدم الوجود،بل لعلّ التعبير به هو لتلقين أن يجادلهم بالتي هي أحسن،فإنّ في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة عدم المعارضة بردّ كلام المخاطب ما لا يكون في التعبير بعدم الوجود.5.

ص: 20


1- سورة الأنعام:149.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:144 ب 1 ح 33.
3- سورة الأنعام:145.

و منها:قوله تعالي وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (1)دلّ علي أنّه بعد تفصيل المحرّمات لا مجال لامتناع الانسان عن ارتكاب بعض ما يشكّ في حرمته.

و في دلالته علي جواز ارتكاب المشتبه نظر؛لأنّه يدلّ علي أنّ الأشياء إمّا حلال و إمّا حرام،فإذا عدّ المحرّمات من المأكولات علي نحو واضح مفصّل،فلا يكون ما عداها حراما،و هذا ليس محلّ كلام؛لما بيّنا من أنّ ما سكت اللّه تعالي عن تحريمه واقعا،فليس بحرام واقعا بل هو مباح.

ثمّ لا يخفي أنّ أخبار الاحتياط لو تمّت دلالتها و لم تكن معارضة لأخبار البراءة،فهي بيان و تعريف،فلا يمكن معها التمسّك بالآيات المذكورة للبراءة.

و أمّا الأخبار،فهي علي طائفتين:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي أنّ الحكم المجهول مرفوع لا يعاقب عليه، و يعارضه أخبار وجوب الاحتياط.

فمنها:ما رواه في الكافي مرفوعا،و في الفقيه مرسلا،و الظاهر اتّحاد ما رواه في الفقيه مرسلا مع ما رواه في التوحيد (2)،عن أحمد بن محمّد بن يحيي،قال:

حدّثنا سعد بن عبد اللّه،عن يعقوب بن يزيد،عن حمّاد بن عيسي،عن حريز.و في الخصال (3):حدّثنا محمّد بن أحمد بن يحيي العطّار،قال:حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد،عن حمّاد بن عيسي،عن حريز بن عبد اللّه،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:رفع عن امّتي تسعة:الخطأ،و النسيان،و ما اكرهوا عليه،و ما لا يطيقون،و ما لا يعلمون،و ما اضطرّوا إليه،و الحسد،و الطيرة،7.

ص: 21


1- سورة الأنعام:119.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 353.
3- الخصال ص 387.

و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة (1).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:السند صحيح في الخصال كما عن التوحيد (2).

أقول:ما في الخصال عن محمّد بن أحمد بن يحيي العطّار،هو محرّف، و الصحيح ما في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيي،لأنّه ليس في طبقة الصدوق محمّد بن أحمد بن يحيي،فإن كان المراد به صاحب نوادر الحكمة، فالصدوق يروي عنه بواسطتين،مع أنّه لا يوصف بالعطّار.و أمّا أحمد بن محمّد بن يحيي،فهو معتمد عليه،مع أنّ المحتمل قويّا أنّ ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا هو الذي رواه في التوحيد مسندا،فيكون أحمد بن محمّد بن يحيي في سند الرواية في الفقيه أيضا.

و الراوي الأوّل في روايات الصدوق في الفقيه لا حاجة إلي إثبات و ثاقته، مضافا إلي قوّة احتمال أن تكون الرواية مأخوذة عن كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه؛لأنّ أحمد بن محمّد بن يحيي ليس له كتاب،بل هو شيخ إجازة،و كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه قد ثبت عند الصدوق أنّه كتابه:إمّا لكونه مشهورا و مسلّما أنّه كتابه،أو لكون أحمد بن محمّد بن يحيي ثقة عنده و اعتمد عليه في وصول الخبر،إذ لا يحتمل رواية الصدوق عن سعد بن عبد اللّه بطريق مجهول لم يثبت وصوله عنده؛لأنّه قد التزم في الفقيه بايراد ما يكون حجّة بينه و بين ربّه.

و رواه في الوسائل عن نوادر أحمد بن محمّد بن عيسي،عن إسماعيل الجعفي، و لكن لم يثبت طريق إلي كون النوادر الموجود هو نوادر أحمد بن محمّد بن عيسي،و ما ذكره في آخر الوسائل من الطرق إلي الكتب،فهي ليست طرقا إليها بمعني وصول الكتب إليه يدا بيد بهذه الطرق،بل انّها طرق إلي كتب مؤلّفيها،0.

ص: 22


1- جامع أحاديث الشيعة 1:325 ب 8 ح 1 و ح 2 و ح 3.
2- فرائد الاصول ص 320.

و صاحب الوسائل تيقّن أنّ هذه الكتب الموجودة هي كتب أولئك المؤلّفين،و هذا لا ينفع لمن لا يتيقّن بذلك.

هذا مع أنّ الظاهر من كلام الشيخ في الفهرست (1)«و روي المبوّبة-أي النوادر- ابن الوليد»أن يكون متفرّعا علي سابقه،و هو رواية أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد عن أبيه،فلاحظ.

و أحمد بن محمّد بن الحسن لم يرد فيه توثيق و لا مدح،مع أنّ كون النوادر الموجود هو المبوّبة غير معلوم،فالطريق إلي النوادر أيضا محلّ إشكال.

و اسماعيل الجعفي مردّد بين جماعة علي ما بيّناه في الرجال،و لم يثبت و ثاقة جميعهم،و رواه في الدعائم مرسلا هذا.

و أمّا فقه الحديث فبيانه بذكر أمور:

الأوّل:الرفع عن شخص مساوق للوضع عنه،لكن قيل:الرفع ظاهر في إزالة الشيء الثابت و مفهومه يغاير مفهوم الدفع،فمقتضي مفهومه أن يكون التكليف الموجود مرفوعا،مع أنّه لا تكليف.

و الجواب عنه:أنّه يكفي في صدق الرفع وجود المقتضي،كما يقال للعقرب:

أعمي،مع أنّ الأعمي بمعني من له عين لا يبصر بها،و لذا لا يقال للجدار أعمي، و العقرب و إن لم يكن له عين لكن حيث إنّه حيوان،فمقتضي وجود العين له موجود،فيقال له:أعمي.

و إلي ذلك أشار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إنّ المراد بالرفع ما يشمل عدم التكليف مع قيام المقتضي له،فيعمّ الدفع،و لو بأن يوجّه التكليف علي وجه يختصّ بالعامد (2)انتهي.2.

ص: 23


1- الفهرست للشيخ الطوسي ص 48.
2- فرائد الاصول ص 322.

أقول:علي هذا المعني يكون رفع ما لا يعلمون نظير رفع القلم عن الصبي، و نتيجته اختصاص الحكم بالعالم به و لا محذور فيه،لما تقدّم من جواز اختصاص الحكم بالعالم به،لكن تعلّق الرفع بالحكم خلاف ظواهر سائر الأدلّة،فلذا يكون المعني رفع المؤاخذة عمّا لا يعلمون،و سيأتي توضيحه.

الثاني:ظاهر قوله صلّي اللّه عليه و آله«عن امّتي»اختصاص هذه الامّة برفع المذكورات، لكن ينبغي صرفه إلي ما يكون مقدورا عقلا.و أمّا ما لا يكون مقدورا بالقدرة العقليّة،أو يكون منسيّا بحيث لا يتمكّن من التحفّظ من نسيانه،أو كان جاهلا قاصرا لا يخطر بباله،فالمؤاخذة في هذه الموارد قبيحة عقلا بلا فرق بين هذه الامّة و سائر الامم.

الأمر الثالث:يمكن أن يقال:إنّ قوله«ما لا يعلمون»منصرف عمّا إذا لم يعلم تقصيرا،لأنّ المطلوب من المسلمين تعلّم الدين و أحكامه بالضرورة،و لو منعنا الانصراف فإطلاقه شامل للجاهل المقصّر و الشاكّ في الحكم قبل الفحص، و القاصر المذكور في خبر عبد الصمد بقوله«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة»و من يعتقد خلاف الواقع لاجتهاد أو تقليد أو غيرهما من المعذورين.و الشبهة التحريميّة و الوجوبيّة بعد الفحص الكامل،فيقيّد بما دلّ علي عدم معذوريّة المقصّر،و بما دلّ علي لزوم الفحص عن الأحكام الشرعيّة،و هل يقيّد بغير الشبهة التحريميّة لأخبار التثليث؟سيأتي الكلام عليه.

الأمر الرابع:مقتضي إطلاق ما لا يعلمون أن يكون كلّ ما لا يعلمه المكلّف ممّا يكون قابلا للوضع و الرفع شرعا مرفوعا،و هو الحكم الكلّي أو الجزئي المستتبع رفعها لرفع المؤاخذة عليهما،لا رفع بعض آثار خاصّة كالمؤاخذة علي فعلهما، فالالزام الواقعي في الشبهة الحكميّة و الالزام في الموضوع الخارجي،كالمايع المردّد بين الخمر و الخلّ مرفوعان حقيقة.

ص: 24

مثلا شرب التتن لو كان حراما فهو مخصوص بمن يعلم حكمه،و من لا يعلم فهو حلال له واقعا.

و يمكن أن يقال بأنّه تخصيص لفعليّة الحكم،فالحكم الانشائي موجود في حقّ من لا يعلم،لكن ليس فعليّا بمعني أنّ الشارع لا يريده منه فعلا،بقرينة وحدة السياق،فإنّ المضطرّ إلي أكل الميتة إنّما يرفع عنه الحرمة الفعليّة؛لأنّ الميتة حرام ذاتا،و حلال بعنوان كونها مضطرّا إليها.و شرب التتن لو كان حراما واقعا،فهو حرام ذاتا،فمن علم بذلك كان حراما عليه،و من لم يعلم كان حلالا له بعنوان كونه غير معلوم الحرمة،فهو ليس بحرام فعلي عليه.

و كذا الكلام في سائر الفقرات،فمن نسي حرمة شيء كان حراما ذاتا غير مؤاخذ عليه بعنوان كونه منسي الحرمة،فالحكم الواقعي في هذه الموارد شأنيّ، و لعلّه مراد صاحب الكفاية في قوله:فالالزام المجهول ممّا لا يعلمون،فهو مرفوع فعلا و إن كان ثابتا في الواقع (1).و في قوله:فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقا بنفسه قابل للرفع و الوضع شرعا (2).لا ما ذكره في المصباح من أنّه ليس مراده الفعليّة الاصطلاحيّة في مقابل الانشائيّة (3)الي آخر كلامه.

فإنّ المستفاد من كلامه أنّه يريد الفعليّة في مقابل الانشائيّة،كما يقول في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري،و لعلّه أيضا مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و حاصل الكلام أنّ التكليف الواقعي مقيّد بالعلم و الرفع عمّا لا يعلمون،كالرفع عن سائر التسعة،كالفعل المضطرّ إليه،فإنّه قد رفع عنه حكمه.

و فصّل في المصباح بين ما لا يعلمون،فقال:الرفع فيه ظاهري،و بين سائر8.

ص: 25


1- كفاية الاصول ص 386.
2- كفاية الاصول ص 387.
3- مصباح الاصول 2:258.

التسعة فالرفع فيها واقعي،فيختصّ الحكم الواقعي بغير الضرورة،و استدلّ علي أنّ الرفع فيما لا يعلمون ظاهري،بأنّ الشكّ في الحرمة مثلا فرع وجودها الواقعي، و لو كان المرفوع وجودها الواقعي بمجرّد الجهل به لكان الجهل به مساوقا للعلم بعدمه كما هو ظاهر،و أيضا من ضروريّات المذهب اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم و الجاهل (1).

أقول:إن لم يكن حكم واقعي في صورة النسيان،فلا معني للنسيان،و كذا في صورة الاضطرار،فلا فرق بين نسيان الحكم و الاضطرار إلي فعل الحرام و بين الجهل بالحكم،فلا حكم في هذه الصور واقعا،لكن كيفيّة رفعه تكون بهذا البيان، بأن يكون الحكم المنشأ غير مقيّد بالعلم به،كقوله«حرّمت عليكم الخمر»و هو مشترك بين العالم و الجاهل،و العلم به يوجب فعليّته،و الجهل به حتّي مع التمكّن من الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة و درك الواقع موجب لعدم فعليّته بمقتضي حديث الرفع،فالحكم الواقعي مرفوع عن الجاهل كرفع النسيان.

و الحاصل أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد الغير المزاحمة بالمصالح و المفاسد الأهمّ،فإن كان الحكم الواقعي أهمّ من مصلحة التسهيل و نحوه يجب الاحتياط للتحفّظ عليه،كما قيل بوجوبه في الدماء،فلو شكّ أنّ إنسانا كافر أو مؤمن لم يجز قتله؛لأنّ التحفّظ علي حفظ النفس المحترمة أهمّ،و أمّا لو شكّ في مايع أنّه خمر أو خلّ جاز شربه؛لأنّه إن كان خمرا فمراعاة مفسدته بترك الشرب مزاحمة بمصلحة التسهيل مثلا التي هي أهمّ.

و بهذا البيان يظهر أنّ الحكم الفعلي واحد،و هو إلزام المكلّف بالفعل المشتمل علي المصلحة غير المزاحمة بالأهمّ،و إنّما يستحبّ الاحتياط لدرك ملاك الحكم7.

ص: 26


1- مصباح الاصول 2:257.

الواقعي؛لأنّ الترخيص تسهيل،فإن اختار المكلّف المشقّة لدرك ملاك الواقع كان حسنا.

و التحقيق أنّ يقال:إنّ الحكم الواقعي في جميع هذه الموارد موجود،و المرفوع خصوص المؤاخذة،بأن يكون المكلّف معذورا في هذه الموارد؛لأنّ رفع الحكم الواقعي و اختصاصه بصورة العلم و عدم النسيان و عدم الاضطرار و إن كان ممكنا، لكنّه يستلزم توالي فاسدة،مثلا من شكّ في امرأة أنّها اخته من الرضاعة أو أجنبيّة، أو نسي أنّها اخته فتزوّجها و كانت اخته واقعا،فالتزويج باطل.و لا يصحّ أن يقال:

إنّ معلوم المحرمية حرام تزويجه لا المجهول المحرمية،و إلاّ استلزم وجوب النفقة و المهر علي من تزوّج اخته جاهلا.

الأمر الخامس:لا يجري حديث الرفع فيما شكّ في استحبابه أو كراهته؛لأنّ الرفع يناسب الأمر الثقيل و لا ثقل فيهما،و في جريانه في الأجزاء و الشرائط للمستحبّ احتمالان.

إختار الجريان في المصباح؛لأنّ الأجزاء و الشرائط المشكوكة في المستحبّ واجبة فيه شرطا،و يترتّب عليها عدم جواز الاتيان بالفاقد بداعي الأمر لو كانت شرطا فيها،مثلا لو شكّ في اعتبار الطمأنينة في صلاة النافلة،فمرجعه إلي الشكّ في جواز الاتيان بالنافلة بدون الطمأنينة بداعي الأمر و عدمه فيرفع حرمته (1).

أقول:إن كان المشكوك ممّا يعتبر في طبيعة الصلاة المشتركة بين الواجبة و غيرها،فيجري حديث الرفع؛لأنّه لا فرق بين النافلة و الفريضة،فلو شكّ في اعتبار رفع اليدين حال التكبير،فالأصل البراءة عن الاشتراط.و أمّا لو شكّ في اعتبار شيء خاصّ بالنافلة،كالسور المخصوصة في صلاة جعفر الطيّار مثلا،فلا7.

ص: 27


1- مصباح الاصول 2:27.

مجال لحديث الرفع فيه لأنّه تابع لواقعه.

الأمر السادس:قيل:لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة في نفس الحديث،كوجوب سجدتي السهو المترتّب علي نسيان السجدة الواحدة مثلا،بل يرفع الحكم الثابت للشيء في نفسه.

أقول:مقتضي الاطلاق رفع جميع الآثار،أي:لا أثر للسهو و لا يوجب شيئا، فينا فيه ما دلّ علي وجوب السجود للسهو فيقيّد إطلاقه به.

الأمر السابع:قيل باختصاص الحديث بالشبهة الموضوعيّة لوحدة السياق، فإنّ المراد من الخطأ و النسيان و غيرهما الفعل الصادر خطأ أو نسيانا و نحوهما.

و أجاب في المصباح بأنّ«ما»الموصولة يرادف معناها الشيء،و في المذكورات اريد بها معني الشيء لكن مصاديقه تختلف (1).

أقول:التسعة المذكورة خمسة منها ليس فيها«ما»الموصولة،و الصحيح في الجواب منع اعتبار وحدة السياق،و يؤخذ بإطلاق كلّ واحد منها.

و منها:المرسل في الفقيه روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:كلّ شيء مطلق حتّي يرد فيه نهي (2).

و يمكن المناقشة في دلالته علي إباحة المشكوك باحتمال أن يكون المراد به أنّ إباحة الأشياء لا تحتاج إلي تصريح بالاباحة،بل كلّ شيء لم يكن فيه نهي واقعا فهو مباح واقعا،فهذا الخبر من الطائفة الثانية التي تدلّ علي أنّ ما سكت اللّه عنه فلا تتكلّفوه.و أمّا المشتبه حكمه،فلم يعلم أنّه لم يصدر فيه نهي ليكون مطلقا، أو ورد فيه نهي لئلاّ يكون مطلقا،فيكون شبهة مصداقيّة للعموم.

و يمكن حمل كلام الصدوق عليه،حيث استدلّ لجواز القنوت بالفارسيّة بهذا5.

ص: 28


1- مصباح الاصول 2:259.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ب 8 ح 15.

المرسل،قال بعد ذكره:و النهي عن الدعاء بالفارسيّة في الصلاة غير موجود (1)انتهي.و لعلّ مراده أنّه غير موجود واقعا،فيكون جائزا واقعا.و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه دلالته علي إباحة المشكوك،حيث قال:و دلالته علي المطلب أوضح من الكلّ (2).

و قال في المصباح في توجيهه:إنّه لو كان المراد من الورود الصدور،أي:كلّ شيء مباح واقعا حتّي يصدر النهي عنه من الشارع،فهذا لغو؛لأنّه من قبيل أن يقال:كلّ جسم ساكن حتّي يتحرّك،مع أنّه غير مقيّد بزمان دون زمان،أي:ليس فيه حتّي يرد النهي من الشارع،فالمراد من الورود الوصول (3).

قلت:فائدته بيان أنّ الأصل في الأشياء الاباحة واقعا،فمساقها مساق ما دلّ علي السكوت عمّا سكت اللّه و عدم تكلّفه،فمنع دلالته كما في الكفاية هو الأظهر.

نعم ما رواه الشيخ الطوسي في أماليه مسندا عن الحسين بن أبي غندر،عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر و نهي،و كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه (4).ظاهر في الورود علي المكلّف لا الورود واقعا،فيكون صدره في الشبهة الحكميّة و ذيله في الشبهة الموضوعيّة،لكن السند غير واضح،مع أنّ تواتر النسخة غير ثابت،فمن أين يعلم ثبوت كلمة«عليك»؟فتأمّل.

و منها:خبر حفص بن غياث،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:من عمل بما6.

ص: 29


1- من لا يحضره الفقيه 1:208.
2- فرائد الاصول ص 327.
3- مصباح الاصول 2:280.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ح 16.

علم كفي ما لم يعلم (1).أي:يكفي في النجاة عن العذاب العمل بما يعلم،و إن لم يعمل بما لا يعلم،فلو عمل بما علم من الصلاة و الصوم و غيرهما كفي و جاز له ترك ما لم يعلم وجوبه أو فعل ما لم يعلم حرمته بعد الفحص،لكن يحتمل أن يكون المراد ما ذكره العلاّمة المجلسي في البحار،قال:كفي ما لم يعلم،أي:علّمه اللّه ما لم يعلمه بلا تعب (2).

و منها:خبر عبد الأعلي بن أعين،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟قال:لا (3).بأن يكون المراد من لم يعرف حرمة شيء مثلا،فليس عليه شيء في ارتكابه،لكن يحتمل أن يكون السؤال عمّن لا يعرف أصلا،بأن تكون النكرة في سياق النفي للعموم،أي:لا يعرف أصلا لأنّه قاصر،فإنّه ليس عليه شيء،فيكون مجملا؛لتردّده بين المعنيين،و المعني الأوّل أخصّ من الثاني.

و منها:المرسل:الناس في سعة ما لم يعلموا (4).بناء علي كون«ما»موصولة، فتكون مضافا إليه،أي:في سعة من الحكم الذي لا يعلمونه فإنّه ليس عليهم، و ينافيه أخبار الاحتياط،و يحتمل كونها زمانية،أي:ما دام لم يعلموا،قيل:إنّه الأظهر و ليس ببعيد،و يدلّ علي المطلوب أيضا،لكن قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّه لا ينافي أخبار الاحتياط،فإنّ من لم يعلم الحكم حتّي وجوب الاحتياط في سعة (5).

قلت:لم يظهر الفرق بينه و بين رفع ما لا يعلمون في منافاته لأخبار الاحتياط،7.

ص: 30


1- جامع أحاديث الشيعة 1:328 ح 17.
2- بحار الأنوار 2:30.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:391 ب 8 ح 9.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:390 ب 8 ح 6.
5- فرائد الاصول ص 327.

لكنّه مطلق مثل رفع ما لا يعلمون يمكن تقييده كما مرّ.

و منها:خبر عبد الأعلي المتقدّم في أوّل آية استدلّ بها علي البراءة.

و منها:خبر حمزة بن محمّد الطيّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّي يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ قال:حتّي يعرّفهم ما يرضيه و ما يسخطه:و قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قال:بيّن لها ما تأتي و ما تترك،و قال: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً قال:عرّفناه إمّا آخذ و إمّا تارك.و عن قوله وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمي عَلَي الْهُدي قال:عرّفناهم فاستحبّوا العمي علي الهدي و هم يعرفون،و في رواية بيّنا لهم (1).

و منها:خبر ابن الطيّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه احتجّ علي الناس بما آتاهم و عرّفهم (2).

و منها:ما دلّ علي حلّية ما لم يعلم حرمته،و هي عدّة أخبار:

أوّلها:خبر الحسين بن أبي غندر عن أبيه،و قد مرّ.

ثانيها:صحيح عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (3).

و اختصاصهما بالشبهة الموضوعيّة ظاهر؛لظهور قوله«فيه حلال و حرام»في وجودهما فعلا.و المراد بالشيء الجنس الذي بعض أفراده حلال و بعضها حرام.

ثالثها:خبر مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة،و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه،أو خدع1.

ص: 31


1- جامع أحاديث الشيعة 1:327 ح 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:327 ح 12.
3- وسائل الشيعة 12:59 ح 1.

فبيع قهرا،أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك،و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (1).

استدلّ به في الكفاية (2)علي حلّية مشكوك الحرمة حكما و موضوعا.

و نوقش فيه بأنّه ظاهر في الشبهة الموضوعيّة بقرينة الأمثلة المذكورة،و ذكر البيّنة الظاهرة في شهادة العدلين.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ مقتضي عمومه أنّ كلّ شيء حلال واقعا أو ظاهرا كالمشكوك لشبهة موضوعيّة أو حكميّة حتّي تعلم أنّه حرام،فالخمر قد علم أنّه حرام،لكن المايع المردّد بين الخمر و الماء لم يعلم حرمته،و التتن لا يعلم كونه حراما،فهو حلال حتّي يعثر علي خبر يدلّ علي حرمته،فيحصل العلم بحرمته، فيشمل العموم جميع هذه الموارد،سواء كان منشأ الحكم بالحلّية الأمارة علي الحكم الكلّي،أو علي الموضوع الخارجي،أو أصلا من الاصول المعتبرة،أو لم يكن منشأه ذلك.

و المراد من البيّنة الحجّة الشرعية،فيشمل كلّ أمارة معتبرة و أصل كذلك،كما يشمل شهادة العدلين باعتبارها أحد المصاديق،لكن الجزم بهذا الاطلاق مشكل؛ لاحتفاف الكلام بما يوجب الشكّ في الظهور.

رابعها:خبر عبد اللّه بن سليمان،و خبره الآخر،و المرسل (3).و هذه الأخبار ظاهرة في الشبهة الموضوعية.

و منها:صحيح عبد الصمد بن بشير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أيّ رجل ركب7.

ص: 32


1- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.
2- كفاية الاصول ص 338.
3- وسائل الشيعة 17:90 ح 1 و ح 2 و ح 7.

أمرا بجهالة فلا شيء عليه (1).و الجهل شامل للجهل عن قصور و تقصير،و الشاكّ قبل الفحص و بعده ليس بعالم بل هو جاهل،فلا شيء عليه إن ركب ما لا يعلم حرمته.

و فيه أنّه منصرف إلي الجهل بدون الشكّ،كما اريد منه ذلك في كثير من الروايات،و لا بدّ من تخصيصه بالقاصر جمعا بينه و بين ما دلّ علي عدم معذوريّة المقصّر.

ثمّ إنّ السند صحيح؛لأنّ موسي بن القاسم يروي عن أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام فإنّه يروي عن حمّاد،لكن ناقش في السند في منتقي الجمان (2).

و منها:صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،عن أبي إبراهيم عليه السّلام،إلي أن قال:و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك،فقلت:بأيّ الجهالتين يعذر بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه،أم بجهالته أنّها في عدّة؟فقال:إحدي الجهالتين أهون من الاخري،الجهالة بأنّ اللّه حرّم عليه،و ذلك بأنّه لا يقدر علي الاحتياط معها الحديث (3).

و فيه أنّ المراد بالجاهل الغافل،بقرينة قوله«لا يقدر علي الاحتياط»لأنّ الشاكّ يقدر علي الاحتياط.

و منها:أخبار الاستصحاب،بأن يقال:إنّ حرمة شرب التتن حادثة لم تكن قبل تشريع الأحكام،و لا تنقض اليقين بالشكّ،و مقتضاها و إن كان عدم وجوب الفحص إن انحلّ العلم الاجمالي بثبوت أحكام علي المكلّفين،لكن أدلّة وجوب الفحص و التعلّم خصّصتها بما بعد الفحص،ثمّ إنّه إن تمّت أدلّة البراءة فلا تصل4.

ص: 33


1- وسائل الشيعة 9:125 ح 3.
2- منتقي الجمان 3:224.
3- وسائل الشيعة 14:345 ح 4.

النوبة إليها؛لأنّها تدلّ علي أنّ مجرّد الشكّ يكفي في نفي التكليف بلا حاجة إلي جرّ الحالة السابقة،فهي تتقدّم علي الاستصحاب،و إن لم تتمّ فهو المدرك.و قرّره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)باستصحاب عدم التكليف حال الصغر،و أجاب بتبدّل الموضوع.

أقول:لا يجري هذا الاستصحاب عندنا؛لأنّا نعتبر بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة، و هنا يحتمل اختلاف حال الصغر و حال البلوغ،لكن عدم تشريع الحرمة كما ذكرناه لعلّه لا يرد عليه إشكال.

الطائفة الثانية:ما يدلّ علي أنّ ما لم يبيّن حرمته أو وجوبه واقعا،فهو ممّا سكت اللّه عنه و لا يتكلّف له،و هو خارج عن محلّ الكلام في جريان البراءة أو الاحتياط؛لأنّ الناس غير مكلّفين بما لم يبيّنه الشارع لهم،سواء كان موجودا في كتاب علي عليه السّلام مثلا أو لم يكن،و ربّما استدلّ بهذه الأخبار علي البراءة،لكنّه في غير محلّه،و هي عدّة أخبار:

منها:ما رواه الصدوق رحمه اللّه في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيي العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسي،عن ابن فضّال،عن داود بن فرقد،عن أبي الحسن زكريّا بن يحيي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (2).و رواه في الكافي عن محمّد بن يحيي بالسند،و فيه:ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم.

و الراوي و إن كان مهملا أو مشتركا بين عدّة فيهم الضعفاء،إلاّ أنّه يمكن تصحيح روايته برواية داود بن فرقد ايّاها عنه،خصوصا مع وجود أحمد بن محمّد بن عيسي في الطريق.8.

ص: 34


1- فرائد الاصول ص 338.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:326 ح 8.

لكن يمكن المناقشة في دلالته بأنّه ظاهر فيما كان يستند حجبه إلي اللّه سبحانه،فهو نظير رواية علي بن ربيعة الوالبي (1)،و رواية الفقيه عن خطب أمير المؤمنين عليه السّلام (2)و كذا ما في نهج البلاغة (3).

و حاصل الجميع أنّ الأشياء علي الاباحة ما لم يرد فيها نهي واقعا أو وجوب واقعا،و كان حكمها مسكوتا عنه،فلا يصحّ التمسّك بها لإباحة مشتبه الحكم.

ثمّ إنّه قد يتمسّك بالاجماع علي عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التي لم يعثر فيها علي ما يدلّ علي التحريم بعد الفحص،لكن في كونه إجماعا تعبّديا كاشفا عن وصول نصّ معتبر إليهم إشكال،بل من المحتمل أن يكون مدركه حكم العقل أو غيره.

و أمّا حكم العقل،فهو مستقلّ بقبح عقاب المولي عبده علي ما لم يبيّنه أصلا،أو بيّنه و لم يجعله في معرض الوصول إليه،أو جعله في معرض الوصول إليه،لكن لم يصل إليه و خفي عليه بسبب لم يعرف العبد ذلك السبب.

و أمّا إذا بيّن المولي الحكم،و جعله في معرض الوصول،لكن خفي لحوادث علم العبد بحدوثها من إخفاء بعض الظالمين،و إحراق بعض الكتب و أمثال ذلك، فلو تفحّص العبد و لم يصل إليه و احتمل وجوده احتمالا عقلائيّا و أمكنه مع ذلك الاحتياط لتحصيل غرض المولي،ففي استقلال العقل بقبح عقابه تأمّل،و لكن المختار عدم التكليف بما لا يصل إلي العبد إن فحص عنه،سواء كان بسبب إخفاء الظالمين أو بغيره ما لم يعلم الحكم.

ثمّ إنّه قد صرّح الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في بعض كلماته بأنّ قاعدة قبح العقاب3.

ص: 35


1- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 22.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:330 ح 23.

بلا بيان تجري فيما صرّح الآمر بعدم نصب دلالة،قال:و يشهد له حكم العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولي عبده علي فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه (1).

و قال في موضع آخر:خصوصا مع اعتراف المولي بأنّي ما نصبت لك عليه دلالة (2)انتهي.

و فيه أنّ هذا ليس من موارد أصالة البراءة،بل هو مورد قوله عليه السّلام«اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه»لأنّ عدم إعلامه أصلا هو سكوته عنه،و محلّ الكلام ما إذا احتمل احتمالا عقلائيّا وجود بيان قد خفي عليه،و فحص و لم يصل إليه و إن كان المولي معذورا في عدم وصول بيانه إلي العبد،فإن ارتكبه فهل يرتفع العقاب لعدم وصول البيان إليه،أو يجب الاحتياط عقلا في بعض الموارد التي تتضارب فيها الاحتمالات؟

و الذي ينبغي أن يقال:إنّه لو لم يرسل اللّه تعالي نبيّا أصلا،فحينئذ كنّا كسائر الحيوانات،و يمكن أن يستقلّ عقلنا بقبح الظلم و استحقاق الظالم عقوبة ظلمه، لكن لا يخطر أصلا ببالنا عدم الانتفاع بما يوجد في الأرض،فإن تكلّمنا في حكم العقل قبل أن يبعث اللّه الرسل لم يكن له حكم بحظر و لا بشي آخر.

و إن كان الكلام في حكم العقل بعد إدراكه وجوده تعالي و بعثه الرسل و دركه أنّه تعالي يريد منّا عملا حيث بعث إلينا رسولا،فالعقل يحكم بلزوم الرجوع إلي الشرع في كلّ فعل و ترك جوارحي أو جوانحي،فإذا رجع إليه يثبت عنده امور:

الأوّل:أنّه تعالي و إن كان خالقه و مالكه،لكن يعامل عبده معاملة غير الخالق و غير المالك،فيشتري منه نفسه و يستقرض منه،كما قال سبحانه إِنَّ اللّهَ اشْتَري0.

ص: 36


1- فرائد الاصول ص 335.
2- فرائد الاصول ص 460.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (1) و قال تعالي: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً (2).

الثاني:أنّه تعالي حرّم أشياء و أحلّ أشياء،و ممّا أحلّه ما يشكّ كونه حراما أو حلالا إن كان الشكّ في الموضوع.

الثالث:أنّه تعالي قال: وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)و معناه انّ النهي الذي صدر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله ممّا لا بدّ من الانتهاء عنه،سواء وصل إلينا أو لم يصل،فلا بدّ لتحقّق امتثاله من ترك جميع الأفعال التي علم النهي عنها أو شكّ فيه حتّي يعلم بالانتهاء عمّا نهي عنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أو خلفاؤه الأئمّة المعصومون عليهم السّلام،و لكن ثبت بالأدلّة أنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان و الوصول،و هذا يقيّد الأوّل بأنّه لا تكليف ما لم يصل،فإذا فحص و لم يصل إليه فلا تكليف به.

و دلّت أخبار علي أنّه إذا تردّد الأمر بين حرمة الفعل و إباحته لا لعدم النصّ بل لتعارض النصّين،أو تعارض اللغويّين في مفهوم موضوع الحرام الواصل حرمته سعة و ضيقا كالغناء،و نحو ذلك من الموارد التي يطلق عليها الشبهة و تردّد المكلّف بين الحرام و المباح،فترك الاقتحام فيه متعيّن لهذه القاعدة العقلائيّة،و هي أنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

و قد ظهر من ذلك أنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا صدور بيان أصلا بعد فرض أنّه تعالي عامل الانسان معاملة المولي و العبد،و أمّا إذا صدر منه البيان لكن خفي فيمكن أن يوجب المولي الاحتياط.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا معني لأصالة الحظر أو الاباحة و لا سائر ما قيل في هذا المقام،فتدبّر جيّدا.7.

ص: 37


1- سورة التوبة:111.
2- سورة البقرة:245.
3- سورة الحشر:7.

و اورد علي قاعدة قبح العقاب بلا بيان بامور:

الأوّل:قاعدة دفع الضرر المحتمل،فإنّ العقل لمّا كان حافظا للانسان من أن يتضرّر و يبتلي بما لا ينبغي أن يبتلي به،يستقلّ بأنّه متي احتمل بلاء يتوجّه إلي الانسان،فلا بدّ له من التحرّز عنه،سواء كان عقابا اخرويّا،أو منقصة و ضررا في جسده،أو مفسدة يلزم التحرّز عنها لا يدرك العقل وجودها و الشارع عالم بها، و قد اجتمعت هذه الامور في شرب التتن؛لأنّه لو كان حراما واقعا يعاقب علي شربه،فاحتمال حرمته يوجب احتمال العقاب عليه،فيجب التحرّز عنه،و لو كان حراما فلمفسدة فيه دنيويّة كتضرّر الجسد،أو أخرويّة،فاحتمال الحرمة فيه يوجب احتمال تضرّر الجسد،أو وصول مفسدة إليه و يجب التحرّز عنه.

و فيه أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تنفي احتمال العقاب فلا عقاب،و أمّا احتمال وجود مفسدة فيه اخرويّة أو دنيويّة ففيه أنّ دفع المفسدة المحتملة و إن كان واجبا عقلا،لكن لا إحاطة للعقل بمزاحمة تلك المفسدة بمصلحة أهمّ موجبة لعدم الحرمة،فلذا يحتمل أن يكون الفعل جائزا شرعا.

و بعبارة اخري:الشبهة تكون حينئذ موضوعيّة،فإنّ شرب التتن مردّد بين كونه ذا مفسدة موجبة للحرمة،أو غير موجبة للحرمة،كالمايع المردّد بين الخمر و الماء، و قد أحلّه الشارع و أجاز ارتكابه.

و قد أشار إليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:و إن اريد مضرّة اخري غير العقاب التي لا يتوقّف ترتّبها علي العلم،فهو و إن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان،إلاّ انّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريّين،فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود،فلا بدّ علي كلا القولين:إمّا من منع وجوب الدفع،و إمّا من دعوي

ص: 38

ترخيص الشارع و إذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر (1)انتهي.

و الأولي أن يقال:إن دفع المفسدة المحتملة الموجودة في متعلّق الأحكام كالمفسدة الموجودة في الخمر ليس بواجب عقلا ما لم تكن موجبة لنقص عضو أو هلاك نفس،فإذا كان المحتمل هلاك النفس وجب التحرّز عقلا،بل الأدلّة النقليّة لا تشمل مثل ذلك،كما إذا تردّد مايع بين كونه سمّا أو ماء،فإنّه لا يجوز شربه،و ما دلّ شرعا علي جواز ارتكاب الشبهة الموضوعيّة منصرف عن هذه الموارد.

الايراد الثاني علي قاعدة قبح العقاب بغير بيان:ما دلّ علي أصالة الحظر، و سيأتي الكلام عليه في أدلّة القائلين بالاحتياط.

الايراد الثالث:العلم الاجمالي بثبوت تكاليف تحريميّة يجب الاحتياط لها لتحصيل الفراغ اليقيني،و سيأتي الكلام عليه.

فتلخّص أنّ الشبهة التحريميّة الحكميّة لعدم النصّ الواصل فيما بأيدينا من الأدلّة لا يجب فيها الاحتياط،إلاّ إذا صدق عليها الشبهة،فالوقوف عندها لازم.

مثال ذلك:ما إذا دلّ علي الحرمة خبر لم يثبت ضعف رواته و لا وثاقتهم،و كان مرويّا في الكتب الأربعة و كان معمولا به عند قدماء الأصحاب،و أمثال هذه الأمارات التي لم يثبت حجّيتها،فإنّه يصدق علي الشيء الذي دلّ مثل هذا الخبر علي حرمته أنّه شبهة.

احتجّ للقول بالاحتياط بالكتاب و السنّة و العقل.

أمّا الكتاب،فبآيات،و هي أقسام:

القسم الأوّل:ما دلّ علي عدم جواز الافتراء علي اللّه،علي نحو يشمل من لم يعلم حرمة شيء شرعا،و أنّه لا يجوز له أن يحرّمه أو يحلّله مسندا لهما إلي اللّه5.

ص: 39


1- فرائد الاصول ص 335.

تعالي،لأنّه افتراء علي اللّه،كما يدلّ عليه قوله تعالي قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (1)فلا يجوز تحليل الشبهة التحريميّة؛لأنّه يكون افتراء،فلا بدّ من الاحتياط.

و فيه نظر؛لأنّ القول بالبراءة مستند إلي الأدلّة المتقدّمة في الشبهة التحريميّة، فليس تحليلا للشيء من دون دليل شرعي ليكون افتراء.

القسم الثاني:ما دلّ علي أنّ ما لا يعلم حكمه من اللّه،فلا يجوز التعبّد به و القول به،و منه قوله تعالي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)و قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3)و قوله تعالي اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ (4).

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بهذه الآيات علي الاحتياط و عدم الحكم بالبراءة فيما لا يعلم حرمته،بأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه اتّكالا علي قبح العقاب من غير بيان المتّفق عليه بين المجتهدين و الاخباريّين ليس عملا بغير علم (5).

أقول:إنّ العقل يستقلّ بالحكم علي فعل بعض الأشياء و علي ترك بعضها مع قطع النظر عن الشرع،كحسن العدل،و وجوب ردّ الأمانات،و شكر المنعم،و قبح الظلم،و لا يستقلّ في إباحة الأشياء و حظرها،بل يتوقّف و يلزم الانسان بالرجوع إلي الشرع،و المستفاد من الشرع أنّ كلّ شيء أو فعل يجوز ارتكابه و فعله ما عدا5.

ص: 40


1- سورة يونس:59.
2- سورة يونس:68.
3- سورة الاسراء:36.
4- سورة الأحقاف:4.
5- فرائد الاصول ص 205.

المحكوم بالأحكام الالزاميّة من المحرّمات،فلا حاجة في حلّية بعض الأشياء المحدثة كالبرتقال مثلا إلي إجراء البراءة عن حرمته،و إنّما يحتاج إلي إجراء البراءة في مورد يحتمل ورود النصّ.

فإذا فحص عنه و لم يعثر عليه أصلا،و احتمل اختفاؤه،أو احتمل صدور الحكم من الشارع و لم يجزم به كالمثال المتقدّم،و هو دلالة خبر علي حرمة شيء مثلا موافق لفتوي كثير من العلماء،لم يثبت حجّية الخبر و لا حجّية شهرتهم،فلا يستقلّ العقل بقبح العقاب علي ارتكابه،فلا بدّ من أن يعلم ما هو وظيفته حينئذ بالرجوع إلي الشرع،فإن ثبت شرعا إباحة ما لم يعلم حكمه فهو متابعة للعلم و لو بالحكم الظاهري.

القسم الثالث:ما دلّ علي الأمر بالاتّقاء،كقوله تعالي و اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)و قوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2).

و اورد عليه بأنّه لا يدلّ إلاّ علي الرجحان.

و أمّا السنّة،فهي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي حرمة القول بغير علم،و ردّ ما لم يعلم إلي أهله، و عدم الدخول فيما لا يعلم و الكفّ عنه،كقوله:من أفتي الناس بغير علم و لا هدي لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه (3).

و خبر داود بن سليمان (4).و خبر عبيدة السلماني (5).1.

ص: 41


1- سورة آل عمران:102.
2- سورة التغابن:16.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:145 ب 1 ح 40.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:145 ب 1 ح 38.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41.

و خبره الآخر (1).و خبر مفضّل بن مزيد (2).و النبوي (3).و النبويّ الآخر (4).

و خبر حمزة بن حمران (5).و خبر عبد الرحمن بن الحجّاج (6).و خبره الآخر (7).

و خبره الآخر أيضا (8).و خبر علي بن جعفر (9).و مرسل الفقيه (10).و خبر زياد بن أبي رجاء (11).و خبر زرارة بن أعين (12).

و صحيح هشام بن سالم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما حقّ اللّه علي خلقه؟ فقال:أن يقولوا ما يعلمون،و يكفّوا عمّا لا يعلمون،فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلي اللّه حقّه (13).و خبر سليم بن قيس (14).و ينبغي مراجعة هذه الروايات.

قلت:إن تمّت أدلّة البراءة،فليس القول بها قولا بغير علم،و هي تامّة في الشبهة الموضوعيّة،و أمّا الشبهة الحكميّة فمقتضي ظهور هذه الأخبار في المقابلة بين ما يعلم و ما لا يعلم وجوب التوقّف،فتكون أخصّ من قوله«رفع ما لا يعلمون»فيقيّد8.

ص: 42


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 42.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 42.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 44.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 45.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 47.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 48.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 49.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 50.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 53.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 54.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ب 1 ح 55.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:150 ب 1 ح 59.
13- جامع أحاديث الشيعة 1:150-151 ب 1 ح 60.
14- جامع أحاديث الشيعة 1:393 ب 8 ح 18.

الاطلاق،فيكون المرفوع ما لا يعلمه القاصر و المعتقد للخلاف لاجتهاد أو تقليد و نحوهم،لكن لا يبعد أن يكون المراد من هذه الروايات ما لا يعلمون حكمه واقعا و ظاهرا،فيكون ما دلّ علي البراءة موجبا للعلم بالحكم الظاهري.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و هي لا تحصي كثرة (1).و الأمر كما ذكره إن أراد ما يدلّ علي الوقوف،فينبغي ذكرها ثمّ بيان مفهومها.

فمنها:مقبولة عمر بن حنظلة،و فيها بعد فقد المرجّحات قال:إذا كان كذلك فأرجه حتّي تلقي إمامك،فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكة (2).و خبر جميل المروي في ذيل خبر السكوني (3).و غيرهما من الروايات.

كرواية السيّد بن طاووس في كتاب الطرف (4)،و هي مختصّة بالشبهة الحكميّة التي يمكن الفحص عنها؛لأنّ الردّ إلي الامام إنّما يكون فيها.

و رواية الكراجكي في كتاب كنز الفوائد (5).

و رواية نهج البلاغة (6)،و يحتمل اختصاصه بعثمان بن حنيف.و رواية الآمدي في الغرر (7)،و لا دلالة له علي الوجوب.و رواية القمّي في كتاب الغايات (8).3.

ص: 43


1- فرائد الاصول ص 340.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:308 ب 6 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 8.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 26.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 27 و ح 28.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 31.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 32.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 33.

و رواية نهج البلاغة (1).و رواية الصدوق في الخصال (2).و رواية الشيخ في أماليه (3).و رواية نهج البلاغة (4)،و يحتمل اختصاصه بمالك بن أشتر.و رواية ابن همام في كتاب التمحيص (5).

و رواية أبي سعيد الزهري (6).و رواية الحسين بن سعيد في كتاب الزهد (7).

و رواية الشيخ المفيد في رسالة المهر (8).و رواية الشيخ في أماليه (9).و رواية عوالي اللئالي (10).و هذه الروايات ضعيفة السند.

و رواية كنز الكراجكي (11)،و سندها غير واضح.و خبر جابر (12).و ينبغي ملاحظة هذه الروايات بالمراجعة إليها.

و خبر حمزة بن الطيّار أنّه عرض علي أبي عبد اللّه عليه السّلام بعض خطب أبيه حتّي إذا بلغ موضعا منها،قال له:كف و اسكت،ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه و التثبّت و الردّ إلي أئمّة الهدي حتّي8.

ص: 44


1- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 34 و ح 35.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:397 ب 8 ح 36.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:397-398 ب 8 ح 37.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 38.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 39.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 40.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:398 ب 8 ح 41.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:398-399 ب 8 ح 42.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 43.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 44.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:176 ب 3 ح 9.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:401 ب 8 ح 48.

يحملوكم فيه علي القصد،و يجلوا عنكم فيه العمي،و يعرّفوكم فيه الحقّ،قال اللّه تعالي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (1)هذا.

وعدّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الخبر الأخير من أخبار هذه الطائفة،لكن يحتمل أن يكون من الطائفة الاولي.و قوله«كف و اسكت»قيل:معناه إنّه لم يكن حافظا للخطبة كما هو حقّها،فكان ينسج علي طبق ظنّه،فاشتمل علي أمر خلاف الواقع، و في مثل ذلك يكون النقل مصداقا للافتراء مع التمكّن من الفحص انتهي.

و قال الشيخ الأنصاري:إنّه خاصّ بالقادر علي إزالة الشبهة (2).

أقول:لا يبعد أن لا يكون مختصّا بالمخاطبين و يعمّ كلّ من لا يعلم.

و خبر المسمعي (3).و خبر جابر المروي في أمالي الشيخ (4).وعدّهما الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أخبار هذه الطائفة،و قال:إنّهما مخصوصان بالقادر علي إزالة شبهته (5)،لكن يحتمل أن يكونا من الطائفة الاولي،و لا يبعد الاختصاص كما ذكره.

و هذه الأخبار مختصّة بالشبهة الحكميّة،و مطلقة لما قبل الفحص و ما بعده، فتكون أدلّة البراءة أخصّ منها؛لأنّها مختصّة بما بعد الفحص فتخصّصها،لكنّه بعيد في بعضها.

ثمّ إنّه قد أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بهذه الأخبار علي وجوب الاحتياط،بأنّ الشبهة علي قسمين:2.

ص: 45


1- جامع أحاديث الشيعة 1:393 ب 8 ح 19.
2- فرائد الاصول ص 342.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 22.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 19.
5- فرائد الاصول ص 342.

القسم الأوّل:الشبهة التي يجب الاحتياط فيها،و هي في موارد:

أحدها:ما إذا كان الفاعل قادرا علي إزالة الشبهة بالرجوع إلي الامام،أو إلي الطرق المنصوبة من ناحيته،كما هو ظاهر المقبولة،و موثّقة حمزة بن الطيّار، و رواية جابر،و رواية المسمعي.

ثانيها:ما إذا كان الفاعل متّكلا علي الاستنباطات الظنّية.

ثالثها:كون المسألة من الاعتقاديات،كما يظهر من خبر زرارة.

رابعها:الشبهة المحصورة.

و التوقّف في هذه المقامات واجب.

القسم الثاني:الشبهة التي لا يجب الاحتياط فيها،و الأخبار الواردة فيها ظاهرة في الاستحباب،مثل قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة»و قوله«لا ورع كالوقوف عند الشبهة»و غير ذلك.

إذا تحقّق أنّ الشبهة علي قسمين،فنقول:الشبهة في قوله«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»يراد بها الأعمّ ممّا يجب الاحتياط فيها و ما يستحبّ،و لا تدلّ هذه الأخبار علي حكم تأسيسي،بل لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للارشاد من قبيل أوامر الأطبّاء المقصود منها عدم الوقوع في المضارّ.

فإن كان الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الاخروي كالقسم الأوّل،يكون التوقّف لازما عقلا و شرعا من باب الارشاد،كأوامر الطبيب بترك المضارّ.

و إن كان الهلاك المحتمل مفسدة غير العقاب كالقسم الثاني،فمجرّد احتماله لا يوجب العقاب بل يكون الوقوف راجحا،و الأمر فيه بالتوقّف للارشاد،و هو بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب،و ما نحن فيه و هي الشبهة الحكميّة التحريميّة من القسم الثاني؛لأنّ العقل يستقلّ بأنّه لا عقاب علي الحرمة الواقعيّة باتّفاق الاخباريّين أيضا،فلا هلكة بمعني العقاب في ارتكابها،و إن زعموا ثبوت العقاب

ص: 46

من جهة هذه الأخبار،أعني:أخبار التوقّف عند الشبهة،فإذا لم يكن المحتمل فيها العقاب الاخروي كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة،كأموال الظلمة،و الشبهة الوجوبيّة في أنّه لا يحتمل فيها إلاّ غير العقاب من المضارّ،و المفروض كون الأمر بالتوقّف فيها للارشاد و التخويف عن تلك المضرّة المحتملة.

ثمّ قال:و هذا الاحتمال أولي من التخصيص،أي:احتمال أن يكون إرشادا شاملا لجميع الشبهات،بخلاف حملها علي اللزوم و إخراج الشبهة الموضوعيّة و الوجوبية منه تخصيصا؛لإبائها عن التخصيص (1)انتهي.

أقول:تقدّم أنّ العقل يستقلّ بقبح العقاب علي حكم لم يبيّنه المولي أصلا،أو بيّنه و لم يجعله في معرض الوصول إلي العبد،أو جعله و خفي بسبب لا يعلمه العبد، و كذا إذا خفي لا من ناحية المولي بل لعوارض خارجيّة،فالحكم الغير الواصل إلي العبد بحيث لو فحص لم يصل إليه لا يكون مكلّفا به،فلا شبهة فيه،فلم يتحقّق موضوع القضيّة و هي«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».و أمّا في غير هذا المورد،فالعقل لا يستقلّ بقبح العقاب،و يحكم بأنّه لا بدّ من الرجوع إلي الشرع،و بالرجوع إلي الشرع يعثر علي أخبار التوقّف،و مقتضاها لزوم التوقّف إن صدقت الشبهة إلاّ في الشبهة الموضوعية.

ثمّ لا يخفي أنّ بعض الأخبار التي ذكرت في هذه الطائفة ليست منها،بل هي من الطائفة الاولي،و الخبر الذي يعدّ من هذه الطائفة هو المشتمل علي قوله «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»أو قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة»و نحوهما،فينبغي بيان معناه.

فنقول:قوله«الشبهات»جمع الشبهة،قال في الصحاح:و الشبهة الالتباس،2.

ص: 47


1- فرائد الاصول ص 342.

و المشتبهات من الامور:المشكلات،و المتشابهات المتماثلات،و التشبيه التمثيل، و أشبهت فلانا و شابهته و اشتبه عليّ الشيء (1).

و قال الأزهري:و قال الليث:المشتبهات من الامور المشكلات،و تقول:

شبّهت عليّ يا فلان إذا خلط عليك و اشتبه الأمر إذا اختلط (2)انتهي.

و الهلكة قال في المقاييس:هلك يدلّ علي كسر و سقوط،منه الهلاك،و لذا يقال للميّت هلك (3).

فالهلكة هو السقوط و ما يقارب الفناء،و إطلاقه علي العذاب الاخروي صحيح؛ لأنّه موجب للسقوط.و أمّا الضرر الدنيوي أو الاخروي الذي لا يوجب السقوط كالمكروهات،فإطلاق الهلكة عليه مجاز.

قوله«خير من الاقتحام»يستعمل في موارد اللزوم،مثل قوله تعالي أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ (4)و قوله تعالي أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (5)و قوله تعالي أَ فَمَنْ يُلْقي فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ (6)و غيرها.

إذا تحقّق مفاهيم مفردات هذا الحديث،فيظهر أنّ حاصل المعني أنّ الوقوف عند ما يشتبه الأمر و يشكل تمييز الحقّ خير من المضي فيه و ارتكابه الذي هو سقوط و موجب للعذاب الاخروي.

و التعبير بقوله«خير»من أجل أنّ ارتكاب الشبهة ليس هلاكا دائما،بل هلاك0.

ص: 48


1- صحاح اللغة 6:2236.
2- تهذيب اللغة 6:92.
3- مقاييس اللغة 6:62.
4- سورة الفرقان:15.
5- سورة الصافّات:62.
6- سورة فصّلت:40.

إن كان المشتبه حراما واقعا،فالأمر يدور بين ارتكاب مباح لتشهّي النفس لا عقاب فيه،أو ارتكاب حرام موجب للعقاب،و متي لا يعلم أنّ ما يرتكبه ليس فيه هلاك،فيتعيّن عليه الوقوف،فهذه الجملة-أي:الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة-لا يصحّ استعمالها إلاّ في مورد لزوم التوقّف،فهو نظير أمر الطبيب المريض بالاحتراز عن بعض ما يضرّه،فإن كان ما يضرّه موجبا لشدّة مرضه أو بطء برئه أو لموته صحّ ذكر هذه القضيّة،و إن لم يكن موجبا لذلك بل كان موجبا لصداع خفيف جدّا سريع الزوال،لم يصحّ ذكرها.

مثلا يصحّ أن يقول الطبيب:لا تشرب المايع الفلاني لأنّه يحتمل أن لا تبرأ من مرضك،و الوقوف عند ما يحتمل فيه عدم البرء خير من أن لا تبرأ.و لا يصحّ أن يقول:لا تشرب المايع الفلاني الذي لا يضرّك و تركه أنفع؛لأنّ الوقوف عند ما يحتمل فيه عدم البرء خير من أن لا تبرأ.

و بالجملة هذه القضيّة تستعمل إرشادا إلي لزوم التحرّز،فتدلّ علي أنّ الواقع المحتمل يجب التحفّظ عليه في موارد الشبهة،لكن لا يصدق الشبهة علي ما إذا احتمل صدور الحكم واقعا،مع فرض عدم وصوله.

و لا يراد من الشبهة في هذه الأخبار الشبهة الموضوعيّة؛لأنّه قد استفاضت الأخبار و قام الاجماع و السيرة القطعيّة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام علي عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الموضوعيّة؛لأنّه لا يمكن العلم بحلّية الأشياء و لا بطهارتها و لا بعدم اشتمالها علي حقوق اللّه أو حقوق الناس،فلو لا جواز ارتكاب الشبهة الموضوعيّة لا ختلّ النظام،فتخصّص هذه الأخبار و يخرج منها الشبهة الموضوعيّة لو لم نقل بخروجها تخصّصا،بل يستفاد من بعض الأخبار مرجوحيّة الاجتناب إلاّ في النكاح،فيمكن أن يقال برجحان الاحتياط.

و الحاصل أنّ من لاحظ الأخبار المستفيضة الدالّة علي جواز ارتكاب الشبهة

ص: 49

الموضوعيّة في باب الطهارة و النجاسة و فيما يشتري من سوق المسلمين من اللحم و الجلد و الجبن،و الحكم بصحّة العقود الواقعة في سوق المسلمين،و ملكيّة صاحب اليد،إلي غير ذلك ممّا يظهر منه تسهيل الأمر في الشبهات الموضوعيّة، بحيث يكون الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة لدرك الواقع،خلاف سيرة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و خلاف ما ورد من سهولة الأمر،فحمل الشبهة في هذه الروايات علي رجحان الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ربما ينافي ذلك،فينبغي حملها علي الشبهة المفهوميّة،و علي الموارد التي يصدق فيها الشبهة في الحكم.

و أمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من الموارد التي استعملت هذه الجملة فيها في غير اللزوم فهو غير مسلّم،منها قوله«أورع الناس من وقف عند الشبهة» (1).

فإنّه-مضافا إلي أنّ هذا الخبر ليس من قبيل قوله«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»و مثله قوله«لا ورع كالوقوف عند الشبهة»-لا دلالة له علي أنّه مستحبّ،بل يمكن أن يكون لازما،نظير ما ورد من قوله«أورع الناس من ترك الحرام».

و منها:قوله في خبر«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،و تركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» (2).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ من المعلوم رجحان ترك رواية الخبر الغير المعلوم صدوره أو دلالته لا لزومه (3)انتهي.

قلت:بل يجب الوقوف عنده،و المعني تركك حديثا بأن لم تروه خير من أن تروي حديثا لم تحط بمعناه و سنده،فإنّه ربما يوقع غيره في خلاف الواقع،4.

ص: 50


1- فرائد الاصول ص 342.
2- فرائد الاصول ص 340.
3- فرائد الاصول ص 344.

و يدخل في من أفتي بغير علم.

و الحاصل أنّ موارد استعمال الجملة المذكورة هي الموارد التي يلزم الوقوف فيها،كخبر عمر بن حنظلة،فإنّ تعليل وجوب الارجاء بكون الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام،يقتضي وجوب الاجتناب في جميع الشبهات لوجود العلّة فيها.

و يمكن أن لا يكون وجوب الارجاء من ناحية تمكّنه من الوصول إلي الامام،بل هو غاية التوقّف،فلا فرق بين التمكّن من رفع الجهل و عدمه إن لم يتمّ ما دلّ علي البراءة.

و أمّا موثّق مسعدة بن زياد،عن جعفر عليه السّلام،عن آبائه عليهم السّلام،أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:

لا تجامعوا في النكاح علي الشبهة وقفوا عند الشبهة،يقول:إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها و أنّها لك محرّم و ما أشبه ذلك،فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (1).فهو أيضا ظاهر في الحرمة.لكنّه معارض بأخبار كثيرة (2)

و بخبر مسعدة بن صدقة (3)،و يؤيّد المطلوب أخبار اخر (4).

و حيث انّ الأخبار المعارضة أكثر،فينبغي العمل علي الأكثر،و يرد علم هذا الخبر إلي أهله،أو يحمل علي الكراهة الشديدة،أو علي ما إذا قامت البيّنة أو أخبر الثقة بذلك.

ثمّ انّه قد اجيب عن أخبار الوقوف عند الشبهة بأنّها معارضة بأخبار البراءة، و هي أقوي سندا و دلالة و اعتضادا بالكتاب الدالّ علي البراءة،و العقل مستقلّ بقبح العقاب من غير بيان،و لو سلّم التكافؤ فيكون من تعارض النصّين،و المختار فيه5.

ص: 51


1- وسائل الشيعة 14:193 ب 157 ح 2.
2- وسائل الشيعة 14:303 ب 12،و ج 14:456 ب 10.
3- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.
4- وسائل الشيعة 14:226 ب 23 و ب 25.

التخيير.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذا الجواب بأنّ مقتضي أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة،و هي جميع آيات الكتاب و العقل و أكثر السنّة و بعض تقريرات الاجماع عدم استحقاق العقاب علي مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف،و من المعلوم أنّ هذا من مستقلاّت العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقّف و لا غيرها من الأدلّة النقليّة علي خلافه،و إنّما يثبت أخبار التوقّف بعد الاعتراف بتماميّتها علي ما هو المفروض تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ و ترك المضي عند الشبهة،و الأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب،فتلك الأدلّة بالنسبة إلي هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلي الدليل،فلا معني لأخذ الترجيح بينهما،و ما يبقي من السنّة من قبيل قوله عليه السّلام«كلّ شيء مطلق»لا تكافيء أخبار التوقّف لكونها أكثر و أصحّ سندا.

و أمّا قوّة الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم،و ظهر أنّ الكتاب و العقل لا ينافي وجوب التوقّف الي آخر كلامه (1).

قلت:ما ذكره متين،بل يمكن منع الاستدلال بالعقل علي البراءة في ما صدق عليه الشبهة.

الطائفة الثالثة:أخبار الاحتياط،و هي مرسل كنز الفوائد (2)و لا دلالة فيه علي الوجوب.و خبر أمالي ابن الشيخ (3)و في دلالته علي الوجوب نظر.

و صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:سألت أبا الحسين عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا و هما محرمان،الجزاء بينهما أو علي كلّ واحد منهما جزاء؟قال:لا بل0.

ص: 52


1- فرائد الاصول ص 345.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 27.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:396 ب 8 ح 30.

عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد،قلت:إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه،فقال:إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّي تسألوا فتعلموا (1).

و أورد عليه أوّلا:بأنّه غير معمول به في مورده؛لأنّه في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة.و ثانيا:أنّه مخصوص بما علم الوجوب في الجملة.و ثالثا:أنّه مخصوص بزمان الحضور و قبل الفحص عن الدليل،و القائل بالبراءة لا يتمسّك بها قبل الفحص.

قلت:لا يبعد أن يكون المراد من قوله عليه السّلام«إذا أصبتم مثل هذا»أي:إذا ابتليتم بمسألة لا تدرون حكمها مطلقا في الشبهة الوجوبيّة و غيرها،سواء كان أصل الوجوب معلوما أولا،و سواء كان في زمان الحضور أو غيره،فعليكم بالاحتياط، فيشمل جميع الموارد.

و المناقشات المذكورة مدفوعة،أمّا الأوّل،فلأنّه لا فرق بين الشبهة الوجوبيّة و التحريمية في الاحتياط في موارد الشبهة بحسب الأخبار.

و أمّا الثاني،فلأنّ المورد من دوران الأمر بين الأقلّ و الأكثر غير الارتباطيين، و الأكثر المشكوك في مثله يكون كالمشكوك البدوي،لأنّه لا فرق بينهما في كون الشكّ في كليهما ابتدائيا،فإذا وجب الاحتياط في الأوّل وجب في الثاني.

و أمّا الثالث،فلا وجه لتخصيصه بزمان الحضور،و الغاية المذكورة هي السؤال و تعلّم الحكم،و مجرّد إمكان حصول الغاية في زمان الحضور دون زمان الغيبة لا يوجب تخصيص المغيّي بحال الحضور،فتأمّل.

و الأولي عدّ هذه الرواية من الطائفة الأولي؛لأنّها تدلّ علي عدم القول بغير1.

ص: 53


1- وسائل الشيعة 18:111 ح 1.

علم.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)ذكر روايات اخر في هذه الطائفة قاصرة الدلالة علي عموم الاحتياط.

الطائفة الرابعة:ما يدلّ علي تثليث الامور،و هي مقبولة عمر بن حنظلة، قال عليه السّلام:و إنّما الامور ثلاثة:أمر بيّن رشده فمتّبع،و أمر بيّن غيّه فمجتنب،و أمر مشكل يرد حكمه إلي اللّه تعالي،قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجي من المحرّمات،و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم (2).

قيل:لا ظهور له في لزوم الاجتناب عن المشتبهات،لكن لا يبعد ظهوره في ذلك.

و خبر جميل بن صالح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إلي أن قال:الامور ثلاثة:أمر بيّن رشده فاتّبعه،و أمر بيّن غيّه فاجتنبه، و أمر اختلف فيه فردّه إلي اللّه (3)،و لا بأس بدلالته؛لأنّ قوله«فردّه إلي اللّه»ظاهر في الوجوب،و في سنده الحارث بن محمّد،و هو الحارث بن أبي جعفر،ذكره النجاشي و الشيخ،و لم يذكرا له مدحا،و جميل بن صالح ثقة.

و مرسل الفقيه،قال:و شبهات بين ذلك،فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم،فهو لما استبان له أترك (4).و لعلّه لا دلالة له علي الوجوب.و خبر نعمان بن بشير (5).4.

ص: 54


1- فرائد الاصول ص 347.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:308 ب 6 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:400 ب 8 ح 46.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:394 ب 8 ح 22.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:399 ب 8 ح 44.

و خبر سلام (1).

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذه الأخبار بما يقرب من الجواب عمّا دلّ علي أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة،بأنّه إرشاد إلي التحرّز عن المضرّة المحتملة فيها،فقد تكون المضرّة عقابا،فالاجتناب لازم،و قد تكون غيرها فلا عقاب.و يؤيّد عدم ورودها في مقام الالزام بترك المشتبهات امور:

أحدها:عموم الشبهات للشبهة الموضوعيّة،و لا يجب الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة إجماعا،و ليست الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن،لأدلّة جواز ارتكابها،مع أنّها لو كانت منه فالشبهة الحكميّة أيضا كذلك لأدلّة البراءة،و لا يصحّ تخصيص الشبهات بغير الموضوعيّة لإباء سياقها.

ثانيها:أنّه رتّب علي ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات و الهلاك من حيث لا يعلم،أي:من ارتكب الشبهة وقع في الحرام قطعا،لكن هذا المعني غير مراد،لعدم العلم بارتكاب الحرام إن ارتكب المشتبه،فيراد به مجازا أنّه إذا ارتكب الشبهة أشرف علي الوقوع في الحرام،و أعدّ نفسه لذلك،فإنّ من يرتكب الشبهة يسهل عليه ارتكاب الحرام،و يشرف علي الوقوع في الحرام،فلا بدّ من حمل الرواية علي الاستحباب؛لأنّ مجرّد الاشراف علي الوقوع في الحرام ليس بحرام.

ثالثها:الأخبار المساوقة لهذا الخبر ظاهرة في الاستحباب،فتكون قرينة علي حمل هذا الخبر علي الاستحباب أيضا (2).

قلت:إنّ الشبهة الموضوعيّة خارجة قطعا،لما عرفت من أنّ تحصيل الواقع غير ممكن،فهو من الحلال البيّن بعد ترخيص الشارع في ارتكابها،بخلاف الشبهة1.

ص: 55


1- جامع أحاديث الشيعة 1:176 ب 3 ح 8.
2- فرائد الاصول ص 351.

الحكميّة فإنّها محلّ إشكال؛لأنّه لم يتّضح دليل البراءة فيها،مضافا إلي أنّ الشبهة هي التباس الأمر و لا تشمل الموضوعيّة،فتأمّل.

و أمّا ما ذكره ثانيا،ففيه أنّ الظاهر من هذا الخبر الوقوع في الحرام الذي يحتمل انطباق الشبهة عليه لا حرام آخر؛لأنّه لو كان المراد حراما آخر غير ما في مورد الشبهة،كان حقّ العبارة أن يقال:وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يريد لا من حيث لا يعلم،فهذا التعبير يناسب الحرمة الموجودة في مورد الشبهة،ففي الشبهة الحكميّة يجب الاجتناب؛لأنّ الحكم الواقعي إن كان موجودا،فهو غير معذور في ارتكابه،و لمّا كان ارتكاب كثير من الشبهات يوجب الوقوع في الحرام الواقعي كان ذلك مانعا عن ارتكاب شبهة واحدة أيضا.

و أمّا ما ذكره ثالثا،فلأنّه لا تنافي بين الأخبار،بأن يكون ارتكاب الشبهات موجبا للوقوع في الحرام،و موجبا أيضا للتجرّي علي ارتكاب المحرّمات المعلومة.

و أمّا حكم العقل،فمن وجوه:

الوجه الأوّل:أنّه يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل الدنيوي و الاخروي، و احتمال حرمة الفعل يستلزم احتمال اشتماله علي مفسدة مقتضية للحرمة.

و فيه ما مرّ من أنّ الضرر المحتمل إن كان هلاك النفس أو قطع عضو و نحوهما، فالعقل يستقلّ بلزوم دفعه حتّي في الشبهة الموضوعيّة؛لأنّ الحكم العقلي لا يخصّص،فإذا شكّ في حرمة شرب التتن جاز شربه؛لعدم ترتّب ضرر عليه، بخلاف ما لو شكّ في كون بعض الموادّ المخدّرة سمّا يوجب استعماله هلاك النفس،فإنّه يستقلّ العقل بلزوم الاجتناب عنه.و أمّا احتمال العقاب الاخروي، فلا دافع له إلاّ إذا تمّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الوجه الثاني:استقلال العقل بلزوم امتثال المحرّمات الشرعيّة التي يعلم

ص: 56

المكلّف بوجودها إجمالا المتوقّف علي ترك جميع ما يحتمل حرمته.

و فيه أوّلا:أنّ المعلوم حرمته ما كان مؤدّي الأخبار و الشهرات الكاشفة عن النصّ،و لا علم بحرمة أشياء غير مؤدّياتها.

و ثانيا:لو سلّم كون الحكم الواقعي غير ملحوظ كونه مؤدّي الطرق،لكن العلم الاجمالي ينحلّ تعبّدا بقيام الأخبار و سائر الأدلّة علي حرمة بعض الأشياء، و نظيره في الانحلال تعبّدا،العلم بنجاسة أحد الثوبين ثمّ قامت بيّنة علي نجاسة أحدهما المعيّن قبل العلم الاجمالي،فيصير العلم الاجمالي منحلا تعبّدا،هكذا أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)فلاحظ.

أقول:إنّ الحكم الالزامي المدلول لنصّ الكتاب أو لظاهره أو للخبر الذي رواه ثقة واقعي،أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته قليل،و لو اضيف إليه ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من كونه مع ذلك موجبا للاطمئنان بصدوره كان مصداقه أقلّ،و لا ينحلّ العلم الاجمالي بالعمل بهذا المقدار.

فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بالأخبار علي الكيفية التي تقدّمت في بحث حجّية خبر الواحد،فلو فرض دلالة خبر عمر بن حنظلة مثلا علي حرمة شيء،و كان موافقا لشهرة القدماء،و كان في سند الخبر أصحاب الاجماع،و كان في الكتب الأربعة،إلي غير ذلك من الجهات التي يناقش بعضهم في حجّيتها،فلا يجوز طرحه و الرجوع إلي أصالة البراءة،لما ذكرنا من عدم انحلال العلم الاجمالي.

نعم إن عمل بجميع الأخبار و الشهرات المحتملة كاشفيّتها عن النصّ،خرج المشكوك عن أطراف العلم الاجمالي.

الوجه الثالث:أنّا مأمورون بترك ما نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله و الامام المعصوم عليه السّلام عنه4.

ص: 57


1- فرائد الاصول ص 354.

واقعا،بمقتضي قوله تعالي وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)يعني كلّ نهي صدر من النبي صلّي اللّه عليه و آله يجب الانتهاء عنه،فإذا احتمل كون شيء قد صدر النهي عنه،فلا بدّ من الانتهاء عنه حتّي يتحقّق الامتثال.

و فيه أنّه كذلك لو لا معارضته بما دلّ علي أنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان،و قد تقدّم الآيات و الأخبار الدالّة علي أنّه ما لم يصل الحكم إلي الناس،فلا يكونون مكلّفين بالعمل به،و هي تبيّن أنّ المراد هو ما نهاكم عنه ممّا وصل النهي إليكم.

الوجه الرابع:ما قيل من استقلال العقل بأنّ العبد من حيث انّه مملوك للّه سبحانه،فلا بدّ أن يكون صدوره و وروده عن إذن مالكه،ففعل ما لم يأذن به مالكه إذنا مالكيّا كشرب التتن خروج عن زيّ الرقّية،و هو قبيح مذموم عليه.

أقول أوّلا:إنّ معاملة الموالي مع العبيد أن يكون العبد ممتثلا لمولاه لا أن يكون مأذونا في كلّ فعل من نوم و قيام و قعود،نعم ليس للعبد أن يؤجر نفسه بدون إذن مولاه،و ليس له أن يبيع بعض أعضائه مثل احدي كليته،و لذا لو أراد المولي من العبد أن يشتري له اللحم و لم يأمره بذلك،قبح منه توبيخه علي عدم الشراء،و ليس ذلك إلاّ لهذا البناء الخارجي بين الموالي العرفيين و العبيد،و هذا المعني المرتكز في أذهان العرف يجرونه بين اللّه تعالي و عبيده.

و ثانيا:إنّ اللّه تبارك و تعالي يعامل العبد معاملة من كان مستقلا في أمره، فيشتري من المؤمنين أنفسهم و أموالهم و يدلّهم علي تجارة تنجيهم من عذاب النار.و حاصل هذا الوجه أنّ العبد مملوك للّه و المملوكيّة تقتضي أن يكون جميع حركاته و سكناته بإذن اللّه.و الجواب عنه ما ذكرناه.

الوجه الخامس:أنّ المخلوقات التي يتصرّف فيها كالتتن مثلا و غيره ملك للّه7.

ص: 58


1- سورة الحشر:7.

تعالي،و لا يجوز عقلا أن يتصرّف في ملك المالك إلاّ بإذنه و إباحته،فإذا فقد الإذن و الإباحة قطعنا علي الحظر،إلاّ إذا أذن الشارع في ارتكابه،و هذه المسألة تفترق عن مسألة أصالة البراءة،فإنّها في مورد الشكّ في الحكم الواقعي،و هذه المسألة في إثبات الحظر في التصرّف في الأشياء بالعنوان الواقعي بحكم العقل، لكن إثبات الحظر في الأفعال يكفي في القول بالاحتياط في مورد الشكّ في الحكم الواقعي.

و الجواب:أنّ العقل لا يستقلّ بقبح التصرّف في ملك الغير بما هو ملك الغير،إلاّ إذا كان إضرارا بالغير أو ظلما عليه،و أمّا مجرّد التصرّف فلا،و حيث انّ الناس يقصدون الانتفاع بأملاكهم يكون تصرّف الغير فيها إضرارا أو ظلما بهم،و أمّا اللّه تعالي فلا ينتفع بمخلوقاته،و لا يضرّه الانتفاع بها،فكما أنّ الاستظلال بظلّ حائط الغير لا يضرّه و لا يستقلّ العقل بقبحه،فكذا ملك اللّه تعالي،بل الانسان و وضع الأشياء تحت يديه و خلق الحيوانات و هي تنتفع بهذه الأشياء،فلا يستقلّ العقل بمنع الانسان من التصرّف فيها و الانتفاع بها.

و قد أجاب السيّد الأجلّ المرتضي رحمه اللّه بما يقرب ممّا ذكرنا في الذريعة (1)، و كأنّه يختار أنّ الأصل في الأشياء الاباحة،لكن الشيخ الطوسي في العدّة يذهب إلي الوقف،و لعلّه الأظهر؛لأنّ العقل لا إحاطة له بالمصالح و المفاسد،و ما ينبغي للمكلّف التصرّف فيه،و ما لا ينبغي له ذلك فيتوقّف في كلّ تصرّف بعد ملاحظة ورود الشرع؛لأنّه يراه ملزما بمراعاة الشرع.

الوجه السادس:استقلال العقل بلزوم أن يكون الانسان مطيعا للّه في جميع1.

ص: 59


1- الذريعة 2:821.

أعماله شكرا للمنعم الحقيقي،فما احتمل كونه حراما ينبغي تركه،و ما احتمل كونه واجبا ينبغي فعله،و ما علم أنّه رخّص فيه،جاز له ارتكابه.

و فيه أنّ العقل فيما لا يستقلّ بحسنه أو بقبحه يحكم بلزوم الرجوع إلي الشرع، فإن تمّ عنده أدلّة البراءة فيما يشكّ في حرمته أو الاحتياط فهو،و إلاّ ففي استقلال العقل بعدم التكليف حيث لم يصل إليه الحجّة مع احتمال وجود التكليف و عدم تقصير المولي،و إنّما خفي الحكم لاعتداء الظالمين،تأمّل و اشكال،فتأمّل.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الذي ينبغي أن يقال:انّه إذا لم يوجد دليل علي حرمة شيء أو وجوبه،و لم يقل بحرمته أحد من العلماء،فلا تكليف لعدم تماميّة البيان علي التكليف حيث لم يصل إلي المكلّف،و يدلّ عليه الآيات و الأخبار.

و أمّا إذا كان عليه دليل لم يتمّ حجّيته،كما إذا كان الخبر ممّا صحّحه القدماء و لم يثبت عندنا صحّته،أو كانت شهرة من القدماء غير مستندة إلي الخبر،أو كان سنده مشتملا علي رجل اختلفت الأقوال في وثاقته،أو رجل لم يضعّف،و أمثال هذه الموارد ممّا يكون فيه شبهة،أي:اشتبه الأمر و لم يظهر الترجيح بين هذه الامور، فيشمله أخبار التثليث و أخبار الوقوف عند الشبهة،و هي أقوي دلالة و سندا و أكثر عددا من أدلّة البراءة،و ربّما يقع الشبهة في تعيين المصداق الخارجي،كما إذا لم يعلم كون ذلك ربا لأجل الشكّ في كونه شرطا أو ليس شرطا ممّا يلتبس الأمر فيه، ففي جميع هذه الموارد يحتاط.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:قد يفصّل بين كون المسألة ممّا تعمّ بها البلوي

،بحيث لو ورد فيها تحريم لظهر،فإذا لم يوجد فيها ما يدلّ علي التحريم بعد الفحص،فيقال:عدم الدليل دليل علي عدم الحرمة واقعا،و بين كون المسألة محلّ الابتلاء و احتمل ورود نصّ فيها

ص: 60

قد خفي علينا،فحينئذ تجري أصالة البراءة،فيكون الفعل محكوما بالحلّية الظاهريّة،و لا ثمرة عمليّة بينهما،لكن عندنا و عند من يجعل بعض الموارد من باب الشبهة التي يجب فيها الاحتياط،فهذا التفصيل متين في الجملة.

و في المورد الأوّل يكون الفعل محكوما بالاباحة الواقعيّة،و في المورد الثاني بالاباحة ظاهرا.و أمّا إذا صدق الشبهة،فإنّه يجب التوقّف و الاحتياط.

و أمّا ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ هذا التفصيل،من قوله:إنّ الدليل المصحّح للتكليف هو ما تيسّر للمكلّف الوصول إليه و الاستفادة منه،فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شاف أصلا،أو كان و لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،أو تمكّن لكن بمشقّة رافعة للتكليف،أو تيسّر و لم يتمّ دلالته في نظر المستدلّ، فإنّ الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح.

إلي أن قال:إنّ المستنبط صحّ له دعوي القطع بانتفاء الحكم الفعلي،و لا فرق بين العامّ البلوي و غيره إلي آخر ما أفاده (1).

فيمكن المناقشة فيه بأنّه يصدق الشبهة في بعض هذه الموارد كما تقدّم،فإذا لم يتمّ عند المجتهد حجّية خبر من وثّقه الرجاليّون من الفطحيّة و الواقفيّة،و لم يثبت عنده حجّية شهرة القدماء،و لا غير ذلك ممّا يوجب اعتبار الخبر عند غيره، كوجوده في الكتب التي شهد الرجاليّون بأنّها معمول بها،ككتب الحسين بن سعيد، و كتكرّره في الاصول،و قام خبر معتضد بهذه الامور علي حرمة شيء،فلا يبعد صدق الشبهة،و يشملها ما دلّ علي الوقوف عند الشبهة،و لعلّ ذلك و شبهه وجه الاحتياط اللازم من بعض الفقهاء في بعض الموارد.

التنبيه الثاني:أنّ أصالة البراءة لا تنفي الحكم الواقعي

،و لا توجب الظنّ بعدم الحرمة،

ص: 61


1- فرائد الاصول ص 358.

بل هي وظيفة من لم يقم عنده دليل،و إن ظنّ ظنّا غير معتبر بالحرمة،كما أنّ الاستصحاب أيضا لا يفيد الظنّ،و سيأتي في محلّه.

التنبيه الثالث:لا إشكال في أنّ ترك المشكوك حرمته راجح عقلا

،و يستحقّ التارك ثواب الانقياد،و هل هو راجح شرعا؟بأن يكون أحد المستحبّات الشرعيّة، استظهر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من بعض الأخبار،كقوله عليه السّلام«من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلي أن يقع في المحرّمات»و قوله«من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك»و قوله«من يرتع حول الحمي يوشك أن يقع فيه»كون الأمر به للاستحباب،و حكمته أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة إلي آخر كلامه (1).

أقول:استفادة الاستحباب من هذه الأخبار مشكل،لكن يمكن أن يقال:إنّ الاحتياط مرتبة من التقوي و الزهد و الورع،و هي بمراتبها مستحبّة:لقوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2).

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين الاستحباب و التحريم،فالأرجح هو الترك.

التنبيه الرابع:تعرّض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لحكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة

البراءة

،و سنتعرّض له في الشبهة الموضوعيّة.

المسألة الثانية: ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة و غير الوجوب من جهة إجمال النصّ

عندنا،و كان معلوما عند المخاطبين،مثل النهي المجرّد عن القرينة،بناء علي القول باشتراكه لفظا بين الحرمة و الكراهة،و مفهوم الغناء أو الصعيد اللذين ربّما كانا معلومين عند المكلّفين المخاطبين،و لكن لبعد العهد و التصرّف باللغة و تداخل

ص: 62


1- فرائد الاصول ص 360.
2- سورة التغابن:16.

اللغات و غير ذلك،كما صرّح ابن الأثير في أوّل نهايته (1)صارا مجملين.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و حكمه كما في المسألة الاولي،و الأدلّة المذكورة من الطرفين جارية (2).

قلت:الانصاف أنّ هذا من موارد الشبهات،التي يشملها أخبار التثليث، و أخبار الوقوف عند الشبهة،و أخبار الكفّ عمّا لا يعلم،و هي حاكمة علي بعض أدلّة البراءة و مخصّصة لبعضها،مثل حديث الرفع؛لأنّه أعمّ من الشبهة الموضوعيّة و الحكميّة و ممّا لم يرد فيه نصّ أو ورد مجملا بحيث يكون مصداقا للشبهة.

المسألة الثالثة: أن يكون احتمال الحرمة لتعارض النصّين

،فإن كان وجه التقيّة معلوما موافقا لأحدهما حمل هذا علي التقية،و كذا إن ظهر موافقة أحدهما للكتاب.و أمّا إن لم يمكن الجزم بحمل أحدهما علي التقيّة للجهل بأقوال العامّة؛حيث انّ أقوالها علي ما قيل إنّما انضبطت في الأربعة في زمان السيّد المرتضي رحمه اللّه،أو لم يمكن الجزم بموافقة أحدهما للكتاب لاجمال الكتاب و نحو ذلك،أو تعارض النصّان و لم يتمّ الدليل علي التخيير،ففي جميعها يصدق الشبهة،فيجب الوقوف عندها و لا بدّ من الاحتياط.

المسألة الرابعة: في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة
و يستدلّ علي البراءة فيها بالادلّة الأربعة:
الأوّل:الكتاب

،و لعلّ المراد به قوله تعالي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

الثاني:الاجماع

،لكن يحتمل كون مدركه الأخبار و سيرة المتشرّعة.

ص: 63


1- نهاية ابن الأثير 1:5.
2- فرائد الاصول ص 365.
الثالث:الأخبار الكثيرة

،و نتعرّض لها في بحث الشكّ في المكلّف به.

و ذكر الشيخ الأنصاري خبر مسعدة بن صدقة و المناقشة فيه،و عبّر عنه بالموثّقة،ثمّ قال:و لكن في باقي الأخبار المتقدّمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب و العقل كفاية،مع أنّ صدرها و ذيلها ظاهران في المدّعي (1).

أقول:عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، و الأخبار مستفيضة علي الحلّ فيها.

الرابع:العقل

،فإنّه يحكم بقبح العقاب بلا بيان.

توضيحه:أنّ الحرمة المتعلّقة بشرب الخمر تنحلّ إلي حرمة كلّ فرد من الخمر، بحيث يكون لكلّ فرد عصيان مستقلّ،و الحكم يتوقّف علي وجود موضوعه، و قبل وجوده يكون إنشاء محضا،فوجود الموضوع شرط التكليف،فإذا شكّ في مايع أنّه خمر أو ماء،فإن كان خمرا واقعا فهو حرام مستقلّ لا ربط له بسائر أفراد الخمر،و حيث انّ كونه خمرا مشكوك،فيكون موضوع الحرمة مشكوكا،و الشكّ في الموضوع يوجب الشكّ في الحرمة،و العقاب علي ارتكاب مشكوك الحرمة عقاب بلا بيان.

و أورد عليه بأنّ البيان الذي لا بدّ منه في كون العقاب مع البيان هو بيان الحكم الكلّي و ايصاله إلي العبد،و أمّا بيان المصاديق فليس وظيفة المولي،و قد أدّي المولي ما عليه،حيث بيّن حرمة الخمر.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن هذا الايراد بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا و المعلومة إجمالا بين محصورين،و أمّا ما احتمل كونه خمرا فلم يعلم من النهي تحريمه،و ليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم

ص: 64


1- فرائد الاصول ص 269.

يحسن العقاب عليه،ثمّ ذكر أنّ هذا التوهّم،أي توهّم عدم لزوم بيان المصاديق جار في الموضوع الكلّي المشتبه حكمه كشرب التتن؛لأنّ العمومات الدالّة علي حرمة الخبائث و الفواحش و ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا تدلّ علي حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها (1).

و فيه أنّ العقل يحكم بأنّ المولي إن بيّن الحكم الكلّي و أوصله إلي العبد،فليس عليه بيان مصاديقه؛لأنّ انطباق الحكم الكلّي علي موضوعه قهري لا يرتبط بالمولي كشارع،فإذا حرّم ما صدق عليه مفهوم الخمر،فلا عذر للعبد في شرب ما صدق عليه الخمر واقعا،فيلزم عليه أن يجتنب ما يشكّ في كونه خمرا حتّي يحرز أنّه امتثل الحكم الصادر من المولي.

و أمّا النقض الذي ذكره الشيخ،فيلتزم به إن كان المراد من قوله وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ إنشاء حرمة ما صدق عليه الخبائث واقعا،و احتمل كون شرب التتن مثلا من الخبائث،و لكن في معني الآية احتمال آخر،و هو أن يكون المراد أنّ ما حرّمه الشارع من الميتة و الخمر و الدم و غيرها هي خبائث،فهو إخبار عن المحرّمات الشرعيّة أنّها خبائث.و أمّا إذا قلنا بحرمة الخبائث بهذا العنوان،فإن صدق الخبيث علي شيء حكم عليه بالحرمة،و أمّا إن لم يصدق الخبيث فلا،و إن شكّ في شيء أنّه خبيث وجب الاحتياط عقلا،و مرّ الجواب عن التمسّك بقوله تعالي وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

و حاصل كلامنا أنّ العقل يستقلّ بلزوم مراعاة احتمال انطباق المكلّف به علي المشكوك،فإذا قال المولي:لا تشرب الخمر،المراد به ما صدق عليه الخمر و هو الخمر الواقعي،فالعقل يستقلّ بأنّ الفرد المشكوك يجب الاجتناب عنه؛لأنّه لا9.

ص: 65


1- فرائد الاصول ص 369.

تقصير من ناحية المولي في بيان الحكم،و ليس عليه بيان تطبيق المتعلّق علي أفراده،و مطلوبه الاجتناب عن الخمر الواقعي،فلا يراه العقل معذورا لو شرب مشكوك الخمريّة الذي يكون خمرا واقعا؛لأنّ الاحتمال هنا يكون منجّزا للتكليف.

و لو سلّم دلالة الآيات المذكورة علي حرمة ما نهي عنه الشارع واقعا في الشبهة الحكمية،و إن لم يصل إلي المكلّفين بعد ما صدر عن الشارع،فلا يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان،و لكن يكفي الأدلّة المتقدّمة الدالّة علي أنّه لا يعاقب اللّه ما لم يتمّ البيان و ما لم يصل البيان في تقييد إطلاق أمثال قوله تعالي ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

و قد يستدلّ للاحتياط في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة بأنّ دفع الضرر المحتمل واجب عقلا؛لأنّ العقل يكون مدبّرا للبدن،و يري أنّ ما يكون فيه مصلحة له ملزمة يجب فعله،و ما يكون فيه مفسدة ملزمة يجب تركه،و لذا نقول:إنّ ما حكم به الشرع قد حكم به العقل أيضا؛لأنّ الشرع إذا حرّم شيئا كشف ذلك عن مفسدة فيه يلزم التجنّب عنها،و لا فرق فيما يلزم التحرّز عنه ممّا يرجع إليه بين الأمور الدنيوية و الامور الاخروية،فلذا يجب ملاحظة دعوي مدّعي النبوّة، المخبر عن وجود حياة بعد الموت،المحذّر من دخول النار بسبب بعض الأفعال.

ثمّ إنّ الاضرار التي يجب دفعها عقلا و الاجتناب عن مورد احتمالها امور:

الأوّل:العقاب الاخروي،فإن شرب المايع المردّد بين الخمر و الماء يحتمل فيه العقاب إن كان خمرا واقعا.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عنه بأنّ ضرر العقاب مأمون بحكم العقل بقبح

ص: 66

العقاب من غير بيان (1).

ثمّ اورد عليه بأنّه يحتمل وجود مصلحة في عدم البيان،و وكول الأمر إلي ما يقتضيه حكم العقل من وجوب دفع الضرر المحتمل.

و أجاب عنه بأنّ قوله«كلّ شيء لك حلال»بيان لعدم الضرر الاخروي.

أقول:تقدّم أنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعيّة، فلو لا الأخبار الدالّة علي حلّية المشكوك كانت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل محكّمة.و من المستبعد ما ذكره في فوائد الاصول (2)من إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعيّة قبل الفحص.

الثاني:الضرر الدنيوي،فإنّ بعض المحرّمات يضرّ بالبدن،فله مفسدة ملزمة لا بدّ من عدم ارتكابها قد اطّلع عليها الشارع و حرّمه لأجلها،و ما حكم به الشرع حكم به العقل،فإن احتمل ذلك وجب دفع الضرر المحتمل.

و ما ذكره في فوائد الاصول (3)في الايراد علي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ باب المصلحة و المفسدة غير باب الضرر الذي يستقلّ العقل بلزوم التحرّز عن محتمله.و كذلك في مصباح الاصول (4).في غير محلّه؛لأنّ حرمة بعض المحرّمات هي للاضرار بالبدن كما في بعض الأخبار.

و الصحيح في الجواب أن يقال:إنّ العقل و إن حكم بدفع احتمال المفسدة الملزمة الموجبة للضرر الدنيوي،لكن الشارع اطّلع علي انطباق عنوان آخر مزاحم لذلك،و لعلّه مصلحة التسهيل،فحكم بالحلّية بقوله«كلّ شيء لك حلال7.

ص: 67


1- فرائد الاصول ص 369-370.
2- فوائد الاصول 3:144.
3- فوائد الاصول 3:135.
4- مصباح الاصول 2:287.

حتّي تعلم أنّه حرام»إلاّ إذا كان المحتمل قتل النفس،كما إذا تردّد المايع بين كونه سمّا أو ماء،فإنّه يكون مصداقا لقوله تعالي وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ فيخصّص به عموم كلّ شيء لك حلال.

الثالث:الضرر المعنوي،بأن كان موجبا لسلب توفيقه عن فعل الواجبات، بحيث كانت هذه المفسدة ملزمة للترك،فهو أيضا ممّا يحكم عقل المتديّن بالدين بلزوم دفع الضرر محتمله لو لا ترخيص الشارع بقوله«كلّ شيء لك حلال».

ثمّ إنّ بعض الاصوليّين قال:ليست البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة قبح العقاب بلا بيان،بل البراءة العقليّة فيها من باب قبح العقاب بلا حجّة؛لأنّ كبري حرمة الخمر إنّما تكون حجّة في الأفراد المعلومة تفصيلا أو إجمالا،و لا تكون حجّة في الأفراد المشكوكة إلي آخر ما افيد.

أقول:لا نسلّم ذلك بل نقول:إنّ احتمال التكليف في مثل ذلك يكون منجّزا عقلا.

فتلخّص أنّ البراءة الشرعية تجري في الشبهة الموضوعية،و أمّا البراءة العقلية فلا محلّ لها فيها،هذا.و استدلّ علي وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة بما مرّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة.و الجواب الجواب.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:أنّ أصالة البراءة عن الحكم الالزامي و أصالة الحلّ في الشبهة الحكميّة

و الموضوعيّة اصول حكميّة

إنّما تجري إن لم يكن أصل موضوعي فإنّه حاكم عليها،فإذا شكّ في امرأة أنّها زوجة حتّي يجوز النظر إليها،أو أجنبيّة حتّي لا يجوز،فاستصحاب كونها أجنبيّة يكون رافعا للشكّ،فلا تصل النوبة إلي الأصل الحكمي،أي:أصالة البراءة عن حرمة النظر؛لأنّ الأصل الموضوعي سواء كان موافقا أو مخالفا يكون حاكما علي الأصل الحكمي؛لأنّه يرفع الشكّ تعبّدا،

ص: 68

و توضيحه يأتي في محلّه،و من ذلك أصالة عدم التذكية في الحيوان بعد زهاق روحه،فإنّها حاكمة علي أصالة البراءة عن الحرمة.

و تفصيله:أنّ الشبهة في اللحم المشكوك تذكيته:إمّا موضوعيّة،أو حكميّة.

أمّا الاولي و هي الشبهة الموضوعيّة فعلي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون الحيوان قابلا للتذكية و شكّ في حلّيته و حرمته،كما إذا تردّد الحيوان بين كونه ذئبا أو شاة،فإنّ التذكية تقع عليهما،و بعد التذكية يكون طاهرا،و يحكم بحلّيته بأصالة الحلّ و جواز الصلاة فيه،بناء علي جوازها في المشكوك،إلاّ أن يقال بأنّ أكل لحم هذا الحيوان كان حراما و يشكّ في صيرورته حلالا بالتذكية،و الأصل بقاء الحرمة.و فيه اشكال علي المختار.

القسم الثاني:أن يتردّد الحيوان بين ما يقبل التذكية و ما لا يقبلها،كما إذا تردّد بين الكلب و الشاة،فهو في حال حياته مشكوك الطهارة و النجاسة و محكوم بطهارته ظاهرا و طهارة بوله و خرئه،و بعد وقوع التذكية عليه،أي الذبح مع سائر الشرائط،يشكّ في كونه مذكّي أو ميتة،للشكّ في تأثير التذكية فيه بعد أن لم يكن مذكّي،و الأصل بقاؤه علي ما كان،كما أنّه يشكّ في كونه ميتة للشكّ في كونه كلبا.

و بعبارة اخري:هذا الحيوان المذبوح مع سائر الشرائط لا يعلم كونه مذكّي أو ميتة،و لا أصل يعيّن أحدهما،فيحكم بطهارته لكونه مشكوك النجاسة.

و هل يجوز أكله أو لا؟يمكن أن يقال بأنّ قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ (1)لا تدلّ علي حرمته؛لما بيّناه من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة،و لا دخل للعلم و الجهل في تحقّق مفاهيمها،و الآية الشريفة تدلّ علي تنويع الحيوان إلي الميتة و المذكّي،و هذا الحيوان المذبوح علي نحو التذكية داخل في أحد العنوانين،3.

ص: 69


1- سورة المائدة:3.

فهو مشكوك الحلّية و الحرمة،و مثل الآية الشريفة الأخبار الدالّة علي حرمة الميتة و حلّية المذكّي.

و أمّا الأخبار الدالّة علي أنّه إن رمي و لم يعلم أنّ رميته قتلته لم يحلّ،فلا تشمل المورد للعلم باستناد موته في هذا المورد إلي الذبح.

ثمّ إنّه قد يقال (1)بأنّ المستفاد من الأخبار الدالّة علي الحكم بتذكية اللحم أو الجلد المأخوذين من يد المسلم أو سوق المسلمين،أنّ كلّ لحم أو جلد لم يعلم كونه مذكّي و لم يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين،فهو محكوم بحرمة الأكل و النجاسة و عدم التذكية،و يمكن تأييده بأنّ قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ يدلّ علي اعتبار انتساب التذكية إلي المسلمين،فإن لم يحرز يبقي تحت العموم.

لكن يحتمل أن يقال:إنّ المتيقّن منها عدم جواز الصلاة و عدم الأكل،و أمّا النجاسة فمحلّ إشكال،و في كثير من الأخبار رتّبت النجاسة علي عنوان الميتة.

و قال في المصباح:إن قلنا بثبوت عموم يدلّ علي أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية، كما ادّعاه في الجواهر،و استدلّ له برواية علي بن يقطين (2)،و قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتيّة،فحينئذ يجري استصحاب عدم كون هذا الحيوان كلبا،و يتمسّك بالعموم علي قبول التذكية.

و إن منعنا أحد الأمرين،فإن قلنا بأنّ التذكية أمر وجودي مسبّب عن الذبح بشرائطه،كما هو الظاهر من لفظ المذكّي فالأصل عدمه.و إن قلنا بأنّ التذكية هي الأفعال الخارجيّة،كما استظهره المحقّق النائيني،فلا تجري أصالة عدم التذكية للقطع بتحقّقها علي الفرض،لكن هذا المبني فاسد (3)انتهي ملخّصا.1.

ص: 70


1- قاله في الجواهر 36:في مسألة تردّد اللحم المطروح بين المذكّي و غير المذكّي.
2- وسائل الشيعة أبواب لباس المصلّي ب 5،و راجع التنقيح 1:488.
3- مصباح الاصول 2:311.

أقول:لا يصحّ استصحاب عدم كون هذا الحيوان قبل وجوده كلبا،لما حقّقناه من عدم جريان استصحاب العدم الأزلي.

و أمّا ما ذكره من عدم جريان أصالة عدم التذكية علي القول بأنّ التذكية هي الأفعال الخارجية كما لا يبعد،علي ما يستفاد من الأخبار،من أنّها فري الأوداج و التسمية و الاستقبال،ففيه أنّ هذه الأفعال لا تؤثر في الكلب،و مع الشكّ في كونه كلبا أو شاة يشكّ في تأثير التذكية،و الأصل عدم تأثيرها،فالتذكية نظير التيمّم حيث انّه أفعال لكن لا تؤثّر هذه الأفعال في من ليس له عذر عن استعمال الماء.

ثمّ إن كان الحكم مترتّبا علي عنوان الميتة،فلا يثبت بالاستصحاب من غير فرق بين القول بأنّ التذكية أمر وجودي مسبّب عن الأفعال الخاصّة،أو أنّها نفس الأفعال.

أمّا علي الأوّل،فلأنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت كون الحيوان ميتة؛لأنّ الميتة عنوان وجودي عبارة عن زهاق روح حيوان بسبب غير التذكية:إمّا لعدم قابليّة الحيوان للتذكية،أو لعدم وقوع الذبح بشرائطه عليه.

و أمّا علي الثاني،فلأنّ التذكية هي الأفعال الواقعة علي غير الكلب و الخنزير، و أصالة عدم تحقّقها لا تثبت كون الحيوان ميتة.

ثمّ إنّ التذكية لغة:النفوذ و الحدة،و منها الذكاء لنفوذ الذهن وحدّته،و التهاب النار.

قال في المقاييس:ذكي يدلّ علي حدّة في الشيء و نفاذ،إلي أن قال:و من الباب ذكّيت الذبيحة اذكّيها إلي آخر ما ذكره (1).

و لكن ذكر في مجمع البحرين من معانيه التطهير،كما استظهره المحقّق الهمداني7.

ص: 71


1- مقاييس اللغة 2:357.

في كتاب الطهارة من مصباحه،و استشهد بمثل كلّ يابس ذكي،و ذكاة الأرض يبسها،و ذكاة الجلد دباغه إلي آخر كلامه (1).

و علي كلّ فلا فرق بين أن تكون التذكية زهاق الروح بهذه الامور،أي:التسمية و الذبح و غيرهما،و بين أن يكون نفس هذه الأفعال.

القسم الثالث:أن يشكّ في وقوع التذكية علي مأكول اللحم كالشاة،و الأصل فيه متعارض؛لأنّ استناد زهاق روحه إلي الذبح بشرائطه مشكوك و الأصل عدمه، كما أنّ استناد زهاق روحه إلي الموت بسبب غير شرعي أيضا مشكوك و الأصل عدم كونه ميتة فيتعارضان،و كما أنّ الحرمة و النجاسة متفرّعتان علي الميتة،كذلك الحلّية و الطهارة مترتّبتان علي المذكّي.نعم لا تجوز الصلاة فيه؛لقوله في موثّق ابن بكير«إذا علمت أنّه ذكي» (2).

و قد يقال كما مرّ بأنّ المستفاد ممّا ورد في الصيد من أنّه إذا علم أنّ رميته قتلته، و ممّا ورد من اعتبار سوق المسلمين،انّ أجزاء الحيوان إنّما تكون محكومة بالتذكية و الطهارة إن كانت مأخوذة من المسلمين،و إلاّ فلا يحكم عليها بالتذكية و الطهارة.

و فيه نظر؛لأنّي لم أجد في الأدلّة إلاّ عدم جواز الأكل لا الحكم بكونه ميتة،إلاّ أن يكون ملازمة عرفيّة بين عدم الأكل و كونه ميتة.

ثمّ لا يخفي أنّ الميتة ليست عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه،بل هي ما زهق روحه بسبب غير شرعي،و المذكّي ما زهق روحه بسبب شرعي و لا ثالث، و يترتّب علي كلّ واحد من العنوانين أثر،فإذا جري الأصل لنفي الأثر تعارض الأصلان.4.

ص: 72


1- مصباح الفقيه ص 139.
2- الاستبصار 1:384.

إلاّ أن يقال بأنّ التذكية هي الأفعال من الذبح و ذكر اسم اللّه و استقبال القبلة و الموت،فإذا شكّ في تحقّق أحدها فالأصل عدمه.و يمكن استظهاره من قوله تعالي إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ أي:إنّ أكيل السبع لا يؤكل إلاّ ما وقع عليه الأفعال،فإذا كان الحيوان أكيل السبع و شكّ في وقوع التذكية عليه،فالأصل عدمه.

و فيه أنّه لا يدلّ علي أنّ الميتة عبارة عن موت الحيوان و عدم وقوع التذكية عليه،بل هي موته حال عدم وقوع التذكية عليه،و أصالة عدم وقوع التذكية عليه لا تثبت حاله.

و لا يتوهّم أن يقال:إنّ الموت وجداني،و يشكّ في أنّه ذكر اسم اللّه عليه أو لا، و الأصل عدم ذكر اسم اللّه تعالي عليه،و ذلك لأنّ الموضوع ليس مركّبا من الموت و عدم ذكر الاسم،بل الموت حال عدم ذكر اسم اللّه عليه،فلا أثر لعدم ذكر اسم اللّه تعالي حتّي يستصحب عدمه.

و قد ظهر ممّا ذكر النظر فيما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ من جعل استصحاب عدم تذكيته معارضا بأصالة عدم الموت،قال:أوّلا أنّ حرمة الأكل لا تتوقّف علي ثبوت الموت،بل الحلّية متوقّفة علي التذكية،و الدليل عليه استثناء «ما ذكّيتم»من قوله«ما أكل السبع»فلم يبح الشارع إلاّ ما ذكي،و إناطة إباحة الأكل بما ذكر اسم اللّه عليه،و غيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية،فإذا انتفي بعضها و لو بحكم الأصل انتفت الاباحة.

و ثانيا:أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّي،و ليست الميتة ما مات حتف أنفه،بل كلّ زهاق روح انتفي معه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا (1).

فإنّ فيه أوّلا:أنّ حرمة الأكل لا تتوقّف علي ثبوت الموت،لكن النجاسة1.

ص: 73


1- فرائد الاصول ص 371.

متوقّفة علي تحقّق عنوان الميتة،و هو أمر وجودي عبارة عن الموت حال عدم وقوع التذكية.

و ثانيا:أنّ الاستثناء يوجب التنويع،فيكون مفاد الآية أنّ الميتة و هي ما زهق روحه حتف أنفه،و ما أكل السبع و ما مات بسبب غير التذكية،حرام أكلها.و ما مات بسبب التذكية حلال،و كذا قوله وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (1)يعني:ما مات في حال لم يذكر اسم اللّه عليه،و الموت في حال لم يذكر اسم اللّه عليه مشكوك،كما أنّ الموت في حال ذكر اسم اللّه عليه أيضا مشكوك.و الميتة شرعا ما مات في حال لم يجر عليه التذكية،و الدليل عليه ما بيّنا في بحث العامّ و الخاصّ و غيره من أنّ العلم و الجهل لا مدخليّة لهما في معاني الألفاظ، و الاستثناء يوجب التنويع،إلاّ أن يقال بما مرّ من استفادة الحكم بعدم التذكية و كونه ميتة ممّا دلّ علي أنّ المشكوك بحكم الميتة،إلاّ أن تقوم أمارة علي تذكيته، كسوق المسلمين و نحو ذلك.

و أمّا الثانية أي:الشبهة الحكميّة،فلها أيضا أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون قابلا للتذكية كالأرنب و شكّ في حلّية لحمه و حرمته، فتجري فيه أصالة البراءة عن الحرمة،أو أصالة الاحتياط علي الخلاف في الشبهة الحكمية التحريمية.

القسم الثاني:أن يشكّ في حلّيته و حرمته،و مع ذلك يشكّ أيضا في قابليّته للتذكية،كالمتولّد من الشاة و الكلب إن لم يسمّ باسم أحدهما،فإن ثبت من الأدلّة قابلية كلّ حيوان للتذكية،تمسّك بالعموم علي جواز تذكيته و تجري أصالة الحلّ لأكل لحمه أو الاحتياط علي الخلاف.1.

ص: 74


1- سورة الأنعام:121.

و إن لم يثبت من الأدلّة عموم ذلك،فأصالة عدم تحقّق التذكية لا تجري؛لأنّها أصل في الشبهة الحكميّة،و الاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،و لو سلّم جريانها فهي معارضة بأصالة عدم كونها ميتة.

و بعد التعارض يمكن القول بحلّية اللحم و عدم كونه نجسا،إلاّ أن يستفاد من الأخبار لزوم العلم بكون الحيوان مذكّي،أو قيام أمارة علي التذكية من سوق المسلمين و نحوه،و مع عدمهما يحكم بالحرمة و النجاسة و لو لعدم التذكية.

و لعلّ ما حكي عن المحقّق و الشهيد الثانيين من حرمة أكل اللحم و طهارته مبنيّ علي أنّ الحلّية متفرّعة علي إحراز التذكية،و النجاسة متفرّعة علي عنوان الميتة،و لا يثبت عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية.

و لا يخفي أنّ كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه هنا لا يخلو عن إجمال،فراجع.

و أمّا ما ذكره في الكفاية من أنّ التذكية إنّما هي عبارة عن فري الأوداج مع سائر شرائطها عن خصوصيّة في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلّية،و مع الشكّ في تحقّق تلك الخصوصيّة فالأصل عدم تحقّق التذكية (1).

ففيه نظر؛لأنّه إن كان عموم يقتضي قابليّة كلّ حيوان للتذكية فيتمسّك بالعموم، و إن لم يكن عموم كذلك،فأصالة عدم التذكية من الاستصحاب في الشبهة الحكمية لا تجري،لما بيّناه في محلّه من أنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهة الحكميّة،مع أنّها لو جرت فهي معارضة بأصالة عدم تحقّق عنوان الميتة،فإنّها عبارة عمّا زهق روحه في حيوان قابل للتذكية بسبب غير شرعي،أو زهاق الروح في حيوان غير قابل للتذكية،و هذا العنوان لم يكن فيستصحب،و يعارض مع أصالة عدم التذكية،هذا في الشبهة الحكميّة،و أمّا في الشبهة الموضوعيّة،فقد تقدّم7.

ص: 75


1- كفاية الاصول ص 397.

تعارض الأصلين،فلاحظ.

القسم الثالث:أن يشكّ في اعتبار الحديد مثلا في التذكية،فإن ذبح بغير الحديد،يشكّ في كونه مذكّي أو ميتة،و لا أصل يقتضي عدم التذكية،أو عدم كونها ميتة،فيرجع إلي أصالة البراءة عن الحرمة،فتأمّل لأنّه يمكن أن يستفاد من الأخبار توقّف حلّية الأكل علي إحراز التذكية.

ثمّ إنّه ذكر في المصباح أنّ حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة مترتّبان علي عدم التذكية،و النجاسة مترتّبة علي عنوان الميتة،و يجري الأصلان بلا معارضة،فتثبت حرمة الأكل و عدم النجاسة،كما في المتوضّي بمايع مردّد بين البول و الماء مثلا، فإنّه محكوم ببقاء حدثه و بقاء طهارة بدنه (1).

أقول:فيه مضافا إلي أنّ حرمة الأكل أيضا مترتّبة علي عنوان الميتة،أنّ الأصل لا يجري في أطراف العلم الاجمالي.و أمّا المثال المذكور،فإنّه لا يجري الاستصحابان و يحكم بطهارة البدن لقاعدة الطهارة و وجوب الوضوء لقاعدة الاشتغال.

التنبيه الثاني:في جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة في الدماء و الفروج

و الأموال و عدمه

احتمالان:

الأوّل:عدم الجريان،و هو الذي يظهر من الشيخ الأنصاري عليهم السّلام،حيث قال:

إنّ الاحتياط راجح مطلقا عقلا و نقلا،إلاّ إنّه موجب لاختلال النظام بل أكثر،و هو مناف لغرض الحكيم،و التبعيض بحيث لا يلزم اختلال النظام مشكل تحديده، فيحتمل أحد أمور:

الأوّل:التبعيض بحسب الاحتمالات،فيحتاط في المظنونات دون

ص: 76


1- مصباح الاصول 2:313.

المشكوكات.

الثاني:التبعيض بحسب المحتملات،فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع كالدماء و الفروج،بل مطلق حقّ الناس بالنسبة إلي حقوق اللّه تعالي (1).

الثالث:التبعيض بين مورد الأمارة علي الاباحة و مورد لا يوجد إلاّ أصالة الاباحة،فيحتاط فيها،إلي أن قال:فالأولي الحكم برجحان الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام،و يحدّد بصورة عدم اختلال النظام،و ما ذكر من أنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر،فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه انتهي ملخّصا (2).

أقول:يمكن أن يقال:إنّ الاحتياط في غير الثلاثة مرجوح في بعض الموارد، منها مسألة الطهارة و النجاسة،فلا يبعد أن يكون الاحتياط فيها مرجوحا.و منها:

ما كان في سوق المسلمين من اللحوم و الشحوم،فالاحتياط فيه مرجوح،و كذا ما في أيديهم من الأموال التي لا يعلم كونها حلالا أو حراما.و منها:الاحتياط في الصلاة و الوضوء بالتكرار فيهما.

بقي الاحتياط فيما يصير جزء البدن في بعض الموارد التي علم الاهتمام به، مثل الخمر و لحم الخنزير و الكلب و النكاح الذي منه الولد و نحو ذلك فهو راجح.

و أمّا الثلاثة فإن كان في موردها استصحاب أو أمارة عمل علي وفقهما،و إلاّ فيحتاط،كما إذا طلّق زوجته ثمّ علم أنّه وطأها:إمّا قبل الطلاق حتّي تكون أجنبية،و إمّا بعد الطلاق في العدّة حتّي تكون زوجة؛لأنّ الوطء في العدّة رجوع قهرا،و لم يعلم تاريخ الوطء،فاستصحاب الطلاق يقتضي كونها أجنبية،6.

ص: 77


1- هكذا العبارة في الأصل،و الظاهر أنّ خبر قوله رحمه اللّه«فالحرام المحتمل»ساقط.
2- فرائد الاصول ص 376.

و استصحاب بقاء الزوجية حال الوطء إلي ما بعده يقتضي كونها زوجة،و بعد تعارض الاستصحابين لا يرجع إلي أصالة الحلّ،و كذا لو شكّ في مال أنّه لنفسه أو لغيره إذا لم يكن له حالة سابقة،و كذا إذا شكّ أنّ الشبح المترائي من بعيد مؤمن أو غيره ممّن لا يكون دمه محترما،فالاصول في هذه الشبهات الموضوعيّة لا تجري.

و استدلّ في فوائد الاصول علي عدم جريان البراءة و وجوب الاحتياط في الثلاثة،بأنّ تعليق الحكم علي أمر وجودي يقتضي إحرازه،فمع الشكّ في تحقّق ذلك الأمر الوجودي الذي علّق الحكم عليه يبني ظاهرا علي عدم تحقّقه لا من جهة استصحاب العدم؛إذ ربما لا يكون لذلك الشيء حالة سابقة قابلة للاستصحاب،بل من جهة الملازمة العرفيّة بين تعليق الحكم علي أمر وجودي، و بين عدمه عند عدم إحرازه،و هذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم،و لكن لا ملازمة واقعية،بل ملازمة ظاهريّة،أي:في مقام العمل يبني علي عدم الحكم مع الشكّ في وجود ما علّق الحكم عليه،و يترتّب علي ذلك فروع مهمّة،منها-إلي أن قال:-و منها:أصالة الحرمة في الدماء و الفروج و الأموال (1).

أقول:الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة من غير دخل للعلم و الجهل و الشكّ في معانيها،فالمايع المقطوع أنّه خمر إن كان ماء واقعا فهو ماء و ليس بخمر، و التعليق علي الأمر الوجودي تابع لواقعه،فإذا قال ينجس الماء إلاّ إذا بلغ قدر كرّ، كان ذلك تنويعا للماء علي نوعين كرّ واقعي لا ينفعل،و ما عداه و هو لا ينفعل، فالماء مخلوق الساعة إن شكّ في كونه بحدّ الكرّ،فحيث إنّه لو كان كرّا لم ينفعل، و إن لم يكن كرّا انفعل،فإذا شكّ في كرّيته لا ينفعل للشكّ في انفعاله.0.

ص: 78


1- فوائد الاصول 3:140.

فالأولي أن يستدلّ أمّا في الأعراض فبالأخبار الواردة في الاحتياط فيها، كخبر مسعدة«لا تجامعوا علي الشبهة».

و يستدلّ بما دلّ علي أنّ الوطء حرام إلاّ بنكاح أو ملك أو متعة،المستفاد منه أنّه لا بدّ من الاحراز.

و أمّا في الدماء،فيمكن أن يتمسّك بقوله تعالي وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ (1)قيل:لو أريد عدم الوقوع فيها بعد إحرازها كالالقاء من شاهق،فلعلّه نادر،فينبغي أن يجتنب موارد احتمال الوقوع في الحرام،و لا فرق في وقوع النفس في التهلكة،أو نفس محترمة مسلمة،و أمثال ذلك ممّا يؤكّد الاهتمام شرعا بعدم الوقوع في قتل النفوس و اهراق الدماء.

و أمّا في الأموال،فبأنّ المال لو كان مسبوقا بملك شخص آخر استصحب بقاؤه علي ملكيته،و إن كان مسبوقا بالاباحة استصحب بقاؤه علي إباحته،و إن كان الاستصحاب فيه متعارضا،كما إذا علم بأنّه اشتري الكتاب من زيد أو عمرو و علم بأنّه ملكه زيد في زمان و عمرو في آخر و جهل الزمانان،فاستصحاب كونه ملكا لزيد متعارض مع استصحاب كونه ملكا لعمرو،فيتساقطان،لكن لا يرجع بعد التساقط إلي أصالة الحلّ؛لأنّها لا تثبت رضا المالك،و لا يحلّ مال امريء إلاّ بطيب نفسه.

و بعبارة اخري:عموم كلّ شيء لك حلال،حيث انّه لا يثبت كون هذا الشيء ليس ملكا للغير يخصّص بقوله«لا يحلّ مال امريء إلاّ بطيب نفسه»فإنّه لو كان ملكا للغير توقّف جواز التصرّف فيه علي طيب نفس الغير،فلا يحلّ التصرّف فيه إلاّ بطيب نفسه،و ما دام يشكّ فيه فلا يجوز.5.

ص: 79


1- سورة البقرة:195.

و الحاصل أنّ حلّية التصرّف في المال منحصرة بالطرق التي يحلّه بها مالك المال،كالبيع و الهبة و الاذن في التصرّف،و أشار إليه الشيخ في التنبيه الثاني بأنّه مستفاد من قوله«لا يحلّ مال إلاّ من حيث أحلّه اللّه»فلاحظ.

و الحاصل أنّه في غير هذه الثلاثة إن لم يثبت بالاستصحاب الحرمة أو الاباحة، كالماء مخلوق الساعة لا يعلم أنّه كرّ أو ليس بكرّ،أو إذا تعارض الاستصحابان للحالة السابقة فيهما،كما إذا تعارض استصحاب النجاسة مع الطهارة في مجهولي التاريخ،فإنّه يرجع الي أصالة الطهارة أو أصالة الاباحة،و هذا بخلاف الدماء و الأموال و النفوس،فلا يرجع فيها إلي أصالة الاباحة،و لا ريب في أنّ مراعاة الاحتياط فيها مطلوبة.

المطلب الثاني: في دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولي:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة احتمال وجود نصّ
اشارة

يحتمل كونه مدركا للوجوب.و الظاهر عدم الفرق بينه و بين الشبهة التحريميّة،فيجري فيه التفصيل المتقدّم،و هو أنّه في بعض الموارد يصدق الشبهة،فيجب الوقوف عندها، و الوقوف عند كلّ شيء بحسب اقتضائه،ففي مثل الدوران بين الوجوب و غيره لا بدّ من العمل به.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:لا إشكال في رجحان الاحتياط في التوصّليات و التعبّديات.

أمّا في التوصّليات،فإن قصد كونه-أي:كون احتياطه-للّه اثيب بالثواب الاخروي،كمن غسل يده بالماء القليل مرّتين لزوال نجاسته الحاصلة من غير البول احتياطا،و إن لم يقصد بفعله القربة كان فعله حسنا لدرك الواقع،لكن لا

ص: 80

ثواب عليه؛لأنّ الثواب إنّما يترتّب علي قصد أنّ هذا الفعل الاحتياطي-أي:

الغسل-هو للّه،كما إذا نوي القربة بالنوم و الأكل.

و أمّا إن كان عبادة،فإن قصد القربة باحتياطه اثيب.و أمّا إن لم يقصد القربة،بل كان قصده مجرّد درك الواقع و أتي بالفعل رجاء أن يكون أمره الواقعي باقيا،فإنّه يترتّب عليه درك الواقع إن كان العمل السابق باطلا،مثلا لو صلّي باستصحاب الطهارة من الحدث و كان محدثا واقعا،فصلاته مجزية،فإن أعاد الصلاة حينئذ ترتّب عليها إدراك الواقع،و هل يثاب بثواب آخر لانقياده إن كانت الصلاة الاولي باطلة؟أو أنّه لو كانت صلاته الاولي مع الطهارة واقعا،فهل يثاب علي انقياده؟ محلّ إشكال.

نعم لا إشكال في استحقاقه المدح،و هل ينطبق علي فعله عنوان آخر مثل كونه مرتبة راقية من التقوي؟لا يبعد ذلك،فيترجّح الاتيان بالعمل رجاء درك الواقع من حيث كونه أتقي،فيشمله قوله تعالي فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1)و قوله اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (2)فيكون اتيان الفعل رجاء في أمثال ذلك مستحبّا من حيث كونه اتّقاء للّه حقّ تقاته.نعم إن قصد القربة بهذا الفعل-كما قلنا في التوصّلي -كان له ثواب اخروي.

ثمّ انّ منشأ الاحتياط امور:

الأمر الأوّل:احتمال الاخلال بما يعلم دخله في العمل،كالمثال المتقدّم بأن صلّي مستصحبا للطهارة،فإنّه يحتمل بطلان وضوئه واقعا بنوم و نحوه،فأعادها مع الطهارة القطعية،أو نحو ذلك ممّا لا يستند احتمال الاخلال إلي وجود خبر غير جامع لشرائط الحجّية،ففي مثل ذلك لا بدّ من أن يقصد بعمله احتمال امتثال الأمر،2.

ص: 81


1- سورة التغابن:16.
2- آل عمران:102.

و إلاّ فيكون تشريعا لاحتمال أن لا يكون أمر واقعي أصلا،و ليس للمجتهد أن يفتي لمقلّده باستحباب الاعادة.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه نسب إلي أهل الفتوي خلافه،قال:و لو اريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي،و هو إتيان الفعل الداعي احتمال المطلوبيّة،لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلاّ مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال،حتّي يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوي علي خلافه (1)انتهي.

ثمّ إنّه لا ينبغي الارتياب في تحقّق العبادة إن أتي بالفعل للّه تعالي بداعي احتمال الأمر،سواء قلنا بأنّ قصد الأمر مأخوذ في متعلّق الأمر الأوّل،أو مأخوذ فيه بالأمر الثاني،أو ليس مأخوذا فيه،بل هو بحكم العقل،كما اختاره صاحب الكفاية،فما ذكره في الكفاية (2)من أنّ الاشكال في تحقّق العبادة بقصد احتمال الأمر،يندفع بما اختاره من أنّ قصد الأمر معتبر عقلا،لا وجه له.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ في جريان الاحتياط في العبادات وجهين، أحدهما:عدم الجريان؛لأنّ المعتبر في تحقّق العبادة العلم بالأمر تفصيلا أو اجمالا.ثانيهما:الجريان لكفاية احتمال الأمر،و لعلّه لذا استقرّت سيرة العلماء و الصلحاء فتوي و عملا علي إعادة العبادات لمجرّد الخروج عن النصوص الغير المعتبرة و الفتاوي النادرة (3)انتهي.

ثمّ ذكر أنّه بناء علي اعتبار العلم بالأمر إن ثبت أمر بإتيان العبادة احتياطا، فلا بدّ من أن يقال:إنّ الأمر قد تعلّق بالعمل الصحيح عدانيّة القربة،كالأوامر2.

ص: 82


1- فرائد الاصول ص 382.
2- كفاية الاصول ص 400.
3- فرائد الاصول ص 382.

الواقعيّة بالعبادات،مثل قوله تعالي أَقِيمُوا الصَّلاةَ قال رحمه اللّه:فمعني الاحتياط بالصلاة الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة،فأوامر الاحتياط تتعلّق بهذا الفعل،و حينئذ فيقصد المكلّف التقرّب بإطاعة هذا الأمر،و من هنا يتّجه الفتوي باستحباب هذا الفعل و إن لم يعلم المقلّد كون هذا الفعل ممّا شكّ في كونها عبادة و لم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة (1)انتهي.

أقول:إن ثبت أمر بالاحتياط،فهو متعلّق بالعمل بداعي احتمال الأمر؛لأنّه معني الاحتياط،و علي هذا فلا يجوز للمجتهد أن يفتي بالاستحباب المطلق،بل ينبغي أن يقول:يستحبّ الاعادة احتياطا،كما هو ديدن المتأخّرين في كتب الفتاوي،فيقولون:يفعل كذا احتياطا مستحبّا.

و أمّا ما ذكره من تعلّق الأمر بما عدا قصد القربة،ففيه أنّ قصد القربة مأخوذ في العمل جزء أو شرطا،فكيف يتعلّق الأمر بماعداه،و قد أجبنا عن إشكال دعوي استحالة أخذ ما ينشأ عن الأمر كقصد الأمر في متعلّقه،بأنّ المراد من قصد القربة جعل العمل للّه،و هو مأخوذ في العمل لا قصد الأمر،بل ذكرنا أنّه يمكن أن يقصد الأمر و لا يكون العمل عبادة.

ثمّ إنّ ما ذكر من تعلّق الأمر بذات العمل،مبني علي أن يكون قصد القربة مأخوذا بأمر ثانوي متعلّق بالعمل،كما نبّه عليه في التقريرات في بحث التعبّدي و التوصّلي،و قد مرّ الكلام فيه.

الأمر الثاني:عدم معرفة الحكم من الدليل،كما إذا دلّ خبر علي وجوب الجلوس بعد السجود،و لم يظهر من الدليل شموله لجلسة الاستراحة بعد أن كان المتيقّن منه الجلوس للتشهّد.2.

ص: 83


1- فرائد الاصول ص 382.

الأمر الثالث:أن يكون منشأ الاحتياط دلالة خبر غير معتبر علي وجوب عمل، كما إذا دلّ خبر ضعيف علي وجوب جلسة الاستراحة،فالأحوط الاتيان بها عملا بالخبر،و هل هو مستحبّ بعنوان كونه عملا بالخبر الدالّ علي رجحان العمل أم لا؟ فيه وجه مبني علي تمامية دلالة أخبار من بلغ علي ذلك،فإن تمّت دلالتها علي استحباب العمل البالغ عليه الثواب كما قيل،كفي قصد الأمر المستفاد من هذه الأخبار،فيأتي بالعبادة بقصد هذا الأمر جزما،و للمجتهد أن يفتي باستحباب الاعادة حتّي يكون الاتيان بالعمل بداعي الأمر المستفاد من أخبار من بلغ،و إلاّ فينبغي أن يقول:يستحبّ الاعادة احتياطا.

ثمّ إنّه لا بأس بالاستطراد في البحث عن أخبار من بلغ تبعا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه.فنقول:إن ورد خبر ضعيف دالّ علي وجوب عمل أو علي استحبابه،فأخبار من بلغ تدلّ علي رجحان فعله،و هل هي تدلّ علي أنّه مستحبّ شرعا،كالمستحبّات القطعية كصلاة الليل مثلا،و لا يعتبر أن يؤتي بالعمل برجاء الأمر،أو تدلّ علي استحباب العمل البالغ عليه الثواب إن أتي به بقصد احتمال الأمر،أو أنّها لا تدلّ علي استحباب العمل أصلا،بل هي إخبار عن تفضّل اللّه علي العبد إن أتي بعمل رجاء أمره بأنّه يثاب بالثواب الموعود،أو إنشاء و إرشاد إلي حكم العقل برجحان الاتيان بالعمل رجاء أمره؟وجوه.

و لا يخفي أنّه علي الأوّل يجوز للمجتهد أن يفتي بالاستحباب،فيقول:يستحبّ الوضوء لكذا،أو يستحبّ أن يصلّي ركعتين في ليلة كذا.و أمّا علي الوجه الثاني، فلا بدّ أن يفتي باستحباب الوضوء رجاء.

و علي الوجهين الأخيرين لا يفتي باستحباب الفعل،بل يقول:يتفضّل اللّه عليه بالثواب الذي بلغه؛لأنّ قصد الأمر القطعي انّما يصحّ في المستحبّات القطعية،فإن قصد بالفعل الذي بلغ عليه الثواب الأمر المتعلّق به قطعا كان تشريعا.

ص: 84

لكن قيل بجواز إفتاء المجتهد استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب علي جميع الاحتمالات الأربعة،و يندفع إشكال استلزام فتوي المجتهد تشريع المقلّد بما حاصله:انّ المقلّد لا يقصد بفعله إلاّ امتثال الأمر الخاصّ المتعلّق بفعله المعلوم وجهه عند اللّه تعالي علي حسب نظر مقلّده،فلا يكون ذلك تشريعا الخ.

أقول:إن كان عنوان الاحتياط مأخوذا في العمل،فلا بدّ من قصده،و إن لم يكن مأخوذا كان العمل مستحبّا بدون قصد رجاء الأمر.

ثمّ إنّ هذه الأخبار لا تقتضي استحباب عنوان الوضوء بما هو وضوء،بل تقتضي استحبابه بعنوان العمل البالغ عليه الثواب،و ليس للمقلّد أن يقصد استحبابه بعنوانه الخاصّ،بل بالعنوان الذي هو به مستحبّ،فعلي المجتهد القائل بذلك أن يبيّن أنّه مستحبّ لا بعنوانه.

و تظهر الثمرة فيما كان الحكم مترتّبا علي المستحبّ بعنوانه،كما قيل بأنّ الغسل المستحبّ بعنوانه يكفي عن الوضوء لا الغسل لا بعنوانه،بل بعنوان بلوغ الثواب عليه.

أقول:في المثال نظر؛لأنّه بناء علي اجزاء الغسل عن الوضوء،فلقائل أن يقول:

الغسل المشروع بأيّ عنوان يجزيء.

ثمّ إنّه ينبغي ذكر الأخبار التي موضوعها بلوغ الثواب علي عمل:

أحدها:حسن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من سمع شيئا من الثواب علي شيء فصنعه (1)كان له (2)و إن لم يكن علي (3)ما بلغه (4).1.

ص: 85


1- في الاقبال ص 627 عن الكافي:و صنعه.
2- في عدّة الداعي،عن الكافي:كان له أجره.
3- في الاقبال:كما بلغه.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 1.

قوله«من سمع»عامّ لكلّ من سمع بخبر،حصل له القطع منه أو لم يحصل،كان الخبر حجّة أو لا.

قوله«الثواب»شامل لمطلق الثواب و للثواب الخاصّ.

قوله«فصنعه»في المراد به احتمالان،الأوّل:أن يكون صنعه مترتّبا علي السماع خارجا،و إن لم يكن السماع محرّكا له،بأن يكون غرضه وصول الثواب إليه،و يكون الفاء لمجرّد الترتّب خارجا،أي:بلغه و بعده فعل ذلك.

الثاني:أن يكون السماع علّة تامّة لصنعه و يكون هو المحرّك له،و هو الظاهر من هذا الخبر و غيره.

قوله«كان له»يحتمل أن يكون إخبارا عن ترتّب الثواب علي ما عمله بدون الالتفات إلي هذا الخبر.و يحتمل أن يكون إخبارا عن ترتّب الثواب علي عمله بعد الالتفات إلي هذا الخبر،و كان صنعه بداعي ما يفيده هذا الخبر.

قوله«و إن لم يكن علي ما بلغه»يعني:انّ الأجر ليس تابعا لمطابقة الخبر للواقع.

و لا يخفي أنّ استحباب العمل كما يستفاد من الأمر به،كقوله«اغتسل للجمعة» كذلك يستفاد من ترتّب الثواب علي العمل،كقوله«من اغتسل للجمعة كان له كذا».

و اذا تبيّن معاني المفردات،فنقول:إذا سمع مؤمن خبرا غير معتبر يدلّ علي أنّ من فعل كذا كان له كذا مثلا،فإن التفت إلي أنّ هذا الخبر غير معتبر فلربّما خطر بباله أنّه مكذوب فلا يفعله،لكن بعد أن يعثر علي قوله عليه السّلام«من سمع شيئا من الثواب علي شيء فصنعه كان له و إن لم يكن علي ما بلغه»يقول:هذا العمل قد سمعت الثواب عليه،فإن صنعته كان لي الثواب،و لا يكون الثواب علي عمل إلاّ إذا كان مطلوبا،فأنا أصنعه لكونه مطلوبا.

ثانيها:خبر صفوان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من بلغه شيء من الثواب علي

ص: 86

خير فعمله كان له (1).و رواه في ثواب الأعمال،و في سنده علي بن موسي،و هو ابن جعفر الكمنداني،قال المامقاني:هو من العدّة التي روي عنهم محمّد بن يعقوب عن أحمد بن محمّد بن عيسي (2).

و مضمونه متّحد مع الأوّل،بل يحتمل اتّحادهما،و انّ هشام سمع عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و رواه مرّة عن صفوان،و مرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام لعلمه بصدق صفوان،و المراد بصفوان لعلّه الجمّال،فإنّ صفوان بن يحيي من أصحاب الكاظم و الرضا عليهما السّلام.فما في فلاح السائل (3)لابن طاووس من قوله«صفوان بن يحيي»لعلّه غلط.و في الاقبال صفوان بدون ابن يحيي.و متن ثواب الأعمال الموجود يختلف عن متنه الذي نقل عنه ابن طاووس في الاقبال و في فلاح السائل.

أمّا المتن في ثواب الأعمال الموجود عندنا،فإنّه يحتمل أن يكون المراد ما لو كان عمل راجحا في نفسه،بأن كان خيرا و بلغه ثواب خاصّ عليه،كان له الثواب الخاصّ،فلا يشمل ما لو ورد ثواب علي الجلوس علي الصفا مثلا،فإنّه في نفسه ليس خيرا،فتأمّل.

و أمّا المتن الذي ذكره السيّد،و هو هكذا:في الاقبال عن ثواب الأعمال باسناده عن صفوان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:من بلغه شيء من الخير فعمل به، كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (4).فهو أعمّ؛لأنّ ما فيه ثواب فهو خير.7.

ص: 87


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 4.
2- تنقيح المقال 2:310.
3- فلاح السائل ص 11.
4- الاقبال ص 627.

ثالثها:خبر هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:من بلغه عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (1).

و يحتمل اتّحاده مع سابقيه،لكنّه مختصّ بالبلوغ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله.و يمكن دعوي شموله لما يبلغه عن الأئمّة عليهم السّلام لأنّهم يبلّغون عن النبي صلّي اللّه عليه و آله.و مضمونه متّحد مع الحديث الأوّل.

رابعها:خبر محمّد بن مروان،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:من بلغه ثواب من اللّه عزّ و جلّ علي عمل،فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه و إن لم يكن الحديث كما بلغه (2).

في سنده عمران الزعفراني،قال الشيخ في موضع من الاستبصار:مجهول (3).

و لعلّ ظاهر كلامه أنّ شخصه مجهول،و هو مشترك بين جماعة مجهولي الحال.

و محمّد بن مروان مشترك بين جماعة مجهولي الحال،إلاّ محمّد بن مروان الجلاّب،و محمّد بن مروان الحنّاط المديني،فإنّ الشيخ عدّ الأوّل من أصحاب الهادي عليه السّلام،و قال:ثقة (4).وعدّ الثاني من أصحاب الهادي عليه السّلام،و قال فيه النجاشي:ثقة قليل الحديث (5).و راوي الخبر غيرهما؛لأنّ الخبرين مرويّان عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و مضمونه متّحد مع الحديث الأوّل،إلاّ زيادة التماس ذلك الثواب،و معناه أن يفعل الفعل طلب وصول الثواب إليه،و لعلّه إشارة إلي أنّه يفعله طمعا لثوابه لا لهوي0.

ص: 88


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 2.
3- الاستبصار 2:76.
4- رجال الشيخ ص 391.
5- رجال النجاشي ص 360.

نفسه،كما في العبادة التي قد علم كونها مأمورا بها،فإنّه يعملها طلب وصول الثواب إليه.

خامسها:خبر محمّد بن مروان أيضا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:من بلغه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله شيء فيه الثواب،ففعل ذلك طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله،كان له ذلك الثواب، و إن كان النبي صلّي اللّه عليه و آله لم يقله (1).

و في سنده أحمد بن النضر و هو ثقة،و محمّد بن مروان مشترك كما تقدّم.

قوله«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»يحتمل أمرين:أحدهما أن يرجو أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:افعل،فيفعل العمل لاحتمال أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله،فيكون إتيان العمل بداعي احتمال أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قاله راجحا،فإن فعله لا بداعي احتمال قوله صلّي اللّه عليه و آله،و ان فعله قربة إلي اللّه،لم يشمله هذا الخبر.

ثانيهما:أن يرجو مضمون قوله صلّي اللّه عليه و آله«و هو الثواب»أي:طلب الثواب؛لأنّ أمره بفعل ملازم للثواب عليه،فطلبه قول النبي صلّي اللّه عليه و آله لا ستلزامه الثواب،فيتّحد معناه مع التماس الثواب،و لا يبعد ذلك.

و أمّا خبر عدّة الداعي (2)،و خبر الاقبال (3)،فالظاهر اتّحادهما مع سوابقهما.

و بعد إرجاع الأخبار بعضها إلي بعض،يكون الأخبار خبر هشام،و خبر محمّد بن مروان،و يحتمل خبر صفوان.

و بعد ذكر الأخبار يقع الكلام في بيان ترجيح الاحتمالات المذكورة،فنقول:

يستدلّ للأوّل-أي:لاستحباب العمل البالغ عليه الثواب الذي نسب إلي7.

ص: 89


1- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:409 ب 10 ح 3.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:410 ب 10 ح 7.

المشهور،و هو اختيار صاحب الكفاية (1)-بأنّ الأمر الاستحبابي بفعل يقع علي وجهين،أحدهما:ذكر الأمر كقوله«اغتسل للجمعة»و هو يدلّ علي الثواب؛لأنّ جزاء العمل متفرّع عليه.

ثانيهما:ذكر الثواب،كقوله«من اغتسل للجمعة كان له كذا»فإنّه يدلّ علي الأمر بغسل الجمعة،و هو واضح.و هذه الأخبار من قبيل الثاني؛لأنّ قوله«من سمع الثواب»مطلق يشمل من سمع بخبر معتبر،أو سمع بخبر غير معتبر،و من قطع بمضمون الخبر أو لم يقطع،و إذا لم يقطع بمضمونه لم يكن الخبر محرّكا له إلي فعله لضعف رواته،أو كان محرّكا له برجاء الأمر.

قوله«فصنعه كان له»معناه الأمر بصنعه،نظير أن يقال:من أدرك زوال الجمعة و فعل كذا كان له،فإنّ معناه إذا زالت الشمس يوم الجمعة فليفعل كذا و له الثواب البالغ عليه،و يدلّ علي الأمر بالعمل مولويّا و يكون مستحبّا كسائر المستحبّات القطعيّة،لكن بعنوان العمل البالغ عليه الثواب.

و يستدلّ للثاني و هو الاستحباب شرعا للعمل المأتي به بداعي احتمال الأمر، بأن يكون العمل البالغ عليه الثواب أحد المستحبّات الشرعيّة إن قصد به احتمال وجود الأمر الواقعي،بعموم الخبر المتقدّم بعد تقييده بما في خبري مروان بن محمّد،من أن يكون عمله التماس ذلك الثواب،أو طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله،و نتيجته أن يكون أمرا مولويّا بالعمل المقصود به الاحتياط و رجاء درك الواقع.

و فيه مضافا إلي ما في سند الخبرين ما عرفت من أنّ معني التماس ذلك الثواب أنّ داعيه الوصول إلي الثواب،فيكون رجاؤه ذلك موجبا لئلاّ يخيب اللّه تعالي رجاءه،و كذا قوله«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»يعني طلب الثواب،و التماس الثواب1.

ص: 90


1- كفاية الاصول ص 401.

و طلب الثواب موجودان أيضا في سماع الخبر المعتبر الذي حصل القطع منه،مع أنّه يأتي بالعمل بداعي الأمر القطعي و لا يقصد رجاء الأمر.

و يستدلّ للثالث الذي أيّده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و هو كون هذه الأحاديث إخبارا عن تفضّل اللّه سبحانه علي عبده بالثواب الذي بلغه علي عمل و أتي به بداعي الأمر جزما إن بلغه بخبر معتبر،أو احتمالا إن بلغه بخبر غير معتبر،بأنّ الفاء في قوله«فعمله»تدلّ علي أنّ مدخولها معلول لسابقه،و هو بلوغ الثواب،و البلوغ إن كان بخبر معتبر صحيح الاسناد يوجب الاتيان بالعمل بداعي الأمر القطعي.و إن كان بخبر غير معتبر،فهو يوجب الاتيان بالعمل لاحتمال موافقة الأمر.

و حاصل المعني أنّه يثاب علي انقياده من دون دلالة في هذه الأحاديث علي الأمر باتيان العمل.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا علي البلوغ،و كونه الداعي علي العمل،و يؤيّده ما في بعض الأخبار«طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»و العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المدح و الثواب.

و حينئذ فإن كان الثابت بهذه الأخبار أصل الثواب كانت مؤيّدة لحكم العقل.

و أمّا طلب الشارع لهذا الفعل المستفاد من هذه الأخبار،فإن كان إرشادا لأجل تحصيل هذا الثواب،فهو عين الأمر بالاحتياط.و إن كان طلبا مولويّا المعبّر عنه بالاستحباب،فهو غير لازم للحكم بتنجّز الثواب؛لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه،فيشبه قوله تعالي مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي إلاّ أنّ هذا وعد علي الاطاعة الحقيقيّة،و ما نحن فيه وعد علي الاطاعة الحكميّة.

و توهّم أنّ ذكر ترتّب الثواب علي عمل يدلّ علي الأمر به،نظير من سرّح لحيته فله كذا.مدفوع بالفرق بينهما،بأنّ مرجع قوله«من سرّح»إلي بيان الثواب علي إطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل،فيكشف عن الأمر به،أمّا الثواب الموعود في هذه

ص: 91

الأخبار،فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة،فهو لازم لنفس عمله المتفرّع علي السماع و احتمال الصدق و لو لم يرد به أمر آخر أصلا،فلا يدلّ علي طلب شرعي آخر.

نعم يلزم من الوعد علي الثواب طلب إرشادي لتحصيل ذلك الموعود، فالغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتياط تأييد حكم العقل و الترغيب في تحصيل وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين.إلي آخر ما أفاده و نقلناه مع تلخيص (1).

أقول:التفريع بقوله«فعمله»علي السماع لعلّه من أجل أنّه إن لم يسمع لا يخطر بباله أن يعمل،و لكن كما يمكن أن يكون داعيه الأمر الذي سمعه و قطع بصدق قائله،أو كان قوله حجّة شرعا و أتي بالعمل بداعي الأمر القطعي،أو سمعه و لم يقطع بصدق قائله،بل احتمل صدقه و أتي بالعمل بداعي احتمال الأمر،كذلك يمكن أن يكون داعيه و محرّكه هذه الأخبار الدالّة علي الاتيان بما سمعه.

توضيحه:أنّه لو كانت هذه الأخبار ناظرة إلي العمل الواقع في الخارج بداعي الأمر أو بداعي احتماله،أمكن حمله علي بيان التفضّل علي الانقياد،و لا يشمل من سمع و لم يقطع بصدق قائله،و لا احتمل صدقه احتمالا يحرّكه نحو العمل بداعي احتمال الأمر،كما إذا كان الراوي عاميّا و مطعونا عليه بحيث لا يكون إخباره محرّكا إلي العمل،و حينئذ يتوقّف في العمل و لم يظهر أنّ العقل يأمره بأن يعمل بداعي الأمر ليكون له ثواب الانقياد؛لأنّه إذا كان السماع ممّن لا يعتمد عليه،فالعقل لا يستقلّ بأنّ العمل له ثواب،لكن هذا السامع المفروض إن عثر علي هذه الأخبار الصحيحة أي أخبار من بلغ،تصير داعية و محرّكة له إلي الاتيان بالعمل في الفرض المزبور،فإمّا أن يلتزم بأنّ هذه الأخبار لا تشمله و هو بعيد،و إن3.

ص: 92


1- فرائد الاصول ص 383.

شملته فهي تكشف عن الأمر بالعمل الذي سمع عليه الثواب باتيانه له تعالي،و هذا معني الاستحباب الشرعي،أي:اتيان العمل الذي سمع أنّ عليه ثوابا بداعي الأمر المستفاد من هذه الأخبار.

و المتحصّل من أخبار من بلغ امور:

الأوّل:رجحان العمل ممّن بلغه ثواب من اللّه علي عمله إن أتي به بداعي وصول الثواب الذي بلغه عليه،مثلا من بلغه ثواب علي المشي إلي المسجد يوم الجمعة،فمشي إليه بداعي وصول الثواب إليه كان له،فالمناط هو العمل بداعي ثواب ما بلغه،و يختلف باختلاف الثواب الذي بلغه،فمن بلغه علي المشي إلي المسجد عشر حسنات يعطي عشر حسنات،و من بلغه عشرون يعطي عشرون حسنة و هكذا.

الثاني:انّ جملة«من سمع شيئا من الثواب علي عمل فصنعه كان له»خبريّة، تنحلّ إلي الاخبار عمّا صنعه بداعي وصول الثواب إليه قبل الاطّلاع علي هذه الأخبار،و إلي الانشاء بطلب فعل ما بلغه الثواب عليه بداعي وصوله إليه،و هذا الطلب توصّلي لا يعتبر قصد القربة فيه.نعم يختلف فعل ما بلغ فيه الثواب،فقد لا يعتبر فيه قصد القربة و قد يعتبر فيه.

مثال الأوّل:ما إذا بلغه بخبر ضعيف علي أن من أتي أهله طلبا للذّة كان له كذا من الثواب الاخروي،فصنعه بداعي وصول هذا الثواب إليه بدون قصد القربة،كان له ذلك.

و مثال الثاني:ما إذا بلغه بخبر ضعيف أنّ من صلّي صلاة الصبح،كان له كذا من الأجر،فصلّي صلاة الصبح مع قصد القربة المعتبر فيها بغرض الوصول إلي الثواب الذي بلغه،كان له ذلك.

و أمّا إن لم يتبيّن حال الفعل الذي بلغ عليه الثواب أنّه توصّلي أو تعبّدي،كما إذا

ص: 93

بلغه بخبر ضعيف أنّ من مشي إلي المسجد يوم الجمعة كان له كذا من الأجر،فهل يعتبر قصد التقرّب في المشي أو لا يعتبر؟و جهان،مبنيّان علي أنّ الثواب الاخروي لا يترتّب علي الأفعال المباحة إلاّ إذا صرّح بترتّبه عليها،كما ورد في اتيان الأهل و ترك شرب الخمر صيانة للنفس،فلا بدّ من قصد القربة،أو أنّه يترتّب علي الأفعال المباحة لاطلاق الدليل،و البحث عنه موكول إلي محلّه.

و نحن نتكلّم بناء علي اعتبار قصد القربة فيه،فنقول:إذا مشي يوم الجمعة إلي المسجد للّه تعالي بغرض وصول الثواب المذكور في الخبر الضعيف إليه،ترتّب الثواب علي مشيه.

فإن قلت:كيف أضاف المشي المباح إلي اللّه تعالي؟

قلت:ثبت عنده بهذه الأخبار المستفيضة أنّ الفعل الذي بلغ عليه الثواب بخبر ضعيف مطلوب للّه؛لأنّه يعطي عليه الثواب،و لذا لا يعطي الثواب علي شرب الماء مثلا؛لأنّه لم يبلغ علي شربه ثواب،و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ من بلغه الثواب بخبر حصل له القطع منه،مشمول لهذه الأخبار و إن لم يكن عمله مستحبّا،و لا يشمل من قطع بالثواب من غير ناحية بلوغ الخبر إليه.

الثالث:أنّ من بلغه ثواب علي عمل،فهل يعتبر في عمله أمران:الفعل الجوارحي،و الفعل الجوانحي،بأن يمشي مثلا إلي المسجد للثواب الذي بلغه عليه،و يرجو في نفسه أن يكون الثواب الذي بلغه مطابقا للواقع،بأنّ قاله النبي صلّي اللّه عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السّلام،أو لا يعتبر إلاّ الفعل الخارجي بغرض وصول الثواب إليه،كما أنّ من يفعل الواجبات القطعيّة كالصلوات اليوميّة إنّما يفعل الفعل الجوارحي و هو الصلاة،و لا يقارنه رجاء أن يكون وجوبه مطابقا للواقع؟و جهان.

المستفاد من أخباره المطلقة الأوّل،و قيل:المستفاد من خبرين الثاني،و فيه نظر؛لأنّ قوله في أحدهما«فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»يعني:انّه مشي

ص: 94

مثلا إلي المسجد بغرض وصول الثواب الذي بلغه احترازا عمّن مشي و لم يبلغه الخبر أو بلغه و نسيه،فإنّ معني الالتماس هو قصد النيل إلي الثواب.

و قوله في ثانيهما«ففعل ذلك طلب قول النبي صلّي اللّه عليه و آله»محتمل لأن يريد طلب الثواب لا رجاء مطابقة الخبر للواقع،لكن لا يبعد ظهوره في طلب مطابقة الخبر للواقع،و علي هذا فيمكن أن يقال بأنّه مخيّر بين الأمرين،فمن بلغه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله بخبر ضعيف أنّ من مشي إلي المسجد يوم الجمعة فله كذا من الأجر،مخيّر بين أن يمشي إلي المسجد بغرض وصول الثواب المذكور في الخبر إليه مع قصد القربة في مشيه،و بين أن يمشي إلي المسجد بداعي أن يكون الخبر المذكور مطابقا للواقع، و لا حاجة إلي قصد القربة؛لأنّه قد انبعث عن احتمال الأمر،و هو يكفي في التقرّب،و لا يخفي أنّ كلّ واحد منهما يستلزم الآخر في الجملة.

ثمّ إنّه لا فرق بين أن تكون هذه الأخبار إخبارا عن تفضّل اللّه سبحانه،أو إنشاء و إرشادا إلي ما استقلّ العقل به من رجحان الانقياد،كما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،و أنّه يعطي ثواب الانقياد،و بين كونها دالّة علي استحباب العمل في أنّها لا تدلّ علي حجّية الخبر الضعيف في المستحبّات.

و أمّا احتمال أنّ هذه الأخبار تدلّ علي أنّ كلّ خبر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله يدلّ علي الثواب علي العمل فهو حجّة،فلا دلالة فيها،و لعلّه لم يقل به أحد،و مرادهم من التسامح في أدلّة السنن أنّه لا يشترط في الأخبار الواردة في السنن الوثاقة في الراوي و غيرها،لا أنّ كلّ خبر يدلّ علي الثواب علي عمل طريق لاثبات المستحبّات الواقعيّة،و أظهر الاحتمالات هو الأوّل،و لهذه القاعدة مسائل أفردناها مستقلا.4.

ص: 95


1- فرائد الاصول ص 384.
التنبيه الثاني:أنّ ما تقدّم كان حكم الشكّ في الوجوب العيني التعيّني.
اشارة

و أمّا الشكّ في سائر أقسام الوجوب،فهو علي أقسام:

القسم الأوّل:الشكّ في سعة الوجوب التخييري العقلي،

كما إذا وجب عتق الرقبة و شكّ في تعلّقه بالرقبة المؤمنة أو بمطلق الرقبة،فإنّه من الشكّ في وجوب الرقبة الكافرة،من باب أنّها فرد للكلّي،و التخيير بين أفراد الكلّي عقلي علي ما قيل،فإن تعذّر الرقبة المؤمنة،فحينئذ يشكّ في وجوب عتق الكافرة،و الأصل البراءة عنه.

و إن تمكّن من عتق الرقبة المؤمنة و الكافرة،ففي إجراء البراءة عن تعيّن وجوب الرقبة المؤمنة ليكتفي بالرقبة الكافرة،أو تعيّن عتق المؤمنة للاشتغال اليقيني المقتضي للبراءة اليقينيّة المتوقّفة علي الاتيان بالرقبة المؤمنة احتمالان:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:يشكل جريان أصالة عدم الوجوب؛ إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد متردّد بين الكلّي و الفرد،فيتعيّن هنا إجراء عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك،فيجب عتق الرقبة المؤمنة، بل يمكن أن يقال:الأصل عدم تعلّق الوجوب بالكافرة،و بضميمته إلي وجوب المؤمنة علي كلّ تقدير،أي:ضميمة الأصل إلي الوجدان يثبت وجوب المؤمنة.

الثاني:إجراء أصالة البراءة العقليّة و الشرعيّة؛لأنّ العقاب علي ترك الرقبة المؤمنة إن أتي برقبة كافرة،عقاب علي ما لا يعلم،فيكون من العقاب بلا بيان، لأنّه لا يعلم من الأوّل تعلّق وجوب تعيّني بالاتيان بالرقبة المؤمنة،و يشمله حديث رفع ما لا يعلمون أيضا.

أقول:لا بأس بالاحتمال الثاني لو لا المناقشة بأنّ العرف لا يساعد علي هذه التحليلات.هذا إن لم يكن الأمر تعبّديا،و إلاّ فيشكّ في مشروعيّة عتق الكافرة؛ لأصالة عدم تعلّق الأمر به.

ص: 96

القسم الثاني:الشكّ في تعلّق الوجوب التخييري الشرعي بعمل،
اشارة

و هو علي نوعين:

النوع الأوّل:أن لا يعلم سقوط الواجب به،

كما إذا علم وجوب عتق الرقبة:إمّا تعيينا،أو تخييرا بينه و بين إطعام ستّين مسكينا،فإن تعذّر عتق الرقبة،فيشكّ في وجوب إطعام ستّين مسكينا،و الأصل البراءة عنه،و أمّا إن تمكّن من عتق الرقبة، ففي إجراء البراءة عن تعيّن عتق الرقبة و الاكتفاء بإطعام ستّين مسكينا و جهان تقدّما من أنّ المعلوم أصل الوجوب،و أمّا وجوب خصوص عتق المؤمنة فهو مجهول،و من أنّ الاشتغال اليقيني بوجوب عتق المؤمنة إمّا تعيينا أو تخييرا معلوم، و هو يقتضي البراءة اليقينيّة.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الوجه الثاني،حيث قال:و أمّا إذا كان الشكّ في ايجابه بالخصوص،جري أصالة عدم الوجوب،و أصالة عدم لازمه الوضعي،و هو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له (1)انتهي.

النوع الثاني:أن يعلم سقوط الواجب به،

كما إذا علم وجوب الصلاة فرادي مع القراءة تعيينا،أو تخييرا بينها و بين صلاة الجماعة،مع العلم بأنّها مسقطة للواجب، فإذا تعذّرت الصلاة فرادي مع القراءة،فهل يمكن أن يقال بكفاية الصلاة فرادي بدون القراءة و عدم وجوب الجماعة للشكّ في وجوبها و الأصل البراءة عنه أم لا؟.

أقول:إن تعذّر الصلاة فرادي مع القراءة و بدونها وجبت الصلاة جماعة بلا إشكال،و أمّا إن تمكّن من الصلاة فرادي بلا قراءة و الصلاة جماعة،ففي وجوب الجماعة لأنّها صلاة كاملة معادلة للصلاة فرادي مع القراءة،أو عدم وجوبها للشكّ في وجوبها تعيينا مع تعذّر القراءة،و الأصل البراءة عن وجوبها فيصلّي بلا قراءة،

ص: 97


1- فرائد الاصول ص 385.

و جهان.

هذا مقتضي الأصل إن لم يكن دليل،و لكن مقتضي إطلاق استحباب الجماعة استحبابها حتّي مع تعذّر القراءة،و كذا مقتضي إطلاق أنّ من لم يتمكّن من القراءة يسبّح و يصلّي عدم وجوب الجماعة،فإنّه شامل لمن تمكّن من الصلاة جماعة، و المسألة موكولة إلي محلّها.

القسم الثالث:الشكّ في الوجوب الكفائي،

كما إذا نجّس المكلّف موضعا من المسجد فيجب تطهيره،لكن هل يجب علي من نجّسه تعيينا أو يجب عليه و علي من علم تنجّسه كفاية؟و تظهر الثمرة فيما إذا لم يطهّره غير من نجّسه،فإنّه يتعيّن علي من نجّسه؛لكونه واجبا عليه تعيينا أو كفاية،و إن لم يطهّره من نجّسه فهل يجب علي غيره؟يمكن أن يقال بعدم الوجوب للشكّ في الوجوب الكفائي عليه.

هذه الفروع في الشبهة الحكميّة،و يأتي الأقسام المتقدّمة من عدم النصّ، و تعارض النصّين،و إجمال النصّ،و الظاهر أنّ حكم الشبهة الموضوعيّة حكم عدم النصّ.

المسألة الثانية:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة إجمال اللفظ

،و كان موجبا لإجمال نفس التكليف،مثل ما إذا أثبتنا اشتراك لفظ الأمر بين الوجوب و الاستحباب،و وجد أمر بلا قرينة تعيّن أحدهما،أو لم يثبت كونه حقيقة في أحدهما،ففي مثله تجري البراءة.

نعم لو كان الاجمال من جهة مفهوم متعلّق الوجوب،نظير إجمال مفهوم الصعيد الذي يجب التيمّم به عند عدم وجدان الماء بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب،فيشكل الرجوع إلي البراءة عن تعيّن وجوب التيمّم بالتراب،بل هو من الشبهات،و ينبغي التوقّف و الاحتياط،إن كان المطلوب طبيعة التيمّم بالصعيد التي تتحقّق بتيمّم واحد؛لأنّ الحكم متعلّق بمفهوم يعتبر صدقه علي المأتي به،و مع

ص: 98

الشكّ في الصدق يكون الشكّ في تحقّق الامتثال.

و إن كان المطلوب استيعاب تمام المفهوم،مثل أن يكون الواجب إهانة كلّ فاسق و تردّد مفهومه اللغوي أو العرفي بين مرتكب الكبيرة و بين الأعمّ منها و من مرتكب الصغيرة،وجب الاحتياط إن لم يزاحمه أمر آخر.

و قد خفي ذلك علي من قال بأنّه من قبيل الأقلّ و الأكثر الارتباطيين،كالصلاة بناء علي وضعها للصحيح،فكما أنّه إن شكّ في وجوب الاستعاذة فيها جري البراءة عن وجوبها،مع أنّه يشكّ في صدق مفهوم الصلاة علي فاقدها،فكذلك إن شكّ في موضع أنّه من مني حتّي يجوز الوقوف فيها في أيّام التشريق،فإنّ الأصل البراءة عن وجوب الوقوف بالموضع المتيقّن كونه منها،و يجوز الوقوف في الموضع المشكوك؛لأنّه من الأقلّ و الأكثر الارتباطيين،مثل الشكّ في اعتبار الاستعاذة في الصلاة.

قلت:فرق واضح بين المخترع الشرعي كالصلاة و نحوها،فإنّ اسمه إشارة إلي الماهية المخترعة،و بين المفهوم اللغوي أو العرفي،فإنّ الحكم تابع له و المكلّف مأمور بتحصيل تطبيق المفهوم عليه،ففي المثال المذكور يجب الوقوف فيما هو مصداق لمني لغة أو في العرف العامّ.

المسألة الثالثة:فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين

،و حكمه موكول إلي مباحث التعادل و التراجيح.و قال الشيخ:إنّ المقصود هنا إثبات عدم وجوب التوقّف و الاحتياط،قال:إنّ أخبار التوقّف مضافا إلي ما فيها من قصور الدلالة أعمّ ممّا دلّ علي التخيير في الخبرين فتخصّص.

أقول:الأولي ايكال هذا البحث إلي مباحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:في دوران الأمر بين الوجوب و غيره من جهة الاشتباه في
اشارة

موضوع الحكم

،و تجري فيه أدلّة الاباحة الشرعيّة،و استصحاب عدم اشتغال

ص: 99

الذمّة بالواجب.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:إن كان رفع الشبهة ممكنا بلا حرج،فهل يجب الفحص أو لا

يجب لاطلاق دليل الرفع؟لا يبعد أن يقال بعدم صدق الشكّ و الشبهة و نحوهما فيما إذا كان رفع الشكّ سهلا.

قيل:إذا كان مريدا لأن يصوم فله أن يأكل حتّي يطلع الفجر و إن شكّ في طلوعه،لكن يتبيّن طلوعه برفع رأسه،فهل يجوز له أن يأكل حيث أنّه شاكّ في طلوع الفجر أم لا؟يشكل الاطلاق في أدلّة البراءة لو لم يدّع الانصراف إلي غيره.

و أمّا قوله«فهل عليّ إن شككت أن أنظر فيه؟قال:لا»فيحتمل اختصاصه بالاجتناب عن النجاسة و إن كان معلّلا بالاستصحاب الذي لا يختصّ بالنجاسة بل يجري في غيرها،فتأمّل.

التنبيه الثاني:قيل:المشهور أنّه إذا لم يدر كم فاته من الصلاة لا يجوز له الاقتصار

علي الأقلّ و إجراء البراءة عن الأكثر

،بل يجب الاتيان بالصلاة حتّي يحصل له العلم بالفراغ.

أقول:مقتضي أصالة عدم الاتيان بالصلاة في وقتها تحقّق الفوت،فإنّه عبارة عن عدم الفعل في وقته ممّن يكون واجبا عليه.

فلا يقال:إنّ الصبي فاته الصلاة لأنّه لم يكن عليه،و الفوت ليس عدم الفعل مطلقا،بل عدمه ممّن يكون عليه.و إذا تحقّق الفوت وجب القضاء،فلا تجري أصالة البراءة عن وجوب القضاء لتقدّم الاستصحاب عليها،و لكن مقتضي قاعدة الحيلولة و هي عدم الاعتناء بالشكّ بعد انقضاء الوقت عدم الوجوب في كلّ ما شكّ في اتيانه.

و حينئذ يمكن أن يقال:إنّ قاعدة الحيلولة مختصّة بما إذا كان الشكّ غير

ص: 100

مسبوق بالعلم،كما إذا انتبه من نومه و شكّ في أنّه نام يوما أو يومين،و أمّا إذا علم مقدار الفوت ثمّ نسيه،فلا تجري قاعدة الوقت حائل،بل مقتضي استصحاب عدم الاتيان في الوقت تحقّق الفوت فيجب القضاء.

و في جريان هذا التفصيل في غير القضاء احتمالان،فلو شكّ في أنّه استدان من زيد درهما أو درهمين لم يجب الأكثر،لكن إن سجّل المقدار في قرطاس فتلف ذلك القرطاس،فهل يرجع إلي البراءة أو لا؟و جهان.

المطلب الثالث: في دوران حكم الفعل بين الوجوب و الحرمة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:دورانه بينهما من جهة عدم الدليل علي التعيين بعد قيام الدليل علي أحدهما.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر وجوه المسألة:و محلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب و التحريم توصّليا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة؛إذ لو كانا تعبّديين محتاجين إلي قصد امتثال التكليف،أو كان أحدهما المعيّن كذلك،لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلي الاباحة؛لأنّه مخالفة قطعيّة في العمل (1)انتهي.

قلت:الدوران المذكور علي أقسام:

الأوّل:أن يكون كلّ من الوجوب و التحريم تعبّديّين،كصلاة الجمعة إذا تردّدت بين الوجوب و الحرمة،ففي مثله ممّا لا يكون ذات العمل بدون قصد القربة حراما يجب عليه أن يأتي بالفعل قاصدا به أنّه إن كان حراما،أي تعبّدا كما هو المفروض

ص: 101


1- فرائد الاصول ص 395.

لا يكون عمله للّه بل ذات الفعل،و هو ليس بحرام.

لأنّ الحرام الاتيان به قربة إلي اللّه،و إن كان واجبا،أي تعبّدا كما هو المفروض يكون عمله برجاء وجود الأمر،كصلاة من تردّدت بين كونها حائضا أو مستحاضة،فتصلّي برجاء الأمر إن كانت الصلاة واجبة عليها بأن كانت مستحاضة،و إن كانت حراما عليها بأن كانت حائضا،فإنّ الصلاة حينئذ محرّمة عليها بجميع شرائطها و منها قصد القربة،فلا تقصد الأمر،بل مجرّد أفعال خارجيّة بدون قصد الأمر،فتعلم بالامتثال و يتحقّق الموافقة القطعيّة.

و قد ذكرنا نظيره في صيام يوم الشكّ أنّه من شوّال،إن حكم الحاكم الجامع للشرائط بكونه عيدا قبل الزوال،و أراد شخص أن يحتاط،فلا يتحقّق بالسفر الاحتياط،لعدم تبييته نيّة السفر من الليل،بل حتّي مع تبييته إن سافر بعد الفجر؛ لأنّ المدّة التي يكون فيها غير مسافر يجب عليه قصد القربة إن كان شهر رمضان، و حيث إنّ ثبوت الهلال بحكم الفقيه ليس إجماعيّا،فيتردّد الأمر بين وجوب الصوم قربة إلي اللّه إن كان آخر شهر رمضان،و حرمة الصوم قربة إلي اللّه إن كان أوّل شوّال،فله أن يمسك عن المفطرات بداعي أنّه إن كان اليوم من شهر رمضان فهو صائم للّه تعالي،و إن كان يوم العيد فهو ممسك عمّا يمسك عنه الصائم بدون قصد الأمر،و له نظائر.

الثاني:أن يكون الفعل واجبا تعبّديا أو حراما توصّليا،ففي مثله لو فعل بدون قصد القربة فقد خالف قطعا،فلا بدّ من الترك أو الفعل بقصد القربة رجاء،كما إذا قيل بحرمة ذات الصلاة علي الحائض و إن لم تقصد القربة،ففي اليوم الذي لا تعلم أنّها حائض أو طاهرة يتردّد الصلاة بين الوجوب التعبّدي و بين حرمة ذات العمل، فتتخيّر بين أن تصلّي بقصد القربة رجاء الأمر،أو تترك هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب أو دليل آخر.

ص: 102

الثالث:أن يكون الفعل حراما تعبّديا أو واجبا توصّليا،و يجب عليه أن يأتي بالفعل بدون قصد الأمر؛لأنّه إن كان واجبا فقد تحقّق،و إن كان حراما فلم يتحقّق لأنّه لم يقصد به الأمر و لم يأت به للتعبّد.

و قد ظهر ممّا ذكرناه النظر فيما أفاده في الكفاية،من دخول التعبّد بين و التعبّدي و التوصّلي في محلّ النزاع،و انّ التخيير يأتي فيهما،حيث قال:فانقدح أنّه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصّليين بالنسبة إلي ما هو المهمّ في المقام،و إن اختصّ بعض الوجوه بهما،كما لا يخفي (1)انتهي.

الرابع:أن يكونا توصّليين،و فيه أقوال و احتمالات:

الأوّل:التخيير بينهما عقلا مع الحكم بالاباحة شرعا،اختاره في الكفاية لعدم مانع عن إجراء أدلّة الاباحة الشرعيّة،و الموافقة الالتزاميّة للواقع علي ما هو عليه متحقّقة بقصد الالتزام بما هو الواقع،و لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق البيان بأصل الالزام،و لمّا كان دائرا بين المحذورين يحكم العقل بالتخيير،لكن إنّما يحكم العقل بالتخيير فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما علي التعيين،و إلاّ فيتعيّن العمل به.انتهي ملخّصا (2).

و فيه أوّلا:أنّ قوله«كلّ شيء لك حلال»لعلّه منصرف إلي ما لا يعلم الالزام أصلا.

و ثانيا:أنّه مع احتمال الأهمّية يرجع إلي البراءة الشرعيّة عن وجوبه أو عن حرمته.فتأمّل فإنّه موافق علي ذلك شرعا.

الثاني:التخيير بينهما عقلا مع عدم الحكم بالاباحة ظاهرا و لا واقعا،اختاره الشيخ الأنصاري؛لانصراف أدلّة الاباحة إلي ما دار الأمر بين الحرمة و غير4.

ص: 103


1- كفاية الاصول ص 405.
2- كفاية الاصول ص 404.

الوجوب.

الثالث:الحكم بالبراءة عقلا و شرعا مع عدم الحكم بإباحته؛لأنّ العقاب بدون البيان الواصل بنوعه قبيح،و أدلّة البراءة تشمل كلّ واحد للشكّ في خصوص الوجوب و الشكّ في خصوص الحرمة،و لا مانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الاجمالي ما لم يلزم مخالفة عمليّة.و لا يحكم عليه بالاباحة لكونه مخالفا للعلم بالالزام علي الفعل أو الترك،و لا فرق في جريان البراءة بين احتمال وجود الترجيح في أحدهما و عدمه.

الرابع:تعيين الحكم بالحرمة؛لأنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة، و لاستقراء الموارد التي يدور الأمر فيها بين الحرمة و الوجوب،و فيهما منع.

الخامس:التخيير شرعا قياسا علي الخبرين المتعارضين،و فيه أنّه قياس مع الفارق.

أقول:الظاهر قوّة القول الثاني،و هو التخيير عقلا و عدم التعبّد شرعا بشيء؛لأنّ ايجاب التخيير بمعني البعث إليه لا وجه له؛لأنّه إمّا فاعل أو تارك قهرا،و الحكم بالاباحة أيضا لا وجه له؛لأنّ التعبّد بشيء لا بدّ و أن يكون له أثر شرعي،و كذا البراءة عن الوجوب أو الحرمة لا تجري لعدم الأثر.

ثمّ إنّه لو احتمل كون أحدهما أرجح،قيل:قدّم علي الآخر؛لحكم العقل بتقديم الأهمّ إذا دار الأمر بين أمرين،فإنّه يحكم بتقديم محتمل الأهمّية أيضا،فلو دار أمر إنسان بين كونه ممّن يجب قتله لكفر و نحوه،و بين أن يكون نبيّا يجب حفظه، فالعقل يحكم بلزوم ترك قتله؛لأنّه أهمّ من فعله لو كان.

و فيه أنّ البراءة لا تجري في المثال المذكور؛لعدم جريانها في الدماء المحترمة،و أمّا غيرها ممّا يجري فيه البراءة،فالظاهر جريانها؛لأنّه مخيّر بينهما، و إنّما يتعيّن أحدهما لو كان أهمّ إن علم ذلك،و أمّا مع الشكّ فيه فهو غير معلوم،

ص: 104

و الأصل يقتضي البراءة عنه.

ثمّ إن التخيير لمّا كان بحكم العقل،فهو حاكم بالتخيير ابتداء لا استمرارا،خلافا للشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)فاختار كونه استمراريّا،فراجع.

المسألة الثانية:دورانه من جهة إجمال الدليل،و الظاهر أنّ حكمه كالمسألة الأولي.

المسألة الثالثة:دورانه من جهة تعارض الأدلّة،فإن لم يكن ترجيح لأحد الدليلين كما هو المفروض،فحكمه التخيير عقلا،و يأتي تفصيله في بحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:إذا كان الاشتباه لأمر خارجي،و يجري فيه الأقسام المتقدّمة و حكمها حكمها.

المقام الثاني: في الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف

اشارة

و فيه مطلبان:

المطلب الأوّل: في دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي: في الشبهة التحريمية الموضوعية
اشارة

كما إذا علم بأنّ أحد المايعين خمر،و حيث إنّ الحرمة متعلّقة بالخمر الواقعي لا المعلوم الخمريّة تفصيلا،فالعقل يستقلّ بلزوم الامتثال،فتحرم المخالفة القطعيّة

ص: 105


1- فرائد الاصول ص 400.

عقلا،و تجب الموافقة القطعيّة أيضا،و ليس للمولي التصرّف في مرحلة الامتثال، نعم يمكن أن تكون المفسدة الموجودة في الشيء مختصّة بصورة العلم بالموضوع تفصيلا،فيختصّ الحكم بالحرمة به.

و بعبارة اخري:لا مانع من تقييد الموضوع بالعلم به تفصيلا،بأن يكون معلوم الخمريّة تفصيلا حراما،و كذا لا مانع من تقييد الحكم بالعلم به بنحو نتيجة التقييد، أو علي النحو الذي تقدّم،بأن تكون الحرمة مختصّة بالعالم بالحرمة تفصيلا،كما تقدّم بيانه في مباحث القطع.

فإن كان الحكم الواقعي مقيّدا بالعلم التفصيلي،فلا حكم واقعي في أطراف العلم الاجمالي لعدم وصوله تفصيلا.و إن لم يكن مقيّدا بالعلم التفصيلي،بل كان الحكم مترتّبا علي ما صدق عليه مفهوم الخمر مثلا،فمع قطع النظر عن الأخبار الواردة في عدم لزوم الاجتناب عن المشتبه يستقلّ العقل بحرمة المخالفة القطعيّة، و بوجوب الموافقة القطعيّة؛لأنّه لا فرق بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي و وصوله بالعلم الاجمالي.

و أمّا بالنظر إلي الأخبار الواردة في جواز ارتكاب المشتبه،فإن دلّت علي الترخيص في كلا الطرفين،فيكون الحكم الواقعي مقيّدا بالعلم التفصيلي بالموضوع،و إن دلّت علي جواز ارتكاب الطرفين لكن بحيث لا يلزم العلم بالمخالفة حين الارتكاب،فيكون الحكم الواقعي مختصّا بما إذا لم يحصل حين الارتكاب العلم بالمخالفة،فيجوز ارتكاب الطرفين تدريجا.و إن دلّت علي جواز ارتكاب أحد الطرفين بحيث لا يلزم العلم بالمخالفة أصلا مطلقا لا دفعة و لا تدريجا،اختصّ الحكم الواقعي بذلك و جاز ارتكاب أحد الطرفين.و إن دلّت علي جواز الارتكاب في الشبهة البدويّة اختصّت بغير أطراف العلم الاجمالي،فلا بدّ من ملاحظة الأخبار.

ص: 106

و لتوضيح ما ذكرنا يقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: في إمكان جعل الحكم ظاهرا في الطرفين علي خلاف الواقع

فنقول:لا مانع منه بمعني تخصيص الحكم الواقعي بصورة العلم التفصيلي بالموضوع،و أمّا إذا لم يكن مقيّدا بالعلم التفصيلي،بل كان الموضوع الواقعي حراما،كان العلم الاجمالي به كالتفصيلي في وصول الحكم الواقعي،و معه لا يمكن جعل حكم علي خلافه في الطرفين؛للتنافي و التضادّ بين الحكم الواقعي الواصل و إن كان غير إلزامي،و بين الحكم بخلافه في الطرفين.

مثلا إذا كان الماء ان القليلان متنجّسين،ثمّ طهر أحدهما غير المعيّن،ترتّب عليه آثار الطاهر،فلو شربهما يكون معاقبا بعقاب واحد،و يكون الملاقي للطاهر الموجود في البين طاهرا،إلي غير ذلك من آثار طهارة أحدهما واقعا.

و حينئذ لو جري استصحاب النجاسة في الطرفين،بأن يكون في شربهما عقابان،و يكون ملاقي كلّ منهما نجسا،فمرجعه إلي الحكم بنجاسة الطاهر الواقعي،و ترتيب آثار النجاسة عليه،مع أنّه طاهر يترتّب عليه آثار الطهارة،و هذا غير معقول،و حيث إنّ الحكم الواقعي و هو طهارة أحدهما ليس مرتفعا لعدم تقييده بوصوله بالعلم التفصيلي،و إلاّ لم يحتج إلي إجراء الاصول،بل كانا نجسين واقعا، فلا بدّ من عدم الحكم الظاهري.

و حاصل الكلام أنّ الحكم الظاهري في كلا الطرفين علي خلاف الحكم الواقعي الموجود في البين غير معقول،مع عدم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به تفصيلا،فالمانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الاجمالي هو المخالفة للحكم الواقعي الواصل لا المخالفة العمليّة ليجري الاستصحابان في الطرفين.

ص: 107

الموضع الثاني: في إمكان جعل الحكم الظاهري في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن علي خلاف الحكم الواقعي

فنقول:لا مانع ثبوتا من تقييد الحكم الواقعي بالعلم بالموضوع تفصيلا أو إجمالا بحيث يكون الحرمة متعلّقة بمن علم أنّه شرب الخمر تفصيلا أو إجمالا، فيجوز شربهما تدريجا إن كان مقيّدا بالعلم بالموضوع تفصيلا،و يجوز شرب أحدهما إن كان مقيّدا بالعلم بكون المشروب خمرا تفصيلا أو إجمالا.

و أمّا إذا لم يكن مقيّدا بذلك،فلا يمكن الترخيص في أحدهما؛لأنّ المفروض أنّ العلم الاجمالي حينئذ كالعلم التفصيلي في وصول الواقع،و معه يكون الترخيص في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن ترخيصا في الحرام الواقعي،إن صادف ما ارتكبه الحرام الواقعي.

الموضع الثالث: في وجود الدليل علي الترخيص في الطرفين

إمّا بنحو الخصوص أو العموم.أمّا الدليل علي خصوص بعض الموارد،فيحتمل وجوده في خصوص الربا و في مال السلطان،و سنتعرّض للأخبار الدالّة علي ذلك في الطائفة الثانية.

و أمّا علي نحو العموم،فقال في الكفاية في بحث القطع:إنّ قوله في خبر مسعدة بن صدقة«كلّ شيء لك حلال حتّي تعرف أنّه حرام بعينه»يدلّ علي الترخيص في أطراف الشبهة المحصورة؛لأنّه لم يعرف الحرام بعينه (1).

أقول:سنتعرّض لبيان أنّ قوله«بعينه»ليس معناه العلم التفصيلي بالحرام في

ص: 108


1- كفاية الاصول ص 314.

الشبهة المحصورة التي تمام أطرافها تحت اليد و محلّ الابتلاء،بل انّ قوله«حتّي تعرف الحرام بعينه»يشمل العلم الإجمالي المذكور.

الموضع الرابع: في وجود الدليل علي جواز ارتكاب بعض الأطراف
اشارة

و لتوضيح الموضعين الأخيرين،أعني:شمول دليل الأصل لكليهما أو لأحدهما ينبغي ذكر الأخبار الواردة في موارد الشبهة،و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما توهم دلالتها علي جواز ارتكاب كليهما ما لم يتميّز الحرام بالاشارة الحسّية إليه،لكنّها محمولة علي حلّية المشتبه شبهة بدويّة أو غير محصورة،أو محصورة إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.و هي عدّة أخبار:

منها:الصحيح إلي عبد اللّه بن سليمان،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن،فقال لي:لقد سألتني عن طعام يعجبني،ثمّ أعطي الغلام درهما،فقال:يا غلام ابتع لنا جبنا،ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه،فاتي بالجبن فأكل و أكلنا،فلمّا فرغنا من الغداء قلت:ما تقول في الجبن؟قال:أو لم ترني آكله؟قلت:بلي و لكنّي احبّ أن أسمعه منك،فقال:ساخبرك عن الجبن و غيره،كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام بعينه فتدعه (1).

و في السند عبد اللّه بن سليمان،لكن رواية عبد اللّه بن سنان الجليل الذي قال النجاشي في حقّه:إنّه لا يطعن عليه (2).و موافقة مضمون خبره لسائر الأخبار تؤيّد صدوره.

قوله«ساخبرك عن الجبن و غيره»يدلّ علي أنّ موضوع العموم هو طبيعة

ص: 109


1- وسائل الشيعة 17:90 ب 61 ح 1.
2- رجال النجاشي ص 214.

الجبن،فذكره مقدّمة للعموم المذكور بعده،و العموم وارد علي الجبن و غيره.

و قوله«كلّ ما كان»عامّ و أفراده الأنواع،أي:الجبن و المايع و نحوهما.و ضمير «فيه»راجع إلي«ما»أي:الجبن و غيره فيه صنفان:صنف حلال و هو الذي لا يكون فيه لبن الخنزير،و صنف حرام و هو المجلوب من بلد خاصّ مثلا يجعل فيه لبن الخنزير.

قوله«فهو حلال»أي:جنس الجبن الموجود في الخارج حلال حتّي تعرف وجود الصنف الذي هو حرام.

قوله«بعينه»تأكيد لمعرفة ذلك الحرام،أي:حتّي تكون قاطعا بالحرمة،و لا يكفي في الحرمة الظنّ بكونه حراما،أو إخبار من لا يكون إخباره حجّة.

إذا تحقّق معني مفردات الخبر،فنقول:إذا كان في يد الانسان قطعتان من الجبن،أحدهما مجلوب من البلد الذي يجعل فيه لبن الخنزير،و الآخر ليس فيه لبن الخنزير،صدق علي الجبن الموجود بينهما أنّه يعرف حرمته بعينه،أي:يعرف وجود الجبن الذي فيه لبن الخنزير في يده و إن لم يميّز شخصه.

إن قلت:إنّ قوله«بعينه»قيد للمعروف و هو الحرام،و المعرفة تتعلّق بالجزئيّات،فيكون المراد معرفة الحرام متميّزا بشخصه مشيرا إليه،و كلّ واحد من الطرفين لا يعرف كونه حراما متميّزا بحيث يشار إليه أنّه حرام.

قلت:علي ما بيّناه يكون معرفة الصنف بعينه متحقّقة،و لو سلّم ظهوره في تمييز الحرام،فلا بدّ من صرفه عنه؛لأنّه لا إشكال في أنّه لو مزج الجبنين و صارا شيئا واحدا لم يجز أكله،كما إذا صبّ أحد المايعين اللذين علم خمريّة أحدهما في الآخر،فإنّه لا يجوز شربه قطعا،و لا فرق عرفا بينه و بين أكلهما أو شربهما تدريجا،بل لو جاز ذلك لكان سببا لتحليل المحرّمات،فيشرب أحد الزوجين أحد المايعين و يشرب الآخر المايع الآخر،و يكون احتيالا في ارتكاب

ص: 110

المحرّمات،بالقاء الحرام في جملة الحلال حتّي يشتبه.

فهذه الامور تصير قرينة علي عدم شموله للشبهة المحصورة التي يكون جميع أطرافها محلّ الابتلاء،فيكون بعينه تأكيدا لكون المعرفة متحقّقة حتما لا ادّعاء المعرفة،و لا فيما إذا كان مثلا يشتري من دكّان يعلم بأنّ بعض ما فيه حرام،فإنّه لا يمكن أن يشير إلي خصوص ما يشتريه أنّه حرام،و يؤيّد هذا المعني صحيح أبي عبيدة الآتي و غيره.

و توهّم أنّ المراد ما إذا لم يتميّز الحرام حتّي مع العلم بوجود الحرام،كما إذا علم وجود الحرام في مقدار من الدقيق،فحيث يصدق علي مجموعه أنّه شيء فيه حلال و حرام و لا يعرف الحرام بعينه فهو حلال،فإن عرف الحرام بعينه فهو حرام، و هو ظاهر خبر علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليهما السّلام،قال:سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟قال:إذا لم تعرفه فلا بأس،و إن عرفته فلتطرحه (1).فإنّه ظاهر في الخرء الواقع في الدقيق إن عرف يطرح،و إن لم يعرف فلا بأس.

مدفوع بأنّه محمول علي أنّ المراد من قوله«إذا لم تعرفه»أنّه لم يعرف وقوع الخرء في الدقيق لا أنّه لا يميّزه،و يؤيّد ما ذكرنا ما في الدعائم:روينا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه سئل عن خرء الفأر يكون في الدقيق،قال:إن علم به أخرج، و إن لم يعلم به فلا بأس (2).

مع أنّه معارض بخبر ضريس الكناسي الآتي،فلا بدّ من صرفه عن ظاهره،مع ما في سنده من الضعف بعبد اللّه بن الحسن فإنّه مجهول.و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يبعد أن يكون المراد من قوله«بعينه»أنّه لو اشتري من السوق و علم أنّ في السوق5.

ص: 111


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 23:254 ح 5.

شيئا حراما،أو اشتري من مسلم و علم أنّ في أمواله حراما،كان ما يأخذه منه حلالا إلاّ أن يعلم أنّه حرام بعينه،و مجرّد علمه الاجمالي بأنّ في أمواله حراما لا يوجب حرمة الشيء المعيّن المأخوذ منه.

و منها:صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال،فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (1).و قد ظهر ممّا ذكرناه في الخبر السابق عدم دلالته علي جواز ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة.

و يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ظهوره في الشمول،حيث قال:و أمّا قوله عليه السّلام «فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام منه بعينه»فله ظهور فيما ذكر،حيث إنّ قوله «بعينه»قيد للمعرفة،فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه،و لا يتحقّق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه.ثمّ أجاب عنه فراجع (2).

قلت:لم يظهر الفرق بينه و بين الخبر المتقدّم،بل يحتمل كونه قطعة منه،رواه عبد اللّه بن سنان مرّة عن عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و مرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام اعتمادا علي عبد اللّه بن سليمان.

و منها:خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة،و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه،أو خدع فبيع قهرا،أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك،و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك غير ذلك (3).و الكلام فيه كسابقه.4.

ص: 112


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 2.
2- فرائد الاصول ص 241.
3- وسائل الشيعة 12:60 ب 4 ح 4.

قوله«و ذلك مثل الثوب»يحتمل أن يكون تنظيرا،أي:كما أنّ هذه الأشياء حلال مع الشكّ في الحلّية من ناحية اليد و استصحاب عدم النسبة،كذلك كلّ شيء لك حلال حتّي تعرف أنّه حرام،لكن الظاهر أنّه تمثيل للكلّية المذكورة لا تنظير؛ لأنّه الظاهر من صدره و ذيله،حيث جعلها من مصاديق قوله«و الأشياء كلّها علي هذا».

و عليه قد يناقش في هذه الأمثلة بما ذكره الشيخ الأنصاري (1)بأنّ الثوب الذي اشتراه من بايعه لم يكن ملكا لبايعه،فيستصحب عدم كونه ملكا له،و كذا العبد،و أصالة الحلّ تكون محكومة بالاستصحاب،و إذا قيل بالحلّية فيهما،فهي مستندة إلي يد البايع،و هي حاكمة علي استصحاب عدم الملكيّة،و علي أصالة الحلّ،و كذا جواز التزوّج بالمرأة المشكوك كونها اختا رضاعيّة ليس لأصالة الحلّ بل لاستصحاب عدم النسبة بينه و بينها.

قلت:الثوب الذي عند البايع محكوم بالحلّية من باب كلّ شيء لك حلال،و لذا جاز الشراء منه،و هذا أحد الأدلّة علي جواز الأخذ من صاحب اليد،و كذا العبد الذي عند البايع يحتمل كونه حرّا؛للاحتمال المذكور في الخبر،و كلّ امرأة يريد أن يتزوّجها الانسان و يشكّ في حلّيتها،فالدليل علي الحلّية في هذه الموارد هو أصالة الحلّ المذكورة في هذا الخبر و غيره،و لا حاجة إلي الاستصحاب.

و يمكن أن يقال في معني صدر الخبر و ذيله:إنّ كلّ شيء لم يعلم حرمته،فهو حلال إلاّ إذا قامت حجّة علي حرمته،أو كان فيه أصل يقتضي حرمته:إمّا بأن يراد من البيّنة مطلق ما يكون معتبرا بمعناها اللغوي،و إمّا للجمع بين هذا الخبر و أخبار الاستصحاب،و منشأ الحلّ في بعضها مجرّد الشكّ في حلّية الشيء و حرمته،و في8.

ص: 113


1- فرائد الاصول ص 368.

بعضها اليد،و في بعضها أصالة عدم النسبة بينه و بين المرأة،و ليس في الخبر أنّ الشكّ يكون موضوعا للحلّ،بل جعل العلم بالحرمة غاية للحكم بالحلّية.

كما يمكن أن يقال بأنّ هذه الأمثلة محكومة بالحلّية من باب«كلّ شيء لك حلال»فلها طريقان إلي الحلّية،أحدهما هذا العموم،ثانيهما ما ذكر من اليد و أصالة عدم النسبة،مع أنّه في بعض الموارد لا تجري أصالة الصحّة و قاعدة اليد، فهذا العموم محكّم.

ثمّ إنّه قد وردت أخبار اخر في موارد خاصّة،كالصحيح إلي ضريس الكناسي، قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟فقال:أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكله،و أمّا ما لم تعلم فكله حتّي تعلم أنّه حرام (1).

قوله«ما علمت أنّه قد خلطه»يعني:مزجه الحرام و هو أنفحة الميتة،أو لبن ما لا يؤكل لحمه كلبن الخنزير و نحوه.

و قوله«و ما لم تعلم»يعني:لم تعلم أنّه خلطه الحرام فهو حلال،و مقتضي إطلاقه أنّه حلال و إن باشروه بأيديهم؛لأنّه لا يمكن صنع السمن و الجبن في تلك الأزمنة بدون ذلك،فتأمّل.

و خبر عبد اللّه بن سليمان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الجبن،قال:كلّ شيء لك حلال حتّي يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة (2).

قوله«كلّ شيء»عامّ لكن بقرينة قوله«يشهدان أنّ فيه ميتة»يمكن اختصاصه بالجبن.

و خبر أبي الجارود،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن،فقلت له:أخبرني من2.

ص: 114


1- وسائل الشيعة 16:403 ب 64 ح 1.
2- وسائل الشيعة 17:91 ب 61 ح 2.

رأي أنّه يجعل فيه الميتة،فقال:أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرض؟إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله،و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل،و اللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن،و اللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر و هذه السودان (1).و في السند أبو الجارود و هو مضعف.

قوله«يجعل فيه الميتة»المراد بالميتة شحم الميتة،فإنّه يجعل في الجبن.

قوله«لأعترض السوق»أي:سوق المسلمين الذي في المدينة أو في غيرها.

و مرسل معاوية بن عمّار،عن رجل من أصحابنا،قال:كنت عند أبي جعفر عليه السّلام فسأله رجل عن الجبن،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إنّه لطعام يعجبني و ساخبرك عن الجبن و غيره،كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام فتدعه بعينه (2).

و حسن حنان بن سدير،قال:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عنده عن جدي رضع من لبن خنزيرة،حتّي شبّ و كبر و اشتدّ عظمه،ثمّ إنّ رجلا استفحله في غنمه،فخرج له نسل،فقال:أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنّه،و أمّا ما لم تعرفه فهو بمنزلة الجبن و لا تسأل عنه (3).

قوله«بعينه»لعلّه لبيان أنّ الشبهة غير المحصورة التي يكون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء محكومة بالحلّية،و لا يشمل ما إذا تردّد بين شاتين، و منه يظهر حكم الجبن.

و خبر بشر بن مسلمة عن أبي الحسن عليه السّلام في جدي رضع من خنزيرة،ثمّ ضرب في الغنم،فقال:هو بمنزلة الجبن،فما عرفت أنّه ضربه فلا تأكله،و ما لم1.

ص: 115


1- وسائل الشيعة 17:62 ب 61 ح 5.
2- وسائل الشيعة 17:62 ب 61 ح 7.
3- وسائل الشيعة 16:353 ب 25 ح 1.

تعرف فكل (1).

أقول:يمكن أن يستفاد من الخبرين أنّ ما تولّد من الكلب و الشاة مثلا فهو حرام؛لأنّه إذا كان نسل الحرام بالعرض حراما،فنسل الحرام بالذات حرام بالأولي.

و الظاهر منهما أنّ بعض الأطراف ليس محلّ ابتلائه.و يستفاد من التنظير فيهما بالجبن بضميمة ما ورد في الروايات المتقدّمة الدالّة علي عدم الخصوصيّة للجبن جواز الأخذ إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.

و خبر الحميري أنّه كتب إلي صاحب الزمان عليه السّلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلّ لما في يده لا يرع عن أخذ ماله إلي آخره،الجواب:إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه و اقبل برّه و إلاّ فلا (2).

يدلّ علي أنّ العلم الاجمالي بوجود الحرام في ماله إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء لا يوجب الاجتناب عن المشتبه.

و صحيح أبي عبيدة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من ابل الصدقة و غنم الصدقة،و هو يعلم أنّهم يأخدون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم،قال:فقال:ما الابل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتّي تعرف الحرام بعينه (3).

و مورده ما إذا كان المبيع بعض أطراف الشبهة.

و موثّق إسحاق بن عمّار،قال:سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم،5.

ص: 116


1- وسائل الشيعة 16:353 ب 25 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:160 ب 51 ح 15.
3- وسائل الشيعة 12:162 ب 52 ح 5.

قال:يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا (1).

و الأخبار في أخذ المال من العامل متعارضة،بعضها يدلّ علي عدم جواز قبول الهديّة و اشتراء السرقة و الخيانة منه،و هي الأخبار المذكورة.

و بعضها يدلّ علي جوازه،كصحيح أبي ولاّد،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما تري في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم،و أنا أمرّ به فأنزل عليه،فيضيفني و يحسن إليّ،و ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة،و قد ضاق صدري من ذلك،فقال لي:كل و خذ منه فلك المهنا-الحظّ-و عليه الوزر (2).

و صحيح أبي المغرا (3).

و خبر محمّد بن هشام (4).و صحيح محمّد بن مسلم و زرارة (5).و صحيح معاوية بن وهب (6).و مضمر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه (7).و موثّق سماعة (8).

الطائفة الثانية:الأخبار الواردة في بعض الموارد الخاصّة الدالّة علي جواز ارتكاب أطراف العلم الاجمالي،و هي صحيح أبي بصير،قال:سألت أحدهما عن شراء الخيانة و السرقة،قال:لا إلاّ أن يكون قد اختلط معه غيره،فأمّا السرقة بعينها فلا إلاّ أن يكون من متاع السلطان فلا بأس به (9).4.

ص: 117


1- وسائل الشيعة 12:163 ب 53 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:156 ب 51 ح 1.
3- وسائل الشيعة 12:156 ب 51 ح 2.
4- وسائل الشيعة 12:157 ب 51 ح 3.
5- وسائل الشيعة 12:157 ب 51 ح 5.
6- وسائل الشيعة 12:161 ب 52 ح 4.
7- وسائل الشيعة 12:163 ب 53 ح 3.
8- وسائل الشيعة 12:250 ب 1 ح 6.
9- وسائل الشيعة 12:246 ب 1 ح 4.

قوله«قد اختلط معه غيره»و لو بنحو العلم الاجمالي،و يحمل علي ما إذا لم يكن الجميع محلّ الابتلاء،بل يريد شراء البعض.

و قوله«إلاّ أن يكون من متاع السلطان»أي:فلا بأس بشراء الخيانة و السرقة، و لعلّه لولايتهم عليهم السّلام علي أمواله رخصوا لشيعتهم.

و موثّق سماعة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني اميّة،و هو يتصدّق منه و يصل منه قرباته،و يحجّ ليغفر له ما اكتسب،و يقول:إنّ الحسنات يذهبن السيّئات،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة،و إنّ الحسنة تحطّ الخطيئة،ثمّ قال:إن كان قد خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا،فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس (1).

و حمل علي أنّه اختلط الحرام و الحلال،و لم يعرف مقدار الحرام و لا صاحبه، و انّه حلال بعد أداء الخمس.

و صحيح الحلبي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أتي رجل أبي عليه السّلام،فقال إنّي ورثت مالا و قد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي،و قد عرف أنّ فيه رباء و استيقن ذلك،و ليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه،و قد سألت الفقهاء أهل العراق و أهل الحجاز،فقالوا:لا يحلّ أكله،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا رباء و تعرف أهله،فخذ رأس مالك و ردّ ما سوي ذلك،و إن كان مختلطا فكله هنيئا،فإنّ المال مالك و اجتنب ما كان يصنع صاحبه،فإنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قد وضع ما مضي من الربا و حرّم عليهم ما بقي،فمن جهل وسع له جهله حتّي يعرفه،فإذا عرف تحريمه حرم عليه و وجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب علي من يأكل الربا (2).3.

ص: 118


1- وسائل الشيعة 12:59 ب 4 ح 2.
2- وسائل الشيعة 12:431 ب 5 ح 3.

و مقتضي ترك الاستفصال في هذا الصحيح عن علم الميّت بحرمة الربا و جهله هو عموم الجواب،و هو أنّ ما علم تفصيلا أنّه ربا يجب ردّه إلي مالكه،و أمّا إذا علم بأنّ في المال ربا،فله التصرّف في الجميع،فلعلّ ضمانه كوزره علي الميّت، و الوارث جاهل تفصيلا بالحرمة لجهله بالموضوع و عدم علمه به تفصيلا.

ثمّ إنّ السيّد الطباطبائي (1)حمل هذه الأخبار علي صورة جهل الميّت،و حمل الردّ إلي المالك مع كونه معزولا علي الاستحباب.

و علي كلّ حال لو تمّت دلالة الأخبار في أموال السلطان و في الرباء لشمولها لطرفي العلم الاجمالي،فلا يمكن التعدّي منهما إلي غيرهما،و البحث فيهما موكول إلي الفقه.

الطائفة الثالثة:ما يدلّ علي وجوب التحرّز عمّا علم إجمالا حرمته،و هو المرسل،قال عليه السّلام:ما اجتمع الحلال و الحرام إلاّ غلب الحرام الحلال (2).

و خبر ضريس المتقدّم عن السمن في أرض المشركين،قال:أما ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ الخلط يصدق مع الاشتباه.

أقول:فلو كان في يده جبنان يعلم بحرمة أحدهما صدق أنّ ما في يده قد خلطه الحرام،لكن لا يبعد كون المراد بالخلط فيه هو المزج كما تقدّم،و يصدق علي مزج ما لا تميّز له و مزج ما له تميّز،فلو خلط الحنطة بغيرها صدق الخلط و إن لم يمتزج.

و خبر عبد اللّه بن سليمان (3)المتقدّم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الخبر:فإنّه يصدق علي مجموع قطعات2.

ص: 119


1- ملحقات العروة الوثقي ص 13 مسألة 9.
2- عوالي اللئالي 3:466 برقم:17.
3- وسائل الشيعة 17:91 ب 61 ح 2.

اللحم أنّ فيه الميتة (1).

و الأخبار المتقدّمة في تثليث الامور،و انّه وقع في المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم،فإنّ كلّ واحد من الأطراف يحتمل فيه الوقوع في الحرام،و الهلاك من حيث لا يعلم.

و صحيح الحلبي،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه (2).و لعلّ ضمير«باعه»راجع إلي الذكي،و إلاّ كان المناسب باعهما لو كان الضمير راجعا إليهما،فيدلّ علي أنّه لا يجوز استعمال الحرام الموجود بينهما،و المستحلّ للميتة و هو المشتري لا يعلم بالحرمة.

قيل:يحتمل رجوع الضمير إلي المختلط،أي:باع المختلط من الكافر المستحلّ للميتة،فيدلّ علي حرمة التصرّف فيهما علي المسلم،فإن لم يثبت إعراض الأصحاب عن الخبر اختصّ بجواز بيعها بالمستحلّ.

و موثّق عمّار و موثّق سماعة«يهريقهما و يتيمّم»و ما ورد من غسل تمام الثوب إن علم بنجاسة بعضه.

و هذه الطائفة تكون كالشارحة للطائفة الاولي،و مانعة لشمولها لطرفي العلم الاجمالي إن كانا تحت يده و ابتلائه.

فتلخّص أنّه لا يمكن استفادة الترخيص فيهما من هذه الأخبار.

و أمّا الترخيص في أحدهما،فإن كان المراد أحدهما المعيّن،فلا وجه له لعدم دلالتها علي حلّية المعيّن منهما،و إن كان المراد أحدهما مخيّرا بينهما،فأيضا لا وجه له؛لأنّها إمّا تدلّ علي حلّية كليهما،أو لا تدلّ علي حلّية أيّ منهما،و لا قرينة توجب شمولها لأحد الأطراف.2.

ص: 120


1- فرائد الاصول ص 414.
2- وسائل الشيعة 12:67 ب 7 ح 1 و ح 2.

و قيل:إنّ الترخيص يكون لأحدهما،و المكلّف مخيّر في ارتكاب أحدهما ظاهرا،حيث إنّه شاكّ في كلّ واحد منهما،نظير ما قيل من أنّ قول القائل أكرم كلّ عالم يدلّ علي وجوب إكرام كلّ عالم،فإذا علمنا بأنّه لا يجب إكرام زيد العالم و بكر العالم معا،لكن احتملنا وجوب إكرامهما تخييرا،فلا بدّ من الاقتصار علي المتيقّن خروجه،و هو إكرام كلّ واحد تعيينا،لكن يبقي تحت العموم إكرام واحد منهما تخييرا.

و فيه نظر؛لأنّه إذا كان المكلّف مأمورا بفعل،كما في قوله«أكرم كلّ عالم»صحّ التخيير في الفعل،بخلاف ما إذا ترتّب الحكم علي موضوعه،كما في قوله«كلّ مشكوك طاهر أو حلال»فإنّه لا يمكن تطبيقه علي أحد الفردين.

إن قلت:إنّه إن علم إصابة أحد الثوبين بنجاسة و شكّ في إصابة الآخر،فلا مانع من شمول أصالة الطهارة للمشكوك منهما،و نقول يجب عليه أن يكرّر الصلاة فيهما مع الانحصار.

قلت:كلّ واحد من الطرفين له جهتان:جهة أنّه يحتمل كونه متعلّق العلم بالنجاسة،و جهة كونه مشكوك الاصابة،و الأصل في كلّ واحد منهما من حيث نفسه يجري و لا يجري فيه من حيث منافاته للعلم.

تتميم:

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الاصول لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا،سواء استلزم جريانها مخالفة عملية أم لم يستلزم.

ثمّ إنّ القائلين بجريانها ذكروا موارد يسقط فيها بعض الاصول و يجري بعضها:

منها:ما لو وقع نجاسة لم يعلم أنّها وقعت في الماء القليل أو علي الثوب، فيسقط استصحاب الطهارة و قاعدتها فيهما،و ذلك لأنّ الاصول السببيّة مقدّمة علي الاصول المسبّبية،و الشكّ في حلّية شرب الماء مسبّب عن نجاسته،فيجري

ص: 121

استصحاب الطهارة،لكنّه معارض باستصحابها في الثوب،فيسقطان،ثمّ تجري أصالة الطهارة لكنّها معارضة بها في الثوب فيسقطان،و تجري أصالة الحلّ في الماء بلا معارض (1).

و فيه أوّلا:أنّ الاجتناب عن النجاسة المعلومة التي تنجّز الاجتناب عنها بالعلم الاجمالي لا يتحقّق إلاّ بعدم شرب الماء،و عدم الصلاة في الثوب.

و ثانيا:أنّ جميع الاصول بناء علي جريانها في أطراف العلم الاجمالي في طرف الماء معارضة بالأصل في الثوب؛لأنّ الاصول الجارية في الماء بعضها مسبّب عن بعض،لكنها ليست مسبّبة عن الأصل الجاري في الثوب،و سيأتي زيادة توضيح له.

و منها:ما إذا علم إجمالا بزيادة ركوع في صلاة المغرب،أو نقصانه في صلاة العشاء بعد الفراغ عنهما،فقاعدة الفراغ تسقط فيهما بالمعارضة،فيرجع إلي استصحاب عدم زيادة الركوع في المغرب،و عدم الاتيان بالركوع في العشاء، فيحكم بصحّة صلاة المغرب و بطلان صلاة العشاء (2).

و فيه أنّ الشكّ في صحّة المغرب ناش عن زيادة الركوع،فلا تجري قاعدة الفراغ إلاّ إذا لم يجر استصحاب عدم زيادة الركوع؛لأنّ الأصل السببي مقدّم علي المسبّبي و إن كانا موافقين،و حينئذ يتعارض استصحاب عدم زيادة الركوع مع قاعدة الفراغ في العشاء،و إن منعنا السببيّة جريا معا مع قاعدة الفراغ في العشاء، فلا بدّ من إعادتهما.

و منها:ما إذا صلّي المغرب و هو في الوقت،فعلم إجمالا نقصان ركعة من صلاة المغرب،أو عدم إتيان صلاة العصر،فإنّ قاعدة الفراغ في صلاة المغرب و قاعدة0.

ص: 122


1- مصباح الاصول 2:357.
2- مصباح الاصول 2:360.

الحيلولة في صلاة العصر تسقطان بالمعارضة،للعلم الاجمالي بوجوب احداهما، فيجري استصحاب عدم الاتيان بركعة من صلاة المغرب و أصالة البراءة عن وجوب قضاء العصر؛لأنّ استصحاب عدم الاتيان به لا يثبت الفوت،فيجب إعادة المغرب فقط (1).

و فيه أوّلا:أنّ استصحاب عدم الاتيان بصلاة العصر يثبت الفوت،كما حقّقنا في محلّه أنّ فوت الصلاة هو ترك البالغ العاقل الصلاة في وقتها و لو لعذر من نوم أو نسيان و نحوهما،و لعلّه مقتضي دليل أنّ الوقت حائل،فأنّه يدلّ علي القضاء لو لا كون الوقت حائلا.

و ثانيا:أنّ الأصل السببي و المسبّبي في طرف يعارضان الأصل في الطرف الآخر،فأصالة البراءة عن القضاء و إن كانت متأخّرة عن قاعدة الحيلولة،لكنّها ليست متأخّرة عن عدم جريان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب،فتكون قاعدة الفراغ في صلاة المغرب معارضة بأصالة البراءة عن قضاء العصر.

و بعبارة اخري:قاعدة الفراغ في صلاة المغرب معارضة بقاعدة الحيلولة و أصالة البراءة عن قضاء صلاة العصر و غيرهما من الاصول النافية للتكليف بالقضاء.

و منها:ما لو علم بعد صلاة الصبح مثلا ترك سجدتين إمّا من ركعة أو من ركعتين.

قال في فوائد الاصول ما ملخّصه:إنّه لا تجري قاعدة الفراغ في الصلاة حتّي لا يجب شيء لأنّه مخالف للعلم،و قاعدة التجاوز في كلّ ركعة متعارضة،فتنتهي النوبة إلي استصحاب عدم السجدتين من ركعة المقتضي لإعادة الصلاة، و استصحاب عدم الاتيان بسجدة من كلّ ركعة المقتضي لقضاء السجدتين،0.

ص: 123


1- مصباح الاصول 2:360.

فيتعارضان،للعلم بعدم وجوب الجمع بين الاعادة و قضاء السجدتين،فينتهي النوبة إلي الاصول التي توجب حلّ العلم الاجمالي،و هي قاعدة الاشتغال المقتضي لإعادة الصلاة،و أصالة البراءة عن وجوب قضاء السجدتين (1).

أقول:فيه أوّلا:أنّ استصحاب عدم السجدتين من الركعة الاولي يوجب البطلان و لا معارض له؛لأنّها سابقة علي الركعة اللاحقة.

و ثانيا:أنّ قاعدة التجاوز في الركن مقدّمة عليها في غير الركن،لتوقّف جريان قاعدة التجاوز في غير الركن علي صحّة الصلاة المتوقّفة علي عدم الاخلال بالركن،و السجدة الواحدة في كلّ ركعة ركن،فتجري قاعدة التجاوز فيها بلا مزاحم حتّي يحكم بصحّة الصلاة،و بعد جريانها في السجدة الواحدة من كلّ ركعة لا يبقي مجال لجريانها في السجدة الثانية من كلّ ركعة؛لأنّه يعلم بأنّه لم يأت بالسجدة الثانية صحيحة:إمّا لأنّه لم يأت بها،أو لأنّه ترك السجدتين من ركعة و بطلت الصلاة،فيحكم بصحّة الصلاة و يسجد سجدتين قضاء؛لأنّ صحّة الركعة الاولي مثلا بعد الدخول في ركوع الثانية مع ترك سجدة واحدة منها توجب قضاء السجدة،و كذلك السجدة من الركعة الثانية،و لكن لا يترك الاحتياط بإعادة الصلاة.

تنبيهات:
الأوّل:لا فرق في وجوب الاجتناب عقلا و شرعا في الشبهة المحصورة بين

مواردها،

فإن علم إجمالا كون هذه المرأة أجنبيّة،أو كون هذا المايع خمرا،وجب الاجتناب عنهما،فلا يخصّ بما إذا كان الجامع بينهما واحدا،كتردّد الخمر بين المايعين.

ص: 124


1- فوائد الاصول 4:15.
التنبيه الثاني:وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين طريقي إلي ترك الحرام

الواقعي الموجود في البين،فلو ارتكبهما لم يعاقب إلاّ بعقاب واحد علي الواقع، و إن تبيّن كونهما خمرين؛لعدم العلم إلاّ بخمريّة أحدهما.

التنبيه الثالث:وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف

بالحرام الواقعي علي كلّ تقدير،فإذا لم يكن كذلك فلا ينجّز التكليف بالعلم الاجمالي،و ذكروا لذلك موارد:

أحدها:ما إذا كان أحد الأطراف محكوما بحكم قبل العلم الاجمالي،بحيث لا يحدث العلم الاجمالي تكليفا،فلو علم بوقوع نجس علي يده الطاهرة،أو علي الماء الكثير،أو علي الموضع النجس،لم يحدث العلم بوقوع النجس تكليفا، لاحتمال وقوع النجس علي الماء الكثير،أو علي اليد النجسة،فيشكّ في تنجّس اليد الطاهرة،و الشكّ البدوي يكون مجري الأصل.

ثانيها:ما إذا كان أحد الطرفين غير مقدور أصلا،بأن علم إجمالا بنجاسة ثوبه أو ثوب رجل في مكان بعيد مثلا لا يتّفق الابتلاء به،فالتكليف بالاجتناب عن غير المقدور غير موجود أصلا،فيكون الشكّ فيه في الطرف الآخر بدويّا.

ثالثها:ما إذا كان أحد الطرفين مقدورا عادة،و الطرف الآخر مقدورا عقلا لا مكان ابتلاء المكلّف به،لكن المكلّف بحسب حاله لا يبتلي به عادة،فهل التكليف به غير منجّز،فينحلّ العلم الاجمالي،أو يكفي صحّة التكليف به فيتنجّز العلم الاجمالي؟و جهان:

الأوّل:الانحلال،اختاره الشيخ لأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و لهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به.

إلي أن قال:و الحاصل أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف علي الترك

ص: 125

مختصّة بحكم العقل و العرف بمن يعدّ مبتلي بالواقعة المنهي عنها،و لذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا،إلاّ علي وجه التقييد بصورة الابتلاء.

إلي أن قال:في مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه،أو في موضع من الأرض التي لا يبتلي به (1)المكلّف عادة بعدم وجوب الاجتناب عن إنائه.

إلي أن قال:إنّ خارج الاناء،سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ليس ممّا يبتلي به المكلّف عادة،و لو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا وجوب الاجتناب عنهما؛للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس و حرمة السجدة علي الأرض النجسة.

و يؤيّد ما ذكرنا صحيح علي بن جعفر الوارد في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،هل يصلح الوضوء منه؟فقال عليه السّلام:إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به،و ان كان بيّنا فلا.حيث استدلّ به الشيخ الطوسي قدّس سرّه علي العفو عمّا لا يدركه الطرف،و حملها المشهور علي أنّ إصابة الاناء لا يستلزم إصابة الماء،فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء في الماء يحكم بطهارته،و معلوم أنّ ظهر الاناء و باطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة الخ (2).

قلت:لا يشترط في صحّة التكليف سوي القدرة العقليّة،و لا نسلّم قبح تكليف من لا يبتلي بالشيء عادة مع تمكّنه منه عقلا،و إلاّ لم يكن من ليس له الداعي إلي شرب الخمر منهيّا عن شربه،و لا الهرم الذي لا شهوة له إلي الزنا منهيّا عن الزنا، و الأمثلة التي ذكرها الشيخ محلّ إشكال.

و أمّا الصحيحة،فلعلّ الظاهر منها أنّه قطع بإصابة الدم الاناء،و لعلّه رآه علي0.

ص: 126


1- كذا في الأصل،و الصحيح تذكير الموصول«الذي»أو تأنيث الضمير«بها»و لعلّه وقع في أحدهما تصحيف.
2- فرائد الاصول ص 416-420.

الاناء،لكن يشكّ في وصوله إلي الماء أيضا،فأجاب عليه السّلام بأنّه إن تبيّن أنّ فيه الدم فهو نجس،و إن لم يتبيّن و شكّ فالأصل الطهارة،و هذا السؤال بهذه الكيفيّة يدلّ علي أنّه شاكّ في إصابة الدم للماء،كما هو واضح.

و بالجملة مقتضي العلم الاجمالي وجوب الاجتناب عن الطرفين،مع إمكان الابتلاء عقلا،إلاّ أن يقال في من يشتري من شخص معيّن شيئا مع العلم الاجمالي بأنّ في أمواله حراما،و كان متمكّنا من التصرّف في الجميع عقلا،إنّ مقتضي العلم الاجمالي و إن كان وجوب الاجتناب،إلاّ انّ الأخبار المتقدّمة و عموم كلّ شيء لك حلال تقتضي الحكم بالحلّية في الطرف الذي هو محلّ ابتلائه إن لم يكن جميعه محلّ ابتلائه.

و الحاصل أنّ مقتضي القاعدة وجوب الاجتناب عن الطرفين،إلاّ انّ الأخبار الخاصّة دلّت علي عدم وجوب الاجتناب فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء فيما يشتري.

التنبيه الرابع:أنّ متعلّق العلم الاجمالي علي قسمين:
القسم الأوّل:أن يكون أمرا واحدا بالصنف أو النوع أو الجنس

،كما إذا علم أنّ أحد المايعين خمر،أو علم أنّ أحد الثوبين تنجّس بالدم أو بملاقاة الميتة،فإنّهما من أعيان النجاسات،و لا فرق بينهما في نوع النجاسة بخلاف البول و الدم.

القسم الثاني:أن يكون متعلّق العلم متعدّدا من حيث الخصوصيّة التي لها أثر

، كتردّد ما خرج من المتطهّر بين البول و المني،فإنّ البول يوجب الحدث الأصغر الموجب للوضوء للصلاة و حرمة مسّ الكتاب،و المني يوجب الحدث الأكبر الموجب للغسل للصلاة،و حرمة مسّ الكتاب،و المكث في المسجد،و العلم تعلّق بالمردّد بين خصوصية البول بما له من الأثر،و خصوصيّة المني بما له من الأثر، و ليس لهما جامع مشتمل علي كلتا الخصوصيّتين،كنجاسة الدم و نجاسة الميتة.

ص: 127

أمّا القسم الأوّل،فمقتضي العلم إجمالا بكون أحد المايعين خمرا حرمة شرب الخمر الموجود في البين،و نجاسة ملاقي الخمر الموجود،و حدّ شارب الخمر الموجود،و لو شربهما فقد شرب الخمر الموجود،و جري عليه الأحكام الثلاثة، و العلم إجمالا بوجود الخمر في البين يوجب الاشتغال اليقيني،فتجب البراءة اليقينيّة،و لا تحصل إلاّ باجتناب كلّ واحد منهما،فيحرم شرب كلّ واحد عقلا، و إن شرب أحدهما و لم يتبيّن كونه خمرا كان متجرّيا و لم يحدّ للشكّ في أنّه شرب الخمر و يستصحب عدمه و لم يحكم بنجاسة فمه،للشكّ في ملاقاته للخمر الموجود،فإنّه لا يزيد حكمه عن الخمر المعلوم تفصيلا،و من شكّ في ملاقاة الخمر المعلوم تفصيلا،لا يحكم بالنجاسة.

و أمّا إن تبيّن كونه خمرا،فقد ارتكب الحرام و يحدّ و يحكم بنجاسة فمه،بخلاف المايع المشكوك ابتداء،فإنّه يجوز شربه،و إن تبيّن كونه خمرا لم يرتكب الحرام و كان معذورا،و لم يحدّ حدّ الخمر.

و دعوي أنّه يعلم حرمة شرب هذا الطرف و نجاسة ملاقيه،أو حرمة شرب الطرف الآخر و نجاسة ملاقيه،فنجاسة الملاقي لأحد الطرفين طرف العلم الاجمالي.

ممنوعة أوّلا:بإنّه يلزم أن يحدّ أيضا،لأنّه يعلم حرمة شرب هذا الطرف و حدّ شاربه و نجاسة ملاقيه،مع أنّه لا يحدّ إن لم يتبيّن كونه خمرا.

و ثانيا:أنّ التحليل المذكور هو معني الشكّ،فإنّ ما يعلم تفصيلا هو وجود الخمر في البين،و يعلم أنّه إن ارتكب أحد الطرفين و كان خمرا،فهو غير معذور، كما يكون معذورا إن ارتكب المشكوك ابتداء،و لكن يشكّ إن لاقي شيء أحد الطرفين أنّه لاقي الخمر الموجود المعلوم وجوده إجمالا،كما إذا كان الخمر معلوما تفصيلا و شكّ في ملاقاة يده له،و يشكّ في أنّه يستحقّ الحدّ للشكّ في أنّه

ص: 128

شرب الخمر الموجود،و الأصل عدمهما.

و أمّا القسم الثاني،فمقتضي العلم الاجمالي العمل بكلّ خصوصيّة في كلّ طرف،فإذا خرج من المتطهّر ما يتردّد بين البول و المني،فلا بدّ من ترتيب أثر البول،و هو الوضوء للصلاة و ترك مسّ الكتاب،و ترتيب أثر المني و هو الاغتسال للصلاة،و ترك مسّ الكتاب،و المكث في المسجد.

و لا يصحّ أن يقال:إنّه لا يعلم خصوصيّة البول و خصوصيّة المني؛لأنّه عالم باحدي الخصوصيّتين،و لكلّ واحد أثر خاصّ.

و من ذلك يظهر أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب (1)من أنّه إذا علم بحدوث البول أو المني و لم يعلم الحالة السابقة، وجب الجمع بين الطهارتين،و إن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة،فيجوز له ما يحرم علي الجنب.لا يمكن المساعدة عليه،لأنّه يعلم إجمالا:إمّا وجوب الوضوء للصلاة و حرمة مسّ الكتاب،و إمّا وجوب الغسل و حرمة مسّ الكتاب و المكث في المسجد.

و من أمثلة ذلك:ما إذا علم إجمالا وقوع نجاسة في ماء قليل أو علي الثوب، فإنّه إن وقع علي الثوب،فأثره عدم جواز الصلاة فيه قبل غسله،و إن وقع في الماء فأثره نجاسة الماء و ظرفه،فيجب الاجتناب عن الثوب و عن الماء و ظرفه،و لا يصحّ أن يقال بأنّ العلم بنجاسة الماء أو الثوب حاصل،لكن العلم بملاقاة الظرف للنجس غير حاصل،كما إذا كان الملاقاة بعد العلم الاجمالي بالنجاسة و ذلك للفرق بينهما،فإنّ المعلوم خصوصيّة هذا الطرف الذي هو نجاسة الماء و ظرفه،أو خصوصيّة الطرف الآخر.8.

ص: 129


1- فرائد الاصول ص 638.

و من أمثلة ذلك:ما لو تردّد النجس الواقع علي الجسد بين البول و الدم،فلا بدّ من غسله بالماء القليل مرّتين؛لأنّ البول يوجب الغسل مرّتين،و لا جامع بين خصوصيّة البول و الدم،بخلاف الميتة و الدم.و يأتي في بحث الاستصحاب مزيد بيان.

التنبيه الخامس:في حكم ملاقاة أحد الطرفين إن كان المعلوم إجمالا نجاسة

أحدهما

،كما إذا علم إجمالا كون أحدهما دما أو ميتة أو خمرا،و لاقي أحد الطرفين شيء برطوبة،فهل يحكم بنجاسته أم لا؟فيه أقسام ينبغي ذكرها،و هي:

القسم الأوّل:أن يلاقي كلا الطرفين،و لا إشكال في نجاسته.

القسم الثاني:أن يكون لكلّ منهما ملاق،فيجب الاجتناب عن كليهما،و لو حصل ملاق آخر لأحدهما وجب الاجتناب عنه أيضا؛لأنّه يكون طرفا أيضا للملاقي الآخر.

القسم الثالث:أن يكون لأحد الطرفين ملاق،ثمّ حصل العلم بوقوع نجاسة:إمّا في الطرف الذي له ملاق،أو في الطرف الآخر،فيجب الاجتناب عن الجميع،أي:

عن الملاقي بالكسر و الملاقي بالفتح و الطرف الآخر،و ظهر وجهه ممّا ذكرناه،و هو مختار صاحب الكفاية،خلافا لما يظهر من إطلاق كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

القسم الرابع:أن يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ حصل ملاقاة أحدهما، و الظاهر أنّه لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر،و ذلك لأنّ المعلوم نجاسته إجمالا يكون كالمعلوم تفصيلا،فكما إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم تفصيلا لم يحكم بالنجاسة،فكذلك إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم نجاسته إجمالا.

و بعبارة اخري:أنّ النجس المعلوم لا بدّ من الاجتناب عنه و عن ملاقيه،و لا يتحقّق إلاّ بترك الطرفين و ترك ملاقيهما.و أمّا الملاقي لأحدهما،فيشكّ في

ص: 130

ملاقاته للنجس المعلوم،و الأصل الطهارة.

و الحاصل أنّه لمّا علم إجمالا أنّ أحد المايعين خمر،فقد علم أنّه يحرم شرب ذلك الخمر الموجود في البين،و من شربه يحدّ،و يكون ما لاقاه نجسا،فلا بدّ عقلا من الاجتناب عن الطرفين.و لو شرب أحدهما و كان واقعا خمرا لم يكن معذورا، لكن إن لاقي شيء أحد الطرفين،فمقتضي عموم ما دلّ علي أنّه إن شكّ في ملاقاة شيء للنجس،فهو طاهر طهارته.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ المسألة مبنيّة علي أنّ الاجتناب عن النجس لا يتحقّق إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه،أو أنّ الملاقي فرد آخر يجب الاجتناب عنه،و علي الأوّل فتنجّس الملاقي جاء من وجوب الاجتناب عن النجس بأن يكون معني وجوب الاجتناب عن النجس الاجتناب عنه حتّي بالاجتناب عن ملاقيه،فيكون الاجتناب عن ملاقيه اجتنابا عنه،و علي هذا يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين؛لأنّ نجاسة أحد الطرفين معلومة،و لا يتحقّق الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه.

و قد استدلّ ابن زهرة علي نجاسة الماء القليل بقوله تعالي وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1).

و في رواية جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:أتاه رجل فقال:وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت،فما تري في أكله؟قال:فقال له أبو جعفر عليه السّلام:لا تأكله، فقال له الرجل:الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها،قال:فقال له أبو جعفر عليه السّلام:إنّك لم تستخفّ بالفأرة و إنّما استخففت بدينك،إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء (2).

استدلّ علي نجاسة ملاقي الميتة بقوله«حرّم اللّه الميتة من كلّ شيء»2.

ص: 131


1- سورة المدثّر:5.
2- وسائل الشيعة 1:149 ح 2.

و الاجتناب عن الميتة لا يتحقّق إلاّ إذا اجتنب عنها و عن ملاقيها معا.

و هذا مراد العلاّمة في المنتهي،حيث قال:إنّ الشارع أعطاهما حكم النجس.

و علي الثاني و هو فنجاسة الملاقي صارت سببا للنجاسة الملاقي؛لأنّ الاجتناب عن النجس يقتضي الاجتناب عن ملاقيه،فلا يجب الاجتناب عن الملاقي؛لأنّ العلم بوجود النجاسة لا يقتضي إلاّ الاجتناب عنه،بحيث لو لم يجتنب عن ملاقيه،فقد امتثل الأمر بالاجتناب عن النجس،و حينئذ يشكّ في ملاقاة ذلك النجس الموجود في البين،فيجري أصل الطهارة في الملاقي،ثمّ إنّه قوّي الوجه الثاني،و أجاب عن الخبر بضعف السند (1).

أقول:الرواية تدلّ علي أنّ الاجتناب عن السمن إنّما يكون من ناحية ملاقاته للميتة،و لذا قال الرجل:الفأرة أهون عليّ،فأجاب عليه السّلام بأنّ الفأرة ميتة،و انّ اللّه تعالي حرّمها،و مقتضي حرمتها الاجتناب عن عينها و عن أثرها،فإنّ الفأرة التي وقعت في السمن قد أثّرت فيه،و لذا لو لاقت الفأرة يابسة شيئا يابسا لم تؤثّر فيه، و لم يجب الاجتناب عن ملاقيه،و هذا لا يقتضي إلاّ الاجتناب عن ملاقي الميتة لا عمّا شكّ في ملاقاته للميتة.

و الحاصل أنّ الرواية تدلّ علي الملازمة بين نجاسة الشيء و ملاقيه،لا الملازمة بين ما يكون بحكم النجس و بين نجاسة ملاقيه.

و علي كلّ حال فالمعلوم نجاسته إجمالا كالمعلوم تفصيلا،فكما أنّه إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم تفصيلا لم يحكم بنجاسته،فكذلك إذا شكّ في ملاقاة شيء للمعلوم إجمالا،و قد تقدّم أنّ العلم بكون أحد المايعين خمرا مقتضاه حرمة شرب الخمر الموجود و نجاسة ملاقيه و ثبوت الحدّ،و ملاقاته عند ملاقاة أحد الطرفين4.

ص: 132


1- فرائد الاصول ص 422-424.

مشكوكة.

ثمّ إنّه قد استثني من الحكم بعدم نجاسة ملاقي أحد الطرفين موردان يحكم بنجاسته فيهما:

الأوّل:ما إذا علم وقوع نجاسة علي الثوب أو علي ماء قليل،فإن لاقي شيء الثوب لم يحكم بطهارته،مع أنّه ملاق لأحد أطراف الشبهة؛لأنّ استصحاب الطهارة و أصالة الطهارة في الثوب و الماء يسقطان،فتجري أصالة الحلّ في الماء، فإذا لاقي شيء الثوب حدث علم إجمالا بنجاسة الملاقي أو حرمة شرب الماء، فتكون أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر معارضة بأصالة الحلّ في الماء (1).

و قد يدفع الاشكال بما حاصله:أنّ طهارة الملاقي أو حلّيته ليستا من آثار طهارة الملاقي بالفتح و حلّيته،فليس الأصل الجاري في الملاقي بالكسر متأخّرا عن الأصل الجاري في الملاقي بالفتح إلي آخر كلامه فلاحظ.

و فيه أنّ أصالة الطهارة لا تجري في الملاقي-بالكسر-إن جرت في الملاقي بالفتح؛لعدم الحاجة لأنّ الملاقي بالفتح يكون طاهرا حكما كالطاهر الواقعي،نعم لو لم يجر فيه جري في الملاقي بالكسر.

و يندفع أصل الاشكال بأنّ تأخّر جريان أصالة الحلّ في الماء عن أصالة الطهارة فيه لا تقتضي تأخّرها عن أصالة الطهارة في الثوب،فهي في عرض أصالة الحلّ و ما قبلها من الاصول الجارية في الماء.

و بعبارة اخري:انّ الأصل في أحد الطرفين يعارض الاصول الطوليّة في الطرف الآخر،فلا يجوز شرب الماء لسقوط أصالة الحلّ فيه بالمعارضة،و حينئذ إن لاقي شيء الثوب يحكم بطهارته للشكّ في ملاقاته للنجس.6.

ص: 133


1- مصباح الاصول 2:415-416.

و أمّا علي المختار،فلا تجري الاصول في الطرفين؛لمنافاتها للعلم الاجمالي بعدم جواز استعمال الماء في الطهارة الخبثيّة و الحدثيّة و الشرب،أو عدم جواز استعمال الثوب في الصلاة،فيكون الأصل في الملاقي-بالكسر-بلا معارض.

الثاني:ملاقي أحد الطرفين إذا لاقي الطرف الآخر أيضا بعد تطهيره،و هو المسمّي بالشبهة العبائيّة،بأن علم نجاسة أحد الانائين،فإن وضع في أحدهما شيئا مرطوبا لم يتنجّس،لكن إن طهر الاناء الآخر و وضع هذا الشيء فيه أيضا،مع أنّه إناء طاهر حكم بنجاسته.و التحقيق فيه طهارة الملاقي أيضا،و الشبهة واهية جدّا، و حرّرنا الكلام فيه في الاستصحاب.

القسم الخامس:أن يكون الملاقاة قبل العلم بالنجاسة،و كان الملاقي بالفتح تالفا قبل العلم بالنجاسة،فإذا علم بنجاسة الملاقي و الملاقي أو الطرف الآخر، وجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر و الطرف الآخر.

القسم السادس:أن يكون الملاقاة قبل العلم و خرج الملاقي بالفتح عن محلّ الابتلاء،ثمّ علم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ صار الملاقي بالفتح داخلا في محلّ الابتلاء،قال في الكفاية:يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر،و لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالفتح (1).

أقول:إنّ وجوب الاجتناب في زمان خروج الملاقي بالفتح عن محلّ الابتلاء حكم انشائي،و إذا دخل في محلّ الابتلاء صار التكليف الانشائي فعليّا، و الحاصل أنّ ما كان خارجا عن محلّ الابتلاء ليس متعلّقا للتكليف لعدم قدرة المكلّف،و بعد دخوله في محلّ الابتلاء يكون التكليف به فعليا.

و بعبارة اخري:مقتضي العلم الاجمالي العلم بالنجاسة الفعليّة للملاقي بالكسر2.

ص: 134


1- كفاية الاصول ص 412.

و الانشائيّة للملاقي بالفتح،أو بالنجاسة الفعليّة للطرف الآخر.

القسم السابع:أن يعلم نجاسة أحد الشيئين،كما إذا علم نجاسة إنائه أو جسده، ثمّ علم أنّ جسده قد التقي سابقا مع ثوب برطوبة،و انّ نجاسة جسده إن كانت فهي من جهة ملاقاته لذلك الثوب إن كان نجسا،قال في الكفاية (1)و مصباح الاصول (2)بوجوب الاجتناب عن الاناء و جسده،و لا يجب الاجتناب عن الثوب الملاقي.

أقول:إنّ العلم الاجمالي بنجاسة الثوب و ملاقيه أو الطرف الآخر،يكشف عن بطلان حدّ العلم الاجمالي الأوّل،فإنّه تعلّق بنجاسة الاناء أو جسده بشرط لا، و تبيّن بالعلم الثاني أنّ نجاسة الجسد ليست بشرط لا بل نجاسة الجسد و نجاسة الثوب معا،فيكون العلم الاجمالي قد تعلّق بنجاسة الاناء أو جسده و ثوبه.

و بعبارة اخري:العلم الاجمالي الأوّل قد زال،فلا تأثير له حتّي يقال بأنّه نجّز الاجتناب،و العلم الثاني لا ينجّز ما نجّز.

و حاصل هذه الأقسام أنّ ملاقي أحد الطرفين محكوم بالطهارة إن كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي،و محكوم بالنجاسة إن كانت الملاقاة قبل العلم الاجمالي،و يندرج فيه القسم الثالث و الخامس و السادس.

و ممّا ذكرنا يظهر وجوب التحرّز عن نماء أحدهما؛لأنّ نماء الشيء و أصله واحد،كماء يقسّم في ظرفين.

التنبيه السادس:الاضطرار إلي أحد الطرفين

علي ستّة أقسام:

القسم الأوّل:الاضطرار إلي أحدهما المعيّن قبل تعلّق العلم الاجمالي بحرمة أحدهما،كما إذا اضطرّ إلي شرب أحد المائين معيّنا،ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما بعد الاضطرار إلي أحدهما المعيّن،و هذا العلم لا يوجب تكليفا؛لأنّه

ص: 135


1- كفاية الاصول ص 412.
2- مصباح الاصول 2:424.

مضطرّ إلي شرب أحدهما المعيّن،و يحتمل وقوع النجاسة فيه،و لو كانت النجاسة واقعة فيه ما أوجبت حرمة شربه،لأنّ الاضطرار كما يرفع الحكم التكليفي يدفعه أيضا.و أمّا الطرف الآخر،فهو مشكوك بدوا،نعم الحكم الوضعي و هو نجاسة ملاقيه حاصل إن مسّهما ببدنه أو ثوبه.

القسم الثاني:أن يكون الاضطرار إلي أحدهما المعيّن بعد تعلّق التكليف و قبل العلم الاجمالي بحرمة أحدهما،كما إذا اضطرّ إلي شرب أحد المايعين معيّنا،ثمّ علم وقوع نجاسة في أحدهما قبل الاضطرار إلي شرب المعيّن،قيل:لا يجب الاجتناب عن الآخر لعدم تنجّز الحرمة،و يحتمل وجوب الاجتناب لما يأتي في القسم الثالث.

القسم الثالث:أن يكون الاضطرار إلي أحدهما المعيّن بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو حرمته،اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و صاحب الكفاية (2)في هامشها و غيرهما تنجيز العلم الاجمالي،و مقتضاه وجوب الاجتناب عن الطرف غير المضطرّ إليه؛لأنّه يعلم بحرمة هذا الطرف إلي الأبد،أو الطرف الآخر إلي زمان الاضطرار.

نظير أن يعلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعة إلي ساعة من الزوال،أو صلاة الظهر إلي المغرب،لكن اختار في متن الكفاية عدم تنجيز العلم،لارتفاع الحرمة بالاضطرار،فإذا علم أنّ أحد المايعين خمر،فقد علم عدم حرمة شرب المعيّن إن كان خمرا بعد الاضطرار إليه،و الطرف الآخر لا علم بالتكليف فيه من الأوّل بعد الاضطرار إلي المعيّن.

و بعبارة اخري:من الأوّل يشكّ في حرمة الطرف غير المضطرّ إليه بعد زمان9.

ص: 136


1- فرائد الاصول ص 425.
2- كفاية الاصول ص 409.

الاضطرار إلي المعيّن؛لأنّ الشارع المقدّس قيّد الحرمة بأن لا يضطرّ المكلّف إلي الفعل،و حرمة الخمر الموجود متيقّنة إلي زمان الاضطرار،فهو من الأوّل شاكّ في حرمة الطرف غير المضطرّ إليه إن اضطرّ إلي الطرف الآخر؛لاحتمال أن يكون الحرام هو المعيّن الذي اضطرّ إليه،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن نظر؛لأنّ الاضطرار لم يتعلّق بالحرام في البين بالعلم التفصيلي،فالعلم الاجمالي بحرمة هذا الطرف إلي زمان الاضطرار إلي الطرف الآخر منجّز.

القسم الرابع:أن يضطرّ إلي أحدهما غير المعيّن،ثمّ علم بحدوث نجاسة بعد الاضطرار في أحدهما.

القسم الخامس:أن يضطرّ إلي أحدهما،ثمّ علم بوقوع نجاسة في أحدهما قبل الاضطرار.و الظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الآخر؛لأنّه لمّا اضطرّ إلي ارتكاب أحدهما،كان عقلا مخيّرا في تعيينه،فإذا علم بحرمة أحدهما بعد ذلك لم يعلم بحرمة منجزّة؛لاحتمال كون الحرام هو ما يختاره.

القسم السادس:أن يضطرّ إلي أحدهما بعد العلم بنجاسة أحدهما.

و جعل حكم هذه الأقسام الثلاثة متّحدا في الكفاية،حيث اختار عدم وجوب الاجتناب عن الآخر بعد ارتكاب أحدهما للاضطرار إليه؛لأنّه إذا جاز ارتكاب أحدهما تخييرا،فلا يجتمع الجواز مع العلم بالحرمة؛لأنّ العلم بالحرمة يقتضي ترك كليهما حتّي يتحقّق ترك الحرام الموجود،و هو ينافي جواز اختيار فعل أحدهما،فلا بدّ و أن لا يكون العلم بالحرمة منجّزا بعد الاضطرار إلي أحدهما.

و اختار الشيخ رحمه اللّه لزوم الاجتناب،قال:لأنّ ترخيص الشارع في بعض المقدّمات العلميّة يرجع إلي الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة (1).5.

ص: 137


1- فرائد الاصول ص 425.

و هو كلام متين؛لأنّه لمّا علم إجمالا بحرمة أحدهما،فهو غير معذور لو صادف ما ارتكبه الواقع،و لذا يجب الاحتراز عنهما،ثمّ لمّا اضطرّ إلي أحدهما كان مخيّرا عقلا في ارتكاب أحدهما،لكنّه ليس معذورا عقلا في ارتكاب الآخر لو صادف الحرام الواقعي.

أقول:الفرق بين الاضطرار إلي المعيّن و بين الاضطرار إلي غير المعيّن واضح؛ لأنّ الاضطرار إلي المعيّن يكون حدّا للحرمة إن كان حراما بخلاف غير المعيّن، فإنّ المكلّف يجب عليه أن يفعل ما اضطرّ إليه،فهو مضطرّ إلي الحلال الموجود، و يحرم عليه فعل الحرام،و العقل مستقلّ بأنّ ترك كليهما يوجب ترك ما اضطرّ إليه، مع أنّه يجب عليه فعله للاضطرار،و فعلهما يوجب ارتكاب الحرام،فلا يقدر علي الموافقة القطعيّة،فلا بدّ من الموافقة الاحتماليّة.

التنبيه السابع:في الشبهة غير المحصورة،

و المشهور فيها عدم وجوب الاجتناب،و استدلّ له بامور:

الأوّل:الاجماع.و فيه أنّه لم يتعرّض له في الكتب الأصليّة للقدماء ليكون كاشفا عن وصول نصّ معتبر إليهم بعنوان أنّ الشبهة غير المحصورة لا يجب الاجتناب عنها،و يحتمل استناد المجمعين غير القدماء إلي الوجوه الآتية.

الثاني:لزوم المشقّة،فيرفع وجوب الاجتناب عنها بالأدلّة الدالّة علي نفي العسر و الحرج.

و فيه أنّ الحرج مرفوع لو كان جميع الأطراف محلّ الابتلاء،و أمّا لو كان بعضه خارجا عن محلّ الابتلاء،فلا يجب الاجتناب عمّا هو محلّ الابتلاء؛لعمومات حلّية كلّ شيء علي ما تقدّم بيانه في شمولها لبعض الأطراف الذي هو محلّ الابتلاء.

الثالث:الأخبار الدالّة علي حلّية ما لم يعلم حرمته بعد الجمع بينها و بين ما دلّ

ص: 138

علي وجوب الاجتناب بقول مطلق بحملها علي غير المحصورة،و حمل الثانية علي المحصورة.

قلت:تقدّم الكلام فيها.

الرابع:خبر أبي الجارود،و هو زياد بن منذر ضعّفه بعض الرجاليّين،و قد جاء فيه:«أمن أجل مكان واحد حرم ما في الأرض»و قد تقدّم نقله.

و فيه أنّ مورده خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

الخامس:حكم العقل،فإنّ العقل لا يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات،فليس هنا ما يوجب الاجتناب عن كلّ محتمل،فيكون عقابه حينئذ عقابا من دون برهان.

قلت:إذا كان جميع الأطراف محلّ الابتلاء،فلا حكم للعقل و لا بناء من العقلاء علي دفع الاحتمال،و لو سلّم بناءهم فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل التحريم.

السادس:و هو أحسن الوجوه،هو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، و هذا صحيح إذا لم يكن في سلطنته و ملكه،فالتفصيل بين الشبهة المحصورة و غيرها يرجع إلي ما تقدّم من أنّ الأطراف إن كانت محلّ الابتلاء،يجب الاجتناب عن الجميع و إلاّ فلا.

التنبيه الثامن:للعلم الاجمالي المتعلّق بما يوجد تدريجا صور:
الصورة الاولي:أن يكون الحكم فعليا،

كما إذا حلف علي ترك وطء الزوجة في ليلة خاصّة،ثمّ اشتبهت بين ليلتين أو أزيد،و تجب الموافقة القطعيّة؛لأنّ الحكم فعلي فيجب ترك الوطء ليلتين،و جعل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوب الاحتياط فيه أظهر.

الصورة الثانية:أن يعلم التاجر إجمالا بابتلائه في شهره أو يومه بمعاملة ربويّة،

فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في شهره أو يومه أم

ص: 139

لا؟قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في أوّل كلامه:الأظهر وجوب الاحتياط،ثمّ قال:

و إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الامور التدريجيّة،فيرجع إلي أصالة الاباحة في أصل جواز المعاملة،و إلي أصالة الفساد في تأثير المعاملة،ثمّ قال:اللهمّ إلاّ أن يقال الخ (1).

أقول:يحرم علي المكلّفين الربا وضعا و تكليفا،و لا فرق بين العلم بالوقوع في الربا بين الدفعي و التدريجي،فيجب علي التاجر أن يتعلّم أحكام الربا الكلّية و الجزئيّة حتّي لا يقع في الربا.

الصورة الثالثة:أن لا يكون الحكم فعليّا،لكن يعلم بتحقّق موضوعه في الشهر،

كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها،بأن نسيت وقتها و إن حفظت عددها،فيعلم إجمالا أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيّام مثلا،فهل يجب علي الزوج الاجتناب عنها تمام الشهر و يجب علي الزوجة أيضا الامساك عن دخول المسجد و قراءة العزائم تمام الشهر أم لا؟

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع.

إلي أن قال:إنّ الظاهر جواز المخالفة القطعيّة؛لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه.

إلي أن قال:فيرجع إلي استصحاب الطهر إلي أن يبقي مقدار الحيض،فيرجع فيه إلي أصالة الاباحة لعدم جريان الاستصحاب (2).

و اختاره في الكفاية،حيث قال:إنّه لو لم يعلم فعليّة التكليف مع العلم به إجمالا إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه،أو من جهة الاضطرار إلي بعضها معيّنا أو

ص: 140


1- فرائد الاصول ص 427.
2- فرائد الاصول ص 427.

مردّدا،أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر،كأيّام حيض المستحاضة مثلا،لما وجب موافقته بل جاز مخالفته (1)انتهي.

أقول:يمكن أن يقال:العلم منجّز،لما ذكرنا في محلّه من أنّ وظيفة المولي بيان الحكم و وظيفة العبد امتثاله،فإذا بيّن المولي أنّه يجب علي العبد أن يكرم مائة ضيف إن جاؤوا يوم الجمعة علي وجه الواجب المشروط،و احتمل العبد عدم تمكّنه من إكرامهم يوم الجمعة،وجب عليه أن يتهيّأ له قبل ذلك،و ليس له أن يقول:

إنّ الوجوب مشروط،و فيما نحن فيه حيث إنّها تعلم بتحقّق الحيض في هذا الشهر، و المولي بيّن وظيفتها و أوصل البيان إليها،فيجب عليها بحكم العقل المستقلّ في مقام الامتثال أن تعمل حتّي يسقط التكليف.

و اختار في فوائد الاصول في الأمر السادس استقلال العقل بحرمة المخالفة القطعيّة،فلاحظ (2).

التنبيه التاسع:إن انعدم أحد طرفي العلم الاجمالي،

فإن انعدم بعد العلم الاجمالي،كما إذا علم نجاسة أحد المايعين ثمّ اريق أحدهما،فيجب الاجتناب عن الباقي،و إذا اريق أحدهما ثمّ علم إجمالا نجاسة أحدهما لم يجب الاجتناب عن الآخر،و ذلك واضح،إن لم يكن الموضع الذي اريق فيه الماء محلّ الابتلاء.

المسألة الثانية:دوران الأمر بين أن يكون أحد الفعلين حراما لشبهة حكميّة و لم يكن في البين نصّ،بل علم ذلك من اجماع أو غيره.

المسألة الثالثة:دورانه من أجل إجمال النصّ.

المسألة الرابعة:دروانه من أجل تعارض النصّين،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

حكم هذه المسائل يظهر ممّا ذكرنا في الشبهة المحصورة،لكن أكثر ما يوجد من

ص: 141


1- كفاية الاصول ص 408.
2- فوائد الاصول 4:36.

هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني،كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه،فانّ مادّتي الافتراق من هذا القسم (1)انتهي.

قلت:بعض أفراد القسم الثاني داخل في الشبهة،و مرّ وجوب التوقّف فيها، و ظهر ممّا سبق حكم القسمين الأخيرين.

المطلب الثاني: في دوران الأمر بين الواجب و غير الحرام
اشارة

و فيه مقصدان:

المقصد الأوّل: في دورانه بين المتباينين
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:دورانه بينهما في الشبهة الحكميّة و لم يكن نصّ علي تعيّن

أحدهما

،و الحقّ فيه حرمة المخالفة القطعيّة،و وجوب الموافقة القطعيّة؛لأنّ البيان قد وصل من الشرع،و لا طريق إلي إثبات متعلّقه،فالعقل الحاكم في مقام الامتثال يحكم بوجوب الامتثال الذي يحصل بالموافقة القطعيّة،و غير خفي أنّه لا دليل علي اعتبار نيّة الوجه في العبادة،و لا تميّز المأمور به في مقام الامتثال.

و قد فصّل المسألة الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بما لا مزيد عليه.

و لا فرق في الواجب المردّد بين المتنافيين بين كونهما عباديّين أو توصّليين، أو أحدهما عباديّا و الآخر توصّليا.

المسألة الثانية:ما إذا تردّد الواجب بين المتنافيين من جهة إجمال الدليل

المعتبر،

كتردّد الصلاة الوسطي بين الظهر و العصر مثلا،و الحقّ فيه أنّ حكمه حكم

ص: 142


1- فرائد الاصول 440.

المسألة السابقة من دون فرق بين أن يكون الاجمال عند صدور الخطاب و كان الخطاب مجملا عند المشافهين،و بين عروض الاجمال عليه بالنسبة إلي الغائبين؛ لأنّ التكليف علي كلّ حال موجود،و العقل يلزم بالامتثال،و لا يري عروض الاجمال عليه موجبا لسقوط التكليف عنهم رأسا.

المسألة الثالثة:أن يكون ذلك لتعارض النصّين،

و هو موكول إلي مباحث التعادل و التراجيح.

المسألة الرابعة:ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع

،كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق،و الأقوي فيه وجوب الاحتياط أيضا.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه تنبيهات فلاحظ (1).

المقصد الثاني: في دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و اعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريميّة دوران الحرمة بين الأقلّ و الأكثر،بأن يكون الأقلّ حراما أو الأكثر؛لأنّ المتيقّن حرمة الأكثر،و أمّا الأقلّ فهو مشكوك الحرمة،و الأصل البراءة عن حرمته (2).

ثمّ إنّ دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر يكون علي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون الشكّ في الأكثر من جهة الشكّ في اعتبار جزء زائد، و فيه مسائل:

المسألة الأولي:أن يكون الشكّ في الأكثر من جهة عدم النصّ،كما إذا شكّ في وجوب الاستعاذة و نحوها في الصلاة بناء علي وضعها للأعمّ،و أمّا بناء علي

ص: 143


1- فرائد الاصول ص 454.
2- فرائد الاصول ص 441.

وضعها للصحيح،فيدخل في المسألة الثانية،و علي القول بجريان البراءة في الشكّ في التكليف،ففي جريان البراءة العقلية و النقلية،أو التفصيل بجريان النقلية دون العقليّة قولان،اختار ثانيهما في الكفاية،و لعلّه الأظهر.

و اختار الأوّل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:أمّا البراءة العقليّة،فلاستقلال العقل بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء،و يشكّ في أنّه هو هذا أو له جزء آخر و هو الشيء الفلاني،ثمّ بذل جهده في طلب الدليل علي جزئيّة ذلك الأمر،فلم يقدر فأتي بما علم و ترك المشكوك،خصوصا مع اعتراف المولي بأنّه ما نصبت لك عليه دلالة،فإنّ القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب و اختفي،غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمر قبيح،و هذا لا يرفع التكليف عن المكلّف الخ (1).

أقول:إذا لم ينصب علي الحكم دلالة،فلا تكليف به علي المكلّف و ليس من محلّ النزاع،كما مرّ في أوّل بحث البراءة من أنّ الانسان غير مكلّف بالواقع،بل مكلّف بما وصل إليه،فإذا لم ينصب الآمر دليلا فلا تكليف،فلا يصحّ عقابه، و يكون ممّا سكت اللّه عنه،و كذا إذا نصب الآمر و اختفي إذا لم يعلم المأمور وجه الاختفاء،فإنّه لا تكليف عليه بالواقع،لاشتراط التكليف بإمكان الوصول إليه.

و أمّا إذا لم يكن الاختفاء من تقصير المولي،بل كان لفعل الظالمين و خفاء القرائن،فحينئذ يمكن منع استقلال العقل بالبراءة،إن التفت إلي التكليف و شكّ فيه، بل إسناد«ما لا يعلم»إلي المولي قولا و عملا و اعتقادا غير صحيح،و لا يعلم المكلّف أمر المولي بالأقلّ،فكيف يعتقد كونه مأمورا به و ينسبه إلي المولي مع عدم تقصير المولي؟و الشكّ في المشروعيّة مساوق لعدم المشروعيّة،و نحن بحاجة إلي0.

ص: 144


1- فرائد الاصول ص 460.

إثبات الأمر بالأقلّ.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن قال بانحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ و الشكّ في وجوب الأكثر،أورد علي نفسه بقوله:إن قلت إنّ بناء العقلاء علي وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطبّاء أو الموالي،و أجاب بأنّ أوامرهم إرشاديّة إلي حصول الغرض من المأمور به.و أمّا أوامر الموالي الصادرة بقصد الاطاعة،فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطّلع عليه المولي و قدر علي رفع جهله و لو علي بعض الوجوه الغير المتعارفة إلاّ أنّه اكتفي بالبيان المتعارف،فاختفي علي العبد لبعض العوارض الي آخر كلامه.

ثمّ أشكل علي نفسه بأنّ الواجبات الشرعيّة علي مذاق العدليّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة،فاللطف إمّا هو المأمور به أو الغرض منه.

و أجاب أوّلا بأنّا نتكلّم علي مذهب غيرهم،و ثانيا أنّه لا يمكن تحصيل اللطف لاحتمال اعتبار قصد الوجه،و مع فعل الأكثر يخلّ بقصد الوجه،فلم يبق إلاّ الفرار من تبعة العقاب،و هو يحصل بفعل الأقلّ؛لأنّه يعلم العقاب علي ترك الأقلّ و لا يعلم علي ترك الأكثر،فالعقاب عليه عقاب بلا بيان (1).

أقول:توضيح قاعدة اللطف أنّهم قالوا:إنّ غرض الآمر هو امتثال المأمور، و لا بدّ له لتحصيل غرضه و هو امتثال المأمور من فعل جميع ما يترتّب عليه غرضه، و منه ترغيب العبد بأن يفعل المولي ما يقرّبه إلي الطاعة،و بهذه القاعدة قالوا بلزوم وجود الامام المعصوم فيهم؛لأنّ المكلّفين بالواجبات و المحرّمات يكونون أقرب إلي الطاعة إذا كان فيهم إمام معصوم يقوّمهم و يجري الحدود فيهم،فيجب علي اللّه نصبه.1.

ص: 145


1- فرائد الاصول ص 461.

و فيما نحن فيه نقول:إنّ الواجب العقلي هو شكر المنعم و تعظيمه،و ايجاب الصلاة لما فيها من النهي عن الفحشاء و المنكر،يوجب أن يوفّق المصلّي لشكر المنعم،فالصلاة إنّما وجبت لكونها موجبة للنهي عن الفحشاء و المنكر،و هو مقرّب للعبد إلي أن يشكر المنعم،فإنّ من لا يصلّي ربّما يكون غير مبال بشكر المنعم، و حينئذ يكون الواجب تحصيل الناهي عن الفحشاء و المنكر،فإذا شكّ في حصوله بفعل الأقلّ وجب فعل الأكثر،و هذا التفسير لقولهم الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة،أخذناه من كلام العلاّمة في شرح التجريد في بحث النبوّة،و ذكر قبله اللطف و ماهيّته فراجع،و ذكر في تعليق قلائد الفرائد وجوها لهذا الكلام فلاحظ.

و قال في عدّة الاصول في بيان قاعدة اللطف:الفعل الذي يجب لا بدّ أن يكون لأجل غرض،و هو قسمان:

الأوّل:ما يكون الغرض فيه نفسه،و هو جميع الواجبات العقليّة،كردّ الوديعة، و الانصاف و شكر المنعم.

القسم الثاني:ما يجب لكونه لطفا في غيره،بأن يكون الاتيان بهذا الواجب سببا لأن يختار المكلّف واجبا آخر،أي يكون فيه صفة تدعو إلي اختيار ما يختار عنده،و هذا علي قسمين:

الأوّل:ما يعلم وجود الصفة بدون السماع من الشرع،كوجوب معرفة اللّه،فإنّه يجب لكونه لطفا في امتثال الواجبات و ترك المحرّمات العقليّة؛لأنّ من كان عارفا باللّه أقرب إلي فعل الواجبات،و كذا وجود الامام واجب لكونه لطفا في صلاح الناس.

الثاني:ما يعلم بالسمع،و هو الواجبات الشرعيّة من الصلاة،فإنّها وجبت لكونها لطفا في ترك المحرّمات،لكن لا يعلم ذلك إلاّ من السمع،و هو قوله تعالي

ص: 146

اَلصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) انتهي.

قلت:المستفاد من الآيات و الأخبار أنّ اللّه تبارك و تعالي يتمّ الحجّة علي العباد ببعث الرسل،و يكلّفهم بما يقدرون عليه،و لا دليل لما ذكروه من اللطف و وجوبه.

ثمّ إنّه نسب إلي القائل بالانحلال و جهان،الأوّل:أنّ الأقلّ واجب علي كلّ حال إمّا نفسا أو مقدّمة،و الأكثر مشكوك،و الأصل عدم وجوبه.

و يرد عليه أنّ الأجزاء ليست مقدّمة للكلّ،و لو سلّم فأصالة عدم وجوب الأكثر الموجبة لعدم وجوبه يوجب عدم الانحلال؛لأنّه إذا لم يجب الأكثر فلا يجب مقدّمته،فلا يكون الأقلّ متيقّن الوجوب،كما ذكره في الكفاية (2).

الثاني:أنّ الأقلّ واجب نفسا أو ضمنا،و ارتضاه في المصباح (3)و غيره في غيره.

و فيه أنّه لا معني للوجوب الضمني إلاّ ارتباط الجزء بجزء آخر،و هو المراد بالوجوب المقدّمي،و علي أيّ حال فيرد عليه ما يرد علي الوجوب المقدّمي؛لأنّ الأقلّ إنّما يجب بالوجوب الضمني إذا كان الأكثر واجبا،و مع عدمه فلا وجوب ضمني.

و حاصل الاشكال علي دعوي الانحلال أنّه لو كان المشكوك جزء و لم يأت به، فلم يأت بالمأمور به أصلا،فالصلاة بدونه كالصلاة بلا ركوع،فالعلم الاجمالي متعلّق بأمر المولي بالأقلّ أو بأمره بالأكثر،و من الواضح تباين المشروط بشيء مع ما لا يشترط به،فلا استقلال للعقل بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم.9.

ص: 147


1- عدّة الاصول 2:669.
2- كفاية الاصول ص 413.
3- مصباح الاصول 2:429.

فتحصّل ممّا ذكرناه عدم جريان البراءة العقليّة عن تنجّز وجوب الأكثر بعد احتمال صدور نصّ علي وجوبه قد خفي علينا،فتأمّل.

و أمّا البراءة الشرعيّة،فلا مانع من اجرائها؛لأنّه إذا وجب علي المكلّف مركّب مخترع شرعا،فلا بدّ في معرفته من الرجوع إلي الطرق المثبتة له شرعا،و هي الكتاب و السنّة و الاجماع،فإذا رجع المكلّف إلي الأدلّة الشرعيّة،و أخذ منها ما يدلّ عليه من الأجزاء و الشرائط،و احتمل دخل شيء آخر،فقد بيّن الشارع وظيفته،و هي أنّه يجب عليه الفحص،فإذا لم يعثر علي وجوبه بعد الفحص،فهو مرفوع عنه بعموم رفع ما لا يعلمون،و غيره من أدلّة البراءة.

و بعبارة اخري:أنّ الأمر الواقعي قد تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر،لكنّا لسنا مأمورين بالواقع إلاّ الواصل في ضمن هذه الأدلّة الموجودة في أيدينا،و بعد التفحّص فيها و الأخذ بما دلّت علي لزومه إن شككنا في شيء زائد علي ما علمنا،فالأخبار التي بأيدينا و الآيات دلّت علي أنّ ما لم يعلم فهو غير واجب،فيثبت الأمر الظاهري بالصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط المشكوكين.

و يمكن إجراء استصحاب عدم وجوب الأكثر،و أورد عليه في مصباح الاصول (1)بأنّه معارض بمثله.

أقول:إن كان للأقلّ أثر خاصّ صحّ المعارضة،لكنّه لا أثر له فلا يجري؛لأنّه إن اريد به عدم الاتيان بالأقلّ رأسا فهو مقطوع العدم.و إن اريد به إثبات وجوب الأكثر فهو مثبت،و اعترف الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بجريانه،لكن قال:إن كان الغرض رفع العقاب،فالعقل مستقلّ بعدمه،فلا حاجة إلي الاستصحاب (2).

أقول:إذا ناقشنا في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان،فلا بأس3.

ص: 148


1- مصباح الاصول 2:445.
2- فرائد الاصول ص 463.

بالاستصحاب.بقي التنبيه علي أمرين:

الأمر الأوّل:قد يشكل علي إجراء البراءة،بأنّ معني عدم وجوب الجزء المشكوك هو عدم الأمر المتعلّق بالأكثر،و ذلك لا يثبت الأمر بالأقلّ؛لأنّ نفي أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر.

و الجواب:أنّ الصلاة مأمور بها قطعا،و الأمر متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر،و علي تقدير تعلّقه بالأكثر واقعا يجب الجزء المشكوك،لكن حيث لا يعلم جزئيّة المشكوك حال الجهل بالجزئيّة،فمقتضي حديث الرفع و غيره من أدلّة البراءة عدم المؤاخذة علي تركه لا الرفع حقيقة،لكن عدم المؤاخذة علي الترك يساوق عدم وجوبه حال الجهل،و كان ذلك في حكم تخصيص الجزئيّة لو كان الأمر متعلّقا بالأكثر بحال العلم بها.

فهو نظير ما إذا شكّ في وجوب الساتر في الصلاة علي من صلّي بلا ساتر نسيانا،فإنّه بعد العلم بوجوب الصلاة إن شكّ في اعتبار الساتر مطلقا كاعتبار الطهارة الحدثيّة،أو اعتباره حال الذكر،كان مقتضي حديث لا تعاد و قوله«رفع النسيان»تخصيص الشرطيّة بحال الذكر،كالأجزاء الغير الركنيّة،و هذا الذي ذكرناه مراد صاحب الكفاية،حيث قال:إنّ نسبة حديث الرفع الناظر إلي الأدلّة الدالّة علي بيان الأجزاء إليها نسبة الاستثناء،و هو معها تكون دالّة علي جزئيّتها إلاّ مع الجهل بها،كما لا يخفي فتدبّر (1)انتهي.

و أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ نفس العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه بنحو الاطلاق أو التقييد كاف في وجوبه،فالاشكال المذكور و جوابه ساقط من أصله (2).2.

ص: 149


1- كفاية الاصول ص 417.
2- مصباح الاصول 2:442.

أقول:بعد جريان البراءة عن وجوب الأكثر،فلا علم بوجوب الأقلّ علي كلّ تقدير كما سبق بيانه،بخلاف ما قلناه من أنّ الأمر إمّا متعلّق بالأقل أو متعلّق بالأكثر،و علي تقدير تعلّقه بالأكثر،أي:كون الجزء المشكوك فيه جزء واقعا، فمقتضي حديث الرفع و غيره تخصيص الجزئيّة بحال العلم بالبيان المتقدّم.

الأمر الثاني:ذكر في مصباح الاصول وجها لجريان البراءة العقليّة و النقليّة، حاصله أنّ الأمر دائر بين أن يكون الواجب الأجزاء المعلومة مطلقا،سواء انضمّ إليها الجزء المشكوك أم لم ينضمّ،و بين تقييد الأجزاء المعلومة بانضمام الجزء المشكوك إليها،و حيث إنّ الاطلاق لا يكون تضييقا علي المكلّف،فلا معني لجريان البراءة العقليّة و النقليّة فيه،فإنّه لا يحتمل العقاب في صورة الاطلاق حتّي ندفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان،أو بحديث الرفع،فتجري البراءة العقليّة في التقييد بلا معارض،إلي آخر ما أفاده (1).

و قال في موضع آخر:لا يمكن التفكيك بين البراءة العقليّة و الشرعيّة؛لأنّ الوجه في عدم جريان البراءة العقليّة أمران:

أحدهما:أنّ تحصيل الغرض لازم،و هو لا يحصل إلاّ مع فعل الأكثر.

و ثانيهما:عدم انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقلّ،و من الظاهر أنّ كلا هذين الوجهين لو تمّ لكان مانعا عن الرجوع إلي البراءة الشرعيّة أيضا (2).

أقول:إذا كان الأمر متعلّقا بالأكثر فالأقلّ لا أمر له،و الأمر دائر بين الأمر بالأكثر و بين الأمر بالأقلّ،و لا معني لتقييد الأجزاء بعضها ببعض إلاّ مجرّد تغيير العبارة.

و الأمر بالأقلّ مبائن للأمر بالأكثر،مضافا إلي أنّه إذا ارتفع الأمر بالأكثر فلم9.

ص: 150


1- مصباح الاصول 2:429.
2- مصباح الاصول 2:439.

يثبت الأمر بالأقلّ بما هو أقلّ،و العبادة تحتاج إلي الأمر،فإن لم يحرز الأمر فالأصل عدم المشروعيّة بخلاف ما قلنا من أنّ الأمر إن كان متعلّقا بالأكثر، فمرجع الشكّ في اعتبار المشكوك إلي أنّ الأمر المتعلّق بالأكثر مختصّ بالعالم، و أمّا الجاهل فالواجب عليه هو الأقلّ لحديث الرفع،و بالجملة لا ينحلّ العلم الاجمالي وجدانا،حتّي يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان،بل ينحلّ تعبّدا بالبيان الذي ذكرناه.

و الحاصل أنّ العقل يحكم بوجوب فعل الأكثر،و أمّا الشرع فإنّه لا يتصرّف في الواقع بأن يرفع وجوب الأكثر واقعا،بل يحكم بأنّ ما لا يعلم فليس عليه فعله، فيكون المركّب المخترع كالصلاة عبارة عن الأجزاء المعلومة ظاهرا،فهو يتصرّف في مرحلة الظاهر،و ليس ذلك التصرّف للعقل،فلذا ثبت التفكيك بين البراءة العقليّة و الشرعيّة.

المسألة الثانية:أن يكون التردّد بين الأقلّ و الأكثر في الجزء المشكوك لاجمال النصّ،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يكون الاجمال في المفهوم،أي:ما يفهم عرفا من اللفظ الملقي إلي المخاطبين،كما إذا وجب غسل ظاهر البدن و شكّ في أنّ الجزء الفلاني كباطن الاذن أو عكنة البطن من الظاهر أو الباطن،أو كان الاجمال من أجل اختلاف اللغويّين كاختلافهم في معني الصعيد،فقال جمع منهم:إنّه مطلق وجه الأرض، و قال جمع:إنّه التراب الخالص و لا ترجيح،فلا يبعد أن يكون ذلك من مصاديق الشبهة؛لأنّه نظير تعارض النصّين مع عدم مرجّح لأحدهما،و جعله في مقبولة عمر ابن حنظلة من الشبهة التي يكون الوقوف عندها خيرا من الاقتحام في الهلكة، فلا بدّ من الاحتياط.

ثمّ إنّ هذا الاجمال إن كان طارئا في الأزمنة المتأخّرة عن صدور الخطاب،

ص: 151

فالظاهر وجوب الاحتياط عقلا؛لعدم تقصير من ناحية المولي.و أمّا البراءة الشرعيّة فتجري؛لأنّه يمكن أن يقال:إنّه ما آتاه و لا يعلمه فلا يجب عليه،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن شيء،و ذلك لعدم تقصير من ناحية الشارع،فلذا يجب عقلا الخروج عن الاشتغال اليقيني بالاحتياط.و تقدّم أنّه إذا صدق الشبهة،فأخبار وجوب الوقوف عندها تقيّد أخبار البراءة بغيرها.

و إن كان موجودا حين الخطاب،ففي وجوب الاحتياط عقلا لتعلّق غرض الشارع بالاجمال حتّي يحتاط أو البراءة عقلا،و إن لم تجر فالبراءة شرعا إشكال، و منع الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاحتياط،حيث قال:إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ و الأكثر ممنوع؛لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي و المقدّمي،فلا محيص عن الاتيان به؛ لأنّ تركه مستلزم للعقاب.و أمّا وجوب الأكثر،فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقي مشكوكا،فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي و النقلي (1)انتهي.

أقول:التفصيل بين أن يكون رفع الاجمال وظيفة المولي فتجري البراءة،و بين ما لم يكن وظيفته بحيث لم يقصر في ايصال الحكم فيجب الاحتياط لعلّه أولي.

القسم الثاني:أن يكون الاجمال في المفهوم المخترع شرعا كالصلاة و الصوم و نحوهما بناء علي وضعها للصحيح،قيل:إن كانت الماهيّات الشرعيّة أسامي للصحيح،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق للشكّ في صدق الصلاة،و لا الرجوع إلي أصالة البراءة لأنّه مكلّف بتحصيل ما يصدق عليه الصلاة،فلا بدّ من الاتيان بما يتيقّن معه الفراغ،حتّي يعلم صدق الصلاة علي ما فعله.و إن كانت أسامي للأعمّ جاز التمسّك بالاطلاق و الرجوع إلي أصالة البراءة.1.

ص: 152


1- فرائد الاصول ص 471.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:لا يتمسّك بالاطلاق علي القولين؛لأنّه ليس لنا مطلق في مقام البيان يمكن التمسّك بإطلاقه،و يجوز الرجوع إلي البراءة علي القولين (1).

أقول:قد يؤيّد القول بالبراءة بأنّ المأمور به ليس هو الاسم،بل المأمور به هو المخترع الشرعي،و اسم الصلاة و الصوم إشارة إليهما،و حينئذ الاجمال فيه يكون إجمالا في المأمور به و راجعا إلي الاجمال في التكليف،فلا يعلم وجوب الأمر الزائد.

و قد يقال:إنّ القائل بالأعمّ لا يقول بتعلّق الوجوب بالفاسد،بل مراد اللّه هو الصحيح،فالوجوب تعلّق بما هو مراد اللّه و يشكّ في تحصيله،فيكون شكّا في فراغ الذمّة.

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ و مدلوله حتّي يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّي يجب الاحتياط الي آخر كلامه (2).

و حاصل الكلام أنّ المأمور به هو المسمّي بالصلاة،لكن الطريق إلي إثبات كيفية المخترعات الشرعية هي الأدلّة المثبتة للأجزاء و الشرائط،و هي متعلّق التكليف و الأسامي إشارة إليها،فما ثبت جزئيّته و شرطيّته يكون هو المركّب المأمور به،و ما لم يثبت جزئيّته أو شرطيّته بدليل،فلا تكليف به ظاهرا،و لا يكون جزء أو شرطا للمركّب.

المسألة الثالثة:فيما إذا تعارض نصّان في جزئيّة شيء و عدمها،و هي موكولة إلي مباحث التعادل و التراجيح،و إن كان الأحوط مع التساوي مراعاة الاحتياط2.

ص: 153


1- فرائد الاصول ص 473.
2- فرائد الاصول ص 472.

لكونه من الشبهة.

المسألة الرابعة:الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي،كما إذا وجب صوم ما بين الهلالين فشكّ في أنّه ثلاثون أو تسعة و عشرون،و في مثله يجب الاحتياط؛لأنّ رفع الشبهة في الموضوع ليس وظيفة المولي،و إنّما الشكّ في التحقّق الخارجي لما هو مبيّن شرعا،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لذلك مثالا لا يخلو عن إشكال،قال:و كذا لو كان الواجب الغسل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة،فشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل الرافعين، و اللازم في المقام الاحتياط (1).

أقول:إن كان مراده في الشبهة الموضوعيّة كان من أمثلة ما نحن فيه،و إن كان مراده في الشبهة الحكميّة بأن يقول بوجوب الاحتياط في المحصّلات الشرعيّة، فيمكن منع وجوبه لأنّ بيانها وظيفة الشارع.

القسم الثاني من أقسام دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر:أن يكون الشكّ في شرط المأمور به،و هو علي نوعين:

الأوّل:أن يكون منشأه فعلا خارجيّا مغايرا للمشروط في الوجود الخارجي كالوضوء،إن جعلناه شرطا للصلاة لا الطهارة الحاصلة منه،و هو ملحق بالجزء في جميع ما ذكر.

الثاني:أن يكون متّحدا معه خارجا،و هو علي صنفين:

الأوّل:أن يكون من قبيل العارض و المعروض،كالايمان للرقبة.

الثاني:أن يكون من قبيل الجنس و الفصل،كالحيوان و الانسان.

فصّل في الكفاية بين الصنفين،فاختار عدم جريان البراءة العقليّة فيهما،8.

ص: 154


1- فرائد الاصول ص 478.

و جريان البراءة الشرعيّة في الأوّل دون الثاني.

و اختار الشيخ رحمه اللّه جريانهما،و المثال المذكور في كلامه هو الرقبة المؤمنة و الكافرة،قال:و لا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل علي كلفة زائدة و إلزام زائد علي ما في التكليف بالمطلق الي آخر كلامه (1).

قلت:إذا علم تفصيلا بوجوب عتق الرقبة،و لكن لم يعلم أنّ الواجب مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة،كان مرجع الشكّ إلي شمول الوجوب للرقبة الكافرة، و مقتضي الأصل عدم شموله لها حتّي تكون الرقبة الكافرة مصداقا للواجب، و يكون عتقها امتثالا للواجب،كما أنّ الأصل عدم اختصاص الوجوب بالرقبة المؤمنة حتّي يجب عتقها تعيينا،فيسقط الأصلان بالمعارضة،فإن ترك عتق الرقبة فهو معاقب،و أمّا إن أعتق رقبة كافرة و كان الواجب واقعا عتق المؤمنة،فيكون العقاب علي ترك عتق المؤمنة عقابا بلا بيان،و هو غير عالم بوجوب عتق المؤمنة، فتجري البراءة العقليّة و الشرعيّة عن تعيّن عتقها،و كذا الكلام في الانسان و الحيوان.

و لا يخفي أنّ كون الفصل ذاتي الجنس،و ليس شيئا يشار إليه،بل هو جزء تحليلي لا يرتبط بقبح العقاب بلا بيان،فإنّ ذلك بناء من العقلاء علي عدم المؤاخذة علي ما لم يبيّن للمكلّف،و عرف العقلاء لا يفرّقون بين الجزء التحليلي و غيره،فلا إشكال من هذه الجهة،فلو كان الواجب توصّليا و تردّد بين الاطلاق و التقييد،جري البراءة لنفي العقاب علي المقيّد،لكن لو كان تعبّديا فالشكّ في كون المطلق مأمورا به يوجب عدم جواز اسناده إلي الشارع.

و بعبارة اخري:عتق الرقبة الكافرة بقصد أمره مع الشكّ في تعلّق الأمر به0.

ص: 155


1- فرائد الاصول ص 480.

تشريع،و كذا ما تردّد بين الجنس و الفصل إلاّ بالبيان الذي ذكرناه من أنّ مقتضي حديث الرفع اختصاص وجوب عتق المؤمنة بالعالم بالوجوب.فتأمّل.

القسم الثالث من أقسام دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر:أن يكون الأقلّ أمرا انتزاعيّا،و يذكر له أربعة موارد:

الأوّل:دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحكم التكليفي،كدوران الواجب يوم الجمعة بين كونه الجمعة أو الظهر تخييرا و بين تعيّن الجمعة.

الثاني:دورانه بينهما في الحجّية،كدوران جواز التقليد بين التخيير في تقليد العالم و الأعلم و بين تعيين تقليد الأعلم.

الثالث:دوران الأمر في المتزاحمين بين أن يكونا متساويين،و بين أن يكون أحدهما المعيّن أهمّ،كأن يكون الغريقان مؤمنين،و احتمل أن يكون حفظ أحدهما المعيّن أهمّ.

الرابع:دوران الأمر بين أن يكون العمل عدلا تخييريا،أو مسقطا للواجب كصلاة الجماعة،فإنّ الصلاة فرادي مع القراءة واجب تعيينا إن كانت الصلاة جماعة مسقطا للقراءة،و واجب تخييري إن كانت قراءة الامام بمنزلة قراءة المأموم.

أمّا المورد الأوّل:فقد قوّي الشيخ رحمه اللّه (1)إلحاقه بالمتباينين،قال:إذا تردّد الواجب بين التعيين و التخيير،كما لو دار الواجب في كفّارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه و بين إحدي الخصال الثلاث،ثمّ ذكر وجه إجراء البراءة،و وجه إجراء الاشتغال،إلي أن قال:فلعلّ الحكم بوجوب الاحتياط و إلحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوّة.1.

ص: 156


1- فرائد الاصول ص 481.

قلت:كان بعض مشايخنا رحمه اللّه يقوّي إجراء البراءة،بتقريب أنّ العقاب علي ترك ما احتمل تعيّنه عقاب بلا بيان،و وجوبه تعيينا غير معلوم،فهو مرفوع.

و لكن يمكن أن يقال:إنّ تعلّق الأمر بما احتمل كونه عدلا تخييريّا غير معلوم، فالتعبّد به تشريع،إلاّ أن يأتي بالعمل رجاء المطلوبيّة قربة إلي اللّه تعالي،و هذا الاشكال لا يأتي في الأقلّ و الأكثر إذا كان المشكوك الجزء أو الشرط؛لأنّ الأمر إن كان متعلّقا بالأكثر يتقيّد بصورة العلم،و يكون الجاهل مأمورا بماعدا المشكوك،و هذا في الدوران بين التعيين و التخيير في التعبّديين يرجع إلي الشكّ في أصل وجود الأمر التخييري.

و أمّا المورد الثاني:و هو التخيير بين فتوي الأعلم و غيره في صورة مخالفتهما في الفتوي،و بين تعيّن تقليد الأعلم،فمرجعه إلي الشكّ في حجّية فتوي غير الأعلم،و الشكّ في الحجّية مساوق لعدم الحجّية،كما تقدّم في المقصد السادس في الأمارات،فإذا لم يكن لدليل الحجّية إطلاق يشمل كلا الفتويين:إمّا لعدم أصل الدليل،و إمّا لتساقط الدليل في صورة التعارض،تعيّن حجّية فتوي الأعلم.

و أمّا المورد الثالث:فعلي المختار في تزاحم الواجبين من الوجوب التخييري الشرعي بينهما إن كانا متساويين في الملاك،و التخييري في مقدار الملاك الموجود فيهما،و تعيّن وجوب ما اشتمل علي الملاك الزائد إن كان أحدهما أهمّ من الآخر،فمرجع الشكّ إلي تعيّن وجوب محتمل الأهميّة،و الأصل البراءة عنه.

و أمّا علي غير المذهب المختار،و هو تقييد إطلاق وجوب كلّ واحد منهما بترك الآخر إن كانا متساويين،و تقييد وجوب المهمّ فقط بترك الأهمّ،فمرجعه إلي الشكّ في تقييد إطلاق محتمل الأهميّة؛لاحتمال كونه أهمّ،فيتمسّك بإطلاقه علي وجوبه،فيتعيّن الاتيان بمحتمل الأهميّة.

و أمّا المورد الرابع:فمرجعه إلي الشكّ في وجوب الجماعة تعيينا عند تعذّر

ص: 157

الصلاة فرادي مع القراءة؛لاحتمال كون الجماعة مسقطة عن الواجب،و الأصل البراءة عن وجوبها،فيجوز الاتيان بالصلاة فرادي بلا قراءة.

و ينبغي التنبيه علي امور متعلّقة بالجزء و الشرط:

الأمر الأوّل:إن شكّ في كون الشيء جزء أو شرطا مطلقا،بأن يكون تركه موجبا للبطلان عمدا و سهوا،أو كونه جزء أو شرطا عمدا فقط،بأن يكون تركه عمدا فقط موجبا للبطلان،فهل تجري البراءة عن الجزئيّة و الشرطيّة في حال السهو أم لا؟

فنقول:إنّه متوقّف علي إمكان اختصاص الجزئيّة أو الشرطيّة بصورة العمد و لا مانع منه،لكن ذهب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إلي امتناعه،و إلي إمكان اجتزاء الشارع بالفاقد للجزء و الذي ليس بمأمور به عن المأمور به.

و استدلّ للأوّل-أي:للامتناع-بأنّ الغافل عن السورة في الأثناء لا يمكن أن يقال له:أيّها الغافل أتمّ صلاتك و أنت مأمور بفعل الصلاة بلا سورة؛لأنّه غافل عن غفلته،و إن توجّه إلي الخطاب زالت غفلته.

و استدلّ للثاني-أي:لإمكان الاجتزاء عن المأمور به-فقال:و إن اريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلا عن العبادة الواقعيّة،فهو حسن،لكن إذا شكّ فيه فالأصل العدم،أي:عدم الامضاء،ثمّ قال:إنّ قوله«رفع النسيان»لا يثبت إمضاء الخالي عن السورة،نعم يثبته في الصلاة قوله«لا تعاد»فهو يدلّ علي أنّ العمل الخالي عن الجزء الغير الركني و إن لم يكن مأمورا به لكنّه ممضي (1).

و أورد عليه في الكفاية بأنّه يمكن خطاب الناسي بأمر يلازم النسيان،أو بأمره بماعداه،ثمّ أمر الملتفت بفعل ذلك.4.

ص: 158


1- فرائد الاصول ص 484.

أقول:الحقّ إمكانه؛لأنّ الناسي إن تذكّر قبل فوات محلّ التدارك يتداركه،و إن تذكّر بعد فوات محلّ التدارك أو بعد الصلاة،فهو بمجرّد النسيان سقط عنه و هو مأمور ببقيّة الأجزاء،و المفروض أنّه قاصد له،فتدبّر.

و عليه فإذا شكّ في أنّه واجب حال السهو أيضا،كما هو واجب حال الالتفات يكون من الشكّ في الأقلّ و الأكثر،لأنّه يعلم بأنّه واجب في حال التذكّر،و أمّا وجوبه في حال السهو فهو مشكوك،فيرجع إلي أصالة البراءة.

الأمر الثاني:إن شكّ في اعتبار عدم فعل خاصّ،فمرجعه إلي الشكّ في شرطيّة عدمه،و كان من باب الأقلّ و الأكثر،فلو شكّ في اعتبار عدم البكاء،أو شكّ في اعتبار عدم تكرار الفاتحة مثلا لا بقصد الجزئيّة،فالأصل البراءة عن اعتبار عدمهما.

نعم إن فعل شيئا بقصد الجزئيّة للصلاة،فتارة يتكلّم في إبطالها للصلاة بالنظر إلي الروايات الخاصّة،كقوله«من زاد في صلاته فعليه الاعادة»فيتعرضّ لها في الفقه.و اخري يتكلّم بالنظر إلي منافاتها لقصد الأمر.

فنقول:الزيادة علي قسمين:الأوّل الزيادة شرعا،بأن اعتقد وجوب الاستعاذة في الركعة الثانية اجتهادا أو تقليدا،أو اشتباها في تلقّي المسألة و نحو ذلك،ممّا لم يكن عمله تشريعا.و الثاني الزيادة تشريعا.

أمّا الأوّل،فإن قصد الأمر المتعلّق بالصلاة مع هذه الزيادة بخصوصه بأن اخترع في ذهنه امتثال الأمر الخاصّ،كان العمل باطلا لعدم وجود أمر كذلك.و أمّا إن كان قصده امتثال الأمر الشرعي بالصلاة،و اعتقد تعلّقه بالزيادة أيضا،لم يضرّ الزيادة؛لأنّه انبعث عن الأمر الواقعي،و لعلّ الغالب ذلك في الموارد المذكورة.

و أمّا الثاني،و هو تشريع الأمر،فيتصوّر علي وجوه:

أحدها:أن يخترع في ذهنه أمرا بالصلاة مع هذه الزيادة،بحيث لو لم تكن

ص: 159

مشتملة علي هذه الزيادة لما كان الأمر داعيا له،و هذا أظهر مصاديق التشريع و يبطل العمل؛لأنّ المفروض عدم الانبعاث عن الأمر الواقعي،سواء في ذلك العمد و الجهل قصورا أو تقصيرا أو سهوا.

ثانيها:أن يشرّع في تعلّق الأمر الموجود بشيء به و بالزائد،بأن يبني علي أنّ الأمر الواقعي أمر بما يعمّ الزائد.

قال في نهاية الدراية:إنّه صحيح؛لأنّه تصرّف منه في أمر عقلي،بدعوي تطبيق الأمر المحقّق علي ما نزّله منزلته،فالعمل صادر عن نفس الأمر الواقعي بعد تنزيله منزلة الأمر بما يعمّ الزائد (1)انتهي.

أقول:إن كان جاهلا بأنّه لا يمكن و لا يجوز أن يبني علي ذلك قاصرا أو مقصّرا،فقد انبعث من الأمر الموجود.و أمّا العالم المتعمّد،فيشكل حصول قصد التقرّب منه،لكن الاشكال ضعيف.

و قال في الكفاية:أمّا لو أتي به علي نحو يدعوه إليه علي أيّ حال كان صحيحا و لو كان مشرّعا في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه بدخله،فإنّ تشريعه في تطبيق المأتي مع المأمور به،و هو لا ينافي قصد الامتثال و التقرّب به علي كلّ حال (2)انتهي.

ثالثها:أن يشرع في تطبيق المأمور به علي المأتي به خارجا،كما لو شرّع بعد الزوال في كون الصلاة مع قراءة فاتحتين في كلّ ركعة مصداقا لأربع ركعات التي هي متعلّق الأمر.

أقول:إن لم يرجع إلي التصرّف في الأمر لا أصلا و لا تطبيقا فهو صحيح،و إذا كان متعمّدا عالما لا جاهلا،فيشكل قصد القربة.9.

ص: 160


1- نهاية الدراية 2:286 الطبع الحجري.
2- كفاية الاصول ص 419.

رابعها:التشريع في خصوصيّات الأمر،بأن يبني علي أنّ الأمر الموجود وجوبي و انبعث منه حقيقة،فإنّ البناء المذكور لو كان عن جهل لم يضرّ بالتقرّب.

ثمّ لا يخفي أنّ التشريع هو البناء القلبي لا الفعل بقصد الأمر به مع العلم بعدم الأمر،فإنّه لا يتمشّي القصد من العالم بعدمه،كما لا يمكن أن يأكل الخبز بقصد شرب الماء عالما عامدا.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذكر وجها للبطلان و وجوها للصحّة فلاحظها.

الأمر الثالث:بناء علي بطلان الصلاة إن قرأ في التشهّد مثلا سورة بعنوان الجزئيّة للصلاة عمدا،فإن فعل مثل ذلك سهوا و شكّ في أنّه يضرّ زيادته سهوا و عمدا كالركوع،أو يضرّ زيادته عمدا فقط،فمرجعه إلي اعتبار عدمه حال السهو، و الأصل البراءة كما ذكره الشيخ رحمه اللّه (1).

الأمر الرابع:إن شكّ في وجوب الجزء أو الشرط في حال تعذّرهما حتّي لا يجب الأجزاء المقدورة و الشرائط المقدورة،أو اختصاص وجوبهما بحال القدرة حتّي يجب الأجزاء المقدورة،فإن كان لدليل المركّب إطلاق،و لم يكن لدليل الجزء المتعذّر إطلاق،وجب الباقي تمسّكا بإطلاق دليل المركّب.و إن كان لدليل الجزء المتعذّر إطلاق،و لم يكن لدليل المركّب إطلاق،لم يجب الباقي تمسّكا بإطلاق دليل الجزء.

و إن كان لهما إطلاق،كان إطلاق دليل الجزء حاكما علي إطلاق دليل المركّب، فلا يجب المركّب بعد تعذّرهما.و إن لم يكن لهما إطلاق،كان مرجعه إلي الشكّ في وجوب الباقي بعد تعذّر المركّب الموجب لسقوط الأمر به،و الأصل البراءة عن الوجوب.4.

ص: 161


1- فرائد الاصول ص 494.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّه يمكن إجراء استصحاب بقاء وجوب الباقي المتيقّن حال عدم تعذّر الجزء المردّد بين النفسي و الضمني،إذا كان تعذّر الجزء بحيث كان موضوع الوجوب باقيا عرفا،كماء كثير كرّ أخذ منه مقدار يسير يشكّ في بقاء الكرّية،و هو حاكم علي أصالة البراءة عن الوجوب (1).

قلت:علي المختار من اعتبار وحدة الموضوع بالدقّة العقليّة لا مجال لجريان الاستصحاب؛لعدم صدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ.ثمّ إنّه قد يتمسّك لوجوب الباقي بأدلّة اخري،منها:النبوي،و هو قوله«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

قلت:هذا المضمون غير موجود في أخبارنا،و لم ينقل وجوده في كلام القدماء،و هو وارد من طريق العامّة عن أبي هريرة بعبارات مختلفة.روي في سنن القرطبي عنه«فأتوه ما استطعتم» (2).

و رواه عنه في ذيل الصفحة المذكورة«فأتوا منه ما استطعتم»و رواه في سنن النسائي عنه«فخذوا به ما استطعتم» (3)و مع اختلاف النسخ فلا وجه للتكلّم في دلالته مع ضعف سنده.

و منها:قوله«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»و«الميسور لا يترك بالمعسور» و هما ضعيفان سندا،و لا جابر لهذه الأخبار،كما ذكره النراقي رحمه اللّه في عوائد الأيّام؛ لعدم وجودها في كلام القدماء،و إن اختار في العناوين جبرها،و كذا الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و ضعف أسنادها مجبور باشتهار التمسّك بها بين1.

ص: 162


1- فرائد الاصول ص 497.
2- سنن القرطبي 2:281.
3- سنن النسائي 5:111.

الأصحاب في أبواب العبادات،كما لا يخفي علي المتتبّع (1)انتهي.

و قال أيضا:مقتضي الانصاف تماميّة الاستدلال بهذه الروايات،و لذا شاع بين العلماء بل جميع الناس الاستدلال بها في المطالب،حتّي انّه يعرفه العوام بل النسوان و الصبيان (2)انتهي.

أقول:لكن المغروس في أذهان العوام و النساء الاتيان ببعضه أو ميسوره إن كان المنفعة المقصودة من الكلّ موجودة في الجملة في بعضه أو في ميسوره،و لذا يتعدّون إلي ما يشابه الكلّ في الخاصية.

هذا كلّه إن احرز ذلك.و أمّا إذا لم يحرز اشتمال غير المتعذّر علي مصلحة الكلّ في الجملة فلا يعملون به،و العبادات الشرعيّة ممّا لم يحرز اشتمال أجزائها علي مصلحة الكلّ في الجملة،لكن لا يترك الاحتياط بمراعاة الميسور،لما أورده المير فتّاح في العناوين من استقراء أبواب الفقه،فلاحظها.

المطلب الثالث: في اشتباه الواجب بالحرام

بأن يعلم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام،فإن فعلهما علم فعل الحرام، و إن تركهما علم ترك الواجب،فيستقلّ العقل بفعل أحدهما و ترك الآخر.

خاتمة

اشارة

في موارد جريان الاحتياط و التخيير و البراءة

و يقع الكلام في مواضع:

ص: 163


1- فرائد الاصول ص 497.
2- فرائد الاصول ص 499.
الموضع الأوّل: في الاحتياط

و هو إمّا راجح،و إمّا واجب،و إمّا حرام،و إمّا غير ممكن.

أمّا الأوّل،فهو حسن علي كلّ حال لدرك الواقع،حتّي فيما قام حجّة معتبرة علي خلافه؛لأنّ الواقع لا يتغيّر و لا شرط له ما لم ينجرّ إلي الوسواس و الحرج، و ثقالة الدين علي المكلّف.

و أمّا الثاني،فقد مرّ موارده.

و أمّا الثالث،فهو ما أوجب اختلال النظام،أو الوسواس بناء علي حرمته.

و أمّا الرابع،فقد ذكر له موارد:

منها:ما أوجب الاخلال بنيّة الوجه،كما إذا تردّد الواجب بين الأقلّ و الأكثر، فإنّ الاحتياط بإتيان الأكثر يوجب الاخلال بقصد الوجوب و الندب،و الاقتصار علي الأقلّ يوجب الاخلال بالأكثر إن كان واجبا واقعا،فإن كان مجتهدا لم يثبت عنده أحدهما بعد الفحص عن الأدلّة و قال بالاشتغال،لم يضرّه الاخلال بنيّة الوجه كما مرّ.

و أمّا إن لم يكن مجتهدا،ففي جواز الاحتياط له مع تمكّنه من التقليد إشكال، من اخلاله بالاحتياط في قصد الوجه إن أتي بالأكثر،لكن الأظهر أنّه لا دليل علي اعتبار نيّة الوجوب أو الندب،و لا إجماع يكشف عن قول المعصوم؛لعدم تعرّض أكثر القدماء له،و لا شكّ في تحقّق الاطاعة بالاتيان بما يشكّ كونه واجبا أو ندبا إذا قصد التقرّب به.

و لو شكّ في اعتبار نيّة الوجوب أو الندب،فهل يكون مرجع الشكّ إلي الشكّ في اعتبار الشارع قصد الوجوب أو الندب ليكون مجري البراءة؟أو أنّ مرجعه إلي الشكّ في تحقّق الاطاعة التي ليس للشرع فيها دخالة أصلا ليجب مراعاته

ص: 164

عقلا؟كما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،لا يبعد الثاني.

و منها:ما إذا استلزم الاحتياط التكرار،فإمّا أن يكون في العبادة،و إمّا أن يكون في المعاملة.

أمّا الاحتياط في العبادة،فقد فصّل الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بين من لا يتمكّن من الامتثال التفصيلي فاحتياطه محمود مشكور،و بين من يتمكّن منه،فإنّه يعدّ تكراره أجنبيّا عن سيرة المتشرّعة،كمن صلّي مائة صلاة مع التمكّن من صلاة واحدة،فهو لاعب بأمر المولي،و الفرق بين الصلوات الكثيرة و صلاتين لا يرجع الي محصّل (2)انتهي.و حكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه مثله.

و أجاب عنه في الكفاية أوّلا بأنّ التكرار ربّما يكون بداع صحيح عقلائي، و ثانيا أنّه لو لم يكن بداع عقلائي،فإن كان أصل اتيانه بداعي أمر مولاه كان ممتثلا،و إن كان لاغيا في كيفيّة الامتثال فافهم (3)انتهي.

قلت:مراده من كونه لاغيا في كيفيّة الامتثال لا في أصله أن يكون داعيه هو امتثال المولي،لكن كما أنّه إذا أراد أن يتوضّأ له أن يتوضّأ بالماء البارد أو الحارّ أو غيرهما،فله أن يصلّي بهذه الكيفيّة و هو التكرار أو بكيفيّة واحدة.و يحتمل أن يكون مراده أنّ الاطاعة تتحقّق بواحد من الأفراد،و الباقي يكون عبثا و لعبا، فالعبثيّة تكون فيما عداه.

أقول:إنّ اللعب يتحقّق بالمجموع بحيث يكون كلّ واحد كالجزء لا يستغني عنه،فلا يمكنه قصد التقرّب في المجموع؛لأنّه ليس عبادة عند المتشرّعة بل لعب و عبث،و لا تميّز للفرد المطابق للواقع ليتحقّق فيه قصد التقرّب.4.

ص: 165


1- فرائد الاصول ص 507.
2- فرائد الاصول ص 508.
3- كفاية الاصول ص 424.

نعم الانصاف أنّه لا يطّرد،فإذا كانت الأطراف قليلة مثلا و كان له داع عقلائي في الاحتياط لم يصدق عليه اللعب.

و أمّا الاحتياط في المعاملة بالتكرار،فيجوز لكونها توصّلية.

و قد يتوهّم منافاة التكرار للانشاء المعتبر في المعاملات.

و فيه أنّ الانشاء خفيف المؤونة،و هو قصد ايجاد المعني باللفظ،و إن كان تحقّق المعني محالا أو كان محقّقا،و قد بيّناه في مبحث الانشاء و الاخبار من مباحث الألفاظ.

ثمّ إنّه لا فرق فيما إذا استلزم التكرار في العبادات و المعاملات بين أن يكون منشأه الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة.

و منها:ما إذا كان الاحتياط قبل الفحص مع التمكّن منه،سواء كان مجتهدا أو كان مقلّدا،فإذا دخل في العبادة رجاء بانيا علي الفحص عن صحّة ما فعله بعد الفراغ،أو دخل جازما ثمّ اتّفق له في الأثناء ما يوجب تردّده،فأتمّ علي أحد الوجهين بانيا علي الفحص،فاتّفق موافقة عمله للواقع،ففي صحّته مطلقا أو في بعض الموارد و جهان.

اختار ثانيهما الشيخ الأنصاري،حيث قال:و كما لا يجوز الدخول في العمل بانيا علي إحراز الواقع بالتكرار،كذا لا يجوز بانيا علي الفحص بعد الفراغ،فإن طابق الواقع و إلاّ أعاده،و لو دخل بنيّة الجزم ثمّ اتّفق له ما يوجب تردّده في الصحّة و وجوب الاتمام و في البطلان و وجوب الاستئناف،ففي جواز الاتمام بانيا علي الفحص بعد الفراغ و الاعادة مع المخالفة و عدمه و جهان،ثمّ قوّي الصحّة،ثمّ احتمل التفصيل بين ما وجب تعلّمه علي المكلّف لعموم البلوي و بين ما لا يجب،

ص: 166

بالصحّة في الثاني دون الأوّل فراجع (1).

قلت:و الظاهر الصحّة مطلقا إن طابق الواقع و لو بعد مضيّ الوقت،و إن كان متجرّيا لو صادف الواقع و لم يفحص في الوقت.

الموضع الثاني: في التخيير

و هو في صورة دوران الحكم بين الوجوب و الحرمة،لشبهة حكمية أو موضوعية،فهو بعد الفحص التامّ في الشبهتين،بحيث يعلم أنّه لا دليل علي إثبات أحد الطرفين،إذا علم أنّه لا ترجيح لأحد الطرفين تخيّر،و الأحوط لزوما مراعاة ترجيح مراتب الاعتقاد،فيقدّم ما حصل له الاطمئنان فيه علي غيره،كما أنّ الأحوط ترجيح المظنون علي غيره.

الموضع الثالث: في البراءة

و هي في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.أمّا الاولي،فإن كان الشكّ في الحكم من جهة عدم النصّ،فشرط الرجوع إليها الفحص عن الأدلّة الشرعيّة.و إن كان من جهة إجمال المفهوم،فلا بدّ من الفحص في كتب اللغة و ملاحظة موارد الاستعمال حتّي يحصل اليأس.و إن كان من جهة تعارض الأدلّة،فلا بدّ من ملاحظة قواعد التعادل و الترجيح.و يقع الكلام في الدليل علي الفحص و مقداره في مقامين:

المقام الأوّل:في وجوب أصل الفحص،و يدلّ عليه الأدلّة الدالّة علي وجوب تحصيل العلم و مؤاخذة الجاهل،فيكون مقتضي الجمع بينها و بين قوله«رفع ما لا يعلمون»هو رفع ما لا يعلم بعد الفحص،فإنّه يكون جمعا بين ما دلّ علي طلب

ص: 167


1- فرائد الاصول ص 508.

العلم و رفع ما لا يعلم،بل إنّ بعض أدلّة البراءة كان بعنوان«ما لم يبيّن»لا«ما لا يعلم».و عنوان«ما لم يبيّن»لا يصدق إلاّ بعد الفحص.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوها لوجوب الفحص،إلي أن قال:فالأولي ما ذكر في الوجه الرابع من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر علي الفحص،كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا (1).و لعلّ الأولي ما ذكرناه.

المقام الثاني:في مقدار الفحص،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلّة،و يختلف ذلك باختلاف الأعصار إلي آخر ما ذكره (2).

و حدّده بعضهم بالمقدار الذي يستلزم الأكثر منه الحرج.

قلت:مرجع ذلك إلي اختصاص الأحكام الشرعيّة بالأحكام التي تصل إلي المكلّفين بغير حرج.

و فيه منع لعدم استلزام الفحص عنها الحرج،إن وزّع الفقهاء الفحص،بأن اختصّ بعضهم بالفحص في مسألة يبلغ فيها غاية الفحص و لو في مدّة طويلة، و يكون ذلك كافيا لغيره،و ممّا ذكر ظهر اعتبار اليأس.

و أمّا الثانية و هي الشبهة الموضوعيّة،فقال الشيخ الأنصاري:لا إشكال و لا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص،و يدلّ عليه إطلاق الأخبار.و إن كانت الشبهة وجوبيّة،فمقتضي الأدلّة عدم وجوب الفحص إلاّ انّه في بعض الموارد إلي آخر كلامه (3).

قلت:أوّلا في صدق الشكّ في بعض الموارد إشكال من جهة عدم صدق الشكّ4.

ص: 168


1- فرائد الاصول ص 510.
2- فرائد الاصول ص 528.
3- فرائد الاصول ص 524.

و الشبهة.

و ثانيا أنّه في بعض الموارد منصوص،ففي صحيح زرارة«هل عليّ إن شككت أن أنظر فيه؟قال:لا».

تتميم

في حكم الجاهل من حيث استحقاق العقاب و صحّة العمل و بطلانه

و يقع الكلام فيه في مسائل:

المسألة الاولي:لا عقاب علي الجاهل القاصر؛لأنّه علي عصيان التكليف و هو غير مكلّف؛لأنّه لا يقدر علي تعلّم الحكم،فهو غير قابل للتكليف عقلا،و ثبت عدم تكليفه شرعا بالآيات و الأخبار.

و أمّا الجاهل المقصّر،فحيث انّه ملتفت و يحتمل وجود الحكم الالزامي، فاحتماله للتكليف منجّز عقلا،فإن خالفه فهو معاقب عليه.

و لا فرق في الواجبات و المحرّمات بين المطلقة و المشروطة و المعلّقة؛لأنّ الذي علي المولي هو بيان الحكم،و جعله في معرض الوصول إلي المكلّف بحيث لو فحص عنه وصل إليه،و مرحلة الامتثال إنّما تكون بحكم العقل و لا دخل فيه للمولي،و عقل العبد مستقلّ في لزوم تعلّم الحكم حتّي لا يفوته امتثاله.

و هذا الحكم العقلي ليس بيد المولي حتّي يكون قابلا للوضع و الرفع،فهو غير مرفوع عن الصبي قبل بلوغه بقوله عليه السّلام«رفع القلم عن الصبي حتّي يحتلم»لأنّ المرفوع هو الحكم الشرعي المجعول لا العقلي الذي يستقلّ به عقل الصبي،و ممّا يستقلّ عقله به وجوب التعلّم بعد ما علم أنّ الشارع يريد منه امتثال الأحكام بمجرّد البلوغ،مع علمه بأنّه لا يتمكّن من تعلّمها بمجرّد البلوغ،و الأخبار الواردة في التعلّم إرشاد إلي ذلك،و لا تدلّ علي الوجوب النفسي لنفسه،و لا النفسي التهيّؤي لغيره،و قد فصّلنا الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب،و ذكرنا أنّ العقاب

ص: 169

يكون علي ترك الواجب و فعل الحرام.

المسألة الثانية:إذا كان الفعل حراما واقعا،و لكن كان خبر صحيح دلّ علي إباحته،فإن ارتكبه المكلّف مستندا إلي الخبر المذكور فلا عقاب عليه،كما إذا فرضنا أنّ العصير العنبي كان حراما واقعا و دلّ خبر صحيح علي إباحته،و شربه المكلّف مستندا إلي الخبر المذكور.و أمّا إن لم يستند إليه و ارتكبه،و كان محتملا لحرمته و عالما بوجوب الفحص عن التكليف،فهل هو معاقب علي الواقع أو لا؟ قولان،اختار أوّلهما الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيره.

قال الشيخ رحمه اللّه:إنّ التكليف الثابت في الواقع و إن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا،إلاّ انّه لا مانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملا له قادرا عليه غير مطّلع علي طريق شرعي ينفيه،و لا واجدا لدليل يؤمن من العقاب عليه مع بقاء تردّده (1)الخ.

و فيه أنّ ما دلّ من الآيات و الأخبار علي أنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،و لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها،ينفي كونه مكلّفا بالواقع؛لأنّه لا يصل إليه مهما تفحّص عنه، فإنّه لو تفحّص يصل إلي الخبر الدالّ علي الاباحة،و العقل أيضا مستقلّ بأنّه غير مكلّف.و من ذلك يظهر قوّة القول الثاني،و هو أنّه لا يكون معاقبا علي الواقع و إن كان متجرّيا.

المسألة الثالثة:لا ينبغي الاشكال في صحّة عمل الجاهل القاصر في المعاملات إن طابق الواقع،و كذا في العبادات إن حصل منه قصد القربة جزما بأن كان غافلا، أو قصد القربة رجاء و قلنا بكفايته مع التمكّن من القصد جزما.

و أمّا إن خالف الواقع و وافق الخبر المعتبر أو الحجّة المعتبرة المخالفين للواقع،2.

ص: 170


1- فرائد الاصول ص 522.

ثمّ التفت بعد ذلك،ففي صحّة عمله احتمالان:

أحدهما:أنّه لا يصحّ؛لأنّه مخالف للواقع و ليس معذورا في ذلك؛لأنّه لم يستند إلي الحجّة.

ثانيهما:إجزاء عمله و صحّته بناء علي إجزاء الأمر الظاهري؛لأنّه في زمان العمل لم يكن مكلّفا بالواقع لعدم وصوله إليه و لم يكن يتمكّن من الوصول إليه،إذ لو فحص و تعلّم لم يصل إلاّ إلي الحجّة المعتبرة،و المفروض أنّ عمله مطابق لها، هذا كلّه في الجاهل القاصر،و يلحق به المعذور لاجتهاد أو غيره.و أمّا الجاهل المقصّر،فلا إشكال في صحّة معاملاته إن طابقت الواقع،و كذا عباداته إن حصل منه قصد القربة.و أمّا إن طابق الحجّة المعتبرة في حقّه من دون استناده إليها في المعاملات و في العبادات إن حصل منه قصد القربة،كما إذا كان عمله موافقا لرأي من يجب تقليده حين العمل فيصحّ عمله؛لأنّه ليس مكلّفا بالواقع،و لا تكليف عليه إلاّ مطابقة رأي من يجب تقليده حين العمل.

ثمّ إن كان العمل مخالفا لرأي من وجب تقليده حين العمل و كان موافقا لرأي من يرجع إليه فعلا صحّ أيضا؛لأنّه يقلّده فعلا في عدم وجوب قضاء ما سبق، فيكفي مطابقة عمله لاحدي الفتويين،و تفصيله في محلّه.

المسألة الرابعة:لا يجب علي المسافر الجاهل بوجوب القصر عليه أن يصلّي قصرا،و لا علي الجاهل بوجوب الجهر بالقراءة في الصلوات الجهرية،أو وجوب الاخفات في الاخفاتية،الجهر أو الاخفات بالقراءة؛لعدم المانع من اختصاص الحكم بالعالم به،كما حقّقناه في بحث القطع،و لم يرد دليل خاصّ علي استحقاقهما العقاب إن كانا مقصّرين،و استفادته ممّا دلّ علي وجوب تعلّم الحكم و أنّه لا يعذّر من لم يتعلّم،بعيد؛لعدم شموله لما إذا كان العمل صحيحا.

و إن سلّمنا وجوب تعلّم الحكمين،أي:وجوب القصر علي المسافر،و وجوب

ص: 171

الجهر و الاخفات في صلاتيهما،فلم يتعلّم تقصيرا،و كان معاقبا مع فرض صحّة عمله،فيمكن تصحيحه بالترتّب،بأن يكون الواجب عليه القصر،و هو متمكّن منه لكونه مقصّرا،فإن عصي و لم يمتثل وجب عليه التمام بالبيان الذي ذكرناه في رسالة مفردة في الترتّب.

الفصل الثاني: في الاستصحاب

اشارة

يقع الكلام فيه في مقدّمة و مقصدين و خاتمة:

أمّا المقدّمة:

فيذكر فيها امور:

الأوّل:الاستصحاب لغة:مطلق مصاحبة شيء لشيء.

و في اصطلاح الاصوليّين:خصوص مصاحبة الحالة الثانية للحالة الاولي في الأثر الشرعي،إن عرض الشكّ في بقاء الحالة الاولي.

و قد عرّف اصطلاحا بتعريفات:

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ أسدّها و أخصرها هو إبقاء ما كان،ثمّ قال:المراد بالابقاء الحكم بالبقاء،و تعليق الحكم علي الوصف يشعر بالعلّية (1).

أقول:لعلّ مراده أنّ الابقاء من باب الافعال متعدّ إلي مفعول به و فاعله الشارع، أي:حكم الشارع ببقاء ما كان،و المراد من«ما»الموصولة الحكم،أي:حكم الشارع ببقاء حكم كان و الحكم بالبقاء حيث إنّه ورد علي ما كان،و هو المتّصف بالكون سابقا يشعر بأنّ علّة الابقاء هو وجوده سابقا،فخرج عن التعريف المذكور إبقاء غير الحكم الشرعي،و كذا إبقاء الحكم الشرعي لعلّة وجود علّته فعلا كحرمة الخمر،فإنّه إذا وجد الخمر كان حراما،و ببقائه تبقي الحرمة،لكن لكونه حراما

ص: 172


1- فرائد الاصول ص 541.

فعلا لا سابقا،بخلاف حرمة شرب الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه،فإنّه يشكّ في حرمته فعلا،و يحكم بحرمته لكونه حراما سابقا.

و فيه أوّلا:أنّ التعريف ينبغي أن يكون واضحا جليّا غير محتاج إلي التأويل الذي ذكره.

و ثانيا:حيث إنّ الاستصحاب مستنبط من الأدلّة،و قد اختلفوا فيما يستفاد منها،فينبغي أن يعرّفه كلّ علي حسب استنباطه من عموم الحجّية أو الاختصاص بالشكّ في الرافع.

فالأولي أن يقال:الاستصحاب الحكم ببقاء ما تيقّن إن عرض الشكّ في بقائه، و يتحقّق في موردين:

أحدهما:في موارد بناء العقلاء التي أمضاها الشارع.

ثانيهما:فيما تعلّق اليقين بشيء له أثر شرعا إن عرض الشكّ في بقائه،و سيأتي بيان ذلك في ضمن المباحث الآتية.

الثاني:أنّ البحث عن حجّية الاستصحاب حيث إنّه بحث عن الحجّة في الفقه و لو عند بعض الاصوليّين،فهو من المسائل الاصوليّة،يبحث في الاصول عن حجّيته و عدمه،كالبحث عن حجّية القياس،فإنّه من المباحث الاصوليّة،و إن كان مذهب جميع علماء الشيعة عدم حجّيته.

الثالث:الاستصحاب من الاصول العمليّة لا الأمارات،و الفرق بينهما أنّ الأمارة ما جعله الشارع حجّة من حيث كونه حاكيا عن الواقع،و الأصل ما جعله الشارع وظيفة عند عدم العلم بالواقع،لا من حيث كونه حاكيا عنه،و علي هذا إذا جعل الظنّ حجّة لا من حيث كشفه عن الواقع لم يكن أمارة،و حيث إنّ الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين إلاّ باليقين حتّي و لو ظنّ ظنّا قويّا بالانتقاض فهو من الاصول؛لأنّه لم يجعل وظيفة من حيث كشفه عن الواقع.

ص: 173

الرابع:في الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع، و حاصله انّ الأوّل هو اليقين بشي عرض الشكّ في بقائه،و الثاني هو اليقين بشيء موجود في زمان ثمّ الشكّ في وجوده في ذلك الزمان بحيث زال اليقين،و الثالث هو الحكم علي وفق المقتضي عند عدم إحراز المانع من دون نظر إلي اليقين.

و بعد هذه المقدّمة يقع الكلام في المقصدين:

المقصد الأوّل: في الأقوال في الاستصحاب و أدلّتها

و هي:

الأوّل:المختار،و هو أنّ الاستصحاب حكم الشارع ببقاء ما تيقّن فيما له أثر شرعي إن عرض الشكّ في بقائه لو لا عروضه كان اليقين باقيا،أو ما بني العقلاء علي بقائه فيما أمضاه الشارع،فللاستصحاب موردان:

المورد الأوّل:ما استقرّ بناء العقلاء عليه،و هو بناؤهم علي بقاء ما غاب عنهم من أهلهم و أصدقائهم و أمتعتهم و دورهم علي حسب اقتضائها البقاء،و بناؤهم علي البقاء في الأيّام المستقبلة علي حسب اقتضائها،و قد تعبّد العقلاء بهذا البناء حفظا للنظام،لا لحصول العلم أو الظنّ لهم بالبقاء،فهذا البناء منهم عمل بغير علم قد أمضاه الشارع؛لأنّا نعلم بأنّ المعاصرين للمعصومين عليهم السّلام كانوا يبنون علي البقاء في مرأي و مسمع منهم عليهم السّلام،و لم يردعوهم عن ذلك،و حينئذ يخصّص عموم المنع من اتّباع غير العلم بذلك.

و يؤيّده ما ذكره الكشي في ترجمة هشام بن الحكم،قال:و حدّثني يونس، قال:كنت مع هشام بن الحكم في مسجده بالعشي حيث أتاه مسلم صاحب بيت الحكمة،فقال له:إنّ يحيي بن خالد يقول:قد أفسدت علي الرفضة دينهم؛لأنّهم يقولون:إنّ الدين لا يقوم إلاّ بإمام حيّ،و هم لا يدرون أنّ إمامهم اليوم حيّ أو

ص: 174

ميّت،فقال هشام عند ذلك:إنّما علينا أن ندين بحياة الامام أنّه حيّ،حاضرا كان عندنا أو متواريا عنّا حتّي يأتينا موته،فما لم يأتنا موته فنحن مقيمون علي حياته،و مثّل مثالا،فقال:الرجل إذا جامع أهله و سافر إلي مكّة،أو تواري عنه ببعض الحيطان،فعلينا أن نقيم علي حياته حتّي يأتينا خلاف ذلك الخ (1).

أقول:هذا الكلام ليس تامّا بالنسبة إلي الامام؛لأنّه لو مات واقعا كان له خلف إمام،فلا يقوم الأرض و الدين إلاّ بإمام حيّ،و هو موجود دائما.

و قد اختلف الاصوليّون في وجود هذا البناء من العقلاء و في حجّيته علي قولين:

الأوّل:عدم وجود بنائهم علي البقاء تعبّدا،و لو سلّم وجوده فليس بحجّة، اختاره في الكفاية،حيث قال في ردّ الاستدلال علي حجّية الاستصحاب ببناء العقلاء:و فيه أوّلا:منع استقرار بنائهم علي ذلك تعبّدا،بل إمّا رجاء و احتياطا أو اطمئنانا بالبقاء أو ظنّا و لو نوعا أو غفلة،كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما و في الانسان أحيانا.

و ثانيا:سلّمنا ذلك لكنّه لم يعلم أنّ الشارع به راض و هو عنده ماض،و يكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب و السنّة علي النهي عن اتّباع غير العلم،و ما دلّ علي البراءة أو الاحتياط في الشبهات الحكميّة (2)انتهي.

و منع الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن بنائهم علي البقاء تعبّدا في صورة الشكّ المتساوي الطرفين،حيث قال:عمل العقلاء في معاشهم علي ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم،و المضي في امورهم بمحض الشكّ و التردّد في غاية البعد،بل خلاف9.

ص: 175


1- إختيار معرفة الرجال 2:542-543 برقم:480.
2- كفاية الاصول ص 439.

ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء (1).

و منع في مصباح الاصول عن وجود بنائهم علي البقاء في صورة الشكّ،لكن قال انّه علي فرض وجود بنائهم،فلا يشمله ما دلّ علي النهي عن العمل بغير العلم (2).

أقول:لا وجه للمنع عن وجود بناء العقلاء في صورة الشكّ المحض؛لأنّا نري أنّ من سافر أو غاب يبنون علي حياته،مع أنّ احتمال إصابته بالسكتة أو انقلاب مركوبه أو غيرهما من الحوادث المؤدّية إلي موته موجود،و لذا لو سألت شخصا عمّن سافر:انّك قاطع بحياته أو ظانّ بها؟لا يجيب أنّه قاطع أو ظانّ،و هكذا في كلّ أسفارهم التي هي مظنّة الحوادث،فإنّ بناءهم علي بقائهم و بقاء أمتعتهم، فأصل بناء العقلاء ممّا لا ينبغي الريب فيه.نعم في سعته و ضيقه لا بدّ من الاقتصار علي القدر المتيقّن.

و أمّا المنع عن حجّيته علي فرض وجوده للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم،فهو جيّد لولا إحراز إمضاء الشارع لهذا البناء،و الظاهر أنّ الشارع قد أمضاه،فيخصّص العمومات الناهية.نعم لو لم يمض الشارع بناءهم،فلا مانع من شمول عمومات المنع له؛لأنّ الشرع مبنيّ علي التعبّد المحض،و لذا لا يجوز الاعتماد علي القياس و لا الاستحسان و لا الرأي،و العقلاء بما هم عقلاء ليس لهم جعل الحجّية و لا جعل عدمها ممّا هو مربوط بالشرع،فلذا نقول:إنّ كلّ بناء منهم أو سيرة لهم لا يصحّ الاعتماد عليهما في الشرعيات إلاّ ما أمضاه الشارع،كحجّية الظواهر،فإنّ السيرة علي الاعتماد عليها ممضاة شرعا؛لأنّا نعلم أنّ محاورات الشارع مع أصحابه و معاشريه كانت بالظواهر.1.

ص: 176


1- فرائد الاصول ص 589.
2- مصباح الاصول 3:11.

ثمّ إنّه قد ذكر وجوه للمنع عن شمول عمومات المنع لبناء العقلاء أو سيرتهم علي فرض وجودهما في المقام و في غيره.

أحدها:أنّ استقرار بناء العقلاء أو سيرتهم علي شيء يجعلهم ملازمين له لا يرفعون اليد عنه،فلا يلتفتون إلي ردعه بالعمومات،فلا بدّ لردعهم عن بنائهم من الردع عنه بخصوصه،بأن يصرّح لهم بعدم جواز البناء علي البقاء مثلا،كما ورد الردع عن القياس بخصوصه.

و فيه أنّ العقلاء بعد إذعانهم بوجود شريعة الاسلام و اعتقادهم باشتمال الاسلام علي أحكام تعبّديّة كسائر الشرائع،يتعلّمون أحكام الشريعة في كيفيّة الوضوء و الصلاة و الصوم إلي آخر الأبواب،فإذا اتّفق لهم مسألة شرعيّة نظير من كان متيقّنا بوضوئه ثمّ شكّ في أنّه نام،فهل يرجعون إلي الشرع ليتعلّموا حكمه أو لا يرجعون و يبنون علي البقاء لبناء العقلاء علي بقاء ما كان؟أو لا يحتملون أنّ الحكم في شريعة الاسلام الاحتياط؟الانصاف أنّهم يتوقّفون بعد علمهم بأنّ أحكام الشرع تعبّديّة محضة،و يراجعون إلي الشرع.

و حينئذ نقول:إذا رجعوا إلي ما ورد في الشرع من الآيات و الأخبار المستفيضة الناهية عن العمل بغير علم،فلا نسلّم أنّهم لا يرتدعون عن بنائهم و يبنون علي البقاء إذا شكّوا في بقاء أمر راجع إلي الشرع.

ثانيها:أنّ الآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم مخصوصة باصول الدين و الاعتقاديات.

و فيه أنّ بعضها و إن كان مخصوصا بالاعتقاديات،لكن فيها ما يكون شاملا لغيرها.

ثالثها:أنّ المراد بهذه النواهي النهي عن اتّباع الظنون الواهية و التخيّلات و الخرص.و بعبارة اخري:النهي عمّا لا يليق بالعقلاء متابعته؛لأنّها واردة في مقام

ص: 177

توبيخ الكفّار،و التوبيخ لا يصحّ إلاّ علي أمر معلوم وجه فساده،بحيث يكون مخالفا لعمل العقلاء بماهم عقلاء،فلا تشمل بناء العقلاء.

و فيه أنّ إطلاق بعض الآيات و بعض الأخبار شامل لكلّ عمل بغير علم.

رابعها:أنّ حجّية ظهور العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم إنّما ثبتت ببناء العقلاء،فإذا كانت هذه العمومات ناهية عن اتّباع بناء العقلاء حيث لا يحصل العلم من بنائهم،لزم من حجّيتها عدم حجّيتها.

و بعبارة اخري:يتوقّف ردع هذه العمومات عن بناء العقلاء علي حجّيتها،و هي موقوفة علي حجّية بناء العقلاء،فإذا كانت ناهية عن حجّيتها لزم من وجوده عدمه.

و فيه أنّ هذه العمومات مخصّصة بما دلّ علي إمضاء بناء العقلاء علي حجّية الظواهر،و هو أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و جميع المعاصرين لهم كانت محاوراتهم بالظواهر،و مقتضاه أن يكون بناء العقلاء علي حجّية الظواهر ممضي قطعا،و علي ذلك فالعمومات حجّة قطعا،فتكون رادعة عن العمل بغير العلم،و بناء العقلاء علي بقاء ما كان لا يفيد العلم،فلا يجوز العمل به.

القول الثاني:وجود بناء العقلاء و حجّيته،اختاره في منتهي الوصول في خصوص الشكّ في الرافع،قال ما حاصله:إنّ مقتضي الانصاف صحّة بناء العقلاء؛ لأنّهم يعاملون مع المشكوك معاملة المتيقّن عند الشكّ وجدانا،و هذا أمر جبلّي مرتكز في الأذهان مودع في طبائعهم من قبل بارئهم لحكم و مصالح و أمر غريزي جعل طبيعة لهم لا يعلم وجهه إلاّ اللّه تبارك و تعالي،كسائر الغرائز الطبيعيّة،لكن لا يبعد اختصاص السيرة بالشكّ في الرافع و المزيل دون الشكّ في المقتضي،و ذلك

ص: 178

أيضا بشهادة الوجدان (1)انتهي.

أقول:الظاهر وجود بناء العقلاء في الأعمّ من الشكّ في الرافع،كما ذكرنا من أنّ من غاب أو سافر و شكّ في حياته يبنون علي حياته،و ليس بناؤهم في الشكّ في المزيل دائما،فإنّه لو شكّ في حياة زيد بعد عمر مائة و عشرين سنة و كان مريضا مثلا،لم يبنوا علي بقائه مع أنّ الموت مزيل للحياة.

ثمّ إنّه قد يقال:إنّ قولهم عليهم السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»إمضاء لبناء العقلاء.

و فيه أنّ نقض اليقين كما يأتي بيانه لا يصدق إلاّ إذا كان اليقين متعلّقا بشيء يبقي لو لا عروض الشكّ في بقائه،و بناء العقلاء أعمّ من ذلك،و النسبة بين بناء العقلاء و نقض اليقين بالشكّ العموم من وجه،فمن كان متطهّرا ثمّ ظنّ ظنّا قويّا أنّه نام،فهو محكوم شرعا بعدم نقض اليقين بالشكّ،مع أنّ العقلاء في مثله لا يبنون علي البقاء،و من غاب أو سافر و احتمل أنّه مات يبنون علي بقائه،أو أراد أن يسافر و لا يعلم ماذا يصير عليه و هل ينقلب مركوبه فيموت أم لا يبنون علي البقاء،مع أنّه لا يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ.

و قد ظهر ممّا ذكرناه النظر فيما اشتهر من أنّ التعليل في قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ،فإنّ اليقين لا ينبغي أن ينقض بالشكّ»تعليل بما هو المرتكز في أذهان العقلاء من أنّ اليقين بشيء مستحكم لا يزول بما لا استحكام فيه،كما أنّ البناء القوي لا يهدم إلاّ بالمعاول القويّة،فهذه الأخبار واردة علي وفق مرتكزات العقلاء.

وجه النظر أنّ هذا الخبر مشتمل علي جملتين:إحداهما قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»ثانيهما قوله«بل ينقضه بيقين آخر»و مقتضاهما أنّه لو ظنّ ظنّا قويّا0.

ص: 179


1- منتهي الوصول تقريرات بحث المرجع الكبير السيّد الاصفهاني رحمه اللّه ص 20.

أنّه نام بني علي اليقين السابق،مع أنّه خلاف بناء العقلاء،و خلاف مرتكزاتهم.

و المحتمل في معني التعليل المذكور أمران:

الأوّل:أنّه لا يليق بالعاقل أن يعتني بالشكّ في حال من الأحوال،بل يأخذ باليقين،كما ورد في حسن زرارة:و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الأحوال.

الثاني:أنّه لا بدّ و أن يتعبّد الانسان باليقين،و لا يشكّ بل لا يشكّك نفسه حتّي يقع في الشكّ،ففي خبر الحسين بن حكيم،قال:كتبت إلي العبد الصالح أخبره أنّي شاكّ و قد قال إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتي و إنّي احبّ أن تريني شيئا، فكتب:إنّ إبراهيم كان مؤمنا و أحبّ أن يزداد ايمانا،و أنت شاكّ و الشاكّ لا خير فيه،و كتب إنّما الشكّ ما لم يأت اليقين،فإذا جاء اليقين لم يجز الشكّ الحديث (1).

و في خبر أبي إسحاق الخراساني،قال:كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول في خطبته:

لا ترتابوا فتشكّوا،و لا تشكّوا فتكفروا (2).

نعم يمكن أن يقال:إنّ حمل التعليل علي المرتكز عند العقلاء من البناء علي البقاء فيما إذا كان اليقين باقيا لو لا الشكّ،كما هو مفاد أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ علي ما نبيّنه،قريب.

المورد الثاني:اليقين بشيء ذي أثر شرعا يبقي لو لا طروّ الشكّ عليه،كاليقين بالطهارة الحدثيّة أو الخبثيّة إن طرأ الشكّ في الحدث أو الخبث،و يدلّ عليه الأخبار،و هي مضمرة زرارة،قال:قلت له:الرجل ينام و هو علي وضوء أتوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟فقال:يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن،فإذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء،قلت:فإن حرّك إلي جنبه شيء و لم يعلم به،قال:لا حتّي يستيقن أنّه قد نام حتّي يجيء من ذلك أمر2.

ص: 180


1- اصول الكافي 2:293 ح 1.
2- اصول الكافي 2:293 ح 2.

بيّن،و إلاّ فإنّه علي يقين من وضوئه،و لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ و لكن ينقضه بيقين آخر (1).

قيل:إنّ إضمار زرارة لا يضرّ بصحّة الحديث؛لأنّ مثل زرارة لا يستفتي إلاّ من المعصوم عليه السّلام أو ممّن يعتمد عليه في الاستفتاء،كمحمّد بن مسلم و أضرابه،لا سيّما مع هذا الاهتمام.

هذا الخبر يدلّ علي جريان الاستصحاب في باب الوضوء،فالمتوضّيء إن شكّ في صدور حدث منه ناقض للوضوء لم يعتن بشكّه،نوما كان الحدث أو غيره.

و أمّا الاستدلال به لعموم حجّيته لباب الوضوء و غيره،فموقوف علي أن يكون المراد من اللام في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»جنس اليقين الشامل لجميع الموارد،و لا يكون عهدا ذكريّا،أو علي أن يكون المراد من قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»مطلق اليقين،و حينئذ إن كان المراد من اليقين في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»العهد الذكري يكون المعهود المذكور مطلق اليقين،بأن يكون قوله «من وضوئه»متعلّقا بما تعلّق به علي يقين،أي:فإنّه كائن من وضوئه علي يقين لا أن يكون متعلّقا باليقين،أي:فإنّه علي يقين خاصّ،و هو اليقين الكائن الحاصل من وضوئه.

و ينبغي لتوضيح الخبر بيان جملاته،فنقول:قوله«ينام»يعني به ما ذكره من الخفقة،لا النوم الذي يزيل العقل،بقرينة قوله«أيوجب الخفقة و الخفقتان»الخ.

قوله«أيوجب الخفقة»يعني:انّ هذا المقدار من النوم أيوجب الوضوء؟

قوله«قد تنام العين»يعني:انّ الخفقة ليست موجبة للنوم مطلقا،بل هي علي قسمين:إحداهما الخفقة الناشئة من نوم القلب و السمع و العين،فهي موجبة3.

ص: 181


1- جامع أحاديث الشيعة 2:350 ح 33.

للوضوء لتحقّق النوم.ثانيتهما:الناشئة من نوم العين فقط،فهي ليست نوما موجبا للوضوء.

قوله«قلت:فإن حرّك»يعني:أنّه لو شكّ في أنّ الخفقة من أيّ القسمين و كان هناك واقعة و هي حركة شيء في جنبه لم يعلم بها و هو كاشف عن نومه،فهل يحكم عليه بالنوم المبطل للوضوء أم لا؟

قوله«قال:لا»أي:لا يوجب الشكّ في النوم الوضوء و لا الظنّ به حتّي يستيقن.

قوله«و إلاّ»أي:و إن لم يستيقن أنّه نام،أو و إن لم يكن كذلك بأن وجب عليه الوضوء،و لعلّ الأوّل أظهر.

قوله«فإنّه»قيل في جواب الشرطيّة وجوه:

الأوّل:أنّه محذوف،أي:و إن لا يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، لدخوله تحت كبري«لا ينقض اليقين بالشكّ»حيث إنّه كان علي يقين من وضوئه و شكّ في نقضه،و حذف الجواب و أقيم العلّة مقامه،و هو قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»أي:و شكّ في زواله،و هذه صغري لكبري و هي لا ينقض اليقين بالشكّ، و هذه الكبري تشمل الوضوء و غيره،فتدلّ علي حجّية الاستصحاب مطلقا.

و يمكن المناقشة في دلالته علي حجّية الاستصحاب مطلقا.أمّا أوّلا فلأنّه مبني علي أن يكون اللام في قوله«لا ينقض اليقين»للجنس،مع أنّه يحتمل أن يكون للعهد،أي:لا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ في الحدث،و هذه كبري كلّية في باب الوضوء،يندرج فيها مورد السؤال،و هو الشكّ في النوم بعد اليقين بالوضوء،كما يدلّ عليه خبر ابن بكير الآتي.

ص: 182

و لكن قد أيّد دلالته علي العموم و عدم اختصاصه بباب الوضوء في الكفاية (1)و غيرها بامور ثلاثة:

الأوّل:أنّ الظاهر أنّ اللام للجنس؛لأنّ الأصل فيه أن يكون للجنس،و اللفظ محمول علي ما هو الأصل فيه.

الثاني:أنّ الظاهر من التعليل بأنّه علي يقين من وضوئه«و لا ينقض اليقين بالشكّ»هو بيان اندراج اليقين و الشكّ في مورد السؤال في القضيّة الكلّية الارتكازيّة الغير المختصّة بباب دون باب.

و المراد من كونها قضية ارتكازية ما ذكره في الكفاية من أنّ المرتكز في الأذهان أنّ الأمر المحكم المبرم لا يزول بما لا استحكام فيه.أو ما ذكره في مصباح الاصول،حيث قال:إنّ اليقين و الشكّ بمنزلة طريقين،يكون أحدهما مأمونا من الضرر و الآخر محتمل الضرر،فإذا دار الأمر بينهما لا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون (2)انتهي.

الثالث:قوله«أبدا»فإنّه يدلّ علي عدم الاختصاص بباب الوضوء.

قلت:يرد علي الأوّل أنّه لم يثبت أنّ الأصل في اللام أن تكون للجنس،فهي قابلة له و للعهد،بل قد ذكر الفاضل التوني رحمه اللّه في بعض مباحث العامّ و الخاصّ من الوافية أنّه مع تساوي احتمالي العهد و الجنس،فالعهد أظهر كما ذكره الأكثر (3).

و احتفاف الكلام بما يحتمل كونه قرينة علي العهد،و هو قوله قبل ذلك«علي يقين من وضوئه»يوجب عدم انعقاد الظهور في الجنس.

و يرد علي الثاني أنّ كون التعليل تعليلا بأمر ارتكازي ممنوع؛لأنّ المراد4.

ص: 183


1- كفاية الاصول ص 442.
2- مصباح الاصول 3:19.
3- الوافيه ص 114.

بالشكّ أعمّ منه و من الظنّ،و إن كان قويّا ما لم يبلغ حدّ الاطمئنان،يعني الحدّ الذي لا يعتني فيه باحتمال الخلاف عرفا،و يدلّ عليه قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر» و في مثله لم يثبت ارتكاز العقلاء و لا بناؤهم علي عدم النقض،بل يمكن أن يقال بأنّه ثبت عدم بنائهم،فهو حكم تعبّدي.

و لو سلّم وجود القاعدة الارتكازيّة،و كون الاستصحاب داخلا فيها،فلا يكون الشكّ ناقضا لليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم،إلاّ إذا كان اليقين متعلّقا بما فيه البقاء حتّي يكون اليقين باقيا بتبعه.و أمّا تقارن الشكّ و اليقين،فلا يكون الشكّ فيه ناقضا لليقين،فالمكلّف علي يقين و شكّ في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه، أي:هو من أوّل الأمر علي يقين بالنجاسة إلي زوال التغيّر و شكّ في زوالها بزواله، لا علي يقين بنجاسة الماء يطرأ عليه الشكّ في بقائها الذي هو معني نقض اليقين بالشك،هذا علي الوجه الارتكازي المذكور في الكفاية.

و يرد علي ما في المصباح أوّلا:أنّه ليس اليقين و الشكّ طريقين.و ثانيا:أنّهما إنّما يكونان طريقين إذا اجتمعا،و هو مخصوص باليقين الذي يبقي لو لا عروض الشكّ.

ثمّ إنّه قد منع وجود بناء العقلاء علي البقاء،فكيف يستدلّ علي البقاء بالقاعدة الارتكازيّة في أذهان العقلاء.

و أمّا ما أجاب به من أنّ القاعدة الكلّية الارتكازيّة مسلّمة عندهم،لكنّهم لا يطبقونها علي الاستصحاب و تطبيق هذه الكبري الارتكازيّة علي الاستصحاب إنّما هو بالتعبّد الشرعي لأجل هذه الصحيحة و غيرها من الروايات (1)انتهي.

ففيه نظر؛لأنّ التطبيق لو لم يكن ارتكازيّا فلا يصحّ التعليل؛لأنّه يكون بأمر9.

ص: 184


1- مصباح الاصول 3:19.

تعبّدي،و لا يعلّل الأمر التعبّدي بأمر تعبّدي،و إلاّ خرج عن التعليل.

و يرد علي الثالث و هو قوله«أبدا»أنّه تأكيد في باب الوضوء،كما ورد في خبر ابن بكير التأكيد بقوله«فايّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّي تستيقن أنّك قد أحدثت» (1).

و ثانيا:إن سلّمنا كون اللام للجنس،فالكبري الكلّية عدم نقض اليقين بالشكّ، و هو إنّما يصدق في بعض الموارد،و هو المختار عندنا.

الوجه الثاني:أن يكون جواب الشرط محذوفا أيضا،أي:و ان لا يجب الوضوء حتّي يستيقن أنّه نام،بل وجب الوضوء قبل أن يستيقن النوم لزم نقض اليقين بالشكّ،فالجواب المحذوف جملة«لزم نقض اليقين بالشكّ»و يدلّ عليه التعليل.

قلت:لا فرق بينه و بين الوجه الأوّل في جميع ما ذكر.

الوجه الثالث:أن يكون الجواب قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»بأن يكون إنشاء بمعني أنّه في حكم الشرع هو علي يقين من وضوئه،أي تنزيلا،كما يقال:

إنّه متطهّر شرعا و لا يراد من ذلك الطلب،أي:ابن علي اليقين،حتّي يناقش فيه بأنّ الجملة الاسميّة لا تستعمل في إنشاء الطلب.

أقول:هذا بعيد؛لأنّ ذلك مستلزم للتكرار،فإنّه يساوق قوله بعد ذلك«و لا ينقض اليقين بالشكّ»مع أنّ الظاهر اتّحاد هذه القضيّة مع القضيّة المذكورة في صحيحة اخري لزرارة و فيها:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك فشككت و لا ينبغي الحديث.حيث إنّ جملة«علي يقين من طهارتك»جعلت صغري لكبري لا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ.

و الحاصل أنّ قوله«فإنّه علي يقين من وضوئه»إن كان حكما معناه أنّك علي1.

ص: 185


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 12 نواقض الوضوء ح 1.

يقين من الوضوء تعبّدا،فيكون قوله«و لا ينقض اليقين»الظاهر في أنّه لا ينقض اليقين المذكور تكرارا لا تعليلا.

الوجه الرابع:أن يكون الجواب قوله«و لا ينقض»و قد ذكر فإنّه علي يقين من وضوئه توطئة له،و إخبارا عن أنّه علي يقين من الوضوء و شكّ في زواله،فيكون قوله«و لا ينقض»إنشاء و جوابا للشرط.

و اورد عليه بأنّ الجواب لم يدخل عليه الفاء مع أنّها لازمة له.

و فيه أنّ فاء الجواب هي المذكورة في قوله«فإنّه علي يقين».

و علي جميع هذه الوجوه الأربعة دلالته علي حجّية الاستصحاب مطلقا موقوفة علي أن يكون اللام للجنس،أو يكون اليقين في قوله«علي يقين من وضوئه» مطلقا،و يكون اللام للعهد الذكري.

و يمكن تأييد كون اللام للجنس بأمرين:الأوّل:أنّه لو كانت اللام للعهد كان الأنسب أن يقال:فإنّه علي يقين من وضوئه و لا ينقضه بالشكّ،أو لا ينقض يقينه بالشكّ،فذكر الاسم الظاهر المحلّي باللام أي اليقين يناسب كونه للجنس حتّي لا يستلزم تكرار أنّه علي يقين من الوضوء،و يكون صغري و كبري،الثاني:ذكر هذه القضية في غير باب الوضوء،فهي كبري كلّية لكلّ مورد صدق نقض اليقين بالشكّ.

قوله«علي يقين»خبر متعلّق بمقدّر،أي:فإنّه كائن علي يقين.

قوله«من وضوئه»الظاهر أنّ الجار و المجرور صفة،فإنّ الجملة بعد النكرة صفة فيتعلّق بمقدّر،أي:فإنّه كائن علي يقين كائن من وضوئه،و ما ذكره في الكفاية من احتمال تعلّقه بالظرف،أي:فإنّه من وضوئه علي يقين تكلّف.

قوله«و لا ينقض اليقين»بفتح الياء بقرينة قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»و هو نهي أو نفي اريد به إنشاء النهي.

قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»يدلّ علي أنّ الظنّ و إن كان قويّا ما لم يبلغ حدّ

ص: 186

اليقين عرفا لا يكون ناقضا،و يدلّ علي أنّ المناط صدق نقض اليقين بالشكّ و صدق نقض اليقين باليقين،و لا يصدقان إلاّ إذا لم يكن اليقين من الأوّل محدودا، بل كان باقيا لو خلّي و طبعه،و صار الشكّ أو اليقين ناقضين له،فيختصّ صدقه ببعض الشبهات الموضوعية التي يبقي فيها اليقين لو لا طروء الشكّ،كما في الطهارة التي تبقي إن لم يطرأ عليها النجاسة،و الملكيّة التي تبقي لو لا عروض ما يزيلها،و كذا الزوجية و نحوها.

و لتوضيح ذلك ينبغي ذكر معني النقض،ثمّ بيان معني النهي عن النقض.

فنقول:المستفاد من كلام اللغويّين أنّ النقض هدم شيء له نحو قرار و إبطاله، و هو المراد من كونه مبرما،أي:مبرما بحسبه لا الابرام بمعني الاستحكام الذي لا يمكن هدمه إلاّ بآلة قويّة،فلا يقال نقضت الصوف؛لأنّه لا إبرام له،و ليس له هيئة تنقض.

إن قلت:إن غزل فقد انتقض.

قلت:الظاهر من الانتقاض التفرّق لا الاجتماع.

و لا يختصّ بالامور المحسوسة،فيصدق علي نقض العهد و العقد و نحوهما،بل يصدق علي نقض الشكّ،فإن كانت الألفاظ موضوعة للمعاني المحسوسة،فيكون صدق النقض علي نقض العهد مجازا.و أمّا بناء علي أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني و لها وجودات متعدّدة،مثلا الرزق موضوع لما ينتفع به ممّا به قوام وجود الشيء، فالمأكول رزق البدن و العلم رزق الروح،فيكون اطلاقه علي نقض العهد و اليقين حقيقة.و إليك بعض كلماتهم في معني النقض:

قال في تهذيب اللغة:قال الليث:النقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء،إلي

ص: 187

أن قال:و يقال:انتقض الجرح بعد البرء،و انتقض الأمر بعد التيامه (1).

و قال في المقاييس:يدلّ علي نكث شيء نقضت الحبل و البناء و النقض المنقوض،و لذلك يقال للبعير المهزول نقض،كأنّ الأسفار نقضته جمعه أنقاض، و المناقضة في الشعر من هذا،كأنّه يريد أن ينقض ما أراد صاحبه و نقض العهد منه (2).

و قال ابن الأثير في النهاية:النكث نقض العهد،و في حديث عمر أنّه كان يأخذ النكث و النوي من الطريق،فإن مرّ بدار قوم رمي بهما فيها،و قال:انقضوا بهذا النكث بالكسر الخيط الخلق من صوف أو شعر أو وبر،سمّي به لأنّه ينقض ثمّ يعاد فتله (3).

و قال أيضا:و في حديث صوم التطوّع«فناقضني و ناقضته»و هي مفاعلة من نقض البناء و هو هدمه،أي:ينقض قولي و أنقض قوله،و أراد به المراجعة و المراودة.و منه حديث«نقض الوتر»أي:إبطاله و تشفيعه بركعة لمن يريد أن يتنفّل بعد أن أوتر (4)انتهي.

و قال في القاموس:النقض في البناء و الحبل و العهد و غيرها ضدّ الابرام (5).

و في مصباح المنير:عن الأزهري قال:النقض اسم البناء المنقوض إذا هدم، و بعضهم يقتصر علي الكسر و يمنع الضمّ،و الجمع النقوض،و نقضت الحبل نقضا7.

ص: 188


1- تهذيب اللغة 8:344.
2- مقاييس اللغة 5:470.
3- نهاية ابن الأثير 5:114.
4- نهاية ابن الأثير 5:107.
5- القاموس المحيط 2:347.

أيضا حللت برمه (1).و أمّا القول بأنّ النقض مجرّد الازالة،ففيه أوّلا:ما عرفت من أنّ معناه الهدم.و ثانيا:لو سلّم فلا يصدق علي الشكّ أنّه مزيل أو مفسد أو مخالف لليقين إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو لا الشكّ.

ثمّ إنّ نقض الحبل هو هدمه،أي:جعله كما قبل فتله لا قطعه،فإنّ القطع ليس نقضا،لكن ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة،كما في نقض الحبل،و لعلّه يريد به قطعه،بقرينة قوله في الاستدلال علي القول التاسع الذي اختاره،حيث قال:النقض رفع الأمر المستمرّ في نفسه،و قطع الشيء المتّصل كذلك (2)انتهي.و فيه أنّه خلاف المعني اللغوي.و استعمل في الأخبار نقض الشكّ باليقين،و نقض الصلاة،و نقض الوضوء،و نقض الصوم.و الظاهر أنّ نقض كلّ شيء بحسبه،فيكون استعمال النقض في نقض العهد و نقض العقد و نقض الشكّ حقيقة،فلا يعتبر أن يكون الشيء المنقوض مستحكما.

و لكن في أساس البلاغة:و من المجاز نقض العهد،و ناقض قوله الثاني الأوّل، و في كلامه تناقض،و هذا نقيض ذاك،أي:مناقضة (3)إلي آخر كلامه.

و هذا اجتهاد منه.و لو سلّمنا أنّه مجاز،فهو أقرب إلي المعني الحقيقي،فينبغي إرادته بدون قرينة علي غيره من المعاني المجازيّة.

و لو سلّم أنّ معني النقض هو قطع الهيئة الاتّصاليّة،أو أنّ النقض هو الرفع بشدّة إمّا في المرفوع أو في الرفع،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا لم يكن اليقين محدودا،و إلاّ فهو علي يقين و شكّ معا من الأوّل.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ نقض اليقين باليقين إسناد حقيقي،إن كان المراد بالنقض1.

ص: 189


1- مصباح المنير ص 231.
2- فرائد الاصول ص 620.
3- أساس البلاغة ص 651.

إفساده بقاء،و لو سلّم كونه مجازا فأقرب المجازات أن يكون اليقين باقيا لو لا الشكّ،و كذا نقض اليقين بالشكّ،و كذلك نقض الشكّ باليقين فيما إذا كان المنقوض باقيا لو لا طروء الناقض،كالبناء الذي ينقض بالهادم.

فإذا فرضنا أنّه تيقّن بزوجيّة امرأة لزيد مثلا،فهذا اليقين يبقي لو لا طروء اليقين الناقض عليه،أو طروء الشكّ الناقض عليه،فإن تيقّن بأنّه طلّقها،فقد نقض اليقين بالزوجيّة باليقين بالطلاق،و إذا شكّ في أنّه طلّقها،فقد نقض اليقين بالشكّ،و إذا كان شاكّا في زوجيّتها،ثمّ تيقّن أنّه تزوّجها،فقد نقض الشكّ باليقين.

و أمّا إذا فرضنا أنّه تيقّن بزوجيّة امرأة لزيد من أوّل الشهر إلي آخره متعة،فإذا جاء اليوم الآخر لا يصحّ أن يقال:نقض اليقين بالزوجيّة باليقين بعدم الزوجيّة،بل يقال:انتهي اليقين بها.

و قد تفطّن لذلك في الجملة المحقّق السبزواري في الذخيرة،و المحقّق الخوانساري في شرح الدروس،و الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد، و المحقّق النائيني في فوائد الاصول.

قال الأوّل:إنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين الذي دلّ علي استمراره إن شكّ في رفعه،فهو علي أربعة أقسام:

الأوّل:الشكّ في الرافع،كالشكّ في خروج البول من المتطهّر.

الثاني،الشكّ في رافعيّة الموجود لاجمال معني الرافع،كالشكّ في صدق البول علي الخارج عن غير السبيلين.

الثالث:الشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما.

الرابع:الشكّ في كونه رافعا مستقلا،كالشكّ في كون المذي رافعا.ثمّ قال باختصاص معني نقض اليقين بالشكّ بخصوص الأوّل.إلي أن قال في بعض كلامه:

إنّ الشكّ في الصور الثلاث الأخيرة كان حاصلا من قبل و لم يكن بسببه نقض

ص: 190

الخ (1).

و لا يخفي بأنّ في نقض اليقين باليقين أيضا يعتبر أن يكون اليقين المنقوض مستمرّا،و علي أيّ حال فإنّه قد قرب إلي المعني الذي ذكرناه.

و أمّا ما أورده عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ الشكّ في رافعيّة الموجود يصير منشأ للشكّ في الرافع،أي:يتولّد منه شكّ بعد ذلك و هو الناقض (2).فهو غير واضح،بل إنّه هو الشكّ الموجود من قبل،فلا فرق بين الشكّ في رافعيّة الموجود و الشكّ في زوال النجاسة،لزوال تغيّرها عن الماء بنفسه.

و قال الثاني أعني المحقّق الخوانساري،فيما حكاه عنه الشيخ الأنصاري في جملة كلامه (3).

قلت:الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض، و المراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ،و فيما ذكروه ليس كذلك؛لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ،و هو ظاهر.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ما تقدّم.

و قال الرابع في فوائد الاصول:يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ علي أن يكون زمان الشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به في زمان حدوثه،بمعني أنّ الزمان اللاحق الذي يشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه،و هذا إنّما يكون إذا كان المتيقّن مرسلا بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدودا بزمان خاصّ،و مقيّدا بوقت خاصّ،و إلاّ ففيما بعد ذلك الحدّ و الوقت يكون7.

ص: 191


1- ذخيرة المعاد ص 115.
2- فرائد الاصول ص 623.
3- فرائد الاصول ص 625 عن مشارق الشموس ص 75-77.

المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر،فلا يكون رفع اليد عن آثار وجود المتيقّن من نقض اليقين بالشكّ؛لأنّ اليقين ما كان يقتضي ترتيب آثار وجود المتيقّن بعد ذلك الحدّ،فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقين بالشكّ الخ (1).

إذا تحقّق ذلك فنقول:الظاهر أنّ الجملة نهي،و ليس المراد النهي عن نقض اليقين المأخوذ في الموضوع بما هو يقين،كمن نذر أن يتصدّق كلّ يوم ما دام متيقّنا بحياة زيد؛لأنّ الموضوع ينعدم إذا شكّ في حياته.

و أيضا ليس المراد النهي عن نقض اليقين إذا كان الشكّ ساريا؛لأنّ المورد المفروض في الخبر بقاء اليقين و عدم زواله،و إن أطلق عليه نقض اليقين بالشكّ في الفقه الرضوي.

و أيضا ليس النهي عن نقض اليقين السابق بالشكّ الطاري،بمعني إبقاء اليقين حقيقة،فإنّه غير مقدور،كما يكون نقض العهد و نقض البيع بالاقالة أو الخيار مقدورين،و يسند النقض إليهما حقيقة،فلا بدّ أن يكون النهي متوجّها إلي نقض اليقين بالشكّ عملا من دون تصرّف في مفهوم اليقين،و لا في مفهوم النقض،و لا في إسناد النقض إلي اليقين،و لا في كون الشكّ ناقضا لليقين،و لا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلاّ إذا كان اليقين باقيا لو خلّي و نفسه إن لم يطرأ عليه الشكّ.

و بعبارة اخري:إنّما يصدق النقض إذا لم يكن اليقين من الأوّل محدودا و معيّنا، بل كان اليقين متعلّقا بالشيء يبقي إلي أن يرفعه رافع،و حينئذ يصدق نقض اليقين بالشكّ إن طرأ الشكّ،و يصدق أيضا نقض اليقين باليقين إن طرأ اليقين المذكور في قوله«و لكنّه ينقضه بيقين آخر»و أمّا إذا كان أمد اليقين من الأوّل معلوما و كان الشكّ من الأوّل موجودا،فلا يصدق نقض اليقين باليقين و لا نقضه بالشكّ.6.

ص: 192


1- فوائد الاصول 4:136.

نعم لو كانت العبارة من كان علي يقين و شكّ أبقي اليقين في زمان الشكّ شملت اليقين المحدود،فيكون من تزوّج متعة و لم يعلم أنّ المدّة المجعولة فيه شهر أو شهران علي يقين بالزوجيّة إلي شهر و شكّ في الشهر الثاني،فعليه أن يبقي يقينه بخلاف أن تكون العبارة نقض اليقين بالشكّ،فإنّها لا تشمله؛لأنّ اليقين محدود ينتهي بنفسه بعد الشهر،و لا يكون الشكّ في الزوجيّة في الشهر الثاني نقضا لليقين.

و إن أبيت عن أن يكون الاسناد حقيقيّا،فأقرب المجازات ما ذكرنا،فيكون المراد من نقض اليقين هو اليقين الموجود بلحاظ وجوده حال الشكّ لو لم يشكّ.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية من صحّة أن يقال:انتقض اليقين باشتعال السراج فيما إذا شكّ في بقائه للشكّ في استعداده (1).في غير محلّه لأنّه إذا تردّد في أنّ النفط الموجود في السراج بمقدار يشتعل السراج إلي نصف الليل، أو بمقدار يشتعل إلي طلوع الفجر،فقد تيقّن من الأوّل بأنّه يشتعل إلي نصف الليل، و شكّ من الأوّل في اشتعاله من نصف الليل إلي طلوع الفجر،فإذا صار نصف الليل لم يصحّ أن يقال:انتقض اليقين باشتعال السراج بالشكّ؛لأنّ اليقين قد زال بنفسه و لو لم يكن شكّ،و لذا لو كان النفط الموجود فيه بمقدار يشتعل إلي نصف الليل لم يصحّ أن يقال حين صار نصف الليل انتقض اليقين بالاشتعال باليقين بعدمه.

و حاصل ما ذكرنا أنّ اليقين قد اخذ طريقا إلي متعلّقه،و المكلّف يجب عليه أن يكون عمله علي وفقه،و هذا اليقين الموجود له بقاء في نفسه،و النقض يسند إليه بقاء،و الشكّ أو اليقين بالخلاف ناقض لهذا الموجود من حيث إنّ له بقاء،أي:لو لم يكن الناقض موجودا كان اليقين موجودا و الشكّ ناقض لهذا اليقين بلحاظ وجوده، كما أنّ نقض البناء هو هدمه بقاء،و كذا نقض العهد نكثه بقاء،فلا وجه لارجاع3.

ص: 193


1- كفاية الاصول ص 443.

اليقين إلي المتيقّن،بأن يكون المعني لا تنقض الوضوء بالشكّ في الحدث،فإنّ الشكّ ليس ناقضا للوضوء،و ناقضه النوم و البول و غيرهما،و لا وجه لإلغاء زمان الشكّ و اليقين؛لأنّ النقض يكون في زمان بعد زمان حدوث اليقين كنقض البناء، فكما ينقض البناء بقاءه،كذلك ينقض اليقين بقاءه.

و حاصل ما ذكرناه في معني الخبر خلافا لما استفادوه من الأخبار امور:

الأوّل:قيل:إنّ مفهوم النقض يتعلّق بالشيء المستحكم،و حيث إنّ اليقين مستحكم مع قطع النظر عن متعلّقه،فنقض اليقين صادق فيما إذا كان الشكّ في المقتضي.

و فيه أنّ النقض عبارة عن إفساد الشيء و هدمه،و قد سبق ما حكي عن عمر أنّه لمّا وجد خيطا خلقا أخذه و رماه في بعض البيوت،و قال:انقضوه،فلا يعتبر في متعلّق النقض الاستحكام،و لذا ورد و ينقض الشكّ باليقين.

الثاني:أنّ الشكّ حيث كان في البقاء و اليقين كان بالحدوث،فلا ينقض اليقين الشكّ؛لعدم ورود الشكّ علي اليقين،و المفروض في مورد الخبر أنّه كان علي يقين من طهارته و لا ينقضه بالشكّ،و هو الاستصحاب.

فلذا قال في الكفاية:إنّ الظاهر أنّ وجه الاسناد هو لحاظ اتّحاد متعلّقي اليقين و الشكّ ذاتا،و عدم ملاحظة تعدّدهما زمانا،و هو كاف عرفا في صحّة إسناد النقض إليه و استعارته (1)انتهي.

و مثله الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و لا ريب أنّ المراد باليقين و الشكّ في قوله عليه السّلام في صدر الصحيحة«لأنّك كنت علي يقين من طهارتك و شككت» و غيرها من أخبار الاستصحاب،هو اليقين و الشكّ المتعلّقان بشيء واحد،أعني:3.

ص: 194


1- كفاية الاصول ص 443.

الطهارة المطلقة.و حينئذ فالنقض المنهي عنه هو نقض اليقين بهذا الشكّ المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين (1).

و فيه نظر فإنّ اليقين بحدوث الطهارة الي زمان حدوث الشكّ موجود و الشكّ ليس بناقضه،بل انّ اليقين حيث تعلّق بأمر يبقي إلي أن يرفعه الرافع فهو باق،فإذا جاء الشكّ هدم اليقين بقاء،كما أنّ البناء يهدم بقاء بآلة حيث كان له البقاء،و ما ذكره من عدم ملاحظة تعدّد زمانهما تأويل لا ينطبق علي الخبر؛لأنّ الشكّ لا يكون ناقضا لليقين مع قطع النظر عن ملاحظة كونه باقيا لو لا عروض الشكّ.

الثالث:أنّ التعليل المذكور في الخبر تعليل بأمر ارتكازي،و هو أنّ الأمر المحكم المبرم لا يزول بما لا قوّة فيه،و اليقين أمر مستحكم و الشكّ لا قوّة له.

و فيه أوّلا:أنّ الارتكاز إنّما يسلّم فيما إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ عليه.

و ثانيا:لا يتعيّن كون التعليل إشارة إلي ذلك بل يحتمل ما تقدّم.

و قد ظهر بما ذكرنا وجه عدم استدلال القدماء بهذا الخبر علي الاستصحاب، لاختصاصه بخصوص باب الوضوء.

قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة:و استدلّ من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبي أنّه قال:و إنّ الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إلييه فيقول:أحدثت،فلا ينصرفنّ حتّي يسمع صوتا أو يجد ريحا.فبقّاه علي الحالة الاولي.

و أيضا فقد اتّفقوا علي أنّ من تيقّن الطهارة ثمّ شكّ في الحدث أنّ عليه أن يستصحب الحالة الاولي،فينبغي أن يجعل ذلك عبرة في نظائره.

و اعترض ذلك من نفي القول به،بأن قال:إنّما قلنا في هذين الموضعين لقيام3.

ص: 195


1- فرائد الاصول ص 623.

دليل،و هو قول النبي صلّي اللّه عليه و آله و تسويته بين الحالين،و كذلك الاتّفاق علي أنّ حال الشكّ في الحدث مثل حال يقين الطهارة فلا شكّ معها،فنظير ذلك أن يقوم في كلّ موضع دليل علي أنّ الحالة الثانية مثل الحالة الاولي حتّي يصير إليه (1)انتهي.

فلم يتعدّ عن الخبر إلي الشكّ في بقاء الحدث إن كان متيقّنا به و شكّ في أنّه تطهّر حتّي قال به للاتّفاق،لكن الظاهر دلالته علي كلّ ما كان مثل الشكّ في بقاء الطهارة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ المراد من اليقين المتيقّن الذي له بقاء أو أحكام المتيقّن المثبتة له من جهة اليقين،و هذه الأحكام كنفس المتيقّن أيضا لها استمرار شأني لا يرتفع إلاّ برافع،و يكون هو المصحّح لاسناد النقض إليه (2).

و صاحب الكفاية لم يرض هذا الكلام من الشيخ،و قال:إنّ النقض مسند إلي اليقين،قال في الكفاية ما حاصله:إنّ النقض ضدّ الابرام،و هو مسند إلي اليقين، فإنّه مبرم من غير حاجة إلي تأويله إلي المتيقّن الذي له استمرار البقاء؛لعدم صحّة قول القائل نقضت الحجر من مكانه،مع أنّ الحجر يستمرّ في موضعه لو لم يرفعه رافع،و صحّة قوله انتقض اليقين باشتعال السراج بالشكّ فيه فيما إذا كان الشكّ في مقدار استعداده للاشتعال (3).

أقول:قد عرفت عدم صحّة المثال الثاني،و أمّا المثال الأوّل فإن كان مقصود القائل أنّه هدم هيئة كون الحجر في المكان،أي:هدم البناء صدق النقض،لكن ينبغي أن يقول:انتقض البناء؛لأنّه بمعني هدم البناء،و إن كان مقصوده رفع الحجر و نقله من مكانه،فاستعمال النقض غلط؛لأنّه ليس بمعني النقل،بل هو بمعني الهدم.3.

ص: 196


1- عدّة الاصول 2:757.
2- فرائد الاصول ص 575.
3- كفاية الاصول ص 443.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ النقض مسند إلي اليقين،و انّه إنّما يصحّ إسناده إليه إذا كان اليقين غير محدود،بل كان باقيا لو لا طروء الشكّ،و يكون الشكّ ناقضا له.

و أمّا إذا كان اليقين له حدّ محدود معيّن عند المتيقّن بالكسر،كما إذا تردّد في وقوع عقد المتعة علي المرأة شهرا أو شهرين،فاليقين محدود إلي شهر،و الزائد من الأوّل مشكوك،و في مثله لا يصدق نقض اليقين بالشكّ بعد انقضاء شهر،بل يقال قد انتهي اليقين،و هو من الأوّل كان علي يقين و شكّ،لا أنّه كان علي يقين و نقضه الشكّ حتّي ينهي عن نقض اليقين بالشكّ،كما لا يصحّ فيما إذا تزوّج بامرأة متعة إلي عشرة أيّام بعد انقضاء العشرة أن يقال:قد انتقض اليقين بالزوجيّة باليقين بعدمها،بل يقال:انتهي اليقين بالزوجيّة.

و لا يخفي أنّ جميع الشبهات الحكمية مبتلاة بهذا الاشكال،أعني:عدم صدق نقض اليقين بالشكّ.

و الحاصل أنّه فرق بين نقض اليقين بالشكّ،و نقض اليقين باليقين،و نقض الشكّ باليقين،و بين انتهاء اليقين،و بين كونه علي يقين و شكّ،فمن شكّ في أنّ الماء المتغيّر نجس بعد زوال تغيّره بنفسه،فهو من الأوّل لمّا نظر إلي قوله«الماء إذا تغيّر ينجس»حصل له يقين و شكّ،و ينتهي أمد يقينه عند زوال التغيّر،و الشكّ في النجاسة بعد زوال التغيّر لا يرتبط باليقين،و ليس ناقضا له،بل محلّه بعد اليقين.

و بهذا البيان الذي ذكرناه لمعني قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»يظهر عدم الدليل علي الاستصحاب في الشبهة الحكميّة،و لا الاستصحاب القهقري،و لا الاستصحاب الاستقبالي،و لا القسم الثاني من الكلّي،و لا استصحاب الزمان،و لا الاستصحاب التعليقي و نحوها،و انّه يعتبر وحدة القضيّة المشكوكة و المتيقّنة بالدقّة العقليّة.و سيأتي بيانها.

و منها:مضمر زرارة في التهذيب و الاستبصار المسند عن أبي جعفر عليه السّلام في

ص: 197

العلل (1)و محلّ الاستشهاد منه فقرتان:

الفقرة الاولي:قلت:فإن ظننت أنّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك،فنظرت فلم أر شيئا،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،قال:تغسله و لا تعيد الصلاة،قلت:لم ذلك؟قال:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت،فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قوله«فنظرت فلم أر شيئا»يحتمل وجوها:

أحدها:فنظرت و تيقّنت أنّه لم يصبه شيء،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،أي:تبيّن لي خطأ يقيني الأوّل،و حصل لي اليقين بالاصابة،فلم يمرّ عليّ زمان أكون شاكّا في طهارة الثوب.

و يرد علي هذا الاحتمال أنّه لا يساعده الجواب،حيث فرض فيه نقض اليقين بالشكّ،فلا يفهم من العبارة هذا الوجه.

ثانيها:فنظرت و تيقّنت أنّه لم يصبه شيء،ثمّ صلّيت فرأيت فيه نجاسة لم أعلم أنّها وقعت عليه الآن،فيكون يقيني بعدم الاصابة موجودا،أو كان يقيني بعدم الاصابة خطأ،فيكون الشكّ ساريا إلي اليقين،و موجبا لزواله حين الرؤية،و يكون معني الجواب هكذا،أي:لأنّك كنت حين نظرت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت بعد الصلاة،فليس ينبغي لك أن تنقض هذا اليقين بالشكّ،فيكون دليلا علي قاعدة اليقين.

و هذا الاحتمال أيضا مشكلّ؛لأنّ الظاهر من نقض اليقين بالشكّ وجود اليقين المطابق للواقع،و أمّا اليقين الذي يحتمل كونه خطأ فليس يقينا واقعيّا.

ثالثها:فنظرت فلم أر شيئا،أي:لم أر شيئا ظاهرا و بقي شكّي في الاصابة،و هذا6.

ص: 198


1- جامع أحاديث الشيعة 2:165-165 ب 23 ح 6.

الوجه أظهر؛لأنّه قال:ظننت أنّه أصابه و لم أتيقّن،فنظرت و لم أر شيئا أي ظاهرا و لم يزل شكّي،و ينطبق عليه التعليل المذكور،و يكون دليلا علي حجّية الاستصحاب.

و ينبغي أن يعلم أنّ الصلاة بلحاظ وقوعها مع الطهارة عن الخبث تكون علي أنحاء:

الأوّل:أن تكون الصلاة مع الطهارة الواقعيّة،و إن اعتقد المصلّي نجاسة ثوبه، و لا ريب أنّ الصلاة صحيحة.

الثاني:أن يكون جاهلا بالنجاسة جهلا بسيطا،و بعد الصلاة علم وقوع الصلاة في النجس،و الصلاة صحيحة.

الثالث:أن يحرز الطهارة بأصل أو أمارة،و بعد الصلاة تبيّن وقوعها في النجس،و الصلاة صحيحة؛لأنّ الطهارة قد احرزت.

الرابع:أن يكون شاكّا فيها قبل الصلاة و لم يحرزها،لتعاقب الحالتين و نحوه و صلّي شاكّا و لم يتبيّن الواقع،و هذا لا يحكم بصحّة صلاته.

الخامس:أن يكون جاهلا بنجاسته،و تبيّن في أثناء الصلاة أنّه نجس من قبل الدخول في الصلاة،أو وقع بعض الصلاة في النجس مع التبيّن في الاثناء،و الصلاة باطلة علي خلاف في الأخير.

السادس:أن يكون شاكّا في النجاسة قبل الدخول في الصلاة و استصحب الطهارة،ثمّ علم في أثناء الصلاة بالنجاسة و وقوع بعض الصلاة فيها،فالصلاة باطلة.

السابع:أن تقع النجاسة في الأثناء،فإن تمكّن من التطهير بني علي الصلاة.

الثامن:أن يري في أثناء الصلاة نجاسة لم يعلم وقوعها عليه في الأثناء أو قبل الصلاة،فإنّه يستصحب الطهارة و يحكم بصحّة الصلاة.

ص: 199

الفقرة الثانية:قوله«قلت:إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة،قال:تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته،و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثمّ بنيت علي الصلاة؛لأنّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك،فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ».

قوله«إذا شككت في موضع منه»يحتمل وجهين:الأوّل:أن يكون المعني علمت الاصابة قبل الدخول في الصلاة لكن لم تعلم موضعها.أي:كنت عالما بالاصابة شاكّا في موضعها،و عليه فالصلاة باطلة لوقوعها في معلوم النجاسة.

الثاني:أنّه كان في شكّ في أصل الاصابة قبل الصلاة و في أثناء الصلاة علم أنّه أصابه قبل الصلاة،فإنّه يجري استصحاب الطهارة إلي حين العلم بالنجاسة،لكن حيث علم في الأثناء وقوع بعض الصلاة واقعا في النجاسة،فالصلاة باطلة للفرق بين العلم بكون الصلاة مع النجاسة بعد الصلاة فتصحّ الصلاة،و بين العلم بوقوع بعضها مع النجاسة في الأثناء،كما اختاره في العروة الوثقي في كتاب الطهارة في الفصل الذي أعدّه للصلاة في النجس.و لا يبعد ظهوره في الوجه الأوّل.

قوله«و إن لم تشكّ»يعني و إن لم تشكّ في الاصابة بأن كنت غافلا قبل الصلاة أو متيقّنا بعدم الاصابة قبل الصلاة«ثمّ رأيته رطبا»قيّده بكونه رطبا؛لأنّه لو كان يابسا فهو يكون من إصابة قبل الصلاة،و حيث إنّه وقع بعض الصلاة في النجس مع حصول العلم به في أثناء الصلاة فالصلاة باطلة،بخلاف ما إذا كان رطبا،فإنّه يحتمل أن يكون قد أصابه قبل الصلاة.و يحتمل أن يكون قد وقع عليه الآن،فلا يعلم وقوع جزء من الصلاة مع النجاسة،بل يستصحب بقاء طهارة الثوب إلي الآن، و هذا مبني علي الفرق بين العلم بوقوع بعض الصلاة في النجس في أثناء الصلاة و بعده،و لكن لا يضرّ بالاستدلال.

و منها:حسن زرارة كالصحيح عن أحدهما عليهما السّلام،قال:قلت له:من لم يدر في

ص: 200

أربع هو أم في ثنتين و قد أحرز الثنتين؟قال:يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و يتشهّد و لا شيء عليه،و إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها ركعة اخري و لا شيء عليه،و لا ينقض اليقين بالشكّ،و لا يدخل الشكّ في اليقين،و لا يخلط أحدهما بالآخر و لكنّه ينقض الشكّ باليقين و يتمّ علي اليقين،فيبني عليه و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (1).

و في معني هذا الخبر احتمالات:

أحدها:أن يؤخذ بظاهر قوله«يركع ركعتين»و هو إلحاق الركعات متّصلة،لكن قيل:إنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين،أعني:صلاة الاحتياط،فيمكن جعله قرينة علي إرادة الانفصال من قوله بعد ذلك«قام فأضاف إليها ركعة».

و قوله«لا ينقض»أي:اليقين بعدم الاتيان بالركعتين الأخيرتين إن كان الشكّ بين الاثنتين و الأربع،أو بالرابعة إن كان الشكّ بين الثلاث و الأربع بالشكّ في الاتيان،بأن لا يأتي بالركعتين أو بالركعة.

و قوله«و لا يدخل الشكّ»أي:لا يعتني بالشكّ و لا يجعله شيئا.

و قوله«و لا يخلط»عطف تفسيري.

و قوله«لكنّه ينقض الشكّ»أي:في الاتيان بالثالثة و الرابعة،أو بالرابعة باليقين، فيأتي بالركعتين أو بالرابعة متّصلة و يتمّ علي اليقين فيبني عليه.و علي هذا الاحتمال ينبغي أن يحمل علي التقيّة،فلا يصحّ الاستدلال به،و اجيب عنه بوجوه:

الأوّل:أنّ التقيّة في التطبيق،و أمّا صحّة أصل الحكم و هو الاستصحاب،فلا تقيّة فيه نظير قوله عليه السّلام في الافطار يوم العيد مع الخليفة:«ذاك إلي الامام إن صام4.

ص: 201


1- جامع أحاديث الشيعة 6:335 ب 24 الخلل ح 4.

صمنا»حيث طبّق عنوان الامام علي أبي العبّاس (1).

الثاني:ما ذكره في الكفاية (2)،من أنّ قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»يقتضي الاتيان بالركعة مطلقا متّصلة أو منفصلة.و الأخبار دلّت علي تقييده بأن تكون منفصلة.

قلت:فيه منع ظاهر.

الثالث:أنّ الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة منفصلة.

قال في مصباح الاصول:إنّ وظيفة الشاكّ بين الثلاث و الأربع مثلا هي أربع ركعات فيها زيادة التشهّد و التسليم،لكن مع التقييد بعدم الاتيان بالركعة الرابعة واقعا،فالموضوع لوجوب الركعة المنفصلة المكلّف المقيّد بأمرين:الأوّل كونه شاكّا،الثاني كونه غير آت بالرابعة واقعا،و الأوّل موجود وجدانا،و الثاني يحرز بالاستصحاب،فيحكم بوجوب الاتيان بالركعة المنفصلة (3).

قلت:فيه أوّلا أنّ ظاهر الصحيح علي هذا المعني-أي:البناء علي عدم الاتيان بالرابعة للاستصحاب-هو عدم الاتيان بالرابعة علي الكيفيّة التي وجبت،و هي وجوب الاتيان بها متّصلة،فيعارض مع الأخبار الدالّة علي الاتيان بها منفصلة.

و ثانيا:لازمه أن يقصد الجزئيّة بصلاة الاحتياط،مع أنّه مناف للأخبار الدالّة علي أنّ الركعة نافلة إن كانت الصلاة تامّة و جزء إن كانت ناقصة،و مقتضاها عدم قصد الجزئيّة.

و ثالثا:لا يجري الاستصحاب و كذا البيّنة و غيرهما من التعبّديات فيما كان الأثر مترتّبا علي الواقع،فلو صرّح بأنّه يجب الوضوء بالماء الطاهر واقعا،فلا3.

ص: 202


1- جامع أحاديث الشيعة 9:153 ب 18 ح 1.
2- كفاية الاصول ص 450.
3- مصباح الاصول 3:63.

تكفي البيّنة و لا الاستصحاب،لأنّهما يثبتان الطهارة ظاهرا،و ما نحن فيه من هذا القبيل؛لأنّ الأخبار دلّت علي أنّه إن كانت الصلاة ناقصة واقعا،فالركعتان جزء.

و إن كانت تامّة فهما نافلة،و الاستصحاب لا يقتضي النقص الواقعي.

و بعبارة اخري:الصلاة الناقصة واقعا تكون الركعة الرابعة منها مفصولة، و الاستصحاب لا يثبت ذلك.

ثانيها:أن يكون المعني لا ينقض اليقين ببراءة الذمّة بالشكّ في براءة الذمّة،أو لا ينقض اليقين باشتغال الذمّة بالشكّ في فراغ الذمّة،باتيان الركعة المشكوكة متّصلة كما يقوله العامّة؛لاحتمال أن يكون قد صلّي واقعا أربعا و زاد ركعة فصارت الصلاة خمسا،فهو شاكّ في أنّه صلّي خمسا أو أربعا مع اليقين باشتغال الذمّة بالصلاة أربعا،بخلاف ما إذا أتي بالركعة منفصلة،فإنّه لو كانت الصلاة ناقصة لزم زيادة التشهّد و السّلام و التكبيرة،و هي لا تضرّ بالصلاة إن وقعت نسيانا،أو غير متعمّد للزيادة.

و قوله«و لا يدخل»أي:في الصلاة المشغول بها الذمّة المتحقّقة في المأتي به.

و قوله«و لا يخلط»عطف تفسيري.

و قوله«و يتمّ علي اليقين»أي:يتمّ الصلاة علي اليقين بأن يأتي بركعات الاحتياط منفصلة،فيتيقّن ببراءة ذمّته.

أقول:علي هذا المعني لا يدلّ علي الاستصحاب.

ثالثها:أن يكون المراد من قوله«لا ينقض اليقين»ما ذكره من قوله و قد أحرز الثلاث،أي:لا ينقض اليقين بالثلاث بالشكّ في الرابعة،برفع اليد عن الثلاث و إبطالها«و لا يدخل الشكّ»أي:الركعة المشكوكة في اليقين،أي:الثلاث المحرزة و لا يخلط أحدهما بالآخر،بل يأتي بها منفصلة و ينقض الشكّ في الرابعة باليقين بفعلها،و هو إتيانها منفصلة«و يتمّ علي اليقين»أي:يتمّ الصلاة التي اشتغل بها علي

ص: 203

اليقين بصحّتها،و يبني علي اليقين بالصحّة.

و هذا الوجه أقرب من حيث وحدة السياق،و إن كان متحّدا مع الاحتمال الثاني في النتيجة،و هي أنّ الخبر لا يدلّ علي الاستصحاب،لكن يمكن أن يقال:إنّ عموم«لا ينقض اليقين بالشكّ»شامل لهذا المورد،و لما إذا كان متيقّنا بالطهارة مثلا و شكّ في ناقضه،فيكون من روايات الاستصحاب أيضا.نعم هذا مبني علي أن يجعل اللام في اليقين للجنس.

و منها:خبر إسحاق بن عمّار أنّه قال:قال لي أبو الحسن الأوّل عليه السّلام:إذا شككت فابن علي اليقين،قال:قلت:هذا أصل؟قال:نعم (1).

أورده الصدوق رحمه اللّه في باب شكوك الصلاة (2)،و لعلّه فهم ذلك من الأصل الذي أخذ الحديث منه.و لا يخفي أنّه ليس فيه أنّه علي يقين فشكّ بقاء،أو شكّ شكّا ساريا إلي اليقين،فيحتمل في معناه امور:

أحدها:إذا شككت في شيء فاعمل علي ما يقتضيه اليقين،أي:يحتاط حتّي يتيقّن،فإذا شكّ في الطهارة و كان متطهّرا يبني علي اليقين،أي:يجدّد الوضوء و يتطهّر،و كذا في ركعات الصلاة يستأنف الصلاة،و كذا يبني علي اليقين لو شكّ في أثناء الصلاة في بعض الأجزاء،فإنّه يحتاط ما لم يدخل في الجزء المترتّب عليه.

ثانيها:أن يكون المعني إذا كنت متيقّنا و شاكّا فابن علي اليقين و اجعله باقيا، فإذا تيقّنت بنجاسة الماء المتغيّر إلي زوال التغيّر بنفسه،و شككت من الأوّل في نجاسته بعد زوال التغيّر بنفسه،فابن علي اليقين،فيكون مفاده الاستصحاب علي مبني القول بحجّيته مطلقا.

ثالثها:أن يكون المعني اقتصر علي اليقين،ففي المثال المتقدّم يبني علي مقدار0.

ص: 204


1- جامع أحاديث الشيعة 6:330 ب 22 ح 4.
2- من لا يحضره الفقيه 1:230.

اليقين،و هو نجاسة الماء ما دام متغيّرا،و لا تحكم بنجاسته بعد زوال تغيّره،فلو عقد علي امرأة متعة و لم يدر أنّه عقد عليها شهرا أو شهرين،فإذا انقضي الشهر يشكّ في زوجيّتها،فيبني علي اليقين بعدم الزوجيّة،و يقتصر علي اليقين به في شهر.

رابعها:أن يكون المعني أنّه إذا قام مثلا من السجدتين،فشكّ بعد القيام في السجود بني علي يقينه و هو القيام و حكم بصحّته و لم يعتن بشكّه.

خامسها:أن يكون دليلا لقاعدة اليقين،أي:إذا تيقّنت بشيء ثمّ شككت في صحّة يقينك،فابن علي اليقين.

سادسها:أن يكون المعني البناء علي اليقين علي نحو تيقّن بعدم الزيادة،فإنّ الصدوق قال:و روي عن علي بن أبي حمزة،عن العبد الصالح عليه السّلام قال:سألته عن الرجل يشكّ فلا يدري أواحدة صلّي أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا،تلتبس عليه صلاته؟فقال:كلّ ذا فقلت:نعم،قال:فليمض في صلاته و ليتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم،فإنّه يوشك أن يذهب عنه.

و روي سهل بن اليسع ذلك عن الرضا عليه السّلام أنّه قال:يبني علي يقينه و يسجد سجدتي السهو بعد التسليم و يتشهّد تشهّدا خفيفا.

و قد روي أنّه يصلّي ركعة من قيام و ركعتين من جلوس.و ليست هذه الأخبار بمختلفة،و صاحب هذا السهو بالخيار بأيّ خبر منها أخذ فهو مصيب،و روي عن إسحاق بن عمّار الخبر المذكور.

فيحتمل أن يكون المراد من قوله«ابن علي اليقين»البناء علي عمل يتيقّن أنّه لم يزد في صلاته.

ثمّ إنّه يحتمل إرادة هذا المعني من الصحيحة الثالثة لزرارة،فإنّه بعد أن قال عليه السّلام:إنّه يتمّ الصلاة و يصلّي ركعتين منفصلتين إن كان الشكّ بين الاثنتين و الأربع و يتمّ الصلاة و يصلّي ركعة منفصلة إن كان الشكّ بين الثلاث و الأربع،قال:

ص: 205

و لا ينقض اليقين بالشكّ.أي:اليقين بأنّه لم يزد علي أربع،و لا يدخل الشكّ في اليقين،أي:الركعتين المفصولتين المشكوك كونهما نافلة أو تمام الأربع في الأربع، و لا يخلط أحدهما بالآخر و لكنّه ينقض الشكّ باليقين و يتمّ علي اليقين فيبني عليه.

و قال الشيخ رحمه اللّه:نعم يمكن أن يقال بعدم الدليل علي اختصاص الموثّقة بشكوك الصلاة فضلا عن الشكّ في ركعاتها،فهذا أصل كلّي خرج منه الشكّ في عدد الركعات،و هو غير قادح،لكن يرد عليه عدم الدلالة علي إرادة اليقين السابق علي الشكّ و لا المتيقّن السابق علي المشكوك اللاحق الخ (1).

أقول:لا ظهور له في أحد المعاني،و لا سيّما الاحتمال الثاني الذي مفاده الاستصحاب علي معني غير المختار عندنا.

و منها:المروي في الخصال بسنده عن أبي بصير و محمّد بن مسلم،قال:من كان علي يقين فشكّ،فليمض علي يقينه،فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين (2).

و في السند قاسم بن يحيي و لم يوثّق،بل ضعّفه ابن الغضائري،و إن لم يثبت الاعتماد علي تضعيفه،قيل:إنّ وجوده في طريق الصدوق إلي الحسن بن راشد يدلّ علي توثيق الصدوق له،حيث قال بعد أن روي عنه و روي رواية الكناسي، قال:و قد أخرجت في كتاب الزيارات و في كتاب مقتل الحسين عليه السّلام أنواعا من الزيارات،و اخترت هذه لهذا الكتاب؛لأنّها أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية و فيها بلاغ و كفاية (3).

يدلّ قوله«أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية»أنّه وثّق القاسم بن يحيي.1.

ص: 206


1- فرائد الاصول ص 568.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:384 ب 12 النواقض ح 2،و سنده مذكور في باب التخلي ص 179 ب 1 ح 179.و الخبر أيضا مذكور في الارشاد للمفيد و تحف العقول ص 109.
3- من لا يحضره الفقيه 2:361.

أقول:ذكر في طريقه إليه سعد بن عبد اللّه،فيحتمل أن يكون الخبر موجودا في كتاب الرحمة له و قد قرأه علي ابن الوليد فرواه له،فإنّه قال بعد ذكر خبر:كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد سيّيء الرأي في محمّد بن عبد اللّه المسمعي راوي هذا الحديث،و إنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنّه كان في كتاب الرحمة و قد قرأته عليه فلم ينكره و رواه لي (1).

و لا يخفي أنّ النجاشي قال في ترجمة محمّد بن مسلم:له كتاب يسمّي الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال و الحرام،أخبرنا أحمد بن علي،قال:حدّثنا ابن سفيان،عن حميد،قال:حدّثنا حمدان القلانسي،قال:حدّثنا السندي بن محمّد،عن العلاء بن رزين عنه (2)انتهي.

فيمكن أن يقال:إنّ حديث الأربعمائة وصل أيضا بالطريق المذكور في رجال النجاشي.

و نوقش في دلالته علي الاستصحاب بأنّ المعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان المتيقّن علي زمان المشكوك،و في قاعدة اليقين تقدّم زمان اليقين علي الشكّ، و ظاهر الخبر تقدّم زمان اليقين علي الشكّ،فينطبق علي قاعدة اليقين.

و أيضا نقض الشكّ باليقين يكون حقيقيّا في مورد قاعدة اليقين،بخلاف الاستصحاب.

و ناقش الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في دلالته علي الاستصحاب،بأنّه يدلّ علي قاعدة اليقين،حيث قال:لا يخفي أنّ الشكّ و اليقين لا يجتمعان حتّي ينقض أحدهما الآخر،بل لا بدّ من اختلافهما:إمّا في زمان نفس الوصفين،كأن يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمان ثمّ يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان،و إمّا4.

ص: 207


1- جامع أحاديث الشيعة 1:317.
2- رجال النجاشي ص 423-424.

في زمان متعلّقهما و إن اتّحد زمانهما،كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة و يشكّ أيضا بعدالته في يوم السبت،و هذا هو الاستصحاب،و ليس منوطا بتعدّد زمان الشكّ و اليقين،كما عرفت في المثال،فضلا عن تأخّر الأوّل عن الثاني.

و حيث إنّ صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين و ظاهرها اتّحاد زمان متعلّقيهما، تعيّن حملها علي القاعدة الاولي،و حاصلها عدم العبرة بطروّ الشكّ في شيء بعد اليقين بذلك الشيء.

و يؤيّده أنّ النقض حينئذ محمول علي حقيقته؛لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا علي المتيقّن بخلاف الاستصحاب،فإنّ المراد بنقض اليقين فيه رفع اليد عن ترتّب الآثار في غير زمان اليقين،و هذا ليس نقضا لليقين السابق،إلاّ إذا اخذ متعلّقه مجرّدا عن التقييد بالزمان الأوّل.

و بالجملة فمن تأمّل في الرواية و أغمض عن ذكر بعض أدلّة الاستصحاب جزم بما ذكرناه في معني الرواية (1).

و اجيب بأنّ ظاهر قوله«فليمض علي يقينه»و قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ» وجود اليقين حقيقة،فيكون منطبقا علي الاستصحاب،و ظاهره و إن كان تقدّم اليقين علي الشكّ لكنّه ذكر ذلك لكونه كذلك غالبا.

أقول:سيأتي إن شاء اللّه تعالي أنّه يعتبر في الاستصحاب تقدّم اليقين علي الشكّ حتّي يكون الشكّ ناقضا له،حتّي فيما إذا كان زمان حدوث الشكّ متقدّما علي زمان حدوث اليقين،فإذا شكّ في أنّه متطهّر ثم حدث له اليقين بأنّه تطهّر قبل حدوث الشكّ و هو الآن شاكّ في أنّه متطهّر،فالشكّ السابق ليس موردا للاستصحاب،بل الشكّ الباقي بعد حصول اليقين يكون موردا له،و اليقين متقدّم9.

ص: 208


1- فرائد الاصول ص 569.

عليه.

و بعبارة اخري:مجرّد حصول الشكّ ليس موردا للاستصحاب ما لم يحصل اليقين،و بعد حدوثه يكون الشكّ الباقي بعد اليقين موردا للاستصحاب.

ثمّ إنّه لو كان دالاّ علي الاستصحاب،فلا دلالة له علي أزيد ممّا يدلّ عليه صحيح زرارة،و هو أن يكون الشكّ ناقضا؛لأنّ ظاهره أن يكون علي يقين فطرأ عليه الشكّ،لا أن يكون يقين و شكّ من أوّل الأمر،فيتّحد مفاده مع قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»و لا سيّما بملاحظة تعليله بأنّ الشكّ لا ينقض اليقين.

و لو سلّم ظهوره في قاعدة اليقين،فحينئذ يعارضه أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ؛لأنّ المراد من قوله في أخبار زرارة«بل ينقضه بيقين مثله»اليقين الباقي لا اليقين الذي يسري الشكّ إليه و يزول،فإنّه شكّ و لا ينقض اليقين بالشكّ،فإذا كان علي يقين من الوضوء ثمّ تيقّن بالحدث ثمّ شكّ شكّا ساريا إلي اليقين بالحدث صار موردا لاستصحاب الوضوء؛لأنّه علي يقين من الوضوء و شكّ ناقض ليقينه،فيبني علي أنّه متوضّيء،و مقتضي قاعدة اليقين أن يبني علي أنّه محدث،و لا ريب في أظهريّة دلالة خبر زرارة و أقوائية سنده من هذا الخبر،فعليه المعوّل.

و منها:ما رواه في تحف العقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام إلي أن قال:من كان علي يقين فأصابه ما يشكّ فليمض علي يقينه،فإنّ الشكّ لا يدفع اليقين و لا ينقضه (1).

و رواه الشيخ المفيد رحمه اللّه باختلاف يسير في الارشاد في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال:و من كلامه عليه السّلام:من كان علي يقين فأصابه شكّ،فليمض علي يقينه، فإنّ اليقين لا يدفع بالشك (2).3.

ص: 209


1- تحف العقول ص 109.
2- الارشاد ص 143.

و ظاهر أنّ الدفع إنّما يكون للشيء الموجود،فينطبق علي ما قلناه من اعتبار أن يكون اليقين يبقي لو لا عروض الشكّ.و لا يخفي أنّ الصادر كلام واحد، و الاختلاف الموجود بينهما لا يضرّ بالدلالة علي ما ذكرناه.

و منها:ما رواه الشيخ باسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار،عن علي بن محمّد القاساني،قال:كتبت إليه أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان هل يصام أم لا؟فكتب:اليقين لا يدخل فيه الشكّ،صم للرؤية و أفطر للرؤية (1).

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم و الافطار علي رؤية هلالي رمضان و شوّال لا يستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ و مزاحما به،و الانصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب إلاّ انّ سندها غير سليم (2)انتهي.

أقول:ظاهر قوله«اليقين لا يدخل فيه الشكّ»أنّ اليقين الموجود لا يدخل عليه الشكّ و لا يرفعه بدخوله عليه.

فإن كان المراد اليقين بأنّه في شهر شعبان لا يدخل فيه الشكّ و لا يرفعه حتّي ينطبق علي الاستصحاب كما استظهره،ففيه أنّه علي يقين من شعبان في يوم التاسع و العشرين،و علي شكّ في شعبان في يوم الثلاثين،و لم يدخل الشكّ في اليقين،و لا يصدق دخول اليقين في الشكّ،إلاّ إذا كان الشكّ ناقضا لليقين بأن كان اليقين يبقي لو لا طروء الشكّ عليه،فإذا طرأ الشكّ علي اليقين و اعتني بالشكّ أدخل الشكّ في اليقين،فهذا الاحتمال خلاف الظاهر.

و هنا احتمال آخر أقرب،و هو إرادة أنّ اليقين بوجوب الصوم لا يدخل فيه الشكّ،بأن يصوم مع الشكّ في وجوب الصوم،و هذا المعني أوفق بظاهر اللفظ،0.

ص: 210


1- جامع أحاديث الشيعة 9:150 ب 17 ح 16.
2- فرائد الاصول ص 570.

أي:اليقين بوجوب الصوم لا يحلّ محلّه الشكّ في وجوب الصوم،فمن صام يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو من رمضان،فقد دخل الشكّ في اليقين؛لأنّ صوم شهر رمضان و إفطاره لا بدّ أن يكون باليقين،فعليه فلا ربط له بالاستصحاب،فكما أنّه إذا لم يدر أنّه مديون لزيد بخمسة أو بستّة لا يقال إنّه دخل الشكّ بالستّة في اليقين بالخمسة،فكذلك لا يقال دخل الشكّ في الثلاثين في اليقين بتسعة و عشرين.

و يؤيّد ذلك أنّ هذا المضمون و هو قوله«صم للرؤية و أفطر للرؤية»وارد في الخبر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله (1)و عن أمير المؤمنين عليه السّلام (2)في موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:في كتاب علي عليه السّلام:صم لرؤيته و أفطر لرؤيته،و ايّاك و الشكّ و الظنّ،فإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين يوما.

فإنّ قوله«و ايّاك و الشكّ»ليس المراد به التحذير عن الصوم المشكوك كونه من رمضان؛لأنّ صوم يوم الشكّ في آخر شهر رمضان واجب و هو مشكوك،فالمراد الاعتبار باليقين و هو الصوم للرؤية حتّي يبتدأ بالصوم علي يقين،و الفطر للرؤية حتّي يفطر بيقين،و لاحظ الحديث الآخر (3)و غيره.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري حيث اختار اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع، و مورد هذه المكاتبة استصحاب بقاء رمضان أو استصحاب بقاء شعبان،و الشكّ فيهما ليس شكّا في الرافع كما لا يخفي،أجاب بأنّ تفرّع الافطار للرؤية عليه من جهة الاشتغال بصوم رمضان إلي أن يحصل الرافع (4).

أقول:فيه أنّ الاشتغال بالصوم ينحلّ بعدد أيّام الشهر،فيكون الشكّ في أصل5.

ص: 211


1- جامع أحاديث الشيعة 9:125 ح 26.
2- جامع أحاديث الشيعة 9:125 ح 25.
3- جامعه أحاديث الشيعة 9:124 ب 3 ح 22.
4- فرائد الاصول ص 575.

الاشتغال بالنسبة إلي اليوم المشكوك.

و منها:أخبار خاصّة ببعض الموارد،و هي:ما رواه في التهذيب و الفقيه عن عمّار بن موسي،و في الاستبصار عن إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة،إلي أن قال:و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله،فلا يمسّ من الماء شيئا و ليس عليه شيء؛لأنّه لا يعلم متي سقطت فيه.ثمّ قال:لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (1).

يدلّ علي أنّه متي شكّ في نجاسة شيء بعد كونه طاهرا لم يحكم بنجاسته؛لأنّ التعليل لا يقتضي أكثر من ذلك،فلا يتعدّي إلي غيره.و لكنّه يحتمل قاعدة الطهارة؛ لأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّه محكوم بالطهارة.

و صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر انّي أعير الذمّي ثوبي و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير،فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك،فإنّك أعرته و لم تستيقن أنّه نجّسه،فلا بأس أن تصلّي فيه (2).

يدلّ علي أنّ ما كان طاهرا لا يحكم بنجاسته ما لم يستيقن نجاسته،و لكن يحتمل قاعدة الطهارة كما مرّ.

و خبر علي بن مهزيار،قال:كتب إليه سليمان بن رشيد،إلي قوله:فأجابه بجواب قرأته بخطّه:أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق الحديث (3).و هو يدلّ علي الاستصحاب في مورده،و يحتمل كونه لقاعدة الطهارة.

و خبر حفص بن غياث،عن جعفر،عن أبيه،عن علي عليه السّلام،قال:ما أبالي أبول4.

ص: 212


1- جامع أحاديث الشيعة 2:45 ب 12 المياه ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:ب 24 النجاسات ح 16.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:134 ب 23 ح 4.

أصابني أو ماء إذا لم أعلم (1).و يحتمل كونه لقاعدة الطهارة.

و خبر بكير،قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا استيقنت أنّك قد توضّأت،فايّاك أن تحدث وضوء أبدا حتّي تستيقن أنّك قد أحدثت (2).

و دلالته علي الاستصحاب ظاهرة،لكنّه مختصّ بباب الوضوء.

ثمّ إنّ هذه الروايات الخمس تدلّ علي أنّ الشكّ في بقاء الطهارة الخبثيّة و الحدثيّة بعد اليقين بهما لا يعتني به،و اليقين فيهما يبقي لو لا طروّ الشكّ،فيمكن القول بالتعدّي منهما إلي نظيرهما،كالملكيّة و الزوجيّة.

و خبر حمّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:الماء كلّه طاهر حتّي يعلم أنّه قذر (3).

و في سنده اختلافات فراجع،و لا بأس بدلالته؛لأنّ كون الماء كلّه طاهرا قد ثبت أيضا من غير هذا الخبر،فلا يحكم بنجاسته إلي أن يعلم قذارته.و يحتمل قاعدة الطهارة أيضا.

و استدلّ في الوافية (4)بأخبار أخر:

منها:خبر مسعدة بن صدقة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته يقول:كلّ شيء هو لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك (5).دلّ علي أنّ كلّ ما هو حلال واقعا إذا شكّ فيه فهو محكوم بالحلية ظاهرا حكما مستمرا حتّي يعلم أنّه صار حراما.

و لم يوثّق مسعدة بن صدقة،و اتّحاده مع مسعدة بن زياد الربعي لم يثبت.4.

ص: 213


1- جامع أحاديث الشيعة 2:164 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:384 ب 12 النواقض ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:44 ب 12 المياه ح 1.
4- الوافية ص 207.
5- وسائل الشيعة 12:60 ح 4.

و هذا الخبر ظاهر صدرا و ذيلا في الشبهة الموضوعيّة البدويّة،فإنّ الشيء في قوله«كلّ شيء»يراد به الشيء المشكوك حاله؛لأنّ الضمير في قوله«إنّه»راجع إلي ذلك الشيء،الذي ما دام لا يعلم كونه حراما فهو حلال،و لو كان المراد به الاستصحاب لقال:كلّ شيء حلال إلي أن تعلم أنّه صار حراما كالعصير،فإنّه حلال،إلي أن تعلم أنّه غلي،فما دام لا يعلم فهو حلال،و كذا قوله«و الأشياء كلّها علي هذا حتّي يستبين لك»ظاهر في أنّ الحكم فيه بالحلية منوط بالشكّ الفعلي المفروض مع قطع النظر عمّا له من حالة سابقة لو كانت،و يؤيّده أنّه بموضوعه شامل لما حالته السابقة هي الحرمة،و لو كان من باب الاستصحاب لم يصحّ اطلاق الحكم فيه بالحلية حتّي لتلك الصورة.

و يؤيّده أيضا قوله«لك»المقتضي لاختلاف الحكم باختلاف الأشخاص،و هو مناسب للحكم الظاهري.

و يمكن التعميم للشبهة الحكميّة،بأن يكون المراد من البيّنة الحجّة،ففي الشبهة الحكميّة إن دلّ خبر صحيح علي ذلك،فقد قامت البيّنة،و في الشبهة الموضوعيّة شهادة عدلين،و غيرها من الحجج الشرعيّة.

و احتمال إرادة الحكم الواقعي من صدره،و استفادة حجّية الاستصحاب من ذيله،كما في الكفاية (1)،في غير محلّه؛لأنّ المراد من قوله حتّي تعلم أنّه ينكشف لك أنّه من الأوّل كان حراما؛لأنّ العلم بالحرمة غاية للحكم الظاهري،و إن أمكن جعله غاية للحكم الواقعي أيضا،لكنّه لا يقول به،و التقدير خلاف الظاهر،بأن يكون قوله«كلّ شيء»بعنوانه الأوّلي حلال واقعا،و تستمرّ هذه الحلّية ظاهرا إلي أن يعلم ضدّه.2.

ص: 214


1- كفاية الاصول ص 452.

فنقول:هذا الخبر إمّا مختصّ بالشبهة الموضوعيّة،أو عامّ لها و للحكميّة؛ لإطلاق الشيء الشامل لمشكوك الحكم،كالأرنب مثلا،و ظاهره أنّ الحرمة الواقعيّة مخصوصة بالعالم بها،و هو و إن كان ممكنا لإمكان تخصيص الحكم واقعا بالعالم به،لكن يرفع اليد عن هذا الظهور للروايات الدالّة علي أنّ الحرمة متعلّقة بالمحرّمات بعناويها الواقعيّة.

و خبر عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال فهو لك حلال أبدا حتّي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (1).

و ظهوره في الشبهة الموضوعيّة واضح،و لا ربط له بالاستصحاب؛لأنّ الحلّية الظاهريّة باقية ما لم يحصل العلم لا لاستصحاب الحالة السابقة.

و موثّق عمّار:كلّ شيء نظيف حتّي تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فليس عليك (2).

و ظاهره أنّ ما لم يعلم كونه من الاعيان النجسة،فهو نظيف واقعا و هو ممكن، أي:اختصاص الحكم بالنجاسة بمعلوم البوليّة مثلا،و ظاهر الحدائق (3)اختياره.

أقول:مقتضي الجمع بين الأدلّة أن يقال:المراد من هذا الخبر الحكم بنظافة ما لم يعلم قذارته موضوعا أو حكما.

و قوله«فإذا علمت فقد قذر»و إن كان ظاهرا في حدوث القذارة بالعلم،لكن يرفع اليد عنه أوّلا:لعدم العلم بصدور عين هذه العبارة عن المعصوم من نقل عمّار، و ثانيا:لو سلّم صدوره فهو محمول علي كون العلم طريقا إليها.

و ما ذكره في الكفاية من أنّ صدره لبيان الحكم الواقعي،و يستفاد حجّية6.

ص: 215


1- وسائل الشيعة 12:59 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:156 ب 19 النجاسات ح 1.
3- الحدائق الناضرة 1:136.

الاستصحاب من ذيله،قد عرفت منعه.

و يمكن أن يكون المعني أنّ ما يشكّ في كونه نجسا،سواء كان الشكّ مسبوقا بالعلم بالنجاسة،أو بالطهارة،أو لم يكن له حالة سابقة،فهو محكوم بالطهارة، فالمعني كلّ شيء يشكّ في نظافته فهو نظيف،لكن يقيّد إطلاقه بما إذا لم يكن حالته السابقة النجاسة بأخبار الاستصحاب.

و خبر ضريس،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟فقال:أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل،و أمّا ما لم تعلم فكله حتّي تعلم أنّه حرام (1).

قوله«نجده»يعني في سوقهم و بأيديهم،و ليس المراد نجده في الأرض.

قوله«خلطه الحرام»يعني لبن الخنزير و نحوه كشحم الميتة.

أقول:المنع عن دلالته واضح.

و خبر أبي هاشم الجعفري،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل أبق منه مملوكه يجوز أن يعتقه في كفّارة اليمين و الظهار؟قال:لا بأس به ما لم تعرف منه موتا[ما علم أنّه حيّ مرزوق-خ]الحديث.

و خبر أحمد بن هلال،قال:كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام كان عليّ عتق رقبة، فهرب لي مملوك لست أعلم أين هو يجزئني عتقه؟فكتب:نعم (2).

أقول:الخبر الأوّل علي نسخة مذكورة في الوسائل فقط غير مذكورة في الكافي و لا الفقيه و لا التهذيب علي الطبع الجديد من هذه الثلاثة،يدلّ علي عكس المطلوب،مع أنّه لو سلّم دلالته علي الاستصحاب،فلا وجه للتعدّي إلي غيره.

و ظاهر الخبر الثاني أنّه يعلم حياته،و لكن لا يعلم أين هو.1.

ص: 216


1- جامع أحاديث الشيعة 28:307-308 ب 52 ح 1.
2- وسائل الشيعة 16:53 ح 1 و ح 2،و جامع أحاديث الشيعة 19:360 ب 41 ح 1.

ثمّ إنّه في الوسائل عنون بابا هو باب جواز البناء في الشهادة علي استصحاب بقاء الملك و عدم المشارك في الارث و الشهادة بالعلم و نفيه و الحلف عليهما،أورد فيه هذه الأخبار (1)،و هي:

خبر معاوية بن وهب،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الرجل يكون في داره،ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله،ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره،و لا ندري ما أحدث له من الولد،إلاّ انّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئا و لا حدث له ولد،و لا تقسم هذه الدار علي ورثته الذين ترك في الدار حتّي يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات و تركها ميراثا بين فلان و فلان، أ و نشهد علي هذا؟قال:نعم،قلت:الرجل يكون له العبد و الأمة،فيقول:أبق غلامي أو أبقت أمتي،فيؤخذ بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه،أفنشهد علي هذا إذا كلّفناه و نحن لم نعلم أنّه أحدث شيئا؟فقال:كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته،أو غاب عنك لم تشهد به (2).

أقول:إن كان المراد من قوله«أو غاب عنك»غيبوبة المرء المسلم عنك، فينافي صدر الحديث،و يحتمل أن يكون المراد غيبوبة غلام المرء المسلم عنك.

ثمّ إنّ العموم المذكور في ذيله«كلّما غاب»معارض بخبره الآخر،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرف ذلك،فيقول:أبق غلامي أو أمتي،فيكلّفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم يبع و لم يهب،أنشهد علي هذا إذا كلّفناه؟قال:نعم (3).

و يمكن أن يقال:إنّهما يصيران من المجمل،و لا بدّ من الرجوع إلي غيرهما،3.

ص: 217


1- وسائل الشيعة 18:245،و جامع أحاديث الشيعة 25:173 ب 14.
2- وسائل الشيعة 18:246 ح 2.
3- وسائل الشيعة 18:246 ح 3.

فيبقي مقتضي صدر الحديث الأوّل و هو جواز الشهادة تعويلا علي الاستصحاب سليما عن المعارض،مؤيّدا بخبره الآخر،قال:قلت له:إنّ ابن أبي ليلي يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان و تركها ميراثا،و أنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له،فقال:اشهد بما هو علمك،قلت:إنّ ابن أبي ليلي يحلفنا الغموس،فقال:

احلف إنّما هو علي علمك (1).أي:تشهد لأنّك عالم بالمشهود به،و إن كنت شاكّا فعلا.

و هذه الروايات كلّها عن معاوية بن وهب،فيشكل الأمر.

ثمّ إنّ مورد أكثر هذه الروايات لو سلّم دلالتها علي الاستصحاب هو الحكم ببقاء الحكم السابق فيما كان باقيا لو لا طروء الشكّ عليه.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ عمدة دليل الاستصحاب هي أخبار زرارة المشتملة علي قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»الواردة في الطهارة الحدثيّة و الخبثيّة و ركعات الصلاة،و خبر محمّد بن مسلم المروي في الخصال،فينبغي الاقتصار علي صدق نقض اليقين بالشكّ،و لا يصدق نقض اليقين إلاّ إذا كان اليقين موجودا لو لا طروء الشكّ،بحيث كان الشكّ ناقضا،كما كان اليقين الطاريء ناقضا.

و أمّا إذا كان يقين و شكّ من الأوّل،فليس نقضا لليقين بالشكّ،فكلّ مورد كان اليقين غير محدود،و طرأ شكّ في تحقّق الناقض جري الاستصحاب،فإنّه فرق بين نقض اليقين باليقين،و بين انتهاء أمد اليقين،فإذا علم وجوب الجلوس في المسجد يوم الجمعة إلي الزوال،و شكّ في وجوبه بعد الزوال،فإنّ اليقين ينتهي أمده عند الزوال.

و بعبارة اخري:اليقين في جميع الموارد موجود إلي زمان الشكّ،فإن كان1.

ص: 218


1- وسائل الشيعة 18:246 ح 1.

اليقين باقيا لو لم يطرأ الشكّ صدق نقض اليقين بالشكّ.أمّا لو لم يحرز بقاء اليقين، فلا يصدق النقض.

ففي المثال المذكور لو لم يكن يشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال لكان متيقّنا بعدم الوجوب،أو متيقّنا بالوجوب،فليس الشكّ عارضا بحيث لو لم يكن لكان اليقين بوجوب الجلوس باقيا،بل لعلّه يتيقّن بعدم الوجوب،و هذا بخلاف مثل الطهارة،فإنّه لو لم يطرأ هذا الشكّ في الحدث لكان اليقين بالطهارة باقيا.

و علي ما ذكرنا يختصّ جريان الاستصحاب ببعض الشبهات الموضوعيّة، كالملكيّة و الزوجيّة و الطهارة و النجاسة.و أمّا الموضوعات الخارجية كحياة زيد و بقاء المال الكذائي،فالحكم بالبقاء فيها ليس من باب عدم نقض اليقين بالشكّ، بل هو تابع لبناء العقلاء الذي أمضاه الشارع،و تقدّم بيانه.

و عليه لا يجري الاستصحاب القهقرائي،و لا الاستقبالي،و لا في الشبهة الحكميّة،و إن كان منشؤها رافعيّة الموجود،و سيأتي توضيح ذلك.

القول الثاني:حجّيته مطلقا،و استدلّ له بأمور:

الأوّل:عدم الدليل علي عدم الحكم بعد ثبوته دليل علي ثبوته،ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه،قال:فأمّا استصحاب الحال،فصورته ما يقوله أصحاب الشافعي من أنّ المتيمّم إذا دخل في الصلاة ثمّ رأي الماء،فإنّه قد ثبت أنّه قبل رؤيته للماء يجب عليه المضيّ في الصلاة بالاتّفاق،فإذا حدث رؤية الماء،فيجب أن يكون علي ما كان عليه من حكم الحال الاولي،و غير ذلك من المسائل.

و قد اختلف العلماء في ذلك،فذهب أكثر المتكلّمين و كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة إلي أنّ ذلك ليس بدليل،و هو الذي ينصره المرتضي قدّس سرّه،و ذهب أكثر أصحاب الشافعي و غيرهم،و هو الذي كان ينصره شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه إلي أنّ ذلك دليل،ثمّ أخذ في الردّ عليه.

ص: 219

إلي أن قال:و لأنّه لا فرق بين من عوّل في ذلك علي ما قالوه،و بين من عوّل في حمل مسألة علي اخري.

إلي أن قال:و الذي يمكن أن ينصر به طريقة استصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال:لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل لكان علي ذلك دليل،و إذا تتبّعنا جميع الأدلّة،فلم نجد ما فيها ما يدلّ علي أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولي،دلّ علي أنّ حكم الحالة الاولي باق علي ما كان إلي آخر كلامه (1).

و ظاهره ارتضاء دليليّة الاستصحاب،و لعلّ المراد بدليل العقل علي حجّية الاستصحاب هو هذا الوجه،و حاصله أنّ عدم الدليل علي كون الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولي دليل علي العدم.

أقول:يمكن المناقشة فيه بأنّه لم لا يدلّ عدم الدليل علي كون الحالة الثانية مخالفة للاولي؟نعم إذا كانت مسألة ابتدائيّة غير مسبوقة بحرمة أو حلّية،كحرمة أكل بعض ما يشكّ في حرمته،يمكن أن يقال:إن كانت محلّ الابتلاء بحيث لو كان دليل علي حرمته لبان،فيكشف عدم الوجدان عن عدم الوجود،فيتمّ ما ذكره.

و أمّا مجرّد عدم الدليل فليس دليلا علي العدم،و لا يخفي أنّ محلّ كلامه الشبهة الحكميّة.

الثاني:الاجماع،و هو ممنوع تحقّقه و حجّيته.و ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ ظاهر كلمات جماعة الاتّفاق علي صورة الشكّ في الرافع (2).ممنوع،فإنّه لم يثبت ذكره في كلام المتقدّمين.و دعوي الاجماع ممّن ذكره،إجماع منقول، مضافا إلي احتمال كونه ذا مدرك،و لا إجماع علي المستصحب العدمي.

الثالث:أنّ الشيء إذا ثبت و لم يعلم زواله كان بقاؤه مظنونا.2.

ص: 220


1- العدّة ص 303 الطبع الحجري.
2- فرائد الاصول ص 562.

و فيه أنّه ليس كذلك دائما،و لو فرض حصول الظنّ لم يكن دليل علي حجّيته.

الرابع:الأخبار،و تقدّم كيفيّة الاستدلال بها عن كفاية الاصول و الجواب عنه، و اختار القول بالحجّية مطلقا في مصباح الاصول،لكن قال:إنّ الاستصحاب في بعض الشبهات الحكميّة يكون معارضا بأصالة عدم الجعل.

بيان ذلك:أنّه إن شكّ في نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه، فاستصحاب النجاسة معارض باستصحاب عدم جعل النجاسة للماء بعد زوال تغيّره بنفسه فيسقطان؛لأنّ الماء المتغيّر الذي هو موضوع الحكم إذا فرض زوال تغيّره يكون هو الماء المتغيّر الأوّل عرفا؛لأنّهم يرون التغيّر من أحواله،كزيد في حال قيامه و قعوده،فإذا ألغي الزمان حتّي يكون شيء واحد متعلّقا لليقين و الشكّ ليصدق نقض اليقين بالشكّ،يكون الماء بعد زوال تغيّره بنفسه مسبوقا بأمرين:

أحدهما الحكم عليه بالنجاسة،ثانيهما عدم جعل النجاسة له،و كلّ واحد منهما محكوم بعدم نقض اليقين بالشكّ،و الموضوع واحد عرفا بالنسبة إلي كلا الاستصحابين.

و الشكّ في النجاسة و إن كان مسبّبا عن الشكّ في الجعل،و الأصل السببي حاكم علي المسبّبي إلاّ انّه ليس المقام من ذلك؛لأنّ الحكم بعدم النجاسة ليس أثرا شرعيّا لعدم الجعل،بل هو من آثاره التكوينيّة،هكذا أجاب في المصباح (1).

و فيه أوّلا:ما مرّ من أنّه ليس من نقض اليقين بالشكّ،فإنّه من الأوّل له يقين محدود إلي زمان زوال التغيّر و شكّ،فهو علي يقين و شكّ،لا علي يقين ينقضه الشكّ.

و ثانيا:إذا شكّ في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر بنفسه فهو شكّ واحد،و هو5.

ص: 221


1- مصباح الاصول 3:45.

الشكّ في أنّ إنشاء نجاسة الماء المتغيّر هل هو إلي الأبد أو إلي زوال التغيّر بنفسه، و حيث إنّ موضوع حكم الشارع و هو إنشاء نجاسة الماء المتغيّر هو الماء و التغيّر من الحالات،كقيام زيد الذي لا يوجب تعدّد زيد،فيقال:إنّ قوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»يقتضي أنّ الحكم الانشائي الذي ثبت علي الماء المتغيّر باق بعد زوال التغيّر بنفسه.

هذا كلّه في مرحلة إنشاء الحكم،و ليس للحكم الشرعي مرحلتان؛مرحلة الجعل،و مرحلة الفعليّة،بل تمام ما بيد الشارع هو إنشاء الحكم.و لذا نقول:الماء المتغيّر نجس واقعا إلي زمان زوال التغيّر بنفسه،و نجس ظاهرا بعد زواله بنفسه بالاستصحاب،ثمّ إذا وجد الماء المتغيّر يكون انطباق الحكم بالنجاسة عليه أمرا تكوينيّا قهريّا،و كذا إن زال التغيّر بنفسه يكون انطباق الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب علي موضوعه تكوينيّا و قهريّا،و ليس للحكم إلاّ مرحلة واحدة، و هو إنشاء الحكم علي موضوعه،فليس هناك إلاّ استصحاب الجعل،هذا إن اخذ موضوع الاستصحاب من العرف،فيقال:إنّ العرف يري الماء المتغيّر كزيد القائم و زوال التغيّر كقعود زيد بعد القيام.

نعم إن اعتبر وحدة الموضوع من جميع الجهات و بالدقّة العقليّة،كان زيد القائم غير زيد القاعد،و كان الماء المتغيّر غير الماء الذي زال تغيّره بنفسه،و حينئذ يقال:

إنّ القدر المتيقّن من جعل النجاسة هو جعله علي الماء المتغيّر،و أمّا الفرد الآخر المبائن للفرد الأوّل،و هو هذا الماء بعد زوال تغيّره،فالأصل عدم إنشاء النجاسة له.

و ما ذكرناه مراد صاحب الكفاية في الأمر الرابع،بقوله:لا يقال فإنّه يقال... (1).6.

ص: 222


1- كفاية الاصول ص 466.

القول الثالث:التفصيل بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليله أو من الخارج استمراره،فشكّ في الغاية الرافعة و بين غيره،فيعتبر في الأوّل دون الثاني،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)،و يظهر منه التعميم للشكّ في الرافع و رافعيّة الموجود، فإنّه حكي عن المحقّق أنّه قال في المعارج:فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق،فالمستدلّ علي أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال حلّ الوطء ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ،فكذا بعده كان صحيحا الخ.

و جعله موافقا لمختاره،و استدلّ (2)له بثلاثة امور:

الأوّل:الاجماع،و تقدّم الكلام فيه.

الثاني:الاستقراء،قال:إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع،فلم نجد من أوّل الفقه إلي آخره موردا الاّ حكم الشارع فيه بالبقاء،إلي أن قال:و الانصاف أنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع الخ (3).

أقول:لم أجد التعرّض للاستصحاب في كتب المتقدّمين إلاّ قليلا.

الثالث:الأخبار المشتملة علي عدم نقض اليقين بالشكّ،قال:إنّ قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»لا يراد به النقض حقيقة كنقض الحبل،و المعني المجازي أحد أمرين لا بدّ من الحمل علي ما كان منه أقرب إلي المعني الحقيقي.أحدهما:

مطلق ترك العمل بالشيء،ثانيهما:ترك العمل بالشيء الذي له بقاء.

و المعني الثاني أقرب إلي معني النقض؛لأنّه لم يتصرّف في مفهوم النقض، و إبقاء مفهوم النقض يوجب كون متعلّقه ما له بقاء بخلاف المعني الأوّل،فإنّه يوجب التصرّف في مفهوم النقض و يبقي متعلّقه عامّا،و إذا دار الأمر بين التصرّف3.

ص: 223


1- فرائد الاصول ص 561.
2- فرائد الاصول ص 561-570.
3- فرائد الاصول ص 563.

في الفعل أو في متعلّقه،فالتصرّف في المتعلّق أولي؛لأنّ الفعل يكون قرينة علي التصرّف في المتعلّق،كما في قول القائل لا تضرب أحدا،فإنّ الضرب قرينة علي اختصاص العامّ بالأحياء،لأنّ الضرب ظاهر في المولم،و لا يكون شمول عموم «أحدا»للأموات قرينة علي إرادة مطلق الضرب الشامل للجمادات.

و قال في موضع آخر:إنّ النقض رفع الأمر المستمرّ في نفسه،و قطع الشيء المتّصل كذلك،فلا بدّ أن يكون متعلّقه ما يكون له استمرار و اتّصال،و ليس ذلك نفس اليقين لانتقاضه بغير اختيار المكلّف،فلا يقع في حيّز التحريم و لا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف؛لارتفاعها بارتفاعه قطعا،بل المراد به بدلالة الاقتضاء الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين؛لأنّ نقض اليقين بعد ارتفاعه لا يعقل له معني سوي هذا،و حينئذ لا بدّ أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لو لا الناقض (1)انتهي.

أقول:قد عرفت أنّ النقض هو هدم ما له مادّة و هيئة مّا بقاء،لا قطع الحبل و نحوه،و هو متعلّق باليقين،و اليقين ينقض بقاء بالشكّ،و النهي عنه بدلالة الاقتضاء يكون نهيا عنه عملا.

و هذا المعني يختصّ بما إذا كان اليقين باقيا لو لا عروض الشكّ،بأن يكون عروضه ناقضا له،فيختصّ بالشكّ في الناقض،و لا يشمل الشكّ في رافعيّة الموجود لأجل الشبهة الحكميّة أو المفهوميّة أو الموضوعيّة.

ثمّ إنّه قد أورد في مصباح الاصول (2)نقوضا علي مختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و هو اختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع،ترد هذه النقوض علي مختارنا،و هي:8.

ص: 224


1- فرائد الاصول ص 620.
2- مصباح الاصول 3:28.

الأوّل:استصحاب عدم النسخ،فإنّه قائل به مع أنّ الشكّ فيه شكّ في المقتضي.

الثاني:الاستصحاب في الموضوعات،فإنّه قائل به مع أنّ الشكّ في حياة زيد و عدالته من الشكّ في المقتضي.

الثالث:استصحاب عدم الغاية،كالشكّ في مجيء شوّال،مع أنّ الشكّ في بقاء شهر رمضان من الشكّ في المقتضي.

أقول:لعلّ الشيخ رحمه اللّه يقول بأنّ ما ثبت من دليله أو من الخارج أنّه أمر مستمرّ لا يكون من الشكّ في المقتضي.أمّا في مورد النسخ،فلأنّ دليل الحكم ظاهر في بقائه،و يكون النسخ رافعا له.و أمّا الموضوعات،فالعرف يري زيدا باقيا إلاّ أن يأتيه هادم اللذّات.و كذا الشكّ في الغاية،فإنّ شهر رمضان من أوّله إلي آخره كأنّه شيء واحد يرفعه رافع.

و أمّا علي المختار،فلا يجري استصحاب عدم النسخ.أمّا في شريعتنا،فلأنّ الأحكام ظاهرة في البقاء فيتمسّك بذلك حتّي يرد النسخ و لا يقع الشكّ.و أمّا بالنسبة إلي الشرائع السابقة،فالاستصحاب فيها بالنسبة إلينا غير جار علي ما سيأتي.و أمّا في الموضوعات،فليس ذلك استصحابا مستفادا من الأخبار،بل هو بناء العقلاء الممضي شرعا في بعض الموارد.

و أمّا في الشكّ في مجيء الغاية،فلا يجري الاستصحاب.

القول الرابع:عدم الحجّية مطلقا،حكاه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)عن السيّد المرتضي رحمه اللّه،و استدلّ له بامور:

الأوّل:أنّ الدليل الأوّل إذا كان لا يتناول إلا الحالة الاولي و كانت الحالة الاخري عارية منه،كان إثبات الحكم في الحالة الثانية جمعا بين الحالتين في4.

ص: 225


1- فرائد الاصول ص 584.

الحكم من غير دليل.و فيه أنّ إثبات الحكم في الحالة الثانية ليس للقياس علي الحالة الاولي،بل لأدلّة حجّية الاستصحاب.

الثاني:أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب في من علم زيدا في الدار ثمّ غاب عنه أن يحسن اعتقاده باستمراره في الدار،مع أنّه لا يستحسن إلاّ بدليل.

و فيه أنّ ما ذكره صحيح فيما لم يبن العقلاء عليه كالمثال المذكور و سائر الصفات التي في معرض الزوال؛لما تقدّم من أنّ أخبار لا ينقض اليقين بالشكّ لا تشمل هذه الموارد،و بناء العقلاء الممضي شرعا مختصّ ببعض الموارد،كحياة زيد إن غاب،و بقاء بعض الأشياء.

و ذكر له وجوه اخر لا يتمّ الاستدلال بها علي حجّيته مطلقا.

القول الخامس:التفصيل بين العدمي و الوجودي.

و الظاهر عدم الفرق بينهما في توقّف صدق نقض اليقين بالشكّ علي أن يكون اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،ففي مثل استصحاب عدم غروب الشمس لا يكون اليقين موجودا؛لأنّ عدم الغروب في هذه الساعة غير عدم الغروب في الساعة المتقدّمة.و من ذلك يظهر أنّ دعوي أنّ الشكّ في بقاء العدم يكون دائما من الشكّ في مجيء الرافع؛لأنّ علّة الوجود رافعة للعدم.ممنوعة كما هو واضح.

و أمّا أصالة عدم القرينة و نحوها من الاصول العقلائيّة المعتبرة في المحاورات الممضاة شرعا من أجل أنّ الشارع كانت محاوراته كسائر أرباب المحاورات، فليست حجّيتها من باب الاستصحاب.

و قيل:بناء علي عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي و اختصاصه بالشكّ في الرافع يكون الشكّ في انتقاض العدم من الشكّ في الرافع دائما لعدم احتياج العدم إلي المقتضي.

أقول:ليس في الدليل عنوان الشكّ في المقتضي و الرافع،و الميزان عندنا أن

ص: 226

يكون علي يقين لو لا عروض الشكّ حتّي يصدق نقض اليقين بالشكّ و العدم في زمان غيره في زمان آخر،فلا فرق بين الوجود و العدم.

القول السادس:التفصيل بين الحكم التكليفي و الوضعي.

و الظاهر عدم الفرق بينهما،و المناط صدق النقض.ثمّ إنّ الفرق بين الحكم التكليفي و الوضعي،أنّ الأوّل متعلّق بفعل المكلّف ابتداء،فتجب عليه الصلاة و يحرم عليه شرب الخمر،و يستحبّ صلاة الليل و يكره بعض الأفعال،و يباح له المباحات.و الحكم الوضعي هو الاعتبار بشيء لشيء،كاعتبار ملكيّة الشيء للطفل الغير المميّز الذي مات أبوه مثلا،فإنّه يملك أمواله بالارث،و يترتّب عليه الأحكام التكليفية،و أمّا تسمية الجزئيّة حكما وضعيّا فمسامحة؛لأنّ الجزئيّة و ما ماثلها من الامور الانتزاعيّة ليست شيئا وراء منشأ الانتزاع.

ثمّ إنّه نسب إلي الشيخ رحمه اللّه أنّه يقول:إنّ الاحكام الوضعيّة كلّها منتزعة عن الأحكام التكليفية،لكن له عبارة ربما توجب الترديد في النسبة المذكورة، فلاحظ (1).

ثمّ إنّ صاحب الكفاية فصّل بين أسباب التكليف و شرائطه،و بين أسباب المكلّف به و شروطه،فقال:إنّ السببيّة في الأوّل ليست جعليّة،بل لمصلحة إنشاء الحكم عنده،كسببيّة الدلوك لوجوب الصلاة،و الاستطاعة لوجوب الحجّ، و الشرطيّة في الثاني كالطهارة للصلاة أيضا غير مجعولة استقلالا،لكن يمكن أن يقال:إنّها مجعولة تبعا؛لأنّها منتزعة عن الأمر بالصلاة مع الطهارة (2)،و لا بأس بكلامه،و نسبة الخلط إليه-كما في المصباح (3)-لا وجه لها.1.

ص: 227


1- فرائد الاصول ص 603.
2- كفاية الاصول ص 455.
3- مصباح الاصول 3:81.

و أمّا النجاسة الثابتة لبعض الأشياء،فيمكن أن تكون اعتباريّة لمصلحة في الاعتبار،و يمكن أن تكون واقعيّة:إمّا حسّية كالعذرة و البول،أو معنويّة توجب قذارة الجسم الملاقي و إن لم تكن محسوسة.

القول السابع:التفصيل بين الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي،فلا يجري فيه الاستصحاب و بين غيره.

القول الثامن:التفصيل بين الحكم الثابت بالاجماع فلا يجري فيه و بين غيره.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم ببقاء ما تيقّن إن شكّ في بقائه يكون في موردين:

الأوّل:فيما إذا غاب شخص و لم يعلم حياته،فإنّه يبني علي البقاء حتّي في صورة الشكّ المحض لبناء العقلاء الممضي شرعا،و مثله الاصول التي يعتمدها أهل المحاورات،كأصالة عدم القرينة و نحوها من الاصول العقلائيّة التي عليها عمل أصحاب الأئمّة و محاورات أهل اللسان.

الثاني:ما إذا تيقّن بأمر يبقي لو لا وجود الرافع،فيكون اليقين باقيا ببقاء المتيقّن،فإذا شكّ في بقائه للشكّ في طروّ الرافع يكون علي يقين لو لا الشكّ الطاريء،و ليس ينقض اليقين المفروض وجوده لو لا الشكّ بالشكّ،و الدليل عليه أخبار لا ينقض اليقين بالشكّ.

المقصد الثاني: في تبيين ما يستفاد من قولهم لا ينقض اليقين بالشكّ

اشارة

الذي هو العمدة من مدرك الاستصحاب،فنقول:إنّه يدلّ علي اعتبار امور في الاستصحاب،و هي:

الأوّل:اليقين غير المحدود،فلو كان اليقين محدودا،كما إذا تردّد مدّة العقد المنفطع بين كونه إلي شهر أو شهرين،لم يجر الاستصحاب بعد انقضاء شهر؛لأنّ

ص: 228

اليقين كان محدودا إلي شهر،و معه لا يصدق نقض اليقين بالشكّ بناء علي وحدة الموضوع،و إن نوقش في اتّحاد الموضوع،بناء علي أنّ الزمان قيد في العقد المنقطع،فهو خارج عن المسألة،و يمكن فرضه فيما إذا كان الشكّ في أنّ العقد منقطع إلي شهر أو عقد دائم.

و كذا لو شكّ في طهارة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه؛لأنّ اليقين بالنجاسة محدود إلي زوال التغيّر،فمن سمع قوله«ينجس الماء إذا تغيّر بوقوع النجاسة فيه» يحصل له من هذا الكلام يقين و شكّ،اليقين بنجاسة الماء ما دام متغيّرا،و الشكّ في نجاسته بعد زوال التغيّر بنفسه،فلا يصدق في حقّه أنّه علي يقين ينقضه الشكّ،بل هو علي يقين و شكّ من أوّل ما سمع هذا الكلام.

الثاني:أن يكون اليقين موجودا و لو تقديرا،فلا يكفي كون المكلّف علي حال لو فحص أو تأمّل كان يحصل له اليقين.

الثالث:سبق اليقين علي الشكّ حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

الرابع:أن يكون اليقين موجودا حال الشكّ بأن تعلّق اليقين بالحدوث و الشكّ بالبقاء،فلو سري الشكّ إلي اليقين زال حدوثه و لم يكن مورد الاستصحاب.

الخامس:أن يكون الشكّ موجودا و لو تقديرا.

السادس:أن يكون الشكّ متعلّقا بالبقاء بمعني وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة بالدقّة العقليّة.

السابع:وجود الأثر الشرعي في بقاء المتيقّن حال الشكّ.

الثامن:أن يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين،و عدم العمل به بقاء له بحيث يكون ما تعلّق به اليقين باقيا،و لذا لا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بعد تلف أحد الطرفين،فمن تيقّن كون أحد المايعين خمرا،فقد حصل له في زمان واحد اليقين بوجود الخمر خارجا،و الشكّ في كون كلّ واحد بخصوصه خمرا،

ص: 229

فإذا تلف أحدهما لم يحدث شكّ في بقاء ما تيقّنه،و هو كون أحدهما خمرا،مضافا إلي أنّ هذا الشكّ كان موجودا مع اليقين،و ليس طارئا و ناقضا لليقين.

و نذكر هذه الشرائط في الاستصحاب في ضمن امور:

الأمر الأوّل:يعتبر في جريان الاستصحاب وجود اليقين و الشكّ و لو تقديرا، بأن يكون اليقين موجودا و لو علي تقدير تحقّق شيء آخر،كمن لا يعلم أنّه تزوّج بهند أم لا،و علي فرض أنّه تزوّجها فهل طلّقها أو لا؟فإنّه يستصحب بقاءها علي الزوجيّة علي تقدير كونها زوجة،فله أن يطلّقها علي تقدير أنّه لم يطلّقها،و كذا لو كان شيء نجسا،ثمّ أخبره مخبر ذو يد أو غيره أنّه طهّره بحيث يحتمل صدقه،ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّه أصابه بول،فله أن يقول:إنّ هذا الشيء طاهر إن كان المخبر بطهارته صادقا واقعا،و شكّ في تنجّسه،فيستصحب الطهارة،فإنّه علي يقين بالملازمة المذكورة و يشكّ في رفعه.

و أمّا لو لم يكن اليقين و الشكّ موجودين أصلا،لكن كان بحيث لو تفحّص مثلا حصل له اليقين أو الشكّ،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّ اليقين و الشكّ كسائر الموضوعات من الماء و الجبن و نحوهما لا يصدقان إلاّ علي ما كان له وجود.

ثمّ إنّ اليقين و الشكّ إذا تحقّقا،فقد يبقي الالتفات إليهما،أو يغفل عنهما لنسيان أو غفلة بل و لإغماء،كسائر الامور الباقية في خزانة النفس،فاليقين و الشكّ موجودان في حال النوم و الغفلة.

فما في المصباح (1)من أنّ استصحاب الحدث قبل الصلاة لا يجري لانتفاء الشكّ بالغفلة.غير مقبول،فلو أنّ شخصا تيقّن أنّه متطهّر فنسي،ثمّ حصل له حالة شكّ في أنّه نام أو لا ثمّ نسي و صلّي،صحّت صلاته بلا إشكال.4.

ص: 230


1- مصباح الاصول 3:94.

ثمّ إنّهم ذكروا تفريعا علي ذلك فرعين:

الفرع الأوّل:إن تيقّن الحدث و شكّ في الطهارة و غفل و صلّي،فإنّ صلاته باطلة و لا تجري قاعدة الفراغ؛لأنّ موردها الشكّ الحادث،و هذا الشكّ ليس حادثا.

الفرع الثاني:إن تيقّن الحدث و لم يمرّ عليه زمان شكّ في بقائه و صلّي، و احتمل كون الصلاة مع الطهارة،فله صور:

الصورة الاولي:أن يعلم أنّه قبل دخوله في الصلاة كان متذكّرا للحدث،لكن احتمل أنّه صلّي غفلة بدون طهارة،و احتمل أيضا أنّه تطهّر،فالشكّ حادث بعد الفراغ و تجري فيه قاعدة الفراغ بالاتّفاق؛لأنّ احتمال الأذكريّة حال العمل في قاعدة الفراغ لو كان معتبرا فهو موجود.

الصورة الثانية:أن يعلم أنّه كان غافلا حين الدخول في الصلاة،و انّه لو تذكّر علم الحدث أو عدمه،و لكن احتمل أنّه تطهّر،و تجري قاعدة الفراغ في حقّه بناء علي كونها أصلا تعبّديّا.

الصورة الثالثة:أن يعلم أنّه كان غافلا حين الدخول في الصلاة،و يعلم أنّه لو تذكّر كان يشكّ في أنّه محدث أو ليس بمحدث،فهل تجري قاعدة الفراغ بناء علي كونها أصلا تعبّديّا؛لأنّ الشكّ حادث و لم يمرّ عليه زمان قبل الصلاة يشكّ،أو لا تجري؛لأنّ هذا الشكّ ليس بحادث و إن لم يجر الاستصحاب قبل الصلاة؟ و جهان،أظهرهما الجريان بناء علي كونها أصلا تعبّديا؛لأنّ الشكّ حادث بعد الفراغ،و لم يمرّ عليه قبل الصلاة زمان يشكّ فيه في الطهارة،فلا يجري الاستصحاب لعدم وجود ركنه و هو الشكّ لا حقيقة و لا تقديرا،و بما ذكرنا ظهر أنّ

ص: 231

عنوان هذا الفرع في الفرائد (1)لا يخلو عن تعقيد و مسامحة،فلاحظ.

الأمر الثاني:قالوا:لا اعتبار بزمان حدوث الشكّ و اليقين،بل العبرة بزمان المشكوك و المتيقّن،و المشكوك:إمّا أن يكون متقدّما علي المتيقّن،و يسمّي الاستصحاب فيه بالاستصحاب القهقري،أو يكون متأخّرا و هو علي قسمين:

أحدهما:أن يكون المشكوك حاليّا.ثانيهما:أن يكون استقباليّا،فهذه ثلاثة أقسام.

أمّا الأوّل و هو ما إذا كان المشكوك متقدّما،و يعبّر عنه بالاستصحاب القهقري، فهو خارج عن مورد الأخبار؛لأنّ موردها علي ما عرفت هو نقض اليقين بالشكّ، و هو لا يصدق إلاّ إذا لم يكن اليقين محدودا،بل كان بحيث يبقي لو لا طروء الشكّ.

و أمّا إذا كانت حدود اليقين معلومة،فهو يقين و شكّ،و ليس الشكّ ناقضا لليقين،و فيما نحن فيه يكون اليقين محدودا بالزمان الحالي،و الشكّ متعلّقا بالزمان السابق،فهو علي يقين و شكّ،و ليس علي يقين غير محدود حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

و يظهر من صاحب الجواهر حجّيته،حيث قال فيما ذكره الأصحاب من أنّ الاعتبار بكون الشيء مكيلا أو موزونا بالمكيل و الموزون في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله، و إذا جهل حال عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله لكن كان الآن متعارفا و معلوما كفي،قال:

لاستصحاب هذا الحال إلي زمن الخطاب (2).

و قال في ملحقات العروة:نعم يمكن أن يقرّر الاستصحاب علي وجه آخر، و هو أن يقال:المراد من قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»صعودا و نزولا (3).3.

ص: 232


1- فرائد الاصول ص 548.
2- جواهر الكلام 23:364.
3- ملحقات العروة ص 33.

و قال في مصباح الاصول:إنّ الاستصحاب في مثله ليس بحجّة إلاّ فيما إذا علم معني اللفظ فعلا و شكّ في كونه كذلك سابقا،فإنّه يجري الاستصحاب،و لولاه لانسدّ باب الاجتهاد،و ذلك لبناء العقلاء لا لأخبار الاستصحاب (1).

و ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ذيل الأمر السابع حيث قال:و اعلم أنّه قد يوجد شيء في زمان و يشكّ في مبدئه و يحكم بتقدّمه؛لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله،و الأصل عدمه،و قد يسمّي ذلك بالاستصحاب القهقري.

مثاله:إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا،و شكّ في كونها كذلك قبل ذلك حتّي يحمل خطابات الشارع علي ذلك،فيقال:مقتضي الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان بل قبله؛إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل و تعدّد الوضع و الأصل عدمه،و هذا إنّما يصحّ بناء علي الأصل المثبت،و قد استظهرنا سابقا أنّه متّفق عليه في الاصول اللفظيّة،و مورده صورة الشكّ في وحدة المعني و تعدّده،أمّا إذا علم التعدّد و شكّ في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا،فمقتضي الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم،و لذا اتّفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة علي أنّ الأصل فيها عدم الثبوت (2)انتهي.

قوله«و مثاله»،أقول:توضيح كلامه أنّه إن ثبت أنّ الصيغة عندنا حقيقة في الوجوب و شكّ في أنّه كان كذلك من أوّل وضع الصيغة،و هو ابتداء وضع لغة العرب،و هذا مراده من قوله«بل قبله»أي:قبل زمان الشارع،ففي مثله يحكم بأنّه وضع للوجوب؛لأنّ تأخّر صيرورتها حقيقة في الوجوب يستلزم حدوث وضع للوجوب،و هو حادث آخر قبل استعمالها في الوجوب،و الأصل عدم حدوث وضع جديد للوجوب،فقد تمسّك لاثبات التقدّم بأصالة عدم وضع جديد،و لذا9.

ص: 233


1- مصباح الاصول 3:90.
2- فرائد الاصول ص 669.

قال بأنّه يكون من الأصل المثبت؛لأنّ أصالة عدم حدوث الوضع الجديد لاثبات كونه حقيقة في الوجوب من أوّل ما وضع تكون من الاصول المثبتة.

و فيه منع بنائهم علي ذلك،و لو سلّم بناؤهم فنمنع إمضاء الشارع له،و الموارد التي يحتمل تغيّر المعني لا بأس بالاحتياط فيها،و لا ينسدّ باب الاجتهاد،و لو سلّم انسداده فلا بدّ من الرجوع إلي أقوي الظنون لو كان الاحتياط عسرا غير لازم.

و أمّا الثاني و هو ما كان المشكوك حاليّا،فهو الاستصحاب المستفاد من الأخبار،قيل:الاعتبار فيه بتقدّم المتيقّن علي المشكوك لا بحدوث اليقين و الشكّ، و الحقّ عندنا أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب في جميع موارد جريانه تقدّم اليقين علي الشكّ حتّي يكون رفع اليد عن اليقين بالشكّ نقضا لليقين بالشكّ،مثلا من شكّ في كونه متطهّرا،ثمّ حدث له اليقين أنّه تطهّر قبل زمان حدوث الشكّ،إنّما يجري الاستصحاب بعد حدوث اليقين،فيكون اليقين متقدّما علي الشكّ.

و أمّا الثالث و هو ما كان المشكوك استقباليّا،فلا يجري الاستصحاب لكون اليقين محدودا،كما إذا علم أوّل الوقت بأنّه مريض إلي ساعة،أو ليس له ماء إلي ساعة،و شكّ في برئه أو وجود الماء بعد ساعة،فهو علي يقين من الأوّل إلي ساعة و شكّ من الأوّل بالنسبة لما بعدها،و ليس الشكّ ناقضا لليقين،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ.نعم إذا صدق نقض اليقين بالشكّ جري.

و لم أر موردا في الشرع عمل فيه علي الاستصحاب الاستقبالي،بل ورد خلافه،كما في استظهار المرأة بعد العادة،و لو جري الاستصحاب في الاستقبالي لكانت تعمل ما تعمله الحائض جزما،و إن احتمل أنّه لا يجري الاستصحاب لكونه في الامور التدريجيّة،و يدلّ صحيح البزنطي علي أنّه لا يجعل عمل الشهر المستقبل مهرا لعدم العلم ببقائه.

روي الكليني باسناده عن البزنطي،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:قول شعيب

ص: 234

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أيّ الأجلين قضي؟قال:الوفاء منهما أبعد هما عشر سنين،قلت:فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟قال:قبل أن ينقضي، قلت:فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين يجوز ذلك؟فقال:إنّ موسي عليه السّلام قد علم أنّه سيتمّ له شرطه،فكيف لهذا بأن يعلم أن سيبقي حتّي يفي؟ و قد كان الرجل علي عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يتزوّج المرأة علي السورة من القرآن، و علي الدرهم و علي القبضة من الحنطة (1).فيمكن أن يستدلّ به علي عدم جريان الاستصحاب الاستقبالي.

ثمّ لا يخفي أنّ عدم الاعتناء بالشكّ في الموت،و البناء علي البقاء أمر مركوز في الأذهان،و عليه بناء العقلاء الممضي في زمان الشارع،و لذا لو ظهر عليه أمارات الموت وجب الوصيّة،مع أنّ الاستصحاب التعبّدي موجود لو جري في الامور المستقبلة،لكن ليس بناء العقلاء علي الجريان.

و في مصباح الاصول (2)اختار جريان الاستصحاب.

و ممّا ذكر ظهر أنّه لو شكّ في سعة الوقت للطهارة المائيّة أو ضيقه لم يجر الاستصحاب؛لكونه استصحابا لبقاء الوقت إلي أن يتطهّر طهارة مائيّة و يصلّي،فهو استصحاب استقبالي.

الأمر الثالث:في حلّ معضلة جريان الاستصحاب في موارد قيام الأمارة، و هي أنّ الأمارة لا توجب اليقين،فكيف يستصحب ما قامت عليه الأمارة؟مثلا إن قامت بيّنة علي نجاسة شيء،ثمّ شكّ في تطهيره كيف يستصحب نجاسته مع أنّه لا يقين بنجاسته حدوثا؟9.

ص: 235


1- وسائل الشيعة 15:33 ب 22 ح 1.
2- مصباح الاصول 3:89.

و التحقيق في الجواب أن يقال:إنّ الأمارة القائمة علي الشيء توجب اليقين بالوظيفة الظاهريّة،فيستصحب هذا اليقين لو شكّ في طروء الناقض.و أمّا ما ثبت بالأصل فهو باق إلي العلم بالخلاف،و لا حاجة إلي الاستصحاب،لكن قيل:إنّه لو غسل الثوب المتنجّس في الماء المستصحب الطهارة طهر الثوب،ثمّ إن شكّ في إصابة نجاسة للثوب استصحب طهارة الثوب.

قلت:طهارة الثوب طهارة ظاهريّة،و هي باقية إلي حصول اليقين بالنجاسة،فلا حاجة إلي استصحاب طهارته.

ثمّ إنّهم ذكروا لحلّ هذه المعضلة وجوها:

الأوّل:ما في كفاية الاصول (1)من أنّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّي الطريق حينئذ محكوم بالبقاء،فتكون الحجّة علي ثبوته حجّة علي بقائه تعبّدا؛للملازمة بينه و بين ثبوته واقعا.

و اورد عليه بأنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب كون اليقين موضوعا كالشكّ،و انّ قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ»راجع إلي القضيّة الارتكازيّة،و هي أنّ الأمر المبرم كاليقين لا ينقض بغير المبرم.

أقول:إنّه في صورة إصابة البيّنة يكون الشيء موجودا،فهو علي فرض الوجود متيقّن،فاليقين موجود علي تقدير،كما أوضحناه في الأمر الأوّل.

الثاني:أنّ التعبّد بالأمارة يجعلها علما تعبّدا،فيكون دليل حجّية الأمارة موجبا لتوسعة اليقين إلي اليقين الوجداني و اليقين التعبّدي.

و فيه أوّلا:ما مرّ من أنّ دليل الحجّية لا يجعل الأمارة علما تعبّدا.

و ثانيا:أنّ اليقين و الشكّ المأخوذين في الاستصحاب منقوضا و ناقضا هما1.

ص: 236


1- كفاية الاصول ص 461.

الوجدانيان،و ليس في دليل حجّية الأمارة أنّها بمنزلة الوجداني في جميع الموارد.

الثالث:أنّ المستفاد من مجموع أخبار الاستصحاب و من مناسبة الحكم و الموضوع أنّ المراد باليقين الحجّة،و بالشكّ غير الحجّة،أي:لا تنقض الحجّة القائمة علي شيء بالشكّ في زواله.

و فيه نظر إن لم يرجع إلي ما ذكرناه.

ثمّ إنّ دعوي أنّ الموضوع في باب الاستصحاب اليقين العرفي و هو حاصل في باب الأمارات،غير مسموعة،بل الموضوع في باب الاستصحاب اليقين الوجداني،مع أنّه ليس في مورد الأمارات يقين عرفي.

الأمر الرابع:قد يكون اليقين متعلّقا بأمر جزئي،فيكون المستصحب جزئيّا معيّنا،كما إذا كان الأثر مترتّبا علي وجود خصوص زيد،أو جزئيّا مردّدا بين شخصين أو أكثر،كما إذا كان الأثر مترتّبا علي وجود زيد أو عمرو،و قد يتعلّق بأمر كلّي فيكون المستصحب كلّيا،قال الاصوليّون:و هو علي أقسام:

القسم الأوّل:ما كان الكلّي في ضمن فرد معيّن كالانسان الموجود بوجود زيد، أو غير معيّن كالانسان الموجود إمّا بوجود زيد أو وجود عمرو شكّ في بقائه، للشكّ في انعدام ذلك الفرد الذي تحقّق الكلّي في ضمنه،كما إذا كان متطهّرا و خرج منه رطوبة مردّدة بين البول و المني،ثمّ شكّ في أنّه توضّأ و اغتسل معا أو لم يتوضّأ و لم يغتسل،فإنّه مورد استصحاب كلّي الحدث.

ثمّ إنّ الأثر إن كان مترتّبا علي الكلّي،فلا إشكال في استصحابه،و هل يصحّ استصحاب الفرد ليترتّب عليه أثر الكلّي أو لا؟الظاهر عدم صحّة استصحاب الفرد؛لأنّ التعبّد ببقاء ما ليس له أثر غير صحيح.

القسم الثاني:قالوا:قد يكون المستصحب وجود الكلّي في ضمن أحد فردين يعلم بزوال أحدهما،فيصير منشأ للشكّ في بقاء الكلّي.

ص: 237

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في التنبيه الأوّل:الظاهر جريان الاستصحاب في الكلّي مطلقا،في الشكّ في المقتضي و الرافع،أي:عند القوم،و أمّا عنده ففي خصوص الشكّ في الرافع.نعم لا يتعيّن أحكام الفرد الباقي،مثاله في الشكّ في الرافع ما إذا علم المتطهّر بخروج رطوبة مردّدة بين البول و المني،فإنّه يجب عليه الجمع بين الطهارتين،فإذا توضّأ يشكّ في بقاء الحدث،فالأصل بقاؤه.و إن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة،فيجوز له المكث في المسجد،و مثاله في الشكّ في المقتضي ما لو تردّد ما في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة،أو كونه حيوانا يعيش مائة سنة،فيجوز بعد السنة الاولي استصحاب كلّي الحيوان إلي آخر ما أفاده (1).

و اورد علي استصحاب الكلّي القسم الثاني بأمرين:

الأوّل:أنّ فقد الفرد القصير وجداني،و الفرد الطويل مشكوك الحدوث، و الأصل عدمه،فهو مفقود تعبّدا.

و اجيب عنه-كما في الرسائل و الكفاية-بأنّ ذلك لا يضرّ باستصحاب الكلّي لوجود أركانه.

الثاني:أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن وجود الفرد الطويل،و أصل العدم الجاري فيه سببي يكون حاكما علي استصحاب الكلّي.

و اجيب عنه أوّلا:بأنّ الكلّي عين الفرد و ليس لازما له،و لا الفرد سبب لوجود الكلّي.

و ثانيا:لو سلّمت السببية فليست شرعية.

و ثالثا:أنّ بقاء الكلّي مسبّب عن كون الحادث هو الزائل أو الباقي و لا أصل8.

ص: 238


1- فرائد الاصول ص 638.

يعيّنه،لا عن حدوث الفرد الباقي.

أقول:الظاهر عدم صحّة الاستصحاب في الكلّي الذي يسمّونه القسم الثاني مطلقا،لا في الشكّ في المقتضي،و لا في الشكّ في الرافع،علي ما يقولون انّه شكّ في الرافع.

أمّا أوّلا:فلأنّ اليقين محدود،فإنّه يتيقّن من الأوّل بكونه محدثا إلي تحقّق الرافع الأوّل و بوجود الجيوان في السنة الاولي،و ليس علي يقين يبقي لو لا عروض الشكّ،بل هو علي يقين و شكّ.

و ثانيا:بعد تحقّق الرافع الأوّل أو انقضاء السنة الاولي لا متيقّن حتّي يستصحب؛لأنّه لا يصحّ أن يقال:إنّ الحدث المتيقّن سواء كان أصغر أو أكبر مشكوك البقاء؛و ذلك لأنّ الحدث الأصغر قد زال إن توضّأ،و إن اغتسل فالحدث الأكبر قد زال،و الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر أو الأكبر كان متيقّنا،و الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر قد زال،و الكلّي المتحقّق بالأكبر كان من الأوّل مشكوكا،فكيف يستصحب بعد زوال الحدث الأصغر،فلا بدّ في مثل ذلك من إجراء أحكام العلم الاجمالي بين الفرد الزائل و الفرد الباقي.

و ليس الحدث الكلّي حدثا مغايرا للحدث الأصغر بما هو أصغر،و للحدث الأكبر بما هو أكبر،فالمتطهّر إن خرج منه ما يتردّد بين البول و المني يعلم إجمالا بأنّ الخارج إن كان بولا يحرم الدخول في الصلاة،و يحرم عليه مسّ كتابة القرآن، و إن كان منيا يحرم عليه بالاضافة إلي حرمتهما المكث في المسجد،فإذا توضّأ مثلا لم ينحلّ العلم الاجمالي،غايته أنّه أتي بأحد طرفيه.

و الحاصل أنّ معني«لا تنقض اليقين بالشكّ»يرجع إلي أنّ المكلّف المتيقّن بشيء إن شكّ في بقائه،فهو يبقي اليقين و لا يرفعه بالشكّ.و في المثال المذكور و نحوه لا يمكن إبقاء اليقين؛لأنّ اليقين تعلّق بالحدث الأصغر أو الأكبر،و لا يمكن

ص: 239

إبقاؤه بعد زوال الأصغر بالوضوء.

و لا بأس بتوضيح أصل المطلب،فنقول:إنّ الكلّي أي المفهوم القابل للصدق علي كثيرين لا وجود له في الخارج؛لأنّ الوجود الخارجي متشخّص،و الكلّي موطنه الذهن.

و معني وجود الكلّي في الخارج أنّ الموجود في الخارج إن لوحظ إلي موجود آخر في الخارج،تارة يكون مماثلا له،و اخري يكون مباينا له،مثلا زيد موجود خارجي إن قيس إلي عمرو،فإن لوحظ كونه إنسانا أي موجودا مدركا،كان مماثلا لعمرو،فيقال لزيد بعد وجوده:الانسان موجود،كما يقال لعمرو بعد وجوده:الانسان موجود،فوجود الكلّي في زيد و عمرو من حيث ملاحظة المماثلة في الانسانية،و إن لوحظ زيد من حيث إنّه ابن خالد و طويل و غير ذلك من الخصوصيّات،كان مباينا لعمرو،و يقال له:جزئي.

و من البديهي أنّ الكلّي بما هو كلّي لا وجود له في الخارج،و المراد بوجوده في الخارج وجوده الذي له مماثل،أي:وجوده في ضمن زيد أو عمرو،لا أنّ له وجودا في الخارج،و هو متّحد مع وجود زيد و وجود عمرو معا ملغي عنه خصوصيّاتهما.

إذا تحقّق ذلك نقول:الحدث الكلّي لا يوجد في الخارج،أي:بما هو كلّي،بل الموجود الحدث الأصغر و الحدث الأكبر،فإن كان الأثر مترتّبا علي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالحدث الأكبر،مثل عدم المكث في المسجد فالأثر للجزئي؛لأنّه ليس الحدث الأصغر مثيلا له من هذه الجهة،و إن كان الأثر مترتّبا علي الحالة النفسيّة التي تتحقّق بالحدث الأصغر و الأكبر،مثل عدم الدخول في الصلاة،فالأثر للكلّي بمعني أنّه إن أحدث بالأصغر ثمّ شكّ في زواله استصحب الكلّي المتحقّق بالحدث الأصغر.و إن أحدث بالأكبر ثمّ شكّ في زواله،استصحب

ص: 240

الكلّي المتحقّق بالحدث الأكبر.

و مثال آخر:إذا كان زيد في الدار،ثمّ شكّ في خروجه منها،فإن كان الأثر مترتّبا علي وجوده من حيث إنّه ليس له مماثل،استصحب بقاء زيد.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في العلم،استصحب بقاء العالم.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الانسانيّة،استصحب بقاء الانسان.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الحيوانيّة،استصحب بقاء الحيوان.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في النموّ،استصحب بقاء النامي.و إن كان مترتّبا عليه من حيث إنّ له مماثلا في الجسميّة،استصحب بقاء الجسم،و في جميع هذه الموارد الموجود خارجا هو زيد.

و بهذا البيان يظهر أنّه لا معني لاستصحاب الكلّي القسم الثاني؛لأنّ الحدث الجامع بين الأصغر و الأكبر لا يوجد في الخارج،بل في الخارج:إمّا حدث أصغر أو أكبر،و كلّ منهما إن لوحظ بما هو هو كان جزئيّا،و إن لوحظ بما أنّ له مماثلا كان كلّيا،فمن كان متطهّرا و خرج منه رطوبة مردّدة بين البول و المني،فإن شكّ في أنّه توضّأ و اغتسل،فإن أراد الدخول في الصلاة،استصحب الحدث المتحقّق خارجا في ضمن الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر،و ليس له استصحاب الحدث الأصغر بما هو أصغر أو الأكبر بما هو أكبر.

و أمّا إن توضّأ،فليس له استصحاب الحدث من حيث الحدثيّة؛لعدم متيقّن يشكّ في بقائه،فلا متيقّن يحتمل بقاؤه؛لأنّ متيقّنه الحدث الأصغر أو الأكبر،و هذا المتيقّن لا يحتمل بقاؤه.

وهم و دفع:أمّا الوهم،فهو توهّم الفرق بين مورد العلم الاجمالي،و بين الاستصحاب الكلّي من القسم الثاني،بأن يقال:إنّ مثل الحدث الأصغر و الأكبر من موارد العلم الاجمالي.و أمّا إذا رأي الانسان طائرا بحيث يشير إليه حسّا،لكن

ص: 241

لا يدري أنّه عصفور أو غراب،و المفروض أنّ الأوّل يموت بعد اسبوع،فإذا مضي اسبوع يشير إلي الحيوان المذكور و يقول:أيقنت وجوده و أشكّ في وجود ذلك بعينه،و هذا هو الاستصحاب القسم الثاني من الكلّي.

و أمّا الدفع،فلأنّ اليقين من الأوّل محدود لم يتيقّن بشيء يبقي إن عرضه الشكّ،بل هو من الأوّل علي يقين و شكّ.

ثمّ إنّه لا بأس بذكر بعض الأمثلة لما ذكر:

منها:ما إذا علم وجود مؤمن في الدار،فإنّه لا يجوز هدمه عليه،فلو دار وجوده بين زيد الذي قد علم موته بعد شهر مثلا و عمرو الذي قد بقي إلي شهرين، فقد تنجّز عليه حفظ نفس المؤمن إمّا في زيد أو في عمرو،و لا يجوز هدم الدار؛ لأنّه علم إجمالا بعدم جواز هدمه علي زيد الذي مات،أو علي عمرو الذي بقي، و لا يجري بعد موت زيد استصحاب بقاء المؤمن؛لأنّ المؤمن الكلّي موطنه الذهن،و المؤمن الخارجي الذي هو زيد ميّت،و المؤمن الحيّ الذي يحتمل بقاؤه الذي هو عمرو مشكوك الحدوث.

و منها:ما لو تنجّس أحد موضعي العباءة:إمّا الطرف الأسفل،أو الطرف الأعلي،ثمّ طهر الطرف الأسفل،فقد يقال بعد تطهيره:قد علمت نجاسة بعض العباءة،إمّا طرفها الأسفل أو الأعلي و أشكّ في بقائها،أي:بقاء ذلك البعض النجس علي نجاسته،فاستصحب نجاسته أي:بعض العباءة،و إن شئت قلت أستصحب نجاسة الخيط الذي كان نجسا،فإذا لاقي الطرف الأعلي الماء القليل لم يحكم بنجاسة الماء؛لأنّه ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة.

لكن إذا لاقاه مع ذلك الطرف الأسفل الذي هو طاهر حكم بنجاسة الماء؛لأنّ ملاقاة الجزء الذي كان نجسا وجدانيّة،و ذلك الجزء محكوم بنجاسته تعبّدا للاستصحاب.و هذا الاستصحاب استصحاب الجزئي؛لأنّه كان علي يقين من

ص: 242

نجاسة ذلك الخيط من العباءة و يشكّ في بقائها،كما إذا علم أنّ أحد الرجلين زيد ثمّ مات أحدهما،فإنّه علي يقين من وجود زيد و يشكّ في بقائه.

أقول:لا يصحّ ذلك؛لأنّه لا شكّ في طهارة الأسفل،فهو الآن بمنزلة ما لم يتنجّس أصلا،و لا فرق بالبداهة بين الشيء الطاهر الذي لم يتنجّس و بين المتنجّس الذي طهر،و الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين أو المتيقّن السابق،و لا يمكن هنا إبقاؤه؛لأنّ المتيقّن نجاسة أحد الطرفين و قد ارتفعت،فلا يقال هذه العباءة:إمّا طرفها الأسفل أو أعلاها كان نجسا و الآن أشكّ في بقائها؛لعدم الشكّ في بقاء ذلك؛لأنّ الأسفل قد طهر يقينا،فهو بعد التطهير مساو لما إذا لم يتنجّس أصلا،و ضمّه إلي الطرف الأعلي من ضمّ الحجر إلي جنب الانسان،و لعمري إنّه واضح.

و بعبارة اخري:نعلم بلا شكّ أنّ نجاسة الماء من ملاقاة الطرف الأعلي، و الاستصحاب لا يجري،لا أنّه يجري و يكون مثبتا لنجاسة الطرف الأعلي،فلا يكون حجّة.و ذلك لأنّه إن اريد أنّ ذلك الخيط النجس الذي لم يعلم كونه من الطرف الأعلي أو الطرف الأسفل،قد شكّ في بقائه علي النجاسة،فهذا غير صحيح؛لعدم احتمال بقائها في الطرف الأسفل.و إن اريد أنّه كان علي يقين من نجاسة الطرف الأعلي و قد شكّ في بقائها،فهذا أيضا غير صحيح لعدم اليقين بها من الأوّل.

و الحاصل أنّا نعلم علما لا يشوبه شكّ أنّ مقتضي الأدلّة الشرعية كون نجاسة الماء القليل الملاقي للعباءة حاصلة من ملاقاة الطرف الأعلي و لا أصل يقتضي نجاسته.

و لا يتوهّم أنّ ذلك نظير أنّ يتردّد بين كون زيد في الجانب الشرقي من الدار، و كونه في الجانب الغربي،فانهدم الجانب الشرقي و شكّ في موت زيد،لاحتمال

ص: 243

كونه في الجانب الشرقي،فإنّه يجري استصحاب حياة زيد،و ذلك لعدم أثر للجانب الشرقي و الغربي،بل الأثر لوجود زيد،بخلاف مسألة العباءة فإنّ الأثر لخصوص الطرف الأسفل فإنّه متنجّس،أو الطرف الأعلي فإنّه متنجّس.

و منها:ما لو تردّد متنجّس بين تنجّسه بما يكفي لتطهيره الغسلة الواحدة بالماء القليل كالمتنجّس بالدم،و بين ما يحتاج في تطهيره إلي الغسلتين كالمتنجّس بالبول،فإنّه بعد الغسل مرّة يستصحب بقاء النجاسة.

و فيه ما مرّ من أنّه لا يمكن إبقاء المتيقّن السابق.و قيل:بكفاية الغسل مرّة واحدة لوجهين:

الأوّل ما ذكره في مصباح الاصول بأنّ استصحاب العدم الأزلي في النجاسة يقتضي أن لا تكون بولا (1).

و فيه أنّ استصحاب العدم الأزلي غير واضح و لا نقول به.

الثاني:استصحاب عدم تنجّس الموضع بالبول،و لا يعارضه استصحاب عدم التنجّس بالدم لعدم الأثر له؛لأنّ الغسل مرّة واحدة متيقّن علي كلّ حال.

و فيه أنّ استصحاب عدم تنجّس الثوب بالبول لإثبات تنجّسه بالدم لا يجري لأنّه مثبت،و استصحاب عدم تنجّسه بالبول لئلاّ يجب غسله مرّتين معارض باستصحاب عدم تنجّسه بالدم،فإنّ أثره الغسل مرّة بشرط لا.

أقول:العلم الاجمالي بوجوب إزالة الدم بالغسل مرّة،أو إزالة البول بالغسل مرّتين يقتضي وجوب الغسل مرّتين،فهو من قبيل أن يعلم إجمالا أنّه مديون لزيد بدينار أو لعمرو بدينارين،فإنّه يجب الاحتياط؛لأنّه لو كان بولا فهو مأمور بإزالة البول.و قال في نهاية الدارية مثل ما قلناه (2).ي.

ص: 244


1- مصباح الاصول 3:106-107.
2- نهاية الدارية 3:76 الطبع الحجري.

و منها:أنّ الحليّ التي يصوغها الكافر إن علم ملاقاته لها مع الرطوبة يجب غسلها و يطهر ظاهرها،و يبقي باطنها علي النجاسة،و اذا استعملت مدّة و شكّ في طهور الباطن وجب تطهيرها (1).

أقول:وجهه أنّ هذا الموضع من الحلي كان نجسا قبل تطهيره و يشكّ في بقاء النجاسة.و فيه أنّ الاشارة إلي هذا المورد و أنّه سواء كان ظاهرا أو باطنا كان نجسا غير صحيح؛لأنّ الظاهر صار طاهرا،فلا معني لضمّه إلي الباطن.

و منها:ما لو علم بجنابة ليلة الخميس و الاغتسال بعدها،ثمّ رأي يوم الجمعة في ثوبه جنابة و شكّ في أنّها من ليلة الخميس التي اغتسل منها،أو حدثت ليلة الجمعة و لم يعلم بها،فيشير إلي زمان خروج المني الذي بثوبه و يقول:إنّه في ذلك الحين كان جنبا،سواء كان ليلة الخميس أو ليلة الجمعة،و يشكّ في بقائه، فيستصحب إلي هذا الوقت،و يستصحب الطهر الحاصل له بعد الاغتسال، فيتعارضان.و كذا لو علم باحتلامين و باغتسال و كان تاريخ الاغتسال معلوما و احتمل وقوع الاحتلامين قبله.

أقول:اليقين بالجنابة في ليلة الخميس قد زال؛لأنّ الجنابة التي اغتسل منها غير باقية،فلا يصحّ استصحاب بقائها،فإنّه بعد الاغتسال منها بمنزلة من خلق طاهرا،و الأثر الموجود علي الثوب أثر جنابة هي مشكوكة بعد الغسل، فاستصحاب الطهر بعد غسل الجنابة الحاصلة ليلة الخميس يجري بلا مزاحم.

و كذا الكلام فيما علم تكرار السبب،فإنّه في زمان الغسل المعلوم قد زال جنابته و يشكّ في جنابته بعده؛لاحتمال وقوع الاحتلامين قبله.

و بعبارة اخري:لا يوجد جنابة كلّية في الخارج،بل الموجود في الخارج إمّا5.

ص: 245


1- منهاج الصالحين 1:مسألة 475.

جنابة ليلة الخميس فقط،أو هي مع جنابة ليلة الجمعة إن كان أجنب فيها،فلا يمكن أن يقال:تلك الجنابة التي كانت ليلة الخميس أو بعدها مشكوك بقاؤها، و ذلك لأنّ جنابة ليلة الخميس كعدم الجنابة؛لأنّه لا فرق بين أن لا يجنب أصلا و بين أن يجنب و تزول جنابته بالغسل.

و منها:أنّ من شكّ في يوم الثلاثين أنّه آخر يوم من شهر رمضان،أو أوّل يوم من شوّال،يجب عليه أن يصوم لاستصحاب بقاء الشهر بناء علي جريان الاستصحاب،أو لقوله«أفطر للرؤية».

ثمّ إنّ الشكّ المذكور يستلزم الشكّ في كون اليوم بعد اليوم المشكوك أوّل شوّال أو اليوم الثاني من شوّال،و استصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين لا يثبت أنّ غده أوّل شوّال.

و تمسّك في مصباح الاصول لإثبات كونه أوّل شوّال باستصحاب آخر حيث قال:إنّه بعد مضي دقيقة من اليوم الذي نشكّ في أوّليته،نقطع بدخول أوّل الشهر، لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقيا،أو اليوم الذي قبله ليكون ماضيا، فنحكم ببقائه بالاستصحاب و تترتّب عليه الآثار الشرعيّة،كحرمة الصوم مثلا (1).

و فيه أوّلا:أنّه في الآن الأوّل يعلم إجمالا بأنّه عيد،أو اليوم السابق عيد،و لا مجال للاستصحاب.و ثانيا:بعد مضي دقيقة لا يمكن أن يقول:إمّا أنّ اليوم الماضي عيد أشكّ في بقائه،أو هذا اليوم عيد؛لأنّ ضمّ اليوم الماضي إلي هذا اليوم كضمّ الحجر إلي جنب الانسان.و بعبارة اخري:مضي اليوم السابق لا يحتمل بقاؤه في اليوم اللاحق.

و منها:ما لو علم نجاسة ثوب صوف:إمّا لكونه من شعر الخنزير،أو لكونه شعر5.

ص: 246


1- مصباح الاصول 3:165.

معز متنجّسا بالبول،فإنّه لو غسل بالماء يشكّ في صيرورته طاهرا،فيستصحب نجاسته.

و فيه أنّه إذا غسله،فليس له أن يستصحب النجاسة السابقة علي أيّ تقدير من كونها ذاتية أو عرضية لزوال العرضية،و حينئذ يشكّ في أنّ هذا الشعر طاهر أو نجس،و مقتضي أصالة الطهارة الحكم بطهارته.

و قال في المصباح:إنّ مقتضي استصحاب العدم الأزلي عدم كونه شعر خنزير، و تزول النجاسة البولية لو كانت بغسله (1).

و فيه عدم صحّة استصحاب العدم الأزلي.

و قيل:إذا شكّ في ثوب أنّه من شعر الخنزير،أو من غيره الطاهر،فأصالة الطهارة تقتضي طهارته،فإذا تنجّس بالبول و غسله طهر بالغسل؛لأنّه طاهر قد تنجّس،و كلّ طاهر تنجّس يطهر بالغسل،بخلاف الأوّل؛لأنّه يعلم ابتداء أنّه نجس.

و فيه أنّا نعلم عدم الفرق بين الصورتين بالبداهة و الضرورة.

القسم الثالث:أن يعلم بتحقّق الكلّي في الدار في ضمن زيد مثلا،و احتمل دخول عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد،بحيث لم يتخلّل زمان لم يكن في الدار انسان،أو احتمل من الأوّل وجود عمرو معه،ثمّ علم بخروج زيد من الدار،فإنّه يشكّ في خروج الكلّي؛لاحتمال بقائه في ضمن عمرو،أو علم بوجود سواد شديد و علم بزوال السواد،لكن لم يعلم زوال شدّته،أو زوال أصل السواد، و الظاهر عدم جريان الاستصحاب في الموردين الأخيرين فضلا عن الأوّل؛لأنّه ليس علي يقين قد طرأ عليه الشكّ،فتأمّل.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)جريانه في القسمين الأخيرين.0.

ص: 247


1- مصباح الاصول 3:113.
2- فرائد الاصول ص 640.

و نوقش عليه في الصورة الثانية بأنّه لم يكن وجود الكلّي في ضمن عمرو متيقّنا،مع أنّه يلزمه أن يحكم علي من قام من نومه و شكّ في أنّه محتلم أن يستصحب الحدث بعد أن يتوضّأ.

و أجاب عن النقض في مصباح الاصول (1)بأنّ الأصل عدم جنابته،فهو محدث بالأصغر،و محكوم عليه بعدم الجنابة تعبّدا.

و نوقش عليه في الصورة الثالثة بأنّه من قبيل استصحاب الفرد؛لأنّه يجري الاستصحاب في بقاء أصل السواد؛إذ العرف يري الشدّة و الضعف من الحالات.

قلت:علي المختار لا يجري الاستصحاب إن كان الشكّ في المقتضي.و أمّا إن كان الشكّ في الرافع فيجري الاستصحاب؛لأنّ المتيقّن أنّ الموضع مسودّ حتّي يزيل السواد زائل،فهو من نقض اليقين بالشكّ.

تتميم:

إذا شكّ في لحم من حيوان مأكول كالشاة أنّه مذكّي أو ليس بمذكّي،حرم أكله لا لاستصحاب عدم تذكيته؛لأنّه معارض باستصحاب عدم الموت بغير التذكية،بل للأخبار (2).نعم في خصوص التسمية لو شكّ فيها دلّ خبر عيسي (3)علي أنّه لا بأس به.و للمسألة محلّ آخر بالنسبة للحكم بحلّية أكل اللحم و عدمها.

و إنّما تعرّضنا لهذه المسألة هنا لأنّها تشبه باستصحاب القسم الثالث،علي ما قاله الفاضل التوني،من حيث إنّ التذكية في حال الحياة قد انتفت بالموت،لكن استمرّت في ضمن فرد آخر و هو عدمها بعد الموت.و هل يحكم بنجاسته؟ احتمالان،يستدلّ علي القول بنجاسته بأنّ زهاق روحه وجداني،و الأصل عدم

ص: 248


1- مصباح الاصول 3:119.
2- راجع:وسائل الشيعة 16:230 ب 18 و ب 20.
3- وسائل الشيعة 16:237 ب 25.

التسمية عليه و عدم استقباله القبلة و عدم فري أوداجه.

و فيه ما ذكرنا غير مرّة من أنّ العلم و الجهل لا مدخليّة لهما في مفاهيم الألفاظ و موضوعات الأحكام الشرعيّة،و الموضوع لحلّية الأكل و الطهارة هو المذكّي، أي:ما مات بسبب التذكية الشرعيّة،و الموضوع لحرمة الأكل و النجاسة هو الحيوان الذي لم يذكّ،يعني الذي مات بسبب آخر غير التذكية،و كلا الأمرين حادثان،و الأصل عدم الموت بسبب غير شرعي،و الأصل عدم الموت بسبب التذكية،فيتعارضان و يتساقطان،و مقتضي أصالة الطهارة و حلّية أكل المشتبه الطهارة و الحلّية،لكن الأخبار دلّت علي حرمة أكل ما لم يعلم وقوع التذكية عليه.

و أمّا النجاسة،فهي متفرّعة علي عنوان الميتة،إلاّ أن يقال بأنّ المستفاد من هذه الأخبار الدالّة علي عدم أكل ما لم يحرز تذكيته أنّ ما لا يجوز أكله ميتة شرعا، و يجري عليه أحكام الميتة،و هو غير معلوم،و لا بدّ من الاحتياط.

الأمر الخامس:في اليقين المتعلّق بالامور غير القارّة إن شكّ في بقائها.

و يبحث فيه علي مسلك القوم،و أمّا علي المختار من اعتبار عروض الشكّ علي اليقين،بحيث يكون اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،فلا مجال لهذا البحث،و الامور غير القارّة ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل:الزمان،و هو متّصل واحد بعضه يسمّي نهارا،و بعضه أسود يسمّي ليلا،كما يسمّي قطعة منه اسبوعا،و اخري شهرا،و ثالثة سنة.

و اورد علي جريان الاستصحاب في الزمان،بأنّه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالحدوث و الشكّ في البقاء،و الجزء المشكوك من الزمان ليس بقاء للجزء المتيقّن، فلا يكون الشكّ في البقاء.

و اجيب عنه بأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصوّر له من الوجود، فيصدق عرفا علي النهار أنّه باق؛لأنّ النهار عبارة عن القطعة من الزمان من أوّل

ص: 249

طلوع الفجر إلي الغروب و هو شيء واحد،بل قد يقال بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب عنوان البقاء،بل المعتبر فيه وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة،و هي متحقّقة،فإنّ اليقين كان متعلّقا بالنهار و الشكّ متعلّق به.

أقول:الظاهر أنّهما تعبيران عن معني واحد.

ثمّ إنّ الزمان حيث إنّه من الموضوعات الخارجية،فالشكّ في بقائه من الشبهة الموضوعيّة،و لا يخفي أنّ فروعا كثيرة تترتّب علي استصحاب الزمان،كما إذا طهرت المرأة من الحيض و لا تدري بقاء الوقت حتّي تصلّي،و المسافر جاء إلي وطنه و لا يدري قبل الزوال أو بعده،إلي غير ذلك من الموارد ممّا يكون الزمان شرطا للتكليف أو ظرفا للمكلّف به،و الاستصحاب المتصوّر في هذه الموارد ستّة:

الأوّل:استصحاب الزمان بنحو مفاد كان التامّة،و ذلك لأنّ اليوم له وجود من أوّل طلوع الشمس إلي الغروب كسائر الموجودات،فإذا شكّ في بقائه استصحب بقاؤه،و قد جعل جماعة من الاصوليّين جريان الاستصحاب فيه خاليا عن الاشكال،لكن قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيره:انّه لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو من الليل.

الثاني:استصحاب الزمان بمفاد كان الناقصة،أي يشير إلي هذا الزمان،و هو الواحد المستمرّ المتّصل بأنّه كان نهارا،فهو الآن نهار،و اشكل عليه بأنّ هذا الآن متي كان نهارا؟.

الثالث:استصحاب عدم تحقّق الزوال،أو عدم طلوع الفجر بمفاد ليس التامّة.

و الظاهر أنّ الاشكال فيه هو الاشكال في جريانه في بقاء النهار،كما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

لكن في المصباح قال:لا إشكال في جريانه حتّي مع المنع عن جريان

ص: 250

الاستصحاب في الزمان (1).و فيه نظر واضح؛لأنّ هذا العدم غير العدم السابق.

الرابع:استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة.و فيه ما مرّ.

الخامس:استصحاب الحكم أي استصحاب وجوب الامساك.اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)،نظير استصحاب وجوب الصلاة لمن شكّ بعد دخول الوقت في أنّه صلّي أو لم يصلّ،و لكن ذكر هناك عدم الحاجة إلي جرّ الحالة السابقة؛لأنّ نفس الشكّ في الفراغ عن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

و أورد عليه في المصباح بأنّ وجوب الامساك لا يثبت كون الامساك في النهار.و فيه نظر؛لعدم الحاجة إلي إثبات كون الامساك في النهار بعد وجوب الامساك.

السادس:استصحاب كون الامساك في النهار،ذكره في الكفاية،لكن لا يأتي في الفعل الذي لم يكن موجودا،كالصلاة إلاّ بالاستصحاب التعليقي أي لو كان يصلّي قبل ذلك كان في النهار.

ثمّ إنّه اختار في المصباح (3)كفاية استصحاب الزمان بمفاد كان التامّة؛لأنّ الموضوع إذا كان مركّبا من العرض و معروضه احتاج إلي إثبات الاتّصاف،و أمّا إذا لم يكن كذلك لم يحتج إلي إثبات الاتّصاف و كفي وجود الجزئين،كالطهارة في الصلاة،و الامساك صفة للصائم،و الزمان جوهر فيكفي استصحاب الزمان و الامساك.

أقول:اتّصاف كلّ شيء بحسبه،و إمساك الانسان في النهار غير إمساكه في الليل،و الواجب صوم يوم شهر رمضان لا صيام المكلّف و وجود اليوم،بخلاف6.

ص: 251


1- مصباح الاصول 2:123.
2- فرائد الاصول ص 645.
3- مصباح الاصول 3:126.

الصلاة مع طهارة المصلّي.هذا كلّه بناء علي جريان الاستصحاب.

و أمّا علي المختار،فأقول:الزمان منصرم و المبحوث عنه هو ما فرض له أوّل و آخر،كالسنة و الشهر و الاسبوع و الليل و النهار،و هي أسماء للزمان بين مبدئها و منتهاها،فيوم الجمعة من أوّل الطلوع إلي الغروب،و ليلة السبت من أوّل الغروب إلي الطلوع،فإن كان لا يعلم أنّ النهار عشر ساعات أو احدي عشرة ساعة، و الشهر تسعة و عشرون يوما أو ثلاثون،فهو من الأوّل علي يقين و شكّ،لا علي يقين يكون الشكّ ناقضا له.

و إن كان يعلم بأنّ النهار عشر ساعات،و كان نائما فاستيقظ،و لا يدري أنّها الساعة العاشرة،أو الساعة التاسعة،فلا يقال إنّه متيقّن بأنّ هذه الساعة نهار،و كونه علي يقين في الساعة الثامنة لا يقتضي كون الشكّ ناقضا له،فإذا لم يجر الاستصحاب،فلا بدّ من العمل بالعلم الاجمالي بكون هذه الساعة من اليوم أو من الليل،و ليس شكّا في البقاء لا في المقتضي و لا في الرافع،و هكذا الاسبوع و الشهر و السنة،و ليس عدم الغروب إلاّ الزمان الذي يكون قبل الغروب،و هذا لم يكن في حال الشكّ علي يقين منه لو لا الشكّ،بل يعلم إجمالا بعدم النهار أو بعدم الليل في هذه الساعة،فينبغي في هذه الموارد الاحتياط،أو الرجوع إلي الاصول الاخر.

و قد ظهر ممّا ذكرنا عدم الفرق بين استصحاب بقاء النهار و استصحاب عدم الغروب،في أنّ كلاّ منهما ليس له حالة سابقة،لكن قال في مصباح الاصول:إنّه لا إشكال في جريان استصحاب عدم طلوع الفجر حتّي علي القول بعدم جريانه في الزمان (1).

و فيه أنّه لا فرق بينهما؛لأنّ هذا الزمان ليس له حالة سابقة؛لأنّ عدم الطلوع في3.

ص: 252


1- مصباح الاصول 3:123.

السابق غير عدم الطلوع فعلا،و لعلّه يظهر بالتأمّل.

و أيضا ظهر أنّ المانع عدم وجود الحالة السابقة لهذا الزمان،لكن قال في مصباح الاصول:إن شكّ في بقاء النهار مثلا،و قلنا إنّ النهار إسم لما بين طلوع الشمس إلي الغروب،فالاستصحاب يجري لوحدة القضيّة الميقّنة و المشكوكة بالدقّة العقليّة (1)انتهي.

و لعلّ نظره إلي استصحاب بقاء النهار بعنوان وجوده المحمولي لا لإثبات أنّ هذا الزمان نهار.و لكن فيه نظر؛لأنّ الزمان ليس شيئا قارّا يبقي،فتأمّل ليظهر مرادنا.

هذا كلّه في الشبهة الموضوعيّة،كالشكّ في طلوع الشمس مثلا،و قد يكون الشكّ في بقاء الزمان لشبهة حكميّة،كما إذا تردّد مفهوم الغروب بين غروب الشمس و بين ذهاب الحمرة المشرقيّة،أو دلّ خبر علي أنّ آخر وقت الظهرين غروب الشمس،و دلّ خبر آخر علي أنّه ذهاب الحمرة المشرقيّة،و تعارضا فصار سببا للشكّ،فهل يجري بعد غروب الشمس استصحاب بقاء النهار،بناء علي جريان استصحاب الزمان أم لا؟فيه إشكال،من اتّحاد الزمان عرفا،نظير الشكّ في صدق الأرض علي الآجر،فإنّه يعدّ من الحالات،كاللحم المطبوخ و غيره، فيستصحب الأرضيّة.و من عدم الشكّ في البقاء،و هو الأظهر.

القسم الثاني:الامور التدريجية،كالتكلّم و جريان الماء و قذف دم الحيض و يكون فيها الأقسام الثلاثة للكلّي،فلو أنّ زيدا كان مشغولا بقراءة سورة الجمعة مثلا و شككنا في أنّه ما زال يقرأ أو قطعها أو أتمّها،فيستصحب قراءته سورة الجمعة،كما يستصحب قراءته كلّي السورة،و هذا القسم هو القسم الأوّل.2.

ص: 253


1- مصباح الاصول 3:122.

و لو تردّد بين سورة الجمعة و سورة إنّا أنزلناه،و علم أنّه لو كان المقروّ سورة إنّا أنزلناه فقد أتمّها،كان من القسم الثاني.و لو علم أنّه شرع في سورة إنّا أنزلناه و علم باتمامها و شكّ في شروعه في سورة ثانية،كان من القسم الثالث.

أقول:ينبغي التفصيل بين ما تيقّن وجود الأمر المتصرّم و شكّ في رافعه،فهو علي يقين لو لم يطرأ الشكّ،و يكون الشكّ ناقضا لليقين،فيجري الاستصحاب، كما لو علم أنّ الماء يجري إلي ساعة لوجود ماء كثير في الخزانة،و شكّ في انسداد الانبوب،فإنّه علي يقين لو لا طروء الشكّ،فيجري الاستصحاب علي إشكال، و بين غيره فلا يجري؛لأنّ اليقين فيه محدود،فلو لم يعلم أنّ الماء الموجود في الخزانة بمقدار كرّين حتّي يجري منه إلي ساعة،أو بمقدار كرّ حتّي يجري إلي نصف ساعة،فهو من الأوّل له يقين و شكّ محدود،و ليس علي يقين لو لا طروء الشكّ.

ثمّ إنّه لا بدّ من اتّصال جري الماء أو الدم أو التكلّم في جريان الاستصحاب؛ لأنّه يعتبر وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة،نعم ذكروا أنّه لا يضرّ بالاتّصال الوقفات اليسيرة.

و فصّل في مصباح الاصول (1)بين التكلّم و غيره،لكن الظاهر عدم الفرق.

القسم الثالث:ما إذا كان الزمان مأخوذا في الحكم و تردّد بين الزمان القصير و الطويل،كخيار الغبن المردّد بين أوّل زمان اطّلاع المغبون علي الغبن،و بين استمراره بعد الاطّلاع إلي أن يختار المغبون،فهل يجري استصحاب الغبن بعد انقضاء أوّل أزمنة اطّلاع المغبون و تمكّنه من الردّ أم لا يجري؟أو علم وجوب الجلوس في المسجد يوم الجمعة إلي الزوال و لم يعلم وجوبه إلي ما بعد الزوال.9.

ص: 254


1- مصباح الاصول 3:129.

أمّا علي المختار فلا يجري؛لأنّ اليقين معيّن و محدود،و ليس الشكّ ناقضا له.

و أمّا علي مختار القوم،فإن كان الزمان ظرفا للجلوس،فيكون ما بعد الزوال و قبله شيئا واحدا،جري استصحاب وجوب الجلوس؛لأنّ هذا الزمان لا يلاحظ مستقلاّ ليقال:الأصل عدم جعل الوجوب له،بل يكون تمام النظر إلي وجوب الجلوس،و إن اخذ قيدا،بأن كان الجلوس في كلّ ساعة من ساعات اليوم فردا غير الفرد الآخر،لم يجر استصحاب الوجوب لتبدّل الموضوع،و لو لم يعلم أنّه من أيّ النحوين لم يجر استصحاب وجوب الجلوس؛لاحتمال تبدّل الموضوع.

لكن قيل:إنّ الزمان و إن اخذ ظرفا فهو قيد واقعا؛لأنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فلا محالة يكون قيدا.

و فيه نظر؛لأنّ المناط صدق نقض اليقين بالشكّ عرفا،و هو صادق فيما اخذ الزمان ظرفا في لسان الدليل لا ما اخذ قيدا.

ثمّ إنّ الحكم الذي بيد المولي هو إنشاء الوجوب،أو إنشاء طهارة الشيء.و أمّا انطباقه علي مصداقه،فهو تكويني قهري و ليس حكما آخر،و تسميته بفعلية الحكم من جهة انطباقه عليه تكوينا،لا أنّه مرتبة اخري من الحكم،فالمولي ينشيء وجوب الحجّ علي من يستطيع،و انطباقه علي من حصل له الاستطاعة قهري تكويني لا ربط له بالمولي كشارع.

ثمّ إنّ إنشاء وجوب الجلوس:إمّا أن يكون إلي الزوال،أو إلي الغروب،فإن علم ذلك فهو.و إن شكّ في أنّه من أيّهما،و كان الزمان ظرفا للحكم بنظر العرف، و كان الجلوس بعد الزوال هو الجلوس قبله عرفا،فحينئذ يصدق أنّه علي يقين من الوجوب و شكّ في بقائه،فبمقتضي أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ يحكم ببقاء الوجوب في مرحلة الانشاء.

ثمّ إنّه بعد تحقّق الوجود التكويني للنهار ينطبق الحكم الواقعي و الحكم

ص: 255

الظاهري علي الخارج قهرا و تكوينا،فليس هناك إلاّ حكم واحد،و ما بيد المولي الذي هو الحكم فقط هو إنشاء الحكم الواقعي،ثمّ إنشاء تعميمه إلي زمان الشكّ في بقاء الحكم إن كان الموضوع متّحدا عرفا بأخبار الاستصحاب.

و أمّا مرحلة انطباق الحكم الواقعي و الظاهري علي خارجه،فهو تكويني قهري،و ليس للحكم مرتبة جعل غير مرتبة المجعول،بل الجعل هو الانشاء و المجعول هو المنشأ؛لعدم انفكاك الايجاد عن الوجود.

و أمّا الانطباق القهري،فليس مرتبة للحكم يكون بيد المولي يعمّمه أو يخصّصه،أو يجري فيه الاستصحاب.

و بما ذكر ظهر النظر فيما أفاده النراقي رحمه اللّه و غيره،فلاحظ ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و غيره.

الأمر السادس:لا فرق بين اليقين المتعلّق بالحكم الذي يكون فعليّا أو معلّقا أو مشروطا في الاستصحاب.فعلي المختار من اعتبار أن يكون علي يقين لو لا طروء الشكّ ليصدق نقض اليقين بالشكّ يجري الاستصحاب لو كان كذلك.

فإذا نذر في يوم السبت أن يصوم يوم الجمعة بنحو الواجب المعلّق،أو نذر إن جاء ولده من السفر أن يصوم يوم الجمعة علي نحو الوجوب المشروط بمجيء المسافر،ثمّ شكّ في يوم الأحد أنّ والده حلّ نذره أم لا،بناء علي أنّ للوالد حلّ نذر ولده لا اشتراط انعقاده بإذته،جري استصحاب الالزام الحاصل من النذر.

و كذا لو أوصي أو دبّر ثمّ شكّ في أنّه هل رجع عن وصيّته أم لا؟بناء علي جواز الرجوع في الوصيّة.هذا في الشبهة الموضوعية.

و أمّا في الشبهة الحكمية،فلا يجري الاستصحاب علي المختار؛لأنّه إن احرز6.

ص: 256


1- فرائد الاصول ص 646.

من الدليل التعميم لجميع الأحوال فهو،و إلاّ فهو علي يقين و شكّ من أوّل الأمر، و لا يجري فيه الاستصحاب.

و من أمثلة الواجب المشروط ما لو شكّ المدرك لزماني حضور المعصوم و غيبته في وجوب صلاة الجمعة عليه،فإنّه يجري استصحاب الوجوب،بناء علي تعميمه للشكّ في المقتضي،مع أنّ وجوب الصلاة مشروط بدخول الوقت و هو مجيء الزوال.

و اورد عليه بأنّ استصحاب الوجوب إن دخل الوقت معارض باستصحاب عدمه قبل دخول الوقت.

أقول:علي المختار لا يجري استصحاب الوجوب؛لأنّ اليقين محدود بزمان حضور المعصوم.

و من الأمثلة المعروفة للإستصحاب التعليقي غليان الزبيب،فإنّه لا يجري فيه الاستصحاب علي المختار.و أمّا علي سائر المباني،ففي جريانه و عدمه قولان:

الأوّل:الجريان،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)؛لأنّ حرمة العصير العنبي عند الغليان كانت ثابتة في العنب،فيستصحب بقاؤها بعد صيرورته زبيبا،و الحرمة المذكورة كانت موجودة في العنب لا في غيره،و عبّر الشيخ عنها بأنّ سببيّة الغليان للحرمة كانت موجودة.

و أورد عليه في فوائد الاصول،فقال:و العجب من الشيخ رحمه اللّه حيث إنّه شدّد النكير علي من قال بجعل السببيّة و الملازمة،و مع ذلك ذهب إلي جريان استصحاب الملازمة في الاستصحاب التعليقي (2)انتهي.

و فيه أنّه صرّح في بحث الحكم التكليفي و الوضعي بأنّ سببيّة الدلوك لوجوب3.

ص: 257


1- فرائد الاصول ص 654.
2- فوائد الاصول ص 173.

الصلاة ليست إلاّ وجوب الصلاة عند الدلوك،و بأنّ سببيّة اتلاف الصبي لضمانه بعد البلوغ ليست إلاّ الوجوب المستفاد من قوله«أغرم ما أتلفته في صغرك»ففيما نحن فيه أيضا يكون كذلك.

الثاني:عدم الجريان،قال في المصباح:إنّ القيود ترجع إلي الموضوع،فمعني وجوب الحجّ إن استطاع هو وجوب الحجّ علي المستطيع،و كذا حرمة العنب إذا غلي ترجع إلي حرمة العصير المغليّ،و هذه الحرمة لم تتحقّق في الخارج كي يستصحب (1).

و فيه أنّ الشارع أنشأ الحكم علي العصير المغليّ،و المفروض أنّ العرف يري اتّحاد الزبيب مع العنب،فيستصحب حكم العصير المغليّ إلي الزبيب في مرحلة الجعل،ثمّ يكون التطبيق علي الخارج قهريّا.

ثمّ إنّه اورد علي استصحاب الحكم المعلّق أنّه معارض باستصحاب عدمه.

و اجيب عن المعارضة بوجهين:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)من حكومة استصحاب المعلّق علي المنجّز،أي:استصحاب وجوب صلاة الجمعة إن دخل الوقت علي استصحاب عدم وجوبها قبل دخول الوقت؛لأنّ الشكّ في وجوبها ناش عن بقاء الوجوب إلي زمان غيبة المعصوم.و كذا استصحاب حرمة العصير المغليّ حاكم علي استصحاب الاباحة؛لأنّ منشأ الشكّ في الحرمة و الاباحة شمول حكم العصير العنبي للزبيب المغليّ،فإذا جري الاستصحاب ارتفع الشكّ.

و اورد عليه بأنّ الشكّين في رتبة واحدة مسبّبان عن العلم الاجمالي بجعل الوجوب أو عدمه،و كلاهما مسبوقان باليقين.4.

ص: 258


1- مصباح الاصول 3:138.
2- فرائد الاصول ص 654.

الثاني:ما ذكره في الكفاية،قال:و بالجملة يكون الاستصحاب متمّما لدلالة الدليل علي الحكم فيما أهمل أو اجمل،كان الحكم مطلقا أو معلّقا،فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة.إلي أن قال:فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلّية،فإذا شكّ في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه شكّ في حلّيته المغياة لا محالة أيضا (1).

أقول:ليس حلّية الزبيب حلّية ثابتة للعنب،بل الزبيب حلال واقعي،و إن فرض كون العنب حراما،مع أنّه لو سلّم في المثال المذكور،فليس الأمر كذلك في جميع الموارد.

و ينبغي التنبيه علي أمرين:

الأوّل:أنّهم ذكروا أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري في الشبهة الموضوعيّة، و مثّلوا له بما لو كان الماء كرّا،فنقص منه ما يوجب الشكّ في بقائه علي الكرّية،فلا يحكم بطهارة متنجّس غسل فيه؛لاستصحاب تطهّره لو غسل فيه قبل أن ينقص منه شيء؛لأنّه لم يتحقّق شيء حتّي يكون متيقّنا و يستصحب بقاؤه بعد الشكّ فيه، فلا بأس باستصحاب عدم انغساله بالكرّ.

الثاني:أنّ المثال المعروف خارج عن مسألة التعليقي؛لأنّ الزبيب ليس له ماء.

و فيه أنّ الموضوع للحرمة و لو بمناسبة الحكم و الموضوع هي الحلاوة الباقية في الزبيب،و لذا ربّما لا يحتاج إلي الاستصحاب.

الأمر السابع:لا شكّ في عدم نسخ شريعتنا،و أنّ كلّ حكم ثبت من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السّلام،فهو باق إلي أن يعلم بيان تخصيص الحكم من المعصوم المتأخّر.8.

ص: 259


1- كفاية الاصول ص 468.

و أمّا الحكم الثابت في الشرائع السابقة إن شكّ في نسخه بهذه الشريعة،ففي استصحابه و عدمه و جهان،المختار عدم جريانه؛لاحتمال اختصاص الحكم بأهل تلك الشرائع،فلا يقين بالحكم لو لا طروء الشكّ،و هو معتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ،كما تقدّم.

و أمّا علي مختار القوم و تعميم الاستصحاب للشكّ في المقتضي،فلا بأس بجريانه.

و نوقش فيه من وجوه:

أحدها:تبدّل الموضوع.

و فيه أنّه لا دخالة لخصوصية الأشخاص في الحكم،بل الحكم متعلّق بالمكلّف، و هو باق عرفا،مضافا إلي أنّه قد لا ينقرض أهل الشريعة السابقة،بل يبقي طائفة منهم يدركون الزمانين.

ثانيها:العلم الاجمالي بنسخ بعض الأحكام.

و فيه أنّ المتيقّن هو المقدار المعلوم نسخه،و يكون ما عداه مشكوكا و ليس طرفا للعلم.

ثالثها:ما في مصباح الاصول من أنّ النسخ بمعني الدفع،أي:بيان أمد الحكم، فمرجع الشكّ إلي سعة المجعول وضيقه،و احتمال سعته و شموله لغير أهل الشرائع السابقة،يكون من الشكّ في التكليف ابتداء،إلي آخر ما أفاده (1)،فلاحظ كلامه.

قلت:بناء علي صدق وحدة الموضوع يكون من الاستصحاب في الشكّ في المقتضي،فعلي القول بجريانه ينبغي القول به،و يكون معارضا لاستصحاب عدم7.

ص: 260


1- مصباح الاصول 3:147.

جعل الوجوب علي من لم يدرك الشريعة السابقة.

رابعها:أنّه لم يبق حكم لم يشرعه نبيّنا ليستصحب من الشرائع السابقة،فإنّه روي عنه صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال:ما من شيء يقرّبكم إلي الجنّة إلاّ أمرتكم به،و ما من شيء يبعدّكم عن النار إلاّ نهيتكم عنه.و مقتضاه نسخ جميع الشرائع السابقة.

و فيه أنّ من أحكام هذه الشريعة عدم نقض اليقين بالشكّ،فهو نظير تقليد الميّت بالتقليد عن الحيّ المفتي بجواز تقليد الميّت.

تتمّة:لا يخفي أن مكارم الأخلاق و الأفعال القبيحة بالذات أو الحسنة كذلك، امور لا تختلف فيها الشرائع،و لذا ورد في أخبارنا أنّ المسيح عليه السّلام قال كذا،و انّ الشيطان قال ليحيي عليه السّلام كذا.و منه ما حكي عن الامام الحسن العسكري عليه السّلام من شقّ ثوبه علي أخيه السيّد محمّد،حيث أجاب عن المعترض عليه بأنّ موسي عليه السّلام قد شقّ ثوبه علي أخيه هارون،فإنّ الغرض من الحكاية أنّ هذا الفعل لو كان قبيحا لم يفعله نبي اللّه موسي عليه السّلام،و لا ربط له بالاستصحاب.

الأمر الثامن:المستفاد من الأخبار التي استدلّ بها علي الاستصحاب هو التعبّد بمثل الحالة السابقة فيما كان بيد الشارع وضعه و رفعه،بلا واسطة أمر غير شرعي و لا إطلاق لها يشمل الأثر الشرعي المترتّب علي الأمر الغير الشرعي،فإذا شكّ في حياة زيد الملفوف باللحاف،فاستصحاب حياته يجري لترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة علي حياته من عدم جواز تزويج زوجته،و عدم جواز التصرّف في أمواله.

و إن قدّ اللحاف المذكور مع من فيه بنصفين،فاستصحاب حياة زيد الملفوف لا يثبت كون القدّ قتلا و القادّ قاتلا؛لأنّ القتل هو إزهاق روح الحيّ واقعا، و الاستصحاب لا يثبت الحياة الواقعيّة،بل مجرّد التعبّد بكونه حيّا ظاهرا،و هذا واضح.

ص: 261

ثمّ إنّ جميع الامور التعبّدية تابعة لمقدار التعبّد،فإذا قامت البيّنة علي أنّ زيدا شرب الخمر،ثبت بها نجاسة فمه و غيرها من الآثار الشرعيّة،و لكن لا يثبت بذلك سكره؛لأنّه ليس بيد الشارع بل هو أمر تكويني،فإذا كان للسكر أثر شرعي لم يترتّب لعدم ثبوته،فلا فرق بين الأصل و الأمارة في أنّ المتّبع مقدار دلالة دليل حجّيتهما،إلاّ إذا كان شرب الخمر مستلزما للاسكار بحيث لم ينفكّ عنه،فيكون الاخبار عن شربه إخبارا عن سكره.

ثمّ إنّ الاستصحاب كما تقدّم أصل تعبّدي؛لأنّه يجري فيما إذا ظنّ ظنّا قويّا علي خلاف الحالة السابقة،فلو ظنّ المتطهّر ظنّا قويّا لم يبلغ حدّ الاطمئنان أنّه قد نام،فإنّه يستصحب الطهارة،بل الاطمئنان إن لم يطلق عليه اليقين عرفا لا يكون ناقضا،و فيه إشكال.

و الفرق بين الأصل و الأمارة أنّ لسان الأوّل جعل الحكم في مورد عدم العلم بالواقع في نفسه من دون نظر إلي الواقع،بل و حتّي لو خالف الواقع.و لسان الثاني جعل الحجّية في مورد عدم العلم بالواقع بعنوان أنّه الواقع لا في مقابل الواقع.

و أشار إلي ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إنّ المراد بالدليل الاجتهادي كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث انّها تحكي عن الواقع و تكشف عنه بالقوّة، و تسمّي في نفس الأحكام أدلّة اجتهاديّة،و في الموضوعات أمارات معتبرة،فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظر إلي الواقع،أو كان ناظرا لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة،بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع،فليس دليلا اجتهاديا،بل هو من الاصول،و إن كان مقدّما علي بعض الاصول الاخر،و الظاهر أنّ الاستصحاب و القرعة من هذا القبيل،إلي آخر ما أفاده (1).4.

ص: 262


1- فرائد الاصول ص 704.

نعم النتيجة بين الأصل و الأمارة واحدة فيما إذا لم يكن الاخبار عن الشيء منحلاّ إلي الاخبار عنه و عن لازمه،و أمّا إذا كان كذلك ترتّب الأثر المترتّب علي لازمه.و لكن ذكر صاحب الكفاية في مبحث الاجزاء أنّ الأمر الظاهري إن كان مفاد الأصل يجزيء؛لأنّه حكم ظاهري يوسّع الحكم الواقعي.و إن كان مفاد الأمارة لم يجزيء؛لأنّه يحكي عن الواقع.و تقدّم الكلام عليه.

و أمّا ما يقال من أنّ المجعول في الاستصحاب الطريقيّة و اعتبار غير العالم عالما بالتعبّد،فإنّه الظاهر من الأمر بإبقاء اليقين و عدم نقضه بالشكّ،فلا فرق بين الأمارة و الاستصحاب من هذه الجهة،بل التحقيق أنّ الاستصحاب أيضا من الأمارات،و لا ينافي ذلك تقديم الأمارات عليه إلي آخر ما أفاده (1).ففيه أنّ التحقيق أنّ الاستصحاب أصل تعبّدي،و أنّ المجعول في الأمارات ليس علما، و قد تقدّم بيانه في بحث الأمارات.

ثمّ إنّه استدلّ بوجهين لثبوت الأثر المترتّب علي الواسطة غير الشرعية، و هو المسمّي عندهم بالأصل المثبت:

الأوّل:أنّ الأثر الشرعي يثبت بالاستصحاب،سواء كان مع الواسطة أو بدونها.

و فيه نظر؛لأنّ الأثر الشرعي مع الواسطة إنّما يثبت إذا ثبتت الواسطة؛لأنّه متفرّع عليها.

الثاني:أنّ التعبّد بثبوت الشيء يكون تعبّدا به و بلوازمه.

و فيه أنّ اللازم ليس مورد التعبّد.

ثمّ إنّه استثني من عدم حجّية مثبتات الاصول مواضع:

الأوّل:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:إنّ بعض الموضوعات الخارجية4.

ص: 263


1- مصباح الاصول 3:154.

المتوسّطة بين المستصحب و بين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما للمستصحب.

إلي أن قال:و كيف كان فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي و العقلي بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب (1).و ارتضاه في الكفاية.

و أورد عليه في المصباح (2)بأنّه فرق بين المسامحات العرفيّة و الانفهام العرفي من اللفظ،و الاولي ليست حجّة و ما نحن فيه منها.

أقول:و هو جيّد،و لكن ذكر صاحب الكفاية في تعليقة الرسائل أنّ ذلك ليس من المسامحات العرفيّة،بل من باب الانفهام من اللفظ.

أقول:يريد أنّ خطاب«لا تنقض اليقين بالشكّ»حيث إنّه إلي العرف،فما فهمه العرف هو المتّبع،و العرف يفهم من الخطاب مع خفاء الواسطة ترتيب الأثر.

الثاني و الثالث:ما ذكره في الكفاية،قال:كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه و بين المستصحب تنزيلا،كما لا تفكيك بينهما واقعا أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثرا لهما الخ (3).

و مثّلوا لما ذكره بالعلّة و المعلول و بالمتضايفين.

و اورد عليه بأنّ اليقين بأحدهما مستلزم لليقين بالآخر،فيجري الاستصحاب فيه.

الرابع:استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ،معناه أنّ غده أوّل شوّال، فالواسطة خفية.

لكن قال في مصباح الاصول:إنّ استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الثلاثين3.

ص: 264


1- فرائد الاصول ص 664.
2- مصباح الاصول 3:159.
3- كفاية الاصول ص 473.

لا ثبات كون اليوم الواحد و الثلاثين يوم العيد يكون مثبتا؛لأنّ أوّل شوّال أمر بسيط منتزع عن ذهاب شهر رمضان واقعا،لكن يجري الاستصحاب بنحو لا يكون من الأصل المثبت،بتقريب أنّه بعد مضيّ دقيقة من اليوم الذي نشكّ في أوليّته نقطع بدخول أوّل الشهر،لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقيا،أو اليوم الذي قبله ليكون ماضيا،فنحكم ببقائه بالاستصحاب (1).

و فيه نظر واضح؛لأنّه في آن أوّل الدقيقة يعلم إجمالا أنّ اليوم الماضي أوّل شوّال أو هذا اليوم،فهذا من موارد العلم الاجمالي،و الشكّ الموجود ليس شكّا في البقاء،بل هو شكّ في أطراف العلم الاجمالي.

و بعبارة اخري:لا يشكّ في البقاء؛لأنّه كان في أوّل شوّال بالأمس،فلا معني لإبقائه،أو في هذا اليوم متي كان هذا اليوم أوّل شوّال.

و ذكر في الكفاية أنّ الأثر المترتّب علي الكلّي المحمول علي الشيء بالحمل الذاتي أو الخارج عن الشيء المحمول عليه لا بالضميمة يترتّب علي استصحاب الفرد،و ليس بمثبت لاتّحاد الفرد مع الكلّي (2).

و فيه ما تقدّم من أنّ وجود الكلّي عين وجود الفرد،و يختلف باللحاظ،فإن لوحظ من حيث إنّ له مماثلا فهو الكلّي،و إن لوحظ من حيث هو هو يكون فردا، و الأثر إن كان مترتّبا علي الكلّي،فلا بدّ من استصحابه باللحاظ الأوّل.و إن كان مترتّبا علي الفرد،فلا بدّ من استصحابه باللحاظ الثاني،فإن كان الشكّ في موت زيد ليقسم ميراثه،فيستصحب بقاء الجزئي أعني زيدا.و إن كان الأثر مترتّبا علي الانسان،فاستصحاب بقاء زيد و هو الانسان مع خصوصيّاته لغو.

الأمر التاسع:يعتبر في التعبّد بالاستصحاب أن يكون بيد الشارع وضعا و رفعا،4.

ص: 265


1- مصباح الاصول 3:165.
2- كفاية الاصول ص 474.

فلا بأس باستصحاب الوجوب؛لأنّ الشارع يوجب و يحرّم و إن ترتّب عليه وجوب الامتثال عقلا،و هذا داخل في الأمر الثامن.

الأمر العاشر:يعتبر في التعبّد بالاستصحاب أن يكون له الأثر بقاء،فلا يعتبر أن يكون له أثر حدوثا؛لأنّ التعبّد بما لا أثر لوجوده التعبّدي لغو،فلا بدّ من أن يكون له أثر شرعا،و يكفي وجوده حين التعبّد،و هو في مرحلة البقاء.

الأمر الحادي عشر:في استصحاب العدم،و له أقسام:

الأوّل:أن يكون الأثر لوجود شيء بمفاد كان التامّة،فإذا شكّ في وجوده جري استصحاب العدم لنفيه.

الثاني:أن يكون الأثر لعدم الوجود بمفاد ليس التامّة،فإذا شكّ في الوجود جري استصحاب العدم لإثبات الموضوع،و هو عدم الوجود.

الثالث:أن يكون الأثر لاتّصاف شيء بصفة وجوديّة أو عدميّة،فإن كان الاتّصاف بالوجود متحقّقا سابقا،كما إذا كان زيد قائما قبل ذلك،أو كان الاتّصاف بالعدم متحقّقا سابقا،كما إذا كان زيد متّصفا بعدم القيام،فلا إشكال في جريان استصحاب الوجود في الأوّل،و استصحاب العدم في الثاني.

و أمّا إذا لم يكن الاتّصاف موجودا لعدم وجود الموضوع،ففي جريان استصحاب العدم و هو المسمّي باستصحاب العدم الأزلي و عدمه قولان:

الأوّل:الجريان،قال في الكفاية:إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة،فهي و إن كانت وجدت إمّا قرشيّة أو غيرها،فلا أصل يحرز أنّها قرشيّة أو غيرها،إلاّ أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها و بين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلاّ إلي خمسين (1)انتهي موضع الحاجة.1.

ص: 266


1- كفاية الاصول ص 261.

أقول:الأحكام تجري علي الموضوعات الخارجيّة،فقوله«كلّ امرأة»يعني كلّ امرأة موجودة خارجا تحيض إلي خمسين إلاّ امرأة موجودة منسوبة إلي قريش،و هذه العبارة معناها تنويع المرأة إلي قرشيّة و غير قرشيّة،و لا حالة سابقة لهذه المرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة.

توضيحه:أنّ استصحاب عدم القرشيّة يكون علي ثلاثة أوجه:

الأوّل:عدم وجود المرأة القرشية،مثلا كان عدد النساء القرشيات ألف نسمة، و بعد وجود هذه المرأة يشكّ في أنّ عددهنّ صار واحدة و ألفا،فيستصحب عدم وجود امرأة قرشية اخري و بقاء الألف.

الثاني:عدم وجود المرأة القرشية المخصوصة التي هي بنت فلان مع جميع الخصوصيات الموجودة في هذه المرأة حيث يشكّ إنّها وجدت أم لا؟و هذه أيضا لها حالة سابقة،فيستصحب عدم وجود المرأة القرشيّة بهذه الأوصاف.

الثالث:إذا كان الشكّ في أنّ هذه الموجودة خارجا التي يشار إليها بالاشارة الحسّية هل هي قرشية أم لا؟و هذه ليست لها حالة سابقة؛لأنّ هذه الموجودة قبل وجودها لا معني لأن تكون قرشية أو غير قرشية،و قد تقدّم بيان عدم الجريان في باب العامّ و الخاصّ.

هذا كلّه إذا كان الشكّ في وجود الشيء،و مثله الشكّ في مبدء وجوده،فلو علم كون زيد ميتا يوم الجمعة،لكن شكّ في مبدئه،فالأصل عدمه إلي يوم الجمعة،نعم لا يثبت الموت يوم الجمعة.

و أمّا إذا كان الشكّ في شيئين حدثا لم يعلم تقدّم أحدهما علي الآخر،أو تأخّره أو تقارنه،أو كان الشكّ في تقدّم احدي الحالتين لشخص علي الاخري، فيقع الكلام في مقامين:

أمّا المقام الأوّل:ففي الحادثين،و هما علي قسمين:

ص: 267

القسم الأوّل:أن يكون تاريخ وقوعهما مجهولا،و هو يتصوّر علي وجهين:

أحدهما:أن يكون الأثر مترتّبا علي الوجود،أي:علي تقدّم كلّ منهما علي الآخر،أو علي وجود كلّ منهما في زمان وقوع الحادث الآخر منهما.

ثانيهما:أن يكون الأثر مترتّبا علي العدم.

و الأوّل:إمّا أن يكون الأثر مترتّبا علي الوجود بمفاد كان التامّة،أو يكون الأثر مترتّبا علي الوجود بمفاد كان الناقصة.

و الثاني أيضا كذلك،فهذه أربعة أقسام،ذكرها في الكفاية (1)،و يمكن أن يكون الأثر لتقدّم أحدهما علي نحو الوجود المحمولي الذي هو مفاد كان التامّة،فيجري استصحاب عدمه،و يكون أثر الآخر لاتّصافه بالتقدّم،فلا يجري فيه استصحاب العدم؛لأنّه ليس له حالة سابقة.

بيان الوجوه:الأوّل:ما كان الأثر مترتبا علي الوجود بمفاد كان التامّة،كما إذا مات زيد و عمرو و كان الأثر لتقدّم موت زيد علي عمرو،فإنّ استصحاب عدم تحقّق تقدّم موت زيد علي عمرو يجري لنفي موضوع الحكم.و كذا الكلام إذا كان الأثر لحياة زيد في زمان موت عمرو،فإنّ استصحاب حياته يجري إلي زمان موت عمرو.

الثاني:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي اتّصاف موت زيد مثلا بكونه متقدّما،و لا يجري استصحاب العدم؛لأنّه ليس لعدمه حالة سابقة حتّي يستصحب العدم لنفي موضوع الحكم.

الثالث:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي اتّصاف موت زيد بعدم كونه متقدّما،و ليس له حالة سابقة ليستصحب لإثبات موضوع الحكم.7.

ص: 268


1- كفاية الاصول ص 477.

الرابع:ما إذا كان الأثر مترتّبا علي عدم موت زيد في زمان موت عمرو علي نحو العدم المحمولي،فيجري الاستصحاب لإثبات موضوع الحكم،و هو عدم موت زيد في زمان موت عمرو،و لكن إن كان لهما أثر تعارض الاستصحابان عند جماعة و لم يجريا عند صاحب الكفاية لعدم اتّصال زمان الشكّ باليقين.و إن كان الأثر لأحدهما جري الاستصحاب فيه،و لم يجر عند صاحب الكفاية.

و التحقيق عندي في جميع الأقسام عدم الجريان إن كان لهما أثر،و جريانه في الذي له أثر فيما إذا كان لأحدهما أثر في الوجود و العدم المحموليين،و لا يجري في الاتّصاف لعدم حالة سابقة له.

القسم الثاني:أن يكون تاريخ أحدهما معلوما،و كان لكليهما أثر،بحيث يجري الأصل في كلّ واحد لو كان وحده،فحينئذ يكون الطرفان طرفي العلم الاجمالي، و الأصل لا يجري في طرفي العلم الاجمالي إن كان لهما أثر،سواء استلزم المخالفة القطعية أو لم يستلزم،و أمّا إن كان الأثر لواحد منهما جري الأصل فيه فقط،فلو كان الأثر لوجود المعلوم تاريخه في حين وجود المجهول تاريخه، جري أصالة عدم وجود المعلوم كذلك بمفاد ليس التامّة،و لا يجري الأصل إن كان علي نحو مفاد ليس الناقصة،أو كان الناقصة.

و أمّا المجهول،فإن كان الأثر مترتّبا علي عدم تقدّم المجهول،أو عدم تقارنه، أو عدم تأخّره بنحو مفاد ليس التامّة،جري استصحاب عدمه.و إن كان الأثر مترتّبا علي عدم اتّصافه بأحد الثلاثة علي نحو مفاد ليس الناقصة لم يجر الاستصحاب لعدم الحالة السابقة،و استصحاب العدم الأزلي غير صحيح.

و إن كان الأثر مترتّبا علي عدم وجود المجهول في زمان المعلوم، فالاستصحاب يجري،فلو علم موت الابن يوم الخميس لكن لم يعلم موت الأب يوم الأربعاء أو يوم الجمعة،فاستصحاب حياة الأب يوم الخميس يجري،فهو

ص: 269

وارث حيّ علي إشكال في إجراء الاستصحاب لإثبات الارث.

و أمّا المقام الثاني:ففي تعاقب الحالتين علي موضوع واحد،كالطهارة و الحدث و الطهارة و النجاسة،فإن كانتا مجهولتي التاريخ اخذ بضدّ الحالة السابقة؛ لأنّها انتقضت قطعا باليقين بضدّها و يشكّ في انتقاضه أي الضدّ.فإذا كان متطهّرا أوّل الزوال،ثمّ علم بحدوث نوم و وضوء بعد الزوال،و كانا مجهولي التاريخ، فالطهارة التي كانت عند الزوال قد انتقضت بالنوم،لكن يشكّ في انتقاض النوم لاحتمال وقوع الوضوء قبله.

و اورد عليه بأنّه كما أنّ ضدّ الحالة السابقة وجد قطعا و هو مشكوك الارتفاع، كذلك الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة قطعي الوجود و مشكوك الارتفاع، فيستصحب و يقع التعارض و يتساقطان.

و فيه أنّ الحادث الآخر إن وجد قبل ضدّ الحالة السابقة،فلا أثر له و وجوده لغو لعدم تكرّر الحدث،و يتمحّض الشكّ في أنّه هل انتقض ضدّ الحالة السابقة أم لا؟ و مقتضي استصحاب ضدّ الحالة السابقة بقاؤه و عدم انتقاضه،و قوّاه في الجواهر.

و لكن ورد في خصوص مسألة الطهارة و الحدث عبارة في الفقه الرضوي، و هي:و إن كنت علي يقين من الوضوء و الحدث و لا تدري أيّهما أسبق فتوضّأ.

و حكي في الجواهر (1)عن القدماء الفتوي بهذا المضمون،فيحتمل وجود نصّ معتبر وصل إليهم،و في مثله نحتاط بعدم مخالفتهم.

و إن كان تاريخ احداهما معلوما،جري استصحاب المعلومة،فإذا علم أنّه كان متطهّرا أوّل الزوال،و علم أنّه نام و لم يعلم أنّه نام قبل الزوال أو بعده،فهو عند الزوال متطهّر،كالمخلوق متطهّرا عند الزوال،و لا اعتبار بالحدث قبل الزوال،0.

ص: 270


1- جواهر الكلام 2:350.

و وجوده و عدمه سيّان،فلا يقول:إنّي حين النوم كنت محدثا و أستصحب بقاء الحدث ليعارض استصحاب الطهارة؛لأنّ اليقين بالحدث إمّا قبل الزوال أو بعده لا معني لبقائه؛لأنّ ما قبل الزوال قد انتقض قطعا بالطهارة عند الزوال،فيكون احتمال نقض الطهارة المعلومة عند الزوال احتمالا بدويّا،و يجري استصحاب الطهارة الحاصلة عند الزوال.

و بعبارة اخري:من تطهّر عند الزوال،فهو مثل من خلقه اللّه متطهّرا عند الزوال، لا يلاحظ فيه حالته قبل الزوال،و ذلك من البديهيّات،و ضمّ الحالة قبل الزوال إلي ما بعد الزوال كضمّ الحجر إلي جنب الانسان،و الظاهر أنّه واضح جدّا،إلاّ عند من يقول بالفرق بين من خلق عند الزوال متطهّرا،و بين من كان متطهّرا عند الزوال و كان مخلوقا قبل الزوال.

و في المسألة أقوال اخر:

الأوّل:أصالة تأخّر المجهول،فيكون محدثا في المثال المذكور.و حكاه في الجواهر عن السيّد بحر العلوم،و قال في منظومته:

فإن يكن يعلم كلاّ منهما مشتبها عليه ما تقدّما

فهو علي الأظهر مثل المحدث إلاّ إذا عيّن وقت الحدث

كما إذا علم أنّه كان محدثا عند الزوال و علم بوضوء إمّا قبله أو بعده،فيجري أصالة تأخّر المجهول و هو الوضوء،فلذا لا يكون مثل المحدث.

و فيه أنّ أصالة التأخّر لا تثبت وقوع الحدث بعد الطهارة المعلومة في المثال المذكور،و كذا في المثال الذي ذكره،أصالة تأخّر الوضوء لا يثبت كونه متوضّئا.

الثاني:تعارض استصحاب الحدث و استصحاب الطهارة،و هو مقتضي إطلاق بعض فتاوي الأصحاب،و نسبه في الجواهر إليهم.

و فيه منع واضح جدّا؛لما ذكرنا من أنّ المتطهّر عند الزوال كالمخلوق متطهّرا

ص: 271

عنده،و قد انتقض اليقين بالحدث قبل الزوال باليقين بالطهارة عند الزوال، و ينحصر الأمر في اليقين بالطهارة و الشكّ في الحدث بعدها،فيجري استصحاب الطهارة.

الثالث:الأخذ بمثل الحالة السابقة،نسبه في الجواهر إلي العلاّمة في بعض كتبه.

تتميم:

إنّ ما ذكرنا من الأخذ بضدّ الحالة السابقة في مجهولي التاريخ و استصحاب المعلوم في معلومه حكم المسألة في نفسها إذا لم يكن أثر خاصّ يوجب التعارض،فلو كان أوّل الصبح متطهّرا و صلّي و تطهّر عند الزوال و صلّي،ثمّ علم بحدث قبل الصلاة الاولي أو قبل الصلاة الثانية،وجب إعادة الصلاتين، و الاستصحابان متعارضان؛لأنّ استصحاب الطهارة إلي الزوال مع استصحاب الطهارة من الزوال إلي الغروب مخالفان للعلم الاجمالي ببطلان احدي الصلاتين، فلا يجريان في المعلوم،أي:الطهارة عند الصباح و عند الزوال.

الأمر الثاني عشر:لا يجري الاستصحاب إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب؛لعدم اليقين بالوجوب لو لا طروء الشكّ.

الأمر الثالث عشر:قيل:إن شكّ في اعتبار وجود شيء في المأمور به لشبهة حكميّة فتركه،أو مانعيّة شيء لشبهة حكميّة فأتي به،جري استصحاب الصحّة، مثلا إن شكّ في وجوب السورة فتركها و ركع،يجري استصحاب صحّة الأجزاء التي أتي بها.

و فيه أنّ الأجزاء صحيحة لا معني لاستصحاب صحّتها؛لأنّ الجزء ليس مشروطا بلحوق الجزء الآخر،فإن ترك الركوع في الصلاة بطلت الصلاة لا لبطلان الفاتحة.نعم لو كان المانع شرطا في صحّة الجزء جري الاستصحاب،و هذا مراد

ص: 272

الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)من التفصيل بين المانع و القاطع،كما هو صريح كلامه.

و أمّا علي المختار فالشبهة في كليهما حكمية و لا يجري الاستصحاب.

و لذا لو شكّ في كون السورة جزء و تركها،لم يجر استصحاب صحّة الأجزاء السابقة؛لعدم اليقين لو لا الشكّ.و لا فرق في ذلك بين الهيئة الاتّصاليّة للصلاة و غيرها؛لأنّ الشبهة حكميّة،و اختار الشيخ رحمه اللّه التفصيل بينهما،فأجري الاستصحاب في الأوّل؛لأنّ الهيئة الاتّصاليّة شرط للأجزاء،هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

و أمّا لو شكّ في وقوع مبطل لشبهة خارجيّة،فيجري الاستصحاب؛لأنّه علي يقين لو لا طروء الشكّ،كما لو شكّ في أنّه تكلّم بكلام آدمي.

الأمر الرابع عشر:لا فرق في الأثر المترتّب شرعا بين العمل بالجوارح أو بالجوانح،فإذا كان علي يقين لو لا طروء الشكّ فشكّ،جري الاستصحاب لترتيب الأثر الاعتقادي الجوانحي،مثلا كان الحسد حراما،فلو شكّ في بقاء حرمته استصحب حرمته.و أمّا إذا كان المطلوب اليقين المأخوذ في الموضوع،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّ الشكّ ينافيه.و لو سلّم جريان الاستصحاب،فلا يجري فيما إذا لم يكن الشكّ طارئا.

و من ذلك يظهر عدم جريان استصحاب نبوّة موسي و عيسي عليهما السّلام؛لأنّ اليقين بنبوّتهما محدود من الأوّل.

ثمّ إنّ هذا مماشاة مع الخصم،و إلاّ فحجّية الاستصحاب ثابتة من أخبارنا الموقوفة علي الاعتراف بنبوّة نبيّنا،و أمّا حجّيته من باب الظنّ،فإنّه لا يفيد ظنّا فضلا عن أن يكون حجّة.1.

ص: 273


1- فرائد الاصول ص 670-671.

ثمّ إنّهم أجابوا عن استصحاب نبوّة عيسي عليه السّلام بأجوبة مذكورة في فرائد الشيخ رحمه اللّه (1)،فلاحظ.

و روي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال:أنا مقرّ بنبوّة عيسي و كتابه و ما بشّر به امّته و أقرّ به الحواريّون،و كافر بنبوّة كلّ عيسي لم يقرّ بنبوّة محمّد صلّي اللّه عليه و آله و كتابه و لم يبشّر به أمّته الحديث (2).

فقد يناقش فيه بأنّ عيسي عليه السّلام فرد خارجي و ليس كلّيا.

قلت:يمكن توجيه الخبر بأنّه لو فرض أنّ عيسي عليه السّلام الذي نتّفق عليه لم يبشّر بنبوّة نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله،فإنّا لا نعترف بنبوّته،كقوله تعالي وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (3)الآية،مع أنّه لا يتقوّل أبدا،و عيسي عليه السّلام قد بشّر قطعا بخاتم النبيّين محمّد صلّي اللّه عليه و آله.

الأمر الخامس عشر:إذا خصّص العامّ،أو قيّد المطلق،و شكّ في مقدار زمان خروج المخصّص أو المقيّد،ففي استصحاب المخصّص أو المقيّد،أو الرجوع إلي العامّ،تفصيل عند الاصوليّين،و هو أنّ الزمان إن اخذ علي نحو يكون كلّ زمان فردا للعامّ علي نحو العموم الاستغراقي.مثل أنّه وجب صوم شهر رمضان كلّ يوم، فإذا خصّص بعض الأيّام،فلم يجب الصوم للمرض،لكن شكّ في أنّ المراد من المرض هل هو خصوص المرض الذي يضرّه الصوم ضررا كثيرا،أو يعمّ الضرر اليسير،فإذا أفطر يوما لمرض يضرّه الصوم كثيرا،ثمّ صار المرض في اليوم الذي بعده يضرّه الصوم يسيرا،فهل يستصحب جواز الافطار،أم يرجع إلي عموم وجوب صوم كلّ يوم من شهر رمضان؟الظاهر وجوب الصوم؛لكون الدليل4.

ص: 274


1- فرائد الاصول ص 673.
2- عيون أخبار الرضا 1:128.
3- سورة الحاقّة:44.

اللفظي و هو العموم محكّما،و لا ينتهي الأمر إلي الاصول العمليّة من استصحاب و غيره.

و إن اخذ الزمان علي نحو يكون التكليف واحدا مستمرّا لا انحلال له بعدد أفراد الزمان في الاطاعة و العصيان،فإن خرج فرد عن العموم و شكّ في مقدار زمان خروجه،فلا يرجع إلي العام لعدم دلالته علي حكمه،و يرجع إلي الاصول العمليّة من استصحاب أو غيره.مثلا قوله تعالي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يدلّ علي وجوب الوفاء بكلّ عقد مستمرّا في الزمان،فإذا خرج البيع المغبون من عموم وجوب الوفاء في أوّل زمان الاطّلاع و شكّ في امتداد الخيار إلي آخر زمان إمكان الوفاء بالعقد،فلا يرجع إلي عموم وجوب الوفاء بكلّ عقد؛لأنّ هذا العقد خرج عن العموم،و لا وجه لدخوله في العموم بعد خروجه.

ثمّ إنّ المفروض في هذه المسألة الشكّ في مقدار المخصّص،فيكون الشبهة حكميّة،و لا محلّ لهذا البحث؛لعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة.

ثمّ إنّ محلّ الكلام هو تعيين صغري الرجوع إلي العامّ أو المخصّص،و لا نظر إلي مورد لم يجر استصحاب المخصّص لمانع آخر،و هو عدم اتّحاد الموضوع، فتقسيم صاحب الكفاية (1)إلي أربعة أقسام ليس دخيلا في المطلوب المبحوث عنه.

و ما ذكره من التفصيل بين الخروج في الابتداء أو في الأثناء،ليس علي إطلاقه،لأنّه لو علم الخروج في الجملة و الدخول بعد الخروج،فلا فرق بين الابتداء و الأثناء،و إن علم الخروج و الدخول بعده،لكن لم يعلم مقدار الخروج، ففي إجراء الاستصحاب إلي زمان العلم بالدخول،أو الرجوع إلي العامّ؛لأنّ المخصّص المنفصل المجمل يرجع إلي العموم في مقدار إجماله علي مبني القوم،3.

ص: 275


1- كفاية الاصول ص 483.

و جهان،و لا يبعد الرجوع إلي الاستصحاب؛لأنّ العموم ليس أزمانيّا،و لذا لا يكون زيادة الخروج تخصيصا زائدا،و إن لم يعلم الدخول بعد خروجه،فلا فرق أيضا بين الابتداء و الأثناء،فلاحظ.

الأمر السادس عشر:الشكّ المأخوذ موضوعا للاستصحاب هو عدم اليقين أو عدم الاطمئنان،بناء علي عدّه يقينا عرفا،فلو ظنّ قويّا علي خلاف الحالة السابقة استصحبها،كما يستصحب لو شكّ فيها،لقوله«لا حتّي يستيقن حتّي يجيء من ذلك أمر بيّن»و قوله«بل ينقضه بيقين آخر»و إبقاء ما كان مع الظنّ القوي علي خلافه،لا يكون إلاّ تعبّدا بالبقاء،و سيرة العقلاء لو لم تكن علي خلافه فليست علي وفاقه.

الأمر السابع عشر:يعتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة.

أمّا علي المختار من أنّ معني عدم نقض اليقين بالشكّ،هو عروض الشكّ علي اليقين،بحيث لو لا عروضه كان اليقين باقيا،و يكون العمل بالشكّ نقضا لليقين، فيعتبر الوحدة بالدقّة العقليّة؛لأنّه إذا اختلف الموضوع لبعض الجهات لم يكن اليقين يبقي لو لا عروض الشكّ،فيكون علي يقين و شكّ من الأوّل،فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ،فالماء المتغيّر بالنجاسة متنجّس،و المكلّف علي يقين من نجاسته إلي زوال التغيّر بنفسه،و علي شكّ من طهارته بعد زواله بنفسه من الأوّل، لا أنّه علي يقين من نجاسته لو لا عروض الشكّ.

و أمّا علي مختار الأصحاب،فهل المدار علي الوحدة عقلا،أو الوحدة بحسب لسان الدليل،أو الوحدة عرفا؟و يختلف جريان الاستصحاب علي هذه الوجوه.

أمّا علي اعتبار الوحدة عقلا،فقال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الموضوع إن اخذ من العقل،فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة

ص: 276

الرافع ذاتا أو وصفا،و فيما كان من جهة مدخليّة الزمان،نعم يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها (1)انتهي.

و يعني بالرافع ذاتا ما هو كالملكيّة المرفوعة بالبيع و نحوه.و بالرافع وصفا رافعيّة المذي للوضوء،فإنّه من الشكّ في رافعيّة الموجود.

و فيه أنّ الموضوع غير متّحد عقلا في الشكّ في رافعيّة الموجود.

و أمّا اعتبار وحدة الموضوع علي حسب لسان الدليل،فهو في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ الشبهة الموضوعيّة لا ربط لها بالدليل.

قيل في بيان ذلك:إنّه يلاحظ الموضوع المأخوذ في الدليل،فيفرق بين قوله «الماء المتغيّر نجس»و بين قوله«الماء ينجس إذا تغيّر»فإنّ المعني و إن كان لا يختلف إلاّ انّ الأوّل ظاهر في كون التغيّر قيدا للماء،فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغيّر،و الثاني ظاهر في كون التغيّر علّة لعروض النجاسة علي الماء،فيكون الموضوع ذات الماء (2).

أقول:إن فهم العرف من الدليل ما هو موضوع الحكم،فلا يحتاج إلي الاستصحاب،و إن لم يفهم،فلا وجه للرجوع إلي الدليل،إلاّ أن يقال:إنّ المراد ما يتسامح فيه العرف أنّه موضوع الدليل،و إن لم يكن مشمولا للدليل،لكن لا وجه له.

و أمّا أخذ وحدة الموضوع من العرف،فإن اريد به العرف العامّ،فهو لا يدري ما هو موضوع الحكم الشرعي،إلاّ أن يراد الموضوع العرفي لو كانت القضيّة عرفيّة، بأن يفرض الحكم الشرعي حكما عرفيّا،و يكون موضوعه كموضوع الحكم الشرعي.5.

ص: 277


1- فرائد الاصول ص 693.
2- فوائد الاصول 4:215.

و إن اريد عرف المتشرّعة،فهم مقلّدون لا اعتبار بما هو المرتكز في ذهنهم، و لا طريق إلي ما هو المرتكز في أذهان عرف المتشرّعة في حال صدور الأخبار.

ثمّ إنّ أقوي الاحتمالات عندهم هو أخذ الموضوع من العرف،و استدلّوا علي أنّ الاعتبار بنظر العرف بأنّ الوحدة لا يمكن أن تعتبر بالأنظار الثلاثة لعدم الجامع بينها،فلا بدّ من اعتبار أحدها،و حيث إنّ الخطاب متوجّه إلي العرف،فلا بدّ أن ينزل علي ما يفهمون منه؛لأنّ خطاب«لا ينقض»متوجّه إلي العرف العامّ،فما صدق عليه نقض اليقين بالشكّ عرفا فهو موضوع الاستصحاب،كسائر الموارد ممّا يستظهرونها من الخطاب.

و ليعلم أنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهة المفهوميّة بالمعني الأعمّ،حتّي علي القول بجريانه في الشبهة الحكميّة؛لأنّ الاستصحاب عبارة عن اليقين بشيء شكّ في بقائه،فلا بدّ أن يكون موضوع الحكم معلوما،مثلا موضوع الحكم في قوله «الماء متنجّس إذا تغيّر»هو الماء،و التغيّر يعتبر من حالات الماء،و يشكّ في أنّ العلّة للتنجّس و هي التغيّر هل هي علّة حدوثا و بقاء،أو حدوثا فقط،فيجري استصحاب النجاسة؛لأنّ الموضوع الماء و التغيّر يعدّ من الحالات عرفا.

و أمّا إذا لم يعلم الموضوع من الأوّل،و كانت الشبهة مفهوميّة،كالمغرب المردّد بين سقوط القرص و ذهاب الحمرة،و الفاسق المردّد بين مرتكب الكبيرة و الأعمّ منها و مرتكب الصغيرة،ففي هذه الموارد لا يجري الاستصحاب في الموضوع و لا الحكم.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:أمّا عدم جريانه في الموضوع،فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا تثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة إلاّ بناء علي القول بالأصل المثبت،كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة لكرّية المشكوك بقاؤه علي الكرّية.

ص: 278

و أمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا،فهي في معني استصحاب الحكم؛لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.

و أمّا عدم جريان استصحاب الحكم،فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه،و بقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به أوّلا حتّي يكون إثباته إبقاء و نفيه نقضا (1)انتهي.

أقول:و يلحق بالشبهة المفهوميّة ما إذا لم يعلم أنّ النجاسة الثابتة للكلب هل هي للكلب بوصف كونه حيوانا،أو الأعمّ منه و ممّا استحال إليه و صار ملحا.و علي المختار عدم جريان الاستصحاب واضح في الشبهة المفهوميّة و ما الحق بها؛لأنّه ليس علي يقين يبقي لو لم يعرضه الشكّ في البقاء،بل هو علي يقين و شكّ من أوّل الأمر.

الأمر الثامن عشر:يعتبر في صدق نقض اليقين بالشكّ أن يكون الشكّ في البقاء،فإذا كان الشكّ ساريا إلي اليقين و موجبا لزواله،فليس من الاستصحاب، بل إن صحّ القول بالعمل باليقين فهو قاعدة اخري،و هي حدوث اليقين بشيء ثمّ زواله بالشكّ،بحيث زال اليقين،و يمكن أن يستدلّ له بأمرين:

الأوّل:قوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»بأن يكون معناه لا تنقض اليقين بالشكّ الساري إليه،أو يكون أعمّ من الشكّ في البقاء و من الشكّ الساري و شاملا لكليهما.

و فيه أوّلا:أنّ الموضوع في قوله«لا ينقض اليقين بالشكّ»هو اليقين،و لفظ اليقين كسائر الألفاظ إنّما يطلق علي مصداقه الحقيقي،فيطلق لفظ«الماء»علي ما2.

ص: 279


1- فرائد الاصول ص 692.

يكون ماء حقيقة،لا علي ما توهّم أنّه ماء،فكذلك اليقين لا يطلق إلاّ علي ما هو يقين واقعا،و اليقين في مورد قاعدة اليقين ليس يقينا واقعا،بل هو توهّم اليقين و قد زال بالشكّ،فلا يطلق عليه اليقين بعد زواله بالشكّ.

علي مبني صاحب المفاتيح كما مرّ خصوصا إذا حدث اليقين و زال بالشكّ في أقلّ من نصف دقيقة مثلا

و ثانيا:أنّ النقض عبارة عن هدم أمر محقّق،فلا بدّ من وجود اليقين،و يكون الشكّ هادما له،كالبناء الذي ينقض،و الشكّ الساري لا يكون ناقضا لليقين،بل يكون رافعا له من رأس.

الثاني:قوله في الخبر المروي في الخصال«من كان علي يقين فشكّ فليمض علي يقينه»فإنّه يصدق أنّه كان علي يقين،فشكّ شكّا ساريا الي اليقين.

و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ الخبر ظاهر في قاعدة اليقين (1).

و فيه نظر؛لأنّ اليقين إنّما يطلق علي ما هو يقين واقعا،أي:من كان علي يقين واقعا فشكّ مع كونه علي يقين،فليمض علي ذلك اليقين المتحقّق الموجود.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة في مسألة الشكّ في حال الوضوء و بعده،قال:و إنّما أطلنا الكلام لما رأينا في المقام من توهّم غير واحد من الأعلام -اغترارا بما يتراءي من عبارة السرائر هنا،و في باب الشكّ في السجود بعد ما قام-انّ عدم نقض اليقين بالشكّ بمعني عدم رفع اليد عن الاعتقاد السابق عند طروء الشكّ في نفس ذلك المعتقد،و التردّد بين صحّة ذلك الاعتقاد و فساده قاعدة معتبرة نظير قاعدة الاستصحاب الخ (2).

أقول:راجع كلامه،فإنّه رحمه اللّه أبطل القاعدة المتوهّمة،و إن كان في خصوص مورد الفراغ قد اعتبرها صاحب الجواهر،فقال:لو اعتقد الفراغ آنا ما من الوضوء،ة.

ص: 280


1- فرائد الاصول ص 569.
2- كتاب الطهارة 2:487 الطبعة المحقّقة.

فشكّ في الجزء الأخير و هو مسح الرجلين،لم يعتن بشكّه (1).

أقول:يمكن توجيهه بالاستدلال له بقوله«هو حين يتوضّأ أذكر»أي:حين تيقّن بالفراغ أذكر من حين الشكّ.و بقوله«هو حين ينصرف أقرب إلي الحقّ»في من شكّ في الصلاة بعد ما اعتقد إتمامها.

ثمّ إنّه لو سلّم دلالته علي قاعدة اليقين،فهو معارض بالأخبار الدالّة علي الاستصحاب؛لأنّه بعد ما سري الشكّ إلي اليقين،يكون علي يقين قبل اليقين الذي صار شكّا،و لا ينقض اليقين بالشكّ،و قد تقدّم بيان ذلك.

الأمر التاسع عشر:لا إشكال في العمل بالأمارة الدالّة علي الحكم الشرعي في نقض اليقين بعدم الحكم.و أمّا في الشبهة الموضوعيّة،فيعتبر نقض اليقين باليقين، و هل يلحق باليقين الناقض الأمارة و ما بحكمها أم لا؟قولان،الأوّل:الالحاق، قال في الكفاية:لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده (2).

أقول:علي المختار لا يجري الاستصحاب في الشكّ في بقاء الحكم الكلّي، و يختصّ جريانه بغير الشكّ في الحكم الكلّي فيما يكون الشكّ ناقضا لليقين،فإذا عارضه ما هو أخصّ مطلقا منه يخصّص عموم الاستصحاب،كحجّية قول ذي اليد في طهارة ما كان نجسا سابقا،فإنّ مقتضي الاستصحاب بقاء نجاسته،لكن إن أخبر ذو اليد بطهارته قدّم قوله علي الاستصحاب لأنّه أخصّ.

و أمّا إذا كانت النسبة من وجه،فيشكل تقديم الأمارة،مثلا قوله في صحيح زرارة«لا حتّي يستيقن أنّه قد نام حتّي يجيء من ذلك أمر بيّن»مطلق،أي:سواء قامت البيّنة علي النوم أو لم تقم.8.

ص: 281


1- جواهر الكلام 2:361.
2- كفاية الاصول ص 488.

فإذا ورد أنّ البيّنة حجّة مطلقا،سواء كان في مورد الاستصحاب أو في غيره، فيتعارضان في مورد قيام البيّنة علي طهارة ما شكّ في بقاء نجاسته،فمقتضي الاستصحاب النجاسة،و مقتضي الأخذ بالبيّنة الحكم بالطهارة.

و لا وجه للتصرّف في اليقين الظاهر في اليقين الوجداني بجعله كناية عن الحجّة،أي:لا ينقض اليقين بالشكّ بل ينقضه بالحجّة،ليكون واردا،كما اختاره في الكفاية.

كما لا وجه للقول بأنّ الشارع جعل الأمارة يقينا تعبّدا،فيكون حاكما علي ما دلّ علي أنّ اليقين ناقض لليقين بتوسعته حتّي يشمل اليقين التعبّدي.

و أمّا ما استدلّ له في مصباح الاصول (1)بصدق العارف و الفقيه و العالم علي المجتهد لاستنباطه الأحكام من الأمارات.ففيه أنّه عارف و عالم بالحكم الظاهري،فإذا عثر المجتهد علي خبر جامع لشرائط الحجّية يدلّ علي حرمة شيء،رفع اليد عن استصحاب عدم جعل الحكم لحصول اليقين له بالحكم الظاهري،و لكن إذا قامت البيّنة علي نجاسة شيء،فلم يدلّ دليل علي أنّ البيّنة يقين تعبّدا،حتّي تكون حاكمة علي استصحاب الطهارة،ففي مثل البيّنة لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليل اعتبارها و دليل الاستصحاب.

الأمر العشرون:في توارد الاستصحاب،و أصل آخر كأصالة الطهارة، و أصالة البراءة،و أصالة الحلّ،و أصالة الاحتياط،علي مورد واحد،فهل يتقدّم الاستصحاب،أو يتقدّم الأصل الآخر؟الظاهر تقديم الاستصحاب.

أمّا تقديمه علي أصالة الطهارة،سواء كان استصحاب الطهارة أو استصحاب النجاسة،فلقوله عليه السّلام في صحيح زرارة في من شكّ في إصابة النجاسة ثوبه،أنّه1.

ص: 282


1- مصباح الاصول 3:251.

يحكم بالطهارة؛لأنّه كان علي يقين من طهارة ثوبه،و لا ينقض اليقين بالشكّ، فأجري الاستصحاب،و لم يجر أصالة الطهارة،مع أنها مترتّبة علي مجرّد الشكّ من دون حاجة إلي جرّ السابقة.

ثمّ إنّ تقديم استصحاب الطهارة علي أصالة الطهارة،يدلّ بالأولي علي تقديم استصحاب النجاسة علي أصالة الطهارة.

أقول:و لو لا ما استفيد من صحيح زرارة أمكن المناقشة في ذلك بأنّه يحتمل أن يكون الاصول المتوافقة جارية جميعها،فما كان طاهرا إن شكّ في نجاسته يجري فيه الاستصحاب و قاعدة الطهارة،كما يحتمل أن يكون قوله«كلّ شيء لك حلال» شاملا لمورد قاعدة اليد و الاستصحاب و غيرهما،و تكون الأمثلة المذكورة في خبر مسعدة بن صدقة مصاديق لعموم«كلّ شيء لك حلال».

و منه يظهر وجه تقديم استصحاب الحرمة علي أصالة الحلّ،و ذلك لأنّ تقديم الاستصحاب علي أصالة الطهارة في صحيح زرارة معلّلا بكونه علي يقين فشكّ يقتضي ذلك؛لأن هذه العلّة موجودة فيما إذا اقتضي الاستصحاب حرمة الشيء.

و أمّا تقديم الاستصحاب علي قاعدة قبح العقاب بلا بيان،فلأنّ الاستصحاب بيان،كما هو واضح،و يكون حاكما علي البراءة النقليّة؛لأنّ قوله«رفع ما لا يعلمون»معناه ما لم يعلم حكمه واقعا و ظاهرا،و بالاستصحاب يعلم الحكم الظاهري.

و أمّا تقديم الاستصحاب علي الاحتياط،فواضح.

الأمر الواحد و العشرون:في تعارض الاستصحابين علي مورد أو موردين.

و مثله في حكمة تعارض غيره من الاصول.

أمّا الأوّل،فإن كان أحدهما سببا شرعيّا للآخر،جري و لم يبق مجال لجريان الأصل في المسبّب،و إن لم يكن تسبيب بينهما،قيل بجريان الاستصحاب فيهما

ص: 283

إن لم يستلزم المخالفة العمليّة،ففي ما إذا توضّأ غفلة بمايع مردّد بين البول و الماء، فإنّه يستصحب الحدث و يستصحب طهارة بدنه،و هما متعارضان؛لأنّه إن كان بدنه طاهرا فلأنّ المايع ماء،فلازمه أن يكون متطهّرا،و إن كان محدثا فلأنّ المايع بول،فلازمه أن يكون نجسا.

و علي القول بعدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي مطلقا،يمكن أن يقال:إنّ الشكّ في طهارة البدن مسبّب عن طهارة المايع،فإذا جري فيه أصالة الطهارة،فلا يجري استصحاب طهارة البدن بعد الحكم بطهارة المايع.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال:إنّه إن لم يغسل بدنه و لم يحدث،فلا مجال للتوضّي بماء للعلم بعدم تأثير هذا الوضوء،فإنّه إن كان متوضّأ فلا حاجة إليه،و إن كان بدنه نجسا فلا يصحّ وضوءه.

و كذا لا يجري استصحاب الحدث؛لأنّ الشكّ فيه ناش عن الشكّ في المايع أنّه بول أو ماء،فإذا لم يجر أصل لإثبات كونه ماء،فيكون شاكّا في حصول الطهارة به،و الشكّ في الشرط شكّ في المشروط،فلا يجوز له الدخول في الصلاة،و لا يجري استصحاب الحدث لعدم الحاجة إليه،فإنّ رفع الحدث موقوف علي كون المايع ماء و لا مثبت له.

ثمّ إنّه إن اغتسل غفلة بهذا المايع المردّد بين الماء و البول،فإن حكم بطهارة بدنه و بطلان غسله،و أحدث بعد غسله بالحدث الأصغر،فمقتضي الأصلين طهارة بدنه و بقاء جنابته،فإذا اغتسل للجنابة حصل له العلم إجمالا بنجاسة بدنه،أو وجوب الوضوء للصلاة،فلذا نقول:ليس له بعد الاغتسال أو الوضوء بهذا المايع غفلة أن ينوي غسل الجنابة بتّا،و لا الوضوء،بل لا بدّ أن ينوي أنّه يغتسل رجاء، و إن أحدث بالأصغر بعد الاغتسال بالمايع المذكور وجب الوضوء أيضا.

و أمّا الثاني،فهو علي قسمين:

ص: 284

أحدهما:أن يكون الشكّ في أحدهما مسبّبا شرعا عن الشكّ في الآخر، و حينئذ إذا جري الأصل في السبب ارتفع الشكّ المسبّبي شرعا،فلا محلّ لجريانه في المسبّب لارتفاع الشكّ شرعا.

ثانيهما:أن لا يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر،بأن كانا في طرفي العلم الاجمالي،فإن استلزم من جريانها المخالفة العمليّة فيتساقطان.و في جريانهما في أطراف العلم الاجمالي إن لم يستلزم المخالفة العمليّة و عدمه قولان.

و التحقيق عدم جريان الاصول مطلقا في أطراف العلم الاجمالي،سواء لزم منه مخالفة عمليّة أو لا.

فإذا كان جسمان نجسين،ثمّ طهّر أحدهما و لم يعلم به تعيينا،و علم بطهارة أحدهما غير المعيّن،فلا يجري استصحاب النجاسة في كلّ منهما؛لأنّ التعبّد بنجاستهما إن كان لتقيّد الطاهر من الجسمين بالعلم التفصيلي بطهارته،فلا حاجة إلي الاستصحاب؛لأنّهما نجسان واقعا حيث لا يعلم الطاهر تفصيلا.

و إن كان مع عدم تقيّد الطاهر بالعلم التفصيلي،بل المعلوم إجمالا طهارته طاهر يترتّب عليه آثار الطاهر،فلا يجتمع الحكم بطهارته مع الحكم بنجاسة الطرفين ظاهرا،و ترتيب آثار النجاسة عليهما،من نجاسة ملاقي أحدهما،و العقاب علي شربه و إن كان طاهرا واقعا،و حيث إنّه لا ترجيح لجريان الأصل في أحد الطرفين، فلا يجري الأصل فيهما،لا استصحاب نجاستهما،و لا أصالة الطهارة فيهما،بل يجري عليهما حكم العلم الاجمالي.

مضافا إلي أنّ الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين المتّصل بالشكّ لا اليقين السابق،فمن كان علي وضوء أوّل الزوال مثلا إلي ساعة بعد الزوال فشكّ، فلا ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ،و المراد اليقين قبل آن الشكّ،و لا يلحظ اليقين الذي هو أوّل الزوال للاستصحاب،فكما لو خلق شيئان في ساعة واحدة،و كان

ص: 285

أحدهما نجسا و الآخر طاهرا،لم يجر الاستصحاب لعدم الحالة السابقة،كذا لو كان لهما حالة سابقة،فإنّه لا اعتبار بها،بل الاعتبار بحال العلم الاجمالي.

و بعبارة اخري:لا فرق بين ما كان له حالة سابقة أو لم يكن،و ذلك لأنّ ضمّ الحالة السابقة و إجراء حكمها يكون من ضمّ الحجر إلي الانسان،فلا يشكّ متشرّع في عدم الفرق بين ما لو خلق شيئان في آن واحد كان أحدهما نجسا،و بين ما لو كانا نجسين طهر أحدهما في ذلك الآن.

و قال في الكفاية بجريان الاصول إن لم يستلزم المخالفة العمليّة،قال:لوجود المقتضي إثباتا و فقد المانع عقلا.أمّا الأوّل،فلإطلاق الخطاب و اشتمال بعض الأخبار علي قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر»الموجب للاجمال؛لأنّ مقتضي الصدر الشمول و مقتضي الذيل عدمه لا يوجب الاجمال في الخبر الغير المشتمل علي هذه الجملة.و أمّا الثاني،فلأنّ المخالفة الالتزاميّة غير ضائرة (1).

أقول:أوّلا لا مجال للاطلاق مع وجود المحذور الذي تقدّم بيانه.

و ثانيا:أنّ الاجمال إن كان موجبا لعدم التعبّد بصدور المجمل،فيصحّ أن يقال باختصاص التعبّد بصدور الخبر غير المشتمل علي الذيل،و أمّا إن صحّ التعبّد بصدور المجمل،فلازمه سراية الاجمال في أحد الخبرين إلي الآخر؛لأنّه بعد التعبّد بصدور ذيل الخبر المشتمل علي قوله«و لكن ينقضه بيقين آخر»يسري الاجمال إلي الخبر الآخر؛لعدم الترجيح في التعبّد بصدور أحدهما دون الآخر.

و ثالثا:أنّ الالتزام و الاعتقاد بطهارتهما ظاهرا إن كا التزاما و اعتقادا بعدم نجاسة أحدهما،فهو مخالف لوجوب الالتزام بأحكام اللّه الذي تقدّم وجوبه في مباحث القطع.2.

ص: 286


1- كفاية الاصول ص 492.

و أمّا النقض علي ذلك بأنّ من صلّي و شكّ بعد الصلاة في أنّه تطهّر للصلاة أو لم يتطهّر،و كان متذكّرا حين الدخول في الصلاة،حيث إنّه يجري قاعدة الفراغ في الصلاة،و يستصحب الحدث لسائر الصلوات،مع العلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع.

فمدفوع بأنّ قاعدة الفراغ مخصّصة للاستصحاب بالنسبة إلي هذه الصلاة، فيكون الشارع قد اكتفي بهذه الصلاة و إن كان المصلّي محدثا واقعا،فلا علم ببطلان القاعدة و الاستصحاب،أو يقال:إنّ استصحاب الحدث لا يجري؛لأنّ الشكّ في الطهارة يكفي لعدم جواز الدخول في الصلاة،فإنّه لا بدّ من إحراز الشرط،و لا حاجة إلي جرّ الحالة السابقة.

ثمّ إنّه لو سلّم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي،فالأصل في أحد الطرفين معارض بالأصول السببية و المسبّبية في الطرف الآخر؛لأنّ السببية و المسبّبية بينها لا توجب التأخّر أو التقدّم علي الأصل الجاري في الطرف الآخر.

و بذلك ينحلّ ما ذكره بعضهم من أنّه إذا علم إجمالا وقوع نجس إمّا علي مأكول أو علي ملبوس،فاستصحاب الطهارة فيهما يسقطان،ثمّ يسقط أصالة الطهارة فيهما،ثمّ يجري أصالة الحلّ في المأكول بلا معارض.

و فيه نظر،و ذلك لأنّ استصحاب الطهارة في الملبوس يعارض جميع الاصول في الطرف الآخر؛لأنّه يعلم بعدم جواز الصلاة في الملبوس،أو عدم جواز أكل المأكول،كما يعلم ببطلان استصحاب الطهارة،و أصالة الطهارة،و أصالة الحلّ للمأكول،أو بطلان استصحاب طهارة الملبوس،و بطلان أصالة الطهارة فيه.

ص: 287

خاتمه

اشارة

يذكر فيها مطالب في فصلين:

الفصل الأوّل: في اختلاف الأدلّة

اشارة

علي وجه لا يمكن الجمع بينها بوجه يساعد عليه أهل العرف عند عرضها عليهم.

و إنّما جعلنا البحث فيه خاتمة؛لأنّ المراد آخر الأبواب بعد الفراغ عن إثبات الأدلّة للفقه،و ليس ذلك لخروج البحث عنه عن الاصول؛لأنّ الخاتمة لا بدّ أن تكون من جنس المختوم،و ما صنعه في الكفاية (1)من جعل مبحث الاجتهاد و التقليد خاتمة لمباحث الاصول،لعلّه مبني علي أنّ الاجتهاد غاية الاصول؛لأنّه إعمال القواعد المذكورة في الاصول.

و عدلنا عن لفظ التعارض؛لأنّ أهمّ مباحثها مبحث الأخبار المتعارضة، و المذكور في الأخبار العلاجيّة لفظ المختلف و الخلاف و نحوهما،إلاّ في مرفوعة زرارة،فذكر فيها«الحديثان المتعارضان»مع أنّه في بعض الموارد لا يصدق المختلفان و إن صدق المتعارضان،و سيأتي التعرّض له.

و المراد بالأدلّة الاثنان فما فوق،كما إذا ورد دليل علي وجوب عمل و دليل علي استحبابه و دليل علي إباحته،و في هذا المثال الدليلان متعارضان أيضا، كتعارض الجميع،و قد لا يكون الدليلان متعارضين،بل التعارض في الأكثر خاصّة،مثل أكرم زيدا يوم الجمعة،و أكرم عمروا يوم الجمعة،و لا يجب إكرامان في يوم الجمعة،كما أنّ المراد بالأدلّة ما كانت أدلّة في نفسها و حجّة كذلك،مع قطع

ص: 288


1- كفاية الاصول ص 528.

النظر عن الاختلاف.

نعم المسؤول عنه في بعض الأخبار العلاجية مطلق الخبر و إن لم يكن حجّة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:التعارض لغة من العرض،و غلب في الاصطلاح علي تنافي الدليلين،و تخالفهما باعتبار مدلولهما،و لذا ذكروا أنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين علي وجه التناقض أو التضادّ (1).

فيظهر منه أنّه لا فرق بين أن يقال:التعارض تنافي الدالّين،أو تنافي المدلولين، و هو كذلك؛لأنّ المدلولين بوصف كونهما مدلولين يرجعان إلي الدالّين.

و قال في الكفاية:إنّه تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة و مقام الاثبات علي وجه التناقض أو التضادّ أو عرضا،بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما (2).

و المراد بالتضادّ معناه اللغوي،و يظهر منه أنّه جعله وصفا للدالّين،و إن كان منشؤه تنافي المدلولين.

أقول:الدلالات ثلاث:

الاولي:دلالة اللفظ علي معناه الموضوع له أو المفهوم منه،و لو بالقرينة كالمجاز،فيما تكون القرينة متّصلة باللفظ،و هذه هي الدلالة الاستعماليّة،أي:

المفهوم من استعمال اللفظ،سواء كان المتكلّم مريدا أو لم يكن،و هذه الدلالة موجودة و إن صدر الكلام من النائم.

الثانية:دلالته علي مراد المتكلّم و ما يطلبه من المأمور،و هذه الدلالة موقوفة علي مجيء وقت الحاجة؛لأنّ للمتكلّم تأخير القرينة إلي وقت مجيئها،فإذا قال المولي لعبده في يوم الأربعاء:أكرم العلماء يوم الجمعة،تحقّقت الدلالة الاولي،6.

ص: 289


1- فرائد الاصول ص 750.
2- كفاية الاصول ص 496.

لكن الدلالة الثانية معلّقة علي أن لا يبيّن خلافه قبل مجيء يوم الجمعة،فإذا قال يوم الخميس:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة،تحقّقت الثانية،و هي إكرام العلماء غير الفسّاق منهم.

الثالثة:الدلالة علي أنّ المتكلّم يريد ذلك جدّا لا تقيّة و لا مكرها،و لا مزاحا و لا مماشاة و نحوها،و هذه الدلالة متحقّقة ببناء العقلاء علي الحمل علي الجدّ إلاّ إذا كانت قرينة علي الخلاف.

و في صحيح ابن بزيع،قال:سألت أبا الحسن عليه السّلام عن امرأة أحلّت لي جاريتها، فقال:ذلك لك،قلت:فإن كانت تمزح؟فقال:و كيف لك بما في قلبها،فإن علمت أنّها تمزح فلا (1).

ثمّ إنّ مفهوم التعارض و مفهوم الاختلاف يصدقان علي الحكمين لموضوع واحد،سواء كان الاختلاف و التعارض بالذات أو كان بالعرض،فإذا دلّ خبر علي أنّ الصلاة الواجبة يوم الجمعة هي الظهر،و ورد خبر علي أنّها الجمعة،صدق عليهما تعارض الخبرين و اختلاف الخبرين في الصلاة يوم الجمعة،بعد الضرورة من المسلمين علي أنّه لا يجب في ظهر يوم الجمعة إلاّ صلاة واحدة،و سمّاه في الكفاية بالتعارض بالعرض،و قال السيّد الطباطبائي اليزدي:إنّه تعارض في المدلول الالتزامي النقلي.

و أمّا إذا ورد خبر علي وجوب غسل الجمعة،و ورد خبر آخر علي أنّ دية العبد المدبّر دية الحرّ،و علم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع،فلا يصدق أنّه اختلفت الأخبار،و في صدق تعارض الأخبار احتمالان بل قولان:

أحدهما:ما صرّح به صاحب الكفاية في تعليقته و يقتضيه كلامه في الكفاية،ء.

ص: 290


1- وسائل الشيعة 14:534 ب 32 أبواب نكاح العبيد و الاماء.

من أنّه من التعارض بالعرض،قال في تعليقته:إنّ كلّ واحد مستلزم لنفي مدلول الآخر،فموضوع كلّ موضوع للآخر.

و وافقه في منتهي الوصول،قال:إنّ أحد الدليلين ناف لمدلول الآخر بالالتزام العقلي (1).

أقول:لا يخلو ما ذكراه عن تكلّف؛لأنّ العلم بعدم شمول دليل حجّية الخبر لهما لا يوجب تعارضهما.نعم يصحّ إطلاق التعارض في شمول دليل الحجّية،بمعني أنّ كلّ واحد من الخبرين في نفسه مشمول لدليل حجّية الخبر،مع أنّه لا يشملهما.

ثانيهما:أنّه ليس من التعارض؛لأنّ الموضوع ليس واحدا،و هو الذي يقتضيه ظاهر كلام الشيخ رحمه اللّه (2)،و صرّح به السيّد الطباطبائي في رسالة التعادل و التراجيح،قال:لعدم التنافي بين المدلولين و لو في مقتضاهما.

و قال في فوائد الاصول:إنّه من قبيل اشتباه الحجّة باللاحجّة؛لأنّه يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران:أحدهما أن يكون كلّ منهما واجدا لشرائط الحجّية.ثانيهما:أن يمتنع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم الجعل و التشريع (3)انتهي.

أقول:حيث إنّه لا يمتنع اجتماعهما في عالم التشريع فليسا من المتعارضين.

فالتحقيق أن يقال:إذا اختلفت الأخبار في موضوع واحد،و لو كان مثل الظهر و الجمعة،و كانت واجدة لشرائط الحجّية في نفسها،فهي التي تشملها الأخبار العلاجيّة،سواء علم بعدم مطابقة بعضها للواقع أو لم يعلم؛لصدق مجيء خبرين مختلفين،بل ورد في خبر سماعة«انّ أحد الخبرين يأمر و الخبر الآخر ينهي»مع3.

ص: 291


1- منتهي الوصول ص 255.
2- فرائد الاصول ص 750.
3- فوائد الاصول 4:263.

أنّه يعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،لكن يحتمل صدورهما عن المعصوم،و لا يبعد صدق الخبرين المختلفين إن علم عدم صدور أحدهما عن المعصوم.

و أمّا إذا لم يكن الموضوع واحدا،و علم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،فهو من اشتباه الحجّة باللاحجّة،حتّي لو كانا واجدين لشرائط الحجّية،فلا يشملهما الأخبار العلاجيّة،و حينئذ يعمل بهما إن لم يلزم طرح تكليف منجّز معلوم،فإذا ورد خبر علي وجوب غسل الجمعة،و خبر علي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، و علم كذب أحدهما،وجب الجمع بينهما،و إلاّ-أي:إن لزم من العمل بهما طرح تكليف منجّز-وجب طرحهما و العمل بالاحتياط.

و قد ظهر ممّا ذكرنا تعريف التعارض اصطلاحا،و هو اختلاف الأدلّة علي موضوع واحد لا يمكن الجمع بينها بوجه يساعد عليه عرف أهل المحاورة.

ثمّ إنّهم ذكروا موارد ليست من التعارض،و هي:

المورد الأوّل:تزاحم التكليفين،و الفرق بينه و بين التعارض أنّ أحد المتعارضين ليس واجدا للملاك الذي يقتضي أن يكون علي وفقه الحكم،و إن فرض اشتماله علي الملاك في الجملة،فهو غير مطلوب،بخلاف المتزاحمين فإنّهما واجدان للملاك علي السويّة،أو بزيادة أحدهما و هو الأهمّ،و في الأوّل يكون المجعول واحدا منهما،و في الثاني يكون الأهمّ بمقدار المصلحة الزائدة واجبا تعيينيّا،و في المقدار المشترك يكون واجبا تخييريّا،فلا تقييد لأحد المتزاحمين بترك الآخر.

و قد فصّلنا الكلام في بحث الترتّب،و أنكرنا لزوم عقابين علي ترك الأهمّ و المهمّ إن كان أحدهما أهمّ،أو عقابين متساويين إن كانا متساويين.

و لهم مسلكان آخران:

الأوّل:تقييد إطلاق كلّ واحد بترك الآخر،و لازمه وجوبهما عند تركهما،

ص: 292

اختاره الشيخ النائيني رحمه اللّه.

أقول:لازمه أن يعاقب بعقابين،و لا يصحّ الالتزام بتعدّد العقاب علي من لم يقدر إلاّ علي عمل واحد.

الثاني:ما سلكه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه في رسالة التعادل و التراجيح،من أنّ القدرة في بعض التكاليف شرط للتنجّز،و ليس شرطا لأصل التكليف؛لأنّ المصلحة في الفعل تامّة للايجاب،و العجز لا يغيّره عن مصلحته،فيثبت الحكم الواقعي في حدّ نفسه،نظير ثبوت الحكم حال الجهل،و يكون المكلّف معذورا لجهله،فلا تقييد في مرحلة الحكم انتهي ملخّصا.

أقول:ظاهر الآيات و الأخبار أنّ التكليف لا يكون إلاّ مع الوصول و القدرة علي العمل به،فالجاهل القاصر ليس مكلّفا أصلا لعدم الوصول إليه،و كذا غير القادر لقوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها فما ذكره من ثبوت التكليف في مرحلة الحكم غير سديد لعدم القدرة عليهما.

تتميم:
اشارة

يذكر فيه امور:

الأمر الأوّل:أنّ مسألة اجتماع الأمر و النهي ليست من باب التعارض

؛لأنّ المفروض فيها إمّا وجود المندوحة أو عدمها.

أمّا الأوّل،فلا تعارض بين النهي التعييني و الأمر بالطبيعة الشاملة لمورد النهي و غيره؛لأنّه لا مانع من اجتماع المصلحة و المفسدة في الشيء الواحد،فإذا كانت المصلحة الموجودة فيه مساوية للمصلحة الموجودة في سائر الأفراد،فالأمر متعلّق بالطبيعة الشاملة للفرد المنهي عنه،فلا وجه لتخصيص الأمر بالطبيعة بغيره، و تفصيله في بحث اجتماع الأمر و النهي.

و أمّا الثاني،فالحكم فيه تابع لأقوي الملاكين؛لأنّ المكلّف لا يقدر علي الجمع

ص: 293

بين إدراك المصلحة و ترك المفسدة،و لا يكلّف ما لا يقدر عليه.

و ذكر في الكفاية (1)في الأمر الثامن في بحث اجتماع الأمر و النهي:أنّه إذا كان المناط للحكمين موجودا،كانت الروايتان الدالّتان عليهما من باب التزاحم بين المقتضيين،و الترجيح مع الأقوي مناطا و إن كان أضعف سندا.

ثمّ قال:نعم لو كان كلّ منهما متكفّلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض،فلا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة.

و قال في الأمر الثاني من تنبيهات المسألة نظير ذلك.

أقول:إن كان مفروض كلامه صورة وجود المندوحة،فلا معارضة بين الحكمين حتّي مع كون الروايتين متكفّلتين للحكم الفعلي.و إن كان في صورة عدم وجود المندوحة،فالحكم تابع لأقوي الملاكين في مرحلة جعله؛لأنّ المصلحة و المفسدة في الشيء الواحد إن كانتا متساويين فهو كالمباح،و إن كانت احداهما غالبة فالحكم تابع لها،و علي كلّ ليس هناك حكمان.

و قال في التنبيه الثالث من بحث الاجتماع:فيكون مثل أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق من باب الاجتماع،كصلّ و لا تغصب،لا من باب التعارض.

إلي أن قال:فما يترآي منهم من المعاملة مع مثل أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق معاملة تعارض العموم من وجه،إنّما يكون بناء علي الامتناع،أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

أقول:مورد الاجتماع في العموم من وجه ليس من مسألة الاجتماع لعدم المندوحة،فلا بدّ للآمر من ملاحظة المناطين،و يحكم علي وفق الأقوي منهما، و إن لم يكن أحدهما أقوي فيكون مباحا.و يحتمل أن تكون النسخة مغلوطة،و أن9.

ص: 294


1- كفاية الاصول ص 189.

تكون العبارة أكرم العلماء و لا تكرم الفاسق.

الأمر الثاني: مرجّحات باب التزاحم

حيث بيّنا الفرق بين التزاحم و التعارض،فلا بأس بالاشارة إلي مرجّحات باب التزاحم.

فنقول:ذكر للترجيح في باب التزاحم امور نذكر بعضها:

منها:أن يكون أحدهما أهمّ،و هو مقدّم علي المهمّ و إن كان أسبق زمانا.

و منها:أن يكون أحدهما أسبق زمانا،فلو كان واجبان فعليّان متساويان في الملاك وجب الأسبق،و إن علم بأنّه قادر علي فعل اللاحق مع ترك السابق.

قال في المصباح:إنّ الاتيان بالمقدّم زمانا يوجب عجزه عن المتأخّر،فيكون التكليف به منتفيا بانتفاء القدرة علي موضوعه (1).

قلت:لا يخلو عن إشكال إن علم أنّه باق و يقدر علي فعل اللاحق؛لأنّ التكليف بهما فعلي،أو كالفعلي،و هو مخيّر بينهما.

و منها:تزاحم الواجب الموسّع و المضيّق،و يترجّح المضيّق عقلا،و إن تركه و أتي بالموسّع صحّ،و لكن أنكر في مصباح الاصول كونه مرجّحا،قال:لقدرة المكلّف علي امتثال كليهما،فلا تزاحم بينهما (2).

و فيه أنّه في أوّل أزمنة التكليف لا يقدر علي الجمع بينهما،فيتعيّن المضيّق عقلا،لكن مع وجود ملاك الموسّع،و لذا لو ترك المضيّق صحّ الموسّع،مع أنّهما لو لم يكونا متزاحمين لم يكن لأحدهما ملاك،فالظاهر أنّهما متزاحمان في أوّل أزمنة التكليف و هكذا.

و منها:أن يكون لأحد الواجبين بدل،فإنّه يتقدّم ما ليس له البدل عليه،مثلا لو كان جنبا عنده من الماء ما يكفي لشربه المتوقّف عليه الصوم،و هو يكفي لغسل

ص: 295


1- مصباح الاصول 3:362.
2- مصباح الاصول 3:358.

جنابته،فإنّه يجب شربه و يتيمّم؛لأنّه لو اغتسل لم يتمكّن من الصوم.

و مثله ما لو كان عنده مقدار من الماء يكفيه لغسل ثوبه،أو تطهيره من الحدث، فانّه يتيمّم و يطهر ثوبه؛لأنّ الوضوء له بدل.

و ناقش فيه في المصباح أوّلا:بأنّ الثوب الطاهر أيضا له بدل،و هو الصلاة في الثوب النجس أو عاريا.

و ثانيا:بأنّ التزاحم لا يكون في الأوامر الضمنيّة؛لأنّه إن لم يقدر علي بعض الأجزاء أو الشرائط سقط الأمر بالمركّب،و لكن في خصوص الصلاة حدث أمر آخر:إمّا متعلّق بأحدهما معيّنا،و هو الصلاة في الثوب النجس متطهّرا بالماء،أو الصلاة في الثوب الطاهر متيمّما،و إمّا متعلّق بهما مخيّرا؛لأنّ الصلاة لا تترك بحال.

و حيث إنّ التعيين في كلّ منهما مشكوك،فالأصل البراءة عنه،فيثبت التخيير (1).

و قال أيضا في نظائر المسألة بأنّه من باب التعارض؛إذ وجوب كلا الجزئين معلوم الانتفاء؛لعدم القدرة إلاّ علي أحدهما،و لا ندري أنّ الواجب أيّهما،فلا بدّ من الرجوع إلي أدلّة الأجزاء،فإن كان دليل أحد الطرفين لفظيّا و الدليل الآخر لبّيا،وجب الأخذ بالدليل اللفظي،و لو كانا لفظيّين و كان أحدهما عامّا و الآخر مطلقا قدّم العامّ،و لو كانا مطلقين سقطا و يرجع إلي الأصل العملي،و لو كانا عامّين فلا بدّ من الرجوع إلي المرجّحات السنديّة (2).

أقول:معني عدم سقوط الصلاة بحال أنّ الأمر بالصلاة متوجّه إلي كلّ شخص في كلّ حال بمراتب التمكّن منها،و الأدلّة الدالّة علي الأجزاء و الشرائط هي أدلّة عليهما في كلّ صلاة،فإذا كان بعضها ركنا و بعضها غير ركن،فهي كذلك في جميع مراتب الصلاة،مثلا لو دار الأمر بين الصلاة في الثوب الطاهر مستدبر القبلة3.

ص: 296


1- مصباح الاصول 3:360.
2- مصباح الاصول 3:363.

و الصلاة عاريا مستقبل القبلة،كان مراعاة القبلة أهمّ فيتقدّم علي مقتضي قاعدة تقدّم الأهمّ،فتكون الصلاة المأمور بها هذه الصلاة،و هذا معني التزاحم.

فسواء قلنا بأنّ الأمر متعلّق بالأجزاء و الشرائط الركنيّة،و يسقط ما لا يكون ركنا إلي آخر المراتب،أو قلنا بسقوط الأمر بالمركّب من الجميع و حدوث أمر ببقيّة الأجزاء،فإنّه لا بدّ من تعلّق الأمر بالأجزاء و الشرائط التي هي أهمّ من غيرها؛لأنّ ما دلّ علي أنّ الصلاة ثلث ركوع و ثلث سجود و ثلث طهور،لا يختصّ بمرتبة كاملة من الصلاة.

الأمر الثالث:أنّ التزاحم لا يتحقّق إلاّ مع العجز عن الاتيان بالمتزاحمين

،و قال في فوائد الاصول بتحقّقه في غيره أيضا،مثل ما إذا ملك خمسا و عشرين إبلا و مضي عليه ستّة أشهر،فملك واحدا آخر،فصارت ستّا و عشرين،فمضت ستّة أشهر،فإنّه يجب عليه خمس شياة لحلول الحول،فإذا مضت ستّة أشهر وجب عليه بنت مخاض لحلول الحول من حين ملك واحدا،لكن لا يجب الجمع؛لأنّ المال لا يزكّي في العام مرّتين (1).

و أورد عليه في مصباح الاصول بأنّه من التعارض من قبيل صلاة الجمعة و الظهر،فإنّه و إن أمكن الجمع بينهما لكن لا يجب بالضرورة (2).

أقول:الظاهر أنّه بعد ما وجبت خمس شياه بعد حلول الحول صارت العين مشتركة بين المالك و الفقراء،و خرج عن ملكه مقدار الزكاة،فلا يملك خمسا و عشرين،فإن أعطي الزكاة ملك من هذا الحين،فإذا مضي ستّة أشهر لم يمض حول علي ستّ و عشرين،لكن إن ملك أكثر من ستّة لا يرد هذا الاشكال، و المسألة محلّها كتاب الزكاة.

ص: 297


1- فوائد الاصول 4:264.
2- مصباح الاصول 3:359.

و الأولي أن يقال:يجب خمسة شياه عند حلول الحول،فإذا زكّي المال لم يتعلّق به الزكاة؛لقوله«لا يزكّي المال في العام مرّتين»أي:المال المزكّي لا يكون متعلّق الزكاة،و حينئذ إن مضي ستّة أشهر لم يمض علي مال لم يزكّ حول حتّي تجب الزكاة.

المورد الثاني:التنزيل،مثل قول القائل«لا صلاة إلاّ بوضوء»«و التيمّم بمنزلة الوضوء»فإنّه لا معارضة بينهما؛لأنّ لسان التنزيل في الحقيقة لسان تقرير العموم، بخلاف قوله«يجوز الصلاة بالتيمّم»فإنّه معارض لقوله«لا صلاة إلاّ بوضوء» هكذا ذكره السيّد في رسالة التعادل و التراجيح.

أقول:و منه قوله«الطواف بالبيت صلاة»و نحوه،فإنّه من باب التنزيل.

المورد الثالث:الورود،و هو أن يكون الدليل الوارد موجبا لنفي موضوع دليل المورود وجدانا كالتخصّص،و الفرق بينهما أنّه في التخصّص يكون الخروج من الأوّل،و في الورود يكون الخروج بعد مجيء الدليل.

ثمّ إنّ الدليل إنّما يكون واردا إذا لم يكن موضوع المورود مقيّدا بعدم الوارد، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان،فإنّه مع البيان لا موضوع للقاعدة،و مثال الورود أن يكون موضوع البراءة الشرعية عدم العلم بالتكليف الفعلي،فإذا دلّ خبر الثقة الثابت حجّيته بالأدلّة القطعيّة علي حرمة شيء يرتفع عدم العلم بالتكليف الفعلي وجدانا،و الفرق بين الورود و الحكومة أنّ الموضوع يرتفع في الحكومة تعبّدا.

ثمّ إنّ في مورد ورود أحد الدليلين علي الآخر لا موضوع للتعارض.

المورد الرابع:الحكومة،و الكلام فيها في مواضع:

الموضع الأوّل:في بيان حقيقتها،و هي أن يكون المتفاهم عرفا من أحد الدليلين كونه بمنزلة الشرح للدليل الآخر،سواء كان موافقا له أو مخالفا له بنحو التضييق أو التوسعة،و سواء كان الشرح و النظر عمديّا مقصودا للمتكلّم أو قهريّا

ص: 298

لازما للمدلول.

و بعبارة اخري:الحكومة رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر أو محموله تعبّدا.

مثال ذلك:لا ضرر بالنسبة إلي التكاليف،فإنّه حاكم علي المحمول بالنظر العمدي،و الاستصحاب السببي فإنّه حاكم علي المسبّبي بالنظر القهري،و الدليل الاجتهادي فإنّه حاكم علي الأصل الشرعي،و استصحاب موضوع الحكم لترتيب الحكم عليه،أو قيام البيّنة لترتيبه،كاستصحاب العدالة،أو قيام البيّنة عليها لترتيب جواز الصلاة خلفه.

الموضع الثاني:قيل في الفرق بينها و بين التخصيص أنّ التخصيص بيان للعامّ بحكم العقل،و الحاكم بيان بمقتضي دلالة اللفظ لأنّه شارح و ناظر،و يتفرّع عليه أنّه لو كان النسبة بينه و بين المحكوم العموم من وجه قدّم عليه.

و أيضا يقدّم عليه و إن كان ظهوره أضعف من ظهور المحكوم،بخلاف المخصّص،فإنّه يتقدّم العامّ علي الخاصّ إن كان أظهر.

قلت:أورد عليه السيّد في رسالة التعادل و التراجيح بأنّ الحاكم لو كان نصّا في النظر إلي المحكوم،أو أقوي من دلالة المحكوم علي مدلوله،فهو صحيح.

و أمّا إذا فرض كون دلالة المحكوم علي مدلوله أقوي من دلالة الحاكم في نظره إلي موضوع المحكوم،بحيث يمكن صرفه عن نظره فلا يتمّ؛إذ مدلول المحكوم في عرض مدلول الحاكم و في عرض نظره إلي آخر ما أفاده.

ثمّ قال:و بعد اللتيّا و التي فالمدار في الحاكم و المحكوم أيضا علي الأظهريّة، إلاّ انّه لا يلاحظ المدلول الأصلي فقط،بل يلاحظ مع حيثيّة النظر،فإن كان نصّا أو أظهر مع تلك الملاحظة يقدّم علي المحكوم و إلاّ فلا.

أقول:إنّ الخاصّ يقدّم علي العامّ،و يكون قرينة علي المراد به،لا من أجل

ص: 299

نظره و شرحه لفظا له،بل لأنّه لا يجتمع مع العامّ،و هو أظهر منه،فلو كان العامّ أظهر من الخاصّ،كالعام الآبي عن التخصيص قدّم علي الخاصّ.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بأنّ الحاكم يتقدّم علي المحكوم،و إن كانت النسبة بينهما من وجه،ليس علي إطلاقه،بل فيما إذا كان الحاكم أظهر في مورد الاجتماع من المحكوم علي النحو الذي ذكرناه و ذكره السيّد الطباطبائي رحمه اللّه.

الموضع الثالث:في بيان عدم كون الحاكم معارضا و مخالفا للمحكوم،قيل:إنّ لسان الحاكم لسان الصلح لا الخصومة،و لسان البيان و المبيّن بالكسر لا يعدّ معارضا و منافيا للمبيّن بالفتح.

قلت:لا يخفي أنّه لا يبعد صدق المخالفة،فقوله في خبر«لا ربا بين الوالد و الولد»يعدّ عرفا مخالفا لعموم«و حرّم الربا»فلو فرض وجود خبر آخر علي أنّ الربا يكون بين الوالد و الولد،جري عليهما قواعد التعارض و يرجع إلي المرجّحات،و منها ترجيح موافقة الكتاب،و الخبر الثاني موافق للكتاب،و الأوّل مخالف له.

و في رسالة التعادل و التراجيح:لا بأس بعدّ الحاكم و المحكوم من المتعارضين، غاية الأمر أنّ الحاكم مقدّم علي المحكوم،و الوجه في تقديمه كونه مبيّنا و مفسّرا، بخلاف العامّ و الخاصّ،فإنّ تقديم الخاصّ من دلالة العقل.

أقول:الحاكم كالمخصّص بعبارة أبلغ و ألطف،و هو مخالف للمحكوم كالخاصّ الذي هو مخالف للعامّ،و يتقدّم الحاكم لأنّه كالتصريح بكونه بيانا،و يتقدّم الخاصّ أيضا لكونه بيانا للعامّ،لكن بدون التصريح بكونه بيانا.

المورد الخامس:التوفيق العرفي،و قد يعبّر عنه بالحكومة العرفيّة،و هو عبارة عن كون الدليلين بحيث إذا عرضا علي العرف يوفّقون بينهما بالتصرّف في أحدهما أو في كليهما بالحمل علي معني لا ينافي الآخر بلا ملاحظة النسبة بينهما،

ص: 300

فيحمل مثلا أحدهما علي الحكم الاقتضائي،و يحمل الآخر علي الحكم الفعلي و نحو ذلك.

و منه التوفيق بين لا ضرر و لا حرج،و الأحكام المطلقة الشاملة له و لغيره، فجمع صاحب الكفاية رحمه اللّه بينهما و بين الأحكام بحملها علي الحكم الأوّلي، و حملهما علي الحكم الثانوي (1).

أقول:و من التوفيق العرفي أن يكون أحد الخبرين قرينة علي المراد من الآخر، بأن يكون أحدهما عامّا و الآخر خاصّا نصّا،أو أظهر من العامّ،لكنّهم يعدّون العامّ و الخاصّ مستقلا،و هو صحيح علي مذهب من يعتقد تقديم الخاصّ علي العامّ، و إن كان أضعف منه ظهورا،لكن المختار تقديم العامّ الأظهر القويّ علي الخاصّ.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة في كون التوفيق العرفي عنوانا مستقلا،بل هو راجع إلي تقديم الأظهر علي الظاهر،فلو انعكس الأمر انعكس،مثلا لو كان معتادا لشرب الخمر ثمّ تاب،فإنّ ترك شربه حرج عليه أشدّ الحرج،فلا يصحّ أن يقال:إنّ نفي الحرج يرفع الحرمة؛و ذلك لأنّ دليل المحرّمات أقوي في الدلالة علي وجوب الاجتناب حتّي في حال الحرج.

تتميم:
اشارة

لا يقع التعارض بين الأمارات و الاصول العمليّة،و لا بين النصّ و الظاهر،و لا بين الأظهر و الظاهر،و يتقدّم الظاهر علي أصالة الحقيقة.

و لتوضيح ذلك يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل:في وجه تقديم الأمارات علي الاصول العمليّة العقليّة

و الشرعيّة

،و ينبغي ذكر أمرين،ثمّ بيان وجه تقديمها عليها:

ص: 301


1- كفاية الاصول ص 433.

الأمر الأوّل:الفرق بين الأمارة و الأصل،أنّ الأمارة ما اعتبرها الشارع في حال الشكّ طريقا إلي الواقع و كاشفا عنه،و إن لم يكن له كشف في نفسه.و الأصل ما اعتبره وظيفة عمليّة في حال الشكّ،و إن كان له كشف في نفسه لكن الشارع لم يعتبره لكشفه،سواء قلنا إنّها أحكام ظاهريّة أو أعذار إن خالفت الواقع.

و قيل في الفرق بينهما وجهان آخران:

أحدهما:أنّ الأمارة ما اعتبرها الشارع حجّة و لم يأخذ في موضوعها الشكّ، و الأصل ما اخذ في موضوعه الشكّ.

ثانيهما:أنّ الأمارة ما له كشف في نفسه و لو نوعا،و الشارع قد تمّم كشفه، و الأصل ما ليس له كشف في نفسه،و هذا الوجه لا بأس به إن استظهر من إمضاء الشارع،أو تعبّده أنّه اعتبره من حيث كشفه.

الأمر الثاني:المراد من تقدّم الأمارة علي الأصل تقدّم مؤدّي الخبر الواحد الدالّ علي حرمة الشيء علي مؤدّي الأصل الدالّ علي حلّية المشكوك مثلا،و لا يلاحظ التعارض بين دليل اعتبارهما،فدليل اعتبارهما ربما يكون دليلا واحدا، و هو صدق العادل المستفاد من الأدلّة الأربعة.

و بعد بيان الأمرين يقع الكلام في مسائل:

المسألة الاولي:يتقدّم الأمارات-كظاهر الخبر المتواتر و خبر الواحد و غيرهما-علي الاصول العقليّة بالورود،فإنّه قد علم حجّيتها بالأدلّة التي اقيمت علي حجّيتها،فليس العقاب معها عقابا بلا حجّة،و لا تحيّر عقلا حتّي يحتاط أو يتخيّر.

المسألة الثانية:يتقدّم الأمارة علي أصالة البراءة الشرعيّة في الشبهة الحكميّة علي نحو الورود،إن كان المراد ممّا لا يعلمون ما لم يعلم الأعمّ من حكمه الواقعي و الوظيفة الظاهريّة،و يتقدّم علي نحو الحكومة إن كان المراد عدم العلم بالحكم

ص: 302

الواقعي،فإنّ قيام الأمارة علي حرمة الشيء لا يوجب العلم بالحرمة الواقعيّة، لاحتمال خطئها،لكن بعد أن اعتبرها الشارع حاكيا عن الواقع يكون الواقع كأنّه واصل تعبّدا،فيرتفع الشكّ تعبّدا،و كذا الكلام في الاستصحاب بناء علي جريانه في الشبهة الحكمية.

و قيل في تقديمها علي الاصول وجوه اخر:

الأوّل:تقديمها علي نحو الحكومة،و قرّرها السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه في رسالته بثلاثة أوجه،منها:كون المجعول فيها العلم،كأنّه قال الشارع:الخبر الواحد علم تعبّدا،و قد مضي المناقشة في دليله في أوّل بحث الأمارات.و لاحظ بقيّة تقريراته.

الثاني:الورود.

الثالث:التخصيص بتقريرات ثلاثة ذكرها السيّد.

الرابع:التوفيق العرفي،قال في الكفاية:و لذلك تقدّم الأمارات المعتبرة علي الاصول الشرعيّة،فإنّه لا يكاد يتحيّر أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتها، حيث لا يلزم محذور تخصيص أصلا بخلاف العكس،فإنّه يلزم محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر (1)انتهي.

أقول:قد عرفت أنّ التقديم من باب الورود.

المسألة الثالثة:في تقديم الأمارات علي الاصول الشرعيّة في الشبهة الموضوعيّة،فإن ثبت أنّ البيّنة مثلا اعتبرت طريقا إلي الواقع و كاشفة عنه،فهي تتقدّم علي أصالة الطهارة بالحكومة،و إلاّ فيحتمل أن يكون اعتبارها تعبّدا محضا، فيتعارضان و لا بدّ من ملاحظة النسبة.7.

ص: 303


1- كفاية الاصول ص 497.

و قد تحصّل ممّا ذكر أنّه لا تعارض بين الأمارات القائمة علي الحكم الكلّي كخبر الواحد،و الاصول العمليّة،فلا يشملها الأخبار العلاجيّة.و مورد الأخبار العلاجية مخالفة الأخبار بعضها مع بعض علي وجه يتحيّر في الجمع بينهما عرفا.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا تعارض.

ثمّ لا يخفي أنّه إذا لم يكن أحد الخبرين ظاهرا في كونه شرحا للخبر الآخر، فإنّما يتقدّم عليه إن كانت النسبة بينهما العموم و الخصوص من ناحية أنّ الخاصّ أظهر من العامّ.و ما عن المحقّق الخراساني رحمه اللّه (1)من الجمع بين الأمارات و الاصول الشرعيّة بالتوفيق العرفي،فقد بيّنا أنّه لا مجال له في الأمارات و الاصول.

و أمّا مثل العناوين الأوّلية و الثانوية،كنفي الضرر و الحرج و الاكراه و غيرها، حيث قال فيها:إنّ العرف يوفّق بينها بحمل الأحكام الأوّلية علي الحكم الاقتضائي الثابت فعلا لو لا المانع،و هو طروء العنوان الثانوي،و إن كانت النسبة من وجه،فلا نسلّم ذلك،فإذا ورد مثلا لا تقتلوا النفس المحترمة،و ورد من اضطرّ إلي شيء فليفعله،و النسبة بينهما من وجه،فلا يجمع بينهما بجواز قتل النفس المحترمة عند الاضطرار،بل لو قيل بأنّ ما علم اهتمام الشارع به كقتل النفوس لا يرتفع حرمته بهذه العناوين،فيمكن أن يقال:إنّ وجه تقديمها في غير أمثال القتل علي سائر الأدلّة أنّها أخصّ من مجموع الأحكام،بناء علي أنّها بأدلّتها ناظرة إلي جميع التكاليف،و تكون بالنسبة إليها أخصّ و لذا تقدّم.

و كذا الكلام فيما سمّوه بالحاكم،و انّه يقدّم علي المحكوم و إن كانت النسبة من وجه.

و فيه منع إلاّ أن يكون بمنزلة الشرح،و ناظرا إلي المحكوم ببيان كونه شارحا،7.

ص: 304


1- كفاية الاصول ص 497.

و كلّ عامين من وجه لو كان أحدهما أظهر في مورد الاجتماع يقدّم علي الآخر.

الموضع الثاني: في تعارض الأمارات و الاصول الجارية في الألفاظ
اشارة

و المراد من الأمارات هي النصوص و الظواهر،فإنّها كاشفة عن المراد و لو تعبّدا،و المراد من الاصول هي التعبّد في حمل اللفظ علي معني من دون نظر إلي الكاشفيّة،كأصالة الحقيقة و أصالة عدم القرينة.

ثمّ البحث عنها يقع في موردين:في تقديم بعضها علي بعض،و في شمول الأخبار العلاجية لها.

أمّا المورد الأوّل،فالذي ينبغي أن يقال:انّ اللفظ النصّ في معناه يتقدّم علي الظاهر،و الأظهر يتقدّم علي الظاهر،و يتقدّم الظاهر و الأظهر علي الاصول اللفظيّة، كأصالة عدم القرينة و نحوها،و ينبغي بيان أمرين:

الأوّل:أنّ الظاهر حجّة،و عليه بناء العقلاء في محاوراتهم،فإذا كان اللفظ ظاهرا في معني فهو المتّبع،إلاّ أن يصرفه قرينة عن ظهوره،و اللفظ الأظهر يكون كالقرينة علي صرف الظاهر عن ظهوره،فلذا يتقدّم الأظهر علي الظاهر،و هذا هو الملاك في التقدّم.

الثاني:إن لم يعلم كون اللفظ ظاهرا في معني،فهل يكون أصالة الحقيقة- و بعبارة اخري أصالة عدم القرينة-حجّة تعبّدا أم لا؟مثلا إذا صدر لفظ من المولي،فله أن يعتمد في صرفه عن ظاهره علي القرينة الحالية الموجودة بينه و بين العبد،فإذا شكّ من لم يكن حاضرا في مجلس التخاطب في ظهور اللفظ لاحتمال وجود قرينة حالية علي صرف الظاهر عن ظهوره،فيبني علي أصالة عدم القرينة.

يمكن أن يقال:إنّ منشأ الشكّ في الظهور إن كان غفلة المتكلّم عن نصب

ص: 305

القرينة،أو غفلة المخاطب عن سماعها و نحو ذلك،فالعقلاء لا يعتنون بهذه الاحتمالات.

و أمّا إذا كان ذلك من احتمال وجود قرينة حالية،فلا دليل علي حجّية أصالة عدم القرينة،كما إذا كان احتمال السقوط احتمالا عقلائيّا،كأخبارنا التي يحتمل فيها خفاء القرينة لتقطيع الرواية و لضياعها و نحو ذلك،فلا دليل علي حجّيتها.

و بعد بيان الأمرين نقول:عند تعارض الخاصّ مع النصّ أو الأظهر مع العامّ، يقدّم الأظهر منهما في الدلالة،و يتصرّف في الآخر أو يطرح؛لأنّ ظهور الأظهر يقلب ظهور الظاهر إليه،فيكون كالقرينة الصارفة.

و لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جعل الظاهر أصلا و الأظهر دليلا،و الدليل يرفع موضوع الأصل،حيث قال:إنّ مرجع التعارض بين النصّ و الظاهر إلي التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر و دليل حجّية النصّ،و من المعلوم ارتفاع الأصل بالدليل،و كذا الكلام في الظاهر و الأظهر،فإنّ دليل حجّية الأظهر يجعل قرينة صارفة عن إرادة الظاهر،و لا يمكن طرحه لأجل أصالة الظهور،و لا طرح ظهوره لظهور الظاهر،فتعيّن العمل به و تأويل الظاهر منهما (1)انتهي.

أقول:الأولي أن يعبّر عن التعارض بين الأمارة و الأصل اللفظي بالتعارض البدوي بين الظاهر و الأظهر و الظاهرين،فإنّ ظهور العامّ و المطلق و اللفظ في المعني الحقيقي متّبع ببناء العقلاء،فالعموم يعارض بدوا دلالة الخاصّ النصّ أو الأظهر،و لكن العقلاء لا يرون ظهور العامّ بل مطلق الظهور حجّة إلاّ إذا حضر وقت العمل و لم يبيّن المولي خلاف العموم،فالخاصّ النصّ أو الأظهر لا يعارض العامّ، بل يكون قرينة علي التخصيص،و حينئذ لا مانع من شمول دليل الحجّية لسند خبر6.

ص: 306


1- فرائد الاصول ص 786.

الخاصّ،فيصير كالمقطوع الصدور،نعم في الخاصّ الظاهر يكون شمول الدليل له موجبا للاجمال،و فائدته نفي الثالث،كمورد الاجتماع في العامّين من وجه،و لعلّه يأتي مزيد بيان له.

و حاصل الكلام أنّ الأظهر يكون قرينة علي التصرّف في الظاهر،فإذا كان العامّ أظهر يتصرّف في الخاصّ،و اختاره في الفصول،قال:إنّ تقديم الخاصّ علي العامّ فيما لم يكن العموم مؤكّدا بالقرائن و إلاّ قدّم العامّ،و مثّل لذلك بقوله تعالي فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (1)المؤكّد بالعقل و النقل علي عدم جواز التصرّف في مال الغير بدون إذنه،و لذا لم يخصّصه الأكثرون بصحيحة سيف بن عميرة،أو حسنته الدالّة علي جواز التمتّع بأمة المرأة بغير إذنها.

و لكن قال في فوائد الاصول:الأقوي وجوب الأخذ بظهور الخاصّ و تخصيص العامّ به و لو كان ظهوره أضعف من ظهور العامّ،فإنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة علي أصالة الظهور في طرف العامّ؛لأنّ الخاصّ بمنزلة القرينة علي التصرّف في العامّ (2).

و قال في مصباح الاصول:إنّ الخاصّ يتقدّم علي العامّ و إن كان أدني منه ظهورا؛لأنّ الخاصّ حاكم علي دليل حجّية العامّ (3).

أقول:حجّية العامّ عبارة عن بناء العقلاء علي العمل بالظاهر،و هم لا يرفعون اليد عن الظاهر إلاّ بالأظهر،و دليل حجّية الخاصّ هو دليل حجّية العامّ،أي:بناء العقلاء علي العمل بالظاهر،فتدبّر.

ثمّ إنّه يأتي الكلام في تعيين الأظهر و تمييزه من الظاهر.3.

ص: 307


1- سورة النساء:25.
2- فوائد الاصول 4:269.
3- مصباح الاصول 3:353.

المورد الثاني:لا إشكال في شمول الأخبار العلاجيّة لما إذا كان الدليلان نصّين،و في شمولها للعامّ و الخاصّ و نحوهما من تعارض الظاهر و الأظهر كلام، قيل:يظهر من الشيخ الطوسي رحمه اللّه و بعض آخر الشمول،و احتمله في الكفاية في فصل عقده له،إلي أن قال:اللهمّ إلاّ أن يقال:إنّ التوفيق في مثل الخاصّ و العامّ و المقيّد و المطلق كان عليه السيرة القطعيّة الخ (1).

و في شمولها للظاهرين بالترجيح أو التخيير،أو عدم الشمول و الجمع بينهما بالجمع التبرّعي،كلام.

الذي ينبغي أن يقال:إنّ الميزان في عدم تحقّق التعارض بين الدليلين أن يكون بينهما جمع دلالي عرفي.

و أمّا إذا لم يكن بينهما جمع دلالي عرفي،و كان للجمع بينهما بتأويل الظاهر فيهما أو في أحدهما شاهد من عقل أو نقل،فهو المتّبع،كما إذا ورد يقصّر في أربعة فراسخ،و ورد لا يقصّر في أربعة فراسخ،و ورد إذا سافر بريدا و رجع من يومه قصّر،و إن لم يرجع من يومه لم يقصّر كان شاهدا للجمع.و كذا الجمع بتأويل أحدهما أو كليهما إن علم عدم إرادة ظاهرهما علي نحو لو عرض علي العرف تعيّن ذلك عندهم،فهو أيضا صحيح.

و أمّا الجمع التبرّعي،و هو تأويل أحدهما أو كليهما اقتراحا و تشهّيا،فهو غير صحيح.و كذا الجمع بالعمل ببعض مدلول كلّ من الدليلن،كالأخذ من قوله«ثمن العذرة سحت»ببعض مدلوله،و هو عذرة غير ما يؤكل،و من قوله«لا بأس ببيع العذرة»ببعض مدلوله،و هو عذرة المأكول،و حيث لم يكن وجه للجمع التبرّعي وجب الترجيح أو التخيير.1.

ص: 308


1- كفاية الاصول ص 511.

و قد يستدلّ للجمع بين الدليلن تبرّعا بوجوه:

أحدها:الاجماع،و هو ممنوع.

ثانيهما:أنّ الأصل في الدليلين العمل بهما لا طرح أحدهما من دون دليل عليه.

ثالثها:أنّ دلالة اللفظ علي أصل معناه أصليّة و علي جزئه تبعيّة،و علي تقدير الجمع يلزم إهمال الدلالة التبعيّة،و هو أولي من طرح أحدهما الموجب لطرح دلالة أصلية.

و اورد علي الدليل الثاني بأنّه كما يجب العمل بالسندين لقوله صدّق العادل، فيحكم بصدورهما،كذلك يجب العمل بظاهرهما،و لا يمكن العمل بالجميع، و حينئذ العمل بسند أحدهما معلوم،و يدور الأمر بين العمل بظاهره و العمل بالسند الآخر،و تأويل ظاهره الذي يكون مرجعه إلي عدم العمل بظاهره،و بين ترجيح أحد السندين إن كان له مرجّح،و التخيير بينهما إن لم يكن مرجّح.و لا دليل علي تعيين أحدهما إلاّ الأخذ بالأخبار العلاجيّة.

فتلخّص أنّه لا يمكن الجمع بين وجوب الأخذ بالسندين و الأخذ بالظاهرين.

و اورد علي الدليل الثالث بأنّ شمول دليل التعبّد للجميع علي حدّ سواء،يعني شموله للسندين باعتبار ظاهريهما.

و حيث انّه لا وجه لتأويل ظاهريهما،فالتعبّد بالسند يقتضي الحكم بنفي الثالث و إجمال الدليلين في محلّ المعارضة.

ثمّ إنّه قد يفصّل بين المتباينين و العامّين من وجه بلزوم الجمع في الثاني،فإنّ الطرح في أحدهما يستلزم طرح مادّة الافتراق.

و فيه أنّ الطرح بمعني عدم الحجّية في مقدار المعارضة لا طرح مادّة الافتراق، فلا مانع من كون الخبر حجّة في بعض مدلوله غير حجّة في بعض آخر،فلاحظ.

إذا تحقّق معني التعارض و موارد عدم التعارض،فيقع الكلام في مقامات:

ص: 309

المقام الأوّل: في المتعادلين
اشارة

و يقع الكلام فيه في فصلين:

الفصل الأوّل: في تعارض الخبرين المتعادلين
اشارة

و يقع الكلام في موضعين:الموضع الأوّل في مقتضي القاعدة.الموضع الثاني في أقسام المتعارضين.و محلّ البحث ما لم يعلم صدق أحدهما و تعمّد كذب الآخر،لانصراف الأخبار العلاجيّة إلي ما إذا كان كلّ واحد من الخبرين حجّة في نفسه.

أمّا

الموضع الأوّل،فالأقوال و الاحتمالات فيه سبعة:

الأوّل:التساقط (1)،و له معنيان:أحدهما عدم شمول الدليل لهما.

ثانيهما:شموله لكلّ واحد في نفسه،لكن يسقط كلّ واحد منهما الآخر،و ذلك علي حسب اختلاف المباني في حجّية الخبر،فإن قلنا إنّ معني الحجّية هو جعل مؤدّي الخبر حكما شرعيّا ظاهريّا،فالتساقط يكون بالمعني الأوّل؛لأنّه لا يمكن جعل المتناقضين.

و إن قلنا إنّ معني الحجّية جعل الكاشفيّة و الاراءة عن الواقع للخبر،فالتساقط يكون بالمعني الثاني،فإنّ الكاشفيّة و الاراءة للواقع في كلّ واحد منهما موجودة في نفسها،فالمقتضي موجود لكن يمنع عن تأثير المقتضي في كلّ واحد منهما مقتضي الموجود في الآخر فيسقطه،فهو نظير ما إذا عقد الوليّان أو الوكيلان في آن واحد لشخصين امرأة معيّنة.

ص: 310


1- نهاية الدراية 3:148.

و استدلّ القائل بالتساقط بأنّ كلّ واقعة لها أحد الأحكام الخمسة التكليفيّة،أو أحد الأحكام الوضعيّة،و الخبر طريق إلي إثباته لا شأن له سوي ذلك،فإذا أخبر مخبر عن المعصوم أنّ الفعل الكذائي حرام،و أخبر آخر عنه أنّه مباح،فدليل الحجّية إن شملهما استلزم التناقض،بأن يكون الشيء في الواقع حراما و مباحا، و لا وجه لتخصيصه بواحد معيّن منهما؛لأنّه ترجيح بلا مرجّح،و أحدهما لا بعينه ليس فردا غير هذا معيّنا و ذاك معيّنا،و هذا معني التساقط،و فرضهما كالعدم،فلذا لا ينفيان الثالث.

أقول:إنّا نعلم إجمالا بصدور الأخبار المتعارضة عن المعصومين،و لا بدّ من العمل بها،فإن كان مؤدّيا الخبرين متناقضين لم يمكن العمل بهما فيتخيّر،و إلاّ فيعمل بالأحوط منهما،و لا يجب الاحتياط التامّ الخارج عن مدلول الأخبار؛ لعدم التكليف بالواقع غير الواصل إلينا،فالخبران المتعارضان ينفيان الثالث لوجوب العمل بهما،و سيأتي مزيد توضيح.

الثاني:ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من التوقّف و الرجوع إلي الأصل الموافق لأحدهما،بناء علي العمل بالخبر من باب الطريقيّة،و الظاهر أنّ مراده من التوقّف هو نفي الثالث،و التوقّف في كلّ واحد من الخصوصيّتين،فإنّه قال في صدر المبحث:الأصل في المتكافئين التساقط أوّلا،و مع عدمه إمّا الاحتياط أو التخيير أو التوقّف و الرجوع إلي الأصل الموافق.

و قال في معني الطريقيّة:إنّ الشارع لاحظ الواقع و أمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق لغلبة ايصاله إلي الواقع،فإذا تعارض الخبران لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما،و من هنا يتّجه التوقّف بمعني أنّ شيئا منهما ليس طريقا في مؤدّاه

ص: 311

بالخصوص (1)انتهي ملخّصا.

و قال:و المفروض عدم جواز الرجوع إلي الثالث؛لأنّه طرح للأمارتين (2).

و مقتضي الجمع بين كلماته أنّه يقول بالتوقّف و نفي الثالث و العمل بالأصل الموافق لأحدهما.

و قال أيضا:و أمّا بناء علي العمل بالخبر من باب السببيّة،فإنّه يتخيّر بينهما؛لأنّه لا يقدر علي العمل بهما،فيتخيّر عقلا بمقدار قدرته،و هو القدرة علي أحدهما، و يعاقب علي تركهما عقابا واحدا (3)انتهي ملخّصا.

أقول:نسب إلي الشيخ أنّه يقول بالترتّب من هذه العبارة،لكن ليس ذلك من باب الترتّب كما بيّناه في رسالة الترتّب؛لأنّ القائلين بالترتّب يقولون بأنّه يعاقب بعقابين.

و أورد عليه السيّد الطباطبائي رحمه اللّه بأنّه لا يمكن جعل حكمين تعبّديّين لواقع واحد،إلاّ إذا لم يكن واقع أصلا،و هو تصويب محال (4).

أقول:التصويب المحال إنكار إنشاء أحكام واقعيّة،بأن يكون الأحكام تابعة للأمارة،و أمّا إذا قلنا بوجود الحكم الواقعي،لكن إذا قامت أمارة علي خلافه لم يكن الواقع فعليا،و كانت الأمارة سببا لايجاد مصلحة في الفعل مساوية للواقع، فليس بمحال،و إثبات الدليل علي بطلانه مشكل،بل في بعض الأخبار«أمّا قول زرارة فلا أستطيع ردّه»و لعلّ المستفاد من بعضها الاخر أنّ المطلوب هو التسليم للأخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام.9.

ص: 312


1- فرائد الاصول ص 762.
2- فرائد الاصول ص 765.
3- فرائد الاصول ص 762.
4- رسالة التعادل و التراجيح ص 9.

القول الثالث:التخيير بينهما،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في المتعادلين،قال في أوّل الاستبصار:و إذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلاّ بعد طرح الآخر جملة لتضادّهما و بعد التأويل بينهما،كان العامل أيضا مخيّرا في العمل بأيّهما شاء من جهة التسليم.

إلي أن قال:و لأنّه إذا ورد خبران متعارضان،و ليس بين الطائفة إجماع علي صحّة أحد الخبرين و لا علي إبطال الآخر،فكأنّه إجماع علي صحّة الخبرين،و إذا كان الاجماع علي صحّتهما كان العمل بهما جائزا سائغا (1)انتهي.

أقول:لا تكليف لنا إلاّ بمؤدّيات الأخبار،و مع تعارضهما يمكن التعبّد بصدورهما،و حيث لا يمكن العمل بهما فيتخيّر بينهما،و لعلّ الظاهر من كلام الشيخ وجوب العمل بالخبر لا كون الخبر حجّة أو علما تعبّدا.

و ذكر السيّد الطباطبائي رحمه اللّه في رسالته في تصوير التخيير:إنّه عبارة عن حكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما بعد فرض شمول الدليل لكلّ منهما،فالوجوب التخييري الظاهري بحكم العقل نظير الوجوب التخييري الشرعي،فإنّه سنخ وجوب غير الوجوب العيني،و ليس المراد أنّ واحدا لا بعينه حجّة،لاحظ كلامه (2).

القول الرابع:حجّية أحدهما لا بعينه،ذهب إليه في الكفاية (3)،قال:إنّهما و إن كانا يسقطان و لا يحكم بالتخيير بينهما،لكنّهما ينفيان الثالث،قال:إنّ الحجّة من الخبر ما احتمل إصابته للواقع،و مع التعارض يعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع،فلا يكون الخبران حجّتين،لكن لا مانع من حجّية أحدهما بلا تعيين،و ثمرتها نفي9.

ص: 313


1- الاستبصار 1:4-5.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 79.
3- كفاية الاصول ص 499.

الثالث.

و اورد عليه بأنّ أحدهما لا بعينه لا وجود له ذهنا و لا خارجا،فلا يكون حجّة، و ليس واحد منهما مطابقا للواقع و الآخر غير مطابق؛لاحتمال عدم مطابقتهما للواقع.

أقول:عموم صدّق العادل ينحلّ إلي صدّق زيدا،و صدّق عمروا،و صدّق بكرا، فإذا علم إجمالا بكذب أحدهم،فيمكن التعبّد بصدق الآخرين،و هذا أمر عرفي.

و حاصل ما اختاره في الكفاية هو تعلّق الاعتبار بالموجود الذي لا يمكن تعيّنه.

و يمكن توجيه كلامه بأن يقال:إنّ مفهوم الماء في قوله«الماء كلّه طاهر»ليس طاهرا،بل الأحكام تتعلّق بوجود الماء،و الوجود مساوق للتعيّن و التشخّص، و كذا الأفعال الحقيقيّة كالأكل و الشرب لا تتعلّق إلاّ بموجود متعيّن،و أمّا الامور الاعتباريّة،فلا بأس بتعلّقها بموجود ليس له تعيّن،كالملك المشاع،فإذا مات شخص و ورثه ابنان،كان المال مشتركا بينهما علي نحو الاشاعة،أي:يملك كلّ واحد منهما نصفه مشاعا لا تعيّن لنصفه واقعا بالنسبة إلي كلّ واحد منهما؛لأنّ الملكية أمر اعتباري،فيصحّ اعتبار ملكيّة النصف مشاعا،بخلاف الأفعال الحقيقية،فلا يقال أكل أحدهما نصفه المشاع،أو جلس علي النصف المشاع لأنّه لا يأكل إلاّ المعيّن،و لا يجلس إلاّ علي المعيّن.

و مثل الامور الاعتباريّة ما اخذ فيه القطع أو الشكّ،فإذا قيل:كلّ موجود مشكوك الطهارة طاهر،شمل الموجود الذي لا تعيّن له،فلو كان ثوب الشخص منحصرا في ثوبين طاهرين،ثمّ طفر إليهما بول و علم بإصابته لأحدهما و شكّ في إصابته للآخر،جاز له أن يقول:علمت بنجاسة ثوب موجود منهما،و أشكّ في نجاسة ثوب موجود منهما،و الأصل طهارته،و وجب عليه أن يكرّر الصلاة فيهما؛

ص: 314

لأنّ أحدهما محكوم بالطهارة الظاهريّة لا الواقعيّة؛لأنّه يمكن أن يكون قد أصابهما النجاسة،فلا واقع لنجاسة أحدهما و طهارة الآخر،و لا تعيّن لمشكوكيّة أحدهما،و مقتضي هذا البيان صحّة بيع أحد الشيئين،و يكون اختيار التعيين بعد ذلك بيد البايع أو المشتري،و كذا الاجارة علي أحد العملين.

نعم في مثل الامور التي دلّ الدليل علي تحقّقها بمجرّد الايقاع أو العقد لا يصحّ ذلك؛لعدم اعتبار للتعيين بعد الايقاع،فلا يصحّ أنكحت هندا أو زينبا،و لا أحد عبديّ حرّ،و نحو ذلك.

القول الخامس:العمل بأحوطهما،و الوجه فيه أنّا مكلّفون بالعمل بالحكم الالزامي الموجود في هذه الأخبار،و الخبران المتعارضان من أطراف العلم الاجمالي،فينبغي العمل بهما،و هو يحصل بالعمل بأحوطهما.

و فيه نظر يظهر وجهه ممّا يأتي.

القول السادس:العمل بالاحتياط التامّ و لو كان مخالفا لهما،كما إذا دلّ أحد الخبرين علي غسل المتنجّس مرّة،و دلّ الخبر الآخر علي غسله مرّتين،و احتمل وجوب غسله ثلاث مرّات،فإنّه يجب غسله ثلاث مرّات.

و فيه أنّه لا تكليف بواقع لا يكون في ضمن الأخبار؛لاشتراط التكليف بإمكان الوصول إليه.

القول السابع:التفصيل بين الموارد،ففي بعضها يتخيّر،و في بعضها يحتاط،و هو المختار،بيانه:انّ الحكم الواقعي الذي هو مطلوب من الناس هو الحكم الذي بيّنه المعصوم عليه السّلام بشرط أن لا يعلم كونه صادرا منه تقيّة،و كان قابلا لوصول المكلّف إليه إن فحص عنه،و الخبر طريق إلي هذا الحكم،كما هو ظاهر أدلّة حجّية الخبر.

هذا إن لم يكن للخبر معارض،و أمّا إن كان له خبر معارض،فهما علي قسمين:

القسم الأوّل:الخبران المتعارضان المتكفّلان للحكم التكليفي المحض،و هو

ص: 315

علي ضربين:

الأوّل:أن يعلم خطأ أحدهما،بأن قال أحدهما:إنّ المعصوم عليه السّلام قال:إنّ الشيء الكذائي حرام،و قال الآخر:كنت في ذلك المجلس،و قال:إنّ ذلك شيء حلال،بأن حكيا قضيّة واحدة متضادّة.

الثاني:أن لا يعلم خطأ أحدهما،بل احتمل صدورهما،أو صدور أحدهما،أو عدم صدورهما واقعا.

و علي كلا التقديرين فإمّا:أن يكون أحدهما إلزاميّا و الآخر ترخيصيّا و حكمه التخيير؛لعدم وصول الحكم الإلزامي بعد المعارضة.و احتمال الرجوع إلي عموم دليل الأصل،مدفوع بأنّه إن كان عمومه الاستصحاب،فهو لا يجري في الشبهة الحكميّة،و إن كان البراءة فهو موافق للتخيير.و إن كانا إلزاميّين و أمكن الاحتياط يحتاط و إلاّ يتخيّر.

القسم الثاني:أن يكون مضمون الخبرين حكما وضعيّا،كما إذا دلّ أحد الخبرين علي بطلان الطلاق بالصيغة الفارسيّة مثلا،و دلّ الخبر الآخر علي صحّته، فإن طلّق زوجته بالفارسيّة،فحيث إنّ الشبهة حكميّة،فلا يرجع إلي استصحاب بقاء الزوجيّة،فهو شاكّ في زوجيّة المرأة بعد إجراء هذه الصيغة،و شاكّ في جواز النظر و سائر أحكام الزوجيّة،و الحكم الواقعي الذي يجب عليه مراعاته لا يخرج عن مضمون الخبرين،فلا بدّ من الاحتياط.

ثمّ إنّه علي المختار ينفي الثالث من جهة عدم وصول واقع غير المتعارضين، و أمّا علي التساقط فقد يقال كما في نهاية الدراية (1)بأنّ مقتضي الدلالة الالتزاميّة للخبرين نفي الثالث،فإنّها تابعة للدلالة المطابقيّة في الوجود لا في الحجّية،فإذا لم0.

ص: 316


1- نهاية الدراية 3:150.

تكن الدلالة المطابقيّة حجّة للتعارض،فلا مانع من حجّية الدلالة الالتزاميّة.

و أورد عليه في مصباح الاصول بعد نقوض بأنّ الدلالة الالتزاميّة هي نفي ما عدا المدلول المطابقي الملازم لوجود المدلول المطابقي لا نفيه مطلقا.

قلت:هذا الجواب متين،و الأولي أن يقال:إنّ إخبار المخبر إن انحلّ إلي الخبر بالمدلول المطابقي و الالتزامي و لو عادة،كانت الدلالة الالتزامية حجّة و إلاّ فلا، مثلا إن أخبر أحدهم أنّ زيدا ضرب عمروا مرّة،و أخبر آخر أنّه ضربه مرّتين، فإنّهما أخبرا عن أنّه لم يضربه ثلاث مرّات،فهما حجّتان في نفي الثالث.

الموضع الثاني: في بيان أقسام الخبرين المتعارضين حتّي يتبيّن موارد التعارض
اشارة

الخبران من حيث الدلالة هما:إمّا نصّان،و إمّا ظاهران،و إمّا مختلفان،و من حيث السند:إمّا قطعيّان،و إمّا ظنّيان،و إمّا مختلفان،فهذه تسعة أقسام.

القسم الأوّل:أن يكونا نصّين قطعيّي السند،صادرين لبيان الحكم الواقعي في زمان واحد،و هذا غير معقول،و لعلّ هذا الفرض مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:ثمّ إنّ التعارض لا يكون في الأدلّة القطعيّة؛لأنّ حجّيتها إنّما هي من حيث صفة القطع،و القطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن،و منه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجّيتهما باعتبار الظنّ الفعلي؛لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال (1).

نعم إن لم يدلّ دليل علي صدورهما لبيان الحكم الواقعي،فهو فرض معقول بأن يكونا صدرا من المعصوم قطعا،لكن يكون أحدهما صادرا تقيّة أو لغير ذلك،و قد حمل المجلسي الأوّل رحمه اللّه أخبار سهو النبي صلّي اللّه عليه و آله علي التقية،مع أنّه ادّعي فيها

ص: 317


1- فرائد الاصول ص 752.

قطعية الصدور و الدلالة،لاحظ (1).

و من لاحظ الأخبار يجد صدور المتعارضات عنهم،ففي كتاب الحجّ:إنّ زرارة نقل عن المعصوم عليه السّلام شيئا و هو قال غيره.لاحظ قصّة عمر بن رباح المذكورة في كتاب فرق الشيعة.

القسم الثاني:أن يكونا نصّين غير قطعيّي السند،و هما متعارضان،تقدّم مقتضي القاعدة فيهما،و يشملهما أخبار العلاج.

القسم الثالث:أن يكون أحدهما قطعي السند و الآخر غير قطعي السند مع كونهما نصّين،و حكمه حكم القسم السادس،و سيأتي أنّ المختار جريان أخبار العلاج علي تفصيل يأتي.

القسم الرابع:أن يكونا ظاهري الدلالة قطعيّي السند،و فيه أقوال:

أحدها:وجوب التأويل في الظاهرين؛لأنّ قطعيّة الصدور قرينة عليه،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:و لا إشكال و لا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور كآيتين أو خبرين متواترين،وجب تأويلهما و العمل بخلاف ظاهرهما،فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين (2)انتهي.

أقول:أمّا الآيتان،فلا بدّ من أن يكون لهما تأويل.و أمّا الأخبار،فمقتضي القاعدة الاجمال،و يشملهما أخبار العلاج من الحمل علي التقيّة و التخيير.

ثانيها:ما اختاره صاحب الكفاية في تعليقته (3)،فإنّه جعل ذلك علي قسمين:

القسم الأوّل:ما يتعيّن فيه الجمع،و هو ما إذا لم يتحيّر العرف في تعيين المراد5.

ص: 318


1- بحار الأنوار 17:121.
2- فرائد الاصول ص 754.
3- التعليقة علي الفرائد ص 435.

بعد صرفهما عن ظاهرهما.

القسم الثاني:ما يتعيّن فيه الطرح بلا إشكال،و هو كلّ مورد يوجب صرفهما عن ظاهرهما الاجمال؛لعدم ما يعيّن ما ينصرفان إليه.

ثالثها:ما اختاره السيّد الطباطبائي رحمه اللّه،قال:إنّ المعني التأويلي لهما:إمّا أن يكون متّحدا،أو متعدّدا.أمّا الصورة الاولي،فالأقوي تعيّن إرادته،فإنّه بعد العلم بعدم إرادة الظاهر و فرض قطعيّة الصدور يجعله العرف من المداليل للّفظ،و لا يعتني باحتمال عدم إرادة شيء من اللفظ،مثلا إذا قال أكرم زيدا و لا تكرم زيدا، فإنّ العرف لا يساعد علي إرادة الاباحة منهما لبعدها،إلاّ انّه إذا لاحظ قطعيّة الصدور و فرض العلم بعدم إرادة الكراهة أو الاستحباب يقول بتعيّن إرادة الاباحة.و أمّا الصورة الثانية،فهي ما إذا كان التأويل متعدّدا،فلا يجوز الأخذ بأحد التأويلات اقتراحا.

رابعها:تساقطهما و فرضهما كالعدم،اختاره في مصباح الاصول (1).

و فيه أنّه بعد القطع بصدورهما لا تجوز مخالفتهما،و لذا ينفيان الثالث،بل إمّا يحتاط بينهما،أو يؤخذ بالأصل الموافق لأحدهما،هذا مقتضي القاعدة،و يشمله الأخبار العلاجية من الحمل علي التقية و نحوه.

تتميم:

إذا لم يكن له معني تأويلي،أو كان متعدّدا،فهل يتساقطان أو يتخيّر بينهما؟ قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إذ علي العمل بقاعدة الجمع يجب أن يحكم بصدورهما و إجمالهما كمقطوعي الصدور (2)انتهي.

و لعلّ ظاهر كلامه أنّ الاجمال بواسطة التعارض،لكن قد يقال:التحقيق أنّ بناء

ص: 319


1- مصباح الاصول 3:403.
2- فرائد الاصول ص 757.

العقلاء أو إجماع العلماء التعبّدي لا يشملان صورة تعارض الظاهرين،لا أنّهما يشملانها و يتساقطان،ثمّ إنّه بناء علي الاجمال حيث أنّه يعلم بصدورهما فينفيان الثالث،فلا بدّ من الرجوع إلي الأصل الموافق لأحدهما.

القسم الخامس:أن يكونا ظاهري الدلالة غير قطعيّي السند،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ما ملخّصه:إنّ مقتضي شمول دليل حجّية السند الحكم بإجمالهما و الأخذ بالأصل المطابق لأحدهما؛لأنّه بعد الحكم بصدورهما لا يجوز الرجوع إلي الثالث،و لا يجب الأخذ بالأحوط منهما،لكن الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة،فإن كان لأحدهما مرجّح أخذ به،و إلاّ فمقتضي الأخبار العلاجية التخيير،لكن الظاهر من سيرة العلماء عدا الشيخ التوقّف و الرجوع إلي الأصل المطابق لأحدهما (1).

أقول:و لا وجه للجمع كما تقدّم،فمقتضي القاعدة التعبّد بصدورهما لترتيب أثر عدم جواز الرجوع إلي الثالث،و يجري فيه الأخبار العلاجيّة.

القسم السادس:أن يكونا ظاهري الدلالة،أحدهما قطعي السند و الآخر غير قطعي السند،فإن كان دلالة السند القطعي أظهر قدّم علي الآخر و كان قرينة علي تأويل الآخر.و أمّا إذا كان دلالة السند غير القطعي أظهر،فهل يتقدّم علي القطعي أو لا؟قالوا بالتقدّم للجمع العرفي،و هو محلّ إشكال عندنا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.و أمّا تخصيص الخبر بالخبر،فلعلّه لا بأس به.

و أمّا إذا كانا ظاهرين لم يكن أحدهما أظهر من آخر،فلا وجه للتأويل فيهما؛ لعدم القطع بصدورهما،بل ربما يقطع بصدور واحد منهما،و حينئذ فهل يشملهما الأخبار العلاجيّة أو يطرح الظنّي السند؟اختار ثانيهما في المصباح،قال:لأنّه7.

ص: 320


1- فرائد الاصول ص 757.

مخالف للسنّة القطعيّة،فيطرح بمقتضي الأخبار الكثيرة الدالّة علي طرح الخبر المخالف للكتاب أو السنّة (1).

و في الكفاية قال:و أمّا إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه،كالكتاب و السنّة القطعيّة،فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلّية، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح؛لعدم حجّية الخبر المخالف كذلك من أصله و لو مع عدم المعارض،فإنّه المتيقّن من الأخبار الدالّة علي أنّه زخرف أو باطل أو لم نقله (2)انتهي.

أقول:إذا كان القطع حاصلا من شهرة الخبر،و كان الخبر الآخر شاذّا فهو،و أمّا إذا انعكس و كان القطع حاصلا من ناحية اخري،و كان الخبر الآخر مشهورا مخالفا للعامّة،فلا يبعد جريان الأخبار العلاجيّة.

لكن ينبغي التفصيل بين سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا عارضها الخبر عن الأئمّة رحمه اللّه،فإنّه يتقدّم سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله لقوله في خبر المسمعي:فما لم يكن في الكتاب فاعرضوه علي سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله،فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و أمره (3).

و بين تعارض الخبر الصادر عنهم مع الخبر غير قطعي الصدور،فيجري فيه ما يقتضيه الأخبار العلاجيّة.و لعلّ مراد صاحب الكفاية من السنّة خصوص السنّة النبويّة،فتأمّل و ينبغي الاحتياط.

القسم السابع:أن يكونا قطعيّي السند و أحدهما نصّ و الآخر ظاهر،فإن كان النصّ قرينة عرفا علي التصرّف في الظاهر فهو جمع عرفي،و إن لم يكن كذلك3.

ص: 321


1- مصباح الاصول 3:403.
2- كفاية الاصول ص 524.
3- بحار الأنوار 2:233.

فهما متعارضان و يشملهما أخبار العلاج.

القسم الثامن:أن يكونا غير قطعيّي السند و أحدهما نصّ و الآخر ظاهر، و حكمه حكم السابع.

القسم التاسع:أن يكون أحدهما قطعي السند و الدلالة،و الآخر ظنّي السند و الدلالة،و مقتضي ما تقدّم في السادس أن لا يكون ظنّي السند و الدلالة حجّة لمعارضته السنّة القطعيّة،لكن التفصيل المتقدّم يجري فيه.

القسم العاشر:أن يكون أحدهما ظنّي السند نصّا و الآخر قطعي السند ظاهرا، و حكمه حكم السابع،فتأمّل.

و ملخّص الكلام:أنّه إن كان الجمع العرفي ممكنا بتقديم النصّ علي الظاهر و التصرّف في الظاهر،تعيّن علي تأمّل في بعض الموارد،و إن لم يمكن كان جميع الأقسام المذكورة داخلا في أخبار العلاج،فانتظر الكلام فيها.

ثمّ إنّ ما ذكر في هذا المقام يحتاج إلي تفصيل لعلّه نتعرّض له.

الفصل الثاني: في تعارض غير الخبرين
اشارة

و هو أقسام:

القسم الأوّل:تعارض الأحكام العقليّة

،و هو غير واقع.

القسم الثاني:تعارض بناء العقلاء

،كظاهرين مقطوعي الصدور مثل الآيتين،و ذلك غير ممكن؛لأنّه لا بناء لهم علي اتّباع الظهورين فيصيران مجملين،قال السيّد اليزدي رحمه اللّه:إنّ بناء العقلاء حكم عقلي إجمالي.

القسم الثالث:تعارض الخبر القطعي الصدور لبيان الحكم الواقعي القطعي الدلالة مع

ظاهر الكتاب

،و هو مقدّم علي الكتاب،و يكون قرينة علي صرفه عن ظاهره.

القسم الرابع:تعارض الخبر الظنّي الصدور قطعي الدلالة أو الأظهر مع ظاهر الكتاب

،

ص: 322

قالوا:إنّه يتقدّم علي ظاهر الآية و هو مشكل،و منه تخصيص الكتاب بخبر الواحد، و سبق الكلام فيه.

القسم الخامس:تعارض العقل مع ظاهر الآية

،قال السيّد في رسالته في الموضع الثاني في بيان كيفيّة تقديم الأدلّة علي الاصول اللفظيّة،قال:و أيضا من المعروف أنّ حكم العقل بعدم الجبر يقدّم علي الآيات الظاهرة فيه،و يقال:إنّها معارضة لحكم العقل.

القسم السادس:تعارض العقل مع الخبر

،و حكمه كسابقه.

القسم السابع:تعارض الخبر مع الاجماع المحصّل أو المنقول

،و هذا يكون من الاعراض عن الخبر في بعض الموارد.

القسم الثامن:تعارض الأصلين

،و سبق في بحث الاستصحاب و غيره.

القسم التاسع:تعارض اللغويّين بناء علي حجّية قول اللغوي

،و لا يبعد أن يكون مقتضي القاعدة التساقط،و في بعض الموارد يمكن إثبات نفي الثالث.

القسم العاشر:تعارض المجتهدين المتساويين في الفتوي

،بناء علي وجوب تقليد الحيّ الأعلم،فإذا كانا متساويين و تعارضا لم يصل الحكم الواقعي إلي المقلّد، فهل يرجع إلي البراءة أو الاحتياط أو الأحوط منهما؟وجوه.

المقام الثاني: في ذكر الأخبار العلاجية
اشارة

الدالّة علي الترجيح الدلالي و السندي و الجهتي و المضموني،و مع عدمها فالتخيير،و هي طوائف:

الطائفة الاولي:ما تدلّ علي أنّ في كلامهم خاصّا و عامّا و متشابها

،و هي عدّة أخبار:

أحدها:ما عن معاني الأخبار،عن داود بن فرقد،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام

ص: 323

يقول:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرفه كيف شاء و لا يكذب (1).

ثانيها:ما عن البصائر،عن الأحول،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها (2).

ثالثها:ما عن البصائر،عن علي بن أبي حمزة،قال:دخلت أنا و أبو بصير علي أبي عبد اللّه عليه السّلام،فبينما نحن قعود إذ تكلّم أبو عبد اللّه عليه السّلام بحرف،فقلت في نفسي:

هذا و اللّه حديث لم أسمع مثله قطّ،قال:فنظر في وجهي،ثمّ قال:إنّي أتكلّم بالحرف الواحد لي فيه سبعون وجها،إن شئت أخذت كذا،و إن شئت أخذت كذا (3).

رابعها:ما عن معاني الأخبار،عن إبراهيم الكرخي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،إنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف إلي سبعين وجها لنا من جميع ذلك المخرج (4).إلي غير ذلك من الأخبار.

الطائفة الثانية:ما تدلّ علي التخيير بين الخبرين
اشارة

،و قبل بيانه نذكر امورا:

أحدها:إذا دلّ خبر واحد علي التخيير في مورد الخبرين المتعارضين صار طرف المعارضة لهما،فإنّ نسبة صدّق العادل إلي جميعها علي السواء،فكلّ واحد من هذه الأخبار الثلاثة مشمول له في نفسه،مثلا إذا ورد خبر علي أنّ الكرّ سبعة و عشرون شبرا،و خبر علي أنّه أكثر منها،و خبر علي التخيير بينهما.

ص: 324


1- معاني الأخبار ص 1 ح 1.
2- بصائر الدرجات ص 329.
3- بصائر الدرجات ص 329 ح 3.
4- معاني الأخبار ص 2 ح 3.

فهذه الأخبار كلّها متعارضة؛لأنّ مقتضي ما دلّ منها علي سبعة و عشرين تعيّن أن يكون الكرّ كذلك،و هو ينفي التخيير كما ينفي التعيين بغير سبعة و عشرين،و كذا مقتضي ما دلّ علي أنّه أكثر من سبعة و عشرين تعيّنه و نفي التخيير و التعيين بغير ما دلّ عليه،و مقتضي ما دلّ علي التخيير بينهما عدم تعيّنهما.نعم إن دلّ خبر علي أنّه إن تعارض خبران،فهو مخيّر في الأخذ بأحدهما لم يعارضهما لأنّ موضوعه وجودهما.

ثانيها:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت علي عدم التساقط مع فقد المرجّح،فإذا لم يحكم بالتساقط فهل الحكم التخيير،أو العمل بما طابق منهما الاحتياط،أو بالاحتياط و لو كان مخالفا لهما،كالجمع بين الظهر و الجمعة و القصر و الاتمام؟وجوه المشهور الأوّل؛للأخبار المستفيضة بل المتواترة (1)انتهي.

أقول:دعواه التواتر في المقامين ممنوعة و سيظهر ذلك.

ثالثها:قال في الكفاية:إنّ إطلاق أخبار التخيير محكّم،و أخبار الترجيح لو سلّم دلالتها علي الترجيح محمولة علي الندب.

أقول:لا يوجد خبر صحيح مطلق يدلّ علي التخيير،و سيظهر ذلك بعد ذكر الأخبار،و هي:

أوّلها:خبر الحسن بن الجهم،عن الرضا عليه السّلام أنّه قال:قلت للرضا عليه السّلام:تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة،قال:ما جاءك عنّا فقسه علي كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا،فإن كان يشبهها فهو منّا،و إن لم يشبهها فليس منّا،قلت:يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين،فلا نعلم أيّهما الحقّ؟فقال:إذا لم تعلم2.

ص: 325


1- فرائد الاصول ص 762.

فموسّع عليك بأيّهما أخذت (1).

و روي العيّاشي في تفسيره عن الحسن بن الجهم،عن العبد الصالح،قال عليه السّلام:

إذا جاءك الحديثان المختلفان،فقسهما علي كتاب اللّه و أحاديثنا،فإن أشبهها فهو حقّ،و إن لم يشبهها فهو باطل (2).

يحتمل أن يكون المراد من العبد الصالح أبا الحسن الرضا عليه السّلام،فيكون بعض الخبر الأوّل.

قوله«ما جاءك عنّا»مطلق شامل لخبر الثقة المأمون و غيره،فيقيّده ما دلّ علي حجّية خبر الثقة،فيختصّ هذا الخبر بالأخبار التي ليست حجّة.

قوله«يشبهها»لعلّه محمول علي وجوده فيه.

قوله«قلت:يجيئنا الرجلان»إلي آخره،يعني في مورد لا يعلم الحقّ لا بالقياس علي الكتاب و أحاديثهم و لا بغيره«فقال:إذا لم تعلم»ظاهره أنّه لم تعلم وجدانا فموسّع عليك،لكن لو دلّ خبر صحيح مثلا علي أنّ الحقّ فيما خالف العامّة،كان مبيّنا للمراد من العلم بالحقّ،فيكون التخيير بعد فقد المرجّحات،إن تمّت أخبار الترجيح سندا و دلالة،فلا بأس بدلالته علي التخيير بعد فقد المرجّح، مضافا إلي دلالة صدره علي الترجيح بموافقة الكتاب،لكن سنده غير ثابت؛لأنّه لم يذكر الرواة عن الحسن بن الجهم لا في الاحتجاج و لا في تفسير العيّاشي،فقد روياه مرسلا عنه.

ثانيها:ما رواه في الاحتجاج عن الحارث بن المغيرة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتّي تري القائم8.

ص: 326


1- جامع أحاديث الشيعة 1:260 ب 6 ح 20.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 20 ح 18.

فترده عليه (1).و السند إلي الحارث غير مذكور.

و نوقش فيه بأنّ مورده التمكّن من لقاء الامام القائم بالأمر في كلّ عصر،فيدلّ علي التخيير في مدّة قليلة،و لا تلازم بينها و بين زمان الغيبة؛و بأنّ الخطاب متوجّه إلي الحارث،و«أصحابك»لا تشمل الوسائط الكثيرة،بل أصحابه هم الرواة بلا واسطة أو بواسطة واحدة.

ثمّ إنّ إطلاقه شامل للخبرين المتعارضين،سواء كان مع أحدهما ترجيح أو لم يكن،فيمكن تقييده بصورة عدم وجود مرجّح لأحد الخبرين،أو إبقاؤه علي إطلاقه بالنسبة إلي شخص الحارث.

و أيضا إطلاقه يشمل غير المتعارضين،و مقتضاه اشتراط العمل بخبر الثقة في زمان الحضور بالردّ إلي القائم بالأمر.

و لازمه أن يكون-كما في مصباح الاصول-من شرط العمل بخبر الثقة في زمان الحضور و الغيبة ردّه إلي الحجّة بن الحسن عليهما السّلام.

ثالثها:ما رواه في التهذيب عن أحمد بن محمّد،عن العبّاس بن معروف،عن علي بن مهزيار،قال:قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلي أبي الحسن عليه السّلام:

اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في ركعتي الفجر في السفر، فروي بعضهم أن صلّهما في المحمل،و روي بعضهم لا تصلّهما إلاّ علي الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟فوقّع عليه السّلام:موسّع عليك بأيّة عملت (2).

و نوقش فيه بأنّ قوله«موسّع عليك بأيّة عملت»يحتمل إرادة جواز الأمرين واقعا لا العمل بأيّ الخبرين،و يؤيّده أنّ الراوي سأل عن فعل الامام و أنّه كيف2.

ص: 327


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 20 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 5:69 كتاب الصلاة،القبلة،ب 10 ح 22.

يصنع ليقتدي به،و وظيفة الامام بيان الحكم الواقعي.

أقول:بل لو اريد العمل بأيّ الخبرين،فلعلّه من أجل كون الحكم الواقعي هو التخيير،و دلّ كلّ واحد من الخبرين علي أحد عدلي التخيير.

و قد ورد في صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج،عن أبي الحسن عليه السّلام،إلي أن قال:

فإنّ صلاتك علي الأرض أحبّ إليّ (1).

و لو سلّم اختلاف الخبرين،فلعلّه من باب إلقائهم الخلاف بين أصحابهم أو لغير ذلك.و علي أيّ تقدير لو سلّم دلالته علي التخيير في العمل بالخبرين،فمورده المستحبّات،و لا يتعدّي إلي الأحكام الالزاميّة؛لاحتمال التوسعة في المستحبّات، بل لا عموم فيه يشمل غير موردهما من المستحبّات،فهذا حكم خاصّ بالصلاة في المحمل أو علي الأرض.

رابعها:ما روي في كتاب الغيبة،عن كتاب آخر:فرأيك أدام اللّه عزّك في تأمّل رقعتي و التفضّل بما يسهل لأضيفه إلي سائر أياديك عليّ،و احتجت أدام اللّه عزّك أن تسأل لي بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل للركعة الثالثة،هل يجب عليه أن يكبّر؟فإنّ بعض أصحابنا قال:لا يجب عليه التكبير و يجزيه أن يقول بحول اللّه و قوّته أقوم و أقعد.

الجواب قال:إنّ فيه حديثين:أمّا أحدهما،فإنّه إذا انتقل من حالة إلي حالة اخري فعليه تكبير،و أمّا الآخر،فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام،فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير،و كذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجري،و بأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا (2).

و المناقشة فيه من جهات:أوّلا:يحتمل كون المسؤول غير المعصوم،و لو سلّم9.

ص: 328


1- جامع أحاديث الشيعة 5:69 ب 10 ح 20.
2- جامع الأحاديث الشيعة 5:545-546 ب 24 السجود ح 9.

كونه المعصوم عليه السّلام،لكن سند الخبر محلّ إشكال؛لأنّ السند المتقدّم هكذا:وجدت بخطّ أحمد بن إبراهيم النوبختي،و لم يثبت و ثاقته،فطريق الخبر غير معلوم، فتأمّل.

و ثانيا:أنّ مورده المستحبّات المبني أمرها علي التخفيف و السهولة،فلا يتعدّي منها إلي الإلزاميّات،و قوله«فعليه تكبير»يراد به عليه تكبير إستحبابا.

و ثالثا:ظهور قوله«بأيّهما أخذت»في الرخصة الواقعيّة لا التخيير بين الحجّتين من جهة ظهور السؤال في الاستفهام عن الحكم الواقعي،و ظاهر حال الامام بيان الحكم الواقعي،لكن فيه أنّ قوله«بأيّهما أخذت من باب التسليم» ظاهر في التخيير بين الحجّتين مع التسليم،و التخيير الواقعي لا حاجة فيه إلي التسليم،فإنّ مصلحة التسليم توجب التعبّد بالتخيير بين الخبرين.

و رابعا:عدم التعارض بين الحديثين؛لأنّ ثانيهما أخصّ من الأوّل لو لم يكن حاكما.و فيه أنّه قد فهم ناقل الحديثين أنّ إطلاق حديث الأوّل غير قابل للتقييد، و لعلّه لعدم معارضة العامّ مع الخاصّ في المستحبّات؛لاحتمال الحمل علي مراتب المطلوبية.

و خامسا:مورد هذه الرواية الحديثان القطعيّان اللذان نقلهما الامام عليه السّلام،فلا يتعدّي إلي التعارض بين الخبرين الظنّيين سندا.

و فيه احتمال أن يكون المراد من قوله«فيه حديثان»أنّه قد روي فيه حديثان و إن لم يكونا صادرين واقعا،أو كان أحدهما صادرا.

و سادسا:أنّه لو سلّم دلالته علي التخيير في الأخذ،فلا عموم فيه يشمل غير مورد الرواية.

خامسها:ما عن الفقه الرضوي:و النفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضة، و هي عشرة أيّام،و تستظهر بثلاثة أيّام،ثمّ تغتسل،فإذا رأت الدم عملت كما تعمل

ص: 329

المستحاضة،و قد روي ثمانية عشر يوما،و روي ثلاث و عشرين يوما،و بأيّ هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز (1).

و فيه مضافا إلي عدم ثبوت سنده أنّه لا وجه للتعدّي إلي غيره؛لأنّه حكم مورد خاصّ.

سادسها:مرفوعة زرارة،قال:سألت الباقر عليه السّلام،فقلت:جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّها آخذ؟قال عليه السّلام:يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذّ النادر،فقلت:يا سيّدي انّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم،فقال عليه السّلام:خذ بقول أعدلهما عندك و أوثقهما في نفسك،فقلت:

إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان،فقال عليه السّلام:انظر ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه و خذ بما خالفهم،قلت:ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال عليه السّلام:إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك ما خالف الاحتياط،فقلت:إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟فقال عليه السّلام:إذا فتخيّر أحدهما فتأخذ به و تدع الآخر (2).

و فيه أنّها تدلّ علي التخيير بعد عدم إمكان الاحتياط.

و نوقش في سندها بالارسال،و عدم ثبوت نسبتها لكتب العلاّمة،لتفرّد صاحب عوالي اللئالي في نسبتها إليها،و بغرابة متنها،فإنّه كيف يصل لزرارة أخبار متعارضة عن الامام أبي جعفر عليه السّلام؟!لكن يحتمل أن يكون السؤال سؤالا فرضيا.

سابعها:خبر الميثمي أنّه سأل الرضا عليه السّلام يوما و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه و قد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في الشيء الواحد،إلي أن قال:فما جاء في النهي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي حرام ثمّ جاء2.

ص: 330


1- جامع أحاديث الشيعة 2:551 ب 28 ح 11.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:255 ب 6 ح 2.

خلافه لم يسع استعمال ذلك.

أقول:و المراد من المجيء الأوّل كونه مرويّا عن الأئمّة عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بطريق قطعي،أو كونه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قطعيّا،و المراد من الثاني أن يكون بخبر الواحد.و أمّا لو كان قد صدر عنهم قطعا خلاف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فذلك لا يكون إلاّ لعلّة خوف ضرورة.

إلي أن قال:فما كان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي إعافة أو أمر فضل،فذلك الذي يسع استعمال الرخص فيه.أي:روي عن الأئمّة المعصومين عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أو روي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي نحو قطعي السند و الدلالة،ثمّ جاء الخبر عن الأئمّة في الترخيص.

إلي أن قال:إذا ورد عليكم عنّا فيه الخبر باتّفاق يرويه من يرويه في النهي و لا ينكره،و كان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعا،أو بأيّهما شئت و أحببت موسّع ذلك لك من باب التسليم لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و الردّ إليه و إلينا،و كان تارك ذلك من باب العناد و الانكار و ترك التسليم لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله مشركا باللّه العظيم،فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما علي كتاب اللّه،فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب.

و ما لم يكن في الكتاب فأعرضوه علي سنن النبي صلّي اللّه عليه و آله،فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه و أمره.

و ما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة،ثمّ كان الخبر الآخر خلافه،فذلك رحصة فيما عافه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و كرهه و لم يحرمه،فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا،أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم و الاتّباع و الردّ إلي رسول

ص: 331

اللّه صلّي اللّه عليه و آله،و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه،فنحن أولي بذلك و لا تقولوا فيه بآرائكم،و عليكم بالكفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتّي يأتيكم البيان من عندنا (1).

قوله«إذا ورد عليكم عنّا فيه الخبران»لعلّ المراد بالخبرين الخبر الوارد عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله المشتمل علي نهي إعافة،و الخبر الوارد عنهم في الرخصة بقرينة ما بعده.

قوله«يجب الأخذ بأحدهما أو بهما أو بأيّهما»لعلّ المراد العمل بأحدهما المعيّن أو بهما،بأن يعتقد الكراهة،أو بأيّهما تخييرا استمراريّا،و يحتمل عدم صحّة النسخة.

قوله«موسّع»يحتمل قريبا أن يكون التوسيع من جهة أنّ الحكم غير إلزامي يجوز تركه،فالعمل بالخبر المخالف في الحقيقة عمل بقول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حيث انّه لمّا أمر أو نهي لا مع الالزام،فقد أذن و رخص في خلافه،فلا يستفاد منه التخيير في غير الالزاميّات الذي ورد فيه خبران عن غير النبي صلّي اللّه عليه و آله،فضلا عن الالزاميّات،بل قوله«عليكم بالكفّ»يدلّ علي التوقّف.

ثامنها:ما رواه في الكافي،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن عثمان بن عيسي،و الحسن بن محبوب،جميعا عن سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه.

و في رواية اخري:بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (2).7.

ص: 332


1- جامع أحاديث الشيعة 1:261-262 ح 22.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:257 ح 7.

قوله«رجلان من أهل دينه»إطلاقه شامل لما إذا لم يكونا ثقتين عنده،بل كانا مثلا من الشيعة،و شامل لما إذا لم يكونا من الفقهاء و العلماء،لكن لا يبعد أن يكون المراد رجلان من أهل دينه ممّن يقبل قوله لو لا المعارضة.

قوله«في أمر»إطلاقه شامل للاصول الاعتقاديّة و الفروع لو لم يكن ظاهرا في الفروع،فإنّ الأخذ ظاهر في كونه للعمل.

قوله«يأمر»أي:إلزاما،و يحتمل إرادة الأعمّ منه و من الترخيص.

قوله«و الآخر ينهاه»إطلاقه شامل لما إذا كان للمأمور مندوحة،و لما إذا كان لا بدّ له من العمل.

قوله«يرجئه»يعني:يجب عليه أن يوخّر حكم الأمر الذي اختلف في حكمه، و مقتضي ترك الاستفصال أنّه يرجئه و إن كان في أحدهما ترجيح،و يمكن تقييده بما إذا لم يعرف التراجيح أو لم يكن ترجيح،و الأوّل أظهر.

قوله«حتّي يلقي»يحتمل وجهين،أحدهما:أنّه يجب عليه أن يؤخّر و يجب عليه أن يلقي من يخبره،فيكون«حتّي»تعليليّة،أي:يرجئه ليلقي.

ثانيهما:أنّه يؤخّر إلي أن يتّفق أن يلقي من يخبره،و ليس عليه شدّ الرحال إلي من يخبره.

قوله«من يخبره»ممّن يعتمد علي قوله من إمام معصوم،أو راو فقيه يعتمد عليه.

قوله«فهو في سعة حتّي يلقاه»يحتمل امورا:

أحدها:في سعة في الأخذ بكلّ واحد من الحجّتين و إرجاء تعيين الواقعة.

و فيه أنّه ينافي قوله«يرجئه»فإنّه ظاهر في أنّه لا يعمل بواحد منهما لا أنّه يؤخّر تعيين الواقعة.

ثانيهما:أنّه تأكيد للجملة الاولي،أي:يرجئه و ليس عليه الفحص عن الواقع

ص: 333

المجهول،فهو في سعة عن الفحص و الوصول إلي الحكم الواقعي،و أمّا الوظيفة العمليّة فهو كما كان قبل ورود الخبرين،فيكون من أخبار التساقط.

ثالثها:ما ذكره السيّد الطباطبائي اليزدي في رسالة التعادل و التراجيح،و هو أنّه في سعة من حيث الرجوع إلي الأصل،فيكون دليلا علي التساقط أو التوقّف و الرجوع إلي الأصل المطابق (1).

قلت:هذا الاحتمال بعيد.

رابعها:ما ذكره أيضا و هو السعة في الارجاء،فيكون دليلا علي الاحتياط.

خامسها:أن يكون في سعة من حيث العمل.

أقول:الظاهر هو المعني الأخير.

ثمّ إنّ هذا الخبر ربّما يوهم أنّه لا وجه لتقديم النصّ علي الظاهر،فإنّه يدلّ علي أنّ إفعل و لا تفعل من المتعارضين.

و الجواب:أنّ ظاهر قوله«يأمره»دلالة كلامه علي الوجوب؛لأنّ مادّة أمر تستعمل في الوجوب،و لا يدلّ علي أنّه كان بصيغة إفعل.

و ناقش في نهاية الدراية (2)بأنّ حالها حال الثانية من حيث التقيّد بالتمكّن من لقاء الامام عليه السّلام،بل كلّ من يخبره بحكم الواقعة كنوّابه عموما أو خصوصا،بل سيأتي إن شاء اللّه تعالي أنّها من أدلّة التوقّف لا من أدلّة التخيير.

و قال بعد كلام:مع أنّ الظاهر أنّ قوله عليه السّلام«فهو في سعة حتّي يلقاه»ليس حكما بالتخيير بين الخبرين،بل هي التوسعة التي يحكم بها العقل مع عدم الحجّة علي شيء من الطرفين؛لقوله عليه السّلام«يرجئه حتّي يلقي من يخبره»فقد أمر بالتوقّف و عدم التعبّد بأحدهما لا معيّنا و لا مخيّرا،فهذه الرواية موافقة للأصل،و هو3.

ص: 334


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 111.
2- نهاية الدراية 3:163.

التساقط مع تعارض الحجّتين،فيؤكّد ما عليه الطريقة العرفيّة من التساقط عند تعارض الحجّتين (1)انتهي.

أقول:لسماعة رواية اخري مذكورة في الاحتجاج مرسلا،يمكن لنا الاستشهاد ببعض فقراتها علي ما يدلّ عليه خبره هذا؛لأنّه يحتمل اتّحاد الخبرين في الجملة،فنذكرها:

روي في الاحتجاج،عن سماعة بن مهران،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام،قلت:

يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا عنه،قال:لا تعمل بواحد منهما حتّي تلقي صاحبك فتسأله عنه،قال:قلت:لا بدّ من أن نعمل بأحدهما،قال:

خذ بما فيه خلاف العامّة (2).

فلا يبعد أن يكون معني الخبر الأوّل أنّه إذا اختلف عليه اثنان أحدهما يأمر و الآخر ينهي،فإنّه يجب عليه التوقّف و لا يعمل بالخبرين،و يؤخّر الواقعة إن لم يكن مضطرّا إلي العمل بأحدهما،و هو في سعة في جهله بالحكم.و إن كان لا بدّ من العمل،فإنّه يؤخّر تبيّن كون الواقعة حراما أو واجبا و في الزمان الذي لا يمكنه عادة من تبيّن حكم الواقعة يكون في سعة عملا؛لأنّه لا يمكنه تعيين وظيفته، و المفروض أنّه مضطرّ إلي العمل بأحدهما.

و الحاصل أنّ الخبرين المتعارضين بالوجوب و التحريم لا يسقطان عن الحجّية و فرضهما كعدمهما،بل يتوقّف في الواقعة حتّي يفحص و يصل إلي من يخبره بأنّ أحدهما مخالف للعامّة أو واجد للترجيح و نحو ذلك،فالمتيقّن منه هو وجوب الفحص،و في زمان الفحص عمّن يخبره إن كان مضطرّا للعمل فهو في سعة، و حينئذ يكون موافقا لحكم العقل،فتدبّر و تأمّل.2.

ص: 335


1- نهاية الدراية 3:176.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:266 ح 32.

و بالجملة المتيقّن من هذا الخبر أنّه إذا تعارض الخبران في الوجوب و الحرمة في زمان يمكن استعلام حالهما و هو زمان الحضور،فإنّه يؤخّر الواقعة و يستعلم حال الخبرين،و إن كان لا بدّ له من العمل،فإنّه في سعة لعدم تمكّنه من العمل بالاحتياط،فهذا الخبر يدلّ علي التخيير في غير الالزامي من نهي إعافة أو أمر فضل،و يدلّ علي الاحتياط و التوقّف في الالزاميّات.

و لعلّ الشيخ الكليني فهم منه التوقّف؛لأنّه ذكر بعده ما يأتي في التاسع،و هو قوله«و في رواية اخري».

تاسعها:ما ذكره في الكافي في ذيل خبر سماعة،و هو قوله:و في رواية اخري:

بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك.

عاشرها:ما ذكره في ديباجة الكافي،قال:يا أخي أرشدك اللّه إنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّ علي ما أطلقه العالم بقوله «أعرضوها علي كتاب اللّه،فما وافق كتاب اللّه عزّ و جلّ فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فردّوه»و قوله«دعوا ما وافق القوم،فإنّ الرشد في خلافهم»و قوله«خذوا بالمجمع عليه،فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»و لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه، و لا نجد شيئا أحوط و لا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلي العالم عليه السّلام،و قبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله«بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم».

أقول:يحتمل اتّحاده مع التاسع،كما يحتمل أن يكون مأخوذا من رواية الميثمي،و علي أيّ حال لا سند لهما،كما أنّ ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في أوّل الاستبصار لعلّه متّحد مع ذلك،قال:إذ روي عنهم عليهم السّلام قالوا:إذا ورد عليكم حديثان و لا تجدون ما ترجّحون به أحدهما علي الآخر ممّا ذكرناه كنتم مخيّرين في العمل

ص: 336

بهما (1).

ثمّ إنّ قوله في ديباجة الكافي«و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه»يحتمل أن يكون مراده لا نعرف إلاّ القليل من الخبر المجمع عليه،أو الموافق للكتاب،أو المخالف للعامّة،و حينئذ نعمل في القليل بالترجيح و في ما عداه بالتخيير.و يحتمل أن يكون المراد أنّ مورد الترجيح قليل،فلا يؤخذ بالترجيح في مورد القليل،بل نعمل في الجميع بالتخيير،و علي الاحتمال الثاني فيكون خلاف الاحتياط؛لأنّ الأحوط هو العمل بذي المزيّة مع إحرازها.

قوله«و لا نجد شيئا أحوط»محلّ إشكال؛لأنّ الأحوط هو العمل بذي المزيّة.

و قد يوجّه كلامه (2)بأنّ مراده الاحتياط في مقام الفتوي.و يحتمل أن يكون قوله «من ردّ علم ذلك»بيانا للأحوط،فإنّ الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة خلاف الاحتياط،بل ينبغي ردّ ذلك إلي العالم.

و قوله«و قبول»بيانا للأوسع.

و قد تحصل أنّه لم يتمّ سند خبر يدلّ علي التخيير مطلقا،و لو وجد فيما ذكر خبر يدلّ علي التخيير مطلقا،فهو قابل للتقييد بفقد المرجّحات في أحدهما.

تنبيهات:

الأوّل:لو سلّم دلالة الأخبار علي التخيير،فهو لا يدلّ علي كون حجّية الأخبار من باب السببيّة؛لأنّ التخيير علي أنحاء:

أحدها:التخيير العقلي الواقعي كما في المتزاحمين،قيل في ميزانه:هو ايجاب الشارع لكلّ من الشيئين عينا بعد الفراغ عن تماميّة الطلب و المصلحة في كلّ منهما مع كون المكلّف عاجزا عن الاتيان بهما.

ص: 337


1- الاستبصار 1:5.
2- منتهي الوصول ص 289.

أقول:و هو محتمل ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بناء علي كون حجّية الأخبار من باب السببيّة.كما يمكن أن يجعله تخييرا شرعيّا أيضا؛لأنّ الشارع لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها و إلاّ ما آتاها،و المكلّف لا يقدر إلاّ علي أحدهما،فالتكليف هنا يكون بواحد منهما،ثمّ إنّه علي التخيير العقلي أيضا لا يستحقّ إلاّ عقابا واحدا.

ثانيها:التخيير العقلي الظاهري،كما في دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثها:التخيير الشرعي،كما في خصال الكفّارة.

رابعها:التخيير الشرعي الظاهري،كما في الخبرين إذا قلنا بالتخيير من جهة الأخبار العلاجيّة،فيمكن أن يجعل التخيير تخييرا ظاهريّا.

الثاني:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد:قيل:لا خلاف في أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا،و إن وقع للمفتي فحكمه أن يخيّر المستفتي،و وجه الأوّل واضح،و وجه الثاني أنّ الشارع نصب الأمارات للمفتي و المستفتي،لكن المستفتي عاجز عن تشخيص ذلك فينوب عنه المفتي (1)انتهي.

الثالث:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد:الظاهر أنّ الحاكم يتخيّر أحدهما و يقضي به و لا يخيّر المتخاصمين (2).

أقول:لا يخلو عن إشكال،و محلّ المسألة في كتاب القضاء.

الرابع:هل التخيير بدوي أو استمراري؟وجهان،يستدلّ للأوّل بأنّه وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر،فلا إطلاق فيها بالنسبة إلي حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما.و أمّا العقل الحاكم بعدم طرح كليهما،فهو ساكت من هذه الجهة، و استصحاب التخيير غير جار لتبدّل الموضوع،هذا علي الطريقيّة.

و أمّا علي السببيّة،فالتخيير باق؛لأنّ ملاكه تزاحم الواجبين.و يستدلّ للثاني4.

ص: 338


1- فرائد الاصول ص 763.
2- فرائد الاصول ص 764.

بإطلاق ما دلّ علي التخيير.

أقول:قد تقدّم أنّ المتيقّن من مورد أدلّة التخيير هو المستحبّات،و إطلاقها يقتضي التخيير الاستمراري.و أمّا في الواجبات،فالحكم الواقعي المنجّز لم يثبت مع تعادل الخبرين من جميع الجهات،فإن لم يكن أحد الخبرين أحوط،فهو مخيّر دائما لعدم وصول التكليف المعيّن،فتأمّل فإنّ الأحوط الجمع بين الخبرين؛لأنّه مكلّف بالعمل بخبر يحتمل موافقته للواقع،بناء علي الطريقيّة،و حيث إنّه يحتمل موافقة أحد الخبرين للواقع،فيجب العمل بهما حتّي يكون عاملا بالخبر المحتمل موافقته للواقع.

الخامس:حيث يجب متابعة النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لازمه الاعتقاد بالأحكام الصادرة عنهم،فلذا يجب في مورد الخبرين الاعتقاد بما هو الصادر منهم و التسليم لهم،فلذا يحتمل وجوب الأخذ مسلّما لهم.

الطائفة الثالثة:الأخبار الدالّة علي التوقّف و الاحتياط:

الأوّل:قوله عليهم السّلام في خبر عمر بن حنظلة:إذا كان ذلك فأرجه حتّي تلقي إمامك،فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).

و يمكن المناقشة فيه مضافا إلي ما يقولون في سنده أوّلا:أنّه خاصّ بمثل عمر بن حنظلة ممّن يلقي الامام،و لا يشمل من لا يلقاه.

أقول:إنّ تعليل الارجاء بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات يدلّ علي أنّ قوله«أرجئه حتّي تلقي إمامك»ليس له خصوصيّة لزمان الحضور و التمكّن؛لأنّ هذه العلّة موجودة في زمان الغيبة أيضا،كما أنّ هذه العلّة موجودة في الخبرين المتعارضين،و الحاصل أنّ الارجاء إذا كان لأجل الوقوف

ص: 339


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 ح 124.

عند الشبهة،فلا اختصاص له بزمان الحضور،و كذا لا فرق بين الحكومة و الرواية، لا شتراكهما في الشبهة الموجبة للوقوف.

و دعوي أنّ جملة الوقوف عند الشبهة قد وردت في موارد الشبهة البدويّة، و هي محمولة علي الندب.مدفوعة بأنّ ظاهرها الوجوب إلاّ اذا ثبت المعارض له، كالشبهة الموضوعيّة حيث دلّت الأدلّة علي عدم لزوم الاجتناب.

و ثانيا:أنّه لا يمكن التخيير في مورده إذا لم يكن ترجيح لأحد الطرفين؛لأنّ النزاع لا ينتهي بالتخيير،فلا طريق إلاّ الارجاء؛لأنّه شبهة لا يعلم الحقّ لأيّهما و لا سبيل إلي رفع الشبهة،فلا بدّ من الاحتياط.

نعم يدلّ علي كفاية الاعتماد علي الأمارات لحلّ النزاع،و لذا قدّم المرجّحات علي تحصيل العلم بالرجوع إلي الامام؛لأنّ الشارع لا يرضي بأن يبقي التنازع في الدين حتّي انّه أجاز بيع الوقف إذا حصل النزاع بين الموقوف عليهم،فلا وجه للتعدّي من مورد الخبر إلي غيره ممّا لا يكون فيه نزاع.

الثاني:خبر سماعة المتقدّم (1)،بناء علي أن يكون المعني من قوله فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه،أنّه مع التمكّن من تحصيل العلم لا بدّ من تحصيل العلم بالحكم،و لا يرجع إلي مرجّحات أحد الخبرين إن كان له مرجّح،و لا إلي التخيير إن لم يكن مرجّح.نعم هو في هذا المقدار من الزمان الذي يذهب إلي لقاء من يخبره حيث إنّه مضطرّ إلي العمل،فهو في سعة،كما ورد أنّ الامام عليه السّلام إذا توفّي وجب علي الناس أن يرسلوا إلي المدينة ليحقّقوا حول الامام بعده،فهم معذورون في هذه المدّة،و حينئذ يتقدّم تحصيل العلم بالحكم علي إعمال التراجيح مع وجودها و علي التخيير مع فقدها،فيجب الاحتياط إلاّ في7.

ص: 340


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 7.

المقدار المضطرّ إليه فهو في سعة.

و فيه أنّ القدر المتيقّن منه تقديم تحصيل العلم علي التراجيح و التخيير لمن يتمكّن من تحصيل العلم،و ذلك زمان حضور المعصوم عليه السّلام،و لا إطلاق له لزمان الغيبة الذي لا يتمكّن فيه من تحصيل العلم.

الثالث:خبره الآخر المتقدّم (1)،فإنّه يدلّ علي أنّه مع التمكّن من العلم لا بدّ من تحصيله،و ليس له الترجيح أو التخيير.قيل:إنّه معارض بالمقبولة،أي:خبر عمر بن حنظلة.

و فيه أنّ المقبولة واردة في مورد لا يمكن التخيير،و هذا في مورد يمكن التخيير،فقدّم فيه تحصيل العلم.فما ذكره الشيخ (2)من طرح هذا الخبر لمعارضته المقبولة مخدوش لعدم المعارضة.

الرابع:مرفوعة زرارة (3)،و هي محمولة علي ما إذا تعذّر العلم،فيرجّح ثمّ يحتاط ثمّ يتخيّر.

الخامس:ما رواه في السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجال مسائل محمّد بن علي بن عيسي،قال:حدّثنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد،و موسي بن محمّد بن علي بن عيسي،قال:كتبت إلي الشيخ موسي الكاظم أعزّه اللّه تعالي و أيّده، أسأله عن الصلاة،إلي أن قال:و سألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك و أجدادك قد اختلف علينا فيه كيف العمل به علي اختلافه و الردّ إليك فيما اختلف فيه، فكتب:ما علمتم أنّه قولنا فالزموه،و ما لم تعلموه فردّوه إلينا (4).3.

ص: 341


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 32.
2- فرائد الاصول ص 777.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 2.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 33.

السادس:ما روي مثل الخامس في بصائر الدرجات،عن أبي الحسن عليه السّلام (1)، فإنّ وجوب ردّ الخبر الذي لا يعلم صدوره عنهم عليهم السّلام إليهم عبارة اخري عن الاحتياط،و عدم الأخذ بالخبرين لا ترجيحا و لا تخييرا.

ثمّ إنّ وجوب الردّ إن كان كناية عن التوقّف و الاحتياط،فهو ممكن في حال عدم إمكان الوصول إلي الامام عليه السّلام كزمان الغيبة.

أقول:لكن لا دلالة له علي ما يصنع بعد ردّ علم ما لا يعلم أنّه قولهم إليهم، فيمكن أن يكون تكليفه الرجوع إلي البراءة،فتأمّل.

و قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه لا دليل علي الاحتياط في الخبرين المتعارضين لمن لا يتمكّن من تحصيل العلم إلاّ مرفوعة زرارة،و هي مخدوشة سندا،و مقبولة عمر بن حنظلة بالبيان الذي ذكرناه.

السابع:عموم ما دلّ علي التوقّف عند الشبهة،و ما دلّ علي الاحتياط في الدين،كقوله عليه السّلام«أخوك دينك فاحتط لدينك».

و فيه أنّ ما دلّ علي التخيير إن تمّ سندا و دلالة فهو أخصّ،فيخصّص العموم به.

الثامن:خبر الميثمي المتقدّم،حيث قال في ذيله:و عليكم بالكفّ و الوقوف الخ.

ثمّ إنّ مقتضي الجمع بين الطائفة الثانية و الثالثة هو تأخير الواقعة ليعلم الحكم فيعمل به إذا كان متمكّنا من تحصيل العلم،و لم يكن مضطرّا في عدم تأخير الواقعة،و إلاّ فيرجع إلي الترجيحات،ثمّ بعد ذلك يتخيّر أو يحتاط علي كلام يأتي.

و قد ذكر السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه،و سبقه صاحب الحدائق في الدرر النجفية وجوه الجمع بين الطائفتين:

أحدها:حمل أخبار التوقّف علي الاستحباب،أو كراهة العمل بأخبار التخيير.3.

ص: 342


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 33.

ثانيها:حمل أخبار التوقّف علي الفتوي،و أخبار التخيير علي العمل،فيعمل بأيّهما شاء.

ثالثها:حمل أخبار التوقّف علي زمان الحضور،و أخبار التخيير علي زمان الغيبة.

رابعها:حمل أخبار التوقّف علي صورة إمكان الاحتياط،و حمل أخبار التخيير علي صورة عدم الامكان،كالدوران بين المحذورين.

خامسها:حمل أخبار التخيير علي صورة الاضطرار إلي العمل،و حمل أخبار التوقّف علي صورة عدمه.

سادسها:حمل أخبار التوقّف علي حقوق الناس،و حمل أخبار التخيير علي حقوق اللّه.

سابعها:حمل أخبار التوقّف علي الالزاميّات،و أخبار التخيير علي غيرها.

ثامنها:حمل أخبار التخيير علي التخيير في زمان الغيبة في حقوق اللّه تخييرا عمليا.

أقول:راجع تفاصيلها في رسالته،و سنبيّن المختار عندنا.

الطائفة الرابعة:ما يدلّ علي مراعاة الترجيحات،و هي أنواع:
النوع الأوّل:الصفات،و هي الأعدلية و الأفقهية و الأصدقية في الحديث

، و الأورعيّة المذكورة في خبر عمر بن حنظلة (1)،و الأوثقية المذكورة في مرفوعة زرارة.

و نوقش في الخبر بعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة،و قد يقال بوثاقته لرواية يزيد بن خليفة الثابتة وثاقته برواية صفوان عنه،قال للمعصوم عليه السّلام:إنّ عمر بن

ص: 343


1- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 7 ح 124.

حنظلة أتانا عنك بوقت،فقال عليه السّلام:إذن لا يكذب علينا.و في جميع ذلك إشكال، لكن الرواية لا ينبغي طرحها علي المختار.

و أمّا دلالتها،فقوله«ينظر إلي من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا،فليرضوا به حكما،فإنّي قد جعلته عليكم حاكما،إلي أن قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعههما»إلي آخر الحديث،يحتمل وجوها:

الأوّل:أن يكون المراد الحاكم المنصوب من قبل الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و هو الفقيه،لكن يرد عليه:

أوّلا:أنّه لا يناسبه تعدّد القضاة في مرافعة واحدة،بل ينبغي المراجعة إلي واحد من الفقهاء.

و ثانيا:لا يناسبه اختيار كلّ من المترافعين حكما؛إذ أمر المرافعة بيد المدّعي، و حمله علي صورة التداعي بعيد،خصوصا في مسألة الدين.

و ثالثا:لا يناسب غفلة كلّ من الحكمين عن مستند الآخر؛إذ يعتبر في القاضي الاجتهاد و استفراغ الوسع في تحصيل الأدلّة و معارضاتها.

و رابعا:لا يناسبه الحكم بعد الحكم،و حمله علي صورة حكمهما دفعة واحدة بعيد،مع أنّها يتساقطان و يحتاج إلي حكم ثالث.

و خامسا:لا وجه لتحرّي المترافعين في مدرك الحكم من الأخبار،و الأخذ بالأرجح منهما.

و سادسا:أنّ الحكومة غالبا في الترافع في الموضوعات،و مورد الخبر يشمل صورة المراجعة إليهما لتعلّم الحكم الكلّي.

الثاني:أن يكون المراد قاضي التحكيم،فيرتفع بعض الايرادات المتقدّمة:

فأوّلا:أنّه لا بأس بتعدّده،بأن يكون قصد المترافعين العمل بقولهما من غير نظر

ص: 344

إلي اشتراط اتّفاقهما،و لا تعيين الحال في صورة اختلافهما.

و ثانيا:أنّه يمكن تراضيهما بالرجوع إلي الاثنين،و كون أمر المرافعة بيد المدّعي مسلّم مع عدم تراضيهما.

و ثالثا:منع منافاة الغفلة خصوصا في ذلك الزمان،بل احتمال اطّلاع كلّ منهما علي فساد مدرك الآخر قائم.

و رابعا:أنّ التحرّي ممكن بسؤال غيرهما من الفقهاء عن الحكم.

الثالث:أن يكون المراد الفتوي،فإنّ منشأ الاختلاف ربّما كان الجهل بالمسألة، كما في قضيّة أبي ولاّد التي رجعا فيها إلي أبي حنيفة،و لفظ الحكم و القضاء أعمّ من الفتوي و الحكم.

الرابع:أن يكون المراد أعمّ من الفتوي و الحكم،و هذا هو الأنسب بالاطلاق.

و بناء علي كونه للأعمّ من الفتوي و الحكومة،فإذا كان منشأ المنازعة جهلهما بالحكم،فرجع كلّ واحد إلي فقيه قد اختلفا في الحديث،فلا يرفع نزاعهما إلاّ بتعيين فتوي أحدهما،و لذا سئل الامام عليه السّلام عن ذلك،فأجابه بأنّه يرجع إلي الأفقه الأعدل الأصدق منهما،و يرتفع النزاع بأخذ قوله،و يرتفع بعض الاشكالات المذكورة.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:ثمّ إنّ المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي من العدالة و الفقاهة و الصداقة و الورع،لكن الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها،و لذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض،أو تعارض الصفات بعضها مع بعض،بل ذكر في السؤال أنّهما معا عدلان مرضيّان لا يفضل أحدهما علي صاحبه،فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل (1).3.

ص: 345


1- فرائد الاصول ص 773.

ثمّ إنّ المتفاهم عرفا من ذلك أمران:

الأوّل:أنّ المتنازعين إن علما اختلافهما قبل الرجوع،وجب عليهما الرجوع ابتداء إلي الأفقه.

الثاني:أنّه لا ينحصر الرجوع إلي الأفقه بمورد النزاع،فلو احتاج شخص إلي فتوي فقيه وجب الرجوع إلي الأفقه إذا علم اختلافه مع غيره،لعدم فرق عرفا في حجّية الفتوي بين الرجوع الي الفقيه فظهر اختلافه مع فقيه آخر و عدمه،في أنّه لا بدّ أن يكون فتواه حجّة حتّي يرجع إليه،بل إن خصّصنا قوله«جعلته حاكما» بالحكومة،فيمكن أن يستفاد منه أنّه مع الاختلاف،سواء كان في الفتوي،أو كان في تطبيق الحكم الكلّي علي الموضوع،لا بدّ من مراعاة الأقرب إلي الواقع،و هو قول الأفقه،فإنّه أعرف بمعاني الألفاظ و موارد التقيّة،و الأصدق في الحديث،فإنّه أقرب إلي مطابقة الواقع من الصادق.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ الخبر يشمل صورتين يشكل فيهما تقديم الأفقه:الاولي أن يكون خبر غير الأفقه موافقا لخبر الأفقه من الآخر.الثانية:أن تكون واسطة الراوي غير الأفقه أفقه من واسطة الراوي الأفقه (1).

أقول:الخطاب متوجّه إلي عمر بن حنظلة،و لا يبتلي في عصره بهاتين الصورتين.

ثمّ لا يخفي أنّ الأفقهيه مقدّمة علي سائر المرجّحات؛لأنّ الأفقهيّة تقتضي مراعاة الجهات الدخيلة في صدور الخبر وجهة صدوره،فأمّا إذا كان الغرض هو الحكاية و الاخبار،و نقل ما سمعوه من دون أيّ خصوصيّة،فلا ترجيح للأفقه علي غيره،نعم يرجّح الأصدق إلاّ أن يرجع الأفقهيّة إلي أنّه لا ينقل ما صدر تقيّة،أو أنّه3.

ص: 346


1- فرائد الاصول ص 773.

عارف بالقرائن و غيره لا يعرفها.

و الحاصل أنّ الترجيح بالصفات إن كان دخيلا في أقوائيّة الطريق،أو الاطّلاع علي القرائن المكتنفة بالكلام و نحوها،أمكن عدّها من المرجّحات.و أمّا إذا كان موجبا لأقوائيّة المضمون،بحيث يكون استنباط الأفقه دخيلا،فلا يمكن جعلها من مرجّحات الخبر.

و لا يبعد أن يكون الظاهر من خبر عمر بن حنظلة و غيره أنّ الصفات من مرجّحات مضمون الخبر إذا عمل به و اعتقده الأفقه الأعدل.و أمّا ترجيح مجرّد نقل الأفقه علي نقل غيره،فلا يستفاد منه.نعم الأصدقيّة في الحديث من مرجّحات النقل،لكن ظاهر الخبر اعتبار اجتماع الصفات،إلاّ أن يحمل علي كون كلّ واحد منها مرجّحا.و يدلّ علي الترجيح بالصفات مرفوعة زرارة،فلاحظ.

ثمّ لا يخفي أنّ الطريق إلي هذه الصفات في الراوي إن كان اشتهاره،كزرارة و محمّد بن مسلم،فيمكن الاعتماد عليه.و أمّا قول الرجاليّين في غير المشهورين و غير المعاصرين و من قرب من عصرهم،ففي إثباته إشكال تقدّم.

النوع الثاني:موافقة الكتاب
اشارة

،و ينبغي ذكر الأخبار الواردة في نسبة الأخبار إلي الكتاب،و هي أقسام:

القسم الأوّل:ما يدلّ علي أنّ كلّ خبر لا يوافق كتاب اللّه واقعا لم يصدر عن

المعصومين عليهم السّلام

،بل كلّ خبر صدر عنهم فهو موافق للكتاب واقعا،و إن لم يفهم غيرهم موافقته للكتاب،و ذلك لأنّ الكتاب مشتمل علي جميع الأحكام،فما صدر عنهم عليهم السّلام من الأحكام فهو موجود فيه.

و يدلّ علي ذلك خبر أيّوب بن الحرّ،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:كلّ

ص: 347

حديث مردود إلي الكتاب و السنّة،و كلّ شيء لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف (1).

و رواته موثّقون،إلاّ محمّد بن خالد،فقال النجاشي:ضعيف في الحديث (2).

و لا بأس بسنده في المحاسن.

و خبر أيّوب بن راشد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (3).

و هذا القسم من الأخبار لعلّه وارد في مقام الردّ علي العامّة القائلين بأنّ الكتاب و سنّة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله لا يكفيان لجميع الأحكام،و يحتاج إلي القياس و الرأي،و ليست في مقام بيان أنّ الناس يفهموم الكتاب،فمضمون هذه الأخبار موافق للأخبار المستفيضة الدالّة علي أنّ كلّ شيء في الكتاب و السنّة.

كخبر حمّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سمعته بقول:ما من شيء إلاّ و فيه كتاب و سنّة.

و خبر سماعة،عن أبي الحسن موسي عليه السّلام،قال:قلت له:أكلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه أو تقولون فيه؟قال:بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه (4).

و لعلّ معني كونه في الكتاب أنّه يستفيد الأئمّة المعصومون عليهم السّلام منه ذلك،لا أنّه مذكور فيه.و يحتمل أن يكون معني تفويض الحكم إليهم أنّهم يفهمون ذلك من الكتاب،كما ورد أنّ جبرئيل أشار إلي الأوقات و النبي صلّي اللّه عليه و آله وضعها.

ثمّ إنّ معني موافقة الكتاب وجود مضمونه في الكتاب،فمعني عدم الموافقة عدم وجود مضمونه في الكتاب،فحمله علي عدم مخالفة الكتاب خلاف الظاهر.2.

ص: 348


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 9.
2- رجال النجاشي ص 335.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 10.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:113 ب 2 ح 18-ح 22.
القسم الثاني:ما يدلّ علي أنّ الخبر المروي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله إذا لم يعلم صدوره

عنه صلّي اللّه عليه و آله و كان مخالفا لعموم الكتاب أو إطلاقه،فهو غير صادر عنه.

و هو خبر هشام بن الحكم و غيره،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:خطب النبي صلّي اللّه عليه و آله بمني،فقال:أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته،و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (1).

أقول:إنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله مدّة حياته بيّن أحكاما لا يفهمها الناس من الكتاب،و هي من سنّته الواجبة الاتّباع،و ليس الغرض من هذا الخبر تخطئة تلك الأحكام،بل المراد أنّ ما لم تسمعوه منّي و لم تعلموا صدوره عنّي،فلا تقبلوه إلاّ إذا كان موافقا للكتاب،و أمّا المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم و الخصوص المطلق فلم أقله، و ظاهر أنّ المبائن للقرآن لا يصدّق علي النبي صلّي اللّه عليه و آله،فالمنع عن قبول الخبر راجع إلي الخبر المخالف لعموم الكتاب أو إطلاقه،فلا يقبل ما رواه أبو بكر أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله،قال:ما تركناه صدقة؛لأنّه ليس موافقا للكتاب و مخالف له.

و ينبغي مراجعة كتاب الاحتجاج (2)،فقد ذكر فيه أسئلة يحيي بن أكثم و جواب أبي جعفر عليه السّلام في بيان مخالفة الأخبار للقرآن.

و لا يخفي أنّ ما قاله الأئمّة المعصومون عليهم السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله موافق للكتاب؛ لأنّ الكتاب أمر باتّباع اولي الأمر،و المراد بهم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام،فإذا قال الصادق عليه السّلام:خذ بقول زرارة،يكون الأخذ بقول زرارة موافقا للكتاب،و بهذا البيان يظهر أنّ أخبار الثقات يجب العمل بها؛لأنّه قد تواترت الأخبار عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام بحجّيتها.

القسم الثالث:ما يدلّ علي حجّية خبر له شاهد أو شاهدان من القرآن

و ردّ

ص: 349


1- جامع أحاديث الشيعة 1:259.
2- الاحتجاج 2:246.

ما عداه،أو التوقّف فيه،و هو مرسل ابن بكير،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:دخلنا عليه جماعة،فقلنا:يابن رسول اللّه انّا نريد العراق فأوصنا،فقال أبو جعفر عليه السّلام:ليقوّ شديدكم ضعيفكم،و ليعد غنيّكم علي فقيركم،و لا تبثّوا سرّنا،و لا تذيعوا أمرنا، و إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده،ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم الحديث (1).

و خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام (2).و خبر عبد اللّه بن أبي يعفور (3)،و لا بأس بسنده في المحاسن.قوله في هذا الخبر،أي:خبر ابن أبي يعفور«اختلاف الحديث»يحتمل إرادة الأنواع من الحديث،أو تعارض الحديثين،أو تعارض الحديث مع المسلّمات من الكتاب و السنّة.

قيل في تفسير الشاهد و الشاهدين و جهان:

الأوّل:طرح ما يخالف الروح العامّة للقرآن،و ما لا يكون نظائره موجودة فيه.

و فيه أنّه لا يبعد أن يكون هذه الأخبار في مقام ردّ الأحاديث المدسوسة،و لا يمكن ذلك إلاّ بالعرض علي المحكم الذي لا اختلاف فيه،كما ورد في خبر المستدرك (4)،و تحف العقول (5).و أمّا روح القرآن،فلا يعرفه إلاّ أهله،و أمّا غيرهم فكلّ يدّعي موافقة روحه لمذاقه و مذهبه،و قد صرّح في خبر الميثمي بأنّ المراد من العرض علي الكتاب وجود مضمونه في الكتاب.

الثاني:أن يكون المراد مطابقة مضمون الخبر للكتاب،و يؤيّده مرسل5.

ص: 350


1- جامع أحاديث الشيعة 1:258 ح 14.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 19.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 16.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 24.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 25.

المفيد (1).

أقول:علي هذا المعني يحتمل أن يكون ذلك حكما في مقطع خاصّ من الزمان؛لأنّ معني الخبر أنّه إذا أتاكم بعد ذلك خبر و لم يكن له شاهد فقفوا عنده، و لا ينفي الأخبار التي قد جاءتهم قبل ذلك،و كذا لا ينفي ما علم صدوره عنهم.

و يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الحكم لمقطع من الزمان خبر يونس بن عبد الرحمن، و فيه حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن و السنّة،أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة،فإنّ المغيرة بن سعيد الحديث (2).

فإنّ ما علم صدوره عنهم أو أمروا بأخذه ليس ممّا دسّه المغيرة بن سعيد.

ثمّ لا يبعد أن يكون المراد من الشاهد أعمّ ممّا يكون مضمونه موجودا،أو يكون مناسبا لمضمونه،و قد استشهد أبو جعفر الجواد عليه السّلام لصحّة حديث«إنّي تارك فيكم الثقلين»بقوله تعالي إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ و أيضا لا يبعد حجّية أخبار العدول و الثقات؛لأنّها تناسب مفهوم قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية.

و اورد علي التفسير الثاني أوّلا:بأنّ مفادها عرفا إلغاء حجّية خبر الواحد؛لأنّ جعل الحجّية للخبر الموجود مضمونه في الكتاب أو السنّة القطعيّة غير محتاج إليه.

و فيه أنّه إن كان المراد من وجود مضمونه ما يشمل مثل حجّية خبر العدل التي هي مشمولة لآية النبأ،فلا يوجب إلاّ إلغاء خبر غير الثقات.

و ثانيا:أنّ هذا خبر واحد لا يمكن أن يمنع حجّية خبر الواحد؛لأنّه يلزم من وجوده عدمه.و فيه أنّه يكون مخصّصا لدليل الحجّية ببعض الأفراد.3.

ص: 351


1- جامع أحاديث الشيعة 1:255 ب 6 ح 4.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 23.

و ثالثا:أنّ هذا الخبر أيضا ليس له شاهد من القرآن،إلاّ أن يقال:إنّ شاهد صدقه الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،لكن نفس هذا الخبر أيضا لا يفيد العلم، فقبول هذا الخبر أيضا مناف للآيات الناهية عن قبول غير العلم.

القسم الرابع:ما يدلّ علي أنّ الخبر الموافق للكتاب يؤخذ به،و الخبر المخالف

يطرح

،و يتوقّف في الخبر الذي لا يعلم أنّه موافق أو مخالف،و هو خبر السكوني (1)،و محمّد بن مسلم (2)و لا سند له،و المرسل (3)،و مرسل الاحتجاج (4)،و خبر كليب الأسدي (5)،و خبر سدير (6)،و إطلاق الجواب في خبر الحسن بن الجهم (7).

و قيل في توجيهها وجوه:

أحدها:أنّ المراد بالمخالفة للكتاب هي المخالفة علي نحو التباين أو العموم من وجه في مادّة الاجتماع،و لا تشمل المخالفة علي نحو العموم و الخصوص للعلم بصدور المقيّدات و المخصّصات منهم عليهم السّلام،فتكون قرينة علي إرادة المخالفة بالتباين أو العموم من وجه،و اختاره في الكفاية (8)،و قال:إنّ هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن غيرها،لا ترجيح الحجّة علي الحجّة،فافهم.

أقول:الظاهر صدق المخالفة علي المخالفة بالعموم و الخصوص و الاطلاق

ص: 352


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 8.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 12.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 13.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 20.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 11.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 17.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 18.
8- كفاية الاصول ص 506.

و التقييد.

ثانيها:حملها علي الخبر المخالف بالتباين أو العموم من وجه في مادّة الاجتماع،و كذا إن كان بالعموم و الخصوص المطلق إذا احرز أنّ العامّ في مقام البيان،أو علم إرادة العموم منه،و يشهد له خبر الميثمي قوله فيه:فما جاء في تحليل ما حرّم اللّه أو تحريم ما أحلّ اللّه،أو رفع فريضة في كتاب اللّه رسمها بيّن قائم بلا ناسخ نسخ ذلك،فذلك ممّا لا يسع الأخذ به الحديث (1).

أقول:الظاهر صدق المخالفة علي المخالفة بالعموم و الخصوص،كما تقدّم.

و ذلك لصدق المخالفة بين العامّ و الخاصّ إذا كانا في كلامين،فالكتاب كلام اللّه،و الخبر كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله،فإذا قيل إنّ كلام النبي صلّي اللّه عليه و آله لا يخالف القرآن،فمعناه أنّه لا يخالفه حتّي في العموم و الخصوص.نعم لو كانا في كلام متكلّم واحد،كان الأظهر منهما قرينة للتصرّف في الظاهر.

ثمّ إنّ المراد من هذه الأخبار ما إذا لم يعلم صدور الخبر عنهم عليهم السّلام.و أمّا إذا علم ذلك،فإنّهم الكتاب الناطق،يعرفون العامّ و الخاصّ منه،فيخصّص كلامهم عامّ الكتاب.

و اختار الشيخ الطوسي رحمه اللّه في بحث العامّ و الخاصّ عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد،مستدلاّ بما أرسله من سنخ هذه الأخبار.و تقدّم كلامه في بحث العامّ و الخاصّ.

و اورد علي هذا الوجه بأنّ هذه الأخبار مضافا إلي أنّها لا تخلو من ضعف السند،ظاهرة في الأخبار عن عدم صدور الخبر الذي لا يوافق القرآن،فيعارضها الأخبار المستفيضة التي هي أخصّ من عمومات الكتاب و مطلقاته،فإنّها لمّا3.

ص: 353


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 23.

كانت مستفيضة فهي صادرة عنهم عليهم السّلام.و كذا الأخبار التي لا تخالف الكتاب و لا توافقه،فإنّها أخبار تحكي عن المعصومين عليهم السّلام صدور الأخبار المخالفة بالعموم و الخصوص،و الأخبار التي لا تخالف الكتاب و لا توافقه،و الترجيح لهذه الأخبار لأنّها مستفيضة.

و بعبارة اخري:هذه الأخبار إن كانت في مقام بيان عدم حجّية الأخبار غير الموافقة للكتاب و تقييد إطلاق دليل حجّية الخبر الواحد بالخبر الموافق للكتاب، فيرد عليها أنّ دليل حجّية الخبر الواحد يتكفّل لحجّية ما لا يكون في الكتاب،و أمّا ما كان فيه فلا يحتاج إلي دليل الحجّية،و إن كانت في مقام الإخبار عن عدم صدور الأخبار غير الموافقة،فهي معارضة بتلك الأخبار غير الموافقة؛لأنّ رواتها يشهدون بصدورها،فلا بدّ من العلاج بالتخيير أو الترجيح.

أقول:لعلّ المستفاد من مجموع الأخبار أنّه لا يخصّص و لا يقيّد العموم و المطلق اللذين هما في مقام البيان بخبر الواحد الذي لم يعلم صدوره عنهم عليهم السّلام.

و أمّا ما ليس في الكتاب،أو كان فيه علي نحو الاطلاق الذي لم يكن في مقام البيان،مثل ما دلّ علي وجوب أصل الصلاة مثلا،فهذه الأخبار لا تدلّ علي عدم حجّيته.

ثالثها:حملها علي المخالفة لروح القرآن.

و فيه أنّه إن كان القرآن يدلّ عليه باحدي الدلالات،فهو موجود فيه.و إن لم يدلّ عليه إلاّ باستحسان من ينظر في القرآن بذوقه،فليس بحجّة،و لا سيّما بعد ما ورد من المنع عن التفسير بالرأي.

القسم الخامس:ما يدلّ علي أنّ الخبرين المتعارضين يعرضان علي الكتاب،

فيطرح المخالف له

،نذكر منه خبرين:

الأوّل:خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه،قال:قال الصادق عليه السّلام:إذا ورد عليكم

ص: 354

حديثان مختلفان،فأعرضوهما علي كتاب اللّه،فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فردّوه،فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما علي أخبار العامّة،فما وافق أخبارهم فذروه،و ما خالف أخبارهم فخذوه (1).

فإذا كان مضمون الخبر موجودا في الكتاب،كان أحد الخبرين موافقا له و الخبر الآخر مخالفا،فهما متلازمان.و إن لم يكن موجودا،فيؤخذ بما خالف العامّة.

و هذا الخبر لا يخلو عن مناقشة في السند؛لعدم ثبوت رسالة الراوندي، و سيأتي الكلام فيه.

و يمكن المناقشة في دلالته أوّلا:بأنّه شامل لخبر الثقة و غيره،فيمكن تقييده بما إذا لم يكونا ثقتين.

و ثانيا:أنّه يحتمل في المراد من عرض الخبر علي الكتاب أن يكون ذلك لتمييز الحجّة عن غيرها،بأن يكون الخبر مباينا للكتاب،لا لترجيح أحد الخبرين علي الآخر،إلاّ أن يقال بأنّ إطلاقه شامل لغير صورة مباينة الخبر للكتاب.

الثاني:قوله في خبر عمر بن حنظلة:ما وافق حكمه الكتاب و السنّة الحديث.

و الظاهر أنّ المراد من الموافقة و عدمها وجود مضمون الخبر في الكتاب و مخالفته له.

و للشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)تحقيق في بيان المراد من المخالفة المذكورة في هذه الأخبار،هل المراد بها المخالفة بالتباين،أو الأعمّ منه و من المخالفة بالعموم و الخصوص،أو الأعمّ منهما و من مخالفة الظهور؟ثمّ رجّح أن تكون المراد بالمخالفة الأعمّ من المخالفة للظهور علي غير وجه التباين و المخالفة بالعموم9.

ص: 355


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 26.
2- فرائد الاصول ص 819.

و الخصوص،و أمّا المخالفة بالتباين فالخبر ساقط من الأوّل.

أقول:ما أفاده جيّد.

ثمّ إنّ موافقة الكتاب أو مخالفته إن كانتا معلومتين فبها،و لكن ربما يخفي ذلك، مثلا بعض الأخبار موافق لعموم نفي الحرج و إرادة اليسر بالعباد،و بعضها يكون موافقا لبعض الآيات و مخالفا لبعضها الآخر،فينبغي الاقتصار علي المتيقّن و الاحتياط في غيره.

النوع الثالث و الرابع:موافقة سنّة النبي صلّي اللّه عليه و آله

،و موافقة الأخبار المقطوعة الصدور عن الأئمّة عليهم السّلام أو المعتبرة،و يدلّ عليه رواية الميثمي،و فيها:فما جاء في النهي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله نهي حرام،ثمّ جاء خلافه،لم يسع استعمال ذلك الحديث (1).

و ما رواه هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن و السنّة،أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة (2).

و خبر سدير:لا تصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه أو سنّة نبيّه (3).

و خبر الحسن بن الجهم (4).

النوع الخامس: موافقة الشهرة

،فإنّها مرجّحة للخبر المشهور علي غيره.

أقول:الشهرة إمّا عمليّة أو روائيّة،و المراد بها الشهرة عند أصحاب الأئمّة.

فالشهرة التي تكون مرجّحة هي:إمّا شهرة صدور مضمون الخبر عن المعصوم،بأن رواه عن المعصوم رواة كثيرون.و إمّا شهرة عمل أصحاب الأئمّة بخبر و إن كان

ص: 356


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 22.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 27.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 17.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 18 و 20.

راويه واحدا.

و لا ريب في أنّه إذا دار الأمر بين الأخذ بالخبر الموافق للشهرة و بين مقابله، كان الأوّل أقرب إلي الواقع،إلاّ إذا كان راوي مقابله أفقه و رواه للعمل،فإنّه يكون أقرب إلي الواقع،و يدلّ عليه المقبولة أيضا.

و اورد عليها أوّلا:أنّ المقبولة قدّمت الترجيح بالصفات علي الشهرة، و الأصحاب قد أعرضوا عنه؛لأنّهم يقدّمون الشهرة علي الصفات علي وفق المرفوعة،و هي ضعيفة مجبورة بالعمل.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:إلاّ أن يقال:إنّ المرفوعة تدلّ علي تقديم المشهور رواية،و هي هنا المقبولة،و لا دليل علي ترجيح المشهور عملا و هو المرفوعة،مع أنّه لم يثبت تقديم المشهور رواية علي المشتمل علي وصف الأفقهيّة (1)انتهي.

و فيه أنّ المقبولة رواها واحد،و هو عمر بن حنظلة،و لم يظهر كونها مقبولة عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و مشهورة بينهم.

ثمّ إنّه ذكر في بحث الشهرة أنّ المجمع عليه هو الخبر الذي رواه راوي الشاذ أيضا.و أمّا الخبر الشاذّ فهو الذي انفرد به.و فيه أنّ هذا خلاف الاطلاق،بل يصحّ إطلاق المشهور علي رواية رواها أصحاب عمر بن حنظلة،و إن لم يروها من روي الخبر المقابل للمشهور.

و ناقش في المصباح في كون الشهرة المذكورة من المرجّحات،بأنّ الشهرة بمعني الواضح المعلوم صدوره عن المعصوم،و حينئذ يكون الخبر المعارض له ساقطا عن الحجّية؛لأنّه مخالف للسنّة القطعيّة،و لا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي6.

ص: 357


1- فرائد الاصول ص 776.

الشهرة في كلتا الروايتين،فإنّ الشهرة بمعني الوضوح،فمعني كون الروايتين مشهورتين أنّهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب و علم صدورهما عن المعصوم،و كذا الكلام في المرفوعة،فلم يثبت كون الشهرة الاصطلاحيّة من المرجّحات.

و ظهر بما ذكرناه أنّه لا يمكن الاستدلال بالمقبولة و لا بالمرفوعة علي الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامّة،لكون موردهما الخبرين المشهورين،أي المقطوع صدورهما،فلا تدلاّن علي الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفة العامّة فيما إذا كان الخبران مظنوني الصدور (1)انتهي.

أقول:يرد علي ما ذكر أوّلا:أنّ الشهرة بمعني الظهور و المعروفية عند أصحاب عمر بن حنظلة،لا المعلوم الصدور،فلو أخبر زرارة و حصل من قوله العلم كان الخبر مقطوع الصدور،لكن لا يسمّي مشهورا؛لأنّه ليس ظاهرا عند الأصحاب.

و ثانيا:أنّ المراد من قوله«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»إمّا إجماع جميع الأصحاب،و إمّا المشهور بينهم.و علي التقديرين:إمّا يراد الاجماع في الرواية،أو في الفتوي.أمّا إرادة الاجماع في الرواية،فهو غير واقع قطعا؛إذ لا يوجد رواية رواها جميع أرباب الاصول و المجاميع،و كذا الاجماع في الفتوي،فتعيّن الشهرة في الرواية أو الشهرة عملا.

و تقدّم الكلام في الشهرة في بحث الأمارات،و نزيده بيانا،فنقول:إنّ الشيخ الطوسي رحمه اللّه جعل الاجماع قرينة صدق الخبر الموافق له،و قرينة عدم صحّة مضمون الخبر المخالف له،و في موضع آخر جعل الأكثر عددا من المرجّحات.

حيث قال في العدّة:فإن كان رواتهما جميعا عدلين،نظر في أكثرهما رواة2.

ص: 358


1- مصباح الاصول 3:412.

و عمل به،و ترك العمل بقليل الرواة،فإن كان رواتهما متساويين في العدد و العدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة،و يترك العمل بما يوافقهم انتهي (1).

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الشهرة غير معتبرة في نفسها؛لعدم الدليل عليها.

و مثلها كلّ أمارة مستقلّة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل لا لوجود الدليل علي العدم (2).و يمكن جعلها مرجّحة للخبر الموافق لها.

ثمّ استدلّ علي الترجيح بامور:

الأوّل:ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع،كعموم التعليل في قوله«لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه»و قوله«دع ما يريبك إلي ما لا يريبك»و قوله«فإنّ الرشد في خلافهم»و كذا التعليل في رواية الأرجاني«لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة؟».

الثاني:دخولها في الأوثقيّة المنصوص عليها في الأخبار.

الثالث:الاجماع المدّعي في كلام جماعة،فإنّ الظاهر أنّ المراد من معقد الاجماعات هو الأقرب إلي الواقع و الأرجح مدلولا و لو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما و حديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلي الواقع (3)انتهي ملخّصا.

و قيل:إنّ المراد بالشهرة في الرواية أن ينقل مضمون الخبر جماعة عن المعصوم،و مقابلها أن ينقله واحد عنه،و هي أدلّة علي مضمون الخبر،و هي أرجح من دليل واحد علي مضمون الخبر المخالف للشهرة.

أقول:قد اورد علي الأدلّة المذكورة للترجيح بالشهرة بضعف سند الأخبار،5.

ص: 359


1- عدّة الاصول 1:376.
2- فرائد الاصول ص 814.
3- فرائد الاصول ص 815.

و بأنّ المراد من المشهور في خبري عمر بن حنظلة و مرفوعة زرارة،الواضح الذي لا شكّ فيه لا الشهرة المصطلحة،و بعدم ثبوت إجماع كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

و هذه المناقشات و إن كان بعضها ضعيفا،لكن الأولي أن يستدلّ علي الترجيح بالشهرة و نحوها ممّا يوجب أقوائيّة في الطريق،بأنّ الاختلاف في الأخبار لا ينحصر في الأخبار الصادرة عن المعصومين،بل تكون لامور اخر من سوء فهم الراوي و حذفه بعض القرائن،و عدم ذكره بعضها لحسبانه عدم الحاجة إليه، و تقطيع الأخبار و غير ذلك،و المشهور أرجح من النادر من حيث تقليل هذه الاحتمالات،و لاحظ ما تقدّم في الشهرة،فإنّها قد تكون مرجّحة للخبر من حيث الصدور و من حيث كونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة،كما إذا كان مشهورا بين أصحاب الأئمّة شهرة عمليّة.

النوع السادس و السابع و الثامن و التاسع:مخالفة العامّة،و مخالفة أخبارهم
اشارة

، و مخالفة ميل حكّامهم،و عدم مشابهة الخبر لأخبارهم و أقوالهم في طرز البيان.

يدلّ علي الأوّل من خبر عمر بن حنظلة قوله عليه السّلام:ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامّة اخذ به (1).و مرفوعة زرارة (2).

و يدلّ علي الثاني خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه،و فيه:و ما خالف أخبارهم فخذوه.

و يدلّ علي الثالث قوله في خبر عمر بن حنظلة:ينظر إلي ما كان حكّامهم إليه أميل.

و يدلّ علي الرابع خبر عبيد بن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما سمعت منّي

ص: 360


1- جامع أحاديث الشيعة 1:254 ح 1.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:254 ح 2 و ح 3.

يشبه قول الناس فيه التقيّة و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1).

و لنذكر الأخبار الواردة في حمل الأخبار علي التقيّة:

الأوّل:خبر عبد الرحمن المتقدّم قوله عليه السّلام:فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما علي أخبار العامّة،فما وافق أخبارهم فذروه،و ما خالف أخبارهم فخذوه (2).

الثاني:خبر الحسين بن السري،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم (3).

الثالث:خبر محمّد بن عبد اللّه،قال:قلت للرضا عليه السّلام:كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟فقال:إذا ورد عليكم خبران مختلفان،فانظروا إلي ما يخالف منهما العامّة فخذوه،و انظروا إلي ما يوافق أخبارهم فدعوه (4).

و هذه الروايات الثلاث مرويّة في رسالة سعيد بن هبة اللّه الراوندي،و ناقش النراقي رحمه اللّه في كتاب المناهج في رسالة القطب بأنّها غير ثابتة منه ثبوتا شائعا،فلا حجّية فيما نقل عنها.

و اجيب بأنّ صاحب الوسائل أسند الكتاب إلي سعيد بن هبة اللّه الراوندي، و ذكر طريقه إليه في خاتمة الوسائل.

و يمكن إثبات طريق لصاحب الوسائل إلي هذا الكتاب بضمّ كلامين له أحدهما إلي الآخر،فقد ذكر:نروي كتاب الخرائج و الجرائح و كتاب قصص الأنبياء لسعيد بن هبة اللّه الراوندي بالاسناد السابق عن العلاّمة عن والده،عن8.

ص: 361


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 31.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 26.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 27.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 28.

الشيخ مهذّب الدين الحسين بن ردة،عن القاضي أحمد بن علي بن عبد الجبّار الطوسي،عن سعيد بن هبة اللّه الراوندي.ثمّ يقول:و نروي باقي الكتب بالطرق السابقة.

فإنّا نستظهر من مجموع هذين الكلامين أنّه ينقل سائر الكتب التي ذكرها في متن الوسائل و التي لم يصرّح بها في المشيخة عن مؤلّفها بالاسناد المذكور أيضا.

أقول:لا تصريح بل و لا ظهور في كلامه في أنّه وصلت إليه الكتب المذكورة بالطرق المذكورة؛لأنّه قال في الفائدة الخامسة في بيان بعض الطرق التي يروي بها الكتب المذكورة عن مؤلّفيها:و إنّما ذكرنا ذلك تيمّنا و تبرّكا باتّصال السلسلة بأصحاب العصمة عليهم السّلام،لا لتوقّف العمل عليه؛لتواتر تلك الكتب و قيام القرائن علي صحّتها و ثبوتها،كما يأتي إن شاء اللّه.

فإنّه يظهر منه أنّه قد قطع بكون الكتب المذكورة لمؤلّفيها من القرائن،لا أنّها وصلت إليه بهذه الطرق،و ذكرنا في محلّه شواهد علي ذلك،لا أقلّ من احتمال ذلك.و قد أتعب بعضهم نفسه في تصحيح السند بما هو محلّ تأمّل.

الرابع:خبر أبي إسحاق الأرجاني رفعه،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟فقلت:لا ندري،فقال:إنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالف عليه الأمّة إلي غيره إرادة لإبطال أمره،و كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشيء الذي لا يعلمونه،فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا علي الناس (1).

الخامس:خبر علي بن أسباط،قال:قلت له:يحدث الأمر من أمري لا أجد بدّا من معرفته،و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه،قال:فقال:ائت فقيه البلد إذا9.

ص: 362


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 29.

كان ذلك فاستفته في أمرك،فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه،فإنّ الحقّ فيه (1).

السادس:خبر عبيد بن زرارة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما سمعت منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة،و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس،فلا تقيّة فيه (2).

و في السند حسن بن أيّوب،و هو مهمل.

السابع:خبر سماعة قوله عليه السّلام:خذ بما فيه خلاف العامّة (3).

الثامن:خبر الحسن بن الجهم،قال عليه السّلام:خذ بما خالف القوم،و ما وافق القوم فاجتنبه (4).

التاسع:ما أرسله المفيد في الرسالة العدديّة (5).

العاشر:خبر عمر بن حنظلة (6).

الحادي عشر:مرفوعة زرارة (7).

الثاني عشر:ما أرسله في أوّل الكافي (8).

الثالث عشر:خبر أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما أنتم و اللّه علي شيء ممّا هم فيه،و لا هم علي شيء ممّا أنتم فيه،فخالفوهم فما هم من الحنيفية علي شيء.

الرابع عشر:مرسل داود بن الحصين،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:و اللّه ما جعل3.

ص: 363


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 30.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 31.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 32.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 5 ح 6.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 4.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 1.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 2.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 3.

اللّه لأحد خيرة في أتباع غيرنا،و إنّ من وافقنا خالف عدوّنا،و من وافق عدوّنا في قول أو عمل فليس منّا و لا نحن منهم (1).

ثمّ إنّ المرجّحات المذكورة بعضها للصدور،و بعضها لجهة الصدور،و بعضها للمضمون.

و في كون الترجيح بمخالفة العامّة من أيّ أقسام الترجيح وجوه:

الأوّل:أنّه مرجّح تعبّدي،فيكون من المرجّحات الخارجية،و لكن لا يلائمه التعليل في بعض الأخبار.

الثاني:أنّ نفس مخالفتهم محبوبة،نظير مخالفة الكفّار و عدم التشبّه بهم،فيكون أيضا مرجّحا تعبّديّا،و لكن لا يلائمه التعليل في بعض الأخبار.

الثالث:أن يكون الخبر المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فيكون مرجّحا مضمونيّا نظير الشهرة الفتوائيّة.

و الوجه فيه أنّ أساس فتاوي المخالفين علي القياس و الاستحسان،و الأخبار النبويّة المروية عن أبي هريرة و أضرابه من الوضّاعين،فيكون المخالف لهم إذا كان مستندا إلي خبر معتبر هو الصحيح المطابق للواقع.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في أواخر بحث الانسداد ما معناه:أنّه يدلّ علي أنّ المدار علي أقربية الخبر المخالف لهم للواقع قوله عليهم السّلام«فإنّ الرشد في خلافهم، و ما خالف العامّة ففيه الرشاد»فإنّ هذه القضيّة قضيّة غالبة (2).

بل لو لم يكن خبر كانت مخالفتهم أيضا أقرب إلي الواقع،خصوصا بناء علي ما يستفاد من بعض الأخبار من أنّهم كانوا يصنعون خلاف ما يقوله أمير المؤمنين عليه السّلام.

الرابع:أن يكون الموافق للعامّة صادرا للتقيّة،و الآخر المخالف صادرا لغير4.

ص: 364


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 7 ح 109.
2- فرائد الاصول ص 304.

تقيّة،فتكون المخالفة للعامّة من المرجّحات الجهتيّة،و لا يتعدّي إلي غيره،فإنّ الخبر الصادر لغير تقيّة و إن كان أقرب مضمونا إلي الواقع من الصادر تقيّة،لكن الترجيح بمجرّد الصدور بغير تقيّة لا يدلّ علي الترجيح بكلّ ما يكون أقرب.

ثمّ إنّ ظاهر أخبار الترجيح بمخالفة العامّة لعلّه الوجه الثالث،و لا دليل علي الوجه الرابع،إلاّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من رواية عبيد بن زرارة:ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة،و ما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1).

أسباب التقية

و لا بأس لتتميم الفائدة أن نذكر بعض ما قيل من أسباب التقية:

السبب الأوّل:التقية من الشيعة،ففي خبر أبي بصير قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام متي أصلّي ركعتي الفجر؟قال:فقال لي:بعد طلوع الفجر.قلت له:إنّ أبا جعفر عليه السّلام أمرني أن اصلّيهما قبل طلوع الفجر،فقال:يا أبا محمّد إنّ الشيعة أتوا أبي مسترشدين فأفتاهم بمرّ الحقّ،و أتوني شكّاكا فأفتيتهم بالتقية (2).و مثله خبره الآخر الوارد في القنوت (3).دلاّ علي أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام أفتي أصحابه بما يوافق العامّة اتّقاء من أصحابه؛لأنّهم كانوا شكّاكا ضعيفي الاعتقاد،لا يؤمن عليهم أن يفتوا بمرّ الحقّ،خلافا لما فعله أبوه عليه السّلام معهم.

السبب الثاني:إلقاء الخلاف بين الشيعة،قد ذكر ذلك في بعض الأخبار، و اختاره في مقدّمات الحدائق و في الدرر النجفيّة،قال فيما حكي عنه:و لعلّ السرّ في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كلّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله

ص: 365


1- فرائد الاصول ص 304.
2- التهذيب 2:135،و الاستبصار 1:285.
3- الكافي 3:339،التهذيب 2:91،و الاستبصار 1:340.

الآخر سخف مذهبهم في نظر العامّة،و كذّبوهم في نقلهم و نسبوهم إلي الجهل و عدم الدين،و هانوا في نظرهم بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم و تعاضدت مقالتهم، فإنّهم يصدّقونهم و يشتدّ بغضهم لهم و لا مامهم و مذهبهم،فيصير ذلك سببا لثوران العدواة (1)انتهي.

أقول:إنّ الظالمين المتقمّصين منصب الخلافة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في طول الزمان كانوا يريدون حفظ مقامهم و بقاء رئاستهم،و أن لا يزاحمهم أحد في سلطانهم.

و أيضا كانوا يريدون مع كونهم عند الناس مسلمين بل أميرهم أن ينسبوا بعض ما يرتكبونه من الفواحش إلي الاسلام حتّي تحفظ عند الناس و جاهتهم،فكانوا بحاجة إلي علماء لا يخرجون عليهم و لا يأمرون الناس بالخروج عليهم،بل يأمرونهم بعدم الخروج علي سلطان الوقت،و يفتون بعض الفتاوي المناسبة لشهوات هؤلاء الامراء و الحكّام،و علماء العامّة كأبي حنيفة و أضرابه كانوا كما يريدهم الحكّام.

و أمّا أئمّة أهل البيت المعصومون عليهم السّلام،فإنّهم العالمون بحدود اللّه تعالي لا يتعدّون عمّا أمر اللّه به أو نهي عنه،و الخلفاء المتصدّون للامور كانوا علي خوف من أن يعارضوهم علي خلاف ميولهم،فلذا كانوا يخافون من اجتماع الناس حولهم و من رواج مذهبهم،فإذا رأوهم مجتمعين شدّدوا عليهم و علي إمامهم،فلذا أوقع الامام عليه السّلام الخلاف بينهم.

ثم لا يخفي أنّ إلقاء الخلاف يكون وظيفة واقعيّة لهم لا بدّ لهم من العمل بها في مقطع من الزمان،و ليس ذلك من مرجّحات حمل أحد الخبرين علي التقيّة،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)أنّ ذلك نادر.7.

ص: 366


1- رسالة التعادل و التراجيح للسيّد الطباطبائي اليزدي ص 247،الحدائق 1:6.
2- فرائد الاصول ص 807.

السبب الثالث:التقية من غير الشيعة،و لها أسباب:

أحدها:المحافظة علي السائل،فيكون اتّقاء عليه؛لأنّه كان مبتلي بالعامّة.

و قال المجلسي الأوّل رحمه اللّه:إنّ الأغلب فيما يصدر عنهم علي وفق فتوي العامّة هو الاتّقاء علي السائل لا تقيّة لأنفسهم.

ثانيها:كون السائل من العامّة،و حينئذ ربّما يفتي الامام علي وفق مذهبه،كما ورد في خبر معاذ بن مسلم (1).

ثالثها:خوف الأئمّة علي أنفسهم،فيفتون بالتقية،كما ربّما يتّقون بالعمل الموافق لهم،و قد ورد ذلك في صيد البزاة (2).

رابعها:نقلهم الروايات المسلّمة عند العامّة تقيّة ليوهم أنّهم موافقون،و قد احتمل المجلسي الأوّل رحمه اللّه في شرحه الفارسي أن يكون نقل الأئمّة لروايات سهو النبي صلّي اللّه عليه و آله في الصلاة،أن يكون تقية كذلك.

ثم إنّه لا ريب في أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام ربّما كانوا يظهرون فتوي علي خلاف الواقع تقيّة من الأعداء،لكن هل هو كثير شايع بحيث يكون منشأ اختلاف الأخبار كثرة التقيّة منهم،و علي فرض التسليم فهل نقل ذلك منهم نقلا شايعا؟ و علي تقديره فهل هو موجود في أخبارنا أو أنّها قد هذّبت عن ذلك؟نذكر هنا قولين:

أحدهما:أنّه من المرجّحات،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في عدّته،و تقدّم نقل عبارته في الترجيح بالشهرة،و يظهر منه ذلك في كتابي الأخبار،فإنّه حمل أخبارا كثيرة علي التقيّة.

ثانيهما:أنّه ليس من المرجّحات،اختاره المحقّق رحمه اللّه في المعارج،قال:المسألة7.

ص: 367


1- وسائل الشيعة 11:482.
2- فروع الكافي 6:207.

التاسعة،قال الشيخ رحمه اللّه:إذا تساوت الروايتان في العدالة و العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة،و الظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السّلام و هو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد،و لا يخفي عليك ما فيه،مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد و غيره الخ (1).

و مراده من طعن المفيد رحمه اللّه قوله في رسالة الردّ علي أهل العدد و الرؤية:و إنّما المعني من قولهم«خذوا بأبعدهما من قول العامّة»يختصّ بما روي عنهم في مدائح أعداء اللّه و الترحّم علي خصماء الدين،إلي أن قال:و بعد فإنّ الذي يرد عنهم علي سبيل التقيّة لا ينقله جمهور فقهائهم،و يعمل به أكثر علمائهم،و إنّما ينقله الشكّاك من الطوائف و يرويه خصماؤهم في المذهب و يرد علي الشذوذ دون التواتر (2)انتهي.

و ممّن أنكر أن يكون عمدة تنافي الأخبار لأجل التقيّة الشيخ الأنصاري رحمه اللّه، قال:إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار:إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار،أو نقلها بالمعني،أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين،أو مقالية اختفت بالانظماس، و إمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الامام عليه السّلام من تقية،علي ما اخترناه من أنّ التقية علي وجه التورية أو غير التقية من المصالح الاخر.

و إلي ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار،من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الأخبار،باخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلي معني بعيد،ربّما يظهر من الأخبار محامل و تأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ إلي7.

ص: 368


1- المعارج ص 156.
2- رسالة الردّ علي أهل العدد و الرؤية للشيخ المفيد ص 47.

آخر الأمر الثاني (1).

و يستدلّ للقول بعدم كونه مرجّحا بأمور:

أحدها:ما ذكره المحقّق رحمه اللّه في المعارج من أنّه يحتمل في الخبر المخالف التأويل.و فيه أنّ الحمل علي التقيّة أغلب،فاحتماله أقوي.

ثانيها:ما ذكره المفيد من أنّه لا تنقل أخبار التقيّة كنقل غيرها،و لو كان فقد هذّبها المحدّثون.و فيه أنّ الشيخ الطوسي قد أكثر من الحمل علي التقيّة.

ثالثها:أنّ الأئمّة عليهم السّلام إذا أفتوا بالتقيّة تداركوها بإصدار الحكم الواقعي بعد زوال سبب التقيّة،كما في رواية صيد البزاة،حيث كان الامام الباقر عليه السّلام يفتي بحلّية صيدها زمان بني اميّة تقيّة،و بعد زوال دولتهم صرّح الامام الصادق عليه السّلام بالخلاف.

و فيه أنّه ربّما كان كذلك لا دائما في التقيّة علي أنفسهم لا الاتّقاء.

رابعها:أنّهم لم يتّقوا في الاصول العقائديّة و الفروع الواقعة محلّ النزاع الشديد، كالمتعة و المسح علي الخفّين و العول و التعصيب،فكيف يتّقون في المسائل الفرعيّة الجانبيّة.

و فيه أوّلا:أنّها ليست محلّ الاتّقاء.و ثانيا:أنّ صريح صحيح زرارة أنّه كان يخلو بأبي جعفر عليه السّلام مخافة أن يفتي بالتقيّة لأجل من حضر مجلسه.

خامسها:أنّ الأخبار الواردة في الترجيح بمخالفة العامّة وردت عن الصادقين عليهما السّلام،بينما نري أنّ الأخبار المتعارضة عند ما عرضت علي الأئمّة المتأخّرين عليهم السّلام لم يعيّنوا حملها علي التقيّة،فيدلّ علي عدم رجحان هذا الاحتمال في عصورهم بعد تنقيحهم الأخبار.0.

ص: 369


1- فرائد الاصول ص 810.

و فيه أنّه لم تعرض جميع الأخبار المتعارضة علي الأئمّة المتأخّرين عليهم السّلام.

سادسها:أنّ علماء العامّة لم يكن لديهم الشخصيّة الاجتماعيّة بحيث كان الأئمّة يخافون من الافتاء بخلافهم،مع أنّ بعضهم كان بعيدا عن الأجواء المحيطة بالأئمّة عليهم السّلام.

و فيه أنّ المدينة محطّ رحال الناس من أقطار العالم قبل حجّهم أو بعده، و الاتّقاء علي أنفس شيعتهم للخوف عليهم و التقيّة لأنفسهم ربّما كان خوفا من الجمهور التابع لعلمائهم،أو السلطة الزمنية التابعة لهم.

سابعها:أنّ أخبار التقيّة تنصّ علي أنّ التقيّة في الضرورة،فكيف يقال بصدور مئات من الأخبار تقيّة؟

و فيه أنّ الضرورة تحقّقت للأسباب المتقدّمة.

أقول:يدلّ علي الحمل علي التقيّة الأخبار المتقدّمة،و في أخبار صحيحة أنّ الأئمّة عليهم السّلام كانوا يتّقون من حضر مجلسهم،فيفتون علي خلاف الواقع،ففي صحيح زرارة الوارد في إرث الجدّ،قال زرارة:فأتيته من الغد بعد الظهر و كانت ساعتي التي أخلو به فيما بين الظهر و العصر،و كنت أكره أن أسأله إلاّ خاليا خشية أن يفتيني بالتقيّة من أجل من يحضر الحديث (1).نقلنا مضمونه.

و في خبر حمران،قال:صلّوا معهم،فقال زرارة:هذا ما يكون إلاّ بتأويل (2).

و في خبر ابن محرز:اتّقاك (3).إلي غير ذلك.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأمر الأوّل:أنّ الخبر الصادر تقيّة من الكذب المجوّز للمصلحة،و يحتمل أن8.

ص: 370


1- الكافي 7:94.
2- الكافي 3:375.
3- الكافي 4:378.

يكون تورية.قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و هذا أليق بالامام (1).

أقول:قد أشار في بعض الأخبار إلي التورية،ففي خبر حمران قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:في كتاب علي عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت الصلاة فصلّوا معهم الحديث.و أراد الصلاة معهم لا مقتديا بهم؛لأنّه قال:فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين الحديث.و لكن لا يترتّب علي ذلك ثمرة عمليّة؛لأنّه لا قرينة عرفيّة و لا عقليّة تقتضي الأخذ بالمعني التأويلي.

قال السيّد الطباطبائي اليزدي رحمه اللّه في رسالته:فما عن بعض الفقهاء من استحباب الوضوء عند خروج المذي و بعد الرعاف و القيء و نحوها،من جهة حمل الأخبار الواردة في ذلك علي الاستحباب بعد حملها علي التقيّة،بدعوي أنّ التقيّة في إظهار الوجوب؛لأنّه مذهب العامّة،فيكون المراد الاستحباب،لا وجه له إلاّ إذا احرز أنّ الامام لم يكن مضطرّا في أصل صدور الخبر الخ (2).

ثمّ لا يخفي أنّ ما قيل من أنّ التورية قصد خلاف ظاهر الكلام و ليست من الكذب،في غير محلّه،فإنّ من قال:ما أكلت مدّة عمري طعاما،مريدا به أنّه لم يأكله في السماء فهو كذب،و التورية التي ليست بكذب هو إلقاء كلام قابل للحمل علي معنيين،أراد القائل معني لا يفهمه السامع،و كان اللفظ قابلا للحمل عليه، كقول القائل:خليفة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من بنته في بيته.

الأمر الثاني:في بعض الأخبار إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها،و لهم فيه تفسيران:

أحدهما:أنّ لهم أجوبة متعدّدة لمورد واحد علي اسلوب التورية.2.

ص: 371


1- فرائد الاصول ص 809.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 242.

ثانيهما:أنّ اللفظ الواحد الذي يستعملونه له معاني متعدّدة يفهم بعض السامعين بعضها،و اختار السيّد اليزدي رحمه اللّه التفسير الثاني بعد ذكر الأخبار.

قال:فانظر إلي صراحة هذه الأخبار في أنّ الكلام الواحد الصادر منهم له محامل تبلغ السبعين،لا أنّ لهم أن يعدلوا عن الجواب إلي مطلب آخر و انّ لهم أن يتكلّموا بسبعين كلاما (1).

أقول:لا يبعد وقوع كلا الأمرين.

الأمر الثالث:موافقة العامّة علي أنحاء:

الأوّل:الموافقة لهم في الفتوي.

الثاني:الموافقة لأخبارهم التي رووها،كما في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المروي في رسالة الراوندي.

الثالث:الموافقة لميل حكّامهم.

الرابع:أن يكون أشبه بقواعدهم و أصولهم في دينهم و فروعهم من التعليلات الموافقة لمسلكهم.

الأمر الرابع:أنّه لم يكن فتاوي العامّة و أقوالهم مضبوطة،و لا طريق لنا الآن إلي أنّ أيّا منها كان موجودا في زمانهم عليهم السّلام في جميع فتاويهم،فلا بدّ من مراجعة التاريخ الموثّق و النقل المعتبر،و لهذا الكلام تتّمة لعلّنا نتعرّض لها.

الأمر الخامس:لو دار الأمر بين الحمل علي التقيّة و بين الحمل علي المعني المجازي كالاستحباب و الكراهة فيما ظاهره الوجوب أو الحرمة بعد العلم بعدم إرادة الظاهر،فهل يحمل علي التقيّة أو المجاز؟و جهان.

قال السيّد الطباطبائي في رسالته:أقواهما الثاني؛لأنّه مقتضي كون الأصل في5.

ص: 372


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 245.

الدليل الاعمال،مع أنّ الأصل عدم وجود سبب التقيّة،و الأصل إرادة بيان الحكم الواقعي الخ (1).

أقول:إقامة الدليل علي هذه الاستظهارات و الاصول المذكورة مشكل جدّا، فينبغي مراعاة الاحتياط.

النوع العاشر:الأحدثيّة

،فلو علم بصدور خبرين عن معصوم أو معصومين،فإن علم صدور أحدهما المعيّن تقيّة لم يعمل به،سواء كان هو المتقدّم أو المتأخّر و عمل بالآخر.

و إن علم أنّ أحدهما المعيّن تكليف المتّقي،فإن علم أنّ الأوّل تكليف المتّقي أخذ بالمتأخّر،و إن علم أنّ المتأخّر تكليف المتّقي أخذ بالأوّل،كتكليف علي بن يقطين بالوضوء علي وفق مذهب العامّة،فإنّه لو علم ارتفاع التقيّة كان يتوضّأ مثل الشيعة،لكن لم يعلم حتّي أعلمه الامام عليه السّلام.

و إن علم أنّ أحدهما غير المعيّن حكم زمان التقيّة،و لم يعلم أيّهما،عمل بالثاني،و كذا لو لم يعلم كونه حكم زمان التقيّة أو صدر تقيّة،فإنّه يعمل بالثاني؛ لأنّه لا تكليف بالواقع الذي لم يصل،و إنّما التكليف بما يقوله المعصوم،و المعصوم المتأخّر عالم بما قاله المتقدّم،فلذا يكون التكليف ما يقوله المتأخّر،هذا ما يقتضيه القاعدة.

و قد ورد أخبار في هذا الباب،و هي قسمان:

القسم الأوّل:ما يدلّ علي أنّ من سمع من الامام أمرين،فإنّه يجب عليه العمل بالمتأخّر،و هو خبر أبي عمر،رواه في الكافي،عن محمّد بن يحيي،عن أحمد بن محمّد بن عيسي،عن الحسن بن محبوب،عن هشام بن سالم،عن أبي عمر

ص: 373


1- رسالة التعادل و التراجيح ص 252.

الكناني،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا أبا عمر أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا،ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه،فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك،بأيّهما كنت تأخذ؟قلت:بأحدثهما و أدع الآخر،فقال:قد أصبت يا أبا عمر،أبي اللّه إلاّ أن يعبد سرّا،أما و اللّه لئن فعلتم ذلك انّه لخير لي و لكم،و أبي اللّه عزّ و جلّ لنا و لكم في دينه إلاّ التقيّة.

و رواه في المحاسن أحمد بن محمّد بن خالد،عن أبيه،عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثله (1).

و الظاهر سقوط أبي عمر بقرينة الخطاب إليه في أثناء الخبر،و لم يرد فيه توثيق.

قوله«أرأيت لو حدّثتك»لعلّه ظاهر في أنّه ليس ذلك تقيّة في بيان الحكم،بل هو اتّقاء علي السامع،و لكن يحتمل الأعمّ من التقيّة في بيان الحكم و الصدور تقيّة.

قوله«و أدع الآخر»و ظاهره أنّه يبقي علي الثاني إلي الأبد،إلاّ إذا أخبره معصوم آخر بخلافه فيأخذ بقول المعصوم الآخر.

و مرسل الحسين بن المختار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أ رأيت لو حدّثتك بحديث العام،ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه،بأيّهما كنت تأخذ؟قال:قلت:

كنت آخذ بالأخير،فقال لي:رحمك اللّه (2).

القسم الثاني:ما لا يختصّ بمن سمع عن المعصوم،بل عامّ له و لغيره،و هو خبر المعلّي بن خنيس،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:إذا جاء حديث عن أوّلكم و حديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟فقال:خذوا به حتّي يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله،قال:ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّا و اللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم.7.

ص: 374


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 36.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 37.

و في حديث آخر:خذوا بالأحدث (1).

و في السند إسماعيل بن مرّار،و لم يرد فيه توثيق،لكن قال ابن الوليد:روايات يونس يؤخذ بها إلاّ ما اختصّ بروايته محمّد بن عيسي.و فيه أيضا المعلّي بن خنيس،و فيه كلام.

قوله«عن أوّلكم»إن أراد الأوّل حقيقة،فهو أمير المؤمنين عليه السّلام،و لعلّه يبعد إرادته،و المراد الأوّل بالاضافة إلي المتأخّر،فالباقر عليه السّلام أوّل بالنسبة إلي الصادق عليه السّلام.

قوله«عن آخركم»إن أراد الآخر الذي أدركه الراوي،فيكون الآخر حقيقة.

و إن أراد الآخر بالاضافة إلي الأوّل،فيشمل من لم يدركه،فلو جاء حديث عن السجّاد عليه السّلام،و حديث عن الباقر عليه السّلام،و لم يدركه من جاء إليه الحديث،صدق ذلك،لكن بقرينة الجواب يمكن حمله علي الآخر الذي أدركه.

ثمّ إنّ المراد ما إذا تعارض الخبران،و لعلّه يشمل التعارض بالعموم و الخصوص؛لأنّه لا مجال للسؤال عن صورة عدم التعارض.

قوله«خذوا به»أي:بالحديث الذي عن الأوّل إلي أن يبلغكم الحديث عن الآخر الذي هو حيّ،فيكون خاصّا بزمان الحضور.و يمكن أن يراد ذلك من باب ذكر أحد أفراد الآخر،أي:خذوا بالحديث عن الأوّل إلي أن يأتيكم الحديث عن الآخر،فيوافق قوله«و في حديث آخر:خذوا بالأحدث».

و أورد علي دلالته علي الترجيح بالأحدثيّة في نهاية الدراية،بأنّه بقرينة امتداد الحكم إلي أن يبلغ عن الحيّ ظاهر في أنّ الحكم الفعلي أيّاما كان هو الثاني إلي أن ينكشف حاله،لا أنّ وظيفة عامّة المكلّفين ذلك،و لو في غير زمان الحضور الذي5.

ص: 375


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 35.

يتفاوت حال الأئمّة و شيعتهم من حيث الاتّقاء من الأعداء (1)انتهي.

أقول:يدلّ علي الأخذ بما جاء عن الحيّ،مثلا إن جاء حديث عن الباقر عليه السّلام يؤخذ به إلي أن يجيء من أدرك الرضا عليه السّلام الخبر عنه،فيؤخذ به إلي أن يجيء عن العسكري عليه السّلام لمن أدرك العسكري فإذا أتاه الخبر منه علي خلافه،فإنّه يجب عليه أن يعمل بالخبر الأخير،مع أنّه لا يأتيه بعده خبر عن إمام،و لا فرق بينه و بين سائر الموارد.

و إن شئت قلت:إنّ الحديث الآخر يعمل به من سمعه علي أنّه حكم واقعي،لكن من اطّلع علي الأوّل،يتردّد أمره بين العمل بأحدهما،و ينبغي أن يعمل بالثاني،كما في تبدّل الرأي و نحوه،لكن بالنسبة إلي المعصومين يكون ذلك من مصلحة الحكم بحسب الأزمان.

و موثّق محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:ما بال أقوام يروون عن فلان و فلان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله لا يتّهمون بالكذب،فيجيء منكم خلافه،قال:

إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (2).

قوله«أقوام يروون»يحتمل أنّه أراد أقواما من العامّة يعتقد الراوي وثاقتهم، و إن كان يبعد ذلك من محمّد بن مسلم الذي هو من خواصّ الأئمّة عليهم السّلام.

قوله«انّ الحديث ينسخ»يحتمل امورا:

أحدهما:أنّ حديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله ينسخ بحديثه الذي ننقله نحن عنه،و لكن الناس لم يحفظوا حديث الناسخ،و هو عندنا كما ورد في خبر سليم:و رجل ثالث سمع من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله شيئا أمر به،ثمّ نهي عنه و هو لا يعلم أو سمعه ينهي عن شيء ثمّ أمر به و هو لا يعلم،فحفظ منسوخه و لم يحفظ الناسخ،و لو علم أنّه8.

ص: 376


1- نهاية الدراية 3:164.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 38.

منسوخ لرفضه،و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه الحديث (1).

و يدلّ علي ذلك حسن منصور بن حازم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب،ثمّ يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟فقال:إنّا نجيب الناس علي الزيادة و النقصان،قال:قلت:فأخبرني عن أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله صدقوا علي محمّد أم كذبوا؟قال:بل صدقوا،قال:قلت:

فما بالهم اختلفوا؟فقال:أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب،ثمّ يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب،فنسخت الأحاديث بعضها بعضا (2).

ثانيهما:أن يكون المراد نسخ الأئمّة حديث رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله،يعني:بيان أمد الحكم،و هو يحتمل وجهين:

الأوّل:أن يكون النسخ من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله،و يكون مودعا عند الأئمّة عليهم السّلام.

الثاني:أن يكون لهم حقّ التشريع،فإنّهم معصومون عن الخطأ قد فوّض إليهم ذلك.

ثالثها:تخصيص الحديث أو تقييده،و قد استعمل النسخ في هذا المعني في خبر محمّد بن سوقة،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالي فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَي الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ قال:نسختها التي بعدها قوله عزّ و جلّ (فمن خاف من موص جنفا فلا إثم عليه) الحديث (3).

ثمّ إنّه قد تقدّم أنّ مقتضي القاعدة هو العمل بالخبر الذي يأتي عن المعصوم متأخّرا،أو عن المعصوم المتأخّر.2.

ص: 377


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 4 ح 62.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 39.
3- جامع أحاديث الشيعة 19:273 ب 61 ح 12.

و ممّن اعترف بذلك الشيخ الصدوق رحمه اللّه،قال بعد ايراد خبرين،أحدهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و الآخر خطّ أبي محمّد الحسن العسكري عليه السّلام:قال مصنّف هذا الكتاب:لست أفتي بهذا الحديث،بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن علي عليهما السّلام.

و لو صحّ الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير،كما أمر به الصادق عليه السّلام،و ذلك أنّ الأخبار لها وجوه و معان و كلّ إمام أعلم بزمانه و أحكامه من غيره من الناس،و باللّه التوفيق (1)انتهي.

و استشكل السيّد اليزدي رحمه اللّه في رسالته في هذا المرجّح،بأنّ ذلك إن كان من جهة احتمال النسخ،فيختصّ بما إذا كان كلا الخبرين أو الأوّل منهما منقولا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله،و إن كان من جهة احتمال التقيّة،فلا بدّ أن يكون مخصوصا بزمان الحضور،حيث إنّه إمّا أن يكون الأوّل تقيّة أو الثاني،و علي كلا التقديرين يجب الأخذ بالثاني في ذلك الزمان،أمّا علي الأوّل فواضح،و أمّا علي الثاني فلأنّ ذلك مقتضي مصلحة التقيّة،و أمّا في زماننا فحيث لا مقتضي للتقيّة،فلا يجب الأخذ بالأحدث،فتدبّر (2)انتهي.

أقول:لم يظهر انحصار اختلاف الأخبار في النسخ و التقيّة،و لها علل اخر لا نعرفها،و ظاهر الحكم الذي يذكره المعصوم هو الاستمرار إلاّ أن يقوم قرينة علي التوقيت و الاختصاص بزمان خاصّ،فما لم يعلم ذلك فالواجب متابعة ظاهر الحكم،و كلّ إمام أعلم بما يكون في عصره و عصر غيره،فيجب متابعة أهل العصر المتأخّر للحكم الصادر من الامام متأخّرا.

النوع الحادي عشر:الأيسريّة

،يدلّ عليه خبر حنان بن سدير،عن أبي جعفر عليه السّلام،إلي أن قال:و لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلاّ أخذت باليسير،

ص: 378


1- من لا يحضره الفقيه 4:151 ب 99.
2- رسالة التعادل و التراجيح ص 200.

و ذلك أنّ اللّه يسير يحبّ اليسير،و يعطي علي اليسير ما لا يعطي علي العنف (1).

و في رواية جعفر بن سماعة:يا بنيّ رواية علي بن أبي حمزة أوسع علي الناس الحديث (2).

و قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:إذا حدّثتم عنّي بالحديث فانحلوني أهنأه و أسهله و أرشده الحديث (3).استفيد منه الترجيح بالأسهليّة،لكن في رسالة السيّد اليزدي رحمه اللّه عن الفصول أنّ المراد بها موافقة القرآن،فلاحظ.

و أخذ بذلك الصدوق رحمه اللّه،قال في كتاب الصلاة فيما يصلّي فيه و ما لا يصلّي فيه من الثياب،بعد نقل حديثين:مع أنّ الأوّل عن الكاظم عليه السّلام،و الثاني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:انّ الثاني رخصة اقترنت بها علّة الخ (4).

و قال في كتاب الحجّ في إحرام الحائض،إلي أن قال:و الحديث الأوّل رخصة و رحمة الخ (5).

و يمكن استظهاره من الكليني في أوّل الكتاب،حيث قال:و لا نجد شيئا أحوط و لا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلي العالم عليه السّلام،و قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله:

بأيّهما أخذتم من باب التسليم و سعكم انتهي.حيث إنّه يري الأخذ بما هو السعة فتأمّل،و الأحوط مراعاة الترجيحات المنصوصة،ثمّ التخيير بالأخذ بالأيسر.3.

ص: 379


1- وسائل الشيعة 8:235 ح 7.
2- وسائل الشيعة 15:321 ح 6.
3- المحاسن 1:348.
4- من لا يحضره الفقيه 1:162 ح 763.
5- من لا يحضره الفقيه 2:242 ح 1153.
المقام الثالث: في التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي غيرها
اشارة

و يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في الدليل علي التعدّي

فنقول:إنّ المرجّحات المنصوصة علي أنحاء:

أحدها:المرجّحات الصدوريّة،بمعني أنّه يرجّح صدور أحدهما علي الآخر في أنّه ليس مكذوبا و لا اشتبه الأمر علي الراوي.

ثانيها:المرجّحات الجهتيّة،بمعني أنّه أرجح من الآخر في كونه حكما واقعيّا لم يصدر تقيّة و لا لمصلحة وقتيّة قد انقضت.

ثالثها:المرجّحات المضمونيّة،بمعني أنّ مضمون أحدهما أقرب إلي الواقع من الآخر،كما إذا كان أحدهما مقرونا بالشهرة الفتوائيّة أو موافقا للكتاب.

رابعها:المرجّحات التعبّديّة كالأيسريّة و نحوها.

ثمّ إنّ الدليل علي التعدّي و جهان:

الأوّل:أنّه لم يثبت عندنا دليل علي اعتبار التوثيقات و التضعيفات الرجاليّة في كلّ واحد ممّن وثّق أو ضعّف،إلاّ انّها كالقرائن،و يوجد قرائن اخر من وجود الخبر في الكتب المعتمدة،و لذا نقول:لا بدّ من العمل بجميع الأخبار غير المتعارضة ما أمكن.

و أمّا الأخبار المتعارضة،فإنّها طرف العلم الإجمالي بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السّلام،فلا بدّ أوّلا من الاحتياط إن أمكن،ثمّ ملاحظة المرجّحات المذكورة و غيرها ممّا يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع؛لوجود احتمال اشتمال الأخبار الموجودة علي المدسوس و المشتبه عند الراوي،و التقطيع و النقل

ص: 380

بالمعني،و اختفاء القرائن و غيرها،فلا بدّ من تقليل هذه الاحتمالات،و لم يثبت عندنا أخبار قويّة السند و الدلالة تدلّ علي التخيير حتّي تكون محكّمة،و مقتضي الشكّ في الحجّية عدم العمل عندنا بما ليس فيه قرينة.

فمقتضي العلم الاجمالي بصدور بعض الأخبار الاحتياط في العمل بها إن أمكن،و إن لم يمكن فالعمل بما هو أقرب إلي الواقع إن أمكن،و إلاّ فيتخيّر.

الثاني:استفادة التعدّي من المرجّحات المنصوصة،و هي:

الأوّل:قوله في خبر عمر بن حنظلة«و أصدقهما في الحديث»قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:فإنّا نعلم أنّ وجه الترجيح بهذه الصفة ليس إلاّ كون الخبر الموصوف بها أقرب إلي الواقع من الخبر الغير الموصوف بها،لا لمجرّد كون راوي أحدهما أصدق (1).

قلت:و الصدق هو مطابقة مضمون الخبر للواقع،و المخبر يتّصف بأنّه صادق باعتبار خبره،و يتّصف بالأصدقيّة و هي قلّة خطئه بالاضافة إلي غيره.و جميع المرجّحات الصفتيّة الدخيلة في مطابقة الخبر للواقع تكون مصاديق للأصدقيّة و الناقل باللفظ أصدق،أي:أقلّ خطا من الناقل بالمعني و كذا الأضبط.

و نوقش فيه أوّلا:بضعف السند.

و ثانيا:بأنّ الصفات المذكورة للحكمين لا للراوي بما هو راو.

و ثالثا:بما ذكره في الكفاية بأنّ الترجيح بالأصدقيّة لا إشعار فيه علي أنّ الملاك هو الأقربية صدورا؛لاحتمال خصوصيّة في مرجّحيّته.

و أيّده في نهاية الدراية بأنّ الحكم لم يعلّق علي الصدق الخبري،بل علي الصدق المخبري،فإنّه لو علّق الحكم علي ما كان أصدق و أطبق علي الواقع من2.

ص: 381


1- فرائد الاصول ص 302.

غيره لجاء احتمال التعدّي إلي كلّ ما كان أطبق علي الواقع من غيره،بل علّق الحكم علي ما إذا كان أحد الراويين أصدق من الآخر؛لمداقّته بحسب اعتقاده في نقله،فإنّ اعتبار هذه الصفة و إن كان أيضا للملازمة العادية بين الصدق المخبري و الصدق الخبري بعد البناء علي عدم الخطأ في الحسّ المشترك بين الراويين،إلاّ انّ المرجّح هو الملزوم لهذا الوصف في الخبر دون لازمه،فلا يتعدّي إلي ما يشترك مع هذا اللازم و لو لملزوم آخر (1)انتهي.

قلت:سياق الخبر يدلّ علي أنّه في مقام ما يوجب الأقربيّة إلي الواقع، و المذكورات فيه مذكورات من باب الفرد الغالب،فتأمّل.

ثمّ إنّ اعتبار الأعدليّة و الأفقهيّة لعلّه بلحاظ مراعاة التثبّت في الخبر و فهم قرائن الحال و المقال ليكون في النقل بالمعني ضابطا،و يكون أقرب إلي الواقع.

الثاني:التعليل في خبر عمر بن حنظلة«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ ترجيح أحد الخبرين علي الآخر بكونه مشهورا بين الأصحاب بحيث يعرفه كلّهم،و كون الآخر غير مشهور الرواية بينهم بل ينفرد بروايته بعضهم دون بعض،معلّلا ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه إلي آخر ما أفاده (2).

قلت:بل بناء علي إرادة الشهرة المصطلحة من الاجماع،فإنّه يطلق عرفا و مسامحة أنّها إجماع.و قد يؤيّد بأنّ الخطاب متوجّه إلي عمر بن حنظلة،فيكون المراد إجماع أصحابه الذين بالكوفة مثلا،و لعلّه لم يكن الخبر مجمعا عليه عند رواة الشيعة في غير الكوفة،فيكون مرجع التعليل إلي أنّ المشهور لا ريب فيه بالاضافة إلي غيره،أي:كلّما كان في أحد المتعارضين ما يوجب الأقربيّة إلي3.

ص: 382


1- نهاية الدراية 3:173.
2- فرائد الاصول ص 303.

الواقع كان مقدّما علي الآخر الفاقد له.

و اعترف في الكفاية بذلك،لكن خصّ التعدّي بما يكون مثل الشهرة ممّا يوجب الوثوق و الاطمئنان بالصدور لا إلي كلّ مزيّة و إن لم توجب أقربيّة ذي المزيّة.

و أجيب عنه بأنّ المراد من الاجماع هو اتّفاق الكلّ علي نقل الخبر حتّي من الشاذّ،فيكون مقطوع الصدور،و يطرح الشاذّ لمخالفته للسنّة القطعيّة.

و فيه أنّ الشهرة بمعني الظهور،و هو يتحقّق في الشهرة المصطلحة،و لا سيّما مع قوله«إنّهما معا مشهوران قد رواهما الثقات»فإنّه لعلّه يشمل الشهرة المصطلحة في الرواية.

الثالث:قوله«ما خالف العامّة ففيه الرشاد»و سائر الأخبار الواردة في ترجيح الخبر المخالف للعامّة،فإنّه ربّما يستفاد منه أنّ ذلك من أجل أقربيّته إلي الواقع، فإنّ احتمال عدم مطابقة الحكم الواقعي في الخبر الموافق أقوي منها في المخالف، فيكون المدار علي الأقربيّة.

الرابع:قوله«دع ما يريبك إلي ما لا يريبك»دلّ علي أنّه إذا دار الأمر بين أمرين كان أحدهما أقرب من الآخر إلي الواقع،فهو بالاضافة إلي الآخر لا ريب فيه،و لعلّه يمكن الاستدلال بوجوه اخر،و الأولي ما ذكرناه،فتأمّل.

الموضع الثاني: في تعداد بعض المرجّحات التي يتعدّي إليها

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)جملة منها،و هي مرجّحات الصدور،وجهة الصدور و المضمون،فذكر في مرجّحات الصدور قسما يرجع إلي السند،و قسما يرجع إلي

ص: 383


1- فرائد الاصول ص 801.

المتن،و هي كون أحدهما عدلا و الآخر ثقة غير عدل،و كون أحدهما أعدل أو أصدق أو مزكّي رواته بعدلين،أو غير محتاج إلي تمييز الراوي بالظنون،أو كونه عالي السند،أو عدم حذف الواسطة مع حذفها من الآخر مع اعترافه بأنّه ثقة،أو كون الراوي متعدّدا،أو كيفيّة تحمّل الراوي من سماعه من الشيخ و قراءته عليه.

هذه المرجّحات ترجّح صدور أحد الخبرين من ناحية الراوي.

و أمّا الصدور من حيث المتن،فالمرجّحات هي فصاحة أحدهما،أو أفصحيّته، أو عدم اضطراب متنه،أو كونه منقولا بلفظه،و لاحظ تتمّة كلامه.

و ذكر الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة من المرجّحات أن يكون أحد الراويين يروي الخبر بلفظه و الآخر بمعناه،إلاّ أن يكون الراوي بمعناه ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح.و أن يكون أحد الراويين أعلم و أفقه و أضبط من الآخر،فينبغي أن يقدّم خبره علي خبر الآخر و يرجّح عليه.و أن يكون أحد الراويين متيقّظا في روايته و الآخر ممّن يلحقه غفلة و نسيان في بعض الأوقات.و أن يكون أحد الراويين يروي سماعا و قراءة و الآخر يروي إجازة،فينبغي أن يقدّم رواية السامع علي المستجيز،إلاّ أن يروي المستجيز بإجازته أصلا معروفا أو مصنّفا مشهورا، و لاحظ سائر ما ذكره من المرجّحات (1).

أقول:ينبغي للفقيه مراعاة هذه المرجّحات و غيرها ممّا هو دخيل في صدور الحكم تقيّة و ظروف صدوره و زمان صدوره،و ملاحظة حال أخبار العامّة و فتاويهم لها مدخل في العثور علي قرائن ربّما توجب عدم انعقاد الاطلاق في مفهوم الأخبار.2.

ص: 384


1- عدّة الاصول 1:152.
المقام الرابع: في الترتيب بين المرجّحات عند تعارض بعضها مع بعض
اشارة

و يقع الكلام في ثلاثة أقسام:الأوّل:في الترتيب بين مرجّحات الدلالة مع مرجّحات غير الدلالة.الثاني:في الترتيب بين مرجّحات الدلالة.الثالث:الترتيب بين مرجّحات غير الدلالة.

أمّا القسم الأوّل:و هو تعارض مرجّحات الدلالة مع مرجّحات غير الدلالة

،فلا ريب في تقديم مرجّحات الدلالة علي غيرها؛لأنّها ترفع موضوع التعارض،فلا يبقي محلّ لمرجّحات غير الدلالة،كالترجيح بصفات الراوي و مخالفة العامّة و غيرهما،إلاّ إذا كانت المرجّحات توهن دلالة الخبر الآخر.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:نعم لو بلغ المرجّح الخارجي إلي حيث يوهن الأرجح دلالة،فهو يسقط عن الحجّية،و يخرج الفرض عن تعارض الدليلين،و من هنا قد يقدّم العامّ المشهور و المعتضد بالامور الخارجية الاخر علي الخاصّ (1)انتهي.

و يمكن أن يستدلّ لتقدّم الترجيح بالدلالة علي سائر المرجّحات بوجوه:

أحدها:أنّ المرجّحات الاخر لا تجعل الخبر أعلي من المتواتر،و لا أعلي من الكتاب الذي هو مقطوع الصدور،و قد قرّروا أنّه لا تعارض بين مقطوعي الصدور إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر من الآخر،و لذا قالوا بتخصيص الكتاب بالخبر الواحد لعدم المعارضة بينهما.

و بعبارة اخري:إذا أمكن فرض صدور كلامين من متكلّم واحد بحيث صار أحدهما قرينة علي التصرّف في الآخر كانا كالكلام المتّصل،فلا فرق بين أن يقول

ص: 385


1- فرائد الاصول ص 817.

المتكلّم أكرم العلماء إلاّ زيدا،و بين أن يقول أكرم العلماء،ثمّ يقول بعد يوم مثلا قبل مجيء وقت العمل:لا تكرم زيدا،و هذا يكشف عن عدم التعارض بينهما.

و من هذا الباب أن يكون أحد الخبرين أقوي دلالة من الآخر،مع كونه مخالفا للكتاب،و الآخر موافقا له،فإنّه يتقدّم الأقوي دلالة علي الآخر و يخصّص به الكتاب.

أقول:إنّ ذلك مسلّم فيما إذا صدر الكلامان من متكلّم واحد،أو متكلّمين كانا كالمتكلّم الواحد قبل حضور وقت العمل،و لم يكن احتمالات عقلائيّة تقتضي غير حمل الكلامين علي معني واحد.

و أمّا في مثل أخبارنا ممّا يكون من متكلّمين بعد وقت العمل،كما إذا تعارض الخبر الخاصّ مع عموم الكتاب،أو كانا في حكم كلام واحد،كالأخبار الصادرة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،لكن كان فيهما إحتمال آخر،و هو أن يكون التكليف هو الأحدث،و أن يكون أحدهما صادرا تقيّة،فهو غير مسلّم،فإذا ورد عن الباقر عليه السّلام لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر،ثمّ ورد عنه عليه السّلام اجتنب الصلاة في الثوب الذي أصابه خمر،يشكل الجمع الدلالي بحمل الأمر علي التنزّه،حيث إنّه ظاهر في وجوب الاجتناب و الخبر الأخر نصّ في عدم الوجوب،بل يدخل تحت قوله«أرأيتك إن حدّثتك بحديث ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه»هذا لو صدر عن إمام واحد،فكيف بما يصدر عن الامامين.

ثانيها:أنّ حمل الظاهر علي الأظهر و علي النصّ،يكون من ردّ المتشابه إلي المحكم،فيدخل في الطائفة الاولي من قوله«أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»و قوله«إنّ في كلامنا محكما و متشابها،فردّوا متشابهها إلي محكمها».

أقول:يشكل أن يكون الجمع العرفي مرادا من ردّ المتشابه إلي المحكم،فإنّ الجمع العرفي و هو كون أحد الكلامين قرينة علي الآخر كما هو المتعارف بين

ص: 386

الناس،حتّي انّ الصبيان يستعملون المعاني المجازية مع القرينة،ليس من الفقه حتّي يكون من يعرف ذلك أفقه الناس،بل لعلّ المراد بالخبر هو معرفة المعاريض و التورية و أمثال ذلك.

ثالثها:عدم شمول أخبار العلاج لهما،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:بل موارد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما بل اقترانهما تحيّر السائل فيهما،و لم يظهر المراد منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما،إلي أن قال:و ما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه،كما استظهره بعض مشايخنا الخ (1).

أقول:المورد الذي لا يتحيّر السائل هو صدورهما من معصوم واحد أو معصومين قبل مجيء وقت العمل بالنسبة إلي شخص واحد،و لم يكن احتمال التقيّة موجودا.و أمّا أخبارنا التي تختلف بالنسبة إلي أشخاص مختلفين في الأزمنة المختلفة،فيتحيّر السائل.

فالانصاف أنّ الجزم بما ذكر مشكل،و من ذلك يقرب كلام الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الاستبصار و العدّة.

ففي أوّل الاستبصار بعد أن ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه،قال:و إن كان هناك ما يعارضه،فينبغي أن ينظر في المتعارضين،فيعمل علي أعدل الرواة في الطريقين،و إن كانا سواء في العدالة عمل علي أكثر الرواة عددا،و إن كانا متساويين في العدالة و العدد،و هما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها،نظر فإن كان متي عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر علي بعض الوجوه و ضرب من التأويل،كان العمل به أولي من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلي4.

ص: 387


1- فرائد الاصول ص 784.

طرح الخبر الآخر؛لأنّه يكون العامل بذلك عاملا بالخبرين معا.

و إذا كان الخبران يمكن العمل بكلّ واحد منهما و حمل الآخر علي بعض الوجوه و ضرب من التأويل،و كان لأحد التأويلين خبر يعضده،أو يشهد به علي بعض الوجوه،صريحا أو تلويحا،لفظا أو دليلا،و كان الآخر عاريا من ذلك،كان العمل به أولي من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار،و إذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر و كان متحاذيا،كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (1)انتهي.

قلت:يمكن أن يكون مراده غير النصّ الذي يكون قرينة عرفيّة علي إرادة خلاف الظاهر؛لعدم صدق المعارضة،و كذا غير التخصيص،فإنّه لا يقال إنّ العامّ أوّل إذا خصّص.

و قال في العدّة في بحث العامّ و الخاصّ في الأدلّة التي يعلم بها التخصيص:

و هذه الأدلّة كلّها لا خلاف بين أهل العلم في جواز تخصيص العموم بها،و إنّما قالوا ذلك لأنّه لا يجوز القول بتكافؤ الأدلّة،فإذا كان العامّ دليلا علي الاستغراق و ما دلّ علي الخصوص دالاّ علي تخصيصه،فلا بدّ من تخصيص العامّ به،و إلاّ أدّي إلي إسقاط أحد الدليلين و إبطاله،أو إبطالهما معا و العدول إلي الآخر،و كلّ ذلك فاسد انتهي.

فمراده من التأويل نظير لا تبل في الماء الجاري،و لا بأس بالبول فيه،حيث يؤوّل الأوّل بالكراهة.ثمّ إنّه ذكر في العدّة ما يخالف ما في الاستبصار،قال فيها:

فإن كان رواتهما جميعا عدلين،نظر في أكثرهما رواة و عمل به و ترك العمل بقليل الرواة،فإن كان رواتهما متساويين في العدد و العدالة،عمل بأبعدهما من قول العامّة،و ترك العمل بما يوافقهم.و إن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهما،4.

ص: 388


1- الاستبصار 1:4.

نظر في حالهما،فإن كان متي عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر علي وجه من الوجوه و ضرب من التأويل الخ.

فجعل أوّل المرجّحات الشهرة،ثمّ مخالفة العامّة،ثمّ التأويل،و مورد الجمع الدلالي العرفي و تخصيص العامّ ليسا من التعارض و لا من التأويل،و ما صنعه قريب جدّا.و الأولي مراعاة الاحتياط بين الجمع الدلالي و ملاحظة الترجيحات، و سيأتي للبحث تتمّة إن شاء اللّه تعالي.

القسم الثاني: التعارض بين مرجّحات الدلالة
اشارة

منها:تعارض الظاهر في خبر مع الخبر الآخر الذي استعين علي دلالته علي معناه بأصالة الحقيقة،أو أصالة عدم القرينة،و الظاهر تقديم الأوّل و جعله قرينة علي الثاني.و منها:معارضة الظاهر مع الأظهر،و يقدّم الأظهر علي إشكال في خصوص أخبارنا.

ثمّ إنّه يقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في الامور التي توجب أظهريّة دلالة أحد الخبرين

منها:دوران الأمر بين ما دلّ علي العموم بالوضع،و ما دلّ عليه بالاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة،فيقدّم العامّ،كقوله«كلّ فاسق مهان»علي قوله«العالم مكرم»لأنّ المفرد المحلّي باللام لا يدلّ بنفسه علي سريان الحكم إلي جميع الأفراد،و إنّما يدلّ علي ثبوت الحكم علي الجنس،فلا ينافيه ما دلّ علي عدم ثبوت الحكم علي بعض أفراده بخلاف العموم،فإنّه يدلّ علي ثبوت الحكم علي جميع الأفراد،فينافيه عدم ثبوته علي بعض الأفراد،فإذا صدرا من متكلّم واحد قبل حضور وقت العمل،يقدّم العامّ عرفا علي المطلق لأنّه أظهر.

ص: 389

و قرّر الاستدلال في الكفاية بأنّ ظهور العامّ تنجيزي،بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق،فإنّه معلّق علي عدم البيان و العامّ يصلح بيانا الخ (1).

و اورد عليه بأنّ عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة،إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلي الأبد،فإذا لم يكن قرينة في مقام التخاطب،صار ظهور المطلق في الاطلاق تنجيزيّا.

فالمطلق ظاهر في الاطلاق مع عدم البيان في مقام التخاطب،فظهوره كظهور العامّ تنجيزي،لكن بعد مجيء العام يكشف عن أنّ الظهور لم يكن مرادا من الأوّل (2).

أقول:الأولي أن يقال:إنّ كشف ظهور المطلق عن مراد المتكلّم و إن كان تنجيزيّا،لكنّه معلّق علي عدم مجيء قرينة علي الخلاف،كما أنّ ظهور العام في العموم و إن كان بالوضع،لكن كشفه عن المراد معلّق علي عدم مجيء قرينة علي الخلاف قبل وقت العمل.

و إذا صدر العامّ و المطلق من متكلّم واحد كان العامّ أظهر من المطلق،لكن لا يحمل أحدهما علي الآخر إلي حضور وقت العمل؛لاحتمال صدور قرينة علي التصرّف في أحدهما من المتكلّم،فإذا لم يصدر قرينة من المتكلّم كان العامّ و المطلق في حكم الصادرين في زمان واحد،و يكون العامّ كاشفا عن المراد بالمطلق لأقوائيّة دلالته،لأنّ ظهور العامّ بالوضع لا يزاحمه إطلاق المطلق.

و بعبارة اخري:بعد اجتماعهما يتقدّم العامّ.فتأمّل فإنّه ربما تختلف الموارد.

و منها:دوران الأمر بين التخصيص و النسخ،بأن ورد خاصّ و عمل به،ثمّ ورد عامّ،فهل هو مخصّص-بالفتح-بالخاصّ المتقدّم أو هو ناسخ؟قيل:إنّه مخصّص7.

ص: 390


1- كفاية الاصول ص 513.
2- مصباح الاصول 3:377.

لوجوه:

أحدها:غلبة التخصيص.

و فيه أنّ النسخ عندنا تقييد أو تخصيص في الزمان،فهو في حكم التخصيص.

إلاّ أن يقال:إنّ الغالب تخصيص الأفراد دون الأزمان.

ثانيها:ما في المصباح،فإنّه ذكر وجهين،قال:ثانيهما أوضح،و هو أنّ الخاصّ المتأخّر يجب العمل به،سواء كان ناسخا أو كان مخصّصا للعموم،و العامّ المتأخّر يعني الصادر عن المعصوم المتأخّر بعد حضور وقت العمل بالخاصّ المتقدّم يجب تخصيصه بالخاصّ المتقدّم؛لأنّ الأئمّة عليهم السّلام في مقام بيان الأحكام لا تشريعها، فالأحكام التي بيّنوها و إن كانت متأخّرة إثباتا لكنّها متقدّمة ثبوتا،فتكون الأحكام الصادرة عن الأئمّة بمنزلة الأحكام الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله،و التدريج إنّما هو في بيان الحكم لا في أصل الحكم،فالعامّ المتأخّر متقدّم،فيكون العامّ و الخاصّ في زمان واحد و كلام واحد،فيخصّص العامّ بالخاصّ (1).

قلت أوّلا:يمكن أن يكون الأحكام التي جاء بها النبي صلّي اللّه عليه و آله تختلف باختلاف الأزمان،فيكون الحكم الواقعي لطائفة مضمون الخاصّ،و الحكم الواقعي لمن جاء بعدهم مضمون العامّ،و يقوّي هذا الاحتمال الأخبار الدالّة علي الأخذ بالأحدث.

و ثانيا:إنّما يتمّ ما ذكر إذا كانت الأحكام الأوّلية هي الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام،و لكن لم يثبت ذلك لابتلاء أخبارنا بجهات:

منها:عدم تمييز الحكم الولائي،يعني الحكم الذي يصدر أوّلا أو ثانيا ولاية.

و منها:تقيّة المعصوم المتقدّم في بيان الحكم أو المتأخّر.

و منها:كون الحكم حكم مورد التقيّة،بأن كان السائل أو جماعة من الشيعة في4.

ص: 391


1- مصباح الاصول 3:384.

التقيّة.

و منها:الارفاق بالشيعة لمصلحتهم.

و منها:إلقاء الخلاف بينهم لمصالح.

و منها:غير ذلك.هذا فيما علم صدوره عنهم،و أمّا غيره فمن هذه الجهات و من جهات اخر أيضا:

منها:دسّ الأخبار المكذوبة.

و منها:سوء فهم الراوي في عدم ذكر القرائن و نحوه.و غير ذلك.

ثمّ إنّه لا بدّ من متابعة ما يوجب العلم بالحكم بتعيين النسخ أو التخصيص إن أمكن،و إلاّ فينبغي الاحتياط في العمل بالجمع بين ما يقتضيه التخصيص و ما يقتضيه النسخ.

و إذا كانت النسبة بين الدليلين من وجه،ففيه احتمالان:

الأوّل:لزوم تأويل أحدهما أو كليهما في مادّة الاجتماع؛لأنّه لا مجال للرجوع إلي المرجّحات السنديّة أو الجهتيّة أو المضمونيّة؛لأنّ الحكم في مادّة الافتراق بلا معارض.

و فيه أنّه لا بأس بالتبعيض في مدلول بعض الرواية.

الثاني:تساقطهما و الرجوع إلي العامّ الفوقاني أو الأصل؛لحصول الاجمال لهما.أو التفصيل بين العامّين من وجه و المطلقين من وجه،بالرجوع إلي المرجّحات السنديّة و غيرها في الأوّل؛لأنّهما متعارضان في مادّة الاجتماع، و الاجمال في الثاني؛لأنّ دلالة المطلق متوقّفة علي عدم البيان علي الخلاف،و كلّ منهما صالح لأن يكون بيانا لتقييد الآخر.أو الرجوع إلي المرجّحات مطلقا.

ص: 392

الموضع الثاني: في كيفية الجمع بين العامّ و الخاصّ إن كانا في أكثر من خبرين

إنّ العامّ و الخاصّ إن كانا في أكثر من خبر،فلهما صور:

الصورة الاولي:أن يكون عامّ و خاصّان،و هو علي أصناف:

الصنف الأوّل:أن يكون بين الخاصّين العموم و الخصوص المطلق،و هو أقسام:

القسم الأوّل:أن يكونا لفظيّين منفصلين،مثل قوله يجب إكرام العلماء،و يحرم إكرام فسّاق العلماء،و يحرم إكرام فسّاق النحويّين،فأعمّ الخاصّين يخصّص العموم،و أخصّهما يكون مؤكّدا للتخصيص في مورده،و هل يجوز تخصيص العموم بأخصّ الخاصّين أو لا ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ المخصّص به و بين أعمّ الخاصّين فتنقلب النسبة إلي العموم من وجه أم لا؟الظاهر عدم ملاحظتها؛لأنّ كلاّ من الخاصّين في مرتبة واحدة و نسبتهما إلي العامّ علي السواء،و هما يخصّصان العامّ،إلاّ إذا كان التخصيص موجبا للاستهجان،فتكون الثلاثة متباينة،و يرجع إلي المرجّحات السندية.

القسم الثاني:أن يكون الخاصّ الأخصّ متّصلا،و الخاصّ الأعمّ منفصلا،مثل قوله يجب أكرام العلماء،و يجب إكرام العلماء إلاّ مرتكب الكبيرة،و يحرم إكرام العالم العاصي،و في كيفيّة الجمع بينها احتمالان،الأوّل:تخصيص العموم بالمخصّص الأعمّ؛لأنّه أخصّ من العموم،الثاني ملاحظة النسبة بين الخاصّين و هي العموم من وجه،و في محلّ الاجتماع و هو العالم المرتكب للصغيرة يتعارضان،و يكون المرجع عموم العامّ؛لأنّ الخاصّ الأعمّ له معارض في رتبته و هو الأخصّ المتّصل،و هذا هو الصحيح.

قال في مصباح الاصول:إذا ورد في رواية يجب إكرام العلماء إلاّ العالم المرتكب للكبيرة،و ورد في رواية:يحرم إكرام العالم العاصي،فالنسبة من وجه؛

ص: 393

لأنّ اتّصال الأخصّ بالعامّ كاشف عن عدم تعلّق الارادة الاستعمالية بالنسبة إلي ما يشمله الأخصّ،فلا ينعقد للعامّ ظهور بالنسبة إليه من أوّل الأمر،فتكون النسبة بين العامّ و الخاصّ المنفصل العموم من وجه؛لاجتماعهما في العالم العاصي غير المرتكب للكبائر و افتراقهما في العالم العادل و العالم المرتكب للكبائر (1).

أقول:حاصله أنّ معني العامّ المتّصل به أخصّ الخاصّين وجوب إكرام العالم العادل و مرتكب الصغيرة،و معني الخاصّ المنفصل حرمة إكرام العالم المرتكب للكبيرة أو الصغيرة.

القسم الثالث:أن يكون الخاصّ الأخصّ غير لفظي،و كان كالقرينة المحذوفة، بحيث كان للمتكلّم أن يتّكل عليه في الكشف عن مراده،فإذا قال:أكرم العلماء، فمعلوم إرادته علماء الشيعة مثلا،فكأنّه قال:أكرم علماء الشيعة،فإذا قال:لا تكرم فسّاق العلماء كانت النسبة من وجه،و هو ظاهر؛لأنّ فسّاق العلماء شامل للعالم السنّي و غيره.

لكن أورد عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري الدليلين الخ (2).

قلت:لا يبعد أن يكون بحكم المتّصل اللفظي من قبيل حذف ما يعلم،فيكون كالظاهر فيما عدا الخاصّ.

القسم الرابع:أن يكون الخاصّ الأخصّ منفصلا بدليل غير لفظي من إجماع أو عقل،ففيه و جهان:

الوجه الأوّل:تخصيص العامّ به،ثمّ يلاحظ النسبة بينه و بين الخاصّ الآخر، فتنقلب النسبة و تكون من وجه؛لأنّ المخصّص المذكور يكون كالمتّصل،فكأنّ5.

ص: 394


1- مصباح الاصول 3:395.
2- فرائد الاصول ص 795.

العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج،و التعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين،لا بين ما وضع له اللفظ المعلوم عدم استعماله فيه.

الوجه الثاني:عدم تخصيص العامّ به،بل هو و المخصّص اللفظي المنفصل في رتبة واحدة يردان علي العموم،فيخصّصانه،و لعلّ هذا الوجه قوي؛لأنّ العامّ قد انعقد له الظهور،و النسبة بينه و بين الخاصّ اللفظي الأعمّ نسبة العموم و الخصوص،

الصنف الثاني:أن تكون النسبة بين الخاصّين التباين،مثل أكرم العلماء،و لا تكرم العالم النحوي،و لا تكرم العالم الصرفي،فيخصّصان العموم،و هو ظاهر.

الصنف الثالث:أن تكون النسبة بين الخاصّين من وجه من دون أن ينفي أحدهما الآخر،مثل أكرم العلماء،و لا تكرم العالم الشاعر،و لا تكرم العالم النحوي،أو ينفي أحدهما الآخر،مثل أكرم العلماء،و أكرم العلماء الشعراء،و أكرم العلماء إلاّ النحاة،ففي الأوّل يخصّصان العموم،و في الثاني لا يخلو عن إشكال.

هذا إذا كانا منفصلين،و أمّا إذا كان أحدهما متّصلا،فإنّ النسبة تصير من وجه.

الصورة الثانية:أن يكون اثنان منهما عامّين متباينين،و الثالث خاصّا بالنسبة إلي كليهما،أو خاصّا بالنسبة إلي أحدهما،فإن كان خاصّا بالنسبة إليهما خصّصهما،مثل قوله لا تكرم فسّاق العلماء،و يستحبّ إكرام عدول العلماء، و يجب إكرام العالم الاصولي،و إن كان خاصّا بالنسبة إلي أحدهما خصّصه،مثل قوله في المثال المتقدّم يجب إكرام العالم العادل الاصولي،ثمّ يصير هو أخصّ من الآخر،فهل يخصّصه و تنقلب النسبة أو لا؟وجهان،يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه ربما تنقلب النسبة.

قال:و إن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة،فإن كان فيها ما يقدّم علي بعض آخر منها:إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ و الظاهر أو الظاهر و الأظهر،و إمّا لأجل مرجّح آخر،قدّم ما حقّه التقديم،ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات،

ص: 395

فقد تنقلب النسبة،كما إذ ورد أكرم العلماء،و لا تكرم فسّاق العلماء،و يستحبّ إكرام العدول،فإنّه يخصّص عموم أكرم العلماء،فيختصّ بعدولهم،فيصير أخصّ من عموم يستحبّ إكرام العدول،فيخصّصه بغير العلماء؛إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ،أو طرح الظاهر المنافي له رأسا،و كلاهما باطل (1).

و أنكر المحقّق الخراساني إنقلاب النسبة،قال:إذا ورد عامّان من وجه مع ما هو أخصّ مطلقا من أحدهما،فإنّه لا بدّ من تقديم الخاصّ علي العامّ،و معاملة العموم من وجه بين العامّين الخ (2).

أقول:إنّ الأخصّ يكون قرينة علي إرادة غيره،و قد ظهر من بعض ما ذكرنا أنّه لا فرق بين القرينة المتّصلة و المنفصلة،فإذا ورد أخبار معتبرة أحدها أنّ المرأة ترث من العقار،ثانيها أنّها لا ترث منه،و ثالثها أنّها ترث إن كان لها ولد،فيخصّص الثاني بالثالث،فيصير أنّها لا ترث إن لم يكن لها ولد،فيصير أخصّ من الأوّل فيخصّصه،و هذا الوجه قريب.

الصورة الثالثة:أن يكون اثنان منهما عامّين من وجه،و الثالث خاصّا بالنسبة إليهما فيخصّصهما،فإن كان الثالث خاصّا بالنسبة إلي مورد الاجتماع ارتفع التعارض،مثل قوله يجب إكرام العلماء،و يحرم إكرام الفاسق،و يكره إكرام العالم الفاسق،فإنّ الثالث يخصّص كلاّ منهما،و يكون النتيجة كراهة إكرام العالم الفاسق.

و إن كان الخاصّ بالنسبة إلي مورد الافتراق من كلّ منهما،بقي التعارض،مثل قوله يستحبّ إكرام العلماء،و يكره إكرام العالم العادل،و يحرم إكرام الفاسق الجاهل، فيقع التعارض في إكرام العالم الفاسق في استحبابه أو كراهته.

أو خاصّا بالنسبة إلي أحدهما،فيخصّصه فتنقلب النسبة،مثل قوله يستحبّ6.

ص: 396


1- فرائد الاصول ص 799.
2- كفاية الاصول ص 516.

إكرام العلماء،و يحرم إكرام الفسّاق،و يجب إكرام العالم العادل،و الثالث يخصّص الأوّل بالعالم الفاسق،فيخصّص الثاني،و يختصّ التحريم بالفاسق الجاهل.

الصورة الرابعة:أن تكون النسبة بين الجميع العموم من وجه.

الصورة الخامسة:أن تكون النسبة بين الجميع التباين.و حكم الصورتين حكم الدليلين المتعارضين.

فرع:في ضمان عارية الدينار و الدرهم و الذهب و الفضّة روايات:

إحداها:حسن عبد اللّه بن سنان،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير،فإنّها مضمونة و إن لم يشترط فيها ضمانا،و عموم المستثني منه موهون؛لأنّه مقيّد بالدراهم،بل لا بأس بتقيّده بالفضّة.

ثانيها:خبر عبد الملك بن عمرو-و لم يثبت و ثاقته-عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:

ليس علي صاحب العارية ضمان،إلاّ أن يشترط صاحبها إلاّ الدراهم فإنّها مضمونة،اشترط صاحبها أو لم يشترط.

و عموم المستثني منه مخصّص بالذهب أو بالدينار.

ثالثها:حسن زرارة،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:العارية مضمونة،فقال:جميع ما استعرته فتوي،فلا يلزمك تواه إلاّ الذهب و الفضّة فإنّهما يلزمان الحديث.

و خبر إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أو أبي إبراهيم عليه السّلام،قال:العارية ليس علي مستعيرها ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضّة،فانّهما مضمونان اشترط أو لم يشترط (1).

و لا يخفي أنّ مقتضي الحصر في الخبر الأوّل عدم ضمان الذهب غير الدينار،9.

ص: 397


1- وسائل الشيعة 13:239.

و مقتضي الثالث ضمان الذهب غير الدينار،و تخصيص الأوّل بضمان الذهب غير الدينار ليس تخصيصا عرفيّا؛لأنّه يوجب إلغاء عنوان الدنانير،فإنّه لو كان الذهب مضمونا،فلا وجه لحصر الضمان في الدنانير،فيكون تقييد الذهب في الخبر الثالث بكونه دينارا أقرب في الجمع العرفي،إلاّ انّ الحصر في الأوّل موهون؛لأنّه مخصّص بالفضّة أو بالدراهم،و عليه فيكون الخبر الثالث أخصّ من الأوّل، فيخصّص بالذهب،فالأحوط ضمان الذهب و الفضّة،فتأمّل.

القسم الثالث: التعارض بين مرجّحات غير الدلالة
اشارة

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المرجّح:إمّا أن يكون راجعا إلي الصدور،فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلي الصدور و أبعد عن الكذب،سواء كان راجعا إلي سنده كصفات الراوي،أو إلي متنه كالأفصحيّة،و هذا لا يكون إلاّ في أخبار الآحاد.و إمّا راجعا إلي وجه الصدور،ككون أحدهما مخالفا للعامّة،أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور،بناء علي احتمال كون مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة.و إمّا أن يكون راجعا إلي مضمونه،كالمنقول باللفظ بالنسبة إلي المنقول بالمعني؛إذ يحتمل الاشتباه في التعبير،فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلي الواقع،و كالترجيح بشهرة الرواية و نحوها (1)انتهي.

أقول:هذا التقسيم مخالف للتراجيح المستفادة من الأخبار،فلذا ينبغي التكلّم في موضعين:الموضع الأوّل في مقتضي القاعدة،الموضع الثاني فيما يستفاد من الأخبار.

أمّا الموضع الأوّل،فمقتضي القاعدة ترجيح الأقرب إلي الحكم الواقعي

ص: 398


1- فرائد الاصول ص 783.

الصادر عن المعصوم،و ينبغي ذكر مورده،فنذكره في ضمن أقسام:

الأوّل:أن يكون أحد الخبرين مشهورا و معمولا به عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام، أو موافقا لشهرة عمل أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و كان الآخر موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم المشهور،بناء علي حصول العلم أو الاطمئنان بصدوره،فيكون مخصّصا للكتاب.

الثاني:أن يكون أحدهما أقوي مضمونا من حيث السند أو المتن،و كان الآخر موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم الموافق للكتاب،لعدم العلم بصدور المخالف له حتّي يكون مخصّصا للكتاب فيما كان عموم الكتاب في مقام البيان،و تقدّم الاشكال في تخصيص الخبر الواحد للكتاب.

الثالث:أن يكون أحدهما مخالفا للعامّة،و كان الآخر الموافق لهم موافقا للكتاب،و الظاهر تقديم الموافق للكتاب لما تقدّم.

الرابع:أن يكون أحد الخبرين مشهورا و معمولا به،أو موافقا لشهرة عمل أصحاب الأئمّة،و كان الآخر مخالفا للعامّة،و الظاهر تقديم المشهور؛للاطمئنان بصدوره لبيان الحكم الواقعي عن المعصوم بخلاف المخالف للعامّة.

الخامس:أن يكون أحدهما أقوي من حيث السند أو المتن،و كان الآخر مخالفا للعامّة،و مقتضي القاعدة تقديم الأقوي سندا،لكن مقتضي الأخبار تقديم المخالف.

السادس:أن يكون أحدهما مخالفا للعامّة،و كان الآخر أقرب مضمونا إلي الواقع،و مقتضي القاعدة تقديم الأقرب مضمونا،و مقتضي الأخبار تقديم المخالف للعامّة.

و أمّا الموضع الثاني،ففي ما يستفاد من الأخبار،و أنّه هل يستفاد الترجيح لبعضها علي بعض أم لا؟فيه قولان.

ص: 399

الأوّل:ما اختاره في الكفاية من أنّه لا ترتيب بينها،لأنّها كلّها مرجّحات سنديّة.قال:إنّ المرجّحات موجبة لتقديم أحد السندين و ترجيحه و طرح الآخر، فإنّ أخبار العلاج دلّت علي تقديم رواية ذات مزيّة في أحد أطرافها و نواحيها، فجميع هذه من مرجّحات السند حتّي موافقة الخبر للتقيّة،إلي أن قال:ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي و إناطة الترجيح بالظنّ،أو بالأقربيّة إلي الواقع.إلي أن قال:و أمّا لو قيل بالاقتصار علي المرجّحات المنصوصة فله وجه الخ (1).

ثمّ إنّه أشكل علي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه القائل بتقديم المرجّح الصدوري علي المرجّح الجهتي،بأنّ كليهما مرجّحان للصدور،ثمّ ذكر ما أورده في بدائع الأفكار علي الشيخ من تقديم المرجّح الجهتي علي المرجّح الصدوري إلي آخر كلامه.

القول الثاني:الترتيب بينها،و القائلون به علي أقوال:

الأوّل:تقديم موافقة الكتاب علي مخالفة العامّة،اختاره في مصباح الاصول.

الثاني:تقديم المرجّح المضموني علي غيره إن كان أحدهما أرجح مضمونا، و إن لم يكن أحدهما أرجح مضمونا يقدّم المرجّح الصدوري.

الثالث:تقديم المرجّح الصدوري علي غيره،ثمّ تقديم المرجّح المضموني علي مرجّح جهة الصدور.

الرابع:تقديم المرجّح المضموني،ثمّ تقديم مرجّح جهة الصدور.

و ينبغي ذكر المرجّحات المذكورة في الأخبار و بيان ما يستفاد منها:

الترجيح الأوّل:الترجيح بالصفات بناء علي الترجيح بها،ففي تقديمها علي سائر المرجّحات أو تأخيرها وجهان،اختار الشيخ الطوسي رحمه اللّه في أوّل7.

ص: 400


1- كفاية الاصول ص 517.

الاستبصار تقديمها علي الشهرة و غيرها،قال:فينبغي أن ينظر في المتعارضين، فيعمل علي أعدل الرواة في الطريق،و إن كانا سواء في العدالة،عمل علي أكثر الرواة عددا،لكن لم يذكر الترجيح بها في العدّة،فلاحظ.

و نسب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إلي المشهور الثاني،قال:فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي علي الترجيح بالشهرة و الشذوذ،مع أنّ عمل العلماء قديما و حديثا علي العكس علي ما يدلّ عليه المرفوعة الخ (1).

أقول:إن كان المدرك للترجيح بالصفات خبر عمر بن حنظلة،فمقتضاه التقديم في مورد يكون النظر دخيلا،فإذا كان الراوي يعمل بالخبر مع اطّلاعه علي الخبر الآخر فأفقهيّته مرجّحة لخبره.و أمّا ترجيح الأخبار بعضها علي بعض من حيث الخبريّة،فإنّما يكون بالأقربيّة إلي الصدور،فقد لا يكون فرق بين نقل الأفقه و الفقيه.

و إن كان المدرك للترجيح عدم حجّية بعض الأخبار لعدم كون مضمونه حكما واقعيّا؛لاشتمال الأخبار علي أخبار ليست بحجّة:إمّا لكونها صادرة تقيّة،أو لعدم حجّية دلالتها لعدم نقل القرائن،أو لعدم تلقّي مضمون الخبر من أجل سوء فهم الراوي أو غير ذلك،فينبغي تقليل الاحتمالات مهما أمكن،فإن كان الخبر ذو الصفات أقرب من الخبر المخالف للعامّة،فينبغي أن يقدّم عليه،مثلا لو سئل زرارة عن مسألة،فروي فيها رواية كان معتقدا بمضمونها،و كان مطّلعا علي صدور خبر آخر مخالف رواه عمّار مثلا،قدّم خبر زرارة،و إن كان خبر عمّار مشهورا و كان فيه سائر المرجّحات،لكن ليس لنا سبيل إلي تشخيص ذلك إلاّ نادرا.

و أمّا مجرّد كون الراوي لأحد الخبرين أفقه،فهذا لا يدلّ علي اطّلاعه علي2.

ص: 401


1- فرائد الاصول ص 772.

المعارض و ترك عمله به،فلا يستفاد من الأخبار الترجيح بمجرّد صفات الراوي.

نعم مقتضي القاعدة تقديم ما فيه الصفات علي خبر ليس فيه الصفات،لا تقديم خبر فيه الصفات علي الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

و الحاصل أنّ الترجيح بالصفات المنصوصة في المقبولة و المرفوعة و خبر «يأخذ بأعدلهما»إنّما يكون في مورد يعتقد الراوي صحّة مضمونه،و هذا لا سبيل لنا إلي إثباته،فهذه الصفات المذكورة في المقبولة و المرفوعة مرجّحات الصدور و المضمون،و لا خبر يدلّ علي مرجّحات الصدور فقط.

و أمّا الصفات الاخر،فهي توجب أقربيّة الصدور،و ينبغي مراعاتها مع عدم المعارضة بوجود مرجّح في الطرف الآخر،و أمّا مع وجوده فمقتضي إطلاق دليل المرجّح الآخر عدم اعتبار مرجّح الصدور،مثلا إطلاق قوله«خذ بما خالف العامّة»يشمل ما لو كان الخبر الموافق أصدق من الخبر المخالف للعامّة.

و لا يبعد أن يكون سائر المرجّحات مقدّما علي المرجّح الصدوري؛لأنّ كون الراوي أصدق من راوي الخبر الآخر لا يجعله أفضل من الخبر القطعي الصدور، و هو قد يصدر تقيّة.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذهب إلي أنّ المرجّح الصدوري مقدّم علي المرجّح الجهتي،قال:لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا، كما في المتواترين،أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما و ترك التعبّد بصدور الآخر،و فيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضي أدلّة الترجيح،إلي آخر ما أفاده (1).

قلت:إن كان لنا دليل علي مرجّح الصدور فقط المقتضي لعدم صدور الآخر2.

ص: 402


1- فرائد الاصول ص 812.

كان ما أفاده صحيحا،لكن لا نجد ذلك.

الترجيح الثاني:الترجيح بشهرة أحد الخبرين عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و له صور:

الصورة الاولي:أن يكون أحدهما مشهورا،بأن روي مضمون أحدهما جمع كثير،نظير ما روي في عدم إرث الزوجة من العقار،فقد رواه جماعة تقرب من عشرة،و إن كان عدد الحديث في الوسائل سبعة عشر،و روي معارضه واحد أو اثنان،أو يكون عملهم بأحد الخبرين مشهورا،بأن لا يمتاز أحدهما علي الآخر بشهرة أو كثرة رواية،لكن كان عمل أصحاب الأئمّة علي أحدهما.

ففي كلا الموردين يكون الخبر المشهور رواية أو عملا،أرجح من الخبر الآخر الموافق للكتاب،و يخصّص به الكتاب،و لا ينظر إلي الآخر،لكن بشرط عملهم بالخبر.قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة:فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة،ينبغي أن يرجّح علي الخبر الذي عمل به قليل منهم (1)انتهي.

و لعلّ مراده الأعمّ من عمل أصحاب الأئمّة،أو عمل الطائفة المعاصرة للشيخ ما لم يعلم مخالفتهم لعمل أصحاب الأئمّة.

الصورة الثانية:أن يكون أحد الخبرين مشهورا،و لم يعلم عمل أصحاب الأئمّة به،و عارضه خبر آخر من فقيه عالم بالخبر،ففي تقديم المشهور لأنّه أقرب صدورا،أو تقديم الخبر الذي يعمل به الأفقه كزرارة لاطّلاعه علي أنّ الخبر المشهور صادر تقيّة أو لمصلحة اخري،إشكال.

و يمكن ترجيح الثاني،و هو ظاهر المقبولة،حيث رجّح الأفقه و قدّمه علي الترجيح بالشهرة،لكن لا سبيل لنا إلي إحراز ذلك،و مضي الكلام في أقسام8.

ص: 403


1- عدّة الاصول ص 388.

الشهرة،فلاحظ.

و لا يبعد أن يكون الترجيح بالشهرة المذكورة عند الرواة باحدي الصورتين مقدّما علي الترجيح بموافقة الكتاب؛لأنّها تكشف عن صدور الخبر عن المعصوم لبيان الحكم الواقعي،فيكون مخصّصا لعموم الكتاب،فيكون الخبر الآخر الموافق للكتاب:إمّا غير صادر عن المعصوم،أو صادر علي نحو لا يكون بيانا للحكم الذي يجب العمل به.

و كذا يكون الترجيح بها مقدّما علي جهة الصدور؛لأنّ الشهرة العمليّة بين الرواة كاشفة عن صدور الحكم الواقعي عن المعصوم،فيكون الحكم الواقعي موافقا للعامّة.و كذا يتقدّم علي المرجّح الصدوري المحض؛لأنّ الشهرة المذكورة من المرجّحات الصدوريّة المضمونيّة.

الصورة الثالثة:مجرّد شهرة الخبر من دون العمل به،و لم يحرز عدم العمل و لا الاعراض عن الخبر،فتكون من المرجّحات الصدوريّة المحضة،فيتقدّم عليها المرجّح المضموني،أعني:موافقة الكتاب،و كذا يتقدّم عليه مرجّح جهة الصدور، و وجهه ظاهر ممّا مرّ،فتأمّل و لا بدّ من مراعاة الاحتياط.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه ذكر أنّ الشهرة من المرجّحات الخارجيّة،و قسّم المرجّح الخارجي إلي قسمين:

القسم الأوّل:المرجّح الذي هو معتبر في نفسه،و هو موافقة الكتاب،و جعله مرجّحا مضمونيّا،و قدّمه علي جميع المرجّحات،لكن لم يستبعد تقديم شهرة احدي الروايتين عليه (1).

القسم الثاني:المرجّح الذي ليس معتبرا في نفسه،كالشهرة و جعله مرجّحا0.

ص: 404


1- فرائد الاصول ص 820.

مضمونيّا،قال:ثمّ الدليل علي الترجيح بهذا النحو من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلي الواقع،و إن كان خارجا عن الخبرين.ثمّ أخذ في بيان الدليل و رفع ما يمنع عنه (1).

و لم يستبعد تقدّمه علي جميع المرجّحات،أي:علي الترجيح بموافقة الكتاب، و علي الترجيح السندي و الترجيح الجهتي،علي فرض أن يكون ترجيح المخالف للعامّة من أجل احتمال صدور الموافق تقيّة،لا من أجل كون فتاوي العامّة تستند إلي الأخبار المكذوبة و القياس و الاستحسان،فيكون المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فيكون مرجّحا مضمونيّا.

قال:و أمّا الترجيح من حيث السند،فظاهر مقبولة عمر بن حنظلة تقديمه علي المرجّح الخارجي،لكن الظاهر أنّ الأمر بالعكس؛لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلي الواقع،فإنّ الأعدل أقرب إلي الصدق من غيره،بمعني أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل و كذب العادل،فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع،و خبر الأعدل مظنون المخالفة،فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة،و كذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة،بناء علي أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة (2)انتهي.

و حاصله أنّ الميزان هو الأقربيّة إلي الواقع،و خبر العادل الموافق للشهرة أقرب من خبر الأعدل،و كذلك الخبر الموافق للشهرة مقدّم علي الخبر المخالف للعامّة،فإنّه بناء علي أنّ الخبر المخالف للعامّة أقرب إلي الواقع يكون أرجح من الخبر الموافق للشهرة أو مساويا له،و أمّا بناء علي أنّ احتمال التقيّة موجود في الخبر الموافق،يكون الخبر الموافق لهم الموافق للشهرة مقدّما.7.

ص: 405


1- فرائد الاصول ص 814.
2- فرائد الاصول ص 817.

و قال أيضا:إنّ أوّل المرجّحات الخبريّة في المقبولة هي شهرة احدي الروايتين و شذوذ الاخري،و لا بعد في تقديمه علي موافقة الكتاب (1)انتهي.

أقول:إنّ شهرة الرواية فقط من دون إحراز عمل رواة الرواية و عدم عملهم بها تكون من مرجّحات الصدور فقط،و سائر المرجّحات مقدّمة عليها،و شهرتها مع عملهم بها تكون من مرجّحات المضمون و الصدور،فتتقدّم علي المرجّح الصدوري المحض و علي موافقة الكتاب وجهة الصدور،و مع إحراز عدم عملهم بها تكون موهنة لها.

و حيث إنّ حجّية شهرتهم للكشف عن نصّ واصل إليهم من المعصوم يكون مخصّصا للكتاب،فلا بدّ من إحراز ذلك،و هو قليل،فينبغي مراعاة الاحتياط.

تنبيه:

لا يخفي أنّ الشهرة إن أوجبت أن يكون الخبر قطعيّ الصدور و لو مضمونا،كان المخالف للخبر المشهور شاذّا ساقطا عن الحجّية؛لمخالفته السنّة القطعيّة،و لا يكون تقديم الخبر المشهور عليه من باب ترجيح أحد الخبرين علي الآخر،حتّي يقال:إنّ من قال بعدم وجوب الترجيحات-كصاحب الكفاية-يقول بحجّية خبر الشاذّ،بل انّه يكون من تمييز الحجّة عن اللاحجّة،و من ذلك يظهر أنّ خبر عمّار الدالّ علي أنّ البنت تبلغ بثلاث عشرة سنة ليس معارضا لسائر الأخبار حتّي يلاحظ الترجيح بينها،بل هو خبر شاذّ ليس بحجّة حتّي عند صاحب الكفاية.

الترجيح الثالث:الترجيح بموافقة الكتاب،و له صورتان:

الصورة الاولي:أن يكون الخبر المخالف للكتاب بحيث لو كان وحده و لم يكن له معارض،كان مخصّصا للكتاب،بناء علي تخصيص الكتاب بخبر الواحد،

ص: 406


1- فرائد الاصول ص 820.

و المانع عن تخصيصه ابتلاؤه بمعارض مثله،كما إذا تعارض أكرم زيدا العالم،و لا تكرم زيدا العالم،و كان في الكتاب عموم يدلّ علي وجوب إكرام العلماء،و حينئذ لو لم يكن في الخبر المخالف سائر المرجّحات،قدّم الموافق عليه؛لموافقته للكتاب و ابتلاء الآخر بمعارض في رتبته.و أمّا إن كان في المخالف مرجّح علي الموافق من الأصدقيّة أو المخالفة للعامّة،ففي ترجيح أيّهما و جهان.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ مقتضي القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ الخبران مع قطع النظر عن الكتاب،فإن كان الخبر المخالف أرجح من الموافق صدورا وجهة اخذ به و يخصّص به الكتاب،و إن لم يكن أرجح اخذ به تخييرا و يخصّص به الكتاب،و وجهه أنّ الخاص ليس معارضا للعامّ؛لأنّه قرينة علي المراد به،فلا معارضة بين الخبر الخاصّ و الكتاب،لكن لمّا كان مبتلي بالمعارض و هو الخبر الموافق،فلا بدّ من علاج معارضته بالترجيح أو التخيير.

إن قلت:إنّ أخبار العرض علي الكتاب تدلّ علي لزوم أخذ الخبر الموافق للكتاب.

قلت:هذه الأخبار محمولة علي ما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بالمباينة (1)انتهي ملخّصا.

ثمّ عدل عنه و قال:إنّ من أخبار العرض علي الكتاب ما دلّ علي ترجيح الخبر الموافق علي المخالف،و المراد به في مقام الترجيح ترجيح الموافق للعموم علي المخالف للعموم،و المراد بالمخالفة في أخبار العرض الدالّة علي أنّ المخالف زخرف المخالفة بالمباينة و لا بأس بالتفكيك.

أقول:تقدّم أنّ المخالف للكتاب أعمّ من المخالفة بالتباين و العموم8.

ص: 407


1- فرائد الاصول ص 818.

و الخصوص،و لكن الظاهر الأخذ بالخبر الموافق للكتاب إن كان الخبر المخالف أصدق راويا أو مخالفا للعامّة فقط.

الصورة الثانية:أن يكون ظاهر الكتاب الأمر بشيء بصيغة افعل مثلا،و كان الخبران المتعارضان أحدهما دالاّ علي جواز الترك،و الآخر دالاّ علي وجوب العمل،و حينئذ لو كان الخبر الدالّ علي جواز الترك وحده،لكان قرينة علي التصرّف في ظاهر الكتاب،لكن الخبر الآخر يترجّح عليه بموافقته للكتاب فيقدّم عليه.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ الموافق كذلك للكتاب يتقدّم علي المخالف إن لم يكن فيه مرجّح،و هو واضح.و إن كان فيه مرجّح،فإن كان أعدليّة الراوي،فأيضا يتقدّم الموافق؛لأنّ أعدليّة المخالف لا يقاوم قطعيّة الكتاب الموافق للخبر الآخر، و أيضا يتقدّم علي الترجيح بمخالفة العامّة؛لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة،و يتقدّم علي المرجّحات الخارجيّة؛لأنّ الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار (1)انتهي.

و الحاصل أنّ المرجّح المضموني مقدّم علي سائر المرجّحات.

أقول:إن كان الخبر المخالف للكتاب مشهورا و معمولا به عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كشف ذلك عن صدوره عنهم عليهم السّلام فينبغي الأخذ به.

الترجيح الرابع:الترجيح بمخالفة العامّة،فإن كان ترجيح المخالف من أجل دلالته علي صدور الآخر تقيّة،كان مرجّحا جهتيّا،أي:يرجّح كون الخبر المخالف صادرا لبيان الحكم الواقعي،و الآخر صادرا تقيّة،و إن كان ترجيح المخالف من أجل أقربيّة مضمونه للواقع و مخالفة الآخر له من حيث انّ أحكام العامّة تستند إلي9.

ص: 408


1- فرائد الاصول ص 819.

القياس و الاستحسان و الأخبار المكذوبة،فيكون الترجيح بمخالفة العامّة مرجّحا مضمونيّا،كالشهرة عند الأصحاب،أي:انّ مضمون الخبر مطابق للواقع بالنسبة إلي الخبر الآخر.

و علي الأوّل،أي:كونه مرجّحا جهتيّا،فإذا عارضه مرجّح صدوري،بأن كان الخبر المخالف للعامّة خبر الصادق،و الخبر الموافق لهم خبر الأصدق،ففي تقدّم الأصدق كما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،أو تقديم الصادق المخالف للعامّة،كما اختاره الوحيد رحمه اللّه (1)و الميرزا الرشتي رحمه اللّه (2)،أو التخيير بينها إن لم يحرز أقوائيّة أحدهما مناطا،كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه اللّه،وجوه.

و لا يخفي أنّه علي الثاني،أي:كونه مرجّحا مضمونيّا،فالظاهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّه مقدّم علي المرجّح الصدوري،فإنّه قال في ذيل كلامه في تقديم المرجّح الصدوري علي الخبر المخالف للعامّة:هذا كلّه علي تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة.أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلي الحقّ و أبعد عن الباطل،كما يدلّ عليه جملة من الأخبار،فهي من المرجّحات المضمونيّة،و سيجيء حالها مع غيرها (3)انتهي.

و قال في الأمر الثاني في ذيل المرجّح الخارجي غير المعتبر،بعد أن ذكر أنّ المرجّح المضموني مقدّم علي المرجّح السندي،قال:و كذلك الكلام-أي:تقديم المرجّح المضموني علي مخالفة العامّة-في الترجيح بمخالفة العامّة،بناء علي أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة (4)انتهي.7.

ص: 409


1- الفوائد ص 120.
2- بدائع الأفكار ص 455 و 457.
3- فرائد الاصول ص 813.
4- فرائد الاصول ص 817.

أي:يقدّم المرجّح المضموني الموجود في الخبر الموافق للعامّة علي المخالف لهم،بناء علي أنّ تقديم المخالف من باب احتمال التقيّة في الموافق دونه.و أمّا بناء علي أنّ المخالف لهم أقرب إلي الواقع،فهو أيضا مرجّح مضموني،فلا يتقدّم الموافق لهم المشتمل علي المرجّح المضموني علي المخالف؛لأنّهما متساويان في الاشتمال علي المرجّح المضموني.

و بما ذكرنا ظهر أنّ ما أورده عليه في الكفاية:بأنّ حديث فرعيّة جهة الصدور علي أصله إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجّحات أصل الصدور بل من مرجّحاتها (1).إنّما يتوجّه عليه بناء علي أن لا يكون مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة،و إلاّ فإنّها مقدّمة علي المرجّح السندي عنده.

و الذي ينبغي أن يقال:هو أنّ الأمر إن دار بين أصل صدور الخبر الموافق للعامّة و عدم صدور الخبر الآخر المخالف،يقدّم أصل الصدور،و هو الخبر الموافق للعامّة؛لأنّه لا يبقي مجالا للحمل علي التقيّة،فكلام الشيخ متين.و أمّا ما أورده عليه في الكفاية،فهو خلاف المعهود من صدور أخبار التقيّة عنهم،كما تقدّم.

و أمّا ما أورده عليه الوحيد رحمه اللّه،و اختاره في بدائع الأفكار،علي ما حكاه في الكفاية من أنّه إذا اختلف الخبران من حيث الصدور،قدّم الأرجح صدورا،و لا يجوز التعبّد بصدورهما و حمل أحدهما علي التقيّة،و لازمه عدم جواز التعبّد بما إذا لم يكن أحدهما أرجح صدورا،بل كانا متساويين و حمل أحدهما علي التقيّة مع أنّه يلتزم به.فيرد عليه أنّه يحتمل صدور الموافق و كونه موافقا للواقع،و يحتمل عدم صدور المخالف للعامّة،و صدوره مخالفا للحكم الواقعي.

و الحاصل أنّ دليل التعبّد بحجّية الخبر يشملهما علي السواء،و حينئذ يحمل9.

ص: 410


1- كفاية الاصول ص 519.

أحدهما علي التقيّة،بخلاف ما إذا كان أحدهما أرجح صدورا،فإنّ تقديمه يوجب عدم شمول دليل حجّية الخبر للآخر.فتأمّل.

و أمّا إن دار بين الأصدق و سائر صفات الراوي بدون عمله بالخبر،قدّم المخالف للعامّة،و أمّا مع عمل الأصدق الأفقه،فينبغي مراعاة الاحتياط؛لأنّ مقتضي مقبولة عمر بن حنظلة تقديم الخبر الواجد للصفات.

فذلكة:

ينبغي أن يقال:إنّ الناس مكلّفون بما تضمّنته الأخبار التي بأيدينا،فكلّ خبر لم يكن له معارض يعمل به إلاّ إذا كان موجبا لتخصيص الكتاب و نحوه فيحتاط،و قد تقدّم كيفيّته،و إن تعارضت عمل بالمشهور منها عملا عند أصحاب الأئمّة عليهم السّلام لأنّه يستبعد عملهم به من دون معرفة بصدوره،أو صدوره تقيّة،فيكون كالمقطوع الصدور يخصّص به الكتاب،لكن لا طريق لنا غالبا إلي إثبات شهرة عملهم.

و يمكن إحرازها بكثرة رواية مضمون الخبر،كالأخبار الواردة في عدم إرث الزوجة من العقار.

فأوّل المرجّحات شهرة عمل أصحاب الأئمّة الكاشفة علما أو اطمئنانا عن فتوي المعصوم.

ثمّ بعد ذلك يرجّح بموافقة الكتاب؛لأنّ الخبرين مشمولان لدليل الحجّية،و لا يقوي الخبر المخالف علي تخصيص الكتاب؛لأنّ له معارضا في مرتبة ظهوره،فلا دليل علي رفع اليد عن ظاهر الكتاب،فالترجيح بموافقة الكتاب ثاني الترجيحات.

ثمّ بعد ذلك لا بدّ من الاحتياط بين الخبرين،إن لم يحرز صدور أحدهما تقيّة من حيث عدم وضوح مذهب المخالفين و نحوه،فالترجيح بمخالفة العامّة يكون بإحراز موافقة أحد الخبرين لجميع العامّة بحيث لا يحتمل التقيّة في الخبر الآخر،

ص: 411

و هو ثالث المرجّحات،و إن لم يمكن الاحتياط بين الخبرين و لم يحرز الصادر تقيّة و دار الأمر بين الأحدث و مخالف العامّة،علي حسب ما يقال من أنّه مخالف للعامّة،احتاط بين الأحدث و مخالف العامّة إن أمكن و إلاّ تخيّر.

و الوجه فيما ذكرنا أنّ اختلاف الأخبار ليس منشؤها منحصرا في التقيّة، و أخبار العلاج مع عدم وضوح سند بعضها متعارضة في أنفسها،فمقتضي ملاحظة جميع الاحتمالات ما ذكرناه من تقديم الشهرة المذكورة،ثمّ موافقة الكتاب،ثمّ الاحتياط،ثمّ الترجيح بما يكون أقرب إلي الواقع،فتدبّر.

الفصل الثاني: في الاجتهاد و التقليد

اشارة

لا يخفي أنّه يجب بحكم العقل علي كلّ أحد أن يعمل بما يستقلّ به العقل الضروري،فإذا استقلّ عقل غير البالغ بقبح قتل من لا يستحقّ القتل فقتله،فإنّه يستحقّ العقاب،و حديث رفع القلم يرفع الأحكام الشرعية غير ما استقلّ به عقله؛ لأنّ الظاهر من القلم ما كتبه الشارع عليه.و أمّا ما استقلّ به عقله،فلم يضعه عليه قلم التكليف حتّي يرفع عنه برفع القلم.

و يجب علي البالغ أن يعمل في كلّ ما لا يستقلّ به عقله بما ورد في الشرع من الضروريات،و إلاّ وجب عليه تعلّمه بالاجتهاد أو بالتقليد أو بغيرهما إذا أفاد العلم،أو بالاحتياط و لو بالتبعيض،بأن يكون في البعض مقلّدا،و محتاطا في بعض آخر،و ذلك لأنّ الأحكام علي قسمين:

القسم الأوّل:الأحكام الشرعيّة،و هي أحكام واقعية أوّلية و أحكام ظاهرية مجعولة للشكّ،فإنّ الأحكام التي جاء بها النبي صلّي اللّه عليه و آله قد بيّن قسما منها،و أودع قسما منها عند أوصيائه المعصومين عليهم السّلام،لكن بعد وقوع واقعة السقيفة و عدم

ص: 412

التصدّي لأمر الامّة ممّن هو منصوص عليه من اللّه سبحانه اختفي بعضها و لم يظهر بعضها الآخر،فصار التكليف الواقعي الثانوي للشيعة هو ما دلّ عليه الكتاب العزيز بشرائطه المقرّرة،و ما دلّت عليه الأخبار الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام، و ما استقلّ به العقل بشرائطه.

و ما خفي من الأحكام الأوّلية و لم يصل إلينا فهو موضوع عنّا،فإنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،فكلّ واقعة لها حكم واقعي أوّلي مودع عند الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و حكم ثانوي و هو ما بيّنوه مع ما فيه من التقية صدورا أو موردا.

و قد استفاضت الأخبار بأنّ لكلّ واقعة حكما معيّنا عند المعصومين عليهم السّلام،و قد أورد جملة من أخبارها في كتاب هداية الأبرار (1).

ثمّ إنّ العمل بهذه الأحكام يتوقّف خارجا علي تعلّمها،أو تعلّم الحجّة عليها، أي:ما جعله الشارع حجّة،أو استقلّ العقل بحجّيته،و لتعلّمها طرق:

الأوّل:تعلّمها من الأدلّة،و هو يحصل من وجهين:

أحدهما:تعلّم الأحكام المعلومة،كالذي قامت الضرورة عليه،أو دلّ نصّ الكتاب،أو النصّ المسموع عن المعصوم،و نحو ذلك ممّا يكون طريقا لثبوت الحكم حسّا.

ثانيهما:تعلّمها من الدليل فيما إذا كان محتاجا إلي إعمال النظر بإثبات دليلة الدليل و دلالته،و حمل أحد الدليلين علي الآخر،و حمله علي بيان الحكم الواقعي أو غيره،و أمثال ذلك ممّا هو مذكور في اصول الفقه.

و لا بدّ أن يصل المكلّف إلي العلم بالحجّة علي الحكم،سواء حصل له العلم3.

ص: 413


1- هداية الأبرار ص 137-143.

بالحكم الواقعي أم لم يحصل.و عبّر في الأخبار عمّن اتّصف بذلك بالفقيه و العارف بالأحكام،و في الاصطلاح بالمجتهد؛لأنّه يتحمّل الجهد و المشقّة في الوصول إلي الحجّة علي الحكم من مداركه.

الثاني:تعلّم الحكم ممّن تعلّم الحكم،أو ممّن تعلّم الحجّة عليه علي النحو الأوّل،و إن لم يصدق عليه عنوان التقليد،كما إذا سمع من الخطباء فحصل له اليقين،و عبّر عنه في الاصطلاح بالتقليد،و إن لم يصدق مفهوم التقليد علي بعضه، و يوجد لفظ التقليد في بعض الأخبار.

الثالث:أن يتعلّم كيفية الاتيان بالجامع لمحتملات الأدلّة،أو أقوال من تعلّم الحكم علي النحو الأوّل،و يعبّر عنه بالاحتياط،فعمل المحتاط موقوف علي تعلّم كيفيته،و هو أصعب من تعلّم الحكم تقليدا.

القسم الثاني:الأحكام العقلية،و هي علي قسمين:

القسم الأوّل:حكم العقل بلزوم فعل أو تركه بعد إدراكه المصلحة الملزمة بالفعل أو المفسدة الملزمة بالترك،كحسن العدل و قبح الظلم،و هذا الحكم العقلي يستلزم الحكم الشرعي أيضا،لأنّ الشارع أكبر العقلاء،فهو أيضا يحكم بهما.و هذا ما يقال من أنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و هذه الأحكام تعمّ البالغ الحدّ الشرعي و غير البالغ،فإذا استقلّ عقل غير البالغ علي قبح قتل نفس ظلما،فإن ارتكبه فهو يستحقّ العقاب عليه.

القسم الثاني:حكمه بلزوم العمل بالأحكام الشرعية و الأحكام العقلية المذكورة دفعا للضرر،كالفرار من العقاب أو شكر المنعم.و هذا حكم العقل في مرحلة الامتثال.

و مرحلة الامتثال و كيفيته و ما يتوقّف عليه لا دخل للمولي فيها لا وضعا و لا رفعا؛لأنّ المولوية فيها إن اقتضت الامتثال تسلسل.

ص: 414

ثمّ إنّ العمل بالأحكام الشرعية يتوقّف عادة علي تعلّمها،فهو راجع إلي مرحلة الامتثال،فيكون وجوب التعلّم من القسم الثاني من الأحكام العقلية،يجب عقلا علي البالغ كما يجب علي غيره قبل بلوغه إذا علم أنّه لا يقدر علي الامتثال بعد البلوغ إن ترك التعلّم قبله؛لأنّه إذا التفت إلي أنّه مكلّف عند البلوغ استقلّ عقله الضروري به.

و ذكرنا في بحث مقدّمة الواجب أنّ التكليف سواء كان منجّزا أو معلّقا أو مشروطا له مقامان:مقام جعل الحكم و هو يرتبط بالمولي،و عليه بيان جميع ما يرتبط به،و بعد بيانه فلا حالة منتظرة حتّي في التكليف المشروط إلاّ حصول شرطه.و مقام يرتبط بالعبد و هو الامتثال،و لا عذر له في ترك امتثاله من غير ناحية وجود شرطه،فإذا علم تحقّق الشرط بعد ذلك،و علم أنّه لا يتمكّن من امتثاله إلاّ بتحصيل مقدّماته قبل وجود الشرط وجب عليه تحصيله،و لذا نقول:إنّه لو علم بأنّه لا يتمكّن من الماء و التراب بعد دخول الوقت وجب عليه تحصيله قبله.

و إن شئت توضيح ذلك،فارجع إلي عرف الموالي و العبيد،فإذا أمر المولي عبده بأن يكرم زيدا إن جاءه علي نحو الواجب المشروط،و علم العبد بمجيئه و أنّه لا يتمكّن من تحصيل مقدّمات ضيافته و إكرامه بعد مجيئه،وجب عليه تحصيله قبل ذلك.و أمّا ما قيل من أنّ المقدّمة تابعة لذيها في الاطلاق و الاشتراط،فهو غير صحيح،بناء علي عدم وجوبها شرعا،كما هو المحقّق.

و قد تلخّص ممّا ذكر أنّه لا عقاب علي ترك التعلّم؛لأنّ وجوبه عقلي في مرحلة الامتثال،و لذا لو اتّفق مطابقة العمل للواقع صحّ و لم يعاقب،هذا كلّه في الأحكام الالزامية.

و أمّا الأحكام غير الالزامية،فلا يجب امتثالها و لا تعلّمها،لكن لمّا كانت

ص: 415

الاحاطة بالأحكام الالزامية غير ميسّرة إلاّ بعد الاحاطة بغيرها وجب تعلّمها.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ وجوب التعلّم عقلي مقدّمة للامتثال لتوقّفه عادة عليه،و إن كان قد يتّفق الامتثال بدون التعلّم.و قيل في وجوب التعلّم وجوه اخر:

الأوّل:أن يكون وجوبا شرعيا نفسيا لنفسه،بأن يكون عمل من طابق عمله الواقع بدون التعلّم صحيحا لكنّه يعاقب علي ترك التعلّم،للأمر بالسؤال من أهل الذكر،و لما روي أنّ طلب العلم فريضة،و لما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام:انّ كمال الدين طلب العلم و العمل به،ألا و انّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال.و غيرها.

و قد جمع الأخبار الدالّة علي وجوب التعلّم في الباب الأوّل من مقدّمات جامع الأحاديث.

و فيه نظر،فإنّه مخالف للأخبار؛لظهورها في الارشاد إلي توقّف الاعتقادات الصحيحة في اصول الدين و العمل بالأحكام الشرعية علي التعلّم،و لا تدلّ علي الوجوب النفسي الموجب لتعدّد العقاب علي تارك العمل جهلا تقصيرا،أحدهما علي ترك العمل،و ثانيهما علي ترك تعلّم الحكم.

الثاني:أن يكون وجوبه نفسيّا لا لنفسه بل لغيره:إمّا للتهيّؤ لايجاب غيره،أو لانبعاثه عن نفس مصلحة الواقع ايصالا له بعنوان آخر.اختاره المحقّق الخراساني في متن الكفاية (1)،بناء علي عدم اتّصاف الواجب المشروط و الموقّت بالوجوب إلاّ بعد الشرط و الوقت،كما هو ظاهر الأدلّة و فتاوي المشهور.

و فيه نظر،لما تقدّم من أنّ الوجوب عقلي محض.

الثالث:أن يكون الوجوب عقليّا يستقلّ به العقل،و لعلّه مراد المحقّق7.

ص: 416


1- كفاية الاصول ص 427.

الخراساني في هامش الكفاية (1)،فلاحظ،و لعلّه يرجع إلي ما ذكرناه.

الرابع:أن يكون الوجوب شرطيّا لتوقّف صحّة العبادة و المعاملة عليه،و علي ذلك فالعبادة المطابقة للواقع المقرونة مع قصد القربة باطلة؛لفقد شرطها و هو التعلّم،و كذا المعاملة.

قال في الحدائق:المشهور بينهم عدم معذورية الجاهل،و فرّعوا علي ذلك بطلان عبادته،و هو عندهم من لم يكن مجتهدا و لا مقلّدا و إن طابقت الواقع (2)انتهي.

أقول:و سيأتي عدم اشتراط التعلّم في صحّة العبادة.

الخامس:أن يكون الوجوب طريقيا،بمعني ايجابه بداعي تنجيز الواقع عند الموافقة،و الإعذار عند المخالفة.

أقول:هذا شبيه بالوجوب المقدّمي،ثمّ إنّه هل يجب التقليد بناء علي أنّه الالتزام و نحوه زائدا علي وجوب التعلّم وجوبا مقدّميا أو وجوبا نفسيا،أو لا يجب كما هو الأظهر؟يأتي الكلام عليه في مسائل التقليد.

تتميم:إنّ حجّية الاجتهاد بالمعني الذي يقوله العامّة و المعني الذي يقوله الخاصّة أي الشيعة،ممّا ينبغي أن يبحث عنها في الاصول،كما بحث عنها في الذريعة و العدّة؛لأنّ مسائل الاصول هي مباحث الحجّة في الفقه،و عليه ينبغي تقديمه علي بحث التعادل و الترجيح؛لأنّ الترتيب الطبيعي يقتضي البحث عن كلّ واحد من الحجج،ثمّ البحث عن تعارضها،و عليه جري في القوانين و الفصول، لكن من لاحظ أنّ الاجتهاد هو إعمال القواعد المذكورة في الاصول،فهو غاية الاصول،كان ينبغي له أن يبحث عنه في الخاتمة،كما صنعه في الكفاية.

و يقع الكلام في الاجتهاد و التقليد و العمل بالاحتياط في ثلاثة مقامات:7.

ص: 417


1- كفاية الاصول ص 426.
2- الحدائق الناظرة 1:77.
المقام الأوّل: في الاجتهاد
اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف الاجتهاد
اشارة

لا يخفي أنّ كلمة الاجتهاد ما وردت في الأخبار بالمعني الذي اصطلحه الاصوليون من الامامية،و إنّما ذكروه في كتبهم،قال السيّد المرتضي رحمه اللّه في الذريعة:فأمّا الاجتهاد،فموضوع في اللغة لبذل الوسع و الطاقة في الفعل الذي يلحق في التوصّل إليه بالمشقّة،كحمل الثقيل و ما جري مجراه،ثمّ استعمل فيما يتوصّل به إلي الأحكام من الأدلّة علي وجه يشقّ (1).

و قال المحقّق في المعارج:الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية،و بهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهادا؛لأنّها تبتني علي اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر،سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره،فيكون القياس علي هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل:يلزم علي هذا أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.

قلنا:الأمر كذلك،لكن فيه إبهام من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد،فإن استثني القياس كنّا أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس (2)انتهي.

ثمّ إنّ الاجتهاد اصطلاحا قد عرّف بتعاريف:

ص: 418


1- الذريعة للشريف المرتضي 2:672.
2- المعارج ص 179.

الأوّل:ما ذكره العلاّمة الحلّي رحمه اللّه في مباديء الوصول،قال:الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّية الشرعية علي وجه لا زيادة فيه.ثمّ ذكر أنّ الاجتهاد يفيد الظنّ،و انّه قد يخطيء و يصيب،و لا يجوز للمعصومين،و يجوز للعلماء الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن و السنّة و بترجيح الأدلّة المتعارضة،أمّا بأخذ الحكم من القياس و الاستحسان فلا (1)انتهي.

أقول:لعلّ ظاهر كلامه عدم إطلاق الاجتهاد علي اليقين الحاصل بالحكم الواقعي من الكتاب و السنّة،و مراده من الظنّ بالحكم الظنّ بالحكم الواقعي.

أمّا الحكم الظاهري-و بعبارة اخري:وظيفة المكلّف في الظاهر-فهو قطعي إن دلّ الدليل القطعي علي حجّية الاجتهاد،أو دلّ دليل قطعي علي حجّية ظنّ المجتهد الحاصل من كلمات العلماء و الأخبار،كما يظهر من صاحب الجواهر أنّه يري حجّية ظنّ المجتهد الحاصل من كلمات العلماء و الأخبار.

حيث قال:لكن الانصاف أنّ التأمّل في عبارات الأصحاب و الروايات يورث الفقيه الظنّ بالجواز لظهورها في إرادة المسح بما بقي عدم استئناف الماء الجديد، كما هو مذهب العامّة (2).

و قال:فإنّ الآية«فليستعفف»و إن اشتملت علي الأمر الظاهر في الوجوب خصوصا في أوامر الكتاب،لكن المادّة تشعر بالندب،فيضعف الظنّ بإرادته.

و قال:نعم يقوي الظنّ بما سمعته من انطباق ذلك علي اجرة المثل (3).

إن قلت:إنّ مراده بالظنّ في مقابل الأدلّة القطعية،كالظواهر و خبر الواحد،لا4.

ص: 419


1- مباديء الوصول ص 240.
2- جواهر الكلام 2:192.
3- جواهر الكلام 28:443-444.

الظنّ الشخصي.

قلت:ظاهر كلامه الظنّ الشخصي؛لأنّ قوله تعالي وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ (1)نظير قوله تعالي وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً (2)فكيف صار مادّة«فليستعفف»مشعرة بالندب إلاّ بظنّه الشخصي،و لاحظ سائر الموارد التي يذكر فيها اعتبار ظنّ المجتهد.

و قد تعرّض لحجّية ظنّ المجتهد مفصّلا في مفاتيح الاصول،قال:و للآخرين أيضا وجوه أي لمن قال بحجّية ظنّ المجتهد (3)فلاحظ.

و قال أيضا:الثاني:قال جدّي في جملة كلام له:و بالجملة الأصل عدم حجّية الظنّ،خرج من ذلك ظنّ المجتهد بالاجماع و الضرورة الخ (4).

و قال أيضا:الثامن حاصله بناء علي أصالة حجّية الظنّ أنّ الظنّ الذي قام دليل ظنّي علي حجّيته حجّة،و هل يلحق به الظنّ الذي يشكّ في حجّيته و لم يقم دليل ظنّي علي حجّيته و لا علي عدم حجّيته،فيكون الأصل فيه الحجّية أو لا؟المعتمد الأوّل (5).

الثاني:ما عن الشيخ البهائي من أنّه ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة (6).

قوله«أو قوّة»عطف علي«فعلا»أي:يقتدر فعلا أو قوّة قريبة لفقد بعض5.

ص: 420


1- سورة النساء:6.
2- سورة النور:33.
3- مفاتيح الاصول ص 460.
4- مفاتيح الاصول ص 491.
5- مفاتيح الاصول ص 492.
6- الزبدة ص 115.

شروط الاستنباط الفعلي،كالالتفات إلي المسألة و دليلها و استحضار مداركها، و قيل:عطف علي«ملكة»و هو بعيد.

و لعلّ ظاهر قوله«يقتدر»أنّه يقتدر علي القطع بوظيفة المكلّف بسبب استنباط الحكم الفرعي لا الاستنباط الظنّي،إلاّ إذا قام دليل قطعي علي حجّية ظنّ المجتهد.

و ظاهر قوله«ملكة»أنّ الاجتهاد هي الملكة نفسها و إن لم يستنبط بالفعل،و لذا اورد عليه بأنّ عنوان الفقيه و العارف بالأحكام و نحوهما المذكور في الأخبار لا يصدق إلاّ علي من كانت له حجّة علي أحكامهم،و ملكة الاجتهاد تحصل دائما بسبب معرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط لا بنفس الاستنباط،بخلاف ملكة السخاوة و الشجاعة و نحوهما،فإنّها قد تحصل بتكرّر الفعل المناسب لها.

أقول:ظاهر هذا التعريف للاجتهاد أنّ ملكة الاجتهاد تحصل و إن لم يستنبط صاحبها أصلا.

و فيه نظر أوّلا:أنّ الاستنباط يتوقّف علي معرفة لحن كلامهم،و لا يحصل ذلك إلاّ بعد الاطّلاع علي الأخبار و تطبيق الكبريات علي الصغريات،و لا تحصل الملكة بدون المرور علي الأخبار.

و ثانيا:أنّ ملكة الاستنباط لا تحصل إلاّ بعد معرفة علم الاصول،و هي لا تحصل إلاّ بعد الاستنباط،فإنّ من مسائله مسألة حجّية الخبر الواحد،و حجّية الاستصحاب،و البراءة الشرعية،و هذه المسائل لا تنقح إلاّ بعد ايراد أدلّة الطرفين و ترجيح أحد الطرفين،و هذا الاستنباط مسانخ للاستنباط في الحكم الفرعي.

الثالث:ما جعله في الكفاية (1)أولي،و هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة علي الحكم،و زاد عليه بعضهم،فقال:تحصيل الحجّة علي الحكم عن ملكة،9.

ص: 421


1- كفاية الاصول ص 529.

و الأولي أن يقال:تحصيل الوظيفة الفعلية بإقامة المؤمّن عليها،و لا يخفي أنّ ذلك لا يحصل بدون الملكة.

و الذي ينبغي أن يقال:إنّ بعض الأحكام يترتّب علي الاجتهاد بمعني الملكة، و بعضها يترتّب علي الاستنباط عن ملكة،فمن الأوّل حرمة التقليد عليه،لعدم شمول أدلّته لمن يتمكّن من تحصيل الوظيفة العملية بإقامة الحجّة عليه.

و من الثاني وجوب عمله بما استنبطه و نفوذ قضائه و جواز تقليده،و هي متفرّعة علي عنوان الفقيه و العارف بأحكامهم الناظر في الكتاب و السنّة،إن استخرج الوظيفة العملية من ظاهر الكتاب و الأخبار،مع ملاحظة القرائن الحالية و المقالية علي حسب استفادة المشافهين و المخاطبين بهما،نظير فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كزرارة و أضرابه،أو من حكم العقل المتّفق عليه،أو الاجماع و الشهرة الكاشفين عن رأي المعصوم،فإذا استنبط الفقيه كذلك جاز تقليده و نفذ حكمه فيما استنبطه و إن كان حكما واحدا.

مسألتان:
المسألة الأولي:لا فرق في حجّية فتوي المجتهد بين الانسدادي و الانفتاحي

إذا كان مجتهدا بالمعني المذكور،أي:مستنبطا من الكتاب و السنّة،سواء علي القول بالكشف أو الحكومة،و أمّا إذا كان مقتضي الانسداد حجّية كلّ ظنّ و إن كان حاصلا من غير الكتاب و السنّة،فهو و إن كان حجّة علي نفسه،لكن في نفوذ قضائه و جواز تقليده في المسألة التي ظنّ بها إشكال.

و أمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ الانسدادي ليس عالما بالحكم،فالرجوع إليه ليس من رجوع الجاهل إلي العالم بل إلي الجاهل،و قضية مقدّمات الانسداد حجّية ظنّه عليه،لأنّه الذي انسدّ عليه باب العلم و العلمي،و العقل يحكم بحجّيته عليه،أو يكشف عن جعل الشارع ظنّه حجّة عليه،فيشكل جواز تقليده،و كذا نفوذ

ص: 422

قضائه؛لأنّه ليس ممّن يعرف الأحكام،مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم كما في المقبولة إلي آخر ما أفاده (1).

ففيه أنّه ينبغي التفصيل الذي ذكرناه،فإن كانت نتيجة المقدّمات حجّية الأخبار و ظواهرها العرفية كان مثل القائل بالانفتاح و إن كانت مطلق ظنّ المجتهد و إن كان خارجا عن الانفهام العرفي مثلا،أو كان حاصلا من غير الكتاب و السنّة،فهو كالقائل بالانفتاح القائل بحجّية ظنّ المجتهد لا دليل علي جواز تقليده و نفوذ حكمه (2).

المسألة الثانية:الاجتهاد ينقسم إلي مطلق و متجزّيء

،و المراد بالأوّل القدرة علي استنباط جميع الفروع من أدلّتها،و المراد بالثاني القدرة علي استنباط بعض المسائل علي وجه لم يكن فرق بينه و بين المطلق في استنباطه،فمن لا يقدر علي استنباط المسائل المبنية علي مسألة اجتماع الأمر و النهي،أو لا يقدر علي استنباط بعض المسائل التي تختلف الروايات فيها اختلافا شديدا،لكنّه يقدر علي استنباط أحكام المياه مثلا كما يستنبط المجتهد المطلق فهو متجزّيء،و لا ريب في امكانه و وقوعه،و الظاهر جواز عمله به و جواز تقليده و نفوذ قضائه و إن كان في مسألة واحدة.

نعم يعتبر فيه و في المجتهد المطلق أيضا أن يمرّ علي المسألة مرّة بعد اخري، فلو أدّي نظره إلي ما يخالف الفقهاء لم يجتريء علي العمل بنظره،بل يتأمّل في المسألة و يمرّ علي سائر المسائل؛لأنّا نري بالوجدان ازدياد قوّة الاستنباط و لذا يتبدّل الرأي،و لا يقاس الاجتهاد في هذه الأعصار باجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام، و بالجملة لا بدّ من أن يطمئنّ بأنّه لا يتبدّل رأيه بعد طول المدّة.

ص: 423


1- كفاية الاصول ص 530.
2- راجع:التنقيح في شرح العروة الوثقي 1:241.
الفصل الثاني: في شرائط الاجتهاد
اشارة

و قد ذكروا له شروطا:

الشرط الأوّل:معرفة اللغة العربية و قواعد النحو و الصرف

ممّا يتوقّف عليه فهم الكتاب و السنّة.و يعتبر أن يمارس اللغة العربية حتّي يعرف ظهور الألفاظ في معانيها، و لا بدّ له من التتبّع بعد ذلك و الاستئناس بالروايات ليكون بصيرا بموارد استعمالاتها.

و حيث قلنا في محلّه:إنّ المعتبر هو ظهور اللفظ عند المخاطبين و عرف الأئمّة عليهم السّلام و رواتهم،فلا بدّ أن يكون عارفا بالعربية،بحيث يصير نظير المخاطبين و ابن عرفهم،و يستظهر من الألفاظ بمعونة القرينة و ممارسة الأخبار مثل استظهارهم.

و بالجملة لا بدّ أن يكون في مقام الاستظهار خاليا ذهنه عن جميع ما يوجب صرف الظاهر عن ظهوره،بأن لا يكون عظمة استاذه و حسن الاعتقاد به و ما ألفه ذهنه من المحيط الذي يعيش فيه،و من التسالم الذي ربما يتّفق في المتأخّرين في بعض المسائل دخيلا في استظهار المعني من اللفظ،و قد ذكرنا في بحث حجّية الظواهر تفصيل ذلك،و حصول هذا الشرط صعب،كما أنّ إحراز وجوده في من يدّعي الاجتهاد صعب أيضا.

ثمّ إنّه هل يكفي التقليد في معرفة هذه العلوم الدخيلة في فهم ظواهر الكلام، فيكتفي بقول لغوي واحد أو نحوي واحد،أو لا بدّ من تحصيل الوثوق من الاستقراء لكلام جماعة من اللغويّين و النحويّين،فإن لم يحصل يرجع إلي ما يقتضيه دليل الانسداد في الأحكام الشرعية،أو يكفي تحصيل الظنّ من مراجعة الكتب المعدّة لذلك؟وجوه أقواها أوسطها،و لا يعتمد علي مجرّد استظهاره و ظنّه

ص: 424

ما لم يكن مؤيّدا بفهم أهل العرف المعاصرين للمعصومين عليهم السّلام.

و قيل:إنّ الأصوليين و الفقهاء لم يتركوا شيئا ممّا يحتاج إليه المجتهد من اللغة و غيرها إلاّ و تعرّضوا له.

أقول:و مع ذلك ينبغي التثبّت.

الشرط الشرط الثاني:تعلّم العلوم العقلية،كعلم المنطق و علم الكلام

،حتّي يعرف قبح التكليف بما لا يطاق،و أنّ اللّه لا يفعل القبيح،و بطلان الدور و التسلسل،و قاعدة اللطف،و عدم جواز الترجيح من غير مرجّح.

أقول:المقدار اللازم من ذلك مذكور في الاصول،و بعضه معلوم ضرورة.

الشرط الثالث:معرفة علم الحديث من حيث الاسناد و الارسال و الصحّة

و الضعف

،و أنّ الراوي عادل أو غير عادل.و الاحتياج إلي معرفة الرجال ينبغي أن يعدّ شرطا علي جميع المباني بعد أن لم يكن جميع أخبارنا قطعية الصدور،بل و لو كان جميعها قطعي الصدور،لكن ربما يكون بعضها معارضا بالبعض،و تمييز الأرجح سندا يتوقّف علي معرفة الرجال،بل ربما يكون تمييز ما صدر تقيّة موقوفا عليه؛لأنّ رواته من العامّة،و هذا العلم قد دوّن في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هو يكشف عن أنّه لم يكن مستغني عنه.

قال النجاشي في عبد اللّه بن جبلة:كان واقفا،و كان فقيها ثقة مشهورا،له كتب منها كتاب الرجال.إلي أن قال:و مات سنة تسع عشرة و مائتين (1).

ثمّ إنّ الحاجة إليه تشتدّ علي بعض المباني في حجّية الأخبار،فنذكر بعضها:

أحدها:أن يكون المعتبر هو خبر العدل الضابط،أو الثقة الضابط،و من البيّن أنّ علم الرجال متكفّل لصغري ذلك،و لكن لا يخفي أنّه ذكرنا في مسألة حجّية أقوال

ص: 425


1- رجال النجاشي ص 216 برقم:563.

الرجاليين أنّ أقوالهم لا تكون حجّة من باب الشهادة؛لأنّ مستند الشهادة لا بدّ و أن يكون محسوسا،و الرجاليون ربما يجتهدون في توثيقاتهم و تضعيفاتهم،و لا تكون من باب إخبار العدل الواحد أو الثقة في الموضوعات؛لعدم إحراز كون إخبارهم عن حسّ،مع أنّه لا دليل علي حجّيته في الموضوعات.و لا من باب حجّية قول أهل الخبرة فإنّه نوع تقليد،فإن قيل بحجّية قول أهل الخبرة،فينبغي جواز الرجوع إلي علماء الاصول لكونهم أهل الخبرة،مع أنّ الأمر ليس كذلك، حيث إنّ كلّ مجتهد له مباني اصوليّة،بل الرجوع إلي الرجاليين لإفادة العلم أو الاطمئنان بصدور الخبر،أو لتقوية القرائن الموجبة لهما،و تفصيله في محلّه.

ثانيها:أن يكون المعتبر الخبر المظنون الصدور،و الاحتجاج فيه واضح.

ثالثها:أن يكون المعتبر الخبر المقطوع الصدور لاحتفائه بالقرائن،و أخبار الكتب الأربعة مقطوعة الصدور،و عليه لا حاجة إليه إلاّ في موارد التعارض، خصوصا بناء علي الترجيح بأوصاف الراوي.

رابعها:أن يكون المدار علي الوثوق بالصدور،فيكفي الوثوق بالصدور و إن حصل من غير مراجعة علم الرجال،كما يكفي الوثوق الحاصل من تصحيح القدماء،كأرباب الكتب الأربعة و غيرهم.

اختاره الفقيه الهمداني في كتاب الصلاة،قال:إذ ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية علي اتّصافها بالصحّة المصطلحة،و إلاّ فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها علي سبيل التحقيق،لو لا البناء علي المسامحة في طريقها و العمل بظنون غير ثابتة الحجّية،بل المدار علي وثاقة الراوي،أو الوثوق بصدور الرواية،و إن كان بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة،أو مأخوذة من الاصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها و عدم إعراضهم عنها.

ص: 426

و لا شبهة في أنّ قول بعض المزكّين لا يؤثّر في الوثوق أزيد ممّا يحصل من إخبارهم بكونه من مشايخ الاجازة،و لأجل ما تقدّمت الاشارة إليه جرت سيرتي علي ترك الفحص عن حال الرجال،و الاكتفاء في توصيف الرواية بالصحّة كونها موصوفة بها في ألسنة مشايخنا المتقدّمين الذين تفحّصوا عن حالهم (1).

و يقرب منه ما ذكره المحقّق النراقي رحمه اللّه في المناهج.

خامسها:الحشويّة الذين ذكرهم المحقّق في أوّل المعتبر،حيث قال:أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد،حتّي انقادوا لكلّ خبر،و ما فطنوا ما تحته من التناقض،فإنّ من جملة الأخبار قول النبي صلّي اللّه عليه و آله«ستكثر بعدي القالة»و قول الصادق عليه السّلام«إنّ لكلّ رجل (2)منّا رجل يكذب عليه» (3).

سادسها:أن يكون المدار علي عمل المشهور بالخبر و إعراضهم عنه،فكلّ خبر عمل به المشهور فهو حجّة،و كلّ خبر أعرضوا عنه فليس بحجّة.

و هو مختار المحقّق،حيث قال بعد الكلام السابق:و التوسّط أصوب،فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب إطراحه (4).

ثمّ إنّ عمدة الأقوال في عدم الحاجة إلي علم الرجال هو القول الثالث، و لأربابه أدلّة علي قطعية الأخبار و عدم الحاجة إلي علم الرجال،ذكرناها في بحث حجّية الخبر الواحد،و ذكرنا المختار عندنا في لزوم مراجعة كتب الرجال و الحديث و تقليل احتمال عدم الصدور عن المعصومين.9.

ص: 427


1- مصباح الفقيه كتاب الصلاة ص 12.
2- كذا في المعتبر،و الصحيح كما في المصادر:إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه.
3- المعتبر 1:29.
4- المعتبر 1:29.
الشرط الرابع: معرفة علم الاصول

،و هو ممّا يتوقّف عليه الاستنباط،و ينقسم إلي مباحث:

أحدها:ما يرجع إلي ظهور اللفظ و إثبات أنّ اللفظ ظاهر في معناه،و من هذه الجهة يدخل في الشرط الأوّل،و هي مباحث الحقيقة الشرعية،و المشتقّ،و صيغة الأمر و النهي،و العامّ و الخاصّ،و المطلق و المقيّد.

ثانيها:ما يرجع إلي ما يقطع به عقلا،كمباحث الاستلزامات.

و ثالثها:ما يستنبط من الأخبار و الكتاب،كحجّية خبر الواحد،و حجّية ظواهر الكتاب،و البراءة و الأستصحاب،و التعادل و الترجيح،و من هذه الجهة يتوقّف علي الممارسة،و أن يكون في فهم الأخبار كأحد أبناء عرف المخاطبين،و من هذه الجهة يكون كاستنباط المسائل الفقهية في الاستظهار من الأدلّة.

و لا يخفي أنّ المقدار المحتاج إليه من الاصول هو أن لا يحتمل الاصولي احتمالا عقلائيا أنّه يوجد مباني اصولية توجب تغيير مبني مسألة فقهية،فإذا احتمل فعليه المراجعة إلي آرائهم و إن كان إلي المتأخّر عنه في الرتبة.

الشرط الخامس:التمكّن من الاطّلاع علي آيات الأحكام و محالّ الأخبار

و الاجماعات و الشهرات و آراء العامّة و محيط صدور الأخبار

،فإنّ ذلك دخيل في علاج الأخبار المختلفة المتعارضة،فإنّ منشأه في الأغلب التقية:إمّا من المخالفين،أو التقية من أصحابهم عليهم السّلام لقصورهم،أو لمصلحة وقوع الخلاف بينهم،أو لعمل السائل بالتقية،و متي لم يعلم صدوره تقية و عمل به فإنّه يجزيء، و قد فصّلنا ذلك في بحث التعادل و الترجيح.

الشرط السادس:أن يكون مضافا إلي ما اكتسبه من ممارسة العلوم ذا قوّة في

الفهم

،و شدّة إدراك،و مزيد فطنة،ليضمّ القواعد بعضها إلي بعض،و يطبقها علي صغرياتها،معتدل السليقة،مستقيم الطبيعة،دون بلادة في الذهن،و شذوذ في

ص: 428

التفكير،و اعوجاج في الفهم،و لعلّ من التزم بعد تحصيل العلوم بكثرة المذاكرة و الحضور عند الأساتذة المهرة مع إخلاص النيّة يصل إلي ذلك.

الشرط السابع:ما قيل من أن يكون ذا قوّة قدسية،بأن يكون متجنّبا عن

المعاصي متّقيا متوكّلا علي اللّه تعالي

،مستمدّا من مدده،قال اللّه تعالي وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ (1)و في بعض الأخبار أنّ علي كلّ صواب نورا،و انّ الخبر الصحيح ما كان عليه نور،و لا يدرك نوره إلاّ من كان ذا قلب نوراني.

و ذكر له شروط اخري هي مطوية فيما تقدّم:

أحدها:أن لا يكون معوج السليقة و الفهم.

ثانيها:أن لا يكون في قلبه محبّة الاعتراض و إن كان من الزهّاد و العبّاد.

ثالثها:أن لا يكون لجوجا عنودا.

رابعها:أن لا يكون مستبدّا برأيه.

خامسها:أن لا يكون له حدة زائدة و يسمّي جربذة.

سادسها:أن لا يكون بليدا.

سابعها:أن لا يكون مدّة عمره متوغّلا في الكلام أو الرياضيات أو الاصول أو النحو.

ثامنها:أن لا يأنس بالتوجيه و التأويل.

تاسعها:أن لا يكون جريئا في الفتوي.

عاشرها:أن لا يكون مفرطا في الاحتياط.

ص: 429


1- سورة البقرة:282.
الفصل الثالث: في الأدلّة علي حجّية الاجتهاد
اشارة

الاجتهاد بالمعني الذي ذكرناه حجّة،و يجب العمل علي طبقه لوجوه:

أحدها:الأدلّة التي أقامها الاصوليون في كلّ مسألة من المسائل الاصولية، و من جملتها:مسألة الخبر الواحد،و حجّية مطلق الظنّ عند انسداد باب العلم و العلمي،و بهذه الأدلّة التي أقاموها يقطع بحجّية الاجتهاد،و ينبغي أن يعلم أنّ دعوي قطعية دلالة الأخبار و قطعية سندها مجازفة،و لكن لا بدّ في مقام الاجتهاد من مراعاة الاحتمالات الراجحة الحاصلة بعد التتبّع في آيات الكتاب و الأخبار و الأسانيد،فإن كان هناك عامّ قطعي السند واضح الدلالة،فلا يخصّصه إلاّ بما يعلم صحّته دلالة و سندا،و إن لم يكن عامّ كذلك فيعمل بالخبر.

و لا بدّ من ملاحظة زمان صدور الأخبار،فلعلّ هناك قرينة حالية أو مقالية خفيت،و يلاحظ أقوال العامّة و أخبارهم،فإنّ لملاحظتها دخلا في الاطّلاع علي صدور الأخبار تقية أو بغير تقية.

و ينبغي ملاحظة معاني الألفاظ حين صدورها،كما ينبغي ملاحظة نسخ كتب الأحاديث.و ترجيح الكتب الأربعة علي غيرها،لاشتهارها و قراءة التلاميذ علي أساتذتها في الطبقات،و هذا الوجه أوسع و أشمل من الوجهين الآتيين؛لأنّهما مقصوران علي القدر المتيقّن.

ثانيها:أنّه الأحوط،فإنّ ملاحظة الشهرة القدمائية غير المستندة إلي أمر اعتباري الكاشفة احتمالا عن النصّ،و ملاحظة تقوية السند و تصحيحه بالاصطلاحين فيما إذا كان في مقابل الخبر نصّ عام قطعي السند و العمل بالأخبار المودعة في كتب الأصحاب،مع عدم معارضته لعام قطعي إلاّ إذا كان الخبر شاذّا أو ضعيفا جدّا،و القول بالبراءة مع عدم النصّ،و الاحتياط في بعض الموارد التي لا

ص: 430

يحصل فيها الجزم،هو أحسن الطرق للوصول إلي الأحكام الشرعية،و لعلّ ذلك ملاك الأعلمية.

ثالثها:الأخبار الدالّة علي أمر الأئمّة عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد و إمضاء اجتهاداتهم،فيقع الكلام في موضعين:الأوّل أمرهم بالاجتهاد،و الثاني كون بعض أصحابهم مجتهدا.

الموضع الأوّل: أمرهم عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد

و يدلّ عليه عدّة أخبار،منها:ما رواه في مستطرفات السرائر عن كتاب البزنطي،عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول و عليكم أن تفرّعوا.

و روي البزنطي عن الرضا عليه السّلام قال:علينا إلقاء الاصول و عليكم التفريع (1).

و في البحار باب علل اختلاف الأخبار،عن عوالي اللالي مرسلا عن زرارة و أبي بصير عن الباقر عليه السّلام و الصادق عليه السّلام مثله (2).لكن في هداية المسترشدين قال:و صحيح زرارة و أبي بصير.لكنّا لم نعثر عليه.

أقول:لعلّ المراد بالتفريع تطبيق العام علي أفراده،و المطلق علي مصداقه،كما يصنعه الفقهاء و الرواة،مع أنّ أفهامهم تختلف لعدم وضوح ذلك في جميع الموارد.

و يؤيّده خبر إسحاق بن عمّار أنّه قال:قال لي أبو الحسن الأوّل عليه السّلام:إذا شككت فابن علي اليقين،قلت:هذا أصل؟قال:نعم (3).

و منها:ما رواه إبراهيم الكرخي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:حديث تدريه خير

ص: 431


1- وسائل الشيعة 18:41 ب 6 ح 51 و ح 52.
2- بحار الأنوار 2:245.
3- من لا يحضره الفقيه 1:351.

من ألف ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،و انّ الكلمة من كلامنا لتنصرف علي سبعين وجها لنا من جميعها المخرج (1).

و عن مصباح اللغة:المعراض التورية و أصله الستر،يقال:عرفته في معراض كلامه و في لحن كلامه و فحوي كلامه بمعني (2).

و منها:خبر علي بن حسّان الواسطي،عمّن ذكره عن داود بن فرقد،قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب (3).

و منها:خبر أبي جعفر الأحول،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف علي سبعين وجها (4).

أقول:لأنّهم لم يتمكّنوا من التصريح بالحقّ للتقية من المخالفين و حفظ مقامهم، لئلاّ يكثر الطعن عليهم،فكانوا يبيّنون الحقّ بالاشارة إليه،بحيث إنّ المخاطب لو كان فقيها عارفا بمذاقهم عرف مرادهم،و إن كان ظاهر الكلام يمكن توجيهه علي نحو لا ينافي التقية.

كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما رواه زرارة،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:إنّ اناسا رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه صلّي أربع ركعات بعد الجمعة لم يفصلهنّ بتسليم، فقال:يا زرارة انّ أمير المؤمنين عليه السّلام صلّي خلف فاسق،فلمّا سلّم و انصرف قام أمير المؤمنين عليه السّلام فصلّي أربع ركعات لم يفصل بينهنّ بتسليم،فقال له رجل إلي جنبه:يا أبا الحسن صلّيت أربع ركعات لم تفصل بينهنّ،فقال:أمّا أنّه أربع ركعات7.

ص: 432


1- بحار الأنوار 2:184 ح 5.
2- المصباح المنير ص 403.
3- وسائل الشيعة 27:117 عن معاني الأخبار ص 1.
4- بحار الأنوار 2:199 ح 57.

مشبّهات،فسكت،فو اللّه ما عقل ما قال (1).فإنّه عليه السّلام لم يصرّح ببطلان الصلاة خلف الفاسق.

و منها:ما عن المفضّل،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:خبر تدريه خير من عشرة ترويه،إنّ لكلّ حقيقة حقّا،و لكلّ صواب نورا،ثمّ قال:إنّا و اللّه لا نعدّ الرجل من شيعتنا فقيها حتّي يلحن له فيعرف اللحن (2).

و منها:ما عن أبي عبيدة الحذّاء،قال:قال لي أبو جعفر عليه السّلام في حديث:يا أبا عبيدة إنّا لا نعدّ الرجل فقيها عالما حتّي يعرف لحن القول،و هو قول اللّه عزّ و جلّ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (3).

و قال الصادق عليه السّلام في مرفوعة أبي علي:إعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا،فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّي يكون محدّثا،فقيل له:أو يكون المؤمن محدّثا؟قال:يكون مفهّما،و المفهّم المحدّث (4).

و عن زيد الزرّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:يا بني اعرف منازل الشيعة علي قدر روايتهم و معرفتهم،فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، و بالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلي أقصي درجات الايمان الحديث (5).

و عن الرضا عليه السّلام قال:من ردّ متشابه القرآن إلي محكمه،فقد هدي إلي صراط مستقيم،ثمّ قال عليه السّلام:إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن،و متشابها كمتشابه القرآن،فردّوا متشابهها إلي محكمها،و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها4.

ص: 433


1- فروع الكافي 3:374،و التهذيب 3:266.
2- بحار الأنوار 2:208 ح 101 و 51:112.
3- وسائل الشيعة 16:202.
4- وسائل الشيعة 27:149 ح 38.
5- بحار الأنوار 1:106 و 2:184.

فتضلّوا (1).

و منها:خبر عمر بن حنظلة،و فيه قوله عليه السّلام:انظروا إلي من كان منكم قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا.

و فيه أيضا:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقههما في الحديث (2).

و مثله خبر داود بن الحصين،و خبر موسي بن أكيل (3).

و منها:خبر حمزة بن حمران،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:ما أعاد الصلاة فقيه قطّ يحتال لها و يدبّرها حتّي لا يعيدها (4).

فإنّه لاطّلاعه علي القواعد الفقهية يعرف وجوه تصحيح الصلاة.

و منها:موثّق زرارة،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:أحبّ للرجل الفقيه إذا أراد أن يطلّق امرأته أن يطلّقها طلاق السنّة الحديث (5).

الموضع الثاني: في اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام
اشارة

و نذكر بعض ما عثرنا عليه ممّا ورد في بعض الرواة:

منهم:زرارة،فإنّه كان فقيها يعرف ما صدر عنهم تقية و غير ذلك.

روي حمران بن أعين،قال:قلت لأبي جعفر عليه السّلام:جعلت فداك إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة و هم يصلّون في الوقت،فكيف نصنع؟فقال:صلّوا معهم،فخرج حمران إلي زرارة،فقال له:قد امرنا أن نصلّي معهم بصلاتهم،فقال زرارة:هذا ما

ص: 434


1- وسائل الشيعة 27:115 ح 22 باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة.
2- اصول الكافي 1:67.
3- من لا يحضره الفقيه 3:8،و بحار الأنوار 2:220.
4- جامع أحاديث الشيعة 2:456.
5- فروع الكافي 6:65 ح 3.

يكون إلاّ بتأويل،فقال له حمران:قم حتّي نسمع منه،قال:فدخلنا عليه،فقال له زرارة:إنّ حمران أخبرنا عنك أنّك أمرتنا أن نصلّي معهم فأنكرت ذلك،فقال لنا:

كان الحسين بن علي عليهما السّلام يصلّي معهم الركعتين،فإذا فرغوا قام فأضاف إليهما الركعتين (1).و المستفاد منه ممّا يرتبط بالاجتهاد امور:

أحدها:أنّه لا يصحّ دعوي تخصيص العموم في كلّ مورد،و إلاّ كان يقول زرارة:إنّ جواز الصلاة في يوم الجمعة أخصّ من عموم ما دلّ علي المنع عن الصلاة معهم،و لعلّه لكون ما دلّ علي المنع آبيا عن التخصيص،أو لكونه حيث علم أنّ الامام يتّقي كثيرا لم يكن العموم حجّة بنظره.

الثاني:أنّ المعصوم عليه السّلام ربما يجمل و يكل البيان إلي سائر ما ورد عنهم.

الثالث:تقرير المعصوم لاجتهاد زرارة،حيث عرف أنّ ظاهر الكلام غير مراد.

و يحتمل أن يكون الامام أراد ايقاع الاختلاف،و كان الوظيفة هو جواز الصلاة معهم في الجمعة؛لأنّ العامّة يهتمّون بصلاة الجمعة ما لا يهتمّون بغيرها،لكن حيث أصرّ زرارة علي ذلك،فأجاب عليه السّلام بأنّ التقية تتأدّي بذلك،لكن هذا إذا لم يعرفوا أنّ عمل الشيعة علي ذلك.

و روي زرارة عن حمران بزيادة علي ما مرّ،أنّه قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إنّ في كتاب علي عليه السّلام:إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،قال زرارة:قلت له أي لحمران:هذا ما لا يكون،اتّقاك،عدوّ اللّه أقتدي به؟قال حمران،كيف اتّقاني و أنا لم أسأله هو الذي ابتدأني؟و قال:في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،كيف يكون هذا منه تقية؟قال:قلت:قد اتّقاك هذا ممّا لا يجوز حتّي قضي أنّا اجتمعنا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام،فقال له حمران:أصلحك اللّه حدّثت2.

ص: 435


1- جامع أحاديث الشيعة 6:78 ب 13 ح 2.

هذا الحديث الذي حدّثتني به أنّ في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،فقال:هذا ما لا يكون عدوّ اللّه فاسق لا ينبغي لنا أن نقتدي به و لا نصلّي معه،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:في كتاب علي عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم،و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين اخريين.قلت:فأكون قد صلّيت أربعا لنفسي لم أقتد به،فقال:نعم فسكّت و سكت صاحبي و رضينا (1).

و المستفاد منه امور زائدة علي الخبر السابق:

أحدها:إنكار حمران أن يكون ذلك تقية،لأنّ الامام ابتدأ في الكلام و أسنده إلي كتاب علي عليه السّلام،فلو اقتضت التقية أن يتّقي الامام،فإنّما يقتضيه إن كان بعض العامّة حاضرا في مجلسه،ثمّ إنّه لا حاجة إلي إسناد الحكم الصادر تقية إلي كتاب علي عليه السّلام؛لأنّ التقية من الضرورة،و الضرورة تقدّر بقدرها،و هذا اجتهاد منه.

ثانيها:إصابة زرارة في عدم الأخذ بظاهر الخبر،و خطأه في الحمل علي التقية، و هذا هو الاجتهاد.

ثالثها:ما فهمه من أنّه يصلّي لنفسه و لا يقتدي به،فإذا ورد نظيره فنفهم ذلك منه،فيكون مثل ما فهمه حمران،لكن الانصاف أنّ بعض اجتهاد المتأخّرين لا يكون من هذا القبيل.

ثمّ لا يخفي أنّ احتمال تعدّد الواقعة بعيد،و الخبر الأوّل مروي عن أبي جعفر عليه السّلام،و الثاني مروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،لكن سند الأوّل أقوي،فإنّ في السند الثاني علي بن حديد.

و منها:ما روي عن سلمة بن محرز،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:إنّ رجلا أرمانيا،قال:و ما الأرماني؟قلت:نبطي من أنباط الجبال مات و أوصي إليّ بتركته1.

ص: 436


1- وسائل الشيعة 5:46،و جامع أحاديث الشيعة 6:77 ب 13 ح 1.

و ترك ابنته،قال:فقال لي:اعطها النصف،قال:فأخبرت زرارة بذلك،فقال لي:

اتّقاك إنّما المال لها،قال:فدخلت عليه بعد فقلت:أصلحك اللّه إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني،فقال:لا و اللّه ما اتّقيتك و لكن اتّقيت عليك ان تضمن،فهل علم بذلك أحد؟قلت:لا،قال:فاعطها ما بقي.

و قريب منه خبر عبد اللّه بن محرز،و خبره الآخر،لكن فيهما قال أصحابنا:

اتّقاك (1).

و المستفاد منها امور:

أحدها:اجتهاد زرارة و الأصحاب.

ثانيها:خطأهم في زعم أنّه عليه السّلام اتّقي منه مع أنّه عليه السّلام اتّقي عليه.

ثالثها:عدم الضمان في مورد التقية،لكن يحتمل أن يكون ذلك لخصوص سلمة.

ثمّ إنّه عليه السّلام يمكن أن يكون عالما بأنّه يعمل بالحكم الواقعي،أو أنّه يجوز لسلمة أن يعمل بذلك.

و عن ابن أبي يعفور،قال:كنّا بالمدينة،فلاحاني زرارة في نتف الأبط و حلقه، فقلت:حلقه أفضل،و قال زرارة:نتفه أفضل،فاستأذنّا علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فأذن لنا و هو في الحمّام مطلي قد اطلي ابطيه،فقلت لزرارة:يكفيك،فقال:لا لعلّه فعل هذا لما لا يجوز لي أن أفعله،فقال عليه السّلام:فيما أنتما؟فقال:إنّ زرارة لا حاني في نتف الأبط و حلقه،قلت:حلقه أفضل،و قال زرارة:نتفه أفضل،فقال عليه السّلام:أصبت السنّة و أخطأها زرارة،حلقه أفضل من نتفه،و طليه أفضل من حلقه (2).3.

ص: 437


1- فروع الكافي 7:86 ح 3 و 7 و 9.
2- جامع أحاديث الشيعة 16:545 ب 15 ح 14.و رواه بطريق آخر موثّق و فيه اختلاف في بعض مضمونه،جامع أحاديث الشيعة 16:537 ب 2 ح 3.

و هذا الخبر يدلّ علي أنّ زرارة قد اجتهد في ذلك،و تفطّن إلي نكتة دقيقة،و هو أنّ فعل المعصوم ما لم يعلم وجهه لا يكون حجّة علي غيره،بناء علي أنّه سمع عن المعصوم أنّ نتفه أفضل،و يدلّ علي اجتهاد ابن أبي يعفور،حيث استنبط من طلي المعصوم أنّ نتفه ليس أفضل.

و كان لزرارة وقت معيّن لا يكون معه غيره حتّي إذا سأل الامام عليه السّلام عن شيء لا يجيبه بالتقية.

ففي صحيحه الوارد في إرث الجدّ،قال:فأتيته من الغد بعد الظهر و كانت ساعتي التي كنت أخلو به فيها بين الظهر و العصر،و كنت أكره أن أسأله إلاّ خاليا خشية أن يفتيني من أجل من يحضره بالتقية الحديث (1).

و كان الأصحاب يعتقدون بفقاهته،فروي عمر بن اذينة،قال:قلت لزرارة:إنّ اناسا حدّثوني عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام بأشياء في الفرائض فأعرضها عليك،فما كان منها باطلا فقل هذا باطل،و ما كان حقّا فقل هذا حقّ و لا تروه و اسكت،فحدّثته بما حدّثني به محمّد بن مسلم في الزوج و الأبوين،فقال:هو و اللّه الحقّ (2).

إلي غير ذلك ممّا روي في شأنه.و لعلّ المستفاد من جميع ما ورد في شأنه أنّه كان مطّلعا علي الأخبار الكثيرة عالما بمواضع التقية،و كان كثيرا ما يحمل الأخبار علي التقية.

و منهم:أبو بصير الذي كان من الأجلاء،روي الكشي بسند لا بأس به عن شعيب العقرقوفي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء1.

ص: 438


1- فروع الكافي 7:94.
2- فروع الكافي 7:91.

فمن نسأل؟قال:عليك بالأسدي يعني أبا بصير (1).

و قد كان يجتهد و يرجّح بعض الأخبار علي بعض،روي شعيب العرقوفي،قال:

كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا أبو بصير و اناس من أهل جبل يسألونه عن ذبائح أهل الكتاب،فقال لهم أبو عبد اللّه عليه السّلام:قد سمعتم ما قال اللّه في كتابه،فقالوا له:

نحبّ أن تخبرنا،فقال:لا تأكلوها،فلمّا خرجنا من عنده قال أبو بصير:كلها،في عنقي ما فيها،فقد سمعته و سمعت أباه جميعا يأمران بأكلها،فرجعنا إليه،فقال لي أبو بصير:سله،فقلت له:جعلت فداك ما تقول في ذبائح أهل الكتاب؟فقال:أليس قد شهدتنا بالغداة و سمعت؟قلت:بلي،فقال:لا تأكلها؟فقال لي أبو بصير:في عنقي كلها،ثمّ قال لي سله الثانية،فقال لي مثل مقالته الاولي و عاد أبو بصير فقال لي قوله الأوّل في عنقي كلها،ثمّ قال لي:سله،فقلت:لا أسأله بعد مرّتين (2).

و يستفاد منه أمران:

الأوّل:أنّ الامام لم يرد أن يصرّح بالمنع،و لذا أرجعهم إلي كتاب اللّه سبحانه في قوله وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (3)لكن لعلّ ذلك من أجل أنّه لا يقبلون منه،فأراد أن يبيّن أنّ ذلك موجود في كتاب اللّه،و يدلّ عليه ما سبق أنّه قال:إنّ أصحاب أبي خير من أصحابي.

الثاني:أنّ أبا بصير اجتهد و زعم أنّ الامام لم يجوّز لمصلحة يراها،و أنّه لو أصرّ علي الترخيص ربما يرخّص فيه،و لعلّه لم يتوجّه إلي أنّ الأخبار المجوّزة قد صدرت تقية،و أنّه لا بدّ من الأخذ بالأخير في المتعارضين.

و روي ذريح،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:ذكر لي أبو سعيد-إلي أن قال:و إذا1.

ص: 439


1- وسائل الشيعة 18:103.
2- تهذيب الأحكام 9:66.
3- سورة الأنعام:121.

وجّهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس، فإنّي رأيت أصحابنا يفعلون ذلك،و قد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض،أخبرني بذلك علي بن أبي حمزة الحديث (1).

و منهم:أبو حمزة الثمالي،ففي خبر حنان بن سدير،قال:كنت أنا و أبي و أبو حمزة الثمالي و عبد الرحيم القصير و زياد الأحلام حجّاجا،فدخلنا علي أبي جعفر عليه السّلام،فرأي زياد قد انسلخ جلده،فقال له:من أين أحرمت؟قال:من الكوفة،قال:و لم أحرمت من الكوفة؟فقال:بلغني عن بعضكم أنّه قال ما بعد الاحرام فهو أعظم للأجر،فقال:ما بلّغك هذا إلاّ كذّاب،ثمّ قال لأبي حمزة الثمالي:

من أين أحرمت؟فقال:من الربذة،فقال له:و لم؟قال:لأنّي سمعت أنّ قبر أبي ذرّ بها فأحببت أن لا أجوزه،ثمّ قال لأبي و لعبد الرحيم:من أين أحرمتما؟فقالا:من العقيق،فقال:أصبتما الرخصة و اتّبعتما السنّة،و لا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلاّ أخذت باليسير،و ذلك أنّ اللّه يسير يحبّ اليسير،و يعطي علي اليسير ما لا يعطي علي العنف (2).

يستفاد منه اجتهاد أبي حمزة و أنّه أخطأ في ذلك،و أنّ زيادا اعتمد علي رواية مع أنّها كانت كذبا،و أنّه لو فرض أنّه كان ما فعل جميعهم صحيحا،لكن القاعدة الكلّية التي ينبغي أن يعتمد عليها هو الأخذ باليسير و هو الاحرام من العقيق.

و منهم:يونس بن عبد الرحمن الذي كان يجتهد،لاحظ الكافي (3)،فقد حكي عن يونس امورا تدلّ علي اجتهاده،نذكر أحدها،قال:و نظير ذلك نظير رجل سرق درهما فتصدّق به،ففعله سرقة حرام و فعله في الصدقة حلال؛لأنّهما فعلان0.

ص: 440


1- جامع أحاديث الشيعة 1:251.
2- وسائل الشيعة 8:235.
3- فروع الكافي 5:570.

مختلفان لا يفسد أحدهما الآخر إلاّ انّه غير مقبول فعله ذلك الحلال لعلّة مقامه علي الحرام حتّي يتوب و يرجع،فيكون محسوبا له فعله في الصدقة.

و منهم:ابن أبي عمير،روي الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل يطلّق المرأة و قد مسّ كلّ شيء منها إلاّ أنّه لم يجامعها،ألها عدّة؟فقال:ابتلي أبو جعفر عليه السّلام بذلك،فقال له أبوه علي بن الحسين عليهما السّلام:إذا أغلق بابا و أرخي سترا وجب المهر و العدّة،قال ابن أبي عمير:اختلف الحديث في أنّ لها المهر كملا، و بعضهم قال:نصف المهر،و انّما معني ذلك أنّ الوالي إنّما يحكم بالحكم الظاهر إذا أغلق الباب و أرخي الستر وجب المهر،و إنّما هذا عليها،إذا علمت أنّه لم يمسّها فليس لها فيما بينها و بين اللّه إلاّ نصف المهر (1).

و منهم:جميل بن درّاج،روي ابن أبي عمير عنه،عن منصور بن حازم،قال:إنّ المولي يجبر علي أن يطلّق تطليقة بائنة،و عن غير منصور أنّه يطلّق تطليقة يملك الرجعة،فقال بعض أصحابه:إنّ هذا منتقض،فقال:لا التي تشكو فتقول يجبرني و يضرّني و يمنعني من الزوج يجبر علي أن يطلّقها تطليقة بائنة و التي تسكت و لا تشكو إن شاء يطلّقها تطليقة يملك الرجعة (2).

و عن جعفر بن سماعة أنّ جميلا شهد بعض أصحابنا و قد أراد أن يخلع ابنته من بعض أصحابنا،فقال جميل للرجل:ما تقول رضيت بهذا الذي أخذت و تركتها؟ فقال:نعم،فقال لهم جميل:قوموا،فقالوا:يا أبا علي ليس تريد يتبعها الطلاق،قال:

لا،و كان جعفر بن سماعة يتبعها الطلاق في العدّة و يحتجّ الحديث (3).

و عن جعفر بن سماعة أنّه سئل عن امرأة طلّقت علي غير السنّة ألي أن1.

ص: 441


1- فروع الكافي 6:109.
2- فروع الكافي 6:132.
3- فروع الكافي 6:141.

أتزوّجها؟فقال:نعم،فقلت له:ألست تعلم أنّ علي بن حنظلة روي:إيّاكم و المطلّقات ثلاثا علي غير السنّة،فإنّهنّ ذوات أزواج،فقال:يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع علي الناس،روي عن أبي الحسن أنّه قال:ألزموهم من ذلك ما ألزموا أنفسهم،و تزوّجوهنّ فلا بأس بذلك (1).

و منهم:الفضل بن شاذان،فإنّه كان له اجتهاد كاجتهاد أهل هذه العصور في الجملة.

روي الكليني في الكافي عن الحسين بن محمّد،قال:حدّثني حمدان القلانسي،قال:قال لي عمر بن شهاب العبدي:من أين زعم أصحابك أنّ من طلّق ثلاثا لم يقع الطلاق؟فقلت له:زعموا أنّ الطلاق للكتاب و السنّة،فمن خالفهما ردّ إليهما.

قال:فما تقول في من طلّق علي الكتاب و السنّة؟فخرجت امرأته أو أخرجها فاعتدّت في غير بيتها تجوز عليها العدّة أو يردّها إلي بيته حتّي تعتدّ عدّة اخري، فإنّ اللّه عزّ و جلّ قال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ.

قال:فأجبته بجواب لم يكن عندي جوابا و مضيت،فلقيت أيّوب بن نوح فسألته عن ذلك،فأخبرته بقول عمر،فقال:ليس نحن أصحاب القياس إنّما نقول بالآثار،فلقيت علي بن راشد فسألته عن ذلك و أخبرته بقول عمر،فقال:قد قاس عليك و هو يلزمك إن لم يجز الطلاق إلاّ للكتاب،فلا تجوز العدّة إلاّ للكتاب، فسألت معاوية بن حكيم عن ذلك،و أخبرته بقول عمر،فقال معاوية:ليس العدّة مثل الطلاق و بينهما فرق،و ذلك أنّ الطلاق فعل المطلّق،فإذا فعل المطلّق خلاف الكتاب و ما امر به قلنا له:ارجع إلي الكتاب و إلاّ فلا يقع الطلاق،و العدّة ليست6.

ص: 442


1- وسائل الشيعة 15:321 ب 30 ح 6.

فعل الرجل و لا فعل المرأة إنّما هي أيّام تمضي و حيض يحدث ليس من فعله و لا من فعلها،إنّما هو فعل اللّه تبارك و تعالي،فليس يقاس فعل اللّه عزّ و جلّ بفعله و فعلها،فإذا عصت و خالفت فقد مضت العدّة و باءت بإثم الخلاف،و لو كانت العدّة فعلها لما أوقعنا عليها العدّة كما لم يقع الطلاق إذا خالف.

و قال الفضل بن شاذان في جواب أجاب به أبا عبيد في كتاب الطلاق،ذكر أبو عبيد أنّ بعض أصحاب الكلام قال:إنّ اللّه تبارك و تعالي حين جعل الطلاق للعدّة لم يخبرنا أنّ من طلّق لغير العدّة كان طلاقه عنه ساقطا،و لكنّه شيء تعبّد به الرجال كما تعبّد النساء بأن لا يخرجن من بيوتهنّ ما دمن يعتددن،و إنّما أخبرنا في ذلك بالمعصية،فقال: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فهل المعصية في الطلاق إلاّ كالمعصية في خروج المعتدّة من بيتها؟ أ لستم ترون أنّ الامّة مجمعة علي أنّ المرأة المطلّقة إذا خرجت من بيتها أيّاما أنّ تلك الأيّام محسوبة لها في عدّتها و إن كانت للّه فيه عاصية،فكذلك الطلاق في الحيض محسوب علي المطلّق و إن كان فيه عاصيا.

قال الفضل بن شاذان:أمّا قوله إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا جعل الطلاق للعدّة لم يخبرنا أنّ من طلّق لغير العدّة كان الطلاق عنه ساقطا،فليعلم أنّ مثل هذا إنّما هو تعلّق بالسراب إنّما يقال لهم:إنّ أمر اللّه عزّ و جلّ بالشيء هو نهي عن خلافه،و ذلك أنّه جلّ ذكره حيث أباح نكاح أربع نسوة لم يخبرنا أنّ أكثر من ذلك لا يجوز،و حيث جعل الكعبة قبلة لم يخبرنا أنّ قبلة غير الكعبة لا تجوز،و حيث جعل الحجّ في ذي الحجّة لم يخبرنا أنّ الحجّ في غير ذي الحجّة لا يجوز.و حيث جعل الصلاة ركعة و سجدتين لم يخبرنا أنّ ركعتين و ثلاث سجدات لا يجوز.

فلو أنّ إنسانا تزوّج خمس نسوة لكان نكاحه الخامسة باطلا،و لو اتّخذ قبلة غير الكعبة لكان ضالاّ مخطئا غير جائز له،و كانت صلاته غير جائزة،و لو حجّ في

ص: 443

غير ذي الحجّة لم يكن حاجّا و كان فعله باطلا،و لو جعل صلاته بدل كلّ ركعة ركعتين و ثلاث سجدات لكانت صلاته فاسدة و كان غير مصلّ؛لأنّ كلّ من تعدّي ما امر به و لم يطلق له ذلك كان فعله باطلا فاسدا غير جائز و لا مقبول،فكذلك الأمر و الحكم في الطلاق كسائر ما بيّنا و الحمد للّه.

و أمّا قولهم:إنّ ذلك شيء تعبّد به الرجال كما تعبّد به النساء أن لا يخرجن ما دمن يعتددن من بيوتهنّ،فأخبرنا ذلك لهنّ بالمعصية،و هل المعصية في الطلاق إلاّ كالمعصية في خروج المعتدّة من بيتها في عدّتها،فلو خرجت من بيتها أيّاما لكان ذلك محسوبا لها،فكذلك الطلاق في الحيض محسوب و إن كان عاصيا.

فيقال لهم:إنّ هذه شبهة دخلت عليكم من حيث لا تعلمون،و ذلك أنّ الخروج و الاخراج ليس من شرائط الطلاق كالعدّة؛لأنّ العدّة من شرائط الطلاق،ذلك أنّه لا يحلّ للمرأة أن تخرج من بيتها قبل الطلاق و لا بعد الطلاق،و لا يحلّ للرجل أن يخرجها من بيتها قبل الطلاق و لا بعد الطلاق،فالطلاق و غير الطلاق في حظر ذلك و منعه واحد،و العدّة لا تقع إلاّ مع الطلاق،و لا تجب إلاّ بالطلاق،و لا يكون الطلاق لمدخول بها و لا عدّة،كما قد يكون خروجا و إخراجا بلا طلاق و لا عدّة،فليس يشبه الخروج و الاخراج بالعدّة و الطلاق في هذا الباب.

و إنّما قياس الخروج و الاخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّي فيها، فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة؛لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ،و كذلك لو أنّ رجلا غصب ثوبا أو أخذه و لبسه بغير إذنه فصلّي فيه لكانت صلاته جائزة و كان عاصيا في لبسه ذلك الثوب،لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ.

و كذلك لو أنّه لبس ثوبا غير طاهر أو لم يطهّر نفسه أو لم يتوجّه نحو القبلة لكانت صلاته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الصلاة و حدودها لا يجب

ص: 444

إلاّ للصلاة،و كذلك لو كذب في شهر رمضان و هو صائم بعد أن لا يخرجه كذبه من الايمان لكان عاصيا في كذبه ذلك و كان صومه جائزا؛لأنّه منهي عن الكذب صام أو أفطر.و لو ترك العزم علي الصوم أو جامع لكان صومه باطلا فاسدا؛لأنّ ذلك من شرائط الصوم و حدوده لا يجب إلاّ مع الصوم.

و كذلك لو حجّ و هو عاقّ لوالديه و لم يخرج لغرمائه من حقوقهم لكان عاصيا في ذلك و كانت حجّته جائزة؛لأنّه منهي عن ذلك حجّ أو لم يحجّ.و لو ترك الاحرام أو جامع في إحرامه قبل الوقوف لكانت حجّته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الحجّ و حدوده لا يجب إلاّ مع الحجّ و من أجل الحجّ.

فكلّ ما كان واجبا قبل الفرض و بعده فليس ذلك من شرائط الفرض؛لأنّ ذلك أتي علي حدّه و الفرض جائز معه،فكلّ ما لم يجب إلاّ مع الفرض و من أجل الفرض،فإنّ ذلك من شرائطه،لا يجوز الفرض إلاّ بذلك علي ما بيّناه،و لكن القوم لا يعرفون و لا يميّزون و يريدون أن يلبسوا الحقّ بالباطل.

فأمّا ترك الخروج و الاخراج فواجب قبل العدّة و مع العدّة،و قبل الطلاق و بعد الطلاق،و ليس هو من شرائط الطلاق و لا من شرائط العدّة،و العدّة جائزة معه،و لا تجب العدّة إلاّ مع الطلاق و من أجل الطلاق،فهي من حدود الطلاق و شرائطه علي ما مثّلنا و بيّنا،و هو فرق واضح و الحمد للّه.

و بعد فليعلم أنّ معني الخروج و الاخراج ليس هو أن تخرج المرأة إلي أبيها أو تخرج في حاجة لها أو في حقّ بإذن زوجها مثل مأتم أو ما أشبه ذلك،و إنّما الخروج و الاخراج أن تخرج مراغمة أو يخرجها زوجها مراغمة،فهذا الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه،فلو أنّ امرأة استأذنت أن تخرج إلي أبويها أو تخرج إلي حقّ لم نقل إنّها خرجت من بيت زوجها،و لا يقال إنّ فلانا أخرج زوجته من بيتها،إنّما يقال ذلك إذا كان ذلك علي الرغم و السخط،و علي أنّها لا تريد العود إلي بيتها

ص: 445

فأمسكها علي ذلك،و فيما بيّنا كفاية.

فإن قال قائل:لها أن تخرج قبل الطلاق بإذن زوجها و ليس لها أن تخرج بعد الطلاق و إن أذن لها زوجها،فحكم هذا الخروج غير ذلك الخروج،و إنّما سألناك عنه في ذلك الموضع الذي يشتبه،و لم نسألك في هذا الموضع الذي لا يشتبه، أليس قد نهيت عن العدّة في غير بيتها،فإن هي فعلت كانت عاصية و كانت العدّة جائزة،فكذلك أيضا إذا طلّق لغير العدّة كان خاطئا و كان الطلاق واقعا و إلاّ فما الفرق؟

قيل له:إنّ فيما بيّنا كفاية من معني الخروج و الاخراج ما يجتزيء له عن هذا القول؛لأنّ أصحاب الأثر و أصحاب الرأي و أصحاب التشيّع قد رخّصوا لها في الخروج الذي ليس علي السخط و الرغم و أجمعوا علي ذلك.

فمن ذلك ما روي ابن جريح عن ابن الزبير،عن جابر أنّ خالته طلّقت فأرادت الخروج إلي نخل لها تجذّه،فلقيت رجلا فنهاها،فجاءت إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فقال لها:اخرجي فجذّي نخلك لعلّك أن تصدّقي أو تفعلي معروفا.

و روي الحسن،عن حبيب بن أبي ثابت،عن طاووس أنّ رجلا من أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله سئل عن المرأة المطلّقة هل تخرج في عدّتها؟فرخّص في ذلك.

و ابن بشير،عن المغيرة،عن إبراهيم أنّه قال في المطلّقة ثلاثا:إنّها لا تخرج من بيت زوجها إلاّ في حقّ،من عيادة مريض،أو قرابة،أو أمر لا بدّ منه.

مالك،عن نافع،عن ابن عمر أنّه كان يقول:لا تبيت المبتوتة و المتوفّي عنها زوجها إلاّ في بيتها.و هذا يدلّ علي أنّه قد رخّص لها في الخروج بالنهار.

و قال أصحاب الرأي:لو أنّ مطلّقة في منزل ليس معها فيه رجل تخاف فيه علي نفسها أو متاعها كانت في سعة من النقلة،و قالوا:لو كانت بالسواد فطلّقها زوجها هناك فدخل عليها خوف من سلطان أو غير ذلك كانت في سعة من دخول المصر،

ص: 446

و قالوا:للأمة المطلّقة أن تخرج في عدّتها،أو تبيت عن بيت زوجها.و كذلك قالوا أيضا في الصبية المطلّقة.

قال:و هذا كلّه يدلّ علي أنّ الخروج غير الخروج الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه، و إنّما الخروج الذي نهي اللّه عزّ و جلّ عنه هو ما قلنا أن يكون خروجها علي السخط و المراغمة،و هو الذي يجوز في اللغة أن يقال:فلانة خرجت من بيت زوجها،و إنّ فلانا أخرج امرأته من بيته،و لا يجوز أن يقال لسائر الخروج الذي ذكرنا عن أصحاب الرأي و الأثر و التشيّع:إنّ فلانة خرجت من بيت زوجها،و إنّ فلانا أخرج امرأته من بيته؛لأنّ المستعمل في اللغة هذا الذي وصفنا،و باللّه التوفيق (1).

فإنّك تري اختلاف هؤلاء من جهة الفقاهة و الاجتهاد،و انّ الفضل تنبّه إلي مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه،و مسألة اجتماع الأمر و النهي، و التمسّك باللغة في معني الخروج،و هذه كلّها اجتهادات.

ثمّ لا يبعد أن يكون قوله«و قال الفضل بن شاذان»من كلام الكليني حكاه عن كتابه،كما قال في المدارك:لكن الظاهر أنّ كتب الفضل رحمه اللّه كانت موجودة بعينها في زمن الكليني رضي اللّه عنه (2).

و قال في الفقيه:و قال الفضل بن شاذان:اعلم أنّ الجدّ بمنزلة الأخ أبدا يرث، و يسقط حيث يسقط،و غلط الفضل في ذلك،إلي آخر كلامه و نقل استدلاله و ردّ عليه (3).فيظهر أنّ كتاب الفضل كان بأيديهم.8.

ص: 447


1- فروع الكافي 6:92-96.
2- مدارك الأحكام 3:380.
3- من لا يحضره الفقيه 4:208.
تنبيه:

إنّ الرواة عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام كانوا علي صنفين:

الصنف الأوّل:من يروي ما سمع عن المعصومين بلا واسطة أو بواسطة، و هؤلاء يعتمد علي سماعهم و روايتهم إن كانوا ثقات.

الصنف الثاني:الفقهاء،و قد أمضوا عليهم السّلام فقاهتهم بما تقدّم بيانه،و كان الاجتهاد و الفقاهة عندهم هو تمييز الخبر الصادر تقية عن غيره،و تطبيق العام علي الأفراد الظاهرة،و نحو ذلك ممّا لا يخرج عن المحاورة و الاستظهار،و تمييز الثقة عن غيره بالمعاشرة أو قريب منها.

و أمّا الاجتهاد في الأعصار المتأخّرة،فهل هو عين اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام أو مغاير له؟فيه قولان:

الأوّل:أنّ الاجتهاد في العصرين واحد لا اختلاف بينهما إلاّ في الصعوبة و السهولة،اختاره في التنقيح (1).

الثاني:أنّه يختلف في العصرين،يظهر من المحقّق الاصفهاني حيث قال:و من الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل الأحكام بالسماع من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو الإمام عليه السّلام.

إلي أن قال:بل الافتاء و القضاء أيضا كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر.

إلي أن قال:و ممّا ذكرنا في طيّ الكلام من أنّ الافتاء في الصدر الأوّل كان بنقل الخبر لا بإظهار الرأي،تعرف ما في الاستدلال بما دلّ علي جواز الافتاء و الاستفتاء،كما يظهر بالمراجعة إلي موارد إطلاقاته في الأخبار،و هكذا الأمر في قوله«فللعوام أن يقلّدوه»فإنّ التقليد عرفا صادق علي قبول ما أخبر به الغير أيضا

ص: 448


1- التنقيح في شرح عروة الوثقي 1:87.

من غير دليل علي المخبر به،بل الظاهر من نفس هذه الرواية المتضمّنة لهذه الفقرة هذا المعني،فراجع (1).

و أقول:و الظاهر الإختلاف الفاحش بين الاجتهاد في هذا العصر و الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السّلام و يظهر ذلك في امور:

منها:اجتهادهم في هذا العصر في رجال الحديث،فيعتمدون علي الظنون الرجالية،و يعتمدون علي الظنون في تمييز الثقات من غيرهم،مثلا عمر بن يزيد مشترك بين الثقة و غيره،فيرجّح كونه الثقة بدعوي الانصراف،و هذا من الظنّ.

و منها:الاعتماد علي شهرة العلماء في جبر السند و الدلالة.

و منها:الجمع بين الأخبار علي نحو لم يعلم كونه كذلك،لا سيّما مثل انقلاب النسبة،إلي غير ذلك ممّا يظهر للمتتبّع.

و لعلّ الفقه الذي يكون شبيها بفقه أصحاب الأئمّة عليهم السّلام هو عدم طرح الأخبار مهما أمكن،و العمل بظواهر الكتاب الواضحة،مع الاطّلاع علي قرائن الحال و المقال حين صدور الأخبار،و الاطّلاع علي اللغة و قواعدها.و حمل الاطلاق علي الأفراد الشايعة المتكثّرة الغالبة،فإنّها هي التي يتبادر إليها الاطلاق،أو تكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب مع مراعاة خصوصيات الموارد.

و مع بعد العهد عن زمان المعصومين،و عدم وضوح بعض الامور،فينبغي العمل بالاحتياط،و قد ذكرنا كيفية العمل بالأخبار في بحث حجّية الأخبار.

الفصل الرابع: في أحكام الاجتهاد
اشارة

و هي وجوبه الكفائي أو العيني،و حجّيته لنفسه،و جواز تقليده،و نفوذ قضائه

ص: 449


1- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 13.

و ولايته،و كون المجتهدين مصيبين إذا اختلفوا،أو المصيب واحد منهم،و إجزاء رأيه السابق في صحّة أعماله لو تبدّل رأيه،فيقع الكلام في مسائل:

المسألة الأولي: في وجوب الاجتهاد و عدمه

قيل بوجوبه؛لأنّ لازم عدم وجوب الاجتهاد أن يكون جميع الناس مقلّدين للعلماء السابقين،بأن يقلّدوا الشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو المحقّق أو العلاّمة مثلا،أو يحتاطون،أو يعملون بالأخبار و لو بترجمتها إلي لغتهم من العارف بها، و الأوّل يكون من تقليد الميت ابتداء و هو غير جائز،كما أنّ الثاني مستلزم للعسر و الحرج (1)،و الثالث متعذّر علي الجميع،و لا ينفع الترجمة مع عدم حمل العام علي الخاص و نحوه.

قلت:يأتي في محلّه عدم ثبوت المنع عن تقليد الميت ابتداء.

و الذي ينبغي أن يقال:إنّ المسائل تتجدّد،فلا بدّ من الاجتهاد بمقدار رفع حوائج الناس في المسائل التي يبتلي بها،و يدلّ عليه قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ (2)الآية،فإنّ المستفاد منها أنّ المطلوب شرعا أن يكون هناك جماعة يعرفون كلّ ما يحتاج إليه الامّة في كلّ زمان.

المسألة الثانية: في جواز تقليد من له ملكة الاجتهاد لغيره

هل يجوز له التقليد مع تمكّنه من فعلية الاستنباط أو لا؟و جهان:من كونه جاهلا بالحكم الشرعي بالفعل،و من انصراف أدلّة جواز التقليد عمّن يتمكّن من الاستنباط،و سيأتي التعرّض له إن شاء اللّه تعالي.

ص: 450


1- التنقيح 1:65.
2- سورة التوبة:122.
المسألة الثالثة: في حجّية رأي المجتهد لنفسه

قال في الكفاية:ينقسم الاجتهاد إلي مطلق و تجزّ،فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به علي استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها،و التجزّي هو ما يقتدر به علي استنباط بعض الأحكام.إلي أن قال:كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به (1).و مقتضي كلامه أنّ المجتهد المطلق لو استنبط حكما أو حكمين كان حجّة له.

و قال في التجزّي في الاجتهاد بحجّيته لنفسه (2).

أقول:يشكل كفاية الاعتماد علي استنباط الحكم في المرّة الاولي بدون التكرار في استنباط ذلك الحكم بعينه،بل انّ ما يري من صعوبة الاجتهاد و ما يري من تبدّل الرأي يزيد الاشكال،فلا بدّ من استنباط أكثر الأحكام حتّي يصير ماهرا و مطّلعا علي النظائر حتّي لا يبتلي بتبدّل الرأي،و لا بدّ من تكرار المراجعة للمسألة التي استنبطها.

المسألة الرابعة: في التخطئة و التصويب

هل المجتهدون المختلفون مصيبون أو المصيب أحدهم و الباقون مخطئون؟ لا بدّ لتنقيح البحث من بيان المراد من التخطئة و التصويب.

فنقول في بيان المراد من التخطئة و التصويب:كلّ شيء يمكن أن يتغيّر عمّا هو عليه من حسن إلي قبح،و من وجوب إلي حظر،فيجري فيه بحث التخطئة و التصويب،و أمّا ما لا يتغيّر فلا يجري فيه،فلذا لا يجري في الموضوعات

ص: 451


1- كفاية الاصول ص 529.
2- كفاية الاصول ص 533.

الخارجية،كالاجتهاد في القبلة،و إلاّ لزم تبعية الامور الخارجية لرأي المجتهد، و لا يجري أيضا في التوحيد و العدل و النبوّة و الامامة،فاعتقاد من اعتقد كون النبي كاذبا لا يكون إلاّ جهلا،هكذا قرّره الشيخ في العدّة،و قال:و حكي عن قوم شذاذ لا يعتدّ بأقوالهم أنّهم قالوا:كلّ مجتهد فيها مصيب (1).

و لا يجري البحث في الضروريات،و كذا في المستقلاّت العقلية،و إلاّ لزم اجتماع النقيضين.و أمّا المستقلاّت غير العقلية،فيمكن إجراء البحث فيها،و محلّ البحث الأحكام الفرعية الشرعية،و مدركها أحد أمور:

الأوّل:أن يكون مدركها القياس و الاستحسان،و المصالح المرسلة،و الأخبار الضعيفة المروية من طرق العامّة،و اجتهاد الرأي الذي يقول به العامّة،و التصويب فيه قول العامّة،و ليس من مذهبنا الاعتماد في الحكم إليها.

الثاني:أن يكون المدرك الخبر الصحيح،كالخبر المتواتر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أو المعصومين عليهم السّلام،و كان الاختلاف ناشئا عن اختلاف الأفهام و التفاسير، كالاختلاف في معني حديث لا ضرر و لا ضرار،و لا يكون كلا النظرين المتباينين مصيبين؛لأنّ المراد واحد واقعا،و كذا لو استظهر أحدهما من قوله«لا تنقض اليقين»عموم حجّية الاستصحاب،و استظهر آخر اختصاصه بالشكّ في الرافع، فيكون أحدهما مخطئا،أي:غير مصيب إلي الواقع و إن كان معذورا.

الثالث:أن يكون المنشأ للاختلاف اختلاف الأخبار مع عدم مرجّح لأحدهما، و في مثله:إمّا يكون الحكم الواقعي التخيير و يكون المختلفان مصيبين،أو يكون الحكم الظاهري التخيير.و ظاهر الشيخ في العدّة الأوّل في الخبرين المتعارضين إذا لم يكن ترجيح لأحدهما،قال:و إن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما0.

ص: 452


1- عدّة الاصول ص 290.

و تنافيهما،و أمكن حمل كلّ واحد منهما علي ما يوافق الخبر الآخر،علي وجه كان الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (1).

و قد يقال:إنّ المسألة كلامية اقترحتها العامّة لتبرير ما صدر عن أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالوا:إنّهم مجتهدون،و كلّ مجتهد مصيب.

أقول:الذي يظهر من الشيخ الطوسي أنّه لا مجال لهذا البحث علي مذهب الشيعة،و محلّ البحث هو الاجتهاد الذي يراه العامّة،و هو تحصيل الرأي بأمر من الاستحسانات الوهمية و الأقيسة و الاستقراءات و نحوها ممّا لا يكون له واقع، فاختلفوا في أنّ كلّ مجتهد مصيب بمعني إنشاء حكم واقعي علي ما تعلّق به رأي المجتهد المذكور.

و قال الشيخ بعد حكاية أقوالهم:و الذي أذهب إليه،و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين و المتأخّرين،و هو الذي اختاره سيّدنا المرتضي قدّس اللّه روحه،و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه:أنّ الحقّ واحد و أنّ عليه دليلا،من خالفه كان مخطئا فاسقا،و اعلم أنّ الأصل في هذه المسألة القول بالقياس و العمل بأخبار الآحاد؛لأنّ ما طريقه التواتر و ظواهر القرآن،فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك،و إنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه، و قد دللنا علي بطلان العمل بالقياس و خبر الواحد الذي يختصّ المخالف بروايته، و إذا ثبت ذلك دلّ علي أنّ الحقّ في الجهة التي فيها الطائفة المحقّة إلي آخر ما أفاده فلاحظ (2).

و المستفاد من مجموع كلامه أنّ المجتهد من العامّة مخطيء فاسق،لا المجتهد من الشيعة،بل المجتهدون المختلفون منهم مصيبون إن كان مدركهم الأخبارة.

ص: 453


1- عدة الاصول 1:148.
2- عدّة الاصول 2:725 الطبعة المحقّقة الجديدة.

المختلفة التي لا ترجيح لبعضها علي بعض،كما صرّح به في بحث حجّية خبر الواحد،و مثله في بحث الاجماع.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العامّة إن كانوا قائلين بإنشاء أحكام علي عدد اجتهادات المجتهدين بالآراء لم يكن محالا؛لأنّهم لا يفحصون عن واقع موجود، بل يجتهدون رأيهم.

فما في الكفاية،حيث قال:و لو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحكام علي وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد،فهو ممّا لا يكاد يعقل،فكيف يتفحّص عمّا لا يكون له عين و لا أثر،أو يستظهر من الآية أو الخبر (1).ليس في محلّه.نعم هو مناف لما دلّ علي أنّ كلّ واقعة لها حكم واحد،مع قطع النظر عن اجتهاد المجتهدين،و أنّه ليس هناك أحكام متعدّدة في الواقع.

ثمّ إنّا نتعرّض للتخطئة و التصويب مع قطع النظر عن اختصاص البحث فيهما بالعامّة بالنسبة للاجتهاد الخاصّ بهم،فنتعرّض أوّلا للوجوه المذكورة للتصويب:

الأوّل:أن يكون المراد به الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء،و كلّ مجتهد يصل في رأيه إلي أحدها:إمّا أنّه تعالي يجبره في تفكيره حتّي يصل إليه،أو أنّه يصل إليه اتّفاقا و صدفة.

و أورد عليه في الفرائد (2)و الكفاية (3)بأنّه لو فرض إمكانه فهو خلاف الاجماع و الأخبار.

قلت:الاجماع في المسألة ليس إجماعا فقهيّا،كما أشار إليه في نهاية الاصول (4).1.

ص: 454


1- كفاية الاصول ص 536.
2- فرائد الاصول ص 44.
3- كفاية الاصول ص 536.
4- نهاية الاصول ص 151.

نعم ظاهر الأخبار أنّ هناك حكما واحدا ما لم يكن أخبار مختلفة صادرة عن المعصومين عليهم السّلام.

الثاني:أن لا يكون حكم واقعي أصلا،و ينشأ الحكم علي وفق آراء المجتهدين،و هذا لا يمكن في مثل الخبر الواحد الحاكي عن الواقع،كما نقلناه عن الكفاية.

و قال الشيخ الأنصاري:إنّه تصويب باطل مناف للاجماع و الأخبار الدالّة علي أنّ كلّ واقعة لها حكم واحد.قال في ضمن الوجه الأوّل:أو محكوم بما يعلم اللّه أنّ الأمارة تؤدّي إليه (1).

الثالث:أن يكون الحكم الواقعي في كلّ واقعة فعليّا بالنسبة إلي من يمكنه الوصول إليه،و إن لم يتفحّص عنه تقصيرا.و أمّا الجاهل القاصر،فليس مكلّفا بالواقع؛لأنّ إمكان الوصول إلي الحكم الواقعي شرط لصحّة التكليف،فمن لم يقصر في الفحص و اجتهد علي حسب الموازين و لم يصل إلي الواقع،فإنّه لا تكليف له بالواقع،بل عليه أن يعمل باجتهاده،و ليس ذلك تصويبا باطلا،لكن يظهر من الشيخ في الوجه الأوّل أنّه تصويب باطل،و أنّ الأخبار قد تواترت علي اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل (2).

أقول:يمكن منعه لما دلّ علي أنّ التكليف مشروط بالوصول،قال اللّه تعالي:

لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (3) و ورد مضمونه في الأخبار،فيصحّ أن يقال:

إنّ كلّ مجتهد ليس بمخطيء،فإنّه إن وصل إلي الواقع فمصيب،و إن لم يصل إليه فلا تكليف له بالواقع،فتأمّل.7.

ص: 455


1- فرائد الاصول ص 44.
2- فرائد الاصول ص 44.
3- سورة الطلاق:7.

الرابع:الفرض المذكور في الوجه الثالث،لكن مع فرض كون الحكم الواقعي إنشائيا في حقّ من قامت الأمارة عنده علي خلافه،فالمجتهد يفحص عنه لكن قد يصل إليه و قد لا يصل،و إذا لم يصل فالحكم الفعلي هو ما أدّي إليه اجتهاده،فلا مانع من القول بالتصويب بالنسبة إلي الحكم الفعلي.

كما قال في الكفاية:إلاّ أن يراد التصويب بالنسبة إلي الحكم الفعلي،ثمّ قال:إنّه لا استحالة فيه،بل لا محيص عنه بناء علي اعتبار الأخبار من باب السببية (1).

و أمّا بناء علي أنّ مؤدّيات الطرق و الأمارات أحكام طريقية،أي:يجب العمل بها لمجرّد كونها طرقا إلي الواقع و كواشف ظنّية عنه،بحيث لم يلحظ فيها مصلحة سوي الكشف عن الواقع (2)،فهي ليست أحكاما حقيقية،فلا تنافي الحكم الواقعي،و كذا بناء علي ما يعتقده صاحب الكفاية من أنّ الأمارات منجّزات و معذّرات،و كذا علي ما يراه المحقّق النائيني من أنّ المجعول فيها العلم تعبّدا.

الخامس:أن تكون مصلحة الحكم الظاهري غالبة علي مصلحة الواقع،و هذا هو الوجه الثاني في كلام الشيخ،و يظهر ذلك من الشيخ الطوسي في العدّة.

السادس:أن تكون مصلحة الحكم الظاهري مصلحة اخري يتدارك بها مصلحة الواقع بمقدار تركها،و هو الوجه الثالث في كلام الشيخ (3).

و التحقيق أن يقال:إنّه لا تكليف بالحكم الواقعي الأوّلي الموجود في كتاب علي عليه السّلام و غيره ممّا لم يظهره المعصومون عليهم السّلام،أو أظهروه و لم يصل إلينا،و ما صدر عنهم و وصل إلينا فيجب العمل به،فإن وصل إلينا و لم يتّضح المراد،فيمكن أيضا أن يقال:إنّ الحكم لم يصل إلينا لكن ينبغي الاحتياط في بعض الموارد.4.

ص: 456


1- كفاية الاصول ص 536.
2- هذا التفسير للحكم الطريقي مذكور في كلام الشيخ،راجع فرائد الاصول ص 41.
3- فرائد الاصول ص 44.
المسألة الخامسة: ما إذا تبدّل رأي المجتهد

إن تبدّل رأي المجتهد برأي آخر،أو زال بالتردّد،فلا ينبغي الريب في أنّه لا يعمل عليه في الأعمال المستقبلة.و أمّا الأعمال السابقة،فعلي القول بالتصويب فلا إشكال في صحّتها؛لأنّ التبدّل يكون من قبيل نسخ الحكم الواقعي بحكم آخر.

و أمّا بناء علي التخطئة،فإن كان مجرّد مخالفة التكليف،كما إذا كانت الفتوي السابقة جواز فعل و الفتوي اللاحقة حرمته،فلا إشكال؛لأنّه كان معذورا.و أمّا إن كان له أثر وضعي كالاعادة أو القضاء و بطلان العقود و الايقاعات،ففي ترتيب الآثار و عدمه وجوه و احتمالات:

أحدها:ترتيب الآثار مطلقا.

ثانيها:عدمه مطلقا.

ثالثها:التفصيل بين ما كان مستند الرأي الأوّل الاصول النقلية الشرعية،أو الأمارة بناء علي القول بالسببية فيجزيء و إلاّ فلا يجزيء،إختاره في الكفاية (1).

رابعها:التفصيل بين أن يكون مدرك الأوّل القطع فلا يجزيء،و عدمه فيجزيء.

خامسها:التفصيل بين أن يكون مدرك الأوّل القطع الحاصل من غير الكتاب و السنّة و الاجماع مثلا فلا يجزيء و إلاّ فيجزيء،و لا يخلو عن وجه.

سادسها:التفصيل بين ما لا بقاء له كالعقد و الصلاة فيجزيء،و ما له بقاء كالحيوان المذبوح بدون قطع المريّ إن عدل مع بقائه،إختاره في الفصول،قال:إذا قطع ببطلان الأعمال السابقة واقعا،فإنّ الظاهر وجوب التعويل علي مقتضي قطعه فيها بعد الرجوع،عملا بإطلاق ما دلّ علي ثبوت الحكم المقطوع به،فإنّ الأحكام

ص: 457


1- كفاية الاصول ص 539.

لا حقة لمواردها الواقعيّة لا الاعتقاديّة،فيترتّب عليه آثاره الوضعية ما لم تكن مشروطة بالعلم،و كذا إذا قطع ببطلان دليله و إن لم يقطع ببطلان الحكم.

إلي أن قال:و إن لم يقطع ببطلانها و لا ببطلانه،فإن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضي الفتوي،فالظاهر بقاؤها علي مقتضاها السابق، فيترتّب عليها لوازمها بعد الرجوع؛إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين و لو بحسب زمانين.

إلي أن قال:و لو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن أخذها بمقتضي الفتوي،فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد،كما لو بني علي حلّية حيوان فذّكته (1)ثمّ رجع،بني علي تحريم المذكّي منه و غيره (2).

و لعلّ مراده أنّ المكلّف بعد ما دخل وقت الصلاة يجب عليه الصلاة،فإن صلّي علي حسب اجتهاده الذي أمره الشارع فقد أدّي وظيفته،فإن عدل عن رأيه بعد الصلاة،فلا محلّ للاجتهاد في الصلاة التي وقعت صحيحة؛لأنّ الصلاة واقعة واحدة لا بقاء لها.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ العدول عن الرأي ربما يكشف عن التقصير في الاجتهاد الأوّل.

ثمّ إنّ للمسألة صورا:

الاولي:أن يكون المجتهد قد قطع بالرأي الأوّل،ثمّ زال قطعه بالقطع بالخلاف أو بأمارة معتبرة،قال في الكفاية:إنّه لا يجزيء الرأي الأوّل؛لأنّ الواقع محفوظ، و لا أمر ظاهرا يقتضي الاجزاء؛لأنّ القطع هو تخيّل الأمر و لا حكم معه شرعا، غايته المعذورية في المخالفة عقلا،إلاّ إذا نهض دليل علي صحّة العمل فيما إذا9.

ص: 458


1- كذا في الأصل،و الظاهر أنّ الصحيح:فذكّاه.
2- الفصول الغروية ص 409.

اختلّ فيه لعذر،كما نهض في الصلاة و غيرها،مثل لا تعاد،و حديث الرفع،بل الاجماع علي الاجزاء في العبادات علي ما ادّعي (1).

أقول:ينبغي التفصيل بين القطع الذي يحصل له من غير الأدلّة فكلامه صحيح، و بين القطع الذي يحصل له من دلالة الآية أو الخبر،كما إذا قطع بأنّ الغسل لا يعتبر فيه العصر،ثمّ قطع باعتباره في مفهوم الغسل،فيمكن القول بالاجزاء؛لأنّه مأمور بالتفقّه و العمل بما يتفقّه فيه،فليس من تخيّل الأمر كما في الأوّل،و حينئذ إن قلنا إنّ الأمر بالاجتهاد يدلّ علي الموضوعية لم تجب الاعادة،و إن قلنا إنّه حكم طريقي أو منجّز و معذّر لم يجز علي كلام تقدّم في بحث الاجزاء.

الثانية:أن يكون مستند الرأي الأوّل الأمارة المعتبرة،ثمّ زال بالقطع بالخلاف أو بحجّة معتبرة،قال في الكفاية:إنّ الأوّل لا يجزيء بناء علي ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطريقية،قيل بأنّ قضيّة اعتباره إنشاء أحكام طريقية أم لا (2).

أقول:بناء علي السببية إن قلنا بأنّ قيام الأمارة يوجب حصول مصلحة في الفعل يجب العمل به،و أمّا مصلحة الواقع فهي علي حالها،فلا وجه للاجزاء،إلاّ أن يقال بأنّه يتدارك مصلحته،ثمّ إنّه ينبغي البحث عن أنّ الأمر بالاجتهاد هل هو طريقي أو موضوعي،و أنّه يدلّ علي إجزاء الاجتهاد أو لا؟

الثالثة:أن يكون مدرك الأوّل الاصول الشرعية النقلية،كالبراءة النقلية و الاستصحاب،و قد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل علي الخلاف،قال في الكفاية بالاجزاء،فإنّه عمل بما هو وظيفته في تلك الحال (3).9.

ص: 459


1- كفاية الاصول ص 537.
2- كفاية الاصول ص 537.
3- كفاية الاصول ص 539.

أقول:لم يثبت الفرق بين الأصل و الأمارة،بل يحتمل أنّ الأصل إذا خالف الواقع يكون عذرا.

ثمّ إنّ ما يمكن أن يستدلّ به لترتيب آثار الصحّة علي الأعمال السابقة بعد تبدّل الرأي بحيث يحكم بصحّة العبادات حتّي لا يحتاج إلي الاعادة و القضاء و بصحّة العقود و الايقاعات وجوه:

الأوّل:قوله في صحيح عبد الصمد بن بشير«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (1)فإنّه شامل للمعتقد بالخلاف و لمن استند إلي أمارة أو أصل انكشف خلافهما،و مقتضي العموم أنّه لا شيء عليه من الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاعات،إلاّ إذا ثبت بدليل خاصّ،و احتمال إرادة لا شيء عليه من المؤاخذة و العقاب مدفوع بأنّ مورده صحّة عمل الرجل الأعجمي الذي أحرم في المخيط، مع أنّه لا دليل علي تقييد عموم لا شيء عليه من العقاب و غيره،فتأمّل.

إن قلت:إن اعتقد صحّة الصلاة مع الغسل المندوب،ثمّ عدل عنه،فالصلاة التي صلاّها باطلة؛لأنّها بلا طهور،فإنّ قوله«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»أخصّ من عموم«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»فيخصّص به،و يكون الحاصل بعد التخصيص وجوب إعادة الصلاة إن أخلّ بأحد الخمسة.

قلت:النسبة من وجه،فإنّ حديث لا تعاد يشمل الجاهل و الناسي،و الصحيح المذكور يشمل الصلاة و غيرها،و مقتضاه صحّة الصلاة مع الغسل المندوب،و مع الحكم بصحّته فلا يشمله حديث لا تعاد؛لأنّ ظاهره إعادة ما وقع باطلا جهلا أو نسيانا،فتأمّل.

الثاني:قوله«رفع ما لا يعلمون»بناء علي أنّ المرفوع نفس ما لا يعلمون،و هو2.

ص: 460


1- تهذيب الأحكام 5:72.

الحكم الذي جهله،فلا يكون موضوعا عليه و مكلّفا به،لا رفع المؤاخذة و العقاب.

و فيه أنّ عدم التكليف بالجزء أو الشرط المجهولين لا يقتضي صحّة ما أتي به، بحيث لا يترتّب عليه الاعادة و القضاء،مع أنّه لا يبعد أن يقال:إنّ المراد رفعهما ما دام لا يعلم،لا رفعهما حتّي بعد حصول العلم،مع أنّ التحقيق في المعني المراد رفع المؤاخذة.

الثالث:عموم المستثني منه في حديث لا تعاد،لكنّه مخصوص بباب الصلاة.

الرابع:الاجماع في العبادات،كما قال في الكفاية:بل الاجماع علي الاجزاء في العبادات كما ادّعي (1).

الخامس:العسر و الحرج،لكنّه مخصوص بما إذا استلزم الاعادة و القضاء و تجديد العقد العسر و الحرج،مع أنّه لم يثبت أنّ المراد من عدم جعل العسر و الحرج التصرّف في الأحكام المجعولة بثبوتها مع عدم استلزامهما خاصّة،بل لعلّ المراد أنّ الأحكام الشرعية المجعولة ليست عسرا و لا حرجا.

السادس:ظهور الأخبار الدالّة علي أنّ ما جعل علي العباد فهو يسعهم و أنّهم ليسوا في ضيق منها،و الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاع ضيق عليهم، فتأمّل.

السابع:عموم قوله«كلّ ما مضي فامضه كما هو»أي:يحكم عليه بأنّه قد مضي كما ينبغي أن يمضي عليه واقعا،فلا إعادة و لا قضاء.

و فيه أنّه ظاهر في مضيّه علي النحو الذي يعتقد أنّه يمضي عليه،فتأمّل.

الثامن:أنّ المجتهد في زمان رأيه الأوّل الذي كان حجّة:إمّا أن يكون مكلّفا برأيه بحيث يكون صحيحا موجبا لترتّب جميع الآثار عليه فهو المطلوب،و إمّا أن7.

ص: 461


1- كفاية الاصول ص 537.

يكون مكلّفا بالواقع الذي لم يصل إليه فهو غير صحيح؛لأنّه لا يكلّف إلاّ بما وصل إليه.

و فيه أنّه يصير مكلّفا بالواقع بعد وصوله بالنسبة إلي آثاره الآتية من القضاء و الاعادة و تجديد العقد.

التاسع:أنّ الوجوه المذكورة إن تمّت،و إلاّ فلا أقلّ من ايجابها الشكّ في وجوب الاعادة و القضاء و حرمة المرأة المعقودة،و الأصل البراءة عن الوجوب و الحرمة.

أقول:الأظهر الاعادة و القضاء و تجديد العقد و الايقاع في صورة القطع بالخلاف،و هو الأحوط في صورة تبدّل الاجتهاد بالاجتهاد بالخلاف؛لأنّ الاجتهاد المخالف يكشف عن القصور أو التقصير في الاجتهاد الأوّل.

المسألة السادسة: من ليس أهلا للفتوي يحرم عليه الافتاء

المراد بالافتاء إظهار ما استنبطه من الأدلّة.و عدم الأهلية تارة لعدم الاجتهاد، و اخري لفقده سائر الشرائط.

أمّا الأوّل و هو أن لا يكون مجتهدا،فإمّا:يعلم بأنّه يعمل أحد بفتواه،أو يعلم أنّه لا يعمل بها،أو يشكّ.و علي جميع التقادير يحرم عليه الافتاء؛لأنّه كذب حيث أخبر عن استنباطه مع أنّه لم يستنبط،فإن عمل أحد به كان وزره عليه إن كان مخالفا للواقع،بل يمكن أن يقال:إنّ تصدّيه للافتاء كذب فعلي،بل قيل:إنّ افتاءه داخل في التشريع.

و أمّا الثاني،و هو كونه مجتهدا فاقدا لسائر الشرائط،فإنّه لا بأس بإفتائه من حيث الافتاء،لكن إن عمل به و استند ذلك إلي تصدّيه للافتاء كان وزره عليه،إن كان مخالفا لفتوي من يجب تقليده.

ص: 462

و أمّا إن لم يستند إليه،بأن زعم الناس أنّه عادل أو ولد حلال أو غيرهما،ففي حرمته و جهان،الأوّل:الحرمة لأنّه تصدّي للمنصب أي الافتاء بغير مجوّز.الثاني:

عدم الحرمة؛لأنّه لم يغر الناس بشيء و لم يضلّهم و هو أهل للفتوي،و مجرّد أنّه يعلم أنّ فتواه ليست حجّة علي السائل و هو يزعم أنّها حجّة عليه ليس إغراء منه، فهو نظير أن يخبر فاسقان واقعا يزعم السائل عدالتهما بنجاسة شيء،فإنّه لا بأس به؛لأنّهما يعلمان النجاسة و السائل قد اعتقد فيهما العدالة و إنّ شهادتهما حجّة عليه،مع أنّها ليست بحجّة واقعا.

قلت:فرق بين المثال المذكور و بيان الفتوي التي ليست حجّة واقعا،فتدبّر.

المسألة السابعة: من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ

من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ

و عدم الأهليّة:إمّا لعدم كونه مجتهدا،و إمّا لفقده سائر الشرائط.

أمّا الأوّل،و هو أن يكون لعدم الاجتهاد،و كان مورد النزاع الشبهة الحكمية، فإن كان يحكم علي طبق رأيه،فلا إشكال في الحرمة.و أمّا إن حكم علي طبق فتوي أعلم العلماء التي تكون حجّة،فهو ليس قضاء بل هو بيان فتوي من يكون قوله حجّة علي المتخاصمين،و لا دليل علي عدم جواز فصله الخصومة علي ما ذكرناه في محلّه من أنّ المتنازعين إن كانا جاهلين بالمسألة فرجعا إلي الأعلم، فإنّه يبيّن فتواه،و لا داعي لانشاء الحكم كما لا وجه له.نعم زعم المتنازعين كونه مجتهدا،فيشكل قضاؤه من جهة تصدّيه ما لا ينبغي أن يتصدّي له.

نعم إن علما بأنّه ليس بمجتهد و يفصل الخصومة بفتوي الأعلم الذي يقلّدانه، فإنّه لم يتصدّ لأمر لا ينبغي له أن يتصدّي له،فلا بأس به.

و إن كانت الشبهة موضوعية و حكم علي موازين البيّنة و اليمين،فإنّما يفصل الخصومة بإنشائه الحكم علي الموازين،و نفوذ حكمه عليهما خلاف الأصل،

ص: 463

فيحتاج إلي دليل و لا دليل عليه،فيكون تصدّيه للمنصب الذي لم يجعل له بناء علي حرمته حراما.

و أمّا الثاني و هو كونه مجتهدا فاقدا لسائر الشروط،فعلي ما ذكرنا من أنّه ليس في الشبهة الحكمية إنشاء حكم،بل مجرّد الفتوي،فحكمه ما سبق من إفتاء من ليس بأهل.و أمّا الشبهة الموضوعية،فالأصل عدم نفوذ إنشائه فصل الخصومة و تصدّيه للمنصب حرام.و هذه المسألة حيث انّها مربوطة بكتاب القضاء اختصرناها،و بعض ما ذكرناه يحتاج إلي التأمّل.

المسألة الثامنة: عدم جواز الترافع إلي من ليس أهلا للفتوي

لا يجوز الترافع إلي من ليس أهلا للفتوي،و لا الشهادة عنده،أي:في الشبهة الموضوعية،فإنّه إن لم يكن إماميا فهو طاغوت.و أمّا إن كان من الامامية،فإنّ تصدّيه إن كان حراما لعدم الأهلية،فهو طاغوت من هذه الجهة،فمضافا إلي أنّ الترافع و الشهادة عنده من الاعانة علي الاثم،يمكن دعوي شمول ما ورد في الروايات من ذمّ التحاكم إلي الطاغوت له.

المسألة التاسعة: حرمة المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي

المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي حرام،و إن كان الآخذ محقّا.

و المال المأخوذ:إمّا دين،و إمّا عين.و الأوّل:إمّا مؤجّل لم يبلغ أجله،أو حلّ أجله.و الثاني:إمّا عين مختصّة به،أو مشتركة كالميراث إذا كانت العين بين الورثة.و منشأ النزاع:إمّا الجهل بالحكم،أو الاختلاف في الموضوع،فإن لم يكن الآخذ محقّا أو لم يعلم كونه محقّا،فالمال المأخوذ سحت،و منه ما إذا كان الدين مؤجّلا و لكن أخذه قبل أجله بحكم الحاكم.

ص: 464

و أمّا إذا كان الآخذ محقّا،كما إذا كان دينا معجّلا أو مؤجّلا حلّ أجله،أو كان عين ماله المختصّ به،سواء كان النزاع في الموضوع أو للجهل بالحكم،فهل المحرّم الأخذ دون المأخوذ،أو يحرم التصرّف في المأخوذ و إن كان ملكه؛لأنّه و إن كان عين ماله،لكنّه بعنوان المأخوذ بحكم من ليس أهلا يكون التصرّف فيه حراما،أو يفصّل بين ما لا يحتاج إلي تعيين،كالعين الشخصية غير المشتركة،و ما يحتاج إلي التعيين كالدين و العين المشتركة؟وجوه.

و عمدة ما يستدلّ به علي الحرمة خبر عمر بن حنظلة،قال فيه:من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل،فإنّما تحاكم إلي الطاغوت،و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّه ثابتا؛لأنّه أخذه بحكم الطاغوت.

و نوقش في الاستدلال به أوّلا:بضعف السند،لعدم توثيق عمر بن حنظلة في كتب الرجال.

و فيه-مضافا إلي أنّ وجود صفوان في سند هذا الخبر يوجب أن يكون مشمولا للاجماع الذي ادّعاه الكشي علي العمل بأخباره،فإنّ القدر المتيقّن من الاجماع المدّعي في أصحاب الاجماع هو العمل بالخبر المشتمل عليهم-أنّ عمر بن حنظلة معروف قد روي عنه الأجلاّء.

و ثانيا:أنّه خاصّ بقضاة الجور،فلا تشمل مطلق من لا أهلية له.

و فيه أنّ التعليل بقوله«لأنّه أخذه بحكم الطاغوت»المراد به من طغي و جاوز حدّه،و مقابلته بالرجوع إلي من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا ربما يقتضيان التعميم.

و ثالثا:أنّه لا إطلاق فيه يشمل صورة كونه عين مال الآخذ المحقّ لأمرين:

الأوّل:أنّ مورده الشبهة الحكمية؛لأنّ مورد التنازع فيه هو الدين أو الميراث الذي لا يعلم حكمه،كالنزاع في أنّ الزوجة تستحقّ الارث من الأرض أم لا.

ص: 465

و فيه أنّه إذا لم يجز الأخذ في الشبهة الحكمية مع كونه محقّا و عين المال له،فلا فرق بينه و بين الشبهة الموضوعية،بل لا يبعد شمول الاطلاق لهما،و قد يقال:إنّ المراد من الميراث غير العين الشخصية،بل العين المشتركة التي يحتاج تقسيمها إلي تعيين حاكم العدل.

كما في التنقيح حيث قال:إنّ الميراث غير مختصّ بالعين الشخصية،بل يشمل العين المشتركة التي تتوقّف فيها الحلّية علي رضا الطرفين بتقسيمها،فيكون تقسيم الحاكم الجائر بدون رضا الطرفين في غير محلّه،فالمأخوذ بحكمه يكون سحتا (1).

و فيه أنّ الاطلاق شامل لما إذا لم تكن العين مشتركة،مع أنّ قوله«في دين أو ميراث»من باب المثال،فلعلّه يشمل مطلق التنازع في الأموال،و لذا قال:من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل،فالانصاف أنّه شامل بإطلاقه للعين الشخصية،فإنّ التحاكم فيها تحاكم في حقّ.

الثاني:ما في التنقيح من أنّ السحت يطلق علي ما لا يحلّ كسبه،و علي ما هو خبيث بالذات من المحرّمات،و لا يطلق علي مال نفسه؛لأنّه لا يكون سحتا،و إن حرم بعنوان طار عليه،فمن أفطر في نهار شهر رمضان بمال نفسه لا يقال إنّه أكل سحتا،و إن كان إفطاره و أكله محرّما (2).

و فيه أنّ المدار علي إطلاق«ما يأخذ»و هو شامل للعين،و حمل السحت عليه مبالغة في حرمة المأخوذ،و هو استعمال شايع.و السحت كما في فقه اللغة للثعالبي:

كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار،كثمن الكلب و الخنزير و الخمر فهو سحت (3).1.

ص: 466


1- التنقيح 1:362.
2- التنقيح 1:362.
3- فقه اللغة للثعالبي ص 31.

و رابعا:أنّ سحتا كما يحتمل أن يكون مفعولا و يكون المراد به المأخوذ،يحتمل أن يكون صفة للمفعول المطلق المحذوف اقيم مقامه،أي:فإنّما يأخذ أخذا سحتا، فيدلّ علي حرمة الأخذ مطلقا دينا كان أو عينا شخصية،و أمّا المأخوذ فلا يدلّ علي حرمته،بل لو كان المقصود هو كون المأخوذ سحتا لقال و ما يحكم به فهو سحت،فإنّه أخصر و أوضح.

و فيه أنّه لو كان المقصود ما ذكر كان ينبغي أن يقول في التعليل لأنّه أخذ بحكم الطاغوت بدون الضمير.و أمّا قوله«لأنّه أخذه»فهو ظاهر في كون المأخوذ سحتا، مع أنّ المستفاد من بعض اللغويين أنّ السحت اسم للذات لا للحدث،فلا يقال علي الأخذ إنّه سحت.

و خامسا:أنّه معارض بخبر الحسن بن علي بن فضّال،قال:قرأت في كتاب أبي الأسد إلي أبي الحسن الثاني عليه السّلام و قرأته بخطّه:سأله ما تفسير قوله تعالي وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ فكتب بخطّه:الحكّام القضاة،ثمّ كتب تحته:هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم،فيحكم له القاضي،فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذ كان قد علم أنّه ظالم (1).دلّ علي أنّه لو علم الرجل أنّه ليس ظالما بل محقّا،فهو معذور في أخذه.

و فيه ما قيل من أنّه يحتمل ارجاع ضمير«انّه ظالم»إلي القاضي لا إلي الرجل الآخذ بحكمه،أي:إذا علم الرجل أنّ القاضي ظالم لجلوسه مجلس القضاء بدون إذن من النبي أو الوصي،فما يأخذه منه فهو غير معذور،و مقتضي إطلاقه أنّه غير معذور و إن كان حقّا ثابتا،أو كان المأخوذ عينا.

و فيه نظر؛لأنّ قوله«يعلم الرجل أنّه ظالم»ظاهر في رجوعه إلي الرجل لعدم9.

ص: 467


1- وسائل الشيعة 18:5 ح 9.

ذكر القاضي،و لو كان المرجع القاضي لم يكن وجه لذكره في قوله«فيحكم له القاضي».و قد يناقش فيه من وجوه:

أحدها:ما في التنقيح من ضعف السند؛لأنّ في سندها محمّد بن أحمد بن يحيي،عن محمّد بن عيسي،و هو ممّا استثناه ابن الوليد من رواياته (1).

و الجواب:ما ذكرناه في محلّه من أنّ استثناء لا يدلّ علي التضعيف،مع أنّه حقّق في محلّه وثاقة محمّد بن عيسي المراد به العبيدي،و ابن الوليد استثني ما يرويه باسناد منقطع،و هذا السند متّصل.

ثانيها:ما في المستمسك من أنّه وارد في تفسير الآية لا بيان موضوع الحرمة مطلقا،ففي صدق الباطل يعتبر العلم بكون الآخذ ظالما،و لا ينفي ذلك عدم اعتباره في صدق الحرمة و لو بعنوان آخر،كالأخذ بحكم الطاغوت (2).

و الجواب:أنّ ظاهره أنّ الأخذ من الحاكم الجائر حرام في صورة صدق الباطل،و ليس بحرام في صورة عدم صدق الباطل،فإذا لم يصدق الباطل لزم أن يصدق الحقّ و يكون حلالا،مع أنّ المحتمل قويا أنّ الامام عليه السّلام في مقام بيان شرح المسألة لا تفسير الباطل.

ثالثها:ما فيه أيضا من إمكان حمله علي قضاة العدل و لو من جهة الجمع العرفي بينه و بين المقبولة،فيكون المعني أنّه لا يجوز للرجل إن كان ظالما أن يأخذ من قضاة العدل،بأن قضي القاضي علي الموازين الشرعية،لكن الآخذ يعلم أنّه ليس بمستحقّ.

و فيه أنّ قوله تعالي وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ ظاهر في الرشوة للقاضي ليحكم له بالباطل،فيكون موجبا لظهوره في قضاة أهل الجور،لا أقلّ من احتمال ذلك2.

ص: 468


1- التنقيح 1:362.
2- المستمسك 1:72.

الموجب لعدم كون الجمع المذكور عرفيا.

مضافا لما ورد من تفسير الحكّام بقضاة الجور في رواية أبي بصير،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَي الْحُكّامِ فقال:يا أبا بصير انّ اللّه عزّ و جلّ قد علم أنّ في الأمّة حكّاما يجورون،أمّا أنّه لم يعن حكّام أهل العدل،و لكنّه عني حكّام أهل الجور، يا أبا محمّد انّه لو كان لك علي رجل حقّ فدعوته إلي حكّام أهل العدل،فأبي عليك إلاّ أن يرافعك إلي حكّام أهل الجور ليقضوا له،لكان ممّن حاكم إلي الطاغوت،و هو قول اللّه عزّ و جلّ أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطّاغُوتِ (1).

أقول:لا يبعد أن يقال في الجمع بين الخبرين،أنّ خبر عمر بن حنظلة ليس صريحا في حرمة التصرّف في المأخوذ،فإنّ العبارة الصريحة أن يقول:فإنّما يأكل سحتا.و أمّا قوله«فإنّما يأخذ سحتا»فمحمول علي أنّ المأخوذ سحت مبالغة،و لذا كان أخذه أخذ سحت،و المراد حرمة الأخذ.و أمّا خبر ابن فضّال،فمحمول علي أنّه إن لم يكن الآخذ ظالما،فليس ما يأخذه أكلا للمال بالباطل المذكور في الآية، فلا ينافي أن يكون الأخذ حراما،و أن لا يكون التصرّف في المأخوذ حراما.

و الانصاف أنّ كون عين ماله سحتا لا يجوز له التصرّف فيها ببيع و لا هبة و لا أكل بعيد جدّا،فإنّه ماذا يصنع بها بعد أخذها،حيث لا يحتمل وجوب إرجاعها إلي من كانت بيده من سارق أو غيره،فلو تاب حلّ له التصرّف،و يدلّ علي أنّ الانسان أحقّ بماله صحيح هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:المسلم أخو المسلم،و المسلم أحقّ بماله أينما وجده (2).3.

ص: 469


1- وسائل الشيعة 18:3 ح 3.
2- وسائل الشيعة 11:74 ح 3.
المسألة العاشرة

قيل:يجوز الترافع عند من ليس أهلا للفتوي إذا انحصر استنقاذ حقّه بالترافع عنده.و لا يخفي أنّه تارة يكون خصمه من العامّة و يكون القاضي منهم أيضا، و ثانية يكون الخصم و القاضي من الشيعة،و علي التقديرين فقد يكون الرجوع إليهم تقوية لهم،و قد لا يكون تقوية،و علي التقادير فقد يكون المال يسيرا و قد يكون كثيرا،و قد يتضرّر بحسب حاله و قد لا يتضرّر.

و يستدلّ للجواز بقاعدة لا ضرر،فإنّها ترفع الأحكام الضررية،و منها حرمة الترافع إلي الجائر لاستنقاذ حقّه.

أقول:يشكل التمسّك بقاعدة لا ضرر علي تحليل الحرام،فلو توقّف أخذ ماله علي شرب الخمر أو لمس الأجنبية و نحوهما،فالقول بجوازهما لأنّ ترك ماله ضرر و هو منفي،مشكل جدّا.

فينبغي التفصيل في خصوص هذه المسألة بأنّه يجوز إذا كان ضرر كثير و لم توجب المراجعة إلي الجائر تقويته،و يدلّ علي الجواز حينئذ لو كان القاضي أو السلطان من قضاة العامّة ما دلّ علي المراجعة إليهم إذا كانت تقية.و للكلام تتمّة تحتاج إلي المراجعة.

المسألة الحادية عشرة: حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه و لو لمجتهد آخر
اشارة

حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه و لو لمجتهد آخر

حكم الحاكم تارة يكون في مورد المخاصمات و المرافعات.إمّا في الموضوعات كتنازع الزوجين في الطلاق و عدمه،و إمّا للاختلاف في الحكم الكلّي،كاختلاف الورثة في إرث الزوجة ذات الولد من الأرض،و اخري في غير المرافعات،كحكم الحاكم بثبوت الهلال،فالكلام يقع في مواضع:

ص: 470

الموضع الأوّل: حكم الحاكم في المرافعات في الموضوعات

و لا ينبغي الاشكال في نفوذه إن كان الحاكم جامعا للشرائط،و المراد من نفوذه هو قطع الخصومة به،و ذلك لمشروعية القضاء في الشريعة المقدّسة،و القضاء هو فصل الخصومة،و الأخبار الواردة فيه مستفيضة،و لكن الواقع علي حاله و لا يتغيّر.

و يدلّ عليه صحيح هشام بن الحكم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان،و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا،فإنّما قطعت له به قطعة من النار (1).

فالمحكوم عليه لا يجوز له النقض جهارا،و يجب عليه الالتزام ظاهرا بالحكم، و إلاّ لزم نقض أغلب الأحكام في الموضوعات من حيث ادّعاء المحكوم عليه كذب الشهود أو غفلتهم أو كذب المدّعي،أو عدم أهلية الحاكم،لكن يجوز له النقض سرّا بمعني عدم الالتزام به،بل قد يجب عليه العمل بما يعلم بينه و بين اللّه، بل يجوز له التقاصّ ما لم يحلف علي تفصيل في باب القضاء.

الموضع الثاني: في الترافع في الحكم

و التحقيق عندي أنّ المترافعين إن كانا جاهلين بالحكم،أو كان أحدهما جاهلا،وجب عليه تقليد المجتهد الأعلم،و لا معني لحكم الحاكم،و إن كانا عالمين بالتقليد أو الاجتهاد وجب العمل علي طبق تقليدهما أو اجتهادهما،و لا معني لرجوعهما إلي مجتهد لا يقلّدانه أو لا يقلّده أحدهما،و لا دليل علي اعتبار إنشاء الحكم،فإذا اعتقد المجتهد نجاسة العصير،فله أن يفتي بنجاسته،و لا تكون

ص: 471


1- وسائل الشيعة 1:ب 2 من أبواب الحكم ح 1.

فتواه حجّة علي مجتهد آخر.

لكن قد استدلّ في التنقيح علي ثبوت الحكم فيه بالاطلاقات،قال:و منه يظهر أنّ الاطلاقات شاملة للشبهات الحكمية أيضا كذلك و انّ حكم الحاكم نافذ فيها و لو مع العلم بالمخالفة للواقع أو الخطأ في طريقه (1).

و فيه أنّ الحكم في المقبولة يراد به الحكم الشرعي لا الحكم الاصطلاحي،بأن يقول:حكمت مثلا.

و كذا الحكم في خبر أبي خديجة محمول علي الأعمّ من الفتوي و الحكم في الموضوعات؛لأنّ الحكم كما في آيات الكتاب أعمّ من الحكم الاصطلاحي،و كذا في الأخبار،و الحاكمان اللذان اختلفا قد اختلفا في الفتوي لا في الحكم الاصطلاحي،و إلاّ فمن البعيد صدور حكمهما في آن واحد،و إذا كان أحدهما أسبق من الآخر كان الثاني لغوا لأنّه نقض للأوّل،و لم يكن مجال لمعالجة اختلاف الحكمين بالأخذ بالمجمع عليه و بما وافق الكتاب و خالف السنّة،فلا إطلاق في أدلّة الحكم يشمل الحكم الاصطلاحي،بأن يحكم أحد المجتهدين علي طبق فتواه و يكون حجّة علي مجتهد آخر مخالف له في الفتوي.

ثمّ إنّه بناء علي ثبوت القضاء في الحكم الكلّي فالفرق بين فتوي المجتهد بحرمة شيء و حكمه بحرمته،أنّ الأوّل إخبار و الثاني إنشاء.

قال في الجواهر:و الظاهر أنّ المراد بالاولي الاخبار عن اللّه تعالي بحكم شرعي متعلّق بكلّي.و أمّا الحكم فهو إنشاء إنفاذ الحاكم لا منه تعالي لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص (2).

و قال في تكملة المنهاج:و الفرق بين الحكم و الفتوي أنّ الفتوي عبارة عن بيان0.

ص: 472


1- التنقيح 1:390.
2- جواهر الكلام 40:100.

الأحكام الكلّية من دون نظر إلي تطبيقها علي مواردها.إلي أن قال:و أمّا القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي مورد الترافع (1).

ثمّ انّهم ذكروا أنّ الفتوي تنقض بالحكم،و الفتوي تنقض بالفتوي،و أمّا الحكم فلا ينقض بالحكم و لا بالفتوي،و لم يظهر لنا دليل علي ذلك كلّه،فإنّه لا دليل علي أنّ المجتهد يحكم علي طبق فتواه.

الموضع الثالث: في حكم الحاكم في غير المرافعات

كحكمه أنّ اليوم يوم عيد الفطر مثلا،فهل يثبت به أم لا؟فيه خلاف،و لا دليل علي الثبوت به،و تفصيله في كتاب الصوم.

المسألة الثانية عشرة: إذا ظهر خطأ حكم الحاكم و عدم موافقته للواقع

إذا ظهر خطأ حكم الحاكم و عدم موافقته للواقع،فيجوز نقضه للحاكم الآخر، بأن ينشيء النقض،و هل يجوز لغير الحاكم نقضه؟ظاهر السيّد في العروة الوثقي عدمه.

أقول:إن كان المراد بالنقض إنشاء النقض فلا دليل عليه،لا من الحاكم و لا غيره.و إن كان المراد الاعلان ببطلان الحكم،فله وجه بالنسبة إلي الحاكم الآخر.

و إن كان المراد عدم ترتيب آثار الواقع بالنسبة إلي من يعلم مخالفته للواقع،فهذا ليس نقضا له.

فإذا كان الحكم في الموضوعات علي حسب الموازين الشرعية لم يجز نقضه، و لكن لا يجوز ترتيب آثار الواقع عليه إذا علم مخالفته للواقع،فإذا اشتري من زيد ثوبا و طالبه زيد بالثمن،فأنكر عند الحاكم و حلف،فإنّ الثوب لا يكون ملكا

ص: 473


1- تكملة المنهاج 1:2.

له،و إن كان النزاع قد انفصل بقضاء الحاكم.و إذا كان منشأ النزاع الاختلاف في الحكم و قلنا بجريان القضاء فيه،ففيه وجهان،لاحظ الجواهر (1).

ثمّ إنّه ذكر لنقض الحكم موارد:

الأوّل:ما إذا تراضي الخصمان علي تجديد الدعوي،قال في الجواهر:و قد بان لك من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم ينقض و لو بالظنّ إذا تراضي الخصمان علي تجديد الدعوي و قبول حكم الحاكم الثاني (2).

و قال أيضا:بل ربما يتوهّم عدم محلّ للدعوي،و ان تراضي الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني،و إن كان الأقوي خلافه،بل الأقوي نفوذ حكمه و إن اقتضي نقض الأوّل و لو بدليل اجتهادي يعذر فيه (3).

المورد الثاني:إذا علم مخالفة الحكم للواقع،فإنّه يجب علي العالم به نقضه، سواء كان المترافعين أو الحاكم؛لأنّ حكمه ليس حكمه تعالي.

و اورد عليه أوّلا:بأنّ حكم الحاكم قد فصلت به الخصومة،و أيّ دليل علي أنّ العلم بالخلاف موجب لرفع ذلك،مع أنّ المترافعين أو أحدهما في الأغلب يعلم بمخالفة الحكم للواقع،كما يشعر به صحيح هشام بن الحكم المحكي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال:إنّما أقضي الحديث.

و اجيب بأنّ العلم بالخلاف يكشف عن أنّ الخصومة لم تنفصل بحكم الشرع، فهي باقية.

و ثانيا:أنّ قوله«إذا حكم بحكمنا»و غيره يدلّ علي أنّ مجرّد الحكم مانع من الردّ و النقض،سواء علم بالخلاف أم لا.4.

ص: 474


1- جواهر الكلام 40:97.
2- جواهر الكلام 40:97.
3- )جواهر الكلام 40:94.

و اجيب بأنّ قوله«إذا حكم بحكمنا»ظاهر في كون حكمه كاشفا عن حكمهم، و مع العلم بالخلاف لا كاشفية لحكمه.

و ثالثا:أنّ الميزان في اعتبار حكم الحاكم هو كونه حكما للّه سبحانه في نظر الحاكم لا في نظر غيره،و لا يشترط علم الحاكم بالحكم،بل يكفي كونه عن اجتهاد صحيح.

المسألة الثالثة عشر: في كيفية معرفة الاجتهاد و أعلمية المجتهد

يعرف الاجتهاد و كذا أعلمية المجتهد بامور:

الأوّل:العلم الوجداني بأن كان الشخص المجتهد عرف اجتهاد الآخر.

و قال في العروة الوثقي في مسألة(20):إنّ المقلّد إن كان من أهل الخبرة و علم باجتهاد شخص كفي.و يظهر منه عدم اعتبار كونه مجتهدا.و فيه نظر؛لأنّ حصول العلم بالاجتهاد لغير المجتهد بعيد،و إن حصل له القطع،فربما كان مستندا إلي قلّة اطّلاع و تقصير،و ليس أهل الخبرة من كان من أهل الفضل،بل أهلها المجتهدون لا المقلّدون من أهل الفضل.

و علي ما ذكرنا من أنّ أهل الخبرة هم المجتهدون،فإن قلنا بجواز تقليد من كان له ملكة الاجتهاد قبل أن يستنبط الحكم جاز له التقليد،و إلاّ فلا وجه لقوله،كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة،لما عرفت أنّ أهل الخبرة خصوص المجتهدين.

و في التنقيح:إنّه يثبت بالاطمئنان؛لأنّه علم عادي،و هو حجّة عقلائية،و لم يردع عنها في الشريعة المقدّسة (1).

أقول:إن كان المراد من الاطمئنان الظنّ القوي،فيمكن التشكيك في حجّيته،

ص: 475


1- التنقيح 1:208.

و إن كان المراد القطع بالشيء الذي يزول بتشكيك المشكّك،فهو حجّة عند العقلاء إن حصل من أسباب صحيحة،و لذلك يشكل الاكتفاء به؛لأنّه غالبا لا يحصل من أسباب عقلائية،فالقول بعدم كفاية الاطمئنان قوي جدّا.

الثاني:شهادة عدلين،و بناء علي ما ذكرنا يعتبر أن يكونا مجتهدين،فإن كانا عدلين واقعا فلا إشكال في الثبوت.و أمّا شهادة العدلين علي الظاهر،فحجّيتها مبنية علي القول بحجّية البيّنة مطلقا،و هو مشكل عندنا،فإنّ خبر مسعدة بن صدقة إنّما يدلّ علي إثبات حرمة الأشياء بالبيّنة.و أمّا إثبات الاجتهاد و نحوه فلا دلالة له عليه.

و استدلّ لحجّيته مطلقا في التنقيح بأنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله قال:إنّما أقضي بينكم بالبيّنات.و قد اعتمد علي أخبار العدلين في موارد الترافع،و هو يدلّ علي أنّ شهادتهما أيضا من مصاديق الحجّة (1).

أقول:إنّما يدلّ علي أنّها من مصاديق الحجّة في مورد المرافعة،و هو ظاهر.فلم يثبت دليل علي حجّية البيّنة مطلقا،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الصوم، قال:إنّي لم أظفر بدليل علي حجّية شهادة العدلين عموما،كما اعترف به جماعة (2).

الثالث:الشياع المفيد للعلم.أقول:العلم و هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو عليه حجّة من أيّ سبب حصل،و القطع حجّة عقلا إن حصل من الأسباب العقلائية،فإن حصل القطع من مجرّد كون شيء مشهورا و إن لم يكن معتقد الناس،فلا دليل علي حجّيته.نعم إن حصل من الشياع،و المراد به شهرة اعتقاد الناس بشيء،لا مجرّد كون الشيء مشهورا إن لم يعتقده الناس،كان القطع الحاصل منه حجّة.4.

ص: 476


1- التنقيح 1:210.
2- كتاب الصوم ص 144.

و ينبغي تقييده بما إذا كان الناس الذين يعتقدون بالشيء من الأذكياء الملتفتين إلي الامور،بل قيل:إنّ الشياع بالمعني الذي ذكرناه حجّة و إن لم يحصل منه القطع، و استدلّ له بقوله في صحيح حريز«إذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم»و تفصيله في محلّه.

الرابع:مراعاة الظنّ بأعلمية أحد المجتهدين،أو احتمالها فيما إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلمية أحدهما و لا البينة،فإن حصل الظنّ بأعلمية أحدهما تعيّن تقليده،و كذا لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية.

و الوجه فيهما بناء علي التخيير بين المجتهدين المتساويين أنّ مظنون الأعلمية أو محتملها جائز التقليد علي كلّ حال،و يشكّ في جواز تقليد الآخر لاحتمال أعلمية مظنون الأعلمية أو محتملها.و أمّا بناء علي وجوب الاحتياط فيما إذا كانا متساويين،فلا حجّية للظنّ بأعلمية أحدهما المعيّن،و لا أثر لاحتمال أعلميته،بل يجب الاحتياط بين قوليهما.

المقام الثاني: في التقليد
اشارة

لا يخفي أنّ صحّة العمل لا تتوقّف علي التقليد.نعم غالبا تكون مترتّبة عليه،و الكلام يقع في التقليد في مفهومه و حكمه و في المقلّد و المقلّد فيه في فصول:

الفصل الأوّل: في تعريف التقليد

أمّا التقليد،فقد ورد لفظه في روايات،كخبر البزنطي،قال:قلت للرضا عليه السّلام:

جعلت فداك فأين التقليد الذي كانوا يقلّدون جعفرا و أبا جعفر؟قال:لا تحملوا

ص: 477

علي القياس (1).

و في خبر محمّد بن مسلم:أنتم أشدّ تقليدا (2).

و في الرواية المروية في الاحتجاج و تفسير العسكري تكرار كلمة التقليد (3).

و في رواية أبي بصير:قد قلّدتك ديني (4).

و نظيرها بغير كلمة التقليد خبر عبد الرحمن بن الحجّاج قال له الأعرابي:أهو في عنقك (5).

و التقليد لغة من باب التفعيل متعدّ إلي مفعولين.

قال في ترتيب العين:و تقلّدت السيف و الأمر و نحوه:ألزمته نفسي،و قلّدنيه فلان،أي:ألزمنيه و جعله في عنقي (6).

و قال الأزهري في تهذيب اللغة:عن ليث القلادة ما جعل في العنق جامع للانسان و البدنة و الكلب،و تقليد البدنة أن يعلّق في عنقها (7).

و في أساس البلاغة:قلّدته السيف ألقيت حمالته في عنقه فتقلّده،و من المجاز قلّد العمل فتقلّده (8).

و في اللسان:و قد قلّده قلادة و تقلّدها،و منه التقليد في الدين،و تقليد الولاة9.

ص: 478


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 26.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 113.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 7 المقدّمات ح 118.
4- جامع أحاديث الشيعة 24:203 ح 4.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 1 المقدّمات ح 37.
6- ترتيب العين ص 683.
7- تهذيب اللغة 9:32.
8- أساس البلاغة ص 519.

الأعمال،و تقليد البدن (1).

و في المقاييس:إنّه تعليق شيء علي شيء وليّه به،و تقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنّها هدي (2).

قد يقال:التقليد من المصادر الجعلية المأخوذة من الموادّ الجامدة،نظير حجّر المأخوذ من الحجر،و بحّر المأخوذ من البحر،فالتقليد مأخوذ من القلادة.

أقول:لعلّ المتبادر عرفا من قولهم«قلّدت المجتهد»هو تقليد الامور الدينية المجتهد،قدّم المفعول الثاني،و أصله قلّدت ديني المجتهد،أي:جعلتها مرتبطة به و في عهدته و منوطة برأيه،كارتباط القلادة بعنق شخص.

ثمّ إنّ استعمال التقليد في العمل بقول الغير استعمال مجازي،فإنّ المقلّد جعل عهدة عمله و ضمانه علي رقبة الغير،و ليس في الخارج تقليد محسوس.

و الظاهر أنّ معني التقليد الذي في الروايات هو العمل موافقا لقول الغير ملتفتا إلي ذلك،فليس هو الالتزام و لا نفس العمل،بل النظر إلي الغير في العمل.

ثمّ إنّه لا حاجة إلي متابعة كلمة التقليد،بل نقول:إنّ العامل لا بدّ أن يعلم صحّة عمله بالتعلّم من الأدلّة التفصيلية،و هو الفقيه العارف الناظر في الحلال و الحرام،أو بالتعلّم ممّن تعلّم كذلك و إن لم ينو التقليد،كما أنّ الانسان يسمع المواعظ فيتّعظ منها،فلو فرضنا أنّه سمع من شخص أنّ الحكم الفلاني كذا مثلا،و لم يكن المتكلّم من المجتهدين و لم ينسب الحكم إليهم،و نفرض أنّ الحكم محلّ وفاق الفتاوي، لكن السامع عمل بما سمع،لم يتحقّق عنوان التقليد و يصحّ عمله،بل يصحّ عمله إن كان جاهلا و طابق الواقع.

ثمّ لا بأس بمتابعة القوم في تعريف التقليد،فنقول:عرّف التقليد بتعاريف9.

ص: 479


1- لسان العرب 3:367.
2- مقاييس اللغة 5:19.

أرجعها الشيخ الأنصاري إلي واحد و هو العمل،أو إلي أمرين:

الأوّل:العمل،قال:و يشهد له أنّ كلامهم بين صريح في العمل الخ.

الثاني:الالتزام القلبي،قال:و يشهد له كونه أوفق بالمعني اللغوي،و أظهر في عرف المتشرّعة،و لذا يقال:إنّ العمل الفلاني وقع عن تقليد،إلاّ أن يراد أنّه وقع علي جهة التقليد انتهي ملخّصا (1).

أقول:يمكن أن يقال:ليس التقليد هو العمل المستند إلي فتوي المجتهد،و لا الالتزام و التسليم للعمل بفتواه،بل هو قصد إسناد الفعل إليه،و هو قبل العمل، و العمل ينشأ و يتولّد منه،و لو قلنا بوجوب التقليد كان وجوبه توصّليا لم يحتج إلي قصد القربة،بل يكفي قصد القربة بالعمل،و هذا يكشف عن أنّ الاستناد واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض،فليس التقليد لونا للعمل،بل هو نيّته كون تبعة الفعل و مسؤوليّته علي عهدة المقلّد بالفتح.

و يمكن أن يستدلّ للقول بأنّه الالتزام بالعمل كما في العروة الوثقي بوجوه:

منها:اعتبار كون التقليد سابقا علي العمل حتّي يكون العمل صادرا عن تقليد.

و فيه منع ذلك،بل يكفي المقارنة بأن يكون العمل محقّقا للتقليد.

و منها:استلزامه الدور؛لأنّ التقليد لو كان هو العمل توقّف تحقّقه علي العمل، فإذا توقّف العمل علي التقليد دار.

و فيه أنّ التقليد يتحقّق بالعمل المستند إلي فتوي المجتهد،فيكون شبيه الدور المعي.

و منها:أنّه في صورة اختلاف الفتاوي و تساوي المجتهدين لا يمكن حجّية فتاويهم للتكاذب،بناء علي مذهبنا من التخطئة و لا الواحد بلا تعيين،و لا يجب7.

ص: 480


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 47.

الاحتياط،فتعيّن أن تكون الحجّة هو ما التزم بالعمل به،فيكون الالتزام تقليدا، و بعدم القول بالفصل يقال به في صورة اتّفاق الفتاوي.

و فيه أنّ التقليد في صورة الاختلاف هو العمل بفتوي أحدهما المعيّن،بناء علي كون التخيير بينهما ابتدائيا،فلا وجه لاعتبار الالتزام.

و أجاب عن هذا الوجه في التنقيح بأنّه مع تساوي المجتهدين لا بدّ من الاحتياط لا تقليد أحدهما (1).

أقول:قد عرفت أنّه علي فرضه أيضا لا حاجة إلي الالتزام.و هل يعتبر في تحقّق التقليد تعيين المجتهد أم يكفي الموافقة لمن قوله حجّة؟فلو فرض اتّفاق العلماء المجتهدين في مسألة،فقصد استناد العمل إلي أحدهم لا بعينه لكفي، الظاهر صدق التقليد،و لا حاجة إلي التعيين.

الفصل الثاني: في حكم التقليد

الظاهر عدم وجوبه عقلا و لا شرعا،أمّا الأوّل فلأنّ الواجب عقلا تعلّم الأحكام؛لتوقّف امتثالها عليه عادة و غالبا لا دائما؛لأنّ الامتثال يتحقّق بموافقة العمل للواقع،أو لفتوي المجتهد و لو بدون التقليد،نعم له أن يسند صحّة عمله إلي المجتهد فيكون تقليدا.

و أمّا عدم الوجوب شرعا،فلأنّ الأدلّة التي أقاموها علي وجوب التقليد لا تدلّ علي وجوبه شرعا،و سيأتي الكلام عليها.

ثمّ علي القول بوجوب التقليد،فإنّما يجب تعلّم فتوي المجتهد لتوقّف التقليد عليه،و إلاّ فالمناط في صحّة العمل مطابقته للواقع أو فتوي من يجب تقليده،

ص: 481


1- التنقيح 1:81.

و ربما تتحقّق بدون التقليد،و لعلّه الذي اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في رسالته (1)من أنّ وجوبه مقدّمي.

حيث قال:ثمّ إنّ التقليد إنّما يجب مقدّمة للامتثال الظاهري للأحكام الواقعية؛ لأنّ هذا هو المستفاد من جميع أدلّته،و ليس له وجوب نفسي و لا شرطي للعمل شرطا شرعيا،و يترتّب علي ذلك امور،ثمّ ذكر الامور المترتّبة عليه.

و اختار المحقّق الاصفهاني رحمه اللّه كون الوجوب نفسيا،قال:لكنّك بعد ما عرفت من معني التقليد و ما سمعت في وجه وجوبه تعرف أنّ وجوبه نفسي؛لأنّ التقليد هو العمل استنادا إلي فتوي المفتي،و ليس هو إلاّ فعل الصلاة مثلا استنادا إلي الفتوي،فليس التقليد إلاّ عين الصلاة الواجبة واقعا علي تقدير الموافقة و غيرها علي تقدير المخالفة الخ (2).

أقول:يمكن المناقشة فيه بأنّ التقليد ليس عين العمل،بل هو نظير الجماعة في الصلاة عبارة عن قصد كون العمل موافقا لفتوي من يقلّده،و هو توصّلي و العمل تعبّدي.

الفصل الثالث: في الأدلّة علي التقليد

و هي امور:

الأوّل:ما يستدلّ به العامي و يستقلّ عقله به،و هو أنّ العامي المسلم يعلم أنّ في الاسلام أحكاما ثابتة عليه،بل يري خارجا عمل المسلمين بالأحكام،و يعلم بأنّه لا يمكن العمل بها مع الجهل بها،و هو قاطع بجواز رجوع الجاهل إلي العالم،و هذا القطع قد حصل له بما أودع اللّه تعالي فيه من العقل،كما هو قاطع بحسن الاحسان

ص: 482


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 48.
2- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 13.

و قبح الظلم،و هو مرتكز في نفسه من غير مقدّمات علمية و لا برهان عقلي،و القطع حجّة بنفسه لا يحتاج إلي إمضاء الشارع.

أقول:إنّ طبع الانسان يشتاق إلي الكمال،و لذا يرجع الانسان الجاهل بطبعه إلي العالم،و ليس هذا الرجوع من أجل كونه جائزا أو حراما،بل هو جبلي له،كما يشتاق إلي سائر ما يلائم طبعه.

و حيث إنّه يرجع في تعلّم كلّ علم إلي العالم به،فإذا أراد تعلّم النحو يرجع إلي النحوي،فكذا إن أراد تعلّم الشرع يرجع إلي علماء الدين و يسألهم عن وظيفته الشرعية،و أنّه هل يجوز التقليد في الشرعيات أو لا يجوز؟و هذا المقدار لا ينكره أحد حتّي من لا يجوّز التقليد،كما إذا رجع إلي من لا يجوّز التقليد في الفروع، كابن زهرة الذي يقول بأنّ فائدة فتوي الفقهاء أن يرجع إليهم العامي،ليحصل له الاجماع في المسألة.قال:و كذلك الفائدة في فتيا كلّ واحد من علمائنا تأدية الأمانة بإذاعة ما علمه ليصير بفتياه و فتيا أمثاله من العلماء لكلّ مكلّف سبيل من العلم بما أجمعوا عليه (1).

أو رجع إلي بعض الأخباريين الذي ينسب إليه أنّ العامي يرجع إلي من يبيّن له مدارك المسألة.

فهذا المقدار إنّما ينفع العامي في أصل الرجوع إلي العالم لا في الرجوع إليه في كلّ مسألة غير ضرورية،فإنّه يحتاج إلي دليل شرعي،و هذا القطع حاصل لكلّ طائفة من الناس،فالعامي السنّي قاطع و بديهي عنده الرجوع إلي علماء السنّة، و عامّة من اليهود و النصاري قاطعون بالرجوع إلي علمائهم،مع أنّهم ليسوا معذورين في قطعهم.7.

ص: 483


1- الجوامع الفقهية ص 477.

و الحاصل أنّ العامي يرجع بطبعه إلي العالم،و هذا ليس حجّة شرعية،بل إنّ شعوره يقتضي ذلك،فإذا رجع إلي العالم لا بدّ له أن يسأله عن الحجّة التي يعتمد عليها شرعا.و هل يجوز له تقليد العلماء في المسائل الشرعية أم لا؟هذا إن لم يلتفت إلي أنّ مسألة التقليد اختلافية،و إلاّ لا بدّ له من ترجيح العالم الذي يجوّز التقليد علي الذي لا يجوّز،و إلاّ فيتوقّف و يعمل بما اتّفق عليه العلماء و يحتاط في غيره.

و الحاصل أنّ الذي يكون بديهيا هو الرجوع إلي العالم لا تقليده في الأحكام الشرعية.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية بداهة الأمر،حيث قال:إنّ جواز التقليد و رجوع الجاهل إلي العالم في الجملة يكون بديهيا جبلّيا فطريا لا يحتاج إلي دليل،و إلاّ لزم سدّ باب العلم به علي العامي مطلقا غالبا،لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتابا و سنّة،و لا يجوز التقليد فيه أيضا،و إلاّ لدار أو تسلسل،بل هذه هي العمدة في أدلّته (1)انتهي

قوله«في الجملة»أي:أصل الرجوع،و أمّا فيما إذا كان أحد العلماء أعلم أو إذا كانوا متساويين،فهل يرجع إلي الأعلم أو إلي أحدهم؟ففيه كلام.

قوله«بديهيا»أي:كما أنّه إذا جاع يأكل،و إذا عطش يشرب الماء،و إذا رأي أمرا مهولا يهرب منه و غير ذلك،فهذا الأمر مركوز في ذهنه و يحكم به عقله الفطري،أي:من دون تعلّم و لا اكتساب،و كأنّه قد جبل عليه و خلق هكذا،و لا يخفي أنّ هذا التفسير للبديهي و الفطري و الجبلّي موجود في تقرير بحث السيّد الاصفهاني (2).6.

ص: 484


1- كفاية الاصول ص 539.
2- منتهي الوصول ص 386.

قوله«باب العلم به»أي:بجواز التقليد.

قوله«مطلقا»أي:سواء كان عاميا محضا أو عاميا فطنا.

قوله«غالبا»أي:سدّ بابه غالبا،فإنّه يمكن أن يتنبّه لجواز التقليد بتذكير عالم يعلمه جواز التقليد.

و ناقشه المحقّق الاصفهاني في كتابه (1)في استعمال البداهة و الجبلّة و الفطرة.

أقول:ما ذكره ليس دليلا لجواز التقليد في مقابل دليل عدم جواز التقليد،فإنّ القائل بعدم الجواز كابن زهرة لا يمنع عن رجوع العامي إليه ليسأله كيف يتعلّم الأحكام الشرعية حتّي يعمل بها،بل يقول:إنّه لا بدّ له أن يرجع إليه و يعمل بما يقوله،و هو أن يسأل العلماء حتّي يحصّل اجماعهم فيعتمد عليه.

و بما ذكرنا ظهر أنّه لا يرد عليه ما ذكره بعضهم من أنّه لو كان بديهيا لما خالف الأخباريون و فقهاء حلب،فإنّه ذكرنا أنّهم لا يخالفون في رجوع الجاهل إلي العالم.

قوله في الكفاية«و إلاّ لدار»أي:لو جاز التقليد في جواز التقليد لدار.

أقول:لا دور؛لأنّ عقل العامي يستقلّ في أصل الرجوع إلي العالم،فإذا رجع إليه،فإن أفتاه بعدم جواز التقليد في الأحكام الشرعية عمل به إن اعتقد بذلك العالم،كما إذا كان في محيط و قرية أهلها أخباريون مثلا.و إن أفتاه بجواز التقليد عمل به.و الحاصل أنّ جواز التقليد في الأحكام الشرعية أو حرمته موقوفان علي التقليد،أي:رجوع الجاهل إلي العالم،و هو غير موقوف علي جواز التقليد في الأحكام الشرعية أو حرمته؛لأنّ تقليده أمر طبعي له و إن كان هذا الرجوع حراما ذاتا،كرجوع العامي السنّي إلي عالمهم.1.

ص: 485


1- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 11.

الثاني:ما ذكره المحقّق الاصفهاني من أنّ العقل يذعن بلزوم امتثال الأحكام، و كيفيته:إمّا بتحصيل العلم،أو بالاحتياط التامّ،و مع التنزّل لعدم التمكّن من تحصيل العلم و الاحتياط التامّ يذعن العقل بنصب طريق آخر،و هو منحصر في أمرين:إمّا الاجتهاد و هو تحصيل الحجّة علي الحكم،أو الاستناد إلي من له الحجّة علي الحكم و هو التقليد انتهي ملخّصا (1).

و في منتهي الوصول أرجع الأوّل إلي الثاني،و قال:إنّ المرتكز في ذهنه هو دليل الانسداد.

أقول:هذا الدليل لا يقتضي إلاّ أصل الرجوع إلي العالم،فإن كان العامي يعتقد بالعالم الذي رجع إليه،فيأخذ بما يقول من جواز التقليد في الأحكام و عدمه،و أمّا إن كان من أهل العلم و يعلم اختلاف العلماء في جواز التقليد في الأحكام،فإنّ عقله يحكم بأنّه إذا لم يتمكّن من العلم لا بدّ من الرجوع إلي أقرب الطرق و الاحتياط بمقدار لا يكون متعسّرا،و لعلّ أقرب الطرق هو فتوي العلماء الكبار الذين يهتمّون بالأخبار و يعرفون الصواب من الخطأ،ذوي الأفهام الثاقبة و الأفكار المستقيمة،المطّلعين علي أحوال الرواة الورعين،و يحتاط في غير ذلك بمقدار لا يلزم العسر،إن قطع بأنّ الشارع لا يريد منه ما يوجب العسر،و له مراتب يمكن له القطع بعدم إرادة المرتبة العالية منه.

و لا يخفي أنّ العامي المحض لا يتمكّن من إجراء هذا الدليل،فهذا الدليل خاصّ بالعامي الملتفت إلي بعض هذه الجهات.

و قال في التنقيح:إنّ الذي يحمله علي التقليد أمران:

الأوّل:الارتكاز الثابت ببناء العقلاء من رجوع الجاهل إلي العالم،و لم يرد من2.

ص: 486


1- الاجتهاد و التقليد ص 12.

هذه السيرة ردع في الشريعة المقدّسة.

و فيه أنّ العامي من أين يعرف أنّ الشارع لم يردع عنه.

الثاني:دليل الانسداد (1).

و فيه أنّه يقتضي أصل الرجوع إلي الفقهاء،لا أن تكون كلّ واحدة واحدة من فتاويهم حجّة عليه،و سيأتي توضيحه.

الثالث:السيرة العقلائية،و هي تبانيهم علي ذلك حفظا لنظام اجتماعهم و امورهم التي يهتمّون بها،و المتشرّعة بما أنّهم عقلاء بانون علي ذلك و يرجعون إلي أهل الخبرة.

و قد ذكر هذا البناء الشيخ الأنصاري في الفرائد (2)في بحث حجّية قول اللغوي.و أورد عليه بأنّه ليس كذلك إلاّ أن يجتمع فيه شروط حجّية البيّنة من التعدّد و العدالة حتّي يكون بيّنة،و قد مضي الكلام فيه.

أقول:إنّ العقلاء إذا بنوا علي شيء في أمر حياتهم و نظامهم الاجتماعي ليس لهم أن يحكموا بهذا البناء فيما يرجع إلي أحكام الدين و شرائع الأنبياء المرسلين، بل لا بدّ لهم من الرجوع إلي الشريعة،و حينئذ إن رجعوا إلي الكتاب و السنّة وجدوا الآيات و الأخبار الدالّة علي عدم الاعتماد علي غير العلم في أحكام الدين، فتكون هذه العمومات رادعة لهم عن بنائهم.

و قد يورد علي رادعية هذه العمومات بوجوه:

أوّلا:اختصاصها باصول الدين و الاعتقاديات.

و فيه عدم الاختصاص و يظهر ذلك بالمراجعة إليها.

و ثانيا:أنّ حجّية هذه العمومات قد ثبتت بالسيرة،فلو كانت رادعة للسيرة لزم5.

ص: 487


1- التنقيح 1:83.
2- فرائد الاصول ص 75.

من حجّيتها عدم حجّيتها.

و فيه أنّا قاطعون بإمضاء السيرة القائمة علي حجّية الظواهر التي منها العمومات؛لأنّ النبي الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و أوصياءه عليهم السّلام كانوا يحاورون و يتكلّمون بالظواهر.

و ثالثا:أنّ هذا البناء المحكم من العقلاء في جميع امورهم حيث يرجعون فيها إلي أهل الخبرة لا تكفي العمومات في الردع عنه؛لعدم التفاتهم إلي شمولها له،و لو كان الشارع يريد الردع عنه لنصّ عليه،كما نصّ في مسألة القياس علي المنع.

و فيه أنّ أهل السنّة يرجعون في الامور الاعتقادية و غيرها إلي علمائهم،و هم مع أنّهم في من أهل الاسلام ظاهرا لا يلتفتون إلي هذه العمومات الرادعة عن غير العلم،و لا الأخبار الخاصّة الرادعة عن القياس،و هم غير معذورين في ذلك لتقصيرهم.

و الحاصل انّا نقول بأنّه لا بدّ للعقلاء من ملاحظة هذه العمومات،فإن حصل لهم العلم بمنع الشارع عن بنائهم فهو المطلوب،و إلاّ فلا أقلّ من أنّ ملاحظة هذه العمومات توجب عدم إحرازهم إمضاء الشارع لبنائهم.

و رابعا:أنّ هذه السيرة قبل ورود المنع من الشارع قد تمّت حجّيتها،و كانت أخصّ من تلك الروايات و الآيات،فهي مخصّصة لها،هذا مع أنّه يمكن دعوي انصراف العمومات المانعة عن اتّباع غير العلم إلي الأمارات غير المعتبرة عند العقلاء.

و فيه منع ظاهر؛لأنّها واضحة الدلالة و شاملة لكلّ أمر ديني من الاعتقادات و الفروع لمن رجع إليها،و قد جمعت في مقدّمة جامع الأحاديث،فراجع.

الرابع:سيرة المتديّنين بما هم متشرّعون.

قال الشيخ الطوسي في عدّة الاصول:إنّي وجدت عامّة الطائفة من عهد أمير

ص: 488

المؤمنين عليه السّلام إلي زماننا هذا يرجعون إلي علمائها،و يستفتونهم في الأحكام و العبادات،و يفتونهم العلماء فيها،و يسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به،و ما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت لا يجوز لك الاستفتاء و لا العمل به،بل ينبغي أن تنظر كما نظرت و تعلم كما علمت،و لا أنكر عليه العمل بما يفتونهم،و قد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمّة عليهم السّلام و لم يحك عن واحد من الأئمّة النكير علي أحد من هؤلاء و لا ايجاب القول بخلافه،بل كانوا يصوّبونهم في ذلك،فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه (1)انتهي.

و منع عنها في الكفاية بأنّ هذه السيرة لعلّها لأجل كون رجوع العامي من الأمور الفطرية الارتكازية (2).

و فيه أنّ أصل رجوع الجاهل إلي العالم فطري،لكن رجوعه إليه في كلّ مسألة من المسائل الشرعية ليس فطريا،بل إنّه يرجع إلي العالم و يسأله عن جواز التقليد.

ثمّ المتيقّن من هذه السيرة التي يمكن دعوي إمضاء الشارع لها بالأخبار الواردة هو الرجوع إلي ذي الفقاهة المتداولة في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هي العمل بالأخبار في مداليلها الواضحة و ردّ ما يعلمون أنّه صادر تقية،و الجمع بين الأخبار المتعارضة بما هو منصوص،لكن إحرازه مشكل؛لأنّه قد خفي ذلك حتّي أنّ مثل الكليني يقول:إنّك لا تجد إلاّ أقلّه.

و أمّا الفقه الموجود في عصرنا الذي يقول فيه شيخ الفقهاء المجتهد الأكبر الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر رحمه اللّه بكفاية ظنّ المجتهد الحاصل من الأدلّة، فهو غير الفقه الموجود في عصر الأئمّة،و قد جمع بعض المحقّقين أخبارا لإثبات أنّ الفقاهة متّحدة في العصرين.0.

ص: 489


1- عدّة الاصول 2:730.
2- كفاية الاصول ص 540.

لكن الانصاف أنّه يختلف كما اعترف به المحقّق الاصفهاني في المناقشة في دلالة آية النفر علي حجّية الفتوي،حيث قال:و من الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل العلم بالأحكام بالسماع من النبي صلّي اللّه عليه و آله أو الامام عليه السّلام،فلا دلالة لها حينئذ إلاّ علي حجّية الخبر فقط،و الانذار بحكاية ما سمعوه من المعصوم من بيان ترتّب العقاب علي شيء فعلا أو تركا لا ينبغي الريب فيه،بل الافتاء و القضاء أيضا كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر (1)انتهي.

أقول:لا نسلّم كون الاجتهاد في الصدر الأوّل كان مجرّد نقل الخبر،بل كان اجتهادا بسيطا لا يخرج غالبا عن مضمون الخبر.

و ممّا يؤيّد اختصاص سيرة المتشرّعة بالفقه المتداول في عصر المعصومين عليهم السّلام،ما ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في أوّل المبسوط من أنّ كتب أصحابنا كانت مقصورة علي ما يقرب من الروايات.

حيث قال:و تضعف نيّتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه و ترك عنايتهم به؛ لأنّهم ألفوا الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ،حتّي انّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها و قصر فهمهم عنها،و كنت عملت علي قديم الوقت كتاب النهاية.

إلي أن قال:و أمّا أصحابنا،فليس لهم في هذا المعني من يشار إليه بل لهم مختصرات،و أوفي ما عمل في هذا المعني كتابنا النهاية و هو علي ما قلت انتهي.

و يؤيّده كتب فتاوي القدماء،و منها كتاب من لا يحضره الفقيه كتبه لمّا رأي كتاب من لا يحضره الطبيب.

و قد أنكر ابن زهرة جواز التقليد،ثمّ إنّه لو سلّم سيرتهم علي ذلك فالمتيقّن منها3.

ص: 490


1- الاجتهاد و التقليد ص 13.

رجوعهم إلي الفقهاء إن لم يعلموا اختلافهم في الفتوي،و أمّا في صورة علمهم باختلافهم كما في عصرنا،فلم يثبت رجوعهم إليهم.

الخامس:الاجماع،قال السيّد في الذريعة:و الذي يدلّ علي حسن تقليد العامي للمفتي أنّه لا خلاف بين الأمّة قديما و حديثا في وجوب رجوع العامي إلي المفتي و أنّه يلزمه قبول قوله؛لأنّه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث،و من خالف في ذلك كان خارقا للإجماع (1)انتهي.

و أورد عليه في الكفاية ببعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ممّا يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الامور الفطرية الارتكازية،و المنقول منه غير حجّة في مثلها (2).

و فيه أنّ الرجوع إلي العالم فطري لا الرجوع في المسائل الشرعية كما تقدّم، و لكن المتيقّن من الاجماع رجوع المستفتي إلي المفتي فيما يماثل فقه عصر المعصومين عليهم السّلام مع أنّه يحتمل استناد المجمعين إلي الآيات و الأخبار و السيرة، مع أنّ المخالف من القدماء في ذلك موجود.

السادس:آية النفر،و هي قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (3)و تقريب الاستدلال بها من وجوه:

أحدها:أنّها تدلّ علي وجوب النفر بكلمة«لولا»التحضيضية الدالّة علي التوبيخ،و غاية وجوب النفر هو التفقّه و إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم،و وجوب النفر للتفقّه و الانذار مستلزم لوجوبهما،و وجوب الانذار يقتضي وجوب الحذر،و هو2.

ص: 491


1- الذريعة 2:796.
2- كفاية الاصول ص 540.
3- سورة التوبة:122.

قبول قول المنذر و العمل به،سواء حصل العلم من قوله أو لم يحصل،لأنّ الانذار مقدّمة للحذر،و المقدّمة لا تكون واجبة إلاّ إذا وجب ذو المقدّمة،فوجوب الحذر يستلزم وجوب العمل به.

ثانيها:أنّ الحذر إن لم يكن واجبا لزم لغويّة التفقّه و الانذار.

ثالثها:أنّ كلمة«لعلّ»بعد انسلاخها عن معني الترجّي تفيد محبوبية مدخولها، و هي مساوقة للوجوب؛لأنّ المقتضي للحذر لو كان موجودا كان الحذر واجبا، و إن لم يكن موجودا فلا وجه للحذر،فلا يتصوّر استحباب الحذر.

و الجواب أوّلا:أنّ الآية في مقام إرشاد الناس إلي وجوب تعلّمهم الأحكام وجوبا كفائيا علي طائفة منهم ثمّ تعليمها غيرهم،فهو كما إذا وجب علي طائفة أن يتعلّموا اللغة العربية و يعلّموها غيرهم،و هو عادة فيما إذا علم صدق المعلّم، فيحصل العلم من قوله،و ليس في مقام بيان قبول كلّ خبر من كلّ أحد ممّن لا يوثق بإخباره،و لا علي حجّية قول الفقيه و إن لم يحصل العلم بالواقع،فلا دلالة للآية علي حجّية فتوي الفقيه و لا حجّية خبر الواحد ما لم يحصل العلم من قولهما.

و لعلّ إلي ذلك يرجع كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من أنّ المقصود منه اهتداء الناس إلي الحقّ الواقعي،لا إنشاء حكم ظاهري لهم بقبول كلّ ما يخبرون به تعبّدا، و إن لم يعلم مطابقته للواقع (1).

أقول:و يشهد لذلك تمسّك المعصوم به فيما يعتبر فيه العلم،كما ذكر في خبر عبد الأعلي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول العامّة إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهلية،قال:حقّ و اللّه،قلت:فإن إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك؟قال:لا يسعه،إنّ الامام إذا مات وقعت0.

ص: 492


1- فرائد الاصول ص 130.

حجّة وصيّه علي من هو في البلد،و حقّ النفر علي من ليس بحضرته إذا بلغهم،إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ الآية (1).

و ثانيا:إجمال الآية من حيث احتمال أن يكون المراد النفر إلي الجهاد بقرينة ما قبلها،و ليس النفر للتفقّه و الانذار،بل إنّهما من الفوائد المترتّبة علي النفر صدفة و اتّفاقا لما فيه من مشاهدة آيات اللّه و غلبة أوليائه و نحوهما،بأن يكون المراد من التفقّه هو الاطّلاع علي آيات اللّه و غلبة الاسلام،لا التفقّه في أحكام الدين.

و ثالثا:لو سلّم وجوب النفر إلي التفقّه،فالمراد به هو أخذ الأحكام عن المعصوم عليه السّلام،و ذلك لأنّ الاجتهاد لم يكن متعارفا زمن نزول الآية،بل المتعارف حينذاك إنّما هو الرجوع إلي الحجّة،أو إلي الأعمّ منه و من الرواة الآخذين عن المعصوم.

و يشهد لذلك تمسّك الامام بالآية علي وجوب نقل الأخبار في خبر الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السّلام،قال:إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلي اللّه،و طلب الزيادة و الخروج عن كلّ ما اقترف العبد.إلي أن قال:و لأجل ما فيه من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة عليهم السّلام إلي كلّ صقع و ناحية،كما قال اللّه عزّ و جلّ (2)ثمّ ذكر الآية.فتكون الآية مختصّة بحجّية خبر الواحد.

و أورد علي دعوي اختصاص الآية بحجّية خبر الواحد في التنقيح أوّلا:بأنّ الآية لمكان أخذها عنوان الفقاهة في الموضوع ليست لها دلالة علي حجّية الخبر من جهتين:إحداهما أنّه لا يعتبر في حجّية الخبر كون الناقل ملتفتا إلي معناها فضلا عن أن يكون فقيها لكفاية الوثاقة.ثانيتهما:أنّه لا يعتبر صدق الفقيه علي9.

ص: 493


1- اصول الكافي 1:378.
2- وسائل الشيعة 18:69.

الراوي،فلو روي رواية أو روايتين لم يصدق عليه الفقيه مع حجّية رواياته (1).

و فيه أنّ الناقلين للخبر في عصر المعصومين كانوا أهل اللسان و يعرفون مضامين الأخبار،فيصدق علي من سمع من المعصوم الفقيه عرفا بالنسبة إلي ما عرفه،فتأمّل.

و رابعا:لو سلّم شمول الآية للفتوي،فلا إطلاق لها يشمل الفتوي المستنبطة بالطرق المعاصرة المغايرة لطرق الاستنباط في زمان نزول الآية و زمان المعصومين عليهم السّلام.

و ما ذكره في التنقيح من أنّه لا فرق بين الفقاهة في الأعصار السابقة و الحاضرة،و إنّما التفاوت في السهولة و الصعوبة (2).فممنوع لما قد سبق من بيان وجود الاختلاف بين الاجتهادين.

السابع:آية الذكر،و هو قوله تعالي وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (3)و الفقيه من أهل الذكر،و السؤال مقدّمة لقبول الجواب و إلاّ كان لغوا.

و فيه أنّ السؤال معلّق علي عدم العلم،و العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو عليه،أي:الاعتقاد المطابق للواقع،فما لم يتحقّق العلم فالسؤال واجب، و المسؤول إن كان معصوما أو من علم صدقه،كعلماء اليهود الذين يعلم بأنّهم يعرفون النبي صلّي اللّه عليه و آله بأوصافه في التوراة،حصل العلم من قوله.

و أمّا المجتهد فلا يحصل العلم من قوله بالواقع؛لاحتمال خطأ رأيه،فإذا سئل4.

ص: 494


1- التنقيح في شرح العروة الوثقي،كتاب الاجتهاد و التقليد ص 86.
2- التنقيح ص 86.
3- سورة النحل:43-44.

المجتهد عن عرق الجنب من الحرام و أفتي بنجاسته،لم يحصل العلم بها.

و دعوي حصول العلم بالوظيفة الظاهرية ممنوعة،فإنّ كون فتواه وظيفة ظاهرية أوّل الكلام،فإن ثبت من دليل آخر فلا حاجة إلي الاستدلال بهذه الآية.

و كذا خبر العادل علي الظاهر،فإنّه لا يحصل العلم منه،فلا تكون الآية دليلا لحجّية خبر الواحد،كما لا تكون دليلا علي حجّية فتوي الفقيه.هذا مع أنّ صدق الذكر علي اعتقاد العالم بالأحكام الشرعية غير معلوم،بل هو معني مساوق للعلم النبوّة و الامامة،و قد فسّر أهل الذكر في الأخبار بالأئمّة المعصومين عليهم السّلام.

ثمّ إنّه ذكر في مطارح الأنظار (1)آية الكتمان و آية النبأ من جملة أدلّة التقليد، و ناقش فيهما،و كلامه جيّد،فلاحظه.

الثامن:الأخبار و هي طوائف،منها:ما دلّ علي حجّية خبر الواحد؛لأنّ المفتي بفتواه ينقل معاني العمومات الدالّة علي الأحكام و معاني المخصّصات،مثلا لو ورد خبر علي أنّ الكذب حرام،و ورد خبر آخر علي أنّ الكذب لإصلاح ذات البين جائز،بل ربما يكون واجبا إذا توقّف حفظ النفوس علي الاصلاح،كان معني الخبر الأوّل أنّ الكذب حرام في غير إصلاح ذات البين،و المجتهد يخبر عن المعصوم عليه السّلام أنّه قال:الكذب حرام في غير الاصلاح،و هذا يشمله أدلّة حجّية أخبار الثقات.

و قد أجازوا عليهم السّلام النقل بالمعني،ففي صحيح محمّد بن مسلم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام،أسمع الحديث منك فأزيد و أنقص،قال:إن كنت تريد معانيه فلا بأس.و قريب منه خبر داود بن فرقد (2).

و بعبارة اخري:أنّه يخبر عن مصاديق العمومات،أو ما يستفاد منها حتّي في0.

ص: 495


1- مطارح الأنظار ص 262.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:60.

مقتضيات الاصول من البراءة و الاحتياط و الاستصحاب.

و يمكن المناقشة في الدليل المذكور بأنّ بعضا من الفقه من هذا القبيل،لكن الكثير منه لا يخلو عن إعمال الآراء الموجبة للخروج عن نقل الخبر بمعناه.

و المراد بالخبرين المجوّزين للنقل بالمعني ترجمة المضمون بعبارة قريبة منه، حتّي انّ زرارة الذي كان يرجّح بعض الأخبار علي بعض كان ذلك منه اجتهادا لا نقلا للخبر بالمعني.

و منها:ما عن تفسير العسكري عليه السّلام:و أمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه،فللعوام أن يقلّدوه.

و قد يورد عليه بالمناقشة في سنده.

كما قال في الوسائل في كتاب القضاء:التقليد المرخّص فيه هنا إنّما هو قبول الرواية لا قبول الرأي و الاجتهاد و الظنّ.إلي أن قال:علي أنّ هذا الحديث لا يجوز عند الاصوليّين الاعتماد عليه في الاصول و لا في الفروع؛لأنّه خبر واحد مرسل ظنّي السند و المتن ضعيفا عندهم،و معارضه متواتر قطعي السند و الدلالة، و مع ذلك يحتمل الحمل علي التقية (1).

قلت:ليس المراد بالفقهاء الأئمّة عليهم السّلام،فإنّه قال:فللعوام أن يقلّدوه،و ذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم،فإنّ من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامّة،فلا تقلبوا منهم عنّا شيئا و لا كرامة الحديث.

بل المراد به الفقيه باصطلاح الأخبار،أي:العارف بالحكم،سواء كان بالرواية الواضحة،أو بالجمع بين الروايات بحمل بعضها علي التقية،نظير فقه زرارة و أضرابه،فالانصاف أنّ الخبر عامّ لكلّ فقيه،لكن للفقيه في زمان صدور الأخبار5.

ص: 496


1- وسائل الشيعة 18:95.

و من يشبهه،إلاّ أنّ الاشكال في سنده باق بحاله.

و منها:التوقيع الشريف:و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم (1).يدلّ علي حجّية فتوي الفقيه من وجهين:

الأوّل:عموم الحوادث لكلّ مسألة.

الثاني:التعليل بقوله«فإنّهم حجّتي»يدلّ علي أنّ كلّ ما كان فتوي صاحب الزمان-عجّل اللّه تعالي فرجه-حجّة فيه،فقول رواة أحاديثهم حجّة فيه.

و يمكن المناقشة في دلالته بأنّ قوله«و أمّا الحوادث»جواب عن أسئلة غير مذكورة،فلعلّ السؤال كان عن الحوادث الواقعة قبل الظهور،فأجاب عليه السّلام بأنّ الرواة رووا تلك الحوادث و هم حجّة فيما يروون،كما أنّ الامام حجّة فيما يقول، و ليس فيه دلالة علي حجّية رأي الفقيه.

و قد حملوا قوله عليه السّلام في هذا التوقيع«و أمّا الخمس فقد ابيح لشيعتنا»علي أنّه يمكن أن يكون السؤال عن التصرّف في الأموال التي تصل إليهم من العامّة و فيها الخمس،فأحلّه عليه السّلام لهم؛لأنّ السؤال غير مذكور.

و منها:خبر عمر بن حنظلة،فإنّه ظاهر في الرجوع إلي الناظر في حلالهم و حرامهم في المسألة الكلّية أيضا.

أقول:المراد بالنظر في الحلال و الحرام معرفتهما بالاطّلاع علي النصوص الواردة عنهم،لا إعمال الرأي المتعارف في هذه الأعصار،و يؤيّده قوله«و كلاهما قد اختلفا في حديثكم».

و منها:ما اشتمل علي تقرير المعصوم عليه السّلام للافتاء و الاستفتاء،و هو خبر علي بن أسباط المروي في التهذيب و العلل و العيون و المحاسن،قال:قلت له يعني9.

ص: 497


1- وسائل الشيعة 18:101 ح 9.

الرضا عليه السّلام:يحدث الأمر من أمري لا أجد بدّا من معرفته،و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه،قال:فقال:ائت فقيه البلد إذا كان ذلك فاستفته في أمرك،فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه (1).و مرفوعة إبراهيم بن هاشم (2).فإنّ المستفاد منهما تقرير المعصوم للاستفتاء.

و فيه-مضافا إلي ضعف سند الأوّل بالسياري،و احتمال سقوطه عن المحاسن حيث لم يذكر السياري،و الثاني بالرفع-أنّ الاستفتاء في الصدر الأوّل كان بنقل الخبر لا إعمال الاجتهاد المتعارف في عصرنا،و مفهوم الفتوي أعمّ من الرأي،ففي قوله تعالي اَللّهُ يُفْتِيكُمْ (3)الآية.

و قد اطلق علي أقوال المعصومين الفتوي،ففي مرفوعة الأرجاني إلي أن قال:

و كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السّلام عن الشيء الذي لا يعلمونه،فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا علي الناس (4).

و في خبر أبي عمرو،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا الحديث (5).

و ربّما نوقش في دلالة هذه الطائفة من الأخبار علي حجّية قول الفقيه تعبّدا بأنّه لا إطلاق لها لعدم كونها في مقام البيان،و القدر المتيقّن ما إذا حصل الوثوق و العلم من قوله.

و فيه نظر؛و الظاهر ثبوت الاطلاق.6.

ص: 498


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 30.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 5 ح 113.
3- سورة النساء:127 و 176.
4- جامع أحاديث الشيعة 1 ب 6 ح 29.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 36.

و منها:ما يدلّ علي النهي عن الفتيا بغير علم،فإنّه يدلّ علي الجواز إذا كان عالما،و إلاّ لنهي عن الفتيا مطلقا علم أو لم يعلم.

و فيه أنّ المراد من جواز الفتيا مع العلم بالحكم الواقعي،هو الاعتقاد بالحكم علي ما هو عليه،و لا يمكن إحرازه،فلا بدّ و أن يراد الفتيا بشيء مع العلم بالحجّية، و العلم بالحجّية هو الفقه الموافق لفقه أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

و منها:ما يدلّ علي وجوب التحاكم عند فقهاء الشيعة و وجوب قبول حكمهم، و الحكم هو الفصل بين المتخاصمين و قطع الامر و تثبيته،و هو يعمّ الحكم الشرعي من وجوب السورة مثلا في الصلاة و نحوه،و الحكم بين المتنازعين ببيان الحكم الإلهي،و الحكم بينهم بتطبيق الكبري الكلّية علي مصداقها لقيام البيّنة أو حلف المنكر.

و الانصاف أنّ هذه الأخبار تدلّ علي جواز تقليد المجتهد،كما اعترف به في الجواهر،حيث قال:و نفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجّية ظنّه في كليها،و انّه من الحقّ و القسط و العدل و ما أنزل اللّه،فيجوز الرجوع إليه تقليدا أيضا (1).

لكن القدر المتيقّن هو الاجتهاد المماثل لاجتهاد زرارة و أمثاله ممّن يكون من فقهاء عصر المعصومين عليهم السّلام.

الفصل الرابع: ما يشترط في المجتهد المقلّد
اشارة

لا يخفي أنّ بعض هذه الشرائط الآتية إن تمّ الدليل عليها كالذكورة و الحرّية و نحوهما،يقتضي أن يكون قول المجتهد حجّة تعبّدا،فلا يصحّ الاستدلال علي

ص: 499


1- جواهر الكلام 40:44.

حجّيته بالسيرة العقلائية علي رجوع الجاهل إلي العالم؛لأنّ الملاك عندهم الأقربية إلي الواقع،فلذا يقدّمون قول الأعلم علي غيره و إن كان عبدا أو فاسقا أو انثي.

و بعض هذه الشرائط يقتضي أن يكون قول المجتهد حجّة من باب الطريقية كالأعلمية،فهذه الشرائط مبنية علي كون فتوي المجتهد حجّة تعبّدا،أو حجّة من باب الطريقية.و حيث تقدّم المناقشة في الاستدلال علي حجّية قول المفتي بالسيرة العقلائية،كان المدرك سيرة المتشرّعة أو الآيات و الأخبار،فتكون حجّية قول المفتي تعبّدية لا بدّ فيها من ملاحظة مقدار التعبّد.

أمّا سيرة المتشرّعة،فينبغي الأخذ بالقدر المتيقّن منها.و أمّا الآيات و الأخبار، فإن كان فيها إطلاق و لم يثبت مقيّد له فهو المتّبع،و إلاّ فينبغي الاقتصار علي المجتهد الجامع للشروط المذكورة،و لكن تقدّم أنّه لا يمكن الاستدلال بالآيات و الأخبار.

و حينئذ و بعد انسداد طريق العلم فحيث إنّ المدار علي الأقربية إلي الواقع عقلا،فينبغي مراعاة فتوي الأعلم لكونه أقرب إلي الواقع،و العقل يري تقدّمه علي سائر الشرائط المذكورة،و لكن حيث ادّعي الاجماع علي بعضها فلا يترك مراعاة الاحتياط.و ينبغي ذكر كلّ واحد من الشرائط المذكورة و ما استدلّ به علي اعتباره.و هي امور:

الأوّل:البلوغ،و لا إجماع علي اعتباره؛لعدم تعرّض القدماء له،و لو سلّم تحقّقه فلا يكون حجّة؛لاحتمال استناده إلي الوجوه المذكورة.

قال في التنقيح:بل مقتضي السيرة المتشرّعة العقلائية الرجوع إليه (1).4.

ص: 500


1- التنقيح 1:214.

أقول:بناء علي أن تكون حجّية الفتوي من باب التعبّد الشرعي،فإن ثبت إطلاق يشمل غير البالغ،و إلاّ فمقتضي الأصل عدم الحجّية،و هذا البيان يأتي في سائر الشروط الآتية،لكن ينبغي القطع بأنّ غير البالغ لا يصل إلي مرحلة الاجتهاد عادة.

الثاني:العقل،لا يخفي أنّ المجنون لا يبلغ مرتبة الاجتهاد،فالمراد من اشتراط العقل بقاء العقل،و حينئذ فهل يعتبر أن يكون عاقلا حال تقليده،أو يكفي أن يكون عاقلا حين ابتداء التقليد،و إن زال عنه بعد ذلك،أو لا يعتبر الأمران،بأن كان مجتهدا ثمّ عرض عليه الجنون،فيجوز ابتداء تقليده حين الجنون؟وجوه،مبنية علي أنّ حجّية فتوي المجتهد إن كانت من باب أنّها أقرب الطرق إلي الوصول إلي الأحكام الواقعية،فالمدار علي الأعلمية،فإن كان أعلم وجب تقليده ابتداء بعد عروض الجنون.و إن كانت تعبّدية،فالقدر المتيقّن حجّية فتوي العاقل،نعم يكفي كونه عاقلا حال التقليد و إن كان له جنون أدواري،كما يقتضيه إطلاق كلام بعضهم.

الثالث:الايمان،لا يخفي أنّ ذكر العدالة يغني عنه،و الانصاف أنّ بلوغ غير المؤمن مراتب العلم العالية بحسب موازين أهل الايمان العلمية نادر جدّا، فاشتراطه هو الصحيح لعدم تقوي غيره.و استدلّ لاعتباره بوجوه:

أحدها:الاجماع بمعني أنّ المطّلع علي فتاوي العلماء و مذاقهم يعرف أنّهم متّفقون علي عدم حجّية رأي غير المؤمن.نعم لو فهم من اللفظ شيئا و استظهر منه معني ربما كان أقرب من غيره لكثرة اطّلاعه،و لم يثبت إجماع علي عدم الاعتماد علي استظهاره و فهمه،فلذا يتقدّم استظهار بعض اللغويين في بعض الموارد مع أنّه من العامّة.

ثمّ إنّه نوقش فيه باحتمال كون مدركهم الوجوه الآتية،فليس الاجماع بما هو إجماع دليلا علي عدم الجواز.

ص: 501

ثانيها:قوله في خبر عمر بن حنظلة«ينظر إلي من كان منكم»و قوله في خبر أبي خديجة«انظروا إلي رجل منكم»فإنّهما يدلاّن علي أن يكون من الشيعة، فيقيّدان إطلاق الأدلّة إن كان لها إطلاق.

و اجيب عنهما أوّلا:بأنّهما في مورد القضاء.

و فيه أنّ القضاء ربما يكون بعنوان الفتوي،فعلي المتنازعين إذا جهلا الحكم أن يرجعا إلي الفقيه و يأخذا منه الفتوي.

و ثانيا:أنّ المستفاد من مجموعهما أنّ عدم جواز الأخذ من غير الشيعة إنّما هو لأجل أنّهم غير عارفين بأحكام اللّه سبحانه؛لأنّهم لا يأخذون الحكم عن أهله،فلا يدلّ الخبران علي أنّه لو كان مجتهدا علي طريقتنا لا يكون قوله حجّة.

و في التنقيح:إنّه لو سلّم اعتباره في الرجوع الابتدائي،فلا دليل علي اعتبار بقائه (1).

أقول:اعتبار هذه الامور ينافي اعتبار الفتوي من باب الطريقية،فهي امور تعبّدية لا فرق فيها بين الرجوع الابتدائي و البقائي.

ثالثها:ما في التنقيح:أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يدا بيد عدم رضا الشارع بزعامة من لا عقل له،أو لا ايمان،أو لا عدالة؛لأنّ المرجعية في التقليد من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية (2).

و فيه أنّ الافتاء-بناء علي أن يكون مدرك جواز التقليد هو رجوع الجاهل إلي العالم-هو كالطبابة و سائر العلوم طريق محض ليس منصبا،نعم يعتبر الايمان بناء علي تعبّديته،أو كونه قدرا متيقّنا من الأدلّة مع الشكّ،نعم الزعامة التي هي الولاية علي امور المسلمين من المناصب،كما أنّ القضاء الذي يكون أقلّ رتبة منه أيضا3.

ص: 502


1- التنقيح 1:220.
2- التنقيح 1:223.

من المناصب المجعولة،و يعتبر فيها الامور المذكورة.

و الأولي أن يقال:إنّ غير المؤمن أي المخالف للشيعة إن تربّي علي فقه الشيعة من الأوّل بحيث لم يكن فكره مشوبا بما يعتقده،فيمكن دعوي وصوله إلي مرتبة الاجتهاد.و أمّا في غير ذلك فلا يمكنه بلوغ الاجتهاد الصحيح عندنا.

هذا بناء علي الطريقية المحضة،لكن سبق احتمال كون قوله حجّة للتعبّد الشرعي،و حينئذ إن شكّ في حجّيته فالأصل عدمها.

الرابع:العدالة،و يستدلّ علي اعتبارها بامور:

أحدها:أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في القضاء كون عدالة القاضي مفروغا عنها،فإنّه ذكر فيها في مقام الترجيح الأخذ بقول الأعدل،و المناقشة بأنّها في مورد القضاء و لا ملازمة بينه و بين اعتباره في حجّية الفتوي.تقدّم الجواب عنها.

ثانيها:الاجماع.و فيه ما تقدّم.

ثالثها:المروي عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام،و سنتعرّض له.

رابعها:ما تقدّم عن التنقيح من أنّ الفاسق لا يليق للزعامة.هذا.

و استدلّ علي عدم اعتبارها بأنّ السيرة العقلائية في الرجوع إلي العالم لا تختصّ بالعادل،و إطلاق ما جاء في الأخبار من الفقيه و العارف بالأحكام و العالم بها شامل للفاسق أيضا.لكن لا يترك مراعاة الاحتياط من حيث احتمال الحجّية من باب التعبّد،و جعل العدالة مفروغا عنها في خبر عمر بن حنظلة.

الخامس:الذكورة،لا يخفي أنّ المرأة إن حصلت علي ملكة الاستنباط كما يحصل الرجل عليها و اجتهدت،فاجتهادها حجّة لنفسها،و هل يجوز تقليدها و ينفذ قضاؤها و يكون لها الولاية كما للرجل الفقيه؟قد تعرّضنا لهذه الامور في رسالة مستقلّة فلاحظها.

السادس:الحرّية،الانصاف أنّه لا دليل عليه.فلو اجتهد العبد و كان واجدا

ص: 503

لسائر الشرائط و كان أعلم،فعدم حجّية قوله بعيد جدّا.

السابع:كونه مجتهدا مطلقا،فلا يجوز تقليد المتجزّيء،و المراد به من كان له ملكة استنباط بعض المسائل،بأن كان عارفا بجميع ما له دخل في استنباط المسألة التي استنبطها من دون فرق بينه و بين المجتهد المطلق،مثلا لا يعرف مسألة الترتّب،أو تعارض الاستصحابين في مجهولي التأريخ،لكن المسألة التي اجتهد فيها لا ربط لها بهذين الأمرين،كمسألة مقدار الكر،و الظاهر جواز تقليده؛ لعدم الفرق بينه و بين المطلق،و لذا لو كان أعلم فيما يستنبطه من المجتهد المطلق وجب تقليده في تلك المسألة بناء علي وجوب تقليد الأعلم.

و قال في الكفاية:إنّ رجوع غير المتّصف بالاجتهاد إلي المتجزّيء محلّ إشكال،من أنّه من رجوع الجاهل إلي العالم فتعمّه أدلّة جواز التقليد،و من دعوي عدم إطلاق فيها إلي آخر ما أفاده (1).

الثامن:أن يكون استنبط بالفعل مقدارا معتدّا به من الفقه،فإن استنبط مسألة أو مسألتين لم يجز تقليده.و فيه نظر بل يجوز تقليده.

و لكن يمنع من الرجوع إلي من استنبط مسألة واحدة،و كذا يمنع من نفوذ حكمه،كما في الكفاية،حيث قال:جواز تقليده محلّ اشكال،من أنّه من رجوع الجاهل إلي العالم،و من دعوي عدم الاطلاق في أدلّة التقليد،و نفوذ حكمه أشكل، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدّا بها و اجتهد فيها بحيث يصحّ أن يقال في حقّه عرفا:إنّه ممّن عرف أحكامهم الخ (2).

و يظهر منه أنّ المجتهد المطلق أيضا كذلك،أي:إن استنبط مسألة أو مسألتين لم يجز تقليده،بل لا بدّ أن يستنبط جملة معتدّا بها.4.

ص: 504


1- كفاية الاصول ص 534.
2- كفاية الاصول ص 534.

و استدلّ له في مصباح الاصول بقوله عليه السّلام في خبر أبي خديجة«و لكن انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا»بأنّ كلمة«شيء»مع التنكير و إن كانت ظاهرة في القلّة في غير المقام إلاّ انّها كناية عن الكثرة في هذا المقام باعتبار أنّه لوحظت قلّته بالنسبة إلي علوم الأئمّة عليهم السّلام،فلا بدّ أن يكون كثيرا في نفسه،و إلاّ لا يعدّ شيئا من علومهم،فإنّ علمهم بمنزلة البحر المحيط،و شيء منه لا يكون إلاّ كثيرا في نفسه (1).

أقول:المراد من قولهم العارف بأحكامهم المعرفة بالحكم المبتلي به و لا تأثير للعلم بغيره و عدمه،و في عصر المعصومين من كان يعرف حكما واحدا قد سمعه من المعصوم كان له القضاء به،و يصدق عليه أنّه شيء من علومهم.و إلاّ فمقدار كرّ من الماء بالنسبة إلي البحر المحيط قليل جدّا،مع أنّه لا شكّ في صدق ماء البحر عليه،بل يصدق علي مقدار قليل منه أنّه ماء من البحر.

التاسع:أن يكون أعلم،فإذا لم يعلم وجود الأعلم وجب الفحص عن وجوده و عدمه،و سيأتي دليله.و إذا علم وجود الأعلم،فتارة يعلم اتّفاقه في الفتوي مع غيره،و اخري يعلم اختلافه معه،و ثالثة لا يعلم اختلافه.لا ينبغي البحث في صورة العلم بتوافقهما في الفتوي،فإنّ إسناد عمله إلي غير الأعلم لغو،و يبقي الكلام فيما إذا علم الاختلاف أو لم يعلم في مقامين:

المقام الأوّل: في وظيفة العاجز عن الاجتهاد

قال في الكفاية:إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوي مع اختلافهم في العلم و الفقاهة،فلا بدّ من الرجوع إلي الأفضل إذا احتمل تعيّنه؛للقطع بحجّيته

ص: 505


1- مصباح الاصول ص 437.و راجع:التنقيح 1:223.

و الشكّ في حجّية غيره،و لا وجه لرجوعه إلي الغير في تقليده إلاّ علي نحو دائر.

نعم لا بأس برجوعه إليه-أي:إلي غير الأفضل-إذا استقلّ عقله بالتساوي، و جواز الرجوع إليه أيضا،أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه (1).

أقول:الذي يكون بديهيا للعاجز عن الاجتهاد هو الرجوع إلي الفقهاء،من دون فرق بين الأحياء و الأموات،فإن كان بعضهم أعلم كان مقدّما عنده علي غيره، و رجع إليه في أصل جواز التقليد،و هذا المقدار بديهي له و يستقلّ عقله به.و أمّا إن استقلّ عقله بتساوي الأعلم و غير الأعلم،فلا دليل علي حجّيته؛لأنّ المسألة غامضة تحتاج إلي إتعاب النظر في الأدلّة،و مجرّد اعتقاده لا دليل علي حجّيته في الشرعيات.

ثمّ إنّه لا وجه لما ذكره من التقييد بالأحياء في علم المقلّد بالاختلاف،فإنّه من أين يعلم عدم حجّية فتوي الأموات.

ثمّ إنّ المحيط الذي يعيش فيه له تأثير في من يرجع إليه،لكن الكلام مع خلوّ ذهنه عن كلّ ما يوجب تأثّره به.

و الحاصل أنّه لا يستقلّ عقله بالتقليد في الأحكام الشرعية،و إنّما يستقلّ عقله بالرجوع إلي الفقهاء،فإن جوّزوا له التقليد في الشرعيات جاز له التقليد.

المقام الثاني: فيما تقتضيه الأدلّة
اشارة

و ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل:في كيفية حجّية رأي المجتهد للمقلّد و فيها احتمالان:

أحدهما:أن يكون رأي كلّ واحد من المجتهدين حجّة علي نحو العام

ص: 506


1- كفاية الاصول ص 541.

الاستغراقي.

ثانيهما:أن يكون رأي طبيعي المجتهد الصادق علي الواحد حجّة.

يظهر من صاحب الجواهر الوجه الثاني و سيأتي،و يحتمل غير بعيد الوجه الأوّل؛لأنّ الظاهر أنّ قول كلّ واحد حجّة و لا بدّ من اتّباع الحجّة.

الأمر الثاني:أنّ حجّية رأي المجتهد تتصوّر علي وجهين:

الوجه الأوّل:أن لا يكون تعبّد شرعي بحجّيته أصلا،بل تكون حجّيته بأحد أنحاء:

أحدها:أن يكون لحكم العقل بأنّ من تعذّر عليه العلم بالتكليف و لم يكن الاحتياط ميسورا له،فأحسن ما يعتمد عليه في مقام العمل هو رأي المفتي،بناء علي أن تكون نتيجة الانسداد الحكومة.

ثانيها:أن يكون رأيه أحد الطرق العقلائية،كسائر الطرق العقلائية التي لا تعبّد فيها،و إنّما النظر إلي الواقع الذي يوصل إليه الطريق،فيكون نظير القطع الذي يكون طريقا محضا إلي الواقع.

اختاره في التنقيح،حيث قال:إنّ حجّية الطرق و الأمارات في الشريعة المقدّسة ليست تأسيسية و جعلية،و إنّما هي إمضائية في الجميع،بمعني أنّ أيّة أمارة كانت معتبرة عند العقلاء علي ما استكشفنا من سيرتهم قد أبقاها الشارع علي حجّيتها و أمضي اعتبارها،و العقلاء إنّما كانوا يعاملون مع بعض الأشياء معاملة القطع الخ (1).

ثالثها:أن يكون حجّة تعبّدية عند العقلاء،نظير ظاهر الكلام في مقام احتجاج العبد علي المولي،فإنّه لا نظر له إلي ما هو مراد المولي واقعا،بل يريد أن يحتجّ7.

ص: 507


1- التنقيح 1:47.

عليه،و كذا خبر الثقة و إن ظنّ عدم مطابقته للواقع.

الوجه الثاني:أن يكون وجوب اتّباعه للتعبّد شرعا،و هو يتصوّر علي وجوه:

أحدها:أن يكون تعبّدا محضا لم يلحظ فيه كشفه عن الواقع أصلا،نظير أصالة الاباحة و أصالة الطهارة.

ثانيها:أن يكون التعبّد علي نحو الطريقية من دون ملاحظة القرب إلي الواقع.

قال في الكفاية:إنّ ملاك حجّية قول الغير تعبّدا و لو علي نحو الطريقية لم يعلم أنّه القرب من الواقع،فلعلّه يكون ما هو في الأفضل و غيره سيّان،و لم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا (1).

و يظهر من صاحب الجواهر اختيار أحد الوجهين،قال في مسألة جواز تقليد المفضول:و الظاهر الجواز لاطلاق أدلّة النصب المقتضي حجّية الجميع علي جميع الناس الخ (2).

و أصرّ عليه فقال:و نفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجّية ظنّه في كلّيها،إلي أن قال:بل لعلّ أصل تأهّل المفضول و كونه منصوبا يجري علي قبضه و ولايته مجري قبض الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها الخ (3).

ثالثها:أن يكون التعبّد علي نحو الطريقية بملاحظة الوصول إلي الواقع،فيعتبر القرب إلي الواقع بمراعاة المزايا الموجبة للقرب إليه بالظنّ الشخصي.

رابعها:الفرض الثالث لكن يعتبر مراعاة ما يفيد الظنّ النوعي.

و يظهر من تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المختار عنده الوجه الرابع،و سمّاه بالأمر بين الأمرين،قال:إنّ كلّ الأمارات الشرعية أو جلّها حجّيتها إنّما هي من4.

ص: 508


1- كفاية الاصول ص 440.
2- جواهر الكلام 40:43.
3- جواهر الكلام 40:44.

أجل إفادتها الظنّ شأنا و نوعا لا شخصا و فعلا و لا تعبّدا محضا،إلي أن قال:إنّه ليس تعبّدا محضا و لا مبنيا علي الظنّ،بل أمر بين الأمرين،و قصد بين الافراط و التفريط (1).

و لا يخفي أنّ الأدلّة المستدلّ بها علي حجّية فتوي المجتهد يختلف مفادها، فيدلّ بعضها علي الحجّية من باب الطريقية المحضة،و يدلّ بعضها الاخر علي التعبّد بالعمل برأي المجتهد،و كذا الشرائط التي اعتبروها في من يجوز تقليده، فإنّ بعضها يصحّ علي الطريقية كالأعلمية،و بعضها يصحّ علي التعبّدية،كالذكورة و الحرّية و العدالة؛لأنّه إذا فرض كون الفاقد لشروط الذكورة و الحياة و نحوهما أعلم و اختلفت فتواه مع غيره،فوجوب الأخذ بفتوي غيره ينافي الطريقية.و تظهر الثمرة في الإجزاء أيضا،و سيأتي التعرّض لهذه الامور بعد البحث عن تقليد الأعلم.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فيقع

الكلام في موضعين:
الموضع الأوّل: وجوب تقليد الأعلم

أن تختلف فتوي الأعلم مع غيره و علم اختلافهما،ففي وجوب تقليد الأعلم،أي:حجّية رأيه تعيينا،أو تخييرا بينه و بين غير الأعلم قولان، الأوّل:وجوب تقليد الأعلم،و قد استدلّ عليه بوجوه:

الأوّل:الاجماع.و فيه أنّ المنقول منه ليس بحجّة،و المحصّل منه غير ثابت؛ لأنّ السيّد المرتضي قال في الذريعة بعد ذكر شروط المفتي:و لا شبهة في أنّ هذه الصفات إذا كانت ليست عند المسفتي إلاّ لعالم واحد في البلد لزمه استفتاؤه تعيينا، و إن كانت لجماعة هم متساوون كان مخيّرا.و إن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع و أدين،فقد اختلفوا،فمنهم من جعله مخيّرا،و منهم من أوجب أن يستفتي

ص: 509


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 306.

المقدّم في العلم و الدين،و هو أولي لأنّ الثقة هاهنا أقرب و أوكد،و الاصول كلّها بذلك شاهدة (1).

قوله«و هو أولي»ظاهر في مجرّد الرجحان.

و أجاب في الجواهر عن الاجماع المدّعي علي وجوب تقليد الأعلم،بأنّه لا يرتبط بما نحن فيه،حيث قال:و إجماع المرتضي مبني علي مسألة تقليد المفضول الامامة العظمي مع وجود الأفضل،و هو غير ما نحن فيه،ضرورة ابتنائها علي قبح ترجيح المرجوح علي الراجح،إلي أن قال:و ظنّي و اللّه أعلم اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك (2).

أقول:عبارة المرتضي رحمه اللّه التي نقلناها صريحة في اختصاص كلامه بالاستفتاء من الفقهاء غير مسألة الامامة العظمي،و ظاهره أنّ مسألة تقليد الأعلم خلافية.

الثاني:سيرة العقلاء فإنّها قد جرت علي الرجوع إلي الأعلم عند العلم بالاختلاف مع غير الأعلم،و لم يردع عنها في الشريعة المقدّسة،و أدلّة مشروعية التقليد لا تشمل صورة اختلاف الأعلم و غيره؛لأنّ المطلقات من الآيات و الأخبار غير شاملة للمتعارضين؛بناء علي حجّية الفتوي من باب الطريقية،حيث لا يمكن جعل طريقين متخالفين إلي الواقع،و دليل الانسداد بناء علي الكشف يقتضي أنّ الشارع نصب للمقلّد طريقا،و القدر المتيقّن من الطريق المنصوب هو فتوي الأعلم،و بناء علي الحكومة فالقدر المتيقّن الذي يحكم العقل بكفايته هو موافقة فتوي الأعلم.

قال في المستمسك:مقتضي بناء العقلاء تعيّن الرجوع إلي الأفضل،و التشكيك5.

ص: 510


1- الذريعة 2:801.
2- جواهر الكلام 40:45.

في ثبوت البناء علي ذلك يندفع بأقلّ تأمّل (1).

و قال في التنقيح:فالصحيح في الحكم بوجوب تقليد الأعلم هو السيرة العقلائية التي استكشفنا امضاءها من عدم الردع عنها في الشريعة المقدّسة (2).

أقول:و يرشد إليه حسن عيص بن القاسم،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

عليكم بتقوي اللّه وحده لا شريك له،و انظروا لأنفسكم،فو اللّه انّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي،فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها الحديث (3).

فإنّه نبّه إلي ما ارتكز في أذهان العقلاء من مراعاة نظر الأعلم في الأمر غير الخطير فضلا عن الأمر الخطير.

و فيه أوّلا:أنّ بناء العقلاء علي قسمين:

القسم الأوّل:بناؤهم في مقام الاحتجاج،كظاهر الكلام،فلو قال المولي لعبده:

اذهب إلي المسجد،و سبق لسانه و كان مقصوده أن يذهب إلي الدار،و العبد عرف مراد المولي،و لكن لم يخبر المولي أنّه يعلم مراده و ذهب إلي المسجد،لم يكن للمولي معاقبته،لاحتجاج العبد عليه بظاهر كلامه،و إن لم يجز له الذهاب إلي المسجد؛لعدم رضا مولاه بذلك.

القسم الثاني:بناؤهم في مقام إحراز الواقع.و في هذا القسم يبنون علي ما كان أوصل إلي الواقع،و حينئذ نقول:لو سلّم أنّ بناء العقلاء علي الرجوع إلي المجتهد، لكن لعلّه كان بناؤهم من قبيل القسم الأوّل،و لا يتعيّن كونه أعلم؛لأنّ الغرض الاحتجاج علي ما ارتكب من الأعمال.4.

ص: 511


1- المستمسك 1:28.
2- التنقيح 1:148.
3- روضة الكافي 8:264.

و ثانيا:أنّ الاستناد في حجّية رأي المجتهد-أي:ظنّه الحاصل من الأدلّة-إلي سيرة العقلاء علي فرض عدم شمول ما دلّ من الكتاب و الأخبار لحجّية رأي الأعلم و غيره للتعارض،غير صحيح؛لأنّها مردوعة بالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم.

إن قلت:إنّ العامي مكلّف بالأحكام الشرعية،و قد اختلف الأعلم و غيره،و لا طريق له إلي الأحكام إلاّ رأيهما،و المتيقّن منهما رأي الأعلم.

قلت:ينبغي له أن يحتاط إن لم يكن حرجا،و إن لم يتمكّن من الاحتياط التامّ، فلا بدّ له من الاحتياط بالقدر الميسور له.نعم القدر المتيقّن في العاجز عن الاستنباط و الاحتياط حجّية قول الفقيه المتعارف في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

و لو دار الأمر في الفقيه الذي في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام بين الأعلم و غيره، يمكن أن يقال بعدم لزوم الرجوع إلي الأعلم،لكن في هذه الأعصار التي يختلف الفقه فيها عن فقه أصحاب الأئمّة إن لم يمكن الاحتياط،وجب الرجوع إلي الأقرب إلي الواقع و لو بالاحتياط في بعض الموارد،و إن لم يمكن فيرجع إلي الأعلم من الأحياء و الأموات،و إن لم يمكن فإلي المتيقّن،و هو قول الأعلم الذي يتمكّن من الوصول إليه؛لأنّه أقرب إلي الواقع.

الثالث:لا إشكال في أنّه لا بدّ من تحصيل العلم بالأحكام الشرعية،و مع تعذّره يجب تحصيل الأقرب إلي الأحكام الصادرة عن المعصوم،و مع تعذّره ففتوي الأعلم أقرب.

و اجيب أوّلا:بأنّ فتوي غير الأعلم ربما تكون أقرب إلي الواقع،لموافقتها لفتوي الأموات ممّن هو أعلم من الحيّ الأعلم (1).7.

ص: 512


1- التنقيح 1:147.

و فيه ما تقدّم من أنّ المدار علي الأقرب إلي الواقع،و مع تعذّره فيؤخذ بقول أعلم الأموات و الأحياء؛لأنّه لا يشترط الحياة في حجّية رأي المجتهد.

و ثانيا:بأنّ إطلاق دليل جواز تقليد طبيعي المجتهد شامل لهما.

قال في التنقيح:إنّا نطالب الدليل علي أنّ الأقربية مرجّحة،و لم يقم أيّ دليل علي أنّ الملاك في التقليد و وجوبه هو الأقربية إلي الواقع؛إذ العناوين المأخوذة كعنوان العالم و الفقيه و غيرهما صادقة علي كلّ من الأعلم و غير الأعلم،و هما في ذلك سواء لا يختلفان،و هذا يكفي في الحكم بجواز تقليدهما (1).

أقول:و حاصل هذه الدعوي أنّ الاطلاقات شاملة لهما،و لو بالتعبّد علي نحو الطريقية،فلا وجه لترجيح شمول الاطلاق للأعلم فقط دون غيره.

و أجاب عنه في تقريرات الشيخ بأنّه لو كان المدار علي الظنّ الشخصي أمكن المنع عن الظنّ بأقربية الأعلم من غيره،و لو كان المدار علي التعبّد المحض لكان مقتضاه التخيير،و لكن هناك أمر بين الأمرين،و هو اعتبار إلي آخر ما حكيناه عنه، و حاصله أنّه تعبّد بالطريق النوعي،و الأعلم أقرب طريقا إلي الواقع.

الرابع:أنّ المراد بالأعلم من كان مطّلعا علي ما لا يطّلع عليه غير الأعلم ممّا هو دخيل في استفادة الحكم،بحيث يختلف ما يستنبطه الأعلم عمّا يستنبطه غير الأعلم،فيكون غير الأعلم بالنسبة إلي الأعلم بمنزلة الجاهل بالنسبة إلي العالم، فالرجوع إليه مع التمكّن من الرجوع إلي الأعلم من الرجوع إلي الجاهل.

و أجاب في التنقيح عن كونه من الرجوع إلي الجاهل بأنّه صحيح بالاضافة إلي المزايا و الخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة و الاستدلال،و أمّا بالاضافة إلي الاستنباط أصله و ردّ الفرع إلي الأصل فهما علي حدّ سواء بالاضافة إلي العناوين7.

ص: 513


1- التنقيح 1:147.

الواردة في أدلّة التقليد انتهي ملخّصا (1).

أقول:المراد من الأعلم كما تقدّم من كان مطّلعا علي امور دخيلة في استنباط الحكم لم يطّلع عليها غيره،و المدار علي الأعلمية في كلّ مسألة علي حدة.

و الانصاف أنّ هذا الوجه وجيه،فإنّ الناس مكلّفون بما صدر عن المعصومين عليهم السّلام،و مع عدم التمكّن من الوصول إليه يستقلّ العقل بالأخذ بالأقرب إلي ما صدر عنهم و فتوي الأعلم أقرب؛لاطّلاعه علي ما لم يطّلع عليه غيره.

بل قال المحقّق الاصفهاني:إنّه و إن لم يكن أقرب إلي الواقع،لكن الرجوع إلي غير الأعلم مع وجوده من باب الرجوع إلي الجاهل،قال:و رأي الأعلم و إن لم يعلم أنّه أقرب إلي الواقع،لكنّه أوفق بما قامت عليه الحجج الشرعية و العقلية،و لا معني للأوفقية بها إلاّ بلوغ نظره إلي ما لم يبلغ إليه نظر غيره،فيكون بالاضافة إلي القاصر نظره،كالعالم بالاضافة إلي الجاهل،فيكون متعيّنا في مقام إبراء الذمّة (2).

الخامس:الأخبار،فمنها:خبر عمر بن حنظلة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث،فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة،إلي أن قال:قلت:فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما،و كلاهما اختلفا في حديثكم،قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما الحديث (3).

دلّ علي أنّه عند اختلاف الفقهاء يرجع إلي الأفقه.

أقول:لا يبعد أن يكون المراد من قوله«فتحاكما إلي السلطان»أو«إلي4.

ص: 514


1- التنقيح 1:148.
2- الاجتهاد و التقليد ص 40.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 7 ح 124.

القضاة»أعمّ من الحكم بمعني فصل الخصومة في الموضوعات و الحكم الشرعي الكلّي أي الفتوي؛لأنّ الحكم هو ما يرفع التحيّر،و قد كان المتداول بين المعاصرين للأئمّة عليهم السّلام الرجوع في تعلّم الأحكام الكلّية إلي قضاة العامّة،كابن أبي ليلي و أبي حنيفة،ففي صحيح أبي ولاّد«فتراضيا بأبي حنيفة فذهبا إليه،و قال:

ليس علي أبي ولاّد اجرة البغل»و هذه فتوي منه قد حكم بها و قطع بها نزاعهما.

و في ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:اشتريت محملا،فأعطيت بعض ثمنه و تركته عند صاحبه،ثمّ احتبست أيّاما،ثمّ جئت إلي بايع المحمل لآخذه، فقال:قد بعته،فضحكت ثمّ قلت:لا و اللّه لا أدعك أو اقاضيك،فقال لي:ترضي بأبي بكر بن عياش؟قلت:نعم،فأتيته فقصصنا عليه قصّتنا،فقال أبو بكر:بقول من تريد أن أقضي بينكما،بقول صاحبك أو غيره؟قال:قلت:بقول صاحبي،قال:

سمعته يقول:من اشتري شيئا فجاء بالثمن ما بينه و بين ثلاثة أيّام،و إلاّ فلا بيع له (1).

و من ذلك يظهر أنّ قوله عليه السّلام«فليرضوا به حكما»أيضا أعمّ و يشمل جميع هذه الأقسام.و حاصل ما يستفاد من الخبر أنّه عليه السّلام قال:لا تتحاكموا إلي هؤلاء و تحاكموا إلي فقهائكم،فإن اختلفوا فالحكم ما حكم به الأعلم،فإن تساووا فينفذ حكم من مدرك حكمه مجمع عليه،فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه.

و لا يجوز الرجوع إلي من استند في حكمه إلي خبر شاذّ،فإنّ التعليل بقوله فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه و تثليث الأقسام و انّ الخبر الشاذّ من الشبهات،يقتضي عدم الأخذ بالشاذّ مطلقا،أي قبل الحكم و بعده.ثمّ إنّه ذكر للخبر معنيان آخران:

الأوّل:ما قد يقال من اختصاص الحكم بالفتوي؛لأنّ قوله«و كلاهما اختلفا في2.

ص: 515


1- وسائل الشيعة 12:356 ب 9 ح 2.

حديثكم»ظاهر في كون الاختلاف بينهما ليس من جهة اختلاف البيّنات أو الأيمان،و إنّما كان منشؤه عدم معرفة الحكم الشرعي،سواء كان المراد بالاختلاف في الحديث،الاختلاف في فهم حديث واحد،أو الاختلاف في أصل وجود الحديث،بأن اعتمد أحدهما علي حديث و اعتمد الآخر علي آخر.و لعلّ هذا هو الظاهر من الاختلاف في الحديث،خصوصا بقرينة قوله بعد ذلك«ينظر إلي ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه»الخ،فإنّه ظاهر في أنّ الاختلاف في أصل الرواية.

و علي أيّ حال فالظاهر أنّ الاختلاف في الحديث صار منشأ الاختلاف في الحكم الشرعي،مضافا إلي أنّ الترجيح بالأصدقية و الأفقهية يناسب الفتوي،و كذا إرجاع المتنازعين إلي النظر في مدرك الحكمين من الروايات و الأخذ بالمشهور، و هذا شأن ترجيح الفتوي؛لأنّ الحكم في الموضوعات إذا تحقّق فلا يجوز نقضه، مضافا إلي أنّ فرض اجتماع الحكمين في الموضوعات في المسألة الواحدة يتصوّر علي وجوه ثلاثة كلّها بعيدة:

الأوّل:صدور الحكمين المتخالفين منهما في زمان واحد.

الثاني:صدور الحكم من واحد منهم و إعانة الآخر علي مقدّمات الحكم.

الثالث:صدوره من واحد منهم و تنفيذه من الآخر.

فانحصر في الفتوي من رجلين من أصحابنا،و هو الذي يصحّ ترجيحه بالأفقهية و الأعلمية حتّي المتأخّر منهما.

المعني الثاني:ما قد يقال من اختصاص الحكم فيه بالحكم الاصطلاحي،و هو ما يفصل به الخصومة في مورد الترافع،لقوله«بينهما منازعة في دين أو ميراث» و قوله«و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا»و قوله«فإنّي قد جعلته عليكم حاكما».

أقول:الأولي ما ذكرناه من أنّ الحكم أعمّ من الفتوي و ما يفصل به الخصومة،

ص: 516

و الوجوه المذكورة لا تنافي ذلك؛لأنّ الأورعية و الأعدلية توجبان التثبّت،و عدم التسرّع إلي الفتوي،فكلّها دخيلة في الفقاهة،و المال المأخوذ بالفتوي الباطلة سحت و إن لم يكن حكما اصطلاحيا.

نعم لا يبعد أن يقال:إنّ صدره-أي:صدر خبر عمر بن حنظلة-لا يشمل مجرّد نقل الرواية،إن لم يتعبّد الناقل بالعمل بمضمونه،مثلا لو نقل زرارة عن الامام شيئا، و نقل ثقة آخر ليس بفقيه عن الامام خلافه و لم يكن زرارة متعبّدا بالعمل بما نقله بل نقل مجرّد سماعه،لم يترجّح سماعه علي سماع غيره (1).

نعم لو تعبّد بالعمل به كان مقدّما؛لأنّه أبصر بمذاق الامام.و من ذلك يظهر أنّ الترجيح بين الخبرين المتعارضين بالصفات مبني علي استفادة أنّ ظاهر الراوي أنّه يعمل و يفتي بما يرويه،فلذا يرجّح الأفقه علي غيره،فلو فرض أنّ الراويين ناقلان فقط لم يكن ترجيح،إلاّ إذا كان في سلسلة السند من هو أفقه و يفتي بمضمون الخبر.

مثلا لو فرضنا أنّه روي علي بن الحسن بن فضّال عن زرارة ما يفتي به زرارة من دون أن يفتي ابن فضّال بذلك،بل كان مجرّد النقل،و روي محمّد بن مسلم عمّن دون زرارة،بمجرّد النقل عنه لا يمكن ترجيح خبر محمّد بن مسلم علي خبر ابن فضّال بأنّه ثقة جليل،و ابن فضّال فطحي،بل ينبغي ترجيح خبر ابن فضّال الذي ينتهي إلي زرارة علي الآخر الذي ينتهي إلي من دونه لأنّ زرارة أفقه من راوي الآخر،و هذا مناط الترجيح.

و بهذا البيان اندفع ما يقال:من أنّ الامام قد طبق الترجيح بالصفات علي أوّل سلسلة السند و هما الحاكمان الخ.فيدلّ علي أنّه من باب ترجيح الحاكمين،و لوة.

ص: 517


1- و أشار إليه الشيخ في العدّة.

كان من باب ترجيح الخبر كان ينبغي التطبيق علي الراويين المباشرين،مع أنّ الغالب أن يكون الخبر مع الواسطة.وجه الاندفاع أنّ الغالب في زمانهم الخبر بلا واسطة،مضافا إلي ما ذكرنا من وجه.

و ممّا يؤيّد شمول الحكم للحكم بنحو الفتوي قوله عليه السّلام«فيؤخذ به من حكمنا» فإنّ المراد به الحكم الشرعي.و كذا قوله عليه السّلام«ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة».و أيضا التعليل بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه،و أنّ ما خالف العامّة ففيه الرشاد،يناسب الفتوي و الحكم الكلّي الإلهي،لا تطبيق الحكم علي موضوعه بالبيّنة و الحلف.

فهذه الرواية صدرها يدلّ علي وجوب الرجوع إلي الفقهاء في جميع الأحكام الشرعية،سواء كانت بنحو الفتوي،أو بنحو الحكم الاصطلاحي.

و بقيّة الرواية تدلّ علي الرجوع إلي المرجّحات المذكورة إذا اختلفوا في الفتوي،و من المرجّحات المذكورة فيها هي الأفقهية.

إن قلت:إنّ قوله«قلت:فإن كان كلّ منهما اختار رجلا الخ»يدلّ علي الترجيح بعد المراجعة،و يدلّ علي عدم الترجيح قبلها،و إلاّ لقال في صدر الحديث،انظروا إلي أفقه من عرف حكمنا.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ الراوي أراد السؤال عن صورة اختلاف الفقهاء، و سؤاله كان هكذا،و هو أنّه إن رجعنا إلي رجلين منهما فاختلفا.

و من البعيد بناء علي ما قلنا من شمول الحكم للفتوي التفصيل في جواز الرجوع إلي غير الأفقه بين صورة المنازعة فلا يجوز،و بين صورة عدم المنازعة فيجوز،بأن يقول له الامام عليه السّلام:إذا علمت المخالفة بين الفقيه و الأفقه،يجوز لك أن ترجع إلي غير الأفقه لرفع الخصومة بحكمه،أو لأخذ الفتوي منه،و لكن لو رجعت إليهما و لم تعلم اختلافهما ثمّ علمت بعد المراجعة مخالفتهما،فلا يجوز لك

ص: 518

الأخذ من غير الأفقه بل يتعيّن الأفقه.

و لو سلّمنا اختصاص الرواية بالحكم الاصطلاحي،أي:الحكم في الموضوعات،و انّ الترجيح بالصفات لرفع النزاع في صورة اختلاف الحاكمين، فنقول:يستفاد منه الترجيح للفتوي أيضا؛لأنّ رفع النزاع في صورة اختلافهما يمكن بالأخذ بمن سبق حكمه،لبعد اجتماعهما في الحكم بأن ينشئا في آن واحد.

و الترجيح بأسبقية الحكمين هو الذي يقولون من أنّه لا يجوز نقض حكم المجتهد حتّي من مجتهد آخر.

ملخّص الكلام:أنّه لا يبقي ظهور للصدر في الاطلاق لأخذ الفتوي من الفقيه و الأفقه يشمل صورة الاختلاف،خصوصا مع احتفاف الكلام بما يحتمل أن يكون قرينة رافعة للظهور.

ثمّ إنّه قد نوقش في دلالته بوجوه اخر:

أحدها:ما في المستمسك،حيث قال:إنّه بقرينة التنازع الذي لا يكون إلاّ مع العلم حقيقة أو تعبّدا،و بقرينة ما في ذيلها من الرجوع إلي المرجّحات الداخلية و الخارجية ظاهرة في الحكم الفاصل للخصومة و لا تشمل الفتوي الخ (1).

أقول:لعلّ المراد بالتنازع هو الاختلاف،كالحاصل بين أبي ولاّد و صاحب البغل،مع أنّهما كانا جاهلين بالمسألة،فرجعا إلي أبي حنيفة و أفتي بما فصل به الخصومة.

ثانيها:ما في التنقيح من أنّ الأعلمية المعتبرة في المفتي هي الأعلمية المطلقة، و الأعلمية المذكورة في الخبر نفوذ حكم أعلمهما و إن وجد أعلم منهما (2).

أقول:في مفروض الخبر لا نظر إلي مثل هذا الفرض،فإنّه لم يكن في عصر4.

ص: 519


1- المستمسك 1:29.
2- التنقيح 1:144.

الأئمّة هذه وسائل الاتّصال و الاطّلاع الموجودة في عصرنا،و لا يعلم وجود أعلم مخالف لهما،مع أنّ مستند فقهاء الشيعة غالبا هي الأخبار لا آراؤهم.

ثالثها:ما ذكره في الكفاية من أنّ الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلاّ به لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوي (1)انتهي.

و في نهاية الدراية بعد تشقيقات للمسألة،و ذكر أنّه يمكن فصل الخصومة بفتوي الحاكم،قال:إنّ اعتبار الأفضلية في مقام الفتوي الفاصلة للنزاع مع فتوي اخري في هذه المرحلة لا يلازم اعتبارها في الفتوي بما هو فتوي،و لذا قلنا إنّ فتوي المجتهد ليست حجّة علي مجتهد آخر،لكنّها نافذة عليه في مقام فصل الخصومة إلي آخره (2).

أقول:لعلّ المستفاد من مجموع الخبر أنّه يلاحظ الأقربية إلي الواقع في الحكم، سواء كان بنحو الحكم للعمل أو بالفتوي أو بنقل الخبر الاصطلاحي،و قول الأفقه و المجمع عليه و مخالف العامّة أقرب إلي الواقع،بلا فرق في هذه الترجيحات بين الترافع ابتداء إلي الأفضل،أو بعد الترافع إلي الأفضل و المفضول.

و بالجملة انّ المتخاصمين إن كانا يعلمان فتوي الأفضل و فتوي المفضول و مخالفتهما في الفتوي،و كان اختلافهما في الحكم الكلّي،فلا إطلاق في الخبر يشمل الرجوع إلي غير الأفضل،و رجوع المجتهدين إلي ثالث محلّ إشكال خصوصا إن علما فتوي الثالث و كان مفضولا بالنسبة إليهما.

ثمّ إنّ في هذا الخبر إشكالا،و هو أنّ الحكمين إن كانا يحكمان علي التعاقب، فلا مجال للثاني،و حكمهما دفعة واحدة بعيد.4.

ص: 520


1- كفاية الاصول ص 543.
2- نهاية الدراية 3:214.

أجاب عنه في نهاية الدراية بحمله علي فصل الخصومة بنقل الخبر الفاصل، فيخرج مورد المقبولة عن القضاء و الفتوي معا،بل إنّ المتعارف في الصدر الأوّل هو القضاء و الافتاء بنقل الرواية،و الأمر بالترجيحات بملاحظة الرواية لا بملاحظة الفتوي و لا القضاء الخ (1).

أقول:و يمكن الجواب عن الاشكال بحمله علي الفتوي،فيفتي أحدهما بشيء ثمّ يفتي الآخر بخلافه،فيرتفع الاشكال،و لو حمل علي الحكم الاصطلاحي في الموضوعات،فيمكن أن يقال:إنّ ما رضي به الخصمان هو حكمهما دفعة،فلا استقلال لحكم أحدهما حتّي لا ينقض بحكم الآخر،بل المناط حكمهما،كما يحتمل ذلك في خبر النميري و داود بن الحصين الآتيان.

و في الجواهر:هذه النصوص إنّما هي في المتنازعين في حقّ و قد حكّما في أمرهما رجلين دفعة،فحكم كلّ واحد منهما لكلّ واحد منهما،و لا وجه للتخيير هنا،و لا يبطل حكم كلّ منهما بحكم الآخر،فليس حينئذ إلاّ الترجيح للحكم في كلّي الواقعة بالمرجّحات التي ذكرها الامام انتهي ملخّصا (2).

و منها:خبر داود بن الحصين في رجلين اتّفقا علي عدلين،إلي أن قال:

و اختلف العدلان،إلي أن قال:ينظر إلي أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه الخ.و قريب منه خبر النميري (3).

و لا يبعد أن يكون موردهما صورة جهلهما بنظر العدلين،و إنّما اتّفقا عليهما للتوثّق بالحكم ثمّ إنّهما اختلفا،و أمّا صورة علمهما من الأوّل باختلافهما ففي مثله لا يرجع الخصمان إليهما لعلمهما بنظرهما،فينبغي أن يقلّدا الأعلم حينئذ و يرفعا6.

ص: 521


1- نهاية الدراية 3:214.
2- جواهر الكلام 40:44.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:252 ب 6 ح 5 و ح 6.

خصومتهما بفتواه.

و حاصل الكلام في هذه الروايات أنّ التنازع و الاختلاف الناشيء عن الجهل بالحكم كان أمرا متعارفا،و لم يكونوا يعرفون حكم المسألة،فيرجعون إلي الفقهاء لتعلّم الحكم،فإذا اختلفوا وجب تقديم أعلمهم،أمّا إذا كانوا يعرفون فتوي الفقهاء فلا وجه للرجوع إليهم،بل ينبغي لهم فصل الخصومة بفتوي الأعلم.

و منها:ما في نهج البلاغة من عهده عليه السّلام إلي مالك الأشتر،و ما فيه أيضا و ما في عيون المعجزات و قد تعرّض لها في التنقيح (1)و أخبار تشبهها قد تعرّض لها غيره، فلو سلّم دلالتها و صحّة سندها و عدم اختصاصها بأمر الامامة،فلا بأس بها.

القول الثاني:حجّية قول غير الأعلم،و استدلّ لحجّيته بوجوه:

الأوّل:ما ذكره في الجواهر:و هو إطلاق أدلّة النصب المقتضي حجّية الجميع علي جميع الناس (2).

أقول:يريد باطلاق أدلّة النصب قوله«انظروا إلي رجل منكم روي حديثنا» و قوله«من كان روي حديثنا»و غيرهما،بل يمكن التمسّك بآية النفر و السؤال، و هو مبني علي ما اختاره من أنّ أدلّة النصب تدلّ علي حجّية رأي طبيعي الفقيه لا علي حجّية كلّ واحد حتّي تكون الأدلّة متعارضة.

و لكن صحّحه في نهاية الدراية علي مبني حجّية كلّ واحد أيضا،فقال:و أمّا علي الطريقية،فالأصل الأوّلي و إن كان يقتضي التساقط،لكنّه بناء علي عدمه:إمّا للأخبار العلاجية كما في الخبرين المتعارضين،أو للاجماع كما فيما نحن فيه، يمكن استكشاف المنجزية و المعذّرية بنحو التخيير (3).2.

ص: 522


1- التنقيح 1:145.
2- جواهر الكلام 40:43.
3- نهاية الدراية 3:212.

و أورد في الكفاية علي الاطلاق،فقال:و لا إطلاق في أدلّة التقليد بعد الغضّ عن نهوضها علي مشروعية أصله،لوضوح أنّها إنّما تكون بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم،لا في كلّ حال من غير تعرّض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل،كما هو شأن سائر الطرق و الأمارات علي ما لا يخفي (1).

و قال في توضيحه في نهاية الدراية:إنّ مورد الاطلاقات هي الرواية دون الفتوي،مضافا إلي أنّ الافتاء في الصدر الأوّل في مقام نشر الأحكام كان بنقل الروايات لا بإظهار الرأي و النظر الخ (2).

أقول:قد عرفت وجود الاجتهاد في عصر الأئمّة عليهم السّلام بالحمل علي التقية و الأخذ بالمتأخّر و التمسّك بالعموم،و لعلّه المراد بقوله«و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا»فلا يبعد شمولها لذلك،و كذا شمولها لصورة الاختلاف في الفضيلة،لكن المتيقّن منه صورة عدم العلم بمخالفة المفضول للأفضل.

و أمّا ما ذكره في التنقيح (3)بأنّ إطلاق أدلّة الحجّية لا يشمل المتعارضين؛ لاستلزامه الجمع بين النقيضين أو الضدّين فيتساقطان.فإنّما يتوجّه بناء علي أن يكون قول الفقيه حجّة محضة كالقطع،و أمّا بناء علي التعبّد فلا بأس بالتعبّد بالعمل بطبيعي قول الفقيه الصادق علي المفضول و الفاضل،فمع قطع النظر عن الايراد المتقدّم،و هو عدم شمول الاطلاق لصورة العلم بمخالفتهما في الفتوي لا مانع من التمسّك بالاطلاق.

و يحتمل أن يقال بأنّ الافتاء في زمان المعصومين من الرواة كان بنقل الرواية التي وصلت إليهم غالبا،و الأمر بالرجوع إليهم و إن كان مطلقا لكن الأخبار7.

ص: 523


1- كفاية الاصول ص 542.
2- نهاية الدراية 3:213.
3- التنقيح 1:137.

العلاجية تشمل الخبر الذي يؤدّيه الراوي بعنوان الفتوي،فحينئذ يقيّد إطلاق هذه الأخبار بتلك الترجيحات المذكورة في الأخبار العلاجية،و من أخبار الباب ما اشتمل علي الترجيح بالأفقهية،و هو خبر عمر بن حنظلة.

الثاني:ما ذكره في الجواهر،و هو السيرة المستمرّة في الافتاء و الاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة.

أجاب عنه في الكفاية بأنّ دعوي السيرة علي الأخذ بفتوي أحد المخالفين في الفتوي من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما ممنوعة (1).

أقول:يريد أنّه إذا علم أعلمية أحدهما و علم اختلافهما،لا يستفتي من أحدهما إلاّ بعد الفحص عن الأعلم و الاستفتاء منه خاصة،و لعلّ مفهوم كلامه أنّه إذا لم يعلم أعلمية أحدهما و إن علم الاختلاف،أو لم يعلم اختلافهما و إن علم أعلمية أحدهما،ففي هاتين الصورتين يمكن دعوي السيرة علي الرجوع إلي كلّ واحد منهما.

أقول:لا يخفي أنّ المفتين من الفقهاء في عصر الأئمّة عليهم السّلام إلي زمان الشيخ المفيد لعلّهم كانوا غالبا يفتون بمتون الروايات،فإن كان بينهم خلاف كان منشأه غالبا اختلاف الأخبار،و المتشرّعة لعلّهم يرون ذلك الاختلاف من المعصوم عليه السّلام، فلا يلتفتون إلي أنّ هذا الاختلاف يضرّ.و هذا بخلاف هذه الأزمنة التي تستعمل فيها القواعد التي لم يكونوا يستعملونها،فينبغي الفحص عن الأقرب إلي ما صدر عن المعصوم،ثمّ إن لم يمكن فعن الأعلم؛لأنّ العقل لا يعذر في الامتثال بغير ذلك.

الثالث:لزوم العسر؛لأنّه لو وجب التقليد عن الأعلم في كلّ مسألة لاحتاج إلي2.

ص: 524


1- كفاية الاصول ص 542.

الفحص عن جميع الفقهاء في البلاد،ثمّ عسر تشخيص الأعلم؛لأنّ الأعلمية أمر إضافي،و ليس لأحد أن يدّعي وجود عالم أعلم من الكلّ في جميع المسائل الشرعية،فإنّ المحيط الذي عاش فيه العالم و الجوّ المسيطر علي العلوم و شياع بعضها،و تدخّل بعضها في بعض،و البعد عن اللغة الصحيحة الدارجة في عصر الأئمّة عليهم السّلام و غير ذلك ممّا يوجب صعوبة تشخيص الأعلم.

أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا عسر في تقليد الأعلم،و ليس تشخيصه بأشكل من أصل الاجتهاد،مع أنّ قضيّة العسر الاقتصار علي موضعه (1).

أقول:الانصاف أنّ تشخيصه مشكل في عصرنا؛لأنّ الفقيه قد يصير مشهورا بعد بلوغه سبعين سنة مثلا،و حينئذ يظهر أراءه التي ارتضاها قبل سنوات طويلة جدّا،فهو الآن من حيث قيمة آرائه و مستوي علمه ذلك الرجل صاحب آراء ذلك الوقت،و لم يكن في ذلك الوقت معروفا بأنّه أعلم أهل الوقت،لأنّه لم يطّلع عليه أحد مثلا،فينبغي أن يقال بالتثبّت و الفحص.

الموضع الثاني: في جواز تقليد غير الأعلم و عدمه

أن يعلم أعلمية أحدهما،لكن لا يعلم اختلافهما في هذه الفتوي،و إن علم اختلافهما في بعضها تفصيلا أو إجمالا،إن لم تكن جميعها محلّ الابتلاء،ففي جواز تقليد غير الأعلم و عدمه و جهان،اختار الأوّل جماعة، و استدلّ له في منتهي الوصول (2)بأنّ فتوي المفضول حجّة و فتوي الأفضل تكون مزاحمة لها،فالمقتضي موجود،و يدفع المانع بالأصل.

و هذا ما ذكره في الجواهر،حيث قال:ثمّ إنّه بناء علي تقدّم الأفضل،فهل هو من حكم المانع أو الشرط؟و جهان،لا يخفي عليك الثمرة بينهما (3).

ص: 525


1- كفاية الاصول ص 543.
2- منتهي الوصول ص 404.
3- جواهر الكلام 40:36.

و اختاره في التنقيح (1)،و استدلّ له بامور:

أحدها:الاطلاقات خرج منها صورة العلم بالمخالفة.

فإن قلت:بعد خروج صورة المخالفة تكون الشبهة مصداقية،و لا يجوز التمسّك بالعامّ فيها.

قلت:نعم لو لا الأصل المقتضي لعدم المخالفة،و هو استصحاب عدم مخالفة رأي الأعلم بغير الأعلم.

ثانيها:أنّ الأئمّة عليهم السّلام قد أرجعوا عوام الشيعة إلي آحاد مخصوصة،مع وجودهم بينهم،و لا شكّ أنّه لا يؤخذ بقولهم مع العلم بمخالفتهم للأئمّة عليهم السّلام، فيتعيّن أن يكون مورد الرجوع إليهم صورة عدم العلم بمخالفتهم للأئمّة عليهم السّلام،و إذا جاز الرجوع إلي من لا يعلم مخالفته للمعصوم،فأولي أن يكون الرجوع إلي من لا يعلم مخالفته لمن لا يكون معصوما جائزا.

ثالثها:السيرة العقلائية.

أقول:يرد علي الأوّل أوّلا:أنّ المطلقات إذا كانت لا تشمل صورة مخالفة الفتويين،فتختصّ بصورة موافقتهما،فإذا شكّ في موافقتهما استصحب عدم الموافقة.

و ثانيا:أنّ أصالة عدم المخالفة من استصحاب العدم الأزلي،و هو غير حجّة، و استصحاب عدم وجود رأي مخالف لرأي غير الأعلم لا يثبت عدم مخالفة الرأي الموجود لرأي الأعلم،فتأمّل.

و يرد علي الثاني أوّلا:احتمال أن يكون الذين قد أرجع الأئمّة عليهم السّلام إليهم قد علموا موافقتهم لهم فيما يقولون.9.

ص: 526


1- التنقيح 1:159.

و ثانيا:أنّ مصلحة التسهيل لعدم امكان اجتماع الشيعة كلّهم حول الأئمّة عليهم السّلام أهمّ من مخالفتهم واقعا في بعض الموارد.

و يرد علي الثالث أوّلا:بأنّها تحتاج إلي الامضاء،و الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم تنهي عنها.

و ثانيا:لا نسلّم وجودها فيما كثر الاختلاف مثل الاختلاف الموجود بين الفقهاء في هذه الأعصار.

و ينبغي التنبيه علي امور:
الأمر الأوّل:يجب الفحص عن الأعلم

،و يقع الكلام في صور المسألة،و هي خمس:

إحداها:العلم بالتفاضل و باختلافهما في الفتوي.

الثانية:العلم بالتفاضل و الجهل باختلافهما في الفتوي.

الثالثة:العلم باختلافهما في الفتوي و الجهل بالتفاضل.

الرابعة:الجهل باختلافهما في الفتوي مع الجهل باختلافهما في التفاضل.

الخامسة:أن يشكّ في وجود مجتهد آخر.

أمّا الصورة الأولي،فيتعيّن فيها تقليد الأفضل.و لو جهل شخصه،وجب الفحص عنه،و لو لم يتمكّن من الفحص احتاط بالجمع بين القولين ليدرك العمل بقول الأفضل.

و أمّا الصورة الثانية،فقد اختلف كلامهم في جواز العمل بفتوي المفضول بدون الفحص عن فتوي الأفضل و عدمه،و المسألة مبنية علي أنّ موافقة فتوي المفضول للفاضل شرط حجّيته،أو أنّ فتوي الفاضل علي خلاف فتوي المفضول مانع،فعلي الأوّل لا بدّ من الفحص؛لأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط،و علي الثاني فالأصل عدم تحقّق المخالفة.

ص: 527

أقول:لو كان إطلاق الآيات و الأخبار شاملا للاجتهاد في مثل عصرنا كانت فتوي الأفضل مانعا،لكنّه لا يشمل أو يشكّ في شموله،و المتعيّن هو الأجود استنباطا من الأخبار و الآيات،فلا بدّ من الفحص عنه و العمل بقوله.

و أمّا الصورة الثالثة و هي أنّ يحتمل أعلمية كلّ واحد منهما مع اختلافهما في الفتوي،فيجب عليه الفحص؛لاحتمال عدم حجّية فتوي كلّ واحد منهما،فإنّ فتوي المفضول ليست حجّة،و يحتمل في كلّ واحد منهما أن يكون مفضولا.

و أمّا الصورة الرابعة،فهي كالثانية.

و أمّا الصورة الخامسة،فيجب الفحص؛لأنّ الحجّة هي فتوي الأعلم،فلا بدّ من الفحص عنه.هذا كلّه مع إمكان الفحص،و إن لم يمكن فإن تمكّن من الاحتياط و درك الواقع احتاط،و إلاّ كان مخيّرا،فتأمّل.

الأمر الثاني:إذا انحصر المجتهد في المتساويين في الفضيلة

،فللمسألة صورتان:تارة يفرض تساوي جميع العلماء أحياء و أمواتا،و اخري يفرض تساوي الأحياء فقط.

أمّا الصورة الاولي،فإن لم يكن أحد الطرفين أكثر،أو لم يعلم كونه أكثر بعد الفحص تخيّر،و إلاّ فالأحوط الأخذ بقول الأكثر.

و ذلك لأنّه لا يكلّف أحد بالأحكام المودعة عند المعصومين التي لم يبيّنوها، و لا يكلّف بالأحكام الموجودة ضمن الأخبار التي لم تصل إلينا،لأنّه تكليف بما لا يعلم و هو قبيح،بل التكليف الواقعي هو الموجود في ضمن الكتاب و الأخبار التي وصلت إلينا،و وظيفة المجتهد استخراج الحكم منها،و المقلّد لا يكون مكلّفا بالموجود في ضمن الكتاب و الأخبار،لأنّه لا يقدر علي العلم بها،فالتكليف بها يكون قبيحا،بل وظيفته ما تيسّر له من فتوي العلماء.

فإذا اختلف فتوي العلماء و لم يكن مرجّح لأحد الطرفين من كثرة المفتين فهو

ص: 528

يتخيّر؛لأنّ الواقع غير واصل إليه فلا تكليف به.

و إن كان لأحدهما مرجّح لكثرة المفتين تعيّن عليه؛لأنّه أقرب إلي الوصول إلي الحكم الموجود في ضمن الآيات و الأخبار من غيره،و يستقلّ العقل بالعمل به، و الميزان مراعاة الأقرب إلي الواقع.

هذا إن لم يعلم إجمالا بأنّ التكليف الواقعي أحدهما،و إلاّ وجب الاحتياط للعلم الاجمالي،فإذا أفتي أحدهما بوجوب تسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين،و أفتي الآخر بوجوب الثلاث،وجبت التسبيحة الواحدة و يشكّ في وجوب الثلاث.

و أمّا إذا حصل العلم الاجمالي،كما إذا أفتي أحدهما بوجوب القصر في الصلاة،و أفتي الآخر بوجوب الاتمام فيها،فإنّه يعلم إجمالا بوجوب إحداهما، فيجب عليه الاحتياط.و لا يترك الاحتياط في المثال الأوّل.

نعم لو كانت فقاهتهما نظير فقاهة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،فإطلاق أدلّة التقليد يشملهما،و تكون الحجّة رأي طبيعي الفقيه.

و قال مثل ذلك في الذريعة في صورة تساويهما،و قد مرّ نقل عبارته.

و أمّا الصورة الثانية،فإن كان في الأموات أعلم تعيّن العمل بما يوافقه،و إلاّ فبالطرف الأكثر فتوي،و إلاّ فيتخيّر،و قد علم وجهه ممّا سبق.

الأمر الثالث:في الترجيح بالأورعية

،نقول:إن كان أحدهما أورع في الفتوي، أي:كان أكثر تثبّتا و احتياطا في الجهات الدخيلة في الافتاء،ففتواه أقرب إلي الواقع،و يتعيّن الأخذ بها لأقربيتها.

و أمّا إن كان أحدهما أورع في ترك المباحات أو الشبهات،فلا أثر له في افتائه و لا يكون مرجّحا.

نعم يمكن أن يقال:إنّه مرجّح تعبّدي.و يستفاد ذلك من قوله في خبر عمر بن

ص: 529

حنظلة«يختار أورعهما»لكن ظاهر المقبولة أن تكون الأورعية مع بقيّة الصفات، إلاّ أن يقال بأنّه في مقام تعداد المرجّحات لا بيان اعتبار الجمع بينها،فتأمّل.

الأمر الرابع:قال في العروة الوثقي في المسألة(17):المراد من الأعلم من

يكون أعرف بالقواعد و المدارك للمسألة

و أكثر اطّلاعا لنظائرها و للأخبار،و أجود فهما للأخبار،و الحاصل أن يكون أجود استنباطا.

أقول:لا يبعد ترجيح الأقرب إلي الواقع بحسب الموازين،و إن لم يتيسّر فالأجود استنباطا الأوصل إلي الأحكام الواقعية من جميع الفقهاء الأحياء و الأموات.

و المراد من الأقرب إلي الوصول إلي الأحكام الصادرة ما ذكرناه في الاصول في كيفية العمل بالأخبار،و الاحتياط في الموارد التي ليس عليها واضح الأخبار، فيتعيّن الأقرب،ثمّ بعده الأجود استنباطا،و المراد به من كان مطّلعا علي الأخبار و معاني مفرداتها،قد حقّق الرجال و اطّلع علي كيفية الجمع بين الأخبار.

و علي هذا فلا بدّ من الأخذ بقول الأعلم من الجميع الأحياء و الأموات،و لو لزمه التبعيض في المسائل،و هو غير متيسّر لصعوبة تشخيصه،فينبغي في موارد الخلاف ملاحظة الأقرب الأحوط إن تيسّر،و إلاّ فلعلّ فتوي الأكثر أقرب و هكذا.

الأمر الخامس:المرجع في تعيين المجتهد و كذا تعيين الأعلم أهل الاستنباط،

و هم أهل خبرة تشخيص المجتهد،لأنّ الاجتهاد صعب،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:وفّقنا اللّه للاجتهاد الذي هو أصعب من طول الجهاد (1)انتهي.فمن لم يكن مجتهدا لا يميّز المجتهد عن غيره.

الأمر السادس:قد عرفت ممّا سبق أنّ الواجب علي العامي أن يكون عمله

ص: 530


1- فرائد الاصول 1:493.

موافقا لما جعله الشارع حجّة عليه،فإذا كان عمله مطابقا لفتوي الأفضل صحّ،و لا يضرّه تقييد عمله بكونه مستندا إلي فتوي المفضول فإنّه لغو،فلا وجه لهذا الاحتياط بعد العلم بالمطابقة لفتوي الأفضل.

و أمّا إن خالف فتوي المفضول فتوي الأفضل،فيجب تقليد الأفضل بناء علي وجوب تقليده كما مرّ.

حكم تقليد الميت ابتداء و استدامة

الشرط العاشر:الحياة،المعروف كما قيل عدم جواز تقليد الميت مطلقا،و قيل بجوازه مطلقا،و قيل بالتفصيل بين الابتداء و البقاء،و هذه المسألة تتفرّع علي المباني التي تقدّمت في حجّية رأي المفتي،فإن قلنا بالتعبّد و لو بالتعبّد علي نحو الطريقية،فيمكن القول بعدم الجواز أو بالتفصيل بين الابتداء و البقاء.و إن قلنا بالطريقية المحضة من دون تعبّد أصلا،فيتعيّن القول بوجوب تقليد أعلم العلماء حيّا و ميتا علي ما مرّ من وجوب تقليد الأعلم فيما إذا كانت فتوي غير الأعلم مخالفة للاحتياط.

و يستدلّ لعدم الجواز مطلقا بوجوه:

الأوّل:الاجماع،تعرّض له فيما طبع في آخر تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه، حيث قال:ظهور الاجماع المحقّق من الطائفة المحقّة،و يمكن الاطّلاع عليه و استعلامه من كلمات أصحابنا الامامية في المسألة،فإنّ نقل الاتّفاق و الاجماع فوق حدّ الاستفاضة (1).و تعرّض له في موضع آخر.

أقول:و نحن ننقل كلام من عثرنا عليه.

قال في المسالك في كتاب الأمر بالمعروف:و قد صرّح الأصحاب في هذا الباب في كتبهم المختصرة و المطوّلة و في غيره باشتراط حياة المجتهد في جواز

ص: 531


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 253.

العمل بقوله،و أنّ الميت لا يجوز العمل بقوله،و لم يتحقّق إلي الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا،و إن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور،و تحقيق المسألة في موضع آخر (1)انتهي.

و قال الشهيد الأوّل في الألفية:ثمّ المكلّف بها الآن من الرعية صنفان:مجتهد و فرضه الأخذ بالاستدلال علي كلّ فعل من أفعال الصلاة،و مقلّد يكفيه الأخذ عن المجتهد و لو بالواسطة أو وسائط مع عدالة الجميع (2)انتهي.

و قال الشهيد الثاني في شرحها:التاسع اللام في قوله«عن المجتهد»للعهد الذكري،و هو المذكور قبله بيسير،أي:عن المجتهد المتقدّم الآخذ بالاستدلال.

و فيه إشارة لطيفة إلي اشتراط حياة المجتهد المأخوذ عنه،فإنّ ذلك هو المعروف من مذهب الامامية،لا نعلم فيه مخالفا منهم،و إن كان الجمهور قد اختلفوا في ذلك،و تحقيق المسألة في الاصول (3).

إلي أن قال في الأمر الثاني عشر:و اعتماد خلاف ذلك باطل بالاجماع، خصوصا في تقليد الموتي،مع تقادم عهدهم و بعد زمانهم،فما يفعله كثير من أهل زماننا غير جائز،بل هو غير معروف في المذاهب أصلا،و بيانه من وجوه:

الأوّل:اعتمادهم علي تقليد الميت،و قد ثبت أنّ القائل به غير معروف في أصحابنا،بل الذين توجد كتبهم منهم الآن و تنقل فتواهم قد أكثروا في كتبهم الاصولية و الفروعية من إنكار ذلك،و نادوا بأنّ الميت لا قول له،و أسمعوا من كان حيّا.

فعلي مدّعي الجواز بيان القائل علي وجه يجوز الاعتماد عليه،فإنّا قد تتبّعنا ما1.

ص: 532


1- المسالك 3:109.
2- الألفية ص 416-418 المطبوع مع حاشية الشهيد الثاني.
3- المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة ص 51.

أمكننا تتبّعه من كتب القوم،فلم نظفر بقائل به من فقهائنا المعتمدين،بل وجدنا لأصحابنا قولين:

أحدهما:قول كثير من القدماء و فقهاء حلب،كأبي الصلاح و ابن حمزة بوجوب الاجتهاد عينا،و عدم جواز التقليد لأحد البتّة،و هو قول غريب عجيب مستلزم للمحنة الكبري و الطامّة العظمي.

و ثانيهما:قول المتأخّرين و المحقّقين من أصحابنا أنّه واجب علي الكفاية،و أنّه متي قام به أحد وجب علي من قصر عن مرتبة الاستدلال الرجوع إليه،و إن أخلّ به الجميع اشتركوا جميعا في الاخلال بالواجب،و يستثني منه من عجز عن بلوغ تلك المرتبة يقينا،لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق.

و تفصيل ذلك يتوقّف علي بسط كلام لا يليق بهذا المقام.

و علي القولين فالتفقّه واجب في الجملة إجماعا،فترك الاشتغال بالتفقّه و الاكباب علي تقليد الموتي باطل بالاجماع،و ما يتناقلونه بينهم من تجويز تقليد الميت باطل مردود عليهم،و لا طريق لهم في إسناده إلي أحد من علمائنا الذين يعتمد عليهم،و إنّما هو نقل مرسل لا يجوز التعويل علي مثله،و علي تقدير إسناده الصحيح لا يمكن المصير إليه إلاّ إذا اسند إلي مجتهد حيّ يجد له موافقا عليه من الأموات علي وجه لا يستلزم خرق الاجماع.و أمّا اسناده إلي الميت فجواز العمل به يتوقّف علي جواز النقل عن الميت،فلو توقّف جواز النقل عن الميت علي هذا النقل لزم الدور (1)انتهي موضع الحاجة،و لاحظ تتمّة كلامه فإنّه لا يخلو عن ارتباط بالمطلب.

و قال الكركي في حاشية الألفيّة السابقة:اللام في قوله«المجتهد»للعهد3.

ص: 533


1- المقاصد العليّة ص 52-53.

الذكري و المعهود ما قبله بيسير،فكأنّه قال:عن المجتهد المذكور،و يكون فيه ايماء لطيف إلي اعتبار كون المجتهد المأخوذ عنه حيّا،فإنّ ذلك مذهب أصحابنا الامامية قاطبة،و قد نادوا به في مصنّفاتهم الاصولية و الفروعية،فأسمعوا من كان حيّا،و الأدلّة علي ذلك كثيرة نبّهنا علي بعضها في بعض مظانّها،و يرشد إلي هذا الايماء قوله في المعهود:و فرضه؛لأنّ الميت لا فرض عليه لخروجه عن التكليف، و حينئذ فيعتبر في المأخوذ عنه أن يكون مجتهدا و أن يكون حيّا (1)انتهي محلّ الحاجة.

و قال الكركي أيضا في رسالة الجعفرية:و الرجوع إلي المجتهد و لو بواسطة و إن تعدّدت إن كان مقلّدا،و اشترط الأكثر كونه حيّا (2)انتهي.

أقول:أوّلا:يمكن أن يجعل اللام في عبارة الشهيد الأوّل«عن المجتهد» للجنس،و إطلاقه شامل للحي و الميت،مضافا إلي أنّه ليس في مقام بيان شرائط المجتهد المأخوذ عنه حتّي يستفاد من عبارته اشتراط الحياة،بل قوله«و لو بوسائط»يشمل الوسائط الناقلة عن الميت و لو بمراجعة مصنّفاتهم.

و ثانيا:انّ الشهيد الثاني صرّح في المقاصد العلية التي نقلنا الكلام المتقدّم منها، بقول كثير من القدماء و فقهاء حلب كأبي الصلاح و ابن حمزة بوجوب الاجتهاد عينا،و عدم جواز التقليد لأحد البتّة،فكيف تكون المسألة اجماعية،بل يظهر من بعض القدماء جواز تقليد الميت كالصدوق رحمه اللّه،حيث وضع كتابه من لا يحضره الفقيه ليعمل به كلّ من لا يحضره الفقيه في زمانه و بعد وفاته إلي آخر وقت حاجة الناس،كما أنّ كتاب من لا يحضره الطبيب الذي صار سببا لتأليفه من لا يحضره الفقيه موضوع لكلّ من يستفيد منه و إن مات مؤلّفه،و الصدوق مجتهد في الجملة؛0.

ص: 534


1- رسائل المحقّق الكركي 3:176.
2- رسائل المحقّق الكركي 1:80.

لأنّه يرجّح بعض الأخبار علي بعض و يجمع بينها في كتابه من لا يحضره الفقيه.

قال في ذيل حديثين:أحدهما يدلّ علي أنّ ما يوصي به في سبيل اللّه يصرف في الحجّ،و قال الآخر في شيعتنا.قال مصنّف هذا الكتاب:هذان الحديثان متّفقان و ذلك أنّه يصرف ما اوصي به في السبيل إلي رجل من الشيعة يحجّ عنه،فهو موافق للخبر الذي قال:سبيل اللّه شيعتنا (1).

و يقول في بعض الموارد:أفتي بهذا الحديث،و يطرح الحديث الآخر لضعف السند،فهو يجتهد.و ليس مرادنا من الاجتهاد إلاّ التمييز بين صحيح الأخبار و سقيمها و الجمع بينها.

و قال بعد ايراد حديثين،:و هذا حديث مفسّر،و المفسّر يحكم علي المجمل (2).

و كذلك الشيخ رحمه اللّه وضع كتاب نهايته لكلّ من يستفيد منه و لو بعد وفاته.بل الكليني،و لاحظ سائر المصنّفين من علمائنا المتقدّمين.

بل الذي تطمئنّ به النفس أنّ الأولاد و البنات يتعلّمون المسائل من آبائهم و أمّهاتهم،و ربما كان المفتي لهم ميتا،فإذا بلغوا حدّ التكليف يعملون بما تعلّموا، و هذه سيرتهم متّصلة إلي عصر الأئمّة عليهم السّلام،فإنّا نطمئنّ أنّ من استفتي من زرارة فإنّه يعمل به و يعلّم أولاده،و لا يخطر بباله سقوط فتوي زرارة عن الاعتبار بموته، و لو كان ذلك ممنوعا كان اللازم التنبيه عليه في رواية من الروايات،فإنّ عامّة من يرجع إلي أهل العلم لا يفرقون بين موتهم و حياتهم.

و هكذا من كان يرجع إلي الرواة و يأخذ عنهم الفتوي الاجتهادية علي ما بيّنا سابقا من وجود الاجتهاد في عصرهم لا يفرقون بين الحياة و الممات.و لو كان آلة التسجيل موجودة في عصرهم و سجل صوت زرارة لم يشكّ أحد ممّن سمع مدحه0.

ص: 535


1- من لا يحضره الفقيه 4:153.
2- من لا يحضره الفقيه 4:150.

من الامام عليه السّلام و إرجاعه إليه في شمول ذلك لصوته،و كتابه مثل صوته بلا فرق.

و ثالثا:لو سلّم ثبوت الاجماع فإنّا نطمئنّ أنّه ليس إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه السّلام،بل هو معلّل في كلام بعضهم بأنّ الميّت لا رأي له أو لا قول،أو أنّ الاكباب علي تقليد الموتي باطل بالاجماع،و قد تقدّم بعض عبارات الشهيد، فالانصاف أنّه ليس حجّة تعبّديّة،مع أنّ المسألة غير مذكورة في كتب القدماء.

و أمّا ما ذكره من أنّ القول بجواز تقليد الميت يوجب عدم وجوب الاجتهاد لا كفاية و لا عينا،فيلزم الاكباب علي تقليد الموتي،و هو باطل بالضرورة.

فممنوع؛لأنّ المسائل تتجدّد و يبتلي الناس بمسائل جديدة فيحتاج إلي المجتهد،فيجب الاجتهاد كفاية.و إذا صار شخص مجتهدا أي:ذا ملكة،فلا يجوز له تقليد الموتي حتّي فيما لم يستنبط،فلا بدّ من أن يصير مجتهدا مطلقا،و حينئذ ربما يكون أعلم من السابقين،فيجب علي الناس الرجوع إليه إلي أن يصير غيره أعلم علي مختاره من وجوب تقليد الأعلم،فلا يلزم الاكباب علي تقليد الموتي، ليكون خلاف الضرورة.

الدليل الثاني:أنّ الاجماع المتقدّم إن لم يكن حجّة،فلا أقلّ من أنّه يوجب الشكّ في حجّية قول الميت،فيدور الأمر بين تعيّن قول الحي و بين التخيير بين الحي و الميت،و مقتضي الأصل اللفظي و العملي هو تعيّن تقليد الحيّ.

أمّا الأوّل،فعمومات المنع عن العمل بغير العلم تقتضي المنع مطلقا،لكن قد علم تخصيصها بقول الحيّ،و يشكّ في تخصيصها بقول الميت،فيتمسّك بالعموم و يحكم بعدم الحجّية.

و أمّا الثاني:فلأنّ الشكّ في الحجّية مساوق لعدم الحجّية،و لاستصحاب عدم جعل الحجّية.

و الجواب:أنّ ما دلّ علي الرجوع إلي المجتهد يعمّ الحيّ و الميت،و هو المرتكز

ص: 536

في أذهان العقلاء،من رجوع الجاهل إلي العالم في كلّ فنّ،فلا يفرقون بين العالم الحيّ و بين العالم الميت في الرجوع إليه و إلي كتابه،و كذا في باب التقليد.

بل يمكن أن يقال بتقديم فتوي الأعلم الميت علي فتوي الحيّ،و ذلك لأنّا مكلّفون بالعمل بالأحكام التي تستفاد من القرآن و من هذه الأخبار،و لا يتمكّن كلّ أحد من الاستفادة من هذه الأخبار،بل إذا رجعنا القهقري نري أنّ عامّة المكلّفين لم يكونوا يستنبطون الحكم بأنفسهم،و لا سبيل أقرب من أن يتصدّي لذلك من كملت فيه الأهلية له،و يرجع إليه من لم يكن أهلا للاستنباط،و يظهر من الأخبار الدالّة علي الرجوع إلي من استنبط الحكم تقديم الأفقه و الأعلم بالأحاديث و أمثال ذلك،فنحتمل الخصوصية لقول الأفقه،فإذا كان الميت أفقه فيكون هو المتيقّن في الحجّية.

فإن تمّ حجّية الاجماع المتقدّم،فيتعيّن تقليد الحيّ،و إلا فيدور الأمر بين تعيّن الأعلم حيّا كان أو ميتا،و بين التخيير بينه و بين غيره،و من لاحظ الأخبار الواصلة إلينا يري فيها الاشارة إلي ترجيح الأفقه،و ليس فيها أيّ إشارة إلي تقديم قول الحيّ.

و ممّا ذكر ظهر الجواب عن أصالة حرمة العمل بغير العلم.

الدليل الثالث:ما عن المحقّق الثاني،من أنّ المفتي إذا مات سقط قوله؛ للاجماع علي أنّ خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل العصر يمنع من انعقاد الاجماع اعتدادا بقوله،فإذا مات و انحصر أهل العصر بالمخالفين له انعقد الاجماع.

و الجواب:أنّ الاجماع المذكور ليس بحجّة؛لأنّه مبني علي القول بحجّية الاجماع من طريقة دخول شخص المعصوم في المجمعين،فإذا مات أحد العلماء ينكشف أنّه ليس بإمام.

و هذا المبني غير صحيح عند المتأخّرين،و كذا سائر مباني حجّية الاجماع،إلاّ

ص: 537

ما قرّر في محلّه من أنّ الاجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف عن استنادهم إلي نصّ وصل إليهم لم يصل إلينا،أو عن وصول الحكم إليهم يدا بيد.و من المعلوم عدم وصول نصّ إليهم يدلّ علي عدم حجّية قول الميت.

الدليل الرابع:أنّ اجتهاد المجتهد هو ظنّه بالحكم الشرعي،و هذا الظنّ يمتنع أن يبقي بعد الموت،أمّا أوّلا:فلضعف الادراكات بضعف البدن،فيزول ظنّه بالموت، و لذا لا يجوز البقاء علي التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا.

و أمّا ثانيا:فلانكشاف الواقع عنده،فيزول الظنّ بالحكم الواقعي.

و دعوي أنّه يحتمل في حقّه بعد الموت أن يقطع بالحكم المماثل لظنّه،و ليس ذلك تبدّلا في الموضوع،بل هو من قبيل شدّة السواد و ضعفه،فيستصحب بقاء رأيه.مدفوعة بأنّ الاستصحاب لا يجري لتبدّل الموضوع عرفا.

قلت:يرد علي الأوّل:أنّ الادراكات باقية في خزانة النفس في الهرم و المرض، كما في نهاية الدراية (1).

و يرد علي الثاني:أنّ دعوي انكشاف الخلاف بمجرّد الموت بلا دليل.

و الصحيح في الجواب أن يقال:إنّ رأي المجتهد طريق إلي الحكم بمعني أنّه انّما يتبع قوله لا لخصوصية شخصه من حيث انّه ابن فلان،و أنّه يسكن بلدة كذا، و أنّ جسمه و لونه كذا،بل لكون فقاهته أقرب الطرق للوصول إلي قول الامام عليه السّلام، حيث انّ تمييز قولهم عليهم السّلام من أجل ما وقع من الاختلاف في الأخبار و سائر جهات موجبات خفاء الأحكام صار صعبا.و أقرب الطرق ما يعمله الفقيه البارع الذكي الفطن كزرارة و أضرابه،و هذا لا مدخلية لحياته فيه،كما هو واضح.

و من ذلك يظهر أنّه لا دليل علي عدم جواز الرجوع إلي فتوي الأعلم إذاي.

ص: 538


1- نهاية الدراية 3:219 الطبع الحجري.

عرض له النسيان أو الضعف في حال نزع أو فقد سائر الشرائط.

الدليل الخامس:أنّه بناء علي وجوب تقليد الأعلم في مورد اختلاف الفتاوي إن جاز تقليد الميت ابتداء لزم حصر المجتهد المقلّد في شخص واحد؛لأنّ أعلم علمائنا من الأموات و الأحياء شخص واحد،و هو ممّا لا يمكن الالتزام به؛لأنّه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة،و يؤدّي إلي أن يكون الأئمّة ثلاثة عشر.

و جوابه أوّلا:أنّ الأنظار تختلف،فبعض يري الأعلم غير من يراه الآخر،فلا ينحصر في شخص واحد.

و ثانيا:أنّه ربما يصير المتأخّر أعلم من سابقه،فيتغيّر الأعلم،كما هو ظاهر.

و ثالثا:أنّه تتجدّد مسائل يحتاج فيها إلي المجتهد الحيّ لعدم تعرّض الميت لها.

و رابعا:أنّ الميت الأعلم ربما يفتي بحرمة تقليد الميت،أو جواز تقليد غير الأعلم.

و خامسا:أنّ تولّي الامور الراجعة إلي الحاكم الشرعي منحصر في المجتهد الحيّ.

الدليل السادس:أنّ ما دلّ علي حجّية فتوي المجتهد ظاهر في اعتبار الحياة في المفتي؛لأنّ الدليل علي التقليد:إمّا لبّي كالاجماع و بناء العقلاء و السيرة و المتيقّن منها تقليد الحيّ،و إمّا لفظي من الكتاب كآية الذكر و آية النفر،و سؤال أهل الذكر حقيقة في الاستعلام من الحيّ،و الانذار لا يكون إلاّ من الحيّ،أو من الأخبار،كقوله«انظروا»في خبر أبي خديجة،و قوله«ينظران»في حديث عمر بن حنظلة،و هما ظاهران في الحيّ؛لأنّ النظر إلي الرجل معناه الحقيقي لا يتحقّق إلاّ بالنسبة إلي الحيّ.

و كذا قوله«من الفقهاء صائنا لنفسه»ظاهر في الحيّ،و كذا قوله«ارجعوا إلي رواة حديثنا»فإنّه لو كان أعمّ لقال:ارجعوا إلي رواية رواتنا.

ص: 539

و الجواب أوّلا:أنّ الأدلّة المذكورة علي ما تقدّم كلّها تدلّ علي حجّية فقه الفقيه لا بما هو قائم به،أي:بوصف القيام بهذه القوي المحسوسة ليقال:إنّه لا يصدق علي ميّته أنّه فقيه؛بدعوي أنّ جسد الميت جماد،بل نمنع عدم الصدق.

و كيف لا يصدق علي زرارة بعد موته أنّه أهل الذكر أو الفقيه أو رواة الأحاديث،بل كلّها تصدق عليه،و هل يشكّ أحد في جواز الرجوع إلي كتاب الفتوي لزرارة في زمان حياته؟مع أنّه ليس ذلك رجوعا إلي الفقيه و راوي الحديث،بل رجوع إلي كتابه،فإذا صدق ذلك فلا فرق بين حياته و موته.

الدليل السابع:أنّ المهمّ في محلّ الكلام هو فيما إذا اختلفت فتوي الحيّ مع فتوي الميت،و أدلّة التقليد من الآيات و الروايات لا يشملهما،لتكاذبهما المانع من شمول الدليل لهما،و لا ترجيح للشمول لأحدهما المعيّن،فلا بدّ في إثبات الحجّة من رأي الميت أو الحيّ من الرجوع إلي الاجماع أو بناء العقلاء أو السيرة،و هي مشكوكة بالنسبة إلي تقليد الميت،و عند دوران الأمر بين تعيّن الحيّ أو التخيير بينه و بين الميت يتعيّن الحيّ،للشكّ في حجّية رأي الميت.

و جوابه:أنّ أدلّة التقليد إن كانت تدلّ علي الوجه الثاني،و هو كون رأي الفقيه حجّة بما هو رأيه،فيمكن شمولها لهما؛لأنّه علي هذا لا نظر إلي الواقع.و إن كانت تدلّ علي الوجه الأوّل،و هو كون رأيه طريقا أو أقرب الطرق إلي الواقع،كما هو الأقرب،فتتعارض الأدلّة و لا مرجّح للحياة أصلا.

فينبغي مع تساويهما في العلم:إمّا الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين،بناء علي كونه مكلّفا بالواقع،أو الرجوع إلي البراءة،لتساقطهما و عدم طريق آخر للمقلّد و عدم تمكّنه من الفحص ليجب عليه الفحص،فيكون الحكم الواقعي غير واصل إلي المقلّد.و أمّا مع أعلمية أحدهما،فيحتمل تعيّن تقليده،فيجب،سواء كان حيّا أم ميتا.

ص: 540

و استدلّ المجوّزون بامور:

أحدها:استصحاب جواز تقليده في حال حياته.

و أورد عليه في الكفاية بأنّه لا مجال له؛لعدم بقاء موضوعه عرفا؛لعدم بقاء الرأي معه،فإنّه متقوّم بالحياة بنظر العرف،و إن لم يكن كذلك واقعا،حيث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميت و رأيه (1).

هذا بالنسبة إلي التقليد الابتدائي.و أمّا الاستمراري،فربما يقال بأنّه قضية استصحاب الأحكام التي قلّده فيها.

و أورد عليه في الكفاية بما حاصله:أنّ استصحاب الحكم الذي قلّده فيه و هو وجوب السورة في الصلاة مثلا،لا يجري؛لأنّه لم يكن حكم حتّي يستصحب؛لأنّ جواز التقليد إن كان بحكم العقل الفطري،فهو لا يقتضي أزيد من تنجّز ما أصاب و العذر فيما أخطأ،و كذا إن كان بالنقل؛لأنّ الحجّية لا تقتضي إنشاء الحكم،بل لو سلّم إنشاء الحكم فيحتمل أن يكون موضوعه الرأي،و هو منتف بعد الموت،و مع الشكّ في الموضوع لا مجري للاستصحاب (2).

أقول:قد حقّقنا في محلّه أنّ مورد الاستصحاب هو اليقين الذي يبقي لو لا عروض الشكّ،و فيما نحن فيه ليس كذلك،فإنّه علي يقين و شكّ،لا علي يقين ينقضه الشكّ.

ثانيها:إطلاق الآيات و الأخبار،فإنّه شامل للحيّ و الميت.

و نوقش فيه بأنّها في مقام أصل تشريع تقليد الفقهاء.و لو سلّم كونها في مقام البيان من جميع الجهات،فلا يصدق الفقيه و أهل الذكر و العارف بأحكامهم علي الموتي،و لو سلّم صدقها في أنفسها عليهم،فهي منصرفة إلي الأحياء.6.

ص: 541


1- كفاية الاصول ص 545.
2- كفاية الاصول ص 546.

أقول:لا يشكّ العرف في دلالتها علي الأعمّ؛لأنّ المقصود من السؤال من الفقيه هو الانتفاع بعلمه من غير فرق بين الموتي و الأحياء،و لا يختصّ السؤال بمراجعة شخصه،بل المراجعة إلي كتابه تكون سؤالا منه.و لا شكّ في صدق الفقهاء و أهل الذكر و العارف بالأحكام علي الموتي.و الانصاف أنّه لو كان صوت زرارة مسجّلا كان الأخذ به أخذا عنه،مع ما ورد في مدحه حيّا و ميتا.

و أجاب عنه المحقّق الاصفهاني بأنّ قول القائل اعمل علي رأي فلان أو التزم برأيه من دون تقييد و عناية،ظاهر في ثبوت الرأي عند تعلّق العمل (1).

أقول:ليس في الأدلّة اعمل علي رأي فلان،بل هي تدلّ علي حجّية الرأي لكونه أقرب الطرق للوصول إلي التكاليف،بل لو سلّم وجود العبارة المذكورة،فقد تقدّم أنّه بمناسبة الحكم و الموضوع لا يشكّ في الدلالة علي الأعمّ من الحيّ و الميت.

ثالثها:السيرة العقلائية،فإنّه لو راجع مريض إلي طبيب و عالجه،ثمّ مات الطبيب،و اتّفق أن مرض آخر بنفس مرض الأوّل و علم بنحو علاج الطبيب له و كان الطبيب أعلم من الطبيب الحيّ،فهل يأخذ بقول الميت،أو يراج الحيّ غير الأعلم؟لا ينبغي الريب في أنّه يأخذ بقول الميت.هذا ما تقتضيه الصناعة العلمية، لكن لا يترك الاحتياط بالعمل بفتوي أعلم العلماء حيّا و ميتا مع موافقة فتوي حيّ.

ثمّ إنّه قد يفصّل في تقليد الميت بين التقليد ابتداء و بين البقاء عليه،بالمنع عن الأوّل و الجواز في الثاني.أمّا المنع عن الأوّل،فلما سبق.

و أمّا الجواز في الثاني،فلأنّ مقتضي إطلاق آية النفر وجوب العمل علي طبق إنذار المنذر إذا أنذر و هو حيّ،سواء بقي حال العمل أم لم يبق،و كذا سؤال من7.

ص: 542


1- الاجتهاد و التقليد ص 17.

هو من أهل الذكر في حال حياته،سواء عمل به حال حياته أو بعد موته،و كذا الأخبار الآمرة بالأخذ من الفقيه حال حياته شاملة لما إذا عمل به في حال حياته أو بعدها،و كذا السيرة العقلائية،فإنّ المريض لو رجع إلي الطبيب و أخذ منه العلاج،ثمّ مات الطبيب قبل أن يعمل المريض بقوله،لم يترك العمل علي طبق علاجه (1).

أقول:هذه الأدلّة تقتضي الرجوع إلي الفقيه مطلقا كما تقدّم.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:في كون البقاء علي تقليد الميت يتحقّق بتعلّم فتاويه و عدم نسيانها،أو بالالتزام بها،أو بالعمل بها و لو بعضها،أو بالعمل في كلّ مسألة،وجوه.

قد يقال بأنّه يكفي التعلّم؛لأنّ الاطلاقات و السيرة تشمله ما لم ينس،فإذا نسي كان جاهلا،فإن رجع إليه كان من التقليد الابتدائي (2).

قلت:فيه نظر واضح،فإنّ النسيان لا يوجب أن يكون التقليد ابتدائيا.

الثاني:قد يقال بوجوب البقاء إن كان الميت أعلم من الحيّ لوجوب تقليد الأعلم.و فيه أنّه يمكن أن يكون الميت أعلم من الحيّ،و لكن كانت فتوي الحيّ موافقة للأعلم من الميت ممّن لم يقلّده.و علي المختار يجب تقليد الأعلم من الجميع.

الثالث:قيل:إذا عدل عن الميت إلي الحيّ لم يجز له العدول إلي الميت.

أقول:علي ما سبق من وجوب تقليد أعلم العلماء من غير فرق بين الحيّ و الميت لا محلّ لهذه المسألة؛لأنّ الميت إن كان أعلم من الجميع وجب تقليده ابتداء و بقاء و يكون العدول عنه باطلا.و إن كان الحيّ أعلم كذلك وجب تقليده2.

ص: 543


1- التنقيح 1:110.
2- التنقيح 1:112.

ابتداء و بقاء.

الرابع:من قلّد ثلاثة،بأن قلّد مجتهدا فمات،ثمّ قلّد مجتهدا فمات،ثمّ قلّد مجتهدا ثالثا،ففيه تسع صور؛لأنّ فتوي الثاني:إمّا وجوب البقاء،أو حرمته،أو جوازه،و كذا الثالث،و مضروب الثلاث في الثلاث تسع صور،فإذا أفتي الثالث بحرمة البقاء أي عدم حجّية قول الميت لم يجز البقاء،و هذه ثلاث صور حكمها واضح،يبقي ستّ صور.

الاولي:أن يكون فتوي الثاني و الثالث وجوب البقاء،فإن اتّفقا في معني التقليد،وجب البقاء فعلا علي فتوي الأوّل و علي فتوي الثاني،و لم يجز العمل بسائر فتاوي الثالث.و إن اختلفا في معني التقليد،بأن كانت فتوي الثاني في معني التقليد العمل بقول الغير،و فتوي الثالث الالتزام بالعمل بقول الغير،و إن لم يتعلّم فتواه و لم يعمل بها و كانت فتوي الثاني وجوب البقاء،فبقي في المسائل التي عمل بها و رجع فيما لم يعمل إلي الثاني،و كانت فتوي الثالث وجوب البقاء،و قد التزم بجميع فتاوي الأوّل،و كذا بجميع فتاوي الثاني،فهل يبقي علي فتاوي الأوّل أو الثاني؟و جهان،و المختار عندنا البقاء علي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم،هذا إذا كان المستند لوجوب البقاء كون الميت أعلم.

الثانية:أن يكون فتوي الثاني جواز البقاء،و فتوي الثالث وجوب البقاء،و علي ما بيّناه يجب البقاء علي فتاوي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم.نعم إن كان الثاني أعلم وجب البقاء علي تقليده،و حيث إنّ فتواه جواز البقاء علي فتوي غير الأعلم،فيجوز البقاء علي الأوّل بفتواه،فهو نظير أن يفتي الأعلم بجواز الأخذ من غير الأعلم، كما يجوز الرجوع منه إلي الثالث؛لأنّ الثالث أفتي بوجوب البقاء علي الثاني،كما

ص: 544

إذا أفتي غير الأعلم بوجوب الرجوع إلي الأعلم،و الثاني أفتي بجواز الرجوع إلي الثالث،كما إذا أفتي الأعلم بالرجوع إلي غير الأعلم.هذا كلّه مع اتّفاق فتوي الثاني و الثالث في مفهوم التقليد،و لو اختلفا بأن كانت فتوي أحدهما العمل و فتوي الآخر الالتزام فربما يختلف.

الثالثة:أن تكون فتوي الثاني حرمة البقاء،و فتوي الثالث وجوب البقاء،فإنّها تكون علي وجهين:

الأوّل:أن يكون قد قلّد الثاني في خصوص وجوب الرجوع و لم يكن له مسألة تحتاج إلي التقليد؛لأنّه كان عالما بالضروريات،و هذا يصحّ علي مبني الالتزام بفتوي الثاني،ثمّ مات و قلّد ثالثا كان يقول بوجوب البقاء،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في رسالة:إنّ فتوي الثالث لا تشمل فتوي الثاني بوجوب الرجوع، قال:لو قلّد المجتهد الحيّ في مسألة وجوب الرجوع،فمات فرجع إلي من يفتيه بوجوب البقاء لم تشمل فتواه تلك المسألة للزوم التناقض (1)انتهي.

أقول:لا تناقض،فهو نظير أن يفتي غير الأعلم بوجوب تقليد الأعلم،و أفتي الأعلم بوجوب تقليد غير الأعلم لمصلحة يراها مثلا.

الثاني:الفرض المتقدّم لكن قلّد الثاني في المسائل الفرعية،فمات و أفتي الثالث بوجوب البقاء،فلا يشمل فتوي الثالث بوجوب البقاء فتوي الثاني بوجوب الرجوع إلي الحيّ للتناقض،و لا مانع من شموله للمسائل الفرعية التي قلّد فيها الثاني،فهل يجب البقاء علي المسائل التي قلّد فيها الأوّل،أو علي المسائل التي قلّد فيها الثاني؟و جهان.

قوّي الشيخ الأنصاري الثاني،حيث قال:أقواهما الثاني؛لأنّ تقليد الثاني6.

ص: 545


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 66.

و رجوعه عن الأوّل بالنسبة إلي المسائل التي رجع فيها في حال حياة الثاني وقع صحيحا،و إن لم يجز له البقاء علي مسألة الرجوع بالنسبة إلي ما بعد موته،فلا ينافي ما ذكرناه من عدم شمول حكم الحيّ بالبقاء لمسألة وجوب الرجوع التي قلّد فيها من مات،و ربما قيل بالأوّل،و لعلّه لأنّ التقليد الثاني في المسائل المعدول عنها إنّما هو تقليد في وجوب الرجوع،فإذا كان الافتاء بالبقاء لا يشمل فلا يشمل ما يترتّب عليه،و المسألة محلّ إشكال (1).

أقول:إن كان القول بوجوب البقاء مشروطا بكون الميت أعلم،فيبقي علي فتوي الأوّل إن كان أعلم منهما،و علي الثاني إن كان أعلم منهما،و لا يجب البقاء إن كان الثالث أعلم منهما.

الرابعة و الخامسة:أن يفتي الثاني بوجوب البقاء أو بحرمته و الثالث بجوازه، فيجوز البقاء علي تقليد الأوّل،كما يجوز البقاء علي تقليد الثاني.

السادسة:أن يفتي الثاني بجوازه و الثالث أيضا بجوازه،فإن لم يختلف الثاني و الثالث في مفهوم التقليد،فلا معني لجواز البقاء بفتوي الثالث علي جواز البقاء علي فتوي الثاني.نعم يجوز إن اختلفا بأن كانت فتوي الثاني في مفهوم التقليد هو الالتزام بالعمل بفتوي المجتهد،و كانت فتوي الثالث أنّه نفس العمل،و المكلّف قد التزم بالعمل بفتاوي الأوّل،و التزم بالعمل بفتاوي الثاني،و عمل بفتواه بالبقاء علي فتوي الميت،و هو التزامه بالعمل بفتاوي الأوّل،و حينئذ بعد موت الثالث لا يجوز له العمل علي ما لم يعمل به من فتاوي الأوّل،لكن له أن يبقي علي فتوي الثاني الذي عمل به و هو الالتزام بالعمل بفتوي المجتهد،و حينئذ يجوز له البقاء في المسائل التي لم يعمل بها من فتاوي الأوّل.6.

ص: 546


1- رسالة الاجتهاد و التقليد ص 66.
الفصل الخامس: فيما لا يقلّد فيه
اشارة

و هو امور:

الأمر الأوّل:الضروريات و اليقينيات

،فإنّه لا معني للتقليد في الضروريات.و أمّا اليقينيات فالمكلّف إذا حصل له اليقين و لم يكن مقصّرا في مقدّمات حصوله لم يجب عليه التقليد،احترازا عن بعض الشباب المعاشرين و أصحاب الشبهات الذين لا يظهرون انحرافهم،فيلقون إليهم بعض المطالب بحيث ربما حصل لهم اليقين بأنّ الوظيفة الشرعية كذا و كذا.

و بهذا التفصيل يندفع ما اورد علي عدم الحاجة إلي التقليد في اليقينيات بأنّ القطع إن كان يكفي للشيعي لأنّه لا يحتمل الخلاف،فلازمه كفايته للسنّي و الكتابي و غيرهما.

الأمر الثاني:لا تقليد في غير الفرعيات

،قال في العروة الوثقي في مسألة(46):إن أفتي الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم،يشكل جواز الاعتماد عليه،فالقدر المتيقّن للعامي تقليد الأعلم في الفرعيات انتهي.

و قال في الكفاية:يجوز رجوع العاجز عن الاجتهاد إلي غير الأفضل إذا جوّز له الأفضل بعد رجوعه إليه (1).

أقول:إذا كانت فتوي الأعلم نجاسة أهل الكتاب مثلا،و كانت فتوي غيره طهارتهم،وجب تقليد الأعلم؛لأنّه أقرب إلي الواقع،فإن أفتي الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم،فيرجع فتواه إلي أنّه لو كانت حجّتان عند المقلّد متخالفتان،فهو مخيّر بينهما علي حسب استنباط الأعلم،فيكون أخذه بقول غير الأعلم من باب تقليد

ص: 547


1- كفاية الاصول ص 542.

الأعلم،و قد مرّ ما له نفع في المقام.

فلا ينبغي الاشكال في جواز تقليد غير الأعلم إن أفتي الأعلم به،و المراد بالأعلم علي المختار أعلم العلماء أحياء و أمواتا.

و من ذلك ظهر قوّة ما اختاره في الكفاية.

و لكن قال في نهاية الدراية:إنّ تجويز الأفضل تقليد المفضول لا يخلو عن محذور؛إذ ليس كلّ ما يقتضيه الأدلّة و يستنبطه المجتهد تقليديا،ألا تري أنّ مقتضي الأدلّة جواز التقليد،مع أنّه ليس بتقليدي للزوم الدور و التسلسل،فليس كلّ ما يستفيده المجتهد قابلا للفتوي علي طبقه،كما تبيّن أنّ عموم جواز التقليد لا ينافي عدم جواز التقليد في مسألة جواز التقليد الخ (1).

و ذكره في كتاب الاجتهاد و التقليد (2)،ثمّ أجاب عنه،فراجع.

و لا يخلو عن نظر؛لما مرّ من أنّ فطرة الجاهل تحمله علي الرجوع إلي العالم، فإن لم يعرف إلاّ العالم الاصولي رجع إليه و سأله عن جواز التقليد و لا دور؛لأنّ جواز التقليد موقوف علي التقليد،و هو غير موقوف علي جواز التقليد بل يتحقّق بفطرته.و إن لم يعرف إلاّ الأخباري،رجع إليه و سأله عن جواز التقليد و أجابه بعدم الجواز.و إن عرفهما جميعا رجع إليهما و أخذ بما اتّفقا عليه،و إن استقلّ عقله بالرجوع إلي أعلم العلماء حيث إنّه أقرب إلي الواقع رجع إليه بفطرته.

فظهر أنّ أصل جواز التقليد،و كذا تقليد الأعلم،و سائر صفات المقلّد تقليدية، و الفطري الذي ليس بتقليدي هو أصل رجوع الجاهل إلي العالم،لا جواز التقليد في الامور الشرعية،و قد مرّ ما له نفع.

الأمر الثالث:اصول الدين

؛لأنّ المطلوب فيها العلم بها،فلا يكفي التقليد إن لم

ص: 548


1- نهاية الدراية 3:211.
2- الاجتهاد و التقليد ص 48.

يحصل العلم،و أمّا إن حصل العلم بحيث لا يزول بتشكيك المشكّك،فالظاهر كفايته،و لا يلزم أن يكون حاصلا من الاستدلال لعدم الدليل عليه.

الأمر الرابع:اصول الفقه.

و فيه انّ مقتضي الأدلّة عدم الفرق بينها و بين فروع الدين؛ لشمول أدلّة التقليد فيما إذا كان المقلّد عارفا بتطبيق المسألة الاصولية،كأن يقلّد أعلم العلماء في صحّة الترتّب ثمّ يطبّقه علي موارده.

الأمر الخامس:مباديء الاستنباط،من النحو و الصرف و نحوهما

،فإنّ أدلّة التقليد لا تشملها،فلا بدّ من العلم و إن انسدّ بابه،فلا بدّ من الاطمئنان و هكذا.نعم بناء علي حجّية قول أهل الخبرة يكون قولهم حجّة فيها،فيجوز للمستنبط أن يقلّدهم فيها، لكن قد ذكرنا في محلّه في حجّية قول اللغوي الاشكال في ذلك.

الأمر السادس:الموضوعات الصرفة،ككون المايع ماء مثلا،و الموضوعات

المستنبطة العرفية أو اللغوية.

و ينبغي أن يقال بعدم الجواز إن كان عالما بها؛لأنّه من رجوع العالم إلي العالم،و لا سيّما إذا كان أعلم لا طّلاعه علي المعني العرفي و اللغوي أكثر،بل يشكل جواز تقليده إن كان متمكّنا من فهم المعني.

و أمّا إذا لم يكن عالما بها و احتاج إليها للعمل،فإنّه يجوز التقليد فيها،و الدليل علي الجواز ما تقدّم من أنّ أهل اللغات غير العربية الذين لا يعرفون اللغة العربية يجوز لهم التقليد في الأحكام المستنبطة من المدارك العربية،و المستنبط يترجم لهم ما يفهمه،فتكون ترجمته حجّة عليهم.

الفصل السادس: في أحكام التقليد

و فيه مسائل:

المسألة الاولي:إذا مضت مدّة من بلوغ المقلّد،و علم أنّ أعماله كانت عن تقليد لكن لا يعلم أنّها كانت عن تقليد صحيح أم لا،فإن كان المجتهد الذي كان يقلّده

ص: 549

سابقا و يقلّده فعلا واحدا،و شكّ في استجماعه للشرائط شكّا ساريا،فلا بدّ له من النظر في أمره للأعمال الآتية،فإن ظهرت جامعيته،فأعماله السابقة صحيحة أيضا.

و إن ظهر عدمها،فأعماله السابقة باطلة إلاّ فيما كان منه معذورا.

و إن لم يظهر له شيء،فينبغي مراعاة الاحتياط في أعماله الآتية،أو الرجوع إلي من يعلم استجماعه للشرائط،و أمّا أعماله السابقة فهل يحكم بصحّتها مطلقا، أو يفصّل بين أن يحتمل كونه متذكّرا للتحقيق عن مقلّد جامع للشرائط و عدمه؟ أحوطهما اعتبار كونه متذكّرا لذلك.

و أمّا من يعلم أنّه لم يكن بصدد التقليد الصحيح و يشكّ في واجدية مرجعه للشرائط،فإجراء قاعدة الفراغ في مثله مشكل جدّا.

المسألة الثانية:قال في العروة الوثقي في مسألة(51):المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقات أو في أموال القصّر ينعزل بموت المجتهد، بخلاف المنصوب من قبله،كما إذا نصبه متولّيا للوقف أو قيّما علي القصّر،فإنّه لا تبطل توليته و قيمومته علي الأظهر.

أقول:الأمر المأذون فيه ربما يكون له استمرار،فلا يبطل بموت الآذن،كمن أذن في دفن الميت في ملكه،فإنّه لو مات الآذن لم يبطل الاذن.

فإن قلنا إنّ للفقيه ولاية أن يأذن في التصرّف دائما،فلا ينعزل المأذون بموته، و كذا إن أذن من قبل صاحب الزمان-عجّل اللّه تعالي فرجه الشريف-دائما لم يبطل إن قلنا بأنّ له أن يأذن من قبله.

و أمّا إن أذن من قبل نفسه من حيث الولاية الفعلية له،فيبطل بالموت.ثمّ إنّه بناء علي انكار الولاية له ينبغي أن يبحث عن أنّ له حقّ الاذن أم لا.

و أمّا الوكيل فإنّه ينعزل بموت الموكّل،إلاّ أن يكون للفقيه ولاية التوكيل من قبل صاحب الأمر عليه السّلام،فلا تبطل بموته.

ص: 550

المسألة الثالثة:إذا قلّد مجتهدا جامعا للشرائط،ففقد الشرائط المعتبرة فيه لموت أو لغيره،فقلّد مجتهدا آخر،و كانت أعماله السابقة مخالفة لفتوي الثاني،ففي صحّة جميع أعماله،أو صحّة خصوص ما يشمله المستثني منه في حديث لا تعاد، و ما لا يضرّ فعله جهلا كبعض أعمال الحج،أو عدم صحّتها مطلقا،أو التفصيل بين ما بقي كذبيحة ذبحها بغير حديدة علي فتوي السابق و هي باقية في حين رجوعه إلي الثاني الذي فتواه حرمتها،أو كون الميزان في صحّة أعماله فتوي الأعلم، وجوه.

أقول:يجب عقلا تحصيل العلم بالأحكام الصادرة عن الشارع المقدّس،كما يجب امتثال تلك الأحكام.و إن لم يتمكّن من تحصيل العلم بها،فيجب تحصيل ما هو الأقرب إلي الوصول إلي الواقع.و إن لم يتمكّن منه،فيجب تحصيل فتوي أعلم العلماء من الأحياء و الأموات.و إن لم يتمكّن،فيعمل بالأقرب فالأقرب.

و علي هذا فلا محلّ لهذه المسألة إلاّ إذا صار أحد العلماء أعلم من الجميع، و إحرازه مشكل في المسائل المعنونة دون المسائل المستحدثة.و لو فرض صيرورته أعلم،فإن لم يكن المورد للتقليد الأوّل باقيا كالعبادات التي فعلها،فلا يبعد الاجزاء لعدم التكليف بالواقع؛لأنّه غير واصل،و كذا لا تكليف بما يفتي به من يصير أعلم بعد ذلك.

و أمّا إذا كان باقيا،كمتعلّق العقد و الايقاع و الغسالة و الذبيحة،فيكون معذورا فيما وقع منه،لكن يجب عليه العمل بقاء بفتوي هذا المجتهد الذي صار أعلم؛لأنّ مقتضي حجّية فتوي الأعلم أنّه لم يكن ما فعله موافقا للواقع و كان معذورا في مخالفته،فلا بدّ أن يعمل فيها بفتوي الأعلم،و دعوي القطع بالاجزاء للاجماع القطعي علي ذلك أو لغيره تحتاج إلي الاثبات،و تفصيله في بحث الاجزاء.

و لازم ذلك تجديد العقد علي المرأة التي عقد عليها بعقد غير صحيح عند

ص: 551

الثاني،و أن ينفصل عن المرأة فيما إذا كانت رضيعة له بعشر رضعات،و كانت فتوي المتقدّم عدم نشر الحرمة بها فتزوّجها،و لكن فتوي الثاني كفايتها في الحرمة.و الانصاف أنّ الحكم في هذه المسائل مشكل،و إقامة الدليل غير الاجماع الذي لم يثبت حجّيته مشكلة.

المسألة الرابعة:قال في العروة الوثقي في مسألة(54):الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد أو ايقاع أو إعطاء خمس أو زكاة أو كفّارة أو نحو ذلك،يجب أن يعمل بمقتضي تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين،و كذلك الوصي في مثل ما لو كان وصيا في استيجار الصلاة عنه يجب أن يكون علي وفق فتوي مجتهد الميت.

أقول:إن كان الوكيل وكيلا في أمر معيّن،كإجراء العقد بكيفية خاصّة،أو إعطاء خمس خاصّ شخصا خاصّا،و كذلك الوصي،فلا إشكال في لزوم الاتيان بما عيّنه الموكّل أو الموصي،إلاّ أن يقطع بعدم الصحّة،فلا تصحّ الوكالة فيه و لا الوصاية في نحو ذلك.

و أمّا إن كان وكيلا في الاتيان بعمل صحيح و كذلك الوصي،فالعمل الصحيح هو المطابق لما قاله المعصومون عليهم السّلام،فإن أمكن إحرازه و إلاّ فيأتي بعمل يكون بحسب الدليل أقرب إلي قول المعصومين عليهم السّلام،و هو العمل الموافق للاحتياط،أو فتوي أعلم العلماء من الأحياء و الأموات أو أكثرهم،فعلي الوكيل أن يعمل بذلك و كذلك الوصي،و إن كان مخالفا لفتوي من يقلّده الموكّل أو الموصي؛لأنّ وظيفته ذلك.

و قد يستدلّ لما ذكره في العروة من وجوب أن يعمل بمقتضي تقليد الموكّل أو الموصي،بأنّ الموكّل لو صرّح بأن يأتي الوكيل بالعمل علي وفق نظر الموكّل، وجب علي الوكيل أن يأتي كذلك،و لمّا كان غرضه من التوكيل ذلك،فيكون ذلك

ص: 552

قرينة علي إرادة ذلك من إطلاق التوكيل.

و فيه أنّه لو صار ذلك قرينة صارفة لاطلاق التوكيل إلي أن يعمل علي رأي مقلّد الموكّل فهو،و أمّا إذا كان غرض الوكيل العمل الصحيح المبريء لذمّته فهو ما ذكرناه،و الأحوط الذي لا يترك في هذه الصورة أن يأتي بالعمل علي نحو يكون صحيحا علي التقليدين.

المسألة الخامسة:قال في العروة الوثقي في مسألة(55):إذا كان البايع مقلّدا لمن يقول بصحّة المعاطاة مثلا أو العقد بالفارسية،و المشتري مقلّدا لمن يقول بالبطلان،لا يصحّ البيع بالنسبة إلي البايع أيضا؛لأنّه متقوّم بطرفين،فاللازم أن يكون صحيحا من الطرفين،و كذا في كلّ عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه و مذهب الآخر صحّته.

أقول:لا يخفي أنّه يعتبر في البيع إنشاء البايع مبادلة ماله بمال المشتري و رضاه،بأن يكون ماله عوضا عن مال المشتري و كذلك المشتري،و حينئذ إن اعتقد المشتري بطلان البيع لم يحصل له الرضا بالمبادلة،فيبطل البيع من هذه الجهة،فلو فرضنا أنّ البايع أنشأ البيع حيث إنّ الانشاء خفيف المؤونة و رضي بأن يعطي المبيع للمشتري إن كان البيع صحيحا واقعا،و كذلك المشتري رضي بالمبادلة و أنشأ القبول حيث إنّه خفيف المؤونة،فلا بأس بالقول بصحّة البيع ظاهرا بحسب الموازين الشرعية بالنسبة إلي البايع،و باطلا بحسبها بالنسبة إلي المشتري، و التلازم الواقعي لا يستلزم التلازم في الظاهر.

المسألة السادسة:قال في العروة الوثقي في مسألة(33):إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء،و يجوز التبعيض في المسائل،و إذا كان أحدهما أرجح من الآخر في العدالة أو الورع أو نحو ذلك، فالأولي بل الأحوط اختياره.

ص: 553

أقول:قد يقال بجواز التبعيض إذا لم ينته إلي العلم بمخالفتهما.و أمّا إذا كان العمل الواحد مخالفا لهما كما إذا كان فتوي أحدهما وجوب السورة و عدم وجوب جلسة الاستراحة،و كان فتوي الآخر وجوب جلسة الاستراحة و عدم وجوب السورة،فصلّي بدون جلسة الاستراحة و بدون السورة،فصلاته باطلة بفتوي كليهما.

لكن يمكن أن يقال:إنّ المقلّد غير مكلّف إلاّ بما يتضمّنه فتاوي العلماء و لم تتمّ الحجّة عليه بوجوب الأمرين لتعارض الفتويين،و الأصل البراءة فتأمّل،لوجوب الاحتياط عليه إن أمكن له درك الواقع فلا يجوز التبعيض.

و المدار في الترجيح في مقام التقليد أقربية الفتوي إلي الواقع،فإن كانت المزية الموجودة في أحدهما توجب أقربية فتواه إلي الواقع،فلا يبعد وجوب تقديمه، و إن كانت لا توجب الأقربية،فلا وجه للتقديم حتّي بالأولوية.

المسألة السابعة:قال في العروة الوثقي في مسألة(35):إذا قلّد شخصا يتخيّل أنّه زيد فبان عمروا،فإن كانا متساويين في الفضيلة و لم يكن علي وجه التقييد صحّ،و إلاّ فمشكل.

أقول:لا يخفي أنّ الفعل المنسوب إلي شخص-كتقليد شخص معيّن يشار إليه إشارة حسّية و نحوها،سواء كان مقصودا بعنوان خاصّ أو لم يكن،و سواء كان المقصود مطابقا لما قصده أو لم يكن-قد وقع علي موجود خارجي لا إطلاق فيه و لا تقييد.و أمّا ترتيب آثار ما قصده،فهو مختلف في أقسام ثلاثة:

الأوّل:أن يكون الأثر مترتّبا علي الفعل المقصود المطابق للواقع،مثل الطلاق فإذا أراد أن يطلّق زوجته هندا فاشتبهت عليه لتدليس زوجته زينب و زعمها أنّها هند،فوضع يده علي رأسها-أي:رأس زينب-و قال:هذه زوجتي هند طالق،لم يقع الطلاق علي زينب؛لأنّ طلاقها غير مقصود،و لا يقع الطلاق علي هند؛لأنّ

ص: 554

المقصود هو الطلاق المقيّد بوقوعه علي هند،و هذه المرأة التي وضع يده علي رأسها و طلّقها ليست هندا،فلا يترتّب علي الطلاق الواقع علي زينب أثر،لا طلاق هند و لا طلاق زينب،فإنّه و إن وقع الطلاق خارجا علي زينب،لكن الأثر مترتّب علي الطلاق الواقع علي هند بقصد كونها هندا،و هذا غير متحقّق.

الثاني:أن يكون له مقصودان،مثل من أكرم زيدا باعتقاد كونه عالما،و كان يكرمه أيضا لو علم أنّه ليس بعالم لكن أكرمه لاعتقاده كونه عالما،فهو قاصد لاكرام زيد مطلقا،و قاصد لاكرامه من أجل كونه عالما،فتخلّف كونه عالما يوجب انتفاء أحد مقصوديه،و قد يسمّي اعتقاده كونه عالما بالداعي،و يقال:إن تخلّف الداعي لا يضرّ.

و أمّا إذا لم يكن يكرمه لو لم يكن عالما،فكان رضاه بإكرامه و أكله من ماله مقيّدا بكونه عالما لم يجز لزيد أكل ماله،كما بيّناه في محلّ آخر.

الثالث:أن يكون الأثر مترتّبا علي الفعل بما هو فعل و إن كان المقصود غيره، و ذلك كالتقليد فإنّه لا بدّ فيه من اتّباع رأي مجتهد جامع للشرائط،و قصد خصوصيّة زيد أو عمرو لا مدخل له.

و بناء علي عدم الحاجة إلي الالتزام بل حتّي بناء عليه،فقول كلّ منهما حجّة و التقييد لغو،كما إذا اعتقد كون شاهدي البيّنة هاشميين مثلا و قيّدها بذلك،فإنّه لا أثر له في حجّية البيّنة،ففي صورة تساوي المجتهدين يكون تقليده صحيحا،بناء علي أنّه مع تساوي المجتهدين يكون قول كلّ واحد حجّة و يكون المقلّد مخيّرا.

و أمّا بناء علي تساقط قوليهما مع المخالفة،فلا يكون واحد منهما حجّة،و علي كلا التقديرين لا أثر للتقييد.

و أمّا إن كان أحدهما أعلم،و قلنا بوجوب تقليد الأعلم،و نفرض أنّه زيد و قلّده بتقييد كونه زيدا و تبيّن كونه عمروا لم يصحّ تقليده؛لأنّ الموجود الخارجي الذي

ص: 555

أخذ قوله و هو عمرو ليس قوله حجّة،و إن عكس بأن كان عمرو أعلم صحّ تقليده، و إن كان مقصوده أنّه زيد؛لأنّ رأي هذا الموجود الخارجي الذي أخذ قوله و تبعه حجّة عليه.

المسألة الثامنة:قال في العروة الوثقي في مسألة(16):عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل و إن كان مطابقا للواقع.و أمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلا حين العمل و حصل منه قصد القربة،فإن كان مطابقا لفتوي المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحا.

أقول:مراده من عمل الجاهل المقصّر العبادات،بقرينة قوله بعد ذلك «و قصد القربة»و أمّا العمل الذي لا يعتبر فيه قصد القربة،فلا ينبغي الاشكال في صحّته كمعاملاته إن طابق الواقع و حصل منه قصد الانشاء،أو طابق فتوي من يجب موافقته علي ما يأتي.

و أمّا عباداته،فمع عدم حصول قصد القربة،فالبطلان مستند إليه،و لعلّه مراده، حيث قيّد الجاهل بالملتفت؛لأنّ الملتفت لا يحصل منه قصد القربة.و مراده حينئذ من المطابقة للواقع مطابقة صورة العمل.

و التحقيق أن يقال:إنّ الجاهل المقصّر الملتفت إن كان عمله مطابقا للواقع و حصل منه قصد القربة جزما،فينبغي عدم الاشكال في الصحّة.و كذا إن كان مطابقا لفتوي من يجب مطابقة عمله له و حصل منه قصد القربة جزما،و كذا إن قصد القربة رجاء مع المطابقة للواقع،أو للفتوي التي سنبيّن لزوم موافقتها.

و أمّا استحقاقه العقاب علي مخالفة الواقع،فهو موقوف علي تمكّنه من الوصول إليه،و إلاّ فلا يستحقّ العقاب علي تركه،لكون العقاب عليه عقابا بلا بيان واصل؛ لأنّه لو بلغ جهده في الفحص عن الواقع لم يصل إلاّ إلي فتوي المجتهد،فإن كان عمله مطابقا لها،لم يستحقّ العقاب أصلا.و إن كان عمله مخالفا لها كان متجرّيا؛

ص: 556

لأنّ مخالفتها للواقع لا توجب العقوبة؛لعدم تمكّنه من الوصول إليه،و مخالفته لفتوي من يجب تقليده التي هي مخالفة للواقع لا توجب عقابا إلاّ التجرّي.

و بما ذكر يظهر المناقشة فيما في التنقيح و غيره أنّه يستحقّ العقاب علي مخالفة الواقع،و إن طابق عمله لفتوي من يجب تقليده حال العمل أو حال الرجوع؛لأنّ الحجّة بوجودها الواقعي غير كافية في المعذورية الخ (1).

وجه المناقشة ما ذكرناه من استقلال العقل بأنّ العقاب علي الواقع غير الواصل علي فرض الفحص البليغ قبيح جدّا،سواء عمل علي خلافه موافقا لفتوي المجتهد أم لم يعمل.

و أمّا القاصر و هو من كان معذورا في جهله،فلا يستحقّ العقاب علي ترك الواقع لعدم وصوله إليه.

و أمّا المقصّر الغافل،فإن كان يصل إلي الواقع إن فحص عنه،فهو معاقب علي ترك الواقع،و إلاّ فلا يعاقب علي تركه،سواء وافق عمله فتوي من يجب تقليده أم لا.هذا بالنسبة إلي استحقاقهما-أي:القاضر و المقصّر الغافل-العقاب و عدمه.

و أمّا من حيث صحّة عملهما،ففيه تفصيل.أمّا عمل الجاهل القاصر،فإن كان مطابقا للواقع فهو صحيح،و إن كان مخالفا لفتوي من وجب تقليده حال العمل و من يرجع إليه حال الرجوع،و هو فرض نادر،لعدم طريق إلي الواقع.و كذا المقصّر الغافل إن طابق الواقع،بل تقدّم أنّ المقصّر الملتفت كذلك إن حصل منه قصد القربة.

و أمّا لو لم يكن عمل القاصر أو المقصّر الغافل مطابقا للواقع،أو لم يحرز مطابقته للواقع،فإن كان مطابقا لفتوي من وجب عليه تقليده حين العمل و من6.

ص: 557


1- التنقيح 1:196.

يجب عليه الرجوع إليه فعلا،بأن يكون المرجع واحدا أو متعدّدا توافق نظرهما، فإنّ عمله صحيح؛لأنّه ليس مكلّفا بالواقع بل هو مكلّف بما يفتيان؛لعدم تمكّنه من الوصول إلي الواقع و إن فحص عنه جهده،و إنّما يصل إلي الفتاوي إن فحص عنها و المفروض مطابقة عمله لها.

و أمّا لو كانا مختلفين،فهل يحكم بالبطلان مطلقا،أو بالصحّة إن وافق أحدهما، أو بالصحّة إن وافق الأوّل،أو بها إن وافق الثاني،أو التفصيل بين القاصر و المقصّر، فيعتبر في صحّة عمل القاصر موافقة فتوي من يرجع إليه،و في المقصّر موافقة فتوي من وجب عليه موافقته حين العمل،أو أنّ المناط لصحّة العمل موافقة الأعلم من الكلّ،و مع عدمه أو عدم العلم به،فموافقة فتوي الأكثر،و مع التساوي فالتخيير؟وجوه:

وجه الأوّل:أنّه مكلّف بالواقع،إلاّ أن يستند إلي حجّة مخالفة له،فيكون معذورا في تركه،و المفروض أنّه لم يستند إلي الحجّة و لم يحرز مطابقة عمله للواقع،و الفتويان متعارضتان فتسقطان،فلا يقين بالخروج عمّا اشتغلت به الذمّة.

و فيه ما سيأتي بيانه.

و وجه الثاني:أنّ الكيفية التي عمل بها بعد الالتفات إليها مورد لفتوي الأوّل بعدم الصحّة و وجوب القضاء،و مورد لفتوي الثاني بالصحّة،و عدم وجوب القضاء أو بالعكس،و مقتضي إطلاق حجّية رأي طبيعي الفقيه كفاية مطابقة العمل لإحداهما.

و يمكن أن يكون وجهه:أنّ المفروض عدم وصول الواقع؛لأنّه لو فحص لا يصل إلاّ إلي فتاوي المجتهدين،فهو حين العمل ليس مكلّفا بالواقع،و لا بمن يرجع إليه بعد ذلك،بل هو مكلّف بالعمل بفتوي من يجب تقليده حين العمل، فيكفي موافقته.

ص: 558

و أمّا إذا كان عمله مخالفا لمن يجب تقليده حين العمل،فلا يجزيء عمله حينما عمل لعدم إحراز موافقته للواقع،و عدم موافقته لفتوي من يجب تقليده حين العمل،فيجب عليه القضاء،لكن علي حسب فتوي من يرجع إليه فعلا لا يجب القضاء عليه،و مقتضي إطلاق حجّية فتواه صحّة العمل لمن يقلّده فعلا،سواء عمل سابقا موافقا له أو عمل فعلا.

و يمكن المناقشة فيه بأنّه إذا كان من يتعيّن تقليده حين العمل أعلم ممّن يرجع إليه فعلا،فقد تعيّن العمل بقوله حتّي بقاء.نعم إن كان من يرجع إليه فعلا أعلم، يحتمل كفاية عمله المطابق لفتوي من يجب تقليده حين العمل؛لعدم تكليفه حين العمل بما يفتي به من يرجع إليه فعلا.

و وجه الثالث:أنّ تكليفه بالواقع حين العمل قبيح؛لكون العقاب علي مخالفته بلا بيان.و كذا تكليفه بالعمل بما يطابق فتوي من يرجع إليه بعد ذلك لعدم وجود فتواه،بل ربما لم يكن موجودا،فيتعيّن أن يكون تكليفه العمل بما يطابق فتوي من يجب تقليده حال العمل.نعم لو لم يعلم فتوي من يجب تقليده حين العمل،كان فتوي من يرجع إليه فعلا طريقا إلي الواقع،فيكفي موافقتها حينئذ.

و وجه الرابع:أنّ فتوي الأوّل لا تكون حجّة؛لعدم وصولها إلي المكلّف؛لأنّ الحجّية التي هي عبارة عن المنجّزية و المعذّرية متقوّمة بالوصول،فلا تتّصف فتوي المجتهد بالحجّة ما لم تصل إلي المكلّف،بل هو مكلّف بالواقع،و الطريق إليه بعد الالتفات فتوي من يجب الرجوع إليه فعلا،اختاره في العروة.

و اختاره أيضا في التنقيح،قال:إنّه حين الالتفات إلي أعماله السابقة لا يدري حكمها،و من لا يدري حكم المسألة يجب عليه التقليد بمقتضي إطلاق أدلّة التقليد،و هي خاصّة بالمجتهد الذي يرجع إليه فعلا؛لأنّ المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده في ظرف العمل قد سقط فتواه عن الحجّية فعلا بموت أو غيره من

ص: 559

الشرائط المفقودة الخ (1).

و فيه أنّه ليس مكلّفا بالواقع لعدم وصوله إليه،حتّي لو تفحّص عنه،و ليس مكلّفا حين العمل بموافقة فتوي من يرجع إليه فعلا لعدم وجوده،فلا يكون مكلّفا إلاّ بما يمكن أن يصل إليه إن تفحّص،و هو فتوي من يجب تقليده حين العمل.

و وجه الخامس:أنّ القاصر غير مكلّف بالواقع،و لا بفتوي من يجب تقليده حين العمل لقصوره،فلا يعقل تكليفه بهما،و بعد خروجه عن القصور و تعلّمه الأحكام يكلّف،فيجب عليه العمل بفتوي من يرجع إليه فعلا،فإن أفتي بوجوب قضاء الأعمال السابقة وجب القضاء،و إلاّ لم يجب بخلاف المقصّر؛لأنّه كان حين العمل مكلّفا بالواقع،أو بما يكون معذّرا له مع مخالفة الواقع،و ليس المعذّر له إلاّ فتوي من يجب تقليده حين العمل،فالاعتبار بموافقته فتواه.

و فيه أنّ القاصر غير مكلّف بالواقع لعدم وصوله إليه،و لا يكون مكلّفا حين العمل بالرجوع إلي من يوجد بعد و هو من يرجع إليه فعلا،و المفروض أنّ عمله مطابق لفتوي من يجب تقليده حين العمل لو كان ملتفتا،فيكفي في صحّة عمله موافقة عمله لفتوي من يجب تقليده حين العمل.

و وجه السادس:أنّ العامي غير مكلّف بالواقع؛لعدم تمكّنه من الوصول إليه،بل هو مكلّف بما هو الأقرب إليه،و قد تقدّم كيفيته،فإن لم يتمكّن من تحصيل الأقرب،فيكلّف بما يفتي به أعلم العلماء لو كان و تمكّن من الوصول إليه،من غير فرق بين الحيّ و الميت،أو ما يفتي به أكثر العلماء مع تساوي جميعهم في العلم و غيره،أو التخيير مع تساوي الطرفين،كما مرّ ذلك،فينبغي تطبيق ذلك علي هذا المورد.0.

ص: 560


1- التنقيح 1:200.

فنقول:إذا كان فتوي من يجب تقليده حين العمل أقرب إلي الواقع،أو مع عدم تيسّره كان أعلم من الجميع،فالواجب عليه موافقة عمله لفتواه دائما،أي:حال العمل و حال الرجوع و إن مات؛لما تقدّم من كون فتوي الأعلم أقرب إلي الواقع من غير فرق بين الميت و الحيّ.و إن لم يكن أو لم يمكن إحرازه،فالواجب عليه موافقة فتوي الأكثر دائما،أي:حال العمل و حال الرجوع.

و إن تساوي الطرفان،فهو مخيّر لعدم تكليفه بالواقع لعدم وصوله،و تعارض الفتاوي،و الأصل البراءة عن تعيّن العمل ببعضها.

نعم إذا كان عمله موافقا لفتوي من يجب تقليده حين العمل مخالفا لمن يرجع إليه فعلا،و كان من يرجع إليه فعلا أعلم من الكلّ،ففي صحّة عمله إشكال،و لا يبعد الصحّة؛لأنّه لم يكن مكلّفا حين العمل إلاّ بموافقة فتوي من يجب تقليده حين العمل،و لم ينكشف خلافها بالعلم القطعي،و فتوي الثاني و إن تعلّقت بكون الحكم في الشريعة المقدّسة ذلك،لكنّها ليست حجّة بالنسبة إليه؛لعدم وجوده أو عدم إمكان وصوله حال العمل.نعم إن كان الشيء الذي هو مورد العمل بفتوي من وجب تقليده حين صدور العمل باقيا،ففي كفاية فتواه بقاء إشكال،مرّ الكلام فيه.

المقام الثالث: في الاحتياط

يجب العلم بكيفية الاحتياط بالاجتهاد،أو بالتقليد،أو بالعلم و إن لم يكن مستندا إليهما،ثمّ إنّ التقليد في كيفية الاحتياط راجع إلي التقليد غالبا كما هو واضح،و ليس مقابلا للاجتهاد و التقليد،كما أنّ الاحتياط بالاتيان بعمل يوافق فتوي عدّة لا يحتمل حجّية قول غيرهم أيضا راجع إلي التقليد.

و يمكن الاحتياط في بعض موارد دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة،كما إذا حكم الحاكم الشرعي بكون يوم الشكّ يوم عيد،و لم يثبت عند المكلّف حجّية

ص: 561

حكم الحاكم و أراد الاحتياط،فإنّه يمسك بقصد أنّه إن كان اليوم من شهر رمضان يكون إمساكه صوما قربة إلي اللّه تعالي.و إن لم يكن من شهر رمضان فيكون مجرّد الامساك بدون قصد القربة.و كذا لو سافر في شهر رمضان قبل الزوال من دون أن يقصد السفر في الليل،فإنّه يصوم بالقصد المذكور و يقضيه.و كذا له أن يقيم للصلاة بالنيّة المذكورة فيما إذا دار أمر الاقامة بين السقوط عزيمة أو رخصة.

مسألة:في جواز الاحتياط إن كان مستلزما للتكرار.لا يخفي أنّ الاحتياط قد يكون في العبادات،و قد يكون في العقود و الايقاعات،و قد يكون في غير ذلك.

و علي التقادير تارة يكون الاحتياط في الاتيان بمتعلّق الحكم،كالجمع بين صلاة الظهر و الجمعة،و اخري يكون في الموضوع كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين.

و علي التقادير تارة يتمكّن من العلم،و اخري لا يتمكّن،و مع عدم التمكّن من العلم تارة يتمكّن من الاجتهاد أو التقليد،و اخري لا يتمكّن.

و علي التقادير تارة يكون في الاحتياط غرض عقلائي،و اخري لا يكون، و تارة يستلزم العسر و الحرج،و اخري لا يستلزم.

و علي التقادير تارة يستلزم التكرار و اخري لا يستلزمه.

و الظاهر جواز الاحتياط في العبادات و المعاملات و غيرهما،إلاّ في العبادات إذا استلزم التكرار بدون داع عقلائي مع التمكّن من الامتثال علما،أو استلزم العسر و الحرج أو الملعبة بالدين،فيقع الكلام في جهات:

الاولي:الدليل علي جواز الاحتياط هو استقلال العقل بتحقّق امتثال التكليف الواقعي به،و هو الحاكم في وجوب الامتثال و كيفيته.

الثانية:غير العبادات لا يحتاج إلي قصد القربة،فيجوز الاحتياط فيه مطلقا ما لم ينجر إلي الوسواس،أو اختلال النظام،أو تضييع العمر،فالاحتياط من حيث هو لا مانع فيه.و قد يقال بعدم تحقّقه في العقود و الايقاعات؛لأنّها تتوقّف علي

ص: 562

الانشاء،و هو موقوف علي الجزم و الاحتياط ينافيه.

و فصّل في التنقيح بأنّه إذا كرّر صيغة الطلاق مثلا بالجملة الفعلية و الاسمية احتياطا كان الجزم حاصلا؛لأنّه اعتبر في ذهنه بينونة الزوجة عن زوجها و أبرزها بالجملة الفعلية و الاسمية،و الشكّ في أنّ الشارع أمضي أيّهما أمر آخر.و أمّا إذا علّقه علي شيء بأن قال:بعتك هذا الشيء إن كان اليوم جمعة لم يصح؛لأنّه لا يكون جازما بقصد التمليك في نفسه (1).

أقول:لازم كلامه أنّه إن شكّ في أنّ هندا زوجته أو لا،فأراد الاحتياط،فإن قال:هند طالق،صحّ،و أمّا إن قال:هند طالق إن كانت زوجتي،لم يصح؛لعدم الجزم بالطلاق.

و فيه نظر؛لأنّ الانشاء هو ايجاد المعني باللفظ،أو ابرازه في عالم الانشاء، و يمكن تعلّقه بما يعلم أنّه لا يتحقّق،كتطليق زوجة الغير فضولا،و لا فرق فيه بين الموارد.و في صورة التعليق أيضا قد أنشأ معلّقا،و عدم العلم بوجود المعلّق عليه لا يضرّ بتحقّق الانشاء.

و ممّا يوضحه:أنّ قول القائل«بعتك إن كان اليوم جمعة»مثل أكرم زيدا إن جاءك،ليس إخبارا و لا غلطا،فيكون إنشاء،فهو ينشيء جزما علي تقدير كون اليوم جمعة.

الثالثة:قيل:لا يجوز الاحتياط في العبادات مع التمكّن من الاجتهاد أو التقليد؛ لأنّ الاحتياط في العبادة يستلزم الاخلال بنيّة الوجه و التمييز و اللعب في كيفيّة الاطاعة،فإذا لم يكن متمكّنا من العلم و لا من الاجتهاد و لا التقليد فهو معذور، و أمّا مع التمكّن منها فلا تصحّ عبادته.8.

ص: 563


1- التنقيح في شرح العروة الوثقي 1:68.

و يستدلّ لعدم الجواز بوجوه:

الأوّل:الاجماع،قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في مبحث القطع:لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتّفاق علي عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف علي تكرار العبادة،بل الظاهر المحكي من الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين عدم جواز التكرار حتّي مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي (1).

أقول:قد استدلّ الحلّي علي أنّه يصلّي عاريا و لا يكرّر الصلاة في الثوبين بأنّ المؤثّرات في وجوه الأفعال يجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها،و الواجب عليه عند افتتاح كلّ فريضة أن يقطع علي ثوبه بالطهارة،إلي آخر ما ذكره و حكاه عن السيّد المرتضي (2).لكن الانصاف أنّه دعوي لا يمكن المساعدة عليها،و لا وجه لطرح الرواية الدالّة علي التكرار.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الخاتمة فيما يعتبر في العمل بالأصل:إنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد و التقليد بالاحتياط لشهرة القول بذلك بين الأصحاب و نقل غير واحد اتّفاق المتكلّمين علي وجوب اتيان الواجب أو المندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما،و نقل السيّد الرضي رحمه اللّه إجماع أصحابنا علي بطلان صلاة من صلّي صلاة لا يعلم أحكامها،و تقرير أخيه الأجل علم الهدي رحمه اللّه له علي ذلك في مسألة الجاهل بالقصر،بل يمكن أن يجعل هذان الاتّفاقان المحكيان من أهل المعقول و المنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة، فضلا عن كونهما منشأ للشكّ الملزم للاحتياط (3).

أقول:ثبوت إجماع كاشف عن قول المعصوم،أو عن رواية معتبرة لم تصل إلينا9.

ص: 564


1- فرائد الاصول ص 15.
2- السرائر 1:185.
3- فرائد الاصول ص 299.

ممنوع؛لعدم تعرّض أكثر كتب القدماء له ظاهرا،و ابن ادريس قد استدلّ عليه بوجه عقلي،و كذلك حكاه عن السيّد المرتضي.

الثاني:أنّه إذا استلزم التكرار كان عبثا و لعبا بأمر المولي،و قد تعرّضنا له في بحث البراءة.

الثالث:أنّ الفعل العبادي لا بدّ أن يؤتي به بداعي الأمر لا بداعي احتمال الأمر، فإذا تردّد كونه واجبا أو مباحا،كالوضوء بعد غسل غير الجنابة،يكون الاتيان به بداعي احتمال الأمر،و كذا فيما إذا استلزم التكرار.

و فيه أنّه لا دليل علي اعتبار ذلك بل عبادية الفعل تتحقّق بإضافته إلي المولي و لو بداعي احتمال الأمر.

و أجاب في المستمسك بأنّه في صورة التكرار يكون فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئا عن داعي الأمر بفعل الواجب،و الاحتمال دخيل في دعوائية الأمر لا أنّه الداعي إليه،و إلاّ كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء علي كون الفعل ناشئا عن داعي العلم بالأمر (1).

و في التنقيح نظيره (2).

و فيه نظر؛لأنّ العلم طريق لا ينظر إليه،ففي صورة العلم يكون الانبعاث عن نفس الأمر،و أمّا فيما إذا كان الامتثال التفصيلي ممكنا،فالأمر المعلوم تفصيلا يدعو إلي متعلّقه.

و أمّا العمل المكرّر الذي يكون أحدهما غير مأمور به،فالأمر لا يدعو إليه، و الموجود في النفس هو الاحتمال و هو يدعو إليه.3.

ص: 565


1- المستمسك 1:8.
2- التنقيح 1:73.

هذا آخر ما أردت ايراده ممّا خطر ببالي القاصر من الخواطر و لا أقول بإصابتها للواقع،و الرجاء ممّن اتّفق وقوع نظره إليها أن لا يعتمد عليها،و ليثبّت في المراجعة إلي الروايات المذكورة و أسانيدها و غيرها،و تمّ كتابته علي يد مؤلّفه القاصر الأقلّ محمّد الرجائي عفي اللّه عنه.

ص: 566

فهرس الكتاب

الاصول العملية 3

الشكّ في أصل التكليف،أصالة البراءة 3

أصالة البراءة ليست دليلا لنفي الحكم واقعا 6

ما لو خالفت أصالة الاباحة للواقع 7

المراد من جواز ارتكاب مشكوك الحرمة شرعا 8

دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب 10

دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب من جهة إجمال النصّ 62

الشبهة التحريمية الموضوعية 63

حكم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية في الدماء و الفروج 76

دوران الأمر بين الوجوب و غير الحرمة 80

البحث عن أخبار من بلغ 84

الشكّ في سعة الوجوب التخييري العقلي 96

الشكّ في تعلّق الوجوب التخييري الشرعي بعمل 97

الشكّ في الوجوب الكفائي 98

فيما لو اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين 99

دوران حكم الفعل بين الوجوب و الحرمة 101

ص: 567

الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف،دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب، الشبهة التحريمية الموضوعية 105

إمكان جعل الحكم ظاهرا في الطرفين علي خلاف الواقع 107

إمكان جعل الحكم الظاهري في أحدهما المعيّن أو غير المعيّن علي خلاف الحكم الواقعي 108

وجود الدليل علي الترخيص في الطرفين 108

وجود الدليل علي جواز ارتكاب بعض الأطراف 109

عدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي 121

عدم الفرق في وجوب الاجتناب عقلا و شرعا في الشبهة المحصورة 124

متعلّق العلم الاجمالي 127

حكم ملاقاة أحد الطرفين 130

الاضطرار إلي أحد الطرفين 135

الشبهة غير المحصورة 138

صور العلم الاجمالي 139

دوران الأمر بين الواجب و غير الحرام،دورانه بين المتباينين 142

دوران الواجب بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين 143

التردّد بين الأقلّ و الأكثر في الجزء المشكوك لاجمال النصّ 151

الشكّ في شرط المأمور به 154

اشتباه الواجب بالحرام 163

موارد جريان الاحتياط و التخيير و البراءة 163

رجحان الاحتياط 164

أصالة التخيير 167

ص: 568

أصالة البراءة 167

حكم الجاهل من حيث استحقاق العقاب و صحّة العمل و بطلانه 169

مباحث الاستصحاب 172

تعريف الاستصحاب 172

الأقوال في الاستصحاب و أدلّتها 174

ما استدلّ علي حجّية الاستصحاب مطلقا و المناقشة في أدلّتها 219

تبيين ما يستفاد من قولهم لا ينقض اليقين بالشكّ 228

حلّ معضلة جريان الاستصحاب في موارد قيام الأمارة 235

أقسام الاستصحاب الكلّي 237

الاستصحاب في الزمانيات 249

عدم جريان الاستصحاب في المعلّق و المشروط 256

عدم حجّية الأصل المثبت 261

استصحاب العدم 266

الاستصحاب في الاعتقاديات 273

الشكّ في مقدار زمان المخصّص و المقيّد 274

اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة 276

عدم جريان الاستصحاب في الشكّ الساري 279

جريان الاستصحاب في الأمارات 281

تعارض الاستصحابين علي مورد أو موردين 283

الخاتمة،اختلاف الأدلّة 287

مسألة اجتماع الأمر و النهي ليست من باب التعارض 293

مرجّحات باب التزاحم 295

ص: 569

التنزيل و الورود و الحكومة 298

عدم وقوع التعارض بين الأمارات و الاصول العملية 301

تقديم الأمارات علي الاصول العملية 302

تعارض الأمارات و الاصول الجارية في الألفاظ 305

تعارض الخبرين المتعادلين 310

أقسام الخبرين المتعارضين 317

تعارض غير الخبرين 322

الأخبار العلاجية 323

ما تدلّ علي أنّ في كلامهم خاصّا و عامّا و متشابها 323

ما تدلّ علي التخيير بين الخبرين 324

الأخبار الدالّة علي التوقّف و الاحتياط 339

ما يدلّ علي مراعاة الترجيحات 343

موافقة الكتاب 347

ما يدلّ علي حجّية خبر له شاهد من القرآن 349

ما يدلّ علي أنّ الخبر الموافق للكتاب يؤخذ به 352

موافقة الشهرة 356

مخالفة العامّة و أخبارهم 360

أسباب التقية 365

الأحدثية 373

الأيسرية 378

التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي غيرها،الدليل علي التعدّي 380

تعداد بعض المرجّحات التي يتعدّي إليها 383

ص: 570

الترتيب بين المرجّحات عند تعارض بعضها مع بعض 385

التعارض بين مرجّحات الدلالة 389

الامور التي توجب أظهرية دلالة أحد الخبرين 389

كيفية الجمع بين العام و الخاص إن كانا في أكثر من خبرين 393

التعارض بين مرجّحات غير الدلالة 398

الاجتهاد و التقليد 412

وجوب تعلّم الأحكام الشرعية 413

تعريف الاجتهاد 418

شرائط الاجتهاد 424

الأدلّة علي حجّية الاجتهاد 430

أمر الأئمّة عليهم السّلام أصحابهم بالاجتهاد 431

اجتهاد أصحاب الأئمّة عليهم السّلام 434

أحكام الاجتهاد،وجوب الاجتهاد و عدمه 449

جواز تقليد من له ملكة الاجتهاد لغيره 450

حجّية رأي المجتهد لنفسه 451

التخطئة و التصويب 451

ما إذا تبدلّ رأي المجتهد 457

من ليس أهلا للفتوي و القضاء يحرم عليه الافتاء و القضاء 462

حرمة المال المأخوذ بحكم من ليس أهلا للفتوي 464

حكم الحاكم في المرافعات في الموضوعات 441

الترافع في الحكم 471

حكم نقض حكم الحاكم 473

ص: 571

كيفية معرفة الاجتهاد و أعلمية المجتهد 475

تعريف التقليد 477

حكم التقليد 481

الأدلّة علي التقليد 482

ما يشترط في المقلّد 499

وظيفة العاجز عن الاجتهاد 505

وجوب تقليد الأعلم 509

وجوب الفحص عن الأعلم 527

ما لو انحصر المجتهد في المتساويين 528

الترجيح بالأورعية 529

حكم تقليد الميت ابتداء و استدامة 531

فيما لا يقلّد فيه 547

أحكام و مسائل التقليد 549

وجوب الاحتياط في المسائل 561

فهرس الكتاب 567

ص: 572

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.