منهاج الاصول المجلد 1

اشارة

سرشناسه : رجايي ، محمد

عنوان و نام پديدآور : منهاج الاصول / تاليف محمد الرجائي

مشخصات نشر : محمدرجائي ، 1425ق . = 1383.

مشخصات ظاهري : ج 2

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : ‫ BP159/8 ‫ /ر3م8 1383

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 84-13294

ص: 1

اشارة

منهاج الاصول

محمد الرجائي

ص: 2

الجزء الأول

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تعريف الفقه و ما يتوقّف علي معرفة الأحكام الشرعية

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام علي سيّد الأوّلين و الآخرين، و أشرف الأنبياء و المرسلين،محمّد و آله الطيّبين الطاهرين،و اللعن الدائم علي أعدائهم و غاصبي حقوقهم أجمعين.

أمّا بعد:فإنّ الفقه هي الأحكام الشرعيّة الواقعيّة و الظاهريّة التكليفيّة و الوضعيّة الموجودة في الكتاب،و السنّة،و الإجماع و الشهرة الكاشفين عن فتوي المعصوم، و العقل الضروري.

و يتوقّف معرفتها علي علوم:كالنحو،و الصرف،و اللغة،و علمي الرجال و الدراية،و غيرها،و قد تكفّل لهذه العلوم الكتب المؤلّفة فيها.

و يتوقّف معرفتها أيضا علي معرفة حجّية بعض الامور المتكفّل لها الكتب الاصوليّة.

مثلا انّ وجوب السورة في الصلاة مسألة فقهيّة موجودة في ضمن رواية وردت عن المعصومين عليهم السّلام،و يتوقّف معرفتها علي معرفة اللغة العربيّة و النحو و الصرف و معرفة الرجال و صحّة متنها.

و يتوقّف أيضا علي معرفة حجّية هذه الرواية،و حجّية ظهورها،و حجّية محصول الجمع بينها و بين معارضها لو كان.و حجّية هذه الامور هي اصول الفقه، فهي الحجج علي الأحكام الشرعيّة.

و من ذلك يظهر تعريف علم الاصول و موضوعه و مسائله.

ص: 3

فتعريفه أن يقال:اصول الفقه هي الحجج للفقه.

و موضوعه:الحجّة في الفقه.

و مسائله:خبر الواحد حجّة،و هكذا.

و اكتفيت بهذا المقدار؛لأنّ علم الاصول مقدّمة للفقه،فتركت البحث عمّا لا حاجة إليه منه في الفقه،و أدّيت المطالب ببيان واضح بلا غطاء و لا التفات ببعض المصطلحات؛لئلاّ يصير الفكر محبوسا في إطارها،و ليكون حرّا يصل إلي حقيقة الأمر،و ما أدخلت فيه مباحث سائر العلوم؛لعدم توقّفه عليها.

و حيث إنّ عمدة الأدلّة هي الكتاب و السنّة،و البحث عمّا يتعلّق بهما يعدّ من مباحث الألفاظ،فينبغي أن يذكر بعض المباحث الراجعة إلي مباحث الألفاظ.

ثمّ انّي تعرّضت لاصول الفقه في هذا الكتاب،و رتّبته علي مقدّمة و مقاصد و خاتمة.

أمّا المقدّمة،فيذكر فيها امور:

الأمر الأوّل: في دلالة اللفظ علي معناه

غير خفيّ أنّ اللفظ إذا لوحظ بما هو لفظ فهو كيف مسموع،لا دلالة له بذاته علي معني،و دلالته علي المعني ليست طبعيّة كدلالة السعال علي وجع الصدر،و لا عقليّة كدلالة الأثر علي المؤثّر،بل منشأ دلالته أحد امور:

أوّلها:إنطاق اللّه تعالي البشر عند إرادة تفهيم المعاني،كما جعل في طبيعة الطفل أن يبكي عند احتياجه إلي الطعام أو الشراب.و كون منشأ دلالة اللفظ ذلك قريب؛لأنّه يبعد أن تكون هذه اللغات المختلفة مع سعتها و صعوبتها هي من فعل غير اللّه تعالي.

ثانيها:أن يقول شخص له أتباع لأتباعه:اعلموا أنّه لا بدّ أن يخطر ببالكم عند

ص: 4

سماع الماء-أي:هذا الصوت-الجسم السيّال،كما يخطر ببالكم من مكتوبه، و إن حصل من تصفيق الرياح.

ثالثها:الاختصاص الحاصل للّفظ من كثرة الاستعمال في المعني المجازي، إلي أن صارت دلالته عليه غير محتاجة إلي قرينة.

فاللفظ بأحد هذه الأسباب يدلّ علي المعني دلالة تصوّريّة،سواء كان كلمة أو كلاما،و هذه الدلالة موجودة بالوجدان في مورد سبق اللسان و التكلّم نسيانا،أو في حال النوم ممّا يصدر الكلام بلا اختيار،و في صوت من شجر أو جبل،أو تصفيق رياح أو تلفّظ ببغاء و نحوها.

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللفظ قد جعل للمعني ممّن له حقّ الجعل من دون تعهّد من شخص علي استعماله عند إرادة تفهيم معني خاصّ،ما ورد في تسمية السقط،ففي خبز أبي بصير:فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر و الانثي،فإنّ أسقاطكم إذا لقوكم يوم القيامة و لم تسمّوهم يقول السقط لأبيه:ألا سمّيتني الحديث (1).فانّه شامل باطلاقه ما لو لم يستعمل الاسم أصلا.

بل يمكن أن يستفاد ممّا روي في الخصال أنّ الغالط في كلامه يترتّب الأثر عليه،ففي حديث الأربعمائة:إذا غلبتك عينك و أنت في الصلاة،فاقطع الصلاة و نم،فإنّك لا تدري تدعو لك أو علي نفسك،لعلّك أن تدعو علي نفسك (2).فإنّه يدلّ علي أنّ الألفاظ الصادرة من النائم القاصد للفظ إذا صدرت منه غلطا تدلّ علي معانيها،مع أنّه لم يتعهّد ذلك.

بل يمكن الاستشهاد بتسبيح الحصي و تكلّم الحيوان،معجزة للنبي صلّي اللّه عليه و اله أو الوصي عليه السّلام،و شهادة الجوارح يوم القيامة إن كانت بالتكلّم.و في بعض الأخبار أنّ2.

ص: 5


1- جامع أحاديث الشيعة 21:331.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 592.

أمير المؤمنين عليه السّلام أحيي رجلا مات فتكلّم بغير لسانه،فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام ما مضمونه:لم لا تتكلّم بلسانك؟قال:متنا علي غير ما أراد اللّه تعالي،فانقلبت ألستنا (1).فإنّه ظاهر في أنّه أراد إلقاء المعني،فألقاه بغير اختياره بغير لسانه، فتأمّل.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ اللفظ يدلّ علي المعني بأحد الأسباب الثلاثة المذكورة،سواء كان مفردا،أو كان غير مفرد كغلام زيد،أو جملة تامّة خبريّة أو انشائيّة،حقيقة أو مجازا.

فكلام الساهي أو النائم يدلّ علي المعني،فإذا قال:زيد قائم،كان جملة خبريّة.أو قال:اضرب زيدا،كان جملة انشائيّة.نعم لا يترتّب الأثر المقصود إن لم يكن قاصدا لمضمونه،فتسبيح النائم لا ثواب له كقراءته القرآن،بل لا بدّ في ترتّب الثواب من قصد المضمون،سواء كان سامع يسمع أو لم يكن،سمعه نفس المتكلّم أو لم يسمع،و من ذلك الأذكار المستحبّة التي يقرؤها الأصمّ.

و دعوي أنّ اللفظ في جميع هذه الموارد لا يدلّ علي المعني دلالة وضعيّة؛لأنّ الوضع هو تعهّد المتكلّم،بأن يتلفّظ بلفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معني خاصّ.

تكلّف،فإنّ الحصي أو الحيوان متي تعهّدا بذلك.

ثمّ إنّ اللفظ لا يدلّ علي المراد الجدّي للمتكلّم،و إنّما يستكشف مراده إن تحقّقت هذه الامور:

أحدها:أن لا يكون المتكلّم ساهيا في كلامه،و لا سابقا إليه لسانه،و لا صادرا منه بغير اختيار،و يكون فاهما لمعناه،فربّما يقول:كل من هذا الطعام،و هو يزعم أنّ معناه لا تأكل منه.7.

ص: 6


1- اصول الكافي 1:457 ح 7.

ثانيها:أن يكون مريدا لظاهر لفظه لا لخلافه بدون نصب القرينة،أو مع تأخير نصبها.

ثالثها:أن يكون مريدا للظاهر جدّا لا تقيّة و لا مزاحا.

فاذا فقد أحدها،فلا يمكن أن يستكشف من كلامه أنّه أراد مضمون الكلام جدّا.

هذا كلّه في كشف المراد من الكلام.و أمّا الاحتجاج بظاهر الكلام علي المتكلّم أو علي السامع،فيكفي فيه إحراز كون المتكلّم في مقام البيان،أو الشكّ في كونه في مقامه،و لا يعتبر في الاحتجاج بكلامه إحراز الامور الثلاثة المعتبرة في كشف المراد؛لبناء العقلاء علي كون المتكلّم علي طبيعته السالمة من عدم النسيان،و علي كون ظاهر كلامه حجّة،و لذا لا يسمع منه الخلاف،و إلاّ لاختلّ النظام.

و قد اشير إلي بعض ذلك في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع،قال:

سألت أبا الحسن عن امرأة أحلّت لي جاريتها،فقال:ذاك لك،قلت:فإن كانت تمزح،فقال:و كيف لك بما في قلبها،فإن علمت أنّها تمزح فلا (1).

الأمر الثاني: في أقسام الوضع

و الممكن منها ثلاثة:

القسم الأوّل:الوضع الخاصّ و الموضوع له الخاصّ،و هو أن يتصوّر الواضع عند وضعه لفظ زيد معني خاصّا و هو الشخص المعيّن،و يضع اللفظ بإزائه.

القسم الثاني:الوضع العامّ و الموضوع له العامّ،و هو أن يتصوّر الواضع عند وضع لفظ كالانسان معني عامّا،و هو طبيعة الحيوان الناطق،و يضع اللفظ بإزائها.

ص: 7


1- وسائل الشيعة 14:534 ح 3.

القسم الثالث:الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ،و هو أن يتصوّر الواضع معني عامّا،كأن يتصوّر كلّ ولد ذكر يولد له،و يضع اللفظ بإزاء كلّ واحد منهم مستقلاّ، بأن يقول مثلا:سمّيت كلّ ولد يولد لي عليّا،فيكون اللفظ مشتركا لفظيّا،و ينحلّ ذلك إلي أوضاع مستقلّة،كما ينحلّ العامّ الاستغراقي إلي أفراده،فلا فرق بين أن يسمّي أوّل ولد ذكر له عليّا،ثمّ يسمّي الولد الثاني عليّا،و بين أن يقول:سمّيت كلّ ذكر يولد لي عليّا.

و أمّا الوضع الخاصّ،بأن يتصوّر المعني الخاصّ فقط من دون الانتقال إلي معني عامّ،و يضع اللفظ للمعني العامّ،فهو محال.

ثمّ إنّ العموم له معنيان:أحدهما أن يكون كلّيا طبيعيّا له أفراد،سواء كان جوهرا أو عرضا.ثانيهما:أن لا يكون مختصّا بشخص خاصّ أو مورد خاصّ و إن لم يكن كلّيا،كما إذا وضع رجل لرجل واحد،فإنّه لا يختصّ برجل معيّن و ليس كلّيا طبيعيّا،و لعلّ من هذا القبيل اسم الاشارة،و لذا يثنّي و يجمع.

فلفظة«هذا»موضوع لمفرد مذكّر يشار إليه بالاشارة الحسّية أو الذهنيّة،فهو من قبيل الوضع العامّ و الموضوع له العامّ بالمعني الثاني.و لا بدّ من اقتران الاستعمال بالاشارة الحسّية أو الذهنيّة،و لذا يكون معرفة يقع مبتدء كالأعلام.

فإذا قلنا«هذا العالم الفاضل»لم يكن تضييقا لمدلول هذا،كما في قولنا«رقبة مؤمنة»و ليس الوضع فيه عامّا و الموضوع له عامّا بمعني الكلّي الطبيعي،كما هو ظاهر الكفاية (1)،و لا الموضوع له خاصّا،كما صرّح به بعضهم.

ثمّ إنّه قد يقال:إنّ وضع الحروف عامّ و الموضوع له خاصّ،و قال في الكفاية:

إنّ الوضع و الموضوع له فيها عامّان (2).5.

ص: 8


1- كفاية الاصول ص 25.
2- كفاية الاصول ص 25.

و ينبغي لتحقيق ذلك أن يذكر معني الحرف،حتّي يتبيّن ذلك،فنقول:الحرف ما دلّ علي معني ليس معني الاسم و لا معني الفعل،فيتوقّف تمييز المعني الحرفي علي تمييز معني الاسم و الفعل.

أمّا الاسم،فهو اللفظ الدالّ علي ذات أو عرض بسيط أو مركّب لا تعلّق له بغيره صدورا منه،أو وقوعا عليه بحيث يحتاج مفهومه إلي من صدر منه أو وقع عليه، و يتصوّر فيه الوضع العامّ و الموضوع له العامّ،و الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ، و الوضع الخاصّ و الموضوع له الخاصّ.

و أمّا الفعل،فهو اللفظ الدالّ علي معني صادر من شيء أو قائم به،أو واقع عليه ينتظر عند سماعه إلي فاعله أو مفعوله كأنّه اخذ في مفهومه.و الوضع فيه عامّ و الموضوع له عامّ،مثلا ضرب يدلّ علي صدور الضرب من شخص،و هو كلّي له أفراد من حيث الزمان و المكان و آلة الضرب و غيرها.

و ما يقال من أنّ معني الهيئة حرفي،فهو خلاف الواقع،بل معناها معني الفعل.

و بذلك يظهر أنّ ما قيل من امتناع رجوع القيد في قولك«أكرم زيدا إن جاءك» إلي الهيئة لكون معناها حرفيا و الموضوع له فيها خاصّا ليس بكلّي،ليس علي ما ينبغي؛لأنّ للهيئة معني الفعل و هو كلّي قابل للتقييد.

و ما أجاب به في الكفاية (1)من أنّ الهيئة معناها حرفي لكن الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف عامّان،غير مقبول.

و قد ظهر أيضا ممّا ذكرنا الفرق بين ضارب و يضرب،فإنّ معني الأوّل الذات الصادر منها الضرب،و هو معني الاسم يقال بالفارسيّة:زننده.و معني الثاني صدور الضرب من فاعل ينتظر ذكره بعده،و هو معني الفعل يقال بالفارسيّة:ميزند.2.

ص: 9


1- كفاية الاصول ص 122.

إذا تحقّق معني الاسم و الفعل،فكلّ لفظ يدلّ علي معني ليس باسم و لا فعل فهو حرف.

و إن شئت قلت:إنّ الواضع لاحظ الأكل من الخبز،و السير من البصرة،و الأخذ من الدراهم،و غيرها من الموارد التي تذكر من معاني«من»فانتزع منها مفهوما و وضع له لفظة«من»فليس الموضوع له مرادفا لمفهوم الابتداء،و لا النسب الخاصّة بحيث يكون الوضع عامّا و الموضوع له خاصّا،كما في كلمات بعضهم،بل الموضوع له هذا المعني المنتزع المستقلّ،و يعبّر عنه بالفارسيّة«از»فقد وضعت لفظة«من»لما وضعت له«از»فهما مترادفان باختلاف اللغة،و ليس معني«من» الابتداء و لا التبعيض،و لا غيرهما من المعاني التي ذكروا لها،بل انّ تلك المعاني تستفاد من الطرفين.

فالحرف ما دلّ علي معني في نفسه لم يكن معني الاسم و لا الفعل،و ليس الحرف دالاّ علي معني في غيره،و لا دالاّ علي معني متعلّق بغيره،بل له معني مستقلّ لا فائدة فيه إلاّ إذا انضمّ إلي غيره،مثلا«من»موضوع لمعني يرادف بالفارسيّة«از»و الواو«با»و أو«يا»و إن«اگر»فهذه الحروف وضعت لهذه المعاني،و الوضع فيها عامّ و الموضوع له عامّ،بمعني عدم اختصاصها بمورد خاصّ،أو شخصّ خاصّ.

و ليس المعني كلّيا طبيعيّا له أفراد،و الكلّية و الجزئيّة مستفادتان من مدخولها و متعلّقها،مثلا قولنا«سر من البصرة إلي الكوفة»لا يختلف عن قولنا«سر سيرا سريعا من أوّل البصرة»،فما في الكفاية (1)من أنّه كلّي له مصاديق ليس علي ما ينبغي.و بهذا الضابط الذي ذكرناه يميّز اللفظ الذي ليس بمهمل أنّه اسم أو فعل أو5.

ص: 10


1- كفاية الاصول ص 25.

حرف.

ثمّ إنّ ما ذكر من أقسام الوضع،فإنّما هي في مرحلة الامكان و الثبوت.و أمّا في مرحلة الوقوع،فلا سبيل لنا إلي ما صنعه واضع لغة العرب مثلا،فلا بدّ من ملاحظة موارد الاستعمال،و إذا لاحظنا موارد استعمال«من»في الكتاب و الأخبار و التاريخ و الأشعار،رأينا استعماله في ابتداء العمل حقيقة،فنقيس عليه و نستعمله كذلك و نقول بانّه موضوع للدلالة علي ابتداء العمل و هو معني عامّ،فيكون الموضوع له عامّا،و لا ينبغي أن يخطر ببالنا أنّه موضوع في كلّ استعمال علي حدة.

و قد ظهر بما ذكرنا أنّ الحرف يختلف عن قسيميه في هويّة معناه،مثلا«إذا» في قولنا«إذا قمت قمت»اسم؛لأنّ معناه الوقت الذي قمت،و«إن»في قولنا«إن قمت»حرف؛لأنّ معناه بالفارسيّة«اگر»و«ليس»فعل يرادفه بالفارسيّة«نبود» و«لا»حرف يرادفه بالفارسيّة«نه»و يقال في جواب أرأيت زيدا؟لا،و لا يقال ليس.

و هذا الذي ذكرنا لعلّه معني ما نسب إلي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي:روي عن أبي الأسود الدؤلي أو عن أبيه،إلي أن قال:فألقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام إليّ صحيفة فيها بعد التسمية الكلمة اسم و فعل و حرف،فالاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف ما أنبأ عن معني ليس باسم و لا فعل الحديث (1).

و نحو هذا المتن مذكور في معجم الادباء (2)و كنز العمّال (3)،و مثله في تأسيس3.

ص: 11


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 181.
2- معجم الادباء 14:49.
3- كنز العمّال 10:283.

الشيعة (1).

و قال أيضا في تأسيس الشيعة:حكي عن ابن الأنباري هكذا:الاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما انبيء به،و الحرف ما جاء لمعني (2).

و قال أيضا عن سلامة بن عياض:الاسم ما دلّ علي المسمّي،و الفعل ما دلّ علي حركة المسمّي،و الحرف ما أنبأ عن معني ليس باسم و لا فعل (3).

و قال أيضا عن بعضهم:الاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف ما أوجد معني في غيره (4).

و حكي عن كتاب الرشاد:فالاسم ما أنبأ عن المسمّي،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّي،و الحرف أداة بينهما (5)انتهي.

فالحروف لها معاني كذلك،و مع ذلك توجد في غيرها معاني،فألف الاستفهام لها معني،و تبدّل الجملة الخبريّة إلي الانشائيّة،و كذلك«إن»الشرطيّة.

قال الشيخ الطوسي في العدّة:و يدخل علي الجملة حروف تغيّر معانيها، و تحدث فيها فوائد لم تكن قبل ذلك (6)انتهي.

فما في بعض العبائر من أنّ الحرف ما دلّ علي معني في غيره.ليس بصحيح؛ لأنّه إن اريد أنّ معناه كالعرض يوجد في غيره فليس كذلك.

و ذهب في نهاية الدراية إلي تفسيره بمعني النسبة،فقال:أي علي معني هو في2.

ص: 12


1- تأسيس الشيعة ص 61.
2- تأسيس الشيعة ص 49.
3- تأسيس الشيعة ص 51.
4- تأسيس الشيعة ص 53،و مثله في ص 55 و ص 57 و ص 60.
5- تأسيس الشيعة ص 59.
6- عدّة الاصول 1:31-32.

حدّ ذاته في غيره،لا أنّه موجود في غيره،فإنّ النسبة في حدّ ذاتها متقوّمة بغيرها لا في وجودها،كالعرض في الجوهر (1)انتهي.

و فيه أنّه عليه ينبغي أن يقال:إنّه ما دلّ علي معني يتقوّم بغيره.

ثمّ إنّ الحروف لها معاني حقيقيّة،و معاني مجازيّة،كما قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه:

إنّ الواو في قوله تعالي مَثْني وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (2)بمعني«أو»مجازا (3).

و بعض الحروف مشترك لفظي بين معاني،كما ذكروا أنّ«من»لابتداء الغاية مكانا أو زمانا،و للتبيين مثل عندي عشرون من الدراهم،و للتبعيض مثل أخذت من الدراهم،و للتعليل مثل يغضي حياء و يغضي من مهابته،و للظرفيّة مثل قوله تعالي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ (4)و للبدليّة مثل قوله تعالي وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (5).

أقول:يمكن أن يقال:إنّ«من»في جميع هذه الموارد لها معني واحد مرادفها بالفارسيّة«از»و معناها ما يقرب من نشو ما قبلها من مدخولها نشوا ما، و الخصوصيّات المذكورة مستفادة من الطرفين.

و ما قيل من أنّها تكون بمعني البدليّة،كما في قوله تعالي لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فيمكن منعه؛لأنّه يحتمل أن يكون المعني في قوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ما ذكره البيضاوي،و هو أن يكون قد تولّد منكم ملائكة؛لأنّ الآية واردة في عيسي عليه السّلام،و انّه قد تولّد من امرأة من غير رجل.0.

ص: 13


1- نهاية الدراية 1:20 الطبع الحجري.
2- سورة النساء:3.
3- عدّة الاصول 1:33.
4- سورة الأحقاف:4.
5- سورة الزخرف:60.

ثمّ إنّ لهم مذاهب في معني الحروف،منها:ما في الكفاية من أنّه ليس المعني في كلمة«من»و لفظ الابتداء مثلا إلاّ الابتداء (1)إلي آخره.و هذا خلاف الوجدان.

و منها:أنّ الحروف موضوعة للحكاية عن واقع النسبة،و لذا يكون الوضع فيها عامّا و الموضوع له خاصّا،بحيث يكون لفظ«من»موضوعا لكلّ نسبة علي حدة، فكلّ ابتداء مثل سرت من البصرة،و دخلت من باب الدار و هكذا،له وضع مستقلّ، و يكون لفظ«من»مشتركا لفظيّا بين موارد الابتداء،و كذلك الحال في سائر معاني «من»غير الابتداء.

و فيه أنّ مفهوم«من»التي للابتداء،كمفهوم زيد لا يختلف بحسب موارد الاستعمال،و إن تباين وجود كلّ استعمال عن استعمال آخر.نعم مفهوم«من»التي للابتداء مشترك لفظي مع مفهوم«من»التي للظرفية،و هكذا.

و الحاصل أنّ الالتزام بأنّ لكلّ استعمال وضعا مستقلاّ بعيد جدّا،بأن يكون «من»موضوعا للابتداء في سرت من البصرة،و موضوعا للابتداء في سرت من الدار و هكذا،مع أنّ المعني في الجميع واحد و اللفظ واحد،فهذا يكون من اللغو، مع أنّ الاستعمال ينبغي أن يكون مسبوقا بالوضع.

و منها:أنّها علامات كالرفع و النصب،ذكره في وقاية الأذهان.و هو خلاف الوجدان.

ثمّ إنّ المعاني الكثيرة التي ذكروها لبعض الحروف تكون غالبا من المشترك المعنوي،كالتبيين و التبعيض و الابتداء في لفظة«من».6.

ص: 14


1- كفاية الاصول ص 26.

الأمر الثالث: في الانشاء و الاخبار

اشارة

اللفظ الدالّ علي معني دلالة تصوّريّة:إمّا كلمة أو كلام.و الكلمة لفظ يدلّ علي معني مفرد،و الكلام لفظ يدلّ علي معني مفيد،و هو إمّا خبر أو انشاء،و مثل اللفظ الخطّ و الاشارة.

و حدّ الخبر أنّه كلام،أو إشارة أو خطّ أو نحوهما لمعناه واقع وراء مفهومه،لو سمعه سامع احتمل مطابقته له و عدمها.

و حدّ الانشاء أنّه كلام مفيد ليس وراء مفهومه واقع يحتمل السامع مطابقته له و عدمها.

و الكلام علي أقسام:

القسم الأوّل:ما يكون إخبارا فقط،كقولنا هلك فرعون في الزمان الماضي، فإنّه لو صدر من الساهي أو النائم أو من أيّ شيء،فهو خبر عن تحقّق مضمونه في الزمان الماضي.

القسم الثاني:ما يكون إنشاء فقط،كصيغة الأمر و الاستفهام و نحوهما،صدرت من أيّ شخص.

القسم الثالث:ما يدلّ علي ثبوت المحمول للموضوع،و لا يدلّ بنفسه علي الاخبار و الانشاء،كقولنا هند طالق،و قولنا بعت الدار،فهو مشترك معنوي،و لا بدّ لتعيين أحدهما من قرينة حاليّة أو مقاليّة علي أنّ المتكلّم قصد الاخبار أو الانشاء.

نعم لو لم يكن سامع يكفي قصد المتكلّم في تعيين أحدهما،فإن قصد الانشاء وقع إنشاء،و إن قصد الاخبار وقع خبرا،و لا حاجة إلي القرينة.

و في كون الموضوع له و المستعمل فيه في هذا القسم واحدا أو متعدّدا قولان:

الأوّل:كونهما واحدا،بدعوي أنّ الهيئة التركيبيّة الكلاميّة قد وضعت لانتساب

ص: 15

الفعل إلي فاعله و مفعوله،أو انتساب المحمول لموضوعه،و كونه خبرا أو أنشاء مستفادان من القرينة الدالّة علي الانشاء أو الاخبار،أو قصد المتكلّم الحكاية و عدم قصده،من دون فرق بينهما في الوضع أو الاستعمال،فهما بمنزلة الداعي الخارج عن مدلول الكلام.

القول الثاني:تعدّد المعني،و قد بني ذلك علي كون الوضع هو التعهّد.

قال في المحاضرات:إنّ الوضع عبارة عن التزام كلّ متكلّم بأيّ لغة أنّه متي ما قصد تفهيم معني خاصّ أن يتكلّم بلفظ مخصوص،و الذي يمكن أن يتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الاخبار،و إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية في الانشاء،فالجملة الخبريّة و الانشائيّة تشتركان في إبراز الأمر الموجود في النفس، و لا يتّصفان بالصدق و الكذب من هذه الجهة،و إنّما الفرق بينهما في أنّ قصد الحكاية له واقع تطابقه أو لا تطابقه،فعلي هذا الجملة الانشائيّة موضوعة لإبراز أمر نفساني،فليس معني الانشاء و الاخبار واحدا،و الاختلاف بينهما من ناحية الدواعي.و ممّا يؤكّد عدم اتّحادهما بالذات أنّه لا يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب،فلا يقال للمتكلّم في الصلاة:معيد الصلاة،كما يقال:يعيد الصلاة (1)انتهي.

أقول:أوّلا لو سلّمنا أنّ الوضع هو التعهّد،فيمكن أن يتعهّد كلّ متكلّم أنّه متي ما أراد الاخبار يأتي بالجملة الدالّة بنفسها أو بقرينة علي وقوع النسبة و عدمها،و متي ما أراد ايجاد المعني باللفظ يأتي بجملة تدلّ عليه بنفسها أو بالقرينة،و التلفّظ أمر اختياري يقع متعلّق الالتزام.

و الانشاء و الاخبار خارجان عن مدلول صيغة«بعت»أو«هند طالق»إلاّ انّ5.

ص: 16


1- المحاضرات 1:85.

المتكلّم قد التزم بأنّه لو أراد الاخبار يأتي بصيغة«بعت»مع القرينة الدالّة علي الحكاية.و لو أراد الانشاء يأتي بصيغة«بعت»مع القرينة الدالّة علي عدم الحكاية عمّا وراء مفهوم الجملة،فصيغة«بعت»موضوعة لمعني يكون مشتركا معنويّا بين الاخبار و الانشاء.

و ثانيا:مع الغضّ عن عدم صحّة مسلك التعهّد في الوضع،فإنّ كون الانشاء إبراز الاعتبار النفساني خلاف الوجدان،ففي جملة«أزيد قائم»لم يعتبر في نفسه طلب الفهم،و ذلك واضح.

تنبيه:

قد يفصّل بين الامور الواقعيّة الخارجيّة،و بين الامور الاعتباريّة الجعليّة،بأنّ المعني الذي ذكرناه للانشاء لا يتحقّق في الأوّل،كقولنا«الشمس طالعة»و يتحقّق في الثاني،فيقال:زيد مالك.

أقول:إنشاء المعني في الأوّل متحقّق في موارد الحكومة،كما يقال:ربح المؤمن ربا،و زيد عالم،فيما إذا كان للعالم حكم اريد شموله لزيد،بل ربّما كان الأثر مترتّبا علي نفس الانشاء،بأن ينشيء فيقول:زيد ميّت،فيموت زيد.أو قائم،فيقوم.

ثمّ إنّ الانشاء قد يكون آلة لايجاد وجود اعتباري،كصيغة البيع فإنّها آلة لايجاد الملكيّة الاعتباريّة،و لعلّ ذلك ممّا يساعده الوجدان.

و هذا المعني الانشائي قد اعتبره الشارع،فكما أنّه إذا مات شخص انتقل ملكه إلي وارثه،أي:وجد للوارث ملكيّة،و هي اعتبار الشارع كون المال له،كذلك تتحقّق هذه الملكية بإنشاء صيغة البيع،أو بنبذ الحصي،أو بالتصفيق،و بكلّ شيء قصد به ذلك،و يكون نبذ الحصي آلة لوجود الملك،و كذا الصيغة و غيرها.

فإن أمضي الشارع هذه الآلة لايجاد ذلك ترتّب عليه الأثر شرعا،و إن أمضي

ص: 17

العقلاء ذلك ترتّب عليه الأثر عند العقلاء،و إن لم يمضه من له حقّ الامضاء كان إنشاء محضا.

و ممّا يؤيّد ذلك أنّ الناس يقولون في شعاراتهم:فليسقط فلان،أو فليعش فلان، يجعلون اللفظ آلة لوجود السقوط و العيش بنظرهم.

ثمّ لا يخفي أنّ الانشاء و هو قصد كون المحمول للموضوع خفيف المؤونة لا يتوقّف علي تأثيره فيما وراء عالم الانشاء،فيصحّ إنشاء الفضولي و المكره، و إنشاء الزواج بعد العلم بتحقّقه،كتكرار صيغته المتعارف في عصرنا،و التعليق في قولنا هند طالق إن كانت زوجة زيد،أو بعت الدار إن كان اليوم جمعة،راجع إلي وجوده الخارجي،و أمّا الانشاء فقد تحقّق و لا ينفكّ المنشأ عنه.

و ليس التعليق في أصل الانشاء،أي إن كان اليوم جمعة فقد أنشأت البيع،و إن لم يكن اليوم جمعة فاخبار،أو غلط لعدم الاستعمال في معني،بل التعليق في تأثير الانشاء في الوجود الخارجي،فهو جازم بالانشاء و إن لم يكن عالما بتأثيره في الخارج،فإن تبيّن له بعد ذلك أنّ اليوم جمعة،فقد علم أنّ الانشاء قد أثّر أثره.

و لا فرق في التأثير بين التعليق و عدمه،فمن شكّ في كون هند زوجته و أراد الاحتياط في أمرها،يصحّ له أن يقول عند الشاهدين العدلين:«هند طالق»من غير تعليق،فإنّه قد أنشأ هذا المعني،فهي إن كانت زوجته فقد طلّقت،و إلاّ كان الكلام إنشاء محضا،و لم ينفكّ المنشأ عن الانشاء.و لو علّقه علي كونها زوجته كان كذلك.نعم ادّعي الاجماع علي بطلان البيع أو مطلق العقود و الايقاعات إن لم تكن منجّزة.

و قد ظهر ممّا ذكر التأمّل فيما في التنقيح،حيث قال:نعم لو كان متردّدا في إنشائه،كما إذا قال:بعتك هذا المال إن كان اليوم جمعة،لقلنا ببطلانه و إن تحقّق شرطه بأن كان اليوم جمعة واقعا،و ذلك لأنّ الشكّ في أنّ اليوم جمعة يسبّب الشكّ

ص: 18

في أنّه هل باع ماله أم لم يبع،و مع عدم علمه ببيعه لا معني لأن يكون جازما بما قصده في نفسه من البيع و التمليك (1)انتهي.

فإنّ هذه الجملة أي بعتك مالي إن كان اليوم جمعة ليست غلطا و لا إخبارا،فهو إنشاء.

و قد ظهر أيضا أنّ القول بأنّ تفكيك الوجود عن الايجاد إنّما لا يعقل في الايجاد الحقيقي لا في الاعتباري (2)،غير واضح،فإنّ المنشأ لا ينفكّ عن الانشاء،فإنّ الانشاء ايجاد للمنشأ.نعم ترتيب الأثر علي المنشأ لا يكون إلاّ بعد قبول المشتري لإنشاء البايع البيع.

و ظهر أيضا أنّ ما ذكره في الاصول علي النهج الحديث،من إنكار آليّة اللفظ و علّيته لوجود المعني،و انّ المعقول من وجود المعني باللفظ هو وجوده بعين وجوده،لا وجوده بنحو وساطته للثبوت له إلي آخر تحقيقه (3).غير متعيّن،فإنّ الوجود وراء اللفظ و نحوه خارجي و ذهني و إنشائي اعتباري كالسلطان،فإنّ السلطنة وجود اعتباري ليس وجودا ذهنيّا و لا خارجيّا.

بل يمكن المناقشة فيما ذكره،بأنّ وجود المعني لو كان بعين وجود اللفظ،لكان منعدما و منصرما بانصرام اللفظ،إلاّ أن يقال بأنّ اللفظ يترتّب عليه الأثر حدوثا و بقاء،لكن المرتكز في الذهن بقاء المعني الانشائي،فمن اشتري شيئا فإنّه يغفل بعد سنين عن الشراء و يري نفسه مالكا للمثمن،و هكذا في الزوجيّة و غيرها.

و ربّما يعلم كون الشيء ملكا له و لا يعلم أنّه حصل بالارث،أو البيع اللفظي،أو المعاطاتي،أو بالحيازة،و الملكيّة ملحوظة مستقلّة عن منشأها.0.

ص: 19


1- التنقيح في شرح عروة الوثقي 1:68.
2- نهاية الاصول ص 27.
3- الاصول علي النهج الحديث ص 10.

الأمر الرابع: في الحقيقة و المجاز

اشارة

قد يتلفّظ بلفظ لا معني له،فهو لفظ مهمل،كديز مثلا.و قد يتلفّظ بلفظ له معني قد حصل له بأحد الأسباب المتقدّمة،فإن أفاد المعني الذي وضع له في اللغة سمّي حقيقة؛لأنّه حقّ في معناه و ثبت فيه.

و إن أفاد معني غير ما له في اللغة،فإن أفاد المعني الثاني بغير قرينة فهو منقول؛ لأنّ المعني الأوّل قد هجر و نقل اللفظ عنه.و إن استوي المعنيان و احتاج كلّ منهما إلي القرينة المعيّنة له،فهو مجاز مشهور،أو مشترك لفظي.و إن احتاج إفادة أحد المعاني إلي القرينة مع انصرافه من دونها إلي غيره،فهو المجاز.

ثمّ إن أراد المتكلّم إفادة المعني المطابقي للفظ حقيقة أو مجازا فمصرّح،و إن أراد إفادة لازمه فكناية.فإن كان لكلامه ظهوران أحدهما ما يخطر بذهن مطلق السامع و الآخر يعرفه اللبيب الفطن،و كان مراده ما يعرفه اللبيب،فهو تورية،كقول القائل«خليفة النبي صلّي اللّه عليه و اله من بنته في بيته»فإنّ ما يبدو من ظهوره بحسب محيط السامعين هو أبو بكر،لكن اللبيب العاقل يفهم منه أنّه علي بن أبي طالب عليه السّلام.

و أمّا إذا كان الكلام له ظهور واحد و قصد المتكلّم غير ظاهره،فلا يكون تورية، فلو قال:ما أكلت الخبز و قصد أنّه ما أكله في السماء لم يكن تورية،خلافا لبعضهم حيث جعله تورية.

هذا كلّه في دلالة اللفظ علي معناه من حيث هو.و أمّا كشف الكلام عن كونه مرادا جدّيا للمتكلّم،فلا بدّ من إحراز أنّه لم يقله لتقيّة،أو اكراه،أو هزل،أو سهو، فإن احرز ذلك فهو.و أمّا لو شكّ فيه،فبناء العقلاء علي الحمل علي الجدّ في مقام الاحتجاج.

ثمّ إنّ إفادة المعني بأحد الوجوه المذكورة في أيّ لغة كانت لا بدّ أن يصحّحها

ص: 20

أهل التلفّظ بتلك اللغة.

إذا تمهّد ما ذكرناه،فيقع البحث في المجاز في جهات:

الجهة الاولي:في أنّ المجاز هل هو التلفّظ باللفظ مرآة و حاكيا تامّا عن المعني غير الموضوع له،كحكايته عن الموضوع له،أو أنّه التلفّظ باللفظ حاكيا عن معناه الحقيقي،و يكون تطبيقه علي المعني غير الموضوع له بادّعاء أنّه فرده و مصداقه، أو هو التلفّظ بلفظ حاكيا عن معناه الحقيقي،لكن لا ليستقرّ في ذهن السامع،بل لينتقل إلي ما يشبهه من المعني غير الموضوع له؟وجوه:

الظاهر هو الأوّل؛لأنّ المتلفّظ بلفظ أسد في قوله«رأيت أسدا يرمي»قد تصرّف في مفهوم الأسد،و جعله بمعني البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،و أطلقه علي زيد كما يطلق علي الحيوان المخصوص،و ذلك لشباهته به،و كذلك في قوله زيد حاتم زمانه أو سلمان زمانه،قد تصرّف في مفهوم حاتم،و جعله بمعني البالغ أقصي مرتبة الجود،و أطلقه علي زيد.

و الفرق بينه و بين المشترك اللفظي أنّ المشترك يستعمل في كلّ واحد من المعنيين من دون مراعاة مناسبة بينهما،بخلاف المجاز.و ممّا يؤيّد ذلك رجوع ضمير يرمي إلي الأسد المذكور،فلو كان المراد به الحيوان المفترس،كان مجازا في الاسناد أو استخداما،و هو خلاف الظاهر جدّا.

و حكي الوجه الثاني عن السكّاكي،حيث وسّع أفراد الأسد و لم يتصرّف في مفهومه.علي العكس من الوجه الأوّل،فانّه مبني علي توسعة مفهوم الأسد حتّي يشمل ما يشابهه.

و لم يستبعده في المحاضرات،قال:فإنّ فيه المبالغة في الكلام الجارية علي طبق مقتضي الحال،بخلاف مسلك القوم فإنّه لا مبالغة فيه؛إذ لا فرق بين زيد أسد

ص: 21

و زيد شجاع،مع أنّ مراجعة الوجدان تشهد علي خلاف ذلك (1)انتهي.

و لا يخلو عن تكلّف في مثل الأعلام،كسلمان و حاتم،بل انّه خلاف الوجدان، فقولك«ركبت في طريقي إلي البلد الكذائي سفينة و كان جليسي أسدا»لا يخطر في ذهن السامع من جليسي إلاّ الانسان،و لا يفهم من الأسد الحيوان الذي له ذنب ادّعاء،كما يقال:زيد عالم،مع أنّه جاهل،فالذي يساعده الوجدان في مثل رأيت أسدا،هو رؤية أسدية الأسد،و أبرز خصائصه في شخص؛فإنّ أظهر خصائص الأسد هو البلوغ أقصي مرتبة الشجاعة.

و المراد من الأسد المستعمل مجازا ليس مطلق الشجاع،بل البالغ أقصي مرتبة الشجاعة التي لا يمكن التعبير عنها حقيقة إلاّ بالتعبير بممثّلها و هو الحيوان المخصوص.

و اختار الوجه الثالث في وقاية الأذهان،قائلا إنّ القائل إنّي قاتلت اليوم أسدا حصورا،و هو لم يقاتل إلاّ رجلا شجاعا مشيحا،لا يريد إلاّ إلقاء المعني الأصلي الموضوع له علي السامع و إفهامه إيّاه،و إن لم يكن مطابقا للواقع،و لم يكن ذلك منه علي سبيل الجدّ.

ثمّ أكثر من الأمثلة،و قال:و ليت شعري ماذا يقول القائل بأنّ اللفظ يستعمل في غير معناه في مثل قوله فلان شجاع بل أسد،ثمّ انّه صرّح بأنّ هذا الذي قرّرناه في المجاز غير الذي ذهب إليه السكّاكي؛لأنّ ما ذكرناه يعمّ مطلق المجاز،مرسلا (2)كان أم استعارة،و السكّاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة (3)انتهي.6.

ص: 22


1- المحاضرات 1:93.
2- و المراد به مثل استعمال الكلّ في الجزء أو العكس و نحوهما من أنحاء المجازات غير المجاز بالمشابهة.
3- وقاية الأذهان ص 40-46.

و اختار هذا المذهب في نهاية الاصول قائلا:إنّ الارادة الاستعماليّة متعلّقة بالمعني الحقيقي،و الارادة الجدّية هي انتقال السامع إلي ما يشابهه،قال:و بالجملة فنحن ندّعي في جميع المجازات ما ادّعاه السكّاكي في خصوص الاستعارة (1).

أقول:قد عرفت أنّه ليس مرادنا مرادفة أسد مع الرجل الشجاع،بل اريد من الأسد البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،فيصحّ الترقّي بأن يقال:زيد شجاع بل أسد، أي:بالغ أقصي مرتبة الشجاعة.

الجهة الثانية:في أنّ للمجاز وضعا أو أنّه يتبع حسن الاستعمال بالطبع من دون أن يكون له وضع،احتمالان،الاحتمال الأوّل:أنّ له وضعا،أي:لا بدّ من أن يكون مستعملا عند أبناء المحاورة و أهل اللسان،و قد حصروا جواز استعمال اللفظ في غير المعني الحقيقي في العلاقات المذكورة في كتب المعاني و البيان،و من البعيد جدّا أن يصحّ استعمال مجازي عند أبناء اللسان في غير ما ذكروه،و علي كلّ فالميزان صحّة الاستعمال عندهم،و هذا معني الوضع،أي:انّ أهل اللسان يخصّصون الألفاظ بمعاني تتبادر إلي الذهن بدون القرينة،و يخصّصونها بمعاني تتبادر مع القرينة.

الاحتمال الثاني:أنّه ليس له وضع،و بيانه من وجوه:

التقرير الأوّل:ما في الكفاية من أنّ صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له بالطبع،بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه و لو مع منع الواضع عنه، و باستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه (2)انتهي.

أقول:إنّ واضع اسم حاتم لو منع عن استعماله في السخي لم يضرّ و صحّ الاستعمال.8.

ص: 23


1- نهاية الاصول ص 25.
2- كفاية الاصول ص 28.

لكن قد عرفت أنّ المراد بالوضع صحّة الاستعمال عند أهل اللسان،فإن أراد صاحب الكفاية أنّ صحّته بطبع المستعمل و إن لم يرضه أهل اللسان،فهو محلّ منع،مثلا لو قال:سل الحمار،قاصدا به صاحبه،نظير وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ و كان موافقا لطبعه،لم ينفع ما لم يصحّحه أهل اللسان.

التقرير الثاني:ما في المحاضرات،من أنّ كلّ مستعمل واضع حقيقة،فهو كما تعهّد بذكر لفظ خاصّ عند إرادة تفهيم معني خاصّ بدون القرينة،كذلك تعهّد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معني آخر مع القرينة،فلا مجال لهذا البحث ليقال:إنّ الواضع الأوّل للّغة هل وضع المجاز أو لا؟ (1)

أقول:لو سلّم أنّ الوضع هو التعهّد،فلا بدّ أن يكون تعهّده في استعمال المجاز مرضيّا عند أهل المحاورة،فيرجع إلي ترخيصهم،ففي المثال المذكور و هو سل الحمار،إن استعمله و قال:استعملته مجازا لم يقبل منه.

التقرير الثالث:ما يظهر من الوقاية من انكار المجاز فلا وضع له،لاحظ كلامه.

الجهة الثالثة:للمجاز أقسام:

منها:المجاز في الكلمة،و هو ما تقدّم.

و منها:المجاز في الاسناد،مثل قوله«و إذا المنيّة أنشبت أظفارها»فإنّ المراد بالمنية الموت،و المراد بالانشاب و الأظفار معناهما الحقيقي لكن الاسناد مجاز، فكأنّه جعل المنيّة حيوانا مفترسا قد أنشب أظفاره.

و منها:المجاز في الانتقال إلي غاية المدح،كقوله«بدر السماء في داري».

ثمّ إنّ الكناية و الاستعارة ليستا من المجاز في الكلمة،بل في الانتقال إلي ما يكون كأنّه هو،فالأبيات التي ذكرها في الوقاية (2)كلّها كناية و استعارة ليس من0.

ص: 24


1- المحاضرات 1:93.
2- وقاية الأذهان ص 40.

المجاز في الكلمة،فقوله:

قامت تظلّلني و من عجب شمس تظلّلني من الشمس

يريد المعاني الحقيقيّة،لكن لينتقل علي أنّ محبوبته هكذا ينبغي أن يضرب لها المثل،فتأمّل.

تتميم:

الاستعمال ذكر لفظ لإفادة مطلب،و لا يتوقّف صحّته علي كون اللفظ موضوعا لمعني،مثلا يصحّ أن يقال:ديز مهمل،فإن كان اللفظ موضوعا فقد يستعمل و يراد لفظه،كقولنا«زيد اسم لابن بكر»و قد يراد معناه،كقولنا«زيد قائم»و قد يراد كلاهما،كقولنا«زيد اسم ابن بكر قائم».و قولنا زيد لفظ أو ثلاثة أحرف،قد استعمل بدون قصد معناه و اريد منه هذه اللفظة صدرت من أيّ لافظ حتّي المتكلّم به،أو من باب حذف ما يعلم أي لفظة زيد.أو اريد نفس اللفظة من باب أنّ هذه اللفظة فرد من أفراد لفظ زيد يقوله كلّ أحد،و الاستعمال في جميع ذلك ليس مجازا،نعم لم يرد به معناه لكن الاستعمال لا يتوقّف علي إرادة المعني.

و قد يستعمل اللفظ في نوعه،مثل قولنا«من حرف جرّ»فإنّه لا يشمل نفسه؛ لأنّه لم يجر.أو صنفه،كقولنا«ضرب في ضرب زيد فعل»إذا اريد صنفه.و قد يستعمل في مثله،كقولنا«ضرب في كلام عمرو ضرب زيد فعل ماض».

الأمر الخامس: في أقسام الدلالة

قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الدلالة اللفظيّة الجعليّة علي المعني تتحقّق بوجود اللفظ، و إن صدر من لافظ بلا شعور،كببغاء أو صدي جبل،من غير فرق بين المفردات و الجمل،و كذلك الخطّ و نحوه،فإذا تكلّم متكلّم و قال:زيد قائم،دلّ علي معناه و إن كان سابقا له لسانه،و إن شئت فسمّها دلالة تصوّرية.

ص: 25

ثمّ يكون بعد ذلك مرحلتان:

المرحلة الاولي:كون المتكلّم مريدا لمضمون الكلام إرادة إستعماليّة،و العلم به لا يكون حاصلا من الوضع،بل إذا علم أنّه لم يكن ساهيا و لا سابقا لسانه و لا هازلا و كان في مقام التفهيم،دلّ علي أنّه مريد للمعني بالارادة الاستعماليّة،كما إذا قال الامام المعصوم في جواب من سأله عن المسح علي الرجلين في الوضوء:

اغسل رجليك.فإنّ الارادة الاستعماليّة موجودة للعلم بأنّه ليس ساهيا و لا هازلا.

المرحلة الثانية:كون المتكلّم مريدا جدّا ما أراده استعمالا،و هذا يتوقّف علي العلم بأنّه لم يقله تقيّة مثلا،ففي المثال المذكور لا توجد الارادة الجدّية؛لأنّ الرجلين يمسحان في الوضوء ضرورة من مذهب أهل البيت.

و هاتان المرحلتان ليستا من الوضع أصلا،بل لا بدّ من احرازهما،و يمكن أن يحرز عدمهما،و إن شكّ فبناء العقلاء علي الحمل علي الارادة الاستعماليّة و الارادة الجدّية.

و من ذلك يظهر أنّ دلالة الكلام علي معناه بالدلالة التصوّريّة ليست تابعة للارادة،و لا دلالة له علي الارادة الاستعماليّة و لا الارادة الجدّية،بل انّهما تستندان إلي الامور المذكورة.

و قد ظهر ممّا ذكرنا النظر فيما ذكره في الكفاية من أنّ دلالة اللفظ علي كون معناه مرادا للمتكلّم تابعة لارادته تفرّع الكشف علي الواقع المكشوف،و جعل ذلك مراد العلمين إلي آخر ما ذكره (1).

و ذلك لأنّ اللفظ لا دلالة له علي الارادة الاستعماليّة و لا الجدّية،بل انّهما يستكشفان من غير ناحية دلالة اللفظ.و لذا لو شكّ و لم يعلم أنّه سبق لسانه أو نسي2.

ص: 26


1- كفاية الاصول ص 32.

نصب القرينة،أو أنّه قاله تقيّة،أو غير ذلك ممّا هو دخيل في المطلوب،فبناء أبناء المحاورة العقلاء علي الأخذ بالظهور الحاصل من الدلالة التصوّرية،سواء كان الظهور من أجل الاستعمال الحقيقي أو الاستعمال المجازي.

و الحاصل أنّ جملة«هند طالق»لها دلالة واحدة،و هي ثبوت المحمول للموضوع المسمّي عندهم بالدلالة التصوّرية.و أمّا الدلالات الاخر،فليست لفظيّة،بل هي من بناء العقلاء،و هي أنّ المتكلّم ليس ساهيا و لا سابقا لسانه و لا هازلا،و انّه معتقد لمضمون الكلام،و انّه لم يقله مكرها أو تقيّة.و قد أشار إلي بعض هذه الدلالات الشيخ الأنصاري في كتاب الرسائل (1)في بحث أصالة الصحّة في الأقوال و الاعتقاد،في أواخر بحث الاستصحاب.

الأمر السادس: في وضع المركّبات

للمركّبات وضع نوعي،سواء كانت تامّة أو ناقصة،و يعبّر عنه بوضع الهيئة، فقولنا«زيد قائم»يدلّ زيد علي الذات الخارجيّة،و قائم علي صفة القيام القائم بذات مّا،و هيئة المبتدء و الخبر الدالّ عليها الرفع و التنوين في الأسماء المنصرفة تدلّ علي الهوهويّة الخارجيّة دلالة تصوّرية،و إن صدر الكلام من لافظ بلا شعور.

و هذه الهيئة أي المبتدء و الخبر الدالّة علي الهوهويّة يعبّر عنها في الفارسيّة بوجوه، فيقال:زيد ايستاد،و زيد ايستاده است،بلا فرق بين اللغات في الهوهويّة.

و هيئة تقدّم الخبر علي المبتدء تدلّ علي الحصر،كقولنا«الشجاع زيد»بلا فرق بين اللغات.فما يقال من أنّ المفهوم العربي اتّحاد الطرفين وجودا و الهوهويّة المصداقيّة بينهما بينما المفهوم الفارسي هو ثبوت شيء لشيء ليس كذلك.

ص: 27


1- فرائد الاصول ص 731.

ثمّ لا يخفي أنّ المفردات إذا كانت موضوعة و الهيئة كانت موضوعة،فيتشكّل منهما أمثال قولنا«زيد قائم»و لا وجه لوضع زيد قائم مرّة ثالثة،كما هو واضح.

الامر السابع: في علائم الحقيقة و المجاز

منها:التبادر عند أهل اللسان إذا كان مستندا إلي حاقّ اللفظ،و لا يخفي أنّه يمكن إحراز تبادر المعني عند العرب بتبادر مرادفه عندنا،كالماء مثلا فإنّ مرادفه بالفارسيّة آب،فإذا شكّ في صدقه علي السيول من الأمطار،فإن تبادر عند اطلاقه عندنا الشمول للسيول،فيقال:إنّه كذلك في لغة العرب،و ما لم يكن له مرادف انحصر أمره في الرجوع إلي أهل اللسان حتّي يعرف المعني المتبادر منه.

ثمّ لا يخفي أنّه لا يمكن الوثوق بالتبادر البدوي الحاصل من مجرّد اطلاق اللفظ أو استعماله في مورد واحد.

و عليه فلا يحرز استناده إلي حاقّ اللفظ إلاّ بتتبّع موارد الاستعمال،فإذا تبادر المعني الواحد في موارد كثيرة،يحرز كونه مستندا إلي حاقّ اللفظ بعد التتبّع الكافي،و هو مع ذلك مشكل في بعض الموارد.

و كذلك الكلام في صحّة السلب،و إلي ذلك يرجع ما في الوقاية (1)من معرفة ذلك من تتبّع موارد الاستعمال.ثمّ الظاهر أنّ عدم صحّة السلب كالعبارة الاخري عن التبادر،و كلاهما استفسار عن المرتكز الاجمالي.

و منها:تنصيص الواضع أو أتباعه،قاله في الوقاية (2).

قلت:فإن اريد بهم أرباب اللغة فهو مبنيّ علي حجيّة قولهم في اللغة.كما قال في الفصول:إنّ قول أهل اللغة حجّة لو لم يكن معارضا،و مع التعارض يقدّم

ص: 28


1- وقاية الأذهان ص 52.
2- وقاية الأذهان ص 52.

الأقوي.و قد استقصينا الكلام فيه في الأدلّة العقليّة.

و منها:الاطّراد،و المراد به علي ما يظهر من عدّة الاصول أن يقاس علي استعمال وارد استعمال آخر.

قال في عدّة الاصول:و الحقيقة إذا عقل فائدتها،فيجب حملها علي ما عقل من فائدتها أين وجدت،و لا يخصّ به موضع دون آخر و يطّرد ذلك فيها،إلي أن قال:

و علي هذا المعني يقال:إنّ الحقائق يقاس عليها،و أمّا المجاز فلا يقاس عليه، و ينبغي أن يقرّ حيث استعمل،و لذلك لا يقال سل الحمير و يراد مالكها،كما قيل سل القرية و اريد أهلها؛لأنّ ذلك لم يتعارف فيه (1)انتهي.

قلت:ليس سل الحمير مثل سل القرية؛لأنّ الحمير لها شعور فيتوهّم السؤال منها حقيقة،و لذا يقال:سل الدار و سل الأرض،و هكذا ما يشبه سل القرية،فعلاقة المجاز إن كانت موجودة اطّرد المعني المجازي أيضا،و إن لم تكن العلاقة موجودة فلا يصحّ الاستعمال مجازا.

و ذكر هذا الايراد في الكفاية (2)علي من جعله علامة.و أجاب عنه في نهاية الاصول (3)بأنّ المراد من الاطّراد هو صحّة استعمال اللفظ في معناه في جميع الموارد،و المراد بعدم الاطّراد عدم صحّته،و إن كان صنف العلاقة موجودا،بل يعتبر مضافا إلي وجود العلاقة كون المقام مقام الاستعمال مجازا،و لا يعتبر ذلك في المعني الحقيقي،مثلا يصحّ استعمال الأسد المفترس في جميع الموارد،و لا يصحّ استعماله مجازا في الرجل الشجاع البالغ أقصي مرتبة الشجاعة،إلاّ إذا كان المقام مقام إظهار شجاعته،مثلا يصحّ أن يقال للرجل الشجاع المذكور:يا أسد2.

ص: 29


1- عدّة الاصول ص 145.
2- كفاية الاصول ص 35.
3- نهاية الاصول ص 42.

الهيجاء فرّق الأعداء،و لا يصحّ أن يقال له:يا أسد الهيجاء كل من طعامي؛لأنّه ليس مقامه مقام إظهار شجاعته.

قلت:بناء علي أنّ المجاز بالوضع لا بدّ من متابعة الوضع،و بناء علي أنّ الاعتبار به بالحسن الطبعي،لا بدّ من ملاحظة وجود الحسن الطبعي،فإذا وجد يطّرد المجاز أيضا.

و قد يقال:إنّ المراد من الاطّراد أن يلاحظ موارد الاستعمال،و ينتزع منها معني مشترك في تلك الموارد،مثلا إذا اريد أن يفهم أنّ معني«غنم»أعمّ من الفائدة الحاصلة في الحرب،يتمسّك بالاستعمالات المختلفة للفظ الغنيمة في الآيات و الروايات و نهج البلاغة و أشعار العرب.

قلت:تتبّع موارد الاستعمال ينفع في كشف المعني الحقيقي إن لم تكن قرينة تدلّ علي المعني،فيرجع إلي أنّ اللفظ قد استعمل في هذه الموارد المختلفة، و المتبادر منه هذا المعني بدون قرينة،و التبادر إن كان مستندا إلي حاقّ اللفظ كان علامة الحقيقة،فلم يظهر لنا المراد بدلالة الاطّراد علي كون اللفظ حقيقة.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:لو احرز المعني الحقيقي للفظ الخبر الوارد عن المعصومين عليهم السّلام في زماننا،و كان احتمال نقله عن معناه اللغوي احتمالا ضعيفا،لكان ذلك دليلا علي كونه كذلك في زمان صدور الخبر.و أمّا إذا كان الاحتمال قويّا و راجحا،فهل يصحّ اثبات اتّحاد الزمانين بالاستصحاب القهقري،أو بناء العقلاء علي ثبات المعني و عدم تغيّره عن معناه أم لا؟محلّ تأمّل و منع.

و لو سلّم بناء العقلاء،فلا يمكن الاعتماد عليه،إلاّ أن يثبت إمضاء الشارع له، و أخبار الاستصحاب كقوله«لا تنقض اليقين بالشكّ»مع أنّها مختصّة بالمتيقّن السابق لا تثبت المفهوم الذي ترتّب عليه الأحكام،و مقتضي الآيات و الأخبار

ص: 30

المانعة عن اتّباع غير العلم عدم حجّيته،و سيأتي في محلّه بعض الكلام فيه.

الثاني:لو احرز بسبب إحراز المعني الحقيقي ظهور اللفظ في المعني،لكان حجّة.و أمّا لو شكّ في الظهور لاحتمال احتفاف الكلام بقرينة حاليّة احتمالا عقلائيا راجحا،بحيث شكّ في ظهور اللفظ،فهل أصالة الحقيقة أصل تعبّدي متّبع و لو مع الشكّ في الظهور؟محلّ اشكال قوي لعدم الدليل عليه.

ثمّ الظهور حجّة تعبّدا بين المولي و العبد تعبّدا عقلائيّا،و يدلّ عليه أنّه لو سبق لسان المولي في أمر عبده بشيء و علم العبد ذلك،و لم يعلم المولي أنّ العبد علم ذلك،و أتي العبد بذلك،كان له الحجّة علي المولي،مع أنّه ليس مرادا استعماليّا له فضلا عن المراد الجدّي،فلو قال لعبده:اعط فلانا دينارا،قد سبق لسانه إليه و كان مقصوده أن يعطيه درهما،فأعطاه العبد دينارا،كان له الحجّة علي المولي،و إن لم يجز له شرعا لعدم رضا المولي بالتصرّف المذكور،فتأمّل.و سيأتي التعرّض لذلك في بحث حجّية الظواهر.

الثالث:لا يخفي أنّ فهم لغات القرآن و الأخبار بحدودها سعة وضيقا،و فهم القرائن الحاليّة المكتنفة بالكلام و كذا المقاليّة،و غيرها ممّا هو دخيل في فهم ظهور الألفاظ،مشكل جدّا،و لا طريق لنا إلي ذلك،و لا يكفي لذلك كتب اللغة؛لأنّها لا تبيّن حدود المعاني،كما لا تبيّن القرائن الحالية،مثلا إذا تردّد مفهوم الآنية بين مطلق الظرف حتّي يشمل المصفاة،و بين الظرف المعدّ للطعام و الشراب،فلا طريق إلي معرفته.ثمّ إذا استظهرنا الاتّحاد أو عدمه،فلا طريق إلي كونه كذلك في حين صدور الأخبار.و هل يكفي الرجوع إلي عرف العرب الآن؟بأن يكونوا يعرفون مفهومها كما كان يعرفه المخاطبون مع هذا الاختلاط الموجود في العصر الحاضر أم لا؟محلّ إشكال.

ص: 31

الأمر الثامن: في تعارض الأحوال

إن تعيّن المراد من معني اللفظ المستعمل،سواء كان حقيقة أو مجازا،فهو المتّبع.و إن لم يتعيّن و دار الأمر بين المعني الحقيقي و غيره،فالظاهر انعقاد الظهور في المعني الحقيقي و يكون هو الحجّة.

و إن علم عدم إرادة المعني الحقيقي و دار الأمر بين الأحوال المختلفة من الاشتراك و المجاز و غيرهما،فإن لم يكن له ظهور في أحدها كان مجملا،و لا ينفع ما قيل من أنّ المجاز خير من الاشتراك و نحو ذلك من الامور الاستحسانية التي لا توجب ظهور اللفظ.

الأمر التاسع: في حمل اللفظ علي معناه اللغوي و العرفي

اشارة

يحمل اللفظ علي معناه اللغوي إن انحصر فيه،و إن كان له معني لغوي و معني عند العرف العامّ،بحيث يكون منقولا عندهم من معناه اللغوي،حمل اللفظ عليه؛ لأنّ بناء المتكلّم في العرف العامّ علي التكلّم بما هو متعارف عندهم.

و إن كان له معني خاصّ في مكان خاصّ،أو عند طائفة خاصّة و كانت المحاورة بين أهل المكان الخاصّ،أو بين أبناء الطائفة الخاصّة من حيث انّهم كذلك،حمل علي ذلك المعني،فالنحوي إذا تكلّم في النحو و قال مثلا:زيد مرفوع و عمرو منصوب،في قولك ضرب زيد عمروا،يحملان علي الضمّة و الفتحة،لا الرفع من مكانه،و أمّا لو تكلّما في غير النحو حملا علي معناهما اللغوي.

و من ذلك يظهر أنّ الشارع المقدّس لو تكلّم في الأحكام الشرعيّة،أي:فيما يرتبط بمقام التشريع و نحوه،فإنّه يحمل اللفظ علي الحقيقة الشرعيّة عنده،بناء علي ثبوتها،أو المعني المخترع و لو كان الاستعمال مجازيّا.

ص: 32

الحقيقة الشرعية

تتميم:

يقع البحث عن الحقيقة الشرعيّة في جهات:

منها:انّه قيل:لا ثمرة لهذا البحث؛لأنّه لم يقع في الشرع لفظ لم يتبيّن المراد منه أنّه حقيقة شرعيّة أو لغويّة.

أقول:يحتاج ذلك إلي الاحاطة الكاملة،و قد قال في الجواهر:إنّ الغسل حقيقة شرعيّة في الغسل الترتيبي و الارتماسي،فإذا اطلق حمل علي أحدهما و لا يحمل علي معناه اللغوي،و هو غسل تمام ظاهر البدن،و إن لم يكن ارتماسيّا و لا ترتيبا (1).

أقول:لا نسلّم صيرورة الغسل حقيقة شرعيّة في عصر الأئمّة في الترتيبي و الارتماسي.

و منها:أنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة موقوف علي أن تكون المعاني التي يقال إنّ ألفاظها حقائق شرعيّة معاني مستحدثة.لكنّها ليست مستحدثة،بل هي كانت في الأزمنة السابقة قبل الاسلام،و كان التعبير عنها باللغة العبريّة،فلا بدّ و أن يكون واضع اللغة العربية قد وضع لتلك المعاني لفظا مرادفا للفظها العبري،فالصلاة موضوعة لغة للمعني الخاصّ الذي كان موجودا في الأزمنة السابقة و ليست حقيقة شرعية.

و فيه أوّلا:أنّه إن صحّت الدعوي المذكورة في بعض المعاني،فلا وجه لدعواها في جميعها كالغسل.

و ثانيا:لا يبعد أن يكون معني الصلاة عبارة عن نحو تعبّد و توجّه،و الصوم نوع

ص: 33


1- جواهر الكلام 3:101.

إمساك،و الزكاة نوع تصدّق،وضعت ألفاظها لغة لذلك المفهوم الكلّي،و اختلفت كيفيّتها بحسب الأديان،فيمكن أن يقع النزاع في صيرورتها حقيقة شرعيّة في هذه الكيفيّة الخاصّة،و لا يبعد أنّها صارت عند المتشرّعة في عصور الصادقين عليهما السّلام و من بعدهما من الأئمّة عليهم السّلام إلي زماننا حقيقة في الفرد المخصوص،أي الأركان الخاصّة،و التصدّق الخاصّ من الحنطة و الشعير،و الامساك عن الامور المخصوصة،بحيث لو اطلق أحدها في كلامهم حمل علي المعني الخاصّ،و أمّا صيرورتها حقيقة فيها في عصر النبي صلّي اللّه عليه و اله فغير بعيد،و إن كان الجزم به مشكلا.

و منها:أنّه أورد أخبارا في الاصول الأصليّة (1)للحقيقة الشرعيّة،كالكثير و الجزء و القديم،و العدس يقال للحمص،ولكن لا يخفي أنّ ذلك ليس من الحقيقة الشرعيّة،و للأئمّة سلام اللّه عليهم التمسّك بالآيات علي نحو لا نعرف نحن دلالتها.

و منها:أنّه لو سلّم تحقّق الحقيقة الشرعيّة في بعض الألفاظ،فلا يمكن الجزم بتحقّقها في جميع الألفاظ التي ادّعي كونها حقيقة شرعيّة،كما تقدّم منع ثبوتها في الغسل في الترتيبي و الارتماسي.

الأمر العاشر: في الصحيح و الأعمّ

اشارة

و الكلام فيه في جهات:

منها:أنّه بناء علي ثبوت الحقيقة الشرعية،فهل أسماء العبادات موضوعة لخصوص الصحيح منها-و هو تامّ الأجزاء و الشرائط-أو للأعمّ منه و من الفاسد الفاقد لبعضها؟و أمّا بناء علي عدم ثبوتها،فالبحث في أنّ اللفظ المستعمل فيها هل يحمل بمقتضي القرينة العامّة علي خصوص الصحيح منها أو علي الأعمّ؟

ص: 34


1- الاصول الأصليّة ص 15.

و منها:أنّ التعبير بالصحيح و الأعمّ منه و من الفاسد يوهم تحتّم أن يكون الموضوع له،أو المستعمل فيه أسماء العبادات،هو المركّب ذا الفردين الصحيح و الفاسد،مع أنّه قد يكون معني بسيطا يدور أمره بين الوجود و العدم.

فالأولي أن يقال:إنّ أسماء العبادات هل هي موضوعة لما يسقط الأمر و يكون الاستعمال في غير المسقط مجازا للمشابهة،أم أنّها موضوعة للأعمّ منهما؟

و منها:أنّ صحيح العبادات الشرعية كالصلاة له عرض عريض و مراتب كثيرة كلّها مسقطة للأمر،فربّ صلاة بفاتحة الكتاب و هي مسقطة للأمر،و ربّ اخري من دونها،و هي مسقطة له كذلك،فبناء علي الصحيح لا بدّ أن يبحث عن الجامع بين الأفراد المسقطة للأمر،كما أنّه بناء علي الوضع للأعمّ لا بدّ من ابراز الجامع بين المسقط و غيره.

و لمّا كانت المراتب المذكورة و غيرها ممّا لا يسقط به الأمر لا يعلم إلاّ من الشرع،تبيّن أنّ الجامع علي التقديرين لا بدّ أن يؤخذ من الأخبار الواردة في هذه العبادات،أمّا الصلاة فلعلّ الجامع فيها لغة هو التمجيد و نحوه،و لذا يصحّ إطلاقها علي تمجيد اللّه تبارك و تعالي نفسه،كما في خبر علي بن أبي حمزة،قال:سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر،فقال:جعلت فداك كم عرج برسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله؟ فقال:مرّتين،فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له:مكانك يا محمّد،فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قطّ و لا نبيّ إنّ ربّك يصلّي،فقال:يا جبرئيل كيف يصلّي؟قال:يقول:

سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة و الروح،سبقت رحمتي غضبي،فقال:اللهمّ عفوك عفوك الحديث (1).و صلاته تبارك و تعالي تمجيده نفسه،كما شهد أنّه لا إله إلاّ هو (2).

و الصلاة بناء علي كونها حقيقة شرعيّة أو مجازا في المعني الشرعي عبارة عن8.

ص: 35


1- اصول الكافي 1:443 ح 13.
2- في قوله تعالي شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ... آل عمران:18.

التوجّه إلي اللّه في أوقات الصلاة بعنوانها المتحصّل من الأفعال و ذكر مّا،أو الاشارة أو الإخطار بالبال.و نشير إلي بعض الأخبار الواردة في صلاة من خاف سبعا.

ففي صحيح علي بن جعفر في من خاف الأسد،قال:يستقبل الأسد و يصلّي و يؤميء برأسه ايماء و هو قائم،و إن كان الأسد علي غير القبلة (1).

و في صحيح الفضلاء:و إن كانت المسايفة و المعانقة و تلاحم القتال،فإنّ أمير المؤمنين عليه السّلام صلّي ليلة صفّين و هي ليلة الهرير لم تكن صلاتهم الظهر و العصر و المغرب و العشاء عند وقت كلّ صلاة إلاّ التكبير و التهليل و التسبيح و التحميد و الدعاء،فكانت تلك صلاتهم و لم يأمرهم بإعادة الصلاة (2).

نعم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:فات أمير المؤمنين عليه السّلام و الناس يوما بصفّين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء،فأمرهم أمير المؤمنين عليه السّلام أن يسبّحوا الحديث (3).و هو محمول علي فوت المرتبة الكاملة.

فالصلاة عبارة عن مقدار من الخضوع و التوجّه إلي اللّه تعالي في أوقات معيّنة بإظهاره بعمل أو ذكر أو غيرهما،و هذا المعني الواحد يختلف مصاديقه و أفراده بحسب الأزمان و الأمكنة و الأشخاص،و نظيره التعظيم بالقيام للقادر المختار، و بوضع اليد علي الصدر للقاعد العاجز عن القيام،و بوضعها علي الرأس للنائم، و بتحريك الرأس لمن لا يقدر علي غيره،و بتحريك العين للعاجز،و كلّهم علي مرتبة سواء في أداء التعظيم.

فالصلاة عبادة تحصل بهذه الأفعال و الأقوال ليست منفصلة عنها،بل هي8.

ص: 36


1- جامع أحاديث الشيعة 7:9 ح 3 و 4 و 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 7:16-17 ح 10.
3- جامع أحاديث الشيعة 7:16 ح 8.

تتحقّق بمقدار ما اعتبره الشارع في الأوقات من عدد الركعات و غيرها،فهي كالمحصّلة بهذا المقدار منها،و ليس ذلك أمرا بسيطا،بل توجّه خاصّ مع اخلاص و اظهار،فإذا فقد بعضه كان غير صحيح.و لا يخفي أنّ جميع ما يعتبر فيه حتّي قصد الأمر و غيره ممّا قالوا إنّه متأخّر عن الأمر مأخوذ في الصلاة،فالجامع علي الصحيحي هو ما ذكرناه،و هو المستفاد من الأخبار.

و قال في الكفاية:إنّ الجامع علي الصحيحي موجود،و يمكن الاشارة إليه بخواصّه و آثاره،و الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذلك الجامع،فيصحّ تصوير المسمّي بلفظ الصلاة،مثلا بالناهية عن الفحشاء (1).

أقول:اورد عليه بأنّ الواحد النوعي يمكن صدوره من متعدّد،إلي غيره من الايرادات،فلاحظ.

و قال في المحاضرات:إنّه لا يعقل الجامع علي الصحيحي،فلذا لا يعقل أن يكون الموضوع له هو الصحيح،بل لا بدّ من القول بكونه الأعمّ،و الجامع علي الأعمّي هو ما حكاه عن المحقّق القمّي،و هو أركان الصلاة،فهي موضوعة للأركان لا بشرط عن الزيادة عليها،كلفظ الدار و نحوه ممّا هو موضوع لمساحة لها حائط و غرفة،فإن نقص لم يكن دارا،و إن زاد كانت الزيادة أيضا من الدار (2).

أقول:لو صلّي صلاة الظهر بجميع أجزائها و شرائطها و مستحبّاتها،و لم يركع فيها أصلا،صدق عليه الصلاة،كما يصدق علي الأركان،فهذا يكشف عن أنّ الموضوع له ليس هو الأركان،هذا مع أنّ صلاة المسايفة صلاة صحيحة و ليس لها أركان.7.

ص: 37


1- كفاية الاصول ص 39.
2- المحاضرات 1:147.

ثمّ إذ تصوّرنا الجامع علي الصحيحي فنقول:لا يبعد أن يكون الصلاة اسما للصحيح؛لأنّ الشارع المقدّس بعد ما أوجب الأجزاء و الشرائط بمراتبها المختلفة، فالحاجة ماسّة إلي التعبير عنها بلفظ واحد؛لأنّ التعبير عنها بذكرها بأجزائها و شرائطها يوجب التطويل،و يدلّ عليه تبادر الصحيح من قولنا صلّي زيد،و من قوله هذا الشيء وقف للمصلّين،أو وصية لهم،و كذا ما ورد من أنّ الرجل و المرأة لا يصلّيان متّصلين،فإنّه لو كانت صلاة أحدهما باطلة لفقد ركن و نحوه لم يكن مشمولا للنهي،و لعمري انّه واضح.

و قد استدلّ للأعمّي بوجوه أجابوا عنها،نذكر أحدها و هو أنّه لو نذر أن يصلّي صلاة ظهره مثلا علي نحو لا يكون فيها كراهة،بأن لا تكون في الأمكنة المكروهة،مثل اعطان الابل و الطرق و غيرهما،فلا ريب في انعقاد النذر،و النذر إذا انعقد وجب الوفاء به،بأن يصلّي في غير تلك الأماكن،فإن صلّي في تلك الأماكن كانت حنثا للنذر،و إذا كانت حنثا كانت محرّمة،و الحرمة في العبادة تقتضي الفساد،فإذا كانت فاسدة لم يحنث النذر؛لأنّه تعلّق بالصلاة،و هي اسم للصحيحة فرضا،و المفروض أنّه لم يصلّ الصلاة الصحيحة في تلك الأماكن،فإن كانت الصلاة اسما للصحيح لم يصحّ تعلّق النذر بتركها في الأمكنة المكروهة.

فلا بدّ و أن يقال:إنّ الصلاة اسم للأعمّ حتّي يكون النذر متعلّقا بترك الصلاة الأعمّ من الصحيحة و الفاسدة،و تكون الصلاة الفاسدة من ناحية حنث النذر حنثا للنذر.

أجاب عنه في الكفاية،فقال:لا يخفي أنّه لو صحّ ذلك لا يقتضي إلاّ عدم صحّة تعلّق النذر بالصحيح،لا عدم وضع اللفظ له شرعا،مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه،فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.و من هنا انقدح أنّ حصول الحنث إنّما يكون لأجل الصحّة لو لا تعلّقه.نعم لو فرض تعلّقه بترك الصلاة

ص: 38

المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الامكان (1)انتهي.

و حاصل كلامه أوّلا:أنّ النذر و إن كان تابعا لقصد الناذر،و قد قصد الناذر ترك الصلاة بمالها من المفهوم،لكن هذا النذر لا ينعقد للمحذور المذكور،و هو لا يدلّ علي عدم وضع الصلاة للصحيحة.

و ثانيا:أنّ الناذر و إن قصد ترك الصلاة الصحيحة،فمراده الصحيحة لو لا النذر.

قلت:يرد علي كلامه الأوّل:أنّه لا ينبغي الاشكال في صحّة نذر فعل الصلاة الخالية عن الكراهة؛لأنّها عبادة راجحة،حتّي علي القول بأنّ اسم الصلاة موضوع للأعمّ.

و يرد علي كلامه الثاني:أنّ لازم ذلك أن يكون متعلّق النذر غير راجح،مع أنّه لا بدّ أن يكون متعلّق النذر راجحا بلا إشكال،و الصلاة الفاسدة لا رجحان فيها، و الصلاة الصحيحة لو لا النذر الفاسدة من ناحية النذر،كالصلاة الصحيحة مع الركوع الفاسدة من أجل فقد الركوع لا رجحان فيها،فلا يتعلّق بها النذر.

و أجاب بعضهم عن الاستدلال المذكور بأنّ الأمر متعلّق بذات الصلاة،و النهي عن حنث النذر متعلّق بعنوان عرضي و هو الكون في الحمّام،فمتعلّق الأمر شيء و متعلّق النهي شيء آخر.

أقول:وضع الجبهة علي الأرض الذي يكون جزء الصلاة مكروه في الحمّام، و النذر متعلّق بترك هذا،فمتعلّق الأمر و النهي شيء واحد.

و التحقيق في الجواب أن يقال أوّلا:انّ الوفاء بالنذر واجب و تركه ترك للواجب لا أنّه حرام؛لعدم انحلال الحكم الواحد إلي الحكمين،و الواجب بالنذر أن يصلّي في غير تلك الأماكن المكروهة و ليس تركه و هو الصلاة في تلك8.

ص: 39


1- كفاية الاصول ص 48.

الأماكن التي بها يتحقّق الحنث حراما،بل هي ضدّ للواجب.

و ثانيا:لو سلّم حرمة عدم الوفاء بالنذر،أي حرمة الحنث،و حصلت بالصلاة في الأماكن المكروهة،لكن هذه الحرمة لا توجب الفساد؛لأنّه محال،و ذلك لأنّ الحنث لا يتحقّق بالصلاة الفاسدة،كالصلاة الفاقدة للركوع،أو لجزء،أو شرط عمدا؛لأنّه يبقي مجال للعمل بالنذر،و إنّما يتحقّق الحنث إذا صحّ الصلاة من جميع الجهات و سقط الأمر،و حينئذ-أي:بعد سقوط الأمر بالصلاة في الأمكنة المكروهة-ليس له مجال أن يصلّي صلاة ليس فيها كراهة.فيتحقّق الحنث،فإن لزم من حرمة الحنث فساد العبادة لزم عدم سقوط الأمر،و إن لم يسقط الأمر لم يتحقّق الحنث،فيلزم من حرمة الحنث عدم حرمته،و هو محال،فلا بدّ أن يقال:إنّ هذه الحرمة لا توجب الفساد.

و ثالثا:يمكن أن يقال بعد تسليم حرمة الحنث:إنّ حرمته لا تتّحد مع الصلاة، بل هي متأخّرة عنها؛لأنّه لا يحنث حتّي يتمّها و يفرغ منها،فإنّه قبل ذلك متمكّن من استثنافها في غير الحمّام و لم تسقط عنه،و لا تسقط حتّي يتمّها بالفراغ من تسليمها،فإذا فرغ سقطت و لم يتمكّن بعد من استثنافها،و تحقّق الحنث بالسقوط، فالحقيقة أنّ الحرمة لسقوط الصلاة المتأخّر عنها و ليست منطبقة علي نفس الصلاة، فتدبّر.

فقد ظهر النظر فيما ذكره في آخر كلامه،من أنّه لو فرض تعلّقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بمكان من الامكان.وجه النظر أنّ حرمة الحنث لا توجب الفساد أصلا،و يتحقّق الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه، و تجب عليه الكفّارة و صلاته صحيحة.

و ما ذكرناه يأتي فيما لو نذر أن يصلّي في الجماعة،فإنّه لو صلّي فرادي صحّت صلاته،خلافا لمن قال بالبطلان،و منهم صاحب المستمسك،فلاحظ باب صلاة

ص: 40

الجماعة.

و أمّا ثمرة البحث فأمران:

الأوّل:أنّه بناء علي الوضع للصحيح يدخل كلّ جزء و شرط في المسمّي،فإذا شكّ في وجوب شيء للصلاة جزء أو شرطا،يشكّ في تسمية الخالي عن المشكوك صلاة،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق للشكّ في الصدق،بخلافه علي الأعمّ.

أقول:لكن لا يخفي أنّه يعتبر في جواز التمسّك بالاطلاق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان،و لا بدّ من التتبّع حتّي يعثر علي إطلاق في هذه الأسامي يكون في مقام البيان،حتّي يقال مع ذلك إنّه لا يتمسّك به لاجماله.

و قيل:إنّ آية الصيام في مقام البيان.

قلت:لكنّه غير معلوم.

الثاني:قيل:بناء علي الأعمّي إذا شكّ في اعتبار شيء في الصلاة يتمسّك بالاطلاق إذا كان في مقام البيان،و إن لم يكن إطلاق في مقام البيان،فيرجع إلي البراءة،بخلافه علي الصحيحي،فإنّ المطلوب ما يصدق عليه أنّه صلاة،فلا بدّ من إحراز الصدق،فكما لا محلّ للتمسّك بالاطلاق للشكّ في صدقها علي المشكوك، لا يرجع إلي البراءة،بل يجب الاحتياط للشكّ في فراغ الذمّة ممّا اشتغلت به،و هو الاتيان بالصلاة بمالها من المفهوم.

أقول:قد تبيّن-بناء علي ما ذكرنا من أنّ الصلاة عبارة عن التوجّه إلي اللّه تعالي في أوقات خاصّة بعنوان الفريضة الصلاتيّة التي عيّنها اللّه تعالي في تلك الأوقات،مع إبرازه بفعل أو ذكر،و مع عدم التمكّن منهما بالايماء و الاخطار بالقلب-أنّ بيان ذلك وظيفة للشارع المقدّس؛لأنّه لا سبيل إليه للعرف و لا للغة.

و مجرّد بيان الشارع واقعا للوظيفة لا يكفي،بل لا بدّ من أن يتمكّن المكلّف من الوصول إليه،فما لم يصل إليه بعد الفحص فهو غير مكلّف به،و ليس مأمورا باتيان

ص: 41

ما يسمّي شرعا صلاة إلاّ بما وصل إليه منها،فما لم يصل إليه و شكّ في اعتباره، فقد رفعه الشارع عنه بعموم قوله«رفع عن أمّتي ما لا يعلمون».

تتميم:

يذكر فيه امور:

الأمر الأوّل:الظاهر كما تقدّم أنّ الصلاة اسم لتامّ الأجزاء و الشرائط المسقط للأمر،بناء علي ثبوت الحقيقة الشرعيّة،أو مستعمل مجازا في تامّ الأجزاء و الشرائط المسقط للأمر،بناء علي عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛للتبادر و ملاحظة موارد الاستعمال و غيرهما.

و قيل:لا يمكن أخذ اشتراطها بقصد القربة في المسمّي؛لأنّ الأمر يتعلّق بالصلاة،فلا بدّ أن يكون مسمّاها سابقا علي الأمر و قصد الأمر متأخّر عن الأمر.

أقول:الأمر لا يتعلّق بالصلاة الفاسدة،و إن كان فسادها لفقد قصد القربة،فإنّها غير مطلوبة،فلا فرق بين الشروط في دخلها في متعلّق الأمر،و سيأتي أنّ قصد القربة المعتبرة في العبادة هو جعل العمل للّه تعالي،و لا يحتاج ذلك إلي الأمر،بل كلّ عمل قابل للاضافة إلي اللّه تعالي يمكن جعله للّه،و الأمر بفعل كاشف عن قابليّته لذلك.

الأمر الثاني:فيما وضع له أسماء المعاملات،لا يبعد أن يقال:إنّ مادّة«البيع» تدلّ علي نقل العين بعوض نقلا انشائيّا انتقل به المبيع إلي المشتري:إمّا عند العقلاء،أو عند الشارع،أو بالقهر و الغلبة،فالسفيه إذا باع ماله يقال باع ماله عند العرف و إن لم يكن صحيحا شرعا،و الحاكم الشرعي إذا باع مال الممتنع عن أداء نفقة زوجته يقال بيع ماله شرعا.و إذا غصب مال و بيع بحيث لم يتمكّن من أخذه من المشتري،يقال غصب المال و بيع.و أمّا مجرّد انشاء البيع من دون أن يحصل الانتقال،فلا يقال إنّه باع ماله.فهو اسم للنقل الموجب للانتقال،و الشارع قد منع

ص: 42

عن بعض أقسام البيع و لم يمضه،لا أنّه منع عن كونه بيعا،فبيع الخمر بيع،لكن الشارع منع عنه.و كذا الكلام في الاجارة و الصلح و الهبة و غيرها من العقود.

فالمراد بالمعاملات المذكورة في لسان الشارع هي المعاني العرفيّة،فإذا قال الشارع:البيع حلال و نافذ،فمعناه أنّ ما صدق عليه البيع لغة و عرفا نافذ إلاّ ما منع عنه،كبيع الخمر و بيع الصبي و بيع الغرر و نحوها.

و إذا شكّ في اعتبار الماضويّة أو العربيّة في صيغة البيع يتمسّك بالاطلاق، و يقال:إنّه يصدق عليه البيع،و ليس للشارع وضع خاصّ أو استعمال خاصّ،كما في الصلاة و الصوم و الزكاة،و غيرها من المخترعات الشرعيّة،بل أسماء المعاملات كسائر الألفاظ المطلقة،فكما إذا ورد أعتق رقبة،يتمسّك باطلاقه إن شكّ في اعتبار الايمان،فكذلك في أسماء المعاملات.

الأمر الثالث:أنّ ما يكون دخيلا في تحقّق الطبيعة المسقطة للأمر،إن كان أفعالا أو أذكارا متّصلة لم يفصل بينها بنواقض الصلاة،سمّي جزء.و إن كان فعلا جاز الفصل بينه و بين الصلاة بنواقضها،كالكلام و الضحك،أو هيئة مقرونة بالصلاة، سمّي شرطا من غير فرق بين الجزء و الشرط في تعلّق الأمر المولوي بهما،فلا صلاة إلاّ بطهور،كما لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب،فكلاهما دخيلان في طبيعة الصلاة شرعا،و يتعلّق الأمر بهما،و سيأتي توضيحه في محلّه.

بقي قسمان آخران:أحدهما:ما كان الواجب ظرفا له،كالأدعية المستحبّة للصائم،فإنّ الصوم ظرف لها لا يزيد ثوابه بقراءتها.

ثانيهما:ما يوجب زيادة ثواب الواجب،كالقنوت في الصلاة،و كونها في الجماعة أو المسجد،فقد تعلّق أمر وجوبي بالصلاة بأجزائه و شرائطه الواجبة، و تعلّق أمر ندبي باتيان هذه الواجبات مع القنوت،أو في المسجد،أو مع الجماعة.

ص: 43

الأمر الحادي عشر: في وقوع الاشتراك

الحقّ وقوع الاشتراك،أي:كون لفظ موضوعا لمعنيين،كالقرء للطهر و الحيض؛ لأنّ أهل اللغة نقلوا ذلك،و نري وقوعه في اللغة الفارسيّة،مثل لفظ«شير»فإنّه مشترك بين الأسد و الحليب.

الأمر الثاني عشر: في إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد

اشارة

هل يجوز الاستعمال في أكثر من معني علي أن يراد منه كلّ واحد كما إذا لم يستعمل إلاّ فيه،سواء كان المعنيان حقيقتين أو مجازين،أو مختلفين صريحين أو كنائيين أو مختلفين،نظير قوله«لامستم»في النكاح و اللمس،أم لا؟

ثمّ إنّه علي فرض إمكان الاستعمال،فهل هو حقيقة أو مجاز أو هما؟ثمّ علي فرض الامكان فهل هو واقع و يصحّ أن نستعمله أم لا؟

أمّا إمكانه،فالظاهر عدم الاشكال فيه،فإنّه لو فرضنا مولي له غلام تركي و غلام هندي و غلام فارسي،و قال للتركي:إذا قلت الخبز اريد منه الماء،و قال للهندي:إذا قلت الخبز اريد منه الفلفل،و قال للفارسي:إذا قلته اريد منه الخبز بمعناه العربي،بحيث لم يعرف كلّ واحد منهم للّفظ المعني الذي يعرفه غيره، فصاح إليهم و هم في أمكنة مختلفة كلّ يحسب أنّ الخطاب له:ائتوني بخبز،فإنّه يعرف كلّ منهم معني من اللفظ غير ما يعرفه الآخر و يحضره لديه،فيدلّ جواز ذلك علي أنّه لا استحالة في ذلك بالنسبة إلي المتكلّم من لحاظه المعاني المستقلّة في آن واحد،و افنائه اللفظ في المعاني المستقلّة.

و استدلّ القائل بالامتناع بوجوه:

ص: 44

منها:ما في الكفاية (1)،و حاصله:أنّ اللفظ غير ملحوظ حال الاستعمال إلاّ آلة، و الملحوظ استقلالا هو المعني،و لحاظ المعني مستقلاّ يستلزم عدم لحاظ اللفظ إلاّ ملحوظا معه المعني فقط،و لا يمكن لحاظ معني آخر مستقلّ؛لأنّه يحتاج إلي لحاظ لفظ آلة له،و المفروض أنّه ليس إلاّ لفظ واحد،نعم لو لوحظ مجموع المعنيين و جعل اللفظ مرآة لهما معا كان الملحوظ استقلالا شيء واحد و هو مجموع المعنيين،و هو خارج عن محلّ البحث.

و فيه أنّ فناء اللفظ في المعني ليس من قبيل فناء جسم في جسم آخر،بل هو اعتباري تابع للحاظ،فيلحظ اللفظ مرآة و فانيا في معاني مستقلّة كما مثّلنا.

و منها:ما حكاه في عدّة الاصول (2)،عن أبي هاشم و أبي عبد اللّه من عدم الجواز،بتعذّر إرادة الوطيء و العقد من قوله«لا تنكح ما نكح أبوك»قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه:إنّ ما ادّعيت تعذّره نحن نجده منّا متأتّيا.ثمّ إنّه اختار الجواز،و قال:

إنّ اللفظ المشترك إن استعمل في الأكثر مع القرينة،فيحمل علي معانيه،و إن لم يكن مع القرينة كان اللفظ مجملا؛لتصادم احتمال إرادة الجميع مع احتمال إرادة الواحد،نعم إذا كان الوقت وقت الحاجة و اطلق اللفظ وجب حمله علي جميعه؛ لأنّه ليس بأن يحمل علي بعضه بأولي من بعض،و لو كان أراد بعضه لبيّنه؛لأنّ الوقت وقت الحاجة (3).و بمثله قال في موضع آخر (4)فلاحظ.

أقول:يرد عليه أنّه إذا كان الوقت وقت الحاجة،حمل علي إرادة أحد المعاني؛ لأنّه القدر المتيقّن،و إرادة جميع معانيه متوقّفة علي القرينة،كإرادة أحدها علي3.

ص: 45


1- كفاية الاصول ص 53.
2- عدّة الاصول ص 220.
3- عدّة الاصول ص 206.
4- عدّة الاصول ص 223.

التعيين،فلا تستفاد من الاطلاق،ثمّ إنّهم ذكروا وجوها للمنع فراجع.هذا كلّه في إمكانه.

أمّا وقوعه،ففيه قولان،أحدهما:عدم الوقوع،قال في الفصول بعد اختيار عدم الجواز:الثاني الاستقراء،فإنّا تتبّعنا لغة العرب في موارد استعمالاتهم،فلم يتحقّق عندنا صدور مثل هذا الاستعمال إلي آخر كلامه (1).

ثانيهما:الوقوع،و قد استشهد في وقاية الأذهان (2)بأشعار استعمل فيها بعض ألفاظها المشتركة في معنيين و أكثر،لكن لم يعلم أنّها من أشعار الجاهلية و نحوها.

نعم يمكن أن يقال:إنّه إذا كان الاستعمال صحيحا الآن في عرف أهل اللسان يصير الاستعمال جائزا،لكن ذلك لا يثبت الجواز في عصر صدور الأخبار،فحمل اللفظ المشترك الموجود في الأخبار علي جميع معانيه موقوف علي صحّة الاستعمال كذلك في عصرهم،إلاّ أن يستشهد ببعض الأخبار،كالخبر الدالّ علي أنّ الميسر القمار بالمعني الحدثي،و الخبر الدالّ علي أنّه آلات القمار،فيكون مقتضي كليهما استعمال الميسر في قوله تعالي يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (3)فيهما علي نحو الاستعمال في كلّ واحد.

تذنيبان:

الأوّل:قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في التبيان:

إن قصد بقوله«اهدنا»الدعاء لم يكن تاليا للقرآن،فتبطل صلاته.و إن قصد التلاوة لا يكون داعيا،فلا يصحّ التأمين.و إن قصدهما،فعند كثير من الاصوليّين أنّ المعنيين المختلفين لا يصحّ أن يردا بلفظ واحد،و من أجاز ذلك و هو الصحيح منع منه؛لقيام الدلالة علي المنع من

ص: 46


1- الفصول الغروية ص 54.
2- وقاية الأذهان ص 87.
3- سورة البقرة:219.

ذلك،فلأجل ذلك لم يجز (1).

أقول:لعلّ مراده أنّه يجوز قصدهما،لكن الأخبار الواردة من أهل البيت علي أنّه لا يجوز أن يقال آمين بعد قراءة الفاتحة،تدلّ علي أنّه لا يجوز قصد الدعاء.

قلت:هذه الأخبار لا تدلّ علي المنع من قصد الدعاء،و لعلّ المنع من قول آمين من أجل كونه بدعة المخالفين،و لا دلالة له علي عدم جواز قصد الدعاء،فيقصد الدعاء و لا يقول آمين.

و أجاز بعض (2)المتأخّرين قصدهما،و يمكن توجيهه بوجوه غير الاستعمال في الأكثر من معني:

أحدها:أنّ قراءة القرآن هي حكاية ألفاظ القرآن،و قاريء القرآن يستعمل اللفظ في اللفظ،كمن يحكي بلفظه لفظ المحكي،و ربّما يجعل صوته نظير صوته و يقصد انشاء الدعاء بمعني اللفظ المحكي.

ثانيها:أن يقصد حكاية اللفظ فقط،و يكون الداعي إليها الدعاء،كما إذا كان اسم شخص يوسف و أراد أن يصرفه من أن يعمل عملا،فقرأ عليه يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا بداعي أن يلتفت إلي ذلك و لا يفعل ما أراد فعله،لا ندائه حقيقة،فإنّه لا يكون قرآنا؛لأنّه غير يوسف المذكور في القرآن.

ثالثها:أن يقصد الدعاء و ينشيء معني الآية قاصدا موافقته للقرآن،و لم يكن قصده حكاية مجرّد الألفاظ،كما هو قصده في مثل«قل»في أوائل السور الأربعة، بل قصد المعني متابعة لألفاظ القرآن،كالأدعية المذكورة في القرآن،مثل قوله تعالي رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً فيكون المستعمل فيه واحدا،و هو الدعاء مماثلا لألفاظ القرآن و تكون قراءة أيضا.ز.

ص: 47


1- التبيان 1:46.
2- تعرّض له السيّد اليزدي رحمه اللّه في العروة الوثقي في بحث القراءة و اختار الجواز.

و يؤيّده موثّق عبيد بن زرارة،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الركعتين الأخيرتين من الظهر،قال:تسبّح و تحمد اللّه و تستغفر لذنبك،و إن شئت فاقرء فاتحة الكتاب فإنّها تحميد و دعاء (1).

الثاني:قيل:إنّ ما ورد من أنّ للقرآن بطونا ليس من استعمال اللفظ في أكثر من

معني

؛لأنّه ظاهر في أنّ له معاني غير ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ،و إذا قلنا بجواز استعمال المشترك في أكثر من معني،فهو من الظاهر لا الباطن،فلعلّ المراد بالباطن ما يفهمه النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام منه بحيث لا يكون ظاهرا عند غيرهم؛ لأنّ من كان له إحاطة بغير العالم المادّي يعرف من القرآن ما لا يعرفه من كان مقصورا علمه علي المادّيات.

الأمر الثالث عشر: في المشتقّ

و تنقيح البحث فيه في ضمن امور:

أحدها:قال في الكفاية:إنّ ملاك البحث موجود في الجوامد التي يزول الوصف فيها و يبقي الذات،كالزوج و الزوجة،ثمّ حكي عن فخر المحقّقين ابتناء حرمة الكبيرة الثانية التي أرضعت الصغيرة علي القول بالأعمّ في المشتق،قال:

تحرم المرضعة الاولي و الصغيرة مع الدخول بالكبيرتين.و أمّا المرضعة الاخري، ففي تحريمها خلاف،فاختار والدي المصنّف رحمه اللّه و ابن ادريس تحريمها لأنّ هذه يصدق عليها أمّ زوجته؛لأنّه لا يشترط في المشتقّ بقاء المشتقّ منه (2).

أقول:مفروض المسألة أن يكون للرجل زوجتان كبيرتان،و كان له زوجة صغيرة،فأرضعتها الكبيرتان.أمّا الكبيرة التي أرضعت أوّلا،فإنّها تحرم

ص: 48


1- جامع أحاديث الشيعة أبواب القراءة ب 27 ح 8.
2- كفاية الاصول ص 57.

لصيرورتها امّ الزوجة،و تحرم المرتضعة لصيرورتها بنت الزوجة مع الدخول بالكبيرة أو بدونها.و أمّا الكبيرة الثانية التي أرضعت المرتضعة بعد خروجها عن الزوجيّة،فحرمتها مبنية علي صدق كونها امّ الزوجة.

أقول:إذا كان البحث لغويّا،فكلّ مفهوم لا بدّ من أن يلاحظ مستقلاّ،و وحدة الملاك لا أثر لها.و أمّا المثال المذكور،فالثانية لا تحرم لأنّها ليست امّ زوجة،فهي نظير ما إذا طلّق الصغيرة فأرضعتها امرأة،فإنّها لا تصير امّ الزوجة بلا إشكال.

و أمّا الكبيرة الاولي المدخول بها أو غير المدخول بها،فقيل كما في نهاية الدراية:إنّ حرمتها أيضا مبنيّة علي الأعمّ؛لأنّ امومة المرضعة الاولي و بنتيّة المرتضعة متضائفتان متكائفتان في القوّة و الفعليّة،و بنتيّة المرتضعة و زوجيّتها متضادّتان شرعا،ففي مرتبة حصول امومة المرضعة تحصل بنتيّة المرتضعة،و تلك المرتبة مرتبة زوال زوجيّة المرتضعة،فليست في مرتبة من المراتب امومة المرضعة مضافة إلي زوجية المرتضعة،حتّي تحرم بسبب كونها امّ الزوجة (1)انتهي.

أقول:يحرم الجمع بين المرضعة و بنتها حدوثا و بقاء،فإذا أرضعت الاولي و حصلت البنتيّة و الامومة في زمان واحد،حرم الجمع بينهما في الزوجيّة،أي:لا يجوز تزويجهما معا،فإذا تزوّجهما بطل،و لا ترجيح.

و أمّا لو كانتا زوجتين له،فأرضعت الكبيرة الصغيرة،فلا يمكن الجمع بينهما بقاء،فلا تكون الامّ و البنت معا زوجتين،لكن يمكن أن يقال:إنّ البنت تكون بنت الزوجة فتحرم و الامّ ليست امّ الزوجة،فلا مانع من بقاء زوجيّتها إلاّ علي مبني كون المشتقّ أعمّ ممّا انقضي.ي.

ص: 49


1- نهاية الدراية 1:70 الطبع الحجري.

ثمّ إنّ هذه المسألة معنونة في الفقه و فيها أخبار،فهي موكولة إلي محلّها.

و قد يقال:انّ الظاهر عدم وجود عنوان امّ الزوجة في النصوص،بل الموجود امّهات النساء،و لا إشكال في عدم جريان نزاع المشتقّ فيه،فالكلام ساقط من أصله انتهي.

أقول:المراد من النساء هي الزوجات،و لا فرق قطعا بين أن يقال امّ امرأتك أو يقال امّ زوجتك.

ثانيها:قال في نهاية الاصول:إنّ كلام الأعمّي يحتمل أمرين:الأوّل:كفاية وجود اتّصاف الذات بالمبدأ في صدق المفهوم عليه بعد زواله،فيكون البحث عقليّا غير راجع إلي عالم اللغة و عالم الألفاظ.الثاني:أن يكون مراده أنّ وجود المبدأ في الذات المتّصفة بها يوجب تحقّق حيثيّة انتزاعيّة و اعتباريّة فيها باقية في جميع الأزمنة بعد زوال المبدأ،فيكون البحث لغويّا يصحّ له أن يتمسّك بالتبادر، و الظاهر أنّ مراده هو الثاني،و لا يظنّ به كون مراده الاحتمال الأوّل (1).

أقول:الظاهر أنّ البحث لغوي علي التقديرين،فإنّ اللغوي لا بدّ أن يعيّن أنّ التلبّس بالمبدأ يكون بالحيثيّة المنتزعة الاعتباريّة،و لعلّ مراد الأعمّي هو الأوّل؛ لأنّ الحيثيّة الاعتباريّة إنّما توجد في بعض المشتقّات كالسارق و نحوه،و لا توجد في جميعها كالنائم و نحوه،و علي كلّ فالبحث لغوي فيما وضع له هيئة فاعل و نحوه.

ثالثها:في بساطة مفهوم اسم الفاعل و المفعول و الصفة المشبّهة،لا يخفي أنّ المادّة الواحدة،كمادّة«ض ر ب»التي لها معني واحد يختلف معناها في الجملة بعروض الهيئات المختلفة عليها،و هي:

الاولي:هيئة المصدر،و هي أقرب التعبيرات عن المادّة؛لعدم اشتمالها علي8.

ص: 50


1- نهاية الاصول ص 58.

النسبة إلي فاعل ما،بخلاف سائر الهيئات.

الثانية:ما كان المقصود بها الاخبار عن المادّة بعد وقوعها خارجا من فاعل ما و هي هيئة الفعل الماضي،و يعبّر عن ضرب فعل ماض بالفارسيّة زد،و لا دلالة لها علي الزمان الماضي،و إن كان التسمية بالفعل الماضي موهمة لها؛و ذلك لأنّه يصحّ أن يقال:كان اللّه تعالي،مع أنّه ليس له زمان،و يصحّ أن يقال:إذا جاء زيد غدا فأكرمه،فإنّه فرض وقوعه و تحقّقه في ترتّب الجزاء عليه.

نعم إذا اسند إلي الزمانيّات يمكن استظهار وقوعه في الزمان الماضي؛لأنّ تحقّقها مساوق لمضي الزمان.و أمّا أخذ زمان الماضي في مفهومه،فهو لغو لأنّ معني تحقّق الفعل خارجا بدون قرينة عبارة اخري عن وقوعه في الزمان الماضي،و ليس المراد بالماضي المضي حقيقة،بل المضي بالنسبة في الاخبار.

الثالثة:ما كان المقصود منها الاخبار عن الحالة الفعليّة أو المستقبلة لوقوع المادّة،و هي هيئة الفعل المضارع.

الرابعة:ما كان المقصود منها اصداره من شخص،و هي هيئة فعل الأمر الغائب و الحاضر.

الخامسة:ما كان المقصود منها عدم اصداره،و الهيئة الدالّة عليه هيئة النهي.

السادسة:ما كان المقصود منها إفادة كون المادّة في محلّ صدورها أو محلّ قيامها،أي المتلبّس بالمادّة لا بنحو التركيب،و الهيئة الدالّة عليه هي هيئة فاعل،أو محلّ وقوعها و الهيئة الدالّة عليه هيئة المفعول.

و الفرق بين هيئة المصدر و هيئة فاعل أنّ الاولي تفيد نفس المادّة بشرط لا، فيقال:مثلا العلم خير من المال.و الثانية تفيد المادّة الموجودة في المحلّ أي المتلبّس بها،فيقال:مثلا نوم العالم أفضل،من دون أن يكون المحلّ مأخوذا فيها، فمفهوم فاعل ليس مركّبا من المحلّ و المادّة وجدانا،فقولنا زيد آكل ليس معناه

ص: 51

زيد ذات أو شيء له الأكل،و لذا لو لم يقيّد بزمان كان معناها وجود المادّة فيه دائما؛لأنّ الملحوظ ثبوت المادّة في المحلّ.

و قد استشهد في الكفاية (1)لبساطة المفهوم بعدم تكرّر الموصوف في مثل زيد الكاتب،فإنّه ليس معناه زيد شيء له الكتابة،ولكن أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا فرق بين جملة الانسان كاتب،و جملة الانسان شيء له الكتابة و لا تكرار؛ لأنّ التكرار إعادة عين ما ذكر أوّلا مرّة ثانية،و هو منتف هنا (2)انتهي.

أقول:مراده تكرار الموصوف لا لفظه،و هو واضح.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا يقال زيد في صدره عالم؛لأنّه لا يطلق العالم علي العلم الملحوظ في نفسه بشرط لا،و يقال:زيد في صدره علم.

و الحاصل أنّ النظر إن كان إلي نفس المبدأ بشرط لا،أي من دون نظر إلي وجوده في محلّ،فهو المعبّر عنه بالمصدر.و إن كان النظر إلي كون المبدأ ملحوظا من حيث كونه علي نحو مفاد كان الناقصة،بأن يكون النظر إلي التلبّس كان مشتقّا، و لم يعتبر كون المبدأ غير الذات المتلبّسة به،فيمكن أن يقال:اللّه تعالي عالم،مع أنّ العلم عين ذاته،فتأمّل.

رابعها:أنّ المادّة قد تلحظ فعليّة كالنائم،و قد تلحظ حرفة كالتاجر،فيطلق عليه في حال عدم تلبّسه بالتجارة كحال النوم،و يتعيّن بالقرينة أنّ المادّة ملحوظة علي أيّ الوجهين،فإن قامت قرينة علي أنّها حرفة،و إلاّ فالمناط التلبّس بالمادّة.

ثمّ إنّ الحكم علي المتلبّس بالمبدأ قد يكون دائرا مداره،فيرتفع بعد انقضاء المبدأ،و قد يكون الحكم ثابتا حدوثا و بقاء علي من تلبّس بالمبدأ،كزوال الطهارة الحدثيّة عن النائم،فإنّه محدث حال النوم و بعد انقضاء النوم عنه.8.

ص: 52


1- كفاية الاصول ص 74.
2- المحاضرات 1:268.

و من الموارد التي قامت القرينة علي المراد قوله تعالي جوابا عن سؤال إبراهيم عليه السّلام لمّا قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (1)فإنّ القرينة العقليّة تدلّ علي أنّه عليه السّلام سأل الامامة لبعض ذرّيته و هو المؤمن حال ايمانه،و ذلك لأنّ بعض ذرّيته ظالم في تمام عمره،و بعضهم ظالم في أوّل عمره ثمّ صار مؤمنا، و بعضهم مؤمن في أوّل عمره ثمّ صار ظالما،و بعضهم مؤمن في تمام عمره،و سؤاله مختصّ بالثاني حال صيرورته مؤمنا و الرابع؛لوضوح أنّ الظالم في تمام عمره لا يليق بمنصب الامامة،و كذا من كان مؤمنا ثمّ صار ظالما لا يليق بالامامة حال كونه ظالما و لا حال كونه مؤمنا؛لأنّ الامامة إن تحقّقت فلا تزول،و الجواب ينفي ثبوت عهد الامامة للثاني،أي الظالم الذي صار مؤمنا و انقضي عنه مبدأ الظلم،و لا ينفيه عن المؤمن الموحّد في تمام عمره،و إلاّ لقال:لا ينال عهدي ذرّيتك.

و ممّا ذكرنا يظهر بطلان استدلال الأعمّي بالرواية (2)الواردة في تفسير الآية، فإنّها لا تدلّ علي أنّ المشتقّ أي الظالم المذكور في الآية يراد به الأعمّ ممّن انقضي عنه الظلم،بل المراد أنّ التلبّس بالظلم علّة محدثة و مبقية لعدم نيل منصب الامامة.

خامسها:بناء علي أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ،فإن ذكر زمان التلبّس،فهو مثل زيد قائم بالأمس أو غدا،و إن لم يذكر انصرف إلي حال النطق، فقولنا زيد قائم،أي حال النطق.

و يمكن الاستدلال له بخبر فضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه،قال:سألت أبا عبد اللّه و أبا الحسن عليهما السّلام عن امرأة زنت،فأتت بولد و أقرّت عند إمام المسلمين بأنّها زنت و أنّ ولدها ذلك من الزنا،فاقيم عليها الحدّ،و إنّ ذلك الولد نشأ حتّي1.

ص: 53


1- سورة البقرة:124.
2- اصول الكافي 1:175 ح 1.

صار رجلا،فافتري عليه رجل،هل يجلد من افتري عليه؟فقال:يجلد و لا يجلد، فقلت:كيف يجلد و لا يجلد؟فقال:من قال له:يا ولد الزنا لم يجلد و يعزّر و هو دون الحدّ،و من قال له:يابن الزانية جلد الحدّ كاملا،قلت له:كيف صار جلد هكذا؟ فقال:إنّه إذا قال له:يا ولد الزنا،كان قد صدق فيه و عزّر علي تعييره امّه ثانية و قد اقيم عليها الحدّ،فإن قال له:يابن الزانية،جلد الحدّ تامّا لفريته عليها بعد اظهار التوبة و اقامة الامام عليها الحدّ (1).

إذا تحقّق ما ذكرنا،فالظاهر أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس كالجامد،فكما لا يطلق الكلب مثلا علي المستحيل ملحا كذلك المشتقّ،و لعلّه واضح عند أبناء المحاورة،و أدلّة الأعمّي ضعيفة كما ذكره الاصوليّون.

المقصد الأوّل: في الأوامر

اشارة

و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في مادّة أمر

اشارة

الظاهر أنّ«أمر»مشترك لفظي بين معني الطلب،و بين ما يقرب من معني الحادثة و الشيء و نحوهما،و ذلك لامور:

أحدها:استعماله في هذين المعنيين استعمالا شايعا،و عدم مناسبة بينهما تقتضي أن يكون أحد الاستعمالين مجازا و الآخر حقيقة.

ثانيها:اختلافهما في الاشتقاق و الجمود،فيشتقّ من المعني الأوّل،فيقال:أمر عبده يأمره فهو آمر و ذاك مأمور،دون الثاني.

ص: 54


1- وسائل الشيعة 18:441 باب حكم قذف ولد المقرّة بالزنا المحدودة ح 1.

ثالثها:أنّ المعني الأوّل يجمع علي أوامر،و الثاني يجمع علي امور،فيكشف ذلك عن أنّ اللفظ مشترك لفظي بينهما،و ليس له معني شرعي منقول إليه،بل له لغة و عرفا و شرعا معنيان و يكون التعيين بالقرينة.و ذكر في مقاييس اللغة له معاني اخر.

و ما ذكره في الكفاية (1)من أنّه لا حجّة علي الاشتراك اللفظي،و لا يبعد ظهوره بلا قرينة في المعني الأوّل يعني الطلب.ليس علي ما ينبغي،بل هو مشترك،و لا ظهور له في المعني الأوّل إلاّ بالقرينة.

و ما ذكره أيضا من أنّه بحسب الاصطلاح قد نقل الاتّفاق علي أنّه حقيقة في القول المخصوص و مجاز في غيره،فهو غير ثابت؛لأنّا لم نر من يدّعي أنّه في اصطلاح الاصوليّين كذلك.

ثمّ إنّ المعني الأوّل و هو الطلب عبارة عن ايجاب فعل ممّن له حقّ الايجاب عرفا أو شرعا علي غيره،بحيث يستحقّ العقاب عند العقلاء علي المخالفة، كايجاب المولي فعلا علي عبده.أمّا إذا طلب المولي من عبده فعلا لا علي نحو الايجاب بل ندبا أو ارشادا،فلا يطلق عليه الأمر،كما أنّه إذا أوجب و ألزم من ليس له حقّ الالزام عرفا و لا شرعا،لا يطلق عليه الأمر إلاّ مجازا،فإلزام المكره ليس أمرا.

و يدلّ عليه التبادر و موارد الاستعمال،كقوله تعالي فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (2)فإنّ الأمر بالحذر إرشاد إلي أنّ مخالفة أمره توجب عذابا أليما،أو فتنة تناسب كونها عدل العذاب الأليم، و ليس المراد بالفتنة ما لا يكون مماثلا للعذاب الأليم؛لأنّه لا يكون عدلا له.3.

ص: 55


1- كفاية الاصول ص 82.
2- سورة النور:63.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ طلب المولي من عبده علي ضربين:طلب ايجابي، و طلب غير ايجابي،فإن أراد القائل باعتبار الاستعلاء في مفهوم الأمر الطلب الايجابي فلا بأس به.

و ما ذكره في الكفاية (1)من كفاية كونه عاليا و إن كان مستخفضا بجناحه،ليس علي ما ينبغي إن أراد صدق الأمر علي طلب العالي ندبا،مع أنّه لا وجه لذكره جهتين،بل ينبغي أن يقول:إنّ مادّة أمر تدلّ علي الوجوب للتبادر،و الوجوب هو طلب العالي إلي آخر كلامه.بل لا وجه لما ذكره في الجهة الرابعة،فلاحظ كلامه رحمه اللّه.

تتميم:

اشارة

يذكر فيه أمران:

الأمر الأوّل: في الطلب

قد تبيّن ممّا ذكر أنّ مادّة أمر تطلق علي إنشاء ايجاب من له حقّ الايجاب،و الايجاب فعل اختياري مسبوق بإرادته،فإذا أمر المولي عبده صحّ أن يقال إنّه أراد منه الفعل الكذائي،و ليس المقصود من قولنا أراد انشاءه الايجاب؛ لأنّ الارادة أمر قلبي لا انشائي.

و ما ذكره في الكفاية (2)من إطلاق الارادة علي الانشاء لا يمكن المساعدة عليه،نعم إن كان موطن الطلب في النفس،كما إذا طلبت نفس الانسان أو عقله منه شيئا،مثل أن تطلب نفسه شرب الخمر،أو طلب عقله ترك الشرب،فيطيعهما،صحّ أن يقال:أمرته نفسه بشرب الخمر،كما يصحّ أن يقال:أرادت نفسه منه شرب الخمر،أو أراد عقله ترك شربه.

الأمر الثاني:في المقصود من الارادة في الانسان

،و المقصود منها في الخالق

ص: 56


1- كفاية الاصول ص 83.
2- كفاية الاصول ص 85.

تبارك و تعالي.

أمّا الأوّل،فالارادة فيه هي نزوع النفس إلي فعل يري أنّه يقدر عليه،و يترتّب عليه الفعل غالبا،و هي ذاتي للمدرك للفعل العالم به القادر عليه،خلقه اللّه تبارك و تعالي كذلك،فله أن يريد و له أن لا يريد،فمن علم ضرب احدي اليدين علي الاخري مثلا و كان قادرا عليه و لم يفعل،فإن سئل عن أنّه لماذا لم يضرب؟أجاب بأنّه ما أراد ذلك،فإن أراده فعله،و ليست الارادة إراديّة بل هي نفسها.

نعم قد يكون امور هي دواعي تحقّق الارادة من المحبّة و الخوف و الحسد، و غيرها من الصفات النفسانيّة،و هي امور اختياريّة يمكن إزالتها،مثلا الحسود يحبّ زوال النعمة عن المحسود،و قد يفعل امورا يضرّ بها المحسود،لكنّه قادر علي إزالة الحسد.فالارادة هي فعل النفس و لا تحتاج إلي إرادة اخري،بل الانسان خلق عالما قادرا له أن يريد و أن لا يريد.

و ظهر ممّا ذكرنا في معني الارادة أنّها لا تتوقّف علي مقدّمات،بل لا بدّ لها من محلّ قابل،و هو الانسان الملتفت إلي الفعل القادر عليه،فإنّه مختار في أن يريد الفعل فيفعله أو لا يريده فلا يفعله،نعم ربّما يكون للفعل مقدّمات،فيتأخّر وجود الفعل عن ابتداء الارادة،كما إذا أراد الحجّ في الموسم،فإنّه يتوقّف علي طيّ المسافة و غيره.

فالارادة هي حتميّة حركة النفس للعمل،قال في مفردات الراغب:الارادة هي نزوع النفس (1).

ثمّ إنّه زاد في فوائد الاصول علي الارادة شيئا آخر،فقال:إنّ وراء الارادة شيئا آخر هو المستتبع لحركة العضلات،و هو من أفعال النفس،و إن شئت فسمّه6.

ص: 57


1- مفردات الراغب ص 206.

بحملة النفس أو حركة النفس أو تصدّي النفس إلي آخر كلامه (1).

أقول:بل لا يبعد أن يكون الارادة هي حملة النفس،أي:نزوعها إلي الفعل بحيث لا ينفكّ الفعل عنها،و ما لم يبلغ نزوع النفس إلي هذا الحدّ لم يسمّ إرادة ما لم يمنع مانع خارجي،فنزوع النفس ذاتي لها قد خلقها اللّه كذلك،أي:يريد الفعل أو لا يريده من غير حاجة إلي مقدّمة،بل يكفي كونه عالما بالفعل قادرا عليه.

ثمّ إنّه ذكر في المحاضرات أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها لا يترتّب عليها الفعل كترتّب المعلول علي علّته التامّة (2).

و يمكن المناقشة فيه بأنّ الارادة فعل النفس الذي يترتّب عليه الفعل الخارجي و ما لم يبلغ الحدّ الذي يترتّب عليه الفعل لو لا المانع الخارجي لم يكن إرادة.

و قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ الارادة و هي نزوع النفس ليست متّحدة مع طلب النفس،نعم قبل أن يريد الفعل،أي قبل نزوع النفس،ربّما يكون تنازع بين هوي النفس و العقل،كما إذا تصوّر شرب خمر حاضر عنده،فالنفس تأمره بفعله و هي النفس الأمّارة،و تزيّن له فعله و تدفع الموانع الدنيوية و الاخروية،و العقل ينهاه، فهذا طلب من النفس و العقل و ليس إرادة.

ثمّ إنّ فعل العبد هل هو مستند إلي إرادته و يكون مختارا فيه غير مستند إلي غيره أو أنّه مستند إلي الارادة الإلهيّة؟فيه أقوال.

قال المولي نصير الدين الطوسي في فصول العقائد:إنّ العبد موجده-أي:

الفعل-بالاختيار؛لأنّه يحصل بحسب دواعيه،و استدلّ عليه بعد عدم استبعاده كونه ضروريّا بأنّ القبيح محال علي الواجب،فيكون فاعله غيره،و إذا كان فاعل4.

ص: 58


1- فوائد الاصول 1:67.
2- المحاضرات 2:54.

القبيح غيره،فكذا فاعل الحسن،فإنّ الذي كذب هو الذي صدق (1)انتهي.

أقول:فعليه لا محذور في تكليف الكفّار و العصاة؛لأنّ الارادة التكوينيّة الإلهيّة لا تتعلّق بأفعال العباد.

و قيل:إنّ معني قوله عليه السّلام«لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين»أنّه لا جبر بمعني إلجاء العبيد و قهرهم علي أفعالهم،و لا تفويض بأن يكون اللّه سبحانه بعد إعطاء القدرة و الحياة لهم،لا يكون قادرا علي أن يحول بينهم و بين فعلهم،بل أمر بين الأمرين،و هو خلق العباد و إعطاء الحياة و القدرة لهم،و إنزال الكتب و التوفيق لهم إلي ما يوجب سعادتهم أو خذلانهم،و تركهم إلي أنفسهم مع قدرته تعالي علي إجبارهم.و حكي هذا الوجه عن العلاّمة المجلسي وجها عاشرا لمعني الحديث في كتاب مصابيح الأنوار (2).

و ظاهر الآيات و الأخبار أنّ الأفعال القبيحة صادرة عن العبيد،و أنّه تعالي لا يرضي لعباده الكفر و لا يظلمهم،و انّ أفعال العباد ليست متعلّقة لإرادة اللّه تعالي.

أمّا الثاني أي إرادة اللّه سبحانه و تعالي،فقيل:إنّها تقسّم إلي الارادة التكوينيّة و التشريعيّة،و لعلّه اصطلاح و إلاّ فالأحكام النازلة علي الأنبياء هي كسائر أفعاله تعالي تتحقّق بالارادة التكوينيّة،و لعلّ المراد بقوله تعالي يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (3)هي إرادة جعل أحكام الطهارة بالماء و التراب لتطهيركم،فالارادة المتعلّقة بتشريع الأحكام كالارادة المتعلّقة بخلق الأشياء كلتاهما تكوينيّة،لكن اصطلحوا علي تسمية الارادة المتعلّقة بالأحكام المجعولة بالارادة التشريعيّة.

و ورد عن المعصومين عليهم السّلام أنّ الارادة في اللّه تعالي هي فعله،فهي من صفات6.

ص: 59


1- فصول العقائد ص 24-25.
2- مصابيح الأنوار للسيّد عبد اللّه الشبّر 1:161.
3- سورة المائدة:6.

الفعل،كما في الخبر عن صفوان بن يحيي،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:أخبرني عن الارادة من اللّه و من المخلوق،قال:فقال:الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل،و أمّا من اللّه عزّ و جلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛لأنّه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر،و هذه الصفات منفيّة عنه،و هي من صفات الخلق، فإرادة اللّه تعالي هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك،كما أنّه بلا كيف (1).

أقول:لا ينبغي الخوض في هذه المسائل الغامضة مع عدم عصمة أفكارنا و عقولنا،و اعتقادي في هذه المسألة و المسألة السابقة و غيرها هو ما يعتقده الأنبياء و لا سيّما نبيّنا صلّي اللّه عليه و اله و أوصيائه الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،فإنّهم معصومون عن الخطأ،و بذلك يكون الانسان مستكملا ايمانه،كما في خبر يحيي بن زكريّا الأنصاري،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سمعته يقول:من سرّه أن يستكمل الايمان كلّه فليقل:القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد صلّي اللّه عليه و اله فيما أسرّوا و ما أعلنوا، و فيما بلغني عنهم و فيما لم يبلغني (2).

تذنيبان:

الأوّل: في الأوامر الامتحانيّة

أنّ الأوامر الامتحانيّة و إن كانت متعلّقة ظاهرا بالفعل،لكن ليست متعلّقة به حقيقة،بل هي تتعلّق به مجازا،و القرينة عليه تؤخّر إلي وقت الحاجة، و هو قبل تحقّق الفعل.

و في أمر إبراهيم عليه السّلام بذبح ابنه احتمالان:

أحدهما:أن يكون صورته اقطع رأس ابنك،بأن استعملت الصيغة فيه مجازا، و المراد بها جدّا أن يسلّم لقطع رأس ابنه تسليما لا يتصوّر فوقه تسليم،سواء وقع

ص: 60


1- توحيد الصدوق ص 147.
2- اصول الكافي 1:391 ح 6.

بعده إهراق دمه أو لم يقع،و هذا لا يمكن إلاّ بأن يؤمر بقطع رأسه،و إذا اشتغل بالعمل بحيث لم يبق إلاّ قطع رأسه يبيّن له ما هو المأمور به،و أنّه لا يجب عليه قطع الرأس،و علي هذا الوجه فأمره بقطع رأسه أمر امتحاني و لم يعلم إبراهيم عليه السّلام ذلك إلاّ بعد مجيء القرينة علي أنّ المراد من قطع الرأس فعل المقدّمات التي لم يبق معها إلاّ إهراق دمه،قد استعمل الأمر بالذبح في مقدّمته مجازا.

ثانيهما:أن يكون مأمورا بوضع السكّين علي رقبته و جرّه عليها،أي:الاشتغال بالذبح الذي ينجرّ ظاهرا إلي قطع الرأس،و هو لا يعلم عدم الوصول إلي قطع الرأس،و لعلّ قوله تعالي قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (1)يدلّ علي هذا الوجه،فليس الأمر أمرا امتحانيّا.

الثاني:في البحث عن الكلام النفسي.

قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الدلالات اللفظية منحصرة في المفردات،و هيئة المركّبات الخبرية و الانشائية الطلبيّة و الاستفهامية و غيرها.

أمّا دلالة المفردات،فلا ريب فيها.و أمّا دلالة هيئة الجملة أي المبتدئية و الخبرية و حمل المحمول علي الموضوع،فهي:إمّا إنشائية،و إمّا خبرية.

أمّا الانشاء،فهو قصد حمل المحمول علي الموضوع بدون قصد الحكاية عمّا وراء ما يفهم من الجملة.

و أمّا الجملة الخبرية،فلها عند التحليل ثلاث دلالات:ذات الموضوع،و ذات المحمول،و حمله علي الموضوع الذي يدلّ عليه هيئة المبتدأ و الخبر،و لها خارج دلّت الجملة عليه،مثل ضرب زيد عمروا بالأمس،أو قصد المتكلّم الحكاية عنه، إن طابقته فصدق،و إن لم تطابقه فكذب،و هذا معني كلامهم أنّ النسبة الكلاميّة لها

ص: 61


1- سورة الصافّات:105.

خارج؛لا أنّ النسبة موجودة في الخارج،فإنّ قولنا زيد قائم ليس له في الخارج إلاّ ذات زيد و عرض القيام،و هكذا كلّ جملة خبريّة،و أمّا زيد زيد و نحوها،فهي لعلّها ليست من الكلام الصحيح.

و قد ظهر ممّا ذكرنا التفكيك بين القضيّة اللفظيّة و بين واقعها،فإنّ القضيّة اللفظيّة لها مفردات و هيئة و واقعها الموضوع و عرضه.فما ذكر من أنّه إذا اشتملت القضيّة علي الدالّ علي الاضافة و النسبة بين الموضوع و المحمول،فلا بدّ و أن يكون محكيها كذلك.غير واضح.

ثمّ إنّه يقارن التلفّظ بالجملة الخبرية و الانشائية امور:

منها:أنّ التكلّم بهما فعل اختياري،و هو مسبوق بإرادة المتكلّم،المتوقّفة علي تصوّر مضمون الجملة،و تصوّر نفس الجملة و ألفاظها.

و منها:أنّ ظاهر المتكلّم الحكيم كونه معتقدا و مذعنا لمدلول الجملة.

و منها:كونه قاصدا لمضمونها لم يتكلّم بها ساهيا و لا هازلا و لا خوفا و لا تقيّة إلي غير ذلك.

و هذه الامور ليست مدلولات لفظية،بل هي تثبت ببناء العقلاء في حمل كلام المتكلّم الحكيم عليها،و لا شيء وراء هذه الامور يكون كلاما نفسيّا مدلولا للجملة،و البحث عنه لا طائل تحته.

ص: 62

الفصل الثاني: في صيغة الأمر و ما الحق بها

اشارة

و فيه مباحث:

المبحث الأوّل: في معان صيغة الأمر

قد استعملت صيغة«افعل»و«ليفعل»في معان،فهل هي مشتركة لفظا بينها،أو مشتركة معني،أو حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه؟وجوه.

يظهر من صاحب الكفاية الميل إلي الأخير،حيث قال:إنّ الصيغة في جميعها استعملت في إنشاء الطلب،و لم تستعمل في التهديد و التعجيز و غيرهما، فالمستعمل فيه في الجميع واحد،نعم يمكن أن يقال:إنّها موضوعة لإنشاء الطلب الذي يكون المنشيء له باعثا و محرّكا (1).

ثمّ قال في البحث الثاني:إنّه لا يبعد أن تكون موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث و التحريك الايجابي للتبادر،و يؤيّده عدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب.

ثمّ قال في البحث الرابع:إنّه لو منعنا وضع الصيغة للوجوب،فمقدّمات الحكمة تقتضي الحمل علي الوجوب،فإنّ الندب كأنّه يحتاج إلي مؤونة بيان التحديد و التقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب.

أقول:لا يبعد أن تكون مشتركة معني،و يكون معني الصيغة هو كون المخاطب أو الغائب متلبّسا بالمادّة إمّا تكوينا،كقوله كن قردا،أو صادرا منه مادّة الصيغة إباحة أو وجوبا أو غيرهما؛لأنّها تستعمل في جميع الموارد من دون عناية و تجريد،حتّي انّ الصبيان الذين يلعبون يستعملونها،و هي في استعمالها في

ص: 63


1- كفاية الاصول ص 91.

الارشاد كاستعمالها في غيره،و قد كثر استعمالها في الارشاد،كقوله من أراد البقاء فليفعل كذا،و من استبرد فليلبس كذا،إلي غير ذلك ممّا يكون المقصود منه جعل الملازمة بين الشرط و الجزاء.

و ليس في مورد الاباحة و التعجيز و التهديد إنشاء الطلب،و من هذه الاستعمالات تستكشف أنّها ليست موضوعة للطلب.فما ذكره في الكفاية من أنّها موضوعة لإنشاء طلب المادّة،و بعبارة اخري للطلب الانشائي و تختلف الدواعي، غير معلوم.

و قد يقال:إنّ هيئة افعل موضوعة للبعث و الاغراء،كالاشارة البعثيّة و الاغرائيّة،و كاغراء جوارح الطير،فهي موضوعة لإفادة ذلك و إفهامه،و انّ المعاني التي عدّت لها،كالتمنّي و الترجّي و التهديد و غيرها ليست معانيها،بل معان مجازية علي ما سبق من استعمال اللفظ فيما وضع له ليتجاوز منه إلي المعني المراد جدّا لعلاقة،فصيغة الأمر تستعمل تارة في البعث ليستقرّ ذهن السامع عليه و يفهم منها ذلك،و اخري تستعمل فيه لكن ليتجاوز ذهنه منه إلي المعني المراد جدّا بعلاقة مع نصب قرينة.

أقول:الانصاف أنّه ليس في جميع الموارد بعث و إغراء،فقول الصبي لغيره إن أحببت أن تأكل من طعامي فكل،لا بعث فيه،و كذا قوله كونوا قردة.

و لا يبعد أن يكون الاستعمال في جميع الموارد في معني واحد من دون عناية تجريد و تأويل،حتّي في خطاب الجمادات،كقوله«أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا نسيم الصبا»إلي آخره.

و قال في المحاضرات:إنّ الصيغة موضوعة للدلالة علي إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،و هي موضوعة لواحد من هذه المعاني،و هو إبراز اعتبار الفعل علي ذمّة المكلّف.و أمّا إبراز سائر المعاني،فيحتاج إلي نصب القرينة،و هو

ص: 64

علامة كونها مجازا في سائر المعاني (1).

أقول:قد سبق البحث عن الانشاء و الاخبار،و لعلّه لا يخطر في أذهان المستعملين في الموارد المختلفة أنّهم يعتبرون في أنفسهم أمرا ثمّ يظهرونه بالصيغة،بل انّهم يرون الانشاء آلة لتحقّق معناه،كما يقولون«يسقط»يريدون سقوط شخص،و يقولون«يعيش»يريدون معناه.

المبحث الثاني: في الفرق بين الايجاب و الاستحباب

و فيه أقوال و احتمالات:

الأوّل:أنّ الايجاب هو تحتّم تلبّس المخاطب أو الغائب بالمادّة،و الاستحباب تلبّسهما بالمادّة علي نحو يترجّح الفعل علي الترك،و نظيرهما الوعد،فإنّه تارة يكون وعدا إلزاميّا بحلف و شبهه،و اخري وعدا غير إلزامي بأن قيّده بمشيئته،فإن قال:أعطيك غدا درهما و حلف عليه فهو وعد مؤكّد،و إن قال:أعطيك إن شئت فهو وعد غير ملزم.و كذلك عهدة الشخص،فإنّه لو نذر فعلا كانت عهدته مشغولة به لزوما.

و إن شئت قلت إنّ الوجوب هو لزوم أن يصدر الفعل من المكلّف علي نحو يستبطن استحقاقه العقاب عند العقلاء علي المخالفة،و اللفظ الصريح أن يقول:

يجب عليك الفعل الكذائي و إن خالفت عاقبتك.

الثاني:ما في نهاية الاصول،قال:التحقيق أنّ الفرق بينهما بالشدّة و الضعف، لكن لا بالشدّة و الضعف في ذات الطبيعة؛لأنّ الأمر الاعتباري لا يقبل التشكيك الذاتي،بل بالشدّة و الضعف المنتزعين بحسب المقارنات،مثلا من يقول لعبده:

ص: 65


1- المحاضرات 2:123.

اضرب،قد يقوله ضاربا برجليه الأرض و محرّكا رأسه و يديه،و قد يقوله معقّبا إيّاه بقوله:و إن لم تفعل فلا جناح عليك.و قد يقوله بدون هذه المقارنات،فينتزع من الأوّل الوجوب،و من الثاني الندب،و اختلف في الثالث إلي آخر كلامه (1).

أقول:قد عرفت أنّ الوجوب و الندب وجودان بحسب وعائهما،فالصلاة واجبة و الصدقة مستحبّة،و شرب الماء لم يوجد فيه وجوب و ندب،و هذان الوجودان يختلفان في الحتميّة و عدمها،فإنّ هذه الامور قابلة للتأكّد،كأخذ البيعة من الناس بعد أمرهم بولاية علي عليه السّلام،و نظيره الرهن للدين،فكأنّه أوثق في الأداء من الدين الذي لا رهن له.

الثالث:ما ذكره في أجود التقريرات من أنّ الفرق بين الوجوب و الندب إنّما هو في المبادي،حيث انّ ايقاع المادّة علي المخاطب تارة ينشأ عن مصلحة لزوميّة، و اخري عن مصلحة غير لزوميّة إلي آخر كلامه (2).

و فيه أنّهما يفترقان حتّي عند من أنكر تبعيّة الأحكام للمصالح و المفاسد.

و قد يقال:إنّه لا اختلاف بينهما ذاتا،بل الوجوب حكم العقل بلزوم إطاعة الطلب الصادر من المولي إن لم يقترن بالترخيص.

أقول:فالفرق بينهما في مرحلة الاثبات،ولكنّك عرفت أنّهما يفترقان ذاتا و ثبوتا،و أمّا إثباتا أعني طريق إثبات الوجوب أو الندب فهو أمر آخر.

المبحث الثالث

اشارة

بناء علي عدم وضع الصيغة للوجوب،فهل هي منصرفة إلي الوجوب أو أنّها تدلّ علي الوجوب بمقدّمات الحكمة،أو بحكم العقل بوجوب إطاعة العبد لمولاه، أو ببناء العقلاء و أبناء المحاورة علي حملها علي الوجوب إن صدرت ممّن تجب

ص: 66


1- نهاية الاصول ص 86-91.
2- أجود التقريرات 1:95.

إطاعته،كالصادر من الموالي إلي العبيد بدون قرينة تدلّ علي الاستحباب أو الاباحة كما هو المفروض؟

لا يبعد الأخير؛لأنّ المتبادر من صيغة افعل في موارد استعمالها هو كون المخاطب متلبّسا بالمادّة،و لا تدلّ علي الوجوب بنفسها،و إنّما تدلّ عليه بقرينة، و من القرائن خطاب المولي بها عبده،فإنّها تحمل علي الوجوب ببناء العقلاء، و ذلك لأنّ الموالي العرفيّة إن أرادوا ايجاب شيء لا يصرّحون بإرادتهم من قولهم «اشتر اللحم»مثلا الوجوب،بل يستعملونها في مقام بيان ما يطلبونه من العبيد لزوما،فلذا كان البناء من العقلاء علي حمل الصيغة الصادرة من المولي إن لم تقترن بالترخيص في الترك علي الوجوب.

و قيل:إنّ بناء العقلاء علي وجوب إطاعة الطلب الصادر من المولي ما لم يرخّص في تركه لا حمله علي الوجوب،و علي كلا التقديرين فهذا البناء ثابت في العرف و الشرع.

تتميم:الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي ص و الأئمّة ع

قال في نهاية الاصول ما حاصله:إنّ الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام علي قسمين:

القسم الأوّل:ما صدر عنهم عليهم السّلام في مقام إعمال السلطنة و إعمال المولويّة، مثل ما صدر عنهم في الجهاد و نحوه.

القسم الثاني:ما صدر عنهم عليهم السّلام في مقام التبليغ و الارشاد إلي أحكام اللّه تعالي،كقولهم«صلّ»و قولهم«اغتسل للجمعة»و نحوهما.

ثمّ إنّه يجب إطاعتهم في القسم الأوّل،و أمّا القسم الثاني فلمّا لم يكن صدورها عنهم لإعمال المولويّة،بل كان لغرض الارشاد إلي ما حكم اللّه به علي عباده، كانت في الوجوب و الندب تابعة للمرشد إليه،أعني:ما حكم اللّه به،و ليس

ص: 67

لاستظهار الوجوب أو الندب من هذا السنخ من الأوامر وجه؛لعدم كون الطلب فيها مولويّا،فتأمّل جيّدا (1).

أقول أوّلا:يجب إطاعتهم في أوامرهم الشخصيّة،فلو أمروا بإحضار ماء مثلا وجب.و ثانيا:أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله أو المعصومين عليهم السّلام في مقام تبليغ الأحكام إن قالوا إخبارا عن اللّه تعالي:قال اللّه تعالي يا عبادي افعلوا كذا،فيستظهر الوجوب من كلام اللّه تعالي المنقول علي لسانهم عليهم السّلام،و إن لم يسندوه إلي اللّه تعالي،و قالوا في مقام التبليغ:افعلوا كذا كما هو الأكثر،فيستظهر الوجوب من قولهم افعلوا؛لوجوب إطاعتهم في الأحكام التي يقولونها،و لا حاجة إلي إحراز إعمال المولويّة كما ذكر.

المبحث الرابع: في دلالة الجملة الخبرية المشتملة علي الأحكام الشرعيّة علي الوجوب

هل الجملة الخبرية المشتملة علي الأحكام الشرعيّة،مثل قوله«من شكّ بين الثلاث و الأربع بني علي الأربع»تدلّ علي الوجوب أو لا؟حكي الفاضل النراقي في المناهج عن جماعة عدم الدلالة و اختاره،قال:لأنّه لم يرد بها الإخبار قطعا، و اريد بها الانشاء مجازا،و هو متعدّد من أصل الطلب،و الطلب الوجوبي و الطلب الندبي.و إذا تعدّد المجازات و لم يترجّح بعضها علي بعض،فاللفظ يكون مجملا، و القدر المتيقّن هو أصل الطلب انتهي.

أقول:لا يبعد أن يكون استعمال فعل المضارع أو الماضي في هذه الموارد إنشاء حقيقة،كاستعمال فعل الماضي في البيع،مثل بعت و قبلت في مقام المعاملة فإنّه إنشاء،فيكون قوله«من فعل كذا أعاد أو يعيد»إنشاء و استعمالا حقيقيّا،و قد مرّ أنّ الانشائيّة و الاخباريّة خارجتان عن مرحلة الاستعمال،و بناء العقلاء علي حمل الكلام الصادر عن المولي إلي العبيد في مثل ذلك علي الوجوب،و من لاحظ

ص: 68


1- نهاية الاصول ص 97.

الأخبار يري أنّ استعمال الجملة في إنشاء الوجوب كثير.

و لا فرق بين أن يقول«ليعد»في جواب من سأله عن الشكّ في الركعتين الأوّلين،و بين أن يقول«يعيد»في الدلالة علي الوجوب.

و أمّا ما ذكره في الكفاية من أنّها أظهر من الصيغة،حيث انّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنّه لا يرضي إلاّ بوقوعه،فيكون آكد في البعث من الصيغة و لا يلزم الكذب؛لأنّه أخبر بداعي البعث كسائر الكنايات،مثل زيد كثير الرماد كناية عن جوده،فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ إلي آخر كلامه (1).

ففيه منع كونه آكد،و منع كونه إخبارا،فلا فرق بين قوله«إذا شككت فابن علي الأكثر»و قوله«من شكّ في الركعات بني علي الأكثر»في الدلالة علي إنشاء الطلب،و ليس الثاني آكد من الأوّل.

المبحث الخامس: في أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليا أم لا؟

اشارة

و لتنقيحه نذكر امورا:

أحدها:أنّ كثيرا من الأفعال يقع علي وجه العبادة تارة،و يقع علي غير وجه العبادة اخري،فإذا كان الفعل قابلا لجعله للّه تعالي،كالأفعال الحسنة من الاحسان إلي الغير و نحوه،و فعله المؤمن للّه تعالي فهو عبادة،و إذا فعله لغيره لم يكن عبادة، مثلا من وعظ الناس ابتغاء مرضاة اللّه تعالي فهو عبادة،و من وعظهم للاجرة أو لتحصيل الوجاهة عند الناس لم يكن عبادة،فالفعل قبل تعلّق الأمر به يقع علي وجهين.

هذا إن علم قابليّة جعله للّه.و إن علم عدم القابليّة،كشرب الخمر فلا معني

ص: 69


1- كفاية الاصول ص 93.

لجعله للّه و طلب مرضاته.و إن لم يعلم ذلك،فيستكشف كونه قابلا لجعله عبادة من تعلّق الأمر به،مثلا إن لم يعلم أنّ غسل الثوب النجس يمكن أن يقع عبادة، استكشف قابليّته لوقوعه عبادة من الأمر بغسل الثوب،فإذا غسله للّه تعالي ليصلّي فيه وقع عبادة و يثاب عليه.

و يدلّ علي ما ذكرنا من أنّ العبادة هو جعل العمل للّه تعالي،الآيات و الأخبار:

منها:قوله تعالي وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ الآية (1).

و منها:خبر علي بن سالم،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:قال اللّه عزّ و جلّ:

أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصا (2).

و في خبر يزيد بن خليفة،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:كلّ رياء شرك،انّه من عمل للناس كان ثوابه علي الناس،و من عمل للّه كان ثوابه علي اللّه (3).

و منها:صحيح عبد اللّه بن سنان،قال:كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ قال له رجل من الجلساء:جعلت فداك يابن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،أتخاف عليّ أن أكون منافقا؟فقال له:إذا خلوت في بيتك نهارا أو ليلا أليس تصلّي؟فقال:بلي،فقال:

فلمن تصلّي؟فقال:للّه عزّ و جلّ،قال:فكيف تكون منافقا و أنت تصلّي للّه عزّ و جلّ لا لغيره (4).

و في المجالس و الأخبار باسناده عن أبي ذرّ،عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله في وصيّته له5.

ص: 70


1- سورة البقرة:265.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:431 ب 13 ح 753 الطبعة الجديدة.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:433 ح 762.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:441 ح 795.

قال:يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّي في النوم و الأكل (1).

إلي غير ذلك،فراجع.

ثانيها:أنّ الأمر أيضا علي قسمين:أمر تعبّدي،و هو الأمر المتعلّق بالعبادة، و أمر غير تعبّدي و هو المتعلّق بغير العبادة،و الأوّل كالأمر بالصلاة فإنّه تعبّدي؛لأنّ الصلاة اسم للصلاة الصحيحة،أي المسقطة للأمر،و هي الواجدة لتمام الأجزاء و الشرائط حتّي قصد القربة،كما تقدّم من أنّه لو وقف علي المصلّين أو أوصي لهم كان المراد ذلك،و هي المراد من قوله عليه السّلام«بني الاسلام علي الخمس الصلاة» الحديث.

و قوله تعالي اَلصَّلاةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (2)و قوله تعالي أَقِيمُوا الصَّلاةَ (3)يعني الصلاة الصحيحة المسقطة للاعادة و القضاء،فالأمر تعلّق بالعبادة،و هي الاتيان بالأفعال المخصوصة للّه.

و الثاني كالأمر بالانفاق علي الزوجة و أداء الدين و الوفاء بالمعاملات اللازمة، فإنّها أوامر غير تعبّديّة،فالواجب هو الانفاق علي الزوجة،سواء كان للّه أو كان لهوي نفسه،أو كان رياء،و الانفاق علي الزوجة امتثالا لأمر اللّه لا يكون عبادة إلاّ إذا جعله للّه تعالي؛لأنّ الأمر به توصّلي،و سيأتي توضيحه في الأمر الرابع.

ثالثها:أنّ العبادات كالصلاة و نحوها مشروطة بايقاعها خضوعا للّه تعالي،كما أنّها مشروطة بالطهارة و استقبال القبلة و الساتر،و الدليل علي الاشتراط إمّا الاجماع أو الأخبار أو غيرهما،و الأمر يتعلّق بالصلاة مع جميع شروطها،لأنّ الأمر يتعلّق بالشروط الشرعيّة،كما يتعلّق بالأجزاء بلا فرق بينهما.ا.

ص: 71


1- وسائل الشيعة 1:36 ح 8.
2- سورة العنكبوت:45.
3- سورة البقرة:43 و غيرها.

رابعها:أنّه يمكن أن ينبعث المكلّف عن الأمر و يقصد بعمله امتثاله،و مع ذلك لا يكون عمله عبادة،كما إذا غسل ثوبه النجس بالماء المغصوب لوجوب غسله ليصلّي فيه بحيث لو لم يكن واجبا لم يكن يغسله،أو أنفق علي زوجته بحيث لو لا وجوبه لم ينفق عليها،إلي غير ذلك،نظير امتثال المكره أمر المكره لأنّه أمره به.

خامسها:إذا شكّ في اعتبار العباديّة في عمل،أي اعتبار جعله للّه تعالي في إسقاط الأمر به،و لم يكن إطلاق في مقام البيان ليتمسّك به لنفيه،فهو من الأقلّ و الأكثر الارتباطي،يجري فيه الأصل علي الخلاف.

اذا تمهّدت الامور المذكورة،فنقول:كما تشترط الصلاة بالطهارة و غيرها من الشرائط،كذلك يشترط فيها الاتيان بها عبادة،و الأمر تعلّق بالصلاة الواجدة للشروط التي منها قصد القربة،و هذا هو الموافق للمرتكز في أذهان المتشرّعة بأنّهم مأمورون بالصلاة،و هي المركّبة من الأجزاء و الشرائط،و منها قصد القربة، و ليس قصد القربة دخيلا في تحصيل الغرض،كما ذكره في الكفاية (1).

ثمّ انّ اعتبار كون العمل عبادة،إن استفيد من مناسبة الحكم و الموضوع أو غيرها،فلا إشكال،كالطواف بالبيت و رمي الجمار و الصلاة و نحوها،فإنّه لا يأمر اللّه سبحانه بهذه الأفعال إلاّ لمصلحة فيها،و لا مصلحة في مجرّد فعلها بدون التعبّد بها،و كذا إن دلّت سيرة المتشرّعة أو إجماع قطعي أو نحوهما،و أمّا إذا لم يكن فمقتضي إطلاق الأمر إن كان في مقام البيان عدم اعتباره.

و قد يقال:إنّ الأوامر كلّها تعبّديّة إلاّ ما علم أنّه توصّلي؛لأنّ الأمر هو المحرّك للمأمور إلي فعل المأمور به،و المأمور به في إطار تحريك الأمر يكون عبادة، و لعلّه مراد من جعل الأمر بمنزلة المحرّك التكويني.7.

ص: 72


1- كفاية الاصول ص 97.

و فيه أنّ أداء الدين و الانفاق علي الزوجة و الوفاء بالعقود اللازمة مأمور بها، لكن لم يؤخذ فيها جعلها للّه،فإن تحرّك من الأمر بحيث كان الداعي الأوّل هو الأمر،لكن فعله حبّا أو رياء بحيث لو لا الأمر لم يكن يفعل،و لو لا محبّة الزوجة لم ينفق عليها،فقد امتثل الأمر بالانفاق علي الزوجة،مع أنّه لم يقع عبادة.

تتمّة:

ذكر في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المصلحة إن كانت في الفعل علي وجه لو أمر به المولي و أتي به المكلّف امتثالا لأمر المولي لصار حسنا،ولكن حيث انّه لا يعقل الأمر بالفعل أوّلا علي ذلك الوجه،فما يحمله في ايصال المكلّف إلي المصلحة المكنونة في الفعل علي الوجه المذكور أن يأمر بالفعل أوّلا تحصيلا لموضوع الحسن،ثمّ ينبّه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور علي وجه الامتثال (1)انتهي.

و أورد عليه في الكفاية أوّلا:بأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد.

و ثانيا:أنّ الأمر الأوّل إن لم يسقط بدون قصد امتثاله لعدم حصول غرضه،استقلّ العقل باتيانه بقصد الأمر،فلا حاجة في الوصول إلي غرضه إلي وسيلة تعدّد الأمر (2).

أقول:ليس في كلام الشيخ رحمه اللّه تعدّد الأمر،بل قال:إنّه يأمر بالفعل ثمّ ينبّه المكلّف بأن يأتي بالفعل المذكور علي وجه الامتثال،فيصل المكلّف إلي المصلحة الموجودة في الفعل.

ثمّ انّ ما ذكره من أنّ قصد الأمر دخيل في غرض المولي و ليس جزء و لا شرطا،لا وجه له،بل هو إمّا جزء أو شرط لبّا،ولكن لا يمكن الأمر به و ايصال المكلّف إلي المصلحة الملزمة الموجودة في المتعلّق إلاّ بهذه الكيفيّة،فلو لم يبيّن

ص: 73


1- تقريرات الشيخ ص 49.
2- كفاية الاصول ص 97.

يتمسّك بإطلاق كلامه أو بالاطلاق المقامي علي عدم اعتباره.

المبحث السادس: في دلالة هيئة الأفعال

تقدّم أنّ هيئة الأفعال تدلّ علي معني قابل للاطلاق و التقييد،و ما قيل من أنّ معني هيئة الأفعال معني الحرف لا يلاحظ فيه الاطلاق،ليس مرضيّا عندنا،ففي قولنا ضرب زيد عمروا في الدار بالعود يوم الجمعة،قد قيّدنا نسبة صدور الضرب من زيد التي هي معني الفعل الماضي بهذه القيود.

و علي هذا فإذا شكّ في كون الوجوب نفسيا،أو غيريا،أو تعيينيا،أو تخييريا، أو عينيا،أو كفائيا،أو مباشريا،أو أعمّ منه و من التسبيبي،فمقتضي الاطلاق الأوّل من هذه الامور؛لأنّ خلافها يحتاج إلي تقييد الهيئة بأنّه يجب الفعل الكذائي عند وجوب فعل آخر،أو يجب الفعل إن لم يفعل غيره،و هكذا.

المبحث السابع: إذا وقعت صيغة«افعل»عقيب الحظر

،أو في مقام توهّمه،ففي دلالته علي الوجوب و عدمه وجهان،لا يبعد أن يقال:إنّه إن رفع الحظر الموجود أو توهّمه بهذه الصيغة،كما في قوله تعالي فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (1)فلا دلالة لها علي الوجوب.

و أمّا مجرّد أن يكون الفعل ممنوعا في زمان،ثمّ وقع بعده الصيغة،فاقتضاؤه عدم الظهور للصيغة في الوجوب غير معلوم،نعم يوجب ضعف الظهور،فلو عارضه ظاهر آخر قدّم عليه.

ص: 74


1- سورة التوبة:5.

المبحث الثامن: في المرّة و التكرار

لا دلالة لايجاب الطبيعة علي فعلها مرّة أو مرّات،سواء كان الايجاب بمادّة الأمر،أو بصيغته،أو بالجملة الخبرية المستعملة في مقام الانشاء؛لوضوح أنّ متعلّق الوجوب هو الطبيعة،و هي توجد في الخارج بايجادها مرّة واحدة،فلا دلالة للهيئة المتعلّقة بالطبيعة علي المرّة،بحيث لو قال افعل مرّة لكان تأكيدا،و لا التكرار بحيث لو قال افعل مكرّرا لكان تأكيدا.

و ينبغي التنبيه علي امور:

الأوّل:أنّ الطبيعة تتحقّق في الخارج بالوجود الأوّل،فإن لم تكن قابلة لايجادها بوجودات دفعة،كغسل الميّت مثلا،فلا بحث.و أمّا إن كانت قابلة لوجودات متعدّدة دفعة كالتصدّق،فإنّه يمكن تحقّقه بدرهم دفعة،كما يمكن تحقّقه بعشرة دراهم دفعة،فإن أمر بالتصدّق فقد يقال:إنّه لو تصدّق بعشرة دراهم دفعة، لكان امتثالا واحدا كالتصدّق بدرهم،و لا يختلفان في أنّ التصدّق بدرهم مصداق للواجب،كما أنّ التصدّق بعشرة دراهم مصداق للواجب.

أقول:لو نذر أن يتصدّق علي فقير بدرهم إن جاء زيد من سفره،ثمّ نذر إن رزق ولدا تصدّق علي فقير بدرهم،فجاء زيد و رزق ولدا،فتصدّق علي فقير بدرهمين قاصدا به الوفاء بالنذرين،لكان موفيا بنذريه،و كذا لو أمره المولي أن يتصدّق علي فقير بدرهم،و كان ناذرا أن يتصدّق علي فقير بدرهم،فتصدّق علي فقير بدرهمين قاصدا به امتثال أمر المولي و وفاء النذر لكان ممتثلا لهما،فكذا إن أمره بالتصدّق،فإنّه ينوي بما صدق عليه التصدّق أداء الواجب،و بالزائد عليه الاستحباب،و ليس له أن يقصد امتثال الواجب بالتصدّق بالعشرة بخصوصها،بل مقدار ما يصدق عليه التصدّق يكون واجبا و الزائد مستحبّا؛لأنّ الزيادة خصوصيّة

ص: 75

في الفرد،فإذا وجب علي شخصين أن يتصدّقا،فتصدّق أحدهما بدرهم و تصدّق الآخر بعشرة دراهم،كان ثواب الثاني أكثر؛لأنّ الفرد الذي أتي به أفضل.

و إن أمره المولي بضرب عبده،فإنّما يجوز له أن يضربه بمقدار ما يصدق عليه الضرب،فلا يجوز أن يضربه مرّة واحدة ضربا شديدا زائدا علي ما يتحقّق به أصل الضرب.

الثاني:قيل:إنّ الاتيان بالأفراد العرضيّة للطبيعة يكون امتثالا واحدا بمجموعها،فلو أمره بالتصدّق،فتصدّق دفعة علي عشرة فقراء،وقع الجميع امتثالا واحدا،كما إذا تصدّق علي فقير واحد؛لأنّ الأمر تعلّق بالطبيعة،و الخصوصيّات الفرديّة خارجة من متعلّق التكليف.

و أورد عليه في نهاية الاصول بأنّ الطبيعة الموجودة في الخارج تتكثّر بتكثّر أفرادها،و القول بكون الطبيعة الموجودة في الخارج موجودة بوجود وحداني و إن تكثّرت أفرادها ضعيف في الغاية (1).

و قيل في توضيحه:إنّ المولي إن قال:أطعم فقيرا،فأطعم في مجلس واحد فقراء مع عدم كون المطلوب بشرط لا،فإمّا لم يحصل الامتثال،و هذا لا مجال له قطعا،أو حصل بواحد لا بعينه،أو بالمجموع من حيث المجموع،و من الواضح أنّ شيئا من هذين العنوانين غير موجود في الخارج.

أو يقال:إنّ المطلوب صرف الوجود.ولكن الانصاف أنّ صرف الوجود لا يخرج عمّا ذكر،فلم يبق إلاّ أن يقال:إنّ كلّ واحد امتثال،ولكن يكون الثواب و الأجر واحدا انتهي.

أقول:لا نقول بتعدّد الامتثال للطبيعة،بل نقول بأنّ واحدا منها امتثال للواجب،ة.

ص: 76


1- نهاية الاصول ص 111،و ص 124 الطبعة الجديدة.

و ذلك لأنّ الوجوب تابع للمصلحة الملزمة للفعل في المتعلّق،و الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة للترك في المتعلّق،و هما متلازمان،أي:كلّما حكم به الشرع ففيه مصلحة أو مفسدة،و كلّما كان مصلحة فمعها حكم،و كذا المفسدة،و لا بدّ من أن يلاحظ أنّ المصلحة بأيّ مقدار،فإن كانت في وجود الطبيعة المتحقّق بوجود فرد من الطبيعة،كانت الطبيعة المتحقّقة بوجود فرد هي الواجبة،و إن كانت في خصوصيّة فرد كانت الخصوصيّة أيضا واجبة،و حيث انّ المصلحة في أصل التصدّق بما تحقّق فيه طبيعة التصدّق كان الوجوب تابعا لها،فإذا فرض تحقّق الطبيعة بتصدّق درهم علي فقير واحد كان الزائد غير واجب،فهل يجوز لو أمره بضرب العبد ضرب عشرة من عبيده دفعة؟

الثالث:لا مجال لتبديل الامتثال بعد تحقّقه؛لأنّ الامتثال فرع وجود الأمر، و مع سقوطه بامتثاله فلا أمر،نعم في العرفيات إذا لم يحصل غرض المولي يترجّح عقلا أن يأتي بفرد أحسن ممّا أتي به،و سيأتي التعرّض له.

المبحث التاسع: في الفور و التراخي

لا دلالة لصيغة الأمر علي الفور و لا علي التراخي،بل الصيغة تدلّ علي الالزام بايجاد المادّة غير مقيّد بزمان،فيجوز اتيانها متراخيا مع العلم بتمكّنه من اتيانها.

نعم إن شكّ في تمكّنه من اتيانها إن لم يأت بها فورا وجب الاتيان بها فورا وجوبا عقليّا.

و هذا غير دلالة الصيغة علي الفور،بل لو كان الواجب موسّعا فإنّما يجوز تأخيره عن أوّل وقته مع العلم بالتمكّن من فعله بعد ذلك؛لأنّ العقل الحاكم بالاستقلال في مقام الامتثال يستقلّ بأنّه لا بدّ من الامتثال بحيث لا يفوت الفعل

ص: 77

الواجب،مثلا إذا دخل الوقت وجب علي المكلّفين الصلاة بين الحدّين،فإن علم أنّه يقدر عليه في آخر الوقت،فيجوز له التأخير،و إلاّ فلا يجوز عقلا،و لو أخّر و لم يتمكّن فقد عصي،فلو أنّ امرأة كان يوم عادتها،فدخل الوقت و احتملت عروض الحيض وجب عليها المبادرة إلي الصلاة.

و بعبارة اخري:إنّ الشارع المقدّس يقول:يجب علي المكلّف فعل الصلاة بين الحدّين،و لا يقول يجوز للمكلّف أن يؤخّر الصلاة من أوّل الوقت حتّي مع عدم العلم بتمكّنه من فعلها بعد التأخير.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية (1)،حيث قال:نعم قضيّة إطلاقها جواز التراخي.في غير محلّه إن أراد تجويز الآمر التراخي،فإنّه ليس لها إطلاق يقتضي جواز التأخير،سواء علم أنّه يتمكّن من فعله بعد ذلك أو لا،و كذا إذا كان بعد دخول الوقت واجدا للطهارتين و لم يعلم أنّه يتمكّن منهما في آخر الوقت لم يجز له إبطالهما و تأخير الصلاة،و كان تأخيره تضييعا،و قد اشير في روايات الحائض أنّها تقضي لأنّها ضيّعت.و إن أراد أنّ التقييد بالفور و التراخي غير مذكور، فلا بدّ أن يحمل علي الاطلاق من ناحيتهما،و مقتضاه جواز التراخي،فهو متين.

ثمّ إنّ بعضهم قال بدلالة الصيغة علي الفور؛لأنّ العرف و العقلاء لا يعدّون العبد معذورا إذا أخّر الامتثال،مضافا إلي أنّ البعث التشريعي يطلب الانبعاث فورا عند العقل،كما في البعث التكويني.

قلت:إطلاق الصيغة يقتضي عدم اعتبار الفور و عدم اعتبار التراخي،و العقل يلزم بامتثال الأمر،و لا يجوّز التأخير إلاّ مع العلم بالتمكّن من الامتثال،و البعث التكويني إن كان إلي الشيء علي نحو السعة،فالبعث التشريعي أيضا مثله.3.

ص: 78


1- كفاية الاصول ص 103.

و لا يخفي أنّه ربّما وجب البدار و إن علم بتمكّنه من الاتيان بعد التأخير إن كان الواجب من حقوق الناس،كما في الجواهر حيث قال:نعم قد يكون متعلّقها-أي الأوامر-حقّا للفقراء مثلا يجب أداؤه فورا كغيره من الحقوق المالية،نحو الزكاة مثلا؛للأدلّة الدالّة علي ذلك.

إلي أن قال:إنّ الأصل في الحقوق المالية-سواء كانت لشخص معيّن أو غير معيّن-الفوريّة،إلاّ مع الاذن من صاحب الحقّ،و من ذلك ردّ الأمانات الشرعيّة إلي أهلها فورا،و أداء الخمس و الزكاة و غيرهما إلي آخر كلامه (1).

و حاصله:أنّ المستحقّ موجود و هو طالب للأداء،فيجب الأداء.و إطلاق وجوب الخمس مثلا لا يقتضي جواز التأخير مع وجود المستحقّ،حتّي مع العلم بالتمكّن من الأداء،فيكون ما دلّ علي وجوب أداء مال الناس من عين أو حقّ عند المطالبة و لو بلسان الحال قرينة علي التقييد في إطلاق الهيئة،فإنّ مقدّمات الحكمة و إن اقتضت اطلاقها و عدم تقييدها بالفور،لكن جريانها إنّما يكون إذا لم يكن دليل علي التقييد.

الفصل الثالث: في الاجزاء

اشارة

و يقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل:في أن امتثال الأمر يوجب سقوط الأمر

إنّ اتيان المأمور به،أعني:امتثال الأمر يوجب سقوط الأمر،فلا مجال معه لتكرار العمل،و لم يستبعد في الكفاية تبديل الامتثال و التعبّد به ثانيا بدلا عن التعبّد به أوّلا فيما علم أنّ مجرّد الامتثال ليس علّة تامّة لحصول الغرض،كما إذا

ص: 79


1- جواهر الكلام 33:168.

وجب عليه إحضار الماء لشرب المولي فأحضره،فله تبديله ما لم يشرب،و أمّا إذا كان علّة لحصول الغرض،فلا يبقي موقع للتبديل،و لو لم يعلم أنّه من أيّ القبيلين فله التبديل باحتمال أن لا يكون علّة،و يدلّ عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة الصلاة فرادي جماعة،و انّ اللّه يختار أحبّهما إليه (1).

أقول:في غير الشرعيّات ممّا يعرف الغرض يترجّح للعبد التبديل بالأحسن لا تبديل الامتثال،فإنّه قد حصل،لكن يستحقّ المدح إذا أتي بفرد آخر أرجح.و أمّا في الشرعيّات،فلا سبيل إلي غرض الشارع،فلو صلّي الفريضة في الحمّام،فلا دليل علي جواز إعادتها في المسجد.و أمّا ما ورد في الجماعة،فالأخبار (2)فيها مختلفة.

ففي خبر أبي بصير:صلّ معهم يختار اللّه أحبّهما إليه (3).أي:يختار في مقام القبول لا الصحّة،و حاصله:أنّه يستحبّ إعادة الصلاة جماعة،و يختار اللّه في مرحلة القبول أيّهما أحبّ.و يؤيّده ما في الفقيه:وروي أنّه يحسب له أفضلهما و أتمّهما.

و في خبر حفص:يصلّي معهم و يجعلها الفريضة (4).أي:يقصد بما صلاّه الفرض،و ظاهره أنّه يجعل الثانية فريضة،فيكون ذلك من باب تبديل الامتثال، فيعارضه ما دلّ علي أنّ اللّه يختار أحبّهما إن كان الأحبّ هو الأوّل،و يحتمل أن يكون المراد قصد الفريضة و إن كان ندبا،أو المراد يجعلها قضاء.2.

ص: 80


1- كفاية الاصول ص 107.
2- جامع أحاديث الشيعة 6:526 ب 57.
3- جامع أحاديث الشيعة 6:526 ح 1.
4- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 2.

و في خبر عمّار:و هو أفضل (1).أي:الاعادة معهم.

و في خبر الحلبي:و إن شئت فصلّ معهم و اجعلها تسبيحا (2).لعلّ المراد صلّ مع العامّة و لا تنو صلاة و سبّح،أو صلّ نافلة و كن معهم صورة.

و في خبر إسحاق:صلّ و اجعلها لما فات (3).و غيرها من الأخبار.

و استفادة إعادة الصلاة بعنوان الامتثال بحيث يجعل الاولي كأنّه لم يصلّ و يقصد امتثال الأمر الوجوبي بالثانية من هذه الأخبار بعيدة.

ثمّ لا وجه للتعدّي من الصلاة جماعة إلي إعادة الصلاة التي صلاّها في الحمّام مثلا.

الموضع الثاني: في إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري

اشارة

لا يخفي أنّ محلّ الكلام ما إذا كان الأمر الاضطراري إرشادا إلي الجزئيّة و الشرطيّة كالأمر الاختياري،مثل وجوب القيام في الصلاة،و وجوب الجلوس فيها لمن لا يقدر علي القيام.

و أمّا إذا كان الأمر الاضطراري أمرا نفسيّا،فهو خارج عن محلّ الكلام،كما إذا وجب لبس ما لا يؤكل لحمه للتحفّظ عن الهلاك لبرد و نحوه،فإنّه لا تجوز الصلاة فيه إذا كان متمكّنا من نزعه و الصلاة في غيره؛لأنّ الاضطرار إلي لبس ما لا يؤكل من باب وجوب حفظ النفس لا يقيّد إطلاق المنع عن الصلاة فيه،فإنّه وجوب تكليفي،كالاضطرار إلي شرب النجس،فإنّه لا يقتضي طهارة الفم الملاقي للنجس.

ص: 81


1- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 3.
2- جامع أحاديث الشيعة 6:527 ح 4.
3- جامع أحاديث الشيعة 6:528 ح 8.

و قد وقع الكلام في أنّ أدلّة التقيّة هل تقتضي الوجوب النفسي،أي:وجوب حفظ النفس عن الوقوع في التهلكة بموافقة العامّة،أو أنّها تقتضي الوجوب الشرطي أيضا؟و لعلّ القائل بعدم الاجزاء يري دلالتها علي الوجوب النفسي.

إذا تمهّد ما ذكرنا،فنقول:إن كان لدليل الانتقال إلي الجزء أو الشرط الاضطراري إطلاق يشمل صورة رفع الاضطرار في الوقت،كان مقدّما علي إطلاق دليل الأمر الاختياري،كإطلاق ما دلّ علي وجوب التيمّم إن حضرت الصلاة و لم يجد الماء،فإنّه لا يبعد شموله لمن لا يجد الماء أوّل الوقت إن لم يعلم وجدانه آخر الوقت،بل يحتمل إطلاقه لمن يعلم وجدانه آخر الوقت.

و إن لم يكن له إطلاق و كان لدليل الأمر الاختياري إطلاق،فلا بدّ من العمل بإطلاقه،و مقتضاه أنّ العذر المستوعب للوقت يوجب الانتقال إلي العمل الاضطراري،فإن علم أوّل الوقت أنّه لا يتمكّن من القيام في الصلاة إلي آخر الوقت جاز له البدار،فإن انكشف الخلاف وجبت الاعادة،و إن علم أنّه يتمكّن في آخر الوقت وجب التأخير إليه،و إن شكّ فيجوز له البدار رجاء،و لا بدّ أن يلاحظ حاله بعد ذلك و يعمل بحسبها.

و قيل:إن شكّ في أوّل الوقت في بقاء العذر،يستصحب بقاء العذر استصحابا استقباليّا و يصلّي بقصد الأمر جزما،ثمّ إذا انكشف الخلاف وجبت الاعادة؛لعدم إجزاء الأمر الظاهري يعني ما ثبت بالاستصحاب عن الأمر الواقعي.

أقول:الاستصحاب الاستقبالي لا يجري،كما حقّقناه في محلّه.

هذا كلّه فيما إذا كان لهما أو لأحدهما إطلاق.و أمّا إذا لم يكن لهما إطلاق، فيكون المورد من دوران الأمر بين التعيين و التخير،كما إذا لم يعلم أنّ وجوب القيام في الصلاة تعيّني في تمام الوقت،أو يخيّر المكلّف بين الصلاة أوّل الوقت جالسا،و بين الصلاة آخر الوقت قائما،فعلي القول بالرجوع إلي البراءة تجري

ص: 82

أصالة البراءة عن تعيّن وجوب القيام في تمام الوقت.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في الكفاية،حيث قال:و بالجملة فالمتّبع الاطلاق لو كان و إلاّ فالأصل (1).لعلّه يريد إطلاق الأمر الاختياري و إطلاق الأمر الاضطراري،و إن لم يكونا فالمرجع الأصل.

و قد ظهر أيضا ممّا ذكرنا أنّ المراد من إجزاء الأمر الاضطراري هو إجزاء الأمر الارشادي إلي الجزئيّة و الشرطيّة في حال الاضطرار.

و بذلك يندفع ما ذكره في نهاية الاصول في الردّ علي صاحب الكفاية،حيث قال:إنّ ما ذكره طاب ثراه لا يرتبط أصلا بما هو الثابت من التكاليف الاضطراريّة؛لكون ما ذكره مبنيّا علي أن يكون لنا أمران مستقلاّن:أحدهما واقعي أوّلي،و الآخر اضطراري ثانوي،فينازع حينئذ في كفاية امتثال أحدهما عن امتثال الآخر إلي آخر كلامه (2).

فإنّ محلّ البحث هي الأوامر الارشاديّة إلي الجزئيّة و الشرطيّة،كالأمر بوجوب القيام في الصلاة،و الأمر بوجوب الجلوس فيها إن لم يتمكّن من القيام، فينازع في أنّ الأمر بالجلوس لمن لا يتمكّن من القيام هل له إطلاق يقتضي صحّة الصلاة ممّن لم يتمكّن في أوّل الوقت من القيام و تمكّن منه في آخر الوقت أم لا؟

تتمّة:

قال في الكفاية ما حاصله:إذا لم يكن الفعل الاضطراري كالصلاة جالسا في أوّل الوقت وافيا بتمام المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل الاختياري في آخر الوقت،و كان بحيث لو فعله لم يمكن تدارك ذلك المقدار بإعادتها اختيارا،لم يجز البدار إلاّ لمصلحة كانت فيه،أي:في البدار لما فيه من نقض الغرض،و تفويت

ص: 83


1- كفاية الاصول ص 110.
2- نهاية الاصول ص 114.

مقدار من المصلحة لو لا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ (1).

أقول:لعلّ مراده مزاحمة المصلحة الموجودة في الصلاة مختارا في آخر الوقت مع مصلحة خارجية موجودة في الصلاة أوّل الوقت،فحينئذ يتقدّم الأهمّ و إن فات مقدار من مصلحة الصلاة.

الموضع الثالث: في كفاية الاتيان بما يقتضيه الدليل ظاهرا

اشارة

و ترتيب الآثار عليه من عدم الاعادة و القضاء و آثار العقد الصحيح و غيرها إن انكشف الخلاف و عدمها وجهان.

فنقول:إنّ الأحكام علي قسمين:واقعيّة،و ظاهريّة،كما هو الحقّ،فإنّ من شكّ في امرأة أنّها من المحارم أو من غيرها،جاز له أن يتزوّجها؛لأصالة حلّ ما لم يعلم حرمته،و قد صرّح بهذا في خبر مسعدة بن صدقة (2)،و عليه فإن تزوّجها و لم يعط مهرها و لا نفقتها ثمّ تبيّن أنّها من محارمه كعمّة مثلا،فلا يمكن أن يقال:إنّ الحرام تزويج من يعلم كونها عمّة،و هذا تزويج صحيح واقعا يجب عليه أن يعطيها مهرها و نفقتها التي لم يعطها،و بعد العلم تنفصل عنه،مع أنّ انفصال الزوجة إمّا بالطلاق أو بالكفر و نحوهما.

لكن قد يتوهّم أن يكون مقتضي الجمع بين أدلّة الأحكام الواقعيّة و بين قوله «رفع ما لا يعلمون»-الظاهر في تعلّق الرفع بنفس ما لا يعلمون لا المؤاخذة عنه، علي أن يكون الظاهر من الرفع كرفع القلم عن الصبي و عن المجنون-هو اختصاص الحكم بالعالم،فيكون معلوم البوليّة نجسا،و مجهول البولية طاهرا واقعا،و لا يكون المجهول البولية نجسا واقعا إن كان بولا،و طاهرا ظاهرا.

ص: 84


1- كفاية الاصول ص 108.
2- تهذيب الأحكام 7:226.

و قد التزم به صاحب الحدائق،حيث قال:و ليس ثبوت النجاسة لشيء و اتّصافه بها عبارة عن مجرّد ملاقاة عين النجاسة له في الواقع و نفس الأمر خاصّة،حتّي انّه يقال بالنسبة إلي الجاهل بالملاقاة انّ هذا نجس في الواقع و طاهر بحسب الظاهر، بل هو نجس بالنسبة إلي العالم بالملاقاة،أو أحد الأسباب المذكورة-من شهادة العدلين،و إخبار المالك-و طاهر بالنسبة إلي غير العالم بشيء،فإنّ الشارع كما عرفت آنفا لم يجعل الحكم بذلك منوطا بالواقع،و غاية ما يلزم اتّصاف شيء بالطهارة و النجاسة باعتبار شخصين و لا ريب فيه انتهي موضع الحاجة (1).

أقول:و هو ظاهر قوله في خبر عمّار:كلّ شيء نظيف حتّي تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فليس عليك (2).

لكن يرده خبره أو خبر إسحاق بن عمّار،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة و قد توضّأ من ذلك الاناء مرارا و غسل منه ثيابه و اغتسل منه،و قد كانت الفأرة منسلخة،فقال:إن رآها في الاناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه،ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الاناء،فعليه أن يغسل ثيابه،و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء،و يعيد الوضوء و الصلاة،و إن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك و فعله،فلا يمسّ من الماء شيئا،و ليس عليه شيء؛لأنّه لا يعلم متي سقطت فيه،ثمّ قال:لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (3).

فإنّه لو كان معلوم النجاسة نجسا و غيره طاهرا واقعا لم يحتج في الحكم بالطهارة فيما رأي النجاسة بعد الفراغ من العمل إلي قوله«لعلّه إنّما سقطت فيه تلك الساعة».4.

ص: 85


1- الحدائق 1:139.
2- جامع أحاديث الشيعة 2:127 ب 19 ح 1.
3- جامع أحاديث الشيعة 2:45 ب 12 ح 4.

و مثله خبر زرارة حيث قال:قلت:فإن ظننت أنّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا،ثمّ صلّيت فرأيت فيه،قال:تغسله و لا تعيد الصلاة،قلت:لم ذلك؟قال:لأنّك كنت علي يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا (1).فإنّه لو كان معلوم النجاسة نجسا لم يحتج إلي استصحاب الطهارة.

و يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: فيما اذا انكشف الخلاف علما

فنقول:إنّ الأوامر الظاهريّة التي تقتضيها الامارات و الاصول علي قسمين:

القسم الأوّل:ما يثبت أصل التكليف الكلّي أو الجزئي أو يرفعهما،كالامارة الدالّة علي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا،أو الأصل النافي له إذا شكّ في الوجوب،و كالبيّنة القائمة عند المكلّف علي دخول الوقت فصلّي.و هذا القسم ليس محلّ الكلام إذا انكشف خلافه؛لأنّ الكلام في إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن الواقعي،و الصلاة قبل الوقت لا ربط لها بالصلاة الواجبة بعد دخول الوقت و لا أمر لها،كما أنّ الأمر في الأوّلين واضح؛إذ مع نفي التكليف لم يأت بشيء حتّي يبحث في اجزائه عن التكليف الواقعي،و مع ثبوته لا معني للسؤال عن اجزاء المأتي به عن الواقع،و الفرض انكشاف أنّه لا تكليف في الواقع.

قال في الكفاية:و من هذا القسم لو دلّت الامارة علي وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة،فتبيّن عدم وجوبها و وجوب الظهر،فإنّه لا معني لإجزاء صلاة الجمعة عن صلاة الظهر؛لعدم الأمر بصلاة الجمعة أصلا (2).

ص: 86


1- جامع أحاديث الشيعة 2:136 ب 23 ح 5.
2- كفاية الاصول ص 112.

أقول:يمكن أن يقال:إنّه تجب بالضرورة بعد زوال الجمعة صلاة واحدة،فإذا دلّ الدليل المعتبر علي أنّ الصلاة الواجبة هي الجمعة،ثمّ انكشف الخلاف،فيقع الكلام في أنّ امتثال الأمر الظاهري هل يوجب الاجزاء أم لا؟

القسم الثاني:الامارات و الاصول المبيّنة لمتعلّق التكليف بعد ثبوته،كما إذا دلّت الامارة علي عدم وجوب السورة في الصلاة،فصلّي بلا سورة فتبيّن الخلاف، أو أجري أصالة البراءة عن وجوبها،ثمّ تبيّن الخلاف.

ثمّ إنّ هذا القسم تارة يكون مفاد الأصل،و اخري مفاد الأمارة.و علي التقديرين:تارة يكونان في الحكم الكلّي،كعدم جزئيّة السورة للصلاة للأمارة أو للأصل،و اخري يكونان في الحكم الجزئي،كالبيّنة القائمة علي طهارة الماء الذي توضّأ به،و قاعدة التجاوز في الركوع مثلا.

و علي التقادير فإن لم ينكشف الخلاف للمكلّف إلي أن مات و كان خلافه معلوما لوليّه،كما إذا صلّي باستصحاب الطهارة و قد علم الابن الأكبر أنّه محدث، فهل يجب القضاء عنه أو لا يجب؟وجهان،لا يبعد عدم الوجوب.و أمّا إن انكشف له الخلاف علما،ففي الاجزاء و عدمه ثلاثة أقوال.

القول الأوّل:التفصيل بين الأمر الظاهري الذي هو مفاد الأصل،و بين الأمر الظاهري الذي هو مفاد الأمارة بالاجزاء في الأوّل و عدمه في الثاني،اختاره في الكفاية (1)،و استدلّ له بأنّ الأصل كقاعدة الطهارة ليست طريقا إلي الواقع،بل هو حكم في قبال الواقع يكون حاكما علي دليل اشتراط الصلاة بالطهارة،و مبيّنا لدائرة الشرط،و أنّه أعمّ من الطهارة الواقعيّة و الظاهريّة،و ليس له انكشاف الخلاف،بل العلم بالخلاف من قبيل ارتفاع الموضوع،هذا في الأصل.0.

ص: 87


1- كفاية الاصول ص 110.

و أمّا الأمارة،فمؤدّاها ليس حكما في قبال الواقع،بل هي حجّة بمعني التنجيز إن صادف الواقع،و التعذير إن خالفه،و المطلوب من المكلّف هو الاتيان بالواقع، فإذا تبيّن الخلاف علما لم يسقط عنه الأمر به،و كذا الكلام بناء علي حجّية الأمارة من باب الطريقيّة،فإن انكشف الخلاف تبيّن أنّها لم تكن طريقا.نعم بناء علي حجّية الأمارة من باب السببيّة لا يكون النظر إلي الواقع.

و أورد في فوائد الاصول (1)علي القول بالاجزاء بوجوه،ثالثها:أنّ الحاكم لا بدّ أن يكون في عرض المحكوم،مثل قوله«لا شكّ لكثير الشكّ»مع قوله«إذا شككت فابن علي الأكثر»و أمّا الحكم الظاهري فهو متأخّر عن الحكم الواقعي، و لا يتصرّف فيه،بل الحكم الواقعي علي ضيقه موجود علي أيّ حال،فلا يكون الحكم الظاهري موسّعا له.

رابعها:أنّه لو كانت قاعدة الطهارة موسّعة للطهارة،لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة بعد انكشاف نجاسته؛لأنّه قد لاقي المحكوم بالطهارة.

و أجاب عنه في نهاية الاصول (2)بأنّ الحكم الظاهري إنّما يثبت مع انحفاظ الشكّ،و أمّا بعد زواله فينقلب الموضوع،فالملاقي أيضا يحكم بطهارته مادام الشكّ،و أمّا بعد زواله فيحكم بنجاسته.

و فيه أنّه لا سبب لنجاسته بعد العلم إلاّ الملاقاة السابقة،و المفروض أنّها لم توجب النجاسة.

و قد يجاب:بأنّ القائل بالاجزاء لا يدّعي أنّ أصالة الطهارة حاكمة علي أدلّة النجاسات،بأن تكون النجاسات طاهرة في زمان الشكّ،بل يقول:إنّها نجسة و ملاقيها أيضا نجس،لكن يدّعي حكومة أصالة الطهارة علي دليل اشتراط1.

ص: 88


1- فوائد الاصول 1:140.
2- نهاية الاصول ص 131.

الطهارة في الصلاة،فتوسّع الطهارة المشترطة فيها إلي الطهارة الواقعيّة و الظاهريّة، فتصحّ الصلاة حال الشكّ في الطهارة،و إن تبيّن الخلاف.

أقول:ليس لسان قاعدة الطهارة أنّ طهارة الثوب في الصلاة أو طهارة ماء الوضوء أعمّ من الظاهريّة و الواقعيّة،بل هي تقتضي طهارة المشكوك و ترتيب جميع آثار الطهارة عليه و منها عدم تنجّس ملاقيه،فالتفكيك بين الآثار ليس له وجه.

ثمّ لا يخفي أنّ ظاهر كلام صاحب الكفاية عدم تخصيص البحث بخصوص الاعادة و القضاء في العبادات،بل هو عامّ للعقود و غيرها،فلو شكّ في طهارة مايع و حكم بطهارته بقاعدة الطهارة و باعه و شربه المشتري،ثمّ تبيّن نجاسته،فينبغي أن يقال بصحّة البيع؛لحكومة الأصل علي دليل اشتراط قابليّة الانتفاع بالمبيع، و هو مشكل،و كذا أصالة الحلّ في الشيء المبيع الذي أتلفه المشتري،ثمّ تبيّن بعد البيع أنّه حرام،و لعلّه لا فرق بين وجوده و إتلاف المشتري له.

القول الثاني:ما اختاره في فوائد الاصول (1)،و هو عدم الاجزاء مطلقا في مؤدّي الأمارات القائمة علي الأحكام الكلّية،و الأمارات القائمة علي الأحكام الجزئية،و الاصول الشرعية،فالأقسام ثلاثة،ثمّ انكشاف الخلاف تارة علمي و اخري ظنّي.

أمّا عدم الاجزاء مع انكشاف الخلاف انكشافا علميا،ففي الأوّل:و هي الأمارة القائمة علي الحكم الكلّي،كما إذا قام خبر الواحد علي عدم وجوب السورة في الصلاة،فصلّي بدونها ثمّ علم وجوبها،لاستلزام الاجزاء التصويب؛لأنّ إجزاءه إنّما يكون إذا أنشيء حكم علي طبق الأمارة علي خلاف الحكم الواقعي المجعول8.

ص: 89


1- فوائد الاصول 1:138.

الأوّلي،بحيث يوجب تقييد الأحكام الواقعية الأوّلية بما إذا لم تقم أمارة علي خلافها،أو صرفها إلي مؤدّيات الطرق و الأمارات،و هذا عين التصويب المخالف لمسلك الامامية.

و في الثاني:و هي الأمارة القائمة علي الحكم الجزئي،كما إذا قامت بيّنة علي طهارة الماء فتوضّأ به،ثمّ تبيّن أنّه نجس،لأنّ الماء النجس بعنوانه الأوّلي موضوع لعدم صحّة الوضوء به،و حجّية البيّنة لمجرّد الطريقية من دون أن يكون فيها شائبة الموضوعية.

و في الثالث:و هو الأصل القائم علي الحكم الكلّي أو الجزئي،لما مرّ في الردّ علي كلام صاحب الكفاية.

و أمّا عدم الاجزاء في هذه الثلاثة إن انكشف الخلاف بالظنّ المعتبر،فسيأتي الكلام عليه.

أقول:التصويب المحال المجمع علي بطلانه هو عدم وجود حكم واقعي حتّي الحكم الانشائي،بأن يكون الحكم تابعا للأمارة و الأصل و آراء أهل الاجتهاد و النظر.

و أمّا اذا قلنا بوجود الحكم الواقعي إنشاء،لكن اشترطت باعثيته بالعلم به،أو بعدم قيام الأصل أو الأمارة علي خلافه،فلا دليل علي بطلانه،بل انّ كثرة موارد التخلّف عن الواقع في الاصول و الأمارات الجارية في الموضوعات،و التأكيد في بعض الأخبار علي العمل بالظواهر،كقولهم:إنّ الخوارج ضيّقوا علي أنفسهم و انّ الدين أوسع من ذلك.و ما ورد في الجبن،و ما ورد في القصّابين،و ما ورد في تصديق النساء في العدّة و الحيض،تقتضي أنّ الدين هو ذلك،لا أنّ الدين هو الحكم الواقعي،و هذه الموارد ممّا رخّص في خلافه،و يكون العامل فيها معذورا في مخالفة التكليف.

ص: 90

و ممّن قال بعدم الاجزاء مطلقا الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريرات (1)بحثه، فذكر مقدّمة و استنتج عدم الاجزاء.أمّا المقدّمة،فهي أنّ الطرق المفيدة للأحكام الظاهرية تتخلّف عن الواقع كثيرا،و تكون نقضا للغرض من جعل الأحكام الواقعية،إلاّ إذا اشتملت علي ما يتدارك به ما يفوت من مصلحة امتثال الأحكام الواقعية،و تلك المصلحة تتصوّر علي وجهين:

أحدهما:أن يكون في ذات الشيء مصلحة،و هي الموجبة لجعل الحكم الواقعي،و يكون فيه مصلحة بعنوان كونه ممّا قام عليه الأمارة،فهو أيضا واقعي ثانوي،فالموضوع الواحد له حكمان بلحاظين كالحاضر و المسافر،و هذا مستلزم للتصويب.

ثانيهما:أن يكون في ذات الشيء مصلحة موجبة للحكم الواقعي،و يكون في العمل بالأمارة مصلحة اخري يتدارك بها مصلحة الواقع الفائت من دون حدوث مصلحة في الشيء علي خلاف الواقع.

و الفرق بين الوجهين أنّه علي الثاني إذا انكشف الخلاف تجب الاعادة لعدم فوت مصلحة الواقع،حتّي تتدارك بمصلحة العمل بالأمارة،نعم لو فرض ترتّب فائدة علي وقوع الفعل في الزمان الذي وقع فيه علي حسب دلالة الأمر،مثل المسارعة في العمل،فمقتضي الحكمة و اللطف هو ترتّب تلك الفائدة علي الأخذ بالأمارة.

إلي أن قال:و أمّا علي الوجه الأوّل،فليس له انكشاف الخلاف.

ثمّ استظهر من الأدلّة الوجه الثاني،و قال:إنّ مقتضي الأدلّة الدالّة علي حجّية تلك الطرق هو مراعاة الواقع إلي آخر ما أفاده قدّس سرّه.5.

ص: 91


1- التقريرات ص 23-25.

أقول:تقدّم أنّه لا يبعد أن يكون الوجه الأوّل هو الذي يساعد عليه كثرة الأمارات و الاصول المخالفة للواقع،لكن الانصاف الشكّ في شمول إطلاقها لكفاية العمل بها و الاقتصار عليها بعد العلم بالخلاف.

القول الثالث:الاجزاء مطلقا،اختاره في نهاية الاصول مستظهرا ذلك من أدلّة الأحكام الظاهرية،و قال في تصوير مقام الثبوت:انّه يحتمل أن يكون المقصود الأصلي من الأمر بالصلاة مثلا حصول الاطاعة و الانقياد من العبد في مقابل المولي و تكون الصلاة مع الطهارة مثلا مشتملة علي ملاك غير ملزم،و يكون المقصود بها حصول عنوان الاطاعة لا حصول ملاكها،و إلاّ لكان الأمر المتعلّق بها ندبيا،ثمّ لمّا رأي المولي أنّ تحصيل الطهارة في بعض الأوقات موجب للعسر و انّ مقصوده الأصلي أعني انطباق عنوان الاطاعة يترتّب علي اتيان الصلاة الفاقدة للطهارة أيضا إذا أتي بها بداعي الأمر صار هذا سببا لرفع اليد عن الطهارة لحصول الغرض الملزم بدونها،و الفرض أنّ ذات العمل أيضا لا تشتمل علي ملاك ملزم، و هذا الاحتمال يكفي في رفع احتمال استحالة الاجزاء بعد دلالة الأحكام الظاهرية عليه (1)انتهي.

أقول:يمكن دعوي دلالة أدلّة الأحكام الظاهرية علي ذلك،فمن أتعب نفسه و تحمّل المشاقّ و ذهب إلي الحجّ و قد تعلّم مسائله،لكنه طاف و صلّي مستصحبا للطهارة و رجع إلي بلاده،ثمّ علم أنّه لم يكن متطهّرا واقعا،فمن البعيد أن يحكم ببطلان حجّه،نعم لا بدّ من دفع إشكالين:

أحدهما:ما ورد في الصلاة من أنّها لا تعاد إلاّ من خمس أحدها الطهور،فلو صلّي مستصحبا للطهارة،ثمّ تبيّن أنّه لم يكن متطهّرا،وجبت الاعادة،و هذا ينافي8.

ص: 92


1- نهاية الاصول ص 137-138.

القول بإجزاء الأمر الظاهري.

و يمكن الجواب بأحد وجهين علي سبيل مانعة الجمع،الأوّل:تخصيص قاعدة الاجزاء بهذه الخمسة.

الثاني:تخصيص عموم الاعادة بالاخلال بالخمسة بما إذا لم يكن بأمر الشارع،و المسألة محلّ إشكال.

ثانيهما:استلزام ذلك القول لتخصيص الأحكام بحال العلم و العمد،إن قامت الأمارة أو الأصل علي خلافها.

و الجواب عنه أنّه لا بأس به علي المختار من إمكان تخصيص الحكم بالعالم به علي ما بيّناه في محلّه.

ثمّ إنّ القائل بالاجزاء مطلقا ينبغي أن لا يفرّق بين كشف الخلاف علما أو بحجّة معتبرة.

و قد تلخّص ممّا ذكرناه التفصيل بين أن لا ينكشف الواقع للمكلّف أصلا إلي أن يموت،و بين أن ينكشف قبل أن يموت انكشافا علميا.

ففي الأوّل يمكن أن يقال:إنّه قد أدّي وظيفته من الحجّ و الصلاة و الصوم و غيرها،فلو حجّ مستصحبا للطهارة و كان جنبا مثلا،أو شكّ في الركوع بعد الدخول في السجود مثلا،فأجري قاعدة التجاوز فيه و كان تاركا واقعا،ولكنّه لم ينكشف له الخلاف إلي أن مات،فهل يمكن أن يقال مع الاطّلاع علي حاله:إنّه يجب الاستيجار للحجّ من تركته أو يجب علي الولد الأكبر قضاء صلواته و أمثال ذلك؟

نعم يشكل الأمر فيما لو باع مايعا بأصالة الطهارة و أخذ الثمن و مات و علم الوارث أنّ المايع كان نجسا فهل يرث الثمن أم لا؟

و في الثاني و هو ما لو انكشف له الخلاف علما،فإن كان مؤدّي الأمارة أو

ص: 93

الأصل الحكم الكلّي،فيمكن أن يقال بالاجزاء؛لأنّه لا تكليف بالواقع الذي لا يصل إلي المكلّف بعد الفحص،بناء علي أنّ الظاهر من أدلّة القضاء قضاء ما كان واجبا عليه و لم يفعله،و إن كان لعذر كنوم و نسيان.و أمّا بناء علي شمول أدلّة القضاء لمن لم يكن مكلّفا فعلا بالواجب في وقته فيجب القضاء،هذا كلّه في غير الفروج و الدماء و الأموال،و أمّا هي فإنّه يحتاط فيها.

و إن كان مؤدّاها الحكم الجزئي كأصالة الطهارة في مايع قد بيع أو توضّأ به و انكشف الخلاف،فالظاهر عدم الاجزاء؛لأنّ شمول إطلاق أدلّتها لصورة انكشاف الخلاف بعيد و غير معلوم،و المتيقّن من ترخيص الشارع و تسهيله انّما هي مدّة عدم انكشاف الخلاف،هذا كلّه في المقام الأوّل.

المقام الثاني: فيما إذا انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة معتبرة
اشارة

و الكلام فيه في موردين:

المورد الأوّل: في الاجزاء بالنسبة إلي عمل نفسه
اشارة

أمّا في الموضوعات بأن حكم بطهارة الماء استصحابا،أو بقاعدة الطهارة و توضّأ به و صلّي،ثمّ قامت البيّنة علي أنّ الماء كان نجسا،فالظاهر أنّه لا يجزيء؛ لأنّ حجّية البيّنة تقتضي الأخذ بمدلولها الشامل لجميع الأحوال،فيكون الماء نجسا حين الوضوء به.

و أمّا في الأحكام الكلّية،فانكشاف الخلاف فيها علي قسمين:

القسم الأوّل:أن ينكشف للمجتهد مثلا خلاف ما استفاده مع مراعاة الموازين المعتبرة فيما استفاده أوّلا و في استفادة خلافه ثانيا،لا كشف الخلاف له علما،بل حيث انّ الشارع جعل ما يفهمه المجتهد حجّة عليه،ففهم أوّلا من الأدلّة عدم

ص: 94

وجوب السورة في الصلاة ثمّ تبدّل إلي أن فهم منها وجوبها،أو زعم أنّ صيغة «افعل»لا تدلّ علي الوجوب،ثمّ اعتقد أنّها تدلّ عليه،فهو يستند في المرّة الاولي و الثانية إلي ما يفهمه من الدليل،بناء علي أنّ الشارع جعل ما فهمه حجّة عليه،أو اعتقد أنّ عبارة النجاشي مثلا تدلّ علي وثاقة شخص،ثمّ انكشف أنّه اشتبه في ذلك،ففي الاجزاء و عدمه احتمالان:

الأوّل:عدم الاجزاء،لعدم وجود أمر و لا ظاهري امتثله حتّي يقال:إنّ امتثاله يجزيء عن الأمر الواقعي.

الثاني:الاجزاء؛لأنّ الأخبار الدالّة علي مدح الفقيه و الارجاع إليه تدلّ علي العمل بما يتفقّه فيه،فيستكشف منها الأمر بالعمل بفقهه،فإذا انكشف الخلاف فيجزيء امتثال الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي،مثلا انّ زرارة و أمثاله الذين هم مصاديق الفقهاء المأمورين بالعمل بفقههم إن تبدّل قطعهم بما فهموه من الأخبار إلي القطع بالخلاف أو بالشكّ،فيمكن القول بالاجزاء،لما سنذكره فيما إذا انكشف الخلاف بحجّة معتبرة،لكن الاجزاء مشكل،فإنّي ما عثرت علي نظير له و لا أدري أنّه لو اتّفق مثل ذلك لزرارة ماذا يفعل؟

القسم الثاني:أن يكون شيء حجّة له شرعا،بأن جعله الشارع حجّة،ثمّ جعل ما يخالفه حجّة عليه،فهل يجزيء ما فعله أو لا يجزيء؟وجهان.

الأوّل:أنّه لا يجزيء،و استدلّ له في فوائد الاصول (1)برسم امور:

أحدها:أنّ الأمارات و الاصول منجزة للحكم الواقعي إن صادفته،و معذرة له إن خالفته،و ليست أحكاما في مقابل الحكم الواقعي،بحيث يكون للشارع حكمان واقعي و ظاهري؛لأنّه يستلزم التصويب،نعم في صورة المخالفة يتدارك1.

ص: 95


1- فوائد الاصول 1:141.

مصلحة الواقع بالمصلحة السلوكية،و هو التصويب الامامي،فالأمارات و الاصول حالها حال العلم،و الفرق أنّها محرزة تشريعا،و العلم محرز تكوينا.

ثانيها:أنّ الأمارات و الاصول في رتبة إحراز الحكم الواقعي،فكأنّ الشارع بجعله الطرق و الاصول خلق فردا آخر للعلم في عالم التشريع و نفخ فيها صفة الاحراز،و جعلها علما،فجعل الطرق و الاصول إنّما يكون واقعا في رتبة العلم و لا تزاحم الحكم الواقعي.

ثالثها:أنّ وجود الأمارة و الاصول إذا لم يعلم بهما لا يكون حجّة،أي:منجزة للواقع أو معذرة له؛لأنّ الحجّة هي ما يحتجّ به،و الاحتجاج به موقوف علي العلم به،فلا يكون الخبر الواحد غير الواصل حجّة و محرزا للواقع.

إذا تمهّدت هذه الامور،فنقول:إذا فرضنا أنّ المجتهد وجد خبرا عامّا و فحص عن مخصّصه و لم يجد،بحيث كان تكليفه و وظيفته العمل بالعموم،فهو الحجّة،ثمّ إذا عثر علي الخاصّ يتّصف الخاصّ بالحجّة بعد العثور،فيتبدّل الاحراز الذي كان للعامّ بالاحراز الذي يكون للخاصّ،و الاحراز الذي كان للعامّ لم يتصرّف في الواقع،بل الواقع باق علي حاله،فيكون محرزا بالحجّة المتأخّرة،و يكون الواقع الذي يجب الاتيان به هو ما يقتضيه الحجّة المتأخّرة،و الأعمال السابقة المخالفة للحجّة المتأخّرة باطلة.انتهي ملخّصا.

أقول:يرد علي المقدّمة الاولي أنّه لا محذور في تقييد الحكم الواقعي بعدم قيام الأمارة أو الأصل علي خلافه،و سيأتي توضيحه في أوّل بحث جواز التعبّد بالأمارات.

و يرد علي المقدّمة الثانية أنّ الظاهر أنّ الدين الذي يراد من الناس هو الذي يوافق هذه الأمارات و الاصول،و سيأتي ما ينفع في ذلك في مباحث الأمارات.

و يرد علي المقدّمة الثالثة أنّه لا تكليف بالواقع غير الواصل،مثلا لو فرض

ص: 96

وجوب فعل واقعا و دلالة خبر صحيح علي عدم وجوبه،فإنّه لا يجب علي من استند إلي الخبر الدالّ علي عدم الوجوب و لا علي من لم يستند إليه،و ذلك لعدم تكليفه بالواقع الذي إن فحص لا يصل إليه؛لأنّ المفروض أنّه إن فحص غاية جهده لا يصل إلاّ إلي الخبر الدالّ علي عدم الوجوب،و هو واضح.

الثاني:الاجزاء لوجهين،أحدهما:أنّه لا تكليف بالواقع الذي لا يصل إلي المكلّف،لقوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (1)و لغيره من الآيات و الأخبار.فإذا كانت الأمارة التي استند إليها المكلّف حجّة شرعا،و كانت مخالفة للواقع،فلا تكليف بالواقع لعدم وصوله،فإذا تبدّلت حجّية هذه الأمارة بحجّة اخري مخالفة للاولي جعلها الشارع حجّة،وجب بقاء العمل بالحجّة المتأخّرة، سواء كانت مطابقة للواقع أو لم تكن،و لا تجب إعادة الأعمال السابقة إن كانت غير مطابقة للواقع؛لأنّه ليس مكلّفا-حين العمل-بالواقع لعدم وصوله علما،و لا بالحجّة المتأخّرة لعدم وجودها.

و يمكن المناقشة فيه بأنّ مقتضي حجّية الأمارة المتأخّرة وجوب إعادة الأعمال السابقة،فهو و إن لم يكن مكلّفا حين العمل بالواقع لعدم وصوله،لكنّه مكلّف حين قيام الحجّة المتأخّرة بأن يكون جميع أعماله المتقدّمة و المتأخّرة مطابقة للحجّة المتأخّرة.

ثانيهما:أنّه لو صرّح الشارع بوجوب العمل بمقتضي الحجّة المتأخّرة حتّي بالنسبة إلي الأعمال السابقة،فلا إشكال في وجوب الاعادة،لكن مجرّد جعل الحجّة المتأخّرة لا يقتضي سقوط الحجّة الاولي و لا إطلاق فيها يشمل الحجّية للأعمال السابقة،و القدر المتيقّن كونه حجّة من حين قيامها،فلا يتصرّف في7.

ص: 97


1- سورة الطلاق:7.

الحجّة المتقدّمة.

و بعبارة اخري:لا تكليف إلاّ بما أمر الشارع باتّباعه،و قد أمر باتّباع الحجّة الاولي،ثمّ أمر باتّباع الحجّة الثانية،و المكلّف قد عمل بما أمر به و لم ينكشف الواقع،فلعلّ الحجّة المتأخّرة مخالفة للواقع،فلا دليل علي سقوط الحجّة الاولي بقاء.

تتميم:

قد يفصل فيما إذا اختلفت الحجّة حين العمل مع الحجّة المتأخّرة،بين أن يستند المكلّف إلي الحجّة الاولي فيجزيء،و بين ما لم يستند إليها فلا يجزيء.

و نذكر لذلك مثالا علي سبيل الفرض:فمن قلّد المجتهد الأعلم،ثمّ صار غيره أعلم،وجب عليه الرجوع إلي الثاني في المسائل التي تخالف فتواه فتوي السابق، و لم يجب عليه إعادة الأعمال السابقة المخالفة لرأي المتأخّر؛لأنّ الشارع أمره بالعمل بالحجّة الاولي.و أمّا من كان عمله بغير تقليد و كان موافقا لفتوي المجتهد الأعلم حال العمل،مخالفا لفتوي المجتهد الثاني الذي يجب الرجوع إليه الآن، فيجب عليه الاعادة؛لأنّه لم يحرز موافقته للواقع،و لم يستند إلي فتوي الأوّل حين العمل،حتّي يكون معذورا في مخالفة الواقع.

أقول:بناء علي حجّية الأوّل في ظرف العمل و حجّية الثاني،و المفروض عدم كشف الواقع علما،فإن كان دليل الحجّة المتأخّرة دالاّ علي إعادة الأعمال المتقدّمة،فلا إشكال حتّي فيما إذا استند إلي فتوي الأوّل.و أمّا مجرّد جعل المتأخّر حجّة،فلا يقتضي وجوب الاعادة بعد أن لم يكن مكلّفا بالواقع حين العمل؛لأنّه لم يكن متمكّنا من الوصول إليه،و المفروض أنّه إن فحص لم يصل إلاّ إلي فتوي الأعلم حين العمل و عمله مطابق له،و حيث انّه لا دليل علي لزوم الاستناد و عمله مطابق له فيكون مجزيا،فالأظهر عدم الفرق بين الاستناد إليه

ص: 98

و عدمه إن كان لا يصل إلي الواقع.

المورد الثاني: في الاجزاء بالنسبة إلي فعل الغير

كما إذا اعتقد المجتهد أو المقلّد خلاف ما يراه المجتهد الآخر أو المقلّد الآخر، و الاجزاء فيه بالنسبة إلي الآخر مشكل.

قال في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:إنّ قضيّة ما قرّرنا في الهداية السابقة من أنّ الطرق الشرعيّة إنّما هي طرق إلي الواقع من دون تصرّف فيه،هو عدم ترتيب آثار الواقع علي فعل الغير المخالف في الاعتقاد له،فلا يجوز الأكل من الدبس المشتري بالبيع معاطاة لمن لم يجوّز ذلك،و لا يجوز الاقتداء بمن لا يعتقد وجوب السورة مع العلم بمطابقة عمله لاعتقاده،و أمّا عند عدم العلم فيحتمل جواز الاقتداء نظرا إلي أصالة الصحّة في فعله،و لو لم يكن الصحّة معتبرة في اعتقاده،كما قرّر في محلّه،و المسألة في غاية الاشكال (1).

أقول:الانصاف أنّ المسألة في غاية الاشكال،و ينبغي أن يعمل كلّ منهما علي معتقده،إلاّ إذا كان عمل الغير صحيحا بعنوان ثانوي،كشمول حديث لا تعاد له، فإن كان الامام يعتقد كفاية تسبيحة واحدة و المأموم يعتقد بالثلاث،جاز الاقتداء به؛لأنّ صلاة الامام صحيحة حتّي بعد انكشاف الخلاف له؛لعموم حديث لا تعاد.

و كذا يجوز استيجار جنب اغتسل غسلا لا يكون صحيحا بنظر المستأجر؛لأنّ حرمة الدخول في المسجد مرفوعة عمّن يعتقد صحّة غسله.و يحتمل أن يستفاد من قوله«ما كان عليك لو سكتّ» (2)أنّ غسله صحيح و يترتّب عليه جميع الآثار، لكنّه مشكل.و المسألة محرّرة في الجملة في بحث الجماعة،و تحتاج إلي الفحص

ص: 99


1- تقريرات الشيخ ص 35.
2- فروع الكافي 3:45.

و التأمّل.

الموضع الرابع: في العمل المنبعث عن القطع بالحكم الكلّي

اشارة

العمل بالقطع إذا لم يكن مستندا إلي الشارع،بأن قطع بوجوب صلاة الجمعة و انكشف الخلاف في الوقت،أو قطع بعدم وجوب السورة و انكشف الخلاف في الوقت لا يجزيء.و أمّا إذا كان مستندا إلي الشارع،كما لو قطع بالمراد من الخبر، و كان من نظراء أصحاب الأئمّة عليهم السّلام ممّن أمروهم بالتفقّه،فيكون عمله موافقا لأمرهم بالتفقّه،و يستند فوت الواقع إلي أمرهم،فيمكن أن يقال بالاجزاء.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)أنّه لا يجزيء إلاّ إذا اشتمل فعله علي المصلحة التي لا يمكن مع استيفائها استيفاء مصلحة الأمر الواقعي،و معه لا يبقي مجال لامتثال الأمر الواقعي،كما في الاتمام و القصر و الاخفات و الجهر انتهي.

و حاصل كلامه أنّ ما فعله لم يكن مأمورا به حتّي يجزيء.و أمّا إجزاء صلاة التمام من المسافر،مع أنّه لا أمر بها،بل مجرّد قطع المصلّي بأنّ الواجب عليه هو صلاة التمام،فلاشتمالها علي مصلحة إن استوفاها المصلّي،لم يبق مجال لأمره بالصلاة قصرا.

و فيه انّ المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل تستتبع الأمر بها،فلا بدّ من الالتزام بالأمر بالتمام حال الجهل بوجوب القصر علي نحو الترتّب،أو اختصاص وجوب التمام بالعالم به،و قد ذكرنا في محلّه إمكان اختصاص وجوب القصر في السفر بالعالم بالوجوب،و كذا الجهر و الاخفات،و لا مانع من اشتراط الحكم بالعلم به،كما يأتي في مباحث القطع،و حينئذ لا تكليف علي الجاهل؛لاختصاص

ص: 100


1- كفاية الاصول ص 113.

التكليف بالعالم.

نعم إن دلّ دليل معتبر علي أنّه معاقب،فلا بدّ من توجيهه من باب الترتّب؛لأنّ المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل في حال الجهل تلازم الأمر به،كما حقّقناه في محلّه و قلنا بتلازم المصلحة في الفعل و الحكم علي وفقها.

تتميم:

يمكن الاستدلال علي القول بالاجزاء في جميع الصور المذكورة بقوله في خبر عبد الصمد بن بشير«أيّما رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»و بقوله«رفع ما لا يعلمون»و نظائرهما،و يأتي الكلام فيها في أحكام الجاهل.و لا يترك الاحتياط بمراعاة الواقع في جميع المباحث المذكورة.

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب

اشارة

الظاهر أنّ البحث عن وجوبها من المسائل الفقهيّة،كقاعدة لا ضرر،و إنّما ذكرا في الاصول لعدم اختصاصهما بباب دون باب،و ليس كقاعدة الطهارة مختصّة بباب الطهارة.

و لا يخفي أنّه ليس في الأدلّة عنوان المقدّمة و السبب و الجزء،فلا حاجة إلي البحث عنها،بل ينبغي أن يقال:كلّ حكم له مقامان:مقام جعله الراجع إلي المولي من دون دخل فيه لغيره،و مقام الامتثال الراجع إلي حكم العقل بلزوم امتثال المولي من دون دخالة للمولي بمولويّته فيه أصلا.

فينبغي للمولي أن يري ما فيه المصلحة اللزوميّة و يجعل الحكم موافقا لها و يوصله إلي المكلّف بأن يجعله في معرض الوصول إليه بحيث إذا فحص عنه وصل إليه.

ثمّ إنّ العقل يحكم بامتثاله،طاعة للمولي الواجب الاطاعة،و مع ترك الامتثال

ص: 101

يحكم بأنّه مستحقّ للعقاب،و ليس للمولي أن يأمر مولويّا بامتثال أوامره و إلاّ لتسلسل.

و غير خفي أنّ الاتيان بمقدّمة حصول الشيء دخيل في امتثاله،فلا ربط له بالمولي أصلا،و من ذلك يظهر عدم الحاجة إلي هذه المباحث المذكورة بعد تفكيك المقامين،لكن نشير إلي ما ذكره في الكفاية في ضمن امور:

الأمر الأوّل: في أنّ البحث عن مقدّمة الواجب بحث عن مسألة فقهيّة

لأنّه يبحث عن وجوب المقدّمة،و يستدلّ القائل بالوجوب بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة و وجوب المقدّمة،و يستدلّ القائل بعدم الوجوب بامور اخر، لكن قال في الكفاية:إنّ البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته، فالمسألة اصوليّة (1).

و فيه أنّ وجوب المقدّمة:إمّا لدلالة وجوب ذي المقدّمة عليه باحدي الدلالات،أو للملازمة العقليّة التي لا ينفكّ أحد طرفيها عن الآخر،و علي كلّ فالبحث عن وجوب المقدّمة مسألة فقهيّة،و سيأتي التعرّض له.

الأمر الثاني: في تقسيمات المقدّمة

اشارة

قال في الكفاية:منها تقسيمها إلي الداخليّة و الخارجيّة،و المراد بالداخليّة مقدّمية أجزاء المركّب للكلّ (2).

قلت:الظاهر بطلان التقسيم؛لأنّ الأمر متعلّق بالمركّب،و هو واحد لا انحلال

ص: 102


1- كفاية الاصول ص 114.
2- كفاية الاصول ص 114.

له.نعم هو منبسط علي الأجزاء و الشرائط الشرعيّة،و هو واضح جدّا،و للبحث تتمّة يذكر في بحث الأقلّ و الأكثر الارتباطيين في باب البراءة.

قال:و منها تقسيمها إلي العقليّة و الشرعية و العادية.و الشرعية علي ما قيل ما يستحيل وجود ذي المقدّمة بدونه شرعا،ولكنّه لا يخفي رجوع الشرعية إلي العقلية،ضرورة أنّه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا إلاّ إذا اخذ فيه شرطا و قيدا، و استحالة المشروط و المقيّد بدون شرطه و قيده يكون عقليا (1)انتهي.

أقول:بعد تفكيك المقامين المتقدّمين،أي:مقام وظيفة المولي و مقام وظيفة العبد،و بعد أداء المولي وظيفته،و هي بيان الأحكام الكلّية و جعلها في معرض الوصول إلي المكلّف بحيث يصل إليها بعد الفحص،يظهر أنّ بيان وجوب الطهارة في الصلاة هو نظير بيان وجوب القراءة و الركوع و السجود من وظائف المولي، و قد أدّي وظيفته و هو ايجاب الطهارة قبل الدخول في الصلاة،و الأمر متعلّق بالمركّب من الوضوء أو الطهارة الحاصلة منه و القراءة و الركوع،إلي آخر ما له دخل فيه،و لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب،كما لا صلاة إلاّ بطهور.

و ظاهر آية الوضوء وجوبه للصلاة كوجوب سائر الأجزاء،و الفرق أنّه لا يعتبر الهيئة الاتّصاليّة بينه و بين الأجزاء،و ليس جميع نواقض الأجزاء نواقضه،و كذا اعتبار الساتر في الصلاة و الاستقبال،فإنّ دخلهما في الصلاة كدخل الطهارة فيها راجع إلي المولي يأمر بهما أمرا مولويا،و سيأتي أنّ الوضوء واجب في الصلاة بعنوان العبادة،بخلاف الساتر فإنّ وجوبه في الصلاة توصّلي،نعم إن كان علي وضوء لم يجب تجديده،و سيأتي ماله نفع.

قال:و منها تقسيمها إلي المتقدّم و المتأخّر و المقارن،و حيث انّها من أجزاء العلّة6.

ص: 103


1- كفاية الاصول ص 116.

و لا بدّ من تقدّمها بجميع أجزائها علي المعلول اشكل الأمر في المقدّمة المتأخّرة.

إلي أن قال:بل في الشرط و المقتضي المتقدّم علي المشروط زمانا المتصرّم حينه إلي آخر كلامه (1).

أقول:المراد بالشرط ما يتمّ به فاعليّة الفاعل،أو قابليّة المحلّ،و هذا لا يعقل تقدّمه إن لم يبق له أثر،و كذا تأخّره لا في التكوينيّات و لا في الشرعيّات،فإنّ الشرعيّات و إن كانت من الاعتباريّات،لكن الاعتباريّات ليست مجرّد لقلقة اللسان،بل لها واقع غايته أنّ واقعها عين اعتبارها.

فإذا كان الصوم مشروطا بطهارة الصائم حال الصوم عن حدث الاستحاضة، استحال تأثير الغسل في الليلة المستقبلة في طهارة المستحاضة حال الصوم في النهار السابق،و كذا المقدّم الذي لا يبقي أثره أصلا.

نعم لا مانع من وجوب المركّب من الغسل و الامساك و الغسل،بأن وجب علي المستحاضة أن تغتسل ليلا و تصوم نهارا،و تغتسل في الليلة المستقبلة،بحيث لو لم تفعل بعضه لم تأت بالمركّب،فلذا يبطل صومها.

و أمّا ما ذكره في فوائد الاصول (2)و أجود التقريرات (3)و المحاضرات (4)ردّا علي صاحب الكفاية من قياسه الشرط المتقدّم بالشرط المتأخّر،بأنّ الشرط المتقدّم يكون موجبا للاعداد للمقتضي،ففي غير محلّه؛لأنّ الاعداد إذا كان شرطا فهو مقارن،و الشرط المتقدّم عبارة عن أمر وجد و انعدم بجميع آثاره ليكون شرطا متقدّما،و هو غير معقول؛لأنّ معني كونه شرطا أنّه دخيل في المشروط،فلا بدّ من5.

ص: 104


1- كفاية الاصول ص 118.
2- فوائد الاصول 1:162.
3- أجود التقريرات 1:225.
4- المحاضرات 2:305.

تلاقيهما،و مقتضي تقدّمه أنّه مع انعدامه بجميع آثاره كأنّه لم يوجد أصلا يكون شرطا.

و أمّا الموارد التي توهّم في الشرعيّات أنّها من الشرط المتقدّم أو المتأخّر، فليست كذلك،و نذكر بعضها:

منها:شرطيّة غسل الجنب في الليل للصوم الواجب،و الصوم يجب من طلوع الفجر،فإذا كان الغسل واجبا في الليل و شرطا للصوم،فقد تقدّم الشرط.

و فيه أنّه يمكن أن يقال:إنّه يجب علي الجنب في ليلة شهر رمضان أن يغتسل قبل طلوع الفجر و يصوم،فيجب عليه المركّب من الصوم و الغسل في الليل،بحيث لو لم يفعل بعضه بطل،هذا إن كان الغسل شرطا.و أمّا إن كانت الطهارة المقارنة شرطا،فهي لا تتحقّق إلاّ بالغسل ليلا،و كذا يجب علي المستحاضة أن تصوم و تغتسل في الليلة المستقبلة،فيكون الواجب عليها مجموع الصوم و غسل الليلة المستقبلة.

و منها:عقد الوصيّة،فإنّه تمليك للموصي له بالشرط المتأخّر،و هو موت الموصي.

و فيه أنّه إنشاء ملكيّة الموصي له بعد موت الموصي،و يترتّب الملكيّة علي هذا الانشاء خارجا بعد موت الموصي،و ما لم يمت فهو مجرّد إنشاء و ليس ملكا له بشرط الموت المتأخّر.

و في المحاضرات (1)أنّه يجوز اعتبار الأمر المتأخّر في المتقدّم و ليس اسمه الشرط،لكن يحتاج إلي دليل خاصّ إلاّ في موردين:

أحدهما:في اشتراط التكليف في المركّب بالقدرة علي الجزء الأخير،فالأمر6.

ص: 105


1- المحاضرات 2:316.

بالصلاة في أوّل الوقت مشروط بقدرة المكلّف علي التسليم،فلو لم يكن قادرا عليه لحيض أو موت،فلا أمر بالجزء الأوّل.

أقول:هذا ليس من الشرط المتأخّر،بل يعتبر القدرة علي امتثال التكليف، و إنّما يقدر عليه إن كان قادرا عليه في هذه المدّة،فإذا لم يقدر علي البعض فهو غير قادر علي الكلّ.

ثانيهما:عقد الفضولي إذا تعقّبه إجازة المالك،فإذا باع الفضولي لم ينتقل العين إلي المشتري،بل كان ملكا للبايع،و بعد أن أجاز المالك و رضي بالبيع يصحّ البيع من حين وقوعه؛لأنّه رضي بالبيع من حين وقوعه،فيشمله أدلّة حلّية البيع،و العين كانت ملكا للمالك إلي زمان الاجازة،و صارت بعد الاجازة ملكا للمشتري من حين وقوع البيع،و لا بأس بأن يكون الشيء ملكا لشخصين إذا كان زمان اعتبار الملكيّة مختلفا،فملكيّة المشتري للمبيع من حين العقد مشروط بالشرط المتأخّر، و هو إجازة المالك.هذا ملخّص كلامه.

و قد اختار ذلك صاحب الكفاية في حاشية المكاسب،و حكاه عنه في وقاية الأذهان (1).

أقول:يستحيل انقلاب الامور التكوينية عمّا وقعت عليه،فالطعام الذي صار مأكولا لزيد لا ينقلب عمّا وقع عليه بأن يكون مأكولا لعمرو.

و أمّا الامور الاعتبارية،فالاعتبار المتأخّر لغو إن لم يرفع الاعتبار الأوّل في زمان وقوعه،و إن رفعه لزم انقلاب الشيء عمّا وقع؛لأنّ نفس الاعتبار من التكوينيات،فلا ينقلب عمّا وقع عليه.و لا ينتقض ذلك بالحبّ لشيء في زمان ثمّ بغضه بعد زمان مع اتّحاد متعلّقهما،و ذلك لأنّ متعلّقهما في الذهن،أي المحبوب9.

ص: 106


1- وقاية الأذهان ص 369.

بالذات موجود في الذهن،و كذا المبغوض بالذات موجود في الذهن،فلا يضرّ وحدة متعلّقهما في الخارج.

هذا مع أنّه لو سلّم فليس ذلك من الشرط المتأخّر،و إنّما يكون من الشرط المتأخّر إن أثّر البيع في التمليك من حين وقوعه قبل مجيء الاجازة من المالك.

ثمّ إنّ في إجازة الفضولي احتمالات:

أحدها:الكشف الحقيقي بأن لا تكون الاجازة شرطا أصلا،و إنّما يكشف بها تحقّق الملكيّة من حين البيع.و هذا غير صحيح؛لأنّه يوجب انتقال العين بدون رضا المالك.

ثانيها:كون الاجازة شرطا مقارنا بإرجاعها إلي تعقّب العقد بالاجازة.

و فيه أنّ التعقّب ليس شيئا وراء الأمر المتأخّر.

ثالثها:كونها ناقلة؛لأنّه يعتبر في الانتقال عقد البيع و رضا المالك،و قد حصل المجموع بعد الاجازة،فينتقل العين حينئذ.

رابعها:الانقلاب،و هو الذي تقدّم عن صاحب الكفاية،و مرّ الاشكال فيه.

خامسها:كون البيع و الرضا المتأخّر موجبين لانتقال المال من حين عقد البيع إلي المشتري،بأن يكون نظير الصلاة،فإنّها تمتثل من أوّل الشروع في الصلاة إن تمّ الصلاة،فإذا سلّم سقط الأمر بالصلاة من أوّل الشروع في الصلاة،و في مسألة البيع يكون المال ملكا للمشتري فقط من أوّل العقد لا للمالك.

نعم إذا تصرّف المالك في العين بعد العقد،لم يكن مجال للاجازة من حين العقد،و إذا فرضنا أنّ المالك لم يتصرّف و أجاز،فالعين من حين العقد تكون خارجة عن ملك المالك و يكون لها مالك واحد،و لعلّه يقتضيه القاعدة و الأخبار الخاصّة.

كخبر محمّد بن قيس في وليدة باعها ابن سيّدها،ثمّ إنّ السيّد خاصم المشتري

ص: 107

و أخذ منه الوليدة،فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتّي ينفذ لك ما باعك (1).

و صحيح أبي عبيدة في نكاح غير الولي،قال:يجوز النكاح إن هو رضي (2).

و إطلاقه شامل لمجرّد الرضا و إن لم ينشأ إنفاذ العقد،و مورد هذه الأخبار عدم تصرّف المالك بما ينافي إجازته من حين العقد.

و حاصل كلامنا:أنّ المتأخّر لا يمكن أن يؤثّر في المتقدّم،فإذا كان مالك العين كارها لتصرّف غيره فيها،لكن يعلم بأنّه يرضي بعد ذلك،لم يجز له التصرّف فيها؛ لعدم وجود الرضا حين التصرّف،نعم لو رضي بعد ذلك يمكن أن يقال:إنّه يرتفع أثره الوضعي،و يكون التصرّف الواقع حلالا،و يدلّ عليه أخبار:

كحسن محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة الرجل يكون لها الخادم قد فجرت فيحتاج إلي لبنها،قال:مرها فلتحلّلها يطيب اللبن (3).و خبر جعفر مرسلا (4).و خبر أبي الشبل (5).

و يمكن منع دلالتها علي انقلاب الفعل عمّا وقع عليه،بأن يكون حلالا حال وقوعه،بل غايته أنّ تحليله لفعله يوجب رفع حقّ الناس المتعلّق برقبته و أثره طيب اللبن،و أمّا رفع أثر معصية اللّه بالتصرّف في مال الغير بغير رضاه،فيحتاج إلي التوبة،فتأمّل،فإنّه يحتمل التعبّد باختصاص ذلك بمورده.2.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 14:591.
2- وسائل الشيعة 14:527.
3- وسائل الشيعة 14:543.
4- وسائل الشيعة 14:570.
5- وسائل الشيعة 14:542.
تنبيهان:

أحدهما:أنّ ما ذكرناه كان في شرط المأمور به تكليفا،أو شرط الحكم الوضعي كالملكيّة و نحوها.و أمّا شرط التكليف أو الوضع أي شرط المكلّف -بكسر اللام-و الواضع،فلا بدّ أن يكون مقارنا،و هو علمه بالمصلحة في المتعلّق من غير فرق بين القضيّة الخارجية و الحقيقية.

ثانيهما:ذكر في أجود التقريرات ما حاصله:أنّ ما ذكره في الكفاية،من إرجاع الشرط المتأخّر إلي العلم حتّي يكون مقارنا،إنّما يتمّ في القضيّة الخارجية دون الحقيقية،و ذكر من جملة ثمراتهما أنّه لو قطع أنّ زيدا صديقه لكن كان قطعه خطأ و كان زيد عدوّه،فان قال له:كل من طعامي جاز له الأكل؛لأنّ القضيّة خارجية قد أذن المالك لهذا الانسان الموجود في أكل طعامه و طاب نفسه في تصرّفه،و إن قال:من كان صديقي فليأكل من طعامي،لم يجز له الأكل؛لأنّه تابع لواقعه و لا تأثير لقطعه-أي:قطع المالك-بكونه صديقه (1).

أقول:قد ظهر ممّا ذكرناه عدم الفرق بين القضيّة الخارجية و الحقيقية في عدم جواز تأخّر شرط المكلّف-بالكسر-و الواضع.و أمّا المثال المذكور،فالظاهر عدم جواز التصرّف في القضيّة الخارجية أيضا؛لأنّ المركوز في ذهن من قطع بصداقة عدوّه فأمره بالأكل من طعامه،عدم رضاه بأكل عدوّه،لكنّه اشتبه في التطبيق،و المناط رضاه الواقعي.

و لذا لو اشتبه عليه ابنه الذي هو أحبّ الناس إليه بعدوّه،فزعمه عدوّه و قال له:

لا تأكل من طعامي جاز له الأكل؛لأنّه راض واقعا بأكله.

و لعلّه يستفاد أيضا من ذيل صحيح أبي ولاّد،بعد ما خرج هو و صاحبه من عند

ص: 109


1- أجود التقريرات 1:224.

أبي حنيفة،قال:فخرجنا من عنده،و جعل صاحب البغل يسترجع،فرحمته ممّا أفتي به أبو حنيفة،فأعطيته شيئا و تحلّلت منه.إلي أن قال ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام و أجابه.إلي أن قال:فقلت:إنّي كنت أعطيته دراهم و رضي بها و حلّلني،فقال:إنّما رضي بها و حلّلك حين قضي عليه أبو حنيفة بالجور و الظلم،ولكن ارجع إليه فاخبره بما أفتيتك به،فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك، الحديث (1).

الأمر الثالث: في تقسيمات الواجب

اشارة

منها:تقسيمه إلي المطلق و المشروط،و المراد بالأوّل ما كان التكليف ثابتا بدون تعليقه علي تقدير شيء غير الشرائط العامّة للتكليف من التمييز و القدرة و العقل و البلوغ.

و المراد بالثاني ما كان التكليف ثابتا بعد تحقّق شيء و لم يكن ثابتا قبل تحقّقه، و الاطلاق و الاشتراط إضافيّان،فإنّ جميع التكاليف حتّي الواجبات المطلقة هي بالنسبة إلي القدرة و التمييز و العقل مشروطة.

ثمّ إنّ مقدّمتهما تابعة لهما في الاطلاق و الاشتراط،فمقدّمة الواجب المطلق واجبة مطلقا بناء علي وجوب المقدّمة،و مقدّمة الواجب المشروط واجبة بشرط وجوب ذيها،هكذا قرّره جماعة من الاصوليّين.

أقول:إنّ وظيفة المولي جعل الحكم علي وفق المصلحة الموجودة،ثمّ جعله في معرض الوصول إلي المكلّف،بحيث لو فحص عنه لوصل إليه،و قد بيّن المولي في الواجب المشروط بأنّ تمام ما كلّف به العبد الذي لا يرضي المولي بتركه هو

ص: 110


1- وسائل الشيعة 13:255 ح 1.

وجوب الصلاة إن دخل الوقت،أو إن بلغ الصبي،أو إن طلع الفجر في الصوم، و هكذا نظائرها،ثمّ إنّ وظيفة العبد امتثال هذا الأمر بحكم العقل المستقلّ في مرحلة الامتثال،و المقدّمة دخيلة في الامتثال،و حينئذ للمكلّف بالنظر للمقدّمة ثلاث حالات:

أحدها:أن يعلم أنّه يتمكّن من فعلها بعد تحقّق شرط وجوب الواجب،فله أن يؤخّر فعلها إلي أن يجب ذو المقدّمة،و لا يتعيّن عليه أن يفعلها قبل فعليّة الوجوب.

ثانيها:أن يعلم أنّه لا يتمكّن من فعلها بعد فعليّة الوجوب،فيجب عليه بحكم العقل أن يفعلها قبل تحقّق شرط الوجوب؛لأنّ المولي كأنّه قال:لا حالة منتظرة لامتثال أمري إلاّ تحقّق هذا الشرط،و لا عذر لأحد في ترك فعل الواجب من ناحية عدم تحقّق هذا الشرط.

و بعبارة اخري:العقل الحاكم في مقام الامتثال يستقلّ بأنّ المولي أدّي وظيفته و يجب إطاعته،فيحكم بوجوب المقدّمة.

فمن علم أنّه لا يتمكّن من احراز القبلة بعد دخول الوقت،أو التستّر في الصلاة بثوب تصحّ الصلاة فيه،أو الماء و التراب للطهارة و نحوها،يجب عليه تحصيلها قبل الوقت.

و كذا الصبي يجب عليه التعلّم قبل البلوغ عقلا؛لأنّ الصبي يستقلّ عقله بأنّ من اعتقد بوجود اللّه تعالي،و بإرساله الرسل إلي الناس،و عدم إهماله الناس كالبهائم، يعلم بأنّ له أحكاما يجب الخروج عن عهدتها،فيجب عليه تعلّمها قبل البلوغ حتّي يمتثلها عند البلوغ؛لأنّ الشارع المقدّس قال:لا عذر في ترك امتثال الأحكام بعد أن يبلغ الصبيّ،و المفروض أنّ الصبي يعلم أنّ الأحكام الشرعيّة الكثيرة لا يمكن العلم بها حين البلوغ،فلذا يستقلّ عقله بأنّه يجب التعلّم قبل البلوغ،كما يستقلّ عقله باستحقاق العقاب علي قتل من لا يستحقّ القتل،فإنّه لا

ص: 111

يجوز له قبل البلوغ،و لو قتل مع استقلال عقله بقبحه و مات قبل بلوغه استحقّ العقاب،فلا يمكن المنع عن وجوب التعلّم عقلا،هذا حال غير المقدّمة الشرعيّة.

و أمّا ما سمّوه بالمقدّمة الشرعيّة،فهي ليست مقدّمة لواجب،بل هي واجبة كوجوب الجزء،فيجب شرعا علي الجنب في ليلة شهر رمضان أن يغتسل في الليل و يصوم.

و حاصل كلامنا في المقدّمة الغير الشرعيّة:أنّ من رجع إلي حكم العقلاء في امتثال أوامر الموالي للعبيد،يذعن بما ذكرنا من أنّ وجوب المقدّمة عقلا ليس تابعا لوجوب ذي المقدّمة في الاشتراط و الاطلاق،بل تابع لما لا يمكن تحصيله إلاّ به من الظرف،فيجب فعل مقدّمة الواجب المشروط إن علم عدم التمكّن من فعله بعد حصول شرط الوجوب مع العلم بحصوله،فإذا قال المولي لعبده:إن جاءنا ضيوف يوم الجمعة فأطعمهم،فإن علم بأنّه لا يقدر علي تحصيل الطعام يوم الجمعة وجب تحصيله قبل ذلك.

نعم إن دلّ دليل خاصّ علي أنّ الاعتبار في القدرة علي المقدّمة هي القدرة بعد تحقّق شرط الوجوب،فلا يجب تحصيلها قبله للدليل الخاصّ،و يؤيّد ما ذكرنا بعض الأخبار و الفتاوي التي قد تعرّض لها الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (1):

منها:خبر محمّد بن مسلم،عن أحدهما،سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ليس فيها ماء من أجل المراعي و إصلاح الابل،قال عليه السّلام:لا.و غيره فراجع.

و حكي ما ذكرناه من استقلال العقل بوجوب المقدّمة عن بعضهم،و ارتضاه، لكن في كلام له قال:لا محذور في أن يكون الشيء الواجب موقوفا علي مقدّمة يجب تحصيلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك4.

ص: 112


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 54.

الشيء،علي ما حقّقنا من أنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضا فعلي،إلي آخر كلامه (1).

أقول:لا حاجة إليه،بل لو صرّح المولي بأنّه لا تجب الصلاة قبل دخول الوقت و تجب بعد دخوله،كان الأمر ما ذكرناه.

ثالثها:أن يشكّ قبل الوقت في أنّه يتمكّن من فعل المقدّمة في الوقت،و الظاهر استقلال العقل بوجوب تحصيلها قبله فيما لا تجري العادة علي وجودها في الوقت بل مطلقا.

لكن قال الشيخ علي ما في التقريرات:و صورة الشكّ أيضا ممّا لا دخل لها بالمقام؛لأنّ المرجع في ذلك إلي الاصول العمليّة،و لعلّ الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان،و الظنّ ملحق إمّا بالعلم أو بالشكّ (2)انتهي.

فإن أراد عدم وجوب المقدّمة قبل الوقت،فوجوبها عقلي لا يكون مجري البراءة.و إن أراد عدم وجوب ذي المقدّمة لاحتمال عدم بقاء المكلّف إليه،فهو مدفوع ببناء العقلاء علي البقاء،هذا كلّه في الواجب المشروط بالوقت.

و أمّا لو كان الوجوب مشروطا بغيره،مثل إن جاء زيد فأكرمه،و مثل نذر«إن جاء زيد من السفر فاذبح قدّامه ذبيحة»فإن علم المجيء فيأتي فيه الأقسام المتقدّمة.و إن شكّ في المجيء و كان لا يتمكّن من تحصيل المقدّمة حين مجيئه، فهل له إجراء البراءة عن وجوب الاكرام لاحتمال عدم مجيئه،أو استصحاب عدم مجيئه،أو ليس له ذلك لأنّ وجوب امتثال التكليف بحيث لا يستند تركه إلي العبد وجوب عقلي،و لا عذر له إذا حصل الشرط؟لا يبعد أن يقال بأنّه يجب تحصيل المقدّمة؛لأنّ تركها إن أدّي إلي ترك الواجب بعد حصول شرطه مستند إلي العبد3.

ص: 113


1- تقريرات الشيخ ص 53.
2- تقريرات الشيخ ص 53.

لتقصيره في مقام الامتثال،فتأمّل.

الواجب المعلّق و المنجّز
اشارة

و منها:تقسيمه إلي المنجّز و المعلّق.و المراد بالثاني ما كان زمان الوجوب قبل زمان الواجب،كما إذا نذر في يوم السبت أن يصوم يوم الجمعة،و فيه أقوال:

الأوّل:أنّه غير الواجب المشروط؛بل هو من أقسام الواجب المطلق،و يترتّب عليه وجوب المقدّمة؛لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة في الاطلاق و الاشتراط، و المفروض أنّ ذا المقدّمة واجب فعلا،و إن كان زمان امتثاله متأخّرا،فهو نظير نذر صوم يوم الجمعة في يوم السبت مثلا.

الثاني:أنّه واجب فعلا و زمان الامتثال متأخّر،لكنّه من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر،و اختاره في المحاضرات (1).

الثالث:أنّه لا فرق بينه و بين الواجب المشروط إلاّ في التعبير،و هو المنصور عندنا؛لأنّا إذا راجعنا وجداننا و ما نطلبه فيما لو تجرّد طلبنا عن الكواشف اللفظيّة نجد أنّه:إمّا أن يكون في الفعل مصلحة علي كلّ تقدير،أو يكون فيه مصلحة علي تقدير خاصّ و في زمان خاصّ،و علي الثاني فالمطلوب الفعل في زمان خاصّ.

و يمكن التعبير عنه بعبارتين:احداهما تقييد الحكم أي الوجوب،بأن يقول:إن جاء يوم الجمعة فيجب إكرام زيد.ثانيتهما تقييد المتعلّق،بأن يقول:يجب إكرام زيد يوم الجمعة.

و هذا هو مراد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (2)،فإنّه بعد ما ادّعي وضوح عدم الفرق لبّا بين العبارتين،قال:و كيف كان فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغويّة قيدا للفعل،كما إذا قال:افعل في وقت

ص: 114


1- المحاضرات 2:348.
2- تقريرات الشيخ ص 52.

كذا،أو للحكم كما إذا قيل:إذا جاء وقت كذا افعل كذا.

ثمّ قال تأييدا لما ذكره ما حاصله:انّ اتّحاد مفاد العبارتين ظاهر علي مسلك العدليّة،بل علي مسلك غيرهم.أمّا علي المسلك الأوّل،فلأنّ المناط وجود المصلحة في المتعلّق،و إذا كان المصلحة في الفعل في زمان خاصّ،فالحكم تابع له،فإذا فرضنا أنّ الفعل ذو مصلحة في زمان خاصّ فهو الواجب،و لا فرق بين التعبيرين في ذلك،و ليس لقائل أن يقول:إنّ المصلحة في الفعل في زمان خاصّ تختلف باختلاف العبارتين.و أمّا علي الثاني،فلأنّ العاقل إمّا يريد شيئا علي تقدير أو مطلقا،فإن أراد علي تقدير فلا فرق بين التعبيرين انتهي ملخّصا.

و الحاصل أنّ قولنا«إن جاءك زيد فأكرمه»ليس إنشاء الاكرام فيه متحقّقا بعد مجيء زيد؛لأنّ الانشاء متحقّق سواء جاء زيد أو لم يجيء،و ذلك لأنّ العبارة المذكورة ليست إخبارا و لا غلطا إن لم يجيء زيد،فالتقييد راجع إلي المنشأ،أي:

لزوم الاكرام متحقّق بعد مجيء زيد،و هو متّحد مع جعل القيد للمتعلّق،بأن يقول:

أكرم زيدا يوم الجمعة.

و أمّا ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في التقريرات،من أنّ هيئة الأمر موضوعة بالوضع النوعي العامّ و الموضوع له الخاصّ،لخصوصيّات أفراد الطلب و الارادة الحتميّة الالزامية إلي آخر كلامه (1).

و قال في هذا البحث:فإنّ تقييد الطلب حقيقة ممّا لا معني له؛إذ لا إطلاق في الفرد الموجود المتعلّق بالفعل حتّي يصحّ القول بتقييده بالزمان أو نحوه،فكلّ ما يحتمل رجوعه إلي الطلب الذي يدلّ عليه الهيئة،فهو عند التحقيق راجع إلي نفس المادّة،و بعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعني الذي هو المناط في وجوب5.

ص: 115


1- تقريرات الشيخ ص 45.

المقدّمة (1)انتهي.

فلا نساعد عليه،لما سبق أنّ معني الهيئة معني الفعل،و هو معني عامّ،و الوضع و الموضوع له فيه عامّان،و ذلك لأنّ هيئة«افعل»تدلّ علي تلبّس المخاطب بالفعل إلزاما أو استحبابا أو إباحة،و تلبّسه بالفعل يقع علي وجوه من حيث الزمان و المكان و الآلة،فمعناه قابل للتقييد،فلا فرق بين إرجاع القيد إلي الهيئة أو إلي المادّة.

و أورد علي كلام الشيخ رحمه اللّه في الكفاية (2)بأنّه ينشيء من الأوّل علي التقدير الخاصّ،و صرّح بأنّ إنشاء أمر علي تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان.

أقول:إن أراد أنّ إنشاء إكرام زيد يكون بعد مجيئه،بحيث لا يكون إنشاء إن لم يجيء،كما أنّ النهار يوجد مع وجود الشمس و بعد طلوعها،فهذا غير معقول؛لأنّ الانشاء متحقّق.و إن أراد أنّ المنشأ يكون بعد مجيئه،فهذا هو الذي يشهد به الوجدان،و هو عين كلام الشيخ في التقريرات،و هذا معني أنّ الانشاء فعلي و المنشأ متأخّر،و لا فرق بين العبارتين في هذا المعني.

و أورد في الكفاية (3)علي كلامه في عدم الفرق بين العبارتين علي مسلك العدليّة و غيرهم بما لا يرد عليه،أو لم نفهم كيف يرد عليه.

و أقول تكرارا:إنّ التعليق إن كان علي الزمان أو علي الزماني،فلا يفرق أهل المحاورة في أداء المعني الواحد بالعبارتين؛لأنّهما تعبيران عن معني واحد،فلا فرق عندهم بين أن يقول الموصي:إذا متّ فثلث مالي لزيد،أو يقول:ثلث مالي لزيد بعد موتي،لكن ادّعي الاجماع علي عدم صحّة أداء العقود علي نحو التعليق،4.

ص: 116


1- تقريرات الشيخ ص 52.
2- كفاية الاصول ص 123.
3- كفاية الاصول ص 124.

و لو تمّ لا يرتبط بما نحن فيه.

ثمّ إنّنا لا ننكر اختلاف العبارتين في الجملة،فإنّ المتعارف فيما علم تحقّق الشرط هو التعبير بقولهم أكرم زيدا عند مجيئه،و فيما لم يعلم مجيئه هو التعبير بقولهم أكرم زيدا إن جاءك،من دون فرق بينهما لبّا،كما لا ننكر اختلافهما في بعض الآثار.

ثمّ لا يخفي أنّ ما ذكرناه هو أنّه لا فرق بين ما يسمّونه بالواجب المعلّق،و بين الواجب المشروط في وجوب الاتيان بمقدّماته المفوّتة عقلا،و إن كان الفرق بينهما موجودا من بعض الجهات الاخر،مثلا من استأجر دارا شهرا واحدا،و قال له الموجر:قد أجزت لك أن تتصرّف في الدار في الشهر الثاني أيضا،و قلنا بأنّه يجوز له أن يتصرّف في الشهر الثاني بكلّ تصرّف حتّي الموقوف علي الملك، فللمستأجر أن يوجر الدار شهرين.

و هذا بخلاف أن يقول له الموجر الأوّل:إن جاء الشهر الثاني،فأنت مأذون في التصرّف في الدار،فإنّه لا يجوز للمستأجر أن يوجر الدار شهرين؛لأنّه ليس مأذونا فعلا،بل هو مأذون بعد مجيء شهر،فتأمّل.

و نظيره ما ذكره في العروة الوثقي من الفرق بين أن يقول الناذر:إن جاء مسافري فللّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة،و بين أن يقول:للّه عليّ أن أزور الحسين عليه السّلام في عرفة عند مجيء مسافري،فعلي الأوّل يجب الحجّ إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره،و علي الثاني لا يجب،فيكون حكمه حكم النذر المنجّز الخ (1).

أقول:و تفصيل المسألة في الفقه.2.

ص: 117


1- العروة الوثقي،كتاب الحجّ،مسألة:32.
تتميم:

قد ظهر ممّا سبق أنّه يجب عقلا تحصيل المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط قبل تحقّق شرط الوجوب إن علم تحقّقه-أي شرط الوجوب-و عدم تمكّنه من تحصيلها بعد تحقّق الشرط،أو شكّ في تمكّنه منه،فيجب تحصيل العلم بالأحكام قبل البلوغ،و كذا في سائر الأمثلة التي ذكرها في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و غيرها.

و ظهر أنّ ما يقال من أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها اطلاقا و اشتراطا، ليس في محلّه؛لأنّ وجوب ذي المقدّمة شرعي،و وجوب المقدّمة عقلي،و العقل مستقلّ بوجوب تحصيل مقدّمات الواجب المشروط إن لم يعلم تمكّنه من تحصيلها بعد حصول الشرط.فما ذكروه من الوجوب في الموارد المذكورة،فهو الذي يستقلّ به العقل،و الوجوب فيها عقلي.و إن كان وجوب ذي المقدّمة مشروطا لم يتحقّق وجوبه.

هذا في غير المقدّمة الشرعيّة.و أمّا هي فواجبة شرعا،كوجوب غسل الجنابة علي الجنب في ليلة شهر رمضان للصوم.

ثمّ إنّ القائلين بتبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة في الاطلاق و الاشتراط تفصّوا عن الاشكال،أي وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها بوجوه:

أحدها:أنّ الايجاب في هذه الموارد نفسي لغيره لا لنفسه.

و فيه-مضافا إلي أنّ لازمه تعدّد العقاب عند ترك ذي المقدّمة-أنّ الظاهر كون الايجاب للمقدّمية لا للتهيّؤ.

ثانيها:القول بأنّ وجوب ذي المقدّمة في هذه الموارد فعلي و ظرف الواجب استقبالي،و سمّوه بالواجب المعلّق.

و فيه ما سبق من أنّه متّحد مع الواجب المشروط.

ص: 118

ثالثها:أنّ الوجوب في هذه الموارد فعلي غير تعليقي،لكنّه مشروط بالشرط المتأخّر.

و قد عرفت ما في الشرط المتأخّر.

رابعها:لزوم الاتيان بها بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في موطنه،لاحظ المحاضرات (1).

أقول أوّلا:من أين يحرز الملاك؟و لا طريق لنا إليه إلاّ الأوامر و النواهي.

و ثانيا:قد ذكرنا في بحث الترتّب أنّ الحكم و الملاك في الفعل متلازمان،فإن كان الملاك موجودا فالحكم موجود،و كذا العكس.

ثمّ إنّه أورد علي المختار من أنّ مقدّمة الواجب المشروط واجبة عقلا قبل وجوب الواجب في الوقاية،حيث قال:و اللازم من مقالتهم أن يطّرد الحكم في جميع الواجبات المشروطة،فتجب مقدّماتها قبل أوانها إذا علم بحصول شروطها، فيجب الغسل ليلة أوّل شعبان لصوم أوّل يوم من شهر رمضان،و السفر مع الرفقة متسكّعا في صفر،إذا علم بحصول استطاعته الحجّ في ذي الحجّة،إلي غير ذلك من اللوازم البعيدة بل الفاسدة إلي آخر كلامه (2).

أقول:لو كان جنبا آخر يوم من شعبان قبل الغروب،و يعلم أنّه لا يتمكّن من الغسل في الليل لبرودة الجوّ،و لا يوجد في الليل ماء حارّ ليغتسل به و كان متمكّنا من الغسل قبل الغروب،فهل يلتزم بأنّه لا يجب عليه أن يغتسل؟و أولي بالاشكال ما إذا علم عدم التمكّن من التيمّم في الليل أيضا،أو أنّه إن علم في آخر يوم من شعبان أنّه ليس له ما يتسحّر به و لا يوجد بعد دخول الليل،فهل يلتزم بأنّه لا يجب عليه تهيئة ما يتسحّر به؟و لا فرق بين طول الزمان و قصره.م.

ص: 119


1- المحاضرات 2:355.
2- وقاية الأذهان ص 133 ط قديم.

و أمّا مسألة الحجّ فلا يرد النقض؛لأنّ الشرط في وجوبه أن يكون مستطيعا، و هو أن يكون له زاد و راحلة،و يكون صحيحا في بدنه مخلّي سربه،و له وقت يسع المسير إلي الحجّ،و الاستطاعة عبارة عنها،و النصوص علي بعض ذلك مستفيضة، فمن تحقّق له هذه الشروط في أيّ وقت كان يجب عليه الحجّ،و إن كان قطع المسافة إليه يكون في سنتين،فالحجّ لو كان واجبا مطلقا لكان الواجب المسير إليه،و إن لم يكن مستطيعا بالمعني المذكور،لكنّه مشروط و بعد الاستطاعة يصير واجبا مطلقا.

ثمّ إنّه ذكر في المحاضرات (1)عدم وجوب التعلّم علي غير البالغ،و إن علم أنّه لا يتمكّن من امتثال الأحكام بعد البلوغ؛لأنّه لا تثبت عليه الأحكام قبل البلوغ ثبوتا معلّقا،و لا يجب عليه مراعاة عدم تفويت الملاك الملزم لرفع القلم عنه.

أقول:معني رفع القلم عنه حتّي يبلغ أنّه في أوّل زمان بلوغه يجري القلم عليه، و عليه فإذا بلغ فلا عذر له في ترك الأحكام،و إذا عرف الصبي بأنّه إذا بلغ فهو غير معذور في ترك العمل بالأحكام،استقلّ عقله بالتعلّم قبل البلوغ،بحيث إن ترك التعلّم و بلغ و ترك بعض الواجبات لعدم التعلّم قبل البلوغ استحقّ العقاب علي تركه،و لعلّه واضح.

تنبيه:

قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ الحكم يدور مدار المصلحة في المتعلّق،فإذا كانت الصلاة ذات مصلحة عند دخول الوقت،فلا بدّ أن يكون الحكم علي وفقها،سواء قال:تجب الصلاة عند دخول الوقت علي نحو الواجب المعلّق،أو قال:إذا زالت الشمس وجبت الصلاة،و لا فرق بين العبارتين في إفادة ذلك،و هذا مراد

ص: 120


1- المحاضرات 2:374.

الشيخ رحمه اللّه و هو عدم الفرق بين العبارتين لبّا.

ولكن قال في الكفاية:إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط بالمعني الذي يكون هو ظاهر المشهور و القواعد العربيّة لا الواجب المعلّق بالتفسير المذكور إلي آخر كلامه (1).

و قال بخلاف ذلك في الوقاية،قال:خفي علي غير واحد من الأساتيذ فزعموا أنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه يجعل الجميع من قبيل المعلّق و ينكر الواجب المشروط، و هذا كان معتقد أهل العلم في النجف الأشرف حتّي قدم عليهم السيّد الاستاذ، فعرّفهم بأنّ الشيخ الأعظم ينكر الواجب المعلّق و يجعل الجميع من قبيل المشروط إلي آخر كلامه (2).

أقول:المستفاد من بعض كلامه في التقريرات أنّه يري اتّحاد العبارتين لبّا و إن اختلفتا في التعبير،فلا فرق بين قولنا أكرم زيدا يوم الجمعة،و بين قولنا أكرم زيدا إن جاء يوم الجمعة.

تذنيب:

ظهر ممّا سبق أنّ الوجوب المشروط بشيء إنّما يصير فعليّا بعد تحقّق شرطه، و لا يجب تحصيل شرطه،فالحجّ إنّما يجب بعد حصول الاستطاعة و لا يجب تحصيل الاستطاعة.

و أمّا شرط الواجب،فيجب تحصيله،كالطهارة للصلاة بعد دخول الوقت،هذا فيما علم كون الشيء شرطا للوجوب،أو شرطا للواجب.

و أمّا إذا شكّ في ذلك،كما إذا شكّ في أنّ وجوب قضاء الصوم قبل مجيء شهر رمضان المقبل هل هو مطلق بالنسبة إلي المسافر،فيجب عليه أن يقيم و يصوم،أم

ص: 121


1- كفاية الاصول ص 128.
2- وقاية الأذهان ص 72.

أنّ وجوب القضاء إلي شهر رمضان المقبل مشروط بأن لا يكون مسافرا،ففيه تفصيل.

فإنّه إمّا أن يكون دليل الوجوب لفظيا،أو غير لفظي كإجماع و نحوه،و علي الأوّل:فإمّا أن يكون القيد المشكوك متّصلا أو منفصلا،فالأقسام ثلاثة:

الأوّل:أن يكون الدليل لفظيّا و القيد المشكوك كونه قيدا للوجوب أو للواجب متّصلا،كقولنا مثلا من أفطر في شهر رمضان وجب عليه القضاء قبل مجيء شهر رمضان المقبل،و كان حاضرا و شكّ في أنّ التقييد بالحضور شرط الوجوب،فلا يجب الفور في القضاء علي من كان مسافرا بين رمضانين،أو شرط الواجب فيجب علي المسافر بينهما الحضور و قضاء الصوم،و في مثل هذا المثال يكون الكلام مجملا لاحتفافه بما أوجب الاجمال.

الثاني:أن يكون الدليل لفظيّا،و دليل القيد منفصلا،كقولنا يجب القضاء علي من أفطر في شهر رمضان قبل مجيء رمضان المقبل مع قولنا منفصلا«لا صيام في السفر»و فيه احتمالان:

الأوّل:أنّه كالمتّصل لتساوي احتمالي رجوع القيد إلي الوجوب،و رجوعه إلي الواجب،فلا بدّ من الرجوع إلي الاصول العملية.

الثاني:لزوم تقييد المادّة-أي:رجوع القيد إلي الواجب لا إلي الوجوب- لوجوه:

أحدها:أنّ كون الصوم في الحضر لا في السفر متيقّن علي كلّ حال،سواء كان الوجوب مشروطا،أو كان الواجب مشروطا؛لأنّه لو كان الوجوب مشروطا فالصوم بعد الاقامة أيضا،و يشكّ في تقييد الهيئة،فهو شكّ بدوي يرفع بالاطلاق.

و اجيب عنه بأنّه لا متيقّن في البين؛لأنّ الحضور و ترك السفر يكون واجبا علي تقدير كونه قيدا للواجب،و لا يكون واجبا علي تقدير كونه قيدا للوجوب،فهما

ص: 122

متباينان،و قد أوضحه الشيخ رحمه اللّه في التقريرات،فراجع.

ثانيها:أنّ إطلاق الهيئة لحال وجود القيد و عدمه إطلاق شمولي،و إطلاق المادّة إطلاق بدلي،و الاطلاق الشمولي مقدّم علي الاطلاق البدلي.

و اجيب عنه بأنّ ذلك مسلّم في العامّ و المطلق،فالعموم الشمولي يتقدّم علي المطلق البدلي؛لأنّ دلالة العموم بالوضع،فيكون بيانا لتقييد المطلق.و أمّا المطلق الشمولي،فإنّما يثبت إطلاقه بمقدّمات الحكمة،كالاطلاق البدلي و لا ترجيح.

ثالثها:أنّ تقييد الهيئة يوجب عدم تحقّق اطلاقين،بخلاف تقييد المادّة،فإنّه يوجب تقييدا واحدا،و يبقي إطلاق الهيئة علي حاله،و الثاني مقدّم عرفا علي الأوّل؛لأنّه لا فرق عندهم بين التقييد بعد وجود الاطلاق،أو أن يعمل عملا يوجب عدم تحقّق إطلاقين.

أقول:لا يبعد أن يكون المرجع إطلاق الهيئة؛لأنّ قولنا من أفطر فليقض صومه قبل أن يأتي شهر رمضان المقبل،ظاهر في الوجوب مطلقا،فإذا ورد ما علم توقّف صحّة الصوم عليه كعدم السفر،و تردّد بين أن يكون شرطا للوجوب حتّي يقيّد إطلاق الوجوب،أو أنّه شرط للصحّة،فمقتضي الاطلاق أنّه ليس شرطا للوجوب.

و حاصل الكلام:أنّ توقّف وجود المادّة علي الشرط قطعي،أي:لا بدّ أن يكون الصوم في الحضر؛لأنّه لا يصحّ الصوم الواجب قضاء في السفر.و أمّا الشكّ في وجوبه علي المسافر لاحتمال كون الحضر شرط الوجوب،فينفي بإطلاق الوجوب،فيكون الحضور واجبا كسائر شرائط صحّة الصوم،مثل غسل الجنابة في الليل و نحوه،فتأمّل.

الثالث:أن يكون دليل الوجوب لبّيا،و لم يكن له إطلاق لفظي،و تردّد بين كون الوجوب مطلقا أو مشروطا،فمرجعه إلي الشكّ في أصل الوجوب،و هو مجري

ص: 123

البراءة،و للشيخ رحمه اللّه تفصيل في التقريرات،فلاحظ.

الواجب النفسي و الغيري
اشارة

و منها:تقسيمه إلي النفسي و الغيري،و لا يخفي أنّه ليس لنا واجب غيري،لما تقدّم من أنّ المقدّمة ليست واجبة شرعا،نعم يمكن تقسيمه إلي النفسي و الضمني، فإنّ الوضوء يمكن أن يكون واجبا لنفسه،كما إذا نذر أن يتوضّأ،و يمكن أن يكون واجبا ضمنا كوجوبه للصلاة،و حينئذ إذا تردّد الواجب بين كونه واجبا نفسيّا أو واجبا ضمنيّا،فلا يخلو أن يكون وجوبه مدلولا لدليل لفظي له إطلاق أو لا يكون كذلك.

أمّا الأوّل و هو أن يكون لدليله إطلاق،كما إذا ورد بعد دخول الوقت توضّأ، و تردّد بين كونه واجبا لنفسه،أو واجبا في ضمن الصلاة،فلو ترك الصلاة و ترك الوضوء،عوقب عقابين إذا كان الوضوء واجبا لنفسه،و عوقب عقابا واحدا إن كان واجبا ضمنا،و حينئذ يتمسّك بإطلاق وجوب التوضّأ علي وجوبه مطلقا و إن لم يصلّ،و ذلك لأنّ الوضوء علي كلا التقديرين واجب،سواء قيل بأنّ الوضع في الهيئة عامّ و الموضوع له خاصّ،أو الوضع عامّ و الموضوع له عامّ.

و ليس التقييد راجعا إلي الطلب،بأن يكون الطلب مقيّدا،بأن قال:توضّأ إن صلّيت،حتّي يقال:إنّ الموضوع له أفراد الطلب،و لا يمكن تقييد الفرد بل الطلب غير مقيّد،و المطلوب و هو الوضوء مردّد بين كونه مطلوبا استقلالا أو مطلوبا مع غيره و هو الصلاة،و حيث انّ المولي في مقام البيان،فلا بدّ أن يذكر جميع ما هو مطلوبه،فلو كان مطلوبه الشيء مع غيره و لم يذكر كونه مطلوبا مع غيره،فقد أخلّ ببيان الواجب في وقت الحاجة،و المولي الحكيم لا يفعل ذلك،فمقتضي الاطلاق وجوب الاتيان بمتعلّق الأمر علي كلّ حال.

نعم لو كان الوجوب الضمني مشروطا،كما إذا قال قبل وقت دخول الصلاة:

ص: 124

توضّأ إن دخل وقت الصلاة،و تردّد بين أن يكون واجبا لنفسه أو واجبا للصلاة بعد دخول وقته،فإذا قلنا بأنّ تقييد الهيئة لا يمكن،فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق.

و لا يخفي أنّه علي المختار من أنّ معني الهيئة معني الفعل و ليس معني حرفيا، و معني الفعل مطلق قابل للتقييد،فلا مجال لهذه الأبحاث.

و أمّا الثاني و هو أن لا يكون الوجوب مدلولا لدليل لفظي له إطلاق،بأن علم أنّ الوضوء إمّا واجب نفسا أو ضمنا،فله أقسام:

الأوّل:أن يدور الأمر بين الوجوب النفسي و بين الوجوب الضمني غير الفعلي، كما إذا علمت المرأة بوجوب الوضوء إذا زالت الشمس إمّا نفسا أو للصلاة، فحاضت قبل دخول الوقت،فإنّا بعد دخول الوقت نشكّ في الوجوب النفسي فقط؛ لانتفاء الوجوب الضمني بعدم وجوب الصلاة عليها،فتجري البراءة،كما في الكفاية (1)من أنّ التكليف بالغيري-الضمني عندنا-إن لم يكن فعليا يكون الشكّ بدويا.

الثاني أن يكون الوجوب الضمني فعليّا،كما إذا تردّد في أنّه نذر الوضوء أو نذر صلاة جعفر مثلا،فإنّه يعلم بوجوب الوضوء نفسا أو ضمنا،فهل يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الصلاة أو لا يجب؟احتمالان:

أحدهما:أنّه يجب الوضوء علي كلّ حال و يشكّ في وجوب الصلاة،و الأصل البراءة.

قال في المحاضرات:إنّ وجوب الوضوء معلوم تفصيلا،سواء كان نفسيّا أو غيريا،و لا مانع من الرجوع إلي أصالة البراءة عن وجوب الصلاة للشكّ فيه و عدم قيام حجّة عليه إلي آخر ما أفاده (2).0.

ص: 125


1- كفاية الاصول ص 138.
2- المحاضرات 2:390.

ثانيهما:وجوب الصلاة أيضا؛لأنّ وجوب الوضوء نفسا مغاير لوجوبه ضمنا، و العلم قد تعلّق بالخارج و قد نجزه،فيجب الخروج عن الاشتغال اليقيني؛لأنّ العلم قد تعلّق بوجوب الوضوء،أو بوجوبه مع الصلاة،فيدور الأمر بين وجوب الوضوء بشرط لا و بين وجوبه بشرط شيء،و هما متباينان.و لا يبعد قوّة هذا الوجه.

تذنيبات:
التذنيب الأوّل:أنّ المقدّمات التي ليست شرعيّة لا ثواب عليها و لا عقاب علي تركها

، فإن قصد بها وجه اللّه و الاتيان بها ليتمكّن من امتثال ذي المقدّمة اثيب عليها.

و أمّا المقدّمة الشرعيّة،فقد سبق أنّه ليس لنا مقدّمة شرعيّة،و مثل الوضوء و نحوه واجب كوجوب أجزاء الصلاة.

و قال في المحاضرات:إنّ فعل المقدّمة بقصد التوصّل بها إلي ذي المقدّمة يترتّب عليه ثواب الانقياد (1).

أقول:مجرّد قصد التوصّل و لو لأجل اللابدّية لا يجعل فعلها له تعالي،و لا يوجب ترتّب الثواب.

التذنيب الثاني:قال في الكفاية:إنّ الأمر الغيري توصّلي،فكيف صارت الطهارات

الثلاث عبادات؟

و أجاب بأنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة و عبادة (2).

أقول:الطهارات و ستر العورة و الاستقبال واجبات في الصلاة كوجوب الأجزاء،لكن ثبت اعتبار قصد التقرّب في الطهارات،و لا يعتبر في ستر العورة، و يتحقّق قصد التقرّب بفعل الطهارات للّه تعالي،أو قصد الأمر بالصلاة،أو قصد الأمر بالكون علي الطهارة الذي هو مطلوب شرعا.

ص: 126


1- المحاضرات 2:317.
2- كفاية الاصول ص 139.

ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة هو وجوب الوضوء علي من لم يكن علي وضوء إذا أراد أن يصلّي،و أمّا من كان علي وضوء،فيجب عليه أن لا ينقضه و يبقيه إلي آخر الصلاة،أو يتوضّأ إن أبطل وضوءه.

ثمّ إنّ الوضوء مستحبّ نفسي،فكيف يصير واجبا للصلاة؛فإنّه يستلزم اجتماع الضدّين؟

و اجيب (1)عنه بأنّ المرتفع حدّ الاستحباب لا ملاكه،فيصحّ قصد الاستحباب.

و هذا الكلام محلّ إشكال؛لأنّ لازم رفع حدّ الاستحباب هو ارتفاع الأمر الاستحبابي و بقاء ملاكه،فلا بدّ أن يقصد الملاك الاستحبابي لا الأمر الاستحبابي.

أقول:يمكن أن يقال:إنّ الوضوء مستحبّ نفسي،أو أنّ رفع الحدث أي الكون علي الطهارة مستحبّ نفسي،و الوجوب يتعلّق باتيان هذا المستحب،كأمر الوالد ابنه بصلاة الليل إذا وجب امتثاله،فإنّه يجب عليه أن يصلّي صلاة الليل بقصد أمرها الاستحبابي.

نعم إن كان علي وضوء،فالوجوب يتعلّق بإبقاء الوضوء من أوّل الصلاة إلي آخره،هذا علي المختار من استحباب الوضوء لرفع الحدث نفسا و وجوبه شرطا شرعا للصلاة،و الأولي أن يقال:إنّ الوضوء يجب للصلاة،كما يجب الركوع لها، فإذا أراد أن يصلّي يجب أن يتوضّأ للصلاة.نعم له أن يكتفي بالوضوء المستحبّ الذي توضّأ حيث لم يكن مريدا للصلاة.

و علي مختار القوم من استحبابه مقدّمة و وجوبه مقدّمة،فلا نعقل اتّصاف الوضوء في ضيق الوقت بالاستحباب بمعني جواز تركه،و بالوجوب بمعني عدم جواز تركه،بل و كذا في سعة الوقت،فلا بدّ من القول بعدم اتّصافه بالوجوب إن لم3.

ص: 127


1- المحاضرات 2:403.

يلحقه الصلاة،و باتّصافه بالوجوب فقط إن أرادها و بقاء ملاك الندب،و تفصيله في باب الوضوء.

التذنيب الثالث:ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي

قال في المحاضرات:اختلفوا في وجه ترتّب الثواب علي امتثال الواجب النفسي،فذهب معظم الفقهاء و المتكلّمين إلي أنّه بالاستحقاق،و ذهب جماعة منهم المفيد رحمه اللّه إلي أنّه بالتفضّل،و الصحيح أن يقال:إنّه لا يستحقّ علي المولي الثواب،كاستحقاق الأجير للاجرة علي المستأجر،و يستحقّه بمعني أنّه يصير بالامتثال أهلا لتفضّل المولي الثواب عليه،فقد أصبح النزاع لفظيا (1).

أقول:قيل:إنّ للعبد الاعتراض علي اللّه أنّه لماذا خلقه؟و جوابه أنّه تعالي خلقه ليكسب بعمله الجنان و لا يدخل النار،فالجنّة جزاء عمله،فهو يستحقّ استحقاق الأجير،و إلاّ كان اعتراضه علي أنّه لماذا خلقه؟في محلّه.و في الأخبار:العبادة علي ثلاثة أقسام،منها العبادة لدخول الجنان،و تلك عبادة الاجراء.

و لا يخفي أنّه لا يضرّ الجهل بهذا المطلب،فنحن مسلّمون لما هو الواقع.

الواجب الأصلي و التبعي

و منها:تقسيمه إلي الأصلي و التبعي،و ظاهر هذا التقسيم أنّ وجوب واجب إن لم يكن تابعا لواجب آخر فهو أصلي،و إن كان تابعا لواجب أصلي فهو تبعي،فإن اريد مقام جعل الحكم،بأن يكون جعل حكم بالأصالة،و جعل حكم بالتبع،فلا يحضرني مورد كذلك بل لا وجه له.و إن اريد في مقام الاثبات و الدلالة،فهو معقول.

و إن اريد من التبعي المقدّمة الواجبة،فهو معقول لو سلّم وجوبها،ولكن قال في الكفاية:إنّ المراد تبعيّة الارادة للارادة إذا لم يلتفت إلي التبعيّة تفصيلا،و إن التفت

ص: 128


1- المحاضرات 2:395.

يكون أصليا،و الواجب الغيري كالمقدّمة ينقسم إلي الأصلي و التبعي،لكن الواجب النفسي لا ينقسم،إلي آخر ما أفاده (1)،و لا ثمرة مهمّة.

ثمّ إنّه كان ينبغي تقديم هذا التقسيم علي التنبيهات،ولكن تعرّض له في الكفاية في هذا المقام و نحن اتّبعناه.

الأمر الرابع تبعية المقدّمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط

اشارة

قال في الكفاية (2):إنّ وجوب المقدّمة بناء علي الملازمة ليس مشروطا بإرادة ذي المقدّمة،و لا يعتبر في وقوعها علي صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بقصد التوصّل بها إلي ذي المقدّمة،و لا بترتّب ذي المقدّمة عليها،بحيث لو لم يترتّب عليها لكشف عن عدم وقوعها علي صفة الوجوب.

أمّا الأوّل،فلأنّ وجوب المقدّمة بناء علي الملازمة يتبع في الاطلاق و الاشتراط وجوب ذي المقدّمة،فكما أنّ وجوب ذي المقدّمة غير مشروط بإرادته،و إلاّ أدّي إلي إباحته،فكذلك وجوب المقدّمة.

و أمّا الثاني،فلأنّ الوجوب لم يكن بحكم العقل إلاّ لأجل المقدّمية،و توقّف ذي المقدّمة عليها واقعا،سواء قصد التوصّل بها إلي ذيها أم لا،فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدّمة لإنقاذ غريق لا حراما،و إن لم يلتفت إلي التوقّف و المقدّمية،غاية الأمر يكون حينئذ متجرّيا.

و أمّا الثالث،فلأنّه لا يعتبر في الواجب أيّ واجب كان إلاّ ما له دخل في غرضه الداعي إلي ايجابه،و ليس الغرض من المقدّمة إلاّ التمكّن من فعل ذي المقدّمة، و هو يتحقّق بفعلها،سواء ترتّب عليها ذو المقدّمة أم لا.

أقول:أمّا ما ذكره أوّلا و ثانيا فلا بأس به،بناء علي وجوب المقدّمة،ولكن في

ص: 129


1- راجع:كفاية الاصول ص 135.
2- كفاية الاصول ص 142.

المثال المذكور و هو دخول الدار لإنقاذ الغريق صور:

الصورة الاولي:من لم يعلم بغريق في ملك الغير لا يكون مكلّفا بإنقاذه؛لعدم وصول وجوب الانقاذ إليه،و لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،فلا تكليف بواقع لم يصل إلي المكلّف،و حينئذ أي مع عدم العلم بوجود غريق في الدار إن دخل في ملك الغير كان حراما؛لأنّه دخل في ملك الغير بغير إذنه.نعم يجب عليه بعد العلم بالغريق أن ينقذه،نظير من دخل في ملك الغير بغير إذنه،و بعد دخوله وقع في الماء نفس محترمة،فإنّه يجب عليه إنقاذه.فتأمّل.

الصورة الثانية:من رأي غريقا في ملك الغير،فهو مكلّف بالانقاذ،فإن دخل في ملك الغير بقصد عدم الانقاذ فأنقذ،كان دخوله جائزا واقعا علي إشكال،و متجرّيا فيحرم بعنوان التجرّي بناء علي حرمة التجرّي.

الصورة الثالثة:من رأي غريقا في ملك غيره،و اعتقد أنّه يقدر علي إنقاذه، و دخل في ملك الغير و لم يقدر علي الانقاذ،فإن دخل بقصد التوصّل إلي الانقاذ كان معذورا،و إن دخل بدون قصد التوصّل إلي الانقاذ كان حراما.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قصد التوصّل يوجب رفع الحرمة عن المقدّمة في الصورة الثالثة و بعض الموارد.

ثمّ إنّه يمكن الانتصار للقول الأوّل المختار لصاحب المعالم بأنّه لا دليل علي أنّ وجوب المقدّمة تابعة لوجوب ذيها في الاشتراط و الاطلاق،فيمكن أن يكون ذو المقدّمة واجبا مطلقا،أي:سواء أراده أو لم يرده،و تكون المقدّمة واجبة عند إرادة ذي المقدّمة؛لأنّ الغرض منها التوصّل إلي الواجب،و عند عدم الارادة يكون ايجاب المقدّمة لغوا.

ثمّ إنّه قد تحقّق ممّا ذكرناه عدم وجوب المقدّمة،فلا مجال لهذه الأبحاث.و لو سلّم الوجوب،فالواجب الحصّة التي يترتّب عليها ذو المقدّمة؛لأنّ ايجاب غيرها

ص: 130

لغو،و هذا مختار صاحب الفصول،و صاحب الكفاية حكي استدلال صاحب الفصول علي وجوب ذي المقدّمة الموصلة و أجاب عنه.

و من جملة ما استدلّ به في الفصول أنّه قال:الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بأنّي اريد المقدّمة التي يترتّب عليها الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه.

و أورد عليه في الكفاية فقال:إنّه محلّ نظر؛لأنّه لو صرّح كذلك لزم أن لا يكون ترك الواجب عصيانا؛لأنّ ايجاب ذي المقدّمة يتوقّف علي جواز المقدّمة، و جوازها يتوقّف علي ترتّب ذي المقدّمة،فيكون ايجاب ذي المقدّمة موقوفا علي حصوله،و هو محال؛لأنّه تحصيل للحاصل،و مع عدم الترتّب لا تكون المقدّمة جائزة،فلا يقدر شرعا علي العصيان (1).

أقول:الظاهر أنّ الدخول في ملك الغير إن لم يترتّب عليه إنقاذ الغريق يكون حراما،فيصحّ أن يصرّح بأنّه يجوز الدخول إن أنقذت الغريق،و لا يجوز إن لم تنقذ،و حينئذ إن لم يكن قادرا علي الانقاذ لعمق الماء و نحوه،فليس مكلّفا بالانقاذ،و أمّا إن كان قادرا،فإنّه يجب عليه الدخول في ملك الغير و إنقاذ الغريق، و حينئذ إن دخل و لم ينقذ اختيارا فعل الحرام،و هو الدخول في ملك الغير و ترك واجبا و هو الانقاذ،فما ذكره في الفصول هو الصحيح.

ثمّ إنّ الثمرة بين القول بوجوب المقدّمة مطلقا،و القول بوجوب خصوص الموصلة منها،تظهر في صحّة العبادة المزاحمة لواجب أهمّ،فإنّها تقع فاسدة بناء علي وجوب المقدّمة مطلقا؛لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للازالة،فإذا كان واجبا مطلقا كان فعل الصلاة حراما،و الحرمة في العبادة توجب الفساد،و أمّا بناء علي القول بوجوب المقدّمة الموصلة،فلا تفسد العبادة؛لأنّ الواجب هو ترك الصلاة المترتّب0.

ص: 131


1- كفاية الاصول ص 150.

عليه فعل الازالة،و مع ترك الازالة لا يكون ترك الصلاة واجبا؛لأنّه ليس موصلا إلي فعل الازالة،و قد ارتضاه في الكفاية و غيره في غيرها.

أقول:سيأتي في بحث أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا،أنّه يرد علي دعوي مقدّمية ترك الصلاة للازالة،أوّلا:أنّ ترك الصلاة ليس مقدّمة للازالة.و ثانيا:أنّ مقدّمة الواجب ليست واجبة.و ثالثا:أنّ ترك الواجب ليس حراما،كما أنّ ترك الحرام ليس واجبا.و رابعا:أنّه لو سلّم الجميع فالوجوب إن كان غيريّا،فالنهي أيضا يكون غيريّا،و هو لا يوجب الفساد،فتأمّل.

تذنيبان:
التذنيب الأوّل:قال في الكفاية:البحث عن ملازمة ايجاب شيء لايجاب مقدّمته مسألة

اصوليّة

؛لأنّ نتيجتها تقع في طريق الاستنباط،فإذا قلنا بالملازمة بمعني أنّ العقل يدرك وجدانا أنّ ايجاب شيء و إن لم يكن مدلول دليل لفظي بل ثبت بإجماع يستلزم ايجاب مقدّمته،كما سيأتي في الاستدلال علي الوجوب،فتكون المسألة عقليّة اصوليّة،و نتيجتها وجوب المقدّمة شرعا،و هذه الملازمة غير اللابدّية العقليّة في مقام الامتثال كما هو واضح (1).

قلت:سبق في أوّل البحث احتمال كون المسألة فقهيّة.

التذنيب الثاني:ذكروا ثمرات للقول بوجوب المقدّمة شرعا:

احداها:في النذر،فإن نذر الاتيان بواجب،أي:بما صدق عليه الواجب،يبرّ نذره بالاتيان بالمقدّمة،كما يراه صاحب الكفاية.

ثانيتها:حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات كثيرة؛ لصدق الاصرار علي الحرام بذلك.

ص: 132


1- كفاية الاصول ص 153-154.

و أورد عليه في الكفاية بأنّه عند ترك احدي المقدّمات يتحقّق ترك ذي المقدّمة،و معه لا يجب سائر المقدّمات لعدم الحاجة إليها.

و فيه أنّه بناء علي الملازمة،أي:ترشّح إرادة المقدّمات من إرادة ذيها،قد تحقّق وجوب المقدّمات،و يكون ترك احداها تركا لجميعها.

و أورد عليه في المحاضرات (1)بعدم صدق الاصرار.

ثالثتها:عدم جواز أخذ الاجرة عليها.

و فيه أنّه لو كان لها نفع عائد إلي الغير،فليس وجوبها وجوبا مجّانيا،فيجوز أخذ الاجرة إن كان توصّليا،و يكون من الداعي للاتيان بالعمل قربيّا إن كان تعبّديا.

رابعتها:إن كان المقدّمة غير منحصرة في الحرام،كان الفرد المحرّم مجمعا للأمر و النهي.

تأسيس الأصل في المسألة:

إذا شكّ في ترشّح الارادة من ذي المقدّمة إلي المقدّمة،فالأصل عدم وجود إرادة المقدّمة؛لأنّ إرادة ذي المقدّمة حادثة مسبوقة بالعدم،كإرادة المقدّمة و قد علم حدوث إرادة ذي المقدّمة و يشكّ في حدوث إرادة المقدّمة،و الأصل عدمه.

و يجوز إجراء الأصل في عدم وجود الملازمة؛لأنّ وجود الملازمة موقوف علي تحقّق إرادة ذي المقدّمة،و قبلها لم تكن الملازمة موجودة خارجا،فإذا وجدت إرادة ذي المقدّمة يشكّ في وجود الملازمة،و الأصل عدمها.و في الكفاية (2)منع عن استصحاب عدم الملازمة،و أجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة،أي:عدم إرادتها،لكن لا يبعد جريانهما.

ص: 133


1- المحاضرات 2:429.
2- كفاية الاصول ص 156.
الأدلّة التي اقيمت علي وجوب المقدّمة و المناقشة فيها
اشارة

إذا تمهّدت الامور الأربعة و تبيّنت ثمرة المسألة،فقد استدلّ علي وجوب المقدّمة بامور:

الأوّل:أنّه لو لم تكن واجبة شرعا جاز تركها،و إذا تركها لم يتمكّن من فعل الواجب،فلا عصيان في تركه؛لأنّ تركه مستند إلي ترك المقدّمة،و تركها مستند إلي تجويز الشارع.

و فيه أنّ جواز تركها شرعا لا يستلزم جواز تركها عقلا من حيث توقّف امتثال الواجب عليها.

الثاني:الوجدان،و حيث انّه أقوي شاهد علي أنّ الانسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها،بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله و يقول مولويّا:ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا،إلي آخر ما أفاده في الكفاية (1).

و فيه أوّلا:أنّه ليس كلّ إرادة حكما مولويّا،بل الحكم المولوي هو الالزام المستبطن للعقاب علي تركه،و لا عقاب علي ترك المقدّمة.

و ثانيا:أنّ العقل مستقلّ في الحكم بالاطاعة و الامتثال،و الاتيان بالمقدّمة دخيل في الامتثال،و لا دخل للمولي فيه،فليس له أن يجعلها في قالب الطلب مولويا.

الثالث:وجود الأوامر الغيريّة في الشرعيّات و العرفيّات.

و فيه أنّ الأوامر الغيريّة في الشرعيّات مثل الطهارة و الستر و الاستقبال واجبات ضمنيّة كوجوب الأجزاء،و الأوامر الغيريّة في العرفيّات كلّها أوامر

ص: 134


1- كفاية الاصول ص 156-157.

إرشاديّة.

ثمّ لا يخفي أنّ مقتضي هذه الأدلّة هو ترشّح الارادة من ذي المقدّمة إلي المقدّمة التي يترتّب عليها ذوها،فلا بدّ من القول علي تقدير تسليم الملازمة بوجوب المقدّمة الموصلة،فإنّ من أراد شيئا لا يريد ما لا يوصل إليه تبعا لإرادة ذلك الشيء.

و أمّا التفصيل بين السبب و غيره،بوجوب المقدّمة السببيّة لعدم القدرة علي المسبّب،فالأمر به أمر بالسبب حقيقة،فلا وجه له،لأنّ القول بأنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسبب حقيقة يرجع إلي انكار المقدّمية،أي:كون وجوب السبب غيريّا،بل يكون وجوبه نفسيّا،و هو غير صحيح؛لأنّ التكليف من الوجوب أو الحرمة تابع للمصلحة و المفسدة،و هما موجودان في المسبّب،و هو مقدور بالقدرة علي سببه، فالأمر المتعلّق بالمسبّب هو الأمر المولوي.

و أمّا التفصيل بين الشرط الشرعي و غيره بوجوب الشرط الشرعي وجوبا غيريّا،و عدم وجوب غيره،فقد استدلّ عليه بأنّه لو لا وجوبه شرعا لم يكن شرطا.

و أجاب عنه في الكفاية أوّلا:بأنّ الشرط الشرعي يرجع إلي العقلي؛لأنّ الأمر به إرشاد إلي الشرطيّة،و توقّف المشروط علي الشرط عقلي.

و ثانيا:أنّ الأمر الغيري يتعلّق بمقدّمة الواجب،فلو كان مقدّميته موقوفة علي تعلّق الأمر الغيري به لدار،فلا بدّ و أن يجعل الأمر به إرشادا إلي شرطيّته،ثمّ بعد ثبوت شرطيّته يتعلّق الأمر الغيري به،كغيره من الشرائط العقليّة (1).

أقول:الصحيح ما أجاب به إذا قلنا بأنّ الشرط الشرعي واجب غيري،لكن سبق أنّا نقول:إنّ الشرط الشرعي واجب ضمني كالجزء،بلا فرق بينهما في تعلّق9.

ص: 135


1- كفاية الاصول ص 159.

الأمر بهما،و علي هذا فإن قلنا بوجوب المقدّمة كان مختصّا بغير الشرط الشرعي.

تتمّة:

قال في الكفاية:لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب،فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة (1).

أقول:الاستحباب بمعني ترتّب الثواب علي فعله موقوف علي الاتيان بها للّه تعالي،و بدونه يكون مستحبّا توصّليا.

و قال في الكفاية:إنّ مقدّمة الحرام علي قسمين:

الأوّل:ما يتمكّن معه من ترك الحرام اختيارا،فلا يترشّح من طلب تركه طلب تركها،فلو فرض أنّه لم يكن لحرام مقدّمة يزول معها اختيار ترك الحرام لم يكن مقدّمته حراما،و حينئذ يمكن أن يكون فعل الحرام مستندا إلي مقدّمة غير اختياريّة،و هي لا تتّصف بالحرمة.

الثاني:أن لا يتمكّن معه من فعل الحرام اختيارا،و يترشّح من طلب ترك الحرام طلب تركها،فتكون هذه المقدّمة حراما غيريّا (2).

أقول:ما ذكره من الترشّح مبنيّ علي تسليم ذلك في مقدّمة الواجب،لكن سبق منعه.

فصل في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟فيه أقوال،ثالثها:التفصيل بين الضدّ العامّ و هو ترك المأمور به،و الضدّ الخاصّ و هو كلّ فعل وجودي مضادّ له، فيقتضي الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العامّ دون الضدّ الخاصّ.

ص: 136


1- كفاية الاصول ص 159.
2- كفاية الاصول ص 159-160.

التحقيق أنّه لا يقتضي النهي عن الضدّ مطلقا،كما أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه،و ذلك لأنّ الايجاب تابع لوجود المصلحة في المتعلّق،و النهي تابع لوجود المفسدة في المتعلّق،و لا ينحلّ الحكم الواحد إلي حكمين،فالصلاة واجبة،و ترك الصلاة ليس بحرام،و الخمر حرام شربه،و ليس ترك الشرب واجبا.

نعم ربّما يكون في الفعل مصلحة و في الترك مفسدة،فلا بدّ من ايجاب الفعل و تحريم الترك استقلالا،كصلة الوالدين فإنّ فعلها واجب و تركها عقوق حرام، و ليس ذلك من اقتضاء الايجاب حرمة الترك،أو النهي وجوب الفعل.

ثمّ إنّه يستدلّ لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ بوجوه،بعضها مختصّ بالضدّ الخاصّ،و بعضها بالضدّ العامّ،و ما يمكن أن يستدلّ به عليه وجوه:

الأوّل:أنّ الأمر بما يجب فعله فورا يقتضي وجوب مقدّمته،و ترك ضدّ المأمور به مقدّمة لفعله،بداهة توقّف إزالة النجاسة عن المسجد فورا علي ترك الصلاة،فإذا وجب ترك الصلاة حرم فعلها؛لأنّ ما يكون تركه مطلوبا يكون فعله مبغوضا، و حرمة الصلاة توجب فسادها؛لأنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها.

و قد أفتي العلاّمة بالبطلان قال في القواعد:و يجب علي المديون السعي في قضاء الدين،إلي أن قال:و لا تصحّ صلاته في أوّل وقتها،و لا شيء من الواجبات المتأتّية في أوّل أوقاتها قبل القضاء مع المطالبة،و كذا غير الدين من الحقوق كالزكاة و الخمس.قال في مفتاح الكرامة بعد العبارة المذكورة:كما صرّح بذلك في السرائر و المختلف و التذكرة و مجمع الفائدة (1).

و فيه أوّلا:أنّ ترك أحد الفعلين الضدّين ليس مقدّمة لفعل الآخر؛لأنّ الفعل الاختياري هو الفعل المسبوق بالارادة،و إذا تحقّقت إرادة الازالة لم يوجد إرادة3.

ص: 137


1- مفتاح الكرامة 5:10،و راجع:السرائر 2:303.

الصلاة،من غير فرق بين كون الفعل الاختياري موجودا أو لا،فإذا تحقّقت إرادة القيام مثلا زالت إرادة الجلوس بقاء،فلا يتوقّف فعل أحد الضدّين علي ترك الفعل الاختياري المضادّ له،سواء كان الفعل الاختياري موجودا أو لم يكن موجودا، فلا موقع لتفصيل المحقّق الخوانساري بين الضدّ الموجود و غيره.

و ثانيا:أنّ مقدّمة الواجب ليست واجبة،كما تقدّم.

و ثالثا:أنّ القائل بوجوب المقدّمة إنّما يقول به لاستلزام إرادة ذي المقدّمة إرادة مقدّمته،كما تقدّم،و واضح أنّ إرادة ذي المقدّمة إنّما تستلزم إرادة المقدّمة التي يترتّب عليها ذوها لا مطلق المقدّمة و إن لم يترتّب عليها،و فيما نحن فيه يكون المطلوب ترك الصلاة الذي معه إزالة النجاسة،فإذا لم يزل النجاسة عن المسجد،فليس ترك الصلاة حينئذ مطلوبا.

و رابعا:أنّ وجوب ترك الصلاة وجوب غيري لا لمصلحة فيه،و لازمه أنّ النهي عن الصلاة نهي غيري لا لمفسدة و مبغوضيّة في الصلاة،فالنهي و إن كان مولويّا لكن النهي المولوي الغيري عن العبادة لم يثبت اقتضاؤه بطلانها،فتأمّل.

الوجه الثاني:أنّ فعل الازالة ملازم لترك الصلاة،و المتلازمان متّحدان في الحكم،فإذا كانت الازالة واجبة،فيكون ترك الصلاة واجبا.

و فيه:أنّه لا يمكن اختلاف حكم المتلازمين بأن يكون أحدهما واجبا و الآخر حراما،و أمّا اتّحادهما في الحكم فلا وجه له،فإذا كان فعل الازالة واجبا لم يكن ترك الصلاة محكوما بالحرمة،و أمّا أنّه محكوم بالوجوب فلا وجه له.

الوجه الثالث:انّ الايجاب هو طلب الفعل مع المنع عن الترك،فكلّ ايجاب و إن كان لدليل لبّي من اجماع و نحوه عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن تركه.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا يكون الوجوب إلاّ طلبا بسيطا و مرتبة وحيدة

ص: 138

أكيدة من الطلب لا مركّبا من طلبين (1)انتهي،و هو متين.

و أقول:بل لو كان الوجوب طلب الفعل مع المنع عن تركه،كان الترك حراما لا الضدّ الخاصّ أي الصلاة،فإنّه ملازم للترك و ليس عين الترك.

الرابع:أنّه لا يجوز الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد فورا،أو بأداء الدين المطالب به مع الأمر بالصلاة في زمان واحد؛لعدم قدرة المكلّف علي فعلهما في زمان واحد،و كذلك كلّما دار الأمر بين الأهمّ و المهمّ لم يجز الأمر بهما في زمان واحد لعدم القدرة عليهما،و حيث انّ الأمر بالازالة فوريّ،و كذلك الأمر بالأهمّ متعيّن عند المزاحمة مع المهمّ،فيتعيّن الأمر بالازالة و الأمر بالأهمّ،فلا أمر بالصلاة و لا بالمهمّ،فتبطل العبادة لتوقّفها علي الأمر بها،فإذا وجبت إزالة النجاسة عن المسجد لم تصحّ الصلاة إن ترك الازالة لعدم الأمر بالصلاة.

و اجيب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل:أنّ عدم الأمر بالمهمّ:إمّا لفقد جزء أو شرط أو وجود مانع،و إمّا لأنّ المكلّف لا يقدر علي امتثال الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ،فينتفي الأمر بالمهمّ و يبقي ملاكه،و حيث إنّ الصلاة واجدة لأجزائها و شرائطها و فاقدة لموانعها؛لأنّه ليس من شرائطها عدم اشتغال ذمّة المكلّف بواجب،كما يشترط في الصوم المندوب أن لا يكون علي المكلّف صوم واجب،و إنّما ارتفع مجرّد الأمر بها، فيصحّ التقرّب بمحبوبيّتها الذاتيّة للّه تعالي.

الوجه الثاني:ثبوت الأمر بالمهمّ و يسمّي بالترتّب،و لهم في ذلك تقريرات ثلاثة:

الأوّل:أنّ عدم الأمر بالمهمّ إنّما يكون لأجل عدم القدرة علي امتثاله و علي5.

ص: 139


1- كفاية الاصول ص 165.

امتثال الأهمّ،فإذا فرض وجود القدرة علي امتثال المهمّ،بقي الأمر به علي حاله، و المكلّف لا يقدر علي فعل المهمّ و فعل الأهمّ لو كان وجوب المهمّ مطلقا غير مقيّد بعصيان الأهمّ،و أمّا إذا عصي الأمر بالأهمّ،فيكون قادرا علي المهمّ،فيقيّد الأمر بالمهمّ بعصيان الأمر بالأهمّ في ظرفه علي نحو الشرط المتأخّر،أي:افعل المهمّ إن تحقّق منك عصيان الأهمّ بعد ذلك،أو يقيّد الأمر بالمهمّ بالعزم علي العصيان علي نحو الشرط المتقدّم أو المقارن،أي:إن عزمت علي عصيان الأهمّ فافعل المهمّ.

الثاني:ما ذكر في التقرير الأوّل مع جعل الشرط نفس عصيان الأهمّ علي نحو الشرط المقارن،أي:افعل الأهمّ فإن عصيت فافعل المهمّ.و لا بدّ من أن يعلم أنّه يعصي الأهمّ و يكون عازما علي تركه،و الفرق بين التقريرين أنّ العزم يكون شرطا علي الأوّل،بخلافه علي هذا التقرير،فإنّ نفس العصيان يكون شرطا، و العزم طريق إلي العلم بتحقّق عصيان الأهمّ.

و اورد علي هذين التقريرين بأنّ الأمر بالأهمّ يكون فعليّا في زمان الأمر بالمهمّ؛لأنّ زمان الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ و عصيان الأهمّ واحد،فيلزم طلب الأهمّ و طلب فعل المهمّ في زمان واحد،فيكون المطلوب من المكلّف الجمع بين فعل الأهمّ و فعل المهمّ،و هو غير قادر عليه.

و اجيب عن هذا الايراد بأنّ القبيح طلب الفعلين جمعا؛لأنّه غير قادر عليه، ولكن مرجع الاشتراط المذكور إلي طلب الفعلين لا جمعا،و هو ليس بقبيح.

و قد مثّل السيّد الاستاذ الشيرازي (1)قدّس اللّه روحه بهذا المثال،و هو انّ الوالد إن أمر ابنه بالتزوّج بزينب مثلا تعيينا،و أمره بالتزوّج باختها تعيينا في زمان واحد،فقد أمر بالجمع بين الاختين،و لا يجور إطاعته،فإنّه لا طاعة لمخلوق فيه.

ص: 140


1- هو العلاّمة الفقيه الورع السيّد عبد الهادي الشيرازي رحمه اللّه.

معصية الخالق.و أمّا لو أمره بالتزوّج بزينب تعيينا،فإن عصي و لم يمتثل أمره و لم يتزوّج بها،فأمره بالتزوّج باختها في زمان واحد،كان آمرا بالتزوّج بالاختين في زمان واحد لا جمعا،و هو جائز و يجب إطاعته؛لأنّه ليس آمرا بالمعصية.و لهم تقريبات في بيان ذلك لعلّ مرجع الجميع إلي ما ذكرناه.

و قرّبه في نهاية الدراية بأنّ الأمر لمتعلّقه كالمقتضي لمقتضاه،و لا تنافي بين المقتضيات إلاّ في التأثير،فإذا كان المقتضيات في عرض بأن كان الغرض منهما فعلية المقتضي عند انقياد المكلّف حصل التنافي،و إذا كانا مترتّبين،بأن كان أحدهما لا اقتضاء له إلاّ مع عدم تأثير الآخر فلا مانع منه (1).

أقول:في جميع هذه الوجوه نظر؛لأنّهم إن التزموا بتعدّد العقاب،فهو غير صحيح و سنتعرّض له.

الثالث:تصحيح الأمر بالأهمّ و الأمر بالمهمّ عرضا من دون ترتّب الأمر بالمهمّ علي عصيان الأهمّ بتمهيد مقدّمات نذكر الثلاث منها الدخيلة في استنتاج ذلك، و هي:

المقدّمة الخامسة:كلّ حكم قانوني فهو خطاب واحد لا تكثّر في ناحية الخطاب،بل الكثرة في ناحية المتعلّق،و ما اشتهر من انحلال الخطاب الواحد إلي الخطابات حسب عدد المكلّفين غير تامّ،كما أنّ الإخبار لا ينحلّ،فلو قال قائل:

النار باردة لم يكذب بعدد أفراد النار.

ثمّ انّ الميزان في صحّة الخطاب الكلّي إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كلّ واحد منهم،لبطلان القول بالانحلال،و يبتني علي الانحلال عدم منجّزية العلم الاجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء.ة.

ص: 141


1- نهاية الدراية 1:243 الطبعة الحجرية.

و أمّا علي ما ذكرنا فيصحّ الخطاب لعامّة المكلّفين لو وجد ملاك الخطاب، أعني:الابتلاء في عدّة منهم كما في المقام.

و أيضا يبتني علي الانحلال عدم صحّة خطاب العاجز و العاصي و الكافر،و أمّا علي ما ذكرنا فيصحّ الخطاب الكلّي للناس إذا كان فيهم من ينبعث عنه.

أقول:قال اللّه تعالي: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (1)المستفاد منه و من غيره أنّ كلّ إنسان ملزم بتكليفه،فكلّ واحد مكلّف علي حدة سمّي الخطاب منحلاّ أو غير منحلّ،و الأمر واضح.و أمّا قولنا النار باردة،فالحكم علي الجنس بخلاف ما لو قلنا كلّ نار باردة.

قال:المقدّمة السادسة:انّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعا و لا عقلا،و إن كان حكم العقل بالاطاعة و العصيان في صورة القدرة،و لا يتصرّف العقل في إرادة المولي و جعله.

أقول:عدم صحّة تكليف العاجز من البديهيّات الأوّلية لا حاجة فيه إلي حكم العقل.

قال:المقدّمة السابعة:انّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن،و الذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الاتيان،و هو غير متعلّق للتكليف،ثمّ انّ متعلّقي التكليفين إن كانا متساويين في الجهة و المصلحة،فالعقل يحكم بأنّه إن اشتغل بأحدهما فهو في مخالفة الآخر معذور،و أمّا إذا لم يصرف قدرته في شيء منهما،فقد ترك دعوة كلّ واحد بلا عذر،فيستحقّ عقابين.و إن كان أحدهما أهمّ و أتي به،فهو معذور في ترك المهمّ،و إن اشتغل بالمهمّ فيثاب عليه و يعاقب علي ترك الأهمّ،و لو تركهما لاستحقّ عقوبتين،فلاحظ.5.

ص: 142


1- سورة المائدة:105.

أقول:كون إنسان مكلّفا بإلزامين في زمان واحد بأيّ نحو كان إذا لم يتمكّن من فعلهما قبيح بداهة،إذا كان كلّ إلزام مستبطنا للعقاب علي مخالفته،و لا بدّ من علاج تعدّد العقاب،و كيف يصحّ عقابه علي ترك الأهمّ كما إذا كان وحده،و عقابه علي ترك المهمّ كما إذا كان وحده،و هل هو إلاّ تكليف بما لا يطاق و ظلم العباد؟

و من الغريب التزام القائلين بوجود أمرين مترتّبا أو غير مترتّب بعقابين،حتّي انّه جاء في وقاية الأذهان بعد ما حكي عن كفاية الاصول أنّه قال:كان السيّد الاستاذ لا يلتزم بتعدّد العقاب علي ما هو ببالي.قال:إذا كان علي شكّ منه فنحن قاطعون ببراءة عالم مثله عن مثله،بل لا بدّ للقائل بالترتّب من الالتزام بعقوبات متعدّدة إذا ترتّب أوامر كذلك إلي آخر كلامه (1).

و التحقيق أن يقال:إنّ الفعلين اللذين لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما،إمّا متساويان ملاكا،أو أحدهما أهمّ من الآخر.أمّا في المتساويين ملاكا فيحكم العقل بالتخيير الواقعي بينهما،و كلّ ما حكم به العقل في مرحلة جعل الحكم، بحيث أحرز الملاك و عدم المنع عن الحكم علي طبقه،حكم به الشرع،فإذا تركهما عوقب عقابا واحدا،و أمّا الأهمّ و المهمّ فبمقدار مساواة مصلحة المهمّ للأهمّ يتخيّر المكلّف بين المهمّ و الأهمّ،و لا وجه لتعيين المهمّ أو الأهمّ،و بمقدار الزائد علي مصلحة المهمّ يتعيّن الأهمّ،فإذا فعل المهمّ عوقب علي الزائد من الملاك المتروك من الأهمّ،و إذا تركهما عوقب بمقدار ترك الأهمّ فقط،و ذكرنا تفصيل المسألة في رسالة مستقلّة مطبوعة.

و حاصله:أنّ المنكر للترتّب كالمحقّق الخراساني رحمه اللّه إن كان يقول بأنّ الأمر متعلّق بالأهمّ فقط و لا أمر بالمهمّ،فلا يجب علي المكلّف إن ترك الأهمّ أن يأتي4.

ص: 143


1- وقاية الأذهان ص 314.

بالمهمّ،حيث قال:إنّ ما يقع من الأمر بالمهمّ إرشاد إلي أنّ الاتيان به يوجب استحقاقه المثوبة،فيذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة علي مخالفة الأمر بالأهمّ،لا أنّه أمر مولوي فعلي كالأمر به (1)إلي آخر كلامه.فلازمه جواز ترك المهمّ.

لكنّا نقول:إنّ الأمر المولوي متعلّق بالمهمّ،و القائل بالترتّب إن كان يقول بتعدّد العقاب فهو غير معقول،و نحن نقول بوحدة العقاب و تعلّق الأمر المولوي بالمهمّ علي النحو الذي ذكرناه.

و ملخّص ذلك:أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل؛لأنّ الشرع لا يحكم بشيء إلاّ لمصلحة ملزمة،و كلّ ما علم الملاك الملزم و علم عدم المانع من الحكم علي طبقه،يحكم به العقل و يستكشف به حكم الشرع،نعم لو احرز الملاك و لم يعلم عدم المانع لكن علم عدم المنع شرعا،ألزم العقل به و لا يستكشف به حكم الشرع.

و ينبغي بيان امور:

الأمر الأوّل:أنّ اشتراط القدرة البدنية علي امتثال التكليف،و التمكّن من الوصول إلي التكليف بتعلّمه في تكاليف الموالي عبيدهم،من البديهيات يعرفه كلّ ملتفت،فلا تصحّ عقوبة غير القادر،و لا الجاهل غير المتمكّن من رفع جهله،و ليس من الأحكام العقلية النظرية،و لو قال المولي:إنّي لا اكلّف العبد ما لا يقدر عليه، لعدّ من ذكر الواضحات التي لا فائدة فيها.

و أمّا قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (2)فلعلّ المراد بالوسع هو التمكّن من الفعل في راحة بلا حرج،لا القدرة البدنيّة التي لا يمكن صدور الفعل6.

ص: 144


1- كفاية الاصول ص 168.
2- سورة البقرة:286.

بدونها.

فما في المحاضرات من أنّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور و غيره (1)الخ.لا يمكن المساعدة عليه.

و من ذلك يظهر أنّه لا يصحّ التكليف بالأهمّ و المهمّ إذا كانا في وقت واحد،كما إذا غرق مؤمنان حفظ أحدهما أهمّ،فلا يصحّ أن يقول له:انقذ الأهمّ،و إن لم تصرف قدرتك إلي إنقاذه فانقذ المهمّ،فإنّه يرجع إلي قول:اصرف قدرة واحدة في انقاذ الأهمّ و المهمّ و إلاّ عاقبتك عقوبتين.و محلّ الكلام في بحث الأمر بالضدّين هو توجّه إلزامين إلي مكلّف عاجز عن فعلهما،له قدرة واحدة لا بدّ له من صرفها في امتثال تكليفين في عرض واحد،و هل يمكن تصحيحه بوجه أم لا؟ و الأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل:توجّهما إليه علي نحو الاشتراط من الجانبين إن كانا متساويين، كمؤمنين متساويين اشرفا علي الغرق،فيجب إنقاذ كلّ واحد إن ترك إنقاذ الآخر، فإذا ترك إنقاذهما حصل شرط كليهما فيعاقب عقابين،أو الاشتراط من جانب واحد إن كان أحدهما أهمّ،و اشتهر التعبير عنه بالترتّب.

الثاني:القول بعدم توجّه تكليفين إلي شخص واحد،بل يتعلّق التكليف بالكلّي.

الثالث:المختار و هو توجّه أمرين بالأهمّ و المهمّ تخييرا في المقدار من المصلحة الموجودة فيهما،و تعيّن الأمر بالأهمّ في المقدار الزائد الذي يختصّ به الأهمّ،و لازمه أن يكون العقاب عقابا واحدا إن تركهما،هذا كلّه في إلزامين لفعلين علي من ليس له إلاّ قدرة واحدة علي فعل أحدهما.

الأمر الثاني:إذا كان إلزامان لفعلين لم يستلزما إعمال قدرة واحدة فيهما،7.

ص: 145


1- المحاضرات 3:67.

فليس بمستحيل و خارج عن الترتّب.

فإذا كان إلزام واحد فقط و المكلّف عصي بحيث سقط الأمر بعصيانه ثمّ أمره بفعل آخر،فلا بأس به،و إن كان بحيث لو امتثل الأمر الأوّل لم يبق له قدرة علي امتثال الأمر الثاني و لم يتوجّه إليه،و ليس هذا من الترتّب،مثلا من كان يقدر علي صوم خمسة عشر يوما فقط من شهر رمضان،يجب عليه أن يصوم اليوم الأوّل، فإن أفطر فقد أفطر متعمّدا،و عليه القضاء و الكفّارة،ثمّ يتوجّه إليه الأمر بصوم اليوم الثاني،و هكذا إلي آخر الشهر،و ليس ذلك من الترتّب،مع أنّه يعاقب علي ترك صوم ثلاثين يوما (1)،و ذلك لأنّه لم يستلزم استعمال قدرة واحدة في صومين في عرض واحد.

و قد ذكروا أمثلة عرفيّة و شرعيّة علي وقوع الترتّب،و هذه الأمثلة ليست من الترتّب،أو أنّ العرف يساعد علي قلّة عقاب فاعل المهمّ،و نذكر بعضها:

منها:ما في المحاضرات،و هو ما (2)إذا وجبت الاقامة علي المسافر في بلد، فإذا قصد الاقامة عشرة أيّام وجب عليه الصوم و الصلاة تماما،و إن عصي و لم يقصد الاقامة عشرا حرم عليه الصوم و وجب الصلاة قصرا،فيقال له:يجب عليك الاقامة و الصلاة تماما و الصوم،و إن عصيت حرم عليك الصوم (3).

أقول:يعني بذلك أنّه يقال له:أقم و صم و أتمّ الصلاة،و إن عصيت يحرم عليك الصوم و يجب عليك الصلاة قصرا.

و فيه نظر؛لأنّ حرمة الصوم و وجوب القصر موضوعهما المسافر،عصي في ترك قصد الاقامة عشرا أو لم يعص،فالمسافر يجب عليه الافطار،و المسافر3.

ص: 146


1- سيأتي في بعض التنبيهات توضيح ذلك.
2- المثال المذكور جاء في فوائد الاصول 1:213 الطبعة الاولي.
3- المحاضرات 3:103.

المقيم يجب عليه الصوم و إتمام الصلاة،و هو مكلّف بايجاد موضوع المسافر المقيم،لكنّه يعصي و لا يحقّق موضوعه،و ليس ذلك من توجّه تكليفين إليه في زمان واحد لا يقدر علي امتثالهما.

و منها:ما إذا حرم عليه الاقامة في مكان مخصوص فأقام،فإنّه يقال له:لا تقم في هذا المكان و سافر و قصّر و أفطر،فإن أقمت فصلّ تماما و صم.

و فيه نظر؛لأنّ موضوع التمام هو المقيم،سواء كان الاقامة واجبة أو حراما أو جائزة،فإذا عصي و أقام صار موضوعا للتكليف بالتمام.

و منها:ما في وقاية الأذهان،قال:لو كان لرجل في فلاة من الماء ما يكفيه للوضوء،فعصي و لم يتوضّأ حتّي انقضي الوقت،ثمّ صادف مسلما بلغ به العطش حدّ الهلاك،فهل في أهل الشرع من يتوقّف في وجوب حفظ نفسه،و في صحّة الأمر به و جواز العقاب علي تركه الي آخر كلامه (1).و غيره من الأمثلة المذكورة فإنّها ليست من الترتّب.

الأمر الثالث:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ محلّ الكلام في ثبوت الأمر الترتّبي إنّما هو فيما إذا كان إلزامان بشيئين تامّين ملاكا من جميع الجهات،إلاّ انّ المكلّف لا يتمكّن من امتثالهما؛لعدم القدرة علي فعلهما في زمان واحد،فإن كان أحدهما أهمّ،فالأمر به إمّا يقتضي النهي عن المهمّ،أو لا يقتضي النهي عنه،بل يوجب رفع الأمر به،كما يقوله المنكر للترتّب،أو لا يوجب رفع الأمر به،بل يبقي الأمر علي نحو الترتّب.

و علي كلّ حال فالمهمّ تامّ الملاك و عدم الأمر به لا لبطلان العمل بل لوجود المانع،و هو الأمر بالأهمّ،فلو كان صحّة المهمّ مشروطة بعدم وجوب الأهمّ عليه،5.

ص: 147


1- وقاية الأذهان ص 314-315.

لم يكن مورد الترتّب،و إلاّ فهو مورد للترتّب،سواء كانت القدرة المعتبرة فيهما- أي:في الأهمّ و المهمّ-عقلية،أو شرعية أي قدرة خاصّة كالزاد و الراحلة و تخلية السرب في وجوب الحجّ،أو مختلفة،مثلا القدرة المأخوذة في الحجّ هي الزاد و الراحلة و تخلية السرب،فإذا زاحمه واجب آخر،كأن نذر قبل أن يستطيع أن يكون يوم عرفة في كربلاء،ثمّ تمكّن من الزاد و الراحلة و تخلية السرب،فحينئذ يجب عليه الوفاء بالنذر،و يجب عليه الحجّ لتحقّق ملاكهما،فإن قلنا إنّ النذر أهمّ وجب فعله،فإن تركه وجب الحجّ،و إن قلنا بالعكس فبالعكس.

و أمّا لو كان وجوب المهمّ مشروطا بعدم وجوب الأهمّ عليه،بحيث لم يكن للمهمّ ملاك عند وجوب الأهمّ،فلا يكون محلّ الترتّب.

و لتوضيحه نمثّل مثالا،و هو أنّ الشرط في صحّة الصوم المندوب أن لا يكون عليه صوم القضاء،فلا يصحّ أن يقال له:لا تصم الصوم المندوب و عليك قضاء الصوم،فإن لم تقض و عصيت فصم ندبا،و ذلك لأنّه لا يصحّ الصوم إن كان عليه قضاء الصوم.

و بما ذكرنا ظهر بعض المناقشات في بعض الكلمات:

منها:ما في المحاضرات و هو أنّ الأمر إذا سقط فلا طريق إلي إحراز الملاك؛ لاحتمال كونه لعدم المقتضي لا لوجود المانع (1).

أقول:هذا خلف؛لأنّ المفروض أنّ المهمّ صحيح من جميع الجهات،و ليس من شرائط صحّته عدم وجوب واجب آخر،فلا يكون سقوط الأمر حينئذ إلاّ للمانع و هو الأمر بالأهمّ،مع أنّه لو احتمل ذلك،أي:اشتراط المهمّ بعدم اشتغال ذمّة المكلّف بواجب آخر،فلا يصحّ أن يقال:افعل الأهمّ و إن عصيت فافعل المهمّ؛لأنّه0.

ص: 148


1- المحاضرات 3:70.

إذا كان مشروطا بعدم وجوب الأهمّ لم يصحّ مع وجوبه،فلا يتعلّق به الأمر لا مترتّبا و لا غير مترتّب.

و بعبارة اخري:لو كان التقييد بعصيان الأهمّ مذكورا في دليل المهمّ،صحّ ما ذكره من كشف الملاك،لكن هذا التقييد عقلي،و إلاّ فالدليل قوله«أزل النجاسة عن المسجد»و قوله«صلّ».

و منها:ما فيها أيضا من أنّ القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين علي نحو الترتّب لا يتوقّف علي إحراز الملاك في الواجب المهمّ،و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواجب المهمّ مشروطا بالقدرة عقلا،أو مشروطا بها شرعا إلي آخر الكلام (1).

أقول:قد تقدّم آنفا أنّه يعتبر في القول بالترتّب إحراز الملاك في الواجب المهمّ.

و أمّا ما ذكره من عدم الفرق بين كون الواجب المهمّ مشروطا بالقدرة عقلا أو شرعا،ففيه أنّ المراد بالقدرة الشرعيّة إن كان القدرة البدنيّة المأخوذة في الدليل، فهي ترجع إلي القدرة العقليّة.و إن كان المراد القدرة الخاصّة،كالزاد و الراحلة و تخلية السرب،أو عدم وجوب واجب آخر،فالأوّل يجري فيه الترتّب،و الثاني لا يجري كما تقدّم.

الأمر الرابع:قال في وقاية الأذهان:قال في كشف الغطاء:و أيّ مانع يمنع المولي الحكيم أن يقول لعبده:لا تدخل الدار و إن دخلت فاقعد في الزاوية الفلانية (2).

أقول:إن قال المولي لا تكن في الدار،فإن عصيت فكن في الزاوية الفلانية، و لم يكن مراده أنّ حرمة الكون في غير الزاوية الفلانية أشدّ منها في الزاوية الفلانية،بل انّ حرمة الكون في جميع مواضع الدار علي السواء،لكن يجب الكون7.

ص: 149


1- المحاضرات 3:98.
2- وقاية الأذهان ص 317.

في الزاوية الفلانية،فهذا القول غير صحيح.

و إن قال:لا تدخل الدار،فإن عصيت و دخلت الدار وجب عليك القعود في الزاوية الفلانية،أو وجب عليك أن تقرأ القرآن،أو وجب عليك أن تأتي بالعقد الثمين الموجود في الدار،فلا مانع من ذلك؛لأنّ دخول الدار موضوع لحكم آخر قد أوجده المكلّف باختياره.و ليس ذلك من الترتّب،بل انّ عصيان الأوّل يوجب وجود موضوع للحكم الثاني.

و منه يظهر أنّ المنكر للترتّب ليس منكرا لهذا،و من هذا القبيل ما إذا انحصر الماء المباح في الظرف المغصوب،فإنّه يجب علي المكلّف التيمّم؛لحرمة التصرّف في هذا الماء،و لو توضّأ فيه بالارتماس أو بالصبّ من الاناء علي مواضع الوضوء بطل علي إشكال في الأخير.و أمّا ان اغترف غرفة و توضّأ،ففي صحّة الوضوء قولان،الأوّل:البطلان اختاره في متن العروة.الثاني:الصحّة،قيل:للترتّب،أي يقال له:لا تغصب فإن عصيت فتوضّأ.

أقول:ليس ذلك من الترتّب المصطلح،فإنّه يحرم عليه الغصب و يجب عليه التيمّم،لكن إذا كان بحيث يأخذ الماء من الاناء غرفة غرفة و إن لم يكن مأمورا بالأخذ،فهو متمكّن من استعمال الماء تدريجا،نظير ما إذا جاء المطر و لم يكن له إناء يجمع الماء فيه،فإنّه يجب عليه أن يأخذ من المطر بقدر غرفة و يغسل وجهه، ثمّ يأخذ و يغسل يده.و من هذا القبيل استيجار الجنب الذي يكون في المسجد لكنسه.

كما لا ينبغي أن يعدّ من باب الترتّب ما لو قال له:لا تأكل الرمّان،فإن عصيت فلا تشرب الماء؛لأنّه يرجع إلي أنّ من أكل الرمّان فلا يشرب الماء.و كذا ما لو قال:كل الرمّان،فإن عصيت و لم تأكله فلا تأكل الحلوي مثلا.

الأمر الخامس:تعرّض بعضهم هنا للفرق بين التعارض و التزاحم.

ص: 150

أقول:الفرق بينهما أنّ الحكم الواقعي في مورد التعارض حكم واحد معيّن تعارض الأدلّة في إثباته؛لأنّ العمل الذي دلّ أحد الخبرين علي وجوبه و الآخر علي عدم وجوبه مثلا:إمّا أن يكون مشتملا علي المصلحة الملزمة واقعا فهو واجب،أو مفسدة ملزمة فهو حرام،أو علي كلتيهما مع غلبة احداهما فالحكم تابع للغالب منهما،أو مع تساويهما فالحكم الاباحة،و علي كلّ حال فهو حكم واحد تعارض في إثباته خبران.

و أمّا التزاحم،فهو حكم الشارع تخييرا فقط في المتساويين ملاكا،أو تخييرا و تعيينا في الأهمّ و المهمّ.

ثمّ إنّ مرجّحات التعارض موكولة إلي باب التعادل و التراجيح.و أمّا مرجّحات باب التزاحم،فالظاهر انحصارها في ترجيح الأهمّ علي المهمّ.

الأمر السادس:في مرجّحات باب التزاحم ذكروا امورا:

الأوّل:أن يكون أحدهما أهمّ،سواء كان سابقا علي المهمّ أو مقارنا أو متأخّرا، كما إذا علم العبد أنّ أخ المولي يغرق و بعده يغرق ابنه،و هو لا يقدر علي إنقاذهما، فإنّه يجب عليه أن يؤخّر الانقاذ،و هل يجري فيه الترتّب؟قيل:لا لعدم الخطاب بالأهمّ،و الظاهر جريانه إن علم ذلك،فإنّ الشرط للأمر بالمهمّ إنّما هو القدرة عليه،سواء كانت حاصلة بالعصيان أو بغيره،فإذا كان يعلم أنّه لا ينقذ ابن المولي عصيانا،فهو قادر علي إنقاذ أخ المولي،فهو مأمور بإنقاذه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق بين الواجبات النفسيّة و الضمنيّة،فإذا دار الأمر بين أن يقرأ سورة في الركعة الاولي من الصلاة،أو يقرأ الفاتحة في الركعة الثانية مثلا،لم يقرأ السورة و قرأ الفاتحة لأنّها أهمّ،خلافا لما في المحاضرات،حيث قال:إنّ ذلك ليس من التزاحم بل من التعارض؛لأنّ الأمر بالمركّب التامّ قد سقط بتعذّر بعضه ثمّ ثبت أمر آخر:إمّا متعلّق بالفاقد للسورة،أو بالفاقد للفاتحة،فيتعارض ما دلّ

ص: 151

علي وجوب السورة مع ما دلّ علي وجوب الفاتحة إلي آخر كلامه (1).

أقول:لم يسقط الأمر بالمركّب،بل الأمر بالصلاة متعلّق بالصلاة بمراتبها،و كلّ جزء أو شرط من الأوّل دخيل في الصلاة علي ما هما-أي:الجزء و الشرط-عليه من الأهمّية و غيرها.

الثاني:أن يكون لأحد الواجبين بدل و لم يكن للآخر،كما إذا تنجّس موضع من المسجد و كان عنده من الماء ما يكفيه لغسل المسجد أو للوضوء،فإنّه يتقدّم غسل المسجد؛لأنّ للوضوء بدلا و هو التيمّم (2).

أقول:إذا كان أحدهما أهمّ فإنّه يتقدّم،فلو علم أنّ الوضوء أهمّ من غسل المسجد تقدّم،و أمّا إن لم يعلم ذلك فإنّ وجوب ما ليس له البدل فعلي،و مع فعليّته يزاحم وجوب الآخر،فإذا كان لوجوبه مزاحم انتقل إلي بدله و هو التيمّم،فتأمّل فإنّه لا يخلو عن نظر.

و قيل:منه ما إذا كان ثوبه نجسا و كان عنده ماء يكفي للوضوء أو لغسل الثوب، فإنّ الوضوء له بدل،فيغسل ثوبه و يتيمّم،خلافا للمحاضرات (3).

الأمر السابع:إذا كان الفعلان طوليين زمانا و هو يقدر علي أحدهما،فإن كانت قدرته علي السابق توجب عدم الملاك للاّحق،وجب صرف قدرته في السابق، كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوء واحد و قد وجب عليه صلاة الظهرين،و كان يجب أن يتوضّأ لكلّ منهما،فإنّه يجب عليه أن يتوضّأ لصلاة الظهر و يتمّم لصلاة العصر،و ليس له أن يعكس.

و أمّا إذا كان الملاك لكليهما موجودا،مثل أن يغرق مؤمنان متساويان أو كان8.

ص: 152


1- المحاضرات 3:230.
2- المحاضرات 3:234.
3- المحاضرات 3:238.

أحدهما أهمّ،لكن أحدهما متقدّم زمانا علي الآخر،بأن غرق أحدهما اليوم، و يعلم بأنّ الآخر يغرق عصر اليوم،و هو لا يقدر علي إنقاذهما،فإنّه لو كانا متساويين يتخيّر،و لو كان الثاني أهمّ وجب عليه إنقاذ الأهمّ و يجري فيه ما تقدّم؛ لأنّ الملاك موجود في كليهما،و إن لم يقدر المكلّف علي استيفائهما.

إن قلت:إنّه لا تكليف له بالمتأخّر زمانا.

قلت:إن علم تحقّق الغرق بعد ذلك،فهو يعلم بتحقّق الوجوب،و لا بدّ له من حفظ قدرته،فمن علم أنّ مؤمنا يغرق بعد ساعة مثلا ليس له أن يتركه و يذهب إلي مكان آخر،و لا يعذر بعدم فعليّة التكليف.

و هذه النكتة من الفرق لا بدّ أن تلاحظ في الأمثلة المذكورة لئلاّ يختلط مورد الترتّب مع غيره.

فصل في اشتراط القدرة في المأمور علي المأمور به

لا يجوز للآمر الأمر مع العلم بعدم قدرة المأمور علي الامتثال،فإنّ تكليف ما لا يطاق قبيح،كما لا يقع الأمر مع عدم تحقّق شرط الأمر للآمر.نعم يجوز انشاء الأمر مجازا لمصلحة فيه مع عدم إرادة فعليّته مع دلالة عليه بقرينة منفصلة.

و قال في الكفاية:يجوز إنشاء الأمر مع العلم بعدم صيرورته فعليّا،بأن يكون الداعي هو الامتحان لا التحريك جدّا،و يصحّ إطلاق الأمر عليه مجازا (1).

ثمّ إنّه قيل:إنّ الأمر الشخصي يمتنع توجّهه بعثا لغرض الانبعاث إلي من علم الآمر فقدانه شرط التكليف،بل لا يمكن ذلك بالنسبة إلي من يعلم أنّه لا ينبعث و لو عصيانا،و أمّا الأوامر الكلّية القانويّة فيمكن تعلّقها.

ص: 153


1- كفاية الاصول ص 170.

أقول:لا يقتضي صيغة«افعل»التحريك القولي الذي هو بمنزلة التحريك الخارجي باليد و نحوها،بل هو إنشاء كون المخاطب مع مادّة ما امر به و لو بداعي إعلامه ما يوجب سعادته في الدارين،و إن علم أنّه لا يمتثل.

فصل في أنّ الأوامر و النواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

لا يخفي أنّ مادّة«افعل»التي تعلّقت بها الهيئة لها وجودات متماثلة،و يسمّي كلّ وجود منها من حيث انّ له نظيرا يشترك معه في الجنس و الفصل وجود الطبيعي،و من حيث نفسه بشرط لا عن ملاحظة نظيره وجود الفرد.

و أمّا التشخّصات و اللوازم التي لا ينفكّ وجود الفرد عنها،فهي ليست دخيلة في الفرد بما هو فرد للطبيعي،و المراد من تعلّق الأمر بالطبيعة هو طلب ايجادها من دون نظر إلي خصوص وجود من هذه الوجودات،و المراد من تعلّقه بالفرد هو لحاظ كلّ وجود من حيث هو.

و من ثمرة الاحتمالين أنّه بناء علي تعلّق الأمر بالطبيعة،فليس للمكلّف قصد امتثال الأمر بايجاد وجود منها من حيث كونه متعلّق الأمر،لا من حيث اشتراكه مع وجود آخر مثله،بخلافه بناء علي تعلّقه بالفرد.

و علي كلا القولين فالتخيير بين الأفراد تخيير عقلي،بمعني أنّ العقل يدرك عدم تفاوت هذه الوجودات المتماثلة في تعلّق الأمر بها،بخلاف التخيير الشرعي،فإنّ الشارع يوجب امورا غير متماثلة علي نحو التخيير كخصال الكفّارة.

ثمّ إنّ ما يترأي من عبارة الكفاية،من أنّ معني تعلّق الأمر بالفرد هو كون الخصوصيّات الملازمة له متعلّقا للغرض،حيث قال في مقام الاستدلال علي تعلّقه بالطبيعة،بأنّ من راجع وجدانه يري أنّه لا غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع، و لا نظر له إلاّ إليها من دون نظر إلي خصوصيّاتها الخارجيّة و عوارضها العينيّة إلي

ص: 154

آخر كلامه (1).غير مقبول.

و كذا ما في الاصول علي نهج الحديث،قال:إن تعلّق الأمر بوجود الطبيعي كان ايجاده بايجاد فرد من أفراده بنحو التخيير العقلي،و إن تعلّق الأمر بوجود الفرد لا خصوص فرد،كان لا محالة بنحو التخيير الشرعي (2)انتهي.غير واضح؛لأنّه إن تعلّق بالفرد،فالمراد فرد ما،و التخيير بين الأفراد عقلي،فتأمّل.و سيظهر في الواجب الموسّع ملاك كون التخيير عقليّا أو شرعيّا.

فصل إذا نسخ الوجوب،فلا دلالة علي بقاء أصل الجواز أو الرجحان

؛لأنّ الوجوب ليس مركّبا يرتفع بعضه و يبقي بعضه،بل هو طلب شديد يرتفع كلّه.

و دعوي أنّه مع الشكّ في زوال المرتبة الضعيفة من الطلب بعد العلم بارتفاع المرتبة الشديدة يستصحب أصل الطلب.غير مسموعة؛لأنّهما عرفا موضوعان، فيكون من اسراء حكم موضوع إلي موضوع آخر،و أمّا علي المختار في الاستصحاب-كما يأتي في محلّه-فعدم الجريان واضح.

فصل في الواجب التخييري الشرعي

اشارة

لا يخفي أنّ الحكم الشرعي تابع للمصلحة في المتعلّق،فيمكن أن تكون المصلحة الملزمة التي لها دخل في الغرض حاصلة بفعل واحد من الفعلين،مع اشتمالهما علي المصلحة،لكن يكفي الواحدة منهما لتحصيل الغرض،سواء اتّحد سنخ مصلحة الفعلين أو اختلف،بأن كان للصوم مصلحة ملزمة و للعتق مصلحة اخري ملزمة؛لكن كان تحصيل مصلحة الأكثر من واحد فيه نوع عسر ينافي

ص: 155


1- كفاية الاصول ص 171.
2- الاصول علي نهج الحديث ص 73.

مصلحة التسهيل التي هي أهمّ في نظر الشارع،فمقتضي ذلك لزوم فعل أحدهما، و كلّ واحد سبق فلا لزوم للآخر مع بقاء محبوبيّته،و لو فعلهما معا كان أحدهما محبوبا لزوما و الآخر محبوبا غير لزومي،و الحكم الشرعي تابع لكيفيّة المصلحة.

هذا كلّه في مقام الثبوت.و أمّا في مقام الاثبات،فيفيد ذلك كلمة«أو»فيقال:

صم أو أطعم المسكين،و هذا نحو وجوب مقتضاه العقاب علي واحد لو ترك الجميع،و وجوب واحد و استحباب الآخر إن أتي بهما دفعة أو تدريجا،و هذا النحو من الايجاب أمر عرفي واقع في الخارج،و هو أدلّ دليل علي إمكانه.

بل يمكن أن يدّعي أنّ الارادة التكوينيّة تتعلّق بنحو ذلك،فإذا كانت المصلحة في فعلين كذلك،كإطفاء حرارة البدن بالدخول في الماء البارد،أو الذهاب إلي مكان بارد،فربّما يشتاق الانسان إلي أحدهما و يختاره من دون ترجيح في خصوصيّة كلّ واحد منهما،و الوجدان شاهد علي ذلك.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية فصّل بين أن يكون الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما،بحيث إذا أتي بأحدهما حصل به تمام الغرض،فيكون الواجب هو الأمر الجامع بين الشيئين؛لأنّ الغرض الواحد لا يصدر إلاّ من أمر واحد إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ مراده أنّ ما يتولّد و يخرج من شيء لا بدّ من أن يكون من سنخه و إن كان واحدا بالنوع؛لأنّ المعلول هو فعليّة ما بالقوّة في العلّة من دون فرق بين الواحد الشخصي و الواحد النوعي.

و فيه أنّه لو سلّم ذلك لم يتمّ في الأفعال،مثلا حرارة البدن تتحقّق من قربه إلي الحارّ،و من حركة الانسان سريعا،و لا جامع بينهما.4.

ص: 156


1- كفاية الاصول ص 174.

و قال في الاصول علي النهج الحديث:و يمكن أن يقال:إنّ الايجاب التخييري ايجاب مشوب بجواز الترك إلي بدل،و مقتضاه جواز ترك كلّ منهما مقرونا بفعل الآخر،فمع الاتيان بهما يكون آتيا بواجبين يجوز ترك كلّ منهما إلي البدل،و مع تركهما يكون له عقاب واحد (1)انتهي ملخّصا.

أقول:كونهما واجبين إذا أتي بهما دفعة خلاف ظاهر الدليل.

تتمّة:

هل يمكن الوجوب التخييري بين الأقلّ و الأكثر غير الارتباطيين،بأن يكون المصلّي مخيّرا بين تسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين و بين ثلاث تسبيحات؟

أقول:يمكن تصويره ثبوتا بأن كان الغرض مترتّبا علي التسبيحة بشرط لا أو بشرط شيء.

فصل في الوجوب الكفائي

اشارة

و هو وجوب الفعل علي جماعة يتحقّق امتثاله بفعل واحد منهم يكون هو الممتثل للتكليف و يسقط عن الباقين،هذا فيما إذا لم يكن الفعل قابلا للتعدّد،و أمّا لو كان قابلا له كالصلاة علي الميّت،فإن صلّي واحد سقط عن الباقين،و أمّا إن صلّي جماعة في زمان واحد،فهل الواجب واحد منها غير معيّن،أو الجميع واجب كلّ منها مستقلاّ،أو المجموع واجب كلّ منها جزء الواجب؟وجوه.

أحدها:أن يكون الواجب واحدا منها و ما عداه مندوب؛لأنّ المصلحة الملزمة في واحد منها و ما عداه ليس فيه مصلحة ملزمة،و لا يضرّ عدم تعيّنه.

ثانيها:أن يكون الجميع امتثالات للواجب،فيكون كلّ واحد قد امتثل الواجب

ص: 157


1- الاصول علي النهج الحديث ص 39.

مستقلاّ نظير امتثاله الواجب العيني،فإن صلّي عدّة علي ميّت في زمان واحد بغير الائتمام بناء علي مشروعيّته كان الجميع واجبا.و فيه أنّ الواجب صلاة واحدة.

ثالثها:أن يكون الجميع امتثالا من الجميع،كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة علي معلول واحد،و يستند المعلول الواحد إلي مجموع العلل،بحيث يكون كلّ علّة جزء المؤثّر.

و فيه أنّ الصلاة علي الميّت ليست كذلك،إلاّ أن يقال بأنّ الجميع يؤثّر أثرا واحدا،لكنّه بعيد.

قد يقال:إنّ كلّ واحد من المكلّفين قادر علي ايجاد الطبيعة،فلا محالة يتوجّه التكليف إلي كلّ واحد منهم،ففي مسألة تجهيز الميّت مثلا يكون كلّ واحد منهم مكلّفا،لكن المكلّف به في الجميع أمر وحداني،فزيد مكلّف بايجاد الدفن من غير أن يكون الدفن مقيّدا بصدوره عن نفسه إلي آخر كلامه (1).

أقول:إن أراد أنّه يجب علي كلّ واحد منهم مباشرة أو تسبيبا،ففيه أنّه لو فعله بعضهم سقط عن غيره و إن لم يتسبّب.

و إن أراد أنّه يجب علي كلّ واحد لكن يسقط بفعل بعضهم،فيمكن المناقشة فيه بأنّه إن كانت المصلحة في تعدّد الفعل،فلا وجه لسقوطه بفعل بعضهم،و إن كانت المصلحة في الصلاة الواحدة،فلا وجه لوجوبه علي كلّ واحد منهم.

و قال في الاصول علي النهج الحديث:إنّ كلّ واحد من المكلّفين يجب عليه الفعل مع جواز الترك عند فعل الآخر،و مقتضاه حصول الامتثال من الجميع إذا أتوا به دفعة،و استحقاق العقاب إذا ترك الكلّ لوجوبه عليهم و عدم تحقّق الفعل من أحدهم،و هو موافق لمقام الثبوت.إلي آخر كلامه (2).2.

ص: 158


1- نهاية الاصول ص 211.
2- الاصول علي النهج الحديث ص 42.

أقول:إن ثبت مشروعيّة قصد الوجوب من كلّ واحد منهم إذا أتوا بالصلاة دفعة واحدة،فلهذه التصويرات مجال،لكنّه يحتاج إلي المراجعة،و لم يثبت كون الجميع متّصفا بالوجوب،فلاحظ.

تتميم:

قال في الكفاية:إذا شكّ في واجب أنّه عيني أو كفائي،فمقتضي الاطلاق كونه عينيّا،كما إذا شكّ في أنّ تجهيز الميّت واجب عينيّ علي الولي،أو واجب كفائي، فالخطاب متوجّه إلي الولي،و مقتضي إطلاقه وجوب التجهيز عليه،فلا يجب علي غيره (1).

و لو لم يكن إطلاق يقتضي الوجوب العيني علي الولي،فيمكن أن يقال:إنّ تعيّنه علي الولي مشكوك يرفع بأصل البراءة،و أيضا لا يجب علي غيره لاحتمال كونه عينيّا علي الولي و الأصل البراءة عنه،و لا يتعارض الأصلان،أي:الأصل الذي يجريه الولي و الأصل الذي يجريه غيره؛لأنّهما كواجدي المني يلحظ كلّ واحد تكليف نفسه،لكن إن لم يفعل غير الولي وجب علي الولي؛لأنّه إمّا واجب كفائي أو واجب عيني عليه.

فصل في الواجب الموسّع و المضيّق

و الأوّل ما كان الوقت المقدّر له أزيد ممّا لا بدّ منه.و المضيّق ما كان المقّدر له مساويا لما يقتضيه الواجب كصوم يوم شهر رمضان.

و قد يشكل في الموسّع بأنّ أجزاء الوقت إن كانت قيودا للواجب،كان التخيير شرعيا،فهناك واجبات مضيّقة علي نحو الواجب المخيّر شرعا.

ص: 159


1- كفاية الاصول ص 177.

أقول:تقدّم أنّ الطبيعة المحدودة بحدّ يكون التخيير بين أفراده تخييرا عقليّا، و علي هذا فالصلاة التّي لها وقت موسّع يكون التخيير بين ايقاعها في أجزاء الوقت تخييرا عقليّا؛لأنّ الأفراد متماثلة.

فصل في الأمر بالأمر

قال في الكفاية:لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر بشيء علي كونه أمرا به،و لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة (1).

أقول:ما ذكره متين،فإنّ ظاهر اللفظ كون المأمور به هو الأمر بالشيء،ففي مثل قولك مر ابنك يفعل كذا،اريد تأدّب الابن بواسطة وليّه أعني أباه،فيجب علي الآباء أمر الأبناء بالصلاة،و ليس أمرا من الآمر الأوّل للمأمور الثاني،إلاّ إذا كان المأمور الأوّل واسطة في التبليغ،و هو يحتاج إلي دلالة.

و من ذلك يظهر المناقشة في دلالة أمر الأولياء بأن يأمروا صبيانهم بالعبادات علي تعلّق أمر اللّه تعالي بعباداتهم حتّي تكون شرعية.

فصل إن أمر بشيء ثمّ قبل امتثاله أمر به مرّة اخري،فهل يكون تأكيدا أو تأسيسا؟

قال في الكفاية:يحمل الأمر الثاني علي التأكيد لاطلاق المادّة،و أمّا إطلاق الهيئة فهو و إن كان يقتضي التكرار لكنّه فيما لم يكن مسبوقا بالأمر (2).

أقول:بل يمكن أن يقال:إنّ إطلاق الهيئة أيضا يقتضي ذلك؛لأنّه لم يقيّده بمرّة اخري،فمقتضاه التأكيد بأن يكون الوجوب مؤكّدا لا أن يكون تكرارا محضا،فإنّه يحمل علي التكرار المحض إن ساعدة القرينة،فتأمّل.

ص: 160


1- كفاية الاصول ص 178-179.
2- كفاية الاصول ص 179.

المقصد الثاني: في النواهي

اشارة

و فيه فصول:

فصل في مادّة النهي و صيغته

أمّا مادّة النهي،فالظاهر أنّها تدلّ علي المنع،فإذا استعملت في كلام الشارع دلّت علي الحرمة،و يشهد لذلك موارد الاستعمال في القرآن و الأخبار (1).

و أمّا صيغة«لا تفعل»ففي دلالتها علي حرمة الفعل،أو كراهته،أو الأعمّ منهما، أقوال و احتمالات،ينبغي أن تذكر في ضمن مباحث:

الأوّل:في مدلولها لغة،و لا يبعد أن تكون دالّة علي عدم تحقّق نسبة بين المخاطب و الفعل،كما أنّ صيغة«افعل»تدلّ علي ايقاع النسبة بين الفعل و المخاطب،و تختلف الدواعي من التحريم و الكراهة و الارشاد و السؤال و غيرها، سواء علم انبعاث المخاطب أو لا،بأن يكون الداعي إتمام الحجّة عليه،فهي بنفسها ليست موضوعة للتحريم و لا تدلّ عليه لانصراف و نحوه.

نعم لو صدر من المولي إلي العبد حمل علي التحريم؛لأنّ المحاورة الواقعة بين الموالي و العبيد تكون بهذه الصيغة علي حسب محاورات غيرهم،و لم يتّخذ الموالي طريقا خاصّا لإفادة مقصودهم،و لذا كان البناء من العقلاء علي عمل العبيد بما يقوله الموالي،إلاّ أن يقترن بها قرينة الكراهة أو الارشاد و نحوهما،و مرّ نظيره

ص: 161


1- لا يخفي أنّه يستفاد من بعض الأخبار أنّ النهي عن الشيء يغاير تحريمه و هو خبر علي بن يقطين(جامع أحاديث الشيعة 24-159-13)قال:سأل المهدي أبا الحسن عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ،فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها و لا يعرفون التحريم لها،فقال له أبو الحسن:بل هي محرّمة في كتاب اللّه الخبر.

في دلالة صيغة الأمر علي الوجوب إن صدرت من الموالي إلي العبيد.

و قيل:إنّ حقيقة النهي عبارة عن الزجر و المنع عن المتعلّق (1).

أقول:إنّ كلمة«لا»الناهية مثل كلمة«لا»النافية يرادفها بالفارسية«نه»و ليس معناها المنع و الزجر،بل الفصل بين مادّة الفعل و بين الفاعل،نعم نتيجته المنع و الزجر.

الثاني:أنّ مدلولها إلزام بعدم ايقاع النسبة بين المخاطب و الفعل،و هو إنّما يصحّ إذا كان الايقاع ممكنا و مقدورا للمخاطب،و إلاّ فيكون لغوا.نعم لا دلالة فيه علي الكفّ،أي:صرف الميل عنه،بل يكفي مجرّد القدرة،فيصحّ تكليف من لا يرغب في شرب الخمر بترك شربه إن كان قادرا علي الشرب.

الثالث:لا دلالة لها علي الفور و التراخي،كما لا دلالة لصيغة الأمر عليهما، ولكن بمجرّد صدورها من المولي و وصولها إلي العبد يجب عليه عقلا امتثالها،بأن لا يقترن مع الفعل من أوّل أزمنة الامكان.

الرابع:يتحقّق وجود الطبيعة بوجود فرد منها،و أمّا نفيها فإنّما يتحقّق بنفي جميع أفرادها،و هو واضح.

الخامس:هل يكفي تحقّق نفي الطبيعة بجميع أفرادها في بعض الأزمنة،أو لا بدّ من تحقّق نفيها في جميع الأزمنة؟

قلت:ظاهر النهي عدم النسبة بين المخاطب و المنهي عنه،و هو ظاهر في عدمها في جميع الأزمنة.

السادس:إن عصي النهي،فهل يسقط أو أنّ النهي عن شيء ينحلّ إلي نواهي، فيكون كلّ فرد من أفراد المنهي عنه له نهي علي حدة في كلّ زمان؟قولان،الأوّل3.

ص: 162


1- نهاية الاصول 223.

أنّه يقتضي التكرار لوجهين:

الأوّل:أنّ معني النهي هو الزجر و المنع،و إذا تعلّق الزجر بالطبيعة اقتضي المنع عن كلّ فرد منها.

أقول:إنّ المنع عن الطبيعة يكون منعا عن تحقّق أصل الطبيعة،و أمّا بعد العصيان و ايجاد الطبيعة في ضمن فرد،فالمنع عن سائر الأفراد يحتاج إلي دليل آخر.

الوجه الثاني:أنّه يدلّ عليه عقلا،قال في الكفاية:إنّ تعلّق الأمر بالطبيعة يقتضي الاتيان بها،و يكفي اتيان فرد واحد لتحقّقها في ضمنه،و كذا النهي عن الطبيعة يقتضي عدم تحقّق الطبيعة في جميع الأزمان (1).

و أورد عليه في نهاية الدراية بأنّه قد يلاحظ الوجود إلي الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا علي ذاتها و ذاتيّاتها،فيقابله إضافة العدم إلي مثلها،و نتيجة المهملة جزئيّة،فكما أنّ مثل هذه الطبيعة تتحقّق بوجود واحد كذلك عدم مثلها إلي آخر كلامه (2).

أقول:ما ذكره في الكفاية من خلوّ صفحة الوجود عن وجود المنهي عنه مستندا إلي اقتضاء ترك الطبيعة عقلا لو سلّم،فلا يقتضي الانحلال،بحيث لو عصي لزمه ترك الطبيعة بعد المعصية.

القول الثاني:أنّه لا يقتضي التكرار،ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة،قال:

فأمّا اقتضاؤه التكرار أو الامتناع مرّة واحدة،فأكثر المتكلّمين و الفقهاء ممّن قال إنّ الأمر يقتضي الفعل مرّة واحدة،و من قال إنّه يقتضي التكرار،قالوا في النهي إنّه يقتضي التكرار.و الذي يقوي في نفسي أنّ ظاهره يقتضي الامتناع مرّة واحدة،1.

ص: 163


1- كفاية الاصول ص 182.
2- نهاية الدراية 1:261.

و ما زاد علي ذلك يحتاج إلي دليل.إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ ظاهر النهي عن طبيعة اشتمالها علي سعتها علي المفسدة الموجبة لمبغوضيّة الطبيعة أينما وجدت،فيكون قرينة علي انحلال النهي إلي نواهي عن كلّ فرد في كلّ زمان إلاّ إذا اقترن به قرينة علي الخلاف.

و ممّا يؤيّد دلالة النهي علي الانحلال في جميع الأزمنة أنّه لو كان المراد به ترك الطبيعة،فإنّه يتحقّق بعد وصول النهي إلي المكلّف في الآن الأوّل،فيصير بلا فائدة؛ لأنّ ترك الطبيعة في الجملة حاصل من كلّ أحد،إلاّ أن يقال بأنّ النهي عن الطبيعة يقتضي استمرار الترك من أوّل الآنات إلي آخرها،لكن إن عصي النهي فاقتضاؤه النهي عن الأفراد الاخر يحتاج إلي دليل.

و قال في نهاية الاصول بالمنع عن انحلال التكليف التحريمي المتعلّق بشرب الخمر إلي أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع و هو الخمر،بل الحقّ كونه تكليفا واحدا له عصيانات متعدّدة (2).

أقول:لا فرق بين أن يقال إنّ النهي عبارة عن المنع عن الفعل،أو عبارة عن طلب ترك الفعل في الانحلال و عدمه،و ذلك لأنّ النهي ليس زجرا خارجيّا،بل هو لفظ يريد به الناهي من المكلّف أن لا يفعل،و كما أنّ الزجر عن طبيعة الفعل يتحقّق في الآن الأوّل و يحتاج ثبوته للآن الثاني إلي إثبات شمول إطلاق الزجر له،كذلك طلب ترك الطبيعة في الآن الأوّل يثبت للآن الثاني بالاطلاق.6.

ص: 164


1- عدّة الاصول 1:256.
2- نهاية الاصول 1:176.

فصل في جواز اجتماع الأمر و النهي

اشارة

لا يبعد جواز اجتماع الأمر و النهي،ولكن لا تصحّ العبادة في حال العلم و العمد و ما الحق به لعدم إمكان التقرّب،و يقع الكلام في تحرير محلّ النزاع في مقامين:

المقام الأوّل:في مرحلة الثبوت،فنقول:إنّ الحكم الشرعي الالزامي تابع للملاك الموجود في المتعلّق من المصلحة و المفسدة الملزمتين،فإن كان فيه مصلحة ملزمة للفعل فقط كان واجبا،و إن كان فيه مفسدة ملزمة للترك فقط كان حراما.

و إن كانت المصلحة الملزمة في جميع أفراد الطبيعة إلاّ في فرد منها،فكان فيه مفسدة ملزمة فقط،فلا بدّ من ايجاب الطبيعة إلاّ هذا الفرد،فلا بدّ من تحريمه، كالنهي عن صوم العيدين،و عن صلاة الحائض.

و إن اجتمعت المصلحة و المفسدة في فعل،و كانت المصلحة منحصرة فيه و لم توجد في غيره،فإن كانت المصلحة غالبة علي المفسدة،فلا بدّ من ايجاب الفعل، و إن انعكس فلا بدّ من تحريمه،و إن تساويا فلا ايجاب و لا تحريم.

و ان اجتمعت المفسدة الملزمة و المصلحة الملزمة في فرد،و كانت المصلحة الملزمة غير منحصرة فيه،بل كانت المصلحة الموجودة فيه مساوية للمصلحة الموجودة في غيره من أفراد الطبيعة،فهذا هو محلّ النزاع.

و نمثّل لجميع ما ذكرنا مثالا عرفيّا،و هو أنّ من احتاج إلي شرب الماء لحفظ نفسه عن الهلاك و لم يضرّه الماء،وجب عليه الشرب.

و من كان غير محتاج إلي شرب الماء،و كان الشرب مضرّا بحاله،حرم عليه الشرب.و من احتاج إلي شرب الماء كلّ يوم و لم يحتج إليه في يوم الجمعة مثلا و أضرّه الماء فيه،وجب عليه الشرب في جميع الأيّام،و حرم عليه الشرب في يوم

ص: 165

الجمعة.

و من احتاج إلي شربه لحفظ نفسه عن الهلاك عطشا،و كان شرب الماء البارد مضرّا بحاله،و انحصر الماء في البارد،ينبغي أن يلاحظ الأقوي مناطا،فإن لم يكن أحدهما أقوي تخيّر.

و من احتاج إلي شرب الماء لحفظ نفسه عن الهلاك من العطش،و كان الماء البارد مضرّا به مثلا،و لم يكن الماء منحصرا في البارد،فشربه،فقد حفظ نفسه عن الهلاك؛لزوال عطشه بشربه و أضرّ بمعدته بالماء البارد،و هذا هو محلّ النزاع.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه مع انحصار المصلحة و المفسدة في فعل واحد لا يجتمع فيه الأمر و النهي؛لأنّهما تابعان للملاك الموجود في الفعل،فإمّا يكون أحدهما غالبا فالفعل واجب أو حرام،أو يكونان متساويين فلا وجوب و لا حرمة.

و منه يظهر أنّه إن لم يكن مندوحة لم يجتمع الأمر و النهي؛لعدم وجود ملاكهما، لا لعدم قدرة المكلّف علي الامتثال،و لا فرق بين الاتّحاد الموردي و بين اتّحاد متعلّق الأمر و النهي.

و من ذلك يظهر أيضا أنّ ما ذكره في الكفاية (1)في التنبيه الثاني في ترجيح جانب النهي من جهة أنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة،و شهادة الاستقراء بتغليب جانب الحرام إنّما يتمّ في فعل لا مندوحة عنه،و هو خارج عن محلّ النزاع،و كذا ما ذكره في التنبيه الثالث،و سيأتي بيانه.

المقام الثاني:في مرحلة الاثبات،فنقول:إن كانت الدلالة علي وجوب الطبيعة و تحريم الفرد،مثل قولك اشرب الماء لحفظ نفسك عن أن تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لأنّه يضرّك لمن كان به مرض يضرّه الماء البارد،فهي من محلّ1.

ص: 166


1- كفاية الاصول ص 211.

النزاع.

و منه صلّ و لا تغصب،حيث كان مفهوم الصلاة معلوما بأجزائه و شرائطه،و لم يكن من شرائطها عدم وقوعها في الغصب،كما يكون من شرائطها عدم لبس الرجال للذهب حالها.و منه أكرم العلماء أو أكرم زيدا و لا تغصب فأكرم بالمغصوب،و قد يستظهر كونه من محلّ النزاع من كون متعلّقي الأمر و النهي عنوانين اتّحدا وجودا،مثل عنواني الاكرام و الغصب.

أقول:ليس محلّ النزاع مختصّا بهما،بل المدار علي إحراز وجود الملاكين في محلّ الاجتماع،مع وجود ملاك الوجوب في غير مورد الاجتماع،فإن احرز بإجماع و نحوه و إلاّ فلا بدّ من اتّباع ظاهر الدليل،و هذا الذي ذكرناه صحيح فيما إذا كان للمأمور مندوحة عن ترك الحرام.

و أمّا إذا لم يكن له مندوحة،فليس من محلّ النزاع،كما إذا قال:أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق،فإنّ العالم الفاسق لا يمكن أن يجتمع فيه حكمان؛لأنّ في إكرامه:إمّا مفسدة غالبة فحرام إكرامه،أو مصلحة غالبة فواجب إكرامه،أو متساويتان فلا وجوب و لا حرمة،فهما متعارضان؛لأنّ العالم الفاسق محكوم بحكم واحد.أو قال:الربا حرام و البيع حلال،فإنّهما يتساقطان في البيع الربوي، فيرجع إلي العامّ الفوقاني إن كان،و إلاّ فإلي الأصل العملي.

و قد يحتمل الكلام الوجهين،أي:يمكن أن يكون دلالته علي النحو الأوّل، فيكون من محلّ النزاع،أو يكون علي النحو الثاني،فلا يكون من محلّ النزاع،كما إذا قال:أكرم عالما و لا تكرم الفاسق،فإن كان في إكرام العالم الفاسق مصلحة ملزمة،كالمصلحة الملزمة الموجودة في العالم غير الفاسق بلا تفاوت أصلا،و كان في إكرام العالم الفاسق مفسدة ملزمة،كان من محلّ النزاع.و إن لم يكن في إكرام العالم الفاسق مصلحة ملزمة،كالمصلحة الملزمة الموجودة في غير الفاسق،لم

ص: 167

يكن من محلّ النزاع.

و حيث لم يحرز ذلك فلا بدّ من ملاحظة نفس الدليلين،فإن قلنا بالجمع الدلالي من جهة أظهريّة النهي من الأمر فيقدّم النهي،و إن قلنا بأنّه ليس لهما جمع عرفي فهما متعارضان،و ينبغي ملاحظة مرجّحات باب التعارض،و لا فرق في ذلك بين القول بالجواز و القول بالامتناع.

و قد تلخّص من جميع ذلك أنّ مثل صلّ و لا تغصب من باب الاجتماع؛لأنّ مفهوم الصلاة معلوم بأجزائها و شرائطها،و ليس من شرائطها أن لا يكون في الغصب،كما أنّ من شرائطها أن لا يكون الرجل لابسا للذهب في حال الصلاة،مع أنّه حرام لبسه في غير الصلاة أيضا،و كما أنّ من شرائط صحّة الصوم المندوب عدم اشتغال الذّمة بالصوم.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ جواز الاجتماع في المورد الذي ذكرناه واضح، و اختاره الفضل بن شاذان علي ما حكاه عنه في الكافي (1)فيما إذا اعتدّت المرأة من الطلاق في غير بيت زوجها.

قال الفضل بن شاذان:و إنّما قياس الخروج و الاخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّي فيها،فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة؛لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة؛لأنّه منهي عن ذلك صلّي أو لم يصلّ.

إلي أن قال:لو أنّه لبس ثوبا غير طاهر أو لم يطهر نفسه،أو لم يتوجّه نحو القبلة، لكانت صلاته فاسدة غير جائزة؛لأنّ ذلك من شرائط الصلاة إلي آخر كلامه.

أقول:ما ذكره متين جدّا،لكن سيأتي أنّ اشتراط القربة في الصلاة يقتضي بطلان الصلاة في المغصوب؛لأنّه لا يتقرّب بالمبعد،فالصلاة تبطل إن كان عالما4.

ص: 168


1- فروع الكافي 6:94.

عامدا،أو ملحقا به كالمقصّر الملتفت بل غير الملتفت علي الأحوط،و أمّا الغافل و الناسي فصلاته صحيحة،لما ذكرنا من أنّه ليس من شرائط الصلاة عدم ايقاعها في المغصوب،فالصلاة في المكان المغصوب تامّة الأجزاء و الشرائط فهي صحيحة،نعم في حال العلم و العمد لا يتحقّق أحد شرائط الصلاة،و هو شرط التقرّب،فيبطل من ناحية فقد الشرط.

ثمّ إنّ من المانعين صاحب الكفاية،و نذكر ما أفاده،و قد مهّد امورا بعد أن عنون المسألة بجواز اجتماع الأمر و النهي في واحد و امتناعه،قال:الأوّل المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين و مندرجا تحت عنوانين،بأحدهما كان موردا للأمر، و بالآخر للنهي،و إن كان كلّيا مقولا علي كثيرين،كالصلاة في المغصوب (1).

أقول:ينبغي أن يكون عنوان المسألة هكذا:في جواز الأمر بالطبيعة و النهي عن بعض أفرادها لجهتين و عدمه،بلا فرق بين العنوانين و العنوان الواحد،كالمثال المتقدّم،و هو اشرب الماء لئلاّ تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لاضراره بك، فإنّ شرب الماء البارد من أفراد الواجب مع أنّه حرام،فمناط الجواز ليس تعدّد المتعلّق،بل يكفي وحدة المتعلّق إن كان متعلّق الأمر طبيعة و متعلّق النهي فردا منها لجهتين.

فما في وقاية الأذهان (2)من أنّ الجهتين التعليليتين من قبيل تعدّد العلّة، و تعدّد العلّة لا يقضي بتعدّد متعلّق الأمر،ليس في محلّه.

قال:الثاني الفرق بين هذه المسألة و مسألة النهي في العبادة،هو أنّ تعدّد الوجه و العنوان في الواحد يوجب تعدّد متعلّق الأمر و النهي بحيث يرتفع به غائلة3.

ص: 169


1- كفاية الاصول ص 183.
2- وقاية الأذهان ص 333.

استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد أو لا يوجبه الي آخر كلامه (1).

أقول:بل الفرق بينهما أنّ مورد النهي في العبادة قد تعلّقت فيه الحرمة بالعبادة بما أنّها عبادة خاصّة،و هو أخصّ من عموم الحكم المتعلّق بتلك العبادة،كحرمة صوم العيدين و صلاة الحائض،و مورد هذه المسألة أن يكون الوجوب متعلّقا بطبيعة،و لم يكن من شرائط صحّة تلك الطبيعة عدم تحقّقها في ضمن الفرد المحرّم و يكون النهي متعلّقا بفرد منها.

قال:و أمّا ما أفاده في الفصول إلي آخر كلامه (2).

أقول:أمّا ما ذكره في الفصول من أنّه يمكن أن تكون النسبة بينهما في مورد الاجتماع العموم المطلق فهو صحيح،لكن لا يعتبر أن يكون متعلّقا الأمر و النهي طبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة،كما يظهر من تمثيله بالأمر بالحركة و النهي عن التداني إلي موضع مخصوص فتحرّك إليه،فإنّ الحركة و التداني طبيعتان متخالفتان و قد أوجدهما في فرد واحد و الاولي أعمّ.

بل يصحّ إذا كان متعلّق الوجوب الطبيعة كشرب الماء،و متعلّق النهي بعض أفرادها كشرب الماء البارد،و الميزان في الصحّة أن لا يكون عدم التلبّس بالحرام من شرائط الصحّة.

قال:الثالث أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا يقع في طريق الاستنباط كانت المسألة من المسائل الاصوليّة الي آخر كلامه (3).

أقول:بل ينبغي ذكر هذا البحث في بحث التزاحم،فيقول القائل بالجواز إنّه حرام و واجب،و يقول القائل بالامتناع بتعيّن كونه حراما و عدم صحّة اتيان5.

ص: 170


1- كفاية الاصول ص 184.
2- كفاية الاصول ص 184.
3- كفاية الاصول ص 185.

الواجب في ضمنه مع اعترافه بالتزاحم.

قال:الخامس لا يخفي أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع و الامتناع يعمّ جميع أقسام الايجاب و التحريم الي آخر كلامه (1).

أقول:ما أفاده صحيح،و اجتماع الواجب التخييري و النهي التخييري ليس محالا جعلا،و لا يخفي أنّ عصيان النهي التخييري إنّما يتحقّق بفعلهما.

قال:السادس إلي أن قال:ولكن التحقيق عدم اعتبار المندوحة فيما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال الي آخر كلامه (2).

أقول:تقدّم أنّه إن لم يتمكّن المكلّف من الصلاة أصلا إلاّ في المكان المغصوب، فلا بدّ للشارع من ملاحظة أقوي الملاكين،أي:ملاك الصلاة و ملاك الغصب،و مع التساوي فلا ايجاب و لا تحريم،و علي كلّ تقدير فلا يمكن جعل الحكمين،و ليس المحذور عدم قدرة المكلّف علي الامتثال.

و ممّا ذكر يظهر ما في نهاية الدراية،حيث قال:إنّه يمكن أن يقال بعدم لزوم التقييد بعدم المندوحة من طريق آخر،و هو أنّه لو كان تعدّد الوجه مجديا في تعدّد المعنون لكان مجديا في التقرّب به من حيث رجحانه في نفسه الي آخر كلامه (3).

أقول:ليس اعتبار المندوحة من ناحية عدم التمكّن من الامتثال،كما تقدّم بيانه.

قال:السابع الي أن قال:إنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد بحسب الوجود و الايجاد لكان يجدي و لو علي القول بالافراد الي آخر4.

ص: 171


1- كفاية الاصول ص 186.
2- كفاية الاصول ص 187.
3- نهاية الدراية 1:264.

كلامه (1).

أقول:قد تقدّم أنّ مناط الجواز هو اشتمال الفرد المحرّم علي عين المصلحة الموجودة في غيره من غير فرق بين القول بتعلّق الأمر بالطبيعة أو بالفرد.

قال:الثامن أنّ محلّ النزاع ما إذا كان مناط الحكمين موجودا في مورد التصادق كي يحكم علي الجواز بكونه محكوما بالحكمين،و علي الامتناع بأقوي المناطين،أو بحكم آخر غيرهما لو لم يكن أحدهما أقوي.و أمّا إذا لم يكن لهما مناط كذلك،فيكون مورد الاجتماع محكوما بحكم واحد علي القولين،هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الاثبات،فالروايتان متعارضتان إن احرز أنّ المناط من قبيل الثاني،و إلاّ فلا تعارض بينهما إن كانتا في مقام بيان الحكم الاقتضائي،بل هما متزاحمان،نعم إن كانتا في مقام بيان الحكم الفعلي كانتا متعارضتين (2).

أقول:يرد علي قوله«و علي الامتناع بأقوي المناطين»أنّه علي الامتناع لا بدّ من اختصاص الوجوب بماعدا الفرد المحرّم،و إن كان أضعف ملاكا من الواجب؛ لأنّه متمكّن من امتثاله بغير المحرّم.و ما ذكره يتمّ فيما إذا لم يكن مندوحة،و هو خارج عن محلّ البحث.

قوله«و إلاّ فلا تعارض»يعني إن لم يحرز وجود المناط في أحدهما فقط،بل احتمل وجود المناطين،أو علم وجود أحد المناطين،و يرد عليه أنّه إن لم يحرز وجود المناطين لم يحكم بالتزاحم،بل لا بدّ من ملاحظة ظاهر الروايتين،سواء كانتا في مقام الحكم الاقتضائي أو الفعلي.و إن احرز وجود المناطين،فلا تعارض علي تقديري كون الحكم اقتضائيّا أو فعليّا علي الجواز،بل يكون المورد محكوما9.

ص: 172


1- كفاية الاصول ص 188.
2- كفاية الاصول ص 189.

بالحكمين،و علي الامتناع يكون محكوما بالحرمة،و يختصّ الوجوب بماعدا الفرد المحرّم.

ثمّ إنّ قوله«نعم»يريد أنّهما متعارضان علي الامتناع لتصريحه في الأمر التاسع به.

ثمّ لا يخفي أنّ الأمر الثامن كان في بيان ما يمكن أن يقع عليه ثبوتا و اثباتا، و الأمر التاسع في بيان وقوع الدليلين.

قال:التاسع ما ملخّصه:إن احرز وجود الملاكين في مورد الاجتماع من إجماع أو غيره فلا إشكال،و لو لم يكن دليل إلاّ إطلاق دليلي الحكمين،فلو كان في بيان الحكم الاقتضائي،لكان دليلا علي ثبوت المقتضي،و المناط في مورد الاجتماع فيكون من هذا الباب.و إن كانا بصدد بيان الحكم الفعلي،فعلي الجواز يستكشف ثبوت المقتضي للحكمين،و علي الامتناع فالاطلاقان متنافيان.

إلي أن قال:فتلخّص أنّه كلّما كانت دلالة علي ثبوت المقتضي في كلا الحكمين،فهو محلّ النزاع علي القولين،و كلّما لم تكن دلالة عليه،فإن كان دلالة علي عدم وجود المقتضي في أحدهما،فهو من باب التعارض علي القولين،و إن لم يكن دلالة علي عدم وجود المقتضي في أحدهما،فهو من باب التعارض علي الامتناع لا علي الجواز (1).

أقول:تقدّم أنّ محلّ النزاع هو تعلّق الأمر بالطبيعة،و تعلّق النهي بفرد من الطبيعة فيما لم يؤخذ من شرائط صحّة الطبيعة أن لا تكون في الفرد المشتمل علي الحرام،فإن علم ذلك أي تعلّق الأمر بالطبيعة و النهي بفرد منها كذلك من إجماع أو غيره،فلا إشكال.0.

ص: 173


1- كفاية الاصول ص 190.

و إن لم يكن إلاّ الدليلان،فإن كانا ظاهرين في ذلك،أي في تعلّق الأمر بالطبيعة و النهي بفرد منها،فلا فرق بين الحكم الاقتضائي و الحكم الفعلي،و لا بين القول بالجواز و القول بالامتناع،فعلي الجواز يكون مورد الاجتماع محكوما بالحكمين، و علي الامتناع يكون محكوما بالحرمة.و إن لم يكونا ظاهرين في ذلك،بل احتمل وجود الملاكين،و احتمل أيضا أن يكون النهي مخصّصا لإطلاق الأمر حتّي لا يكون للأمر ملاك.

و بعبارة اخري:إن شكّ في كون الدليلين يدلاّن علي المتزاحمين،أو يكون دليل النهي مقدّما علي دليل الأمر و مخصّصا لإطلاقه،فيصيران مجملين و لا بدّ من الرجوع إلي الأصل العملي علي كلا القولين.

فما يقال من أنّه علي الامتناع يكون من المتعارضين،لا وجه له؛لأنّ المفروض وجود المصلحة و المفسدة في الفرد المحرّم،و حيث انّ المصلحة موجودة في غيره،فلا بدّ من تخصيص الوجوب بماعدا الفرد المحرّم.

و بذلك يظهر أنّ ما يقال من أنّه علي الامتناع يكون من باب النهي في العبادة هو الصحيح؛لأنّ الفرد المحرّم يخرج عن دائرة متعلّق الأمر من أجل كونه حراما للوجوه المذكورة لترجيح النهي من أولويّة دفع المفسدة من المصلحة و الاستقراء، و لأنّه متمكّن من امتثال الواجب بالاتيان بالفرد غير المحرّم،فلا يتعلّق الأمر بالفرد المحرّم.

قال:العاشر لا إشكال في حصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر علي الجواز في العبادات و غيرها،و إن كان معصية للنهي أيضا (1).

أقول:علي الجواز يشكل في صورة العلم و العمد من ناحية قصد القربة المعتبرة1.

ص: 174


1- كفاية الاصول ص 191.

في العبادة؛لأنّ من شرائط الصلاة التقرّب بها،و لا يمكن التقرّب بالمبعد،و لعلّ المستفاد من الاهتمام بأمر الصلاة و كونها الناهية عن الفحشاء و المنكر و معراج المؤمن و غير ذلك أنّها توجب قرب المصلّي إلي اللّه تعالي،و بلوغه مرتبة من الروحانيّة و المعنويّة،فكيف يتقرّب بما هو مبعّد و معصية،بل يحتمل عدم تحقّق قصد القربة في الاتّحاد الموردي أيضا إذا كان المبعد في جميع أحوال الصلاة بأن استمع إلي الغناء من أوّل الصلاة إلي آخرها و نحو ذلك.

و قد اعترف السيّد المرتضي رحمه اللّه في الذريعة بمنافاة الصلاة في المغصوب مع القربة (1).

و قال الشيخ رحمه اللّه في العدّة:و أمّا الوضوء بالماء المغصوب فلا يصحّ؛لأنّ الوضوء عندنا لا يصحّ إلاّ بنيّة القربة،و ذلك يقتضي كون الفعل حسنا و زيادة،و ذلك لا يمكن في المغصوب لأنّه قبيح،و كذلك الصلاة في الدار المغصوبة لا تصحّ؛لأنّ نيّة القربة بها لا تصحّ إلي آخر كلامه (2).

و خالف في نهاية الدراية،فقال بأنّه لا ينافي القربة،حيث قال:إن اريد ما هو نظير القرب و البعد المكانيين،ففيه أنّ لازمه بطلان العمل حتّي في الاجتماع الموردي.و إن اريد منه سقوط الأمر و النهي و ترتّب الغرض و عدمه،فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطا للأمر حيث انّه مطابق ما تعلّق به،و مسقطا للنهي بالعصيان إلي آخر كلامه (3).

أقول:ليس البطلان في الاجتماع الموردي ضروري البطلان،فيمكن القول بالبطلان فيه أيضا؛لأنّه يعتبر في العبادة التقرّب،و الفعل الذي يلازمه العصيان لا9.

ص: 175


1- الذريعة 1:191.
2- عدّة الاصول ص 100.
3- نهاية الدراية 1:279.

يتقرّب به،فينافي التقرّب بالمبعد حتّي في الاجتماع الموردي.

قال في الكفاية في تتمّة كلامه:و كذا الحال علي الامتناع مع ترجيح جانب الأمر (1).

أقول:لا وجه لترجيحه بعد وجود المندوحة،فيتقدّم النهي و إن كان ملاكه أضعف،و بدون المندوحة فليس من محلّ النزاع.

قال:و أمّا عليه-أي علي الامتناع و ترجيح جانب النهي-فلا يسقط الأمر باتيان المجمع مع الالتفات إلي الحرمة أو بدونه تقصيرا إلي آخر كلامه (2).

أقول:تارة يعلم الحرمة و يعتقد أنّها لا تنافي قصد القربة قصورا أو اجتهادا،أو تقليدا لمن يقول بأنّه يصحّ قصد القربة،فلا يبعد الصحّة لشمول قوله عليه السّلام«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»له؛لأنّ قصد القربة داخل في المستثني منه،بل يحتمل الصحّة بدون شمولها؛لوجود ملاك الواجب و حصول قصد القربة.نعم يشكل لو علم الحرمة و جهل تقصيرا منافاتها لقصد القربة،بناء علي أنّ المقصّر كالعامد.

و اخري لا يعلم الحرمة تقصيرا مع الالتفات إلي احتمال كون الغصب حراما،أو بدون الالتفات إليه،فإن قلنا إنّه في حكم العامد من جميع الجهات فيشكل الصحّة، و إلاّ فيحتمل الصحّة لحصول قصد القربة منه.

و ثالثة لا يعلم الحرمة قصورا أو اجتهادا أو تقليدا أو نسيانا،أو معتقدا لعدم كونه حراما،فحيث إنّ الامتناع إنّما يكون من جهة فعليّة التكليف بالحرمة،و إذا لم يكن الفعل محرّما لم يكن معاقبا عليه،و كان ملاك الواجب فيه موجودا و حصل منه قصد القربة،فلا مانع من صحّته.

و بعبارة اخري:شمول إطلاق الأمر لهذا المورد بلا مانع؛لأنّ المانع هو كونه1.

ص: 176


1- كفاية الاصول ص 191.
2- كفاية الاصول ص 191.

معاقبا علي فعله و مبعدا عن المولي،و المفروض أنّه ليس معاقبا علي الفعل.

قال في الكفاية بعد تمهيد الامور العشرة:الحقّ هو القول بالامتناع،و نمهّد له مقدّمات:أحدها أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها الي آخر كلامه (1).

أقول:الذي يظهر من مطاوي كلماته أنّ مراده بالحكم الانشائي وجود ملاك الوجوب أو ملاك الحرمة،لكن لوجود مانع لم يبعث نحوه،و لذا لو كان الدليلان في مقام بيان وجود الملاكين،فلا تعارض و لا تزاحم بينهما؛لعدم مطلوبيّة الفعل من المكلّف لمانع أو غيره،فالتضادّ إنّما يكون إذا كانا بعثين فعليين،و لذا يقول بعدم مضادّة الحكم الواقعي للحكم الظاهري؛لأنّ الواقعي إنشائي.

ثمّ لعلّ مراده بتضادّ الأحكام هو تنافيها عند العقلاء،لا التضادّ اصطلاحا،و هو عدم اجتماع الوجودين بأن يكون الشيء مرّا و حلوا،و الأحكام الشرعيّة لها وجود اعتباري،و الوجود الاعتباري منشأ للآثار عند العقلاء،كالرئاسة و الأمارة و الزوجيّة و الملكيّة،فاعتبار شخص رئيسا في زمان و اعتباره مرؤوسا في ذلك الزمان بعينه ليس أمرا عقلائيا.

و كذا ايجاب شيء علي عهدة العبد مع ايجاب عدمه في زمان واحد أمر غير عقلائي،و الوجه فيه أنّهما متنافيان حتّي عند الأشعري،و مع الغضّ عن عدم تمكّن المكلّف من امتثالهما.

قلت في الجواب عن هذه المقدّمة:إنّه لا ننكر وجود التنافي بين الوجوب و الحرمة،بمعني عدم اجتماعهما من جهة واحدة و في محلّ واحد،ولكن نمنع التنافي بين حرمة الشيء من حيث كونه ذا مفسدة ملزمة،و بين كونه مصداقا للواجب من حيث اشتراكه مع غيره في وجود المصلحة الملزمة،فلا تنافي بين3.

ص: 177


1- كفاية الاصول ص 193.

كون الصلاة في المغصوب حراما،و بين كونها من أفراد الطبيعة الواجبة من حيث المصلحة،و لا تنافي بينهما من حيث المبدأ و لا من حيث القدرة علي الامتثال؛ لأنّ له أن يمتثل الواجب في ضمن الفرد المباح،و له أن يمتثله بسوء اختياره في ضمن الفرد المحرّم.

قال:ثانيها أنّ ايجاد متعلّق الأمر و عدم ايجاد متعلّق النهي عبارتان عمّا يصدر من المكلّف لا اسمه و لا العنوان الانتزاعي منه،فإنّ تعدّد الاسم و تعدّد انتزاع العناوين لا يوجبان تعدّده (1).

أقول:وحدة ما صدر من المكلّف وجودا و إسما و وحدته انتزاعا لا توجب امتناع الاجتماع،لما تقدّم من أنّ الفعل بعنوان واحد يمكن أن يكون مورد الاجتماع إن كان واجدا للمصلحة و المفسدة و كان له مندوحة.

قال:ثالثها أنّ تعدّد الوجه لا يوجب تعدّد المعنون الي آخر كلامه (2).

لعلّه يريد أنّ الجهات التعليليّة لا توجب تعدّد الشيء الواحد،لكن قياسه بذات الواجب محلّ إشكال،فإنّ مثل العلم و الحياة و القدرة موجودات متعدّدة في المخلوق،مع أنّها في الواجب عين ذاته المقدّسة جلّت عظمته.

أقول:قد عرفت أنّ تعدّد الجهة التعليليّة و إن لم يوجب تعدّد الشيء،لكنّه يوجب جواز كونه مصداقا للواجب و فردا محرّما.

قال:رابعها أنّ الموجود الواحد له ماهيّة واحدة الي آخر ما أفاده (3).

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ هذه المقدّمة لا توجب المنع عن جواز الاجتماع.

ثمّ قال:إذا تمهّد ما ذكر عرفت أنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا و ذاتا كان4.

ص: 178


1- كفاية الاصول ص 193.
2- كفاية الاصول ص 193.
3- كفاية الاصول ص 194.

تعلّق الأمر و النهي به محالا و لو بعنوانين؛لأنّهما يتعلّقان حقيقة بفعل المكلّف لا بالأسامي و العناوين المنتزعة (1).

أقول:ما أفاده صحيح فيما لم يكن له مندوحة حتّي في الاجتماع الموردي و التركيب الانضمامي،و قد سبق أنّه خارج عن محلّ النزاع،و أمّا الذي يكون محلّ النزاع،فهو أن يكون المورد متعلّق النهي و مصداقا للطبيعة الواجبة بحيث لم يكن فرق بينه و بين سائر الأفراد،و لم يكن من شروط صحّة الطبيعة أن لا تكون في الحرام،فلا مانع من الاجتماع،و يكفي تعدّد الجهة التعليليّة.

نعم اشتراط الصلاة بالتقرّب يقتضي عدم كونها مبعّدة،و الصلاة في المغصوب مبعّدة،فلا يتقرّب بها مع العلم بالغصب.

و أمّا في صورة الجهل و السهو و غيرهما ممّا هو معذور فيه فلا مانع من الصحّة، و ذلك لأنّ المفروض عدم اشتراط الصلاة بأن لا تقع في المغصوب،كاشتراطها بالطهارة،و اشتراطها بأن لا تقع في الذهب بالنسبة إلي الرجال،و العلم بالغصبيّة يوجب عدم تحقّق القربة المعتبرة فيها؛لأنّه مع الالتفات إلي كون العمل حراما معاقبا عليه فلا يتمشّي من المصلّي التقرّب،و أمّا إذا لم يكن الفعل حراما فعليّا معاقبا عليه و المفروض أنّ إطلاق الأمر بالطبيعة شامل له و قصد القربة يتحقّق من المصلّي،فلا وجه للتوقّف في الصحّة.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القول بالجواز لا يرتبط بتعلّق الأمر بالطبائع و لا بكون الفرد مقدّمة لوجود الطبيعة،بل انّه يجوز تعلّق الأمر بالطبيعة و تعلّق النهي بفرد منه علي ما بيّناه.

قال في الكفاية:استدلّ علي الجواز بامور:منها العبادات المكروهة الي آخر5.

ص: 179


1- كفاية الاصول ص 195.

كلامه (1).

أقول:لا يبعد أن يقال إنّ صوم يوم عاشورا لا يفترق عن غيره في مقدار مصلحة الصوم المندوب،ولكن ينطبق عليه عنوان التشبّه ببني اميّة مثلا،فيكون ثواب صومه كسائر الأيّام،لكن مع عنوان مكروه منطبق عليه ربما يزيد منقصته علي ما يصل إلي المكلّف من ثواب الصوم،و لذا قيل:إنّ الأئمّة عليهم السّلام كانوا يتركون صومه،و كذلك الكلام في الصلاة في الحمّام،و لا حاجة إلي تكلّف و تأويل.

و لا فرق في صحّة الصوم قضاء من شهر رمضان بين الصوم في يوم عاشوراء و بين غيره في أداء الواجب،و إن كان صومه في يوم عاشوراء مكروها.

قال في الكفاية:و منها أنّ أهل العرف يعدّون من أتي بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعا و عاصيا الي آخر كلامه (2).

أقول:الأولي في المثال أن يقول:إذا أمر المولي عبده بانجاء ابنه من الهلاك فيما إذا غشي عليه من العطش مثلا،فأرواه بالماء المغصوب،فإنّه يعدّ مطيعا عاصيا.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال علي جواز الاجتماع بالخروج من الدار المغصوبة لمن توسّطها باختياره،فإنّه مأمور به للتخلّص عن الحرام،و منهي عنه لكونه غاصبا، فقد اجتمع الواجب و الحرام،فيدلّ ذلك علي جواز اجتماع الأمر و النهي،و جعله في الكفاية من التنبيهات،و الأقوال فيه كثيرة،لكن لا يبعد أن يكون حراما فقط و يكون النهي متوجّها إليه إلي أن يخرج؛لأنّ التصرّف في مال الغير بغير رضاه حرام،و هو في جميع هذا الوقت متصرّف في مال الغير بغير رضاه،و هو قادر علي الترك من أوّل الأمر،و ليس في الخروج مصلحة توجب وجوب الخروج شرعا،2.

ص: 180


1- كفاية الاصول ص 196.
2- كفاية الاصول ص 202.

و إنّما يجب الخروج عقلا تقليلا للغصب.

نعم في بعض الموارد يمكن أن يكون مأمورا و منهيّا،كما إذا اضطرّ بسوء اختياره إلي أكل الميتة لحفظ نفسه عن الهلاك،فإنّه يجب عليه أكل الميتة لحفظ نفسه عن الموت،و مع ذلك يحرم عليه الأكل.

و لا بأس بذكر بعض الأقوال في مسألة الخروج من الدار المغصوبة:

أحدها:أنّه مأمور بالخروج من باب التخلّص،و منهي عنه من باب التصرّف في مال الغير،فهو معاقب علي الخروج لأنّه بسوء اختياره،و يجب عليه الخروج للتخلّص عن الغصب،و نظيره ما إذا ذهب بالميتة إلي موضع يتوقّف حفظ نفسه علي أكلها،فإنّه يجب عليه أكلها لحفظ نفسه بحيث لو لم يأكل فمات كان هو المعين علي نفسه،مع أنّه يحرم أكله لأنّه بسوء اختياره.

أقول:في مورد الغصب ليس مأمورا شرعا بالخروج تخلّصا بل منهي عنه،لكن يجب الخروج عقلا فرارا عن الغصب الزائد.

و ما في الوقاية (1)من أنّ المالك راض بالخروج فلا حرمة.ممنوع بل له أن يصرّح بأنّه لا يرضي بكونه في داره مطلقا،و إنّما يجب الخروج عقلا لكونه موجبا لقلّة الغصب.نعم في مسألة الميتة إن لم يأكلها لم يعاقب علي أكل الميتة و عوقب علي إهلاك نفسه،و إن أكلها عوقب علي أكل الميتة.

و حاصل المختار التفصيل بين الموارد،فقد يتمحّض في النهي،و قد يكون حراما و واجبا و لا محذور فيه،و المحذور المذكور في الكفاية (2)من أنّه طلب المحال حيث انّه لا مندوحة،مدفوع بأنّ ما كان له الفرار منه فليس طلب المحال، و المكلّف يتمكّن من عدم فعل ما ينجرّ إلي ذلك.9.

ص: 181


1- وقاية الأذهان ص 352.
2- كفاية الاصول ص 209.

ثانيها:أن يكون مأمورا بالخروج و عاصيا بالنظر إلي النهي السابق،عزاه في الوقاية إلي صاحب الفصول،و أوضح مراده بأنّه يقول إنّه مأمور بالخروج و النهي ساقط لأنّه لا يقدر علي امتثاله،لكن يجري عليه حكم المعصية،ثمّ إنّه أيّده و أوضحه فقال:لو نهيت عبدك عن السباحة مخافة الغرق عليه،فخالف و بعد عن سيف البحر حتّي وصل قبّته،أتراك لا تأمره بالخروج و تطلب منه الرجوع إلي آخر كلامه (1).

أقول:المولي ينهي عبده عن الغرق،فما لم يغرق ينهاه عنه بعبارات مختلفة من قوله لا تسبّح،و قوله إذا بعد عن الساحل اخرج،و غير ذلك.و كلّ ذلك تأكيد للنهي.

ثمّ إنّه يرد علي هذا الوجه أنّه إن كان عاصيا،فلا وجه لسقوط النهي و إجراء حكم المعصية عليه.

و أورد عليه في الكفاية (2)بأنّ اختلاف زمان الأمر و زمان النهي مع وحدة المتعلّق لا يرفع غائلة اجتماع الوجوب و الحرمة.

و أورد عليه في الوقاية (3)بأنّه التزم بنظيره فيما بين عقد البيع الفضولي و الاجازة، فقال-أي صاحب الكفاية-في تعليقة المكاسب بأنّ المال ملك لمالكه قبل الاجازة،و بعدها يكون ملكا للمشتري من زمان العقد.

أقول:لعلّ نظره إلي أنّ البعث إلي الشيء و الزجر عنه لا يجتمعان؛لأنّهما كالتحريك الخارجي و الزجر الخارجي.

ثمّ إنّه لا بأس بالالتزام بكونه واجبا و حراما فيما نحن فيه،كما ذكرنا في من اضطرّ إلي أكل الميتة بسوء اختياره.و أمّا اجتماع مالكين علي مملوك واحد مع9.

ص: 182


1- وقاية الأذهان ص 357.
2- كفاية الاصول ص 208.
3- وقاية الأذهان ص 369.

تعدّد زمان اعتبار الملكيّة،فهو غير صحيح كما مرّ،و قد مرّ أنّه يمكن أن يقال بكون المبيع الفضولي ملكا للمشتري فقط من حين العقد إذا وقع الاجازة،فهو نظير سائر المركّبات كالأمر بالصلاة،فإنّه يتعلّق بالتكبير إلي السلام و يسقط الأمر بالتكبير، و هكذا سائر الأجزاء من حين وقوعها إن تحقّق التسليم واقعا.

و ما ذكرناه ظاهر قوله عليه السّلام«خذ ابنه حتّي ينفذ لك البيع» (1)و إلاّ فمقتضي القاعدة لو لا النصوص الخاصّة الواردة في العقد الفضولي هو النقل،و تقدّم بعض الكلام في الشرط المتأخّر،فلاحظ.

ثالثها:ما عن التقريرات من أنّه مأمور بالخروج فقط،و ذكر وجهه و الايراد عليه في الكفاية (2)فلاحظ.

رابعها:ما اختاره في الكفاية من أنّه معاقب فقط بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه،و عصيان له بسوء الاختيار الي آخر ما أفاده (3).

أقول:النهي ينحلّ بحسب الأزمان،فكلّ آن من الغصب له نهي علي حدة،و لا معني لسقوط الخطاب إلاّ عدم القدرة،و لا مانع من نهي من لا يقدر إن كان عدم قدرته بسوء اختياره.

تتمّة:

قال في الكفاية:لا إشكال في صحّة الصلاة علي القول بالامتناع مع الاضطرار إلي الغصب لا بسوء اختياره،أو معه ولكنّها وقعت في حال الخروج علي القول بكونه مأمورا به،بدون إجراء حكم المعصية عليه،أو مع غلبة ملاك الأمر علي النهي مع ضيق الوقت،أمّا مع السعة فالصحّة و عدمها مبنيّان علي عدم اقتضاء

ص: 183


1- وسائل الشيعة 14:591 ح 1.
2- كفاية الاصول ص 206.
3- كفاية الاصول ص 203.

الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ و اقتضائه،فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة علي ما فيها من المفسدة،إلاّ انّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تضادّها بناء علي أنّه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخري،مع كونها أهمّ منها لخلوّها عن المنقصة الناشئة من قبل اتّحادها مع الغصب،لكنّه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه،فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة و إن لم تكن مأمورا بها (1).

أقول:يرد علي قوله«فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة و إن كانت مصلحتها غالبة علي ما فيها»أوّلا ما تقدّم أنّه علي الامتناع لا يصحّ الفرد المنهي،و إن كان ملاكه أضعف من ملاك الواجب؛لأنّه يتمكّن من امتثال الواجب بغير الفرد المنهي.

و ثانيا:ليس هنا إلاّ الأمر بالصلاة،فإن شمل الفرد المنهي فيشمله و يشمل غيره، و إن لم يشمله فلا وجه للصحّة،و ليس للفرد الغير المنهي أمر علي حدة أهمّ من الأمر المتعلّق بالفرد المنهي.

ثمّ إنّه إذا دخل المكان المغصوب جهلا بكونه مغصوبا،أو سهوا،أو بغير اختيار، فعلم في الأثناء جاز له الخروج فقط؛لأنّه مضطرّ إليه بغير سوء اختياره،و يحرم عليه المكث و لو بمقدار الخروج فضلا عن الزائد عليه.

فما يقال من جواز أن يصلّي مختارا بأن يمكث بمقدار زمان الخروج،إن كان زمان الصلاة أقلّ أو مساويا لزمان الخروج (2).في غير محلّه،و هو واضح.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:المورد الذي يدّعي القائل بجواز الاجتماع فيه،هو الذي يدّعي

القائل بالامتناع امتناعه

،و هو ما يكون ملاك الوجوب و ملاك الحرمة موجودين

ص: 184


1- كفاية الاصول ص 210.
2- مستمسك العروة الوثقي 5:348.

فيه و لم يكن ملاك الوجوب منحصرا به؛لأنّ المورد المنحصر لا يجتمع فيه الأمر و النهي؛لأنّ أحد الملاكين إن كان غالبا،فالحكم علي وفقه من الحرمة أو الوجوب فلم يجتمعا،و إن كانا متساويين فلا وجوب و لا حرمة.

فمحلّ النزاع أن يكون المورد مصداقا للطبيعة التي لها مصاديق اخر كلّها مساوية في ملاك الوجوب،و يكون فيه ملاك الحرمة،كالصلاة في المغصوب،فإنّ الصلاة لها مفهوم مبيّن شرعا،و ليس من شروطها أن لا تكون في المغصوب،كما أنّ من شروطها أن لا تكون في لباس الذهب بالنسبة إلي الرجال،فالفرد المتّحد مع الغصب فيه عين الملاك الموجود في غير المغصوب،و فيه ملاك الحرمة.

فالقائل بالجواز يدّعي جواز اجتماعهما،و القائل بالامتناع لا بدّ له أن يقول بأنّ الفرد الواجد لملاك الحرمة ليس مشمولا للطبيعة الواجبة،بل الأمر متعلّق بالطبيعة المتحقّقة في ضمن الفرد المباح،و إن كان ملاك النهي أضعف من ملاك الوجوب.

و المراد بملاك الحرمة هو الملاك الموجب للمنع الفعلي المستتبع لاستحقاق عقاب مرتكبه،فالجاهل بالحكم قصورا و القاطع بالخلاف موضوعا و الناسي لا حرمة عليهم واقعا،فليس ملاك الحرمة الموجب للتحريم عليهم فعلا موجودا، و لذا لا بدّ للقائل بالامتناع من القول بصحّة الصلاة في هذه الحالات.

و دعوي أنّ تقييد الواجب بعدم وقوعه في الحرام واقعي لا فرق فيه بين الجاهل و العالم،ممنوعة بما مرّ من أنّ الاجتماع من باب التزاحم،و المتزاحمان لا مانع من فعليّة أحدهما إلاّ فعليّة الآخر،فإن لم يكن أحدهما فعليّا فلا مزاحم للآخر.هذا كلّه في مرحلة الثبوت.

و أمّا في مرحلة الاثبات،فإن فهم من دلالة الدليلين،أو من خارجهما وجود الملاكين،كما إذا قال:اشرب الماء لئلاّ تموت عطشا،و لا تشرب الماء البارد لأنّه يضرّك ضررا كثيرا،فدلالة الدليلين مطابقة لمرحلة الثبوت،و يكونان من محلّ

ص: 185

النزاع.و كذا إن قال صلّ،و كان مفهوم الصلاة معلوما و قال:لا تغصب،فإنّه من محلّ النزاع.

و أمّا إن قال أكرم عالما و لا تكرم أيّ فاسق من أيّ قبيل كان،فهو خارج عن محلّ النزاع؛لأنّ الدليل الثاني من حيث دلالته الوضعيّة يكون قرينة علي المراد من الدليل الأوّل.

و إن قال أكرم عالما و لا تكرم الفاسق،و لم يحرز من الخارج وجود الملاكين، فيحتمل أن يكونا من محلّ النزاع إن كان الملاكان موجودين،و يحتمل أن لا يكونا من محلّ النزاع إن لم يكونا موجودين.

و حينئذ إن قلنا بأنّ المطلق الشمولي يكون قرينة علي المطلق البدلي،لم يكونا من محلّ النزاع.و علي كلّ حال لا فرق بين القول بالجواز و الامتناع ثبوتا و إثباتا في أنّ محلّ النزاع يكون من باب التزاحم لا التعارض.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا المناقشة فيما ذكره في الكفاية في الأمر الثاني،قال:

علي الامتناع يقدّم الأقوي ملاكا،و إن كان دليله أضعف من دليل الآخر إن احرز الغالب،و كان الدليلان في مقام الحكم الفعلي.و ان احرز أنّ أحدهما غالب لكن لم يعلم بعينه،و كان الدليلان في مقام الحكم الفعلي،كانا متعارضين؛لأنّ كلّ واحد منهما يخبر عن الغالب،فيتعارضان فيرجع إلي المرجّحات الدلاليّة إن كانت،و إلاّ فإلي المرجّحات السنديّة.و بطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوي مقتضيا،و إن كان أحد الدليلين متكفّلا للحكم الفعلي اخذ به،و إن كانا في مقام الحكم الاقتضائي، فلا بدّ من الرجوع إلي ما تقتضيه الاصول العملية (1).

أقول:لازم قوله«يقدّم الأقوي ملاكا»أنّه إن كان ملاك الأمر أقوي قدّم علي1.

ص: 186


1- كفاية الاصول ص 211.

النهي.و فيه أنّه إذا لم تكن الطبيعة منحصرة في الفرد المحرّم،فهو قادر علي امتثالها بالفرد المباح.

و يرد علي قوله«كانا متعارضين»أنّه لو سلّم تقديم الغالب،فإذا لم يعلم أيّهما الغالب تعيينا،فلا بدّ من الاحتياط إن أمكن و إلاّ تخيّر،و لا يكون من باب التعارض حتّي يرجع إلي الجمع الدلالي أو السندي،و كذا الكلام إن لم يحرز الغالب منهما.

ثمّ قال في الكفاية:إنّه إذا قدّم الغالب منهما ملاكا،فهو في مورد يكون فعليّا، فلو منع عن فعليته مانع من اضطرار أو جهل أو نسيان،لم يكن مانع من تأثير مقتضي الملاك المغلوب،فهو نظير عدم التمكّن من فعل الأهمّ،فإنّ الأمر بالمهمّ يصير فعليّا حينئذ لعدم وجود المانع و هو الأمر بالأهمّ (1).

أقول:الأولي أن يقال:إنّ إطلاق الطبيعة المأمور بها شامل للمورد الذي منع فيه عن فعلية النهي مانع،و المفروض أنّه لا تكليف بالحرام و لا عقاب عليه؛لأنّ التكليف به موقوف علي القدرة عليه و وصوله،و مع الاضطرار لا قدرة عليه،و مع الجهل و النسيان لم يصل التكليف.

التنبيه الثاني:ذكر في الكفاية لترجيح النهي وجوها:

منها:أنّ إطلاق النهي لجميع الأفراد شمولي و إطلاق الأمر بدلي،و الاطلاق الشمولي يكون قرينة علي التصرّف في الاطلاق البدلي،ثمّ أجاب عنه بالمنع عنه فراجع (2).

أقول:لا يمكن تصديق ذلك في مثل لا تكرم الفاسق مع أكرم عالما؛لأنّهما متنافيان عرفا،إلاّ أن يعلم من الخارج أنّ مصلحة الأمر موجودة حتّي في العالم

ص: 187


1- كفاية الاصول ص 211.
2- كفاية الاصول ص 212.

الفاسق.و أمّا إن لم يعلم و قدّم الاطلاق الشمولي،فيكون خارجا عن محلّ النزاع.

و أمّا مثل صلّ و لا تغصب إن كان مفهوم الصلاة معلوما،فلا تنافي بينهما علي القول بالجواز،و علي الامتناع لا بدّ من تقديم النهي علي ما بيّنا من تمكّنه من امتثال الواجب في ضمن الفرد المباح.

و منها:أنّ دفع المفسدة أولي من جلب المنفعة،و أجاب عنه في الكفاية فراجع (1).

أقول:الترجيح به يكون في صورة الانحصار التي ليست من محلّ النزاع.

و منها:الاستقراء،فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة علي الوجوب،كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار،و عدم جواز الوضوء من الماءين المشتبهين.

و فيه أوّلا:أنّه ليس الأمر كذلك.و ثانيا:أنّه لو سلّم تحقّقه فإنّه لا يفيد في غير الشرعيّات إلاّ الظنّ،و هو ليس بحجّة في الشرعيّات.

ثمّ إنّه ليس من ترجيح الحرمة علي الوجوب ترك الوضوء من الانائين،فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس حرمة تشريعيّة،و لا تشريع فيما لو توضّأ منهما احتياطا.

ثمّ انّه تعرّض في الكفاية لمسألة التوضّي من الانائين اللذين علم نجاسة أحدهما،قال ما حاصله:إن توضّأ بأحدهما،ثمّ غسل مواضع الوضوء بالآخر و توضّأ به،فإنّه يعلم بصيرورته متطهّرا من الحدث،فإن كان الماء الثاني قليلا، فعند ملاقاته للموضع يحصل العلم التفصيلي بنجاسة الموضع:إمّا من ملاقاته للماء الأوّل،أو من ملاقاته للثاني،فيشكّ بعد انفصال الغسالة في تطهّره؛لاحتمال كون الماء الثاني طاهرا فيستصحب نجاسته.و إن كان الماء الثاني كرّا،فلا يحصل العلم4.

ص: 188


1- كفاية الاصول ص 214.

بنجاسة الموضع،فتجري أصالة الطهارة (1).

قلت:أمّا ما ذكره فيما إذا كان الماء الثاني قليلا،فإنّه لا دليل علي أنّه لو صبّ الماء علي الموضع لتطهيره أنّ الموضع ينجّس الماء،بل يحتمل أنّه يطهر و الغسالة كأنّها أخذت النجاسة الموجودة في الموضع،و لم ينجس الماء بملاقاة النجاسة، فلا علم تفصيلي بنجاسة الموضع؛لأنّه لو كان نجسا فقد طهر بملاقاة الماء قبل انفصال الغسالة إن تعقّبه الانفصال،فلا فرق بين القليل و الكرّ.نعم لا بدّ من تكرار الصلاة بالاتيان بها مرّة بعد كلّ وضوء.

التنبيه الثالث:قال في الكفاية:يلحق بتعدّد العنوان تعدّد الانتساب،فانتساب الاكرام إلي الفاسق مغاير لانتسابه إلي العالم،كمغايرة عنواني الغصب و الصلاة، فمثل قولك أكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق خارج عن باب التعارض و داخل في باب التزاحم،و ذكره في باب التعارض مبني علي القول بالامتناع (2).

أقول:فيه أوّلا أنّه خارج عن محلّ النزاع؛لأنّ متعلّقهما وجود واحد منحصر، فإنّ العالم الفاسق لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين؛لأنّ المصلحة إن كانت غالبة علي المفسدة وجب إكرامه،و إن انعكس حرم إكرامه،و إن تساوتا فلا وجوب و لا تحريم،و لذلك يكون من باب التعارض.

و ثانيا:أنّ ما ذكره من أنّ ذكره في باب التعارض مبني علي القول بالامتناع في غير محلّه،لما عرفت من عدم الفرق بين القولين.

ثمّ إنّه ذكر في نهاية الدراية:الصحيح مثل أكرم العالم بنحو العموم البدلي (3).

أقول:ظاهره أنّ الصحيح أكرم العالم و لا تكرم الفسّاق،و ليس كذلك؛لأنّ لا5.

ص: 189


1- كفاية الاصول ص 216.
2- كفاية الاصول ص 216.
3- نهاية الدراية 1:305.

تكرم الفسّاق علي نحو العموم يكون قرينة علي إرادة غير الفاسق من أكرم العالم؛ لأنّ دلالته علي العموم بالوضع علي ما قيل،بل الصحيح أكرم عالما و لا تكرم الفاسق.

فصل في أنّ النهي عن العبادة أو المعاملة هل يقتضي فسادهما أم لا؟

اشارة

و ينبغي أن يعلم أنّ المراد النهي التكليفي لا النهي الوضعي الذي ادّعي أنّ ظاهر بيان المخترع لشيء مركّب أن يكون الأوامر و النواهي المتعلّقة به إرشادا إلي الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة،فمثل لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ليس نهيا تكليفيّا حتّي تكون الصلاة فيما لا يؤكل لحمه من المحرّمات التكليفيّة كشرب الخمر،بل هو إرشاد إلي مانعيّة لبس ما لا يؤكل لحمه في الصلاة،فتكون باطلة معه.

أقول:إن كانت قرينة خاصّة أوجبت صرف الأمر و النهي عن ظاهرهما،و إلاّ فلا وجه لصرفهما عنه،بل ينبغي إبقاؤهما علي ظاهرهما،و هو أنّ الصلاة الصحيحة من جميع الجهات حتّي مع قصد القربة يحرم ايقاعها فيما لا يؤكل لحمه حرمة تكليفيّة،و حرمة العبادة لا تجتمع مع الأمر بها.نعم مثل قوله«لا صلاة إلاّ بفاتحة» ظاهر في جزئيّة الفاتحة للصلاة،و مقتضاه أنّ الصلاة الصحيحة من جميع الجهات حتّي مع قصد القربة إن كانت بدون الفاتحة ليست محرّمة تكليفا،بل هي حرام تشريعا.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)امورا قبل الدخول في البحث:

الأوّل:الفرق بين هذه المسألة و مسألة الاجتماع أنّه يبحث في هذه المسألة في دلالة النهي علي الفساد،و أمّا في مسألة الاجتماع فيبحث عن أنّ تعدّد العنوان هل

ص: 190


1- كفاية الاصول ص 217.

يوجب تعدّد متعلّق الأمر و النهي أم لا؟

أقول:الفرق بين المسألتين أنّ البحث في هذه المسألة في أنّ النهي عن العبادة بعنوان العبادة،كالنهي عن صلاة الحائض و النهي عن صوم العيدين،يوجب فسادها أم لا،و كذا النهي عن المعاملة.و أمّا في مسألة الاجتماع،فيبحث في أنّ الواحد وجودا و ماهيّة هل يتعلّق به النهي و الأمر من جهتين تعليلتين أم لا؟ فالسجود في الصلاة في المكان المغصوب قد تعلّق به النهي من حيث كونه غصبا، و تعلّق به الأمر من حيث كونه جزء للصلاة،و لم يتعلّق النهي بالسجود بما هو عبادة.

قال في الكفاية:الثالث ظاهر النهي هو النهي التحريمي إلاّ انّ ملاك البحث يعمّ التنزيهي في العبادات؛لأنّ الملاك إن كان المضادّة،فالأحكام الخمسة كلّها متضادّة،فالنهي التنزيهي يضادّ الأمر الوجوبي و الندبي (1).

أقول:معني النهي التنزيهي أنّ متعلّقه جائز الوقوع،و جواز وقوع العبادة يتوقّف علي الأمر بها،فالنهي التنزيهي عن العبادة ملازم للأمر الاستحبابي أو الوجوبي بها،فلا مضادّة بينهما،لأنّ النهي التنزيهي عن العبادة الواجبة ينشأ عن وجود مفسدة غير ملزمة في المتعلّق من دون تصرّف في المصلحة الملزمة الموجودة في الفعل الواجب،كالصلاة في الحمّام،فإنّ مصلحتها الملزمة متّحدة مع الصلاة في غير الحمّام،إلاّ انّها مشتملة علي مفسدة غير ملزمة،و كذا المصلحة الراجحة في المستحبّ.

قال في الكفاية:و يعمّ النهي الغيري (2).

أقول:أوّلا قد أنكرنا وجود النهي الغيري المولوي؛لأنّ أمر المولي و نهيه8.

ص: 191


1- كفاية الاصول ص 218.
2- كفاية الاصول ص 218.

المولوي تابعان للمصلحة و المفسدة في المتعلّق،و النهي الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة و لا مصلحة و لا مفسدة فيها أصلا،و إنّما هي دخيلة في الامتثال،و ليس للمولي شأن في مرحلة الامتثال إلاّ إرشادا لا مولويّا.نعم لو سلّم وجود النهي المولوي الغيري و تعلّق بالعبادة،لكان منافيا لقصد التقرّب مع العلم و العمد.

و ثانيا:أنّ النهي الغيري لا يتعلّق بالعبادة بما هي عبادة،بل يتعلّق بالعمل بعنوان كونه مقدّمة للحرام من حيث كونه مقدّمة،فيكون من باب اجتماع الأمر و النهي.

قال في الكفاية:الرابع ما يتعلّق به النهي إمّا أن يكون عبادة أو غيرها،و المراد بالعبادة هنا ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة للّه تعالي موجبا بذاته للتقرّب من حضرته لولا حرمته،كالسجود و الخضوع و الخشوع للّه و تسبيحه و تقديسه،أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمرا عباديّا لا يسقط إلاّ إذا أتي به بنحو قربي كسائر أمثاله،نحو صوم العيدين و الصلاة في أيّام العادة (1).

أقول:تقدّم في بحث التعبّدي و التوصّلي أنّ بعض الأفعال يمكن أن يصير عبادة بالنيّة،مع أنّه ليس عبادة في ذاته،كالنوم فإنّه مباح في نفسه،لكن من نام بنيّة أن يتقوّي بدنه ليقدر علي العبادة،كان مثابا عليه،و كذا كلّ عمل قصد كونه للّه إن كان قابلا للانتساب إليه كان عبادة و مثابا عليه،فإن فرض تعلّق النهي بالتعبّد بالنوم،فإن فعله للّه تعالي فقد ارتكب محرّما واحدا،و إن بني علي أنّه مأمور به و قصد الأمر به،فقد عصي حرمتين:الحرمة الذاتية،و الحرمة التشريعية.

و أمّا ما ذكره من أنّ النهي عن صوم يوم العيد نهي عن العبادة؛لأنّ الصوم إن تعلّق الأمر به كان عبادة.ففيه نظر؛لأنّ الامساك بدون نية القربة ليس صوما و لا حراما.و من صام يوم العيد غير متقرّب إلي اللّه لم يكن حراما؛لأنّ صوم يوم العيد9.

ص: 192


1- كفاية الاصول ص 218-219.

حرام.

قال في الكفاية:الخامس أنّه لا يدخل في عنوان النزاع إلاّ ما كان قابلا للاتّصاف بالصحّة و الفساد الي آخر كلامه (1).

أقول:الظاهر عدم الحاجة إلي هذا الأمر،و الأولي أن يقال:إن تعلّق النهي التحريمي بالعبادة و صارت محرّمة بعنوان العبادة،فلا يعقل تعلّق الأمر بها،و إن تعلّق بأثر المعاملات اقتضي عدم امضاء الشارع لها،فلا تؤثّر في الملكيّة،و أمّا الصحّة و الفساد فهما في مقام تطبيق ما أتي به علي المأمور به و عدمه،فلا ربط لهما بمقام الأمر و النهي،و الصحّة في العبادات و المعاملات أمر واحد،و هو انطباق المجعول الشرعي من العبادة كالصلاة،و المعاملة كالبيع المشروع مع المأتي به في الخارج،فهي أمر انتزاعي في كليهما.

قال:السابع لا أصل في المسألة يعوّل عليه لو شكّ الي آخره (2).

أقول:إن شكّ في أنّ حرمة العمل هل تنافي الأمر به أم لا و كان للأمر إطلاق، فمرجع الشكّ إلي الشكّ في التقييد،فيتمسّك لصحّة العمل بإطلاق الأمر،و إن لم يكن له إطلاق فمرجعه إلي الشكّ في أصل الأمر،فلا يجوز الاتيان به بقصد الأمر، هذا في العبادات،و أمّا المعاملات فإن كان لأدلّتها إطلاق فيتمسّك به لصحّتها،و إلاّ فيرجع الشكّ إلي إمضاء الشارع للمعاملة،و الأصل عدمه.

قال:الثامن أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة كصوم يوم العيدين،أو جزءها كقراءة العزائم في الفريضة،أو شرطها الخارج عنها،أو وصفها الملازم كالجهر و الاخفات للقراءة،أو الغير الملازم كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة2.

ص: 193


1- كفاية الاصول ص 219.
2- كفاية الاصول ص 222.

عنها (1).

أقول:لا ريب في كون القسمين الأوّلين محلّ النزاع.

و أمّا الثالث،فإن أريد من الشرط الخارج ما كان متقدّما أو متأخّرا و كان عبادة،فلا ريب في دخوله في محلّ النزاع،كالوضوء للصلاة مثلا إن جعلناه شرطا لا الطهارة الحاصلة منها المقارنة للعمل،لكن لا يحضرني أن يكون متعلّق النهي الشرط الخارج بعنوان العبادة،أمّا الوضوء بالماء المغصوب،فهو من باب الاجتماع.

و أمّا الرابع،فيمكن فرضه فيما إذا أجهر بالقراءة رياء في الاجهار لا في أصل القراءة،بأن يكون الاجهار المتّحد مع القراءة متعلّق النهي لا بعنوان آخر حتّي يكون من باب الاجتماع.

و أمّا الخامس،فلا يحضرني له مثال يكون متعلّق النهي الوصف الغير الملازم من حيث كونه وصفا للعبادة،و لا يكون من باب الاجتماع.

و بعد تمهيد الامور المذكورة يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادات بما هي عبادات

اشارة

فنقول:إن تعلّق النهي بالعمل العبادي،كصوم العيدين،و هو الامساك عن المفطرات للّه تعالي،و كصلاة الحائض،و هي الأفعال المخصوصة للّه تعالي،كان العمل المأتي به للّه حراما و مبغوضا،فإن بني علي كونه مأمورا به و قصد تعلّق الأمر به مضافا إلي ذلك كان مشرّعا أيضا،فالعمل المجعول للّه تعالي حرام،و قصد كونه مأمورا به حرام آخر،و لا ضير في اجتماعهما،كشرب الخمر بقصد الأمر به.

ص: 194


1- كفاية الاصول ص 222-223.

و قد يقال:إنّ العمل قد يكون عبادة إن تعلّق به الأمر،و قد يكون عبادة في ذاته كالسجود.

أقول:لا فرق بين السجود و غيره في أنّ النهي إن تعلّق بأصل السجود إن لم يكن للّه تعالي،فلم يتعلّق بالعبادة.و إن تعلّق بالسجود للّه تعالي،فقد تعلّق بما هو عبادة،و الفرق بين السجود للّه تعالي و غيره من الأفعال القابلة لجعلها للّه،أنّ السجود قابل في ذاته لجعله للّه.فالمراد بالعبادية في ذاته ما علم كونه قابلا للعبادة بدون الأمر به،هذا فيما كان عبادة مع قطع النظر عن الأمر به.

و أمّا ما كان عبادة لو امر به،كصوم يوم العيدين و صلاة الحائض و نحوهما، فالنهي المتعلّق بالصوم قد تعلّق بالامساك بقصد التقرّب أي بأن يكون للّه تعالي، فإنّه معني الصوم الذي تعلّق به النهي كصوم سائر الأيّام،و هذا حرام.

و أمّا الامساك عن جميع المفطرات بدون قصد القربة فليس بحرام،و لذا ذكرنا أنّ من أراد الاحتياط في بعض الأسفار،كما إذا سافر بريدا و أقام ليلة ثمّ رجع بريدا أنّه يصوم و يقصد إن كان الصوم في هذا السفر مشروعا فإمساكي للّه،و إن لم يكن مشروعا فإمساكي مجرّد إمساك.

إشكال و دفع:

أمّا الأوّل،فهو أنّ النهي إن تعلّق بذات العمل،فهي ليست عبادة.و إن تعلّق بإتيانه بقصد الأمر مع أنّه لا أمر به،كان حراما تشريعا،و محلّ الكلام الحرمة التكليفية لا التشريعية.

و أمّا الثاني،فهو أنّ النهي إن تعلّق بإتيان العمل للّه تعالي،كان حراما تكليفا، فإن قصد الأمر مع ذلك كان حراما في نفسه و حراما تشريعا،كما إذا قصد الأمر بشرب الخمر.

و أجاب عن الاشكال في الكفاية،بأنّ معني حرمة صوم العيدين أنّه لو امر به

ص: 195

كان عبادة لا يسقط الأمر به إلاّ إذا أتي به بقصد القربة،كصوم سائر الأيّام (1).

و قريب منه ما ذكر في فوائد الاصول (2)و غيره.

أقول:ظاهر كلامه أنّ قصد الصوم في العيدين حرام حتّي مع عدم قصد القربة في حين أنّ الأمر ليس كذلك؛لأنّ الحرام هو الصوم الصحيح،أي:الامساك بقصد القربة.

و أجاب بوجه آخر،فقال:مع أنّه لو لم يكن النهي في العبادات دالاّ علي الحرمة لكان دالاّ علي الحرمة التشريعيّة،فيدلّ علي أنّها ليست بمأمور به (3).

أقول:حمل النهي علي الحرمة التشريعيّة خلاف الظاهر.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:

تقدّم أنّ العبادة التي اجتمع فيها الأمر و النهي إن وقعت حال الجهل بالحرمة أو النسيان أو غيرهما من الأعذار،صحيحة حتّي علي الامتناع؛لأنّ المانع هي فعليّة النهي،و لا يتوهّم أنّ ذلك يقتضي أن يكون النهي في العبادة أيضا كذلك،و تكون العبادة المنهيّة صحيحة حال العذر لعدم فعليّة النهي،و ذلك للفرق بين اجتماع الأمر و النهي و بين النهي في العبادة،فإنّه يوجب تخصيص الأمر بالعبادة بغير مورد النهي،فصلاة الحائض ليست مأمورا بها،هذا إن كان إطلاق النهي شاملا لجميع الأحوال.

و أمّا إن لم يكن له إطلاق،فيمكن أن يقال بأنّ القدر المتيقّن من النهي هو حال العلم و العمد لا حال العذر،فلا نهي حال العذر.

التنبيه الثاني:

قد تقدّم أنّ من نذر أن يصلّي صلاة الفريضة الواجبة في الجماعة،إن

ص: 196


1- كفاية الاصول ص 225.
2- فوائد الاصول 1:286.
3- كفاية الاصول ص 225.

صلّي فرادي كانت صلاته حنثا للنذر،و الحنث منهي عنه،فتكون الصلاة فرادي منهيّا عنها،لكن هذا النهي عن العبادة لا يوجب فسادها؛لأنّها إن اقتضت الفساد انتفي الحنث،و إن انتفي الحنث انتفي الحرمة،فهذه الحرمة لا توجب الفساد لاستلزامه المحال،أي:يستلزم من وجوده عدمه،و سبق في مسألة الصحيح و الأعمّ،فلاحظ.

المقام الثاني: في النهي في المعاملات

اشارة

و المراد به النهي التحريمي التكليفي لا النهي الارشادي إلي المانعيّة الذي منه النهي عن شيء في المركّبات المخترعة،فقد يقال بأنّ الظاهر من الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمركّبات الارشاد إلي الجزئية و الشرطية،من حيث انّ بيان المركّب علي عهدة مخترعه،و ذلك قرينة علي صرف الأمر و النهي عن ظاهرهما في التكليفي إلي بيان ماهيّة المركّبات المخترعة.

ثمّ إنّ النهي المتعلّق بالمعاملات يتصوّر علي وجوه:

أحدها:النهي المتعلّق بالعقد بما هو فعل مباشري للعاقد،لا بما هو تسبيب إلي الملكيّة،كعقد المرأة البيع بصوتها الفاتن للأجنبي،و حرمته لا توجب عدم انعقاد البيع حتّي لا ينتقل المال،بل العقد صحيح وضعا و مشمول لأدلّة نفوذ العقود، و كالبيع وقت النداء يوم الجمعة،و تسمّي الحرمة المذكورة بحرمة السبب في الاصطلاح.

ثانيها:النهي المتعلّق بمضمون المعاملة بما هو فعل توليدي للعاقد،أي:انتقال المبيع إلي المشتري و ملكيّته له،و حرمته موقوفة علي تحقّق الملكيّة؛لأنّ المفروض أنّ ملكيّة المشتري للعين حرام تكليفا،و إن لم يتحقّق الملكيّة فلا يكون حراما،و يسمّي بحرمة التسبيب؛لأنّه فعل توليدي غير مباشري بل تسبيبي،كما

ص: 197

يسمّي بالمسبّب أيضا.

و يمكن أن يجعل ملكيّة الكافر للمسلم من هذا القبيل،بناء علي أنّ إسلام عبده لا يوجب خروجه عن ملكه،بل يجب ابتياعه منه و يحرم ملكيّته له.

ثالثها:النهي المتعلّق بالنقل بالمعني المصدري،أي النقل البيعي،و هو يكون علي وجهين:

الأوّل أن يعلم كون البيع واجدا لجميع شرائط الصحّة،و لازمه نفوذه،و يكون المحرّم النقل البيعي،كنهي الوالد ابنه عن بيع داره إذا تأذّي من بيعه،أي:نقل ماله بالبيع و إن لم يتأذّ من نقله بهبة و نحوها.

و حرمة البيع المذكور لا تنافي صحّته؛لأنّ النسبة بين دليل إمضاء البيع و حرمة ايذاء الوالدين العموم من وجه،فدليل حرمة الايذاء ليس أخصّ من عموم دليل إمضاء البيع،و لم يثبت اشتراط صحّة البيع بعدم الايذاء.

الثاني:أن يكون النهي متعلّقا بالنقل بالمعني المصدري،كالبيع الربوي مثلا،و لم يعلم كون صحّته غير مشروطة بأن لا يكون ربويا،و حينئذ حيث انّ النسبة بين دليل حرمة البيع الربوي و دليل إمضاء البيع و مطلق العقود العموم و الخصوص المطلق،فيكون دليل الحرمة مخصّصا لدليل الامضاء،فلا يوجب البيع ملكيّته للمشتري،و يعبّر عنه بالتسبّب بالمعاملة،و هو حرام و إن لم يكن السبب حراما و لم يكن المسبّب-أعني:انتقال المال من البايع إلي المشتري-حراما بغير البيع،فإنّ انتقال الزيادة إلي المشتري بهبة و نحوها ليس بحرام.

و قال في الكفاية بعد نقل دلالة النهي علي الصحّة عن أبي حنيفة:و التحقيق أنّه كذلك،أي يدلّ علي الصحّة إذا كان عن المسبّب أو التسبيب؛لأنّه إذا لم يؤثّر العقد

ص: 198

في النقل،فأيّ شيء يكون متعلّق النهي؟مع أنّه لا بدّ أن يكون متعلّقه مقدورا (1).

أقول:ما ذكره صحيح في النهي عن المسبّب،أي:النهي عن ملكيّة الكافر للمسلم مثلا.

و أمّا النهي عن التسبيب،فإن كان نهيا عن التسبيب الشرعي الذي أمضاه الشارع،فالنهي عنه يدلّ علي الصحّة.و أمّا إن كان النهي عن التسبيب نهيا عن قصد النقل العرفي،فالمحرّم هو قصد النقل بالعقد الذي يقصده عرف العقلاء عند بيعهم الخمر و الميتة و البيع الربوي،و هو حرام تكليفا،و لا تدلّ الحرمة التكليفية علي صحّة المعاملة؛لأنّ متعلّق الحرمة التكليفيّة قصد النقل عند عرف الناس، و البايع يتمكّن من قصد المعاملة،كما يقصده عرف العقلاء.ثمّ إنّه إن دلّ دليل علي الحرمة الوضعيّة،كان البيع حراما وضعا و تكليفا،كبيع الميتة.و أمّا إن لم يدلّ دليل علي الحرمة وضعا،فهل الحرمة التكليفيّة توجب عدم إمضاء المعاملة أم لا؟ وجهان،لا يبعد أن يقال:إنّ بيع الميتة مثلا إنّما يصحّ شرعا بعد إمضاء الشارع له، و مع النهي التكليفي عن النقل،فحيث انّ النهي عنه أخصّ من عموم إمضاء البيع، فيخصّصه بغير بيع الميتة.

رابعها:النهي المتعلّق بالتصرّف في الثمن أو المثمن،مثل قوله«ثمن الميتة سحت»و«آكل الربا آكل النار»و نحوهما،فإن كان ظاهرا في أنّ حرمة التصرّف ناشئة عن عدم تأثير البيع في انتقال الثمن أو المثمن،و انّهما باقيان علي ملك أربابهما،و يحرم التصرّف في ملك الغير،فيدلّ علي بطلان المعاملة.و إن لم يكن ظاهرا في ذلك،فلا ينافي نفوذ المعاملة،كما قيل في المال المأخوذ بحكم الجائر إن كان عين مال الآخذ،إنّ العين ملك للآخذ و يحرم التصرّف فيه،لقوله في خبر8.

ص: 199


1- كفاية الاصول ص 228.

عمر بن حنظلة«و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا،و إن كان حقّه ثابتا»فإنّه مع أنّه ملكه يحرم له التصرّف فيه،لكنّه بعيد.

و الأقرب دلالته علي فساد المعاملة،و لعلّ المراد من حرمة التصرّف في الثمن من أجل كونه مال الغير مبغوضيّة التصرّف في مال الغير بهذا الطريق،و يكون مبغوضيته بالسرقة أقلّ منه.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:ذكر في فوائد الاصول (1)أنّ النهي في المعاملات يتعلّق بثلاثة أشياء:

أحدها:الانشاء،كالبيع وقت النداء،و إنشاء البيع أثناء الصلاة بناء علي حرمة إبطال الفريضة،و إنشاء المرأة البيع بصوتها الذي لا يجوز لها إسماعه الرجال، و حرمته لا تستلزم مبغوضية المنشأ،فلا يبطل البيع.

ثانيها:المنشأ،و هو النقل و الانتقال،و النهي عنه يقتضي الفساد؛لأنّ المنشأ إذا كان حراما فهو ممنوع عنه شرعا،و المانع الشرعي كالمانع العقلي،و ذلك لأنّ الأمر و النهي الشرعيّين موجبان لخروج متعلّقهما عن سلطنة المكلّف،و يكون في عالم التشريع مقهورا علي الفعل أو الترك،و من هنا كان أخذ الاجرة علي الواجبات حراما لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته و سلطانه،و كذا النهي يكون مخصّصا لعموم«الناس مسلّطون علي أموالهم»و علي ذلك يبتني عدم جواز بيع منذور الصدقة.

ثالثها:آثار المنشأ،كقوله«ثمن العذرة سحت»و هو يكشف إنّا عن عدم تحقّق المنشأ،أي:النقل و الانتقال.

أقول:الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمركّبات المخترعة الظاهرة في الارشاد إلي

ص: 200

كيفيّة المركّب من الأجزاء و الشرائط و الموانع خارجة عن محلّ الكلام.

و محلّ النزاع ما إذا كان النهي نهيا تكليفيّا،و النهي التكليفي إن تعلّق بالمنشأ فلا يقتضي فساده؛لأنّ مفهوم البيع معلوم من الأدلّة الشرعيّة،و المفروض أنّه لم يؤخذ في مفهومه عدم حرمة المنشأ،فإذا حرم المنشأ كان صحيحا؛لشمول دليل نفوذ البيع له،فإذا نهي الوالد ابنه عن بيع داره كان البيع صحيحا لاشتماله علي جميع الشرائط و يكون النقل الحاصل به الانتقال محرّما.

و أمّا ما أفاده من كونه ممنوعا شرعا،فلا ريب فيه إلاّ انّ كون الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ليس له دليل؛لأنّه إذا صدق مفهوم البيع مع وجود سائر الشرائط المعتبرة فيه شرعا،فالحرمة التكليفيّة لا توجب البطلان.

و أمّا عدم جواز أخذ الاجرة علي الواجبات،فهو مخصوص بما إذا علم أنّ الواجب ممّا يعتبر في صحّته كونه مجّانا بلا عوض،و إلاّ فلا يمنع مجرّد الوجوب عن أخذ الاجرة.

و أمّا بيع منذور التصدّق،فإنّه يشمله عموم أدلّة نفوذ البيع،فيكون بيعه صحيحا نافذا و حنثا للنذر و تجب الكفّارة،بناء علي عدم اقتضاء وجوب التصدّق وجوب إبقاء العين،و إلاّ فيبطل البيع؛لعدم القدرة علي التسليم شرعا.

و مثله بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا،فإنّه يمكن منع صحّة البيع؛لأنّ تسليم العنب ممّن يعمله خمرا إعانة علي الحرام،و هو محرّم و سابق علي وجوب الوفاء بالعقد،فلا يتعلّق بالتسليم وجوب الوفاء؛لكون وجوب الوفاء بالعقد أمرا بالمعصية،و يمكن أن يجعل منذور التصدّق من هذا القبيل؛لأنّه إذا وجب حفظه للتصدّق به،فالأمر بالوفاء بالعقد يكون أمرا بإتلافه،فتأمّل.

التنبيه الثاني: في دلالة النهي علي الفساد

استدلّ لدلالة النهي علي الفساد بما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده،فقال:ذاك إلي سيّده إن شاء أجازه،و إن

ص: 201

شاء فرّق بينهما،قلت:أصلحك اللّه إنّ الحكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما يقولون:إنّ أصل النكاح فاسد،و لا تحلّ إجازة السيّد له،فقال أبو جعفر عليه السّلام:إنّه لم يعص اللّه إنّما عصي سيّده،فاذا أجازه فهو له جائز (1).

فإنّه يدلّ علي أنّه لو كان التزوّج حراما و معصية للّه فسد،و لا فرق بين عقد التزوّج و سائر العقود.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّ المراد أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه اللّه كالعقد علي الاختين (2).

و اجيب بأنّ نكاح العبد ليس بما هو نكاح معصية للّه،بل عنوان مخالفة مولاه حرام و معصية للّه،و لا تسري حرمتها إلي النكاح،نظير ما قلنا إنّ النافلة المنذورة لا تصير واجبة،بل يجب الوفاء بالنذر و هو الاتيان بالنافلة بقصد كونها نافلة مندوبة.

أقول:ما ذكره خلاف عموم النفي في قوله«إنّه لم يعص اللّه»فإنّه يقتضي أنّ تزويجه بغير إذن سيّده لا يكون معصية للّه تعالي لا بعنوان مخالفة سيّده و لا بغيره، فما ذكره في الكفاية لعلّه الأظهر.

المقصد الثالث: في المفاهيم

اشارة

و فيه مقدمة و فصول،أمّا المقدّمة فيذكر فيها جهات:

الجهة الاولي:أنّ التعبير بالمنطوق و المفهوم إنّما هو إصطلاح المتأخّرين،و أمّا القدماء كالشيخ الطوسي رحمه اللّه،فإنّه عبّر عن المفهوم المخالف بدليل الخطاب،و عن

ص: 202


1- فروع الكافي 5:478 ح 3.
2- كفاية الاصول ص 227.

المفهوم الموافق بالفحوي (1).

و قال في تعداد القرائن المقترنة بالخبر التي توجب العلم بمضمون الخبر:و منها أن يكون الخبر مطابقا لنصّ الكتاب إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه (2).

و هذا التعبير أولي،فإنّ الاصطلاح الحادث يوهم أنّ القضية لا تدلّ عليه دلالة لفظيّة منطوقية.

الجهة الثانية:في أنّ مفهوم هل هو حكم غير مذكور بحيث يكون كقضية مقدّرة مثلا،أو أنّه مدلول القضية المذكورة؟اختار في الكفاية الأوّل،قال:فمفهوم إن جاءك زيد فأكرمه مثلا لو قيل به قضية شرطية سالبة بشرطها و جزائها،أي:إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه (3).

أقول:و الظاهر هو الثاني،كما لعلّه الظاهر من الشيخ الطوسي و غيره؛لأنّ القول بالمفهوم موقوف علي دلالة القضيّة علي الحصر،بأن يكون مفاد قوله أكرم زيدا إن جاءك عبارة اخري عن قوله ينحصر وجوب إكرام زيد في مجيئه إليك،فلا تنحلّ القضيّة الشرطيّة إلي قضيّتين موجبة مذكورة و قضيّة سالبة غير مذكورة.

الجهة الثالثة:في أنّ الدلالة علي المفهوم دلالة لفظيّة أو عقليّة،اختار ثانيهما في نهاية الاصول (4)،فإنّه فسّر المفهوم بأنّه دلالة علي معني لم ينطق به المتكلّم؛لأنّه إذا قال:إن جاءك زيد فأكرمه،فهم منه عدم ثبوت الوجوب عند عدم المجيء، لكن لو قيل له أنت قلت هذا،أمكنه إنكار ذلك بأن يقول ما قلت.

ثمّ قال:بأنّ استفادة المعني من اللفظ يتوقّف علي أن لا يكون المتكلّم لاغيا3.

ص: 203


1- عدة الاصول 2:187 ط قديم.
2- العدة 1:59.
3- كفاية الاصول ص 230.
4- نهاية الاصول ص 263.

و كونه مريدا لإفادة ما هو ظاهر اللفظ،و عدم إجماله و حجّية الظهور.

و المتكفّل لإثبات الأمر الأوّل و الثاني ليس هو اللفظ،بل بناء العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحّة،و هذا البناء ثابت في أبعاض الكلام،فإذا قال المولي:إن جاءك زيد فأكرمه،حكم العقلاء بدخالة مجيء زيد في وجوب إكرامه،إلي آخر ما أفاده في المقام،فلاحظ جميعه.

أقول:أمّا ما ذكره من تفسير المفهوم،فمنقوض بمثل الكنايات،كقولك زيد كثير الرماد المقصود به الكناية عن كونه جوادا،مع أنّه ليس من المفهوم.

و أمّا كون المفهوم مستفادا من بناء العقلاء،ففيه أنّ كون المتكلّم مريدا للمعني معتبر في كشف الكلام عن إرادة المتكلّم،لكن هل وجوب الاكرام منحصر بمجيء زيد أو هو ساكت عنه،فهو لا يرتبط ببناء العقلاء،بل هو تابع لظهور القضيّة في ذلك.

الجهة الرابعة:في أنّ النزاع صغروي أو كبروي،قال في نهاية الاصول:إنّه كبروي،لأنّ بناء العقلاء علي حمل القيد علي دخله في المطلوب ثابت،و يقع النزاع في حجّيتها (1).

أقول:إنّ القيد دخيل في المطلوب،لكن النزاع واقع في كونه دخيلا بنحو الانحصار أو مجرّد ثبوت الجزاء عند ثبوته:فإن دلّت الجملة دلالة عرفيّة يعتمد عليها في المحاورات علي الحصر فالمفهوم موجود،و إلاّ فلا فالنزاع صغروي في أنّه هل تدلّ علي الحصر أم لا.6.

ص: 204


1- نهاية الاصول ص 266.

فصل في دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم

اشارة

في دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم وضعا أو عرفا أو بقرينة عامّة أو بمقدّمات الحكمة و عدمها،احتمالان:

الأوّل عدم الدلالة،فإنّ مفادها تحقّق التالي علي تقدير وجود المقدّم المسمّي بالشرط في جميع موارد استعمالها من دون عناية و لا تجريد،بلا فرق بين قولك إن رزقت ولدا فاختنه،و قولك إن جاءك زيد فأكرمه،و قولك إن كان النهار موجودا فالشمس لم تغب و غيرها.

و ذلك لأنّ معني«إن»هو الفرض و التقدير،و معني«ف»الملازمة بين مدخولها و مدخول سابقه،و الأمثلة المذكورة مشتركة في ذلك،بخلاف مثل قولك إن كان زيد جوادا فالحمار ناهق،فإنّه يعدّ من الأغلاط؛لعدم الملازمة.

ثمّ إنّه لا دلالة لها علي حصر التالي في المقدّم،نعم لا بدّ أن يكون للقيد فائدة، كدخالته في الحكم،أو في تعليله،أو تقريبه إلي الذهن،أو غير ذلك،فقولك«إن جاءك زيد فأكرمه»يقتضي دخالة الشرط في وجوب الاكرام،فلو كان إكرام زيد واجبا علي كلّ حال جاء زيد أو لم يجيء،لكان لغوا،بخلاف ما إذا كان له دخالة في وجوب الاكرام،ولكن لا ينافي أن يكون لإكرامه لك أيضا دخالة في وجوب إكرامه،فإن قال بعد ذلك إن أكرمك زيد فأكرمه،لم يكن منافيا لقوله إن جاءك فأكرمه.

الثاني:الدلالة،اختاره جماعة و استدلّ عليه بوجوه:

أحدها:ما في فوائد الاصول،و هو جريان مقدّمات الحكمة في الجزاء؛لأنّ معني التقييد هو إناطة الجزاء بالشرط،و مقتضي إناطته به بخصوصه هو دوران الجزاء مداره وجودا و عدما،سواء سبقه شيء آخر أو قارنه؛لأنّ المتكلّم قيّد

ص: 205

الجزاء بذلك الشرط بخصوصه،و لم يقيّده بشيء آخر لا علي نحو الاشتراك،بأن جعل شيئا آخر موجبا لذلك الشرط قيدا للجزاء،و لا علي نحو الاستقلال بأن جعل شيئا آخر موجبا لترتّب الجزاء عليه عند انفراده.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:إن كان المتكلّم في مقام بيان حصر الجزاء في الشرط،فلا ريب في الدلالة علي المفهوم،و أمّا إذا كان في مقام بيان تعليق وجود الجزاء علي وجود الشرط كما هو ظاهر القضيّة،فيكفي كون الشرط موجبا لتحقّق الجزاء عنده، و يكون ساكتا عن عدم ثبوت الجزاء عند شرط آخر هو شرط مستقلّ لتحقّق الجزاء عنده.

ثانيها:ما ذكره في المحاضرات،قال:لا مفهوم لها علي نظر المشهور في معني الاخبار و الانشاء،و لها مفهوم علي نظرنا،قال في بيان ثبوت المفهوم علي مختاره:إنّ الجملة الشرطيّة الاخباريّة تدلّ علي قصد المتكلّم الحكاية و الاخبار عن ثبوت شيء في الواقع علي تقدير ثبوت شيء آخر فيه لا علي نحو الاطلاق، فهو أخبر عن الشيء علي تقدير خاصّ،و ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير.

و أمّا الانشائيّة كقضيّة إن استطعت فحجّ مثلا،دلّت علي أنّ اعتبار المولي مفاد الجزاء علي ذمّة المكلّف،كالحجّ لا يكون علي نحو الاطلاق،بل هو علي تقدير تحقّق الشرط كالاستطاعة،و لازم ذلك دلالتها علي عدم اعتباره علي تقدير عدم تحقّقه،إلي آخر ما افيد في هذا المقام فلاحظ (2).

أقول:لا إشكال في انتفاء هذا الخبر عند انتفاء القيد؛لأنّه إخبار علي تقدير.

و أمّا الدلالة علي حصر الاخبار في ذلك بحيث ينافي الاخبار بعده بما ينافي الحصر،فهي ممنوعة،مثلا لو قيل:إنّما يأكل زيد التفّاح إن كان مريضا،أي:9.

ص: 206


1- فوائد الاصول 1:300.
2- المحاضرات 4:79.

ينحصر أكله التفّاح عند مرضه،فإنّه ينافي قولك زيد يأكل التفّاح إن سافر،بخلاف ما لو قيل زيد يأكل التفّاح إن كان مريضا،فإنّه لا ينافي قولك ثانيا زيد يأكل التفّاح إن سافر.

و أمّا الفرق بين نظر المشهور و بين هذه النظريّة فلا أعرفه،هذا في الجملة الاخباريّة.

و أمّا الانشائية،فلا ريب في دلالتها علي أنّه اعتبر علي ذمّة العبد وجوب الحجّ علي تقدير استطاعته.و أمّا دلالتها علي أنّه لم يعتبر الحجّ علي ذمّته علي تقدير آخر،فغير ثابت،بحيث لو ورد أنّ من كان بينه و بين مكّة مسافة قليلة يجب عليه الحجّ،و إن لم يكن مستطيعا لكان منافيا للمفهوم.

ثالثها:تبادر اللزوم و الترتّب بنحو الترتّب علي العلّة المنحصرة،و اعتمد علي هذا الوجه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في تقريراته (1).

رابعها:انصراف العلاقة اللزوميّة إلي أكمل الأفراد،و هو اللزوم بنحو العلّة المنحصرة.

خامسها:جريان مقدّمات الحكمة في اللزوم؛لأنّ اللزوم بنحو العلّة الغير المنحصرة له عدل،و مقتضي الاطلاق اللزوم في جميع الأحوال،وجد عدل آخر أو لم يوجد،و هو مساوق للزوم بنحو العلّة المنحصرة.

و أجاب عنه في الكفاية (2)أوّلا:بأنّ اللزوم مستفاد من أداة الشرط،و المعني الحرفي لا يجري فيه مقدّمات الحكمة.و ثانيا:بأنّ اللزوم بنحو العلّة المنحصرة لا يختلف عن اللزوم بغيرها.

سادسها:إجراء مقدّمات الحكمة في الشرط،فإنّه لو لم يكن شرطا علي2.

ص: 207


1- تقريرات الشيخ ص 171.
2- كفاية الاصول ص 232.

الاطلاق أي:منحصرا،لزم تقييده بأنّه شرط إن قارنه شرط آخر أو إن لم يسبقه شرط آخر،و مقتضي الاطلاق أنّه شرط و إن لم يقارنه شرط آخر أو سبقه شرط آخر.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لو كان له إطلاق كذلك لدلّ علي المفهوم لكنّه نادر لو لم نقل بعدم وجوده.

أقول:هو كما أفاده ليس له إطلاق كذلك،فإنّ مقتضي مقدّمات الحكمة أنّ وجوب الاكرام ثابت عند مجيء زيد في قول القائل«إن جاءك زيد فأكرمه»سواء جاء معه عمرو أم لا،و سواء أكرمه قبل مجيئه أم لا.و أمّا عدم وجوبه عند عدم مجيئه،فالقضيّة لا تدلّ عليه بحيث لو ورد دليل علي وجوب إكرامه عند صيرورته عالما مثلا يكون منافيا لهذا المفهوم.

سابعها:ما في الكفاية من إجراء مقدّمات الحكمة في الشرط أيضا بتقريب آخر،و هو أنّه لو كان الحكم المذكور في الجزاء ثابتا إن وجد شرط آخر أيضا لم يكن الشرط شرطا تعيينا،بل كان تخييرا بينه و بين الشرط الآخر و كان كلاهما شرطا مستقلا.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّه لا يختلف الشرطيّة إن كان شيء آخر شرطا أيضا، فالشرط المتعدّد لا يغاير الشرط المتّحد (1)..

تتميم:استدلّ في الحدائق (2)بجملة من النصوص علي حجيّة مفهوم الشرط، و ذكرها في الاصول الأصليّة (3)فراجع،لكنّها لا تدلّ علي دلالة القضيّة الشرطيّة علي المفهوم.8.

ص: 208


1- كفاية الاصول ص 233.
2- الحدائق الناضرة 1:58.
3- الاصول الأصليّة ص 38.

منها:ما روي في قصّة إبراهيم،رواه في معاني الأخبار بسنده عن صالح بن سعيد،عن رجل من أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ في قصّة إبراهيم عليه السّلام قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ قال:ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم عليه السّلام،فقلت:فكيف ذلك؟قال:

إنّما قال إبراهيم عليه السّلام:فأسألوهم إن كانوا ينطقون،إن نطقوا فكبيرهم فعل،و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا،فما نطقوا و ما كذب إبراهيم عليه السّلام (1).

و الرواية مرسلة ليست بحجّة،مع أنّ صدق الشرطيّة تابع لصدق الملازمة،و لا يصدق الملازمة في قوله«بل فعله كبيرهم»إن كانوا ينطقون،و لعلّ معني الآية إخبار إبراهيم أنّ كبيرهم فعل احتجاجا عليهم كقوله«هذا ربّي»ثمّ قال:فاسألوهم فيجيبون إن كانوا ينطقون.و يمكن إرجاع ضمير الفاعل إلي إبراهيم في قوله بَلْ فَعَلَهُ علي وجه التورية.

تذنيب:

لا يخفي أنّ الفحوي و تسمّي بلحن الخطاب و مفهوم الموافقة عبارة عن ثبوت الحكم للفرد الأعلي المشارك في العلّة للفرد الأدني الثابت له الحكم بالدليل،مثلا إهانة الوالدين بالتأفيف أقلّ من إهانتهم بالضرب،فإذا حرم الأوّل حرم الثاني، و هذا ليس من القياس،فإنّ القياس حمل حكم شيء علي شيء آخر مماثل له من دون العلم بعلّة حكم المقيس عليه،فلعلّ له علّة لا توجد في المقيس.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:بناء علي ما ذكرنا من أنّ القول بالمفهوم مرجعه إلي القول بظهور القضيّة

في حصر الجزاء في الشرط

،فلا محلّ للبحث عن أنّ المنفي سنخ الحكم.

ص: 209


1- معاني الأخبار ص 209-210.

و أمّا علي القول الآخر،و هو أنّ المفهوم قضيّة اخري خلاف المنطوق،فالمفهوم ليس هو نفي الحكم المذكور،فإنّ نفيه عن موضوعه عقلي،مثلا قولك«أكرم زيدا» حكم خاصّ بزيد،و هذا الحكم الخاصّ منفي عن غير زيد،و كذا قولك«أكرم زيدا إن جاءك»فإنّه حكم خاصّ بزيد الجائي،و هو منفي عقلا عن زيد في حين لم يجيء؛لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه،بل المفهوم هو نفي سنخ الحكم،مثلا قولك «أكرم زيدا»مغاير لقولك«أكرم عمروا»لكنّهما من سنخ واحد و هو وجوب الاكرام،و هو المراد بسنخ الحكم المنفي في المفهوم،مثلا في قولك«إن جاءك زيد فأكرمه»انتفاء شخص الحكم المذكور عن زيد عند عدم مجيئه عقلي لا يحتاج إلي المفهوم؛لأنّه منفي أيضا فيما يتعلّق بالعين من غير شرط مثل أكرم زيدا،و أمّا مفهومه فهو قولك«إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه»فالمنفي سنخ وجوب الاكرام المذكور في المنطوق.

و هنا إشكال:و هو أنّ الوجوب المستفاد من هيئة«أكرم»شخصي؛لأنّ معني الهيئة معني حرفي،و الموضوع له و المستعمل فيه في الحروف خاصّان،و الانشاء الخاصّ ينتفي عن غير موضوعه عقلا،فلا يكون مقيّدا بالشرط،كما أنّ إنشاء أكرم زيدا غير إنشاء أكرم عمروا.

و اجيب عن الاشكال بأنّ الانشاء و إن كان خاصّا،لكن المنشأ هو وجوب الاكرام الكلّي،فيمكن تقييده بالشرط.

و في تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن نقل الاشكال و الجواب،أورد عليهما جميعا.أمّا علي الاشكال،فبأنّ الكلام إن كان خبرا كقولك«يجب علي زيد كذا إن فعل كذا»فالوجوب المذكور في المنطوق كلّي،و إن كان إنشاء فهو خاصّ و الموضوع له خاصّ،لكن استفادة العموم يكون من الشرط الظاهر في كونه علّة منحصرة.و أورد علي الجواب بأنّ الموضوع له في الانشاء ليس عامّا بل

ص: 210

الموضوع له خاصّ،نقلنا الكلام تقريبا (1).

و في الكفاية أورد علي الشيخ بأنّ الهيئة وضعها عامّ و الموضوع له عامّ،فلا يتوجّه ايراده علي الاشكال و الجواب (2).

أقول:تقدّم أنّ معني الهيئة معني الفعل و هو كلّي،و ليس معني الفعل معني حرفيا كما هو المشهور،فقولك«أكرم زيدا»يدلّ علي ايجاب إكرام زيد،و ايجاب إكرام زيد كلّي قابل للتقييد بمجيء زيد أو مجيء عمرو معه أو غيرهما،و القائل بالمفهوم -أي دلالة الجملة علي قضيّة سالبة-يدّعي بأنّ تقييد الايجاب بمجيء زيد يدلّ دلالة عرفيّة علي أنّه لا ايجاب عند عدم مجيئه.

التنبيه الثاني:إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء

،و علم عدم إرادة التعدّد من الجزاء،مثل إذا خفي الأذان فقصّر،و إذا خفيت الجدران فقصّر،فإنّ المعلوم وجوب صلاة واحدة،فعلي المختار من عدم الدلالة علي المفهوم فلا تعارض بينهما؛لأنّ كلّ شرط يقتضي ترتّب الجزاء عليه،و المفروض عدم تعدّد الجزاء، فإذا خفي الأذان قصّر و إن لم تخف الجدران،و إذا خفيت الجدران قصّر و إن لم يخف الأذان،و لا يخفي أنّ في خصوص المثالين كلاما محرّرا في الفقه.

و أمّا بناء علي دلالة القضيّة علي المفهوم،فعلي المختار من أنّ المفهوم عبارة عن دلالة القضيّة علي الحصر يقع التعارض بين الحصرين،و أمّا بناء علي أنّ المفهوم قضيّة غير مذكورة،فيقع التعارض بين مفهوم كلّ منهما مع منطوق الآخر، فيدور الأمر بين أمرين:

الأوّل:اعتبار أحد الأمرين.الثاني:اعتبار كليهما.

أمّا الأوّل،فيكون بأحد وجوه:

ص: 211


1- تقريرات الشيخ الأنصاري ص 173.
2- كفاية الاصول ص 238.

أوّلها:تقييد كلّ مفهوم بمنطوق الآخر،أي:إذا لم يخف الأذان فلا يقصّر إلاّ إذا خفي الجدار،و هكذا مفهوم الآخر،فتكون النتيجة كفاية أحدهما،و عدم الاعتبار لغيرهما للمفهوم فيهما.

ثانيها:إلغاء المفهوم فيهما؛لأنّ المفهوم مستفاد من الحصر،فيرفع اليد عن الحصر،و لا دلالة علي عدم اعتبار غيرهما.

ثالثها:جعل الجامع بين الأمرين شرطا؛لأنّ تأثير المتباينين في أمر واحد، و هو وجوب القصر يوجب صدور الواحد عن المتعدّد.

و قال في الكفاية:لعلّ العرف يساعد علي إلغاء المفهوم و هو الوجه الثاني، و العقل يساعد علي جعل الجامع شرطا و هو الوجه الثالث؛لأنّ كلّ واحد لا يمكن أن يكون شرطا لاستلزامه صدور معلول واحد عن علّتين مستقلّتين،فلا بدّ من إلغاء خصوصيّة كلّ واحد و إرجاعهما إلي الجامع بينهما يكون كلّ واحد مؤثّرا بذلك الجامع الموجود في ضمنه (1).

قلت:لا يخفي أنّ الأحكام من الاعتباريات،مثلا لحفظ نظم البلاد يجعل لكلّ بلد قانون يكون مراعاته موجبا لحفظ النظم،و هو اعتبار محض تابع لاعتبار المعتبر،ليس فيه علّية و لا معلوليّة حتّي يجري فيه قاعدة عدم صدور الواحد من الكثير.

ثمّ لا يخفي أنّ هذا ليس وجها آخر،بل هو الوجه الأوّل أو الثاني،غايته أنّ الشرط تارة كلّ واحد بخصوصه،و اخري الشرط هو الجامع بينهما،فما في الكفاية من ذكر أربعة أوجه،ثمّ قال:و لعلّ العرف يساعد علي الوجه الثاني-أي عدم المفهوم فيهما-كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه أي الوجه الرابع في كلامه،9.

ص: 212


1- كفاية الاصول ص 239.

و هو الوجه الثالث المذكور (1).غير واضح؛لأنّ الوجه الرابع بيان للوجه الأوّل و الثاني،و أمّا الثاني فبتقييد كلّ منطوق بالآخر فيكون الشرط كليهما،و هذا هو الوجه الثالث في الكفاية.

التنبيه الثالث:إذا تعدّد الشرط و كان الجزاء قابلا للتعدّد

،فهل يتعدّد الجزاء أم يكفي المرّة الواحدة؟وجهان،هذا إن لم يعلم من الخارج تداخل الشرطين،مثل قوله«إذا بلت فتوضّأ»و قوله«إذا نمت فتوضّأ»فإنّه قد علم تداخل النوم و البول، و يسمّي بالتداخل في الأسباب.

قال في الكفاية:فإن قلنا إنّ تعدّد الشرط يقتضي تقييد كلّ منهما بالآخر،فلا اشكال (2).و هو الوجه الثالث في كلامه في الأمر الثاني،فحينئذ يتّحد الجزاء.

أقول:الظاهر عدم الارتباط بين المسألة المذكورة في التنبيه الثاني و المسألة المذكورة في هذا التنبيه،فإنّ مفروض المسألة في التنبيه الثاني العلم بوحدة الجزاء،كالقصر في المثال المتقدّم.

و أمّا هذه المسألة،فالمفروض فيها عدم ارتباط بين الشرطين،بل كلّ شرط مستقلّ،و الجزاء يمكن تعدّده،نظير قوله«إذا استمعت إلي آية السجدة فاسجد»مع قوله«إذا قرأت آية السجدة فاسجد»فاستمع و قرأ مقارنا أو متعاقبا،فهل يجب أن يسجد مرّتين أو يكفي مرّة واحدة؟

و المسألة مذكورة في كتاب العروة الوثقي في أبواب السجود،في«فصل في سائر أقسام السجود»مسألة«8»قال:يتكرّر السجود مع تكرار القراءة أو السماع أو الاختلاف،بل و إن كان في زمان واحد،بأن قرأها جماعة،أو قرأها شخص حين قراءته علي الأحوط.

ص: 213


1- كفاية الاصول ص 239.
2- كفاية الاصول ص 239.

أقول:الظاهر كفاية السجدة الواحدة إن استمعها من جماعة في زمان واحد؛ لأنّه استماع واحد،و الأحوط في غيره التكرار.و اختار في الكفاية عدم التداخل، و عمدة الوجه فيه أنّ الظاهر من القضيّة الشرطيّة حدوث الجزاء،مستندا إلي السبب بحيث يكون له حصول مستقلّ لكلّ سبب،فالاستماع يوجب سجدة مستقلّة،كما توجب القراءة سجدة مستقلّة،و هذا الظهور العرفي يقتضي عدم انعقاد الاطلاق في الجزاء لأنّه بمقدّمات الحكمة،و الظهور المذكور قرينة علي عدم إرادة الاطلاق.

و استدلّ القائل بالتداخل بأنّ السجدة تجب لقراءة السجدة و تجب لاستماعها، و يصدقان علي سجدة واحدة،كصدق العالم الهاشمي علي فرد يكون مصداقا لقوله«أكرم عالما و أضف هاشميّا»فيكون الوجوب مؤكّدا فيه،و لذا يتعيّن عليه إكرامه إن لم يوجد فرد غيره،و لو تركه يعاقب عقابين،و هذا معني التأكّد.

و بعبارة اخري:مقتضي الشرطيّة حدوث وجوب الطبيعة المطلقة من غير تقييد بكونها غير الفرد الآخر،فيجب عند القراءة طبيعة السجدة،و يجب عند الاستماع طبيعة السجدة،فتكون طبيعة السجدة واجبة بوجوبين،إن ترك السجدة عوقب بعقابين؛لأنّهما وجوبان قد تأكّدا في طبيعة واحدة،و لا ظهور للشرط في تحقّق الجزاء لهذا الشرط مستقلاّ حتّي يكون قرينة علي تقييد إطلاق الجزاء.

أقول:لازم ذلك أنّه إن استمع ألف مرّة و قرأ كذلك و أخّر السجود و لو عصيانا، ثمّ سجد سجدة واحدة كفي عن الجميع،ولكن لا يبعد دعوي ظهور القضيّة في وجود طبيعة السجدة لكلّ سبب بحيث يستقلّ كلّ جزاء لسبب،مع أنّه الأحوط.

و أمّا الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي إن قال:أكرم عالما،و قال:أكرم هاشميّا، فلا طلاق عالم و هاشمي،فإنّهما يشملان العالم الهاشمي،فلذا يكتفي به في مقام الامتثال،و لا ظهور يقتضي تقييدهما،فتدبّر.

ص: 214

ولكن الانصاف أنّ الاكتفاء بمورد واحد أي العالم الهاشمي لا يخلو عن إشكال؛لأنّه لو قال:اعط عالما ألفا،و قال:اعط هاشميا ألفا،فهل يمكن الاكتفاء بألف واحد للعالم الهاشمي،أو يجوز الامتثال فيه بأن يعطي العالم الهاشمي ألفين؟ الجزم به مشكل،فلا فرق بين ما إذا كانت النسبة من وجه أو غيره،فما لم يحرز التداخل وجب التكرار.

و أمّا الاتيان بنافلة الليل بعنوان صلاة جعفر فهو منصوص ظاهرا،كما أنّه نعلم بتحقّق أداء الزكاة و صلة الرحم الواجبة إن أعطي الزكاة للرحم الفقير.و أمّا تداخل صلاة الغفيلة و نافلة المغرب،فليست مسلّمة.

فصل في مفهوم الوصف

لا يخفي أنّ التقييد بوصف لا بدّ أن يكون له فائدة،ولكن مع فرض وجود فائدة فهل يدلّ التعليق علي وصف دلالة عرفية علي انتفاء الحكم المذكور عند انتفاء الوصف،بحيث لو دلّ دليل آخر علي ثبوت الحكم في غير مورد الوصف كان معارضا له،أم لا يدلّ بل هو ساكت؟الظاهر كونه ساكتا.

فإذا قيل يجب الحجّ علي المستطيع،فإنّما يثبت الوجوب علي تقدير خاصّ بعد ما لم يكن الحجّ واجبا في أوّل الاسلام،أو قبل بعثة النبي صلّي اللّه عليه و اله و لا يدلّ علي النفي عن غيره،فإذا ورد يجب الحجّ علي من كان بينه و بين مكّة كذا مقدارا من المسافة،فلا تنافي بينهما.

فصل فيما يدلّ علي الحصر

منه:أداة الاستثناء و هو«إلاّ»و ليس من المفهوم بل هو منطوق،و الدالّ علي الحصر كلمة«إلاّ»و هو:إمّا بمعني غير،أو بمعني لكن أي الاستدراك.

ص: 215

و هنا إشكال في إفادة كلمة«لا إله إلاّ اللّه»التوحيد،و هو أنّ الخبر في قوله«لا إله إلاّ اللّه»إن كان موجودا،فلا تنفي إمكان غيره تعالي،و إن كان ممكنا فلا تثبت وجوده تعالي.

و لذا قيل:بأنّ«إلاّ»ليست استثناء،بل هي بمعني الغير،أي:لا إله غير اللّه موجود،فتكون صفة،فيجوز تقدير الخبر الامكان،أي:لا إله غير اللّه الموجود ممكن.و يجوز تقدير الوجود،أي:لا إله غير اللّه الموجود موجود،و لا ينفي الامكان حينئذ إلاّ بالملازمة بين الوجود و الامكان،أي:إذا كان ممكنا فهو موجود،و إذا لم يكن موجودا فليس بممكن.

و أجاب عنه في الكفاية بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود،و نفي ثبوته و وجوده في الخارج و إثبات فرد منه فيه و هو اللّه،يدلّ بالملازمة البيّنة علي امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك و تعالي،ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد؛لكونه من أفراد الواجب (1).

و توضيحه:أنّ الخبر موجود،و المراد من الإله الواجب الوجود لذاته،أي:لا واجب الوجود لذاته موجود إلاّ اللّه،و هذا مدلوله المطابقي،و يدلّ بالالتزام علي عدم إمكان غيره؛لأنّ واجب الوجود لذاته لا يمكن أن لا يوجد؛لأنّ عدم وجوده إن كان مستندا إلي عدم علّته،فهو خلف كونه واجب الوجود لذاته،و كذا إن استند إلي امتناع وجوده لذاته فإنّه خلف أيضا.

أقول:كون الإله بمعني الواجب الوجود لذاته غير معلوم،مضافا إلي أنّ واجب الوجود لذاته موجود قطعا؛لأنّ عدم وجوده:إمّا لامتناع وجوده لذاته،أو لعدم وجود علّته،و كلاهما خلف،فلا يقال ليس واجب الوجود لذاته موجودا؛لأنّه لا8.

ص: 216


1- كفاية الاصول ص 248.

يمكن نفي الوجود عن واجب الوجود لذاته،إلاّ أن يريد أنّ مفهوم واجب الوجود لذاته ليس موجودا إلاّ في واحد و هو اللّه.

و احتمل في فوائد الاصول أن لا يكون له خبر،أي:لا هويّة واجب الوجود إلاّ وجوده تعالي.و نفي واجب الوجود و إثبات فرد منه هو عين التوحيد.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:نفي الهويّة لا بدّ أن يراد به نفي الامكان أو نفي الوجود.

و قال في نهاية الاصول:إنّ العرب في صدر الاسلام لم يكونوا مشركين في أصل واجب الوجود،بحيث يعتقدون وجود آلهة متعدّدة في عرض واحد،بل التوحيد في أصل الالوهيّة كان ثابتا عندهم،و كلمة الاخلاص للتوحيد في العبادة (2).

أقول:لا اختصاص لكلمة«لا إله إلاّ اللّه»بصدر الاسلام،فهي كلمة التوحيد تقبل من كلّ كافر أظهرها معتقدا مضمونها.

و لا يبعد أن يقال:إنّ معني الإله كان معلوما عند العرب؛لأنّه استعمل في القرآن الكريم،و المراد به المستحقّ للعبودية و من هو فوق كلّ شيء،و خضع له كلّ شيء، كما يظهر ذلك من موارد استعماله،قال اللّه تعالي وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ (3)و قال تعالي أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (4)و قال تعالي وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ (5)و قال تعالي لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ4.

ص: 217


1- فوائد الاصول 1:319.
2- نهاية الاصول ص 283.
3- سورة المؤمنون:91.
4- سورة الجاثية:23.
5- سورة الزخرف:84.

إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (1) .

و علي هذا المعني يكون مفاد كلمة التوحيد لا إله،أي:من هو فوق كلّ شيء و خالق كلّ شيء،الذي ينبغي أن يخضع له كلّ شيء موجود أزلا و أبدا،إلاّ اللّه.

ثمّ انّه قال في الكفاية:انّ دلالة الاستثناء علي الحكم في طرف المستثني بالمفهوم،نعم لا يبعد كون الدلالة بنفس الاستثناء (2).

أقول:يبتني ذلك علي أنّ الاستثناء غاية للموضوع،كما في قوله تعالي لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا (3)و قد يعبّر عنه ب«الاّ الصفتيّة»أي:غير اللّه،و لو كان استثناء كان المعني لو كان آلهة باستثناء اللّه لفسدتا،و أمّا إذا كان آلهة مع اللّه فلا تفسدان،و هو غير مراد.أو أنّه استثناء من الحكم الثابت علي المستثني منه، بأن يكون نظير الغاية للحكم.

و علي الأوّل فهو تحديد للموضوع و لا مفهوم له،و علي الثاني يمكن دعوي أنّ تعليق الحكم إلي غاية يدلّ علي عدمه بعد الغاية،لكن الظاهر أنّ الاستثناء يفيد الحصر بالمنطوق،فلا ينبغي عدّه من المفهوم.

المقصد الرابع: في العامّ و الخاصّ

اشارة

العامّ ما دلّ علي شمول مفهومه أو مفهوم متعلّقه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، مثل أكرم العلماء،فإنّ لفظة«العلماء»تشمل كلّ ما يحكي أن ينطبق عليه،و مثل أكرم كلّ عالم،فإنّ لفظ«كلّ»يدلّ علي شمول متعلّقه لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه،و سنبيّن الفرق بينه و بين المطلق في بحث المطلق و المقيّد.

ص: 218


1- سورة الأنبياء:22.
2- كفاية الاصول ص 248.
3- سورة الأنبياء:22.

ثمّ إنّ شمول العامّ قد يكون علي نحو الاستغراق الأفرادي،مثل أكرم كلّ عالم، أو المجموعي مثل أكرم جميع العلماء من حيث المجموع،أو البدلي مثل أعط درهما أيّ فقير شئت.

و اللفظ الدالّ علي العموم ينقسم إلي الأقسام الثلاثة قبل تعلّق الحكم به، فيلاحظ في نفسه عامّا استغراقيّا أو مجموعيّا أو بدليّا.

فما يظهر من الكفاية من أنّ تعلّق الحكم يفيد الاستغراقي أو المجموعي أو البدلي،و الكلمة مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بها ليست كذلك (1).فهو غير سديد.

فصل في دلالة ألفاظ العموم علي العموم:

ذكر للعموم ألفاظ،منها:لفظ«كلّ»و«أيّ»و لا يبعد وضعهما للدلالة علي عموم المدخول من دون حاجة إلي إجراء مقدّمات الحكمة في مدخولهما.و أمّا عدم سقوط القرينة الدالّة علي التخصيص،و عدم نسيان المتكلّم لذكرها،و عدم سبق لسانه،فهي اصول عقلائيّة لا ربط لها بمقدّمات الحكمة.

و منها:الجمع المحلّي باللام،ولكن لم يثبت وضعه للعموم،و قال في الكفاية:

دلالته علي العموم وضعا محلّ منع (2).

لكن لا يبعد وجود الفرق بينه و بين المفرد المحلّي باللام،فإنّ الجمع يدلّ علي الافراد و لذا صار جمعا،فدلالته علي العموم أظهر من المفرد.

و منها:النكرة في سياق النهي أو النفي،و هل دلالتها علي العموم وضعيّة أو عقلية؟يظهر من الكفاية أنّها عقليّة؛لأنّ نفي الجنس يقتضي عقلا انتفاء كلّ فرد منه (3).

ص: 219


1- كفاية الاصول ص 253.
2- كفاية الاصول ص 255.
3- كفاية الاصول ص 254.

قلت:لا يبعد أن يكون ذلك منشأ لدلالته عرفا علي العموم،فتأمّل.

فصل في العامّ المخصّص بالمتّصل و المنفصل

العامّ المخصّص بالمتّصل حجّة في الباقي؛لأنّ الظهور المنعقد له هو الظهور في الباقي.و أمّا العامّ المخصّص بالمنفصل،فلا يبعد أن يكون بناء العقلاء علي الأخذ بالعموم إلاّ فيما ثبت التخصيص،و ليس ذلك مبنيّا علي كون العامّ بعد التخصيص مجازا أو ليس بمجاز.

و لا يخفي أنّ العامّ إذا اريد به الخاصّ يقع علي وجهين:

الأوّل:أن يستعمل في واحد أو أكثر من أفراد العامّ،مثل أن يقال:زارني كلّ العلماء،إذا زاره أحد العلماء مثلا،و هذا مجاز،و ليس ذلك من التخصيص؛لأنّه عبارة عن إخراج بعض ما كان داخلا في العموم.

الثاني:أن يستعمل في العموم لضرب القاعدة و تسهيل تعداد الأفراد،فيقول:

أكرم العلماء يوم الجمعة،ثمّ يقول قبل مجيء يوم الجمعة:لا تكرم زيدا العالم أو لا تكرم النحويّين مثلا،فلا إشكال في تخصيص العموم.

و في كونه مجازا أو حقيقة وجهان،اختار أوّلهما الشيخ الطوسي في العدّة،قال:

إنّ الحروف التي تدخل علي الجمل لا تغيّر معانيها،و ليس كذلك ألفاظ العموم؛ لأنّها بعد التخصيص لا تفيد ما كانت تفيده قبل التخصيص،فينبغي أن تكون مجازا،علي أنّ هذا يوجب أن لا يكون قول القائل رأيت سبعا،ثمّ قال عقيب ذلك:إنّي أردت رجلا شجاعا،أو قال:رأيت حمارا أو حائطا،ثمّ قال:أردت بليدا،مجازا؛لأنّه قد وصل بالكلام لفظا دلّ به علي مراده.إلي آخر كلامه (1).

ص: 220


1- عدّة الاصول ص 119.

و اختار ثانيهما في الكفاية،قال:أمّا في المنفصل فلأنّ إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه و كون الخاصّ قرينة عليه،بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة،و كون الخاصّ مانعا عن حجّية ظهوره تحكيما للنصّ أو الأظهر علي الظاهر لا مصادما لأصل ظهوره.إلي آخر كلامه (1).

أقول:لا يبعد التفصيل بين التقييد المتّصل و التخصيص المستقل،و إن كان متّصلا بالكلام،فاذا قال:أكرم كلّ عالم عادل،لم يكن تخصيصا؛لأنّ«كلّ»يدلّ علي عموم مدخوله.و إذا قال:أكرم كلّ عالم،و قال متّصلا به:أردت العالم العادل، كان خلاف ما فهم من اللفظ،و كذلك لو قاله منفصلا عن الكلام.

و لا ينبغي الريب في أنّ العرف لا يفرّقون بين الاتّصال و الانفصال المذكورين، و القول بأنّه مجاز أقرب،لكن حجّيته في الباقي لا تبتني علي ذلك،بل أبناء العرف إن اطلّعوا علي صدور الكلامين من المولي إلي العبد يجعلون القرينة المنفصلة متّصلة بكلامه،و لا يفرّقون بين أن تكون متّصلة أو منفصلة،و يجعلون الكلام مع القرينة كاشفا عن المراد الجدّي و حجّة علي العبد.

ثمّ انّ صاحب الكفاية ذكر أنّ المخصّص المتّصل لا يتصرّف في العامّ،بل يكون قيدا لمدخوله.

قلت:قولك«أكرم كلّ عالم إلاّ الفسّاق»إن كان بمعني أكرم كلّ عالم غير فاسق، كان الاستثناء قيدا لمدخول العموم.و أمّا الاستثناء عن الحكم،فيقتضي أن يكون العام مستعملا في العموم حتّي يخرج عن الحكم بالاستثناء،فلا يستعمل فيها العامّ في غير العموم.6.

ص: 221


1- كفاية الاصول ص 256.

فصل في إجمال الخاصّ و اشتباه مصداقه

اشارة

الخاصّ المجمل علي ضربين:الضرب الأوّل أن يكون الخاصّ لفظيّا،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:ما إذا كان الخاصّ دائرا بين المتباينين،و حينئذ يسري إجماله إلي العامّ،سواء كان متّصلا أو كان منفصلا،مثلا إن قال:أكرم كلّ عالم إلاّ زيدا،أو قال:أكرم كلّ عالم،ثمّ قال بعد يوم قبل مجيء وقت العمل:لا تكرم زيدا،و تردّد زيد بين أن يكون المراد به زيد بن عمرو و أن يكون زيد بن بكر،كان العامّ مجملا بالنسبة إليهما.

القسم الثاني:ما إذا كان مفهوم الخاصّ دائرا بين الأقلّ و الأكثر،كالفاسق المردّد بين كونه مطلق مرتكب المعصية،أو خصوص مرتكب الكبيرة،ففي سراية إجماله إلي العامّ تفصيل.

فإن كان متّصلا سري إجماله إلي العامّ؛لأنّ العامّ يكون معنونا بعنوان عدم الخاصّ،فإذا قال:أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم،كان مرجعه إلي وجوب إكرام العالم غير الفاسق.

و أمّا إن كان منفصلا،فلا يسري إجماله إليه،بل يرفع إجماله بظهور العامّ في العموم،و يحكم بوجوب إكرام مرتكب الصغيرة،و ذلك لأنّ العامّ قد انعقد ظهوره في العموم،فهو حجّة في العموم،و الخاصّ دليل آخر معارض للعامّ،و هو في مقدار المتيقّن منه أظهر من ظهور العموم فيتقدّم عليه.و أمّا في المقدار الذي هو مجمل فالعامّ يتقدّم عليه و يرفع إجماله،اختار هذا المبني في الكفاية (1)و غيره

ص: 222


1- كفاية الاصول ص 258.

في غيرها.

أقول:الخاصّ المنفصل في حكم القرينة علي المراد بالعامّ،و إجماله يسري إلي العامّ،و ذلك لأنّ ظهور العامّ في العموم غير مستقرّ،فلذا لا يكون حجّة؛لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق قبل مجيء وقت العمل،و له بيان مراده من العموم بالخاصّ مادام لم يحضر وقت العمل.

و لمّا كان مفهوم الفاسق بماله من المفهوم مخصّصا للعموم،فمن فهم منه الأعمّ من مرتكب الكبيرة و الصغيرة يخصّص العامّ بالأعمّ،و من فهم منه خصوص مرتكب الكبيرة يخصّصه بالأخصّ،و من تردّد في ذلك يكون عنده مجملا،فهو بمفهومه يكون مخصّصا للعامّ،و علم المكلّف و جهله لا دخل لهما في تطبيق المفاهيم علي مصاديقها.

و لتوضيحه نذكر مثالا،و هو أنّه إن قال المولي لأحد عبديه في يوم السبت:

أكرم العلماء إلاّ الفسّاق يوم الجمعة،و قال لعبده الآخر في يوم السبت:أكرم العلماء يوم الجمعة،ثمّ قال له في يوم الأحد:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة.

فلازم القول بسراية إجمال المخصّص المتّصل إلي العامّ،و عدم سراية إجمال المخصّص المنفصل إليه،الفرق بين حكم العبدين،بعدم وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة علي العبد الأوّل،لاجمال الدليل و قبح العقاب بلا بيان، و وجوب إكرامه علي العبد الآخر،لشمول عموم وجوب الاكرام له و رفع إجمال المخصّص بعموم العامّ.و هذا الفرق لا يخطر ببال أبناء المحاورة الذين عليهم المدار في دلالة الألفاظ.

هذا كلّه إذا كان المفهوم مجملا.و أمّا إذا كان مفهوم الخاصّ مبيّنا و اشتبه مصداقه،مثل أن كان عموم أكرم العلماء مخصّصا بمرتكب الكبيرة،و تردّد زيد العالم بين كونه مرتكبا للكبيرة و عدمه،فهل يتمسّك بالعموم علي وجوب إكرام

ص: 223

زيد أم لا؟وجهان.

يستدلّ للأوّل بأنّه مصداق للعامّ قطعا،و لم يعلم خروجه عنه بالخاصّ؛ لاحتمال عدم كونه مرتكب الكبيرة،و يشكّ في خروجه منه.

و يستدلّ للثاني بأنّ العامّ هو العالم غير مرتكب الكبيرة،و الخاصّ هو العالم المرتكب للكبيرة،و هذا الفرد:إمّا داخل في العامّ واقعا،أو داخل في الخاصّ،و لا يلزم من خروجه لو كان داخلا في الخاصّ تخصيص زائد لينفي بالأصل؛لأنّ الألفاظ تنطبق علي مصاديقها الواقعيّة،و لا تناط بعلم المكلّف و جهله،و هذا الوجه أظهر،فلا يصحّ التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص.

الضرب الثاني:ما إذا كان المخصّص غير لفظي و يسمّي بالمخصّص اللبّي،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يتعارف عرفا إلقاء العموم إلي المخاطبين اتّكالا علي المخصّص اللبّي،فهو كالمتّصل اللفظي ينعقد معه ظهور للعامّ في الخصوص، و إجماله يسري إلي العموم،و هذا مختار صاحب الكفاية (1).

القسم الثاني:ما لم يكن كالقرينة المتّصلة،بل كان ممّا اقتضاه حكم العقل،و هو علي قسمين:

القسم الأوّل:أن يكون نظير الشبهة المفهوميّة،كما إذا قال المولي:أكرم كلّ عالم،و علم من الخارج أنّه لا يريد إكرام عدوّه من العلماء،و تردّد المراد بالعدوّ بين الأقلّ و الأكثر،فلا يبعد أن يكون حكمه حكم المخصّص اللفظي المنفصل، فتأمّل.و لم يتعرّض في الكفاية لهذا القسم.

القسم الثاني:ما إذا كان المراد بالخاصّ معلوما،لكن تردّد فرد بين كونه9.

ص: 224


1- كفاية الاصول ص 259.

مصداقا للعامّ أو للمخصّص،ففي جواز التمسّك بالعموم مطلقا،كما اختاره في الكفاية و عدمه مطلقا،و التفصيل بين القضيّة الخارجيّة و الحقيقيّة وجوه.

قال في الكفاية:و إن لم يكن كذلك،فالظاهر بقاء العامّ في المصداق المشتبه علي حجّيته كظهوره فيه؛لأنّ العموم حجّة إلاّ فيما قطع بخلافه،و أمّا مع الشكّ فيعمل بالعموم،و عليه بناء العقلاء و سيرتهم،بل يمكن أنّ يتمسّك بالعموم ليتبيّن حال المشكوك،كما إذا شكّ في ايمان واحد من بني اميّة،فإنّه يتمسّك بعموم لعن اللّه بني اميّة قاطبة علي عدم ايمانه.هذا ملخّص كلامه (1).

أقول:إن كان ظاهر كلام المتكلّم الاخبار عن اتّصاف أفراد العامّ بغير عنوان الخاصّ الخارج من العموم عقلا فيؤخذ بالعموم،و إلاّ فهو مشكل،مثلا إن قال:بع كلّ واحد من كتبي الموجودة في المكتبة،فإنّه مشتمل علي الاخبار عن مالكيّته لكلّ كتاب تحت يده،فإذا اطلعنا علي واحد منها أنّه وقف أو ملك لغيره و قطع بذلك،فهو خارج عن العموم.

و أمّا إذا شكّ في كتاب منها أنّه ملكه أو لا،فمقتضي عموم كلامه أنّه ملكه،و لعلّ منه لعن بني اميّة الوارد في زيارة عاشوراء.

و أمّا إن كان تعيين الفرد علي عهدة المكلّف،بأن قال أكرم كلّ عالم،و علمنا من الخارج أنّه يريد إكرام العالم الشيعي،فإن شككنا في عالم أنّه شيعي أو سنّي، فالتمسّك بالعموم يكون من التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمخصّص،و هو مشكل.

ايقاظ:

تقدّم أنّه لا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص،فإن كان

ص: 225


1- كفاية الاصول ص 259-261.

المخصّص عنوانا وجوديّا،مثل قوله«أكرم كلّ عالم عادل»فلا يجوز التمسّك به علي وجوب إكرام عالم شكّ في أنّه عادل أو ليس بعادل،و أمّا إن كان كالاستثناء من المتّصل،أو كان التخصيص بالمنفصل كالاستثناء،فقد يقال بأن الفرد المشتبه كونه داخلا في المستثني منه أو في المستثني يكون من أفراد العامّ لاحراز عدم تعنونه بعنوان الخاصّ باستصحاب العدم الأزلي.

و اختاره في الكفاية،قال ما حاصله:إنّ العامّ ليس معنونا بعنوان،بل يشمل كلّ ما صدق عليه إلاّ ما صدق عليه عنوان الخاصّ،و الأصل ينفي عنوان الخاصّ و انتفاء عنوانه،كما يكون بالانتفاء بعد وجود الموضوع،كما إذا وجد زيد و بعد وجوده لم يكن قائما،كذلك يكون بالانتفاء قبل وجود الموضوع بانتفاء القيام المنسوب إلي زيد،فإذا وجد زيد صحّ أن يقال:إنّ زيدا موجود،و القيام المنسوب إليه قبل وجوده لم يكن و يشك في وجوده،و انتفاء القيام المنسوب إليه مستصحب،فلا يشمله عنوان الخاصّ،و هو يكفي في شمول العامّ له (1).

و قال بنظيره أيضا في تعليقته علي المكاسب في بحث الشروط،فيما إذا شكّ في أنّ المشروط مخالف للكتاب أو لا،و صرّح بأنّ المخالفة مسبوقة بالعدم المحمولي إلي آخر كلامه (2).

و قال في المحاضرات ما حاصله:إنّ ما أصرّ عليه المحقّق النائيني رحمه اللّه،و هو أنّ التخصيص بعنوان وجودي يقتضي أخذ عدمه النعتي في العامّ،و استصحاب العدم الأزلي لا يثبت ذلك غير صحيح،بل لا يقتضي إلاّ أخذ عدمه بمفاد ليس التامّة في العامّ،نظرا إلي أنّ أخذ عدم عرض مّا في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلاّ أخذه9.

ص: 226


1- كفاية الاصول ص 261.
2- التعليقة علي المكاسب ص 129.

كذلك،فلاحظ كلامه (1).

و أفاد قدّس سرّه في رسالته في اللباس المشكوك،قال:الخامسة قد عرفت أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه،فإذا اخذ في الموضوع المركّب منه و من معروضه،فلا بدّ و أن يكون ناعتيّا،و أمّا عدم العرض فهو و إن كان بعدمه لموضوعه،بمعني أنّ العرض إذا لم يتحقّق لا يتحقّق النسبة الثبوتيّة و الناعتيّة الايجابيّة قهرا،إلاّ انّه لا يلزم أن يكون نعتا،بأن يلاحظ النسبة بينه و بين الذات كما في طرف الوجود،فعدم قيام زيد بعدم نسبته إلي زيد لا بانتساب العدم إليه، ضرورة أنّ ما يكون متقوّما بالمحلّ و محتاجا إليه هو وجود العرض لا عدمه، فالربط مأخوذ في طرف الوجود لا العدم،فإنّ العدم يكون بعدم النسبة بل بعدم الموضوع أيضا،الي آخر ما أفاده (2).

أقول:يرد علي هذا التقريب أوّلا:في المثال المعروف،و هو ما إذا شكّ في هاشميّة رجل أو امرأة،يقال:إنّ عدم هاشميّة هذا الموجود الذي شكّ في هاشميّته ليس له حاله سابقة،و العدم الذي كان سابقا يمكن تحليله إلي عدمين:أحدهما عدم تحقّق وجود هاشمي فإنّه كان متيقّنا،فإذا شكّ في وجوده استصحب عدمه.

ثانيهما:العدم الخاصّ أي:عدم هاشميّة زيد مثلا،فإنّه كان متيقّنا،و بعد وجوده يشكّ في وجود هاشميّة زيد،فإن كان له أثر فالأصل ينفيه.

مثال الأوّل:أن ينذر أن يتصدّق بدرهم إن زاد أفراد الهاشميّين الذين كانوا مثلا قبل ولادة زيد ألفا،فإذا شكّ في أنّ زيدا هاشمي أو لا،لم يجب التصدّق بعد ولادته؛لاستصحاب بقاء الألف بحاله و عدم زيادته.

مثال الثاني:أن ينذر أن يتصدّق إن وجدت هاشميّة زيد بخصوصها،من دون6.

ص: 227


1- المحاضرات 5:232.
2- اللباس المشكوك ص 56.

نظر إلي كون هذا الموجود خارجا هاشميّا،و هي مسبوقة بالعدم،فإن شكّ في الوجود،فالأصل بقاء العدم.

و أمّا انتساب العدم إلي الموجود الخارجي المسمّي بزيد،فليس له حالة سابقة.

و بتقريب آخر نقول:إنّ في حمل العرض علي موضوع خاصّ عند التحليل ثلاثة امور:الموضوع و هو زيد،و ذات المحمول أي كون شيء قائما،و الموضوع الخاصّ المتّصف بالعرض،أي كون زيد قائما،و يتكفّل الدلالة عليه المبتدئية و الخبرية،و في طرف العدم يكون السلب راجعا إلي عدم قيام العرض بالموضوع الخاصّ،أي:سلب العرض عن الموضوع،فإن كان الموضوع هو الموجود الخارجي مثل زيد ليس بقائم،رجع القضيّة إلي أنّ زيدا موجود و ليس بقائم،و إن كان الموضوع هو الموجود الذهني مثل زيد ليس بكلّي،رجع القضيّة إلي القضيّة الذهنية،أي:المفهوم من زيد ليس بكلّي.

و أمّا ما يقال من صحّة السالبة بانتفاء الموضوع،مثل زيد لا يتنفّس،أو زيد ليس بإنسان سالبة بانتفاء الموضوع،فإنّه يسأل قائله إن كان المراد الوجود الذهني من زيد ليس بقائم،فإنّه ليس من السالبة بانتفاء الموضوع،بل الوجود الذهني موجود ليس بقائم.

و إن اريد ماهيّة زيد،فهو أيضا كذلك.

و إن اريد وجود زيد في الخارج،فهو خلاف الواقع؛لأنّه غير موجود،كما أنّ الموجبة المعدولة المحمول من فرضيّات المنطقيّين ليس لها حقيقة.

ثمّ المراد من العدم النعتي و مفاد ليس الناقصة هو نفي المحمول عن وجود الموضوع،و المراد من العدم المحمولي و مفاد ليس التامّة هو عدم الصفة الخاصّة، أي عدم وجود قيام زيد،و ليس المراد من العدم النعتي القضيّة المعدولة المحمول، أي:زيد لا قائم،فإنّه مجرّد فرض،بل المراد السالبة المحصّلة،نعم يصحّ أن يقال:

ص: 228

جاءنا زيد اللاقائم مثلا.

و في المثال المعروف لاستصحاب العدم الأزلي و هو«كلّ امرأة تحيض إلي خمسين سنة إلاّ أن تكون امرأة من قريش»نقول:إنّ عمدة الاشكال هي أنّ الانتساب بين المرأة الموجودة و قريش ليس له حالة سابقة لا وجودا و لا عدما، نعم وجود قرشيّة متحقّقة لهذه المرأة بنت زيد مثلا لم يكن،فإنّه حين لم تتولّد بنت زيد كانت صفحة الوجود خالية حقيقة عن وجود ذات هذه المرأة و عن وجود قرشيّة المرأة،و عن وجود القرشيّة المتحقّقة في خصوص هذه المرأة،و بعد وجود المرأة نشكّ في بقاء عدم وجود قرشيّة المرأة و الأصل بقاؤه،كما نشكّ في بقاء عدم قرشيّة خاصّة في خصوص هذه المرأة و يستصحب بقاء العدم،لكن ذلك لا يرتبط بهذه المرأة الموجودة،فلا يمكن أن يقال:إنّ الانتساب بين هذه المرأة الموجودة و قريش لم يكن.

و يظهر من المحاضرات (1)أنّه يكتفي بعدم عدالة زيد الذي كان في الأزل فيما إذا كان الأثر مترتّبا علي عدالة زيد،لكن الاشكال في أنّ هذا العدم لا نسبة له إلي هذا الموجود.

و بعبارة اخري:عدم القرشية المتحقّقة في بنت زيد لم يكن في موضوع، و مقتضي الاستصحاب بقاء ذلك العدم،أي:عدم القرشيّة في غير موضوع،و لا يلصق هذا الاستصحاب العدم بالمرأة الموجودة.

و ببيان أوضح:إن كان الموضوع وجود المرأة و عدم القرشيّة الذي كان قبل الوجود،كان الموضوع مركّبا،نظير أن يكون الأثر مترتّبا علي قيام زيد و عدم قيام عمرو،فإذا احرز قيام زيد بالوجدان و استصحب عدم قيام عمرو ترتّب الأثر،9.

ص: 229


1- المحاضرات 4:229.

بخلاف ما إذا كان الأثر مترتّبا علي قيام زيد في حال عدم قيام عمرو،فإنّه لا يترتّب الأثر باستصحاب عدم قيام عمرو،و فيما نحن فيه الأثر مترتّب علي أن لا تكون المرأة الموجودة قرشيّة،و هذا العدم ليس له حالة سابقة،و إن كان عدم وجود الصفة له حالة سابقة.

و بما ذكرنا يندفع ما ذكره في المستمسك من أنّ العدم قبل وجود زيد متّحد مع العدم بعده،و إن اختلفا في أنّ العدم الأوّل عدم بعدم الموضوع،و الثاني عدم لعدم المقتضي أو لوجود المانع،و ذلك لا يوجب التعدّد عرفا،كاستصحاب ترك أكل الصائم بعد الغروب،مع أنّ الأوّل بداعي الأمر و الثاني بداع آخر،إلي آخر ما أفاده (1).فإنّ العدم الأوّل لم يكن في موضوع،و استصحاب بقائه عبارة عن ابقائه لا في موضوع،فلا يرتبط بالموجود.

و أمّا ما ذكره في نهاية الدراية في جواب الاشكال عن لزوم انتساب عدم القرشيّة إلي المرأة،حيث قال:التقييد بمعني ارتباط العدم به غير لازم،و بمعني عدم الانتساب لها بنفسه متيقّن فيستصحب،و إضافة عدم الانتساب إلي المرأة الموجودة لازمة في ظرف ترتّب الحكم،و هو ظرف التعبّد الاستصحابي لا ظرف اليقين حتّي ينافي كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع في ظرف اليقين (2)انتهي.

ففيه أنّ العدم لم يكن في موضوع خارجي،و بقاؤه هو بقاؤه لا في موضوع، و يترتّب عليه الأثر المترتّب علي العدم لا في موضوع،و لا يجري بالنسبة إلي الانتساب إلي الموجود؛لأنّه يصير مثبتا،فهذا نظير أن يحلف إن وجد في هذه الغرفة كرّ من الماء تصدّق بكذا،ثمّ اتي بماء ليس له حالة سابقة لا يعلم كونه كرّا،2.

ص: 230


1- المستمسك 1:136.
2- نهاية الدراية 1:342.

فإنّ استصحاب عدم وجود الكرّ في الغرفة يجري و يترتّب عليه الأثر،و لا يحكم علي الماء الموجود أنّه ليس بكرّ،فلا يقال هذا ماء و ليس في الغرفة ماء كرّ ليثبت عدم كرّيته.و لذا لا يقال إنّ الكرّية الموجودة في هذا الماء لم تكن متحقّقة في الغرفة و الأصل عدمها،ليثبت عدم كرّية هذا الماء الموجود.

نعم لو كان الأثر مترتّبا علي وجود كرّية هذا الماء ينتفي الأثر بالاستصحاب، أي:استصحاب عدم وجود الكرّية في هذا الماء علي نحو العدم المحمولي،ولكن لا يثبت أنّ هذا الماء الموجود ليس كرّا.

هذا هو الايراد الأوّل علي التقريب المذكور لاستصحاب العدم الأزلي.

و ثانيا:أنّ مفاهيم الألفاظ تنطبق علي مصاديقها الواقعية،سواء علم بتحقّقها أو علم بعدمه أو شكّ فيه،فإذا شكّ في مايع أنّه ماء أو خمر،أو قطع أنّه خمر و هو ماء، أو قطع أنّه ماء و هو خمر،فالماء ينطبق علي الماء الواقعي لا علي ما قطع أنّه ماء و هو خمر واقعا،و ينطبق علي ما قطع أنّه خمر إذا كان ماء واقعا.

ثمّ إنّ تخصيص العموم أيضا واقعي لا دخل للعلم و الجهل به،فقوله«أكرم كلّ عالم إلاّ مرتكب الكبيرة»يصدق علي من هو عالم غير المرتكب للكبيرة واقعا، فإذا شكّ في عالم أنّه مرتكب للكبيرة أو لا،فإن لم يكن مرتكبا لها واقعا،فينطبق عليه العامّ قهرا.و إن كان مرتكبا لها،فينطبق عليه الخاصّ قهرا من دون أن يكون العامّ معنونا بعنوان،بل هو تابع لواقعه،فللمستثني منه أفراد واقعيّة،و للمستثني أفراد واقعيّة،و المشكوك فرد من أحدهما واقعا،و ليس فردا ثالثا من غيرهما.

إذا تحقّق ذلك فنقول:في قوله«كلّ امرأة تحيض إلي خمسين إلاّ امرأة من قريش»ينطبق المستثني منه قهرا علي المرأة التي نحن شككنا في نسبها إن كانت منتسبة إلي غير قريش،و ينطبق المستثني قهرا عليها إن كانت منتسبة إلي قريش، و هذه المرأة قبل وجودها لم تكن ممّن ينطبق عليها المستثني منه،و الأصل بقاؤها

ص: 231

علي العدم،فيعارض أصالة عدم انطباق المستثني عليها؛لأنّها قبل وجودها لم تكن ممّن ينطبق عليها المستثني أيضا.

و لا يخفي أنّ ما ذكرناه ليس مبنيّا علي تعنون العامّ بعنوان ما عدا الخاصّ،فلا يرد عليه ما ذكره في نهاية الدراية،حيث قال بعد ردّ تعنون العامّ بالعنوان:و يشهد له مضافا إلي البرهان أنّ المخصّص إذا كان مثل لا تكرم زيدا العالم لا يوجب إلاّ قصر الحكم علي ما عداه،لا علي المعنون بعنوان ما عدا زيد أو شبهه (1)انتهي.

فانّه إن تردّد واحد بين أن يكون زيدا أو غيره،فنقول:إنّ عموم أكرم العلماء بعد ضمّ لا تكرم زيدا العالم إليه له مصاديق خارجيّة ينطبق عليها من دون دخل في ذلك للعلم و الجهل،و لا نقول إنّ العامّ تعنون بعنوان ما عدا زيد.

و ثالثا:ما قيل من أنّه لا يخطر للأذهان المتعارفة هذا الاستصحاب،فإنّ عموم «لا تنقض»و إن شمله بالدقّة العقليّة،لكنّه منصرف عرفا إلي غيره،و يؤيّده أنّ الاستصحاب حاكم علي أصالة الحلّ و نحوها،فإن جري لم تجر،لأنّه في جميع موارد الشبهة الموضوعيّة التي هي محلّ جريان أصالة الحلّ يجري هذا الاستصحاب،فإذا تردّد المايع الموجود في الاناء بين كونه ماء أو خمرا، استصحب عدم كونه خمرا حين لم يكن أصلا،و لا حاجة إلي إثبات كونه ماء؛لأنّ كلّ شيء حلال إلاّ المحرّمات،و كذلك فيما شكّ في طهارته و نجاسته و لم يكن له حالة سابقة،فإذا شكّ في أنّ الشعر الواقع علي ثوبه شعر كلب أو شعر هرّة،يجري استصحاب عدم كونه شعر كلب،كما قالوا فيما إذا شكّ في أنّه شعر هرّة أو شعر معز،إنّ هذا الشعر لم يكن شعر ما لا يؤكل لحمه و الآن كما كان.

هذا كلّه علي مختار القوم في الاستصحاب.و أمّا علي المختار من اعتبار كون1.

ص: 232


1- نهاية الدراية 1:341.

الشكّ ناقضا لليقين،بأن كان اليقين موجودا لو لا عروض الشكّ،و لا يجري فيما إذا كان علي شكّ و يقين،كما إذا كان أمد اليقين من الأوّل معلوما ففي مثله لا يكون الشكّ ناقضا،و اليقين بعدم الانتساب بين قريش و هذه المرأة كان محدودا إلي زمان وجود هذه المرأة،و الشكّ في كونها قرشيّة كان موجودا من الأوّل و ليس عارضا،فلا يجري الاستصحاب؛لأنّه يشكّ قبل انعقاد نطفتها أنّ هذه لو وجدت تكون قرشية أو لا،و لا يقين حتّي يكون الشكّ ناقضا له.

فلا يجري الاستصحاب بمفاد ليس التامّة،و لا بمفاد ليس الناقصة؛لأنّ الشكّ من الأوّل موجود و ليس طارئا و ناقضا لليقين.

فصل في نذر الوضوء بالماء المضاف:

اشارة

إن لم يثبت من الأدلّة الاجتهاديّة عدم صحّة الوضوء بالماء المضاف و شككنا في صحّته،فهل يمكن تصحيحه بالنذر بأن ينذر الوضوء بالماء المضاف و يتمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر،فإذا وجب الوفاء بالنذر كان العمل صحيحا أم لا؟ وجهان.

قال في الكفاية:و ربّما يؤيّد الأوّل بما ورد من صحّة الاحرام و الصيام قبل الميقات و في السفر إذا تعلّق بهما النذر كذلك (1).

أقول:النذر و شبهه لا يكون مشرّعا يتصرّف فيما تعلّق به،و يجعله حلالا بعد أن كان حراما،أو مشروعا بعد أن لم يكن مشروعا،و لا بدّ في النذر من كون متعلّقه حال العمل به عبادة و راحجا،و الوضوء بالماء المضاف إن ثبت عدم صحّته،فلا ينعقد النذر به،و إن ثبت صحّته انعقد به النذر،و إن شكّ في ذلك و تعلّق به نذر،فهو تابع لواقعه إن كان الوضوء به صحيحا انعقد النذر و إلاّ لم ينعقد،و التمسّك بعموم

ص: 233


1- كفاية الاصول ص 262.

وجوب الوفاء بالنذر تمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة.

و أمّا نذر الاحرام قبل الميقات،و نذر الصوم في السفر،فلدليل خاصّ يدلّ علي أنّ تعلّق النذر بهما يوجب رجحانهما حين العمل،و لم يرد دليل علي انعقاد نذر شرب الخمر مثلا.

تتميم:

في دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص

إذا كان فرد محكوما بحكم علي خلاف العامّ،و شكّ في أنّ العامّ مخصّص أم لا، للشكّ في أنّه فرد للعامّ،كما إذا ورد أكرم العلماء،ثمّ ورد لا تكرم زيدا،و شكّ في أنّ زيدا عالم قد خصّص العامّ،أو أنّه جاهل و خارج عن العامّ تخصّصا،فهل يجوز التمسّك بأصالة الحقيقة أو أصالة العموم علي أنّ زيدا جاهل أم لا؟وجهان.

أقول:لو كان لأصالة العموم أثر جرت و ترتّب عليها الأثر،ولكن لا تثبت عدم فرديّة زيد للعموم؛لأنّه لا يتكفّل إلاّ بيان الحكم دون التطبيق علي مصاديقه.

و قال في الكفاية:إنّ دليل حجيّة العموم السيرة و بناء العقلاء،و لم يعلم استقراره علي إثبات خروج الفرد تخصّصا.إلي آخر كلامه (1).

لكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه جواز التمسّك بالعموم لإثبات خروج زيد عن العامّ تخصّصا،قال بعد التنبيهات التي ذكرها في حجّية الكتاب في الفرائد:

و لذا لو قال المولي أكرم العلماء،ثمّ ورد قول آخر من المولي إنّه لا تكرم زيدا، و اشترك زيد بين عالم و جاهل،فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال،بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم،فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي (2)انتهي.و لا يخفي أنّ ما ذكره غير ما نحن فيه.

ص: 234


1- كفاية الاصول ص 264.
2- فرائد الاصول ص 73 ط قم.

فصل في وجوب الفحص عن المخصّص

هل يجوز التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أم لا؟

أقول:ينبغي أن يقال:هل يجوز التمسّك بما يبدو من ظواهر الكتاب و السنّة قبل الفحص عن القرائن الحاليّة و المقاليّة و الأخبار المعارضة أم لا؟

و ذلك لأنّ علّة لزوم الفحص مشتركة بين جميع الموارد،و هي أنّ بيان آيات القرآن موكول إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله و أهل بيته عليهم السّلام و الأخبار قد صدرت متدرّجة و خفي بعضها و خفيت قرائن الحال و المقال،و ربّما كانت القرينة موجودة و لم ينقلها الراوي اعتمادا علي وضوحها و عدم احتماله خفائها،و ما ذكرناه واضح لمن تتبّع الأخبار،فلذا يجب الفحص عن قرائن الحال و المقال و الأخبار،فربّ عامّ كان مقرونا بقرينة لم ينقل لنا قرينته،و لمعرفة ظروف صدور الأخبار و فتاوي العامّة المعاصرين للأئمّة عليهم السّلام دخل في معرفة ذلك.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ ما ذكره في الكفاية من أنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان و لم يصل،بل حاله حال احتمال قرينة المجاز،و قد اتّفقت كلمتهم علي عدم الاعتناء به مطلقا و لو قبل الفحص عنها كما لا يخفي الي آخر كلامه (1).غير واضح،بل لا بدّ من الفحص عن قرينة الخلاف فيه أيضا،فهذا البحث لا يختصّ بالعموم،بل كلّ ظاهر من ظواهر الآيات و الأخبار لا يتمسّك به إلاّ بعد الفحص عن قرينة الخلاف.

بقي الكلام في مقدار الفحص،و الظاهر أنّه يختلف بحسب أبواب الفقه،ففي مثل كتاب الطهارة و الصلاة ربّما يكفي مراجعة الكتب الاستدلاليّة المطوّلة مع

ص: 235


1- كفاية الاصول ص 265.

فحص إجمالي لأبوابه،و ملاحظة الروايات غير المقطّعة،فإنّ في ملاحظة مجموعها العثور علي معني الحديث و علي قرائن خفيّة.و أمّا سائر الكتب و الأبواب،فينبغي الفحص و مراجعة نظائر الأبواب،بل المرور علي جميع كتب المعاملات و ملاحظة الأخبار إلي أن يحصل اليأس بعد الفحص التامّ.

فصل في الخطابات الشفاهيّة

هل الخطابات الشفاهيّة تختصّ بالحاضر مجلس التخاطب أو تعمّ غيره؟

أقول:ينبغي تعميم الخطابات إلي ألفاظ العموم و غيرها،مثل قاتلوا و جاهدوا، و إلي ما وقع منها في القرآن الكريم،و ما وقع في الأخبار،و لا يخفي أنّ جعل التكليف علي نحو القضيّة الحقيقيّة معقول و لا ريب فيه،بأن يقال:من كان موجودا و من يوجد إن استطاعوا فعليهم الحجّ.

بل يمكن جعل شيء لمن يوجد بعد زمان طويل أو علي عهدته،بأن يقال:

يجب علي من يوجد بعد مائة سنة أن يفعل كذا أو له كذا،و لا يجوز بعث المعدوم حال الخطاب الذي يوجد بعد ذلك إلي عمل بعثا حقيقيّا،أو مخاطبته مخاطبة حقيقيّة،و كذا الغائب عن مجلس المخاطبة،و لعلّ هذا مراد صاحب الكفاية (1)من أنّه لا يصحّ التكليف الفعلي للمعدوم،أي:تحريكه إلي الفعل.نعم الظاهر صحّة فرضه موجودا و مخاطبته إنشاء.

و أمّا الخطابات الشفاهيّة،مثل«يا أيّها الناس»فهل تعمّ الغائبين عن محلّ الخطاب أم لا؟و هل تعمّ الموجودين بعد ذلك المعدومين حال الخطاب أم لا؟فيه خلاف،و الاحتمالات فيها ثلاثة:

ص: 236


1- كفاية الاصول ص 267.

الأوّل:أن تكون إنشاء يستفيد منه الحاضر و الغائب،نظير ما يذكرونه في أوّل الكتب المؤلّفة من قولهم«اعلم»و من هذا القبيل ضبط الصوت المعمول في هذا العصر.

الثاني:أن تكون خطابا حقيقيّا إلي المشافهين بما هم مشافهون بخصوصهم.

الثالث:أن تكون خطابا حقيقيّا إلي المشافهين لا بما هم مشافهون،بل من حيث انّهم جماعة من الناس أو المؤمنين.

و ينبغي أن يكون النزاع في شمول الخطاب للغائبين و المعدومين و عدمه مبنيّا علي الاحتمال الأوّل و الثالث،فالقائل بشمولها لغير المشافهين يقول:إنّ الخطابات من قبيل ضبط الصوت،و من قبيل الخطابات المذكورة في الكتب المؤلّفة،و القائل بعدمه يقول:إنّها خطابات إلي خصوص المشافهين،لكن لا لخصوصيّتهم بل لأنّهم بعض المؤمنين الذين خوطبوا،و مضمون الخطاب يشمل غيرهم أيضا،و هذا متعارف أن ينسب إلي شخص واحد ما صدر له و لمن يجمعه في الوصف جميعا.

و أمّا الاحتمال الثاني،و هو اختصاص المشافهين بالحكم بحيث لا يكون الحكم المذكور لهم حكما لغيرهم،و يكون اشتراك غيرهم معهم ثابتا بدليل آخر من إجماع و نحوه،فبعيد جدّا؛لأنّ أفراد المؤمنين بالنسبة إلي الأحكام متساوية غالبا،و إن كان يحتمل ظاهر كلام بعضهم أنّ النزاع في ذلك،و علي كلّ حال فلا يبعد أن تكون الخطابات القرآنيّة متوجّهة إلي الناس أو المؤمنين علي النحو الثالث،إلاّ إذا كانت قرينة تقتضي أن تكون من النحو الثاني.

ثمّ انّه ذكر للقولين ثمرتان:

الاولي:حجّية الخطاب للغائبين و المعدومين بناء علي شمول الخطاب لهم، و عدم حجّية الخطاب لهم بناء علي عدم الشمول؛لأنّ الخطاب حجّة لمن قصد

ص: 237

إفهامه.

و اجيب بأنّه قد ثبت في محلّه عدم اختصاص الخطاب بمن قصد إفهامه.

قلت:لا يختصّ حجّية الخطاب بمن قصد إفهامه إن كان ظهور اللفظ و القرائن الحاليّة و المقاليّة متّحدة مع غير من قصد إفهامه.و أمّا مع الاختلاف و لو احتمالا، فلا دليل علي حجّية الخطاب لغير من قصد إفهامه؛لأنّ المتكلّم بالخطاب إنّما تكلّم مع المشافهين،و له أن يتّكل علي القرائن الحاليّة و المقاليّة التي لا حاجة لحكايتها لغير من يتكلّم معه.

الثانية:فيما لو اختلف المعدومون مع المخاطبين في الصنف،كما في قوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلي ذِكْرِ اللّهِ فإنّ المخاطبين كان فيهم المعصوم عليه السّلام،فإن كان الخطاب شاملا للمعدومين،فلا يضرّ اختلافهم مع المخاطبين في الصنف،و إن لم يكن شاملا لهم فلا بدّ لإثبات شمول الحكم لهم من اثبات عدم دخالة الاختلاف في الصنف في الحكم،و هو وجود المعصوم عليه السّلام بينهم.

ثمّ إنّه قال في الكفاية:ان بعث الغائب و مخاطبته حقيقة غير معقولين،فلا بدّ أن يكون النزاع في المعني اللغوي،و هو أنّ الموضوع له للخطابات هل هو الخطاب حقيقة أو هو إنشاء الخطاب؟و اختار كونها موضوعة لإنشاء الخطاب بأحد الدواعي،و إن كان مع عدم القرينة تنصرف إلي الخطاب الحقيقي،لكن قرينة عدم اختصاص الحكم بالمشافهين تقتضي أن تكون لمجرّد إنشاء الخطاب.

ثمّ ذكر أنّ الثمرة تظهر في صحّة التمسّك بالاطلاق إن كانت خطابات إنشائيّة، و إن لم يكن الغائبون متّحدين في الصنف مع المشافهين،و عدم صحّته إن كانت خطابات حقيقية إلي المشافهين،و يثبت حكمهم في حقّ الغائبين إن كانوا متّحدين معهم في الصنف بالاجماع.

ص: 238

ثمّ إنّه منع عن وجود هذه الثمرة بأنّه يمكن نفي اعتبار خصوصيّة المشافهين بإطلاق الخطاب إليهم إن كان الوصف مفارقا كالعلم و نحوه،لا ما إذا كان ملازما كحضورهم في زمان الرسول صلّي اللّه عليه و اله.الي آخر ما أفاده (1).

قلت:التمسّك بالاطلاق محلّ إشكال قوي فيما إذا اختلف الصنف و احتمل خصوصية صنف المشافهين.

فإن سلّمنا أنّ الخطاب علي النحو الثالث و يشمل الغائبين و المعدومين كما لا يبعد،ففي قوله تعالي في سورة الجمعة يحتمل الاختصاص بالحاضرين؛لاحتمال أن يكون المعني يا أيّها المؤمنون الحاضرون في زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله،مثل آية النجوي،و إنّما لم يذكر التقييد بالحاضرين لكونه مفروضا.

و ما ذكره في الكفاية من أنّها حقيقة في إنشاء الخطاب غير معلوم،فلعلّها حقيقة في الخطاب حقيقة،بأن يكون المخاطب خصوص المشافهين لا بما هم مشافهون، بل بما هم طائفة من المؤمنين.

فصل في تعقّب العامّ بضمير يرجع إلي بعض أفراده

اختلف الأعلام في أنّه إن تعقّب العامّ ضمير يرجع إلي بعضه،فهل يوجب ذلك تخصيصه أم لا؟الظاهر هو التخصيص إن كان العامّ و الضمير في جملة واحدة،و لو سلّم عدم ظهوره في التخصيص،فلا أقلّ من عدم انعقاد ظهور العام في العموم، مثل و المطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ،فإنّ المراد من ضمير أزواجهنّ المطلّقات الرجعيّات.و أمّا إذا كانا في جملتين،مثل قوله تعالي وَ الْمُطَلَّقاتُ (2)إلي قوله أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ الآية،ففي تخصيص العموم لأنّ ظاهر الضمير كون مرجعه متّحدا

ص: 239


1- كفاية الاصول ص 269-270.
2- سورة البقرة:228.

معه،أو إبقاء العموم بحاله و إرجاع الضمير إلي بعضه،احتمالان.

فصل في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف

اتّفقوا في جواز تخصيص العموم بمفهوم الموافقة؛لأنّه في الدلالة أبلغ من دلالة المنطوق.و أمّا المفهوم المخالف بناء علي أن يكون للجملة الشرطيّة مفهوم، فالظاهر أنّه يخصّص العموم علي المختار من أنّه من دلالة المنطوق علي الحصر، إلاّ أن يكون دلالة العموم أظهر من دلالته بحيث يكون موجبا للتصرّف فيه.

و قال في الكفاية:إنّ الدلالة علي العموم و الدلالة علي المفهوم إن كانتا بمقدّمات الحكمة،أو كانتا بالوضع،فلا عموم و لا مفهوم؛لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة،كما في مزاحمة أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك،فلا بدّ من العمل بالاصول العمليّة فيما دار بين العموم و المفهوم إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر (1).

أقول:محلّ الكلام معارضة ما دلّ علي العموم بالوضع مع المفهوم الأخصّ منه، فإذا كانت الدلالة علي المفهوم دلالة معتبرة عرفا و كان أخصّ من العامّ،و كان كلاهما بالوضع أو بالدلالة العرفيّة،فلا يبعد أن يكون الجمع العرفي يقتضي التخصيص،إلاّ إذا كان العامّ أقوي دلالة و أظهر من الخاصّ،بحيث لا يكون رفع اليد عنه بالخاصّ من الجمع العرفي.

و لا يخفي أنّه علي المختار من إنكار دلالة القضيّة علي الحصر،و أنّه لا بدّ أن يكون للقيد المذكور في الكلام فائدة،فينبغي ايكال الأمر إلي نظر الفقيه في كلّ مورد بخصوصه ليري الدلالة العرفيّة،مثلا رجحان النوافل اليوميّة لو ثبت بعموم

ص: 240


1- كفاية الاصول ص 273.

كان قوله«يسقط النوافل في السفر نهارا»دالاّ علي حصر السقوط في السفر بالنوافل النهاريّة فيخصّصه بالنهار؛لأنّ قوله«نهارا»يدلّ علي خصوصيّة النهار، حيث انّ المتفاهم عرفا من القيد ذلك،فالميزان صحّة الجمع بالتخصيص عرفا.

فصل في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

اختلفوا فيه علي قولين،الأوّل:جواز التخصيص،و استدلّ له في المعالم (1)بأنّ الخبر حجّة سندا و دلالة،و الكتاب قطعي سندا و حجّة دلالة،و لا تعارض بين حجّية سند الخبر و الكتاب،إنّما المعارضة بين دلالة الكتاب و دلالة الخبر، و مقتضي حجّيتهما كون دلالة الخبر قرينة علي تخصيص العموم.

الثاني:عدم الجواز،اختاره الشيخ الطوسي رحمه اللّه في عدّة الاصول (2)في هذا البحث،و في بحث حجّية الأخبار قال:إلاّ أن يدلّ دليل يوجب العلم يقترن بذلك الخبر يدلّ علي جواز تخصيص العموم به،أو ترك دليل الخطاب،فيجب حينئذ المصير إليه،و إنّما قلنا ذلك لما نبيّنه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الآحاد إن شاء اللّه تعالي (3).

و في كنز الفوائد،عن الشيخ المفيد،قال:و لا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، لأنّه لا يوجب علما و لا عملا،و إنّما يخصّصه من الأخبار ما قطع العذر لصحّته عن النبي صلّي اللّه عليه و اله أو عن أحد الأئمّة عليهم السّلام (4).

و الأدلّة التي اقيمت علي عدم الجواز وجوه:

ص: 241


1- معالم الاصول ص 140.
2- عدّة الاصول 1:344.
3- عدّة الاصول 1:370.
4- كنز الفوائد 2:23.

أحدها:أنّ الكتاب قطعي و الخبر ظنّي،و لا يرفع اليد عن القطعي بالظنّي.

و اجيب بأنّ الخبر الواحد قطعي الحجّية،و الكتاب ظنّي الدلالة،فيرفع اليد عنه بدلالة الخبر التي أظهر من دلالته.

أقول:هذا الجواب يتمّ بالنسبة إلي بعض الأخبار لا جميعها،و يأتي تفصيل ذلك.

ثانيها:أنّه لو جاز التخصيص لجاز النسخ،و الثاني باطل فكذا الأوّل.بيان الملازمة:أنّ جواز التخصيص فرع قطعيّة حجّية الخبر،و معها لا فرق بين التخصيص و النسخ.

و اجيب بأنّه لا مانع من النسخ،و لو سلّم فالفارق بين الأمرين الاجماع علي عدم جواز النسخ.

ثالثها:أنّ الدليل علي حجّية الخبر إجماع الطائفة،و هو غير ثابت في مورد معارضة الخبر للكتاب.

و اجيب بأنّ الدليل ليس منحصرا به،بل هو السيرة العقلائية بل سيرة المتشرّعة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام.

أقول:ذكرنا في محلّه أنّ المتيقّن من السيرة هو الاعتماد علي خبر من يعلم وثاقته بالمعاشرة و نحوها،أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته واقعا،و الأخبار الموجودة بأيدينا ليست كلّها كذلك،و تفصيله في محلّه و هو البحث عن حجّية خبر الواحد.

رابعها:ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّ عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار لم يدلّ علي العمل بما يخصّ القرآن،بل قد ورد عنهم عليهم السّلام ما لا خلاف فيه من قولهم«إذا جاءكم منّا حديث فاعرضوه علي كتاب اللّه،فإن وافق كتاب اللّه فخذوه،و إن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»علي حسب اختلاف الألفاظ فيه،

ص: 242

و ذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القرآن.إلي آخر كلامه (1).

و اجيب عنه و عن أمثاله بأنّ المراد من المخالفة تباين مضمون الخبر مع الكتاب،و ذلك للعلم بصدور المخصّصات لعمومات الكتاب من النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لأنّ الخاصّ لا يكون مخالفا للعامّ عرفا،بل هو قرينة علي أنّ المراد بالعموم ما عدا الخاصّ.

أقول:الظاهر صدق المخالف علي الخاصّ،إذ لو سلّم عدم صدق المخالفة بين العامّ و الخاصّ إن وقعا في كلام متكلّم واحد،أو متكلّمين كانا بحكم متكلّم واحد، فالظاهر صدقها إن لوحظ الخاصّ بالنسبة إلي كلام متكلّم آخر.

فلو قال المولي لعبيده:اعملوا بما يأمركم ابني إلاّ إذا خالف كلامه كلامي، و فرضنا أنّ المولي قال لعبيده:لا تكرموا الفسّاق،و قال ابنه:أكرموا فسّاق العلماء، لقال العبيد له:إنّ هذا الكلام مخالف لكلام المولي.

و الخبر إن لوحظ بالاضافة إلي عموم الكتاب يصدق عليه أنّه مخالف له،و قد ورد في الخبر أنّه إن تعارض الخبران يؤخذ بما وافق الكتاب و يترك ما خالف الكتاب،و المراد به المخالفة بنحو العموم و الخصوص.

و أمّا الخبر المباين للكتاب،فإنّه ساقط من رأسه.

و دعوي أنّ العلم بصدور المخصّصات من النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام قرينة علي أنّ المراد من المخالف للكتاب المخالفة بالتباين،ممنوعة،بل يصدق المخالفة بدوا،لكن حيث انّهم عليهم السّلام العارفون بالكتاب،العالمون بالمراد من العمومات،المبيّنون لها،فما سمعناه منهم أو علمنا بصدوره عنهم،أو علمنا بأنّهم جعلوه حجّة كخبر الثقة الأمين كزرارة و أضرابه،نعلم بأنّه بيان للكتاب و مخصّص5.

ص: 243


1- عدّة الاصول 1:135.

للعموم إن كان خاصّا،و ليس ذلك محلّ النزاع،بل محلّ النزاع مجيء خبر لا يعلم و لا يطمأنّ بصدوره عنهم،و مقتضي هذه الأخبار التي وردت عنهم علي طرح ما خالف الكتاب هو طرح المخالف للكتاب فيما لم يعلم صدوره عنهم،و هي شاملة للخبر الواحد الخاصّ.

و بذلك نجيب عن سيرة المتشرّعة في زمان المعصومين،فلعلّهم كانوا يعملون بخبر حصل لهم العلم بصدوره عنهم لقلّة الواسطة و جلالة الراوي،كأخبار زرارة و أمثاله،و إن كان مخصّصا للعامّ.

ثمّ الأخبار المذكورة الدالّة علي طرح ما خالف الكتاب:إمّا محمولة علي صورة عدم العلم بصدور الخبر المخالف إن كان ضعيفا بالاصطلاحين،أي:

اصطلاح القدماء و المتأخّرين،أو محمولة علي مورد خاصّ،مثلا يحمل خبر هشام بن الحكم و غيره في قول النبي صلّي اللّه عليه و اله«ما جاءكم عنّي يخالف كتاب اللّه فلم أقله» (1)علي خصوص خبر جاء عنه صلّي اللّه عليه و اله و لم يعلم صدوره عنه،لا ما سمع منه أو علم بصدوره عنه،فما رواه أبو بكر عنه صلّي اللّه عليه و اله من أنّ ما تركه الأنبياء صدقة،مطروح لأنّه مخالف للكتاب.

و يحمل ما ورد علي أنّه إن وجد للحديث شاهد،علي الشاهد علي صدقه،فقد ورد في القرآن مدح المؤمنين،و انّهم يتواصون بالحقّ،فما لم يعلم صدوره عن المعصومين و لم يكن صادرا عن عادل ثقة فهو مردود،و قد فصّلنا البحث عن حجّية الأخبار في محلّه،فلاحظ.

فصل الخاصّ المقارن للعامّ يخصّص العموم بلا ريب

اشارة

الخاصّ المقارن للعامّ يخصّص العموم بلا ريب،و أمّا غير المقارن فله صور:

ص: 244


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 15.

الصورة الاولي:أن يكون الخاصّ صادرا متأخّرا عن العامّ و قبل حضور وقت

العمل بالعامّ

،قال في الكفاية:فلا محيص عن كون الخاصّ مخصّصا و بيانا للعامّ (1).

أقول:الخاصّ المتأخّر عن العامّ الوارد قبل وقت العمل بالعامّ يجب العمل به، سواء كان ناسخا أو مخصّصا،فلا ثمرة في إثبات كونه مخصّصا أو ناسخا.

الصورة الثانية:أن يكون الخاصّ متقدّما زمانا علي العامّ و جاء العامّ قبل وقت

العمل بالخاصّ

،فهل الخاصّ مخصّص للعامّ،أو أنّ العامّ ناسخ له؟قولان:

الأوّل:أنّ الخاصّ مخصّص له؛لأنّ التخصيص أكثر من النسخ،حتّي قيل:ما من عامّ إلاّ و قد خصّ.

الثاني:أنّه ناسخ،قال الشيخ الطوسي عليه السّلام:إنّ المتأخّر ناسخ؛لأنّ تأخير بيان العموم لا يجوز عن حال الخطاب،و كذلك لو كان المتقدّم خاصّا و المتأخّر عامّا، فإنّه يكون ناسخا،إلاّ أن يدلّ دليل علي أنّه اريد به ما عدا ما تقدّمه،و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم (2).

أقول:لعلّ العرف يتوقّف في مثل ذلك إن صدر عن المولي العرفي،لاحتمال حصول البداء له،فإذا قال المولي العرفي يوم السبت:لا تكرم فسّاق العلماء يوم الجمعة،و قال يوم الأربعاء:أكرم كلّ عالم يوم الجمعة،لم يثبت أنّهم يخصّصون العموم،بل ربّما يأخذون بالعموم،لقوّة احتمال البداء في حقّ المتكلّم.

و إن صدر من الشارع المقدّس،فيشكل إحراز كون العامّ مخصّصا بالخاصّ المتقدّم؛لأنّه لا مانع من النسخ قبل وقت العمل بالحكم؛لأنّ المصلحة ربّما اقتضت ذكر حكم خاصّ ثمّ نسخه قبل العمل به،فإذا لم يكن مانع من ذلك،فمقتضي

ص: 245


1- كفاية الاصول ص 276.
2- عدّة الاصول 2:448.

إطلاق الأخبار الدالّة علي الأخذ بالخبر الأحدث العمل بالخبر المتأخّر،فتأمّل.

الصورة الثالثة:أن يكون الخاصّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ

، و الظاهر تعيّن العمل بالخاصّ و كونه ناسخا كما في الكفاية (1)،و ما قيل من أنّ العامّ قد يكون في الشرعيّات لبيان ضرب القاعدة،لا محصّل له بل الأحكام كانت تدريجية.

الصورة الرابعة:أن يكون العامّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ

،و فيه أقوال:

الأوّل:أنّ العامّ ناسخ،و هو الذي يظهر من العبارة التي نقلناها عن عدّة الاصول.

الثاني:أنّ الخاصّ يخصّص العموم،قال في الكفاية:انّه أظهر لكثرة التخصيص و ندرة النسخ،فيصير ذلك سببا لأظهريّة الخاصّ في الدوام،و إن كان دلالته علي الدوام بالاطلاق و دلالة العموم بالوضع (2).

أقول:يريد أنّ دلالة العموم علي شموله للخاصّ بالوضع،و هو مقدّم علي استمرار حكم الخاصّ إلي ما بعد مجيء العموم لأنّه بالاطلاق،إلاّ انّ كثرة التخصيص أوجبت أقوائيّة ظهور الخاصّ في الدوام من ظهور العامّ.

و في المحاضرات بعد الاعتراض علي الكلام المتقدّم و الاعتراف بأنّ مقتضي القاعدة في مثل ذلك تقديم العامّ،قال:إلاّ إنّ ذلك في غير الأحكام الشرعيّة،و أمّا فيها فيخصّص العامّ؛لأنّ الأحكام الشرعيّة ثابتة لا تقدّم و لا تأخّر بينها،و إنّما التأخّر و التقدّم في مرحلة البيان،فقد يكون الخاصّ متأخّرا في مقام البيان و قد

ص: 246


1- كفاية الاصول ص 277.
2- كفاية الاصول ص 277.

يكون بالعكس،مع أنّه لا تقدّم و لا تأخّر في نفس الأحكام.الي آخر كلامه (1).

أقول:إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و إن كانوا مبيّنين للأحكام،لكن يحتمل أن يكون فعليّة الأحكام تختلف بحسب الأزمنة،فكان بعض الأحكام في أوّل الشريعة غير فعلي ثمّ صار فعليا،و كان بعضها حكما مؤقّتا بزمان خاصّ،و كلّها نازلة علي النبي صلّي اللّه عليه و اله و قد بيّنها الأئمّة عليهم السّلام،و يؤيّد ذلك أخبار الأخذ بالأحدث.

الثالث:التفصيل بين الموارد،فقد يكون العامّ ناسخا إذا كان صادرا لبيان الحكم الواقعي،و قد يكون محمولا علي التقيّة إن لم يكن صادرا لبيان الحكم الواقعي،و ذلك لأنّه ورد في جملة من الأخبار،كخبر الحسين بن المختار،و خبر محمّد بن مسلم،و منصور بن حازم (2)و غيرها،العمل بالأحدث و هو الخبر الأخير،فإن استظهر كون الأخير للتقيّة تعيّن العمل بالأوّل،و إلاّ يجب العمل بالأخير.

بل قيل ذلك في الآية المتأخّرة أنّها تكون ناسخة للاولي،ففي آية حرمة الدم المسفوح في سورة الأنعام التي يقال إنّها مكّية،و في آية اخري نزلت بعدها علي ما قيل حرمة الدم مطلقا،و هو في سورة البقرة التي يقال:إنّها مدنيّة،فيؤخذ بالأخير،و كذلك أحاديث النبي صلّي اللّه عليه و اله،و في بعض الأخبار إشارة إلي ذلك.و لا يترك مراعاة الاحتياط في ذلك.

الصورة الخامسة:أن يعلم أنّ الخاصّ ورد بعد العامّ

،و تردّد بين أن يكون الخاصّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ حتّي يكون ناسخا،و بين أن يكون قبله حتّي يكون مخصّصا،قال في الكفاية:يرجع إلي الاصول العمليّة لعدم ترجيح

ص: 247


1- المحاضرات 5:326.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 6 ح 37 و 38 و 39.

بين الاحتمالين الي آخر ما أفاده (1).

أقول:لا أثر للتردّد المذكور بالنسبة إلينا؛لأنّه يجب علينا العمل بالخاصّ، سواء كان ناسخا أو مخصّصا،نعم المدرك لزمان صدور الخبرين له بالنسبة إليه أثر عملي.

الصورة السادسة:أن يعلم صدور العامّ بعد الخاصّ

اشارة

،و تردّد بين أن يكون بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ليكون العام ناسخا،و بين أن يكون قبله ليكون الخاصّ مخصّصا للعامّ،مقتضي ما ذكره في الكفاية فيما لو علم ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ من تخصيص العموم لكثرته حتّي قيل:ما من عامّ إلاّ و قد خصّ،الحمل علي التخصيص في صورة الجهل أيضا،ولكن مقتضي ما ذكرناه من احتمال لزوم الأخذ بالأخير هو الرجوع إلي الاصول العمليّة.

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الطوسي في عدّة الاصول لزوم التخصيص في الصورتين الرابعة و الخامسة،قال في الاستدلال عليه:إنّ من حقّ من ثبتت حكمته أن لا يلغي كلامه إذا أمكن حمله علي وجه يفيد،و إذا صحّ ذلك فمتي أوجبنا استعمال العامّ لأدّي إلي إلغاء الخاصّ،و متي استعملنا الخاصّ لم يوجب إطراح العامّ،بل يوجب حمله علي ما يصحّ أن يريده الحكيم،فوجب بهذه الجملة بناء العامّ علي الخاصّ.الي آخر كلامه (2).

أقول:إن كان الخاصّ حكما إلزاميّا و العامّ حكما ترخيصيّا،فالأحوط العمل بالخاصّ،و إن انعكس فالأحوط العمل بالعامّ.و إن كان الخاصّ حكما إلزاميّا من وجوب أو حرمة و العامّ أيضا حكما إلزاميّا ضدّ الخاصّ،فهو من باب الدوران بين المحذورين،فإنّه إذا كان العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ وجب العمل بالعامّ

ص: 248


1- كفاية الاصول ص 277.
2- عدّة الاصول 1:150.

لكونه الأخير،و إن كان قبله فيحتمل الأخذ بالعامّ لأنّه متأخّر،فيشمله ما دلّ علي الأخذ بالأخير،و إن كان لا يبعد دعوي عدم شمول ما دلّ علي الأخذ بالأخير للعامّ المتأخّر عن الخاصّ الوارد قبل العمل بالخاصّ،و عليه فيحتمل التخصيص، فيدور الأمر بين كون العامّ ناسخا أو مخصّصا،فتبقي المسألة في قالب الاشكال.

تتميم

في النسخ و البداء

النسخ لغة كما في عدّة الاصول:الازالة كما يقال:نسخت الشمس الظلّ و نسخت الريح آثارهم،و بمعني النقل كما يقال:نسخت الكتاب (1).

و بالمعني الأوّل استعمل في نسخ الحكم،فسمّي بيان أمد الحكم الذي كان ظاهرا في الدوام نسخا؛لأنّه أزال دوام ما ظاهره الدوام،فهو في الحقيقة ليس رفعا للحكم و لا دفعا له،بل بيان أمد الحكم.فما في الكفاية من أنّه دفع ثبوتا (2)لا يخلو عن مسامحة.

و البداء لغة:الظهور،يقال:بدا لنا سور البلد.

قيل:و يستعمل في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا.

أقول:هو أيضا ظهور المعلوم.

و يمكن إطلاقه علي نسخ الحكم،فيقال:بدا الحكم أي:ظهر الحكم علي واقعه بعد ما كان بعض أحواله مخفيا،فإنّ الحكم كان ظاهرا في الدوام فظهر أمده و أنّه لا دوام له،أو ظهر للمكلّفين أمد الحكم الذي لم يكن ظاهرا لهم،و يطلق في الامور التكوينيّة،فيقال:بدا للّه تعالي،أي:كان المقتضي للشيء موجودا ظاهرا،و المانع مفقودا ظاهرا،و وجود المقتضي و فقد المانع مستندان إليه تعالي،فإذا تحقّق

ص: 249


1- عدّة الاصول 2:485.
2- كفاية الاصول ص 278.

المقتضي بالفتح،فقد أوجده اللّه تعالي،لكن لمّا كان الواقع علي خلافه،فإذا وجد خلاف ما يقتضيه الظاهر و هو أيضا مستند إلي اللّه تعالي،صحّ أن يقال مجازا:بدا للّه،لكن حقيقته أنّه أبدي أي:أظهر خلاف ما هو ظاهر عند الناس،مع أنّه كان من الأوّل كذلك،أي:انّ المصلحة كانت موقّتة.

و في عدّة الاصول حكي عن السيّد الأجلّ المرتضي وجها آخر،و هو أن قال:

يمكن حمل ذلك علي حقيقته،بأن يقال:بدا له تعالي،بمعني أنّه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهرا له،و بدا له من النهي ما لم يكن ظاهرا له؛لأنّ قبل وجود الأمر و النهي لا يكونان ظاهرين مدركين،و إنّما يعلم انّه يأمر أو ينهي في المستقبل،فأمّا كونه آمرا أو ناهيا،فلا يصحّ أن يعلمه إلاّ إذا وجد الأمر و النهي،و جري ذلك مجري أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالي وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّي نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ (1)بأن نحمله علي أنّ المراد حتّي نعلم جهادكم موجودا،لأنّ قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودا،و إنّما يعلم كذلك بعد حصوله،فكذا القول في البداء،و هذا وجه حسن جدّا (2)انتهي.

و فائدة الاعتقاد بالبداء هو الاعتقاد بالتوحيد و قدرة اللّه سبحانه،و التضرّع و التوكّل و الالتجاء إليه،و عدم الاعتقاد بما هو الظاهر،فلا ييأس من رحمة اللّه تعالي،و التضرّع إلي اللّه تعالي مطلوب بنفسه.

و قد وردت روايات في مدح البداء،أي:الاعتقاد به.ففي خبر زرارة عن أحدهما قال:ما عبد اللّه بشيء مثل البداء (3).

و في بعضها فسّر المراد به،ففي صحيح عبد اللّه بن سنان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام1.

ص: 250


1- سورة محمّد صلّي اللّه عليه و اله:31.
2- عدّة الاصول 2:496.
3- أصول الكافي 1:146 ح 1.

قال:ما بدا للّه في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له (1).

و في خبر عمرو بن عثمان،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه لم يبد له من جهل (2).

و في الأخبار:أنّ عبد المطّلب أوّل من قال بالبداء (3).

و بعبارة اخري:أنّ الامور التي تقع بعضها حتمي لا يتغيّر،كالقيامة و الجنّة و النار،و هي ثابتة في كتاب.

و بعضها غير حتمي قد ثبت في كتاب و يمكن تغييرها،كما يمكن إثباتها و اللّه تبارك و تعالي قادر علي المحو و الاثبات،فإن علم العبد بأنّ أمرا من الامور حتمي،فليس له إلاّ التسليم لوقوعه.و إن علم أنّه ليس بحتمي،فله السعي بالدعاء و نحوه علي وقوعه أو عدم وقوعه،و إن لم يعلم فله السعي لاحتمال كونه غير حتمي.

ثمّ إنّ العبد حيث لا سبيل له إلي أن يعلم كون أمر من الامور حتميّا،فحينئذ لا بدّ له من الرجاء و الخوف و السعي بأنواع القربات،و عدم الاغترار بما هو واجد له و عدم اليأس ممّا هو فاقد،فإنّه ربّما يكون الشيء بحسب ما هو الظاهر عنده ممّا يقع لتحقّق المقتضي و فقد المانع لكن ينعكس الأمر،و لم يوجد في الشرع اسم لهذا المعني و للاعتقاد به إلاّ لفظ البداء،فتدبّر.

و المراد به ما ذكرناه،و هذه اللفظة وردت في أخبار أهل البيت عليهم السّلام و فسّروه بأنّه لم يبد للّه من جهل.

و قالوا:إنّ المراد من قوله تعالي يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ (4)هو ذلك،و إن9.

ص: 251


1- اصول الكافي 1:148 ح 9.
2- اصول الكافي 1:148 ح 10.
3- اصول الكافي 1:447 ح 23.
4- سورة الرعد:39.

أبيت عن التسمية فلا مشاحّة في الاصطلاح،فإن شئت فسمه بقدرة اللّه علي المحو و الاثبات،كما في الآية الشريفة.

المقصد الخامس: في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن

اشارة

و فيه فصول:

فصل: ي تعريف المطلق

المطلق مأخوذ من الاطلاق لغة بمعني المرسل،و اصطلاحا إسم لإرسال خاصّ،و هو ما دلّ علي معني يصلح للشيوع،و له أقسام من الاطلاق الشمولي و البدلي،و الاطلاق الذاتي و اللحاظي،و الاطلاق الأحوالي،و الاطلاق اللفظي، و الاطلاق المقامي.

و الفرق بين العامّ و المطلق من جهات:

منها:أنّ العامّ يدلّ علي الشمول بالوضع،و المطلق يدلّ بالوضع علي الطبيعة المهملة،و إنّما يدلّ علي الشمول بمقدّمات الحكمة،و لذا لو تعارض المطلق مع العامّ،قدّم العامّ علي المطلق؛لأنّه يصير قرينة علي المراد من المطلق،فلا يتمّ مع وجود العامّ مقدّمات الحكمة.

و منها:أنّ العامّ إن استعمل في بعض أفراده كان مجازا؛لأنّه استعمل في غير ما وضع له،بخلاف المطلق فإنّه لو استعمل في الفرد من باب أنّه أحد مصاديق الطبيعة لم يكن مجازا.نعم لو استعمل في الفرد بعنوان أنّه تمام معني الطبيعة كان مجازا.

و منها:أنّ العامّ لا يكون إلاّ من الأسماء،فلا يوجد فعل أو حرف عامّ،بخلاف المطلق فإنّ الفعل يكون مطلقا،كما مرّ انّ ضرب زيد مطلق من حيث الزمان و المكان و آلة الضرب.

و منها:أنّ عموم العامّ يكون لحاظيّا؛لأنّ لحاظ المعني يقتضي ذلك بخلاف

ص: 252

المطلق،فقد يكون اطلاقه ذاتيّا و قد يكون لحاظيّا.

و منها:أنّ الاطلاق يكون إضافيّا،فزيد في قولك«جاء زيد»يدلّ علي معناه و لا إطلاق له،لكنّه بالاضافة إلي أحواله يكون مطلقا قابلا للتقييد،كقولك«جاء زيد راكبا»و أمّا العامّ فليس عمومه إضافيّا.

و قد ظهر ممّا ذكرنا الحاجة إلي تعريف المطلق و العامّ حتّي يميّزا،و ليقدّم العامّ علي المطلق عند التعارض.فما ذكره في الكفاية من أنّه لا وجه للايراد علي تعريف المطلق،بأنّه غير جامع و لا مانع؛لأنّ هذه التعريفات ليست بيانا لماهيّة الشيء بل هي شرح الاسم،فلذا لا حاجة إلي تعريف المطلق لوضوح معناه (1).غير واضح.

ثمّ إنّه علي ما ذكرناه لا حصر لألفاظ المطلق،لكنّه ذكر في الكفاية أسماء قيل:

إنّها مطلقات،منها أسماء الأجناس،قال:إنّها موضوعة لمعانيها بلا لحاظ أيّ شيء معها،لصدقها علي أفرادها بغير تجريد المعني،فيقال:جاءني إنسان و يريد به أحد مصاديقه.و لو كان ملحوظا معه شيء من إرسال،أو عموم بدلي،أو لحاظ كونه مهملا غير مقيّد بشيء،لزم تجريده في صدقه علي مصاديقه الي آخر كلامه (2).

أقول:ما ذكره متين،و ذلك أنّ الطبيب إن قال للمريض:لا بدّ لك من أن تشرب الدواء،لم يستعمل كلمة الدواء فيما يشمل كلّ دواء،بل انّه في مقام بيان احتياجه إلي أصل الدواء،و الاستعمال المذكور ليس بعناية و لا تجريد،و هذا يكشف عن أنّ اللفظ موضوع لذات المعني،فلم يؤخذ في الموضوع له الشمول لكلّ ما صدق عليه المفهوم من اللفظ.

و من ذلك يظهر أنّ التقييد بالمتّصل لا يوجب استعمال اللفظ في غير معناه في3.

ص: 253


1- كفاية الاصول ص 282.
2- كفاية الاصول ص 282-283.

قولنا«أعتق رقبة مؤمنة»فإنّ المراد الاستعمالي بالرقبة أصل الرقبة لا كلّ رقبة حتّي يكون التقييد بالمؤمنة موجبا للمجازيّة،و المراد الواقعي صنف خاصّ من الرقبة و هو المؤمنة قد افيد بتعدّد الدالّ و المدلول.و التقييد راجع إلي مفهوم اللفظ؛ لأنّه يصلح في نفسه للشمول لكلّ ما صدق عليه الرقبة.

و بذلك يصحّ أن يقال:إنّ المطلق الذاتي مقيّد بكونه مؤمنة،ولكن في الواقع لا إطلاق للرقبة؛لأنّ المراد بها أصل الرقبة،فيصحّ أن يقال:إنّها ليست مطلقة لحاظا.

و أمّا التقييد بالمنفصل فيما إذا كان المطلق في مقام البيان،بأن كان ظاهرا في الاطلاق،كما لو قال:أعتق رقبة،ثمّ قال بعد ذلك:لا تعتق رقبة كافرة،فهل يوجب ذلك أن يكون الاستعمال مجازا،أو أنّه يكشف عن كون المراد بالرقبة بعضها لا كلّ ما صدق عليه الرقبة من دون أن يكون الاستعمال مجازا؟الظاهر أنّه لا يوجب كونه مجازا؛لأنّ الحكم بأنّ المتكلّم أراد الاطلاق حيث لم ينصب قرينة كان معلّقا علي عدم الاتيان بالقرينة قبل وقت العمل،و المفروض أنّ المتكلّم أتي بالقرينة قبل وقت العمل،و سيأتي توضيحه.

ثمّ إنّ المعني إن لوحظ تحقّقه و وجوده،كان موطنه الخارج.و إن لوحظ من حيث كونه قابلا للصدق علي الكثيرين و عدمه،لم يكن النظر إلي وجوده الخارجي و كان موطنه الذهن،و كلّية المعني في الانسان و جزئيّته في زيد من أوصاف المعني غير الملحوظ معه الوجود الخارجي.

و منها:علم الجنس كاسامة،قال في الكفاية:التحقيق أنّه كاسم الجنس، و التعريف فيه لفظي كالتأنيث اللفظي (1).

أقول:إن كان علما للجنس،فيجري عليه أحكام العلم،فإن قال المولي:جئني3.

ص: 254


1- كفاية الاصول ص 283.

باسامة،فليس لنا أن نقول:لعلّه ليس في مقام البيان،كما إذا قال الطبيب للمريض:

اشرب الدواء و لم يكن في مقام البيان،و ذلك لأنّ اسامة علم كزيد،فكما أنّه إذا قال:جئني بزيد،لا يمكن أن لا يكون في مقام البيان كذلك في اسامة.

و منها:المفرد المعرّف باللام.قال في الكفاية:الظاهر أنّ اللام مطلقا للتزيين، كما في الحسن و الحسين،و استفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن (1).

أقول:اللام في الأعلام للتزيين،و أمّا في أسماء الأجناس،فإنّها تعيّن مدخولها للجنس،فقولك«أكرم عالما»يحتمل الوحدة،أي:عالما واحدا،و يحتمل أن يكون تنوين التمكّن و يكون المراد به الجنس،و أمّا إذا قلت أكرم العالم،فهو يتعيّن في الجنس.

ثمّ إنّ اللام قد تكون للعهد الذكري أو الذهني،كما تكون للجنس و للاستغراق، و يفهم ذلك من القرينة،فهي تعيّن كون اللام للجنس،لا أنّ مدخولها للجنس كما في الكفاية،حيث قال:و استفادة الخصوصيّات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيّنها علي كلّ حال إلي آخر كلامه (2).

و منها:النكرة في الاخبار،كقولك«جاءني رجل»و في الانشاء كقولك«جئني برجل».

قال في الكفاية:المراد من الاوّل فرد معيّن في الواقع غير معيّن عند المخاطب، و المراد بالثاني طبيعة الرجل المقيّد بقيد الوحدة،و ليس المراد بالنكرة الفرد المردّد (3).

أقول:لا فرق بين النكرة المستعملة في الاخبار و المستعملة في الانشاء،فإنّها5.

ص: 255


1- كفاية الاصول ص 284.
2- كفاية الاصول ص 285.
3- كفاية الأصول ص 285.

في كلا الموردين مستعملة في الطبيعة المقيّدة بالوحدة،لكن في الاخبار يستفاد التعيّن عند التكلّم من إخباره،فإنّه ظاهر في أنّه يعرف شخصه.

فصل في مقدّمات الحكمة

اشارة

يتوقّف الدلالة علي الاطلاق علي مقدّمات الحكمة لو لم تكن قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ عليه.

و لا يخفي أنّ هذه المقدّمات ممّا يحتاج إليها في إثبات ظهور الألفاظ الواقعة في الكلام في مقدار ظهورها،لا في مقدار نصوصيتها و صراحتها،و سمّيت مقدّمات الحكمة لأنّ ظاهر كلام الحكيم حجّة بعد هذه المقدّمات،و هي ثلاث:

أوّلها:كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد،فلو لم يكن في مقام بيانه،لم يصحّ التمسّك بالاطلاق،كالمريض الذي يرجع إلي الطبيب،فيقول له الطبيب:

تحتاج إلي الدواء لشفاء مرضك.

ثانيتها:أن لا تكون قرينة توجب تعيين المراد من القرائن الحالية أو المقالية.

ثالثتها:انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

أقول:إن كان القدر المتيقّن في مقام التخاطب موجبا للانصراف بمراتبه التي يأتي الكلام عليها في كلام صاحب الكفاية،فهو داخل في المقدّمة الثانية كما يشير إليه،فينبغي أن يكون المراد به ما لا يوجب الانصراف،بل عدم الظهور في الاطلاق،كما إذا كان ماء بلد مضرّا،فقال المولي:إن دخلت ذلك البلد فلا تشرب الماء،و لم ينصرف إلي ماء ذلك البلد،لكن المتيقّن منه ماء البلد،فلو أتي بماء مثلا من خارج البلد،فشمول الاطلاق له غير معلوم؛لأنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب هو شرب ماء البلد.

و نظيره ما لو ذكر ابن سينا في كتابه معجونا مركّبا من مقدار من الدهن و اللوز،

ص: 256

فإنّ القدر المتيقّن ممّا كان يفهم و يقع مورد المحاورة هو الدهن الحيواني،و أمّا الدهن النباتي الموجود في عصرنا،فإنّه لم يكن يخطر بالبال،فلو شككنا في اعتبار خصوصيّة الدهن الحيواني لم يجز التمسّك بالاطلاق.

و أورد علي هذه المقدّمة في المحاضرات بأنّه ليس القدر المتيقّن و هو حمل إطلاق الجواب علي خصوص مورد السؤال مانعا عن التمسّك بإطلاق الجواب (1).فراجع كلامه.

قلت:بما ذكرنا عرفت أنّه يوجب الاجمال في شمول الاطلاق بالبيان المتقدّم.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل:قيل بإضافة مقدّمة اخري إلي مقدّمات الحكمة

،و هي كون المعني قابلا للتقييد و إلاّ فلا إطلاق،و لعلّ عدم ذكرها للايكال إلي وضوحها،أو لدخولها في المقدّمة الاولي؛لأنّ المراد من كونه في مقام البيان أن يكون في مقام بيان ظاهر كلامه،و هو ظهوره في الاطلاق،فإذا لم يمكن الاطلاق،فلا يمكن أن يكون في مقام بيان الاطلاق.

و منع عن اعتباره في المحاضرات،قال ما حاصله:إنّ شيخنا الاستاذ قال:إنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من تقابل العدم و الملكة،ففي مورد يمكن التقييد يمكن الاطلاق،فإذا استحال التقييد استحال الاطلاق،ثمّ أجاب عنه بأنّ التقابل بينهما من تقابل التضادّ،فلاحظ (2).

أقول:قد تقدّم أنّ الاطلاق ذاتي و لحاظي،و التقابل بين الاطلاق الذاتي و التقييد من تقابل التضادّ،لكن الاطلاق الذاتي لا يكون حجّة،فإنّ مورده ما كان في مقام بيان أصل المعني المراد،و إنّ إطلاق الكلام فيه ليس حجّة.

ص: 257


1- المحاضرات 5:371.
2- المحاضرات 5:364.

و التقابل بين الاطلاق اللحاظي و التقييد يكون من تقابل العدم و الملكة ثبوتا و إثباتا.

أمّا ثبوتا،فلأنّه لا بدّ من لحاظ القيود و رفضها.و بعبارة اخري:لا بدّ من لحاظ عدم دخل القيد،و حينئذ إن امتنع التقييد لم يمكن رفض القيد،مثلا تقييد الصلاة بقصد الأمر الفعلي قبل تعلّق الأمر به غير معقول؛لأنّ الموضوع سابق علي الحكم، إلاّ علي ما قيل بنتيجة التقييد،فلاحظ.

و أمّا إثباتا أي:كشف تعلّق الارادة الجدّية من المتكلّم بالمطلق من إطلاق لفظه،فهو تابع لإمكانه ثبوتا.

التنبيه الثاني:قال في الكفاية ما حاصله:

إنّ مرادنا ممّا ذكرناه في المقدّمة الاولي، و هو أن يكون في مقام بيان تمام مراده،هو كونه في مقامه في مرحلة الاستعمال لضرب القانون لا الارادة الجدّية،فلا يضرّ بالاطلاق صدور التقييد المنفصل؛لأنّه كاشف عن المراد الجدّي (1).

أقول:فيه نظر؛لأنّ الظهور الذي يعتمد عليه العقلاء هو الظهور المستقرّ،و ظهور الكلام ما لم يأت وقت العمل لا يكون مستقرّا و يكون مراعي؛لأنّ للمتكلّم أن يبيّن مراده قبل وقت العمل،فإذا قال لعبده يوم السبت:أكرم العلماء يوم الجمعة، لم يكن ظهور كلامه في العموم مستقرّا،فله أن يقيّده بكونهم عدولا إلي يوم الخميس.فعلي هذا لا فرق بين التقييد المتّصل و التقييد المنفصل،فإن شكّ في تقييده بشيء لم يجز التمسّك بإطلاقه ما لم يأت وقت العمل.

ثمّ إنّ حكم التقييد إن كان بعد المطلق قبل وقت العمل أو بعده،و حكمه إن كان قبل المطلق قبل حضور العمل به أو بعده حكم الخاصّ و العامّ الذي تقدّم البحث

ص: 258


1- كفاية الاصول ص 288.

عنه علي إشكال في بعض صوره.

التنبيه الثالث:قال في الكفاية ما حاصله:إنّ ما ذكرناه في المقدّمة الاولي

،و هو أن يكون في مقام البيان إن احرز فلا إشكال،و إن شكّ أنّه في مقام بيان تمام مراده، فالسيرة العقلائيّة الممضاة شرعا تقتضي الحمل علي كونه في مقام بيان تمام مراده (1).

أقول:إن كان احتمال عدم كونه في مقام بيان تمام مراده احتمالا ضعيفا لا يعتني به عند العقلاء فلا إشكال.و أمّا إن كان احتمالا قويا كما لو كان مساويا للاحتمال الآخر أو أقوي،فلم تثبت السيرة المشار إليها،نعم لعلّه في مورد أكثر الأخبار يكون الاحتمال مرجوحا.

و في المحاضرات فصّل بين ما إذا شكّ في أنّه في مقام البيان،فقال بأنّه يبني علي أنّه في مقام البيان للسيرة،و بين ما إذا علم كونه في مقام البيان من جهة و شكّ في كونه في مقام البيان من جهة اخري فلا يبني عليه،مثل قوله تعالي فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (2)فإنّه في مقام البيان من جهة موضع أخذ الكلب،فلو شكّ في اعتبار امساكه من الحلقوم في تذكيته جاز التمسّك بالاطلاق من هذه الجهة.و لو شكّ في كونه في مقام البيان من جهة طهارة محلّ إمساك الكلب لم يتمسّك بإطلاقه (3).

قلت:إن شكّ في كونه في مقام البيان من جهة طهارة محلّ إمساك الكلب،فلا يبعد التمسّك بالاطلاق،لكنّا نقول:إنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

و قال في نهاية الاصول:إنّ إحراز كون المولي بصدد البيان هل يتوقّف علي

ص: 259


1- كفاية الاصول ص 288.
2- سورة المائدة:4.
3- المحاضرات 5:366.

العلم به،أو أنّه يوجد هناك امارة عقلائيّة يحرز بها ذلك؟الظاهر هو الثاني،فإنّ الظاهر من كلام المتكلّم العاقل بما أنّه تكلّم و فعل اختياري له هو أنّه صدر عنه ذلك بداعي الافهام و البيان لا الاهمال و الاجمال.إلي آخر ما أفاده (1).

أقول:إنّ الغرض قد يتعلّق ببيان أصل الوجوب،فيكون في مقام الاجمال، و ايكال تبيينه إلي زمان متأخّر،و يحتمل أن يكون الواجبات المذكورة في القرآن في مقام بيان أصل وجوبها،و ايكال بيان كيفيّتها إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله و أهل بيته عليهم السّلام.

التنبيه الرابع:قال في الكفاية فيما يرجع إلي المقدّمة الثانية و الثالثة:

إنّه لا إطلاق فيما كان للمطلق انصراف إلي خصوص بعض الأفراد أو الأصناف لظهوره فيه،أو كونه متيقّنا منه و لو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه حسب اختلاف مراتب الانصراف (2).

و حاصل كلامه أنّ الانصراف يكون قرينة علي صرف الاطلاق عن إطلاقه، كقوله«لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»فإنّه يشمل بإطلاقه الانسان لكنّه منصرف عنه،و قد لا يوجب الانصراف و يوجب عدم انعقاد الاطلاق،فيصير مجملا كالمجاز المشهور الذي يوجب الاجمال،و ذلك لأنّ الظروف التي وقع فيها الاستعمال يوجب كون بعض الأفراد قدرا متيقّنا حال الخطاب،و أمّا الانصراف البدوي فإنّه لا يوجب شيئا،و من هذا البيان يظهر المراد من المقدّمة الثالثة،فإنّ قوله«ثمّ إنّه قد انقدح»بيان للمقدّمة الثانية و المقدّمة الثالثة.

و ما ذكرناه في تفسير المقدّمة الثالثة هو الصحيح؛لأنّ اللفظ و إن كان له ظهور في معناه لكن بملاحظة ظروف صدوره و حال المتكلّم و السامع ربما تكون هذه الجهات موجبة لأن لا يكون الاطلاق ملحوظا،و إن لم توجب انصرافه إلي بعض الأفراد،نظير صيغة الأمر علي ما ذكره صاحب المعالم من أنّها صارت مجازا

ص: 260


1- نهاية الاصول ص 344.
2- كفاية الاصول ص 289.

مشهورا لكثرة الاستعمال في الندب.

فصل فيما اذا ورد مطلق و مقيّد

إذا ورد مطلق و مقيّد فهما علي أقسام:

القسم الأوّل:أن يكون المقيّد إرشادا إلي الشرطيّة،أو الجزئيّة،أو المانعيّة،و لا ريب في حمل المطلق علي المقيّد،كقوله«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»فلو ورد صلّ في مقام البيان،بحيث تمّت فيه مقدّمات الحكمة،كان المقيّد في قوّة التصريح بأنّه المراد من المطلق،و لا فرق بين العبادات و المعاملات،و لا بين الواجبات و المستحبّات،كما إذا ورد أنّ النافلة لا تتحقّق في وقت الفريضة،بأن يكون شرط صحّتها عدم وقوعها في وقت الفريضة.

القسم الثاني:أن يكونا مسبّبين من سبب واحد مذكور،مثل قوله«إن ظاهرت فاعتق رقبة»و«إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة أو لا تعتق رقبة كافرة»قال في الكفاية:لا ريب في حمل المطلق علي المقيّد في الثاني،أي في المنفي (1).

و أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا فرق بين المقيّد المثبت و المقيّد المنفي.

قلت:الفرق بينهما ظاهر عند العرف،فإنّ المقيّد المنفي بالقياس إلي المطلق المثبت أظهر من المقيّد المثبت بالقياس إليه،و الظاهر أنّ وجه الأظهرية هو من جهة خصوصية النفي في الأوّل الموجبة لكون المقيّد مع المطلق من قبيل الاستثناء.و أمّا المثبت فغايته اثبات الخصوصية في مورده،و هي أعمّ من أن توجب حمل المطلق عليه و من الأخذ بظاهرهما مع اثبات الميزة للمقيّد،نظير التخصيص بعد التعميم المفيد لمزيد الاهتمام،فليتدبّر.

ص: 261


1- كفاية الاصول ص 290.

القسم الثالث:أن يكونا مسبّبين لسببين مذكورين،بأن قال:إن ظاهرت فاعتق رقبة،و إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة،و هذا يدخل في مسألة ما إذا اتّحد الجزاء و تعدّد الشرط،فهل يتداخل المسبّب،أو أنّ كلّ سبب يقتضي غير ما يقتضيه الآخر؟و علي ما تقدّم من عدم التداخل فلا مجال لحمل المطلق علي المقيّد.

ثمّ إنّه لا فرق ظاهرا بين ذكر السبب و عدم ذكره إذا علم من الخارج وحدة السبب أو علم تعدّده.

القسم الرابع:أن لا يعلم وحدة السبب و تعدّده لاجمال السبب المذكور فصار موجبا للشكّ،فإن كان السبب المذكور سببا واحدا واقعا،حمل المطلق علي المقيّد.و إن كان السبب المذكور متعدّدا لم يحمل،فحيث لا سبيل إلي إحراز أنّه واحد أو متعدّد،فلا بدّ من الرجوع إلي الأصل العملي.

القسم الخامس:أن لا يكون سبب مذكور،بل مجرّد أن قال:أعتق رقبة،و قال:

أعتق رقبة مؤمنة،و لم يعلم تعدّد السبب و عدمه،فهل هما تكليفان،و إن تحقّق امتثالهما بعتق رقبة مؤمنة،بخلاف ما لو أعتق الكافرة،فإنّه امتثل الأمر الأوّل، و بقي عليه امتثال الثاني،أو أنّهما تكليف واحد و يحمل المطلق علي المقيّد؟ الظاهر أنّه لا وجه للحمل.

و ذكر في المحاضرات فيه أربعة احتمالات،و اختار منها الحمل علي المقيّد (1).

و قال في فوائد الاصول بتعيّن حمل المطلق علي المقيّد.

قلت:مقتضي وجوب عتق مطلق الرقبة،و مقتضي وجوب عتق رقبة مؤمنة، و إن كان كفاية عتق المؤمنة لكونه ممّا يتحقّق به مصداقهما،ولكن لا منافاة بينهما حتّي يحملا علي التقييد،فالمطلق باق علي حاله و المقيّد علي حاله،و الثمرة فيما7.

ص: 262


1- المحاضرات 5:377.

لو اعتق غير المؤمنة أو لا كما أشرنا إليه.

القسم السادس:أن يذكر السبب في أحدهما دون الآخر،كما لو قال:أعتق رقبة،و قال أيضا:إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة.و قد أشكل في فوائد الاصول في حمل المطلق علي المقيّد (1).

قلت:الظاهر أنّ حكمه حكم القسم الخامس.

القسم السابع:أن يكونا مستحبّين،و لم يكن لسان المقيّد لسان الارشاد إلي الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة،سواء علم وحدة السبب أو علم تعدّده،ذكر السبب أو لم يذكره،و الظاهر عدم حمل المطلق علي المقيّد في جميع الصور لعدم التنافي بينهما.

فصل في المجمل و المبيّن

المبيّن ما له ظاهر عند العرف،و المجمل ما ليس له ظاهر كذلك،فإذا كان أحد الدليلين مجملا لم يكن حجّة و يتعيّن العمل بالمبيّن؛لأنّه لا يزاحمه المجمل،و لا وجه لحمل المجمل علي المبيّن،بل ينبغي السكوت عنه.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية أنّ لهما أفرادا مشتبهة وقعت محلّ البحث و الكلام للأعلام في أنّها من أفراد أيّهما الي آخره (2).

أقول:لا بدّ من التثبّت و الفحص عن المعني،فإن تحقّق أنّه مجمل أو مبيّن، فحكمه ما ذكرنا،و إن لم يثبت ذلك ينبغي العمل بالمبيّن و يحتاط في المجمل.

ص: 263


1- فوائد الاصول 1:368.
2- كفاية الاصول ص 293.

المقصد السادس: في الحجج المعتبرة شرعا أو عقلا

اشارة

لا يخفي أنّ المسلم إن التفت إلي الأحكام الشرعيّة،فله ثلاث حالات:

الحالة الاولي:أن يحصل له العلم بها،و لا ريب في وجوب العمل بها.

الحالة الثانية:أن يحصل له الحجّة علي ثبوتها أو نفيها،من قطع أو أمارة معتبرة،فإن كان متعلّقها معيّنا وجب العمل به،و إن كان مردّدا وجب الاحتياط إن أمكن،و إلاّ تخيّر.

الحالة الثالثة:أن لا يكون له حجّة عليها،فيرجع إلي البراءة أو الاحتياط علي الخلاف.فيقع الكلام في مباحث:

المبحث الأوّل: في العلم و القطع و الاطمئنان

اشارة

و إنّما ذكرنا هذا البحث في الاصول؛لأنّها كما تقدّم هي الحجج في الفقه،و قد وقع الخلاف في حجّية بعض أقسام القطع،فلذا كان المناسب البحث عنه في الاصول.

ثمّ إنّ من التفت إلي شيء:فقد يحصل له العلم به،أو القطع،أو الاطمئنان.

و العلم هو إدراك الشيء علي ما هو عليه،فالعلم بالشيء تابع لوجود الشيء إذا تعلّق به لا يتخلّف عنه.و لا يخفي أنّه لا دليل علي لزوم أن يكون للمعلوم وجودان:

وجود بالذات في افق النفس،و وجود في الخارج يكون معلوما بالعرض،و ذلك لأنّا نعلم وجود واجب الوجود لذاته،مع أنّه ليس له وجود ذهني.

و القطع هو الاعتقاد بوجود الشيء،سواء كان مطابقا للواقع،فيكون علما أيضا، أو كان مخالفا له،فيكون جهلا مركّبا.

و سمّي قطعا لقطعه تردّد النفس،و الفرق بينه و بين العلم أنّه لا يعتبر مطابقته

ص: 264

للواقع بخلاف العلم.و الاطمئنان هو الاعتقاد بوجود الشيء،مع احتمال عدم وجوده احتمالا ضعيفا كواحد في مائة مثلا.

ثمّ إنّ هذه الثلاثة قد تزول بتشكيك المشكّك و قد لا تزول،و أيضا قد تحصل من الأسباب المتعارفة العقلائيّة،و قد تحصل من الأسباب غير العقلائية،فيقع الكلام في ثلاثة مواضع:

الموضع الأوّل: في العلم

قال في فروق اللغة في الفرق بين العلم و اليقين:العلم هو اعتقاد الشيء علي ما هو به علي سبيل الثقة،و اليقين هو سكون النفس و ثلج الصدر بما علم انتهي (1).

و قال الخليل في العين:العلم نقيض الجهل.و قال:الجهل نقيض العلم (2).و مثله قال الأزهري في تهذيب اللغة.

أقول:القطع بالشيء المخالف للواقع جهل مركّب و ليس علما؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و الظاهر صدق العلم لغة و عرفا علي حضور المعلوم عند العالم من أيّ سبب حصل،و سواء زال بالتروّي و التشكيك أو لم يزل، خلافا لسيّد المفاتيح (3)فيما إذا كان يزول بالتروّي،فمنع صدق العلم عليه،مع أنّه اعتقاد مطابق للواقع.

نعم العلم المعتبر في اصول الدين هو الذي لا يزول و إن حصل بالتقليد،و لعلّ من اعتبر أن يكون الاعتقاد باصول الدين حاصلا من الدليل إنّما اعتبره لئلاّ يزول بتشكيك المشكّك،و إلاّ فلا دليل علي حصول العلم من الدليل،بل يعتبر كونه

ص: 265


1- فروق اللغة ص 63.
2- العين 2:152.
3- مفاتيح الاصول ص 335.

مستقرّا لا يزول بتشكيك المشكّك،فيكفي الاعتقاد الذي لا يزول و إن كان عن تقليد.

و اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه كفاية الجزم،و إن كان حاصلا من التقليد،حيث قال:و أمّا الجازم فلا يجب عليه النظر و الاستدلال،و إن علم من عمومات الآيات و الأخبار وجوب النظر و الاستدلال؛لأنّ وجوب ذلك توصّلي لأجل حصول المعرفة،فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها (1).

ثمّ المعتقد بشيء إن كان اعتقاده مطابقا للواقع فهو عالم،و إن لم يكن مطابقا له فهو قاطع،ولكن غالبا لا يعلم أنّه عالم أو قاطع،فيجب عليه التشكيك في قطعه و الرجوع إلي أهل الاطّلاع و متعارف الناس،و حينئذ إذا كان يزول بالتروّي،أو كان حاصلا من أسباب غير عقلائية،فلا يستقلّ العقل بترتيب الأثر عليه.

ثمّ إنّ ترتيب الأثر علي العلم قد يكون طبعيّا،و قد يكون عقليّا،فالانسان الجائع إن حضر الخبز عنده و علم به يأكل منه طبعا كسائر الحيوانات و المجانين لو كانوا جائعين أو عطاشي و حضر عندهم الطعام أو الشراب فإنّهم يتناولونهما، فليس العمل بالعلم في هذه الموارد عقليّا.

و قد يكون ترتيب الأثر علي العلم بحكم العقل،مثلا لو علم المكلّف حرمة شرب الخمر و حضر عنده الخمر فهو يعلم به،و يعلم أنّ شاربه يستحقّ العقاب في الآخرة،فالنفس تميل إلي شربه،و العقل يمنع عنه؛لأنّه يري أنّ الالتذاذ الدنيوي اليسير في حدّ ذاته لا يجوز لأجله الوقوع في العقاب الاخروي علي شدّته.

ثمّ إنّ الانسان:إمّا يرجّح حكم العقل،أو يرجّح هوي النفس.و في مثله يحكم العقل بترك الشرب.م.

ص: 266


1- فرائد الاصول ص 289 طبع قم.

ثمّ إنّ المعلوم قد يكون محسوسا،و قد يكون غير محسوس،كالعلم بحسن العدل و قبح الظلم.

و قد ظهر ممّا ذكرنا من أنّ العلم بالشيء هو الاعتقاد المطابق للواقع أي حضوره،أنّه لا معني لحجّية العلم أو عدمها،بل هو أمر تكويني،فلا مجال للبحث عن إمكان جعلها أو عدم إمكانه،مثلا يجب الوضوء بالماء بنصّ الكتاب،فإذا علم أنّ مائعا ماء و توضّأ به،فلا يسأل لماذا توضّأت بالماء ليحتجّ،بخلاف ما لو قطع أنّ مائعا ماء و كان خمرا،فإنّه لو شرب يسأل لماذا شربت الخمر،فيحتجّ بأنّه قطع بأنّه ماء.

الموضع الثاني: في القطع

الاعتقاد المطابق للواقع يسمّي قطعا و علما،و أمّا المخالف فيسمّي قطعا و هو جهل مركّب يكون العامل به معذورا،و هل هو عذر مطلقا أو فيما إذا لم يكن القاطع مقصّرا في حصول القطع له.

و بعبارة اخري:هل القطع المخالف للواقع حجّة مطلقا،أو في خصوص ما إذا حصل من غير تقصير و من أسباب عقلائيّة؟

و المراد بالحجّية التنجيز و التعذير،و لا تنجيز له لمخالفته للواقع،فيتعيّن كونه معذّرا.و الظاهر أنّ العقل الذي أرجع اللّه تعالي إليه يستقلّ باختصاص المعذّرية بغير المقصّر؛لأنّ المطلوب هو الواقع،و لا يعذر في تركه إذا كان الترك مستندا إلي سوء اختياره،و المقصّر التارك للواقع يكون الترك مستندا إلي اختياره.

إن قلت:إنّ المقصّر القاطع يري الواقع في اعتقاده،فإذا قيل له لا ترتّب أثر الواقع كان ذلك من التناقض في اعتقاده،و لا يمكن له الانبعاث و الامتثال.

قلت:إنّ القطع الحاصل من الأسباب العقلائيّة،و منها خبر الثقة الضابط إذا

ص: 267

حصل القطع من قوله،أو القطع الحاصل للمطّلع علي أوضاع الزمان،حجّة و القاطع معذور.

ولكن الذي يحصل له القطع من الأسباب الغير المتعارفة كالحلم مثلا،أو من يكون غير مطّلع علي الامور و حصل له القطع من شايعة،أو خبر غير موثّق،أو حصل له اضطراب و حالة تخرج عن المتعارف،كالوسواسي و القطّاع،فإنّهم يمنعون عن العمل بقطعهم،لكن بغير عنوان يوجب التناقض،بأن يقال لكلّ واحد منهم إنّه يجب عليه أن يتروّي و يشكّك نفسه بعض التشكيك،و يشاور العقلاء، و يزيد في الفحص و أمثال ذلك،و يرجع في اموره إلي متعارف الناس،بحيث ينتهي إلي أن يكون معذورا،فمن قطع بشيء لا يسرع في العمل به إلاّ بعد التروّي و التدبّر،فيكون بعد ذلك معذورا في العمل بقطعه المخالف للواقع.

و لذا قيل:إنّ الوسواسي يرجع إلي متعارف الناس،فيخالف القطع الحاصل له بنجاسة شيء إن لم يكن حاصلا لمتعارف الناس.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الذي ينبغي أن يجعل محلّ الكلام هو القطع المخالف للواقع،أي:الجهل المركّب من القاصر.و صرّح في الكفاية بأنّه عذر إن خالف الواقع لو كان عن قصور (1).

و ممّا ذكرنا ظهر النظر في سائر كلامه،من وجوب العمل علي وفق القطع عقلا، فإنّه قد يكون طبعا،و من أنّه لا جعل تأليفي بين الشيء و لوازمه،فإن أراد أنّ لازم الجهل المركّب من القاصر عدم صحّة عقوبته،فليس هناك لازم و ملزوم،بل عقابه نظير ضرب غير المستحقّ فإنّه قبيح.

و لعلّ مراده كما هو صريح غيره أنّ الكشف و اراءة الواقع من لوازم وجود7.

ص: 268


1- كفاية الاصول ص 297.

القطع،و لازم الوجود يتحقّق مع الوجود،كالحرارة التي توجد بوجود النار مثلا، و لا جعل تأليفي بين النار و الحرارة.

و فيه نظر؛لأنّ الجهل المركّب ليس كاشفا عن شيء،بل إنّ المتّصف به يتخيّل أنّه يري الشيء،و إلاّ فلا اراءة للجهل،و إنّما هذه أحكام العلم قد اختلطت بأحكام القطع.

ثمّ إنّ القاطع بإباحة الحرام الواقعي إذا لم يكن مقصّرا في قطعه لا يكون مكلّفا بالواقع؛لأنّه لم يصل إليه و لم يؤته،و لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،لا أنّه مكلّف به و معذور،هذا في الحكم الكلّي.و أمّا في الموضوعات،كما إذا قطع بأنّ مايعا ماء و هو خمر واقعا،فإنّ حرمة الخمر واصلة إليه،لكنّه معذور في ترك امتثاله.

الموضع الثالث: في الاطمئنان

اشارة

لا يخفي أنّ من اعتقد بشيء مع احتماله خلافه،فإن كان احتمال الخلاف و هميّا بحيث لا يعتني به،فهو في حكم العلم لو لم يكن علما،كما ذكره في الجواهر،قال:نعم لو كان ظنّا تسكن النفس و تطمئنّ علي وجه يكون الاحتمال و هميّا،يقوي لحوقه بالعلم في الحكم،كما حرّرناه في محلّه (1)انتهي.

و قال أيضا:خصوصا مع فرض كون المراد من العلم الذي عليه المدار الطمأنينة (2)انتهي.

و أمّا إن لم يكن وهميا،بل كان احتمالا كواحد في المائة مثلا،ففي كونه علما موضوعا أو حكما،أو أنّه ليس بعلم موضوعا و لا حكما،بل هو ظنّ قوي،و في أنّه حجّة أم ليس بحجّة؟وجوه و احتمالات:

ص: 269


1- جواهر الكلام 22:154.
2- جواهر الكلام 36:231.

الأوّل:أنّه يكون علما موضوعا؛لصحّة إطلاق العلم عليه عرفا.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:أو بالرجوع إلي الظنّ الاطمئناني الذي يسكن إليه النفس،و يطلق عليه العلم عرفا و لو تسامحا في إلغاء احتمال الخلاف،و هو الذي حمل عليه كلام السيّد حيث ادّعي انفتاح باب العلم (1)انتهي.

لكن قال في موضع آخر:الظنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكما بل موضوعا (2)انتهي.

أقول:أمّا ما ذكره من صدق العلم عليه عرفا،فيمكن المناقشة فيه،بأنّ العرف متّبع في تعيين مفاهيم الألفاظ،و لا اعتبار بمسامحاتهم،مثلا لو اعترف العرف بأنّ «كيلو»اسم لألف غرام،ثمّ كان وزن شيء يتسامح فيه كالفواكه ألف غرام إلاّ مثقالا مثلا،فالعرف يعبّرون عنه أنّ مقداره كيلو و يتسامحون فيه،مع اعترافهم أنّه ليس كذلك.

و لذا لو سئل العرف عن الاطمئنان هل هو علم حقيقة أو لا؟ربّما يتوقّفون في كونه علما.

و أمّا الاستشهاد بكلام السيّد،فهو في غير محلّه،فإنّه ذكر في موارد من الذريعة أنّ العلم هو سكون النفس الذي لا يكشف عن خلاف و لا يحتمل فيه الخلاف.

قال:العلم ما اقتضي سكون النفس (3).

و قال:لا بدّ من كونه اعتقادا يتعلّق بالشيء علي ما هو به.و قال:و أمّا الظنّ فهو ما يقوي كون ما ظنّه علي ما يتناوله الظنّ و إن جوّز خلافه (4)انتهي.3.

ص: 270


1- فرائد الاصول ص 129 ط رحمت اللّه.
2- فرائد الاصول ص 142.
3- الذريعة 1:20.
4- الذريعة 1:23.

فكلّ ما جوّز خلافه فهو ظنّ.ثمّ إنّ من حمل كلام السيّد علي ما ذكره لعلّه صاحب هداية الأبرار (1)،فإنّه ذكر أنّ لفظ العلم يطلق في اللغة علي الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع،و هذا يسمّي اليقين،و علوم الأنبياء و الأئمّة من هذا القبيل،و يطلق أيضا علي ما تسكن إليه النفس و تقضي العادة بصدقه،و هذا يسمّي العلم العادي،و يحصل بخبر الثقة.

إلي أن قال:و لو اعتبرنا في العلم عدم تجويز النقيض عقلا لم يتحقق لنا علم قطّ بوجود شيء و لا عدمه ممّا غاب عنّا أو حضر عندنا.

إلي أن قال:و هذا هو الذي عناه القدماء بقولهم لا يجوز العمل في الشريعة إلاّ بما يوجب العلم،يدلّك علي ذلك تعريف السيّد المرتضي في الذريعة العلم بأنّه ما اقتضي سكون النفس،و هذا التعريف يشمل نوعي العلم،أعني:اليقين و العادي، و هذا هو العلم الشرعي،فإن شئت سمّه علما،و إن شئت سمّه ظنّا،فلا مشاحة في الاصطلاح.

إلي أن قال:و كيف كان فالنزاع في هذه المسألة لفظي.و سبقه غيره فقال ما حاصله:إنّ اليقين يشمل اليقين العادي،و باب اليقين العادي واسع.

و تنظّر في كلامه في تنقيح المقال (2)،بأنّ العلم عقلي و عادي و عرفي.و العلم العادي ما لا يحتمل النقيض أصلا ما دام الشخص عالما بواسطتها،ككون الجبل حجرا.

و لا ينافي إمكان تبدّل الحجر ذهبا بالذات من حيث عموم قدرة اللّه.و أمّا مجرّد الاطمئنان و عدم الدغدغة الحاصل للشخص من جهة عدم الالتفات إلي ما يوجب زوال العلم،فليس بعلم حقيقة في نفس الأمر،بل هو جزم حصل للشخص9.

ص: 271


1- هداية الأبرار ص 13-15.
2- تنقيح المقال 1:179.

و يتفاوت بتفاوت الأشخاص من حيث التنبّه للاحتمالات و عدمه،فالأولي أن يسمّي ما يدّعيه من الجزم أو الاطمئنان بالعلم العرفي لا العلم العادي الذي هو مثل العلم العقلي في عدم احتمال النقيض مادام العلم و العادة.

أقول:صدق العلم عرفا علي ما ذكر إن كان تسامحا فليس بحجّة،و إن كان تبادرا من حاقّ اللفظ،فإثبات كونه كذلك في عصر نزول القرآن و الأخبار مشكل جدّا.

القول الثاني:أنّه ليس علما ولكنّه ملحق به حكما،فإنّه حجّة عند المتشرّعة و العقلاء،و لم يردع عنها الشارع،فهو علم حكما.

قال في تنقيح العروة ما حاصله:إنّ الاطمئنان علم عادي عقلائي،و هو ما يكون احتمال خلافه موهوما غايته و لا يعتني به العقلاء،فهو حجّة عقلائيّة يعتمد عليه العقلاء في جميع امورهم،و لم يردع عن عملهم في الشريعة المقدّسة (1).

أقول:يمكن المناقشة أوّلا بالمنع من سيرة العقلاء،فإنّ المتيقّن منها عملهم علي سكون النفس الحاصل من الأسباب المتعارفة الذي لا يكون معه احتمال الخلاف.

و أمّا مع احتمال الخلاف احتمالا غير موهوم،فيتوقّفون إلاّ إذا كان العمل ممّا يتسامح فيه فيتسامحون،فلا يرتّبون آثار الموت علي الظنّ الاطمئناني.فإن اريد من العلم العادي ما كان احتمال خلافه موهوما لا يلتفت إليه و لم يحصل مقتضي الشكّ حتّي احتمال الخلاف واحدا في مائة،فلا بأس به،لكن إن اريد مع حصول مقتضي الشكّ و احتمال واحد في المائة،فسيرة العقلاء علي ترتيب آثار العلم عليه في الامور المهمّة كموت و نحوه غير ثابتة.0.

ص: 272


1- تنقيح العروة الوثقي 2:170.

و ثانيا:أنّه يشمله الأدلّة المانعة عن العمل بالظنّ،فإنّه إذا لم يصدق عليه العلم دخل في قوله«من أفتي الناس بغير علم فليتبوّء مقعده من النار».

بل منع عن حجّيته في المفاتيح و إن صدق عليه العلم،قال:سلّمنا أنّ لفظ العلم موضوع لمعني يشمل مطلق ما يطمئنّ النفس إليه،ولكن نمنع من حجّية ذلك علي الاطلاق،و نطالب من يدّعي حجّيته بالدليل،و إنّما نسلّم حجّية الفرد الذي فيه الجزم،و هو الذي فسّر به العلم في كلام الاصوليّين و المتكلّمين،و ذلك لأنّ البديهة تشهد بحجّيته (1)انتهي.

القول الثالث:أنّه ليس علما موضوعا لعدم سكون النفس،و لا حكما،بل هو ظنّ يجري عليه أحكام العلم بالنسبة إلي إثبات التكليف و إسقاطه،لبناء العقلاء و السيرة الممضاة شرعا.و قد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه إثبات التكليف بالاطمئنان في كلامه الآتي.

القول الرابع:أنّه ظنّ يجري عليه أحكام الظنّ،و هو الذي يظهر من السيّد في الذريعة،قال:و أمّا الظنّ فهو ما يقوي كون ما ظنّه علي ما يتناوله الظنّ،و إن جوّز خلافه،فالذي يبين به الظنّ التقوية و الترجيح (2).

و قال أيضا:إنّ خبر الواحد لا يوجب علما،و إنّما يقتضي غلبة الظنّ بصدقه إذا كان عدلا،إلي أن قال:و قال بعضهم:إنّ خبر الواحد يوجب العلم الظاهر،و يقسم العلم إلي قسمين.إلي أن قال في جوابه:فأمّا من يقول إنّه يقتضي العلم الظاهر، فخلافه في عبارة؛لأنّه سمّي غالب الظنّ علما (3)انتهي.

و قال أيضا:و قد علمنا أنّ الخبر عن موت إنسان بعينه مع حصول الأسباب التي7.

ص: 273


1- مفاتيح الاصول ص 335.
2- الذريعة 1:23.
3- الذريعة 2:517.

يراعيها من البكاء عليه و الصراخ و إحضار الجنازة و الأكفان قد ينكشف عن باطل،فيقال:إنّه اغمي عليه أو لحقه السكتة أو ما أشبه ذلك،و العلم لا يجوز انكشافه عن باطل (1).

و يظهر هذا القول من الشيخ في العدّة،قال في حدّ الظنّ:ما قوي عند الظانّ كون المظنون علي ما ظنّه،و يجوز مع ذلك كونه علي خلافه (2)انتهي.

و هو الذي قوّاه في المفاتيح،قال:نمنع إطلاق لفظ العلم علي مطلق ما يطمئنّ النفس إليه،أو الاعتقاد الراجح الشامل للظنّ حقيقة،بل هو حقيقة في الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شكّ،و لا يعتريه ريب مطلقا و لو بحسب العادة،و ذلك لتبادره عند الاطلاق،و صحّة سلب لفظ العلم عن الظنّ،و جعله مقابلا للعلم في العرف و العادة،و عدم صحّة امتثال الأمر المعلّق علي العلم بتحصيل الظنّ،و لغير ذلك.و بالجملة لا شبهة في أنّ لفظ العلم موضوع لمعني غير ما وضع له لفظ الظنّ، و ذلك هو المعني الذي ذكره الاصوليّون و المتكلّمون،و احتمال أنّ ذلك من مصطلحاتهم ممّا يقطع بفساده.

نعم قد شاع إطلاق لفظ العلم علي الظنّ،خصوصا إذا كان غالبا و كان ممّا علم حجّيته،كالظنون التي جرت العادة باعتبارها،و لذا قد يتوهّم أنّ الأسباب المفيدة لتلك الظنون مفيدة للعلم،لكن مجرّد شيوع الاطلاق غير كاف في حمل اللفظ عليه كما لا يخفي إلي آخر كلامه (3).

و لعلّ الظاهر من موارد الاستعمال فيما جعلت المقابلة بين العلم و الظنّ كونه داخلا في الظنّ.5.

ص: 274


1- الذريعة 1:517.
2- العدّة ص 77.
3- مفاتيح الاصول ص 335.

قال في مجمع البيان في تفسير قوله تعالي: وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا أي:

ليس يتّبع أكثر هؤلاء الكفّار إلاّ ظنّا،الظنّ الذي لا يجدي شيئا من تقليد آبائهم و رؤسائهم إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً لأنّ الحقّ إنّما ينتفع به من علمه حقّا و عرفه معرفة صحيحة،و الظنّ يكون فيه تجويز أن يكون المظنون علي خلاف ما ظنّ،فلا يكون مثل العلم (1)انتهي.

القول الخامس:التوقّف،قاله المحقّق الاصفهاني في كتاب الاجتهاد و التقليد، قال:و منها الوثوق بالعدالة و يمكن الاستدلال له عموما بأنّ الوثوق و الاطمئنان علم عادي في نظر العرف و العقلاء،و هو بمجرّده غير مجد،إذا الحكم إن كان مرتّبا علي الموضوع المعلوم صحّ أن يدّعي أنّ المراد من العلم و المعرفة عرفا ما يعمّ الوثوق و الاطمئنان،و أمّا إذا كان الحكم مرتّبا علي الواقع،فالتوسعة في مفهوم العلم غير مجدية في إحراز موضوع الحكم حقيقة،بل لا بدّ من دليل علي تنزيل ما يوثق به منزلة الواقع،و لا دليل عليه إلاّ ما يدّعي من السيرة المستمرّة علي ترتيب آثار الواقع علي ما يوثق به،و بناء العقلاء علي المعاملة مع الوثوق و الاطمئنان معاملة العلم الحقيقي.

و الأوّل راجع في الحقيقة إلي الثاني،حيث لم تعلم سيرة من المتشرّعة إلاّ بما هم عقلاء،و الالتزام بالثاني لا يخلو من تأمّل،و إلاّ لزم به في جميع الموارد، فيكتفي به في تنجّز كلّ حكم لم تقم عليه حجّة شرعيّة أو عقليّة،بل كان ممّا يوثق به و يكتفي به في الخروج عن عهدة ما تنجّز و لو مع التمكّن من العلم الحقيقي في كلا المقامين (2)انتهي.

و لعلّه يظهر أيضا من كلام صاحب الجواهر في الشياع الموجب للاطمئنان،4.

ص: 275


1- مجمع البيان 3:109.
2- كتاب الاجتهاد و التقليد ص 104.

قال:الاستفاضة التي تسمّي بالشياع الذي يحصل غالبا منه سكون النفس و اطمئنانها بمضمونه،خصوصا قبل حصول مقتضي الشكّ،بل لعلّ ذلك هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما،و حينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضي الشكّ،أمّا معه فقد يشكّ فيه (1)انتهي.

قلت:لا ينبغي الريب في عدم كفايته في الاعتقاديّات من العلم بالمبدأ و المعاد و النبوّة و الامامة و صفاته سبحانه و تعالي و غيرها،و أمّا في غير ذلك،فان اخذ في الدليل العلم الحاصل من الحسّ مثل الشهادة،كما ورد فيها«أنّه يشهد كما يري كفّه»فكذلك لا يكون معتبرا،و يقع الاشكال فيما إذا اخذ العلم في الدليل مثل قوله «كلّ شيء لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام»و قوله«بل انقضه بيقين مثله»فهل يصدق العلم عليه عرفا و إن لم يصدق لغة؟محلّ إشكال؛لأنّه لا يكفي الصدق عرفا إلاّ إذا احرز أنّه ليس إطلاقهم العلم عليه تسامحا منهم؛لأنّ تسامحات العرف غير متّبعة،و المتّبع هو إطلاقهم حقيقة و بلا تسامح.

و كذا يقع الاشكال فيما لم يؤخذ العلم فيه،في أنّ الاطمئنان هل هو حجّة لا لكونه علما،بل لبناء العقلاء عليه مع عدم ردع الشارع عنه،فيجوز التصرّف في مال كان لزيد قطعا إذا اطمأنّ أنّه انتقل إليه،و إن كان احتمال عدم الانتقال احتمالا ضعيفا موجودا،و كذا قتل من يطمئنّ أنّه كافر حربي أو قاتل أبيه عمدا،و كذا في الفروج و غيرها،الانصاف أنّه مشكل.

و الحاصل أنّ هنا أقساما ثلاثة:

الأوّل:العلم اليقيني الذي لا يزول.

الثاني:القطع العادي،و هو سكون النفس إلي وجود الشيء أو عدمه،بحيث لا5.

ص: 276


1- جواهر الكلام 40:55.

يكون في النفس احتمال الخلاف قبل تشكيك المشكّك،و هو الذي عليه سيرة العقلاء،فنراهم في جميع أعمالهم الراجعة إلي إدارة معاشهم و حوائجهم يعلمون عليه،فتسكن نفس من حصل له إلي ما يقوله صديقه و زوجته و ولده و خادمه،و لذا لو رأي من واحد منهم الخلاف مرّات بل و لو مرّتين مثلا يتوقّف عند إخباره مع التفاته إلي أنّه قد تخلّف.

و لا يبعد أن يكون المتيقّن من سيرة العقلاء اعتبار أن يكون القاطع مطّلعا علي الجهات التي لا ينبغي أن يقطع معها،و أمّا قطع من لا خبرة له بالامور فيشكل حجيّته.

الثالث:الظنّ المتاخم للعلم،و هو أن يظنّ بوجود شيء و يكون احتمال عدمه واحدا بالمائة مثلا،قيل:إنّه حجّة لسيرة العقلاء علي العمل به.و فيه منع قيام السيرة علي اتّباعه.

و ما يدّعي من أنّ سيرة العقلاء علي العمل بالاطمئنان،فهو القسم الثاني الذي لا يكون احتمال الخلاف موجودا،و أمّا هذا القسم فإمّا يتسامحون أو يتوقّفون و يحتاطون،و لا بدّ من الاحتياط في بعض الموارد.

نعم يحتمل أن يكون بناء العقلاء في الامور المستقبلة،كبقاء الحياة و المال و السلامة و نحوها علي الاكتفاء بالظنّ،لكنّه يحتاج إلي إثبات الامضاء شرعا في جميعها،بل يحتمل أن يكون لهم بناء تعبّدي علي البقاء حتّي مع الشكّ إن لم يكن أمارة علي عدمه،كما ذكرناه في بحث الاستصحاب.

و كذا يحتمل أن يكون بناءهم علي حجّية الظنّ الاطمئناني في مقام وصول أحكام الموالي إلي العبيد،كما ذكره الشيخ الانصاري رحمه اللّه،قال:و بالجملة فمن المحتمل قريبا إحالة الشارع للعباد في طريق امتثال الأحكام إلي ما هو المتعارف

ص: 277

بينهم في امتثال أحكامهم العرفيّة من الرجوع إلي العلم أو الظنّ الاطمئناني (1)انتهي.

و ذكر النراقي رحمه اللّه في العوائد عائدة(44):إنّ العلم العادي هو الذي لا يلتفت أهل العرف و معظم الناس إلي احتمال خلافه،و لا يعتبرونه في مطالبهم و لا يعتنون به في مقاصدهم،ثمّ ذكر أنّه حجّة،فراجع.

و قد تلخّص من جميع ما ذكر عدم صحّة إطلاق الحجّة علي العلم و صحّة إطلاقها علي القطع و الاطمئنان.

تنبيه:

الأحكام التي أنشأها الشارع المقدّس لكن لم يوصلها إلي الناس لمانع فيهم أو في غيرهم،تكون أحكاما إنشائية محضة،و منها الأحكام الموجودة في كتاب علي عليه السّلام التي لم يظهروها للناس،و أمّا إذا أنشأها الشارع المقدّس و جعلها في معرض الوصول إليهم بحيث لو تفحّص المكلّف عن الحكم الذي أنشأه وصل إليه، فهو الحكم الفعلي يعاقب علي ترك امتثاله،سواء علم به أو جهل به تقصيرا.

و أمّا الجاهل به قصورا،فالحكم التكليفي يكون بالنسبة إليه إنشائيّا فقط، و ليس فعليّا،فإنّ اللّه تعالي لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها،فلا يكون مكلّفا به،و لا يتوجّه إليه تكليف،نعم الحكم الوضعي ثابت بالنسبة إليه،فلو أكل الميتة تنجّس فمه بالمباشرة لها كما ينجس الجدار،و لا يحرم عليه أكلها.

ثمّ لا يخفي أنّ الحكم الشرعي له مرتبة واحدة،و هو إنشاؤه و جعله في معرض الوصول إلي المكلّف،بحيث لو فحص وصل إليه،و أمّا انطباقه علي موضوعه فهو أمر تكويني لا يرتبط بالشارع،فهو يوجب الحجّ علي المستطيع،و إذا تحقّقت استطاعة البالغ العاقل فقهرا ينطبق الحكم عليه.

ص: 278


1- فرائد الاصول ص 274.

ثمّ إن علم المكلّف سعة مجعول الشارع أو ضيقه فهو،و إن شكّ في سعته وضيقه،كما إذا شكّ في سعة الحكم بنجاسة الماء المتغيّر لما بعد زوال التغيّر بنفسه، فيبني علي بقائه إن صحّ جريان الاستصحاب،و إلاّ فيجري أصل آخر.

و هذا كلّه في مقام الجعل،فإن وجد موضوع الحكم الواقعي انطبق عليه الحكم الواقعي قهرا.ثمّ إن وجد بعده الشكّ خارجا،انطبق الحكم الانشائي المجعول للشكّ في الحكم الواقعي علي المشكوك قهرا و تكوينا.

مثلا الشارع حكم بنجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة،فإن علم أنّه أنشأ نجاسته أبدا و إن زال تغيّره بنفسه،أو علم أنّه أنشأ نجاسته إلي زوال تغيّره بنفسه،فلا إشكال.

و إن شكّ أنّه أنشأ النجاسة علي نحو الدوام،أو أنّه أنشأها مقيّدة ببقاء التغيّر،شمله قوله عليه السّلام«لا تنقض اليقين بالشكّ»فيقال:هذا الحكم الانشائي بنجاسة الماء المتغيّر باق إلي ما بعد التغيّر لوحدة الموضوع،بناء علي جريان الاستصحاب من غير جهة تعارض استصحابي المجعول و عدم الجعل،ثمّ إذا وجد في الخارج ماء متغيّر بالنجاسة انطبق عليه الحكم الانشائي بنجاسة الماء المتغيّر،أي الحكم الواقعي قهرا،فإذا بقي و زال تغيّره بنفسه انطبق عليه الحكم الانشائي الذي أنشأه الشارع علي المشكوك انطباقا قهريا.

و ليس للحكم مرتبتان خلافا لما في مصباح الاصول (1)حيث جعل استصحاب النجاسة معارضا لاستصحاب عدم الجعل،بتقريب أنّ الحكم له مرحلتان:مرحلة الجعل،و هو إنشاء حكم النجاسة للماء المتغيّر بنحو القضيّة الحقيقيّة.و مرحلة المجعول،و هي مرحلة فعليّة الحكم خارجا بوجود الماء المتغيّر،و حينئذ إن زال التغيّر بنفسه يتعارض استصحاب النجاسة الفعليّة مع عدم9.

ص: 279


1- مصباح الاصول 2:39.

جعل النجاسة للماء بعد زوال تغيّره.

أقول:ليس للحكم مرحلتان،بل الحكم هو إنشاء النجاسة للماء المتغيّر بقوله «الماء المتغيّر نجس»و إذا وجد الماء المتغيّر فالانطباق عليه قهري ليس بيد المولي.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية (1)أنّ الحكم له مرتبة الانشاء،و هي المرتبة التي لا يريد الشارع فيها امتثاله لمانع في الناس أو في غيرهم و كان ممّا سكت اللّه عنه.

و قال في بحث المطلق و المشروط:فإنّ المنع عن فعليّة تلك الأحكام غير عزيز،كما في موارد الاصول و الأمارات علي خلافها،و في بعض الأحكام في أوّل البعثة،بل إلي قيام القائم عجّل اللّه فرجه.إلي آخر كلامه (2).

و له مرتبة الفعلية،و هي التي يريده الشارع فيها من المكلّف،فإن كان جاهلا قاصرا لم يتنجّز،و إنّما يتنجّز بالعلم به،و يلحق به الجاهل المقصّر،هذا ما يستفاد من مجموع كلماته.

لكن فسّر في مباني الاستنباط مرتبة الانشاء بالحكم المجعول علي نحو القضية الحقيقيّة إلي آخر كلامه (3).و الظاهر أنّه ليس مراده.

و قد يقال:إنّ الحكم له مرتبتان:مرتبة الانشاء بمعني جعل الحكم القانوني بلا ملاحظة تخصيصاته و موانع إجرائه،و مرتبة الفعليّة و هو جعله مع ملاحظة تخصيصاته.

أقول:إنّ الشارع العالم بجميع الخصوصيات ينشيء الحكم من الأوّل مطلقا أو مقيّدا،و تأخير بيان القيد ليس مرتبة اخري للحكم،هذا كلّه في الحكم الكلّي.7.

ص: 280


1- كفاية الاصول ص 297.
2- كفاية الاصول ص 124.
3- مباني الاستنباط ص 37.

و أمّا مرحلة التطبيق،بأن قطع قصورا أنّ الخمر ماء فشربه،فهو معذور في تطبيقه،لأنّ حرمة الخمر واصلة إليه،فهو مكلّف معذور في ترك امتثالها.

و أمّا البيّنة أو أصالة الحلّ،فسيأتي الكلام فيهما في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

المبحث الثاني: في التجرّي

لا إشكال في حرمة مخالفة الحجّة المصيبة للواقع.و أمّا حرمة مخالفة الحجّة المخالفة للواقع من قطع مخالف للواقع أو أمارة أو أصل مخالفين له،عقلا و شرعا، أو عدمها عقلا و شرعا،أو حرمتها عقلا و عدمها شرعا،أو حرمتها شرعا لكنّها معفوّ عنها،ففيها أقوال و احتمالات.

ثمّ إنّ متعلّق الحرمة علي القول بها هل هو الفعل أو العزم عليه؟قولان،و هذا هو بحث التجرّي،و هو أقسام يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلّتها:

أحدها:مجرّد القصد إلي المعصية.

الثاني:القصد مع الاشتغال بمقدّمة الحرام.

الثالث:القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية للحكم الواقعي،أو للحكم الظاهري الثابت بأمارة أو أصل،كارتكاب أحد أطراف الشبهة المحصورة،و في الأخير تارة يرتكبه رجاء تحقّق المعصية الواقعيّة به،و ثانية يرتكبه لعدم المبالاة بالحرام،و ثالثة يرتكبه رجاء أن لا يصادف الحرام.و لنذكر صور المسألة:

الصورة الاولي:القصد إلي المعصية مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية واقعا أو ظاهرا،و فيه أقوال:

الأوّل:حرمة الفعل عقلا و شرعا.أمّا الحرمة العقليّة،فلحكم العقل بأنّ إظهار المخالفة للمولي بالفعل الذي قطع بحرمته خلاف احترام المولي،و هتك لحرمته،

ص: 281

و العبد الهاتك لحرمة المولي مستحقّ للعقاب عقلا من حيث انّه بارز المولي بالمخالفة،نعم يختلف مراتب التجرّي كالمعصية الواقعيّة،فإنّ بعض الذنوب أكبر من بعض،و يختلف العصاة،فربّ شخص لا يرتكب القتل مثلا و يرتكب الكذب أو الغيبة،و هذا الاختلاف موجود في التجرّي أيضا،و إبراز المخالفة جهة مشتركة بين التجرّي و المعصية الواقعيّة فيستحقّ عليه العقاب،و يختصّ المعصية الواقعيّة بكون الفعل أيضا حراما،و لعلّ المستدلّ ببناء العقلاء و حكم العقل بقبح التجرّي أراد ذلك.

ولكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال:إنّ بناء العقلاء لو سلّم فإنّما هو علي مذمّة الشخص علي وجود صفة الشقاوة في نفسه المنكشفة بهذا الفعل لا علي نفس الفعل،كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر علي قتل سيّده لقتله،فإنّ المذمّة علي المنكشف لا الكاشف،و كذا الكلام في حكم العقل بقبح التجرّي انتهي ملخّصا (1).

و فيه نظر؛لأنّ استحقاق الذمّ علي سوء سريرته،بحيث لو قدر علي قتل سيّده لقتله غير هتكه حرمة سيّده بالمبارزة له بإظهار العداوة.

و أمّا حرمة الفعل شرعا،فلوجوه:

الأوّل:الاجماع علي أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصي و إن انكشف بقاء الوقت و صلّي،و لا خلاف ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه معصية و إن لم يتضرّر.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّ الاجماع المحصّل غير حاصل،و المسألة عقليّة لا تثبت بالتعبّد (2).9.

ص: 282


1- فرائد الاصول ص 9.
2- فرائد الاصول ص 9.

أقول:و يمكن أن يقال باستفادة حرمة مخالفة الظنّ في الموردين المذكورين من إجماع أو غيره،و لا يتعدّي إلي غيرهما.

الثاني:دعوي أنّ المراد من تحريم الخمر مثلا تحريم الخمر الواقعي و الاعتقادي بترتيب مقدّمات ممنوعة لا تنتج ذلك،راجع فوائد الاصول (1).

الثالث:استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي من باب قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع،و العقل يحكم بقبح الفعل المتجرّي به؛ لأنّه هتك لحرمة المولي فيحرم شرعا.

و اجيب عنه بأنّ الحكم العقلي إن كان منشأه درك العقل المصلحة الملزمة في الفعل أو المفسدة كذلك،استكشف منه الحكم الشرعي.و أمّا حكمه في مرحلة العصيان باستحقاق العبد العقاب علي المخالفة،فلا يكون في مورده حكم مولوي؛ لأنّه ينقل الكلام إلي عصيانه و هكذا،فيتسلسل.

و فيه نظر؛لأنّ حكم العقل باستحقاق العقاب علي الفعل المتجرّي به من أجل انطباق عنوان هتك المولي،ناش عن درك العقل المفسدة في الفعل بعنوان الهتك، كدركه حسن الفعل أو قبحه،و هذا الحكم العقلي ملازم للحكم الشرعي؛لأنّ الشارع أعقل العقلاء فيحكم بذلك،و هو غير حكمه باستحقاق العقاب علي معصيته هذا الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي.

و بعبارة اخري:إنّما يحكم العقل باستحقاق العقاب علي الفعل المتجرّي به؛ لأنّه ينطبق عليه عنوان هتك المولي،فهو من باب أنّه قبيح يستحقّ عليه العقاب، و كلّ قبيح محرّم عقلا فكذلك شرعا،و لا ينقض ذلك بحكم العقل باستحقاق العقاب علي فعل الحرام الواقعي،لأنّه يحكم باستحقاق العقاب علي الفعل5.

ص: 283


1- فوائد الاصول 3:15.

المتجرّي به أيضا،و هذا الحكم غير حكمه بقبح الفعل المتجرّي به؛لانطباق عنوان الهتك عليه.

و لو تنزّلنا عن ذلك،فنقول:المعصية الواقعيّة هتك للمولي و ارتكاب للحرام، و الفعل المتجرّي به هتك للمولي فقط،و لا بأس باجتماع الجهات،ففي نهج البلاغة «و علي الداخل إثمان:إثم الرضا،و إثم الدخول» (1)و اجتماع العناوين علي الفعل الواحد غير بعيد،فشرب الخمر من الجاهل بالحرمة المقصّر أهون من شربه من العالم،و هو أهون من شربه من المستحلّ،و هو أهون من شربه ممّن يشرّع و يشربه لوجوبه.

الرابع:الآيات،منها:قوله تعالي لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ (2)دلّت الآية علي أنّ ما في النفس من العزم يحاسب عليه،و ليس العزم علي المعصية حسنا بلا إشكال.

و منها:قوله تعالي لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (3)فإنّ العزم علي المعصية من أفعال القلب و ليس حسنا بلا ريب.

و منها:قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (4)و الفؤاد هو القلب فهو مسؤول عن أفعاله.

و يمكن المناقشة في دلالة الآيات بأنّا نعلم أنّ العزم علي المعصية ليس حسنا،6.

ص: 284


1- نهج البلاغة ص 499 ح 154.
2- سورة البقرة:284.
3- سورة البقرة:245.
4- سورة الاسراء:36.

و أمّا أنّه معصية يعاقب عليه فلا يتكفّل الآيات لإثباته،مع أنّه قد روي أنّ اللّه تعالي رفع الحكم في الآية الاولي منّة علي هذه الامّة.

و يحتمل في الآية الثانية أن يكون المراد عدم المؤاخذة علي الأيمان التي اعتادها اللسان،و أنّ المؤاخذة علي الأيمان التي يعزم عليها القلوب،لا أقلّ من الشكّ في العموم.

الخامس:الأخبار،و يمكن الاستدلال بطائفتين منها:

الاولي:ما دلّ علي أنّ العمل تابع للنيّة،فإن كانت نيّته بعمله مخالفة اللّه كان عمله مخالفا له و يكون معصية.

منها:خبر أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهما السّلام،قال:لا عمل إلاّ بنيّة (1).

و المراد بأبي حمزة هو الثمالي؛لأنّه روي هذه الرواية مع الزيادة في الخصال و صرّح بذلك (2).

و منها:خبر أبي عثمان العبدي (3)،و هو متّحد مع الحديث الرابع مع زيادة.

و منها:المرسل (4).

و منها:خبر علي بن حمزة العلوي (5).

و منها:خبر علي بن جعفر و أبي الحسن علي بن موسي عليهما السّلام،عن موسي بن جعفر عليهما السّلام،عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله أنّه قال:إنّما الأعمال بالنيّات و لكلّ امريء ما نوي،فمن غزي ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره علي اللّه عزّ و جلّ،9.

ص: 285


1- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 1.
2- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 3.
3- وسائل الشيعة 1:33 ب 5 ح 2.
4- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 7.
5- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 9.

و من غزي يريد عرض الدنيا أو نوي عقالا لم يكن له إلاّ ما نوي (1).

يمكن أن يقال:إنّ ظواهر هذه الأخبار تدلّ علي أنّ العمل يقع علي ما نواه، فمن قطع أنّ مايعا ماء و شربه بداعي القربة،يثاب علي عمله و إن كان خمرا واقعا، و كذلك العكس بالعكس.

و يؤيّده ما روي عن أبي ذرّ عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله في وصيّة له،قال:يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّي في النوم و الأكل (2).دلّ علي أنّ الأكل يصير مستحبّا بالنيّة علي أن يكون للتقوّي علي طاعة اللّه تعالي.

و أمّا الأخبار التي تدلّ علي حرمة نيّة المعصية،فلا تدلّ علي كون الفعل المتجرّي به معصية؛لأنّ المراد بها لعلّه المعصية الواقعيّة،فهي لا تدلّ علي مفروض المسألة،أعني:التلبّس بالعمل بزعم المعصية.

و الحاصل أنّه يمكن أن يقال بدلالة هذه الأخبار علي أنّ الفعل يتغيّر عنوانه الذاتي بالنيّة،فإن نوي به الأمر الراجح يصير الفعل مستحبّا،و إن نوي به عنوان المعصية يصير حراما،فالعمل يحسب علي حسب ما نوي.

ثمّ إن لم يتمّ دلالتها علي حرمة الفعل أو رجحانه بالنية يمكن أن يستفاد منها ثبوت العقاب و الثواب علي النيّة المتعقّبة بما يزعم كونه معصية أو طاعة،بأن يثاب الانسان علي النيّات و يعاقب عليها،لا أنّ الفعل يصير راجحا أو حراما.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّه يجب الخوف من اللّه،و يحرم انتهاك حرمته و يجب الاستحياء منه،و الفعل المتجرّي به ترك للخوف و ترك الاستحياء.و يستفاد ذلك من أخبار:

منها:ما دلّ علي ذكر اللّه علي كلّ حال،و أنّه ليس الذكر المتعارف مثل سبحان8.

ص: 286


1- وسائل الشيعة 1:34-35 ب 5 ح 10.
2- وسائل الشيعة 1:34 ب 5 ح 8.

اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر فقط،بل إذا ورد عليك شيء أمر اللّه به أخذت به،و إذا ورد عليك شيء نهي عنه تركته (1).و غيره من روايات الباب، فإنّها تدلّ علي أنّ المراد من الذكر احترام توجّه اللّه إلي العبد،و القاطع بالحرمة عند ارتكاب المحرّم لم يحترم توجّه اللّه إليه.

و منها:ما ورد في مدح من لم يقدّم رجلا و لم يؤخّر رجلا حتّي يعلم أنّ ذلك للّه رضا (2).

و منها:خبر إسحاق بن عمّار،قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا إسحاق خف اللّه كأنّك تراه،و إن كنت لا تراه فإنّه يراك،و إن كنت تري أنّه لا يراك فقد كفرت،و إن كنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين عليك (3).و غيره من روايات الباب.

و منها:ما رواه في تفسير علي بن إبراهيم،حكي عنه السيّد ابن طاووس في كتاب سعد السعود،قال في جملة منه:يا حفص إنّ اللّه يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحدا الحديث (4).

القول الثاني:عدم حرمة الفعل شرعا و عقلا.قال المحقّق الخراساني في الكفاية و في تعليقته علي الفرائد:إنّه ليس بحرام شرعا لوجوه نذكر حاصلها بتوضيح:

الأوّل:أنّه إذا قيل يحرم الفعل الذي قد قطع المكلّف بحرمته لزم اجتماع المثلين لدي القاطع.

و فيه أنّه يكون تأكيدا للحرمة،كما ورد أنّه يؤاخذ العالم بما لا يؤاخذ الجاهل،1.

ص: 287


1- وسائل الشيعة 11:200 ب 23 ح 11.
2- وسائل الشيعة 11:228 ب 36 ح 1.
3- وسائل الشيعة 11:171 ب 14 ح 6.
4- سعد السعود ص 87 عنه،و رواه في الكافي 1:47 باب لزوم الحجّة ح 1.

بناء علي إرادة الجاهل المقصّر الذي هو أيضا مكلّف،أي:من علم حرمة الخمر، فليعلم أنّه يعاقب علي شربه أكثر ما يعاقب الجاهل علي شربه.

الثاني:أنّ الفعل المتجرّي به بما هو مقطوع الحرمة لا يصدر من المكلّف بالقصد إلي كونه مقطوع الحرمة،و الفعل غير المقصود ليس فعلا اختياريّا،فلو قطع بحرمة التتن و لم يكن حراما واقعا فشربه،فإنّه متعمّد إلي شرب التتن،و هو فعل اختياري له،لكن لا يقصد شربه بعنوان مقطوع الحرمة،و ما لم يقصد هذا العنوان لم يكن مريدا له،فلا يكون الفعل بهذا العنوان اختياريّا،و إن كان اختياريّا في أصل شرب التتن،و العنوان غير الاختياري لا يوجب القبح.

أقول:هذا علي مبناه من أنّ الفعل الاختياري أو العنوان الاختياري لا بدّ أن يكون مسبوقا بالقصد.و أمّا علي ما ذكرناه من أنّ الفعل الاختياري في مقابل الفعل الاضطراري كحركة المرتعش،فالفعل صادر باختياره يصحّ عقابه عليه.

الثالث:عدم صدور فعل اختياري منه أصلا إن كان تجرّيه في مصداق الحرام، كما إذا قطع أنّ مايعا خمر،مع أنّه ماء،فإنّ حرمة الخمر معلومة له،ولكن حيث قطع بأنّ هذا المايع خمر فشربه علي أنّه خمر،فالمقصود شرب الخمر لا شرب المايع أو الماء.و ما قصده لم يقع فليس بمراد فليس اختياريّا.

أقول:هذا أيضا علي مبناه،و علي ما ذكرناه فهو مختار في شرب هذا المايع.

الرابع:أنّه لا وجه لتحريم مقطوع الحرمة؛لأنّ الأحكام الشرعيّة تتبع الملاكات،و الوجدان السليم يشهد بأنّ القطع بالحرمة لا يوجب ملاكا في الفعل حتّي يوجب الحرمة الشرعيّة.

أقول:انطباق إظهار المخالفة عليه ممّا يوجب قبحه،كما إذا كان الهواء حارّا و العبد لإظهار الاستخفاف بالمولي و هتك حرمته ألقي عليه الماء مثلا،فإنّ استبراده بالماء مطلوب له،لكن عمل العبد بإلقاء الماء عليه يكون مثل أن يلقي

ص: 288

عليه التراب في توهينه به،و هذا العنوان يوجب تعنونا للفعل.نعم القطع بحرمة شرب المايع المقطوع كونه خمرا لا يوجب وجود ملاك حرمة الخمر في الفعل.

الخامس:لو سلّم أنّه يوجب ملاكا بأن يغيّره عمّا هو عليه،لكن لا يصحّ النهي المولوي عنه؛لأنّ الغرض من النهي المولوي حصول الخوف للعبد من العقوبة حتّي يترك المنهي عنه،و هو حاصل هنا قبل هذا النهي،لأنّه بقطعه أنّه منهي يحصل له الخوف (1).

أقول:يمكن أن لا ينتهي المكلّف بالنهي الأوّل،ولكن إذا علم أنّه منهي بنهي آخر صار ذلك موجبا لخوفه،كما إذا التفت بأنّ مسؤوليّة العالم أشدّ من الجاهل، و بالجملة لا مانع من أن يكون الشيء محرّما بعناوين،كقتل ذي الرحم،فإنّه قتل و قطع رحم و قساوة و غيرها،فلا مانع من أن يكون مقطوع الحرمة حراما بهذا العنوان.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)بعد ردّ الأدلّة التي اقيمت علي الحرمة الشرعيّة اعترف باستحقاق المذمّة علي ما كشف عنه الفعل من سوء السريرة،يعني القبح الفاعلي،و من المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل،و يظهر من بعض كلماته الاستشكال في استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّي به.

القول الثالث:التفصيل المحكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه بين ما لو زاحم التجرّي جهة رجحان الفعل في ذاته،فلا يبعد عدم العقاب،و إلاّ فيستحقّ العقاب، فإذا قطع بحرمة شيء غير محرّم واقعا،فالأرجح استحقاق العقاب،و إذا اعتقد تحريم شيء واجب غير مشروط بقصد القربة،فلا يبعد عدم العقاب.9.

ص: 289


1- كفاية الاصول ص 299،و التعليقة علي الفرائد ص 37.
2- فرائد الاصول ص 9.

و أورد عليه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)بأنّ قبح التجرّي ذاتي لا عرضي حتّي يختلف باختلاف العوارض.

القول الرابع:استحقاق العقاب علي العزم علي فعل مقطوع الحرمة،قال في الكفاية:قلت العقاب إنّما يكون علي قصد العصيان و العزم علي الطغيان،لا علي الفعل الصادر بهذا العنوان،و كأنّه استدلّ عليه بحكم الوجدان الحاكم علي الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة،لاحظ كلامه (2).

أقول:استحقاق العقاب عقلا علي مجرّد العزم و إن لم يصدر منه فعل أصلا غير واضح،و لا إشكال في استحقاقه الذمّ.

ثمّ لو سلّم استحقاق العقوبة علي العزم،لكن ربّما يستفاد من الأخبار أنّه معفوّ عنه ما لم يتلبّس بفعل،و سيأتي توضيحه.

الصورة الثانية:أن يقصد المعصية الواقعيّة،كشرب الخمر مثلا،فإن ارتدع اختيارا و لم يفعل فلا عقاب عليه،و إن لم يرتدع بل نواه فلم يوفّق حتّي مات مثلا، فالأخبار فيه علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي أنّ نيّة المعصية الواقعيّة لا تكتب إن لم يتعقّبها المعصية الواقعيّة و إن لم يتب عنها،و هي عدّة أخبار:

منها:خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام،قال:إنّ اللّه تبارك و تعالي جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة،و من همّ بحسنة و عملها كتبت له عشرا،و من همّ بسيّئة لم تكتب عليه،و من همّ بها و عملها كتبت عليه سيّئة (3).6.

ص: 290


1- فرائد الاصول ص 11.
2- كفاية الاصول ص 300.
3- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 6.

و مثله خبر أبي بصير (1).و خبر بكير (2).و خبر جميل (3).و خبر حمزة بن حمران (4).

و خبر مسعدة بن صدقة (5).و خبر عبد اللّه بن موسي بن جعفر (6).

الطائفة الثانية:ما دلّ علي أنّ نيّة المعصية معصية،و هي عدّة أخبار:

منها:خبر أبي عروة السلمي،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:إنّ اللّه يحشر الناس علي نيّاتهم يوم القيامة (7).

و منها:خبر أبي هاشم،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا،و إنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا، فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء،ثمّ تلا قوله تعالي قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلي شاكِلَتِهِ قال:

علي نيّته (8).

و خبر السكوني (9)،و مرسل الأنصاري (10)،و خبر فضيل بن يسار (11)،2.

ص: 291


1- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 7.
2- وسائل الشيعة 1:37 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 8.
3- وسائل الشيعة 1:37 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 10.
4- وسائل الشيعة 1:39 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 20.
5- وسائل الشيعة 1:40 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 21.
6- وسائل الشيعة 1:41 أبواب مقدّمات العبادات ب 7 ح 3.
7- وسائل الشيعة 1:34 أبواب مقدّمات العبادات ب 5 ح 5.
8- وسائل الشيعة 1:36 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 4.
9- وسائل الشيعة 1:35 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 3.
10- وسائل الشيعة 1:39 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 17.
11- وسائل الشيعة 1:40 أبواب مقدّمات العبادات ب 6 ح 22.

و مضمونها أنّ نيّة الكافر شرّ من عمله.

الطائفة الثالثة:ما دلّ علي كتابة نيّة الكافر،عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

قال لي:يا جابر يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصالح ما كان يكتب في صحّته،و يكتب للكافر في سقمه من العمل السيّء ما كان يكتب في صحّته الحديث (1).

و يمكن الجمع بين هذه الأخبار بأنّ نية المعصية بمجرّدها لا تكتب و يعفي عنها،و عليه يحمل الطائفة الاولي،و أمّا إن كان الانسان بلغ من المعصية حدّا لا خير فيه،بأن كان نيّته أن يعصي أبد الآبدين،فهو يدخل في النار التي اعدّت للكافرين،و عليه يحمل الطائفة الثانية.

و يحمل خبر السكوني و نحوه علي أنّ نيّة الكافر لفعل الشرّ أكثر ممّا يعمله خارجا،كما أنّ المؤمن ينوي من الخير ما هو أكثر ممّا يفعله.و يحمل الطائفة الثالثة علي الكافر المستحقّ للعقاب لا القاصر،فتتّحد مع الطائفة الثانية،فتأمّل.

الصورة الثالثة:أن يقصد المعصية الواقعيّة و يتلبّس ببعض مقدّماتها،و لا يبعد استحقاقه العقاب؛لأنّه قد بارز بالمخالفة،لكن مقتضي الأخبار الدالّة علي أنّه ما لم يرتكب الحرام لا تكتب عليه أنّه يعفي عنه و لا يعاقب.

و قد تحصّل من جميع ما ذكر أنّه يمكن القول بحرمة الفعل الذي ارتكبه بعنوان كونه معصية،و لا دليل علي العفو عنه؛لأنّ مورد الأخبار النافية للعقاب عمّن همّ بالمعصية و لم يفعلها هو الهمّ بالمعصية الواقعيّة و لم يفعلها،و أمّا من همّ بما يعتقده معصية و ارتكبه فشمولها له غير معلوم.

و أمّا سائر الصور،كمن قصد ارتكاب ما يعتقده حراما و لم يكن حراما واقعا5.

ص: 292


1- وسائل الشيعة 1:42 أبواب مقدّمات العبادات ب 7 ح 5.

و ارتدع اختيارا،أو لم يرتدع حتّي مات،فالظاهر العفو عنه،و من تلبّس بمقدّمات ما يعتقده حراما و لم يكن حراما واقعا،ففيه تأمّل لامكان صدق الهتك،و ظهر أحكام بقيّة الصور.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بحرمة امور بعناوينها،قيل:إنّها تدلّ علي حرمة التجرّي شرعا،لكن الظاهر عدم دلالتها،و هي:

الأوّل:الرضا بالمعصية حرام،يدلّ عليه خبر طلحة بن زيد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثة (1).و هذا لا يشمل المتجرّي؛لأنّه إذا قتل من يعتقده مؤمنا و كان كافرا مهدورا فقد رضي بهذا القتل و هو ليس بظلم.نعم لو رضي بقتل مؤمن آخر فله حكمه،لكن رضاه متعلّق بقتل هذا الشخص،و هذا ليس بمؤمن،فتأمّل.

الثاني:من شهر سيفه قاصدا به القتل،فإنّه إمّا من مصاديق المحارب،أو ملحق به حكما.

الثالث:الأشخاص الذين شاركوا في ايجاد الخمر بايجاد مقدّماته.

الرابع:من قال كلمة صارت سببا لقتل مؤمن.

هذا ما تيسّر لي من الفحص و البحث في هذه المسألة،و لا ينبغي الاقتصار عليه في مقام الفتوي.

المبحث الثالث: في العلم و القطع المأخوذين في الموضوع

اشارة

و يقع الكلام في مواضع:

ص: 293


1- جامع أحاديث الشيعة 13:425 ب 19.

الموضع الأوّل: في العلم المأخوذ في الموضوع

قد يؤخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر،كما إذا قيل:إذا علمت وجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا.و قد يؤخذ العلم بموضوع في ترتّب حكمه عليه، كما إذا قيل:إذا علمت مايعا خمرا حرم عليك شربه.

و في كلا الموردين تارة يؤخذ علي نحو الصفتيّة،و اخري علي نحو الطريقيّة.

و المراد بأخذه في الموضوع علي نحو الصفتية أحد نحوين:الأوّل:أن يؤخذ في الموضوع العلم الحاصل من سبب خاصّ،كالحاصل من الكتاب و السنّة،لا الحاصل من الجفر و الرمل مثلا،أو العلم الحاصل لشخص خاصّ،كالحاصل للمجتهد،فيكون قد أخذ في الموضوع علي نحو الصفتية.أو يؤخذ في الموضوع من حيث كونه حضور المعلوم،بلا فرق فيه في حصوله بين الأسباب أو الأشخاص،فيكون أخذه فيه علي نحو الطريقية،و علي كلا اللحاظين لا يقوم مقامه الأمارة؛لأنّها ليست علما.

و بعبارة اخري:قد اخذ العلم بما هو علم في الموضوع تارة بعض أفراده، كالعلم الحاصل من الكتاب و السنّة،و الحاصل للمجتهد مثلا،و اخري كلّ ما صدق عليه العلم.

الثاني:أن يؤخذ في الموضوع من حيث هو علم من أيّ سبب و لأيّ شخص حصل،فيكون أخذه علي نحو الصفتيّة،و لا يقوم مقامه الأمارات و الاصول؛لأنّها ليست علما،و المراد بأخذه في الموضوع علي نحو الطريقية حينئذ أن يؤخذ فيه من حيث انّه أحد الطرق إلي ثبوت الشيء،أو من حيث انّه حجّة علي الشيء، فيصحّ التعدّي عنه إلي سائر الطرق المطابقة للواقع،أو الاصول التي اتّفقت فيها المطابقة للواقع،و يكون ذكر العلم في الدليل المأخوذ فيه كقوله«كلّ شيء طاهر

ص: 294

حتّي تعلم»كناية عن إرادة الطريق المعتبر،و إنّما خصّ بالذكر لأنّه أكمل الطرق المعتبرة،فيقوم مقامه الأمارة و الاصول المصيبة للواقع.

ثمّ إنّ العلم المأخوذ في الموضوع لا ينقسم إلي قسمين،و هو أخذه تارة جزء الموضوع و جزؤه الآخر الواقع،و اخري تمام الموضوع،سواء طابق الواقع أو لم يطابق؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،فيكون مطابقا للواقع دائما، و إلاّ كان جهلا مركّبا.

و من أمثلته قوله«رجل قضي بالحقّ و هو يعلم» (1)فإنّه اعتبر الحقّ مع العلم به، فلا يكفي أن يقضي إن كان مطابقا للواقع و لا يعلم به،و لا أن يقضي إن قطع بالواقع و كان مخالفا له.

الموضع الثاني: في القطع المأخوذ في الموضوع

قد يؤخذ القطع في الموضوع علي وجه الصفتيّة تمام الموضوع أو جزئه،و قد يؤخذ في الموضوع علي وجه الطريقيّة تمام الموضوع أو جزئه،بالتفسيرين اللذين ذكرناهما للعلم الصفتي و العلم الطريقي.

و توضيحه:أنّ القطع بالشيء طريق إلي الشيء،و انكشاف له في نظر القاطع، فإذا اخذ في الموضوع بما هو كاشف عن متعلّقه عند القاطع،فتارة يؤخذ بما هو كاشف كشفا جزميّا تمام الموضوع،أي:سواء طابق الواقع أم لم يطابق الواقع،أو يؤخذ جزؤه و جزئه الآخر الواقع،و علي التقديرين فلا يقوم مقامه الأمارة، و اخري يؤخذ بما هو أحد الطرق إلي ثبوت الشيء،كما إذا قال:إن قطعت أنّ شيئا ملك لزيد فاشتر منه من باب أنّه أحد الطرق،و الطرق الاخر قول ذي اليد و البيّنة

ص: 295


1- وسائل الشيعة 18:11.

و استصحاب الملكيّة،إمّا تمام الموضوع أو جزؤه،و علي التقديرين يقوم مقامه سائر الطرق،و هذا التعبير مسامحة،بل انّ نفس أخذ القطع من باب أنّه أحد الطرق معناه الاكتفاء بسائر الطرق.

فينبغي في كلّ مورد أخذ اليقين و القطع في الموضوع تشخيص ذلك،مثلا صحيح زرارة:إذا دخلت أرضا فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيّام (1)الحديث.

يدلّ علي أنّ وجوب إتمام الصلاة علي المسافر متوقّف علي أن يتيقّن بمقامه في محلّ واحد عشرة أيّام،و ساكت عن أنّ اليقين أي القطع بمقامه عشرة أيّام هل هو طريق إلي مقامه واقعا،أو أنّه تمام الموضوع و إن لم يقم واقعا.

لكن بضميمة الخبر الآخر:انّ من صلّي بتمام ثمّ عدل يتمّ مادام لم يسافر، يستفاد اعتبار اليقين تمام الموضوع و إن لم يطابق الواقع.و ظاهره اعتبار اليقين بما هو يقين،فلا يقوم مقامه البيّنة،لكن لو استفدنا أنّ المراد من اليقين المأخوذ فيه هو الطريق المعتبر إلي الشيء قامت الأمارة مقامه،فحينئذ يكتفي بما إذا أخبرت البيّنة مثلا بمقامه عشرة أيّام.

و الحاصل أنّه إن اخذ القطع في الموضوع بما هو كاشف خاصّ لم يقم مقامه شيء،و هو المراد بكونه مأخوذا علي نحو الصفتيّة.و إن اخذ في الموضوع بما هو أحد الكواشف لا لخصوصيّة فيه قام مقامه الأمارة المصيبة للواقع إن اخذ جزء الموضوع،و قام مقامه الأمارة مطلقا مصيبة أو غيرها إن اخذ تمام الموضوع.

و ينبغي ذكر امور لتوضيح المذكورات:

الأوّل:قال في الكفاية:إنّ القطع المأخوذ في الموضوع ينقسم إلي أربعة أقسام:

و ذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الاضافة،و لذا كان العلم نورا6.

ص: 296


1- وسائل الشيعة 5:526.

لنفسه و نورا لغيره،صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة و حالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه،أو اعتبار خصوصيّة اخري فيه معها،كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه و حاك عنه،فيكون أقسامه أربعة (1).

أقول:فيه نظر،أمّا أوّلا:فلما تقدّم من الفرق بين القطع و العلم،فإنّ العلم نور دائما،و أمّا القطع فقد يكون جهلا مركّبا.

و ثانيا:أنّ القطع علي كلّ حال له جهة كشف و لو زعما عند القاطع،فلا معني لإلغاء جهة كشفه،إلاّ أن يؤخذ في الموضوع بما هو صفة نفسانيّة،كالحسد و سائر الصفات النفسيّة،و هذا فرض لا يقع،فتفسيره القطع الصفتي و الطريقي بذلك علي خلاف التفسيرين اللذين ذكرناهما ليس بسديد.

الثاني:قال في الكفاية:لا ريب في عدم قيام الطرق و الأمارات المعتبرة بمجرّد ذلك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الصفتيّة،إلي أن قال:و منه انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الكشف،فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا كسائر مالها دخل في الموضوعات أيضا، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته،و قيام دليل علي اعتباره ما لم يقم علي تنزيله و دخله في الموضوع كدخله (2).

قلت:أخذ القطع بما هو صفة كالحسد مثلا في الموضوع ليس له وجود في الأدلّة التي عثرنا عليها،و ما ذكره من عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع علي نحو الكشف إن أراد الكشف الخاصّ،فهو الذي ذكرنا أنّه المأخوذ في الموضوع علي نحو الصفتيّة،و التحقيق ما تقدّم بيانه.

الثالث:قيل:إنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي الذي اخذ جزء الموضوع؛4.

ص: 297


1- كفاية الاصول ص 303.
2- كفاية الاصول ص 304.

لأنّ دليلها جعلها علما تعبّدا،و لازمه تنزيل متعلّقها منزلة الواقع تعبّدا،فيتحقّق تنزيلان:تنزيل الأمارة منزلة القطع،و تنزيل متعلّقها منزلة الواقع.

و فيه نظر أمّا أوّلا:فلأنّ دليل الأمارة يقتضي حجّيتها لا تنزيلها منزلة العلم،كما سيأتي بيانه.و ثانيا:أنّ القطع الذي اخذ جزء الموضوع يكون جزؤه الآخر الوجود الواقعي المقيّد بكونه واقعيّا،فهو في قوّة التصريح بأنّه لا يكفي التنزيل.

الرابع:قد اشكل علي تقسيم القطع المأخوذ في الموضوع أربعة أقسام،بأنّه لا يمكن أخذ القطع في الموضوع علي نحو الطريقيّة تمام الموضوع؛لأنّ معني كونه طريقا كون النظر إلي الواقع،و معني أخذه تمام الموضوع عدم النظر إلي الواقع.

قال في مصباح الاصول:أخذ القطع في الموضوع علي نحو الطريقيّة تمام الموضوع يكون من قبيل الجمع بين المتناقضين،فالصحيح تثليث الأقسام (1).

و فيه أنّ التقسيم لا يصحّ في العلم؛لأنّه حضور المعلوم،ولكن القطع ليس كالعلم،فإنّه قد يكون مخالفا للواقع إذا كان جهلا مركّبا،و حينئذ إن اخذ في الموضوع علي أنّه إن حصل من سبب خاصّ،أو لشخص خاصّ تمام الموضوع، أي:سواء طابق الواقع أم لم يطابق الواقع أو جزءه،أي:إن طابق الواقع كان مأخوذا علي نحو الصفتيّة،و إن اخذ في الموضوع علي أنّه إن حصل من أيّ سبب أو لأيّ شخص تمام الموضوع أو جزءه،كان مأخوذا علي نحو الطريقيّة.هذا علي التفسير الأوّل الذي ذكرناه للعلم الصفتي و الطريقي.و كذا يصحّ التقسيم علي التفسير الآخر للعلم الصفتي و الطريقي.فلاحظ.

و المراد بأخذ القطع في الموضوع تمام الموضوع علي نحو الطريقيّة،أخذه في الموضوع من باب أنّه أحد الطرق في اعتقاد القاطع بلا خصوصيّة له،سواء وافق4.

ص: 298


1- مصباح الاصول 2:34.

اعتقاده للواقع أم لم يوافق.

مثلا إن قيل:إن قطعت بطهارة الثوب فصلّ فيه،لا لخصوصيّة في القطع،بل من باب أنّ القطع أحد الطرق المعتبرة،و البيّنة و قول ذي اليد أيضا من الطرق المعتبرة، فإن قامت البيّنة علي طهارة الثوب جاز الصلاة فيه،و إن تبيّن بعد الصلاة مخالفة قطعك أو البيّنة للواقع.

الخامس:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه يصحّ أخذ القطع في الموضوع بما هو حجّة، فيقوم مقامه الاصول العمليّة لأنّها حجّة،فإن قال:يحرم ما قطع أنّه خمر،أي:ما له دليل معتبر عليه،قام استصحاب الخمريّة للمايع المشكوك زوال خمريّته مقامه، و هكذا.

المبحث الرابع: في جواز أخذ العلم بالحكم في موضوعه

قيل:لا يمكن أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه،بأن يختصّ الحكم بالعالم به للزوم الدور؛لأنّ الحكم يتوقّف علي موضوعه،فالموضوع يكون قبل الحكم، فلو اخذ العلم بالحكم في موضوعه لزم تقدّم الحكم علي الموضوع؛لأنّ العلم بالحكم متوقّف علي وجود الحكم،و قد يقال:إنّه يستلزم الخلف.

أقول:لا استحالة في ذلك،فإنّ الدور دور معيّ.بيان ذلك:أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله أو الامام المعصوم عليه السّلام إذا بيّن الحكم للحاضرين في مجلسه المشافهين له،فقال مثلا:يجب عليكم أن تقصروا من الصلاة إن سافرتم بريدين،ثبت لهم الحكم و حصل لهم العلم به في آن واحد،ثمّ يقول:إنّ من بلغه صدفة أنّي أمرتكم بالتقصير في السفر من دون فحص عن هذا الحكم و إن كان قادرا عليه،يجب عليه التقصير و إلاّ فلا يجب،كان وجوب التقصير في السفر مختصّا بالعالم بالحكم،و الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد،و مصلحة هذا الحكم مختصّه بصورة العلم به صدفة.

ص: 299

و هذا الذي ذكرناه معني صحيح زرارة و محمّد بن مسلم،قالا:قلنا لأبي جعفر عليه السّلام:رجل صلّي في السفر أربعا أيعيد أم لا؟قال:إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّي أربعا أعاد،و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه (1).

و ينبغي ذكر امور:

أحدها:أنّه يمكن أخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مماثل للمقطوع،مثل أن يقول:من قطع بحرمة شرب التتن حرم عليه الشرب،أو من اعتقد وجوب شيء وجب عليه و لا محذور فيه؛لأنّ القطع بالوجوب يعني الاعتقاد به يمكن تحقّقه مع عدم وجود الحكم إذا كان قطعه جهلا مركّبا،بخلاف العلم لأنّه الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،فإنّه لا يمكن تخلّفه عن الحكم،فلا بدّ من تأخّره عنه أو مقارنته له علي الكيفية التي ذكرناها.

ثمّ إنّه يمكن حمل ما ورد علي أنّ عقاب العالم أكثر من الجاهل علي ذلك،كما تقدّم في بحث التجرّي احتمال حرمة ما يعتقده حراما،و وجوب ما يعتقده واجبا.

ثانيها:أنّه يمكن أخذ العلم التفصيلي بالموضوع في موضوع الحكم،كما إذا حرم شرب الخمر علي من علم تفصيلا أنّ مايعا خمر،و يمكن أخذ العلم التفصيلي و الاجمالي في موضوعه،كما إذا حرم شرب الخمر علي من علم تفصيلا أو إجمالا أنّ مايعا خمر،و سيأتي التعرّض لذلك.

ثالثها:التحقيق اختصاص الأحكام بالمتمكّن من الوصول إليها؛لأنّ الحكم الذي يترتّب العقاب علي ترك امتثاله هو ما أنشأه المولي و جعله في معرض الوصول إلي المكلّفين،بحيث لو فحصوا عنه وصلوا إليه.و أمّا الانشاء الذي لا4.

ص: 300


1- وسائل الشيعة 5:531 ب 17 ح 4.

يصل إلي المكلّف أصلا حتّي لو بلغ من الفحص غايته،فلا يجب عليه امتثاله عقلا، فهو نظير أن ينشيء المولي عند نفسه.

و من ذلك يظهر أنّ الجاهل القاصر،و هو الذي لا يخطر بباله وجود تكليف ليس مكلّفا لا عقلا لقبح مؤاخذته،و لا شرعا كتابا و سنّة لعدم إمكان وصوله إلي الحكم،كما حقّقناه في محلّه.

رابعها:قد يقال بأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من تقابل العدم و الملكة،لأنّ الاطلاق رفض القيود في مورد إمكان التقييد،كالعمي فإنّه عدم البصر ممّن له البصر،فلا يقال للجدار أعمي.

و علي هذا فإذا استحال التقييد استحال الاطلاق،و حيث إنّ العلم و الجهل من الانقسامات اللاحقة،لأنّهما بعد وجود الحكم،فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به أو بالجهل به،فإذا استحال التقييد،يستحيل إطلاق الحكم لصورة العلم به و الجهل به.

و اجيب عنه بأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة،لكن استحالة التقييد توجب ضروريّة الاطلاق؛لأنّ استحالة اتّصاف الشيء بملكة ربّما يستلزم وجوب اتّصافه بعدمها،فإنّ علم الانسان بكنه ذات الباري عزّ اسمه غير ممكن؛لاستحالة إحاطة الممكن بكنه الواجب،مع أنّ جهله به ضروري.

أقول:المراد من تقابل العدم و الملكة أنّ العدم عدم خاصّ،و هو عدم ما له الوجود،فالعمي هو عدم الرؤية ممّن له عين لا عدم الرؤية مطلقا،و أمّا قابليّة الاتّصاف فليست موجبة لكون التقابل من العدم و الملكة،فإنّ الاتّصاف بالقيام إنّما يكون في محلّ قابل،فلا يقال للأرض:إنّها قاعدة أو قائمة،مع أنّ التقابل بين القيام و القعود من التضادّ،و كذا العلم و الجهل ضدّان ليس التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة.و الجواب الصحيح أنّ التقييد بالعلم ممكن علي ما بيّناه،فمع عدم الدلالة عليه و لو منفصلا يكون الاطلاق محكّما.

ص: 301

خامسها:إن منعنا إمكان تخصيص الحكم بالعالمين،أو بالعلم الحاصل من سبب خاصّ علي النحو الذي تصوّرناه،فيمكن تخصيص الحكم بالعالمين علي نحو نتيجة التقييد،بإنشاء الحكم مهملا ثمّ تتميم بيانه،بأن يقول:الحكم المذكور خاصّ بالعالمين.

و قد سبق في بحث إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر نظيره عن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و الفرق بين هذا الوجه و ما ذكرناه أنّ هذا الوجه يكون تقييد الحكم بالعالم بنتيجة التقييد،بخلاف الوجه الذي ذكرناه،فإنّ الحكم متعلّق بالعالم ثبوتا من أوّل الأمر.

سادسها:قال في الكفاية:يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخري منه أو مثله أو ضدّه (1).

و اورد عليه (2)بأنّ الحكم له مرتبتان:مرتبة الجعل و هو الحكم علي نحو القضيّة الحقيقيّة،كوجوب الحجّ علي المستطيع.و مرحلة الفعليّة و هو تحقّق الاستطاعة للمكلّف،و حينئذ إن كان مستطيعا،ثمّ علم بوجوب الحجّ علي المستطيع،فمتعلّق العلم حينئذ بنفسه يكون فعليّا،لا أنّه بتعلّقه يصير فعليّا و إن لم يكن مستطيعا،ثمّ علم بوجوب الحجّ علي المستطيع لم يصر الحكم فعليّا لعدم تحقّق موضوعه.

أقول:مراد صاحب الكفاية من مرتبة الانشاء هي المرتبة التي لا تصير فعلية، و هي الأحكام المودعة عند وليّ العصر عجّل اللّه تعالي فرجه التي ليست تكاليف فعليّة في زمان غيبته،فيمكن أن يؤخذ العلم بها في الفعليّة،فيقال:من علم الحكم الفلاني يجب عليه،و مراده من مرتبة الفعليّة هو إنشاء الحكم بحيث لو علم به8.

ص: 302


1- كفاية الاصول ص 307.
2- مباني الاستنباط ص 98.

المكلّف تنجّز،و تقدّم بيان مراده من مرتبة الانشاء.و تقدّم أنّه ليس للحكم إلاّ مرتبة واحدة و هو إنشاء الحكم علي من علم به أو جهل به مقصّرا،و أمّا القاصر فليس مكلّفا به،و أمّا انطباق الحكم بعد تحقّق موضوعه في الخارج فليس مرتبة للحكم،بل هو أمر قهري تكويني.

سابعها:قال في الكفاية:لا يكاد يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع مثله للزوم اجتماع المثلين،و لا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين (1)انتهي.

أقول:لعلّه ليس المراد من اجتماع المثلين و الضدّين معناهما الاصطلاحي؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة اعتبارات إنشائيّة لا وجودات حقيقيّة.نعم لا يجتمع المثلان و لا الضدّان في الاعتباريّات عقلائيّا،بأن يجب الشيء ثمّ يجب ثانيا مولويّا من غير تأكيد للأوّل و لا تغيير جهة،فإنّه ليس عقلائيّا،فلا يتحقّق خارجا و كذا لا يجتمع الحرمة و الوجوب.

لكن لقائل أن يمنع لزوم اجتماع المثلين،كما تقدّم أنّه يمكن أخذ العلم بالحكم في موضوع مثله،و مثّلنا له بالصلاة تماما في السفر،و كذا يجوز أخذ القطع بالحكم،سواء كان مطابقا للواقع أم كان مخالفا موضوعا لحكم مثله،فمن علم حرمة شرب الخمر و شرب الخمر عالما بحرمته كان عقابه علي فعله أشدّ،فيحرم علي العالم حرمة زائدة علي الجاهل المقصّر.و في خبر حفص«إنّ اللّه يغفر للجاهل سبعين ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنبا واحدا»أورده ابن طاووس في سعد السعود (2)و أوضحه،فراجع.و لعلّ المراد الجاهل المقصّر؛لأنّ القاصر لا عقاب عليه،فلا يرتكب حراما حتّي يغفر له.

فموضوع الحرمة الاولي ذات الشيء،و موضوع الحرمة الثانية المقطوع7.

ص: 303


1- كفاية الاصول ص 307.
2- سعد السعود ص 87.

الحرمة،فعلي هذا يصحّ أن يقول المولي:إن قطعت بحرمة شيء يحرم عليك،فإن أصاب كان عقابه أشدّ،و إن أخطأ كان معاقبا علي مخالفة قطعه و لم يجتمع المثلان.

و أمّا في صورة أخذه في موضوع ضدّه،بأن يقول:إن قطعت بوجوب شيء حرم عليك فعله،فهو أيضا ممكن بتخصيص الحكم الواقعي بإخراج شخص خاصّ،مثلا من كان وسواسيّا أو متوهّما كثير الوهم،فحيث إنّ المصلحة تقتضي إزالة هذه الحالة عنه،و هي أهمّ من مصلحة الواقع،فيقول له المولي:إن قطعت بحرمة شيء فافعله،أي:لا اريد منك الواقع الذي اريده من غيرك،و ذلك لأنّ المولي يعلم أنّ أكثر قطوعه خلاف الواقع،ففي صورة كون قطعه خلاف الواقع لم يجتمع الضدّان.

و أمّا في صورة كون قطعه مطابقا للواقع،فالمولي يرفع اليد عن الواقع لمصلحة أهمّ،و بذلك يظهر معني ما ذكره في العروة الوثقي،حيث قال:لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة و النجاسة (1).

المبحث الخامس:في وجوب الموافقه الالتزاميّة

اشارة

قال في الكفاية:الحقّ عدم وجوب الموافقه الالتزاميّة؛لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة و العصيان بذلك،و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلاّ المثوبة دون العقوبة،و لو لم يكن مسلّما و ملتزما به و معتقدا و منقادا له الي آخر كلامه (2).

أقول:إن كان مراده أنّ الكراهة القلبيّة و الاعتراض القلبي علي المولي بأنّه لماذا أمره بكذا،أو انتظار أن يموت المولي حتّي يستريح منه و أمثال ذلك،لا

ص: 304


1- العروة الوثقي ص 74 مسألة 1.
2- كفاية الاصول ص 308.

يوجب استحقاق العقاب إن كان ممتثلا عملا بما يأمره المولي أو ينهاه،فهو صحيح في الموالي العرفيّة.

لكن لقائل أن يقول:إنّ الأدلّة الشرعيّة تدلّ علي اعتبار الرضا بأوامر اللّه و التسليم و الانقياد لها،كقوله تعالي فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1)فإنّه عامّ لكلّ ما يحكم به النبي صلّي اللّه عليه و اله و يجب التسليم له،و قوله تعالي وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ (2)فذمّهم علي كراهتهم،فمن أعطي زكاة ماله كارها يكون مشمولا له.

و في الحديث:بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (3).

و في الكافي في صحيح الكاهلي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له،و أقاموا الصلاة،و آتوا الزكاة،و حجّوا البيت،و صاموا شهر رمضان،ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:ألا صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم،لكانوا بذلك مشركين (4).

و يؤيّده ما دلّ علي إنكار المنكر بقلبه،و ما دلّ علي أنّ من دان بأنّ الحصاة نواة فهو شرك.و سيأتي التعرّض له في أوّل البحث عن الأمارات.

و إن كان المراد من الالتزام ما كان مقدّمة للعمل؛لأنّ الانسان لا يفعل واجبا إلاّ معتقدا أنّه واجب قد نزل من اللّه علي رسوله،و لذا لو قطع بعدم وجوب فعل واجب واقعا،لا يلتزم بأنّه نزل علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله؛لأنّه لا يريد امتثاله.1.

ص: 305


1- سورة النساء:65.
2- سورة التوبة:54.
3- جامع أحاديث الشيعة ج 1 ب 6 ح 7 و ح 22.
4- اصول الكافي 2:291 باب الشرك ح 6 و ح 1.

كما يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه هذا المعني،حيث قال:و وجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت؛لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعيّة إنّما يجب مقدّمة للعمل،و ليست كالاصول الاعتقاديّة يطلب فيها الالتزام و الاعتقاد من حيث الذات،و لو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا علي وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع الي آخر كلامه (1).

فيمكن أن يقال:بأنّه لا بدّ من الاعتقاد بأنّ ما نزل علي النبي صلّي اللّه عليه و اله حقّ و إن لم يعلمه تفصيلا،فلو لم يعتقد الانسان بحكم نزل علي النبي لا إجمالا و لا تفصيلا،بل اعتقد عدمه مع الالتفات فهو مشكل،مثلا إذا كان شيئان نجسين،ثمّ علم بطهارة أحدهما،و قلنا بجريان الاستصحاب فيهما،فصورة المسألة في الرسالة العمليّة أنّهما نجسان،و المقلّد يعتقد نجاستهما،كما كان يعتقد نجاستهما قبل علمه بطهارة أحدهما،فهو لا يعتقد بطهارة أحدهما واقعا،فهل يضرّ ذلك و يجب إعلامه بذلك بأن يلتزم بالحكم الواقعي أيضا،أو لا يجب لأنّ عليه أن يقصد نجاستهما كما قصده المجتهد الذي يقلّده إلاّ إذا وقع في خلاف؟وجهان.

تتميم:

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الطهارة (2)أنّه لا شكّ في أنّ الاسلام عرفا و شرعا عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاصّ الذي يراد منه مجموع حدود شرعيّة منجّزة علي العباد،كما قال اللّه تعالي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (3)فمن خرج عن ذلك و لم يتديّن به كان كافرا غير مسلم.

و قال في بيان شمول إطلاق النصوص و الفتاوي في كفر المنكر،قال:و يؤيّدها

ص: 306


1- فرائد الاصول ص 31.
2- كتاب الطهارة ص 310 السطر 24 الطبع الحجري.
3- سورة آل عمران:19.

ما ذكرنا من أنّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن الدين (1).

و قال في بيان الناصب و انّه المبغض لأهل البيت مطلقا،قال:و توهّم تقييد الناصب بمن تديّن ببغضهم دون من يبغضهم مطلقا،خلاف ما يظهر من الأخبار الكثيرة،و إن توهّمه ظاهر تفسيري المعتبر و المنتهي و المحكي عن القاموس (2).

أقول:الظاهر أنّ التديّن هو الالتزام.

المبحث السادس: في إمكان المنع عن القطع غير المأخوذ في الحكم و لا في موضوعه

اشارة

تقدّم إمكان تقييد القطع المأخوذ في الموضوع بحصوله من سبب خاصّ،أو شخص خاصّ.و كذا القطع المأخوذ في الحكم.

و أمّا فيما لم يؤخذ في الموضوع،و لا في الحكم،فهل يمكن المنع عن بعض أقسام القطع بالحكم أو الموضوع مع عدم تقييد الحكم بالقطع به،كقطع القطّاع و الوسواسي،و القطع الحاصل من غير الأخبار،و الحاصل من مخالطة أهل الباطل، و الحاصل من السبق بالشبهات أم لا؟

قال في كشف الغطاء:و كثير الشكّ عرفا و يعرف بعرض الحال علي عادة الناس،لا اعتبار بشكّه،و كذا من خرج عن العادة في قطعه و ظنّه،فإنّه يلغو اعتبارهما في حقّه (3).

و في الجواهر بعد أن ذكر عدم الاعتبار بكثرة الشكّ،قال:ثمّ الظاهر أنّ كثير الظنّ ككثير الشكّ في المقام لما عرفت سابقا.و أمّا القطع،فإن كان في جانب العدم،فلا يلتفت أيضا،إلاّ إذا علم سبب القطع،و كان ممّا يفيد صحيح المزاج قطعا.

ص: 307


1- كتاب الطهارة ص 311 قبل السطر الآخر.
2- كتاب الطهارة ص 313.
3- كشف الغطاء ص 64.

و إن كان في الوجود،فالظاهر اعتبار قطعه،إلاّ إذا حفظ سبب القطع و كان ممّا لا يفيد صحيح المزاج قطعا،فتأمّل جيّدا (1).

و أورد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه علي كاشف الغطاء بقوله:فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ،فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ و غير العالم لا تجري في حقّه،و كيف يحكم علي القاطع بالتكليف بالرجوع إلي ما دلّ علي عدم الوجوب عند عدم العلم و القاطع بأنّه صلّي ثلاثا بالبناء علي أنّه صلّي أربعا و نحو ذلك (2).

و وافقه في الكفاية،فقال:لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما رتّب علي القطع من الآثار عقلا بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف،و من سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه،كما هو الحال غالبا في القطّاع.

إلي أن قال:القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع و لا من حيث المورد،و لا من حيث السبب،لا عقلا و هو واضح،و لا شرعا لما عرفت من أنّه لا تناله يد الجعل نفيا و لا إثباتا (3)انتهي.

أقول:يقع الكلام في امور:

الأمر الأوّل:الجهل المركّب يعني القطع المخالف للواقع لا يكون عذرا إذا كان حاصلا من تقصير أو من الأسباب الغير العقلائيّة،بل الظاهر أنّه عذر عند العقلاء إذا كان عن قصور أو عن أسباب عقلائيّة.و أمّا إذا كان حاصلا عن تقصير لمعاشرة المخالفين و فاسدي العقيدة فتأثّر منهم،أو مساورة الطريقة غير الصحيحة في الوصول إلي الأحكام الشرعيّة أو غيرها،فلا يكون عذرا.

و ذكره في المفاتيح،قال:إنّ اطمئنان النفس الحاصل لمن لا يكون من أهل1.

ص: 308


1- جواهر الكلام 2:359.
2- فرائد الاصول ص 22.
3- كفاية الاصول ص 310-311.

الحرفة التي يدّعيها،كالجزم الحاصل لأهل التقليد بصحّة فتوي المفتي جزما يزيد علي جزم المفتي لو كان له جزم لا يعدّ علما و لا معتبرا عند العقلاء؛لأنّ العلم هو الذي لا يزول بأدني التفات و احتمال،فمجرّد الاطمئنان و سكون النفس ليس علما؛لأنّه قد يحصل من المسامحة و عدم التدبّر و الالتفات (1)انتهي.

و الاستشهاد بكلامه لنفي اعتبار كلّ جزم حصل للناس.

الأمر الثاني:الحاكم بعدم حجّية بعض أقسام القطع و حجّية بعضه الآخر هو العقل،و يمكن أن يقال في كيفية منع القاطع عن حجّية قطعه:بأنّه يجب عليه مقايسة نفسه مع العرف العام أو العرف الخاصّ،فإذا كان من أهل الاستنباط، فليراع الطريقة الواصلة من أكابر العلماء،و يمارس الأخبار،و يخلي ذهنه عمّا ألفه،و عن الخوض في بعض المباحث التي توجب الاعوجاج و غير ذلك.

و إذا كان من أهل الوسواس،فيرجع إلي متعارف الناس،و لعلّ ذلك مراد السيّد رحمه اللّه في العروة الوثقي في فصل طريق ثبوت النجاسة،حيث قال:مسألة لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة و النجاسة (2)انتهي.

و بعبارة اخري يمكن أن يقال في حقّه:إنّه لا يجب عليك الواقع،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في بحث الانسداد:ألا تري أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه:ما اريد منك الصلاة بطهارة الثوب،و إن كان ثوبه في الواقع نجسا،حسما لمادّة وسواسه (3).

و الحاصل أنّه ينبغي أن يكون قطعه حاصلا من الأسباب الصحيحة الخاصّة بموضوع خاصّ بالتروّي و التأمّل و تشكيك نفسه،و الرجوع إلي متعارف الناس،2.

ص: 309


1- مفاتيح الاصول ص 330.
2- العروة الوثقي ص 74 مسألة 1.
3- فرائد الاصول ص 252.

فإن لم يزل قطعه كان معذورا علي تقدير المخالفة.

الأمر الثالث:نسب إلي بعض إنكار حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة.

فإن أراد إنكار إدراك العقل المصلحة الملزمة في الأشياء،أو المفسدة الملزمة، فهو غير صحيح،فإنّ العقل يستقلّ-كما في فوائد الاصول-بقبح الكذب الضارّ الموجب لهلاك النبي،مع عدم رجوع نفع إلي الكاذب (1).و مع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيّا بحرمته شرعا.

و إن اريد أنّ التورّط في تلفيق المطالب العقلية،و الابتعاد عن المتفاهم العرفي لأصحاب الأئمّة و سائر الفقهاء العظام،و التثقّف بالاعتماد علي الاستحسانات العقليّة،و نحو ذلك ممّا يكون القطع الحاصل منها ناشئا عن التقصير في السلوك الصحيح إلي استنباط الحكم الشرعي،فإنكار حجّيته غير بعيد؛لأنّ العقل لا يري القطع المخالف للواقع حجّة،إلاّ إذا كان القطع حاصلا من الأسباب المتعارفة،فلو قطع بحكم من الرمل و الجفر لا بدّ له من الاحتياط؛لأنّه لا يدري أنّ قطعه حجّة أو لا.

و أمّا الوسواسي،فإنّه يمكن دعوي أنّ الشارع يريد زواله عن المبتلي به،و لا طريق له إلاّ عدم اعتنائه بقطوعه،و إن كان بعضها مطابقا للواقع،فإنّ زواله عنه أهمّ.و لو صحّ ما ذكر كان الحكم الواقعي مقيّدا بوصوله بالطريق المتعارف و لا بأس به.

ثمّ إنّه ذكر هنا في فوائد الاصول أنّ المصلحة تكون في المتعلّق،و أنّ المصلحة في الأمر ممّا لا معني له (2).

و اورد عليه بتحقّقها في نفس الأمر،قال:مثلا لو مرّ المولي علي عدّة غلمان له،2.

ص: 310


1- فوائد الاصول 3:23.
2- فوائد الاصول 3:22.

فتعلّق غرضه بمجرّد الآمريّة و الناهويّة،فإنّهما بنفسهما لذيذان،فأمرهم و نهاهم بلا انتظار عمل منهم،فلا إشكال في كون المصلحة في نفس الأمر.

أقول أوّلا:هذا غير متصوّر في الشرعيّات.

و ثانيا:إن علم غلمانه أنّه مجرّد أمر لا إطاعة له استهزؤوا به،و إن لم يعلموا و أعلمهم بقصده بعد ذلك قبل العمل استهزؤوا به أيضا،إلاّ أن يعلمهم أنّه لا يريد بأن نسخ قبل العمل و تبدّل رأيه.

تتمّة:

حيث إنّ مقتضي المنع عن حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة منع الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع،كما اختاره بعضهم،فلا بأس بالتعرّض لإثبات الملازمة،فنقول:يقع الكلام في جهات:

الجهة الاولي:أنّ محلّ النزاع هو درك العقل حسن الفعل للمصلحة الملزمة الموجودة فيه،أو قبح الفعل للمفسدة الموجودة فيه،فإذا حكم العقل بلزوم الفعل، فهل يستكشف من حكم العقل حكم الشرع بلزومه أم لا؟و هذا غير بناء العقلاء علي شيء،كبنائهم علي حجّية الظواهر،فإنّ ذلك يحتاج إلي الامضاء شرعا،و لو بأن يكون بمرأي من الشارع و لم يردع عنه.

و أيضا غير إلزام العقل بالفرار عن الضرر المتوجّه إليه،فإنّه ممّا جعله اللّه تعالي في طبيعة الحيوان،فإنّ كلّ حيوان يفرّ عمّا يضرّه.نعم يختلف قوّة الادراك و ضعفه.

و من هذا الباب إلزام العقل بامتثال التكليف فرارا عن العقاب الاخروي،سواء كان التكليف ثابتا عنده بالسمع،أو ثابتا بالعقل المستكشف منه حكم الشرع،و كذا كيفيّة الامتثال،فإنّها راجعة إلي حكم العقل بالفرار عن العقاب،و من جملة كيفيات الامتثال الاكتفاء بالظنّ في مقام الامتثال بعد تماميّة مقدّمات الانسداد.

كما في الكفاية،حيث قال:و لا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم

ص: 311

العقل لقاعدة الملازمة،ضرورة أنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، و المورد هاهنا غير قابل له،فإنّ الاطاعة الظنّية التي يستقلّ العقل بكفايتها في حال الانسداد إنّما هي بمعني عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها،و عدم جواز اقتصار المكلّف بدونها،و مؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه،و هو واضح إلي آخر كلامه (1).

الجهة الثانية:المراد بالعقل الحاكم بشيء العقل غير المشوب بالجهالات و الأهواء و العادات و الشهوات المانعة عن درك حقيقة الأشياء.

و بعبارة اخري:عقل يرتضيه جميع العقلاء لا عقل شخص واحد،فإنّه لا طريق إلي إحراز صحّته،كما قال:

كدعواك كلّ يدّعي صحّة العقل و من ذا الذي يدري بما فيه من جهل

و قد عبّر الشيخ الطوسي رحمه اللّه عن حكم العقل الذي هو حجّة بالعقل الضروري، قال:فالعقليّات كلّ ما لا يعلم منها ضرورة أو ما يجري مجري الضرورة،فلا بدّ من بيان كما لا بدّ من دلالة (2)انتهي.

وحدّده في كشف القناع،فقال:الأخبار المتواترة ناطقة صريحا بانحصار المدرك بعد دليل العقل القاطع الذي لا يختلف باختلاف الأزمنة في الكتاب إلي آخر كلامه (3).

الجهة الثالثة:الالزام بشيء شرعا تابع للمصلحة الملزمة في المتعلّق،كما أنّ المصلحة الملزمة في الفعل تستتبع الالزام به شرعا،فهما متلازمان؛لأنّ الالزام بدون أيّ مصلحة يكون لغوا لا يصدر من الحكيم،و عدم الالزام بفعل فيه مصلحة1.

ص: 312


1- كفاية الاصول ص 368.
2- عدّة الاصول 2:418.
3- كشف القناع ص 461.

ملزمة تفويت للمصلحة الملزمة،و هو خلاف مصلحة العبد،و المولي الكريم لا يفوتها علي عبده المسكين،و كذلك حكم العقل،فإنّه إنّما يلزم بشيء فيه مصلحة ملزمة،و إلاّ فيكون لغوا،و العقل لا يفعل ذلك،و لا يري تفويت المصلحة الملزمة، و إلاّ لم يكن عقلا،و بهذا البيان يظهر أنّ كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل؛لأنّ الشرع يحكم بالالزام إذا كان في الفعل مصلحة ملزمة،و كلّما حكم به العقل حكم به الشرع؛لأنّ العقل لا يلزم بشيء إلاّ إذا كان فيه مصلحة ملزمة،و الشرع يلزم بما فيه مصلحة ملزمة.

الجهة الرابعة:قد يقال بأنّ العقل لا إحاطة له بالمصالح و المفاسد،و لعلّ المصلحة الموجودة في الفعل مقرونة بمانع لا يحيط العقل به.

قلت:قد مدح اللّه تعالي في كتابه الكريم العقل في آيات،و قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (1)و العقل الضروري مستقلّ ببعض الأشياء،كالكذب الضارّ الموجب لقتل النبي مثلا مع عدم رجوع نفع إلي الكاذب و لا إلي غيره،فلا ريب في كونه قبيحا.

نعم يحكي عن صاحب الفصول أنّه قال:إنّ العقل و إن كان مدركا للمصالح و المفاسد و الجهات المحسنة و المقبحة،إلاّ انّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع و مزاحمات في نظر الشارع لم يصل إليها العقل،فلذا يحكم ظاهرا بما يدركه،فالملازمة متحقّقة بين حكم العقل ظاهرا و حكم الشرع.

و فيه أنّه ليس كذلك دائما،نعم يحتمل ذلك في بعض الموارد،و حيث انّ اللّه تعالي أمر باتّباع العقل فينبغي متابعته،و حينئذ لا بأس بدعوي الملازمة ظاهرا.

الجهة الخامسة:نسب إلي بعضهم أنّ القاعدة و إن كانت تقتضي الملازمة بين2.

ص: 313


1- سورة الحشر:2.

حكم العقل و الشرع،إلاّ انّه قامت الأدلّة السمعيّة علي منع هذه الملازمة،بل لا بدّ من توسيط تبليغ الحجّة،و من الأدلّة قوله تعالي وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّي نَبْعَثَ رَسُولاً (1)فإنّه يدلّ علي أنّ اللّه تعالي لا يعذّب علي عمل عمله المكلّف إن لم يكن حراما من ناحية الشرع و إن كان حراما عقلا،و سيأتي الجواب عنه في بحث البراءة.

و أمّا الأخبار المانعة عن العمل بالقياس،و انّ دين اللّه لا يصاب بالعقول،فهي لا تنافي ما حكم به العقل الضروري من عدم جواز اجتماع الضدّين و النقيضين و ارتفاعهما،و إن شئت الاحاطة بهذه الجهات،فراجع تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،كما في فوائد الاصول (2).

المبحث السابع: في العلم الاجمالي

يقع الكلام في ماهيّته،و في إثبات التكليف به.

أمّا ماهيّته،فلا إشكال في أنّ القطع المخالف للواقع،أي:الجهل المركّب لا يتعلّق بالخارج،و متعلّقه في افق النفس:فقد يكون قطعا تفصيلا بالشيء،و قد يكون قطعا مجملا،فالاختلاف في القطعيّة نظير ما سنذكره في العلم.

و أمّا العلم،فهل يتعلّق بالخارج أو يتعلّق بالمعلوم ذهنا و الخارج معلوم بالعرض؟احتمالان،قد تقدّم قوّة الاحتمال الأوّل،ثمّ إنّ التفصيل و الاجمال يكونان في نفس العلم،فهما يختلفان في العلميّة.

لكن قال في نهاية الدراية:إنّ العلم الاجمالي المصطلح عليه في هذا الفنّ لا يفارق العلم التفصيلي في حدّ العلميّة.

ص: 314


1- سورة الاسراء:15.
2- فوائد الاصول 3:22.

إلي أن قال:بداهة أنّ العلم المطلق لا يوجد،كما أنّ وجوده في افق النفس و تعلّقه بالخارج عن افق النفس غير معقول،بل المقوّم لهذه الصفة الجزئيّة لا بدّ من أن يكون في افقها،فهو المعلوم بالذات و ما في الخارج معلوم بالعرض،و عليه فمتعلّق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس،غاية الأمر أنّ طرف متعلّقه مجهول أي غير معلوم بخصوصه (1)انتهي.

قلت:فيه نظر؛لأنّ المعلومات التفصيلية في مورد العلم الاجمالي ليست من العلم،بل متعلّقه الخصوصية التي لا جامع لها،مثلا إذا علم وجود زيد أو شاة في الدار،فوجود الحيوان في الدار معلوم تفصيلي،و كذا وجود الجسم،و كذا وجود النامي،و الذي يكون متعلّق العلم الاجمالي هو كونه زيدا أو شاة،و لا جامع بين الخصوصيّتين معلوما بالتفصيل،فالحقّ أنّ العلم الاجمالي يغاير بنفسه العلم التفصيلي في العلميّة،فهو نوع علم فيه إجمال.

ثمّ إنّ العلم يتعلّق بالخارج،لا أنّه يتعلّق بالمعلوم بالذات كما تقدّم،و لبيان كيفيّة ربط العلم بالخارج محلّ آخر،و يتفرّع علي ما ذكر ثمرات:

منها:أنّه لو علم أنّه مديون لزيد بعشرة دنانير،أو مديون لعمرو بخمسة دنانير، فعلي القول بتعلّق العلم بالجامع ينحّل العلم الاجمالي إلي العلم التفصيلي بكونه مديونا بخمسة دنانير إمّا لزيد أو لعمرو،فيعطي كلّ واحد خمسة دنانير،و إلي الشكّ البدوي في الخمسة الزائدة،فتجري أصالة البراءة.و أمّا علي المختار فيكون من المتباينين؛لأنّ متعلّق العلم عشرة لزيد أو خمسة لعمرو.

و منها:ما لو صلّي صلاتين في ثوبين يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما،ثمّ تبيّن نجاستهما،فقد يقال ببطلان الصلاة الاولي،لانطباق الجامع المعلوم نجاسته عليي.

ص: 315


1- نهاية الدراية 2:243 الطبع الحجري.

الاولي.و أمّا علي المختار فيكون إحداهما غير المعيّنة باطلة.

إذا تبيّن ماهيّة العلم الاجمالي،فنقول:إنّ العلم الاجمالي قد يتعلّق بالحكم، و قد يتعلّق بمتعلّق الحكم،و قد يتعلّق بهما،و قد يكون العلم الاجمالي في مكلّف واحد،و قد يكون في أكثر من واحد،فهنا مسائل:

المسألة الاولي:إذا كان العلم الاجمالي متعلّقا بالحكم،كما إذا علم إجمالا وجوب صلاة الجمعة أو الظهر،أو كان العلم الاجمالي متعلّقا بمتعلّق الحكم،كما إذا علم أنّ أحد المايعين خمر،فإن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل في جميع حالات المكلّف من العلم بالحكم و بالموضوع و الجهل بهما،فالحكم المجعول ثابت في جميع الأحوال،فإن علم به إجمالا كان العلم علّة تامّة للتنجّز،و تجب الموافقة القطعيّة،و تحرم المخالفة القطعيّة.

و إن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل في بعض حالات المكلّف،و هو أن يكون عالما به تفصيلا حين الارتكاب،فالحكم المجعول ثابت في حال العلم التفصيلي بالحكم أو بالموضوع،و يجوز ارتكاب الأطراف في العلم الاجمالي تدريجا،فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد المايعين جاز ارتكابهما تدريجا،إن كانت مفسدة النجاسة مختصّة بصورة العلم التفصيلي.

و إن كانت المصلحة أو المفسدة في الفعل فيما إذا لم يحصل له العلم بالمخالفة لا تفصيلا و لا إجمالا،و إن حصلت المخالفة واقعا و احتملها المكلّف،جاز ارتكاب أحد الطرفين.

هذا كلّه في مقام الثبوت،و لا بدّ من كشف أحد هذه الوجوه من الأدلّة.

و يمكن أن يقال:إنّ حرمة دم المؤمن حكم واقعي لا يختصّ إحراز موضوعه بكيفيّة خاصّة،فلو رأي شبحين علم أنّ أحدهما مؤمن و الآخر حيوان غير محترم، فلا يجوز قتلهما و لا قتل أحدهما؛لأنّه علم من الشرع الاهتمام في حفظ نفس

ص: 316

المؤمن،فلا يشمله أدلّة الاصول العمليّة.

و أمّا لو تردّد ماء متنجّس بين مائين،فمقتضي إطلاق حرمة شرب المتنجّس وجوب التحرّز عنه،فيجب التحرّز عن كليهما مقدّمة للفراغ اليقيني،لكن لا مانع من الترخيص في ارتكابهما شرعا؛لأنّ الحرمة فيه ليست كحرمة دم المؤمن.

و ذكر في الكفاية أنّ العلم الاجمالي مقتض للتنجّز لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما إذا كان الأطراف غير محصورة،أو شرعا كما هو ظاهر كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّي تعرف الحرام منه بعينه (1).

أقول:أمّا ما ذكره من أنّ العلم الاجمالي مقتض للتنجّز و يفترق عن العلم التفصيلي،ففيه أنّه يمكن أن يقال بعدم الفرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي في كونهما علّة لوجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية إن كانت مصلحة الحكم الواقعي أهمّ،و لا فرق بينهما إن كانت مصلحة اخري أهمّ من الواقع،مثلا إن توقّف زوال الوسواس علي عدم اعتناء الوسواسي بعلومه و كان زواله أهمّ،جاز أن يقال:لا يعتني بعلمه التفصيلي بالنجاسة و إن طابق الواقع.

و سنتعرّض إن شاء اللّه في بحث الاشتغال للأخبار الدالّة علي الترخيص في أطراف العلم الاجمالي.

المسألة الثانية:إذا تردّد التكليف بين شخصين،كالجنابة المردّدة بينهما، فمقتضي الأصل في كلّ منهما بقاء طهارته،و لا يعارض بالأصل في الطرف الآخر لعدم ارتباط أحدهما بالآخر،و لكلّ منهما تكليف علي حدة،نعم لو اتّفق لأحدهما أو لثالث علم بتوجّه التكليف إليه وجب العمل به،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)لذلك أمثلة،فراجع.5.

ص: 317


1- كفاية الاصول ص 314.
2- فرائد الاصول ص 35.

المسألة الثالثة:في تردّد التكليف في شخص واحد،و هو الخنثي المشكل،و يقع الكلام فيه في مقامات ثلاثة:

الأوّل:في معاملته في نفسه،فالظاهر أنّه يحتاط في العمل بالتكاليف الخاصّة بالرجال و النساء؛لأنّه يعلم إجمالا بكونه مكلّفا بأحدهما.

الثاني:في معاملته مع معلوم الرجولية و الانوثية أو مجهولهما،و الظاهر أنّ هذا أيضا من فروع الأوّل،فيحتاط في النظر إليهما،للعلم بحرمة النظر إلي إحدي الطائفتين،و كذا لا ينظر إلي خنثي آخر؛لكونه إمّا رجلا أو امرأة،فيكون من أطراف العلم الاجمالي.و للشيخ الأنصاري كلام في كتاب النكاح،فراجع.

الثالث:في معاملة الغير معه،و فيه احتمالان:

الأوّل:جواز نظر الرجال إليه،للشكّ في كونه امرأة،فيكون من الشبهة الموضوعيّة.و كذا يجوز للنساء النظر إليه،نعم في عورتيه ينحلّ العلم الاجمالي في الرجال بحرمة النظر تفصيلا إلي ما يماثل عورتهم؛لأنّه إمّا عورة رجل أو جسد امرأة أجنبيّة،فيكون ما لا يماثل عورتهم شبهة بدويّة،لاحتمال كونه ثقبة في بدن رجل،و المرأة بالعكس.

الثاني:عدم الجواز،لما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في حاشية الفرائد،حيث قال:و يمكن أن يقال:إنّ ما نحن فيه من قبيل ما تعلّق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج و لو بين شخصين،فترخّص كلّ منهما للمخالطة مع الخنثي مخالف لغرضه المقصود من عدم مخالطة الأجنبي مع الأجنبيّة،و لا يرد النقض بترخيص الشارع ذلك في الشبهة الابتدائيّة إلي آخر كلامه (1).و لعلّه الأظهر الأحوط.

هذا كلّه في إثبات التكليف بالعلم الاجمالي،و أمّا إسقاط التكليف به،ه.

ص: 318


1- فرائد الاصول ص 24 طبع رحمت اللّه.

فسيجيء البحث عنه في مباحث الاشتغال.

المبحث الثامن: في عدم مانع عن التعبّد بالامارات و الاصول الشرعية

اشارة

في الحكم الكلّي و الجزئي،فيقع الكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في جواز التعبّد بالأمارة و الأصل في الحكم الكلّي

فنقول:الحكم الذي بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و اله،أو الأئمّة المعصومون عليهم السّلام من غير تقيّة علي تفصيل في محلّه،هو الذي يكون وظيفة لعامّة المكلّفين،و لا بدّ أن يجعلوه في معرض الوصول إليهم،بحيث لو فحص المكلّف وصل إليه.

فالأحكام الموجودة في كتاب علي عليه السّلام التي لم يبيّنوها للناس لا يجب عليهم امتثالها،و كذا الأحكام الصادرة عنهم عليهم السّلام تقيّة في بيان الحكم لا يجب العمل بها إن علم كونها صادرة تقيّة،و كذا الأحكام التي بيّنوها و لم تصل إلينا،و إنّما يجب العمل بالأحكام التي جعلها الأئمّة عليهم السّلام في معرض الوصول بحيث إن فحص المكلّفون وصلوا إليها،فإن أوصلوها بواسطة أخبار الآحاد،فإن وصل جميعه علي وجه تكون جميع هذه الأخبار مطابقة لما بيّنوه فلا إشكال،و إن لم يصل بعضها،بأن كان الخبر علي خلاف الواقع،أي:خلاف ما بيّنوه للرواة لاشتباه الرواة أو لجهات اخر،لزم من تعبّد الشارع به اجتماع الضدّين و الالقاء في المفسدة،إن كان الخبر دالاّ علي الوجوب،و كان حراما واقعا.

و إن كان الخبر دالاّ علي الحرمة و كان ما بيّنوه واجبا واقعا،لزم من التعبّد به اجتماع الضدّين و فوت مصلحة الواجب.و إن كان الخبر دالاّ علي إباحة ما كان واجبا أو حراما،لزم اجتماع الضدّين و تفويت مصلحة الواقع،أو الالقاء في المفسدة،و هناك إشكالات اخر أيضا علي إمكان التعبّد بالأمارات أهمّها ما ذكر.

ص: 319

و الجواب:أنّه يمكن أن تكون المصلحة أو المفسدة التي في متعلّقات الأحكام التي بيّنوها و لم تصل بهذه الأخبار بسبب مخالفتها لها مختصّة بمن علمها،فلا يلزم ايصالها إلي المكلّفين،أو يكون ايصالها بغير الخبر الواحد موجبا للعسر و الحرج، أو يكون مبتلي بالمانع،أو تتدارك مصلحة الواقع بالعمل بالخبر،أو تضمحلّ مفسدة الواقع بالعمل بالخبر.

و علي جميع التقادير لا حكم واقعي فعلي،بل هو حكم مشروط بالوصول، سواء قلنا إنّ الخبر الواحد طريق عقلائي أمضاه الشرع،أو جعله علما تعبّدا،أو كان مؤدّاه حكما ظاهريّا طريقيّا،أو حكما ظاهريّا نفسيّا،و لا فرق مع وجود المصلحة أو المانع المذكورين بين انفتاح باب العلم و انسداده.و كذا الكلام في الاصول الشرعيّة بل العقليّة بعد توجّه الشارع إلي أنّ المكلّف يجري الأصل العقلي لو شكّ في التكليف.

فقد ظهر بما ذكر جواز التعبّد بالأمارة و الأصل،فلا بدّ من ملاحظة دليل اعتبارهما.

و قد ظهر بما ذكرنا الجواب عن أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله و الامام المعصوم عليه السّلام كيف قنعا بايصال الحكم بواسطة الخبر،مع أنّه قد يخالف الحكم الذي بيّناه.

و حاصل الجواب:أنّه كان مانع من ايصاله علما حتّي بالأمر بالاحتياط غير العسر الموصل للواقع أقوي من مراعاة مصلحة الواقع،و علي ذلك لا فرق بين صورة انفتاح باب العلم يعني قدرة المكلّف علي الوصول إليهما و التعلّم منهما و نحوه،و بين صورة الانسداد.

لكن الشيخ الأنصاري رحمه اللّه لم يرض ذلك في صورة الانفتاح،و قال:فالأولي

ص: 320

الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن من الواقع (1).

و فيه أنّه ليس علي إطلاقه،فإنّه مع فرض التمكّن منه يمكن فرض أن لا يكون مصلحة الحكم بمقدار يلزم ايصالها إلي المكلّف بغير الخبر،فلو فرض أنّ الأمارات في نظر الشارع غالبة المطابقة للواقع،جاز التعبّد بها إن كانت مصلحة الواقع ليست بمقدار من الأهمّية يوجب أن يوصلها الشارع بغيرها،أو كان مانع عن ايصالها بغيرها.

ثمّ إنّ اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به تارة يكون لاختصاص المصلحة بالعالم به،و اخري يكون للمزاحمة،بأن تكون المصلحة موجودة مع عدم العلم لكنّها مزاحمة بمصلحة أقوي أو مفسدة أقوي،فيختصّ الحكم بالغالب منهما.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال في هذا المقام ما حاصله:إنّ التعبّد بالأمارة يتصوّر علي وجهين:

الوجه الأوّل:أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع،و هو لا يخلو عن وجوه ثلاثة،أحدها:كون الشارع عالما بدوام موافقة هذه الأمارات.ثانيها:

كونها أغلب مطابقة للواقع من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع.و هذان الوجهان يوجبان الأمر بسلوك الأمارة حتّي مع انفتاح باب العلم.ثالثها:كونها في نظر الشارع غالبة المطابقة.و هذا الوجه لا يصحّ عليه التعبّد بالأمارة إلاّ مع تعذّر العلم (2).

قلت:يرد علي قوله في الوجه الثالث«لا يصحّ التعبّد بالأمارة»ما ذكرنا من جواز التعبّد بالأمارة مع انفتاح باب العلم إن كانت مصلحة الحكم مختصّة بمن اتّفق له العلم بالحكم،أو كانت مزاحمة بمصلحة أقوي أو مانع أقوي،أو لا يتمكّن3.

ص: 321


1- فرائد الاصول ص 42.
2- فرائد الاصول ص 43.

من ايصاله إلي المكلّف عادة بغير الخبر.

و أمّا إذا كان متمكّنا من ايصاله إلي المكلّف بلا مانع،وجب ايصاله إليه،و إن كانت الأمارة أغلب مطابقة للواقع من العلوم الحاصلة للمكلّف،فلا يصحّ التعبّد علي الوجه الثاني الذي ذكر أنّه يصحّ عليه في هذا الفرض.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:الوجه الثاني:أن يكون المصلحة في سلوك الأمارة،و هو علي ثلاثة أوجه:

أحدها:أن يكون الحكم تابعا لتلك الأمارة بحيث لا يكون حكم في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة،فيكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في الواقع بالعالمين بها،و هذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطّئة،و قد تواتر الأخبار و الآثار بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل.

ثانيها:أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة،بمعني أنّ للّه حكما يشترك فيه العالم و الجاهل لو لا قيام الأمارة علي خلافه،فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير من قامت عنده الأمارة علي خلافه،و شأني في حقّه،و هذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعي.

ثالثها:أن يكون سلوك الأمارة ذا مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع،و لا مانع علي هذا الوجه من التعبّد بالأمارة (1).

قلت:يجوز التعبّد بالأمارة علي الوجهين الأوّلين أيضا.

و دعوي استلزام ذلك التصويب و هو إمّا محال أو مجمع علي بطلانه،ممنوعة؛ لعدم استلزامه التصويب المحال،و لا المجمع علي بطلانه.

و لتوضيحه ينبغي أن نشير إلي مسألة التخطئة و التصويب،حتّي يظهر أنّه لا4.

ص: 322


1- فرائد الاصول ص 43-44.

استحالة و لا إجماع،فنقول:موضوع التصويب الاجتهاد المستند إلي القياس و الأخبار التي يعتمدها العامّة التي ليست حجّة عند الفرقة المحقّة.

ذكر الشيخ الطوسي في كتاب العدّة (1)أقوال العامّة في ذلك،ثمّ قال:و الذي أذهب إليه و هو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين و المتأخّرين،و هو الذي اختاره سيّدنا المرتضي قدّس اللّه روحه،و إليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه رحمه اللّه أنّ الحقّ واحد،و انّ عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا (2)انتهي.

و مراده أنّ لكلّ شيء حكما،و الدليل عليه ما تواتر عن صاحب الشرع و ظواهر القرآن،و قد تواتر عنه حجّية الأخبار المرويّة من طرق الشيعة،و بطلان العمل بالقياس و خبر الواحد الذي يختصّ المخالفون بروايته،فالحقّ في حكم كلّ مسألة في الفرقة المحقّة أي الشيعة و في أدلّتهم،و من تعدّي تلك الأدلّة و استدلّ بغيرها من القياس و الاستحسان و خبر الواحد المروي عن طرق المخالفين فهو مخطيء فاسق،هذا خلاصة مراده.

و قال أيضا حكاية عن العامّة:إنّ الصحابة اختلفوا في مسائل لو كانت خطأ لكانت كبيرة،نحو اختلافهم في الفروج و الدماء و الأموال،و قضي بعضهم بإراقة الدم و إباحة المال و الفروج،فلو كان منهم من أخطأ لم يجز أن يكون خطأه كبيرا، و يكون سبيله سبيل من ابتدأ إراقة دم محرّم بغير حقّ و أخذ مالا عظيما بغير حقّ و أعطاه من لا يستحقّه،و في ذلك تفسيقه و وجوب البراءة منه،و في علمنا بفقد كلّ ذلك دليل علي أنّهم قالوا بالاجتهاد و انّ الجماعة مصيبة.

ثمّ قال:و هذه الطريقة هي عمدتهم في أنّ كلّ مجتهد مصيب في أحكام5.

ص: 323


1- عدّة الاصول 2:724.
2- عدّة الاصول 2:725.

الشريعة (1)انتهي.

و قال أيضا ما ينبغي أن يلحظ في موضع آخر (2).

أقول:ظهر أنّ موضوع البحث عن التخطئة و التصويب إنّما هو فتاوي العامّة.

و أمّا الذي ذكرناه،فلا موضوع للتصويب فيه،و ذلك لأنّه كما ذكرنا لا تكليف بما لم يظهره الأئمّة عليهم السّلام من كتاب علي عليه السّلام و الأحكام المودعة فيه عند ولي العصر عجّل اللّه فرجه،و هو عليه السلام يبيّنه للناس.و في كفاية الاصول سمّي هذه الأحكام أحكاما إنشائية (3).و عدم التكليف بها:إمّا لكون مصلحتها لا تقتضي العمل بها في حال عدم بسط يد المعصوم،أو لابتلائها بالمانع،كذلك الأحكام التي بيّنوها و لم تصل إلي المكلّفين،فإنّها ليست تكاليف فعليّة للناس.

و علي ما ذكرناه فلا حكم واقعي علي المكلّف يخالف الخبر؛لأنّ ما بيّنوه إن لم يوافقه الخبر لا يكون حكما يترتّب علي تركه العقاب؛لأنّه لم يصل إلي المكلّفين، فانحصر التكليف بما بيّنوه الذي يكون موجودا في ضمن هذه الأخبار التي بأيدينا.

فإن قلت:لو أخبر زرارة مثلا بجواز شيء اشتباها،و لم يعمل المكلّف به،بل عمل علي ضدّه و حصل منه قصد القربة،ثمّ تبيّن له بعد أنّ زرارة مثلا اشتبه،فلا ينبغي الاشكال في الاجزاء،و هذا يدلّ علي أنّ الحكم فعلي غير منجّز.

قلت:انكشاف خلافه يكون وصولا للحكم الواقعي،و الحكم الواصل يجب متابعته،و حاصل الكلام أنّ التصويب بمعني أنّ المكلّفين ليس عليهم واقع خارج عن هذه الأخبار لم يقم دليل علي امتناعه.

و أمّا ما ادّعي من تواتر الأخبار و الآثار علي وجود حكم مشترك بين العالم1.

ص: 324


1- عدّة الاصول 2:703.
2- عدّة الاصول 2:699.
3- كفاية الاصول ص 321.

و الجاهل،فالمراد به الحكم الذي إن فحص الجاهل وصل إليه،و إنّما لم يصل إليه لتقصيره.و أمّا الجاهل القاصر،فلا حكم عليه حتّي يشترك مع العالم؛لأنّ اللّه تعالي قال في كتابه المجيد، لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها و في الخبر يقال للجاهل:

هلاّ عملت،فإن قال:لم أعلم،يقال له:هلاّ تعلّمت.و هذا مختصّ بمن يتمكّن من التعلّم،و هو الجاهل المقصّر.

و فذلك البحث أنّ الوجوب الشرعي تابع للمصلحة الملزمة غير المزاحمة بالمانع،فهما متلازمان فلا وجوب بدونها،و إلاّ كان جزافا قبيحا،و لا بدّ من الايجاب مع وجودها،و إلاّ كان تفويتا للمصلحة الملزمة،و هو قبيح،فمع وجود المصلحة كذلك لا بدّ أن يكون المكلّف فاعلا،و مع وجود المفسدة الملزمة للترك لا بدّ أن يكون تاركا،و مع اجتماعهما و غلبة إحداهما الاخري لا بدّ أن يكون علي حسب الغالبة منهما فعلا أو تركا،و مع تساويهما فهو مخيّر.

هذا بحسب مقام الثبوت.و أمّا بحسب مقام الاثبات،فلا تكليف بما بيّنه المعصومون عليهم السّلام و لم يكن موجودا فيما بأيدينا من الأخبار،سواء لم يصل أو وصل خلافه لاشتباه الراوي،لعدم وصوله إلينا،و ليس من تحليل الحرام أو عكسه؛لأنّ في ايصال الحكم الواقعي إلينا مانع أهمّ منه،فلا مجال لأن يقال بأنّ التعبّد بالخبر يوجب تحليل الحرام و الجمع بين الضدّين.

نعم يقع الكلام في اختلاف الاستنباطات من هذه الأخبار،و نحن مخطئة نعتقد خطأ بعضهم،و أنّ الحكم المستفاد من الأخبار التي بأيدينا واحد،ولكن العامّة قائلون بتصويب المجتهدين المختلفين،فإذا خالف الاستنباط الذي ثبت حجّيته علي ما بيّناه في محلّه مع الحكم الواقعي المستفاد من هذه الأخبار،فلا بدّ من الجمع بينه و بين ما أدّي إليه الاستنباط المذكور.

و نحن نقول في مقام الجمع بين الحكم الواقعي الذي يدلّ عليه هذه الأخبار مع

ص: 325

ما استنبطه المجتهد بالشرائط المقرّرة،أنّ الحكم المشتمل عليه الأخبار لذات الشيء و ما استنبطه المجتهد حكمه بالعنوان الثانوي،أي:بعنوان الجهل بالواقع.

فإذا كان الشيء واجبا واقعا،أي:في مفاد الأخبار التي بأيدينا،فما يستلزم جوازه سواء كان حكما أو امضاء لبناء العقلاء أو غيرهما من الترخيص الظاهري، يوجب تفويت المصلحة،إلاّ أن تكون المصلحة الواقعيّة:إمّا غير ملزمة حال عدم الوصول،أو مبتلاة بالمانع،و هذا المورد من اختلاف الحكم الواقعي الكلّي مع الظاهري متّحد مع الحكم الواقعي في الموضوعات و الحكم الظاهري فيها،و وجه الجمع بينهما واحد،و إذا انكشف الخلاف فالمصلحة تكون متداركة بمقدار ما يفوت منها علي المكلّف،و يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة،و الالتجاء إليها للفرار عن إشكالين:

أحدهما:فيما إذا لم ينكشف الحكم الواقعي الذي هو مخالف للاستنباط المذكور،ففات مصلحته علي المكلّف.فنقول:حينئذ انّها متداركة بالعمل بما أدّي إليه الاستنباط.

ثانيهما:فيما إذا انكشف الحكم الواقعي في الوقت،فإنّ إجزاء العمل بالأمارة عنه موجب لتفويت مصلحة الواقع إن لم يتدارك بالعمل به جميع مصلحته،إلاّ أن يقال بوجوب امتثال الحكم الواقعي،و يتدارك مقدار ما فات من المصلحة الموجودة أوّل الوقت بالعمل به،و بما ذكر يندفع بعض المناقشات.

الموضع الثاني: في الأمارة القائمة علي الموضوع و الأصل الجاري فيه

إن قامت أمارة كالبيّنة بناء علي كونها أمارة،أو أصل علي خلاف الحكم الواقعي الواصل،مثلا قامت بيّنة علي مايع أنّه ليس بخمر و كان خمرا واقعا، و المكلّف قادر علي تركه و علي تحصيل اليقين بعدم شرب الخمر،و كذا إذا شكّ في

ص: 326

مايع أنّه خمر و كان خمرا واقعا،فإنّه محكوم بأصالة الاباحة.

فهل في جعل الأمارة المخالفة للواقع أو الأصل كذلك مانع أم لا؟الظاهر إمكان الجعل بالتفصيل المتقدّم،و هو أنّ الحكم الواقعي إن كان له أهمّية حتّي في حال الجهل بمصاديق متعلّقه لم يكن مجال للأمارة أو الأصل علي خلافه،كقتل المؤمن مثلا.

فإذا شكّ في شبح أنّه مؤمن أو حيوان غير محترم،لم تجر أصالة البراءة عن حرمة القتل،و إن لم يكن له أهمّية بهذا المقدار،أو كان في استيفائها نوع مشقّة ينافي سهولة الدين و نحو ذلك،جاز الترخيص في خلافه علي الوجوه المتقدّمة.

و يتعيّن الفرار من الاشكال بالالتزام بالوجه الثالث من القسم الثاني،يعني المصلحة السلوكيّة،كما التزم به الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،حيث قال:و بالجملة فحال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة علي حكم شرعي حال الأمر بالعمل بالأمارة القائمة علي الموضوع الخارجي،كحياة زيد و موت عمرو،فكما أنّ الأمر بالعمل في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الموضوع،و إنّما يوجب جعل أحكامه الي آخر كلامه (1).و صرّح بذلك في موضع آخر،و قال:و ممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة علي الموضوعات الخارجيّة،فإنّها من القسم الثالث (2)انتهي.

ثمّ إنّه ينبغي أن يذكر عمدة الوجوه لرفع التنافي بين الحكم الواقعي و الظاهري فيما إذا كان الحكم الظاهري ترخيصا في خلاف الحكم الواقعي،و هي:

الأوّل:تعدّد الموضوع،فالحكم الواقعي علي ذات الموضوع،و الحكم الظاهري علي الموضوع بوصف كونه مشكوكا،كالغنم المغصوب إذا ذبح،فإنّه حلال في ذاته و حرام بعنوان الغصب،و كلا الحكمين موجودان،فشرب التتن7.

ص: 327


1- فرائد الاصول ص 46.
2- فرائد الاصول ص 47.

حرام بذاته،ولكن حلال بعنوان كونه مجهول الحرمة،و الخمر في ذاته حرام، و بعنوان كونه مشكوك الخمريّة حلال فيما يجري فيه أصالة الحلّ،و إلاّ فلا بدّ من الاحتياط كما قيل في الدماء.

مثل أن يشكّ في أنّ الشبح المتحرّك مؤمن أو كافر مهدور الدم،فإنّ أصالة البراءة عن حرمة إراقة دمه لا تجري؛لأنّ مراعاة الواقع أهمّ.

الثاني:عدم اجتماعهما،ضرورة أنّه مع وصول الحكم الواقعي إلي المكلّف لا يتحقّق الحكم الظاهري،و مع عدم وصوله إليه لا يتنجّز الحكم الواقعي (1).

و فيه أنّه مع عدم وصول الحكم الواقعي إن كان المولي يريد العمل به،فكيف رخّص في خلافه ظاهرا.و إن كان لا يريد العمل به،فمرجعه إلي أنّه لا حكم واقعا.

و دعوي أنّه موجود لكن لم يتنجّز.ممنوعة؛لأنّ المولي هو الذي رخّص في خلافه،فإن لم يقل بالتفصيل بين مثل الدماء و الفروج و غيرهما،فلا معني لوجوده إلاّ الوجود الانشائي.

الثالث:ما ذكره في الكفاية في مخالفة الأمارة للواقع،بأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته،و الحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفيّة الي آخر كلامه (2).

و فيه أنّ الحكم الواقعي إن كان له أهمّية لا بدّ من مراعاته حتّي مع الشكّ،فلا مجال لجعل حجّة قد تخالف الواقع.و إن لم يكن ذا أهمّية في حال الشكّ،فمرجع جعل الحجّة التي ربّما تخالف الواقع إلي كون الحكم الواقعي مشروطا بالعلم به.

الرابع:ما ذكره أيضا من أنّ مؤدّي الأمارة حكم طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه.و ذكر هذا الوجه في تعليقته علي الفرائد،فقال:إنّ مؤدّيات9.

ص: 328


1- مباني الاستنباط ص 200.
2- كفاية الاصول ص 319.

الأمارات في صورة الخطأ أحكام صوريّة،و المقصود الأصلي هو التوصّل بها إلي الأحكام الواقعية في صورة الاصابة.و أمّا الحكم الواقعي،فهو متعلّق بالشيء بعنوانه (1).

أقول:إن كان المولي يريد الحكم الواقعي بحيث يعاقب علي تركه حتّي في صورة خطأ الأمارة،لزم من جعل الأمارة الترخيص في تركه،فاجتمع المتنافيان، و إلاّ كان الحكم الواقعي مشروطا بالوصول علما أو بدليل معتبر.

الخامس:ما ذكره في الاصول العملية،كأصالة الاباحة في المشكوك الذي يكون حراما واقعا،كشرب التتن المشكوك حرمته إن فرض كونه حراما واقعا، فإنّه بعد أن سلّم أنّ المصلحة في الترخيص اعترف بأنّه ينافي كراهة الفعل،فالتزم بأنّ الحكم الواقعي موجود،ولكنّه بحيث لو علم به يتنجّز.

أقول:إن رجع كلامه إلي ما ذكرناه،و إلاّ فمحلّ منع.

و قد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ الحكم الفعلي الكلّي هو الواصل،أو ما تقتضيه الأمارة أو الأصل،و الحكم الواقعي في موارد الشبهة الحكميّة إنشائي محض إذا لم يصل إلي المكلّف،و في موارد الشبهة الموضوعيّة كالمشكوك خمريّته مثلا يكون الحكم الواقعي التكليفي مشروطا بالعلم به،أو قيام حجّة عليه من بيّنة أو يد بناء علي أماريّتهما،فتدبّر جيّدا.

و أمّا الحكم الوضعي كالنجاسة و الملكية و نحوهما،فهو تابع للواقع علي تفصيل في محلّه،فلو شكّ في امرأة أنّها اخته من الرضاعة جاز التزوّج بها،فإن كانت اخته واقعا كان الجواز تكليفيا محضا،و أمّا الزوجيّة فلا تتحقّق بينهما.

و قد تبيّن أنّه لا فرق بين صورتي انفتاح باب العلم و انسداده،و دعوي أنّ4.

ص: 329


1- التعليقة علي الفرائد ص 74.

الأمارة المخالفة للواقع،و كذا الأصل المخالف له في الموضوعات،أعذار هي غير مسموعة للفرق بينهما و بين القطع بالخلاف من غير تقصير،فإنّه عذر عقلا بخلافهما،حيث انّ الشارع المقدّس قد أذن في مخالفة الواقع.

المبحث التاسع: في عدم حجّية ما لم يقم دليل علي حجّيته

اشارة

لا يخفي أنّ البالغ العاقل إن لم يعلم حكم عمل،فحيث انّه يعلم إجمالا بأحكام تكليفيّة و وضعيّة يجب عليه الاحتياط في الخروج عن عهدتها،فإذا اشتري شيئا بالعقد الفارسي مثلا،فيجب عليه أن لا يتصرّف في المثمن؛لاحتمال صحّة البيع شرعا،و لا الثمن لاحتمال فساد البيع،فلا بدّ له في كلّ حركة و سكون من الاحتياط و الاعتماد علي ما جعله الشارع حجّة،و ما لم يثبت حجّيته عقلا أو شرعا،لا يصحّ الاعتماد عليه في مرحلتي سقوط التكليف عن المكلّف و إثباته، و لا يجوز الاعتماد علي غير العلم إلاّ علي ما قام الدليل العلمي علي حجّيته.و يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل:في أنّ سقوط التكليف الثابت علي ذمّة المكلّف مترتّب علي امتثاله،أو علي ما يكتفي الشارع به في مقام الامتثال،و العقل الحاكم في مرحلة الامتثال لا يحكم بالخروج عن عهدة التكليف إلاّ في صورة العلم بالامتثال،أو العلم بإتيان ما اكتفي الشارع به في مقام الامتثال،و لا يحكم بكفاية الظنّ بالامتثال و نحوه،و هو واضح.

المقام الثاني:في أنّ عدم إثبات التكليف و لا تعيينه بغير العلم إلاّ ما قام الدليل العلمي علي حجّيته و اعتباره أمر واضح،فإن عمل بما لا يعلم حجّيته و كان عمله موافقا للواقع،فإن لم يقصد التعبّد و التديّن به،كان جائزا و مجزيا إن كان توصّليا، و كذا إن كان تعبّديا و حصل منه قصد التقرّب.و إن قصد التديّن به كان تشريعا،فإن

ص: 330

كان توصّليا أجزأ،و إن كان تعبّديا،ففي الاجزاء إشكال إن حصل قصد التقرّب.

و إن عمل بما لا يعلم حجّيته و كان عمله مخالفا للواقع،فإن لم يقصد التعبّد به،كان جائزا غير مجز.و إن قصد التعبّد به،كان تشريعا حراما و غير مجز،فإن لم يتبيّن موافقة عمله للواقع لم يجز الاكتفاء بما عمله.

فالكلام يقع في موضعين:الأوّل:في العمل بما لا يعلم حجيته من غير تشريع.

الثاني:في العمل به تشريعا.

الموضع الأوّل: في عدم حجّية ما لم يعلم حجيّته و عدم إجزاء العمل به إن لم يقصد التشريع

و يدلّ عليه الأدلّة الأربعة:

الأوّل:الكتاب،و نذكر بعض الآيات،منها:قوله تعالي هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (1).

و منها:قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (2).

و منها:قوله تعالي قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (3).

و منها:قوله تعالي وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (4)و غيرها.

ص: 331


1- سورة الأنعام:148.
2- الاسراء:36.
3- سورة يونس:35-36.
4- سورة النجم:28.

و هذه الآيات تدلّ علي المنع عن تعيين الأحكام بغير العلم،و عن العمل بغير العلم،حتّي فيما كانت سيرة العقلاء علي العمل به ما لم يثبت امضاؤها بخصوصها.

و دعوي دلالة هذه الآيات علي المنع عن اتّباع غير العلم بالعموم أو الاطلاق، و هما ظاهران في مدلوليهما،و دلالتهما ليست علميّة،فيستلزم من منعها عن اتّباع غير العلم المنع عن العمل بعمومها أو اطلاقها،فيلزم من وجود المنع عدمه ممنوعة.

أمّا أوّلا:فلأنّ دلالتها صارت علمية لتعدّدها و تقوّي مضمون بعضها ببعض.

و ثانيا:أنّا نعلم أنّ ظواهر الكلام حجّة؛لأنّ المحاورات الواقعة بين النبي صلّي اللّه عليه و اله و بين الناس،و كذا المحاورات الواقعة بين الأئمّة عليهم السّلام و بين الناس كانت بالظواهر،فالعمل بظاهر الألفاظ ممضي شرعا قطعا،و من الظواهر الممضاة العمومات و الاطلاقات،و هذه تمنع عن اتّباع غير العلم،و رادعة عن السير المدّعاة في غير مورد ممّا لم يثبت امضاؤها.

و بعض هذه الآيات في غير اصول الدين.

فما ذكره في الكفاية في بحث حجّية خبر الواحد،من أنّ هذه الآيات كلّها وردت إرشادا إلي عدم كفاية الظنّ في اصول الدين في غير محلّه،كما أنّ ما ذكره من أنّه لا يمكن الردع بها لاستلزامه الدور؛لأنّ الردع بها يتوقّف علي عدم تخصيص عمومها و عدم تقييد إطلاقها بالسيرة القائمة علي اعتبار خبر الثقة، و عدم تخصيص عمومها موقوف علي الردع بها.إلي آخر كلامه (1).

غير صحيح في محلّ كلامنا؛لأنّ السيرة القائمة علي العمل بالظواهر و منها العمومات و المطلقات ممضاة شرعا،فهي حجّة مخصّصة لعمومات المنع عن العمل بغير العلم،لأنّها معلومة الحجّية.8.

ص: 332


1- كفاية الاصول ص 348.

و بعبارة اخري:لنا سيرتان قد علم إمضاء إحداهما،و يشكّ في إمضاء الاخري،فالسيرة علي العمل بعموم ما دلّ علي الردع ممضاة قطعا،و سائر السير هي ممّا شكّ في اعتبارها،فهي مردوعة بهذه العمومات.

ثمّ إنّه قيل:إنّ ما جري عليه العقلاء لا يكفي في ردعهم العمومات،بل لا بدّ من الردع الخاصّ،كما ورد في القياس.

و هذا الكلام غير صحيح؛لأنّ المقصود إن كان أنّ العقلاء لا يكتفون بهذه الآيات و الأخبار الرادعة عن اتّباع غير العلم،المذكورة في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة و غيرها بعد المراجعة إليها،فلا يظنّ بهم ذلك،و إن كان أنّهم يبقون علي سيرتهم من دون المراجعة إليها،فهذا ممّا لا ينتظر منهم بعد معرفتهم أنّ شارع الاسلام له أحكام خاصّة،فلا بدّ لهم من الرجوع إلي الكتاب و الأخبار.

و أمّا القياس،فإنّه كان قد شاع في عصر المعصومين عليهم السّلام و كان يدّعي دلالة بعض الآيات عليه،فلذلك ردعوا عنه ردعا خاصّا.

الثاني:الأخبار،منها:خبر عبد الرحمن بن الحجّاج،قال:قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك،إيّاك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم (1).

الثالث:العقل،فإنّه لا ريب في تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم وروده عنه و لو كان عن جهل مع تقصير.

الرابع:الاجماع و هو معلوم.

فقد تبيّن من جميع ما ذكر أنّ العلم الاجمالي بالتكاليف لا ينحلّ إلاّ بما علم اعتباره شرعا،و هذا هو الأصل الذي يرجع إليه.0.

ص: 333


1- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 50.

الموضع الثاني: في حرمة التشريع بالعمل بما لا يعلم حجّيته

اشارة

و البحث عنه يقع في جهات:

الجهة الاولي: في ماهيّة التشريع

و هل أنّها و البدعة بمعني واحد أو أنّهما مختلفتان؟

فنقول:التشريع لغة:هو تعيين كيفيّة مسير الانسان في أعماله الفرديّة و الاجتماعيّة الاعتقاديّة و العمليّة،كما قال اللّه تبارك و تعالي: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّي بِهِ (1).و اصطلاحا عبارة عن البناء عملا علي فعل بما أنّه دين مسندا إلي الشارع المقدّس.

و البدعة لغة:هي الاختراع،كما قال اللّه تبارك و تعالي وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ (2)و اصطلاحا عبارة عن ايجاب عمل أو تحريمه لم يسبقه إذن من الشارع المقدّس،و إن لم يسنده إلي الشارع،بل لمجرّد جعله دينا يتديّن به، مثلا من صلّي النافلة جماعة،كصلاة التراويح بعنوان أنّه دين و مشروع لا بالبناء علي أنّ الشارع أمر به كان ما فعله بدعة،فإن قصد أنّ الشارع أمر بها كما أمر بسائر المندوبات كان ما فعله تشريعا.

و يحتمل أن يكون التشريع و البدعة مصداقين لمعني واحد،و هو التديّن بما لم يأمر اللّه به،كما قال اللّه تعالي: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ (3)و إطلاقه شامل للتشريع و البدعة بالمعني المذكور.

ص: 334


1- سورة الشوري:13.
2- سورة الحديد:27.
3- سورة الشوري:21.

ثمّ إنّه أنكر النراقي رحمه اللّه في العوائد أن يكون التشريع الاسناد قلبا ما ليس من الدين إلي الشارع؛لأنّ القصد ليس أمرا اختياريّا،بل هو متفرّع علي الاعتقاد،فإن حصل الاعتقاد من دليل فهو معذور،و لا يحصل الاعتقاد من غير دليل،و مجرّد تصوّر كون فعل مأمورا به ليس تشريعا.

إلي أن قال:و التحقيق أنّ كلّ فعل لم يثبت من الشرع،لا يمكن الاتيان به باعتقاد أنّه من الشرع،لكن يمكن فعله بإراءة أنّه من الشرع،أو جعله شرعا للغير، و هو تشريع و إدخال في الدين و إن لم يعتقده المشرع-بالكسر-و هذه هي البدعة (1).

أقول:الاعتقاد ليس أمرا اختياريّا،و إن كان بعض مقدّماته ربما يكون اختياريّا،لكن البناء القلبي لعله اختياري،فيبني علي مشروعيّة التكتّف في الصلاة مثلا.

و عن بعضهم أنّ التشريع هو العمل لا الاعتقاد و البناء قلبا،فمن عمل شيئا بقصد أن يكون له أتباع،أو للحكم بقاء مسندا له إلي الشرع،فهو مبدع.و من عمل شيئا من ذلك مدخلا له في الشريعة من غير قصد السراية إلي غيره،كان مشرعا في الدين،سواء كان عن علم بالمخالفة،أو جهل بسيط،أو مركّب لا يعذر فيه، و يجري حكم مؤاخذة التشريع عليه،وافق الواقع أو خالفه،و إن كان في الثاني أظهر،فمن أخذ الأحكام من الأدلّة مع عدم أهليّته،فلا يشكّ في فسقه و معصيته، و لا فرق بين ما اخذ من كتب أهل الحقّ،أو كتب أهل الباطل،و كذا المقلّد لغير القابل و الآخذ بقول الأموات من غير عذر.

فصلاة الضحي و التراويح و نحوهما من البدعة،و بيع الحصاة و الملامسة5.

ص: 335


1- عوائد الأيّام للنراقي ص 325.

و المنابذة،إن جعل عبارة عن الفعل،أو عن القول بشرط الفعل،و كذا المغارسة و جميع العقود من التشريع،و من هذا القبيل طلاق الكنايات و الثلاث دفعة أو من غير رجعة،و العول و التعصيب و نحوهما (1)انتهي.

قلت:تصوّر كون العمل مشروعا أو دينا و إخطاره بالبال ليس محرّما،لكن البناء علي أنّه دين و التديّن به،سواء أسنده إلي الشارع أو لم يسنده يكون مصداقا لقوله تعالي فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً (2)هذا إن تجرّد عن الفعل،كتديّن العامّة بعدم وجوب طواف النساء و إن لم يصدر من المتديّن به الحجّ،و لو فعل مع ذلك كان الفعل تشريعا و بدعة،هذا ما يتحصّل لي بدوا من أدلّة التشريع.

فالمحرّم شرعا أمران:الأوّل التديّن بما ليس من الدين،الثاني العمل المقصود به كونه من الدين.

الجهة الثانية: في أدلّة حرمة التشريع

و هي آيات تدلّ علي حرمة التشريع،أي:البناء علي كون حكم شرعيّا،سواء أسنده إلي الشارع أو لم يسنده،فيكون بدعة و تشريعا أيضا،و التشريع مأخوذ من هذه الآيات:

قوله تعالي أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ (3)و قوله تعالي وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَي اللّهِ الْكَذِبَ (4)و قوله تعالي فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي

ص: 336


1- كشف الغطاء 1:53.
2- سورة يونس:59.
3- سورة الشوري:21.
4- سورة النحل:116.

اَللّهِ تَفْتَرُونَ (1) و قوله تعالي وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِراءً عَلَي اللّهِ (2).

و أمّا الأخبار الدالّة علي حرمة البدعة و التشريع،فهي عدّة أخبار:

منها:ما رواه الكليني،عن علي بن إبراهيم،عن محمّد بن عيسي،عن يونس، عن بريد العجلي،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:سألته عن أدني ما يكون العبد به مشركا؟فقال:من قال للنواة إنّها حصاة و للحصاة إنّها نواة ثمّ دان به (3).

و منها:ما رواه أيضا عن علي،عن أبيه،عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر،عن عبد اللّه بن يحيي الكاهلي،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له،و أقاموا الصلاة،و آتوا الزكاة،و حجّوا البيت،و صاموا شهر رمضان،ثمّ قالوا لشيء صنعه اللّه أو صنعه النبي صلّي اللّه عليه و اله:ألاّ صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين،ثمّ تلا هذه الآية فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّي يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (4)ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:فعليكم بالتسليم (5).

و منها:ما رواه أيضا عن عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمّد بن خالد،عن أبيه،عن عبد اللّه بن يحيي،عن عبد اللّه بن مسكان،عن أبي بصير،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (6)فقال:أمّا و اللّه ما دعوهم إلي عبادة أنفسهم،و لو دعوهم إلي عبادة أنفسهم2.

ص: 337


1- سورة يونس:59.
2- سورة الأنعام:140.
3- اصول الكافي 2:397 ح 1.
4- سورة النساء:64.
5- اصول الكافي 2:398 ح 6.
6- سورة التوبة:32.

لما أجابوهم،ولكن أحلّوا لهم حراما،و حرّموا عليهم حلالا،فعبدوهم من حيث لا يشعرون (1).

و منها:ما رواه أيضا باسناده عن محمّد بن مسلم،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:

خطب أمير المؤمنين عليه السّلام الناس،فقال:أيّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، و أحكام تبتدع،يخالف فيها كتاب اللّه يتولّي فيها رجال رجالا (2).

و عقد في الجزء الثاني من البحار بابين لذلك فلاحظ،و لاحظ الباب الرابع من الجزء الثامن عشر من الوسائل في صفات القاضي،و الباب العاشر منه،إلي غير ذلك.

الجهة الثالثة: ذكر المحقّق الخراساني رحمه اللّه في تعليقة الفرائد

،أنّ التشريع موجب لاستحقاق العقاب عقلا،قال:إنّ العمل بسبب ذلك لا يتغيّر عمّا هو عليه واقعا،و لا يوجب ذلك فيه مبغوضيّة و لا حرمة مولويّة شرعيّة.

إلي أن قال:نعم يوجب إثما قلبيّا حيث إنّه بهذا البناء و الالتزام تصرّف فيما هو سلطان المولي من تشريع الأحكام،فيستحقّ بذلك ذمّا و عقابا،حيث انّه بنفسه هتك لحرمة المولي.

إلي أن قال:فالحرمة التشريعية عقلية صرفة لا شرعية كحرمة قصد المعصية؛ لما عرفت في ذلك الباب أنّ كلّ ما يوجب العقاب و الثواب بلا خطاب معه لا يكون قابلا للأمر أو النهي الشرعي،فلو ورد في الشرع فهو من باب الارشاد، و إطباق العقلاء علي ذمّ المشرع إنّما هو علي نفس البناء و الالتزام الذي هو من

ص: 338


1- اصول الكافي 2:398 ح 7.
2- اصول الكافي 1:54 ح 1.

أفعال القلب أتي بالعمل الذي هو بني علي أنّه واجب أو حرام أم لا انتهي (1).

قلت:مجرّد البناء بدون مبرز له لا مانع من كونه حراما شرعا،فإنّ أفعال النفس كالتعبّد المذكور و نحوه يمكن اتّصافها بالوجوب أو الحرمة،كصفات النفس من الحسد و الحقد و الكبر،و ظاهر الأخبار حرمة التعبّد بغير العلم متديّنا به و إن لم يعمل.

الجهة الرابعة: ينبغي أن يعلم أنّ هناك امورا محرّمة بعناوينها

و إن كانت تشريعا أيضا.

الأوّل:الاخبار عن اللّه و رسوله صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام مع العلم بعدم صدور المخبر به عنهم،أو مع الجهل به،فإنّه حرام،لقوله تعالي أَ تَقُولُونَ عَلَي اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)و قوله تعالي آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (3).

الثاني:الافتاء بأن يبيّن وظيفة الناس شرعا،فإنّه حرام مع العلم بعدم كونها وظيفة أو الجهل بها،و إنّما يجوز الافتاء مع العلم بصحّة المضمون،أو قيام العلمي علي صحّته.

يدلّ عليه أخبار،كصحيح أبي عبيدة الحذّاء،قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب،و لحقه وزر من عمل بفتياه (4).

و خبر عبيدة السلماني (5).

ص: 339


1- التعليقة علي الفرائد ص 78.
2- سورة يونس:68.
3- سورة يونس:59.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:145-146 ب 1 ح 40 الطبعة الأخيرة.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41 الطبعة الأخيرة.

و خبر مفضّل بن يزيد (1)،و حسن عبد الرحمن بن الحجّاج (2)،و خبره الآخر (3)،إلي غير ذلك من الأخبار.

الثالث:استحلال ما حرّمه اللّه،أو إباحة ما أوجبه اللّه،فإنّه يوجب الارتداد و الكفر،و في كتاب الصوم في رواية:إن أفطر يقال له:هل في إفطارك إثم،فإن قال:لا،قتل (4).

و في حسن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الاسلام؟و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين،أم له مدّة و انقطاع؟فقال:من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الاسلام و عذّب أشدّ العذاب (5).و خبر مسعدة (6).

الرابع:عدم التسليم قلبا لأحكام اللّه،يدلّ عليه حسن الكاهلي المتقدّم (7).

الجهة الخامسة: في ما لا دليل علي حرمته

فهو أن يعمل بما يظنّ به من الوجوب أو الحرمة بما هو مظنون من دون البناء علي وجوبه أو حرمته.

و بعبارة اخري:مجرّد العمل بالظنّ بدون التشريع و الابتداع،و كذا فعل ما

ص: 340


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 43 الطبعة الأخيرة.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:147 ب 1 ح 46 الطبعة الأخيرة.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 49 و 50 الطبعة الأخيرة.
4- جامع أحاديث الشيعة 9:116 ب 2 ح 20.
5- اصول الكافي 2:285 ح 23.
6- اصول الكافي 2:280 ح 10.
7- اصول الكافي 2:398 ح 6.

يحتمل وجوبه،فإن كان بقصد الاحتياط فلا ريب في رجحانه،و إن لم يكن بقصد الاحتياط،فلا دليل علي حرمته،فإن طابق الواقع و كان الفعل توصّليا صحّ،و إن طابقه و تحقّق منه قصد القربة في العبادات صحّ كذلك.

الجهة السادسة: في ما يتوهّم أنّه من التشريع ممّا لا يمكن أن يقع

و هو أن يعمل عملا يعلم أنّه حرام أو مباح بقصد أمر الشارع به،أي:بداعي أمره،و كذا إن جهل ذلك،فإنّه لا يمكن تحقّقه مع الالتفات إلي جهله،فهو نظير أن يقصد بشرب الماء أكل الخبز.

نعم إن كان عالما بإباحة شيء،لكن كان معتقدا بجواز الاتيان به بقصد الوجوب لاعتقاده بجوازه،و كان هذا الاعتقاد حاصلا له عن جهل قصورا أو تقصيرا،أمكن صدور الفعل منه بقصد الأمر به.

المبحث العاشر: في حجّية ظواهر الكتاب و السنّة

اشارة

لا يخفي أنّ نصوص الكتاب و السنّة الثابتة عن المعصومين عليهم السّلام حجّة و لا ريب فيها.و أمّا ظواهرهما مع احراز الظهور،سواء كان اللفظ مستعملا في المعني الحقيقي أو في غيره،ففي حجّيتها خلاف،و كذا إذا كان المعني الحقيقي و المجازي معلومين و شكّ في ظهور اللفظ،ففي الاعتماد علي أصالة الحقيقة خلاف،فيقع الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: في حجّية ظواهر السنّة مع احراز الظهور

اشارة

و لا ريب في كون الظاهر مع إحرازه حجّة عند جميع الناس في جميع الأماكن و الأعصار،و من المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده

ص: 341

للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم،هذا في الأحكام الشرعيّة،ولكن الاشكال في ظواهر الأخبار من وجهين:

الوجه الأوّل:كيف يمكن الوصول إلي إحراز ظواهرها مع التشابه و الغموض و الاختلاف فيها،كما يستفاد ممّا روي عن الامام الرضا عليه السّلام،قال:من ردّ متشابه القرآن إلي محكمه،فقد هدي إلي صراط مستقيم،ثمّ قال عليه السّلام:إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن،و متشابها كمتشابه القرآن،فردّوا متشابهها إلي محكمها الحديث (1).

و في خبر إبراهيم الكرخي:و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا الحديث (2).و معاريض الكلام رموزه و إشاراته.

و في خبر الأحول المروي في بصائر الدرجات عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا،إنّ كلامنا لينصرف إلي سبعين وجها (3).

و مثله خبر داود بن فرقد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا،إنّ الكلمة لتنصرف علي وجوه،فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب (4).

و خبر زيد الزرّاد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:يا بنيّ اعرف منازل الشيعة علي قدر روايتهم و معرفتهم،فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، و بالدرايات يعلو المؤمن إلي أقصي درجات الايمان،إنّي نظرت في كتاب7.

ص: 342


1- وسائل الشيعة 27:115 ح 22 الطبعة الأخيرة.
2- بحار الأنوار 2:184 ح 5.
3- بحار الأنوار 2:199 ح 57 عن بصائر الدرجات.
4- وسائل الشيعة 27:117 ح 27.

لعلي عليه السّلام فوجدت في الكتاب:إنّ قيمة كلّ امريء و قدره معرفته،إنّ اللّه يحاسب الناس علي قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا (1).

و خبر عبد الأعلي،قال:دخلت أنا و علي بن حنظلة علي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فسأله علي بن حنظلة عن مسألة فأجاب فيها،فقال علي:فإن كان كذا و كذا، فأجابه فيها بوجه آخر،قال:فإن كان كذا و كذا،فأجابه بوجه آخر حتّي أجابه فيها بأربعة وجوه،فالتفت علي بن حنظلة،و قال:يا أبا محمّد قد أحكمناه،فسمعه أبو عبد اللّه عليه السّلام،فقال:لا تقل هكذا يا أبا الحسن فإنّك رجل ورع،إنّ من الأشياء أشياء ضيّقة،و ليس تجري إلاّ علي وجه واحد،منها وقت الجمعة ليس إلاّ واحد حين تزول الشمس،و من الأشياء أشياء موسّعة تجري علي وجوه كثيرة و هذا منها،إنّ له عندي سبعين وجها (2).و غير ذلك من الأخبار.

و ذكر ذلك الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:إنّ الانصاف يقتضي الظنّ بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا إلاّ قليلا في غاية القلّة،لمن اطّلع علي كيفية تنقيح الأخبار و ضبطها.

ثمّ قال:الذي يقتضيه النظر هو أن يقال:إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار:إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار،أو نقلها بالمعني،أو منفصلة مختفية من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين،أو مقالية اختفت بالانطماس.و إمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الامام عليه السّلام من تقيّة علي ما اخترناه علي وجه التورية،أو غير التقيّة من المصالح الاخر.

و إلي ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدّس سرّه في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع0.

ص: 343


1- بحار الأنوار 2:184 ح 4.
2- بحار الأنوار 2:197 ح 50.

بين متعارضات الأخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلي معني بعيد.

و ربّما يظهر من الأخبار محامل و تأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ رحمه اللّه تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من المحامل غير بعيد عن مراد الامام عليه السّلام و إن بعدت عن ظاهر الكلام،إلاّ أن يظهر فيه قرينة عليها إلي آخر كلامه (1).

و قال في كشف القناع:انّ كلام الصادقين عليهما السّلام و كلام سائر الأئمّة عليهم السّلام كان ككلام اللّه و كلام رسوله صلّي اللّه عليه و اله فيه عامّ و خاصّ،و ظاهر و مؤوّل و مطلق و مقيّد و محكم و متشابه و مبيّن و مفصّل،لا يصل إلي حقيقة معناه إلاّ أوحدي من الناس، فكان كما قال الصدوق:إنّ لكلامهم وجوها و معاني لا يعقلها إلاّ العالمون،و من ثمّ قال الصادق عليه السّلام لأصحابه:حديث تدريه خير من ألف ترويه،و لا يكون الرجل منكم فقيها حتّي يعرف معاريض كلامنا،فإنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف علي سبعين وجها لنا من جميعها المخرج.

و يقرب منه أخبار اخر تنبيء عن غموض كلامهم و صعوبته علي معظم أصحابهم أو جميعهم،و احتياجهم إلي التأديب حتّي يتفقّهوا في دينهم.

فربّ واحد منهم يسمع بعض كلماتهم دون بعض،و لا يستقصي جميع ما روي عنهم فيما تعلّق به الغرض:إمّا لعدم تمكّنه من ذلك،أو عدم تفطّنه،أو لتسامحه و قلّة اعتنائه به،فيشتبه عليه الأمر،و ربّ آخر كانت فطنته قاصرة عن فهم دقائق مطالبهم و حقائق مقاصدهم.

و إنّما ألقوا إليه بعض أحاديثهم من باب ربّ حامل فقه ليس بفقيه،و ربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه،و ربّما ينقل ما سمعه أو بلغه لغيره بالمعني بحسب فهمه،م.

ص: 344


1- فرائد الاصول ص 810 طبع قم.

فيوقع غيره في الغلط و الاشتباه أيضا.

و ربّ آخر كما قال الباقر عليه السّلام:إنّ لنا أوعية نملؤها علما و حكما و ليست لها بأهل،فما نملؤها إلاّ لتنقل إلي شيعتنا،انظروا إلي ما في الأوعية فخذوها،ثمّ صفوها من الكدورة تأخذوا منها بيضاء نقيّة صافية،و ايّاكم و الأوعية فإنّها وعاء سوء فتنكبوها.

و قال الصادق عليه السّلام:ذهب العلم و بقي غبرات العلم في أوعية سوء فاحذروا باطنها،فإنّ في باطنها الهلاك،و عليكم بظاهرها فإنّ في ظاهرها النجاة.

و لا ريب في صعوبة تمييز أوعية السوء من المحمودة و الصافية من الكدورة، و الظواهر المطلوبة المنتخبة من البواطن المهلكة،فيؤدّي ذلك كثيرا إلي اشتباه الأمر علي اولي العلم و الفضل فضلا عن غيرهم (1)انتهي.

و قال في موضع آخر:و في خبر أبي بصير عنه عليه السّلام،قال:رحم اللّه عبدا أحببنا إلي الناس و لم يبغضنا إليهم،أما و اللّه لو يروون محاسن كلامنا لكانوا أعزّ،و ما استطاع أحد أن يتعلّق عليهم بشيء،لكن أحدهم يسمع الكلمة فيحطّ إليها عشرا.

إلي غير ذلك من الأخبار التي ذكرت في محالّها،و لو لا الضرورة التي أدّت إلي ايراد جملة منها هنا لما ذكرناها،و لرأينا الاعراض و الاغماض عنها أولي و أحري،كما لا يخفي،و هذا تكشّف عمّا ذكرنا من وجوه شتّي،و قد عاضد كلامنا أخبار اخر في معناه،و لذا أعرضنا عن التعرّض لأحوال أسانيدها،و إن كان كثير منها صحيحا أو قويّا.

ثمّ تسافل الأمر بعد الصادق عليه السّلام إلي زمان الغيبة ثمّ إلي زماننا،فكان كما قال الباقر عليه السّلام:كأنّي بدينكم هذا لا يزال مولّيا يفحص بدمه،ثمّ لا يردّ عليكم إلاّ رجل1.

ص: 345


1- كشف القناع ص 70-71.

منّا أهل البيت،و ذلك لاشتداد التقيّة في أزمنة سائر الأئمّة و حبس الخلفاء بعضهم مدّة طويلة و بعد العهد عمّن كان قبلهم،و كذلك عنهم بالنسبة إلي من بعدهم،فكان عمل الشيعة غالبا بما بلغهم من الأخبار عن الصادقين عليهما السّلام أو غيرهما من الأئمّة عليهم السّلام علي ما فيها من الوضع و الخطأ و التحريف و التصحيف و التقطيع و الغموض و التأويل و التعارض و الاخلال بقرائن الحال و المقال كما هو المعلوم، و خلّط كثير من الرواة من أصحابنا بين أخبار العامّة و أخبار الخاصّة و روايتهم أحاديث كلّ من الفريقين عن الآخر (1)انتهي.

أقول:ينبغي التثبّت و مراعاة القرائن،و لعلّ منها مراعاة زمان صدور الأخبار، و ملاحظة المسائل المشابهة للمسألة المطروحة عند العامّة.

الوجه الثاني لعدم حجيّة ظواهر الأخبار:أنّه يستظهر بعض الفقهاء منها خلاف ما يستظهره الآخر،و لذا يختلفون في الفتوي،فيكشف عن أنّه ليس بظاهر.

و الجواب:أنّه يعتبر-مضافا إلي مراعاة ما ذكر في الوجه الأوّل-أن يكون حسن الطريقة و السليقة،متتبّعا لموارد الاستعمالات،فما يبدو من ظواهر الأخبار ليس بحجّة إلاّ بعد الاطّلاع الكامل علي معاني الألفاظ و معاني هيئاتها و تمييز الظاهر من غيره،و الممارسة للأخبار،و التتبّع التامّ لمواردها،و إخلاء الذهن عن ملابساتها،فمثلا يستظهر فقيه من غسل الثوب اعتبار العصر في تحقّق مفهومه، و يستظهر فقيه آخر عدم اعتباره.

فهذه الاستظهارات لا بدّ من أن تكون حاصلة له بعد التتبّع في اللغة و المحاورات العربية،و الاطّلاع علي الأخبار و معانيها و زمان صدورها و محلّه، و الاطّلاع علي القرائن الحالية و المقالية و الأشباه و النظائر و جمع الأخبار،و مثلا9.

ص: 346


1- كشف القناع ص 79.

آخر:يستظهر من قوله صلّي اللّه عليه و اله«لا ضرر و لا ضرار»كلّ واحد من الفقهاء معني غير ما يستظهره الآخر،فأيّ دليل علي حجّية هذه الاستظهارات،ففي أمثال ذلك لا بدّ من الأخذ بالقدر الظاهر من الدليل و ترك تلك التكلّفات.

و قال في وقاية الأذهان:و هنا أمر مهمّ لا بدّ من التنبّه له،و هو أنّ الظهور الذي عرفت حجّيته هو الذي يفهمه أهل تلك اللغة من اللفظ،أو من زاولها و قتلها خبرا، حتّي عاد كأحدهم،بل كاد أن يعدّ منهم،فلا بدّ لمن يروم استنباط الأحكام من الكتاب و السنّة من ممارسة هذه اللغة الشريفة،و معرفة عوائد أهلها و درس أخلاقها و طبايعها،و الاطّلاع علي أيّامها و مذاهبها في جاهليّتها و إسلامها إلي آخر ما أفاده (1).

و الغرض أنّه لا بدّ من التثبّت و تتبّع الموارد حتّي يعرف لحن خطابات الشارع.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا ذكر أنّ منشأ اختلاف فتاوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام ليس منحصرا في أخذ بعضهم بالخبر الصادر لبيان الحكم الواقعي،و أخذ الآخر بالخبر الصادر تقيّة،بل ربّما كان منشأه اختلافهم في فهم الأخبار و كيفيّة الجمع بينها،فإذا كان هذا حال أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،فالعلماء الذين لم يدركوا الأئمّة عليهم السّلام و خفي عليهم قرائن الحال يختلفون عادة في الاستظهار من الأخبار.

تتميم:

هل العبرة بظواهر الكلام في زمان صدور الأخبار،أي:ما يكون اللفظ ظاهرا فيه في زمان صدورها،أو العبرة بظهور الكلام علي حسب ما يفهم منه في كلّ عصر؟الظاهر أنّ المناط هو الظهور في عصر الصدور؛لأنّ الشارع لم يبدع طريقا غير ما هو المتعارف عند أهل العرف،و هو التكلّم بالظواهر عند المخاطبين

ص: 347


1- وقاية الأذهان ص 514-515.

الحاصلة من المعني اللغوي و العرفي و القرائن الحالية و المقالية في حال التخاطب.

مثلا ما دلّ علي جواز السجود علي القرطاس،منزّل علي القرطاس المتداول حال صدور الأخبار،فإذا كان القرطاس المتداول في زمان صدور الأخبار متّخذا ممّا يصحّ السجود عليه،فلا يصحّ التمسّك بإطلاق ما صدق عليه القرطاس في عصرنا؛لأنّ المخاطبين لم يفهموا من اللفظ غير ذلك،و لم يكن ظاهرا إلاّ فيه، و حيث لم يوجد في زمانه إلاّ القرطاس المتّخذ ممّا يصحّ السجود عليه،فلا يحتاج التقييد إلي ذكر القيد.

و تقدّم في بحث العامّ و الخاصّ أنّه لو وجد عقد في زماننا لم يكن موجودا في زمان صدور العموم،و شكّ في صحّته و فساده،لا يجوز التمسّك بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّه لو فرض أنّ هذا العقد لم يكن مرادا من العموم لما احتاج إلي التخصيص؛لعدم وجوده في ذلك الزمان.

ولكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في ردّ صاحب القوانين أنّ المناط فهم أهل كلّ عصر؛لأنّ احتمال خلاف ما يكون ظاهرا عندهم ناش عن احتمال وجود قرينة حالية قد خفيت،و هو مدفوع بأصالة عدم القرينة.

و حاصل ما أفاده أنّ إجماع العلماء و أهل اللسان علي حجّية الظاهر،فإنّ أهل اللسان إذا نظروا إلي كلام صادر من متكلّم إلي مخاطب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها.الي آخر ما أفاده (1).

أقول:سيأتي إن شاء اللّه في مبحث التعادل و التراجيح أنّ من جملة علل اختلاف الأخبار خفاء القرائن الحالية و المقالية،فينبغي مراعاته.ن.

ص: 348


1- لاحظ فرائد الاصول للشيخ الأنصاري رحمه اللّه ص 810 طبع جامعة المدرّسين.

ثمّ لو سلّم أنّ أهل اللسان و العلماء يفعلون ذلك،فإن كانت سيرة ممضاة شرعا و إلاّ فلا يجوز الاعتماد علي ما لا يوجب العلم،و إثبات السيرة الممضاة مع اختلاف الأخبار و خفاء القرائن الحالية و المقالية مشكل جدّا.

ثمّ الظاهر أنّ مراد الشيخ رحمه اللّه فهم كلّ عصر إن لم يعلم مخالفته لفهم المخاطبين.

الموضع الثاني: في حجّية ظواهر الكتاب العزيز

لا يخفي أنّ آيات الكتاب علي أنواع:

النوع الأوّل:ما يكون نصّا في معناه،كالآيات الواردة في التوحيد و صفات اللّه تعالي،و رسالة الأنبياء و الجنّة و النار و نحوها،و لا شكّ في صحّة الاستدلال بها علي متضمّنها،و هذه الآيات من المحكمات.

النوع الثاني:ما يكون ظاهرا في معناه،يعرفه كلّ من عرف اللغة التي خوطب بها،أو كان ظهوره حاصلا من تأيّد بعض الآيات ببعض بحيث صار ظهوره كالنصّ،و لم يحتمل غير المعني الذي هو ظاهر فيه،و لا ينبغي الريب في حجّيته، لكن يشترط في حجّية الظاهر عدم وجود حجّة علي خلافه من ناحية المعصومين عليهم السّلام،و هذا النوع أيضا من المحكم.

النوع الثالث:ما هو متشابه كبعض الآيات الظاهرة في الجبر و نحوه،أو مجمل مثل ما دلّ علي وجوب الصلاة،فإنّ مفهوم الصلاة مجمل يبيّن كيفيّته المعصوم عليه السّلام.

النوع الرابع:ما كان اللفظ محتملا للمعنيين أو أكثر،و تترجّح بعض هذه المعاني عند الناظر إليه بحسب ذوقه أو فهمه المعني اللغوي أو العرفي،فهل استظهاره معني من هذه المعاني من الآية من دون تأيّده بالآيات الاخر و لا بتفسير المعصومين عليهم السّلام و لا العلم بأنّ المتفاهم عند الجميع و المتبادر عندهم هذا المعني

ص: 349

حجّة أم لا؟و ينبغي أن يكون محلّ النزاع حجّية مثل هذا الظهور،فللنافين امور:

أحدها:أنّه حيث لم يعلم ظهور اللفظ،و كان ظهوره مظنونا كان الاعتماد عليه متابعة لغير العلم،و هو ممنوع بالآيات و الأخبار.

ثانيها:الأخبار الدالّة علي أنّ ما لم يكن من المحكمات ممّا يتطرّق فيه الاحتمال ينحصر علمه بعلماء آل محمّد صلّي اللّه عليه و اله،يعني الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و هو خبر عبيدة السلماني،قال:سمعت عليّا عليه السّلام يقول:يا أيّها الناس اتّقوا اللّه و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون،فإنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله قد قال قولا آل منه إلي غيره،و قد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه،فقام عبيدة و علقمة و الأسود و اناس منهم فقالوا:يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبّرنا به في المصحف،قال:يسأل عن ذلك علماء آل محمّد (1).و لاحظ خبر زياد بن أبي رجاء (2).

ثالثها:ما دلّ علي أنّ في القرآن ناسخا و منسوخا و عامّا و خاصّا و محكما و متشابها،في حديث طويل رواه في الكافي،عن سليم بن قيس (3).

و ما ورد في حديث منصور بن حازم،من أنّ عليّا عليه السّلام قيّم القرآن و يعرف كلّه، و لا يعرف كلّه غيره (4).

و في حديث يونس أنّ عند الأئمّة علم ما اختلفت الامّة من كتاب اللّه (5).

و غيرها من الأخبار الدالّة علي اختصاص علم ذلك كلّه بالمعصومين عليهم السّلام، و لا يجوز لغيرهم التفسير بالرأي.4.

ص: 350


1- جامع أحاديث الشيعة 1:146 ب 1 ح 41.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:149 ح 55.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:196 ب 4 ح 62.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:200 ب 4 ح 63.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:206 ب 4 ح 74.

و المستفاد من جميع ذلك أنّ الكتاب المجيد مشتمل علي جميع الأحكام الشرعيّة،و أنّه يحتاج إلي بيان المعصوم،فما كان منه واضحا دلالته نصّا في مدلوله،أو ظاهرا لا يحتمل الخلاف و إن كان بواسطة تأيّد بعض الظواهر ببعض، فهو من المحكم،و ما عداه فلا يجوز ترجيح أحد الاحتمالات بالاستظهارات و الظنون خصوصا ما يعمل منها لأجل تحديد المعاني اللغوية و نحوها.

هذا مضافا إلي أنّ القرائن الحاليّة الموجودة في زمان نزول الآيات و مكانه قد خفيت علينا؛لأنّه لم يصل إلينا شأن نزول الآيات بطرق صحيحة.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر أخبار المنع عن تفسير القرآن بالرأي:

و الجواب أنّها لا تدلّ علي المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعني بعد الفحص عن نسخها و تخصيصها و إرادة خلاف ظاهرها في الأخبار.

إلي أن قال:فالمراد بالتفسير بالرأي إمّا حمل اللفظ علي خلاف ظاهره،أو أحد احتماليه،لرجحان في نظره القاصر و عقله الفاتر،ثمّ استشهد له بحديث و قال:و إمّا الحمل علي ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفيّة و اللغويّة من دون تأمّل في الأدلّة العقليّة،و من دون تتبّع في القرائن النقليّة،مثل الآيات الاخر الدالّة علي خلاف هذا المعني،و الأخبار الواردة في بيان المراد منها،و تعيين ناسخها من منسوخها.انتهي موضع الحاجة (1).

و يمكن الاستدلال للقول بالحجّية بأخبار:

منها:خبر الثقلين.و فيه أنّه يدلّ علي أنّهما لا يفترقان،و أنّه لا بدّ من التمسّك بهما،ففي نصوص القرآن و ظاهره الذي لا يحتمل الخلاف يؤخذ به،و في ظواهره المحتملة للخلاف يرجع إلي العترة،و بالجملة لو لم يدلّ علي العدم فلا يدلّ علي7.

ص: 351


1- فرائد الاصول ص 57.

الحجّية.

و منها:ما دلّ علي أنّ ما خالف الكتاب فهو مردود،فإنّه يدلّ علي حجّية ظاهر الكتاب؛لأنّه يصدق علي الخبر المخالف لظاهر القرآن أنّه مخالف له.و فيه أنّه ليس في مقام بيان أنّ كلّ ما يستظهره كلّ شخص فهو حجّة.

و منها:ما دلّ علي ترجيح الخبر الموافق للكتاب علي مخالفه.و فيه ما تقدّم.

و منها:ما في خبر زرارة من سؤاله الامام عليه السّلام عن أنّه من أين عرف أنّ المسح ببعض الرأس؟فقال:لمكان الباء.

و فيه أنّه لو كان ذلك أمرا مسلّما عرفيا لم يكن لسؤاله وجه،فنفس السؤال يدلّ علي اختصاص فهم الكتاب بالمعصوم عليه السّلام.

و منها:ما ورد من أنّ الشرط المخالف للكتاب لا يكون نافذا.

و فيه أنّ المتيقّن منه هو الشرط المخالف لدلالة الكتاب قطعا،لا ما يحتمل فيه وجوه،فتأمّل.

و منها:ما ورد من الاستشهاد بالآيات في الروايات.

و فيه أنّ دلالتها واضحة،فهي من المحكمات،و من جملة الروايات ما ذكره في مقدّمات جامع أحاديث الشيعة،فراجع (1).

نذكر رواية واحدة،و هو ما رواه ابن محبوب،عن محمّد بن الحسين،عن ذبيان،عن داود بن الحصين،عن عمر بن حنظلة،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل قال لآخر:اخطب لي فلانة،فما فعلت من شيء ممّا قاولت من صداق،أو ضمنت من شيء أو شرطت،فذلك رضا لي و هو لازم لي،و لم يشهد علي ذلك،فذهب فخطب له و بذل عنه الصداق و غير ذلك ممّا طالبوه و سألوه،فلمّا رجع إليه أنكر2.

ص: 352


1- جامع أحاديث الشيعة 1:ب 1 ح 11 و ح 12 و ح 44 و ح 45 و ح 52.

ذلك كلّه،قال:يغرم لها نصف الصداق عنه،و ذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها،فلمّا أن لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له حلّ لها أن تتزوّج و لا يحلّ للأوّل فيما بينه و بين اللّه إلاّ أن يطلّقها؛لأنّ اللّه تعالي يقول: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فإن لم يفعل فإنّه مأثوم فيما بينه و بين اللّه جلّ و عزّ،و كان الحكم الظاهر حكم الاسلام قد أباح اللّه لها أن تتزوّج (1).

و لا يخفي أنّ الآية ظاهرة في معناها بحيث لا يحتمل الخلاف.

و الانصاف عدم الدليل علي حجّية استظهار كلّ مستظهر،بل لا بدّ من التثبّت و التتبّع،بل لا يكتفي بقطعه بظهور اللفظ في معناه إن لم يحصل من ممارسة ما هو دخيل في فهم الظهور.

الموضع الثالث: إذا علم ظهور اللفظ عند المخاطبين

،فلا فرق في حجيّته بين من قصد إفهامه،و بين من لم يقصد إفهامه،للسيرة القطعيّة الممضاة شرعا،و لعلّ من فصّل بينهما أراد أنّه ربّما يكون قرينة حاليّة يعرفها من قصد إفهامه،خفيت علي من لم يقصد إفهامه.و أمّا مع إحراز عدم القرينة الصارفة لظاهر اللفظ،فهو حجّة علي من لم يقصد إفهامه أيضا.

و الحاصل أنّ من لم يقصد إفهامه إن كان من جميع الجهات كمن قصد إفهامه فالظاهر حجّة عليه.و أمّا إن احتمل خصوصيّة في من قصد إفهامه،أو قرينة حاليّة بينهما،فلا وجه لحجّيته علي غير من قصد إفهامه و لا أقلّ من الشكّ فيها،و سيأتي في بيان علل اختلاف الأخبار ماله نفع.

ص: 353


1- تهذيب الأحكام 6:213-214 ح 3.

الموضع الرابع: إذا أحرز ظهور اللفظ فهل يعتبر الظن بالمراد أو لا يعتبر؟

الظاهر عدم الاعتبار.

و هل يضر الظن بأنّه غير مراد أو لا؟وجوه:

الأوّل:التفصيل بين ما كان بين الموالي و العبيد فلا يضرّ الظنّ بأنّه غير مراد؛ لأنّه في مقام الاحتجاج يحتجّ العبد علي المولي بظاهر لفظه،و كذا المولي علي العبد،و بين ما كان المقصود من الأخذ بالظاهر إدراك الواقع.

فلو أنّ الطبيب وصف دواء للمريض،و ظنّ أنّه لا يريد الاطلاق،بل يريد كون الدواء في وقت خاصّ أو علي صفة خاصّة مثلا،ففي مثل ذلك يضرّ الظنّ بالعدم، فإنّه لا بناء من العقلاء علي الأخذ به،لا أقلّ من الشكّ في بنائهم.

الثاني:التفصيل بين الأمور التي يمكن الاحتياط فيها،و بين غيرها ممّا لا يمكن الاحتياط فيها،فيضرّ الظنّ بالعدم في الأوّل.

الثالث:التفصيل بين الظنّ بالعدم الحاصل من تعارض الأدلّة و غيره،بناء علي التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلي كلّ ما يوجب القرب إلي الواقع،و منه الظنّ بأقربية أحدهما.

كالجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل أحدهما علي الاستحباب،فإنّه في حدّ ذاته أقرب من الحمل علي التقيّة الذي هو في الحقيقة بحكم الطرح،ولكنّه في غير ما يكون احتمال التقيّة فيه أقوي،فإنّ الحمل علي التقيّة حينئذ أقرب إلي الواقع من الحمل علي الاستحباب.

أقول:سيأتي الكلام في تعارض الخبرين،و لا يبعد التفصيل الأوّل.

الموضع الخامس: في منشأ الشك في إرادة ظهور اللفظ في المعني

إذا كان اللفظ ظاهرا في معني في نفسه و شكّ في إرادة ظهوره،فمنشأ الشكّ امور:

ص: 354

أحدها:احتمال غفلة المتكلّم عن نصب القرينة،أو غفلة السامع عن سماع القرينة،أو غفلة الواسطة في نقلها،و في جميع ذلك بناء العقلاء الممضي شرعا علي عدم الاعتناء باحتمال الغفلة،بل البناء علي ما هو الظاهر،إلاّ إذا كان احتمال الغفلة قويّا،فلم يثبت بناؤهم،بل المتيقّن منه كون احتمال الغفلة احتمالا غير معتني به،و هذا كلّه مع إحراز كون المتكلّم و الوسائط ضابطين،و مع عدمه فلا بناء، و مع الشكّ يشكل.

ثانيها:احتمال قرينيّة الموجود،كالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة،أو اقتران حالة مخصوصة احتمل دخلها في المطلوب،كحضور المعصوم عليه السّلام في وجوب صلاة الجمعة،فلا بناء من العقلاء علي عدم قرينيّة الموجود،لا أقل من الشكّ في بنائهم.و لا دليل علي حجّية أصالة الحقيقة من باب التعبّد.

ثالثها:احتمال وجود قرينة حاليّة مثلا اعتمد عليها المتكلّم،أو لفظية لم تصل إلينا.

قال في الكفاية:لا خلاف في أنّ الأصل عدمها،لكن الظاهر أنّه معه يبني علي المعني الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء،لا أنّه يبني عليه بعد البناء علي عدمها كما لا يخفي،فافهم (1).

قلت:يظهر منهم أنّه يبني علي أصالة عدم القرينة،و أنّها من الاصول العقلائية، ولكن للمناقشة في ذلك مجال،فإنّه لم يثبت ذلك إلاّ إذا كان الاحتمال ضعيفا لا يعتني به.

أمّا إذا كان احتمال اعتماد المتكلّم علي قرينة حالية قويا،فلم يثبت حجّية ظهور الكلام،و كذلك إن كان احتمال عدم وصول القرينة قويّا،و لذا يشكل الأمر9.

ص: 355


1- كفاية الاصول ص 329.

في حجّية ظواهر بعض الأخبار؛لأنّ أصالة عدم غفلة الراوي لا تجري فيما لم يحرز كونه ضابطا،و كذا أصالة عدم السقط و نحوها من الاصول العدميّة لا تجري في الأخبار الواصلة إلينا لتطاول الأزمنة و اختلاف نسخ الأخبار و نحوها،بل لا بدّ من الاحتياط.

مثلا لو كان عامّ في خبر،و كان خبر آخر مخصّصا له علي نسخة،و لم يكن مخصّصا له علي نسخة اخري،لم يجر في أمثال ذلك أصالة العموم،أي:أصالة عدم القرينة.و الحاصل أنّه لا بدّ من ملاحظة الموارد في أخبارنا لابتلائها بامور خرجت عن تحت هذا البناء،لكن إذا كان عامّ أو غيره،و لم نجد قرينة علي الخلاف بعد الفحص و التتبّع،و احتمل سقوطها و كونها في الكتب التي فقدت من الرواة أو احرقت،كان اللازم الأخذ بالعامّ؛لأنّه لا تكليف بما لم يصل،فتأمّل فإنّ مراعاة الاحتياط سبيل النجاة.

الموضع السادس: في حجية ظهور اللفظ في معناه

اشارة

إذا علم أو اطمئنّ بظهور اللفظ في معناه فهو حجّة،و إذا ظنّ ظهور اللفظ،فلا دليل علي حجّيته،و في حجّية قول اللغوي و عدمها،و التفصيل وجوه و احتمالات:

أحدها:أنّه حجّة مطلقا،و إن كان قول واحد فاسق.

ثانيها:عدمها مطلقا.

ثالثها:التفصيل بين تحقّق شرائط الشهادة من العدد و العدالة و بين عدمه.

رابعها:التفصيل بين كونه ثقة أخبر عن حسّ أو قريب منه و بين غيره.

خامسها:التفصيل بين دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها و بين غيرهما.

و الظاهر عدم الحجّية مطلقا ما لم يحصل العلم-أي:سكون النفس-من قولهم،إلاّ إذا كانا عدلين أخبرا عن حسّ أو قريب منه،بناء علي عموم حجّية البيّنة،و هو محلّ إشكال.

ص: 356

استدلّ للأوّل أي لحجّية قولهم بوجهين:

الأوّل:سيرة العقلاء علي الرجوع إلي أهل الخبرة،قال الشيخ في الفرائد:قال الفاضل السبزواري فيما حكي عنه في هذا المقام ما هذا لفظه:صحّة المراجعة إلي أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر و زمان إلي آخر ما ذكره (1).

و قد يؤيّد ذلك بأنّه ثبت شرعا إمضاء هذا البناء العقلائي في خصوص الرجوع إلي أهل اللغة،فإنّ الخليل قد ألّف كتاب العين في اللغة و كان في عصر الأئمّة عليهم السّلام،و هكذا كان سيبويه و الكسائي و أضرابهم من علماء أهل اللغة في عصر الأئمّة عليهم السّلام و يراجع إليهم.و الشيخ الطوسي حكي عن ابن دريد عن أبي عبيدة معني الكعب،ثمّ قال:و قوله حجّة في اللغة (2).

و فيه أوّلا:أنّهم ليسوا أهل الخبرة في تمييز سعة المفاهيم وضيقها،أو تمييز المعني الحقيقي عن المعني المجازي فيما إذا تعدّد المعني المستعمل فيه،و ذلك لأنّهم و إن كانوا ربّما يستندون إلي سماع المعني من الأعرابي في البادية،لكن ليس ذلك ديدنهم غالبا،فراجع تهذيب اللغة و غيره تجد صدق ذلك.

نعم في بيان أصل المعني في الجملة و معاني اللغات الواضحة لا إشكال في صحّة المراجعة إليهم،مثل معني الماء و الخبز و الذهاب و المجيء،و لذا تري أنّ من أراد تعلّم اللغة العربية أو غيرها يرجع إلي كتب تلك اللغة و يحصل له العلم من ذلك،و هذه الموارد خارجة عن محلّ النزاع،و محلّ النزاع هو تشخيص سعة مفهوم الصعيد مثلا و الغنيمة و أمثال ذلك.و أمّا أصل المعني في الجملة،فهو ممّا لا إشكال في ثبوته بكلامهم،و كذا في مثل بيان معاني مفردات الأحاديث الأخلاقية6.

ص: 357


1- فرائد الاصول 75 طبع قم.
2- تهذيب الأحكام 1:186.

أو التاريخ و نحوهما ممّا لا يترتّب عليه آثار شرعية.

و أجاب عن هذا الاشكال في وقاية الاصول،قال:و أطرف من هذا الباب منع كون أهل اللغة أهل الخبرة بها،و يقال لهذا المانع هل هذه الصنعة ابتليت من بين سائر الصنائع بفقد أهل الخبرة بها،أو أنّ أهلها غير أهلها إلي آخر ما ذكره فراجع (1).

قلت:لا ننكر كونهم أهل الخبرة في الجملة،ولكن اطّلاعهم علي سعة المفاهيم وضيقها أو كون المعاني المتعدّدة التي لبعض الألفاظ هي موارد الاستعمال من غير نظر إلي كونها أو بعضها حقيقة،أو أنّ اللفظ مشترك لفظي بينها غير معلوم،و يظهر ذلك ممّا يأتي نقله بعد ذلك من كشف القناع.

و ثانيا:أنّ الآيات و الروايات واضحة الدلالة علي المنع عن اتّباع غير العلم، و لم يثبت جواز الرجوع إلي آحاد اللغويّين في زمان المعصومين لتشخيص سعة المفهوم وضيقه،حتّي يقال:إنّهم قد أمضوا ذلك.

و بعبارة اخري:لا شكّ في حجّية ظهور الألفاظ،و كان ديدن النبي صلّي اللّه عليه و اله و أصحابه علي العمل به،كما هو سيرة أبناء أهل المحاورة،فهذه السيرة ممضاة قطعا،و عليه فمن الظواهر الممضاة شرعا قطعا ظواهر العمومات من الآيات و الروايات،و هي رادعة عن هذه السيرة التي ادّعيت في الرجوع إلي أهل اللغة.

ثمّ إنّه قد يمنع كون اللغوي من أهل الخبرة؛إذ يعتبر في أهل اللغة كون خبره مبنيا علي إعمال نظر و رأي.

و فيه عدم اعتبار ذلك في أهل الخبرة،بل المراد بهم من كان مطّلعا علي ذلك الفنّ و لو حسّا،مضافا إلي أنّ أهل اللغة يجتهدون في اللغة و يستشهدون بالأشعار0.

ص: 358


1- وقاية الأذهان ص 510.

و نحوها.

الثاني:انسداد باب العلم باللغة،فيرجع إلي الظنّ الحاصل من قول اللغوي فإنّه أقرب.

و فيه أنّ المناط هو انسداد باب العلم بالأحكام،و من مقدّماته بطلان الاحتياط؛لاستلزامه العسر و الحرج،ولكن الاحتياط في مثل مفهوم الصعيد و الغناء و الغيبة و أمثالها لا يستلزم العسر و الحرج.

ثمّ إنّ صاحب كشف القناع قال بحجّية قولهم من باب الظنّ،فإنّه قال بعد عبارته التي ننقلها عن قريب:و قد تبيّن بما ذكرناه أنّ الاعتماد علي آحاد علماء الرجال و اللغة و العربيّة ليس لقطعهم،بل لحصول الظنّ من كلام حذّاقهم و مهرتهم و ثقاتهم و الوثوق بهم فيما يتعلّق بفنونهم التي صرفوا عليها كثيرا من أعمارهم و أوقاتهم،مع جودة أفهامهم وحدّة أذهانهم،و بذل المجهود علي حسب ما أمكنهم و وسعهم في أزمانهم،فهو نظير الاعتماد علي قول أهل الخبرة السوقيّة و الأطبّاء (1).انتهي كلامه.

و يستدلّ للثاني و هو عدم الحجّية مطلقا إن لم يحصل العلم من قولهم،بعدم جواز الاعتماد علي غير العلم.

و يستدلّ للثالث بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد نقل كلام الفاضل السبزواري المتقدّم،حيث قال:و فيه أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا،ألا تري أنّ أكثر علمائنا علي اعتبار العدالة في من يرجع إليه من أهل الرجال،بل و بعضهم علي اعتبار التعدّد،و الظاهر اتّفاقهم علي اشتراط التعدّد و العدالة في أهل الخبرة في8.

ص: 359


1- كشف القناع ص 418.

مسألة التقويم و غيرها (1)انتهي.

قلت:يمكن أن يقال:إنّ من جملة شرائط الشهادة أن يخبر الشاهد عن حسّ، أو عمّا يكون آثاره محسوسة،و هذا الشرط مفقود في اللغوي،و ذلك لاستنادهم إلي آرائهم و اجتهاداتهم و استنباطاتهم الظنّية،و لأجل الشرط المذكور لا تثبت النجاسة بفتوي مجتهدين عادلين،و أمّا قبول قول المقوّم فلأنّه يخبر عن أمر محسوس و هو القيمة السوقية،فلو أخبر عن قيمة الشيء ظنّا و تخمينا كأن يخبر عن قيمته في الأزمان المتقدّمة باعتقاد بقائها،فلا يكون إخباره حجّة.

و يستدلّ للرابع بأنّ خبر الثقة إذا كان عن حسّ أو أمر محسوس بآثاره حجّة في الأحكام و الموضوعات،لسيرة العقلاء الممضاة شرعا.

و فيه أنّه لا دليل علي حجّية خبر الثقة في الموضوعات إن لم يحصل منه الوثوق،و الأخبار الدالّة علي حجّيته فيها مخصوصة بمواضع خاصّة،و لو سلّم فإنّما يكون حجّة إذا كان عن حسّ أو قريب منه،بحيث كان احتمال كونه عن حدس احتمالا غير معتدّ به،و إخبار اللغوي عن سعة بعض المفاهيم ليس كذلك.

و يستدلّ للخامس بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في هامش الفرائد بعد ذكر دليل الانسداد في اللغة و المناقشة فيه،قال:و الانصاف أنّ مورد الحاجة إلي قول اللغويّين أكثر من أن يحصي في تفاصيل المعاني،بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها،و إن كان المعني في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوي،كما في مثل ألفاظ الوطن و المفازة و التمر و الفاكهة و الكنز و المعدن و الغوص،و غير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصي،و إن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذورا،و لعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضةم.

ص: 360


1- فرائد الاصول 75 طبع نشر الاسلامي قم.

كاف في المطلب،فتأمّل (1)انتهي.

و قال في الذريعة:فلا خلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلي أخبار الآحاد في الاسم العامّ،فما الذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلّق بالاسم،ألا تري أنّا عند الاختلاف نثبت الأسماء بالرجوع إلي أهل اللغة (2)انتهي.

قلت:الاتّفاقات المذكورة ليست إجماعات تعبّدية،و لم يثبت سيرة ممضاة، فلا بدّ من الاحتياط ما لم يستلزم العسر و الحرج.

فتلخّص أنّه لا دليل علي حجّية قول اللغوي في بيان سعة المفاهيم وضيقها،و لا في كون المعني حقيقيّا أو مجازيّا،ما لم يستند إلي السماع من أعراب البادية مثلا، و أوجب قوله أو قولهم العلم،أو اجتمع شرائط البيّنة إن قلنا بحجّيتها مطلقا،و من ذلك يظهر عدم حجّية قول المتأخّرين منهم،مثل قول صاحب مجمع البحرين و المنجد و أضرابهما،فإنّهم يلاحظون كتب القدماء و ينقلون منها،فيكون راجعا إليهم،أو يجتهدون آراءهم،كما ذكرنا نظيره في محلّه بالنسبة إلي متأخّري الرجاليّين،فلا دليل علي حجّية أقوالهم.

و ذكر ذلك في كشف القناع،حيث قال:فإنّك إذا لاحظت ما عدا المشاهير من الألفاظ و المعاني،وجدت كلامهم فيه مبنيّا علي استقراء المحاورات و تتبّع الأمارات،و كثيرا مّا يعتبرون الاستعمال الواقع لبعض العرب في بعض المقامات و الأخبار النبويّة العاميّة التي لا نعتدّ بها أصلا في الأحكام الشرعيّة،و إنّما نعتدّ بها في اللغة لظنّ أنّها إن لم تصدر من النبي صلّي اللّه عليه و اله فقد وضعها بعض أهل اللسان من العرب.

و قد كثر الاختلاف بينهم،و الطعن عليهم و علي أئمّتهم و رؤسائهم بما هو مذكور3.

ص: 361


1- الفرائد ص 47.
2- الذريعة 1:283.

مفصّلا في محلّه،و من المعلوم فسق كثير منهم،و فساد مذهبهم،و تفرّد كلّ منهم بما لم يذكره غيره،و قد جرت طريقة متأخّريهم علي النظر إلي كلمات متقدّميهم و كتبهم و البناء علي ما يترجّح في أنظارهم،و ليس لهم غالبا سبيل إلي تحصيل العلم و اليقين،و لا طرق متّصلة إلي واضع اللغة،و إن قلنا إنّ الوضع بالاصطلاح لا التوقيف.

و قد حكي ابن الأثير أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال للنبي صلّي اللّه عليه و اله و قد سمعه و هو يخاطب وفد بني فهد:يا رسول اللّه نحن بنو أب واحد،و نراك تكلّم وفد العرب بما لا نفهم أكثره،فقال:أدّبني ربّي فأحسن تأديبي،و ربّيت في بني سعد.

قال ابن الأثير:فكان صلّي اللّه عليه و اله يخاطب العرب علي اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم و فصائلهم كلاّ منهم بما يفهمون،و يحادثهم بما يعلمون، و لهذا قال صدّق اللّه قوله:امرت أن اخاطب الناس علي قدر عقولهم،فكان اللّه عزّ و جلّ قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بني أبيه،و جمع فيه المعارف ما تفرّق، و لم يوجد في قاصي العرب و دانيه،و كان أصحابه و من يفد عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله،و ما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم (1)انتهي.

فإذا كان هذا حال اللغات في ذلك الزمان،فكيف حالها بعد ذلك (2).انتهي.

و لاحظ تتمّة كلام صاحب كشف القناع،ثمّ إنّه ذكر ابن الأثير في تتمّة كلامه من جمع اللغة،فلاحظ.

و الانصاف أنّ من لاحظ كتب اللغة يري اجتهاد أربابها في غير اصول معاني الألفاظ،قال في تهذيب اللغة:و الصحيح في تفسير الحلّة ما قال أبو عبيد؛لأنّ7.

ص: 362


1- النهاية لابن الأثير 1:4.
2- كشف القناع ص 417.

أحاديث السلف تدلّ علي ما قال (1)انتهي.فاستشهد لصحّة التفسير المذكور بأحاديث السلف.

و قال الثعالبي في فقه اللغة في معني كرّ:إنّه الماء الذي إذا اخذ من أحد أطرافه لم يتحرّك الطرف الآخر (2)انتهي.

و هذا موافق لفتوي بعض فقهاء العامّة.

و قال في تهذيب اللغة في معني آل:حكي عن الشافعي معناه بلحاظ ما ورد أنّ الصدقة محرّمة علي محمّد و آله صلّي اللّه عليهم.إلي غير ذلك.

و قال في مادّة وصي:إنّه بمعني الوصل،و سمّي علي عليه السّلام وصيّا لاتّصال نسبه و حسبه برسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله.

تنبيه:

بناء علي ما بيّنا من أنّ اللغويّين يجتهدون في بيان معاني الألفاظ،فلا يجوز للمجتهد تقليدهم،كما لا يجوز له تقليد الاصوليّين في آرائهم،و إنّما يتحقّق الاجتهاد في المسألة الفقهيّة إذا كان جميع مقدّماته اجتهاديّة،و إلاّ فالنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات،فلا بدّ للمجتهد أن يتتبّع كتب اللغة جميعها أو أكثرها بمقدار يحصل له الوثوق بمعني اللفظ،بحيث لا يحتمل العثور علي معارض له،و إلاّ فيحتاط.

قال في كشف القناع:إنّ حصول العلم يتّفق كثيرا في إجماع سائر أرباب الفنون،كأهل اللغة و غيرهم ممّا يتعلّق بفنونهم،فإنّ كثيرا ما يحصل من إجماع المتشاركين منهم في فنّ،و إن لم يكونوا عدولا و لا مسلمين بإصابتهم لما يعتبر في فنّهم،بحيث لو وقفنا عليه لحكمنا بما حكموا به،و لا سيّما مع عدم الوقوف بعد

ص: 363


1- تهذيب اللغة 2:442.
2- فقه اللغة للثعالبي ص 279.

النظر و التتبّع علي خلافه (1)انتهي.

البحث الحادي عشر: في حجّية الشهرة علي الحكم

ممّا قيل بحجّيته بالخصوص الشهرة الفتوائيّة،و لا بأس بذكر أقسام الشهرة.

فنقول:الشهرة:إمّا أن تكون من رواة الأخبار،و هم أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،أو تكون من القدماء،و هم الشيخ المفيد و الصدوقان و السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي و نظرائهم،أو تكون من المتأخّرين.

و علي التقادير:إمّا أن تكون الشهرة في الفتوي فقط بأن لا يكون خبر علي مضمونها،و إمّا أن تكون الشهرة في نقل الخبر عن المعصوم فقط بدون عملهم به، بأن ينقل كلّ واحد عن المعصوم،أو ينقل واحد عن المعصوم و ينقل عنه الرواة الثقات المشاهير،و إمّا أن تكون في العمل بالخبر،و يلحق به نقلهم الخبر مع عدم إحراز عدم عملهم به،فإنّه في قوّة عملهم به إذا تناقلوه في كتبهم؛لأنّ الظاهر أنّهم يعملون بالأخبار التي يودعونها في كتبهم.

و علي تقدير كون الشهرة في العمل بالخبر:إمّا أن تكون في فهم معناه من ظاهره،أو من قرينة خفيت علينا فتكون جابرة للدلالة،و إمّا أن تكون في صدور الخبر فتكون جابرة للسند،و تفصيل الأقسام:

القسم الأوّل:الشهرة في الفتوي من دون أن يكون خبر علي مضمونها،و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة في الفتوي من رواة الحديث و أصحاب الأئمّة،و الظاهر أنّها تكشف عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره؛لاستبعاد خطأ جميعهم،أو اختفاء

ص: 364


1- كشف القناع ص 184.

وجه الحكم عليهم من تقيّة أو غيرها.و قال الشيخ المفيد في الرسالة العدديّة:إنّ ما صدر منهم عليهم السّلام تقيّة لا يشتهر كشهرة غيره.

النوع الثاني:شهرة الفتوي من القدماء،فإن كشفت عن شهرة فتوي أصحاب الأئمّة،فحكمها حكم شهرتهم،و إلاّ فلا دليل علي حجّيتها مطلقا،و سنتعرّض لما استدلّ به علي حجّية مطلق الشهرة.

النوع الثالث:شهرة فتوي المتأخّرين،و لا دليل علي حجّيتها.

و قد يستدلّ لحجّية الشهرة في الفتوي بامور:

أحدها:أنّها تفيد الظنّ،فيشمله أدلّة حجّية الخبر الواحد؛لأنّه حجّة من باب إفادته الظنّ.

و فيه أنّ المناط في حجّية الخبر ليس إفادة الظنّ.

ثانيها:التعليل في قوله تعالي أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1)بناء علي أنّ الاقدام علي العمل بالظنّ ليس سفاهة.

و فيه أنّه لو سلّم أنّ الممنوع ما كان العمل به سفاهة،لكن لا دلالة له علي وجوب العمل بما لا يكون فيه سفاهة.

ثالثها:المرفوعة و المقبولة؛لأنّ المراد بقوله فيهما«خذ بما اشتهر بين أصحابك»إمّا الشهرة في الرواية و الفتوي معا،أو خصوص الرواية،و يثبت حجّية الشهرة في غير الرواية بتنقيح المناط،لأنّ حجّية الرواية المشهورة إنّما هي من أجل الشهرة،و هي موجودة في شهرة الفتوي،فتكون حجّة أيضا.

و فيه أنّهما تدلاّن علي الأخذ بالمشهور في الرواية.و لو سلّم دلالتهما علي الشهرة الفتوائية،فهي خاصّة بشهرة فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،لأنّ الخطاب6.

ص: 365


1- سورة الحجرات:6.

متوجّه إلي عمر بن حنظلة و زرارة بقوله«أصحابك»و شهرة الفتوي عند رواة الحديث تكشف عن الدليل المعتبر،و لا تدلّ علي حجّية شهرة فتوي العلماء المتقدّمين فضلا عن المتأخّرين،و احتمال الخصوصيّة فيهم يمنع عن التمسّك بالاطلاق،مع أنّ قوله في ذيل الخبر«فأرجه حتّي تلقي إمامك»يقتضي الاختصاص بزمان حضور الامام،إلاّ فيما لا يعلم اختصاصه بزمان الحضور.

و قد اجيب عنهما أوّلا:بضعف سند الاولي للارتفاع و غيره،و ضعف الثانية بعمر بن حنظلة،فإنّه لم يثبت وثاقته،و في سند الخبر الوارد في مدحه ضعف.

و ثانيا:أنّ المراد بالشهرة فيهما خصوص الشهرة في الرواية،لا الأعمّ منها و من الفتوي؛لأنّ موردهما الشهرة في الرواية،و لا يصحّ التعدّي منها إلي الشهرة في الفتوي،ألا تري أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟قلت:ما كان الاجتماع فيه أكثر،لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر،و يدلّ عليه قوله«إنّهما معا مشهوران»فإنّه لا يتحقّق شهرة الفتوي فيهما.نعم يحصل في الرواية،فيمكن أن يكون كلاهما مشهورين.

و ما قيل من إمكان فتوي كثير من الأصحاب بطرف و فتوي كثير منهم بطرف آخر،مدفوع بأنّ قوله«قد رواهما الثقات»يدلّ علي أنّ المراد الشهرة في الرواية.

و ثالثا:أنّ المراد بالمشهور فيهما هو المعني اللغوي،أي:الظاهر الواضح، فيكون متّحدا مع المجمع عليه،و يكون المراد المتّفق عليه،و هو الاجماع الاصطلاحي لا المشهور الاصطلاحي.

و قد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ المراد بالشهرة فيهما الاجماع،فقال عند كلامه حول المقبولة:المشهور هو الواضح المعروف،و منه شهر فلان سيفه و سيف شاهر،فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية التي يعرفها جميع أصحابك و لا ينكرها أحد منهم،و يترك ما لا يعرفه إلاّ الشاذّ،و لا يعرفها الباقي،فالشاذّ مشارك للمشهور في

ص: 366

معرفة الرواية المشهورة،و المشهور لا يشارك الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة، و بهذا كانت الرواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد،و الشاذّ من قبيل المشكل الذي يرد علمه إلي أهله،و إلاّ فلا معني للاستشهاد بحديث التثليث (1)انتهي.

أقول:يرد علي ما ذكره الشيخ رحمه اللّه أوّلا:بأنّه لا يبعد صدق المشهور علي ما رواه الكثير،و صدق الشاذّ علي الرواية المخالفة له،و إن كان الراوي مختصّا بروايته و لم يرو ما رواه غيره،بل يصدق الشاذّ علي ما يرويه راويان أو ثلاثة إذا روي الكثير خلافه.

و ثانيا:أنّ الراوي قال هما مشهوران قد رواهما الثقات،فقد فهم أنّ المشهور هو ما يرويه الثقات،و ليس مراده كلّ الثقات،بل و إن كانوا ثلاثة أو أكثر.

و ممّا يؤيّد أن يكون المراد الشهرة الاصطلاحيّة لا الاجماع،إضافتها إلي أصحاب عمر بن حنظلة،حيث قال:المجمع عليه من أصحابك،فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك الحديث.فإنّه يدلّ علي كفاية أن تكون الرواية مشهورة في الكوفة-بلد الراوي-مثلا،و ليس عليه تتبّع الرواية في سائر البلدان التي يعيش فيها الرواة.

ثمّ إنّه أورد علي الاستدلال بخبر عمر بن حنظلة في فوائد الاصول،بأنّ المراد من المجمع عليه إن كان الاجماع الاصطلاحي،فلا يشمل الشهرة.و إن كان المراد منه-أي:من قوله«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»-المشهور،فلا يصحّ حمل قوله«لا ريب فيه»عليه بقول مطلق،بل لا بدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالاضافة إلي ما يقابله،و هذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبري كلّية؛لأنّه يعتبر في الكبري الكلّية صحّة التكليف بها ابتداء بلا ضمّ المورد إليها،كما في قولهم.

ص: 367


1- فرائد الاصول ص 107 طبع قم.

«الخمر حرام لأنّه مسكر»فإنّه يصحّ أن يقال:لا تشرب المسكر بلا ضمّ الخمر إليه.

و التعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق علي ذلك؛لأنّه لا يصحّ أن يقال:يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالاضافة إلي ما يقابله،و إلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلي غيره،و بأقوي الشهرتين،و بالظنّ المطلق،و غير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها،فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبري الكلّية التي لا يصحّ التعدّي عن موردها (1)انتهي.

أقول:يرد عليه أوّلا:أنّ التعليل يكون،تعبّديا حينئذ،و هو خلاف الظاهر.

و ثانيا:أنّ مورد المقبولة هو الاضطرار إلي العمل بأحد الطرفين،و في مثله أي متي دار الأمر بين ما لا ريب فيه بالاضافة إلي ما يقابله لزم الأخذ به عقلا حتّي ابتداء،و لذا يؤخذ بالظنّ في مقابل المشكوك و هكذا.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ شهرة الفتوي من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام حجّة،و لا دليل علي حجّية شهرة فتوي القدماء إن لم تكشف عن شهرة فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام.

لكن قد يقال:إنّ الشهرة الفتوائيّة-من القدماء في كتبهم المعدّة لذكر الاصول المتلقّاة من المعصومين،و هي المقنعة و الفقيه و الهداية و الانتصار و الناصريات و النهاية و المراسم و الغنية و أمثالها،إذا لم تكن مستندة إلي وجه ظاهر-تكشف عن وصول نصّ معتبر إليهم قد خفي علينا،و ذلك لأنّ دأب القدماء كان علي تقسيم المسائل إلي الأصليّة و الفرعيّة.

و المراد بالاولي هي اصول المسائل المتلقّاة من المعصومين،كنجاسة الماء4.

ص: 368


1- فوائد الاصول 3:54.

بالتغيّر.و المراد بالثانية التفريعات علي المسائل الأصليّة،كنجاسة الماء إذا تغيّر أحد أوصافه بمجموع الداخل و الخارج من الميتة.

و قد كان بعض كتب القدماء يقتصر علي ذكر المسائل الأصلية،كنهاية الشيخ و الفقيه و المقنع و الهداية،و بعضها علي المسائل الأصلية أوّلا،ثمّ يذكر التفريعات بعنوان اللواحق أو المسائل،و كانت هذه الكيفيّة في تدوين الفقه متداولة إلي زمان المحقّق،و ألّف الشرائع علي هذا المنوال،ثمّ وقع الخلط بين المسائل الأصليّة و الفرعيّة في كتب الشهيد رحمه اللّه و من بعده.

فالشهرة القدمائية في المسائل الأصلية حجّة،و إن لم تبلغ حدّ الاجماع، لكشفها عن نصّ،أو كون الحكم واصلا إليهم يدا بيد إلي زمان المعصومين، و إجماعهم في المسائل الفرعية ليست بحجّة فضلا عن شهرتهم.و أمّا إجماع المتأخّرين،فليس حجّة فضلا عن شهرتهم؛لعدم كشفه عن نصّ وصل إليهم لم يذكروه لنا،فإنّه لو كان نصّ وصل إليهم لذكروه.

و الحاصل أنّ هنا دعاوي:

إحداها:أنّ بعض كتب القدماء مقصور علي المسائل الأصليّة.

ثانيتها:أنّ المسائل الأصليّة متّخذة من النصوص.

ثالثتها:أنّ النصوص غير منحصرة فيما أودعوه في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المشهورة،بل كانت نصوص لم تصل إلينا.

يدلّ علي الاوليين ما في مقدّمة المبسوط،حيث قال:و كنت علي قديم الوقت و حديثه متشوّق النفس إلي عمل كتاب يشتمل علي ذلك تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع و شغلني الشواغل،و تضعف نيّتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه،و ترك عنايتهم به؛لأنّهم ألفوا الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ، حتّي انّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها

ص: 369

و قصّر فهمهم عنها.

و كنت عملت علي قديم الوقت كتاب النهاية،و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم و أصّلوها من المسائل،و فرّقوه في كتبهم،و رتّبته ترتيب الفقه، و جمعت من النظائر،و رتّبت فيه الكتب علي ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك،و لم أتعرّض للتفريع علي المسائل،و لا لتعقيد الأبواب و ترتيب المسائل و تعليقها و الجمع بين نظائرها،بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّي لا يستوحشوا من ذلك،و عملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات،سلكت فيه طريق الايجاز و الاختصار،و عقود الأبواب فيما يتعلّق بالعبادات،و وعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصّة يضاف إلي كتاب النهاية،و يجتمع معه يكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج إليه (1).

فقد صرّح بأنّ كتاب النهاية مشتمل علي المسائل الأصليّة المتّخذة من النصوص المذكورة بعين عبارات النصوص،و لم يذكر فيه المسائل التفريعيّة.

و يدلّ علي الأخيرة،و هي أنّ الكتب الموجودة ليست حاصرة لجميع الأخبار، أنّه كانت جوامع قد اختار منها كلّ من المحمّدين الثلاثة رضوان اللّه عليهم أخبارا أودعوها في الكتب الأربعة،و لذا اشتمل بعضها علي ما لم يشتمل عليه الآخر.

قال الشيخ في أوّل التهذيب:لأنّي إن شاء اللّه تعالي إذا وفّق اللّه الفراغ من هذا الكتاب أبتديء بشرح كتاب يجتمع علي جميع أحاديث أصحابنا،أو أكثرها ممّا يبلغ إليه جهدي،و أستوفي ما يتعلّق بها إن شاء اللّه (2)انتهي.

و هذا الكلام يدلّ علي وجود روايات غير ما ذكره في التهذيبين،و استطرف ابن ادريس في آخر السرائر من تلك الكتب أحاديث ليست موجودة في الكتب4.

ص: 370


1- المبسوط 1:2-3.
2- تهذيب الأحكام 1:4.

الأربعة.

و أسند السيّد المرتضي و الشيخ الطوسي بعض فتاويهم إلي الأخبار،و هي غير موجودة في الكتب التي بأيدينا.

منها:ما ذكره السيّد المرتضي رحمه اللّه في مسألة من زنا بذات بعل تحرم عليه أبدا، قال في الانتصار بعد الاستدلال علي الحرمة بالاجماع:و قد ورد من طرق الشيعة في حظر ما ذكرناه أخبار معروفة (1)الي آخر كلامه.مع أنّه لا يوجد فيما لدينا خبر يدلّ علي التحريم.

و منها:ما ذكره الشيخ في النهاية في مسألة ميراث المجوس،قال:و به تشهد الروايات،و طعن عليه ابن ادريس بأنّه ليس في المسألة إلاّ رواية واحدة (2).

أقول:ذكر في كشف القناع في الوجه السابع من وجوه الاجماع الذي اعتمد عليه بعض ما ذكرناه أو كلّه فراجع،و ما ذكرناه منقول عن بعض الأعاظم رحمه اللّه.

و الانصاف أنّه لو وجد شهرة بين القدماء غير مسندة إلي وجه،كظاهر الكتاب، أو ظاهر خبر من الأخبار الموجودة،أو وجه عقلي،فاحتمال وجود نصّ معتبر وصل إليهم،أو وصول الحكم يدا بيد إليهم قريب جدّا،فلا بدّ من الاحتياط في مثل ذلك.

و أمّا الفتوي فأمر مشكل،فإنّه لا يخفي أنّ نهاية الشيخ ليس جميع ما فيها متون الأخبار،فقد عثر علي بعض مواضع تشهد بذلك:

منها:قوله في كتاب الوصيّة:و إذا أوصي بثلث ماله لقرابته و لم يسمّ أحدا،كان ذلك في جميع ذوي نسبه الراجعين إلي آخر أب و امّ له في الاسلام،و يكون ذلك8.

ص: 371


1- الانتصار ص 106.
2- السرائر 3:288.

بين الجماعة بالسويّة (1).

و قال في المبسوط:و في أصحابنا من قال:إنّه يصرف ذلك إلي آخر أب و امّ له في الاسلام،و لم أجد به نصّا،و لا عليه دليلا مستخرجا و لا به شاهدا (2)انتهي.

فإنّه نفي ما ذكره في النهاية أن يكون مأخوذا من الخبر،و لعلّ المتتبّع يجد غير ذلك.

ثمّ إنّ الشهرة الفتوائيّة القدمائيّة ربّما تكون مؤيّدة للخبر،و قد تكون موهنة له، مثلا ظاهر الأخبار وجوب الاقامة للصلوات اليوميّة و لا معارض لها،ولكن يضعّف دلالتها علي الوجوب أنّ المسألة محلّ ابتلاء المسلمين في كل يوم خمس مرّات،و في مثلها ينبغي وضوح حكمها بين المسلمين،و لو خفي علي عامّة الشيعة لم تكن تخفي علي رؤساء الدين و علماء الشيعة،فكيف صار عدم الوجوب مشهورا بين القدماء أساطين الفقه؟مع أنّ هذه الأخبار الظاهرة في الوجوب بمرأي منهم.

أقول:لا بأس بهذا الكلام في الجملة،و لا كلام لنا في مسألة الاقامة فعلا.

القسم الثاني:الشهرة في الرواية،و هي تحصل بنقل جماعة مضمون خبر عن أحد المعصومين عليهم السّلام،أو نقل واحد عن المعصومين عليهم السّلام و نقل جماعة عنه،أو تكرّر ذكرها في الكتب و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و الرواية المشهورة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام حجّة؛لأنّ اشتهارها بينهم يكشف عن عملهم بها،لكن إن علم عدم عملهم بها بأن كانت الشهرة في مجرّد الرواية و لم يعملوا بها و أعرضوا عنها،فهذا يوجب سقوط الخبر عن الحجّية؛لأنّهم مع تمكّنهم من الوصول إلي0.

ص: 372


1- النهاية ص 614.
2- المبسوط 4:40.

حضور الامام المعصوم عليه السّلام و كون الخبر بمرأي منهم،و مع ذلك قد أعرضوا عنه، فلذلك يكشف عن أنّهم عثروا علي خلل فيه دلالة أو سندا.

و هذه الشهرة هي التي جعلت مرجّحة لأحد الخبرين علي الآخر في مقبولة عمر بن حنظلة،و هي شهرة الرواية التي عملوا بها،أو الأعمّ منها و ممّا لم يعلم أنّهم عملوا بها لا التي أعرضوا عنها،بل صدر المقبولة يدلّ علي الأخذ بقول الأفقه و إن كان مخالفا للخبر المشهور،و ذلك لأنّه ربّما أحرز علي صدور الخبر عن المعصوم تقيّة.

و في كشف القناع منع حصول العلم بقول المعصوم أو فعله أو تقريره من فتوي أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،لاحظ الأمر الثالث (1).ولكن يستفاد من كلامه في الوجه السابع من وجوه تقرير الاجماع أنّه يعتقد كشفها عن دليل معتبر،و إن لم تكشف علما عن الحكم الواقعي.

النوع الثاني:شهرة الرواية عند القدماء،فإن كشفت عن الشهرة بين الرواة فهي توجب حجّية الرواية؛لأنّ الحجّة من الأخبار هو ظاهر خبر الثقة الذي فهمه المخبر أو المخاطبون بالخبر،سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له،لسهو الراوي أو خطأه،سواء كان كلام المعصوم عليه السّلام صادرا لبيان الحكم الواقعي،أو كان صادرا تقيّة و خفي علي الراوي و غيره.فإن كشفت الشهرة عن ذلك،أي:عن ظاهر خبر صادر من المعصومين عليهم السّلام كشفا علميّا فهو،و إلاّ فالكشف الظنّي لا دليل علي حجّيته.

و ليست الشهرة بنفسها حجّة،كما أنّ الاعراض عن الخبر لا يكون مسقطا لحجيّته،إلاّ إذا كشف عن وجود قرينة حاليّة أو مقاليّة لم تصل إلينا توجب وهن0.

ص: 373


1- كشف القناع ص 60.

دلالة الخبر،أو كشف عن خلل في صدور الخبر:إمّا لضعف راويه،أو صدوره تقيّة،ولكن يظهر من الشيخ الطوسي أنّ الاجماع علي النقل إن لم يعلم الفتوي علي وفاقه و خلافه يقتضي حجّية الخبر.

النوع الثالث:شهرة الخبر بين المتأخّرين،و الظاهر أنّه لا تثبت صحّة صدوره بمجرّد اشتهار ذكره في كتبهم.

القسم الثالث:الشهرة في العمل بالخبر،بأن استدلّوا علي مطلوبهم بالخبر و استندوا إليه،و هي أنواع:

النوع الأوّل:الشهرة بين أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و هي توجب جبر السند،و هي المرجّح في باب تعارض الخبرين،كما يدلّ عليه المقبولة،حيث انّ الخطاب بالأخذ بالمجمع عليه بين«أصحابك»متوجّه إلي عمر بن حنظلة.

النوع الثاني:شهرة العمل بالخبر بين القدماء،و لا يخفي أنّ عملهم بالخبر لا يوجب وثاقة رواته،و لا يوجب الوثوق بصدور الخبر عن المعصومين؛لأنّ كيفيّة عملهم بالأخبار غير معلومة،فإن كشفت عن الشهرة بين الرواة فهو،و إلاّ فيشكل الاكتفاء بعملهم،و سيأتي في بحث الأخبار بيان ذلك.

النوع الثالث:شهرة العمل بالخبر بين المتأخّرين،فإن كشفت عن شهرة العمل بين الرواة،و إلاّ فلا دليل علي حجيّتها و لا علي جبرها سند الخبر،و سيأتي البحث عن كون الشهرة جابرة و الاعراض موهنا في بحث الخبر الواحد.

المبحث الثاني عشر: في الاجماع

لا يخفي أنّ الاجماع عند الاماميّة ليس حجّة من حيث انّه إجماع،بل هو كاشف عن الحجّة و هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره،أو خبر واجد لشرائط الحجّية،فإن كشف اتّفاق جماعة علما و لو عرفيا عن ذلك فهو،و إلاّ فليس بحجّة،

ص: 374

و لا يعتبر اتّفاق الجميع.

هذا حال الاجماع المحصّل،و أمّا منقوله فهو تابع له،فيمكن أن يكون الاجماع يراد به اتّفاق جماعة يكشف قولهم عن ذلك فيكون حجّة و إلاّ فلا.

و ذكر في كشف القناع اثني عشر وجها،و ناقش في جميعها إلاّ الوجه السابع، و حاصله يرجع إلي كشف حجّة معتبرة،فلاحظ.

و أقول:إن كشف إجماعهم أو شهرتهم عن حجّة معتبرة فهو،و إلاّ فلا يعتمد عليه،و ينبغي الاحتياط بعدم مخالفته في بعض الموارد.

المبحث الثالث عشر: في حجّية خبر الواحد

اشارة

و فيه مطالب:

المطلب الأوّل: في وجوب العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين عليهم السلام

لا يخفي أنّه يجب العمل بالأخبار المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام في صورتين:

الصورة الاولي:إذا كانت ظاهرة في معناها و علم صحّة مضمونها،أو علم صدورها عن المعصومين بشرط أن لا يعلم أنّها صدرت تقيّة.

الصورة الثانية:إذا كانت ظاهرة في معناها و علم تعبّد الشارع بالعمل بها،و لا يجب العمل بما عداهما،بل لا يجوز إسناده إلي الشارع.فإن علم المجتهد تفصيلا الصورتين عمل بهما و لم يجب العمل بغيرهما،و لو علم إجمالا باشتمال الأخبار علي الصورتين المذكورتين وجب العمل بالجميع حتّي يكون عاملا بهما، و المذهب المنصور المختار هو العمل بجميع الأخبار؛للعلم الاجمالي الذي لا ينحلّ بالعمل ببعضها،و سيأتي كيفيّة العمل بجميعها.

هذا و قد اختلف الأصحاب في حجّية الأخبار المدوّنة في الكتب التي بأيدينا علي قولين:الأوّل:أنّ مناط العمل هو العلم بصحّة مضمون الخبر من أيّ طريق

ص: 375

حصل العلم،سواء حصل من القرائن،أو حصل من وثاقة الرواة.الثاني:العلم بالتعبّد بالخبر بملاحظة حال رواتها؛لانسداد باب العلم بصحّة المضمون.

و أشار إلي الطريقين في أوّل كتاب منتقي الجمان،قال:و لقد كانت حاله-أي:

الخبر-مع السلف الأوّلين علي طرف النقيض ممّا هو فيه مع الخلف الآخرين، فأكثروا لذلك فيه المصنّفات،و توسّعوا في طرق الروايات،و أوردوا في كتبهم ما اقتضي رأيهم ايراده من غير التفات إلي التفرقة بين صحيح الطريق و ضعيفه،و لا تعرّض للتميز بين سليم الاسناد و سقيمه،اعتمادا منهم في الغالب علي القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه،و تعويلا علي الأمارات الملحقة لمنحطّ الرتبة بما فوقه.

كما أشار إليه الشيخ رحمه اللّه في فهرسته،حيث قال:إنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة و كتبهم معتمدة.

قال المرتضي رضي اللّه عنه في جواب المسائل التبّانيّات المتعلّقة بأخبار الآحاد:إنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع علي صحّتها:إمّا بالتواتر من طريق الاشاعة و الاذاعة،أو بأمارة و علامة دلّت علي صحّتها و صدق رواتها،فهي موجبة للعلم،مقتضية للقطع،و إن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص معيّن من طريق الآحاد.

و غير خاف أنّه لم يبق لنا سبيل إلي الاطّلاع علي الجهات التي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظّوا بالعين و أصبح حظّنا الأثر،و فازوا بالعيان،و عوّضنا عنه بالخبر،فلا جرم انسدّ عنّا باب الاعتماد علي ما كانت لهم أبوابه مشرعة،و ضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متّسعة،و لو لم يكن إلاّ انقطاع طريق الرواية عناّ من غير جهة الاجازة التي هي أدني مراتبها لكفي به سببا لإباء الدراية علي

ص: 376

طالبها (1)انتهي.

و يتشعّب من هذين المذهبين مذاهب:

أحدها:دعوي قطعيّة صدور الأخبار الموجودة في الكتب المتداولة،أو قطعيّة حجّيتها،أو دعوي الاطمئنان بصدورها أو حجّيتها،أو دعوي ذلك في خصوص الكتب الأربعة،و ادّعي صاحب الوسائل (2)حجّية الأخبار التي أودعها في الوسائل للقرائن الموجبة للوثوق و العلم العادي بصدورها،و ذكر القرائن في الفوائد المذكورة في خاتمة الوسائل.

و قال النراقي في المناهج:الثاني وجودها في أحد الاصول المعتبرة عندنا معاشر الاماميّة،و المراد بالأصل المعتبر ما كان جامعا لوصفين:أحدهما كون صاحب الأصل ثقة ضابطا متديّنا بدينه،عالما بوجوه صحّة الخبر و سقمه،متمكّنا من تمييز صحّة الخبر عن غيره في الجملة،أي:قريب العهد بأزمنة المعصومين عليهم السّلام.ثانيهما:أن يكون الأصل ثابتا من هذا الشخص بأخبار متواترة أو محفوفة بالقرائن (3)انتهي.

و قال في موضع آخر في ذكر بعض شرائط اخر لا دليل عليها:و منها التحرّز عن الكذب و الوثاقة،و قد يستدلّ علي اشتراطه باتّفاق الأصحاب،فإنّا نراهم يردون روايات كثيرة بجهالة راويها أو إرسالها،و أمثال ذلك.و فيه أنّ المسلّم إلي أن قال:و أمّا فيما كان مذكورا في كتاب معروف أو أصل مشهور،و كان صاحبه ثقة ممّن يعرف وجوه صحّة الحديث و فساده،سيّما إذا شهد بصحّة ما جمعه،فلاط.

ص: 377


1- منتقي الجمان 1:2.
2- وسائل الشيعة 20:96.
3- المناهج،منهاج:للعمل بالأحاديث شرائط.

نسلم البحث عن راويه (1).

ثانيها:ما اختاره في المعتبر،قال:فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب طرحه (2).و له كلام في المعارج ربما ينافي ذلك.

ثالثها:خبر العدل المعدّل رواة سلسلة سنده بعدلين،اختاره صاحب المعالم.

رابعها:خبر العدل المزكّي و لو بعدل واحد.

خامسها:خبر العدل و الموثّق و الحسن.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه اختار حجّية الخبر الموجب للاطمئنان،و نسبه إلي الشيخ الطوسي،و احتمل موافقة القدماء له،فلا فرق بين مذهبه و مذهب القدماء علي رأيه،قال:و الانصاف أنّ الدالّ منها-أي:من أدلّة حجّية الخبر الواحد-لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة، فافهم (3)انتهي.

و بعضهم نسب إلي القدماء أنّ الصحيح عندهم ما وثقوا بكونه من المعصوم،أعمّ من أن يكون منشأه وثوقهم بكون الراوي من الثقات أو أمارات اخر.

ثمّ إنّ الأخبار علي أنواع:ة.

ص: 378


1- نفس المصدر.
2- المعتبر 1:29.
3- فرائد الاصول ص 106 الطبع الحجري و ص 174 الطبعة المحقّقة.

الأوّل:ما علم صدوره بتواتر و نحوه،ممّا ذكره الشيخ الطوسي في العدّة (1).

الثاني:ما اقترن بقرائن تدلّ علي صدوره.

الثالث:ما لم يعلم صدوره و لا اقترن بما يوجب العلم بصدوره.

أمّا الأوّل،فهو خارج عن محلّ البحث؛لأنّ العلم هو حضور المعلوم،فإنّ معناه اللغوي هو سكون النفس بالشيء علي ما هو به،فلا بدّ أن يكون مطابقا للواقع و إلاّ كان جهلا.

قال في العدّة:حدّ العلم ما اقتضي سكون النفس (2).و مراده سكون النفس للشيء علي ما هو به لتصريحه به بعد ذلك،قال:و ليس من حيث أنّ ما اقتضي سكون النفس لا يكون اعتقادا للشيء علي ما هو به ينبغي أن يذكر في الحدّ (3)، فراجع.

أقول:و هذا أيضا مراد السيّد في الذريعة،و إن قال:العلم ما اقتضي سكون النفس (4).

و لا يخفي أنّ تواتر الخبر سبب عقلائي لحصول العلم الشخصي،فقد يحصل العلم عند إخبار جماعة دفعة،و قد يحصل تدريجا بتقوي الظنّ حتّي يصل إلي مرتبة العلم،أو بتقوي الاحتمال حتّي يحصل العلم،و لم يقع عنوان التواتر في دليل ليبحث عن مفهومه،فيختلف موارد حصول العلم من التواتر.

و أمّا الثاني و هو ما اقترن بالقرينة الموجبة للعلم،فليس القرائن القطعيّة إلاّ الضروريّات التي لا حاجة فيها إلي الأخبار و إلاّ نصّ الكتاب.0.

ص: 379


1- عدّة الاصول 1:235.
2- عدّة الاصول 1:12.
3- عدّة الاصول 1:12.
4- الذريعة 1:20.

و أمّا القرائن التي ذكرها الشيخ الطوسي رحمه اللّه لإفادة العلم بمقتضي الخبر،فهي لا تفيد العلم بمضمون الخبر،نعم توجب العلم بحجّية مضمون الخبر كما قيل.

قال في أوّل الاستبصار:و اعلم أنّ الأخبار علي ضربين:متواتر،و غير متواتر.

فالمتواتر ما أوجب العلم.

إلي أن قال:و ما ليس بمتواتر علي ضربين:فضرب منه يوجب العلم أيضا،و هو كلّ خبر يقترن إليه قرينة توجب العلم،و ما يجري هذا المجري يجب أيضا العمل به،و هو لاحق بالقسم الأوّل.

و القرائن منها:أن تكون مطابقة لأدلّة العقل و مقتضاه.

و منها:أن تكون مطابقة لظاهر القرآن إمّا لظاهره أو عمومه،أو دليل خطابه أو فحواه،فكلّ هذه القرائن توجب العلم و تخرج الخبر عن حيّز الآحاد و تدخله في باب المعلوم.

و منها:أن تكون مطابقة للسنّة المقطوع بها إمّا صريحا أو دليلا أو فحوي أو عموما.

و منها:أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه.

و منها:أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحقّة،فإنّ جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيّز الآحاد و تدخله في باب المعلوم و توجب العمل به (1)انتهي.

و لا يخفي أنّه لا يبعد أن يكون مراده العلم بالحجّية لموافقة الخبر للحجّة،و لا ينافي ذلك أن يكون الخبر الواحد العدل بشرائطه حجّة عنده أيضا؛لأنّ ذلك من أجل الدليل علي حجّية الخبر.

و قال العلاّمة المجلسي قدّس سرّه:مراده الظنّ القوي (2).2.

ص: 380


1- الاستبصار 1:3-4.
2- ملاذ الأخيار 1:22.

و أمّا الثالث،و هو ما لا يقترن بما يوجب العلم،فهو أصناف:

الأوّل:الخبر الذي حصل سكون النفس منه لا لسبب يقتضيه بل لمجرّد الخبر، كما يحصل لبسطاء الناس العلم بالمخبر به إذا أخبر به مخبر واحد،فالعلم المذكور لا اعتبار به؛لأنّه يزول بالتروّي و الاطّلاع علي كثرة الأخبار الكاذبة.

الثاني:الخبر الذي يحصل العلم من أجل كون المخبر ثقة واقعا،أو عدلا كذلك، فالظاهر أنّه حجّة؛لأنّه قد حصل من سبب عقلائي،و قد وقع الكلام في حصول العلم من خبر العادل و عدمه.و لعلّ ظاهر كلام السيّد المرتضي رحمه اللّه أنّه لو حصل العلم من خبر الواحد لم يكن الخبر حجّة؛لأنّ العلم الحاصل منه ليس علما.

قال السيّد في الذريعة:اعلم أنّ الصحيح أنّ خبر الواحد لا يوجب علما،و إنّما يقتضي غلبة الظنّ بصدقه إذا كان عدلا،و كان النظّام يذهب إلي أنّ العلم يجوز أن يحصل عنده و إن لم يجب؛لأنّه يتبع قرائن و أسبابا،و يجعل العمل تابعا للعلم، فمهما لم يحصل علم فلا عمل.

و قال بعضهم:إنّ خبر الواحد يوجب العلم الظاهر،و يقسّم العلم إلي قسمين.

و في الناس من يقول:إنّ كلّ خبر وجب العمل به فلا بدّ من ايجابه العلم،و يجعل العلم تابعا للعمل.

و أقوي ما أبطل قول النظّام أنّ الخبر مع الأسباب التي يذكرها لو حصل عندها العلم كما ادّعي،لما جاز انكشافه عن الباطل،و قد علمنا أنّ الخبر عن موت انسان بعينه مع حصول الأسباب التي يراعيها من البكاء عليه و الصراخ و احضار الجنازة و الأكفان قد ينكشف عن باطل،فيقال:إنّه اغمي عليه،أو لحقه السكتة،أو ما أشبه ذلك،و العلم لا يجوز انكشافه عن باطل (1).7.

ص: 381


1- الذريعة 2:517.

قلت:لعلّ مراتب وثاقة الراوي تختلف،و كذا مراتب إحساس المخبر بالمخبر عنه و نحوه،فيمكن حصول العلم في بعض الموارد.

الثالث:الخبر الذي يحصل الظنّ الاطمئناني بصدوره أو بصحّة مضمونه،و قد مرّ الكلام في حجّية الاطمئنان في مباحث القطع،فإن قلنا بحجّيته فهو،و إلاّ فقد يقال بحجّيته في خصوص الأخبار،و إن كان حاصلا من قول الفاسق.و هو مختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،و ذكر ذلك بعد كلّ واحد من أدلّة حجّية الخبر الواحد.

قال رحمه اللّه:فمادّة التبيّن و لفظ الجهالة و ظاهر التعليل كلّها آبية عن إرادة مجرّد الظنّ.نعم يمكن دعوي صدقه علي الاطمئنان الخارج عن التحيّر و التزلزل،بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم،فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به،لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالاّ علي حجّية الظنّ الاطمئناني المذكور،و إن لم يكن معه خبر فاسق الي آخر كلامه (1).

قلت:التبيّن هو الظهور و الكشف الواقعي،و لا يصدق علي الظنّ الاطمئناني، بل يمكن أن يقال:إنّ وجوب التبيّن يقتضي عدم كفاية الاطمئنان،كما هو الظاهر في مورد نزول الآية الشريفة؛لأنّه لا يجوز قتل من يطمئنّ بكونه مهدور الدم، و سيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالي في أدلّة حجّية الخبر.

الرابع:أن يحصل الاطمئنان بصدور الخبر من الامور الخارجة عن الخبر، و حجّيته مبنيّة علي حجّية الاطمئنان.

الخامس:خبر الثقة الواقعي الذي أحرز وثاقته أهل الفطانة و الاطّلاع علي أحوال الناس،إن لم يحصل الوثوق من خبره.

السادس:خبر الثقة الظاهري،و المراد به من ثبت وثاقته بالاستصحاب أو6.

ص: 382


1- فرائد الاصول ص 126.

بالبيّنة و أمثال ذلك.

و هناك أقسام اخر،و جميعها محلّ النزاع،و العمدة منها صنفان:

الأوّل:الخبر الذي يطمأنّ بصحّته،و هو الذي اختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حجّيته،و أقام الأدلّة عليه،ولكنّه لا يمكن تطبيقه علي الأخبار التي يتمسّك بها في الفقه إلاّ القليل.لأنّ أكثر الأخبار لا يحصل الاطمئنان بصدورها.

الثاني:الخبر الذي لا يطمئنّ بصحّته،و هو أقسام:الصحيح،و الحسن، و الضعيف،و غيرها.و هذه الأقسام أعمّ ممّا حصل الاطمئنان بمضمونه أو لم يحصل.إذا عرفت محلّ النزاع،و هو الخبر الذي لا يحصل عنده العلم القطعي،و إن حصل الاطمئنان بمضمونه،فيقع الكلام في الدليل علي حجّيته و عدمه.

المطلب الثاني: في أدلّة النافين لحجّية خبر الواحد و المثبتين

اشارة

استدلّ النافون بوجوه:

الدليل الأوّل:الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،و الذامّة لاتّباع الظنّ.

و الجواب عنها من وجوه:

الأوّل:ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدّة،قال:فأمّا قوله تعالي وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)فلا يدلّ علي ذلك أيضا؛لأنّ من عمل بخبر الواحد،فإنّما يعمل به إذا دلّه الدليل علي وجوب العمل به:إمّا من الكتاب،أو السنّة،أو الاجماع،فلا يكون قد عمل بغير علم،و إنّما الآية مانعة من العمل بغير علم أصلا الي آخر كلامه (2).

الثاني:أنّ المراد بالعلم الحجّة،أي:لا تتّبع غير الحجّة،اختاره في نهاية الاصول،قال:المراد بالعلم الحجّة العقلائيّة التي يعتمد عليها عند العقلاء،و الشاهد

ص: 383


1- سورة الاسراء:36.
2- عدّة الاصول 1:303.

علي ذلك قوله تعالي مخاطبا للكفّار اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)و قوله تعالي قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (2)فإنّ المراد بالعلم مدارك مأثورة واصلة إليهم من الأسلاف، فالمراد بالعلم هو الحجّة العقلائية (3).

الثالث:ما ذكره في كفاية الاصول،قال:إنّ الظاهر من الآيات الناهية عن متابعة غير العلم،أو المتيقّن من إطلاقها هو اتّباع غير العلم في الاصول الاعتقادية (4).

و فيه أنّ بعض الآيات أعمّ،و بعضها ذكر فيه الفروع،مثل قوله تعالي لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ (5)الآية فإنّ السمع مسؤول عمّا يسمع، و قوله تعالي قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللّهِ تَفْتَرُونَ (6)و لعلّ المراد أنّ ما يفعلون مردّد بين المأذون و المفتري،فاتّباع ما لم يعلم كونه مأذونا يكون مفتري.

الرابع:ما ذكره في مصباح الاصول،قال:إنّ خبر الواحد علم تعبّدا؛لأنّ أدلّة حجّية الخبر تدلّ علي أنّ الشارع المقدّس جعل خبر الثقة طريقا إلي الواقع بتتميم الكشف،فهو علم بالتعبّد الشرعي (7).2.

ص: 384


1- سورة الأحقاف:4.
2- سورة الأنعام:148.
3- نهاية الاصول ص 489.
4- كفاية الاصول ص 339.
5- سورة الاسراء:36.
6- سورة يونس:59.
7- مصباح الاصول 2:152.

أقول:جميع ما يمكن أن يستدلّ به علي أنّه علم تعبّدا هو ما أفاده في نهاية الدراية و غيرها،و هي امور:

الأوّل:قوله عليه السّلام«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (1)دلّ علي إلغاء الشكّ عند رواية الثقة،و مرجعه إلي أنّه لا شكّ عند روايته،و هو معني كونه موجبا للعلم تعبّدا.

و اجيب عنه بأنّ المراد من التشكيك ليس التشكيك لسانا،بأن يقولوا نحن شاكّون،و لا التشكيك جنانا،بل المراد التشكيك العملي الذي يحصل بترك ما روي الثقة أنّه واجب،أو بفعل ما روي أنّه حرام (2).

و فيه أنّ التشكيك كان باللسان المتعقّب لترك روايته،ففي صدر الخبر أنّه ورد نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال.إلي أن قال:و قد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه و كتبوا منه،فأنكروا ما ورد في مذمّته.

ولكن يرد عليه أوّلا:أنّ في سنده أحمد بن إبراهيم المراغي.

و ثانيا:أنّه يدلّ علي عدم جواز التشكيك في رواية من وثّقه الامام المعصوم، و لا يدلّ علي عدم جواز التشكيك فيما يروي غيره من الثقات،فغاية ما يدلّ عليه أنّ ما رواه من وثّقه الامام يفيد العلم و هو كذلك.

الثاني:قوله عليه السلام:نعم،بعد سؤاله أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟دلّ علي أنّ معالم الدين يثبت بخبره ثبوتا تعبّديّا،و هو في معني أنّ قوله بمنزلة المعلوم تعبّدا،و العالم بقوله عالم تعبّدا.

و اجيب عنه بأنّه يدلّ علي أخذ المعالم منه،و لازمه العمل حيث لا عمل بلا5.

ص: 385


1- رجال الكشي ص 449 طبع النجف الأشرف.
2- نهاية الدراية 3:145.

أخذ،فالأمر بالأخذ كناية عن الأمر بالعمل (1).

و فيه أنّه يحتمل أن يكون المراد معالم الدين الواقعيّة التي عند المعصومين، فيكون الأخذ كناية عن طريقيّة قوله،و غاية ما يدلّ عليه أنّ الذي وثّقه المعصوم يفيد قوله العلم.

الثالث:قوله تعالي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2)فإنّه إن كان من أدلّة حجّية الخبر أمكن استفادة تنزيل الخبر منزلة العلم؛إذ الظاهر منه الأمر بالسؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد علي الجواب.

و فيه ما ذكرناه في محلّه من أنّ الذكر عبارة عن الذكر الواقعي الذي لا خطأ فيه،و هو مخصوص بالمعصوم،و من كان يعلم الشيء بحيث يحصل من قوله العلم الوجداني.و أمّا السؤال من غير المعصوم،فلا يوجب جوابه العلم؛لأنّ العلم هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و السؤال من المعصوم يفيده.و أمّا غيره فلا،بل لو حصل القطع من قوله لم يحرز كونه علما؛لاحتمال كونه جهلا مركّبا.

الرابع:قوله عليه السّلام في المقبولة«و عرف أحكامنا»مع أنّ أدلّتها ظنّية سندا و دلالة.

و فيه أنّ المقبولة واردة في أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،و المتيقّن من غيرها أيضا أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و من ماثلهم،و هم لقرب العهد كانوا يعلمون بصدور بعض الأخبار،أو كانوا يعلمون أنّ الحجّية هي لقسم خاصّ من الأخبار بحيث كانوا يعتمدون علي العلم بالصدور أو العلم بالحجّية.

الخامس:السيرة العقلائية،فإنّهم يرون العامل بخبر الثقة عالما.

و فيه أنّ سيرتهم علي اتّباع العلم الحاصل من الخبر لا العمل بالخبر تعبّدا و جعله بمنزلة العلم.7.

ص: 386


1- نهاية الدراية 3:145.
2- سورة الأنبياء:7.

فالانصاف أنّه لا دليل علي تنزيل قول الثقة منزلة العلم تعبّدا إن لم يحصل منه العلم الوجداني،أو الاطمئنان بناء علي كونه علما عرفيّا.

الدليل الثاني:الأخبار،كخبر داود بن سليمان،عن الرضا،عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،قال:من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات و الأرض (1).

و صحيح أبي عبيدة (2)،و سائر الأخبار المذكورة في الباب الأوّل من مقدّمات جامع الأحاديث.و هذه الأخبار تدلّ علي لزوم التثبّت في مقامي الافتاء و العمل، فينبغي مراعاة الاحتياط في المقامين،إلاّ في المقدار الذي قام الدليل العلمي علي حجّيته،فلا يكون افتاء بغير علم.

الدليل الثالث:الاجماع الذي ذكره السيّد المرتضي رحمه اللّه في مواضع من كلامه.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بأنّه لم يتحقّق لنا هذا الاجماع،و الاعتماد علي نقله تعويل علي خبر الواحد،مع معارضته بما سيجيء من دعوي الشيخ الاجماع المعتضدة بدعوي جماعة اخري الاجماع علي حجّية خبر الواحد في الجملة،و تحقّق الشهرة علي خلافها بين القدماء و المتأخّرين (3).

أقول:دعوي السيّد المرتضي الاجماع علي عدم حجّية خبر الواحد مؤيّدة بكلام العلماء القدماء،و انّ المشهور بين القدماء المنع عن العمل بخبر الواحد.

و سيأتي الكلام عليه.

و استدلّ المثبتون بوجوه:

الدليل الأوّل:الاجماع،ادّعاه الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة (4)،و جعله الدليل7.

ص: 387


1- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 38 الطبعة الجديدة.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:148 ب 1 ح 40.
3- فرائد الاصول ص 115.
4- عدّة الاصول ص 337.

الوحيد علي حجّية خبر الواحد،و هو عمل الطائفة المحقّة بالأخبار،ففي زمان حضور المعصومين يكون إجماعهم حجّة من باب قاعدة اللطف،و في زمان غيبتهم من باب اللطف و دخول المعصوم،ثمّ استدلّ علي تحقّق إجماعهم بثلاثة امور:إحالتهم إلي الكتب المصنّفة في الأخبار،و عدم قطع أحد منهم موالاة مخالفه و لا تضليله و تفسيقه و البراءة منه،و تمييزهم بين ثقات الرواة و ضعافهم ليعمل بما رواه الثقات.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قرّر الاجماع بوجوه ستّة ينبغي التعرّض لثلاثة منها:

الوجه الأوّل:الاجماع القولي علي حجّية خبر الواحد،و طريق تحصيله أحد وجهين،أوّلهما:تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلي زمان الشيخين،فيحصل من ذلك القطع بالاتّفاق الكاشف عن رضا الامام عليه السّلام.

أقول:ستعرف كلمات العلماء و أنّها تدلّ علي المنع عن حجّية خبر الواحد.

ثانيهما:تتبّع الاجماعات المنقولة،فمنها:ما ذكره الشيخ في العدّة من الاجماع علي العمل بخبر الواحد من عهد النبي صلّي اللّه عليه و اله إلي زمانه،و تمييز الطائفة رواة الأخبار ثقاتهم و ضعافهم،فلو لم يكن خبر الواحد حجّة لم يكن وجه للتمييز،و أيضا أنّه لو كان العمل به فسقا كالعمل بالقياس كان ينبغي أن تنقطع الموالاة بينهم؛لأنّهم عملوا بأخبار الآحاد،و لذلك اختلفوا فيما بينهم لاختلاف الأخبار.

أقول:أمّا الاجماع علي العمل بخبر الواحد،فنحن نطالب الشيخ بدعوي الاجماع علي كونهم يعملون بخبر الثقة تعبّدا،فلعلّهم عملوا بما عملوا من الأخبار لوجودها في الكتب المعروضة علي الأئمّة عليهم السّلام،أو لكونها متكرّرة يطمأنّ بعدم اتّفاقهم علي الكذب فيها،أو لأنّهم يعلمون صدق رواتها،فحصل لهم العلم من أخبارهم،و المطلوب في باب حجّية الخبر الواحد حجّية خبر الواحد العدل علي

ص: 388

الظاهر الذي لا يعلم صدقه،أو الأعمّ منه و من العدل الواقعي فيما لم يحصل العلم.

و قد ذكر السيّد المرتضي في الرسائل المنسوبة إليه:إنّا نعلم علما ضروريّا لا يدخل في مثله ريب و لا شكّ أنّ علماء الشيعة الاماميّة يذهبون إلي أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة،و لا التعويل عليها،و انّها ليست بحجّة و لا دلالة،و قد ملؤوا الطوامير و سطروا الأساطير في الاحتجاج علي ذلك،و النقض علي مخالفيهم،إلي آخر كلامه،فلاحظ (1).

لكن قد يقال علي السيّد المرتضي رحمه اللّه أنّه لو لم ينكر عملهم بما أودعوه و أنكر كونه آحادا كان أحسن.

و أمّا ما ذكره من أنّهم لم يقاطع بعضهم بعضا،ففيه ما ذكره السيّد المرتضي و حاصله:أنّا نكفر في مخالفة الاصول لا في مخالفة الفروع (2).

و أمّا تصنيف الكتب في أحوال الرجال،فهو لتكثير قرائن الصحّة و الضعف.

و نقل ابن ادريس في السرائر (3)في مسألة سهم الامام روايتين في أنّه يصرف إلي الذرّية،و أجاب عنهما بضعف الخبر بالارسال و كفر الراوي لأنّه من الفطحيّة، و مخالفة الخبر للقرآن انتهي.فردّ الخبر بوجوه منها كون رواتها فطحيّة.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري (4)استشهد لدعوي الاجماع بكلام السيّد رضي الدين ابن طاووس رحمه اللّه،و كلام العلاّمة الحلّي رحمه اللّه،و بكلام المجلسي رحمه اللّه،و باعتراف السيّد المرتضي رحمه اللّه بذلك.لكن السيّد في بعض رسائله منع من ذلك،و قال الشيخ6.

ص: 389


1- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:24.
2- راجع رسائل الشريف المرتضي 3:270.
3- السرائر 1:495.
4- فرائد الاصول ص 156.

الأنصاري رحمه اللّه (1):إنّ هذا الاجماع المنقول مؤيّد بقرائن:

منها:دعوي الكشي الاجماع علي تصحيح ما يصحّ عن جماعة،فإنّه يدلّ علي عملهم بخبر الواحد.

و فيه أنّه يحتمل أن يكون هؤلاء منصوصا عليهم من قبل الأئمّة عليهم السّلام بالأخبار الواردة في مدحهم و التي عثرنا علي بعضها،أو علم جلالتهم بحيث حصل العلم من قولهم لا من باب الخبر الواحد.

و ناقش في حجّية الاجماع المذكور في كشف القناع،حيث قال:يظهر من جملة كلماته-أي:الشيخ الطوسي-عدم الاعتماد علي ما حكاه الكشي من الاجماع في شأن جملة من رواة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام،مع أنّه هو الذي رتّب كتاب الكشي،و ألّف كتاب اختيار رجاله،فيكون معتمدا عليه،و واقفا علي كلامه، و مع ذلك يصحّ أن يعوّل علي ما حكاه من الاجماع،و إن لم يعوّل علي الاجماع المنقول في الأحكام،فالأمر فيه أهون بلا ارتياب،و لا سيّما مع وجود موافق واحد للكشي بل أكثر علي ما ادّعاه،كما يظهر من كلامه فيما حكاه من الاختلاف في تعيين أولئك الرواة،إلي آخر ما أفاده (2).

و منها:دعوي النجاشي أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيل ابن أبي عمير.

و فيه ما سيأتي أنّ كتب أمثال ابن أبي عمير كانت معتمدة،و لمّا كانت كتب ابن أبي عمير قد تلفت أيّام استتاره،فكان يحدّث بما كان في كتبه من حفظه،فلهذا- أي:لأجل كون مرسلاته هي مسنداته-يسكنون إلي مرسلاته،و ليس ذلك من باب خبر الواحد،و لعلّه للاعتماد علي الكتب.

و منها:ما ذكره ابن إدريس في مقام دعوي الاجماع علي المضايقة،أنّ ابني2.

ص: 390


1- فرائد الاصول ص 158-159.
2- كشف القناع ص 242.

بابويه و الأشعريّين،كسعد بن عبد اللّه،و سعيد بن سعد،و محمّد بن علي بن محبوب و القمّيين أجمع،كعلي بن إبراهيم،و محمّد بن الحسن بن الوليد،عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة؛لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته إلي آخر كلامه.

أقول:إنّ ابن ادريس أراد إثبات دعوي الاجماع،بأنّ الاصوليّين و الأخباريّين يفتون بالمضايقة،ثمّ ذكر رحمه اللّه أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام الذين هم الرواة يعملون بالأخبار،ولكنّه مع ذلك لا يقول بحجّية خبر الواحد.

و منها:ما ذكره المحقّق إلي آخر كلامه (1).

أقول:إنّ ما ذكره المحقّق أولي بأن يدلّ علي عدم ثبوت الاجماع علي العمل بخبر الواحد؛حكي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه كلامه في الفرائد،و من جملة كلامه:

و أفرط آخرون في طريق ردّ الخبر حتّي أحالوا استعماله عقلا،و اقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا،لكن الشرع لم يأذن في العمل به.

ثمّ قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و الانصاف أنّه لم يحصل في مسألة يدّعي فيها الاجماع من الاجماعات المنقولة و الشهرة القطعيّة و الأمارات الكثيرة الدالّة علي العمل ما حصل في هذه المسألة،فالشاكّ في تحقّق الاجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة،اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب،لكن الانصاف أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان لا مطلق الظنّ،و لعلّه مراد السيّد من العلم،كما أشرنا إليه آنفا (2)انتهي.

و فيه مواقع للتأمّل،منها:أنّ الاجماع المحصّل في عصر واحد فضلا عن تمام الأعصار لم يتحقّق مع مخالفة من عرفت.1.

ص: 391


1- فرائد الاصول ص 160.
2- فرائد الاصول ص 161.

و منها:أنّه لو سلّم ثبوته،فيحتمل استنادهم إلي بناء العقلاء،أو الآيات و الأخبار.

و منها:أنّه لو سلّم ثبوته،فليس مقيّدا بحصول الاطمئنان في كلام واحد من المدّعين للاجماع،إلاّ أن يكون مراده أنّه مع ضمّ الشهرة و العمل الخارجي إليه يكون القدر المتيقّن صورة حصول الاطمئنان.

و منها:ما عرفت من أنّ مراد السيّد من العلم الاعتقاد المطابق للواقع.

و منها:أنّه لو سلّم جميع ذلك،فكيف يحصل الاطمئنان بصدور هذه الأخبار التي بأيدينا من كون رواتها ثقات،مع اشتراك بعض الأسماء و التمييز بالظنون، و كذا إثبات الوثاقة بالظنون و نحوها.

لكن الانصاف أنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه من العلم برضاء المعصوم بالاعتماد علي خبر الثقة المفيد للاطمئنان قريب جدّا،و انّ دعوي عدم حجّية خبر الثقة الواقعي الذي أحرز وثاقته أهل الاطّلاع و أهل الخبرة مع حصول الاطمئنان بمضمون الخبر بعيدة جدّا.

الوجه الثاني:الاجماع العملي من العلماء و المتشرّعة علي العمل بخبر الواحد، و هو المسمّي بالسيرة.

و فيه أنّه إن اريد سيرة المتشرّعة المتّصلة بزمان المعصومين عليهم السّلام التي علم امضاؤهم لها،فهي مسلّمة لا يمكن الخدشة فيها،لكن القدر المتيقّن منها هو خبر العدل الواقعي،أو الثقة في النقل الذي علم تحرّزه عن الكذب،و يحصل العلم من قولهما،إن كان إحراز عدالته أو وثاقته حاصلا من أسباب صحيحة عقلائية.

و لا يضرّ إن لم يحصل العلم من قولهما،لاحتمالات غير معتني بها عند العقلاء، كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر سيرة المسلمين،قال:و دعوي حصول القطع لهم في جميع الموارد بعيدة عن الانصاف،نعم المتيقّن من ذلك حصول الاطمئنان

ص: 392

بحيث لا يعتني باحتمال الخلاف (1).

أقول:الاشكال في حصول الاطمئنان،بحيث لا يلتفت إلي احتمال الخلاف لكونه احتمالا ضعيفا و أنّه كيف يحصل لنا ذلك من هذه الأخبار.

الوجه الثالث:السيرة العقلائية.قيل في توضيحها:إنّ من المعلوم أنّ حجّية الخبر ليست من تأسيسات الشارع قطعا،بل العمل بالخبر ممّا استقرّت عليه سيرة العقلاء،و لم يكن عمل الصحابة به و لا العلماء أيضا من جهة تلقّيهم ذلك من الامام عليه السّلام،بل عملوا به بما هم عقلاء،بل استقرّ بناء العقلاء طرّا من المسلمين و غيرهم من سائر الفرق حتّي الملاحدة و الدهريّة علي ترتيب الأثر علي خبر الثقة و الاعتماد عليه،و هكذا كان بناء الصحابة،ولكن لا من جهة تلقّيهم في ذلك شيئا من الأئمّة عليهم السّلام بل بما هم عقلاء،و لم يردع عن هذه الطريقة العقلائية الأئمّة عليهم السّلام مع كونهم بمرآهم و مسمعهم،فيكشف بذلك رضاهم بما عليه بناء العقلاء،و لا تكفي الآيات الناهية عن العمل بالظنّ للردع عنها لرسوخ العمل بها في أذهانهم بحدّ يحتاج الردع عنه إلي تنبيهات صريحة بتأكيدات شديدة (2)انتهي.

ثمّ إنّه جعل جميع ما استدلّ به علي حجّية الخبر من الآيات و الأخبار إمضاء لهذه السيرة،و لذا أورد علي الشيخ الطوسي رحمه اللّه حيث قال في العدّة:و أمّا ما اخترته من المذهب،فهو أنّ خبر الواحد إذا ورد من طريق أصحابنا الاماميّة الخ.

بأنّ ظاهر كلامه في العدّة بملاحظة القيود التي اعتبرها في موضوع الحجّية كون حجّيته بتأسيس من الشارع و تعبّد منه،و كون بناء الأصحاب علي العمل بها كاشفا عن ورود التعبّد بها من قبله،و هذا ينافي ما مرّ منّا من رجوع جميع أدلّة حجّية الخبر حتّي بناء الأصحاب علي العمل بها إلي جريان سيرة العقلاء بما هم عقلاء9.

ص: 393


1- فرائد الاصول ص 99.
2- نهاية الاصول ص 519.

علي العمل بخبر الثقة و انّها الدليل العمدة في هذا الباب،و الأدلّة النقليّة أيضا وردت إمضاء لها و ليست بصدد التأسيس أصلا إلي آخر ما أفاده (1).

و ذكر في مورد آخر أنّ تقييد الشيخ بكون الخبر واردا من طريق أصحابنا ينافي سيرة العقلاء في العمل بخبر الواحد إن كان ثقة،ثمّ وجّهه.

و فيه أوّلا:أنّ سيرة العقلاء في الأمور المهمّة علي ترتيب الأثر علي ما يسكن إليه نفوسهم،و هو المسمّي بالعلم العادي بحيث لا يحتملون الخلاف احتمالا يعتني به،و نمنع تحقّق سيرتهم علي العمل بدون حصول سكون النفس و اعتقاد تحقّق المخبر به،كما في الاخبار عن موت زوج بحيث تعتدّ المرأة بمجرّد خبر الثقة،و إن لم تسكن نفسها إلي خبره،و هكذا غيره من الامور المهمّة.

و ثانيا:أنّه لو سلّمنا أنّهم يعتمدون علي الخبر و إن لم يحصل لهم العلم،لكن لو التفتوا إلي ما ورد عن الشرع من الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،و كذا الأخبار الناهية كذلك لرأوها رادعة عن سيرتهم،و حينئذ لا يعتمدون في الشرعيّات علي الخبر الواحد،بل انّ آية النبأ ربّما تدلّ علي لزوم التثبّت و التأمّل فيما حصل العلم به بدوا لعموم الناس،فإنّهم لبساطتهم يثقون بالأخبار.

و ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)من بنائهم علي العمل بالخبر الموجب للاطمئنان.إن أراد مع وجود احتمال الخلاف احتمالا عقلائيّا،و التفاتهم إلي مفاد الآيات و الأخبار،فهو ممنوع.

و اجيب عن ردع السيرة بالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم بوجوه:

أحدها:أنّها لا تكون رادعة عن سيرة العقلاء؛لاستلزامه الدور،و ذلك لأنّها تدلّ علي النهي بالعموم أو الاطلاق الظاهرين في أفرادهما،و حجّية الظهور من4.

ص: 394


1- نهاية الاصول ص 524.
2- فرائد الاصول ص 164.

باب سيرة العقلاء،فيتوقّف منعها عن السيرة علي حجّية السيرة،و يتوقّف حجّية السيرة علي عدم نهيها عنها،فلا بدّ من فرض حجّية سيرة العقلاء مطلقا،لتكون سيرتهم مخصّصة للعمومات،و إلاّ فيلزم من وجودها عدمها،فإنّ سيرة العقلاء إن كانت حجّة،فهي تدلّ علي حجّية العامّ و المطلق في أفرادهما.

و إن كان العامّ و المطلق حجّتين في مدلولهما،لزم من ردعهما عن سيرة العقلاء عدم حجّية العمومات و المطلقات،فلا بدّ من الالتزام بأنّ العمومات الناهية عن اتّباع غير العلم لا تمنع عن سيرة العقلاء.

و فيه أنّ سيرتهم علي العمل بالظهور قد أمضاها الشارع قطعا؛للعلم بأنّه كان بناء محاورته علي إلقاء مقاصده بالظواهر،بخلاف سيرتهم علي العمل بخبر الثقة، فإنّه لا يعلم إمضاؤها،فتكون العمومات رادعة عنها،فهما سيرتان:سيرة علي حجّية الظهور و هذه ممضاة شرعا قطعا،و سيرة علي حجّية خبر الواحد و لم يثبت إمضاء الشرع لها،فيردعها ظهور العمومات،مضافا إلي أنّ ما دلّ علي المنع عن اتّباع غير العلم من الآيات و الأخبار كالنصّ في الدلالة عليه.

ثانيها:ما ذكره في الكفاية،قال:لا يكاد يكون الردع بها إلاّ علي وجه دائر، و ذلك لأنّ الردع بها يتوقّف علي عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة علي اعتبار خبر الثقة،و هو-أي:عدم التخصيص-يتوقّف علي الردع عنها بها- أي:ردع العموم عن السيرة-و إلاّ لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها (1).

و فيه نظر واضح؛لأنّ العقلاء لا يمكنهم تخصيص حكم الشارع،نعم يتوقّف ردع العمومات علي عدم تخصيص الشارع لها.

ثالثها:ما ذكره في مباني الاستنباط أوّلا من أنّ النهي في الآيات الناهية ليس8.

ص: 395


1- كفاية الاصول ص 348.

مولويا،بل هي إرشاد إلي ما يحكم به العقل من عدم اغناء الظنّ،فلا تكون رادعة عن سيرة العقلاء.و ثانيا بأنّه لو سلّم كونها مولويّة و رادعة لكن عدم ارتداع المسلمين بعد نزول الآيات و استمرار عملهم علي العمل بخبر الثقة يدلّ علي عدم ردعها (1).

قلت:ظاهر النهي كونه مولويّا،و لا وجه لصرفه عن ظاهره بدون قيام قرينة عليه،و لو سلّم عدم كون الآيات الناهية مولويّة،فظاهر الأخبار الناهية كونها مولويّة،و لا وجه لصرفها عن ظاهرها.و أمّا عمل أصحاب الأئمّة عليهم السّلام بالأخبار، فلعلّه لوثوقهم و حصول العلم لهم.

و أمّا عمل المسلمين بخبر الثقة تعبّدا و عدم ارتداعهم عن العمل به،بعد التفاتهم إلي عمومات النهي عن اتّباع غير العلم في الكتاب و السنّة،فهو أوّل الكلام لو لم يكن ممنوعا.نعم يعملون بخبر الثقة إن كان معه سكون النفس إلي مضمونه،فيكون متابعة للعلم.

و لو سلّم عمل المسلمين بخبر الثقة مطلقا و إن لم يفد العلم،فالقدر المتيقّن منه خبر الثقة الذي يضعف معه احتمال عدم صدور مضمونه،لا مثل أخبارنا المبتلاة بدسّ الأخبار فيها علي ما قيل،و كون بعض رواتها فطحيّة و واقفيّة ممّن يصعب تحصيل العلم بوثاقتهم،خصوصا مع بعد العهد و خفاء القرائن،و كون تمييز المشتركات بالامور الظنّية.

و لو سلّم عملهم بخبر الثقة مطلقا،و إن لم يضعف معه احتمال عدم صدوره، فالقدر المتيقّن خبر من احرز وثاقته وجدانا،أو أخبر ثقة واقعي عن حسّ أو قريب منه بحيث لا يكون إخباره مستندا إلي رأيه و نظره.2.

ص: 396


1- مباني الاستنباط ص 352.

ثمّ إنّه كيف يمكن القول باتّصال سيرة المتشرّعة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام؟ مع أنّ القدماء منعوا عن العمل بخبر الواحد،و دليلهم عدم جواز الاعتماد علي غير العلم.

تتميم:

يمكن أن يقال بأنّ العقلاء ليس لهم بناء تعبّدي في العمل بخبر الثقة فيما يرجع إليهم،بل إنّما يعملون به إذا حصل لهم سكون النفس،بحيث يكون احتمال الخلاف غير معتني به عندهم.و أمّا في مقام احتجاج المولي علي العبد،فلهم بناء تعبّدي علي حجّية خبر الثقة الضابط المتثبّت،و إن لم يحصل الوثوق و سكون النفس من إخباره،لكن لا بدّ من إثبات إمضاء الشارع لسيرتهم،أو عدم ثبوت ردعه عنها.

و لا يبعد أن يكون المستفاد من مجموع ما استدلّ به علي حجّية الخبر الواحد، حجّية خبر من أحرز وثاقته أهل الاطّلاع بالمعاشرة،أو أخبر ثقة واقعي بوثاقته واقعا،و في هذين الموردين يحصل لعامّة الناس السكون إلي مضمون الخبر،و لعلّه يدلّ عليه قولهم عليهم السّلام«فلان ثقتي»بالاضافة إلي ياء المتكلّم،أو فلان ثقة مأمون، و أمثال هذه التعبيرات،لكن الاشكال في تعيين الثقات،و لا يمكن تعيينهم بمراجعة كتب الرجال،فلذا نقول بوجوب العمل بجميع الأخبار إلاّ القليل منها بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:المشهور بين القدماء المنع عن العمل بخبر الواحد

،فنذكر بعض كلماتهم:

قال في السرائر:قال المرتضي قدّس اللّه روحه:و إنّما أردنا بهذه الاشارة أنّ أصحابنا كلّهم سلفهم و خلفهم،متقدّمهم و متأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد،و من العمل بالقياس في الشريعة،و يعيبون أشدّ عيب علي الذاهب إليهما

ص: 397

و المتعلّق في الشريعة بهما،حتّي صار هذا المذهب لظهوره و انتشاره معلوما ضرورة منهم،و غير مشكوك فيه من أقوالهم (1)انتهي.

و يؤيّد ما ادّعاه من معلومية عدم عملهم بخبر الواحد تتبّع كلام جماعة من القدماء:

منهم:الشيخ المفيد،حكي كلامه الكراجكي في كنز الفوائد عن رسالة له في اصول الفقه،قال:ثالثها الأخبار و هي السبيل إلي إثبات أعيان الاصول من الكتاب و السنّة و أقوال الأئمّة عليهم السّلام،و الأخبار الموصلة إلي العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار:خبر متواتر،و خبر واحد معه قرينة تشهد بصدقه،و مرسل في الاسناد يعمل به أهل الحقّ علي الاتّفاق (2).

و قال أيضا:و الحجّة في الأخبار ما أوجب العلم من جهة النظر فيها بصحّة مخبرها و نفي الشكّ فيه و الارتياب،و كلّ خبر لا يوصل بالاعتبار إلي صحّة مخبره،فليس بحجّة في الدين،و لا يلزم به عمل علي حال.

و الأخبار التي توجب العلم بالنظر فيها علي ضربين:

أحدهما:التواتر المستحيل وروده بالكذب من غير تواطؤ علي ذلك،أو ما يقوم مقامه في الاتّفاق.

و الثاني:خبر واحد يقترن إليه ما يقوم مقام المتواتر في البرهان علي صحّة مخبره و ارتفاع الباطل منه و الفساد.

و التواتر الذي وصفناه هو ما جاءت به الجماعات البالغة في الكثرة و الانتشار إلي حدّ قد منعت العادة من اجتماعهم علي الكذب بالاتّفاق،كما يتّفق الاثنان أن يتواردا بالارجاف،و هذا حدّ يعرفه كلّ من عرف العادات.5.

ص: 398


1- السرائر 1:48.
2- كنز الفوائد 2:15.

و قد يجوز أن ترد جماعة دون من ذكرناه في العدد بخبر يعرف من شاهدهم بروايتهم و مخارج كلامهم،و ما يبدو في ظاهر وجوههم،و يبين من قصورهم أنّهم لم يتواطؤوا لتعذّر التعارف بينهم و التشاور،فيكون العلم بما ذكرناه من حالهم دليلا علي صدقهم و رافعا للاشكال في خبرهم،و إن لم يكونوا في الكثرة علي ما قدّمناه.

فأمّا خبر الواحد القاطع للعذر،فهو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالناظر فيه إلي العلم بصحّة مخبره،و ربّما كان الدليل حجّة من عقل،و ربّما كان شاهدا من عرف، و ربّما كان إجماعا بغير خلف،فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها علي صحّة مخبره،فإنّه كما قدّمناه ليس بحجّة،و لا موجب علما و لا عملا علي كلّ وجه (1)انتهي.

و محلّ الاستشهاد ما ذكره أخيرا بقوله«فمتي خلا خبر واحد من دلالة يقطع بها علي صحّة مخبره،فإنّه كما قدّمناه ليس بحجّة»و خبر العدل أو الثقة خارج عن الأقسام الثلاثة التي ذكرها،و هي الحجّة من عقل أو شاهد من عرف أو إجماع.

و قال في أوائل المقالات:لا يجب العلم و لا العمل بشيء من أخبار الآحاد، و لا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين،إلاّ أن يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه علي البيان،و هذا مذهب جمهور الشيعة و كثير من المعتزلة و المحكمة و طائفة من المرجئة،و هو خلاف لما عليه متفقّهة العامّة و أصحاب الرأي (2)انتهي.

قوله«ما يدلّ علي صدق راويه»لا يشمل خبر العدل أو الثقة.

قوله«خلاف لما عليه متفقّهة العامّة»لعلّه يريد أنّهم يعملون بخبر الواحد الذي لا يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه.9.

ص: 399


1- كنز الفوائد 2:28.
2- أوائل المقالات ص 139.

و حكي عن المفيد و المرتضي في السرائر المنع عن العمل بخبر الواحد،حيث قال:فإن كان شيخنا أبو جعفر عاملا بأخبار الآحاد،فلا يجوز له أن يعمل بهذه الرواية إذا سلّمنا له العمل بأخبار الآحاد تسليم جدل علي ما يقترحه و ذكره في عدّته،و إن كان مخالفا لإجماع أصحابنا سلفهم و خلفهم،حتّي انّ المخالفين من أصحاب المقالات يذكرون في كتبهم و مقالات أهل الآراء و المذاهب أنّ الشيعة الاماميّة لا تري العمل في الشرعيّات بأخبار الآحاد،و شيخنا المفيد ذكر ذلك أيضا في كتاب المقالات الذي صنّفه.و مذهب السيّد المرتضي و مقالته في ذلك فأشهر من أن يذكر.

و ما أظنّ خفي علي هذين السيّدين الأوحدين العالمين مقالة أهل مذهبهما،بل ربّما لم يكن لأصحابنا في المتقدّمين و المتأخّرين أقوم منهما بمعرفة المقالات و تحقيق اصول المذهب و معرفة الرجال،و خصوصا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان،فإنّه خرّيت هذه الصناعة (1)انتهي.

لكن ربما يظهر من بعض كلماته مراعاة السند في الحكم بصحّة الخبر،كما قال الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق:و الذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معوّل به و لا مرضي الاسناد،و الأخبار الصحيحة بخلافه (2).

لكن كلماته الاخر أصرح في عدم الاعتماد علي الخبر الواحد،كما قال أيضا:

و كتاب اللّه تعالي مقدّم علي الأحاديث و الروايات،و إليه يتقاضي في صحيح الأخبار و سقيمها،فما قضي به فهو الحقّ دون ما سواه (3).

و قال ابن البرّاج في المهذّب:و أمّا السنّة فيحتاج أن يعرف منها شيئا المتواتر0.

ص: 400


1- السرائر 3:289.
2- شرح الاعتقادات ص 189.
3- شرح الاعتقادات ص 200.

و الآحاد ليعمل بالمتواتر دون الآحاد (1)انتهي.فحصر الأخبار بين المتواتر و غيره.

أقول:و من لاحظ المهذّب عرف أنّه يعمل بالأخبار المودعة في الكتب الأربعة،فلعلّه يعتقد تواتر ما عمل به.

و قال الشيخ علاء الدين في إشارة السبق:و السنّة و حكمها في عدم الاحاطة بجميع الأحكام حكم الكتاب،و متواترها قليل بالنسبة إلي الآحاد الذي هو كثير، و اتّصاله به جائز إمّا بإعراض الناقلين عنه،أو باختلافهم فيه،أو بغيرهما من الأسباب،و ليس الآحاد مثمرا علما و لا موجبا عملا،و لا طريقا إلي العلم بشيء من الأحكام الشرعيّة (2)انتهي.

و قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي:و طريق العلم بفتياهم عليهم السّلام سماعه شفاها عنهم،أو بالتواتر عنهم،أو قول من نصّوا علي صدقه لكون كلّ واحد من هذه طريقا للعلم علي ما سلف لنا في أوّل الكتاب إلي آخر كلامه (3).

فخبر الواحد لا يدخل في السماع عنهم عليهم السّلام و لا التواتر و لا في نصّهم علي صدقه.

و قال ابن زهرة في الغنية:فإن قيل:إذا كنتم لا تعملون بأخبار الآحاد،فما الفائدة فيما يرويه آحادكم و يفتي به علماؤكم؟و هل هذا إلاّ مناقضة؟قيل:الفائدة في رواية كلّ واحد من محدّثي الشيعة ما سمعه من شيوخه الناقلين عن الأئمّة أن يؤدّي الأمانة في تبليغ ما سمعه ليحصل بروايته و رواية غيره للمكلّف طريق إلي العلم بالتواتر،و كذلك الفائدة في فتياكلّ واحد من علمائنا تأدية الأمانة بإذاعة ما6.

ص: 401


1- المهذّب 2:598.
2- اشارة السبق ص 113.
3- الكافي ص 506.

علمه ليصير بفتياه و فتيا أمثاله من العلماء لكلّ مكلّف سبيل من العلم بما أجمعوا عليه؛إذ لو لم يرو المحدّث ما سمعه و لا يفتي العالم بما علمه لانسدّ طريق العلم بالشرعيّات،و ليس في ذلك خلاف في اصولنا انتهي.

و قال ابن ادريس في السرائر:فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق:إمّا كتاب اللّه سبحانه،أو سنّة رسوله صلّي اللّه عليه و اله المتواترة المتّفق عليها أو الاجماع،أو دليل العقل (1).

و قال أيضا:و لا أعرج إلي أخبار الآحاد،فهل هدم الاسلام إلاّ هي (2).

و يظهر عدم الاعتماد علي خبر الواحد من الشيخ محمود الحمّصي،حكي كلامه في السرائر،و حكي عنه اعتراضه علي الشيخ الطوسي رحمه اللّه بإلزامه بأن يقول بحجّية خبر الثقة،و عليه فيصير إلي مذهب المخالفين في أخبار الآحاد (3).

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا من كلمات القدماء أنّ دعوي السيّد الاجماع علي عدم العمل بخبر الواحد غير بعيدة؛لأنّها مقرونة بقرائن الصدق.

و بذلك يندفع ما قيل من أنّ دعوي السيّد المرتضي الاجماع علي عدم حجّية خبر الواحد إنّما تكون حجّة من أجل أنّ الاجماع المنقول يرجع إلي نقل الحكم عن المعصوم،فهو خبر واحد،و لا يجوز ردّ حجّية خبر الواحد بخبر الواحد.

قال في كشف القناع:إلاّ انّهم-أي:الاماميّة-مع ذلك علي أصناف،فمنهم من أحال التعبّد بخبر الواحد في أحكام الشريعة من طريق العقل،و منع من وقوعه في الشرع،كالشيخ أبي جعفر بن قبة و أتباعه،و حكي المرتضي رحمه اللّه في التبانيات أنّ كثيرا من أصحابنا علي ذلك.و منهم من منع من وقوعه في الشرع خاصّة،كالسيّد المرتضي رحمه اللّه و ابني زهرة و إدريس و غيرهم،و هؤلاء كثير من قدماء الأصحاب أو1.

ص: 402


1- السرائر 1:46.
2- السرائر 1:51.
3- السرائر 3:291.

أكثرهم علي ما بيّن في محلّه.

و ادّعي السيّد و غيره أنّه مجمع عليه بين الاماميّة،بل من ضروريّات مذهبهم، و حكي ابن ادريس في آخر ميراث السرائر عن المفيد في كتاب المقالات أنّه عزي إلي الشيعة الاماميّة أنّها لا تري العمل بأخبار الآحاد في الشرعيات.

إلي أن قال:فكيف يقول بحجّيته-أي:حجّية الاجماع المنقول بخبر الواحد- من أشرنا إليهم من الأصحاب،مع استنادهم في حجّية الاجماع إلي العقل،و كثرة مداركهم العلميّة عندهم،و لا سيّما في تلك الأعصار الماضية،كما تنادي به كتبهم و يشهد به كلامهم في إنكار أخبار الآحاد و حججهم و من لم يصدق مثل زرارة فيما يتفرّد بنقله عن الصادق عليه السّلام بطريق السماع و المشاهدة بلا شائبة ريبة، و لا يقول بحجّيته و لا يعمل به،و لو ادّعي سماعه و مشاهدته و أخذه مرارا كثيرة عنه أو عن الباقر عليه السّلام أيضا،و كذا لو كان معه من لا يكمل عدد التواتر و لم توجد قرائن اخر موجبة للقطع بصدقه انتهي (1).

التنبيه الثاني:في كيفيّة عمل أصحاب الأئمّة و قدماء الأصحاب بالأخبار

؛لأنّ معرفتها دخيلة في اثبات الاجماع علي العمل بخبر الواحد،و الاجماع علي عدمه، و ذكروا في كيفيّة عمل القدماء وجوها:

أحدها:ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه و هو أنّهم يعملون بالخبر الذي يثقون و يطمئنّون بمؤدّاه،تقدّم نقل كلامه في المذاهب في العمل بخبر الواحد (2).

و كذلك نسب إليهم في هداية الأبرار (3).

و قال في الوسائل:الصحيح باصطلاح القدماء بمعني الثابت عن المعصوم

ص: 403


1- كشف القناع ص 240.
2- راجع الرسائل ص 176 ط المحقّقة و ص 106 ط الحجري.
3- هداية الأبرار ص 7-8.

بالقرائن القطعيّة و التواتر (1).

ثانيها:ما ذكره في مواضع من معجم الرجال،منها:ما في الجزء الأوّل في الردّ علي دعوي أنّ منشأ عمل الطائفة بمرسل ابن أبي عمير و أضرابه كونهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،قال:بل من المظنون قويّا أنّ منشأ ذلك هو بناء العامل علي حجّية خبر كلّ إمامي لم يظهر منه فسق،و عدم اعتبار الوثاقة فيه،كما نسب هذا إلي القدماء، و اختاره جمع من المتأخّرين،منهم العلاّمة كما في ترجمة أحمد بن إسماعيل (2).

قلت:سيتّضح أنّ النسبة المذكورة في غير محلّها.

و أمّا العلاّمة رحمه اللّه فقد حكي عنه الشهيد الثاني رحمه اللّه في الدراية اشتراط العدالة في قبول الخبر.

و ما ذكره في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن عبيد اللّه،حيث قال:و لم ينصّ علماؤنا عليه بتعديل و لم يرد فيه جرح،فالأقوي قبول روايته مع سلامتها من المعارض (3).فهو مناف لما ذكره في إسماعيل بن عمّار،قال:أخو إسحاق روي الكشي حديثا في طريقه ضعف أنّ الصادق عليه السّلام كان إذا رآهما قال:و قد يجمعهما لأقوام يعني الدنيا و الآخرة،و قد ذكرنا سند الحديث في الكتاب الكبير،و الأقوي عندي التوقّف في روايته حتّي تثبت عدالته (4).

ثالثها:العمل بخبر رواته مهملون،قال في قاموس الرجال:و هو الحقّ الحقيق بالاتّباع و عليه عمل الاجماع،فنري القدماء كما يعملون بالخبر الذي رواته ممدوحون يعملون بالخبر الذي رواته غير مجروحين،و إنّما يردون المطعونين،0.

ص: 404


1- وسائل الشيعة 20:64.
2- معجم رجال الحديث 1:77.
3- رجال العلاّمة الحلّي ص 17.
4- رجال العلاّمة الحلّي ص 200.

فاستثني ابن الوليد و ابن بابويه من كتاب نوادر الحكمة-إلي أن قال:-و استثني المفيد من شرائع علي بن إبراهيم حديثا واحدا في تحريم لحم البعير-إلي أن قال:-قال الشيخ في العدّة:و كذلك القول فيما يرويه المتّهمون و المضعفون إن كان هناك ما يعضد روايتهم و يدلّ علي صحّتها وجب العمل به،و إن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحّة وجب التوقّف في أخبارهم،فلأجل ذلك توقّف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها و لم يرووها و استثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من المصنفات انتهي كلام الشيخ.

بل المفهوم منه أنّه كما يكون الاجماع علي العمل بالمهمل يكون الاجماع علي العمل بخبر الفاسق إذا كان ثقة في مجرّد الحديث-إلي أن قال:-طريقة القدماء أوّلا الترجيح بالقرينة من دليل العقل أو النقل من الكتاب و السنّة و الاجماع الشامل للشهرة المحقّقة،و فيما ليس عليه قرينة العمل بالصحيح و الحسن و المهمل، و أمّا الموثّق فلا يعملون به إلاّ إذا لم يعارضه خبر إمامي و لو من المهمل و لم يكن فتواهم بخلافه،و الضعيف لا يعملون به أصلا انتهي كلام قاموس الرجال (1).

قلت:أمّا استثناء ابن الوليد الجماعة،فليس لكونهم مطعونين،بل لكون روايتهم في الغلوّ و التخليط كما سيأتي.

و أمّا استثناء المفيد الخبر المذكور،فلأنّ مضمونه خلاف الواقع،و إن كان رواته ثقاة،فلعلّه من الروايات المدسوسة،أو كونه صادرا علي خلاف الواقع لعلّة.

و أمّا ما استشهد به من كلام الشيخ في العدّة،فينبغي بيان مختاره حتّي يظهر أنّه ليس قائلا بحجّية خبر المهمل،قال:و أمّا ما اخترته من المذهب،فهو انّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالامامة،و كان ذلك مرويّا عن7.

ص: 405


1- القاموس 1:25-27.

النبي صلّي اللّه عليه و اله،أو عن واحد من الأئمّة عليهم السّلام،و كان ممّن لا يطعن في روايته،و يكون سديدا في نقله...جاز العمل بها (1).

أقول:اشترط في جواز العمل بالخبر الواحد ثلاثة امور:

الأوّل:كون الخبر من طريق أصحابنا.فأمّا أخبار العامّة و إن كان الراوي ممّن لا يطعن في روايته و كان سديدا في روايته،فسيأتي الكلام عليه.

الثاني:أن لا يكون ممّن يطعن في روايته،فلا يقبل خبر من طعن عليه بالغلوّ، فلو كان الراوي من أصحابنا و كان سديدا في نقله،لكنّه يروي أخبار الجبر و التشبيه اعتقادا بل للأعمّ منه كأن لا يشذّ عنه خبر،كما يأتي التصريح به،لا يكون خبره حجّة.

الثالث:أن يكون سديدا في نقله،بأن يكون ممّن يتحرّي الصدق و يكون ضابطا،فهو مساو للتعبير بكونه ثقة،المفسّر بكونه ثقة في مذهبه،و ثقة في نقله، و ثقة في ضبطه،و يدلّ علي أنّ المراد كونه ثقة عباراته الآتية.

منها:قوله في جواب من اعترض بأنّ هؤلاء رووا أخبار الجبر و التشبيه قيل لهم:ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر و التشبيه الخ (2).فلو كان يكتفي بأن لا يكون مطعونا لقال:ليس كلّ من لم يطعن عليه نقل حديث الجبر و التشبيه.

و منها:قوله في اشتراط العمل بأخبار الفطحيّة:إذا كانوا ثقاة في النقل (3).

و منها:ما ذكره في اشتراط العمل بأخبار الغلاة،قال:فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد،فإذا انضاف إلي روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك،و يكون ذلك لأجل4.

ص: 406


1- عدّة الاصول 1:126.
2- عدّة الاصول 1:131.
3- عدّة الاصول 1:134.

رواية الثقة دون روايته (1).إلي غير ذلك.

و لو كان ما ذكره صحيحا من أنّهم يعملون بخبر راويه مهمل،لجاز العمل بالمرسل إذا علم أنّ مرسله لا يرسل عن ضعيف،مع أنّ الشيخ قال:إنّما يعمل بمرسلات ابن أبي عمير لأنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة،و لم يقل يعملون به لأنّه لا يرسل إلاّ عن غير المطعون،و قد ردّ خبر عمران الزعفراني لأنّه مجهول (2).

بل المستفاد من كلام الشيخ في العدّة اعتبار الوثاقة في الراوي عند الجميع، و لو كانوا يكتفون بكونه مهملا لم يكن وجه لذلك.

حيث قال:و الذي يدلّ علي ذلك إجماع الفرقة المحقّة علي العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في اصولهم لا يتناكرون ذلك،و لا يتدافعونه حتّي انّ واحدا منهم إذا أفتي بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟فإذا أحالهم إلي كتاب معروف أو أصل مشهور،و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا، و سلّموا الأمر في ذلك و قبلوا قوله،هذه عادتهم و سجيّتهم من عهد النبي صلّي اللّه عليه و اله و من بعده من الأئمّة و من زمان الصادق عليه السّلام الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته (3)انتهي.

و كذا يستفاد ذلك ممّا ذكروه في أوائل كتبهم من أنّ رواياتها عن الثقات،كما في المقنع و كامل الزيارة و تفسير علي بن إبراهيم و كمال الدين و تحف العقول و الاحتجاج و غيرها.فالظاهر أنّه ينبغي القطع بأنّ القدماء لا يعملون بخبر يكون جميع رواته إماميّين مجهولي الحال فضلا عن مطلق مجهول الحال.7.

ص: 407


1- عدّة الاصول 1:135.
2- الاستبصار 2:76 باب ذكر جمل من الاخبار يتعلّق بها أصحاب العدد ح 230- 231.
3- عدّة الاصول 1:126-127.

و أمّا ما ذكره من أنّهم يردون خبر المطعونين،فليس الأمر كذلك؛لأنّهم يعملون بالكتب المعتمدة،ككتب حسين بن سعيد و علي بن مهزيار و أضرابهما،مع اشتمالها علي الرواية عن محمّد بن سنان و غيره ممّن طعن عليه.

ثمّ لا يخفي أنّ كلام الشيخ الطوسي في مسألة حجّية خبر الواحد لا يخلو عن إجمال،و لذا قال في كشف القناع،بعد نقل عبارة من العدّة،قال:و قد اضطربت عباراته في أنّ ما ذكره يختصّ بما إذا كان الراوي عدلا إماميّا،أو ثقة بالمعني الخاصّ أو العامّ،أو لا يختصّ به بل يجري في كلّ ما وجد مرويّا في اصول أصحابنا الخ (1).

أقول:ظاهر كلامه في أوّل التهذيب،حيث قال:ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك،إلي قوله:و أجتهد أن أروي الخ.انّ محلّ كلامه الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب،و انّه في مقام التعارض ربّما طعن في الاسناد إن لم يمكن التأويل،و مهما أمكنه يؤوّل حتّي لا يطعن في السند،و إن لم يمكن الترجيح فيتخيّر،و لعلّ الوجه في حجّية هذه الأخبار عنده كونها محلّ عمل الطائفة،أو إجماعهم علي نقلها،و هذا يوجب اعتبار الخبر.

و الذي يظهر منه هو العمل بالأخبار التي أودعها في التهذيب و الاستبصار مع مراعاة فتاوي العلماء المتّفقه علي المسألة،فربّما طرح الخبر لكونه شاذّا مخالفا لما اتّفق عليه الاماميّة،و في مقام تعارض الأخبار رجّح بعضها علي بعض،و إن لم يكن ترجيح قال بالتخيير،و إذا كان خبر لم يعارضه خبر آخر و لا يعرف فتوي الطائفة بخلافه عمل به أيضا؛لأنّه إجماع منهم علي نقله،فيظهر منه أنّه لا يريد طرح الأخبار،بل يريد العمل بها مهما أمكن،و هو طريق احتياط،فقد رأي أنّ7.

ص: 408


1- كشف القناع ص 217.

الأصحاب يعملون بهذه الأخبار،و رأي أنّ بعضها متعارض،و رأي أنّ الأصحاب صنّفوا كتبا في الرجال،و وثّقوا بعض الرواة و ضعّفوا بعضهم،و رأي أنّ بعض الأخبار مخالف لعمل الأصحاب،فأراد الجمع بين جميع ذلك.

فهو يعمل بخبر الثقة الواقعي الذي احرز عدم تعمّده الكذب،إلاّ إذا كان الخبر مخالفا لعمل الطائفة و يسمّيه شاذّا،و يعمل أيضا بخبر موافق لعمل الطائفة أو لنقلهم له من دون عمل،و يري أنّ عمل الطائفة مفيد للعلم،و نقلهم له بدون عمل علي خلافه من القرائن المفيدة لاعتبار الخبر،فلذا لا يلاحظ السند،هذا إذا لم تتعارض الأخبار،و إلاّ رجح بعضها علي بعض بالسند و غيره.

و لعلّه بذلك يندفع ما أورده الشهيد الثاني رحمه اللّه في كتاب الدراية،قال:و العجب أنّ الشيخ رحمه اللّه اشترط الايمان و العدالة في كتب الاصول،و وقع له في الحديث و كتب الفروع الغرائب،فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا،حتّي انّه يخصّص به أخبارا كثيرة صحيحة حيث تعارضه باطلاقها،و تارة يرد الحديث الضعيف لضعفه، و اخري يرد الصحيح معلّلا بأنّه خبر واحد لا يوجب علما و لا عملا كما هي عبارة المرتضي (1)انتهي.

ولكن قال في قبول الخبر الضعيف المعتضد بالشهرة رواية:و بهذا اعتذر للشيخ في عمله بالخبر الضعيف (2).

أقول:و الذي استقرّ بالبال القاصر بعد التتبّع في الجملة في كيفية عمل القدماء أنّه يظهر من بعضهم أنّهم كانوا يعملون بالكتب المعتمدة عندهم،و لعلّ ذلك كان إجماعا منهم علي العمل،فتكون أخبار تلك الكتب بهذا الاجماع،ممّا هي مقترنة بما يوجب العلم،و لعلّه مراد الصدوق في أوّل الفقيه من عدّ بعض الكتب أنّها7.

ص: 409


1- الدراية ص 26.
2- الدراية ص 27.

المرجع و عليها المعوّل،و سيأتي في محلّه نقل أقوالهم.و يظهر من بعض آخر العمل بما كان سنده معتبرا و لم يكن مخالفا للعقل و الكتاب،و من ثالث العمل بما اقترن بالقرينة.

التنبيه الثالث:أنّ ما ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه حجّيته من خبر الثقة المتحرّز من

الكذب

الذي يحصل الاطمئنان من خبره،بحيث كان الاعتناء باحتمال الخلاف قبيحا هو قليل في الأخبار،و إن قيّدناه مضافا إلي ذلك بما ذكرناه من أن يكون تشخيص وثاقته من طريق عقلائي و معاشرة أهل الفطنة و الاطّلاع يصير أقل،و هو القدر المتيقّن من سيرة العقلاء و سائر الأدلّة،و هذا المقدار لا يفي بمعظم الفقه، و الاقتصار عليه يوجب طرح أخبار كثيرة،فلذا نقول بلزوم العمل بجميع الأخبار بالكيفية التي بيّناها،و سيأتي مزيد توضيح لهذا.

التنبيه الرابع: في في التدافع الواقع حجّية الخبر الواحد

في التدافع الواقع بين ما عزاه السيّد إلي الأصحاب من عدم حجّية الخبر الواحد و بين ما عزاه الشيخ إليهم من خلافه،و لهم وجوه لرفع التنافي:

أحدها:أن يكون مراد السيّد من منع العمل بخبر الواحد هو الخبر الذي يرويه المخالفون،كما أشار اليه الشيخ في العدّة،قال:الذين أشرتم إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما كلّموا من خالفهم في الاعتقاد،و دفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار الخ (1).

و فيه أنّ السيّد ذكر في الذريعة (2)أنّه إذا لم يكن خبر الواحد حجّة سقط البحث عن المراسيل و تعارض الأخبار و نحو ذلك ممّا يتفرّع علي ثبوت الحجّية،و مراده مراسيل الشيعة و أخبارهم المتعارضة،و صرّح في مواضع من رسائله بأنّه لا يعمل بهذه الأخبار.

ص: 410


1- عدّة الاصول 1:128.
2- الذريعة ص 504.

ثانيها:أن يكون مراد الشيخ من حجّية خبر الواحد هو الخبر الموجود في مصنّفات أصحابنا،و يكون مراد السيّد من عدم حجّية خبر الواحد هو الخبر الواحد الذي ليس في مصنّفات أصحابنا،و إن كان راويه عدلا إماميّا،و هما متّفقان علي العمل بأخبار الآحاد الموجودة في مصنّفات أصحابنا،لكن الشيخ يدّعي أنّها آحاد و السيّد يدّعي أنّها مقرونة بقرائن تفيد العلم بمضمونها و صحّتها،و هذا الوجه يظهر من المحقّق،و ارتضاه في المعالم (1)،و اختاره بعض السابقين،و في هداية الأبرار (2).

و فيه أنّ السيّد صرّح في رسائله بعدم حجّية هذه الأخبار الموجودة في مصنّفاتنا،و الشيخ ادّعي الاجماع علي العمل بخبر الواحد من زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله، و لم يكن مصنّف منّا في زمانه.فالشيخ يعتقد حجّية خبر الواحد و إن لم يكن في مصنّفاتنا،و السيّد يدّعي عدم حجّية الأخبار المدوّنة في مصنّفاتنا و غير المدوّنة.

و أيضا قال الشيخ:إنّ الخبر إذا اقترن باحدي القرائن الأربع،فهو معلوم الصحّة، و الأصحاب قد عملوا بغير المقرون بالقرينة،سواء كان في المصنّفات أو لم يكن، لاحظ منع السيّد عن العمل بها في رسائله (3).

و لم يرض الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (4)بهذا الجمع،و انتصر للعلاّمة و قال:انّه فهم مراد الشيخ،لا كما فهمه المحقّق،قال:و الانصاف أنّ ما فهمه العلاّمة من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الامامي أظهر ممّا فهمه المحقّق من التقييد؛لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع علي العمل بالروايات المدوّنة في كتب2.

ص: 411


1- المعالم ص 198.
2- هداية الأبرار ص 68 و 96.
3- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:210 و 1:410 و 2:331 و 3:309 و غيرها.
4- فرائد الاصول ص 152.

الأصحاب علي حجّية مطلق خبر العدل الامامي،بناء منه علي أنّ الوجه في عملهم بها كونها أخبار عدول إلي آخر ما أفاده (1).

قلت:لا يبعد أن يكون مراد الشيخ كلا الأمرين،فهو يقول بحجّية خبر العدل أيضا-و إن لم يكن في المصنّفات-و هو الامامي المتحرّز عن الكذب،أي:العادل في الرواية؛لأنّه لم يكن لأصحابنا مصنّفات قبل زمان الباقر عليه السّلام،مع أنّ الشيخ استدلّ علي حجّية الخبر بالعمل من زمان النبي صلّي اللّه عليه و اله.

ثالثها:أن يكون مراد السيّد من اعتبار العلم هو الوثوق و الاطمئنان،و من منعه عن العمل بخبر الواحد الخبر الذي لا يفيد الوثوق،و مراد الشيخ من العمل بالخبر الواحد هو الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان.استحسنه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

حيث قال:و يمكن الجمع بينهما بوجه أحسن،و هو أنّ مراد السيّد قدّس سرّه من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان،فإنّ المحكي عنه في تعريف العلم ما اقتضي سكون النفس،و هو الذي ادّعي بعض الأخباريين أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعني لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.

الي أن قال:فيحمل انكار الاماميّة للعمل بخبر الواحد علي إنكارهم للعمل به تعبّدا،أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه علي ما يقوله المخالفون.

و الانصاف أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوي الاجماع علي أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس،و لو بمجرّد وثاقة الراوي،و كونه سديدا في نقله لم يطعن في روايته (2)انتهي.

و مراده من بعض الأخباريين هو صاحب هداية الأبرار (3)،فإنّه قال:فيكفي5.

ص: 412


1- فرائد الاصول ص 154.
2- فرائد الاصول ص 156.
3- هداية الأبرار ص 14-15.

النقل الي آخر كلامه.

أقول:هذا الوجه خلاف ظاهرهما،فقد عرفت أنّ مراد السيّد من العلم هو العلم الذي لا يحتمل معه الخلاف (1)،فإنّه قال في الذريعة:إنّ خبر الواحد لا يفيد العلم، بل يفيد غالب الظنّ و لا يكون حجّة (2).و لعلّه لا يساعده كلام الشيخ،فإنّه قال في العدّة:و إنّما قلنا ذلك لأنّ هذه الأدلّة توجب العلم،و الخبر الواحد لا يوجب العلم، و إنّما يقتضي غالب الظنّ،و الظنّ لا يقابل العلم (3)انتهي.

رابعها:ما حكاه في كشف القناع عن الاستاذ،و الظاهر أنّ مراده به الوحيد البهبهاني رحمه اللّه،من أنّ الاجماعات المتناقضة المنقولة في حجّية خبر الواحد و عدمها مبنيّة علي أنّ الأئمّة عليهم السّلام منعوا أوّلا من العمل به،و اشتهر ذلك بين الشيعة و لا سيّما متكلّميهم.و ادّعي المرتضي الاجماع عليه نظرا إلي مزيد انسه بكلامهم و كونه منهم،و جوّزوه ثانيا لما رأوا من اضطرار الشيعة إلي العمل به،ثمّ اشتهر ذلك بينهم و لا سيّما محدّثيهم،و ادّعي الشيخ الاجماع عليه لمزيد انسه بكلامهم و كونه منهم،قال في كشف القناع بعد حكايته:و لا يخفي ما فيه من الفساد من وجوه شتّي (4).

أقول:لو سلّم ما ذكر ففيه أنّ السيّد لم يدرك الزمان الأوّل،بل كان بعد الزمانين، فينبغي أن يعتقد جواز العمل به،مع أنّه خلاف ما في الذريعة،قال:و ذهب الفقهاء و أكثر المتكلّمين إلي أنّ العبادة قد وردت بالعمل بخبر الواحد في الشريعة (5).9.

ص: 413


1- راجع رسائل الشريف المرتضي 1:15 و 1:204.
2- الذريعة 2:517.
3- عدّة الاصول 1:100.
4- كشف القناع ص 453.
5- الذريعة 2:529.

أقول:و في نسخة:و ذهب أكثر الفقهاء و المتكلّمين.

فإذا لم تصحّ وجوه الجمع المذكورة،فإمّا أن يكون السيّد مخطئا في دعواه الاجماع،أو يسند الخطأ إلي الشيخ،لكن اسناده إلي السيّد بعيد؛لتأيّد دعواه بحكاية المنع عن غيره من القدماء.

فالجمع بين ادّعائهما الاجماع بإرجاع أحدهما إلي الآخر غير وجيه.

قال في كشف القناع:و أمّا ما سبق إلي بعض (1)الأفهام من تأويل كلام المنكرين لأخبار الآحاد بحيث يوافق كلام المثبتين،فوهم ظاهر كما بيّن في محلّه،و ناهيك في ذلك ترك المرتضي في الذريعة البحث عن المراسيل و التراجيح و نحوها؛لذهابه إلي عدم حجّية أخبار الآحاد مطلقا.نعم لو قيل انّه اشتبه عليهم كثير من أخبار الآحاد فعملوا بها لذلك كان ممكنا (2)انتهي.

أقول:و يحتمل أن يكون ما تسالمت عليه الطائفة المحقّة هو عدم حجّية خبر الواحد بنحو القضية المهملة،بحيث يشمل ما كان مرسلا أو مسندا بواسطة رواة ضعاف،و اشتبه ذلك علي السيّد فظنّ أنّه ليس بحجّة مطلقا،و إن كان الراوي عدلا ثقة،و إن لم يشتبه في أصل نسبة عدم حجّية الخبر الواحد إلي الطائفة.

لكن الذي يظهر من رسائله و غيرها أنّه يعتقد أنّ الطائفة لا تعمل بالأخبار مطلقا،لا بهذه الأخبار المودعة في الكتب،و لا بخبر العدل الواحد الامامي أيضا (3).

التنبيه الخامس:في بيان ما يمكن أن يستند إليه السيّد المرتضي رحمه اللّه في

ص: 414


1- اشارة الي ما في الفوائد المدنيّة،و هداية الأبرار.
2- كشف القناع ص 241.
3- لاحظ الانتصار مسألة حرمة المزنيّ بها اذا كانت ذات بعل علي الزاني،و رسائله 1: 202،205،212 و 408 و 2:321 الي آخر المسألة الخامسة و 3:309.

مواضع بعد عدم اعتماده علي أخبار الآحاد:

الأوّل:في ما اعتمد عليه السيّد في المسائل الفقهية.

الثاني في ما يمكن أن يكون جوابا لما يرد علي السيّد،من أنّه ماذا كان يعتمد في شؤونه،و الحاجة ملحة إلي الأخذ بخبر الواحد.

الثالث:في موضع النزاع في خبر الواحد.

أمّا الأوّل،فالذي يمكن أن يقال:أنّه يظهر من الانتصار و الناصريات أنّ المسائل الشرعيّة كانت معنونة عند القدماء،و قد كتب فيها كتب،كمقنعة الشيخ المفيد،و كتاب ابن الجنيد،و ابن أبي عقيل و غيرهم،فكان بعض المسائل مفتي به، و السيّد كان يعتقد صحّته،فاحتاج إلي دليل يستدلّ به لهذه المسائل،و الدليل لا بدّ أن يكون علما أو علميا،و خبر الواحد لا يفيد العلم،و لا يعتقد حجّيته،فذكر من الآيات ما يستدلّ به (1)،و إن كان عندنا لا يدلّ.و من الأخبار ما اعتقد كونه متواترا،و ربما استدلّ بالاجماع أو الاحتياط أو دليل العقل،لكنّه لم يستدلّ بما هو خبر واحد في نظره.

و أمّا الثاني،فالسؤال أنّه ماذا كان يعتمد في اموره؟أكان يعتمد علي الظنون أم كان يحتاط فيها،بعد فرض ذهابه إلي عدم حجّية خبر الواحد؟

و يمكن أن يقال:إنّه كان في ذلك كسائر الناس يعتمد ما قامت عليه سيرتهم من العمل بالإخبارات المفيدة للعلم،و لو العادّي منه.

و أمّا الثالث،فالذي استفاده في كشف القناع من كلامهم،هو النزاع في حجّية الخبر الذي لم يبلغ حدّ التواتر،فلذا قال في ردّ القول بحجّية الاجماع المنقول:إنّا.

ص: 415


1- راجع الانتصار ص 165 و 166 تمسّك بقوله تعالي وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و تمسّك لعدم اعتاق ولد الزنا بقوله تعالي وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ و في ص 191 تمسّك بقوله تعالي وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و ص 218 و غيرها.

المانعين عن حجّية الخبر الواحد لا يقولون بحجّية الاجماع المنقول،قال:و من لم يصدّق مثل زرارة فيما يتفرّد بنقله من الصادق عليه السّلام بطريق السماع و المشاهدة بلا شائبة ريبة و لا يقول بحجّية و لا يعمل به و لو ادّعي سماعه و مشاهدته و أخذه مرارا كثيرة عنه،أو عن الباقر عليه السّلام أيضا،و كذا لو كان معه من لا يكمل به عدد التواتر و لم يوجد قرائن اخر موجبة للقطع بصدقه،فكيف يصدّق من كان جالسا في بيته لم ير إمام العصر و لم يسمع منه و لا ممّن سمع منه،إلي آخر كلامه فلاحظ (1).

و لذا أصرّ الشيخ الطوسي علي اثبات حجّية خبر العدل و الثقة.و أصرّ الشيخ الأنصاري علي اثبات حجّية خبر الثقة الموثوق بصدوره عن المعصوم بحيث كان احتمال الخلاف لا يعتني به.

و لكن الشيخ الطوسي جعل موضع النزاع خبر العدل علي الظاهر،ذكر ذلك في التبيان (2)،و سيأتي نقله،و في كلام المفيد رحمه اللّه عبارات يمكن أن يستفاد منها أنّ الخبر الصحيح حجّة.

منها:ما ذكره في المسائل السرويّة،قال:و الصحيح في حديث الأشباح الرواية التي جاءت من الثقات بأنّ آدم عليه السّلام الحديث،قال بعد ذكر الرواية:و هذا غير منكر في العقول،و لا مضادّ للشرع المنقول،و لو رواه الثقات المأمونون و سلّم لروايته طائفة الحقّ،فلا طريق إلي إنكاره (3)انتهي.فتأمّل،فإنّه لا يبعد أن يكون مراده رواية عدّة من الثقات له،مع تسلم الطائفة و قبولها ايّاه.

و تقدّم في عبارته المنقولة في كنز الكراجي،قال:و ربّما كان شاهدا من عرف، فإنّ وثاقة الراوي المحرزة بالوجدان من الشواهد العرفيّة علي الصدق.و تقدّم1.

ص: 416


1- كشف القناع ص 241.
2- التبيان 9:44.
3- المسائل السرويّة ص 210-211.

أيضا ما ذكره في أوائل المقالات من استثناء ما يقترن به ما يدلّ علي صدق راويه علي البيان.

و ما ذكره في شرح اعتقادات الصدوق،قال:هذا إن سلّمنا الأخبار التي رواها أبو جعفر رحمه اللّه،فأمّا إن بطلت أو اختلّ سندها،فقد سقط عنّا عهدة الكلام فيها، و الحديث الذي رواه عن زرارة حديث صحيح من بين ما روي إلي آخر كلامه (1).

لكن قال السيّد في الذريعة:اعلم أنّ من يذهب إلي وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يكثر كلامه في هذا الباب و يتفرّع؛لأنّه يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته و أمانته،فأمّا من لا يذهب إلي ذلك و يقول:إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي،فلا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا الي آخر كلامه (2).

الآيات الدالّة علي حجّية خبر الواحد

الدليل الثاني لحجّية خبر الواحد:الآيات،منها:قوله سبحانه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلي ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (3)و في قراءة فتثبّتوا.قال الطبري:و الصواب من القول انّهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعني (4)انتهي.

بيان الفسق كما في المقاييس:هو الخروج عن الطاعة،تقول العرب:فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت،حكاه الفرّاء (5).

ص: 417


1- شرح اعتقادات الصدوق ص 196.
2- الذريعة 2:555.
3- الحجرات:6.
4- تفسير الطبري 26:78.
5- مقاييس اللغة 4:502.

أقول:و الشايع إطلاقه في الكتاب في مقابل الايمان،و هو الكافر و الخارج عن المذهب،كالواقفي و الفطحي.

و النبأ كما في المقاييس:الاتيان من مكان إلي مكان،يقال للذي ينبأ من أرض إلي أرض نابي،و سيل نابي أتي من بلد إلي بلد،و رجل نابي مثله،و من هذا القياس النبأ الخبر لأنّه يأتي من مكان إلي مكان،و المنبيء المخبر (1).

و في تبيان الشيخ الطوسي:بنبأ أي:بخبر عظيم الشأن (2).

و التبيّن قريب من التثبّت،قال الأزهري:و يقال تبيّنت الأمر أي تأمّلته و توسّمته،و قال:قال النبي صلّي اللّه عليه و اله:ألا انّ التبيّن من اللّه و العجلة من الشيطان فتبيّنوا.

قال أبو عبيدة:قال الكسائي و غيره:التبيّن التثبّت في الأمر و التأنّي،و قرأ قول اللّه فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا (3)و قريء فتثبّتوا،و المعنيان متقاربان،و كذلك قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (4).

و قال ابن فارس:بين أصل واحد،و هو بعد الشيء و انكشافه،فالبين الفراق، و بان الشيء و أبان إذا اتّضح و انكشف (5).

و في المستدرك عن القطب الراوندي في لبّ اللباب،عن الصادق عليه السّلام:من له أدب فعليه أن يتثبّت فيما يعلم،و من الورع أن لا يقول ما لا يعلم (6).

و في فروق اللغة:الفرق بين العلم و التبيّن أنّ العلم هو اعتقاد الشيء علي ما هو3.

ص: 418


1- مقاييس اللغة 5:385.
2- التبيان 9:341.
3- النساء:94.
4- تهذيب اللغة 15:496 و 499.
5- مقاييس اللغة 1:327.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:151 ب 1 فرض طلب العلم ح 63.

به علي سبيل الثقة،كان ذلك بعد لبس أو لا،و التبيّن علم يقع بالشيء بعد لبس فقط،و لهذا لا يقال:تبيّنت أنّ السماء فوقي كما تقول علمتها فوقي،و لا يقال للّه «متبيّن»لذلك (1).

و في الصحاح:و استبان الشيء وضح،و استبنته أنا عرفته،و تبيّن الشيء وضح و ظهر (2).

و في أساس البلاغة:و تبيّن في أمرك تثبّت و تأنّ (3).

قلت:المستفاد من كلام اللغويّين و موارد استعمال الكلمة أنّ التبيّن هو العلم ببينونة شيء عن شيء،فهو لا يكشف عن خلاف،و النبأ الذي جاء به الوليد في ابهام،و لا بدّ من بينونة خبره عن الابهام علي نحو محسوس،و ذلك لا يمكن إلاّ بالفحص حتّي يحصل العلم،و هو الذي لا ينكشف عن خلاف.

و الجهل:خلوّ النفس عن العلم،و يطلق علي فعل الشيء بخلاف ما هو عليه، و لعلّ منه قوله تعالي قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (4)فجعل الهزء جهلا.

قال في المقاييس:جهل أصلان أحدهما خلاف العلم،و الآخر الخفّة و خلاف الطمأنينة (5).

قال الطبري في شأن نزول الآية:إنّه انزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لمّا بعثه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله إلي بني المصطلق ليأخذ منهم صدقاتهم،و انّه رجع إلي9.

ص: 419


1- فروق اللغة ص 76.
2- صحاح اللغة 5:2083.
3- أساس البلاغة ص 58.
4- سورة البقرة:67.
5- مقاييس اللغة 1:489.

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله و كذب علي بني المصطلق أنّهم لا يؤدّون الصدقات (1)انتهي.

أقول:في معني الآية احتمالان:

الاحتمال الأوّل:أن يكون فاسق نكرة اريد به الفرد المعيّن،و هو الوليد بن عقبة،نظير قوله تعالي وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ المراد به الفرد المعيّن، أي:إن جاءكم فاسق الذي هو الوليد بنبأ يجب تبيّن الحال عن نبأه،بحيث يصير المنبأ به محسوسا لا ينكشف عن خلاف،فإنّه لو لم يتبيّن الحال كذلك فربّما قتلتم قوما أبرياء فتندمون علي ذلك،فلا دلالة للآية علي حكم نبأ سائر الفسّاق،لكن يفهم عرفا حكم ما هو نظير موردها،فلو جاء فاسق غير الوليد بنبأ كذلك وجب التبيّن أيضا.

و يمكن أن يستفاد ذلك من التعليل؛لأنّ العلّة المذكورة في بيان الحكم تعمّم و تخصّص،و علّة وجوب التبيّن للنبأ المذكور هو الندم علي كشف خلاف ما ينبغي ترتّبه علي النبأ،نظير قوله«لا تأكل الرمّان فإنّه حامض»فإنّ التعليل يفيد عدم حرمة أكل لرمّان الحلو،و حرمة أكل حامض غير الرمّان،بل يمكن التعميم لكلّ نبأ الفاسق؛لأنّ العلّة هي الندم و هو موجود في جميع أخباره.

الاحتمال الثاني:أن يكون حكما كلّيا لكلّ فاسق و لكلّ نبأ،أي:كلّما جاءكم فاسق بنبأ يجب التبيّن عنه،و مفهومه لو كان له مفهوم أنّه لو كان المنبيء غير فاسق لم تكن هذه الكلّية ثابتة،نظير قوله«إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»فإنّه يدلّ علي أنّ كلّ ماء بلغ هذا الحدّ لم ينجّسه شيء،و ليس كذلك كلّ ماء لم يبلغ الكرّ فإنّه ينجّسه شيء و لو في الجملة.

و قد استدلّ بها علي حجّية خبر الواحد بوجهين:8.

ص: 420


1- تفسير الطبري 26:78.

الأوّل:مفهوم الشرط؛لأنّ حاصل معني الآية أنّ النبأ الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقا فتبيّنوا،و مفهومه أنّ النبأ الذي جيء به إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبيّنوا.

و فيه أنّ ظاهر القضية الشرطية أنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع،و هو نظير إن رزقت ولدا فاختنه و ليس له مفهوم؛لأنّ مفهومه أنّه إن لم يجيء فاسق بنبأ فلا موضوع للتبيّن.

الثاني:مفهوم الوصف،فإنّ التبيّن لو كان واجبا مطلقا في خبر الفاسق و العادل لم يكن وجه للتقييد بكون الجائي به فاسقا،بل يقول:إن جاءكم نبأ فتبيّنوا.

و فيه أنّه يحتمل أن يكون الآية لا يقاظ المؤمنين و إرشادهم إلي ما يحكم به العقل و الفطرة،فلا يبعد أن يكون المراد بالآية الاخبار بفسق الوليد،و التنبيه علي أنّ من لا يبالي بالكذب و سائر المعاصي لا يعتمد علي خبره أصلا،حتّي لو حصل من خبره علم عادي،بل لا بدّ من التثبّت و استكشاف الأمر من غير ناحية خبره.

فإنّ الآيات القرآنية في غاية البلاغة،و هي تلقي المطالب مستدلّة بحيث تقبلها العقول السليمة،مثل قوله سبحانه أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (1)فكأنّه استدلّ علي علمه تعالي بأنّ الخالق للشيء يكون عالما به،و قوله سبحانه أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ (2)ففي هذه الآية أوجب التثبّت عند الاخبار،معلّلا بأنّ الفاسق و هو الذي لا يبالي لا ينبغي العمل بإخباره ما لم يتثبّت،فربّما يصاب قوم بجهالة،و هذا المقدار يكفي أن يكون فائدة للقضيّة الشرطيّة و للوصف المذكور.

و الحاصل أنّ الآية في مقام الردع عن الاعتماد علي الأسباب غير الصحيحة كخبر الفاسق،فإنّه ربما يحصل سكون النفس من خبره لكثير من البسطاء.و لما0.

ص: 421


1- سورة الملك:14.
2- سورة إبراهيم:10.

كان الوليد مبعوث النبي صلّي اللّه عليه و اله،فالعادة قاضية باعتماد المسلمين علي خبره،فبيّنت الآية الكريمة أنّه فاسق،و لا ينبغي الاعتماد علي خبر من لا يبالي بالكذب.

و يشعر بما يقتضيه الفطرة السليمة أنّه بخلاف العادل المتحرّز من الكذب،فلا بأس بالاعتماد علي سكون النفس الحاصل من خبره،فلا يدلّ علي حجّية خبر العادل تعبّدا إن كان عدلا علي الظاهر الذي لا يحصل العلم من خبره.

و لو سلّم دلالته علي حجّية خبر العادل،فأوّلا:أنّ المنطوق يدلّ علي عدم حجّية خبر الفاسق واحدا كان أو أكثر،و مفهومه حجّية خبر العادل في الجملة و لو فيما إذا كان أكثر من واحد.

و ثانيا:أنّه يدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي؛لأنّ المراد بالفاسق ما ينطبق عليه مفهومه،و هو الفاسق الواقعي،لكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الواقعية من دون مدخليّة للعلم به و عدمه،فيقابله العادل الواقعي و يحصل من خبره سكون النفس.

و أمّا ما ذكره الشهيد الثاني في الدراية من أنّ مقتضي الآية كون الفسق مانعا من قبول الرواية،فإذا جهل حال الراوي لا يصلح الحكم عليه بالفسق،فلا يجب التثبّت عند خبره بمقتضي مفهوم الشرط،و لا نسلّم أنّ الشرط عدم الفسق،بل المانع ظهوره،فلا يجب العلم بانتفائه حيث يجهل،و الأصل عدم الفسق في المسلم و صحّة قوله،و هذه بعض آراء شيخنا أبي جعفر طوسي رحمه اللّه،فإنّه كثيرا ما يقبل خبر غير العدل و لا يبيّن سبب ذلك (1)انتهي.

ففيه أوّلا:أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة،و المخبر إمّا فاسق أو ليس بفاسق،و لا يخلو من أحدهما من دون دخل للعلم و الجهل في انطباق مفهوم5.

ص: 422


1- الدراية ص 65.

الفاسق علي مصداقه،فكما أنّه إن قطع إنسان بأنّ مايعا ماء في حين أنّه خمر لم يكن مصداقا للماء،كذلك إن جهل حاله.

و ثانيا:أنّ مذهب الشيخ هو اعتبار الوثاقة في الراوي،نعم اكتفي بالاسلام و عدم ظهور الفسق في باب الشهادة عند القاضي لا في باب حجّية الخبر.

و ينبغي التنبيه علي امور:

التنبيه الأوّل:أنّه ربّما يتمسّك بالآية الشريفة علي عدم حجّية خبر الواحد،كما يأتي عن الشيخ في التبيان،و حاصله:أنّ التعليل يعمّم و يخصّص،و مقتضي التعليل أنّ علّة التبيّن هو عدم الوقوع جهلا فيما يندم منه،و هذه العلّة موجودة في خبر العدل علي الظاهر.و أمّا العدل الواقعي أي الصادق قطعا،فيحصل العلم من خبره.

و الجواب من وجوه:

أحدها:أنّه ليس علّة،بل هو من فوائد تبيّن خبر الفاسق.

و فيه أنّ الظاهر كونه تعليلا.

ثانيها:أنّ الجهالة بمعني فعل ما لا ينبغي فعله،و بعبارة اخري:الجهالة العمليّة، كقوله تعالي يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ (1)و المعني أنّ العمل بخبر الفاسق من زيّ أرباب الجهالة لا من زيّ أرباب البصيرة،و خبر العادل و إن لم يفد العلم لاحتمال اشتباه و نحوه،لكن ليس العمل به من فعل ما لا ينبغي فعله،بل يمكن أن يقال بناء علي هذا المعني أنّ التبيّن الاطمئناني يكفي؛لأنّ الفعل معه لا يكون جهالة، فالتبيّن لو سلّم أنّ معناه التبيّن العلمي لكن بقرينة التعليل يحمل علي التبيّن الاطمئناني (2).

و فيه نظر،أوّلا:أنّا لا نسلّم أنّ الاقدام علي قتل القوم باطمئنان استحقاقهم ليس5.

ص: 423


1- سورة النساء:17.
2- لاحظ فرائد الاصول ص 125.

بسفاهة.

و ثانيا:أنّ إصابة القوم بالقتل إن كانوا مرتدّين واقعا و أرادوا قتل مبعوث النبي صلّي اللّه عليه و اله أمر حسن،و إن لم يكونوا كذلك فهو ظلم و قبيح،و المسلمون لا يدرون أنّ القوم علي أيّ الحالين،و حينئذ إن أصابوهم مع عدم العلم بحالهم ندموا إن تبيّن أنّهم لا يستحقّون القتل،فالغاية من التبيّن أن لا يندموا علي قتل القوم،و عدم الندم بعد قتلهم لا يكون إلاّ إذا صار الشيء بالتبيّن محسوسا لم يكن فيه احتمال الخلاف،فيكون قرينة علي أنّ المراد من الجهالة هو عدم العلم.

ثالثها:أنّ التعليل خاصّ بإصابة القوم و هو قتلهم،و لا يشمل سائر الموارد التي ليس فيها قتل النفس المحترمة،فيقتضي اختصاص التبيّن في خبر الفاسق في خصوص القتل،و لا يدلّ علي وجوب التبيّن في سائر أخبار الفاسق فضلا عن خبر العادل.

و فيه أنّ مقتضي إطلاق الصدر العموم،و كذا الغرض من التعليل عدم تحقّق الندامة،فالانصاف أنّ الآية في الدلالة علي المنع عن اتّباع غير العلم بل غير ما يتبيّن أظهر.

التنبيه الثاني:قيل:إنّ الفاسق مختصّ بالخارج عن الدين،و لا يشمل الامامي الفاسق؛لشيوع إطلاق الفاسق في الكتاب العزيز في مقابل المؤمن.

و الجواب:أنّ الروايات التي تمسّك فيها بالآية الشريفة علي أنّ من مصاديقه الكاذب تقتضي التعميم للكاذب (1).

التنبيه الثالث:أنّه يمكن أن يقال:إنّ ما دلّ علي ترتيب الأثر علي موضوع العدل علي الظاهر و هو المحرزة عدالته بالأمارات،كحسن الظاهر و الحكم علي2.

ص: 424


1- لاحظ تفسير نور الثقلين 5:82.

شخص بالعدالة بالاستصحاب،و البيّنة،يكون حاكما علي منطوق الآية،فيخرج العدل علي الظاهر من منطوقه،فلا تكون الآية مانعة عن قبول خبره.

قلت أوّلا:انّ الآية تدلّ علي أنّ جواز العمل بالخبر مشروط بأن لا يترتّب عليه الندم،أي:كان بحيث لم يحتمل فيه خلاف الواقع،و استصحاب عدم الفسق لا يثبت ذلك،و كذلك الأمارات الدالّة عليه.

و ثانيا:لا إطلاق فيما يدلّ علي ترتيب أثر العدالة علي موضوع العدل علي الظاهر بحيث يشمل ترتيب الأثر عليه مطلقا،بل هو مخصوص بباب الشهادة و باب الجماعة.

قال بعض الأخباريّين:الحقّ أنّ العدالة في الشاهد و إمام الجماعة مبنيّة علي الظاهر،و هي كونه مستور الحال إذا سئل عنه خلطاؤه و جيرانه قالوا:لا نعلم منه إلاّ خيرا،و في الراوي كونه متحرّجا عن الكذب ضابطا لما ينقله (1).

و سيأتي أنّه يعتبر كون المخبر أمينا ثقة.

التنبيه الرابع:ظاهر الأمر وجوب التبيّن عن خبر الفاسق،سواء اريد العمل بخبره أم لم يرد العمل به،فإذا أخبر الفاسق فليس لهم غمض العين عن خبره إن كان ممّا يتّصل بهم،بل يجب التبيّن عنه لئلاّ يقع الخلاف،و يمكن الاقتصار علي مورده،فإنّ النبأ علي ما ذكره الشيخ الطوسي هو الخبر العظيم الشأن،فإذا أخبر الفاسق بخبر عظيم الشأن وجب التبيّن عنه،و لو صحّ شأن نزول الآية كان موضوعه خبرا عظيما.

التنبيه الخامس:أنّه ربّما اشكل في شمول أدلّة حجّية الخبر الواحد للإخبار مع الواسطة.3.

ص: 425


1- هداية الأبرار ص 123.

و الجواب:أنّ الحكم ثبت علي طبيعة الخبر،فيشمل الخبر المتولّد من الخبر المحكوم بصدقه،مع أنّ الأخبار الدالّة علي حجّية الخبر تشمل الإخبار مع الواسطة،كما يأتي إن شاء اللّه.

و منها:قوله تعالي فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1).

وجه الاستدلال:أنّ قوله تعالي لِيَتَفَقَّهُوا معناه أمر و هو ظاهر في الوجوب، أو خبر و غاية للنفر.و قوله تعالي وَ لِيُنْذِرُوا غاية مترتّبة علي التفقّه،أو واجب في نفسه يتوقّف علي التفقّه.و قوله تعالي لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ غاية للانذار الواجب،فيكون الحذر بقبول قولهم تعبّدا واجبا؛لأنّ غاية الواجب واجب.

و يمكن المناقشة في الاستدلال المذكور بأنّ الفقيه،بل كلّ عالم كالطبيب و المهندس و غيرهما،في خبره عمّا يعلمه من الفقه و غيره،جهتان:

الاولي كونه أهل الخبرة و المعرفة بما يخبر به.

الثانية:أنّه صادق في إخباره،أو غير صادق،فالفقيه المخبر عن حكم الميتة من جهة لا بدّ أن يكون عارفا بما يخبر به من نجاستها أو طهارتها،و من جهة اخري لا بدّ أن ينظر في صدق اخباره و عدمه،و الآية الشريفة في مقام البيان من الجهة الاولي،و هي أن تكون طائفة من أهل المعرفة و الخبرة في الفقه لينتفع غيرهم بفقههم،و أمّا اعتبار كونهم صادقين في الاخبار عن فقههم،فهو مفروغ عنه و موكول إلي ما بني عليه العقلاء في قبول أخبار المخبرين،بعد إمضاء الشرع له،أو ما اعتبره الشارع حجّة.

و نظيره أن يقال لجماعة ليس لهم طبيب:لو لا أنفذتم من يتعلّم الطبّ لتنتفعوا2.

ص: 426


1- سورة التوبة:122.

بطبّه،فإنّ الغرض منه لزوم الانتفاع بطبابة الطبيب،و أمّا اعتبار صدقه فهو مفروغ عنه،فلا يمكن التمسّك بإطلاقه علي قبول قول الطبيب و إن لم يعلم كونه صادقا.

و لعلّه لذا أطلق في الآية و لم يقيّده بكونهم عدولا أو ثقات.

و ما ورد في تفسيرها في العلل حيث قال:«و ما فيه-أي:في الحجّ-من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة عليهم السّلام إلي كلّ صقع و ناحية كما قال اللّه الآية» (1)ليس في مقام بيان حجّية الخبر.و كذا خبر عبد المؤمن الأنصاري (2)و غيره.

ثمّ إنّه ربما يقال بأنّ صدر الآية في النفر إلي الجهاد،و هو قوله تعالي وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فلا يناسب النفر إلي محضر الرسول و تعلّم الفقه منه.

قلت:يحتمل أن يكون المراد من صدره النفر إلي تعلّم الفقه،أي:لا يقع خارجا نفر جميع المؤمنين؛لأنّ بعضهم لا يقدر جسما أو مالا،فهذا إخبار عن واقع خارجي توطئة لقوله فَلَوْ لا نَفَرَ و لا يخفي أنّ معني«لعلّ»هو الاحتمال الذي يبرز بصورة أنّه ينبغي وقوع متلوه،فليس مرادفا مع«شايد»و لا«اميد»في الفارسية،بل احتمال الوقوع الذي ينبغي أن يقع،و ليس إخبارا عن رجاء وقوع مدخوله.

و منها:قوله سبحانه وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (3)و الكلام فيه كالكلام في الآية المتقدّمة،فإنّه في مقام بيان تحصيل العلم من أهله،و أمّا اعتبار كون أهل العلم الذين يرجع إليهم صادقين في قولهم،فهو مفروغ عنه و موكول إلي طريقة العقلاء.

مع أنّه يدلّ علي لزوم تحصيل العلم،و هو الاعتقاد بالشيء علي ما هو به،و لا7.

ص: 427


1- جامع أحاديث الشيعة 10:226.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:92 ح 11.
3- سورة النحل:43،و الأنبياء:7.

يحصل إلاّ بالسؤال من المعصوم من الخطأ أو الحاصل علمه من تواتر و نحوه، و خبر العدل علي الظاهر أو الثقة لا يفيد العلم،و كذا فتوي المجتهد،فلذا لا تكون الآية دليلا علي حجّية أيّ منهما.

مع أنّ الذكر هو الكتاب،أو العلم الذي لا يتخلّف عن الواقع،كالعلم النازل من السماء،قال هود لقومه: أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ (1)فأهل الذكر من كان عنده التوراة الصحيحة غير المحرّفة،أو الانجيل،أو يعرف القرآن حقّ معرفته،و قد كان حين نزول الآيات علماء من اليهود عندهم التوراة الصحيحة،فهو عنوان كلّي ينطبق حين نزول الآية علي علماء أهل الكتاب الذين عندهم التوراة و الانجيل الصحيحتان غير المحرّفتين،و لو فيما يتعلّق بصفات الأنبياء كما هو مورد الآية، و ينطبق علي المعصومين عليهم السّلام أيضا.

و لو لم يعلم المراد بأهل الذكر لعدم معلوميّة المراد من الذكر،كفي ظهور قوله تعالي إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في أنّ السؤال لا بدّ أن يكون ممّن يحصل العلم من جوابهم بعد السؤال،بحيث يكون حصول العلم مستندا إلي جوابهم،في إفادة الاختصاص بمن يفيد قوله العلم،ليبطل الاستدلال بالآية علي حجّية خبر الواحد، أو حجّية فتوي المجتهد للمقلّد.

و منها:قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدي مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (2)قيل:إنّ الآية تدلّ علي قبول أخبارهم،و إلاّ كان وجوب الاظهار لغوا.

و فيه أنّ الآية تدلّ علي حرمة الكتمان و وجوب الاظهار لما يترتّب عليه من الفوائد،و لا دلالة فيها علي وجوب قبول الخبر تعبّدا،و إن لم يحصل العلم من9.

ص: 428


1- سورة الأعراف:63 و 69.
2- سورة البقرة:159.

خبره؛لأنّ الفاسق أيضا يحرم عليه كتمان الحقّ مع أنّه لا يقبل قوله تعبّدا.

و منها:قوله تعالي وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)قوله تعالي أُذُنٌ إسم للجارحة المخصوصة،و اطلق علي النبي صلّي اللّه عليه و اله مبالغة في أنّه يقبل كلّ ما سمع،قوله يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي:

يصدّقهم،كما في قوله سبحانه وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ (2).

وجه الاستدلال:أنّه سبحانه و تعالي مدح النبي صلّي اللّه عليه و اله بأنّه يصدّق المؤمنين، فيكون تصديق المؤمنين حسنا،و مقتضي حسنه ترتّب الأثر عليه.

و في حسن حريز التمسّك بالآية لإثبات تصديق المؤمنين،قال فيه:فقال إسماعيل:يا أبه انّي لم أره يشرب الخمر،إنّما سمعت الناس يقولون،فقال:يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول:يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين،فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم (3).

و في خبر حمّاد بن بشير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام،إنّي أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلي اليمن،فأتيت أبا جعفر عليه السّلام فقلت:إنّي اريد أن أستبضع فلانا،فقال لي:أما علمت أنّه يشرب الخمر؟فقلت:قد بلغني من المؤمنين أنّهم يقولون ذلك،فقال لي:صدّقهم،فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الحديث (4).

أقول:في معني الآية الشريفة احتمالات:3.

ص: 429


1- سورة التوبة:61.
2- سورة يوسف:17.
3- وسائل الشيعة 13:230 ح 1 و جامع أحاديث الشيعة 18:521 ح 5.
4- جامع أحاديث الشيعة 20:87 ح 3.

الأوّل:أنّه أذن خير لكم يصغي إلي ما تقولون،و لا يريد لكم ما هو شرّ لكم،و لا يرتّب الأثر علي ما تقولون،فإنّه يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين ما تبديه ألسنتهم دون ما تخفيه قلوبهم،أي:يظهر القبول عنهم و لا يكذّبهم مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلي المخبر به،فتصديقه للّه تصديق حقيقة و تصديقه للمؤمنين تصديق صورة.

و يشهد لاختلاف تصديق اللّه و تصديقه للمؤمنين،تكرار جملة«يؤمن» و تعدية الأوّل بالباء،و تعدية الثاني باللام،و يؤيّده ما في تفسير علي بن إبراهيم من أنّ المراد بالمؤمنين المقرّون بالايمان من غير اعتقاد (1).و علي هذا المعني من التصديق يحمل ما في خبر إسماعيل«إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم»فيكون قوله«يصدّق للمؤمنين»بيانا لقوله«اذن خير لكم».

قلت:هذا الاحتمال بعيد عن مساق الآية؛لأنّ صدر الآية في المنافقين الذين يؤذون النبي صلّي اللّه عليه و اله،و في ذيله انّ الذين يؤذون النبي لهم عذاب أليم،فيبعد إرادتهم من المؤمنين،بل ينبغي أن يكون المراد من المؤمنين الذين جعلوا في قبال الذين يؤذون رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله المؤمنين الخلّص.

قوله وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ لعلّ المراد به و رحمة لمن آمن مخلصا و حقيقة منكم،أي:من جميع الناس المؤمنين منهم و المنافقين الذين يتوبون عن نفاقهم و يؤمنون حقيقة،و أمّا ما ذكره علي بن إبراهيم فلم يسنده إلي الرواية.

الاحتمال الثاني:أن يكون المعني أنّه اذن خير لكم أيّها الناس الذين حوله،ثمّ بيّن المراد من كونه اذن خير،و هو أنّه يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين الخلّص،و كلمة اللام لعلّها علي تضمين معني التسليم لهم بقبول قولهم،فيصدّقهم و يرتّب الأثر0.

ص: 430


1- تفسير القمّي 1:300.

علي إخبارهم،و رحمة للذين آمنوا بألسنتهم،فيجاملهم و لا يعاقبهم بما يسمع فيهم،ثمّ قال تعالي:لا يغر هؤلاء انّه اذن خير لهم،و انّه رحمة لهم أن يؤذوه،و هم يزعمون أن لا شيء عليهم بل لهم عذاب أليم،و هذا المعني أقرب من الأوّل.

و ذكره في الكشّاف (1).

الاحتمال الثالث:أن يكون المعني اذن خير لكم لا يضرّكم بما سمع و يستر عليكم،ثمّ استأنف و قال:يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين الخلّص و رحمة لهم.

و أمّا خبر حريز،فالمحتمل فيه امور:

الأوّل:أن يكون المراد به تصديق جماعة من المؤمنين،و هم الذين حكم عليهم بالايمان الواقعي و إن لم يكونوا عدولا،أو لم يثبت عدالتهم؛لأنّه لو اريد تصديق كلّ واحد لقال:إن شهد عندك مؤمن،و لعلّه لا يقال بالجمع المحلّي إلاّ إذا كان هناك جماعة،كما أنّ الأمر كذلك في مثل أكرم العلماء،أي:أكرم كلّ عالم، فإنّه يقال ذلك إذا كان هناك علماء،فيدلّ علي حجّية الشياع،كما حمله عليه في الجواهر.

حيث قال:إذ هو كما تري كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلي أفراده قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما ممّا هو مذكور فيه،و به أدرجه فيما دلّ علي النهي عن ائتمان شارب الخمر،و منه يعلم أنّه لا مدخليّة لمفاده الذي يكون تارة علما،و اخري متاخما له،و ثالثة ظنّا غالبا في حجّيته،و إنّما المدار علي تحقّقه (2).

و فيه أنّ تصديق النبي صلّي اللّه عليه و اله للمؤمنين كان لآحادهم،و الاستشهاد بالآية يدلّ علي إرادة الآحاد.7.

ص: 431


1- الكشّاف 2:284.
2- جواهر الكلام 40:57.

الثاني:أن يكون المراد بالمؤمنين كلّ من أظهر الايمان،سواء كان مؤمنا واقعا أم كان منافقا واقعا،و حينئذ لا بدّ من التصرّف إمّا بتقييد المؤمن بالعادل أو الثقة،أو إرادة التصديق الصوري من قوله فصدّقهم.

الثالث:أن يكون المراد تصديق المؤمن الواقعي الذي لا يتعمّد الكذب و لا يعصي اللّه،و يحصل من قوله الوثوق.

الرابع:ما علّقه صاحب الوسائل علي هذا الخبر،فقال:فيه حجّية التواتر و الأخبار المحفوفة بالقرائن انتهي.و فيه أنّ العموم في المؤمنين للاستغراق الأفرادي.

و أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الاستدلال بالآية أوّلا:بأنّ المراد بالاذن السريع التصديق و الاعتقاد بكلّ ما يسمع لا من يعمل تعبّدا بما يسمع من دون حصول الاعتقاد.

و فيه نظر؛لأنّه نقص،و النبي صلّي اللّه عليه و اله منزّه عن ذلك،مع أنّه لا وجه للتقييد بكونه اذن خير،فإنّ من يعتقد ما يسمع لا فرق فيه بين الخير و الشرّ.

و أجاب ثانيا:بأن ليس المراد بالتصديق ترتيب آثار الواقع،و إلاّ لم يكن اذن خير لجميع الناس،إذ لو أخبره أحد بزنا مثلا فجلده لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبر عنه،بل المراد إظهار القبول عنه و عدم تكذيبه و طرح قوله رأسا،مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة إلي المخبر عنه الي آخر كلامه فراجع (1).

و أيّده بما عن تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السّلام من أنّه يصدّق المؤمنين؛لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين (2).فإنّ تعليل التصديق بالرأفة و الرحمة علي كافّة3.

ص: 432


1- فرائد الاصول ص 134.
2- تفسير العيّاشي 2:95 ح 83.

المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم علي الآخر،بحيث يترتّب عليه آثاره و إن أنكر المخبر عنه وقوعه؛إذ مع الانكار لا بدّ من تكذيب أحدهما،و هو مناف لكونه اذن خير و رؤوفا رحيما لجميع المؤمنين،فتعيّن إرادة التصديق بالمعني الذي ذكرنا (1).

و أيّده أيضا بما في تفسير علي بن إبراهيم من أنّ سبب النزول أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقا،و كان يقعد لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله فيسمع كلامه و ينقله إلي المنافقين و ينمّ عليه،فنزل عليه جبرئيل و قال:إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك،فدعاه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله فأخبره،فحلف أنّه لم يفعل،فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:قد قبلت منك فلا تعد.إلي آخره (2).فإنّ تصديقه للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه.

ثمّ وجّه خبر حريز بأنّ المراد من تصديق المؤمنين حمل إخبار المؤمن من حيث انّه فعل من أفعال المكلّفين علي أحسنه و صحيحه،و هو حمله علي أنّه صادق و ليس بكاذب،لا حمل أخباره علي كونه مطابقا للواقع بترتيب آثار الواقع عليه،و هو ظاهر الأخبار الواردة في أنّ حقّ المؤمن علي المؤمن أن يصدّقه و لا يتّهمه،خصوصا مثل قوله عليه السّلام:يا أبا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا،و قال:لم أقله،فصدّقه و كذّبهم (3).فإنّك إذا تأمّلت هذه الرواية و لاحظتها مع الرواية المتقدّمة-أي:خبر حريز-لم يكن لك بدّ من حمل التصديق علي ما ذكر انتهي ملخّصا (4).و ذكر نحوه في كتاب5.

ص: 433


1- فرائد الاصول ص 135.
2- تفسير القمّي 2:300.
3- بحار الأنوار 75:255.
4- فرائد الاصول ص 134-135.

القضاء و الشهادات (1).

أقول:ما ذكره من التأييد لا دلالة فيه،فإنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين الخلّص لا المنافقين،نعم يجاملهم و يداريهم،فإنّه علي خلق عظيم،و ليس فيما نقله القمّي أنّ ذلك تفسير لقوله«يؤمن»بل ظاهره أنّه تفسير لقوله«اذن خير لكم».

مع أنّ ظاهر هذا الخبر غير صحيح و مطروح؛لأنّ قبول كلام المنافق يستلزم تكذيب اللّه سبحانه،فهذا الخبر مطروح لمخالفته المذهب،إلاّ أن يحمل قوله صلّي اللّه عليه و اله «قد قبلت منك»علي أنّه أعذره،و لعلّه الظاهر من قوله صلّي اللّه عليه و اله«فلا تعد»بعد قوله:قد قبلت منك.

و أمّا استشهاده بخبر محمّد بن الفضيل علي حمل التصديق علي التصديق الصوري،ففيه أنّه خلاف الظاهر،و المراد بالتصديق فيه التصديق الواقعي،لكن يتعارض تصديق القسامة مع تصديق الذي نفي ما ذكرته القسامة في إثبات الواقع، و لذا يحتاط في ترتيب الآثار؛لأنّه يحتمل صدق القسامة،و المراد بتكذيبهم اسناد الخطأ إليهم كتكذيب البصر،كما يحتمل صدق من أنكر ما شهدت به القسامة.

و لا يبعد قوّة الاحتمال الثالث،و هو أن يكون قوله«يؤمن»جملة مستأنفة.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا عدم دلالة الآيات علي حجّية خبر العادل تعبّدا،بل لو سلّمنا دلالتها فإنّما تدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي.

و لذا قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الآيات:ثمّ إنّ هذه الآيات علي تقدير تسليم دلالة كلّ واحدة منها علي حجّية الخبر،إنّما تدلّ بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل و غيره بمنطوق آية النبأ علي حجّية خبر العادل الواقعي،أو من أخبر عدل واقعي بعدالته،بل يمكن انصراف المفهوم بحكم الغلبة و شهادة7.

ص: 434


1- القضاء و الشهادات ص 77.

التعليل بمخافة الوقوع في الندم إلي صورة إفادة خبر العادل الظنّ الاطمئناني بالصدق،كما هو الغالب مع القطع بالعدالة (1).

أقول:ينبغي أن يقول أو من أخبر عدل واقعي بعدالته واقعا،و لعلّه المراد.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ التبيّن فوق العلم البدوي الحاصل من الخبر،و انّ الاطمئنان بوجود شيء ليس تبيّنا له.

الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد

الدليل الثالث:الأخبار التي تدلّ علي حجّية خبر الواحد.

ينبغي قبل ذكر الأخبار تقديم مقدّمة،و هي أنّ بعض الاصوليّين من المتأخّرين قالوا:إنّ الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد لا تدلّ علي جعل الحجّية للخبر، و إنّما تدلّ علي إمضاء ما هو المسلّم عند العقلاء،و هو الاعتماد علي خبر الثقة،فإنّ عليه بناء العقلاء في جميع امورهم.و في بعض الأخبار تعيين أنّ فلانا ثقة،و هو يدلّ علي أنّ كبري حجّية قول الثقة أمر مفروغ عنه.

و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ايراده خبر عبد العزيز بن المهتدي:و ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي،فسأل عن وثاقة يونس ليرتّب عليه أخذ المعالم منه (2).

قلت:نمنع بناء العقلاء علي العمل بخبر الثقة تعبّدا في جميع امورهم حتّي في غير مقام الاحتجاج،بل بناؤهم علي العمل بما يوجب سكون النفس،فإذا أخبرهم من يعلمون صدقه حصل لهم العلم،و هو سكون النفس إلي قوله،و مضمون خبره.

و إن شئت استيضاح ذلك فارجع إليهم،تراهم أنّهم يثقون في امورهم بما يخبر به أهلهم و جيرانهم و أصدقاؤهم.نعم ربّما يتساهلون في بعض الامور الجزئيّة،

ص: 435


1- فرائد الاصول ص 136.
2- فرائد الاصول ص 139.

فيعملون بكلّ خبر،و أمّا ترتيب الأثر علي المخبر به المهمّ من موت قريب أو تجارة أو بيع دار أو غير ذلك،فلا يكون إلاّ مع حصول سكون النفس،و الناس مختلفون في حصول سكون النفس،فيثق بالأخبار أكثر البسطاء،بينما أهل الاطّلاع علي أحوال الناس لا يثقون إلاّ ببعض الأخبار.

و علي كلّ حال فليس بناء عملهم علي خبر الثقة مطلقا،حتّي مع عدم حصول سكون النفس،و لذا تراهم لو أخطأ الثقة مرّة واحدة في إخباره بأن أخبر بموت قريب قد رتّبوا آثار الموت علي إخباره،من النوح عليه و اعتداد امرأته،ثمّ تبيّن عدم موته،لم يقبلوا خبره بموت قريب آخر،أو ما هو بمنزلته في الأهمية،بل يتوقّفون عند خبره.

و بالجملة إنّ عمل العقلاء في امورهم التي لا يتساهلون فيها،و يريدون الوصول إلي الواقع،علي العلم الذي يحصل لهم من الأسباب العادية،و إن لم يكن حاصلا من الأسباب البرهانيّة،و يحصل العلم لهم من خبر الثقة،بل ربّما يحصل من خبر غيره ممّا لا يكون من الأسباب العقلائيّة،و قد ذكرنا في بحث دلالة الآيات أنّه يحتمل أن تكون آية النبأ رادعة عن القطع الحاصل لهم من خبر الفاسق،فلاحظ.

نعم يمكن أن يقال:إنّ العقلاء في مقام الاحتجاج يتعبّدون بخبر الثقة الواقعي، أو من أخبر ثقة واقعي بوثاقته،فإذا أخبر عن المولي ثقة ثابت الوثاقة عندهم بالمعاشرة أنّه أمر بكذا،أخذوا بقوله و إن لم يحصل العلم من قوله.

و أمّا الاكتفاء بخبر غير من ذكرناه ممّن وثّقه الثقة لا عن حسّ،بل عن امور اجتهاديّة،فلم يثبت بناؤهم عليه حتّي في مقام الاحتجاج،و سيأتي ما يوضح ذلك.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة،نقول:إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد أن نقل الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد،قال:و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل

ص: 436

بخبر الثقة (1).

ولكن قال في نهاية الاصول:إنّ الأخبار التي ذكرها الشيخ قدّس سرّه لا تبلغ حدّ التواتر الاجمالي.إلي أن قال:بأنّ الأخبار لا تنحصر فيما ذكر،بل هي كثيرة جدّا.

إلي أن قال:و بالجملة فكثرة الأخبار بحدّ يحصل القطع منها بكون حجّية الخبر أمرا مفروغا عنه بين العامّة و الخاصّة في عصر النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام،ثمّ ذكر أخبارا لا بدّ من المراجعة إليها (2)،فراجع.

ثمّ إنّي أذكر الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام لبيان حال الأخبار المرويّة عنهم عليهم السّلام من حيث الحجّية و عدمها،و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي:ما دلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم،و غير خاف أنّ من وثّقه المعصوم يحصل العلم من خبره،فهو ثقة واقعي؛لأنّ المعصوم لا يخطيء في كونه ثقة،و هي أخبار:

أحدها:ما رواه في الكافي عن محمّد بن عبد اللّه و محمّد بن يحيي جميعا،عن عبد اللّه بن جعفر الحميري،قال:اجتمعت أنا و الشيخ أبو عمرو رحمه اللّه عند أحمد بن إسحاق،فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف،إلي أن قال:و قد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق،عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:سألته و قلت:من اعامل أو عمّن آخذ و قول من أقبل؟فقال له:العمري ثقتي،فما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول،فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون.و أخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد عليه السّلام عن مثل ذلك،فقال له:العمري و ابنه ثقتان،فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان،و ما قالا لك فعنّي يقولان،فاسمع لهما و أطعهما فإنّهما الثقتان9.

ص: 437


1- فرائد الاصول ص 144.
2- نهاية الاصول ص 519.

المأمونان الحديث (1).

أمّا السند،فقال النجاشي:محمّد بن يحيي أبو جعفر العطّار القمّي شيخ أصحابنا في زمانه،ثقة عين كثير الحديث (2).

و قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في رجاله في باب من لم يرو عنهم:محمّد بن يحيي العطّار،روي عنه الكليني،قمّي كثير الرواية (3).و لم يذكره غيرهما،فهو غير معدّل بعدلين.

و لعلّ المراد بمحمّد بن عبد اللّه هو ابن جعفر الحميري،قال فيه النجاشي:كان ثقة وجها.و في كامل الزيارات روي عنه جعفر بن محمّد بن قولويه (4).

و قال النجاشي:عبد اللّه بن جعفر بن الحسن بن مالك بن الجامع الحميري أبو العبّاس القمّي شيخ القمّيين و وجههم (5).

و قال الشيخ في الفهرست:يكنّي أبا العبّاس ثقة (6).فهو أيضا غير مصرّح فيه بالوثاقة بعدلين،و إن كانت عبارة النجاشي يفيد الاعتماد عليه.

و أمّا دلالته،فهو يدلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم،فلا يتعدّي إلي غيره، أو خبر كلّ من كان ثقة واقعا،و كان الطريق إلي ثبوت وثاقته كلام مثل المعصوم.

و لا يخفي أنّ كبري حجّية قول الثقة الواقعي الموجب لسكون النفس إليه عادة مسلّمة،و السؤال عن وثاقة الأشخاص قد يكون لتطبيق الكبري علي الصغري،2.

ص: 438


1- جامع أحاديث الشيعة 1:269 ب 5 ح 1 عن اصول الكافي 1:329.
2- رجال النجاشي ص 353.
3- رجال الشيخ الطوسي ص 439.
4- معجم الرجال 16:259.
5- رجال النجاشي ص 219.
6- فهرست الشيخ الطوسي ص 102.

و قد يكون علي ما قيل لرفع بعض الاحتمالات الخاصّة بالأخبار المأثورة عن المعصومين من أجل ابتلاء أخبار أهل البيت عليهم السّلام ببليّة هي إدخال بعض الأخبار المجعولة و المكذوبة و المحرّفة فيها،و انتحال بعض الرواة المذاهب الفاسدة من الواقفيّة و الفطحيّة و غيرهما،و بعد اطّلاع الشيعة علي ذلك سألوا الأئمّة عليهم السّلام عن وثاقة بعض الأشخاص حتّي يرتفع عنهم احتمال الجعل و الكذب،و السؤال عن الوثاقة وقع بعد زمان الصادقين عليهما السّلام.

و علي كلّ حال فالمراد بقوله«فإنّه الثقة المأمون»الثقة الواقعي المأمون عن الخطأ،و كلّ من كان كذلك فقوله حجّة،فقول أبي الحسن عليه السّلام«ما أدّي إليك عنّي فعنّي يؤدّي»إخبار منه عليه السّلام علي أنّ ما يؤدّي مطابق للواقع.

كما قال السيّد في الذريعة:لو قال النبي صلّي اللّه عليه و اله:إذا أخبركم عنّي أبوذرّ بشيء فهو حقّ،لكانت الثقة حاصلة عند خبره.و لو قال صلّي اللّه عليه و اله:اعملوا بما يخبركم به فلان فهو صلاح لكم،وجب العمل به و إن لم يحصل الثقة،و يجري مجري تعبّد الحاكم بأن يعمل بعلمه،فتحصل له الثقة و تعبّده بأن يعمل بالاقرار فلا تحصل الثقة إلي آخر كلامه (1).

و الثقة المأمون في قوله عليه السّلام:«فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون»هو الثقة المأمون واقعا الذي ثبت عند أبي الحسن عليه السّلام و عند أبي محمّد عليه السّلام،و الثقة المأمون عن الكذب و الخطأ يحصل من قوله سكون النفس،و لا يبعد أن يكون هذا الارجاع للأعمّ من إخباره عن المعصومين و من افتائه بحرمة شيء أو حلّيته.

و إنّما قلنا إنّ المراد كونه ثقة مأمونا عند أبي الحسن عليه السّلام،لأنّ الثقة في اللغة هو أمن الخاطر و عدم التزلزل.5.

ص: 439


1- الذريعة 2:45.

قال في الصحاح:وثقت بفلان أثق بالكسر فيهما ثقة إذا ائتمنته،و الوثيق الشيء المحكم،و الجمع الوثاق،و يقال:أخذ بالوثيقة في أمره أي بالثقة (1)انتهي.

و إطلاقها علي الشخص:إمّا مبالغة إن كان مصدرا،أو هو وصف نظير عدل، يقال:رجل عدل،و رجلان عدلان،و رجال عدول.فالثقة هو الشخص الذي يأتمنه الانسان،و هذا يختلف باختلاف الأشخاص،فإذا كان الانسان من البسطاء،فربّما يثق بمن لا يثق به أهل الفطنة و الذكاء،فالثقة صفة قائمة بالشخص باعتبار وثوق الآخر به،و لذا يكون ثقة عند شخص و لا يكون ثقة عند الآخر.

و من أخبر المعصوم بوثاقته يكون معناه أنّ المعصوم يثق به،و هذا لا يحتمل في خبره الكذب،بل لو قلنا إنّ الثقة أمر خارجي،و هو كون الشخص ضابطا صادقا متحرّزا عن الكذب،و الطريق إليه هو علم المخبر،فإذا كان المخبر معصوما و أخبر بوثاقته،فهو ثقة واقعي بخلاف غيره،فلا يمكن إثبات حجّية خبر الثقة عند غير المعصوم من هذا الخبر؛لأنّه يدلّ علي حجّية خبر الثقة عند المعصوم عليه السّلام.

إن قلت:إنّ الثقة الواقعي ربّما يخطيء؛لأنّ الانسان في معرض السهو و النسيان.

قلت:إنّ قوله«فما قالا لك فعنّي يقولان»ظاهر في الاخبار عن عدم سهوهما علي الأقلّ فيما يخبران عنه عليه السّلام.

ثمّ لا يخفي أنّه يمكن أن يقال:إنّ الكبري الكليّة المرتكزة حجّية خبر كلّ من كان ثقة عند المعصوم،و الامام علّل قبول قوله بأنّه الثقة المأمون أي:عندي،فإذا كان عنده ثقة فلا بدّ أن يكون ثقة عند غيره أيضا،و أمّا إذا كان ثقة عند غيره فربّما لا يكون ثقة عند الامام.3.

ص: 440


1- صحاح الثقة 4:1562-1563.

ثانيها:ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة،عن جماعة،عن جعفر بن محمّد بن قولويه،و أبي غالب الزراري و غيرهما،عن محمّد بن يعقوب الكليني،عن إسحاق بن يعقوب،قال:سألت محمّد بن عثمان العمري رضي اللّه عنه أن يوصل،إلي أن قال في الجواب:و أمّا محمّد بن عثمان العمري فرضي اللّه عنه و عن أبيه من قبل،فإنّه ثقتي و كتابه كتابي (1).و الكلام فيه ما تقدّم.

ثالثها:خبر أحمد بن إبراهيم المراغي،قال عليه السّلام:فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روي عنّا ثقاتنا (2).و هو توبيخ في التشكيك فيما يرويه من هو ثقة عند المعصوم عليه السّلام،و مثله لا ينبغي التشكيك في خبره،فإنّهم راجعوا القاسم بن علاء فيما ورد في أحمد بن هلال و شكّكوا فيه،راجع القصّة في الكشي (3).فليس الخبر في مقام جعل الحجّة لخبر الثقة مطلقا عند المعصوم و غيره.

رابعها:ما في الكشي:محمّد بن مسعود،قال:حدّثني محمّد بن نصير،قال:

حدّثنا محمّد بن عيسي،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي القمّي،قال محمّد بن نصير:و حدّث الحسن بن علي بن يقطين بذلك أيضا،قال:قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام:جعلت فداك انّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني،أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال:نعم (4).

أقول:الظاهر أنّ محمّد بن نصير روي عن محمّد بن عيسي عن عبد العزيز، و روي أيضا عن الحسن بن علي بن يقطين عن عبد العزيز،و ظاهره أنّ لفظ«ثقة»4.

ص: 441


1- جامع أحاديث الشيعة 1:270-271 ب 5 ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:271 ب 5 ح 3.
3- رجال الكشي ص 449.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 24 عن الكشي ص 414.

موجود في رواية محمّد بن عيسي عن عبد العزيز،و موجود أيضا في رواية حسن بن علي عن عبد العزيز.

و قال النجاشي:قال أبو عمرو الكشي:فيما أخبرني به غير واحد من أصحابنا، عن جعفر بن محمّد عنه،حدّثني علي بن محمّد بن قتيبة،قال:حدّثني الفضل بن شاذان،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي،و كان خير قمّي رأيته،و كان وكيل الرضا عليه السّلام و خاصّته،فقال:إنّي سألته فقلت:إنّي لا أقدر علي لقائك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟فقال:خذ عن يونس بن عبد الرحمن.و هذه منزلة عظيمة.

و مثله رواه الكشي عن الحسن بن علي بن يقطين سواء (1).

و روي الكشي،قال:حدّثني علي بن محمّد القتيبي،قال:حدّثني الفضل بن شاذان،قال:حدّثني عبد العزيز بن المهتدي،و كان خير قمّي رأيته،و كان وكيل الرضا عليه السّلام و خاصّته،قال:سألت الرضا عليه السّلام فقلت:إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟قال:خذ عن يونس بن عبد الرحمن (2).

استدلّ بالخبر الأوّل علي أنّ كبري حجّية قول الثقة كانت مسلّمة عند الراوي و سأل عن صغراها و تطبيقها علي يونس بن عبد الرحمن.

و فيه نظر أمّا أوّلا:فلاحتمال أن يكون الكبري المركوزة عنده حجّية من وثّقه المعصوم في خصوص الأخبار الواردة من المعصومين عليهم السّلام؛لأنّهم كانوا يعيّنون أشخاصا للأخذ منهم،و كان في الرواة من يكذب و من ينتحل المذاهب الفاسدة.

و ثانيا:لو سلّم دلالته علي حجّية خبر كلّ ثقة،فإنّما يدلّ علي حجّية خبر الثقة الواقعي الذي يكون طريق إحرازه قول المعصوم و نحوه ممّا لا يحتمل فيه الخلاف.

و ثالثا:أنّه لا يبعد أن يكون هذه الأخبار الثلاثة متّحدة،فلا يثبت الخبر9.

ص: 442


1- رجال النجاشي ص 447.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 23 عن الكشي ص 409.

المشتمل علي تطبيق عنوان الثقة علي يونس بن عبد الرحمن،فلعلّه اختصّ به نسخة الكشي التي قال النجاشي:فيها أغلاط كثيرة.

و رابعا:أنّ الكشي روي عن عبد العزيز روايتين:احداهما مشتملة علي كلمة ثقة،و قال:إنّ حسن بن علي بن يقطين رواه أيضا،فتكون في روايته أيضا كلمة ثقة،لكن النجاشي روي عن الكشي الرواية التي ليس فيها كلمة ثقة،ثمّ قال:و مثله روي حسن بن علي بن يقطين.و ظاهره أنّ رواية حسن بن علي بن يقطين خالية عن كلمة ثقة،فيظهر خلوّ نسخة الكشي التي عند النجاشي عن تلك الكلمة.

خامسها:مرسل الصدوق،قال الصادق عليه السّلام لأبان بن عثمان:إنّ أبان بن تغلب قد روي عنّي رواية كثيرة،فما رواه لك فاروه عنّي (1).

سادسها:خبر مسلم بن أبي حيّة،إلي أن قال:ائت أبان بن تغلب،فإنّه سمع منّي حديثا كثيرا،فما روي لك عنّي فاروه عنّي (2).

سابعها:خبر أبان،إلي أن قال:صدق سليم (3).

و لعلّه يوجد أخبار اخر بهذا المضمون،فهذه الطائفة من الأخبار لا إطلاق لها يشمل من ثبت وثاقته من غير ناحية المعصوم،و لو سلّم شمولها لمن كان ثقة واقعا،فالقدر المتيقّن من ثبت وثاقته بمعاشرة أهل الاطّلاع علي سرائر الأشخاص لا كلّ من اعتقد في حقّه أنّه ثقة.

الطائفة الثانية:ما دلّ علي حجّية خبر الصادق،و هو خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال:سارعوا في طلب العلم،فو الذي نفسي بيده لحديث واحد في2.

ص: 443


1- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 13.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:273-274 ب 5 ح 14.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 32.

حلال و حرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا الحديث (1).و يحتمل إرادة الصادق الذي لا يخطيء و هو المعصوم.

و مثله خبره الآخر (2).و خبر عبد السلام (3).و خبر ميسر (4).و مرسل البلاذري (5).

و هذه الأخبار تدلّ علي حجّية خبر الصادق،و هو من كان خبره مطابقا للواقع قطعا،و هو منحصر في المعصوم و شبهه،أو من أحرز العقلاء صدقه،و التعدّي منها إلي من لم يحرز صدقه لا وجه له.

الطائفة الثالثة:ما دلّ علي إرجاعهم عليهم السّلام إلي أشخاص معيّنين تحفّظا للوصول إلي الأخبار الصحيحة الصادرة عنهم،أو أمرهم شخصا معيّنا أن يروي عنهم،أو تصحيحهم كتابا من كتب الرواة،و غير خفي أنّ التعدّي من هؤلاء إلي غيرهم لا يجوز إلاّ إذا كان مثلهم،لكن معرفة المماثلة مشكلة لنا،و هذه الأخبار هي:

خبر أبي حمّاد الرازي (6)،أرجعه علي بن محمّد عليهما السّلام إلي عبد العظيم،لكن سند الخبر غير واضح.و خبر أبان بن تغلب (7)،قد أمر فيه أبان بن تغلب أن يروي حديثا معيّنا،و في سنده أبو الحسن السوّاق.و خبر جميل (8)،أمره أبو عبد اللّه عليه السّلام6.

ص: 444


1- جامع أحاديث الشيعة 1:272 ب 5 ح 7.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:272 ب 5 ح 8.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:272-273 ب 5 ح 9.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 10.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 18.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:273 ب 5 ح 12.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 15.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 16.

أن يروي حديثا.و خبر أبي العبّاس البقباق (1)،أمره أبو عبد اللّه عليه السّلام أن يروي حديثا.

و صحيح ابن أبي يعفور،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلي أن قال:فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي،فإنّه قد سمع من أبي،و كان عنده مرضيّا وجيها (2).دلّ بعموم التعليل علي حجّية رواية من كان مرضيّا وجيها عند المعصوم.

و خبر مفضّل بن عمر،إلي أن قال:إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس،و أومأ إلي رجل من أصحابه،فسألت أصحابنا عنه،فقالوا:زرارة بن أعين (3).و يستفاد من صدر الخبر أنّ الامام عليه السّلام لا يرضي عن كلّ راو؛لأنّ بعضهم يتأوّل الحديث علي غير تأويله،و عيّن زرارة بن أعين لأنّه يعرف الحديث و ينقل صحيحا.

و خبر يونس بن يعقوب (4).و خبر علي بن المسيّب (5).و خبر داود بن القاسم (6).و خبر أحمد بن أبي خلف (7).و خبر داود بن القاسم الجعفري (8).و خبر السمرقندي (9).و خبر فورا (10).0.

ص: 445


1- جامع أحاديث الشيعة 1:274 ب 5 ح 17.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:274-275 ب 5 ح 19.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 20.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 21.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:275-276 ب 5 ح 22.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:276 ب 5 ح 26.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 27.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 28.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:277 ب 5 ح 29.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 30.

و مرسل الكشي (1).و مرسل النجاشي (2).و خبر سعد بن عبد اللّه (3).

و خبر محمّد بن الحسن بن شنبولة (4).و خبر عبد اللّه الكوفي (5).و خبر مفضّل بن عمر (6).و خبر داود بن سرحان (7).و مرسل جعفر (8).و سائر الأخبار الواردة في الباب (9).راجع هذه الأخبار في مظانّها و انظر ما تستفيد منها.

الطائفة الرابعة:ما دلّ علي أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كانوا يعملون بروايات الرواة،و هي حكاية فعلهم هذا،و القدر المتيقّن منه اعتمادهم علي رواية من يعلمون صدقه أو وثاقته،و هي أخبار كثيرة واردة في الباب الخامس من مقدّمة جامع أحاديث الشيعة (10).و خبر سماعة (11).و خبر محمّد بن حكيم (12).

الطائفة الخامسة:ما دلّ علي الترغيب في الرواية و تعليم الناس و حفظ رواياتهم بلا زيادة و لا نقصان و جواز نقل المعني.ا.

ص: 446


1- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 32.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:278 ب 5 ح 33.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:278-279 ب 5 ح 33.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 36.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 37.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 50.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 61.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:297 ب 5 ح 84.
9- جامع أحاديث الشيعة 1:298 ب 5 الي ح 88.
10- جامع أحاديث الشيعة 1:301-305 ب 5 ح 100-ح 113.
11- جامع أحاديث الشيعة 1:329 ب 7 ح 15 و 17 و 18 و 19،و 20 و يحتمل اتّحاد الجميع.
12- جامع أحاديث الشيعة 1:321 ب 7 ح 20 و 21 و يحتمل اتّحادهما.

و الظاهر أنّها ساكتة عن كون الخبر حجّة،لأنّها في مقام بيان رجحان نشر الحديث و حفظه،و هي:

خبر ابن أبي يعفور (1).و مرسل حكم بن المسكين (2).و خبر معاوية (3).

و مرسل محمّد بن أحمد (4).و مرسل محمّد بن عيسي (5).

و أخبار أخر واردة في الباب،فإنّها واردة في كيفيّة التحدّث و فضله،و لا دلالة لها علي حجّية خبر الواحد،فلعلّه لو تكرّر الحديث صار مستفيضا،و مثل هذه الأخبار في أنّها ليست في مقام حجّية الخبر الأخبار الواردة في علاج المتعارضين.

الطائفة السادسة:ما دلّ علي حجّية خبر الثقة،و هو خبر عمر بن حنظلة،قال:

ينظران إلي من كان منكم ممّن قد روي حديثنا الحديث (6).فإنّ إطلاقه يشمل كلّ من روي ممّن يكون عادلا فقيها صادقا،بقرينة قوله بعد ذلك«الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث»فإنّه قد فرض كون الراوي صادقا،و لذا يترجّح قول الأصدق عند التعارض.

و يمكن الاستدلال بقوله«قد رواهما الثقات عنكم»علي أنّ حجّية خبر الثقات كانت مفروغا عنها،و لكن المتيقّن منه من احرز وثاقته.و ناقش في نهاية الاصول في دلالة هذا الخبر،فراجع.0.

ص: 447


1- جامع أحاديث الشيعة 1:279 ب 5 ح 38.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:280 ب 5 ح 39.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 51.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:286 ب 5 ح 52.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:287 ب 5 ح 53.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:380 ب 7 ح 130.

و مثله مرفوعة زرارة (1).و خبر داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجلين اتّفقا علي عدلين الحديث (2).فإنّه يشمل العدل علي الظاهر،لكن قوله بعد ذلك«أورعهما»لعلّه يوجب إرادة العدل الواقعي.

و خبر الحسن بن الجهم (3)،لكن لا سند له،مع أنّه لا دلالة له علي حجّية خبر الثقة إلاّ ما هو المرتكز في ذهن السائل.و خبر الحارث بن المغيرة (4)،و لا سند له.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ايراد بعض هذه الأخبار:الظاهر أنّ دلالتها علي اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور واضحة،إلاّ انّه لا إطلاق لها؛لأنّ السؤال عن الخبرين اللذين فرض السائل كلاّ منهما حجّة و يتعيّن العمل بهما لولا المعارض (5).

الطائفة السابعة:ما يمكن أن يستدلّ بها علي حجّية خبر العدل علي الظاهر و الممدوح مدحا لا يبلغ العدالة و لا الوثاقة،و هي خبر محمّد بن عبيد الهمداني، قال:قال الرضا عليه السّلام:ما يقول أصحابك في الرضاع؟قال:قلت:كانوا يقولون:

اللبن للفحل حتّي جاءتهم الرواية عنك أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فرجعوا إلي قولك الحديث (6).و في دلالتها نظر؛لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و خبر موسي بن أكيل النميري،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:سئل عن رجل يكون1.

ص: 448


1- جامع أحاديث الشيعة 1:309 ب 6 ح 2.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 5.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 20.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 21.
5- فرائد الاصول ص 138.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:306 ب 5 ح 121.

بينه و بين أخ له منازعة في حقّ،فيتّفقان علي رجلين يكونان بينهما،فحكما فاختلفا فيما حكما،قال:و كيف يختلفان؟قلت:حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان،فقال عليه السّلام:ينظر إلي أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه (1).

و الحكم يتحقّق بإخباره عن المعصوم،و مقتضي مراعاة الأعدليّة كفاية الأعدليّة ظاهرا.أو يقال:إنّه تعتبر العدالة الواقعيّة لكن حسن الظاهر امارة عليها.

و خبر سماعة في رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟فقال:يرجئه حتّي يلقي من يخبره،فهو في سعة حتّي يلقاه (2).

و فيه أوّلا:أنّه يحتمل صيرورة المورد من موارد الشبهة التي يكون الوقوف عندها خيرا من الاقتحام في الهلكة،فأجاب الامام عليه السّلام بأنّه موسّع.

و ثانيا:أنّه ليس في مقام بيان حجّية خبرهما.

و خبر محمّد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قلت له:ما بال أقوام يروون عن فلان و فلان عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله لا يتّهمون بالكذب،فيجيء منكم خلافه،قال:

إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (3).

و فيه أوّلا:أنّ السؤال عن وجه الخلاف لا عن حجّية خبر غير المتّهم.

و ثانيا:أنّ معني عدم الاتّهام أنّه لا مجال لاحتمال الكذب فيهم،فتأمّل.

و خبر محمّد بن حكيم،قال:قلت لأبي الحسن عليه السّلام:جعلت فداك فقّهنا في الدين و أغنانا اللّه بكم عن الناس،حتّي انّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما8.

ص: 449


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 6.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 7.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:323 ب 6 ح 38.

يسأل رجل صاحبه إلاّ و تحضره المسألة (1).

و خبر علي بن سويد:لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا (2).

و خبر أحمد بن الفضل:إنّهم أقعدوا رجلا له حظّ من عقل يرد الخبر إليهم،قال:

لا بأس (3).

و خبر أبي خديجة:انظروا إلي رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا.و في خبره الآخر:اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا (4).

و الانصاف أنّ هذه الأخبار ليست في مقام جعل حجّية خبر الواحد،بل هي في مقام بيان الانتفاع بعلم هؤلاء،و أمّا اعتبار كونهم صادقين في إخبارهم فهو أمر مفروغ عنه،لا أقلّ من الشكّ في كونها في مقام البيان من جعل الحجّية للخبر.

و خبر أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:أيّما رجل كان بينه و بين أخ له مماراة،فدعاه إلي رجل من إخوانه ليحكم بينه الحديث (5).و هذا الخبر كسوابقه ليس في مقام جعل حجّية خبر الواحد.

و خبره الآخر:يا أبا محمّد انّه لو كان لك علي رجل حقّ،فدعوته إلي حكّام أهل العدل الحديث (6).و لا بأس بدلالته علي حجّية خبر العدل علي الظاهر،بناء علي ثبوت عدالة الحاكم بالبيّنة و نحوها،و يكون قوله حجّة حتّي فيما يكون حكمه حكما كلّيا مستندا إلي الاخبار عن المعصوم.7.

ص: 450


1- جامع أحاديث الشيعة 1:331 ب 7 ح 21.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:373 ب 7 ح 117.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:373-374 ب 7 ح 118.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:378 ب 7 ح 126 و 127.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:381 ب 7 ح 132.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:382 ب 7 ح 127.

و صحيح الحلبي،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء،فيتراضيا برجل منّا الحديث (1).و في دلالته علي حجّية الخبر نظر.

فالانصاف أنّ التمسّك بهذه الأخبار لإثبات حجّية خبر العدل علي الظاهر مشكل،و يظهر من الشيخ الطوسي في التبيان و عدّة الاصول أنّه لا يري حجّيته، و صرّح بعدم دلالة الأخبار الشيخ الأنصاري،و سيأتي نقل عبارته.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه قال بعد ايراد الأخبار:إلي غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضا الأئمّة عليهم السّلام بالعمل بالخبر و إن لم يفد القطع،و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة،إلاّ انّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك،كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة،و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها.إلي آخر ما أفاده (2).

ثمّ لا يخفي أنّ المتيقّن من الأخبار السابقة هو الرجوع إلي من علم كونه ثقة، أي:غير متعمّد للكذب معتقدا بدينه ضابطا،و إن لم يحصل من خبره الوثوق بالصدور عن المعصوم؛لأنّه ادّعي أنّ بناء العقلاء في مقام امتثال أوامر الموالي التي تصل بواسطة إلي العبيد علي كون الواسطة ثقة،و إن لم يكن بناؤهم علي العمل به في غير مقام الاحتجاج ما لم يحصل لهم العلم العرفي.هذا بناء علي أنّ حجّية خبر الثقة من باب إمضاء بناء العقلاء،و هو لا يخلو من إشكال؛لاحتمال التعبّد بحجّية خبر الثقة الواقعي.4.

ص: 451


1- جامع أحاديث الشيعة 1:382 ب 7 ح 134.
2- فرائد الاصول ص 144.

ثمّ إنّه في الكفاية في مقام الجواب عن الاستدلال علي حجّية خبر الواحد بخبر الواحد،قال:إنّ الأخبار التي تدلّ علي الحجّية متواترة إجمالا،ضرورة أنّه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم السّلام،و قضيّته و إن كان حجّية خبر دلّ علي حجّية أخصّها مضمونا،إلاّ انّه يتعدّي عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيّة،و قد دلّ علي حجّية ما كان أعمّ،فافهم (1).

و قال الشيخ الأنصاري:عليك بمراجعة ما قدّمنا من الأمارات علي حجّية الأخبار عساك تظفر فيها بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة عرفا إذا أفاد الظنّ و إن لم يفد الاطمئنان،بل لعلّك تظفر فيها بخبر مصحّح بعدلين مطابق لعمل المشهور مفيد للاطمئنان،يدلّ علي حجّية المصحّح بواحد عدل،نظرا إلي حجّية قول الثقة العدل في تعديله إلي آخر كلامه (2).

قلت:لا نجد خبرا كذلك،فان كان هو خبر عبد اللّه بن جعفر الحميري (3)المتقدّم،المشتمل علي التعليل في قوله«فاسمع له فإنّه الثقة المأمون».

ففيه أوّلا:أنّ رواته ليسوا كلّهم معدّلين بعدلين،فتأمّل.

و ثانيا:لعلّ المرتكز في ذهن السائل حجّية كبري قول من كان ثقة عند المعصوم،فطبّقه المعصوم علي المورد الخاصّ.

و ثالثا:لو سلّم فإنّما يدلّ علي حجّية خبر الثقة المأمون واقعا،و لا طريق إليه إلاّ العلم الحاصل من الأسباب الصحيحة،و اعتبار هكذا ثقة في أسناد الأخبار يوجب عدم وفائها بالأحكام الفقهيّة.

الطائفة الثامنة:ما دلّ علي عدم حجّية الخبر المعارض للكتاب و إن لم يكن له1.

ص: 452


1- كفاية الاصول ص 346.
2- فرائد الاصول ص 251.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:269 ب 5 ح 1.

معارض،أو الخبر الذي لا يوافق كتاب اللّه،و هو خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله:إنّ علي كلّ حقّ حقيقة،و علي كلّ صواب نورا،فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فدعوه (1).

لهذا الخبر سندان:في سند أحدهما السكوني،و سنده الآخر صحيح مروي في رسالة الراوندي الموجودة و لم يثبت كونها رسالته،و أن يكون طريق صاحب الوسائل إليها طريقا إليها بمناولته،بل لعلّه تيقّن من القرائن أنّ الرسالة للراوندي، ثمّ ذكر الطريق إلي الرسالة الواقعيّة.و إطلاق المخالف شامل للمخالفة بالعموم و الخصوص و الاطلاق و التقييد.

و خبر محمّد بن مسلم (2)،و الطريق إليه مرسل.و إطلاق المخالفة شامل للمخالفة بالعموم و الخصوص،و البرّ المذكور فيه شامل للعادل و غيره.

و المرسل الآخر (3).

و خبر هشام بن الحكم و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:خطب النبي صلّي اللّه عليه و اله بمني،فقال:أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته،و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله (4).و لا بأس بسنده خصوصا علي رواية المحاسن،و هو خاصّ بما يجيء عن النبي صلّي اللّه عليه و اله فيمكن الاختصاص به.

و خبر الحسن بن الجهم (5).و لعلّه متّحد مع حديثه الآخر (6)،و لا سند لكليهما،0.

ص: 453


1- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 8.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 12.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 13.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:314 ب 6 ح 18.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 20.

و موردهما الحديثان المختلفان.

و منها:ما دلّ علي طرح ما لا يوافق الكتاب،و هو خبر أيّوب بن الحرّ،قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:كلّ حديث مردود إلي الكتاب و السنّة،و كلّ شيء لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف (1).في السند أيّوب بن الحرّ،و هو الجعفي الثقة،فلا بأس بالسند.

و يمكن حمله علي أنّ كلّ شيء أصله في الكتاب و السنّة،و كلّ شيء في القرآن فما لا يوافقه فهو زخرف،و جميع ما صدر عن المعصومين من الأحكام فهو موجود في الكتاب ولكن لا تبلغه عقول الناس،بخلاف ما صدر عن أبي حنيفة و أضرابه.

و خبر أيّوب بن راشد،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (2).في السند علي بن عقبة و هو ثقة،و أيّوب بن راشد عدّه الشيخ في أصحاب الصادق عليه السّلام،و ليس له توثيق و لا مدح في الرجال.و يحتمل أن يكون المراد عدم الموافقة واقعا،كما تقدّم في خبر أيّوب بن الحرّ.

و خبر كليب الأسدي (3)أرسله العيّاشي عنه.

و مرسل ابن بكير،عن أبي جعفر عليه السّلام إلي أن قال:و إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده،ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم (4).و لعلّه خاصّ بجماعة،أو وارد في زمان خاصّ و هو زمان حضور المعصوم عليه السّلام،لأنّه قال:ثمّ ردّوه إلينا حتّي يستبين لكم.4.

ص: 454


1- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 10.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 11.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 14.

و خبر عبد اللّه بن أبي يعفور،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق به،قال:إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله،و إلاّ فالذي جاءكم به أولي به (1).

و لا بأس بسنده،بل هو موثّق علي رواية المحاسن،و الجواب حكم كلّي لا يختصّ بصورة الاختلاف،بل تشمل صورة كون الخبر واحدا و راويه ثقة،و يمكن حمله علي زمان خاصّ.

أجاب الشيخ الأنصاري رحمه اللّه عن الأخبار الدالّة علي طرح المخالف أوّلا:بأنّ المراد بالمخالفة هي المخالفة بالتباين لا الخصوص و العموم؛لأنّا نعلم صدور مخصّصات و مقيّدات لعموم الكتاب و إطلاقه عنهم عليهم السّلام.و قد صرّح بعض الأخبار بأنّه يوجد أحكام لا تفهم من القرآن،و منه يظهر أنّه ليست المخالفة للعمومات التي من قبيل قوله تعالي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مخالفة،و إلاّ لم يكن حكم إلاّ و هو داخل في احدي هذه العمومات.

و ثانيا:أنّا نفرض الكلام في الأحكام التي لم يرد فيها عموم من القرآن و السنّة.

و ثالثا:أنّ تخصيص العموم لو سلّم عدّه مخالفة،فتقييد الاطلاق أو بيان المجمل لا يكون مخالفة،فلا بدّ من حمل هذه الأخبار علي أحد امور ثلاثة:

أحدها:حملها علي الأخبار الواردة في اصول الدين من مسائل الغلوّ و الجبر و التفويض.

ثانيها:حملها علي صورة تعارض الخبرين،كما يشهد به مورد بعضها.

ثالثها:حملها علي خبر غير الثقة.

و أجاب عن الطائفة الدالّة علي عدم الأخذ بما لا يوافق الكتاب بعد العلم6.

ص: 455


1- جامع أحاديث الشيعة 1:314 ب 6 ح 16.

بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب عنهم عليهم السّلام بحملها علي محامل:

أحدها:الحمل علي ما ورد في اصول الدين من مسائل الغلوّ و نحوه.

ثانيها:الحمل علي أنّ ما لا يوافق القرآن عند أهله العالم به المعصوم عليه السّلام لم يصدر منهم و إن كنّا لا نفهمه من القرآن.

ثالثها:الحمل علي غير خبر الثقة بتخصيص ما دلّ علي اعتباره لهذه الأخبار.

رابعها:الحمل علي صورة التعارض،كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة.

ثمّ قال:لو سلّم دلالة الطائفتين علي حصر الحجّية بالخبر الموافق،فينبغي طرحهما؛لأنّهما لا تقاومان الأدلّة الدالّة الموجبة للقطع علي حجّية خبر الثقة انتهي مع توضيح (1).

و فيه أوّلا:أنّ هذه الأخبار ظاهرة في أنّ الأخبار التي لا يعلم صدورها عن المعصومين تقاس بالكتاب،و لا تشمل ما سمع الانسان من المعصوم عليه السّلام،أو علم صدوره عنه عليه السّلام،أو سمع ممّن أرجع المعصوم عليه السّلام إليه،فلا تشمل المخصّصات المعلومة للعمومات،و لا المقيّدات المعلومة للمطلقات،و العلم بصدورها لا يوجب حمل المخالفة في هذه الأخبار التي وردت في الأخبار التي لا يعلم صدورها عنهم علي المخالفة بالمباينة،فإنّ ما صدر عنهم يقينا من غير تقيّة بيان للكتاب، فإنّهم العالمون به المعصومون عن الخطأ.فالانصاف أنّ ما خالف الكتاب يشمل المخالفة لعموم الكتاب.

و ثانيا:أنّ الكلام المشتمل علي العموم و الخصوص إذا كان لمتكلّم واحد يكون5.

ص: 456


1- فرائد الاصول ص 115.

الخاصّ قرينة علي العامّ،و أمّا إذا كان الخاصّ في مقابل العامّ الصادر عن متكلّم آخر فإنّه يصدق المخالفة،مثلا جواز أكل المارّة مخالف لقوله تعالي لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ (1)و كذا جواز الربا بين الوالد و الولد بالنسبة إلي آية تحريم الربا من دون فرق بين العامّ و المطلق الذي في مقام البيان.

فالأولي في الجواب بعد ما عرفت من المناقشة في سندها و دلالتها أن يقال:إنّ بعضها خاصّ بمورد خاصّ لا يتعدّي إلي غيره و هو خبر هشام بن الحكم (2)و غيره.و بعضها محمول علي أنّ كلّ ما يقوله المعصوم فهو مأخوذ من الكتاب و إن لم يبلغه عقول الرجال،كما ورد في خبر حمّاد (3)،و خبر سماعة (4)،و خبر سعيد الأعرج (5)،و خبر مرازم (6)،إنّ كلّ ما يقولون فهو موجود في الكتاب،فيحمل خبر أيّوب بن الحرّ (7)،و خبر أيّوب بن راشد (8)علي ذلك.

و بعضها محمول علي طرح الخبر المخالف للعموم أو الاطلاق الذي في مقام البيان إذا لم يعلم صدوره عن المعصومين عليهم السّلام.

و بعضها و إن كان عامّا لجميع الأخبار،لكن يخصّص بما دلّ علي الارجاع إلي خبر الثقة المأمون المستفاد من جميع هذه الأخبار اعتباره.0.

ص: 457


1- سورة النساء:29.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 19.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 20.
5- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 21.
6- جامع أحاديث الشيعة 1:165 ب 2 ح 22.
7- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.
8- جامع أحاديث الشيعة 1:313 ب 6 ح 10.

و يحتمل قويّا أن يكون قد شاع اختلاف الروايات المكذوبة و المؤوّلة و المدسوسة في زمان خاصّ،فأراد المعصوم دفعها بهذه الأخبار،نظير تحليل الخمس المخصوص بزمان خاصّ،لاحظ الأخبار الدالّة علي كثرة الأخبار المكذوبة،و أنّه لا بدّ من تمييز السقيم عن الصحيح،و هي خبر مفضّل بن عمر (1).

و خبر داود بن سرحان (2).و خبر أبي بصير (3).و خبر يونس بن عبد الرحمن (4).

و قد تحصّل من جميع هذه الطوائف أمران ايجابي و سلبي:

الأوّل:حجّية خبر الثقة المأمون الثابت وثاقته و أمانته بالوجدان،و مثله يفيد العلم،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الأخبار،قال:و قد ادّعي في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة،إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال،كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق،و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة،و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها (5).

الثاني:نفي حجّية خبر غير الثقة،فهذه الأخبار لها عقد ايجابي و عقد سلبي، و تردع بعقدها السلبي السيرة العقلائيّة إن كانت علي الأعمّ،فإنّ التعليل بأنّه الثقة المأمون،أو المأمون علي الدين و الدنيا،أو أمناء اللّه علي حلاله و حرامه،و نحوها يمنع عن خبر غير الثقة،فلو سلّم وجود السيرة علي الأعمّ فقد ردعت بهذه الأخبار.4.

ص: 458


1- جامع أحاديث الشيعة 1:275 ب 5 ح 20.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 61.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:289 ب 5 ح 62.
4- جامع أحاديث الشيعة 1:317 ب 6 ح 23.
5- فرائد الاصول ص 144.

ثمّ لا بأس بذكر مواضع من كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

منها قوله بعد ذكر أدلّة حجّية الخبر:هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها علي حجّية الخبر،و قد علمت دلالة بعضها و عدم دلالة البعض الآخر.

و الانصاف أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي حصول مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة،فافهم (1).

أقول:هذا الذي اختاره إن كان مراده الاطمئنان الشخصي،فحصوله لنا مع خفاء القرائن التي اعتمد عليها القدماء قليل في الأخبار الموجودة.

و منها:ما ذكره في إفادة مقدّمات الانسداد نصب الطريق،قال:و ثانيا:سلّمنا نصب الطريق لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.

بيان ذلك:أنّ ما حكم بطريقيّته لعلّه قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلاّ قليل كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن،و لا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان،أو خبر العادل،أو الثقة الثابتة عدالته أو وثاقته بالقطع،أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع،مع إفادته الظنّ الفعلي بالحكم.

و يمكن دعوي ندرة هذا القسم في هذا الزمان؛إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجاليّة محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي و النجاشي و غيرهما،و من المعلوم أنّ مثل هذا لا يعدّ بيّنة شرعية،و لذا لا يقبل مثله في4.

ص: 459


1- فرائد الاصول ص 174.

الحقوق.و دعوي حجّية مثل ذلك بالاجماع ممنوعة،بل المسلّم أنّ الخبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتّفاق،لكن قد عرفت سابقا عند تقرير الاجماع علي حجّية خبر الواحد أنّ مثل هذا الاتّفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجّة،مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة،خصوصا إذا انضمّ إليه إفادة الظنّ الفعلي (1).

و منها:ما ذكره في بيان قلّة القدر المتيقّن،بأن يكون معلوم الحجّية و غيره مشكوك الحجّية حتّي يبقي تحت أصالة عدم الحجّية،قال:لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي زكّي بعدلين،و لم يعمل في تصحيح رجاله و لا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعا من سائر الأمارات الاخر،و لم يوهن لمعارضة شيء منها،و كان معمولا به عند الأصحاب كلاّ أو جلاّ،و مفيدا للظنّ الاطمئناني بالصدور؛إذ لا ريب أنّه كلّما انتفي أحد هذه الامور الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجّة دونه،فلا يكون متيقّن الحجّية علي كلّ تقدير،و أمّا عدم كفاية هذا الخبر لندرته فهو واضح (2)انتهي.

أقول:ينبغي أن يضيّق الدائرة أضيق ممّا ذكره بإضافة أن تكون تزكية العدلين مستندة إلي المعاشرة مع الراوي أو إلي شهرته،و لا يكون أحد المعدّلين آخذا من غيره،فلا ينفع تزكية العلاّمة و النجاشي؛لأنّ العلاّمة يستند إلي النجاشي،مع أنّه لا تكون تزكيته مستندة إلي الحسّ.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه مع تضييقاته فيما دلّ عليه أدلّة حجّية الخبر الواحد وسّع من ناحية اخري،فقال:إنّ حصول الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها غير عزيز.أمّا في غير الأخبار،فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء و الأولويّة.و أمّا الأخبار،فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا1.

ص: 460


1- فرائد الاصول ص 215.
2- فرائد الاصول ص 231.

المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية و إن لم يكن إماميّا،أو ثقة علي الاطلاق،إذ ربما يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.و أمّا احتمال الارسال،فمخالف لظاهر كلام الراوي، و هو داخل في ظواهر الألفاظ،فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئناني منه، فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد،لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر؛لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئناني هي جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه،و أمّا انّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظي فلا بأس بعدم إفادته الظنّ،فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا؛لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

إلي أن قال:و كيف كان فلا أري الظنّ الاطمئناني الحاصل من الأخبار و غيرها من الأمارات أقلّ عددا من الأخبار المصحّحة بعدلين،بل لعلّ هذا أكثر (1)انتهي.

أقول:ما ذكره قدّس سرّه إن بلغ إلي حدّ ينحلّ به العلم الاجمالي بحجيّة طائفة من الأخبار الموجودة بأيدينا فهو،و إلاّ فينبغي العمل بالجميع،مراعاة للعمل بالأخبار التي أمضي المعصومون عليهم السّلام حجّيتها.

ثمّ إنّ بعضهم ذكر أنّ من شرط حجّية خبر الثقة موافقته لروح القرآن،قال:إنّ الاعتبار السندي علي المختار لا يكفي في حجّية الخبر،بل لا بدّ في تحقيق مضمون الخبر من مقايسته بشواهد الكتاب و السنّة و نقده نقدا داخليّا.

إلي أن قال:و مبني اعتماد هذا المعني في قبول الخبر دخالته في الوثوق به عقلا،بناء علي ما هو الصحيح من حجّية الخبر الموثوق به دون خبر الثقة،علي ما أوضحناه في بحث حجّية خبر الواحد.7.

ص: 461


1- فرائد الاصول ص 247.

إلي أن قال:و قد نبّه علي اعتبار هذا الشرط في حجّية الخبر جملة من الروايات،حيث اعتبرت في قبوله موافقة الكتاب و السنّة،و أمرت بطرح ما خالفهما،فإنّ المقصود بذلك علي التفسير المختار لها التوافق و التخالف الروحي بينه و بينهما علي ما تشهد به قرائن داخليّة و خارجيّة.

ثمّ استشهد بخبر هشام المتقدّم (1)،و خبر السكوني المتقدّم (2)،و قال:الحقيقة هي الراية،و المعني أنّ علي كلّ حقّ راية و علي كلّ صواب وضوح،و راية الحقّ هي الموافقة مع القرآن الكريم.

ثمّ ذكر خبر أيّوب بن الحرّ المتقدّم (3)،ثمّ قال:و لو اريد بالتوافق في هذه الأخبار التوافق في المؤدّي علي أن يكون مضمون الحديث مفادا بإطلاق أو عموم كتابي،لزم من ذلك عدم جواز الأخذ بالمخصّصات،فهذا قرينة واضحة علي أنّ المعني بها التوافق الروحي.

أقول:أمّا خبر هشام،فإنّه مخصوص بما جاء عن النبي صلّي اللّه عليه و اله ممّا لم يعلم صدوره عنه،فلا يشمل ما صدر عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،و لا ما حكاه المعصومون عن النبي،بل جميع أخبارهم كما في بعض الأخبار ينتهي إلي النبي صلّي اللّه عليه و اله؛و يحتمل أن يكون المراد من الموافقة الموافقة للكتاب في متابعة اولي الأمر؛لأنّ الكتاب قد أمر باتّباع اولي الأمر،و قد تواتر الأخبار عنهم علي حجّية خبر الثقة،فيكون خبر الثقة موافقا للقرآن،فتأمّل.

و أمّا خبر السكوني،فمضافا إلي ما ذكرناه في خبر هشام،لا يشمل الخبر الذي ليس بمخالف و لا موافق.9.

ص: 462


1- جامع أحاديث الشيعة 1:313-314 ب 6 ح 15.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:311 ب 6 ح 8.
3- جامع أحاديث الشيعة 1:312 ب 6 ح 9.

و يرد علي ما ذكره من معني الموافقة لروح القرآن،أنّ القرآن إنّما يعرفه من خوطب به،فكيف بمعرفة روح القرآن،و كلّ يدّعي أنّ روح القرآن يقتضي شيئا!!.

و في خبر منصور بن حازم،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام-إلي أن قال:و قلت للناس:تعلمون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله كان هو الحجّة من اللّه علي خلقه؟قالوا:بلي، قلت:فحين مضي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله من كان الحجّة علي خلقه؟فقالوا:القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجيء و القدري و الزنديق الذي لا يؤمن به حتّي يغلب الرجال بخصومته،فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم الحديث (1).

الطائفة التاسعة:ما دلّ علي عدم جواز ردّ ما روي عن المعصومين عليهم السّلام.

منها:ما روي عن علي بن سويد،قال:كتبت إلي أبي الحسن موسي عليه السّلام و هو في الحبس كتابا أسأله عن حاله و عن مسائل كثيرة،فاحتبس الجواب عليّ أشهرا، ثمّ أجاب بجواب هذه نسخته،إلي قوله:و لا تقل لما بلغك عنّا و نسب إلينا هذا باطل،و إن كنت تعرف منّا خلافه،فإنّك لا تدري لما قلناه و علي أيّ وجه وصفناه الحديث (2).

و منها:ما في الكشي،عن أحمد بن محمّد بن عيسي:كتبت إليه في قوم يتكلّمون و يقرأون أحاديث ينسبونها إليك و إلي آبائك فيها ما تشمئزّ منها القلوب، و لا يجوز لنا ردّها إذ كانوا يروون عن آبائك عليهم السّلام و لا قبولها لما فيها الحديث (3).

ففي هذا الخبر أنّ أحمد بن محمّد بن عيسي رويت له أحاديث أنكر ما فيها فكتب فيها فأتاه الجواب أنّه ليس هذا ديننا،و مع ذلك تراه قال:ليس لنا ردّه إذ5.

ص: 463


1- اصول الكافي 1:168 باب الاضطرار إلي الحجّة ح 2.
2- روضة الكافي 8:125 ح 95.
3- رجال الكشي ص 435.

نسب إلي آبائك.

و في صحيح أبي عبيدة،قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:و اللّه إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم و أفقههم و أكتمهم لحديثنا،و إنّ أسوأهم عندي حالا و أمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا و يروي عنّا فلم يقبله اشمأزّ منه و جحده،و كفّر من دان به،و هو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج و إلينا اسند،فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا (1).

و في خبر المسمعي،عن الرضا عليه السّلام،إلي أن قال في آخره:و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه،فنحن أولي بذلك،و لا تقولوا فيه بآرائكم (2).

أقول:فينبغي الاحتياط في مقام العمل،و عدم طرح الأحاديث مهما أمكن،كما حكينا عن الشيخ الطوسي،و ما لا يعمل به لا ينسب إلي الكذب،بل يقال فيه:يردّ علمه إلي أهله،إلاّ إذا علم بطلانه.

الدليل العقلي علي حجّية خبر الواحد
اشارة

الدليل الرابع:العقل،و ذكر الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وجوها بعضها تثبت حجّية خبر الواحد،و بعضها تثبت حجّية مطلق الظنّ،فيدخل فيه الخبر الواحد.

أمّا الأوّل و هو ما يثبت حجّية خبر الواحد،فقرّره بثلاثة أوجه،فلاحظ.

ثمّ قال:هذا تمام الكلام في الأدلّة التي أقاموها علي حجّية الخبر،و قد علمت دلالة بعضها و عدم دلالة البعض الآخر.و الانصاف أنّ الدالّ منها لم يدلّ إلاّ علي وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،و هو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء،و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيدا،بحيث لا

ص: 464


1- جامع أحاديث الشيعة 1:271 ب 5 ح 5.
2- جامع أحاديث الشيعة 1:315 ب 6 ح 22.و لاحظ البحار 2:186.

يعتني به العقلاء،و لا يكون عندهم موجبا للتحيّر و التردّد الذي لا ينافي حصول مسمّي الرجحان،كما نشاهد في الظنون الحاصلة بعد التروّي في شكوك الصلاة، فافهم وليكن علي ذكر منك لينفعك فيما بعد (1)انتهي.

ثمّ قال:أمّا الثاني أي ما يثبت به حجّية مطلق الظنّ،فذكر له وجوها.

إلي أن قال:الرابع:دليل الانسداد،و هو مركّب من مقدّمات:

الاولي:انسداد باب العلم و الظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

الثانية:عدم جواز إهمال الأحكام المشتبهة،و الاقتصار علي التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا،و المظنونة بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع.

الثالثة:ليس امتثالها بالاحتياط،أو بالأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتّبع شرعا في تلك المسألة،أو بالأخذ بفتوي العالم بتلك المسألة.

الرابعة:أنّه لا يجوز بحكم العقل الرجوع إلي الموافقة الوهميّة و لا الموافقة الشكّية،فلا بدّ من الامتثال بالموافقة الظنّية.

أقول:الظاهر تمامية المقدّمات إن تمّت المقدّمة الاولي،و لذا نتعرّض لها علي وجه الخصوص.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:و أمّا المقدّمة الاولي،فهي بالنسبة إلي انسداد باب العلم واضحة،و أمّا انسداد باب الظن الخاصّ،فهي مبنيّة علي أن لا يثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية خبر الواحد حجّية مقدار منه يفي بضميمة الأدلّة العلميّة، و باقي الظنون الحاصلة بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة،بحيث لا يبقي مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر و أخواته من الظنون الخاصّة إلي ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير،و قال:4.

ص: 465


1- فرائد الاصول ص 174.

هذه عمدة المقدّمات (1).

ثمّ إنّه ذكر سابقا أنّ أدلّة حجّية الخبر الواحد تدلّ علي حجّية خبر يطمأنّ بصدوره،و هذا قليل و لازمه أنّه لا يفي بمعظم الفقه.

لكن ذكر في ردّ الثاني من طرق تعميم نتيجة دليل الانسداد،أنّه مبنيّ علي زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر الصحيح بتزكية العدلين،و ليس كذلك،بل الأمارات الظنّية من الشهرة و ما دلّ علي اعتبار قول الثقة،مضافا إلي ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات و في تشخيص أحوال الرواة،توجب الظنّ القوي بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد، و الخبر الموثّق و الضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية،و من المعلوم كفاية ذلك،و عدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلي الاصول (2)انتهي.

و حاصل كلامه:أنّه يري حجّية الأخبار المذكورة،و الرجوع إلي البراءة في غيرها،أو الاستصحاب أو التخيير أو الاحتياط بحسب مجاريها.

و قال في الردّ علي الثالث من طرق التعميم:إنّ العمل بالظنّ الاطمئناني لا يوجب العسر و الحرج في الاحتياط في الظنّ غير الاطمئناني،و ليس غرضه وجوب الاحتياط،بل غرضه الردّ علي دعوي التعميم،ولكن يظهر منه أنّه يري أنّ الظنّ الاطمئناني كثير،فإذا انضمّ إلي ما سبق من كلامه،فيكون مراده أنّ الظنّ الاطمئناني الذي يفي بمعظم الفقه موجود،فيرجع في غيره إلي ما يقتضيه الأصل.

و لفظه هكذا:الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها ليس بعزيز،أمّا في غيرها فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء2.

ص: 466


1- فرائد الاصول ص 183-184.
2- فرائد الاصول ص 242.

و الأولويّة.و أمّا الأخبار فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية.

إلي أن قال:و بالجملة فدعوي كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار و غيرها من الأمارات بحيث لا يحتاج إلي ما دونها،و لا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلي الاحتياط محذور،و إن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان قريبة جدّا،إلاّ انّه يحتاج إلي مزيد تتبّع في الروايات و أحوال الرواة و فتاوي العلماء (1).

أقول:لعلّه يظهر منه أنّه يري حجّية الظنّ الاطمئناني،و هو موجود بمقدار واف بمعظم الفقه،بحيث لا مانع من الرجوع إلي الاصول فيما عداه.

لكن قد يقال بأنّه لا يظهر منه ذلك؛لأنّه يقول بأنّ نتيجة دليل الانسداد حكومة العقل،و هو يحكم بالعمل بما يطمأنّ به و الاحتياط فيما عداه.

أقول:إنّ الخبر الذي يكون رواته ثقاة واقعا،أو وثّقهم الثقة الواقعي عن حسّ أو قريب منه قليل،و حيث لا علم بالتكليف إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب،أو قام عليه الاجماع أو الشهرة الكاشفان عن فتوي المعصوم،أو دلّ العقل الضروري عليه،أو كان في ضمن الأخبار الموجودة بأيدينا،و لا يخرج من عهدة التكليف بالعمل بما دلّت الأدلّة علي حجّيته من الأخبار لكونه قليلا،فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بجميع الأخبار بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

و قال في الكفاية:الرابع دليل الانسداد،و هو مركّب من مقدّمات:

الاولي:العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعليّة.

الثانية:انسداد باب العلم و العلمي إليها.

الثالثة:عدم جواز ترك امتثالها.8.

ص: 467


1- فرائد الاصول ص 247-248.

الرابعة:عدم وجوب الاحتياط.

الخامسة:قبح ترجيح المرجوح علي الراجح،و هو ترجيح المشكوك كونه تكليفا علي المظنون كونه كذلك.

و نتيجة هذه المقدّمات تعيّن العمل بالأخبار لأنّها مظنونة الصدور.

و أجاب في الكفاية عن المقدّمة الاولي بانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف إلي العلم الاجمالي بما في أيدينا من الأخبار،و الاحتياط فيها ليس بعسير،فيعمل بجميع الأخبار (1).

أقول:إنّ شرط صحّة التكليف أن يجعله المكلّف-بالكسر-في معرض يمكن للمكلّف-بالفتح-أن يصل إليه بعد الفحص،فإنّه يقبح عقلا عقاب من لا يتمكّن من الوصول إلي التكليف علي مخالفته،بل مقتضي قوله تعالي لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها (2)إن فسّرت بما أوصله إليها،و قوله تعالي فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (3)المفسّر بأنّه يقال له:هلاّ عملت؟فيقول:لم أعلم،فيقال له:هلاّ تعلّمت؟عدم التكليف إن لم يمكن الوصول إليه،فالتكاليف التي يجب امتثالها هي الموجودة في ضمن الأخبار التي بأيدينا،و في ضمن الاجماعات،و الشهرات الكاشفة عن النصّ المعتبر،و لا تكليف بما عداها.

هذا علي المختار من عدم التكليف بواجب أو حرام بيّنه النبي صلّي اللّه عليه و اله أو الامام عليه السّلام و لم يصل إلي المكلّفين بعد الفحص لإخفاء الظالمين،و أمّا إن قلنا بمعذوريّة المكلّفين في مثل ذلك،فيكون التكليف ممّا لا يعلمون و هو مرفوع؛لأنّ العلم الاجمالي بوجود التكليف في ضمن الأخبار و الاجماعات و الشهرات9.

ص: 468


1- كفاية الاصول ص 356.
2- سورة الطلاق:7.
3- سورة الأنعام:149.

يوجب الشكّ البدوي فيما عداه.

و من هذا البيان يظهر أنّ نتيجة دليل الانسداد هي العمل بالتكليف الموجود في ضمن الأخبار التي بأيدينا و الشهرات الكاشفة عن النصّ المعتبر،لا مطلق الظنّ بالحكم الواقعي.و سيأتي بيانه.

و أجاب في الكفاية عن المقدّمة الثانية بانفتاح باب العلمي لنهوض الأدلّة علي حجّية خبر يوثق بصدقه.

و الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الذي جعل الحاصل من أدلّة حجّية الخبر الواحد،هو الخبر الذي يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه،قال بأنّ الخبر الموثوق به ليس بعزيز، لاحظ كلامه (1).و سيأتي نقل عبارته.

و بعض المتأخّرين من الذين جعلوا الاعتبار في حجّية الخبر الواحد بوثاقة رواته كثّر الثقات،فقال:إنّ كلّ من كان من أصحاب الصادق عليه السّلام ثقة،و كلّ من روي عنه ابن أبي عمير أو صفوان أو البزنطي ثقة.

أقول:قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام الشرعيّة في ضمن الأخبار التي بأيدينا لا ينحلّ بالأخذ بطائفة من الأخبار؛لأنّه لم يثبت حجّية خبر الثقة ما لم يحصل معه سكون النفس إلي مضمونه فيما إذا اريد درك الواقع،إلاّ أن يقال بأنّه يكفي في مقام الاحتجاج حجّية خبر الثقة مطلقا و إن لم يفد العلم،كما قيل:إنّ طريقة السلف من زمن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام اعتمادهم عليه؛إذ لم يوجب النبي صلّي اللّه عليه و اله علي جميع من في بلده من الرجال و النسوان السماع منه في تبليغ الأحكام،أو حصول التواتر لآحادهم،أو قيام القرينة القاطعة علي عدم تعمّد الكذب،أو الغلط في الفهم،أو سماع اللفظ بالنسبة إلي الجميع،بل لو سمعوه من7.

ص: 469


1- فرائد الاصول ص 247.

الثقة اكتفوا به.

لكن لا طريق إلي إثبات الوثاقة،كما يأتي بيانه في المطلب الرابع،كما ظهر أنّه لا دليل علي حجّية الوثوق إذا كان المراد به الظنّ المتاخم للعلم،و لو سلّم كفايته فلا طريق إلي الوثوق بالصدور،و لا يجوز الاقتصار علي خبر علم وثاقة رواته و عدم اشتراكهم،بحيث لم يكن فيه إعمال للظنون؛للزوم طرح كثير من الأخبار يعلم بصدور بعضها،كما لا طريق إلي سائر القرائن التي يدّعي أنّها كانت موجودة عند القدماء.

و ليس لنا أن نقول:لعلّ تلك القرائن لو وصلت إلينا لم تكن تامّة عندنا،و ذلك للعلم العادي بأنّا لو كنّا في زمان القدماء لكنّا نعتمد علي تلك القرائن،فإنّ قدماء أصحابنا كالمفيد و الشيخ الطوسي و الصدوقين و أضرابهم،عارفون بالأحاديث و رجالها،مع قرب عهدهم بعصر الغيبة الصغري،و قد تقدّم نقل كلام ابن البرّاج من أنّه لا بدّ من العمل بالخبر المتواتر.

و من تأمّل جيّدا يحصل له الاطمئنان بل العلم بأنّ القدماء لم يكن عملهم بالأخبار مقتصرا علي مراعاة آحاد رجال السند،فكانوا يعملون بالكتب المعتمدة و بالأخبار المدوّنة،و كانت عندهم قرائن علي حجّيتها،و هم أهل الاطّلاع علي أحوال الرجال،و سائر القرائن التي توجب الاعتماد علي الأخبار،و نحن نعلم إجمالا بوجود أخبار في ضمن جميع الأخبار التي بأيدينا هي حجّة شرعا،إمّا للاقتران بالقرائن المعتمدة،و إمّا لوثاقة رواتها وثاقة واقعيّة،و لا يمكننا تمييز ذلك،فلا بدّ من العمل بجميع الأخبار بالكيفيّة التي يأتي بيانها.

و أمّا المقدّمة الثالثة،فهي زائدة؛لأنّ المقدّمة الاولي تكفي عنها؛لأنّ معني العلم بثبوت تكاليف فعليّة هو العلم بوجوب امتثالها،و إلاّ لم تكن تكاليف فعليّة بل انشائيّة أو غيرها.

ص: 470

و أمّا المقدّمة الرابعة،فنعلم بعدم وجوب الاحتياط التامّ لتعذّره أو تعسّره،لكن الاحتياط في العمل بالأخبار الموجودة ليس عسرا.

فإذا لم ينحلّ العلم الاجمالي بالعلم و العلمي،فلا بدّ من الاحتياط بالعمل بالأخبار و الاجماعات الكاشفة عن النصّ،و كذا الشهرات الكاشفة عنه.

و الذي ينبغي أن يقال هو انّا نعلم بتكاليف يلزم علينا عقلا امتثالها،و هي ما دلّ عليه العقل الفطري الذي يتّفق عليه العقلاء،و ما دلّ عليه الكتاب الذي هو كلام اللّه تعالي،و السنّة النبويّة و الاماميّة التي هي القول المسموع من النبي صلّي اللّه عليه و اله أو خلفائه عليهم السّلام و فعلهم و تقريرهم صلوات اللّه عليهم،الموجودة في ضمن الأخبار المودعة في كتب الأخبار،كالوسائل و غيرها،أو الثابتة بسيرة المسلمين المتّصلة إلي زمانهم التي ثبت امضاؤهم لها،أو بشهرة كاشفة عن السنّة.

و أمّا وجود حكم واقعي في غيرها،فلا علم لنا به،بل لو فرض وجوده واقعا و لم يكن في ضمن المذكورات فلا تكليف به؛لأنّ اللّه لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها، و نعلم قطعا بالأخبار المتواترة الناطقة صريحا بعدم الاعتبار بالقياس و الاستحسان و الآراء،و نعلم أنّه ليس طريق إثبات الحكم عند الشارع بالقرعة و الاستخارة و الرؤية في المنام و نحوها.

ثمّ إنّ هذه التكاليف من حيث المدرك علي أقسام:

القسم الأوّل:ما هو معلوم بالضرورة،كوجوب صلاة الظهر أربع ركعات، و هكذا سائر الصلوات اليوميّة،و وجوب الصوم و الحجّ و نحوها.

القسم الثاني:ما هو معلوم السند ظاهر الدلالة،كعموم الكتاب و مطلقه الوارد في مقام البيان،و عموم الخبر المتواتر أو إطلاقه كذلك.

القسم الثالث:ما عداهما ممّا اشتمل عليه الأخبار،أو الشهرة الكاشفة عنها، و هي علي ثلاثة أصناف:

ص: 471

الصنف الأوّل:ما ليس له معارض أصلا،مثلا إذا دلّ خبر علي أنّ من لا يحسن التلبية يستنيب،ففي مثله يعمل بالخبر فيستنيب و يأتي بما قدر من ملحون التلبية، فيحصل العلم ببراءة الذمّة.

الصنف الثاني:ما له معارض من الأخبار،و في مثله لو كان في أحدهما مرجّح علي الآخر لصدوره يؤخذ به و إلاّ فيتخيّر.

الصنف الثالث:ما يكون له معارض من عموم الكتاب أو اطلاقه أو عموم الخبر المتواتر أو اطلاقه،و في مثله إن كان الخبر محقّق الحجّية يخصّص أو يقيّد،مثل ما ورد من أنّ الزوجة لا ترث من العقار،فإنّه مخالف للكتاب،لكن يخصّص الكتاب لتعدّد الخبر و فيه صحيح و موثّق و غيرهما،و إن لم يكن معلوم الحجّية و دالاّ علي حكم إلزامي،فيحتاط في العمل به إن كان العامّ رخصة،و إن كان العامّ حكما إلزاميّا و الخبر رخصة يعمل بالعامّ.مثلا قوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ (1)الآية أوجب علي المحدث بالأصغر الوضوء و علي الجنب الغسل،و تخصيصه بكفاية غسل الجمعة مثلا للمحدث بالأصغر في جواز الدخول في الصلاة يحتاج إلي مخصّص قويّ سندا و دلالة،و لا دليل كذلك،فلا يكتفي به عن الوضوء،و تفصيله في محلّه.

و حاصل الكلام في كيفيّة الاحتياط:انّ الخبر الموجود بأيدينا إذا كان ضعيفا لإرسال مع ضعف رواته و عدم فتوي به من أحد من الأصحاب،خصوصا إذا كانت المسألة محلّ الابتلاء،و بالجملة كان ضعيفا باصطلاح القدماء و المتأخّرين، و لم يكن مضمونه مفتي به،فيطرح أي لا يعمل به،و يرد علمه إلي أهله.

و أمّا إذا لم يكن كذلك و إن كان في سنده من طعن عليه،سواء كان موجودا في6.

ص: 472


1- سورة المائدة:6.

الكتب الأربعة أو لم يكن،فإن لم يكن مخالفا لعموم إلزامي في الكتاب،و لا لرواية معتبرة مشتملة علي الحكم الالزامي،و لم يكن مخالفا للقاعدة المصطادة من الكتاب و الروايات،و لا مخالفا للاحتياط،و لا لما يعلم من الشرع الاهتمام به، فإنّه يعمل به.

و إن كان مخالفا لعموم الكتاب،أو رواية متواترة أو رواية معتبرة بالاصطلاحين،أو لقاعدة مسلّمة مصطادة من الكتاب و السنّة،أو لما علم الاهتمام به شرعا،ففي مثله لا بدّ من التحقيق حول صدور الخبر عن المعصومين عليهم السّلام.

فإن كان صحيحا بالاصطلاحين و لم يكن القدماء أعرضوا عن الفتوي به، فيخصّص العموم،أو يقيّد الاطلاق الوارد في مقام البيان علي إشكال،و إلاّ بأن كان صحيحا باصطلاح المتأخّرين و كانت رواته من المشاهير الذين ثبتت وثاقتهم، و لم يكن الخبر معرضا عنه،فيخصّص به علي إشكال.

و إذا كان صحيحا باصطلاح القدماء أو باصطلاح المتأخّرين،مع كون إثبات وثاقة الرواة مستندا إلي غير الحسّ،فإنّه لا بدّ من الاحتياط.

و الحاصل أنّه لا بدّ من عدم طرح الأخبار الموجودة بأيدينا مهما أمكن،مع مراعاة أن تكون الأخبار المخصّصة للعمومات،أو المقيّدة للمطلقات المعتبرة مثلها في الاعتبار،و لا يبعد عدم استلزام هذا الاحتياط العسر و الحرج،كما اعترف به صاحب الكفاية.

و لو فرض أنّه استلزم العسر و الحرج،فيرتفعان بالعمل بالخبر المقرون بما يوجب قوّة الصدور:إمّا لوجوده في الكتب التي شهد أرباب الرجال بأنّها معمولة، مثل كتب الحسين بن سعيد،أو لتعدّد الخبر بطرق مختلفة،و كون رواته ممّن وثّقهم أو مدحهم علماء الرجال فيما يحتمل فيه كون توثيقهم و مدحهم عن اجتهادهم، و أمثال ذلك من القرائن،و يحتاط فيما عداه،و كذا لا بدّ من الاحتياط بالعمل

ص: 473

بالشهرات الكاشفة عن النصّ.

و الأحوط ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بناء علي تقرير دليل الانسداد علي الحكومة،كما هو مختاره.

قال:و حاصل الأمر عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه (1)انتهي.

هذا إن لم تتعارض الأخبار.و أمّا مع تعارضها،فإن أمكن الاحتياط بأن دلّ أحدهما علي الوجوب و الآخر علي الاباحة،احتاط بالعمل به؛لأنّا مأمورون بالعمل بهذه الأخبار و لا نعلم صدورهما،بل نحتمله،فيكون ما دلّ علي الوجوب من أطراف العلم الاجمالي و إن لم يمكن الاحتياط يعمل بما فيه مرجّح،فإن لم يكن لأحدهما ترجيح فيتخيّر لا محالة.

و هذه الطريقة أي العمل بالأخبار المودعة في كتب الأخبار بالنحو المذكور هي طريقة الشيخ تقريبا،قال في أوّل التهذيب:و مهما تمكّنت من تأويل بعض الأحاديث من غير طعن في اسنادها فإنّي لا أتعدّاه.و لعلّه يظهر ذلك ممّا ذكره في العدّة من أنّ الأصحاب إذا رجعوا إلي أصل أو كتاب و كان راويه-أي:راوي الكتاب أو الأصل-ثقة سلّموا الأمر (2).بارجاع الضمير إلي الكتاب و إن روي عن ضعيف.

و يظهر من النجاشي فيما ذكره في ترجمة ابن أبي عمير من أنّ الأصحاب يعملون بمراسيله لكونها مسانيده،فلو لا أنّهم يعملون بجميع مسانيد كتبه لم يكن وجه لما ذكره من أنّ مراسيله مسانيده.

و كذا يظهر ممّا ذكره الصدوق في أوّل الفقيه.و كذا ممّا ذكره الكليني في أوّل3.

ص: 474


1- فرائد الاصول ص 251.
2- و يقرب ممّا ذكرناه ما اختاره في كتاب هداية الأبرار ص 195-203.

الكافي.و كذا ممّا يحكي عن ابن الوليد في مواضع،منها:ما عنه في محمّد بن عيسي بن عبيد،قال في الفهرست:و قال أبو جعفر بن بابويه،سمعت ابن الوليد رحمه اللّه يقول:كتب يونس بن عبد الرحمن التي هي بالروايات صحيحة يعتمد عليها،إلاّ ما ينفرد به محمّد بن عيسي بن عبيد عن يونس و لم يروه غيره،فإنّه لا يعتمد عليه و لا يفتي به (1)انتهي.و سيأتي عند ذكر القرائن الكلام في ذلك.

تنبيهات:
التنبيه الأوّل:قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:

إنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوب الامتثال الظنّي للأحكام المجهولة،بلا فرق بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي،كأن يحصل من شهرة القدماء الظنّ بنجاسة العصير العنبي،و بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري،كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّية أمر لا يفيد الظنّ،كالقرعة مثلا،فإذا ظنّ حجّية القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة، و إن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعي (2)انتهي.

فعلي هذا يكون نتيجة مقدّمات الانسداد حكومة العقل،و هو يحكم بكفاية الامتثال الظنّي.

و ذهب إليها في الكفاية،حيث قال:لا يخفي انّ قضية ذلك هو التنزّل إلي الظنّ بكلّ من الواقع و الطريق الخ (3).

أقول:إنّا نعلم بأنّ الشارع المقدّس ليس له طريق إلي ثبوت أحكامه عند غير المشافهين من الغائبين و المعدومين حال الخطاب إلاّ الطرق المتعارفة،و هي الاستحسان و القياس و الأخبار و الشهرة بين العلماء و سيرة المسلمين،و أمّا القرعة

ص: 475


1- الفهرست ص 212.
2- فرائد الاصول ص 212.
3- كفاية الاصول ص 362.

و الاستخارة و الرؤية في النوم و نحوها فليست طرقا إلي ثبوت الحكم،و الشارع منع عن اثبات الحكم بالاستحسان و القياس بأخبار متواترة،فيتعيّن اثباتها بالأخبار و الشهرة الكاشفة عن فتوي المعصومين عليهم السّلام،و السيرة المتّصلة إلي زمان المعصومين عليهم السّلام،فدائرة العلم الاجمالي بالأحكام الشرعيّة محصورة من الأوّل في هذه الطرق،فإن حصل ظنّ بالواقع من غير هذه الطرق،فهو ممنوع شرعا؛ لعموم النهي عن اتّباع الظنّ،فيكون كالقياس.

و علي ما ذكرنا فإن حصل الظنّ بالحكم الشرعي من غير ما ذكرنا لم يكن حجّة،بل لا بدّ من أخذ الأحكام من الطرق التي ذكرناها.

التنبيه الثاني:في كون نتيجة المقدّمات حكم العقل بالاكتفاء بالامتثال الظنّي،

أو حكم العقل بأنّ الظنّ طريق أو حجّة،و ما حكم به العقل حكم به الشرع،أو الكشف عن جعل الشارع الظنّ حجّة أو التفصيل،وجوه و احتمالات:

الأوّل:حكومة العقل بكفاية الامتثال الظنّي،اختاره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)و كذلك صاحب الكفاية (2)،و هو الأظهر،فإنّ الأحكام الشرعيّة الموجودة في ضمن هذه الطرق أي الأخبار و الاجماعات و الشهرات لا سبيل إلي تعيينها؛ لانسداد باب العلم و العلمي إليها،و لذا لا يمكن امتثالها تعيينا،و امتثالها بالاحتياط امّا متعذّر أو لا يجب،فالعقل يحكم بأنّ كيفيّة امتثالها هي اتيان المظنون منها.

الثاني:حكم العقل بأنّه إذا انسدّ باب العلم و العلمي حتّي بالاحتياط،و الحكم الواقعي لم يرتفع و كان باقيا،فلا بدّ أن يكون الظنّ طريقا إليه و حجّة،و ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و فيه أنّه لا يحكم العقل بكون الظنّ حجّة:بل انّه يري العمل به كافيا في

ص: 476


1- فرائد الاصول ص 212.
2- كفاية الاصول ص 368.

الامتثال.

الثالث:جعل الشارع الظنّ حجّة؛لأنّ الحكم الذي يجب علي العبد امتثاله هو الحكم الذي بيّنه المولي و جعل له طريقا يوصله إلي العبد،فإنّه لا يكلّف اللّه نفسا إلاّ ما آتاها،و بعد تعذّر العلم و العلمي و عدم وجوب الاحتياط التامّ،فقد جعل الشارع الظنّ طريقا موصلا إلي الواقع.

قلت:هذا مسلّم،لكن لو كان له طريق و اشتبه-كما فيما نحن فيه-فليس علي المولي وضع طريق آخر،و حينئذ لا بدّ من امتثال التكاليف المعلومة اجمالا، و كيفية امتثالها تكون بالعمل بالظنّ.

الرابع:ما قيل من أنّ الاحتياط إن كان لا يجب شرعا،و مع ذلك يجب تعيين المأمور به و تمييزه،فيكشف ذلك عن جعل الظنّ حجّة؛لأنّه بعد انسداد باب العلم و العلمي، و قيام الاجماع علي إتيان المأمور به علي وجهه مميّزا له عن غيره،و بقاء التكليف لا يمكن الامتثال إلاّ بجعل الشارع الظنّ طريقا و حجّة،و إن كان عدم وجوب الاحتياط من أجل اختلال النظام،فنتيجة المقدّمات الحكومة.

و فيه نظر؛لأنّ مدّعي الاجماع يدّعي عدم وجوب الاحتياط التامّ لا ايجاب الاتيان بالعمل بالتعيين حتّي يقال:إنّه لا بدّ من جعل طريق إلي تعيينه.

التنبيه الثالث:في نتيجة دليل الانسداد

في أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي تعميم العمل بالظنّ في جميع المسائل الفقهيّة و من أيّ سبب حصل و في أيّ مرتبة كان من القوّة و الضعف أم لا؟ لا يبعد أن يقال:إنّ ما علم اهتمام الشارع به يحتاط فيه،و أمّا الظنّ الحاصل من الأخبار،فلا يبعد تقدّمه علي الحاصل من الشهرة.و أمّا الظنّ القوي البالغ حدّ الاطمئنان فهو مقدّم علي غيره،و وجهه ظاهر بناء علي حجّية الاطمئنان.

التنبيه الرابع:في أنّ الظنّ هل يكون جابرا أو موهنا أو مرجّحا؟

أمّا الظنّ الذي نهي عن العمل به بخصوصه كالقياس،فلا يترتّب عليه أثر؛لأنّ

ص: 477

ترتيب الأثر عليه من العمل به و هو منهي عنه.و أمّا غيره فليس حجّة في نفسه، فإن كان شهرة العمل من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و بطانتهم،سواء استندوا إلي الخبر أم لم يستندوا،فهو يوجب انجبار السند،كما أنّه إن استندوا إلي الخبر و أفتوا بفتوي واضحة و كان في الخبر إجمال،كان استنادهم موجبا لانجبار الدلالة،حيث انّهم أقرب إلي زمان المعصومين عليهم السّلام،و لا يخفي أنّه لا كلّية لهذه الامور.

و إن كانت الشهرة عند القدماء،فإن كانت المسألة من المسائل الأصليّة التي ينحصر دليلها في الخبر المأثور عن المعصومين عليهم السّلام،فيمكن دعوي أنّ اتّفاقهم علي الفتوي مع اختلاف مذاهبهم في الجملة يكشف عن وجود نصّ معتبر وصل إليهم،سواء استندوا إلي الخبر الضعيف الواصل إلينا،أو لم يستندوا،كما أنّ ما فهموه من الخبر هو الذي ينبغي أن يكون معني الخبر؛لأنّهم أقرب عهدا بزمان المعصومين عليهم السّلام،و هم مع ذلك أهل اللسان و أهل اللغة العربيّة.و أمّا الشهرة من المتأخّرين،فلا يترتّب عليها أثر أصلا.

هذا كلّه إن لم توجب شهرة العمل من العلماء الاطمئنان بصدور الخبر،أو الاطمئنان بمضمونه.و أمّا إن أوجبت الاطمئنان،فإن كان بحيث يضعف احتمال الخلاف و كان ممّا لا يعتني به،فاحتمال حجّيته بنفسه قوي،لكن يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه اللّه أنّ الخبر يصير حجّة حتّي لو لم يكن الاطمئنان بنفسه حجّة؛لأنّه يدخل في منطوق آية النبأ؛لشمول التبيّن للاطمئنان بصدور الخبر.و فيه ما تقدّم من منع ذلك.

التنبيه الخامس:في حكم الظنّ في غير الأحكام الفرعيّة.

نتعرّض له تبعا لهم.

أمّا الظنّ المطلق،فلا دليل علي حجّيته فيه.و أمّا الظنّ الخاصّ الذي هو حجّة في الفروع،كظواهر الكتاب،و ظواهر الخبر المتواتر أو ما يلحق به و نصوص و ظواهر الخبر الواحد الذي يكون حجّة في الفروع،فهو إمّا أن يكون في الامور

ص: 478

التكوينيّة أو التاريخيّة،كما إذا دلّ خبر صحيح علي أنّ السماء الرابعة كذا،أو دلّ خبر علي أنّ فرعون ولد في سنة كذا مثلا،و إمّا أن يكون في الامور الاعتقاديّة.

أمّا في الامور التكوينية أو التاريخية،كما إذا دلّ خبر صحيح مثلا عليهما،فلا يجوز تكذيبه لما ورد عنهم عليهم السّلام من أنّه لا يجوز تكذيب ما روي عنهم،و لا يجب الاعتقاد بمضمونه،و يجوز الاخبار بإسناده إلي الخبر،بأن يقول:إنّ السماء الرابعة كذا كما في الخبر،و هل يجوز الاخبار جزما عنه أم لا؟فيه قولان:

الأوّل:جواز الاخبار بتّا،اختاره في مصباح الاصول،قال:لأنّ جواز الاخبار عن الشيء منوط بالعلم به،و قد علمنا به بالتعبّد الشرعي؛لأنّ الأمارة علم تعبّدا، نعم علي مسلك من يقول بأنّ المجعول فيها المنجّزية و المعذّرية،كما اختاره صاحب الكفاية،فلا يجوز الاخبار،كما لا يجوز الاخبار علي مسلكه بالثواب المترتّب علي بعض الأعمال،فإذا دلّ خبر صحيح علي وجوب شيء و انّ ثوابه كذا ثبت به الحكم الفرعي،لكن لا يجوز الاخبار عن الثواب المترتّب عليه (1).

و فيه أوّلا:أنّه ليس المجعول في الأمارة العلم تعبّدا،كما تقدّم.

و ثانيا:لو سلّم أنّ المجعول فيها أنّها علم تعبّدا،لكن القدر المتيقّن أنّه علم بالنسبة إلي الأحكام الفرعيّة لا بالنسبة إلي الاخبار عن مضمون لا يرتبط بها.

و ثالثا:أنّ الخبر الواحد الذي ثبت من الأدلّة حجّيته إن دلّ علي وجوب شيء مثلا مع ذكر ثوابه،فمعني حجّيته جواز الاخبار بمضمونه،لا إثبات الحكم الشرعي فقط و عدم الاخبار بثوابه،و لا يتبادر إلي الذهن التفكيك بين أبعاض الخبر،و هو جواز الاخبار عن مضمونه في الحكم الشرعي،و عدم جوازه في الثواب الذي ذكر فيه،فينبغي في مثل ذلك جواز الاخبار عن الثواب حتّي علي9.

ص: 479


1- مصباح الاصول 2:239.

مبني صاحب الكفاية.

القول الثاني:عدم جواز الاخبار بتّا من غير نسبة إلي الخبر إن لم يحصل العلم و لا الاطمئنان الملحق بالعلم،و المراد ما يضعف فيه احتمال الخلاف بحيث يقبح عند العقلاء الاعتناء به،و الدليل علي عدم الجواز ما دلّ علي عدم اتّباع غير العلم من الآيات و الأخبار،فتأمّل.

و أمّا الامور الاعتقادية،فهل يجب الاعتقاد بمضامين تلك الأخبار أم لا؟بعد عدم جواز ردّ الخبر إلاّ إذا كان معلوم الكذب،فإن كان الأمر الاعتقادي ممّا يعتبر فيه العلم حتّي يتّصف العالم به بكونه مسلما و مؤمنا،فلا يثبت بالخبر الواحد.

و دعوي أنّ الشارع جعله علما تعبّدا ممنوعة،أمّا أوّلا فلما مرّ من أنّه لم يجعل علما.و ثانيا أنّ المطلوب في الامور الاعتقاديّة التي يعتبر فيها العلم هو العلم الوجداني،و إن كان الأمر الاعتقادي لم يعتبر فيه العلم،كتفاصيل كيفيّة الجنّة أو النار،فينبغي الاعتقاد بالواقع إجمالا،و يجوز الاخبار إسنادا إلي الخبر.

المطلب الثالث: في أقسام الخبر

اشارة

يعتبر في حجّية جميع أقسام الخبر أن يكون المخبر ضابطا،قد أخبر عن شيء محسوس بنفسه أو بآثاره كالشجاعة التي تعرف بآثارها،و أن لا يكون مضمون الخبر شاذّا،و ينقسم باعتبار حالات المخبر و مضمون الخبر إلي أقسام:

القسم الأوّل:الصحيح،و هو ما كان مخبره بالغا عاقلا مسلما مؤمنا عادلا، و العدالة هي الاستقامة،و المتّصف بها علي ثلاثة أقسام:

أحدها:العدل الواقعي،و هو المستقيم في جميع أفعاله و أقواله غير المتعمّد للكذب،و كثيرا مّا يحصل من خبره سكون النفس،و هو الذي جعله الشيخ الأنصاري رحمه اللّه المتيقّن حجّيته من أدلّة حجّية خبر الواحد،لكن إن حصل منه العلم

ص: 480

خرج عن الخبر الواحد،هذا إذا لم يحتمل تعمّد كذبه في هذا الخبر،و أمّا لو احتمل تعمّد كذبه في هذا الخبر،فحينئذ يكون خبرا واحدا،و هل يشمله الأدلّة الدالّة علي حجّية خبر العدل،أو لا لانصرافها إلي من لا يحتمل في خبره تعمّد الكذب؟ وجهان.

إختار الشيخ الأنصاري رحمه اللّه الأوّل؛لشمول مفهوم آية النبأ له،قال:و أمّا احتمال فسقه بهذا الخبر للكذب به فهو غير قادح؛لأنّ ظاهر قوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ تحقّق الفسق قبل النبأ لا به،فالمفهوم يدلّ علي قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا النبأ و احتمال فسقه به (1)انتهي.

لكن تقدّم المناقشة في دلالة آية النبأ علي حجّية خبر الواحد،و لو سلّم دلالتها عليها فإنّها تدلّ علي حجّية خبر العادل الواقعي حتّي في هذا الخبر.

ثانيها:العدل علي الظاهر،و المراد به من كان محكوما بالعدالة للمعاشرة معه بحيث لم يظهر منه الفسق،في مقابل من كان عادلا واقعا،أو كانت فيه إحدي أمارات العدالة من حسن الظاهر و نحوه،و لعلّ منه من كان مستصحب العدالة،أو قامت البيّنة العادلة واقعا علي عدالته ظاهرا،أو قامت البيّنة العادلة ظاهرا علي عدالته واقعا أو ظاهرا،فإنّه لا يحصل العلم في جميع ذلك،و هو محلّ الكلام في حجّية خبر الواحد علي ما يظهر من كلام الشيخ الطوسي.

حيث قال في ذيل آية النبأ:و في الآية دلالة علي أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم و لا العمل؛لأنّ المعني إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقّفوا فيه،و هذا التعليل موجود في خبر العدل؛لأنّ العدل علي الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره،فالأمان غير حاصل في العمل بخبره،و في الناس من7.

ص: 481


1- فرائد الاصول ص 77.

استدلّ به علي وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا،من حيث انّه أوجب تعالي التوقّف في خبر الفاسق،فدلّ علي أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه،و هذا الذي ذكروه غير صحيح؛لأنّه استدلال بدليل الخطاب،و دليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء،و لو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدلّ بدليلها علي وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولي من أن يستدلّ بتعليلها في دفع الأمان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها علي أنّ خبر العدل مثله (1)انتهي.

و المستفاد من كلامه أنّ محلّ البحث في حجّية خبر الواحد هو العدل علي الظاهر،و انّه منكر لحجّيته،و إنّما يقول بحجّية خبر الثقة الواقعي الذي يكون الأمان موجودا عند خبره.

و قال في عدّة الاصول في بيان استدلال القوم بآية النبأ:إنّه أوجب علينا التوقّف عند خبر الفاسق،فينبغي أن يكون خبر العدل بخلافه.

و أجاب عنه بأنّه استدلال بدليل الخطاب،و بعض الأصحاب لا يقول به،و أمّا من قال به فلا يصحّ الاستدلال أيضا.أوّلا:انّ مورد الآية الاخبار بردّة القوم،و لا خلاف أنّه لا يقبل فيه أيضا خبر العدل.و ثانيا:انّ التعليل بإصابة القوم بجهالة قائم في خبر العدل؛لأنّ خبره إذا كان لا يوجب العلم،فالتجويز في خبره حاصل مثل التجويز في خبر الفاسق (2)انتهي.

و لعلّ المستفاد من قوله«إذا كان لا يوجب العلم»حجّيته إن أوجب العلم، و سيأتي نقل كلامه من العدّة علي حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّه قد ظهر من الأدلّة المتقدّمة أنّه يعتبر في حجّية الخبر كون راويه ثقة واقعا.و أمّا الثقة علي الظاهر أي من لم يعلم وثاقته لكن احرزت وثاقته بظاهر4.

ص: 482


1- التبيان 9:343.
2- عدّة الاصول ص 314.

حاله و سلوكه للمعاشرين له،أو ثبتت وثاقته بحجّة،فليس خبره حجّة،ولكن يمكن أن يستدلّ لحجّية خبر العدل علي الظاهر أو الثقة علي الظاهر بامور:

الأوّل:الآية الشريفة المتقدّمة التي سبق الجواب عنها.

الثاني:سيرة المتشرّعة.و فيه نظر؛لأنّه لم يثبت سيرتهم علي ذلك،و لا سيّما بملاحظة مخالفة كثير من القدماء في حجّية خبر الواحد.

الثالث:الأخبار المتقدّمة في الطائفة السابعة.و قد عرفت المناقشة في دلالتها بأنّها في مقام بيان من يؤخذ عنه العلم،و أمّا اعتبار كونه صادقا في إخباره عن علمه،فهو موكول إلي طريقة العقلاء في اعتبارهم ذلك،فهي تدلّ علي أنّه يؤخذ من علماء الشيعة العارفين بالأحكام،و لو سلّم كون بعضها مطلقا،فهو مقيّد بما دلّ علي اعتبار كونه ثقة مأمونا،كما قال الشيخ الأنصاري في عبارته المتقدّمة (1).

و الحقّ أنّه لا دليل علي حجّية خبر العدل علي الظاهر،قال بعضهم:بل الحقّ أنّ العدالة في الشاهد و إمام الجماعة مبنيّة علي الظاهر،و هي كونه مستور الحال،إذا سئل عنه خلطاؤه و جيرانه قالوا:لا نعلم منه إلاّ خيرا،و في الراوي كونه متحرّجا عن الكذب ضابطا لما ينقله،و أمّا الايمان فهو مع ذلك شرط لقبول خبر الواحد المجرّد عمّا يوجب العلم (2)انتهي.

ثمّ إنّه لو سلّم حجّية خبر العدل علي الظاهر،فينبغي الاقتصار علي من قطع علي عدالته ظاهرا لا مظنون العدالة ظاهرا،بل لا يكفي مظنون العدالة واقعا،لكن نسب بعض إلي العلاّمة أنّه اكتفي بمظنون العدالة.

ثالثها و هو الذي ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه:العدل في الاخبار،أي:الاستقامة في خصوص الاخبار،بأن يكون إماميّا متحرّزا عن الكذب،و ذكر الشيخ3.

ص: 483


1- فرائد الاصول ص 144.
2- هداية الأبرار ص 123.

الطوسي رحمه اللّه أنّه المراد بالعدالة في الراوي،فإنّه قال:و قد ورد جواز العمل به-أي الخبر الواحد-في الشرع،إلاّ انّ ذلك موقوف علي طريق مخصوص،و هو ما يرويه من كان من الطائفة المحقّة،و يختصّ بروايته،و يكون علي صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة و غيرها (1).

قوله«و يختصّ بروايته»لعلّه يريد أن لا يكون معه قرينة توجب العلم.

و قال أيضا:علي أنّ من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلا بلا خلاف (2).

و قال أيضا:فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح، و كان ثقة في روايته متحرّزا فيها،فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره و يجوز العمل به؛ لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه،و إنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته،و ليس بمانع من قبول خبره،و لأجل ذلك عملت الطائفة بأخبار جماعة هذه صفتهم (3)انتهي.

و قال في المعارج بعد حكاية ذلك عن الشيخ:و نحن نمنع هذه الدعوي و نطالب بدليلها،و لو سلّمنا لاقتصرنا علي المواضع التي عملت فيها بأخبار خاصّة،و لم يجز التعدّي في العمل إلي غيرها،و دعوي التحرّز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعدة؛إذ الذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرّجه عن الكذب (4)انتهي.

فقد منع عمل الطائفة بأخبار الفسّاق،و لو سلّم عملهم فيقتصر علي مورد عملهم،و منع أخيرا عن حصول العلم بتحرّز الفاسق عن الكذب.9.

ص: 484


1- عدّة الاصول ص 290.
2- عدّة الاصول 341.
3- عدّة الاصول ص 381.
4- معارج الاصول ص 149.

قلت:لو سلّم عمل الطائفة فلعلّه للقرينة،أو لكون الراوي له حالة استقامة حملت رواياته عليها،نعم لو ثبت تحرّزه عن الكذب و علم أو اطمئنّ بذلك منه، فيحصل من خبره سكون النفس،و يكون خبره حجّة،و هو ثقة واقعي،و لا يبعد أن يكون أدلّة حجّية الخبر شاملة له؛لأنّ من احرز أنّه صادق في قوله لا يحتمل فيه الخلاف،و حينئذ لا يشترط كونه إماميّا كما اشترطه الشيخ؛لأنّ من كان كذلك يحصل من خبره سكون النفس.و أمّا لو احتمل كذبه في هذا الخبر،فلا دليل علي حجّية خبره من بناء العقلاء الممضي شرعا،و لا يشمله سائر أدلّة حجّية الخبر.

ثمّ إنّ النسبة بين العدل الواقعي و الثقة في الحديث العموم و الخصوص المطلق، و النسبة بين المحكوم بالعدالة ظاهرا و الثقة العموم من وجه؛لأنّ من علم أو حكم بعدالته ظاهرا ربّما لا يعلم و لا يحكم بوثاقته في الحديث.

قيل:إنّ النسبة بين الثقة في الاخبار و بين ظنّ العدالة الذي اعتبره العلاّمة رحمه اللّه و من وافقه من أصحابنا علي وفق العامّة عموم من وجه،صرّح بذلك الشهيد الثاني في بعض تصانيفه في جواز الاعتماد علي خبر البايع الثقة في استبراء الجارية.

و قال في وسائل الشيعة:و معلوم أنّ النسبة بين الثقة و العدل العموم و الخصوص من وجه،كما ذكره الشهيد الثاني في بعض مؤلّفاته في بحث استبراء الجارية (1).

ثمّ إنّه ذكر في مقباس الهداية أنّ الصحيح ينقسم إلي أعلي و أوسط و أدني، فلاحظ.

القسم الثاني:الحسن (2)،و هو خبر الامامي الممدوح في إخباره مدحا لا يبلغه.

ص: 485


1- وسائل الشيعة 20:93.
2- عرّفه في المعالم بأنّه متّصل السند إلي المعصوم الامامي الممدوح من غير معارضة ذمّ مقبول و لا ثبوت عدالة.و قال والد الشيخ البهائي في وصول الأخيار ص 95:هو ما رواه الممدوح من غير نصّ علي عدالته.و قال أيضا في ص 97:أكثر علمائنا لم يعملوا به.بناء علي قاعدتهم من اشتراط علم العدالة.

حدّ الوثاقة،و استدلّ علي حجّيته بوجوه:

الوجه الأوّل:كون الممدوح لأجل كونه ممدوحا محكوما بكونه عادلا.

قال الشهيد في الدراية:و اختلفوا في العمل بالحسن،فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح،و هو الشيخ رحمه اللّه علي ما يظهر من عمله،و كلّ من اكتفي في العدالة بظاهر الاسلام و لم يشترط ظهورها،و منهم من ردّه مطلقا و هم الأكثرون،حيث اشترطوا في قبول الرواية الايمان و العدالة،كما قطع به العلاّمة في كتبه الاصوليّة و غيره.

إلي أن قال:و فصّل آخرون في الحسن،كالمحقّق في المعتبر و الشهيد في الذكري،فقبلوا الحسن بل الموثّق،و ربّما ترقّوا إلي الضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين الأصحاب،حتّي قدّموه حينئذ علي الخبر الصحيح حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا (1)انتهي.

قوله«و هو الشيخ رحمه اللّه»قلت:قد صرّح في العدّة بخلافه كما مرّ.

و قال السيّد بحر العلوم:التحقيق أنّ الحسن يشارك الصحيح في أصل العدالة، و إنّما يخالفه في الكاشف عنها،فإنّه في الصحيح هو التوثيق أو ما يستلزمه، بخلاف الحسن فإنّ الكاشف فيه هو حسن الظاهر المكتفي به في ثبوت العدالة علي أصحّ الأقوال،و بهذا يزول الاشكال في القول بحجّية الحسن مع القول باشتراط عدالة الراوي،كما هو المعروف بين الأصحاب (2).

قلت:ما ذكره السيّد راجع إلي العدل علي الظاهر الذي مرّ الكلام فيه،و أمّا الحسن بالتفسير الذي ذكرناه فهو مغاير للعدل علي الظاهر،و علي كلّ لا يشمله دليل حجّية خبر العادل كما مرّ.

ص: 486


1- الدراية ص 26.
2- رجال السيّد بحر العلوم 1:460.

الوجه الثاني:ما ذكره الشهيد الثاني في الدراية قائلا:إنّه دليل لحجّية الخبر الصحيح و الحسن و الموثّق،و هو أنّ المانع من قبول خبر الفاسق هو فسقه لقوله تعالي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فمتي لم يعلم الفسق لا يجب التثبّت عند خبر المخبر مع جهل حاله،فكيف مع توثيقه و مدحه و إن لم يبلغ حدّ التعديل، و بهذا احتجّ من قبل المراسيل.

و قد أجابوا عنه بأنّ الفسق لمّا كان علّة التثبّت وجب العلم بنفيه حتّي يعلم انتفاء التثبّت،فيجب التفحّص عن الفسق ليعلم هو أو عدمه حتّي يعلم التثبّت أو عدمه.و فيه نظر؛لأنّ الأصل عدم وجود المانع في المسلم،و لأنّ مجهول الحال لا يمكن الحكم عليه بالفسق،و المراد في الآية المحكوم عليه بالفسق (1)انتهي.

و فيه نظر أوّلا:أنّه في مورد الآية و هو الارتداد لا يقبل خبر الموثّق و الممدوح فضلا عن المجهول.

و ثانيا:ما تقدّم من منع دلالة الآية علي حجّية خبر العادل فضلا عن غيره.

و ثالثا:أنّ الآية دلّت علي أنّ الفاسق واقعا لا بدّ من التثبّت عند خبره؛لأنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة،و لا دخل للعلم و الجهل في مفاهيم الألفاظ.

و ما ذكره من أنّ الأصل عدم المانع لو سلّم،فهو فيما إذا كان المقتضي للشيء معلوما و شكّ في وجود المانع،و لمانع أن يمنع وجود المقتضي في قبول خبر المسلم،و لعلّ المقتضي هو عدالة المخبر،و ما ذكره من أنّ المراد في الآية المحكوم عليه بالفسق،إن أراد أنّ المراد به من يصحّ خطابه بأيّها الفاسق،ففيه أنّه ليس في الآية كون المانع صحّة خطابه بأيّها الفاسق،بل الحكم مترتّب علي عنوان الفاسق، كسائر الموضوعات و هو من صدق عليه الفاسق،مثل قوله«يتوضّأ بالماء»فإنّ6.

ص: 487


1- الدراية ص 26.

المراد به ما صدق عليه الماء واقعا لا ما اعتقده المكلّف ماء.

الوجه الثالث:إطلاق الأخبار المتقدّمة في الطائفة السابعة،لكن تقدّم النظر في دلالتها.

الوجه الرابع:سيرة العقلاء،قال في مباني الاستنباط:الخبر الحسن و هو الذي يكون جميع سلسلة رواته إماميّين ممدوحين بالخير و التحرّز عن الكذب من دون تصريح بعدالتهم كلاّ أو بعضا،و هذا القسم أيضا داخل في السيرة،فإنّ سيرة العقلاء مستقرّة علي العمل بخبر من يتحرّز عن الكذب و إن لم يكن عادلا (1).

و فيه أنّه لا بناء للعقلاء علي ذلك فيما لا يتساهلون فيه،فلو أخبر رجل ممدوح بموت رجل لا يكتفون بمجرّد خبره مع التمكّن من الاستعلام،فلا يرتّبون آثار موته إذا لم يحصل لهم العلم بموته،و لا يقيمون عليه النوائح،و لا تتزوّج زوجته إلي غير ذلك،و لو سلّم سيرتهم علي قبول الخبر الحسن فهي مردوعة بالآيات و الروايات الناهية عن اتّباع غير العلم.

ثمّ إنّ ما ذكر في تعريف الحسن من التحرّز عن الكذب يرادف الوثاقة.

الوجه الخامس:ما قيل من دعوي الشيخ في العدّة الاجماع علي قبول حجّيته، حيث قال:و مدحوا الممدوح و ذمّوا المذموم (2).

قلت:هذا لا يدلّ علي أنّ الشيخ يري جواز العمل بخبر الممدوح،و لا علي ادّعائه الاجماع علي العمل به،كما هو واضح للمراجع،فإنّه قال بعد ذلك:فلو لا أنّ العمل بمن يسلم من الطعن و يرويه من هو موثوق به جائز لما كان بينه و بين غيره فرق (3).7.

ص: 488


1- مباني الاستنباط ص 354.
2- عدّة الاصول ص 366.
3- عدّة الاصول ص 367.

ثمّ إنّه ينبغي أن يقسّم الحسن إلي الواقعي،و هو من احرز حسنه بالمعاشرة، و إلي الحسن علي الظاهر،و هو من ثبت حسنه بالاستصحاب و نحوه،و لقائل أن يقول:إن سلّم حجّية الحسن الواقعي،فلا يسلّم حجّية الحسن علي الظاهر.

القسم الثالث:الموثّق،و عرّفه في المعالم بأنّه ما دخل في طريقه من ليس بإمامي،ولكنّه منصوص علي توثيقه بين الأصحاب،و لم يشتمل باقي الطريق علي ضعف من جهة اخري (1)انتهي.

أقول:من غير فرق بين المخالف و سائر فرق الشيعة،كالفطحيّة و الواقفيّة و غيرهما.ثمّ إنّه إن كان متعبّدا بدينه،يكون عادلا في مذهبه.

و استدلّ علي حجّيته بما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بعد ذكر الأخبار علي حجّية خبر الواحد من أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب علي وجه لا يعتني به العقلاء،و يقبحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دلّ عليه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق و غيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة، و هي أيضا منصرف إطلاق غيرها،و أمّا العدالة فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها، بل في كثير منها التصريح بخلافه،مثل رواية العدّة الآمرة بالأخذ بما رووه عن علي عليه السّلام،و الواردة في كتب بني فضّال،و مرفوعة الكناني و تاليها.

نعم في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في الشيعة،لكنّه محمول علي غير الثقة،أو علي أخذ الفتوي جمعا بينها و بين ما هو أكثر منها،و في رواية بني فضّال شهادة علي هذا الجمع،مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرواية بأنّهم ممّن خانوا اللّه و رسوله يدلّ علي انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة،فإنّ غير الامامي الثقة مثل ابن فضّال و ابن بكير ليسوا خائنين في كلّ نقل6.

ص: 489


1- معالم الاصول ص 216.

الرواية (1)انتهي.

و لا يبعد أن يقال:إنّه لا فرق في الاعتماد علي خبر الثقة،و هو المتحرّز عن الكذب المعلوم من حاله أنّه صادق بين الامامي و غيره،فإنّه يحصل سكون النفس من إخباره.نعم يحتمل الفرق في من يحتمل كذبه في هذا الخبر بين العادل و الفاسق بأفعال الجوارح،بأنّ العادل يقبل قوله حملا علي الصحّة،لكن لا يبعد أن يكون المدار علي قوّة احتمال الكذب و ضعفه،فإذا كان عادلا كان احتمال كذبه ضعيفا جدّا.و أمّا لو كان الاحتمال ممّا يعتني به،فالآيات و الأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم تدلّ علي عدم الحجّية.

و قد يفصّل-كما تقدّم-بين ما إذا كان الغرض ترتيب آثار الواقع،فهي لا تترتّب علي خبر الثقة المذكور ما لم يحصل سكون النفس،و بين ما إذا كان الغرض احتجاج العبد علي المولي أو العكس،فيكون قول الثقة حجّة و إن لم يحصل سكون النفس.

و يمكن تقسيمه إلي الموثّق واقعا،و الموثّق ظاهرا،و هو من احرز وثاقته بالمعاشرة الظاهرية معه.

القسم الرابع:الضعيف،و هو المشتمل علي المجروح،أو المطعون،أو المجهول، أو الارسال،أو الوقف و نحوها،و له أصناف:

الصنف الأوّل:المضمر،و هو ما اضمر فيه المسؤول أو المخبر عنه،بأن قال:

سألته،أو نحو ذلك.و هذا ليس بحجّة إلاّ إذا احرز أنّ المراد به هو المعصوم عليه السّلام، كما قيل في مضمرات زرارة:إنّه أجلّ من أن يروي عن غير المعصوم عليه السّلام.

و قد تكون الرواية مضمرة،لكن بعد التأمّل يظهر أنّها ليست كذلك؛لأنّ الراوي4.

ص: 490


1- فرائد الاصول ص 144.

ذكر المعصوم الذي روي عنه في أوّل كتابه،ثمّ قال:و سألته،و يرجع الضمير إلي المذكور أوّلا،ثمّ لمّا رتّبت الأخبار و وزّعت علي الأبواب و حصل التقطيع،فظنّ أنّ الخبر مضمر،مع أنّه ليس كذلك.

و قد أشار إلي ذلك في الفائدة الحادية عشرة في خاتمة الوسائل (1)بعد حكايته عن الشيخ حسن رحمه اللّه في المنتقي (2)في الفائدة الثامنة مضمون ما ذكرناه.

و قد يقال بأنّ مضمرات سماعة من هذا القبيل،لكن ينافيه أنّ الشيخ الطوسي رحمه اللّه الذي هو أقرب منّا إلي زمان تدوين كتب الأخبار ناقش في مضمرات سماعة،قال في التهذيب بعد ذكر خبر عنه:فأوّل ما فيه أنّ سماعة قال:سألته،و لم يذكر المسؤول بعينه،و يحتمل أن قد يكون قد سأل غير الامام فأجابه بذلك،و إذا احتمل ما قلناه لم يكن فيه حجّة علينا (3)انتهي.

قلت:ما ذكر من أنّ الاضمار حصل من تقطيع الأخبار يحتاج إلي دليل لإثباته،مع أنّ مقتضي الأمانة في التقطيع ذكر المسؤول عنه،مثلا إنّ سماعة يروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و يروي عن أبي الحسن عليه السّلام،فإذا كان ذكر أوّل كتابه أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام،فينبغي عند التقطيع أن يذكر ذلك.

ولكن يمكن أن يستفاد من بعض الأخبار أنّ سماعة و آخرين لا يضمرون إلاّ عن المعصوم عليه السّلام،و هو خبر سماعة عن أبي الحسن عليه السّلام،قال:قلت:أصلحك اللّه انّا نجتمع فنتذاكر ما عندنا،فلا يرد علينا شيء إلاّ و عندنا فيه شيء مسطّر،و ذلك ممّا أنعم اللّه به علينا،ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء،فينظر بعضنا إلي بعض،و عندنا ما يشبهه فنقيس علي أحسنه،فقال:و ما لكم و للقياس،إنّما هلك6.

ص: 491


1- وسائل الشيعة 20:112.
2- منتقي الجمان 1:35.
3- تهذيب الأحكام 1:16.

من هلك من قبلكم بالقياس.

ثمّ قال:إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به،و إن جاءكم مالا تعلمون فها-و أهوي بيده إلي فيه-ثمّ قال:لعن اللّه أبا حنيفة كان يقول:قال علي و قلت أنا،و قالت الصحابة و قلت،ثمّ قال:أكنت تجلس إليه؟فقلت:لا ولكن هذا كلامه،فقلت:

أصلحك اللّه أتي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و اله الناس بما يكتفون به في عهده؟قال:نعم و ما يحتاجون إليه إلي يوم القيامة،فقلت:فضاع من ذلك شيء؟فقال:لا هو عند أهله (1).

و قريب منه خبر محمّد بن حكيم (2).

بناء علي إرادته أنّ عندنا فيه شيء مسطّر منكم كما لعلّه الظاهر،لكن قوله «فنقيس عليه»يقتضي أنّهم ربّما يقولون بالقياس فمنعهم.

الصنف الثاني:المرسل،و هو ما لم يذكر فيه اسم بعض الرواة،سواء ذكر بعنوان رجل أو بعض أصحابنا،أو لم يذكر أصلا،كما إذا علم بحسب الطبقة سقوط الواسطة.و المرسل ليس بحجّة بناء علي اعتبار وثاقة الرواة أو حسنهم.

و لعلّ الظاهر من كلام النجاشي في ترجمة أحمد بن محمّد بن خالد (3)أنّ القدماء لا يعتمدون علي المراسيل،و كذا يظهر ممّا ذكره في ترجمة محمّد بن أبي عمير أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيله (4).فإنّه يدلّ علي أنّ المراسيل ليست بحجّة،و لمراسيل ابن أبي عمير خصوصيّة توجب سكون أصحابنا إليها.

و قد استثني من عدم حجّية المراسيل مواضع:6.

ص: 492


1- اصول الكافي 1:57 ح 13.
2- اصول الكافي 1:56 ح 9.
3- رجال النجاشي ص 76.
4- رجال النجاشي ص 326.

الموضع الأوّل:ما إذا كان الراوي لا يرسل إلاّ عن ثقة.

قال الشيخ في العدّة:فأمّا إذا انفردت المراسيل،فيجوز العمل بها علي الشرط الذي ذكرناه،إلي آخر كلامه.و مراده بالشرط الذي ذكره أن يكون المرسل ممّن لا يرسل إلاّ عن ثقة،فلاحظ كلامه.

قال:و إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا،نظر في حال المرسل،فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به،فلا ترجيح لخبر غيره علي خبره، و لأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير،و صفوان بن يحيي، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر،و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون و لا يرسلون إلاّ ممّن يوثق به،و بين ما أسنده غيرهم،و لذلك عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم،فأمّا إذا لم يكن كذلك و يكون ممّن يرسل عن ثقة و عن غير ثقة، فإنّه يقدّم خبر غيره عليه،و إذا انفرد وجب التوقّف في خبره إلي أن يدلّ دليل علي وجوب العمل به،فأمّا إذا انفردت المراسيل،فيجوز العمل بها علي الشرط الذي ذكرناه (1)انتهي.

فإنّ قوله«و لذلك عملوا بمرسلهم»نصّ في أنّ وجه العمل بمرسل ابن أبي عمير و أضرابه كونه لا يرسل إلاّ عن ثقة.و كذلك قوله«و إذا انفرد وجب التوقّف»نصّ في أنّه إذا كانه يرسل عن ثقة تارة،و يرسل عن غيرهم اخري يتوقّف،مع أنّ قوله «بالشرط»أيضا ظاهر في أنّ الشرط قوله«فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به»و ليس في كلامه اشتراط عدم المعارض.

و من ذلك يظهر أنّ ما نسبه إليه المحقّق في المعارج في غير محلّه،حيث قال:

المسألة السادسة:إذا أرسل الراوي الرواية،قال الشيخ رحمه اللّه:إن كان ممّن عرف أنّه6.

ص: 493


1- عدّة الاصول ص 386.

لا يروي إلاّ عن ثقة،قبلت مطلقا.و إن لم يكن كذلك،قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة،و احتجّ لذلك بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد،فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر (1).

فإنّه حمل قوله«علي الشرط الذي ذكرناه»علي انفراد المرسل عن المعارض، لكن لعلّ ظاهر كلامه اشتراط أن يكون المرسل ممّن لا يرسل إلاّ عن ثقة.

ثمّ إنّ الشيخ رحمه اللّه ذكر في العدّة جماعة عرفوا أنّهم لا يروون و لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و لعلّ حاصل كلام الشيخ رحمه اللّه أنّه قد عرف معاشروهم،و هكذا الذين عاشروا معاشريهم،و هكذا في جميع الأعصار إلي زمان الشيخ رحمه اللّه أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و قد عرف ذلك من شدّة تورّعهم في نقل الحديث.و هذا إخبار من الشيخ مستند إلي الحسّ،و اورد علي ذلك بوجوه:

أحدها:ما ذكره المحقّق،قال في المعتبر:و لو قال مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك؛لأنّ في رجاله من طعن الأصحاب فيه،و إذا أرسل احتمل أن يكون أحدهم (2)انتهي.

و فيه أنّه لا طريق للأصحاب إلي الطعن في من يروي عنهم هؤلاء في جميع رواياتهم و في جميع أحوالهم؛لعدم الاطّلاع الكامل علي أحوالهم من أوّل بلوغهم إلي موتهم،فيمكن أن يكونوا في بعض الأوقات ثقات،و هؤلاء إنّما رووا عنهم في حال كونهم ثقات.

ثانيها:أنّ الشيخ رحمه اللّه لم يلتزم به في التهذيبين،فطعن في رواية رواها ابن أبي عمير عن بعض بالارسال.

و يمكن الجواب بأنّ تأليف عدّته كان بعد تأليف التهذيبين،فقد عدل عن ذلك،1.

ص: 494


1- معارج الاصول ص 151.
2- المعتبر ص 41.

و يكون نظره المتأخّر هو الحجّة.

و فيه أنّه قال في عدّته:و قد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السّلام من الأحاديث المختلفة التي تخصّ بالفقه في كتابي المعروف بالاستبصار و في كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد علي خمسة آلاف حديث،و ذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها الي آخر كلامه (1).

و يظهر من هذه العبارة ارتضاؤه بما صنعه في كتابيه و عدم عدوله عنه،فيكون كلامه في العدّة مناقضا له،إلاّ أن يقال:إنّ الشيخ اعتقد ذلك من تورّعهم في الحديث،و ليس إخبار الشيخ عن ذلك إخبارا عن حسّ،فيحتمل روايتهم عن ضعيف قد خفي عليهم في بعض الموارد،فتأمّل.

ثالثها:أنّ المشهور بين القدماء عدم العمل بالخبر الواحد كما تقدّم،فكيف يسند إليهم أنّهم عملوا بمرسلاتهم؟

و فيه أنّه أخبر بأمرين:أحدهما أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و ثانيهما أنّ الأصحاب عملوا بمرسلاتهم،و عدم ثبوت الأمر الثاني لا يضرّ بدعواه الاولي.

و الانصاف أنّ الوثوق بكون إخبار الشيخ عن ذلك أمرا حسّيا أو قريبا منه مشكل، و سيأتي الكلام عليه.

الموضع الثاني:خصوص مرسلات ابن أبي عمير؛لأنّ النجاشي قال:فلهذا انّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيله (2).

و نوقش فيه أوّلا:باحتمال أن لا يكون هذا كلام النجاشي،بل يكون تتمّة للكلام الذي حكاه بقوله«و قيل»و ثانيا:أنّ السكون بمعني عدم الاعتراض علي ابن أبي عمير في إرساله لا العمل به.6.

ص: 495


1- عدّة الاصول ص 356.
2- رجال النجاشي ص 326.

قلت:الظاهر من عبارة النجاشي هو العمل،أي:يسكنون عن احتمال أن يكون ما أرسله غير مودع في الكتب المعتبرة؛لأنّهم علموا أنّ مرسلاته عين مسنداته، فكما أنّهم يسكنون إلي مسنداته،كذلك يسكنون إلي مرسلاته؛لأنّها كانت مسندة في ضمن كتبه،فلعلّه لبناء الأصحاب علي العمل بالكتب المعتبرة التي منها كتب ابن أبي عمير،و الحاصل أنّ المستفاد من هذه العبارة أنّ حكم هذه المراسيل حكم مسانيد ابن أبي عمير،فمن يعمل بها يعمل بمراسيله أيضا،و لا يدلّ علي حجّية المرسل.

هذا مضافا إلي أنّ الظاهر من قوله«يسكنون إلي مراسيله»إرادة العمل بها،كما هو الظاهر في ترجمة عدّة من الرواة،مثل قول النجاشي في ترجمة محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب:جليل من أصحابنا،عظيم القدر،كثير الرواية،ثقة عين، حسن التصانيف،مسكون إلي روايته (1).انتهي.

ثمّ إنّه ذكر في مقباس الهداية أنّ للقائلين بحجّية المرسل المذكور مسلكين:

أحدهما:أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة.و نوقش عليه بأنّه شهادة علي مجهول.ثمّ ذكر مناقشة الشهيد في الدراية و صاحب البشري و المحقّق في المعتبر فلاحظ.

ثانيهما:ما حكاه عن الميرزا القمّي من أنّه لو فرض أنّ الواسطة كان فاسقا يجوز العمل بروايته بعد التثبّت،و التثبّت يتحقّق بما ذكره الشيخ في العدّة أنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة،و بما ذكره الكشي من إجماع العصابة علي تصحيح ما يصحّ عنهم،و ما ذكره النجاشي من أنّ أصحابنا يسكنون إلي مراسيلهم،فإنّ رواية ابن أبي عمير يفيد الاطمئنان بكون المروي عنه ثقة معتمدا عليه،و ليس الاطمئنان الحاصل من ذلك بأقلّ من الاطمئنان الحاصل من توثيق من لم يدرك الراوي من0.

ص: 496


1- رجال النجاشي 2:220.

علماء الرجال،كما لا يخفي (1).

أقول:فيه أوّلا:أنّ التبيّن هو العلم الذي لا يكون فيه احتمال الخلاف،كما تقدّم.

و ثانيا:أنّ الاطمئنان بصدور الخبر لا يحصل من هذه الكلمات،فانتظر زيادة تحقيق.

الموضع الثالث:إذا قال الصدوق:قال الصادق عليه السّلام،فإنّه يعتمد عليه لأنّه لا يكذب،و إذا قال:روي عن الصادق عليه السّلام،فلا يكون حجّة.

و اعترض عليه في كشف القناع،حيث قال في مقام الردّ علي دعوي حجّية قطع الثقة مثل قول الصدوق قال الصادق عليه السّلام:و أمّا ما صدر من جملة من الأعاظم من الاعتماد علي مراسيل الصدوق في الفقيه،و غيره نادرا،و ما صدر من غيرهم ممّن لا يعتمد عليه من الاعتماد عليها دائما أو كثيرا،و لا سيّما إذا كان الارسال بلفظ«قال الصادق عليه السّلام»مثلا لا نحو روي و شبهه.

فالأوّل مبني علي المسامحة في الاستدلال،حيث يوجد دليل آخر علي الحكم ينهض بالحجّة بدونها،كما أشرنا إليه سابقا،و لذا لم يعتدوا بها غالبا.

و الثاني علي الغفلة و الجهالة،كما بيّن في محلّه مفصّلا.

علي أنّ الارسال بلفظ«قال»فضلا عن روي و نقل،مع عدم العلم بصدور القول من المنسوب إليه شايع متداول بين الأصحاب و غيرهم في نقل الأخبار و الأقوال في الأحكام الشرعيّة و غيرها إلي آخر كلامه (2).

أقول:ذكر الصدوق في أوّل الفقيه أنّه يورد في كتابه ما هو حجّة بينه و بين ربّه، فيمكن أن يقال:لا فرق عنده بين ما قال فيه:و قال الصادق عليه السّلام،و بين ما قال فيه:7.

ص: 497


1- مقباس الهداية ص 48-49.
2- كشف القناع ص 407.

و روي عن الصادق عليه السّلام.و أمّا احتمال الفرق بينهما مع حجّيتهما بأنّه قطع بقول الصادق عليه السّلام في الأوّل،بخلاف الثاني فإنّه حجّة بينه و بين ربّه فقط،فهو غير معلوم.

ثمّ إنّ لازم ذلك أن يكون مرسلات الصدوق أقوي من مسنداته،مع أنّه ليس كذلك للعلم بأنّه لم يلق الصادق عليه السّلام،و لأنّ منشأه الأسانيد الموجودة في كتاب آخر،أو اعتماده علي شيخه،و علي كلّ فمع بعد العهد لا يكون إخبارا عن حسّ، بل بواسطة اعتمد عليها،و لعلّه يعتقد أنّ الكتب المشهورة المعروفة صادرة عن المعصومين عليهم السّلام قطعا.

و من ذلك يظهر أنّ دعوي حجّية مراسيل الكليني مبنيّة علي ما ذكره من ايراده الأخبار الصحيحة،فليس ذلك لقطعه بل لكونه يحتمل وصوله إليه مسندا.

الموضع الرابع:إذا كان المرسل عنه عدّة،مثل أن يقول:أبان عن عدّة،أو غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،فهل هو مرسل أم ملحق بالصحيح؟عبّر العلاّمة المجلسي رحمه اللّه عن مثله بالمرسل كالصحيح،و قيل بحجّيته؛لأنّ العدّة تشتمل علي جماعة و يبعد اجتماعهم علي الكذب.

الموضع الخامس:ما اختاره المحقّق في المعارج،قال:المسألة الخامسة:إذا قال أخبرني بعض أصحابنا و عني الاماميّة يقبل و إن لم يصفه بالعدالة إذا لم يصفه بالفسوق؛لأنّ إخباره بمذهبه شهادة بأنّه من أهل الأمانة و لم يعلم منه الفسوق المانع من القبول،فإن قال عن بعض أصحابه لم يقبل؛لإمكان أن يعني نسبته إلي الرواة أو أهل العلم،فيكون البحث فيه كالمجهول (1)انتهي.

و فيه أوّلا:أنّ«بعض أصحابنا»أعمّ من أن يكون من الشيعة الاثني عشريّة، كما قال الشيخ في أوّل الفهرست:فإنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أرباب الاصول8.

ص: 498


1- معارج الاصول ص 217-218.

ينتحلون المذاهب الفاسدة.

و ثانيا:أنّ كونه من الشيعة الاماميّة أعمّ من كونه عادلا.

إن قلت:إنّ المحقّق يدّعي أنّ الفقهاء يكتفون في حجّية الخبر بأن يكون الراوي من الشيعة الاثني عشريّة إن لم يظهر منه فسق.

قلت:أوّلا أنّه لم ينسب ما ذكره إلي الفقهاء.

و ثانيا:أنّه مذهبه في هذا الكتاب،و هو مخالف لمذهبه في أوّل المعتبر.

و ثالثا:أنّه مناف لما ذكره في المسألة الثامنة من اعتبار الضبط في الراوي،فإنّ كونه من الشيعة لا يدلّ علي كونه ضابطا.

الموضع السادس:الحق بمرسل ابن أبي عمير مرسل الشيخ الطوسي و ابن أبي عقيل و ابن الجنيد و النجاشي،لاحظ مقباس الهداية (1).

الموضع السابع:قيل:إذا قيل عن بعض رجاله،مثل أن يقال:يونس عن بعض رجاله،فلعلّه ظاهر في من يعتمد عليه و يتخذه ليكون من رجاله في الحديث.

تنبيهان:
التنبيه الأوّل:أنّ لفظ الخبر ربّما يكون صريحا في عدم الارسال،مثل قوله«سمعت»

و ربّما يكون صريحا في الارسال،مثل عن بعض أصحابنا،و قد يكون محتملا لهما،مثل قوله«قال فلان»فإنّه يحتمل سماعه عنه،و يحتمل عدم سماعه،و نسب القول إليه اعتمادا علي الواسطة التي لم يذكرها.

التنبيه الثاني: في إعراض المشهور عن الخبر المعتبر

أنّ الخبر المعتبر سواء كان صحيحا أو حسنا أو موثّقا أو مرسلا معتبرا، إن أعرض المشهور عنه،فهل يوجب ذلك سقوطه عن الحجّية أم لا؟فيه كلام يأتي.

ص: 499


1- مقباس الهداية 3:49.

الصنف الثالث:ما اشتمل علي مجهول أو مهمل أو مطعون،و أدلّة الحجّية لا تشمله.

ثمّ إنّ الضعيف بأقسامه له تقسيم آخر،و هو أنّه قد يكون مشهورا،و قد يكون غير مشهور،فنقول:

أمّا الأوّل:و هو الخبر المشهور فهو أقسام:

أحدها:الخبر الذي روي مضمونه كثير من الرواة الذين لم يحرز عدالتهم و لا وثاقتهم و لا حسنهم،و لم يثبت عمل الرواة به و لا إعراضهم عنه،بل كان مضمونه منقولا،فإن حصل سكون النفس الذي لا يعتني باحتمال خلافه عند العقلاء إلي صدوره عن المعصوم عليه السّلام فهو حجّة؛لبناء العقلاء و عدم الردع،بل يدلّ عليه مقبولة ابن حنظلة،فإنّ المراد بالشهرة فيها الشهرة في الرواية بين أصحاب عمر بن حنظلة و هم الرواة.و إن لم يحصل الوثوق و سكون النفس،فليس بحجّة،و لكن لا بدّ من الاحتياط في العمل بالخبر المذكور لما تقدّم و يأتي.

ثمّ إنّه يستفاد من كلام الشيخ المفيد رحمه اللّه اعتبار الخبر المشهور،قال في شرح اعتقادات الصدوق رحمه اللّه:ليس كلّ حديث عزي إلي الصادقين عليهم السّلام حقّا عنهم،و قد اضيف إليهم ما ليس بحقّ عنهم،و من لا معرفة له لا يفرق بين الحقّ و الباطل.

إلي أن قال:إلاّ أنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد انتشار الصحيح المصدوق علي الأئمّة عليهم السّلام فيه،و ما خرج للتقيّة لا يكثر روايته عنهم،كما تكثر رواية المعمول به،بل لا بدّ من الرجحان في أحد الطرفين علي الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرناه،و لم تجمع العصابة علي شيء كان الحكم فيه تقيّة،و لا شيء دلس فيه و وضع مخروصا عليهم و كذب في إضافته إليهم،فإذا وجدنا أحد الحديثين متّفقا علي العمل به دون الآخر،علمنا أنّ الذي اتّفق علي العمل به هو الحقّ في ظاهره و باطنه،و أنّ الآخر غير معمول به:إمّا للقول فيه علي وجه التقيّة،

ص: 500

أو لوقوع الكذب فيه.

و إذا وجدنا حديثا يرويه عشرة من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام يخالفه حديث آخر في لفظه و معناه،و لا يصحّ الجمع بينهما علي حال رواه اثنان أو ثلاثة،قضينا بما رواه العشرة و نحوهم علي الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة،و حملنا ما رواه القليل علي وجه التقيّة أو توهّم ناقله.

و إذا وجدنا حديثا قد تكرّر العمل به من خاصّة أصحاب الأئمّة عليهم السّلام في زمان بعد زمان و عصر إمام بعد إمام،قضينا به علي ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرّر الرواية و العمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه.

فإذا وجدنا حديثا رواه شيوخ العصابة و لم يوردوا[يرووا]علي أنفسهم خلافه،علمنا أنّه ثابت و إن روي غيرهم ممّن ليس في العداد و في التخصيص بالأئمّة عليهم السّلام مثلهم؛إذ ذاك علامة الحقّ فيه،و فرق ما بين الباطل و بين الحقّ في معناه،و إنّه لا يجوز أن يفتي الامام علي وجه التقيّة في حادثة،فيسمع ذلك المختصّون بعلم الدين من أصحابهم،و لا يعلمون مخرجه علي أيّ وجه كان القول فيه،و لو ذهب عن واحد منهم لم يذهب عن الجماعة،لا سيّما و هم المعروفون بالفتيا و الحلال و الحرام و نقل الفرائض و السنن و الأحكام إلي آخر كلامه (1).

ثانيها:الخبر الذي يطابقه عمل جميع الشيعة،أو جميع المسلمين،بحيث ينتهي إلي تقرير المعصوم،فالظاهر كونه حجّة إذا علم أو حصل الوثوق بكونه كذلك إلي زمان المعصومين عليهم السّلام.

ثالثها:الخبر الذي يوافقه عمل كثير من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و بطانتهم و خواصّهم،و الظاهر أنّ عملهم يكشف علما عاديا عن صدور الخبر عن4.

ص: 501


1- شرح اعتقادات الصدوق ص 264.

المعصوم عليه السّلام و إن لم يستندوا إليه.

لكن قال في كشف القناع:إنّ عملهم و آراءهم لا يوجب العلم بالحكم لامور تعرّضنا لها في بحث الاجماع،لكن يظهر منه تسليم كشفه عن الحجّة المعتبرة،كما تقدّم في بحث الاجماع (1).

رابعها:الخبر الذي يوافقه شهرة فتوي قدماء العلماء بدون الاستناد إليه،فإن لم يحتمل عادة استنادهم إلي دليل قابل للمناقشة أو وجه اعتباري،ففي مثل ذلك يكشف عن وجود نصّ معتبر عندهم،أو وصول الحكم إليهم يدا بيد عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام،أو عن شهرة عند رواة الأئمّة عليهم السّلام التي تكشف عادة عن أخذهم عن الأئمّة عليهم السّلام،فيكون مضمون هذا الخبر علي جميع هذه الوجوه صحيحا.

بل قد يقال:إنّ مجرّد شهرة فتواهم في الفرض المزبور يكشف عن وجود نصّ معتبر عندهم؛لأنّهم لم يكونوا يفتون علي القواعد الاصوليّة،بل كان دأبهم الافتاء علي طبق النصّ،و قد مرّ الكلام فيه في بحث الشهرة و الاجماع،و ذكرنا أنّه لا يكشف علما عن ذلك،و قلنا إنّه لا بدّ من الاحتياط في العمل به.

و أمّا إن احتمل استناد فتواهم إلي أمر اجتهادي،كالاستظهار من خبر صحيح موجود عندنا و نحو ذلك،فلا توجب شهرة فتواهم حجّية هذا الخبر،و كذلك موافقة شهرة فتوي المتأخّرين لا توجب حجّية الخبر؛لعدم حجّية آرائهم و اجتهاداتهم علي مجتهد آخر.

و قال الشهيد في الدراية في الطعن علي كون الشهرة جابرة لضعف الخبر:إنّا نمنع من كون هذه الشهرة التي ادّعوها مؤثّرة في جبر الخبر الضعيف،فإنّ هذا إنّما9.

ص: 502


1- كشف القناع ص 69.

يتمّ لو كانت الشهرة متحقّقة قبل زمن الشيخ،و الأمر ليس كذلك فإنّ من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقا،كالسيّد المرتضي و الأكثر علي ما نقله جماعة،و بين جامع للأحاديث من غير التفات إلي تصحيح ما يصحّ وردّ ما يردّ، و كان البحث عن الفتوي مجرّدة لغير الفريقين قليلا جدّا،كما لا يخفي علي من اطّلع علي حالهم،فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشيخ علي وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقّق،و لمّا عمل الشيخ بمضمونه في كتبه الفقهيّة جاء من بعده من العلماء و اتّبعه منهم عليها الأكثر تقليدا له إلاّ من شذّ منهم إلي آخر كلامه (1).

أقول:لعلّ كلامه أعمّ ممّا إذا استند المشهور إلي العمل بالخبر،أو كانت الشهرة موافقة للخبر،و كأنّه اعترف بأنّ الشهرة جابرة لكنّها ليست شهرة حقيقة لاستنادها إلي الشيخ فقط.

خامسها:الخبر الذي استند إليه قدماء الأصحاب،بحيث علم انحصار مدركهم فيه،و هو تارة يكون راويه معلوم الاسم مجهول الحال،و ثانية يكون مجهول الاسم و الحال،و ثالثة يكون متّصفا بما يمنع عن قبول خبره.

ففي الأوّل يمكن أن يكون استنادهم توثيقا للراوي لجهلنا بحاله،فيصحّ أن يقال:إنّ الخبر مجبور بالشهرة.ولكن فيه نظر؛لأنّه يحتمل أن يكون استنادهم إليه لوجود قرينة عندهم موجبة لعلمهم بصدق الراوي في هذا الخبر لو اطّلعنا عليها لم نعتمد عليها،أو كان استنادهم إلي الخبر من أجل وجوده في الكتب التي كانت محلّ العمل و الاعتماد،و ذلك لعدم حصر الخبر الحجّة عند القدماء في خصوص ما كان رواته ثقات.

و في الثاني يمكن أن يكون استنادهم توثيقا،ولكن فيه نظر أوّلا:ما مرّ من7.

ص: 503


1- الدراية ص 27.

احتمال كون استنادهم إليه لقرينة لم نكن نعتمد عليها لو اطّلعنا عليها.

و ثانيا:أنّه يمكن أن يكون الراوي بحيث لو علمنا اسمه عرفنا ضعفه.

و لا يخفي أنّ القرينة التي يعتمد عليها القدماء المطّلعون العلماء الأتقياء،ينبغي أن نعتمد عليها لو وصلتنا،و أيضا لا طريق إلي إحراز ضعف الراوي لو اطّلعنا علي اسمه بحيث يحكم بضعفه،حتّي في هذا الخبر الذي عملوا به و استندوا إليه.

و في الثالث قيل:إنّه لا يحتمل أن يكون استنادهم إليه توثيقا للراوي؛لأنّه علي الفرض ضعيف،فينحصر أن يكون لقرينة أوجبت وثوقهم بصدق الراوي،و هو لا يكون حجّة لنا؛لأنّه ربّما لا تكون القرينة التي كانت عندهم حجّة لنا لو عرفناها.

و فيه نظر؛لأنّه لو ثبت ضعف الراوي في جميع الأزمنة كان للمناقشة المذكورة مجال،و لكن لا يثبت بقول الرجاليّين ضعف الراوي في جميع أحواله،فلعلّه كان ثقة حال هذه الرواية،و علي كلّ حال فاستنادهم إليه لو كان لتوثيق الراوي حال الرواية فهو جابر لضعفه،و إلاّ فلا.

و قال في نهاية الدراية:إنّ دليل حجّية الخبر حيث دلّ علي حجّية الخبر الموثوق بصدوره،فإذا حصل الوثوق بصدوره و لو من طريق غير معتبر،فقد تحقّق موضوع الحكم وجدانا،فيعمّه دليل الحجّية،هذا كلّه في الكبري.و أمّا الصغري،فربّما يجعل منها استناد المشهور إلي الخبر الضعيف.

إلي أن قال:إنّ استناد المشهور إلي الخبر لعلّه من أجل الوثوق بخبره شخصا، لقرينة لا توجب الوثوق نوعا،فمجرّد العمل لا يكشف عن قرينة نوعية موجبة للوثوق،بل عن وثوقهم شخصا فعلا و هو غير حجّة إلاّ للشخص،فتدبّر.

نعم الانصاف أنّ استناد المشهور إذا كشف عن ظفر الكلّ بموجب الوثوق كان ذلك مفيدا للوثوق نوعا،لكنّه غالبا ليس كذلك،بل الغالب في تحقّق الشهرة تبعيّة

ص: 504

المتأخّر للمتقدّم في الاستناد إلي ما استند إليه لحسن ظنّه به (1).

أقول:لو كان بناء القدماء في العمل بالأخبار منحصرا في العمل بالأخبار الصحيحة أو الموثّقة أو الحسنة و نحوها،أمكن تسليم ما ذكره،لكن لم يعلم كيفيّة عملهم.و يحتمل أن يكون اعتمادهم علي الخبر من أجل وجوده في بعض الكتب التي يعتمد عليها لقرائن عندهم لم يثبت تماميّتها عندنا.

و الحاصل أنّه يمكن منع حصول الوثوق النوعي بصحّة مضمون الخبر من استناد مشهور القدماء إلي الخبر.

نعم تقدّم في القسم الرابع أنّه لا بدّ من الاحتياط في مثل ذلك،سواء استندوا إلي الخبر أو لم يستندوا،ثمّ إنّه لو سلّم حصول الوثوق النوعي،لكن لم يثبت كفاية الوثوق لأنّه ظنّ قوي لم يثبت حجّيته.

و قد اكتفي الشيخ الأنصاري رحمه اللّه بالوثوق بالصدور،و انّه يكفي الظنّ الاطمئناني،قال في الشهرة الجابرة الموجبة للظنّ:و إن اريد البالغ حدّ الاطمئنان، فله وجه،غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت و لو بضميمة المجبور حدّ الاطمئنان،و لا يختصّ بالشهرة،فالآية تدلّ علي حجّية الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان،و لا بعد فيه،و قد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده،أو يدلّ عليه من حكايات الاجماع و الاخبار (2)انتهي.

قلت:ظاهره صدق التبيّن المأمور به في الآية علي الاطمئنان،لكن تقدّم ضعفه.

و قال في الكفاية في جبر الظنّ الذي لم يقم دليل علي حجّيته لسند الخبر:فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظنّ بصدوره،أو بصحّة مضمونه و دخوله بذلك2.

ص: 505


1- نهاية الدراية 2:166.
2- فرائد الاصول ص 292.

تحت ما دلّ علي حجّية ما يوثق به،فراجع أدلّة اعتباره (1)انتهي.

و كلامه أعمّ من الظنّ الحاصل من الشهرة و من غيرها.

أقول:لم يثبت عندنا حجّية الوثوق بالصدور أو المضمون،مع أنّه لا يحصل ذلك بالظنّ.

ثمّ إنّ المحقّق رحمه اللّه قال في أوّل المعتبر:و اقتصر بعض عن هذا الافراط،فقال:

كلّ سليم السند يعمل به و ما علم أنّ الكاذب قد يلصق و الفاسق قد يصدق،و لم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة و قدح في المذهب؛إذ لا مصنّف إلاّ و هو يعمل بخبر المجروح،كما يعمل بخبر الواحد المعدّل.

إلي أن قال:و التوسّط أصوب،فما قبله الأصحاب و دلّت القرائن علي صحّته عمل به،و ما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطراحه،ثمّ ذكر الأدلّة علي عدم العمل بالخبر الخالي عن المزيّة.

إلي أن قال:و لا يقال الاماميّة عاملة بالأخبار و عملها حجّة.لأنّا نمنع ذلك، فإنّ أكثرهم يرد الخبر بأنّه واحد و بأنّه شاذّ،فلو لا استنادهم مع الاخبار إلي وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا،و هذا لا يظنّ بالفرقة الناجية.

و أمّا أنّه مع عدم الظفر بالطاعن و المخالف لمضمونه يعمل به،فلأنّ مع عدم الوثوق علي الطاعن و المخالف له يتيقّن أنّه حقّ؛لاستحالة تمادي الأصحاب علي القول بالباطل و خفاء الحقّ بينهم،و أمّا مع القرائن فلأنّها حجّة بانفرادها، فتكون دالّة علي صدق مضمون الحديث،و يراد بالاحتجاج به التأكيد الي آخر كلامه (2).

قلت:مراده من قوله في صدر كلامه«أو دلّت القرائن علي صحّته»هي القرائن0.

ص: 506


1- كفاية الاصول ص 381.
2- المعتبر 1:29-30.

التي تكون حجّة بانفرادها،كعموم الكتاب و الاجماع و نحوهما،فيكون المستفاد من مجموع كلامه أنّ الخبر المعمول به يعمل به لا لكشفه عن كون الراوي ثقة،بل لأنّ طرحه يكون قدحا في علماء الفرقة الناجية،و كذلك يظهر من الشيخ الطوسي أنّ الخبر المطابق لفتوي الطائفة يكون مجمعا علي صحّته،و لعلّه لا يريد فتوي جميع الطائفة بل مشهورهم.

قال الشيخ رحمه اللّه في العدّة في البحث عن جواز العمل بالأخبار التي يخصّ بها عموم الكتاب،قال:ما دلّ علي عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار من إجماعهم علي ذلك،لم يدلّ علي العمل بما يخصّ القرآن،و يحتاج في ثبوت ذلك إلي دلالة، بل قد ورد عنهم ما لا خلاف فيه من قولهم«إذا جاءكم عنّا حديث فاعرضوه علي كتاب اللّه فإن وافق كتاب اللّه فخذوه،و إن خالفه فردّوه أو فاضربوا به عرض الحائط»علي حسب اختلاف الألفاظ فيه،و ذلك صريح بالمنع من العمل بما يخالف القرآن.

إلي أن قال:إنّ الأخبار الصادرة من جهتهم علي ضربين:أحدهما أن يكون خبرا و ليس هناك ما يخالفه،و يكون فتيا الطائفة به،فما هذا حكمه يكون مجمعا علي صحّته و يجوز العمل به و تخصيص العموم به،و إن كان هناك ما يخالفه من الأخبار،فالعمل بما يطابق العموم أولي؛لأنّه يصير معلوما صحّته مثل العموم، و بيّنا أنّ ذلك وجه يرجّح به أحد الخبرين علي الآخر.و إن كان خبر لا يعلم فتيا الطائفة أصلا فيه و هناك عموم يقتضي خلافه،فالعمل بالعموم أولي بما قدّمناه من الدلالة (1)انتهي.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (2)ذكر وجوها لمستند المشهور في كون الشهرة1.

ص: 507


1- عدّة الاصول 1:350.
2- فرائد الاصول ص 291.

في الفتوي جابرة لضعف سند الخبر:

أحدها:من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر.

و اورد عليه أوّلا:بأنّه لا يفيد الظنّ بالصدور،بل يفيد الظنّ بمضمون الخبر.

و ثانيا:أنّ جلّ الأصحاب لا يقولون بحجّية الخبر المظنون مطلقا؛لأنّ المحكي عن المشهور اعتبار الايمان في الراوي،و لازمه أن لا يكون خبر الموثّق حجّة،مع أنّه يفيد الظنّ،و الفرق بين الموثّق بعدم حجّيته و بين الخبر الضعيف المجبور بالشهرة بالقول بحجّيته في غاية الاشكال.

ثانيها:الاجماع.

و فيه أنّه لم يثبت.

ثالثها:أنّ التبيّن المأمور به في آية النبأ يشمل الظنّ الحاصل من ذهاب المشهور إلي مضمون الخبر.

و فيه أنّ شموله لمطلق الظنّ بعيد،نعم شموله للظنّ الاطمئناني غير بعيد،ولكن لا يختصّ بالشهرة،بل الآية تدلّ علي حجّية الخبر المفيد للوثوق و الاطمئنان علي إشكال في صدق العلم عليه.

رابعها:الأمر بالأخذ بالمشهور في مقبولة عمر بن حنظلة و مرفوعة زرارة،فإنّ المراد بالشهرة فيهما شهرة الرواية،كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك فإنّهما معا مشهوران.هذا ما يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري رحمه اللّه.

أقول:نمنع كون عمل المشهور بالخبر موجبا للوثوق و الاطمئنان بالصدور أو بصحّة المضمون،و تقدّم منع صدق التبيّن علي الوثوق بل منع صدقه علي العلم، فإنّ التبيّن هو التفحّص عن ثبوت الشيء بحيث يصير وجوده أو عدمه كالمحسوس،و تقدّم في محلّه أنّ المراد بالشهرة في المقبولة و المرفوعة هي شهرة الرواية التي عليها العمل عند أصحاب عمر بن حنظلة و زرارة،و شهرة الخبر

ص: 508

عندهم توجب الاطمئنان بل العلم بصدوره عن المعصوم.

ثمّ إنّ الأحوط كما تقدّم مراعاة شهرة فتوي القدماء في المسائل الأصليّة المذكورة في كتبهم،كالمقنع و الهداية و المقنعة و كتب السيّد المرتضي و النهاية و الكافي و المهذّب و المراسم و نحوها؛لاحتمال وصول نصّ معتبر إليهم،و لو لاحتفافه بقرينة توجب اعتباره،أو كون المسألة مشهورة بين الشيعة بحيث وصلت إليهم يدا بيد من زمان المعصومين عليهم السّلام.

و أمّا الثاني و هو الخبر غير المشهور،فهو مقابل المشهور بأقسامه الخمسة المتقدّمة،فمقابل الأقسام الأربعة الاولي ليس بحجّة،و قد أشار إلي بعض ذلك الشيخ المفيد رحمه اللّه و قد حكينا كلامه فلاحظ.

و أمّا مقابل القسم الخامس،أي:الخبر المخالف للشهرة الفتوائية من قدماء الأصحاب،فإن كان إعراضهم كاشفا عن خلل في سند الخبر:إمّا لقرينة موجبة للعلم بخطأ المخبر قد عثروا عليها أو لغيرها،و إمّا لخلل في الدلالة لاحتفاف الكلام بما يوجب عدم انعقاد الظهور له،فلا ينبغي الاشكال.و إن لم يكشف عن ذلك،بل احتمل كونه لاجتهادهم و اعتمادهم علي خبر آخر أظهر بنظرهم،فلا يوجب سقوط الخبر عن الحجّية،لكن لا بدّ من الاحتياط فيما إذا كان الخبر بمرأي من القدماء و أعرضوا عن الفتوي علي طبقه كما تقدّم.

و في الكفاية لا يسقط الخبر عن الاعتبار،قال:و عدم و هن السند بالظنّ بعدم صدوره إلي آخر كلامه (1).

أقول:ينبغي مراعاة شهرة القدماء إن أعرضوا عن الخبر.

الصنف الرابع:ما رواه العامّة،ذكر الشيخ الطوسي رحمه اللّه أنّ ما رواه العامّة و ان لم1.

ص: 509


1- الكفاية ص 381.

يكونوا ثقات عن أئمّة أهل البيت فيما إذا لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك و لا يخالفه و لا يعرف لهم قول فيه،يجب العمل به لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلي ما رووه عن علي عليه السّلام فاعملوا به،و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلوب و نوح بن درّاج و السكوني،و غيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السّلام فيما لم ينكروه،و لم يكن عندهم خلافه (1)انتهي.

أقول:قد حقّق في محلّه أنّ موضوع كلامه أعمّ من أخبار ثقاتهم،كما يشهد له أيضا إطلاق الرواية التي ذكرها.

ولكن يرد عليه أوّلا:أنّ الرواية مرسلة.و ثانيا:أنّها مختصّة بما رووه عن علي عليه السّلام و لا تعمّ غيره.

و ثالثا:أنّ عمل الأصحاب لعلّه أعمّ،فيجعلون أخبار المذكورين معارضة لسائر الأخبار فتأمّل.

و رابعا:أنّه يمكن أن يكون وجه عملهم هو الاعتماد علي نقل الثقات و ايداعهم في كتبهم المعتمدة لا لهذه الرواية المرسلة.

الصنف الخامس:الخبر الشاذّ،و هو الخبر المخالف للسنّة القطعيّة،كخبر عمّار الدالّ علي بلوغ البنت في ثلاث عشرة سنة،و هذا القسم ليس حجّة و إن كان سنده صحيحا،و وجهه واضح.9.

ص: 510


1- عدّة الاصول ص 379.

المطلب الرابع: في طرق إثبات العدالة و الوثاقة

اشارة

المطلب الرابع: في طرق إثبات العدالة و الوثاقة (1)

قد تلخّص من جميع ما ذكر أنّ المستفاد من مجموع أدلّة حجّية خبر الواحد حجّية خبر المعلوم كونه عادلا واقعا الضابط المخبر عن أمر محسوس بنفسه أو بآثاره،أو الأعمّ منه و من الثقة المتحرّز عن الكذب الضابط المخبر عن محسوس بنفسه أو بآثاره،فيقع الكلام في إثبات ذلك.

فنقول:تثبت العدالة و الوثاقة بالمعاشرة المفيدة للعلم،و هو سكون النفس بعد التأمّل و التحقيق،أو للاطمئنان بناء علي حجّيته،بشرط أن لا يكون المعاشر من بسطاء الناس الذين يثقون بأدني شيء.

و بالشياع المفيد للعلم،أو للاطمئنان بناء علي حجّيته،بشرط أن يكون الشياع في جميع الأعصار السابقة.

و بالقرائن المفيدة للعلم،أو الوثوق و الاطمئنان بناء علي حجّيته،مثل كونه مرجعا للفقهاء،و ممّن اعتمد عليه المشايخ في التوثيق و التضعيف،و يمكن أن يجعل من ذلك إبراهيم بن هاشم،فإنّ إكثار رواية ابنه الجليل علي بن إبراهيم عنه، و إكثار ايراد الكليني رواياته في الكافي،و ما قيل في حقّه من أنّه أوّل من نشر حديث الكوفيّين في قم،و أمثال هذه القرائن تفيد الوثوق بوثاقته.

و قد يقال بثبوتها بامور:

ص: 511


1- لا يخفي أنّ الامور المذكورة في هذا المطلب من التشكيك في بعض الكتب و التشكيك في التوثيقات و التضعيفات و غيرها يحتاج إلي التثبّت و التتبّع،و ما ذكرناه فقد ذكرناه احتمالا و ابداء لبعض الشبهات حتّي يتثبّت في مقام ردّ الأخبار،و المرجوّ أن لا يعتمد القاريء علي هذه الأوراق ما لم يتثبّت بنفسه،و كذا سائر المطالب التي ذكرناها في هذا الكتاب،فإنّ الانسان لا يصل إلي الواقع إلاّ العالم المعصوم.
الأمر الأوّل:حجّية قول الرجاليين و عدمها
اشارة

قول الرجاليّين،و حجّية قولهم من وجوه:

أحدها:كونهم أهل الخبرة،فلا فرق بين قدمائهم و متأخّريهم،و لا يعتبر التعدّد و لا العدالة،و لا الاخبار عن محسوس بنفسه أو بآثاره،بل يكفي إخبار من كان من أهل الخبرة عن رأيه بشرط أن لا يكون كاذبا في إخباره عن رأيه،فقول أهل الخبرة من حيث أنّهم أهل الخبرة حجّة؛لاتّفاق العقلاء عليه،و عدم ردع الشارع عن اتّفاقهم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في الفرائد في الاستدلال علي حجّية قول اللغوي:

قال الفاضل السبزواري رحمه اللّه فيما حكي عنه في هذا المقام ما هذا لفظه:صحّة المراجعة إلي أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر و زمان انتهي.أي كلام الفاضل السبزواري.

و فيه أنّ المتيقّن من هذا الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا،ألا تري أنّ أكثر علمائنا علي اعتبار العدالة في من يرجع إليه من أهل الرجال،بل و بعضهم علي اعتبار التعدّد إلي آخر ما أفاده (1).

و ظاهر ايراده علي الفاضل السبزواري رحمه اللّه اعتباره الاخبار عن محسوس بنفسه أو بآثاره؛لأنّه يعتبر في الشهادة العدد و العدالة و الاخبار عن حسّ أو محسوس بآثاره،فلازم ما ذكره إنكار حجّية قول أهل الخبرة من حيث هو،و لذا لا يكون فتوي المجتهد حجّة علي مجتهد آخر،بل ليس حجّة علي مقلّد من حيث كونه من أهل الخبرة.

ص: 512


1- فرائد الاصول ص 75.

لكن قال:و أمّا المقلّد فلا كلام في نصب الطريق الخاصّ له،و هو فتوي مجتهده مع احتمال عدم النصب في حقّه أيضا،فيكون رجوعه إلي المجتهد من باب الرجوع إلي أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء،و يكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريرا لهم لا تأسيسا (1)انتهي.

قلت:لا إشكال في المراجعة إلي أهل الخبرة،فمن يريد علم الفلسفة لا يرجع إلي البقّال و البزّاز،و يرجع إلي أهل الخبرة في كلّ فنّ لتحصيل علم ذلك الفنّ منهم، و إنّما الكلام في أنّه هل يرجع إليهم و يؤخذ قولهم تعبّدا و إن لم يحصل العلم من قولهم أم لا؟بل يرجع إليهم ليحصل العلم،فإنّما يؤخذ عنهم إذا حصل سكون النفس إلي قولهم.

و الرجوع إلي أهل الخبرة و قبول قولهم تعبّدا محلّ إشكال.

أمّا أوّلا:فبمنع رجوع العقلاء الذين يعتني بهم في امورهم إلي أهل الخبرة ما لم يطمئنّوا باخبارهم و بخبرويّتهم،فإذا كان الأمر ممّا يهتمّ به مثل أن كان المريض في خطر يخاف عليه و كان ممّن يهتمّ بشأنه،فلا يراجعون في معالجته إلي كلّ من كان طبيبا،بل يراعون من يثقون به،نعم ربما يكون المرض ممّا لا يهتمّ به،أو ينحصر العلاج في الرجوع إلي طبيب معيّن فهو أمر آخر.

و علي كلّ حال ففي الامور المهمّة لم يثبت بناؤهم،و من المعلوم أن لا أمر أهمّ من أحكام الدين،فإنّ العمل بها و تركه يوجب دخول الجنّة و النار.

و ثانيا:لو سلّم رجوع العقلاء إلي أهل الخبرة مطلقا و إن لم يحصل العلم،فهو خاصّ بما إذا كان إخبارهم مستندا إلي امور محسوسة بنفسها أو بآثارها،و أمّا إذا أخبروا مستندين إلي بعض ظنونهم فلم يثبت بناؤهم علي الرجوع إليهم،و لذا لا4.

ص: 513


1- فرائد الاصول ص 214.

تثبت نجاسة الشيء و لا حرمته بفتوي مجتهدين عادلين؛لاستناد قولهما إلي الرأي،مع أنّهما من أهل الخبرة في الفقه.

و بعبارة اخري:الرجوع إلي أهل الخبرة المعتبر عند العقلاء إنّما يكون فيما إذا أخبر أهل الخبرة عن أمر محسوس بنفسه أو بآثاره.

و ثالثا:و هو العمدة الآيات و الروايات الرادعة عن العمل بغير العلم،و لا دليل علي تخصيصها يدلّ علي جواز الاعتماد علي غير العلم بالأخذ بقول أهل الخبرة.

و ممّا ذكرنا من اشتراط استناد أهل الخبرة إلي أمر محسوس بنفسه أو بآثاره، ظهر عدم حجّية أقوال متأخّري الرجاليّين؛لأنّهم إمّا ناقلون لكلام المتقدّمين،و إمّا يجتهدون بالجمع بين أقوال المتقدّمين و ترجيح بعضه علي بعضها،و يعتمدون علي قرائن زعموا دلالتها علي الوثاقة أو الضعف،بخلاف المتقدّمين فإنّهم لا يستندون إلي آرائهم في جميع الموارد،فربّما يثبت عندهم وثاقة الأشخاص بالمعاشرة أو الشهرة أو غيرهما.

نعم لا بدّ من الرجوع إلي كتب المتأخّرين،فإنّهم يستدلّون علي وثاقة الرجال و ضعفهم بامور،و يتنبّهون إلي نكات ربما يوجب الاعتقاد بضعف الراوي أو وثاقته،و هذا غير كون قولهم حجّة تعبّدا.

ثانيها:أن تكون حجّية قول الرجاليّين من باب الشهادة،فيعتبر فيها شرائط الشهادة من تزكية العدلين منهم،و لا يكفي تزكية العدل الواحد،اختاره الشيخ حسن رحمه اللّه صاحب المعالم،قال في مقدّمة كتابه منتفي الجمان:إنّ اشتراط العدالة في الراوي يقتضي اعتبار حصول العلم به،و ظاهر أنّ تزكية الواحد لا تفيده بمجرّدها،و الاكتفاء بالعدلين مع عدم إفادتهما العلم إنّما هو لقيامهما مقامه

ص: 514

شرعا (1)انتهي.

قلت:و ظاهر كلامه كفاية تعديل النجاشي و العلاّمة مثلا للراوي؛لتحقّق شهادة عدلين.

و يرد عليه أوّلا:أنّ شرط حجّية خبر الواحد أن يكون الراوي عادلا واقعا أو ثقة واقعا،و الرجاليّون علماء ثقات عدول لا اطّلاع لهم علي الواقع إلاّ في المشهورين أو المعاشرين لهم،فاختلّ أحد شروط الشهادة،و هو الاخبار عن حسّ أو محسوس بآثاره.

و ثانيا:لو سلّم كفاية العدالة الظاهريّة في الراوي،و سلّمنا اطّلاع الرجاليّين عليها،لكن ليس شهادتهم علي العدالة الظاهريّة أو الوثاقة الظاهريّة عن حسّ أو بمحسوس بآثاره في حقّ غير المشهورين و غير المقاربين لعصرهم،بل تستند إلي اجتهادهم.

و ثالثا:في ثبوت حجّية البيّنة مطلقا تأمّل و إشكال،نعم دلّ الدليل علي حجّيتها لاثبات عدالة الشهود عند القاضي و إمام الجماعة و أمثالهما،و أمّا حجّيتها علي عدالة الراوي فهي غير ثابتة؛لأنّه لم يثبت عموم دليل حجّيتها،كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:لو ثبت الدليل علي حجّية شهادة العدلين عموما و لم أظفر به كما اعترف به جماعة (2)،و تعرّض لحجّية البيّنة في العوائد،و تعرّضنا في محلّه لعدم ثبوتها في جميع الموارد.

و رابعا:إنّما يتمّ في إخبار المتقدّمين لو لم يعتمد كلّ واحد منهم علي إخبار عدل واحد،قال الشيخ البهائي في أوّل مشرق الشمسين في الايراد علي بعض أفاضل معاصريه المراد به صاحب المعالم ما حاصله:إنّه لا تكفي شهادة الاثنين4.

ص: 515


1- منتفي الجمان 1:16.
2- كتاب الصوم ص 144.

إلاّ إذا كان كلّ واحد منهما يعتمد في التعديل علي شهادة الاثنين،و الذي يستفاد من كلام الكشي و النجاشي و الشيخ و ابن طاووس و غيرهم اعتمادهم في التعديل و الجرح علي النقل عن الواحد الي آخر كلامه (1).

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا تكفي شهادة المتأخّرين من الرجاليّين؛لأنّها غير مستندة إلي الحسّ أو الحدس القريب منه.

ثالثها:أن تكون حجّية قول الرجاليّين من باب إخبار الثقة،و تسمّي بالحجّية من باب الرواية،و إخبار الثقة حجّة في الأحكام و الموضوعات؛لبناء العقلاء علي حجّيته مطلقا إذا علم كون إخباره عن حسّ،بل و لو لم يعلم و احتمل كونه عن حسّ أو حدس لبنائهم علي العمل به ما لم يعلم أنّه عن حدس.

نعم لو لم يحتمل كون إخباره عن حسّ فلا يكون حجّة،و إخبار الرجاليّين الأقدمين كالنجاشي و الكشي و الشيخ و أضرابهم ممّا يحتمل كونه عن حسّ؛لأنّ كتب الرجال كانت كثيرة،و أنهاها بعضهم إلي نيّف و مائة كتاب إلي زمان الشيخ، و ممّا يؤيّد احتمال أن يكون أحوال الرجال مشهورة أنّ النجاشي قد يسند ما يذكره إلي أصحاب الرجال.

و قال الشيخ في العدّة:إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثقات منهم و ضعّفت الضعفاء الي آخر ما ذكره.

فإنّ المستفاد من هذه العبارات أنّ التوثيقات و غيرها كانت من الامور الشايعة المتعارفة بين العلماء،و كانوا ينصّون عليها في كتبهم،و هذا بخلاف إخبار مثل العلاّمة و المحقّق و السيّد التفرشي،فإنّهم يجتهدون في أحوال الرجال من الكتب الخمسة الرجاليّة غالبا،و لم يكن بأيديهم تلك الكتب الرجاليّة التي كانت بأيدي7.

ص: 516


1- مشرق الشمسين ص 47.

الأقدمين.

أقول:حاصل هذا الوجه أنّ كتب الرجال كانت كثيرة في أزمنة الكشي و النجاشي و الشيخ و أضرابهم،و كانت أحوال الرجال مذكورة فيها،مضافا إلي وجود المشايخ المطّلعين علي أحوال الرجال،فقد عدّ للنجاشي نيّف و ثلاثون شيخا،و ربّما لا يكون لبعضهم كتاب،بل تلقّي النجاشي منهم شفاها،و كان من أهمّ الامور تمييز صحاح الأخبار عن ضعافها و تحقيق حال رجالها و تنقيحها،فتكون أحوال الرجال واضحة،فهو نظير وضوح وثاقة الشيخ الطوسي رحمه اللّه عندنا مثلا،فإذا أخبرنا عن وثاقة الشيخ كان إخبارا حسّيا أو في حكمه.

و حينئذ يحتمل في توثيق كلّ واحد ممّن وثّقه الأقدمون أن يكون مستند توثيقهم وضوح وثاقته عندهم،كما يحتمل أن يكون مستنده اجتهادهم من ترجيح بعض القرائن و نقل بعض الأصحاب،و نحن نعلم أنّ وثاقة أمثال ابن أبي عمير و صفوان قد شاعت،بحيث كان الاخبار عنها إخبارا عن حسّ تقريبا.

اختار هذا الوجه في معجم الرجال (1).

و يمكن المناقشة فيه أمّا أوّلا:فبعدم دليل علي حجّية خبر الثقة في الموضوعات ما لم يحصل العلم أو سكون النفس،و لو ثبتت حجّية قول الثقة في بعض الموارد المنصوصة،فلا وجه للتعدّي إلي غيره.

و ثانيا:أنّ بناء العقلاء علي اتّباع خبر الثقة يكون فيما إذا حصل منه العلم،أي:

سكون النفس،و هو إنّما يكون إذا كان المخبر ضابطا صادقا مخبرا عن حسّ أو عن أمر يكون آثاره الملازمة له حسّية ليرجع الاخبار عنه إلي الاخبار عن حسّ، و كان احتمال كون إخباره إخبارا عن حدس احتمالا ضعيفا موهوما لا يعتني به5.

ص: 517


1- معجم رجال الحديث 1:55.

العقلاء و إن لم يحصل العلم؛حيث انّ الاحتمال الضعيف ينافي العلم.

فإذا قال الثقة:سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام قال كذا،فلا ريب في حجّية قوله، و احتمال أنّه لم يسمع و أخطأ لا يعتني به،و كذا لو قال:رأيت.و أمّا إذا قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام مثلا،و احتمل أنّه سمع منه عليه السّلام،أو سمع بواسطة،أو علم أنّه قوله عليه السّلام، فإن كان الاحتمال ضعيفا كان بحكم الاخبار عن حسّ،و إن كان راجحا فلا بناء من العقلاء علي جعله إخبارا عن حسّ،بل و لا بناء لهم إذا كان الاحتمالان متساويين.

و أمّا دعوي أنّ سيرة العقلاء علي العمل بخبر الثقة إن لم يعلم أنّ إخباره عن حسّ أو حدس،و قد ذكرها صاحب الكفاية،حيث قال:فإنّ عمدة أدلّة حجّية الأخبار هو بناء العقلاء،و هم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنّه عن حسّ يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس،حيث انّه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء علي التوقّف و التفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ،بل العمل علي طبقه و الجري علي وفقه بدون ذلك.نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم علي ذلك فيما لا يكون هناك أمارة علي الحدس الي آخر كلامه (1).

فهي دعوي ممنوعة كبري فيما إذا كان الاحتمال قوّيا أو مساويا،و لو سلّمنا الكبري فالاشكال في الصغري في تطبيقها علي إخبار الرجاليّين،فإن اريد أنّ وثاقة الراوي الذي لم يعاشره الرجالي و لم يكن قريبا من عصره كان مشهورا كشهرة وثاقة الكليني و أضرابه،فكما أنّ الكتب الكثيرة التي تتعرّض لحال الكليني توثقه،فكذلك يحتمل أن يكون كلّ واحد ممّن وثّقه الرجاليّون كان مذكورا في الكتب المتعدّدة بحيث كان مشهورا،و يكون مستند توثيق النجاشي مثلا ذلك،2.

ص: 518


1- الكفاية 2:72.

فيكون توثيقه إخبارا عن شهرة وثاقته،و هي-أي:الشهرة-أمر محسوس له.

فمن البعيد جدّا احتمال ذلك في حقّ كلّ راو وثّقوه،و إلاّ لم يقع الخلاف بين الرجاليّين في التوثيق و التضعيف،و لم يسكت بعضهم عن التعرّض لحال بعض من تعرّض له الآخر.

و إن اريد أنّ وثاقة الراوي قد أخبر بها الشيخ المفيد حاكيا عن الصدوق مثلا إلي أن ينتهي إلي من أخبر بالوثاقة بالمعاشرة،أو بالاستناد إلي الشهرة في ذلك الزمان و إن لم يكن مشهورا بعد ذلك،أو أنّه وجد في كتاب علم كونه كتاب أحد المعاشرين له أنّه قد وثّقه،كما إذا وجدنا في كتب الشيخ مثلا توثيقه لاستاده الذي عاشره،فاحتمال ذلك أيضا بعيد في كلّ راو،مع ما يري من اجتهاد الرجاليّين في الترجيح في حال الراوي و الاستناد إلي روايته،و غير ذلك ممّا نذكره إن شاء اللّه تعالي في المطلب الخامس،حيث نبيّن إن شاء اللّه أنّ إخبار الرجاليّين عن حال معاصريهم أو من قرب من عصرهم أو من اشتهر حاله يمكن أن يكون عن حسّ، و أمّا غيرهم فلا يحتمل في كلّ واحد منهم أن يكون كذلك.

و أمّا ما ذكره من كثرة الكتب الرجاليّة،فيحتمل أنّها كانت مختصرات،كما قال الشيخ في أوّل رجاله،قال:و لم أجد لأصحابنا كتابا جامعا في هذا الفنّ-أي:

أسماء الرجال-إلاّ مختصرات قد ذكر كلّ انسان منهم طرفا إلاّ ما ذكره ابن عقدة الي آخر كلامه.و مع ذلك يحتمل أنّها لم تكن مشتملة علي التوثيق و التضعيف إلاّ نادرا،كرجال البرقي الموجود بأيدينا.

و أمّا كلام الشيخ رحمه اللّه في العدّة،فهو في مقام بيان حجّية خبر الواحد و إثبات حجّيته في الجملة،و لا دلالة في كلامه علي أنّهم ميّزوا جميع الرواة و كان تمييزهم عن حسّ،بل لا ينافي أن يكون عن حدس،مع أنّه في فهرسته و رجاله ضعّف قليلا من الرجال و وثّق قليلا منهم،فلعلّ نظره إلي أنّ هذا المقدار أو أزيد منه

ص: 519

قليلا كان مذكورا في كلامهم.

و بالجملة انّ المتقدّمين لا يكون قولهم حجّة بالنسبة إلي غير المشهورين و المعاصرين لهم و المقاربين لعصرهم.و أمّا المتأخّرون كالمحقّق و العلاّمة و الشهيد و غيرهم،فإنّهم إذا اختصّوا بتضعيف أو توثيق لم يكن في كلام المتقدّمين،فهو من اجتهادهم و آرائهم و ليست حجّة علي غيرهم.نعم ربّما يستدلّون بأدلّة ينبغي ملاحظتها،كما ينبغي ملاحظة ما ينقلون عن المتقدّمين.

فإنّه ذكر في قاموس الرجال أنّه كان عند العلاّمة جزء من رجال العقيقي، و جزء من رجال ابن عقدة،و جزء من ثقات كتاب ابن الغضائري،و من كتاب آخر له في المذمومين لم يصل إلينا،كما يظهر منه في سليمان النخعي،و من كتابه الواصل إلينا ممّا ليس موجودا في نسخنا،و كذا من النجاشي فيما لم يكن في نسخنا،فكان عنده الكاملة من النجاشي،و أكمل من الموجود من ابن الغضائري، كما في ليث البختري،و هشام بن إبراهيم العبّاسي،و محمّد بن نصير،و محمّد بن أحمد بن محمّد بن سنان،و محمّد بن أحمد بن قضاعة،و محمّد بن الوليد الصيرفي، و المغيرة بن سعيد،و نقيع بن الحارث،و كما ينقل في بعضهم أخبارا لم نقف علي مأخذها،كما في إسماعيل بن الفضل الهاشمي،و فيما أخذه من مطاوي الكتب، كمحمّد بن أحمد النطنزي (1).

تنبيه:

ظهر من جميع ما ذكرناه من المناقشة في الوجوه المذكورة أنّ الوجوه الثلاثة ترجع إلي وجه واحد،و هو إخبار الثقة أو العدل الواحد أو العدلين عن شيء محسوس بنفسه أو بآثاره،و ظهر المنع عن اثباته.

رابعها:أنّ أقوال الرجاليّين في حقّ الرواة تفيد القطع بالعدالة أو الوثاقة،قال

ص: 520


1- قاموس الرجال 1:15.

في الفوائد المدنيّة:إنّ انتفاعنا بما في كتب الرجال من جهة أنّه من جملة القرائن المفيدة للقطع بحال الراوي لا من جهة أنّه من باب تزكية العدل الواحد أو العدلين (1)انتهي.

وردّه في كشف القناع،قال:و فساده أوضح من أن يحتاج إلي بيان و أجلي (2).

قلت:و مثله دعوي حصول الوثوق و الاطمئنان بوثاقة الراوي من توثيقاتهم في جميع الأشخاص،و سيتّضح ذلك.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الرجاليّين لا يستندون إلي الحسّ ليكون كلامهم حجّة من باب البيّنة،أو إخبار الثقة في الموضوعات،و أشار إلي ذلك في كشف القناع.

حيث قال:إنّ الاعتماد علي كلام علماء الرجال و أرباب اللغة و العربيّة ليس لقطعهم بما ذكروه،كما يظهر من كلام من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية، و من حصر طريق معرفة اللغات في التواتر و الآحاد،أو ضمّ معها الأمارات و العلامات المقرّرة المعلومة الثابتة التي مرجعها إليهما-أي:إلي الشهادة و الرواية-أيضا.

أمّا الأوّل-أي:علماء الرجال-فلأنّك إذا جاوزت المعاصرين لهم و المقارنين لأزمانهم،أو جملة من معروفيهم و مشاهديهم و المشاهير الذين أغنت شهرة عدالتهم أو فسقهم عن البحث عن أحوالهم،و أردت معرفة أحوال غيرهم، رأيت كلامهم فيها مبنيّا علي مجرّد الحكم الذي يبني عليه العمل،كما هو الشأن في نفس الأحكام،و منشأه الاستنباط و الاجتهاد المستند إلي النقل أو غيره من الشواهد و الامارات،لا القطع و اليقين الحاصل من الأخبار المتواترة و نحوها ممّا يوجب العلم.7.

ص: 521


1- الفوائد المدنيّة ص 252.
2- كشف القناع ص 417.

و قد جرت طريقة المتأخّرين منهم علي ملاحظة كتب المتقدّمين عليهم و أقوالهم و غيرها من الأخبار و الآثار،و البناء علي ما يقتضيه نظرهم و يترجّح عندهم،و عمدة اعتمادهم علي ما في كتب الرجال خاصّة معّ قلّتها و عدم اقتضائها العلم لو اتّفقت،فكيف و الغالب تفرّد بعضها بما لا يوجد في غيره أو اختلافها.

و إذا لو حظت نفس أسباب الجرح و التعديل و المدح،فلا محيص فيما اختلف فيه منها عن البناء علي كون الحكم فيها بطريق الاجتهاد حتّي في المعاصرين، و هذه المطالب عندي من البديهيات التي لا ينبغي خفاؤها علي من تتبّع كتبهم و راجعها و أمعن النظر فيها.

و ينبّئك عليها ما ذكره الشيخ في أوّل الفهرست،حيث قال:فإذا ذكرت كلّ واحد من المصنّفين و أصحاب الاصول،فلا بدّ من أن اشير إلي ما قيل فيه من التعديل و التجريح،و هل يعوّل علي روايته أو لا؟و ابيّن عن اعتقاده،و هل هو موافق للحقّ أو مخالف له؟لأنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا و أصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة،و إن كانت كتبهم معتمدة انتهي.

و هذا و إن كان أوّله يقتضي الاشارة إلي كلّ ما قيل فيه أو بعضه كيفما اتّفق،لكن الظاهر أنّه إنّما يذكر منه ما يعتمد عليه و يترجّح في نظره،إلاّ ما يصرّح بردّه أو يتوقّف فيه،و علي الوجهين فبينه و بين دعوي القطع بون بعيد.

ثمّ إنّه قد ذكر التعديل و التجريح و سائر أحوال الرجال و ألقابهم و كناهم و أسماء كتبهم و أحوالها علي نهج واحد،فيكتفي بالنقل مرّة و يحكم اخري،و لا يذكر التعديل بل بعبارة مغايرة لعبارته في سائر ما ذكر ممّا يمتنع عادة مع ما فيها من الاختلاف و الخفاء دعوي القطع بجميعها،و يشهد ما يستشهد به من الآثار و الأخبار بخلافه،و من تأمّل كتابه الآخر في الرجال وقف أيضا فيه علي شواهد كثيرة علي ذلك.

ص: 522

و مثلهما كتاب النجاشي و ما كتب علي أوّل جزئيه و سائر كتب الرجال، و لا سيّما الخلاصة للعلاّمة الحلّي،فإنّه رتّبها علي قسمين:الأوّل في من اعتمد علي روايته،أو يترجّح عنده قبول قوله.و الثاني في من ترك روايته أو توقّف فيه، و هذا أقوي شاهد علي ما قلنا.

ثمّ إنّه جرت عادته علي ذكر التراجم و ضبطها من دون نقل أو تردّد مع تعذّر العلم بها أو تعسّره غالبا،و علي ذكر أحوال الرجال علي نحو ما في جملة من كتب النجاشي و الشيخ و غيرهما أو واحد منها،أو في الأخبار التي رواها الكشي بطريق صحيح،أو غيره من دون تصريح بالمأخذ غالبا،و لا يرتاب الناقد البصير الواقف علي طريقته و مذهبه في أنّ اعتماده علي ما ذكر ممّا لا يوجب العلم غالبا،و ربّما يتّفق له الخطأ لتعويله علي تلك الكتب مع عدم إمعان النظر فيها،و ربّما يقتصر علي ما نقله السيّد جمال الدين بن طاووس و انتخبه منها من دون مراجعة لها.

و لذا قال صاحب المنتقي:إنّ الذي تحقّقته من حاله أنّه كثير التتبّع للسيّد بحيث يقوي في الظنّ أنّه لم يكن يتجاوز كتابه في المراجعة لكلام السلف غالبا،و كثيرا ما يذكر ما وقع في شأن بعض الرجال من الاختلاف بين علماء الرجال و غيرهم أو بين الأخبار،و يرجّح ما يقتضيه نظره معبّرا بالأقرب أو الأرجح و نحوهما، و هذه كلّها موافقة لطريقته في الفقه المبتني علي الظنّ غالبا،و تختلف عبارته باختلاف مراتبه و اختلاف المقاصد،كإرادة التنبيه علي الخلاف أو الاشكال و عدمها،و جميع ذلك ظاهر للمتدبّر.

و من العجيب أنّ صاحب المنتقي جعل التزكية من باب الشهادة و اعتبر فيها التعدّد،و اكتفي مع ذلك بتزكية العلاّمة مع واحد آخر هو الأصل في تزكيته،و قد تبعه اعتمادا عليه لوثاقته لا لحصول العلم له من قوله ليكون شاهدا آخر.

و لقد أجاد السيّد المعاصر أيّده اللّه تعالي حيث قال:إنّ ما في كتب علماء

ص: 523

الرجال من الجرح و التعديل لم يكن عن مشاهدة،بل عن حكاية عن آخر مثلهم أو عن اجتهاد و ليس ذلك شهادة؛لأنّ الشاهد ما يحكي لك عن علم لا ما يوجد في كتاب عن أحد الأمرين انتهي.

و صرّح الاستاذ الأعظم طاب ثراه بأنّ بناء قدمائهم فضلا عن غيرهم علي الاكتفاء بالظنّ في ذلك،و علي الاعتماد علي توثيق الغير و تلقّيه بالقبول،و بناء التوثيق عليه كالجرح،و إنّ غالب توثيقات المتأخّرين إنّما هو من القدماء،و قد تبيّن بما بيّنا ما في كلامهم من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية المقتضيين لاعتبار علم المخبر و قطعه،أو نقله بطريق الرواية و لو بوسائط عن عالم بما أخبر به.و لم أجد هذه المسألة محرّرة منقّحة في كتبهم علي ما ينبغي لأمثالهم،و كم رأينا من أمثالها و أشكالها،فكشفنا بعون اللّه و تأييده عن اعضالها و اشكالها،و رفعنا أستار أسرارها و اسبال اجمالها.

و التحقيق هنا أنّه إن اريد بيان ما يجب بناء العمل عليه و يقتضيه النظر،كما في سائر المسائل،فالحقّ الاكتفاء بما يوجب الوثوق بعدالة الراوي حيث اعتبرت،أو بكونه ثقة بأحد معانيه الثلاثة،أو ممدوحا بما يعتدّ به كما هو الأقرب،سواء استند الوثوق إلي القطع الحاصل من المعاشرة و الاختيار أو الشياع و الاشتهار،أو الأخبار المتواترة و نحوها،أو إلي الظنّ الحاصل من إخبار عدلين عن علم و يقين، بحيث يسمّي في باب تزكية الشهود و غيرها بالشهادة في مقابل الرواية؛لاعتبار العدد أو غيره أيضا في هذه-أي:في الشهادة-دونها-أي:الرواية-أو من اخبار واحد عن علم أيضا بحيث يسمّي رواية،أو من خبر صحيح مروي عن الأئمّة عليهم السّلام أو من سائر الأخبار و الآثار و الأمارات التي تورث الظنّ بما ذكر،أو من حكم جماعة أو واحد من أهل الرجال المستند إلي أحد هذه الأشياء،فليس قبولنا لتزكية المزكّي لكونه شاهدا أو راويا حتّي يعتبر فيه ما يعتبر فيهما من

ص: 524

الشروط المقرّرة،بل لحصول الظنّ من قوله،فيكتفي بحصوله منه أو من غيره ممّا سبق من وجهه و ما يأتي الاشارة إليه إجمالا،و التفصيل موكول إلي محلّه.

و إن اريد بيان ما عليه مبني أهل الرجال في التزكية و الجرح،هل كان علي القطع و اليقين أو الظنّ الاجتهادي،أو الاعتماد علي شهادة العدلين،أو رواية الآحاد بشرائطها المقرّرة،أو مجرّد نقل كلام من سبق و قوله المعلوم أو المسند أو المرسل (1)،فالظاهر بطلان الأخير بأقسامه (2)،إلاّ مع التصريح به،و أمّا بالنسبة إلي ما عداه أي إلي ما عدا الأخير،فالحقّ اختلاف أحوالهم في ذلك باختلاف أحوال الرواة و باختلاف آرائهم و مذاهبهم.

و إن اريد الاستناد إلي كلامهم،فينبغي تنزيله حيث لم يظهر حقيقته علي أدني المراتب؛لعدم العلم بأكثر من ذلك،و شهادة الأمارات عليه في كثير من المواضع، و لأنّ الأمر في التعديل و الجرح مع بعد العصر و كثرة الاختلاف فيهما قولا و رواية معني و سببا صعب جدّا،و كثيرا ما يخفي حال الانسان علي أهله و أصحابه و معاصريه فضلا عن غيرهم،و ربّما يتغيّر من حال إلي غيره،و قد وقع الاختلاف العظيم في كثير (3)من أصحاب الأئمّة،و كثر القدح و الطعن من بعضهم في بعض و من غيرهم،كما أشرنا إليه سابقا في الاجماع المحصّل في الوجه الأوّل.

فيبعد أو يمتنع عادة اطّلاع أحد من أهل الرجال في كثير من الرواة علي أكثر ممّا ذكر،كما لا يخفي علي المتدبّر.

و لقد أحسن و أصاب الشيخ البهائي في مشرق الشمسين،حيث قال في جملة ايراده علي من اعتبر تعدّد المزكّي ما لفظه:و أنت خبير بأنّ علماء الرجال الذينن.

ص: 525


1- أي:قول من سبق إمّا معلوم أو منقول عنه مسندا أو منقول عنه مرسلا.
2- أي:المعلوم و المنقول المسند و المنقول المرسل.
3- لم يثبت الكثرة في الموضعين.

وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلّهم ناقلون تعديل أكثر الرواة عن غيرهم، و توافق الاثنين منهم علي التعديل لا ينفعه في الحكم بصحّة الحديث،إلاّ إذا ثبت أنّ مذهب كلّ من ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد، و دون ثبوته خرط القتاد،بل الذي يظهر خلافه،ثمّ استند إلي تصريح العلاّمة بالاكتفاء بالواحد و تلويح الكشي و النجاشي و الشيخ و غيرهم إليه.

و قال أيضا:مع أنّ شهادة الشاهد لا يتحقّق بما يوجد في كتابه انتهي.

قلت:و لا تتحقّق أيضا بحكم اثنين و لا بشهادتهما الناشئة من شهادة اثنين إلاّ مع اتّحاد الاثنين في الأصل و شهادتهما بالتعديل و الجرح علي الوجه المعتبر في الشهادة بها،و عدم كون الشهادة من باب شهادة فرع الفرع كما لا يخفي،انتهي كلام صاحب كشف القناع (1).

قلت:قوله في صدر كلامه«ليس لقطعهم بما ذكروه،كما يظهر من كلام من جعل التزكية من باب الشهادة أو الرواية»محلّ إشكال؛لعدم كفاية القطع،بل لا بدّ من كون إخباره عن محسوس بنفسه أو بآثاره.و قوله«فالحقّ الاكتفاء بما يوجب الوثوق بعدالة الراوي»مناف لقوله«بل لحصول الظنّ»من قوله فيكتفي بحصوله منه،فهو قائل بكفاية الظنّ إلاّ أن يريد منه الظنّ الاطمئناني.

الأمر الثاني: من الامور التي يثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته

الظنّ الحاصل من قول الرجاليّين،أو خبر ضعيف،أو غيرهما من رواية نفس الراوي مدح نفسه، و يمكن أن يستدلّ لحجّيته بوجوه:

الوجه الأوّل:انسداد باب العلم إلي معرفة الرجال،فلا طريق أقرب من الرجوع إلي الكتب الرجاليّة،و إعمال الظنون في تمييز الرواة و ملاحظة الطبقات،

ص: 526


1- كشف القناع ص 414-417.

و الامور الاخر التي كلّها ظنّية،فإنّ الاحتياط التامّ متعذّر،فيتعيّن العمل بالظنّ فرارا عن ترجيح المرجوح.

قال في الكفاية:لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين الظنّ بالحكم من أمارة عليه،و بين الظنّ به من أمارة متعلّقة بألفاظ الآية أو الرواية،كقول اللغوي فيما يورث الظنّ بمراد الشارع من لفظه.

إلي أن قال:فانقدح أنّ الظنون الرجاليّة مجدية في حال الانسداد،و لو لم يقم دليل علي اعتبار قول الرجالي،لا من باب الشهادة،و لا من باب الرواية (1)انتهي.

ثمّ نبّه علي أنّه لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرّقة إلي مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية.

و اختار كفاية الظنّ الحاصل من منشأ صحيح في كشف القناع (2)،و قد تقدّم نقل عبارته.

و فيه أوّلا:أنّه لا بدّ من العلم بامتثال الأحكام الشرعيّة و لو بالاحتياط التامّ، و مع تعذّره فلا بدّ من تحصيل الوثوق؛لأنّه كما قيل علم عرفا و مقدّم علي مطلق الظنّ،و عليه عمل العقلاء عند تعذّر العلم.

قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه:ثمّ إنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القوي الاطمئناني أقرب إلي العلم عند تعذّره،و انّه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع و ترك ما يكرهه وجب تحصيل ذلك الظنّ الأقرب إلي العلم (3)انتهي.

و الوثوق ربّما يحصل من ضمّ بعض القرائن إلي بعض من تعدّد الخبر الوارد في المسألة،و موافقة الشهرة القدمائيّة،و وجود الخبر في الكتب التي شهدوا بصحّتها،5.

ص: 527


1- كفاية الاصول ص 376.
2- كشف القناع ص 416.
3- فرائد الاصول ص 245.

و أنّ العمل كان عليها،إلي غير ذلك من القرائن التي سنشير إليها إن شاء اللّه،و في ما عدا ذلك لا يكون الاحتياط عسرا،فلا ينتهي الأمر إلي حجّية الظنّ الحاصل من قول الرجاليّين.

و ثانيا:لو سلّم كون الاحتياط عسرا،فلا بدّ من العمل بالخبر المظنون الصدور، سواء كان حاصلا من قول الرجاليّين،أو حاصلا من سائر القرائن،فكما يحصل الظنّ بالصدور من توثيق الرجاليّين لرواة الخبر،كذلك يحصل الظنّ بالصدور من قول الصدوق رحمه اللّه في أوّل الفقيه:إنّ ما أورده في الفقيه حجّة بينه و بين ربّه.

فإنّ المستفاد منه أنّ الكتاب الذي أخذ الحديث منه:إمّا كان مشهورا بحيث لا يحتاج الي الطريق نظير كتاب الكافي بالنسبة إلينا،و يكون ذكر السند للخروج عن الوجادة،أو للتيمّن و التبرّك،و إمّا كان مشكوك الانتساب إلي صاحبه،و قد اعتمد الصدوق رحمه اللّه في وصول الكتاب إليه علي شيخه الذي كان معاشرا معه و عرف وثاقته،و سيأتي توضيح ذلك.

و بالجملة إذا انتهي الأمر إلي العمل بالظنّ،فلا يختصّ بإعماله في حال الرواة، بل يقدّم الظنّ بصدور بعض الأخبار علي بعضها الذي ليس كذلك.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه (1)بعد أن اعتبر الظنّ القوي الاطمئناني إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع،قال:انّ حصول الظنّ الاطمئناني في الأخبار و غيرها غير عزيز،أمّا في غيرها فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة و الاجماع المنقول و الاستقراء و الأولويّة.و أمّا الأخبار،فإنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن،و هو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه و لو في خصوص الرواية،و إن لم يكن إماميّا أو ثقة علي الاطلاق؛إذ ربّما يتسامح5.

ص: 528


1- فرائد الاصول ص 245.

في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.

و أمّا احتمال الارسال،فمخالف لظاهر كلام الراوي،و هو داخل في ظواهر الألفاظ،فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئناني منه،فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد،لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر؛ لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئناني هو جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه.و أمّا أنّ إخباره بلا واسطة،فهو ظهور لفظي لا بأس بعدم إفادته للظنّ،فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا؛لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

و بالجملة فدعوي كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار و غيرها من الأمارات بحيث لا يحتاج إلي ما دونها،و لا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلي الاحتياط محذور،و إن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان،قريبة جدّا إلاّ انّه يحتاج إلي مزيد تتبّع في الروايات و أحوال الرواة و فتاوي العلماء (1)انتهي.

قلت:يمكن حصول الظنّ الاطمئناني فيما إذا تعدّد الخبر علي مضمون واحد مع شهرة القدماء عليه و سائر القرائن.و أمّا حصوله فيما إذا لم يكن الخبر متعدّدا و كان بعض رواة الخبر مشتركا و لم يكن الاعتماد علي رواته متّفقا عليه،فبعيد.

و بالجملة التتبّع و التعمّق في الرجال و نسخ الأخبار و فتاوي العلماء الأقدمين و ما يستندون إليه إن لم يوجب عدم الظنّ،فلا يوجب الظنّ بالصدور،فضلا عن الاطمئنان به.

و الحاصل أنّ مطلق الظنّ بحال الراوي إن حصل من قول الرجالي،فلا دليل علي اعتباره،و الظنّ الاطمئناني بمعني الوثوق الشخصي،حصوله غير معلوم، و الوثوق النوعي أيضا لا يعلم حصوله،مع ما مرّ من الاشكال في حجّية الثلاثة.7.

ص: 529


1- فرائد الاصول ص 247.

الوجه الثاني لحجّية الظنّ:ما ذكره حجّة الاسلام السيّد الكيلاني في رسالة إبراهيم بن هاشم (1)،و هو امور:

الأوّل:إطباق الأصحاب عليه.

قلت:الموارد التي ذكرها من كلمات الأصحاب هي باب الشهادات في المرافعات و عدالة إمام الجماعة،و قد سبق الفرق بينهما و بين باب الاخبار باعتبار الوثاقة الواقعية فيها،و عدم كفاية العدالة الظاهرية.

و الحاصل أنّ ثبوت الاجماع علي العمل بالظنّ في الرجال محلّ منع،علي ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه اللّه،قال:تخيّل بعض أنّ العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختصّ بمن يعمل بمطلق الظنّ في الأحكام،بل المقتصر علي الظنون الخاصّة في الأحكام أيضا عامل بالظنّ المطلق في الرجال.

و فيه نظر يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال،فإنّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها علي العمل بكلّ أمارة انتهي (2).

الثاني:مرسل يونس:خمسة أشياء يجب علي الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال (3).

الثالث:صحيح عبد اللّه بن المغيرة (4).

الرابع:صحيح عبد اللّه بن أبي يعفور (5).0.

ص: 530


1- الرسائل الرجاليّة ص 87.
2- فرائد الاصول ص 265.
3- وسائل الشيعة 27:289-290،فروع الكافي 7:431 ح 15 و الاستبصار 3:13 ح 3 و التهذيب 6:283 و 288.
4- من لا يحضره الفقيه 3:46 برقم:3298.
5- من لا يحضره الفقيه 3:38 برقم:3280.

قلت:هذه الأخبار خاصّة بباب الشهادة،و يمكن الفرق بين باب الشهادة و إمام الجماعة و بين الاخبار؛لأنّ عدالة إمام الجماعة إن اعتبر فيها العلم لزم العسر.

كما قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه في كتاب الصلاة:إنّ العدالة تعرف بالصحبة المتأكّدة الموجبة للاطّلاع علي سريرته،و لا يعتبر حصول العلم لتعسّره بل تعذّره، فلو لم يكتف بالظنّ لزم تعطيل الشهادات و الجماعات و ما قام للمسلمين سوق،مع ما علم من الشارع من تسهيل الأمر فيها و الأخبار الدالّة علي كفاية حسن الظاهر (1).

الوجه الثالث:أنّ التبيّن المأمور به في آية النبأ يكفي فيه تحصيل الظنّ بصدق الخبر؛لأنّ مفهوم الآية عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل،سواء كان عادلا واقعا أو محكوما بعدالته لحسن ظاهره و نحوه.

و من الواضح أنّ المحكوم بعدالته ظاهرا لا يحصل من قوله أكثر من الظنّ بصدق الخبر،فيكون مناط قبول الخبر وردّه حصول الظنّ بصدق الخبر و عدمه، و الظنّ بصدق الراوي الحاصل من قول الرجاليّين ظنّ بصدق الخبر.

و إذا كان الميزان الظنّ بصدق الخبر،فلا فرق بين إخبار الرجاليين الموجب لحصول الظنّ،و بين سائر الامور الموجبة للظن،كالظنّ بتعيين الراوي المشترك بالقرائن.

و هذا ما قيل من حجّية الظنون الرجالية.

قال في تنقيح المقال في المقدّمة:الحقّ الحقيق بالقبول-كما نقّحناه في علم الاصول-أنّ العمل بالأخبار إنّما هو من باب الوثوق و الاطمئنان العقلائي،و من البيّن الذي لا مرية فيه لذي مسكة في مدخليّة ملاحظة أحوال الرجال في حصولة.

ص: 531


1- كتاب الصلاة ص 257 الطبعة الحجرية.

الوثوق و عدمه و حدوثه و زواله.

و قال:و إن شئت قلت إنّ الآية قد منعت من قبول خبر الفاسق من غير تبيّن و تثبّت،و مراجعة حال الراوي و تحصيل الوثوق العادي بصدقه نوع تثبّت و تبيّن فيلزم.إلي آخر كلامه (1).

و فيه أوّلا:أنّ التبيّن هو الظهور الذي لا يحتمل فيه الخلاف،بحيث يصير الأمر محسوسا أو كالمحسوس،فهو فوق العلم،كما في سائر موارد استعماله في الكتاب العزيز،فلا يصدق علي الظنّ بصدق الخبر أنّه تبيّن للخبر،و ليس الاطمئنان تبيّنا، و ليس للتبيّن مراتب حتّي يقال:إنّ الظنّ الاطمئناني نوع تبيّن.

و ثانيا:نمنع حصول الاطمئنان.

ثمّ لا يخفي أنّه لو سلّم أنّ مفهومه عدم التبيّن عن خبر المحكوم بالعدالة في الظاهر الموجب للظنّ،لم يجز التعدّي إلي مطلق الظنّ؛لاحتمال خصوصية الظنّ الحاصل من خبر المحكوم بالعدالة ظاهرا.

الأمر الثالث من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:النصّ المعتبر من أحد المعصومين عليهم السّلام علي العدالة أو الوثاقة،مثل ما ورد في علي بن حنظلة أنّ الصادق عليه السّلام خاطبه و قال:يا أبا الحسن فإنّك رجل ورع (2).و يؤخذ بمقدار دلالة النصّ،فقد يكون المتيقّن منه الوثاقة حال النصّ،و لا تثبت الوثاقة قبل ذلك.

ثمّ إنّ النصّ إن كان متواترا أو مقترنا بما يوجب العلم بصدوره ثبت ما دلّ عليه.

و أمّا إن كان خبرا واحدا،فيحتاج إثباته إلي العلم بوثاقة رواته.و لا يخفي أنّ اعتبار سند النصّ لو ثبت بقول الرجاليّين،فلا بدّ من إثبات حجّية قولهم.

الأمر الرابع:أن يكون الشخص معروفا في زمانه عند الناس بالعدالة

و الوثاقة

من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:الاستفاضة

ص: 532


1- تنقيح المقال 1:174.
2- بصائر الدرجات ص 328 ح 1.

و يسمّي بالشياع،بمعني أن يكون الشخص معروفا في زمانه عند الناس بالعدالة و الوثاقة،بأن يكونوا معتقدين لعدالته أو وثاقته،لا مجرّد شيوع عدالته بين الناس من غير اعتقادهم بها،و يسمّي في العصر الحاضر بالشايعة،فإن كان مفيدا للعلم أو سكون النفس الذي هو علم عادي علي ما قيل قبل حصول موجب التشكيك، فالظاهر حجّيته كما تقدّم عن الجواهر (1).

و أمّا مع حصول مقتضي الشكّ،فإن كان الاحتمال موهوما جدّا بحيث لا يعتني به العقلاء،فهو ملحق بالعلم أيضا.و أمّا إذا لم يكن كذلك،فلا يلحق بالعلم،لكن قد يستدلّ علي حجّيته و إن لم يفد العلم بصحيح حريز،قال فيه بعد ائتمان إسماعيل شارب الخمر و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:و قد بلغك أنّه يشرب الخمر،فقال:يا أبة أنّي لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون،فقال:يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول:يصدّق للّه و يصدّق للمؤمنين،فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم،و لا تأتمن شارب الخمر الحديث (2).

قال في الجواهر:إذ هو كما تري كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلي أفراده قول الناس و شهادة المؤمنين و نحوهما ممّا هو مذكور فيه،و به أدرجه فيما دلّ علي النهي عن ائتمان شارب الخمر،و منه يعلم أنّه لا مدخليّة لمفاده الذي يكون تارة علما،و اخري متاخما له،و ثالثة ظنّا غالبا في حجّيته،و إنّما المدار علي تحقّقه (3)انتهي موضع الحاجة.

قلت:الظاهر من الجمع المحلّي هو العموم الأفرادي،أي:إذا شهد عندك كلّ واحد من المؤمنين فصدّقهم،كما أنّ النبي صلّي اللّه عليه و اله كان يصدّق كلّ واحد من المؤمنين،7.

ص: 533


1- جواهر الكلام 40:55.
2- وسائل الشيعة كتاب الوديعة ب 6 ح 1.
3- جواهر الكلام 40:57.

و هذا غير الشياع،و قد سبق الكلام فيه في أدلّة حجّية الخبر.

و لعلّ الشيخ الأنصاري رحمه اللّه نظر إلي ردّ الجواهر،حيث قال:و فيه أوّلا أنّ الرواية لا تدلّ علي حجّية الاستفاضة بالخصوص،و إنّما تدلّ علي وجوب قبول شهادة جنس المؤمن واحدا كان أو أكثر،فإن عمل علي هذا الاطلاق،فلا يبقي عنوان للاستفاضة،بل الحجّة شهادة المؤمن.

و دعوي تقييد إطلاقها بأحد الأمرين عدالة الشهود أو كثرة الشهود،ممّا يأبي عنه سوق كلام الامام عليه السّلام في جواب إسماعيل و استشهاده بالآية.

هذا مع أنّ الايمان غير شرط في الاستفاضة،و لو حمل الجمع فيها علي إرادة جنس الجمع،ففيه مع مخالفته لظاهر الجمع المحلّي إذا تعذّر حمله علي العموم، و مع مخالفته للاستشهاد بقوله تعالي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ مخالفة للاجماع في مورده،فإنّ الظاهر انعقاد الاجماع علي عدم ثبوت الفسق بالاستفاضة الظنّية.

مع أنّ الرواية معارضة برواية أظنّها عن أبي بصير،و فيها:يا أبا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولا و قال:لم أقله فصدّقه و كذّبهم.فإنّ تكذيب السمع كالصريح في مخالفة ما دلّت عليه الصحيحة،فالظاهر لزوم الجمع بينهما بتكذيب السمع عنه في عدم سوء الظنّ به، و المراد من تصديق المؤمنين إذا شهدوا عليه أن لا يكذّبهم.إلي أن قال:و بالجملة فلم نعثر علي دليل علي حجّية الاستفاضة الظنّية في المقام (1).

أقول:يحتمل أن يكون اللام في قوله«إذا شهد عندك المؤمنون»للعهد الذكري، فيراد بالمؤمنين الناس المذكورون قبل ذلك في كلام إسماعيل،حيث قال:إنّي7.

ص: 534


1- كتاب القضاء ص 77.

سمعت الناس يقولون،فيدلّ علي حجّية الشياع،كما يحتمل أن تكون للجنس، فتفيد العموم الاستغراقي،كقولك«أكرم العلماء»و لا وجه لحمله علي الاستغراق؛ لأنّه لم يثبت كونها حقيقة فيه.

و أمّا الرواية التي جعلها معارضة،فهي مرويّة في الوسائل،عن محمّد بن فضيل،عن أبي الحسن موسي عليه السّلام،قال:قلت له:جعلت فداك الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه،فأسأله عنه فينكر ذلك،و قد أخبرني عنه قوم ثقات،فقال لي:يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك،فإن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم،و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروءته الحديث (1).

قال العلاّمة المجلسي في بيان الحديث:و لعلّ هذا مختصّ بما إذا كان فيما يتعلّق بنفسه من غيبته أو الازراء به،و نحو ذلك،فإذا أنكرها و اعتذر إليه يلزمه أن يقبل عذره،و لا يؤاخذه بما بلغه عنه،و يحتمل التعميم أيضا،فإنّ الثبوت عند الحاكم بعدلين أو أربعة و إجراء الحدّ عليه لا ينافي أن يكون غير الحاكم مكلّفا باستتار ما ثبت عنده من أخيه من الفسوق التي كان مستترا بها (2).

و الحاصل أنّ القرائن الموجودة في الخبر تؤيّد حمل قوله علي الصحّة،و إن ثبت ظاهرا أنّه كذلك،فلا ينافي ما ذكر في قصّة إسماعيل من ثبوت فسق من قال الناس فيه أنّه فاسق.نعم إن قال لم أفعل حمل علي الصحّة،فتأمّل فإنّه يحتاج إليه.

الأمر الخامس من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:دعوي

الاجماع من الأقدمين

،فإنّه لا يقصر عن توثيق مدّعي الاجماع نفسه،بل إنّ دعوي الاجماع علي الوثاقة يعتمد عليها حتّي إذا كانت من المتأخّرين،كدعوي

ص: 535


1- وسائل الشيعة 8:609 ب 157 ح 4،و روضة الكافي 8:147.
2- مرآة العقول 25:357.

ابن طاووس رحمه اللّه الاتّفاق علي وثاقة إبراهيم بن هاشم،فإنّها تكشف عن توثيق بعض القدماء لا محالة (1).

قلت:يحتمل استناد ابن طاووس رحمه اللّه إلي الحدس،حيث رأي أنّ الكتب الأربعة و غيرها مشحونة برواياته الكثيرة،و الظاهر أنّهم اعتمدوا عليه و لا يكون إلاّ لوثاقته،و ليس ذلك إخبارا عن توثيق أحد القدماء له مع خلوّ كلماتهم عن التعرّض لوثاقته،و احتمال وصول كتب إليه غير ما بأيدينا أوجب صحّة دعوي الاجماع بعيد.

الأمر السادس:رواية أجلاّء الرواة في الأزمنة المختلفة

من الامور التي تثبت بها عدالة الراوي أو وثاقته:رواية أجلاّء الرواة في الأزمنة المختلفة،فإنّها تكشف عن وثاقة من رووا عنه؛لأنّه يبعد جدّا خفاء حاله عليهم في المدّة الطويلة.نعم رواية جليل مرّة لا تدلّ علي الوثاقة، فلعلّه وثق به في حال تلك الرواية،أو خفي حاله عليه،بخلاف ما إذا استمرّ في مدّة طويلة في الرواية عنه،فإنّه يبعد خفاء حاله.

ثمّ إنّ احتمال رواية الأجلاّء عنه مع علمهم بضعفه و احتمال تعمّده الكذب بعيد جدّا،بل كانوا يجتنبون عن الواقفة،و لذا قيل:إنّهم كانوا يسمّون الواقفة ممطورين.

قال النجاشي في ترجمة محمّد بن أحمد بن عبد اللّه بن قضاعة في كتبه:له كتاب الردّ علي ابن رباح الممطور (2).

و قال الشيخ في كتاب الغيبة:و روي أبو علي محمّد بن همام،عن علي بن رباح، قال:سألت القاسم بن إسماعيل القرشي-و كان ممطورا-أيّ شيء سمعت من محمّد بن حمزة (3).

ص: 536


1- معجم رجال الحديث 1:60.
2- رجال النجاشي ص 307.
3- كتاب الغيبة ص 45.

و في الكشي:روي إبراهيم بن عقبة،قال:كتبت إلي العسكري عليه السّلام جعلت فداك قد عرفت هؤلاء الممطورة،فأقنت عليهم في الصلاة؟قال:نعم أقنت عليهم.

و روي إبراهيم بن أبي البلاد،عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام،قال:ذكرت الممطورة و شكّهم،فقال:يعيشون ما عاشوا في شكّ ثمّ يموتون زنادقة (1).

و في كتاب فرق الشيعة:و قد لقّب الواقفة بعض مخالفيها ممّن قال بإمامة علي بن موسي عليهما السّلام الممطورة،و غلب عليها هذا الاسم و شاع لها،و كان سبب ذلك أنّ علي بن إسماعيل الميثمي و يونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهم،فقال له علي بن إسماعيل و قد اشتدّ الكلام بينهم:ما أنتم إلاّ كلاب ممطورة،أراد أنّكم أنتن من جيف؛لأنّ الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف،فلزمهم هذا اللقب،فهم يعرفون به اليوم؛لأنّه إذا قيل للرجل إنّه ممطور،فقد عرف أنّه من الواقفة علي موسي بن جعفر عليهما السّلام خاصّة؛لأنّ كلّ من مضي منهم فله واقفة وقفت عليه،و هذا اللقب لأصحاب موسي عليه السّلام خاصّة (2)انتهي.

و كشف الوثاقة من هذا الطريق غير بعيد،و قد اشير إليه في كلماتهم.

قال الكشي في ترجمة محمّد بن سنان:قد روي عنه الفضل،و أبوه،و يونس، و محمّد بن عيسي العبيدي،و محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب،و الحسن و الحسين ابنا سعيد الأهوازيّان،و ابنا دندان،و أيّوب بن نوح،و غيرهم من العدول و الثقات من أهل العلم (3)انتهي.

و ان احتمل أنّه قاله ردّا علي كلام الفضل بن شاذان،فراجع.

و قال النجاشي في ترجمة جعفر بن محمّد بن مالك بعد تضعيفه:و لا أدري كيف9.

ص: 537


1- رجال الكشي ص 391-392 ط النجف.
2- فرق الشيعة ص 81.
3- رجال الكشي 2:796 برقم:979.

روي عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي بن همام و شيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري رحمها اللّه (1).

و قال الصدوق في كمال الدين في تجليل عبد اللّه بن الصلت:و كان أحمد بن محمّد بن عيسي في فضله و جلالته يروي عن أبي طالب عبد اللّه بن الصلت القمّي رضي اللّه عنه،و بقي حتّي لقيه محمّد بن الحسن الصفّار و روي عنه (2).

و قال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد:روي عنه جماعة غمز فيهم و ضعّفوا، منهم عمرو بن شمر،و مفضّل بن صالح،و منخّل بن جميل،و يوسف بن يعقوب (3).

المطلب الخامس:في الطرق إلي كتب الرجال الخمسة،و وثاقة مؤلّفيها

،و ما يظهر من كلماتهم من الاعتقاد في الضعف و ما اختلفوا فيه،و سائر الامور التي توجب ثبوت استنادهم إلي غير الحسّ في توثيقاتهم و تضعيفاتهم،تركناه هنا لأنّه أنسب بأن يكون مقدّمة للرجال.

تمّ الجزء الأوّل من منهاج الاصول،علي يد مؤلّفه القاصر الأقلّ محمّد الرجائي عفي عنه.

ص: 538


1- رجال النجاشي ص 122.
2- كمال الدين ص 3.
3- رجال النجاشي ص 128.

فهرس الكتاب

تعريف الفقه و ما يتوقّف علي معرفة الأحكام الشرعية 3

دلالة اللفظ علي معناه 4

أقسام الوضع 7

الانشاء و الاخبار 15

الحقيقة و المجاز 20

أقسام الدلالة 25

وضع المركّبات 27

علائم الحقيقة و المجاز 28

تعارض الأحوال 32

حمل اللفظ علي معناه اللغوي و العرفي 32

الحقيقة الشرعية 33

الصحيح و الأعمّ 34

وقوع الاشتراك 44

إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معني واحد 44

مباحث المشتق 48

مباحث الأوامر،مادّة أمر 54

ص: 539

الطلب و الارادة 56

الأوامر الامتحانية 60

صيغة الأمر و ما الحق بها 63

الفرق بين الايجاب و الاستحباب 65

الأوامر و النواهي الصادرة عن النبي صلّي اللّه عليه و اله و الأئمّة عليهم السّلام 67

اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليا أم لا؟69

هيئة الأفعال 74

إذا وقعت صيغة افعل عقيب الحظر 74

المرّة و التكرار 75

الفور و التراخي 77

مباحث الاجزاء 79

اجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري 81

كفاية الاتيان بما يقتضيه الدليل ظاهرا 84

فيما اذا انكشف الخلاف علما 86

فيما إذا انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة معتبرة،الاجزاء بالنسبة إلي عمل نفسه 94

الاجزاء بالنسبة إلي فعل الغير 99

العمل المنبعث عن القطع بالحكم الكلّي 100

مقدّمة الواجب 101

البحث عن مقدّمة الواجب بحث عن مسألة فقهية 102

تقسيمات المقدّمة 102

تقسيمات الواجب،المطلق و المشروط 110

ص: 540

الواجب المعلّق و المنجّز 114

الواجب النفسي و الغيري 124

الواجب الأصلي و التبعي 128

تبعية المقدّمة لذيها في الاطلاق و الاشتراط 129

الأدلّة التي اقيمت علي وجوب المقدّمة و المناقشة فيها 134

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه 136

اشتراط القدرة في المأمور علي المأمور به 153

الأوامر و النواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟154

الواجب التخييري الشرعي 155

الوجوب الكفائي 157

الواجب الموسّع و المضيّق 159

الأمر بالأمر 160

مباحث النواهي،مادّة النهي وصيغته 161

جواز اجتماع الأمر و النهي 165

النهي عن العبادة أو المعاملة هل يقتضي فسادهما أم لا؟190

النهي عن العبادات بما هي عبادات 194

النهي في المعاملات 197

مباحث المفاهيم 202

دلالة الجملة الشرطية علي المفهوم 205

مفهوم الوصف 215

فيما يدلّ علي الحصر 215

العامّ و الخاصّ 218

ص: 541

العامّ المخصّص بالمتّصل و المنفصل 220

إجمال الخاصّ و اشتباه مصداقه 222

دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص 234

وجوب الفحص عن المخصّص 235

الخطابات الشفاهية 236

تعقيب العامّ بضمير يرجع إلي بعض أفراده 239

جواز التخصيص بالمفهوم المخالف 240

جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد 241

تخصيص العامّ بالخاصّ المقارن للعموم 244

النسخ و البداء 249

المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن 252

مقدّمات الحكمة 256

فيما إذا ورد مطلق و مقيّد 261

المجمل و المبيّن 263

الحجج المعتبرة شرعا أو عقلا 264

العلم و القطع و الاطمئنان 264

تعريف العلم و حجّيته 265

تعريف القطع و حجّيته 267

حجّية الاطمئنان و عدمها 269

مبحث حرمة التجرّي 281

العلم المأخوذ في الموضوع 294

القطع المأخوذ في الموضوع 295

ص: 542

جواز أخذ العلم بالحكم في موضوعه 299

عدم وجوب الموافقة الالتزامية 304

امكان المنع عن القطع الغير المأخوذ في الحكم و لا في موضوعه 307

الملازمة بين حكم العقل و الشرع 311

مباحث العلم الاجمالي 314

جواز التعبّد بالأمارة و الأصل في الحكم الكلّي 319

الأمارة القائمة علي الموضوع و الأصل الجاري فيه 326

عدم حجّية ما لم يقم دليل علي حجّيته 330

عدم حجّية ما لم يعلم حجيته و عدم إجزاء العمل به إن لم يقصد التشريع 331

ماهية التشريع 334

أدلّة حرمة التشريع 336

ما لا دليل علي حرمته 340

ما يتوهّم أنّه من التشريع ممّا لا يمكن أن يقع 341

حجّية ظواهر الكتاب و السنّة 341

حجّية ظواهر السنّة مع القطع بالظهور 341

هل العبرة بظواهر الكلام في زمان صدور الأخبار؟347

حجّية ظواهر الكتاب العزيز 349

عدم الفرق في الحجّية بين من قصد افهامه و من لم يقصد افهامه 353

إذا علم ظهور اللفظ فهل يعتبر الظنّ بالمراد أم لا يعتبر؟354

الشكّ في إرادة الظهور 354

حجّية قول اللغوي و عدمها 356

حجّية الشهرة علي الحكم 364

ص: 543

حجّية الاجماع 374

أدلّة النافين لحجّية خبر الواحد و المثبتين 383

كيفية عمل أصحاب الأئمّة و القدماء بالأخبار 403

الآيات الدالّة علي حجّية خبر الواحد 417

آية النبأ،آية النفر،آية الكتمان 417،426،428

الأخبار الدالّة علي حجّية خبر الواحد 435

ما دلّ علي حجّية خبر من وثّقه المعصوم 437

ما دلّ علي ارجاعهم عليهم السّلام إلي أشخاص معيّنين 444

ما دلّ علي أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السّلام كانوا يعملون بروايات الرواة 446

ما دلّ علي حجّية خبر الثقة 447

ما يمكن أن يستدلّ بها علي حجّية خبر العدل علي الظاهر 448

ما دلّ علي عدم حجّية الخبر المعارض للكتاب 452

المتحصّل من جميع الأخبار 458

ما دلّ علي عدم جواز ردّ ما روي عن المعصومين عليهم السّلام 463

الدليل العقلي علي حجّية خبر الواحد 464

دليل الانسداد 465

نتيجة دليل الانسداد 477

الظنّ هل يكون جابرا أو موهنا أو مرجّحا؟477

حكم الظنّ في غير الأحكام الفرعية 478

أقسام الخبر،الخبر الصحيح،و الحسن الموثّق،و الضعيف 480،485،489،490

الخبر المرسل:و المشهور 492،500

طرق إثبات العدالة و الوثاقة،حجّية قول الرجاليين و عدمها 511،512

ص: 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.