سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) دراسة وتحليل

هویة الکتاب

سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) دراسة وتحليل

من خطب سماحة المرجع الديني

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

الناشر: دار الصادقين - النجف اشرف - العراق

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين..

عطفاً على كتاب (دور الأئمة(علیه السلام) في الحياة الإسلامية) وما قدّمه يراع سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) فيه من انموذج لإحياء التأريخ الرسالي والأدوار المجموعية للأئمة(علیه السلام)..

ذلك الدور الذي ظل عالقاً في ضوضاء النصوص التاريخية مدة مديدة من الزمن..

وهنا ينطلق يراع سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مرّة أخرى في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.. ليؤسس لنا من خلاله المستقبل والحاضر والأخلاق والسياسة والتنمية البشرية في ضوء ما نستقيه من حياة الأئمة المعصومين(علیه السلام)..

كيف لا؟ وهم عدل الكتاب وصنو القرآن بنص حديث الثقلين المشهور..

في ضوء هذا الكتاب تتجلى الكثير من الأفكار الخلاّقة التي عمل عليها الأئمة(علیه السلام) وهم يمارسون قيادة الناس وتمثيل الخط الإلهي بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). ومن أهم ذلك الأدوار التنموية في بناء الإنسان الصالح بالرغم مما تعرض له أهل البيت(علیه السلام) من الاقصاء السياسي والقتل والتشريد، إلا ان هدف بناء الإنسان كان مميزاً واضحا في كل حياتهم الشريفة.

يؤسس هذا الكتاب لأدوار مهمة للأئمة(علیه السلام) والذي نعده حلقة أخرى من حلقات (دور الأئمة(علیه السلام) في الحياة الإسلامية).. ذلك حينما

ص: 5

نستقي الحق والصدق والطهر الذي يتحرك في كل الزمن ويعيش مع الإنسان في كل وقت..

هذا هو ما يمكن أن نصف به هذه الأبحاث، والتي هي بالأصل خطابات وجهها سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) الى الأمة والنخبة معاً. وقد اقتنصناها بطولها من كتاب خطاب المرحلة، والذي يعد بحق منظومة من المعارف الإسلامية لتربية الأمة وتنشئتها. فهي تمثل انفتاح الإسلام على وعي الإنسان المعاصر، ومشكلاته، وتأصيل خطاب يتزن للسياسة والدين وواقع العصر.

نسأل الله تعالى أن يلهمنا الهدى ويعرفنا البصيرة في حياتنا كلها وأن يحشرنا مع أحبتنا محمد وآله الطيبين الطاهرين..

ص: 6

قراءات عامة:

اشارة

ص: 7

ص: 8

ولله المثل الأعلى

ولله المثل الأعلى(1)

يُروى أن السيد رضي الدين ابن طاووس(قدس سره) -- وهو من العلماء العارفين في القرن السابع الهجري -- قال لولده يوماً (ماذا تريد أن تصير في المستقبل) فقال الولد الممتلئ فخراً وزهواً بأبيه الجامع للفضائل (أريد أن أصبح السيد ابن طاووس) فقال أبوه (إذن سوف لا تصير كذلك، لأنني في بداية حياتي عزمت على أن أصبح مثل الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) فأصبحت ابن طاووس فماذا ستكون إذا جعلت هدفك أن تكون ابن طاووس).

وهي حقيقة مجرّبة في أرض الواقع فإن الطالب الذي يجد ويجتهد في الدراسة حتى ينال مئة من مئة فإنه ربما يحصل على تسعين، فإذا تكاسل ولم يقرأ دروسه معوّلاً على الاكتفاء بستين أو خمسين فإنه قد لا يحصل على درجة النجاح.

وأنا اسمع كثيرين يتحدثون حينما يُسأل من هو مثلُك الأعلى الذي تطمح أن تصير مثله فإنه قد يسيء فيختار فناناً أو رياضياً أو سياسياً ممن لا قيمة لهم في عالم السمو والكمال، وهذا خارج عن حديثنا أصلاً، وقد يختار عالماً أو مصلحاً ويحاول السير على خطاه ليلحق به، وهذا شيء جيد، لكنه إذا أراد الأكمل فعليه أن يجعل مثله وأسوته وقدوته النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) فيسعى بجد للسير على منهجهم والاهتداء بتعاليمهم والاقتداء بسنّتهم التي تحكيها الكتب والروايات، وحينئذٍ سيكون له شأن يذكر.

أما المعصومون (صلوات الله عليهم) فقد جعلوا الله تبارك وتعالى مثلاً أعلى -- بالمصطلح -- لهم فإن له الأسماء الحسنى والصفات الإلهية هي المثل الأعلى

ص: 9


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من المثقفين والشباب الرساليين من ناحية قلعة سكر في محافظة ذي قار يوم 6 رجب 1429 المصادف 10/ 7/ 2008.

وأوصونا بذلك فقالوا (تخلقوا بأخلاق الله) وهذا هو الكمال الحقيقي ، فيتحرك الإنسان أولاً نحو التعرف على هذه الأسماء ودراسة مضامينها وآثارها العملية وكيفية الاتصاف بها، قال تعالى {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (النحل:60) وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27) والله ولي التوفيق وهو نعم المولى ونعم النصير.

ص: 10

التنمية البشرية في روايات أهل البيت (عليهم السلام)

التنمية البشرية في روايات أهل البيت (عليهم السلام)(1)

الإسلام والتنمية البشرية:

يهتم العالم اليوم بحقل من حقول المعرفة يسمونه (التنمية البشرية) وتفتح له جامعات متخصصة وآخرها في جامعة السليمانية في العام الماضي بحسب ما سمعت من وسائل الإعلام.

وقد التقيت قبل أسبوعين تقريباً أحد طلبة الدكتوراه في الولايات المتحدة وعنوان بحثه (الدين والتنمية البشرية) وعرضت عليه خارطة الطريق للبحث وفق ما أفهمه من العنوان وبما ورد عن أهل البيت(علیه السلام).

لقد اهتم القادة المعصومون(علیه السلام) بالتنمية البشرية في كل أنحائها، فعلى صعيد الكم أي تكثير العدد ورد حث كثير على تكثير النسل خلافاً لهوس العصر المطالب بتحديد النسل ففي الرواية الصحيحة عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: (إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط يجيء محنبطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(2) وفي الرواية عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: (قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلاإله إلا الله)(3) وقد عُرف عني

ص: 11


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(مد ظله) مع حشد من أبناء محافظة البصرة ومدينة الصدر ببغداد بحضور عدد من الكتاب والمثقفين وأساتذة جامعات البصرة وبغداد والنهرين يوم الخميس 1/صفر المظفر/1432 الموافق 6/ 1/ 2011.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1،ح2، 3.
3- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب1،ح2، 3.

القول بأن من أراد أن يدخل السرور على قلب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(علیه السلام) فليتزوج ولينجب أربعة على الأقل ويحسن تربيتهم ليكون ملبياً دعوة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بالإكثار من النسل.

الاهتمام النوعي بالتنمية:

وأما التنمية على صعيد النوع فقد اهتم به المعصومون(علیه السلام) أيضاً وتابعوا مراحله من قبل تكون نطفة الإنسان باختيار الزوجة الصالحة والمنبت الطيب للنسل ووردت في ذلك روايات كثيرة كالرواية التي وردت عن الامام الصادق(علیه السلام) قال: (قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): اختاروا لنطفكم فإن الخال احد الضجيعين)(1) وروايته الأخرى قال:(صلی الله علیه و آله و سلم) خطيباً فقال: أيها الناس إياكم وخضراء الدمن قيل: يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء)(2).

التنمية في كل الاتجاهات:

ثم تتابع الروايات النصائح والتوجيهات في مراحل تكون النطفة والحمل والولادة والتربية إلى أن يصبح إنساناً بالغاً رشيداً صالحاً ينتفع به أبواه والمجتمع عموماً.

وعلى صعيد تنمية المجتمع وجعله كياناً قوياً متماسكاً متحاباً يتعاطى أفراده بإيجابية فيما بينهم ومع الآخرين فقد حفل كتاب (آداب العشرة) من كتاب وسائل الشيعة وغيره بالمئات من الأحاديث الشريفة.

ص: 12


1- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.
2- وسائل الشيعة،كتاب النكاح، ابواب مقدمات النكاح وآدابه، باب13، ح2، 4.

وعلى صعيد تنمية الحياة بإعمارها وتقدّمها وجعلها مرفهة سعيدة متمدنة فقد حث أهل البيت(علیه السلام) على كل ما يساهم في بناء ذلك ويشيّد مقوّماتها وبنيتها التحتية وعلى رأسها طلب العلم والمعرفة والتزود بكل أسباب القوة والمنعة والتقدم والرفاه، وقد جمعت الأحاديث في كتب خاصة بعنوان (كتاب العقل) و(كتاب العلم) من أصول الكافي وغيرها وبه يبتدئ كتاب الكافي، وقد أكد القرآن الكريم على أن وظيفة الإنسان في هذه الأرض إعمارها قال تعالى {هُوَ أنشَأكُم مِنَ الأرضِ وِاستَعمَرَكُم فِيهَا} (هود: 61) وقال تعالى {وَأعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60).

الإسلام والغرب:

لقد أدرك الغرب تأثير هذه التوجيهات في عقل المسلم ودفعه إلى تكثير النسل لذا بدأوا يطلقون صرخات التحذير وطلب الاستيقاظ للعالم الغربي وخصوصاً المسيحي ليصحو ويلتفت إلى هذا الخطر!! وبين يدي تقرير أمريكي صدر عام 2008 شعاره (لقد تغيّر العالم، حان الوقت لكي نستيقظ) وجاء فيه (الإسلام هو أسرع وأكثر دين انتشاراً) (العالم الذي نعيش فيه لن يكون نفسه العالم الذي سيعيش فيه أبناؤنا وأحفادنا) (الكنيسة الكاثوليكية صرحت مؤخراً: إن عدد المسلمين تجاوز الحدود، الدراسات تبيّن أنه إذا حافظ الإسلام على معدل انتشاره الحالي فإنه في خلال 5 إلى 7 أعوام سيكون الإسلام الدين الحاكم في العالم كله) وهم يحذرون من هذه الحقائق ويدعون الأمريكان للتصرف بسرعة.

ويبيّن التقرير بالأرقام تخلّف التكاثر السكاني في دول الغرب عن أقل معدل المطلوب لبقاء أي حضارة لربع قرن وهو معدل (2,11 طفلاً) لكل عائلة بينما معدل التكاثر في عموم أوربا 1,38 وفي الولايات المتحدة 1,6 وان عدد المسلمين في تزايد

ص: 13

هناك سواء عن طريق الهجرة أو ارتفاع معدل تكاثرهم، (وانه خلال (39) عاماً فقط سوف تصبح فرنسا جمهورية إسلامية!) (وفي جنوبها وهي واحدة من أكثر الأماكن المزدحمة بالكنائس في العالم تحتوي الآن على مساجد أكثر من الكنائس) (الحكومة الألمانية كانت أول من تحدث عن هذا الموضوع علانية صرحت مؤخراً: (النقص في التعداد السكاني الألماني لا يمكن إيقافه الآن لقد خرج الأمر عن السيطرة ستكون ألمانيا دولة إسلامية مع حلول عام 2050).

أقول: قد يكون في بعض هذه التوقعات مبالغة لأجل إيقاظ عالمهم لكنه يتضمن الكثير من الحقائق المهمة ومنها أنه إذا التزم المسلمون بالتوجيهات النبوية الشريفة فإنهم سيفتحون العالم بهدوء وبحركة بيضاء –كما يقال- وهذا يقدّم لنا فهماً لما ندعو به دوماً لإمامنا المنتظر (أرواحنا له الفداء) (حتى تسكنه أرضك طوعاً).

مسؤوليتنا اليوم:

إن هذا الذي ذكرناه يضع لنا برامج عملية عديدة ويجعلنا أمام عدة مسؤوليات منها:

1. الحث على التزويج وتيسير أمره للجميع وكثرة الإنجاب بحيث لا يقل عن أربعة للأسرة وأن يحسنوا تربيتهم وإعدادهم لصناعة الحياة السعيدة، وهذه الدعوة تشمل من هم داخل البلاد الإسلامية والمقيمين في بلاد المهجر.

2. إن الإسلام ينتشر بقوة وبسرعة ويشهد إقبالاً واسعاً وما علينا إلا إيصال صوته إلى العالم كما قال الإمام(علیه السلام) (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)(1) وعلى المسلمين وخصوصاً شيعة أهل البيت(علیه السلام) أن لا

ص: 14


1- الوافي: ج1 ص215.

يرتكبوا ما يشين وان لا يبتدعوا من أنفسهم أفعالاً بحجة الترويج للدين والمذهب كالتطبير ونحوه مما منعنا منه(1) فإن الإسلام الناصح النقي لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور التي تضرّ ولا تنفع، وليرجعوا في أمورهم خصوصاً التي تتعلق بالمواقف العامة إلى الفقيه الذي وصفه الحديث الشريف (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).

3. إن الالتفات إلى الواقع الفاسد يشكّل حافزاً للتحرك نحو الإصلاح والتغيير أداءً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن استشراف المستقبل ووعي متطلباته يشكل حافزاً أكبر وأوسع للعمل الإيجابي، فلا نكرّس كل همنا وشغلنا لتشخيص المشاكل الآنية ومعالجتها وإن كان هذا واجباً عظيماً إلا أنه لا ينبغي إغفال الحافز الآخر.

4. أن يقوم المسلمون في الغرب بكل عمل ينشر الإسلام ويعرّفه للآخرين ويحبّبه إلى الناس.

إن القيام بالمسؤوليات أعلاه يعجّل بالظهور الميمون المبارك ويفتح العالم سلماً ويسلّم الأرض طوعاً إلى الإمام المنتظر(عجل الله فرجه) ويمهد لدولته المباركة.

ص: 15


1- للتفصيل راجع: خطاب المرحلة: ج6 ص428.
2- الكافي: ج1 ص27.

ص: 16

الفصل الاول / الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

ص: 17

ص: 18

ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق؟

اشارة

ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والحمد لله الذي جعلنا من الموفين بعهده وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين المكذبين بيوم الدين، وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليماً كثيراً.

رزية الخميس:

كانت وفاة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الاثنين الثامن والعشرين من صفر على ما هو المشهور(2)، فتكون رزية يوم الخميس كما سماه عبد الله بن عباس(3) يوم الرابع والعشرين من صفر أي في مثل يوم أمس، وكانت رزية حقاً، إذ انقطع في ذلك اليوم آخر أمل لتمسك الأمة بوصية رسول الله(صلی الله علیه و آله

ص: 19


1- محاضرة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من فضلاء وطلبة الحوزة العلمية يوم 25 صفر 1423 ه- المصادف 8 آيار2002م في مسجد الرأس الشريف مجاور الصحن الحيدري المطهر بمناسبة ذكرى وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).
2- منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل للشيخ عباس القمي ج1 الفصل السابع، تأريخ الطبري المجلد الثاني ص197 ، سيرة بن هشام ج4/ اليوم الذي قبض الله تعالى فيه نبيه الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).
3- تأريخ الطبري المجلد الثاني السنة الحادية عشر.

و سلم) في الإمام والخليفة من بعده، وأعلنوا معارضتهم الصريحة والواضحة لهذا التعيين، لذلك قال(صلی الله علیه و آله و سلم) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي)(1) ، وأوصى أمته بهم خيراً، ولو كان يعلم أن الأمر يؤول إليهم لما احتاج إلى الوصية بهم، وفي حديث للإمام الصادق(علیه السلام) يعبر فيه عن ألمه العميق من تضييع الأمة لبيعة يوم الغدير ولحق أمير المؤمنين فيقول: (إن حق الرجل يثبت بشاهدين، وقد أضيع حق جدي أمير المؤمنين وعليه سبعون ألف شاهد)(2).

النزاع بين الخط الإلهي والخط البشري:

ولا أريد أن أناقش أسباب هذا التضييع وإهمال الأمة لهذا الحق الذي أخذه الله على كل المؤمنين، فلهذه المناقشة محل آخر، لكنني أعتقد أن أحد هذه الأسباب والذي لا زال في ذهن الناس مما يقلّل من خطورة هذا التضييع هو القصور في فهم النزاع، فقد فهموه على أنه نزاع بين شخصين، هما علي بن أبي طالب(علیه السلام) ومن نازعه الأمر، فهم لا ينكرون فضل علي(س) وسابقته وجهاده وعلمه وقربه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وشجاعته وفناءه في الله، لكنهم يرون أن المقابل أيضاً من السابقين إلى الإسلام وثاني اثنين إذ هما في الغار وصهر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وبدري وأحدي، بل حاولوا تلفيق بعض المناقب ليساووه بأمير المؤمنين أو يقتربوا منه(علیه السلام)، وإزاء هذه المقارنة لم يجدوا المسألة مهمة بهذه الدرجة ولا تستحق أن ينشق المسلمون إلى طائفتين عظيمتين، ولا جدوى في البحث فيها فقد أكل عليها الدهر وشرب.

ص: 20


1- منتهى الآمال ج1 ص205.
2- البحار ج37 باب52 ص158.

ولو فهموها بصورتها الصحيحة لغيروا عقيدتهم، ولما وجدوا أي تردد في قبول المذهب الحق، لأن الخلاف ليس بين شخصين -- وإن كان بحد ذاته دليلاً كافياً لسمو علي على غيره كسموّ الثريا على الثرى -- وإنما بين مبدأين وخطين كان علي(علیه السلام) رمز الأول ومنافسه رمز الثاني:

الأول: مبدأ وخط رسمه الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض العالم بخفيات الأمور وبواطن النفوس وبما كان وسيكون، واختاره للأمة لتصل إلى كمالها المنشود، وبلّغه رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم) في يوم الغدير.

يقف في أول الخط علي بن أبي طالب(علیه السلام)، ومن بعده الحسنان سبطا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن بعدهما الأئمة الطاهرون الذين أطبقت الأمة على نزاهتهم وعلمهم وتمثيلهم الكامل للشريعة الإلهية، ومن بعدهم العلماء العارفون الأتقياء الصالحون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

الثاني: خطٌّ يصنعه البشر بأهوائهم وأساليبهم الشيطانية من قهر وإذلال أو إغراء بالمال أو ظلم وتعسف أو تضليل وتمويه وادعاءات باطلة، وكان الآخر رأس هذا الخط، فقد اختارته قريش -- كما يقول الخليفة الثاني -- وليس الله الذي اختاره، ويتتابع على هذا الخط معاوية الذي يقول: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا، وإنما لأتأمّر عليكم(1)، ومن بعده يزيد شارب الخمر على منابر المسلمين والذي أحرق الكعبة بالمنجنيق وقتل ريحانة رسول الله(صلی الله علیه و آله

ص: 21


1- منتهى الآمال: الفصل الثالث ص435 عن البحار ج44 ص49.

و سلم)(1)، ومن بعده الآخرون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض ونشروا الفساد وضلّوا وأضلّوا {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (الأعراف:38).

مع الوعي في الطرح:

عندما تعرض المقارنة بهذا الشكل، ولو استوعبها الصحابة والأجيال جميعاً بهذا الشكل لما ترددوا في الإيمان بصحة الخط الأول والتمسك به، على أنهم غير معذورين من أول الأمر، لأن القرآن صريح {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}(الأحزاب:36)، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص:68)، بل إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه لم يكن له هذا الحق حينما عرض عليه بنو عامر أن يسلموا مقابل أن يجعل لهم الأمر من بعده، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): (ليس الأمر لي، وإنما هو بيد الله يختار له من يشاء)(2).

ص: 22


1- تأريخ الطبري المجلد الثالث، سيرة الأئمة لهاشم معروف الحسني ج2 منتهى الآمال ج1 الباب الخامس ، معالم المدرستين ج5/ يزيد في أفعاله وأقواله (روى صاحب الأغاني: أن يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه…).
2- السيرة النبوية: ج2/ عرض الرسول نفسه على بني عامر.

ماذا خسرت الأمة؟

ومحل الشاهد أني اعتقد أن طرح الموضوع بهذا الشكل يكون أجدى وأوضح، ولكي نزيده وضوحاً نطرح سؤالاً، وهو: ماذا خسرت الأمة بتضييعها وصية رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في الخليفة من بعده؟ وماذا ترتب على هذا الإهمال من نتائج سلبية؟ وحينما أتناول هذا البحث فإني لا أريد فقط أن أناقشها كقضية تأريخية، وإن كانت من الأهمية بمكان؛ لابتناء أصل من أصول الدين وهو أصل الإمامة عليها.

ولكن الذي أريده هو الاستفادة من هذا الدرس واستخلاص العبرة، لأن الإمامة بالحمل الأولي وإن كانت مختصة بالأسماء المعينة إلا أنها بالحمل الشايع أعني النيابة العامة عن الإمام وولاية أمر المسلمين المتمثلة بالمرجعية الشريفة الجامعة لشروط القيادة مستمرة إلى أن يرث الأرض ومن عليها الإمام المنتظر(علیه السلام)، فإذن يبقى باب هذه النتائج السلبية التي سنتعرض لها بإذن الله تعالى مفتوحاً لها كلها أو بعضها كلما ولت الأمة أمرها إلى من لا يستحق، فيكون من الضروري الالتفات إليها، فنعود إلى أصل السؤال، وهو: ماذا خسرت الأمة عندما ولّت أمرها غير صاحب الحق الشرعي؟ وماذا ترتّب على ذلك من نتائج سلبية؟

النتائج الوخيمة لتولي غير المؤهلين لإمامة الأمة:

النتيجة الأولى: تصدي أناس غير مؤهلين لإمامة الأمة:
اشارة

فمن المعلوم أن أية رسالة وأية آيديولوجية - بتعبير اليوم - لا بدَّ أن يكون حاملها مستوعباً لها بشكل كامل فهماً وتطبيقاً، بحيث تكون هذه العقيدة هي الموجهة له في كل سلوكه وتصرفاته وأفكاره وعلاقاته، ولم يكن القوم كذلك، وإنما هم أناس عاديون كبقية أفراد المجتمع، ويوجد كثير غيرهم ممن استوعب الرسالة

ص: 23

وجسَّدها في حياته خيراً منهم، وقد كانوا يعترضون على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حياته ويتمردون على أوامره(1)شرح النهج لابن أبي الحديد: ج1 شرح الخطبة الشقشقية.(2) حتى آخر حياته؛ بتخلفهم عن جيش أسامة(3)، وعدم تلبية أمره(صلی الله علیه و آله و سلم) حينما طلب قرطاساً في رزية يوم الخميس(4).

وكانت الجاهلية تعيش في نفوسهم، حيث قضوا أكثر أعمارهم فيها، وقد كشف عن عدم أهليتهم جهلهم وتخبّطهم في الأمور، ويصف أمير المؤمنين إمرتهم المنحرفة في الخطبة الشقشقية: (فَيَا عَجَباً، بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ -- لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا -- فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا -- أي تجرح جرحاً عظيماً--، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ فِيهَا وَالاِعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ -- لَعَمْرُ اللهِ -- بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ -- وهو إباء الفرس عن ركوب ظهره --، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ -- أي سير غير مستقيم --)(4). حتى قال الثاني: (كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال)(5) بعد أن نهى عن زيادة المهر عن حد معين، فأجابته امرأة: أما سمعت قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (النساء:20).

وقد أشكلت عليهم الكثير من المسائل حتى الاعتيادية منها التي كانت تتكرر في حياة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كالصلاة على الجنائز، ولما سئل

ص: 24


1- راجع هامش
2- ص188، والهوامش ص189.
3- السيرة النبوية لابن هشام: ج4/ أمر الرسول بإيفاد بعث أسامة.
4- راجع هامش (1) ص 189.
5- الغدير: المجلد الأول ص182 والمجلد السادس ص98.

الثاني عن سبب قلة استفادتهم من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: ألهانا الصَّفْقُ بالأسواق(1)، وكانوا يشككون حتى بنبوة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وعصمته، فيقول له أحدهم وجهاً لوجه: (أنت الذي تزعم أنك رسول الله)، أو يقولون عنه: (إن الرجل ليهجر)(2).

الإعداد النبوي للخليفة الحق:

في مقابل ذلك كان هناك شخص يعدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إعداداً خاصاً لكي يتسلم هذا الموقع، ذاك هو علي بن أبي طالب(علیه السلام)، فاستمع إليه يتحدث عن هذه التربية الخاصة: (وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصيصَةِ، وَضَعَني في حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إِلى صَدْرِهِ ، وَيَكْنُفُني في فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّني جَسَدَهُ، وَيُشِمُّني عَرْفَهُ وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيه، وَمَا وَجَدَ لي كَذْبَةً في قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً في فِعْلٍ).. إلى أن قال(علیه السلام): (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي في كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَ يَأْمُرُني بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْري وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَخَديجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسالَةِ، وَأَشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ حينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرى مَا أَرى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ وَزيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلى

ص: 25


1- صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الرابع عشر، ص 134.
2- تأريخ الطبري: المجلد الثاني ج3 السنة الحادية عشر، سيرة الأئمة الاثنى عشر: القسم الأول/ مع النبي في ساعة الوداع.

خَيْرٍ)(1)، وفي نهاية خطبة مماثلة أخرى يسأل(علیه السلام) مستنكراً: (فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنّي حَيّاً وَ مَيِّتاً؟)(2).

آثار خطيرة:

هكذا كان يتم تهيئة الإمامة البديلة، أما هؤلاء فلم يتلقوا شيئاً من ذلك، لذا فقد أفرز تصدي هؤلاء غير المؤهلين عدة آثار خطيرة:

1. تشوّه صورة الإسلام نفسه، لأن كثيراً من الأمم والشعوب دخلت الإسلام بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهي لم تأخذه من مصدره، وإنما نقل لها عبر كلام وسلوك أصحابه، ولما كان هؤلاء غير مؤهلين لتمثيل الإسلام بصورته النقية الكاملة ولم يعرف المسلمون الجدد غير هذه الصورة المعروضة أمامهم فَتَبنّوها على أنها الإسلام الحقيقي، وتزايد هذا البعد عن الإسلام بمرور الزمن، حتى صرت ترى أقواماً لا تفقه من الإسلام شيئاً غير الاسم وبعض الشكليات.

2. تجرّي أعداء الإسلام خصوصاً اليهود عليه، وما كانوا يستطيعون أن يظهروا شيئاً منه في عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، لعدم وجود ثغرة يمكن أن يدخلوا منها، أما وقد تصدّى لهذا الموقع العظيم ناس غير مؤهلين لهذا الموقع، ويمكن التغلب عليهم وإحراجهم، فمن السهولة إذن هزّ ثقة المسلمين بدينهم بتكرر الفشل

ص: 26


1- نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص157.
2- نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده ج2 ص171172.

من قادتهم، وبالنتيجة تخليهم عن هذا الدين، فلم يكن من الغريب حصول هذه الهجمة العنيفة من الامتحانات العسيرة والمتنوعة التي أحرج بها اليهود الخليفة الاول والثاني وتزعزعت ثقة المسلمين وشعروا بالإحباط، وكادوا يرتدون لولا وجود أمير المؤمنين(علیه السلام) بالمرصاد، الذي كان يجيبهم على كل أسئلتهم ويردّ كيدهم إلى نحورهم(1).

3. انفتاح باب الطمع بهذا المنصب الشريف لكلّ محبي الرئاسات والجاه واتباع الهوى، بعد أن أصبح نيله ليس بالاستحقاق وفق معايير الرسالة، وإنما هو لمن غلب وقهر ولو بالسيف، حتى أصبح مستساغاً أن يولي معاوية ابنه يزيد المعروف بالفسق والفجور على رقاب المسلمين.

النتيجة الثانية: فتح باب الاجتهاد مقابل النص:

أي الحكم والتشريع بالآراء الشخصية خلافاً للنص الإلهي الحكيم، وهو يعني أن الإنسان ينصّب نفسه مشرعاً وإلهاً يطاع في مقابل ألوهية الله تبارك وتعالى الذي هو وحده له حق التشريع والحاكمية، وهو ما رفضه الله تبارك وتعالى رفضاً قاطعاً، وجعل كل حكم وتشريع ليس مستنداً إلى الشريعة المقدسة جاهلية، فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وفي آية أخرى {الظَّالِمُونَ}، وفي ثالثة {الْفَاسِقُونَ} (المائدة:44 ،45 ،47)، وكان من شروط الإيمان الكامل: التسليم والإذعان لحكم الله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ

ص: 27


1- الغدير: المجلد السابع ص177 – 179.

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)، لكن القوم فتحوا باب الاجتهاد واسعاً، ولم يكترثوا كثيراً للنص الشرعي لعدة أسباب:

1. جهلهم وعدم اطلاعهم الكامل على أحكام الشريعة، فراحوا يستنبطون من أنفسهم ما يسدّ نقصهم.

2 . لأجل المحافظة على الأغراض والمصالح التي أرادوها فلا بد من تعطيل النصوص التي تتعارض مع المنهج الذي اختطوه، وتبرير الأفعال المخالفة بصراحة لحكم الله تبارك وتعالى.

3. تغييب الممثل الحقيقي واللسان الناطق بالشريعة.

وقد عطل هذا الاجتهاد الكثير من التشريعات التي كانت مصدر خير للأمة، ومنها الزواج المؤقت الذي قال عنه أمير المؤمنين(علیه السلام): (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي)(1)، وبالمقابل برّر هذا الاجتهاد أشنع المنكرات، فمثل مالك بن نويرة(2) الذي شهد له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بالجنة يُقتل، ويدخل خالد بزوجته في نفس الليلة، ويأتي جواب الخلافة ببرود: تأوّل خالد

ص: 28


1- الكافي:5/ 448.
2- مالك بن نويرة الحنفي اليربوعي من أرادف الملوك ومن شجعان عصره وفصحائهم وكان من أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ومن خلّص أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام)، انتظر بقومه بعد وفاة الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى أن يتبين موقف أمير المؤمنين(علیه السلام) فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد فغدر بهم وقت الصلاة وأمر بقتل مالك حين رأى جمال امرأته.

فأخطأ(1). ويخرجون لقتال إمام زمانهم بكل المقاييس التي عندهم في معارك طاحنة في الجمل(2) وصفين(3)، وكله اجتهاد يؤجرون عليه وإن أخطأوا فلهم أجر واحد.

وقد تأصل هذا الاجتهاد فيما بعد وتعمق، ووضعوا له أصولاً وقوانين، وأصبحت مذاهب في مقابل مذهب الحق.

النتيجة الثالثة: عرقلة تربية الأمة وتكاملها:

فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تنقذ البشرية بهذه الرسالة المباركة من حضيض الجاهلية التعبة إلى سمو التوحيد وطهارة الإيمان وسعادة الدارين، وقد قدر لهذه المسيرة أن تتكامل لتنشأ أمة متكاملة على يد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة المعصومين من آله، لكن إبعاد الأئمة(علیه السلام) عن موقع قيادة المجتمع أدى إلى عرقلة هذه المسيرة وبطئها من عدة جهات:

1.إن من العناصر المهمة في التربية هو القدوة والأسوة الحسنة على تعبير القرآن، لأنه يمثل التطبيق للأفكار التربوية، فإذا غاب القدوة أو كان القدوة منحرفاً فلا ينفع الكلام مهما كثر، ويبقى مجرد حبر على ورق، والقوم لم يكونوا يمثلون قدوة حسنة، ولم يستطيعوا عكس صورة نقية للسلوك الإسلامي، بل إنه على مرور الأيام كان النموذج المعروض مناقضاً تماماً لتعاليم الإسلام، فكيف نتوقع منه أن يربي الأمة ويقودها نحو التكامل؟ ففي حين يقرأ المسلم في أخلاق الإسلام (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) يجد في التعامل تفضيل

ص: 29


1- راجع كتاب السقيفة للشيخ المظفر: 26.
2- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
3- نفس المصدر.

العرب على غيرهم الذين يسمونهم الموالي، ويعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبينما يقرأ في القرآن {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) يجد الخلافة تتبع أهل بيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) تحت كل حجر ومدر قتلاً وتشريداً وسجناً، وبينما يقرأ حرمة شرب الخمر في القرآن يجد حاكم المسلمين يشربه على منابر المسلمين ويتقيأه في محرابهم.

2. فرص الانحراف الكثيرة التي توفرت للناس في ظل الخلافة المنحرفة، والنفس بطبيعتها ميالة للشهوات مع غياب الرادع الذي يحصّن الأمة من الانحراف وهم الذين عناهم الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104) وقد بدأت هذه النفوس الأمارة بالسوء تظهر في أيام الخلافة الأولى في وقت مبكر، وبدأت الدنيا تنمو في قلوبهم، وأصبحت هذه الامتيازات والمصالح واقعاً ثابتاً لا يرضون بتغييره، بحيث أن عبد الرحمن بن عوف الذي جُعل حكماً في أمر تعيين الخليفة من بين الستة أهل الشورى يشترط على علي(علیه السلام) أن يبايعه بشرط أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم) وسيرة الشيخين(1)، فما هي سيرة الشيخين التي يضمّها عبد الرحمن إلى كتاب الله وسنة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ إنها هذه الامتيازات الطبقية وهذه الدنيا المحضة التي وفرتها لهم الخلافة الأولى، بحيث أن عبد الرحمن هذا وأمثاله تركوا من الذهب ما يُكسّر بالفؤوس -- حسب ما ينقل التأريخ -- ولم يكن أمير المؤمنين(علیه السلام) ليوافق على هذا الشرط فيكون منه إمضاءً واعترافاً بهذه السيرة، لأن

ص: 30


1- بحار الأنوار: 31/ 399.

هذه السيرة إن كانت موافقة للكتاب والسنة فلا داعي لذكرها، وإن كانت مخالفة فارمِ بها عرض الجدار، فما الوجه لضمِّها إلى أصلَي التشريع.

3. الصورة المشوهة للشريعة التي كانت معروضة للأمة من خلال العلماء والرواة المتزلفين للخلفاء والطامعين بما في أيديهم، فكيف نتوقع من شخص لم يشاهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يطلع على مواقف علي(علیه السلام) مباشرة أن يوالي علياً ويتبعه، وهو يسمع صحابياً يروي أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إن الآية الشريفة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (البقرة: 204205) نزلت في علي بن أبي طالب.

فلا نتوقع من أغلب المسلمين في الأرض إلا أن يحملوا هذه الصورة المشوهة للإسلام، لأنهم لم يسمعوا غيرها، ولم يشاهدوا غيرها، فكان طبيعياً أن يعتقدوا جازمين أن هذا هو الإسلام.

ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية أن تغيّب الإمام الثاني عشر(علیه السلام) هذه المدة الطويلة إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور، كل ذلك لتستمر تربية الأمة مدة أطول، ولتمر بتجارب وابتلاءات وتمحيصات أكثر، حتى تصل إلى مستوى النضج والكمال المطلوب الذي يؤهلها لمواصلة مسيرة الكمال مع الإمام المهدي(علیه السلام)، بينما لو قدر لهذه الأمة أن تتربى في أحضان الأئمة المعصومين(علیه السلام) لوصلت إلى درجة الكمال قبل هذا التأريخ بكثير.

ص: 31

النتيجة الرابعة: تمزق الأمة وتشتتها وتفرقها شيعاً وأحزاباً {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:23).

وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الإمامة الحقيقية، لأن سر تشريع الإمامة هو تحصين الأمة من التمزق والانحراف، كما قالت الزهراء(س) في خطبتها الشهيرة بعد وفاة أبيها(صلی الله علیه و آله و سلم): (وَجَعَلَ إمَامَتَنَا نِظَاماً للمِلَّةِ)(1) أي تنتظم بها أمورهم وتستقر، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103) {ولا تَنَازَعوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46)، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هما الثقلان كتاب الله وعترة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) -- كما بينتُ في شكوى القرآن(2) --.

مضافاً إلى أن هذا الموقع بعد أن خرج عن مستقره وأبعد عنه أهله أصبح مطمعاً لكل حالم به، وشهوة التسلط أقوى الشهوات، وفيها استجابة للأنانية واستكبار النفس، فمن الطبيعي أيضاً أن تكثر الصراعات حول هذا المنصب، وتداس في خضم هذا الصراع كل القيم والأخلاق.

وتكفي وقفة تأمل واستطلاع بسيط للتأريخ لنقرأ بكل أسف وألم يفتت القلوب المآسي التي جرَّها التنازع على السلطان، والخسائر الفادحة في الأنفس والأعراض والأموال التي هدرت في هذا الصراع، فمن الذي يتحمل هذه المسؤولية؟ ومن الذي فتح هذا الباب على المسلمين؟ وماذا يجني من يحدث هذا الفتق في أمة الإسلام؟

ص: 32


1- البحار: ج6 باب 23 ص315.
2- راجع صفحة 91 من هذا المجلد.

وخير معبر عن هذه الآلام وهذه الخسائر أحد الأدعية الواردة في لعن أعداء آل محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) والبراءة منهم إلى أن يقول: (اللهم العنهم بعدد كل منكر آتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومؤمن أرجوه، ومنافق ولّوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيروه، وأثر أنكروه، وشر آثروه، ودم أراقوه، وخير بدلوه، وكفر نصبوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، ونفاق أسرّوه، وغدر أضمروه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وأمان خانوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام أحلوه، وبطن فتقوه، وجنين أسقطوه، وضلع دقوه، وصك مزقوه، وشمل بددوه، وعزيز أذلوه، وذليل أعزوه، وحق منعوه، وكذب دلسوه، وحكم قلبوه، اللهم العنهم بكل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروها، ورسوم منعوها، وأحكام عطلوها، وبيعة نكثوها، ودعوة أبطلوها، وبينةٍ أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة ارتقوها، وشهادات كتموها، ووصية صنعوها)(1).

ولو شئنا لذكرنا أمثلة وشواهد على كل فقرة، لكنها مما لا تخفى على المطلع على التأريخ، فأي قلب لا يذوب أسىً على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح؟!.

النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها:

واقتصاره على الطقوس التعبدية والشؤون الفردية فقط، فإن القوم وإن استطاعوا بالترغيب والترهيب أن يسلبوا السلطة الدنيوية من الإمام(علیه السلام)،

ص: 33


1- البحار: 82/ 261.

إلا إنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يسلبوا مكانته من القلوب وهيبته في النفوس، ورجوع الناس إليه في شؤونهم الدينية، هذا الانفصال الذي عبر عنه هارون الرشيد -- كما يسمونه -- لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للإمام الكاظم(علیه السلام) بما لا نظير له، فقال: (ويلك، هذا إمام القلوب وأنا إمام الأبدان)(1)، والإمام وإن سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية من أجل حفظ الإسلام وكيان المسلمين، إلا أنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال التنازل لهم عن الإمامة الدينية أو الاعتراف بهم وإمضاؤهم كممثلين لهذه السلطة، فإن في ذلك خيانة لله ولرسوله وللإسلام، على أن هذا الحق لا يتصور التنازل عنه، فإنه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل قدرة وقابلية على تلبية احتياجات الأمة، فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الأمة حاجتها وآمالها وطموحاتها عنده أصبح إماماً، وهكذا كان علي(علیه السلام) فما سمعنا انه احتاج إلى أحد في شيء، بل على العكس كانوا يرجعون إليهم في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم، حتى اشتهر قول الثاني: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(2)، ولذا استدل بعضهم على إمامة أمير المؤمنين(علیه السلام) باحتياج الناس إليه واستغنائه عن الناس(3).

وهذا الفصل بين السلطتين ترسخ وتعمق وانعكس على الدين نفسه، فأصبح مرتكزاً في الأذهان أن إدارة شؤون الحياة ليس من شؤون الإمامة الدينية، وأن دورها يقتصر على العبادات وبعض الأحكام الشخصية، والتقوا بذلك مع نظرة الجاهلية:

ص: 34


1- سيرة الأئمة الاثني عشر: القسم الثاني: ص390.
2- سيرة الأئمة الاثني عشر: القسم الأول: ص304.
3- نسب الاستدلال إلى الخليل الفراهيدي (رحمه الله) وروي عن الحارث بن المغيرة قال: (قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): بأي شيء يُعرف الإمام؟ قال بالسكينة والوقار،... وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه، ولا يحتاج إلى أحد) (بحار الأنوار: 25/ 156).

(ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهذا هو الشرك بعينه، فإن الملك كله لله وحده والحكم كله لله وحده، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم، أترى أن الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم أبسط التصرفات الحياتية، كالتخلي والنوم والاكل والجماع ووضعت لها أحكاماً وآداباً، فهل تغفل عن وضع أنظمة وقوانين تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك، إلا أنهم لا يذعنون لها لعدة أمور:

1. إن الشريعة لا تنسجم مع أهوائهم وأنانيتهم وحبهم للاستئثار بالفيء وسائر الامتيازات وتتعامل مع الجميع على حد سواء.

2. إن تحكيم الشريعة فيه إظهار لجهلهم وقصورهم وتقصيرهم، وهو ما تأباه نفوسهم الأمارة بالسوء.

3. إن ذلك أيضاً يعني احتياجهم للإمامة الدينية، وبالتالي يعني تفوق أولئك عليهم واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.

النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الأمة والخلافة:
اشارة

لأن الأمر لم يعد في نظر المتصدين أمر إصلاح وهداية وتكميل النفوس ونيل رضا الله تبارك وتعالى حتى تتعلق بهم الأمة وتهفو إليهم القلوب، بل زعامة وملك ومصالح واستئثار واستعلاء، وقد عبر عنه القوم من أول يوم وهم بعد في السقيفة فكان لسانهم: إنما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه أحد(1)، وكانت المسألة أوضح بالنسبة للأقوام الأخرى التي دخلت الإسلام، وقد أشعروهم بأن الخلافة ملك للعرب، فإذا كان ملكاً عضوضاً وهم المستفيدون منه فما الذي يشد سائر

ص: 35


1- سيرة الأئمة: القسم الأول ، السقيفة.

قطاعات الأمة إليهم؟ وما الذي يحثهم على الدفاع عنهم؟ وما هي العلقة التي تربطهم بهم؟ بل على العكس سادت روح الكراهية والحقد والانتقام كما حصل لأبي لؤلؤة الفارسي غلام المغيرة بن شعبة الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس والاستهزاء بهم، فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية(1).

بالمقابل كان هناك علي بن أبي طالب (عليه السلام):

وبالمقابل كان هناك علي(علیه السلام) وبنوه الذين ملكوا القلوب، فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم إبراهيم {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}(2) والذي لم تستطع الخلافة بكل جبروتها أن تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك واضحة في أذهانكم عندما عجز عن الوصول إلى الحجر لازدحام الناس، فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام، وما أن قدم الإمام السجاد(علیه السلام) حتى انفرج عنه الناس سماطين، فمشى بكل وقار وهيبة حتى وصل إلى الحجر الأسود، وهشام ينظر(3).

ص: 36


1- تأريخ الطبري المجلد الثالث الجزء الخامس.
2- إبراهيم: 37.
3- رواها السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فطاف حول البيت وحاول أن يلمس الحجر الأسود فلم يجد لذلك سبيلاً من كثرة الزحام.. وفي ما هو ينظر إلى الناس إذ أقبل الإمام زين العابدين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرَجاً.. فانفرج له الناس عنه ووقفوا له إجلالاً وتعظيماً حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس وُقّفٌ ينظرون إليه وكأنما على رؤوسهم الطير فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم، هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام يعبث فيها الحقد والحسد.، وفي هذه الحادثة ارتجل الشاعر الفرزدق أبياته المشهورة والتي مطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفهُ والحِ-لُّ والحرمً هذا ابن خيرِ عادِ اللهِ كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) رغم تواضعه بين أصحابه حتى كأنه أحدهم إلا أن له هيبة عظيمة في نفوسهم كما وصفه ضرار بن ضمرة لمعاوية(1).

وذاب أصحابهم في حبهم قربة إلى الله تعالى ووفاء لجدهم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وعرفاناً لحقهم عليهم، وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الأبدان، فهذا ميثم بن يحيى التمار تقطع يداه ورجلاه ويصلب على جذع نخلة، فيطلب من الناس الاجتماع حتى يحدثهم بفضائل أمير المؤمنين(علیه السلام)، فلم يمهله الفسقة حتى قطعوا لسانه(2)، وهذا حجر بن عدي يؤخذ مقيداً إلى الشام ويحفر

ص: 37


1- نقل الرواة عن ضرار بن ضمرة أنه دخل على معاوية يوماً فقال له يا ضرار صف لي علياً، فقال له: اعفني يا معاوية، فقال له: لا أعفيك، فقال له ضرار: أما إذا كان ولا بد من ذلك، فقد كان والله بعيد المدى شديد القوى … إلى أن قال … ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلمه هيبة له ولا نبتدئه لعظمه في نفوسنا …
2- إن عبيد الله بن زياد قال لميثم التمار بعد أن قبض عليه: تبرأ من علي بن أبي طالب، فقال له: فإن أنا لم افعل؟ قال: إذن والله لأقتلك، قال: لقد أخبرني مولاي أنك ستقتلني مع تسعة أخر على باب عمرو بن حريث، قال ابن زياد: لنخالفنه كي يظهر كذبه، قال ميثم: كيف تخالفه، فوالله ما أخبر إلا عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟ ولقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه وأين هو من الكوفة وأنا أول خلق الله أُلجم في الإسلام، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول إني مجاورك، فأمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل أهل البيت(علیه السلام) ومثالب بني أمية وما سيصيبهم من القتل والانقراض، فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجموه كي لا يتكلم فجاءه في اليوم الثالث لعين بيده حربتين وهو يقول: أما والله لقد كنت ما علمتك إلا قوّاماً صوّاماً، ثم طعنه في خاصرته فأجافه (أي حصل جوف في خاصرته من الطعنة) ثم انبعث منخراه دماً في آخر النهار فخضب لحيته بالدماء واستشهد قبل قدوم الإمام الحسين(علیه السلام) إلى العراق بعشرة أيام.

له القبر ويفرش له النطع ويؤمر بسب أمير المؤمنين وإلا فالقتل ومعه ابنه، فيختار ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)، ويقدم ابنه ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى ولئلا يعظم على الابن قتل أبيه فيتراجع، ثم قدم فقتل صابراً محتسباً(1).

وهذا عمار بن ياسر يقاتل في صفين على كبر سنه ويقول: (والله لو ضربونا بأسيافهم حتى أبلغونا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل)(2).

وأصحاب الحسين(علیه السلام)، وما أدراك ما أصحاب الحسين(علیه السلام)، الذين لم ير لهم نظير في الولاء والصدق والإخلاص والتضحية، يقدم أحدهم على الموت وهو مبتسم، فيقال له: ما عهدناك هازلاً قبل اليوم؛ قال: وكيف لا أبتسم وما بيني وبين معانقة الحور العين إلا أن يميل عليَّ هؤلاء بأسيافهم فألتحق بالأحبة محمد وصحبه(3).

النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الإنسانية.
اشارة

بحيث احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لكي نصنع الطائرة والكومبيوتر ونغزو الفضاء، وكان يمكن لهذه الأمور وغيرها مما لم يصل إليه العقل الإنساني إلى الآن أن

ص: 38


1- حجر بن عدي الكندي الكوفي من أصحاب أمير المؤمنين ومن الإبدال كان أميراً على بني كنده من قبل أمير المؤمنين(علیه السلام) في معركة صفين وكان أمير الجيش يوم النهروان، وقد استشهد حجر وجمع من أصحابه بسعاية زياد بن أبيه وبحكم معاوية بن أبي سفيان سنة إحدى وخمسين للهجرة.
2- تقدمت ترجمته وأسرته، سيرة الأئمة: القسم الأول ص474.
3- برير بن خضير الهمداني كان زاهداً عابداً سيد القراء ومن أشراف الكوفة. منتهى الآمال: ج1/ ليلة العاشر من محرم. ونفس الموقف لحبيب بن مظاهر رحمة الله عليه.

تتحقق قبل مدة طويلة، لأن اليد الإلهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية بفضل ما بثه الأنبياء والأئمة(علیه السلام) من علوم، أو من خلال الإلهام والإيحاء، ولولا الرعاية الإلهية لما استطاع الإنسان أن يهتدي إلى أبسط الأمور، حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه، حتى بعث الله له غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه(1).

وإن القرآن الكريم ليضم أسرار ومفاتيح العلوم كلها فيه {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89)، فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن:33)، وهو سلطان العلم والتكنولوجيا، كل هذه الأسرار ومفاتيح العلوم كانت عند أمير المؤمنين(علیه السلام) علّمه إياه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (علمني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ألف باب من العلم، ينفتح لي من كل باب ألف باب من العلم)(2).

وإن شئت الاطلاع على ما كان يمكن أن يقدمه علي وبنوه(علیه السلام) ليقدموا ركب الحضارة الإنسانية وليوفروا لها السعادة والحياة الطيبة فراجع عدة كتب ألفت في هذا المجال، ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات وقوانين احتمالية أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الحقيقة، بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه، يراها بالبصيرة والوجدان رأي العين، فحفر الكثير من الآبار والعيون وأوقفها للمسلمين في وقت كان الآخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء، فأين

ص: 39


1- إشارة إلى قصة ابني آدم(علیه السلام) هابيل وقابيل، وذلك عندما قتل قابيل هابيل ولم يكن يعرف عملية الدفن لولا أن بعث الله غراباً يبحث في الأرض فعرف قابيل ذلك، في الآيات من سورة المائدة: 27 – 31.
2- منتهى الآمال: ج1 في علم أمير المؤمنين(علیه السلام).

علم الجيولوجيا من هذه المعرفة الدقيقة بطبقات الأرض وما تحتها من كنوز ومعادن، وكان يقول: (لو شئت لاتخذت لكم من هذا الماء نوراً) يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير في مختلف حقول العلم والمعرفة، ثم جاء أولاده من بعده ليبثوا ما تسمح به الحال من علوم الكيمياء والرياضيات والفلك والفيزياء والنبات والحيوان وغيرها.

فإن قلت: إذن ما الذي حبسهم عن إعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية، وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والإمامة وعدمها؟.

قلت: إن التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي من خلال البناء الصحيح للعقيدة، ولا بد أن يتقدّما معاً، وإن الأول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار، كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون أنفسهم بالقوى العظمى والدول الكبرى، ولما كانت البشرية قد تخلفت وتدنت في الجانب الثاني وهو العقائدي والأخلاقي فلا يمكن إعطاؤها من الجانب الأول إلا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها، هكذا اقتضت الإرادة الإلهية أن يلهم الإنسان بعض الأفكار التي طورت حضارة البشر ودلته على اكتشافات وحقائق علمية مهمة في أوقاتها المناسبة، وبالشكل الذي يحفظ توازن المجتمع الإنساني {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الإلهية لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء، فلا يغتر الإنسان ويظن أنه هو الذي يحقق ذلك، بل هو من إلهام الله تبارك وتعالى وإيحائه، وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك، ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.

ص: 40

لماذا نحتفل بعيد الغدير؟

هذه بعض النتائج التي أفرزها عدم التزام الأمة بحديث الغدير، وإذا كانت الأمور تعرف بأضدادها كما قالوا، فيمكن أن نعرف سمو المعاني والآثار التي نالها الملتزمون بولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)، فحق لهم أن يحتفلوا بهذا العيد الأغرّ أعظم عيد في الإسلام، سئل الإمام الصادق(علیه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: نعم، أعظمها حرمة، قال الراوي: وأي عيد هو؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقال: من كنت من مولاه فعلي مولاه)(1). وفي حديث أبي نصر عن الرضا (صلوات الله عليه) قال: (يا ابن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإن الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، ولدرهمٌ فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، وأفضل على إخوانك في هذا اليوم، وسرَّ فيه كل مؤمن ومؤمنة، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات)(2).

لنأخذ الدرس في فهم أشكال المرجعية الدينية:

ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها، وإن كان هذا في نفسه نفيساً، إلا أنه مما لا يقل عنه أهمية أخذ الدروس والعبر منه، وهنا تكمن روح العلم والمعرفة، فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة لا قيمة له.

ص: 41


1- بحار الأنوار: 37/ 169.
2- بحار الأنوار: 94/ 119.

ونحن إذا توسعنا في فهم هذا الموضوع فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة إصلاحية تعمل على هداية الناس وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة وهي لها شكلان:

الأول: المرجعية الفردية التي يقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي من دون العمل على تطبيقه ودفع المجتمع إلى امتثاله، والأمر راجع إلى المكلف إن شاء طبق أو لا، ولا تتدخل إلا في حدود الشؤون الفردية وما يبرئ ذمم المكلفين كأفراد، وهو عمل ليس بالهين، وقد قاموا بجهود مضنية حفظت لنا فقه آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا، لانحسار دورها عن الإمامة الاجتماعية أصلاً.

الثاني: المرجعية الاجتماعية التي لا تكتفي بمستوى النظرية، أي مجرد التقنين والتشريع، وإنما تعمل على تهيئة كل الفرص واتخاذ مختلف الأساليب لإقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم، وإذا لم تنفع وسيلة جربت أخرى، وقد شبهت الأولى بالأمّ التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وقد لا يعرف مصلحته فيموت جوعاً. والثانية تشبه الأمّ التي لا تكتفي بإعداد الطعام، بل تطيبه وتعمل كل المرغبات والمحفزات لولدها كي يأكل ويحفظ حياته ويستعيد عافيته، ولا شك أن الثانية أرحم وأرأف وأكرم وأصبر من الأولى، أو قل إنها أكثر اتصافاً بالأسماء الحسنى التي ورد الحث على التخلّق بها.

المرجعية الحركية هي الأجدر:

وهذه المرجعية الثانية هي الأكثر التصاقاً بالناس وأعمق تأثيراً فيهم والأكثر تعلقاً بهم، وهي الأجدر بتمثيل دور المعصومين(علیه السلام)، فلا غرو أن تكون

ص: 42

عرضة لطمع المتنافسين، فإذا تصدى لها غير المؤهل لها وصنع (سقيفة) ثانية لإبعاد مستحقيها، ترتبت كل أو بعض الآثار التي ذكرناها، ولا بدَّ أن نستفيد من تلك التجربة لنكون واعين وحذرين من تكرارها.

وقد ذكرنا في محاضرتين(1) بمناسبة عيد الغدير عام 1421 -- وطبعت كمقدمة لكتاب أصل الشيعة وأصولها للشيخ كاشف الغطاء -- الأشكال الثلاثة التي خطط بها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) للخليفة من بعده، وكيفية تأسي المرجعية به(صلی الله علیه و آله و سلم) في هذا المجال، ومسؤولية الأمة في صيانة هذا الموقع الشريف والتمسك بأهله، فيكون هذا البحث مكملاً له، ومما ذكرنا هناك أن لهذا الموقع شروطاً صنفتها إلى ثابتة ومتحركة، والأولى هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية، أما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية.

ص: 43


1- المحاضرتان بعنوان (كيف خطط رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) للخلافة من بعده. أنظر خطاب المرحلة: ج1 ص183.

إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة

اشارة

إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة(1)

الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

منزلة علي (عليه السلام):

لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) منزلة عند الله تبارك وتعالى ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) لا يعرفها إلا الله تعالى ورسوله، كما ورد في الحديث الشريف عن سول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا)(2). ونختصرها بأنه نفس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بنص القرآن الكريم في آية المباهلة: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (آل عمران: 61)، فبمَ بلغ علي(علیه السلام) هذه المنزلة؟ وأي طالب للكمال لا يريد أن يعرف كيف أصبح علي(علیه السلام) بهذه المنزلة ليتأسى به ويقتفي آثاره.

لا يحق لنا أن نجيب لأننا لا نعرف علياً(علیه السلام) حق معرفته، ولولا أن الجواب جاءنا عن أهل بيت العصمة(علیه السلام) لما أجبنا، فقد روى الكليني

ص: 44


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1430 المصادف 21/ 9/ 2009، وأصلها كلمة تحدث بها سماحته إلى حشد من الزوار ليلة استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 21 رمضان 1430.
2- مستدرك سفينة البحار: ج7 ص182.

(رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرؤك السلام، قال: وعليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فالزمه، فإن علياً(علیه السلام) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة)(1).

تعاليم السلوك الى الله تعالى:

وهذا جزء من برنامج عملي ومنهج للتكامل وضعه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لتربية أمير المؤمنين(علیه السلام) وصناعته {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي} (طه: 39) ومن أهل البيت(علیه السلام) تؤخذ وسائل التكامل وليس من أدعياء السلوك والمعرفة الذين يبتدعون مناهج وبرامج لا وجود لها في سنة أهل البيت(علیه السلام)، وهذه الوصفة الإلهية التي قدّمها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) رويت بسند صحيح في أصول الشيعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وكتاب المحاسن للبرقي عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لعلي(علیه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة الأخذ بسنتي في

ص: 45


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.

صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، وعليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)(1).

معنى الأمانة ومصاديقها:

ونعود إلى الحديث الذي بدأنا به وأن علياً(علیه السلام) بلغ ما بلغ بالصدق وأداء الأمانة، وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال(علیه السلام): (ألا وأنكم لا تقدرون على أن تصيروا مثلي) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

ص: 46


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 4، ح2.

أمانة العهد والميثاق:

وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172).

ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة)(1).

تخلقوا بأخلاق الله:

تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وورد في الحديث الشريف (تخلقوا بأخلاق الله) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة

ص: 47


1- البحار: ج6 ص97.

كقوله(علیه السلام) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)(1)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.

وبأداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين(علیه السلام) من خطبة له: (ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السماوات المبنية والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان {إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً})(2).

وقد تمثلت في رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(علیه السلام) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت(علیه السلام) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه(3) وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهم كمخلوقين، فأدى أمير المؤمنين(علیه السلام) هذه الأمانة خير أداء.

ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

ص: 48


1- مفاتيح الجنان: ص215.
2- نهج البلاغة من الخطبة (199).
3- أنظر الكافي: ج1 ص330، باب ما أعطي الأئمة(علیه السلام) من اسم الله الأعظم.

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين(علیه السلام) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية، فعن جابر عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: قلت له: لم سمي أمير المؤمنين؟ قال: الله سماه وهكذا أنزل في كتابه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين)(1).

نفسك التي بين جنبيك:

ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين(علیه السلام): (عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم: فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمة، أو سعادة دائمة! فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد وأمرتم بالظعن وحُثثتم على المسير)(2)، فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين(علیه السلام): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها)(3).

وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما تشتهيه

ص: 49


1- الكافي: ج1 ص412.
2- نهج البلاغة، الخطبة (157).
3- مفاتيح الجنان: ص87.

وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين(علیه السلام) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها)(1) ويقول(علیه السلام): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)(2)، وقال(علیه السلام): (وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)(3) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق(علیه السلام) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال(علیه السلام): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا

ص: 50


1- مفاتيح الجنان: المناجاة الشعبانية: ص192.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.
3- المصدر السابق، نفس الموضع.

يسمع منا)(1).

الجسد من مصاديق الأمانة:

ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد(علیه السلام): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك)(2).

فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون(علیه السلام) عن بيانه وهم كجدهم(صلی الله علیه و آله و سلم) {بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين(علیه السلام) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ منه {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59).

ص: 51


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.
2- مفاتيح الجنان: ص153.

ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، قال أمير المؤمنين(علیه السلام): (أريحوا أجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)، وكان(علیه السلام) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراً على الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين(علیه السلام) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين(علیه السلام) وغذائه: (لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي(علیه السلام) إلى آخر الدهر) ويجيب(علیه السلام) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال(علیه السلام): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)(1)، ويقول(علیه السلام): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)(2).

ص: 52


1- نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، نفس الموضع.

أداء الأمانة:

وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ(1)، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء: 21) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)(2) (ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم)(3) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلى الأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.

والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإن بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى(علیه السلام) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى(علیه السلام) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره)(4).

ص: 53


1- الكافي: ج5 ص501.
2- الوسائل: ج20 ص117.
3- كنز العمال: ج16 ص371.
4- البحار: ج2 ص40.

أمانة الموقع السياسي والاجتماعي:

والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين(علیه السلام) لرسوخ معنى الغنيمة و (تقاسم الكعكة) -- بمصطلح الحكام والسلطات -- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول(علیه السلام): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)(1).

ويعلّم(علیه السلام) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)(2).

وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم ينقل التأريخ خيانة بعض عمال أمير المؤمنين(علیه السلام) إلا من خلال كشفه(علیه السلام) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك قليل الوفر

ص: 54


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 5.
2- المصدر، العدد 53.

ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)(1).

وكتب(علیه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت -- فيما رُقِّيَ إليّ عنك -- لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا، والسلام)(2).

معيار المؤمن:

أيها الأحبة:

هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق(علیه السلام): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة)(3).

الخيانة قبال الأمانة:

وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل

ص: 55


1- المصدر، العدد 20.
2- المصدر، العدد 71.
3- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.

كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر(علیه السلام) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل)(1).

وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق(علیه السلام): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(2)، وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)(3).

وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

ومما كتب أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال(علیه السلام): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل.

ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)(4).

ص: 56


1- تفسير نور الثقلين:2/ 144.
2- بحار الأنوار: 72/ 177.
3- غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.
4- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد 26.

حاجة البشرية إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام): صوت العدالة الإنسانية

اشارة

حاجة البشرية إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام): صوت العدالة الإنسانية(1)

فكرة صراع الحضارات:

تبلورت فكرة (صراع الحضارات) لدى الحكومات الغربية المستكبرة منذ اضمحلال الاتحاد السوفيتي وظهور علامات التفكك فيه باعتباره القوة المقابلة لهم، ولما كانت إيديولوجيتهم مبتنية على وجود أو إيجاد عدو حقيقي أو وهمي لإقناع شعوبهم بسياساتهم العدوانية والمخالفة لأبسط حقوق الإنسان واستمرارهم في ابتلاع خيرات الشعوب والتمدد والإثراء على حساب حرمان الآخرين والتي تبدو مبررة ظاهراً لمواجهة هذا العدو المفتعل فتنساق أممهم وراءهم وتنخدع بأباطيلهم.

اختراع العدو:

وكانت الجهة الجديدة التي أوهموا شعوبهم أنه عدوهم هو الإسلام، فضخموا من خطورته وبالغوا في التحذير منه ووجوب مواجهته، وتنفخ في ذلك كله الصهيونية العالمية التي لا تريد للعالمين المسيحي والإسلامي أن يقتربا؛ لأن في ذلك تهديداً لوجودهم، فكان همهم في خلق العداوة بينهم لتفريقهم عن بعضهم ولأنهم

ص: 57


1- مقدمة كتبها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي لكتاب (علي بن أبي طالب: صوت العدالة الإنسانية) لمؤلفه (جورج جرداق) والمعاد طبعه حديثاً باللغة الإنكليزية. والكلمة مؤرخة بتاريخ: 23 ذ.ق 1422 المصادف 16/ 1/ 2004.

الوحيدون الذين يكنون عداوة ذاتية متأصلة للإسلام والمسلمين، وإلا فإنه لا توجد عداوة ولا منافرة ذاتية بين المسلمين والمسيحيين أي بما هم مسلمون ومسيحيون كما أخبر الله تبارك وتعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة:82).

بوادر الوعي:

ولكن مما يؤسف له غفلة كلا الطائفتين عن هذه الحقيقة فضاعوا في النزاعات، ولكنني أرى بوادر الوعي لدى العالمين الإسلامي والمسيحي لهذه المؤامرة الصهيونية فأدركا معاً أن تقارب الحضارتين ممكن والالتقاء قريب، وأن هذا الصراع لا مسوغ له وتوجد دلائل على هذا الوعي كنتائج استطلاع الرأي الأوربي الأخير الذي كشف عن أن أكثرهم أجاب بأن الكيان الصهيوني هو مصدر القلق والإرهاب الأول في العالم، مضافاً إلى تصويت أكثر من ولاية في بلجيكا وكندا لمصلحة قطع العلاقات مع هذا الكيان.

العولمة:

وقد حاول المستكبرون فرض هيمنتهم على العالم وبالذات على الشرق المسلم لما يتمتع به من خيرات هائلة ومواقع ستراتيجية تمثل عصباً أساسياً لمصالحهم وقد جعلوا لذلك مصطلح العولمة الذي يريدون به جعل العالم كله يفكر ويسير ويتحرك ويعيش كما يريدون هم، وهو منطق المستكبرين دائماً كما ينقل القرآن الكريم عن فرعون {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} (غافر:29) {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51) وليس لأحد أن يخالفهم ويخرج

ص: 58

عن دائرة نفوذهم ومصالحهم وإلا فالويل كل الويل له، ووظفوا لذلك آلة عسكرية ضخمة تطال أي متمرد عنهم، ومؤسسات اقتصادية تبتلع أي بلد وتغرقه في ديون وتضخمات لا ينجوا منها ليبقى يدور في فلكهم ولا تكون إرادته مستقلة عن إرادتهم، وسوقوا إلينا ثقافتهم الهزيلة وصنعوا لها رموزاً تافهة لنقتدي بها ونتأثر بها فكراً وسلوكاً ونظاماً، بعد أن صنعوا لأنفسهم هالة من الإعجاب والانبهار لتفوقهم العلمي والتكنولوجي، فحاولوا أن يكون هذا منطلقاً للتبعية الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، ويجردونا عما نمتلك من قوة في هذه الجوانب يحسدوننا عليها ولا يرضون منا إلا بتركها.

مسؤولية الفكر:

من هنا وجب على مفكرينا عدة خطوات:

1. انفتاح الحضارتين على بعضهما والتعرف على حقيقة كل منهما من حيث المقومات والأهداف والآليات وغيرها فإنها خطوة كبيرة ومقدمة مهمة للالتقاء(1).

2. عرض النماذج الكاملة من رموزنا ودراسة سيرتهم وتحليلها وبيان نقاط العظمة فيها وهم كثر بفضل الله تبارك وتعالى، وأولهم أكمل الخلق جميعاً محمد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب اخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ونفسه، والأئمة الطاهرون وأصحابهم البررة؛ لأن من طبع

ص: 59


1- راجع كتاب (المعادل الموضوعي) وهو الحلقة الثانية من سلسلة (نحن والغرب).

الناس التأثر بالرموز الكبيرة الشهيرة والاقتداء بها، وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية هذا الأسلوب في التربية وهو الاقتداء بالنماذج الكاملة قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب:21) فإذا لم نوفر للناس مثل هذه الأسوة فإنهم سينساقون وراء قدوات تافهة كالرياضيين والفنانين ونحوهم.

3. أن نجيد لغة الخطاب والحوار مع الطرف الآخر، ونفهم المداخل المناسبة لعقله وقلبه ونفسه، فلا يناسب أن اشرح للأوربي الغارق في الماديات بان سبب ثورة الإمام الحسين(علیه السلام) على يزيد بأنه كان يشرب الخمر وينكح المحارم ويضرب بالطنبور ومثل الحسين(علیه السلام) لا يبايع مثله؛ لأن المخاطب لا يرى في ذلك أي مشكلة؛ لأنه يرى أن غايته في الحياة هو التمتع بهذه الأمور: الجنس والخمر والموسيقى فلا يوجد مبرر لخروج الحسين(علیه السلام)، لكن إذا عرضت يزيد كقاتل للنفس المحترمة بغير حق، ومصادر للحريات ويسرق الأموال العامة لينفقها على ملذاته الشخصية، ويثري بغير حق، وتسلَّط بالقهر على رقاب الأمة من دون الرجوع إلى الشعب وممثليه، فسيكون المبرر للثورة عليه واضحاً ومثيراً للإعجاب.

هذه الأفكار التي عرضتها جمعها الأستاذ جورج جرداق في كتابه (صوت العدالة الإنسانية)، فهو مسيحي تعرف على عظيم من عظماء الإسلام، صنعته يد

ص: 60

الرسالة فكان معجزتها كالقرآن لذا كان (القرآن مع علي وعلي مع القرآن)، وعاش في ظلال شخصيته المباركة واستلهم منها الكثير وقدمه لنا ببيان رشيق وفكر ينسجم مع ذوق الجيل وأفكاره، رغم أنه كتب قبل ما يقرب من خمسين عاماً (1956) فتحدث فيه عن حقوق الإنسان كالحرية والعدالة والثورة ضد الظالم والعبقرية والجمال والمبادئ، وقدمه لنا بدراسة تحليلية خرجت عن المألوف في تراجم الرجال وسيرهم نموذجاً صالحاً لتتأسى به البشرية وتستضيء بنوره حتى تتحقق إنسانيتها الكاملة وتسود العدالة ويسعد الناس وما ذلك على الله ببعيد.

ص: 61

قبس من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)

اشارة

قبس من سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

علي (عليه السلام) نفس رسول الله (صل الله عليه وآله):

أحاول أن أعرض اليوم باختصار بعض الدروس التي يمكن أن نستفيدها من حياة أمير المؤمنين(علیه السلام) وسيرته، فإن لنا فيه كما في ابن عمه وأخيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أسوة حسنة؛ لأنه نفس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بنص آية المباهلة {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} (آل عمران:61)، ولم يكن معه بعد النساء والأبناء إلا علي بن أبي طالب، وقد سُئِلَ محمد بن عائشة عن أفضل أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال: فلان، فقيل له: ثم؟ قال فلان، فقيل له: ثم؟ قال فلان، فقيل له: ثم؟ قال: الناس بعد ذلك سواسية. فقيل له: لم تذكر علياً(علیه السلام)؟ فقال: يا هذا تسألني

عن أصحاب رسول الله أو عن نفسه؟ قال: بل عن أصحابه. فقال: (ان عليا نفس رسول الله) إن الله تعالى يقول: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} (آل عمران61) فكيف يكون أصحابه مثل نفسه؟!)(2).

فإذا كان(علیه السلام) نفس رسول الله وقد أمرنا بالتأسي بسنته {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ

ص: 62


1- ألقيت على طلبة الحوزة الشريفة بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين(علیه السلام) في 13 رجب 1421ه- الموافق 12/ 10/ 2000 م.
2- انظر: البيهقي في المحاسن والمساوئ: محاسن علي(علیه السلام): ص42

كَثِيراً} (الأحزاب:21) فيكون الأمر شاملا لسنة أمير المؤمنين(علیه السلام) وسيرته.

درس المعرفة الإلهية:

وأول درس نستفيده هو المعرفة التامة بالله سبحانه؛ فإن المعرفة بالله هي غاية الغايات وهي منتهى الآمال، وقد قال له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت)(1). ويقول أمير المؤمنين(علیه السلام): (لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقيناً)(2). ويقول(علیه السلام): (أول الدين معرفته)(3)؛ لذا كانت عبادته(علیه السلام) لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، وإنما وجد الله سبحانه أهلاً للعبادة فعبده. ومن كلماته(علیه السلام): (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب)(4) هكذا كانت علاقته(علیه السلام) مع ربه.

وقد كانت هذه العلاقة هي محور حياته، فلا يقول قولاً ولا يفعل فعلاً ولا يتقدم ولا يتأخر إلا في حدود وظائف العبودية وحقوق الربوبية، وتنسب إليه كلمة (ما رَأَيتُ شَيئاً إِلاّ ورَأَيتَ اللهَ فيهِ أو قَبلَهُ أو مَعَهُ)(5)، يريد ناقلها أن يقول إن ابن أبي طالب(علیه السلام) كان يعيش في رحاب الله، وإنه لم يغفل عنه ولا لحظة، ويرى الله في كل شيء، وهو معنى صحيح لكنه لم يبين سموّ مرتبته(علیه السلام)، وهو لم يكن يرى غير الله سبحانه في كل شيء في هذا الوجود، وما

ص: 63


1- مناقب آل أبي طالب: 3 / 267 ، وإرشاد القلوب: 2 / 209.
2- مناقب آل أبي طالب: 1 / 317.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 1
4- البحار: ج74 ص400.
5- شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: 189، الأسفار الأربعة: 1/ 117 نحوه.

هذه الأشياء التي حوله إلا مرآة عاكسة للحق تبارك وتعالى، وهي فانية فيه لم يكن يلحظها(علیه السلام) وإنما يلحظ صورة الحق التي تتجلى فيها.

تهذيب النفس:

هكذا كان(علیه السلام) في ذكر دائم لله وحياة مستمرة في رحاب الله سبحانه وحركة دؤوبة لنيل رضاه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية أن ينام ويأكل وينكح مما يعدّه تقصيراً في وظائف العبودية الكاملة فإنه كان يستغفر لذلك أشد الاستغفار، ويبكي أشد البكاء، رغم أن هذه الأمور غير اختيارية.

وعنه(علیه السلام) انه قال: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة فان الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيها رضا ربي)(1). فهو(علیه السلام) ما خُيّر بين أمرين لله فيهما رضا إلا اختار أشدَّهما على نفسه، لأنه يريد أن يقدم كل شيء قربة إلى الله سبحانه، وأهم شيء يملكه الإنسان هي نفسه، فأمات نفسه بمعنى أنه ضحّى بغرائزه وبميوله وبنزعاته في سبيل نيل رضا الله.

المعية الإلهية في أحرج الظروف:

في معركة الخندق حيث نازل عمرو بن عبد ودٍّ فارس قريش وبطلها ثارت بينهما غبرة، فلما انجلت رأى المسلمون علياً على صدر عمرٍو يريد أن يحتزّ رأسه، لكنه قام عنه ثم عاد إليه وذبحه، فسُئله رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن ذلك، فقال: (قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثم قتلته في الله)(2).

ص: 64


1- البحار:ج80 ص362.
2- مستدرك الوسائل: ج18 ص28.

هكذا كان علي(علیه السلام) لم يغفل عن الله سبحانه حتى في أحرج اللحظات وأحلك الظروف. ولمعرفته الكاملة بالله سبحانه كان إذا وقف بين يديه ترتعد فرائصه وربما خرّ مغشياً عليه.

عن أبو الدرداء قال: شهدت علي بن أبي طالب(علیه السلام) ... وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه... فافتقدته وبعد علي مكانه ، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: إلهي، كم من موبقة حملت عني فقابلتها(1) بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك.

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب(علیه السلام) بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله أن قال: إلهي، أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي. ثم قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملا إذا أذن فيه بالنداء. ثم قال: آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى... قال: ثم أنعم(2) في البكاء، فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر. قال أبو الدرداء فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك وزويته(3) فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي ابن أبي طالب. قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة(س): يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟

ص: 65


1- في نسخة: حلمت عن مقابلتها، وهما بمعنى واحد، يقال حمل عنه: أي حلم وصفح وستر.
2- أي أطال وزاد، وفي نسخة: انغمر.
3- زوى الشيء: جمعة وقبضه.

فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله -- يا أبا الدرداء -- الغشية التي تأخذه من خشية الله... فقال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وكان(علیه السلام) كثير العبادة يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة(2)، بحيث أن الإمام علي بن الحسين(علیه السلام) الذي لقّب بالسجّاد وزين العابدين لكثرة عبادته وطول سجوده كان ينظر في صحيفة فيها ذكر لعبادة جده أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإذا تأمل بها أطال النظر ثم رماها ولم يتحمل ما فيها وهو يقول: أين عبادتي من عبادة جدي أمير المؤمنين(علیه السلام)(3).

في معركة صفين وفي ليلة الهرير التي وصفت بأنها لا يسمع فيها إلا صوت الحديد على الحديد كأصوات الرعد في السماء، وإذا هو قائم(علیه السلام) يصلي(4)، وقال له ابن عباس في صفين: (يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ حيث كان(علیه السلام) يراقب الشمس، فقال له: أنظر الى الزوال حتى نصلي، فقال له ابن عباس: هل هذا وقت الصلاة؟! إن عندنا لشغلاً عن الصلاة! فقال له(علیه السلام): فعلى ما نقاتلهم؟! إنما نقاتلهم على الصلاة!)(5).

التراث العلوي:

ويكفيك أن تقوم برحلة بين دعاء الصباح والمناجاة الشعبانية ودعاء كميل، وتسرح نظرك في نهج البلاغة لتخرج بحصيلة وافرة من المعرفة بالله سبحانه:

ص: 66


1- أمالي الصدوق: ص136.
2- انظر حلية الأبرار: ج2 ص173.
3- انظر: البحار: 63 ص320.
4- انظر: البحار: ج41 ص17.
5- ارشاد القلوب: ص217، والبحار: ج83 ص23.

(فَلَئِنْ صَيَّرْتَنى لِلْعُقُوباتِ مَعَ أَعْدائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ أهل بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ أَحِبّائِكَ وَأَوْليائِكَ، فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ)(1).

(لا إِلهَ إلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ اللّ-هُمَّ وَبِحَمْدِكَ، مَنْ ذا يَعْرِفُ قَدْرَكَ فَلا يَخافُكَ، وَمَن ذا يَعْلَمُ ما أَنْتَ فَلا يَهابُكَ)(2).

(إِلهي إِنْ حَرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْزُقُني، وَإِنْ خَذَلْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُني... إِلهي إِنْ أَخَذْتَني بِجُرْمي أَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَإِنْ أَخَذْتَني بِذُنُوبي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وَإِنْ أَدْخَلْتَني النّارَ أَعْلَمْتُ أَهْلَها أَنّي أُحِبُّكَ، إِلهي إِنْ كانَ صَغُرَ في جَنْبِ طاعَتِكَ عَمَلي، فَقَدْ كَبُرَ في جَنْبِ رَجائِكَ أَمَلي)(3).

من ملامح شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام):

لقد رسمت هذه المعرفة المتكاملة بالله سبحانه فلسفته في الحياة، وحددّت ملامح شخصيته والتي منها:

1. الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بزخارفها؛ لأنه يعلم أنها فانية ولا تستحق شيئاً بإزاء ما أعدّ الله سبحانه في دار الكرامة لمن أعرض عنها، وفي الحديث (لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)(4)، وكان هذا الإعراض عن الدنيا شرطاً لتشريفهم بهذا المقام الرفيع، ففي دعاء الندبة: (إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزيلَ ما عِنْدَكَ مِنَ النَّعيمِ الْمُقيمِ الَّذي لا زَوالَ لَهُ وَلاَ اضْمِحْلالَ، بَعْدَ أَنْ

ص: 67


1- مفاتيح الجنان: ص92
2- السابق: ص88.
3- السابق: ص193.
4- بحار الأنوار:43/ 20.

شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِها وَزِبْرِجِها، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَالثَّناءَ الْجَلِيَ، وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّريعَةَ إِلَيْكَ وَالْوَسيلَةَ إلى رِضْوانِكَ)(1).

يخاطب الدنيا (يا دنيا غرّي غيري، طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك)(2)، يدخل بيت المال فيوزع كل ما فيه ويصلي فيه ركعتين، ويخرج ويقول ما مضمونه: والله ما كنزت من دنياكم، ولا أعددّت لبالي ثوبي طمراً(3)، ولو خرجت منكم بغير الرداء الذي جئتكم به من المدينة لكنت خائناً. رقّع مدرعته حتى استحيا من راقعها(4)، وكيف يغتر بالدنيا وترنوا عينه إليها أو يطمع في شيء من حطامها وبين يديه قوله تعال: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف:3335) بل إن ابن أبي طالب لا يرضى بالآخرة ثمناً. يقول بعض أهل المعرفة: (إن الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرامان على أهل الله)(5) وعلي(علیه السلام) من أهل الله،

ص: 68


1- مفاتيح الجنان: ص578.
2- نهج البلاغة: 4/ 17 من كلماته وحكمه(علیه السلام).
3- نهج البلاغة: 3/ 70، من كتاب له(علیه السلام) إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري يزهده في الدنيا.
4- نهج البلاغة: 2/ 60، خطبة 160.
5- عوالي اللئالي: 4/ 119.

فهل تتوقع أن تشغله لذّات الآخرة من لحم طير وحور عين فضلاً عن لذات الدنيا عن {رِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:72)؟ ومن الوضوح الذي لا يحتاج إلى بيان أن الدنيا التي أعرض عنها أمير المؤمنين(علیه السلام) إنما هي الدنيا المحللة لا المحرمة، فإن ترك المحرمات أول مراتب العصمة التي هي من شروط إمامتهم.

2. الشجاعة: كان(علیه السلام) يقول: والله لو تظاهرت العرب على قتالي ما وليت عنها مدبراً، ولماذا يُدْبر؟ ومم يخاف؟ وهل الخوف إلا نتيجة الحرص على هذه الدنيا والاهتمام بعلائقها؟ فإذا قطعها(علیه السلام) ولم تبقَ له رابطة وعلقة بها، بل همه كله في الله سبحانه، فلماذا يخاف؟ اسمعه يقول: (إن ألف ضربة بالسيف أهون على علي بن أبي طالب من ميتة على الفراش)(1) ويقول(علیه السلام): (إن ابن أبي طالب ليستأنس بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه)(2) وشجاعته وثباته أصبح مثلاً ورمزاً لكل بطولة، قيل له(علیه السلام): إذا حمي الوطيس وحالت الخيل والرجال بيننا وبينك فأين نجدك؟ قال: حيث تركتموني. وكان الأعداء قبل الأصدقاء يعلمون منه هذه الصفة، ففي معركة صفين حمل(علیه السلام) متنكراً فظهرت منه العجائب(3)، فاختلف قوم معاوية أنه علي أم هو مالك الأشتر، فأمر معاوية الجيش أن يحمل حملة رجل واحد عليه، فلم يتزلزل عن موقفه، فقال معاوية: إنه علي(علیه السلام)، وإن مالك وغير مالك

ص: 69


1- بحار الأنوار:32/ 61.
2- بحار الأنوار:29/ 141.
3- أنظر: كشف الغمة: باب المناقب: ج1 ص328.

أقلّ من أن يثبتوا في مثل هذا الموقف. ولا زالت كلمته ترنّ حينما خُضّب بدمه في المحراب في مسجد الكوفة (فزت ورب الكعبة)(1).

3. الثبات على الحق والإرادة الصلبة، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وعدم المداهنة والمجاملة على حساب الحق، وهي أمور طبيعية عند من يعيش الأهداف السامية التي ترتفع عن حضيض الماديات. قيل له: لو أبقيت معاوية أياماً حتى تستتب لك الأمور، قال: هيهات، لا أطلب الحق بالجور، والله لا أبيت ليلة ومعاوية يلي أمور المسلمين(2). وعندما انعقد اجتماع الستة أهل الشورى وانقسموا نصفين، وكان الترجيح بيد عبد الرحمن بن عوف، فقال لعلي: امدد يدك أبايعك على أن تعمل بكتاب الله وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وتسير بسيرة الشيخين(3)، قال: أما العمل بكتاب الله وسنة رسوله فنعم، وأما سيرة الشيخين فلا. فصفّق على يد الآخر الذي استجاب لما يريد، ولو كان علي(علیه السلام) مثلهم يعيش للدنيا لكان مستعداً لأن يعطيهم ما يريدون لينال ما يريد. جاءه أخوه عقيل يوماً طالباً زيادة عطائه، فإنه كثير العيال، فأحمى له حديدة ورماها إليه، فظنها عقيل صرة مال، فرمى بنفسه عليها فاكتوى بحرّها، قال(علیه السلام): (أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ)(4).

ص: 70


1- مناقب آل أبي طالب: ج1 ص385.
2- أنظر: الغارات: ج1 ص45، والحياة الفكرية والسياسية لأئمة أهل البيت(علیه السلام): ص61.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/ 193.
4- نهج البلاغة: 2/ 217.

4. الرحمة والرأفة بالمؤمنين ومشاركته لهم في آلامهم، كان يتألم لعوائل الشهداء في صفين ويبكي لبكائهم، وإليه ينسب القول(1):

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأيتام في الصغرِ

قد مات والدهم من كان يكفلهم *** في النائبات وفي الأسفار والحضرِ

ونقل عنه أنه مرّ على دار سمع منه بكاء طفل، فسأل عن ذويه فقالت أمه أنها مشغولة بالطحن فسأل عن أبيه قالت استشهد في صفين فبكى ومسح على رأس اليتيم وقال لأمه أما أن تسكتيه وأطحن أو بالعكس(2).

وهو القائل: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(3)، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ) (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إلى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)(4). وصفه عدي بن حاتم الطائي لمعاوية بأنه كان فينا كأحدنا.

5. اهتمامه بالموعظة وما يرقق القلب، كالمسح على رأس اليتيم وتلاوة القرآن وذكر الموت، فقد سمع من حبيبه رسول الله(صلی الله علیه

ص: 71


1- بحار الأنوار: 33/ 47.
2- انظر: منتخب موسوعة الامام علي(علیه السلام).
3- وهذا معنى يجب تطبيقه على جميع المستويات فنقول أأقنع أن يقال لي حجة الإسلام والمسلمين أو سماحة آية الله....
4- من كتابه المتقدم إلى عثمان بن حنيف.

و آله و سلم) يوماً أن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: وما جلاؤها يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن، فتراه يوصي ولده الحسن(علیه السلام): (أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ)(1).

اعترضت أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) معضلة، فقالوا: نبعث لعلي(علیه السلام) ليحلّها لنا، فقال الثاني: لا، بل نحن نقصده؛ لأنه معدن العلم وأهل بيت الوحي، فبحثوا عنه فإذا به يغرس في بستان وهو يرتل القرآن، حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: {أَيَحسَبُ الإنسَانُ أنْ يُترَكَ سُدَىً} إلى آخر الآيات من سورة القيامة، وعيونه تذرف من الدموع(2).

6. التواضع وعدم الاغترار بالمنصب والجاه، فهو هو قبل المنصب وبعده، وهو رئيس دولة مترامية الأطراف لم تزينه الخلافة بل هو زانها، وإذا حق للخلافة أن تفخر فبعلي بن أبي طالب. كان يسير يوماً على دابته فالتفت، وإذا بقوم يسيرون خلفه، فنهرهم وترجل، فقال(علیه السلام): (ما هذا الذي صنعتموه؟ قالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون به على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وما أربح الراحة معها الأمان من النار)(3). وعن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال لي: يا جويرية إنه لم

ص: 72


1- بحار الأنوار:/74/ 217 وتجدها في نهج البلاغة: ج3 في ما كتبه إلى ولده الحسن(علیه السلام) منصرفاً من حاضرين في طريق صفين.
2- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 3/ 271.
3- البحار: ج41 ص55.

يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم)(1) فإن حب الجاه من أشد الأمراض القلبية، ويحتاج إلى مجاهدة عظيمة، لذا ورد في الحديث: آخر ما ينزع من قلوب الصديقين (حب الجاه).

7. الصبر والجلد في مواجهة الصعاب ما دام أن ذلك في سبيل الله وبعين الله، وأعتقد أن من يمر بحياة أمير المؤمنين يجد من الشواهد الكثير على ذلك، ولا عجب فإن البلاء على قدر إيمان المرء كما في الحديث، لذا كان أكثر الناس بلاءً أكملهم.

بدأ حياة النصب والكفاح والمصاعب منذ نعومة أظفاره حين كان يتحمل مع ابن عمه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أذى قريش في بداية الدعوة، ثم حوصر معه في شعب أبي طالب(علیه السلام) مروراً بمصاعب الهجرة والمبيت على الفراش ومعارك الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) إذ {بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (آل عمران: 152153) {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} (التوبة:25).

وبعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ويوم الهجوم على الدار، وتلك كانت المحنة الكبرى على قلبه حين عجزت السماوات والأرض عن تحمل الموقف، وهو يرى القوم يعتدون على ابنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ويقودون حجة الله بحمائل سيفه، ثم ابتزازه حقه خمساً وعشرين سنة، ثم الرجوع إليه بعد أن تغيرت الدنيا ومن فيها وتنكر له الأصحاب ونابذوه الحرب،

ص: 73


1- الكافي: ج8 ص241.

واستشهد وهو يتجرع غصص المصائب، فقد انهار جيشه واستفحل أمر معاوية حتى كانت تصل غاراته إلى ضواحي الكوفة فلا يتصدى له أصحابه، فيدعوهم إلى الدفاع عن حرمات الإسلام فلا يجد مصغياً، ويقول: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً)(1) لشدة هذه المآسي التي توجع القلوب وتدميها، فكان في نهاية حياته يصعد على المنبر وينعى أصحابه الأوفياء عمار وابن التيّهان وذا الشهادتين ويبكي ويتمنى الموت(2)، ويقول: متى يبعث أشقاها؟(3) هكذا تجرع الغصص والآلام، وكلها كانت ثمناً يدفعه لكي يعيش لله.

8. الحفاظ على مصلحة الإسلام وحفظ كيان المسلمين ووحدتهم، فرغم أن القوم غصبوا حقه إلا أنه لما علم أن بقاء الإسلام منوط بسكوته عن حقه سكت ولم يبخل عليهم بالنصيحة ولا تركهم في جهلهم يعمهون، بل كان يقيل عثرتهم ويصحّح خطأهم ويوجههم ويرشدهم ويفهمهم الصواب، وكان يمكنه ألاّ يتجاوب معهم ليكشف زيفهم وقصورهم وتقصيرهم، لكن ذلك يكون على حساب الإسلام، فتجاوز كل هذه الأنانيات وعمل مخلصاً لله.

ص: 74


1- نهج البلاغة: 1/ 69 خطبة 27.
2- أنظر: نهج البلاغة: الخطبة: 182.
3- البحار: ج42 ص195.

فما أحرانا ونحن ننتسب إليه ونجاوره ونتكلم باسمه ونتقمص دوره أن نهتدي بهداه ونسير مسيرته؛ ليحشرنا الله تعالى في شيعته {أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون:111).

ص: 75

حتى لا نظلم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ون-ُحرم من عطائه

اشارة

حتى لا نظلم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ون-ُحرم من عطائه(1)

غربة علي (عليه السلام):

يظهر من كلمات أمير المؤمنين(علیه السلام) وخطبه أنه عاش غربة بين قومه، لجهلهم بمقامه الشريف ونزوعهم إلى حب الدنيا التي تزيّنت وتزخرفت بسبب اتساع رقعة الدولة الإسلامية وكثرة وارداتها فانساقوا وراء الشهوات فكان(علیه السلام) يوبخ أصحابه ويستعمل كل الوسائل لإيقاظهم واستنهاض هممهم ووعي مسؤولياتهم في طاعته(علیه السلام) واتباع أوامره، قال(علیه السلام) (أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديتُ إليكم ما أدّتِ الأوصياء إلى من بعدهم، وأدَّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا، لله أنتم! أتتوقّعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم إلى السبيل؟

ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبرا، وأزمعَ الرجالَ عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثيرٍ من الآخرة لا يفنى)(2).

وازدادت غربته حينما فَقَد خُلّص أصحابه العارفين بفضله وسابقته إلى كل كمال حيث استشهد كثير منهم في صفين فكان(علیه السلام) يرتقي منبر مسجد الكوفة ويندبهم أشجى ندبة ويصفهم أجمل وصف فيقول(علیه السلام): (ما

ص: 76


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من القرية العصرية في مدينة الناصرية يوم 8 رجب 1429 المصادف 12/ 7/ 2008 ومن حديث سماحته مع حشد من مسؤولي منظمات المجتمع المدني المنصوبة تحت هيئة (همم) في محافظة ذي قار يوم 15 رجب 1429 وضيوف آخرين في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين(علیه السلام).
2- نهج البلاغة من الخطبة (182).

ضرّ إخواننا الذي سُفكت دماؤهم -- وهم بصفين -- ألاّ يكونوا اليوم أحياءً؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق! قد -- والله -- لقوا الله فوفّاهم أجورهم، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم إلى الفجرة (ثم ضرب بيده على لحيته الكريمة فأطال البكاء ثم قال) أوّهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، احيوا السنة وأماتوا البدعة، دُعُوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه)(1).

وكان(علیه السلام) كثيراًَ ما يتمنى الموت للتخلص من مجاورة اللئام والذهاب إلى صحبة الكرام الأحبة محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وأصحابه المنتجبين، ومن كلماته في ذلك (لوَددتُ أن الله فرّق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحقّ بي منكم)(2) لأنه يرى نفسه يعيش وسط حثالة لا يذكرون إلا بالذم قال(علیه السلام) (أين أخياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم! وأين المتورعون في مكاسبهم. والمتنزّهون في مذاهبهم؛ أليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصّة، وهل خُلفتم إلا في حثالة، لا تلتقي إلا بذمِّهم الشفتان، استصغاراً لقدرهم، وذهابا عن ذكر هم؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون)(3).

وكان يأسف(علیه السلام) أن ينفضَّ الناس عن الهدى المتمثل به ولا تبقى تحت سيطرته من رقعة الدولة الإسلامية الكبيرة إلا الكوفة فيقول(علیه السلام) (ما هي إلا الكوفة، أقبضها وابسطها، إن لم تكوني إلا أنتِ، تُهبُّ أعاصيرك

ص: 77


1- السابق.
2- البحار: ج34 ص91.
3- نهج البلاغة، الخطبة (129).

فقبّحكِ الله)(1).

ويستغرب منهم حين يعصونه وهو الحق بينما يتفانى أصحاب معاوية في طاعته وهو إمامهم إلى الضلال فيقول(علیه السلام) (صاحبكم يطيع الله وانتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه لَوَددتُ والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فاخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم.

واني لعلى بينةٍ من ربي ومنهاج من نبيي، وإلي لعلى الطريق الواضح ألقُطُه لقطا)(2).

ويسبب ذلك فقد تنبأ بضياع دولتهم ونجاح دولة معاوية فقال(علیه السلام) (وإني والله لأظنُّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم.)(3)

وقال(علیه السلام) (أما والذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي)(4)

وكان كل أسفه(علیه السلام) لأنه يعلم بحقائق الأمور وعواقبها ومصير كل فريقٍ وهو القائل (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) ولكن أنى لتلك القلوب القاسية والعقول المغلوبة بالهوى أن تبصر بعين الحقيقة قال(علیه السلام) (ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصُعُدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون - ضرب الصدر للنياحة- على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا

ص: 78


1- نهج البلاغة، الخطبة (25).
2- نهج البلاغة، من الخطبة (97).
3- نهج البلاغة من الخطبة (25).
4- نهج البلاغة، من الخطبة (97).

حارس لها، ولا خالف عليها- ولهمّت كلَّ امرئٍ نفسُه، لا يلتفت إلى غيرها، ولكنكم نسيتم ما ذكِّرتم، وأمِنتم ما حُذِّرتُم، فتاه عنكم رأيُكم، وتشتّت عليكم أمركم.)(1) فأسفه وحسرته كانت امتداداً لقول الله تبارك وتعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس:30).

لكي لا نظلم أمير المؤمنين (عليه السلام):

هذه بعض كلمات أمير المؤمنين نقلناها لنحسَّ بمشاعره (علیه السلام) في غربته حتى كان يقول وهو يشير إلى صدره المبارك (إن هاهنا علماً جماً لو أصبت له حملة) لكن أصحابه ضيّعوه ولم يعرفوا قدره ولم يستفيدوا منه فظلموا أنفسهم وظلموه إذ حرموه من أن يقدّم ما عنده قال(علیه السلام) (ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي)(2).

وعلينا - نحن شيعة علي(علیه السلام)- اليوم أن لا نظلمه كما ظلمه أصحابه وان لا نحرم أنفسنا من عطائه كما فعل أصحابه، فانه وان غاب بشخصه الشريف عنا، إلا انه حاضر بيننا بكلماته ومواعظه وخطبه وسلوكه وسيرته وعلمه وجهاده وإخلاصه وإيثاره وفنائه في الله تبارك وتعالى وغيرها من الكمالات.

شكوى نهج البلاغة:

ولنستفد من كل ذلك وكأنه(علیه السلام) يتحدث إلينا مباشرة ويجسّد تلك الفضائل والكمالات التي نقلتها الروايات وكأنه يعيش بيننا. وهذا يحتاج إلى صحوة وانتفاضة على واقعنا المر بابتعادنا عن (نهج البلاغة) وكل الآثار الشريفة التي سجلت مآثر وآثار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) ويكون ذلك من خلال عدة خطوات عملية حتى لو حصلت تدريجياً بحسب الاستطاعة.

ص: 79


1- نهج البلاغة، من الخطبة (116).
2- نهج البلاغة، من الخطبة (97).

1. اهتمام الخطباء والمبلغين والوعّاظ بنصوص نهج البلاغة فيفتتحون بها مجالسهم ويعتنون بشرحها واستخلاص الدروس منها وبيان ما تضمنته من حقائق ومعارف وعلوم، وهذا ما كنّا نعهده من السلف الصالح وقد ذكر جدّي لأبي الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله تعالى) في ترجمة أخيه الشيخ مهدي (رحمه الله تعالى) وهو جدي لأمي في كتاب البابليات أنه (لا أبالغ إذا قلت أنه كان يحفظ ثلاثة أرباع نهج البلاغة عن ظهر قلب).

2. أن يلتزم كلٌ منا بإمعان النظر في نهج البلاغة وغيره من الآثار التي سجلّت كلمات أمير المؤمنين ك- (غرر الحكم) للآمدي و(تحف العقول) وغيرها كلما سنحت له الفرصة من دون إهمال أو تضييع ويستذكر تلك المعاني الجليلة ليحيي بها قلبه وينوّر بصيرته ويصحّح طريقة حياته وهو القائل(علیه السلام) (إنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد)(1).

3. تشجيع الكتاب والمثقفين على استلهام جوانب العظمة التي أودعها أمير المؤمنين في كلماته وسيرته وتصنيف المواضيع التي تعرّض لها أمير المؤمنين(علیه السلام) فقد تضمن نهج البلاغة معالجة قضايا عقائدية واجتماعية وأخلاقية وفلسفية وإنسانية واقتصادية وله(علیه السلام) السبق في السياسة والحكم وولاية أمر الناس والقضاء والفتوى وغيرها من المواضيع التي لو عكف عليها الباحثون والمتخصصون لا تحفوا

ص: 80


1- نهج البلاغة، رسائل الإمام، من كتاب له(علیه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دُعي إلى ولية قومٍ من أهلها فمضى إليها.

البشرية بانجازات رائعة ونذكر منها كتاب (الإمام علي(علیه السلام) وحقوق الإنسان) الذي نال به الباحث درجة الدكتوراه بامتياز في كلية العلوم السياسية وطبعناه تكريماً له، وهذا غيضٌ من فيض ما ترشح عن أمير المؤمنين(علیه السلام) وكذا كتاب (الراعي والرعية) في شرح عهده(علیه السلام) لمالك الأشتر لما ولاّه مصر و (علي بن أبي طالب: صوت العدالة الإنسانية) وغيرها.

4. إنشاء مكتبة متخصصة بآثار أمير المؤمنين(علیه السلام) وما كُتب عنه والدراسات والبحوث التي تناولته وتجهّز بأحدث الوسائل في تقنية تبادل المعلومات والاتصالات.

5. إنشاء فضائية خاصة بعلي بن أبي طالب(علیه السلام) تبيّن فضائله ونشر علومه ومعارفه وتصوِّر مراحل حياته الشريفة وما أُثِرَ عنه وتعقد الندوات والحوارات عنه(علیه السلام) وإجابة الأسئلة وغيرها.

6. السعي الجدي لدى إحدى الجامعات العالمية الرصينة لتخصيص كرسي للدراسات عن علي بن أبي طالب تحتضن الباحثين والدارسين وتمنح الشهادات الجامعية العليا وتستقبل البعثات الدراسية من الطلبة المتميزين من أنحاء العالم للتخصص في هذا المجال.

إنني لا ابتغي بوضع هذه الخطوات العملية مجرد تسطير الكلمات وحشو الصفحات وإنما لنسعى جميعاً وبكل جدّية ومصداقية وهمّة عالية لانجازها حتى نشهد نهضة عالمية تخرجنا من حد التقصير في حق أمير المؤمنين(علیه السلام) ولا نكون كالذين ظلموه وحرموا أنفسهم من عطائه المبارك. كما وعى المسلمون غربة القرآن وهجرانه وشكواه وحرمانهم بتضييعه فعادوا إليه وانشئوا الجامعات والمحافل لتلاوته ودراسته والاستفادة منه والتخصص في علومه وغيرها، حيث

ص: 81

شهدت السنوات الأخيرة حركة مباركة في هذا المجال.

الاحتفال الواعي:

إن إقامة المواليد وفعاليات الفرح في مثل هذه الذكريات العطرة اعني ذكرى ولادة أمير المؤمنين(علیه السلام) غير كافٍ للتعبير عن الاحتفال الواعي الرسالي بهذه المناسبات، نعم هي تمثل تعبيراً عن مستوى من المجتمع فالاكتفاء بها غير صحيح ما لم يقترن ببعض الخطوات التي ذكرناها، واقل ما يجزي فيها أن نتصفح كتاب نهج البلاغة ونستلهم منه ما يقدّر الله تبارك وتعالى لنا من رزق؛ كما إنني تصفحته في ذكرى الميلاد الميمون وخرجت بالنصوص التي افتتحت بها كلمتي هذه.

لنعرِّف العالم بعلي (عليه السلام):

وتأتي بعد ذلك الخطوة التي مرت بالرقم (2) لأن من يسمع بأنك من شيعة علي(علیه السلام) فانه يتوقع أن يرى فيك أخلاقه وسيرته وسموّه، وبهذا الصدد نقل لي صديق مهندس كان مقيماً في ألمانيا انه وعائلته زار صديقاً عراقياً اسمه (علي) كان متزوجاً من ألمانية لغرض الحصول على الجنسية الألمانية بحسب قوانينهم، وكان يتوقع أن لا يجد المرأة الألمانية بالصفات المرغوبة لأن هذا الرجل لم يتزوجها إلا للغرض المذكور ولكنه رآها فوق ما يتصور وسألها عن سر قبولها بهذا الفتى مع عدم وجود المرغّبات الكافية فأجابت أنها تزوجته لأنها تريد أن تعرف الإسلام من خلاله.

هكذا ينظر الآخرون إلى المسلمين والى شيعة علي(علیه السلام) خاصة وهذا يلزم كل واحدٍ منا بمسؤولية مضاعفة أن نكون عند حسن ظن نبينا وإمامنا (صلوات الله عليهما) وعند حسن ظن من أحسن بنا الظن.

إن إحداث مثل هذه الصحوة العالمية لنشر فضائل أمير المؤمنين(علیه

ص: 82

السلام) وآثاره وعلومه ومعارفه كفيلة بإصلاح البشرية وإعادة مسيرتها إلى الطريق الصحيح وستساعدها على حلّ عقدها المستعصية ومشاكلها التي قادتها إلى اليأس والانتحار وستفتح أمامها آفاق حياة سعيدة بإذن الله تعالى.

ص: 83

يوم الغدير أساس وحدة المسلمين

اشارة

يوم الغدير أساس وحدة المسلمين(1)

بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) تتوحد الأمة:

يتحدث المسلمون بجميع طوائفهم عن ضرورة الوحدة ونبذ الخلاف ويعقدون المؤتمرات و الندوات والحوارات تحت هذا العنوان وتصرف الأموال الضخمة في هذا السبيل دون أن يتحقق تقدّم يذكر وربما ازدادوا بعداً عن بعضهم، فأين الخلل ولماذا هذا العجز عن الوصول إلى الحل؟

يدلّنا القرآن الكريم على ما تتحقق به الوحدة بين المسلمين فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

وقد وردت الروايات في تفسير الآية بأن حبل الله هو القرآن الكريم وولاية علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) من ذريته، فقد روي عنه (عليه الصلاة والسلام) قوله: (القرآن حبل الله المتين)(2) وفي تفسير القمي (الحبل: التوحيد والولاية)(3) وفي تفسير العياشي عن الباقر(علیه السلام): (آل محمد (صلوات الله عليهم) هم حبل الله المتين الذي أمر بالاعتصام به)(4).

ص: 84


1- كلمة سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) التي ألقاها فضيلة السيد محمد الغريفي في الحفل الذي أقامته ممثلية المرجعية الرشيدة في العاصمة الألمانية برلين بمناسبة عيد الغدير الأغر لسنة 1428المصادف 29/ 12/ 2007، وألقاها سماحته في كلمة متلفزة الى قناة النعيم الفضائية ووجهها عبر الايميل الى احتفال يقام بهذه المناسبة عام 1434 في مدينة موركنتاون التابعة لولاية ويست فرجينيا الامريكية بطلب من المؤمنين القائمين على هذا الاحتفال.
2- البحار: ج65 ص233.
3- تفسير القمي: ج1 ص108.
4- البحار: ج65 ص233.

وتشهد نفس الآية على هذا التفسير، لأنها ذكرت أن العرب كانوا أعداء متباغضين فوحدّهم الله تبارك وتعالى وجمع كلمتهم بنعمة الإسلام، وقد أشارت آية أخرى إلى أن تمام هذه النعمة ونظام عقدها ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام)، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3) وقد روى المفسرون من الطائفتين أنها نزلت بعد تنصيب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لأخيه وابن عمه علي بن أبي طالب(علیه السلام) خليفة وولياً وهادياً للأمة بعده يوم الغدير بعد حجة الوداع.

فنعمة الله التي توحّد المسلمين وتؤلف بين قلوبهم هي الإسلام، وتمامها وكمالها ولاية علي بن أبي طالب(علیه السلام).

وإلى هذا أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في خطبتها في مسجد أبيها(صلی الله علیه و آله و سلم) قالت(س): (فجعل الله... طاعتنا: نظاماً للملة، وإمامتنا: أماناً للفرقة)(1).

آثار ولاية علي (عليه السلام) في المعتقد والسلوك:

وولاية أمير المؤمنين(علیه السلام) ليست قضية عاطفية تجاه شخصيته العظيمة حتى نكتفي بالمحبة والمودّة، ولا هي قضية تاريخية حتى يقال ما لكم تعيدون الماضي وتثيرون الخلافات القديمة، ولا هي عقيدة نظرية نكتفي بالإيمان بها من دون أثر عملي، وإنما هي باب ينفتح منه ألف باب من الاعتقادات والأحكام والآداب تكون برنامجاً كاملاً في المعتقد والسلوك على صعيد الفرد والأمة.

والأمة لم تقع فيما وقعت فيه من التخبّط والصراع والفتن المضلّة التي تسببت في إزهاق أرواح الأجيال بعد الأجيال من الأبرياء وخراب البلاد وانهيار الحضارة وعدم الاهتداء إلى الحق إلا بسبب عدم تمسكها بحبل الله المتين وصراطه

ص: 85


1- الاحتجاج: ج1 ص133.

المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. وهذا ما دعا عبد الله بن العباس وغيره من الصحابة العارفين يتأوه إلى نهاية عمره مما حصل في رزية يوم الخميس –بحسب تسميته- التي سبقت وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بأيام حينما طلب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، فردّوا عليه بالكلمة المعروفة(1).

ويقول ابن عباس عن مسألة (العول)(2) أي النقص في فرائض الميراث التي قال بها من لم يأخذ العلم من نميره الصافي وفندّها أمير المؤمنين(علیه السلام) والأئمة من بعده (سلام الله عليهم) وفيها يقول عبد الله بن العباس بعد أن اثبت بطلان القول بالعول في رواية طويلة: قال (وأيمُ الله لو قدَّم من قدَّم الله وآُخّر من آخّر الله ما عالت فريضة)(3) وهو يقصد بحسب الظاهر التقديم والتأخير في استحقاق الميراث، لكنه كان يريد معنى أعمق من ذلك بأن الأمة لو قدّمت لولاية أمرها من قدّمه الله تبارك وتعالى واختاره لخلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لما نقصت فريضة أو عُطّلت سُنّة.

وهذا المعنى صرّح به أمير المؤمنين(علیه السلام) في بعض خطبه، قال: (الحمد لله الذي لا مقدِّم لما أخر، ولا مؤخر لما قدّم) ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى ثم قال: (يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وجعلتم الولاية والوراثة لمن جعلها الله ما عال ولي الله، ولا طاش

ص: 86


1- أنظر البخاري: ج5 ص138.
2- مثالها لو مات شخص وترك أبوين وزوجة وبنتين، فللأبوين السدسان وللزوجة الثمن وللبنتين الثلثان بحسب الفرض فأصبح المجموع ((8/ 24+ 3/ 24+16/ 24) = 27/ 24) فالسهام أكبر من الفريضة فقالوا: ان الفريضة تعول هنا، أي تنقص ولا تفي بالسهام فوزّعوا النقص على الجميع بالنسبة، والصحيح المأثور عن أهل البيت(علیه السلام) ان بعض الورثة لهم سهام لا ينزلون عنها كالأبوين عن السدس، والزوجة عن الثمن، أما البنتان فينزل سهمهن عن الثلثين بقدار هذا النقص.
3- وسائل الشيعة، كتاب الميراث، أبواب موجبات الإرث باب 17ح6.

سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمر الله إلا وعند علي علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم وما فرطتم فبما قدمت أيديكم وما الله بظلام للعبيد)(1).

استحقاق علي (عليه السلام) قبل الغدير:

إن استحقاق أمير المؤمنين(علیه السلام) للخلافة بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كان سابقاً على يوم الغدير، أما الاحتفال الذي أقامه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في غدير خم في طريق عودته إلى المدينة بعد حجة الوداع ودعا المسلمين إلى مبايعة علي بن أبي طالب(علیه السلام) بالولاية والإمامة بعده(صلی الله علیه و آله و سلم) تلبية لأمر الجليل تبارك وتعالى حيث انزل الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، أقول أما هذا الاحتفال فكان كاشفاً عن هذا الاستحقاق وإعلاناً رسمياً للتنصيب، وقد كان الكثير من الصحابة الأجلاء (رضوان الله تعالى عليهم) يعلمون أحقية أمير المؤمنين(علیه السلام) ويقرّون بولايته وعرفوا بتشيعهم له في وقتٍ مبكر من حياة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قبل حديث الغدير.

فالنقاش إذن في دلالة قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الغدير (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) أو المناقشة في نزول الآية في قضية الغدير لا يقدّم ولا يؤخر وهي شبهة مقابل البديهة –كما يقول العلماء- لأن حق أمير المؤمنين في خلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يكتسبه من ذلك اليوم، بل استحقه بما يحمل من صفات تؤهله لهذا المقام الشريف.

وقد أعلن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) هذا الاستحقاق في مناسبات عديدة سبقت قضية الغدير بسنين وكان بعضه - كحديث الدار - في

ص: 87


1- وسائل الشيعة: أبواب موجبات الأرث: باب7 ح5.

وقت مبكر من البعثة في مكة المكرمة وفي حياة أبيه أبي طالب (رضي الله عنه) حتى تهكم بعض مشركي قريش من أبي طالب وقال له أن محمداً يدعوك إلى طاعة ولدك الصغير عليّ(1).

في سبيل توحيد المسلمين:

أيها الأحبة من كل طوائف المسلمين:

إنني أريد بهذا الكلام أن أقول أن الوحدة بين المسلمين تتحقق بالعودة إلى كتاب الله تبارك وتعالى وسنّته الشريفة الصحيحة بعد تنقيحها من التلاعب والتزوير والدس الذي قام به المنافقون، وحينئذ سيلتقي جميع المسلمين عند الحقائق التي يعلمها الله تبارك وتعالى.

لقد كان أئمة أهل البيت(علیه السلام) دوماً رسل محبة وسلام وألفة وهداية صلاح وكانوا حريصين على وحدة المسلمين وحفظ كيانهم قوياً عزيزاً كريماً، وضحوا بحياتهم الشريفة من أجل ذلك، خذ مثلاً أمير المؤمنين(علیه السلام) فقد كان يشعر بالمرارة والأسى لتضييع الأمة لحقه، ولكنه بقي خمساً وعشرين سنة صابراً محتسباً لم يدخر جهداً في نصيحة المتصدين وتقويم عملهم، ونصرة الإسلام والتضحية من أجل اعلاء كلمة الله تعالى، ولكنه ما إن تصدى للخلافة حتى أثاروها عليه حروباً شعواء أزهقت أرواح عشرات الآلاف من المسلمين وأضعفت شوكة الإسلام.

والتزم شيعتهم بنهجهم(علیه السلام) فمنذ ألف وأربعمائة عام يقتلون ويعتقلون ويهجّرون ويعذّبون ويسجنون وهم لم يردوا بقتل الأبرياء أو تفجيرهم أو تقطيع اعضائهم وما إن وصل بعض الشيعة الى السلطة في العراق حتى انهالت

ص: 88


1- أنظر الكامل في التاريخ: ج1 ص486، والدر المنثور: ج5 ص97.

على أهل العراق المفخخات والاحزمة الناسفة وقطع الرؤوس والأيدي والأرجل وتهجير العوائل وغيرها من الجرائم الكبرى.

إن الوصول إلى الحقيقة وكشفها وبيانها للناس وظيفة العلماء الأجلاء والمفكرون وصنّاع الثقافة والرأي العام، ولا نصل إلى الحقيقة إلا بتحرير العقول من التقليد والتعصب والتحجّر وذلك بفتح باب الاجتهاد ودعوة العلماء الذين حصّلوا العلوم التي تؤهل لممارسة عملية استنباط الحكم الشرعي من مصادره الأصلية إلى عدم الوقوف على المذاهب المعروفة وتطبيق فتاوى أئمة المذاهب على الحالات التي تعرض عليهم وإنما يرتقون بمداركهم إلى استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة، وسيجد علماء المسلمين جميعاً أنفسهم عند تلك القمة السامقة متفقين متوحدين ينهلون من معين واحد ولا يختلفون إلا بالمقدار الطبيعي الذي يحصل بين علماء أي حقل من حقول العلم والمعرفة.

وقد وجدتُ خلال بحثي الفقهي الاستدلالي أن كثيراً من الروايات التي يستند إليها الفقهاء السنة والشيعة في استنباط الحكم الشرعي متطابقة الألفاظ فضلاً عن المعاني، ويعود الفضل في ذلك إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) والأئمة من بنيه الطاهرين حيث بثوا عدداً ممن حملوا جملة من أحكامهم ومعارفهم ولا يجد المسلمون من غير أتباع أهل البيت حزازة في الأخذ عنهم كعبد الله بن العباس ونقل هؤلاء إلى عموم المسلمين علوم الشريعة من معدنها الصافي، وهذا نابع من رحمتهم وحبّهم للناس جميعاً حتى وإن أعرضت الأمة عن إعطائهم المكانة التي يستحقونها.

أرجو أن يساهم السادة الحضور وكل من يسمع هذا النداء المخلص لتفعيل هذه الدعوة المباركة في أروقة حواضر العلم صانها الله تبارك وتعالى في بلاد المسلمين. وان يعوا مسؤولياتهم في هذه الظروف العصيبة التي يمرُّ بها المسلمون، والتي ستؤثر في بناء مستقبلهم بحسب طريقة تعاطيهم مع هذه القضايا الحساسة.

ص: 89

وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديكم لما فيه الصلاح والإصلاح وأن يثبت لكم قدم صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي النعم.

ص: 90

مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تتناهى كأعدائه

اشارة

مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تتناهى كأعدائه(1)

مع القصيدة الأزرية:

مما جاء في القصيدة الأزرية(2) المشهورة:-

ص: 91


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 13/رجب/1434 المصادف 24/ 5/ 2013. وقد بثتها قناة النعيم الفضائية.
2- القصيدة الأزرية تناهز الألف بيتاً من الشعر ضاع منها حوالي نصفها، وهي ملحمة رائعة يندر وجود مثلها سُميت بقرآن الشعر أودع ناظمها المرحوم الشيخ كاظم الأزري فيها سيرة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومناقبهم وفضائلهم وفيها تاريخ حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناقبه وفضائله بالتفصيل، ويحكى عن صاحب الجواهر (قده) انه كان يتمنى لو وضعت القصيدة الأزرية في ميزان أعماله ليلقى الله تعالى بها، ويضع كتابه الموسوعي العظيم (جواهر الكلام) في ميزان الأزري الذي توفي عام 1211 هجرية وقيل 1201. وقد خمّسها الشيخ جابر الكاظمي المتوفى سنة 1313ه- نذكر بعضا منها لينتشي متذوقو الأدب: إن رباً أولاه أعظم مَنٍّ *** وحباه بكل حسنى وحُسنٍ هو مذ شاء خلق إنس وجنٍّ *** قلبَ الخافقين ظهراً لبطنٍ فرأى ذات أحمد فاجتباها ضمنت منه طيبة خير رمسٍ *** مستجاراً أمسى إلى كل نفسٍ إن يبدَّد به سما كل شمسٍ *** لستُ أنسى له منازل قدسٍ قد بناها التقى فأعلى بناها بهم المعجزات زادت بروزاً *** بعدما كان كنزها مكنوزا فئة للغيوب حلّت رموزاً *** لم يكونوا للعرش إلاّ كنوزا خافيات سبحان من أبداها

يا ابن عم النبي أنت يد الله *** التي عمَّ كل شيء نداها

خصّك الله في مآثر شتى *** هي مثل الأعداء لا تتناهى

حقاً أن فضائل أمير المؤمنين(علیه السلام) ومناقبه فاقت الحصر هذا مع جهلنا وقصورنا، وبمقدار ما وصل إلينا، قال بعضهم (إن أولياء علي(علیه السلام) أخفوا مناقبه خوفاً وأخفاها أعداؤه حسداً وظهر بين هذا وذاك ما ملأ الخافقين)(1)، يكفي أن نلتفت إلى واحدة من مناقبه(علیه السلام) وهو قول النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الخندق (لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين)(2) وهي مطلقة لكل الجن والإنس إلى يوم القيامة، فهذا الحديث وحده يجعل ميزان أمير المؤمنين(علیه السلام) مفتوحاً للمزيد من الشرف والرفعة إلى يوم القيامة.

ليس الغريب في عشق علي (عليه السلام) بل في بغضه:

والمفروض أن إنساناً كاملاً له كل هذه الفضائل والخصال الكريمة أن يعشقه الناس ويذوبوا في حبّه، وقد عشق علياً فعلاً كثيرون ممن عرفوا شيئاً من فضله وسمّو ذاته واخلاقه، وذابوا في حبِّه حتى من غير المسلمين كما هو معروف، لكن الغريب أن يكثر أعداء علي(علیه السلام) بشكل عجيب حيث أبدع الأزري في تسجيل هذه المفارقة من خلال التشبيه بين فضائل علي(علیه السلام) وأعدائه في الكثرة، بحيث ورد في بعض كلماته(علیه السلام) قوله (فنظرتُ فإذا ليس لي

ص: 92


1- أنظر أعيان الشيعة: ج1 ص47، وحلية الأبرار: ج2 ص136.
2- نهاية العقول في دراية الأصول: ص114، والإحقاق: ج6 ص5.

معين إلا أهل بيتي فضَنِنتُ بهم عن الموت، وأغضيتُ على القذى وشربت على الشجن وصبرتُ على أخذ الكظم وعلى أمرَّ من طعم العلقم)(1) ،حتى سُبَّ على المنابر سبعين عاماً، وتتبّعوا أولاده وشيعته قتلاً وتعذيباً وتشريداً، ولم تسلم من حقدهم حتى مراقدهم الشريفة، يقول الشاعر في هدم المتوكل العباسي لقبر الحسين(علیه السلام) ومحو آثاره:

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبّعوه رميماً(2)

وجرائمهم المعاصرة في تفجير الروضة العسكرية المطهّرة ونبش قبر الصحابي الشهيد حجر بن عدي، ويتباهون بتلك الجرائم حيث يظهر أحدهم في الصور وهو يلوك قلب(3) أحد الجنود ليؤكّد انتماءه إلى تلك الفئة الباغية الضالة.

لماذا العداء لأمير المؤمنين(عليه السلام)؟

هذه الظاهرة الغريبة الموغلة في الانحطاط البعيدة عن منطق العقل والحكمة تستحق الدراسة لمعرفة الأسباب.

ص: 93


1- نهج البلاغة، خطبة 26.
2- أنظر: تاريخ الخلفاء: ص277 ومستدرك الوسائل: ج2 ص240.
3- صُدم العالم بظهور صور فيديوية لأحد قادة المعارضة البارزين في سوريا وهو قائد كتيبة عمر الفاروق المستقلة في مدينة حمص غرب سوريا المدعو أبو صقار وهي من أبرز فصائل الجيش الحر وهو يقطع قلب وكبد أحد قتلى القوات النظامية السورية ويأكلهما وظهر وهو يقول (سنأكل قلوبكم وأكبادكم يا جنود بشار الكلاب) وقد أحرج الفلم الإئتلاف السوري المعارض ودول الغرب التي تدعمه خصوصاً أمريكا التي تتحدث هذه الأيام عن احتمالات تسليح المعارضة كما ظهر في صور أخرى وهو يطلق صواريخ على مناطق شيعية في لبنان محاذية للحدود.

ويمكن أن نسجّل هنا عدة أسباب أدّت إلى كثرة أعداء أمير المؤمنين(علیه السلام):

1. ان علياً (عليه السلام) يمثل الحق، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (علي مع الحق والحق مع علي)(1) والناس تكره الحق قال تعالى {بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (المؤمنون/70)(الزخرف/78)، وتروى عنه كلمته(علیه السلام) (ما أبقى لي الحق من صديق).

روى في كنز العمال أن عمراً سأل من تستخلفون بعدي فذكروا رجالاً منهم علي بن أبي طالب فقال (إنكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم)(2).

كان لا يجامل ولا يداهن في الحق، فيعمل به وان عاداه الناس او تسَّبب في تفرق اصحابه، ومن كلماته(علیه السلام) (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة) روى الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (بعث علي بن ابي طالب(علیه السلام) إلى بشير بن عطارد التميمي في كلام بلغه عنه، فمرّ به رسول علي(علیه السلام) إلى بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة -- وقيل خارجة -- الأسدي -- وروي أنّه كان من شرطة الخميس -- فأفلته، فبعث إليه علي بن أبي طالب(علیه السلام) فآتوه به، فأمر به أن يضرب، فقال له نعيم: أما والله إنّ المقام معك لذلّ وان فراقك لكفر، قال: فلما سمع ذلك علي(علیه السلام) قال له: قد عفوت عنك، إن الله تعالى يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} (المؤمنون/96) أما

ص: 94


1- راجع مصادره من كتب العامة في كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 2/ 135139.
2- كنز العمال: 6/ 157، ح 33016.

قولك إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، وأما قولك إن فراقك لكفر حسنة اكتسبتها فهذه بهذه)(1).

2. عدله (عليه السلام) مما سبّب حنق أصحاب الامتيازات والنفوذ والاستئثار والطبقيّة، وألبوا الناس عليه(علیه السلام)، وحينما جلس الستة أهل الشورى للتداول في أمر الخلافة بعد مقتل عمر ووافقوا أن يبايعوا علياً بشرط أن يعمل بسيرة الشيخين التي أوجبت التمايز والطبقية وهو ما رفضه أمير المؤمنين(علیه السلام) وأصرّ على أن يعمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) فتركوه وبايعوا عثمان.

وبعد وصوله(علیه السلام) للخلافة عبّأوا الجيوش لقتاله بتلك الأموال التي جنوها من السياسة غير العادلة، ولم يستمع(علیه السلام) إلى من أشار عليه بإبقاء معاوية في الشام وإعطاء طلحة طلحة والزبير العراق لدفع فتنتهم ولما عوتب(علیه السلام) على التسوية في العطاء قال(علیه السلام): (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليتُ عليه، لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنما المال مال الله)(2).

ومن كلام له(علیه السلام) بعد أن ردَّ على المسلمين ما منحه عثمان من أراضٍ عامة (والله لو وجدتُه قد تُزُوِّجَ به النساء ومُلِكَ به الإماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)(3).

ص: 95


1- رجال الكشي: 60.
2- نهج البلاغة/ الخطبة 123.
3- نهج البلاغة/ الخطبة 15.

3. الحسد، لسمو منزلة علي حتى كان نفس رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بنص الاية الشريفة آخاه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأشركه في أمره وجعله إماماً وهادياً من بعده وألزم الأمة بولايته وهذه المناقب التي لا تحصى والدرجات الرفيعة أوجبت كثرة الحسّاد والمبغضين، قال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (النساء/54) وقد فسّرتها الرواية عن الإمام الباقر(علیه السلام) في الكافي (نحن الناس المحسودون على ما أتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين)(1).

واعترف غاصبوه حقّه في الخلافة بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بأن قريش كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم فتذهب بالفخر كله.

وفي ذلك قال الشاعر مخاطباً أمير المؤمنين(علیه السلام):

إن يحسدوك على علاك فإنّما *** متسافل الدرجات يحسدُ من علا(2)

4. انه (عليه السلام) كان ناصحاً للأمة يبيّن لها طريق الرشاد ويصحّح أخطاءها ولا يجامل ولا يداهن، والناس لا يحبون من ينصحهم ويهدي

ص: 96


1- الكافي: 1/ 159 ح1.
2- البيت لعلاء الدين الحلي، من أكابر العلماء والأدباء في القرن الثامن الهجري حيث يقول: يكفيك فخراً أنّ دين محمّد *** لولا كمالك نقصه لن يكملا وفرائض الصلوات لولا أنّها *** قُرنت بذكرك فرضُها لن يُقبلا يامن إذا عدّت مناقب غيرهِ *** رجَحتْ مناقبه وكان الأفضلا إنّي لأعذر حاسديك على الذي *** أولاكَ ربّك ذو الجلال وفضَّلا إن يحسدوك على عُلاك فإنّما *** متسافل الدرجات يحسد من علا الغدير: ج6 ص388.

إليهم عيوبهم قال تعالى {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف/79) وكان(علیه السلام) يوصي ببذل النصيحة مطلقاً، قال(علیه السلام) (أمحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة)(1) ويدعو إلى تقبّل النصيحة ولو كانت مرّة لقوله(علیه السلام) (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)(2)، ويقول الإمام الباقر(علیه السلام) (اتبّع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ)(3).

5. خبث المعدن والأصل وسوء السريرة فيتحول إلى باطن خبيث يكره خصال الخير والنبل والكمال، لذا كان حب علي(علیه السلام) ميزاناً يميِّز بين من أصله طيّب أو خبيث، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن علي(علیه السلام) (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق)(4)، وروى الترمذي في صحيحه بسنده عن أم سلمة قالت (كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: لا يحبّ علياً منافق ولا يبغضه مؤمن)(5).

6. المصالح الدنيوية والامتيازات والانسياق وراء الشهوات، فيرى اللاهثون وراء هذه الدنيا الزائلة أنّ علياً(علیه السلام) حجر عثرة في طريقهم وقد عبّر(علیه السلام) عن هذه المخاوف المتبادلة بقوله(علیه السلام) حينما

ص: 97


1- نهج البلاغة، الكتاب/31.
2- غرر الحكم/ 9799.
3- المحاسن: 2/ 440 ح2526.
4- صحيح مسلم: ج1 ص61.
5- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، صحيح الترمذي: 2/ 299 وراجع مصادره لدى العامة في فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 253.

ودّع صاحبه البار أبا ذر الغفاري (لقد خفتهم على دينك وخافوك على دنياهم)، إنّ كثيراً ممن حاربوا علياً وأعلنوا عداوته يعترفون في السر بعلّو منزلته وقد سجل التاريخ الكثير من هذه الاعترافات لمعاوية وعمرو بن العاص وغيرهما، سُئل مروان بن الحكم عن قتالهم لعلي(علیه السلام) وسبّه على المنابر وهل أنّه كان فعلاً شريكاً في قتل عثمان، قال مروان: ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي، فقيل له: ما لكم تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك)(1).

نتيجة العداء:

هذا ما سجلناه من دواعٍ وأسباب، ولعله توجد غيرها يكتشفها المتتبع، ولكن ماذا كانت النتيجة، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال/309) فكانوا كلما أوغلوا في معاداة علي(علیه السلام) وسبّه على المنابر والافتراء عليه والانتقاص منه كان علي(علیه السلام) يرتفع ويزداد تألّقاً حتّى اعترفوا بذلك.

قال الوليد بن عبد الملك لبنيه يوماً: (يا بنيَّ عليكم بالدين، فإنّي لم أر الدين بنى شيئاً فهدمته الدنيا، ورأيت الدنيا قد بنت بنياناً هدمه الدين. ما زلت أسمع أصحابنا وأهلنا يسبّون عليّ بن أبي طالب ويدفنون فضائله، ويحملون الناس على شنآنه، فلا يزيده ذلك من القلوب إلاّ قرباً، ويجتهدون في تقريبهم من نفوس الخلق فلا يزيدهم ذلك إلاّ بُعداً)(2).

ص: 98


1- الصواعق المحرقة: ص55، وأنظر: انساب الأشراف: ج2 ص407.
2- الإرشاد: ج 1 ص310، وبحار الأنوار: ج42 ص19.

أو كما قال قائلهم (لقد سببنا علياً سبعين سنة على المنابر فكأننا كنّا نأخذ بضبعيه ونرفعه إلى السماء)(1).

هذه الظاهرة المؤلمة في حياة البشر تتكرر أيضاً بدرجات متفاوتة طبعاً مع كل الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومع العلماء الربانيين العاملين المخلصين ولنفس الأسباب المتقدّمة، ممّا يوجب الحسرة الألم والاستنكار والاستغراب قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (يس/30).

لذا على العاملين الرساليين أن لا يستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه وأن لا يشعرهم كثرة أعدائهم بالإحباط واليأس فهذا دليل نجاحهم وتأثيرهم في الناس، ولو كانوا فاشلين ولا يمتلكون القدرة على الإصلاح والتغيير لما عاداهم أحد ولا حسدهم أحد.

ص: 99


1- الضبع وسط العضد من اليد.

ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1)

أهمية ذكر المناقب:

جرت العادة أن تتضمن الاحتفالات في مثل هذه المناسبات الشريفة(2) ذكر مناقب أهل البيت(علیه السلام) ومكارمهم كميلاد أمير المؤمنين في الكعبة وهي حالة لم يسبقه إليها أحد ولن يلحقه بها أحد وهي حقاً شرف عظيم له ولوالدته السيدة الهاشمية الجليلة فاطمة بنت أسد التي قال عنها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إنها أمي بعد أمي(3)، وقد غفل أرباب المعاجم والسيَر مع كل الأسف التأليف في سيرة هذه المرأة العظيمة وتحدثنا عنها بشيء من التفصيل في مثل هذه المناسبة قبل سنوات(4).

وذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ضروري لتعزيز إيمان المؤمنين وإقامة الحجة على المنكرين، ولمواجهة السعي الحثيث الذي يقوم به خصوم أهل البيت لطمس مآثرهم ومع ذلك ظهر منها ما يُحيّر الألباب حتى قال القائل: (ما أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله وأخفت أعداؤه فضائله حسدا وشاع من بين

ص: 100


1- تقرير حديث سماحة الشيخ مع الوفود التي هنأته بميلاد أمير المؤمنين(علیه السلام) ومنهم رابطة الأطباء والعشرات من ذوي المهن الصحية في العمارة يوم 12 رجب 1426 المصادف 18/ 8/ 2005. وأعيد تسجيلها لقناة النعيم الفضائية في شعبان/ 1434 المصادف حزيران/2013.
2- كيوم ميلاد أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي صدر هذا الخطاب بمناسبته.
3- مجمع الزوائد: ج9 ص256.
4- خطاب المرحلة: ج2 ص51.

ذين ما ملأ الخافقين)(1)، إذن لو كُتب التأريخ بأمانة وموضوعية وحفظه وتناقله المنصفون لرأيت من ابن أبي طالب العجب العجاب.

محاولات بائسة للنيل من الإمام علي(عليه السلام):

ولقد اتبع خصوم عليّ(علیه السلام) مختلف الوسائل الخسيسة والخبيثة في هذه المواجهة، فيرصد معاوية لسمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم كي يروي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ..} (البقرة:204205) نزل في علي بن أبي طالب وأن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) أنزل في عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي(2).

وهكذا زوّروا التأريخ وحرّفوه ودسّوا فيه ما يوافق أهواءهم ومصالحهم فقالوا أن حكيم بن حزام ولدته أمه في الكعبة برواية تحمل كذبها في طيّاتها، وكان لمسجد الكوفة باب يسمى باب الثعبان منه انساب الثعبان ليهمس في إذن أمير المؤمنين وهو يخطب في المسلمين في المسجد ويعود، ولم يرُق لمعاوية هذا الإعجاز فربط إلى هذا الباب فيلاً بعد دخوله الكوفة اثر صلح الإمام الحسن(علیه السلام) فشاع بين الناس انه باب الفيل ونُسيَ اسمه الأول(3).

ص: 101


1- أنظر أعيان الشيعة: ج6 ص468.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص73، وسفينة البحار: ج1 ص654.
3- أنظر: أعلام الورى: ص179، والإرشاد للمفيد: ص183184.

سبيل المواجهة في إحياء مجالس أهل البيت (عليهم السلام):

فإحياء ذكر أهل البيت(علیه السلام) وتعداد مناقبهم أمر ضروري لمواجهة هؤلاء الذين يغيّرون الكلم من بعد مواضعه لأن هذا الذكر ليس تأريخاً يتلى ولا أرشيفا يوضع في المتاحف، وإنما هو منهل يرده القادة والمصلحون والمفكرون والعلماء والمربّون وطلاب الحق والخير وهو نبراس يضيء للبشرية طريق العقيدة الحقّة والأخلاق الفاضلة والحياة السعيدة، ولم يتركوا لنا شاردة وواردة إلا وقنّنوا لها الحالة الصحيحة حتى في الأمور الحياتية العادية التي لا يلتفت إليها الناس كالأكل والجماع والتخلي والنوم ودخول الحمام ونحوها مما تفتقده الشرائع الوضعية وتعجز عن تلبية الحاجات البشرية.

الإحياء الواعي:

والذي أريد أن أقوله هنا أن إحياءنا لهذه المناسبات لا ينبغي أن يكون أرشيفيا تراثياً تأريخياً وإنما يجب أن يكون إحياء واعياً يستمد من الماضي ما يعين على الحاضر ويخطط للمستقبل؛ ليكون أكثر فاعلية في حياة الأمة.

ومن ذلك ما فعلته قبل ثلاث سنوات(1) في مثل هذه المناسبة حينما اخترت عنوان (من هم شيعة علي بن أبي طالب) الذين نزل فيهم قوله تعالى في سورة البيّنة {أولَئِكَ هُمْ خَيرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) وفسّرها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) لجابر أنهم عليّ وشيعته إذ لا يكفي أن يولد الإنسان من أبوين شيعيين أو يعيش في بيئة شيعية، أو يؤدي شعائر الشيعة ليدخل في هذا العنوان الشريف بحيث يقول الإمام(علیه السلام) (إنما شيعة علي: الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار)، لذا كان علينا أن نجري دراسة تحليلية استقرائية في أحاديث أهل البيت(علیه السلام) لنستنبط منها أوصاف وخصائص شيعة علي(علیه

ص: 102


1- أنظر: خطاب المرحلة: ج1 ص309.

السلام) والعناصر المكونة لشخصية المسلم من منظور أهل البيت(علیه السلام)، والمحاضرة منشورة في كتاب (نحن والغرب) و (شكوى الإمام(عجل الله فرجه))(1).

ماذا تعلمنا؟

واليوم نريد أن نسأل أنفسنا باعتبار أننا نوصف بشيعة علي(علیه السلام) والتشيع يعني المشايعة والمتابعة فنقول: (ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب؟) فإن الله تعالى حثنا على التأسّي برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والاستنان بسنته الشريفة فقال عز من قائل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21) وعليٌّ اخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وصنوه، فالآية تدعونا إلى التأسّي بأمير المؤمنين(علیه السلام)، خصوصاً وأن التأسي تعلَّ-ق بموقع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ولم تقل الآية (في محمد) أي شخص رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فالتأسي حالة مطلوبة من الأمة دائماً ضمن علاقتها مع قادتها الصالحين الذين هم ورثة الأنبياء وحصون الإسلام.

فهل تعلمنا من علي إخلاصه لله تبارك وتعالى وتكريس حياته الشريفة فيما يرضي الله تعالى، من دعائه(علیه السلام) المعروف بدعاء كميل (أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً)(2)، ويقول(علیه السلام): (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة فان الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيها رضا ربي)(3).

ص: 103


1- انظر: خطاب المرحلة: ج1 ص305.
2- مفاتيح الجنان: دعاء كميل بن زياد.
3- البحار: ج80 ص362.

فهل تعلمنا من علي شجاعته في كل الميادين فصولته في ساحات القتال معلومة وفي قول كلمة الحق حينما قال الخليفة الثاني: ماذا تفعلون لو دعوتكم إلى ما تنكرون وما لا تعرفون من الشريعة؟ فقال(علیه السلام): إذن لقوّمناك بسيوفنا(1).

هل تعلمنا من عليّ أمانته على المال العام ونزاهته حينما كان يأخذ عطاءه كواحد من المسلمين وهو رئيس الدولة ويأتيه أخوه عقيل طالباً المساعدة لأنه كثير العيال وقد أملق حتى عاد أولاده شعثاً غبراً فأرجأه إلى أوان عطائه فيعطيه فقال: وما يصنع لي عطاؤك أريد من بيت المال فأحمى حديده وقرّبها إليه فجزع عقيل من حرّها فقال له كلماته العظيمة: (أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها لِلعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه)(2).

ووقف على منبر المسلمين ليسنّ للحكام قانون محاسبة المسؤولين وإجراء الجرد المالي لممتلكاتهم قبل توليهم وبعده فيقول(علیه السلام): (لو خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت خائناً)(3) وفي بعض الروايات انه(علیه السلام) غلظ على احدى بناته لأنها استعارت حلية من بيت المال لتتزين بها يوم العيد وتردها، وحذرها بأنها لو لم تردها أقام عليها حد السرقة(4).

فلم يكن بحاجة إلى هيئة نزاهة أو ديوان الرقابة أو المفتش العام أو أي شيء آخر مما اضطرت إليه الدول المتحضرة اليوم لكثرة الفضائح واختلاس الأموال العامة والرشاوى تحت عناوين متعددة فضلاً عن غيرها بل يقف هو أمام مواطنيه ليحاسب نفسه.

ص: 104


1- المناقب، للخوارزمي، 98 – 99، راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية: ص24.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 224.
3- أنظر نحوه في: الكامل في التأريخ: ج3 ص399.
4- الوسائل: ج28 ص292.

هل تعلمنا من علي (عليه السلام) شعوره بالمسؤولية عن كل رعاياه وحمله هموم كل الناس في شرق الأرض وغربها فيقول: (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(1)، وقال(علیه السلام): ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(2).

هل تعلمنا من علي رحمته وشفقته حينما مرّ على دار في الكوفة وسمع أطفالاً يبكون لم يهمل الحالة فطرق الباب، خرجت امرأة سألها عن سبب بكاء الأطفال قالت: أن أباهم استشهد في صفين وبقيت وحدي لهم وأنا حائرة بين إسكاتهم وخبز أقراص لهم فبكى أمير المؤمنين لحالهم ولما تسبّب به تمرد معاوية من إزهاق أرواح الآلاف وجاء(علیه السلام) بتمر ولوز وأخذ يضاحك الأطفال ويلاعبهم وتفرغت المرأة للخبز وهو يقول(3):

ما إن تأوهتُ من شيءٍ رُزِئتُ به *** كما تأوهتُ للأيتام في الصغرِ

قد مات والدهم من كان يكفلهم *** في النائبات وفي الأسفار والحضرِ

ما أحوج البشرية اليوم إلى رحمة علي بن أبي طالب والى من يمسح على رؤوسهم بيد حانية بعد أن عبثت بها مخالب المستكبرين والجشعين والمستبدين والطغاة فإلى من تفزع؟

ص: 105


1- نهج البلاغة: الكتاب: 45
2- السابق.
3- البحار: ج33 ص47 قريب منه.

وهل تعلمنا من علي بن أبي طالب مبدأيته وعدم مساومته على الحق، توّلى الخلافة في ظرف عصيب والمدينة تعجّ بالغاضبين الناقمين ويتربص بها الانتهازيون والمنافقون وأعداء الإسلام والمسلمين فعزل الولاة السابقين وأرسل آخرين وفق معاييره، فقال عبد الله بن عباس لو تركت معاوية على الشام حتى تستتب لك الأمور فتعزله من موقع قوة، وهو عملٌ ربما يقوم به كل السياسيين وفق حسابات المصالح إلا أن علياً لم يكن يعمل لحالة مؤقتة حتى يخضع لحساباتها وإنما يؤسس لمُثل إنسانية عُليا تبقى مشعلاً يضيء للبشرية طريق السمو والكمال فلا غرو أن يضحي بالحسابات الدنيوية كما ورد عن ابن عباس قال: أتيت علياً(علیه السلام) بعد مبايعة الناس له فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً فقلت له بعد أن خرج عنه: ما كان يقول لك هذا؟ فقال: قال لي قبل يومه: إن لك حق الطاعة والنصيحة وأنت بقية الناس وإن الرأي اليوم يحرز ما في غد وأن الضياع اليوم يضيع به ما في غد وأشير عليك بشور وهو أن تقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على عملهم حتى تأتيك بيعتهم وتسكن الناس ثم اعزل من شئت منه وأبقي من شئت فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري، قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية فإن لمعاوية جرأة وهو في أهل الشام يطيعونه ويسمعون منه وذلك حجة في إبقائه فإن عمر بن الخطاب ولاه الشام في خلافته فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين...)(1).

هل تعلمنا من علي عدالته وإنصافه للناس ، ففي الرواية انه استعدى رجل على علي بن أبي طالب(علیه السلام) عمر بن الخطاب وعلي جالس فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك، فقام فجلس معه وتناظرا ، ثم انصرف الرجل ورجع علي عليه السلام إلى محله ، فتبين عمر التغير في وجهه، فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيراً! أكرهت ما كان؟ قال نعم قال:

ص: 106


1- شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج8 ص629، ومروج الذهب: ج2 ص363.

وما ذاك قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم يا علي فاجلس مع خصمك! فاعتنق عمر علياً، وجعل يقبل وجهه، وقال بأبي أنتم! بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور(1).

ويمر في طريقه في الكوفة على شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال:

أمير المؤمنين(علیه السلام): ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال)(2).

هل تعلمنا من علي(علیه السلام) نكران ذاته وتقديم المصلحة العامة على الشخصية، فإنه صاحب أعظم حق في الإسلام وهي خلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بنص قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67)، ولما رأى الأمة غير واعية لهذه المسؤولية ولا مستعدة لتحملها ورأى أن إصراره على استحصال حقه يوقع في الأمة فتنة كبيرة ليس هو المسؤول عنها وإنما الذين خالفوا وصية نبيهم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فآثر الإعراض بعد إلقاء الحجة على الأمة.

ومع ذلك لم يبخل على الحكام بالنصيحة والمؤازرة، وحين عزم الخليفة الثاني على الخروج لملاقاة الفرس استشار أصحابه فأشاروا عليه بذلك إلا أمير المؤمنين فإنه قال: (إنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك)(3) فالصحيح أن تبقى في

ص: 107


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج17 ص65.
2- الوسائل: ج15 ص66.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 146.

المدينة ردءاً وفئة تسعفهم وتمدّهم بالرجال والمؤونة وتبعث إليهم من أهل الحزم والشجاعة.. إلى آخر وصيته التي أخذ بها الخليفة. أما السياسيون اليوم فإن همهم إسقاط المنافسين لهم وإن كان على حساب الأمة والوطن والدين.

أقول: هذا وأنا أعلم أن علياً قمة سامقة فاق من قبله إلا ابن عمه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) واتعب من بعده فلم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق وقد قال للناس:(ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد)(1).

فمن كان له برنامج عمل لا يستطيع أن يحققه كله فإنه ينفّذ ما يتيسر له ويطمح للارتقاء لاستيعاب الباقي وهكذا فإن علياً يمثل أرقى برنامج حياتي إنساني فلنضعه نصب أعيننا ونُجهد أنفسنا للتأسّي به وسيوفقنا الله تبارك وتعالى ويأخذ بأيدينا {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128).

{والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).

ص: 108


1- نهج البلاغة: الكتاب: 45.

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات

اشارة

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات(1)

قصم ظهري رجلان:

كان من أقوى الأسلحة التي فتكت بجيش أمير المؤمنين(علیه السلام) ومجتمعه وأوهنت دولته وأضعفتها هو مكر الاعداء وخُدعهم حتى عبّر عنه بقاصم الظهر قال(علیه السلام) (ما قصّم ظهري إلا رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك,هذا ينفّر عن حقه بهتكه,وهذا يدعو الى باطله بنسكه)(2) ومحل الشاهد هو الاول وهو الذي عنده علم وفكر وفطنة إلا انه يستخدمها في المكر وخداع الناس وإبعادهم عن الحق.

وقد واجه الامام(علیه السلام) الوان المكر والخداع من اول لحظة لتحملّه مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عندما نفى زعماء الانقلاب موت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهددوا بالقتل كل من يقول بذلك حتى لا تتوجه الأمة الى الخليفة الشرعي وليكسبوا الوقت حتى يعدّوا العدّة ويهيئوا الأمور لمن يريدون وهذا ما حصل، وقد تناولته في خطاب سابق.

ص: 109


1- الخطبة الثانية التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.
2- غرر الحكم /9665

الغدر سياسة من لا دين له:

والى أيام خلافته وتصدّيه لشؤون الأمة حين واجه العتاة والدهاة والماكرين كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة كخدعة رفع المصاحف في معركة صفّين التي شقّت جيش الإمام(علیه السلام) فنشأت فرقة الخوارج، وكان(علیه السلام) يلام على انه ليس بمستوى دهائهم وانه غير مؤهل لقيادة الدولة لان الدهاء والخداع من مقومات السياسة وتدبير السلطة, فيتأسف(علیه السلام) لهذه الانتكاسة في الأمة وانقلاب الموازين في تصوراتها، قال(علیه السلام) (ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيساً -- أي الفطنة والذكاء --، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم -- قاتلهم الله -- قد يرى الحُوّل القُلّب -- وهو البصير بتحولات الأمور وتقلبيها -- وجه الحيلة, ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)(1) فيصف نفسه بأنه عارف بالأمور ووجوهها وعواقبها ويعرف كيف يحقق مراده ويصل الى مطلوبة لكن كثيراً من تلك الوسائل مخالفة لأوامر الله تعالى,فيتركها لله تعالى وهو قادر عليها,لكن خصومه لا يتورعون في دينهم وليس عندهم تقوى تحدّد له بوصلة سلوكهم فيقتحمون تلك الوسائل الشيطانية.

ص: 110


1- نهج البلاغة: 115 الخطبة (41)

ومن كلام له(علیه السلام) في نفس السياق قال(علیه السلام) (والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنه يغدرُ ويفجُرُ. ولولا كراهيةُ الغدر لكنت من أدهى الناس. ولكن كلّ غَدرة فَجرة وكلّ فَجرة كَفرة ، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة. والله ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة)(1)

فالإمام(علیه السلام) وإن كان لا يستعمل الدهاء والمكر لأن فيه سخط الله تعالى إلا ان ذلك لا يعني أنه مغفّل تنطلي عليه المكائد ولا يلتفت اليها,ولا انه ممن يضغط عليه ويستضعف بالقوة ليغيّر مبادئه التي يؤمن بها.

ويعلل الإمام(علیه السلام) في الخطبة السابقة سبب رفضه لتلك السياسات بقوله (ولا يغدِرُ من عَلِم كيف المرجِع) أي أن من علم أن مآل الأنسان إلى الموت والدنيا إلى الفناء ثم يحشر ليحاسب على أعماله فانه لا يقدم على ما يضّره في اخرته.

الفرق بين سياسة الغدر والسياسة العلوية:

وهذا التباين الذي ذكره الإمام(علیه السلام) بين سياسته وسياسة خصومه يمثّل المفارقة الدائمة بين المنهجين ولا يختص بزمان دون زمان حتى زماننا الحاضر

ص: 111


1- نهج البلاغة: 432 الخطبة (198)

,واليكم بعض الأساليب الماكرة التي تدَّبر اليوم لخداع الشعوب والسيطرة عليها والتحكم فيها وسوقها الى ما يريده الحكام:

1. ما يسمى بالمصطلح (ركوب الموجة) بان يستغل السياسيون مطالب حقيقية ومشروعة للشعب فينادي بها لكسب الجماهير اليه والتقوّي بهم للضغط على خصومه لتحصيل مكاسب اكبر سواء كانوا داخل الحكومة او خارجها، كمطلب تحسين الخدمات وإيجاد وظائف للعاطلين او معالجة الخروقات الأمنية او الغاء الرواتب التقاعدية الباهظة للبرلمانيين وأمثالهم وهي مطالب مشروعة نؤيدها وندعمها لكن جهات شبابية مجهولة تحاول تحريك الناس تحت عنوان هذه المطالب لأغراض معينة على راسها السيطرة على توجيه المجتمع والتحكم بحركته وانتزاع قيادته لتكون بيد جهات خفية تعمل على مواقع التواصل الاجتماعي وبدعم داخلي وخارجي مالياً واعلامياً وسياسياً وليضغطوا بذلك على الجهات الفاعلة على الارض حتى تسير في ركابهم.

2. الهاء الشعوب بالألعاب والمتع واللهو والعبث لأشغالهم عّما يجري من فساد وظلم وطغيان وتحويل انتباههم الى اللهو واللعب بدلاً من القضايا الحيوية والاهداف الحقيقية والحركة الواعية البناءة الى ترفض ظلم وفساد اولئك الحكام,وهذه السياسة يسمونها

ص: 112

(استراتيجية الالهاء) (1) وتشمل سيلاً لا ينتهي من الالعاب والبطولات والمسابقات والمهرجانات ونحو ذلك.

3. خلق المشاكل وافتعال الازمات لتمرير سياسات معينة تكون مرفوضة في الوضع الطبيعي مثلاً يريدون تخفيض دعم السلع الاساسية او الضمان الاجتماعي او الخدمات العامة كالصحة والتعليم فيخلقون ازمات مالية ليقنعوا الشعب بضرورة اتخاذ هذه الاجراءات.

او يريدون مثلاً وضع الشعب تحت المراقبة والتجسس عليه وجمع المعلومات التفصيلية عنه وتقييد حرياته وحركته، او اعتقال وتصفية المعارضين، فيفتعلون مشكلة أمنية كتفجيرات مثلاً او اظهار اعترافات شبكة تجسس وهمية وهكذا مما يجعل اتخاذ تلك الاجراءات أمراً مقبولاً وتسمى هذه السياسة (ابتكر المشاكل ثم قدّم الحلول).

4. استراتيجية التدرّج: باعتماد التدريجية في تطبيق التكتيكات حتى يصلوا الى النتيجة التي يريدونها ولو فعلوها مباشرة لأحدثت ضجة وثورة عارمة كبعض الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية,وقد تطول

ص: 113


1- بعض هذه الكلمات لخصّها أحد الاخوة الواعين من كتاب (أسلحة صامتة لحروب هادئة) لعالم الاجتماع الأمريكي (افرام نعوم تشومسكي).

المدة او تقصر بحسب أهمية القضية مثلاً يريدون تقليل الرواتب فيتركون حالة البطالة تزداد ويستقدمون عمالة اجنبية رخيصة فيرضى المواطن بأقل ما يمكن.

5. استثارة العاطفة بدل الفكر لتعطيل حالة الوعي والتأمل والتحليل: وتمييز ما هو عقلاني عن غيره فيفقد الأنسان قدرته على النقد البنّاء الذي يقود عملية الاصلاح كما ان استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور الى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات او سلوكيات.

6. إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة: بطريقة يكون غير قادر على استيعاب الطرق المستعملة للتحكم به واستعباده بان تكون نوعية التعليم المقدّم للطبقات السفلى هي النوعية الافقر حتى تبقى الهوّة المعرفية التي تفصل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى.

7. التعويض عن الثورة ورفض الظلم والفساد: بالإحساس بالذنب بجعل الفرد يعتقد انه المسؤول الوحيد عن تعاسته وان سبب مسؤوليته تلك هو نقص في قدراته وقابلياته او تقصير في جهوده فيقوم بامتهان نفسه بدل التحرك للتغيير والاصلاح.

ص: 114

ولا يخفى عليكم سريان بعض هذه الاساليب الى الشعائر الدينية وهو ما نبهنا عليه في خطابات سابقة.

هذه نماذج من وسائلهم لترويض الشعوب وتسييرها في ظل الديمقراطيات الشكلية مستفيدين من ماكنة إعلامية مؤثرة وتمويل ضخم مصدره ما سرقوه من أموال هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.

المكر لتحصيل المواقع الدينية:

وأما المكر المستخدم لتحصيل المواقع الدينية المقدّسة فهو لا يقل دهاءاً عن هذه ويقترب من جملة منها كالذي ذكرناه من فعل الانقلابيين بعد رسول الله(علیه السلام) او ما تقوم به بعض الجهات المتنفذّة بصناعة الزعامة التي يريدون ويسوّقونها الى الاتباع والمريدين الذين لا يتمكنون من المناقشة والتأمل لطول سياسة التجهيل المتبعة معهم ولأنهم اوهموهم بأن في ذلك خروجاً عن الدين ونحو ذلك فيسلّمون بالنتيجة وهذه أخطر حالات المكر التي تتعرض لها الأمة وهي راضية بحالها مستسلمة للأغلال التي كبلّوها بها ولا تسمع الى العلماء المخلصين العاملين الواعين.

ص: 115

أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل

اشارة

أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل(1)

المناسبات العلوية:

هذا الأسبوع الذي يبتدى من عيد الغدير هو أسبوع أمير المؤمنين بامتياز –كما يقال- لكثرة ما حباه الله تبارك وتعالى من مناقب في هذا الأسبوع، ففي الثامن عشر كان حفل تنصيبه خليفة لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وإماماً وهادياً للأمة بعده وأولى بالناس من أنفسهم وأمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) المسلمين ببيعته(علیه السلام) على ذلك، وهو عيد إكمال الدين وإتمام النعمة.

وفي الرابع والعشرين كانت مباهلة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) نصارى نجران بنفسه الشريفة وبأمير المؤمنين(علیه السلام) وبفاطمة الزهراء والحسن والحسين(علیه السلام) ونزول آية المباهلة في حقهم.

وفيه أيضاً أدخلهم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) تحت كسائه ونزل جبرئيل بآية التطهير.

وفيه تصدّق أمير المؤمنين بخاتمه للسائل أثناء الركوع فنزلت آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة55).

وفي الخامس والعشرين نزل في حقهم(علیه السلام) سورة هل أتى لما تصدقوا بإفطارهم على المسكين واليتيم والأسير.

وفي هذا الأسبوع بعد خمس وعشرين سنة بويع لأمير المؤمنين(علیه السلام) بالخلافة بإجماع الأمة بعد حصار عثمان في الثامن عشر ومقتله(2).

ص: 116


1- الخطبة الموحّدة لصلاة الجمعة يوم 24/ذ.ح/1433 المصادف 9/ 11/ 2012 وقد تحدّث بها سماحة الشيخ اليعقوبي من قناة النعيم الفضائية.
2- من مصادر هذه الحوادث كتاب (وقائع الأيام للشيخ عباس القمي ص137- 139).

وبذلك فقد شهد هذا الأسبوع البيعة الواقعية والظاهرية لأمير المؤمنين كي يتولى أمور الأمة.

اسبوع لمقامات الولاية:

ولما كان هذا الأسبوع لأمير المؤمنين(علیه السلام)، فإنه يكون اسبوعاً لكل ما كان يتصف به أمير المؤمنين(علیه السلام) من صفات الكمال، ولكل ما كان لعلّي(علیه السلام) من حقوق على الأمة، ولكل ما كان يمثله أمير المؤمنين(علیه السلام) من منازل ومواقع ومقامات، فهو أسبوع الولاية والإمامة والخلافة الإلهية والقيادة الربانية للأمة وللبشرية جمعاء.

لذا اقترحتُ في يومٍ ما قبل سنين(1) أن يكون اسبوعاً للنزاهة وللعدالة وللمساواة ولإنصاف المظلومين ولاسترداد ما نهب من المال العام وللقضاء على الفساد المالي والإداري وخلع المتصدين للمواقع بغير حق وتعيين المؤهّلين فيها، لأن هذه المعاني كلها وغيرها جسّدها أمير المؤمنين(علیه السلام) عندما تولى الخلافة.

وهو أسبوع بيان عظمة أهل البيت(علیه السلام)، وعلّو منزلتهم ومقامهم التي كشفت عنها السور والآيات الكريمة النازلة فيهم بسورة هل أتى، وآية التطهير، وآية الولاية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة55)، وآية التبليغ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ

ص: 117


1- ستأتي الكلمة بعنوان: (يوم النزاهة والعدالة والنظام) في هذا الفصل، ان شاء الله تعالى.

الْكَافِرِينَ} (المائدة67) وآية إكمال الدين وإتمام النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة3).

وهو أسبوع التصدق على الفقراء والمساكين ومواساتهم وإشعارهم بكرامتهم إلى حد إيثارهم على النفس كما فعل أمير المؤمنين(علیه السلام) والزهراء(س) والحسن والحسين(علیه السلام).

معركة التأويل من أهم ما يميز إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام):

ومن أهم ما يميّز امامته(علیه السلام) جهاده وقتاله على التأويل كما قاتل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) على التنزيل، أي أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قاتل العرب حتى يذعنوا للرسالة ويؤمنوا بأصل التوحيد والنبوة وعلى صدق ما جاء به رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) حتى دخلوا الإسلام طوعاً أو كرهاً.

أما بعد وفاته(صلی الله علیه و آله و سلم) فقد بدأت معركة التأويل، وهي معركة ضد من أرادوا أن يحرّفوا الكلم من بعد مواضعه ويتكلموا في كتاب الله بغير سلطان أتاهم ويغيّروا السنن ويظهروا البدع، ويحرموا ما أحلّ الله ويحلّوا ما حرّم الله، ويبعدوا من قرّب الله ويقرّبوا من بعّد الله، ويولّوا أمور الأمة من يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً ويحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهم مع كل ذلك يدّعون الإسلام وينتسبون إليه.

وهذه المعركة كان يشير إليها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في حياته ويعلن أن قائدها سيكون علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وهو حديث رواه العامة والخاصة عن طريق جمع غفير من الصحابة، ففي مستدرك الصحيحين، روى الحاكم بطريقين عن أبي سعيد قال (كنّا مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فانقطعت نعله، فتخلّف علي(علیه السلام) يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال: أبو

ص: 118

بكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً(علیه السلام)، فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال الحاكم: هذا حديث صحح على شرط الشيخين).(1)

وقد نظمها الصحابي الجليل عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) في شعره الذي كان يرتجز به في معركة صفين التي استشهد فيها، فكان من رجزه:

نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله

معنى التأويل:

هذا الاستحقاق لأمير المؤمنين أعطى تفسيراً للقول المشهور عنه(علیه السلام) (جمعت علوم القرآن في سورة الفاتحة: وجمعت علوم الفاتحة في البسملة، وجمعت علوم البسملة في الباء، وجمعت علوم الباء في النقطة وأنا تلك النقطة)، وحاصل التفسير أن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكون قابلة للتأويل والتحريف والتلاعب والتزوير وافراغها من معانيها كما عبَّر(علیه السلام) عن القرآن بأنه (حمّال ذو وجوه) الا أن يقوم العالم بالقرآن والعارف بأسراره ومعانيه بإيضاح الحقائق، ووضع النقاط على الحروف كما يقال... لأن الحروف تتشابه في الهيئات كالباء والتاء والثاء والياء والنون، وإنما يميز بينها وضع النقطة على الحرف، فكما أن وضع النقطة هو الذي يعطى للحرف معناه، كذلك أمير المؤمنين هو الذي يبيّن حقائق التنزيل ويضع الأمور في نصابها ويرجع كل شيء إلى حقيقته وهو معنى التأويل.

ص: 119


1- مستدرك الصحيحين: 3/ 122، كتاب معرفة الصحابة، مناقب علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وراجع لمعرفة مصادر الحديث في صحاح العامة وكتبهم: فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/ 425- 431.

لولا علي لم يعرف المؤمنون:

ولولا ذلك الدور الذي قام به أمير المؤمنين(علیه السلام) لكانت تفاصيل العقائد والأحكام مجملة ومبهمة مما يفسح المجال واسعاً لأن يقوم كل أحد بتأويلها حسب مشتهياته وأهوائه، وهذا حال من لم يرجع إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) ليعرف تأويل المتشابهات {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران/7).

صعوبة معركة التأويل:

إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب والمقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات.

وهذا الذي حصل بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرة حينما انقلبوا على الأعقاب وكان أثمن قربان يقدَّم في تلك المعركة هي فاطمة الزهراء(س)، وعندما تولّى أمير المؤمنين(علیه السلام) الخلافة فنكث البيعة قوم لهم عناوين كبيرة وقريبو الصلة برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم قسط آخرون ومرق فريق ثالث ووقف على الحياد فريق رابع، لكن الصفوة الذين وعوا رسالة الإسلام واتبعوا تعاليم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حقيقة كانوا ثابتين على الحق ولهم رؤية

ص: 120

واضحة كعمار بن ياسر الذي كان يقاتل في صفين ويقول (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنّهم على الباطل).(1)

هذه المعركة التي مزقت بأحزانها وآلامها قلب أمير المؤمنين(علیه السلام) وملأته قيحاً وجعلته يتمنى الموت ويجده حرياً وجديراً به.

معركة التأويل مفتوحة في كل زمان ومكان:

إن معركة التأويل ليست مختصة بزمان أمير المؤمنين(علیه السلام)، بل هي مفتوحة في كل زمان ومكان، روي عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير(2) خبث الحديد). (3)

وليس هذا فحسب بل انها تتعقد أكثر وتضيق حلقة البلاء وتشتد، فبعد أن كانت بين أئمة أهل البيت(علیه السلام) واتباعهم من جهة وبين الحكام المنحرفين والسائرين في ركابهم واتباعهم من العامة من جهة أخرى، تطوّرت لتكون داخل مدرسة أهل البيت(علیه السلام) بين من واصلوا إتّباعَ الأئمة(علیه السلام) الاثني عشر واحداً بعد واحد وهم الإمامية وبين من انشق عنهم ليؤسس فرقاً عديدة، ثم ضاق البلاء واشتدّ الامتحان أكثرفي الدائرة الأخيرة بين مستحق نيابة المعصوم(علیه السلام) وبين من يتقمصها ويدعيها بغير حق، وفي كل دائرة كان يفشل جمع كبير ويسقط في الامتحان وهذا مصداق حديث الإمام الباقر(علیه السلام) (هيهات هيهات، لا يكون

ص: 121


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 423 ترجمة عمار بن ياسر.
2- وهو الزقّ الذي ينفخ فيه الحداد.
3- سفينة البحار 1/ 204.

فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو).(1)

وحديث الإمام الكاظم(علیه السلام) لإبراهيم بن هلال (أما والله يا أبا إسحاق، ما يكون ذلك -- أي الفرج بظهور الإمام(علیه السلام) -- حتّى تُميّزوا وتُمحَّصوا، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأقل)(2).

وظاهر الرواية أن الخطاب موجّه فيها إلى الشيعة.

التحذير من التقصير في معركة التأويل:

ولأهمية هذه المعركة وخطورة آثارها وتداعياتها على الدين وعلى المجتمع فقد ورد التحذير الشديد من التقصير فيها، في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) عن آبائه(علیه السلام) قال: قال(علیه السلام): (إن العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً تلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار)(3).

وفيه روي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قوله: (إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)(4).

وفي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري(علیه السلام) عن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: (إذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل

ص: 122


1- كتاب الغيبة للشيخ الطوسي(قده): 206.
2- كتاب الغيبة للنعماني: 208، باب12، ح14.
3- – (4) المحاسن: 231 باب 17 ح 176، 177.

الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره جلّ البلاء وعظم العقاب) وهذا الحديث يلخّص لنا باختصار أسباب ما نحن فيه من البلاء والمحنة.

السلاح المهم في معركة التأويل:

إن سلاح هذه المعركة هي المعرفة بالله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم) وولاية أهل البيت(علیه السلام) وإتّباع المراجع العالمين المخلصين والتفقه في الدين والبصيرة في الأمور، والحكمة في التصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحقائق وتجلية المواقف، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإصلاح المناهج والسلوكيات المنحرفة.

فهي إذن ليست وظيفة مراجع الدين والعلماء والحوزة العلمية فقط، وإنما يقع على كل فرد في المجتمع جزء من المسؤولية بحسب موقعه ومؤهلاته وما يتوفر لديه من أدوات المواجهة التي ذكرناها كما يظهر من رواية تفسير العسكري(علیه السلام) المتقدّمة، فبعضهم بعلمه وآخر بماله وثالث بنفوذه ووجاهته، والجميع مطالبون بمشاركتهم في كل عمل وحركة لله تعالى فيها رضا وللأمة فيها صلاح، والله ولي التوفيق.

ص: 123

يوم النزاهة والعدالة والنظام

أسبوع أمير المؤمنين (عليه السلام):

يمكن أن نسمي هذا الأسبوع (بين الثامن عشر من ذي الحجة والخامس والعشرين منه) بأسبوع أمير المؤمنين(علیه السلام) وإن كانت الأيام كلها تشهد لأمير المؤمنين(علیه السلام) بالمناقب والفضائل، حتى أحدهم سُئل عن فضل أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: ما أقول في رجل كانت له في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة، قيل له وكيف كان ذلك قال: أليس أن سلام الملائكة على الإنسان منقبة، وقد روينا أنه في ليلة معركة بدر حينما أرسل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) علياً(علیه السلام) ليجلب الماء من آبار بدر التي سيطر عليها المشركون وفي طريق عودته كانت تأتي ريح عاصف تأخذ القربة من يده وتريق ماءها على الأرض وتكرّرت الحادثة ثلاث مرات وفي الرابعة أوصل الماء إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأصحابه وسأل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) عن سبب تأخره (وكم سائلٍ عن أمره وهو يعلمُ) وشرح له الحال قال(صلی الله علیه و آله و سلم) والصحابة يسمعون: اعلم يا علي أن الريح الأولى كان فيها جبرئيل وألف من الملائكة نزلوا للسلام عليك وكان في الثانية والثالثة ألفان آخران مع ميكائيل وإسرافيل(1).

لكن العادة جرت بتحديد أيام للاحتفال بعظماء الأمم والقضايا المؤثرة في مسيرة حضارتها. وقد شهد هذا الأسبوع كما هو معلوم بيعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين(علیه السلام) ولياً وهادياً وإماماً للأمة بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وفي الرابع والعشرين والخامس والعشرين منه تصدّق أمير المؤمنين بالخاتم و باهَلَ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) به وبزوجه الصديقة الطاهرة الزهراء وولديه الحسنين (سلام الله عليهم أجمعين) نصارى نجران ونزلت سورة

ص: 124


1- أنظر مفاتيح الجنان: أعمال الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان.

(هل أتى) أو (الدهر) أو (الإنسان) في حقّهم(1).

وسائلٍ هل أتى نصٌ بحق عليٍ *** أجبته (هل أتى) نص بحق علي

مناسبة رجوع الحق الى أهله:

وتوجد مناسبة أخرى قلَّ من يلتفت إليها وهي مناسبة إعادة حقه في الخلافة الظاهرية - كما يعبّرون - وبيعة الناس له بإجماعٍ لم يكن له نظير، قال ابن الأثير في تاريخه (الكامل): قتل الخليفة عثمان يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة وبويع لعلي(علیه السلام) يوم الجمعة الخامس والعشرين سنة 35 للهجرة، ويوم تسلّم أمير المؤمنين(علیه السلام) الحكم هو بحق يوم العدالة والنزاهة والمبادئ والفضائل ونظام الحكم الأمثل وإقامة دولة الحق والعدل لو وجد من استثمر تلك النعمة وحافظ عليها وعمل على إدامتها وصيانتها، وكان من كلماته(علیه السلام) لمّا بويع بالخلافة معلناً إعادة الأموال العامة والعقارات والأراضي الزراعية التي أقطعها عثمان لحاشيته ومستشاريه وأقربائه (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مالٍ أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، لرددتُه، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق)(2) وقال(علیه السلام) في تفسير تصدّيه لإدارة شؤون الأمة (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماسَ شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمَنُ المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من

ص: 125


1- أنظر: مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي.
2- نهج البلاغة،ج1، الخطبة 15، وذكرت بقية الخطبة من مصادرها الأصلية في كتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده):1/ 350

حدودك)(1) فإذا وجد يوم أو أسبوع يستحق أن تحتفل به الإنسانية يوماً للعدالة والنزاهة والشفافية مع الأمة وإعادة الحق إلى نصابه فهو يوم الخامس والعشرون من ذي الحجة الذي يُتوّج أسبوع أمير المؤمنين(علیه السلام).

ص: 126


1- نهج البلاغة، ج1، الخطبة 131

الفصل الثاني/ مع الحكم العلوية، وما نستوحيه منها في حياتنا السياسية والاجتماعية

اشارة

ص: 127

ص: 128

قصم ظهري رجلان

اشارة

قصم ظهري رجلان(1)

من محن أمير المؤمنين (عليه السلام):

بالرغم من أن أمير المؤمنين(علیه السلام) تعرض لمحن وكوارث عديدة كان منها خروج الرموز الاجتماعية الكبيرة المنتسبة إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في معركة الجمل، واستطاعوا بذلك اقتطاع شريحة كبيرة من الأمة، ثم تمرد معاوية وممارسته للتظليل بخبث ومكر، ثم فتنة التشكيك التي وقع فيها الخوارج وارتكبوا أفظع الجرائم حيث قتلوا عبد الله ابن الصحابي الجليل خبّاب بن الأرت وقتلوا زوجته الحامل وبقروا بطنها واستخرجوا جنينها فقتلوه.

المحنة الكبرى:

وكل ذلك كلف الأمة عشرات الآلاف من الضحايا الذين كانوا يمكن أن يكونوا قوة عظيمة للإسلام، ولمشروع أمير المؤمنين الإصلاحي وقد تفتّت لذلك قلبه الشريف وذاب، حتى صار يتمنى الموت ومع ذلك لم يعبّر عن شيء منها كما عبّر في حديثه الشريف: (قصم ظهري رجلان جاهل متنسك وعالم متهتك)(2)، وهو(علیه السلام) حينما يقول (رجلان) يقصد تيارين في المجتمع يمثلهما هذان العنوانان، وهما العلم الذي يكون خاضعاً للنفس الأمارة بالسوء وعدم تربيتها التربية الصالحة والانسياق وراء شهواتها والثاني هو الجهل والسذاجة والتخلف المتلبس بلباس الدين فتنعدم عند كليهما القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح لأنهما يفتقدان البصيرة التي تدلهما على الهدى، فيضِلان، ويُضلان معهما أمة كبيرة تُخدَع بعلم الأول الذي يراد به غير الله تعالى، وبتنسك الثاني الممزوج بالجهل والحماقة.

ص: 129


1- من حديث سماحة الشيخ مع وفد ناحية الإصلاح وأور في محافظة ذي قار ومنطقة معمل الورق في البصرة يوم 8 / ج2 / 1426 المصادف 15/ 7/ 2005.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج20 ص248.

سبب ضعف الأمة وتمزقها:

وهاتان الظاهرتان هما سبب ضعف الأمة وتمزقها وتمكن الأعداء الخارجيين وسيطرتهم على الأمة، ويساهم هذان الرجلان في إبعاد الأمة عن مسيرتها الصحيحة وقيادتها الحقيقية ويضللان الناس.

أما الأول فبعلمه الذي لم يوظفه للهدى والصلاح، والثاني بنسكه الظاهر وتقدسه الفارغ من الوعي والبصيرة والحكمة، وشواهد هذين التيارين كثيرة عبر التأريخ. وهذا ما تعيشه الأمة إلى اليوم، فكيف سنستطيع مواجهة الأعداء الخارجيين ونحن نختزن هذين المرضين اللذين ينخران في جسد الأمة حتى يقضيا عليها ويجعلاها فريسة للطامعين.

الدعوة الإلهية لمواجهة هذين الخطرين:

وقد نبّه الله تبارك وتعالى عباده إلى هذين الخطرين ووضع لهما العلاجات التفصيلية، فحثّ على التعلم والتدبر والتفكر والحوار والجدال بالتي هي أحسن، واتباع العلماء ونبذ الجهل والتقليد الأعمى للآباء والموروثات الاجتماعية والتعصب للرأي، وكذا فعل الأئمة المعصومون(علیه السلام) في المئات من الأحاديث الشريفة.

ودعا الله تبارك وتعالى كثيراً إلى مخالفة النفس والهوى وعدم الانصياع لغوايتها وتزيين الشيطان، ومنها قوله تعالى: {فَأمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُنّيَا، فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى، وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَفْسَ عَنِ الهَوَى، فِإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى} (النازعات: 37-41).

ص: 130

احذروا مشتهيات النفس:

وقد فهم الأخلاقيون من الآية الشريفة عدم اتباع هوى النفس وما تشتهيه حتى في الأمور المحللة إذا وجد شيئاً أفضل منها، فمثلاً حينما يريد الإنسان أن يستريح من حرّ الصيف والانقطاع الطويل للكهرباء وصعوبة الحياة فيسافر إلى أوربا أو الدول المجاورة لقضاء فصل الصيف، فإنه لم يفعل محرماً ولكن ألم يكن الأجدر به أن يواسي أهله وإخوانه ويشاركهم صعوبة الحياة وينفق هذه الملايين في قضاء حاجة مؤمن أو تزويج شباب يعانون من الكبت الجنسي، أو يعالج مريضا يشكو من حالة مستعصية ولا يجد ثمناً للعلاج، فهذه مرحلة أرقى من درجات نهي النفس عن الهوى تزيد العبد قرباً إلى الله تبارك وتعالى.

قصة عبد الله بن المبارك:

يروي لنا التأريخ عن عبد الله بن المبارك أنه كان يحج سنة ويعمر سنة، وداوم عليه على ذلك خمسين سنة، فخرج في بعض سني الحج وأخذ معه خمسمائة دينار إلى موقف الجمال بالكوفة ليشتري جمالاً للحج، فرأى امرأة علوية على بعض المزابل تنتف ريش بطة ميتة، قال: فتقدمت إليها فقلت: ولم تفعلين هذا؟ فقالت: يا عبد الله لا تسأل عما لا يعنيك، قال: فوقع في خاطري من كلامها شيء، فألححت عليها فقالت: يا عبد الله قد ألجأتني إلى كشف سري إليك. أنا امرأة علوية ولي أربع بنات يتامى، مات أبوهن من قريب وهذا اليوم الرابع ما أكلنا شيئاً، وقد حلت لنا الميتة، فأخذت هذه البطة أصلحها وأحملها إلى بناتي يأكلنها، قال: فقلت في نفسي: ويحك يا ابن المبارك أين أنت عن هذه؟ فقلت: افتحي حجرك، ففتحت فصببت الدنانير في طرف إزارها وهي مطرقة لا تلتفت، قال: ومضيت إلى المنزل ونزع الله من قلبي شهوة الحج في ذلك العام ثم تجهزت إلى بلادي فأقمت حتى حج الناس وعادوا، فخرجت أتلقى جيراني وأصحابي، فجعل كل من أقول له: قبل الله

ص: 131

حجك وشكر سعيك، يقول لي: وأنت قبل الله حجك وشكر سعيك، إنا قد اجتمعنا بك في مكان كذا وكذا، وأكثر الناس علي في القول، فبت متفكرا فرأيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام وهو يقول لي: يا عبد الله لا تعجب فإنك أغثت ملهوفة من ولدي، فسألت الله أن يخلق على صورتك ملكاً يحج عنك كل عام إلى يوم القيامة، فإن شئت أن تحج وإن شئت لا تحج)(1).

إن الله تبارك وتعالى بعث ملكاً على صورة ابن المبارك ليؤدي المناسك ويهب ثوابها إلى ذلك الرجل الذي تنازل عن رغبته النفسية بالحج رغم استحبابها العظيم، وساعد أسرة علوية محتاجة بالمبلغ المخصص لتلك العبادة. فحصل على ثواب الحج إضافة إلى ثواب إنقاذ تلك الأسرة المؤمنة.

فعلى الأمة أن تلتفت إلى هذين العدوين الكامنين في داخلها، وهما اتباع الهوى وقلّة الوعي، وإلا فإن الأمة سوف لا تهتدي إلى طريقها ولا تتعرف على قيادتها الحقيقية التي تريد لها الخير والتي وصفتهم الأحاديث الشريفة بأنهم سفن النجاة.

ص: 132


1- البحار: ج42 ص11، عن تذكرة الخواص.

استئثار السلطة والعنف السياسي

اشارة

استئثار السلطة والعنف السياسي(1)

استئثار السلطة وعدم صبر المحكوم:

توجد ظاهرتان في العلاقة بين السلطة والشعب هما السبب في حصول الفجوة والافتراق بينهما وتعمل عدة عوامل أخرى على توسيعها وتأجيجها، هما استئثار الحكام وعدم صبر المحكوم، فإذا التفت المتسلطون إلى أنانياتهم وكرّسوا جهدهم للتفرد بمغانم السلطة وجني المكاسب الشخصية مما يسبّب الحيف والظلم والجور على عامة الشعب الذين قد يصبرون على مستوى معين من الحرمان والتعسف لكن صبرهم لا يستمر إلى ما لا نهاية، وعندما يصل الحرمان من ابسط حقوق الحياة الإنسانية الكريمة إلى درجة لا تطاق فإن الصبر والتصبّر لا يجدي حينئذٍ وينفجر الوضع، وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه)(2).

هاتان الظاهرتان جمعهما أمير المؤمنين(علیه السلام) حينما سُئِل عن قضية مقتل الخليفة عثمان فأجاب(علیه السلام) باختصار (استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)(3).

فلو لم تستأثر بطانة الخليفة بعائدات الدولة الإسلامية ووزعت الحقوق على أصحابها بعدالة وإنصاف أو على الأقل كفلت للرعية الحد المعقول من مستوى المعيشة لما حصلت الفتنة ، ولو أنَّ الناس حين حرمت من بعض حقوقها

ص: 133


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من العلماء والأساتذة من السنة والشيعة الذين حضروا ندوة (واقعة الغدير... الدلالات والمعطيات) التي عقدتها المؤسسة الإسلامية للدعوة والتبليغ والإرشاد بالتعاون مع البيت الثقافي التابع لوزارة الثقافة في النجف الأشرف يوم 22/ذو الحجة/1427 المصادف 12/ 1/ 2006 بمناسبة ذكرى عيد الغدير المبارك.
2- أنظر البحار: ج70 ص247، وفي ظلال نهج البلاغة: ج4 ص284.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 30.

التي يمكن التنازل عنها صبرت على الحال وكظمت غيظها لتجنبت ما هو أسوا حيث حصل ذلك الجرح العميق في جسد الأمة الذي ظل ينزف دماً إلى اليوم.

لنتأسى بالحكمة والوعي:

وهو(علیه السلام) في الشق الثاني من جوابه يشير إلى إنهم لم يتأسوا به(علیه السلام) في كيفية تصرفه إزاء تلك الظاهرتين حيث ضرب(علیه السلام) لنا أسمى المُثل لمعالجتها، فحينما غصب حقه في خلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الثابت له بالنص أولاً وبالاستحقاق ثانياً حيث كان من الواضح لدى جميع الصحابة أفضليته عليهم حتى اشتهر عن الخليفة الثاني عمر قوله (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1) وقول عبد الله بن العباس حبر الأمة وترجمان القران كما يصفونه لما سئل عن مقارنة علمه بعلم علي(علیه السلام) قال (وعلم علي من علم النبي وعلمي من علم علي وما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر)(2)، وهم يروون عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أقواله الشريفة (أعلمكم علي)(3) (أقضاكم علي)(4) (علي مع الحق والحق مع علي)(5) وغيرها مما رواه الفريقان.

ومع هذا كله فقد صبر عليٌ(علیه السلام) وتحَّمل وكان ناصحاً للخلفاء ويسدد حركتهم بالمشورة الصائبة، كنصيحته للخليفة الثاني بأن لا يخرج بنفسه لقتال الفرس في القادسية حتى لا يستكلبوا عليه ويقولوا هذا رأس العرب إن

ص: 134


1- البحار: ج109 ص36.
2- مناقب آل أبي طالب: ج1 ص310.
3- الكافي: ج7 ص424، تهذيب الأحكام: ج6 ص306، خصائص الأئمّة(علیه السلام): ص84.
4- الاستيعاب: ج3 ص38 هامش الإصابة، مواقف القاضي الإيجي: ج3 ص276، شرح ابن أبي الحديد: ج2 ص235.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص297.

قتلناه تخلصنا منهم واستمع الخليفة لنصيحته بعد أن أشار عليه الصحابة بالخروج وهكذا مواقفه الأخرى، وبقي خمسة وعشرين عاماً مقصياً عن الحكم لكن دوره الايجابي العظيم في حفظ هيبة الدولة الإسلامية ووحدة الأمة وسموها وازدهارها بقي معطاء زاخراً ولو كان خرج بالسيف ودعا إلى نفسه والتّف حوله شطر من الأمة الوليدة لكان مصيرها الاندثار.

ولما اجمع أهل الحل والعقد على استخلافه مع امتناعه الشديد أثار عليه الفتن والحروب من كانوا بالأمس مستأثرين بفيء الأمة وترك احدهم بعد وفاته من الذهب ما يكسر بالفؤوس، وخرجوا من المدينة وقد حملوا على الإبل صناديق جمعوا فيها تلك الأموال لما سمعوا علياً يصعد المنبر بعد توليه السلطة يقول (ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو وجدته قد تزوج به النساء ومُلِكَ به الإماء وتفرق في البلدان لرددته على حاله فإن في الحق والعدل لَسِعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ، وأقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم)(1).

وعلق عليه أحد المؤرخين(2) (وكانت هذه الخطبة مما سُرَّ به وسكن إليه المؤمنون المخلصون وأهل الحق والبصائر ، واستوحش منه المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، وكل من تطاعم الأثرة أو كان في يده شيء منها لما تواعد به صلوات الله عليه من استرجاع ذلك من أيديهم ، ورده إلى بيت مال المسلمين).

وقال(علیه السلام): (وَوَاللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً)(3).

ص: 135


1- أنظر البحار: ج32 ص16، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص269.
2- شرح الأخبار للقاضي النعماني المغربي 1/ 373.
3- نهج البلاغة: الخطبة 74.

النهي عن الاستئثار في الحكم:

وكان مما يوصي به عمّاله على الولايات الابتعاد عن الاستئثار والاختصاص بشيء دون الرعية مما يفترض مساواتهم فيه، فقد جاء في عهده العظيم إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر قوله(علیه السلام) (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولَّهم محاباة وأثرة، فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة)(1).

أي كلّفهم بالولاية والإدارة بعد امتحانهم وإثبات نجاحهم لا محاباة ومجاملة وميلاً منك لهم وأثرة أي استبداداً بلا مشورة ، فإن المحاباة والأثرة من مصاديق الجور والخيانة. ويقول(علیه السلام) له (وإياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة)(2) أي لا تختص لنفسك بامتيازات ومنح يفترض أن الناس سواسية فيها.

وهذا ما وضّحه الإمام الحسين(علیه السلام) حينما حلّل الخلفية التاريخية لثورته المباركة في كتابه إلى رؤوس الأخماس في البصرة (أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله اصْطَفى مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم) عَلى خَلْقِهِ، وَأَكْرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتارَهُ لِرسالَتِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَصَحَ لِعِبادِهِ، وَبَلَّغَ ما أُرْسِلَ بِهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) وَكُنّا أَهْلَهُ وَأَوْلِياءَهُ وَأَوصِياءَهُ وَوَرَثَتَهُ، وَأَحَقَّ النّاسِ بِمَقامِهِ فِي النّاسِ، فَاسْتَأْثَرَ عَلَيْنا قَوْمُنا بِذلِكَ، فَرَضينا وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ وَأَحْبَبْنَا الْعافِيَةَ، وَنَحَنُ نَعْلَمُ أَنّا أَحَقُّ بِذلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنا)(2).

وكان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يحذّر أمته من استئثار الحكّام بعده فعندما ورد معاوية المدينة المنورة وخرج صحابة رسول الله(صلی

ص: 136


1- نهج البلاغة: ج3 ص583، الكتاب: 53. (2 السابق.
2- تأريخ الطبري: ج3 ص280، مثير الأحزان: ص27، بحار الأنوار: ج44 ص340، أشار المصدران إلى آخر الحديث فقط، أعيان الشيعة: ج1 ص590 ، وقعة الطفّ: ص107.

الله علیه و آله و سلم) من الأنصار لاستقباله سألهم هل أخبركم النبي عن هذا الحال الذي انتم فيه قالوا نعم قال(صلی الله علیه و آله و سلم) (إنكم ستلقون بعدي أثرة قال معاوية: وبماذا أوصاكم؟ قالوا: أوصانا بالصبر قال معاوية –بتهكم- إذن فاصبروا)(1) وشرحها ابن الأثير في النهاية فقال أي (يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء)(2).

الانفصام بين الشعب والحاكم:

وهاتان الظاهرتان تفسران الكثير من حالات العنف وانفصام العلاقة بين السلطة والشعب، وحينئذ ينزلق البلد إلى الهاوية وينشغل بصراعاته الداخلية وتبدأ الحكومة بصرف ثروات البلد على حماية نفسها من غضب الجماهير وتحيط نفسها بأسيجة عديدة من الجلاوزة والمأجورين وتصرف عليهم المال الكثير، بينما لو أنفقت بعضه القليل على مصالح الشعب لما احتاجت إلى كل هذا الهدر للأموال.

وهذه الحقيقة يتعامى عنها كل الساسة من الطواغيت والظلمة والمستبدين والمستأثرين. فمثلا الولايات المتحدة حينما مضت لوحدها في حساب مصالحها خسرت اقرب حلفائها وهم دول الاتحاد الأوربي التي ذهبت بعيداً إلى اتخاذ مواقف لا مبرر لها إلاّ معارضة سياسات الولايات المتحدة التي تحذّرها من التغريد خارج سربها(3).

ومثل الأزمة القلقة التي تعيشها لبنان بسبب هذه الظاهرة وكذا كل الدول التي لا تعيش الشراكة الحقيقية لكل مكونات الشعب في الحقوق والواجبات.

ص: 137


1- كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي: ص386، والبحار: 33 ص285.
2- البحار: ج33 ص285.
3- إشارة إلى تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية في لندن قبل أيام (من هذا الخطاب) تلمح لقرار فرنسا بإرسال مبعوث لمناقشة الملف النووي الإيراني.

ومن أوضح أمثلتها ما يعيشه العراقيون اليوم من قتل وتدمير وتخريب للبلاد بسبب استئثار بعض الكيانات السياسية المهيمنة على القرار بثروات البلد وخيراته وتوجيهها للقرارات بما يحلو لها وفق مصالحها من دون اكتراث لحقوق للآخرين من دون أن يصبر الآخرون ويعطوا للوسائل السلمية والسياسية حقها ولا يجعلون آخر الدواء الكي، فسقط العراق في هذا المستنقع الآسن لا لشيء إلا هذه المصالح المتعارضة وإن حاول كل فريق أن يلبس ثوباً ينفعه في تحشيد اكبر عدد من ورائه كثوب الطائفية أو القومية والحقيقة غير ذلك إذ إنهم لا يعرفون إلا مصالحهم الخاصة.

سمو موقف المرجعية:

لقد علّمت المرجعية الرشيدة هؤلاء المستأثرين درساً في السمو والنبل حين أمرت أبناء الفضيلة بالانسحاب من تشكيلة الحكومة لتريهم أن ما يتصارعون عليه هو وهم زائل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسفك الدماء و تخرب البلاد وتهجّر العوائل الآمنة ونعطل الحياة من أجلها.

ورغم انسحابهم فقد أمرتهم المرجعية بالتصويت ب- (نعم) في البرلمان عند التصويت على نيل الحكومة ثقة البرلمان لإعطائها الفرصة حتى تعمل كل ما يصلح حال الشعب ويبني البلد.

وهذا الموقف لا يفهمه هؤلاء المتسلطون الغارقون في أنانياتهم كما لم يفهم الكثيرون سمو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وربما خطأوه في تصرفاته، ولا يستطيع أحد أن يجاهد نفسه ويتخذ هذه المواقف الحكيمة إلا إذا تربّى في مدرسة علي بن أبي طالب(علیه السلام) ونهل من أدابة وعلومه ومعارفه.

فمتى يثوب السياسيون إلى رشدهم ليعوا هذه الحقيقة؟

ص: 138

كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس

اشارة

كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس(1)

تعليمات عسكرية:

من وصايا أمير المؤمنين(علیه السلام) لجيشه في ساحة القتال (أجزأ امرؤٌ قِرنه، وآسى أخاه بنفسه، ولم يَكِلْ قِرنَه إلى أخيه فيجتمع عليه قِرنهُ و قِرنُ أخيه)(2)

القِرنْ: هو الخصم الذي يبارز الرجل ويقاتله باعتبار أن صيغة القتال يومئذٍ هي بالمبارزة رجلاً لرجل، فالإمام(علیه السلام) يطلب منهم أن يواجه كل رجل خصمه، ولا يتقاعس عنه، لأن عدم مواجهته تعني تفرغه فينضمّ إلى آخر من أصحابه ويجتمعان على مقاتلة واحد من أصحاب الإمام(علیه السلام) وتكون المهمة أصعب، بينما يطلب الإمام(علیه السلام) من كل جندي من أصحابه أن يكفيهم خصمه، ثم يواسي أخوته ويؤازرهم على مواجهة أقرانهم، قال(علیه السلام) (وأيُّ امرئٍ منكم أحسّ من نفسه رباطة جأشٍ عند اللقاء، ورأى من أحدٍ من إخوانه فشلاً، فليذبَّ عن أخيه بفضل نجدته التي فُضِّل بها عليه، كما يُذبُُّ عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله)(3).

واجه خصمك في الحياة كلها:

وهذه الوصية منه(علیه السلام) وإن كانت واردة في المواجهة العسكرية، إلا أنها في الحقيقة جارية في كل المواجهات والمسؤوليات، فإذا لم يقم أحدٌ بواجبه فستحصل إحدى نتيجتين: إما إهمال ذلك الواجب وتضييعه، أو اجتماع هذا الواجب على أخيه الذي يشاطره المسؤولية إضافة إلى واجبه الأصلي، وفي كل من

ص: 139


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد ضمّ إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية / فرع البنوك في بغداد يوم 2 ربيع الأول 1430 المصادف 28/ 2/ 2009.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 123.
3- نهج البلاغة: الخطبة: 123.

النتيجتين ظلم وقد قيل في الأدب (من الظلم سعي اثنين في قتل واحدٍ).

وكمثال على ذلك فإن العائلة التي فيها عدة أفراد يختلفون بينهم بالشعور بالمسؤولية، والمفروض توزيع واجبات الأسرة عليهم كالإنفاق عليها أو قضاء حوائجها وتسيير شؤونها، فالمتكاسل من هؤلاء يترك واجباته ويبقى نائماً حتى الظهر مما يضطر الشاعر بالمسؤولية إلى قيامه بواجبه وواجب أخيه الذي ضيّعه لعدم إمكان التفريط به فلا يدعه ضميره وشعوره بالمسؤولية قبول الإهمال والتضييع.

واجبات الرسالي:

ونحن اليوم في منعطف تاريخي يحدّد ملامح المستقبل لفترة لا يعلم مداها إلا الله تبارك وتعالى، وتواجهنا تحديات ضخمة ومنوعة وهي تقتضي قيامنا بمسؤوليات واسعة.

لا يسع الإنسان المؤمن الرسالي المخلص الغيور على دينه ومجتمعه وحضارته ومستقبله أن يتخلى عنها فإذا تقاعس عنها الآخرون فإنه لا يعدّ ذلك التقاعس مبرراً لترك واجباته بل يحاول أن يسدَّ الفراغ الذي تركه الآخرون ويحمل نفسه ما لا تطيق. لأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي إزاء تلك التحديات.

السياسة تأريخ حاضر:

ومما يبعث على الأسى ويملأ القلب ألماً إصابة الأمة بحالة من التقاعس والكسل والفشل تقرب من الموت وإذا أردتُ الاستفادة من التاريخ الذي يصفونه بأنه سياسة ماضية باعتباره يسجل تاريخ حركة الأمم والحكومات والصراع على السلطة والأحداث التي مرت عليها، ويصفون السياسة بأنها تأريخ حاضر باعتبار أن التاريخ يعيد نفسه وأن السنن التي جرت في الأمم السالفة جارية في الأمم اللاحقة لأن الدوافع واحدة والمنطلقات التي تقود إلى الأحداث والسلوكيات

ص: 140

واحدة، أقول إذا أردت تشبيه حالة الأمة اليوم بحالة سابقة فإنها تحكي حالتها في أخريات أيام أمير المؤمنين(علیه السلام) وزمان الإمام الحسن(علیه السلام)، حين عصفت بها الفتن والشبهات ولعب حب الدنيا بعقولها، ومالت إلى الدعة والراحة والسكون والترهل والاكتفاء بترتيب أحوالها الخاصة واللامبالاة بأمور الدين والمصالح العامة، وأمير المؤمنين(علیه السلام) يستنهض الهمم ويثير العزائم بكل ما أوتي من عناصر التأثير والهداية والإصلاح فلا يجد مجيباً حتى أصبح يتمنى الموت ليتخلص منهم ويدعو(علیه السلام): (اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني)(1)، فاختاره الله تبارك وتعالى لجواره وخلّف عليهم معاوية، واستمرت تداعيات ذلك التقاعس حتى اضطرّ الإمام الحسن(علیه السلام) إلى توقيع وثيقة الهدنة وإيقاف القتال، وانطلق معاوية ليعيث فساداً فقتل خيار شيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) وقطع أرزاقهم وشتّت شملهم وولّى عليهم يزيد من بعده، ثم آل الأمر إلى أن يقدّم الإمام الحسين(علیه السلام) نفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه قرابين لإصلاح حال الأمة وبعث الصحوة والحياة فيها، وهكذا استمرت التداعيات.

ونقرأ في التاريخ أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان القائد العام لجيش الإمام الحسن(علیه السلام) أرسل له معاوية أربعمائة ألف درهم ووعده بوعود إن ترك الإمام والتحق بمعاوية، فاتبع هواه والتحق بمعاوية، ونعجب من مثل هذا التصرف ولكن أشهدكم بالله كم من شخص اليوم حصل على موقع سياسي أو وظيفي أو ديني أو اجتماعي باسم المرجعية، فلما استقر وضعه أدار ظهره لها وللناس الذين رفعوه إلى هذا المقام وانشغل بمصالحه الشخصية وأنانيته فما الفرق بين الموقفين؟

ص: 141


1- نهج البلاغة: الخطبة: 25.

احذروا أن تنكثوا عن المشروع الرسالي:

إنني أعيذكم أيها الإخوة أن تستمروا على هذا الحال وتكونوا كذلك الجيل، وسبباً في نفس النتائج - والعياذ بالله - فإن التاريخ سيسجّل، والله ورسوله والمؤمنون مطّلعون {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} لقد بلغ الكسل حداً حتى عن حضور صلاة الجمعة الشعيرة المقدسة الواجبة التي لم يضاهها شيء من الواجبات، مضافاً إلى الثواب العظيم والمغفرة التي أُعدّت لمن سعى إليها مثل (ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسدها على النار)(1) و(من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل)(2) وغيرها كثير. فبماذا نصف من لا يحركه وجوب ولا مثل هذا الثواب العظيم، ولا الشعور بالمسؤولية تجاه المشروع الإسلامي المبارك ليحضر صلاة الجمعة التي هي أبسط عمل يؤديه؟

كيف تؤدي مسؤوليتك؟

اشارة

وإذا سألت ما أنا وما خطري حتى أطالب بالنهوض بالمسؤولية الضخمة؟ فإن جوابك بسيط يبدأ من الكلمة التي افتتحنا بها الحديث وذلك بان يقوم كل شخص بمسؤوليته وواجبه المكلف به بحسب وضعه، وسيفتح الله تبارك وتعالى له آفاق جديدة للعمل، ولنبدأ بالمثال الذي ذكرناه وهو صلاة الجمعة فاعزم على حضورها والالتزام بها وعدم التقاعس عن المشاركة فيها، وحينئذٍ ستلتقي مع إخوة مؤمنين وستتبادل معهم الأحاديث والهموم والقضايا وحينئذٍ ستجدون أمامكم أفكاراً ومشاريع ورؤى تتوسع تدريجياً بفضل الله تبارك وتعالى، فلربما ستهتدون إلى مشروع اقتصادي أو مؤسسة اجتماعية أو خيرية لمساعدة الناس، أو تقتني كتاباً مفيداً أو تطلع على مسألة ابتلائية تنفع بها إخوانك وهكذا.

وقد دلّنا أمير المؤمنين(علیه السلام) على هذا الأسلوب من الاهتداء

ص: 142


1- الوافي: ج8 ص1115.
2- السابق: ص1114.

للعمل، قال(علیه السلام) في خطبة الوسيلة (الاهتمام بالأمر يثير لطيف الحيلة)(1) فإن الإنسان قد يجد نفسه لأول وهلة عندما يريد كتابة بحث أو تأليف كتاب أو إنشاء مشروع اقتصادي في السوق وكأنه لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ، ولكنه حينما يفكّر في المطلوب ويكرّس نفسه له ويضع قدميه على خط البداية يجد ضوءاً يدلّه على الخطوة التالية وهكذا تتوالى الخطوات وتثار في ذهنه (لطائف الحيل) والتدابير والبرامج والخطط العملية حتى يجد نفسه وقد أسس شيئاً لم يكن يتوقعه، كالتاجر مثلاً يدخل السوق ويجالس التجار ويعرف أساليب العمل ومداخلات السوق والعناصر المؤثرة فيه والمساحات الناجحة والثغرات والمعوّقات وهكذا مع همّة وإخلاص وإذا به في النهاية يرى قد حقّق له وجوداً محترماً في السوق.

المرجعية الرشيدة معكم:

وإذا أضفنا إلى ذلك أنك لست وحدك في الميدان بفضل الله تبارك وتعالى بل لك إخوة عاملون وتسندك مرجعية لا تتوقف عند حدود المواقف العريضة. بل تشاركك حتى النظر في التفاصيل وآليات العمل وخذ لك مثلاً الخطبة الثانية لعيد الأضحى المبارك عن تنشيط القطاع الخاص وإيجاد البدائل.

واليوم وبعد عدة أشهر وبعد تصاعد الأزمة المالية العالمية وضيق الخناق الذي فرضته على ميزانية هذا العام عقدت الحكومة (مؤتمر بدائل التنمية)(2) في

ص: 143


1- بحار الأنوار للمجلسي 74/ 289.
2- عقد في بغداد يوم الأربعاء 29 صفر المصادف 25/ 2/ 2009 بحضور رئيس الوزراء نوري المالكي ووزراء التخطيط والنفط والتجارة والعلوم ومتخصصون دعوا إلى دعم القطاع الخاص وإيجاد بدائل للنفط كمصدر للثروة، وقال وزير التخطيط: قبل نصف قرن كان 80 من وارد النفط يصرف على الاستثمار و20 في التشغيلية واليوم بالعكس. أقول: هو عين ما أورده سماحة المرجع (دام ظله) في خطبة عيد الأضحى، والتي كانت بعنوان: (رقابة المرجعية على ميزانية 2007 سلطت الأضواء على فساد المتسلطين)، خطابات المرحلة: ج5 ص67.

بغداد وأعادوا نفس الأفكار التي تحدثنا بها في الخطبة.

نسأل الله تعالى رضاه وحسن العاقبة والتوفيق لما يحب وأن يصلح حالنا بحسن حاله، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 144

التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم عمله

التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم عمله(1)

قاعدة في السلوك الاجتماعي:

روى لنا أمير المؤمنين(علیه السلام) حديثاً عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يعطينا فيه قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ويعالج لنا مشكلة تمزّق المجتمع وتغذي البغضاء بين أبنائه.

فمن خطبة له(علیه السلام) قال: (واعلم أنّ لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله، فمن طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه)، وقد قال الرسول الصادق(صلی الله علیه و آله و سلم): (إنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويحبّ العمل ويبغض بدنه).

واعلم أنّ لكل عملٍ نباتاً، وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلة، فما طاب سقيُه، طاب غرسُه وحلَت ثمرته، وما خبث سقيُه، خبث غرسُه وأمّرت ثمرته)(2). وورد هذا الحديث في رواية أوردها الشيخ الطوسي(قدس سره) عن الإمام الباقر(علیه السلام) وفيها قوله (أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله)(3).

ص: 145


1- محاضرة سماحة الشيخ اليعقوبي على طلبة بحثه الشريف يوم الأحد 23 صفر 1434 المصادف 6/ 1/ 2013.
2- نهج البلاغة، الخطبة (154) في فضائل أهل البيت(علیه السلام)، أوّلها (وناظر قلب اللبيب).
3- أمالي الطوسي: 616، الجزء الرابع عشر في أخبار إبراهيم الأحمري.

تحقيق في نص الرواية:

أقول: يلاحظ فرق بين النصين في الفقرة الثانية وهو الشخص المبغوض، إذ وصفه نص نهج البلاغة بالبدن ونص الأمالي بالعبد، وبرأيي القاصر فإن نص الشريف الرضي في نهج البلاغة هو الأصح، والوجه في ذلك يظهر من خلال الالتفات إلى أمور:

1. إنّ رواية نهج البلاغة وصفت الشخص المبغوض بالبدن ولم تصفه بالعبد فهو كسائر الأبدان والأجساد المادية الخالية من الصفة الإنسانية الحقيقية وهي العبودية لله تعالى {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان/44) فهو لا يستحق أن يوصف بالعبودية التي هي أسمى صفة للإنسان، وبها كرّم الله تعالى نبيه المصطفى(صلی الله علیه و آله و سلم) حين أمر بذكره في تشهّد وتسليم الصلاة بالعبودية ثمّ الرسالة (وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أمّا نصّ الأمالي فقد وصف الشخص المبغوض بالعبد وهو لا يستحقه.

2. إن نص نهج البلاغة استعمل لطيب الباطن والظاهر (مَنْ) وهي تستعمل للعاقل بينما استعمل (ما) للمبغوض وهي تُستعمل لغير العاقل فيناسبه لفظ البدن غير العاقل لا العبد الذي يحمل تمام العقل.

3. إن نص نهج البلاغة قدّم المحبوب بالذكر في كلا الفقرتين (حب العبد وحب العمل) وهو الأليق، بينما قدّم النص الثاني الشخص وإن كان مبغوضاً.

ص: 146

معنى الرواية:

وعلى أي حال فإن معنى كلامه(علیه السلام) باختصار:

إن ما يصدر من الإنسان من تصرفات وأفعال ومواقف إنما يعكس حقيقة هذا الشخص وباطنه وذاته، قال(علیه السلام) في كلمة أخرى (ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)(1) وكما قيل في المثل المعروف (وكل إناء بالذي فيه ينضح).

وقد أعطى(علیه السلام) في ذيل كلامه مثالاً لهذه المعادلة ووسيلة الوصول إلى الباطن الطيب، فإن العمل كالنبات فيه طيب حلو وفيه خبيث مر، فإذا كان الماء الذي يسقي الزرع والأرض طيباً كان الزرع طيباً حلواً، وإلاّ كان مراً خبيثاً، وهكذا النفوس إذا سُقيت من معينٍ نقي للمعرفة والعلم والأخلاق كانت صالحة طيبة، وإلاّ فستكون خبيثة.

تمييز الإنسان الصالح:

وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، فإنه تستفاد منه قاعدة لتمييز الإنسان الصالح من الفاسد، لأنّ الأول لا يترشح منه إلاّ فعل الخير بعكس الثاني، فيُقيّم الإنسان وتعرف حقيقته من خلال الحكم على أفعاله.

لكن -- وكما قيل -- فإنّ لكل قاعدة شواذاً، فإنّ الإنسان الصالح -- عدا المعصوم(علیه السلام) -- قد يصدر منه فعل سيء يبغضه الله تعالى إما لغفلة، أو لضعف في المناعة والعصمة والإرادة، أو لغلبة الهوى والشهوة وتزيين الشيطان أو

ص: 147


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 36.

لسوء تقدير، أو لتأثّر بأقران سيئين، أو لضعف أمام تهديدات وإغراءات ونحوها من أسباب السقوط في المعاصي.

وإن الشخص الفاسد قد يقوم بفعل محبوب لله تعالى كمساعدة محتاج أو رعاية يتيم أو قضاء حاجة إنسان آخر ونحوها، لتأثره بجو إنساني وعاطفي عام، أو لبقية حياة في ضميره أو بتأثير إنسان صالح يحبّه وهكذا.

حلحلة الإشكال:

وبهذا نحلُّ الإشكال الذي قيل على سياق الحديث، وحاصله: إنّ الحديث النبوي الشريف ينافي الفقرة السابقة عليه وهو ينقض المطابقة بين الظاهر والباطن التي ذكرها أمير المؤمنين(علیه السلام): وملخص الجواب: إنّ هذا الإشكال مبني على كون الحديث النبوي شاهداً على ما أورده من القاعدة، فيُجاب الإشكال بأنّ الحديث ذكر للإشارة إلى الاستثناء من القاعدة، وليس استدلالاً على نفس القاعدة.

توجيه السيد حبيب الله الخوئي:

وقيل في توجيهه شيء آخر ذكره العلاّمة السيّد حبيب الله الخوئي شارح نهج البلاغة، قال(قدس سره): (وإنما الإشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام عليه السّلام به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا ، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر ، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ، إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا ، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن ، فينافي قوله عليه السّلام: فما خبث ظاهره خبث باطنه.

ص: 148

وكذلك مقتضى بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثاً، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن، فينافي قوله: فما طاب ظاهره طاب باطنه.

والذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الإشكال بعد التّروي وصرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّي أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن ، عقّبه بهذا الحديث النّبوي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم تنبيها و إيقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا ، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه الرّسول الصّادق المصدّق.

فاللاّزم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدَّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة ، و إذا كان محبوب العمل مبغوض البدن أي الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كي يوافق عمله نفسه.

والغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل وتطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين ، و يفاز إلى النّعيم الدّائم والفوز الأبدي، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى، فيقع في العذاب الأليم و الخزي العظيم ، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين)(1).

التوجيه المناسب:

أقول: هذا المعنى صحيح في نفسه، وإن كان يحتاج إلى مقدمات لاستظهاره من الحديث الشريف وحل الإشكال به.

ص: 149


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 9/ 248.

ونذكر هنا وجوهاً أخرى بحسب فهمنا القاصر لسبب إيراد أمير المؤمنين(علیه السلام) هذا الحديث في ذيل كلامه المذكور وهي كالنتائج والثمرات المستفادة من هذا الحديث الشريف، ومنها:

1. أراد(علیه السلام) أن يمنع من اعتماد الشخص على هذه القاعدة فيعتقد أنّه ما دام مؤمناً فإنه لا يصدر منه إلاّ الفعل الحسن فيأخذه العجب ويغفل عن مراقبة نفسه ولا يحسب لاحتمال ضعف النفس وغواية الشيطان، فنبهه الإمام إلى إمكان الوقوع في الفعل المبغوض مهما كانت درجة إيمانه –عدا المعصومين(علیه السلام)- فلا يركن إلى نفسه.

وكذا زرع الأمل في نفوس السيئين بأنّهم مهما كانت درجة انحطاطهم فإنّه يمكن أن يصدر منهم الفعل الحسن فلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله تعالى ولطفه وعليهم أن يسعوا للقيام بالفعل الحسن وإن كانوا فاسقين، قال تعالى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر/53).

2. إن هذا التطابق بين الظاهر والباطن لابد أن يتحقق ويكون تاماً لأنّه غير قابل للتفكيك لأن الظاهر صورة للباطن، كالمطابقة بين الصورة في المرآة وصاحبها، حيث لا يتصور عدم المطابقة بينهما، فإذا حصل شيء على خلاف هذه القاعدة، فإنه يُعالج بما يعيد فاعله إلى هذه القاعدة.

فالمؤمن إذا صدر منه فعل مبغوض إلى الله تعالى فتح له باب التوبة والاستغفار وطلب العفو حتى يمحو ذلك الخطأ ويعود إلى المسار الصحيح، وقد يحتاج الأمر إلى أن يُبتلى ويعاقب بمرض أو

ص: 150

مصيبة أو همٍّ أو خسارة وغيرها مما ذُكر في كفارات الذنوب، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورة/30).

والكافر الذي ليس له في الآخرة من خلاق، إذا صدر منه فعل يحبّه الله تعالى أعطى جزاءه في الدنيا مما يحبّه ويرغب فيه ويعمل من أجله لكي لا يبقى له استحقاق عند الله تعالى ويعود التطابق بين الظاهر والباطن.

لأنّ الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى ليس بالمعنى المعروف عندنا نحن البشر لتنزهه سبحانه عن ذلك، وإنما يعني آثارهما من الثواب والعقاب وهذا معنى صحيح أكّدته روايات كثيرة.

3. إن ذكر الحديث النبوي الشريف للمنع من الحكم على شخص ما بأنّه صالح أو غيره، ومحبوب عند الله تعالى أو مبغوض من فعل واحد أو فعلين بالاستناد إلى هذه القاعدة، بأن يقال: إنّه لو كان صالحاً لما صدر منه الفعل السيء، ولو كان مبغوضاً عند الله لما صدر منه الفعل المحبوب، فأتى(علیه السلام) بالحديث النبوي ليفيد أنّه قد يصدر منه الفعل السيئ وهو محبوب عند الله تعالى، وقد يقوم بالفعل المحبوب وهو مبغوض عند الله تعالى.

نعم يمكن الحكم عليه إذا تحوّلت أفعاله إلى سيرة مستمرة وغالبة عليه، فإنها تكشف عن ملكة راسخة بهذا الاتجاه أو ذاك، وهذا ما ذكره الفقهاء في معنى العدالة من انها ملكة نفسية راسخة تُثمر استقامة على جادة الشريعة.

4. إنّ العبد مهما تظاهر على خلاف باطنه فإنه سيعود إليه وتنكشف حقيقته وتتحقق المطابقة بين الظاهر والباطن، فقد يصدر من الشخص السيئ

ص: 151

فعل حسن بتصنع ورياء وخداع، ويصدر من الإنسان الصالح فعل سيء، لكن كل واحد منهما لابد أن يعود في النهاية والخاتمة إلى ما يطابق باطنه مهما طال الزمن، قال تعالى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الإسراء/84).

والتاريخ حافل بأسماء أشخاص كانت حياتهم مملوءة بالفسق والابتعاد عن الله تعالى لكنّهم خُتم لهم بالخير لأنّ أصلهم ومعدنهم كان كذلك كبشر الحافي والحر الرياحي مثلاً، ويوجد أمثلة كثيرة للعكس من ذلك كإبليس اللعين الذي كان مع الملائكة وعبد الله تعالى ستة آلاف سنة ثمّ خُتم له بالشقاء، وهذا لا ينافي الاختيار لأنّ كلاً منهما باختياره فعل ما يوجب له تلك الخاتمة.

5. إنّه(علیه السلام) إنما ذكر الحديث لمعالجة مشكلة موجودة في المجتمع تحكم العلاقات بين الناس ومنشأها عدم التفكيك بين تقييم الشخص وتقييم فعله أي تطبيق الملازمة المذكورة في كلام الإمام(علیه السلام) من دون الالتفات إلى الاستثناء، والمشكلة هي إن أحدنا إذا اختلف مع شخص آخر أو لم يرتضِ فعلاً من أفعاله فإنه يرفضه جملة وتفصيلا ويعاديه ويشنّع عليه.

مشكلتنا اليوم هي التمزق:

فالمشكلة التي نعاني منها وتمزّق وحدة المجتمع هي التوسع من رفض الفعل إلى رفض نفس الفاعل، وبدل الاعتراض على الفعل نفسه كحاله يتحوّل إلى رفض الشخص كلياً وتسقيطه وتفسيقه وإلغائه ولو كان إنساناً مؤمناً ملتزماً بالخط العام للشريعة، وفي هذا خروج عن القواعد الشرعية وتجاوز للحدود {وَمَن يَتَعَدَّ

ص: 152

حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق/1) {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة/229).

وبالمقابل فإذا أحسن له شخص بفعل ما فإنّه يتحوّل عنده إلى إنسان محبوب وإن كان معروفاً بابتعاده عن الشريعة، فالإمام يدعو إلى التفكيك بين ذات الشخص وفعله وعرض كل منهما على ميزان التقييم بمعزل عن الآخر، فإذا كانت ذاته وباطنه صالحة فلا يجوز لك تسقيطه في المجتمع لموقف استنكرته منه، أو أخطأ فيه فإنّ المؤمن قد يقع في الخطأ والخطيئة ثم يتوب ويصلح شأنه ويعود قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف/201) فلا يجوز انتهاك حرمة المؤمن لفعل سيء صدر منه.

هذه مشكلة مهمة نعاني منها يعالجها الإمام(علیه السلام) بالالتفات إلى هذا الحديث الشريف، فلتكن عندنا رويّة وحكمة في تعاملنا مع الآخرين، ولا نتورط أمام الله تعالى في تسقيط الآخرين ورفضهم والتشهير بهم لموقف اختلفنا فيه معهم وهذا الدرس الذي أردت بيانه واستفادته من الحديث النبوي الشريف.

تسقيط الآخرين لنا:

وقد شهدنا في شهري محرم وصفر الحاليين(1) تسقيطاً وتشهيراً من البعض لأنهم لم يوافقونا على بعض المواقف التي اتخذناها ونعتقد أن فيها رضا الله تعالى

ص: 153


1- شهد شهري محرم وصفر من العام 1434 ه/2013م الكثير من الأخذ والرد ممن لم يرق لهم أن يصدر سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) توجيهاته بمنع التطبير، وإرشاد الزائرات المؤمنات أن لا يبرزن للزيارة مشياً لأيام طويلة وبدون محرم معهن، بالنظر لما يتضمنه طريق المشي للحسين(علیه السلام) من احتكاك مباشر مع الرجال لصعوبة المنام أو الحصول على سيارة النقل وسط الزحام الذي يبلغ أوجه في زيارة الأربعين بقرابة 15 مليون زائر، وما في المتن ما تعودناه من خلق سماحة الشيخ (دام ظله) وورعه عن الاجترار واللوك بالمعاصي والاغتياب، وتراه يسطر كلماته في أن يبرر للآخرين موقفهم، وإن كان من شيء فبالحكمة والموعظة الحسنة.

وصلاح الأمة، وقد أصبحت هذه الحالة السيئة منتشرة بكل أسف والمفروض بمن يعمل وفق تعاليم المعصومين(علیه السلام) أن يفكّك بين الفعل وذات فاعله حتى لو اعتقد أن ما صدر منه كان سيئاً.

أفعال العبد الظاهرية تشكل باطنه:

ولا تفوتني الإشارة إلى أنَّ المعروف والمتداول إن الظاهر انعكاس للباطن، وإن الباطن هو الأصل والظاهر مظهر له وكاشف عنه، لكن لا يبعد أن يستظهر العكس من الخطبة الشريفة لقوله(علیه السلام) (واعلم أن لكل ظاهرٍ باطناً على مثاله) أي أن الباطن يتشكل وفق الأفعال التي تصدر من العبد، فإن الشخص صاحب الباطن السيء يستطيع أن يتكلّف القيام بأفعال صالحة وهذا يغيّر باطنه تدريجياً إلى الصلاح وإن كان ليس كذلك قبل ذلك، وبالعكس فقد يكون له باطن صالح لكن قام بأفعال سيئة من دون أن يتوب ويستغفر ويندم فيفسد باطنه.

وهذا معنى صحيح وموافق للروايات التي مضمونها: إذا أذنب العبد صارت في قلبه نكتة سوداء، فإذا لم يتب وأذنب ثانياً صارت في قلبه نكتة ثانية وهكذا حتى يسوّد القلب ويموت فلا يرجى منه الخير والعياذ بالله تعالى.

ص: 154

تفسير أمير المؤمنين (عليه السلام) لثورات الشعوب

اشارة

ثورة الشعب المصري نموذجا(1)

قانون سقوط الحكام وقيام الثورات:

من كلام لأمير المؤمنين(علیه السلام) في تفسير الأحداث التي أدّت إلى مقتل الخليفة عثمان، قال(علیه السلام): (وأنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)(2).

وقال(علیه السلام) في خطبته الشقشقيّة (إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه - وهي تصوير للمتكبر -- بين نثيله -- وهو الروث -- ومعتلفه -- وهو موضع العلف أي أن همَّه هذان -- وقام معه بنو أبيه يخضمون -- وهو أشدّ من القضم الذي هو بطرف الأسنان -- مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتلهُ، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته -- أي بطره أو بطانته وهو حاشيته --)(3).

ص: 155


1- كلمة كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فجر يوم الخميس 24 شعبان 1434 الموافق 4/ 7/ 2013 وألقاها من خلال قناة النعيم غداة إعلان القوات المسلحة عن عزل الرئيس المصري عن الاخوان محمد مرسي ووضع خارطة طريق لمرحلة انتقالية استجابة لملايين المتظاهرين الذين تجمعوا منذ يوم 30/ 6 حتى مساء 3/ 7.
2- - نهج البلاغة: خطبة (30)
3- - نهج البلاغة: خطبة (3)

يعطي الإمام(علیه السلام) باختصار قانونا وقاعدة تفسّر سقوط الحكام وثورات الشعوب عليهم، وهو الاستئثار والتفرد والاستبداد بالأمور وتقريب خواصّه من الأقرباء والمتملّقين والمنتمين لحزبه أو عشيرته ويغدق عليهم ويطلق أيديهم في المال العام ومؤسسات الدولة ، وهؤلاء ظلمة لا إنصاف لهم ولا رحمة فتحرم الغالبية العظمى من الشعب من حقوقها، فيصبرون ويتململون ويشكون حتى إذا فقدوا القدرة على الصبر والتصبّر ثاروا و انتفضوا وسحقوا الحكام وأزالوهم.

هذه المعادلة التي حكمت دوما العلاقة بين الشعوب والحكومات المستبدّة، لكن سكر الملك ولذة السلطة والنفوذ والنفس الفرعونية التي يتخذها صاحبها إلها {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجاثية/23) تأبى الإذعان لهذه الحقيقة ولا تتعظ بالتجارب السابقة والأمثلة الكثيرة حتى تكبو وتسقط ويقضي عليها ما جنته.

الشعب في السياسة العلوية: عماد الدين وجماع المسلمين:

لذلك كان أمير المؤمنين(علیه السلام) ينبّه ولاته وعماله إلى هذه الحقيقة ويحذّرهم من هذا السقوط فمن عهده(علیه السلام) لمالك الأشتر لماّ ولاّه مصر (فاملك هواكَ، وشُحَّ بنفسك عما لا يحلُّ لك، فان الشُحَّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبَّت أو كرِهَت واشعِر قلبكَ الرحمة للرعية، والمحبّةَ لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم) وقال(علیه السلام): (أنصِفِ اللهَ، وأنصفِ الناسَ من نفسِك، ومن خاصةِ اهلِك، ومن لك فيه هوىً من رعيّتِك، فإنك ألاّ تفعل تظلِم،

ص: 156

ومن ظلم عِباد الله كان اللهُ خصمَهُ دونَ عبادهِ، ومن خاصمه الله أدحضَ حجّته، وكان لله حرباً حتّى ينزع أو يتوب) وقال(علیه السلام): (وليكن أحبّ الأمور إليكَ أوسطَها في الحقّ وأعمّها في العدل واجمعها لرضى الرعيّة فإنّ سُخط العامة يُجحِفُ برضا الخاص، وإنّ سُخطَ الخاصة يُغتفر مع رضى العامة) (وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامةُ من الأمة، فليكُن صغوكَ لهم وميلك معهم).(1)

هذا هو دور الشعب وهكذا يؤسس أمير المؤمنين(علیه السلام) لما اتفقت عليه الدول المتحضرة اليوم من سيادة الشعب وكونه مصدر السلطات ومانح الشرعية والرجوع إليه في شؤونه حيث وصفه(علیه السلام) بأنه عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء.

أسباب الثورة المصرية:

استحضرت كل هذه المعاني ووجدتها صادقة -- وكيف لا تكون كذلك وقائلها أمير المؤمنين(علیه السلام) -- ومطابقة للواقع وأنا أتابع غضبة شعب مصر وثورته وهو ينزل بالملايين إلى شوارع القاهرة وسائر المدن المصرية في مشهد قد لا نجد نظيراً له ليستعيد مصر ويحرّرها من خاطفيها الذين تلفّعوا باسم الإسلام ليحققوا مآربهم في

ص: 157


1- نهج البلاغة ج3 (خطبة 291)

الوصول إلى السلطة، وليرفع غطاء الشرعية عن من منحه إياها قبل عام (1) بسبب عدم البصيرة والاستعجال في الأمور.

لقد تنكّر الرئيس المعزول لشعبه وشركائه ونكث عهوده ولم يبذل الجهد الكافي لإصلاح أحوال الشعب وحلّ مشاكله بل زادها تأزّماً لعدم أهليته ولأنّه وحزبه انشغل بالاستبداد والاستئثار بالأمور وقادوا عملية واسعة للسيطرة على مفاصل الدولة كلّها من أعلى المناصب إلى ما هو دونها لينشئوا ديمقراطية مزيّفة تعيدهم إلى السلطة باستمرار في كل انتخابات لأن أدوات الوصول إليها من المال والإعلام والمناصب والوظائف ستكون كلّها بأيديهم، وبحسب تصريح أحدهم فقد قرّروا عدم إعطاء السلطة لغيرهم قبل مرور ثمانين عاماً أي بعمر تأسيس حزبهم، وكأنّهم يعترفون بذلك أنّ غرضهم من معارضة الحكومات السابقة هو نيل الدنيا وليس الآخرة كما هو المفروض في أدبياتهم ويريدون أن يأخذوا جزاء كلّ سنة من عمر معارضتهم سنة في لذّة السلطة الزائلة.

وكما قيل أنّهم فشلوا في كلّ شيء ولم ينجحوا إلاّ في جمع الشعب بكل فئاته على رفضهم والمطالبة برحيلهم، وبالغوا في النكاية بالشعب حين صمّوا آذانهم عن سماع صوته والنزول إلى رغبته ولو بإجراء استفتاء شعبي على بقائهم في السلطة وهو خيار

ص: 158


1- وصل مرسي مرشح الإخوان المسلمين إلى كرسي الرئاسة بعد جولتين من الانتخابات وأعلنت النتائج الثانية يوم 3/شعبان/1433 الموافق 24/ 6/ 2012 وفاز على منافسه بنسبة 51,73.

دستوري، وذهب الحزب أبعد من ذلك حينما استخفّ بمعارضيه وقدرتهم على حشد الرأي العام وهدّد بالعنف وسفك الدماء.

وعي الشعب المصري:

لقد شخّص الشعب المصري بوعيه وحرارة ثورته في وقت مبكّر وقبل مرور عام على تولي الحزب المعزول أنّ بلدهم في خطر وتأريخهم في خطر ووحدتهم في خطر وكلّ مصالحهم الحيوية والإستراتيجية من الأمن والاقتصاد والثقافة والتنوّع الاجتماعي في خطر، حتّى عقيدة الشعب المصري المبنيّة على التسامح والأخوة والنقاء بدؤوا بمسخها وتشويهها وقسّموا الشعب المصري إلى طوائف وأعراق ودرجات، والإسلاميين إلى درجات واعتبروا حزبهم هو الجنس الأرقى وينظرون إلى الآخرين باستعلاء وازدراء، وغذّوا العنف والكراهية وأسّسوا أو اجتذبوا عدة خطوط من جماعات العنف وتصفية الخصوم، وما الحادث الوحشي المريع الذي أدّى إلى استشهاد المرحوم الشيخ حسن شحاتة ورفاقه (1) عنّا ببعيد، بعد تحريض شديد ضد

ص: 159


1- بينما كان يشارك المرحوم الشيخ شحاتة في احتفال أقيم في زاوية أبي مسلم بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام المهدي(عجل الله فرجه) ليلة الاثنين 14 شعبان 1434 المصادف 24/ 6/ 2013 هجم المئات من المتعطشين للقتل المشحونين بفتاوى التكفير والمزوّدين بأدوات جارحة وعصي على المنزل ودمّروه ثم انهالوا على المجتمعين طعناً وضرباً فقتلوا الشيخ شحاتة وأربعة آخرين وجرحوا (35) ومزّقوا أجسادهم وسحلوهم بعد الموت. والشيخ شحاتة من كبار الدعاة إلى ولاية أمير المؤمنين(علیه السلام) في مصر وغيرها منذ اعتناقه لهذا المذهب قبل أكثر من عقدين.

الشيعة، وأُريدَ لمثل هذا الحادث أن يكون نذر شؤم لحرب طائفية طاحنة لم يعرفها الشعب المصري من قبل، من دون أن يكلّف النظام نفسه بالتحقيق في القضية ومعاقبة الفاعلين وهم معروفون مشخّصون بالصوت والصورة فجنوا على أنفسهم وقُتلوا بسيف البغي والظلم الذي سلّوه لتصفية خصومهم، وفي الحديث (لو بغى جبل على جبل لتدكدك).

وعي الجيش المصري:

وكانت القوات المسلّحة واعية أيضاً للتحريف الخطير في عقيدتها التي لا تزال تُدرّس إلى اليوم في أكاديمياتها على أن العدو الأوّل هو الكيان الصهيوني، وإذا بالنظام يتحوّل إلى خادم للمصالح الأمريكية والصهيونية بشكل وصف بأنه أكثر من الرؤساء السابقين المتهمين بالانبطاح والاستسلام للكيان الغاصب، ويجعل العدو الأول المعارضين له في الرأي والمخالفين له في العقيدة من أبناء وطنه، وإثارة الفتن والقلاقل في الدول الأخرى حين دعوا إلى التخلص من الشيعة والجهاد في سوريا، فلا نستغرب من الضغوط الأمريكية على الجيش والشعب ليتراجع عن رفضه للنظام، وتكرار

ص: 160

النظام وأنصاره لكلمة الشرعية في خطاباتهم بشكل ممل (1) ليوحي للعالم أنّ الشرعية والديمقراطية مهدّدة في مصر استجلاباً لعطفه، ولكن ذلك كلّه لم ينفعهم.

خيانة المشروع الإسلامي عند المتزينين بالعناوين البراقة:

إن الخسارة الكبرى التي يتحمّل وزرها هذا الحزب الذي اتّخذ من الإسلام شعاراً له ليس في فقد منصب الرئيس وقيادة البلاد ولا في محاكمة رموز الحزب ومثولهم أمام القضاء في تهم عديدة، وإنّما في خيانتهم للمشروع الإسلامي وفشلهم في تقديم الإسلام على أنّه الحلّ الوحيد لإنقاذ الناس من المشاكل والعقد وإدارة شؤون الحياة وإقامة دولة العدالة وحقوق الإنسان، ممّا يُعرِّض جهود وتضحيات العلماء والمفكّرين والشهداء إلى الضياع وبذلك فقد أحبطوا كلّ أملٍ في إقناع الشعوب بقيادة الإسلام للحياة في كلّ شؤونها، فهل تستحق شهوة السلطة والحكم والاستحواذ على المال العام على مدى سنة واحدة هذه الخسارة الإستراتيجية التي يصعب النهوض منها؟.

وهذه الانتكاسة المريرة المؤلمة سبّبها لنا غيره أيضاً من الأحزاب الإسلامية التي تمكّنت من السلطة بشكلٍِ أو بآخر في دول المنطقة ومنها العراق، فإن أعظم قلقنا من انتكاس المشروع الإسلامي بسبب حماقات وأنانية ولؤم من يرفع شعاراته مكراً للوصل إلى السلطة.

ص: 161


1- قال أحد المراقبين أن كلمة الشرعية تكررت (158) مرة خلال عشر دقائق من خطاب الرئيس مرسي الأخير عشية عزله.

نصيحتنا للشعب المصري:

إنّنا ننصح أحبتنا وأشقاءنا في مصر أن لا يتعجلوا الأمور لكيلا يقعوا في نفس الخطأ قبل عام فيأتي من يختطف منهم نصرهم وثورتهم ويركب الموجة مستغلا عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خارطة طريق تفصيلية فيركب الموجة ويصادر جهد الجماهير وتضحياتهم كما اختطف الحزب المعزول انتصار 11/شباط/2011.

ونحذّرهم من أن تدعوهم قدرتهم وسيطرتهم إلى ظلم أحد أو تصفية أحد لكونه معارضاً بالرأي ومخالفاً في العقيدة والتوجه السياسي

فليستفيدوا من أهل الخبرة من الوطنيين المخلصين في كل المجالات ليضعوا لهم برنامج يؤسس لدولة متحضرة تُحترم فيها إرادة الإنسان وكرامته وتوفّر له أسباب الحياة السعيدة التي يستحقها شعب مصر العريق الطيب المنجب.

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد/7) {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت/69).

ص: 162

الفصل الثالث/ درس حركي من كلمة امير المؤمنين (عليه السلام) (فزت ورب الكعبة) وصلح الامام الحسن (عليه السلام)

اشارة

ص: 163

ص: 164

درس حركي من كلمة امير المؤمنين (عليه السلام):(فزت ورب الكعبة) وصلح الامام الحسن (عليه السلام)

درس حركي من كلمة امير المؤمنين (عليه السلام):(فزت ورب الكعبة) وصلح الامام الحسن (عليه السلام)(1)

الحمد لله كما هو اهله وصلى الله علة نبيه وسيد رسله ابي القاسم محمد وعلى اله المعصومين

الفوز بوعد الله تعالى:

نقف اليوم عند موقفين لأعظم قائدين في الاسلام بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وهما امير المؤمنين والحسن المجتبى (صلوات الله عليهما) لنتأمل فيهما ونأخذ منهما درساً حركيا في بناء الامة الصالحة المطيعة لربها.

فعندما وقع امير المؤمنين(علیه السلام) في محراب الشهادة في مسجد الكوفة مضمخا بدمه الشريف قال (فزب ورب الكعبة)(2) كان(علیه السلام) يريد انه فاز ببلوغه المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) اوانه فاز بلقاء الله تعالى و رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم) والزهراء (صلوات الله عليها)، وفاز لأنه نجح في الامتحان وأنهى كل حياته على الاستقامة التي أرادها الله تبارك وتعالى ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) وغيرها من المعاني.

ص: 165


1- الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر المبارك لسنة 1432 التي امّها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي يوم الاربعاء 31- 8- 2011.
2- البحار: ج41 ص2.

نصرة الأمة شرط النهوض:

ولكننا ألان نريد أن نبين وجهاً آخر لهذه الكلمة الشريفة، نستفيد منه في العمل الحركي الإسلامي، ومن هذا الوجه ننطلق لفهم موقف الإمام الحسن(علیه السلام) مع معاوية مما سمي صلحاً أو هدنة أو غيرها.

وبيان هذا الوجه يحتاج الى مقدمة ملخصها: إننا نعتقد أن الإمام المعصوم(علیه السلام) أولى من الناس بأنفسهم وأموالهم ، وان ولاية أمر الأمة ثابتة له(علیه السلام) واقعاً سواء قام بالأمر أو قعد عنه لمانع ما، ولذا ورد في الحديث النبوي الشريف (الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا)(1).

ولان ولاية أمر الأمة ممارسه عملية واسعة تدير شؤون الحياة بكل تفاصيلها فإنها تحتاج الى مؤازرة ونصرة، وقدرة لدى الانصار على تحمل المسؤوليات على مختلف مستوياتها كالعسكرية، و السياسية، والاقتصادية، و الإدارية، و الفكرية، والإعلامية، و الاجتماعية، وغيرها، ومالم يجد الإمام العدد الكافي من القادرين على النهوض بمفاصل المشروع المخلصين له و المطيعين لأوامره ، فانه لا يتحرك بمشروعه في ولاية أمر الأمة وإدارة شؤونها مع انه حق حصري به ، خوفاً على الرسالة من الفشل و الضياع وتعريضها لضربةً قاضيةً من الأعداء.

لذا نعتقد إن عرض الأمة نصرتها الصادقة للمعصوم(علیه السلام) وقناعته بقدرتها على تحمل المسؤولية شرط ومقدمة لإعمال المعصوم هذا الحق وتنفيذه على الأرض، والشاهد على ذلك أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يقم دولته المباركة ويمارس صلاحياته في سياسة أمر الأمة في مكة بل في المدينة المنورة بعد أن بايعه أهلها في العقبة الأولى و الثانية واشترط عليهم أن ينصروه ويحموه كما يحمون نسائهم وأموالهم.

ص: 166


1- البحار: ج44 ص2.

ولما لم يجد امير المؤمنين(علیه السلام) عدداً كافياً من الأنصار بعد وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) اعتزل أمر الناس وتركهم وما أرادوا، فانقلبوا على أعقابهم لكنه(علیه السلام) استمرار في أداء وظائف الامامة الاخرى.

ولما وجد الأنصار بعد مقتل الثالث وانثال الناس عليه بالبيعة نهض بالأمر وولي أمر الأمة ، وقال(علیه السلام) في خطبته الشقشقية (أما والذي فلق الحبّه وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما اخذ الله على العلماء ألاّ يقارّوا على كظّةِ ظالم ، ولا سَغَبِ مظلوم ، لألقيت حَبلها على غاربها ، ولسقيتُ آخرها بكأس أَوّلِها ، وألفيتم دنياكُم هذه ازهد عندي من عفطَة عنز)(1).

وقد ورد في عدة روايات ان الاصحاب كانوا يطلبون من الائمة(علیه السلام) القيام بالأمر خصوصاً في فترة الامام الصادق(علیه السلام)، وكان الامام(علیه السلام) يُرجع السبب الى قلة الانصار ، وهو لا يعني بالضرورة قلة عدد الاصحاب والمضحين ، وانما قد يكون لقلة الاصحاب القادرين على النهوض بمسؤولية بناء الدولة وتطبيق شريعة الله تعالى في كل مفاصل الحياة ، وولاية شؤن الامة ، ولذا لم يصح مقايسة الامر مع نهضة الامام الحسين(علیه السلام) لان النتائج المطلوبة من الحركتين مختلفة و البحث عميق.

غياب الناصر:

وهذا الشرط كما هو ملاحظ في بداية النهوض بالأمر ، كذلك هو مطلوب لاستدامة التصدي ، فمتى ما شعرت القيادة الدينية إن الأمة قد تغيرت ، وانها لا تريد هذه القيادة وهذا النظام، ولم تعد مستعدة للدفاع عنهما ونصرتهما ، بسبب

ص: 167


1- نهج البلاغة: الخطبة: 3.

شقوتها وسوء اختيارها ولإنسياقها وراء الشهوات وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء ، فان الإمام والقائد يعيد إليها أمرها وليتولاه من تشاء إن كانت لها أراده ، أو يتولاها من يقهر إرادتها ويتسلط عليها بالقوة.

النكوص الرسالي:

هذا النكوص و الانقلاب على الأعقاب عاشته الأمة في النصف الثاني من خلافة امير المؤمنين(علیه السلام) بعد أن تثاقلت الى الأرض وأصغت الى المرجفين ، وبعد ان استشهد خيارها وصلحائها كعمار بن ياسر وذي الشهادتين وابن التيهان ومالك الاشتر ونظرائهم ، وخَفَتَ بريق الحماس و الوهج الذي استُقبِلت به حكومة امير المؤمنين(علیه السلام)، وتقوضت أطراف دولته المباركة وانحسرت سلطته حتى حوصر في الكوفة وسط مجتمع متباين مشكك متردد متخاذل ، فمن خطبةً له(علیه السلام) لما تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن، فقال(علیه السلام) موبخاً أصحابه لتثاقلهم عن الجهاد (ما هي الا الكوفة: اقبضها وابسطها، وان لم تكوني إلا أنت تهًبُّ أعاصيرك فقبحكِ الله)(1).

وكان هذا الخط التنازلي لطاعة الأمة وصلاحها مستمراً بالهبوط و الانحدار، وانه سيصل في لحظة ما الى الانهيار قال(علیه السلام) في نفس الخطبة (واني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعِتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة الى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم)(2).

ص: 168


1- نهج البلاغة، ج1، خطبة /25.
2- نهج البلاغة: الخطبة: 25.

معنى جديد لقوله (عليه السلام): فزت ورب الكعبة:

ولو وصلوا الى تلك النقطة، فلا يكون أمام امير المؤمنين(علیه السلام) إلا إرجاع أمرهم إليهم وفك الميثاق الغليظ بينه وبينهم بعد أن نكلوا بواجباتهم ، وهذا يعني تسلط معاوية على الأمة لأنه متربص بالأمر وأعدَّ له عُدتهَّ من الأموال و الجيوش و المعدات و الإعلام المضلِّل و الدعاوى المقدسة لنفسه -- ككونه خال المؤمنين و المطالب بدم الخليفة المقتول عثمان -- ، وهذا ما كان يخشاه امير المؤمنين(علیه السلام) على الأمة ، ويدعو الله تبارك وتعالى أن لا يريه هذا الموقف ففي نفس الخطبة قال(علیه السلام) (اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأَبدلِهم بي شراً مني)(1).

وهذا الدعاء منه(علیه السلام) ليس فراراً من تحمل أي ذلة ومهانة ظاهرية في سبيل الله تعالى لأنه(علیه السلام) كان مستعداً لتحمل أي شيء في طاعة الله تعالى كما صبر على عدوان القوم على بضعة المصطفى(صلی الله علیه و آله و سلم) فاطمة الزهراء(علیه السلام) بنصب عينيه وإنما لان قيامه(علیه السلام) هو شخصياً بهذا الموقف يعرض الاسلام و التشيع الى خطر جسيم، وقد حقق الله تعالى له(علیه السلام) أمنيته واستجاب دعائه فرزقه الشهادة قبل أن يبتلى بهذا الموقف ، فقوله(علیه السلام) (فزت ورب الكعبة)(2)، أي نجوت بفضل الله تبارك وتعالى من هذا البلاء العظيم ، ولم أبقى الى اليوم الذي أرى فيه معاوية يتحكم بأمور المسلمين ، وهو(علیه السلام) يرى الموت أهون عليه من رؤية فعل من أفعال معاوية فكيف يطيق تسلطه على رقاب المسلمين، فمن خطبة له(علیه السلام) لما أغارت خيل معاوية على الانبار وقتلوا وسلبوا وعادوا الى أهلهم سالمين قال

ص: 169


1- السابق.
2- البحار: ج41 ص2.

(علیه السلام) (فلو إن امرءأُ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديرا)(1).

بلاء الإمام الحسن (عليه السلام):

لكن الله تبارك وتعالى ادّخر هذا البلاء العظيم للإمام الحسن السبط المجتبى(علیه السلام) ، إذ إن حال الأمة رجع الى التقاعس والخذلان وحب الدعة والسلامة والإخلاد الى الأرض ، ولم تنفع في إصلاحه الصدمة القوية باستشهاد امير المؤمنين(علیه السلام)، ولا الجرعة القوية بتصدي الإمام الحسن(علیه السلام) سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وسيد شباب أهل الجنة الذي لم يستطع حتى معاوية وإعلامه المضلل من التشكيك في أهليته واستحقاقه.

ولم تمض الا عدة أشهر حتى وصل الحال بالإمام الحسن(علیه السلام) الى ما سأل أبوه(علیه السلام) من الله تعالى أن يعفيه منه ، حيث استسلم اقرب الناس إليه وقائد جيوشه الى إغراءات معاوية، وكتب بعض قادة جيشه الى معاوية(2) (أن إذا شئت تسليم الحسن سلمّناه إليك) ودبَّ اليأس و الشك و التردد في قواعده الشعبية، وكان تكليفه(علیه السلام) أن يعيد أمر الأمة إليها ويلقي حبلها على غاريها كما عبَّر امير المؤمنين(علیه السلام) ليقودها من يقودها الى الضلال.

علة صلح الإمام الحسن (عليه السلام):

وكان معاوية المتربص بالأمر قد قويت شوكته وازداد نفوذه وكثرت أنصاره وأمواله لذا كان من الواضح إن الأمر سيؤول إليه بحسب المعطيات

ص: 170


1- نهج البلاغة، ج1، خطبة /27.
2- انظر: البحار: ج44 ص47، وصلح الحسن: للشيخ راضي آل ياسين: ص69.

الموجودة على ارض الواقع ، وهنا تصرف الإمام الحسن(علیه السلام) بحكمة وشجاعة ورحمة للبقية الباقية من شيعة أبيه(علیه السلام) وأنصاره، فحول هزيمة الامة هذه الى نصر وتحقيق مكاسب ، ولم يترك الامر مجاناً ومن دون مقابل يحفظ كيان الاسلام ويحمي ابنائه البررة فعقد اتفاقاً مع معاوية وأملى عليه شروطه التي تقتضي تسليم الأمر بعده الى الامام الحسن(علیه السلام)، وان لا يتعرض لشيعة أبيه بالسوء، وان لا يمنع عنهم أرزاقهم وان يخصّص مبالغ لعوائل الشهداء مع أبيه(علیه السلام)، وان يحكم على طبق كتاب الله وسنة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) وبذلك فقد صنع الإمام الحسن(علیه السلام) من تقاعس الأمة وخيانتها وتخاذلها نصراً حققه(علیه السلام) له ولشيعته.

واقل ما يتحقق من هذا النصر إذا لم يفِ معاوية بالشروط -- والإمام يعلم انه لا يفي بشيء منها -- هو فضح معاوية وكشف زيف دعواه ورفع الغشاوة عن أبصار المضلَلينَ به الى قيام يوم الدين ، واحسَّ معاوية في الأيام الأولى بالفضيحة التي أوقعه فيها الإمام الحسن(علیه السلام) لذا كشف عن حقيقته بمجرد دخوله الكوفة بعد توقيعه على شروط الإمام الحسن(علیه السلام) وقال لهم: (إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم)(1).

حقيقة الصلح الحسني:

فموقف الإمام الحسن(علیه السلام) لم يكن صلحاً مع معاوية ولا هدنة ولا أي شيء آخر مما يرتبط بمعادلة الصراع معه ، وإنما هو مرتبط بطاعة الأمة و التفافهم حول قيادتهم وبمقومات قيامه بولاية أمر الأمة، واذا ورد لفظ الصلح في الوثيقة

ص: 171


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص46.

فليس هو معنى الصلح بالمصطلح العسكري و السياسي ، بل بالمعنى المعروف فقهياً الذي هو الاتفاق بين طرفين على أمر ما.

وهذا المعنى لا يفهمه إلا من مارس القيادة وفهم بمقدار استحقاقه سيرة الأئمة المعصومون(علیه السلام)، وتعرض لمستوى من المستويات لما تعرضوا له.

نتائج الدرس:

ومن نتائج هذا الدرس:

1. تصحيح فهم موقف الامام الحسن(علیه السلام) ودفع ما قيل من الشبهات.

2. بيان وحدة الهدف و المسؤولية التي تحملها الائمة المعصومين(علیه السلام)، وان كانت مواقفهم مختلفة ظاهراً بحسب اختلاف ظروفهم ولو كان ايُّ منهم مكان الاخر لاتخذ نفس الموقف.

3. ايضاح هذا الشرط لإعمال ولاية المعصوم(علیه السلام) ومن بعده نائبه الفقيه الجامع للشرائط وبذلك نجيب عن جملة من الاشكالات كتعدد الولي الفقيه او وجوب طاعته اذا اعلن عن نفسه كولي لأمر المسلمين ونحوها.

4. اعطاء درس للامة لكي تلتفت الى إن تخاذلها وتقاعسها واستسلامها للشكوك و الظنون يجعل امير المؤمنين يتمنى الموت ويرى ضرب رأسه بالسيف فوزاً، ويدفع تخاذل الأمة الإمام الحسن(علیه السلام) الى اتخاذ ذلك الموقف الذي لم يستطع تحمله الكثير من أصحابه المقربين ، والله ولي التوفيق.

ص: 172

الفصل الرابع/ حياة الحسين (عليه السلام) كلها مواقف خالدة

اشارة

ص: 173

ص: 174

حياة الحسين كلها مواقف خالدة

اشارة

حياة الحسين كلها مواقف خالدة(1)

بركة اليوم الحسيني:

كلما يذكر الحسين(علیه السلام) تذكر معه كربلاء وكلما تذكر كربلاء يذكر معها الحسين(علیه السلام)، ويذكر معهما عاشوراء، وهذا الترابط الوثيق لان هذا المكان والزمان سَجَّلا للإمام الحسين(علیه السلام) وأصحابه موقفاً عقمت الأيام عن الإتيان بمثله في كل أبعاده خصوصاً المبدأي الذي جسده الإمام الحسين(علیه السلام) بأقواله وأفعاله وفي جميع مراحل مسيرته المباركة. والعاطفي الذي فجرته المأساة، فقد ورد في رواية عن الإمام الرضا(علیه السلام) (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون)

أنست رزيتكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية

وفجائع الأيام تبقى مدة وتزول *** وهي إلى القيامة باقية

وموقفٌ واحد مما تضمنته صحائف البطولة والمبادئ الإنسانية العليا في واقعة

ص: 175


1- الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي تلبية لطلب الأخوة القائمين على موقع المرجعية باللغات الألمانية والانكليزية والتركية لترجمتها ونشرها بمناسبة ذكرى عاشوراء وتاريخها 7 محرم 1430 الموافق 4/ 1/ 2009.

كربلاء كفيلٌ بتخليد صاحبه، لأن الإنسان يبقى بآثاره التي يُذكر بها (والذكرُ للإنسان عمرٌ ثاني) فها هو الحر الرياحي (رضوان الله تعالى عليه) قضى حياته في خدمة الطواغيت لكنه التفت في لحظة إلى عاقبة أمره وخيّر نفسه بين الجنة التي ثمنها نصرة الحسين(علیه السلام) والشهادة بين يديه، والنار التي تعقب ملك بني أمية ونعيمهم المزيَف، ولم يكن ليختار على الجنة شيئاً أبدا.

مع أصحاب الحسين (عليه السلام) وتضحياتهم:

وهذا وهب بن حباب الكلبي رجل مسيحي لا يعرف عن الإسلام شيئاً لكن أخلاق الإمام الحسين(علیه السلام) وسمو ذاته صعقته فأنقاد إليه وأسلم على يديه وقاتل دونه حتى أستشهد.

وهذا زهير بن القين كان -- كما قيل -- بعيداً عن أهل البيت(علیه السلام) لكن كلماتٍ من الإمام الحسين(علیه السلام) ملأت عليه قلبه وعقله وروحه فتعلق بالإمام(علیه السلام) وصحبه حتى قضى نحبه شهيداً.

وهذا (جون) عبد أسود مولى لأبي ذر الغفاري رخّص له الإمام الحسين(علیه السلام) بالانصراف ليلة العاشر من محرم وقال(علیه السلام) له (إنك إنما تبعتنا طلبا للعافية) لكن جون أراد أن يختلط دمه بدماء السادة الكرام من آل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقاتل حتى استشهد ووقف الإمام(علیه السلام) على مصرعه وأكبّ عليه يدعو الله تبارك وتعالى أن يطيب ريحه ويجمعه مع النبي وآله(صلی الله علیه و آله و سلم).

فهؤلاء لم يكن لديهم شيء يُذكرون به إلا موقفهم مع الإمام الحسين(علیه السلام) لكنه -- لعظمته -- كان كافياً لتخليدهم

ص: 176

نصروا ابن بنت نبيّهم طوبى لهم *** نالوا بنصرته مراتب سامية

قد جاوروهُ هاهنا بقبورهم *** وقٌصوُرهم يوم الجزا متحاذية

لقد ملكوا التاريخ:

وقد ملكوا التاريخ بهذا الموقف ولم يملكوه بعدد من قتلوهم أو قاتلوهم أو أي شيء آخر، وليفهم هذه الحقيقة من يستشكل على من يعدد فضائل أمير المؤمنين(علیه السلام) بقتله عمرو بن عبد ود في معركة الخندق ومرحبا اليهودي في خيبر بان عنترة بن شداد قتل أيضاً الإبطال والأقران، فهذا لا يفهم إن العظمة في الموقف الذي من ملكه ملك المفاصل التاريخية لأنها مفاتيحه كالجيش الذي يمسك بممر استراتيجي أو ثغر قاتل لخصمه فينتصر.

حياة الحسين (عليه السلام) كلها عطاء:

وإذا كان موقف مثل يوم كربلاء كافٍ للخلود فإن حياة الحسين(علیه السلام) كلها مواقف وما يوم كربلاء إلا يوماً واحداً من أيام حياته الشريفة التي امتدت (57) عاماً.

فمنذ كان طفلاً صغيراً يذهب هو وأخوه الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) مع أبيهما أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى مسجد جدهما رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فيستمعان إليه(صلی الله علیه و آله و سلم) يبين ما أوحى إليه وينقلانه إلى أمهما فاطمة الزهراء(علیه السلام) حتى رحل جدهّما وأمهما صلوات الله عليهما وكانت لهما مواقف مع غاصبي حق أبيهما أقاما فيها الحجة والدليل على الظالمين.

وكان مع أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) في جميع معاركه ومراحل حياته حتى

ص: 177

أستشهد في محراب مسجد الكوفة المعظم ومع أخيه الإمام الحسن(علیه السلام) مؤازراً ومسلّيا ومدافعاً حتى أستشهد سلام الله عليه. وعُرف وأخوه الإمام الحسن (عليه السلام) بالكرم والعطاء الجزيل الذي كان يغني الآخذ، وكان يعول بالكثير من العوائل التي فقدت أولياء أمورها في المعارك مع الذي خرجوا على أمير المؤمنين(علیه السلام) فأزهقت أرواح الآلاف.

وكانت له حلقة علمية لتفسير القرآن في مسجد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فيجيب على المسائل التي تستعصي على كبار الصحابة كما ورد في الرجل الذي سأل عن تفسير قوله تعالى (وشاهد ومشهود).

وكان(علیه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم يقول كلمة الحق في وجه الطغاة والظالمين ورسالته إلى معاوية لما قتل الكرام من أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(علیه السلام) حُجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي ذكر فيها مثالب معاوية(1) وأسرته وحذرّه من مغبة عمله، لكن الذي منعه من الخروج على معاوية بالسيف التزامه بالوثيقة التي وقعها أخوه الإمام الحسن(علیه السلام) مع معاوية لإنهاء القتال ولم يفِ معاوية بشيء منها.

حتى كان ما كان من أمر تولي يزيد أمور المسلمين بعد وفاة معاوية فصدع الإمام(علیه السلام) بمعارضته ورفضه طاعة اللئام فآثر مصارعة الكرام (ألا وإن

ص: 178


1- مما جاء فيها (ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة؟ والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنتَ أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تؤاخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك)وفيها (أولستَ قاتل عمر بن الحمق صاحب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربّك واستخفافا بذلك العهد).

الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلةِ والذلةِ وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

كان(علیه السلام) حنوناً عطوفاً حلو المعاشرة شمل برحمته حتى أعداءه حيث بكى على قاتليه شفقة من دخولهم النار بسبب جرأتهم على قتله.

وكان يغدق بالعطاء بمسألة وبغير مسألة ولا يظهر أمام السائل وإنما يعطيه من وراء الباب ويفسر(علیه السلام) ذلك بأنه كان لا يريد أن يرى في نفسه عزة المسؤول ولا في الآخر ذلة السؤال.

التفَّ الناس حوله وأحبّوه حتى وُصِف يوم وصول خبر استشهاده إلى المدينة المنورة أنه كيومٍ مات فيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لأن المدينة ضجّت بأهلها حزناً على فقده حتى أن مثل مروان بن الحكم الباغي عليهم والذي قسى قلبه فهو كالحجارة أو أشد قسوة كان يحضر إلى البقيع ويستمع إلى البكاء والمراثي التي كانت تنشدها أم البنين زوجة أمير المؤمنين أم العباس وأخوته فيبكي معهم كما روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين.

وكان متواضعاً يمشي وسط الناس ويجالس العبيد ويأكل معهم، مشى من المدينة إلى مكة المكرمة (480 كيلومتراً) حاجا عشرين حجة ماشيا على قدميه وإن النجائب (الخيول الأصيلة) لتقاد بين يديه لإركاب العاجز والضعيف تعظيما للبيت الحرام وتواضعا لله تبارك وتعالى، وكان لا يسير في الطريق العام خشية أن يتهافت عليه الناس تعظيما وتقديسا له وتبركا به ويقول(علیه السلام) (لا أريد أن أأخذ من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أكثر مما أعطيه).

وأما معرفته برّبه فهو سيد العارفين وابن سيد العارفين، ويتعلم من دعائه الشريف يوم عرفة العرفاء الشامخون وفيه يخاطب ربه راهباً متضرعاً (كيف يُستدل ُّ

ص: 179

عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِرُ لك، متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليلٍ يدلُّ عليك، ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وَخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حُبكَ نصيباً) ويناجي ربه وهو صريع قد فَقَدَ أحبته وأولاده وإخوانه (إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، لك العتبى يا رب).

هكذا كانت أيام الحسين(علیه السلام) كلها عظمة ونبل وسمو وأخلاق فاضلة وشجاعة وبطولة وكرم وإباء وهداية إلى السعادة والكمال. فلننهل من سِفرِ الحسين(علیه السلام) كل هذه المآثر ولنأخذ من كل أيام الحسين(علیه السلام) وإن كان يوم الطف وحده كافياً ولذا قيلت الكلمة المشهورة (سُفرةُ الحسين واسعة) لأن كل من طلب الكمال والعظمة بكل جوانبها وجدها في سِفرِ الحسين(علیه السلام).

ص: 180

قضية الحسين (عليه السلام) عنوان حياتنا

اشارة

قضية الحسين (عليه السلام) عنوان حياتنا(1)

مع الأيام الحسينية:

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(علیه السلام) رزقنا الله وإياكم شفاعتهم وصحبتهم يوم الورود.

شاء الله تبارك وتعالى أن يفتتح سنتنا الهجرية بأيام عاشوراء التضحية والفداء والإصلاح، وكأنها تعني فيما تعني جعل قضية الحسين(علیه السلام) عنواناً لقضايانا، والعنوان كما تعلمون يختزن كل تفاصيل ومضامين المعنون، كما أن عنوان الكتاب يتكون من كلمتين أو ثلاث لكنه يعطي فكرة عن الكتاب كله وكأن الله تعالى أراد منّا أن نجعل من قضية الحسين(علیه السلام) مضمون حياتنا الذي يجب أن نسير عليه، ولا عجب في ذلك فقضية الحسين(علیه السلام) هي قضية التوحيد الكبرى والإسلام المحمدي الأصيل والمبادئ الإنسانية النبيلة التي يتفق جميع الناس عليها.

وهكذا فإن قضية الحسين(علیه السلام) تصلح لأن تغطي كل حياتنا بتفاصيلها وتنوّعها، وقضية الحسين(علیه السلام) لا تقتصر على يوم عاشوراء وإن كان هو اليوم الذي خطف التاريخ ويستحق ذلك، إلا أن يوم عاشوراء يوم من أيام الحسين(علیه السلام) التي امتدت سبعاً وخمسين عاماً وموقف من حياته المباركة التي هي كلها مواقف.

حياة الإمام الحسين (عليه السلام) سفر خالد:

ص: 181


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفود من طلبة الكلية التقنية والمعهد التقني في النجف الأشرف وأهالي حي الزهراء في بغداد يوم السبت 2 محرم 1431 المصادف 19/ 12/ 2009.

فقد تنوّعت أدواره المباركة في حياة الأمة جميعاً والشواهد كثيرة لسنا بصدد ذكرها فمن العلم والتدريس في مسجد جده(صلی الله علیه و آله و سلم) والإفتاء إلى تجسيد الأخلاق الإلهية في حياته العملية إلى مساعدة المحتاجين ورعاية أيتام وأرامل الشهداء في معارك أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) خصوصاً في صفين إلى ممارسة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيحه للكثير من السلوكيات الاجتماعية المنحرفة إلى مواجهة الفتن والمشاكل التي تعصف بالأمة، إلى حماية الحق وأهله إلى إعلان كلمة الحق في وجه السلطات الحاكمة وعلى رأسها معاوية، ورسالته(علیه السلام) إليه بعد قتل الأجّلاء مثل حجر بن عدي الكندي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي.

وهكذا فإن حياة الحسين(علیه السلام) سفر خالد ومتنوع تنهل منه الأجيال إلى قيام يوم الساعة، ولنقف عند ظاهرة واحدة في حياته المباركة وهي -- بالمصطلح المتداول -- وعي الظروف التي يعيشها وتشخيص القرار الصائب المناسب لها الذي يجب أن يتخذه، وعندئذ تستطيع الإجابة عن سؤال مثار وهو إنه لماذا خرج الحسين(علیه السلام) على يزيد بن معاوية ولم يخرج على أبيه معاوية الذي ارتكب الموبقات في الإسلام وسفك الدماء المحرمة وقاتل الإمام الحق أمير المؤمنين(علیه السلام) وقتل سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الحسن المجتبى(علیه السلام) ولاحق شيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) تحت كل حجر ومدر فهدّم دورهم وقطع أرزاقهم وقتل رجالهم؟

وعي المرحلة (الزمان والمكان):

وهكذا كان الإمام السجاد(علیه السلام) بعد أبيه لما دخل الكوفة مع عقائل بيت النبوّة وخطبوا بأهل الكوفة ندم هؤلاء وارتفعت أصواتهم بالعويل والبكاء

ص: 182

وقالوا للإمام(علیه السلام): مرنا بأمرك قال(علیه السلام): هيهات أتريدون أن تأتوني كما أتيتم أبي من قبل، ولو استفاد المتصدون اليوم لأمور الأمة صغيرها وكبيرها سواء على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو غيرها من سفر الحسين(علیه السلام) الواسع ووعوا الظروف المحيطة والتحديات المعقدة التي تواجه الأمة لاتصّفوا بالحكمة ولجنبوا الأمة كثيراً مما حلّ بها.

القيادة الرشيدة والاستفادة من مواقف الأئمة (عليهم السلام):

لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) واعياً لمتطلبات مرحلة ما بعد السيد الشهيد الصدر الأول(قدس سره) فتصرف بحكمة وأسَّس لانطلاقة جديدة للحركة الإسلامية المباركة فقام -- وهو فرد -- بأمر الله تعالى وقدّم ما عجز عنه مجموع الآخرين فبارك الله تعالى في عمله لإخلاصه وتفانيه.

وبعد استشهاد السيد الصدر الثاني(قدس سره) اجتمع الأخوة الذين كانوا يعملون معه(قدس سره) وطلبوا منّي إمامة الجمعة في الكوفة وتصعيد الموقف رغم المنع الذي بلّغه لنا في مجلس العزاء كبار مسؤولي النظام الذين أوفدهم صدام المقبور لحضور مجلس العزاء، فاستحضرت موقف الإمام السجاد(علیه السلام) المتقدم وقلت لهم: ليس من الحكمة المضي بنفس الأسلوب وأزلام صدام متربصون بمن يخلف السيد الشهيد الصدر(قدس سره)، تصوّروا لو أن الإمام السجاد استجاب للاندفاعة العاطفية التي سادت أهل الكوفة النادمين ونقترض انه سيطر على الكوفة، هل سيكون عمر هذه الحركة أكثر من أيام ويحصل له كما حصل لمسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) بينما استطاع بتسديد الله تعالى ولطفه اللبث في الأمة (34) سنة بعد أبيه وتجاوز بهم تلك الأزمات الماحقة وسحب البساط من تحت الطغاة.

وقد قدّر الله تبارك وتعالى أن لا تخلو الأرض من حجة حتى في أشدّ النكبات

ص: 183

وأقساها، خصوصاً في هذا البلد الكريم الذي قدّر الله تعالى له أن يحتضن عاصمة الإمام(علیه السلام) ويكون منطلق حركته لتأسيس دول الحق والعدل العالمية، وعليكم أن تبحثوا بوعي وبصيرة عن قيادتكم الحكيمة بعيداً عن الأهواء والتفرق والتشويش والإعلام المضلل ولا تذهبوا شرقا وغرباَ.

ص: 184

الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (عليه السلام)(1)

من قتل الإمام الحسين (عليه السلام)؟

أثار السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) سؤالاً عنوانه (من قتل الحسين عليه السلام؟) في إحدى خطب الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظّم وأجاب عنه بعدة أجوبة وقال عنها أنها صحيحة جميعاً، فلنا أن نقول أن شمراً قتله وهو صحيح لأن هذا اللعين تولى الإجهاز عليه وقطع رأسه الشريف، ويمكن أن نقول أنه اللعين عمر بن سعد لأنه قائد الجيش الذي خرج لحرب الحسين(علیه السلام) وقتله، ويمكن أن نقول أنه اللعين عبيد الله بن زياد لأنه حاكم الكوفة والآمر المباشر بتجهيز الجيش وإخراجه لحرب الحسين(علیه السلام)، ويمكن أن نقول إنه اللعين يزيد لأنه رئيس الدولة وصاحب القرار الأول.

ثم أجاب(قدس سره) بما يريد أن يقوله ويفصّل الحديث عنه وهو أن القاتل هو سرجون المستشار المسيحي لمعاوية فإنه لمّا علم بعزم الإمام الحسين(علیه السلام) على الخروج إلى العراق أشار على يزيد بضم الكوفة إلى البصرة تحت ولاية ابن زياد فإنه أقدر شخص على مواجهة الإمام الحسين(علیه السلام) والتعبئة ضده وأخرج كتاباً بختم معاوية يوصي بذلك بحسب دعواه فأطاعه يزيد رغم كرهه لابن زياد، ومن ثم توسع السيد(قدس سره) لبيان تأثير الغرب والقوى الكبرى في بلاد المسلمين ومشاركتهم في توجيه الأحداث إلى اليوم.

ص: 185


1- جزء من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مد ظله) مع أساتذة وفضلاء الحوزة العلمية في بحثه الشريف بمناسبة أيام عاشوراء وصدور فتوى المنع من التطبير، يوم 19/محرم/1432 المصادف 26/ 12/ 2010.

وعاظ السلاطين والفتاوى المأجورة:

وأريد أن أضيف هنا قاتلاً آخر هو الأخطر بينهم والأكثر تأثيراً وهي الفتوى الدينية التي يصدرها علماء السوء السائرون بركاب السلطة والذين يشرعنون عملها ويلبسونها ثوب القداسة الدينية فتطيعهم العامة بجهلها وحماقتها، وهذا ما حصل في قضية كربلاء ومن قبلها في معارك الجمل وصفين، فقد أفتوا أن الحسين(علیه السلام) خارجي خرج على إمام زمانه -- الذي هو يزيد -- وشق وحدة المسلمين ورووا عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال من شق عصا المسلمين وهي مجتمعة فاقتلوه كائناً من كان.

وخُدِع جمهور كبير من الرعاع والجهلة والعامة بهذه الفتوى التي ملأت العراق والشام، حيث روت المقاتل أن الناس في الكوفة والشام كانت تخرج لتتفرج على سبيي الخوارج ورؤوس رجالهم ويطلب بعضهم استخدام الجواري، وهذا التلبيس الشيطاني كان قد أعمى بصيرة كثير من الجيش الأموي، ولذا نجد أن الإمام الحسين(علیه السلام) خصص جزءاً كبيراً من خطبه لتعريف نسبه الشريف وكان(علیه السلام) يقول (انسبوني من أنا) ثم يذكر صلته برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لرفع الغشاوة عن أولئك الرعاع.

مواجهة حركة التضليل الأموي:

وهذه الحقيقة تبرز أهمية دور الإمام السجاد(علیه السلام) والعقيلة زينب وبقية الهاشميات في تحقيق أهداف الثورة الحسينية المباركة ولولاهم لأهمل التاريخ هذه الواقعة التي لا نظير لها ويكتفي بالإشارة إلى أنهم مجموعة رجال تمردوا على السلطة وخرجوا إلى الصحراء واُبيدوا هناك وتركت جثثهم في العراء وانتهى كل شيء.

ص: 186

خطورة الفتوى المأجورة:

وليس محل حديثنا تفصيل شيء من هذه الأمور وإنما الإشارة إلى خطورة الفتوى حينما تصدر ممن يعتبرون من كبار العلماء ذوي العمائم الكبيرة واللحى الطويلة ويلبسونها ثوب الدين ليضللوا بها الناس انسياقاً وراء رغبات الطواغيت وتنفيذ أعمالهم الشريرة مقابل ثمن بخس يقبضونه وقد حذّر الأئمة المعصومون(علیه السلام) من عاقبة أمثال هؤلاء ووصفوا من يبيع آخرته بدنيا غيره بأنه من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة.

لقد ابتلي المسلمون من غير أتباع أهل البيت(علیه السلام) بمثل هؤلاء الفقهاء السائرين في ركاب السلطة والذين لا يستطيعون الخروج عن دائرة أوامرها ورغباتها لأنهم كانوا موظفين عند السلطة ويقبضون رواتبهم منها ويُعيّنون في وظائفهم بموجب قرار من الحاكم، لذا كانوا لا يملكون الإرادة في تصحيح أخطاء الحكومات ورفض ظلمها وجرائمها، وبسبب هذا فقد حُررّت الكثير من الفتاوى لإسناد السلطة وتبرير الواقع الموجود.

الفقه الشيعي وابتعاده عن ركاب السلطة:

أما الفقه الشيعي فقد كان بمنأى عن هذه الضغوط بفضل التخطيط الإلهي الذي أدّاه أهل البيت(علیه السلام) ورسموه لشيعتهم ومن أهم معالمه الاستقلال المالي عن السلطة بما وضعوا من تشريعات وعلى رأسها الخمس، ونهيهم عن الانخراط في أعمال السلطان والوظائف الحكومية خصوصاً التي تدعم وجود السلطة الظالمة وتعطيها المشروعية، كما حثّوا(علیه السلام) على ما يسمى بالأعمال الحرة التي تؤدي إلى تمتين الوضع الاقتصادي للشيعة كالتجارة والزراعة وقد وردت روايات كثيرة في ذلك، وهذه الفكرة تساعد في فهم تلك الروايات كالتي جعلت

ص: 187

تسعة أعشار الرزق في التجارة. وكل ذلك لتحرير عامة شيعتهم وخصوصاً العلماء من التبعية للسلطات والخضوع لإرادتها والاستسلام لأهوائها.

وقد نجح هذا التخطيط في حماية عقيدة التشيع وصيانتها من الانحراف وحفظ هوية مدرسة أهل البيت(علیه السلام) خصوصاً في عصر الأئمة(علیه السلام) حيث كانت السلطات الدينية والدنيوية -- كما يقال -- مجتمعة بيد الخليفة ولم يحصل الفرز مما يتطلب الحذر والحزم في التطبيق، أما اليوم حيث انفرزت السلطات فلم يجد الفقهاء مانعاً من الانخراط في الكثير من الوظائف الحكومية التي فيها خدمة الناس وبناء الدولة المتمدنة.

وفقهاء الشيعة وإن لم يُبتلوا بمسايرة السلطة بفضل هذا التخطيط المبارك أو لأن السلطة لم تقع بأيديهم ولو وقعت لما اختلفوا كثيراً عن علماء العامة كالذي نشهده اليوم حيث ذاب جملة منهم في مصالح مع الحكومات التي أخذت منهم المشروعية وساقوا الناس لتأييدهم فخلّفوا وراء ظهورهم المبادئ والوظائف الإلهية وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى صار العراق يتصدر دول العالم في الفساد.

الفقهاء ومسايرة أذواق العوام من الناس:

أقول: إن فقهاء الشيعة وإن لم يتعرضوا لفتنة السير في ركاب السلطة إلا أنهم ابتلوا بشيء آخر وهو مسايرة عوام الناس باعتبارهم يمثلون القواعد الشعبية ومصدر التمويل التي تؤسس للزعامة، فراحوا يحسبون ألف حساب قبل بيان موقف أو إصدار حكم فيه إغضاب لهؤلاء العوام خوفاً من تحولهم عن تقليدهم واتباعهم.

ص: 188

ومن الشواهد على ذلك الموقف من قضية التطبير في عاشوراء فبالرغم من أن جملة منهم يرى حرمته لإضراره بالبدن ولجلبه منقصة على الدين إلا أنه لا يجرؤ على التصريح بموقفه هذا ويعترف بأنه لا يملك الشجاعة لاتخاذ مثل هذا الموقف.

لذا كان من أهدافنا في بيان موقفنا بكل صراحة هو بعث الشجاعة في نفوس العلماء وتحرير فتاواهم من مداهنة العوام ومسايرة أهوائهم، وإلا فإن المسؤولية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى {وَقِفُوهُم إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ}.

ص: 189

المبادئ الحسينية وثورات الشعوب

اشارة

المبادئ الحسينية وثورات الشعوب(1)

موسم العز والكرامة:

لقد أراد الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) لشهري محرم وصفر أن يكونا موسم عزةٍ وكرامةٍ وتحررٍ وانتزاع للحقوق الإنسانية, ومثار شجاعة وثورة على الظالمين وانعتاق من أسر الشهوات والمطامع الدنيوية والإخلاد إلى الأرض, وميداناً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وساحة للأخوة والتآلف والوحدة، وانطلاقة للحياة الحرة الكريمة، وزيادة في وعي الأمة وتثبيتاً لقلوبها، وفرصة لإظهار المودة لأهل بيت النبوة ومواساتهم أداءً لأجر الرسالة كما ورد في القرآن الكريم ، فعلينا أن نقف في نهاية هذا الموسم من كل عام لنجري مراجعة ونتحقق من مقدار مطابقة أعمالنا وشعائرنا التي قمنا بها لتلك المبادئ المباركة، والآن وقت إجراء هذه المراجعة بعد أن تصرَّم هذا الموسم المعطاء.

ص: 190


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الخميني للعلوم الدينية في النجف الأشرف ومن شباب حي الفضيلية في بغداد يوم الثلاثاء 11/ربيع الأول/1432 الموافق 15/ 2/ 2011.

التقدم في أداء الشعائر:

وإذا أردنا أن نقيّم موسم هذا العام فإن المراقب سيجد تقدماً واضحاً وتزايداً من ناحية الكم والعدد الغفير الذين شاركوا في إحياء الشعائر الحسينية في مدنهم أو في كربلاء المقدسة، وأوضح شاهد على ذلك الموكب المليوني الهادر يوم عاشوراء المعروف بركضة طويريج، والمسيرة المليونية الراجلة إلى كربلاء، بحيث نستطيع أن نقول أنه ما من موالٍ لأهل البيت(علیه السلام) إلا وقد كانت له مشاركة بنحو من الأنحاء وبما يناسبه.

وسيجد المراقب تقدماً أيضاً من ناحية الكيف أي النوع إذ تم تصحيح جملة من السلوكيات التي استهجنت من البعض في الأعوام الماضية كعدم التزام بعض الأخوات بالحجاب الكامل غفلة أو جهلاً، وكبعض التصرفات الصبيانية من بعض الشباب,ويلاحظ ايضاً اختفاء أو انحسار بعض الطقوس المتخلفة التي نسبت بدعة إلى الشعائر الحسينية، كما بدأت ظاهرة الالتزام بالصلاة في أوقاتها بالانتشار ومرافقة طلبة الحوزة العلمية للمواكب لإرشاد الناس وتوجيههم ووعظهم وتعليمهم أحكام الشريعة، وانتشار بعض هؤلاء الطلبة على مواكب الخدمة في الطريق لإقامة صلاة الجمعة والوعظ والإرشاد.

لا يقر لنا قرار حتى نرى الناس تجسد الإسلام في حركتها:

وهذا التقدم لم يحصل جزافاً بل جاء نتيجة لجهود مباركة قام بها العلماء والمبلغون والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة وغيرهم من العاملين المخلصين الذين يواصلون عملهم الدؤوب في توعية الأمة وإرشادها، وتوجيه

ص: 191

المسارات بالاتجاه الصحيح، ولكن علينا عدم الاكتفاء بما حصل فأمامنا طريق طويل، فما نراه من الشعور بالنشوة والزهو لمشاركة الملايين في الشعائر الحسينية سابق لأوانه لأن الأهداف لم تكتمل بعد.

وإنما يتملكنا هذا الشعور حينما نرى الناس تجسّد الإسلام في سلوكها وأخلاقها وتجعل حكمه الفيصل في قضاياها، فهل المسيرة كلها تتوقف إذا دخل وقت الصلاة و ينادي المؤذن (حي على الصلاة) ليؤدي الصلاة في وقتها كلٌ في موقعه والأفضل أن تكون جماعة، لأن الأذان دعوة من الله تبارك وتعالى لعباده للقائه ومناجاته والوقوف بين يديه فكيف ينشغل العبد عن تلبيتها؟

وحينما نرى فضلاء وطلبة الحوزة العلمية ينتشرون في كل المسافات ليقدموا الزاد المعنوي للزوار وقد رأينا إقبالاً من الناس على من يرشدهم ويوجههم وتأثرهم به.

وحينما تقدر هذه الملايين بوعيها وشجاعتها على تغيير واقعها المزري الذي يفتقد إلى أبسط مقوّمات الحياة الإنسانية الكريمة بينما تهدر ثرواته الطائلة في أعمال عبثية وتضيع في جيوب الفاسدين وهو يكتفي بأن يبكي ويولول ويلطم وينادي بالويل والثبور، وهو يمتلك كل عناصر القوّة والأهلية للإصلاح والتغيير وعلى رأسها هذا الإمام العظيم سيد الشهداء وسبط رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 192

لماذا لا نستطيع تغيير واقعنا المتردي؟

هل سألنا أنفسنا لماذا يعجز أكثر من عشرة ملايين ساروا مشياً إلى كربلاء من مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات وحشد كبير ممن وفروا لهم المأوى والطعام والخدمة والتنظيم، لماذا يعجزون عن تحسين أوضاعهم القاسية ويستمر حفنة من الفاسدين المزوّرين الفاشلين في التحكم بمصيرهم ومقدراتهم، بينما يستطيع عشرات الآلاف -- قبل أن يصيروا مئات الآلاف -- من المحتجين المتظاهرين الذين اعتصموا في ميدان التحرير في القاهرة أن يغيروا السلطة الجاثمة على صدورهم منذ ثلاثين عاماً؟

لو كان الحسين (عليه السلام) موجوداً بيننا اليوم:

أستطيع القول: لو كان الإمام الحسين(علیه السلام) موجوداً بشخصه بيننا لقاد هذه المسيرة المليونية إلى حيث يقبع الظالمون المستبدون ليجتث جذور الفساد والظلم والاستبداد والاستئثار ويحاسب المفسدين ويعاقبهم ويقيم المبادئ التي تحرك من أجل تحقيقها ولوّجه هذه الملايين لتصوّت في صناديق الاقتراع للكفوئين النزيهين المخلصين المتفانين في عملهم. ولا يكتفي باللطم والمناداة بالويل والثبور.

ص: 193

سريان الروح الحسينية في الشعوب الثائرة:

انظروا إلى هذه الشعوب التي حولنا والتي لا تملك مثل الإمام الحسين(علیه السلام) لكنها تأثرت به ولو من بعيد ومن دون أن تشعر بسريان الروح الحسينية الرافضة للظلم والمنكر والبغي والاستبداد والاستئثار، فلم يكن مصادفة إنطلاق ثورة شباب مصر يوم 25 يناير (كانون الثاني) الذي كان يوم الزيارة الأربعينية حيث تابع كثير منهم ما يُنقل عن الشعائر الحسينية ومعانيها عبر الفضائيات خلال الأيام التي سبقتها, فتأثر بحركة سيد الشهداء وأباة الضيم ورافضي الظلم والمنكر والبغي.

الشباب والحوزة: عقل الأمة وقلبها:

أيها الأحبّة:

أنتم شريحتان مهمتان في المجتمع وعليكم المعوَّل في إحداث التغيير والإصلاح: الشباب الذي هم قلب الأمة النابض الذي يتدفق بالحياة في جسدها، والحوزة العلمية التي هي عقل الأمة المفكر والمخطط والقائد لها خصوصاً الحوزة النجفية التي تتسع مسؤولياتها لتشمل العالم كله.

استوعبوا الدرس من السيد الخميني(قدس سره):

ويزيد من مسؤوليتكم عنوان المدرسة التي تنتمون إليها، فإن للعنوان استحقاقاً مضاعفاً، فقد كان السيد الخميني(قدس سره) أكثر من فقيه محقق كما لمسنا ذلك في كتبه المطبوعة التي نناقشها في البحث الخارج

ص: 194

ككتابي الطهارة والبيع وبتعبير سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) عنه انه كان فكوراً في درسه.

فقد كان عاملاً بعلمه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر خرج ليصلح حال أمته على خطى جدّه سيد الشهداء الإمام الحسين(علیه السلام)، وكان أيضاً مربياً أخلاقياً بسيرته و سيمائه قبل كلامه، ولطالما حثّ الحوزة العلمية على الإهتمام بتهذيب النفس وسلوك طريق الكمال الى جنب تحصيلهم العلمي، وكرّاسه المطبوع (الجهاد الأكبر) -- الذي هو مجموع محاضرات أخلاقية القاها على طلبته في نهاية سنة دراسية -- أحد الشواهد على ذلك حيث قال في افتتاحه: ان أحدكم يستطيع أن يعرف كم حصل عليه من العلوم خلال هذه السنة، لكن هل التفت إلى مقدار ما حاز من الكمال والرقي في تهذيب نفسه واكتساب الفضائل والملكات المحمودة؟

ونظراً لأهمية هذه التوجيهات فقد خصصت درساً اسبوعياً لطلاب جامعة الصدر الدينية أعقب استشهاد السيد الصدر الثاني(قدس سره) اشرح لهم فيه هذا الكتاب ولم أكن استعمل النسخة المطبوعة لأن عيون جلاوزة الأمن تلاحقنا بل أقرأ في دفتر نُقل فيه نص الكتاب، فاقرأوا سيرة هذا الرجل الفذّ وتعلموا منه وسيروا على نهجه الشريف الذي عمّت بركاته دولة إيران وغيرها.

وها هي الشعوب تحرر نفسها من ظلم الطواغيت الذين يتهاوون كعلب كارتونية تدوسها الأرجل مستلهمة حركاتها من سيد الشهداء(علیه السلام) وإن لم تلتفت إلى ذلك، ونحن أولى بالحسين(علیه السلام) من كل الشعوب وأجدر بالاصلاح لأننا شيعته ومحبّوه وخدمته ونتنفس عطر تربته الزاكية.

ص: 195

مواكب طلبة الجامعات نافذة لإظهار المعالم الإنسانية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

مواكب طلبة الجامعات نافذة لإظهار المعالم الإنسانية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام)(1)

قضية الحسين (عليه السلام) نبراس للإنسانية:

لم تكن قضية الإمام الحسين(علیه السلام) خاصة بطائفة دون أخرى أو بدين دون آخر بل كانت مبادئه السامية نبراساً ينير مسيرة الإنسانية كلها لنيل الحرية وتحقيق العدالة والسلام ومقاومة الظلم والاستبداد والاستئثار واستعباد الشعوب متأسياً بجده المصطفى(صلی الله علیه و آله و سلم) الذي خاطبه تبارك وتعالى {وَمَا أَرسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ} أي ليس فقط للمسلمين فضلاً عن طائفة معينة منهم، وهذا يفسّر لنا ما روي عن بكاء الإمام الحسين(علیه السلام) على الذين خرجوا لقتاله يوم عاشوراء لأنهم سيدخلون النار بسببه وهو يريد إنقاذهم من الهلاك.

ولإنسانية مبادئه فإن تأثيره المبارك سرى إلى غير المسلمين فقد تعلّم منه المهاتما غاندي كيف ينتصر بمظلوميته ويحررّ الهند، ونظم الشعراء المسيحيون غرراً من الشعر يتغنون فيها بعظمة الحسين(علیه السلام) وسمو مبادئه.

لماذا ثار الحسين (عليه السلام)؟

ص: 196


1- الخطاب الذي افتتح به سماحة الشيخ اليعقوبي (ملتقى الجامعات والحوزات العلمية في رحاب الإمام الحسين(علیه السلام) ليلة التاسع من محرم /1428 المصادف 29/ 1/ 2007 ضمن فعاليات مواكب الوعي الحسيني لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية ونقل بشكل مباشر عبر فضائية العراقية واحتشد آلاف الطلبة في مقر مبيتهم في المعهد التقني في كربلاء على عارضة تلفزيونية كبيرة منصتين إلى الخطاب.

حينما ثار أهل المدينة من صحابة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والتابعين لهم بإحسان بقيادة عبد الله بن حنظلة -- غسيل الملائكة في معركة أحد -- في واقعة الحرة بعد حادثة كربلاء وقضى عليها جيش يزيد بكل قسوة ووحشية وانتهكوا كل المقدسات والحرمات، أخذ قائد الجيش الأموي البيعة من أهل المدينة على أن يكونوا عبيداً ليزيد واستباح أموالهم ونساءهم لجيشه.

على مثل هذه السياسة الجائرة ثار الإمام الحسين(علیه السلام) ورفض الخضوع والخنوع لها وامتنع عن مبايعة يزيد لكيلا يعطيه مشروعية وإن كلفه ذلك حياته، لذلك كان جوابه(علیه السلام) حاسماً لوالي يزيد على المدينة لما طلب منه مبايعة يزيد (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله).

وظل(علیه السلام) يؤكد هذه الحقيقة ويلفت الأمة إلى هذا الخطر المحدق بهوّيتها وشخصيتها ومستقبلها على طول حركته المباركة من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء حيث استشهد ومنها قوله (إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله لسنة رسول الله صلى الله عليه واله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله ، وحرمّوا حلال الله ، وأنا أحقّ من غيري). وفي قولٍ آخر له (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا). وقوله(علیه السلام) (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به ، والى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً ، فأني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما ، وإن الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم

ص: 197

فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الدّيانون). (إني ما خرجت أشِراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلی الله علیه و آله و سلم)).

وكان(علیه السلام) ينشد:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مذموماً وخالف مجرما

القضية الحسينية الصورة الناصعة للإسلام النقي:

إن قضية الإمام الحسين(علیه السلام) لو عرضت بالطريقة التي تناسبها لأمكن تأصيل قيم الحرية والمحبة والسلام والعدالة والمساواة وكل القيم الإنسانية العليا لدى البشر جميعاً، واليوم حيث أصبحت أخبار العالم كله بين يدي الإنسان في نفس اللحظة وصار من في المشرق يسمع ويرى من في المغرب تصديقاً للروايات الشريفة الواردة في أخبار آخر الزمان ، ومثل هذا التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات وتبادل المعلومات كفيل بإيصال صوت الحق بعد أن بذل الطغاة عبر العصور كل ما في وسعهم لخنق هذا الصوت من لدن صدر الإسلام، حينما كان المشركون يصفقّون ويخلقون ضجيجاً ليغطّوا صوت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) حتى لا يسمعه أحد فيقتنع به، وعلى هذه الطريقة الجاهلية حاصروا أئمة أهل البيت وحبسوهم ثم قتلوهم ليحجبوا صوتهم لأنّ الطغاة يعلمون أن من يسمعه غير خاضع لضغوط فانه سيقتنع به وفي ذلك زوال سلطانهم الزائف.

أما اليوم فقد أذن الله تبارك وتعالى بان تتاح الفرصة لتطلع البشرية كلها على الصورة الناصعة النقيّة الأصيلة للإسلام كما بلّغه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، لا الصورة المشوّهة التي عكسها أدعياء الإسلام زوراً والمتقمصون لقيادة المسلمين من غير استحقاق، حتى نفرّوا الناس عن دين الله تعالى وأخذ خط الانحدار والانحراف عن الحق يذهب بعيداً ولولا لطف الله تبارك وتعالى وجهود وتضحيات

ص: 198

الأئمة المعصومين(علیه السلام) والثلة الصالحة التي عرفت الحق واتبعته ونصرته لما بقي من الإسلام إلا اسمه.

إن قضية الإمام الحسين(علیه السلام) من أوسع النوافذ التي يمكن أن تطلّ البشرية من خلالها على مبادئ الإسلام العظيمة ولذا ورد في الحديث الشريف (كلنا سفن النجاة لكن سفينة الحسين أوسع) لأنها الأقدر والأكثر تأثيراً في اجتذاب الناس إلى طريق الهدى وما علينا إلا إيصالها بصورة حضارية تستثير عناصر الخير في البشرية.

العلم والدين في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام):

وأنتم يا أساتذة وطلبة الجامعات خير من يؤدي هذه الرسالة لأنكم قلب الأمة النابض ومنكم يتدفق دم الحياة في جسد الأمة ومن دون الجامعات ومعاهد العلم تموت إنسانية الأمة وتعود إلى الحياة الهمجية الحيوانية.

ولما كان العلم وحده لا يكفي لبناء الحياة وإعمارها بل قد يكون شراً وسبباً لخرابها ما لم تنضّم إليه الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة والأهداف السامية التي يشيّدها الدين ويعمّقها في النفوس ويهذبها، كان هذا الملتقى السنوي المبارك في رحاب الإمام الحسين(علیه السلام) بين الجامعات والمعاهد الأكاديمية والحوزات العلمية الدينية التي تحملت بفخر واعتزاز تبليغ رسالة الله تعالى وحمايتها وصونها وقدّمت على هذا الطريق المبارك دماء زكية وتضحيات باهظة، ولكنها لم تتوقف عن النهوض بمسؤولياتها وهي تردد ما قاله الإمام الحسين(علیه السلام) وهو يودّع الضحايا ويقدّم القرابين حتى الطفل الرضيع ويردّد (هوّن ما نزل بي انه بعين الله تعالى) وأمامهم قول الله تبارك وتعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ

ص: 199

كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (التوبة:120121).

ناقشوا أوضاع بلدكم الجريح:

أيها الأحبة:

إن بلدكم الجريح وشعبكم المحروم الذي تكالبت عليه قوى الشر والبغي وأعداء الإنسانية والحضارة يرنو ببصره إليكم ويعوّل آماله عليكم لتأخذوا بزمامه وتنقذوه من محنته كما شكا علّته إلى الإمام الحسين(علیه السلام) إذ لم يجد غيره منقذاً ومداوياً.

قد أصبح الدين منه(1) يشتكي سقَماً *** وما إلى أحد غير الحسين شكا

نعم قد تختلف الآليات وطرق العلاج لكن يبقى المعالج هو الإمام الحسين(علیه السلام) وأبوه وجدّه صلوات الله عليهما ومن سار على نهجهم ونهل من فيض معارفهم وتخرّج في مدرستهم.

لذا ينبغي أن يكون هذا الملتقى غنياً بما تجود به قرائحكم يا نُخَب الأمة وطليعتها بكل ما يرفد الأمة من حلول ومعالجات لكل قضاياها وأن تكونوا لسانها الصادق المعبّر عن مطالبها وهمومها وآمالها.

ص: 200


1- أي من يزيد بن معاوية.

ولا تغفلوا عن مناقشة وضع الجامعات والمعاهد ومتطلبات النهوض والارتقاء ورعاية الأساتذة والطلبة وحمايتهم وتوفير الدعم المادي والمعنوي لتأمين المسيرة العلمية المباركة، وتنزيه الجامعات من بعض ما يجري فيها فإنها فرصة لا تتيسر لاجتماع الأساتذة والطلبة من مختلف الجامعات والمعاهد العراقية، وتدارسوا برامج التكامل في العمل بين الجامعات والحوزات العلمية على صعيد المناهج التعليمية وتبادل الخبرات والبرامج التربوية وغيرها.

إننا لا نملك غير الاعتراف بالعجز عن شكر الله تبارك وتعالى حق شكره على هذه النعم الجليلة وأساسها ومنبعها الإيمان بالله تبارك وتعالى وولاية أهل البيت(علیه السلام).

فضائل زوار الحسين (عليه السلام):

تذكّروا أيها الأحبة وانتم على صعيد كربلاء وفي جوار سيد الشهداء وفي أجواء التضحية والفداء التي ينتشر أريجها في ذكرى عاشوراء، تذكروا إخوانكم الذين مضوا على هذا الطريق من أساتذة وطلبة لم تثن عزيمتهم كل وسائل الإغراء والتهديد حتى قضوا شهداء من أجل أن يصونوا الأمانة ويحفظوا لكم عزتكم وكرامتكم، وما فاجعة الجامعة المستنصرية(1) عنكم ببعيد.

وتذكّروا أيضاً ما أعدَّ الله تعالى من الكرامة لزوّار الإمام الحسين(علیه السلام) ومعظّمي شعائره، ويكفي أن انقل لكم حديثاً واحداً يغنيكم عن كل حديث ويدفعكم لبذل الغالي والنفيس من أجل إقامة هذه الشعائر المباركة وإدامتها فإنها

ص: 201


1- استهدف انتحاري لئيم وسيارة مفخخة تجمعاً كبيراً لطلبة الجامعة المستنصرية منتظرين الحافلات خارج الجامعة، والحصيلة الأولية عدد الضحايا (65) والجرحى (153) وقع الحادث يوم 26/ذ.ج/ 1427 المصادف 16/ 1/ 2007 وأوجب الحادث حزناً عميقاً لدى الشعب كافة.

تحفظ عزّكم وكرامتكم وشخصيتكم وتضمن لكم السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة (عن الثقة الجليل معاوية بن وهب البجلي الكوفي. قال: دخلت على الصادق صلوات الله وسلامه عليه وهو في مصلاه، فجلستُ حتى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربه ويدعو وهو ساجد ويقول: يا من خصَّنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة وحمّلنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء، وختم بنا الأمم السالفة، وخصَّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي الحسين بن علي صلوات الله عليهما، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً في برَّنا، ورجاءاً لما عندك في وصلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله, وإجابة منهم لأمرنا. وغيظاً ادخلوه على عدونا. أرادوا بذلك رضوانك. فكافهم عنّا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار. وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا بأحسن الخَلَف واصحبهم واكفهم شرَ كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك أو شديد، وشر شياطين الإنس والجن وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم. اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافاً عليهم. فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس. وارحم تلك الخُدود التي تقلَّب على قبر أبي عبد الله(علیه السلام) وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا اللهم إني استودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش).

(اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم ، الحمد لله على عظيم رزيّتي ، اللهم ارزقني شفاعة الحسين(علیه السلام) يوم الورود ، وثبّت لي قدم

ص: 202

صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين(علیه السلام)).

ص: 203

إحياء الشعائر الحسينية سبيل للهداية

اشارة

إحياء الشعائر الحسينية سبيل للهداية (1)

نشوة الإيمان بولاية أهل البيت (عليهم السلام):

إنه لمن الألطاف الإلهية والتأييد الرباني هذه المسيرة المليونية الكبيرة بما تتضمنه من مشاهد إعجازية؛ حيث يشارك فيها الشيخ المسنّ والمرأة الضعيفة والأطفال الصغار حتى الرُضّع الذين تضنُّ بهم أمهاتُهم عن أبسط أشكال الأذى والإيلام وإذا بها تعرّضه للشمس الحارّة نهاراً والبرد ليلاً وتسير به في العراء مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام دون اصطحاب العدة المناسبة لرعاية الأطفال.

ولا تحسُّ من أحد منهم وهم ملايين أي شعور بالضجر والسأم والملل بل الكل مندفعون متحمسون تكاد أرجلُهم لا تحملهم من الفرح ونشوة الانتماء لحصن ولاية أهل البيت(علیه السلام) المنيع.

إن أي جيش في العالم يجنّد مئات طائرات النقل وآلاف العربات والشاحنات لتموين وتجهيز قطعاته المنتشرة في مساحة معينة؛ ومع ذلك يحصل عنده العجز والخلل، وهو أقل عدداً من هذه الملايين الزاحفة ولا يغطي مساحة

ص: 204


1- الخطاب الذي ألقاه سماحة الشيخ اليعقوبي وهو يشارك السائرين مشياً على الأقدام لزيارة الإمام الحسين(علیه السلام) بين النجف الأشرف وكربلاء ضمن موكب طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وفروعها في المحافظات وبمشهد من حشود الزائرين يوم الخميس 18/صفر/1428 المصادف 8/ 3/ 2007 تعظيماً لهذه الشعائر المباركة ورداً على العمل الإجرامي الذي استهدف مواكب الزوار في الحلة في اليوم السابق واستشهد فيه العشرات.

بسعة المدن والمناطق التي انطلقت منها هذه الحشود الزاحفة إلى قبر أبي عبد الله(علیه السلام).

فما هذه المحركية الهائلة التي تجنّد الجميع في إقامة الشعيرة المقدسة بين من يمشي على قدميه وآخر يقدّم الطعام والشراب وثالث يقوم بالخدمات الطبية ورابع يسعف الزائرين ويتبرك بغسل أقدامهم؟

الإخلاص والصدق في الولاء:

إنه الإخلاص والصدق في ولاء النبي وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) الذي ألقاه الله تبارك وتعالى في قلوب المؤمنين ليكون أجر النبي(علیه السلام) على تبليغ الرسالة {قُلْ لا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلا الموَدَّةَ في القُربَى} (الشورى:23).

هذه المشاهد التي تنقلها وسائل الإعلام تجعل العالم كله يقف إجلالاً وهيبة لهذه الروح الكبيرة، وتثير حقد وغضب من نصبوا العداوة لأهل البيت(علیه السلام) الذين قال فيهم الله تبارك وتعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} (النساء:54) ويفسرها الإمام الباقر(علیه السلام) بقوله: (نحنُ الناس المحسودون).

ولإظهار عجزهم عن إيقاف هذا المد الإلهي الهادر لجأوا إلى الأساليب الخسيسة في استهداف الزوار بالرصاص والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والعالم كله يشهد أن الزوار أناسٌ أبرياء يسيرون عُزَّلاً من كل شيء، وهذا الانحطاط منهم ورثوه من أسلافهم الذين لم يتورعوا حتى عن قتل الرضيع ضمآناً وإحراق البيوت وسبي النساء ورضِّ الأجساد الطاهرة بحوافر الخيل وقطع الرؤوس.

ص: 205

ردكم الحاسم بتعظيم الشعائر:

أيها الأحبة..

أن ردّكم الحاسم الذي تجيبون به أولئك الأراذل هو بهذا التواجد العظيم في الشعائر المقدسة {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32) لتُدخلوا اليأس عليهم بمواصلة السير بإصرار على نهج الأئمة الأطهار وان لا تحيدوا عنه قيد أنملة.

إن هذه الشعائر مظهر من مظاهر العزة والكرامة والشرف والفضيلة لأهل البيت النبوي الطاهر (صلوات الله عليهم أجمعين) تبهر الناس وتجعلهم يفكّرون ملياً في الالتحاق بهذه المدرسة الشريفة التي أرسى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أسسها وشاد أركانها الأئمة الطاهرون بدمائهم وجهودهم وجهادهم وهي أمانة في أعناقكم أن تحافظوا عليها.

إنكم بإحيائكم هذه الشعائر تنالون أجراً فوق أجوركم باهتداء الكثيرين إلى نهج أهل البيت(علیه السلام) واستبصارهم وتكونون مصداقاً لقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) لأمير المؤمنين(علیه السلام) (يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ مما طلعت عليه الشمس وما غربت) وقد نقل لي أحد الفضلاء ممن شارك في إرشاد الحجاج إلى مناسكهم في الموسم الأخير أن (63) شخصاً من أهل مكة وحدها استبصروا واهتدوا إلى ولاية أهل البيت النبوي الطاهر وهم يمارسون دعوة أهلهم وأقربائهم إلى هذا الشرف العظيم، وكل ذلك ببركة هذا الصوت المبارك الذي انطلق من رحاب أرض علي والحسين(علیه السلام) والكاظمين والعسكريين(علیه السلام) التي ستكون عاصمة الإمام المنتظر الموعود (أرواحنا له الفداء) ومنطلق حركته العالمية المباركة.

ص: 206

فضل الزيارة وآدابها:

يا إخوة الإيمان..

تذكروا وانتم متوجهون لزيارة أبي عبد الله الحسين(علیه السلام) في هذه المناسبة الشريفة فضل زيارته عموماً وزيارة الأربعين خصوصاً حتى جُعلت من علامات المؤمن، وتذكروا فضل من قصد قبره الشريف مشياً على الأقدام ففي كتاب مفاتيح الجنان عن الإمام الصادق(علیه السلام) قوله (من أتى قبر الحسين(علیه السلام) ماشياً، كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة).

وحافظوا أيها الأخوة على آداب الزيارة ومنها ما رواه الثقة الجليل محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(علیه السلام) (يلزمك حسن الصحبة لمن يصحبك ويلزمك قلة الكلام إلا بخير، ويلزمك كثرة ذكر الله، ويلزمك الخشوع وكثرة الصلاة، والصلاة على محمد وآل محمد، ويلزمك التحفظ عما لا ينبغي لك، ويلزمك أن تُغضي بصرك من المحرمات والمشتبهات، ويلزمك أن تعود على أهل الحاجة من إخوانك إذا رأيت منقطعاً، والمواساة، والورع عما نهيت عنه، وترك الخصومة وكثرة الأيمان والجدال الذي فيه الأيمان).

وزيدوا من ربح تجارتكم مع الله تعالى باستثمار مسافة الطريق بكلمة هداية وموعظة ونصيحة وتعليم أحكام الشريعة لكثير من أبناء العشائر والقرى والأرياف الذين لم يصلهم صوت الإرشاد والتوجيه الديني وأوصلوا إليهم صوت الحق والهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

سدد الله خطاكم وضاعف لكم الأجر ورزقكم شفاعة الإمام الحسين(علیه السلام) يوم الورود.

ص: 207

إذا أردت أن تعرف المنتصر فانظر إلى كربلاء يوم زيارة الأربعين

اشارة

إذا أردت أن تعرف المنتصر فانظر إلى كربلاء يوم زيارة الأربعين(1)

من المنتصر؟

لما رجع الإمام السجاد(علیه السلام) وأهل بيت النبوة إلى مدينة جدهم(صلی الله علیه و آله و سلم) بعد واقعة ألطف قال أحدهم بدافع التشفي والشماتة والحقد والحسد أو مدفوعاً تحت التضليل والجهل قال للإمام(علیه السلام) من الغالب؟! فقال الإمام(علیه السلام) إذا ارتفع صوت الأذان فستعرف من هو الغالب(2)!

لأن الأمويين حاولوا بكل جهدهم طمس معالم الإسلام الحقيقي واستئصال قادته الحقيقيين، وفي كلمات معاوية ويزيد ما يدل على ذلك فقد عبّر معاوية عن شعوره باليأس والإحباط وعدم نجاح سعيه الأكيد لإطفاء نور الله تبارك وتعالى حينما قال: لم يكتفِ ابن أبي كبشة –يعني محمداً(صلی الله علیه و آله و سلم)- حتى قَرنَ اسمه باسم الله (يعني في الأذان) ويصرّ بأن غليله لا يشفى إلا بدفن هذا الصوت، فالإمام السجاد(علیه السلام) يقول إن المنتصر الحقيقي هو

ص: 208


1- من حديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم 21 صفر 1427 المصادف 22/ 3/ 2006 مع حشد من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية الذين شاركوا في مواكب الوعي الحسيني.
2- الرواية عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: (لمّا قَدِمَ عليُّ بن الحسين بن علي (صلوات الله عليهم) استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: يا علي بن الحسين، من غلب؟ وهو مُغَطّىً رأسه وهو في المحمل، قال: فقال له عليُّ بن الحسين(علیه السلام): إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة، فأَذِّن ثمَّ أقِم). الأمالي للطوسي: ص677، والبحار: ج45 ص177.

الإمام الحسين(علیه السلام) الذي حفظ بدمه الزكي وجود الإسلام وثبّت مساره الصحيح وأفشل مخططات الأمويين في إنهائه وإطفاء نوره.

تقييم الأفراد و المشاريع الإسلامية في ضوء زيارة الأربعين:

هكذا يجب أن نقيّم الحركات والمشاريع والأفراد في ضوء الأهداف التي تحركوا من أجلها، فلو كان الإمام الحسين(علیه السلام) كقادة الانقلابات العسكرية خرج لقلب نظام الحكم وتولي السلطة فإنه يمكن أن يقال أنه(علیه السلام) فشل في حركته، لكنه(علیه السلام) أعلن وهو ما يزال في مكة أنه سيقتل هو وأهل بيته وتسبى نساؤه (كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا) وإنما خرج عليه السلام لطلب الإصلاح في أمة جده محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقد تحقق ذلك، وها هي الأمة تعيش منذ أربعة عشر قرناً والى قيام القائم بركات حركته الشريفة.

ولمزيد من الإيضاح نقول لو أن طالباً من الأوائل دخل الامتحان فحصل على درجة (70) أو (80) بالمئة فإنه يعتبر نفسه قد فشل في الامتحان؛ لأن هدفه كان قريباً من المئة فرغم أن درجته ناجحة إلا أنه يعتبر نفسه فاشلاً لعدم تحقق هدف حركته.

وكذا الفريق الرياضي الذي تعوّد الفوز في البطولة التي يشارك فيها فلو حاز المركز الثالث أو الرابع فإنه يعتبر نفسه فاشلاً رغم أن مثل هذا المركز غاية مطمح غيره.

وبهذا المعيار نجيب من يسأل: هل نجح المشروع الأمريكي في مسخ هوية الأمة وتذويب شخصيتها؟

وهل نجح الإرهابيون في إرعاب الشعب وإخافته ومنعه من إظهار ولائه

ص: 209

لأهل بيت النبوة؟

وهل استطاعوا إبعاد الشباب عن دينهم وفصل العروة الوثقى بينهم وبين أئمتهم وقادتهم ومرجعيتهم؟

نجيب هؤلاء: انظروا إلى كربلاء يوم الأربعين وزحف الملايين التي زادت عن الثلاثة مشياً على الأقدام، وقطع بعضهم مئات الكيلومترات رغم المخاطر المحدقة لتعرفوا فشل الإرهابيين.

وانظروا كيف أن أغلبهم من الشباب لتعرفوا فشل مشروع الغرب الإفسادي.

ولاحظوا التعبئة العامة التي أعلنتها الأمة لإنجاح هذه الشعيرة المقدسة وتقديم الخدمات وأسباب الراحة لهذه الملايين في كربلاء وعلى طول الطريق المؤدية إليها لتعرفوا شدة تمسك الأمة بالإسلام وولاية أهل البيت(علیه السلام).

وإذا سألوا هل نجح مشروع إفساد طلبة الجامعات والمعاهد وتمييعهم وصرفهم عن أهدافهم الحقيقية إلى مظاهر الحياة التافهة الدنيئة، فنقول لهم انظروا إلى الموكب المهيب لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية الذي ضمّ الآلاف منهم وسار عدة كيلومترات ليجدد انتماءه الواعي إلى مدرسة أهل البيت(علیه السلام).

وكان المفروض من السياسيين أن يفهموا الرسالة التي وجّهتها هذه الملايين، فلا الائتلاف الذي يمثلهم تحدّث بقوة هذه القاعدة الواسعة الثائرة الغاضبة واستثمر هذه الحركة المباركة، ولا الآخرون توقفوا عن تماديهم وظلمهم، ولكن النصر يبقى بإذن الله تعالى حليف هذه الأمة المتمسكة بحبل الله المتين وسراطه المستقيم.

ص: 210

نصرة الحسين (عليه السلام) باستنقاذ عباد الله من الجهالة وحيرة الضلالة

اشارة

نصرة الحسين (عليه السلام) باستنقاذ عباد الله من الجهالة وحيرة الضلالة(1)

هل من ناصر؟

تبقى صرخة الإمام الحسين(علیه السلام) واستغاثته: (هل من ناصر) التي أطلقها يوم عاشوراء تستنهض الأجيال حتى تقوم دولة الحق الكريمة، وليست هي موجهة إلى الموجودين في ساحة المعركة يومئذ عليهم، فقط لإقامة الحجة فإنه(علیه السلام) كان يعلم بأن الشهادة قد حان موعدها، ولا يغني عنه الناصر، وهو القائل لابن أخيه القاسم ابن الحسن لما صرع (عز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يغني عنك).

الصرخة لكل الجيال:

فالصرخة والدعوة للنصرة هي لكل الأجيال، وإنما تكون نصرته(علیه السلام) بإدامة العمل حتى تحقيق أهداف حركته المباركة التي أعلنها في العديد من كلماته الشريفة، واختصرها الإمام الصادق(علیه السلام) في زيارته لجده الحسين(علیه السلام) التي رويت في مناسبة العشرين من صفر التي تتوجهون لإحيائها وورد

ص: 211


1- تقرير مختصر لكلمة سماحة الشيخ اليعقوبي التي تحدث بها إلى موكب طلبة فروع جامعة الصدر الدينية بعد صلاة الصبح يوم 18 صفر 1429 المصادف 26/ 2/ 2008 قبل انطلاقهم مشياً على الأقدام إلى حرم الإمام الحسين(علیه السلام). وقد تجمعوا في مدرسة البغدادي في مدينة النجف الأشرف.

في زيارة العيدين، فقال(علیه السلام): (وقد بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) فضحى(علیه السلام) ليستنقذ العباد من الجهالة والضلالة.

الجهالة والضلالة:

فما دام هذان الداءان الوبيلان يفتكان بالأمة فيجب أن يستمر العمل الدؤوب في سبيل الله تعالى لاستنقاذ الأمة منهما وإلا فإنهما سيؤديان إلى هلاكها وموتها المعنوي وستدخل في تيه الضلالة وتبتعد عن المنهج السليم، وان كانت بحسب الظاهر تعيش حياتها المادية ولكن {إنْ هُمْ إلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:44).

معنى الجهالة:

والجهالة أوسع من المصطلح المعروف في مقابل العلم، واستقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يكشف عن أنها تعني فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يُفعل فيمكن أن تكون في الاعتقادات {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران: 145).

ويمكن أن تكون في القوانين والتشريعات {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} (المائدة:50).

ويمكن أن تكون في التصرفات وأنماط السلوك {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (الفتح:26).

ولم يُمدح العلم بما هو علم وإنما يُقدّس بمقدار ما يؤدي إلى الحق من الإيمان والعمل الصالح، وقد ذم الله تبارك وتعالى علماء أهل الكتاب وغيرهم لأنهم لم

ص: 212

يستثمروا علمهم للاهتداء إلى الحق فكان علمهم وبالاً عليهم {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَ-كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الأعراف:175176).

المعرفة في قبال الجهالة:

أما المفردة المستعملة في الموارد المحمودة فهي (المعرفة) التي تعني سكون النفس واطمئنانها إلى الحق لأنها تعرفه ولا تنكره، فقد ورد في تفسير قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) أي (ليعرفون) وقال أمير المؤمنين(علیه السلام): (أول الدين معرفته) أما العلم بالحقيقة فإنه وحده لا يكفي، فكم من عالم بالحق ولكنه يعانده {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل:14).

وحينما وصفت الأمم قبل الإسلام بالجاهلية فليس لعدم وجود العلم فيها، فانها بلغت مرتبة فائقة فيه كالطب عند الرومان والإعمار عند الفراعنة وفي اليمن وبلاد الرافدين {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} (الأنعام:6) {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (الروم:9) وإنما كانت جاهلية لعدم المعرفة بالله تعالى والاهتداء إلى الحق.

معنى الضلالة:

أما الداء الثاني فهي الضلالة وهي التيه والعدول عن الطريق المستقيم فهي تقابل الهداية إلى الحق، قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (يونس:108).

ص: 213

وللضلال مقدمات تؤدي إليه منها اتباع الهوى {ولا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص:26) ومنها الانسياق وراء الشهوات التي يزينها الشيطان والنفس الإمارة بالسوء {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} (النساء:119) {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاً كَثِيراً} (يس:62) {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} (النساء:60) وارتكاب الظلم والكفر والفسق {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} (غافر:74) {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم:27).

ولذا ورد التأكيد من الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم): {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} (هود:112)؛ لأنه ليس بعد الاستقامة إلا الضلالة وان اختلفت درجاتها ومراتبها.

كيف النجاة من الجهالة والضلالة؟

ولأن الإمام(علیه السلام) سبب إنقاذ الأمة من الجهالة وحيرة الضلالة فقد ورد في وصفه(علیه السلام) انه (مصباح الهدى وسفينة النجاة) بلحاظ إنقاذه الأمة من المرضين.

فالنجاة من الفتن والجهالة والضلالة يتحقق باتباع أهل البيت ومن أوصوا باتباعه من العلماء المجتهدين المخلصين لله ولرسوله والمتفانين في إنقاذ الناس وإصلاح حالهم.

وتقع عليكم -- يا طلبة الحوزة العلمية الشريفة والمثقفين الرساليين -- أكثر من غيركم مسؤولية مواصلة نهج الإمام الحسين(علیه السلام) وتحقيق أهداف ثورته المباركة، أما عامة الناس فجزاهم الله خير جزاء المحسنين بإحيائهم للشعائر الحسينية وتفانيهم في تقديم الخدمات رغم ما هم عليه من فقر وحرمان ومحن.

ص: 214

فاغتنموا هذا الموقع الشريف الذي من الله تعالى به عليكم من دون الناس وجعلكم محلاً لألطافه الخاصة وابذلوا كل ما بوسعكم وعُضّوا عليه بالنواجذ ولا تفرّطوا فيه.

ص: 215

الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

الإصلاح: رسالة الإمام الحسين (عليه السلام)(1)

الإصلاح رسالة الأنبياء جميعاً:

الحسين(علیه السلام) وارث الأنبياء جميعاً بحسب ما نطقت به الزيارة المشهورة المروية عن الأئمة(علیه السلام) والمعروفة بزيارة (وارث) وعنده اجتمعت رسالات الأنبياء جميعاً {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب39).

وماذا كانت رسالات الأنبياء، لقد لخّصها نبي الله شُعيب(علیه السلام) في قوله تعالى {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود/88)، هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً (الإصلاح) وان تنوعت آليات عملهم واختلفت شرائعهم من حيث الاجمال والتفصيل، لكن ما أجمله النبي السابق فصّله النبي اللاحق، وما فصّله النبي اللاحق يرجع في أصوله إلى ما أجمله السابق (صلوات الله عليهم أجمعين).

واختتمت هذه الرسالات برسالة الإسلام التي بلّغها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وواصلها من بعده أمير المؤمنين(علیه السلام) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة/67) يقول أمير المؤمنين(علیه السلام) (اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس

ص: 216


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلغين والخطباء ومرشدي الحجاج في مدينة كربلاء المقدسة يوم الخميس 30/ذ.ح/1433 الموافق 15/ 11/ 2012.

شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك)(1).

خرجت لطلب الإصلاح:

فهدف الأنبياء والأئمة (صلوات اللهم عليهم) هو (الإصلاح) ولما كان الإمام الحسين(علیه السلام) قد ورثهم جميعاً فمن الطبيعي أن تكون رسالته(علیه السلام) ومشروعه هو (الإصلاح) وقد عبّر(علیه السلام) عن ذلك صريحاً في خطاباته التي عرّف من خلالها بأهداف خروجه المبارك، وسجّله في وصيته التي دوّنها وختمها وأودعها عند أخيه محمد بن الحنفية، ومما جاء فيها (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي(صلی الله علیه و آله و سلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(علیه السلام)).(2)

ومن خطبته على الحر الرياحي وأصحابه لمّا وصل (البيضة) قوله(علیه السلام) (ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر).(3)

ويظهر من كلمة أمير المؤمنين(علیه السلام) وولده الإمام الحسين(علیه السلام) التواصل والتطابق في الهدف، وإنّ الاصلاح الذي سعى إليه المعصومون(علیه السلام) وتحمّلوا مسؤوليتهم وبذلوا وسعهم لتحقيقه هو مشروع متكامل لا يختص بالأمور الدينية (أي الوعظ و الإرشاد وتعليم أحكام الدين وإن كان هذا هو

ص: 217


1- نهج البلاغة الخطبة 131.
2- بحار الأنوار: 44/ 329.
3- تاريخ الطبري: 4/ 605، الكامل في التأريخ: 3/ 280.

الأساس) بل يشمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، فيقضي على الفساد المالي والإداري ومنع الاستئثار بالأموال العامة وحرمان الشعب من حقوقهم، وإقامة النظام العادل الذي ينصف الناس جميعاً وينتزع حق المظلوم من ظالمه، ويطبّق الحدود والقوانين.

تمام الصلاح بإصلاح القيادة الدينية والسياسية:

وإنّما يتم الصلاح ويكمل ويبلغ غايته عندما تصلح قيادتاه الدينية والسياسية، وتفسد الأمة إذا فسدت مؤسسته الحاكمة ولم تقم القيادة الدينية بواجباتها ومسؤولياتها، روي عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنّه قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء).(1)

ومن دون مباشرة هذا المدى الواسع من الإصلاح تبقى حركته محدودة ومحجّمة وربما تذوب تدريجياً، تصوروا لو أن دعوة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الإسلام بقيت في حدود مكة وتحت قبضة وبطش طواغيت قريش فإن المؤمنين بها سوف لا يزيدون عن العشرات الذي آمنوا فقتل بعضهم وهُجِّر البعض الآخر إلى الحبشة وحوصر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ومن معه في شعب أبي طالب(علیه السلام) لكنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يسعى لتوسيع دعوته وعرض نفسه على قبائل العرب حتى بايعه نفر من الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى وأخذ منهم المواثيق على الطاعة والنصرة في بيعة العقبة الثانية وأرسل معهم الشهيد

ص: 218


1- الخصال: 36 باب الاثنين.

مصعب بن عمير لتعليمهم الدين ثم هاجر(صلی الله علیه و آله و سلم) وأسس دولته المباركة لينشر الإسلام العظيم إلى كل الدنيا.

لا مكان للإنزواء في النهضة الحسينية:

أما ما دأبت عليه مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها.

لذا لم يجد الإمام الحسين(علیه السلام) لنفسه عذراً في القعود عن تصحيح وضع السلطة الحاكمة ومعالجة انحرافاتها بكل ما أتاه الله، فجاد بنفسه الشريفة وبأهل بيته وأصحابه، وعَرَّض حُرَمَ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) للسبي بيد الأعداء من بلدٍ إلى بلد، وكان يمكنه الاكتفاء بموقعه الديني وامتيازاته التي يحظى بها في المجتمع ويكتفي بالحد الأدنى من العمل، لكنّه(علیه السلام) وهو سبط رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانته ووارثه، أصرَّ على اللحاق بركب جده المصطفى(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال(علیه السلام) في خطبته على الحرّ وجيشه (أيّها الناس، إنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله).

وهذا بابٌ ينفتح منه ألفُ باب للحديث عن علاقة العلماء بالسلطة ودورهم في العملية السياسية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقع الأمة من كل ذلك وغيره مما لا يسع الحديث لبيان تفاصيله الآن.

ص: 219

صلاح النفس قبل الإصلاح، وكيفية اصلاح النفس:

ولابد لمن يتصدى لهذه المسؤولية أن يبدأ بإصلاح نفسه ويجعل من نفسه فرداً صالحاً قال تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد/11)، وقد دلّنا أمير المؤمنين(علیه السلام) على آليات الإصلاح في ميدان النفس وعناصر النجاح في هذه العملية فهي تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى توفيق من الله تعالى، قال(علیه السلام) (التوفيق قائد الصلاح).(1)

ثمّ إلى تقوى من العبد، قال(علیه السلام): (التقوى مفتاح الصلاح).

وإلى مداومة على ذكر الله تعالى، قال(علیه السلام): (أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله)، وقال(علیه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح).

وتحتاج إلى مجاهدة للنفس لضمان الاستمرار على العناصر المتقدمة والمحافظة عليها، قال(علیه السلام) (في مجاهدة النفس كمال الصلاح).

خطوات عملية للصلاح:

وهناك خطوات عملية تساعد على إصلاح الباطن، منها:

1. مصاحبة المؤمنين الأخيار الصلحاء، قال(علیه السلام): (أكثرُ الصلاح والصواب في صحبة أولي النهى والألباب).

2. مداراة الناس والرفق بهم واللطف معهم، قال(علیه السلام): (الرفق لقاح الصلاح وعنوان النجاح، وقال(علیه السلام) عوّد نفسك السماح وتجنّب الإلحاح يلزمك الصلاح).

ص: 220


1- الحديث وما بعده في غرر الحكم وصفحاتها على الترتيب 25، 41، 160، 661، 469، ثمّ 162، 79، 449، 471، 170، 310، 365.

3. تجنب معاشرة أهل الدنيا والغفلة عن الله تبارك وتعالى، قال(علیه السلام) (في اعتزال أبناء الدنيا جِماع الصلاح).

4. عدم الاكثار من المباحات ككثرة الطعام والشراب والنوم ونحوها قال(علیه السلام): (إذا ملئ لبطن من المباح عمي القلب عن الصلاح).

5. تجنّب الصفات المذمومة كالكذب وإيذاء الناس، قال(علیه السلام): (أبعد الناس عن الصلاح الكذوب وذو الوجه الوقّاح).

6. محاسبة النفس وتدارك ما فاته من تقصير وخلل وردّ المظالم إلى أهلها وقضاء ما فات، قال(علیه السلام): (حسن الاستدراك عنوان الصلاح).

السعي الحثيث لتحقيق الأهداف الحسينية:

هذه هي رسالة الإمام الحسين(علیه السلام) وارث الأنبياء، فمن أحبَّ نصرته في كل زمان ومكان واللحاق بأصحابه فليمضي على ما مضى عليه(علیه السلام) وليدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي الحثيث لتحقيق الهدف من رسالته، على هذا النحو من الوعي وهذه المعرفة.

لكن مع الالتفات إلى ما نبهنا عليه مراراً من الدعوة إلى هذا المستوى من فهم النهضة الحسينية، لا يعني إلغاء الأنماط الأخرى من التعاطي معها كالشعائر التي يؤديها عامة الناس ما دامت منضبطة بالحدود الشرعية.

لأن لكل فئة مستواها من التربية والسير في طريق الكمال، ولا يحق لأحد أن يسقط الآخر.

ص: 221

النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان

اشارة

النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان(1)

اليوم العالمي لحقوق الإنسان:

يحتفل المجتمع الدولي يوم (1012) من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان وهو اليوم الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة وثيقة مبادئ حقوق الإنسان عام 1949، وقد طابق هذا العام ذكرى استشهاد الإمام السجاد(علیه السلام) صاحب أكمل وثيقة لحقوق الإنسان وهي (رسالة الحقوق)، وصادفت هذا العام في شهر محرم الحرام وفي ظل أجواء النهضة الحسينية المباركة، فيكون من المناسب الإشارة إلى جملة من مبادئ حقوق الإنسان والمثل الإنسانية العليا التي جسدها الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة أقوالا وأفعالا باللغة المتداولة في هذا العصر، لنوصل البشرية إلى هذا المعين النقي الذي يمدها بكل مقومات الحضارة الإنسانية ، ولنقوم بشكل من إشكال النصرة التي طلبها الإمام السبط الشهيد(علیه السلام) بإبراز القيم

ص: 222


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في الملتقى السنوي لمدراء فروع جامعة الصدر الدينية في النجف وسائر المحافظات يوم الأربعاء 27 محرم 1434 الموافق 12/ 12/ 2012.

السامية و المثل العليا التي عمل(علیه السلام) على إقامتها وترسيخها ودعوة الناس إليها.

جملة من مبادئ حقوق الإنسان في النهضة الحسينية:

وسنتعرض باختصار لذكر عدد منها تاركين التفصيل إلى فرصة أخرى.

1. وأول تلك المبادئ وأهمها وأرقاها والتي تتقوم بها إنسانية الإنسان هي الحرية ونعني بها الانعتاق من عبودية ما سوى الله تبارك وتعالى، من خلال السعي لتحقيق العبودية الحقة لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص وطاعته تبارك وتعالى وطاعة من أمر الله تبارك وتعالى بطاعته.

وقد كان تحرير الأمة من عبودية الطواغيت ومن أغلال الخنوع والاستكانة والركون إلى الدنيا وضعف الهمة ومن الجهل والنفاق أهم نتائج النهضة الحسينية، حتى أصبح الإمام(علیه السلام) سيد الأحرار ورمزهم ورائد كل حركات التحرر إلى يومنا هذا وإلى قيام القائم(عجل الله فرجه).

ص: 223

وما كان(علیه السلام) يستطيع تحقيق ذلك لولا أنه امتلأ معرفة بالله تعالى، وتجرد من كل ما سوى الله تعالى، وعاش عبداً مخلصاً لله تبارك وتعالى، وكيف لا يكون كذلك وهو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بنص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

وكان كل كيانه ووجوده لله تبارك وتعالى، ومن يتأمل في دعائه(علیه السلام) يوم عرفة يجد ذلك واضحاً في علاقته مع ربه، والمعارف الإلهية المودعة فيه، والتي هي الوسيلة للوصول إلى العبودية الحقيقية والتوحيد الخالص (كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بُعدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبِّك نصيباً) (وأنت الذي تعرّفت إليّ في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء).

ص: 224

وهكذا كان الإمام(علیه السلام) إلى آخر لحظة من حياته المباركة، وكانت أدعيته(علیه السلام) يوم عاشوراء معبّرة عن هذه العلاقة وهذا الارتباط، فقد افتتح يوم العاشر حين اصطف الجيشان للقتال بدعائه الذي يظهر منه كمال الانقطاع إلى الله تعالى فافتتح خطابه مع القوم بالدعاء (اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة ويخذُلُ فيه الصديق ويشمُتُ في العدو، أنزلتُهُ بك وشكوتُهُ إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليّ كلِّ نعمة وصاحب كلِّ حسنة ومنتهى كلِّ رغبة) وكان(علیه السلام) يثني على كل موقف حر أبي، لذا أكبَرَ(علیه السلام) موقف الحر الرياحي لتحرّره من عبودية الطاغوت ووقف على مصرعه قائلاً له (والله ما أخطأت أمك إذ سمتك حراً فأنت والله: حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة)(1).

ص: 225


1- مصدر هذه النصوص كتاب (موسوعة كلمات الإمام الحسين(علیه السلام)) إصدار معهد تحقيقات باقر العلوم في الصفحات التالية 531، 959، 432، 433، 383، 511، 457، 512، 483، 485، 491، 501،519، 505.

2. العدالة بين أفراد الأمة من دون تفريق بين أحد وآخر لأي من الاعتبارات الموجودة، وقد كثر هذا المعنى في كلماته(علیه السلام)، حتى أنّه استغرب من طاعة جيش العدو لأمرائه من دون توفير هذا الحقّ لهم، فقال لهم يوم عاشوراء موبّخاً (تباً لكم أيتها الجماعة وترحا!... فأصبحتم ألباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيشٍ طمعتم فيه).

3. وكان(علیه السلام) يطالب بالتوزيع العادل للثروة على الشعب بلا استثناء ولا هدر للمال العام ولا تبديد للثروات على النزوات والشهوات والحماقات، فقد جعل(علیه السلام) من أهداف خروجه على السلطة الحاكمة أنّهم (أظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء).

4. المساواة في الحقوق الاعتبارية والمادّية، فأما الأولى: فقد اختلط دم أهل بيت النبوّة بدماء غيرهم ووقف الإمام الحسين(علیه السلام) على

ص: 226

مصرع جون وهو مولى لأبي ذر أسود اللون كما وقف على مصرع ولده علي الأكبر شبيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وشكر سعي الجميع وتضحيتهم بكلمات رفيعة بلا فرق بينهم، وأمّا في الحقوق المادّية فقد قدّمنا رفضه(علیه السلام) للاستئثار في ثروات الشعوب ومطالبته بمراعاة حقوق الجميع على حد سواء.

5. العمل بالدستور والقوانين التي آمنت بها الأمة بملء إرادتها واختيارها، والمطالبة بتطبيقها وهي بالنسبة للمسلمين: القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال(علیه السلام) في كتابه لأهل البصرة: (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه فإنّ السنة قد أميتت وأن البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد) ويصف السلطة الحاكمة بأنّهم (لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله) أي انقلبوا على الدستور وغيّروا أحكامه.

6. احترام إرادة الأمة في تولية أمورها إلى مستحقيها الذين يقومون فيها بالقسط والعدل وينصفون المظلومين ويعمرون الحياة بالخير ويقرّبون الناس إلى الله تبارك وتعالى، ومنع وصول الفاسدين والمستبدّين إلى

ص: 227

السلطة، بالطرق غير المشروعة كالانقلابات العسكرية وتزوير إرادة الأمة، قال(علیه السلام): (أمّا بعد أيّها الناس: فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكون أرضى لله، ونحن أهل البيت وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس له، والسائرين فيكم بالجور والعدوان).

7. الكرامة ورفض الذلّ والمهانة بكل أشكالها، من خطبة له(علیه السلام) يوم عاشوراء (ألا ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت وحجور طهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

8. إحقاق الحق ونصرته، وإبطال الباطل ومقاومته بكل الوسائل المتاحة التي تقتضيها الحكمة وتكون مطابقة لأحكام الشريعة حتّى لو أدّت إلى شهادته، قال(علیه السلام): (ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).

ص: 228

9. الإصلاح وتصحيح الواقع الفاسد وإقامة البديل الصالح في كل تفاصيل شؤون الأمة، سواء على صعيد الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو القضائي أو الأخلاقي والعقائدي وغيرها، من خلال أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل أدواتها وكافة مستوياتها، قال(علیه السلام) (أما بعد فقد علمتم أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قد قال في حياته (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومخالفاً لسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) وقد علمتم أنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر).

وكتب(علیه السلام) في وصيته (وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي(صلی الله

ص: 229

علیه و آله و سلم)، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وابي علي بن أبي طالب).

10. حريّة التعبير عن الرأي واتخاذ القرار بكل اختيار وإرادة من دون أي تأثير وإكراه.

في ليلة عاشوراء والعدو عازم على مناجزته القتال وقد تكامل عددهم ثلاثين ألفا وهو(علیه السلام) في سبعة عشر من أهل بيته و سبعين من أصحابه، ومن كان في ذلك الموقف يتشبّث بأي عدّة أو عدد، نراه يجتمع مع اصحابه ويقوله لهم (إنّي لا أحسب القوم إلاّ مقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حلٍّ مني وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له منكم قوّة فليضمّ رجلاً من أهل بيتي إليه وتفرقوا في سوادكم).

11. الشفافية والوضوح وعدم المخادعة والتضليل:

من كلامه(علیه السلام) مع أصحابه وقد جمعهم ليلة العاشر من المحرم ليكاشفهم بالأمور قال(علیه السلام): (اعلموا انكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بِألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر بأنّهم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم

ص: 230

مقصد إلاّ قتلي وقتل من يجاهد بين يدي، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أن تكونوا ما تعلمون وتستحيون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف).

12. الرحمة والشفقة عليهم والنصيحة لهم:

فقد أبلغ في النصيحة لجيش العدو وألقى عليهم الخطبة بعد الخطبةِ وضمّنها كلّ الحجج الدامغة والكافية لردعهم عن اقتراف هذه الجريمة، ووعظهم بأنواع المواعظ، ولكنّهم كانوا كما وصفهم الإمام(علیه السلام) (لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم وما تريدون) حتّى قال(علیه السلام) (ألا إنّي قد أعذرت وأنذرت) وقال لزهير بن القين بعد أن وعظ القوم (أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت، لو نفع النصح والإبلاغ).

وفي بعض الروايات أنّه بكى يوم عاشوراء شفقة على أعدائه معللاّ ذلك بأنهم (يدخلون النار بسببي) وهو كجدّه وأبيه وأخيه (صلوات الله عليهم أجمعين) أرسلوا رحمة للعالمين.

ص: 231

13. عدم التجاوز على حقوق الآخرين وردِّها إلى أهلها، ومن ذلك أمره(علیه السلام) لبعض أصحابه قائلاً (نادِ في الناس أن لا يقاتلن معي رجل عليه دَين، فإنّه ليس من رجلٍ يموت وعليه دين لا يدع له وفاءاً إلا دخل النار) فهو(علیه السلام) لا يرى هذا الموقف العصيب والمفصل التاريخي في حياة الأمة مبرّراً للتقصير في إرجاع الحقوق إلى أهلها.

وروى الإمام الباقر(علیه السلام) عن أبيه السجاد(علیه السلام) أن آخر ما أوصاه أبوه الحسين(علیه السلام) عندما ودّعه وخرج للقتال (يا بني اتقِ ظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تعالى).

14. التضحية بالمصالح الخاصة من أجل وحدة الأمة ومصالحها العليا، قال(علیه السلام) (أمّا بعدُ، فإنّ الله اصطفى محمداً(صلی الله علیه و آله و سلم) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره برسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسل به(صلی الله علیه و آله و سلم) وكنّا أهله وأوليائه وأوصيائه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحقُّ بذلك الحق المستحق علينا ممّن تولاه).

ص: 232

وكان من أهم ما أوصى به الإمام الحسين(علیه السلام) كوسيلة لتحقيق هذه المبادئ الإنسانية العليا: الصبر والرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وعدم الجزع من المكاره والمصائب.

لمّا سمعت العقيلة زينب(س) أخاها الحسين(علیه السلام) ينعى نفسه وهو يصلح سيفه ليلة عاشوراء لطمت وجهها وخرّت مغشياً عليها فصبّ على وجهها الماء وقال لها: (يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون وأهل الأرض يموتون وجميع البريّة لا يبقون، وكل شيء هالك إلاّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنّ لي ولكِ ولكل مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمد(صلی الله علیه و آله و سلم)).

أقول: هذا باختصار بعض ما يمكن استخلاصه من كلمات الإمام الحسين(علیه السلام) ومواقفه فيما يتعلّق بحقوق الإنسان، وعلينا -- ونحن نخوض هذه المواجهة الحضارية مع الغرب الذي يوصف بالمتمدّن -- أن نُعمّق مثل هذه المعرفة وننهل المزيد منها لنقدّمها للمجتمع البشري كمنظومة متكاملة قادرة على تحقيق السعادة والازدهار والكرامة والحرية لبني الإنسان.

ص: 233

الفصل الخامس/ مع الأئمة الثمانية من الإمام علي بن الحسين السجادوحتى الإمام العسكري (عليه السلام)

اشارة

ص: 234

ص: 235

كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام)في مواجهة التحديات الراهنة؟

اشارة

كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام)في مواجهة التحديات الراهنة؟(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين

أهل البيت (عليهم السلام) عدل القرآن:

وصف الله تبارك وتعالى القرآن بأنه (تبيان لكل شيء) وقال عز من قائل عنه {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام:38) وما على الإنسان إلا أن يستثير كوامنه ويستخرج درره وجواهره بالوسائل التي تؤهله لهذا الحرث (فمن يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه) وأولها الإخلاص لله تبارك وتعالى وتطهير القلب من الرذائل والنفس من الأهواء وثانيها طلب العلم والمعرفة على يد المؤهلين الصادقين (فلينظر الإنسان إلى طعامه).

وقد دلّت الأحاديث الشريفة بل الآيات المباركة على أن أهل البيت(علیه السلام) هم عدل الكتاب وصنوه كما في حديث الثقلين المشهور، وإنهما لن يفترقا فحيثما تجد القرآن تجد أهل البيت(علیه السلام) وكل ما تريد أن تعرفه من الكتاب تجده في صدور أهل البيت(علیه السلام) مجسداً في سلوكهم لذا لما قيل لإحدى أمهات المؤمنين صفي لنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قالت: كان خلقه القرآن، فلو حولّت القرآن إلى سيرة عملية لكانوا هم(علیه السلام)، ولو دوّنت

ص: 236


1- محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام السجاد(علیه السلام) 4/شعبان/1424 المصادف 1/ 10/ 2003.

سيرتهم(علیه السلام) في كتاب لكان هو القرآن فهم(علیه السلام) كتاب الله الناطق قال تعالى {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ} (الواقعة:78،79) أي أن حقائق هذا القرآن ومعارفه في اللوح المحفوظ المكنون ولا يصل إلى هذه الحقائق ويطلّع عليها إلا المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وهم أهل بيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بنص القرآن الكريم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب:33)(1).

سيرة أهل البيت (عليهم السلام) كتاب مفتوح لكل الإنسانية ومشاكلها:

ومحل الشاهد من هذه المقدمة العميقة أن سيرة أهل البيت(علیه السلام) كتاب مفتوح تجد فيه العلاج الناجح لكل مشاكلنا وأمراضنا والجواب الشافي لكل هواجسنا وتساؤلاتنا؛ لأن في سيرتهم تبياناً لكل شيء وما علينا إلا أن نفهمها فهما صحيحاً ومعمقاً وجديدا بعد أن نقرأ الواقع الخارجي بدّقة، ونشخص مواطن العلة وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى أن نستلهم من تلك السيرة المباركة ما نواجه به التحديات المتكثرة والمتنوعة وأريد أن اتخذ من حياة الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين(علیه السلام) في ذكرى مولده مضماراً للشواهد على ذلك.

فنحن على أبواب انفتاح واسع على ثقافات العالم من خلال وسائل الاتصال المتطورة، كالبريد الالكتروني والستلايت مما يهّدد هوية المسلم في عقيدته وأخلاقه وسلوكه بالتمييع والانحراف والإعراض بعد أن تأخذه حالة الانبهار بتلك الثقافات، وهو غير متسلح بما يحمي عقيدته ويحفظ له توازنه والإنسان مجبول على الإعجاب بكل جديد، والتهديد الآخر الذي تواجهه الأمة هو الرخاء المادي الذي يمكن أن

ص: 237


1- راجع كتاب شكوى القرآن في الكتاب الأول (خطاب المرحلة: 1/ 83).

يحصل في البلد وفق الوضع الاقتصادي الذي بدأت معالمه تتضح، ونحن نعلم أن حياة الدعة والترف تؤدي إلى التوسع في الماديات، والإخلاد إلى الأرض والابتعاد عن القيم الروحية والأخلاقية فيزداد اللهاث وراء الدنيا ولا يقف طمع الإنسان وحرصه على حد.

ومن جهة أخرى فإن حملة موجهة لإفساد الأخلاق وإشاعة الفاحشة والانحلال من خلال الصحف والمجلات والأقراص ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة وهي حملة قوية بما تمتلك من مقدرة ساحرة على التأثير ومدعومة بتقنيات هائلة إضافة إلى موافقتها لشهوات النفس الأمّارة بالسوء والميّالة للهوى.

الأخطار التي واجهت الأمة في عهد الإمام السجاد (عليه السلام):

مثل هذه الأخطار واجهتها الأمة في فترة إمامة زين العابدين حيث اتسعت رقعة البلاد التي شملتها الفتوحات الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان وإخوته وبنيه من تخوم الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غرباً، وقد كانت ثقافة المسلمين وإيمانهم دون المستوى الذي يؤهلهم لاستيعاب هذه الأقوام التي خضعت للمسلمين بثقافاتهم ودياناتهم وأخلاقهم وتذويبهم في الإسلام، بل على العكس فإن عقائد المسلمين تزعزعت وسرى الشك إلى قلوبهم وانتشرت الفاحشة في بلاد المسلمين وشجّع على ذلك ملوك بني أمية الذين كانوا يرون في الإسلام الحقيقي عدوّهم الوحيد، لذلك رحّبوا بهذا الانحراف وعملوا على تكريسه بحيث وصل الأمر إلى أن يصبح الفاسق عمر بن أبي ربيعة المخزومي أشهر رجل في مكة المكرمة، فيتسكع سكراناً في شوارعها وحوله الفاجرات من أمثاله ينشدهن الشعر وهنَّ يغنينه، هذا ولم يمر قرن من الزمان على وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ونزول الوحي ولازال ثلة من الصحابة على قيد الحياة، فإذا كان هذا هو حال الحرمين المقدسين فما هو حال بقية

ص: 238

مدن وحواضر الإسلام ما دام ملك المسلمين يشرب الخمر على منبرهم ويتقيأها في محرابهم ويرمي المصحف الشريف بالسهام مهدّداً إياه.

وقد رافق كل ذلك توسع وترهّل في الحياة الاقتصادية لغزارة واردات الدولة من تلك الفتوحات، ولم ينل المسلمون القسط الكافي من التربية الروحية بسبب عزل قادته الحقيقيين والهداة إلى الله تبارك وتعالى وإبادتهم والتنكيل بهم.

الإمام السجاد (عليه السلام) يعلمنا كيف نواجه التحديات:

اشارة

فكيف واجه الإمام السجاد(علیه السلام) هذه الأخطار، واجهها بالإعداد الروحي والأخلاقي وتزويد الأمة بعقيدتها الصحيحة من خلال الدعاء الذي يعتبر وسيلة لا تثير قلق الحكام باعتباره لا يهدّد مصالحهم ولكنه(علیه السلام) كان من خلال الأدعية يعبّئ المسلم ويثير في عقله وقلبه ما يعينه على مواجهة تلك الهجمة الشرسة ونوازع النفس ونزغات الشيطان.

وفي روضة الكافي أنّ الإمام السجاد(علیه السلام) كان يعظ الناس في مسجد جده رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كل جمعة(1) وكان يعقد حلقات الدرس في مختلف العلوم والمعارف حتى تخرج على يديه فقهاء وعلماء كثيرون انتشروا في الأمصار، واعترف له بذلك حتى أعداؤه فقد قال له عبد الملك بن مروان (ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤتَه أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك)(2).

ص: 239


1- الكافي: 8/ 72 حديث 29.
2- بحار الأنوار:46/ 57.

إثارة قوى الإيمان لدى المسلم هو ما نحتاجه اليوم:

وهذا الإعداد الروحي وإثارة قوى الإيمان عند المسلم هي ما نحتاجه اليوم فعلى خطبائنا ومثقفينا ومفكرينا استغلال كل مناسبة لهذه التربية الروحية، خصوصاً في هذه الأشهر المباركة رجب وشعبان ورمضان التي تمتاز بألطاف ونفحات إلهية خاصة يتكامل بها الإنسان أضعاف ما يحصل له في غيرها من الشهور، فإذا فشلت لا سامح الله في استغلالها فسوف تكون خسارة عظيمة ولا تتوقع تعويضها في غيرها من الشهور، وإذا كان الإمام المعصوم يقول لولا أننا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا فكم نحتاج نحن من هذه الشحنات المتدفقة علماً وإيماناً وحياة للقلب.

كلمات أهل العصمة (عليهم السلام) تحيي القلوب:

إننا لا نحتاج إلى مؤونة كبيرة في معرفة الزاد فإن كلمات المعصومين فيها الكثير مما يحيي القلوب ويهذّب النفوس والصحيفة السجادية حافلة بالمعاني السامية التي تصف العلاقة بالله تبارك وتعالى فله(علیه السلام) دعاء في الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى، وآخر في اللجوء إليه، وآخر في الرضا بقضائه، وآخر في الشكر وآخر في التذلل له سبحانه وآخر في طلب الستر والوقاية وآخر في الإلحاح وآخر في الاستعاذة ثم يصلي على النبي وآله والملائكة وحملة العرش والأنبياء والرسل.

ولا يترك مناسبة إلا أحياها فله(علیه السلام) دعاء في الفطر والأضحى وعرفة ويوم الجمعة وأيام الأسبوع واستقبال شهر رمضان ووداعه، بل في كل صباح ومساء ليكون العبد على ذكر دائم واتصال مستمر بربه وخالقه ومدبّره ومولاه (واجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وهذا الذكر المتواصل وعدم الغفلة هو صمام الأمان للإنسان من الوقوع في الخطأ والانحراف فليس من

ص: 240

المعقول أن يرتكب الذاكر لله تعالى معصية.

دروس الأخلاق والاجتماع في الصحيفة السجادية:

وضمت الصحيفة أيضاً دروساً في الأخلاق وتنظيم العلاقات مع الآخرين وبيان حقوقهم فله(علیه السلام) دعاء لأبويه وآخر لولده وآخر لجيرانه وأوليائه، ودعاء طويل في طلب مكارم الأخلاق وتعليمها بهذا الأسلوب أي الدعاء فمن ذلك قوله(علیه السلام) (وأجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمنّ وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر) ويقول(علیه السلام) (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنة عند نفسي بقدرها اللهم لا تدع خصلةً تعابُ مني إلا أصلحتها ولا عائبة أؤنب بها إلا حسنّتها، ولا أكرومةً فيَّ ناقصة إلا أتممتها) (اللهم صل على محمد وآله وسدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة اللهم صلِ على محمد وآل محمد وحلَّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ... والقول بالحق وإن عزّ واستقلال الخير وإن كثرُ من قولي وفعلي واستكثار الشر وإن قلَّ من قولي وفعلي).

التخطيط للاستقلال النقدي في مرحلتنا الراهنة:

ومما نستفيده من حياة الأمام السجاد(علیه السلام) في مرحلتنا الراهنة تخطيطه للاستقلال النقدي للدولة الإسلامية عن الروم، حينما حاول ملك الروم إذلال المسلمين وإخضاعهم لمطاليبه وإلا سكّ الدنانير الرومية التي كانت هي العملة المتداولة في الدولة الإسلامية بسب نبي الإسلام، فاضطرب عبد الملك بن مروان وقال:

ص: 241

أحسب أنني أشأم مولود في الإسلام ولم يجد حلاً لهذه المشكلة فاستنجد بالإمام السجاد(علیه السلام) الذي أرسل له ولده الباقر(علیه السلام) وشرح له كيفية صّب عملة جديدة وإلغاء التعامل بالعملة الرومية ونفذ عبد الملك ذلك، وفرج الله تبارك وتعالى عنه وعن دولة الإسلام ببركة الإمام (علیه السلام) الذي أنقذ الدولة وحفظ لها استقلالها وأرادتها.

ونحن نواجه اليوم خططاً محبوكة ومبرمجة لربط الاقتصاد العراقي بالنظام العالمي الجديد الذي وضعه الغرب ليجعل العالم يدور في فلك مصالحه وسلب قدرته على التخطيط لنفسه، فيحيطونه بشراك من الديون والفوائد والقوانين الصارمة بحيث لا يستطيع الخلاص منها ولا يملك إلا الاستسلام لإملاءاتهم والخضوع لمطاليبهم، فتفقد الدول استقلالها السياسي بسبب خضوعها الاقتصادي فلنتعلم من الإمام السجاد(علیه السلام) كيفية الاستقلال الاقتصادي وحرية اتخاذ القرار.

الإمام السجاد(عليه السلام) ومحاربة الأعراف والتقاليد المنحرفة:

ومما نجده في حياة الإمام السجاد(علیه السلام) عمله الدؤوب على محاربة الأعراف والتقاليد المنحرفة فقد كانت سياسة الأمويين عنصرية ترفع من شأن العرب وتحط من قدر غيرهم وهم الموالي ويعيرون من يتزوج من أمة مملوكة خصوصاً إذا كان سيداً قرشياً، لكن الإمام السجاد(علیه السلام) وهو من اشرف الناس نسباً يتزوج أمة مملوكة مما عرّضه إلى انتقاد شديد من قبل ملوك الأمويين وكان يجيبهم بأجوبة مسكتة في مراسلات متبادلة تجد نماذج منها في المجلد الرابع عشر من وسائل الشيعة وقد ولدت الأمة لهُ زيداً الشهيد.

وذات مرة استدعى هشام بن عبد الملك زيداً وقال له موبخاً: أتطمح نفسك للخلافة وأنت ابن أمَة فقال زيد (رضي الله عنه): إن النبوة خير من الخلافة وقد كان

ص: 242

إسماعيل الذبيح نبياً وهو ابن أمة، فأفحمه. وكان الإمام(علیه السلام) يشتري العبيد فيثقفهم ويعلمهم حتى إذا أتقنوا العلوم الإسلامية أعتقهم لينتشروا في الأمصار ويعلموا الناس الإسلام الصحيح حتى كان جلّ فقهاء الأمصار نهاية القرن الأول الهجري من الموالي.

تعرية الظالمين وكشف زيفهم:

ومما حفلت به سيرته استخدام مختلف الأساليب لتعرية الظالمين وكشف زيفهم وتحريض الجماهير عليهم، فحينما جاءه وفد الكوفة يسألونه عن مشروعية المشاركة في ثورة المختار الثقفي لاستئصال قتلة الحسين(علیه السلام) قال سبحان الله لو كان عبداً حبشياً لوجبت نصرته وكان يقول ما اكتحلت هاشمية حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحرملة.

وكان يحشد الأمة ضد بني أمية بإثارة عواطفهم وإلفات نظرهم إلى مظلومية أهل البيت(علیه السلام) فقد بكى أباه الحسين(علیه السلام) أربعة وثلاثين عاماً وكان يمزج طعامه وشرابه بدموع عينيه ولا يترك مناسبة إلا واستغلها في هذا المجال، يمر في سوق القصابين فيسمع جزاراً يقول لغلامه: هل سقيت الكبش ماءً فيلتفت الإمام(علیه السلام) إلى الجزار ويقول له: أنتم معاشر القصابين لا تذبحون الكبش حتى تسقوه الماء قال: نعم سيدي يا ابن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: لكن أبي الحسين(علیه السلام) ريحانة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ذبحوه عطشاناً إلى جنب الفرات، هذه الإثارة الواعية للأمة ضد الظلم أتت ثمارها بعد فترة قصيرة بانهيار ملك بني أمية.

أسأل الله تعالى أن يعرّفنا حق أهل البيت(علیه السلام) ويأخذ بأيدينا على مناهجهم وهديهم ولا يفرّق بيننا وبينهم إنه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 243

الإمام السجاد (عليه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت

الإمام السجاد (عليه السلام) يدعونا إلى استثمار الوقت(1)

المعاني الإيجابية والسلبية من إثارة العاطفة:

هذه الأيام أيام الإمام السجاد(علیه السلام) بامتياز لأن فيها ذكرى استشهاده، ولأنها أيام مصائبه وآلامه التي عجزت الجبال الرواسي عن تحملها، ولأنها أيام مكارمه ومآثره ومواقفه العظيمة في الكوفة والشام والمدينة التي شابهت مواقف جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وبهذه المناسبة نقول: عندما يتناول الخطباء والمتحدثون ذكر الإمام السجاد(علیه السلام) فإنهم يركزون على جانب المأساة في حياته أي قضية كربلاء وما تلاها من أحداث، وهي لعمري صفحة مؤلمة في تأريخ الإنسانية اهتزت لها مشاعر الأعداء قبل الموالين كما تشهد بذلك جملة من الروايات التأريخية في كربلاء وما بعدها مما اضطر يزيد اللعين أن يتبرأ مما جرى ويرمي بمسؤوليته على ابن زياد.

أي المحاجر لا تبكي عليك دماً *** أبكيتَ والله حتى محجر الحجرِ

ص: 244


1- كلمة ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي على طلبة البحث الخارج يوم الأحد 29 محرم 1433 المصادف 25/ 12/ 2011 وتحدث ببعض أفكارها في لقائه مع وفد كلية الطب في جامعة البصرة وطلبة إعدادية الفجر في ناحية الفجر يوم الجمعة 27/محرم/1433.

فهذا النمط من تناول الأحداث مشكور ومأجور وضروري لإبقاء الوهج والزخم للحادثة ولتوسيع قاعدة المتأثرين به واندفاعهم بسبب ذلك إلى الإيمان بمبادئ الإمام الحسين(علیه السلام) ومدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) عموماً، على أن يخلو من الإسفاف الذي لا يليق بالمقام المقدس للأئمة المعصومين(علیه السلام) كإنشادهم عن حال الإمام السجاد(علیه السلام):

ويصيح واذلاه أين عشيرتي *** وسراة قومي أين أهل ودادي

في حين أن الله تعالى يقول رداً على المنافقين: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) ويقول الإمام السجاد(علیه السلام) في بعض أدعية الصحيفة السجادية (فأولياؤه بعزته يعتزون) وما خرج الإمام الحسين(علیه السلام) إلا لرفض الذلة وتحصيل العزة حتى أصبحت كلمته شعاراً (هيهات منا الذلة) وقال(علیه السلام): (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد).

فإثارة العاطفة أمر محمود ومنتج بشرط تهذيبه وتصحيحه، وهو من جملة الأمور التي يجب تنزيه المنبر الحسيني عنها.

مضافاً إلى أن الاقتصار عليه يحرمنا الكثير مما ينبغي أن نتعلمه ونتزود به لديننا ودنيانا وآخرتنا، فحياة الإمام السجاد(علیه السلام) حافلة بالعطاء في مختلف شؤون الحياة وكان له تأثير فاعل في حياة الأمة جميعاً وليس فقط في شيعته ومواليه، ففي الحادثة المعروفة التي أنشأ فيها الفرزدق قصيدته الميمية المشهورة، حينما

ص: 245

انكشف الناس جميعاً عن الحجر الأسود وأصبحوا صفين ومشى الإمام السجاد(علیه السلام) بهدوء وسكينة ووقار ليلثم الحجر الأسود في حين عجز الملك الأموي بكل جبروته وبطشه وعدته العسكرية وجيوشه أن يتقدم نحو الحجر، وربما لم يكن في ذلك الجمع من الموالين لأهل البيت(علیه السلام) إلا القليل كما هو المعروف على مرّ السنين، لكن هيبة الإمام السجاد(علیه السلام) فُرضت على الجميع وحبّه ومودته ألقيا في قلوب الجميع فلم يتمالكوا أنفسهم، وهذا شاهد على سعة عطائه وعمق تأثيره في الأمة كلها.

هذا ما يجب إظهاره من حياة الإمام السجاد(علیه السلام)، وإن حالة واحدة من حالاته(علیه السلام) وهي الدعاء تملأ مجلدات من الشرح والبيان، فضلاً عن حالاته المباركة الأخرى سلام الله عليه.

الإمام السجاد (عليه السلام) واستثمار الوقت:

ولنقف الآن عند فقرة من دعائه(علیه السلام) في طلب مكارم الأخلاق المملوء بالمبادئ والأخلاق وبرامج العمل للحياة الإنسانية المثلى التي تجلب السعادة في الدنيا والآخرة، وهي فقرة تعالج مشكلة خطيرة تعاني منها كل المجتمعات حتى المتحضرة فضلاً عن المتخلفة والجاهلة وهي مشكلة الفراغ وتضييع الوقت وملئه بأي شيء بلا تخطيط لجعله منتجاً هادفاً، قال(علیه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له).

ص: 246

فالإمام(علیه السلام) يبين أهمية الوقت ويدلنا على ما يجب أن نملأ أوقاتنا به، وهو ما يحقق الغرض الذي خلقنا لأجله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) بالمعنى الواسع للعبادة الذي لا يقتصر على العبادات المعروفة، بل ليجعلوا محور حياتهم في كل حركاتهم وسكناتهم ما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرّبهم إليه ويسمو بهم، وهي رسالة الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) جميعاً {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَ-هٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) هذه رسالتهم باختصار التي بلغوها لأقوامهم، توحيد الله تعالى الذي طلب منكم إعمار الحياة وفق المنهج الإلهي لأن فيه سعادتكم وفوزكم وفلاحكم.

هذا ما يجب أن نكرّس له أوقاتنا في حياتنا كلها.

وفقني لما ينفعني:

من دعاء أمير المؤمنين(علیه السلام) المعروف بدعاء كميل (يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وفي دعاء الإمام السجاد(علیه السلام) يوم الثلاثاء (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والوفاة راحة لي من كل شر) وفي دعائه(علیه السلام) ليوم السبت (وتوفقني لما ينفعني ما أبقيتني).

ص: 247

ثمن المؤمن:

قال أمير المؤمنين(علیه السلام): (واعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها)(1).

إن الجنة التي عرضها السماوات والأرض والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ثمنها أن تستثمر هذه اللحظات وهذه الساعات، عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما) ويقول(علیه السلام): (إن المغبون من غبن عمره، وإن المغبوط من أنفد عمره في طاعة ربه).

رأس مال الإنسان:

فرأس مال الإنسان في هذه التجارة التي لن تبور: عمره ووقته وإضاعة أي جزء -- ولو للحظة -- بغير تحصيل الغرض المطلوب خسارة توجب الندامة؛ لأن اللحظة يمكن أن تكون فيها تسبيحة تغرس له بها شجرة في الجنة كما في بعض الأحاديث الشريفة، أو أي حسنة ترجّح كفّة حسناته يوم تنصب الموازين بالقسط.

عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (احذروا ضياع الأعمار في ما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود).

ص: 248


1- نهج البلاغة: الكلمة 456.

عمرك أهم من دينارك:

تجد الكثير من الناس يحزن لضياع مال أو تلفه أو فوت فرصة فيها ربح وفير مع أنه يمكن أن يعوضه وأن فائدته هو ما يرتبط بحياته الزائلة، ولا يكترث لفوت شيء من عمره في غير طاعة الله تبارك وتعالى فيه، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: (بادروا العمل وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق) ومن وصايا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) لأبي ذر: (يا أبا ذر كن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك).

هذا إذا لم نفترض أن الكثير من الوقت يقضى في معصية الله تبارك وتعالى فتباً لها من صفقة خاسرة.

قصة وعبرة:

أذكر لكم باختصار حكاية لنأخذ منها العبرة رواها أحد الفضلاء الأساتذة عن أبيه وهو أحد مراجع الدين في كربلاء المقدسة عن شخص ثري تعرّض لسجن واضطهاد في بعض البلدان وكانت له أموال وتجارات فهاجر مع أهله إلى كربلاء قبل سبعين عاماً تقريباً وبسبب تلك الضغوط والآلام أصيب بلوثة في عقله فكان إذا أراد أن يسخّن الماء ليصنع قدحاً من الشاي يحرق الدنانير –كان كل دينار يعادل مثقالاً من الذهب يومئذٍ- في الموقد إلى أن ينضج الشاي، ثم يحتسي القدح فرحاً منتشياً ويقول هذا القدح من الشاي قيمته عشرة آلاف دينار.

ص: 249

ربما نسخر من هذا ونستقبح فعله ولا نعلم –وشر البلية ما يضحك- أننا أسوأ حالاً منه لأننا نحرق ساعاتنا وأيامنا وليالينا التي هي رأس المال في التجارة التي لن تبور مع الله تعالى ويمكن أن نحصل بها على الدرجات العليا في الجنان والنعم العظيمة ومصاحبة النبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) نحرقها في ما لا قيمة له، بل أحياناً في ما يسخط الله تبارك وتعالى ويوجب عقابه والعياذ بالله.

الأهم فالمهم:

وإذا كنا دقيقين أكثر فإن علينا أن نقدّم الأهم على المهم والأعلى رتبة على الأقل رتبة وإن كان كل منهما طاعة، تصوروا لو أن شخصاً مريضاً ويجب عليه تناول دواء معين وعنده ثمنه لكنه لا يفعل ذلك بل صرف الثمن على شراء أكلة يشتهيها وترك نفسه عرضة للأوجاع وتداعيات المرض مع أن الأكل في نفسه مفيد، قال أمير المؤمنين(علیه السلام) (من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم) وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (من شغل نفسه بما لا يجب ضيّع من أمره ما يجب)، ومن أمثلتها عندنا نحن -- الحوزة العلمية -- اشتغال البعض بمطالب علمية ترفية لا دخل لها في وظيفتنا الإلهية.

الوقت والهوايات:

هذه هي أهمية الوقت، لكننا نشهد أن أتفه شيء عند الإنسان هو الوقت وآخر ما يحرص عليه وقته، بل إنه يقوم بأفعال عبثية ولهوية كثيرة مما يسمى

ص: 250

بالهوايات أحياناً كتربية الطيور أو جمع الطوابع أو حل الكلمات المتقاطعة أو بعض الألعاب المسلية ويقول بصراحة ووضوح إنه يفعل ذلك لقتل الوقت أو حرق الوقت وفي الحقيقة فإنه إنما يقتل نفسه ومستقبله الحقيقي وما يقوم به أسوأ من هذا الرجل الذي حكينا قصته في حرق الدنانير.

ومما يزيد الحالة سوءاً أن البعض لا يكتفي بتضييع وقته وهدر عمره، بل يقوم بتضييع أوقات الآخرين بالأحاديث الفارغة والأعمال العبثية ويدفع الآخرين ليكونوا مثله.

مسؤولية الوقت:

أيها الأحبة:

إننا إذن أمام مسؤولية كبيرة وهي إدراك أهمية عمرنا وما يجب أن نستثمره فيه لنحصل على أرقى الدرجات وهذه حقيقة تكشف لنا واقعنا المؤلم لأن العمر يجري مع كل نفس ولا ينتظرنا، ويمر بسرعة قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55) وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (النازعات: 46) وفي قصص الأنبياء أن النبي نوح(علیه السلام) وهو الأطول عمراً شبّه عمره الطويل بانتقالته لحظة من الشمس إلى الظل.

ص: 251

وهذا ما يعلمنا إياه الإمام السجاد(علیه السلام) في فقرة من دعاء مكارم الأخلاق فيدعونا إلى أن نصرف أوقاتنا بما نحن مسؤولون عنه يوم القيامة {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (الصافات: 24) وأن نستفرغ أيامنا بالسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف.

التوجه نحو الغاية:

ويعلمنا(علیه السلام) كيف يمكننا تحقيق ذلك مع كثرة الخطوط والمسارات وتعدد الخيارات وتداخل الاتجاهات والرؤى والبرامج فيقول(علیه السلام): (واكفني ما يشغلني الاهتمام به) فالطريق أن تصفي ذهنك وبرامج حياتك من كل شيء زائد عما يشغلك الاهتمام به عن السير نحو الغاية، وإلا سيضيع وسط هذه الفوضى ولا يصل إلى النتيجة المطلوبة، وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين(علیه السلام) (اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكبر الوهن).

لنكن مباركين معطائين حتى بعد الوفاة:

لاحظوا الفرق بين ما نحن عليه، وما يريد الله تبارك وتعالى منّا، إننا نضيّع رأس مالنا بما يضرّ ولا ينفع، والله تعالى يريد لنا أن لا نقف عند حدود استثمار أعمارنا بل يدعونا إلى أن نكون مباركين معطائين حتى بعد وفاتنا فنحصل على عمر مديد من العطاء أو قل لنحصل على رأس مال إضافي كالشيخ الطوسي(قدس سره) الذي مر على وفاته ألف عام تقريباً وهو يزداد تألقاً وعطاءً، وكالشيخ

ص: 252

الحر العاملي الذي مرّت على وفاته قرون ولا يستطيع فقيه أو عالم الاستغناء عن كتابه وسائل الشيعة، وهذا ما دعانا إليه الحديث النبوي الشريف (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).

وفي الحديث الشريف المشهور (من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) ومن هذا الباب تفضل الله تعالى بكتابة الحسنة لمن نواها ولم يوفَّق لفعلها، وكذلك ما ورد من أن من أحبّ عمل قومٍ أُشرك في أجورهم وحشر معهم.

كل ذلك من أجل مضاعفة الربح لهذه التجارة النفيسة مع الله تبارك وتعالى لمن استثمر عمره ووقته.

ص: 253

درس من حياة الإمام الباقر (عليه السلام) في ترتيب وضع الشيعة

اشارة

درس من حياة الإمام الباقر (عليه السلام) في ترتيب وضع الشيعة(1)

الفترة العصيبة على الشيعة:

الإمام الباقر(علیه السلام) قلّما تُخصّص له المجالس والمحافل، وبمناسبة ذكرى ميلاده الميمون نستعرض صفحة من سفر حياته المباركة لنستفيد منها في حياتنا وواقعنا اليوم وهي رعايته لشيعته وترتيب أوضاعهم حينما سُلّطت الأضواء عليهم.

اشتد البلاء على الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام) وأمعن معاوية في قتلهم وسجنهم ومصادرة أموالهم وتهديم دورهم وصارت قوافل الشهداء تساق إلى ساحات الإعدامات أفواجاً أفواجاً، وقبل ذلك كان الإمام الحسن(علیه السلام) يوفّر غطاءاً قوياً لحمايتهم بهيبته وشروطه التي أملاها على معاوية وعدم سكوته على انتهاكاته.

يصف الإمام الباقر(علیه السلام) ما مرّت به الشيعة في تلك الفترة بقوله (وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وكان من يُذكّر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نهب ماله، أو هدمت داره)(2).

وسُئل(علیه السلام) كيف أصبحت؟ قال(علیه السلام) (أصبحتُ برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) خائفاً، وأصبح الناس كلّهم برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) آمنين).(3)

ص: 254


1- محاضرة القيت بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام الباقر(علیه السلام) في 1 رجب 1434 المصادف 12/ 5/ 2013.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 43.
3- ميزان الاعتدال: 4/ 160 بواسطة موسوعة سيرة أهل البيت(علیه السلام) للمرحوم الشيخ القرشي: 18/ 132 وكذا بعض المصادر الآتية.

وكان الشيعة يشكون إلى الأئمة ما يحلُّ بهم، وروى أبو بصير قال (قلت لأبي جعفر(علیه السلام) جُعلتُ فداك اسم سُمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا قال: ما هو؟ قال الرافضة), فأجابه الإمام(علیه السلام) بما يطيّب خاطره ويخفّف عنهم آلامهم وقال(علیه السلام) (ذلك اسم قد نحلكمه الله) وشرح له منشأ التسمية فقال(علیه السلام) (إن سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى(علیه السلام) فلم يكن في قوم موسى(علیه السلام) أحد أشدّ اجتهاداً ولا أشدّ حباً لهارون منهم فسماهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن ثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني قد نحلتهم).(1)

فرض الواقع من خلال توسعة قاعدة المؤمنين بإمامتهم (عليهم السلام) :

ولكن بلطف الله تعالى وبفضل السياسة الحكيمة للإمام السجاد(علیه السلام) وامتداد إمامته الشريفة (34) عاماً تحوّل وضع الشيعة من قلة مستضعفين يتخطّفهم الأعداء إلى رقم صعب على الساحة، وواقع ممتد على طول البلاد الإسلامية وفيهم الفقهاء والعلماء وذوو النفوذ ممن رباهم الإمام السجاد(علیه السلام) ونشرهم في البلدان، وكان وجودهم يستمد القوة والمنعة من هيبة الإمام السجاد وامتلاكه قلوب جميع طوائف المسلمين، كما تشهد به واقعة انفراج المسلمين عند تقدمه لاستلام الحجر الأسود بينما عجز الخليفة الأموي بجيشه وبطشه عن تحقيق ذلك.

ص: 255


1- المحاسن للبرقي 119 كتاب الصفوة والنور- باب24: الرافضة، ح92.

مسؤولية الإمام الباقر (عليه السلام) في حفظ الواقع الجديد:

هذا الواقع الجديد الذي تسلّمه الإمام الباقر(علیه السلام) للشيعة وهي الجماعة المؤمنة بإمامته وقيادته والمطيعة لأوامره وتسليط الأضواء عليهم ووضعهم تحت الدراسة والنظر من جميع المراقبين للتعرف على هذه الجماعة الرصينة التي تجاوزت كل الكوارث وحافظت على وجودها ونمت وازدهرت أوجد مسؤوليات جديدة، منها:

1. حفظ وحدة الجماعة وتماسكها ومنع حالات التشرذم والانقسام وهو ما نجح به الإمام الباقر(علیه السلام) تماماً حيث لم تنشق أي فرقة كما حصل بعده في الزيدية والإسماعيلية والواقفة والفطحية ونحوهم.

2. التعريف بهوية الجماعة وخصائص من ينتمي إليها لكي يعمل بها الأتباع ويُميّز بها المندسّون والمنتحلون ولإقامة الحجة على من عاداهم وفارقهم لأنه سيبتعد عن هذا المنهج الرصين.

ومن كلماته(علیه السلام) في ذلك (ما شيعتنا ألا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة، والبر بالوالدين وتعهّد الجيران من الفقراء، وذوي المسكنة، والغارمين، والأيتام وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفِّ الألسن عن الناس ألا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم والأشياء).(1)

ص: 256


1- تحف العقول: 295.

وقال(علیه السلام) (إنما شيعة علي(علیه السلام) المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، والمتزاورون لإحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإذا رضوا لم يُسرفوا، بركةٌ على من جاورهم، وسلم لمن خالطوا).

وقال(علیه السلام) (ليُعِن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه) (1) وقال(علیه السلام) (بلّغ شيعتنا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وبأن يعود غنيّهم على فقيرهم، ويعود صحيحهم عليلهم، ويحضر حيّهم جنازة ميتهم، ويتلاقوا في بيوتهم، فإن لقاء بعضهم بعضاً حياةُ لأمرنا، رحم الله امرءا أحيا أمرنا وعمل بأحسنه، وقل لهم: إنّا لن نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل صالح، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد، وإن أشدّ الناس حسرة يوم القيامة لمن وصف عملاً ثم خالفه إلى غيره).(2)

3. تحذيرهم من مخالفة توجيهات الإمام وتأويل كلامه بما يناسب أهوائهم ومصالحهم فيشوهون صورة الإمام وينفرون الناس من منهجه الشريف من أجل دنيا تافهة لأنّ الناس تنسب أفعال المنتمين لجماعة إلى رئيس تلك الجماعة حسنة كانت أو سيئة، وفي ذلك يقول(علیه السلام) (رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس، ولم يبغّضنا إليهم، أما والله لو يروون عنا ما نقول ولا يحرّفونه، ولا يبدّلونه علينا برأيهم ما استطاع أحدٌ أن يتعلق عليهم بشيء، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فينيط إليها عشراً، ويتأولها على ما يراه).(3)

ص: 257


1- أمالي الطوسي: 232.
2- عيون الأخبار وفنون الآثار: 223.
3- عيون الأخبار وفنون الآثار 223.

4. تعليمهم التقية والتصرف بحكمة مع الآخرين وأن يبتعدوا عن المواقف العاطفية والعصبية والانفعالية ليحموا أنفسهم من الأعداء ويحافظوا على وجودهم واتساع أمرهم، قال(علیه السلام) (التقية ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له).(1)

وقال(علیه السلام) (اكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا)(2).

تفقد الشيعة وزرع الأمل في قلوبهم:

وكان(علیه السلام) يتفقد الشيعة ويسأل عنهم ويحنو ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم ويطيّب خواطرهم ويخفف آلامهم ويزرع الأمل في قلوبهم، وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان وفيهم رجل اسمه زياد الأسود وقد تشققت رجلاه من المشي، فقال(علیه السلام) له: (ما هذا يا زياد؟) فذكر له زياد انه مشى على قدميه عامة الطريق لأن بعيره لا يقوى على حمله، فرقّ الإمام(علیه السلام) لحاله وبكى وقال له: أبشر فأنت والله معنا تحشر) فقال زياد: معكم يابن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال(علیه السلام) (نعم، ما أحبّنا عبدٌ إلا حشره الله معنا، وهل

ص: 258


1- الكافي للكليني (329 ه-) الجزء2 صفحة219 باب التقية.
2- أمالي الطوسي: 232.

الدين إلا الحب، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتاب {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران/31).(1)

وقال(علیه السلام) لجماعة من شيعته (إنما يغتبط أحدكم إذا بلغت نفسه هاهنا –وأومأ بيده إلى حلقه- ينزل عليه ملك الموت فيقول له: أما ما كنت ترجوه فقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه، ويُفتّح له بابٌ إلى منزله من الجنة فيقول له: انظر إلى مسكنك من الجنة فهذا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي والحسن والحسين(علیه السلام) هم رفقاؤك، وهو قول الله عز وجل {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (يونس/6364) ، (2) فهذه البشرى يتلقّاها في الحياة الدنيا قبل البشرى بنعيم الآخرة).

ومن حبّه(علیه السلام) لشيعته خصوصاً العلماء وحملة الحديث والرواية فقد أوصى ولده الإمام جعفر الصادق بهذه الرعاية الشاملة لكل شؤونهم وأن يغدق عليهم، فقال له (يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً) فقال له الإمام الصادق(علیه السلام) (جُعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً) . (3)

ص: 259


1- عيون الأخبار وفنون الآثار: 226.
2- عيون الأخبار وفنون الآثار: 227.
3- الإرشاد: 2/ 174.

لنأخذ الدرس:

أيّها الأحبّة:

علينا اليوم أن نستفيد من هذه الصفحة المباركة من حياة الإمام الباقر(علیه السلام) لأن الشيعة اليوم تحت الأضواء بعد أن انطلقوا من القمقم الذي حبسه فيه أعداؤهم طيلة أربعة عشر قرناً وبهروا العالم بعدة أمور كشعائرهم المليونية وتاريخهم المشرق وهيكلية تنظيمهم الرصينة وسعة انتشارهم وطاعتهم لقيادتهم وتمسكهم بدينهم، وحركتهم الدؤوبة في توسيع مدرستهم وإقناع العالم بها وعمق جذورهم الفكرية وقدرتها على حل كل المشاكل التي تواجه البشرية وغيرها.

وهذا الوضع يلزمنا بمسؤوليات إضافية تجاه أنفسنا ومذهبنا وأئمتنا سلام الله عليهم، كتلك التي قام بها الإمام الباقر(علیه السلام) ، وهي بنفس الوقت فرصة عظيمة لنا أن تشملنا الألطاف الإلهية فنكون ممن اختارهم الله تعالى لتحمّل هذه المسؤولية المباركة.

ص: 260

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك

اشارة

أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك(1)

لنأخذ درساً من أبان بن تغلب:

كان أبان بن تغلب جليل القدر عظيم المنزلة، لقي ثلاثة من الأئمة (السجاد والباقر والصادق(علیه السلام)) وروى عنهم وكانت له عندهم حظوة ومنزلة، وقال له أبو جعفر الباقر(علیه السلام) (أجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلُك)(2).

نريد أن نأخذ درساً من هذا الوسام الرفيع الذي قلّده الإمام الباقر(علیه السلام) لهذا العالم الجليل وهو أن يقوم كل من له إبداع في مجال ما ينفع به المجتمع وينصر به الدين وينشر به الصلاح فليبرزه وليظهره ولينشره، لأن إمام العصر يحب أن يَرى في شيعته مبدعين نافعين في كل مجالات الحياة وليس في الفقه فقط، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والطب والهندسة والقانون والعلاقات الدولية والمنظمات الإنسانية وهكذا.

ادخلوا السرور على إمام العصر (عليه السلام)

وهذا يحتّم علينا أن نبذل أقصى الجهود ونحسن اختيار المجال المثمر والمناسب لقدراتنا وقابلياتنا لنبرز فيه ونتفوق ونتميز، فندخل السرور على قلب

ص: 261


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع جمع من طلبة السادس الإعدادي في مدينة قلعة سكر يوم 30/ج1/ 1433 المصادف 23/ 2/ 2012، ونشر في العدد (110) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 22/ر2/ 1433 الموافق 16/ 3/ 2012.
2- مستدرك الوسائل: ج17 ص315.

الإمام(علیه السلام) ونكون مصداقاً لدعوة الإمام الصادق(علیه السلام) (كونوا لنا دعاة صامتين) ونكون فخراً وزيناً لمدرسة أهل البيت(علیه السلام).

خصوصاً أنتم الشباب في مقتبل العمر وعلى أبواب الجامعات، فضاعفوا هِمَّتَكم وجهدكم لتملأوا كل الاختصاصات بإبداعاتكم وتفوقكم، وسيشملكم الإمام(علیه السلام) بألطافه ويرعاكم بإذن الله تعالى.

ص: 262

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة

اشارة

أوجه نشاط الإمام الصادق (عليه السلام) والمرحلة الراهنة(1)

سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية:

إن سيرة أهل البيت(علیه السلام) سفر جامع لكل ما تحتاجه البشرية من آراء ومواقف وحلول وبرامج عمل لمختلف القضايا التي تواجهها، ولا عجب في ذلك فإنهم عدل الكتاب العزيز وصنوه وقد وصف القرآن نفسه بكونه {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل:89) و{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام:38) فهم كذلك.

وبمناسبة ذكرى وفاة الإمام الصادق(علیه السلام) نريد أن نستلهم من حياته(علیه السلام) بعض المعالجات لمشاكلنا، ونتعلم منه(علیه السلام) كيف نصمد أمام التحديات التي تحاول تقويض شخصيتنا ومسخ هويتنا، ونعرض ذلك باختصار من خلال نقاط:

تحديات المرحلة والاستلهام من الإمام الصادق (عليه السلام):

الأولى: إن الفترة التي نعيشها تشابه تلك التي عاشها الإمام الصادق(علیه السلام) من حيث أنها شهدت ضعف وانحلال دولة هي الأموية، وظهور دولة جديدة هي العباسية، فكان أهم عمل قام به في هذه الفترة الانتقالية وتخفيف قبضة

ص: 263


1- محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الصادق(علیه السلام) في 25 شوال 1424 المصادف 20/ 12/ 2003.

الظالمين عنه هو نشر علوم أهل البيت(علیه السلام) وتثبيت الركائز الفكرية والعلمية الرصينة لهذه المدرسة، حتى لقد نسب المذهب إليه فقيل المذهب الجعفري لأن جهده(علیه السلام) كان هو الأوضح في تأسيس هذا الصرح الشامخ، وقد قطع الإمام شوطاً واسعاً في هذا المجال فقد تخرج على يديه أربعة آلاف عالم في مختلف العلوم والفنون، فأبو حنيفة شيخ أئمة المذاهب من تلاميذه(علیه السلام) وله كلمته المشهورة (لولا السنتان لهلك النعمان) وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء من طلابه(علیه السلام) وغيرهم كثير، وقد انتشر هؤلاء في الأمصار ونقلوا معهم ما تعلموه.

وكان(علیه السلام) يحث على طلب العلم ويقول: (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا)(1) وخاطب(علیه السلام) أصحابه: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً)(2) ونقل(علیه السلام) عن جده رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (أفٍ لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(3).

ونحن إذ نعيش اليوم زوال أيام النظام الجائر الذي حرمنا من كثير من حقوقنا، ونشوء دولة جديدة، يكون من أولوياتنا تأسيس الحوزات العلمية الشريفة والمؤسسات الثقافية في جميع المدن، لخلق واقع جديد من انتشار مراكز العلم والمعرفة يكون أساساً تبنى عليه الحياة الجديدة حتى يتسع الوضع الحالي الذي يفترض وجود الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف؛ لأن مجرد وجود الكيان العلمي الديني في مدينة ما يعني دفعة قوية للحركة الإسلامية والالتزام الديني، فضلاً عما لو تحرك هذا

ص: 264


1- و (2) و (3) الكافي:1/ 31، 40.

الكيان ليبلّغ الأحكام ويعظ ويوجه ويرشد فإنه سيملأ تلك المدينة ولا يترك فراغاً يمكن أن يشغله غيره ويحاصر الفساد والانحراف ويسد عليه منافذ الحركة.

بيان المعالم الصحيحة لشخصية المسلم:

الثانية: بيان وتوضيح المعالم الصحيحة لشخصية المسلم بعد أن مسخها الحكام الظلمة بما كانوا يصورون للأمة من جوانب مخزية لشخصيتهم، وبما كانوا ينشئون في حياة المجتمع الإسلامي من واقع فاسد من فسق وفجور وخيانة وجور وانكباب على الدنيا وتقاتل من أجلها وولع بالخمر وعدوان على أهل الحق.

وكان وعاظ السلاطين السائرون في ركابهم يرقعون لهم هذه المخازي بضلالاتهم فضاعت الصورة الحقيقية للمسلم خصوصاً عند الأقوام التي دخلت الإسلام جديداً وليس لهم عمق تأريخي فيه وحرموا من التعرف على أئمتهم الحقيقيين.

فنهض الإمام(علیه السلام) بمسؤولية هذا التعريف، وكان يركز اهتمامه أكثر على شيعته باعتبارهم طليعة هذه الأمة التي عرفت الحق واتبعته فتكون المسؤولية عليهم أكبر قال(علیه السلام): (فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى للناس الأمانة وحسن خلقه معهم وقيل هذا شيعي يسرني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور ومن كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره)(1) وقال(علیه السلام): (والله ما شيعة علي إلا من عف بطنه وفرجه وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)(2) ويروي الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (خرجت أنا وأبي حتى إذا كنا

ص: 265


1- الكافي: 2/ 636.
2- الكافي: 2/ 233.

بين القبر والمنبر إذا هو بأناس من الشيعة فسلم عليهم) ثم قال من كلامٍ (واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد من ائتم منكم بعبدٍ فليعمل بعمله)(1) وقال(علیه السلام): (أوصيكم بتقوى الله وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دعاة صامتين) ولما سأله أحدهم مستغرباً: يا ابن رسول الله كيف ندعوا إلى الله ونحن صامتون، فقال(علیه السلام): (تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الأمانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلِّع الناس منكم إلا على خير فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا إليه).

ومجتمعنا اليوم يتعرض لحملة عالمية منظمة مدعومة بأحدث التقنيات والوسائل الإعلامية كالصحف والمجلات والتلفزيون والستلايت، من أجل سلخه عن عقيدته وأخلاقه وأعادته إلى الجاهلية التي استنقذهم الله تبارك وتعالى منها، فلكي نحافظ على هويتنا الإسلامية في العقيدة والسلوك علينا أن نحشد طاقاتنا ونبتكر الأساليب والوسائل المناسبة للتصدي لتلك الحملة المنظمة، فنعّرف بعناصر شخصية المسلم ومعالمه التي تميزه عن غيره، وقد كتبت بحثاً بعنوان عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت(علیه السلام) ونُشر في كتاب نحن والغرب.

مواجهة التيارات الفكرية المنحرفة:

الثالثة: الوقوف في وجه التيارات الفكرية التي تنشأ من داخل المجتمع المسلم، أو تفد عليه من الخارج والتي تهدد عقيدة الأمة أو سلوكها، فعندما نشأت شبهة القول بالجبر وأن الله قد قهر العباد على أفعالهم وساهمت السلطات الحاكمة على

ص: 266


1- الكافي: 8/ 213.

ترويجها لتبرير ظلمهم للعباد، وقف الإمام(علیه السلام) بحزم لتفنيدها وخصص عدداً من أصحابه للحوار والجدال، وانتشرت كلمته التي تعبر باختصار عن مذهب أهل البيت(علیه السلام) وهي: (لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين).

وكذا واجه حملات الإلحاد وإنكار الصانع لهذا الكون وقد تبناها عدد من الزنادقة والدهريين وكانوا يصرحون بها ويدافعون عنها ويطلبون من يناظرهم فيها ويستغلون موسم الحج لنشر ضلالاتهم وتسفيه عقائد المسلمين في شعائر الحج، وكان الإمام الصادق(علیه السلام) يقف لهم بالمرصاد فيفحمهم ويرد كيدهم إلى نحورهم وينصر المؤمنين ويشد على قلوبهم ويعزز إيمانهم.

وكذا وقف بقوة ضد الفقهاء الذين بدأوا العمل بالقياس لاستنباط الأحكام الشرعية، وحذرهم مغبة عملهم وقال لهم إياكم أن يقف الناس يوم القيامة فيقولون قال الله ورسوله وتقولون قسنا ورأينا وقال لهم (إذا قيست السنة محق الدين)، واثبت بطلان العمل بالقياس بموارد ثابتة من الفقه تخالف أقيستهم، ولولا هذه الوقفة الشجاعة لكانت الأحكام الشرعية الآن مخالفة تماماً لما أراده الله ورسوله بحيث تؤدي إلى محق الدين كما عبر الإمام(علیه السلام).

لنتأسى بالإمام (عليه السلام) ونواجه الشبهات الفكرية:

وتأسياً بالإمام(علیه السلام) فيجب على العلماء والمفكرين والمثقفين التصدي للشبهات والتيارات الفكرية والاجتماعية التي تهدد كيان الأمة كالإلحاد وإنكار الخالق والقول بالصدفة أو الطبيعة وكالعلمانية ودعوات تحرير المرأة التي لا تعني إلا تدمير أخلاق المجتمع تحت هذه العناوين البراقة الخادعة، ومثل دعوات التغريب التي يراد منها إلحاق المجتمع الشرقي المسلم بالغربي بجميع أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية رغم البون الواسع في مرتكزات كل منهما.

ص: 267

تصحيح التصرفات المنحرفة:

الرابعة: التصدي لتصحيح التصرفات المنحرفة التي تنشأ عن الجهل والغرور والحماقة فمنها ما روي عن الإمام الصادق(علیه السلام) انه قال: قوله عز وجل (اهدنا الصراط المستقيم) يقول أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك فإن من اتبع أهوائه وأعجب برأيه، كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني لأنظر مقداره ومحله، فرأيته في موضع قد أحدق به جماعة من غثاء العامة فوقفت منتبذاً عنهم متغشياً بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم) إلى أن يقول (فلم يلبث أن مر بخبازٍ فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة ثم مر بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه) فسأله الإمام(علیه السلام) عن سر فعله هذا فاتهمه بجهله للقرآن يقول الإمام(علیه السلام): قلت: وما الذي جهلت؟ قال: قول الله عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) واني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين فهذه أربع سيئات فلما تصدقت بكل واحدة منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات بقي ست وثلاثين، قلت: ثكلتك أمك! أنت الجاهل بكتاب الله أما سمعت قول الله عز وجل: (إنما يتقبل الله من المتقين) إنك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين ولما دفعتهما من غير رضا صاحبها كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات فجعل يلاحيني فانصرفت عنه وتركته).

ص: 268

وكم يوجد مثل هذا الرجل في زماننا وكل زمان حيث يقومون بأفعال يظنون أنها تقرّبهم إلى الله تعالى وهي لا تزيدهم منه إلا بعداً كالذين ينفذون التفجيرات الإجرامية وينشرون العنف فيقتلون الأبرياء ويخرّبون الممتلكات العامة تحت عنوان المقاومة وأمثالها، أو يحرصون على فعل المستحبات ويتركون الواجبات كالذي ينفق ماله في إقامة الولائم على حب أهل البيت(علیه السلام) وهو لا يدفع ما بذمته من الحقوق الشرعية وهو بذلك يسرق حقوق مستحقيها.

توحيد المسلمين:

الخامسة: حرصه(علیه السلام) على وحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم، فرغم أنه(علیه السلام) وأهل بيته ظُلِموا وغُصِبت حقوقهم إلا أنه لم يثر فتنة وسلّم لهم من أجل أن تسلم أمور المسلمين كما قال جده أمير المؤمنين(علیه السلام): (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).

وضربوا(علیه السلام) لذلك مثلاً في امرأتين تنازعتا في ولدٍ كل واحدة تقول هو لي وتحيّر الخليفة الثاني في كيفية حل النزاع فالتجأ إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) فما كان منه(علیه السلام) إلا أن دعا بسيفه وقال سأقطع الولد نصفين لكل واحدة نصف، فصاحت أم الولد الحقيقية لا تفعل يا أمير المؤمنين واحفظ الولد سالماً ولتأخذه المرأة الأخرى، فقال لها(علیه السلام) أنت أمه الحقيقية ودفعه إليها، فكان كل إمام يشعر أنه أم الولد وعليه أن يضحي حفاظاً لسلامة كيان الأمة من التمزق والتشتت وروي أن الإمام الصادق(علیه السلام) كان يقول: (ولدني أبو بكر

ص: 269

مرتين)(1) تأليفاً لقلوب العامة.

الاهتمام بأمور المسلمين:

السادسة: الاهتمام بأمور المسلمين وقضاء حوائجهم ومساعدة ضعفائهم بحيث يصل إلى درجة التعبير عمن لم يهتم بأمور المسلمين بأنه ليس منهم، وكان الإمام الصادق(علیه السلام) يطوف بالبيت الحرام فجاء رجل إلى أحد أصحابه طالباً منه قضاء حاجة فاجله إلى حين انتهاء الطواف فلم يرض الإمام عليه وطلب منه قطع الطواف حتى يقضي حاجة أخيه المؤمن ويعود إلى طوافه، ومر المعلى بن خنيس وهو من خواص أصحاب الإمام(علیه السلام) بمسلمين يتنازعان على مالٍ فدفع منه مالاً يرضيهما ولما استغربا من عظيم صنعه، قال: والله ليس هو من مالي وإنما وضعه عندي سيدي ومولاي جعفر بن محمد للمساعدة في إصلاح الخلافات بين المؤمنين وحل نزاعاتهم.

وفي هذه السيرة المباركة دروس لكل من يلي شيئاً من أمور الرعية أن يحافظ على وحدة الشعب وزرع الألفة بينهم، وأن يتفانى في خدمتهم وتحقيق السعادة لهم.

المواقف السياسية للإمام الصادق (عليه السلام):

شهدت الفترة الأخيرة من الدولة الأموية اجتماعات عديدة كان يعقدها العلويون والعباسيون لإعلان الثورة، وقد حاولوا إقناع الإمام(علیه السلام) بالانضمام إليهم إلا أن الإمام(علیه السلام) كان يبين موقفه بوضوح بأننا لسنا

ص: 270


1- قيل في تفسيره أن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وكانت في غاية الجلالة والكرامة بحيث قيل للإمام الصادق(علیه السلام) ابن المكرمة وكانت من أتقى نساء زمانها وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (معجم رجال الحديث: 14/ 49، ومنتهى الآمال مج2).

طلاب دنيا وليس لنا مطامع في السلطة، وإنما نريد الإصلاح وتهذيب النفوس وتكاملها ورقيها وهو ما يجب أن نعمل لأجله ومن دون وصول الأمة إلى مستوى رفيع من التربية الإيمانية لا يمكن أن تنجح فيهم سيرة الإمام(علیه السلام) في الحكم بين الناس.

وعندما كتب إليه أبو سلمة الخلال أحد قادة جيوش العباسيين التي أطاحت بالأمويين يعرض عليه الدعوة إليه بعدما تكشفت له نوايا القوم بالاستئثار بالسلطة دون العلويين، قال الإمام(علیه السلام) مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري، ثم قال لخادمه: أدن مني السراج فأدناه منه فوضع الكتاب على النار حتى احترق بكامله والرسول ينظر إليه، فقال له الإمام(علیه السلام) هذا جواب كتابه.

ولما جاء أبو مسلم الخراساني قائد جيوش العباسيين يعرض عليه تسليم الأمر إليه بعدما أحس بخيانة العباسيين الذين بنوا حركتهم على الدعوة إلى الرضا من آل محمد(صلی الله علیه و آله و سلم) قال(علیه السلام): لست من رجالي ولا الزمان زماني.

التصدي للسلطة وسيلة لإحقاق الحق:

فالتصدي للسلطة عند الإمام(علیه السلام) وسيلة لإحقاق الحق وإقامة شريعة الله تبارك وتعالى، وليست شهوة وغاية في نفسها، فلذا نأى بنفسه عن الخوض في هذه الحياة بل تركها لأهلها الذين رضوا بهذه الدنيا الدنية ثمناً لدخولهم نار جهنم، وتفرغ هو لبناء النفس المطمئنة والقلب السليم والمجتمع الإسلامي النظيف.

الاستفادة من زخم الثورات من غير الاندفاع فيها:

ص: 271

ولكنه(علیه السلام) كان يرى أن بعض الثورات التي تنطلق بين حين وآخر بقيادة العلويين كزيد الشهيد وبني الحسن(علیه السلام) كانت مخلصة وضرورية لإبقاء إرادة الأمة حية ولتعميق وإدامة رفض الظلم والظالمين، وهو(علیه السلام) وإن لم يتبناها بشكل مباشر وحرص على أن لا يدان بشيء متصل بها إلا أن تعاليمه وخطه الفكري والتربوي والأخلاقي كان يصب في إشعال هذه الثورات، لذا كانت السلطات تعتبره المرشد لها وكان(علیه السلام) يقول: (لا زالت أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد)(1) أي الثوار الرافضون لظلم الطواغيت ويقول: (لوددت أن الخارجي يخرج من آل محمد وعليَّ نفقة عياله).

فهو وإن لم يكن يرى أن المقاومة المسلحة هي الحل الأمثل لبناء الأمة، إلا أنه يراها قوة له وتصب في مصلحة الإسلام العليا.

وكتب(علیه السلام) رسالة تفصيلية إلى عبد الله المحض وأخوته وأولاده وبني عمومته من بني الإمام الحسن(علیه السلام) بعد أن اعتقلهم المنصور العباسي في الهاشمية للضغط على ولديّ عبد الله محمد النفس الزكية وإبراهيم أحمر العينين حتى يتركا الثورة ويستسلما، وضمَّنَ الرسالة كل معاني المواساة والصبر والمصابرة والتسلية.

وحينما قتل قائد شرطة الوالي العباسي على المدينة مولاه المعلى بن خنيس، قصد مقر السلطة بنفسه على غير عادته وطالب بالاقتصاص من القاتل وبعد محاولات عديدة للتخلص من الموقف، قابلها الإمام(علیه السلام) بالإصرار على إقامة العدل استسلم الوالي وقدم الجاني للقصاص.

حق الإمام الصادق (عليه السلام) على الأمة:

ص: 272


1- بحار الأنوار: 46/ 172.

بهذه النشاطات الكبيرة والمتعددة التي كان يؤديها الإمام(علیه السلام) نجح في إدامة الروح الدينية في الأمة وتوعيتها، وبناء الأسس الرصينة لشخصيتها، لذا حظيّ بتقدير الأمة بجميع طبقاتها وصدرت منهم أعلى كلمات الثناء والإطراء، قال مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب (ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً) وقال فيه أبو حنيفة (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد) وقال ابن أبي العوجاء –من زعماء الملحدين- عندما قصد الإمام الصادق(علیه السلام) ليناظره وقد قال له الإمام: ما يمنعك من الكلام، فقال له: إجلالاً لك ومهابة منك ولا ينطق لساني بين يديك وإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني من هيبة أحد منهم مثلما تداخلني من هيبتك يا ابن رسول الله، وكان المنصور على شدة عداوته للإمام(علیه السلام) يقول: إن جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم الكتاب.

ص: 273

المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (عليه السلام)

اشارة

المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (عليه السلام)(1)

لا تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة:

في ذكرى استشهاد الإمام الصادق(علیه السلام) نتوقف عند آخر وصية له(علیه السلام).

عن أبي بصير قال: دخلت على أُمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله(علیه السلام) ، فبكت وبكيت لبكائها ، ثمّ قالت: يا أبا محمّد ، لو رأيت أبا عبد الله(علیه السلام) عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ثمّ قال: (اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة ، قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه ، فنظر إليهم ثم قال: إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة).(2)

ويظهر أن هذه وصية النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته جميعاً، روي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: (لا تتهاون بصلاتك ، فإنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته ، ليس منّي من شرب مسكراً ، لا يرد عليّ الحوض لا والله) ، (3)بل هي وصية كل الأنبياء(علیه

ص: 274


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في ذكرى استشهاد الإمام الصادق(علیه السلام) يوم 25 شوال/1434، الموافق: 13/ 9/ 2012.
2- الوسائل ج4 ص2627.
3- الوسائل ج4 ص23- 24.

السلام)، عن الإمام الصادق(علیه السلام) (أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء).(1)

فلا يغتر البعض بما يقال له أنّه إذا فعل كذا فقد وجبت له الجنة، أو دخل الجنة بغير حساب مما يكثر منه الخطباء على المنابر من دون ذكر قيوده وشروطه.

أهمية الصلاة:

إنّ للصلاة أهمية كبرى في الدين ودوراً مهماً في حياة الإنسان ومصيره، عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) (قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ما بين المسلم وبين أن يكفر إلاّ ترك الصلاة الفريضة متعمّداً أو يتهاون بها فلا يصلّيها) . (2) وروي عن الإمام الباقر(علیه السلام) قوله: (الصلاة عمود الدين ، مثلها كمثل عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب) . (3) وعن علي(علیه السلام) قال: (قال رسول الل(صلی الله علیه و آله و سلم) إنّ عمود الدين الصلاة ، وهي أوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم ، فإن صحّت نُظر في عمله ، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيّة عمله) . (4)

لذا كان مقياس صلاح الإنسان عند أهل البيت(علیه السلام) هو اهتمامه بصلاته، عن هارون بن خارجة قال: (ذكرت لأبي عبدالله(علیه السلام) رجلا ً من أصحابنا فأحسنت عليه الثناء ، فقال لي: كيف صلاته؟)(5).

ص: 275


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 210 ح638.
2- الوسائل ج4 ص 43.
3- الوسائل ج4 ص27.
4- الوسائل ج4 ص3435.
5- الوسائل ج4 ص32.

فضل الصلاة وثوابها:

وقد ورد في فضل المصلي وثواب الصلاة شيء كثير، عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: (قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله عزّ وجلّ إليه ، أو قال: أقبل الله عليه حتى ينصرف ، وأظلّته الرحمة ، من فوق رأسه إلى أُفق السماء ، والملائكة تحفّه من حوله إلى أًفق السماء ، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: أيّها المصلّي ، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً)(1). وعن أبي جعفر(علیه السلام) أنّه قال: للمصلّي ثلاث خصال: إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء ، ويتناثر البّر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكّل به ينادي: لو يعلم المصلّي من يناجي ما انفتل)(2).

وعن الإمام الباقر(علیه السلام) (قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا ، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب)(3)، وعن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل ابليس ينظر إليه حسداً، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه)(4).

ص: 276


1- الوسائل ج4 ص32.
2- الوسائل ج4 ص33.
3- الوسائل ج4 ص12.
4- الخصال: 632 ح10.

الصلاة التامة:

إن الصلاة التي تكون لها هذه القيمة لابد أن تكون تامة في أجزائها وشرائطها التي يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية. عن الإمام الباقر(علیه السلام) (قال: بينا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير دين)(1).

المحافظة على أوقات الصلوات:

ومن المهم جداً لكي تؤدي الصلاة غرضها المنشود وتتحقق منها الآثار المباركة: المحافظة عليها في أوقاتها، عن الإمام الصادق(علیه السلام) (قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم)(2). و عن الصادق(علیه السلام) - في حديث - : (إنّ ملك الموت يدفع الشيطان عن المحافظ على الصلاة ، ويلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، في تلك الحالة العظيمة)(3)، وعن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال (ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس إلا ضمِنتُ له الرَوْحَ عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار)(4).

ص: 277


1- الوسائل ج4 ص3132.
2- الوسائل ج4 ص28.
3- الوسائل ج4 ص29.
4- بحار الأنوار: 83، 9ح 5.

من خطبة لأمير المؤمنين(علیه السلام) في نهج البلاغة انه قال في كلام يوصي أصحابه: (تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: (ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلّين) وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق ، وتطلقها إطلاق الربق ، وشبّهها رسول الله بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين ، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) ، وكان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة ، لقول الله سبحانه (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه) .(1)

علموا أولادكم الصلاة:

ولأجل أن تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياة الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونها فقد أمر المعصومون بإلزام الصبيان بالصلاة من وقت مبكر كعمر (68) سنين بحسب استعداداته الذهنية وفهمه لما يقال له.

روى محمد بن مسلم: أنه سأل أحد الإمامين الباقر والصادق(علیه السلام) (في الصبي ، متى يصلّي؟ فقال: إذا عقل الصلاة قلت: متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال: لستّ سنين)(2).

ص: 278


1- الوسائل ج4 ص30- 31.
2- الوسائل ج4 ص18- 19.

ويستغرب الإمام(علیه السلام) من الآباء والأمهات الذين لا يتابعون أداء أطفالهم للصلاة، روى أحدهم قال (سألت الرضا(علیه السلام) أو سئل وأنا أسمع ، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين؟ فقال: وكم أتى على الغلام؟ فقلت: ثماني سنين ، فقال: سبحان الله ، يترك الصلاة؟! قال: قلت: يصيبه الوجع ، قال: يصلّي على نحو ما يقدر)(1).

الفرق بين الزاني وتارك الصلاة:

إن المتابع لحال المسلمين –خصوصاً في البلدان المترفة والتي تكون فيها فرص المغريات والشهوات كثيرة- يجد عند كثير منهم إهمال أمر صلاتهم، وعدم الالتزام بها في أوقاتها وهذه قضية حيوية وشيء خطير لابد من معالجته بالالتفات إلى ما ذكرناه من أهمية الصلاة والعقوبة الغليظة على من ضيّعها وأهملها، بحيث لا يُقاس به حتى مرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر، ويعلّل الإمام الصادق(علیه السلام) ذلك بقوله (لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافاً بها)(2).

حملة لتفعيل الصلاة في حياتنا:

إن من تكليفنا اليوم وفي كل يوم أن نطلق حملة شاملة لإعادة المسلمين إلى صلاتهم بالإقناع أو بالإلزام لمن كانت له سلطة وقيمومة، كالوالدين على أبنائهم، أو إدارات المدارس على الطلبة، وأن نقوم بتيسير السبل لذلك من خلال إنشاء المصليات داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، وتفعيل دور المساجد ونحوها من الآليات

ص: 279


1- الوسائل ج4 ص20.
2- الوسائل: باب11، 2.

لنكون ممن تناله شفاعة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام جعفر الصادق(علیه السلام).

لذة الصلاة:

إن من استشعر العبودية لله تبارك وتعالى واعتزّ بها يجد في الصلاة لذة كبيرة، ولا يجد للحياة طعماً ولا معنى إذا خلت من الصلاة، ولا يكتفي بالصلوات المفروضة لأنه يجد الأوقات بينها كثيرة لا يتحملها بلا صلاة فيتنفل بما يسَّر الله تعالى له خصوصاً في الليل، فإن ما بين المغرب والفجر وقت طويل.

عن الإمام الصادق(علیه السلام) –لما سُئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله – قال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (وأوصاني بالصلاة) (مريم/31)(1) وعن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال (ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين).(2)

ولما سأل أبو ذر الغفاري رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) عن الصلاة، قال(صلی الله علیه و آله و سلم): (خير موضوع، فمن شاء أقلَّ ومن شاء أكثر)(3).

ولاشك أن الكلام عن الصلاة لا يستوعبه مجلس واحد، ولكننا أحببنا إثارة أصل الموضوع لأهميته ليكون فاتحة لعمل واسع بإذن الله تعالى، فلنحرص جميعاً على أن نكون ممن أحسن صلاته وأكثر مها وحافظ عليها في أوقاتها.

ص: 280


1- الكافي: 3/ 264، ح1.
2- بحار الأنوار: 77/ 127 ح33.
3- معاني الأخبار: 333 ح1.

في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها

اشارة

في ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها(1)

لماذا نسمى بالجعفرية؟

تسمى الشيعة الأمامية الاثنا عشرية ب-(الجعفرية) نسبة إلى الإمام الصادق جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما وعلى آبائهما) وهو شرف عظيم في الدنيا والآخرة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء: 7172).

فيُدعى الشيعة بأئمتهم من أهل بيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ويدعى الآخرون بأئمتهم الذين أطاعوهم واتبعوهم من شياطين الإنس والجن ونعم الحكم الله تبارك وتعالى.

والسؤال هو أنه لماذا اختص الإمام الصادق(علیه السلام) بالانتساب إليه والشيعة أتباع جدّه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(علیه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم.

ص: 281


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مؤسسة أهل البيت(عليه السلام) في مدينة الفضيلية ببغداد يوم 26/شوال/1428 المصادف 7/ 11/ 2007 بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق(عليه السلام).

وقد أجيب هذا السؤال بأن فقه الأمامية وأحكامهم وتفاصيل عقائدهم أخذت بشكل رئيسي من الإمام الصادق(علیه السلام) فيُعدّ هو مشيد أركان هذه الطائفة المباركة.وهو جواب يشهد له الواقع فإن أكثر الأحكام الفقهية المروية عنه سلام الله عليه، باعتبار الفسحة الواسعة التي سنحت له أبان الدولة الأموية وانهيارها وبداية تأسيس الدولة العباسية وازدهار الحياة العلمية في تلك الفترة.

وذكر سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) في إحدى خطبه وجهاً آخر وهو أن تشكل المذاهب الإسلامية والطوائف بدأ في زمان الإمام الصادق وما بعده ومن الطبيعي أن تنسب كل طائفة إلى زعيمها المعاصر فنسبت الشيعة إلى الإمام الصادق(علیه السلام).

وهو وجه مقبول أيضا وبدأت هذه النسبة بالانتشار في نفس زمان الإمام(علیه السلام) بحيث يقال هذا جعفري وقد نشأت من هذه الحالة مسؤولية على الإمام(علیه السلام) أن يبين معالم مدرسته وخصوصياتها وصفات من ينتسب إليها؛ لأن أي حسنة تصدر من أصحابه تحسب له وأي سيئة -- والعياذ بالله -- تحسب عليه بشكل من الأشكال ويتحمل مسؤوليتها من وجهة نظر البعض، لذا ورد في تفسير قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم) {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح:2)، عدة وجوه احدها أن الله تعالى يزيل عنه أثار التبعات التي تحسب عليه بسبب تصرفات أتباعه وهو برئ عنها ورافض لها.

وقد سبقه جدّه إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم:36).

وفي هذا الصدد وردت روايات عديدة عن الإمام الصادق(علیه السلام):

ص: 282

منها: عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله(علیه السلام) (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذوا بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1) الحديث.وقال(علیه السلام): (إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)(2).

ومن خلال هذا الحديث بيّن الأئمة سلام الله عليهم ما يجب أن تتوفر في المسلم من صفات ليكون شيعياً وألّف الشيح الصدوق (رضوان الله عليه) كتاباً في ذلك سماه (صفات الشيعة) وليقيموا الحجّة على المدّعين لهذا الشرف العظيم.

وكانت الحالة تقتضي أحياناً أن يصدر الإمام(علیه السلام) براءة ولعناً صريحين في بعض الأشخاص لعزلهم عن الأمة كالمغيرة بن سعيد الذي قال فيه الإمام الصادق(علیه السلام) (لعن الله المغيرة بن سعيد انه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد).

ص: 283


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة في السفر، الباب1، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 22، ح13.

لماذا يبين الإمام (عليه السلام) صفات شيعته؟

وفي الحقيقة فإن الإمام(علیه السلام) حينما يبين صفات شيعته بهذا الوضوح إنما يوجه رسائل لعدة فئات:-

1. شيعته ليبيّن لهم واجباتهم.

2. الذين يدّعون الانتساب إليه نفاقا لتحقيق مآربهم وخداع الأمة لفضحهم وكشف زيفهم حينما يقارن الناس بين أفعالهم وبين ما يريده الإمام(علیه السلام) منهم.

3. الفئات الأخرى من غير أتباعه ليدعوهم إلى هذا الحق الصريح ويقيم الحجة عليهم وليقول لهم أن منهجاً بهذه التفاصيل أحق أن يتّبع.

4. أعدائه الذين يسعون إلى قتله معنويا ومحاربته وتصفيته جسدياً بأن من كان على هذا الهدى هل يستحق منكم ما تفعلون به؟

مسؤولية المرجعية:

وهذه مسؤولية لا تختص بالإمام الصادق لان هذه النسبة يمكن أن تحصل باستمرار لكثير من القادة والمرجعيات، فعلى المراجع الذين يُنظر إليهم كامتداد للائمة المعصومين(علیه السلام) أن يعوا هذه المسؤولية ويتحمّلوها أمام الأمة فيوضحوا لهم ما يجب أن يتصفوا به ويتبرأوا ممن لا يلتزم بتلك الأوصاف، وإلا فإن الأخطاء والمظالم والذنوب ستحسب عليهم، كما ترون اليوم أن الذين تلفّعوا بعباءة المرجعية وتصدّوا للحكم فإن الناس لا تقتصر باللوم عليهم لسوء تصرفاتهم وإنما تنتقد المرجعية التي دعت الناس لانتخابهم ثم تخلت عن مسؤولياتها في تقويم المسيرة وردع المسيء وإنصاف المظلوم.

ص: 284

إن الذين يدّعون الانتساب إلى فئة شريفة ولا يلتزمون بتعاليمها هم اشد خطراً عليها من أعدائها الخارجيين لأنهم ينخرون بناءها من داخلها فلابد من فضحهم والبراءة منهم لدفع خطرهم.

ص: 285

الإمام الكاظم (عليه السلام) وتكثير النسل

اشارة

الإمام الكاظم (عليه السلام) وتكثير النسل(1)

استحباب تكثير النسل:

توجد ظواهر عديدة ملفتة للنظر في حياة الإمام الكاظم(علیه السلام) منها كثرة ذريّته حتّى عدّت له المصادر سبعة وثلاثين ولداً من الذكور والإناث من زوجاتٍ شتّى كلهنّ أمّهات ولد أي من الجواري اللواتي كان الإمام يشتريهنّ ويعتقهنّ ثمّ يتزوّج بهنّ، هذا رغم قصر عمره الذي لم يمتد أكثر من (55) عاماً قضى شطراً كبيراً منها في سجون الملوك العباسيين تجاوزت عشر سنين.

وهذه الظاهرة -- أي تكثير النسل -- يكفي في فهم مبرراتها استحبابها شرعاً وتوجد أحاديث كثيرة للحثّ عليها، كرواية الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة حتّى أن السقط يقف محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل، فيقول: لا حتى يدخل أبواي قبلي) . (2)

وروي عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه قال: (ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له)(3).

ص: 286


1- كلمة ألقيت من قناة النعيم الفضائية بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الكاظم(عليه السلام) في رجب/ 1434 المصادف حزيران 2013.
2- وسائل الشيعة باب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب1 ح14.
3- المصدر، باب 2، ح6.

وروى أحد أصحاب الإمام الكاظم(علیه السلام) قال: (كتبت إلى أبي الحسن(علیه السلام): إني أحببت طلب الولد منذ خمس سنين، وذلك أن أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتد عليّ تربيتهم لقلّة الشيء، فما ترى؟ فكتب إليّ: اطلب الولد فإنّ الله رازقهم)(1).

الوجه في تفسير كثرة الزوجات عند المعصومين (عليهم السلام):

وفي حديث عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع ومشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشر سنة كُتبت لهم الحسنات فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات)(2).

وفي حديث عن الرضا(علیه السلام) (اما علمت أن الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم ابراهيم وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران)(3).

ولعل هذا أحد الوجوه التي تفسّر اقدام المعصومين(علیه السلام) على تكثير الزوجات حتّى بلغت عند النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) تسعاً وعند أمير المؤمنين(علیه السلام) ثمان، وإنّما سُمّيت الزهراء(س) بالكوثر لأنّ الله تعالى أكثر ذريّة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) منها، واستشهدت وهي في الثامنة عشرة من عمرها ولها الحسن والحسين والعقيلة زينب (صلوات الله عليهم أجمعين) وأسقطت المحسن، فالإمام الكاظم(علیه السلام) جرى على سنّة أجداده الطاهرين وهو أولى الناس بهم.

ص: 287


1- المصدر، باب 3، ح1.
2- المصدر، باب 1، ح1.
3- المصدر، أبواب مقدمات النكاح، باب 16، ح2.

ويضاف إلى هذا الوجه العام وجه خاص وهو وجود عدة شواهد تشير إلى خطة ستراتيجية وضعها الأئمة المعصومون(علیه السلام) وساروا عليها تستهدف تكثير نسل آل أبي طالب بعد واقعة كربلاء ردّاً على سياسة الاستئصال والاجتثاث التي اتّبعها معهم أعداءهم تحت شعار (لا تبقوا لأهل هذا البيت من باقية) بحيث خلت بيوت بأكملها من الرجال كدور عقيل بن أبي طالب والعباس بن أمير المؤمنين وأخوته الذين استشهدوا جميعاً في كربلاء.سُئل الإمام السجاد(علیه السلام) عن سبب حنوّه الزائد على آل عقيل فقال(علیه السلام) (إنّي اذكر يومهم مع أبي عبد الله(علیه السلام) فأرقّ لهم)(1). ولما قدّم له المختار أموالاً كثيرة بنى بها دور عقيل التي هدّمها الأمويون(2).

منهجية الإمام الكاظم (عليه السلام) في تكثير النسل:

فكان للإمام السجاد(علیه السلام) خمسة عشر ولداً بين ذكر وأنثى وتولّى(علیه السلام) تربية الولد الوحيد الذي تركه عمّه العباس بن أمير المؤمنين(علیه السلام) وهو عبيد الله وزوّجه بنته خديجة وجمع له معها ثلاث حرائر من بنات الأشراف يقصد بذلك تنمية نسل عمّه العبّاس(3).

وكان الإمام الكاظم(علیه السلام) يقبل هدايا هارون العباسي ويقول: (والله لولا إني أرى من أزوّجه بها من عزّاب بني أبي طالب لئلاّ ينقطع نسله ما قبلتها أبداً) .(4)

ص: 288


1- كامل الزيارات: 107.
2- سيرة أهل البيت(عليه السلام) للشيخ القرشي: 15/ 201.
3- بطل العلقمي للمظفّر: 3/ 369.
4- الوسائل،كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 51، ح11.

هذه شواهد على السياسة الممنهجة أو الإستراتجية التي خطط لها الإمام الكاظم(علیه السلام) ليحبط مشروع الأعداء في إنهاء هذا البيت الطاهر وأثمرت خطوات الإمام الكاظم(علیه السلام) عن هذا العدد الهائل من السادة الأشراف وفيهم الكثير من مراجع الدين والعلماء والقادة والمفكّرين والصلحاء وأعلام الأمّة.

مبررات تكثير النسل لشيعة أهل البيت (عليهم السلام):

إنّ شيعة أهل البيت(علیه السلام) مدعوّون لبذل الوسع في تكثير النسل لعدّة مبررات منها:

1. الأخذ بسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة المعصومين(علیه السلام) وتلبية رغبتهم التي نقلتها الأحاديث الشريفة المتقدمة.

2. إنّ فيها استجابة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال/24).

وفي الذريّة حياة مستمرة للإنسان حتّى يوم القيامة قال الشيخ الصدوق في الفقيه (روي أنّ من مات بلا خلف فكأنّ لم يكن بين الناس، ومن مات وله خلف فكأنّه لم يمت)(1).

3. الذرية مصدر لكثير من الطاعات للوالدين حتى بعد موتهم كحديث السقط الذي تقدم في الروايات الشريفة، وعن أمير المؤمنين(علیه السلام) في المرض يصيب الصبي، قال(علیه السلام): (إنّه كفّارة لوالديه) ، (2) ويلخص النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بعض هذه

ص: 289


1- الوسائل، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، باب1، ح10.
2- المصدر باب1 ح12، 13.

الطاعات بقوله (إنّ ولد أحدكم إذا مات أُجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته)(1) والحديث النبوي المشهور (إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث) أحدها ولد صالح يدعو ويستغفر له.وفي الحديث عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال (إن الله ليرحم الرجل لشدة حبّه لولده)(2).

وروى الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): مرّ عيسى بن مريم(علیه السلام) بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أوّل وهو يعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب، فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً فلهذا غفرت له بما عمل ابنه).

4. إن اتباع أهل البيت(علیه السلام) هم الجماعة الخيّرة الطيّبة التي اختارها الله تعالى لتحتضن ولاية أهل البيت(علیه السلام) وتحافظ على الإسلام الأصيل فتكثيرهم اعزاز للدين والولاية وتثبيت لقيم الخير والإنسانية في هذه الأرض فالخير منهم مأمول والشر منهم مأمون، فهم كالشجرة الطيبة المثمرة التي تكون هي أولى بالتكثير.

5. إن في تكثير الشيعة نصرة للإمام الموعود(علیه السلام) وتقوية لأركانه وتمهيداً لظهوره المبارك، تطبيقاً لقوله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال/60) وأعظم قوة نعدّها لنصرة الإمام(علیه السلام) هي

ص: 290


1- المصدر باب2 ح7.
2- المصدر باب2 ح5.

هذا النسل المبارك لأنّ الموارد البشرية هي أعظم الموارد التي تحرص الدول على تحصيلها فاستكثروا منه ما استطعتم.6. إنّ الشيعة في المنطقة مستهدفون بحرب إبادة واجتثاث كما تشهد به الوقائع الجارية خصوصاً عندنا في العراق وقد فقدنا خلال العقود الأربعة الماضية أكثر من مليون ونصف المليون من الرجال الذين تزهو بهم الحياة في حروب عبثية وإعدامات ومقابر جماعية في عهد النظام المقبور ثمّ في المفخّخات والتفجيرات وأنواع آلات القتل والتدمير.

بأي عدد من الذرية يتحقق بتكثير النسل؟

وفي ضوء المعطيات المتقدمة لا يسع اتباع أهل البيت(علیه السلام) السائرين على نهجهم من الرجال والنساء إلاّ أن يبذلوا وسعهم في تحقيق هذه الغاية الشريفة والرغبة الأكيدة للمعصومين(علیه السلام)، ومهما قيل من مبرّرات للإكتفاء بواحد أو اثنين من الأبناء فإنّها لا تصمد أمام هذه المعطيات، إلاّ أن يكون السبب خارجاً عن الإختيار كما لو جرى القضاء الإلهي بذلك، قال تعالى {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} (الشورى/50) أو حصلت موانع صحيّة قاهرة ونحوها.

والسؤال الآن هو بأي عدد من الذرية يتحقّق معنى تكثير النسل؟ والجواب إنّه يتحقق بأربعة على الأقل، لأنّ الزوجين إذا أنجبا اثنين –ذكوراً او اناثاً- فإنّهما لم يزيدا شيئاً فإن اثنين ولدا اثنين، ثمّ هما يحتاجان إلى واحد آخر لتعويض حالات النقص في المجتمع لأنّ كثيراً يموتون في عمر الطفولة أو الصبى أو الشباب قبل الزواج بالموت الطبيعي أو الحوادث كالتفجيرات وحوادث السير أو في الحروب ونحوها، أو يتزوّجون ولكن لا ينجبون أو ينجبون دون العدد، فيحصل نقص في المعدّل يسدّه انجاب

ص: 291

الثالث، ويتحقق التكثير بالرابع، وكلما زاد على ذلك كان أفضل وأقرّ لعين رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

الغرب وتقليل النسل:

لقد حاولت حكومات الغرب إقناع الشعوب بتحديد النسل وتقليله لكنهم أصيبوا بكارثة حيث بدأ عدد السكّان ينخفض وارتفع عدد المسنين في المجتمع، والجدل الآن دائر عندهم عن كيفية معالجة هذه المشكلة.

واتّبعوا سياسة (التعقيم) في بلاد المسلمين قبل عقدين أو أكثر وفق آليات معيّنة كشفت عنها بعض الوثائق السريّة المسرّبة وحدّدوا مدداً معيّنة حتى يثمر مشروعهم الشيطاني وسارت على هذا المنهج بعض الدول الإسلامية -كالجمهورية الإسلامية في إيران- حيث تبنّت الحكومة (1) في نهاية الثمانينات سياسة تقليل الإنجاب لمنع الانفجار السكّاني -- كما قيل -- الذي أعتبر السبب في ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستويات التعليم ونوعية المعيشة -- بحسب التقرير- حيث أن معدل النمو تجاوز الذروة بما يقدر ب- 3,2 بعد انتصار الثورة الإسلامية وتشجيع الإمام الخميني الراحل(قدس سره) على كثرة الإنجاب لبناء جيش ال20 مليون مسلم.

لكن بعد عشرين عاماً أظهرت الإحصاءات أن معدل عدد الأطفال المولودين لكل امرأة يصل إلى 1,6 أي أقل من 2,1 الذي يعتبر الحد الأدنى المطلوب في الدول الصناعية لتجنب الانخفاض في عدد السكان، لذا تحرّكت القيادات الإيرانية منذ العام الماضي للتشجيع على الإنجاب من جديد.

ص: 292


1- المعلومات من تقرير نُشر على المواقع الالكترونية بتاريخ 22/ 4/ 2013.

المباركة في تكثير النسل:

ونحن نعتقد أنّ تكثير النسل ليس السبب في ذلك لأنّه عملية مباركة مثمرة تعود بالازدهار على الفرد والمجتمع، وأنّ أقوى الموارد التي تمتلكها الدول هي الموارد البشرية، خذ الصين مثلاً فإنّ سكّانها تجاوز المليار ومئتي مليون، واقتصادها في نمو مضطرد أقلق الدول الصناعية الكبرى.

والغريب أن الزوجين يبذلان كل ما عندهما من أجل تحصيل الولد، وقد يسافران إلى دول بعيدة لتحقيق ذلك، لكن من يرزقهما الله تعالى الولد يتوقفان عن إنجاب المزيد مراعاة لأوضاع معيّنة، كالوضع الاقتصادي والمعيشي، وقد تقدم في الرواية عن الإمام الكاظم(علیه السلام) عدم الإصغاء لمثل هذه المبرّرات، وقال تعالى {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور/32) والوارد في الروايات عكس ذلك فإن الرجل يُرزق إذا تزوج وأنجب، عن الإمام الصادق(علیه السلام) (الزق مع النساء والعيال)(1)، فتكثير الإنجاب أحد أسباب الرزق للفرد والازدهار للدولة، وتقليل الإنجاب لأجل تخفيف الأعباء الاقتصادية وغيرها تفكير خاطئ لدى الدولة والفرد على حد سواء.

منع الانجاب كقتل الإنسان:

إن المنع من الإنجاب سواء كان بالطرق الطبيعية أو بالعلاجات بلا مسوِّغ معقول ومقبول يتطابق بالنتيجة مع قتل الإنسان الموجود فكلاهما يحرم الأمة من هذا الوجود الذي جعله الله تعالى خليفته في أرضه قال تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ

ص: 293


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب11 ح4.

نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (الإسراء/31) {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام/151).

إهمال تربية الأطفال قتل معنوي بحقهم:

ولا نغفل أيضاً عن قتل معنوي آخر من خلال إهمال تربية الأطفال تربية صالحة فيصبحوا أفراداً سيئين منحرفين وربما يتحولون إلى مجرمين ويجلبون الشر للمجتمع، ومن أمثلتها أيضاً الهجرة إلى الغرب وعموم بلاد الكفر وتعريض الأبناء لتلك الضغوط والمغريات والشهوات فيبتعدون عن الدين ويلتحقون بالمجتمعات الضالة فهذا كله قتل معنوي للإنسان على خلاف ما أراده الله تعالى ورسوله.

تعليمات الأئمة (عليهم السلام) لتكثير النسل:

ولأجل تحقيق الإنجاب لمن ليس عنده ذرية ولتكثير النسل فقد علَّم الأئمة(علیه السلام) شيعتهم أعمالاً لعلّها تكون سبباً لرزقهم بالأولاد منها:

1. رفع الصوت بالآذان في المنزل، روى هشام بن ابراهيم صاحب الإمام الرضا(علیه السلام) (أنه شكى إلى أبي الحسن(علیه السلام) سقمه وأنه لا يولد له فأمره أن يرفع صوته بالآذان في منزله، فقال: ففعلت، فأذهب الله عني سقمي وكثر ولدي).(1)

2. الاستغفار، ففي الكافي شكا الابرش الكليني إلى أبي جعفرالباقر- (علیه السلام) أنه لا يولد له وقال له علمني شيئاً، فقال له: استغفر الله في كل يوم (أو) في كل ليلة مائة مرة فإن الله عز وجل يقول {اسْتَغْفِرُوا

ص: 294


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب احكام الأولاد، باب11 ح1.

رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح/ 101112) وفي رواية أخرى (فإن نسيته فاقضه)(1).3. الدعاء، سواء بالنصوص المذكورة في القرآن الكريم أو كتب الأدعية لطلب الولد كقوله تعالى {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (آل عمران/38) وقوله تعالى {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان/74) وقوله تعالى {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (الأنبياء/89) أو تدعو بأي شيء يعبّر عمّا في قلبك.

4. التوسّل بالمعصومين(علیه السلام) وتوجد حكايات موثوقة كثيرة لمؤمنين توسّلوا إلى الله تعالى بالزهراء(س) أو بالحسين(علیه السلام) أو بالإمام الرضا(علیه السلام) فتحقّق مرادهم فيما طلبوا.

هذا درس نستفيده من حياة الإمام الكاظم(علیه السلام) أحببنا بيانه لأن فيه إدخالاً للسرور على النبي وآله الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولأنه يدلّنا على تكليف مهم موجّهٍ إلينا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ص: 295


1- المصدر، باب 10 ح1- 3.

الإمام الرضا (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي

اشارة

الإمام الرضا (عليه السلام) في مواجهة الانشقاق الداخلي(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

فتنة الواقفة:

في ذكرى الإمام أبي الحسن الرضا(علیه السلام) نشير إلى صفحة من سفر حياته المباركة آلمت قلبه الشريف واستنزفت الكثير من وقته وجهده الثمينين، وهي الفتنة التي قادها جملة من رموز أصحاب أبيه الإمام الكاظم(علیه السلام) المؤثرين في اتباع أهل البيت(علیه السلام) مما أدى إلى انشقاق داخل الكيان الشريف ونشوء فرقة ضمت عدداً كبيراً من حملة علم أهل البيت(علیه السلام) عبر أكثر من جيل سُمّوا بالواقفة، لا لسبب الا الطمع في الدنيا وحطامها الزائل وعناوينها الزائفة وجاهها الخادع.

روي عن يونس بن عبد الرحمن –وهو من كبار أصحاب الإمامين الكاظم والرضا(علیه السلام) والفقهاء الأجلاء –قال: (مات أبو الحسن(علیه السلام) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته طمعاً في الأموال، كان

ص: 296


1- كلمة ألقاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي(دام ظله) ضمن بحثه الشريف يوم 11/ذق/1432 المصادف 10/ 10/ 2011 في ذكرى ميلاد الإمام الرضا(عليه السلام).

عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار).(1)قال الشيخ الطوسي(قدس سره) في الكلام عن الواقفة (أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال) وممن بذلوا له يونس بن عبد الرحمن حيث اطمعوه بمبلغ ضخم جداً وهو عشرة آلاف دينار إلا أنه رفض مفارقة الإمام الحق.

وكان الإمام الكاظم(علیه السلام) يقرأ في سلوك ابن أبي حمزة حبّه للدنيا، وتزلفه إلى الإمام(علیه السلام) ليكون له جاه يخدع به الناس، فقد كان يلازم أبا بصير -- وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق وأدرك إمامة الكاظم(علیه السلام) -- ويقوده لأنه كان كفيف البصر، وينقل عنه علوم أهل البيت(علیه السلام) لذا أخذ عن البطائني كبار الأصحاب لأنهم يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره لطول ملازمته، لكن الإمام الكاظم(علیه السلام) كان يشبهه منذ ذلك الوقت المبكر بأنّه كالحمار مطبقاً عليه قوله تعالى في سورة الجمعة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (الجمعة/5) إشارة إلى أن ابن أبي حمزة يحمل علماً جماً إلا أنه لم يستفد منه، ووقع فيما وقع فيه، روى أبو داود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى(علیه السلام) إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينة أسمعت؟ قال: قلت أي والله قال: فقال: لقد سمعت والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت).

ص: 297


1- الروايات المذكورة كلها أوردها الكشي في رجاله والشيخ الطوسي(قدس سره) وغيرهما، وقد جمعها من مصادرها السيد الخوئي(قدس سره) في معجم رجال الحديث: 11/ 229241.

تألم الإمام الرضا (عليه السلام) لانحراف اتباعه:

وكان الإمام الرضا(علیه السلام) لا يتوقف عن إظهار ألمه لحصول هذا الانحراف لدى اتباعه والتنديد به وبأهله، فعن محمد بن سنان قال (ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا(علیه السلام) فلعنه ثم قال: إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ولو كره اللعين المشرك، قلت المشرك؟ قال نعم والله وإن رغم انفه كذلك هو في كتاب الله يريدون أن يطفئوا نور الله وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئوا نور الله..).

وعن يونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على الرضا(علیه السلام) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت نعم، قال: قد دخل النار! قال: ففزعت من ذلك! قال: أما انه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده!! فقيل لا؟! فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً).

لكن الإمام(علیه السلام) كان يستغرب في نفس الوقت من الذين انخدعوا بهذه الدعوة الفاسدة أو أصابهم التشكيك والتردد مع وضوح ضلالها وكذب ادعاءاته، روى محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا(علیه السلام) قال: (سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟ أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يُهدى إلى عيسى بن موسى وهو صاحب السفياني؟

وقال: إن أبا الحسن -- يعني أباه الكاظم(علیه السلام) -- يعود إلى ثمانية أشهر؟!!) ولم يحصل شيء من ذلك، بينما كان الإمام(علیه السلام) يقيم لهم البينات ويخبرهم بالمغيبات التي يثبت صدقها كإخباره بأن هارون العباسي لا يمسُّه سوء.

ص: 298

لكي لا تستفزنا الحركات الانفعالية أو الوصولية:

وكان(علیه السلام) يصبّر شيعته ويقوي عزيمتهم ليثبتوا على الصراط المستقيم، وأن لا تستفزهم تلك الحركات وأن يقابلوها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار المبني على الدليل، روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا قال: (قلت: جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة وابن مهران وابن أبي سعيد اشد أهل الدنيا عداوة لك!! فقال لي: ما ضرك من ضل إذا اهتديت انهم كذبوا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وكذّبوا أمير المؤمنين(علیه السلام) وكذبوا فلاناً وفلاناً وكذبوا جعفراً وموسى(علیه السلام)، ولي بآبائي(علیه السلام) اسوة قلت جعلت فداك إنا نروي أنك قلت لابن مهران: اذهب الله نور قلبك وادخل الفقر بيتك؟ فقال: كيف حاله وحال بنيه؟ فقلت: يا سيدي أشد حال، هم مكروبون ببغداد لم يقدر الحسين أن يخرج إلى العمرة فسكت) وإنما سكت لأنّه(علیه السلام) لم يكن يحب أن يراهم بهذا الحال.

لا نجزع لقلة الناس حولنا:

وقال(علیه السلام) (إنه لما قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين(علیه السلام) فلما توفي أبو الحسن(علیه السلام) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. وإن أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سرواً به وإذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه وذلك انهم على يقين من أمرهم وإن أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا به(1) وإذا خرج منهم خارج جزعوا عليه وذلك

ص: 299


1- فرّق سماحته بين سرور أهل الحق وأهل الباطل في الغرض، فإن الأول نابع من حبهم الخير والهداية لكل الخلق، أما الثاني فلاغترارهم بكثرتهم وشكهم في أمرهم فيجعلون التحاق الغير بهم دليلاً على سلامة موقفهم.

انهم على شك من أمرهم إن الله جل جلاله يقول: (فمستقر ومستودع) قال: ثم قال أبو عبد الله(علیه السلام): المستقر الثابت والمستودع المعار).

محاورة الإمام (عليه السلام) لهم واقامة الحجة عليهم:

وبقي الإمام(علیه السلام) يحاور أولئك المنحرفين ويقيم عليهم الحجج الدامغة انطلاقاً من مسؤوليته في هداية الخلق جميعاً والأخذ بأيديهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانوا من داخل الكيان الموالي لأهل البيت(علیه السلام) لأن الخطر عندما ينطلق من الداخل يكون أشد فتكاً في بناء الأمة وقد نجح(علیه السلام) في إرجاع كثيرين إلى جادة الصواب.

روى أحد أصحاب الإمام الرضا(علیه السلام) قال: كنت عند الرضا(علیه السلام) فدخل عليه علي بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكارى، فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً؟ قال: نعم، قال: إلى من عهد؟ فقال: إلىّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من اللّه؟ قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكارى: قد واللّه أمكنك من نفسه، قال: ويلك وبما أمكنت، أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، واللّه ما ذلك عليّ وإنّما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلاّ يصير سرّكم في يد عدوّكم، قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به، قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا أمره اللّه تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول اللّه إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية النبوة، وأنا

ص: 300

أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة، فقال له على: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ أمام مثله، فقال له أبو الحسن(علیه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي(علیه السلام)، كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين، قال: وأين كان علي بن الحسين(علیه السلام)؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد اللّه بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى وليّ أمر أبيه ثم انصرف، فقال له أبو الحسن(علیه السلام): إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين(علیه السلام) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إساءة، قال له علي: إنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه(1)، قال: فقال أبو الحسن(علیه السلام): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى واللّه لقد رويتم إلاّ القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل، قال له علي: بلى واللّه إنّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن(علیه السلام): ويلك كيف اجترأت على شى ء تدع بعضه، ثم قال: يا شيخ اتّق اللّه ولا تكن من الصّادين عن دين اللّه تعالى).وروى الشيخ الصدوق(قدس سره) بسنده عن أبي مسروق قال: (دخل على الرضا(علیه السلام) جماعة من الواقفة فيهم علي بن أبي حمزة البطائنى، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، والحسين بن مهران، والحسن بن أبي سعيد المكارى، فقال له علي بن أبي حمزة جعلت فداك أخبرنا عن أبيك(علیه السلام) ما حاله، فقال له: إنه قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال إلىّ: فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك علي بن أبي طالب(علیه السلام) فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول اللّه(صلی الله

ص: 301


1- ولد الإمام الجواد(عليه السلام) لأبيه الرضا(عليه السلام) بعد أن تجاوز السادسة والأربعين من عمره الشريف ممن وفّر فرصة لأصحاب الفتن ليثيروا هذه الإشكالات.

علیه و آله و سلم)، فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً(1)، إنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله و سلم) أتاه أبو لهب فتهدّده، فقال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله و سلم): إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب، فكانت أوّل آية أنزع نزع بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهي أوّل آية لكم إن خدشت خدشة من قبل هارون فأنا كذّاب، فقال له الحسن بن مهران: قد أتانا ما نطلب أن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إنّي إمام وأنت لست في شي ء، ليس هكذا صنع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله و سلم) في أوّل أمره، إنّما قال ذلك لاهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصّهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الامامة لمن كان قبلي من آبائى، ولا تقولون إنه أنّما يمنع علي بن موسى أن يخبر أنّ أباه حيّ تقية، فإنّي لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حيّ لو كان حيّاً).

الابتلاء مستمر:

هذا ما حصل في زمان الإمام الرضا(علیه السلام) بعد رحيل سلفه الإمام الكاظم(علیه السلام) وحصل مع أجداده من قبل، وفي كل زمان، ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء المحبة للدنيا الزائلة الزائفة والطموحة إلى تقمّص هذه المواقع المقدسة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران/144). وقد قلنا في كلمة سابقة ان الله تعالى عندما يخاطب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بوصفه رسولاً –كقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ- فإنها ليست خاصة بشخصه الشريف وإنما هي سنة إلهية ترتبط بموقعه المبارك.

ص: 302


1- شرح سماحته وجهاً لهذه الفقرة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

التحديات التي واجهها الإمام الرضا (عليه السلام)

اشارة

التحديات التي واجهها الإمام الرضا (عليه السلام)(1)

التحديات المختلفة:

لقد واجهت الإمام الرضا(علیه السلام) مجموعة معقدة من التحديات وبمختلف الاتجاهات، أحدها باتجاه السلطة التي بلغت ذروة النفوذ والاتساع في الإمكانات البشرية والمادية والعسكرية في عصري هارون والمأمون العباسيين وكانت ترى في الأئمة(علیه السلام) الضد النوعي والبديل المعارض فتراقبه وتحاصره وتحسب عليه أنفاسه.

والتحدي الآخر كان الانفتاح الفكري والعلمي على الحضارات الأخرى كالإغريق والرومان والصين والهند والفرس حيث اتسعت حركة الترجمة وتبادل الإرث العلمي وسادت روح الإعجاب بتلك الحضارات ونقل آثارها وتجاربها وكثير منها مناقض للدين ويطرح نظريات تعارض عقيدة الإيمان وتدعو إلى الإلحاد والكفر بالرسالات السماوية وكان لها مروّجون ودعاة، فوقف الإمام(علیه السلام) لهم بالمرصاد وناظرهم وأبطل نظرياتهم، وقد حفل كتاب الاحتجاج للطبرسي بجملة من تلك المناظرات، التي كانت مظهراً من مظاهر (صراع الحضارات) الذي يتبنونه اليوم.

ص: 303


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع ممثلي هيئة المواكب الحسينية في الناصرية يوم السبت 23/ذ.ق/1432ه- المصادف 22/ 10/ 2011.

انهيار القيم الأخلاقية في زمن الإمام الرضا (عليه السلام):

والتحدي الثالث هو انهيار القيم الأخلاقية وانتشار الفساد والخلاعة والمجون ومجالس اللهو والطرب وكانوا يتقربون إلى السلطة بالجواري والمغنين والغلمان ليحظوا بالجوائز والامتيازات ولسعة هذه الحالة في ذلك العصر، ألّف أحدهم كتاباً من عدة مجلدات اسمه (عصر المأمون) يتناول جوانب الحياة في ذلك العصر.

الانشقاقات الداخلية:

مضافاً إلى ذلك فقد واجهته(علیه السلام) مشاكل وتحديات داخل الكيان الشريف أي من داخل أتباع مدرسة أهل البيت(علیه السلام) وأحدها الانشقاق الداخلي الذي تحوّل إلى فرقة اسمها (الواقفة) انقطعت جزءاً مهماً من علماء المدرسة ورواتها وقواعدها، وأضيفت إلى قائمة الفرق المنشقة (الزيدية) التي قالت بإمامة زيد بن علي السجاد(علیه السلام) دون الإمام الصادق(علیه السلام)، و (الفطحية) الذين قالوا بإمامة عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق(علیه السلام) دون أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، وكانت الواقفة تقول بعدم وفاة الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) وبالتالي فإن علي بن موسى ليس إماماً ولا نسلّم ودائع أبيه الضخمة إليه ولا نرجع إليه في الأحكام والمواقف العامة.

تحدي التشكيك بإمامته:

ومن التحديات الداخلية التشكيك بالإمام(علیه السلام) وقراراته فجعلوا من أنفسهم قيمين على الإمام ولا يطيعونه إلا عندما يتبع إرادتهم ويأخذ بمواقفهم، كالذي حصل عند وقوع الصراع بين الأمين والمأمون على السلطة، واستطاع المأمون خداع جملة من

ص: 304

الشيعة لينضموا إليه من دون الرجوع إلى الإمام(علیه السلام) من باب دفع الأفسد بالفاسد أو أن المصلحة تقتضي ذلك فجعلوا من أنفسهم وقوداً لهذه الحرب الشيطانية بحماقتهم وغرورهم، ولما انتصر المأمون جازى الشيعة بكل بطش وقسوة وقتل إمامهم و إمام الخلق أجمعين الرضا(علیه السلام).هذا كله والإمام لا يستطيع أن يقول كل ما عنده وإنما يكتفي بالإشارات والتوجيهات العامة لأن السلطات تتربص به الدوائر وتكيد له، وهو لا يبخل بنفسه على الله تبارك وتعالى لكنه صاحب رسالة ومشروع إلهي ولابد من البقاء للمضي فيه ولم ينتهي دوره حتى يقدم على الشهادة التي أقدم عليها بكل طمأنينة حينما حلّ وقت البديل.

وشككوا بصحة إمامته من جهة عدم وجود ولد له، ولابد للإمام أن يكون له خلف من أهله، وقد تأخرت ولادة الإمام الجواد(علیه السلام) إلى سنة 195ه- والإمام الرضا(علیه السلام) في السابعة والأربعين من العمر، ثم اتهموه بصحة انتساب ولده الجواد(علیه السلام) وطلبوا التحاكم إلى القافة –من القيافة وهي فراسة احراز التشابه بين شخصين لإلحاقه به وكانوا في الجاهلية يعتمدونها لإثبات الأنساب-، وإذا علمنا أن الإمام الكاظم(علیه السلام) استشهد سنة 183 فهذا يعني أن الإمام الرضا قضى (12) سنة من إمامته بهذه التشكيكات حتى ولد ابنه الجواد(علیه السلام).

كي نعيش بمسؤولية:

تعرضنا على نحو الاختصار لهذه المحطات من حياة الإمام الرضا(علیه السلام) لنعيش معه همومه وآلامه ومسؤولياته بمقدار فهمنا وادراكنا، ولنعلم أن هذه الأحداث ليست

ص: 305

تاريخاً يقرأ على المنابر لاستدرار العواطف وإنما هي دروس نستفيد منها في حياتنا الحاضرة.فكم من اتباع أهل البيت(علیه السلام) وقفوا إلى جانب الاحتلال الأمريكي والغربي عام 2003 بحجة دفع الأفسد وهو صدام – بالفاسد ولا أدري ما الذي جعلهم يعتقدون ذلك؟

وكم من اتباع أهل البيت(علیه السلام) وضعوا أيديهم بأيدي الإرهابيين القتلة بعنوان مقاومة المحتل ونحوه فنشروا الخراب والدمار وأهلكوا الحرث والنسل ونخروا كيان الدولة وضاع الشعب وثرواته ومؤسساته بين هذا وذاك.

أما التشكيك بالمرجعية والقيادة فمستمر. لماذا لم تفعل كذا، ولماذا فعلت كذا؟ وهل تعلم بكذا أو لا تعلم وكأنهم هم القيمون عليها وأن المرجعية أُمرت بطاعتهم لا العكس.

ونتيجة هذا التشكيك التقاعس والتخاذل والتنازع والتمرد وهي أسباب لانهيار الكيان واضمحلاله {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال/46) والأمة هي التي تدفع ثمن هذه النتائج كما تشهد به وقائع التاريخ.

ص: 306

درس من حياة الإمام الرضا (عليه السلام): أعطوا أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً

اشارة

درس من حياة الإمام الرضا (عليه السلام): أعطوا أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً(1)

دور الإمام الرضا (عليه السلام) في احياء الشعائر الحسينية:

تصادف اليوم السابع عشر من صفر ذكرى استشهاد الإمام الرضا(علیه السلام) وقلّما يحتفل بشهادته لاندماج ذكراه في المشاركة الواسعة في الزيارة الأربعينية والسير على الأقدام إلى كربلاء المقدسة، وصحيحٌ إنَ الأئمة(علیه السلام) ذوبوا قضاياهم في القضية الحسينية الكبرى التي حفظت الإسلام وخلدت مبادئه كما قال الشاعر:

أنست رزيتُكم رزايانا التي *** سلفت وهونت الرزايا الآتية

ولكن هذا لا يعفينا من مسؤولية إحياء ذكرى الإمام الرضا(علیه السلام) في هذهِ الأجواء الحسينية ونشير هنا إلى واحدة من بركات الإمام الرضا(علیه السلام) على هذهِ الأمة فقد كان أول من عقد المآتم الحسينية علناً وبمشاركة جماهيرية واسعة حيث أستثمر الفرصة التي أُتيحت له حينما حاول المأمون العباسي كسب ود العلويين وتقريب الإمام الرضا(علیه السلام) وفرض ولاية العهد عليه لأهداف أراد العباسي تحقيقها لم تكن لتخفى على الإمام الرضا(علیه السلام)

ص: 307


1- من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (مُدَ ظله) مع حشد كبير من الزوار القاصدين كربلاء المقدسة سيراً على الأقدام من مختلف المحافظات الجنوبية يوم السبت 17/صفر/1432ه- المصادف 22/ 1/ 2011م.

فرفض الولاية، ولما أكرهه عليها أشترط عليه أن لا يمارس شيئاً من صلاحيات السلطة وأفشل بذلك مخططات المأمون، لعلم الإمام(علیه السلام) ان القضية شكلية والظروف غير مهيأة للقيام برسالة الإصلاح، لكنه(علیه السلام) مع ذلك أستثمر تلك الفرصة في عدة قضايا منها إحياء الشعائر الحسينية بشكل علني حيث كان يعقد المآتم الجماهيرية ويطلب من دعبل الخزاعي إنشاء تائيته المشهورة وكان دعبل يجوبُ بها الأسواق والساحات العامة وينشر فضائل ومظلومية أهل البيت(علیه السلام) وغصب حقهم أما قبل الإمام الرضا(علیه السلام) فقد كان الأئمة(علیه السلام) يعقدون المآتم الخاصة في بيوت لهم ولأهل بيتهم وخواص أصحابهم، كما هو واضح في سيرة الإمام الصادق(علیه السلام) والإمام الرضا(علیه السلام) نفسه قبل توفر هذهِ الفرصة.

دور العلماء في تأصيل تعاليم أهل البيت (عليهم السلام):

وهكذا كان علماء الشيعة ومراجعهم (قدس الله أرواحهم) يستثمرون كل إنفراج سياسي وإنحسار في بطش السلطة ليوسعوا من مساحة هذه الشعائر وتفعيلها في أوساط الأمة، وخصوصاً في الفترات التي شهدت نشوء حكومات ترفع لواء التشيع وتدعم الحركة الشيعية لأمور خاصة بتلك السلطات ولا علاقة لها برسالة أهل البيت(علیه السلام) ونوابهم، وقد شهدت هذه الفترة عصراً ذهبياً للحوزة العلمية وأنجبت أفذاذاً شغلوا ركيزة أساسية في تأصيل تعاليم أهل البيت(علیه السلام) في العقيدة والفقه والأخلاق والتفسير وسائر العلوم وقاد هذه الحركة على مدى مئة عام أبن قولوية صاحب كامل الزيارات والشيخ الصدوق ومن ثم الشيخ المفيد وبعده السيد المرتضى ثم

ص: 308

الشيخ الطوسي(قدس الله أرواحهم جميعاً) وفي هذا العصر أصبح يوم عاشوراء عطلة رسمية تعطل فيها الأسواق وتنتشر مظاهر الحزن وشَهدَ أول ظهور للمواكب السيارة التي ترثي أبا عبد الله وصحبه الكرام وتبرز مظلوميتهم وأهداف حركته المباركة.وهكذا كان التقدم والتوسع يتحقق في كل فرصة تحصل سواء في أيام الدولة الفاطمية في مصر أو الدول الحمدانية في الشام أو غيرها حتى العصر الحديث.

اعطوا أكبر زخم للشعائر شكلاً ومضموناً:

ونحن -- أيها الأحبة من زوار أبي عبد الله(علیه السلام) -- نعيش اليوم أوسع فرصة لممارسة هذا الدور فلنبذل قصارى جهودنا في إعطاء أكبر زخم ممكن للشعائر الحسينية شكلاً ومضموناً.

أما شكلاً فمن خلال هذهِ المشاركة الواسعة من قبل الملايين سواء ممن شاركوا في مواكب السير على الأقدام من أقصى الأماكن وقطعوا مئات الكيلومترات في هذا البرد القارس والأمطار الغزيرة، ومعهم من قاموا بخدمة هؤلاء الزوار ووفروا لهم الطعام والمأوى وكل أسباب الراحة لمواصلة المسير والذين انشغلوا بتوفير الخدمات الصحية والماء والحماية وكل الأمور الضرورية الأخرى، ونشهد في كل عام إزدياداً ملحوظاً للمتتبع من خلال عزاء طويريج والمسيرة المليونية لزيارة الأربعين والمآتم الحسينية العامرة بآلاف الحضور والتي تنقلها الفضائيات مباشرة أحياناً.

ص: 309

وأما مضموناً فمن خلال تجسيد مبادئ الثورة الحسينية وتحقيق أهدافها، فإن نداء الإمام الحسين(علیه السلام) (هل من ناصر) لازالَ يتردد في أرجاء الأرض، وهو لا يطلب أنصاراً بالسيف ونحوه لأن القضاء الإلهي جرى بإستشهاده وأهل بيته(علیه السلام) وإنما يطلب أنصاراً يعينونه على إنجاز مشروعه وإكمال رسالته في إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه أئمة الضلال وسلاطين الجور وتحرير الناس من اسر الطواغيت وشياطين الأنس والجن.وها هي الشعوب المسلمة تتحرك في تونس وغيرها متأثرين بالإنجازات التي حققها الشعب العراقي بفضل الله تبارك وتعالى وأستنقذَ جزءاً كبيراً من حريته وكرامته، وهذا هو الواقع وأن لم تصرح تلك الشعوب بذلك لكن التأثر واضح وسيعم كل الشعوب الحرة الأبية.

الالتفات الى المضامين الرسالية في الشعائر:

أيها الأحبة نريدكم أن تُدخلوا السرورَ على قلب نبيكم(صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين(علیه السلام) والزهراء والحسن والحسين وإمامكم المهدي الموعود(صلوات الله عليهم أجمعين) بالالتفات إلى المضامين الرسالية لهذه الشعائر وأولها المحافظة على الصلوات المفروضة في أوقاتها فإذا حان وقت الصلاة وقال المؤذن(حي على الصلاة) قولوا (لبيك ربنا) وأوقفوا كل حركةٍ واصطفوا للصلاة في أي موضع كنتم فيه وادعوا ربكم لكل خير ولكل حاجة وستحظون بالإجابة إن شاء الله فإن فعلتم ذلك فإنَ الأخوة الآخرين سيتأسونَ بكم، ولا تأخروا الصلاة لأي مبرر كالوصول إلى

ص: 310

موضع الاستراحة ونحوها، فإن الإمام الحسين(علیه السلام) أقامَ الصلاة جماعة في وقتها ظهر يوم عاشوراء والأعداء قد أحاطوه به وأمطروه بنبالهم.والتزموا أيها الأحبة بكل فضيلة أخلاقية والتزموا بأداء الواجبات واجتنبوا المحرمات.

فعليكم -- أيها الشباب -- ببر الوالدين والإحسان إلى الآخرين، والتزمي - أيتها الأخت الفاضلة - بحجابكِ وعفافكِ وحيائكِ ولا تعطي فرصة لمن في قلبه مرض، وإذا استلزم الذهاب إلى الزيارة شيئاً من المحرمات فلا يجوز لكِ الذهاب.

كونوا بمستوى المسؤولية:

لقد أختاركم الله تعالى أيها الأعزاء من أهل العراق لتكونوا دعامة الانطلاقة المباركة لمدرسة أهل البيت(علیه السلام), والطليعة في حركة التمهيد للظهور الميمون التي نلمس تأثيرها المبارك على العالم كله فصونوا الأمانة وكونوا بمستوى المسؤولية المُلقاة على عاتقكم وكل بحسب الموقع الذي أنتم فيه، فليواظب الطالب على دراسته ويجتهد لتحصيل أرقى الدرجات، وليكن الموظف دءوبا في عمله نزيهاً أميناً على ما كُلفَ به، وليقم طلبة الحوزة العلمية بدورهم في اكتساب العلوم والفضائل ونشرها في أوساط الأمة، وهكذا الجميع. أعاننا الله تعالى وإياكم على طاعته وبلغّنا رضاه وجمعَ بيننا وبين أحب

ص: 311

خلقه إليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين(صلى الله عليهم أجمعين).

ص: 312

من مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)

اشارة

من مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)(1)

التأثر بالموعظة علامة حياة القلب:

أخبر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إنّ هذه القلوب -- التي هي محل معرفة الله تعالى ووعاء الوصول إليه -- يعروها الصدأ والرين بما يكتسب الإنسان من ذنوب ولكثرة مشاغله ومشاكله في هذه الدنيا، فإذا ازداد الرين طبع على القلب واسودّت صفحته فانغلق عن المعرفة وتلقّي الفيض الإلهي، إلى أن يتداركه الله بلطفه ورحمته، روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قوله (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن)(2).

لذلك أوصى أهل البيت(علیه السلام) بتعاهد هذا القلب بالموعظة حتى تبقى فيه جذوة الحياة وتبقى فيه قابلية التكامل، من وصية أمير المؤمنين(علیه السلام) لولده الحسن(علیه السلام) (احيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) . (3)

ص: 313


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة وجمع من أطباء ومثقفي وأكاديميي مدينة العمارة ووفد من شيوخ عشائر ناحية الفجر في محافظة ذي قار يوم السبت 26 ذ.ق 1433 المصادف 13/ 10/ 2012.
2- منتخب ميزان الحكمة 533 رقم 5350.
3- نهج البلاغة، الكتاب: 31.

فإذا كنتم تبحثون عن الموعظة وتتحرون مواطنها وتتأثرون بها وتتفاعلون معها فهذا يعني أنّ قلوبكم ما زالت حيّة ويرجى منها الخير وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر المتواصل لله تبارك وتعالى.

الطاعات القلبية:

وما دمنا على أعتاب ذكرى استشهاد الإمام الجواد(علیه السلام) معجزة الإمامة فلنأخذ الموعظة منه(علیه السلام) من خلال بعض أحاديثه(علیه السلام)، وأولها ما يرتبط بما نحن فيه من ضرورة تعاهد أمر القلوب ومواصلة إحياءها:

1. قال(علیه السلام) (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)(1).

نحن نهتم كل الإهتمام بطاعة الجوارح فنبادر إلى الصلاة الفلانية لأن فيها كذا وكذا من الثواب وإلى الصوم الفلاني لأن فيه كذا وكذا، وهذا كلّه حسنٌ جميل، ويعطي الله تعالى بكرمه هذا الثواب المذكور في الخبر وإن لم يقله المعصومون(علیه السلام) كما أفادت الروايات الصحيحة، ولكنّ الإمام(علیه السلام) ينبّهنا إلى أنّ الطاعات الأسرع إنتاجاً وإيصالاً إلى الكمال هي الطاعات القلبية.

المعرفة متاحة لكل من طلبها:

وأهمّ الطاعات القلبية المعرفة بالله تعالى، ولا نتصور أن المعرفة والعرفان علمٌ خاص بنخبة نادرة من العرفاء الشامخين، وإنّما هي متاحة لكل من طلبها وسألها من الله تعالى، لذلك دعا الله تعالى جميع خلقه إليها من خلال التدبّر بالقرآن

ص: 314


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.

الكريم والأحاديث الشريف، ويعطينا الإمام الجواد(علیه السلام) واحدة من أشكال وأدوات هذه المعرفة لتتأكد أنّ هذه المعرفة ميسّرة لكل أحدٍ إذا صدق في طلبها.

لن تخلو من عين الله تعالى:

2. قال(علیه السلام) (إعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون)(1).

هل توجد حقيقة أوضح من أن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنّه على كل شيء شهيد، إذا كان الأمر كذلك –وهو كذلك بلا شك ولا ريب- فلنراقب أنفسنا ولنتأدب بحضرة الله تبارك وتعالى ولنتعلم كيف يجب أن نكون ما دمنا في جميع أحوالنا بمنظر منه تبارك وتعالى في أقوالنا وأفعالنا وخطراتنا وظنوننا ومشاعرنا وعواطفنا، فالذي يتصور أنّه قد غلب الآخر أو خدعه أو فعل شيئاً في السر والخلوة حيث لا يراه ولا يعلم به أحد إنّما يخدع نفسه لأنّ الله شهيد عليه، ويكون قد أعان على نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم.

بذل الوسع في السيطرة على الغرائز:

3. وفي ذلك قال(علیه السلام): (من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه)(2).

ص: 315


1- تحف العقول: 336.
2- ميزان الحكمة: 9/ 460.

أي كأنه أهدى مقتله المعنوي مجاناً إلى أعدائه المتربصين به و بغوايته، وأولهم نفسه الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وقال الإمام الصادق(علیه السلام) (لا تدع النفس وهواها، فإن هواها رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفّ النفس عما تهوى دواها)(1)، وثانيهم الشيطان الذي أقسم على غواية البشر {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص/8283) فلابد أن يبذل الإنسان وسعه في السيطرة على غرائزه ومشاعره وشهواته وعواطفه ويجعلها وفقاً لما يريده الله تبارك وتعالى، فيفعل ما يحبه الله تعالى، ويجتنب ما يكرهه تعالى، وليس عليه أن يكبتها ويقضي عليها، فإن الله تعالى خلق هذه القوى لنفع الإنسان واعمار الحياة وإدامة الوجود، وجعل ثواباً جزيلاً على من سيّرها وفق الشريعة المقدسة، كاستخدام الشهوة الجنسية في إقامة سنة الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) بالتزويج وتكثير النسل ونحوها.وهكذا المال وغيرها من أمور الدنيا فإذا أخذ من حله وأنفق في حله فإنه يصبح من أمور الآخرة.

وها هو النبي الحكيم سليمان (صلوات الله عليه) يقول {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص/35) مع أنه نبي معصوم، فلا ضير في طلبه ما دام يريد به إقامة شرع الله تبارك وتعالى.

ص: 316


1- الكافي: 2/ 336 ح4.

حاجة المؤمن الى ثلاث:

واعلم ان ذلك لا ينال متى تحب وتشتهي، ولا تتصور انك قادرٌ بمفردك على اختيار الطريق الصحيح بما شئت إلا بمقومات يذكرها الإمام الجواد(علیه السلام):

4. قال(علیه السلام) (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظٍ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)(1).

توفيق الله تعالى لعبده:

فأول تلك العناصر والمقوّمات: توفيق الله تبارك وتعالى ولطفه بعبده، ولذلك كان هناك تركيز في أدعية المعصومين(علیه السلام) بطلب التوفيق (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية).

ومدخلية التوفيق وأسباب اللطف الإلهي واضحة في حياتنا، مثلاً تجد الاندفاع والحماس للصوم في شهر رمضان بروحية عالية وإقبال شديد مع انه في صيف لاهب ونهار طويل جداً، بينما يتكاسل عن صوم يوم مستحب في غيره ولو في نهار بارد قصير قليل المؤونة، مع ان بعض الصوم المستحب –كصيام ثلاثة ايام في الشهر والأفضل أن تكون أول خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس الذي يعدل صوم الشهر والالتزام بهذه السُنّة يعدل صوم الدهر –مما سنّة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وحثّ على الالتزام به حباً لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وإحياءاً لسنته الشريفة.

ص: 317


1- تحف العقول: 337.

فاسألوا الله تعالى أن يمدّكم بتوفيقه دائماً وليس في أوقات محددة كالنشاط الذي نلمسه في ليلة القدر فيجتمع المؤمنون في المساجد الصلاة مئة ركعة وأكثر بينما يتكاسل البعض عن أداء نزر يسير من النوافل المهمة في غيرها من أيام السنة كركعتي الشفع وركعة الوتر من صلاة الليل وكصلاة الغفيلة من نافلة المغرب وكنافلة الصبح ونحوها.ونحن مقبلون على أزمنة شريفة في شهر ذي الحجة منها العشر الأوائل، ومن أعمال الشهر وسائر الأشهر الحرم صوم ثلاثة أيام متتالية: الخميس والجمعة والسبت، فقد ورد في الحديث الشريف (أن من صامها في شهر من الأشهر الحرم كتب الله له عبادة تسعمائة عام)(1)، ويمكن لمن عليه قضاء أن ينوي الصوم للأمرين فيُعطى الأجر إن شاء الله تعالى وهذا الثواب فيه حافز كبير على العمل، وإن كان الأفضل أن نقوم بالفعل الحسن لمجرد أن الله تعالى يحبّه ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) يحبّه بغضّ النظر عن مقدار الثواب المرصود له.

واعظ من نفسه:

والعنصر الثاني هو أن يكون له واعظ من نفسه وقلب يستجيب لما فيه حياته وسلامته وإذن واعية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال/24)، وإلاّ فإن الهداية لا تحلّ قلباً منكوساً مُعرِضاً عن الحق ولهذا كان من اللازم إحياء القلوب دائماً بالموعظة وذكر الموت وتلاوة القرآن وتقليل العلائق بالدنيا.

ص: 318


1- مفاتيح الجنان: 172 في فضل شهر رجب وأعماله، الفقرة (16).

الأخ الناصح:

والعنصر الثالث: أن تبحث عن الأخ الناصح الذي يسدّدك بكلماته وأفعاله وتذكرّك رؤيته بالآخرة ويهدي إليك عيوبك ويدلّك على ما فيه صلاحك كهذه الكلمات التي نتحدث بها.

نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر:

5. واعلم أن هذا كله بعض نعم الله تعالى عليك فخذها وكن من الشاكرين، وإلا فإن الإمام الجواد(علیه السلام) يقول: (نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر)(1).

يا له من تشبيه خطير بحيث يكون عدم الشكر على النعمة سيئة لا تغفر –والعياذ بالله- وهذا الحديث فيه عموم لكل من ينعم عليك نعمة ويسدي اليك فضلاً حتى من المخلوقين، وإن كان الله تعالى هو المدبِّر الحقيقي ومسبِّب الأسباب، عن الإمام الرضا(علیه السلام) (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل) . (2)

بل في حديث آخر أن المشكورين ثلاثة، الله تعالى وهو المنعم الحقيقي، والشخص الذي أنعم وأسدى المعروف، والثالث الشخص الذي سعى وتوسّط لقضاء الحاجة عند من قضاها.

وهذا أدب قد افتقده أكثر الناس -- مع الأسف -- وهم بذلك يسيئون لأنفسهم، ويقطعون سبيل المعروف عن الإمام الصادق(علیه السلام) (لعن الله قاطعي سبيل

ص: 319


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.
2- عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/ 24، ح2.

المعروف، وهو الرجل يُصنع إليه المعروف فيكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره)(1).

بذل النعم لمستحقيها:

6. ومن تمام الشكر الذي يحفظ النعمة ويديمها، القيام بواجباتها وأداء ما افترض الله تعالى فيها، وإلا فإنها يخشى عليها الزوال، وفي ذلك يقول الإمام الجواد(علیه السلام): (إن لله تعالى عباداً يخصُّهم بالنعم، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم).

وهذا تحذير شديد مطابق لقوله تعالى {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد/38)

يدعونا إلى الانفاق مما أنعم الله تعالى به علينا من سائر النعم وليس المال فقط، فإن نعمة العلم أهم من المال، فمن حباه الله تعالى بشيء من العلم عليه أن يعلّمه من لا يعلمه فإنه زكاة له وصدقة.

أهل المعروف:

7. فأنت حينما تقوم بفعل المعروف في أي مجال فإنه يعود بالنفع عليك أولاً قبل من اسديت إليه المعروف، وفي ذلك يقول الإمام الجواد(علیه السلام): (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه! لأن لهم أجره وفخره وذكره).

ص: 320


1- منتخب ميزان الحكمة: 349ح 3343.

أي له خير الدنيا والآخرة مضافاً إلى أن ما حصل عليه صاحب الحاجة شيء يفنى، أما ما حصل عليه المعطي فهو شيء باقٍ مذخور له عند الله تبارك وتعالى.

أهمية الكلمة:

8. ولنستمع إلى مزيد من مواعظه(علیه السلام) مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم. قال(علیه السلام): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس..)(1).

لأن العبادة تعني الطاعة والانقياد، فالإنصات إلى الناطق نوع من الانقياد فلينظر الإنسان إلى من يأخذ منه ونوع الكلام ومضمونه، وليعلم من يستمع إلى الغناء أو الغيبة أو الكلام البذيء أو تسقيط المؤمنين وتشويه صورتهم ونحوها أنه دخل في طاعة إبليس وعبادته.

وإذا كان للانصات هذا التأثير فما هي أهمية الكلمة نفسها وما مسؤولية المتكلم عمّا يصدر عنه من كلمات قد تؤدي إلى ما تؤدي من نتائج.

التحذير من الظلم:

9. قال(علیه السلام) (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء).

هذا الظلم الذي وصف في الأحاديث أنه (ذنب لا يترك) لا يختص بمسؤولية من قام به بل يشترك معه من دفع إليه بكلمة أو فعل أو تحريض أو تشجيع أو تزيين أو خداع أو دعم مادي أو معنوي أو فتوى بلا حجة شرعية ونحوها، كما ورد في بعض الروايات أن شخصاً يؤتى به يوم القيامة وتقدّم له قارورة من دم ليحاسب

ص: 321


1- تحف العقول: 336.

عليها فيقول يا إلهي أنا لم أقتل ولم أسفك دماً في حياتي كلها، فيقال له هذا حصتك من دم فلان الذي قُتل ظلماً لأنك شاركت في دمه بكلمة قلتها.بل الأمر أخطر من ذلك فإن من بلغه ذلك ورضي به ولم ينكره بقلبه على الأقل فهو شريك له، وإذا أردنا أن نذكر أمثلة على هذه الشراكة في الظلم من واقعنا، فيقف على رأسه ما يقوم به السياسيون والمتصدون لإدارة البلاد، وان شئت ثنّيت بما يجري بين العشائر من سنائن وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان أهانت الإنسان وسلبته كرامته وحريته وماله وشرفه فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

لنكسب الناس الى الدين:

10. وقال(علیه السلام) (من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة).

وهذا الحديث يحفّزنا كثيراً على التحرك في المجتمع لكسب الناس إلى الدين وإرجاعهم إلى الله تبارك وتعالى ما دام ثمن كسب أخ مؤمن واحد هو هذا العطاء العظيم.

إن امرأة فرعون تحمّلت تعذيباً قاسياً من دق جسّدها بالمسامير وصلبها وتعليقها وهي صابرة محتسبة حتى قضت شهيدة، وكان طلبها {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (التحريم/11) وبغضّ النظر عن كون البيت (عندك) فإننا قد اُعطينا نفس الفرصة من دون ذلك الثمن الباهظ فنستطيع الحصول على بيت في الجنة بأن تكسب أخاً في الله تعالى وتهديه إلى الحق.

فليستثمر الشباب والطلبة الجامعيون هذه الفرصة وليتحركوا داخل أوساطهم وعلى أقرانهم ليرشدوهم ويخرجوهم من حالة الفسق والانحراف الذي نسمع عن

ص: 322

تفشه داخل أوساط الجامعات، وليتحرك كل جنس على جنسه بالطريقة التي أوصى بها الله تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل/125) كدعوته إلى مائدة طعام أو تزويده بمحاضرات فاتته أو أن تشرح له محاضرة لم يفهمها ونحوها من الأساليب التي تكسب بها مودته وتدخل إلى قلبه فيأخذ منك النصيحة وتكون مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 323

الإمام الهادي (عليه السلام) يواجه أصحاب الدعاوى الباطلة

اشارة

الإمام الهادي (عليه السلام) يواجه أصحاب الدعاوى الباطلة(1)

قصة مع الإمام الهادي (عليه السلام) وأخذ الدرس والعبرة:

تعوّدنا في ذكريات الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) أن نستطلع صفحة من سفر حياتهم الكريمة الغنيّة لنأخذ منها الدروس والعبر بما يرتبط بواقعنا المعاصر، وفي ذكرى استشهاد الإمام علي الهادي(علیه السلام) عاشر الأئمة الأطهار(علیه السلام) نأخذ منه درساً في مواجهة أهل البدع والضلالات وأدعياء العناوين الدينية الزائفة.

ففي عدّة مصادر بسندهم عن أبي هاشم الجعفري -- من ذرية جعفر بن أبي طالب -- قال: ((ظهرت في أيّام المتوكّل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال المتوكّل: أنت امرأة شابّة وقد مضى من وقت وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ما مضى من السنّين، فقالت: إنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مسح على رأسي وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كلّ أربعين سنة، ولم أظهر للنّاس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم.

فدعا المتوكّل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها، فروى جماعة وفاة زينب بنت فاطمة(س) في سنة كذا. فقال لها: ما تقولين في هذه الرّواية.

ص: 324


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حضّار مجلسه العام يوم الثلاثاء 3رجب1434 المصادف 14/ 5/ 2013.

فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت فقال لهم المتوكّل: هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ فقالوا: ﻻ. فقال أنا بريء من العبّاس أن ﻻ أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة.قالوا: فأحضر ابن الرضا(علیه السلام) فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال: كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن ﻻ أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها.

قال: ولا عليك فها هنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة محرمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها السباع، فقال لها: ما تقولين؟، قالت: إنّه يريد قتلي، قال: فها هنا جماعة من ولد الحسن والحسين(علیه السلام) فأنزل من شئت منهم، قال: فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع فقال بعض المبغضين: هو يحيل على غيره لم ﻻ يكون هو؟

فمال المتوكّل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع، فقال: يا أبا الحسن لم ﻻ يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك، قال: فافعل! قال: أفعل فأتى بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسود فنزل أبو الحسن(علیه السلام) إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كلّ واحد منها ثمّ يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتّى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه.

فقال له الوزير: ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره، فقال له: يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأحب أن تصعد، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه.

ص: 325

فلمّا وضع رجله على أوّل درجه التفت إليها وأشار بيده أن ترجع فرجعت وصعد، فقال: كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس، فقال: لها المتوكّل: انزلي.قالت: الله الله ادّعيت الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت، فقال المتوكّل: القوها إلى السبّاع فاستوهبتها والدته))(1).

ماذا نستخلص من الدروس؟

أقول نستخلص من هذه الرواية عدّة دروس:

1. تفاعل الإمام(علیه السلام) الايجابي مع قضايا الأمة ومشاكلها وتحدّياتها وحضوره الميداني في وسط الأمة، لا كما نشهده من السلبية والإنكماش والانعزال الذي رسّخته المرجعية والحوزة التقليدية فهذا منهج مبتدع وبعيد عمّا سار عليه الأئمة الأطهار.

إن الأئمة ونوّابهم بالحق هم سفن النجاة ومصابيح الهدى فإذا لم يكونوا حاضرين في الميدان مع الأمة فإلى من تلتجئ؟ وممن تأخذ الحل؟ ومن المسؤول عن ضلالها وتشوشها وانتشار الفساد والإنحراف فيها؟.

2. تفرّد أهل البيت(علیه السلام) بالمناقب والفضائل التي حباهم الله تعالى بها، بحيث لا يضاهيهم أحد مما يؤكد استحقاقهم للإمام والخلافة بما فضّلوا به على الخلق أجمعين رغم أنوف الشانئين والحاسدين ، لذلك تجد الأمة تفزع إليهم في كل معضل ومشكل (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وكما قال الفراهيدي في جوابه على من سأله عن

ص: 326


1- الخرائج والجرائح: 1/ 404 باب معجزات الإمام الهادي(عليه السلام)، ح11 ومصادر أخرى.

استحقاق أمير المؤمنين(علیه السلام) للإمامة والخلافة قال (لحاجة كلّ الخلق إليه واستغنائه عنهم جميعاً).3. فشل المتقمصين للخلافة وعجزهم وافتضاح أمرهم في كلّ مشكلة تواجههم والشواهد على ذلك كثيرة، وفي ذلك حجّة على من يتّبعهم ويواليهم ويعطيهم المشروعية، وبدلاً من معالجتهم لهذه المشاكل والصعوبات التي يعاني منها الناس تجدهم يرسّخونها وينشرونها لكي يشوّشوا فكر المجتمع ويشغلوه بهذه الفتن ولا يلتفت إلى مظالم الحكّام واستبدادهم واستئثارهم بمقدرات الأمة فبالرغم من أن المتوكّل يقطع بأنّ هذه المرأة ليست بنت علي وفاطمة ويمكنه كرئيس دولة قوية ومتنفّذة أن يتحرى عن أصل هذه المرأة وأبويها ومن أيّ مدينة إلاّ أنّه تمادى في نشر هذه الفتنة ويقسم على (أن لا أنزلها عمّا ادعت إلا بحجة) وهو يتمكّن من دحض قولها بالتعرّف على هويتها.

4. معرفة المدّعين لهذه العناوين الدينية بأنّهم كاذبون ومفترون وإنّ ما يقولونه زور وبهتان كهذه المرأة التي ادّعت أنّها بنت علي وفاطمة(علیه السلام) وهكذا كلّ المدعين لذلك تجدهم يعترفون عندما تضغطهم الحجّة والدليل، ويتعرّضون للعقوبة لكنّهم يراهنون على جهل الناس وسذاجتهم وتسطيح عقولهم وخداعهم بأمور تشتبه عليهم فتتبعهم الناس من دون تعقّل ورويّة ودقّة نظر فيكونون من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً.

5. وممّا يحتاج إلى الدراسة والتأمّل أسباب نزوع هؤلاء إلى هذه الإدّعاءات مع معرفة كذبهم في قرارة أنفسهم وعظيم جنايتهم إذ يضل خلق كثير

ص: 327

بسببهم، وقد عبّرت هذه المرأة بدقّة عن السبب وهو قولها (حملني الضرّ على ما قلت) فإنّها في فاقة وحاجة ولم تجد سبيلاً لسدِّها فالتجأت إلى الخداع بهذه الفريّة لتستهوي قلوب بعض العامّة ويغدقون عليها بالأموال، وقد يكون السبب عند غيرها حبّ الجاه والنفوذ والتسلّط على رقاب الناس وغيرها.6. اعتماد لغة الحوار والدليل والإقناع للرد على المعاندين والمدّعين وأصحاب الشبهات والضلالات ومقارعة الحجة بالحجة، ما لم ينتقل الطرف الآخر إلى العمل المسلّح الذي يفسد في الأرض، أو يكون خطره عظيماً بأن ينسب الفتن والبدع التي يفتريها من عنده إلى نفس الإمام المعصوم وإلى مدرستهم الشريفة.

فقد أمر الإمام الهادي(علیه السلام) بقتل عدد من أمثال هؤلاء كقوله(علیه السلام) في ابن بابا القمي (يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً، وأنّه بابٌ عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد: إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر ففعل، فإنّه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة)(1).

ومنهم فارس بن حاتم، يروي محمد بن عيسى بن عبيد: ان أبا الحسن العسكري(علیه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جُنيد، وكان فارس فتّاناً يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن(علیه السلام): (هذا فارس لعنه الله يعمل من

ص: 328


1- رجال الكشي: 520/ 999.

قبلي فتاناً داعياً إلى البدعة، ودمه هدرٌ لكل من قتله، فمن هذا يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنّة)(1).ويروي جنيد أن الإمام الهادي(علیه السلام) بعث إليّ فدعاني فصرت إليه، فقال (آمرك بقتل فارس بن حاتم) فناولني دراهم من عنده وقال (اشترِ بهذه سلاحاً فاعرضه عليّ) إلى آخر الرواية(2).

لنستلهم من حياة الإمام الهادي (عليه السلام):

أيّها الأخوة:

هذا درس من حياة الإمام الهادي(علیه السلام) نستلهمه ونهتدي به في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى وكثر المدّعون كالدعوات المرتبطة بالإمام المهدي(علیه السلام) أو دعوات الانتساب إلى ذرية الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) بدون بيّنة سوى ظنون لا تغني عن الحقّ شيئاً، ودعاوى أصحاب النور والأعمال الروحانية وأصحاب الكرامات، مضافاً إلى هذه القبور الوهمية التي تظهر بعدد هائل بعنوان أنّها لأولاد وبنات المعصومين(علیه السلام).

والهدف من كل هذه الدعوات التي يعرف أصحابها قبل غيرهم كذبها هو الضحك على عقول الناس لخلق نفوذ وجاه وأتباع واستدرار الأموال طمعاً في هذه الدنيا الدنيّة.

وفي ذلك تشويش لعقائد الناس وتشويه لمدرسة أهل البيت(علیه السلام) وتجهيل للناس واستخفاف بهم ممّا يخدم مشاريع أعداء الإسلام ويفتح الطريق لهم بيسر ليستعبدوا المجتمعات الإسلامية فعلينا جميعاً أن نتأسّى بالإمام الهادي(علیه

ص: 329


1- (2) رجال الكشّي: 524/ 1006.

السلام) وكلّ الأئمة الأطهار(علیه السلام) ونقف بحزم وشجاعة وحكمة أمام هؤلاء المدّعين ونفضحهم ونكشف زيف دعاواهم.

ص: 330

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يصون عقيدة الناس من الانحراف

اشارة

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يصون عقيدة الناس من الانحراف(1)

مواقف الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):

رغم قصر مدة الإمامة الفعلية لأبي محمد الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) وهي ست سنوات (254260ه-) والحصار الصارم والاعتقال الذي فرضه عليه ملوك عصره وتآمرهم المستمر على قتله لقطع نسله حيث كانوا يعتقدون بأن الإمام المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابنه.

ورغم احتجابه عن الناس إلا نادراً إما بسبب الرقابة الشديدة للسلطة أو لتهيئة شيعته لقبول غيبة الإمام القادم وتدريبهم على كيفية التعاطي مع الواقع الجديد إلى درجة أن أقربائه لم يكن يرده، روى الكليني بسنده عن محمد بن علي بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: (ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل يعني أبا محمد(علیه السلام) فإنه قد وصف عنه سماحته، فقلت: تعرفه؟ قال: ما أعرفه ولا رأيته).

ورغم ابتلائه بالمشككين من شيعته والمقصرين في معرفة حقه حتى روي عنه قوله(علیه السلام) (ما مُني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من تشكيك هذه العصابة بي).

ص: 331


1- كلمة لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مجلسه العام بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يوم 8/ع1/ 1433 المصادف 1/ 2/ 2012.

أقول: رغم ذلك كله فقد ترشح عنه الكثير من الأعمال المباركة في حياة الأمة، ونقف الآن عند واحد منها وهو حرصه(علیه السلام) على سلامة معتقدات الناس وتحصينهم من الضلالات والشبهات، وتوجد عدة شواهد على ذلك من حياته الشريفة.

مواقفه (عليه السلام) في حفظ عقيدة الأمة:

(منها) تحركه(علیه السلام) لمنع محاولة أبي إسحاق الكندي الذي سُمي بفيلسوف العراق تأليف كتاب في متناقضات القرآن فَعَلَّم أحد أصحابه كيف يتقرب منه وينال ثقته التامة ثم يسأله: هل يمكن أن يكون مراد المتكلم بالقرآن غير المعاني التي فهمتها أنت فيرتفع التناقض الذي ظننته، وفعل الرجل ذلك وأثَّّرت الكلمة في الكندي فمزّق مسودات الكتاب(1) وقد ذكرتُ تفصيل الحادثة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

(ومنها) ما حصل حينما تزعزعت عقيدة كثيرين وارتد بعضٌ منهم في زمان المعتمد العباسي –الذي قتل الإمام(علیه السلام)- فقد ذكر المؤرخون أن الناس أصابهم قحط شديد، فأمر المعتمد العباسي بالخروج إلى الاستسقاء ثلاثة أيام فخرجوا ولم يغاثوا، وخرج النصارى ومعهم راهب كلما مدَّ يده إلى السماء هطلت، وفعل ذلك مكرراً، فشكّ بعض الجهلة في دينهم، وارتد البعض الآخر، وشقّ ذلك على المعتمد ففزع إلى الإمام أبي محمد(علیه السلام)، وكان في سجنه وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 332


1- بحار الأنوار: 50/ 311 عن مناقب آل أبي طالب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل.

قبل أن يهلكوا، فقال له الإمام(علیه السلام) (يخرجون غداً، وأنا أزيل الشك عنهم إن شاء الله تعالى).وأخرجه المعتمد من السجن، واشترط الإمام أن يطلق سراح أصحابه جميعاً فاستجاب له وأخرجهم، وفي اليوم التالي خرج الناس للاستسقاء، فرفع الراهب يده إلى السماء، فغيّمت ومطرت، فأمر الإمام بتفتيش يده وأخذ ما فيها، وإذا فيها عظم آدمي فأخذه منه وأمره بالاستسقاء فرفع يده إلى السماء فزال ما فيها من غيم، وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك.

فسأله المعتمد عن سرِّ ذلك، فأجاب الإمام(علیه السلام) (هذا عظم نبيّ ظفر به هذا الراهب من بعض القبور، وما كُشِف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر).

وتفحّص المعتمد عن ذلك فكان كما أخبر الإمام(علیه السلام) فزالت الشبهات وانتفى الشك(1).

لمعرفة مسؤولياتنا أمام الله تعالى:

إن هذه الرواية وإن كانت تتضمن منقبة وفضيلة للإمام العسكري(علیه السلام) إلا اننا لا نكتفي بالسرد المناقبي لأهل البيت العصمة(علیه السلام) لأنه أعلى من أن نكتشف مقاماتهم عند الله تعالى بهذه المناقب، فإذا أردنا أن ندخل السرور على قلب الإمام(علیه السلام) ونقول له ان تضحياته وجهوده أثمرت عن معرفة عميقة بمسؤولياتنا أمام الله تعالى، وبرامج عمل نتقرب بها إلى الله تعالى وتصلح بها الأمة وتحيا بها البلاد. وتمهّد لدولة ولده المهدي(علیه السلام) المباركة، إذا أردنا ذلك فعلينا أن نتأمّل في هذه السيرة المباركة

ص: 333


1- بحار الأنوار: 50/ 270 عن مناقب آل أبي طالب والخرائج والجرائح.

ونقتبس منها ما يوجّه بَوْصَلة حياتنا، وهذا هو الإحياء الواعي لشعائر أهل البيت(علیه السلام) ومناسباتهم.

دروس وعبر نستلهما من حياة الإمام العسكري (عليه السلام):

لقد تضمنت هذه الرواية عدة دروس وعبر ينبغي الالتفات إليها للتأسي بها:

1. ممارسة الإمام وظيفته في حفظ عقائد الإسلام ودفع الشبهات عنه.

2. فضح المضللين والماكرين الذين يضلّون الناس عن دينهم بأساليبهم الشيطانية، سواء من داخل الكيان الإسلامي أو من خارجه، ولا يجامل أحداً حتى لو كان من خواصه، كالذي صدر منه(علیه السلام) في عروة بن يحيى الدهقان الذي كان في أول أمره وكيلاً وثقة للإمام(علیه السلام) لكنه انحرف واختلس أموال الإمام(علیه السلام) فصدر من الإمام(علیه السلام) لعنه وأمر شيعته بلعنه والدعاء عليه.(1)

3. نبل الإمام(علیه السلام) وسمو أخلاقه فلم يرضَ بالإفراج عنه حتى اشترط إخراج جميع أصحابه.

4. حرصه على هيبة الدولة الإسلامية رغم أن من يملك زمامها مجرمون فاسدون قتلوه وقتلوا آباءه الطاهرين وهو في معتقلهم حينما وقعت الحادثة. إلا أنه(علیه السلام) كان ينظر إلى المصلحة الإسلامية العليا و لهذا الحرص شواهد عديدة في حياة أجداده الطاهرين ذكرنا جملة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

ص: 334


1- معجم رجال الحديث 11/ 150 عن رجال الكشي.

5. الاهتمام بقضايا الناس وبذل الوسع لقضائها وإدخال السرور عليهم، وفي ذلك روى ابن شهراشوب في المناقب وكذا ورد في كتاب الخرائج والجرائح عن أبي هاشم الجعفري –من نسل الشهيد جعفر الطيار- انه سمع الإمام العسكري(علیه السلام) يقول (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف)، فقال أبو هاشم: فحمدت الله في نفسي وفرحت مما أتكلَّفه من حوائج الناس، فنظر إليّ أبو محمد(علیه السلام) وقال (نعم فدُمْ على ما أنت عليه، وان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)(1).

6. عدم أهلية المتصدين لولاية أمر الأمة وعجزهم عن مواجهة التحديات، وإقرارهم بذلك، بل واعترافهم بأن أصحاب الحق هم أئمة أهل البيت(علیه السلام)، إلاّ أنهم غصبوهم حقهم بالحديد والنار، وتوجد في هذا المجال اعترافات للمتسلطين من لدن زمان أمير المؤمنين(علیه السلام)، كقول قائلهم (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن).

7. حث الإمام(علیه السلام) الناس على اللجوء إلى الله تبارك وتعالى في جميع أمورهم والتوجه إليه بطلب حوائجهم للدنيا والآخرة مهما كانت ضئيلة أو كبيرة من دون إهمال الأسباب والوسائل الطبيعية التي هيأها الله تعالى للإنسان.

ص: 335


1- بحار الأنوار: 50/ 258.

الدعاء والتوسل بالمعصومين (عليهم السلام) كفيل باستنزال الرحمة الإلهية:

وبهذه المناسبة أقول لكم: قصدني أكثر من شخص خلال الأيام الماضية وشكا من الجدب في هذه السنة وشحّة الأمطار والوضع المزري للزراعة والثروة الحيوانية بسبب ذلك، وطلبوا إقامة صلاة الاستسقاء، فقلتُ له ممازحاً: إن أهل المدن لا يريدون المطر لأنفسهم لما يسبب من إرباك وتعطيل لبعض مصالحهم وتضرّر الطرق فهم لا يتفاعلون مع صلاة الاستسقاء، فلوا أقمتموها عندكم ليتحقق التوجّه والصدق في الدعاء ولو لم تقيموها فإن الدعاء والتوسل بالمعصومين(علیه السلام) كفيل باستنزال الرحمة الإلهية وقد أغاث الله تعالى الناس بالمطر هذه الأيام عشية ذكرى استشهاد الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) صاحب حادثة صلاة الاستسقاء التي ذكرناها.

هكذا ينبغي أن نقرأ سيرة المعصومين (عليهم السلام):

هكذا ينبغي أن نقرأ سيرة المعصومين(علیه السلام) ونستفيد منهم، ونحن نعيش اليوم عصر انتشار الضلالات والأفكار المنحرفة وأنواع الادعاءات الماكرة التي يريد منها أصحابها ركوب رقاب الناس والتسلط عليهم، ويكون الخلاص منها والنجاة من لججها المظلمة بركوب سفن النجاة التي أرشدنا إليها الأئمة(علیه السلام) وهم مراجع الدين الرساليون العاملون العارفون بزمانهم الذين يفنون أعمارهم لإنقاذ الناس من الجهالة وحيرة الضلالة.

وهذه المسؤولية لا تختص بالعلماء والحوزات العلمية الدينية بل هي مسؤولية الجميع وكل شخص بحسبه وبما يناسب من الآليات المؤثرة، وإذا عجز أحدكم فليلجأ إلى من

ص: 336

هو أعلى منه معرفة، ولا يتوقف عن أي جهد يستطيع بذله، ولابد أن يسبق هذا تفقه في الدين ولو بالمقدار الذي ينفعه في إصلاح نفسه ومن يليه ليتمكن من أداء هذا الدور المبارك ويحظى بشفاعة الإمام الحسن العسكري وولده المهدي الموعود(علیه السلام).والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ص: 337

الفصل السادس/ قضية الإمام المهدي (عليه السلام)

اشارة

ص: 338

ص: 339

الاهتمام بشروط الظهور أولى من علاماته والتحذير من فتنة الغرب المادي

اشارة

الاهتمام بشروط الظهور أولى من علاماته والتحذير من فتنة الغرب المادي(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما يستحقه(2) حمداً كثيراً وصلى الله على النبي وآله وسلّم تسليماً.

علامة الكسوف والخسوف في شهر رمضان:

أخبرت الحسابات الفلكية أنّ خسوفاً يحصل في وسط شهر رمضان، وكسوفاً في آخره، وقد أهتم الناس بهذه الظاهرة الفلكية لما ورد في علامات الظهور مما يشبه ذلك؛ فعن الإمام أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: (آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ هبط آدم(علیه السلام) إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان، والقمر في آخره)(3).

وأنتَ ترى أنّ الظاهرة الفلكية التي أُعلن عنها لا تطابق العلامة التي ذكرتها الروايات من حيث توقيت الخسوف والكسوف، ومع ذلك تشبث بها الناس كعلامة

ص: 340


1- محاضرة ألقيت في مسجد الرأس الشريف على حشد من الفضلاء والمبلغين وطلبة العلوم الدينية بتأريخ 9/شوال/1423 ه- الموافق 31/ 10/ 2001 بمناسبة افتتاح الدراسة بعد تعطيل شهر رمضان وعيد الفطر.
2- وقد علق سماحة الشيخ (دام ظله) على البدء بهذا المقطع بأنّنا لا نستطيع أن نحمد الله تعالى حقّ حمده، فإن قلنا الحمد لله زنة السماوات والأرض فهو قليل، وإن قلنا الحمد لله بعدد قطرات الماء فهو قليل، وأيّ شيء نقوله فهو قليل بحق الله تعالى فإذاً نقول الحمد لله كما يستحقه وكما هو أهله.
3- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص478. طبعة دار التعارف، 1412/ 1992.

لقرب الظهور باعتبار اشتراك الخبر والظاهرة بحصول الكسوف والخسوف في شهر رمضان وإن اختلفا في موعديهما، مهملين هذا الاختلاف لعدم أهميته في نظرهم، وإنّ المهم اجتماع الخسوف والكسوف في شهر رمضان، وما علموا أنّ الآية ليست في اجتماعهما في شهر رمضان، وإنما في تأريخ حصولها؛ لأن المعروف أن الخسوف يحصل في منتصف الشهر والكسوف في آخره، وبذلك استشكل رجل على الإمام في الرواية السابقة، فقال الإمام أبو جعفر(علیه السلام): (إني لأعلم بما تقول، ولكنهّما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم(علیه السلام))، والإشكال الرئيسي الذي أريد أن أوجهّه ليس عدم التطابق هذا بين الحالة الواقعة هذه وما أخبرت عنه الروايات، بل إنّ الحالة لم تقع في بلادنا أصلاً(1)، فقد مرّ علينا منتصف شهر رمضان ولم يحصل فيه خسوف ولا كسوف في آخره.

الصحيح هو الاهتمام بالشروط لا بالعلامات:

ولكن الذي أريد أن أنبه عليه هو إنّ الصحيح الاهتمام بشروط الظهور الميمون لا علاماته، فحصول العكس من قبل شيعة الإمام(علیه السلام) هي الشكوى الأخرى التي أريد أن أرفعها بالنيابة عنه(علیه السلام)، ويتّضح هذا التنبيه من خلال معرفة معنى الشرط والعلامة والفرق بينهما، وتوجد في كتاب الغيبة الكبرى(2) لسيدنا الأستاذ(قدس سره) أفكار نافعة في هذا المجال سيتضمن الكلام بعضها بإذن الله تعالى.

فإنّهما يشتركان في كونهما مما يتحقق قبل الظهور أو مزامناً له، وإلا فإن تحقق الظهور قبل اجتماع أسباب نجاحه في تحقيق التخطيط الإلهي -- وهو ما نسميه بشرط

ص: 341


1- راجع الغيبة الكبرى للشهيد السيد محمد الصدر لماذا يفترض في العلامات أنها في بلادنا.
2- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص395 وما بعدها.

الظهور -- يستلزم تحقق المشروط قبل شرطه، أو فشل الإمام(علیه السلام) في مهمته، وتحققه قبل العلامة يعنى تكذيب إخبار المعصوم(علیه السلام) عنها على فرض صحة أخبار العلامات كلاً أو بعضاً، وكلّها مستحيلة. لكنهما يفترقان من عدة جهات يظهر من خلالها وجوب الاهتمام بالشرط أكثر من العلامة.

الفرق بين الشرط والعلامة:

وأول وأهم فرق يستفاد من تعريفهما، فإن الشرط ما كان له مدخلية في تحقيق المشروط على نحو العلّية. فإن وجود النار وحده غير كافٍ لإحراق الأشياء من دون شرط الإحراق، وهي المماسة والمحاذاة، ويستحيل وجود المشروط وهو الظهور من دون شرطه، وإذا تحقّق الظهور من دونه فإنه يستلزم فشله.

أمّا العلامة فليس لها دخل عِلّي وسببي في تحقّق الشيء، ولكنها تفيد الكشف والدلالة على حصوله، كوجود الدخان الدال على النار، فإنّه يمكن أن توجد النار بلا دخان، ولكن وجود الدخان كاشف عن وجود النار، فلا ضرورة لحصول العلامات من هذه الجهة، وإنّما يجب تحققها قبل الظهور من جهة أخرى هي لكيلا يستلزم كذب إخبار الإمام(علیه السلام)، والنتيجة إنّ ارتباط الظهور بالشرائط ارتباط واقعي لأنهّا تدخل ضمن العلّة والسبب له، أمّا ارتباطه بالعلامات فهو ارتباط ظاهري بمعنى الكشف والإعلام.

وقد ذُكِرت فروق أخرى ليست ذات قيمة، ومما يقلل أهمية العلامات:

1. ضعف الروايات الدالّة عليها وإن أمكن قبول بعضها باعتبار تأييد بعضها لبعض(1).

2. اختلافها في التفاصيل.

ص: 342


1- إذا تجمعت وكثرت عدة روايات على علامة واحدة فانه يحصل الاطمئنان بها.

3. قابليتها للانطباق على أمور كثيرة كمقتل السيد الحسني، فإن العشرات من ذرية الإمام الحسن(علیه السلام) ثاروا في أيام الدولة الأموية والعباسية وانتهوا إلى الشهادة، وقتل كثير غيرهم من بني الحسن(علیه السلام)، أو علامة نزول الترك الجزيرة(1)، وقد نزلوها كثيراً خصوصاً أيام الاحتلال العثماني، وكذا خروج الرايات السود من الشرق التي طبقت على أحداث كثيرة عبر التأريخ.

4. إنّ العلامات غير اختيارية لنا، أمّا الشروط ونقصد بالذات الشرط الرئيسي وهو إعداد النفس لتتأهل لنصرة الإمام(علیه السلام) فهي اختيارية، فالأولى غير واقعة ضمن التكليف عكس الثانية، ونحن يهمّنا معرفة تكليفنا وما يجب علينا فعله.

5. إنّ تحقيق العلامات(2) بل الظهور نفسه لا ينفعنا إن لم نكن من أهل التقى والإيمان والإخلاص والعمل الصالح لنحظى بنصرة الإمام(علیه السلام)، فعلينا أن نفكر في كيفية وصولنا إلى هذه المرتبة ولنساهم في تحقيق شرط الظهور، وإلا سيكون ظهور الإمام(علیه السلام) قاصماً لظهورنا، فاستمعوا بتدبر لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} (السجدة: 2830)، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (الأنعام:158)، فأحد مصاديق الفتح هو يوم الظهور المبارك وحينئذ لا ينتفع به إلا من هذّب نفسه وآمن وعمل صالحاً وهو المعنى الحقيقي للانتظار.

ص: 343


1- أي ما بين النهرين من العراق.
2- والخطاب إلى كل من يهتم بالعلامات أكثر من الشروط.

الأعور الدجال ليس إنساناً:

6. التزامها أسلوب الكناية والرمزية، وحينئذٍ تختلف التفسيرات ولا يمكن الجزم بأحدها، ومنها أخبار الأعور الدّجال الذي هو من العلامات الرئيسية قبل الظهور، وقد ذُكرت له أوصاف عديدة إذا حاولنا تطبيقها على إنسان واحد فإنّه سيكون معجزة، فإمّا أن ننكر هذا الشيء ونقول: إنّ المعصومين(علیه السلام) كانوا يروون عن ما يشبه قصص ألف ليلة وليلة، وهذا عمل البطّالين والعابثين، لا الهداة إلى الله والأدلاء على طاعته، والقوّامين بأمره، وأما أن نفسرها بوجه معقول يستوعب هذه الأوصاف.

وبمناسبة الصراع الذي بدأه الغرب مع الإسلام وأهله أنقل هذا التفسير لسيّدنا الأستاذ(قدس سره)(1) الذي ينسجم مع هذا الصراع، مع شيء من التبصر والتلخيص والبيان والتطبيق على الواقع المعاصر، حيث يمثل الدّجال الحركة أو الحركات المعادية للإسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف بادئاً بالأسباب الرئيسية، وهي الحضارة الغربية بما فيها من بهارج و هيبة وهيمنة على الرأي العام العالمي، ومخططات واسعة ومنتهياً إلى النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام عملياً وإن تسمّوا بالإسلام(2) واعتناقهم المذاهب المنحرفة، وما يعم الأفراد والمجتمعات من ظلم وفساد.

وإليك أوصاف الأعور الدجال بحسب ما جاء في الروايات من كتب الشيعة والسنة مع تطبيقها على هذه الأطروحة، فليس هناك ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة

ص: 344


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص532 -- 537.
2- في حركاتهم وطباعهم وتصرفاتهم وملابسهم و قصّات شعرهم.

خلق منحرف أكبر من الدّجال(1) باعتبار هيبة الحضارة الغربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة، وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والإلحاد بالقدرة الإلهية بشكل لم يعهد له مثيل في التأريخ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل. وهذا التفسير واضح على الرواية الأخرى: (أمر أكبر من الدّجال) مما يعني أنه ليس رجلاً بعينه وإنمّا هو اتجاه حضاري معادٍ للإسلام.(وإنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت)(2)، وكلّ هذا وغيره مما هو أهم منه من أنحاء السيطرة على المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الغربية، ولا تخفى ما في ذلك من الفتنة فإن أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدنية الغربية فإنهّم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها وتكوينها الحضاري بشكل عام، وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة، وهي غير قائمة على أساس صحيح إذ لا ملازمة بين التقدم التكنولوجي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي، يعنى لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع، فقد يكون المجتمع متقدماً إلى درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخرة إلى درجة كبيرة في الجانب الحضاري، وأوضح مصاديقه الكيان الصهيوني؛ فإنّه في طليعة المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً، إلا أنكّ تجد الهمجية والوحشية في سلوكهم المنافي لكل القيم بما فيها تلك التي أجمعوا هم وكلّ أمم العالم على الالتزام بها بما يسمونها بحقوق الإنسان، وكذا الولايات المتحدة التي تمثل النموذج الأرقى لتقدم الغرب إلا إنها في الحضيض من

ص: 345


1- إشارة إلى ما في بعض الروايات أنه: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق -- وفي حديث آخر أمرٌ -- أكبر من الدجال) تأريخ الغيبة الكبرى: ص516 عن صحيح مسلم.
2- هذا ما ورد في بعض الأخبار عن صفاته.

الناحية الأخلاقية، وجرائمها في العراق واليابان وفيتنام وفلسطين والبوسنة وأفغانستان شواهد على ذلك.(وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحي فيكذّبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإن من فتنته أن يمر في الحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمى ما كانت وأعظم وأمدّه خواصراً وأدره ضروعاً)(1).

وهذا يعني -- لا على وجه التعيين -- أنّ المكذب للمد المادي الأوربي والواقف أمام تياره يُمنى بمصاعب وعقبات، ويكون المال والقوة إلى جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها، والتعبير بالحي يعني النظر إلى المجتمع على العموم، وهذا هو الصحيح بالنسبة إلى المجتمع المؤمن في التيار المادي، إذ لو نظرنا إلى المستوى الفردي فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطاً من القوة والمال.

الدجال ينادي أنا ربكم الأعلى:

والدجال أيضاً يدعي الربوبية، إذ ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين يقول: (إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوى وقدّر فهدى، أنا ربكم الأعلى(2))(3)، وكلّ ذلك واضح جداً من سير الحضارة الغربية وأسلوبها، فإنها ملأت الخافقين من خلال وسائل الإعلام الحديثة بمادياتها، وعزلت البشر عن المصدر الإلهي والعالم

ص: 346


1- كتاب الفتن: ص327.
2- وهو لسان حال الولايات المتحدة.
3- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص512، عن سنن ابن ماجة وإكمال الدين للصدوق.

العلوي، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكفله هذا المصدر، وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها على البشرية، وفرضت آيديولوجيتها على الأفكار وقوانينها على المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه، وهذا يعني ادّعائها الربوبية على البشر، أي إنها المالكة لشؤونهم من دون الله تعالى، وهذا ما تريد الولايات المتحدة تسيير العالم عليه بما يسمونه بالعولمة والنظام العالمي الجديد، وسخرت آليات لتنفيذه كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وحتى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وتريد أن تفرض رؤيتها على جميع البشر، ولا مكان في هذا العالم لمن لا يوافقها، وقد سبقها إلى ذلك فرعون الذي ادعى الربوبية وقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} (غافر:29) وأمريكا تكرر نفس الكلمة.

وضوح عبودية وانقياد أولياء أمريكا:

وأمّا دعوتها لأوليائها من أطراف الأرض فليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها، ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها، وهذا واضح حيث تجدهم يتسابقون بين الحين والآخر لتقديم فروض الولاء والطاعة وكلّ ما تقتضيه واجبات الربوبية، ولا يعتذرون عن أية تكليف يفرض عليهم كموالاة صديقهم(1) ومعاداة عدوهم وإن كان أخاً صادقاً في الله، وتقديم التسهيلات العسكرية، وترويج البضائع وفتح الأسواق، وابتزاز الأموال تحت عناوين شتى.

ص: 347


1- لاحظ تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب.

علة استثناء مكة والمدينة:

(ولا يبقى شيء من الأرض إلا وطأه وظهر عليه إلا مكة والمدينة)(1)، وهو ما حدث فعلاً بالنسبة إلى انتشار الفكر الغربي والتأثر والانبهار به والتقليد الأعمى له في كلّ البسيطة، فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الغربي(2).

وأمّا استثناء مكة والمدينة فهو يعني إنّ الفكرة الإلهية المتمثلة بمكة والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة لا تنحرف بتأثير المد الغربي، بل تبقى صامدة محفوظة في أذهان أهلها وإيمانهم، وهذا يدلّ على انحفاظ الحقّ في الجملة بين البشر، وأن الانحراف لا يشمل البشر أجمعين وإن كانت نسبة أهل الحق إلى غيرهم كنسبة مكة والمدينة إلى سائر مدن العالم كله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32).

وهذا مطابق لما يقتضيه التخطيط الإلهي لليوم الموعود من بقاء قلّة من المخلصين الممحصين المندفعين في طريق الحق، وأكثرية من المنحرفين والكافرين، ويكون لأولئك القلّة المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة، بل إنّ هذه الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً، ولا يزال الغربيون حريصين على انتهاء رموز الإسلام هذه، قال المبشر وليم جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة(3) من بلاد العرب يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه).

ص: 348


1- تأريخ الغيبة الكبرى، الشهيد السيد محمد الصدر: ص516 عن سنن ابن ماجه.
2- فالفكر الغربي غزا مجتمعاتنا كلها فكل حركاتها وقوانينها على النمط الغربي.
3- يريد بالقرآن الفكر والوعي ويريد بمكة وحدة المسلمين وعقيدتهم.

فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها(1)، وهذا هو معنى ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك بيده سيف مصلت يصده عنها(2) وأن على كل نقب ملائكة يحرسونها(3)، فإن تشبيه العقيدة الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف ما لا يخفى لطفه، وأما كون الملائكة على كل نقب فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بأن في الإسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً على كل شبهة، فلا يمكن لشبهات الآخرين أن تغزو فكره أو تؤثر على ذهنه.ومن هنا تبرز المسؤولية العظيمة الملقاة على العلماء والفضلاء من أبناء الحوزة العلمية الشريفة في الوقوف بوجه الشبهات وردّها والدفاع عن الإسلام العظيم وسد الثغرات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية وحتى الاقتصادية التي يمكن أن ينفذ العدو من خلالها(4)، أليسوا هم (حصون الإسلام) كما تصفهم الأحاديث؟ فما هو دور الحصن غير حفظ الكيان ومنع هجمات العدو، أوليسوا هم (أمناء الرسل)؟! فإذن قد ائتمنهم الرسل على كلّ المسؤوليات التي تحملها أولئك الكرام، وبالمقابل على الأمة أن تلتف حول علمائها وتلجأ إليهم في كلّ صغيرة وكبيرة، وإلا ضاعوا وضلّوا ووقعوا في فتنة الدجال من حيث لا يشعرون.

ص: 349


1- الفكر الإسلامي المعاصر والعولمة / 169.
2- يعني في كلّ جيل يوجد خلف يحافظ على الدينّ ويمنع دخول الدجال مكة والمدينة.
3- إشارة إلى حديث رواه مسلم في الصحيح يقول فيه الدجال:(فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلّما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده سيف صلتاً يصدّني عنها).تأريخ الغيبة الكبرى: ص484.
4- فإذا وجد الفرد ضالّته في الحوزة، فإن ارتباطه بها سيكون وثيقاً ولا يغادرها إلى غيرها.

الدجال باقٍ من زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

والدجال طويل العمر باقٍ من زمن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين، بل ادعى الرسالة دونه(1)، ولا زال على هذه الحالة إلى الآن، فإن الدجال أو المادية تبدأ أسسها الأولى من زمن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) حيث كان للمنافقين أثرهم الكبير في إذكاء أوارها ورفع شأنها، فكانوا النواة الأولى التي حددت تدريجياً سير التأريخ على شكله الحاضر بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم وسيطرة المادية والمصلحية عليه.

إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أولئك الذين كان مسلك الدجل والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير ما يبطنون، هم النواة الأولى للمادية المخادعة التي تظهر غير ما تبطن وتبرقع قضاياها بمفاهيم العدل والمساواة، فهذا هو الدجال بوجوده الطويل.

معنى ادعاء الدجال الرسالة:

ومن هنا نفهم معنى ادعائه للرسالة، فإن المادية كانت ولا تزال تؤمن بفرض ولايتها على البشر، غير أنّها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً لا تستطيع

ص: 350


1- كما في الخبر الذي أخرجه مسلم عن عبد الله قال: (كنّا مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد ففّر الصبيان وجلس ابن صياد فكأن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كره ذلك فقال له النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) تربت يداك أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا بل تشهد أني رسول الله، فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى أقتله. فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص515.

الارتباط بأي إنسان، ولكن حين أُذن للدجال المادي بالخروج(1) بعد وفاته(صلی الله علیه و آله و سلم) انطلقت النفوس الأمارة بالسوء من قمقمها، وبلغت فتنته الذروة اليوم حين استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها على العالم. ومن هذا المنطلق تفهم بكلّ وضوح معنى أنهّ عند الدجال ماء ونار، وماؤه في الحقيقة هي نار، وناره هو الماء الزلال، وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في الحديث: (فمن أدرك ذلك فليقع في الذي يراه ناراً؛ فانه ماء عذب طيب)(2)، فإن الماء الذي عند الدجال هي المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن تابعها وتعاون معها، وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف، وتلك المصالح هي النار أو الظلم الحقيقي، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي، ومن الطبيعي أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بصفته الداعية الأكبر للإيمان الإلهي ينصح المسلم بأن لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه ناراً ومصاعب فإنهّ ينال بذلك طريق الحق والعدل، والرمزية والكناية واضحة لأنهّ ليس المراد به الماء والنار على وجه الحقيقة، وإلا لزم نسبة المعجزات إلى المبطلين.

ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظ في المقام أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يقل في الخبر: أنّ الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار يجدونها ماءاً، بل يمكن أن نفهم أن بعض الناس وهم المؤمنون

ص: 351


1- إشارة إلى الحديث في صحيح مسلم عن لسان الدجال (وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص514.
2- أخرجه بهذا التفصيل مسلم في صحيحه8 / 196 وروى صدره البخاري 9 / 75 في صحيحه، تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص515.

خاصة هم الذين يجدونه ذلك، وإلا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون إلا اللذة وتوفير المصلحة كما أنهّم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلا الضيق والكمد.

لماذا الدجال أعور؟

والدجال أعور(1)، وهو كذلك بكلّ تأكيد من حيث إنّ الحضارة المادية تنظر إلى الكون بعين واحدة، تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا، ومن يكن أعور غير مدرك للحقائق فكيف يكون رباً صالحاً للولاية على البشرية، وإنمّا تكون الولاية خاصة بمن ينظر إلى الكون بعينين سليمتين فتكون نظرته متوازنة، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، ويتعامل مع جميع مفرداته بما فيه من مادة وروح ويعطي لكل زاوية حقها الأصيل: (وإنّ ربكم ليس بأعور)، بل إنّ ربي على صراطٍ مستقيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153).

والدجال كافر لأنهّ يعبد المادة والمصالح ولا يعبد الله ولا يطيعه ولا يلتفت إليه ويطيع شهوات النفس {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 2324)، وهذا بعينه ما يقوله الغرب، فلا وجود ولا اعتبار للآخرة في حياتهم، وإنمّا خلقنا لنتمتع ولنعبَّ من الشهوات أكبر قدر ممكن ولو على حساب كلّ القيم والمثل

ص: 352


1- إشارة إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (9/ 75) عن أنس قال: قال(صلی الله علیه و آله و سلم) (ما بُعِثَ نبي إلا أنذر أمته الأعور والكذاب، ألا إنه أعور وإن ربّكم ليس بأعور) وأخرج مسلم نحوه (8 / 195).

التي تليق بالإنسان، لذلك فهم يعادون الإسلام وبعيدون عن الحق والصواب، لانّ الإسلام يحاسبهم ويمنع من ممارساتهم الخاطئة ويدعو إلى مواجهتهم.

معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين:

في الحديث: (مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب)(1)، فإن هذه الكتابة ليست من جنس الكتابة، وإنمّا هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين ونفاقهم، وهذا لا يتوقف عن كون الإنسان قارئاً وكاتباً أولم يكن، ومن المعلوم اختصاص هذه المعرفة بالمؤمنين (يقرأه كلّ مؤمن)؛ لأنهّم يعرفون الميزان الحقيقي العادل لتقييم الناس، وأمّا المنحرفون فهم لا يقرأون هذه الكتابة وإن كانوا على درجة كبيرة من الثقافة؛ لأنهّم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف، ومن الطبيعي ألاَّ يرى الفرد أخاه في العقيدة كافراً.

وأنت تجد اليوم كلّ مؤمن بالله والمثل الإنسانية العليا وإن لم يكن مسلماً يشمئز من ظلم أمريكا والكيان الصهيوني ويستهجن استعلائهم وعنجهيتهم واستهتارهم بهذه القيم، حتى إنّ العشرات من مفكري ومثقفي أمريكا وقّعوا وثيقة أرسلوها إلى نظرائهم الأوربيين اعترضوا فيها على وصف الحرب التي أعلنتها أمريكا ضد ما يسمى بالإرهاب بالعادلة، وأنّ من يعادي الولايات المتحدة هو محور الشر، وطالبوهم بعدم الخشية من إعلان مثل هذا الرأي خوفاً من إلصاق تهمة الشر بهم(2).

وفي مقابل ذلك يوجد من أعمته المادة كالمفكر -- حسب ما يصفونه -- البريطاني كوفر الذي يُعد من أشد المساندين لسياسة رئيس الحكومة البريطانية بلير،

ص: 353


1- البخاري (9 / 76) وصحيح مسلم (8 / 195) راجع تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: ص512.
2- من أخبار الإذاعات يوم 10 / 4 / 2002.

يقسّم في مقال بثّه عبر الإنترنت العالم المعاصر إلى متحضر ومتخلف، ويدعو إلى تطبيق القانون على الأول فقط، أما الثاني فتطبق بحقه شريعة الغاب والعنف والاستعباد لأنهّم خطر على العالم المتحضر(1)، فأين هذا من مبدأ الإسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107) من دون استثناء.

الحوزة تحذر من الوقوع في فتنة الغرب الكافر:

ومن أجل هذه الخصائص الخطيرة للدجال التي قلّ من ينجو من الوقوع في فخوخها حذّر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أمته منه واستعاذ من فتنته لأجل أن يأخذ المسلمون حذرهم على مدى التأريخ من النفاق والانحراف والمادية، بل قد حذّر كلّ الأنبياء(علیه السلام) أممهم من فتنة الدجال لما سبق أن فهمنا أنّ المادية السابقة على الظهور هي من أعقد وأعمق الماديات على مدى التأريخ البشري (ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة)، وتشكل خطراً حقيقياً على كلّ الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين(علیه السلام)، ونحن بدورنا نحذّر من الوقوع في شراك الحضارة الزائفة التي يدعيها الغرب، ويخفي في داخلها السم الزعاف.

وأدعو الذين انبهروا بهم فقلدوهم في أفكارهم وسلوكياتهم ونظرتهم للحياة حتى عادوا يتباهون بهذه التبعية ويتبجحون بها، وأخص بالذكر أساتذة الجامعات والمثقفين والشباب، وأطلب منهم أن لا ينخدعوا بالظاهر، بل لينظروا بعين البصيرة؛ فإنهّم نخبة المجتمع والقادرون على توجيهه، وأنا لا أقول بالتقاطع التام مع الغرب لأنّ عندهم ما هو نافع كالعلم والتكنولوجيا، ولكن لا يلزم من ذلك التبعية الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية، فإن عندنا شريعة وضعها خالق البشر والعالم بما يصلحهم والقادر على إسعاد البشرية في كلّ زمان ومكان، فقد جاء الذكر

ص: 354


1- نفس المصدر.

الحكيم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96).وأذكر لكم مثالاً التقطته من الإذاعات قبل أشهر – للدكتور عبد اللطيف المر، استشاري الصحة العامة في دولة الكويت في برنامج بتأريخ 20/ 7/ 2002م – بمناسبة إعلان أمريكا حرباً عامة ضد السمنة وقد ظهرت الإحصائيات التالية: (من 90 مليون مصاب أي ثلث عدد السكان، 300 ألف يموتون بسبب مرض القلب الناشئ من السمنة فقط، إن السمنة سبب لسرطان القولون وهو في النساء أكثر من الرجال، وإنه سبب لمرض السكر وهكذا) وكانت نصائحهم: تقنين الغذاء كيفاً (بالاهتمام بالفواكه والخضراوات وتقليل الدهون) وكماً -- زيادة الحركة -- وهذه قد جاء بها القرآن منذ 1400 عام بنصف سطر بقوله تعالى: {كلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} (الأعراف:31)، وفرض حركات رياضية تؤدى (17) مرة يومياً وموزعة بانتظام على الوقت، وهي ركعات الصلاة المفروضة مضافاً إلى المستحبة، وفرض صوم في السنة شهراً لتنظيم عمل المعدة وإصلاح أي خلل حصل في طول العام، هذا غير النصائح الأخرى، ك-(المعدة بيت الداء، والحمية رأس كلّ دواء) وقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): (فإن كان ولا بد فثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنَفَسِكَ)، وهكذا فلو اتبعنا تعاليم الإسلام لوفرنا الكثير من الجهد والمال والتجارب والإحصاءات.

ص: 355

الدجال حقير أمام الحق:

وهو أي الأعور الدجال رمز الحضارة الغربية بالرغم من ذلك كلّه (أهون على الله من ذلك)(1)، باعتباره حقيراً أمام الحق والعدل مهما كانت هيمنته الدنيوية وسعة سلطته، وليس وجوده قدراً قهرياً أو أثراً تكوينياً اضطرارياً، وإنمّا وجد من أجل التمحيص والاختبار بالتخطيط الإلهي العام، وسوف يزول عندما يقتضي هذا التخطيط زواله عند الظهور وتطبيق يوم العدل الموعود.

ومن هنا نفهم أنهّ لا تعارض بين الخبر الدال على إنّ معه جبل خبز ونهر ماء، والخبر الدال على إنّه أهون على الله من ذلك، فإن هوانه عند الله لا ينافي حصوله على السلطة والإغراء أخذاً بقانون التمحيص والإمهال الإلهي طبقاً لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (الأعراف:9495)، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178).

ص: 356


1- إشارة إلى ما أخرجه الصحيحان (البخاري 9 / 174، مسلم 8 / 200) عن المغيرة بن شعبة: (ما سأل أحدٌ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: ما يضرّك منه؟ قلت: لأنهم يقولون أن معه جبل خبز ونهر ماء، قال(صلی الله علیه و آله و سلم): هو أهون على الله من ذلك) تأريخ الغيبة الكبرى، للشهيد السيد محمد الصدر: 490.

أهمية العلامات:

وأعود الآن إلى ما بدأنا منه وهو التقليل من أهمية العلامات، ولا أريد أن يفهم من ذلك إلغاء دورها وإلا لماذا ركز عليها المعصومون(علیه السلام) بهذه الكثرة من الأحاديث، فتبقى لها أهميتها من عدد جهات:

1. إنهّا تشكل محطات لتجديد الأمل وبعث الروح في نفوس المظلومين والمستضعفين وكلّ من ينشد بسط العدل والحرية في جميع الأرض.

2. إنهّا تمثل جانباً إعجازياً للمعصومين(علیه السلام) حيث إنهّا كانت في حين صدورها إخباراً عن الغيب، فتحققها يثبت أنّ مصدرها من الله تعالى(1).

3. إنهّا تدفع المؤمنين بالإمام(علیه السلام) والساعين إلى نصرته أن يضاعفوا الهمة في الاستعداد للظهور سواء على صعيد بناء النفس أو إصلاح المجتمع، وتشحذ من عزمهم في هذا الاتجاه، فإنهّ المعنى الحقيقي لانتظار الإمام وترقب ظهوره المبارك.

4. إنّ بعض العلامات تدخل في ضمن الشروط كفتنة الدجال، فإنهّا مرحلة مهمة من مراحل التمحيص والغربلة التي وعدت بها الروايات، كقول الإمام الصادق(علیه السلام): (إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس، ولا والله حتى تُمَيزوا، ولا والله لا يأتيكم حتى تُمَحصوا، لا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد)(2).

ص: 357


1- لذا فهي من مصاديق قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة البقرة: 3.
2- المصدر: ص260 ويمكن أن يضاف إن هذه العلامات تكون موضع بحث ودراسة ونقاش من قبل المهتمين بظهور الإمام(عليه السلام) مما يؤدي إلى طرح نظريات كثيرة كلها تسهم بشكل أو بآخر في تسليط الضوء على الإمام(عليه السلام) ودوام ذكره.

الكثير من العلامات مرتبطة بالظلم:

كما إنّ الكثير من العلامات مرتبطة بالظلم والانحراف الذي يسود البشرية قبل الظهور، فكثرة الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية هي بسبب سوء سلوك الناس: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41) لأن الكون خاضع لسنن إلهية ثابتة قائمة على أساس التوحيد ويرتبط بعضها ببعض خيراً وشراً كما مرّ في الآية السابقة: (ولو أن أهل القرى...).

وقد لا تقتنع بهذا الربط فأنقل لك من الوقائع الحالية ما يثبت هذه العلاقة، ففي شهر آب 2002م اجتاحت موجة من الفيضانات بعض دول أوربا (ألمانيا، النمسا، جيكوسلفاكيا) واستمرت أياماً، وفي كلّ يوم كان يتوقع الأسوأ، ففي شرق ألمانيا فقط(1) (15 قتيل، 30 ألف مشرد، ارتفاع منسوب المياه في النهر في درسدن العاصمة الثقافية والتأريخية لشرق ألمانيا إلى (9،5) متراً في حين أن معدله عند الارتفاع 5 إلى 6 متراً).

ولم تشهد أوربا مثل هذه الموجة منذ 150 عاماً، ويلقون باللوم على أمريكا التي لم توقع على معاهدة كيوتو للمحافظة على البيئة لدرء خطر الاحتباس الحراري عند تشغيل المعامل كلّها سوية، وهذا الاحتباس زاد من درجة الحرارة فأدى إلى زيادة ذوبان الجليد وغزارة الأمطار فحدث ما حدث، وهذا شاهد على اختلال التوازن الطبيعي بسوء تصرف الإنسان، وقد وقفت أعتى تكنولوجيتهم عاجزة -- كما يعترفون -- أمام هذه الكوارث الطبيعية.

ص: 358


1- أخبار يوم 17 / 8 / 2002.

فيوجد إذن ارتباط وتسلسل علل ومعلولات، يبدأ الناس بعصيان أوامر الله والخروج عن شريعته ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر وإحدى نتائج ترك هذه الفريضة تسلّط الأشرار(1) الذي لا يعرفون غير أنانيتهم ومصالحهم فيفسدون النظام الجاري في الطبيعة فتحصل الكوارث. وعلى العكس فيما لو ساد البشرية العدل فسيؤدي كلّ عنصر في هذا الكون وظيفته على أتم ما يكون، وتنعم الدنيا كلّها بثماره الطيبة.أما عدّها من العلامات دون الشروط فلوجهين:

1. إنّ الروايات نظرت إليها بهذا اللحاظ أي الكشف والدلالة عن الظهور.

2. إنّها ليست واقعة في علل الظهور، بل هي من نتائج ومعلولات بعض علل الظهور.

ولا استبعد(2) أن تكون هذه الفتنة التي أطلّت على مجتمعاتنا الإسلامية وبلدنا بالذات هي التي قصدها الإمام المهدي(علیه السلام) في رسالته الأولى إلى الشيخ المفيد(قدس سره)(3) وبيّن خلالها تكليف شيعته إجمالا، فقد جاء فيها: (فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على إنتياشكم -- أي إنقاذكم -- من فتنة قد أنافت -- أي أطلت وارتفعت -- عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله -- أي قرب -- ويُحمى عنها من أدرك أمله، وهي إمارة لأزوف -- أي اقتراب -- حركتنا ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون. اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية -- إلى أن يقول(علیه

ص: 359


1- بمثل هذه الإشارات والتوجيهات العملية كان سماحة الشيخ ينتقد السلطة الحاكمة وكل الأنظمة الطاغوتية.
2- عقب هذا التوقع بدأت قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكا احتلال العراق عام 2003 وكانت فاتحة فتن وحروب طائفية وصراعات سياسية وتدخلات أجنبية، حرس الله المؤمنين بعينه التي لا تنام.
3- الاحتجاج: 2 / 323.

السلام) -- فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته).

وصية الإمام (عليه السلام) إلى شيعته:

وإذا أردنا أن نترجم هذه الرسالة إلى وصايا وتكاليف من الإمام(علیه السلام) إلى شيعته استخلصنا النقاط التالية:

1. تذكر الإمام(علیه السلام) دائماً(1) والدعاء له بالتأييد والنصرة والحفظ والتوسل به في طلب كلّ الحوائج(2) وترقب ظهوره(علیه السلام).

2. أن يكون المسلم على مستوى ما يريده الإمام(علیه السلام) منه من الالتزام بالشريعة والأخلاق الفاضلة والآداب السامية والعقائد الصحيحة في ضوء ما وردنا عن المعصومين(علیه السلام) حتى يفخر بكم إمامكم، ويقول: هؤلاء شيعتنا المتأدبون بأدبنا وكما أوصاكم الإمام الصادق(علیه السلام): (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً)، وقد خصصنا الشكوى الأولى(3) لبيان صفات المسلم الحق التي هي صفات أنصار الإمام(علیه السلام).

3. التمسك بالحوزة الشريفة ممثلة بعلمائها وفضلائها الواعين المخلصين الذين لا يصدونكم عن هدى ولا يوردونكم الردى، فإنهّم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل(علیه السلام) والأدلاء إلى طاعة الله تعالى، وهم امتداد أهل بيت العصمة

ص: 360


1- هل فكرت أثناء زياراتك أن تصلي للإمام(عليه السلام) ركعتين أو تتصدق لحفظ الإمام(عليه السلام)؟ فنحن الذين غيبنا الإمام عن أفكارنا وأذهاننا مع العلم نحن نعيش بحفظه ودعائه.
2- وقد تعلمت أنا شخصياً أني كلما استعصى عليّ أمر اندب الإمام بقول: (يا أبا صالح المهدي أدركني) فيساعدني في قضائها بإذن الله تعالى.
3- محاضرة 13 / رجب / 1423ه- في ذكرى ميلاد أمير المؤمنين(عليه السلام).

(علیه السلام) الذين وصفهم الإمام السجاد(علیه السلام) بأنهم (المتقدَّم لهم مارق والمتأخَّر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)، فكونوا ملازمين لهم مطيعين، ولا تعرضوا عنهم وتخلفوهم وراء ظهوركم فتهلكوا، ولا تنساقوا وراء أهوائكم، فتنشغلون بالتفتيش عن عيوبهم ونقائصهم مادام خطهم العام هو حفظ الدين وهداية الناس وإصلاحهم.4. رفض التبعية للغرب والمحافظة على شخصيتنا الأصيلة بكلّ عناصرها، سواء في المظهر، أو في العقيدة، أو في الفكر والثقافة، والنظر إلى ما يأتينا منه بعين البصيرة، والالتفات إلى قبائحه ومساوئه والأمراض النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تعصف بمجتمعاتهم، وستأتي على بنيانهم من القواعد عمّا قريب ما لم يعودوا إلى طريق الصواب، الذي بدأت الدعوات من مثقفيهم ومفكريهم تتصاعد بالمطالبة به إلا أنهّا لا تجد آذاناً صاغية بسبب طغيان المادة وإضلال المضلين واتباع الشهوات.

5. العمل على حفظ وحدة المجتمع(1)، والوقوف في وجه من يشق عصا المسلمين ويلقي بينهم بذور الخلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران:103).

6. الغيرة على الدين، وعلى حرمات الله، وأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد آلمني ما سمعت من إن الإفطار كان علنياً وبوضوح داخل الجامعات في شهر رمضان المنقضي من دون أن يتصدى المؤمنون لردعهم، ولو قاموا

ص: 361


1- بنبذ نقاط الاختلاف التي لا يخلو دين او مذهب منها والتركيز على نقاط الاشتراك فأعدائنا بالرغم من وجود نقاط اختلاف كثيرة فيما بينهم إلا انهم قد اجتمعوا على محاربة الإسلام فلماذا إذن لا نجتمع نحن على محاربتهم؟!

جميعاً بوظيفتهم هذه لأوجدوا زخماً اجتماعياً(1) لا يستطيع أولئك الأشقياء معه أن ينتهكوا حرمات الله في هذا الشهر العظيم.

مسؤولية الحوزة:

فهذه بعض وظائف المجتمع وهناك مسؤوليات على الحوزة الشريفة أيضاً منها:

أ. بيان عظمة الإسلام في عقائده وتشريعاته وآدابه، وإبراز نقاط القوة فيه، ونفي الشبهات، والدفاع عنه، وكونوا من أهل هذا الحديث الذي مضمونه: (إنّ لهذا الدين في كلّ خلف رجال ينفون عنه شبهات المبطلين).

ب. العمل على تربية الأمة وتهذيبها وتثقيفها وتوجيهها نحو طاعة الله بتكثير فرص الطاعة أمامهم، وتقليل فرص المعصية، واتخاذ شتى الأساليب والوسائل في هذا السبيل.

ج. تجسيد واقع الإسلام في حياتهم حتى يكونوا أسوة حسنة تقتدي الناس بأفعالهم قبل أقوالهم.

ونقاط كثيرة قد أشرت إلى بعضها في محاضرات سابقة، وربما سنحت الفرصة لغيرها في المستقبل بإذن الله تعالى.

ص: 362


1- فكم هو جميل أن تتظافر الجهود وتتحد القوى في القضاء على المعصية وكم سيكون صوت الحق قويا وكم سيكون الباطل ضعيفا منبوذا، وتستطيع ان تلمس ذلك من خلال المواقف التي مرت بك عندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ويوجد من هو بجانبك ويضم صوته إلى صوتك وعلى العكس فيما لو كان صوتك وحيدا بين عدد كبير من الناس.

ظروف ظهور الإمام (عليه السلام) بنحو الإجمال:

وهنا أذكر باختصار بعض ما يتعلق بالمقام فإننا نجد اليوم ظروفاً ممهدة لقيام الإمام الحجة(علیه السلام) بالأمر، منها:

1. امتلاء الأرض بالظلم والجور والتعسف والعدوان، وهو ما بدا واضحاً بعد انفراد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، وازداد وضوحا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام (2001م) حيث أظهرت أمريكا ومن ورائها الصهيونية من الظلم ما لم يسبق له مثيل، ولم يسلم من قنابلهم لا المسجد(1) ولا المستشفى ولا سيارات الإسعاف ولا السجون ولا النساء ولا الشيوخ، وقتل الأطفال وهم في أحضان آبائهم، ودمرت البيوت واقتلعت الأشجار وحوصر الأبرياء، ونشروا المواد التي تسبب الأمراض الخبيثة، وأعتقد أنّ الشواهد الكثيرة على كلّ ذلك حاضرة في أذهانكم، ولازالوا مكشرين عن أنيابهم لافتراس كلّ من ليس معهم ولا يخضع لإرادتهم ولا يركع لهم.

2. وصول الإسلام والمذهب الحق إلى كلّ بقعة من بقاع الأرض، وآخر معقل اقتحمه الإسلام هو الولايات المتحدة نفسها، فقد أجري فيها استطلاع للرأي العام قبل مدة للإجابة عن سؤال: ماذا تعرف عن الإسلام؟ فأجابت الأغلبية: لا نعرف شيئاً.

أما الآن فقد حصل إقبال على الإسلام بشكل لا نظير له، ونفدت الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالإيجاب أو السلب -- أي كتاب فيه بحث عن الإسلام اقتناه الأمريكيون -- وازداد عدد المسلمين في أمريكا بعد أحداث

ص: 363


1- إشارة إلى جملة من جرائم الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني خلال تلك الأيام.

11/ 9/ 2001م إلى أربعة أضعاف وفق ما أعلنته إحدى المؤسسات المتخصصة في الموضوع، واضطر الرئيس الأمريكي نفسه أن يبين محاسن الإسلام وفضائله وارتباطه بالله، بعد أن كانوا يشوهون صورته ويظهرونه وكأنه دين بداوة وتخلف.وكل هذا الانتشار للإسلام ليس بفضل جهود المسلمين مع الأسف، وإنمّا لعظمة مبادئ الإسلام وأحكامه، فهو بنفسه ينتشر، فبالرغم من حاجته لأبنائه إلاّ أنهّ إذا قصر المسلمون فإنهّ يمشي بنفسه، أما المسلمون فهم ثمانية ملايين في أمريكا لم يحملوا همّ الإسلام مع الأسف، وعاشوا أنانيتهم ولم يعملوا لإيصال صوته إلاّ بمقدار بعض المظاهر الدينية البسيطة، يصلون ويصومون وغير ذلك، أما اليهود فهم ستة ملايين، وهم أقل عدداً من المسلمين، ولكنهم مسيطرون على السياسة والاقتصاد والإعلام وكل شيء في حياة الأمريكيين.

3. وصول عدد معتد به من المسلمين إلى درجة التضحية الكاملة في سبيل الإسلام، وهو ما لم يكن معهوداً من قبل، وأوضح دليل على ذلك الاستشهاديون اللبنانيون والفلسطينيون الذين أذاقوا الصهاينة الرعب، وهم بذلك يعيدون ذكرى أعظم استشهاديين في التأريخ، وهم أصحاب الحسين(علیه السلام)، حيث كان الواحد منهم يقذف نفسه وسط سبعين ألفاً ويريهم العجائب من الشجاعة حتى يقضي شهيداً، وهذا المستوى من التضحية والإقدام على الموت بشكل اختياري وبكل سرور ينتظره الإمام من أنصاره ليستطيع بهم فتح العالم.

4. انتشار الوعي الديني في المجتمع وعودة الناس إلى ربهم ودينهم، والتفاتهم إلى تطبيق الحكم الشرعي في كل تفاصيل الحياة، وما كان مثل هذا من قبل، بل

ص: 364

كان المتدينون قلة قليلة ويتحاشون إظهار ذلك، لأن المتدين يوصف بالرجعية والتخلف.5. مرور المجتمع بألوان من الابتلاءات التي يعجز عن تحملها الكثير وخصوصا المجتمع العراقي بعد الحصار الجائر والعدوان الغربي المستمر، وخروجه من جميع هذه الامتحانات ناجحاً من خلال التمسك بدينه والولاء لأئمته(علیه السلام)، ولعمري إنّ العراق يثبت جدارته لاحتضان الإمام الموعود(علیه السلام) واستعداده الكامل لتحمل كلّ أنواع الصعوبات معه، وهذا سر المعاناة التي يمر بها مجتمعنا؛ لأنهّ المجتمع الذي يحتضن الإمام، لا ما يشاع من أنّ العراقي مستحق للعذاب لخبث أفعاله وسوء معدنه، فهذه فكرة أنشأها فينا أعداؤنا ليفقدونا الثقة بأنفسنا، وإلاّ فقد جرب الذين اختلطوا بمختلف الشعوب أنّ العراقيين هم أطيب قلباً وأكرم أخلاقاً وأكثر استجابة لداعي الدين والتمسك به.

ص: 365

إن أمر الإمام المهدي (عليه السلام) أبين من الشمس

اشارة

إن أمر الإمام المهدي (عليه السلام) أبين من الشمس(1)

التعاطي الإيجابي والسلبي لقضية الظهور:

كثر الحديث والجدال هذه الأيام عن موعد وشيك للظهور الميمون، وتحوّل كثير إلى محلّلين للأخبار وفلسفة الأحداث، وكثر معه القلق من قادم الأيام خصوصاً مع تصاعد الأحداث في سوريا، وما يتردد من تشكيل جيش السفياني ونحوه من التخرّصات التي تدخل في باب التوقيتات والرجم بالغيب وهي من الأمور المحرمة، وأقل ما يقال فيها أنها مضيعة للوقت.

إنّ التعاطي مع هذه القضية المهدوية ليس وليد الساعة بل كان منذ أن بدأ المعصومون(علیه السلام) يعلنون عن الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء)، وكان يساورهم القلق أحياناً، خشية عدم الاهتداء إلى الموقف الصحيح، والإمام(علیه السلام) يطمئنهم بأن أمره (أبين من الشمس) فهل في الشمس الطالعة شك وارتياب؟

لكن التعاطي مع هذه القضية له شكل سلبي وآخر إيجابي، أما السلبي فهو تحوّلها إلى مادة للجدل والتحليلات المبنيّة على الأوهام والظنون وما يستدعي ذلك من الإدّعاءات الفارغة والعناوين المزعومة، التي تشوّش على العامة من الناس وتدفعها إلى ارتكاب الحماقات.

ص: 366


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع أعضاء جمعية الدكتور أحمد الوائلي في العمّارة ومركز أنوار المصطفى(صلی الله علیه و آله و سلم) في الشعلة ببغداد وزوّار آخرين يوم الخميس 18/شوال/1433 المصادف 6/ 9/ 2012.

وأما الإيجابي وهو شحذ الهمة في طاعة الله تعالى ليكون ممن يحظى برضا الإمام(علیه السلام) ويمهّد لدولته المباركة وليأمن من الانحراف والزلل في المنعطفات والمفاصل التي تمرّ بها مسيرة الأمة.

علامات التعاطي السلبي لقضية الظهور:

والمؤسف أنّ الشكل الأول هو السائد وعلامته التقاعس والكسل عن أداء الوظائف المطلوبة من المؤمن، فهذه صلاة الجمعة المقامة في بغداد وغيرها لا يحضرها إلا بضعة آلاف من المصلين مع وجوب الحضور فيها بصريح قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة/9)، بحيث أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يهدّد بإحراق بيوت ناس كانوا لا يواظبون على حضور الصلاة معه(صلی الله علیه و آله و سلم) في المسجد، فأين الآخرون المشمولون بالوجوب؟

الإخلاص لله تعالى والصدق في اتباع الحجة المنصوبة:

ولنضرب أمثلة أخرى من الاستفتاءات والبيانات الصادرة خلال هذه الأيام كحديثنا عن المباركة الشرعية لعمل المنظمات الخيرية والإنسانية من خلال حثّ الشرع المقدس على التوسط في إيصال الإنفاق والصدقة إلى مستحقيها وان الوسيط يحصل على نفس أجر المنفق حتى لو جرت الصدقة على أيدي مئة ألف إنسان كرماً من الله وفضلاً، وقلنا انه بعد هذا لا يبقى عذر لمعتذر لا يقوم بالاشتراك مع إخوانه بمثل هذه الأعمال.

والمثال الآخر الاستفتاء الذي أصدرناه قبل أيام عن بطلان الإفطار يوم الأحد هذا العام لمقلدي السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) لأن فتواه تقتضي كون الأول من

ص: 367

شوال يوم الاثنين فهل سعينا لإرشاد هؤلاء إلى الحكم الصحيح، وإلى المنهج الذي يجب أن يتبعوه؟إنَّ إحراز رضا الإمام(علیه السلام) عنك وضمان ثباتك على نهجه والانضمام إلى أنصاره قبل الظهور وبعده يكون بالإخلاص لله تبارك وتعالى والصدق في إتباع الحجة المنصوبة من الأئمة الطاهرين(علیه السلام) على الأمة قال تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ-ئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَ-ئِكَ رَفِيقاً} (النساء/69) ومثل هؤلاء ليطمأنوا وليهدأ بالهم لأن الأمور ستكون واضحة عندهم وسوف لا يتوانون في نصرة الإمام وإتباعه، ولمثل هؤلاء سيكون الأمر أبين من الشمس كما وصف الإمام(علیه السلام).

أما المتبعون للأهواء الذين ينعقون مع كل ناعق والذين تضخمت أنانيتهم فصاروا يشكّكون ويستشكلون ويتردّدون ويرون لأنفسهم علواً وحاكميةً على الآخرين، فإنهم ستزِلُّ أقدامهم ويقعون في وادٍ سحيق، فلينظر كل إنسان لنفسه وليتثبت من موطئ قدمه وبوصلة مسيرته.

إنّ هؤلاء المتردّدين والمشكّكين والمتخاذلين والمتقاعسين كانوا على عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وأدخلوا أذىً كثيراً على قلب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانوا يتمرّدون على أوامر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وتعليماته.

وهم الذين اوهنوا دولة أمير المؤمنين(علیه السلام) والإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) حتّى سلّموها لقمة سائغة إلى معاوية وصبيان بني أمية، فاحذروا أن تكونوا أمثالهم والعياذ بالله.

ص: 368

بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك

اشارة

بين إرهاصات النبوة والظهور المبارك(1)

ارهاصات النبي الجديد:

كانت الأمم تعيش إرهاصات ولادة نبي آخر الزمان وترى تحقق علامات إطلالته على الدنيا الواحدة بعد الأخرى بحسب ما بشرّهم بها أنبياؤهم (صلوات الله عليهم أجمعين) كما ورد في قوله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} الأعراف157 وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف6).

وكان بعض العرب يمنّي نفسه أن يكون هو النبي الموعود كابي عامر الفاسق من الأوس والد حنظلة الشهيد في معركة احد الملقب بغسيل الملائكة, وكانت اليهود تتطاول على العرب بأن النبي الموعود منها متذرعين بما عندهم من علم الكتاب مع جهل وأمية العرب. قال تعالى {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة89) أي كانوا يطلبون الفتح على الكفار والمشركين بأن يكون النبي الموعود منهم فتظهر دولتهم على جميع الناس, وهذه احد الأسباب التي تفسّر العداوة الشديدة التي أظهرها اليهود لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ومواصلة

ص: 369


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد أساتذة وطلبة إعدادية الشوملي في محافظة بابل يوم الخميس 13/ربيع الأول/1432- ومع أعضاء الهيئة التدريسية في قضاء الرفاعي في محافظة ذي قار 18/ربيع الأول/1432

مؤامراتهم على قتله واستئصاله او إغوائه واستدراجه من حين مولده الشريف بعد ان تأكدوا من وجود العلامات في هذا المولود المبارك الذي سطع نوره من مكة المكرمة وأيقنوا بانتهاء ملكهم وسلطتهم.

الصدق والإخلاص لله تعالى يحيط الإنسان باللطف والعصمة:

وفي الوقت الذي كان أولئك المدعّون يتكلّون على الأماني الفارغة والادعاءات الكاذبة والإشاعات دون استحقاق، كان النبي الموعود يتعرض لنفحات ربّه ويعد نفسه ليكون مؤهلاً للاختيار لهذا الموقع العظيم والاصطفاء من الله تبارك وتعالى لأداء الرسالة الخاتمة، فاجتنب ما كان عليه قومه من منكرات وضلالات وتسامى عن انحرافات الجاهلية وأباطيلها, وكان يطيل الاعتكاف في غار حراء ليتفرغ لعبادة ربّه محيياً الحنيفية التي جاء بها جّده ابراهيم الخليل(علیه السلام), وكان الله تعالى مؤدبه ومربيه كما عبّر(صلی الله علیه و آله و سلم): (أدبني ربي فأحسن تأديبي) إذ لم يكن أحد عنده أفضل مما عند هذا الوليد المبارك حتى يؤدبه ويسير به في طريق الكمال فكان الله تعالى هو المؤدّب الحاني الشفيق الذي يرعى عبده ويداريه ويحرسه بعينه التي لا تنام ولا يكله إلى غيره طرفة عين, وحتى حينما كانت الاقدار تسوقه(صلی الله علیه و آله و سلم) الى ما لا يليق بالدور العظيم الذي ينتظره (كما في الرواية التي تتحدث عن عرس لعبد الله بن جدعان) كان الله تعالى يذوده عن تلك الموارد ويعصمه ويرسل اليه ملكاً يصرفه عن ذلك الأمر.

وهكذا إذا علم الله من العبد صدقه وإخلاصه في السير اليه أحاطه بلطفه الخاص وعصمه من الزلل، إذ ان العبد مهما كانت همّته وقوة إرادته فانه لا يصل إلى العصمة الكاملة إلا بمزيد عناية من الله تبارك وتعالى.

ص: 370

مع أيام الجاهلية الأولى:

حتى حين أزف الموعد المبارك الذي عمّ نواله البشرية جميعاً إلى قيام يوم الدين وبعث الله تعالى الروح الأمين إليه في غار حراء ليبلّغه بأنه هو النبي الموعود في آخر الزمان, وكانت المفاجأة المذهلة لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أن يكون هو المصطفى المختار لحمل هذه الرسالة الإلهية ويكون محط نظر ربّه العظيم الكريم فصعق لهيبة الموقف وعاد إلى منزله يرتجف وطلب من زوجته الكريمة أم المؤمنين خديجة أن تدثره وتزمّله وباركت له هذا الاصطفاء وآزرته بأنه اختيار للكفؤ المؤهل واثنت على صفاته الكريمة.

من هذا العرض المختصر لإرهاصات ولادة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وبعثته الشريفة في وسط تلك الجاهلية المدلّهمة انتقل الى جاهلية اليوم التي عمّتها المفاسد والمظالم والمنكرات ونترقب ظهور المصلح العظيم ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

ارهاصات ظهور الإمام المهدي (عليه السلام):

وهاهي إرهاصات ظهوره المبارك تتوالى فصوت أهل البيت(علیه السلام) طرق سمع كل بقاع الأرض, والإقبال على مذهبهم الشريف في تزايد سريع، وهاهي الشعوب تتحرر وتُسقِط الطواغيت بسرعة عجيبة لم يكن يتوقعها أحد بعد أن جثموا على صدور شعوبّهم وكبلوهم بالحديد والنار على مدى ثلاثة عقود وأربعة, وهذه الحرية النسبية للشعوب ستتيح الفرصة لأتباع أهل البيت(علیه السلام) أن يتحركوا ويتمكنوا بمقدار ما

ص: 371

يسمح لهم بإيصال صوت الحق الذي هو كافٍ بذاته لإقناع الناس كما قال الامام(علیه السلام) (فان الناس لو سمعوا محاسن كلامنا لاتبعونا).لقد كان الكثير يستغرب مما في الدعاء الشريف (اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى أبائه) بقوله (وتسكنه أرضك طوعاً) إذ كيف يمكن أن يبسط الإمام دولته الكريمة على الأرض طوعاً وسلماً وكيف سيتركه هؤلاء الطواغيت المفسدون يتحرك بحرية, لكن أحداث الأيام الحالية جاءتنا بالجواب فهذه الفضائيات التي أوصلت صوت أهل البيت(علیه السلام) إلى العالم، وهذه المعرفة التي حصلت لجميع البشر بسمو تعاليم أهل البيت(علیه السلام) وطهارتهم، وهذه الحركات التحررية التي مرّغت أنوف المستكبرين بالوصل جعلت هذه الفقرة ممكنة التحقق والقبول باذن الله تعالى.

الإعداد للنصرة قبل الظهور:

ونحن ندعو على الدوام أن نكون من أنصاره وأعوانه والقادة في دولته الكريمة, فلا ينبغي ان تكون هذه الأدعية مجرد لقلقة لسان ودعاوى بلا حقائق من العمل الدؤوب للتأهل لنيل هذه المقامات الرفيعة. كما أن أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) المقربين لم ينالوا تلك المراتب إلا بإعدادهم أنفسهم حتى قبل الاسلام.

فجعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة الذي له جناحان يطير بهما في الجنة والذي كانت له حظوة خاصة عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) كان طاهراً عفيفاً حتى في الجاهلية فلم يقرب الخمر ولا الزنا وعلّل ذلك بأنني لا اشرب ما يفسد عقلي وان من طرق باب الناس طرق الناس بابه.

ص: 372

وسلمان الفارسي كان رافضاً من أول عمره عبادة قومه لغير الله تبارك فهجر وطنه الأصلي فارس وتوجّه إلى الشام ثم جزيرة العرب بحثاً عن دين التوحيد حتى حظّي بقرب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).مثل هذا الإعداد لأنفسنا والسير الطويل نحو الكمال هو ما يؤهلنا لان نكون من أنصار الإمام(علیه السلام) والقادة في مشروعه العظيم, وليس الامر صعباً على من شمله الله تعالى بلطفه وكانت له إرادة قوية وحب لله تبارك وتعالى ولأوليائه العظام (صلوات الله عليهم أجمعين) وتسامى عمّا عليه مجتمعه من جاهلية وغفلة ومظالم ومنكرات ومفاسد, ولا تحتاج الموبقات والكبائر إلى مؤونة كبيرة لاجتنابها لأنها بطبعها مقززة ومنفرة للطباع السليمة والفطرة النقية.

وأخص بالذكر انتم معاشر الشباب الواعين الانقياء الموالين لأهل بيت النبوة(علیه السلام) خصوصاً اذا جالستم العلماء والفضلاء والصالحين وحُسن أولئك فانظروا لأنفسكم {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر18) والله ولي التوفيق.

ص: 373

الغرب والإمام المهدي (عجل الله فرجه)

اشارة

الغرب والإمام المهدي (عجل الله فرجه)(1)

استعداد البشرية لتقبل المنقذ:

يعيش العالم اليوم أزمة خانقة تتجلى في الرعب والقلق والخوف الذي يستولي عليه من المستقبل، وتراه يبحث عن السعادة فلا يجدها رغم أن شعوباً عديدة في بلاد الغرب تتمتع برفاهية مادية عالية إلا أن أعلى مستويات الجريمة والانتحار والأمراض الصحية والاجتماعية الفتاكة تتواجد فيها، وهذا كله نتيجة طبيعية للابتعاد عن المنهج الإلهي والإعراض عن الالتزام بشريعة الله تبارك وتعالى وهي سنة إلهية جارية في مخلوقاته قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه:124) أي ضيقة خانقة وقال {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36) فأي حياة بائسة سيفرضها هذا الشيطان على قرينه.

وهذه الحالة من البؤسِ والتعاسة التي جعلت البشرية تتوقع اليوم أكثر من ذي قبل ظهور المصلح العظيم الذي يتكفل بإقامة دولة الحق؛ لأن جميع الديانات السماوية تُبشر بمثل هذا اليوم، إلا أن أتباع كل ديانة يقولون أنه منهم ونسمع اليوم أن العالم المسيحي يبشر اليوم بقرب ظهور المنقذ وتُباع الآن في أوربا بطاقات المراهنة على ذلك.

لكن اعتقادهم ناشئٌ من عنجهيتهم واستكبارهم واستعلائهم على الآخرين، وإلا فإن كتبهم صريحة في أنه من ذرية نبي آخر الزمان ومن ولد إسماعيل الذبيح

ص: 374


1- كلمة ألقيت بالنيابة في الحفل الذي أقامته كلية التربية للبنات في جامعة الكوفة بمناسبة ذكرى مولد الإمام المهدي(عليه السلام) في النصف من شعبان عام 1424 المصادف 12/ 10/ 2003.

وليس من إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(علیه السلام)، وما مجيء أساطيلهم وعدتهم وعددهم إلا لمواجهة هذا الرجل الذي سينطلق من هذه الأرض المباركة ليفتح العالم، وهم لا يعلمون انه ربما كان الآن يعيش بين ظهرانيهم ومطَّلع على أساليب عملهم ومكامن القوة عندهم وليعّرف أصحابه السبيل إلى تعطيل كل هذه القوة بأيسر السبل.

اطروحة في خروج الإمام المهدي (عليه السلام) من الغرب:

وقد قدم أحد الأخوة أطروحة لدعم هذه الفكرة فإن بعض الروايات تقول إنه حين الظهور تشرق الشمس من الغرب وقد وصفت روايات أخرى الإمام(علیه السلام) بأنه كالشمس التي جللها السحاب، فما المانع أن يكون شروق الشمس بمعنى ظهور الإمام(علیه السلام) وبزوغ نوره من الغرب أي أن قدومه يكون من هناك.

ويؤيد هذه الفكرة أن للإمام(علیه السلام) شبهاً بعدد من الأنبياء ومنهم موسى الكليم(علیه السلام)، ومن وجوه تشابهه معه أن فرعون الذي علا في البلاد واستكبر وأخذ يذّبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم خوفاً من الوليد المنتظر الذي تناقلت الأخبار أن نهاية ملكه على يديه، وإذا به نفسه يتولى رعاية هذا المولود وخدمته ليتحقق بالإرادة الإلهية ما كان يخشاه، فربما كانت القوى المستكبرة في الغرب كفرعون هي التي تتولى رعاية الإمام وأصحابه فيتنعمون بخيراتها.

شاهدان على كيفية انهيار القوى المستكبرة:

وأذكر شاهدين على كيفية انهيار هذه القوى المستكبرة التي تحاول أن تظهر عظمتها وجبروتها، وبأيسر السبل عندما يأذن الله تبارك وتعالى.

الأول: ما رأيناه من تفكك الاتحاد السوفيتي وذوبانه من دون تعرضه لأي

ص: 375

هجوم خارجي بعد أن كان قوة عظمى كما يصفونها تقف في مقابل حلف شمال الأطلسي كله، لكن هذه القوة تلاشت بفعل ضعفها الحقيقي وكمون عوامل الفناء فيها بسبب ابتعادها بل محاربتها للشريعة الإلهية، واندثرت معها كل الأفكار التي كانت تبشر بها وتخدع الناس بالسعادة التي توفرها لها.الثاني: مشكلة الصفرين التي أرعبت العالم المتقدم في التكنولوجيا حتى استعد لحرب النجوم لكن غفلة بسيطة كادت تودي بكل مشاريعه، وذلك حينما كان يؤرخ للسنين وينظم برامجه على ذكر أول مرتبتين فيشير للسنة 1998 ب- 98 ولم يصحُ إلا على خطر مرعب في نهاية عام 1999 حيث إن انقلاب (99) إلى الصفرين يعني العودة إلى سنة 1900 وليس الانتقال إلى عام 2000، فارتبكت الحسابات المصرفية ومواعيد الرحلات وغيرها، والأخطر من ذلك نظام الأسلحة الاستراتيجية والعابرة للقارات وحَبَسَت الدول أنفاسها وحشدت قواتها ومعداتها خشية وقوع الكارثة في ساعة الصفر من ليلة 1/ 1 /2000، وبذلت المليارات من أجل تجنبها، وشاء الله تبارك وتعالى أن يدفع عنها البلاء الذي كاد أن يدمرها بسبب غفلة بسيطة، فكانت موعظة إلهية لعلها تتخلى عن جبروتها وطغيانها المصطنع ولكنها لم تستفد من هذا الدرس ولا غيره كما هو شأن المستكبرين.

وترى شعوب الغرب نفسها الآن تتذمر وتخرج في مظاهرات للاعتراض على سياسات حكّامها، هذا وهم متنعمون فيما توفره لهم حكوماتهم وغارقون في الماديات واللهو والمتعة التي تقسي القلب وتمنع من التوصل إلى حقائق الأمور، فكيف لو التفتوا إلى حقيقة حالهم في الحاضر والمستقبل خصوصاً بعد الموت وفي الآخرة إذا بعثوا للحساب ونشرت أعمالهم.

وهاهم مثقفوهم ومفكروهم ينادون بأن الحل الوحيد لهذا الضياع وعلاج الأمراض الفتاكة كالايدز هو العودة إلى القيم الروحية والالتزام بها وتربية الناس على

ص: 376

الأخلاق الفاضلة.هذه كلها إرهاصات ومقدمات الظهور الميمون المبارك لإقامة دولة العدل، وما علينا إلا التمسك بديننا القويم وتجسيد مبادئه الإلهية الكفيلة بتوفير السعادة للإنسان في الدارين حتى يقتنع الآخرون بان الحل الوحيد لعلاج البشرية هو الإسلام، وإذا أساء بعض من أنتسب إليه وحسب عليه فالذنب ذنبه وليس ذنب الشريعة الإلهية.

ص: 377

ما الذي ينتظره الإمام المهدي (عليه السلام) من شيعته

اشارة

ما الذي ينتظره الإمام المهدي (عليه السلام) من شيعته(1)

ما سبب تأخر الظهور؟

يثار سؤال عبر الأجيال أنه ما السبب في تأخير ظهور الإمام(علیه السلام) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، خصوصاً وأنه(علیه السلام) ينتظر أكثر من أي مخلوق غيره للإذن بالظهور لينقذ البشرية من الحيرة والضلالة والتخبط وعبادة الطواغيت، يخلصهم من الظلم والاضطهاد والحرمان، وإذا كان كل فرد يحسّ في وجدانه بمقدار من الغضب والرفض للظلم والحماس للتغيير، فإن قلب الإمام(علیه السلام) يختزن مجموع هذه الإحساسات المنتشرة في قلوب البشر كلهم، لأنه شعور محمود وايجابي، وفي عقيدتنا إن الصفات الايجابية للبشر كالعلم والرحمة والكرم تجتمع كلها وأزيد منها عند إمام العصر المعصوم ، فلماذا هذا الانتظار.

كنا نجيب بان من شروط الظهور أن يعود الناس إلى الإسلام ويطبقوه في حياتهم وتحصل لهم القناعة بفشل كل الأنظمة الأرضية وانحصار طريق السعادة والكمال بتطبيق الشريعة الإلهية خصوصاً في العراق عاصمة الإمام(علیه السلام) ومنطلق حركته المباركة، وها قد حصل هذا واعترف العالم كله بان الإسلام وعلماء الدين هم المحركون للشارع العراقي، وأصبح حتى العلماني والملحد يزور مراجع الدين ويستشيرهم ويتجنب إثارتهم واستفزازهم فهذه المرحلة قد تحققت ظاهراً على الأقل.

ص: 378


1- بيان وجّه بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك عام 1425 وقرب إجراء الانتخابات وصادف الأول منه 16/ 10/ 2004.

ثم دخلنا في مرحلة جديدة من التربية والامتحان وقلنا إن الإمام(علیه السلام) يريد من أبناء الإسلام أن يصلوا درجة التضحية الكاملة في سبيل دينهم بحيث لا يتخلفون عن أي أمر توجهه المرجعية باعتبارها القيادة النائبة للإمام المعصوم(علیه السلام) ولو كلفهم حياتهم، ونضرب لهم مثلاً بقصة ذلك الخراساني الذي طلب من الإمام الصادق(علیه السلام) التحرك لإزالة ظلم الطواغيت من أمويين وعباسيين وأن له في خراسان وحدها مائة ألف سيف فأجابه الإمام(علیه السلام) كالمتعجب: مائة ألف سيف؟ قال الخراساني: نعم، ومائتي ألف سيف، فأمر الإمام أن يُسجر التنور وطلب من الخراساني أن يلقي نفسه فرفض، وهنا دخل أبو هارون المكفوف وهو أحد أصحاب الإمام(علیه السلام) فطلب منه الإمام(علیه السلام) ذلك فاستجاب كالبرق وألقى نفسه في التنور المسجور وأخذ الإمام يشاغل الخراساني بالحديث وهو مذهول لتصرف أبي هارون وقال له: كم لديك في خراسان مثل هذا؟ قال: لا يوجد يا ابن رسول الله(1).

إخلاص الشباب اليوم:

وأنا أجيب نيابة عنكم أيها الشباب المتحمس الغيور ، وأيها الرجال الأشداء المستعدون لفعل ما قام به المؤمن الصادق أبو هارون، أنه يوجد يا ابن رسول الله الآلاف ممن يقرون عينيك حينما تطلب منهم، بل إنهم يستأنسون بالمنية دونك استئناس الطفل بمحالب أمّه، وقد جرّبنا صبرهم وثباتهم وصدق ولائهم حينما صنع لهم الإخوان قبل الأعداء ناراً اجتماعية من التشويه والتسقيط والسب والاتهام والافتراء والكلام الجارح القاسي الذي يستفزّ حتى الجبال وهي أصعب من النار

ص: 379


1- راجع لمعرفة التفاصيل: الفصل الرابع من دور الائمة في الحياة الاسلامية.

الطبيعية(1) فصبروا وازدادوا إيماناً وتسليماً وما كان ردّهم إلا أن قالوا: (سلاماً) التزاماً بالأدب الإلهي.وهنا يعود السؤال من جديد: إذن ما الذي ينتظره الإمام(علیه السلام)؟

ونحن في الوقت الذي نحاول الإجابة عن هذا السؤال ونبين ما ينتظره الإمام(علیه السلام) إنما نريد أن نعرف تكليفنا في هذه المرحلة، والعمل الذي نؤديه من أجل التمهيد والإعداد لظهور الإمام(علیه السلام) المبارك الميمون.

وصول الأمة الى درجة من التكامل لا يعني نهاية الامتحان:

ولا بد أن نلتفت إلى أن ما قدمناه من وصول الأمة إلى المستويات التي ذكرناها لا يعني نهاية الامتحان وغلق ملف تلك المراحل من التربية، فإن هذا الشعور هو أول بوادر الفشل والانهيار؛ لأنه يعني العجب والاعتداد بالنفس، والمطلوب هو العمل الجاد للاحتفاظ بالنتائج الطيبة ومنع أي محاولة للتراجع والتردي والانحراف وفقدان مواقع الكمال التي وصلها المؤمن بلطف الله تبارك وتعالى والسعي الحثيث للتقدم.

ففي الروايات إن الإنسان يرى في الجنة مقامات عالية لم يصلها فيتمنى لو كانت له فيقال: ان هذه كانت لك عندما كنت ملتزماً بالطاعة الفلانية - كحفظ سورة معينة من القرآن الكريم - فلما ضيّعتها فقدت هذا المقام الرفيع، وقد حذّرنا الأئمة(علیه السلام) من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء اللذين يبقيان يزيّنان المعصية بمعناها الواسع الشامل لترك الطاعة حتى تخرج الروح.. خصوصاً مع توسع وتفنن أدوات الإفساد والإضلال وأساليبهما.

ص: 380


1- هذا ما قاله سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر في لقائه مع طلبة جامعة الصدر الدينية جمادى الثانية 1419. ونشرت مقاطع منه في كتاب (جامعة الصدر الدينية الهوية والإنجازات).

فهذا مما يجب الالتفات إليه لان وصول الأمة إلى درجة من درجات الكمال لا يعفيها من مسؤولية المراقبة والعمل الجاد للاحتفاظ والسعي لما هو أكمل وقد قالوا في المسابقات الرياضية (إن الاحتفاظ بالقمة أصعب من الوصول إليها).

مرحلة الوعي والبناء:

وأعود إلى الإجابة مرة أخرى وأقول: إن الدرجة الجديدة من التربية هي مرحلة الوعي والبناء واعني بالبناء: بناء النفس والمجتمع وفق الشريعة الإلهية، فقد أثبتت المدة الماضية بعد سقوط صدام اللعين بما تضمنت من امتحانات فشل الأمة في اجتيازها، حيث ظهر الجهل والسذاجة والتعصب واتباع العاطفة والانفعالية في التصرفات، وعدم الاهتداء إلى القيادة الحقيقية بحيث ضاعت حتى أوضح المقاييس للتقييم.

ظهور الأمراض المعنوية في الأمة:

كما أن إتاحة الفرصة لتسنّم الكثير من المواقع الدينية والاجتماعية والسياسية والإدارية أظهرت الأمراض المعنوية التي كانت كامنة في النفس، ولم تظهر من قبل لا لأنها غير موجودة وأن صاحبها قد تخلص منها، بل لأن موضوعها لم يتحقق ولم توجد فرصة لإبرازها، فلما سنحت هذه الفرصة ظهر التحاسد والتباغض والأنانية والاستئثار والاستكبار والتقاطع إلى حد ارتكاب أعظم المعاصي التي وعد الله تبارك وتعالى فاعلها النار، فصرنا نرى أئمة جمعات يسقطون في وحل الكذب والافتراء وتسقيط المؤمنين وتشويه سمعتهم.

ص: 381

أصحاب اليافطات الإسلامية:

والإسلاميون الذين سعوا منذ عشرات السنين لكي يحكم الإسلام لما وصلوا إلى المناصب لم نرّ للإسلام أثراً في عملهم، ولم يجعلوا مناصبهم وسيلة لبسط العدل ومساعدة المحرومين ورفع الظلم والقضاء على الفساد بل وقعوا في الأخطاء نفسها ولم يكن لهم هم إلاّ التشبث بالكراسي.

وتساقطت رموز كبيرة بسبب سوء التصرف وطاعة الهوى والغفلة عن الله تبارك وتعالى، فابتليت الأمة بتخبط وتلوّن واضطراب وكادت الفتن أن تطيح بكيانها العتيد الذي بناه الأئمة المعصومون(علیه السلام) والعلماء الصالحون بدمائهم وجهدهم وجهادهم وتضحياتهم، لولا أن تداركها اللطف الإلهي وبركة وجود ثلة صالحة واعية ثبّتت أوتاد وكيان الحق وحفظته من الانهيار بعد أن كاد يقع.

هذه الدروس القاسية التي خرجنا بها هي - يا أحبّتي - ما علينا أن نتعلمه في هذه المرحلة، وندرسه بعمق لنتوصل إلى العلاج الشافي الذي يزيل العوائق عن طريق الإمام(علیه السلام).

ص: 382

شكوى الإمام من عدم اجتماع قلوب شيعته

اشارة

شكوى الإمام من عدم اجتماع قلوب شيعته(1)

لماذا نؤخر الظهور الميمون؟

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدا كثيرا والصلاة والسلام على سادة الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

كنا قد حررنا أربع شكاوى(2) للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا له الفداء) واليوم نشير إلى شكوى أخرى، فقد ورد في رسالته الشريفة إلى الشيخ المفيد(قدس سره): (ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير محمد وآله الطاهرين وسلم)(3).

فهل يعلم أتباع الحق، المنتظرون لظهور إمامهم والتواقون لرؤية طلعته المباركة والذين يتضرعون ليل نهار إلى الله تبارك وتعالى ليقرب يومه الموعود، حتى

ص: 383


1- خطبتا صلاة عيد الأضحى لهذا العام 1426 الذي صادف يوم 11 / 1 / 2006 وقد أقامها سماحته في داره.
2- أنظرها في ثلاث يشكون: ص187، وكانت الشكاوى كالتالي: الأولى: الجهل بقضيته(عليه السلام)، والثانية: ابتعادنا عما كان عليه السلف الصالح، والثالثة: الاهتمام بالشروط أكثر من العلامات، وقد مرت في الفصل الأول من هذا الباب، والرابعة: حبس الحقوق الشرعية، والخامسة: ما درج في المتن.
3- الاحتجاج ج 2/ 325.

يعيد البسمة إلى المظلومين والمحرومين ويقيم دولة الحق والعدل ويقصم ظهر الطغاة والمستكبرين والمجرمين، أقول هل يعلمون أنهم يؤخرون كل تلك البركات بما يعيشون بينهم من حالة التنافر والشحناء والتقاطع والعلاقات المتشنجة التي برزت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، حين وجدت فرص الوصول إلى المواقع السياسية -إي المناصب على اختلاف مراتبها- والدينية كإمامة المساجد والجمعات أو الوكالة عن المرجعية في مدينة ما والاجتماعية كزعامة العشائر أو الوجاهة لدى الناس، فأشعل التنافس غير الشريف والتزاحم على هذه المواقع نار الحسد والبغضاء مما يدفع صاحبها إلى الكيد للآخر وتسقيطه في المجتمع وتشويه صورته وتنفير الناس منه.

الحب لله والبغض لله تعالى:

ومهما حاول صاحبها أن يبررها بأسباب مقنعة كوجود مصلحة دينية ونحوها فإنه يغالط نفسه لأن الحديث الشريف يقول: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) فأي عروةٍ هذه التي يتمسك بها هؤلاء المغالطون لأنفسهم لكي يفصموا بها هذه العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

حب الدنيا رأس كل خطيئة:

إن هؤلاء مشمولون بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (النمل:14) وقوله تعالى {بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة:14) وقد قرب أحد العلماء ذلك بمثال فقال لو أن الأنبياء كلهم وهم مئة وأربعة وعشرون ألف نبي اجتمعوا في زمان واحد هل تراهم يختلفون على شيء أم تراهم متحابين متآلفين متوحدين؟! لماذا لأنهم مخلصون لا يبتغون إلا رضا الله تبارك وتعالى فيتوحدون على

ص: 384

هذا الهدف المشترك، فمنذ أن هبط ادم الأرض تصارع ولداه حين تقبل قربان احدهما ولم يتقبل من الآخر فقال الأول الذي انساق وراء نوازعه النفسية وأهوائه فتغلبتا على عقله (لأقتلنك) قال الآخر الذي هذب نفسه وضبط شهواته وألجمها بلجام عقله {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة:28) وحينئذ سقط الأول في هاوية جهنم {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:30).فمرجع كل ذلك إلى حب الدنيا الذي تجلى بصور عديدة ولا يكاد ينجو إنسان من شكل من أشكاله كالثراء والازدياد من المال أو فتنة النساء أو حب الجاه والزعامة حتى يسقط في داء آخر، لذا يشبه الأخلاقيون الدنيا بالتنين الذي كلما قطع رأس له ظهرت له عدة رؤوس.

جزء من الصراع بين الخير والشر:

وأنا لا ازعم أن هذا الداء قد ابتلي به هذا الجيل دون غيره، بل إنه جزء من الصراع الطويل بين الخير والشر في النفس الإنسانية، والصراع المتأصل بين جند الرحمن وجند الشيطان في هذا العالم الأكبر الذي ينطوي عليه الإنسان:

أتزعم انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر.

لكن الفرق بيننا وبين الأجيال القديمة إننا نعيش في ظل الإسلام وتعاليم أهل بيت النبوة، الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا بينوا وجه الحق فيها ثم واصلت المرجعية الشريفة دورهم في هداية الأمة وإرشادها إلى طريق الصلاح ولازالت تؤدي نفس الدور، فتحصل عندنا رصيد عظيم من الأحاديث الشريفة والتعاليم الإنسانية السامية.

ص: 385

تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) في علاقة المؤمنين بعضهم ببعض:

1. فمن تلك الروايات في إدخال السرور على المؤمنين قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): (من سر مؤمنا فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله عز وجل) وعن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: (تبسم الرجل في وجه أخيه حسنة وصرفه القذى عنه حسنة، وما عبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: (من ادخل على مؤمن سرورا خلق الله من ذلك السرور خلقا فيلقاه عند موته فيقول له: ابشر يا ولي الله بكرامة من الله ورضوان، ثم لا يزال معه حتى يدخله قبره فيقول له مثل ذلك، فإذا بعث تلقاه فيقول له مثل ذلك، ثم لا يزال معه عند كل هول ويبشره ويقول مثل ذلك فيقول له: من أنت يرحمك الله؟ فيقول أنا السرور الذي أدخلته على فلان).

2. وورد في الاهتمام بقضاء حوائج المؤمنين قضيت أو لم تقض عن الصادق(علیه السلام) قال: (أن الله عز وجل خلق خلقا انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة فإن استطعت أن تكون منهم فكن) وعن الباقر(علیه السلام): (أن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده يهتم بها قلبه فيدخله الله بها الجنة)، لاحظ سمو تربية أهل البيت(علیه السلام) وتعاليمهم فإن الجنة جزاء ليس فقط من قضى حاجة أخيه المؤمن، بل هي جزاء من امتلأ قلبه هما ًوغما لأنه تفاعل وتعاطف مع هم أخيهً المؤمن وإن عجز عن قضاء حاجته، وعن الإمام الصادق(علیه السلام): (تنافسوا بالمعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له (المعروف) لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، وان العبد

ص: 386

ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل الله عز وجل به ملكين واحد عن يمينه وآخر عن شماله يستغفران له ربه ويدعوان له بقضاء حاجته) ثم قال: (والله لرسول الله أسًر بحاجة المؤمن إذا وصلت أليه من صاحب الحاجة).3. وورد في تفريج كرب المؤمن -- وما أكثر المكروبين اليوم -- قول الأمام الصادق(علیه السلام): (من نفّس عن مؤمن كربة نفس الله عنه سبعين كربة من كرب الآخرة, وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد, ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة, ومن سقاه شربة سقاه الله من الرحيق المختوم).

4. وورد في حسن العلاقة مع الآخرين قول الصادق(علیه السلام): (من قال لأخيه:مرحبا, كتب الله له مرحبا إلى يوم القيامة) وعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (من أكرم أخاه المؤمن بكلمة يلاطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه من الرحمة ما كان في ذلك).

5. وفي وجوب ستر عيوب الآخرين ورد عن الأمام الباقر(علیه السلام): (يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة) وعن الأمام الصادق(علیه السلام): (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه).

وحذروا من التقصير في ذلك فعن الأمام الباقر(علیه السلام) قال: (من بخل بمعونة أخيه والقيام له في حاجته إلا ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر).

6. وورد في استحباب الإكثار من الأصدقاء والأخوة في الله تعالى فعن الأمام الرضا(علیه السلام): (من استفاد أخا في الله استفاد بيتا في الجنة) وعن الإمام الصادق(علیه السلام): (استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن دعوة مستجابة:وقال: استكثروا من الأخوان فإن لكل مؤمن شفاعة وقال:أكثروا من مؤاخاة المؤمنين فإن لهم عند الله يدا يكافئهم بها يوم

ص: 387

القيامة) وورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (ثلاثة يصفين ود المرء لأخيه المسلميلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه, ويدعوه بأحب الأسماء إليه وحثوا على إفشاء السلام وعدوا أبخل الناس من بخل بالسلام) وعن الإمامالرضا(علیه السلام): (من شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد به التواضع أدخله الله الجنة البتة ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب الله له حسنة ومن كتب الله له حسنة لم يعذبه).7. وعن درجة حسن الخلق والتعامل مع الناس قال الإمام الصادق(علیه السلام): (ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بشيء بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه) وعن الإمام الصادق(علیه السلام): (المؤمن مألوف, ولا خير فيما لا يألف ولا يؤلف).

8. أما العفو عن إساءة الآخرين فقد وردت فيه أحاديث كثيرة فعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): (عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا, فتعافوا يعزكم الله) وعن علي بن الحسين(علیه السلام) في قول الله عز وجل: (فأصفح الصفح الجميل) قال: (العفو من غير عتاب) وعن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: (إذا قدرت على عدوك فأجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه), وعن رسول لله(صلی الله علیه و آله و سلم): (ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة, العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء أليك وإعطاء من حرمك).

9. وعن التراحم والتعاطف بين المؤمنين ورد قول الإمام لصادق(علیه السلام) لأصحابه (اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في ألله, متواصلين متراحمين) (تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه) وعن الإمام الباقر(علیه السلام): (رحم الله امرءاً ألف بين وليين لنا يا معشر المؤمنين تآلفوا

ص: 388

وتعاطفوا).10. وفي استحباب مصافحة المؤمنين ورد عن الإمام الباقر(علیه السلام): (إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما وأقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه فإذا أقبل الله بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر).

11. وعن حرمة إهانة المؤمن ورد عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: (لما أُسري بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي).

وضع الشرع شعائر تعزز الإخوة والألفة والتواصل:

أن الدخول في هذا العالم الرحيب لأهل البيت(علیه السلام) المبلغين رسالات ربهم بأمانة وصدق وإخلاص لا يمل وينقل الإنسان إلى عوالم قدسية تجلو بها القلوب وتطهر بها النفوس.

ولم يكتف المشرع الأقدس تبليغ هذه التعاليم والوصايا وإنما وضع على الأمة شعائر وطقوس تعزز هذه الألفة والمودة والتواصل، كالاجتماع لأداء الفرائض اليومية وهي خمسة في اليوم وكصلاة الجمعة الأسبوعية التي يجب على كل أهل المدينة القدوم إليها وكفريضة الحج التي يجمع إليها ملايين المسلمين من كل بقاع العالم، ومن تلك الشعائر: الأعياد وما تتضمنه برامجها من استحباب الاجتماع

ص: 389

والتزاور والمعانقة والتهاني(1) مما يعيد الصفاء إلى القلوب و يزيل الأضغان منها.أفبعد كل هذا نشهد هذه الحالات المؤلمة من التقاطع والتباغض والمهاترات الكلامية بين من ينتسبون إلى مدرسة أهل البيت(علیه السلام) ويدعون أنهم مخلصون، عجباً عجباً!!

وقد شملت هذه الظاهرة المقرحة للقلوب كل ساحات العمل فالتناحرات السياسية والتسقيط في ساحة العمل الديني والانقسامات الاجتماعية أدخلت الأمة في دوامة ونفق مظلم دفعت ثمنها غاليا من دماء بريئة وتشوش فكري وتمزق اجتماعي وضياع للثروات والقدرات.

كبائر وخسائر بسبب التناحر:

إن هذه الحالة المنكرة تتسبب في عدة كبائر وخسائر:

1. أنها تضعف الأمة وتبدد قواها وتشغلها بأمور وهمية وتضيع وقتها الثمين الذي نحتاج كل دقيقة منه قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).

2. توقع صاحبها في معاصي تستلزمها كالغيبة والبهتان وإهانة المؤمن

ص: 390


1- إن هذه التعاليم السامية لتنظيم العلاقات الإنسانية مما يفخر بها المسلمون وأتباع أهل البيت وعليهم تطبيقها ونقلها إلى الحضارات الأخرى ليروا الصورة الحضارية المشرقة للإسلام وأن بعضاً منها تضمنها كتاب ديل كارنيجي (كيف نكسب الأصدقاء) جعلته الكتاب الأكثر تداولاً في العالم بعد القرآن الكريم ودفعهم إلى تأسيس (معهد كارنيجي) لتنظيم العلاقات الإنسانية فلماذا يكون أكثر المسلمين كالحمار الذي يحمل أسفارا ولا يستفيد منها أو كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.

وتشويه صورته وتسقيط سمعته.3. أنها تنغص حياة الشخص وتسلبه صفو معيشته وسعادته كما ورد في مناجاة الإمام السجاد (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرةً لصفو المنائح والمنن) لذا كان أهم النعم التي يتفضل بها الله تبارك وتعالى على أهل النعيم إزالة هذه المنغصات من القلب {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الأعراف:43).

4. أنها تمكن الأعداء من الأمة وتفتح ثغرات في جسدها يخترقها العدو، وها نحن نشهد كيف أننا أكثرية في هذا البلد إلا أننا أصبحنا نهباً للأعداء يطمع فينا الوضيع والدنيء.

5. إنها تعيق تقدم حركة المشروع الإسلامي وتؤخر عملية التمهيد لليوم الموعود.

أرأيتم إن الانسياق وراء الأهواء والأنانية وعدم الالتزام بتعاليم أهل البيت(علیه السلام) في التحابب والتآلف والعفو والصفح وصفاء القلوب كيف توصل إلى هذه النتائج الوخيمة.

أجارنا الله وإياكم منها وعصمنا من كل ما يسخط إمامنا المهدي الموعود ويحرمنا من اليمن بلقائه والتنعم بالنظر إلى طلعته المباركة.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 391

ثمرات الإيمان بقضية الإمام المهدي

اشارة

ثمرات الإيمان بقضية الإمام المهدي(1)

ذكر الإمام المهدي في كل الحالات ومبررات ذلك وثمراته:

ينبغي للقواعد المؤمنة بقضية الإمام المهدي والمتطلعة لظهوره الميمون وإقامة دولته المباركة أن يكون ذكر الإمام حاضراً في قلوبهم وعقولهم دائماً فإذا مرّت بالأمة ذكرى مفرحة كعيد الأضحى وعيد الغدير فأول من يهنأ هو الإمام(عجل الله فرجه) وإذا مرت ذكرى محزنة كعاشوراء، فأول من يعزى هو الإمام(عجل الله فرجه)، وإذا قام بعمل فيه رضا وطاعة لله تبارك وتعالى كالصلاة والصوم و تلاوة القرآن والصدقة فأول من يفكر بإهداء الثواب إليه هو الإمام(عجل الله فرجه)، وإذا تضرع لله تعالى بالدعاء والطلب فأول من يدعو له هو الإمام(عجل الله فرجه) وهذا له مبرراته وثمراته:

1. أن الإمام(عجل الله فرجه) أهم واعز إنسان لدينا وأحب مخلوق وهو أولى بنا من أنفسنا، قال تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (المائدة:55) والمؤمنون هم أهل البيت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).

2. أننا مغمورون بلطف الإمام(عجل الله فرجه) وهو الذي يتولى رعايتنا وحمايتنا والدعاء لنا لجلب كل خير ودفع كل شر، ولو اطلعتم على خطط الأعداء وسعيهم المحموم لاستئصال هذه الفرقة المهدية لعجبتم من كيفية بقائها فضلا عن اتساعها وازدهارها،

ص: 392


1- من حديث سماحة الشيخ مع وفد حاشد من أبناء مدينة الصدر في بغداد يوم السبت 13 ذي الحجة 1426 المصادف 14/ 1/ 2006.

وقد أخبر بذلك الإمام نفسه (نحن وان كنا ناوين) (أي نائين بعيدين) بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء (أي الشدة وضيق المعيشة) واصطلمكم الأعداء (أي استأصلوكم)(1).3. أن إيماننا بأن حركتنا وأعمالنا والمؤسسات التي نقيمها ونعمل على إنجاحها هي جزء من المشروع الرسالي العظيم الذي يمهد لدولة العدل الإلهي فإن ذلك سيحفزنا أزيد وسيزيد من همة وحماس العاملين.

4. إن شعورنا بأن أعمالنا وتصرفاتنا هي تحت نظر الإمام وان صحائف أعمالنا تعرض عليه عليه السلام مرة أو مرتين أسبوعياً بحسب المروي كما أخبرت به الآية الشريفة {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105) أن ذلك سيجعلنا أكثر مراقبة لأنفسنا ومحاسبة لها وإن الالتفات إلى هذا المعنى سيقوّم حياتنا ويهذبها ويضبط مسيرتها في الاتجاه الصحيح.

5. إن الارتبا الحقيقي والواعي بالإمام سيعزز الالتفاف حول المرجعية الرشيدة لأن الإمام(عجل الله فرجه) هو

ص: 393


1- الاحتجاج للطبرسي/2 ص 322.

الذي أمر باتباع الفقهاء العدول وجعل الراد عليهم كالراد على المعصومين وهو كالراد على الله تبارك وتعالى لأن المجتهدين العدول هم نواب الإمام بالنيابة العامة لا النيابة الخاصة بتعيين الإمام(عجل الله فرجه) لأن كل من ادعاها بعد السفراء الأربعة فهو كذاب.

من أجل التعبئة للإمام المهدي (عجل الله فرجه):

ومن أجل تعبئة القواعد المؤمنة بقضية الإمام المهدي(عجل الله فرجه) لهذا الهدف المبارك، عليهم أن ينظموا أنفسهم في تجمعات وكيانات تغطي النشاطات المختلفة في مواجهة التحديات العديدة، فقد يرى البعض أن يؤسس جمعية خيرية لمساعدة الأيتام والأرامل والمحتاجين.

وآخرون ينظمون مؤسسة اجتماعية لتشجيع الزواج وتذليل صعوباته والإصلاح بين المتخاصمين والمختلفين.

وآخرون ينشؤون مركزاً ثقافيا ينشر الخطابات والإصدارات الواعية ويقيم دورات تقوية للطلبة الأكاديميين خصوصا للصفوف المنتهية ويفتح دورات لتعليم الكومبيوتر والانترنيت.

وقد يرى البعض الذين يعيشون في مناطق يسخن فيها الإرهاب والفساد والظلم أن يكوّنوا مجاميع مسلحة لدعم المجهود الحكومي في ردع هؤلاء المجرمين وتخليص الأمة من هذا الداء المستشري.

وقد أوعزتُ لمكاتب حزب الفضيلة الإسلامي أن تعتبر كل هذه التشكيلات وحدات تنظيمية تابعة له وتتمتع بامتيازات مجاميع الحزب من حيث الترشيح للمناصب العليا.

ص: 394

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين

اشارة

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين(1)

أصحاب القائم (عليه السلام):

ورد في الروايات أن أصحاب الإمام المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) الذين يبدأ بهم حركته المباركة هم ثلاثمائة وثلاثة عشر كما روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: (يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء الله أن يقيم)(2).

وفي حديث عن أمير المؤمنين(علیه السلام) جاء فيه (... وبقي المؤمنون، وقليل ما يكونون ثلاث مائة أو يزيدون)(3).

أين المشكلة؟

ومثل هذه الروايات تدفعنا إلى السؤال بتعجب: ألا يوجد في هذه الملايين من الموالين لأهل البيت(علیه السلام) ثلاثمائة وثلاثة عشر ممن يقتنع بهم الإمام(علیه السلام) لينطلق بحركته المباركة خصوصاً وإنهم يمتلكون السلطة والنفوذ في أكثر من دولة ويرفعون فيها شعار طاعة المرجعية الدينية وولاية الفقيه النائب عن الإمام(علیه السلام)؟! فأين المشكلة؟

ص: 395


1- من حديث سماحة الشيخ مع وفد من مدينة الحلة يوم 16/ع1 ووفود من الناصرية وطلبة مدينة تلعفر المهجرين إلى جامعة الكوفة وكلية الهندسة في جامعة البصرة يوم 18/ع1/ 1428المصادف 7/ 4/ 2007 .
2- الغيبة للطوسي: 477، ح502.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 52/ 137.

والجواب توضّحه الروايات فقد روى جابر الجعفي قال: (قلت لأبي جعفر(علیه السلام) متى يكون فرجكم؟ فقال: هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا يقولها ثلاثاً حتى يذهب الكدر ويبقى الصفو)(1).وعن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: (كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى، ولا علم، يبرأ بعضكم من بعض فعند ذلك تمي-َّزون وتمحص-َّون وتغربلون .. إلخ)(2).

وشبّه الإمام الباقر(علیه السلام) هذه الصفوة المنتجبة بطعام في بيت (فأصابه آكل – أي تسوّس- فنقّي ثم أصابه آكل فنُقّي حتى بقي منه ما لا يضرُّه الآكل، وكذلك شيعتنا يُميَّزون ويُمحصَّون حتى يبقى منهم عصابة لا تضُّرها الفتنة)(3).

الإخلاص شرط النهوض:

فلا زالت سنة التمحيص والغربلة جارية حتى يثبت المخلصون وقليلٌ ما هم، من لدن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى اليوم والشواهد كثيرة، فرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الذي عاش بين أظهرهم (23) سنة يبلغهم رسالات ربهم ويخبرهم بما في خلجات أنفسهم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى من لدن ربهم الذي هو أقرب إليهم من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به أنفسهم، ولم يردعهم ذلك عن قول (إن الرجل ليهجر) حينما طلب منهم قرطاساً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلَّوا من بعده أبداً، وانقلبوا على الأعقاب ولم يستجب لدعوة أمير المؤمنين(علیه السلام) لنصرته واسترداد حقه إلا عدد الأصابع.

ص: 396


1- الغيبة للطوسي: 339، ح278.
2- كمال الدين: 348 ، ح 36.
3- غيبة النعماني: 211، باب 12 ، ح 18.

والإمام الحسن(علیه السلام) اضطر إلى مهادنة معاوية بعد فشل أصحابه في الثبات على الحق والإمام الحسين(علیه السلام) لم يثبت معه إلا سبعون من هذه الدنيا الواسعة، ورغم أنه عبّأ لحركته بمختلف الوسائل حيث أقام عدة أشهر في مكة والتقى بوفود مختلف المدن وبعث بالرسائل إلى الوجوه وكانت حركته معلنة وواضحة حتى قال(علیه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون).ولقي عباد البصري علي بن الحسين(علیه السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} فقال الإمام(علیه السلام): أتم الآية ، فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} إلى قوله تعالى {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فقال الإمام(علیه السلام) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج(1).

هذه اللوعة وهذا الألم من قلة المخلصين عبّر عنه الإمام الصادق(علیه السلام) في كلامه مع سدير الصيرفي حين دخل على الإمام(علیه السلام) (فقال: يا أبا عبد الله ما يسُعُك القعود، فقال(علیه السلام): ولِمَ يا سدير، فقال: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك، فقال(علیه السلام): يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قال: مائة ألف فقال الإمام(علیه السلام) مستغرباً: مائة ألف، قال: نعم ومائتي ألف،

ص: 397


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 12، ح3.

فقال(علیه السلام) له: لو كان عندي عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في بدر لنهضت)(1).وهكذا تستمر الشواهد إلى أن نصل إلى عصرنا الحاضر وقد ذكرنا في حديث سابق ألم وأسف الشهيد الصدر الأول(قدس سره) قبيل استشهاده والشهيد الصدر الثاني(قدس سره) بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991.

أزمة الإخلاص في حديث الشهيد الصدر (قدس سره):

إن الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم، والانخراط في العمل الاجتماعي، ونشر الوعي الإسلامي، الذي قادته الحركة الإسلامية في العراق وغيره.

ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى؛ لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب، والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهاد النفس، فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} الكهف:104.

وقد أولى السيد الصدر الثاني(قدس سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً، وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد

ص: 398


1- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 329.

الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، وقال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)(1).ومن كلماته(قدس سره) في هذا المجال: (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد، أو قل: اهتمامه بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس، مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة، أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه، ما لم تدركه رحمة الله عز وجل، أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه، وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا... وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية)(2).

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول(قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية: (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجارب السابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه، ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

ص: 399


1- معاني الأخبار: ص160.
2- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشر في كتاب (الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) كما أعرفه): ص297.

ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول(قدس سره): أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق، ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج.ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس، ونور القلب، وعمق الإخلاص، وقوة الإرادة، وعفة الضمير، لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد:38)، ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى {الذِينَ إنْ مَكّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوا الزَكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41)، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير)(1).

الطمع وحب الدنيا في العمل السياسي:

والذي يراقب عمل المتصدين اليوم في الحكومات التي ترفع لواء التشيع والولاء للإمام(علیه السلام) (فضلا عن غيرهم) يصل إلى نفس النتيجة، فقد طغى حب الدنيا وقست القلوب {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُحَّ} وشيئاً فشيئاً سقطوا في الفتنة، وتخلّوا عّما تعلمّوه من أهل البيت(علیه السلام)، ولم يتورعوا عن ارتكاب المحرمات حتى ولغوا في الدماء التي شدّد الله تبارك وتعالى في حرمتها حتى جعلها اشد من حرمة الكعبة! ومن أجل ماذا؟ من أجل دنيا زائفة سمّوها مصالح عليا.

ص: 400


1- الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) كما أعرفه: ص302.

ولا زال دم العراقيين الأبرياء ينزف لأنه أريد له أن يكون كبش فداء لهذه المصالح العليا لمن يرفعون لافتات الإسلام في العراق ودول الجوار، ولا أعلم شيئا عند الله أكرم من الإنسان الذي خلق كل ما في الدنيا من أجل كماله ورقيه وسعادته.إن الإمام المهدي (سلام الله عليه) بمرأى وبمسمع من كل هذه الأفعال بنص الآية الشريفة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة105) حيث تعرض أعمال العباد عليه لأنه حجة الله على خلقه.

قد يقال أن هذا الكلام يزرع اليأس في قلوب الناس وأنا أقول العكس فإنه: يزرع الأمل ويدفعنا للعمل لنكون من تلك القلّة التي حماها الله تبارك وتعالى من الوقوع في الفتنة حتى تشملها ألطاف صاحب العصر(علیه السلام) وتحظى برضاه ونكون ممن يمهّد لدولته المباركة، ونزداد بذلك شكراً الله تبارك وتعالى.

وإنه يحذّر الأمة من الوقوع في شراك الشعارات البراقة فيجعلها الآخرون وقوداً يحترق لتستمر ماكنة مصالح أولئك الآخرين بالعمل فينالون بذلك خزي الدنيا وعذاب الآخرة ويكونون من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة الذين باعوا دينهم لدنيا غيرهم كما في الحديث الشريف.

وإنه يخفّف عن الرساليين العاملين حين يطمأنون بأن ما يجري خاضع لسنة الله في خلقه {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر43) وليتيقنوا أن المعيار الحقيقي هو بناء الإنسان الصالح المخلص وليس ما يلهث وراءه الآخرون من دنيا زائلة وإن رفعوا شعارات برّاقة.

العدو الحقيقي:

إن الاحتلال والإرهاب وغيرهما أعداء حقيقيون لكنهم واضحون، والأخطر منهم عدو خفي يكمن في النفوس الأمارة بالسوء ولذا سمّى النبي(صلی

ص: 401

الله علیه و آله و سلم) مواجهته بالجهاد الأكبر، فلا يحق لإنسان يطمح إلى الكمال أن ينشغل بذاك عن هذا.وليعلم السبب الحقيقي الذي يعطّل حركة الأئمة نحو بناء المجتمع الذي يقوم على أساس الحق والعدل، أما الأعداء الآخرون فهم كما وصفهم الله تبارك وتعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت41).

ص: 402

المعنى الإيجابي لانتظار الإمام (عليه السلام)

اشارة

المعنى الإيجابي لانتظار الإمام (عليه السلام)(1)

الحمد لله وحده، والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الزاد الكافي لاستقامتنا:

قال الله تبارك وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197) وقد كان شهر رمضان محطة مباركة للتزود بخير الزاد ليوم المعاد وهي التقوى، بل أن تحصيل التقوى هي الحكمة من تشريع الصوم؛ قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ما أمدّنا به من الزاد كافياً لاستقامتنا على الحق في مستقبل أيامنا.

المعنى من انتظار الفرج:

وردت أحاديث كثيرة(2) في فضل انتظار الفرج منها ما روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) وروي عنه(صلی الله علیه

ص: 403


1- خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد عام 1429 المصادف 1/ 10/ 2008. وقد دأب سماحته على إقامتها في داره حيث يحتشد المئات وتمتد صفوفهم إلى الشارع والساحة المتصلة به.
2- جُمعت من مصادرها في كتاب المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي(عجل الله فرجه)، الفصل 15، صفحة 413 وما بعدها.

و آله و سلم): (أفضل العبادة انتظار الفرج) وعن أمير المؤمنين(علیه السلام): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله).

الفهم السلبي لمعنى انتظار الفرج:

وقد فهم الكثيرون من هذه الأحاديث معنىً سلبياً هو الانكماش والعزلة وعدم التحرك لإزالة الظلم والانحراف وتذرّعوا لذلك بفهم غير ناضج لبعض المفاهيم كالتقية ولبعض الأحاديث الشريفة كروايات (كل راية قبل ظهور القائم فهي راية ضلالة)، فعطّلوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما أوجب اتهام الشيعة بالخنوع والاستسلام والركون للظلم والذل، مع أن واقع مدرسة أهل البيت(علیه السلام) على عكس ذلك تماماً فهي التي تتصف بالحركية والنطق بالحق والتفاعل مع قضايا الأمة ابتداءً من زمن المعصومين(علیه السلام) حتى عصرنا الحاضر ولم تتخلف عن ذلك إلا فترات بسيطة لسبب أو لآخر. بينما كان الآخرون منساقين وراء رغبات الحكّام سائرين في ركابهم حتى بدأ عندهم الوعي الإسلامي منذ أقل من قرنين من الزمان وسمّوه بالصحوة الإسلامية، ولا يخلو التعبير بالصحوة من إشارة إلى حالة سابقة من الخمول والركود.

الانتظار الإيجابي:

إن الانتظار حالة إيجابية وهو يستبطن عملياً معنى الاستعداد ولو لم يكن كذلك لما حظي بالمنزلة الرفيعة في الأحاديث المتقدمة. ولنأخذ أمثلة من حياتنا على هذا المعنى.

فحينما نقول أننا ننتظر الامتحانات العامة فإن هذا يعني أن يكون الطلبة في

ص: 404

ذروة الاستعداد لها فيجدّون ويجتهدون ويوفّر لهم ذووهم كل الظروف التي تساعدهم على تحقيق أفضل النتائج، وتنهمك إدارات المدارس في إعداد القاعات والأسئلة والمشرفين وغيرها، وهكذا تجد كل من له علاقة بالموضوع منهمكاً في أداء عمله وما تقتضيه وظيفته.وحينما تنتظر دولة إقامة فعالية ضخمة كدورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت قبل أسابيع في الصين فتجد الدولة كلها مستنفرة في الاستعداد لإقامتها بأحسن حال وتنفق الحكومة المليارات في بناء الملاعب والفنادق وتهيئة المدن وغيرها، وهذا كله مع أن كثيراً من هذه الألعاب عبارة عن سراب يحسبه الظمآن ماءً أو أوهام صنعها الإنسان ليخدع بها نفسه وتتضمن كثيراً من المعاصي زيّنها لهم الشيطان: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ..} (الأنفال:48) {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم:22).

أقول: إذا كانت الأوهام الباطلة تستحق كل هذا الاستعداد وتحشيد الطاقات وإنفاق الأموال الطائلة، فماذا يعني انتظار اليوم الموعود وأمل الإنسانية الذي لا يعني فقط انتظار إمام عظيم هو بقية الله في أرضه وحجته على عباده -- وهذا بحد ذاته يتطلب استعدادات ضخمة- ، بل يعني إضافة إلى ذلك انتظار مشروع عظيم مبارك يتوّج جهود الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين ويحقق الوعد الإلهي بإقامة دولة الحق والعدل ومحق الفساد والانحراف والظلم.

لا شك أن استقبال قائد عظيم كالإمام (أرواحنا له الفداء) ومشروع خالد كدولته المباركة يستحق منا شيعته التوّاقين لرؤية طلعته المباركة ونصرته والكون في

ص: 405

طليعة جنده أن نستعد بحسب ما تقتضيه وظيفتنا وموقعنا.فالحوزة العلمية والفضلاء والمبلغون ينتشرون في كل ناحية لنشر تعاليم الدين والأخلاق الفاضلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يساعدهم في ذلك الشباب الواعي الرسالي مستفيدين من وسائل الاتصال المتقدمة وشبكات الإنترنت لإيصال صوت أهل البيت(علیه السلام) إلى كل مكان في العالم.

والمتصدّون للحكم يبذلون قصارى جهودهم في بناء دولة المؤسسات المزدهرة المتحضرة التي تسودها العدالة والإنصاف والرحمة وبذل الوسع في خدمة الناس وإسعادهم.

والطلبة يجدّون ويجتهدون لبناء مجتمع يمتلك الطاقات المبدعة القادرة على الإعمار والبناء في كل نواحي الحياة ويُغَطّون مختلف الاحتياجات.

والأغنياء والمتمولون ورجال الأعمال يكثّفون جهودهم في الاستثمار لإعمار الحياة وتهيئة أسباب السعادة للناس وخلق فرص العمل وتفجير الطاقات وتشغيل العاطلين ويساهمون في دعم هذه الحركة المباركة، وهكذا.

الأغلال الفكرية:

إن الفهم الخاطئ لفكرة الانتظار والتقية والعزلة وغيرها تُعدُّ من الأغلال الفكرية التي تقيّد حركة الإسلام المباركة مضافاً إلى القصور والتقصير الذاتيين، وما لم نحطّم الأغلال ونكسر القيود فإننا لا نستطيع أن نتحرك، وما بِعثة الأنبياء والرسل (صلوات الله عيهم أجمعين) إلا لكسر هذه القيود وتحرير الإنسان من الأغلال الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعيق حركته(1)، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ

ص: 406


1- صدر تحت إشراف سماحة الشيخ إبان الحكم الصدامي المقبور كتاب ضمن سلسة (نحو مجتمع نظيف) عنوانه (كونوا أحراراً) يتضمن دراسة تحليلية لهذه الأغلال وكيفية التخلص منها.

الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).تصور لو أن إنساناً مكبلاً بالحديد في يديه ورجليه وهو في سجن محكم وأننا نطلب منه النهوض والحركة والتخلص من سجنه والإفلات من سجّانه، أترى يستطيع ذلك من دون أن يكسر هذه القيود ويفكّ هذه الأغلاق ولو بمساعدة الآخرين؟ والتأريخ يروي لنا عن أشخاص -- كأحد زعماء مشركي قريش -- طُلب منه -- حين الاحتضار -- أن يقول كلمتين ما أيسرهما (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فلم يقدر وقال: إنهما أثقل من الجبال على صدري. لأنه مكبّل بالموروثات الاجتماعية التي تمنعه من مخالفة طريقة الآباء.

هكذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي سلم الكمال ويستجيب لدعوة الله تبارك وتعالى ورسوله إلا عندما يتحرر من هذه الأغلال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).

الحياة الطيبة بالإيمان والعمل:

فما هي هذه الحياة التي يدعونا الله تبارك وتعالى إليها؟ وما هي صفتها؟ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97).

ص: 407

أيها الأحبة:

إذن أساس الحياة الطيبة والانتظار والاستعداد لليوم الموعود الذي يؤسس هذه الحياة الطيبة ركنان: الإيمان المبني على العلم والمعرفة، والعمل الصالح المبني على التقوى؛ ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره).

ولا يخفى ما في جواب الإمام(علیه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.

لقد قلنا في خطاب سابق أن الفرج والظهور يبدآن بالإشراق من داخل النفس كلما ازدادت تهذيباً وكمالاً ومن دون انبلاج فجر حقيقة الإيمان في القلب وطهارة النفس فإن الشخص سوف لا يتنعم بالظهور الميمون وقيام الدولة المباركة والعياذ بالله.

ص: 408

في ذكرى ولادة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

اشارة

في ذكرى ولادة الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(1)

احذروا أن تخسروا الكمالات:

استقبل سماحة الشيخ (دام ظله) للأيام من 13 ولغاية 15 من شعبان حشوداً من المؤمنين المشاركين في زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) ليلة النصف من شعبان وهنّأهم على هذه المنقبة العظيمة التي وُفّقوا لها، والألطاف الإلهية التي فازوا بها، ودعاهم إلى الاحتفاظ بالآثار المعنوية والتكامل الذي حصلوا عليه ليمدّهم بالطاقة الإيمانية لما يأتي من الأيام، وليس صحيحاً أن تزول هذه الآثار بمجرد العودة فهذه استفادة ناقصة وإنما تكون تامة إذا استمر هذا التأثير كما ورد عمّن سأل الإمام الصادق(علیه السلام) قال: كيف أعرف أن صلاتي مقبولة قال(علیه السلام): (إذا نهتك عن الفحشاء والمنكر فمقدار قبولها بمقدار نجاحها في إيجاد هذا التغيير).

على انه مما يؤسف له أن كثيراً من الزائرين لم يعرف حق الزيارة ولا أهدافها فتجد كل همه أن يظهر ولاءه لزعيم سياسي أو ديني ويقدس صورته ويرفعها في كل مكان، وآخرون أمضوا وقتهم في بعض المظاهر الاحتفالية الخارجة عن الحد الشرعي فأضاعوا على أنفسهم هذه الفرصة العظيمة للطاعة.

ص: 409


1- نشر في الصفحة الثانية من صحيفة الصادقين في عددها ال-(32) الصادر بتأريخ 25 شعبان 1426 الموافق 29 أيلول 2005.

وجههوا آمالكم لله تعالى:

وقال سماحته تعليقاً على فعّالية فرح أقامها المحتشدون لزيارة سماحته بذكرى ميلاد الإمام(علیه السلام) وأعقبها مشاركة حزن لما تتعرض له الأمة من قتل وانتهاك وظلم وهضم حقوق، أنه من حقكم أن تفرحوا بهذه المناسبة ليس انتم فقط معاشر شيعة أهل البيت(علیه السلام) بل كل البشرية التي تنشد العدالة والسعادة والرفاه والحرية بعد أن سأمت حياة النكد والظلم والاضطهاد والاستكبار في ظل الأيدلوجيات والنظم الأرضية، وكلمّا تصّورت أن هذا النظام سينقذها وإذا به أسوأ من سابقه ففقدت الأمل في اليوم السعيد وهو ما عبر عنه الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم(علیه السلام): {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآَفِلِينَ، فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:7679) وهكذا البشر على مرّ التأريخ كلما علق أمله بشيء دون الله تعالى ظهر فشله وعجزه وبقيت الآمال اليوم متعلقة بالله تعالى أن ينقذ البشرية بالمصلح الأعظم.

الفرح والحزن في ذكرى ولادة منقذ البشرية:

وتمتزج هذه الفرحة التي نحياها بالحزن الذي نعيشه بسبب ما نفقده من أحبة وأعزاء وأبرياء بفعل الإرهاب الأعمى، والطائفية المقيتة والإجرام الصدّامي، وبسبب الظلم الذي نتعرض له من الإخوة والأعداء على حد سواء ولا نقوم من فجيعة حتى تأتينا أخرى {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}

ص: 410

(التوبة:10) كما وصفهم الله تعالى، يذبحون الناس على هوية التشيع لآل البيت(علیه السلام)، ويقتلون صاحب محل لبيع اللحوم لأن عنوانه (محل الزهراء)، ويقتلون آخر لأنه يعلق صورة رمزية لأمير المؤمنين أو الإمام الحسين(علیه السلام) كما اعترفوا وأقرّوا بجرائمهم الفظيعة.فهذا الامتزاج بين الفرح المشوب بالحزن هي شيمة هذه الحياة الدنيا على الدوام، فلا يجوز للعاقل أن يغترّ بها ويركن إليها وعليه أن يبقى متوجهاً إلى هدفه الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى، قال الإمام الحسين(علیه السلام): (الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال متقبلة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته).

ولنتعظ بمصير السابقين فقد كانوا أكثر أموالاً وجنداً وطغياناً كصدام ومن شابهه حيث كانت تحيط به عساكر تعدّ بالملايين ويتحكم بمليارات الدولارات من ثروة العراق كيف صار مصيره إلى حفرة كالجرذان أخرج منها ذليلاً.

ص: 411

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام المهدي (عليه السلام)

اشارة

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام المهدي (عليه السلام)(1)

الخبايا المدخرة لعصر الظهور:

هذه أيام مباركة شهدت بدء الإمامة الفعلية لإمامنا صاحب العصر والزمان(عجل الله فرجه) وقيامه بالأمر بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري في الثامن من ربيع الأول، وبهذه المناسبة نذكر رواية من أخبار دولته المباركة.

فعن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل ذهب)(2)، وفي بعض الروايات (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب)(3).

ومفاد هذه الروايات انه في عصر الظهور يكشف الفرات عن كنوز، والفرات كناية عن العراق لأنه النهر الأشهر كما يعبّر عن مصر ببلاد النيل ونحوه.

وقد فسّرتُ الكنوز بالأنصار الصالحين المخلصين للإمام(علیه السلام) لأن سياق الحديث واضح أن المراد بالكنوز شيء معنوي وليس مادياً(4).

ص: 412


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الأطباء وفدوا لزيارة سماحته والاستماع إلى توجيهاته من عدة محافظات يوم الجمعة 10/ع1/ 1433 المصادف 3/ 2/ 2012.
2- مجموعة ورام: ج1 ص76.
3- البخاري, ج9 ص73، ومسلم ج 8 ص175.
4- أنظر الغيبة الكبرى للسيد الشهيد محمد الصدر، في الأمر الثامن: أنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب: ص411 وما بعدها.

قصة الغلام مع نبي الله عيسى(عليه السلام):

ووجدت في الأخبار ما يؤيد ذلك ففي كتاب البحار (أن عيسى(علیه السلام) كان مع بعض الحواريين في بعض سياحته ، فمروا على بلد، فلما قربوا منه وجدوا كنزا على الطريق، فقال من معه: ائذن لنا يا روح الله أن نقيم ها هنا ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع، فقال(علیه السلام) لهم: أقيموا ها هنا وأنا أدخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلما دخل البلد و جال فيه رأى دارا خربة فدخلها فوجد فيها عجوزة، فقال لها: أنا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار أحد غيرك؟ قالت: نعم لي ابن مات أبوه وبقي يتيما في حجري، وهو يذهب إلى الصحارى ويجمع الشوك ويأتي البلد فيبيعها ويأتيني بثمنها نتعيش به، فهيأت لعيسى(علیه السلام) بيتاً، فلما جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفا صالحا، يسطع من جبينه أنوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى(علیه السلام) وخدمه وأكرمه فلما كان في بعض الليل سأل عيسى (علیه السلام) الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرس(علیه السلام)(1) فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقي على مدارج الكمال ، لكن وجد فيه أن قلبه مشغول بهم عظيم، فقال له: ياغلام أرى قلبك مشغولا بهم لا يبرح فأخبرني به لعله يكون عندي دواء دائك، فلما بالغ عيسى(علیه السلام) قال: نعم في قلبي هم وداء لا يقدر على دوائه أحد إلا الله تعالى، فقال: أخبرني به لعل الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: إني كنت يوما أحمل الشوك إلى البلد فمررت بقصر ابنة الملك فنظرت إلى القصر فوقع نظري عليها فدخل حبها شغاف(2) قلبي وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى(علیه السلام): إن كنت تريدها أنا أحتال لك حتى

ص: 413


1- الفراسة: التثبت والنظر والتأمل للشيء والبصر به، وتفرس في الشيء: توسّمه. (لسان العرب 10: 221).
2- غلاف القلب. (لسان العرب7: 146).

تتزوجها، فجاء الغلام إلى أمه وأخبرها بقوله ، فقالت أمه: يا ولدي إني لا أظن هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له وأطعه في كل ما يقول، فلما أصبحوا قال عيسى(علیه السلام) للغلام: اذهب إلى باب الملك، فإذا أتى خواص الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه قل لهم: أبلغوا الملك عني أني جئته خاطبا كريمته، ثم ائتني وأخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فأتى الغلام باب الملك، فلما قال ذلك لخاصة الملك ضحكوا وتعجبوا من قوله ودخلوا على الملك وأخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلما دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئا به: أنا لا أعطيك ابنتي إلا أن تأتيني من اللآلي واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا، ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك من ملوك الدنيا، فقال الغلام: أنا أذهب وآتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى(علیه السلام) فأخبره بما جرى، فذهب به عيسى(علیه السلام) إلى خربة كانت فيها أحجار ومدر كبار(1)، فدعا الله تعالى فصيرها كلها من جنس ما طلب الملك وأحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما أتى الملك بها تحير الملك وأهل مجلسه في أمره، وقالوا لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى(علیه السلام) فأخبره، فقال: اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد واذهب بها إليهم، فلما رجع بأضعاف ما أتى به أولا زادت حيرتهم، وقال الملك: إن لهذا شأناً غريباً ، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فأخبره بكل ما جرى بينه وبين عيسى(علیه السلام) وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك أن الضيف هو عيسى(علیه السلام)، فقال: قل لضيفك: يأتيني ويزوجك ابنتي، فحضر عيسى(علیه السلام) وزوجها منه، وبعث الملك ثيابا فاخرة إلى الغلام فألبسها إياه وجمع بينه وبين ابنته تلك الليلة، فلما أصبح طلب الغلام وكلمه فوجده عاقلا فهما ذكيا ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة فجعل الغلام

ص: 414


1- المدر: قطع الطين اليابس. (لسان العرب 13: 53).

ولي عهده فلما كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة وأجلسوا الغلام على سرير الملك وأطاعوه وسلموا إليه خزائنه، فأتاه عيسى(علیه السلام) في اليوم الثالث ليودعه، فقال الغلام: أيها الحكيم إن لك علي حقوقاً لا أقوم بشكر واحد منها لو بقيت أبد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة أمر لو لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء مما حصلتها لي، فقال: وما هو؟ قال الغلام: إنك إذا قدرت على أن تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى تلك الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، وأراك في تلك الثياب وفي هذه الحالة فلما أحفى(1) في السؤال قال له عيسى(علیه السلام): إن العالم بالله وبدار كرامته وثوابه والبصير بفناء الدنيا و خستها ودناءتها لا يرغب إلى هذا الملك الزائل وهذه الأمور الفانية، وإن لنا في قربه تعالى ومعرفته ومحبته لذات روحانية لا نعد تلك اللذات الفانية عندها شيئاً، فلما أخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الآخرة ودرجاتها قال له الغلام: فلي عليك حجة أخرى لم اخترت لنفسك ما هو أولى وأحرى وأوقعتني في هذه البلية الكبرى؟ فقال له عيسى: إنما اخترت لك ذلك لامتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الأمور الميسرة لك أكثر وأوفى، وتكون حجة على غيرك، فترك الغلام الملك، و لبس أثوابه البالية، وتبع عيسى(علیه السلام) فلما رجع عيسى إلى الحواريين قال: هذا كنزي الذي كنت أظنه في هذا البلد فوجدته. والحمد لله).(2)

لنكن من هذه الكنوز:

أقول: حينما سرّدت هذه الرواية لا أريد منها تحبيب العزلة والترهب لأنها أمور مذمومة في الإسلام وإنما أريد أن نزيد همّتنا لنكون من هذه الكنوز التي ينتقيها الإمام

ص: 415


1- أحفاه في المسألة: ألح عليه في المسألة: (لسان العرب3: 250).
2- بحار الأنوار: 14/ 280- 282.

ويصطفيها لنفسه ويجعلها من خاصّته، وهذا أمرٌ في متناول كل أحد، إذا صدق في إيمانه وبذل السعي المناسب للهدف وأدركته الألطاف الإلهية قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} (الإسراء/19) كمن يريد أن يصبح طبيباً فإنه لابد أن يبذل السعي المناسب فيتفوق في دراسته الإعدادية ويحصل على معدلٍ عالٍ ثم يدرس في كلية الطب ويتابع بقية السعي حتى نهايته.

الطريق الموصل الى الله تعالى:

ولا نتصور أن السبيل الموصل إلى الله تعالى منحصر بالعبادات المتعارفة كالصلاة والصوم والحج والزيارة، بل يُفهم من الأحاديث الشريفة أنه يوجد ما يمكن أن يكون أسرع في طي مراحل التكامل، قال الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): (ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله)(1) فالعبادة أن تشعر وتحسّ بوجدانك أن الله تبارك وتعالى حاضر عندك مطّلع عليك أقرب إليك من حبل الوريد يحنو ويشفق عليك ويحبّك ويداريك ويدفع عنك، ولازم ذلك أن تفعل كل ما يحبّبك إليه ويقرّبك منه وأن تتعرف إليه تبارك وتعالى أكثر وأكثر وتفهم حقائق أسمائه الحسنى وتسعى لتحقيق تلك الصفات في حياتك كالرحمة والعفو والعلم والكرم وغيرها.

قال رجل للصادق(علیه السلام): (يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال:

ص: 416


1- تحف العقول: 488.

فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال:نعم، قال الصادق(علیه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلي الإغاثة حيث لا مغيث)(1).أقول: هذا التعلق بالله تبارك وتعالى واللجوء إليه يجب أن تستشعره دائماً وليس فقط في وقت الاضطرار، وهذه العلاقة الطيبة العامرة مع الله تبارك وتعالى هي حقيقة الدين لا الشكليات والمظاهر.

مصطلح المتدين:

وهنا أودّ الإشارة إلى مصطلح مبتدع تحوّل إلى ظاهرة لا تنسجم مع هذا الفهم لحقيقة الدين حيث أسيء استخدامه وهو عنوان (المتدين) وجعلوه مرادفاً لعنوان (المؤمن)، وهو غير صحيح، لأن عنوان المؤمن مصطلح قرآني تكرّر كثيراً يعبّر عن سلوك صالح وعقيدة صحيحة وأخلاق سامية، أما عنوان المتدين فيركّز على شكليات ومظاهر كإطلاق اللحية ومسك المسبحة ولبس الخاتم باليمين وأداء بعض الطقوس الدينية، وهذا كله من الشريعة بالتأكيد، لكن أن يكون هو المقياس بغّض النظر عن الجوهر وسلامة الباطن والاستقامة في التعامل مع الآخرين فهذا تديّن مزيّف روّج له من يريد خداع السذّج لتحقيق أجندات خاصة به والمتاجرة بالدين، حتى تحمّل الدين إساءات كثيرة بسبب تصرفات بعض المتديّنين.

ص: 417


1- البحار: ج3 ص41.

أعظم القربات الى الله تعالى:

ومن أعظم القربات إلى الله تعالى الإحسان إلى خلقه لأنهم عياله وصنيعته والإحسان إليهم إحسان إليه تبارك وتعالى، قال الإمام الحسن العسكري(علیه السلام): (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف... فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)(1).

ص: 418


1- البحار: ج71 ص414.

خصائص المستضعفين الذين يُمكَّن لهم في الأرض

اشارة

خصائص المستضعفين الذين يُمكَّن لهم في الأرض(1)

أنتم المستضعفون من بعدي:

لما عقد القوم العزم على الانقلاب على وصية رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في الخليفة من بعده وإقصاء أمير المؤمنين(علیه السلام)، وواجهوا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بذلك الكلام القاسي الذي فيه اعلان الحرب على الله تعالى ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم) عندما أراد أن يؤكد الوصية ويكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقال قائلهم (إن الرجل ليهجر)، جمع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أهل بيته خاصة وقال لهم (أنتم المستضعفون من بعدي) .(2)

وظاهر الحديث أنه إخبار بأمر محزن ومؤلم بأن زعماء الانقلاب سيظلمونهم ويعتدون عليهم بألوان الإيذاء، وفيه إشارة إلى أن فعل القوم سيشابه فعل فرعون في قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص/4)، واستشهد أمير المؤمنين(علیه السلام) بقول

ص: 419


1- من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الجمعيات الخيرية والثقافية في الكوت والزعفرانية في بغداد والغراف وطلبة كلية الطب في جامعة البصرة يوم الخميس 9/ج1/ 1434 المصادف 21/ 3/ 2013.
2- تفصيل الواقعة في بحار الأنوار: 22/ 469 عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى: 140143) و (الإرشاد:96100) وأورد الحديث الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/ 72 باب31 ح303.

هارون أخي موسى(علیه السلام) {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} (الأعراف/150) عندما أجبروه على بيعة أبي بكر فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله فالتفت إلى قبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وخاطبه بالآية الشريفة.

الوعد للمستضعفين بالنصر والتمكين:

ولكن للحديث معنىً آخر متفاءل فيه وعد بالنصر والتمكين واستعادة الحق لأهله، لأن وصف أهل بيته بالمستضعفين بل حصر الوصف بهم(علیه السلام) كما لا يخفى على المتأمل في الحديث، يجعلهم المقصودين بالآية الشريفة {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص/5) وقال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} (الأعراف137)

وكان الأئمة(علیه السلام) يبشرون شيعتهم بهذا المعنى، ففي معاني الأخبار للصدوق بسنده عن المفضّل قال سمعت أبا عبد الله يقول (إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) نظر إلى علي والحسن والحسين(علیه السلام) فبكى، وقال: (أنتم المستضعفون بعدي) قال المفضّل فقلت له: وما معنى ذلك يا ابن رسول الله قال معناه: أنكم الأئمة بعدي إن الله عز وجل

ص: 420

يقول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة)(1).وفي مجمع البيان.. صحت الرواية عن أمير المؤمنين علي(علیه السلام) أنه قال (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها -- أي امتناعها -- عطف الضروس على ولدها، ثم تلى الآية.

وقال سيد العابدين علي بن الحسين(علیه السلام): (والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، ان الأبرار منا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه)(2).

فالخصم قد تكون له جولة يغلب فيها ويحكم قبضته على أولياء الله تعالى، ويستضعفهم ولكن الدولة والنصر والغلبة يكون في النهاية لأهل البيت(علیه السلام) وشيعتهم ويذهب ما سواه جفاءاً كالزبد.

معنى المستضعفين:

وإنما سموا مستضعفين لأن أعدائهم يتوهمون فيهم الضعف فيستكبرون عليهم ويظلمونهم، وهم ليسوا ضعفاء، لكن لهم دين وورع وأخلاق وخوف الله تعالى يمنعهم عن اتباع أساليب المكر والخداع لتحقيق مآربهم، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال (ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً)(3).

ص: 421


1- معاني الأخبار: 79 باب31 ح1.
2- مجمع البيان: 4/ 375.
3- نهج البلاغة، الخطبة 192.

وعنه(علیه السلام) قال: (كان لي فيما مضى أخ في الله وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد)(1).

خصائص المستضعفين:

هذا ولكن علينا أن نأخذ قضية تمكين شيعة أهل البيت(علیه السلام) ومواليهم وسائر القضايا بحدودها وشروطها ونضعها في موضعها الصحيح من المنظومة الإسلامية، فإن مجرد دعوى الانتساب إلى مدرسة أهل البيت(علیه السلام) وانتحال صفة التشيّع لا يجعل صاحبها موعوداً بالنصر والتمكين، لأن الذين وُعدوا بذلك لهم خصائص وخصال يجب أن تتوفر فيهم ذكرتها الآية الشريفة، قال تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج/39).

ثم قال تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج/41).

فتمكينهم في الأرض تكون له بركات وآثار تكشف عن صدق نياتهم وإخلاصهم في أهدافهم وثباتهم على الاستقامة التي أمرهم الله تعالى بها وعدم انخداعهم بالدنيا البرّاقة التي تتزيّن لهم إذا مُكّن لهم في الأرض وهذه الخصائص هي:

1. (أقاموا الصلاة) فهم لا يكتفون بأداء الصلوات المفروضة عليهم كتكليف شخصي، وإنما يبذلون جهدهم لحث الناس جميعاً على الالتزام بها والمواظبة عليها وجعل الصلاة كياناً اجتماعياً مؤثراً في حياة الناس

ص: 422


1- نهج البلاغة، الحكمة 289.

ورادعاً لهم عن الفحشاء والمنكر ويشعر الجميع بمسؤوليتهم عن إقامته والمحافظة عليه، وأوضح مصداق لهذا الكيان صلاة الجمعة التي لا تؤدّى إلا جماعة وبحضور امة كبيرة من الناس مما يجعل لها كياناً مؤثراً في حياتهم، وهذا ما جرّبه المجتمع العراقي عندما أقيمت فيه صلاة الجمعة المباركة.2. (وآتوا الزكاة) بأن أخرجوا ما في ذممهم من حقوق شرعية وأقنعوا الآخرين بفعل ذلك وحثّوهم عليه وساعدوهم في إيصال هذه الأموال إلى مستحقّيها وانشئوا بها المشاريع الاقتصادية التي تؤدي إلى رفاه الناس وتوفير فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لهم.

3. (وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) فلم يتركوا أهل المنكر يفعلون ما يشاؤون بل وعظوهم وزجروهم واتخذوا الإجراءات الكفيلة بردعهم حتّى لو اقتضى الأمر معاقبتهم، ولم يجاملوا أو يداهنوا كما يفعل الكثير من المتصدين اليوم تحت عناوين مخادعة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة والحداثة والعصرنة والتقدم ونحوها من الخدع والأباطيل.

وأمروا بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعاً وعقلاً تعارف عليه الناس ونشروه بين الناس وعرّفوهم به وأيقظوهم من غفلتهم وأرشدوهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم وعلموهم أحكام الدين وفضائل أهل البيت(علیه السلام) ومناقبهم وسيرتهم العطرة.

هؤلاء هم ينصرهم الله تعالى ويعزّهم ويؤيدهم ويمكن لهم في الأرض، وليس من أشارت إليهم آية أخرى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي

ص: 423

الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد:2223).كالذي نشهده اليوم من تخلّي الكثيرين ممن وصل إلى السلطة تحت عناوين إسلامية عن أهدافهم وشعاراتهم والخصائص التي أشرنا إليها، حتّى آل الأمر إلى هذا الواقع التعيس الذي نسمع عنه في بغداد وغيرها، وهذا كفر عظيم بالنعمة، ومن الغريب أن يفتتح مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013 فعالياته وهي حفلات غنائية تزامناً مع إحياء الموالين لذكرى استشهاد الصدّيقة الزهراء(س) وإقامة شعائرها المباركة.

ص: 424

مسؤولية الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام):

إن من أهم المسؤوليات التي يتحملها من ينتمي إلى مدرسة أهل البيت(علیه السلام) هو الإيمان بالإمام المهدي(عجل الله فرجه) والتفاعل مع قضيته واستشعار مراقبته ورعايته واطلاعه على أعمال العباد والعمل على تعجيل ظهوره الشريف وإقامة دولته المباركة.

ما الذي نفهمه من دعاء الفرج؟

وأشير هنا إلى واحدة من تلك المسؤوليات وهي ما ورد في الدعاء الشريف (اللهمّ كُنْ لِوليِّكَ الحجةِ بن الحسنِ صَلواتُكَ عَليهِ وعلى آبائِهِ) إلى أن يقول (حتى تُسكِنهُ أرضك طوعاً) أي طواعية وسلماً من دون قتال أو صعوبات أو معوقات. والدعاء عند أهل البيت ليس فقط كلمات تتلى للثواب وإنما هو وسيلة لإلقاء العلوم والمعارف إلى شيعتهم.

ويمكن أن نفهم هذه الفقرة بعدة أشكال:

1. الطلب من الله تبارك وتعالى أن يذلل للإمام (سلام الله عليه) السماوات والأرض والبحار فتكون في أوضاع مناسبة لحركته المباركة وأن توظف لخدمته وتكون عوامل مساعدة لعمله المبارك كما نصر الله تبارك وتعالى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في معركة بدر بألفٍ من الملائكة والنعاس والمطر والرعب في قلوب الكفّار؛ قال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ

ص: 425

أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 912) وكيف أرسل الله تبارك وتعالى الرياح العاتية على الأحزاب فقلّعت خيامهم وهزمتهم حتى انسحبوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب: 9).2. أن يمكّن المؤمنين من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة والحكم في البلاد التي ينطلق منها الإمام(عجل الله فرجه) لتأسيس دولته الكريمة وهؤلاء يهيئون تسليم الحكم للإمام(عجل الله فرجه) بكل طاعة وولاء أما إذا كانت بأيدي المنافقين والكفار والمعادين فإن الإمام سيبذل كثيراً من الجهد والتضحيات لفتح هذه البلاد، وقد وردت روايات تسمي فيها بعض القيادات الصالحة التي تلتحق بالإمام(علیه السلام) مع قواتها سلماً وتسلّم له القيادة في العراق في حين تحاربه جيوش من بعض الدول المجاورة وبعض المنافقين في هذه البلاد.

3. إن البشرية ستكون قريباً من الظهور مستعدة لاستقبال المصلح الموعود بسبب الأزمات الخانقة التي تعجز عن حلها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو عسكرية وغيرها فحينما تبلغهم دعوة الإمام(عجل الله فرجه) لإقامة الحق والعدل وسعادة البشرية وإنصاف المظلومين والمحرومين واجتثاث أصول الفساد فسينقادون إليه ويؤمنون به، ويساهم

ص: 426

السيد المسيح(علیه السلام) بدور فاعل في إذعان الأمم المسيحية للإمام المهدي(عجل الله فرجه)، بحسب ما ورد في الروايات.فكلّ من هذه المحاور يوجب تكليفاً بإزائه، فالشكل الأول يدعو إلى ديمومة الدعاء للإمام(عجل الله فرجه)، والشكل الثاني يدعو شيعة الإمام(عجل الله فرجه) التواقين لظهوره الميمون أن يزيدوا من خبرتهم في الإدارة والحكم وينظموا صفوفهم ويعبئوا طاقاتهم للوصول إلى هذه المواقع وبذل الوسع في النجاح في أداء مهامهم حتى يتمكنوا في الأرض وينجحوا ثم يسلّموا مقاليد الأمور إلى بقية الله الأعظم(عجل الله فرجه).

والشكل الثالث يقضي بأن لا يقصّر المؤمنون في عرض الإسلام النقي الأصيل كما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وآله الطاهرين(علیه السلام) على شعوب العالم وأن يبينوا لهم محاسنه ويرغبوهم بالدخول فيه ويشوّقونهم إلى اليوم الذي تسود فيه مبادئ الإسلام -- التي هي مبادئ الإنسانية -- الأرضَ كلها مستفيدين من وسائل الإعلام والاتصالات التي بلغت حداً عظيماً، ويشرحون لهم الحال المزرية التي أوصلتهم إليها أنظمتهم التي وضعها البشر بجهله وغروره من أمراض فتاكة كالآيدز ومن قلق ورعب ومستقبل مجهول وتفكك اجتماعي وضياع وأزمات اقتصادية وتلوث بيئة وغيرها من المشاكل المستعصية.

ص: 427

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.