الحِجَاجُ في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين عليه السلام

اشارة

العنوان: الحِجَاجُ في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين (عليه السلام) .

تأليف: د.عايد جدّوع حنّون

بيانات الطبعة: الطبعة الأولي.

بيانات النشر: النجف، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، 1438ه- - 2017م.

الوصف المادي: 376 صفحة.

سلسلة النشر: مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية.

ص:1

اشارة

بطاقة فهرسة

--------------------------------------------------------

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC: BP41. 7.H36 H5 2017

المؤلف الشخصي: حنّون، عايد جدّوع. مؤلف.

العنوان: الحِجَاجُ في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين (عليه السلام) .

بيان المسؤولية: تأليف: د.عايد جدّوع حنّون

بيانات الطبعة: الطبعة الأولي.

بيانات النشر: النجف، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، 1438ه- - 2017م.

الوصف المادي: 376 صفحة.

سلسلة النشر: مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية.

تبصرة عامة: أصل الكتاب أطروحة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها قدمت الي مجلس كلية التربية للعلوم الإنسانية في جامعة البصرة.

تبصرة ببليوغرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر: الصفحات (343-366).

موضوع شخصي: الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)، الإمام الثالث، 4-61 للهجرة - خطب.

موضوع شخصي: الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)، الإمام الثالث، 4-61 للهجرة - احتجاجات.

موضوع شخصي: الحسين بن علي الشهيد (عليه السلام)، الإمام الثالث، 4-61 للهجرة - كلمات قصار.

مصطلح موضوعي: الحوار في الأدب العربي.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم هيئة إضافي: العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية - جهةمصدرة.

--------------------------------------------------------

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (4317) لسنة (2017م)

ص: 2

الحِجَاجُ

في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين (عليه السلام)

تأليف:

د.عايد جدّوع حنّون

الإشرافُ العِلمِيُّ

مؤسسة وارث الأنبياء

للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

ص: 3

جميع الحقوق المحفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولي

1439ه- - 2018م.

إصدار

مؤسسة وارث الأنبياء

للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 5

تنويه: هذا الكتاب هو جزء من متطلبات نيل

شهادة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها وهي بعنوان:

الحِجَاجُ في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين (عليه السلام)

تقدم بها الطالب عايد جدّوع حنّون

تحت إشراف الاستاذ المساعد الدكتور حامد ناصر الظالمي

قدمت إلي مجلس كلية التربية للعلوم الإنسانية في جامعة البصرة

للسنة الدراسية: 1434ه- - 2013م

--------------------------------------------------------

مراجعة وتدقيق

اللجنة العلمية في قسم الرسائل الجامعية في مؤسسة وارث الأنبياء

د. الشيخ عبد الرحمن الربيعي، د. السيد محمد المدني، الشيخ فضيل الجزائري

--------------------------------------------------------

هوية الكتاب

عنوان الكتاب الحِجَاجُ في كَلامِ الإمَامِ الحُسَين (عليه السلام)

المؤلفد. عايد جدّوع حنّون

الإشراف العلمي اللجنة العلمية في مؤسسة وارث الأنبياء

الإخراج الفنيحسين المالكي

الطبعةالأولي

المطبعةدار المؤمن

سنة الطبع1439ه- - 2018م

عدد النسخ1000

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»

صدق الله العلي العظيم

(النساء: آية59).

«قال الإمام الحسين (عليه السلام): نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله (صلي الله عليه و آله) الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ثاني كتاب الله تبارك وتعالي، الذي فيه تفصيل كلّ شيءٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقائقه، فأطيعونا فإنَّ طاعتنا مفروضة أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة. قال الله عزّ وجلّ: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ)».

(الاحتجاج: 2/ 277؛ وينظر: مناقب آل أبي طالب: 4/74 ).

ص: 7

ص: 8

الإهداء..

إلي مَنْ رشف رحيق القرآن فصاحة إلهيّة

إلي مَنْ عبَّ من حلاوة الحديث بلاغة قدسيّة

إلي مَنْ غاص في بحار النهج فارتوي علماً وحلماً وشجاعة حيدريّة

إلي مَنْ تحدي الصعاب فتسلقها بنفسٍ أبيّة

إلي مَنْ تسامي فتدلّي فاعتلي عرش الخلود

إليك سيدي يا حُسين...

إلي معلمي الأول، إلي مَن أعطي فأجزل

والدي العزيز...

إلي ينبوع الحَنانِ، ومرفأ الأمان

أُمِّي العزيزة...

إلي دمي الذي يجري في عروقي

إخوتي وأخواتي...

إلي العيون الساهرة علي راحتي

زوجتي...

إلي ريحانتي من الدنيا أولادي...

ورود، زهراء، سجّاد، حسين

أهدي ثمرة جهدي حبّاً وعرفاناً

الباحث

ص: 9

ص: 10

مقدمة المؤسّسة

إنّ نشر المعرفة، وبيان الحقيقة، وإثبات المعلومة الصحيحة، غاياتٌ سامية وأهدافٌ متعالية، وهي من أهمّ وظائف النُّخب والشخصيات العلمية، التي أخذت علي عاتقها تنفيذ هذه الوظيفة المقدّسة.

من هنا؛ قامت الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة بإنشاء المؤسّسات والمراكز العلمية والتحقيقية؛ لإثراء الواقع بالمعلومة النقية؛ لتنشئة مجتمعٍ واعٍ متحضّر، يسير وفق خطوات وضوابط ومرتكزات واضحة ومطمئنة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ القضية الحسينية - والنهضة المباركة القدسية - تتصدّر أولويات البحث العلمي، وضرورة التنقيب والتتبّع في الجزئيات المتنوّعة والمتعدّدة، والتي تحتاج إلي الدراسة بشكلٍ تخصّصي علمي، ووفق أساليب متنوّعة ودقيقة، ولأجل هذهالأهداف والغايات تأسّست مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية، وهي مؤسّسة علميّة متخصّصة في دراسة النهضة الحسينية من جميع أبعادها: التاريخية، والفقهية، والعقائدية، والسياسية، والاجتماعية، والتربوية، والتبليغية، وغيرها من الجوانب العديدة المرتبطة بهذه النهضة العظيمة، وكذلك تتكفّل بدراسة سائر ما يرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام) .

ص: 11

وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولية العظيمة الملقاة علي عاتق هذه المؤسّسة المباركة؛ كونها مختصّة بأحد أهمّ القضايا الدينية، بل والإنسانية، فقد قامت بالعمل علي مجموعة من المشاريع العلمية التخصّصية، التي من شأنها أن تُعطي نقلة نوعية للتراث، والفكر، والثقافة الحسينية، ومن تلك المشاريع:

1- قسم التأليف والتحقيق: والعمل فيه جارٍ علي مستويين:

أ - التأليف، والعمل فيه قائم علي تأليف كتبٍ حول الموضوعات الحسينية المهمّة، التي لم يتمّ تناولها بالبحث والتنقيب، أو التي لم تُعطَ حقّها من ذلك. كما ويتمّ استقبال الكتب الحسينية المؤلَّفة خارج المؤسّسة، ومتابعتها علميّاً وفنّياً من قبل اللجنةالعلمية، وبعد إجراء التعديلات والإصلاحات اللازمة يتمّ طباعتها ونشرها.

ب - التحقيق، والعمل فيه جارٍ علي جمع وتحقيق التراث المكتوب عن الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة، سواء المقاتل منها، أو التاريخ، أو السيرة، أو غيرها، وسواء التي كانت بكتابٍ مستقل أو ضمن كتاب، تحت عنوان: (الموسوعة الحسينيّة التحقيقيّة). وكذا العمل جارٍ في هذا القسم علي متابعة المخطوطات الحسينية التي لم تُطبع إلي الآن؛ لجمعها وتحقيقها، ثمّ طباعتها ونشرها. كما ويتم استقبال الكتب التي تم تحقيقها خارج المؤسسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلك بعد مراجعتها وتقييمها وإدخال التعديلات اللازمة عليها وتأييد صلاحيتها للنشر من قبل اللجنة العلمية في المؤسسة.

2- مجلّة الإصلاح الحسيني: وهي مجلّة فصلية متخصّصة في النهضة الحسينية، تهتمّ بنشر معالم وآفاق الفكر الحسيني، وتسليط الضوء علي تاريخ النهضة الحسينية

ص: 12

وتراثها، وكذلك إبراز الجوانب الإنسانية، والاجتماعية، والفقهية، والأدبية، في تلك النهضة المباركة.

3- قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسينية: ويتمّ فيه جمعالشبهات المثارة حول الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة، ثمّ فرزها وتبويبها، ثمّ الرد عليها بشكل علمي تحقيقي.

4 - الموسوعة العلمية من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): وهي موسوعة تجمع كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) في مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثمّ تبويبها حسب التخصّصات العلمية، ووضعها بين يدي ذوي الاختصاص؛ ليستخرجوا نظريات علميّة ممازجة بين كلمات الإمام (عليه السلام) والواقع العلمي.

5 - قسم دائرة معارف الإمام الحسين (عليه السلام): وهي موسوعة تشتمل علي كلّ ما يرتبط بالنهضة الحسينية من أحداث، ووقائع، ومفاهيم، ورؤي، وأسماء أعلام وأماكن، وكتب، وغير ذلك من الأُمور، مرتّبة حسب حروف الألف باء، كما هو معمول به في دوائر المعارف والموسوعات، وعلي شكل مقالات علميّة رصينة، تُراعي فيها كلّ شروط المقالة العلميّة، ومكتوبةٌ بلغةٍ عصرية وأُسلوبٍ سلس.

6 - قسم الرسائل الجامعية: والعمل فيه جارٍ علي إحصاء الرسائل الجامعية التي كُتبتْ حول النهضة الحسينية، ومتابعتها من قبل لجنة علمية متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمية، وتهيئتها للطباعة والنشر، كما ويتمّ إعداد موضوعات حسينيّة تصلح لكتابة رسائل وأطاريحجامعية تكون بمتناول طلّاب الدراسات العليا.

7 - قسم الترجمة: والعمل فيه جارٍ علي ترجمة التراث الحسيني باللغات الأُخري إلي اللغة العربيّة.

ص: 13

8 - قسم الرصد: ويتمّ فيه رصد جميع القضايا الحسينيّة المطروحة في الفضائيات، والمواقع الإلكترونية، والكتب، والمجلات والنشريات، وغيرها؛ ممّا يعطي رؤية واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضية الحسينية بمختلف أبعادها، وهذا بدوره يكون مؤثّراً جدّاً في رسم السياسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقيّة الأقسام فيها، وكذا بقية المؤسّسات والمراكز العلمية بمختلف المعلومات.

9 - قسم الندوات: ويتمّ من خلاله إقامة ندوات علميّة تخصّصية في النهضة الحسينية، يحضرها الباحثون، والمحقّقون، وذوو الاختصاص.

10 - قسم المكتبة الحسينية التخصصية: حيث قامت المؤسسة بإنشاء مكتبة حسينية تخصّصية تجمع التراث الحسيني المطبوع.

11 - قسم الموقع الإلكتروني: وهو قسم مؤلّف من كادر علمي وفنّي؛ يقوم بنشر وعرض النتاجات الحسينية التي تصدر عن المؤسسة، كما ويتكفل بتغطية الجنبةالإعلامية للمؤسسة ومشاريعها العلمية.

12 - القسم النسوي: ويتضمن كادراً علمياً وفنياً يعمل علي استقطاب الكوادر العلمية النسوية، وتأهيلها للعمل ضمن أقسام المؤسسة؛ للنهوض بالواقع النسوي، وتغذيته بثقافة ومبادئ الثورة الحسينية.

13 - القسم الفني: ويتضمن كادراً فنيّاً متخصصاً يقوم بطباعة وإخراج وتصميم النتاجات الحسينية التي تصدر عن المؤسسة، وكذلك الإعلانات والدعوات ومختلف الملصقات والأمور الفنيّة الأخري التي تحتاجها كافة الأقسام.

ص: 14

قسم الرسائل الجامعية في مؤسسة وارث الأنبياء

اشارة

يتكفّل قسم الرسائل الجامعية بمهمّة نشر الفكر الحسيني المبارك، من خلال تفعيل الدراسات والأبحاث العلمية الحسينية في الأوساط الجامعية والأكاديمية بمستوياتها الثلاثة: البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، مضافاً إلي الرُقي بالمستوي العلمي والتحقيقي للكفاءات الواعدة المهتمّة بالنهضة الحسينية في جميع مجالاتها. وقد تصدّي لهذه المسؤولية نخبة من الأساتذة المحققين في المجال الحوزوي والأكاديمي.

أهداف القسم

الغاية من وراء إنشاء هذا القسم جملة من الأهداف المهمّة، منها:

1 - إخضاع الدراسات والأبحاث الحسينية لمناهج البحث المعتمدة لدي المعاهد والجامعات.

2 - إبراز الجوانب المهمّة وفتح آفاق جديدة أمام الدراسات والأبحاث المتعلّقة بالنهضة الحسينية، من خلال اختيار عناوين ومواضيع حيوية مواكبة للواقع المعاصر.

3 - الارتقاء بالمستوي العلمي للكوادر الجامعية، والعمل علي تربية جيل يعني بالبحث والتحقيق في مجال النهضة الحسينية الخالدة.

4 - إضفاء صبغة علمية منهجية متميزة علي صعيد الدراسات الأكاديمية، المرتبطة بالإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة.

5 - تشجيع الطاقات الواعدة في المعاهد والجامعات للولوج في الأبحاث والدراسات العلمية في مختلف مجالات البحث المرتبطة بالنهضة الحسينية، ومن ثمّ الاستعانة بأكفّائها في نشر ثقافة النهضة وإقامة دعائم المشاريع المستقبلية للقسم.

6 - معرفة مدي انتشار الفكر الحسيني في الوسط الجامعي؛ لغرض تشخيص

ص: 15

آلية التعاطي معه علمياً.

7 - نشر الفكر الحسيني في الأوساط الجامعية والأكاديمية.

8- تشخيص الأبعاد التي لم تتناولها الدراسات الأكاديمية في ما يتعلّق بالنهضة الحسينية، ومحاولة العمل علي إبرازها في الدراسات الجديدة المقترحة.

9 - التعريف بالرسائل الجامعية المرتبطة بالإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة؛ والتي تمّت كتابتها ومناقشتها في الجامعات.

آليات عمل القسم

اشارة

إنّ طبيعة العمل في قسم الرسائل الجامعية تكون علي مستويات ثلاثة:

المستوي الأوّل: العناوين والمواضيع الحسينية

يسير العمل فيه طبقاً للخطوات التالية:

1 - إعداد العناوين والموضوعات التخصّصية، التي تعني بالفكر الحسيني طبقاً للمعايير والضوابط العلمية، مع الأخذ بنظر الاعتبار جانب الإبداع والأهمية لتلك العناوين.

2 - وضع الخطّة الإجمالية لتلك العناوين والتي تشتمل علي البحوث التمهيدية والفصول ومباحثها الفرعية مع مقدّمة موجزة عن طبيعة البحث وأهميته والغاية منه.

3 - تزويد الجامعات المتعاقد معها بتلك العناوين المقترحة مع فصولها ومباحثها.

المستوي الثاني: الرسائل قيد التدوين

يسير العمل فيه علي النحو التالي:

1 - مساعدة الباحث في كتابة رسالته من خلال إبداء الرأي والنصيحة.

2- استعداد القسم للإشراف علي الرسائل والأطروحات فيما لو رغب الطالب أو الجامعة في ذلك.

3 - إنشاء مكتبة متخصصة بالرسائل الجامعية لمساعدة الباحثين علي إنجاز

ص: 16

دراساتهم ورسائلهم، فضلاً عن إتاحة الفرصة أمامهم للاستفادة من مكتبة المؤسسة المتخصّصة بالنهضة الحسينية.

المستوي الثالث: الرسائل المناقشة

يتمّ التعامل مع الرسائل التي تمّت مناقشتها علي النحو التالي:

1 - وضع الضوابط العلمية التي ينبغي أن تخضع لها الرسائل الجامعية، تمهيداً لطبعها ونشرها وفقاً لقواعد ومقررات المؤسسة.

2 - رصد وإحصاء الرسائل الأكاديمية التي تمّ تدوينها حول النهضة الحسينية المباركة.

3 - استحصال متون ونصوص تلك الرسائل من الجامعات المتعاقد معها، والاحتفاظ بها في مكتبة المؤسسة.

4 - قيام اللجنة العلمية في القسم بتقييم الرسائل المذكورة، والبت في مدي صلاحيتها للطباعة والنشر من خلال جلسات علمية يحضرها أعضاء اللجنة المذكورة.

5 - تحصيل موافقة صاحب الرسالة لإجراء التعديلات اللازمة، سواء أكان ذلك من قبل الطالب نفسه أم من قِبل اللجنة العلمية في القسم.

6 - إجراء الترتيبات القانونية اللازمة لتحصيل الموافقة من الجامعة المعنية وصاحب الرسالة علي طباعة ونشر رسالته التي تمّت الموافقة عليها بعد إجراء التعديلات اللازمة.

7 - فسح المجال أمام الباحث لنشر مقال عن رسالته في مجلة (الإصلاح الحسيني) الفصلية المتخصصة في النهضة الحسينية التي تصدرها المؤسسة.

8 - العمل علي تلخيص الرسائل الجامعية، ورفد الموقع الإلكتروني التابع للمؤسسة بها، ومن ثمّ طباعتها تحت عنوان: دليل الرسائل الجامعية المرتبطة بالإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته المباركة.

ص: 17

الحِجاج في كلمات الامام الحسين (عليه السلام)

تناول الباحث في اطروحته هذه موضوعاً بالغ الأهمية في علوم اللسانيات، وهو الحِجاج، وقد عبّر عنه الباحث بقوله: (فعّالية ذهنية لسانية تسعي الي التعبير في مفردات نسق عقدي أو رؤية كونية أو تغيير في سلوك ما في حياة الناس) متمركزاً علي الحِجاج في كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)، مما يعطي أهمية متميّزة للبحث بشكل كبير، وذلك لسببين:

الأوّل: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد قام بنهضة كبيرة ضدّ الأوضاع المنحرفة في ذلك الزمان مما استدعي منه (عليه السلام) أن يتكلّم ويخطب ويحاور - وبتعبير واحد: يحاجج - وهذا يستدعي أن تكون هناك دراسات معمقة لهذه الكلمات وهذا الأسلوب.

الثاني: أنّ كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) تعتبر دستوراً إلهياً للحياة البشرية كونها الخطاب المعصوم الحاكي عن السماء.

ولاستيعاب المطالب في هذا الموضوع جاءت الأطروحة علي ثلاثة فصول:

الأوّل: الحِجاج مفهومه، مقوّماته، نظرياته.

الثاني: الحِجَاج في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في ضوء مجالات الخطاب الحِجَاجي (التداولي، اللغوي، الأسلوبي، البياني).

الثالث: دراسة حجاجية تطبيقية لنماذج من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) .وفي الختام نتمنّي للمؤلِّف دوام السداد والتوفيق لخدمة القضية الحسينية، ونسأل الله تعالي أن يبارك لنا في أعمالنا، إنّه سميعٌ مجيبٌ.

اللجنة العلمية في

مؤسسة وارث الأنبياء

للدراسات التخصصية في النهضة الحسينيةالمقدمة

ص: 18

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علمنا الحمد، وهدانا له، وأثابنا عليه، وصلي الله علي محمدٍ عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه، وأمينه علي وحيه، وعلي آله الفاضلين عملاً، الطيبين نسباً، المختارين أمّاً وأباً، وسلم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد:

فالعالمُ الآن في زمن الحرية و(الديمقراطية) يعيش في حجاج مفتوح علي جميع الصُّعُد السياسية، والإعلامية، والثقافية، والاجتماعية، والحجّة أصبحت عصب الحياة المعاصرة، بها يتبوأ الرؤساء مقامات الرئاسة، وتنتصر الجماعات في معارك السياسة، وبها تُقاد الجيوش الجرارة، وتُساس الأموال الدوارة؛ ممّا دفعني ذلك إلي سبر أغوار علم لساني جديد يمتُّ بصلة إلي الواقع المعاش، وهو علم الحجاج، أو موضوع الحجاج.

ومن الأسباب التي دفعتني إلي اختيار موضوع (الحجاجفي كلام الإمام الحسين (عليه السلام) ): جدّة موضوع الحِجَاج، وأهميته، والرغبة في التعرف علي مكنوناته، وقلّة الدراسات فيه، وفضلاً عن ذلك فإنَّ كلّ ما في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) منتقي

ص: 19

بدقة وحرص؛ لتوجيه المتلقي الوجهة التي يريدها، فكلّ ما في كلامه (عليه السلام) من دقائقٍَ، ورقائقَ، وإشاراتٍ، وشذراتٍ، وأساليب، وصورٍ، وتلميحاتٍ إنّما وُجدت لإقناع المتلقي بأحقيته بالاتباع؛ بوصفه الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية، ولا عجب فقد عاش الإمام الحسين (عليه السلام) في بيت النبوّة مهبط الوحي، ومختلف الملائكة، وغدت كلماته دستور حياة، مخرت عباب الزمن، وظلّت ترن في الأذهان مفتضحةً مغالطات القوم وسياساتهم الفاسدة؛ لذا أري أنّ اليوم بنا حاجة إلي التأمّل في كلام الإمام الحسين (عليه السلام)؛ للتعرف علي مكنونات تلك الأسرار التي جعلته دستوراً للحياة الحرّة الكريمة في كلِّ بقاع الأرض.

والحجاج اللّساني يمثل فعالية ذهنية توظّف اللّسان الطبيعي؛ لتحريك الإنسان إمّا علي مستوي العقلانية، وإما علي مستوي العواطف، وذلك بغية التغيير في مواقفه. وبتعبير آخر: يمسي الحجاج اللّساني فعالية ذهنية لسانية تسعي إلي التغيير في مفردات نسق عقدي أو رؤية كونية أو تغيير في سلوكٍ ما في حياة النّاس. وبالتالي، فإنَّ الحجاج اللّساني ينتمي إلي عالم الجمل والصياغات اللّغوية، ولا علاقة له بعالم القضاياالتي من شأنها حكاية الوقاع كما هو في نفسه بمعزل عن الآليات اللّغوية المتعددة.

وممّا حرصت عليه في هذه الدراسة تخليص مفهوم الحِجَاج من الخلط الاصطلاحي مع المفاهيم الأُخري، وبيان أهم المقومات التي ينبغي أن يُبني عليها النصّ الحِجَاجي، وسلطت فيه الضوء علي الجوانب الدلالية، والتداولية، واللغوية، والأسلوبية، والبيانية في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) علي وفق النظريات الحِجَاجية اللسانيّة الحديثة، ثم وافقت فيما بينها جميعاً؛ لتصبّ في رافدٍ واحدٍ اصطلحت عليه ب-(المنهج الحِجَاجي)؛ بغية تحليل كلام الإمام الحسين (عليه السلام) علي وفقه، يتميّز بتحليل النصوص بدلاً من الجمل والعبارات، ويتتبع قصدية المرسل، ويسلط الضوء علي

ص: 20

كلِّ أبعاد النصّ حجاجياً، بحسب سياقاتها المقامية (الخارجية)، والداخلية؛ للكشف عن الآليات اللسانية الإقناعية التي بني عليها الإمام الحسين (عليه السلام) خطاباته الحِجَاجية في خطبه، ورسائله، وأقواله.

ولتحقيق هذه الغايات والأهداف قسّمت الأطروحة علي ثلاثة فصول هي:

الفصل الأول: (الحِجَاج: مفهومه، نظرياته، مقوماته): قسّمته علي ثلاثة مباحث، سلّطت الضوء في أولها علي (مفهوم الحِجَاج وارتباطاته الدلالية) فمفهوم الحِجَاج في النظريات الغربية اللسانية الحديثة يتقارب معمصطلحات أُخري ك-(المحاجّة، والاحتجاج، والسفسطة، والخطابة، والجدل، والبرهان، والمذهب الكلامي، والمناظرة، والمناقشة)؛ ما دفعني ذلك إلي الوقوف عند هذه المصطلحات؛ بغية تمييزها من مصطلح الحجاج علي وفق النظرية اللسانية؛ بوصفه نظرية لسانية غربية حديثة. أمّا المبحث الثاني: (نظريات الحجاج) فعرضتُ فيه أهم النظريات الحجاجية الحديثة. وفي المبحث الثالث: كانت لي وقفة مع (النص الحِجَاجي وتأثيره الإقناعي) تحدّثت فيه عن الشروط الواجب توافرها في النصّ الحِجَاجي الناجع، والمقومات التي ينبغي أن يُبني عليها، والغاية الإقناعية والاقتناعية منه، وعرضت فيه أهم وسائل الإقناع.

وعندما وجدت النظريات الحِجَاجية اللسانية الحديثة قد استندت إلي موضوعاتٍ لغوية كعلم الدلالة، والتداولية، والأسلوبية، وعلم البيان جعلت هذه الموضوعات من نصيب الفصل الثاني: (الحِجَاج في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في ضوء مجالات الخطاب الحِجَاجي (التداولي، اللغوي، الأسلوبي، البياني). وقسّمته علي أربعة مباحث:

المبحث الأول: (قوة فعل الكلام) تناولت فيه قوة فعل كلام الإمام الحسين (عليه السلام) الإنجازية المباشرة متمثلة بأفعال الأمر، والنهي، ونحوهما. وقوة فعل الكلام

ص: 21

الإنجازية غير المباشرة متمثلة بالاقتضاء اللغوي، والاستلزام الحواريالتداولي التي استند إليها الإمام الحسين (عليه السلام) للتأثير في جمهوره من أجل حثّه علي فعلٍ ما، أو ثنيه عنه.

والمبحث الثاني: (حجاجه اللغوي) استندت فيه إلي نظرية (الحِجَاج في اللغة) لديكرو وأنسكومبر التي تناولا فيها الروابط الحِجَاجية، والعوامل الحِجَاجية، والسلالم الحِجَاجية قاصراً دراستي علي آثار تلك الروابط اللغوية في الربط بين حجج الإمام الحسين (عليه السلام) في خطاباته، وآثار العوامل الحِجَاجية في تقليص الإمكانات الحِجَاجية وحصرها ممّا يزيد ذلك في التوجّه نحو نتائجه المبتغاة. أمّا السلالم الحِجَاجية فهي مجموعة من الحجج يرتبها المُحاجِج بحسب القوة من الأضعف إلي الأقوي داخل الخطاب؛ لتصبّ في خدمة النتيجة المرجوة من الخطاب الحِجَاجي.

وفي المبحث الثالث: (أسلوبه الحِجَاجي) قصرتُ فيه دراستي علي أسلوب الإمام الحسين (عليه السلام) الحِجَاجي في مراعاة أحوال المتلقي بالاعتماد علي التوكيد، والتكرار، والاستفهام التقريري، والتقديم والتأخير، والالتفات.

والمبحث الرابع: (حجاجه البياني) تناولتُ فيه كيفية توظيف الإمام الحسين (عليه السلام) للتشبيه، والتمثيل، والاستعارة، والكناية، والتعريض في خدمة خطابه الحِجَاجي الإقناعي.

ولم أتناول الجوانب البلاغية غير الحجاجية في هذهالموضوعات؛ لأنّ زملائي ميثم قيس في رسالته (نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية)، وموسي خابط عبود في رسالته (أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية)، وهادي سعدون في كتابه (التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية)، وحيدر محمود في أطروحته (نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة تَحلِيليَّةٌ في جَمَاليةِ بِنْيَةِ النَّصِ) سلّطوا عليها الضوء في

ص: 22

دراساتهم لكلام الإمام الحسين (عليه السلام) .

وخلصتُ من الفصلين السابقين إلي منهجٍ حجاجي تحليلي أعتقد أنّه يمكن الاتكاء عليه في تحليل النصوص تحليلاً لسانياً حجاجياً، وقد استندت إليه في تحليل كلام الإمام الحسين (عليه السلام) من صباه إلي استشهاده في الفصل الثالث (دراسة حجاجية تطبيقية لنماذج من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) )، وقسّمته علي ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: (كلامه (عليه السلام) في المدينة المنورة) واخترتُ له ثلاثة نماذج أولهما: كلامٌ له (عليه السلام) في صباه مع عمر بن الخطاب، وثانيهما: خطبته التي ردّ بها معاوية عندما طلب منه مبايعة يزيد خليفة للمسلمين، وثالثهما: ردَّه (عليه السلام) علي مروان بن الحكم.

وفي المبحث الثاني: (كلامه (عليه السلام) أول خروجه من مكّة لحين نزوله في كربلاء) حللتُ فيه كلاماً له (عليه السلام) مع عبد الله بن الزبير عندما دعاه للبقاء في مكة، وخطبته التي دعا فيها النّاسللالتحاق به عندما عزم علي الخروج إلي العراق، وخطبته بالحرّ ابن يزيد الرياحيّ وجيشه في البيضة قرب العذيب.

وفي المبحث الثالث: (كلامه (عليه السلام) في كربلاء) حللتُ فيه أبيات شعرٍ له، ومثلاً سائراً من أمثال العرب قالهما في ليلة العاشر من المحرّم تمهيداً لمحاورة مع أخته زينب (عليها السلام)، ثم خطبة قالها قبل واقعة الطف في العاشر من المحرّم.

واعتمدتُ في هذا الفصل علي آليات حجاجية مختلفة في تحليل النصوص تحليلاً حجاجياً بعيداً عن الرتابة، والتكرار؛ لتمكين الدارس والباحث من الاغتراف من هذا المنهج بما يتلاءَم مع موضوعه الحِجَاجي، وفي الوقت نفسه يمكنه أن يضيف إليه ما يراه مناسباً ممّا يساعد في تطويره. وقد اتّضح من هذه الدراسة أنّ الدراسات الحِجَاجية أثبتت أنّها قادرة علي تحليل النصوص، متجاوزة الجوانب الإخبارية الوصفية إلي الجوانب الإقناعية التأثيرية التي تلقي بظلالها علي الفرد والمجتمع. وهنا تكمن جدّة هذا المنهج وجديته.

ص: 23

ومن الصعوبات التي واجهتني في هذه الدراسة أنّي لم أجد كتاباً محققاً تحقيقاً علمياً يجمع بين دفتيه كلام الإمام الحسين (عليه السلام) يمكن الاعتماد عليه في دراسةٍ علميةٍ أكاديمية؛ ممّا دفعني ذلك إلي البحث عن كلامه (عليه السلام) في أمّات الكتب، وبعدما جمعته من منابعه جعلته في ملحقٍ بعد الخاتمة.أمّا المراجع الحِجَاجية فقد اعتمدت فيها علي دراسات بلاد المغرب العربي (المغرب، تونس، الجزائر) بالدرجة الأساس، وخاصّة دراسات الدكتور المغربي أبي بكر العزاوي، والدكتور التونسي عبد الله صولة في كتابه (الحِجَاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية)، فضلاً عن الدراسات الأكاديمية الجزائرية، والبحوث العلمية، والمقالات المنشورة علي صفحات الانترنت. أمّا الدراسات الحِجَاجية المشرقية فقليلة، ولا يوجد فيها جديد، وهذا هو السبب الرئيس الذي دفعني إلي دراسة الحِجَاج. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ هذه الدراسة هي أول دراسة أكاديمية في قطرنا العزيز.

والله أسأل أنّي قد قدّمت في كتابي هذا ما ينفع؛ ليكون سبيلي إلي مرضاة الله جلّ في علاه. وحسبي أنّي بمحاولتي هذه اطّلعتُ علي أعظم تراث لسبطِ الرسول مُحمّد (صلي الله عليه و آله)، وأردت به خدمة ديني ولغتي، وما أعظمه من شرف.

وختاماً أقول: اللهم تقبّل منّي هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم، واجعلني عندك من المذكورين. وأخيراً اعتذر إليك سيدي يا حسين إن بدر منّي نقصٌ أو تقصيرٌ، فحسبي أنّي حاولت، والله من وراء القصد، وهو المستعان والهادي إلي سواء السبيل.

الباحث

ص: 24

الفصل الأول: الحجاج: مفهومه، نظرياته، مقوماته

اشارة

ص: 25

ص: 26

المبحث الأول: مفهوم الحجاج وارتباطاته الدلالية

الحِجَاج لغة واصطلاحاً

الحِجَاج لغةً

قال ابن منظور (ت711ه-): «الحُجَّة: البُرْهان. وقيل: الحُجَّة: ما دُوفِعَ به الخصم. وقال الأزهري: الحُجَّة: الوجه الذي يكون به الظَّفَرُ عند الخصومة، وهو رجل مِحْجَاجٌ أي جَدِلٌ، والتَّحَاجُّ: التَّخَاصم. وجمع الحُجَّة: حُجَجٌ وحِجَاج. وحَاجَّه مُحَاجَّةً وحِجاجَاً: نازعه الحُجَّة. وحَجَّه يَحُجُّه حَجَّاً: غلبه علي حُجَّتِهِ... واحتج بالشيء: اتخذه حُجَّة. قال الأزهري: إنّما سُمّيت حُجَّة؛ لأنّها تُحَجُّ أي تُقْصَدُ... والحُجَّة: الدليل والبرهان»(1).

نلحظ أنّ الحِجَاج يعني: جمع الحجّة. ومصدر (حَاجَجَ) ويراد به المنازعة بالحجّة. و(حَاجَجَ) علي بناء (فَاعَلَ) دالّ علي المشاركة بين طرفين أو أكثر، كما نلحظ أنّ المعني اللغويللفعل (حاجَجَ) يدلّ علي المنازعة، والمغالبة من أجل الظفر بالنتيجة. فالحِجَاج - بحسب المفهوم اللغوي - يدلّ علي الخصام، والنزاع بوساطة الأدلّة والبراهين، وهو مرادفٌ للجِدَال.

ص: 27


1- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين مُحمَّد بن مكرّم بن منظور الأفريقيّ المصريّ (ت711ه-)، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولي (1300ه-): مادة (حجج) 2/228.
الحِجَاج اصطلاحاً

المصطلح يعني توافق حقل معرفي علي مفهوم خاص، وهذا التوافق إن حصل بين الفقهاء في مسائل فقهية ينتج عنه مصطلحٌ فقهي، وإن حصل بين اللّغويين سُمّيَ مصطلحاً لغوياً، وهكذا.

فلفظة مصطلح تعني (التوافق)، و«المصطلحات لا توضع ارتجالاً، بل لابدّ في كلّ مصطلح من وجودِ مناسبة، أو مشاركة، أو مشابهة كبيرة كانت أو صغيرة بين مدلوله اللغوي ومدلوله الاصطلاحي»(1). وترجم الدكتور عبد الله صولة في كتابه (الحِجَاج في القرآن) المصطلح الفرنسي (Argumentation) بالحِجَاج(2). وهذا المصطلح يعني بالفرنسية:

- القيام باستعمال الحجج.

- مجموعة من الحجج التي تستهدف تحقيق نتيجةواحدة.

- فن استعمال الحجج أو الاعتراض بها في مناقشة معينة(3).

«أما في الانجليزية فيشير لفظ (Argue) إلي وجود اختلاف بين طرفين ومحاولة كلّ منهما إقناع الآخر بوجهة نظره بتقديم الأسباب أو العلل»(4).

ص: 28


1- المصطلح النحوي نشأته وتطوره حتي أواخر القرن الثالث الهجري، عوض حمد القوزي، شركة الطباعة العربية السعودية، العمارية - الرياض، الطبعة الأولي (1401ه- - 1981م): 23.
2- اُنظر: الحِجَاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، د.عبد الله صولة، دار الفارابيّ، بيروت (2007): 9.
3- اُنظر: الحِجَاج والاستدلال الحِجَاجي، الحبيب أعراب، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته)، د. حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديثة، أربد (2010م): 3/32.
4- تجليات الحِجَاج في الخطاب النبوي دراسة في وسائل الإقناع الأربعون النووية أنموذجاً، هشام فرّوم، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2009): 49.

مفهوم الحجاج

يمثل الحِجَاج في الوقت الحاضر مجموعة من الآراء الحديثة المتداخلة تتجاذبها مجموعة من العلوم منها: القانون، والفلسفة، والمنطق، والسياسة، والإعلام، واللغة، والبلاغة. ونجد أنّ الجذر الاشتقاقي العربي للحجاج (ح ج ج) يتفرع إلي معانٍ واشتقاقات مختلفة. فالحِجَاج في العربية يعني: (المخاصمة، والدليل، والبرهان، والجدل، والمناظرة، والمناقشة...). أمّا من جهة الاشتقاق فنجد (الحِجَاج، والتحاجج، والاحتجاج، والمحاجّة).

كثرة النظريات وتنوعها، وعدم استقرار المصطلح جعلالحِجَاج مفهوماً عائماً تصعب الإحاطة به، والتعرّف عليه، وما زاد الطين بِلّة كثرة تعريفاته وتنوعها بحسب وجهات نظر مستعمليه، ومرجعياتهم العلمية، فأخذ كلّ باحثٍ يغترف ما يُريد ويخوض في بحثِ أيّ موضوعٍ شاء تحت عنوان الحِجَاج، ولا عجب في ذلك، ولا غرابة فالموضوع واسعٌ، والعوامل التي أسهمت في إنتاجه كثيرة ومتنوعة.

وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنَ للحجاج ثلاثة مستويات هي: اللّسان، نوعية اللسان، محكي اللسان (القضايا المنطقية)، إذ لم يُفرِّق بينها مَن تناول تلك الدراسات.

ومن تعريفات الحِجَاج

- قال هشام الريفي نقلاً عن بلونتين: «الحِجَاج

في أعم تعريفاته العملية التي من خلالها يسعي المتكلم إلي تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدي مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية»(1).

ص: 29


1- الحِجَاج عند أرسطو، هشام الريفي، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم)، فريق البحث في البلاغة والحجاج، إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، كلية الآداب منوبة، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس (1998م): 350.

- «هو أن يقدم المتكلم قولاً (ق1) (أو مجموعة أقوال) موجهة إلي جعل المخاطب يقبل قولاً آخر (ق2) (أو مجموعة أقوال أخر) سواء أكان (ق2) صريحاً أم ضمنياً»(1).

- «هو تقديم الحجج والأدلة المؤدية إلي نتيجة معينة، وهو يتمثل في إنجاز متواليات من الأقوال بعضها بمثابة الحجج اللغوية، وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج التي تُستنتج منها»(2).

- «مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما، يتوجه بخطابه إلي مستمع معين من أجل تعديل الحكم الذي لديه عن وضعٍ محدد»(3).

- «مظهر من مظاهر القوة الباطنية التي تتوسل بشتي السبل؛ للوصول بالمتلقي إلي درجة التأثير،أو الاقتناع، بل قد تدفع الفرد والجماعات نحو تغيير السلوك،أو إنجاز الفعل»(4).

- «توجيه خطاب إلي متلقٍ ما لأجل تعديل رأيه أو سلوكه أو هما معاً. وهو لا يقوم إلا بالكلام المتألف من معجم اللغة الطبيعية»(5).

ص: 30


1- نظرية الحِجَاج في اللغة، الدكتور شكري المبخوت، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم): 360.
2- الحِجَاج في اللغة، الدكتور أبو بكر العزاوي، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/57.
3- التواصل والحِجَاج - أي علاقة؟-، عبد العزيز السراج، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 1/282.
4- كتابة الجاحظ في ضوء نظريّات الحِجَاج، الدكتور علي محمّد علي سلمان، ديموپرس للطباعة والتجارة، بيروت، الطبعة الأولي (2010): 85.
5- مدخل إلي الحِجَاج أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان، الدكتور محمّد الولي، مجلة عالم الفكر، العدد (2)، مج (40)، لسنة (2011م): 11.

- ولفرز الحجاج اللّساني عن الصناعات الخمس، تجدر الإشارة إلي هذا الفارق أنَّ الحجاج يركّز علي نوعية اللّسان في بعده التفهيمي، فيما تركّز الصناعات الخمس علي القضايا المنطقية أعم من ان تكون صادقة أو كاذبة.

تبدو هذه التعريفات متداخلة ما بين الحجاج اللساني وغيره، زد علي ذلك أنّ ثمة مفاهيم متعلقة بمفهوم الحِجَاج، وأخري مقاربة له، ما يجعل غير المختص يظنُّ أنّها تدّل عليه: (المحاجّة، الاحتجاج، الحِجَاج الفلسفي، الحِجَاج المغالط (السفسطة)، الخطابة، الجدال، المذهب الكلامي، المناظرة، المناقشة) سأعرضها بإيجاز مبيناً أهم الفوارق بينها وبين الحِجَاج؛ لكي نتوصل من ذلك العرض إلي مفهوم الحِجَاج. وقبل ذلك أري أنّ بنا حاجة إلي الوقوف عند مفهوم الحُجَّة التي تستند إليها هذه المفاهيم.

الحُجَّة

اشارة

الحُجَّة لغة: تعني الدليل الذي يستند إليه المحاجج في رد حجج الخصم، وتقتضي وجود طرفين أو أكثر. وقال الشريف الجرجاني (ت816ه-): «الحُجَّة ما دلّ به علي صحةالدعوي، وقيل: الحُجَّة والدليل واحد»(1)، وهذا أقرب إلي الاصطلاح من المعني اللّغوي. وجاء في قاموس (لالاند) الفلسفي الحُجَّة بأنّها «استدلال موجه لتأكيد قضية معينة أو دحضها، أوتفنيدها، ويري - من ناحية أخري - أنّ هناك من يعتبر(2) كلّ حجة دليلاً»(3). وهي عند أبو بكر(4) العزاوي «عنصر دلالي

ص: 31


1- التعريفات، علي بن محمّد بن علي الجرجاني (ت816ه-)، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولي (1405ه-): 112.
2- كذا، والصواب: يُعد.
3- مقدمة كتاب الحِجَاج مفهومه ومجالاته: 3؛ نقلاً عن: André Lalande, Vocabul aire Tecbnigu et Critigue de La philosophie, éd. PUF, pp 78-79..
4- أبو بكر اسم مركب.

متضمن في القول يقدمه المتكلم علي أنّه يخدم ويؤدي إلي عنصر دلالي آخر، والذي يصيرها حجة، أو يمنحها طبيعتها الحِجَاجية هو السياق، فما يمكن أن يكون حجة في هذا السياق قد لا يكون كذلك في سياق آخر، حتي ولو تعلّق الأمر بنفس المحتوي القضوي، أو بنفس الحدث(1) (fait) المعبر عنه داخل القول، وقد تتحقق الحُجَّة علي شكل لفظة، أو قول، أو الخطاب برمته»(2). وهي من وجهة نظر الحِجَاجيين تمثل مظهراً من مظاهر الخطاب لا تكتسب صفتها بوصفها حجة إلاّ من تأثيرها في المتلقي، وموقعها من السّياق،وتوسّع معناها لتدلّ علي مجموع قول القائل وعلي ما أُضمر في القول(3).

ويري أبو بكر العزّاويّ أن الحجج اللغوية تتسم بسمات عدّة منها:

* إنها سياقية: الحُجَّة التي يقدمها المتكلم قد تؤدي إلي حجة أخري، أو إلي نتيجة. وهكذا تكون العبارة الواحدة المتضمنة قضية واحدة حجة أو نتيجة بحسب السياق.

* إنّها نسبية: إذ تحمل كلّ حجّة قوة حجاجية معينة، فقد يقدم المتكلم حجّة ما لصالح نتيجة معينة، ويقدم خصمه حجّة مضادة أقوي منها، وبعبارة أخري هناك حجج قوية، وحجج ضعيفة، وحجج أضعف.

* إنّها قابلة للإبطال: يمكن للحجة أن تُرفض، أو تُنقض بحجة أخري أقوي منها(4).

ص: 32


1- كذا، والصواب: حتي لو تعلق الأمر بالمحتوي القضوي نفسه أو بالحدث نفسه.
2- اللغة والحِجَاج، د. أبو بكر العزاوي، العمدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (2006م): 127.
3- اُنظر: التواصل والحِجَاج، طه عبد الرحمن، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط (1994): 5.
4- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، أبو بكر العزاويّ، بحث ضمن كتاب ( التحاجج طبيعته، ومجالاته، ووظائفه) تنسيق حمو النقاريّ، مطبعة النجاج الجديد، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (1427ه- - 2006م): 59.

ويبدو أنّ هذه السمات لا تقتصر علي الحجج اللغوية فحسب، بل هي سمات عامّة لكلِّ المفاهيم التي تستندإلي الحجّة.

وتُستعمل الحجج دليل إثبات لقضية ما أو نفيها. وتقسم علي قسمين: حجج ناهضة يثبّت بها الحقّ، وحجج داحضة يموّه بها الباطل. كما تُقسم علي: حجج منطقية وتُسمي استدلالاً، وحجج واقعية وتُسمي دليلاً(1).

نخلص من ذلك، ومن التعريف اللغوي للحجة في التراث العربي؛ إلي أنّ المراد بالحُجَّة المستعملة في نظريات الحِجَاج الحجج الواقعية المرادفة للدليل، وليس الحجج الاستدلالية المنطقية.

1 - المحاجّة

يُقال: حاجّه يُحاجّه محاجّة «والمحاجّة: أنّ يطلب كلُّ واحدٍ أن يرد الآخر عن حُجّته»(2). والمتتبع لموضوع الحِجَاج يجد أنّ هذا المصطلح يكثر دورانه عند الفلاسفة، والمحاجّة باصطلاح الفلاسفة: «إنتاج مجموعة من الحجج مرتبة بطريقة ما قصد إثبات أو تفنيد قضية من القضايا. وقد تُعني المحاجّة بتوسيعدلالتها كلِّ وسائل الإقناع باستثناء العنف والضغط والإكراه»(3). ويري بعض الحجاجيين اللسانيين أنّ المحاجّة مرادفة للحجاج(4)، في حين تري لمهابة محفوظ ميارة «أنّ لفظ (الحِجَاج) -

ص: 33


1- اُنظر: دروس الحِجَاج الفلسفي، أبو الزهراء، مجلة شبكة التربوية الشاملة فيلومرتيل الإلكترونية (2008)، الموقع علي الانترنت: ww.4shared.com/office/19kgy.../____.html.
2- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داوودي، طليعة النور، قم، الطبعة الأولي (1426ه- - 2000م): 219.
3- الحِجَاج في درس الفلسفة: 39.
4- اُنظر: الحِجَاج في القرآن: 17؛ والتداولية والحِجَاج مداخل ونصوص، صابر الحباشة، صفحات للدراسة والنشر، دمشق، الطبعة الأولي (2008م): 68؛ والحِجَاج والاستدلال الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 30؛ والاستدلال البلاغي، د. شكري المبخوت، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، الطبعة الثانية (2010م): 130-131.

وإن كان يَرد عند بعض المعجميين جنباً إلي جنب مع لفظ (المحاجّة) وكلاهما مصدر - إلا أنّ الصيغة الواردة في القرآن الكريم هي (المحاجّة)... فإن تتبع المواضع القرآنية التي ورد فيها اللفظ تدل دلالة قوية علي أنّه مشحون بالمعاني المذمومة، وأنّه يأتي في أجواء من المراوغة والكبر والصراخ، ويكاد يكون في جميع المواضع مسنداً إلي الكفّار، فالمحاجّة في استعمال القرآن الكريم تدلّ علي المخالفة الناشئة عن الخصومة بقصد العناد، وهذا المعني واضح من إسنادها في أغلب المواضع إلي الكفّار... أمّا الحِجَاج فهو في القرآن الكريم مفهوم معبّر عنه بأشكال من العبارات والأساليب، التي تروم الحوار وتهدف إلي الإقناع بالبراهين والأدلة العقلية والكونية والفطرية»(1).

واستناداً إلي ذلك فإنّ عدّ المحاجّة مرادفة للحجاج أمرٌ قلق، ولا يمكن الاطمئنان إليه.

2 - الاحتجاج

يعني «إقامة الحُجَّة... وتوكيد الحقيقة بدليل قطعي ويقين ثابت دالّ علي علو مقام الجهة التي صدر عنها حقاً وعدلاً، كأن تكون من الله (عزوجل) في احتجاجه علي أرباب العقائد الفاسدة... أو من الأنبياء والرسل»(2)، ومن تعريفاته أيضاً «الاعتماد علي إقامة البراهين من نصوص اللغة شعراً ونثراً»(3)، وهو مشتقٌ من الفعل (احتجّ) نقول: احتجّ يحتجُّ احتجاجاً. و(احتجّ) علي بناء (افتعل)، والاحتجاج علي بناء (افتعال)،

ص: 34


1- مفهوم الحِجَاج في القرآن الكريم دراسة مصطلحية، د. لمهابة محفوظ ميارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مج (81)، العدد (3): 531-532.
2- المحاجّة والإقناع في القرآن الكريم، أحمد حسين خشان الهاشمي، مجلة المصباح، دار القرآن الكريم، العتبة الحسينية المقدسة، العدد (2)، لسنة (1431ه- - 2010م): 225.
3- الرواية والاستشهاد باللغة دراسة لقضايا الرواية والاستشهاد في ضوء علم اللغة الحديث، د. محمد عيد، عالم الكتب، القاهرة (1976): 102.

وهو يختلف عن الحِجَاج من جهة البناء، فنقول في الحِجَاج: حاجج يُحاجج حِجَاجاً، فبناء الحِجَاج (فِعَال)، وأصله (فَاعَل). وبناء (فاعَلَ) له معنيان في اللغة هما: المعاملة إذا كان الفعل مشتقاً من أسماء الزمان والمكان، والمشاركة بين طرفين. والحِجَاج لا يدلّ علي المعاملة؛ لأنّه لم يشتق من أسماء الزمان والمكان. فهو إذاً لا يدلّ إلا علي المشاركة فقط. في حين بناء (افتعل) يدلُّ علي: المطاوعة، والطلب، والمشاركة، والأخذ،والاتخاذ(1). والاحتجاج استناداً إلي التعريف الاصطلاحي يدلُّ علي الطلب أي: إنّ أحد الطرفين يطلب من صاحبه أن يأتي بالحجة، كما يدلُّ علي الاتخاذ أي: إنّ المحاجج يتخذ شاهداً قرآنياً أو شعرياً أو نحوهما حجة، فضلاً عن دلالة المشاركة، زد علي ذلك أنّ مصطلح الاحتجاج شائع في الثقافة العربية عامة، وعند النحويين واللغويين خاصة؛ للدلالة علي طلب الإتيان بالشاهد، ومفهوم الاحتجاج يختلف من ثقافة إلي أخري فهو عند غير العرب مفهوم سياسي مرتبط بالبلاغة، فايمانويل دانبلون - علي سبيل المثال - يري في بحثه (بلاغة الاحتجاج) أنّ الاحتجاج بلاغة السياسيين، ويري أنّه علي قسمين أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ إذ نجده يقول في هذا البحث: «تعد بلاغة الاحتجاج البديل البذيء والتنويري للبلاغة الوجيهة سياسياً، هذان الوجهان للبلاغة مؤسسان علي نفس التصور الديمقراطي(2)... فإنّها كانت تلعب دور الهدم والتدمير المزعج، والمفيد أحياناً»(3).

ويمكن تلخيص أهم الفوارق بين الاحتجاج والحِجَاج بالنقاط الآتية:

ص: 35


1- اُنظر: المهذَّب في علم التصريف، د. صلاح مهدي الفرطوسي ود. هاشم طه شلاش، مطابع بيروت الحديثة، بيروت (1432ه- - 2011م): 81-82.
2- كذا، والصواب: علي التصور الديمقراطي نفسه.
3- بلاغة الاحتجاج، ايمانويل دانبلون، ترجمة حسن الطالب، بحث منشور في مجلة علامات، المغرب، العدد (23): 128.

1. الحِجَاج مُشتق من الفعل (حاجج) علي بناء (فَاعَل)، أما الاحتجاج فمُشتق من الفعل (احتجّ) علي بناء (افتعل).

2. الحِجَاج يدلُّ علي المشاركة، أما الاحتجاج لا يدلّ علي المشاركة وحدها، بل يدلّ علي الطلب والاتخاذ أيضاً.

3. الحُجَّة في الحِجَاج احتمالية وقابلة للنقض فيمكن أن تُرفض وتُنقض بحجة أقوي منها، أما الحُجَّة في الاحتجاج فقطعية وتعتمد الشاهد سواء أكان قرآنياً أم شعرياً أم نحوهما.

4. مفهوم الحِجَاج غربي الأصل تُرجم إلي العربية، أما الاحتجاج فعربي الأصل، ودلالته في الثقافات الأخر تختلف عن دلالته في الثقافة العربية.

3 - الفوارق بين الحجاج اللّساني والحِجَاج الفلسفي

من أهم الفوارق بين الحِجَاج اللساني، والحِجَاج الفلسفي:

1. الحجاج اللّساني هو فن الاقناع بآليات لسانية، أما الحجاج الفلسفي فهو فن الاقناع بقضايا منطقية توصل إلي الواقع الخارجي(1).

2. الحجاج اللّساني هو فن الاقناع بآليات لسانية وغايته تحريك المخاطب، ويسمي دليلاً. والحجاج الفلسفي هو فن الاقناع بقضايا منطقية وغايته إيصال المخاطب إلي الواقع الخارجي(2).

3. الحجاج اللّساني عملية تواصلية (خطابية وكتابية) تسعي إلي تقديم مجموعة من الجمل اللّسانية للوصول إلي نتيجة صريحة، أو ضمنية بغية اقناع المتلقي والتأثير فيه. في حين الحِجَاج الفلسفي «يسعي إلي

ص: 36


1- دروس الحِجَاج الفلسفي، الموقع علي الانترنت: www.4shared.com/office/19kgy.../.html .
2- اُنظر: المصدر نفسه.

الوصف والإظهار والكشف عن المنطق الداخلي للخطاب لمعرفة مدي تماسك عناصره وانسجامها(1)، ومدي صحة حججه وأدلته»(2).

4. الحِجَاج الفلسفي عملية عقلية صرفة لا تسعي إلي إثارة العواطف، بل تصبو إلي وضع المخاطب في صميم الواقع، فيما سعي الحجاج اللّساني إلي التأثير الفهمي والعاطفي باستخدام آليات لسانية.

4 - الحِجَاج المغالط (السفسطة)

قال الجاحظ: «ولولا الكلام لم يقم لله دين، ولم نبن من الملحدين... ولا بانت الحُجَّة من الحيلة والدليل من الشبهة»(3)، المراد بالحيلة هنا (المغالطة). وقال ابن عاشور: «إنّ حاجّ لا يستعمل غالباً إلا في معني المخاصمة... والأغلب أنّه يفيد الخصام بالباطل»(4)، ففي قوله: (يفيد الخصام بالباطل) إشارة إلي ما يُصطلح عليه بالدراسات الحديثة بالحِجَاج المغالط، والمغالطة تعني السفسطة عند اليونان. و«يبني هذا النوع علي المغالطة في تقديم الحجة، ويعبر عنه باللغة الفرنسية بمصطلح (Paralogisme)المتكون من جزأين هما (para) ونعني به خاطئ و(Logisme) بمعني الحجة»(5). ومن أساليب المغالطة اعتماد قوة السلطة لترهيب المتلقي ويكثر

ص: 37


1- كذا. و الأصوب: تماسك عناصره وانسجامها.
2- الحِجَاج الفلسفي وتطبيقاته الصفية، مادونا طربية، مقال علي صفحة الانترنت: scorazein.wordpress.com.
3- رسائل الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه-)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة (1384ه- - 1964م): 1/285.
4- تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس( 1984م): 3/32.
5- الأساليب المغالطية مدخلاً لنقد الحِجَاج، محمد النويري، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم): 406؛ واُنظر: القيمة الحِجَاجية في النص الإشهاري، الدكتور نعمان عبد الحميد بوقرة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 3/352.

ذلك في النصوص السياسية، ومن أمثلته خطبة زيد بن المقنع العذري الذي سعي فيها إلي ضمان ولاية العهد ليزيد بن معاوية،فخطب في مجلس معاوية قائلاً: «هذا أمير المؤمنين - وأشار إلي معاوية - فإن هلك فهذا - وأشار إلي يزيد - ومن أبي فهذا - وأشار إلي سيفه - فقال معاوية: اجلسْ فأنت سيد الخطباء»(1). أو يعمد المغالط إلي تشكيك المتلقي في قضية يؤمن بها، بالاعتماد علي أساليب لغوية ظاهرها سليم وباطنها خاطئ لا يستطيع اكتشافه إلا الخبراء وأصحاب الاختصاص. فللوظائف الصوتية، والبنيوية، والتركيبية، والدلالية، والبلاغية، والأسلوبية الأثر البالغ في تحقيق الكفاية التدليلية والإقناعية، فهو يعتمد علي سلطة اللغة في استدراج المتلقي من أجل تغليطه، وهذا ما يميز اللغة الطبيعية من السيميائيات غير اللغوية.

والغاية من التعرّف علي الحِجَاج المغالط هي صدّ كلّ من اعتمد علي المغالطة، والتضليل ولن يتحقق ذلك إلا لمن يمتلك أدوات اللغة، فعلي المتلقي أن يفهم خطاب الطرف الآخر محكمه ومتشابهه، ظاهره وباطنه؛ لأنّ الوظائف اللغوية هي التي يستغلها المغالط لتضليل المتلقي وتغليطه. فقد يأتي المغالط بحجّة مقبولة ظاهرياً لكنّه في الباطن يريد حجّة أخري، وغرضاً آخر؛ لذا وجب الاحتراز منالحِجَاجيات المغالطة.

5 - الخطابة

يختلف الحِجَاج عن الخطابة في ما يأتي:

1. نوع الجمهور: فجمهور

الخطابة ينبغي أن يكون حاضراً يستمع إلي

ص: 38


1- الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن أبي الكرَم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ المعروف بابن الأثير الجزريّ الملقب بعز الدين (ت630ه-)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1407ه- - 1987م): 3/352.

الخطيب وهنا ينبغي أن يهتم الخطيب بالمقام، في حين الحِجَاج لا يعتمد علي الحضور والغياب فقد يكون الجمهور في الحِجَاج حاضراً، ويمكن أن يكون الحِجَاج بين طرفين، كما يمكن أن يكون بين المرء ونفسه.

2. نوع الخطاب: يشترط في الخطابة أن تكون منطوقة، في حين الحِجَاج يمكن أن يكون منطوقاً، ويمكن أن يكون مكتوباً، واهتم بيرلمان وتيتيكاه بالمكتوب أكثر من المنطوق، ويريان أنَّ الكاتب عندما يكتب يستحضر الجمهور، ويوجه كتابته بحسب نوع الجمهور(1). فقد جاء في مقدمة كتابهما: «وما دامت غايتنا هي تحليل الحِجَاج، فلا يمكننا الاقتصار علي دراسة تقنية الخطاب المنطوق، بل أكثر من ذلك فبالنظر إلي الأهمية والدور الحديث للطباعة فإنّ تحليلاتنا ستنصرف أساساً إلي النصوص المكتوبة»(2).

3. المتلقي في الخطابة لا يمتلك الوقت الكافي للتأمّل بما يعرض عليه من آراء ومناقشتها، في حين المتلقي في الحِجَاج المكتوب يمتلك الوقت الكافي للتعبير عن آرائه.

4. الغاية من الحِجَاج الإقناع، وحمل المتلقي علي الاقتناع، في حين ليس الغاية من الخطابة الإقناع، بل تُعرِّف المقنعات في كلِّ أمرٍ من

ص: 39


1- اُنظر: الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، عبد الله صولة، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم): 306-307.
2- مقدمة كتاب مصنّف في الحِجَاج، شاييم بيرلمان وأولبريخت تيتيكا، ترجمة رشيد الراضي، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 5/66.

الأمور؛ كالطب فليس مهمته الشفاء وإنّما يبلغ من ذلك حيث استطاع(1).

6 - الجدل

الجدل لغة: «شِدَّة الفَتْل وجَدَلْتُ الحَبْلَ أَجْدِلُه جَدْلاً إِذا شددت فَتْله وفتلته فتلاً محكماً»(2)، وقال الراغب الأصفهانيّ: «الأصل في الجدل الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه علي الجدالة، وهي الأرضالصلبة»(3). أما في الاصطلاح فله تعريفات كثيرة منها: «دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة»(4)، وعرّفه ابن الأثير بأنّه «مُقابلة الحُجَّة بالحجَّة»(5)، والجدل عند أرسطو ممارسة قولية فكرية تقابل البرهان(6).

يُفهم من ذلك أنّ الجدل في اللغة يعني: (الشدّ، والإحكام، والصراع). ولاشك في أنّ في مفهوم الجدل معني الشدّ والإحكام؛ لأنّ كلا الخصمين يشتد علي خصمه، ويُضايقه بالحُجَّة التي اجتهد في إحكامها.

وحظي الجدل باهتمام العرب لوروده في القرآن الكريم، ودخوله في الصراعات

ص: 40


1- اُنظر: الخطابة، أرسطو طاليس، حققه وعلّق عليه عبد الرحمن بدوي، الناشر (وكالة المطبوعات، الكويت)، و(دار القلم، بيروت) (1979م): 8.
2- لسان العرب: مادة (جدل) 11/103.
3- مفردات ألفاظ القرآن: 189-190.
4- التعريفات: 1/101.
5- النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت606ه-)، تحقيق محمود محمد الطناحيّ وطاهر أحمد الزاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت): 1/247.
6- اُنظر: الحِجَاج عند أرسطو، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم): 116.

الفقهية والمذهبية، واختلفت وجهات النظر فيه، فبعضهم يري أنّه يمثل «صوتين كلاهما يدّعي امتلاك الحقيقة، غير أنّ الصوت المرشح للسيادة هو الصوت الذي يمتلك بلاغة الخطاب مع حجج محملة بدلالات دينية أو ثقافية أواجتماعية تصل بالخطاب إلي أعلي درجات الحسم»(1)، والآخر يري أنّ الجدل لا يبيّن به حقّ، ولا تقوم به حجّة.والحقيقة إنّ الجدل علي نوعين:

الأول: سلبي، ومن أمثلته قوله تعالي: «وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ»(2).

والآخر: إيجابي، ومن أمثلته قوله تعالي: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(3)، وقوله تعالي: «ادْعُ إِلَي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(4).

فالله (عزوجل) نهي عن النوع الأول، وأمر المسلمين بالجدل بالتي هي أحسن.

نستشف ممّا تقدّم أنّ الجدال غير الحِجَاج، ومن أهم الفوارق بينهما:

1. «الحِجَاج أوسع من الجدل فكل جدل حجاج وليس كل حجاج جدلاً. فهو القاسم المشترك بين الجدل والخطابة»(5).

2. الجدل قائم علي مناقشة رأي يسعي من خلاله كلّ طرف إلي التأثير العقلي المجرد، في حين الحِجَاج لا يقتصر علي التأثير العقلي

ص: 41


1- بلاغة المجادلة، حسن النعميّ، مجلة جذور التراث، جدّة، ج(19)، مج(9) لسنة ( 1426ه- - 2005م): 12.
2- سورة الرعد: آية13.
3- سورة العنكبوت: آية46.
4- سورة النحل: آية125.
5- الحِجَاج في القرآن: 17.

فحسب، بل يسعي إلي التأثير العقلي والعاطفي عن طريق استثارة المشاعر؛ لإرضاء المتلقي واستمالته.

3. الحِجَاج خطاب يصدره المحاجج إلي جمهوره يمكن أن يكون فيه الجمهور حاضراً، ويمكن أن يكون بين طرفين، كما يمكن أن يكون بين المرء ونفسه. في حين الجدل لا يوجه إلي الجمهور، ولا إلي النفس إذ لا جدال بين المرء ونفسه، و يقتصر علي طرفين لكلٍّ منهما موقف مخالف لموقف الطرف الآخر.

4. الجدل يقتصر علي المشافهة، أمّا الحِجَاج فيكون مشافهة وكتابة أيضاً.

5. المحاجج يذكر مجموعة من الحجج من أجل الوصول إلي الغاية المبتغاة (النتيجة).

6. وغالباً ما يرتبها علي وفق سلّم حجاجي، أمّا المجادل فيقابل الحُجَّة بالحجّة.

يقع الجدل بعدما تتعارض الآراء، فكلّ طرفٍ يتمسك برأيه؛ لإبطال رأي الطرف الآخر؛ بسبب الصراعات الفكرية والعقائدية، أمّا الحِجَاج فهو موضوع علمي يهدف إلي تنوير العقول وتوجيهها الوجهة الصحيحة.

لكن مع كلّ هذه الفوارق ما زال بعض الباحثين يخلطبين الحِجَاج والمحاجّة والمجادلة(1)، والآخر يعدّ الحِجَاج جزءاً من الجدل(2).

ص: 42


1- اُنظر: التداولية والحِجَاج مداخل ونصوص: 68.
2- اُنظر: معاني ألفاظ الحِجَاج في القرآن الكريم وسياقاتها المختلفة السور السبع الطوال أنموذجاً - دراسة دلالية معجمية -، سعيد فاهم، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة مولود معمري - تيزي وزو -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة والأدب العربي (2011): 2.
7 - المذهب الكلامي

نسب ابن المعتز(ت296ه-) نشأة المذهب الكلامي إلي الجاحظ، وأنكر وجوده في القرآن الكريم(1)، وردّ الزركشي ذلك الإنكار، وذكر عدداً من الآيات القرآنية مصاديقَ عليه منها قوله تعالي: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» (2)، وأسماه (إلجام الخصم بالحجة). وعرّفه بأنّه «الاحتجاج علي المعني المقصود بحجة عقلية»(3). وعرّفه الجرجاني في كتابه (التعريفات) قائلاً: «هو أن يورد حجة للمطلوب علي طريق أهل الكلام بأن يورد ملازمة ويستثني عين الملزوم أو نقيض اللازم أو يورد قرينة من القرائنالاقترانيات لاستنتاج المطلوب»(4).

يُستشف من ذلك أنّ المذهب الكلامي مصطلح بلاغي عربي قديم، يستند فيه صاحبه إلي حجة عقلية لغرض الإقناع أو الزيادة في الاقتناع، وهو بذلك يقترب كثيراً من مفهوم الحِجَاج لكن مع بعض الفوارق هي:

1. المذهب الكلامي موضوع من موضوعات علم البديع في البلاغة العربية، بعبارة أخري هو جزءٌ من جزء. في حين أنّ مفهوم الحِجَاج لا يقتصر علي البلاغة وحدها، بل تتجاذبه مجموعة من العلوم ك-(القانون، والفلسفة، والمنطق، والسياسة، والإعلام، فضلاً عن اللغة، والبلاغة).

2. ضيق مفهوم المذهب الكلامي يحصر الباحث في الجانب البلاغي،

ص: 43


1- اُنظر: البديع، عبد الله بن المعتز (ت296ه-)، تحقيق اغناطيوس كراتشقوفسكي، دار المسيرة، الكويت، الطبعة الثالثة (1402ه- - 1982م): 53.
2- سورة الأنبياء: آية22.
3- البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشيّ (ت794ه-)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثالثة( 1404ه- - 1984م): 3/468.
4- التعريفات: 265.

ولاسيما علم البديع. في حين سعة مفهوم الحِجَاج، وكثرة نظرياته الحديثة تمكن الباحث من الإفادة من علومٍ جمّة في تحليل النصوص حجاجياً.

8 - البرهان
اشارة

البرهان علمية ذهنية تتشكل من مقدمات يقينية للوصول إلي نتائج يقينية، ويُقسم علي قسمين برهانرياضي رقمي، وبرهان منطقي لغوي، ومن أمثلة البرهان المنطقي اللغوي:

مقدمة أولي ← كلّ إنسان فانٍ

مقدمة ثانية ← محمد إنسان

نتيجة ← محمد فانٍ

الفوارق بين البرهان والحجاج اللّساني:

واهتم أرسطو والحِجَاجيون المحدثون بالتفريق بين الحِجَاج والبرهان؛ لتداخل مفهوم الحِجَاج مع مفهوم البرهان عند غير المختص، والحقيقة إنهما ينتميان إلي مجالين مختلفين وبينهما فوارق كثيرة منها.

الفوارق تتجلّي جيداً إذا فكّكنا بين هاته المستويات الثلاثة:

1. الصياغة اللّسانية (البعد الدلالي)،

2. نوعية الصياغة اللّسانية في السياق (البعد التداولي)،

3. اللّسان بوصفه قضية تحكي الواقع الخارجي.

نأتي الآن إلي الفوارق علي ضوء هذا التفكيك:

1. الفارق الأوّل: البرهان يتحرّك علي مستوي اللّسان بوصفه قضايا تحكي الواقع الخارجي، والحجاج اللّساني يتحرّك علي مستوي

ص: 44

اللّسان بوصفه آليات تواصلية تداولية.

2. الفارق الثاني: البرهان يتألف من مقدمتين في سياق تدليلي يربط بينهما رابط عقلي (مبدأ التضمن)، فيما يربط بين الجمل في الحجاج اللّساني روابط تتمثل في حروف تنتمي إلي اللّغة الطبيعية.

مثال ذلك:

الإنسان عالم، ففي العملية البرهانية مصحح هذا التركيب هو اندراج الإنسان بصفة العلم تحت المحمول (العالم) الذي يصدق علي غير الإنسان أيضاً، فيما يصحح الجملة آلية الابتداء وآلية الخبرية.

3. الفارق الثالث: في البرهان يجب التصريح بالمقدمات والنتائج تصريحا عقليا وفهميا، ولا يجب التصريح اللّساني. وفي الحجاج اللّساني التصريح ليس ضرورياً لمقتضيات أصل اللّغة، وإن كان التصريح العقلي والفهمي ضرورياً أيضاً، وإلّا لا يتحقق التواصل والفهم.

4. الفارق الرابع: الفارق الرابع ناظر إلي آلية الإيصال، فإنَّ البرهان بوصفه يتحرك علي مستوي الواقع الخارجي تكون قضاياه إما صادقة وإما كاذبة، فيما يخضع الحجاج اللّساني - بوصفه يتحرّك علي مستوي اللّسان - لتراتبية تدليلية، الأمر الذي لا نجده في البرهان.

5. الفارق الخامس: برهانٌ واحدٌ يكفي للإقناع، وذلك أنّ البرهان يتحرّك علي مستوي الواقع الخارجي أو الصدق وعدم الصدق، ما يعني أنَّ درجة الاحتمال منفية عن العملية البرهانية. فيما يخضع الحجاج اللّساني لذلك بوصفه يتحرّك علي مستوي اللّسان والتداول.

ص: 45

6. الفارق السادس: يتميز البرهان باستقلاله التام عن الذات الإنسانية، فالبرهان يتألف من علاقات موضوعية قائمة بذاتها وتستند إلي قوانين عامة تستمد قوتها من ذاتها وتفرض سلطتها علي غيرها، في حين يستند الحِجَاج إلي التداول الإنساني، وتستمد الحجج فيه قوتها من الواقع.

7. الفارق السابع: البرهان عبارة عن معايير عقلية عامة لا تخضع لإرادة فاعل البرهان (المبرهن)، فيما تخضع الحجج اللّسانية لإرادة المحاجج في تلاعبه بالآليات اللّسانية؛ بغية الوصول إلي أغراضه التواصلية والتحريكية.

8. الفارق الثامن: البرهان بوصفه معياراً عامّاً يقع فوق الإرادات، ولا يقبل الرد والاعتراض، فيما يقبل ذلك الحجاج اللّساني، ما يجعل البرهان أمراً مطلقاً والحجاج اللّساني أمراً نسبياً.

9. الفارق التاسع: الحِجَاج يتصل بالعلاقات بين الأقوال في الخطاب،عكس الاستدلال الذي يتصل بالعلاقات بين القضايا التي يحكم عليها بالصدق والكذب(1).

10. الفارق العاشر: يرتبط تقويم البرهان بالصدق والكذب، أما قيمة التعابير الحِجَاجية فتتعلق بالآخر الذي وُضعت من أجله بغية؛ إقناعه(2).

ص: 46


1- نظرية الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 362؛ واُنظر: أهم نظرية الحِجَاج في التقاليد الغربية، حسن المودن، مجلة علامات، ج (42)، م (11)، لسنة (1422ه- - 2001م): 24.
2- اللغة والمنطق بحث في المفارقات: 140.

11. الفارق الحادي عشر: الحجاج بوصفه خاضعاً لمعايير لسانية فيتبع قانون المواضعة، فيما لا يخضع البرهان إلي ذلك، بل يتبع الواقع الخارجي بصياغات عقلية متناغمة تمام التناغم مع الواقع.

مثال ذلك: عبارة (الحمد لله) لسانياً يقدم الحمد علي لفظ الجلالة (الله) لآلية تواضعية هي الاختصاص، فيما لا يراعي البرهان هذا الأمر، وبالتالي لا يفرق عنده أن نقول: (الحمد لله) أو (الله له الحمد)أو (الله محمود)، وذلك أنَّ البرهان يريد أن يثبت حيثية الحمد للذات المقدسة فقط.

12. الفارق الثاني عشر: الحجاج يخضع لآليات اللّسان البلاغية والنحوية والصرفية، فيما يخضع البرهان لآليات منطقية عقلية.

13. الفارق الثالث عشر: البرهان بوصفه معياراً عاماً لا علاقة له بالأشخاص، ولا بآليات اللّسان، فيما يخضع الحجاج إلي آليات اللّسان ومقتضيات التداول والتواصل(1).

ومع كلّ هذه الفوارق ما زال بعض الباحثين لا يفرق بين المفهومين ويعدهما مترادفين(2).

9 - المناظرة
اشارة

«المناظرة: أن تناظر أخاك في أمرٍ... وناظرت فلاناً أي صرت نظيراً له في المخاطبة»(3). وعرفها الشريف الجرجاني: «هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة

ص: 47


1- المصدر نفسه: 140.
2- اُنظر: بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (164) لسنة (1992): 68، 118.
3- لسان العرب: مادة (نظر) 5/217-219.

بين شيئين إظهاراً للصواب»(1). والمناظرة «المحاورة الفكرية التي تعقد بين نظيرين لعرض وجهاتالنظر في موضوع ما والفصل فيه؛ لإظهار الصواب، وتوخي الحقيقة»(2). وغالباً ما تتعلق بالقضايا الفقهية، أو مسائل علم الكلام، وظهرت في العصر الأموي، «وهي ممّا سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان»(3).

ومن أهم الفوارق بين المناظرة والحِجَاج:

1. المناظرة تكون بين طرفين (المناظر والمعترض) يتبادلان الحجج أمام جمهورٍ من الحضور في مجلس أحد الشخصيات. أما الحِجَاج فيكون بين طرفين. الأول: المرسل (المحاجج). والآخر: المتلقي (المرسل إليه) يمكن أن يكون فرداًً، وقد يكون جمهوراً، وقد تكون نفس المحاجج.

2. المناظرة يعترض فيها كلّ طرف علي دعوي الطرف الآخر من أجل إفحامه والظفر عليه وكلٌّ منهما يدّعي الحقيقة، أمّا المحاجج فيسعي إلي الإقناع، أو الزيادة في الاقتناع.

3. المناظرة تقتصر علي المشافهة، أمّا الحِجَاج فيقوم علي الخطابة والكتابة.

4. في المناظرة حكمٌ يحكم بأحقية شخص علي حساب الآخر.

ص: 48


1- التعريفات: 678.
2- المحاجة والإقناع في القرآن الكريم: 2/233.
3- الحوار والمناظرة في منظور الشارع، نور الدين صغيري، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد (36)، لسنة (1422ه- - 2002م): 20.
10 - المناقشة
اشارة

أَصل المُناقَشة من «نقَش الشوكة إِذا استخرجها من جسمه وقد نَقَشَها وانْتَقَشها»(1)، والمناقشة بين اثنين هو أن ينقش كلّ منهما ما عند الآخر؛ أي يستخرجه.

ومن أهم الفوارق بين المناقشة والحِجَاج:

1. المناقشة تكون بين فردين (المناقِش والمناقَش)، أما الحِجَاج فيكون بين طرفين. الأول: المرسل (المحاجج). والآخر: المتلقي يمكن أن يكون فرداً، وقد يكون جمهوراً، وقد تكون نفس المحاجج.

2. المناقشة تبني علي السؤال والجواب، وهذا يعني أنَّها تحتاج دائماً إلي فردين في حين «السمة

الأساسية في الحِجَاج الخطبيّ هي حينئذ إقصاء السؤال. السؤال الذي يكون منشأ للحجاج»(2).

3. المناقشة تقتصر علي المشافهة. أما الحِجَاج فيمكن أن يكون خطابة أو كتابة.

4. نستشف ممّا تقدّم أنّ الحجاج:

5. مفهوم مستقل عن (المحاجّة، والاحتجاج، والسفسطة، والخطابة، والجدل، والبرهان، والمذهب الكلامي، والمناظرة، والمناقشة) فهو حقل قائم بذاته، يهدف إلي تنوير العقول وتوجيهها الوجه الصحيح، بآليات لسانية ومقتضيات لغوية.

6. الحِجَاج وظيفة من أهم وظائف اللغة، وهو من العمليات اللسانية

ص: 49


1- لسان العرب: مادة (نقش)6/358.
2- الحِجَاج عند أرسطو، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 127.

الخطابية والكتابية يسعي فيه المحاجج إلي التأثير في المتلقي، بتقديم مجموعة من الحجج؛ للوصول إلي نتيجة صريحة أو ضمنية؛ بغية التأثير فيه وإقناعه أو الزيادة في اقتناعه.

7. الحِجَاج ينتمي إلي الخطاب الطبيعي، ويتألف - في الأصل - من حجة، ورابط، ونتيجة.

8. الحِجَاج حججه واقعية، تُرتب غالباً علي وفق سلمٍ حجاجي.

9. الحِجَاج يحتاج إلي مجموعة من الحجج؛ ليزيد من الدرجة الاحتمالية، ولتقوية مقبوليته لدي المخاطب.

10. يدّل الحِجَاج علي المشاركة بين طرفين، وتكون فيه النتائج احتمالية قابلة للنقض والتفنيد بحجج أقوي منها.

11. نتائجه يمكن أن تكون صريحة، ويمكن أن تكون مضمرة إن دلّ عليها دليل.

12. أساسه الرأي، ويُراعي فيه المقام، ونفسية المخاطب.

13. شخصي يستند إلي التداول الإنساني.

14. لا يقتصر علي التأثير العقلي فحسب، بل يسعي إلي التأثير العقلي، والعاطفي عن طريق استثارة المشاعر؛ لإرضاء المتلقي واستمالته.

15. مجاله واسع، يشمل كلّ العلوم الدينية والدنيوية.

16. لا يقتصر علي الخطابة فحسب، بل يمكن أن يكون كتابة أيضاً، كما يمكن أن يكون بين المرء ونفسه.

17. يتبادل فيه المتلقي المواقع مع المُحَاجج أحياناً.

18. هو القاسم المشترك بين الخطابة والجدل.

19.الحقيقة فيه غير واضحة.

ص: 50

المبحث الثاني: نظريات الحِجَاج

توطئة

ظهرت في العصر الحديث آراء حجاجية بعضها ينتمي إلي البلاغة، والآخر ينتمي إلي المنطق، وبعضهم عالجها معالجة لسانية؛ وممّا يُلاحظ علي تلك النظريات إنّها لا تزال في طور التكوين والتطور.

وسأذكر في هذا المبحث وصفاً موجزاً لهذه النظريات الحِجَاجية. وأعتذر عن الإطالة فيه؛ إذ وجدتُ أنّ الإحالات علي المراجع السابقة لا تغني في إعطاء صورة متكاملة عن هذه النظريات.

الحِجَاج عند بيرلمان وتيتيكاه

ظهر الحِجَاج بوصفه نظرية مستقلة في منتصف القرن العشرين، وبالتحديد في عام (1958م) علي يد العالم البولوني المولد البلجيكي المقام شيم بيرلمان (Chaim Perelman)، وتلميذته لوسي أولبريشت تيتيكاه (Olbrechts -Tyteca Lucie) في مصنفهما المشترك(مصنف في الحِجَاج - الخطابة الجديدة) الذي ضمّ بين طياته أسس نظرية حجاجية جديدة ركزت علي جانب الظفر بالحجة، وفصلا فيه الحِجَاج عن الخطابة والجدل من جهة، وعن المغالطات السفسطائية من جهة أخري، كما خلّصاه من صرامة الاستدلال المنطقي الذي يجعل المخاطب في وضع ضرورة وخضوع، وحاولا بذلك تقريب الحِجَاج من مجالات استعمال اللغة،

ص: 51

وجعلاه علماً قائماً بذاته مبنياً علي الحوار من أجل حصول الوفاق بين الأطراف المتحاورة، فكلما كانت فيه حجج الخطيب أكثر إقناعاً يقبل بها الجمهور. وهما بذلك حاولا أن يجعلا للبلاغة بعداً عقلياً. وحاول بيرلمان وتلميذته من هذه النظرية إيقاظ العقول من السبات الذي سيطر عليها؛ لتفكّر، وتحلّل، وترد، وتدعم، وتفنّد، وتقتنع أو لاتقتنع. وجعلا الغاية من الحِجَاج إذعان العقُولٍ ««لما يُطْرَحُ عليها من آراء، أو أن يزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجع الحِجَاج ما وُفِّق في جعل حدّة الإذعان تقوي درجتها لدي السّامعين بشكلٍ يبعثهم علي العمل المطلوب (إنجازه أو الإمساك عنه)، أو هو ما وُفق علي الأقل في جعل السامعين مهيّئين لذلك العمل في اللّحظة المناسبة»(1) من أجل حصول التسليم للرأي الآخر بعيداً عن الاعتباطية واللامعقولية، وإزالة شك المتلقيفي وجهة النظر محل الخلاف.

فالحِجَاج - عندهما - حوارٌ يسعي إلي إحداث اتفاق بين الأطراف المتحاورة في جوٍّ من الحرية و(الديمقراطية)(2)، وموضوعه «درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلي التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم»(3). ويهدف إلي التأثير العملي المتمخض عن التصورات العقلية المقدمة من المحاجج إلي المتلقي. ويكون أكثر فعالية كلما وفق المحاجج في جعل حّدة الإذعان تقوي درجتها لدي السامعين بشكلٍ يدفعهم إلي عمل شيءٍ ما أو الإمساك عنه، فالغاية التي يتأسس عليها هي مجابهة العقول وإقناعها؛ «فليس الحِجَاج في النهاية سوي دراسة لطبيعة العقول، ثم اختيار أحسن السُبل لمحاورتها، والإصغاء

ص: 52


1- الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 229.
2- اُنظر: البحث نفسه: 229.
3- الحِجَاج في القرآن: 27.

إليها، ثم محاولة حيازة انسجامها الإيجابي والتحامها مع الطرح المقدّم»(1).

ومن الملاحظ أنّهما جعلا الإقناع لبّ العملية الحِجَاجية؛ «لينتج عنه القرار بممارسة عمل معين أو اتخاذ موقف ما»(2)؛لتحقيق وظيفة عملية، هي جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة، فضلاً عن تحقيق استمالة المتلقي لما يُعرض عليه من رأي أو دعوي، والتأثير العملي في سلوكه(3)، أو جعله ينثني عمّا كان يريد الإقدام عليه.

وعُدَّ هذا المصنّف ثورة جعلت من بيرلمان قطباً بلاغياً بارزاً، ورائداً من رواد الدراسات البلاغية في العصر الحديث(4)؛ وذلك يعود إلي تنبهه ما تنبه إليه من إغفال الدراسات البلاغية التي سبقته الجانب الإقناعي للبلاغة (الحِجَاج) في الوقت الذي صبّت فيه جلّ اهتمامها علي الجانب الامتاعي القائم علي المحسنات البلاغية والتزيين والزخرفة، الذي ساد في الدراسات البلاغية ردحاً من الزمن؛ فانبري بيرلمان وتلميذته إلي ذلك وميّزا الحِجَاج من الأسلوبية؛ ليعيدا الاعتبار للبلاغة الحِجَاجية من خلال قراءة الموروث القديم، وأعطائه صبغة جديدة بقالبٍ علمي خالص حاولا فيه العودة إلي الأصل، حيث كانت البلاغة حجاجية، وكانت فيها المحسنات البلاغية روافدلغوية تسعي إلي بعث الإقناع، وأشارا إلي ذلك

ص: 53


1- مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، محمد سالم محمد الأمين الطلبة، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 2/189. نقلاً عن: Traite De I Argumentation, op.cit,p18.
2- استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولي (2004م): 457.
3- اُنظر: البلاغة والاتصال، جميل عبد المجيد، دار غريب، القاهرة (د.ت): 106.
4- اُنظر: الحِجَاج في الدرس اللغوي الغربي، أ. بوزناشة نور الدين، مجلة علوم انسانية، خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صحيح.، لسنة (2010م)، موقعها علي الأنترنت: www.ulum.nl

بقولهما: «نعتبر(1) صورة التعبير حجاجية إذا كان استتبعت تغييراً في الأفق فبدا استعمالها عادياً بالنسبة للمقام(2) الجديد المقترح. أما إذا كان الخطاب علي خلاف ذلك لا يستتبع انخراط المستمع في هذا الشكل الحِجَاجي فإنّ الصورة ستظهر كمحسن، أي كصورة أسلوبية(3) بوسعها أن تثير الإعجاب ولكن ذلك يظلّ في المستوي الجمالي»(4). ويري الباحثان أنّه من غير الممكن الفصل بين الشكل والمضمون، فلا يمكن فصل البني الأسلوبية عن أهدافها الحِجَاجية، فينبغي الأخذ بعين الاعتبار كلّ المظاهر الشكلية بما في ذلك التنغيم والإشارات مقومات حجاجية إقناعية(5).يُفهم من ذلك أنّ نظريتهما هذه تركز بالدرجة الأساس علي جانب الظفر بالحجة، أو مصادر الأدلة أكثر ممّا تهتم بجمالية العرض اللغوي الأسلوبي، الذي كان سائداً في الدراسات البلاغية الغربية.

مظاهر التواصل في نظريتهما

اشارة

اهتم الباحثان بمظاهر التواصل؛ لما لها من أثر أساس في تشكيل خطاب

ص: 54


1- كذا، والصواب: نعد.
2- كذا، والأصوب: بالنسبة إلي.
3- كذا، والصواب: ستظهر بوصفها محسناً أي صورة أسلوبية.
4- البلاغة العامة والبلاغات المعمَّمة، محمد العمري، مجلة فكر ونقد، المغرب، العدد (25)، لسنة (2000)، الموقع علي الأنترنت: http: //www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n61-07alwali.htm؛ نقلاً عن: et Olbrechts –Tyteca. La nouvelle rhétorique’ traité De L’argumentation (Paris 1976).p.229. ونقله في L’empire rhétorique.p.13.
5- اُنظر: الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 317؛ ومفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/196؛ والاستعارة الحِجَاجية بين أرسطو وشايم بيرلمان، محمد الولي، مجلة فكر ونقد المغرب، ع (61)، لسنة (2004م). الموقع علي الانترنت: http: //www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n61-07alwali.htm.

حجاجي يسعي إلي خلق إطار تواصلي إقناعي يؤسسه المحاجج والمتلقي.

أ - المقام

المقام يعني الظروف والملابسات التي يجري فيها الخطاب(1)، «ويشمل المشاركين في القول، والمكان، والزمان، وهدف القول، وموضوع، وجنس الخطاب، وقناة التعبير، واللهجة المستخدمة فيه، وقواعد توزيع الكلام»(2)، وشكّل المقام في نظريتهما «البؤرة التي تلتقي فيها جميع العناصر الحِجَاجية من مقدرات برهانية، وحقائق فعلية، وقرائن بلاغية، وقيم بشتي أقسامها، وعلاقة هذه القيم بمراتب الكائنات والأشخاص المعنيين بخطابٍ ما»(3). حتي وُصفتنظريتهما بأنّها نظرية مقامية بالدرجة الأساس، ويعتقدان أنّ المحاجج الحاذق هو الذي يجيد ترتيب مقدماته بحسب المقام، وبحسب الأولوية والظروف المحيطة به.

ب - ثنائية المحاجج والمتلقي

المحاجج (المرسل)، والمتلقي (المرسل إليه) محوران أساسيان في نظرية الحِجَاج البيرلمانية. فأهم سمة اتسمت بها هذه النظرية اهتمامها بالمتلقي، فهما يريان أنّ وظيفة المتلقي لم تقتصر علي تلقي الخطبة ممّن هو أعلي منه - كما كان ذلك في الخطابة القديمة -، ولم يعد أدني درجة من الخطيب، بل صار موازياً للخطيب يتلقي ما يتلقاه منه، ثم يفكر فيه، ويرد، ويُناقش، ويفنّد، ويدعم، وقد ينتقل - أحياناً - من

ص: 55


1- اُنظر: استقبال النص عند العرب، محمد المبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (1999م): 263.
2- من آليات تحليل الخطاب، صابر الحباشة، مجلة جذور التراث، جدّة، ج (22)، مج (10)، لسنة (1426ه- - 2005م): 332.
3- مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/209.

موقع التلقي إلي موقع الحجاج. فالعلاقة بين المتلقي والخطيب في البلاغة البيرلمانية علاقة أفقية تبادلية، في حين كانت في الخطابة الأرسطية علاقة عمودية رأسية، يقتصر فيها أثر المتلقي في التلقي، وكان فيها المتلقي أدني مرتبة من الخطيب.

والمتلقي قد يكون جمهوراً حاضراً، أو يكون فرداً، أو تكون نفس المحاجج، أو يكون جمهوراً كونياً لا يقتصر علي زمان ومكان محددين، أو قارئاً متأملاً، «ويري بيرلمان أنّ مخاطبة الفرد تختلف عن مخاطبة الجماعة، إذ توفر للخطيب الامتياز بالتعرف علي المستمع الفرد معرفة عميقة؛ لأنّ الخطيب مع تقدّم الحوار يستطيع منخلال الأسئلة والأجوبة التعرف عليه أكثر، وخاصة بما يتعلق بميولاته والجوانب يستحب(1) لها هذا الفرد، ممّا يسهم في خلق وضعية مناسبة للإقناع والتأثير، أما إذا تجاهل الخطيب ذلك فإنّه سيقف أمام حجر عثرة يحول بينه وبين مستمعيه وبالتالي يضيع إقناعه»(2). والعلاقة بين المحاجج والمتلقي مبنية علي عدم اليقين؛ فالمحاجج يحاول من حجاجه إقناع المتلقي بوجهة نظره، بتقديم الحجج علي أطروحته؛ بغية استمالة المتلقي إليها، ويتوقف ذلك علي مقدرة المحاجج في اقتحام عالم المتلقي وتغييره؛ لذا يهتم المحاجج الفطن بالموضوع الذي يقدّمه، ويوفّيه حقّه ممّا تستدعيه الصياغة اللغوية، والمُحَاجج الحاذق هو الذي يجعل المتلقي مشدوداً إليه، ولكي يظفر بذلك عليه التوسل بالمحسنات البلاغية من دون إسرافٍ. وحذّر بيرلمان من «الإفراط والتفريط أو المبالغة أو الإهمال فيما يخص المسائل موضع النقاش والتحليل»(3)؛ لأنّ تهويل الموضوع ومنحه مساحة أكبر من حجمه أمرٌ يبعث علي السخرية، ويؤدي إلي

ص: 56


1- هكذا في الأصل، ويبدو أن الصواب: بميوله والجوانب التي يستجيب لها.
2- الحِجَاج في الدرس اللغوي الغربي، الموقع علي الأنترنت: www.ulum.nl
3- البيان الحِجَاجي في إعجاز القرآن الكريم سورة الأنبياء نموذجاً، ع(102)، الموقع علي الانترنت: www.tafsir.netlvb /Tafsir18202.

تهافت الحِجَاج(1). وينبغي أن يتمتع المحاجج بالثقة في النفس، والتحضير اللائق للمقام سواء أكان حجاجه مشافهة أم مكاتبة(2)؛ لأنّ الفعل الكلامي الحِجَاجي عبارة عن عمل جاد، وليس نوعاً من التسلية الكلامية، فهو يتطلب قناعة ذاتية، وثقة بالنفس، وينبغي أن يضع المحاجج بالحسبان مستوي العقول التي يروم إقناعها، وأن يتحلي بالخلق الرفيع، ويبتعد عن العنف وعدم احترام المتلقي، بل عليه أن يشعره بحضوره ويهتم برأيه، ويفهم حقيقة المتلقين الانفعالية، ويتحسس مشاعرهم، وما يشغل بالهم؛ كي يستثمر ذلك في حملهم علي الإقناع. وكلما كان المحاجج يعي ذلك كان تأثيره في المتلقين، وتغيير مواقفهم أسهل وأيسر. واختيار المقدمات وطريقة صوغها وترتيبها وحده يمثل قيمة حجاجية، فكلّ نصٍّ لابد أن ينطلق فيه المحاجج من نقطة معينة.

طرائق العرض الحِجَاجية

من طرائق العرض الحجاجية التي يستند إليها المحاجج:

* الإيجاز في موضع الإيجاز، فلا يعرض من المقدمات ما هو معلوم لدي السامعين، فإنّ ذلك سيكون ثقيلاً علي أنفسهم.* اعتماد الأسلوب البطيء في العرض.

* اعتماد التكرار؛ لإبراز شدّة حضور الفكرة المقصود إيصالها إلي الجمهور.

* التشديد علي بعض مقاطع الخطاب من خلال الاهتمام بالصوت، أو الصمت الذي يسبق أداءها، وما يؤديانه من دورٍ عند بعض المقاطع.

ص: 57


1- اُنظر: مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته: 2/208.
2- اُنظر: البحث نفسه: 2/207.

* كثرة إيراد الحكايات الدائرة حول موضوع واحد، وإن تعارضت تلك الحكايات وتضاربت، فإنّ ذلك يلفت الانتباه إلي أهمية الموضوع، الذي تراكمت حوله الحكايات.

* كثرة الإشارات إلي الدقائق والرقائق المتعلقة بالموضوع؛ تكثيفاً لحالة الحضور التي يريد الخطيب أن يتسم الموضوع بها؛ ليحدث بذلك انفعالاً في ذهن المتلقي، وممّا يساعد علي الإشعار بمدي حضور الحدث ذكر مكان الحدث وزمانه، مع الميل إلي استعمال الألفاظ الحسيّة بدل المجردة؛ لأنّها تزيد في درجة الحضور فتنجم، عن ذلك مصادقة المتلقي(1).

التقنيات الحِجَاجية

اشارة

التقنيات الحِجَاجية (2)

حصر بيرلمان وتيتيكاه أشكال الحِجَاج في تقنيّتين هما:

أ- تقنية الوصل:

ويقصد بها الطرائق التي تقرّب بين العناصر المتباعدة والمتباينة في أصل وجودها، وتقيم ضرباً من التضامن بينها؛ لإبرازها في بنية واضحة، أو لغاية تقويم أحد هذه العناصر بوساطة الآخر تقويماً إيجابيّاً، أو سلبيّاً. وهذه التّقنية الاتصالية تقتضي ثلاثة أنواع من الحجج هي:

1. الحجج شبه المنطقيّة: «وهي حججٌ تدّعي قدراً محدداً من اليقين، من

ص: 58


1- اُنظر: الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 318.
2- يُصطلح عليها الأشكال الحِجَاجية، والطرائق الحِجَاجية أيضاً، لكن مصطلح التقنيات الحِجَاجية أكثرها شيوعاً.

جهة أنّها تبدو شبيهة بالاستدلالات الشكلية المنطقية، أو الرياضية، ومع ذلك فإنّ من يخضعها إلي التحليل ينتبه في وقتٍ قصير إلي الاختلافات بين هذه الحجج والبراهين الشكلية؛ لأنّ الجهد يُبذل في الاختزال أو التدقيق فحسب - يكون ذا طبيعة لا صورية - يسمح بمنح هذه الحجج مظهراً برهانياً؛ ولهذا السبب ننعتها بأنها شبه منطقية»(1).

2. الحجج المؤسَّسة علي بنية الواقع: هذا النوع من الحجج لا يبتكره الخطيب؛ إذ الأشياء فيه موجودة في الواقع، وما علي الخطيب إلا الإشارة إليها، فالخطيب لا يبتدع شيئاً من عنده، وإنّما يكتفي برصد الوقائع والربط بين المتعايشات من الأشياء، أو المتناقضات. وتُستعمل للربط بين أحكامٍ مسلمٍ بها، وأحكام يسعي المحاجج إلي تأسيسها وتثبيتها وجعلها مقبولة مسلماً بها.

3. الحجج المُؤسَّسَة لبنية الواقع: وتمثلها الأمثال، والشّواهد، والتمثيل، والاستعارة، ونحوها(2).

ب - تقنية الفصل:

هي تقنية تقوم علي الفصل بين عناصر تقتضي في الأصل وجود وحدة بينها، ولها مفهومٌ واحدٌ، وتتأسّس هذه التّقنية علي ثنائيّة الظّاهر والحقيقة. فالظّاهر يردّ

ص: 59


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه، الدكتورة سامية الدريديّ، عالم الكتب الحديث، أربد (2011): 191؛ نقلاً عن: مصنف في الحِجَاج، بيرلمان وتيتيكاه: 1/259.
2- اُنظر: الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 324-348؛ والحِجَاج في القرآن: 32-33.

كلّ الأشياء إلي ما هو مُعاين، والحقيقة هي التي تمثل جوهر الأشياء وتكسبها هويّة جديدة، هي بمقتضاهايمكن التعبير عن الصّورة المثلي لتلك الأشياء كما استقرت في الأذهان، بمعني أنّ الأشياء، أو الأشخاص يمكن أن يكون لها حدّان: ظاهر زائف، وواقع حقيقي. ومن الأمثلة علي ذلك قولنا لشخصٍ ليس له مروءة: (ليس هذا الإنسان بإنسان) فلفظة (إنسان) الأولي تمثل الظاهر، أما اللفظة (إنسان) الثانية فتمثل جوهر الإنسان وحقيقته كما عرفناها من ديننا وثقافتنا وأخلاقنا، وبها يستطيع المحاجج أن يوقظ فكر المتلقي من غفلته وانخداعه به، والهدف من تقنية الفصل إسقاط أحد العنصرين المفصولين ثم تأكيد الآخر.

وتقنيات الفصل كثيرة يمكن أن نجدها في التشبيه، والاستعارة، والقصر، ونحو ذلك، فلو كان الجمهور المُخاطَب يعتقد أن زيداً شجاعاً ويصفونه بأنّه أسدٌ، وأراد المحاجج أن يكشف زيف ذلك يستعمل في خطابة عبارة (أيّ أسدٍ هذا؟) بدلاً من عبارة (هو جبان). وهو بذلك يفصل بين الظاهر المتعارف عليه بين الناس، وحقيقة زيد بوصفه جباناً، وهذا الأسلوب الحِجَاجي أكثر وقعاً في المتلقي، وأقوي قيمة حجاجية. ويمكن أن يفيد المحاجج من أسلوب القصر في الفصل بين الظاهر والحقيقة، فإذا كان جمهور من المخاطبين يعتقد أنّ زيداً عالمٌ، وأراد المحاجج أن يُبطل اعتقادهم يركن إلي القصر في ذلك؛ إذيقول: (ما زيدٌ إلا وجيه) وبقوله هذا ينفي عن زيد صفة العلم وما يتصل بها، ويقصر حقيقته علي الوجاهة فقط(1).

وقسم بيرلمان وتيتيكاه وظائف الحِجَاج علي:

ص: 60


1- اُنظر: البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحِجَاج، عبد الله صولة، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 52.

* الإقناع الفكري الخالص.

* الإعداد لقبول فكرة ما.

* الدفع إلي الفعل(1).

فقد جعلا مجال الحِجَاج مقتصراً علي الأمور التقريبية والمحتملة، وهذا يعني أنّ الحِجَاج يتغير بتغير المقام وظروف المحاجج، وإن ظلّ الموضوع نفسه(2). ويُشترط فيها أن يسلّم المحاجج بوجهة نظر الطرف الآخر وحضوره، ولولا ذلك لما كان ثمّة حجاج؛ لأنّ الحِجَاج لايكون إلا في الأمور التي تثير الشكّ، وتتطلب جهداً فكرياً؛ لتدقيقها وكشف لبسها(3).

واستطاع بيرلمان وتيتيكاه بنظريتهما هذه أن يجعلاالحِجَاج يسهم في تغيير معتقدات المتلقي من دون إكراه، كما جعلاه بديلاً عملياً عن وسائل الإكراه والإفحام؛ ليكون متلائماً مع متطلبات العصر من الحرية و(الديمقراطية)، واتساع رقعة حدود التعبير عبر وسائل الإعلام من صحافة، وقنوات، وانترنت، وما صاحب ذلك من حاجة ماسة إلي الإقناع، فكلٌّ يُعلن عن بضاعته محاولاً من ذلك التأثير في المتلقي وكسب ثقته، وهكذا جعلا الحِجَاج يعني الرغبة في ترك اللجوء إلي القوة في تغيير آراء المتلقي وتبديلها، بل يعترف بها ويحاول تعديلها بمخاطبة قدراته العقلية، وأي قرارات أو نتائج يصدرها المتلقي غير موافقة لهذا المنهج

ص: 61


1- الحِجَاج في البلاغة المعاصرة بحث في بلاغة النقد المعاصر، الدكتور محمّد سالم محمّد الأمين الطلبة، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولي (2008): 107؛ نقلاً عن: Lémpire rhétorigue, op.,p.26..
2- اُنظر: مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 2/182.
3- اُنظر: الحِجَاج في البلاغة المعاصرة بحث في بلاغة النقد المعاصر: 109.

يعدّانها نوعاً من الإكراه والعنف ويرفضانها تماماً، فالغلبة في هذه النظرية ليس لمن يملك فن الخطابة وسحرها البلاغي، بل لمن يمتلك قوة الإقناع والتأثير «وعلي هذا النحو من التفكير أمكن للمؤلفين أن يلمّا شتات كيان الخطابة الذي تصدّع وتوزّعت أجزاؤه [بين] الفلسفة، والجدل، والأدب»(1)، ويجمعانها بنظرية موحّدة اصطلحا عليها ب-(البلاغة الجديدة). وهكذا استطاعا ان يفصلاالحجاج الذي يتناول الآليات اللّسانية عن الحقل المنطقي الذي يوفّر القواعد المعيارية التي تجعل القضايا العلمية تحكي وتكشف الواقع الخارجي. كما حاولا ربط البلاغة ببعدٍ عقليّ يحفظها من أن تلتبس بالسّفسطة، والمغالطة، والمناورة، وعدّا الحِجَاج حواراً بين الخطيب وجمهوره، وليس استدلالاً شكليّاً، ولامغالطة، ولا مناورة، ولاتلاعباً بالمشاعر والعقول.

الحِجَاج عند تولمين

طبع الفيلسوف الأمريكي ستيفن تولمين (Stphen Toulmin) كتابه (وجوه استعمال الحِجَاج)(2) في انجلترا في عام (1958م) وهو العام نفسه الذي أصدر فيه بيرلمان وتيتيكاه كتابهما المشترك (مصنف في الحِجَاج - البلاغة الجديدة)، وتُرجم

ص: 62


1- الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 306.
2- سمّاه بعضهم (استعمال الحِجَاج)، اُنظر: مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): هامش 35؛ وسمّاه آخرون (استعمالات الحجة) اُنظر: التواصل والحِجَاج في التداوليات الحِجَاجية للحوار(التفكير) النقدي نموذج المدرسة الهولندية - إيمرين غروتندورست، عليوي أبو سيدي، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 2/259؛ والسفسطة في المنطقيات المعاصرة التوجه التداولي الجدلي، رشيد الراضي، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 3/221.

كتاب تولمين إلي الفرنسية في عام (1994م) واشترك الكتابان في أنّهما انطلقا من مرجعيةواحدة وهي المرجعية القانونية(1).

وتولمين من أبرز رواد المدرسة الأمريكية(2) التي اهتمت بالخطابة المعرفية، ويري أنّ الخطابة والحِجَاج لا يمثلان أدوات إقناع المخاطبين واستمالتهم إلي الحقائق والمعارف التي أُنشئت سلفاً فحسب، بل هما أدوات فعّالة لبناء حقائق ومعارف جديدة(3). ولخّص الدكتور عبد الله صولة مفهوم الحِجَاج عند تولمين من الرسوم الحِجَاجية الثلاثة التي صاغها في كتابه، وهي بإيجاز: الرسم الأول: يتألف من ثلاثة أركان هي: المعطي، والنّتيجة، والضمان. وهو رسْمٌ يحدّد هويّة المعطي بواسطة نتيجة تستمدّ مشروعيّتها من طبيعة الضمان.

المعطي ← إذاً: النتيجة

نظراً إلي أنّ: الضمان

ويمكن التمثيل لها لو علمنا أنّ رجلاً اسمه (محمد) يمثل ذلك بالنسبة إلينا (المعطي).

ص: 63


1- اُنظر: مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): هامش 35؛ والحِجَاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 348.
2- وهم: بورك، وتولمين، وإهننكر، وبروكرايد، وسكوت وغيرهم. اُنظر: الحِجَاجيات اللسانية عند أنسكومبر وديكرو، د. رشيد الراضي، مجلة عالم الفكر، العدد (1)، المجلد (34)، لسنة (2005): 212.
3- اُنظر: البحث نفسه 212؛ نقلاً عن: ollopue de cerizy, L'argumentation,1987,mardaga.1991(liege),p55.

نستنتج من ذلك أنّ هذا الرجل مسلم وليس مسيحياً (النتيجة)، استناداً إلي التحليل العقلي؛ لأنّ أغلب المسلمين يسمون أبناءَهم بهذا الاسم تيمّناً بنبيهم محمد (صلي الله عليه و آله) وهذا يمثل(الضمان). ونلحظ من ذلك أنّ المعطي مصرّح به. أمّا الضمان والنتيجة فغير مصرح بهما في الغالب. وفي الرسم الثاني أضاف تولمين ما سمّاه ب-(التوجه، والاستثناء) وهذان عنصران يمثلان عناصر رفض تكون مضمرة في الغالب، كأن يُقال: اللهم إلا إذا كان ذلك الرجل مسيحياً. أما الرسم الثالث فقد أضاف فيه عنصراً آخر سمّاه (الأساس) الغاية منه تقوية الضمان، فيُقال: بحكم أنّ المسيحيين لا يسمون أبناءَهم بهذا الاسم.

ويري الدكتور عبد الله صولة أنّ هذه النظرية ليست حجاجية، يدل علي ذلك قوله: «لكن اللافت للانتباه في نموذج تولمين الحِجَاجي هذا أنّه ويا للمفارقة! غير حجاجي إذا اعتبرنا [كذا] أنّ الحِجَاج يرمي دائماً إلي إقناع الغير(1)، وإنّما هو أقرب إلي صناعة البرهان في المنطق حيث يقصد بالبرهان (إثبات الحقّ)، لا لإقناع الغير به في العادة،وإنّما لإقناع المرء نفسه وتلك هي الطريقة المتوخاة عادة في البرهان، علي عكس سائر الصناعات المنطقية التي يراد بها عادة إقناع الغير، فهي من الحِجَاج بسبيل. إنّ هذا يفسر لنا غياب ركن الجمهور في رسوم تولمين المعروضة، ومعلومٌ أنّ الجمهور قوام الحِجَاج بالمعني الذي نراه للحجاج في هذا الكتاب، وقد صدق بلونتين حين اعتبر(2) نموذج تولمين الحِجَاجي أقرب إلي النموذج المستوفي لشروط الحقيقة منه إلي النموذج الخطابي، وذلك لعدم إيلائه المقام منزلة فيه. وإن كان من الممكن أن نستشف وجود صوت المتلقي المحتمل يعترض ضمنياً علي " م ¬ ن" فكأنّه من أجل ذلك جيء

ص: 64


1- الصواب: إقناع الآخرين.
2- كذا، والصواب: عدّ

بالأركان: ض و ج و س لتثبيت الحقيقة. ولكن هذا المتلقي المحتمل قد يكون المتكلم ذاته يخاطب نفسه ويُحاول إقناعها»(1).

يُفهم من كلام عبد الله صولة هذا أنّ نظرية تولمين ليست نظرية حجاجية؛ لأنّ غايتها لم تكن إقناع الآخر، ولم تهتم بالمقام؛ وهي أقرب إلي البرهان الذي يركّز علي المادة اليقينية.

لكنّنا نجد الدكتور الفاضل يقول في موضعٍ آخر عن الضمان: «وهو شكلٌ حجاجي تخضع له جمل كثيرة في القرآن»(2). وجعل استعمال لفظة (الرسول) بدلاً من لفظة (محمد) في قوله تعالي: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ»(3) «فيه تعليلٌ ومحاجة بالسبب لمتلقي الخطاب القرآني، وفي هذه المحاجّة بالسبب التي تؤديها كلمة (رسول)مستخدمة عوض اسم العلم (محمّد) (ص) يستند إلي ما يسميه تولمين - وقد رأيناه - بالضمان أو القاعدة التي بواسطتها يقع المرور من المعطي (وهو هنا جملة الأمر، أو النهي، أو ما أشبه) إلي النتيجة (وهي تحقيق مدلول الجملة بها؛ أي: تحقيق العمل اللغوي ونجاحه وحصول تأثيره في المتلقين»(4).

والذي أراه أنّ الرسم الأول من رسوم تولمين:

المعطي ← إذاً: النتيجة

نظراً إلي أنّ: الضمان

ص: 65


1- الحِجَاج في القرآن: 26.
2- المصدر نفسه: 25.
3- سورة النور: آية54.
4- الحِجَاج في القرآن: 180-181.

يمثل رافداً حجاجياً ذا أبعادٍ دلالية عميقة، فإذا أردنا - مثلاً- أن ندعو إلي إثبات مسألة ما نستعمل ألفاظاً معينة من دون غيرها، وإذا أردنا نقض المسألة نفسها استعملنا ألفاظاً أخر؛ لغرض إضعافها في نظر الآخرين، كأن يقول والدٌ لابنه الشاب: فلانة فتاة خلوقة. فلو حللنا هذا القول علي وفق هذه النظرية نجد أنّ المعطي هو القول المذكور، والنتيجة المضمرة هي محاولة إقناع الولد وترغيبه بالزواج منها، والضمان إنّ الفتاة التي تحمل خلقاً تكون امرأة قادرة علي تكوين أسرة صالحة. وهذا يعني أنّ المحاجج لم يغفل المتلقي؛ إذ لا حجاج من دون أنتكمن خلفه غاية التأثير في المتلقي؛ لغرض تغيير سلوكه وتوجيهه نحو وجهة ما.

إذاً الغاية من كلِّ قولٍ (المعطي كما يسميه تولمين) التأثير في المتلقي؛ لغرض تغيير سلوكه بتوجيهه نحو وجهة ما، وهذا القول (المعطي) يخضع للمقام وسياق القول وظروف المحاجج. أمّا العناصر الأخر فتكون ثانوية ومشوشة، وتقسم علي قسمين: أحدهما يتعلق بالمتلقي: (التوجه، والاستثناء)، والآخر يتعلق بالمحاجج، ولو عدنا إلي المثال السابق يمكن للولد أن يعترض علي تلك الفتاة - وإن اتفق مع أبيه علي أنّها ذات خلق - كأن يصفها بأنّها غير جميلة، وفي هذه الحال يستطيع الأب أن يحتج بأنّ الأخلاق أهم من الجمال، وهكذا....

نخلص من ذلك إلي أنّ تولمين اعتمد في نظريته هذه علي ست مقولات هي:

* المعطي: ويمثله القول المصرح به.

* الضمان: وهو مرجعية عقلية يستند إليها المحاجج، وغالباً ما تكون معروفة عند المتلقي.

* النتيجة: وهي الغاية من الحِجَاج، ويُراد منها التأثير في المتلقي، ومحاولة إقناعه بتغيير سلوكه، وحمله علي عملٍ ما، وتكون مضمرة.

هذه هي الأركان الثلاثة التي استند إليها تولمين في هذه النظرية، وهي العناصر

ص: 66

التي يمكن الإفادة منها فيكلِّ حجاجٍ. أمّا المقولات الأخر فبعضها يتعلق بالمتلقي وهي: (التوجيه، والاستثناء)، والآخر يتعلق بالمحاجج وهو (الأساس)، وهذه المقولات الأخيرة مقولات منطقية برهانية تفيد في الحِجَاج القانوني وهو الأساس الذي انطلق منه تولمين في نظريته هذه، وتمثل هذه العناصر في نظرية تولمين وظائف ثانوية ومشوشة، في حين كان التعليل في الرسم الأول يمثل الوظيفة الأساسية للحجاج، وهذا ما أكده تولمين نفسه في نظريته(1).

وثمّة نظريات حجاجية أخر يمكن الإفادة منها في موضوعنا منها: (نظرية الحِجَاج في اللغة) لديكرو وتلاميذه - وسيأتي الحديث عنها لاحقاً -، و(نظرية المساءَلة) لمايير(2) القائمة علي (السؤال/الجواب)، فهويري أنّ كلَّ الكلام الإنساني

ص: 67


1- اُنظر: الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة - دراسة تداولية، ابتسام ابن خراف، (أطروحة دكتوراه)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2010): 109.
2- ميشيل مايير (Michel Meyer) فيلسوف لساني بلاغي بلجيكي، من تلامذة بيرلمان وضع نظرية المساءَلة (Laproblématologie) في عام (1982م) من خلال إعادة النظر في مفهوم اللوغوس الأرسطي ألغي فيها كلّ المحاولات والمدارس اللغوية التي اشتغلت علي اللغة والكلام؛ لأنّها - في نظره - لم تجب عن السؤال. ماذا يعني أن نتكلم؟. وانطلق في نظريته هذه من الحقل الفلسفي، فأهم ما يميزها إنّ كلَّ آرائه جاءت بإطارٍ فلسفي ابستيمولوجي وصرّح بذلك قائلاً: اليوم يجب أن تكون الخطابة - بما فيها من حجاج وبلاغة - في خدمة الفلسفة. واستخلص تصوره للحجاج من مفاهيم المدرسة البلجيكية، ولاسيما من أستاذه بيرلمان، لكنّه خالفه في ربط الحِجَاج بنظرية المساءَلة، وربط فيها الحِجَاج بالكلام وما يثيره من تساؤلات في ذهن المتلقي عندما يلقي عليه الخطاب، ويري أنّ المساءلة عبارة عن مفاوضة لتعميق ما بين المتكلم والمخاطب من مسافة أو تقليصها. اُنظر: اللغة والمنطق والحِجَاج، ميشيل مايير، تقديم وترجمة محمد أسيداه، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 5/1-49؛ والبلاغة والحِجَاج من خلال نظرية المساءَلة لميشال ميار، محمد علي القارصي، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية): 392-399؛ و معاني ألفاظ الحِجَاج في القرآن الكريم وسياقاتها المختلفة السور السبع الطوال أنموذجاً: 21؛ نقلاً عن: Questions de Rhélorigue, Michel Meyer,p.142.

المنطوق والمكتوب عبارة عن أسئلة وأجوبة، ويري أنّ الخطاب عبارة عن حجج مصرّح بها، يستنتج منها المتلقي أسئلة مضمرة(1)، فإذا كان ثمّة تطابق بين الأسئلة والأجوبة حصل الإقناع، وإذا لم يحصل التطابق تباعدت وجهات النظر. ومن جهة أخري يري أنّ الأسئلة التي يذكرها المخاطب يريد منها إثارة المتلقي واستدراجه إلي إعلان وجهة نظره في الموضوع موضع النقاش، ويري أنّ الحِجَاج يترتب عليه فعلٌ إنجازي(2). ويري أنّ الصورة البلاغية ما هي إلا صيغة من صيغ الحِجَاج،ويمكن توضيح ذلك بالمثال الآتي: (محمد أسد) ظاهر اللفظ لا يفيد الحقيقة، وهذا ما يدفع المتلقي إلي أن يتساءل عن مقصد المتكلم في اقتران محمد بالأسد؛ والسبب في هذا التساؤل يعود إلي الاختلاف بين المسند والمسند إليه. فإنّ حركة الفكر تجمع بين ثلاث مستويات هي:

* محمد (الإنسان المراد وصفه).

* الشجاعة (المستوي المشترك بينهما).

* الأسد (الحيوان).

ويري أنّ الإنجاز البياني يسكت عن الحلقة الوسطي وهي الشجاعة، ويفضي إلي تماهٍ بلاغي بين (محمد) و(الأسد) وهنا ينهض السؤال الباحث عن عوامل التماهي(3). فالصورة البلاغية في مظهرها الأول تظهر غامضة وغريبة، لكن بعد أن يتساءل المتلقي عن العلاقة بين طرفي الصورة يجد الجواب المقنع؛ ولهذا عدّ الصور البلاغية ذات طبيعة حجاجية تساؤلية؛ لأنّها تجذب المتلقي وتحرك خياله.

ص: 68


1- اُنظر: اللغة والمنطق والحِجَاج، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 5/22-24.
2- اُنظر: البحث نفسه: 5/22-49.
3- اُنظر: البلاغة والحِجَاج من خلال نظرية المساءَلة لميشال ميار، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية): 396-397.

أما جين بليز غريز (Jean-Blaise-Grize) فيري الحِجَاج نشاطاً منطقياً خطابياً ينتمي إلي المنطق الطبيعي؛ لأنّ الأمر يتعلّقبالتفكير الكلامي علي أساس أن اللغة تمثل وسيلة التواصل، وعرّفه علي أنّه مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية لمتكلم ما يتوجّه بخطابه إلي مستمع معين، من أجل تغيير الحكم الذي لديه عن وضع محدد(1)، ويري أنّه ليس بالضرورة أن يكون كلّ خطابٍ حجاجاً(2)، وهو بذلك يخالف مايير.

الحِجَاج عند ديكرو وتلامذته

أسس اللغوي الفرنسي أوزفالد ديكرو (Osfwald Ducrot) بمعية تلميذه جين كلود انسكومبر (Anscombre Cloud Gean) في عام (1973م) نظرية حجاجية لسانية في كتابهما المشترك (الحِجَاج في اللغة)(3) تعارضت مع نظرية بيرلمان التي عدّت الحِجَاج منتمياً إلي البلاغة الكلاسيكية (بلاغة أرسطو)، وانطلقت هذه النظرية من فكرة مفادها: (إنّنا نتكلم بقصد التأثير)، فأرادا أن يقولا: إنّ اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية، وهذه الوظيفة كامنة في الأقوال نفسها، ومعانيها، وفي كلّ الظواهرالصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، والمعجمية(4)، ويري ديكرو وانسكومبر أنّ هذه النظرية تنغلق علي النصّ، ولا تتعامل مع خارجه، وتهتم بالوسائل اللغوية، وإمكانيات اللغة الطبيعية؛ بغية

ص: 69


1- اُنظر: الحِجَاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو: (بحث) 213.
2- اُنظر: الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه) 128.
3- اُنظر: السلالم الحِجَاجية، أوزفالد ديكرو، ترجمة صابر الحباشة، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 5/74.
4- اُنظر: اللغة والحِجَاج: 8، 14.

توجيه المحاجج خطابه وجهة حجاجية ما تمكنه من تحقيق أهدافه.

وغايتهما من تأسيس هذه النظرية تطوير نظرية الأفعال اللغوية بإضافة فعلين لغويين إليها هما: (فعل الاقتضاء) و(فعل الحِجَاج). ويُقصد بالاقتضاء: العنصر الدلالي للقول، ويمكن توضيحه بما يأتي:

* القول: كفّ زيدٌ عن التدخين.

* المقول: زيد لايدخن الآن.

* المقتضي (المسكوت عنه): كان زيدٌ يدخن.

ويمكن تعريفه بأنّه «غرض غير مقولي يتصل بالسياق أو المقول، وهذا الارتباط يتطلب تعليلاً للمواضع التي يحملها ويقتضيها»(1). فالمقتضي - إذاً - الدلالة التي ينقلها القول إلي المخاطب بصفة ضمنية(2). وموضوع الحِجَاج في هذه النظرية «بيان ما يتضمنه القول من قوة حجاجية تمثل مكوناً أساسياً لاينفصل عنمعناه بجعل المتكلم - في اللحظة التي يتكلم فيها - يوجّه قوله وجهة حجاجية ما»(3).

ولهذه النظرية أصداؤها في العالم العربي عامة، وبلاد المغرب العربي خاصّة؛ إذ نُقلت إليها عن طريق تلميذ ديكرو الدكتور أبو بكر العزاوي، وقد ذكر حسن مسكين مبارك ذلك قائلاً: «أبو بكر العزاوي الذي يُعد أحد المؤسسين للنظرية الحِجَاجية في العالم العربي، ذلك أنّه في الوقت الذي لم نكن نسمع عن الحِجَاج في المغرب، أو في العالم العربي كان المؤلف قد شرع في إنجاز أطروحته الأولي في الحِجَاج سنة (1983م) بإشراف العالم اللغوي ديكرو، حيث لم يكن في العالم العربي إلا باحث

ص: 70


1- أدوار الاقتضاء وأغراضه الحِجَاجية في بناء الخطاب، أحمد كروم، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 1/145.
2- اُنظر: نظرية الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية): 376.
3- البحث نفسه: 351-352.

واحد مختص في الحِجَاج والمنطق ألا وهو الدكتور طه عبد الرحمن»(1).

ويري أصحاب نظرية الحِجَاج في اللغة أنّ المقصود بتعريف «الحِجَاج هو أن يقدم المتكلم قولاً (ق1) (أومجموعة أقوال) موجهة إلي جعل المخاطب يقبل قولاً آخر (ق2) (أومجموعة أقوال أخر)، سواء أكان (ق2) صريحاً أم ضمنياً، وهذا الحمل علي قبول (ق2) علي أنّه نتيجة للحجّة (ق1) يسمي عمل محاجة. فالحِجَاج - إذاً: هو علاقة دلالية تربط بين الأقوال في الخطاب تنتج عن عملالمحاجة»(2). ويمكن توضيح ذلك بالأمثلة الآتية:

* أنا متعب إذاً أنا احتاج إلي الراحة

* الجو جميل لنذهب إلي النزهة

* الساعة تشير إلي الثامنة لنسرع

* عليك أن تجتهد لتنجح

إذا نظرنا في هذه الجمل نجد أنّها تتألف من حجج ونتائج، فالتعب حجّة علي أنّ الشخص المتعب به حاجة إلي الراحة. وجمال الجو يدعو إلي التنزّه. فالمتكلم يقدم هذه الحجج لصالح النتيجة المرجوة.

إذاً الحجة: عنصر دلالي يقدّمه المتكلم لصالح عنصر دلالي آخر (النتيجة). والحجج اللّغوية بوصفها لا تقطع نهائياً بثبوت النتيجة (من حيث المادة) تختلف عن الأدلة البرهانية التي تقطع بالنتيجة المترتبة علي المقدمات(3). وقد ترد الحجج

ص: 71


1- مراجعات اللغة والحِجَاج عمق التنظير ودقّة الإنجاز، حسن مسكين مبارك، مجلة جذور التراث، ج (29)، مج (12)، لسنة (1430ه- - 2009م): 385.
2- نظرية الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحِجَاج في التقاليد الغربية): 360.
3- اُنظر: الحِجَاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته): 2/104.

علي شكل قول، أو فقرة، أو نصّ، أو مشهد طبيعي، أو سلوك غير لفظي ونحو ذلك...(1). «وقد لا يرد الحِجَاج في صورة صريحة... وإنّما يتخذ صورة مضمرة بحيث يجري إضمارالحجة، أو النتيجة مع بقاء إمكان اشتقاقها اعتماداً علي قرائن سياقية ومقامية»(2). ويمكن توضيح ذلك بالأمثلة الآتية:

* أنا متعب إذاً أنا أحتاج إلي الراحة.

* أنا متعب أنا أحتاج إلي الراحة.

* أنا متعب.

* أنا أحتاج إلي الراحة.

فإذا قارنا بين هذه الأقوال نجد أنّ الحجّة، والرابط، والنتيجة كلّها مذكورة في المثال الأول، وذُكرت الحجّة، والنتيجة، وأضمر الرابط في المثال الثاني.أما المثال الثالث فلم يُصرّح فيه إلا بالحجة، والنتيجة فيه مضمرة يمكن استنتاجها من السياق، ونجد عكس ذلك في المثال الرابع فقد ذُكرت النتيجة، وأضمرت الحجة(3).

السلالم الحِجَاجية

السلم الحِجَاجي هو علاقة تراتبية للحجج

- يمكن أن نرمز لها:

ص: 72


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 58.
2- الحِجَاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو: (بحث)227.
3- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 58-59.

فعندما تكون بين الحجج المنتمية إلي فئة حجاجية معينة علاقة تراتبية؛ فإنَّ هذه الحجج تنتمي إلي سلم حجاجي واحد. ويتسم السلم الحِجَاجي بسمتين:

- كل قول يرد في درجة ما من السلم يكون القول الذي يعلوه أقوي منه.

- إذا كان القول (ب) يؤدي إلي النتيجة (ن)، فهذا يقتضي أن القول (ج) والقول (د) اللذين يعلوانه درجة يؤديان إليها أيضاً. فإذا أخذنا المثال الآتي: (حصل زيد علي شهادة البكالوريوس والماجستير بل علي الدكتوراه أيضاً).

فهذه الجملة تتضمن حججاً تنتمي إلي فئة حجاجية واحدة، وتنتمي في الوقت نفسه إلي سلم حجاجي واحد، وكلّها تؤدي إلي نتيجة مضمرة من قبيل (كفاءة زيد)، أو (مكانته العلمية) لكنّ القول الأخير هو الذي يرد في أعلي درجات السلم الحِجَاجي؛ لأنّ حصول زيد علي الدكتوراه أقوي حجّة علي مكانته العلمية(1).

كفاءة زيد

--- دكتوراه

--- ماجستير

--- بكالوريوس

ولا يشترط في النتيجة أن يكون ترتيبها بعد الحجج، فقد تتقدم النتيجة وتتأخر الحجج، ومن الأمثلة علي ذلك قولنا: زيدٌ ذكي فقد حصل علي الماجستير والدكتوراه أيضاً.

ص: 73


1- اُنظر: نظرية الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 366؛ والحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/59-60.

والترتيب السلمي للأقوال ليس معزولاً عن السياق والمقام(1).

قوانين السلالم الحِجَاجية

قانون الخفض: ويُقصد به «إذا صدق القول في مراتب معينة من السلّم، فإنّ نقيضه يصدق في المراتب التي تقع تحتها»(2). فعندما يقول أحدهم: (الجو ليس بارداً) فنحن نؤول القول إذا لم يكن الجو بارداً فهو دافئ أو حار، ونستبعد التأويلات التي تري أن البرد قارس وشديد(3).

قانون النفي: ويُقصد به «إذا كان القول دليلاً علي مدلول معين فإنّ نقض هذا القول دليل علي نقض مدلوله»(4). فإذا كان القول(أ) ينتمي إلي الفئة الحِجَاجية بواسطة النتيجة (ن)،فإن نقيضه(~أ) ينتمي إلي الفئة الحِجَاجية المحددة بواسطة النتيجة المضادة (لا - ن). ويمكن توضيح ذلك بالمثالين الآتيين:

* زيد مجتهد لقد نجح في الامتحان.

* زيد ليس مجتهداً إنّه لم ينجح في الامتحان.

قانون القلب: ويُقصد به أنّ السلم الحِجَاجي للأقوال المنفية هو عكس السلم الحِجَاجي للأقوال المثبتة. فإذا كانت إحدي الحجتين أقوي من الأخري في التدليل علي نتيجة معينة فإنّ نقيض الحجة الثانية أقوي من نقيض الحجة الأولي في التدليل علي النتيجة المضادة، نحو:

ص: 74


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 59-60.
2- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (1998م): 277.
3- اُنظر: الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 60-62.
4- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 278.

* حصل زيد علي الماجستير، وعلي الدكتوراه أيضاً.

* لم يحصل زيد علي الدكتوراه بل لم يحصل علي الماجستير.

فحصول زيد علي الدكتوراه أقوي حجّة علي مكانته العلمية من حصوله علي الماجستير في حين أنّ عدم حصوله علي الماجستير أقوي حجّة علي عدم كفاءته العلمية من عدم حصوله علي شهادة الدكتوراه(1).

الروابط والعوامل الحِجَاجية

اشارة

لقد اشتملت اللغات الطبيعية علي أدوات لغوية خاصة بالحِجَاج. فاللغة العربية تشتمل علي عدد كبير من الروابط والعوامل الحِجَاجية، نذكر منها الأدوات اللسانية: (لكن، بل، إذن حتي، لاسيما، إذ، لأن، بما أنّ، مع ذلك، ربّما، تقريباً، إنّما، (النفي والاستثناء)... وغيرها) إنَّ هذه الأدوات التي دفعت ديكرو وانسكومبر إلي الدفاع عن فرضية التداوليات المدمجة. وينبغي التمييز بين صنفين من الأدوات الحِجَاجية هما: الروابط الحِجَاجية، والعوامل الحِجَاجية(2).

أ - الروابط الحِجَاجية:

الروابط أدوات لسانية تربط بين قولين أو أكثر، وتسند لكلِّ قول دوراً محدداً داخل الاستراتيجية الحِجَاجية العامة. ويمكن التمثيل للروابط بالأدوات الآتية: (بل، لكن، حتي، لا سيما، إذن، لأن، بما أن، إذ. (... نحو (زيد مجتهد إذن سينجح في الامتحان) نجد أنّ هذا المثال يشتمل علي حجّة (زيد مجتهد) ونتيجة مستنتجة منها (سينجح)، والرابط (إذن) يربط بينهما.

ص: 75


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 61-62.
2- اُنظر: البحث نفسه: 63.
ب - العوامل الحِجَاجية:

لا تربط بين متغيرات حجاجية أي بين حجّة ونتيجة أو بينمجموعة حجج، بل تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحِجَاجية(1) التي تكون لقول ما، وتضم مقولة العوامل الأدوات: (ربّما، تقريباً، كاد، قليلاً، كثيراً، منذ الظرفية، علي الأقل،...)، فضلاً عن القصر، والنفي. فعندما نقول:

* الساعة تشير إلي الثامنة.

ونقول:

* لا تشير الساعة إلا إلي الثامنة.

فعندما أدخلنا علي المثال أداتي القصر (لا...إلا) تأثرت القيمة الحِجَاجية للقول، أي الإمكانات الحِجَاجية التي يتيحها. وإذا عدنا إلي المثالين السابقين نلحظ أنّ للقول الأول إمكانات حجاجية كثيرة، فقد يخدم هذا القول: (الدعوة إلي الإسراع، التأخر والاستبطاء، هناك متسع من الوقت، موعد الأخبار...)، وبعبارة أخري فهو يخدم نتيجة من قبيل: (أسرع)، كما يخدم النتيجة المضادة لها: (لا تسرع)، لكن عندما أدخلنا عليه العامل الحِجَاجي: (لا...إلا) فإنَّ إمكاناته الحِجَاجية تقلصت، وأصبح الاستنتاج العادي والممكن هو: «لاتشير الساعة إلا إلي الثامنة، لا داعي إلي الإسراع»(2).

التوجيه الحِجَاجي والقيمة الحِجَاجية

التوجيه الحِجَاجي يرتبط بمفهوم السلم الحِجَاجي فإذا كان قول ما يمكّن من

ص: 76


1- يُقصد بها حصر الحجج باتجاه واحد.
2- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 64-65.

إنشاء فعل حجاجي فإنّ القيمة الحِجَاجية لهذا القول يتم تحديدها بالاتجاه الحِجَاجي، وهذا الاتجاه قد يكون صريحاً أو مضمراً؛ فإذا كان القول أو الخطاب مشتملاً علي بعض الروابط والعوامل الحِجَاجية فإنّ هذه الأدوات تكون متضمنة لمجموعة من الإشارات والتعليمات التي تتعلق بالطريقة التي يتم بها توجيه القول أو الخطاب. أمّا إذا كان القول غير مشتملٍ عليها؛ فإنّ التعليمات المحددة للاتجاه الحِجَاجي تستنتج إذاك من الألفاظ والمفردات، فضلاً عن السياق التداولي والخطاب العام(1). ووظيفة الحِجَاج في هذه النظرية تكمن في توجيه دلالة الملفوظ، ويحصل التوجيه في مستويين: مستوي السامع، ومستوي الخطاب نفسه. فالمتكلم عندما يتكلم يروم من خطابه التأثير في السامع بإقناعه ودفعه للقيام بفعلٍ ما، أو مواساته، أو إزعاجه، ونحو ذلك. والتوجيه في الخطاب يرتبط بالحجج والنتائج؛ فإذا احتوي الخطاب علي أكثر من حجة فإنّ بعضها يكون معززاً للنتائجالمرجوة، والآخر داحضاً لحجج الخصم(2).

أمّا«القيمة الحِجَاجية: تعني نوعاً من الإلزام في الطريقة التي يجب سلوكها لضمان استمرارية ونمو الخطاب حتي يحقق في النهاية غايته التأثيرية، وتشير من ناحية ثانية إلي السلطة المعنوية للفعل القولي ضمن سلسلة الأفعال المنجزة لتبليغ فكرة ما إلي المتلقي»(3).

يُفهم من ذلك أنّ العلاقة بين الحجة والنتيجة ليست اعتباطية، فالجمل التي

ص: 77


1- اُنظر: البحث نفسه62-63.
2- اُنظر: الحِجَاج في القرآن: 36.
3- القيمة الحِجَاجية في النص الإشهاري، د. نعمان عبد الحميد بوقرة، بحث ضمن كتاب (الحِجَاج مفهومه ومجالاته)4/280.

تُستعمل في حجاج خطابي ما تفرض نتائجَ بعينها بموجب الوجهة الحِجَاجية المسجّلة فيها، ويمكن توضيح ذلك أكثر بالجمل الآتية:

* الطقس جميل لنخرج إلي النزهة.

* أليس الطقس جميلاً؟ فلنخرج إلي النزهة.

* بما أنّ الطقس جميل لنخرج إلي النزهة.

الجملة الأولي: تألفت من الحجة (الطقس جميل)، والرابط (اللام) والنتيجة (نخرج إلي النزهة).

الجملة الثانية: زِيد فيها الاستفهام (الهمزة)، والنفي (ليس). والنفي والاستفهام هما اللذان جعلا هذه الجملة أقوي حجاجاً من الجملة الأولي.

أما الجملة الثالثة: فإنّ المرسل صاغها بطريقة تفيد العليّة ممّا جعل القول بمنزلة المتفق عليه؛ لذا كانت أقوي حجاجاً من الجملتين السابقتين، وتأتي بالمرتبة الأولي في السلم الحِجَاجي.

المعني الحِجَاجي والمعني الإخباري

يري أغلب العلماء والباحثين أنّ وظيفة اللغة هي الإخبار ووصف العالم، وكانوا ينظرون إلي اللغة بوصفها شفرة أو نظاماً من الرموز، والتواصل كان يعني نقل المعلومات إلي المتلقي، والجانب الإخباري الوصفي أساس، والمعاني الأخر ثانوية وهامشية ونجد ذلك عند أصحاب التيار الوصفي ابتداءً من دي سوسير، فهؤلاء يرون أنّ كلَّ قولٍ إثباتي يراد به وصف الواقع(1)، لكن وجهة النظر هذه انتقدها دارسون آخرون من اللغويين، وفلاسفة اللغة، ومنهم مدرسة أكسفورد،

ص: 78


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 70.

وأوستين، وسورل، وغرايس، وغيرهم، فهؤلاء وجدوا أنّ ثمة طائفة كبيرة من الأقوال لا تؤدي وظيفة إخبارية، ولا تصف الواقع، ولا تخضع لمعياري الصدق والكذب كالأقوال الإنجازية والأقوال التقويمية؛ لذا رفضوا جعل الإخبار الوظيفة الأساس للأقوال في اللغات الطبيعية، كما رفضوا طابعها الوصفي الإثباتي(1) وهذا ما جعل الحِجَاجيين يرون أنّ القيمة الإخبارية للقول ثانوية وتابعة للمكون الحِجَاجي. ومن أدلتهم علي ذلك، إذا قال شخصٌ: (السماء صافية)والكلّ يعلم أنّها صافية فهذا القول لا يحمل قيمة إخبارية لكنّه يحمل قيمة حجاجية، فهو حجة لدعوة المتلقي إلي النزهة - مثلاً -، وعندما يقول أحدهم: هذا الإناء فارغ نصفه، ويقول الآخر: هذا الإناء مملوء نصفه نجد أنّ القيمة الإخبارية واحدة، وهي: إنّ الإناء نصفه مملوء والنصف الآخر فارغ لكنّهما يختلفان من جهة القيمة الحِجَاجية؛ إذ إنّ هذين القولين يعكسان وجهتي نظر متناقضتين: الأولي سلبية متشائمة، والأخري إيجابية متفائلة(2)؛ لذا أري أنّ ما قاله ديكرو وتلميذه: - «إنّ الإخبارية في الواقع تعد من الدرجة الثانية بالمقارنة مع الحِجَاجية. فالزعم بوصف الحقيقة قد لا يكون إذاّ إلا قناعاً لزعمٍ أكثر جوهرية بممارسة ضغط علي آراء الآخر»(3)- أقرب إلي الواقع اللغوي وجدير بالاهتمام؛ لأنّ النية في أغلب الخطابات ليست بالدرجة الأساس إيصال المعلومات إلي المتلقي، بل هي في الحقيقة تخضع لنية أكثر عمقاً، وهي التأثير فيه، ودفعه إلي اتخاذ موقف ما من تلك الخطابات.

ص: 79


1- اُنظر: البحث نفسه: 70.
2- اُنظر: الأسس النظرية لبناء شبكات قرائية، الدكتور عبد العزيز الحويدق، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 3/348.
3- التداولية والحِجَاج مداخل ونصوص: 18.

المواضع (المبادئ) الحِجَاجية

رأي ديكرو وتابعه انسكومبر أنّ وجود الروابط والعوامل الحِجَاجية لا يكفي لضمان سلامة العملية الحِجَاجية، ولا يكفي لقيام العلاقة الحِجَاجية، بل لابدّ من ضامن يضمن الربط بين الحجّة والنتيجة، وهذا الضامن يعرف ب-(المبادئ الحِجَاجية) أو (المواضع الحِجَاجية) وهي قواعد عامة تجعل حجاجاً ما ممكناً، ولها خصائص عديدة، نذكر منها(1):

* مجموعة المعتقدات والأفكار المشتركة بين الأفراد داخل مجموعة بشرية معينة.

* العمومية: فهي تصلح لعدد كبير من السياقات المختلفة.

* التدريجية: تقيم علاقة بين سلّمين حجاجيين (العمل - النجاح) مثلاً.

النسبية: إلي جانب السياقات التي يتم فيها تشغيل مبدأ حجاجي ما، هناك إمكان إبطاله ورفض تطبيقه؛ بوصفه ملائماً للسياق المقصود، أو يتم إبطاله باعتماد مبدأ حجاجي آخر مناقضاً له، فالعمل يؤدي إلي النجاح، لكنّه قد يؤدي إلي الفشل في سياق آخر؛ إذا زاد علي الحد المطلوب ونُظِرَ إليه علي أنّه تعبٌ،* وإرهاقٌ، وإهدارٌ للطاقة.

فإذا قال أحدهم: (أنا متعب إذن أنا احتاج إلي الراحة) فالمبدأ الحِجَاجي في هذا القول هو: (بقدر تعب الإنسان تكون حاجته إلي الراحة)(2)، وإذا قال أحدهم:

ص: 80


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 66.
2- اُنظر: اللغة والحِجَاج: 113-115.

(الجو جميل) لا يكون علّة للخروج إلي النزهة إذا لم يكن الطرف الآخر يؤمن بهذه القاعدة. (جمال الجو يحقق المتعة)، وإلا فإنّ الحجة تسقط.

يفهم من ذلك أنّ المواضع الحِجَاجية: مجموعة من المسلمات، والأفكار، والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة لغوية وبشرية معينة، والكلُّ يُسلّم بصدقها وصحتها، فالكلُّ يعتقد أنّ المتعب يحتاج إلي الراحة. وبعض هذه المبادئ يرتبط بمجال القيم والأخلاق، وبعضها الآخر يرتبط بالطبيعة ومعرفة العالم(1)، لكنّ وجهة النظر هذه لم تدم طويلاً؛ إذ إنّ اعتمادهما في نظرية لغوية علي الموضع كان سبباً في توجيه انتقاداتٍ لها من بعض الباحثين؛ لأنّ الموضع يتعلق بأمور اجتماعية لا علاقة لها باللغة، ممّا جعل ديكرو يُذعن لهذه الانتقادات ويقرُّ بصحتها، و يعترف بأنّه كان مجانباً للصواب؛ إذ قال: «إنّ النتيجة التي انتهيت إليها بعد هذا التفكير فيالموضع هي: إنّ أبحاثنا كانت تسير علي غير هدي... لقد أخطأنا حين اعتقدنا أنّنا بصدد بيان كيفية تحقيق (الحِجَاج) بواسطة الكلمات اللغوية، والأسباب الكامنة وراء ذلك»(2). ما دفعه ذلك إلي التفكير في طريقة أخري تقوم مقام الموضع تضمن سير مشروعه الحِجَاجي، والنتيجة التي توصل إليها في أبحاثه الأخيرة أنّ العلاقة بين الحجة والنتيجة علاقة دلالية خالصة، سار فيها علي منهج دي سوسير البنيوي وممّا يدل علي ذلك قوله: «إنّ الفكرة القاعدية هي أنّه في المسلسلة (ح إذن ن) نجد أنّ المعني (ح) يتضمن في ذاته ما يشير إلي أنّه يستلزم النتيجة؛ لكي يكون تاماً. وهكذا فإنّ

ص: 81


1- اُنظر: الحِجَاج والمعني الحِجَاجي، بحث ضمن كتاب (التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 66-67.
2- مفهوم الموضع وتطبيقاته في الحِجَاجيات اللسانية لانسكومبر وديكرو، رشيد الراضي، مجلة عالم الفكر، ع (2)، مج (40)، لسنة (2011م): 223. نقلاً عن: Les lopoi dans "la théorique et argumentation linguistigue, dans la langue", O.Ducrot,p.240..

معني (ح) لا يمكن تحديده في انفصال عن كون (ح) يُنظر إليها باعتبارها(1) تقود إلي (ن) فليس هناك إذن نقلة بالمعني الدقيق للكلمة من (ح) إلي (ن) ليس هناك تعليل ل-(ن) بالملفوظ (ح) بالوجه الذي يمنح هذا الأخير مدلولاً قائماً في ذاته مستقلاً عن (إذن ن)، وبالتالي ليس هناك إبلاغ لحقيقة، أو إبلاغ لصفة المقبولية انطلاقاً من (ح) في اتجاه (ن)، فالمسلسلة (ح إذن ن) تعرض الفقرة (إذن ن) كأنّها في الفقرة الأولي (ح)»(2).نستشفّ من ذلك أنّ العلاقة بين الحجة والنتيجة علاقة دلالية خالصة لاعلاقة لها بالحركات الاستنتاجية (حجة ← رابط ← نتيجة). وكذلك ابتعدت عن الاعتقاد بأنّ الحِجَاج فعلٌ كلامي، وكرست العلاقة بين الحِجَاج والبنيوية، كما رسخت علاقة الحِجَاجيات اللسانية في البنيوية(3).

وهذا التوجه الجديد لدراسة الحِجَاج دفع ديكرو بمعية تلميذته ماريون كاريل إلي دراسة الحِجَاج دراسة دلالية لا علاقة لها بالجوانب الاجتماعية والنفسية. ولماريون كاريل جهود كبيرة في الدراسات الحِجَاجية الدلالية بعضها مع ديكرو، وبعضها الآخر بمفردها، وأسست بمعية أستاذها ديكرو نظرية حجاجية جديدة عُرفت بنظرية (الملتحمات الدلالية)، انطلقت من النظرية البنيوية لفرديناند دي سوسير قطعت فيها الصلة بين العلاقات اللغوية بالوقائع الاجتماعية، وأكدت أنّ المدلول عليه بالدال في العلاقة اللغوية إنّما هو تصور وفكرة لا علاقة له بالواقع(4).

ص: 82


1- كذا. والصواب: بوصفها.
2- مفهوم الموضع وتطبيقاته في الحِجَاجيات اللسانية لأنسكومبر وديكرو: (بحث)224. نقلاً عن: Argumentation rhétorique et argumentation linguistique, dans Largumentation aujourdhui, presses Sorbonne nouvelle, O.Ducrot, paris, 2004,p.22..
3- اُنظر: الحِجَاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/111.
4- اُنظر: مفهوم الموضع وتطبيقاته في الحِجَاجيات اللسانية لأنسكومبر وديكرو: (بحث)226.

وقالت بهذا الصدد: «إنّ مفهوم الحِجَاج الذي آخذبه لا علاقة له بمفهوم الاستنتاج. فهذا الأخير يستند كما هو معلوم إلي فكرة النقلة، حيث ينقل ملفوظ من الملفوظات (الحجة) في سياق هذه النقلة صدقيته إلي ملفوظ آخر (النتيجة). بينما يفترض المفهوم الذي آخذ به وجود صلة بين الفقرتين (أي لا استقلال بينهما) ففي نظري لا وجود لأي ازدياد في المعلومات داخل مسلسلة حجاجية. فالرأي المتفاعل هو ذاته إما في صورة امتدادية أو في صورة ارتدادية. إنّ الحِجَاج في نظري لا علاقة له بفاعليتنا النفسية»(1).

واستناداً إلي نظرية (الملتحمات الدلالية) دُرست النصوص اللغوية بوصفها مكونات حجاجية باعتماد مفهوم (التأليف الحِجَاجي) ويُقصد به الترابط بين فقرتين من الخطاب (س) ربط (ش)، ف-(س) و(ش) فقرتان خطابيتان. أمّا (ربط) فهو رمز فوقي يؤشر إلي الوحدات اللسانية التي تربط بين الوحدات الخطابية(2). والفوارق بين النظرية الجديدة والنظرية القديمة إنّ النظرية الجديدة مالت إلي الاختصار، فهي تري أنّ النتيجة متضمنة في الحجة، والحجة متضمنة في النتيجة، ورفضت المواضع الحِجَاجية، وجعلت الحِجَاج جزءاً من النظرية الدلالية البنيوية، فلو قال قائلٌ: (زيدٌ عاقلٌ) فإنّ هذه العبارة تحملفي داخلها دلالة أخري هي أنّ الناس يقدرونه. وأشارت كاريل إلي أنّ أهم إضافة قدمتها نظرية (الملتحمات الدلالية) في سياق وصف هذه البنية التأليفية ضمن توجيه الحِجَاج داخل اللغة تتمثل في توسيعها للقاعدة التأويلية(3).

ص: 83


1- البحث نفسه: 226. نقلاً عن: Quest-ce qu" argumenter" , Logo: Revista de Retoricay Teoria de la Communication, année 1n1,p.80.
2- اُنظر: مفهوم الموضع وتطبيقاته في الحِجَاجيات اللسانية لأنسكومبر وديكرو: (بحث: 227.
3- اُنظر: البحث نفسه: 227.

نخلص ممّا تقدّم إلي أنّ أعمال ديكرو تداولية دلالية، والعمل الحِجَاجي عمل دلالي كلامي يجعل اللغة تحمل في ذاتها بُعداً حجاجياً استناداً إلي النظم، والحِجَاج موجود في الظواهر اللغوية البنيوية، والتركيبية، والدلالية، والمعجمية.

ولم تُستمد هذه النظرية من أعمال أرسطو إذ إنّ أرسطو «لم يهتم بدور الدلالة اللغوية في الحِجَاج، وإنّما نظر في علاقة الدلالة اللغوية بالاستدلال فالمستوي الأساسي في نظريته الحِجَاجية هو الاستدلال»(1).

ص: 84


1- الحِجَاج عند أرسطو، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 157.

المبحث الثالث: النص الحِجَاجي وتأثيره الإقناعي

النص الحِجَاجي

يتولد النص الحِجَاجي من فكر المحاجج، ويكون علي صور متعددة، فقد يأتي علي شكل خطبة، أو رسالة، أو قصيدة، ونحو ذلك. ويكون «نصاً مترابطاً متناغماً (يقوم علي وحدة معينة لا تكون بالضرورة واضحة جليّة، بل قد تأتي علي نحو خفيّ لا نكاد نلمحه) وُضع لإقناع المتلقي بفكرة ما، أو بحقيقة معيّنة عن طريق تقنيات مخصوصة»(1) تهيمن فيه الوظيفة الإقناعية التي تتوسل بمجموعة من الحجج؛ بغية تغيير مواقف المتلقي وسلوكياته، وحدوث التغيير في مواقف المتلقي يعد مؤشر نجاح الخطاب الحِجَاجي.

وعندما يروم المُحاجج إعداد نصٍ حجاجي ناجعٍ ينبغي له أن يهتم ب-:

* يبدأ أولاً بتحضير حججه.* يتخيّر من الألفاظ ما يناسب عقلية المتلقي.

* يتخيّر مقدمة مقبولة.

* يرتب حججه علي وفق سلّم حجاجي؛ إذ يضع المحاجج كلّ حجة

ص: 85


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 26.

في موضعها المناسب؛ ولكي تكون الحجج أكثر فعالية ينبغي أن تُصاغ صياغة لغوية مناسبة.

* يعتمد آلية فنية في صياغة المحسنات البلاغية؛ لاستثارة عواطف المتلقي.

* يهتم بالهيأة، وطريقة الإلقاء، ويراعي المقام في كلّ ذلك.

وهذه الشروط لم تفت علماؤنا الأوائل، فقد نبّه علي بعضها الجاحظ؛ إذ قال: «ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكلّ طبقة من ذلك كلاماً، ولكلّ حالة من ذلك مقاماً حتي يقسّم أقدار الكلام علي أقدار المعاني، ويُقسّم أقدار المعاني علي أقدار المقامات وأقدار المستمعين علي تلك الحالات»(1).

مقومات النصّ الحِجَاجي

يمثل النص الحِجَاجي عنصراً أساسياً في العمليةالكلامية الاتصالية؛ ولكي يكون عنصراً مؤثراً ينبغي أن يُبني علي وفق أسس علمية، ومن أهم المقومات التي ينبني عليها النص الحِجَاجي؛ لكي يكون نصاً ناجحاً مؤثراً:

المقدمة: اشترط القدامي في النص الخطابي أن يُبتدأ بمقدمة يتصدرها الحمد والثناء؛ لأنّ النفوس تتشوق إلي الثناء علي الله (عزوجل)، ثم تُزيّن بالصلاة علي محمدٍ (صلي الله عليه و آله)، وتوشّح بآيات قرآنية كريمة، ف-«خطباء السلف الطيب، وأهل البيان من التابعين بإحسان، مازالوا يُسَمّون الخطبة التي لم تُبْتدأ، بالتحميد، وتُستفتح بالتمجيد (البتراء).

ص: 86


1- البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه-)، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الخانچي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة السابعة (1418ه- - 1998): 1/138-139.

ويُسَمُّون التي لم توشّح بالقرآن، وتُزَيَّن بالصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم (الشوهاء)»(1)، وقال أبو هلال العسكري: «إذا كان الابتداء حسناً بديعاً، ومليحاً رشيقاً، كان داعية إلي الاستماع لما يجيء بعده من كلام»(2). فالمطالع والمقدمات تستميل السامع وتجذبه لسماع الخطاب، ثم تزجّ به في الموضوع، وقال ابن الأثير: «إنّما خصّت الابتداءات بالاختيار؛ لأنّها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقاً بالمعنيالوارد بعده، توفرت الدواعي علي استماعه»(3)، وينبغي أن تتناسب المقدمة مع النص في طوله وقصره فإذا طالت أدت إلي الملل، وإن قصرت لم تستكمل شروط جودتها وحسنها، كما ينبغي أن يكون ثمة تناسب بين المقدمة ومقصد المحاجج وغايته من النص، وينبغي أن يكون الانتقال من المقدمة إلي النتائج بشكلٍ محكمٍ. والخروج عن هذه السنن لا يعني انتقاصاً في الخطبة أو قدحاً بها، بل يكون مستحباً أحياناً، ولاسيما إذا كان متعلقاً بالوعيد والتهديد. وأحياناً يستهل المحاجج خطابه بكلام مبهم قصد جذب المتلقي؛ «لأنّ الشيء إذا أُضمر ثم فُسر كان ذلك أفخم له من أن يُذكر»(4). والمهم من كلّ ذلك كيف يستطيع المحاجج جذب المتلقي وزجّه في الموضوع؟

ص: 87


1- البيان والتبيين: 2/6.
2- كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سُهيل العسكري (ت395ه-)، تحقيق علي محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسي البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، الطبعة الأولي (1371ه- - 1952م): 437.
3- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين بن الأثير (ت 637ه-)، قدمه وعلق عليه الدكتور أحمد الحوفيّ والدكتور بدوي طبانة، دار النهضة، القاهرة، الطبعة الثانية (د.ت): 3/98.
4- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلّق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، الطبعة الخامسة (2004): 132.

الموضوع: يعني القدرات الحِجَاجية المبتكرة يعرض فيه المحاجج وجهة نظره بمجموعة من الحجج، تربطها مجموعة من الروابط والعوامل الحِجَاجية، مرتبة علي وفق سلّمٍ حجاجي داخل سياق لغوي يهتم فيه المحاجج بالربط بينالجمل والعبارات، ويزينها بالمحسنات البلاغية؛ ليزيد من تأثيرها في المتلقي، فلكي يكون النص مقنعاً لابدّ أن تتلاحم فيه الصور البلاغية بالحجج العقلية؛ فالحجج العقلية تخاطب عقل المتلقي، والصور البلاغية تخاطب قلبه، وتحرك مشاعره؛ لأنّ أكثر الناس يتأثرون بمشاعرهم أكثر ممّا يتأثرون بعقولهم.

ومن العوامل التي تزيد من قوة النصوص الحِجَاجية:

حسن ترتيب الحجج وتلاحقها.

تناغم الأفكار، وحسن التخلص بالانتقال من فكرة إلي أخري.

1. الاستعانة بالشواهد القرآنية، والأحاديث النبوية، والأبيات الشعرية.

2. الإفادة من القوالب الجاهزة ذات التأثير في المتلقي كالحكم، والأمثال، والجمل الوعظية والإرشادية وصياغتها صياغة فنية؛ لأنّ استعمال الحكم، والمواعظ في السياق الخطابي يزيد من مصداقية الحجة وقوتها التأثيرية، ويمكن الإفادة من الأمثال لما لها من قوة حجاجية؛ لأنّها تمثل صورة حيّة لمشهد واقعي، كما يمكن أن يفيد المحاجج من المشاهد الواقعية الحية والتجارب السابقة المتعارف عليها بين المحاجج والمتلقي، ويزجّ بها في موضوعه.

3. الإفادة من الصور البلاغية كالتشبيه، والتمثيل، والاستعارة، والكناية، والتعريض؛ لما لها من أثر في جذب المتلقي والزج به في الموضوع.

ص: 88

4. الإفادة من بعض الأساليب اللغوية كالتكرار، والترادف، والتضاد، ونحو ذلك.

الخاتمة: وتمثل الفرصة الأخيرة للتأثير في المتلقي، يذكر فيها المحاجج أهم ما توصل إليه من نتائج في أطروحته الحِجَاجية؛ من أجل تنشيط ذاكرة المتلقي.

ضوابط النص الحِجَاجي

هنالك بعض الضوابط ينبغي لمن يسعي إلي إقناع الآخر أن يلتزم بها، وتُقسَّم إما بلحاظ المحاجج وإما بلحاظ الحجاج(1):

1. أن يكون الحِجَاج ضمن إطار الثوابت الدينية والعرفية، فليس كلّ شيءٍ قابلاً للحجاج.

2. أن يكون النص ملائماً للسياق العام.

3. ينبغي أن يتحلي المحاجج بالأمانة والمصداقية؛ ليكون موضع ثقة واحترام من الآخرين.

4. ألّا يحدث تناقض بين أفعال المحاجج وأقواله، فيكون بذلك كالداعي إلي الإقلاع عن التدخين وهو يُدخّن.

5. أن تكون دلالات الألفاظ، ومراجع النص الخطابي محددة؛ لئلا يحدث الخلط بين المصطلحات.

ص: 89


1- اُنظر: استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 465-468؛ و الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، حسين بوبلوطة، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2010): 31.

6. أن يخلو خطابه من الإيهام، والمغالطة، والجدل، واللجاج(1)، والمراء(2).

الحِجَاج فن الإقناع

«تروي بعض الأساطير أن الشمس والرياح تراهنتا علي إجبار رجل علي خلع معطفه؛ وبدأت الرياح في محاولة كسب الرهان بالعواصف والهواء الشديد والرجل يزداد تمسكاً بمعطفه وإصراراً علي ثباته وبقائه حتي حلّ اليأس بالرياح فكفت عنه... وجاء دور الشمس فتقدمت وبزغت وبرزت للرجل بضوئها وحرارتها فما أن شاهدها حتي خلعمعطفه مختاراً راضياً»(3).

نستشفّ من هذه الأسطورة أنّ الإكراه والمضايقة يدفعان الآخر إلي المقاومة ويورثان النزاع والخلاف، أما الحِجَاج فيخاطب في الإنسان عقله المفكر الذي يختبر الفكرة ويتفحصها حتي إذا اقتنع بها استقرت يقيناً عنده، والعملية الحِجَاجية تكون ناجعة إذا تحققت فيها تلك الإرادة.

الإقناع والاقتناع في العملية الحِجَاجية

الحِجَاج يعني العملية التي يقصد منها المحاجج إحداث تغيير في مواقف المتلقي الفكرية بحجج مرتبة بطريقة تراتبية، قصد تفاعله إيجابياً مع الفكرة، فهو جهد اتصالي لساني بالدرجة الأساس مؤسس علي قصد، ومخطط له سلفاً علي وفق

ص: 90


1- اللجاج: التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. اُنظر: مفردات ألفاظ القرآن: 736.
2- المراء: هو الاعتراض علي كلام الآخرين بإظهار خلل فيه، إما في اللفظ، وإما في المعني، وإما في قصد المتكلم. اُنظر: إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي (ت505ه-)، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولي (1423ه- - 2003ه-): 75.
3- الإقناع، القوة المفقودة، أحمد بن عبد المحسن العسّاف، مقال علي الانترنت: www.saad.net/aldawah/221.htm.

أهداف معينة لاستمالة المتلقي، وتعديل سلوكه، ومواقفه الشخصية في ظروف مقامية معينة بالمبررات المقبولة؛ لتبني رأي ما، أو الإحجام عنه، والحِجَاج الإقناعي يعني «إطلاق العنان لنشاط غايته التأثير في أفكار وآراء ومواقف وسلوكات الفرد والجماعة»(1) ولا يوفّقالمحاجج دائماً في تحقيقه؛ لأنّ المحاجج لا يستند إلي حقائق ملموسة، بل يستند إلي نتائج احتمالية غير ضرورية، فتبقي الحقيقة في الحِجَاج ليست مضمونة.

والإقناع يمثل لبّ العملية الحِجَاجية؛ إذ ينتج عنه قرار من المتلقي بممارسة العمل، أو الإحجام عنه باختيار وطمأنينة نفس، ويتأتي ذلك القرار من الاقتناع بالعملية الحِجَاجية.

نستشفّ من ذلك أنّ الاقتناع يمثل فعل الأثر الناجم عن عملية الإقناع لدي المتلقي، فمتي ما توافرت الظروف، وتهيأت يحدث الانسجام بين الرغبة الذاتية والهدف المطلوب، و«الاقتناع بالشيء هو الرضا به، ويُطلق علي اعتراف الخصم بالشيء عند إقامة الحجّة عليه، وهو علي العموم إذعان نفسي لما يجده المرء من أدلة تسمح له بقدرٍ من الرجحان والاحتمال كافٍ لتوجيه عمله، إلا أنّه دون اليقين في دقته»(2)، وهو عند بيرلمان و تيتيكاه غاية الحِجَاج، ويشدد المؤلفان علي ارتباط الاقتناع بما هو عقليٌ أكثر من الإقناع الذي قد يرتبط بما هو ذاتٍ، بل إنّهما يقسمان الحِجَاج بحسب نوع الجمهور علي نوعين: حجاج إقناعي، وهو يرمي إلي إقناع

ص: 91


1- التواصل والحِجَاج (أي علاقة؟، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/282؛ نقلاً عن: R,Chiglione et M,Bomberg , disours. Politigue et television, lavérité de l´beure,PUF,1998,P9..
2- أساليب الإقناع في المنظور الإسلامي، طه عبد الرحمن السبعاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (2005م): 15.

الجمهورالخاص، وحجاج اقتناعي، وهو حجاج غايته أن يسلَّم به كلّ ذي عقل فهو عام. والإنسان في الاقتناع يقنع نفسه بأفكاره الخاصة، أمّا في الإقناع فإنّ الآخرين هم الذين يقنعونه(1)، والحرية الإنسانية تتحقق بالاقتناع بوصفه ممارسة لاختيار عاقل؛ ولذا يمكن القول: إنّ الحِجَاج يعني الرغبة في عدم اللجوء إلي القوة في تغيير آراء الآخر، بل يعدلها المحاجج عن طريق مخاطبة قدراته العقلية، واختيار أحسن السبل لتحقيق ذلك، والإصغاء إليه، ثم تترك للمتلقي حرية الاختيار؛ لأنّ القوة والإكراه يفقدان الحِجَاج غايته وتأثيره في الآخر«فالخطيب وإن انطلق من أفكارٍ مسلم بها لدي الجمهور، إلّا أنّه يأتي بما ليس عند الجمهور وعندها يحصل الإقناع وهنا يمكن ربط هذه الوظيفة بالعلم»(2).

والمتلقي الفطن هو الذي يصبّ اهتمامه أولاً علي الحجة التي يقدمها المحاجج؛ ولذا فإنّ المحاجج الحاذق يختار حججه بدقّة وإحكام؛ لتكون ملائمة مع السياق، وظروف المقام، وغير مخالفة للدين، والأعراف الاجتماعية، ويرتبها علي وفق استراتيجيات خاصة؛ ويصوغها صياغةلغوية، ويزينها بالمحسنات البلاغية؛ ليغلق الباب علي المتلقي ولا يسمح له أن يجد منفذاً إلي استضعاف الحجة، فيخاطب بها عقل المتلقي، ويدغدغ عواطفه في آنٍ واحدٍ؛ ليصل بذلك إلي غايته في حمل المتلقي علي أن يقنع بما يُلقي عليه، ثم يقتنع بالفكرة ويتبناها.

نخلص من ذلك إلي أنّ الحِجَاج فنٌّ لا يجيده إلا من يمتلك أدواته، وإذا اجتمعت تلك الأدوات مع الظروف الزمانية والمكانية كان تأثيرها أبلغ في المتلقي؛

ص: 92


1- اُنظر: الحِجَاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 301.
2- الفلسفة والبلاغة مقاربة حجاجية للخطاب الفلسفي، د. عمارة ناصر، مطابع الدار العربية للعلوم، بيروت (2009م): 34.

«لذا أصبح مفهوم الإقناع مطلباً أساسياً في كلّ عملية فكرية سواء كانت هذه العملية فكرة، أو مقالة، أو حركة»(1). والوسائل الإقناعية التي يتوسل بها المحاجج في تحقيق الإقناع تفوق الحصر.

وسائل الإقناع

النصّ الحِجَاجي يبني بناء تفاعلياً مدعوماً بأدوات، ووسائل توظّف؛ لغرض الإقناع والتأثير، فلا يقتصر المحاجج علي وسيلة واحدة في كلّ السياقات الخطابية؛ لأنّ ذلك سيكون مؤشراً علي جمود تفكيره؛ لذا عليه أن يختار أكثر من وسيلة لإقناع الآخر وتوجيهه نحو الفعل المراد تحقيقه، ومن أهم وسائل الإقناع:

1. اعتماد المحاجج علي القوالب الحِجَاجية الجاهزة كالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال الأئمة، فضلاً عن الحكم، والأمثال، والشواهد المستوحاة من الوقائع في الحياة اليومية.

2. الاهتمام بما لدي الجمهور المتلقي من أفكار فيجعلها حاضرة في المقدمة، ويزيد من أهميتها، فالوعي المبكر بما لدي المتلقي من تصورات وأفكار يساعد المحاجج علي التأثير فيه؛ «لأنّ وحدات البداية هي أهم ما يقرع الأذهان المتلقية ويحدد درجة القبول أو الرفض للتصور المتقدم»(2).

3. يحسن اختيار الألفاظ المناسبة لسياق القول، ويعدل عن الألفاظ المنفّرة لشعور المتلقي.

ص: 93


1- استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 459.
2- مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/195.

4. الوسيلة التضامنية: وفيها يصبح طرفا الخطاب (المحاجج والمتلقي) كأنّهما واحد؛ وذلك باعتماد المحاجج علي بعض الأدوات اللغوية مثل الضمير (نحن) الذي يدلّ علي الجمع بين طرفي الخطاب.

5. الوسيلة التبادلية: وفيها يشرك المحاججُ المتلقي في الخطاب باعتماد الحوار المتبادل (السؤال والجواب)، فيتيح له فرصة المشاركة، وتبادل المواقع.

الإقناع والتطويع

ممّا ينبغي التنبه إليه والاحتراز منه مفهوم التطويع، ويُقصد به: نوع من الإقناع يسعي إليه المغالط (السفسطائي) باستعمال «كفايته اللغوية لإحداث تواصل فعّال مع غيره علي نحوٍ يعزز التفاهم، والتعاون، والاحترام بين الطرفين»(1). فبعض المغالطين ممّن يمتلك الوسائل اللغوية يموّه النّاس، ويجعلهم خاضعين له، ومقتنعين بأفكاره؛ بغية تحقيق مآربه، وتطلعاته الشخصية(2). باتباع بعض الوسائل منها:

1. استغلال مواطن الضعف العاطفي عند المتلقي؛ باستعمال بعض المناورات العاطفية المناسبة؛ للتأثير فيه والاستحواذ علي قلبه.

2. التلاعب بالألفاظ.

3. المغالاة في الوصف.

4. اعتماد بعض الحقائق؛ لاستمالة المتلقي، وجذب انتباهه.

ص: 94


1- التواصل بين الإقناع والتطويع، د. محمد الداهي، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/260.
2- اُنظر: البحث نفسه: 1/260.

ومن صفات المطوع

* التحلي ببديهة قوية؛ لاقتناص بعض الناس السذّج ممّن تنطلي عليهم حيله.

* تمكنه من اللغة إلي حدٍّ ما.

نخلص ممّا تقدّم إلي أنّ الحِجَاج يمثل وسيلة من أهم وسائل الإقناع، والحِجَاج الذي لا يحقق هدفه في إقناع المتلقي يكون كاللوحة التي يراد تعليقها علي مسمارٍ لم يحسن تثبيته علي الجدار.

ص: 95

ص: 96

الفصل الثاني: الحجاج في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في ضوء مجالات الخطاب الحجاجي (التداولي، اللغوي، الأسلوبي، البياني)

اشارة

ص: 97

ص: 98

المبحث الأوَّل: قوة فعل الكلام

اشارة

ذهب ديكرو إلي أنّ نظرية (الحِجَاج في اللغة) فرع من نظرية أفعال الكلام - التي وضع أسسها العالمان الانجليزيان أوستين وتلميذه سورل -، ولاسيما أفعال التوجه الحِجَاجي فقد عدّها نوعاً من أنواع أفعال الكلام، وهي الأفعال التي تمثل محاولة المتكلم توجيه المتلقي للقيام بعمل ما(1). فالفعل الحِجَاجي التوجيهي نوع من الأفعال التي تتحقق بالكلام؛ بوصفه قولاً يحقق عملاً، ويُغيّر واقعاً، وله قصدية، ومتصل بسياق.

«ويقوم كلّ فعل كلامي علي مفهوم (القصدية) وتقوم (مسلّمة القصدية) علي أسس تداولية درسها فلاسفة التحليل ثم توسع في تفريعها وتعميقها التداوليون حتي غدت شبكة من المفاهيم المترابطة...فقد عدّ [سورل] (الغرض المتضمن في القول) (But Illocutoire) عنصراً ومكوناً أساسياً من (مكونات القوة المتضمنة في القول) (Force Illocutoire)»(2)؛ ولذا عُدّت نظرية أفعال الكلام «مبحثاً أساسياً لدراسة

ص: 99


1- اُنظر: التداولية مقاربة تحليلية، الموقع علي الانترنت: ww.lissaniat.net/viewtopic.php?t=284sid.
2- التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة (الأفعال الكلامية) في التراث اللساني العربي، د. مسعود صحراوي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولي (2005م): 44.

مقاصد المتكلّم ونواياه، فالقصد يحدد الغرض من أي فعل لغوي، كما يحدد هدف المرسل من وراء سلسلة الأفعال اللغوية التي يتلفظ بها، وهذا ما يساعد المتلقي علي فهم ما أُرسل إليه»(1)، وتستند القصدية إلي أسس المعرفة المسبقة التي تسهم في الانسجام والمواءمة مع العالم، وتعد أساساً للكلام الإنساني، فهي تتحدد بحسب ثقافة المجتمع وطقوسه(2)، وتتجلي في عرض الحجة، فعرض الحجة في أثناء إنجاز الفعل الحِجَاجي يكون القصد منه تدعيم النتيجة، إذ لا يمكن فهم الحجة من دون فهم النتيجة، فالحِجَاج «لا يتعلق بفقرتين تلعب فيهما الواحدة دور الحجة، والأخري دور النتيجة، فليس هناك استقلال دلالي بين الفقرتين، إنّنا إذا فحصنا جيداً هذه التأليفات نكتشف أنّ معني الفقرة الأولي (الحجة) يحدده معني الفقرة الثانية والعكس صحيح، فالحجةعنصر تكويني في معني النتيجة وكذلك النتيجة بدورها عنصر تكويني في معني الحجة»(3).

يُفهم من ذلك أنّ الغاية من نظرية (الحِجَاج في اللغة) تمتين العلاقة بين الكلام والفعل الإنجازي، فالمحاجج عندما ينطق قولاً ما يريد من كلامه إنجاز فعل ما يكون له الأثر الفاعل في الإقناع، أو التسليم، أو تغيير الموقف، أو الفكر، أو الاعتقاد، أو نحو ذلك، هذا من جانب. ومن جانب آخر فإنّ نظرية (الحِجَاج في اللغة) مثّلت «تياراً تداولياً متميزاً. ويكمن وجه تميزه في رفض التصوّر القائم علي الفصل بين الدلالة (وموضوعها معني الجملة) والتداولية (وموضوعها استعمال الجملة في المقام) من جهة. والسعي إلي سبر كلّ ما له صلة داخل بنية اللغة بالاستعمال البلاغي المحتمل من جهة أخري، فيكون مجال البحث في هذه النظرية الجزء التداولي

ص: 100


1- المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، مكتبة الآداب، القاهرة، د.ط (2003م): 190.
2- اُنظر: الحِجَاج في الدرس اللغوي الغربي، الموقع علي الانترنت: www.ulum.nl.
3- الحِجَاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/112.

المدمج في الدلالة، ويكون موضوع البحث هو بيان الدلالة التداولية (لا الخبرية الوصفية) المسجلة في أبنية اللغة وتوضيح شروط استعمالها الممكن»(1).

ولا يخفي أنّ ثمة فوارق بين الدلالة والتداولية، فالدلالة تهتم بمعني الجملة، في حين تهتم التداولية بدراسة السياق العام للنص، فضلاً عن دراستها لما يفعلبالكلمات، في حين يدرس علم الدلالة ما نعنيه بالكلمات، كما تُعني التداولية «بدراسة مقاصد المرسل، وكيف يستطيع المرسل أن يبلّغها في مستوي يتجاوز مستوي دلالة المقول الحرفية، كما يُعني المنهج التداولي بكيفية توظيف المرسل للمستويات اللغوية المختلفة في سياق معين، حتي يجعل إنجازه موائماً لذلك السياق، وذلك بربط إنجازه اللغوي بعناصر السياق الذي حدث فيه، ومنها ما هو مكوّن ذاتي، مثل: مقاصد المتكلم، ومعتقداته، وكذلك اهتماماته ورغباته، ومنها أيضاً المكونات الموضوعية، أي الوقائع الخارجية، مثل: زمن القول ومكانه، وكذلك العلاقة بين طرفي الخطاب. وتسهم هذه العناصر في تحديد الدلالة عند المرسل إليه، إذ يعتمد عليها في تأويل الخطاب وفهم مقاصده، وبهذا فإن المنهج التداولي يعين علي دراسة ما يعنيه الخطاب في سياق معين، كما يعين علي معرفة أثر السياق في لغة الخطاب عند إنتاجه»(2). وهذا يعني أنّ التداولية المدمجة في الدلالة التي استندت إليها نظرية (الحِجَاج في اللغة) لا تُعني بالبحث عن الجوانب التداولية خارج أطار اللغة وإنّما تبحث عنها داخل بنية اللغة نفسها؛ لأنّ الجزء التداولي فيها يكون مدمجاً في الدلالة اللغوية، وهذا يعني أنّ الحِجَاج عنصر دلالي تداولي كامن في اللغة سواء أكانت بنية، أم تركيباً،أم سياقاً.

ص: 101


1- نظرية الحِجَاج في اللغة، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 351-352.
2- استراتيجية الخطاب بين الدراسات النظرية والممارسات الواقعية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، الموقع علي الانترنت: www.mohamedrabeea.com/book 1-183.docx

وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّ نظرية أفعال الكلام انبثقت من التداولية؛ لتغيير النظرة التقليدية للكلام؛ إذ كانت تلك النظرية تعتمد علي الاستعمال الوصفي، أما هذه النظرية فقد نظرت إلي الكلام بوصفه قوة فاعلة ومؤثرة في الواقع، كما ألغت الحدود الفاصلة بين الفعل والكلام، فأي معلومة يقدّمها شخص ما تري هذه النظرية أنّها مثارة بواسطة شيء ما، وتسعي إلي تحقيق هدف ما، وتمثّل حلقة ضمن سلسلة التبادل الكلامي الدائر في فلك الحياة.

وقسّم أوستين الجمل علي وصفية (خبرية)، وإنشائية (إنجازية)، فالجمل الوصفية هي جمل خبرية تصف حدثاً ما، ويمكن الحكم عليها بالصدق أوالكذب. أمّا الجمل الإنشائية فلا يمكن الحكم عليها بالصدق أوالكذب، وتتسم باستنادها إلي المتكلم، وتتضمن فعلاً من قبيل (الأمر، أو النهي، أو الوعد، أو السؤال، أو التنبيه، أو التحذير، أو نحو ذلك). وجعل وحدات الكلام علي قسمين:

بيانية: وتُستعمل لإصدار العبارات الخبرية

أدائية: يؤدي المرسل بوساطتها عملاً ما(1)، وسمّيذلك الفعل بفعل الكلام، وقصد به «كلّ ملفوظ ينهض علي نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري»(2).

إذاً أفعال الكلام تخرج عن الوصفية، وعن احتمالية الصدق والكذب إلي أفعال تنجز عملاً ما حال النطق بها، وقسّمها أوستين علي ثلاثة أقسامٍ هي:

فعل الكلام: وقصد به النطق بالألفاظ بوصفها منتمية إلي معجمٍ ما بجملة مفيدة في بناءٍ نحوي سليم، ذي دلالة، وتحكمه المستويات اللسانية المعرفية (المستوي الصوتي، والمستوي التركيبي، والمستوي الدلالي).

ص: 102


1- اُنظر: نظرية أفعال الكلام العامة، أوستين، ترجمة عبد القادر قينيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء (1991م): 85.
2- التداولية عند العلماء العرب: 40.

الفعل المتضمن في القول (قوة فعل الكلام): وهو الفعل المراد به إنجاز عملٍ ما من خلال التلفظ بالجملة، وتتحكم به مقاصد المتكلّم، والسياق، والقوة الإنجازية.

الفعل الناتج عن القول (لازم فعل الكلام): وهو الفعل الذي يخلّفه التلفظ بالجملة من إقناع، أو تسليم، أو إرشاد، أو مواساة، أو إحراج، أو إزعاج، أو نحو ذلك. وهذا الفعل يمثل نتيجة الفعلين السابقين، ويتعلق بمقاصد المتكلّم الخارجة عن العبارة، والمفهومة من السياق(1).

واهتمت نظرية (الحِجَاج في اللغة) بالقوة الإنجازية:ويُقصد بها ما يتمّ تحققه بقوة فعل الكلام، وهي علي قسمين:

أ - قوة إنجازية حرفية مدلول عليها بصيغة إنشائية (كالأمر، أو النهي، أو الاستفهام، أو التعجب، أوالتحذير، أوالتنبيه، أونحو ذلك)، وهي ما تُعرف بفعل الكلام المباشر. و«يستعمل المخاطِب الفعل الكلامي المباشر عندما يولي عنايته لتبليغ قصد، وتحقيق هدفه الخطابي، ورغبته في أن يكّلف المتلّقي بعمل ما، أو يوجهه لمصلحته من جهة، وإبعاده عن الضرر من جهة أخري، أو توجيهه لفعل مستقبلي معين. ويفترض أن يتجه المخاطب بخطابه إلي التكثير من فائدة المتلّقي، فيستعمل هذه الإستراتيجيات في شكلها الأكثر مباشرة للدلالة علي قصده، كالأمر، والنهي الصريحين»(2). ويمكن توضيح ذلك بخطبة الإمام الحسين (عليه السلام) في مكارم الأخلاق؛ إذ جاء فيها: «أيها الناس (نداء) نافِسوا في المكارم (أمر)، وسارعوا في المغانم (أمر)، ولا تحتسبوا بمعروف لم تُعجّلوه (نهي)، واكتسبوا الحمدَ بالنُّجح (أمر)، ولا تكتسبوا

ص: 103


1- اُنظر: نظرية أفعال الكلام العامة: 113-122.
2- دراسة الأفعال الكلاميّة في القرآن الكريم - مقاربة تداوليّة -، أ - بوڤرومة حكيمة، مجلة الخطاب، جامعة مولود معمري - تيزي وزو -، الجزائر، دار الأمل، العدد (3)، لسنة (2008): 11-12.

بالمَطلِ ذمّاً (نهي)... »(1).

ب - قوة إنجازية لا تُعرف من صيغة الجملة الحرفية، وإنّما يُستدل عليها من سياق القول، وهي ما تُعرف بفعل الكلام غير المباشر(2). وقسمها ديكرو علي فعلين: فعل اقتضاء، وفعل مفهوم (استلزام حواري).

فعل الاقتضاء

اشارة

يُقصد بالاقتضاء ما «لا يدل اللفظ عليه، ولا يكون ملفوظاً، ولكن يكون من ضرورة اللفظ أعم من أن يكون شرعياً أو عقلياً، وقيل: هو عبارة عن جعل غير المنطوق منطوقاً؛ لتصحيح المنطوق. مثاله: فتحرير رقبة. وهو مقتضٍ شرعي؛ لكونها مملوكة، إذ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فيزاد عليه؛ ليكون تقدير الكلام: فتحرير رقبة مملوكة»(3).

وجعل ديكرو الاقتضاء مفهوماً تداولياً، يختلف عن المفهوم المنطقي الذي كان سائداً في الدراسات التيسبقته، ويري أنّه ليس «حدثاً بلاغياً مرتبطاً بالقول، وإنّما

ص: 104


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الشيخ الجليل الحسين بن مُحمَّد بن الحسن بن الحلواني من أعلام القرن الخامس، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم (د.ت): 81-82؛ واُنظر: التذكرة الحمدونية، محمّد بن الحسن بن محمّد بن علي المعروف بابن حمدون (ت562ه-)، تحقيق: إحسان عباس وبكر عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولي (1996م): 1/102؛ وكشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/239-240؛ والفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة عليهم السلام، علي بن مُحمَّد ابن أحمد المالكي المكي الشهير بابن الصباغ (ت855ه-)، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية (1409ه- - 1988م): 169.
2- اُنظر: التداولية منهج لساني واستراتيجية لتحليل الخطاب، سعد بولنوار، الموقع علي الانترنت: brahmiblogspot.com.blogspot.com/2011/05/blog-post-3207.html.
3- التعريفات: 290.

هو منغرس في اللغة نفسها»(1)، وصار الاقتضاء عملية تواصلية، تؤدي إلي معرفة المواقع التي يقتضيها القصد من الكلام. وأثبتت الدراسات الحِجَاجية اللغوية أنّ ثمة كلمات تمثل «في ذاتها مقتضي، حتي إذا أقحمت هذه الكلمات في تراكيب كانت هي المسؤولة عن ظهور المقتضي فيها، انطلاقاً من معناها المعجمي»(2). وفضلاً عن ذلك فإنّ المحاجج «إذ يعمد إلي اختيار كلمة [من] دون أخري ممّا يُرادفها أو يُظنُّ أنّه يرادفها، إنّما يرمي إلي مزيد التأثير في ذهن المتلقين علي أساس أنّ الكلمة المختارة أعلق بعالم خطابهم، وأمضي أثراً فيه، بما لها من زوائد معنوية جاءتها من اللغة، أو من الاستعمال، أومنهما معاً... إنّ للكلمة خصائص في ذاتها تستمدها من اللغة ومن التداول، تجعلها مؤهّلة بطبيعتها؛ لتكون ذات صبغة حجاجية، وترشحها لتكون من معجم الخطاب الحِجَاجي وقوام جداوله اللغوية، وإنّ لها في الخطاب بناءً علي تلك الخصائص حركة تقصي فيها غيرها وتعوّضه وتحلّ محله؛ ليكون الخطاب أوغل في الحِجَاج وأذهب في الإقناع»(3).

وسيتضح ذلك أكثر باختيار بعض الألفاظ الواردة فيكلام الإمام الحسين (عليه السلام) التي مثلت مقتضي تداولياً، وكان لها أثرٌ حجاجي انجازي استمدته من سياق القول الواردة فيه.

لفظة (أبي)

عندما سمِع الإمامُ الحسين (عليه السلام) عمرَ بن الخطاب يقول وهو علي منبر رسول

ص: 105


1- الحِجَاج في القرآن: 35؛ نقلاً عن: C.K.Orecchioni, L'énonciation… op.,p30-31.
2- المصدر نفسه: 88.
3- المصدر نفسه: 73-74.

الله (صلي الله عليه و آله): إنّه «أولي بالمؤمنين من أنفسهم»(1)، قال له - وكان صبياً-: «انزل... عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك»(2)، فالحسين (عليه السلام) عندما ذكر لفظة (أبي) في هذا المقام مضافة إلي رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقتضي ذلك أنّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يُذكّر عمر بن الخطاب بما كان متداولاً بين المسلمين من أقوال الرسول فيه وفي أخيه الحسن، ومن تلك الأقوال قوله (صلي الله عليه و آله) في الحسن والحسين (عليهما السلام): «هذان ابناي فمن أحبّهما فقدأحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»(3)، وقوله (صلي الله عليه و آله): «الحسينُ منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حُسيناً، حُسين سبطٌ من الأسباط»(4)، ونحوهما(5). زد علي ذلك أنّ المسلمين يعلمون علم اليقين أنّ النبي محمداً (صلي الله عليه و آله) أولي بالمؤمنين من أنفسهم، وأولي الأرحام بعضهم أولي ببعض. قال تعالي: «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» (6)، فلا يجوز شرعاً - استناداً إلي هذه الآية الكريمة - أن تُنقل الولاية بعد الرسول (صلي الله عليه و آله) لغير أولي الأرحام، فأولي

ص: 106


1- الاحتجاج، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، الأميرة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (1432 ه- - 2011م): 2/271.
2- المصدر نفسه: 2/271؛ واُنظر: سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ (ت748ه-)، تحقيق محمّد نعيم العرقسوسيّ ومأمون صاغرﭽيّ وأشرف علي التحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية (1402ه- - 1982م): 3/285.
3- الجامع الكبير، أبو عيسي محمد بن عيسي الترمذي (ت279ه-)، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولي (1996): 6/115؛ واُنظر: سير أعلام النبلاء: 3/284؛ وتاريخ مدينة دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المعروف بابن عساكر(ت571ه-)، دراسة وتحقيق: محبّ الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري، دار الفكر، بيروت (1415ه- - 1995م): 14/151.
4- الجامع الكبير: 6/118
5- اُنظر: المصدر نفسه: 6/115-121.
6- سورة الأحزاب: آية6.

النّاس بالمؤمنين بعد رسول الله آل بيته (عليهم السلام)، فلفظة (أبي) في هذا المقام تُمثّل فعلاً كلامياً غير مباشر جاء ليزيد من قوة فعل الكلام المباشر (الأمر/انزل) فهي تقتضي أنّه لا يجوز أن يدَّعي أحد أنّه أولي بالمؤمنين بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) غير آل بيته، كما لا يجوز أن يدّعي أحدٌ أنّ له الولاية علي آل بيت النبي (صلي الله عليه و آله)، ناهيك عن أنّ الأعرافالاجتماعية منذ عصر ما قبل الإسلام تقتضي أن تنتقل الولاية من الآباء إلي الأبناء. وعمر بن الخطاب لم ينفِ أنّ رسول الله كان أباً للحسين (عليه السلام)؛ وقوة فعل الكلام غير المباشر هذه دفعته إلي أن ينزل من المنبر ويقول: «فمنبر أبيك لعمري يا حُسين لا منبر أبي...»(1)، فكانت للفظة (أبي) في هذا المقام قوة إنجازية حجاجية عالية جعلت عمر بن الخطاب يُسلّم له.

فلفظة (أبي) في هذا المقام تقتضي أنّ الولاية يجب أن تنتقل بعد وفاة الرسول (صلي الله عليه و آله) إلي آل بيته (عليهم السلام) استناداً إلي ما جاء بالقرآن، وما سمعه النّاس، وما تعارفوا عليه بالأعراف والتقاليد الاجتماعية.

لفظة (جدّي)

وردت لفظة (جدي) في بعض المواضع مضافة إلي (رسول الله)، وفي مواضع أُخر مفردة غير مضافة إلي (رسول الله) في الخطاب الحسيني. وفيما يأتي بيان قوة فعل الكلام الحِجَاجية الاقتضائية غير المباشرة في تلك المواضع:

ذكر أبو عليّ الطبرسيّ (ت548ه-) صاحب تفسير(مجمع البيان لعلوم القرآن) في أثناء تفسيره لمعني (الصمد)في سورة الإخلاص أنّ أهل البصرة سألوا الإمام الحسين (عليه السلام) عن معني الصمد، فأجابهم عن ذلك مبتدأ جوابه بمقدمة جاء فيها:

ص: 107


1- الاحتجاج: 2/271.؛ واُنظر: سير أعلام النبلاء: 3/285.

«بسم الله الرحمن الرحيم. أمَّا بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»(1).

قول الإمام (عليه السلام): «فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلموا فيه بغير علم»اعتمد فيه علي فعلٍ كلامي إنجازي مباشر وهو (النهي)؛ لإبعادهم عن الخوض في القرآن، والمجادلة فيه، والتكلّم به بغير علم، وفي ذلك دلالة علي أنّ أهل البصرة لم يُراسلوا الإمام الحسين (عليه السلام) ليستفسروا عن معني (الصمد) إلا بعدما وقع بين مفسريهم ما وقع من جدالٍ، واختلافٍ في وجهات النظر؛ لذا التجأ الناس إلي الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ليبيّن لهم معني (الصمد) الوارد في سورة الإخلاص، بعدما وجدوا مفسريهم عاجزين عن بيانها، والوقوف علي كنهها.

ثم قال: «سمعت جدي رسول الله»أراد الإمام (عليه السلام) من ذكر لفظة (جدي) لفت انتباه النّاس المتناحرين - كلٌّ بحسب اعتقادهوهواه - إلي حقيقة لا مراء فيها، ولا جدال، هي أنّ المُستفتي في تفسير هذه اللفظة هو سبط رسول الله وقد زقّ علم النبي زقّاً، فما يقوله حقيقة،لا يجوز شرعاً الجدال فيها؛ بوصفه يمثل حجة سلطة مستمدة من سلطة جدّه رسول الله (صلي الله عليه و آله) . فلفظة (جدي) في قول الإمام الحسين (عليه السلام) حملت في ذاتها قوتها الدلالية؛ لتكون أساساً يُستند إليه في تحقيق قوتها الحِجَاجية. فالمقتضي التداولي لهذه اللفظة حمله المقتضي المعجمي لها داخل الكلام؛ لتوجيه المتلقي وجهة حجاجية نحو الابتعاد عن الشكّ في قوله؛ لأنّ ما يقوله هو الحقّ، وما سواه باطل، ولكي يحقق الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة التداولية اسندها إلي الحديث

ص: 108


1- مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه-)، مؤسسة الهدي للنشر والتوزيع، طهران (1417ه- - 1997م): 10/550-551.

النبوي الشريف: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»؛ ليؤكد ما سبق من جانب، ويشير من جانبٍ آخر إلي أنّ خوضهم، وجدالهم في معني هذه اللفظة محرّم شرعاً، والمصرّ علي ذلك «فليتبوأ مقعده من النار». والحديث النبوي الشريف يُمثّل تقنية سلطة، وهي من تقنيات الحِجَاج التي نادي بها بيرلمان في نظريته الحِجَاجية؛ بوصفها إحدي تقنيات الوصل الحِجَاجي.

أمّا مصداق ما ورد فيه لفظ (جدّي) من دون إضافة إلي (رسول الله)، فتمثله وصية الإمام الحسين (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) بالبقاء في المدينة، فقد جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصي به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إليأخيه محمّد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ مُحَمَّداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحقّ، وأن الجنّة والنّار حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً،وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدِّي صلي الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف،وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدِّي وأبي عليّ بن أبي طالب»(1).

في هذا الكتاب بيّن الإمام الحسين (عليه السلام) السبب الذي دعاه إلي الخروج من المدينة، وهو طلب الإصلاح في الأمة الإسلامية، فنصح محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) أخاه الحسين بالخروج من المدينة - بعد المضايقات التي واجهها من عامل يزيد فيها (الوليد بن عتبة) - إلي مكة وإن لم يجد الأمان في مكة يخرج إلي اليمن، ومنها يتنقل في شعب الجبال، لكنّ الإمام كانت له غاية أخري لم يرد أن يُفصح عنها لأخيه؛ لذا جزّاه خيراً علي ذلك، وطلب منه أن يبقي في المدينة لأسباب منها أن يكون عيناً له(2). وفي

ص: 109


1- بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمة الأطهار، محمّد باقر المجلسي (ت1111ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة (1403ه- - 1983م): 44/329-330.
2- اُنظر: المصدر نفسه: 44/329.

الوقت نفسه كنّ الإمام الحسين ما يريد فعله في قلبه، ولما عزم علي الخروج إلي مكة كتب إليه هذا الكتاب.

خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة إلي مكة كان متفقاً عليه بين الإمام الحسين وأخيه محمد بن الحنفية، وكان اتفاقهما علي الخروج هو للابتعاد عن الضغوط الأموية لكن من ينظر في ما جاء في الكتاب يجد أن الإمام يُصرح فيه أنّ خروجه كان لأجل طلب الإصلاح في أمّة جدّه، وللأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وهذا يعني أنّ خروجه كان علي الدولة الأموية، ولم يخرج للبحث عن مأوي يجنبه الخطر الأموي، ويبدو لي أنّ من أسباب عدم الإفصاح بذلك لأخيه عندما كانا معاً هو؛ لئلا يطلب منه أخوه محمد بن الحنفية أن يلازمه في خروجه، ويُجاذبه الحديث في ذلك، والإمام الحسين يريد منه أن يلتزم بما كلّفه به من واجب مراقبة تحركات العدو في المدينة، وفضلاً عن ذلك أراد أن يشعره بأنّه قادرٌ علي أن يفعل شيئاً في هذه الحرب؛ لئلا يشعر محمد بن الحنفية أنّ العوق الذي أصابه سيكون حائلاً دون نصرة دين الله، ونصرة أخيه في هذه المعركة غير المتكافئة من جهة. وصرّح الإمام (عليه السلام) في هذا الكتاب بأنّه سيلتزم بخروجه بالنهج المحمدي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسير علي نهج جدّه وأبيه في الإصلاح من جهة أخري.

يبدو أنّ الغاية التي أراد الإمام الحسين (عليه السلام) تحقيقها من ذكر لفظة (جدي)؛ هي إنّه (عليه السلام) أراد أن يلفت نظر أخيه إلي أنّ الواجب الشرعي يحتم علي الإمام الحسين (عليه السلام) القيامبالثورة؛ بوصفه الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية، وعلي عاتقه تقع مسؤولية طلب الإصلاح، والحِمْلُ الذي يقع علي عاتقة أكبر من الحمل الذي يقع علي عاتق أخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) سبط من أسباط رسول الله (صلي الله عليه و آله) فهو المسؤول الأول عن القيام بهذه الثورة، أما المسؤولية التي تقع علي عاتق محمد بن الحنفية فتقتصر علي الالتزام بأمره فحسب، فالفعل الاقتضائي غير المباشر

ص: 110

المقتضي من ذكر لفظة (جدي) هو أنّ مسؤولية القيام بالثورة تقع علي عاتقي بوصفي ولي أمر المسلمين، وعليك إطاعتي بالبقاء بالمدينة، وألّا تخرج منها للالتحاق بي. وهكذا حقق الإمام بلفظة (جدي) حجّة جعلت المتلقي (السيد محمد ابن الحنفية) يُذعن لها، ويُسلّم أمره، ويبقي ملازماً للمدينة.

وممّا يبدو أيضاً أنّ قوة فعل الكلام في هذه الخطبة تكمن في صياغتها البلاغية؛ إذ أََمَرَ الإمام الحسين (عليه السلام) أخاه بالبقاء في المدينة، وهذا الأمر فيه من القوة ما جعل السيد محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) يُذعن له، ويفوّض أمره إلي الله (عزوجل) من دون أن يستعمل الإمام الحسين في الوصية كلّها فعل الأمر المباشر بصيغِهِ البنيوية المعروفة، وإنّما استند في ذلك إلي التلميح بالفعل الاقتضائي غير المباشر.

أمّا لفظة (جدي) الثانية الواردة في الكتاب نفسه فتقتضي أنّ الإمام بخروجه لم يرد أن يدعو المسلمين إليحربٍ ضد الأمويين لغايات دنيوية، فالمقتضي من لفظتي (جدي)، و(أبي) المضافة إلي (عليّ بن أبي طالب) هو إخبار أخيه بأنّه سيلتزم بالمسار الذي سار عليه جدّه وأبوه، والنهج الذي اختطاه ولا يتجاوز ذلك، فقوة هاتين اللفظتين الحِجَاجية الاقتضائية تكمن في مقدرتهما علي الإقناع؛ بوصفهما يمثلان سلطة حجاجية عُليا يكون لها الأثر الكبير في الإقناع، ولاسيما بمن يؤمن بالرسول (صلي الله عليه و آله)، وابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فما عليه إلا أن يُسلّم أمره، ويفوضه إلي الله؛ إذ لا يستطيع محمد بن الحنفية أن يثني الإمام الحسين (عليه السلام) عن المسير في الخط المحمدي لتبليغ رسالة الله (عزوجل) إلي أهل الأرض.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الإمام (عليه السلام) عندما ذكر لفظة (أبي) أضافها إلي اسم أبيه (عليّ بن أبي طالب)؛ ليُعلِمَ المتلقي (محمد بن الحنفية) أنّه يقصد بها أباه الذي خرج من صلبه (عليّ بن أبي طالب)، ولا يقصد بها جدّه (رسول الله)؛ لأنّ المتداول بين المسلمين، ولاسيما في بيت آل النبي (عليهم السلام) أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يدعو جده (رسول الله)، وأباه (عليّ بن أبي طالب) بلفظة (أبي)، واتضح ذلك جلياً في خطبِهِ وكتبِهِ.

ص: 111

قوله: (ابن بنت)

من الألفاظ التي أدت وظيفة حجاجية عالية في بعض المقامات التداولية احتجاج الإمام (عليه السلام) علي جيش الكوفةبقوله عن نفسه إنّه (ابن بنت) النبي (صلي الله عليه و آله)، فهذه العبارة تسجن المتلقي في وضع ذهني يكون فيه في موقع الضعيف العاجز؛ إذ لا يمكن أن ينكر أو ينفي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ابن بنت النبي (صلي الله عليه و آله)، فقوتها الحِجَاجية تكمن في ما تؤديه ضمناً من معني، وهذا المعني الضمني منضوٍ في السمات الدلالية الضمنية، فأعداء الإمام الحسين (عليه السلام) قد أنعم الله عليهم سبحانه وتعالي بنعمة الإسلام والهداية بجده المصطفي محمد (صلي الله عليه و آله) فكيف يجوّز لهم دينهم قتل آل بيته؟! فعلي هذا يأتي معني قوله (عليه السلام): «...أمّا بعد فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثم ارجعوا إلي أنفسكم وعاتِبوها، فانظروا؛ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم صلي الله عليه وسلم... أفتشكّون أثَراً ما أنّي ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنتِ نبيّكم خاصّة»(1). فقوله: (ابن بنت)المضافة إلي النبي (صلي الله عليه و آله) التي كررها أربع مرات في

ص: 112


1- تاريخ الطبري(تاريخ الرسل والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ (ت310ه-)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية (1971م): 424-326؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد، أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي (ت413ه-)، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، (د. م) (د. ت): 2/97-98؛ والكامل في التاريخ: 3/418-419؛ وسير أعلام النبلاء: 3/301-302؛ والبداية والنهاية، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القُرَشي الدمشقي (ت774ه-)، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الجيزة، الطبعة الأولي (1418ه- - 1998م): 11/534-536.

مواضع متقاربة في هذه الخطبة تقتضي حقيقة تحمل بين طياتها أنّه ممّا لا نقاش فيه، ولا جدال أنّه لا يحلّ لكم قتلي؛ لأنّ بقتلي انتهاكاً لحرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) . وهذا أيضاً ينطبق علي قوله للحرّ بن يزيد وجيشه: «فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم»(1).

لفظة (الدّعي)

ويمثلها قول الإمام الحسين (عليه السلام) لجيش الكوفة عندما استكفوا به: «أ فهؤلاء تعضدون، وعنَّا تتخاذلون؟! أجل والله. خذل فيكم معروفٌ... ألا وإنَّ [الدعي] ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السّلة والذّلة، وهيهات منا الذّلّة [وهيهات له ذلك منّي]، يأبي الله ورسولُهُ ذلك والمؤمنون، وحجورٌ [طهرت وجدودٌ] طابت، وأنوفٌ حميةٌ، ونفوسٌأبيّة، أن نؤثر مقام اللئام علي مصارعِ الكرام... ثم قال: أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر، فدُعي له، وكان كارها لا يحبّ أن يأتيه فقال: يا عمر أنت تقتلني؟! تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان»(2).

لفظة (الدّعي) الواردة في هذه الخطبة مثّلت فعلاً كلامياً اقتضائياً غير مباشر ذا

ص: 113


1- تاريخ الطبري: 5/403؛ وذكر البلاذري (ت279ه-) جزءاً منها في كتابه (جمل من أنساب الأشراف)، حققه وقدم له الدكتور سهيل زكّار والدكتور رياض زركلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولي (1317ه- - 1996م): 3/381؛ وينظر أيضاً: الكامل في التاريخ: 3/407-408؛ وبحار الأنوار: 44/381-382؛ وجمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية، بيروت ( 1356ه- - 1937م): 2/40.
2- التذكرة الحمدونية: 5/212؛ واُنظر: تحف العقول عن آل الرسول صلي الله عليهم، أبو محمّد الحسن ابن علي بن الحسين ابن شعبة الحراني (من أعلام القرن الرابع الهجري)، قدّم له الشيح حسين الأعلمي، الطبعة الأولي (1384ه-): 265-267؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/218-219؛ والاحتجاج: 2/278؛ وما بين الأقواس من: بحار الأنوار: 45/10.

قوة حجاجية عالية استعمله الإمام (عليه السلام)؛ ليؤكد فعلاً كلامياً اقتضائياً مباشراً وهو الاستفهام التقريري(1): «أفهؤلاء تعضدون، وعنَّا تتخاذلون؟!». فلما استكفي جيش الكوفة بالإمام الحسين (عليه السلام)، وتحاثَّوا علي قتله، وسفك دمه قرع آذانهم بهذا الاستفهام، ولمّا وجدهم لم ينثنوا عمّا تحاثوا عليه قرع آذانهم بقولٍ آخر ذي قوة حجاجية عالية مثلته لفظة (الدّعي)، ف-(الدّعي) في اللغة يعني الذي يُدعي لغير أبيه، أو يدّعيه غير أبيه(2).فقد أشار الإمام (عليه السلام) بهذا اللفظ إلي حقيقة متداولة شائعة بين المسلمين وهي إنّ (زياد) والد (عبيد الله) كان يُدعي بزياد ابن أبيه، فأبوه لم يكن معروفاً. فالمقتضي الحِجَاجي من ذكر هذا اللفظ - والخطاب موجّه لجيش الكوفة عامة، ولعمر بن سعد خاصّة - إنّكم تأتمرون بأمر ابن زني لقتل ابن نبي! وقوة فعل الكلام غير المباشر الكامنة بين طيات هذا اللفظ هي النهي عن التجمع تحت راية ابن الزني لقتل ابن النبي (صلي الله عليه و آله)؛ لذا نجد أنّ للفظة (الدّعي) في هذا السياق خصوصية تستمدها من دلالتها المعجمية التي مثّلت قوة دافعة لدلالتها التداولية الاقتضائية، ليس لأنّها مجرد تهمة، بل لأنّها تهمة تحمل في طياتها وجه الاقتضاء حقيقة؛ لتزعزع في أذهانهم حقيقة أخري، فبفضل المقتضي المعجمي للفظة (الدّعي) تحوّل قول الإمام (عليه السلام) من ملفوظ وصفي إخباري معرفي إلي كلام ذي قيمة حجاجية عالية بفضل قوة فعل الكلام الكامنة في طياته؛ لينجز به الإمام (عليه السلام) فعلاً كلامياً غير مباشر هو: تراجعوا

ص: 114


1- ستكون لي وقفة مع موضوع الاستفهام التقريري في المبحث الثالث من هذا الفصل.
2- اُنظر: العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175ه-)، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، دار الهجرة، قم، الطبعة الأولي (1405ه-): مادة (دعو)2 /221؛ وتهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت370ه-)، تحقيق عبد الحليم النجار، الدار المصرية للتأليف والنشر، مصر، (1964م): مادة (دعا) 3/120.

عن هذا الأمر وعودوا إلي رشدكم.

وتتمثل خصوصية هذه اللفظة في هذا المقام فيدلالتها المعجمية الممزوجة بدلالتها التداولية الاقتضائية الحِجَاجية، فهي في الوقت الذي تحمل فيه تهمة من جهة الكلام، تمثل حقيقة من جهة المقتضي، فهي اتهام حقيقي، ولا يمكن نفي هذه التهمة إلا من خلال نفي الحقيقة. وهكذا نجد أنّ لفظة (الدّعي) في هذا المقام تؤدي وظيفة ذات قوة حجاجية عالية هي اختراق أقوال أعداء آل بيت النبي (صلي الله عليه و آله)، وفضح ادّعاءاتهم، وإبطالها، ثمّ نسفها.

فالمقتضي الناجم عن معني كلمة (الدعي) تحوّل في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) إلي مقتضي تداولي، ناقلاً بذلك الواقع من خارج الخطاب إلي داخله، وهكذا مثلت لفظة (الدعي) في هذا السياق فعلاً اقتضائياً غيرَ مباشرٍ مهد للوصول إلي النتيجة.

فعل مفهوم (الاستلزام الحواري)

«الاقتضاء يمتاز بكونه لا يتغير بتغير ظروف استعمال العبارة؛ فهو ملازم لها في جميع الحالات والأحوال، أما الاستلزام فإنه يتغير بتغير ظروف إنتاج العبارة اللغوية»(1). وسُمّيَ بالمفهوم في نظريةالأفعال الكلامية؛ لأنّه مفهوم من الكلام، ثم اصطلح عليه (غرايس) بالاستلزام الحواري؛ لأنّ اللازم فيه لا ينفك عن ملزومه(2)، ويستطيع المحاجج بواسطة هذا الفعل الكلامي أن ينجز «أفعالاً لغوية غير مباشرة باستعمال أفعال لغوية أخري؛ لتدلّ علي معني آخر غير الذي وُجِدت له

ص: 115


1- إشكال المعني من الاستعارة إلي الاستلزام الحواري، محمد السيدي، مجلة فكر ونقد، العدد (25)، الموقع علي الانترنت: http: //www.aljabriabed.net.
2- اُنظر: أدوار الاقتضاء وأغراضه الحِجَاجية في بناء الخطاب، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/157.

في حقيقتها، فتتوّلد عنها معانٍ أصلية وترد في سياقات تناسب المقام، ويكون ذلك بواسطة ما يسمّي ب-(قرائن الحال)؛ إذ تخترق أحد شروط إجراء المعني الأصلي، فيمتنع إجراؤه، ويتوّلد معني آخر يناسب المقام»(1).

والاستلزام الحواري حدثٌ بياني مرتبط بسياق القول، ويتمثل بالاستعارة، والكناية، والتلميح(2). وسيقتصر هذا المبحث علي التلميح فقط،أما الاستعارة، والكناية فسيأتي الحديث عنها في المبحث الرابع من هذا الفصل(3).

تفهم دلالة التلميح من فعل الكلام لا من مضمون القول، فالمتلقي لا يدرك المعني من مضمون القولالمباشر، بل من قرائن الحال المقامية.

ومن أمثلته قول الإمام الحسين (عليه السلام) لابن الأزرق الخارجي شيخ الأزارقة(4): «إني سائلك عن مسألة، قال سل، فسأله عن هذه الآية: «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ»(5). يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق: أبُوهما؟ قال الحُسَيْن فأبوهما خير أم رسول الله (صلي الله عليه وسلم)؟ قال ابن الأزرق: قد أنبأ الله تعالي أنكم قوم خصمون»(6).

ص: 116


1- دراسة الأفعال الكلامية في القرآن الكريم - مقاربة تداولية -: (بحث)20.
2- اُنظر: إشكال المعني من الاستعارة إلي الاستلزام الحواري، الموقع علي الانترنت: http: //www.aljabriabed.net.
3- اُنظر: هذه الأطروحة: 110- 118.
4- نافع بن الأزرق كان رأس الأزارقة، وإليه نسبتهم، وكان أمير قومه وفقيههم. من أهل البصرة. صحب في أول أمره عبد الله بن عباس. وكان من الخوارج (ت65ه-). اُنظر: الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشر (2002م): 7/351.
5- سورة الكهف: آية82.
6- تاريخ مدينة دمشق: 14/183-184؛ واُنظر: مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، مُحمَّد بن مكرّم المعروف بابن منظور (ت711ه-)، تحقيق أحمد راتب حنوش ومُحمَّد ناجي العمر، مراجعة رياض عبد الحميد مراد، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولي (1405ه- - 1985م): 7/130-131.

الذي دفع الإمام الحسين (عليه السلام) إلي أن يسأل ابن الأزرق هذا السؤال الاستجابة التي رآها منه بعدما أجابه عن سؤاله في وصف الله عزّ وجلّ، فما أن أجابه الإمام (عليه السلام) عن سؤاله وجده يبكي ويقول متعجباً: «يا حسين ما أحسن كلامك! »فقال له الإمام (عليه السلام): «بلغني أنّك تشهد علي أبي، وعلي أخي بالكفر، وعليَّ». قال ابن الأزرق: «أما والله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام»، هذه الاستجابة من ابن الأزرق دفعت الإمام الحسين (عليه السلام) إلي أن يسأله عن معني الآية الكريمة؛ليجعله بذلك يقرّ بأحقية آل البيت بخلافة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فلو أجاب ابنُ الأزرق الإمامَ قائلاً: رسول الله؛ لاستلزم ذلك أن يكون ابنا رسول الله (الحسن والحسين) أحقّ بأن يُحفظ حقهما في الخلافة، وهذا الاستلزام تفطّن إليه ابن الأزرق؛ لذا لم يجب الإمام عن سؤاله بل أضرب عنه إلي تلميحٍ آخر بقوله: «قد أنبأ الله تعالي أنكم قوم خصمون»، الذي لمّح إليه ابن الأزرق في قوله هذا: إنّك يا حسين لم تسألني هذا السؤال للتعرّف علي بيان معني الآية الكريمة، بل كانت لك غاية أخري وهي لتجرّني في مجادلة، وأنا لا طاقة لي بك، يدلّ علي ذلك قوله: (قوم خصمون) الذي لمّح فيه إلي قوله تعالي: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ»(1). فابن الأزرق فهم من سؤال الإمام عن معني الآية أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يجرّه لمحاورة علّها تثنيه عن عقيدته.

والمتلقي (المباشر أو غير المباشر) يفهم تلك التلميحات من الحوار الذي دار بينهما، فالفعل غير المباشر الذي أراد الإمام الحسين أن يحققه من هذه المحاورة هو ثني ابن الأزرق عن عقيدته علّه ينقذه من الضلال الذي كان يعيش فيه، لكنَّ قوة فعل الكلام المستندة إلي حجة السلطة المتمثلة بالآية الكريمة التي استند إليها الإمام

ص: 117


1- سورة الزخرف: آية58، والآية تتحدث عن النبي عيسي (عليه السلام) .

الحسين (عليه السلام) بوصفها تمثل قوة فعلكلام غير مباشر لثني ابن الأزرق عن عقيدته لم تفلح مع ابن الأزرق فبقيَ علي عقيدته، وتأسست علي يديه فرقة من الخوارج عُرفت بالأزارقة.

فالغاية من تلميح الإمام (عليه السلام) كانت إرشاد ابن الأزرق إلي جادة الصواب، وهذا التلميح يدلّ - في الوقت نفسه - علي المقدرة البلاغية التي كان الإمام الحسين (عليه السلام) يتمتع بها في استيعاب المعاني وتنويعها، والطاقة الحِجَاجية في توصيلها إلي المتلقي.

ومن الأمثلة الأخر علي الحِجَاج بالتلميح قول الإمام (عليه السلام) للحر بن يزيد الرياحيّ وجيشه بالبيضة قرب العذيب(1): «... وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم، فلَعَمْري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي، وأخي، وابن عمي مسلم [بن عقيل]، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم، ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه، وسيُغني الله عنكم»(2).

فهذا القول استمد قوته الحِجَاجية من فعل الكلام غير المباشر المستمد من التلميح إلي قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(3)، فهذه الآية تمثل حجة سلطة استند إليها الإمام (عليه السلام)؛ علّها تُجدي نفعاًمع مَنْ أصمَّ الشيطان آذانهم.

وما ينطبق علي القول السابق ينطبق أيضاً علي قول الإمام (عليه السلام) لجيش الكوفة لما استكفوا به: «أفهؤلاء تعضدون، وعنَّا تتخاذلون؟! أجل والله. خذل فيكم معروفٌ

ص: 118


1- مواقع جغرافية لم تشر إليها معاجيم البلدان وغيرها.
2- تاريخ الطبري: 5/403؛ وذكر البلاذري (ت279ه-) جزءاً منها في كتابه (جمل من أنساب الأشراف): 3/381؛ وينظر أيضاً: الكامل في التاريخ: 3/407-408؛ وبحار الأنوار: 44/381-382؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/40.
3- سورة الفتح: آية10.

وشَجَت عليه عروقكم، وتأزّرت عليه أصولكم فأفرعتم، فكنتم أخبث ثمرٍ شَجي للناظر، وأكلةً للغاصب. ألا فلعنة اللهِ علي [الظالمين] الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً»(1).

فهذا القول استمد قوته الحِجَاجية من التلميح إلي قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَي وَيَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» * «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ» * «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَي مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»(2). لكنّ هذا القول لم يجد صداه في قلوبٍ صادئة لا تميز الخبيث من الطيب.

يُفهم من ذلك أنّ القوة الحِجَاجية لا تقتصر علي ظاهر اللفظ فحسب، بل يمكن أن يكون الحِجَاج بالخطاب التلميحي أيضاً؛ لأنّ النصّ - كما يقول الغزّاليّ (ت505ه-) -: «ضربان: ضربٌ هو نصٌّ بلفظه ومنظومه...، وضربٌ هو نصٌّ بفحواهومفهومه، نحو قوله تعالي: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(3)، «وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (4)، «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»(5)، «وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ

ص: 119


1- التذكرة الحمدونية: 5/212؛ واُنظر: تحف العقول عن آل الرسول: 265-267؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/218-219؛ و الاحتجاج: 2/278؛ وما بين الأقواس من بحار الأنوار: 45/10.
2- سورة النحل: آية92.
3- سورة الإسراء: آية23.
4- سورة النساء: آية49.
5- سورة الزلزلة: آية7.

إِلَيْكَ»(1). فقد اتفق أهل اللغة علي أنّ فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم، وما وراء الفتيل، والذرة من المقدار الكثير أسبق إلي الفهم منه من نفس الذرة، والفتيل، والتأفيف»(2). والمحاجج يمازج ما بين هذين الضربين بالحِجَاج؛ «لأنّ المرسل إليه يفهم ما يضمره في خطابه تماماً مثلما يفهم ما يظهره فيه، فإذا كانت تتجلي كفاءة المرسل التداولية في صناعة الخطاب، فإنّها تتجلي الكفاءة التداولية للمرسل إليه عند تأويل الخطاب للوصول إلي مقاصد المرسل وإدراك حججه. فلو كان التخاطب يعتمد علي الاستراتيجية المباشرة [من] دون غيرها لكلّف النّاس أنفسهم عنَتاً من أجل تفسير الخطاب وتوخي الإطناب وإغفال ما تستدعيه عناصر السياق الاجتماعية من تنويع الخطاب في بنيته»(3).

نستنتج ممّا تقدّم أنّ نظرية (الحِجَاج في اللغة) وُلِدَتْ من رَحِمِ نظرية الأفعال الكلامية لأوستين وسورل، وهذه النظرية تري أنّ الإخبار لا يُمثّل الوظيفة الأساسية للغة؛بل تري أنّ اللغة تستمد سلطتها، وقوة سلطانها من إنجازها للأفعال، وتأثيرها في الآخرين. فالتخاطب العادي لا يُراد منه تبادل الأخبار بقدر ما يُراد منه التأثير في الآخرين؛ لحملهم علي إنجاز الأفعال.

ص: 120


1- سورة آل عمران: آية75.
2- المستصفي من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزّالي (ت505ه-)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية (2010م): 1/275.
3- استرايجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 476.

المبحث الثاني: حجاجه اللغوي

اشارة

تري نظرية (الحِجَاج في اللغة) أنّ اللغة قبل التلفظ بها عبارة عن إمكانيات لغوية، وبعد التلفظ بها تصبح خطاباً،أو بمنزلة الخطاب تصدر عن متكلم، وتستهدف مستمعاً. وأنّ الخطاب الحِجَاجي يصدر عن ذات متكلمة، ويستهدف مستمعاً، كما تنظر هذه النظرية إلي اللغة علي أنّها حوار بين عقول المتحدثين وظيفته الأساس إقامة جسور التفاهم؛ لبلوغ التوافق بصدد القضايا المثارة بينهم من دون اللجوء إلي العنف، فالمتكلم يجعل قولاً ما حجّة لقول آخر، يكون نتيجة يهدف منه إقناع المتلقي، أو إزعاجه، أو نحو ذلك...، ويكون ذلك صراحة، أو ضمناً، أي أنّ المتكلم قد يصرح بالنتيجة، وقد يخفيها فيكون علي المتلقي استنتاجها، كما أنّها تنظر إلي الأقوال علي أنّها متتابعة مترابطة علي نحو دقيق، بعضها يدعم الآخر ويثبته.

وأهم الأسس التي انطلق منها ديكرو و انسكومبر في نظريتهما الحِجَاجية هذه هي:

1. الوظيفة الأساسية للغة هي الحِجَاج.

2. المكون الحِجَاجي في المعني أساسي، والمكون الإخباري ثانوي.

1. عدم الفصل بين الدلالة والتداولية، والدعوة إلي فرضية التداوليات المدمجة(1).

ص: 121


1- اُنظر: نحو مقاربة حجاجية للاستعارة، أبو بكر العزاوي، مجلة المناظرة، العدد (4)، لسنة (1991م): 79.

الروابط والعوامل الحِجَاجية

اشارة

ينبغي ألّا يقتصر القارئ في فهم النص الخطابي علي منطوقه، أو علي المقتضي المعجمي، أو علي الاستلزام الحواري فحسب، بل عليه أن يجهد نفسه في فهمه بإدراك أثر الروابط والعوامل الحِجَاجية فيه؛ لما لهذه الروابط والعوامل من أثر فعال في عملية التوجيه الحِجَاجي، وقد أثبتت الدراسات الحِجَاجية «أنّ الروابط والعوامل الحِجَاجية هي المؤشر الأساسي والبارز، وهي الدليل القاطع علي أنّ الحِجَاج له مؤشر في بنية اللغة نفسها»(1).

1 - الروابط الحِجَاجية
اشارة

هي الأدوات التي تربط بين قولين داخل الخطاب، وتسند لكلِّ قول أثراً محدداً داخل (الاستراتيجية) الحِجَاجية، كماتسهم في تحديد العلاقة التخاطبية العامة؛ انطلاقاً من أثرها في فهم الأبعاد الدلالية، وعُدّ الرابط الحِجَاجي في النظرية الحِجَاجية اللغوية موصلاً تداولياً «يعمل علي تفكيك مكونات الفعل اللغوي ليجعل منها أفعالاً لغوية يحمل عليها وهي منفصلة»(2).

وتضم الروابط الحِجَاجية مجموعة من الأدوات اللغوية التي يمكن تقسيمها علي:

* الروابط المدرجة للحجج، ومنها: (حتي، بل، لكن، مع ذلك، لأنّ...).

ص: 122


1- الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه)158.
2- الحِجَاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو: (بحث) 234؛ واُنظر: الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه)158.

* الروابط التي تدرج حججاً قوية، ومنها: (حتّي، بل، لكن، ولاسيما،...).

* الروابط المدرجة للنتائج، ومنها: (إذن، لهذا، وبالتالي...).

* روابط التساوق(التساند) الحِجَاجي، ومنها: (حتي، ولاسيما،...)

* روابط التعارض (التعاند) الحِجَاجي، ومنها: (بل، لكن، مع ذلك،...)(1).وكلام الإمام الحسين (عليه السلام) احتوي علي مجموعة من الروابط، سأقتصر في هذا المبحث علي استعمالاتها الحِجَاجية من دون الخوض في استعمالاتها الأُخر (التركيبية، النحوية، المعجمية،...).

الروابط المدرجة للحجج

ومن أمثلتها في الخطاب الحسيني:

- (حتي): نحو ردّ الإمام الحسين (عليه السلام) علي أبي هرّة عندما قال له وهو في طريقه إلي العراق: يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك مُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) ؟ إذ قال الإمام (عليه السلام):

«... وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنَّ عليهم من يذلَّهم حتّي يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم ودمائِهم»(2).

نلحظ أنّ (حتّي) استُعملت للربط بين حجتين: (وليسلّطنَّ عليهم من يذلَّهم) و(يكونوا أذلَّ من قوم سبأ...) لهما

ص: 123


1- اُنظر: الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه)159.
2- بحار الأنوار: 44/368.

توجه حجاجي واحد، ويخدمان النتيجة (يلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً)، لكنّ الحجّة الثانية (يكونوا أذلَّ من قوم سبأ...) التي وردت بعد الرابط (حتّي) أقوي من الحجّة التي قبلها.

(بل): جاء في خطبته (عليه السلام) في التوحيد: «أيّها النّاس اتّقوا- هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب بل هو الله ليس كمثله شيء»(1). نلحظ أنّ هذا الرابط يربط بين حجتين لهما توجه حجاجي واحد، تكون الحجّة التي بعده وهي في الخطبة (هو الله ليس كمثله شيء) أقوي من الحجّة التي قبله (أيّها النّاس اتّقوا هؤلاء المارقة يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب) في خدمة النتيجة المضمرة (لا تشبّهوا الله بأنفسكم)، فالرابط (بل) أفاد هنا الانتقال من غرضٍ إلي غرضٍ آخر لهما توجه حجاجي واحد، ويخدمان نتيجة واحدة.

(لكنّ): ومن ذلك ما جاء في ردِّ الإمام الحسين (عليه السلام) علي معاوية عندما قال له: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال (عليه السلام): «وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفّناهم، وصلينا عليهم. فضحك الحسين (عليه السلام) ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكنّنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم»(2). نلحظ أنّ (لكن) «تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً يستدرك بها النفي

ص: 124


1- تحف العقول عن آل الرسول: 269.
2- الاحتجاج: 2/275؛ واُنظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/240 مع اختلافٍ في الرواية.

بالإيجاب، والإيجاب بالنفي»(1)، ويكون حكم ما بعدها مخالفاً لحكم ما قبلها، وفي المثال السابق توسطت بين قول معاوية: (... قتلناهم، وكفّناهم، وصلينا عليهم) المثبت، وقول الإمام الحسين (عليه السلام) المنفي (لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم).

ويري الحجاجيون أنّ الحجّة التي بعدها أقوي من الحجّة التي قبلها في خدمة النتيجة(2).

(لأنّ): ومن أمثلته ما جاء في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) في التوحيد: «... ولا يخطر علي القلوب مبلغ جبروته؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقاناً بالغيب؛ لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين»(3). ويُعد هذا الرابط من أهم ألفاظ التعليل، ويُستعمل لتبرير الفعل، ويربط بين النتيجة والحجّة، ففي المثال السابق يمثل قول الإمام (عليه السلام): (ولا يخطر علي القلوب مبلغ جبروته)- النتيجة، وقوله (عليه السلام): (ليس له في الأشياء عديل) الحجّة؛ وكذلك قوله: (ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقاناً بالغيب) مثّل النتيجة، وقوله (عليه السلام): (لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين) مثّل الحجّة. وممّا يُلحظ أنّ هذا الرابط جاء بعد النتيجة، وجاءت الحجّة بعده؛ لتعلل النتيجة.

ص: 125


1- معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسي الرماني (ت386ه-)، تحقيق عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي، المكتبة العصرية، بيروت (1428ه- - 2008م): 196.
2- اُنظر: اللغة والحِجَاج: 58؛ والحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 347.
3- تحف العقول عن آل الرسول: 174.
الروابط التي تدرج حججاً قوية

(حتي): وهو من الروابط التي تدرج حججاً قوية نحو ردّ الإمام الحسين (عليه السلام) علي معاوية عندما طلب منه أن يبايع يزيد؛ ليكون خليفة للمسلمين، إذ قال الإمام (عليه السلام): «... هيهات هيهات يا معاوية: فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتّي أفرطت، واستأثرت حتّي أجحفتَ، ومنعت حتّي محلت، وجزت حتّي جاوزت ما بذلت لذي حقّ من اسم حقه بنصيب، حتّي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل،... فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتّي ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة... فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتّي أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك»(1). نلحظ أنّ (حتّي)- لها توجه حجاجي واحد، وكلّ الحجج التي جاءت قبلها والتي جاءت بعدها خدمت النتيجة (هيهات هيهات يا معاوية).

أما الروابط المدرجة للنتائج: (إذن، لهذا، وبالتالي)، فقد تبيّن من استقراء كلام الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ هذا النوع من الروابط لم يرد في كلامه؛ وذلك يعود إلي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد نهل لغته من القرآن، وهذه الروابط لم ترد في القرآن الكريم البتة. وكذلك الحال مع الروابط الأُخر نحو: (مع ذلك، لاسيما)، لكن ثمّة روابط أُخر استعملها الإمام (عليه السلام) مدرجة للنتائج ك-(لام التعليل)، نحو قوله (عليه السلام) لعمر بن

ص: 126


1- الإمامة والسياسة، المعروف بتاريخ الخلفاء، أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ (ت276ه-)، تحقيق علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولي (1410ه- - 1990م): 1/209.

الخطاب: «فأي الناس أمرك علي نفسه قبل أن تؤمِّر أبا بكر علي نفسك ليؤمِّرك علي الناس»(1). الحجّة (تؤمِّر أبا بكر علي نفسك)، والنتيجة (يؤمِّرك علي الناس). و(الفاء) نحو قول الإمام (عليه السلام): «فتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوي»(2). فالفاء ربط بينالحجّة(تزودوا) والنتيجة (خيرَ الزادِ التقوي)، وهذان الرابطان لم تشر إليهما نظرية الحجاج في اللغة.

نلحظ ممّا تقدّم أنّ بعض الأقوال المذكورة آنفاً قد تألفت من أكثر من حجّة، وهذه الحجج تناسقت فيما بينها تناسقاً حجاجياً، وهي في تناسقها هذا وجّهت الحجج وجهة حجاجية متساندة أو متعاندة. وعلي هذا الأساس ينبغي التفريق بين نوعين من الحجج هما:

- الحجج المتساندة: وهي الحجج التي تساق لخدمة نتيجة واحدة، فلو أعدنا النظر في أقوال الإمام الحسين (عليه السلام) المذكورة آنفاً نجد أنّ الرابط (حتّي) له توجه حجاجي واحد، واستُعمل لتساند الحجج، وخدم نتيجة واحدة، ففي ردّه علي أبي هرّة خدم النتيجة «يلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً)، وفي ردّه علي معاوية خدم النتيجة (هيهات هيهات يا معاوية) لكنّ الملاحظ في تلك الردود أنّ الحجّة التي تلي الرابط (حتّي) هي الحجّة الأقوي؛ لأنّها جاءت لتزيد من تأكيد الحجّة التي قبل الرابط؛ ولذا ذهب الحِجَاجيون إلي أنّ (حتّي) تُستعمل لتساند الحجج، وأنّ «القول

ص: 127


1- الاحتجاج: 2/271.
2- زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ الحُصريّ القيروانيّ (ت453ه-)، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة (د. ت): 1/100؛ واُنظر: تاريخ مدينة دمشق: 14/218؛ وجمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، مطبعة مصطفي البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولي ( 1352ه- - 1933م): 2/43.

المشتمل علي الأداة (حتّي) لا يقبلالإبطال والتعارض الحِجَاجي»(1).

- الحجج المتعاندة: وهي الحجج التي تساق لمساندة نتيجتين متعارضتين، أي أنّ كلّ حجّة تساند نتيجة هي نقيض النتيجة التي تساندها الحجّة الأخري. ويعدُّ الرابط (لكن) من الروابط التي تُستعمل للتعارض (التعاند) الحِجَاجي، ولو أعدنا النظر في ردّ الإمام الحسين (عليه السلام) علي معاوية المذكور آنفاً نجد أنّ قول معاوية: (... قتلناهم، وكفّناهم، وصلينا عليهم) مثّل حجة، وقول الإمام (عليه السلام): (لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم) مثّل حجّة ثانية. وحجّة معاوية وُجّهتْ نحو نتيجة مضمرة أراد منها معاوية (تحذير الإمام من التعرض إلي حكمه أو نحو ذلك) يمكن أن نرمز لها ب-(ن). أما حجّة الإمام فقد وُجّهتْ نحو نتيجة مضمرة مضادة لها (إنّ هذا الفعل لا يصدر إلا عن منافق) - وسيأتي بيان ذلك أكثر في نهاية المبحث الرابع من هذا الفصل(2) - ويمكن أن نرمز لها ب-(لا - ن). والنتيجة المضادة (لا - ن) تصبح نتيجة الخطاب برمته؛ لأنّ «المتكلّم يقدم الحجّة الثانية باعتبارها(3)الحجّة الأقوي، وباعتبارها(4) توجه القول أوالخطاب برمته»(5). وقالت الدكتورة سامية الدريدي: «(لكن) متي توسطت دليلين باعتبارها(6) رابطاً حجاجياً جعلت الدليل الوارد بعدها أقوي من الدليل الذي سبقها فتكون للاحق الغلبة المطلقة بحيث يتمكن

ص: 128


1- اللغة والحِجَاج: 73؛ واُنظر: الحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 116.
2- اُنظر: هذه الأطروحة: 118-119.
3- كذا، والصواب: بوصفها.
4- كذا، والصواب: بوصفها.
5- اللغة والحِجَاج: 58؛ واُنظر: الحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 112.
6- كذا، والصواب: بوصفها.

من توجيه القول بمجمله فتكون النتيجة التي يقصد إليها هذا الدليل الثاني ويخدمها هي نتيجة القول برمته»(1). وهذا يعني أنّ الحجّة التي ترد بعد (لكن) أقوي من الحجّة التي ترد قبله، فالاستدراك ب-(لكن) يوجه دلالة القول كلّه إلي سلب مضمون ما قبله.

ولم يقتصر التساند الحِجَاجي علي (حتّي) فحسب؛ إذ أثبتت الدراسات الحِجَاجية أنّ الرابط (بل) يُستعمل في مواضعَ للتساند الحِجَاجي، وفي مواضع أخر للتعاند الحِجَاجي، ويمكن معرفة ذلك من السياق التداولي الوارد فيه؛ ولذا وقف عنده الدكتور أبو بكر العزاوي في موضعين من كتابه (اللغة والحِجَاج) أحدهما بوصفة مرادفاً ل-(حتّي) الحِجَاجية الدالة علي التساند الحِجَاجي(2)، والآخر بوصفه مرادفاً ل-(لكن) الدالة علي التعاند الحِجَاجي(3)، ومثالاستعمال هذا الرابط للتساند الحِجَاجي ما جاء في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) في التوحيد: «أيّها النّاس اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء»(4). نلحظ في هذه الخطبة أنّ الرابط (بل) يربط بين حجتين لهما توجه حجاجي واحد، تكون الحجّة التي بعده وهي في الخطبة (هو الله ليس كمثله شيء) أقوي من الحجّة التي قبله (أيّها النّاس اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب) في خدمة النتيجة المضمرة (لا تشبهوا الله بأنفسكم)، فالرابط (بل) أفاد هنا التساند الحِجَاجي بالانتقال من غرضٍ إلي غرضٍ آخر.

ص: 129


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 347.
2- اُنظر: اللغة والحِجَاج: 64.
3- اُنظر: المصدر نفسه: 62-63.
4- تحف العقول عن آل الرسول: 173.

أمّا استعماله للتعاند الحِجَاجي فيمكن توضيحه بما جاء في المصادر التاريخية أنّ الشمر بن ذي الجوشن قال للإمام الحسين (عليه السلام): أبشر بالنار تردها الساعة، فقال له الإمام (عليه السلام): «كذبت، بل أبشر بربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ»(1). إنّ الرابط الحِجَاجي (بل) أقام علاقة حجاجية مركبة من علاقتين حجاجيتين فرعيتين: علاقة بين حجّة الشمر (تبشير الإمام بالنار)، والنتيجة المضمرة (إنّك كافر)، وعلاقة حجاجية ثانية تسير بالاتجاه المعاكس لهذه النتيجة، أي بينالحجّة القوية التي أتت بعد (بل)، وهي (أبشر بربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ) والنتيجة المضادة للنتيجة السابقة (أنا لستُ كافراً). والنتيجتان مضمرتان «فالرابط الحِجَاجي (بل) يربط بين الحجج والنتائج، والنتيجة المضادة (لا - ن) ستصبح نتيجة القول برمته؛ لأنّ الحجّة التي بعد (بل) أقوي من الحجّة التي ترد قبلها»(2).

نخلص من ذلك إلي أنّ الحِجَاج اللغوي يعتمد علي روابط حجاجية تسهم، في ربط العلاقات التي يمكن ملاحظتها بين الحجّة والنتيجة، والحجّة التي تلي الرابط هي الحجّة الأقوي.

2 - العوامل الحِجَاجية
اشارة

العامل الحِجَاجي يربط بين وحدتين دلاليتين داخل القول اللغوي الواحد، ويقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحِجَاجية التي تكون للقول الواحد داخل الخطاب، فالعامل الحِجَاجي عبارة عن مورفيم إذا دخل في الخطاب أسهم في تقليص الإمكانات الحِجَاجية للكلام، وزاد من طاقته الحِجَاجية في التوجه نحو نتيجة حجاجية ما، ووظيفته تقتصر علي شحن الكلام؛ ليؤدي وظيفة حجاجية

ص: 130


1- الكامل في التاريخ: 3/422.
2- اللغة والحِجَاج: 62-63.

تتلاءم مع مقاصد المحاجج، وفي الوقت نفسه يساعد المتلقي في تحديد دلالة المراد من الكلام؛ لذا عُدّت العوامل موصلاً قضوياًحجاجياً دلالياً.

وتضم العوامل الحِجَاجية في اللغة العربية أدوات: (النفي، أدوات القصر، ربّما، تقريباً، كاد، قليلاً، كثيراً، منذ الظرفية، علي الأقل،...)، ولم يرد في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) منها إلا النفي، والقصر.

عاملية أدوات النفي الحِجَاجية

النفي ردّ فعل علي إثبات فعلي، وهو «توجيه علي توجيه؛ لذلك بمجرد إدماج عامل النفي تتحدد النتيجة (ن) بسرعة ولا يجد المتقبل حرجاً أو كدّ ذهني(1) في إدراك المفهوم، بل إنّ عامل النفي كمفهوم علاوة علي(2) وظيفته التوجيهية في الخطاب الحِجَاجي فإنّ له قيمة مضافة وهي علي حدِّ عبارة ديكرو: (إنّه ضروري لوصف البنية الدلالية العميقة للملفوظ الذي يبدو غير منفي) »(3)، وعاملية أدوات النفي الحِجَاجية يمكن إدراكها بإدراك النتيجة التي يريد المحاجج توجيه المتلقي إليها، ويمكن توضيح ذلك بما جاء في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) في التوحيد: «... لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. استخلص الوحدانيةوالجبروت وأمضي المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائنٌ. لامنازع له في شيءٍ من أمره، ولا كفؤ له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سميّ له يشابهه، ولا مثل له يشاكله. لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه

ص: 131


1- كذا، والصواب: لا يجد المتقبل حرجاً أو كدّاً ذهنياً.
2- كذا، والصواب: بوصفه مفهوماً زيادة علي.
3- عاملية أدوات النفي الحِجَاجية، سليمة محفوظي، الموقع علي الانترنت: www.akhbarak.net/.../2595479 - ب مصر.

عظمته، ولا يخطر علي القلوب مبلغ جبروته، لأنّه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقاناً بالغيب؛ لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصّمد»(1) فالنتيجة التي يريد الإمام (عليه السلام) توجيه الناس إليها هي نفي تشبيه الله سبحانه وتعالي بمخلوقاته. ومن الأمثلة الأُخر علي عاملية أدوات النفي الحِجَاجية وصف الإمام (عليه السلام) الله (عزوجل) جواباً علي سؤالٍ لنافع بن الأزرق؛ إذ قال (عليه السلام): «يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرّفه بما عرّف به نفسه: لا يُدرك بالحواس، ولا يُقاس بالناس. قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يوحّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال»(2)، فالنتيجة التي أراد الإمام (عليه السلام) توجيه ابن الأزرق إليها هي نهي ابن الأزرق عن قياس الخالق بالمخلوق، أو تشبيهه (عزوجل) بمخلوقاته.كما يأتي النفي لتكذيب حجّة الخصم الواقعة، أو المحتملة، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ»(3)؛ أو كما جاء في قول الإمام (عليه السلام) لمعاوية: (وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً)(4).

عاملية أدوات القصر الحِجَاجية

القصر في اللغة يعني الحبس، وفي الاصطلاح «تخصيص أمر بأمر بطريق

ص: 132


1- تحف العقول عن آل الرسول: 173-174.
2- تاريخ مدينة دمشق: 14/183-184؛ واُنظر: مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: 7/130.
3- سورة الأنعام: آية21.
4- الإمامة والسياسة: 1/202؛ واُنظر: الاحتجاج: 2/275؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/58.

مخصوص، ويُقال أيضاً: إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عمّا عداه»(1)، أي: حبسه عليه وجعله ملازماً له، و«التوكيد بالقصر هو عمل لغوي/كلامي يأتيه المتكلم فيجعل عمل الخصم الكلامي يسير في الاتجاه الذي يرسمه له»(2)، ويُعدّ القصر من أهم العوامل الحِجَاجية التي يستند إليها المحاجج؛ لتوجيهخطابه الوجهة التي يريد.

والقصر في اللغة العربية علي نوعين:

الأول: يكون ب-(النفي والاستثناء)، ويُراد من هذا النوع قصر الشيء وحصره بصاحبه من دون سواه(3)، فهو يحصر فعالية الحِجَاج في وجهة حجاجية واحدة؛ ليضيف للكلام قوة حجاجية تزيد من طاقته في توجيهه نحو النتيجة المضمرة، ويمكن توضيح ذلك بما جاء في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) بذي حُسُم(4): «فإنّي لا أري الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ذلاً وبَرَمَاً(5)»(6)، فالإمام (عليه السلام) بقوله هذا قصر الموت علي السعادة، وقصر الحياة مع الظالمين علي البَرَمِ، والإمام باعتماده علي

ص: 133


1- الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي (ت911ه-)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، الطبعة الأولي (1429ه- - 2008م): 520؛ واُنظر: البلاغة فنونها وأفنانها، الدكتور فضل حسن عباس، دار الفرقان، إربد، الطبعة الرابعة (1417ه- - 1997م): 358؛ والبلاغة والتطبيق، الدكتور أحمد مطلوب والدكتور كامل حسن البصير، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد، الطبعة الثانية (1420ه- - 1999م): 169.
2- الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه) 257.
3- اُنظر: دلائل الإعجاز: 37.
4- موقع قرب الكوفة. ينظر الخريطة المثبتة في المبحث الثاني من الفصل الثالث: 159.
5- البرم: السأم، والملل. اُنظر: لسان العرب: مادة (برم)12/43.
6- العقد الفريد، أحمد بن مُحمَّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه-)، تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة، القاهرة، الطبعة الثانية (1372ه- - 1953م): 5/122؛ واُنظر: تاريخ مدينة دمشق: 14/218؛ ومناقب آل أبي طالب، أبو جعفر محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (ت588ه-)، تحقيق يوسف البقاعيّ، مطبعة سليمانزادة، منشورات ذوي القربي، قم، الطبعة الثانية (1427ه-): 3/76؛ وبحار الأنوار: 44/381.

هذا الأسلوب الحِجَاجي قلّص الإمكانات الحِجَاجية للكلام، وزاد من القوة الحِجَاجية في توجيه المتلقي (الحرّ بن يزيد وجيشه) نحو النتيجةالمضمرة بأنّه لن يبايع يزيد البتة.

ونجد ذلك أيضاً في قوله (عليه السلام) لمعاوية عندما دعاه لمبايعة يزيد ليكون وريثاً؛ خليفة لمعاوية: «... وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم علي عمل محفوظ»(1). فالإمام (عليه السلام) حصر - في قوله هذا - الفعالية الحِجَاجية في وجهة حجاجية واحدة، هي أنّ دنياك يا معاوية قد انقضت - وقصرها الإمام (عليه السلام) علي الغمضة للمبالغة -؛ ليوجهه وجهة حجاجية واحدة نحو النتيجة، وهي إعادة الحقوق إلي أصحابها الشرعيين. وهكذا قيد الإمام الحسين (عليه السلام) الإمكانات الحِجَاجية، وقصرها علي هذه الفرصة الأخيرة، وهذا يعني أنّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يدفع معاوية؛ ليسلّم لهذه الحجّة.

أما النوع الآخر من أنواع القصر فهو القصر ب-(إنّما)، ويمكن توضيح ذلك بقول الإمام (عليه السلام): «... وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي صلي الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر»(2). الإمام بقوله هذا حصر وقيّد الإمكانات الحِجَاجية في خروجه من المدينة المنورة علي طلب الإصلاح في أمّة جدّه رسول الله (صلي الله عليه و آله) .

ومن الأمثلة الأُخر علي القصر ب-(إنّما) قول الإمام (عليه السلام) للحرّبن يزيد: «... ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه»(3)، في إشارة منه إلي الذين نكثوا وعودهم وعهودهم من

ص: 134


1- الإمامة والسياسة: 1/209.
2- بحار الأنوار: 44/329.
3- تاريخ الطبري: 5/403؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/409؛ وبحار الأنوار: 44/382؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/40.

الكوفيين بعد مبايعته (عليه السلام) . فقد أفاد ذلك أنّ صفة النكث تقتصر علي الناكثين فحسب، وتختص بمن كاتبوه من دون سواهم، فهي إذن إلي ذلك الوقت الذي خطب به الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الخطبة لم تشمل الحرّ ومَنْ معه؛ فلذا رأي الإمام (عليه السلام) أنّ الواجب الشرعي يُحتّم عليه إرشاد القوم وهدايتهم إلي جادة الصواب، كما أنّها قيدت الإمكانات الحِجَاجية بالناكثين فحسب.

نخلص من ذلك إلي أنّ الكلام المتضمن للعوامل الحِجَاجية تكون فيه النتيجة أكثر ضماناً من الكلام الخالي منها.

3 - السلالم الحِجَاجية
اشارة

يعتمد المحاجج علي مجموعة من الحجج للوصول إلي النتيجة، ويمكن جمع تلك الحجج بمجموعة واحدة اصطلح عليها الحِجَاجيون ب-(الفئة الحِجَاجية) أو (السلم الحِجَاجي)(1)، وقد بينا ذلك في المبحث الثاني من الفصل الأول. وعرّف الدكتور طه عبد الرحمن السلالمالحِجَاجية بأنّها «عبارة عن مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية وموفية بالشرطين التاليين(2):

كلّ قول يقع في مرتبة ما من السلم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلي جميع الأقوال التي دونه.

- كلّ قول كان في السلم دليلاً علي مدلول معين، كان ما يعلوه مرتبة دليلاً أقوي عليه»(3).

ص: 135


1- اُنظر: الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة: (أطروحة دكتوراه): 150.
2- كذا، والأصوب الآتيين.
3- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 277.

فالسلّم الحِجَاجي يعتمد علي ترتيب الحجج عمودياً ابتداءً من الحجّة الضعيفة إلي الحجّة القوية فالأقوي في فئة حجاجية واحدة، ويمكن توضيح ذلك بأمثلة مأثورة من كلام الإمام الحسين (عليه السلام)، كدعائه علي أهل الكوفة بعدما نكثوا بيعته، واستكفوا لقتله: «اللَّهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف؛ يسقيهم كأساً مصبّرة، ولا يدع فيهم أحداً إلا قتله قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنَّهم غرّونا وكذّبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا عليك توكّلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير»(1).

النتيجة المضمرة (ن) التحذير من قتله وسفك دمه (عليه السلام)

ح3: لا يرضي لكم حتّي يضاعفَ لكم العذاب الأليم

ح2: يسفك دماءكم

ح1: يلقي بأسكُم بينكم

نلحظ أنّ الإمام (عليه السلام) رتّب حججه بتدرّج، وتراتبية بحسب تفاوتها في القوة؛ لخدمة النتيجة المضمرة بالرابط الحِجَاجي (و) في هذا الدعاء الدال علي الجمع بين قولين، فهذا الرابط جمع بين مجموعة من الحجج يمكن أن نرمز لها: (ح1) و (ح2) و (ح3)¬ (ن). فجاءت تلك الحجج متساندة، والحجّة الثالثة (ح3) أقوي من (ح2) و (ح1) في إسناد النتيجة (ن)؛ لأنّها ليست كحرمانهم من قطر السماء، وليست كحرمانهم من خيرات الأرض، بل هي تمثل الانتقام الحقيقي. وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه العلاقة السلّمية التي نشأت بين الأقوال فسّرت عمل الرابط

ص: 136


1- بحار الأنوار: 45/10.

الحِجَاجي (الواو)، ف-(الواو) يُستعمل «حجاجياً وذلك بترتيبه للحجج ووصل بعضها ببعض بل وتقوي كلّ حجّة منها الأخري»(1).

ومن الأمثلة الأُخر علي السلالم الحِجَاجية ما جاء في آخر خطبة له (عليه السلام) في كربلاء: «... أما والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكُم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضي لكم حتّي يضاعفَ لكم العذابالأليم»(2).

النتيجة (ن) الانتقام منهم

ح3: سلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، ولا يدع فيهم أحداً إلا [قتله] قتلة بقتلة، وضربة بضربة

ح2: ابعث عليهم سنين كسني يوسف

ح1: احبس عنهم قطر السماء

نلحظ أنّ الحجج في هذا التحذير متساندة متساوقة نحو النتيجة، (ح1) و (ح2) ثم (ح3)← (ن). والملاحظ فيها أنّ (ح3) أقوي من (ح2) و (ح1)؛ لوقوعها في أعلي السلّم الحِجَاجي، وفضلاً عن ذلك فقد جاءت بعد الرابط (ثم) الدال علي الجمع بين قضيتين متباعدتين (التراخي)؛ وهذا الرابط جاء مناسباً مع مراد الإمام (عليه السلام) في التحذير من قتل سبط النبي (صلي الله عليه و آله)؛ فإنّ التباعد في الانتقام يكون ملائماً؛ لتباعد ما بين الحوادث في الوقت.

ومن الملاحظ في هذه الأمثلة أنّ العلاقة السلمية تُبني من المحاجج بناءً ذاتياً، وهي من الأمور النسبية التي تتدخل فيها طبيعة النتيجة المراد التوصّل إليها بواسطة

ص: 137


1- الحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 120.
2- تاريخ الطبري: 5/452.

العطف «ومن القيم الحِجَاجية المتولدة عن العطف هو محاولة منالمتكلم في نقل مخاطبه من صورة إلي أخري، إذ إنّ من دلالات العطف هو الاشتراك في الحكم، حيث ينزل المعطوف منزلة المعطوف عليه، واستعمال العطف في النصّ دليل علي القوة أيضاً، وبذلك يحقق المرسل هدف الإقناع والتأثير»(1).

وفضلاً عن العلاقات السلمية المتساندة هناك علاقات سلمية تقابلية، وهي تتولد عمّا يُعرف ب- (مبدأ التعارض الحِجَاجي)(2)، «فقد تكون الحجج الواردة في الملفوظ لا تتجه لإسناد نفس النتيجة(3)، وإنّما تُساند كلّ حجّة نتيجة معارضة للنتيجة التي تساندها الحجّة الأخري»(4).

ومن الأمثلة علي ذلك قول الشمر بن ذي الجوشن للإمام الحسين (عليه السلام): أبشر بالنار تردها الساعة، فقال له الإمام (عليه السلام): «بل أبشر بربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ»(5).

(ن) لأنّك كافر----------------- (ح) أبشر بربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ

↑--------------------------------- ↓

الشمر -----------------بل----------------- الإمام الحسين

(ح) أبشر بالنار تردها الساعة -----------------(لان) أنا لستُ كافراً

ص: 138


1- بنية الملفوظ الحِجَاجي للخطبة في العصر الأموي، خديجة محفوظي، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة منتوري قسنطينة، كلية الآداب واللغات، قسم اللغة العربية - شعبة اللغويات (2007): 67.
2- اُنظر: الحِجَاجيات اللسانية والمنهجية البنيوية، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 2/109.
3- كذا، والصواب: النتيجة نفسها.
4- البحث نفسه: 2/109.
5- الكامل في التاريخ: 3/422.

ودائماً تكون الحجّة التي تأتي بعد (بل) أقوي من الحجّة التي قبلها، والنتيجة المضمرة (أنا لستُ كافراً) تمثل نتيجة القول برمته كما بينا ذلك آنفاً.

آليات السلالم الحِجَاجية

لا تقتصر السلالم الحِجَاجية علي إيراد بعض الجمل وربطها حجاجياً، بل هنالك آليات كثيرة لا يمكن حصرها، يمكن للمحاجج أن يستند إليها في ترتيب حججه، منها علي سبيل المثال:

صيغة أفعل التفضيل: وهو «اسم مشتق علي وزن (أفعل) يدل - في الأغلب - علي أنّ شيئين اشتركا في المعني، وزاد أحدهما علي الآخر فيه»(1)، و يتضح ذلك بقول الإمام (عليه السلام) لأبي هرّة: «... وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنَّ عليهم من يذلَّهم حتّي يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم ودمائِهم»(2).

النتيجة (ن): يلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً

ح1: يكونوا أذلَّ من قوم سبأ

ح2: ليسلّطنَّ عليهم من يذلَّهم

(ح1) حتّي (ح2) ← (ن). و(ح2) أقوي من (ح1)؛ لوقوعها بعد (حتّي) لكنّ الملاحظ في قول الإمام هذا أنّ أفعل التفضيل (أذلّ) قد أسهم في الزيادة من قوة هذه الحجّة في التوجه نحو النتيجة؛ ممّا أسهم ذلك في الزيادة من القوة

ص: 139


1- النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة (1974م): 3/395.
2- بحار الأنوار: 44/368.

الحِجَاجية في دفع المتلقي؛ للإذعان للحجّة، والتسليم لها.

4 - القياس الضمني

ويمكن توضيحه بقول الإمام (عليه السلام) لأخته زينب (عليها السلام): «... يا أخيّة؛ اتقي الله، وتعزي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون، و أنَّ أهل السماء لا يبقون، و أنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق، فيعودون وهو فردٌ وحده. أبي خير منّي، وأمي خير منّي، وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكلِّ مسلمٍ برسول الله أسوةٌ... يا أخيّة إنّي أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت»(1).

النتيجة (ن) لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا انا هلكت

(ح5) كلّ شيء هالك إلا وجه الله

(ح4) أهل السماء لا يبقون

(ح3) أهل الأرض يموتون

(ح2) رسول الله هلك

(ح1) أبي خير منّي، وأمي خير منّي، وأخي خير منّي وكلهم هلك

القياس الضمني في هذا الكلام: كلُّ شيءٍ هالك إلا وجه الله ← أنا مخلوق ← إذن أنا هالك.

ص: 140


1- تاريخ الطبري: 5/420-421؛ واُنظر: مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني (ت356ه-)، شرح وتحقيق السيد أحمد صقر، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف، الطبعة الأولي (1423ه-): 113-114؛ و الكامل في التاريخ: 3/416؛ والبداية والنهاية: 11/531.

المبحث الثالث: أسلوبه الحجاجي

الأسلوب والأسلوبية

الأسلوب

للأسلوب في اللغة العربية معانٍ عدّة يهمنا منها الأسلوب في الكلام، ويُقصد به فنّ القول، «يقال: أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه»(1)، ويري ابن خلدون أنّ الأسلوب «المنوال الذي ينسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلي الكلام باعتبار إفادته أصل المعني الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعني من خواص التراكيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض... وإنّما ترجع إلي صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها علي تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها... فإنّ لكلّ فنّ من الكلام أساليب تختصبه وتوجد فيه علي أنحاء مختلفة»(2)، ومفهوم الأسلوب عند شارل بالي - كما وصفه صلاح فضل - يعني: «مجموعة من عناصر اللغة المؤثرة عاطفياً علي المستمع أو

ص: 141


1- لسان العرب: مادة (سلب): 1/473.
2- مقدمة العلامة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق حجر عاصي، دار مكتبة الهلال، بيروت، (1988م): 353-354.

القارئ، ومهمة علم الأسلوب لديه هي البحث عن القيمة التأثيرية لعناصر اللغة المنظمة، والفاعلية المتبادلة بين العناصر التعبيرية التي تتلاقي لتشكّل نظام الوسائل اللغوية المعبرة، فاللغة بالنسبة له(1) هي مجموعة من الوسائل التعبيرية المعاصرة للفكر»(2). ويعرّف الأسلوب بالدراسات الحديثة «بأنّه مجموع الطاقات الإيحائية في الخطاب الأدبي»(3).

الأسلوبية
اشارة

قال سعيد العوادي واصفاً البلاغة الغربية: «انحصرت البلاغة في الأسلوب فارتبطت به باسم الأسلوبية، ثمّ تحولت من كونها معرفة فلسفية تعتمد الحِجَاج والإقناع إلي معرفة أدبية بالسلطة التي فرضها الأسلوب الشعري»(4)، ويُعد (فرديناند دي سوسير) أولمن غرس بذور الأسلوبية، ثمّ أثمرت علي يد تلميذه (شارل بالي)، ثم صارت علماً قائماً بذاته، وصبّت الدراسات الأسلوبية جلّ اهتمامها علي الجوانب الإمتاعية والجمالية، وعرّف جاكبسون الأسلوبية «بأنّها بحثٌ عمّا يتميز به الكلام الفنّي عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً»(5).

ويري بيرلمان وتيتيكاه أنّ من غير الممكن الفصل بين البني الأسلوبية وأهدافها

ص: 142


1- كذا. والأصوب: بالنسبة إليه.
2- علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولي (1998م): 97.
3- الأسلوبية والأسلوب، د. عبد السلام المسدّي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، الطبعة الثالثة: 95.
4- البلاغة والأسلوبية، سعيد العوادي، مجلة جذور التراث، جدّة، ج(23)، مج(10)، (1427ه- - 2006م): 10.
5- الأسلوبية والأسلوب: 37.

الحِجَاجية، وقال عبد الله صولة - معلّقاً علي ما ذهبا إليه -: «لا يمكن دراسة البني الأسلوبية منفصلة عن أهدافها الحِجَاجية فحتّي ما ينشأ في الخطاب من تناغم، وإيقاع، وغير ذلك من الظواهر الشكليّة المحضة يمكن أن يكون له تأثير حجاجي من خلال ما يتولّد عنه من إعجاب... وحماس لدي جمهور السامعين»(1).

وبعد هذه الفكرة الموجزة عن الأسلوب والأسلوبية سينصبّ جلّ اهتمامنا في هذا المبحث علي أسلوب الإمام الحسين (عليه السلام) الحِجَاجي، وأهم المعطيات النظمية التي اتكأ عليها (عليه السلام)، ومنها:

1 - أسلوب التوكيد

يُقصد بالتوكيد «تثبيت الشيء في النفس، وتقوية أمره»(2)، والغرض منه «إزالة ما علق في نفس المخاطب مِنْ شكوك... وما خالجه مِنْ شبهات»(3)، وبما أنّ المادة التي يتعامل بها المرسل مع المتلقي هي اللغة؛ لذا ينبغي أن يهتم المحاجج بخطابه؛ لأنّ الخطاب ليس مجرد مفردات متناثرة يفهمها المحاجج والمتلقي، بل لابدّ من وجود ضابط معنوي وأسلوبي للعلاقة التواصلية التي تربط بينهما، كما ينبغي أن يهتم المحاجج بأحوال المتلقي من ناحية تلقيه للخبر، وتردده فيه، وإنكاره له، ودرجات الإنكار؛ لأنّ لكلِّ مبدع أسلوبه الحِجَاجي الخاص به، ويمكن الإفادة في هذا الموضوع ممّا ذكره عبد القاهر الجرجاني ممّا دار بين الفيلسوف الكندي وأبي

ص: 143


1- الحِجَاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 317.
2- في النحو العربي نقد وتوجيه، د. مهدي المخزومي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الثانية (2005م): 252.
3- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

العباس(1)؛ إذ قال: «رُوِيَ عن ابنالأنباري أنّه قال: ركب الكنديّ المتفلسف إلي أبي العباس وقال له: إنّي لأجد في كلام العرب حشواً! فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: (عبد الله قائم)، ثم يقولون: (إنّ عبد الله قائم)، ثم يقولون: (إن عبد الله لقائم)، فالألفاظ متكرِّرة والمعني واحد. فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: (عبد الله قائم) إخبار عن قيامه، وقولهم: (إنّ عبد الله قائمٌ) جواب عن سؤال سائل، وقولهم: (إنّ عبد الله لقائم)، جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرر المعاني»(2). وسمّي السكاكي (ت626ه-) الجملة الخبرية الخالية من المؤكّدات بالخبر الابتدائي، والجملة التي تحتوي علي مؤكّد واحد بالخبر الطلبي، والجملة التي تحتوي علي أكثر من مؤكّد واحد بالخبر الإنكاري(3)، واستدلّ السكاكي علي ذلك بقوله تعالي: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ»(4). ففي حالة التكذيب استعمل سبحانه وتعالي مؤكّداً واحداً وهو (إنّ)، وفي حالة الإنكار استعمل مؤكدين (إنّ، واللام).

ص: 144


1- ذهب محقق كتاب دلائل الإعجاز محمود محمد شاكر إلي أنّه ثعلب (ت209ه-)، اُنظر: فهرست موضوعات دلائل الإعجاز: 677؛ في حين ذهب الدكتور مهدي المخزومي إلي أنّه المبرد (ت285ه-). اُنظر: في النحو العربي نقد وتوجيه: 255. والصواب ما ذهب إليه محمود محمد شاكر؛ لأنّ ابن الأنباري من تلاميذ ثعلب، وكان يكنيه دائماً بأبي العباس، وإذا نقل عن غيره كالمبرد - مثلاً- يذكر اسمه صراحة.
2- دلائل الإعجاز: 315.
3- اُنظر: مفتاح العلوم، السكاكي (ت626ه-)، دراسة وتحقيق أكرم عثمان يوسف، مطبعة دار الرسالة، بغداد، الطبعة الأولي (1402ه- -1982م): 353-354.
4- سورة يس: آية13-16.

يُفهم من ذلك أنّ الجملة إذا كانت خالية من المؤكّدات يراد منها الإخبار فقط، وإذا أُضيف إليها مؤكد واحد يراد منها الإخبار، وإثبات ما يأتي بعدها، ودفع الشكّ والظنّ والتكذيب؛ وإذا أُضيف إليها أكثر من مؤكّد يراد منها الإخبار، وإثبات ما يأتي بعدها، ودفع الإنكار.

ويتضح لنا ذلك أكثر بذكر أمثلة من خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد جاء في خطبة له (عليه السلام) بجيش العراق في صفين بعد فتنة التحكيم: «يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء، الشِّعار دون الدِّثَار(1)، جِدُّوا في إحياء ما دُثِرَ بينكم، وإسهال ما توعَّر عليكم، وأُلفة ما ذاع منكم،ألا إنَّ الحرب شرُّها ذريع، وطعمُها فظيع، وهي جُرعٌ متحسَّاة، فمن أخذ لها أهبتَها، واستعدَّ لها عُدّتَها، ولم يأْلَم كُلومَها عند حلولها، فذاك صاحبها. ومن عاجلها قبل أَوان فرصتها واستبصار سعيه فيها، فذاك قَمِن أَلَّا ينفعَ قومه، وأن يهلكَ نفسَه. نسأَل الله بعونه أنيَدْعَمَكم بأُلفته»(2).

السبب الذي دفع الإمام الحسين (عليه السلام) إلي أن يذكر هذه الخطبة أنّ جيش الإمام عليّ (عليه السلام) في صفين انقسم قسمين بعد فتنة التحكيم، فمنهم من قَبِلَ بالتحكيم، ومنهم من رأي به مكيدة، دبرها معاوية وصاحبه عمرو بن العاص، فأرادوا أن يحملوا علي الأمويين وإن رفض الخوارج ذلك.

لو أنعمنا النظر في هذه الخطبة نجد الإمام (عليه السلام) صدّر الجملة (الحرب شرُّها

ص: 145


1- مثلٌ يُضرب للمُخْتَصِّ بك العالم بدِخْلَةِ أمْرِكَ. والشِّعَار من الثياب: ما يَلِي الجَسَد، والدِّثَار: ما يُلْبَسُ فوقه اُنظر: مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، السنة المحمدية، (د.م) (1955): 2/400؛ وتاج العروس من جواهر القاموس، أبو الفيض محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني الزَّبيدي، تحقيق مصطفي حجازي، مطبعة حكومة الكويت، الكويت (1373ه- - 1973م): 12/189.
2- وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري (ت212ه-)، تحقيق وشرح عبد السلام مُحمَّد هارون، دار الجيل، بيروت (1410ه- - 1990م): 114-115؛ واُنظر: جمهرة خطب العرب: 1/153.

ذريع...) بأداة التوكيد (إنّ) مسبوقة ب-(ألا)، ولو حذفنا هاتين الأداتين من الخطبة لوجدنا أنّ دلالتها ستقتصر علي الإخبار ووصف الحرب، والإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك المقام لم يرد وصف الحرب، وإخبار الجيش المنقسم علي نفسه عنها فحسب، بل أراد أن يحقق بهذه الخطبة دلالات أُخر أهم من الوصف والإخبار، وأهمها دفع الشكّ والظنّ عن سياسة أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التعامل مع الأمويين؛ ولذا أكد الخبر ب-(إنّ)؛ لأنّ هذه الأداة تفيد توكيد الخبر، ودفع الشكّ والظنّ والتكذيب، وتثبيت ما يأتي بعدها من كلام؛ وفضلاً عن ذلك أفادت هذه الأداة في هذا المقام التعليل، أي بيانالسبب الذي دفع الإمام (عليه السلام) إلي إلقائها، فقد أثبتت الدراسات القرآنية أنّ (إنّ) إذا كان اسمها ظاهراً، وخبرها اسماً تفيد تعليل ما سبقها(1)، وقال الزركشي: «واعلم أنّ كلّ جملة صدرت بإنّ مفيدة للتعليل، وجواب السؤال مقدر، فإنّ الفاء يصحّ أن تقوم فيها مقام (إنّ) مفيدة للتعليل»(2)، وهذه الجملة يصح أن تقوم الفاء مقامها، وممّا زاد من قوة توكيدها سبقها بالأداة (ألا)، وغاية الإمام (عليه السلام) من اعتماد هذا الأسلوب تنبيه الجيش علي ما سيُلقي عليه، فضلاً عمّا لهذه الأداة من فائدة دلالية أخري هي التحقيق، أي تحقيق الجملة بعدها(3)، وهذا التحقيق يزيد من قوة التوكيد، والتنبيه فعل كلامٍ إنجازي من جهة أخري.

وهكذا استطاع الإمام (عليه السلام) باعتماد أسلوب التوكيد أن يؤكد الخبر، ويثبته في ذهن المتلقي، ويدفع الشكّ والظن والتكذيب الذي كان يراود الجيش في سياسة أبيه عليّ

ص: 146


1- اُنظر: دراسة وظيفية لأسلوب التوكيد في القرآن الكريم، عائشة عبيزة، (أطروحة دكتوراه)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر بباتنة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2009): 253.
2- البرهان في علوم القرآن: 2/406-407.
3- اُنظر: المصدر نفسه: 2/416.

ابن أبي طالب (عليه السلام) .

يتضح ممّا تقدّم أنّ (إنّ) مثلت المحور الذي دارت حولههذه الخطبة، وبوساطتها استطاع الإمام (عليه السلام) توجيه ذهن المتلقي إلي الوجهة التي رسمها له، وهذا يعني أنّ التوكيد يمثل أسلوباً حجاجياً يستند إليه المحاجج؛ ليجعل المتلقي يسير في الاتجاه الذي يرسمه له. فلو حذفنا التوكيد من هذه الخطبة لتحولت إلي خطبة وصفية، وعظية، إخبارية خالية من أي طاقة حجاجية.

أمّا في مقام الإنكار فنجد الإمام (عليه السلام) يستعمل أكثر من مؤكّد؛ ليجعل المتلقي يسلّم له بما يعرضه عليه من حجج، ومن أمثلة ذلك ما جاء في المشادة الكلامية بين أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في صباه وعمر بن الخطاب عندما صعد عمر منبر رسول الله (صلي الله عليه و آله) وقال: أنا أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فأنكر عليه الحسين (عليه السلام) ذلك وقال له: «انزل... عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك، فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حُسين لا منبر أبي، من علّمك هذا أبوك عليّ بن أبي طالب؟ فقال له الحسين (عليه السلام): إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لهادٍ وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب الناس البيعة علي عهد رسول الله، نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب»(1).

اعتمد الحسين (عليه السلام) في جوابه لعمر بن الخطاب هذا علي القسم (لعمري)، و (إنّ)، و (اللام). والقسم أسلوب إنشائي يؤتي به للتوكيد، و(إنّ) أداة توكيد، ودخولها عليالجملة يفيد تكرار الجملة مرتين، و(اللام) في (لهادٍ)، ودخولها مع (إنّ) علي الجملة الخبرية تصير معهما الجملة الخبرية ثلاث جمل(2)، ودخول القسم علي الجملة الاسمية مع هذه الأدوات يكون بمثابة تكرار الجملة أربع مرات(3)، ثم

ص: 147


1- الاحتجاج: 2/271.
2- اُنظر: البرهان في علوم القرآن: 2/408.
3- اُنظر: الحِجَاج في القرآن: 256.

أردف هذه التوكيدات بالقصر (لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب)، والقصر تأكيد للحكم علي تأكيد؛ فهو (توكيد مضاعف)(1)، والغاية من هذا القصر قصر صفة الجحد علي الجاحد نفسه، ويري انسكومبر أنّ هذا النوع من القصر يكسب الجملة «بعداً حجاجياً أعمق وأنجع في التوجيه نحو النتيجة الضمنية»(2). وقال عبد الله صولة: «إنّ التوكيد بإنّ وبأنّ مع لام التوكيد، وبالقسم، والقصر، له إلي جانب المفهوم الدلالي واللاقولي... دور حجاجي يتمثل في توجيه المقول والقول معاً، والمقصود بالمقول موضوع الكلام، وبالقول مدي حضور الذات القائلة في كلامها. إنّ كلّ وسائل التوكيد التي دخلت علي القضايا محل النزاع بين القرآن وخصومه تفيد معني (حققت كذا)، و(الحقّ كذا)»(3). فعندما قال الإمام الحسين (عليه السلام): «إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه، لهادٍ وأنامهتدٍ به، وله في رقاب الناس البيعة علي عهد رسول الله، نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب»(4). أراد أن يقول: الحقّ كذا، ممّا دفع ذلك عمر بن الخطاب إلي أن يقول: «يا حُسين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا الناس فتأمَّرنا، ولو أمَّروا أباك لأطعنا»(5).

وجاء في كتابٍ للإمام الحسين (عليه السلام) ردّ فيه علي اتهامات معاوية له: «... وإنِّي لأرجو أن لا تضرَّ إلّا نفسك، ولا تمحق إلّا عملك... »(6).

الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا القول قَصَرَ الضرر علي معاوية، وقصر المحق علي

ص: 148


1- اُنظر: تفسير التحرير والتنوير: 15/323.
2- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحِجَاج، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/34.
3- الحِجَاج في القرآن: 316.
4- الاحتجاج: 2/271.
5- المصدر نفسه: 2/271
6- الإمامة والسياسة: 1/204؛ واُنظر: الاحتجاج: 2/277؛ وجمهرة رسائل العرب2/63.

عمله. والقصر - كما أشرنا آنفاً - توكيد مضاعف له بُعد حجاجي أعمق، وأنجع في توجيه المتلقي إلي النتيجة المضمرة. وهذا الأسلوب الحِجَاجي يُستعمل في حال إنكار المتلقي للخبر، ويكون ذا قيمة حجاجية عالية(1).

وهذا يعني أنّ التوكيد بالقصر حجّة يستند إليهاالمحاجج؛ ليصل إلي نتيجة غير مصرّح بها تُفهم من سياق القول يريد المحاجج بوساطته من المتلقي أن يسلّم لها. وهذا يفضي إلي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أراد من قوله هذا أن يدفع معاوية إلي أن يُسلّم بهذه النتيجة، وهي - كما يتضح من سياق الكتاب -: إنّك بقتلك لصحابة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، والموالين لأهل بيته (عليهم السلام)، وادّعائك أنّ زياد بن أبيه ابن معاوية، وتوريثك أمر الأمة لصبي يشرب الخمر ويلعب بالكلاب، وتهديدك إياي بالمكيدة سوف لا تضرّ إلّا نفسك، ولا تمحق إلّا عملك(2)، وبهذا الأسلوب الحِجَاجي أغلق الإمام (عليه السلام) الباب بوجه معاوية، وألجمه بالحجة.

أما النوع الآخر من أنواع القصر فهو القصر ب-(إنّما)، وهذا النوع يشبه سابقه بوصفهما يفيدان قصر الشيء علي صاحبه، كما أنّهما يفيدان التوكيد المضاعف، وكلاهما له بُعد حجاجي، كما أنّ النتيجة فيهما تكون مضمرة، لكنّ هذا لا يعني أنّهما مترادفان ف-«سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعني واحد. وفرقٌ بين أن يكون في الشيء معني الشيء، وبين أن يكون الشيءُ للشئ علي الإطلاق... ليس كلُّ كلام يصلح فيه (ما) و(إلا) يصلح فيه (إنّما) ألا تري أنّها لا تصلح في مثل قوله تعالي: «وَمَا

ص: 149


1- اُنظر: القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية، محمود طلحة، مجلة الخطاب، الجمهورية الجزائرية، جامعة مولود معمري - تيزي وزو - دار الأمل، العدد (3)، لسنة (2008): 115.
2- اُنظر: الإمامة والسياسة: 1/203؛ واُنظر: الاحتجاج: 2/275-276؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/59-62.

مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ» (1)، ولا في نحو قولنا: (ما أحد إلا وهو يقول ذاك) إذ لو قلت: (إنّما من إلهٍ الله)، و(إنّما أحد وهو يقول ذاك)، قلت: ما لا يكون له معني. فإن قلتَ: إنّ سبب ذلك أنّ (أحداً) لا يقع إلا في النفي، وما يجري مجري النفي من النهي والاستفهام،... قيل ففي هذا كفايةٌ، فإنّه اعترافٌ بأن ليسا سواء[كذا]، لأنّهما لو كانا سواءً لكان ينبغي أن يكون في (إنّما) من النفي مثلُ ما يكون في (ما) و(إلا) وكما وجدت (إنّما) لا تصلح فيما ذكرنا، كذلك تجد (ما) و(إلا) لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه (إنّما) وذلك في مثل قولك: (إنّما هو درهمٌ لا دينارٌ)، لو قلت: (ما هو إلا درهم لا دينار) لم يكن شيئاً»(2).

ومن الفوارق بين النوعين أيضاً:

1. إنّ القصر ب-(إنّما) يفيد إثبات ما بعدها، ونفي ما سواه(3).

2. أسلوب الحِجَاج فيهما مختلف، فالحِجَاج ب-(إنّما) يُستعمل في حال كان المحاجج والمتلقي يعرفان الخبر، والمحاجج يقصر الخبر ب-(إنّما) لغرض تنبيه المتلقي، وتأكيده في نفسه في أثناء المحاورة(4).1. القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر ب-(إنّما) أقل من القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر ب-(النفي والاستثناء).

ومن أمثلة أسلوب القصر ب-(إنّما) ما جاء في خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) بالبيضة قرب العذيب التي أراد فيها وعظ الحرّ بن يزيد الرياحي وجيشه، وهدايتهم: «...

ص: 150


1- سورة آل عمران: آية62.
2- دلائل الإعجاز: 329؛ وأُنظر الآية في سورة آل عمران: آية62.
3- اُنظر: دلائل الإعجاز: 335.
4- اُنظر: القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية: (بحث)115.

ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه»(1)، في إشارة منه إلي الذين نكثوا وعودهم وعهودهم من الكوفيين بعد مبايعته (عليه السلام) .

فالمحاجج في هذه الخطبة الإمام الحسين (عليه السلام)، والمتلقي الحرّ بن يزيد الرياحي وجيشه، والحرّ بن يزيد لم يكاتب الإمام، ولم يدعه إلي المجيء إلي الكوفة، بدلالة قول الحر للإمام (عليه السلام): «إنّا والله ما ندري ما هذه الكُتُب التي تذكر؟ فقال الحسين: يا عقبة بن سِمْعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ»(2)، كما أنّ الغالبية العظمي من جيش الحرّ لم يكاتبوا الإمام الحسين (عليه السلام) .

نستشف من ذلك أنّ المتلقي لم يكن جاحداً، بل كانشاكاً، والشاك يحتاج إلي أسلوبٍ حجاجي أقل قيمة حجاجية من الأسلوب الحِجَاجي الذي يُخاطب به المنكر؛ ولهذا السبب اعتمد الإمام (عليه السلام) أسلوب القصر ب-(إنّما) في هذا المقام، وهذا الأسلوب الحِجَاجي يُراد منه - كما ذكر محمود طلحة في بحثه (القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية) - تنبيه المتلقي (الحرّ وجيشه) إلي الخبر؛ ليؤكده في أنفسهم في أثناء المحاورة(3)، وهذا الخبر يعرفه المتلقي (الحرّ وجيشه) إذ ورد في قوله تعالي - مخاطباً الرسول (صلي الله عليه و آله): «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(4). وهذه الآية تمثل - بحسب مفهوم بيرلمان - حجّة السلطة بوصفها صادرة من الله (عزوجل)

ص: 151


1- تاريخ الطبري: 5/403؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/407-408؛ وبحار الأنوار: 44/381-382؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/40.
2- تاريخ الطبري: 5/402؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/80؛ و مناقب آل أبي طالب: 3/104؛ والكامل في التاريخ: 3/408؛ وبحار الأنوار: 44/376.
3- اُنظر: القيمة الحِجَاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية: (بحث)115.
4- سورة الفتح: آية10.

لا ينكرها مسلم؛ ليصل الإمام (عليه السلام) من هذه الحجّة إلي دفع المتلقي إلي أن يُسلّم ويُذعن لها، وفضلاً عن ذلك فإنّ القصر ب-(إنّما) أفاد أنّ صفة النكث تقتصر علي الناكثين فحسب، وتختص بمن كاتبوه دون سواهم.

أمّا قوله تعالي: «وَمَنْ أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا» (1)، فالوارد في الآية الكريمة نفسها سيشمل كلّ من يفي بعهده، ويقف بصفّ الإمام لمحاربة أعدائه، ويبدو أنّ هذا الجزء من الآيةهو الذي أراد الإمام (عليه السلام) أن يلفت انتباه القوم إليه؛ بوصفه يمثل الحجّة المضمرة التي أراد الإمام (عليه السلام) من القوم أن يسلموا بها.

ومن أساليب الحِجَاج التي اعتمدها الإمام (عليه السلام) في ردّ حجج خصومه أسلوب التوكيد بالقسم، والمصدر المؤكّد للفعل. ومن أمثلته قوله (عليه السلام): «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطَاء الذليل، ولا أقرّ إقرارَ العبيد»(2) الذي ردّ فيه علي قول قيس بن الأشعث عندما قال له: «أولا تنزل علي حكم بني عمّك؟».

القسم - كما بينا آنفاً - أقوي أنواع التوكيد، وفضلاً عن ذلك زاد عليه الإمام (عليه السلام) التوكيد بالمصدر (إعطاء) الذي أفاد توكيد الفعل (أعطي)، والمصدر (إقرار) الذي أفاد توكيد الفعل (أقرُّ)، والإمام لم ينفِ الإعطاء عموماً، بل قصره علي إعطاء الذليل، كما أنّه لم ينفِ الإقرار عموماً، بل قصره علي إقرار العبيد لغير الله.

2 - أسلوب التكرار

قال الشريف الجرجاني: «التكرار عبارة عن الإتيان بشيء مرّة بعد أخري»(3)، وهو

ص: 152


1- سورة الفتح: آية10.
2- تاريخ الطبري: 326؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/98؛ والكامل في التاريخ: 3/419؛ وسير أعلام النبلاء: 3/302؛ والبداية والنهاية: 11/534-536.
3- التعريفات: 1/90.

نوع من التوكيد، ويستعمل للأمرالمهم، وقد أشار ابن فارس (ت395ه-) إلي ذلك؛ إذ قال: «التكرير والإعادة، وإرادة الإبلاغ بحسب العناية بالأمر»(1)، وحظي التكرار باهتمام الحِجَاجيين؛ فقد عدّوه عاملاً مهماً في التدليل علي المعني، وتوجيهه وجهة حجاجية ما؛ لما فيه من زيادة في العناية بالشيء وتوكيده، وشكّل التكرار في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) ظاهرة بارزة. ومن أمثلته قوله (عليه السلام) في تفسير معني (الصّمد): «... هو الله الصّمد، الذي لا من شيء، ولا في شيء، ولا علي شيء...»(2).

تكراره للفظة (شيء) المنفية في هذا القول أراد منه الإمام (عليه السلام) - علي ما يبدو - زيادة قوة الحجّة في تنزيه الله (عزوجل) عن تشبيهه بمخلوقاته، فهذه اللفظة باتت بمثابة المنبّه الذي يرنُّ في ذهن المتلقي؛ ليوقظه من غفلته؛ ليُغيّر اعتقاده في تشبيه الخالق بالمخلوق، زد علي ذلك أنّ هذه اللفظة المكررة جاءت مفاجئة لتوقعات المتلقي، ومخالفة لمعتقداته، ومثّلت لبّ الموضوع، ومجمع أفكار المحاجج، فضلاً عمّا تحمله من طاقات إيحائية تعزز قوة الحجّة؛لتستميل قلب السامع إليها. «فتكرار اللفظة ذاتها في أكثر من موضع يعد من أفانين القول الرافد للحجاج المدعّمة للطاقة الحِجَاجية»(3) التي تولدها الظاهرة اللغوية لتشحن طاقات المتلقي بغية تغيير موقفه.

وإنّ «من التكرار ما هو أخفي وأشدّ أثراً في المتلقي، إنّه التكرار الذي يحمل إضافة دقيقة لما كرر فيستعيد المتكلم ما قاله، ولكن يضيف إليه ما يجعله بعيداً كل البعد عن

ص: 153


1- الصاحبي في فقه اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت395ه-)، تحقيق أحمد صقر، مؤسسة المختار، القاهرة، الطبعة الأولي (1425ه- - 2005م): 351.
2- مجمع البيان لعلوم القرآن: 10/550-551.
3- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 168.

التماثل التام. هذا النوع من التكرار هام(1) وضروري في الخطاب الحِجَاجي؛ لأنّه يؤكد بالفعل تقدّماً في الخطاب فالمتكلّم حين يستعيد ما قاله ويضيف إليه إنّما ينطلق من أمر، ويبني عليه فما كان مقدّمة يصبح حجّة، وما كان حجّة يصبح مقدمة لحجّة أخري»(2). وهذا النوع من التكرار استند إليه الإمام (عليه السلام) عندما لازمه الحر بن يزيد، فبعدما صلي الإمام (عليه السلام) صلاة الظهر خطب بجيش الحرّ قائلاً - بعدما حمد الله وأثني عليه -: «أيّها الناس، إنّها معذرة إلي الله عزّ وجلّ وإليكم، إنِّي لم آتكم حتي أتتني كُتُبكم، وقدمتْ عليَّ رُسُلكم: أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله يجمعنا بك علي الهدي، فإنْ كنتم علي ذلك فقد جئتكم، فإن تُعطوني ماأطمئنُّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقْدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلي المكان الذي أقبلتُ منه إليكم»(3)، فسكتوا عنه، وبقوا ملازميه، وبعدما أنهي الإمام (عليه السلام) صلاة العصر خطب فيهم خطبة أخري جاء فيها - بعدما حمد الله وأثني عليه -: «أيها الناس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقَّ لأهله يكن أرضي لله، ونحن أهل البيت أولي بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجوْر والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيُكم غيرَ ما أتتني كتبكم، وقدمتْ به عليَّ رُسُلكم، انصرفتُ عنكم»(4).

ص: 154


1- كذا. والصواب: مهم.
2- المصدر نفسه: 172.
3- تاريخ الطبري: 5/401؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/407؛ وبحار الأنوار: 44/376.
4- تاريخ الطبري: 5/402؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/79-80؛ ومناقب آل أبي طالب: 3/104؛ والكامل في التاريخ: 3/408-409؛ وبحار الأنوار: 44/376.

فإنّ ترديد الإمام (عليه السلام) للفكرة نفسها لإدراك مراميها، وبيان مقاصدها؛ من أجل ترسيخها في ذهن المتلقي؛ لما لهذا الأسلوب الحِجَاجي من طاقات إيحائية تزيد من قوة الحجّة؛ لأنّ هذا النوع من الحِجَاج يشير إلي مراد المحاجج، ويفيد في ترسيخ الفكرة. وهكذا منح الإمام (عليه السلام) بالخطبة الثانية ما احتجّ به في خطبته الأولي قوة إضافية زادت من قوتها وتأثيرها في المتلقي؛ ل-«إنّ تكرار المضمون علي مستوي الجمل... له أهمية خاصة في دفع إلي درجة أقوي، وهذا ما يزيد من فعالية هذه الآلية اللغوية في إقناع المخاطب واستمالته... ولعله - من أجل ذلك - أبلغ أثراً في إقناع المخاطب بوجه نظر المتكلم، أو دعواه، أو مصداقيته»(1).

3 - الاستفهام التقريري

لقد ذكر عبد الله صولة ما للاستفهام من أثرٍ في توجيه الحوار وجهة حجاجية معينة؛ إذ قال: «إنّ الغاية من كلّ استفهام سواء أكان حقيقياً أم غير حقيقي، تتمثّل حسب ديكرو وأوسكمبر في أن نفرض علي المخاطب به إجابة محددة، يمليها المقتضي

ص: 155


1- تجليات الحِجَاج في الخطاب النبوي دراسة في وسائل الإقناع، (رسالة ماجستير): 171.

الناشئ عن ذلك الاستفهام، فيتم بذلك توجيه دفة الحوار الذي نخوضه معه الوجهة التي نريد، ولما كانت أهم وظيفة ينهض لها الاستفهام هي توجيه باقي الحوار وجهة معينة، ولما كان مفهوم التوجه هذا هو لُبُّ الحِجَاج عندديكرو كان الاستفهام مظهراً حجاجياً مهماً»(1).

وغالباً ما يعدل المحاجج من الخبر إلي الإنشاء، باعتماد أسلوب الاستفهام التقريري غير الحقيقي، أي الاستفهام الذي يخرج من دلالته الحقيقية؛ وهي «طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل»(2) إلي دلالات أُخر، ومن أمثلة العدول من الخبر إلي الإنشاء باعتماد أسلوب الاستفهام التقريري ما جاء في كتابٍ لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أرسله إلي معاوية رادّاً فيه علي كتابٍ له تهدده فيه وتوعده، متهماً إياه بشق عصا المسلمين، وزرع الفتنة بينهم: «... ألست قاتل حجر، وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكدة، جراءة علي الله، واستخفافاً بعهده، أولست بقاتل عمرو بن الحمق، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العُصْم(3) نزلت من شَعَفِ الجبال(4)، أولست المدعيزياداً في الإسلام، فزعمت أنّه ابن أبي سفيان، وقد

ص: 156


1- الحِجَاج في القرآن: 427.
2- البلاغة والتطبيق: 131.
3- الغربان حمر الأرجل، وهذا النوع من الغربان قليل جداً ويعيش في شعف الجبال، شبه فيه النبي محمد (صلي الله عليه وآله وسلّم) النساء اللواتي يدخلن الجنّة به، وهذا الحديث متداول بين العرب، ويبدو أنّ الإمام الحسين كان يشير إليه، وفضلاً عن ذلك فإنّ العُصم يُطلق علي الظباء، والوعول التي تعيش في شُعب الجبال ويكون في أرجلها بياض. اُنظر: لسان العرب: مادة (عصم) 12/405.
4- «شَعَفَةُ كلّ شيء أَعلاه وشعَفةُ الجبل بالتحريك رأْسُه والجمع شَعَفٌ وشِعافٌ وشُعوفٌ وهي رؤوس الجبال)). لسان العرب: مادة (شعف) 9/177.

قضي رسول الله صلي الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته علي أهل الإسلام، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم علي جذوع النخل(1)؟ سبحان الله يا معاوية! لكأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك. أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنّه علي دين علي كرم الله وجهه، ودين علي هو دين ابن عمّه صلي الله عليه وسلم، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف(2)، فوضعها الله عنكم بنا؛ منّة عليكم»(3).

فقد عدل الإمام (عليه السلام) في هذا الكتاب من الخبر (قتلت حجر... وقتلت عمرو بن الحمق... وادّعيت أنّ زياداً أخوك... وقتلت الحضرمي) إلي أسلوب الإنشاء بالاستفهام التقريري؛ «لأنّه أوقع في النفس، وأدلّ علي الإلزام... وذلك لما فيه من حجّةدامغة»(4)، فأفعال معاوية المشينة هذه حقائق لا مراء فيها ولا جدال هذا من جهة، ومن جهة أخري فإنّ هذا الأسلوب «يجعل المخاطَب في حالة اضطرار إلي الجواب... فهو يجعل المخاطب يجيب في الاتجاه الذي يرسمه السؤال»(5)، فعدول الإمام من الخبر إلي الإنشاء في هذا الكتاب أراد منه الإمام الحسين (عليه السلام) أن ينتزع

ص: 157


1- إشارة إلي قوله تعالي علي لسان فرعون للسحرة: «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» (سورة طه: آية71)
2- إشارة إلي قوله تعالي: «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ»[سورة قريش: آية: 1-2].
3- الإمامة والسياسة: 1/203؛ واُنظر: الاحتجاج: 2/275-276؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/59-62.
4- البلاغة فنونها وأفنانها: 190.
5- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحِجَاج، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/47.

إقرار معاوية واعترافه بتلك الجرائم، وهو بذلك حصر معاوية في زاوية ضيقة ممّا جعله يلازم الصمت، ولم يتعرض للإمام بعد ذلك في حياته كلّها؛ لأنّه قتل هؤلاء المؤمنين لا لشيء وإنّما بغضاً للإمام عليّ (عليه السلام)، وفي سكوت معاوية، وملازمته الصمت علامة علي أنّه كان يعلم أنّه ارتكب ذلك ظلماً وعدواناً، وفي أفعاله هذه خروج عن ملّة محّمد (صلي الله عليه و آله)، «فحمل عليه (عليه السلام) حملة تذكره بجرائمه وآثامه وجرأته علي انتهاك الحرمات، ما يعني إبطال دعوي معاوية المسطّرة في كتابه، ولم يكتف (عليه السلام) بذكر التقرير، بل أشربه معني الإنكار التوبيخي، فنقض العهود والمواثيق الغليظة، والاستخفاف بالتعاليم السماوية والمبادئ الإسلامية، واستلال منطق الغدر والقتل والتنكيل، كلّها أسباب تدعو إلي توبيخ فاعلها وإنكار ذلك عليه، ويحتمل التقرير - أيضاً - غرضاً آخر هو التعجب من صنائع معاوية الذي قتل الإسلام باسم الإسلام، بدليل ماجاء في ذيل النص (سبحان الله يا معاوية)»(1). وهكذا حقق الإمام (عليه السلام) بهذا العدول النتيجة المرجوة وهي أن يكف معاوية عن إيذائه والتعرض له، فضلاً عن إقناع النّاس بأنّ معاوية مجرم، خارج عن ملّة محمد (صلي الله عليه و آله) .

4 - التقديم والتأخير

ومن أمثلة قول الإمام الحسين (عليه السلام) لمن تجمعوا حوله بعدما بقيَ وحيداً، يتحاثون علي قتله: «أعلي قتلي تَحاثُّون؟!»(2).

الاستفهام في قول الإمام هذا خرج من الحقيقة إلي المجاز؛ لغرض دفع القوم إلي الإقرار بالاعتراف بذلك، فضلاً عمّا فيه من تعجب ممّا يقدمون عليه، ولم يرد

ص: 158


1- نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، ميثم قيس مطلك، (رسالة ماجستير)، جمهورية العراق، جامعة القادسية، كلية التربية (1427ه- - 2006): 149.
2- تاريخ الطبري 5/452.

الإمام (عليه السلام) إقرارهم بالتحاث، واتفاق كلمتهم علي التجمع، فهو لم يتعجب من تجمعهم، بل كان الإمام (عليه السلام) متعجباً من تجمعهم عليه هو خاصة من دون غيره من الناس، ويتركون يزيد ومن بايعه من الخارجين عن ملّة جدّه محمّد (صلي الله عليه و آله)؛ لأنّ الهمزة لو دخلت علي الفعل تصير (أتحاثون علي قتلي؟!) فيكون التعجب من فعلهم، وإنكار لما يقدمون عليه من فعلٍمشين، لكن تقديم الجار والمجرور أفاد دلالة أخري، وهي إنّ الإمام (عليه السلام) لم يرد إنكار تحاثهم، وإنّما أنكر تحاثهم عليه هو خاصّة، مريداً من ذلك إقرارهم واعترافهم بما يقدمون عليه من فعلٍ شنيع؛ ليلقي عليهم بذلك الحجّة أمام الله سبحانه وتعالي؛ وليشنّع بهم أمام النّاس علي مرّ العصور وتقادم الأجيال، وكأنّه أراد أن يقول: لا يوجد فعل أشنع من هذا الفعل، ولا أقبح منه؟ بدلالة قوله الذي جاء بعد هذا القول: «أما والله لا تقتُلون بعدي عبداً من عباد اللهِ أسخطَ عليكم لقتْلهِ منِّي»، فهذا الأسلوب فضلاً عمّا أفاده من قوة الحجّة في التعجب والإنكار أفاد دلالة أخري، زادت من قوة الحجّة، وهي دلالة الاختصاص بتقديم شبه الجملة (الجار والمجرور) علي الجملة الفعلية، وقال الدكتور عبد الله صولة: «للتقديم والتأخير بالمقياس النحوي وظيفة حجاجية من نوعٍ آخر وهي أنّه إذا دخل عليه الاستفهام... أفاد التشنيع علي الخصوم إفادة لا يمكن أن تحصل لو لم يكن لجوء إلي التقديم والتأخير»(1).

نخلص من ذلك إلي أنّ أي تغيير في النظام المتعارف عليه للجملة يؤدي إلي تغيير في الدلالة،ويزيد من قوة الحجّة.

ص: 159


1- الحِجَاج في القرآن: 446.
5 - الالتفات

ويُقصد به الانتقال من أسلوبٍ في الكلام إلي أسلوب آخر كالانتقال من الغيبة إلي الخطاب، أو الانتقال من الجملة الفعلية إلي الجملة الاسمية، أو من الجمع إلي المفرد، أو التغيير في أزمنة الخطاب، ونحو ذلك. وعرّفه ابن المعتز (296ه-) قائلاً: «هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلي الإخبار، وعن الإخبار إلي المخاطبة وما يشبه ذلك، ومن الالتفات الانصراف عن معني يكون فيه إلي معني آخر»(1)؛ لأجل لفت انتباه المتلقي للخطاب. وقد أشار الزمخشري (ت538ه-) إلي ذلك؛ إذ قال: «هو فنٌّ من الكلام جزلٌ فيه هزٌّ وتحريك من السامع»(2)؛ ليجعله يعيش الحدث كأنّه حقيقة، فضلاً عمّا فيه من جذب للموضوع.

وللالتفات مصطلحات كثيرة في موروثنا العربي منها: (الصرف، الانصراف، العدول، التلوّن، مخالفة مقتضيالظاهر، وشجاعة العربية)(3)؛ وعلل ابن الأثير سبب تسمية العلماء العرب الالتفات بشجاعة العربية قائلاً: «وإنّما سُمّي بذلك؛ لأنّ الشجاعة هي الإقدام، وذلك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لا يتورده سواه»(4). وهذا يعني أنّ الالتفات أسلوب خاص لا يستعمله إلا من كان واثقاً مِن أنّه حينما يقدم عليه يكون قادراً علي استمالة القلوب، أو ثني الأعناق إليه؛

ص: 160


1- البديع: 58.
2- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري (ت538ه-)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجد، والشيخ علي محمد معوّض، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة ألأولي (1418ه- - 1998م): 1/210.
3- اُنظر: أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، (1418ه- - 1998م): 11.
4- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/168.

ولذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يستند إليه في حجاجه، ومن مصاديق ذلك ما جاء في كتابه إلي أخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصي به الحسين بن علي بن أبي طالب إلي أخيه محمّد المعروف بابن الحنفية،إنّ الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحقّ، وأن الجنة والنار حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً،ولا بطراً،ولا مفسداً ولا ظالماً؛ وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي صلي الله عليه وآله؛ أريد أن آمر بالمعروف،وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ ابن أبي طالب عليه السلام؛ فمن قبلني بقبول الحقِّ،فالله أولي بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتي يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ،وهو خيرالحاكمين»(1).

هذا التلوّن في الخطاب، والتفنن به عن طريق الالتفات بالحديث من الغيبة إلي الحضور، ثم الانتقال إلي الحديث عن غائب يدلّ علي مقدرة فائقة في الخطاب، ولا عجب فهو رضيع لبان الفصاحة، وابن سيد البلغاء، فهذا التفنن والتلوّن لم يرد منه الإمام الإمتاع؛ لأنّ المقام يشير إلي أنّ الخطاب هنا خطاب جدّ لا لعب، بل أراد منه الإمام (عليه السلام) تحقيق غايات عدّة منها:

إنّه عندما قال: (هذا ما أوصي به الحسين... إلي أخيه) أوصل وصيته إلي أخيه من دون أن يستعمل أسلوب الأمر(أوصيك) الدال علي العلو؛ للتعظيم من شأن أخيه إذ قرنه بنفسه.

عندما قال: (إنّ الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّداً عبده ورسوله) ابتعد عن أسلوب الأنا (إنيّ أشهد...)؛ في ذلك دلالة علي تواضعه للخالق جلّ في علاه.

ص: 161


1- بحار الأنوار: 44/329-330.

في التفاته إلي أسلوب المتكلم (وإنّي لم أخرج أشراً،ولا بطراً،ولا مفسداً،ولا ظالماً؛ وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي صلي الله عليه وآله...). أراد أن يلفت نظر أخيه إلي سبب خروجه؛ ليصغي إلي معرفة السبب من الخروج.وبهذه الالتفاتات جعل الإمام (عليه السلام) أخاه يُصغي إليه، ثم بيّن له السبب الذي دفعه إلي الخروج، ليقنعه بالحجّة بعد أن لفت انتباهه إليه هذا من جهة، ومن جهة أخري فإنّ هذا الالتفات أفاد الاختصاص، أي أنّ الإمام أوصل إليه رسالة مضمونها: إنّ خروجه اختص بهذا الفعل وهو «طلب الإصلاح في أُمّة جدي صلي الله عليه وآله؛ أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام»؛ لئلا يلومه علي خروجه إلي العراق؛ لأنّ السيد محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) كان خائفاً علي الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّه كان يعتقد أنّ هذا الخروج لا يُجدي نفعاً في دفع الناس إلي الوقوف بوجه الدولة الأموية، وسيؤدي إلي هلاك أخيه.

نخلص من ذلك إلي أنّ اللغة عبارة عن مفردات، لها دلالات معجمية خاصة، تتغيّر بحسب سياقات نظمها، والخطيب الحاذق هو الذي يُحسن توظيفها بحسب المقام، وسياق القول بأسلوب، يجعل القلوب تستميل إليه، والعقول تعتقد به، والأفراد تُذعن إليه، وتُسلّم له.

ص: 162

المبحث الرابع: حجاجه البياني

اشارة

البيان في اللغة يعني: «ما بُيِّنَ به الشيءُ من الدلالة وغيرِها، وبانَ الشيءُ بَياناً اتَّضَح فهو بَيِّنٌ... وكذلك أَبانَ الشيءُ فهو مُبينٌ... وأَبَنْتُه أَي أَوْضَحْتُه»(1). والبيان عند الجاحظ: «اسم جامع لكلّ شيءٍ كشف لك قناع المعني، وهتك الحجاب دون الضمير حتي يفضي السامع إلي الحقيقة، ويهجم علي محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل؛ لأنَّ مدار الأمر، والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنّما هو الفهم والإفهام»(2).

والبيان في الاصطلاح «أصول وقواعد يُعرف بها إيراد المعني الواحد، بطرقِ يختلف بعضها عن بعض في وضوح الدلالة علي نفس ذلك المعني(3)، ولابد من اعتبار المطابقة لمقتضي الحال دائماً»(4).وسأقتصر في هذا المبحث علي ذكر ما يتعلق منه بموضوع الحجاج:

ص: 163


1- لسان العرب: مادة (بين)13/67.
2- البيان والتبيين: 1/76.
3- كذا. والصواب: ذلك المعني نفسه.
4- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، السيد أحمد الهاشمي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولي (1999م): 216.

التشبيه

ينعقد التشبيه بين طرفين يُعرف أولهما بالمشبه (المعني الذي يقصده المتكلم)، والآخر: المشبه به (المعني الذي يحيل عليه المتكلّم) تربط بينهما أداة تشبيه، وعلاقة جامعة أطلق عليها البلاغيون (وجه الشبه)، وقد يُحذف وجه الشبه وأداة التشبيه؛ لتقريب صفات المشبه من صفات المشبه به علي وجه المبالغة، ممّا يدفع المتلقي إلي البحث عن وجه الشبه الذي يربط بين المشبه والمشبه به، إذن التشبيه عبارة عن عقد علاقة مشابهة بين طرفين لاشتراكهما بصفة أو أكثر، بأداة ظاهرة تربط بينهما، أوتُحذف للمبالغة. «وحقيقة التشبيه... هي التقريب بين الطرفين والمقارنة بينهما؛ لاشتراكهما في معني من المعاني، أو صفة من الصفات، أو في حال و طريقة. وسواءٌ أكان مجوّز تلك المقارنة الحسّ أم العقل، لابد من أن تبقي العلاقة بينهما علاقة اشتراك وتمايز في نفس الوقت(1)»(2). والتشبيه ضرب من القياس؛ إذ يشترك طرفان في حكم منالأحكام؛ لعلّة جامعة بينهما، وقد تنبّه عبد القاهر الجرجاني إلي ذلك؛ إذ قال: «التشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتُستفتي فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان»(3).

والخطباء وحتّي بعض الشعراء لم يستعملوا التشبيه للحلية والتزيين فحسب، بل كانوا يعون أنّ للتشبيه قيمة حجاجية كبيرة، فهو يُقرّب المسافات بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة؛ ليجعل العقل يقبل العلاقات القائمة بين الأشياء،

ص: 164


1- كذا، والصواب: في الوقت نفسه.
2- التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلي القرن السادس، د. حمادي صمود، دار الكتاب الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة (2010): 478.
3- أسرار البلاغة، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ (ت471ه-)، قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود محمّد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولي (1412ه- - 1991م): 20.

والمحاجج عندما يميل إلي التشبيه يرجو من ذلك إيصال الحجّة إلي ذهن المتلقي، فيصوّرها بصورة بيانية تشبيهية؛ ليستوعبها المتلقي مثلما يشعر بها هو «و يدرك المتلقي بالتشبيه مقاصد المرسل، الذي يحاول تثبيت حجته باستمالة المتلقي والتأثير فيه»(1).

والتشبيه الوارد في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) كلّه تشبيه حجاجي؛ الغاية منه إيصال الحجّة إلي ذهن المتلقي، سواء أكان جمهوراً حاضراً، أم جمهوراً كونياً علي مرّ العصور والأجيال المتلاحقة.ومن أمثلة تشبيهاته (عليه السلام) ما جاء في خطبته بذي حُسُم وفيها ذمّ الدّنيا وحذّر منها: «وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفُها واستمرت جداً، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء(2)، وخسيسُ عيشٍ كالمرعي الوَبيل(3)»(4).

في هذا القول تشبيهان، شبّه في أولهما ما بقي من الدنيا بما بقي في الإناء من الماء أو اللبن أو نحوهما، وفي الآخر شبّه عيشها بالمرعي الذي لا يُستمرأ منه. وهذان التشبيهان حسيان أراد منهما الإمام (عليه السلام) أن يصوّر للحرّ بن يزيد الرياحيّ وجيشه حال الدّنيا التي يسعون وراءها، فالمتلقي لا يستطيع أن ينكر أنّ المتبقي من اللبن أو الماء شيء قليل لا قيمة له، والمرعي الوبيل لا يُشبع ولا يُغني من جوع، فقد أراد الإمام (عليه السلام) من خلال نقل ذهن المتلقي من الصورة المجردة إلي التفكير في الصورة

ص: 165


1- الحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 76.
2- الصبابة، بالضم: بقية الماء واللبن، وغيرهما تبقي في الإناء والسقاء. اُنظر: لسان العرب: مادة(صبب) 1/516.
3- الوبيل: الذي لا يُستمرأ. اُنظر: المصدر نفسه: مادة (وبل) 11/719.
4- تاريخ الطبري: 5/403-404؛ واُنظر: العقد الفريد: 5/122؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/217؛ ومناقب آل أبي طالب: 3/76؛ وبحار الأنوار: 44/381.

الحسية التي يشاهدها في الواقع أن يقرّب له المعني المجرد؛ ليتحوّل عنده إلي معني حسيّ يؤدي به إلي الإقناع؛ «لأنّ اللفظ الحسي؛ إذ يكثّف درجة حضور الفكرة؛ لتنجم عن ذلك مصادقةالسامعين»(1).

ومن أروع تشبيهاته (عليه السلام) ما جاء في خطبته عندما استكف به جيش عمر بن سعد يريدون قتله وسبي عياله، أو ينزل علي حكم الطغاة، فقد قال (عليه السلام): «...استسرعتم

إليها [كطيرةِ الدَّبَي(2)]، وتداعيتم عليها كتداعي الفراش»(3).

في هذا القول شبه أهل الكوفة باستسراعهم إلي بيعته (عليه السلام) بصغار الجراد (الدَّبَي)، وفي التشبيه الثاني شبه تداعيهم عليها بتداعي الفراش، وهذان التشبيهان يكمّل أحدهما الآخر، وهما من أروع التشبيهات الحِجَاجية، والدَّبَي حيوانات ضعيفة تتجمع بكثرة، وتتنقّل بسرعة هائلة، وتفتك بالمزارع إذا مرّت بها، وهي من أكبر الآفات، والعرب تضرب بها المثل، فيقولون في الشيء الكثير:(أكثرُ من الدَّبَي)(4)، وشبّه تداعيهم علي بيعته (عليه السلام) بتداعي الفراش، وعُرِف الفراش بضعف بصره، فإذا رأي السراج تهافت عليه بشكل مستمر حتي يحترق(5).

ص: 166


1- الحِجَاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 319.
2- الجراد قبل أن يطير، وقيل: الدَّبَي أصغر ما يكون من الجراد والنمل، واحدته دباة. اُنظر: لسان العرب: مادة (دبي) 14/248.
3- التذكرة الحمدونية: 5/211؛ واُنظر: تحف العقول عن آل الرسول: 265؛ ومقتل الحسين، أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي (ت568ه-)، مطبعة الزهراء، النجف (1367ه- - 1948م): 2/7؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/218؛ والاحتجاج: 2/278؛ وما بين الأقواس من بحار الأنوار: 45/10.
4- اُنظر: مجمع الأمثال: 2/171.
5- اُنظر: حياة الحيوان الكبري، كمال الدين محمد بن موسي بن عيسي الدميري، تحقيق أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية (1424ه- - 2003م): 2/280.

فتشبيه أهل الكوفة بالدَّبَي والفراش الغاية منه رسم صورة حسيّة متعارف عليها في الثقافة العربية، وقد أشار إلي ذلك موسي خابط إذ قال: «ونلحظ أن الصورتين قد اتكأتا علي العنصر الحسي البصري، الأولي بفعل مثير حركي(أسرعتم)، والأخري بفعل مثير حركي ضوئي(تهافتم)، وقد تعاضدت الصورتان معا للكشف عن مدي إقبال أهل الكوفة لبيعته»(1)، فالإمام الحسين (عليه السلام) أراد من هذين التشبيهين أن يرسم صورة حسيّة لحال أهل الكوفة عندما أرسلوا إليه الكتب يبايعونه فيها، فسرعتهم للمبايعة كانت كسرعة الدَّبَي؛ إذ تتجمع حول الشيء لضعفها، وتهافتهم عليها كتهافت الفراش علي السراج حتي يحترق.

ومن أوجه التشابه بين الكوفيين وهذه الحيوانات:

1. سرعة الحركة، والتجمع.1. ضعف البصر عند تلك الحيوانات، يُقابل ضعف البصيرة عند الكوفيين.

2. تجمعهم حول النور يكون بتزاحم وتهافت.

3. الكثرة.

4. الضعف والهوان.

5. سيؤول حالهم لأن يكونوا مضرباً للأمثال.

6. وبالنتيجة كلاهما آفة تفتك بنعم الله وبركاته.

والغاية من هذه الصورة التشبيهية - علي ما يبدو - تذكير القوم بالحال التي كانوا عليها قبل البيعة، وكيف استسرعوا إليها، وتداعوا عليها؛ لتكون حجّة تضاف إلي

ص: 167


1- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، موسي خابط عبود، (رسالة ماجستير)، جامعة بابل، كلية التربية، قسم اللغة العربية (1429ه- - 2008): 221.

غيرها من الحجج؛ علّهم يتأملون فيها؛ ليعودوا إلي رشدهم، بعدما يتصورون الحال التي كانوا عليها عندما دعوا الإمام الحسين (عليه السلام) إلي البيعة، ثم يعرفون من خلال هذه الصورة التشبيهية أنّه (عليه السلام) لم يخرج طامعاً في حكمٍ، ولا طالب دنيا، وإنّما خرج لنصرة المظلوم علي الظالم، وكانت الغاية من إلقاء هذه الحجّة؛ لئلا يلاقوا الله سبحانه وتعالي بدمه، ولئلا يلحقهم العار الذي ظلّ يطاردهم علي مرّ العصور، لكنَّ الشيطان استحوذ عليهم، فانصاعوا إلي أمره، وحدث الذي حدث من تقتيل، وتسليب، وسبي؛ ليصل الإمام (عليه السلام) من هذه الحجّة إلي نتيجة مضمرة لم يصرح بها يمكن أن يستشفّها المتلقي من السياق، وهيمحاولة إقناعهم بأن يكفّوا عن قتاله، والتعرض لحرمه.

ومن تشبيهاته أيضاً قوله (عليه السلام): «ثمّ لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس، حتي تدور بكم دور الرحي، وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إلي أبي عليّ، عن جدي»(1)، هذا القول مثّل صورة تشبيهية حسيّة تألفت من ثلاثة تشبيهات، الغاية منها تصوير حال مَن يُسرج ويُلجم لقتله (عليه السلام)؛ إذ شبّه مدّة دولتهم بمدّة ولادة الفرس لحين ركوبه، وهذه المدّة لا تتجاوز ثلاث سنوات - وهي المدّة نفسها الفاصلة بين مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وموت يزيد بن معاوية، وإعلان المختار بن عبيدة الثقفي ثورته علي قتلة الإمام (عليه السلام) -، ثمّ شبّه حالهم بعد سقوط دولتهم بأنّ الدنيا ستدور بهم دوران الرّحي، التي لا تُبقي ولا تذر من الدقيق شيئاًً، وشبّه حالهم فيها بقلق المحور، والمحور: العمود المثبّت وسط الرحي، وهذا العمود «بفعل طبيعة عمل الرحي، فإنّه يتلقي ضربات متلاحقة، ومن اتجاهات مختلفة إلي

ص: 168


1- التذكرة الحمدونية: 5/212؛ واُنظر: تحف العقول عن آل الرسول: 267؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/219؛ والاحتجاج: 278، وبحار النوار: 45/10.

جانب الاحتكاك المتقطع، وهذا وصف دقيق لحال الأعداء المضطرب، الذي ما فتئ يتقلب علي جمرات القصاص»(1)، وهذه التشبيهات الحسيّة التي وصفت حال جيش بني أمية، الغاية منها رسم صورة حسيّة من الواقع المعاش - آنذاك -؛ ليقرّب الإمام (عليه السلام) للمتلقي الصورة التي أخبره بها أبوه عليّ (عليه السلام)، عن جدّه المصطفي (صلي الله عليه و آله) لمن يَقْدِم علي قتله، وبها ألقي الإمام (عليه السلام) حجّته علي القوم؛ علّها تجد صداها عند مَن يعيها.

التمثيل

اختلف البلاغيون في التمثيل؛ فابن الأثير يري أنّ التمثيل والتشبيه شيء واحد لا فرق بينهما، وصرّح بذلك قائلاً: «وجدتُ علماء البيان قد فرَّقوا بين التشبيه والتمثيل، وجعلوا لهذا باباً مفرداً، ولهذا باباً مفرداً، وهما شيءٌ واحدٌ لا فرق بينهما في أصل الوضع؛ يُقال: شبهت هذا الشيء بهذا الشيء؛ كما يُقال: مثّلته به. وما أعلم كيف خَفَي ذلك علي أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه»(2). في حين يري عبد القاهر الجرجاني «أنّ التشبيه عام، والتمثيل أخص منه، فكلّ تمثيل تشبيه، وليس كلّ تشبيه تمثيلاً»(3)؛ وأنا أري أنّ ما رآه عبد القاهر الجرجاني أقرب إلي الدقة؛ لأنّ وجه الشبه في التمثيل لا يكون إلا عقلياً، يحتاج من المتلقي أن يجهد نفسه، ويفكر حتي يصل إليه، فالتمثيل لا يعني المشابهة بين طرفين كما يظنّ ابن الأثير، بل يعني المماثلة بين علاقتين،تستدعي من المتلقي أن يميطاللثام عن وجه الشبه المطوي في عناصر الصورة التمثيلية؛ لأنّ مضمونه يمثل معلومة جديدة يستخلصها المتلقي من تلك

ص: 169


1- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير): 220.
2- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/115.
3- أسرار البلاغة: 95.

الصورة التمثيلية بتأملٍ وتأويلٍ عقلي، ويري ميشيل لوجيرن أنّ «من السهل دائماً أن ننفي ما يقوله من يتحدث إلينا أكثر ممّا يسهل أن ننفي ما نستنتجه نحن عن طريق عملية تأويلية»(1).

واستناداً إلي ذلك يمكن عدّ التمثيل أقوي حجاجاً من التشبيه؛ بوصفه يجعل الحجّة حاضرة في ذهن المتلقي، ويهيئه إلي تقبلها، ويدعم القوة التأثيرية للنص الحِجَاجي. وقد أشار بيرلمان إلي ذلك؛ إذ قال: «هو طريقة حجاجية تعلو قيمتها علي مفهوم المشابهة المستهلك، حيث لا يرتبط التمثيل بعلاقة المشابهة دائماً، وإنّما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة»(2).

وكان أرسطو يري أنّ التمثيل قياس، لكنّه جعله أدني مرتبة من القياس الاستقرائي أو الاستنباطي، وحدّده بأنّه انتقال من جزئي إلي جزئي، وأدخله ضمن الأقيسة الظنّية التي لا تفيد علماً، وحدّد وظيفته بالجمهور، وحصرهابالإفهام والإيضاح والتشخيص(3)، وقال عبد الله صولة: «للتمثيل دورٌ مهم في الإبداع وفي الحِجَاج علي حدٍّ سواء، ومرد ذلك أساساً إلي ما يتيحه من امتداد وتوسّع؛ إذ بواسطة الحامل يمكن للتمثيل أي(4) يوضح بُنية الموضوع، وأن يضعه في إطار مفهومي. لكن التمثيل في مجال الإبداع يختلف عنه في مجال البرهنة والحِجَاج من حيث اتّساع مدي هذا التمثيل، أو عدم اتساعه. ففي حين لا شيء يمنع من أن يطول التمثيل ويمتدّ في مجال الإبداع، يُطلب من التمثيل في مجال الحِجَاج أن يلتزم بحدّ معين، وإلّا فقد طاقته

ص: 170


1- الاستعارة والحِجَاج، ميشيل لوجيرن، مجلة المناظرة، المغرب، العدد (4)، لسنة (1411ه- - 1991م): 88.
2- الحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 79.
3- اُنظر: الحِجَاج في درس الفلسفة: 25.
4- كذا، والصواب: أن.

الإقناعية»(1).

ولم تفت عبد القاهر الجرجاني أهمية التمثيل في الإبداع والحِجَاج معاً، فقد قال: «واعلم أنّ ممّا اتفق العقلاءُ عليه أنّ التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلي صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع علي أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَي وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم... وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُأوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشد، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجَاجاً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر»(2). وجعل الدلالة التمثيلية من مقتضيات النظم، فهو يري أنّ التمثيل الذي يتصف بدقة المعني ولطف المضمون به حاجة إلي أن يُصاغ بتركيب نحوي محكم، وفي سياق لغوي سليم(3)، إذن التمثيل يمثل وسيلة من وسائل التحوّل الدلالي التي يمتلكها المحاجج في التأثير بالمتلقي؛ انطلاقاً من الأدوات اللغوية؛ لأنّ ما «تُحدثه الدلالة التمثيلية من أثرٍ في طول التأمل والتفكير فيه يكون أدعي إلي بقاء المعاني، واستقرارها في النفس مدّة أطول؛ لأنّ النفس البشرية مطبوعة علي الحرص علي ما جهدت في سبيله، وتعبت من أجله»(4).

ص: 171


1- الحِجَاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، بحث ضمن كتاب ( أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية): 342.
2- أسرار البلاغة: 115.
3- اُنظر: التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبد القاهر، د. عبد الفتاح لاشين، دار الجيل للطباعة، بيروت (1980م): 207.
4- الدرس الدلالي عند عبد القاهر الجرجاني، د. تراث حاكم الزيادي، (دار الصفاء للنشر والتوزيع - عمان، ومؤسسة دار الصادق الثقافية - الحلّة)، الطبعة الأولي (1432ه- - 2011م): 332-333.

وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يجنح إلي التمثيل في كلامه متي ما وجد الحِجَاج به ضرورياً، مؤثراً في المتلقي، واتضح لنا من الوقائع التأريخية في المسيرة الحسينية أنّ الإمام عندما عزم علي الخروج إلي العراق لم يلتفت إلي نصائحالصحابة والأقرباء؛ إذ أشاروا عليه بألّا يخرج إلي الكوفة؛ لما اتصف به الكوفيون من غدرٍ وخذلانٍ؛ وألّا يُصدِّق وعودهم، وعهودهم الكاذبة، فهو لم يأخذ بتلك النصائح، بل شدّ الرحال إلي العراق، مصطحباً الأطفال، والنساء، والمرضي من أهل بيته، قاطعاً رمال الصحراء بحرِّ الصيف. ما جعلهم يتعجبون ممّا يقدم عليه من فعل لا تُحمَد عُقباه؛ ولذا رأي الإمام الحسين (عليه السلام) من المناسب أن يُفصح عمّا في داخله، فبعدما حمد الله، وأثني عليه، وصلي علي النبي (صلي الله عليه و آله) قال: «خُطّ الموت علي ولد آدم مخطَّ القلادة علي جيد الفتاة، وما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنِّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جُوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين؛ لن تشذَّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرُّ بهم عينه، وتنجز لهم وعده، من كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً علي لقاءِ الله نفسه؛ فليرحل معنا فانِّي راحل، مصبحاً إن شاء الله»(1).وما يهمنا من هذه الخطبة قوله (عليه السلام): «ما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف»، فقد شبّه ولهه إلي أسلافه باشتياق يعقوب إلي يوسف، من دون أن يحدد

ص: 172


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 86؛ واُنظر: مقتل الحسين: 2/5-6؛ والملهوف علي قتلي الطفوف، أبو القاسم علي ابن موسي بن جعفر بن طاووس (ت664ه-)، إعداد عبد الزهراء عثمان محمد، ستارة، قم، الطبعة الأولي (1419ه- - 1998): 57؛ وكشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/239؛ وبحار الأنوار: 44/366-367.

وجه الشبه، الذي يربط بين ولهه إلي أسلافه (صلوات الله عليهم أجمعين)، واشتياق يعقوب إلي يوسف (عليهما السلام) بل تركه مطلقاً، والغاية الحِجَاجية من هذا الإطلاق دفع المتلقي إلي البحث عن العلاقة الرابطة بين العلاقتين، فيذهب به الخيال إلي قصة يعقوب ويوسف (عليهما السلام) التي ذكرها الله (عزوجل) في القرآن الكريم، ويستحضر القصة كاملة في ذهنه، ثمّ يبحث من خلالها عن أوجه الشبه التي تربط بين وله الإمام (عليه السلام) إلي أسلافه واشتياق يعقوب إلي يوسف (عليهما السلام)؛ ليخلص من ذلك إلي أنّ الرحال التي شدّها، والأسرة الزاحف بها لم يطلب بها سلطة ولا جاهاً؛ بل هي طريقه إلي لقاء أسلافه في جنان الخلد؛ ليعيش معهم الحياة الأبدية في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ وهكذا أوصل الإمام من خلال هذه الحجّة التمثيلية الفكرة التي كانت تجول بخاطره إلي من كان يلومه علي شدّ الرحال إلي العراق، وبهذا القول الموجز أقنعهم بخروجه إلي أرض العراق.

نخلص من ذلك إلي أنّ التمثيل وسيلة حجاجية، يتوجهبه المحاجج إلي عقل المتلقي؛ لينقله من الحالة التصويرية إلي الإقناع، ولذا عدّ من العناصر المهمة، والفعّالة في الخطاب الحِجَاجي، وجزءاً لا يتجزأ من بنية النص الحِجَاجية.

الاستعارة

الاستعارة لغة: «رفع الشيء وتحويله من مكان إلي آخر، يُقال: استعار فلان سهماً من كنانته،رفعه وحوّله منها إلي يده»(1). وقال ابن الأثير: «إنّما سمي هذا القسم من الكلام (استعارة)؛ لأنّ الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذة من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة»(2). وعرّف عبد القاهر الجرجاني الاستعارة قائلاً: «الاستعارة

ص: 173


1- في البلاغة العربية، عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، بيروت (د.ت): 361.
2- المثل السائر: 2/77.

في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفاً، تدلّ الشواهد علي أنّه اختص به حين وُضِعَ، ثم يستعمله الشاعر، وغير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلاً غير لازم؛ فيكون هناك كالعارية»(1). واللفظ عندما يُسند إلي لفظٍ آخر علي سبيل الاستعارة مجازاً يبقي محافظاً علي دلالته الحقيقية، فقولنا: (رأيتُ أسداً) أقوي دلالة من قولنا: (رأيتُ رجلاً شجاعاً). فعندما تُطلق لفظة (أسد) علي الحيوانالمعروف تدلُّ علي أنّ ذلك الحيوان يتصف بالشجاعة علي وجه الحقيقة، لكن عندما تُستعار هذه اللفظة للإنسان علي سبيل المجاز تكون أقوي حجاجاً، وأبلغ دلالة من الحقيقة؛ لأنّ الفكر يُخْضِعُ اللفظ المستعار إلي عملية عقلية يتوصل بها المتلقي إلي أنّ ثمة اختلافاً بين معني المسند ومعني المسند إليه، ممّا يدفعه ذلك إلي أن يتساءَل عن سبب ذلك الاختلاف، وعندما يُنعم النظر أكثر يجد أنّ المتكلم يروم من هذه العبارة إلفات نظر المتلقي للوقوف عندها، وليبحث عن السبب الجامع بين المسند والمسند إليه، فيجد من خلال عملية فكرية تأويلية أنّ الجامع بينهما في هذه العبارة - علي سبيل المثال - (الشجاعة)؛ لأنّ السمات الدلالية للفظة (أسد) تشير إلي الشجاعة في الحقيقة، وعندما تُطْلَقُ هذه اللفظة علي الإنسان علي سبيل المجاز تبقي محافظة علي معناها الحقيقي؛ ولهذا نجد عبد القاهر الجرجاني يقول في الاستعارة: «إنَّها تُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتي تُخرجَ من الصدَفة الواحدة عِدّة من الدُّرَر، وتَجْنِيَ من الغُصْن الواحد أنواعاً من الثَّمر... فإنك لتري بها الجمادَ حيّاً ناطقاً، والأعجمَ فصيحاً، والأجسامَ الخُرسَ مُبينةً، والمعاني الخفيّةَ باديةً جليّةً، وإذا نظرتَ في أمر المقاييس وجدتَها ولا ناصر لها أعزُّ منها»(2).

ص: 174


1- أسرار البلاغة: 30.
2- أسرار البلاغة: 43.

وتُقسّم الاستعارة تقسيمات عدّة أهمها ما يقوم علي طرفيها:

* الاستعارة التصريحية: وهي التي يُحذف فيها المشبه، ويُكتفي بذكر لفظ المشبه به فقط، كما في قوله تعالي: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ»(1)، شبه الله (عزوجل) الضلال بالظلمات، وشبه الهدي بالنور، ثم حذف المشبه (الضلال، الهدي)، واكتفي بلفظ المشبه به (الظلمات، النور). والمتلقي يستند إلي القرينة السياقية - في هذه الآية - لمعرفة المشبه المحذوف.

* الاستعارة المكنية: لا يُصرّح فيها بلفظ المشبه به (المستعار منه)، وإنّما يُكتفي فيها بذكر المشبه، وشيء من لوازم المشبه به. كما في قوله تعالي: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»(2). الجناح لازم من لوازم الطائر، إذن الطائر هو المشبه به، والمشبه في هذه الآية (الذّلّ)، وحذف الله سبحانه وتعالي المشبه به؛ لوجود لازم من لوازمه دلّ عليه وهو (الجناح).وقسّم أرسطو الاستعارة علي ثلاثة أقسام هي: «الاستعارة الجمهورية، والاستعارة الشعرية، والاستعارة الحِجَاجية، وجعل الاستعارة الحِجَاجية تهدف إلي إحداث تغيير في الموقف العاطفي،أو الفكري للمتلقي، في حين أنّ الاستعارة الشعرية لا تهدف إلا إلي ذاتها،ولا تحيل إلا علي ذاتها»(3)؛ ولهذا السبب نصح أرسطو الخطيبَ بعدم الإكثار من الاستعارة في الخطاب؛ لئلا تظهر بمظهر التكلّف؛ لأنّ الإفراط

ص: 175


1- سورة إبراهيم: آية1.
2- سورة الإسراء: آية24.
3- اُنظر: اللغة والخطاب، عمر أوكان، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء (2001م): 133، 134.

فيها يخرج الخطاب من جنس الخطابة إلي جنس الشعر(1)، وسار ميشيل لوجيرن علي خطي أرسطو في التفريق بين الاستعارة الحِجَاجية والاستعارة الشعرية(2)، وتابعهما في ذلك الدكتور أبو بكر العزاوي،فهو يري أنّ الاستعارة البيانية تكون مقصودة لذاتها، ولا ترتبط بالمتكلمين وبمقاصدهم وأهدافهم الحِجَاجية، مستشهداً بقول الشاعر: [البحر البسيط]

وَأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤَاً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْدَاً وَعَضَّتْ عَلَي العُنَّابِ بِالبَرَدِ(3)فقد قال في هذا البيت: «يتضح لنا من خلال هذا المثال أنّ الشاعر لم يكن يهدف إلي التأثير في المخاطب أو إلي تحقيق بعض الغايات الحِجَاجية، بل كان يهدف إلي إظهار براعته في استعمال المحسنات البديعية»(4)، لكنّ الذي يبدو لي أنّ الاستعارة الحِجَاجية لا تخلو من قيمة جمالية، كما أنّ الاستعارة الشعرية لا تخلو من قيمة حجاجية، والاختلاف بينهما يقتصر علي النسبية، فبعض الاستعارات تكون فيها نسبة الحِجَاج أقوي من نسبة الجمال، وأخري تكون فيها نسبة الجمال أقوي من نسبة الحِجَاج، وذلك بحسب السياق اللغوي، ومقام القول.

فالاستعارة لا تقتصر علي الإمتاع فحسب، بل لها وظيفة أخري أهم من وظيفة الإمتاع،وهي الوظيفة الحِجَاجية التي تهدف إلي الإقناع؛ ولهذا السبب حظيت الاستعارة باهتمام الحِجَاجيين،فهم يرون أنّها تمثل «مركز الحِجَاج وأهم آلياته

ص: 176


1- اُنظر: المصدر نفسه.
2- اُنظر: الاستعارة والحِجَاج: (بحث) 89.
3- البيت منسوب إلي يزيد بن معاوية. اُنظر: ديوان يزيد بن معاوية، جمع وتحقيق وشرح الدكتور واضح الصمد، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية (2007م): 83؛ كما نُسب إلي الوأواء الدمشقي. اُنظر: ديوان الوأواء الدمشقي، تحقيق سامي الدهّان، دار صادر، بيروت (1993م): 84.
4- نحو مقاربة حجاجية للاستعارة: (بحث) 83-84.

البلاغية؛ نظراً لما تحققه من نتائج إيجابية في تقريب المعني إلي ذهن القارئ»(1)، فقد جعلها بيرلمان نمطاً من المجاز اللغوي الذي يمثل نوعاً من الحجج المُؤَسَّسَةلبنية الواقع؛ لما لها من وقع كبير في تغيير مواقف المتلقي الفكرية والعاطفية، ثمّ حمله علي الإقناع بما يُلقي عليه، وأشار المفكر المغربي طه عبد الرحمن إلي أهمية الاستعارة في الخطابات الحِجَاجية الإقناعية؛ إذ قال: «العلاقة الاستعارية هي أدلّ ضروب المجاز علي ماهية الحِجَاج»(2). وأكثرُ الحِجَاجيين اهتماماً بالاستعارة ميشيل لوجيرن فقد خصص للاستعارة بحثاً وسمه ب-(الاستعارة والحِجَاج) رأي فيه أنّ اللفظ المستعمل علي وجه الاستعارة يكون أقوي حجاجاً، وأدق دلالة من اللفظ المستعمل علي وجه الحقيقة، ومثّل لذلك بلفظة (حمار) فقد قال فيها: «إنّ السمة أو السمات الدلالية التي تحتفظ بها في الاستعمال الاستعاري لكلمة (حمار) توجد في الاستعمال الحقيقي للكلمة. ومع ذلك لا نجد لها نفس الأثر(3). فعندما يتعلق الأمر بحمار حقيقي تكون السمتان: / بليد/ و/عنيد/ مرتبطتين بعدد من السمات الأُخر. أما في الاستعمال المجازي لكلمة (حمار) فإنّ هاتين السمتين الدلاليتين تلفتان النظر وترتسمان في الذاكرة أكثر ممّا لو كانتا مقرونتين بسمات أخري متعددة...إنك عندما تستخدم(4)اللفظ في معناه الحقيقي، تكون كأنّك أغرقت تينك السمتين في جميع الصفاتالجوهرية»(5). ويعزو ذلك إلي أنّ الحكم في الاستعارة يكون من استنتاج المتلقي؛ إذ يقول: «من السهل دائماً أن ننفي ما يقوله من يتحدث إلينا أكثر ممّا يسهل أن

ص: 177


1- الحِجَاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير: ( رسالة ماجستير)59.
2- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 233.
3- كذا، والصواب: الأثر نفسه.
4- كذا، والصواب: تستعمل اللفظ.
5- الاستعارة والحِجَاج: (بحث)87-88.

ننفي ما نستنتجه نحن عن طريق عملية تأويلية»(1)، ويستأنف قائلاً: «إنّ أحكام القيمة التي تتضمنها الاستعارات أقل التباساً من غيرها، إنّها أقرب إلي الفهم، ولو كانت أصعب كثيراً في التحليل، ولهذه الصعوبة كان الدحض أشد عسراً، ولكنها تزيد الاستعارة الحِجَاجية قوة»(2)، وقال عبد الله صولة: «إنّ صنع مجموعة لسانية ما لاستعارات تحفظها وتتناقلها عبر الأجيال ليس لكونها استعارات نحيا بها لضمان التواصل اللغوي في حياتنا اليومية فحسب، وإنّما(3) لكونها أيضاً حقائق نستند إليها في تواصلنا اللغوي؛ ضماناً لنجاعته من ناحية الحِجَاج والإقناع»(4).

ويتضح ذلك أكثر بذكر بعض استعارات الإمام الحسين (عليه السلام) الواردة في خطاباته، ومنها علي سبيل المثال ما جاء في ردّه علي معاوية. فتشير المصادر التأريخية إلي أنّ معاوية أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من أهل المدينة،بخطبة استند فيها إلي مجموعة من الحجج، فبعدما شدّ الرحال من الشام إلي المدينة، أرسل بطلب الإمام الحسين (عليه السلام)، وعبد الله بن عباس، وجمع الناس حوله، ثم أرتقي المنبر فحمد الله، وأثني عليه، وصلي علي النبي محمّد (صلي الله عليه و آله)، ثم امتدح يزيد بما ليس فيه؛ بأنّه عالم بكتابِ الله، وسنة نبيه؛ ويمتاز بالحلم والعلم ما يُضاهي به الإمام الحسين (عليه السلام) وغيره من الصحابة والتابعين؛ ليصل من ذلك إلي إقناع الناس بأنّه كفء للخلافة. لكنّه فُوجئ بخطبة من الإمام الحسين (عليه السلام) بددت آماله كلّها، جاء فيها قوله (عليه السلام): «فضح

ص: 178


1- البحث نفسه: 88.
2- البحث نفسه: 88.
3- كذا، والأصوب: بل، لأنّ إنّما تفيد القصر، وهذا السياق لا يُراد منه القصر، بل الإضراب.
4- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحِجَاج، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/49.

الصبح فحمة الدُّجي(1)»(2). فقد شبّه الإمام (عليه السلام) بهذا القول ظلمة الليل بالفحمة، ثمّ حذف المشبه، وصرّح بالمشبه به، وفضلاً عن الجانب الجمالي التي امتازت به هذه الاستعارة من خلال تشبيه ظلمة الليل بالفحمة أضفت علي الخطاب قوة حجاجية؛ ليكون أقوي دلالة، وأكثر تقريباً للمعني، وأقرب للفهم، وأكثر تأثيراً من (فضح الصبح ظلمة الدجي)، أو (فضح الحقّ الباطل)، ثم إنّ الذي يُنعم النظر أكثر يجد أنّ المراد من هذه الاستعارة دلالة أعمق منذلك كلّه. فقد شبه فيها نيات معاوية بليلٍ حالك السواد، كانت تستتر تحته خفايا مَكرِه، وبدعوته هذه لمبايعة يزيد افتُضحت تلك النيات، واتضح مَكرُه؛ لعدم إيفائه بالعهد الذي قطعه علي نفسه بصلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)؛ بأنّه لا يجعل الخلافة توريثاً في بني أميّة، وإنّها تنتقل من بعده إلي الإمام الحسن (عليه السلام) (3)، فهذه الاستعارة فيها ما يُراد منه لفت نظر المتلقي للوقوف عندها، والبحث عن كنهها؛ ليتوصل من خلال حركة فكرية إلي هذه النتيجة، فهذه المقولة لا تمثل استعارة تمتاز بجانبها الجمالي فحسب، بل هي فضلاً عن قوتها الجمالية والحِجَاجية مثّلت نتيجة عكسية لحجاج معاوية، في خطبته التي قطع من أجلها المسافات من الشام إلي المدينة.

وممّا جاء في هذه الخطبة أيضاً قوله (عليه السلام): «فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل»فقد شبّه فيها (الأعاليل) - و«هي العلل التي اعتل بها معاوية عند حديثه عن فضل يزيد»(4) - بالمطايا، ثمّ حذف المعني الحسيّ(المطايا)، وأبقي المعني المجرد (الأعاليل)،

ص: 179


1- الدجي: الليل مع غيم لا يُري فيه نجمٌ ولا قمرٌ. اُنظر: لسان العرب: مادة (دجا) 14/249.
2- الإمامة والسياسة: 1/208.
3- اُنظر: المصدر نفسه: 1/184.
4- نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير): 38.

وأراد من ذلك أن يجسر بين المعني الحسيّ والمعني المجرد. ويتضح ذلك للمتلقي، من خلال حركةفكرية منتظمة، يفهم منها أنّ معني المسند يختلف عن معني المسند إليه، فيعرف أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عمد إلي هذه الاستعارة؛ لثقته البالغة بأنّ الاستعارة في هذا الموضع من السياق تكون أبلغ من الحقيقة، وأقوي حجاجاً، وأكثر وقعاً وتأثيراً في المتلقي، فأراد الإمام (عليه السلام) من هذه الاستعارة أن يلفت نظر المتلقي إلي أنّ «معاوية وأتباعه يقترفون ما نهي عنه الشارع المقدس ويبررون ذلك بعلّة وعند التكرار يطرحون علّة أخري، وهكذا»(1).

ومن استعاراته الحِجَاجية أيضاً قوله عند قبر أخيه الإمام الحسن (عليهما السلام) قبل أن يشدّ الرحال إلي مكة، ومنها إلي العراق: «أنت ابن سلالة النبوة، ورضيعُ لِبان الحكمةِ»(2).

فقد أضفي (عليه السلام) علي المعني المجرد (النبوّة) صفة من صفات الرجولة الحسيّة، وهي (السلالة)، وأضفي علي المعني المجرد (الحكمة) صفات المعني الحسيّ (المرأة)، وغايته من ذلك تبسيط حالات لا تصمد أمام مقاومة التحليل الذهني؛ ليلفت نظر المتلقي إلي النهج القويم، الذي كان الإمام الحسن (عليه السلام) يسير عليه في التعامل معالدولة الأموية، ولاسيما صلحه مع معاوية؛ إذ «توحي الصورتان إيحاءً أقرب إلي اليقين أنّه (عليه السلام) كان موافقاً لما صنعه أخوه الحسن (عليه السلام) في أمر الصلح مع معاوية؛ بدلالة ألفاظ (الحكمة)، و(النبوّة)»(3)؛ ليمهّد بذلك إلي أنّ خروجه لمواجهة الدولة الأموية لم يأتِ عن قناعة مسبقة كانت سياسة أخيه الأكبر تقف حائلاً

ص: 180


1- بلاغة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) دراسة وتحليل، حسين أبو سعيدة، مركز العترة الدراسات والبحوث، بيروت(1998م): 2/33.
2- عيون الأخبار، أبو مُحمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276ه-)، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة (1996): 2/314-315؛ واُنظر: جمهرة خطب العرب: 2/129.
3- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير): 228.

دونها، فقوله هذا أراد منه قطع الشكّ في أنّ السياسة التي تبناها في الثورة علي الطغاة خالف فيها سياسة أخيه الأكبر. والإمام الحسين (عليه السلام) في هذه الاستعارة مازج بين جمال العبارة، وقوة الحجّة؛ ليكون لهما وقع مزدوج في التأثير بالمتلقي.

ومن استعاراته ما جاء في خطبته (عليه السلام) لما استكفَّ به جيش الكوفة: «أجل والله. خذل فيكم معروفٌ نبتت عليه أصولكم، وأتزرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شَجي للناظر، وأكلةً للغاصب»(1). نجد في قوله هذا صورة استعارية تألفت من مجموعة استعارات. فقد شبّه خذلهم بالتربة، وشبّه أصولهم بأصول الشجر الخبيث النابت في تلك التربة، ثم حذف المشبه به الأول (التربة)، والمشبه به الثاني (أصولالشجر الخبيث)، وأبقي شيئاً من لوازم المشبه به، وهو (نبتت)، وشبّه خبثهم بثمر ذلك الشجر، وشبّه حالهم بأنّهم أكلة للغاصب؛ ليصوّر بهذه الاستعارات حال أهل الكوفة الناكثين لبيعته (عليه السلام)، فهم كالشجر الخبيث الأصل، النابت في تربة خبيثة، وما هم إلا فروع وثمار لذلك الشجر الخبيث، فمن خلال عملية عقلية فكرية يتوصل المتلقي إلي أنّ الشجر الخبيث لا يثمر إلا ثمراً خبيثاً، وما هؤلاء القوم إلا ثمار ذلك الشجر الخبيث؛ وذلك في إشارة منه إلي خذلهم لأبيه عليّ، وأخيه الحسن؛ ليصل من هذه الاستعارة الحِجَاجية إلي نتيجة مضمرة لم يصرّح بها الإمام (عليه السلام)؛ لها مصداق في القرآن الكريم يستشفّه المتلقي من سياق القول، وهو قوله تعالي: «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(2)، وهذه الصفات كلّها تنطبق علي الكوفيين - آنذاك -.

ص: 181


1- الاحتجاج: 2/278؛ واُنظر: مقتل الحسين: 2/7.
2- سورة البقرة: آية27.

من خلال ما تقدم اتضحت لنا أهمية الاستعارة في الخطاب الحسيني، وقوتها الحِجَاجية، وفضلها في إبراز المعاني. ونخلص إلي أنّ الاستعارة تّعدُّ من أهم الوسائل اللغوية البيانية التي يستند إليها المحاجج للوصول إلي أهدافه الحِجَاجية، بل إنّها تأتي في المقام الأول لمايتمتع به القول الاستعاري من قوة حجاجية عالية، إذا ما قورن بالأقوال العادية.

الكناية

الكناية بأصل الوضع «أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنّي عن الأمر بغيره يكنّي كناية، يعني إذا تكلّم بغيره ممّا يستدل عليه»(1)، والكناية لفظية مجازية، وتأتي مفردة ومركبة؛ وتُفهم دلالتها من اللفظ الظاهر، ويُقصد بها: «ترك التصريح بذكر الشيء إلي ذكر ما يلزمه؛ لينتقل من المذكور إلي المتروك، كما تقول: فلان طويل النجاد؛ لينتقل إلي ما هو ملزومه، وهو طويل القامة... وسُمِّي هذا النوع كناية، لما فيه من إخفاء وجه التصريح»(2). وتتألف الكناية من «ثلاثة أركان:

1 - المكني به: وهو دلالة اللفظ الظاهر التي تقوم دليلاً علي مراد المتكلّم.

2 - المكني عنه: وهو المعني اللازم للمكني به الذي يرمي إليه الناطق بالكناية.

3 - القرينة العقلية التي يفرزها سياق الكلام لترشد إلي المكني عنه، وتمنع إرادة المعني المكني به»(3).

والكناية أبلغ، وآكد، وأقوي حجاجاً من التصريح «فليستالمزيّة في قولهم (جَمّ الرماد). أنّه دلّ علي قِري أكثر، بل إنّك أثبتَّ له القري الكثير من وجه هو أبلغ،

ص: 182


1- لسان العرب: مادة (كني): 15/233.
2- مفتاح العلوم: 637.
3- البلاغة والتطبيق: 370.

وأوجبته إيجاباً هو أشدّ، وادعيته دعوي أنت بها أنطق، وبصِحتها أوثق»(1). والمعني الذي يفهمه المتلقي من قصد المحاجج بعد تدّبر وتفكّر، يكون أقوي تأثيراً، وأكثر إقناعاً من المعني الصريح؛ لأنّه يخضعه إلي عملية ذهنية عقلية، فالمحاجج عندما يُكنّي يريد من ذلك إشراك المتلقي في العملية الحِجَاجية؛ لأنّ الكناية تجعل المتلقي يقوم بعملية ذهنية عقلية؛ لإدراك العلاقة الدلالية التلازمية ما بين المعني السطحي الظاهر (المكني به)، والمعني الخفي الذي يريد المحاجج التوصل إليه (المكني عنه) ما يجعله يتوصل إلي الفكرة التي يريدها المحاجج بنفسه، وتوصل المتلقي إلي ما يريده المحاجج بنفسه يجعل تقبلها والاقتناع بها أقوي من التصريح؛ لذا إنّ الكناية تمثل حجّة يتوجه بها المحاجج إلي عقل المتلقي؛ لينقله من التعبير الكلامي الظاهر إلي دلالةٍ أعمق تردفها في التداول، ويبدو أنّ ذلك كان مكمن السرّ في تسابق البلغاء إليها، ووصفَ الدكتور محمود السيد شيخون في كتابه (الأسلوب الكنائي في القرآن الكريم) الكناية بأنّها «وادٍ من أودية البلاغة، ومقتل من مقاتل البيان العربي... وطريق جميل من طرق التعبير الفني... ووسيلة قوية منوسائل التأثير والإقناع، ولها أثر كبير في تحسين الأسلوب»(2)، فهي تزيد من حيوية العبارة وقوتها، فضلاً عمّا تضفيه علي المعني من جمال الصياغة، ومتي ما جاء المعني مصحوباً بدليله، كان أشدّ تأثيراً، وأقوي إقناعاً؛ ولذا نجد الكناية تحظي باهتمام الإمام الحسين (عليه السلام)، فإذا رأي (عليه السلام) في موضع ما من خطاباته أنّ الكناية فيه أبلغ وآكد وأقوي حجاجاً من التصريح عمد إليها، ومن الأمثلة علي ذلك ما جاء في ردّه علي معاوية عندما طلب البيعة ليزيد من أهل المدينة بحضرة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ إذ قال

ص: 183


1- دلائل الإعجاز: 71.
2- الأسلوب الكنائي في القرآن الكريم، محمود السيد شيخون، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، الطبعة الأولي (1398ه-): 87.

الإمام (عليه السلام) في معرض ردّه عليه: «فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون»(1). فقوله: (كان ويكون) «كناية عن احتجاج معاوية بالمنسوخ بأنّه سبق، وأنّه كان أمرٌ(2) نافذاً»(3)، وعمد الإمام (عليه السلام) إلي هذه الكناية في هذا الموضع؛ لأنّها أبلغ، وآكد، وأقوي حجاجاً من التصريح ل«أنّ كلّ عاقل يعلم إذا رجع إلي نفسه أنّ إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد، وأبلغ فيالدعوي، من أن تجيء إليها فتثبتها، هكذا سَاذَجاً غُفْلاً»(4)، فهذه الكناية عندما تقرع ذهن المتلقي تدفعه إلي البحث عن الدلالة التلازمية ما بين معني اللفظ الظاهر والمعني الخفي، ومن ذلك يتوصل الإمام إلي إشراك المتلقي في النصّ الحِجَاجي؛ ليتوصلا معاً إلي أنّ معاوية كان يريد من خطبته أن يُفحم النّاس بأنّ المنسوخ قد سبق، وهذا ما حصل بالفعل، ممّا دفع معاوية إلي أن يلتفت إلي ابن عباس ويقول متعجباً: «ما هذا يابن عباس؟! ولما عندك أدهي وأمر»(5).

التعريض

يُقصد به «هو أن يُطلق الكلام ويُشار به إلي معني آخر يُفهم من السياق، ومن ظرف القول»(6)، وسُمّيَ بذلك؛ لأنّ المعني فيه يُفهم من عرضه، وعرض كلّ شيءٍ بجانبه، ويختص بالتركيب، ولا يأتي مفرداً، والمعني فيه يُلمّح إليه تلميحاً(7)، ولا

ص: 184


1- الإمامة والسياسة: 1/209.
2- كذا، والصواب: كان أمراً نافذاً، اللهم إلا إذا كان يقصد من ذلك: وإنّه أمرٌ كان نافذاً، وهو بعيد.
3- بلاغة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)؛ دراسة وتحليل: 2/33.
4- دلائل الإعجاز: 72.
5- الإمامة والسياسة: 210.
6- البلاغة والتطبيق: 373.
7- اُنظر: المثل السائر: 3/57.

يتضمن علاقة دلالية لزومية بين معني اللفظ الظاهر والمعني الخفي؛ إذ يمكن أن يُستعمل الخطاب الواحد في أكثر من سياق، فينتج عنه قصد يختلف باختلافالسياق، وتُفهم دلالته من القرينة، والمتلقي لا يُدرك المعني المراد منه إلا إذا كان ملماً بالسياق الذي يرد فيه، فضلاً عن معرفة ظروف القول، ومناسبته(1)، واستعمال التعريض في الخطاب له وقع بالغ في المتلقي، وأثر حجاجي أبلغ من التصريح، وأفضل التعريض وأقواه ما ورد في قوله تعالي: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»(2)، في إشارة منه سبحانه وتعالي إلي ما كان يقوله أبو جهل: لا يوجد بين جبلي مكة أعزّ منّي ولا أكرم(3).

ومن التعريض في كلام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ما جاء في الحوار الذي دار بينه وبين معاوية، فقد جاء فيه أنّ معاوية قال للإمام الحسين (عليه السلام) «يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال (عليه السلام): وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفّناهم، وصلينا عليهم. فضحك الحسين (عليه السلام)، ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكنَّنا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلينا عليهم ولاقبرناهم»(4).

ضَحِكُ الإمام، وردّه علي معاوية فيهما تعريض بالفعل والقول؛ إذ لا يوجد في تاريخ الإسلام فعل أشنع من ذلك إلي زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، فلو كان معاوية مسلماً كما يدّعي لما قتل نفساً بغير نفسٍ، ثم يُكفّنها، ويُصلي عليها، وهذا الفعل إن

ص: 185


1- اُنظر: البلاغة والتطبيق: 374.
2- سورة الدخان: آية49.
3- اُنظر: العمدة في صناعة الشعر ونقده، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني (456ه- أو 463ه-)، تحقيق الدكتور النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانﭽي، القاهرة، الطبعة الأولي (1420ه- - 2000م): 1/501.
4- الاحتجاج: 2/275؛ واُنظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/240 مع اختلافٍ في الرواية.

دلّ علي شيءٍ فإنّما يدلُّ علي أنّ معاوية بقوله هذا أماط اللثام عمّا كان يُخفيه من نفاق. وضَحِكُ الإمام، أو حتي تبسمه ما هوإلا علامة أشار بها إلي نفاق معاوية بقصد التعريض به أمام النّاس. أما قوله (عليه السلام) فيدلُّ علي أنّ المسلم الحقّ لا ينبغي له أن يُكفّن كافراً، ولا يُصلي عليه أبداً؛ تأسياً بالرسول (صلي الله عليه و آله)، وتنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالي؛ إذ قال تعالي لنبيه الأكرم (صلي الله عليه و آله) في المنافقين: «وَلَا تُصَلِّ عَلَي أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَي قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»(1). فقوله: «لكنَّنا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم»فيه تلميح إلي أنّ الله جلّ في علاه نهي عن الصلاة علي أمثالهم من الخارجين عن دين الله سبحانه وتعالي.

ففعل الإمام وقوله هذان كانا حججاً احتج بهما علي أنّ معاوية لم يكن مسلماً كما يدّعي، بل كان منافقاً بدلالةفعله الشنيع هذا، ويمكن توضيح ذلك أكثر؛ استناداً إلي نظرية تولمين الحِجَاجية:

(المعطي) لكنَّنا لو قتلنا ------------------ (النتيجة) أنت منافق يا معاوية

شيعتك ما كفنّاهم

ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم

(الضمان) نظراً لأنّ المنافق والكافر لا يُكفّن ولا يُصلي عليه

و(الأساس) الذي يُستند إليه في تقوية الضمان الآية الكريمة المذكورة آنفاً.

نخلص ممّا تقدّم إلي أنّ سحر البيان لا يأسر القلب فحسب، بل يجعل العقل متفاعلاً معه أيضاً باحثاً عن كنه أسراره، فإن اطمأنَّ المتلقي لنيات المحاجج خضع لسحر البيان قلباً وقالباً.

نستشفّ من كلِّ ما تقدّم أنّ النظريات الحجاجية اللسانية تناولت الحجاج من

ص: 186


1- سورة التوبة: آية84.

جوانب تداولية، ولغوية، وأسلوبية، وبيانية، واستناداً إلي ذلك يمكن اعتصار هذه النظريات؛ لتصب جميعها في بوتقة واحدة، يُصطلح عليها ب-(المنهج الحجاجي)؛ ليُضاف هذا المنهج إلي المناهج التحليلية الموجودة في الميادين اللغوية والأدبية؛ كالمنهج البنيوي، والأسلوبية، والشعرية، ونحو ذلك، ويمكن الركون إليه باطمئنان في تحليل النصوص،وأزعم أنّ هذا المنهج لا يقل قيمة عن تلك المناهج، بل يفوقها في دراسة الجوانب العقلية، وسأعتمده في دراستي التطبيقية لتحليل كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في الفصل المقبل.

ص: 187

ص: 188

الفصل الثالث: دراسة حجاجية تطبيقية لنماذج من كلام الإمام الحسين (عليه السلام)

اشارة

ص: 189

ص: 190

المبحث الأوَّل: كلامه (عليه السلام) في المدينة المنورة

مع عمر بن الخطاب

اشارة

أول كلام وصل إلينا عبر المدونات التاريخية للإمام الحُسَين (عليه السلام) المشادة الكلامية التي دارت بين الإمام الحُسَين (عليه السلام) في صباه - إذ كان عمره عشرة أعوام تقريباً - وعمر بن الخطاب، عندما قال عمر بن الخطاب في خطبة له: إنّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم.

فقد قال أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي في كتابه (الاحتجاج): «رُوي أنّ عمر ابن الخطاب كان يخطب النَّاس علي منبر رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فذكر في خطبته أنّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحُسَين (عليه السلام) - من ناحية المسجد -:

انزل... عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك!

فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حُسَين، لا منبر أبي، من علّمك هذا أبوك عليّ ابن أبي طالب؟ فقال له الحُسَين (عليه السلام): إن أطع أبي فيماأمرني فلعمري إنّه لهادٍ، وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب النَّاس البيعة علي عهد رسول الله، نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها النَّاس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم وويلٌ

ص: 191

للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمّد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من إدامة الغضب وشدّة العذاب!!

فقال عمر: يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمرنا، ولو أمروا أباك لأطعنا.

فقال له الحُسَين: يا ابن الخطاب فأيّ النَّاس أمرك علي نفسه قبل أن تؤمِّر أبا بكر علي نفسك؛ ليؤمرك علي النَّاس بلا حجّة من نبي، ولا رضا من آل مُحَمَّد، فرضاكم كان لمُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) رضي أو رضا أهله كان له سخطاً؟! أما والله لو أنَّ للسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يعينه المؤمنون، لما تخطيت رقاب آل مُحَمَّد، ترقي منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله الأسماع، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عمَّا أحدثت سؤالاً حفياً.

قال: فنزل عمر مغضباً، فمشي معه أناسٌ من أصحابه، حتي أتي باب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من أبنك الحُسَين، يجهرنا بصوتٍ في مسجد رسول الله، ويُحرّض عليّ الطغام وأهل المدينة...»(1).

لو تأملنا في هذا النصّ لوجدنا أنّ الموضوع الذي دارحوله الحِجَاج بين الإمام الحُسَين (عليه السلام) وعمر بن الخطاب هو قول عمر بن الخطاب الذي ذكر فيه أنّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، وإنكار الإمام (عليه السلام) بأنّ ذلك لا يحقّ له؛ محتجاً بأنّ ولاية أمر المؤمنين أوكلها الرسول (صلي الله عليه و آله) لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعمر بن الخطاب لم ينكر ذلك علي الإمام الحُسَين (عليه السلام)، لكنّه احتجَّ بأنّ النَّاس هم الذين أمَّروه (انتُخب من النَّاس). وفيما يأتي تحليل لهذا النصّ علي وفق المنهج الحِجَاجي، ويمكن تقسيمه علي ثلاثة أقسام:

ص: 192


1- الاحتجاج: 2/271، واُنظر: سير أعلام النبلاء: 3/285.
القسم الأول

«انزل... عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك! فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حُسَين لا منبر أبي». (انزل): فعل أمر، استمد طاقته الحِجَاجية من الشخص الآمر؛ بوصفه ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وليس من الصيغة نفسها؛ إذ لو أنّ شخصاً آخر غير ابن الرسول يقول ذلك لعمر بن الخطاب لما سَلِمَ من العقاب، وهو - بحسب المنهج الحِجَاجي - فعل كلام مباشر، ذو قوة حجاجية إنجازية، اختاره الإمام الحُسَين (عليه السلام) ليكون مقدمة حجاجية يبتدئ بها حجاجه. (منبر أبي رسول الله) حقيقة لم يستطع المتلقي إنكارها، و ذِكْرُ الحقيقة الفعلية في النص له طابع حجاجي، والتسليم لها يعني التسليم للحجّة. (أبي): ذِكْرُ لفظة (أبي) في هذا المقام يقتضي أنّ الحُسَين (عليه السلام) أراد أن يلفت نظر المتلقي إلي ما كان متداولاً بين المسلمين من أقوال الرسول فيه، وفي أخيه الحسن (عليهما السلام)، وقد مرّ ذكرها في المبحث الأول من الفصل الثاني. فلفظة (أبي) في هذا المقام تُمثّل فعلاً كلامياً غير مباشر جاء؛ ليزيد من قوة فعل الكلام المباشر (الأمر/انزل)، فهي تقتضي أنّه لا يجوز أن يدَّعي أحد أنّه أولي بالمؤمنين بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) غير آل بيته، كما لا يجوز أن يدّعي أحدٌ أنّ له الولاية علي آل بيت النبي (صلي الله عليه و آله)، وفضلاً عن ذلك فإنّ إضافة (رسول الله) إلي لفظة (أبي) في هذا السياق لها الأثر الحِجَاجي الفاعل في توجيه الدلالة، فلو حُذفت منالسياق، أو بُدّلت لما حقق الإمام القوة الفعلية الإنجازية التي حققها بذكرها. وقد بينا ذلك في المبحث الأول من الفصل الثاني. (لا منبر أبيك) النفي عامل حجاجي، قلّص الإمكانات الحِجَاجية، وزاد من توجيه الحجّة نحو النتيجة التي أقرّ بها عمر بن الخطاب وهي: «فمنبر أبيك لعمري يا حُسَين لا منبر أبي».

ص: 193

القسم الثاني

«من علّمك هذا أبوك عليّ بن أبي طالب؟ فقال له الحُسَين (عليه السلام): إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنّه لهادٍ وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب النَّاس البيعة علي عهد رسول الله، نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها النَّاس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم، وويلٌ للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمّد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من إدامة الغضب، وشدّة العذاب؟! فقال عمر: يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمّرنا ولو أمّروا أباك لأطعنا».

يمكن تقسيم هذا المقطع من الحِجَاج علي وفق السلم الآتي:

النتيجة المضمرة (ن) علي بن أبي طالب أولي بالمؤمنين من أنفسهم بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله)

(ح4) يلقاهم محمّد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من إدامة غضب وشدّة عذاب

(ح3) ويلٌ للمنكرين حقنا أهل البيت

(ح2) له في رقاب النَّاس البيعة علي عهد رسول الله، نزلبها جبرائيل من عند الله

تعالي لا ينكرها إلا جاحد بالكتا ب، عرفها النَّاس بقلوبهم، وأنكروها بألسنتهم

(ح1) إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنّه لهادٍ، وأنا مهتدٍ به

(إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنّه لهادٍ، وأنا مهتدٍ به) اعتمد الحُسَين (عليه السلام) في قوله هذا علي القسم (لعمري)، (إنّ)، (اللام). والقسم أسلوب إنشائي يؤتي به للتوكيد، و(إنّ) أداة توكيد، ودخولها علي الجملة يفيد تكرار الجملة مرتين، و(اللام) في (لهادٍ)، ودخولها مع (إنّ) علي الجملة الخبرية تصير معهما الجملة الخبرية ثلاث جمل(1)، ودخول القسم علي الجملة الاسمية مع هذه الأدوات يكون بمثابة

ص: 194


1- اُنظر: البرهان في علوم القرآن: 2/408.

تكرار الجملة أربع مرات(1)، ويؤتي بالتوكيد «للحاجة للتحرّز عن ذكر ما لا فائدة له، فإن كان المخاطب جاهلاً أُلقيَ إليه الكلام خالياً عن التأكيد، وإن كان متردداً فيه حسن تقويته بمؤكد، وإذا كان منكراً وجب تأكيده»(2). (هادٍ) اسم فاعل يدل علي الوصف (الهداية) وصاحبه (علي بن أبي طالب (عليه السلام) )، و«اسم الفاعل من نماذج الوصف التي يدرجها المرسل في خطابه بوصفها حجّة؛ ليسوّغ لنفسه إصدار الحكم الذي يريد، لتنبني عليه النتيجة التي يرومها»(3)،وهي (وأنا مهتدٍ به)، ولفظ (مهتدٍ) اسم مفعول «ويُصنّف اسم المفعول علي أنّه من الأوصاف الحِجَاجية»(4)؛ إذ به وضع الإمام الحُسَين (عليه السلام) نفسه في موضعٍ يجعله من الموالين لولي أمر المؤمنين، الذي نصّبه الله ورسوله.

(وله في رقاب النَّاس البيعة) نجد أنّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) في هذا الموضع عدل نحو الأقوي حجاجياً؛ إذ قدّم الجار والمجرور(له) علي (البيعة)؛ للدلالة علي الاختصاص والقصر، فقَصَرَ البيعة علي أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة، أي له في رقاب النَّاس البيعة خاصة من دون غيره من النَّاس، وهذا ما أشار إليه أيضاً ميثم قيس؛ إذ قال: «وهذا العدول عن التركيبية الأصل أفاد قصر البيعة علي أبيه (عليه السلام)، واختصاصه بها [من] دون غيره... كما أفادت هذه الصياغة تعريضاً بالمقابل. ويلاحظ - أيضاً - أنّه (عليه السلام) لم يكتفِ بالتقديم، بل استعان بالتجسيم الاستعاري حين جعل البيعة كالطوق المعلق في رقاب النَّاس، وهذا يدلل علي عظم هذا الأمر، وحراجة النَّاس ومسؤوليتهم نتيجة الوهن، والتقصير المنبت في خبايا نفوسهم»(5)، والغاية من هذا

ص: 195


1- اُنظر: الحجاج في القرآن: 256.
2- البرهان في علوم القرآن: 2/390.
3- استراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية: 488.
4- المصدر نفسه: 489.
5- نثر الإمام الحُسَين دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير): 103.

العدول؛ الزيادة من القوة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، وقوله (عليه السلام): (رقاب النَّاس) مجازٌ مرسل علاقته الجزئية، فالبيعة تشمل المرء بكيانه، ولا تقتصر علي رقبته، كما هي الحالفي قوله تعالي: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ»(1).

(نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي) بعدما قضي رسول الله (صلي الله عليه و آله) مناسك حجّة الوداع، وعاد إلي المدينة، وعندما وصل إلي غدير خم نزل عليه جبرائيل (عليه السلام) بقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(2)، وأمره أن يقيم عليّاً (عليه السلام)، ويبلّغ ما نزل فيه من الولاية، فصلي رسول الله (صلي الله عليه و آله) صلاة الظهر، ثم خطب خطبة جاء فيها: «... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين. فنادي منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله (عزوجل)،؛ وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرقا حتي يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها حتي رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها النَّاس من أولي النَّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين، وأنا أولي بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات،... ثم قال: اللّهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ثم لميتفرقوا حتي نزل أمين وحي الله بقوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

ص: 196


1- سورة البقرة: آية19
2- سورة المائدة: آية67.

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»(1)، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: الله أكبر علي إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممّن هنأه في مقدم الصحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كلٌّ يقول: بِخٍ بِخٍ لك يا بن أبي طالب أصبحت، وأمسيت مولاي ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة»(2)، وهو ما أجمعت عليه المرويات(3).

(لاينكرها إلا جاحد بالكتاب) الإمام (عليه السلام) قد أردف بقوله هذه التوكيدات المذكورة آنفاً بالقصر (لا...إلا)، والقصر تأكيدللحكم علي تأكيد فهو (توكيد مضاعف)(4)، ويري انسكومبر أنّ هذا النوع من القصر يكسب الجملة «بُعداً حجاجياً أعمق وأنجع في التوجيه نحو النتيجة الضمنية»(5)، وقالت خديجة محفوظي: «ويقصد المرسل باستعمال أنواع من التوكيدات إلي إثبات حججه، وأما التكثيف في

ص: 197


1- سورة المائدة: آية3.
2- الغدير في الكتاب والسنة، عبد الحُسَين أحمد الأميني النجفي، موسوعة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولي(1994م): 29-30؛ وتُنظر الآية في سورة المائدة: آية3.
3- اُنظر: مسند أحمد، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت241ه-)، مؤسسة قرطبة، مصر (د. ت): 1/84، 118، 119، 152، 330؛ 4/281، 368، 370، 372؛ 5/347، 366، 370، 419؛ والمعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (360ه-)، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الطبعة الثانية (1404ه- - 1983م): 2/357؛ وشرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن، أبو حفص عمر ابن أحمد بن عثمان بن شاهين (ت385ه-)، تحقيق عادل بن محمد، مؤسسة قرطبة، مصر (1415ه- - 1995م): 103؛ والمستدرك علي الصحيحين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405ه-)، تحقيق مصطفي عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1411ه- - 1990م): 3/118.
4- اُنظر: تفسير التحرير والتنوير: 15/323.
5- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة (أو الحجاج)، بحث ضمن كتاب ( الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/34.

الاستعمال فيهدف به المرسل إلي لفت انتباه المتلقي والتأثير فيه»(1)، والقصر عامل حجاجي يقلّص الإمكانات الحِجَاجية، ويحصر فعاليتها في وجهة حجاجية واحدة؛ ليضيف للكلام قوة حجاجية تزيد من طاقتها الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة المضمرة (علي بن أبي طالب أولي بالمؤمنين من أنفسهم). فأراد من هذه التوكيدات المتتالية أن يقول: الحقّ كذا.

وممّا ينبغي الوقوف عنده في هذه الجملة لو أنّ الإمام الحُسَين قال: (من أنكرها جحد بالكتاب) لأعطت هذه الجملة المعني الإخباري الذي أعطته جملة (لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب)، لكنَّ الفارق بين الجملتين يكمن في القيمة الحِجَاجية؛ إذ إنّ قول الإمام (عليه السلام) دلّ علي التوكيد، والقصر والاختصاص، فضلاً عن صيغة المضارع (ينكرها) الدالةعلي التجدد والحدوث، فالإنكار والجحد لا يقتصر علي المنكرين للبيعة في صدر الإسلام، بل يشمل ذلك كلّ من يُنكر البيعة في كلّ زمان (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، و(جاحد) اسم فاعل يدلُّ علي الوصف (الجحد) وصاحبه، وهو حالة وسطي بين الاسمية والفعلية، و هو فعلٌ دائم - باصطلاح الكوفيين - دال علي التجدد والحدوث، وهو بذلك أقرب إلي الفعل من الاسم الدال علي الثبوت، ودلالته علي التجدد والحدوث في هذا السياق جاءت ملائمة مع الغاية منه في عدم اقتصاره علي زمنٍ معين(2). وهذا ما جعل الحِجَاجيين يرون أنّ القيمة الإخبارية للقول ثانوية، وتابعة للمكون الحِجَاجي(3).

ص: 198


1- بنية الملفوظ الحجاجية للخطبة في العصر الأموي، (رسالة ماجستير): 73.
2- لقد فصّلت القول في دلالة الفعل الدائم في مقال نُشر في مجلة النجف الأشرف، العدد (97)، لسنة (1433ه- - 2012م) بعنوان: (دلالة تنوين (باسطٌ) في قوله تعالي: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا» (الكهف /18).
3- اُنظر: الحجاج والمعني الحجاجي، بحث ضمن كتاب ( التحاجج، طبيعته، ومجالاته، ووظائفه): 70.

(قد عرفها النَّاس بقلوبهم، وأنكروها بألسنتهم). قد: «تدلّ علي أنّ الفعل الماضي كان قبل الإخبار متوقعاً»(1)، كما تفيد تقريب الماضي من الحال(6)، فضلاً عن إفادتها التحقيق، والتوكيد(7)، وهي بذلك جاءت متناسبة مع سياق القول،وحققت النتيجة المرجوة منها.

(وويلٌ للمنكرين حقنا أهل البيت) نلحظ أنّ في هذا القول التفاتاً من المفرد المخاطب إلي الجمع الغائب من دون تحديد، والغاية من هذا التنوع في الضمائر لخلق حركية في الحوار بعيداً عن الرتابة، كما أنّه يجعل في الحوار تلميحاً لا يخصّ شخصاً بعينه فحسب، بل تنسحب معانيه إلي كلِّ من بايع عمر بن الخطاب متجاوزاً قول الله ورسوله، فينطبق عليه قول الإمام الحُسَين (عليه السلام): جاحد بالكتاب. و«الويل: وادٍ في جهنم لو سُيّرت فيه الجبال لماعت»(2). و(أهل البيت) هم الذين قال فيهم الله (عزوجل):

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (3).

(ماذا يلقاهم به محمّد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من إدامة الغضب وشدّة العذاب؟!)، (ماذا) استفهام، وللاستفهام أثر كبير في توجيه المتلقي نحو الوجهة الحِجَاجية المنشودة؛ إذ يفرض علي المخاطَب إجابة محددة يمليه عليه المقتضي الناشئ عنه، فيتمّ بذلك توجيه دفّة الحوار إلي الوجهة التي يريدها المحاجج، «فالاستفهام يلعب(4) دوراً كبيراً

ص: 199


1- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، تحقيق الدكتور عبد اللطيف محمد الخطيب، مطابع السياسة، الكويت، الطبعة الأولي (1421ه- - 2000م): 2/533.( 6، 7 ) المصدر نفسه: 2 /534، 544.
2- تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القريشي الدمشقي (774ه-)، تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية (1420ه- - 1999م):: 1/311.
3- سورة الأحزاب: آية33.
4- كذا. والصواب: يمثل.

في الإقناع، وخاصة فيالعملية الحِجَاجية؛ نظراً لما يعمله من جلب المتلقي إلي فعل الاستدلال، بحيث إنّه(1) يشركه بحكم قوته وخصائصه التي تخدم مقاصد الخطاب، ويلعب دوراً أساسياً(2) بالإذعان للحجّة»(3)؛ والسبب الذي دفع الإمام الحُسَين (عليه السلام) إلي العدول من الخبر إلي الإنشاء إزالة الجحود والإنكار، وتغيير اعتقاد المتلقي. وهكذا نجد الإمام الحُسَين (عليه السلام) يتدرّج في حججه - بحسب ما بينا ذلك في السلم الحجاجي -؛ لأنّ المتلقي كان جاحداً للبيعة.

(فقال عمر: يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمرنا، ولو أمروا أباك لأطعنا) هذا القول مثّل نتيجة حجاج الإمام الحُسَين (عليه السلام) في هذا القسم من الكلام، وفيها اعتراف صريح بأنّ النَّاس هم الذين أمَّروه وليس الله (عزوجل)، ولا رسوله (صلي الله عليه و آله)، وهذه النتيجة المرجوة من التوجيه الحِجَاجي السابق. وهي الاعتراف بأنّ توليه لأمر المسلمين كان من النَّاس، ولم يكن من الله سبحانه وتعالي، ولا من الرسول مُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) .

والسؤال الذي يطرح نفسه - الآن: أيّهما أولي بالولايةمَن يوليه الله (عزوجل) أم من يوليه النَّاس؟

الجواب: - علي وفق المنهج الحِجَاجي - من يمتلك حجّة أقوي هو أولي بالولاية، وحجّة الإمام (عليه السلام) أقوي؛ لأنّها مستندة إلي حجّة سلطة (آيات قرآنية، وأحاديث نبوية)، فضلاً عن المقام الذي تولي فيه الإمام علي (عليه السلام) الولاية يوم غدير خم في أيام

ص: 200


1- كذا، والأصوب: إذ إنّه.
2- كذا، والصواب: وله أثرٌ أساس.
3- الإقناع المنهج الأمثل للتواصل نماذج من القرآن والحديث، الدكتورة آمنة بلعلي، مجلة التراث العربي مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد (89)، لسنة (1424ه- - 2003)، الموقع علي الانترنت: www.mojtamai.com.

النبي (صلي الله عليه و آله)، فولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأمر المؤمنين كانت من الله (عزوجل) قبل انقطاع الوحي، وأمام النَّاس، ومنهم عمر بن الخطاب، وهو أول المهنئين، ثمّ هناك آية قرآنية صريحة في أمر الولاية وهي قوله سبحانه وتعالي في محكم كتابه العزيز:«النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» (1) فأولي النَّاس - استناداً إلي هذه الآية الكريمة - بولاية أمر المؤمنين بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله) آل بيته (عليهم السلام) . وقال البلاذري (ت279ه-): إنّ النبي (صلي الله عليه و آله) قال في غدير خم بعدما أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام): «أيّها النَّاس ألستُ أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلي. قال: أوليس أزواجي أمهاتهم؟ قالوا: بلي يا رسول الله. فقال: هذا ولي من أنا مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه»(2)، وعمر بن الخطاب لم ينفِ ذلك كلّه. أمّا حجته فتستند إلي أنّ النَّاس هم الذين أمَّرُوه، ولو أمَّرُوا علياً (عليه السلام) لأطاع. ولندع الكلام للإمام علي (عليه السلام)؛ ليصف لنا الكيفيةالتي انتقلت بها السلطة إلي عمر بن الخطاب، فقد قال (عليه السلام): «أمّا والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحا»(3). «... حتي مضي الأول لسبيله فأدي بها إلي ابن الخطاب بعده... فيا عجباً بينا هو يستقيلُها في حياته! إذ عقدها لآخر بعد وفاته!»(4)، استناداً إلي ذلك فإنّ ولاية أمر المؤمنين التي احتج بها عمر بن الخطاب كانت توصية من أبي بكر قبل وفاته لعمر بن الخطاب، وما يؤكد ذلك أيضاً قول الطبري (ت310ه-): «وعقد أبو بكر في مرضته التي تُوفيَ فيها لعمر بن

ص: 201


1- سورة الأحزاب: آية6.
2- جمل من أنساب الأشراف: 2/356.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ت656ه-)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، (د.ت): 1/151.
4- المصدر نفسه: 1/162.

الخطاب الخلافة من بعده»(1)، ثم ساق الروايات في ذلك(2). يُفهم ممّا تقدّم أنّ المراد بالنَّاس الذين احتج عمر بن الخطاب بهم شخص أبي بكر فقط.

القسم الثالث

«فقال عمر: يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمرنا ولو أمروا أباك لأطعنا. فقال له الحُسَين: يا ابن الخطاب فأيّ النَّاس أمرك علي نفسه قبل أن تؤمِّر أبا بكر علي نفسك ليؤمّرك علي النَّاس بلا حجّة من نبي ولا رضا من آل مُحَمَّد؟! فرضاكم كان لمُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) رضيً؟ أو رضا أهله كان له سخطاً؟! أما والله لو أنَّ للسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يعينه المؤمنون، لما تخطيت رقاب آل مُحَمَّد، ترقي منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله الإسماع، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عمَّا أحدثت سؤالاً حفياً».

قول عمر بن الخطاب: (يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمرنا، ولو أمروا أباك لأطعنا) له جانبان: الأول: نتيجة لما قبله، والثاني: حجّة لردّ حجج الإمام الحُسَين (عليه السلام)، وهذا القول يمثّل - بحسب نظرية تولمين الحِجَاجية -» معطي، والضمان «إنّه انتُخب من النَّاس، بعبارة أدق: إنّه لم يستولِ علي الخلافة بالقوة، بل بالانتخابات الديمقراطية، ولو أنّ النَّاس اختاروا عليّاً لكان مطيعاً، ومحترماً لرأيهم».

(يا ابن الخطاب). (يا) حرف نداء «يُنادي بها القريب توكيداً»(3) حتي يُنزل

ص: 202


1- تاريخ الطبري: 3/428.
2- اُنظر: المصدر نفسه:: 3/428- 429.
3- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 4/447.

القريب منزلة الغافل وإن كان منتبهاً(1)؛ وهذا الأسلوب استعمله عمر بن الخطاب بحجته المذكورة آنفاً بقوله: (يا حُسَين)، وردّه الإمام الحُسَين (عليه السلام) عليه.

(فأيّ النَّاس أمّرك علي نفسه قبل أن تؤمِّر أبا بكر علي نفسك؛ ليؤمّرك علي النَّاس بلا حجّة من نبي ولا رضا من آل مُحَمَّد؟!)، ابتدأ الإمام هذا القِسم من الحِجَاج بالاستفهام الإنكاري،والاستفهام من أقوي أفعال الكلام الإنجازية المباشرة حجاجاً، ويستمد قوته الحِجَاجية من القصد المضمر فيه، وخرج للتقرير و«يأتي الاستفهام للتقرير عندما يُراد به الدلالة علي أنّ المستفهَم عنه واقع مستقر معلوم عند من يتجه إليهم الخطاب»(2)، والاستفهام هنا أدي وظيفة تداولية، بخروجه إلي وصف الكيفية التي انتقلت بها السلطة إلي عمر بن الخطاب، وهذا الكلام مرّ تفصيل القول فيه، وكأنّ قول الإمام (عليه السلام) هذا جاء مؤكداً لما مرّ ذكره، ولو نظرنا إلي هذا الكلام استناداً إلي نظرية تولمين نجد أنّ هذا القول يمثّل معطي، والضمان: من كان يملك حجّة من نبي، ورضا من آل محمد أولي بولاية أمر المؤمنين. ويمكن توضيح ذلك بالمخطط الآتي:

المعطي (...ليؤمّرك علي النَّاس ------ (علي بن أبي طالب أولي بولاية أمر المؤمنين)

النتيجة المضمرة بلا حجّةمن نبي ولا رضا من آل مُحَمَّد؟!)

الضمان (من كان يملك حجّة من نبي، ورضا من آل محمد أولي بالولاية)(ليؤمّرك): (اللام) من الروابط المدرجة للنتائج تفيد التعليل، ربط بها الإمام الحُسَين (عليه السلام) بين الحجّة (تؤمّر أبا بكر علي نفسك)، والنتيجة (يؤمّرك علي النَّاس بلا

ص: 203


1- اُنظر: المصدر نفسه: 4/447 هامش(2).
2- الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة، لابن قتيبة دراسة تداولية: (أطروحة دكتوراه) 308.

حجّة من نبي، ولا رضا من آل مُحَمَّد)، و «تعدّ هذه العلاقة من أبرز العلاقات الحِجَاجية وأقدرها علي التأثير في المتلقي، وهي في حقيقة الأمر ضربٌ مخصوصٌ من العلاقات "التتابعية"؛ إذ يحرص المتكلّم علي ربط الأفكار، والوصل بين أجزاء الكلام [من] دون الاكتفاء بتلاحق عادي بينها، وتتابع طبيعي يجعل الأحداث والأفعال أو الأفكار والأحكام متسلسلة متجاوبة، بل يعمد إلي مستوي أعمق من العلاقة، فيجعل بعض الأحداث أسباباً لأحداث أخري»(1).

وممّا ينبغي الوقوف عنده في هذا القِسم من الكلام أنّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) ابتدأه بالاستفهام الإنكاري؛ «ليفرض علي المخاطب به إجابة محددة فيتم بذلك توجيه دفة الحوار»(2) الوجهة التي يريدها هو (عليه السلام)، فضلاً عمّا في هذا الأسلوب من نفي، وهذا الأسلوب الاستفهامي التقريري يجعل المخاطَب يُفكر، ويراجع نفسه، ثم يجدها في ضيقٍ وحرجٍ، فلا يجد حجّة يدافع بها عن نفسه؛ لذلك يركن إلي السكوت، وبهذا الأسلوب الحِجَاجي جعل الإمام الحُسَين (عليه السلام) المخاطَب في موقفٍ حرجٍ، زد علي ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) لم يعتمد هذا النوعمن الحِجَاج لو لم يكن واثقاً منه ثقة تامة، فعندما ألقي علي المتلقي هذه الحجّة كان مدركاً تمام الإدراك أنّ المتلقي لا يقدر علي ردّها، لأنّ هذا الأسلوب الاستفهامي التقريري يكون «أوقع في النفس، وأدلّ علي الإلزام... وذلك لما فيه من حجّة دامغة»(3)، فضلاً عمّا في هذا الأسلوب من دلالة علي التعجب. وبهذا الأسلوب الاستفهامي الحِجَاجي الذي عدل فيه الإمام الحُسَين (عليه السلام) من النفي إلي الإثبات جعل المتلقي يلتزم الصمت، ولم يأتِ بأيّ حجّة أخري، ثمَّ إنّ

ص: 204


1- الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 327.
2- الحجاج في القرآن: 427.
3- البلاغة فنونها وأفنانها: 190.

النفي في قوله: (بلا حجّة من نبي ولا رضا من آل مُحَمَّد) قلّص الإمكانات الحِجَاجية، وحصرها بأنّ الخلافة ينبغي أن تكون بحجّة كأن تكون بآية قرآنية نزلت علي النبي (صلي الله عليه و آله)، أو بوصية، أو نحو ذلك. وهذا ما جعل النفي يزيد القوة الحِجَاجية في التوجيه الحِجَاجي نحو النتيجة المضمرة (علي بن أبي طالب أولي بهذا الأمر)، كما مثّل ردّ فعل علي حجّة عمر أنّ النَّاس هم الذين أمّروه، فأهل البيت (عليهم السلام) من النَّاس، وهم أولي بهذا الأمر من كلّ النَّاس، ولم يأمّروه علي أنفسهم!

(فرضاكم كان لمُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) رضيً؟ أو رضا أهله كان له سخطاً؟!) هذا السؤال الإنكاري التقريري جاء مؤكداً للسؤال السابق، وممّا ينبغي الوقوف عنده في هذا القول أنّ الإمام اعتمدفيه علي حجّة شبه منطقية، وهي تقنية التناقض، تلك التقنية التي ذكرها بيرلمان في نظريته، ويُقصد بها وجود قضيتين إحداهما تنافي الأخري، فرِضا النبي مُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) رضا أهل بيته (عليهم السلام)، وهذا يقتضي أنّ سخط أهل البيت يُسخط النبي (صلي الله عليه و آله) . وتأمير النَّاس لأبي بكر، ولعمر بن الخطاب إن كان يسخط أهل البيت فهذا يعني إسخاط النبي، ومن الأدلة النقلية التي تؤيد ذلك قول النبي (صلي الله عليه و آله) في الحسن والحُسَين: «هذان ابناي فمن أحبّهما فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»(1). كما أنّ المرور من المفرد المخاطب (عمر بن الخطاب) إلي الجمع الغائب (فرضاكم) من دون تحديد يجعل في الحوار تلميحاً لا يخص المتلقي فحسب، بل تنسحب معانيه إلي كلّ من أسهم بذلك من النَّاس، متجاوزاً أمر الله ورسوله.

(أما والله لو أنَّ للسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يعينه المؤمنون، لما تخطيت رقاب آل مُحَمَّد)، (أما): حرف استفتاح يؤتي به للتنبيه. (والله): قسم، وهو أسلوب

ص: 205


1- الجامع الكبير: 6/115؛ واُنظر: سير أعلام النبلاء: 3/284؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/151.

إنشائي يؤتي به للتوكيد؛ ولتثبيت الشيء في النفس، وتقويته، والقسم أقوي أنواع التوكيد؛ «نظراً لما فيه من وقعٍ بليغ تهتز له النفوس، وتنقاد له انقياداً، وهذا غاية ما يرمي إليه المرسل، أي التأثير في المتلقي، والهدف من استعمال القسم... تأكيد القول، ولفت أنظارالسامعين إلي أهمية ما يُقال، وأنّه جديرٌ بالتفكير، والإصغاء»(1)، كما إنّ ذكر الله سبحانه وتعالي يُضفي علي الكلام ظلالاً من القداسة، وقوة في المعاني. (لو) يفيد تقييد الشرط بالزمن الماضي، وهو حرف وجوب لامتناع في هذا الموضع؛ لأنّ جوابها جاء منفياً، أي إنّ سبب تخطيه لرقاب آل محمّد يعود لعدم وجود آذان صاغية من المسلمين، ولعدم وجود فعل يعينه المؤمنون. (أنّ) حرف توكيد، وفائدة التوكيد في هذا الموضع تثبيت الحجج، وتقوية العلاقة الحِجَاجية بين عناصر الحِجَاج.

(وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله الأسماع) في هذا الكلام نجد حذفاً مقابلياً، ويُقصد بالحذف المقابلي: «أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيُحذف من واحدٍ منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه»(2)، وهو نوعٌ من الإيجاز، ومال إليه الإمام (عليه السلام) في هذا الموضع؛ لدلالة المذكور عليه، ولتوضيح ذلك يمكن صياغة هذا القول علي النحو الآتي: (وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، ولم ينزل في غيرهم، لا تعرف معجمه، وهم يعرفون معجمه، ولا تدري تأويله الأسماع، وهم يدرون تأويله)، وقال الدكتور عبد الله صولة عن الحذف المقابلي -الذي سمّاه ب-(الاحتباك): «علي أنّ هذا الكلام المحذوف ليس أي كلام. إنّه في معظم

ص: 206


1- تجليات الحجاج في الخطاب النبوي دراسة في وسائل الإقناع الأربعون النووية أنموذجاً (رسالة ماجستير): 155.
2- البرهان في علوم القرآن: 3/129.

الأحيان الحجّة التي يسكت عنها الكلام ويسقطها، عامِلاً مع ذلك بإحكام علي أن يعْثُرَ المتلقي عليها،يلتقطها ويجعلها حجته الخاصة»(1). أمّا النفي فيه فهو عامل حجاجي، قلّص الإمكانات الحِجَاجية، وزاد من القوة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، وساعد المتلقي في تحديد دلالة المراد من الكلام؛ ليلتقطها بنفسه، والإمام الحُسَين (عليه السلام) عندما قال ذلك لم يرد التهجم علي عمر بن الخطاب، بل كان ذلك حقيقة توثقها كتب التفسير، إذ رُويَ عن عمر بن الخطاب أنّه قال: «أيها النَّاس ما إكثاركم في صُدُق النساء. وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما الصّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوي عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفنّ ما زاد رجل في صداق امرأة علي أربعمائة درهم. قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت النَّاس أن يزيدوا في مهر النساء علي أربعمائة درهم؟ قال: نعم فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول: «وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ» (2) الآية؟ قال: فقال: اللهم غفراً,، كل النَّاس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر، فقال: إنّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن علي أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطيمن ماله ما أحب»(3). ومن ذلك أيضاً إنّه عندما قرأ قوله تعالي: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا» (4) قال: «كلّ قد عرفنا فما الأبّ؟ ثم رفض عصاً كانت بيده، وقال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب،

ص: 207


1- الحجاج في القرآن: 417.
2- سورة النساء: آية20.
3- تفسير القرآن العظيم: 2/243-244؛ وتنظر الآية: في سورة النساء: 20.
4- سورة عبس: آية31.

والا فدعوه»(1)، في الوقت الذي كان يقول فيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «سلوني عن كتاب الله؛ فإنّه ليست آية إلا وقد عرفت أبليلٍ نزلت أم بنهار، في سهلٍ أو في جبلٍ»(2). (المخطئ والمصيب عندك سواء)، (عندك سواء) قدّم الظرف(عندك) علي الخبر (سواء) للاختصاص به، لأنّه المقصود بالحِجَاج.

ولم يستطع ردّ هذه الحجج (فنزل عمر مغضباً)، بهذه النتيجة تجسدت القوة الإنجازية لفعل كلام الإمام الحُسَين (عليه السلام) المباشر (انزل) الذي ذكره في بداية حجاجه.

ومن الظواهر الحِجَاجية التي امتاز بها هذا النصّ الحِجَاجي:

العطف ولاسيما العطف ب-(الواو): فقد أدي العطف ب-(الواو) في هذا الحِجَاج وظيفة حجاجية كبيرة، فبواسطته استطاع الإمام الحُسَين (عليه السلام) أن ينقل المتلقي من صورة حجاجية1. إلي أخري، فضلاً عمّا فيه من دلالة علي الاشتراك في الحكم، وبه وضّح الإمام (عليه السلام) مقاصده؛ ليضمن به التأثير في المتلقي.

2. التنوّع في الضمائر: فقد خلق التنوع في الضمائر حركية في الحوار، وجاء نابضاً بالحياة،بعيداً عن الرتابة، فالخطاب كان موجهاً إلي المفرد المخاطب، ثمّ التفت فيه الإمام (عليه السلام) إلي الجمع (وويل للمنكرين حقنا أهل البيت)، وفي المقطع الثاني بدأ بالمفرد المخاطب، ثمّ التفت إلي الجمع (فرضاكم كان لمُحَمَّد...)، ثمّ عاد إلي المفرد المخاطب (لما تخطيت).

ص: 208


1- الكشاف: 6/317-318.
2- جمل من أنساب الأشراف: 2/351.

3. التنكيت، ويُقصد به: «أن يقصد المتكلّم إلي شيءٍ بالذكر [من] دون غيره ممّا يسد مسده؛ لأجل نكتة في المذكور، ترجح مجيئه علي سواه»(1). فالنكتة في عدول الإمام الحُسَين من اسم العلم (محمد) إلي (رسول الله) في قوله: (أبي رسول الله)؛ لإضفاء صفة المهابة علي نفسه، إذ أراد الإمام الحُسَين (عليه السلام) بذلك أن يقول: إنّي آمرك بالنزول عن المنبر؛ بوصفي ابن رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وكذلك الحال في العدول عن ذكر لفظ (المسلمين) إلي (النَّاس) في قوله: (له في رقاب النَّاس البيعة)؛ فالنكتة من ذلك التعميم؛ لأنّ رسالة النبي (صلي الله عليه و آله) نزلت للبشرية جمعاء، ومَنْ يخلفه في ولاية أمر المؤمنين يكون خليفة الرسول لجميع النَّاس. و كذلك لفظ (كتاب) غير المعرف ب-(أل) في قوله: (وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم) بدلاً من (القرآن الكريم) النكتة فيه إضفاء صفة العموم علي القرآن، وغيره من الأحاديث القدسية.

وقال الدكتور عبد الله صولة: «يمكن أن نصوغ مؤقتاً قاعدة في التنكيت،فنقول: إنّه يعدل عن اللفظ (ب) إلي اللفظ (أ)؛ لِكَون (أ) أقدر علي توجيه الملفوظ نحو النتيجة التي تُراد منه، ف-(أ) ذو طاقة حجاجية أرقي من (ب)، ويكون من خصائص اللفظين:

* أنّ (أ) لفظ كلي (اسم جنس مثلاً)، و(ب) لفظ جزئي (اسم علم مثلاً).

* أنّ (أ) لفظ تقويمي، و(ب) لفظ محايد»(2).

ص: 209


1- بديع القرآن، ابن أبي الأصبع المصري (654ه-)، تقديم وتحقيق، حفني محمد شرف، نهضة مصر، مصر (1957م): 212.
2- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة (أو الحجاج)، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/41.

1. التقابل الدلالي بين بعض العبارات والألفاظ، فالحجّة فيها تعظيم القضية، والزيادة من التأثير في المتلقي. وذلك في أقواله (عليه السلام): (إنّه لهادٍ، وأنا مهتدٍ به)، و(عرفها النَّاس بقلوبهم وأنكروه بألسنتهم)، و(المخطئ والمصيب عندك سواء).

2. التوجيه: ويُقصد به توجيه المتلقي وجهة معينة في الخطاب، ويسد عليه كلّ الثغرات الحِجَاجية التي تسمح له باختيار حججه، وذلك بغلق الخطاب، وعدم تركه مفتوحاً علي جهات أُخر، فالوجهة الحِجَاجية - التي دفع الإمامُ (عليه السلام) المتلقيَ - ليسير عليها الاعتراف بأنّ ولاية أمر المؤمنين يجب أن تُنقل إلي أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويُعد التوجيه «من أوكد خصائص النصّ الحِجَاجي... فكلُّ ما فيه يوجّه المتلقي إلي وجهة واحدة [من] دون سواها، وهي نتيجة الخطاب أو غايته القصوي»(1).

3. الأنموذج: النبي محمد (صلي الله عليه و آله)، وآل بيته (عليهم السلام) الأنموذج الأمثل للنَّاس، فينبغي أن يأتمروا بأمرهم، وينتهوا عمّا ينهون عنه، ومَن يُخالف ذلك له الويل، والعذاب الأليم.

نخلص ممّا تقدّم إلي أنّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) استعملأساليب متنوعة لإقناع المتلقي، غلب عليها التوكيد؛ بوصف المتلقي كان منكراً جاحداً لحقِّ أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخلافة.

ص: 210


1- دراسات في الحجاج قراءة لنصوص مختارة من الأدب العربي القديم، الدكتورة سامية الدريدي الحُسني، (عالم الكتب الحديث، أربد) و(جدارا للكتاب العالمي، عمّان)، الطبعة الأولي (2009م): 43-44.

خطبته التي بددت آمال معاوية في كسب البيعة ليزيد

اشارة

عندما أراد معاوية أن يجعل السلطة في البيت الأموي اعتمد أولاً علي فنِّ الإقناع، فقَدِمَ إلي المدينة المنورة، وأرسل بطلب الإمام الحُسَين (عليه السلام)، وعبد الله بن عباس، وجعل لكلٍّ منهما وسادة، وجمع الناس، وخطب خطبة جاء فيها: «... وقد علِم الله ما أحاول به في أمر الرعية، من سد الخلل، ولمّ الصدع بولاية يزيد... وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد علي المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجَّح بالصم الصلاب... فمهلاً بني عبد المطلب، فأنا وأنتم شعباً نفع وجد، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما... واستغفر الله لي ولكما»(1). ودعاهما في خطبته هذه إلي أن يتأسُّوا برسول الله (صلي الله عليه و آله)؛ إذ قَدَّمَ عمرو بن العاص علي أبي بكر، وعمر بن الخطاب في غزوة ذات السلاسل، واصفاً إياه بأنّه لم يقارب القوم ولم يعاندهم، ونحو ذلك، وبعدما أنهي خطبته قام ابن عباس ليخطب، فقال له الإمام الحُسَين (عليه السلام): علي رسلك، أناالمراد ونصيبي من التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحُسَين (عليه السلام): «فحمد الله، وصلي علي الرسول، ثمّ قال: أمّا بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل، وإن أطنب في صفة الرسول صلي الله عليه وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله، من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات، هيهات، يا معاوية: فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضّلت حتي أفرطت، واستأثرت حتي أجحفتَ، ومنعت حتي محلت، وجزت حتي جاوزت،ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقه بنصيب، حتي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله،

ص: 211


1- الإمامة والسياسة: 1/208.

وسياسته لأمة مُحَمَّد، تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنَّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمَّا كان ممَّا احتويته بعلمٍ خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه علي موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحقاً في ظلم، حتي ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم علي عمل محفوظ في يوم مشهود، وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجّة بذلك، ورده الإيمان إلي النصف؟! فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتي أتاك الأمر يا معاوية من طريق كانقصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي عليه وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك؟! ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له؟! وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثُهم حتي أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال صلي الله عليه وسلم: (لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري). فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟! أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً، وحولك من لا يؤمَن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟! وتتخطاهم إلي مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقي بها في آخرتك. إن هذا لهو الخسران المبين. وأستغفر الله لي ولكم.

قال: فنظر معاوية إلي ابن عباس فقال: ما هذا يابن عباس؟ ولما عندك أدهي وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، وفي البيت

ص: 212

المطهَّر، فالُه عمّا تريد، فإن لك في الناس مقنعاً حتي يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين. فقال معاوية: أعوَد الحلم التحلم، قال: وخيره التحلم عن الأهل. انصرفا في حفظ الله»(1).

قبل البدء بتحليل هذه الخطبة أري من المناسب إعطاء صورة موجزة عن المقام الذي دارت فيه، فالمقام - علي ما يبدو - مليء بالانفعال، انفعال لأمور الدين والدنيا، وسياسة المنافقين في إدارة أمّة محمد (صلي الله عليه و آله) لكنّه في الوقتنفسه مقام وعي في ضرورة تدارك الأمور قبل أن ينفلت زمامها، وتدبّر الأوضاع قبل فسادها، والسبيل إلي ذلك رفض دعوة معاوية في توريث يزيد الحكم، وتسلّطه علي المسلمين؛ وذلك بتأجيج المسلمين علي معاوية حتي يعدل عمّا جاء من أجله، ورفض دعوته قبل انتشارها في الأمصار الإسلامية. فوجد الإمام الحُسَين (عليه السلام) أنّ من واجبه أن يُقنع النّاس بفساد يزيد، وفساد نية أبيه في توريثه أمر المسلمين، فالمقام مقام حكمة وانفعال في آنٍ واحد، فكان يحتاج إلي خطبة تُبَلْسِمُ الجراح، وتفضح المستور في خبايا الظلام، فجاءت هذه الخطبة موجزة في حجمها، متراصة في دلالاتها، واسعة في تلميحاتها؛ وهذا هو المراد من الخطابة؛ ليبعد الخطيب عن جمهوره آفتي النسيان، وعدم الانتباه.

ولكي يكون النص الحِجَاجي مؤثراً بالمتلقي لابد أن يُبني علي وفق أسس علمية، ومن أهم المقومات التي بني عليها الإمام الحُسَين (عليه السلام) خطبته هذه:

أولاً: المقدمة

«فحمد الله، وصلي علي الرسول ثمّ قال: أمّا بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل، وإن أطنب في صفة الرسول صلي الله عليه وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به

ص: 213


1- الإمامة والسياسة: 1/208-210.

الخلف بعد رسول الله، من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت).

(حمد الله، وصلي علي الرسول) الحمد والثناء من شروط الابتداء بالمقدمة في الخطابة العربية؛ فالنفوس تتوق إلي الثناء علي الله (عزوجل)، والصلاة علي النبي محمدٍ (صلي الله عليه و آله)، والمطالع والمقدمات تستميل السامع، وتجذبه لسماع الخطاب، ثم تزج به في الموضوع، (أمّا بعد يا معاوية)، (أمّا) «حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد»(1)، وغالباً ما تأتي بعده (بعد) في مطالع الخطب، وفيه دلالة علي الانتقال من المقدمة إلي الموضوع. (يا معاوية) نداء، الغاية منه تنبيه معاوية، وإيقاظه من غفلته. (وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله، من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت). (قد) حرف يدلّ علي أنّ ما بعده كان متوقعاً، كما يدلّ علي تقريب الماضي من الحال، فضلاً عن إفادته التحقيق والتوكيد»(2).

ثانياً: الموضوع
اشارة

ويُقصد به القدرات الحِجَاجية التي يعرض فيها المحاجج مجموعة من الحجج، تربطها مجموعة من الروابط والعوامل الحِجَاجية، مرتَّبة علي وفق سلمٍ حجاجي داخل سياق لغوي، يهتم فيه المحاجج بالربط بين الجمل والعبارات، ويزينها بالمحسنات البلاغية؛ ليزيد من تأثيرها في المتلقي، فلكي يكون النص مقنعاً لابدّ أن تتلاحم فيهالصور البلاغية بالحجج العقلية؛ فالحجج العقلية تخاطب عقل المتلقي، والصور البلاغية تخاطب قلبه، وتحرك مشاعره.

ص: 214


1- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 1/352.
2- اُنظر: المصدر نفسه: 2/533، 534، 544.

ويُقسّم موضوع خطبة الإمام الحُسَين (عليه السلام) هذه علي خمسة أقسام هي:

القسم الأول

النتيجة النهائية المنشودة من الخطبة برمتها (هيهات، هيهات، يا معاوية) قدّمها الإمام الحُسَين (عليه السلام) في هذه الخطبة، ثمّ ساق الحجج؛ لتصبّ كلّها في خدمتها. و(هيهات) اسم فعل بمعني (بعد) كرره للتوكيد، فضلاً عن التحسّر، والتأوه اللذين يكتنفانها، و(هيهات) فعل كلامي إنجازي مباشر بيّن فيه الإمام الحُسَين (عليه السلام) موقفه من مبايعة يزيد، فضلاً عمّا في هذا التكرار من تهويلٍ، وتفخيمٍ أراد منه الإمام (عليه السلام) أن يجعل مقدمة الخطبة (النتيجة) خطيرة في تكذيب معاوية، ف«هذه البنية التكرارية تحاول أن تتفادي توقعات المتلقي؛ لأنّها تقوم علي مفاجأته بإحداث توافق شكلي، ومضموني بين البدء والختام»(1).

(يامعاوية) تكرار أيضاً، الغاية منه تكرار التنبيه الذي ذكره في المقدمة؛ ليؤكد أهمية القول، ويلفت انتباه معاوية لما سيُلقي عليه من حجج، والتكرار لا يُستعمل إلا للأمر المهم، ويُعد من الروافد الأساسية التي تُستعمل في رفد الحجج؛ كما يُعد عاملاً مهماً في التدليل علي المعني، وتوجيه الخطاب الوجهة الحِجَاجية التي يريدهاالمحاجج، فضلاً عمّا فيه من زيادة في العناية بالشيء وتوكيده.

القسم الثاني

حجج التعريض بمعاوية، وهي: «فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السُّرج، ولقد فضّلت حتي أفرطت، واستأثرت حتي أجحفتَ، ومنعت حتي

ص: 215


1- البلاغة العربية - قراءة أخري، د. محمد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، الطبعة الأولي (1997م): 364-365.

محلت، وجزت حتي جاوزت ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقه بنصيب، حتي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل».

(فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السُّرج) في قوله هذا قوة فعل كلامي،يمثلها الاستلزام الحواري المراد منه التعريض بمعاوية، واستعمل الإمام (عليه السلام) هذا الأسلوب الحِجَاجي في هذا الخطاب؛ لما له من وقعٍ بالغٍ في المتلقي، بوصفها أمثالاً معروفة الدّلالة، وفضلاً عن التعريض ضمّ هذا القول بين طياته استعارة تصريحيّة. فقد شبّه الإمام (عليه السلام) ظلمة الليل بالفحمة، ثمّ حذف المشبه، وصرّح بالمشبه به. وفضلاً عن الجانب الجمالي الذي امتازت به هذه الاستعارة، من خلال تشبيه ظلمة الليل بالفحمة، أضفت علي الخطاب قوة حجاجية؛ ليكون أقوي دلالة، وأكثر تقريباً للمعني، وأقرب للفهم، وأكثر تأثيراً، من (فضح الصبح فحمة الدجي)، ثم إنّ الذي يُنعم النظر أكثر يجد أنّ المراد من هذا الكلام دلالة أعمق من ذلك كلّه، فقد شبّه نيات معاوية بليلٍ حالك السواد، كانت تستتر تحته خفايا مَكرِه،وبدعوته هذه لمبايعة يزيد افتُضحت تلك النيات، واتضح مَكره؛ لعدم إيفائه بالعهد الذي قطعه علي نفسه بصلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)؛ بأنّه لا يجعل الخلافة توريثاً في بني أميّة، وإنّها تنتقل بعده إلي الإمام الحسن (عليه السلام) (1)، فهذا الكلام فيه من التلميح ما يُراد منه لفت انتباه المتلقي إلي الوقوف عنده، والبحث عن كنهه، وهذه المقولة لاتمثل استعارة تمتاز بجانبها الجمالي فحسب، بل فضلاً عن قوتها الجمالية والحِجَاجية فقد مثّلت نتيجة عكسية لحجاج معاوية في خطبته، التي قطع لأجلها المسافات من الشام إلي المدينة، وفي (الشمس) إيحاء لطيف لنور الهداية الذي بهر كلّ نور، فالحاجة إلي الاعتراف بالحقيقة صارت ملحّة، فلا داعي للتحايل، وقد

ص: 216


1- اُنظر: الإمامة والسياسة: 1/184.

افتُضحت النيات، وبانت الخبايا.

(ولقد فضّلت حتي أفرطت، واستأثرت حتي أجحفتَ، ومنعت حتي محلت، وجزت حتي جاوزت، ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقه بنصيب، حتي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل)،(حتي) رابط حجاجي يُستعمل لإدراج الحجج القوية التي تزيد من فعل التوجيه الحِجَاجي في خدمة النتيجة، كما أسهم هذا الرابط في تساند الحجج وتساوقها في خدمة النتيجة؛ لما امتاز به في تراتبالحجج، بالانتقال من الحجّة الأضعف إلي الحجّة الأقوي، وتكون الحجّة التي بعده مؤكدة لما قبلها؛ ولذا ذهب الحِجَاجيون إلي أنّ الحجج المشتملة علي هذا الرابط لا تقبل الإبطال(1)، وكان للرابط (و) الدور الحِجَاجي الفاعل في الربط بين الحجج، ونقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري، كما أفاد منه الإمام (عليه السلام) في توضيح مقاصده، بغية التأثير في المتلقي، وإشراكه في الحكم.

(حتي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل) في هذا القول تلميح إلي أنّ معاوية لم يكن صادقاً، منصفاً في خطبته، والتلميح أقوي حجاجاً من التصريح؛ لحاجة المعني فيه إلي تدّبر وتفكّر من المتلقي؛ إذ عليه إخضاع هذا القول إلي عملية ذهنية عقلية؛ لإدراك العلاقة الدلالية التلازمية، ما بين المعني السطحي الظاهر والمعني الخفي الذي يريد الإمام التوصل إليه، ممّا يفضي هذا الأسلوب الحجاجي بالمتلقي التوصّل إلي مراد الإمام (عليه السلام) بنفسه، وهذا التوصّل لمبتغي الإمام (عليه السلام) يجعل تقبّل الحجّة والاقتناع بها أقوي من التصريح. وهكذا استطاع الإمام (عليه السلام) أن يُشرك جمهوره في الحِجَاج، ويزجّ بهم في خضم الأحداث، فضلاً عمّا تحمله هذه العبارة من

ص: 217


1- اُنظر: اللغة والحِجَاج: 73؛ والحِجَاج في الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، ( رسالة ماجستير): 116.

جمالٍ فيالصياغة اللغوية، وممّا يلفت الانتباه في هذا الحِجَاج الصياغة اللغوية في الترادف بين (حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل)(1) وجيء به لتعظيم الأمر، وليزيد به القوة الحِجَاجية لتكون أقوي تأثيراً بالمتلقي.

القسم الثالث

الحجج التي استند إليها في ردِّ مغالطات معاوية في امتداح يزيد، وهي:

(وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة مُحَمَّد، تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنَّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمَّا كان ممَّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه علي موقع رأيه؛ فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضربالملاهي تجده باصراً».

اعتمد الإمام الحُسَين (عليه السلام) في هذا القِسم من الحِجَاج علي تقنية الفصل الحِجَاجي، وهي من التقنيات التي استند إليها بيرلمان في نظريته الحِجَاجية، والأساس الذي تقوم عليه هذه النظرية ثنائية الظاهر والحقيقة. فالظاهر ما قاله معاوية في وصف يزيد «وقد أصبت من ذلك عند يزيد علي المناظرة والمقابلة، ما أعياني

ص: 218


1- «الفرق بين النصيب والحظ: إنّ النصيب يكون في المحبوب والمكروه يقال: وفاه الله نصيبه من النعيم أو من العذاب، ولا يقال: حظه من العذاب إلا علي استعارة بعيدة؛ لأنَّ أصل الحظّ هو ما يحظُّه الله تعالي للعبد من الخير، والنصيب ما نُصب له ليناله سواء كان محبوباً أو مكروهاً، ويجوز أن يقال: الحظّ اسم لما يرتفع به المحظوظ، ولهذا يُذكر علي جهة المدح، فيقال: لفلان حظّ، وهو محظوظ، والنصيب ما يصيب الإنسان من مقاسمة سواء ارتفع به شأنه أم لا؛ ولهذا يقال: لفلان حظّ في التجارة، ولا يقال: له نصيب فيها؛ لأنّ الربح الذي يناله فيها ليس عن مقاسمة)). الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري (ت395ه-)، تحقيق محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة (1418ه- - 1997م): 165.

مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنّة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجّح بالصم الصلاب»(1)، والحقيقة تمثل جوهر يزيد في«استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي»، وبهذه التقنية استطاع الإمام الحُسَين (عليه السلام) إيقاظ المتلقي من غفلته وانخداعه بيزيد، وغايته من الاستناد إلي هذه التقنية الحجاجية تسليط الضوء علي مغالطات معاوية من جهة، ووصف الصورة الحقيقية ليزيد من جهة أخري. وذكر عباس محمود العقّاد صفات يزيد التي اتصف بها علي وجه الحقيقة؛ إذ قال: «إنّ معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتي يورّث المُلك ولده من بعده، وليس هو من أهل الرأي ولا هو من أهل الصلاح... ولكنّه فتي عربيد، يقضي ليله ونهاره بين الخمور والطنابير، ولا يفزع من مجالس النساء والندمان إلّا ليهرع إلي الصيد، فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة والبوادي والآجام، لايبالي خلال ذلك تمهيداً لملك، ولا تدريباً علي حكم، ولا استطلاعاً لأحوال الرعية الذين سيتولاهم بعد أبيه»(2). وهذه حقائق فعلية، وأحداث معاينة لا يشك المتلقي فيها، وذكرها في النص له طابع حجاجي، و«كان الإمام يبتغي من وراء ذلك تبصير الجماهير بخروقات السلطة الأموية»(3).

(تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمَّا كان ممَّا احتويته بعلم خاص)، هذه الحجج سارت باتجاه حجاجي واحد؛ خدمة للنتيجة، وهي: (وقد دلّ يزيد من نفسه علي موقع رأيه) والمعني الإخباري فيها واحد، لكن الفارق يكمن في المعني الحِجَاجي، فهذه العبارات مترادفة، «ومن مزايا المترادفات أنّها تعين علي إفراغ المعني في قوالب متعددة، ونظمها في سلك من البلاغة، ولا تنكر مزاياها في النظم والنثر،

ص: 219


1- اُنظر: الإمامة والسياسة: 1/208.
2- أبو الشهداء الحُسَين بن علي، عباس محمود العقّاد، نهضة مصر، مصر (د.ت): 9.
3- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير): 86.

فبتعددها يسهل تخير ما طابق المعني، فيأتي الكلام جزلاً بليغاً، ويعدّ الترادف مظهر ثراء في اللغة، فهو حشد لغوي تترادف فيه الألفاظ، وتتوالي علي المعني الواحد»(1).

(فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضربالملاهي تجده باصراً)، (فخذ) فعل كلام إنجازي مباشر، والغاية منه إلزام المخاطَب بفعل شيءٍ في المستقبل، وهو إنّك إذا أردت أن تصف يزيد فعليك أن تصفه بما فيه من صفات: (استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي)، (باصراً) اسم فاعل وهو وصف دال علي بصر يزيد بهذه الأمور خاصة، واسم الفاعل وصف يدرجه المحاجج في حجاجه؛ ليسوّغ له إصدار الحكم الذي يريد، ومن ذلك يدرك المتلقي حقيقة يزيد المحجوبة في خطبة أبيه معاوية.

القسم الرابع

في هذا القسم حاجج الإمام الحُسَين (عليه السلام) معاوية من أجل ثنيه عمّا قَدِمَ من أجله، فضلاً عمّا فيه من تعريض. ويضم الحجج الآتية: «ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتي ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدّم علي عمل محفوظ، في يوم مشهود، وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجّة بذلك، ورده الإيمان إلي النصف؟! فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتي

ص: 220


1- الفروق اللغوية: (تمهيد المحقق): 17.

أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار».

(ودع عنك ما تحاول)، (دع) فعل كلام إنجازي مباشر، بيّن فيه الإمام (عليه السلام) قصده في التحذير من مغبّة ما يدعو إليه معاوية، وقدّم الجار والمجرور (عنك) علي المفعول به (ما) لما في هذا العدول من دلالة علي الاختصاص والقصر علي معاوية.

(أنت لاقيه) قدّم الفاعل علي اسم الفاعل؛ للدلالة علي قصر ذلك علي معاوية، وحصره به. (فو الله) أسلوب إنشائي للتوكيد، بل هو أقوي أنواع التوكيد، والغاية من استعماله هنا غلق الأبواب بوجه معاوية، وتوجيه المتلقي إلي التنبّه إلي مغالطاته، جاعلاً الإمام (عليه السلام) بذلك كلمته هي العليا، كما أفاد منه في زيادة القوة الحِجَاجية، وأزال به الشكوك، وثبّت القول الذي يليه. (ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتي ملأت الأسقية) (حتي) رابط حجاجي يُستعمل لسوق الحجج، ويفيد انتهاء الغاية. (ملأت الأسقية) الأسقية: جمع سقاء وهو «ظَرْفُ الماءِ»(1)، وهذا القول كناية، تجعل المتلقي يغور في دلالة اللفظ الظاهر للوصول إلي المعني الذي يقصده الإمام (عليه السلام)، بهذا الأسلوب الحِجَاجي. ومن سياق الكلام، وقرائن الحال يتوصل المتلقي إلي أنّ المكني عنه في هذا الاستلزام الحواريهو كثرة كلام معاوية في ثنائِهِ علي ابنه يزيد بفضائلَ ليست فيه؛ وسبب عدول الإمام الحُسَين (عليه السلام) إلي هذه الكناية؛ بوصفها أقوي حجاجاً من التصريح إذ إنّ المتلقي يخضعها إلي عملية ذهنية عقلية؛ فيتوصل من ذلك إلي النتيجة بنفسه، وتوصّلُ المتلقي إلي مراد الإمام يجعله يقتنع بحجج الإمام (عليه السلام) . وقد أشار إلي ذلك هادي سعدون؛ إذ قال: «فتثير لغة الإيحاء في المتلقي تأثيراً يفوق لغة التصريح، وهذا ما يهدف إليه الخطاب الحُسَيني القائم علي إثارة

ص: 221


1- لسان العرب: مادة (سقي)14/390.

المعني في نفس المتلقي»(1).

(وما بينك وبين الموت إلا غمضة) حصر في قوله هذا الفعالية الحِجَاجية في وجهة حجاجية واحدة هي إنّ دنياك يا معاوية قد انقضت - وقصرها الإمام (عليه السلام) علي الغمضة للمبالغة -؛ والمراد من هذا القصر: لا يوجد أمامك يا معاوية فرصة أخري لتكفّر عن ذنوبك سوي هذه الفرصة، فاستفد منها علّها؛ تنفعك في آخرتك، وهكذا قيد الإمام الحُسَين (عليه السلام) الإمكانات الحِجَاجية، وقصرها علي هذه الفرصة الأخيرة؛ ليزيد من القوة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، وهذا يعني أنّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يدفع معاوية ليسلّم لهذه الحجّة.(فتقدم علي عمل محفوظ في يوم مشهود)، (فتقدم) فعل كلام إنجازي مباشر، فيه دلالة علي توبيخ معاوية، فضلاً عمّا فيه من تلميحٍ إلي قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَي وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»(2)، (وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ) في قوله هذا تلميح إلي قوله تعالي: «كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»(3)، والمعني: «فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين»(4)، ولا يوجد في ذلك الوقت منجي ولافوت(5)؛ ليزيد بهذه التلميحات من إقناع المتلقي من جهة، ويقوي حججه من جهة أخري، ويبطل حجج معاوية من جهة ثالثة؛ لما

ص: 222


1- التصوير الفني في خطب المسيرة الحُسَينية، هادي سعدون هنون، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، الطبعة الأولي (2011م): 107.
2- سورة هود: آية102-103.
3- سورة ص: آية3.
4- الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، دار الكتب الإسلامية، طهران (1402ه-): 17/191.
5- اُنظر: الكشاف: 5/242.

في كلام الله (عزوجل) من البهاء، والوقار، والبيان، وليكون شاهد صدق علي الأحداث، ومثَّلت اقتباساته هذه تناصاً، ومن فوائد التناص الإيجاز في اللفظ والعمق في الدلالة.

(ورأيتك عرضّت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً) في هذا القول قوة فعل، كلام مثلها الاستلزام الحواري؛ لما فيه من التلميح إلي تنكره للصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) .

(ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة) في قوله هذا عدول من المخاطَب المفرد (معاوية) إلي التكلّم،وعدول آخر من اسم العلم (محمد) إلي (الرسول)، وهذان العدولان أضفيا علي الخطاب عنصراً حجاجياً، أعمّ وأقرب إلي موضوع الخطبة؛ بوصف الإمام كان يحتج بأنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله) كان جدّه، وهذا يقتضي أنّ آل بيت الرسول (عليهم السلام) هم أولي النّاس بحمل الرسالة المحمدية.

(وجئت لنا بها) عدول من التكلّم إلي المخاطَب (معاوية)، أي إنّ سبب قطعك المسافات من الشام إلي المدينة؛ لطلب البيعة منّا ليزيد؛ لعلمك إنّا ورثة الرسول (صلي الله عليه و آله) . والتقديم والتأخير في (لنا بها) للاختصاص والحصر.

(أما حججتم به القائم عند موت الرسول). (الهمزة) للاستفهام التقريري التوبيخي، ويستمد الاستفهام قوته الحِجَاجية من القصد المضمر فيه، وهو من أقوي أفعال الكلام الإنجازية المباشرة حجاجاً. و(ما) نافية(1)، (حججتم به القائم عند موت الرسول) تقديم الجار والمجرور (به) علي المفعول به (القائم) للقصر والاختصاص، وفي هذا القول التفات من المخاطب المفرد (معاوية) إلي الجمع (بني أمية)، والغاية من هذه الالتفاتات هي أنّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يجعل المتلقي يعيش

ص: 223


1- اُنظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 1/349.

الأحداث كأنّها حقائق، وبها جعل الإمام الحُسَين (عليه السلام) المتلقي يصغي إليه بعد أن لفت انتباهه إلي حججه، وأوصل الإمام بها رسالة مفادها: إنّ بني أميةاحتجوا علي أبي بكر في أول توليه أمر المؤمنين، بأنّهم أولي منه بهذا الأمر، بوصفهم أقرب صلة رحم من رسول الله (صلي الله عليه و آله) .

(فأذعن للحجّة بذلك) الفاء عاطفة، دلّت علي قِصر الوقت الذي أذعن فيه أبو بكر للحجّة.

(فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل) الفاء عاطفة، دلّت علي قِصر الوقت الذي ركبوا فيه الأعاليل. فاستعمال الفاء العاطفة في هذين الموضعين فيه دلالة علي تقارب الأحداث. وهكذا نجد أن هذا الرابط (الفاء) استطاع به الإمام (عليه السلام) أن يلفت انتباه المتلقي إلي الصور المتسارعة في التنقل بين الأحداث، وهكذا أدت (الفاء) وظيفة حجاجية أخري، زيادة علي وظيفتها في الربط بين الحجج، وفضلاً عن ذلك فإنّ في هذا القول تناقضاً بين (حججتم، وركبتم) فما لبثوا أن حاججوا أبا بكر علي توليه أمر المؤمنين، فإذا بهم يركنون إلي الأعاليل، وفي ذلك تلميحٌ إلي انعدام المصداقية عند معاوية وعشيرته. والأعاليل: «العلل التي اعتل بها معاوية عند حديثه عن فضل يزيد»(1) شبّهها بالمطايا، ثمّ حذف المعني الحسيّ (المطايا) وأبقي المعني المجرد (الأعاليل)، وأراد من ذلك أن يجسر بين المعني الحسيّ والمعني المجرد، ويتضح ذلك للمتلقي بحركة فكريةمنتظمة، يفهم من خلالها أنّ معني المسند يختلف عن معني المسند إليه، فيعرف أنّ الإمام (عليه السلام) عمد إلي هذه الاستعارة؛ لثقته البالغة بأنّ الاستعارة في هذا الموضع من السياق تكون أبلغ من الحقيقة، وأقوي حجاجاً، وأكثر وقعاً وتأثيراً في المتلقي، فأراد الإمام (عليه السلام) من هذه الاستعارة أن

ص: 224


1- نثر الإمام الحُسَين (عليه السلام) دراسة بلاغية: ( رسالة ماجستير)38.

يلفت انتباه المتلقي إلي أنّ «معاوية وأتباعه يقترفون ما نهي عنه الشارع المقدس، ويبررون ذلك بعلّة، وعند التكرار يطرحون علّة أخري وهكذا»(1).

(وقلتم كان ويكون)، (كان ويكون) «كناية عن احتجاج معاوية بالمنسوخ بأنّه سبق، وأنّه كان أمرٌ(2) نافذاً»(3). وعمد الإمام (عليه السلام) إلي هذه الكناية في هذا الموضع؛ لأنّها أبلغ، وآكد، وأقوي حجاجاً من التصريح ل«أنّ كلّ عاقل يعلم إذا رجع إلي نفسه أنّ إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد وأبلغ في الدعوي، من أن تجيء إليها فتثبتها، هكذا سَاذَجاً غُفْلاً»(4)، فهذه الكناية عندما تقرع ذهن المتلقي تدفعه إلي البحث عن الدلالة التلازمية، ما بين معني اللفظ الظاهر والمعني الخفي، ومن ذلك يتوصل الإمام الحُسَين (عليه السلام) إلي إشراك المتلقي في النصّ الحِجَاجي؛ ليتوصلا معاً إلي أنّ معاوية كان يريد من خطبته أن يُفحم النّاس بأنّ المنسوخ قد سبق.(حتي أتاك الأمر يا معاوية). (حتي) رابط حجاجي يُستعمل لتساند الحجج. (يا معاوية) نداء الغاية منه إنزال معاوية منزلة الغافل، وفيه دلالة علي لفت انتباهه إلي أمرٍ غضّ الطرف عنه في خطبته. (من طريق كان قصدها لغيرك) في إشارة منه إلي أنّ المسلمين قد اجتمعت كلمتهم - بعد قتل عثمان بن عفان - علي رجلٍ يخلصهم من الفتنة فما وجدوا لذلك أهلاً غير عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؛ فبايعوه علي أن لا يخلفوا له أمراً، لكنّك يا معاوية أفدت من حجّة قميص عثمان الملطّخ بالدم، مع خصلة الشعر التي نتفها رجل مصري من لحية عثمان بن عفان؛ لترفعه بالشام وبه استطعت أن تؤثّر بعواطف الشاميين؛ فبايعوك خليفة عليهم(5).

ص: 225


1- بلاغة الإمام الحُسَين بن علي (عليه السلام) دراسة وتحليل: 2/33.
2- كذا، والصواب: كان أمراً نافذاً، اللهم إلا إذا كان يقصد من ذلك: وإنّه أمرٌ كان نافذاً، وهو بعيد.
3- بلاغة الإمام الحُسَين بن علي (عليهما السلام) دراسة وتحليل: 2/33.
4- دلائل الإعجاز: 72.
5- اُنظر: الإمامة والسياسة: 1/99.

(فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار) عدول من المخاطب المفرد إلي المخاطب الجمع (المتلقي المباشر - الناس من حوله -، وغير المباشر - النّاس إلي زماننا وما بعده -). ويستمد هذا القول قوته الحِجَاجية من التناص، ومن الاستلزام الحواري المستمد من التلميح إلي قوله تعالي: «...وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(1)، والمتلقي يفهم مراد الإمام من قرائن الحال، والسياق الذي ذُكرتْ به الخطبة. ومعني الآية الكريمة: «اتعظوا وفكروا فلا تفعلوا كمافعل هؤلاء؛ فيحل بكم ما حلّ بهم»(2). وما يلفت الانتباه في قوله هذا أنه أخرجه مخرج الحكمة التي تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية؛ ليوقظ المتلقي من سباته، وينقله إلي مجالٍ أرحب؛ ليعيد النظر في الكيفية التي انتقلت بها السلطة إلي معاوية، ثم كيف يريد معاوية أن يجعلها توريثاً في آل بني أمية، وأي توريث؟ ولمن؟ لفاسقٍ سكير عربيد.

القسم الخامس: حجاجه لردّ حجج معاوية بتولي عمرو بن العاص قيادة المسلمين، وضمّ الحجج الآتية: «وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي عليه وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك؟! ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له؟! وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثُهم حتي أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال صلي الله عليه وسلم: (لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري). فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟! أم كيف صاحبت بصاحب

ص: 226


1- سورة الحشر: آية2.
2- التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (ت460ه-)، تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولي (1409ه-): 9/559.

تابعاً، وحولك من لا يؤمَن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟!». (وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي عليه وسلم وتأميره له) عدل فيه من الجمع المخاطب إلي المفرد المخاطَب (معاوية)، و(أل) في(الرجل) للعهد، والمراد به عمرو ابن العاص. وهذا القِسم من الحِجَاج غلب عليه الطابع الإنشائي، الاستفهامي، التوبيخي؛ ليقلّص به الإمام (عليه السلام) الإمكانات الحِجَاجية، ويوجهها وجهة حجاجية واحدة، ويزيد من طاقتها الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، ويساعد المتلقي علي تحديد دلالة المراد من الكلام و«يري ديكرو وأنسكومبر أنّ الغاية من الاستفهام تتمثّل في أن نفرض علي المخاطَب به إجابة محددة، يمليها المقتضي الناشئ عن الاستفهام، فيتم توجيه دفّة الحوار الذي نخوضه معه الوجهة التي نريد، فالاستفهام يأتي في الكلام لإجبار المخاطَب علي الإجابة [عن السؤال علي] وفق ما يرسمه له البعد الاستفهامي الاقتضائي»(1)، وبهذا الأسلوب الحِجَاجي حصر الإمام الحُسَين (عليه السلام) معاوية في زاوية ضيقة؛ إذ فرض عليه إجابة محددة، بحسب ما أملاه عليه المقتضي الناشئ من السؤال التقريري المباشر، وبذا وجه الإمام الحُسَين (عليه السلام) الحِجَاج الوجهة التي أرادها، ففي قوله (عليه السلام): (وقد كان ذلك؟!) أراد من هذا السؤال محاصرة معاوية وإلزامه بإجابة محددة، وهي الإقرار بكذبه أمام النّاس، بأنّ الرسول (صلي الله عليه و آله) لم يؤمّر عمرو بن العاص علي المسلمين، وممّا يدلّ علي ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية: إنّ عمرو بن العاص قال عننفسه: إنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله)، أرسله إلي استنفار العرب إلي الشام، فلما وصل إلي ماء السلسل خاف؛ فطلب من الرسول أن يمدّه بمددٍ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح بجيش، وكان أبو بكر وعمر بن الخطاب مع الجيش، وأمره بأن لا يختلف مع عمرو بن العاص، وما أن وصل قال له عمرو بن العاص: «إنّما

ص: 227


1- الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، دراسة تداولية (أطروحة دكتوراه): 304؛ نقلاً عن: L´Argumentation dans Ia Iangue, Ducrot et Anscombre, p30.

جئت مدداً لي. قال أبو عبيدة: لا ولكني علي ما أنا عليه، وأنت علي ما أنت عليه... فقال عمرو: بل أنت مدد لي» فرضي بذلك علي مضضٍ؛ لئلا يُخالف وصية رسول (صلي الله عليه و آله) (1).

(ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له؟!)

سؤال إنكاري الغاية منه توكيد السؤال السابق، أزعج به معاوية، وحصره بزاوية ضيقة، فأحرجه؛ إذ أجبره علي الإجابة بهذا الأسلوب الإنكاري، التوبيخي، التعجبي، الساخر؛ ممّا جعل معاوية يبتلع ريقه غاصاً بكلامه، مشلولاً لسانه، يتلفت يساراً ويميناً تارةً إلي الجمهور، وأخري إلي ابن عباس. (وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثُهم حتي أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله) قد يجهل المتلقي هذا الأمر، فجاء قول الإمام (عليه السلام) هذا جواباً عن الحقيقة التي زيّفها معاوية؛ لتتضح الحقائق، وتنجلي للأذهان، فاستعمال الإمام لهذا الأسلوب كان منهجاً ذكياً؛ لتفكيك حجاج معاوية، وهزيمته؛ وكما إنّه وضّح فيهللمتلقي مغالطات معاوية، وفضحه أمام الناس، وابتدأ قوله هذا بعامل حجاجي (النفي/ما) بوصفه عاملاً يقلّص الإمكانات الحِجَاجية، ويزيد من القوة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، واستعمل التوكيد بالقسم؛ لتأكيد الحجج التي قدّمها، وليثبتها في ذهن المتلقي؛ «ذلك أنّ القَسَم فعل حجاجي يثبّت القضية ويوجبها، ويُقيم الحجّة علي المخاطَب، ويُلزمه بها في الوقت نفسه، ولا يُراد القسم بذاته، وإنّما يُراد لغرض تواصلي هو دفع المخاطَب إلي الوثوق بكلام المخاطِب»(2).

ص: 228


1- اُنظر: السيرة النبوية، ابن هشام (ت213ه-)، دار الجيل، بيروت (1975م): 4/199-200؛ واُنظر: البداية والنهاية: 6/498-499.
2- الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة - دراسة تداولية: (أطروحة دكتوراه) 248.

فقال صلي الله عليه وسلم: «لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري» مثّل هذا الاستشهاد حجّة سلطة استند إليها الإمام (عليه السلام)؛ لتقوية درجة التصديق بحججه من جهة، وتضعيف حجج معاوية من جهة أخري، والغاية من هذا الاستشهاد بالحديث النبوي إشراك المتلقي في ما يعرضه من رأي؛ لأنّ المتلقي لايشكّ في كلام الرسول (صلي الله عليه و آله)، وهذا القول يدلُّ بما لا يقبل الشكّ علي صدق ما قاله الإمام الحُسَين (عليه السلام) بوصفهم أنفوا إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدّوا عليه أفعاله. ويري الدكتور عبد الهادي بن ظافر الشهري أنّ «الحجج الجاهزة أو الشواهد هي من دعامات الحِجَاج القوية... وتُسهم هذه الآلية في رفع ذات المخاطب إليدرجة أعلي، وبالتالي منحها(1) /240 مع اختلافٍ في الرواية قوة سلطوية بالخطاب عند التلفظ بخطاب ذي بعدٍ سلطوي في أصله عندها يتبوأ المخاطِب بخطابه مكانة عليا، ويستمد ذلك من سلطة الخطاب المنقول علي لسانه فقط. وبالتالي تصبح السلطة هي سلطة الخطاب الذي يتواري المخاطِب وراءه»(2).

(فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟!) استعمل هذا السؤال؛ ليلجم معاوية بالحجّة، ويجعله يقرّ بها، ونسف به كلّ حجج معاوية التي ذكرها في خطبته، وتبلغ السخرية من معاوية ذروتها في قوله (عليه السلام): (أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً، وحولك من لا يؤمَن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟!)، والغاية من هذه الأسئلة إلزام معاوية بالإقرار بأنّه لم يكن صادقاً بما قاله، فالأسئلة التي عرضها الإمام (عليه السلام) لم يرد منها الإجابة لذاتها، بل إلزام معاوية وإجباره علي الإقرار بها؛ ليُثبت الإمام (عليه السلام) للمتلقي

ص: 229


1- كذا. والصواب: لتمنحها.
2- آليات الحِجَاج وأدواته، عبد الهادي بن ظافر الشهري، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/128- 129.

حقيقة ما كان يستره معاوية من نيات.

وهكذا وجهت الأسئلة الاستفهامية الخطاب الوجهة التي أرادها الإمام الحُسَين (عليه السلام)، وبذلك حقق منها إقناع المتلقي بأنّ معاوية كان كاذباً في أقواله، وإنّه اعتمد المغالطة في خطابه، وفضلاً عمّا تقدّم فإنّ الإمام (عليه السلام) استعمل أفعال الكلام التقريري؛ ليحدد موقفه من نقطةالخلاف مع معاوية من جهة، وإفادته منه في المواصلة في الحِجَاج لما فيه من التأكيد من جهة أخري. والسبب الذي دفع الإمام (عليه السلام) لأن يتدرّج بحججه بأسلوب الاستفهام التقريري هو توبيخ معاوية، وحصره في زاوية ضيقة؛ ليقرّ بمغالطاته من جانب، ومن جانب آخر أنّ المتلقين للخطاب ليسوا علي مستوي واحد، فبعضهم شَهِدَ ذلك، والآخر يفهمه من مضمونه، وغيرهم يحتاج إلي وقتٍ للتأمّل، فهو بذلك راعي أحوال المتلقين؛ لأنّ هذا الأسلوب يمنح المتلقي فرصة في التفكير والتأمّل؛ ليزيد ذلك من التوجيه نحو الإقناع، ثم الاقتناع بأنّ معاوية حاول إفحامهم بحججه، وهكذا أراد الإمام من المتلقين أن يقتنعوا بذلك بالتأمل العقلي من دون إكراه.

ثالثاً: الخاتمة

وتمثل الفرصة الأخيرة للتأثير في المتلقي من أجل تنشيط ذاكرته، وضمّت الحجج الآتية: (وتتخطاهم إلي مسرفٍ مفتونٍ، تريد أن تُلبس النَّاسَ شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقي بها في آخرتك. إن هذا لهو الخسران المبين. وأستغفر الله لي ولكم). (مسرف مفتون) هذه صفات يزيد، أكّد بها حقيقته التي ذكرها آنفاً.

(تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقي بها في آخرتك) في قوله هذا حذف مقابلي (احتباك) فقد حذف(الفاني) لدلالة المذكور عليه، ولتوضيح ذلك يمكن صياغة الجملة علي النحو الآتي: (يسعد بها الباقي في دنياه،

ص: 230

ويشقي بها الفاني في آخرته)، لكن الإمام حذف (الفاني)؛ ليحقق دلالتين: أولاهما: الإيجاز. والأخري: الاختصاص؛ ليكون الشقاء مختصاً بمعاوية فقط، ومقتصراً عليه. كما أنّ في هذا القول تقديماً وتأخيراً، فقد قدّم الجار والمجرور (بها) علي الفاعل (الباقي) وهذا

فيه قصر واختصاص علي يزيد فقط، وفضلاً عن ذلك فإنّ في هذا القول مجموعة من المتناقضات (تقابلاً دلالياً).

الباقي (يزيد) ----- الفاني (معاوية).

يسعد ----- يشقي.

دنياه ----- آخرته.

والغاية من ذلك (التقابل الدلالي) تعظيم الأمر؛ ليزيد بذلك من قوة التأثير في المتلقي، وإقناعه بحججه، ثم يصل من هذه المتناقضات إلي النتيجة (إنّ هذا لهو الخسران المبين)، (إنّ) أداة توكيد، ودخولها علي الجملة يفيد تثبيت الحجج، وتقوية العلاقة الحِجَاجية بين عناصر الحِجَاج، و(اللام) في (لهو) لزيادة التوكيد، والجملة التي تحتوي علي أكثر من مؤكد يراد منها دفع الإنكار. (المبين) وصف للخسران، ومن الواضح أنّ الذي يشقي في آخرته قد خسر، وأي خسارة، فهي الخسران المبين، وهذا القول يحمل بين طياته تلميحاً إلي قوله تعالي: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَي حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَي وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(1)، ويكمّله قوله تعالي: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(2). والخسران المبين يعني: الظاهر الذي لا يخفي(3)، وتُشير كتب التفسير إلي أنّ سبب نزول الآية الأولي - كما

ص: 231


1- سورة الحج: آية11.
2- سورة الزمر: آية15.
3- اُنظر: التبيان في تفسير القرآن: 9/15.

رُويَ عن ابن عبّاس - إنّ بعض النّاس كان يقدم إلي المدينة فإذا أنجبت فرسه مهراً حسناً، وامرأته غلاماً رضيَ واطمأنَّ، وإن أصابه وجع في المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة قال: ما أصبت منذ كنت علي ديني هذا إلا شرّاً، وكلّ ذلك من انعدام البصيرة(1)، ويبدو أنّ الإمام الحُسَين (عليه السلام) اقتبس هذه الآية ليلمّح إلي فعل معاوية الذي قَدِمَ من أجله، ولم يصب من قدومه إلا ما أصاب ذلك الرجل الضعيف البصيرة، وفضلاً عمّا في هذا القول من خطرة قوية موقظة للعقل؛ إذ صِيغ بشكلٍ إيحائي يُنبئ بمحتوي الخطبة برمتها، فإنّ الحِجَاج بالقرآن الكريم يمنح الكلام قوة حجاجية عالية؛ لأنّ المتلقي لا يشك في كلام الله سبحانه وتعالي، وبهذا الأسلوب أغلق الإمام (عليه السلام) علي معاوية منافذ كلّ حجاج مضاد؛ إذ حصر كلّ ما قاله معاوية بالكذب والمغالطة، وبلغ ذلك ذروته في تكذيبه في وصف يزيد،وتولي عمرو بن العاص قيادة المسلمين.

والظواهر الحِجَاجية التي امتاز بها هذا النصّ الحِجَاجي:

1. توبيخ معاوية يعدّ الوظيفة الحِجَاجية الأبرز في هذه الخطبة.

2. متابعة حجج معاوية في خطبته وردّها واحدة تلو الأخري.

الالتفات من مخاطبة المفرد (معاوية) إلي التكلّم (ولقد

- لعمر الله - أورثنا الرسول)، ثم عاد ليخاطب المفرد (وجئت لنا بها)، ثم عمّ خطابه كلّ الأمويين عادلاً من الخبر إلي الإنشاء بأسلوب الاستفهام التقريري، (أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجّة بذلك...) ثم عاد لمعاوية (حتي أتاك الأمر يا معاوية)، بعد ذلك انتقل؛ ليخاطب النّاس من حوله مستشهداً بقوله تعالي: «فَاعْتَبِرُوا

ص: 232


1- اُنظر: المصدر نفسه: 7/296.

يَا أُولِي الْأَبْصَارِ» (1)، ثمّ عاد لمعاوية؛ موجهاً إليه الخطاب؛ ليفنّد حججه التي احتج بها في قيادة عمرو بن العاص للمسلمين في غزوة ذات السلاسل، معتمداً في ذلك علي أسلوبٍ حجاجي آخر عدل به من الخبر إلي الإنشاء باعتماد أسلوب السؤال التقريري، ثم عاد1. ليوبّخ معاوية، ويختم بذلك خطبته.

وهذا الأسلوب في التنوّع بالضمائر من الظواهر اللافتة النظر في هذه الخطبة، فضلاً عن أثره الفاعل في التأثير بالمتلقي؛ إذ يجعله يعيش الحدث بوصفه حقيقة، فينجذب إلي الخطبة، ثم يقتنع بها.

1. كان للرابط (و) الدور الحِجَاجي الفاعل في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري؛ بوصفه يتميز في ترتيب الحجج وتلاحقها.

2. كثرة الإشارات إلي الدقائق والرقائق المتعلقة بالموضوع؛ تكثيفاً لحالة الحضور التي أراد الإمام الحُسَين (عليه السلام) من خطبته أن تتسم بها؛ ليحدث بذلك انفعالاً في ذهن المتلقي.

3. اعتمد في حجاجه علي التقنية التتابعية؛ وهي من تقنيات الوصل الحِجَاجية وتابعة للحجج المُؤَسَّسة علي بنية الواقع، وهذا النوع من الحِجَاج لا يبتكره الخطيب؛ إذ الحجج التي يستند إليها موجودة في الواقع، والمحاجج يشير إليها، ويُذكّر بها، فالإمام الحُسَين (عليه السلام) في حجاجه هذا لم يبتدع شيئاً من عنده، وإنّما اكتفي برصد الوقائع، ورَبَطَ بينها، كما رصد المتناقضات في حجاج معاوية وتتبعها.

4. ذِكْرُ بعض المشتقات (باصر)، و(مسرف)، و(مفتون) كانت الغاية

ص: 233


1- سورة الحشر: آية2.

منها بيان صفات يزيد السلبية؛ ليصل الإمام (عليه السلام) من ذلك إلي نتيجة مضمرة مفادها: كيف تكون شخصية بهذه الصفات السلبية تحكم المسلمين، وتتحكم بأرواحهم، ومقدراتهم؟!

5. الجزالة كانت الطابع المميّز لألفاظ هذه الخطبة، فقد كان الإمام (عليه السلام) دقيقاً في اختيار ألفاظه؛ إذ نجده ينظّم الكلمة مع أختها كالعقد المنظوم في اقتران كلّ لؤلؤة منه بأختها. فيرتبها بأسلوب الترادف، فنجده يقرن الصفة بالنعت، والحظ بالنصيب، والأوفر بالأكمل، والمحجوب بالغائب، والباطل بالحنق، والجور بالظلم تارة. ويرتبها بأسلوب التقابل الدلالي؛ فقابل بين محفوظ ومشهود، وحججتم وركبتم، ويسعد ويشقي، والباقي والفاني، والدنيا والآخرة تارة أخري. ولو نظرنا في العبارات التي تحوي هذه الألفاظ نجد الإمام الحُسَين (عليه السلام) يقرن عبارة (حظه الأوفر) ب-(نصيبه الأكمل)، وعبارة (باطلاً في جور) ب-(حنقاً في ظلم)، وعبارة (عمل محفوظ) ب-(يوم مشهود)، وعبارة (يسعد بها الباقي في دنياه) ب-(تشقي بها في آخرتك).

ويُستشفّ من ذلك أنّ ألفاظ هذه الخطبة جاءت علي قدرٍكبيرٍ من الدقة في الترتيب، وصياغة في التركيب.

ونخلص ممّا تقدّم إلي أنّ هذه الخطبة دارت حول محورين أساسين: الأول: رفض بيعة يزيد رفضاً قاطعاً؛ إذ إنّ ذلك يأباه الله ورسوله، والآخر: مطالبة معاوية بإعادة الحقوق إلي أصحابها الشرعيين وهم آل بيت النبي (عليهم السلام) .

ردِّه (عليه السلام) علي مروان بن الحكم

هذا المبحث يسلّط الضوء علي قول الإمام الحسين (عليه السلام) لمروان بن الحكم: «يابن

ص: 234

الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت»(1) بدراسة لسانية حجاجية تحليلية للغور في أعماقه بعد معرفة الظروف والملابسات التي دفعت الإمام (عليه السلام) إلي ذكره.

المقام

قبل البدء بتحليل القول لابد من معرفة الظروف، والملابسات التي دار فيها من مكانٍ، وزمانٍ، والهدف منه، فضلاً عن معرفة المشاركين فيه؛ لأنّ المقام يُشكّل البؤرة التي يدور حولها القول.

عندما هلك معاوية سنة (60ه-) أرسل يزيد بن معاوية كتاباً إلي الوليد بن عتبه ابن أبي سفيان، والي المدينة؛ طالباً منه فيه أخذ البيعة من كبار أهل المدينة، ومنهمالإمام الحسين (عليه السلام)، فأرسل الوليد بطلب مروان بن الحكم؛ ليستشيره في ما جاء بالكتاب، فأشار عليه باستدعائهم قبل أن يعلموا بهلاك معاوية، ويطلب منهم البيعة بالإكراه، ومَن يرفض يقطع عنقه، فأرسل بطلبهم، وكان الإمام جالساً في المسجد هو وعبد الله بن الزبير، فلما أخبرهما الرسول بطلب الوالي قال له الإمام (عليه السلام): انصرف الآن نأتيه، فسأل عبد الله ابن الزبير الإمام عن المراد من الطلب. فقال الإمام: أظنّ أنّ طاغيتهم قد هلك فبعث، إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في النَّاس الخبر، فجمع الإمام مواليه وأهل بيته، ثم أقبل يمشي حتي انتهي إلي باب الوليد، وقال لأصحابه إنّي داخل، فإن دعوتكم، أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا عليّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتي أخرج إليكم. فدعا الوليدُ الإمامَ لبيعة يزيد، فقال (عليه السلام): أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سراً، فإذا خرجت إلي النَّاس فدعوتهم إلي البيعة دعوتنا مع النَّاس، فكان أمراً واحداً. فقال له

ص: 235


1- تاريخ الطبري: 5/340.

الوليد: انصرف علي اسم الله، حتي تأتينا مع جماعة النَّاس. فقال له مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه علي مثلها أبداً، حتي تكثر القتلي بينكم وبينه. احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتي يبايع، أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين قائلاً: «يابنالزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت»ثم خرج(1).

فالمقام مليء بالانفعال لأمور الدين والدنيا، وسياسة المنافقين في كيفية إدارة أمّة محمد (صلي الله عليه و آله)، والدعوة إلي توريث إدارة شؤون المسلمين لصبيِّ ماجنٍ فاسقٍ.

الوظيفة الحجاجية

من يُنعم النظر في هذا القول يجده قائماً علي أُسس حجاجية، متلائمة مع المنطق اللغوي التواصلي، والسياق العام، وظروف المقام، والدين، والأعراف الاجتماعية، ومرتَّباً علي وفق استراتيجية خاصّة، ومُصاغاً بصياغة لغوية، ومزيّناً بمحسنات بلاغية، وموجهاً نحو نتائج محددة فرضها الإمام (عليه السلام) علي المقصودين بالكلام فرضاً، وقائماً علي قولين: حجّة (يابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟)، ونتيجة مصرّح بها: (كذبت والله وأثمت)، والعلاقة ما بين الحجّة والنتيجة علاقة دلالية تداولية تلازمية، غلق بها الباب بوجه المتلقي المباشر، ولم يسمح له بإيجاد منفذٍ لاستضعاف حجّته، مفحماً إياه بها، محققاً بذلك الغاية من الحجاج، وهي إذعان العقول «لما يُطْرَحُ عليها من آراء، أو أن يزيدفي درجة ذلك الإذعان»(2). إذ تزداد فاعلية الحجاج

ص: 236


1- اُنظر: المصدر نفسه: 339-340.
2- الحِجَاج أطره ومنطلقاته من خلال (مصنف في الحِجَاج: الخطابة الجديدة) لبيرلمان وتيتيكاه، (بحث): 229.

كلما كان الإذعان أقوي «فليس الحِجَاج في النهاية سوي دراسة لطبيعة العقول، ثم اختيار أحسن السُّبل لمحاورتها»(1). وللظفر بذلك استند الإمام (عليه السلام) إلي أسلوبٍ بلاغي حجاجي، يحمل بين طياته دلالات كثيرة - سيأتي بيانها - من دون إسراف، بعدما استجاب لطلب رسول الوليد بن عتبة، وجاء للوالي واستمع لكلام الطرف الآخر.

النداء

نادي الإمام مروان بن الحكم ب-(يا) النداء مع قربه منه؛ لتنزيله منزلة الغافل، وفي ذلك دلالة علي التوبيخ؛ لأنّ مروان لم يلتفت إلي عظم الأمر الذي يقوله، فأراد الإمام بمناداته ب-(يا) تنبيهه علي عظم ما يقول، وإيقاظه من غفلته.

التنكيت

من المصطلحات البلاغية، يراد به «أن يقصد المتكلّم إلي شيءٍبالذكر دون غيره ممّا يسد مسده؛ لأجل نكتة في المذكور، ترجح مجيئه علي سواه»(2). والنكتة في عدول الإمام الحُسَين (عليه السلام) عن ذكر اسم أبي مروان (الحكم) إلي اسم أمّ أبيه (الزرقاء) في قوله: (يابن الزرقاء)؛ ليذكّره بنسبه وحسبه، قال ابن الأثير: «يقول ذلك من يريد ذمهم وعيبهم. وهي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه، وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها علي ثبوت البغاء، فلهذا كانوا يذمون بها»(3).

ص: 237


1- مفهوم الحِجَاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة: 2/189. نقلاً عن: traite de I argumentation, op.cit,p18.
2- بديع القرآن: 212.
3- الكامل في التاريخ: 4/15.
الاقتضاء

يُقصد به ما لا يُلفظ، وإنّما يُستشفّ من اللفظ وهو: عملية تواصلية تؤدي إلي معرفة المواقع التي يقتضيها القصد من الكلام، إذ يعمد المتكلّم إلي اختيار لفظ من دون غيره؛ لأنّه أمضي أثراً بالمتلقي. فلفظة (ابن الزرقاء) التي ذكرها الإمام الحسين (عليه السلام) حملت في ذاتها قوتها الدلالية التداولية؛ لتكون أساساً يُستند إليه في تحقيق القيمة الحجاجية، وأعني بالقيمة الحجاجية «نوعاً من الإلزام في الطريقة التي يجب سلوكها لضمان استمرارية ونمو الخطاب؛ حتي يحقق في النهاية غايته التأثيرية، وتشير من ناحية ثانية إلي السلطة المعنوية للفعل القولي ضمن سلسلة الأفعال المنجزة؛ لتبليغ فكرة ما إليالمتلقي»(1). فالمقتضي التأثيري للفظة (ابن الزرقاء) نفسيّ يستُمدَّ قوته من المقتضي التداولي ما بين المسلمين لهذه اللفظة، والإمام الحُسَين (عليه السلام) عندما قال ذلك لم يرد فضحه بشيء خافٍ عن النَّاس، بل أراد تذكيره بحقيقة يعرفها الداني والقاصي؛ ليذكّره بمكانته الاجتماعية في منظور المسلمين، أي مَن هو؟ ومع مَن يتكلَّم. وبهذا التوظيف للفظة (ابن الزرقاء) نقل الإمام الواقع من خارج الخطاب إلي داخل السياق القولي؛ ليحقق فعلاً اقتضائياً من قولٍ غير مباشر؛ تمهيداً للوصول إلي النتيجة المبتغاة من القول. وبها حبس مروان في وضعٍ ذهني كان فيه في موقف الضعيف العاجز عن الردّ، لأنَّ هذه اللفظة زعزعت في ذهنه حقيقة، لامراء فيها ولا جدال.

وفضلاً عن ذلك فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حقق بقوله هذا فعلاً لغوياً غير مباشر، تناسب مع المقام بوساطة قرائن الحال، وهو إنّ الحقّ أن تدعو بالخلافة لسبط الرسول، لا لابن معاوية. وهذا ما يُستشفّ من قول الإمام (عليه السلام) .

ص: 238


1- القيمة الحِجَاجية في النص الإشهاري: 4/280.

نخلص من ذلك إلي أنّ قوة الكلام وتأثيره لا تقتصر علي ظاهر اللفظ فحسب، بل يمكن أن تكمن بالتلميح لقولٍ آخر غير مصرّح به؛ لأنَّ النصَّ اللغوي «ضربان: ضربٌ هو نصٌ بلفظهومنظومه...، وضربٌ هو نصٌّ بفحواه ومفهومه»(1). والحاذق الذي يُمازج ما بين الضربين بالكلام؛ «لأنّ المرسل إليه يفهم ما يضمره في خطابه، تماماً مثلما يفهم ما يظهره فيه، فإذا كانت تتجلي كفاءة المرسل التداولية في صناعة الخطاب، فإنّها تتجلي الكفاءة التداولية للمرسل إليه، عند تأويل الخطاب للوصول إلي مقاصد المرسل، وإدراك حججه»(2).

إذن قول الإمام (عليه السلام): (يابن الزرقاء) يقتضي أنّك تنحدر من نسبٍ غير شريف، فكيف تريد بقولك هذا إجبار ابن بنت الرسول المصطفي (صلي الله عليه و آله) علي مبايعة رجل سكّير، يُعاقر الخمر، ويلعب بالكلاب والقردة، ليكون خليفة لرسول الله؟! وأنت وغيرك يعرف مكانته بالإسلام، ولا يخفي علي كلِّ النَّاس أنّ الرسول (صلي الله عليه و آله) كان يقول في الحسين (عليه السلام) أقوالاً تنمّ عن المكانة الرفيعة التي كان يحظي بها (عليه السلام)، من ذلك قوله (صلي الله عليه و آله): «حسين منّي وأنّا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً، حسين سبطٌ من الأسباط»(3)، فكأنّ لسان حاله يقول: كيف تريد منّي التنازل عن مكاني الطبيعي، الذي وضعني فيه رسول الله (صلي الله عليه و آله) لرجلٍ يستحق - علي وفق الشرع الإلهي - العقاب لما يغترفه من جرائمتخالف تعاليم الخالق، وتتعارض مع القرآن الكريم؟!! فلا يخفي علي النَّاس نور الحقّ، وظلمة الباطل. وإنّ ما تقوله باطلاً شرعاً، وعقلاً، ومنطقاً.

ص: 239


1- المستصفي من علم الأصول: 1/275.
2- استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: 476.
3- الجامع الكبير: 6/118.
الاستفهام التقريري

عدل الإمام الحسين (عليه السلام) بردّه علي مروان من أسلوب الخبر (لن تقتلني لا أنت ولا هو) إلي أسلوب الاستفهام التقريري؛ ليحقق بذلك دلالات عدّة لايمكن تحقيقها بأسلوب الخبر المباشر؛ لأنّ الاستفهام من أقوي أفعال الكلام الإنجازية المباشرة حجاجياً؛ بوصفه يستمد قوته الحِجَاجية من القصر المضمر فيه الذي يحصر المتلقي في زاوية حجاجية ضيقة، لا سبيل له إلا أن يقرّ بما يريده المحاجج، زد علي ذلك أنّ هذا الأسلوب يبعد الخطاب عن احتمالية الصدق والكذب التي في الخبر، ويزيد من درجة التوجيه نحو النتيجة، ليفرض علي مروان إجابة محددة، فالإمام بهذا الأسلوب الكلامي حصره بموقفٍ جعله يلازم الصمت، ويقرّ بأنّه لن يستطيع فعل ذلك. وبه ألجمه وشلّ لسانه، فضلاً عن تحقيقه؛ لدلالة نفي القتل، وإقرار مروان بالتكذيب. فلو قال الإمام (عليه السلام): (لن تقتلني لا أنت ولا هو) لأفاد ذلك نفي قول مروان، أما في قوله: (أنت تقتلني أم هو؟) أراد الإمام من مروان أن يجيبه عن سؤاله، فضلاً عمّا في هذا الأسلوب من النفي، ما يدفع مروان إلي أن يُفكّر، ويراجعنفسه، فيجدها في ضيقٍ وحرجٍ، فهو لا يستطيع أن يقول: بلي، أنا أقتلك؛ لأنّه يعلم أنّه لو قال ذلك سيطلب منه الإمام تنفيذ الفعل، وهو في الحقيقة لا يقدر، لذلك لجأ إلي السكوت؛ ليبعد نفسه عن الوقوع في التهلكة. وقد أشار عبد الله صوله إلي ذلك، إذ قال: «إنّ العادة جرت أن المسؤول إذا أطال التفكير في جوابه، يكون ذلك علامة علي عدم مجاراته للنسق الذي يريد أن يفرضه السائل عليه»(1)، فكيف بمن يلازم الصمت؟! وهكذا حقق الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا العدول من الخبر إلي الإنشاء النتيجة المرجوة. وبهذا الأسلوب البلاغي الحِجَاجي جعل

ص: 240


1- الحِجَاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: 428.

الإمام (عليه السلام) مروان في موقفٍ حرجٍ. زد علي ذلك أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لايعتمد هذا النوع من الحِجَاج لو لم يكن واثقاً ثقة تامة بما يقوله، فعندما ألقي علي مروان هذه الحجّة كان مُدركاً تمام الإدراك أنّ مروان لا يقدر علي ردّها، كما أنّ الوليد بن عتبة لا يقدر علي ردّها أيضاً. وفضلاً عن ذلك فإنّ الإمام (عليه السلام) بعدوله من الخبر إلي الإنشاء حقق دلالتي التعجب والإنكار، اللذين يلازمان النبرة الصوتية لأسلوب الاستفهام الإنكاري التقريري. وبذا ألقم الإمامُ مروانَ وصاحبه حجراً، وخرج من عندهما من دون أن يرد عليه أحدهما.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا القول حُذفت منه همزةالاستفهام؛ للثقل، ودلّت عليها (أم) المعادلة، والأصل (أأنت تقتلني أم هو؟).

التقديم والتأخير

من الأساليب البلاغية اللافتة للنظر في هذا القول أسلوب التقديم والتأخير، وهو من الأساليب التي حظيت باهتمام البلاغيين، فقد عبّر عنه عبد القاهر الجرجاني بقوله: «ومن أبين شيء في ذلك (الاستفهام بالهمزة)؛ فإنَّ موضع الكلام علي أنّك إذا قلت: (أفعلت؟)، فبدأت بالفعل، كان الشكّ بالفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت: (أأنت فعلت)، فبدأت بالاسم، كان الشكُّ في الفاعل مَن هو، وكان التردد فيه»(1). وأصل القول - علي وفق أصل النظام النحوي: (أ تقتنلني أنت أم هو؟)، قدّم الإمام الاسم علي الفعل بعد الهمزة؛ للدلالة علي أنّ الشكّ بعدم القدرة علي القتل يتعلق بالفاعل والمعطوف عليه (مروان والوليد)، لا بالفعل (القتل). فالإمام (عليه السلام) لم يرد أن ينسب فعل القتل إلي مروان، وإنّما قصد التعريض به؛ ليلزمه بالحجّة، ويبكته بها. هذه أول دلالة حققها

ص: 241


1- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجانيّ: 111.

الإمام (عليه السلام) بتقديم الاسم علي الفعل.

ولو أعدنا النظر في القول نجد دلالة أخري زادت من قوة الحجّة، تكمن هذه الدلالة في تقديم الاسم علي الفعل أيضاً، وهي دلالة الاختصاص، أي (أنت خاصة من دون النَّاس؟!)،وتتضح هذه الدلالة بالنبرة الصوتية للقول، وثمّة دلالة ثالثة تحققت بالتقديم والتأخير، وهي دلالة التشنيع. ف«للتقديم والتأخير بالمقياس النحوي وظيفة حجاجية من نوعٍ آخر، وهي أنّه إذا دخل عليه الاستفهام... أفاد التشنيع علي الخصوم إفادة لايمكن أن تحصل لو لم يكن لجوء إلي التقديم والتأخير»(1). وكأنّ الإمام أراد أن يقول: لا يوجد قول أشنع من قولك هذا يا مروان، ولا أقبح منه.

نخلص من ذلك إلي أنّ أي تغيير في النظام النحوي للجملة يغيّر في الدلالة النحوية، بما يزيد من قوة الحجّة التي يبتغيها المتكلم.

دلالة النفي

النفي ردّ فعل علي إثبات فعلي. والنفي «ضروري لوصف البنية الدلالية العميقة للملفوظ الذي يبدو غير منفي»(2)، وهو عامل حجاجي يقلّص الإمكانات الحجاجية، ويزيد من القوة التأثيرية في التوجه نحو النتيجة المبتغاة من القول، وتكمن القوة التأثيرية للنفي بالنتائج التي أراد الإمام تحقيقها، وهي:* تكذيب مروان.

ص: 242


1- الحجاج في القرآن: 446.
2- عاملية أدوات النفي الحجاجية، سليمة محفوظي، الموقع علي الانترنت: www.akhbarak.net/.../2595479 - ب مصر.

* إنّه بقوله هذا قد ارتكب إثماً كبيراً لا يُغتفر.

إنّ مروان وصاحبه لا يمتلكان القدرة علي قتله، أو إجباره علي مبايعة يزيد.

جعلهما في موضع الخضوع، والإذلال، والإذعان. والتسليم.

الانثناء الإجباري عمّا أقدم عليه مروان بن الحكم.

أم المعادلة

من الأدوات اللسانية التي تربط بين قولين، وتسند لكلَّ قولٍ دوره بشكلٍ متساوٍ؛ ولذا سُمِّيت بالمعادلة، وهي في هذا القول عادلت ما بين مروان والوليد. والغاية منها مدّ ظلال التحقير، والتوبيخ، والاستهزاء إلي الوليد، للفت انتباهه لعظم ما يقدم عليه من أمر يبغض الله عزّ وجلّ.

الحذف المقابلي

يُقصد به «أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيُحذف من واحدٍ منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه»(1)، وهو نوعٌ من الاقتصاد اللغوي، مال إليه الإمام (عليه السلام) في قوله: (أنت تقتلني أم هو؟)، والأصل: (أنت تقتلني أم هو يقتلني؟) فحذف جملة (يقتلني) الثانية لدلالة الأولي عليها؛ للوصول إلي النتيجةالمبتغاة بأقل كلمات.

الالتفات (شجاعة العربية)

علل ابن الأثير سبب تسمية الالتفات بشجاعة العربية بقوله: «وإنّما سُمّي بذلك؛ لأنّ الشجاعة هي الإقدام، وذلك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لايتورده سواه»(2). وهذا يعني أنّ الالتفات أسلوب خاص، لا يستعمله إلا من كان

ص: 243


1- البرهان في علوم القرآن: 3/129.
2- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/168.

واثقاً مِن أنّه حينما يقدم عليه يكون قادراً علي ثني الأعناق إليه.

وفي إلتفات الإمام (عليه السلام) إلي تحدّي الوليد بأنّه لن يستطيع قتله، بقوله: (أم هو) أراد تحقيق هذه الغاية - علي ما يبدو من القول -، مريداً من ذلك أنّ التحدي لا يقتصر علي مروان فحسب، بل يشمل الوليد أيضاً صاحب الولاية والنفوذ في المدينة، وفي ذلك دلالة علي شجاعة الإمام، وجرأته في ردِّ خصومه. وبه حقق دلالة الشمول لا الاختصاص.

التوجيه

يتحقق التوجيه بغلق الباب علي الطرف الآخر، وسدّ كلّ الثغرات التي تمكنه من الردّ، وهو «من أوكد خصائص النصّ الحِجَاجي... فكلُّ ما فيه يوجّه المتلقي إلي وجهة واحدة دون سواها،وهي نتيجة الخطاب أو غايته القصوي»(1). فالإمام في قوله هذا حصر مروان في وجهة واحدة، وهي إقراره بأنّه هو والوليد لا يقدران علي قتله. وهذا التوجيه تحقق باستعمال الأساليب اللغوية والبلاغية التي مرّ ذكرها.

النتيجة

اشارة

النتيجة من القول - بحسب فهمي - تُقسم علي قسمين. ظاهرة يمثلها القسم الثاني من القول، ومضمرة تُستشفّ من القول كلّه.

1 - النتيجة المصرّح بها (الظاهرة)

يمثلها قول الإمام (عليه السلام): «كذبت والله وأثمت»، نلحظ أنّ هذه النتيجة تتألف من فعلين ماضيين (كذب، أثم) أُسندا إلي المخاطَب (مروان) بتاء الفاعل. وفصل بينهما

ص: 244


1- دراسات في الحجاج قراءة لنصوص مختارة من الأدب العربي القديم: 43-44.

الإمام بالقسم (واللهِ)؛ لما في القسم من وقعٍ تهتز له النفوس، وتنقاد له انقياداً، وتلفت أنظار السامعين إلي أهمية ما يُقال، وذكره الإمام؛ لتأكيد القول، وتثبيته في ذهن مروان وصاحبه، «ذلك أنّ القَسَم فعل حجاجي يثبّت القضية ويوجبها، ويُقيم الحجّة علي المخاطَب، ويُلزمه بها في الوقت نفسه، ولا يُراد القسم بذاته، وإنّما يُراد لغرض تواصلي، هو دفع المخاطَب إلي الوثوق بكلامالمخاطِب»(1). والقسم أقوي أنواع التوكيد؛ كما أنّ ذكر الله سبحانه وتعالي يُضفي علي القول ظلالاً من القداسة، وقوة في المعاني، ويمنحه مصداقية أقوي.

وقد أشرب الإمام الحسين (عليه السلام) القسم في هذا القول معني التوبيخ؛ باعتماده علي تقنية الفصل الحِجَاجي، وتتأسس هذه التقنية علي ثنائية الظاهر والحقيقة، ففي الظاهر مروان يدّعي قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، لكنَّه في الحقيقة لا يقوي علي فعل ذلك.

2 - النتيجة المضمرة (العامة)

أراد الإمامُ (عليه السلام) حصر مروان بن الحكم في موقفٍ يجعله لا يستطيع أنْ ينكر أو ينفي أنّه ينحدر من نسبٍ غير شريف، ولا يمكنه الردّ بالمثل؛ لأنّه يعلم علم اليقين أنّ نسب الإمام الحسين أشرف نسبٍ علي وجه الأرض، فهو ابن بنت النبي المصطفي (صلي الله عليه و آله) الذي أُرسل رحمة للعالمين، ومروان والوليد ويزيد وغيرهم قد أنعم الله سبحانه وتعالي عليهم بنعمة الإسلام والهداية برسالة جدّه، فكيف يجوّز له دينه - إن كان مسلماً - قتل ابن بنت النبي؟! كما أنّ في قوله (عليه السلام) إشارة إلي أنّه لا يحلّ لكما قتلي، وانتهاك حرمتي؛ لأنّ بقتلي تجاوزاً علي حدود الله جلّ في عُلاه، وانتهاكاًلحرمة

ص: 245


1- الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة - دراسة تداولية، (أطروحة دكتوراه)،: 248.

رسول الله (صلي الله عليه و آله) . وبات هذا القول عاراً حفظته مصادر التاريخ لنتعرّف علي أخلاقيات القوم وهمجيتهم، فبه نعرف أنّ أولئك القوم لا دين لهم، جلّ همهم إرضاء سلاطينهم مقابل مناصب سياسية فانية. والإمام الحسين (عليه السلام) كان يُدرك أنّ وجوده المادي فانٍ، لكنَّ حججه وأقواله باقية، يتردد صداها في المُهج إلي يوم القيامة.

ص: 246

المبحث الثاني:كلامه (عليه السلام) أول خروجه من مكة لحين نزوله في كربلاء

التوطئة

بعد موت معاوية تغيّر المشهد السياسي العربي الإسلامي، فيزيد لم يمتلك حنكة أبيه، ودهاءَه، وسياسته، فما إن جلس علي عرش الحكم أخذ يؤرقه الذين رفضوا مبايعته علي حياة أبيه؛ فأمر عامله في المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بأخذ البيعة منهم قسراً، وهم: الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر(1)، وحصلت بسبب ذلك مشادة كلامية بين الإمام الحسين (عليه السلام) ومروان بن الحكم سيأتي ذكرها. وعلي أثر ذلك شدّ الإمام الحسين (عليه السلام) الرحال من مدينة جده رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلي مكة المكرمة، بعدما زار قبر جده، وأبيه، وأمّه، وأخيه الحسن (عليه السلام) وكان له مع الإمام الحسن - وهو في قبره - كلام ذكر فيه حنكة أخيهوسياسته في التعامل مع أعدائه(2)؛ ليلقي به حجّة أكمّت أفواه مَن يعتقدون أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يسر علي نهج أخيه الحسن في سياسته بالتعامل مع بني أمية، وإنّه لم يكن راضياً بصلحه مع معاوية، ثمّ التقي بأخيه محمد بن الحنفية، فنصحه ابن الحنفية بالمسير نحو اليمن؛ ليكون بمأمن من الأمويين وأذنابهم، فجزّاه الإمام

ص: 247


1- اُنظر: تاريخ الطبري: 5/338؛ والبداية والنهاية: 11/477.
2- اُنظر: عيون الأخبار: 2/314-315؛ وجمهرة خطب العرب: 2/129.

الحسين (عليه السلام) خيراً وافترقا، ثم كتب إليه الإمام الحسين (عليه السلام) بكتابٍ أوصاه فيه بالبقاء في المدينة، وقد مرّ بيان ذلك في المبحث الأول من الفصل الثاني، وما إن وصل مكة البلد الآمن توافدت عليه رسل الكوفيين وكتبهم، ما ملأ خرجين يدعونه فيها إلي القدوم إليهم؛ ليكون إماماً عليهم، فكتب إليهم بكتاب مع قيس بن مسهر الصيداويّ(1)، وآخر مع هانئ بن هانئ، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وأخبرهم بأنّه مُرسِل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل؛ ليعلم كنه أمرهم، ويكتب إليهما يتبين إليه من اجتماعهم(2)، وفي الوقت نفسه أرسل بكتابٍ إلي أهل البصرة مع مولاه سلمان، يدعوهم فيه إلي إحياء كتاب الله، وسنة نبيه، وإطاعة أمره(3)؛ ليعلن موقفه الصريح والواضح من السياسة الأموية الجديدة، ورفضه القاطع لتولي الحكم لصبيّ يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب؛ ليلقي عليهم الحجّة، ويوصل رسالته إلي الأجيال؛ لتكون حجّة الحجج.

عندما عزم علي الخروج إلي العراق

لقد مثّلت المسيرة الحسينية من المدينة إلي كربلاء حملة إعلامية؛ لفضح السياسة الأموية، وقائدها السكيّر الخميّر، فالحسين (عليه السلام) بمسيره هذا أراد إنقاذ النّاس من

ص: 248


1- اُنظر: جمل من أنساب الأشراف: 3/378؛ وتاريخ الطبري: 5/395، والإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/70؛ والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن مُحمَّد المعروف بابن الجوزي (ت597ه-)، دراسة وتحقيق مُحمَّد عبد القادر عطا، ومصطفي عبد القادر عطا، راجعه وصححه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1412ه- - 1992م): 5/328؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/80-81.
2- اُنظر: تاريخ الطبري: 5/353؛ والإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/39؛ و مناقب آل أبي طالب: 3/98؛ وبحار الأنوار: 44/334؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/73.
3- اُنظر: تاريخ الطبري: 5/357؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/75-76.

الغرق في ظلمات الضلال، داعياً إياهم إلي الالتحاق بركبه، وبالفعل قد أسقطت هذه الحملة الإعلامية عروش الظالمين وفضحتهم إلي الأبد، متمثلة بأفعاله، وخطبه، وكتبه، وأقواله.

فعندما عزم الإمام الحسين (عليه السلام) علي الخروج من مكة إلي العراق بعدما وصلته رُسل أهل الكوفة وكتبهم نصحهبعض أصحابه والمقربين منه بأن لا يأمن الكوفيين؛ بوصفهم أهل غدرٍ لا أمان لهم، وإنّهم عبيد الدرهم والدينار، وعندما عَلِمَ ابن عباس أنّه عازم علي الخروج قال له: «فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله إنّي لخائفٌ أن تُقتل كما قُتل عثمان ونساؤه، وولده ينظرون إليه»(1).

وتظاهر عبد الله بن الزبير بأنّه من الناصحين للإمام الحسين (عليه السلام)؛ فدعاه إلي أن يُقيم بمكة، ويجمع من حوله النّاس، فأجابه الإمام قائلاً: «إنّ أبي حدثني أنّ بها كبشاً يستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش»(2)، وروي رجل كان يطوف بالكعبة أنّه سمع عبد الله بن الزبير يُنادي الإمام الحسين (عليه السلام) ويسرّه بشيء، فالتفت الإمام (عليه السلام) إلي النّاس وقال: «أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك النّاس، ثمّ قال الحسين: والله لأن أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ إليّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبرٍ، وأيم الله لو كنت في جُحْرِ هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّي يقضوا فيّ حاجتهم، والله ليَعتدُنَّ عليّ كما اعتدت اليهود في السَّبت»(3).

ص: 249


1- تاريخ الطبري: 5/384؛ واُنظر: البداية والنهاية: 11/496.
2- المصدر نفسه: 5/384.
3- جمل من أنساب الأشراف: 3/375؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/385.

فالإمام (عليه السلام) بقوله هذا أراد أن يشير إلي نتيجة مضمرة، هي إنّي مقتول مُمَثَّل بي أينما كنت، ويمكن توضيحها بالسلم الحِجَاجي الآتي:

النتيجة (أنا مقتول مُمَثَّل بي أينما كنت)

(ح3) والله ليَعتدُن عليّ كما اعتدت اليهود في السَّبت

(ح2) وأيم الله لو كنت في جُحْرِ هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّي يقضوا فيّ حاجتهم

(ح1) والله لأن أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ إليّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبرٍ

فهذا الكلام المقتضب مثّل مفتاح اللغز المحيّر الذي لم تستطع العقول فكّ طلاسمه، فالقول الأول: (والله لأن أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ إليّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبرٍ) ذكر فيه السبب الذي يدفعه إلي الخروج من الكعبة؛ لأنّ الكعبة ليست بناءً يُهدُّ ويُبني فهي بيت الله الحرام، فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) من هذا القول التلميح إلي ما نقله عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام): (إنّ بها كبشاً يستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش)، الذي ألمح فيه إلي أنّ ذلك الكبش هو عبد اللهبن الزبير، وقد أثبت التاريخ لنا ذلك(1)، وفضلاً عن ذلك ألقي به الحجّة علي النّاس؛ بأنّ بني أمية لا دين لهم، وهم لا يقلّون فسقاً عن أبرهة الحبشي في حجّة مضمرة منه إلي دعوة النّاس إلي جهاد هؤلاء الفَسَقة.

أمّا قوله (عليه السلام): (وأيم الله لو كنت في جُحْرِ هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّي يقضوا فيّ حاجتهم) ففيه إشارة إلي علمه بأنّ بني أمية لا يقبلون منه إلا مبايعة يزيد،

ص: 250


1- هدم عبد الله بن الزبير الكعبة بعدما مال جدارها بسبب ما رُميت به من حجارة منجنيق الجيش الأموي. اُنظر: البداية والنهاية: 11/691.

ومبايعة يزيد تعني الخروج عن ملّة محمد (صلي الله عليه و آله)، وهذا ما يأباه الإمام الحسين (عليه السلام)، إذن النتيجة ستكون قتله، والتمثيل به، وقد بيّن ذلك بقوله اللاحق: (والله ليَعتدُن عليّ كما اعتدت اليهود في السَّبت) وفي قوله هذا أراد أن يقرّب الصورة إلي أذهان متلقيه، فعمد (عليه السلام) إلي التشبيه بالاستناد إلي القصص القرآني؛ إذ أشار الله سبحانه وتعالي في محكم كتابه العزيز إلي أنّ الله (عزوجل) أمر اليهود أن يتركوا أعمالهم في يوم السبت ويجعلونه يوم عبادة، فشاء الله تعالي أن يختبرهم بتكاثر الأسماك في هذا اليوم، وندرتها في الأيام الأُخر فاصطادوها متجاوزين علي أمر الله تعالي،فعاقبهم علي فعلهم هذا؛ إذ مسخهم قردة(1)، وكانت غاية الإمام (عليه السلام) من هذا التشبيه تكثيف حضور الفكرة في ذهن المتلقي؛ والتشبيه من العناصر المهمة والفعّالة في الخطاب الحِجَاجي، وجزءاً لا يتجزأ من بنية النصّ الحِجَاجية، ووسيلة حجاجية يتوجه بها المحاجج إلي عقل المتلقي؛ لينقله من الحالة التصويرية إلي الإقناع، كما إنّ استناد الإمام الحسين (عليه السلام) إلي المعني القرآني في الخطاب أسهم في تقوية الحجّة، وزاد من قوة حضور الفكرة في ذهن المتلقي.

ومن أوجه الشبه بين الإمام (عليه السلام) ويوم السبت عند اليهود: (القدسية، الابتلاء، تجاوز النّاس علي أمر الله تعالي، بارتكاب الجرم فيهم، العقوبة الإلهية الفورية).

وقد أكثر الإمام الحسين (عليه السلام) في كلامه هذا من التوكيدات: فالحجّة الأولي ابتدأها بالقسم، ولام التوكيد، والحجّة الثانية ابتدأها بالقسم، والحجّة الثالثة ابتدأها بالقسم ولام التوكيد، وأردفهما بنون التوكيد. وممّا يُلحظ علي هذه الحجج أنّ كلّ

ص: 251


1- اُنظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، بيروت، الطبعة الأولي (1413ه-): 1/228.

واحدة منها مبدوءة بالقسم، والقسم أسلوب إنشائي يُؤتي به؛ لتوكيد الخبر وتثبيته في ذهن المتلقي؛ ليدفع عنه الشكّ والظنّ، «ويقصد المرسل باستعمال أنواع من التوكيدات إلي إثبات حججه، وأمّا التكثيف في الاستعمال فيهدف به المرسل إلي لفت انتباه المتلقي والتأثير فيه؛ لاستمالته عند تقديم حججه»(1)، وليست الغاية من هذه التوكيدات وتكراراها تثبيت الخبر في ذهن المتلقي، ودفع الإنكار عنه فحسب، بل تردد القسم بالكلام يُضفي فخامة علي المعاني، كما يضفي علي الكلام جوّاً من القداسة(2)، فالإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم علم اليقين بالمصير الذي سيلاقيه بخروجه إلي العراق؛ ممّا دفعه ذلك إلي أن يُسلّط الضوء إعلامياً علي ما آلت إليه أمور الدولة الإسلامية، من انحطاط ديني وأخلاقي، في كلِّ مجالات الحياة تحت عباءة الدين؛ لئلا تعتقد الأجيال أن بني أمية كانوا يمثلون الإسلام والمسلمين، ولهذا هاجر من مدينة جدّه إلي مكة، ومنها إلي العراق، ماراً بأكبر قدرٍ من منازل المسلمين؛ ليلقي عليهم الحجّة بدعوته إياهم إلي محاربة الأمويين وأتباعهم، بحسب ما تبين الخريطة الآتية(3):

ص: 252


1- بنية الملفوظ الحجاجي للخطبة في العصر الأموي: 73.
2- اُنظر: دراسات في الحجاج: 133.
3- اُنظر: مقتل الإمام الحسين وواقعة كربلاء، حسان عبد الله أبو صالح و حسن عبد الله أبو صالح (1418ه- - 1997م): 80.

وبعد استشهاده (عليه السلام) أكملت الحوراء زينب (عليها السلام) هذه الحملة الإعلامية من كربلاء إلي الشام.

عندما عزم الإمام الحسين (عليه السلام) علي المسير بأطفاله، ونسائه، وأهل بيته، وبعض أصحابه مع أسرهم وأطفالهم كان النّاس في حيص بيص، لا يعرفون غايةالإمام من الخروج إلي حربٍ خاسرة، وما حكمته في ذلك؟! فخطب فيهم هذه الخطبة:

ص: 253

«الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلي الله علي رسوله وسلم. خُطَّ الموت علي ولد آدم مخطَّ القلادة علي جيد الفتاة، وما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف، وخُيّرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنِّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً، جُوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين؛ لن تشذَّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرُّ بهم عينه، وتنجز لهم وعده، من كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً علي لقاءِ الله نفسه فليرحل معنا، فانِّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(1).

في الوقت الذي بيّنت فيه هذه الخطبة سبب خروج الإمام الحسين (عليه السلام) إلي العراق، مصطحباً نساءه وأطفاله، ألقت الحجّة علي من يروم الالتحاق بالرفيق الأعلي، ويخلد مع الرسول (صلي الله عليه و آله) في جنان الفردوس، وأثبت التاريخ أنّ هذه الخطبة كان لها وقع في نفوس أهل بيته (عليهم السلام)، وبعض أصحابه (رضي الله عنهم). فهذا العرض المغري في ملاقاة الرسول (صلي الله عليه و آله)، والعيش معه إلي الأبد في جنان الخلد به حاجة إلي ثمنٍ غالٍ يناسبه، وبخطبته هذه بيّن الهدفوالغاية من ترك مكة البلد الآمن، قاطعاً رمال الصحراء بحرِّ الصيف إلي أرضٍ عُرِفَ أهلها بالشقاق والنفاق، والغدر والحيلة، وعِبادة الطاغوت، فالإمام (عليه السلام) لم يطلب السلطة والإمارة، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في أمّة جده؛ لتبقي هذه الخطبة حجّة علي مدي التاريخ، وصرخة مدوية في سماء الإنسانية؛ تقرع الآذان لردِّ تهم من اتهموه بأنّه كان طالب الدنيا بخروجه علي إمام زمانه، فقُتِلَ بسيف جدّه.

ص: 254


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 86؛ واُنظر: مقتل الحسين: 2/5-6؛ والملهوف علي قتلي الطفوف: 57؛ وكشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/39؛ وبحار الأنوار: 44/366-367.

(لا حول ولا قوة إلا بالله) ابتدأ خطبته بتقليص الإمكانات الحِجَاجية، حاصراً كلَّ شيءٍ بمشيئة الله تعالي، فالحول والقوة مقتصرة علي الله تعالي، ومحصورة به سبحانه من دون غيره؛ ليزيد من الطاقة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة النهائية المرجوّة من الخطبة، (من كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً علي لقاءِ الله نفسه، فليرحل معنا؛ فانِّي راحل مصبحاً إن شاء الله)؛ «لأنّ وحدات البداية هي أهم ما يقرع الأذهان المتلقية، ويحدد درجة القبول، أو الرفض للتصور المتقدم»(1).

(خُطَّ الموت) حذف الفاعل (الله (عزوجل))، وأناب عنه المفعول به (الموت)؛ لأنّ الموت مثّل قطب الرحا الذي دارت حوله التساؤلات، لماذا الإمام الحسين (عليه السلام) يلقي بنفسه وعياله، وخيرة أصحابه بمطحنة الموت، ولم يرضَ بالحياة بمبايعة يزيد، كما فعل النّاس؟! فجاء هذا القول جواباً عنتساؤلاتهم الظاهرة والمضمرة، وحوله دارت الخطبة. فبه الحياة الأبدية مع الأنبياء، والأولياء في جنان الخلد، وهو الخطّ الفاصل بين الكرامة والذلّة؛ ولذا نجد أنّ «الاهتمام منصبٌ علي نوع الحدث؛ أي التركيز علي عنصر الموت من دون مسببه وهذا ما لا يتحقق فيما لو صيغ التعبير علي الأصل - بنائه للمعلوم - لأنّه عندئذ سيتقاسم الاهتمام الحدث والمحدث فيتشتت تبعاً لذلك عنصر الاهتمام»(2).

(خُطَّ الموت علي ولد آدم مخطَّ القلادة علي جيد الفتاة) تشبيه حُذفت منه أداة التشبيه؛ لتقريب صفات المشبه من صفات المشبه به، وعمد الإمام الحسين (عليه السلام) إلي هذا اللون البياني؛ لما فيه من قوة حجاجية كبيرة، فهو يُقرّب المسافات بين المعاني العقلية المجردة والمعاني المحسوسة؛ ليوصل به حجته إلي ذهن المتلقي فيدرك المتلقي

ص: 255


1- مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة: 2/195.
2- التصوير الفني في خطب المسيرة الحسينية: 95-96.

من خلاله مقاصد الإمام (عليه السلام)، فبه أراد الإمام (عليه السلام) نقل ذهن المتلقي من الصورة العقلية المجردة إلي التفكير في الصورة الحسيّة المشاهدة في الواقع، وهي إنّ الموت محيطٌ بالإنسان إحاطة القلادة بجيد الفتاة، وغايته من تشبيه المعني العقلي بالمعني الحسي تكثيف حضور الفكرة في ذهن المتلقي؛ ليتحوّل عنده المعني العقلي إليمعني حسيّ، يؤدي إلي الإقناع، والحجّة المضمرة في هذا الشبيه: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ»(1)، فالموت حقيقة واقعة، لا مراء فيها، ولا جدال، لا يشك فيها المتلقي، وذكره في هذا المقام له طابع حجاجي.

(وما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف) عقد فيه مماثلة بين علاقتين؛ إذ شبّه ولهه إلي أسلافه باشتياق يعقوب إلي يوسف (عليه السلام) من دون أن يحدد وجه الشبه الذي يربط بين ولهه إلي أسلافه (صلوات الله عليهم أجمعين)، وذاك الاشتياق، بل تركه مطلقاً، والغاية الحِجَاجية من هذا الإطلاق دفع المتلقي إلي البحث عن أوجه الشبه الكامنة بين طيات هذه الصورة التمثيلية، فيذهب به الخيال إلي قصة يعقوب ويوسف (عليهما السلام) ويستحضر القصة كاملة في ذهنه، ثمّ يبحث من خلالها عن أوجه الشبه التي تربط بين وله الإمام (عليه السلام) إلي أسلافه، واشتياق يعقوب إلي يوسف (عليهما السلام)؛ ليلتقط المتلقي وجه الشبه بتأملٍ وتأنٍّ، ثم يُدرك الحكمة من هذا الوله، فيتعرّف علي غاية الإمام من عزمه علي ملاقاة الموت، بدلاً من الهروب منه.

وبهذا التمثيل أشرك المتلقي معه في الخطاب بجعله يتوصل إلي النتيجة بنفسه، والمتلقي بتوصله إلي النتيجة بنفسه يكون أكثر إدراكاً لها، وأقوي اقتناعاً بها،وهكذا أوصل الإمام (عليه السلام) من خلال هذه الحجّة التمثيلية الفكرة التي كانت تجول بخاطره إلي من كان يلومه علي شدّ الرحال إلي الكوفة؛ ليتأسّوا به؛ فيسيروا بركابه، ويودعوا

ص: 256


1- سورة النساء: آية78.

حياة الذلّ والهوان، وبهذا الأسلوب ألقي الإمام حجته عليهم.

وهذا اللون من الحِجَاج (التمثيل) يمثّل حجّة أقوي من حجّة التشبيه؛ بوصفه يجعل تلك الحجّة حاضرة في ذهن المتلقي، فيكون أكثر استعداداً إلي تقبلها، وقد أشار بيرلمان إلي ذلك؛ إذ قال: «هو طريقة حجاجية تعلو قيمتها علي مفهوم المشابهة المستهلك، حيث لا يرتبط التمثيل بعلاقة المشابهة دائماً، وإنّما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة»(1). لكن لا حياة لمن يُنادي، فقد صمّوا آذانهم، وأكموا أفواههم، متجاهلين قول الرسول (صلي الله عليه و آله): «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَ فِيهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»(2).

ومن اللافت للنظر في هذا التمثيل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عدل به عن سنن البلاغيين، التي تري أنّ وجه الشبه ينبغي أن يكون أظهر وأقوي في المشبه به، إذ إنّ الوله أقوي دلالة من الشوق(3) هذا من جهة، ومن جهة أخري فإنّالإمام الحسين (عليه السلام) أخذ من شوق يعقوب إلي يوسف «شدة الشوق، أمّا نوع الشوق فمختلف؛ لأنّ اشتياق يعقوب إلي يوسف كان في الدنيا، في حين أنّ اشتياق الإمام الحسين (عليه السلام) إلي أسلافه كان اشتياقاً للآخرة، وفضلاً عن ذلك فإنّ اشتياق يعقوب إلي يوسف»كان من السلف إلي الخلف فهو اشتياق فطري غريزي، في حين كان اشتياق الإمام الحسين (عليه السلام) إلي آبائه (صلوات الله عليهم) يتجه من الخلف إلي السلف(4)، وفي ذلك نكتة بلاغية هي أنّ الإمام أراد أن يصل فكرة مفادها: إنّ ولهي إلي أسلافي أشدّ من اشتياق يعقوب إلي يوسف».

ص: 257


1- الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، (رسالة ماجستير): 79.
2- المعجم الكبير: 3/45؛ واُنظر: المستدرك علي الصحيحين: 2/373.
3- اُنظر: نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير): 21.
4- اُنظر: أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير):: 96.

وفضلاً عن ذلك، فإنّ استناد الإمام (عليه السلام) إلي القصص القرآني في الخطاب يُسهم في تقوية الحجّة، وإن كان بأسلوبٍ غير مباشر.

(خُيّرَ لي مصرعٌ) الفاعل محذوف؛ للعلم به، وهو الله سبحانه، وفيه تلميحٌ إلي أنّ الموت الذي هو ذاهبٌ لملاقاته لم يكن من قرارة نفسه، وباختيار منه، وإنّما فيه بلاءٌ واختبارٌ من الله سبحانه وتعالي، فإذا قَبِلَ بتلك الحال التي اختارها إليه ربّه التي أكدتها المرويات، وأرباب المقاتل الحسينية أعطاه الله تعالي مراده بملاقاة أسلافه، والعيش معهم هو ومن يسير بركابه، وإن لميتجاوز ذلك الاختبار، وقَبِلَ بحياة الذلِّ والهوان فلن يكون سيداً لشباب أهل الجنّة، وبهذا الاختبار حجّة من الله (عزوجل) لبني البشر، هي إنّه سبحانه وتعالي لا يُعطي شيئاً من دون مقابل، وإن كان لابن صفيه وخيرة خلقه.

(أنا لاقيه) فيه دلالة علي استعداد الإمام (عليه السلام) لتقبل هذا الابتلاء، كما إنّ في تقديم الفاعل (أنا) علي عامله (لاقيه) دلالة علي الاختصاص والقصر، والإخبار بأنّه (عليه السلام) ملاقٍ هذا المصير، وكأنّي بلسان حاله يقول: إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني، ثمّ راح يصوّر للنّاس الحال التي سيلاقيها (كأنِّي بأوصالي يتقطَّعها عُسْلان الفلوات بين النواويس وكربلا) صوّر الإمام (عليه السلام) الحال التي يكون عليها عندما يلاقي جيش عبيد الله بن زياد؛ ولكي تكون الصورة أقرب إلي ذهن المتلقي استعار لفظة (عسلان) لهذا الجيش، - والعسلان صفة تُطلق علي حركة الذئاب(1) -؛ ليُبيِّن بهذه الاستعارة الصفات التي كان يتصف بها ذلك الجيش من غدرٍ، وشراسةٍ، ووحشيةٍ، فضلاً عن سرعة الحركة والتوجيه نحوه؛ وذلك لأنّ تلك الصفات من سمات تلك الحيوانات، فمن خلال هذه الاستعارة استطاع

ص: 258


1- اُنظر: لسان العرب: مادة (عسل): 11/444.

الإمام أن يرسم صورة حسية؛ لتكون أقرب إلي ذهن المتلقي من الصورة المجردة للجيش الذي يزحف نحوه بعد خروجه؛ليضع النّاس من حوله أمام حقيقة لا مراء فيها، وهي إنّه مقتولٌ، مسلوبٌ، مُمَثَّلٌ به؛ ليلفت من خلالها نظر المتلقي إلي تلك الصورة المؤلمة والحزينة، التي خُطت بالقلم؛ وليرسم بها الحال التي سيكون عليها الإمام (عليه السلام) ومَن يتبعه، وهي إنّهم سيتعرضون إلي الافتراس بشراسة، ووحشية، وهمجية، وقرن هذه الاستعارة ب-(الفلوات)، ويُقصد بها «الأرض اليهماء التي لا يُهتدي فيها لطريق»(1)؛ ليضفي صفة أخري علي الجيش الزاحف،بأنّهم حيوانات بشرية سائرة وراء غرائزها، تستمد عقائدها ومفاهيمها من الصحراء لاتعي الحقّ ولا تعرف الباطل، وهذا الوصف جاء متناسباً مع الفعل المضارع (يتقطَّعها) المضعّف الطاء؛ لما «يختزنه هذا الفعل من مثير بصري صادم، يتجلي حركياً خلال تقطع الأوصال بالاتجاهات جميعها؛ بغية تمزيقها، وربّما كان ذلك كافياً لإصعاق المتلقي وإدهاشه، وبهذا يظهر أثر العنصر الحسيّ وقوة إيحاءاته، وما يثيره من مشاعر»(2)، وبهذه الاستعارة استطاع الإمام (عليه السلام) أنّ يرسم صورة ما سيلاقيه هو والأسرة الزاحفة معه من تقتيلٍ، وسلبٍ، وسبي، ووحشيةٍ، ونحو ذلك؛ ليكون ذلك ثمناً للقائهم بالنبي الخاتم (صلي الله عليه و آله)، وخلودهم معه؛ لئلا يظنَّ النّاس أنّه بخروجه إلي الكوفة كان طالباً دنيا.

ولو قال الإمام (عليه السلام): كأنِّي بأوصالي يتقطَّعها جيش الكوفة بين النواويس وكربلاء، لم يتوصل المتلقي إلي الصورة الوحشية التي مرّ ذكرها؛ إذ إنّ هذه الاستعارة جعلته يربط بين صفات ذلك الجيش والصفات التي مرّ ذكرها لتلك

ص: 259


1- المصدر نفسه: مادة (غطش): 6/324.
2- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير):: 229.

الحيوانات، بل جعلتْ تلك الصورة الاستعارية المتلقي ينظر إلي جيش الكوفة بوصفهم حيوانات علي وجه الحقيقة لا المجاز؛ ولهذا عمد الإمام (عليه السلام) إلي هذه الاستعارة؛ لثقته البالغة بأنّها أبلغ من الحقيقة في هذا السياق، وهكذا ظهرت القيمة الحِجَاجية للاستعارة في هذا الخطاب، وكان لها الفضل الكبير في إبراز معانٍ خفية قد كشفت عن كنهها. وأضاف إلي هذه الصورة الاستعارية صورة استعارية أخري، وهي قوله: «فيملأن مني أكراشاً(1) جُوفاً وأجربة(2) سغباً(3)» ويري ميثم قيس أنّ المراد من ذلك:إنّها «بطون فارغة، كأنّها كيس فارغ ليس فيها ما يسد حاجتها، وتصوّر هيأة الذئاب الجائعة، كيف يكون حالها حينما تنقضّ علي فريستها»(4)، وذهب موسي خابط إلي أنّها أكياس جائعة(5)، والذي أراه أنّ المراد من هذه الاستعارة التمثيلية أنّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يصوّر للناس الطريقة الوحشية التي سيتبعها ذلك الجيش مع الإمام (عليه السلام)، وأهل بيته وعياله، فبعدما ينقضّون عليهم يمزقون أوصالهم، ويقطّعونهم، وينثرون أشلاءهم علي مساحة من الأرض، واستعار عن هذه الدلالة المعنوية بدلالة حسية تمثيلية، متمثّلة في الوحشية والشراسة في التعامل مع الإمام (عليه السلام) وأهل بيته، وخيرة أصحابه (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهذه الاستعارة تثير الرعب في نفس الملقي؛ لما يحمله الذئب، أو الثعلب في الخيال العربي

ص: 260


1- «كَرِشُ الرجلِ عيالُه من صغار ولدِه، يقال: عليه كَرِشٌ منثورة؛ أَي صبيانٌ صغارٌ وبينهم رَحِمٌ كَرْشاءُ؛ أَي بعيدةٌ وتزوّجَ المرأَةَ فنَثرت له كَرِشَها وبطْنَها؛ أَي كَثُرَ ولدُها». لسان العرب: مادة (كرش) 6/339.
2- «والجريب: قدر ما يزرع فيه من الأرض...والجمع: أجربة وجربان». المصدر نفسه: مادة (جرب)1/259.
3- وسبغ الشئ يسبغ سبوغاً: طال إلي الأرض واتسع. اُنظر: المصدر نفسه: مادة (سبغ)8/432.
4- نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير):: 34.
5- أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، (رسالة ماجستير): 229.

–آنذاك - من غدرٍ وشراسةٍ، وفتكٍ، وضراوةٍ، ووحشيةٍ، وأراد الإمام (عليه السلام) من هذه الاستعارات رسم الصورة التي سيكون عليها بعد خروجه إلي العراق، فمن أراد اتّباعه عليه أن يعدّ نفسه إلي هذا المصير؛ لتؤول عاقبته إلي ملاقاة الرسول محمد (صلي الله عليه و آله)، لكن الحقيقة إنّ الوحشية التي شهدتها واقعة كربلاء «ليس لهاشبيه حتي بين أشد الوحوش ضراوة، وكلمة (وحشية) لا تفيها حقها من الدلالة عليها، فقد فاقت الوحشية بمراحل، وتقدمت علي الدموية بخطوات، وصار لزاماً أن يوجد تعبير يلائمها، لكن العقل البشري الذي وضع لكلِّ مظهر حدوداً قصوي في الفعل والتعبير عن هذا الفعل، ولكلِّ موقف أقصي ما يلائمه من كلمات تدلل عليه، لم يستطع تخطي تعبيري الوحشية، والهمجية، مع أن الواقعة كانت تتخطاها بمراحل شاسعة»(1)، وذِكْرُ الفاء يدلُّ علي التقارب بين الأحداث، فلا مهلة، أو تراخٍ زمني في الحدث، وهذا يدلّ علي السرعة في الإنجاز.

وممّا يلفت النظر في هذا القول أيضاً أنّ «تقديم الجار والمجرور (منّي) علي المفعول به (أكراشاً)، الذي وصف ب- (جوفاً)، والغرض هو العناية والاهتمام بالجار والمجرور أكثر من عنايته ب- (أكراشاً)... فلو قدّم الإمام (عليه السلام) المفعول به (أكراشاً) علي الجار والمجرور؛ لأصبح المفعول به أكثر أهمية من المتعلق الذي تأكدت أهميته، ومدي عناية الإمام (عليه السلام) به»(2).

(لا محيص عن يوم خطَّ بالقلم) تلميحٌ إلي ما أخبر بهجبرائيل (عليه السلام) جدّه

ص: 261


1- الحسين في الفكر المسيحي، انطوان بارا، مطبعة سرور، قم، الطبعة الأولي(1424ه- - 2004م): 118.
2- المأثور من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة لغوية، عصام عدنان رحيم الياسري، (رسالة ماجستير)، جمهورية العراق، جامعة القادسية، كلية الآداب، قسم اللغة العربية (2005م): 76.

المصطفي (صلي الله عليه و آله) بما سيلاقيه ولده الحسين (عليه السلام) بأرض كربلاء(1).

(رضا الله رضانا أهل البيت) رضا الله سبحانه = رضانا أهل البيت، و رضانا أهل البيت = رضا الله تعالي، فأراد الإمام (عليه السلام) أن يقول: إنّ كلَّ ما يُرضي الله (عزوجل) نحن به راضون، وما يرضينا يُرضي الله تعالي، فأهل البيت (عليهم السلام) هم الأنموذج الذي يجب علي كلِّ مسلم الاقتداء به؛ لما امتازوا به من شجاعة، وإقدام، وقوة إيمان، وخوف علي الدين، رافضين الضيم، والذلَّ، والهوان، فالمقام في هذه الخطبة مقام تأسٍ، واقتداء. وعَرَّفَ أوليفي روبول الأنموذج بأنّه «المثال الذي يظهر بمظهر يستوجب تقليده»(2)، والحجّة من ذلك أنّ المنطق العقلي لا يجوّز له مبايعة يزيد؛ لأنّ الله تعالي لن يرضي عليه إن وضع يده بيد فاسق سكّير.

(نصبر علي بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين) ربط هذين القولين ارتباط السبب بالنتيجة بالرابط (الواو)، فالغاية من الصبرعلي البلاء الحصول علي الأجر، وأي أجر فهو أجور الصابرين؛ ليتوصّل الإمام (عليه السلام) من ذلك إلي النتيجة (لن تشذَّ عن رسول الله لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس) والنفي في هذه النتيجة عامل حجاجي، حصر الإمكانات الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة النهائية، وساعد المتلقي في تحديد دلالة المراد من الكلام، وردّ حجج من يدعونه إلي الخروج عن ملّة جدّه رسول الله (صلي الله عليه و آله) بمبايعة يزيد، فالإمام (عليه السلام) لو بايع يزيد لصار الرسول (صلي الله عليه و آله) كاذباً - حاشاه - في أقواله التي خصّه بها من جهة، ولأعطي ليزيد الفاسق الشرعية بخلافة

ص: 262


1- اُنظر: مسند أبي يعلي، أحمد بن علي بن المثني الموصلي التميمي، تحقيق حسين سليم أسعد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولي (1404ه- - 1984م): 6/129؛ وصحيح ابن حبان، أبو حاتم محمد ابن حبان بن أحمد التميمي (ت354ه-)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية (1414ه- - 1993م): 15/142؛ والبداية والنهاية: 11/670- 675.
2- دراسات في الحجاج: 62؛ نقلاً عن: مدخل إلي الخطابة، أوليفي روبول، المطابع الجامعية الفرنسية، فرنسا، الطبعة الثانية (1994م): 186.

رسول الله (صلي الله عليه و آله) من جهة أخري.

(تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ ويُنْجَزُ بِهِمْ وَعْدُهُ) (تَقَرّ) كناية عن فرح رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وسعادته، وسروره، وبشراه. (يُنْجَز) كناية عن الوفاء بالوعد.

(مَنْ كَانَ بَاذِلاً فِيْنَا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّنَاً عَلَي لِقَاءِ اللهِ نَفْسَهُ) كناية عن إعداد العدّة والاستعداد للفداء والشهادة (1)، وممّا يُلحظ أنّ الإمام (عليه السلام) في هذا القول قدّم متعلق شبه الجملة - الجار والمجرور - (فينا) علي المفعول به (مهجته)، والجار والمجرور (علي لقاء الله) علي المفعول به (نفسه)؛ للدلالة علي الاختصاص.لقد اعتمد الإمام (عليه السلام) علي هذا الأسلوب الحِجَاجي الكنائي في هذه الأقوال الأخيرة؛ لأنّ المعني الذي يفهمه المتلقي من قصد الإمام (عليه السلام) بعد تدّبرٍ وتفكّرٍ، يكون أقوي تأثيراً، وأكثر إقناعاً من المعني الصريح؛ فالإمام بأسلوبه هذا أراد إشراك المتلقي في العملية الحِجَاجية؛ لأنّ الكناية تجعل المتلقي يقوم بعملية ذهنية عقلية؛ لإدراك العلاقة الدلالية التلازمية ما بين المعني السطحي الظاهر (المكني به)، والمعني الخفي الذي يريد المحاجج التوصل إليه (المكني عنه)؛ ممّا يجعل المتلقي يتوصل إلي الفكرة التي يريدها الإمام (عليه السلام) بنفسه، وهذا التوصّل يجعل تقبل الحجّة، والاقتناع بها أقوي من التصريح.

وكلّ ما في النصّ من حجج، ووسائل تأثير، وإثارة، وصور إنّما أراد منها الإمام (عليه السلام) توجيه المتلقي إلي النتيجة (فليرحل معنا فانِّي راحل مصبحاً إن شاء الله). أي: أدعوكم إلي أن تتأسوا بي في اختيار الموت بعزٍّ، وشرفٍ، وكرامةٍ بدلاً من العيش بالذلِّ، والهوان، والخنوع لبني أمية، فالحاجة إلي الرحيل باتت ملحّة فلا مجال فيها للتخاذل. وهذه هي النتيجة المرجوة من الخطبة برمّتها، وممّا يُلحظ أنّ

ص: 263


1- اُنظر: نَثْر ُالإمَامِ الحُسَيْن (عليه السلام) دِرَاسَةٌ تَحلِيليَّةٌ في جَمَاليةِ بِنْيَةِ النَّصِ، حيدر محمود (أطروحة دكتوراه)، جمهورية العراق، جامعة البصرة، كلية التربية، قسم اللغة العربية (1433ه- -2012م): 123.

قرار الرحيل لم يكن باختيار الإمام (عليه السلام)، وإنّما كان اضطراراً، فالكريم متي تعرض للذلِّ يهجر الدنيا بما فيها.

وإذا أردنا أن نرتب حجج هذه الخطبة علي وفق السلّم الحِجَاجي تكون فيه الكناية أقوي الحجج، تليها الاستعارة، فالتمثيل، ثم التشبيه.ومن المقدمات الحِجَاجية التي استند إليها الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة:

الحقائق، ممثلة بحقيقة الموت.

الأنموذج: (أهل البيت).

القيم: فالإمام (عليه السلام) بخروجه إلي أرض العراق أراد المحافظة علي القيم النبيلة التي أكدها الدين الإسلامي، فالقيم الدينية والدنيوية لا تسمح له بأن يضع يده بيد فاسق، وهو ابن النبي محمد (صلي الله عليه و آله)، وابن الوصي عليّ (عليه السلام)، وابن فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، وسيد شباب أهل الجنّة، وخامس أهل الكساء.

فالدين، والعدل، والأخلاق، وابن بنت النبي أولي بالاتباع من حبّ الدنيا، ومناصرة الظلمة، والخنوع لحكم الفسقة، فالأولي بالمسلمين أن يتبعوه، ويناصروه في القضاء علي آفة الفساد التي ألقت بظلالها علي الأمة الإسلامية.

ويري بيرلمان أنّ القيم عناصر حجاجية جاهزة؛ بوصفها موضع اتفاق بين المحاجج والمتلقي، وعليها مدار الحِجَاج، ويعوّل عليها في جعل المتلقي يذعن لما يُعرض عليه من آراء، ويستند إليها المحاجج؛ ليحمل المتلقي علي القيام بأفعال معينة، أو يستدعيها؛ لتبرير بعض الأفعال؛ ليضمن قبولها من الطرف الآخر(1).ونخلص من ذلك إلي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام):

اعتمد علي عوامل عدّة زادت من القوة الحِجَاجية للنصّ، متمثلة في الصور

ص: 264


1- اُنظر: مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة: 2/194. نقلاً عن: Traite De I Argumentation, Op.Cit,P99-102,4em ED.

الحِجَاجية البيانية (التشبيه، والتمثيل، والاستعارة، والكناية)؛ لما امتازت به هذه الصور الحِجَاجية من مقدرة «علي التقريب بين عنصرين من نظامين مختلفين مع محاولة جاهدة لطمس ما بينهما من فروق»(1)؛ لما فيها من بلاغة، وقوة إقناع، فضلاً عمّا في هذه الخطبة من تناغم في الأفكار، وحسن التخلص من فكرة إلي أخري، وهذا الأسلوب الحِجَاجي يؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ كلَّ ما موجود في هذه الخطبة محكم النسج، ومنتقي بدقّة في التوجيه نحو النتيجة المرجوة.

التفنن بالالتفات؛ لتطرية نشاط ذهن جمهوره، فقد بدأ خطابه بالحديث عن الغائب (خُطّ الموت...)، ثم التفت إلي الحديث عن نفسه (وما أولهني إلي أسلافي...)؛ ليجعل المتلقي يتعرّف علي السبب الذي يدفعه (عليه السلام) إلي الخروج من مكة إلي العراق، ليُقنع جمهوره بحججه بعدما يلفت أنظارهم إليه، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الأسلوب الحِجَاجي أفاد الاختصاص، أي أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يقول: إنّ خروجي يختص بهذا الفعل من دون سواه، وهو ملاقاة الموت؛ليكون سبباً في انتقالي إلي الحياة الأبدية مع الأسلاف في جنان الخلد، بعيداً عن حياة الذلِّ والهوان، ثم التفت بعد ذلك إلي الحديث عن أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: (رضا الله رضانا أهل البيت)؛ ليبين للمتلقي أنّه بفعله هذا لم يخرج عن ملّة أهل البيت؛ فكلُّهم كانت غايته رضا الله (عزوجل)، يصبرون علي بلائه؛ فيوفيهم أجور الصابرين. وفي ختام كلامه (عليه السلام) التفت إلي المتلقين مخاطباً إياهم (من كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً علي لقاءِ الله نفسه؛ فليرحل معنا؛ فانِّي راحل مصبحاً إن شاء الله). وفي هذا القول أراد أن يلفت نظر جمهوره إلي النتيجة من هذه الخطبة، وذلك بدعوتهم إلي السير علي نهجه؛ لملاقاة الله سبحانه، بمجاهدة الفسقة الخارجين عن دين جدّه رسول الله (صلي الله عليه و آله)،

ص: 265


1- دراسات في الحجاج: 48.

و«الانتقال من ضمير لآخر... يجعل المستمع يعيش الحدث الحقيقي، وبالتالي ينجذب إلي الموضوع، ويقتنع به»(1).

مال إلي الإيجاز، فاتحاً أمام أذهان متلقيه أبواب التخيّل والتصوّر؛ لأنّ الخطبة القصيرة أنفذ إلي الأسماع، وأحسن موقعاً في القلوب والأذهان(2).

وزيادة علي ذلك نستشفّ:

إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حجّة علي أنّ الإسلام لا يؤيّدالحاكم الطاغي، ولا الأمير العاتي.

إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) اختار الشهادة، وأعطاها مدلولاً جديداً، فبها يموت الجسد، وتحيا الروح.

الإمام الحسين (عليه السلام) كان عارفاً بأنّه سيخسر الحرب، لكن غايته من ملاقاتها كانت المحافظة علي بيضة الإسلام من الفساد.

لم يرد الخروج إلي الكوفة استناداً إلي ثقته بوعود أهلها، بل لفضح الأمويين، وأتباعهم، والمدعين الإسلام بأفواههم.

الرحال التي شدّها، والأسرة التي زحف بها لم يطلب بها سلطة ولا جاهاً، بل هي طريقه إلي لقاء أسلافه في جنان الخلد؛ ليعيش معهم الحياة الأبدية.

ونخلص من ذلك كلّه إلي أنّ عزم الإمام (عليه السلام) علي الخروج في ذلك الوقت ل«طلب الشهادة وبثّ مشاعر الشوق والحنين وغيرها من الأسباب إنّما هي أدلة ظاهرة علي مدي صرامة تلك المرحلة الخَرِبة من تأريخ البشرية وخطورتها في الآن معاً،

ص: 266


1- الحجاج في المثل السائر لابن الأثير، (رسالة ماجستير): 31.
2- اُنظر: الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 123-124؛ وتجليات الحجاج في الخطاب النبوي، (رسالة ماجستير): 193.

في الوقت الذي مثّلت فيه الشهادة عامل احتجاج(1) علي الآفة التي ارتدت رداء الدين؛ لتنقضَّ علي أرباب الدين، وعامل احتجاج(2) علي ضمائر المسلمين التي نامت نومة أهل الكهف، فإذا لم تجد الكلمة آذاناً صاغية، فالأحري بالدماء أنتحل محلها»(3).

خطبته بجيش الحرّ بالبيضة قرب العذيب

سار الحسين (عليه السلام) قاطعاً رمال الصحراء بالأطفال والنساء غير مبالٍ بمصاعب الطريق، والتقي بمسيره بأبي هرّة، والفرزدق، والطرماح، ودارت بينه وبين هؤلاء محاورات(4)، سألهم فيها عن أحوال الكوفة، وأهلها، فأخبروه بمقتل ابن عمه، ومقتل رسله: مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وقيس بن مسهر الصيداويّ، وأخيه من الرضاعة، عبد الله بن يقطر، وغيرهم، فالتفت إلي من سار معه من الأعراب - وهو في طريقه إلي الكوفة - قائلاً: «أيها الناس قد خذلتنا شيعتنا، وقُتِلَ مسلم، وهانئ، وقيس بن مسهر، وابن يقطر، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فتفرق النّاس الذين صحبوه أيدي سبأ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتي بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من الحجاز»(5)، ثم سار مع مَن بقي معه إلي أن التقي بذي حُسُم بجيش عبيد الله ابن زياد، بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحيّ بألف فارس، أمرهم ابن زياد بملازمة الحسين (عليه السلام)، وعدم مفارقته إلي أن يأخذوه إلي الكوفة، فخطب فيهمالإمام الحسين (عليه السلام) خطبتين: أولاهما بعد صلاة الظهر، والأخري بعد صلاة العصر،

ص: 267


1- الأصوب، عامل حجاج.
2- الأصوب، عامل حجاج.
3- نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير): 21.
4- اُنظر: تاريخ الطبري: 5/386؛ والكامل في التاريخ: 3/407؛ وبحار الأنوار: 44/367-368، 376.
5- جمل من أنساب الأشراف: 3/380.

ذكر فيهما أنّ سبب قدومه إلي الكوفة كان بطلب من أهلها، ولما أنكر الحرّ ذلك، طلب من عقبة بن ِسمعان اخراج خرجين من الكتب - وقد مرّ ذكر ذلك في المبحث الثاني من الفصل الأول، فقال الحرّ: «فإنَّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرنا إذا نحن لقيناك ألَّا نفارقَك حتي نُقدمك علي عبيد الله بن زياد؛ فقال له الحسين: الموتُ أدني إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا»(1)، ولما وجد الحرّ الإمام الحسين (عليه السلام) رافضاً مرافقته إلي عبيد الله قال له: «فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردك إلي المدينة؛ حتي أكتب إلي ابن زياد، وتكتب أنت إلي يزيد، أو إلي ابن زياد، فلعلّ الله يأتي بأمرٍ يرزقني فيه العافية، من أن ابتلي بشيءٍ من أمرك»(2)، وظلّ الحرّ يلازم الإمام، ودار بينهما حديث، وخطب فيهم الحسين (عليه السلام) خطبته بالبيضة قرب العُذيب، جاء فيها - بعدما حمد الله جلّ في علاه، وأثني عليه -: «أيّها النّاس إنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرمِ الله، ناكثاً لعَهْد الله مخالفاً لسنة رسول الله، يَعملُ في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يغيّر عليهبفعل ولا قول، كان حقّاً علي الله أن يُدخله مُدخَله"، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حَرام الله، وحرّموا حلالَه، وأنا أحقُّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنَّكم لا تُسلموني ولا تَخذُلوني فإنْ تممتم عليَّ بيعتكم تصيبُوا رشدكم، فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلِكم، فلكم فيَّ أسْوة، وإن لم تفعلوا

ص: 268


1- تاريخ الطبري: 5/402؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/79-80؛ ومناقب آل أبي طالب: 3/104؛ والكامل في التاريخ: 3/408-410؛ وبحار الأنوار: 44/376.
2- المصدر نفسه: 3/408.

ونقضْتم عهدكم، وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم، فلَعَمْري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي، وأخي، وابن عمي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم، ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(1).

هذه الخطبة دارت حول أربعة محاور، سبقها نداء (أيّها النّاس) كان الغرض منه لفت انتباه الحرّ بن يزيد الرياحيّ، و جيشه إليه، وهذه المحاور، هي:

المحور الأول: قول الرسول محمد (صلي الله عليه و آله): «من رأي سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرمِ الله، ناكثاً لعَهْد الله مخالفاً لسنة رسول الله، يَعملُ في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً علي الله أن يُدخله مُدخَله». الحديث النبوي يمثّل حجّة سلطة، وهي من الحجج التي تنتمي إلي الحجج القائمة علي بنيةالواقع، وجعل الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الحجّة القاعدة التي استند إليها في حجاجه؛ لزيادة درجة التصديق به من أجل إقناع النّاس بثورته، وأحقيته بالإمامة؛ لينثنوا عمّا قدموا من أجله، ويسيروا في ركابه في مواجهة الانحراف في المجتمع الإسلامي، وإصلاح مسيرته العامة.

لقد أراد الإمام الحسين (عليه السلام) من هذا الاستشهاد توجيه المتلقي إلي وجهة حجاجية واحدة هي: إنّ النبي محمداً (صلي الله عليه و آله) هو الأنموذج الأسمي، والأمثل الذي يجب علي كلّ مسلم التأسي به، والعمل بأقواله في الخروج علي حكم الجور، وإنّه (عليه السلام) مقتدٍ به، وسائر علي نهجه، ويتضح ذلك بقوله: (أنا أحقُّ من غَيّر)؛ ليصل من ذلك إلي أنّه في ذلك المقام هو الأنموذج الأمثل، الذي يجب علي النّاس التأسي

ص: 269


1- تاريخ الطبري: 5/403؛ وذكر البلاذري (ت279ه-) جزءاً منها في كتابه (جمل من أنساب الأشراف): 3/381؛ وينظر أيضاً: الكامل في التاريخ: 3/408-409؛ وبحار الأنوار: 44/381-382؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/40.

به، في الخروج علي حكم الجور؛ إذ قال: (فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلِكم، فلكم فيَّ أسْوة). وبهذا الأسلوب الحِجَاجي سدّ الإمام (عليه السلام) منافذ الحِجَاج المضاد.

المحور الثاني: الأمويون ومناصروهم، ويمثله قوله (عليه السلام): (ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حَرام الله، وحرّموا حلالَه). في كلامه (عليه السلام) هذا دليل علي أنّه لم يخرج علي شخص يزيد، بل خرج علي نظام الحكم الأموي برمته الذي أرسي دعائمه معاوية؛ لما حمله من سياسة خارجة عنالدين الإسلامي، وكثرة الأفعال الماضية في هذا النصّ أفادت تقرير الحقائق، ولفتت انتباه النّاس إليها.

(ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان)، (ألا) أداه تنبيه، والتنبيه فعلٌ كلامي إنجازي مباشر، وغاية الإمام (عليه السلام) من اعتماد هذا الأسلوب تنبيه الجيش إلي ما سيُلقي عليه، وفضلاً عن ذلك فإنّ لهذه الأداة فائدة دلالية أخري، وهي التحقيق، أي تحقيق الجملة التي بعدها(1). (إنّ) أداة تفيد توكيد الخبر، ودفع الشكّ والظنّ والتكذيب عنه، وتثبيت ما يأتي بعدها من كلام؛ وزيادة علي ذلك أفادت هذه الأداة في هذا المقام التعليل، أي بيان السبب الذي دفع الإمام (عليه السلام) للخروج علي حكم الجور. (هؤلاء) اسم إشارة أشار فيه إلي بني أمية وأنصارهم. (قد) تدلُّ علي أنّ الفعل الماضي الذي يأتي بعدها كان متوقعاً، كما تدلّ علي تقريب الماضي من الحال، فضلاً عن إفادتها التحقيق والتوكيد، وجاءت هذه الأدوات (ألا)، (إنّ)، (قد)؛ لتوكيد الخبر، والزيادة في تحقيقه، (استأثروا بالفيء)، (استأثروا) انفردوا. (بالفيء)

ص: 270


1- اُنظر: البرهان في علوم القرآن: 2/416.

المال الذي يؤخذ من دون قتال من النّاس، الذين لا يدخلون بالإسلام(1)، قال تعالي: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(2)، وهم بفعلهم هذا (أحلّوا حَرام الله)، فضلاً عن قتل المؤمنين، وشرب الخمر، واللعب بالكلاب، واغتصاب الحقوق.

المحور الثالث: أهل الكوفة، ويمثله قوله (عليه السلام): (وقد أتتني كتبكم، وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنَّكم لا تُسلموني، ولا تَخذُلوني، فإنْ تممتم عليَّ بيعتكم تصيبُوا رشدكم... وإن لم تفعلوا ونقضْتم عهدكم، وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم، فلَعَمْري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي، وأخي، وابن عمي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم، ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه، وسيُغني الله عنكم).

(وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنَّكم لا تُسلموني، ولا تَخذُلوني)، (إنّ) أداة توكيد، تفيد توكيد الحجج، وتقوية العلاقة الحِجَاجية بين العناصر. (لا) أداة نفي، والنفي عامل حجاجي، يقلّص الإمكانات الحِجَاجية؛ ليزيد من الطاقة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، كما يساعد المتلقي في تحديد المراد من الكلام، وبه تتحدد النتيجة المضمرة، وهي - علي ما يبدو - (لا تسلموني ولا تخذلوني، بل لازموني، وتأسوا بي؛ لنعمل معاً بقول الرسول (صلي الله عليه و آله): (من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرمِ الله...).

(فإنْ تممتم عليَّ بيعتكم تصيبُوا رشدكم) جملة شرطية دالةعلي الحدوث

ص: 271


1- اُنظر: لسان العرب: مادة (فيأ) 1/124.
2- سورة الحشر: آية7.

والتجدد، والعلاقة الرابطة فيها بين فعل الشرط وجوابه علاقة سببية. (وإن لم تفعلوا ونقضْتم عهدكم، وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم... فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم)، جملة شرطية دالة علي الحدوث والتجدد، استعملها الإمام (عليه السلام)؛ لتقوية الجملة الشرطية التي قبلها، وتأكيدها. (فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم) تقديم وتأخير، الغاية منه القصر عليهم، والاختصاص بهم. (فلَعَمْري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم) هذا الكلام يُصطلح عليه عند البلاغيين ب-(الإيضاح بعد الإبهام)(1)، جاء ليُفسّر جملة فعل الشرط (وإن لم تفعلوا ونقضْتم عهدكم، وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم) ويُعد هذا الفنُّ من «أهم الصور البلاغية ذات الدور الفعال في الميدان الحِجَاجي... والتفسير عند بيرلمان هي توضيح لعددٍ من الجمل من خلالِ عددٍ آخر، وبهذا يُسهم هذا التوضيح في نزع كلِّ الإبهامات والتساؤلات التي تتبادر إلي ذهن المتلقي، وبالتالي إقناعه إقناعاً قوياً»(2)، ويُعدّ من «أهم الوسائل الحِجَاجية التي تُسهم إسهاماً فعالاً في فك الغموض والإبهام للمتلقي، وإقناعه بالفكرة التي يريد المتكلّم أن يوصلها، ما يؤدي في آخر الأمر إلي نوعٍ من التوافق والتفاهم بين الطرفين»(3). وابتداء الإمام (عليه السلام) بالقسم الغاية منه إعطاء الكلام مصداقية أقوي. وأشربه معني التوبيخ بالاعتماد علي تقنية الفصل الحِجَاجي، وتتأسس هذه التقنية علي ثنائية الظاهر والحقيقة، ففي الظاهر أنّهم بايعوا الإمام الحسين (عليه السلام) علي مواجهة سلطة الجور، وفي الحقيقة أنّهم بايعوه من أجل مصالحهم الشخصية؛ ليكون كلامه هذا حجّة موجهة إلي الجمهور الكوني

ص: 272


1- اُنظر: البلاغة فنونها وأفنانها: 482- 486.
2- الحجاج في المثل السائر لابن الأثير، (رسالة ماجستير): 29.
3- المصدر نفسه: 77.

(النّاس إلي زماننا وما بعده) تسلّط الضوء علي موقف أهل الكوفة في ذلك الوقت الحرج، وكيف باعوا دينهم بدنانير ابن الدعيّ؛ لتبقي وصمة عارٍ تلاحقهم إلي الأبد، وبهذه التقنية استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) أن يوقظ أذهان النّاس؛ ليتعرفوا علي حقيقة الكوفيين؛ لئلا ينخدعوا بهم؛ لذا أردف قائلاً: (والمغرور من اغترّ بكم) في إشارة إلي من لازمه من الأعراب وهو في طريقه إلي الكوفة، ممّن كان منخدعاً بوعود الكوفيين.

(ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه) في هذا القول تلميح إلي قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(1)، ومثّل هذا التلميح استلزاماً حوارياً حمل بين طياته قوة فعل كلام غير مباشر زادت من قوة الحِجَاج، فهذه الآية تمثّل في هذا الحِجَاج حجّة سلطة استند إليهاالإمام (عليه السلام) علّها تُجدي نفعاً مع الحرّ وجيشه، فضلاً عمّا تحمله من دلالة علي توبيخ الناكثين، وممّا يُلحظ علي تضمين هذه الآية أنّه جاء متلائماً مع كلامه، ومتلاحماً فيه. و(إنّما) أداة قصر تفيد التوكيد المضاعف؛ لما لها من بُعدٍ حجاجي أبعد وأعمق في توجيه النّاس نحو النتيجة المضمرة؛ وذلك من خلال تقليص الإمكانات الحِجَاجية وحصرها؛ للزيادة في قوة الحِجَاج، وتُستعمل لتنبيه المخاطب إلي قضية حريٌّ به أن لا يغفل عنها، كما إنّها تفيد إثبات ما بعدها ونفي ما عداه(2)، وأداة القصر (إنّما) «لا تأتي إلا حين يُراد تصحيح معتقد، أو ظنّ يذهب إلي نقيض المفهوم منها»(3)، فقد أفاد ذلك أنّ صفة النكث تقتصر علي الناكثين

ص: 273


1- سورة الفتح: آية10.
2- اُنظر: دلائل الإعجاز: 335.
3- دلالات التراكيب دراسة بلاغية، الدكتور محمد محمد أبو موسي، دار التضامن، القاهرة، الطبعة الثانية (1408ه- - 1987م): 139.

فحسب، وتختص بمن كاتبوه من دون سواهم، فهي إذن إلي ذلك الوقت الذي خطب به الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الخطبة لم تشمل الحرّ؛ بوصفه لم يكن من الذين بايعوه، ولا من الذين كاتبوه؛ فلذا رأي الإمام (عليه السلام) أنّ الواجب الشرعي يُحتّم عليه إرشاد القوم و هدايتهم إلي جادة الصواب، وهو بذلك حاصر الحرّ وأصحابه بزاوية ضيقة، فإمّا أن يُسايروه لمواجهة أعداء الدين، أو يضعوا أيديهم بأيدي الناكثين للبيعة، ممّن عزموا علي قتله، فهذا الأسلوبالحِجَاجي - وأعني به التوكيد بالقصر - حجّة يستند إليها المحاجج؛ ليصل إلي نتيجة غير مصرّح بها، تُفهم من سياق القول يريد المحاجج بوساطتها من المتلقي أن يتوصّل إليها بنفسه، ثم يسلّم لما يتوصل إليه.

المحور الرابع: حديث الإمام عن نفسه في قوله (عليه السلام): (وأنا أحقُّ من غَيّر... فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلِكم، فلكم فيَّ أسْوة). وقسّمه علي قسمين:

الأول: بعد حديثه عن ألأمويين: (وأنا أحقُّ من غَيّر) هذا القول ينم عن جرأة، وشجاعة في مواجهة الحاكم الطاغي المتسلّط المغتصب لحقوق النّاس، وفيه دلالة علي أنّ السنّة الإسلامية كانت مخذولة.

والآخر: في أثناء مخاطبته أهل الكوفة: (فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلِكم، فلكم فيَّ أسْوة) في قوله هذا التفات، والالتفات «فنٌّ من الكلام جزلٌ فيه هزٌّ وتحريك من السامع»(1)؛ إذ يجعله يعيش الحدث بوصفه حقيقة، وبه حبس الإمامُ (عليه السلام) المتلقي في موقفٍ لا يمكن معه أن ينكر، أو ينفي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 274


1- الكشاف: 1/210.

وصي رسول الله وخليفته، كما لايمكنه أن ينكر أنّه ابن بنت النبي (صلي الله عليه و آله)، فطاقتهالحِجَاجية تكمن في ما يؤديه معني ضمني، وهذا المعني الضمني منضوٍ في السمات الدلالية الضمنية، وهي إنّ أعداء الإمام الحسين (عليه السلام) قد أنعم الله عليهم سبحانه وتعالي، بنعمة الإسلام والهداية برسالة جده المصطفي محمد (صلي الله عليه و آله)، وبسيف أبيه المرتضي (عليه السلام)، فكيف يجوّز لهم دينهم قتل أهل بيت النبي؟! وقوله هذا يقتضي حقيقة تحمل بين طياتها أنّه ممّا لا نقاش فيه، ولاجدال أنّه لايحلّ لكم قتلي، وانتهاك حرمتي؛ لأنّ بقتلي تجاوزاً علي حدود الله جلّ في علاه، وانتهاكاً لحرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وجاء قوله هذا تذييلاً للجملة الشرطية (فإنْ تممتم عليَّ بيعتكم تصيبُوا رشدكم)؛ والغرض منه تحقيق معني الجملة وتوكيده؛ إذ إنّ التذييل يعني الإتيان بعد «تمام الكلام بكلامٍ مستقلٍ في معني الأول، تحقيقاً لدلالة منطوق الأول أو مفهومه»(1)، وهو ما عبّر عنه الدكتور عبد الله صولة قائلاً: «إنّ دلالة المفهوم أو دلالة التضمن في جملة التذييل تأتي داعمة في ذهن المتلقي، دلالة المنطوق الحاصل من الجملة الأصلية»(2)، كما إنّ المُلاحظ في هذا التذييل أنّه جاء لبيان العلّة من الدعوة إلي اتباعه. (فلكم فيَّ أسْوة) تقديم وتأخير، الغاية منه الاختصاص والقصر علي التأسّي به فقط.وأهم ما امتازت به هذه الخطبة من سمات حجاجية فضلاً عمّا مرّ ذكره:

إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) افتتحها بالتنبيه ب-(ألا)، واختتمها بالتنبيه ب-(إنّما)؛ إذ أثبتت الدراسات الحِجَاجية أنّ القصر ب-(إنّما) يفيد تنبيه المتلقي إلي الخبر، وتأكيده في نفسه(3).

ص: 275


1- البرهان في علوم القرآن: 3/68.
2- الحجاج في القرآن: 376.
3- اُنظر: القيمة الحجاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية: 115.

التقابل الدلالي بين (لزموا طاعة الشيطان) و(تركوا طاعة الرّحمن)، والتقابل الدلالي بين (أحلّوا حَرام الله) و(حرّموا حلالَه) وكانت الغاية منه الزيادة في قوة التأثير في المتلقي؛ لاستمالته وإقناعه بحجاجه؛ لما اتصف به التقابل الدلالي من قدرة علي تضخيم الفكرة.

كان لل-(واو) الأثر الحِجَاجي الفاعل في الربط بين الحجج، وترتيبها، فقد أفاد في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري، فضلاً عمّا فيه من دلالة علي الإشراك في الحكم.

ص: 276

المبحث الثالث: كلامه (عليه السلام) في كربلاء

اشارة

ظلّ الحرّ يساير الإمام الحسين (عليه السلام) حتي كربلاء، وفي ذلك المكان وصل رسول عبيد الله بن زياد حاملاً كتاباً إلي الحرّ، يأمره فيه بأن يُنْزِل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكانٍ غير محصّن وخالٍ من الماء، وفي اليوم التالي وصل عمر بن سعد علي رأس أربعة آلاف مقاتل، ولما عزموا علي مقاتلته، طلب (عليه السلام) منهم أن يبيت ليلته، وفيها وزّع المهام من بعده علي أهل بيته، ففي ليلة العاشر من المحرم روي عنه ابنه علي السجّاد (عليهما السلام) أنّه كان يردد الأبيات الآتية: [رجز]

يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلَيْلِ

كَمْ لَكَ فِي الإِشْرَاقِ والأَصِيْلِ

مِنْ طَالِبٍ وَصَاحِبٍ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالبَدِيْلِ

وَإِنَّمَا الأَمْرُ إِلي الجَلِيْلِ

وَكَلُّ حَيٍّ سالِكٌ سَبِيْلِ

قال علي السجّاد (عليه السلام): «فأعادها مرتين أو ثلاثاً، حتي فهمتها فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي، ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأمّا عمَّتي [زينب] فإنَّها سمعت ما سمعت وهي امرأة، وفي النساء الرقة والجزع؛ فلم تملك نفسها أن وثبت تجرثوبها وإنَّها لحاسرة، حتي انتهت إليه فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي، وعليّ أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمالِ الباقي. قال: فنظر إليها الحسين (عليه السلام) فقال: يا أُخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان.

ص: 277

قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلاً لنام. قالت: يا ويلتي أفتغصب نفسك اغتصاباً؟! فذلك أقرح لقلبي، وأشد علي نفسي، ولطمت وجهها، وأهوت إلي جيبها وشقته، وخرت مغشياً عليها، فقام إليها الحسين، فصبَّ علي وجهها الماء وقال لها: يا أخيّة اتقي الله، وتعزي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلَّ شيءٍ هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق، فيعودون، وهو فردٌ وحده. أبي خير منّي، وأمّي خير مني، وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكلِّ مسلمٍ برسول الله أسوةٌ. قال: فعزاها بهذا، ونحوه، وقال لها: يا أُخيّة إنّي أقسم عليك، فأبري قسمي لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت»(1).

هذه الأبيات تضمنت إقراراً بالموت، ونعياً للنفس ذكرها الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ليمحّص قلوب أهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) قبل أن يُسَلِّمَهم الراية الرسالية؛ ليحملوها من ذلك المكان (كربلاء) إلي ديوانيزيد في الشام، مروراً بقصر الإمارة في الكوفة.

وهذا يعني أنّ الشعر غالباً ما يهدف إلي الحِجَاج، وحثّ النفس من أجل إقناع المتلقي، وتغيير أفكاره ومعتقداته؛ لدفعه إلي تغيير مواقفه، وهو ما أشار إليه محمّد إقبال العرويّ في بحثه الموسوم (من قضايا النقد القديم - الحكمة والمثل)(2).

وما إن سمعها الإمام السجاد (عليه السلام) خنقته عبرته، وكفف دموعه، ولازم الصمت؛

ص: 278


1- تاريخ الطبري: 5/420-421؛ واُنظر: مقاتل الطالبيين: 113-114؛ والكامل في التاريخ: 3/416؛ والبداية والنهاية: 11/531.
2- اُنظر: من قضايا النقد القديم- الحكمة والمثل، محمد إقبال العرويّ، بحثٌ منشور في مجلة آفاق الثقافة والتراث، الإمارات العربية المتحدة، العدد (34)، لسنة (1422ه- - 2001م): 62.

لأنّه تفهّم الغاية منها، لكنّ زينب الحوراء (عليها السلام) لم تستطع تحمل سماع أخيها ينعي نفسه وتسكت، وعندما وجد أخته زينب (عليها السلام) لا تقوي علي تحمّل نعيه علي نفسه رأي من المناسب أن يُلقي عليها كلاماً يقوّي قلبها، ويصبّرها علي تحمّل الأذي؛ ليعدّها؛ كي تكون علي قدر المسؤولية الرسالية الإلهية، ولتستعيد ذهنها الذي شرد منها حين سمعت أبياته، فألقي عليها حجّة موجزة في لفظها، قوية في معناها، وأعني بذلك المثل (لو ترك القطا ليلاً لنام)(1)؛ لما في المثل من إيجاز في اللفظ،وإصابة المعني، وحسن التشبيه، وجودة الكناية(2)؛ ولأنّ في «المثل حجّة تقوم علي المشابهة بين حالتين في مقدمتها، ويُراد استنتاج نهاية أحديهما بالنظر إلي نهاية مماثلتها»(3). وهذا ما يؤكده الزمخشري؛ إذ يقول: «ولضربِ الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتّي تريك المُتخيّل في صورة المحقق، والمتوهّم في معرض المتيقن، والغائب كأنّه مشاهد»(4). وقد أشارت الدكتورة سامية الدريديّ إلي قيمة المثل الحجاجية بقولها: «ولتوضيح صلة المثل بالحِجَاج نقول: إنّ طاقة الأمثال الحِجَاجية إنّما تقوم في جوهرها علي (القياس)، قياس

ص: 279


1- يُضرب هذا المثل لِمَن حُمِلَ علي مكروه من غير إرادته. اُنظر: مجمع الأمثال: 2/174. وقصته برواية الضبّي: إنّه لحذامِ بنت الريان. فعندما جنّد عاطس بن حلاج علي أبيها الريان، وتحاجزوا فهرب الريان ومن معه ليلاً، ثم عسكروا في مكانٍ بعيد فلما أصبح عاطس فلم يجدهم لحقهم ووصلهم ليلاً، فلما اقتربوا من الريان وقومه أثاروا القطا فمرّت بأصحاب الريان فقالت حذام لقومها: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا فلو ترك القطا ليلاً لناما فلم يلتفتوا إلي قولها، وأخلدوا إلي المضاجع لما نالهم من التعب، فقام ديسم بن طارق، وقال بصوتٍ عالٍ: إذا قالت حذامِ فصدقوها فإنّ القول ما قالت حذامِ
2- اُنظر: المصدر نفسه: 1/6.
3- في بلاغة الخطاب الإقناعي مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية: 82.
4- الكشاف: 1/191.

الحالة الحاضرة الرّاهنة علي أخري مشابهة، يعرفها الجميع ويدركون أبعادها، فمتي سلّموا فإنّهم سيسلمون بالحاضرة... فيفعل المثل في المتلقي تماماً كفعل التشبيه، أو الاستعارة فيه، ولكنّه يتفوّق علي التشبيه والاستعارة من حيث أنّ المشبه به يكون حالة شائعةمتداولة، تحيل علي حادثة كاملة راسخة في الذاكرة الجماعية، كامنة في أعماق الجميع بحكم الشيوع والتواتر، فيتأكّد تأثير القياس ويثبت سحر المثل»(1). وتبوأت الأمثال في كلام العرب مكانة كبيرة؛ لما لها من تأثير علي العقول والنفوس؛ بوصفها «صورة حيّة ماثلة لمشهدٍ واقعي أو متخيّل، مرسومة بكلماتٍ معبرة موجزة، يؤتي بها غالباً، لتقريب ما يُضرب له»(2)، وقد وظّف الإمام الحسين (عليه السلام) هذا المثل بأسلوبٍ حجاجي جاء متلائماً مع مراده؛ بوصفه يمثل حجّة سلطة جاهزة(3).

يُستشفّ من ذلك أنّ المثل خطرة قوية، توقظ العقل بالاستناد إلي حجّة إيحائية؛ ل«أنّ المقصود من ضرب الأمثال أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه؛ وذلك لأنّ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف علي ماهيته، ويصير الحسّ مطابقاً للعقل»(4).

أما قوله: (يا أخيّة) فنداء استعمله للفت انتباه أخته زينب (عليها السلام) إليه (اتقي، تعزي، اعلمي) أفعال كلامية إنجازية مباشرة، تزيد من الطاقة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة.

ص: 280


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 295-296.
2- الصورة الفنية في المثل القرآني دراسة نقدية بلاغية، د. محمد حسين علي الصغير، دار الرشيد للنشر، بغداد (1981م): 60.
3- اُنظر: الخطاب والحِجَاج، الدكتور أبو بكر العزاوي، مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (2010م): 87، 93.
4- مفاتيح الغيب، محمد الرازي فخر الدين (ت606ه-)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولي (1401ه- - 1981م): 2/80.

(أنَّ أهل الأرض يموتون، وأنّ أهل السماء لا يبقون وأنّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلا وجه الله) ثلاث حجج صبّت في خدمة النتيجة

(هو فردٌ وحده) ربط بينها بالواو. والسلّم الحِجَاجي الآتي يوضحها أكثر:

النتيجة: هو فردٌ وحده (حيّ لا يموت)

ح3: كلَّ شيءٍ هالكٌ إلا وجه الله

ح2: أهل السماء لا يبقون

ح1: أهل الأرض يموتون

وكلّ حجّة من هذه الحجج سندها لما يقويها: فالحجّة الأولي أكدّها ب-(أنّ)، والأخري أكدها ب-(أنّ) وقوّاها بالعامل الحِجَاجي (لا) للنفي؛ لأنّ النفي عامل «ضروري لوصف البنية الدلالية العميقة للملفوظ»(1)، والثالثة أكدّها ب-(أنّ) وقوّاها بالقصر، والقصر من أهم العوامل الحِجَاجية التي يستند إليها المحاجج؛ لتوجيه خطابه الوجهة التي يريد.

ويُلحظ علي هذه الحجج أنّ خبر (أنّ) في الحجتين الأوليتين جملة فعلية (يموتون، لايبقون) وفي ذلك دلالة علي الحدوث والتجدد؛ ليكون ذلك متلائماً مع دلالة الموتوالحياة.

(أبي خير منّي، وأمّي خير مني، وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكلِّ مسلمٍ برسول الله أسوةٌ) في هذا القول استلزام حواري دلّ علي التلميح إلي قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ

ص: 281


1- عاملية أدوات النفي الحِجَاجية، سليمة محفوظي، الموقع علي الانترنت: www.akhbarak.net/.../2595479- ب مصر

فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا»(1)؛ ليجعل الإمام (عليه السلام) من التلميح إلي هذه الآية حجّة سلطة تقوّي حجاجه، وتزيد من الطاقة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة؛ لما فيها من قوة فعل كلام إنجازي غير مباشر.

لقد جاءت هذه الحجج، وما قبلها؛ لتخدم النتيجة (إنّي أقسم عليك؛ فأبري قسمي، لاتشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت). كما موضّح بالسلّم الحِجَاجي الآتي:

النتيجة: لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إن هلكت

(ح5) كلّ شيء هالك إلا وجه الله

(ح4) أهل السماء لا يبقون

(ح3) أهل الأرض يموتون

(ح2) رسول الله هلك

(ح1) أبي خير منّي، وأمي خير منّي، وأخي خير منّي وكلهم هلك

القياس الضمني في هذا الكلام: كلُّ شيءٍ هالك إلا وجه الله ← أنا مخلوق ← إذن أنا هالك. وفضلاً عن ذلك فإنّ النتيجة تضمنت أفعالاً إنجازية مباشرة، هي: القسم، النهي (لا تشقي، لا تخمشي، لاتدعي)

وأراد الإمام (عليه السلام) - علي ما يبدو من حجاجه هذا - أن يقوّي عزيمة ابنه عليّ السجّاد، وأخته زينب (عليهما السلام)، ويعدّهما لإكمال مسيرته الإعلامية، في تسليط الضوء علي الحكم الأموي وسياسته في التعامل مع الدين الإسلامي ورموزه، في قصةٍ

ص: 282


1- سورة الأحزاب: آية21.

سطّرتها ملحمة كربلاء، وخلدها التاريخ، رسمت دروب الحرية الإنسانية الإسلامية الرسالية، قادتُها الثقل الأصغر الذي خلّفه رسول الله (صلي الله عليه و آله) فينا.

خطبته في العاشر من المحرم قبل الواقعة

وفي الصباح قبل وقوع الواقعة خطب الإمام الحسين (عليه السلام) في القوم خطبته المشهورة، عندما دنوا منه: «أيُّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلِوني حتي أعظَكم بما لحقّ لكم عليّ، وحتي أعتذرَ إليكم من مقدَمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدَّقتم قولي، وأعطيتموني النَّصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تُعطُوا النَّصف من أنفسكم أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِي إِنَّ وَلِيِّي الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ.قال [الضحّاك المشرقي] فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكي بناته، فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي وعليّاً ابنه، وقال لهما أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن... فلما سكتن، حمد الله وأثني عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلي علي محمّد صلي الله عليه وعلي ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصي ذكرُه. قال فو الله ما سمعتُ متكلّماً قطّ قبْلَه ولا بعدَه أبلغَ في منطق منه؛ ثم قال: أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثم ارجعوا إلي أنفسكم وعاتِبوها، فانظروا؛ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم صلي الله عليه وسلم، وابنَ وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلم يبلغْكم قول مستفيض فيكم: إنّ رسول الله صلي الله تعالي عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: (هذان سيّدا شبابِ أهل الجنة)؟ فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحقّ - فو الله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن

ص: 283

كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبَركم؛ سَلُوا جابرَ بن عبد الله الأنصاريّ، أو أبا سعيد الخُدريّ، أو سهل بن سعد الساعديّ، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلي الله عليه وسلم لي ولأخي. أفَما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دمي؟... ثم قال لهم الحسين: فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول أفتشكّون أثَراً ما أنّي ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم، ولا من غيركم، أنا ابن بنتِ نبيّكم خاصّة. أخبروني أتطلبوني بقتيلٍمنكم قتلتُه؟ أو مالٍ لكم استهلكته؟ أو بقِصاص من جراحة؟ قال: فأخذوا لا يكلمونه قال: فنادي: يا شَبَث بن رِبعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعَتْ الثمار، [و] اخضّر الجَناب، وطمّت الجمام، وإنّما تقدُم علي جندٍ لك مجنّد! فأقبل، قالوا له: لم نفعل؛ فقال: سبحان الله! بلي والله، لقد فعلتم؛ ثم قال: أيّها النّاس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلي مأمَني من الأرض؛ قال [الضحّاك المشرقي]: فقال له قيس ابن الأشعث: أولا تنزل علي حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُرُوك إلا ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثرَ من دم مسلم بن عقيل؛ لا والله لا أُعطيهم بيدي إعطَاء الذليل، ولا أقرّ إقرارَ العبيد. عباد الله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي أعوذ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.

قال [الضحّاك المشرقي]: ثمّ إنّه أناخَ راحلته، وأمر عقبة بن سِمْعان فعقَلها، وأقبلوا يزحفون نحوه»(1).

(أيُّها الناس) نداء للفت انتباه القوم لينصتوا إليه. (اسمعوا قولي، ولا تعجلِوني)،

ص: 284


1- تاريخ الطبري: 5/424-326؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/97-98؛ والكامل في التاريخ: 3/418-419؛ والبداية والنهاية: 11/534-536.

(اسمعوا) فعل أمر. (لاتعجلِوني) نهي. والأمر والنهي فعلا كلام إنجازي مباشر، لهما قوة حجاجية عالية اختارهما الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ليكونا مقدمة حجاجية يبتدئبهما حجاجه، و«يستعمل المخاطِب الفعل الكلامي المباشر عندما يولي عنايته لتبليغ قصده، وتحقيق هدفه الخطابي، ورغبته في أن يكّلف المتلّقي بعمل ما، أو يوجهه لمصلحته من جهة، وإبعاده عن الضرر من جهة أخري، أو توجيهه لفعل مستقبلي معين، ويفترض أن يتجه المخاطب بخطابه إلي التكثير من فائدة المتلّقي، فيستعمل هذه الاستراتيجيات في شكلها الأكثر مباشرة؛ للدلالة علي قصده، كالأمر، والنهي الصريحين»(1).

(حتّي أعظَكم بما لحقّ لكم عليّ)، (حتّي) رابط حجاجي يُستعمل للربط بين حجتين داخل الخطاب لهما توجيه حجاجي واحد، ويخدمان نتيجة واحدة وتكون الحجّة التي تأتي بعده أقوي من التي قبله، وهي في هذا الخطاب (لكم عليّ) كلاهما جار ومجرور متساويان في الرتبة؛ إذ يجوز القول: (أعظَكم بما لحقّ عليّ لكم) من دون أن يحصل أي اختلاف في المعني الإخباري، لكن الفارق يكمن في المعني الحِجَاجي الدلالي؛ إذ تكون للمقدّم منهما دلالة الاهتمام، وهو المعول عليه بالحِجَاج.

(وحتي أعتذرَ إليكم من مقدمي) (الواو) رابط حجاجي يربط بين الحجج المتساوية في الرتبة، كما إنّه يفيد في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري، فضلاً عمّا فيه من دلالة علي الإشراك في الحكم. (حتي) رابط حجاجي ربط ما بعده بما قبله، والحجّة (أعتذرَ إليكم منمقدَمي) أقوي حجاجاً من (أعظَكم بما لحقّ لكم عليّ) في هذا المقام الحِجَاجي.

(إليكم من مقدَمي) أيضاً كلاهما جار ومجرور متساويان في الرتبة؛ إذ يجوز القول:

ص: 285


1- دراسة الأفعال الكلاميّة في القرآن الكريم - مقاربة تداوليّة: (بحث)11-12.

(أعتذرَ من مقدَمي إليكم) من دون أن يحصل أي اختلاف في المعني الإخباري، لكن الفارق يكمن في المعني الحِجَاجي الدلالي؛ إذ تكون للمقدّم منهما دلالة الاهتمام،. والملاحظ في القولين السابقين أنّ اهتمام الإمام (عليه السلام) في هذا الحِجَاج منصبّ علي المخاطب (لكم)، (إليكم) أكثر من الاهتمام بالكلام عن نفسه (عليه السلام) .

(فإن قبلتم عذري، وصدَّقتم قولي، وأعطيتموني النَّصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل) جملة شرطية دالة علي الحدوث والتجدد، والعلاقة الرابطة فيها بين فعل الشرط وجوابه علاقة سببية، والعلاقة السببية «من أبرز العلاقات الحِجَاجية، وأقدرها علي التأثير في المتلقي، وهي في حقيقة الأمر ضربٌ مخصوص من العلاقات التتابعية؛ إذ يحرص المتكلّم علي ربط الأفكار والوصل بين أجزاء الكلام [من] دون الاكتفاء بتلاحق عادي بينها، وتتابع طبيعي يجعل الأحداث والأفعال أو الأفكار والأحكام متسلسلة متجاوبة، بل يعمد إلي مستوي أعمق من العلاقة، فيجعل بعض الأحداث أسباباً لأحداث أخري... فإذا بالعلاقة السببية علاقة شبه منطقية، تجعل النصّ يُحاكي نصوصاً منطقية في ترابط أجزائها، وتناسق أفكارها»(1). وكثرة الأفعال الماضية في هذه الجملةالشرطية أفادت تقرير الحقائق، ولفت انتباه النّاس إليها. (كنتم بذلك أسعد) قدّم الجار والمجرور (بذلك) علي خبر كان (أسعد) للدلالة علي الاختصاص والقصر عليهم، وللاهتمام والعناية بالجار والمجرور، (أسعد) اسم تفضيل وهو من الآليات الحِجَاجية التي تسهم في الزيادة من قوة الحجّة في التوجيه نحو النتيجة؛ ممّا يسهم ذلك في الزيادة من القوة الحِجَاجية في دفع المتلقي إلي الإذعان لحججه، والتسليم لها.

(لم يكن لكم عليّ سبيل) قدّم الجار والمجرور (لكم) علي الجار والمجرور (عليّ)؛

ص: 286


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 327.

للاهتمام بوعظ القوم أكثر من الاهتمام بدعوتهم إلي الوقوف بصفه؛ ليمهد بذلك إلي إلقاء حججه عليهم؛ علّها تنفع في منع بعضهم من الاشتراك في قتله.

(وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تُعطُوا النَّصَفَ من أنفسكم) جملة شرطية دالة علي الحدوث والتجدد استعملها الإمام (عليه السلام)؛ لتقوية الجملة الشرطية التي قبلها وتأكيدها، جوابها محذوف دلّ عليه قوله السابق، ويُقدّر (لم تكونوا بذلك أسعد، وكان لكم عليّ سبيل) وسبب الحذف يعود إلي «توجيه لذهن المتلقي إلي تصوّر الجزاء الواجب تصوره، فالجزاء هو علي الحقيقة مضمّن في الشرط، أو علي الأقل ممّا يوجّه الشرط إليه المتلقّين توجيهاً دقيقاً بيّناً صارماً معاً؛ إذ ليس لهؤلاء المتلقين إلا أن يتصوّروهعلي النحو الذي تمليه جملة الشرط بألفاظها ومعانيها»(1). والإمام (عليه السلام) بحذفه لجملة جواب الشرط سار علي وفق المنهج القرآني، إذ أثبت الدكتور عبد الله صولة من استقرائه لهذا الأسلوب في القرآن «أنّ حذف جواب الشرط مع التصريح بالدليل علي المحذوف ساطعاً سطوع الشمس في جوار جملة الشرط القريب لهو من أهم أساليب الحِجَاج في القرآن، وهي إلي ذلك كثيرة الجريان فيه؛ إذ هي تضع المتلقي علي تخوم الفراغ، وتدفع به إليه يملؤه، وقد زوّدته من أجل ذلك بالأدوات اللازمة استعارتها له من الجوار القريب، إنّ الكلام بطريقة الحذف علي هذا النحو يصنع من ذاته حجّته الخاصة، ويزيد فيجعل من المتلقي أداة لتنفيذها، فهو يتممها ويصرّح بها في ضوء المعطيات الجاهزة في الجوار القريب»(2).

واستناداً إلي ذلك يستدرج الإمام الحسين (عليه السلام) متلقيه ليشركهم في الخطاب من خلال دفعهم إلي البحث عن جملة الجواب (الجزاء) المحذوفة؛ ليلتقطوا الحجّة

ص: 287


1- الحِجَاج في القرآن: 400.
2- الحِجَاج في القرآن: 402.

بأنفسهم، مستندين في ذلك إلي جملة الجوار التي ذكرها الإمام (عليه السلام)؛ لإرشادهم إلي الحجّة؛ ولئلا يُظنّ أنّ الإمام (عليه السلام) يترجاهم بأن يُخلّوا عنه أردف قائلاً: (أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِي، إِنَّ وَلِيِّي الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ)، والقسم الأول من هذاالقول مقتبس من قوله تعالي: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَي اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ»(1). والآخر مقتبس من قوله تعالي: «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَي الْهُدَي لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (2).

فمن معرفة معاني هاتين الآيتين يتوصل المتلقي إلي مراد الإمام (عليه السلام) من كلامه هذا، ومعني هاتين الآيتين واضح جلي ليس به حاجة إلي تفسير، جاء متناسباً مع عقول أولئك القوم؛ ليتوصلوا منهما إلي مراده، كما إنّ في هاتين الآيتين استلزاماً حوارياً مفهوماً من الكلام، يحمل بين طياته قوة فعل كلام إنجازي غير مباشر، ويكمن ذلك الاستلزام في التلميح إلي معاني هاتين الآيتين، والغاية منه ثني القوم عمّا عزموا عليه، وهذا التلميح يدلّ - في الوقت نفسه - علي المقدرة البلاغية التي يتمتع بها الإمام الحسين (عليه السلام) في استيعاب المعاني وتنويعها؛ من أجل إيقاظ الضمائر

ص: 288


1- سورة يونس: آية71.
2- سورة الأعراف: آية193-197.

من سباتها، لعلّها تنفعهم في الخلاص من عذاب الله عزّ وجلّ وانتقامه. وفضلاً عن ذلك فإنّ التذكير بالآيات القرآنية من الأساليب التي تعطي بعداً حجاجياً أوسع في النظر العقلي، فضلاً عمّا فيها من الدعوة إلي التفقه في آيات الله سبحانه وتعالي، «والتفقهخطوة عقلية أبعد مدي من التفكّر، إذ هي الحصيلة التي تنتج عن عملية التفكير، وتجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيط به، وأعمق إدراكاً لأبعاد وجوده في الكون، كما تجعله متفتح البصيرة دوماً»(1). وبعد هذه المقدمة الحِجَاجية انتقل الإمام (عليه السلام) إلي الموضوع.

(أمّا بعد)، (أمّا)، «حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد»(2)، وغالباً ما تأتي بعده (بعد) في مطالع الخطب، وفيه دلالة علي الانتقال من المقدمة إلي الموضوع. (فانسبوني) حجاج بالنسب. (فانظروا مَن أنا) (الفاء) رابط حجاجي يربط بين الحجج يفيد في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري من دون مهلة. (ثم ارجعوا إلي أنفسكم وعاتِبوها)، (ثم) رابط حجاجي يربط بين الحجج، يفيد في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري مع تراخٍ، أراد الإمام (عليه السلام) من هذا التراخي من القوم أن يطيلوا التفكّر في ما يقدمون عليه، وهذان الرابطان (ف)، (ثم) روابط حجاجية لهما توجيه حجاجي واحد، ويخدمان نتيجة واحدة، أمّا فعلا الأمر (انظروا)، و(ارجعوا) فهما أفعال كلامية مباشرة، الغاية منهما دفع المتلقي إلي إنجاز فعل النظر بتأمّل، ثم إنجاز فعل مراجعة النفس؛ لمعاتبتها علي ما تَقْدِم إليه من فعلٍ مشين لم يسبقله مثيل في التاريخ، ولا يكون له شبيه إلي يوم القيامة. (فانظروا)

ص: 289


1- الأساليب البيانية والخطاب الدعوي الواعي، د. نعمان شعبان علوان، بحث منشور في مؤتمر الدعوة الإسلامية ومتغيرات العصر، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزّة (1426ه- - 2005م): 1404.
2- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 1/352.

تكرار للنظر بتأمل، والتكرار أسلوب يُستعمل لغرض التوكيد، وهو من أهم العوامل الحِجَاجية في التدليل علي المعني المراد؛ لما فيه من زيادة في العناية بالشيء وتوكيده، ويستعمل للأمر المهم؛ لما يحمله من طاقات إيحائية تعزز قوة الحجّة؛ لتستميل قلب السامع إليها، وهو من أهم الروافد التي ترفد الحِجَاج، «فتكرار اللفظة ذاتها في أكثر من موضع يعد من أفانين القول الرافد للحجاج المدعّمة للطاقة الحِجَاجية»(1) التي تولدها الظاهرة اللغوية لتشحن طاقات المتلقي، بغية تغيير موقفه، وغالباً ما يُستعمل في مقامات تُفاجئ المتلقي، وتخالف معتقداته. (هل يحلّ لكم قتلي، وانتهاكُ حرمتي؟!) (هل) أداة استفهام، والاستفهام سواء أكان حقيقياً أم غير حقيقي يفرض علي المخاطب إجابة محددة يمليها عليه المقتضي الناشئ عن ذلك الاستفهام؛ بوصفه فعلاً كلامياً إنجازياً مباشراً، فيتم بذلك توجيه دفّة الحوار إلي وجهة حجاجية معينة، والاستفهام في قول الإمام الحسين (عليه السلام) هذا خرج من الحقيقة إلي المجاز؛ لغرض دفع القوم إلي أن يُفكّروا، ويراجعوا أنفسهم، ثم يتحرجوا ممّا أقدموا عليه، فضلاً عمّا في هذا الأسلوب من النفي، وتقديم الجار والمجرور (لكم) أفاد دلالة الاختصاص وحصر الكلام بهم، وقول الإمام هذا مثّل النتيجة التي دارتحولها الخطبة، وهي (لا يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي)، فالإمام الحسين (عليه السلام) يحذّر القوم من انتهاك حرمته؛ لأنّ حرمته هي حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله)، ومن ينتهك حرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله) لن يُغفر له، ولو افتدي نفسه بملء الأرض ذهباً، ثمّ راح يسوق الحجج التي ينبغي أن ينظروا إليها، ويتفكروا فيها بتأنٍ وتأمل، وهي: (ألستُ ابن بنت نبيّكم صلي الله عليه وسلم؟ وابنَ وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلم يبلغْكم قول

ص: 290


1- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 168.

مستفيض فيكم: إنّ رسول الله صلي الله تعالي عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: "هذان سيّدا شبابِ أهل الجنة"؟) ابن بنت النبي (صلي الله عليه و آله)، وابن الوصي، وابن الشهداء، وسيد شباب أهل الجنّة أوصاف أدرجها الإمام (عليه السلام) في حجاجه؛ ليبين للنّاس مكانته الاجتماعية، والدينية؛ وليتخذ منها حججاً، فمن له هذا النسب لايحل قتله، وانتهاك حرمته.

ويتضح ذلك أكثر بترتيب هذه الحجج علي وفق السلم الحِجَاجي الآتي:

النتيجة (ن) لا يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي

(ح5) أنا سيد شباب أهل الجنّة.

(ح4) جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي.

(ح3) حمزة سيد الشهداء عم أبي.

(ح2) أنا ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصي رسول الله، وابن عمّه، وأول المؤمنين، والمصدّق بالرسول.

(ح1) أنا ابن بنت نبيكم (صلي الله عليه و آله) .

فقد عدل الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة من الخبر (أنا ابن بنت نبيكم (صلي الله عليه و آله)، وابن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصي رسول الله، وابن عمّه، وأول المؤمنين، والمصدّق بالرسول، و حمزة سيد الشهداء عم أبي، و جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي، وأنا سيد شباب أهل الجنّة، ومن يمتلك هذه المزايا لا يحل سفك دمه، وانتهاك حرمته، لأنّها حرمة رسولكم إن كنتم مسلمين) إلي الاستفهام؛ لإزالة الإنكار والجحود، وفضلاً عن ذلك فإنّ الاستفهام من أقوي أفعال الكلام الإنجازية المباشرة حجاجياً؛ بوصفه يستمد قوته الحِجَاجية من القصر المضمر فيه، الذي يحصر المتلقي في زاوية حجاجية ضيقة، لا سبيل له إلا أن يقرّ بما يريده المحاجج، زد علي ذلك إنّ هذا الأسلوب يبعد الخطاب عن احتمالية الصدق والكذب التي في الخبر، ويزيد من درجة التوجيه نحو النتيجة،

ص: 291

وهي (لا يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي)، مريداً من هذا العدول إقرارهم واعترافهم بما يقدمون عليه من فعلٍ مشين، وكلّ سؤال من هذه الأسئلة جاء ليؤكّد ما قبله، أي أجيبوني عن هذا، ولا يسعكم إلا أن تجيبوني، والإمام الحسين (عليه السلام) لم يترجاهم؛ ليخلّوا عنه؛ لعلمه (عليه السلام) بأنّهم سيقتلونه بين النواويس وكربلاء، لكنّه بهذا الأسلوب الاستفهامي التقريري أراد أن يلقي عليهمالحجّة أمام الله سبحانه وتعالي، علّها تنفع مع بعضهم؛ وليشنّع بهم أمام النّاس علي مرّ العصور وتقادم الأجيال، وكأنّه أراد أن يقول: لا يوجد فعل أشنع من فعلكم هذا ولا أقبح منه، وفضلاً عن ذلك فإنّ حججه هذه سيكون لها الأثر الفاعل في تمكين الأجيال اللاحقة من التعرّف علي همجية أولئك الناس؛ إذ من خلالها نستطيع التعرّف علي أنّ أولئك النّاس لا دين لهم، وهم أناسٌ لا شبيه لهم علي وجه البسيطة، همّهم رضا سلاطينهم، وأي سلاطين؟ فاسق، وابن دعي!! «والأنبياء والشهداء والمصطفون يدركون أنّ وجودهم المادي زائل، لكن حُججهم ونفثات ضمائرهم هي التي ستبقي لتسري في النفوس مسري النار في الهشيم، وليتردد صداها في المهج، فلا يهدأ لها صدي إلا ليرجع من مكانٍ آخر»(1).

وبهذا الأسلوب الحِجَاجي ألقمهم الإمام الحسين (عليه السلام) حجراً، فأخذوا لا يكلمونه، وقال عبد الله صولة «إنّ العادة جرت إنّ المسؤول إذا أطال التفكير في جوابه يكون ذلك علامة علي عدم مجاراته للنسق الذي يريد أن يفرضه السائل عليه»(2)، فكيف بمن يلازم الصمت؟! وهكذا حقق الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا العدول من الخبر إلي الإنشاء النتيجة المرجوة.

ص: 292


1- الحسين في الفكر المسيحي: 75-76.
2- الحِجَاج في القرآن: 428.

والسبب الذي دفع الإمام الحسين (عليه السلام) إلي تعداد صفاتالإمام علي (عليه السلام) من دون غيره في قوله: (ابنَ وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟) إنّ بعض الناس قد تبدو له شبهات في جزئيات من الشريعة، فيحتاج إلي من يجلو عنها الغبار ببعض وسائل الإقناع.

(أوَلم يبلغْكم قول مستفيض فيكم: إنّ رسول الله صلي الله تعالي عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: "هذان سيّدا شبابِ أهل الجنة"؟) «إنّ لجوء الخطيب إلي الاستفهام رغم(1) علمه بثبوت مطلوبه هو شكلٌ من أشكال الإلزام، إلزام بالجواب، وإقرار بما عمل علي تحقيقه، وتثبيته»(2)، (إنّ) أداة توكيد تدخل علي الجملة الخبرية؛ لتوكيد الخبر، وتثبيت الحجج، وتقوية العلاقة بين العناصر.

(هذان سيّدا شبابِ أهل الجنة) هذا الحديث النبوي مثّل حجّة سلطة استند إليها الإمام (عليه السلام)؛ ليزيد من درجة التصديق بأقواله.

(فإن صدّقتموني بما أقول) جملة شرطية حُذف جوابها؛ لأنّ «لحذف جملة جواب الشرط مع ترك الدليل عليها... دوراً حجاجياً آخر يتمثّل في توكيد الكلام المحذوف»(3)، (وهو الحقّ) جملة اعتراضيةفصلت بين قولين، استعملها لتقوية قوله، وتسديده(4)، و«التنبيه إلي ما يريد المتكلم أن يلفت إليه انتباه السامع»(5)؛ وعدّ

ص: 293


1- كذا. والصواب: علي الرغم من.
2- الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة دراسة تداولية: (أطروحة دكتوراه): 304.
3- الحِجَاج في القرآن: 402
4- اُنظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 5/56.
5- البيان في روائع القرآن دراسة لغوية أسلوبية للنص القرآني، د. تمّام حسّان، عالم الكتب، القاهرة (1993م): 183.

الحِجَاجيون الجمل الاعتراضية من وسائل الحِجَاج المهمة(1)، وأنا اتفق مع الدكتور عبد الله صولة في ما ذهب إليه في إنّ الجملة الاعتراضية غالباً ما تكون جزءاً أساسياً في الكلام، الذي تدخل عليه مُشكِّلة معه تلاحماً واتساقاً(2).

(فوالله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه)، (الفاء) رابط حجاجي يدلّ علي ترابط الحجج، وتناسقها من دون مهلة أو تراخٍ (والله) قسم جيء به؛ لتوكيد ما بعده، ولفت أنظار القوم إلي أهمية ما يُقال. (ما) عامل حجاجي زاد من الطاقة الحِجَاجية في التوجيه نحو النتيجة، فضلاً عن دفع الإنكار، وإثباته لما بعده (كذباً) لم يعرّفه ب-(أل) وتركه مطلقاً؛ للدلالة علي أنّه لم يكذب في حياته قط، ولا عجب فهذه من صفات أهل البيت (عليه السلام)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وجملة (فو الله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله،ويضرّ به من اختلقه) جاءت تذييلاً لجملة (فإن صدّقتموني بما أقول) و«للتذييل وظيفة دلالية أساسية هي التوكيد»(3)؛ بوصفه يتضمّن «معني الجملة الأصلية بوجه من الوجوه علي نحوٍ يبدو معه مضمون الجملة الأولي قد تكرر مرتين»(4)، والتذييل نوعٌ من الإطناب، و«أهتم بيرلمان بالإطناب كطريقة(5) عرض حجاجية، وذلك من خلال الدور الهام الذي يلعبه بالإقناع حيث يري(6) أنّ العناصر في مواضع ما تحتاج إلي الترديد والتطويل

ص: 294


1- اُنظر: الحِجَاج في القرآن: 344.
2- اُنظر: المصدر نفسه: 353.
3- الحِجَاج في القرآن: 348.
4- المصدر نفسه: 374.
5- كذا. والصواب: بوصفه طريقة.
6- كذا. والأصوب: وذلك لما له من دورٍ مهم بالإقناع إذ يري.

حول دلالتها وأهميتها، وذلك من أجل الزيادة في حضور هذه العناصر في ذهن السامعين؛ للإقناع أكثر»(1).

(يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه) فيه تقديم وتأخير، فقد قدّم الجار والمجرور (عليه) علي المفعول به (أهله)(2)، وقدّم الجار والمجرور (به) علي اسم الموصول (مَن) وصلته؛ لما في هذا الأسلوب الحِجَاجي من دلالة عليالاختصاص والقصر.

(وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبَركم) (فيكم) جار ومجرور قُدّمَ للاختصاص (سَلُوا جابرَ بن عبد الله الأنصاريّ، أو أبا سعيد الخُدريّ، أو سهل ابن سعد الساعديّ، أو زيد ابن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلي الله عليه وسلم لي ولأخي). (سلوا) فعل كلامي إنجازي مباشر يطلب فيه الإمام (عليه السلام) منهم أن يسألوا أصحاب رسول الله (رضي الله عنهم) عن هذا الحديث، وقوّي حجاجه هذا بذكر هؤلاء الأصحاب؛ لأنّهم سمعوه من رسول الله (صلي الله عليه و آله)، والرابط بين جملة فعل الشرط، وجوابها علاقة سببية، وهي من أهم طرائق الربط بين القضايا في الحِجَاج.

(أفَما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دمي؟) تكرار للنتيجة بأسلوبٍ إنكاري؛ «لأنّه أوقع في النفس، وأدلّ علي الإلزام...؛ وذلك لما فيه من حجّة دامغة»(3)؛ لتثبيت ذلك في

ص: 295


1- الحِجَاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، (رسالة ماجستير): 26.
2- «كثر في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) تقديم المتعلقات علي المفعول به علي اختلاف السياقات المقالية في الخطب، والرسائل، والدعاء، والحكم القصار، وغير ذلك مع مراعاة الدلالات التي قصدها الإمام الحسين (عليه السلام)، وكان الغرض من معظم المواضع التي ورد التقديم فيها في كلامه (عليه السلام)؛ للعناية والاهتمام بالمقدم)). المأثور من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة لغوية، (رسالة ماجستير): 75.
3- البلاغة فنونها وأفنانها: 190.

نفوسهم، ولتعيه عقولهم، وتكرار الإمام الحسين (عليه السلام) للنتيجة نفسها بأسلوبٍ حجاجي أقوي؛ الغاية منه أن ينعموا في النظر أكثر، ويفكروا فيما يقدمون عليه، فضلاً عن ترسيخ النتيجة المرجوة من الحِجَاج في أذهان متلقيه؛ لما لهذاالأسلوب الحِجَاجي من طاقات إيحائية تزيد من قوة الحِجَاج؛ لأنّ هذا النوع من الحِجَاج يشير إلي مراد المحاجج، ويفيد في ترسيخ الفكرة، فضلاً عن دلالته علي تحقيق ما قبله، وليكون سبباً لتصديقه.

ومن الألفاظ التي أدت وظيفة حجاجية عالية في هذه الخطبة حجاج الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّه ابن بنت النبي محمد (صلي الله عليه و آله)، فهذه العبارة أعجزتهم؛ إذ لا يمكنهم أن ينكروا، أو ينفوا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ابن بنت النبي (صلي الله عليه و آله)، فالقوة الحِجَاجية لهذه العبارة تكمن في ما تقتضيه من فعلٍ كلامي غير مباشر، يوجب عليهم أن يعترفوا بأنّ الله جلّ في علاه قد أنعم عليهم بنعمة الإسلام، والهداية برسالة جده المصطفي محمد (صلي الله عليه و آله) فكيف يجوّز لهم دينهم - إن كانوا مسلمين - انتهاك حرمته وقتل آل بيته؟! فعلي هذا يأتي معني قوله (عليه السلام): «...أمّا بعد فانسبوني... ألستُ ابن بنت نبيّكم صلي الله عليه وسلم... أفتشكّون أثَراً ما أنّي ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم، ولا من غيركم، أنا ابن بنتِ نبيّكم خاصّة»، (فوا الله) توكيد بالقسم؛ لتثبيت الشيء في النفس، وتقوية أمره، والغرض منه إزالة ما علق في نفس المخاطب مِنْ شكوك، وما خالجه مِنْ شبهات، وإضافة لفظة (ابن بنت) إلي النبي (صلي الله عليه و آله) - التي كررها أربع مرات في مواضع متقاربة في هذه الخطبة - تقتضي حقيقة، تحمل بين طياتها أنّه ممّا لا نقاش فيه، ولا جدال أنّه لا يحلّ لكمقتلي؛ لأنّ بقتلي انتهاكاً لحرمة رسول الله (صلي الله عليه و آله)؛ للفت انتباههم إلي حقيقة أخري هي: إنّ الذي يُجمعون أمرهم وشركاءَهم علي قتله سبط رسول الله (صلي الله عليه و آله)، وهو الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية؛ بوصفه يمثّل حجّة سلطة عليهم، مستمدة من سلطة جدّه

ص: 296

المصطفي (صلي الله عليه و آله)، فلفظة (ابن بنت) في هذه الخطبة حملت في ذاتها قوتها الدلالية؛ لتكون أساساً، يُستند إليه في تحقيق قوتها الحِجَاجية؛ لما فيها من قوة تضفي علي الإمام (عليه السلام) صفة المهابة؛ وذلك لتوجيه القوم وجهة حجاجية نحو الكفّ عمّا أسرجوا، وألجموا من أجله؛ ولكي يقوي هذه الحقيقة الاقتضائية سندها إلي فعلٍ كلامي مباشرٍ وهو (أخبروني)، ولفظة (النبي) بصيغها المختلفة التي أُضيفت إلي لفظة (ابن بنت) مثّلت في ذلك المقام أثراً حجاجياً فعّالاً في توجيه الدلالة الوجهة الحِجَاجية المرجوة. (أخبروني) فعل كلام إنجازي مباشر، أراد به الإمام الحسين (عليه السلام) إلزام القوم بأن يجيبوا عن أسئلته بعدما سَئِمَ من صمتهم.

(أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه؟ أو مالٍ لكم استهلكته؟ أو بقِصاص من جراحة؟) تكرار لمعني النتيجة التي دارت حولها الخطبة؛ لغرض توكيدها، ولفت انتباه القوم إليها، و«الغرض البياني من الاستفهام التقريري إلزام المخاطب بالحجّة، وانتزاع الاعتراف منهبما يريده المتكلم»(1)، و(الهمزة) لم يرد بها الإمام (عليه السلام) السؤال علي وجه الحقيقة، بل استعملها مجازاً؛ لدفعهم إلي الإقرار بالكذب الدال علي النفي، وقال ميثم قيس في قول الإمام الحسين (عليه السلام) هذا: «فقد خرجت (الهمزة) من السؤال إلي الإنكار المتضمن نفياً، أي: إنّ (الهمزة) في هذا المثال تساوي معني (لا)، والذي يتولي الإجابة الجماعات المحتشدة لقتاله (عليه السلام)؛ لذا كان التعبير بالاستفهام أبلغ منه في النفي الصريح، ذلك أن الاستفهام في أصل وضعه يتطلب جواباً، يحتاج إلي تفكير، ولما كان المسؤول يجيب بعد تفكير وروية عن هذه الأسئلة بالنفي، كان في توجيه السؤال إليه حملٌ له علي الإقرار بهذا النفي، وهو أفضل من النفي ابتداءً... وبتعبير آخر أنّ فيه تحريكاً لفكر المخاطب وتنبيهاً لمشاعره؛ كي يتأمّل ويعيد النظر فيما يريد الإقدام عليه؛

ص: 297


1- البلاغة فنونها وأفنانها: 193.

لعلّه يُحكِّم ضميره ويستلّه من جُبِّ مآثمه»(1)، وهذا الأسلوب «يجعل المخاطَب في حالة اضطرار إلي الجواب... فهو يجعل المخاطب يجيب في الاتجاه الذي يرسمه السؤال»(2)، فعدول الإمام الحسين (عليه السلام) من الخبر إلي الإنشاء في هذا الموضع من الخطبة أراد منه أن ينتزع إقرارهم، واعترافهم بأنّهم يقدمون علي فعلٍ لا يُقاس، ولا يوصف، ولا شبيه له، ولامثيل في تاريخ الإنسانية، وهو بهذا الأسلوبحصرهم في زاوية ضيقة، وفي سكوتهم، وملازمتهم الصمت علامة علي إلجامهم بالحِجَاج، وإنّهم كانوا موقنين بما قاله، وكانت عقولهم تعيه، لكنّهم لم يسلّموا له؛ إذ لا شيء يمنعهم من اعتقادهم السابق، وهذا من مميزات الحِجَاج التي أشار إليها الدكتور طه عبد الرحمن؛ إذ قال عن المتلقي: «لا شيء يمنعه من اعتقاده السابق»(3).

ولم يقتصر هذا السؤال علي دفعهم إلي الإقرار فحسب، بل أشربه معاني الإنكار، والتعجب، والتوبيخ، وفضلاً عمّا أفاده هذا القول من قوة الحجّة في الإقرار، والإنكار، والتعجب، والتوبيخ، أفاد دلالة أخري زادت من قوة الحجّة، وهي دلالة الاختصاص بتقديم شبه الجملة (الجار والمجرور) (منكم) علي الجملة الفعلية (قتلتُه)، و(لكم) علي الجملة الفعلية (استهلكته).

(فنادي: يا شَبَث بن رِبعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعَتْ الثمار، [و] اخضّر الجَناب وطمّت الجمام(4)،

ص: 298


1- نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، (رسالة ماجستير): 152.
2- البلاغة العربية في ضوء البلاغة الجديدة أو الحِجَاج، بحث ضمن كتاب (الحجاج مفهومه ومجالاته): 1/47.
3- في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الدكتور طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية (2000م): 65.
4- كناية عن وفرة الشيء وكثرته.

وإنّما تقدُم علي جندٍ لك مجنّد! فأقبل)؛ لإلقاء الحجّة عليهم خاصّة، مستنداً في ذلك إليما كتبوه إليه من كتب وردت فيها أقوالهم المذكورة آنفاً؛ لينفض غبار الشكّ والريبة التي عُبّئت بها عقول الجيش؛ بأنّه (عليه السلام) خارجٌ علي إمام زمانه يزيد! وبهذا الأسلوب المباشر أحرجهم، وأزعجهم، وأجبرهم علي الإجابة ف- (قالوا له: لم نفعل)؛ ليثبت للناس كذبهم، وغدرهم، وخيانتهم وخذلانهم لابن بنت الرسول (صلي الله عليه و آله)، من أجل حفنة من مالٍ وهبها إليهم ابن دعي.

(سبحان الله!) تعجب من كذبهم مع وجود الدليل المادي الملموس عليهم؛ إذ إنّ كتبهم كانت موجودة في الخرجين اللذين حملهما معه من مكة؛ ليريهما للنّاس. (بلي) حرف جواب يراد به نفي حجّة الخصم (والله) قسم، وهو أقوي أنواع التوكيد، يُستعمل لدفع الإنكار، ويثبت ما بعده، أفاد في هذا المقام تعضيد التقريرات السابقة. (لقد فعلتم) (اللام) للتوكيد (قد) تفيد التحقيق والتوكيد، وتقريب الماضي من الحال، كما تدلّ علي أنّ الفعل بعدها كان متوقَّعاً(1)، وهذا يعني أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان متوقِّعاً إنكارهم، فأراد إلقاء الحجّة عليهم؛ ليعي النّاس حقيقة أولئك القوم؛ ولتبقي أسماؤهم مسطرة جنباً إلي جنبٍ في كتب التاريخ، تلاحقهم وصمة العار بفعلتهم المشينة تلك.(أيّها النّاس) تكرار لما ذكره في مقدمة خطبته؛ الغاية منه لفت انتباه الجيش إلي أهمية ما سيلقيه عليهم بعد هذا التنبيه، فضلاً عن دلالته علي إنزال المخاطَب منزلة الغافل.

(إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلي مأمَني من الأرض) بعدما ألقي الإمام (عليه السلام) حججه أراد أن يجلي حقيقة ما عزموا عليه بقوله هذا؛ لينتزع اعترافاتهم

ص: 299


1- اُنظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 2/533.

بأنّهم أسرجوا وألجموا عازمين علي إرضاء أميرهم عبيد الله بن زياد، وبالفعل استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) إنطاق قيس بن الأشعث ليقول بلسان حالهم: (أولا تنزل علي حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُرُوك إلا ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟)، ليُعلم الإمام (عليه السلام) الناسَ علي مرّ العصور أنَّ الكوفيين - آنذاك - ركزوا بين السلّة والذلّة؛ لتبقي وصمة عار تلاحقهم، وسبباً لخلودهم بسقر مع المشركين الأوائل، الذين أشار إليهم عزّ وجلّ في سورة المدثر(1). وقوله هذا لا يخلو من تلميحٍ إلي النتيجة (لا يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي).

وبعدما ألقي الإمام (عليه السلام) حججه علي القوم لعلّه يجد فيهم مسلماً غُرر به، وبعدما محّص القلوب، وعرف مكنوناتها، ومال إلي معسكره مَن مال؛ كالحرّ بن يزيد الرياحيّ وغيره،ختم حجاجه بقوله الذي بات صوتاً لكلّ حرٍّ: (لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطَاء الذليل، ولا أقرّ إقرارَ العبيد). (لا) نفي، والنفي عامل حجاجي يزيد من درجة التوجيه نحو النتيجة النهائية، وهو من العوامل التي تقلّص الإمكانات الحِجَاجية، ويساعد المتلقي في تحديد دلالة المراد من الكلام، وهو ردّ فعل علي إثبات فعلي أو محتمل حصوله، والإمام (عليه السلام) استند إلي النفي في هذا الموضع من الخطاب؛ «لأنّه باعتماد النفي أسلوباً إنّما يقصد حجاجياً إلي إثبات الصفات المنفية في سواه»(2). (والله) توكيد، والتوكيد بالقسم أقوي أنواع التوكيد، وفضلاً عن ذلك زاد عليه الإمام (عليه السلام) التوكيد بالمصدر (إعطاء)، الذي أفاد توكيد الفعل (أعطي)، والمصدر (إقرار) الذي أفاد توكيد الفعل (أقرُّ)، والإمام (عليه السلام) لم ينفِ الإعطاء عموماً، بل قصره علي إعطاء الذليل، كما إنّه لم ينفِ الإقرار عموماً، بل

ص: 300


1- سورة المدثر: آية: 26-27.
2- دراسات في الحِجَاج: 28.

قصره علي إقرار العبيد لغير الله، والغاية من هذا الأسلوب الحِجَاجي توجيه السامع إلي النتيجة النهائية من حجاجه، وهي التي من أجلها قطع المسافات، والمتمثلة بهذه المقولة، وبها غلق الباب نهائياً بوجه من يُناور إلي إرغامه علي البيعة، جاعلاً بذلك كلمته هي العليا والأخيرة، ونكتة هذا القول: إنّ خصومه مهما حاولوا أن يجبروه علي بيعةيزيد فإنّ الجملة المبدوءة بالقسم، والمؤكدة بالمصدر تبقي جواباً جاهزاً لكلِّ محاولاتهم، مهما كان نوعها (عباد الله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أعوذ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب) ممّا يُلحظ علي هذا الكلام اعتماد الإمام (عليه السلام) فيه علي أكثر من اقتباس فقوله: (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) اقتبسه من سورة الدخان(1)، وهذه الآية ذكرها الله سبحانه وتعالي علي لسان النبي موسي (عليه السلام)، وهي تدلّ علي أنّه «غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونهُ به من الرجم والقتل»(2).

وقوله (عليه السلام): «أعوذ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب» اقتبسه من قوله تعالي: «وَقَالَ مُوسَي إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ» (3)، ومعناه «إنّي اعتصمت بربِّي وربكم الذي خلقني، وخلقكم من كلِّ متكبّرٍ علي الله، متجبرٍ عن الانقياد له، لا يُصدّق بالثواب والعقاب»(4)، وفي هذا الاقتباس تلميح إلي أنّها لم تقتصر علي فرعون وحده، بل تشمل كلَّ متكبّر علي الله جلّ في علاه.

ص: 301


1- اُنظر: سورة الدخان: آية20.
2- الكشاف: 5/469.
3- سورة غافر: آية27.
4- التبيان في تفسير القرآن: 9/72.

ومن أهم المميزات التي امتازت بها هذه الخطبة:

1. قوة الحِجَاج، باعتماد التوكيد بأكثر من أسلوب حجاجي في قوله (عليه السلام): (فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحقّ - فو الله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه) وذلك ب:

* حذف جملة جواب الشرط.

* التوكيد بالقسم (فوالله).

* التوكيد بالتذييل.

* التوكيد ب-(إنّ) المؤكدة.

زد علي ذلك فإنّ في هذا القول قوة حجاجية متأتية من إطلاق لفظة (كذباً)، وعدم تقييدها؛ لنفي الكذب عنه مطلقاً، ثمّ قصره علي الكاذبين (يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه) بأسلوبٍ لا يخلو من التلميح إلي أنّ الكاذبين هم أنتم، أيها القوم المستكفين بي، والعازمين علي قتلي.

2. كثرة حروف الجر في الخطبة، والعدول فيها عن النظم النحوي في تغليب تقديم الجار والمجرور علي مَن له حقّ الرتبة في التقديم؛ كالفاعل في قوله: (هل يحلّ لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي)، والمفعول به في قوله: (وإن لم تقبلوا منّي العذر)، وقوله: (يضرّ به من اختلقه)، وخبر (كان) في قوله: (كنتم بذلك أسعد)، واسم (إنّ) في قوله: (فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبَركم)، وعلي الجملة الفعلية في قوله: (أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه؟ أو مالٍ لكم استهلكته؟)، وقد يرد في الجملة الواحدة أكثر من جار ومجرور، يكون التقديم فيها للجار والمجرور المتعلق بالمخاطَب؛ كما في قوله: (حتي أعظَكم

ص: 302

بما لحقّ لكم عليّ)، وقوله: (حتي أعتذرَ إليكم من مقدَمي عليكم)، وقوله: (ولم يكن لكم عليّ سبيل)، وقوله: (أفَما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دمي؟)، وقوله: (إذ كرهتموني، فدعوني أنصرف عنكم إلي مأمَني من الأرض). وحروف الجر «أدوات لغوية بسيطة تسهم في الربط بين قضايا الخطاب، وإيراد المعني فيه، والتأكيد عليه(1)»(2).

3. اعتمد (عليه السلام) علي وقائع حقيقية؛ لتكون أكثر تأثيراً في العقول، ولتشكّل نقطة انطلاق ممكنة للحجاج؛ لشدّة حضورها في ذهن المتلقي. منها كتب أهل الكوفة التي حملها معه، وقول الرسول (صلي الله عليه و آله) فيه وفي أخيه الحسن (عليهما السلام) .

4. اعتمد (عليه السلام) علي حقائق فعلية، وأحداث معاينة، لا يشك القوم في ثبوتيتها.

5. استعمل القسم (والله) أربع مرات؛ ليُضفي علي الخطاب ظلالاً من القداسة، فضلاً عن تضمينه بالآيات القرآنية.

6. كان للروابط الحِجَاجية (و، أو، ف، ثمّ) الدور الحِجَاجي الفاعل في نقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري.

7. النتيجة من الحِجَاج (لا يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي) صاغها بأسلوبٍ استفهامي إنكاري (هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟)، ثم كررها بأسلوبٍ حجاجي آخر (أفما في هذا حاجزٌ لكم علي سفك دمي)، ثم كرر معناها بقوله: (أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه؟ أو

ص: 303


1- كذا. والصواب: وتأكيده.
2- الحِجَاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، (رسالة ماجستير): 95.

مالٍ لكم استهلكته؟ أو بقِصاص من جراحة؟)، وبالتلميح إليها بقوله: (إذ كرهتموني، فدعوني أنصرف عنكم إلي مأمَني من الأرض)، وختم خطبته بالتلميح إليها مستشهداً بقوله تعالي: «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ»(1)، وبالتلميح إلي قوله تعالي: «وَقَالَ مُوسَي إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ»(2)؛ إذ قال (عليه السلام): (أعوذ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب)؛ وذلك لأنّ «من التكرار ما هو أخفي وأشدّ أثراً في المتلقي، إنّه التكرار الذي يحمل إضافة دقيقة لما كرر، فيستعيد المتكلم ما قاله، ولكن يضيف إليه ما يجعله بعيداً كل البعد عن التماثل التام. هذا النوع من التكرار هام(3) وضروري

في الخطاب الحِجَاجي؛ لأنّه يؤكد بالفعل تقدّماً في الخطاب، فالمتكلّم حين يستعيد ما قاله، ويضيف إليه إنّما ينطلق من أمر ويبني عليه، فما كان مقدّمة يصبح حجّة، وما كان حجّة يصبح مقدمة لحجّة أخري»(4)، ويري هشام فرّوم أنّ التكرار «من المنبهات الأسلوبية الكفيلة بإيقاظ وعي المتلقي واستنفاره لدرجة يضحي فيها المتلقي واقعاً تحت سلطة التأثير الناتج عن المنبهات التي تولدها الظاهرة اللغوية التي تتحوّل إلي شحن للمتلقي شحناً عاطفياً»(5).

ص: 304


1- سورة الدخان: آية20.
2- سورة غافر: آية27.
3- كذا. والصواب: مهم.
4- الحِجَاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 172.
5- تجليات الحِجَاج في الخطاب النبوي دراسة في وسائل الإقناع، (رسالة ماجستير): 167.

8. لم يسرْ الإمام الحسين (عليه السلام) في حجاجه علي وتيرة واحدة، بل مازج بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي؛ لملائمته مع المقام، وغلّب الأسلوب الإنشائي علي الأسلوب الخبري؛ لأنّه يفسح أمام الإمام (عليه السلام) المجال للتعبير؛ ليزيد بذلك من درجة التأثير والإقناع؛ لأنّ التركيب «الإنشائي يثير المشاعر ويشحن من ثمة بطاقة حجاجية هامة(1)؛

لأنّ إثارة المشاعر ركيزة، كثيراً ما يقوم عليها الخطاب الحِجَاجي، وتكمن الطاقة الحِجَاجية للتركيب الإنشائي فيما يؤديه ضمناً، إذ يسهم المقتضي الناشئ عن التركيب الإنشائي في النهوض بوظائف حجاجية»(2).

ص: 305


1- كذا. والصواب: مهمة.
2- الخطاب الحِجَاجي السياسي في كتاب الإمامة والسياسة، لابن قتيبة دراسة تداولية: (أطروحة دكتوراه): 302.

ص: 306

الخاتمة والنتائج

اشارة

ها هنا تحط ركابي، فلم يبقَ أمامي إلا أن أجمع شذرات دراستي فيما يأتي:

أ- النتائج التنظيرية

1. الحِجَاج يختلف عن (المحاجّة، والاحتجاج، والسفسطة، والخطابة، والجدل، والبرهان، والمذهب الكلامي، والمناظرة، والمناقشة)، فهو مفهومٌ قائمٌ بذاته، يهدف إلي تنوير العقول وتوجيهها الوجهة الصحيحة، ويُعدّ من أهم وظائف اللغة، ومن العمليات اللسانية الخطابية والكتابية، التي يسعي فيها المحاجج إلي التأثير بالمتلقي، بتقديم مجموعة من الحجج؛ للوصول إلي النتيجة؛ بغية التأثير فيه، وإقناعه، أو الزيادة في اقتناعه، والحجاج لا يقتصر علي التأثير العقلي فحسب، بل يسعي إلي التأثير العقلي والعاطفي معاً عن طريق استثارة المشاعر، ومجاله واسع يشمل كلَّ العلوم الدينية والدنيوية، والحقيقة فيه غير متوخاة، و يستند إلي التداول الإنساني، وينتمي إلي الخطاب الطبيعي، ويتألف - في الأصل - من (حجّة، ورابط، ونتيجة)، ويحتاج المحاجج فيه إلي مجموعة من الحجج؛ لتزداد قوة مقبوليته، ودرجة احتماليته عند المخاطب، ويأخذ المحاجج المقام، ونفسية المخاطب بنظر الاعتبار في حجاجه، أمّا نتائجه فتكون

ص: 307

مضمرة وصريحة، وقابلة للنقض والتفنيد بحجج أقوي منها.

2. الدرس البلاغي الغربي بعد أرسطو ركّز علي الجانب الجمالي أكثر من الجانب الحِجَاجي، وبعدما تغيرت حاجات الإنسان، وتنوّعت متطلباته أيقظ هذا التغيّر والتنوّع بعض الباحثين في العالم الأوربي، ودفعهم إلي إعادة النظر في الخطابة الأرسطية، وتمخّضت هذه الصحوة عن إصدار كتابين حجاجيين في عام واحدٍ، وهو علي وجه التحديد عام (1958م) أحدهما بلاغي، لبيرلمان وتلميذته تيتيكاه، والآخر فلسفي، لتولمين، ثمّ توالت بعدهما الكتب، والنظريات الحِجَاجية في اللغة وغيرها.

3. ركز بيرلمان وتلميذته تيتيكاه علي الجانب الإقناعي في الحجاج، من دون أن يهملا الجانب الأسلوبي، فقد جعلا المحسنات البلاغية روافدَ لغوية تسعي إلي التأثير في المتلقي؛ لإقناعه بما يُعرض عليه؛ وليحمله ذلك الإقناع إلي التهيؤ لعمل فعلٍ إنجازي في المستقبل، بعيداً عن الاعتباطية واللامعقولية، كما اهتما بمظاهر التواصل (الخطيب، النصّ، المتلقي)، فضلاً عن المقام، وجعلا العلاقة بين المتلقي والمحاجج علاقة أفقية تبادلية، فالمتلقي في النظرية البيرلمانية لم يقتصر دوره علي التلقي فحسب، ولم يعد أدني درجة من الخطيب، بل صار موازياً له، يتلقي ما يتلقاه منه، ثمّ يفكر فيه، ويرد، ويُناقش، ويفنّد، ويدعم؛ وقد ينتقل من موقع التلقي إلي موقع الحجاج، ولا يُفترض أن يكون المتلقي جمهوراً حاضراً، بل يمكن أن يكون فرداً، أو جمهوراً كونياً، أو يكون قارئاً متأملاً، أو تكون نفس المحاجج، ودور الحجاج في هذه النظرية لم يقتصر علي

ص: 308

الإلقاء فحسب، بل يمكن أن يكون كتابة أيضاً.

4. عدّا ديكرو وانسكومبر في نظريتهما (الحجاج في اللغة) العمل الحِجَاجي عملاً دلالياً، تداولياً، كلامياً، يجعل اللغة تحمل في ذاتها بعداً حجاجياً، وذهبا إلي أنّ الحِجَاج متجذّر في اللغة، ولا يمكن الفصل بينهما، كما اهتما بالتداولية المدمّجة بالدلالة، ويعتقدان أنّ الفصل بين الدلالة والتداولية غير ممكن، وذهبا إلي أنّ الخطاب يتألف من حججٍ، ونتائجَ، تربط بينها روابط وعوامل حجاجية، وهذه الروابط والعوامل هي عبارة عن أدوات لسانية يُصرَّح بها في النصِّ، وذهبا إلي أنّ الخطيب لا يترك حججه اعتباطية وكيفما اتفق، بل يرتبها علي وفق ترتيب معين بحسب القوة والضعف، وهو ما اصطلح عليه ديكرو ب-(السلالم الحِجَاجية)، وخلصا إلي الاعتقاد بأنّ المعني الإخباري ثانوي، وتابع للمكون الحِجَاجي.

5. المحاجج - بحسب نظرية الحجاج في اللغة - يوجّه حجاجه وجهة حجاجية معينة يفرضها علي المتلقي من أجل إقناعه، أو دفعه للقيام بفعلٍ ما، أو إزعاجه، أو نحو ذلك، ويعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ القوة الحِجَاجية تكمن في قوة الحجّة المدعمة بالروابط والعوامل الحِجَاجية.

ب - النتائج التطبيقية

1. كلام الإمام الحسين (عليه السلام) حمل بين طياته قوة حجاجية إنجازية عالية، لم يستطع أن يصمد أمامها المتلقي (جمهوراً، وأفراداً) تمثّلت بقوة فعل الكلام المباشر وغير المباشر، وقد امتازت هذه القوة بترك آثارها علي المتلقي المباشر، والمتلقي غير المباشر - النّاس إلي زماننا

ص: 309

هذا - إلي التسليم لها، وعدم القدرة علي مجاراتها، أوردّها.

2. لم يستعمل الإمام (عليه السلام) من الروابط الحِجَاجية إلا ما ورد منها في القرآن الكريم؛ بوصفه المنهل الذي نهل منه لغته، وهي: (حتّي، بل، لكنّ، لأنّ)، أمّا الروابط اللغوية الأُخر: (مع ذلك، ولاسيما، إذن، لهذا، وبالتالي) فلم ترد في كلامه؛ لأنّها لم ترد في القرآن الكريم، أمّا ما يتعلق بدوال تلك الروابط فقد جاءت علي وفق ما يأتي:

* استعمل الرابط (حتّي) للجمع بين الحجج المتساندة التي لها توجيه حجاجي واحد، والحجّة التي أتت بعد هذا الرابط كانت أقوي من الحجّة التي سبقته في خدمة النتيجة، واستعمل هذا الرابط أيضاً لإدراج الحجج القوية؛ لما فيه من قدرة علي تأكيد الحجّة التي قبله.

استعمل الرابط (بل) للجمع بين حجتين لهما توجيه حجاجي واحد، والحجّة التي جاءت بعده* أقوي من الحجّة التي قبلها في خدمة النتيجة، واستند إليه أيضاً في إقامة علاقة حجاجية مركبة من علاقتين حجاجيتين فرعيتين: علاقة بين حجّة ونتيجة مضمرة، وعلاقة حجاجية أخري تسير بالاتجاه المعاكس للنتيجة السابقة، خدمتْ نتيجة مضمرة أخري، وهذه النتيجة وقعت بعد الرابط (بل)، وكانت النتيجة الأقوي للقول برمته. بعبارة أخري: إنّ الإمام (عليه السلام) استعمل هذا الرابط للربط بين حجتين، كلّ حجّة منهما تساند نتيجة هي نقيض النتيجة التي تساندها الحجّة الأخري، واستعمله أيضاً في تساند الحجج لخدمة النتيجة.

* استعمل (عليه السلام) الرابط (لكن) في الجمع بين حجتين متغايرتين نفياً وإيجاباً، وجاء حكم ما بعده مخالفاً لحكم ما قبله، وكانت الحجّة

ص: 310

التي بعده أقوي من الحجّة التي قبله في خدمة النتيجة.

* استعمل (عليه السلام) الرابط (لأنّ)؛ لتبرير الفعل، وربط فيه بين النتيجة والحجّة، وجاءت الحجّة بعده لتعليل النتيجة الواردة قبله.

3. استعمال الإمام الحسين (عليه السلام) لأدوات التوكيد الحِجَاجية جاء متلائماً مع أحوال المتلقي، فكلما كانت درجة الإنكار عالية كان الإمام (عليه السلام) يستعمل أسلوباً أقوي في الحِجَاج، ومن أبرز توكيداته (عليه السلام) اعتماده علي أسلوب التكرار اللفظي؛ لما فيه من تهويل، وتفخيم، وتأكيد أهمية القول، فضلاً عن أهميته في التدليل علي المعني، وتوجيه الخطاب الوجهة الحِجَاجية التي يريدها، ولم يقتصر في تكراره علي اللفظ، بل عمد إلي تكرار المضمون، وهذا النوع من التكرار من أقوي أنواع الحِجَاج؛ لما فيه من طاقات إيحائية تزيد من قوة الحجّة، وترسيخ الفكرة.

4. كان (عليه السلام) يعدل في خطاباته نحو الأقوي حجاجياً؛ باعتماد أسلوب الاستفهام التقريري؛ لما فيه من الدلالة علي النفي، والتعجب، والإنكار، والتوبيخ، وإجبار المخاطب علي الجواب بعد أن يحصره في زاوية ضيقة؛ ليصل من ذلك إلي مراميه بحجج دامغة لا يقوي المتلقي علي مجاراتها؛ ولينتزع إقرار المتلقي فيه انتزاعاً، وفضلاً عن ذلك فقد عدل من النفي إلي الاستفهام؛ لما فيه من قوة حجاجية تزيد من قوة النفي، وتجبر المتلقي علي ردّ الفعل، وإنْ لم يفعل ففي ذلك دلالة علي إلجامه بالحجّة، كما أفاد (عليه السلام) من أسلوب الالتفات في حجاجه؛ لأجل لفت انتباه المتلقي إلي الخطاب، فضلاً عمّا لهذا الأسلوب من قدرة علي استمالة القلوب، وثني الأعناق للإذعان للحجّة، والتسليم لها.

ص: 311

5. وظّف (عليه السلام) التشبيه في حجاجه؛ لأنّه يجسر بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة؛ ليُقرّب المسافات بينها، ويجعل العقل يقبل العلاقات القائمة بين الأشياء؛ فنجده (عليه السلام) يعمد إلي التشبيه لإيصال الحجّة إلي ذهن المتلقي، فيصورها بصورة بيانية تشبيهية؛ ليُشْعِر بها المتلقي كما يَشْعُر بها هو، و اتّضح أنّ للتمثيل في حجاجه قوة حجاجية أقوي من التشبيه؛ إذ يستدعي من المتلقي التفتيش عن وجه الشبه الرابط بين العلاقتين المتماثلتين بتأملٍ وتفكّرٍ فيتوصّل إليه بنفسه، وهكذا يجعل الإمام (عليه السلام) الحجّة المراد التعبير عنها حاضرة في ذهن المتلقي، كذلك أفاد من الاستعارة في حجاجه لما فيها من قوة حجاجية عالية تجعل المتلقي يُخضع اللفظ المستعار إلي عملية عقلية يتوصل بوساطتها إلي مراد الإمام (عليه السلام) بنفسه، وهذا الفعل يجعل تقبله للحجّة أكثر. واستند إلي الكناية؛ لأنّها أبلغ، وآكد، وأقوي حجاجاً من التصريح؛ فالمعني الذي يفهمه المتلقي بعد تفكّرٍ، وتدبّرٍ يكون أقوي تأثيراً، وأكثر إقناعاً من المعني الصريح، وكان للتعريض نصيبٌ في حجاجه؛ لما فيه من قوةٍ حجاجيةٍ مستمدة منالمقام، وسياق القول، وفضلاً عن ذلك فقد اعتمد (عليه السلام) علي التذييل، والإيضاح بعد الإبهام - وهما من أساليب الإطناب البلاغية -؛ لتوضيح بعض الحجج، وتوكيدها، كما أفاد من اسم الفاعل، واسم المفعول في إصدار الأحكام التي يريدها، وأفاد من أسلوب التقديم والتأخير في نظم الكلام، لما فيه من دلالة علي القصر، والاختصاص، وتقليص الإمكانات الحِجَاجية، وهي الفائدة نفسها التي شاطره النفي فيها، واعتمد علي أسلوب النداء ب-(يا) للقريب؛ لما فيه من الدلالة علي إنزال القريب منزلة الغافل، ولا يمكن إنكار

ص: 312

الوظيفة الكبري التي أداها العطف ب-(الواو)، فبواسطته استطاع الإمام (عليه السلام) أن ينقل المتلقي من صورة حجاجية إلي أخري، فضلاً عمّا فيه من دلالة علي الاشتراك في الحكم، وبه وضّح مقاصده؛ ليضمن التأثير في المتلقي، كما كان للعطف بشكل عام، والعطف بالواو علي وجه الخصوص الأثر الحِجَاجي الفاعل في الربط بين الحجج وترتيبها، ولا يمكن تجاهل مدي إفادته (عليه السلام) من الجمل الشرطية في الربط بين العلاقات، فقد جعل الرابط بينها علاقة سببية؛ ليضفي علي حجاجه جوانب عقلية شبه منطقية، وكان يستند (عليه السلام) في حجاجه إلي التقابل الدلالي بين بعض الألفاظ والعبارات؛ لما فيه من حجّة في تعظيم الفكرة، والزيادة من قوة التأثير في المتلقي؛ لاستمالته وإقناعه بحجاجه.

6. وجه (عليه السلام) المخاطَب وجهة حجاجية واحدة في الخطاب، وسدّ كلّ الثغرات الحِجَاجية التي تسمح له باختيار حججه بالاعتماد علي بعض المرجعيات، والتقنيات الحجاجية التي مثّلت الركائز التي اتّكأ عليها في خطاباته (عليه السلام)، وهي:

* أفاد (عليه السلام) من الاقتباس من القرآن الكريم؛ وكلام جده المصطفي (صلي الله عليه و آله)؛ ليكونا القاعدة التي يستند إليها في حجاجه؛ لإقناع القوم بأحقيته بالإمامة والاتباع؛ ولتكون تلك الاقتباسات شاهد صدقٍ علي الأحداث، فضلاً عمّا فيها من الوقار، والبهاء، والبيان، والإيجاز في اللفظ، والعمق في الدلالة.

* جعل النبي محمداً (صلي الله عليه و آله)، وآل بيته (عليهم السلام) الأنموذج الأمثل للنَّاس في أغلب خطاباته.

* اعتمد (عليه السلام) علي تقنية الفصل الحِجَاجي القائمة علي ثنائية الظاهر

ص: 313

والحقيقة في كشف زيف حجج خصومه، وتسليط الضوء علي مغالطاتهم.

* اعتمد (عليه السلام) في حجاجه علي التقنية التتابعية في رصد الوقائع، ورَبَطَ بينها، كما رصد المتناقضات في حجاج معاوية وتتبعها.

* غلب علي خطاباته الاستناد إلي وقائع حقيقية، وحقائق فعلية، وأحداث معاينة، لا يشك المتلقي في ثبوتيتها.

7. امتاز كلامه (عليه السلام) بالتناغم في الأفكار، وحسن التخلص من فكرة إلي أخري، وهذا الأسلوب الحِجَاجي يؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ كلَّ ما في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) محكم النسج، ومنتقي بدقّة في التوجيه نحو النتيجة، وهو انتقاءٌ واعٍ للألفاظ والتراكيب، وطريقة في النظم معني وأسلوباً؛ فلا وجود للاعتباطية والمصادفة في كلامه (عليه السلام)، وكانت الجزالة الطابع المميّز لألفاظه، فقد كان دقيقاً في اختيارها؛ إذ نجده ينظّم الكلمة مع أختها كالعقد المنظوم في اقتران كلّ لؤلؤة منه بأختها، وكان (عليه السلام) في جلِّ حجاجه يميل نحو الإيجاز، فاتحاً بذلك أمام أذهان متلقيه أبواب التخييل والتصوير.

8. لم يقتصر الإمام الحسين (عليه السلام) في حجاجه علي الخطابة والكتابة، بل كانت أفعاله وأقواله شعلةً وهّاجة من الحِجَاج، أضاءت للأجيال الدروب النيرة، والعقائد الصالحة؛ لتميز بها الأجيال الخبيث من الطيب.وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ص: 314

ملحق بكلام الإمام الحسين (عليه السلام)

* شعره (عليه السلام) بعدما دفع مالاً لأعرابي سأله:

خذها وإني إليك معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقه

لو كان في سيرنا عصا تمداداً

كانت سمانا عليك مندفقه

لكنًّ ريب المنون ذو نكدٍ

والكفّ منّا قليلة النفقه(1)

* ومن أشعاره (عليه السلام):

أغن عن المخلوق بالخالق

تغن عن الكاذب والصادق

واسترزق الرحمن من فضله

فليس غير الله من رازق

من ظن أنَّ الناس يغنونه

فليس بالرحمن بالواثق

أو ظن أنَّ المال من كسبه

زلت به النعلان من حالق(2)

ومن أشعاره (عليه السلام):

كلما زيد صاحب المال مالاً

زيد في همّه وفي الاشتغال

قد عرفناك يا منغّصة العيش

ويا دار كلِّ فانٍ وبالليس

يصفو الزاهد طلب الزهد

إذا كان مثقلاً بالعيال(3)

ص: 315


1- تاريخ مدينة دمشق: 14/185.
2- المصدر نفسه: 14/186.
3- المصدر نفسه: 14/186.

ليس يصفو الزاهد طلب الزهد

إذا كان مثقلاً بالعيال(1)

ومن أشعاره (عليه السلام):

لئن كانت الدنيا تعدّ نفيسة

فدار ثواب الله أغلي وأنبلُ

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرء بالسيف في الله أفضلُ

وإن كانت الأرزاق شيئاً مقدراً

فقلة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن كانت الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخلُ(2)

شعره (عليه السلام) في زوجه الرباب وابنته سكينة:

لَعْمْرُكَ إنَّني لأُحِب دَاراً

تَحُلُّ بها سُكَيْنَةُ وَالرَّبابُ

أُحِبهما وأَبْذُل كل مَالي

وليس للائمٍ عِنْدِي عِتَابُ (3)

* «رُوي أنّ عمر بن الخطاب كان يخطب النَّاس علي منبر رسول الله (صلي الله عليه و آله)، فذكر في خطبته أنّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحُسَيْن (عليه السلام) - من ناحية المسجد -: انزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله، لا منبر أبيك!

فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حُسَين، لا منبر أبي، من علّمك هذا أبوك عليّ ابن أبي طالب؟ فقال له الحُسَيْن (عليه السلام): إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنّه لهادٍ وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب النَّاس البيعة عليعهد رسول الله، نزل بها جبرائيل من عند الله تعالي، لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها النَّاس بقلوبهم، وأنكروها بألسنتهم، وويلٌ

ص: 316


1- المصدر نفسه: 14/186.
2- المصدر نفسه: 2/238؛ واُنظر: البداية والنهاية: 11/594؛ والفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة: 170-171.
3- زهر الآداب وثمر الألباب: 1/101.

للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمّد رسول الله (صلي الله عليه و آله) من إدامة الغضب وشدّة العذاب؟!

فقال عمر: يا حُسَين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا النَّاس فتأمرنا، ولو أمروا أباك لأطعنا.

فقال له الحُسَيْن: يا ابن الخطاب فأيّ النَّاس أمرك علي نفسه قبل أن تؤمِّر أبا بكر علي نفسك، ليؤمرك علي النَّاس بلا حجّة من نبي، ولا رضا من آل مُحَمَّد، فرضاكم كان لمُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) رضي أو رضا أهله كان له سخطاً؟! أما والله لو أنَّ للسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يعينه المؤمنون، لما تخطيت رقاب آل مُحَمَّد، ترقي منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله الأسماع، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عمَّا أحدثت سؤالاً حفياً.

قال: فنزل عمر مغضباً، فمشي معه أناسٌ من أصحابه حتي أتي باب أمير المؤمنين (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من أبنك الحُسَيْن، يجهرنا بصوتٍ في مسجد رسول الله، ويُحرض عليّ الطغام وأهل المدينة...»(1).

ردَّه (عليه السلام) علي ابن الأزرق الخارجي: رويَ «عن ابن عباس أنه بينما هو يحدث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال له: يا ابن عباس تفتي الناس في النملة والقملة؟ صف لي إلهك الذي تعبد، فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله، وكان الحُسَيْن بن علي جالساً ناحيةً فقال: إليّ ياابن الأزرق. قال: لست إياك أسأل. قال ابن عباس: يا ابن الأزرق إنه من أهل بيت النبوة، وهم ورثة العلم. فأقبل نافع نحو الحُسَيْن فقال له الحُسَيْن: يا نافع إن من وضع دينه علي القياس لم يزل الدهر في الالتباس، سائلاً إذا كبا عن المنهاج،

ص: 317


1- الاحتجاج: 2/271.

ظاعناً بالاعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل، يا ابن الأزرق، أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرّفه بما عرّف به نفسه: لا يُدرك بالحواس، ولا يُقاس بالناس. قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يوحّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال.

فبكي ابن الأزرق، وقال: يا حسين ما أحسن كلامك! قال له الحُسَيْن: بلغني أنك تشهد علي أبي وعلي أخي بالكفر وعليَّ؟ قال ابن الأزرق: أما والله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام، ونجوم الأحكام، فقال له الحُسَيْن: إني سائلك عن مسألة، قال سل، فسأله عن هذه الآية: «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ»(1). يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق: أبُوهما؟ قال الحُسَيْن: فأبوهما خير أم رسول الله (صلي الله عليه وسلم)؟ قال ابن الأزرق: قد أنبأ الله تعالي أنكم قوم خصمون»(2).

خطبته في التوحيد: «أيّها النّاس اتّقوا هؤلاء المارقة، الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب،بل هو الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير. استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضي المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائنٌ. لا منازع له في شيءٍ من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سميّ له يشابهة، ولا مثل له يشاكله، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر علي القلوب مبلغ جبروته، لأنّه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم، إلا

ص: 318


1- سورة الكهف: آية82.
2- تاريخ مدينة دمشق: 14/183-184؛ واُنظر: مختصر تاريخ دمشق: 7/130-131.

بالتحقيق إيقاناً بالغيب؛ لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصّمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه. ليس بربّ من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء. هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائنٌ لا بينونة غائب عنها، ليس بقادر من قارنه ضد، أو ساواه ندّ. ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار. وعمَّن في السّماء احتجابه كمن في الأرض قربه كرامته، وبعده إهانته، لا تحله في، ولا توقته إذ، ولا تؤامره إن. علوه من غير توقل، ومجيئه من غير تنقل، يوجد المفقود، ويفقد الموجود، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت. يصيب الفكر منه الإيمان به، موجوداً ووجود الإيمان لا وجود صفة، به توصف الصفات لا بها يوصف، و به تعرف المعارف لا بها يعرف، فذلك الله لا سمي له، سبحانه }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [سورة الشوري: 11] »(1).تفسيره لمعني (الصمد): «بسم الله الرحمن الرحيم أمَّا بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله (صلي الله عليه و آله) يقول: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». وإنّ الله قد فسّر سبحانه الصّمد فقال: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» «لَمْ يَلِدْ» لم يخرج منه شيء كثيف كالولد، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا ينبعث منه البدوات كالسنة، والنوم، والخطرة، والغم، و الحزن، والبهجة، والضحك، والبكاء، والخوف، والرجاء، والرغبة، والسّامة، والجوع والشبع، تعالي أن يخرج منه شيء، و أن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف «وَلَمْ يُولَدْ» أي: ولم يتولد من شيء، و لم يخرج من شيء، كما تخرج الأشياء الكثيفة من

ص: 319


1- تحف العقول عن آل الرسول: 173-174.

عناصرها، كالشيء من الشيء، والدّابة من الدّابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، و لا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، و الشم من الأنف، و الذوق من الفم، و الكلام من اللسان، والمعرفة، والتمييز من القلب، و النّار من الحجر، لا بل هو الله الصّمد الذي لا من شيء، و لا في شيء، ولا علي شيء، مبدع الأشياء، وخالقها، ومُنشيء الأشياء بقدرته، يتلاشي ما خلق للفناء بمشيئته، ويبقي ما خلق للبقاء بعلمه. فذلكم الله الصّمد، الذي لم يلد و لم يولد «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»[سورة الرعد: 9]»(1).

خطبته في مكارم الأخلاق: «أيها الناس، نافِسوا في المكارم،وسارعوا في المغانم، ولا تحسبوا بمعروف لم تعجّلوه، واكتسبوا الحمدَ بالنُّجح، ولا تكسبوا بالمَطلِ ذمّاً، فمهما يكن لأحدٍ صنيعةٌ له رأي أنه لا يقومُ بشكرها فالله مُكافٍ له، فإنه أجزلُ عطاءً وأعظم أجراً.اعلموا أنَّ حوائج الناس إليكم من نِعَمِ الله عليكم، ولا تملُّوا النعم فتَحَوّر نِقماً، واعلموا أنَّ المعروف مُكسبٌ حمداً، ومُعقبٌ أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً، يسرُّ الناظرين، ويفوقُ العالمين، ولو رأيتم اللؤمَ رجلاً رأيتموه سَمِجاً مشوهاً تنفرُ منه القلوبُ، وتُغَضّ دونه الأبصار. أيُّها الناس من جاد ساد، ومن بَخِلَ رُذِلَ، وإنَّ أجودَ الناس مَن أعطي من لا يرجوه، وإنَّ أعفي الناس من عفا عن قُدرة، وإنَّ أوصل الناس مَن وصلَ مَن قطعه، والأصولُ علي مغارسها بفروعها تسمو. من تعجَّلَ لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد رضا الله تعالي بالصنيعة إلي أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاءِ الدنيا ما هو أكثرُ منه، ومن نَفَّسَ كُرْبَةَ مؤمنٍ فَرَّجَ الله عنه كُربَ الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسنَ

ص: 320


1- مجمع البيان في تفسير القرآن: 10/550-551.

الله إليه، و اللهُ يحبُّ المحسنين»(1).

خطبته بجيش العراق في صفين بعد فتنة التحكيم: «يا أهل الكوفة، أنتم الأحبة الكرماء، الشّعار دون الدِّثَار، جِدُّوا في إحياء ما دُثِرَ بينكم، وإسهال ما توعَّر عليكم، وأُلفة ما ذاع منكم،ألا إنَّ الحرب شرُّها ذريع، وطعمُها فظيع، وهي جُرعٌ متحسَّاة، فمن أخذ لها أهبتَها، واستعدَّ لها عُدّتَها، ولم يأْلَم كُلومَها عند حلولها، فذاك صاحبها. ومنعاجلها قبل أَوان فرصتها، واستبصار سعيه فيها، فذاك قَمِن أَلَّا ينفعَ قومه، ويهلكَ نفسَه. نسأَل الله بعونه أن يَدْعَمَكم بأُلفته»(2).

خطبته عندما أراد معاوية وأنصاره استصغاره، والتقليل من شأنه؛ بحجة أنّ في لسانه كلالة، ولا يجيد الخطابة، إذ طلبوا منه أنّ يصعد المنبر، ويخطب، فحمد الله وأثني عليه، وصلي علي النبي (صلي الله عليه و آله)، فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال الحُسَيْن (عليه السلام): «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله (صلي الله عليه و آله) الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ثاني كتاب الله تبارك وتعالي، الذي فيه تفصيل كلّ شيءٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقائقه، فأطيعونا؛ فإنَّ طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة. قال الله (عزوجل): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ» [سورة النساء: 59]، وقال: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا»[سورة النساء:83].

وأحذركم الإصغاء إلي هتوف الشيطان بكم؛ فإنَّه لكم عدو مبين، فتكونوا

ص: 321


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 81-82؛ واُنظر: التذكرة الحمدونية: 1/102؛ وكشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/239-240؛ والفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة: 169.
2- وقعة صفين: 114-115؛ واُنظر: جمهرة خطب العرب: 1/153.

كأوليائه الذين قال لهم: «لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَي عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ» [سورة الأنفال: 48] فتلقون للسيوف ضرباً، وللرماحِ ورداً، وللعمد حطماً وللسهام غرضاً، ثم لايقبل من نفسٍ إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً. قال معاوية: حسبك يا أبا عبد اللهقد بلّغت»(1).

رده (عليه السلام) علي كتاب معاوية، الذي أعاب عليه فيه زواجه من جاريته بعدما اعتقها، فكتب إليه الحُسَيْن: «أمَا بعد، فقد بلغني كتابُك، وتَعْيِيرُكَ إياي بأني تزوَجْتُ مولاتي، وتركتُ أكْفائي مِنْ قُرَيش، فليسَ فَوْقَ رسول الله منتَهًي في شرَف، ولا غاية في نسب؛ وإنّما كانت مِلْكَ يميني، خرجَتْ عن يدي بأمرٍ التمستُ فيه ثوابَ الله تعالي، ثم ارتجعتُها علي سنةِ نبيه (صلي الله عليه و آله)، وقد رفع اللَهُ بالإسلام الخسيسة، ووضع عنَّا به النقيصةَ؛ فلا لَوْمَ علي امرئ مسلم إلاَ في أمرِ مأثم، وإنَّما اللومُ لَوْمُ الجاهلية. فلمّا قرأ معاوية كتابَهُ نَبَذهُ إلي يزيد فقرأه، وقال: لَشَدَ ما فَخَرَ عليك الحُسَيْن! قال: لا، ولكنها ألسنةُ بني هاشم الحِداد التي تَفْلِقُ الصَخْرَ، وتَغْرِفُ من البحر!»(2).

رده (عليه السلام) علي معاوية عندما قال له: يا أبا عبد الله، هل بلغك ما صنعنا بحجر، وأصحابه، وأشياعه وشيعة أبيك؟ «فقال (عليه السلام): وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفّناهم، وصلينا عليهم. فضحك الحُسَيْن (عليه السلام) ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكنَّنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم، ولقد بلغني وقيعتك في عليّ وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع إلي نفسك، ثم سلها الحقّ عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك، وقد

ص: 322


1- الاحتجاج: 2/277؛ واُنظر: مناقب آل أبي طالب: 4/74.
2- زهر الآداب وثمر الألباب: 1/101؛ واُنظر: جمهرة رسائل العرب: 2/22-23.

ظلمناك يا معاوية فلاتوترنَّ غير قوسك، ولا ترمينَّ غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكانٍ قريب، فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلاً ما قَدِمَ إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك، فانظر لنفسك، أو دع - يعني: عمرو بن العاص»(1).

رده (عليه السلام) علي كتاب معاوية الذي ذكر فيه أنّه انتهت منه إليه أمور: «وكتب إليه الحُسَيْن رضي الله عنه: أمّا بعد، فقد جاءني كتابك، تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور، لم تكن تظنّني بها، رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدد إليها إلا الله تعالي، وأمّا ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنّما رقاه الملاقون، المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإني لأخشي لله في ترك ذلك، منك ومن حزبك، القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر، وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكدة، جراءة علي الله واستخفافاً بعهده، أولست بقاتل عمرو بن الحمق، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال، أولست المدعي زياداً في الإسلام، فزعمت أنّه ابن أبي سفيان، وقد قضي رسول الله صلي الله عليه وسلم أنّ الولد للفراش،وللعاهر الحجر، ثم سلطته علي أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم علي جذوع النخل، سبحان الله يا معاوية؟ لكأنّك لست من هذه الأمة، وليسوا منك. أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنّه علي دين علي كرم الله وجهه، ودين علي هو دين ابن عمه صلي الله عليه وسلم، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم

ص: 323


1- الاحتجاج: 2/275؛ واُنظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/240 مع اختلافٍ في الرواية.

الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا منّة عليكم، وقلتَ فيما قلتَ: لا ترد هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلتَ فيما قلتَ: انظر لنفسك ولدينك ولأمة مُحَمَّد، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنّه قربة إلي ربّي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحبُّ ويرضي، وقلت فيما قلت: متي تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون، وإنِّي لأرجو أن لا تضرَّ إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية، واعلم أن لله كتاباً «لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» [سورة الكهف: 49]. واعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام»(1).

خطبته التي بددت آمال معاوية في كسب البيعة ليزيد: «فحمد الله، وصلي علي الرسول ثمّ قال: أمّا بعد يا معاوية، فلن يؤديالقائل وإن أطنب في صفة الرسول صلي الله عليه وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله، من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية: فضح الصبح فحمة الدجي، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضّلت حتي أفرطت، واستأثرت حتي أجحفتَ، ومنعت حتي محلت، وجزت حتي جاوزت ما بذلت لذي حقٍّ من اسم حقه بنصيب، حتي أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة مُحَمَّد، تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنَّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمَّا كان ممَّا احتويته بعلمٍ خاص، وقد دلّ يزيد

ص: 324


1- الإمامة والسياسة: 1/202-204؛ واُنظر: الاحتجاج: 2/275-277؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/58-64.

من نفسه علي موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فو الله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتي ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم علي عمل محفوظ في يوم مشهود، وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجّة بذلك، ورده الإيمان إلي النصف؟! فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتي أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلي عليهوسلم وتأميره له، وقد كان ذلك؟! ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له؟! وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثُهم حتي أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال صلي الله عليه وسلم: (لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري). فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟! أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً، وحولك من لا يؤمَن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟! وتتخطاهم إلي مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقي بها في آخرتك. إن هذا لهو الخسران المبين. وأستغفر الله لي ولكم»(1).

ص: 325


1- الإمامة والسياسة: 1/208-210.

قوله (عليه السلام) لمروان بن الحكم(1): «يابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت»(2).

وصيته (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) بالبقاء في المدينة: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصي به الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب إلي أخيه مُحَمَّد، المعروف بابن الحنفية، إنّ الحُسَيْن يشهد أن لاإله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن مُحَمَّداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحقّ، وأن الجنة والنار حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي، صلي الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي عليّ ابن أبي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحقِّ فالله أولي بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر، حتي يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ، وهو خير الحاكمين»(3).

قول الإمام الحُسَيْن (عليه السلام) عند قبر أخيه الحسن قبل خروجه من المدينة إلي مكة: «رحِمك اللهُ أبا محمّد إن كنتَ لَتُناصِرُ الحقَّ مَظَانَّه، وتؤثِر الله عند تداحُض الباطلِ، في مواطن التقيَّة بحسن الرويَّة، وتستشِفُّ جليلَ مَعاظم الدنيا بعينٍ لها حاقرةٍ، وتُفيضُ عليها يداً طاهرةَ الأطرافِ، نقيَّةَ الأسرَّةِ، وتردَعُ بادرةَ غربِ أعدائك بأَيسرِ المؤونة عليك؛ ولا غَروَ، وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيعُ لِبان الحكمةِ، فإلي رَوْحٍ ورَيحانٍ وجنَّةِ نعيم؛ أعظمَ اللهُ لنا ولكم الأجرَ عليه، ووهبَ لنا ولكم السّلوة وحُسْنَ الأَسَي عنه»(4).

ص: 326


1- عندما هلك معاوية أرسل ابنه يزيد إلي الوليد بن عتبه، والي المدينة كتاباً طلب منه فيه أخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السلام)، وكبار أهل المدينة، فأرسل الوليد بطلب مروان يستشيره، فأشار عليه باستدعائهم قبل أن يعلموا بهلاك معاوية، ومن يرفض يقطع عنقه. اُنظر: تاريخ الطبري: 5/340.
2- المصدر نفسه: الصفحة نفسها.
3- بحار الأنوار: 44/329-330.
4- عيون الأخبار: 2/314-315؛ واُنظر: جمهرة خطب العرب: 2/129.

وقال (عليه السلام) عندما أتي مقابر الشهداء بالبقيع:

ناديت سكّان القبور فأسكتوا

وأجابني عن صمتهم ندب الجثا

قالت: أتدري ما صنعت بساكني

مزقت لحمهم وخرّقت الكسا

وحشوت أعينهم تراباً بعدما

كانت تباينت المناصل والشوا

قطّعت ذا من ذا ومن هذا كذا

فتركتها رمما يطول بها البلا(1)

* شعره (عليه السلام) عندما عزم علي الخروج إلي مكة:

لا ذعرتُ السوام في غبش الصبح

معيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيماً

والمنايا ترصدنني أن أحيدا(2)

كتابه (عليه السلام) إلي أهل الكوفة مع هانئ وسعيد: «كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكان آخر الرسل. بسم الله الرحمن الرحيم من حسين بن علي إلي الملأ من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد: فان هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم، إنّه ليس علينا إمام، فأقبل؛ لعلَّ الله أن يجمعنا بك علي الهدي والحقّ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فان كتب إليّ انه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجا منكم علي مثل ما قدمت عليّ به رسلكم و، قرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ والحابس نفسه علي ذات الله، والسلام»(3).

ص: 327


1- تاريخ مدينة دمشق: 14/186-187؛ واُنظر: البداية والنهاية: 11/594.
2- تاريخ مدينة دمشق: 14/204.
3- تاريخ الطبري: 5/353؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/39؛ و مناقب آل أبي طالب: 3/98؛ وبحار الأنوار: 44/334؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/73.

كتابه (عليه السلام) إلي أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي:«أمّا بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملأكم علي نصرنا، والطلبِ بحقِّنا [فسألت الله أن يُحسن لنا الصُّنع] فأثابكم الله علي ذلك أعظم الأجر، [ وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء، لثمانٍ مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قَدِمَ عليكم رسولي] فاكمشوا أمركم، وجدوا فيه، فإنّي قادم عليكم في أيامي إن شاء الله، والسلام [عليكم ورحمة الله وبركاته»(1).

* ردّه علي عبد الله بن الزبير عندما دعاه للبقاء في مكة، ويجمع من حوله النّاس: «إنّ أبي حدثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش»(2).

روي رجل كان يطوف بالكعبة أنّه سمع عبد الله بن الزبير يُنادي الإمام الحُسَيْن (عليه السلام) ويسرّه بشيء، فالتفت الإمام (عليه السلام) إلي النّاس وقال: «أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك النّاس، ثمّ قال الحُسَيْن: والله لأن أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ إليّ* من أن أُقتل داخلاً منها بشبرٍ، وأيم الله لو كنت في جُحْرِ هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني، حتّي يقضوا فيّ حاجتهم، والله ليَعتدُنَّ عليّ كما اعتدت اليهود في السَّبت»(3).

ص: 328


1- جمل من أنساب الأشراف: 3/378؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/395، وما بين المعقوفات من تاريخ الطبري؛ وينظر أيضاً: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/70؛ والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 5/328؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/80-81
2- تاريخ الطبري: 5/384.
3- جمل من أنساب الأشراف: 3/375؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/385.

عندما عزم الإمام الحُسَيْن (عليه السلام) علي المسير بأطفاله، ونسائه، وأهل بيته، وبعض أصحابه مع أسرهم وأطفالهم من مكة إلي العراق كان النّاس لا يعرفون غاية الإمام من الخروج إلي حربٍ خاسرة، وما حكمته في ذلك؟! فخطب فيهم هذه الخطبة: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلي الله علي رسوله وسلم. خُطَّ الموت علي ولد آدم مخطَّ القلادة علي جيد الفتاة، وما أولهني إلي أسلافي، اشتياق يعقوب إلي يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنِّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جُوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين؛ لن تشذَّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّ بهم عينه، وتنجز لهم وعده، من كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً علي لقاءِ الله نفسه، فليرحل معنا فانِّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(1).كتابه (عليه السلام) إلي عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد بن معاوية علي مكة، الذي كتبه له وهو في طريقه إلي العراق، الذي منحه فيه الأمان، ودعاه إلي الرجوع إلي مكة: «أمّا بعد: فانّه لم يشاقِقِ الله ورسوله مَنْ دعا إلي الله عزّ وجلّ، وعمل صالحاً، وقال إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلي الأمان والبرّ والصّلة، فخير الأمان أمانُ الله ولن يؤمْنَ الله يومَ القيامةِ مَن لم يخفْه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا، تُوجب لنا أمانه يومَ القيامة، فإن كنت نوَيتَ بالكتاب صلتي وبرّي فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة. والسلام»(2).

ص: 329


1- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 86؛ واُنظر: مقتل الحسين: 2/5-6؛ والملهوف علي قتلي الطفوف: 57؛ وكشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/239؛ وبحار الأنوار: 44/366-367.
2- تاريخ الطبري: 5/388-389؛ واُنظر: تاريخ مدينة دمشق: 14/210؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/80.

ردّ الإمام الحُسَيْن (عليه السلام) علي أبي هرّة عندما قال له - وهو في طريقه إلي العراق -: يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله، وحرم جدك مُحَمَّد (صلي الله عليه و آله) ؟: «ويحك أبا هرَّة إنَّ بني أُمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسنَّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنَّ عليهم من يذلَّهم حتّي يكونوا أذلَّ من قوم سبأ؛ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم ودمائِهم»(1).

محاورته (عليه السلام) مع الفرزدق وهو في طريقه إلي الكوفة: «عن أبي جناب، عن عدي ابن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قالاأقبلنا حتي انتهينا إلي الصفِّاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر فواقف حسيناً، فقال له: أعطاك الله سؤلك، وأملك فيما تحبُّ، فقال له الحُسَيْن: بيِّن لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبير سألت قلوبُ الناس، معك وسيوفُهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال له الحُسَيْن: صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يومٍ ربُّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحبُّ، فنحمد الله علي نعمائه، وهو المستعان علي أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيّته والتقوي سريرته، ثم حرّك الحُسَيْن راحلته فقال السلام عليك ثم افترقا»(2).

وفي رواية أخري أنّه أجاب الفرزدق بقوله: «ما أراك إلا صدقت، إنّ النّاس عبيد المال، والدين لعق علي ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون»(3).

ص: 330


1- بحار الأنوار: 44/368.
2- تاريخ الطبري: 5/386؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/407؛ وبحار الأنوار: 44/376.
3- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر 87.

خطبته (عليه السلام) بأصحابه بعد قتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر: «فلما بلغ الحُسَيْن قتل ابن يقطر خطب فقال: أيّها الناس، قد خذلتنا شيعتنا، وقُتِلَ مسلم، وهانئ، وقيس بن مسهر، ويقطر، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. فتفرق الناس الذين صحبوه أيدي سبأ، فأخذوا يميناً وشمالاً، حتي بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من الحجاز»(1).خطبته (عليه السلام) بالحرّ وجيشه بعد صلاة الظهر: «أيّها الناس، إنّها معذرة إلي الله عزّ وجلّ وإليكم، إنِّي لم آتكم حتي أتتني كُتُبكم، وقدمتْ عليَّ رُسُلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله يجمعنا بك علي الهدي، فإنْ كنتم علي ذلك فقد جئتكم، فإن تُعطوني ما أطمئنُّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقْدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلي المكان الذي أقبلتُ منه إليكم»(2)، فسكتوا عنه، وبقوا ملازميه، وبعدما أنهي الإمام (عليه السلام) صلاة العصر خطب فيهم خطبة أخري جاء فيها - بعدما حمد الله وأثني عليه: «أيّها الناس، فإنّكم إن تتقوا وتعرفوا الحقَّ لأهله يكن أرضي لله، ونحن أهل البيت أولي بولايته هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجوْر والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيُكم غيرَ ما أتتني كتبكم، وقدمتْ به عليَّ رُسُلكم، انصرفتُ عنكم. فقال له الحر بن يزيد: إنّا والله ما ندري ما هذه الكُتُب التي تذكر؟ فقال الحُسَيْن: يا عقبة بن سِمْعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ، فأخرج خرْجين مملوءين صُحُفاً، فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: فإنَّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمِرنا إذا نحن لقيناك ألَّا نفارقَك، حتي نُقدمك علي عبيد الله ابن زياد؛ فقال لهالحُسَيْن:

ص: 331


1- جمل من أنساب الأشراف: 3/380.
2- تاريخ الطبري: 5/401؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/407؛ وبحار الأنوار: 44/376.

الموتُ أدني إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا»(1).

خطبته بذي حُسُم، وفيها ذمّ الدّنيا وحذّر منها: «إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفُها واستمرت جداً، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمرعي الوَبيل. ألا ترون أنَّ الحقَّ لا يُعْمَل به، وأن الباطل لا يُتناهَي عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله مُحقاً، فإنّي لا أري الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا بَرَمَاً»(2).

خطبته بالبيضة قرب العُذيب، وجاء فيها - بعدما حمد الله جلّ في علاه، وأثني عليه -: «أيّها النّاس إنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرمِ الله، ناكثاً لعَهْد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يَعملُ في عباد الله بالإثم والعُدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً علي الله أن يُدخله مُدخَله" ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حَرام الله، وحرّموا حلالَه، وأنا أحقُّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمتْ عليَّ رُسُلكم ببيعتكم أنَّكم لا تُسلموني ولا تَخذُلوني، فإنْ تممتم عليَّ بيعتكم تصيبُوارشدكم، فأنا الحُسَيْن بنُ عليّ، وابن فاطمةَ بنتِ رسول الله صلي الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلِكم، فلكم فيَّ أسْوة، وإن لم تفعلوا ونقضْتم عهدكم، وخلعتُم بيعَتي من أعناقكم، فلَعَمْري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي، وأخي، وابن عمي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيعتم، ومن نكث فإنَّما ينكُثُ علي نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام

ص: 332


1- تاريخ الطبري: 5/402؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/79-80؛ ومناقب آل أبي طالب: 3/104؛ والكامل في التاريخ: 3/408-409؛ وبحار الأنوار: 44/376.
2- تاريخ الطبري: 5/403-404؛ واُنظر: العقد الفريد: 5/122؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/217؛ ومناقب آل أبي طالب: 3/76؛ وبحار الأنوار: 44/381.

عليكم ورحمة الله وبركاته»(1).

أبياته (عليه السلام) التي قالها للحرّ بن يزيد عندما حذّره القتال. قال البلاذريّ: «وأقبل الحر بن يزيد يقول: يا حسين أذكرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقاتلن، ولئن قُوتلت لتهلكنّ، فقال الحُسَيْن: أبالموت تخوفني؟! أقول كما قال أخو الأوس:

سأمضي فما بالموتِ عارٌ علي الفتَي

إذا ما نَوَي حقَّاً وجاهدَ مسلمَا

وآسي الرجالَ الصالحينَ بنفسِه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فإن عشت لم أُذمم وإن مت لم أُلم

كفي لك ذلاً أن تعيش وتُرغما

فلما سمع ذلك الحر بن يزيد تنحي بأصحابه في ناحية عذيب الهجانات، وهي التي كانت هجائن النعمان ابن المنذر ترعي بها»(2).

حواره (عليه السلام) مع ابنه علي الأكبر بعدما ارتحلوا من قصر بنيمقاتل: «قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن ابن جندب، عن عقبة بن سِمعان قال: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرْنا ساعة، خفق الحُسَيْن برأسه خَفْقة، ثم انتبه وهو يقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين؛ قال: ففعل ذلك مرتين، أو ثلاثاً، قال: فأقبل إليه ابنُه عليّ بن الحُسَيْن علي فرس له، فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، يا أبتِ جُعلت فداك؟ ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ؟ قال: يا بنيّ إنّي خفقتُ برأسي خفْقةً فعنَّ لي فارسٌ علي فرسٍ، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمتُ أنّها أنفسُنا نُعيت إلينا، قال له: يا أبتِ لا أراك الله سوءً، ألسنا علي الحقّ؟ قال:

ص: 333


1- تاريخ الطبري: 5/403؛ وذكر البلاذري (ت279ه-) جزءاً منها في كتابه (جمل من أنساب الأشراف): 3/381؛ وينظر أيضاً: الكامل في التاريخ: 3/408-409؛ وبحار الأنوار: 44/381-382؛ وجمهرة رسائل العرب: 2/40.
2- جمل من أنساب الأشراف: 3/382؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/404-405؛ والكامل في التاريخ: 3/409؛ وبحار الأنوار: 44/314.

بلي والذي إليه مرجع العباد؛ قال يا أبتِ: إذاً لا نبالي نموت محقِّين؛ فقال له: جزاك الله من وَلَدٍ خيرَ ما جزي ولداً عن والده»(1).

رده (عليه السلام) علي سؤال عمر بن سعد الذي سأله فيه عن سبب قدومه الكوفة، حين أرسل إليه قرة بن سفيان الحنظلي: «فقال الحُسَيْن [لقرة بن سفيان]: أبلغه عنّي أنّ أهل هذا المصر كتبوا إليَّ يذكرون أن لا إمام لهم، ويسألونني القدوم عليهم، فوثقت بهم، فغدروا بي، بعد أن بايعني منهم ثمانية عشر ألف رجل، فلما دنوت، فعلمت غرور ما كتبوا به إليَّ أردت الانصراف إلي حيث منه أقبلت، فمنعني الحر بن يزيد، وسار حتي جعجع بي في هذا المكان، ولي بك قرابة قريبة، ورحم ماسة، فأطلقني حتي انصرف.فرجع قرة إلي عمر بن سعد بجواب الحُسَيْن بن علي.

فقال عمر: «الحمد لله، والله إنّي لأرجو أن أُعفي من محاربة الحُسَيْن».

ثم كتب إلي ابن زياد يخبره بذلك.

فلما وصل كتابه إلي ابن زياد كتب إليه في جوابه: «قد فهمت كتابك، فأعرض علي الحُسَيْن البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع من معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي».

فلما انتهي كتابه إلي عمر بن سعد قال: ما أحسب ابن زياد يريد العافية.

فأرسل عمر بن سعد بكتابٍ ابن زياد إلي الحُسَيْن، فقال الحُسَيْن للرسول: (لا أجيب ابن زياد إلي ذلك أبداً، فهل هو إلا الموت، فمرحبا به). فكتب عمر بن سعد إلي ابن زياد بذلك، فغضب»(2).

ص: 334


1- تاريخ الطبري: 5/407-408؛ واُنظر: مقاتل الطالبيين: 112؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/411؛ وبحار الأنوار: 44/379-380.
2- الأخبار الطوال، أحمد بن داوود الدينوري (ت282ه-)، دار إحياء الكتب العربية، مصر (د.ت): 253-254.

خطبته (عليه السلام) بأصحابه بعدما انصرف عنه عمر بن سعد مساء ليلة العاشر من المحرم: «أُثني علي الله تبارك وتعالي أحسنَ الثناء، وأحمده علي السرّاء والضرّاء، اللهمَّ إنّي أحمدك علي أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أمّا بعد، فإنِّي لا أعلم أصحاباً أوفي ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصلَ من أهل بيتي،فجزاكم الله عنِّي جميعاً خيراً؛ ألا وإني أظنُّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ، ليس عليكم مِنِّي ذِمام، هذا الليلٌ قد غَشيَكم، فاتخِذوه جملاً... ثم ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي،[و] تفرقوا في سوادكم ومدائنكم، حتي يفرّج الله، فإنَّ القوم إنَّما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهَوْا عن طَلب غيري، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل لنبقي بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً؛ بدأهم بهذا القول العباس بن عليّ. ثم إنّهم تكلَّموا بهذا ونحوه، فقال الحُسَيْن (عليه السلام): يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا، قد أذنتُ لكم؛ قالوا: فما يقول الناس؟ يقولون: إنَّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام»(1).

الأبيات التي قالها (عليه السلام) ليلة العاشر من محرم: «رويَ عن علي بن الحُسَيْن أنه قال: إني لجالس في العشية التي قتل أبي الحُسَيْن بن علي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني، إذ دخل أبي، وهو يقول:

يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلَيْلِ

كَمْ لَكَ فِي الإِشْرَاقِ والأَصِيْلِ

مِنْ طَالِبٍ وَصَاحِبٍ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالبَدِيْلِ

وَإِنَّمَا الأَمْرُ إِلي الجَلِيْلِ

وَكَلُّ حَيٍّ سالِكٌ سَبِيْلِ

ص: 335


1- تاريخ الطبري: 5/418-419؛ واُنظر: الكامل في التاريخ: 3/416؛ والإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد: 2/91؛ وجمهرة خطب العرب: 2/41.

قال علي السجّاد (عليه السلام): فأعادها مرتين، أو ثلاثاً حتي فهمتها، فعرفت ماأراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي، ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأمّا عمَّتي [زينب] فإنَّها سمعت ما سمعت وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنَّها لحاسرة حتي انتهت إليه، فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي، وعليّ أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمالِ الباقي. قال: فنظر إليها الحُسَيْن (عليه السلام) فقال: يا أُخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلاً لنام. قالت: يا ويلتي أفتغصب نفسك اغتصاباً؟! فذلك أقرح لقلبي، وأشد علي نفسي، ولطمت وجهها، وأهوت إلي جيبها وشقته، وخرت مغشياً عليها، فقام إليها الحُسَيْن، فصبَّ علي وجهها الماء، وقال لها: يا أخيّة اتقي الله، وتعزي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلَّ شيءٍ هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق، فيعودون، وهو فردٌ وحده. أبي خير منّي، وأمّي خير مني، وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكلِّ مسلمٍ برسول الله أسوةٌ. قال: فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أُخيّة إنّي أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت»(1).

دعاؤه (عليه السلام) صبيحة العاشر من المحرم: «اللهمَّ أنت ثقتي فيكلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة، كم من همٍّ يضعُف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلتُه بك، وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمّن سواك ففرَّجتَه، وكشفتَه، فأنت وليّ كلّ نعمةٍ، وصاحب كلّ حسنة،

ص: 336


1- تاريخ الطبري: 5/420-421؛ واُنظر: مقاتل الطالبيين: 113-114؛ والكامل في التاريخ: 3/416؛ والبداية والنهاية: 11/531.

ومنتهي كلّ رغبةٍ»(1).

خطبته (عليه السلام) قبيل الواقعة في العاشر من المحرم عندما دنا منه القوم: «أيُّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلِوني حتي أعظَكم بما لحقّ لكم عليّ، وحتي أعتذرَ إليكم من مقدَمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدَّقتم قولي، وأعطيتموني النَّصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تُعطُوا النَّصف من أنفسكم، «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ» [سورة يونس: 71]، «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ» [سورة الأعراف: 196]... فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكي بناته، فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي، وعليّاً ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن... فلما سكتن حمد الله وأثني عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلي علي محمّد صلي الله عليه وعلي ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذلك ما الله أعلم، وما لا يحصي ذكرُه... ثم قال: أمّا بعد،فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثم ارجعوا إلي أنفسكم وعاتِبوها، فانظروا؛ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم صلي الله عليه وسلم، وابنَ وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلم يبلغْكم قول مستفيض فيكم: إنّ رسول الله صلي الله تعالي عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: "هذان سيّدا شبابِ أهل الجنة"؟ فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحقّ - فو الله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم

ص: 337


1- تاريخ الطبري: 5/423؛ واُنظر: تاريخ مدينة دمشق: 14/217؛ وسير أعلام النبلاء: 3/301؛ البداية والنهاية: 11/516، 534؛ وجمهرة خطب العرب: 2/43-44.

من إن سألتموه عن ذلك أخبَركم؛ سَلُوا جابرَ بن عبد الله الأنصاريّ، أو أبا سعيد الخُدريّ، أوسهل بن سعد الساعديّ، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلي الله عليه وسلم لي، ولأخي. أفَما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دمي؟ فقال له شَمِر بن ذي الجوشن: هو يَعبد الله علي حرفٍ إن كان يدري ما تقول؟ فقال له حبيب بن مُظاهر: والله إنيّ لأراك تَعبُد الله علي سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول؛ قد طبع الله علي قلبك؛ ثم قال لهم الحُسَيْن: فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول أفتشكّون أثَراً ما أنّي ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنتِ نبيّكم خاصّة. أخبروني، أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقِصاص من جراحة؟... فنادي: يا شَبَث بن رِبعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس ابن الأشعث،ويا يزيد ابن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعَتْ الثمار، و اخضرّ الجَناب وطمّت الجمام، وإنما تقدُم علي جندٍ لك مجنّد فأقبل، قالوا له: لم نفعل؛ فقال سبحان الله! بلي والله، لقد فعلتم؛ ثم قال: أيها النّاس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلي مأمَني من الأرض؛ ... فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل علي حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُرُوك إلا ما تحبّ، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحُسَيْن: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثرَ من دم مسلم بن عقيل؛ لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطَاء الذليل، ولا أقرّ إقرارَ العبيد. عباد الله «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ» [سورة الدخان: 20] أعوذ «بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ» [سورة غافر: 27]»(1).

ص: 338


1- تاريخ الطبري: 424-326؛ واُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله علي: 2/97-98؛ والكامل في التاريخ: 3/418-419؛ والبداية والنهاية: 11/534-536.

خطبته (عليه السلام) غداة اليوم الذي استشهد فيه: «يا عبادَ اللَّهِ، اتقُوا اللَهَ، وكونوا من الدنيا علي حَذَر؛ فإنّ الدنيا لو بَقِيَتْ علي أحدٍ، أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياءُ أحقّ بالبقاء، وأوْلي بالرَضاء، وأرْضَي بالقضاء؛ غيرَ أنَّ اللّه تعالي خَلَق الدنيا للفناء، فجديدُهَا بالٍ، ونعيمُها مُضْمَحِلٌ، وسرورُها مُكْفَهِرٌ، مَنْزِلُ تَلْعة، ودارُ قُلْعة؛ «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي» [سورة البقرة: 197]، «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» [سورة آل عمران: 200]»(1).

خطبته (عليه السلام) بجيش عمر بن سعد وهي آخر خطبة خطبها قبلوقوع المعركة: «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور... فنعم الربّ ربّنا، وبئس العباد أنتم أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد صلي الله عليه وآله، ثمّ أنتم رجعتم إلي ذريته، وعترته تريدون قتلهم لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتباً لكم ولما تريدون إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين»(2).

خطبته (عليه السلام) بالناس لما استكفوا به: «لما استكف الناس بالحُسَيْن بن علي (عليه السلام) [ركب فرسه و] استنصتَ الناسَ وحمد الله تبارك وتعالي، وصلي علي النبي صَلَّي اللهُ عَلَيه وسَلَّم ثم قال: تباً لكم أيُّها الجماعةُ وترحاً [وبؤساً لكم]، أحين استصرختمونا ولهينَ، فأصرخناكم مُوجفين، سللتم علينا سيفاً كان بأيماننا وحمشتُم علينا ناراً اقتدحناها علي عدوّكم وعدوِّنا، فأصبحتم إلباً علي أوليائكم، ويداً عليهم مع أعدائكم، لغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، ومن غير حدث كان فينا، ولا رأي تَفَيَّلَ منا؟

ص: 339


1- زهر الآداب وثمر الألباب: 1/100؛ واُنظر: تاريخ مدينة دمشق: 14/218؛ وجمهرة خطب العرب: 2/43.
2- مناقب آل أبي طالب: 4/108-109.

فهلّا لكم الويلات أذ كرهتمونا والسيف مَشيم، والجأشُ طامنٌ، والرأيُ لم يستحصف؟ ولإن استسرعتم إليها كطيرةِ الدّبا، وتداعيتم عليها كتداعي الفراش، فشجاً وبهلةً لطواغيت الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذَةِ الكتاب، ونَفْثَةِ الشيطان، وعُصبةِ الآثام، ومحرّفي الكلم، ومطفئي السنن، وملحقي العهر بالنسب، واسف المؤمنين،ومراجي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين وعصاة الإمام، وملحقي العهرة بالنسب ولبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سَخِطَ اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون.

أفهؤلاء تعضدون، وعنَّا تتخاذلون؟! أجل والله. خذل فيكم معروفٌ وشَجَت عليه عروقكم، وتأزّرت عليه أصولكم فأفرعتم، فكنتم أخبث ثمرٍ شَجَي للناظر، وأكلةً للغاصب. ألا فلعنة اللهِ علي الظالمين الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلاً ألا وإنَّ الدعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السّلة والذّلة، وهيهات منا الذّلّة وهيهات له ذلك منّي، يأبي الله ورسولُهُ ذلك والمؤمنون، وحجورٌ طهرت وجدودٌ طابت، وأنوفٌ حميةٌ، ونفوسٌ أبيّة، أن نؤثر مقام اللئام علي مصارعِ الكرام. ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة علي قلّةِ العدد، [وكثرة العدو] وخذلة الناصر[ثم تمثل فقال]: [من الوافر]

فإن نَهْزِمْ فهزَّامون قدماً

وإن نُهْزَمْ فغيرُ مهزمينا

وما إن طبّنا جُبْنٌ ولكن

منايانا ودولة آخرينا

[فلو خلد الملوك إذاً خلدنا

ولو بقيَ الكرام إذاً بقينا فقل

للشامتين بنا أفيقوا

سيلقي الشامتون كما لقينا

ألا ثُمَّ لا تلبثون بعدها إلا كريثِ ما يركبُ الفرس حتي تدورَ بكم دورَ الرحي

ص: 340

وتقلق بكم قَلَقَ المحور. عهدٌ عهده إلي أبي عليٌّ، «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ»[سورة يونس: 71] «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَي اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» [سورة هود: 56] للَّهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، ولا يدع فيهم أحداً إلا قتله قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم ليولأوليائي وأهل بيتي و أشياعي منهم، فإنَّهم غرونا وكذّبونا وخذلونا، وأنت ربَّنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير. ثم قال: أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر، فدُعي له، وكان كارها لا يحبّ أن يأتيه فقال: يا عمر أنت تقتلني؟! تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان والله لاتتهنأ بذلك أبداً، عهداً معهوداً، فاصنع ما أنت صانع، فانك لاتفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك علي قصبة قد نصب بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم. فاغتاظ عمر من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه»(1).

دعاؤه (عليه السلام) بعد مقتل ابنه عبد الله الرضيع: «ربِّ إنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عنّا النّصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خيرٌ، وانتقم مِنْ هؤلاء الظالمين»(2).

شعره (عليه السلام) بعد قتل عبد الله الرضيع:

كفر القوم وقدماً رغبوا

عن ثوب الله ربِّ الثقلين

قتلوا قدماً عليّاً وابنه

حسن الخير كريم الطَّرفين

ص: 341


1- التذكرة الحمدونية: 5/212؛ واُنظر: تحف العقول عن آل الرسول: 265-267؛ وتاريخ مدينة دمشق: 14/218-219؛ والاحتجاج: 2/278؛ وما بين الأقواس من بحار الأنوار: 45/10.
2- الكامل في التاريخ: 3/429-430؛ واُنظر: البداية والنهاية: 11/547.

حنقاً منهم وقالوا أجمعوا

نفتك الآن جميعاً بالحُسَيْن

يالقومٍ من أُناسٍ رذَّل

جمعوا الجمع لأهل الحرمين

ثم صاروا وتواصوا كلهم

باختيار لرضاء الملحدين

لم يخافوا الله في سفك دمي

لعبيد الله نسل الكافرين

وابن سعدٍ قد رماني عنوة

بجنودٍ كوكوف الهاطلين

لا لشيءٍ كان مني قبل ذا

غير فخري بضياء الفرقدين

بعليِّ الخير من بعد النبي

والنبي القرشيِّ الوالدين

خيرة الله من الخلق أبي

ثم أُمي فأنا ابن الخيرتين

فضة خلقت من ذهبٍ

فأنا الفضة وابن الذهبين

من له جدٍ كجدي في الوري

أو كشيخي فأنا ابن القمرين

فاطم الزهراء أُمي وأبي

قاسم الكفر ببدرٍ وحنين

عروة الدين علي المرتضي

هادم الجيش مصلِّي القبلتين

وله في يومِ أُحدٍ وقعة

شفت الغل بقبض العسكرين

ثم بالأحزاب والفتح معاً

كان فيها حتف أهل القبلتين

في سبيل الله ماذا صنعت

اُمة السوء معاً بالعترتين

عترة البر التقي المصطفي

وعليّ القوم يوم الجحفلين

عبد الله غلاماً يافعاً

وقريش يعبدون الوثنين

ص: 342

وقلي الأوثان لم يسجد لها

مع قريش لا ولا طرفة عين

طعن الأبطال لما برزوا

يوم بدرٍ وتبوك وحنين(1)

شعره (عليه السلام) لما تقدم نحو القوم بعد قتل عبد الله الرضيع:

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخراً حين أفخرُ

وجدِّي رسول الله أكرم من مشي

ونحن سراج الله في الخلق نزهرُ

وفاطمُ أُمي من سلالة أحمد

وعمِّي يُدعي ذو الجناحين جعفر

وفينا كتاب الله أُنزل صادقاً

وفينا الهدي والوحي بالخير تذكر

ونحن أمان الله للناس كلّهم

نطول بهذا في الأنام ونجهر

ونحن حماة الحوض نسقي ولاتنا

بكأسِ رسول الله ما ليس يُنكر

وشيعتنا في الحشر أكرم شيعةٍ

ومبغضنا يوم القيامة يخسر(2).

* دعاء الإمام (عليه السلام) في يوم عاشوراء حين بقيَ وحيداً: «اللهمَّ أمسك عنهم قَطْرَ السَّماء، وامنعهم بركاتِ الأرض، اللهمَّ فإن متعتهَم إلي حينٍ ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائقَ قدداً، ولا تُرضِ عنهم الولاة أبداً، فإنَّهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا»(3).

ص: 343


1- الاحتجاج: 2/279؛ واُنظر: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/237؛ والفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة: 170.
2- الاحتجاج: 2/280؛ واُنظر: الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة: 167.
3- الاحتجاج: 5/451؛ والكامل في التاريخ: 3/431.

* آخر خطبة خطبها (عليه السلام) وهو يُحارب القوم وحيداً فريداً: «أعلي قتلي تَحاثُّون؟! أما والله لا تقتُلون بعدي عبداً من عباد اللهِ اللهُ أسخطَ عليكم لقتْلهِ منِّي؛ وايم الله إنِّي لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثمَّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أمّا والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكُم بينكم، وسفك دماءكم، ثمّ لا يرضي لكم حتي يضاعفَ لكم العذاب الأليم»(1).

ردوده (عليه السلام) علي من قالوا له أبشر بالنار يوم العاشر من محرم: «قال رجل من بني تميم يقال له عبد الله بن حوزة، وجاء حتي وقف بحيال الحُسَيْن فقال: أبشر يا حسين بالنار، فقال: كلا، إني أقدم علي ربّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ، ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن حوزة. قال: حازه الله إلي النار، فاضطرب به فرسه في جدول فعلقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض، ونفر في الفرس فجعل يمر برأسه علي كلِّ حجر، وأصل شجرة حتي مات، ويقال: بقيت رجله اليسري في الركاب فشدَّ عليه مسلم بن عوسجة الأسدي فضرب رجله اليمني فطارت، ونفر به فرسه يضرب به كل شيء حتي مات... ثم جاء رجل آخر فقال: أين الحُسَيْن؟. قال هأنذا. قال: أبشر بالنار تردها الساعة. قال: بل أبشر بربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ فمن أنت؟ قال: شمر بن ذي الجوشن. فقال الحُسَيْن: الله أكبر، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إني رأيت كلباً أبقع يلغ في دماء أهل بيتي)»(2).

دعاؤه (عليه السلام) علي أهل الكوفة لما رماه الحصين بسهم في فمه: «اللهمَّ أحصهم عدداً

ص: 344


1- تاريخ الطبري: 5/452.
2- جمل من أنساب الأشراف: 3/399-401؛ وما بين الأقواس من الكامل في التاريخ: 3/422.

واقتلهم بدداً، ولا تذر علي الأرض منهمحداً)(1).

قوله (عليه السلام) للشمر وجيشه عندما حالوا بينه وبين رحله: «ويحكم إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب»(2).

ص: 345


1- المصدر نفسه: 3/407؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/449، والكامل في التاريخ: 3/429-430؛ والبداية والنهاية: 11/547.
2- جمل من أنساب الأشراف: 3/407؛ واُنظر: تاريخ الطبري: 5/450.

ص: 346

المصادر والمراجع

اشارة

* القرآن الكريم.

المصادر والمراجع

(أ)

1.أبو الشهداء الحسين بن علي، عباس محمود العقّاد، نهضة مصر، مصر (د. ت).

2.الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي (ت911ه-)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، الطبعة الأولي (1429ه- - 2008م).

3.الاحتجاج، أبو منصور، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري)، الأميرة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (1432 ه- - 2011م).

4.إحياء علوم الدين، أبو حامد، محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد الغزّالي (ت505ه-)، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولي (1423ه- - 2003ه-).

5.الإرشاد في معرفة حجج الله علي العباد، أبو عبد، الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغدادي (ت413ه-)، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، (د. م) (د. ت).

6.أساس البلاغة، أبو القاسم جار الله، محمود بن عمر بن أحمد الزمخشريّ (ت 538ه-)، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة

ص: 347

الأولي (1419-1998م).

7.أساليب الإقناع في المنظور الإسلامي، طه عبد الرحمن السبعاويّ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (2005م).

8.الاستدلال البلاغي، الدكتور شكري المبخوت، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الثانية (2010م).

9.استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولي (2004م).

10.استقبال النص عند العرب، محمّد المبارك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (1999م).

11.أسرار البلاغة، أبو بكر، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ(ت471ه-)، قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود محمّد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولي (1412ه- - 1991م).

12.أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، الدكتور حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة (1418ه- - 1998م).

13.الأسلوب الكنائي في القرآن الكريم، محمود السيد شيخون، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، الطبعة الأولي (1398ه-).

14.الأسلوبية والأسلوب، الدكتور عبد السلام المسدّي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، الطبعة الثالثة (د. ت).

15.الأعلام، خير الدين الزركليّ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشر (2002م).

16.الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء، أبو مُحَمَّد، عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوريّ (ت276ه-)، تحقيق علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولي (1410ه- - 1990م).

ص: 348

17.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازيّ، مؤسسة البعثة، بيروت، الطبعة الأولي (1413ه-).

18.أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلي اليوم، فريق البحث في البلاغة والحجاج، إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، كلية الآداب منوبة، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، تونس (1998م).

(ب)

19.بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمة الأطهار، محمّد باقر المجلسي (ت1111ه-)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة (1403ه- - 1983م).

20.البداية والنهاية، عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير القُرَشي الدمشقي (ت774ه-)، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الجيزة، الطبعة الأولي (1418ه- - 1998م).

21.البديع، عبد الله بن المعتز (ت296ه-)، تحقيق اغناطيوس كراتشقوفسكي، دار المسيرة، الكويت، الطبعة الثالثة (1402ه- - 1982م).

22.بديع القرآن، ابن أبي الأصبع المصري (654ه-)، تقديم وتحقيق حفني محمّد شرف، نهضة مصر، مصر (1957م).

23.البرهان في علوم القرآن، بدر الدين، محمّد بن عبد الله الزركشيّ(ت794ه-)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة الثالثة(1404ه- - 1984م).

24.بلاغة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) دراسة وتحليل، حسين أبو سعيدة، مركز العترة للدراسات والبحوث، بيروت (1998م).

ص: 349

25.بلاغة الخطاب وعلم النص، الدكتور صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (164)، لسنة (1992).

26.البلاغة العربية - قراءة أخري، الدكتور محمّد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، الطبعة الأولي (1997م).

27.البلاغة فنونها وأفنانها، الدكتور فضل حسن عباس، دار الفرقان، إربد، الطبعة الرابعة (1417ه- - 1997م).

28.البلاغة والاتصال، جميل عبد المجيد، دار غريب، القاهرة (د.ت).

29.البلاغة والتطبيق، الدكتور أحمد مطلوب والدكتور كامل حسن البصير، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد، الطبعة الثانية (1420ه- - 1999م).

30.البيان في روائع القرآن دراسة لغوية أسلوبية للنص القرآني، الدكتور تمّام حسّان، عالم الكتب، القاهرة (1993م).

31.البيان والتبيين، أبو عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه-)، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الخانﭽي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة السابعة (1418ه- - 1998).

(ت)

32.تاج العروس من جواهر القاموس، أبو الفيض، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسينيّ الزَّبيديّ، تحقيق مصطفي حجازي، مطبعة حكومة الكويت، الكويت (1373ه- - 1973م).

33.تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)، أبو جعفر، محمّد بن جرير الطبريّ (ت310ه-)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية (1971م).

ص: 350

34.تاريخ مدينة دمشق، أبو القاسم، علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المعروف بابن عساكر(ت571ه-)، دراسة وتحقيق محبّ الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري، دار الفكر، بيروت (1415ه- - 1995م).

35.التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر، محمّد بن الحسن بن علي الطوسي (ت460ه-)، تحقيق أحمد حبيب قصير العامليّ، مكتب الإعلام الإسلامي، (د.م)، الطبعة الأولي (1409ه-).

36.التحاجج طبيعته، ومجالاته، ووظائفه، تنسيق حمو النقاريّ، مطبعة النجاج الجديد، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (1427ه- - 2006م).

37.تحف العقول عن آل الرسول صلي الله عليهم، أبو مُحَمَّد، الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرانيّ (من أعلام القرن الرابع الهجري)، قدّم له الشيح حسين الأعلمي، الطبعة الأولي (1384ه-).

38.التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة (الأفعال الكلامية) في التراث اللساني العربي، الدكتور مسعود صحراويّ، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولي (2005م).

39.التداولية والحجاج مداخل ونصوص، صابر الحباشة، صفحات للدراسة والنشر، دمشق، الطبعة الأولي (2008م).

40.التذكرة الحمدونية، محمّد بن الحسن بن محمّد بن علي المعروف بابن حمدون (ت562ه-)، تحقيق إحسان عباس وبكر عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولي (1996م).

41.التصوير الفنّي في خطب المسيرة الحسينية، هادي سعدون هنون، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، الطبعة الأولي (2011م).

42.التعريفات، علي بن محمّد بن علي الجرجاني(ت816ه-)، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولي (1405ه-).

ص: 351

43.تفسير التحرير والتنوير، محمّد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس (1984م).

44.تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير القريشيّ الدمشقيّ (774ه-)، تحقيق سامي بن محمّد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية (1420ه- -1999م)

45.التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلي القرن السّادس، الدكتور حمادي صمّود، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الثالثة (2010م).

46.تهذيب اللغة، أبو منصور، محمّد بن أحمد الأزهريّ (ت370ه-)، تحقيق عبد الحليم النجار، الدار المصرية للتأليف والنشر، مصر (1964م).

47.التواصل والحجاج، طه عبد الرحمن، مطبعة المعارف الجديد، الرباط (1994).

(ج)

48.الجامع الكبير، أبو عيسي، محمّد بن عيسي الترمذي (ت279ه-)، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولي (1996).

49.جمل من أنساب الأشراف، البلاذري (ت279ه-)، حققه وقدم له الدكتور سهيل زكّار والدكتور رياض زركلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولي (1317ه- - 1996م).

50.جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، مطبعة مصطفي البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولي (1352ه- - 1933م).

51.جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت،

ص: 352

المكتبة العلمية، بيروت (1356ه- - 1937م).

52.جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، السيد أحمد الهاشمي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولي (1999م).

(ح)

53.الحجاج في البلاغة المعاصرة بحث في بلاغة النقد المعاصر، الدكتور محمّد سالم محمّد الأمين الطلبة، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولي (2008).

54.الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه، الدكتورة سامية الدريديّ، عالم الكتب الحديث، أربد (2011).

55.الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، الدكتور عبد الله صولة، دار الفارابيّ، بيروت (2007).

56.الحجاج مفهومه ومجالاته، الدكتور حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث، أربد (2010م).

57.الحسين في الفكر المسيحي، انطوان بارا، مطبعة سرور، قم، الطبعة الأولي(1424ه- - 2004م).

58.حياة الحيوان الكبري، كمال الدين، محمّد بن موسي بن عيسي الدميري، تحقيق أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية (1424ه- - 2003م).

(خ)

59.الخطاب والحِجَاج، الدكتور أبو بكر العزاوي، مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولي (2010م).

ص: 353

60.الخطابة، أرسطو طاليس، حققه وعلّق عليه عبد الرحمن بدوي، الناشر (وكالة المطبوعات، الكويت)، و(دار القلم، بيروت) (1979م).

(د)

61.دراسات في الحجاج قراءة لنصوص مختارة من الأدب العربي القديم، الدكتورة سامية الدريديّ الحُسنيّ، (عالم الكتب الحديث، أربد) و(جدارا للكتاب العالمي، العبدليّ)، الطبعة الأولي (2009م).

62.الدرس الدلالي عند عبد القاهر الجرجاني، الدكتور تراث حاكم الزياديّ، (دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان)، و(مؤسسة دار الصادق الثقافية، الحلّة)، الطبعة الأولي (1432ه- - 2011م).

63.دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلّق عليه محمود محمّد شاكر، مكتبة الخانﭽي، القاهرة، الطبعة الخامسة (2004).

64.دلالات التراكيب دراسة بلاغية، الدكتور محمد أبو موسي، دار التضامن، القاهرة، الطبعة الثانية (1408ه- - 1987م).

65.ديوان الوأواء الدمشقي، تحقيق سامي الدهّان، دار صادر، بيروت (1993).

66.ديوان يزيد بن معاوية، جمع وتحقيق وشرح الدكتور واضح الصمد، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية (2007م).

(ر)

67.رسائل الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه-)، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الخانچي، القاهرة (1384ه- - 1964م).

68.الرواية والاستشهاد باللغة دراسة لقضايا الرواية والاستشهاد في ضوء

ص: 354

علم اللغة الحديث، الدكتور محمّد عيد، عالم الكتب، القاهرة (1976).

(ز)

69.زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق، إبراهيم بن عليّ الحُصريّ القيروانيّ (ت453ه-)، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة (د. ت).

(س)

70.سير أعلام النبلاء، شمس الدين، محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ (ت748ه-)، تحقيق محمّد نعيم العرقسوسيّ ومأمون صاغرﭽيّ وأشرف علي التحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية (1402ه- - 1982م).

71.السيرة النبوية، ابن هشام (ت213ه-)، دار الجيل، بيروت (1975م).

(ش)

72.شرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن، أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين (ت385ه-)، تحقيق عادل بن مُحَمَّد، مؤسسة قرطبة، مصر (1415ه- - 1995م).

73.شرح نهج البلاغة، أبو حامد، عز الدين بن هبة الله بن محمّد بن محمّد بن أبي الحديد المدائنيّ (656ه-)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، (د. ت).

(ص)

74.الصاحبي في فقه اللغة، أبو الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا

ص: 355

(ت395ه-)، تحقيق أحمد صقر، مؤسسة المختار، القاهرة، الطبعة الأولي (1425ه- - 2005م).

75.صحيح ابن حبان، أبو حاتم، محمّد بن حبان بن أحمد التميمي (ت354ه-)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية (1414ه- - 1993م).

76.الصورة الفنية في المثل القرآني دراسة نقدية بلاغية، الدكتور محمّد حسين عليّ الصغير، دار الرشيد للنشر، بغداد (1981م).

(ع)

77.العقد الفريد، أحمد بن مُحمَّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه-)، تحقيق محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة، القاهرة، الطبعة الثانية (1372ه- - 1953م).

78.علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولي (1998م).

79.العمدة في صناعة الشعر ونقده، أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني (456ه- أو 463ه-)، تحقيق الدكتور النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانﭽي، القاهرة، الطبعة الأولي (1420ه- - 2000م).

80.العين، أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت175ه-)، تحقيق الدكتور مهدي المخزوميّ والدكتور إبراهيم السامرائيّ، دار الهجرة، قم، الطبعة الأولي (1405ه-).

81.عيون الأخبار، أبو مُحَمَّد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ (ت276ه-)، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، (1996).

ص: 356

(غ)

82.الغدير في الكتاب والسنة، عبد الحسين أحمد الأمينيّ النجفيّ، موسوعة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولي(1994م).

(ف)

83.الفروق اللغوية، أبو هلال العسكريّ (ت395ه-)، تحقيق محمّد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة (1418ه- - 1997م).

84.الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة عليهم السلام، علي بن محمّد بن أحمد المالكيّ المكيّ الشهير بابن الصبّاغ (ت855ه-)، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية (1409ه- - 1988م).

85.الفلسفة والبلاغة مقاربة حجاجية للخطاب الفلسفي، الدكتور عمارة ناصر، مطابع الدار العربية للعلوم، بيروت (2009م).

86.في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الدكتور طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية (2000م).

87.في بلاغة الخطاب الإقناعي مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، الدكتور محمّد العمريّ، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية (2002).

88.في البلاغة العربية، عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، بيروت (د. ت).

89.في النحو العربي نقد وتوجيه، الدكتور مهدي المخزومي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الثانية (2005م).

(ك)

90.الكامل في التاريخ، أبو الحسن،علي بن أبي الكرَم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ، المعروف بابن الأثير الجزريّ،الملقب بعز

ص: 357

الدين (ت630ه-)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1407ه- - 1987م).

91.كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال، الحسن بن عبد الله بن سُهيل العسكري (ت395ه-)، تحقيق علي محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسي البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، الطبعة الأولي (1371ه- - 1952م).

92.كتابة الجاحظ في ضوء نظريّات الحجاج، الدكتور علي محمّد علي سلمان، ديموپرس للطباعة والتجارة، بيروت، الطبعة الأولي (2010).

93.الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه-)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجد والشيخ علي محمّد معوّض، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولي (1418ه- - 1998م).

94.كشف الغمة في معرفة الأئمة، أبو الحسن، عليّ بن عيسي بن أبي الفتح الأربليّ (ت693ه-)، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثانية (1405ه- - 1985م).

(ل)

95.لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين،محمّد بن مكرّم بن منظور الأفريقيّ المصريّ (ت711ه-)، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولي (1300ه-).

96.اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (1998م).

97.اللغة والحجاج، الدكتور أبو بكر العزاويّ، العمدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولي (2006م).

ص: 358

98.اللغة والخطاب، عمر أوكان، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء (2001م).

99.اللغة والمنطق بحث في المفارقات، الدكتور حسان الباهي، (دار الأمان، الرباط)، و(المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء)، الطبعة الأولي (2000م).

(م)

100.المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين بن الأثير (ت 637ه-)، قدمه وعلق عليه الدكتور أحمد الحوفيّ والدكتور بدوي طبانة، دار النهضة، القاهرة، الطبعة الثانية (د.ت).

101.مجمع الأمثال، أبو الفضل، أحمد بن محمّد بن احمد بن إبراهيم النيسابوريّ الميدانيّ، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، السنة المُحَمَّدية، (د. م) (1955).

102.مجمع البيان في تفسيرالقرآن، أبو علي، الفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت548ه-)، مؤسسة الهدي للنشر والتوزيع، طهران (1417ه- - 1997م).

103.مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، محمّد بن مكرّم المعروف بابن منظور (ت711ه-)، تحقيق أحمد راتب حنوش ومحمّد ناجي العمر، مراجعة رياض عبد الحميد مراد، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولي (1405ه- - 1985م).

104.المدارس اللسانية المعاصرة، الدكتور نعمان بوقرة، مكتبة الآداب، القاهرة، (د. ط)، (2003م).

105.المستدرك علي الصحيحين، أبو عبد الله، محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوريّ (ت405ه-)، تحقيق مصطفي عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1411ه- - 1990م).

106.المستصفي من علم الأصول، أبو حامد، محمّد بن محمّد بن أحمد الغزاليّ (ت505ه-)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية (2010م).

ص: 359

107.مسند أبي يعلي، أحمد بن علي بن المثني الموصليّ التميميّ، تحقيق حسين سليم أسعد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولي (1404ه- - 1984م).

108.مسند أحمد، أبو عبد الله، أحمد بن حنبل الشيبانيّ (ت241ه-)، مؤسسة قرطبة،مصر (د. ت).

109.المصطلح النحوي نشأته وتطوره حتي أواخر القرن الثالث الهجري، عوض حمد القوزيّ، شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولي (1401ه- - 1981م).

110.معاني الحروف، أبو الحسن، علي بن عيسي الرمانيّ (ت386ه-)، تحقيق عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقيّ، المكتبة العصرية، بيروت (1428ه- - 2008م).

111.المعجم الكبير، أبو القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبرانيّ (360ه-)، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفيّ، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الطبعة الثانية (1404ه- - 1983م).

112.مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاريّ، تحقيق الدكتور عبد اللطيف محمّد الخطيب، مطابع السياسة، الكويت، الطبعة الأولي (1421ه- - 2000م).

113.مفاتيح الغيب، محمّد الرازيّ، فخر الدين (ت606ه-)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولي (1401ه- - 1981م).

114.مفتاح العلوم، أبو يعقوب، يوسف بن أبي بكر محمّد بن علي السكاكيّ (ت626ه-)، دراسة وتحقيق أكرم عثمان يوسف، مطبعة دار الرسالة، بغداد، الطبعة الأولي (1402ه- -1982م).

115.مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهانيّ، تحقيق صفوان عدنان

ص: 360

داوودي، طليعة النور، قم، الطبعة الأولي (1426ه- - 2000م).

116.مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني (ت356ه-)، شرح وتحقيق السيد أحمد صقر، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف، الطبعة الأولي (1423ه-).

117.مقتل الإمام الحسين وواقعة كربلاء، حسان عبد الله أبو صالح و حسن عبد الله أبو صالح (1418ه- - 1997م).

118.مقتل الحسين، أبو المؤيد، الموفق بن أحمد المكيّ الخوارزميّ (ت568ه-)، مطبعة الزهراء، النجف (1367ه- - 1948م).

119.مقدمة العلامة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق حجر عاصي، دار ومكتبة الهلال، بيروت (1988م).

120.الملهوف علي قتلي الطفوف، أبو القاسم، علي بن موسي بن جعفر بن طاووس (ت664ه-)، إعداد عبد الزهراء عثمان مُحَمَّد، ستارة، قم، الطبعة الأولي (1419ه- - 1998).

121.مناقب آل أبي طالب، أبو جعفر، محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (ت588ه-)، تحقيق يوسف البقاعيّ، مطبعة سليمانزادة، منشورات ذوي القربي، قم، الطبعة الثانية (1427ه-).

122.المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمّد المعروف بابن الجوزيّ (ت597ه-)، دراسة وتحقيق محمّد عبد القادر عطا ومصطفي عبد القادر عطا، راجعه وصححه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي (1412ه- - 1992م).

123.منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلي المنطق الحجاجي الأصولي، الدكتور حمو النقاري، الدار العربية للعلوم، بيروت، الطبعة الأولي (1431ه- - 2010م).

124.المهذَّب في علم التصريف، الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي والدكتور

ص: 361

هاشم طه شلاش، مطابع بيروت الحديثة، بيروت (1432ه- - 2011م).

125.الميزان في تفسير القرآن، السيد محمّد حسين الطباطبائيّ، دار الكتب الإسلامية، طهران، (1402ه-).

(ن)

126.النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة (1974م).

127.نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الشيخ الجليل الحسين بن محمّد بن الحسن بن الحلوانيّ من أعلام القرن الخامس، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم (د. ت).

128.نظرية أفعال الكلام العامة، أوستين، ترجمة عبد القادر قينينيّ، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء (1991م).

129.النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات، المبارك بن محمّد الجزريّ المعروف بابن الأثير (ت606ه-)، تحقيق محمود محمّد الطناحيّ وطاهر أحمد الزاويّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت (د. ت).

(و)

130.وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقريّ (ت212ه-)، تحقيق وشرح عبد السلام محمّد هارون، دار الجيل، بيروت (1410ه- - 1990م).

الرسائل و الأطاريح الجامعية

(أ)

131.أدب الإمام الحسين (عليه السلام) قضاياه الفنية والمعنوية، موسي خابط عبود، (رسالة ماجستير)، جمهورية العراق، جامعة بابل، كلية التربية، قسم اللغة

ص: 362

العربية (1429ه- - 2008).

(ب)

132.بنية الملفوظ الحجاجي للخطبة في العصر الأموي، خديجة محفوظي، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة منتوري قسنطينة، كلية الآداب واللغات، قسم اللغة العربية - شعبة اللغويات (2007).

(ت)

133.تجليات الحجاج في الخطاب النبوي دراسة في وسائل الإقناع الأربعون النووية أنموذجاً، هشام فرّوم، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2009).

(ح)

134.الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، حسين بوبلوطة، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2010).

(خ)

135.الخطاب الحجاجي السياسي في كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة - دراسة تداولية، ابتسام بن خراف، (أطروحة دكتوراه)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2010).

ص: 363

(د)

136.دراسة وظيفية لأسلوب التوكيد في القرآن الكريم، عائشة عبيزة، (أطروحة دكتوراه)، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج خضر - باتنة -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها (2009).

(م)

137.المأثور من كلام الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة لغوية، عصام عدنان رحيم الياسري، (رسالة ماجستير)، جمهورية العراق، جامعة القادسية، كلية الآداب، قسم اللغة العربية (2005م).

138.معاني ألفاظ الحجاج في القرآن الكريم وسياقاتها المختلفة، السور السبع الطوال أنموذجاً - دراسة دلالية معجمية -، سعيد فاهم، (رسالة ماجستير)، الجمهورية الجزائرية، جامعة مولود معمري - تيزي وزو -، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة والأدب العربي (2011).

(ن)

139.نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة بلاغية، ميثم قيس مطلك، (رسالة ماجستير)، جمهورية العراق، جامعة القادسية، كلية التربية، قسم اللغة العربية (1427ه- - 2006).

140.نثر الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة تَحلِيليَّةٌ في جَمَاليةِ بِنْيَةِ النَّصِ، حيدر محمود (أطروحة دكتوراه)، جمهورية العراق، جامعة البصرة، كلية التربية، قسم اللغة العربية (1433ه- -2012م).

ص: 364

البحوث العلمية

(أ)

141.الأساليب البيانية والخطاب الدعوي الواعي، الدكتور نعمان شعبان علوان، بحث منشور في مؤتمر الدعوة الإسلامية ومتغيرات العصر، كلية أصول الدين، الجامعة الإسلامية، غزّة (1426ه- - 2005م).

142.الاستعارة والحجاج، ميشيل لوجيرن، مجلة المناظرة، المغرب، العدد (4)، لسنة (1411ه- - 1991م).

143.أهم نظرية الحجاج في التقاليد الغربية، حسن المودن، مجلة علامات، ج (42)، م (11)، لسنة (1422ه- - 2001م).

(ب)

144.بلاغة الاحتجاج، ايمانويل دانبلون، ترجمة حسن الطالب، مجلة علامات، المغرب، العدد (23).

145.بلاغة المجادلة، حسن النعميّ، مجلة جذور التراث، جدّة، ج (19)، مج (9) لسنة (1426ه- - 2005م).

146.البلاغة والأسلوبية، سعيد العوادي، مجلة جذور التراث، جدّة، ج(23)، مج(10)، لسنة (1427ه- - 2006م).

(ت)

147.الحجاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو، الدكتور رشيد الراضي، مجلة عالم الفكر، العدد (1)، مج (34)، لسنة (2005م).

ص: 365

148.الحوار والمناظرة في منظور الشارع، نور الدين صغيري، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد (36)، لسنة (1422ه- - 2002م).

(د)

149.دراسة الأفعال الكلاميّة في القرآن الكريم - مقاربة تداوليّة -، بوڤرومة، حكيمة، مجلة الخطاب، جامعة مولود معمري - تيزي وزو -، الجزائر، دار الأمل، العدد (3)، لسنة (2008).

150.(دلالة تنوين (باسطٌ)، عايد جدوع حنون، مجلة النجف الأشرف، العدد (97)، لسنة (1433ه- - 2012م).

(ق)

151.القيمة الحجاجية لأسلوب القصر في اللغة العربية، محمود طلحة، مجلة الخطاب، الجمهورية الجزائرية، جامعة مولود معمري - تيزي وزو - دار الأمل، العدد (3)، لسنة (2008).

(م)

152.المحاجّة والإقناع في القرآن الكريم، أحمد حسين خشان الهاشمي، مجلة المصباح، دار القرآن الكريم، العتبة الحسينية المقدسة، العدد (2)، لسنة (1431ه- - 2010م).

153.مدخل إلي الحجاج أفلاطون وأرسطو وشايم بيرلمان، الدكتور محمّد الولي، مجلة عالم الفكر، العدد (2)، مج (40)، لسنة (2011م).

154.مراجعات اللغة والحجاج عمق التنظير ودقّة الإنجاز، حسن مسكين مبارك، مجلة جذور التراث، ج (29)، مج (12)، لسنة (1430ه- - 2009م).

ص: 366

155.مفهوم الحجاج في القرآن الكريم دراسة مصطلحية، الدكتورة لمهابة محفوظ ميارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مج (81)، العدد (3).

156.مفهوم الموضع وتطبيقاته في الحجاجيات اللسانية لانسكومبر وديكرو، رشيد الراضيّ، مجلة عالم الفكر، العدد (2)، مج (40)، لسنة (2011م).

157.من آليات تحليل الخطاب، صابر الحباشة، مجلة جذور التراث، جدّة، ج (22)، مج (10)، لسنة (1426ه- - 2005م).

158.من قضايا النقد القديم - الحكمة والمثل، محمّد إقبال العروي، بحثٌ منشور في مجلة آفاق الثقافة والتراث، الإمارات العربية المتحدة، العدد (34)، لسنة (1422ه- - 2001م).

(ن)

159.نحو مقاربة حجاجية للاستعارة، الدكتور أبو بكر العزاوي، مجلة المناظرة، المغرب، العدد (4) لسنة (1991م).

المواقع الإلكترونية

(أ)

160.استراتيجية الخطاب بين الدراسات النظرية والممارسات

الواقعية، عبد الهادي بن ظافر الشهريّ، الموقع علي الانترنت: ww.mohamedrabeea.com/book 1-183.docx.

161.الاستعارة الحجاجية بين أرسطو وشايم بيرلمان، محمّد الولي، مجلة فكر ونقد، المغرب، العدد (61)، لسنة (2004م). الموقع علي الانترنت: http: //www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n61-07alwali.ht.

162.إشكال المعني من الاستعارة إلي الاستلزام الحواري، محمّد السيديّ، مجلة

ص: 367

فكر ونقد، العدد (25)، الموقع علي الانترنت:

http://www.aljabriabed.net.

163.الإقناع: القوة المفقودة، أحمد بن عبد المحسن العسّاف، مقال علي الانترنت: www.saad.net/aldawah/221.htm.

164.الإقناع: المنهج الأمثل للتواصل والحوار نماذج من القرآن والحديث، الدكتورة آمنة بلعلي، مجلة التراث العربي مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد (89)، لسنة (1424ه- - 2003)، الموقع علي الانترنت: www.mojtamai.com.

(ب)

165.البلاغة العامة والبلاغات المعمَّمة، محمّد العمريّ، مجلة فكر ونقد، المغرب، العدد (25)، لسنة (2000)، الموقع علي الانترنت:

http: //www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n61-07alwali.htm.

166.البيان الحجاجي في إعجاز القرآن الكريم - سورة الأنبياء نموذجاً -، الدكتور عبد الحليم بن عيسي، بحث منشور في مجلة التراث العربي، العدد (102)، الموقع علي الانترنت: www.tafsir.netlvb /Tafsir18202.

(ت)

167.التداولية مقاربة تحليلية، الموقع علي الانترنت:

www.lissaniat.net/viewtopic.php?t=284sid.

168.التداولية منهج لساني واستراتيجية لتحليل الخطاب، سعد بولنوار، الموقع علي الانترنت:brahmiblogspot.com.blogspot.com/2011/05/blogpost-3207.html.

ص: 368

(ح)

169.الحجاج الفلسفي وتطبيقاته الصفية، مادونا طربية، الموقع علي الانترنت: scorazein.wordpress.com.

170.الحجاج في الدرس اللغوي الغربي، أ. بوزناشة نور الدين، مجلة علوم إنسانية، العدد (44)، لسنة (2010م)، موقعها علي الانترنت: www.ulum.nl

(د)

171.دروس الحجاج الفلسفي، أبو الزهراء، مجلة شبكة التربوية الشاملة فيلومرتيل الإلكترونية (2008)، الموقع علي الانترنت: www.4shared.com/office/19kgy.../____.html.

(ع)

172.عاملية أدوات النفي الحجاجية، سليمة محفوظيّ، الموقع علي الانترنت: www.akhbarak.net/.../2595479 - ب مصر.

ص: 369

ص: 370

فهرس المحتويات

الإهداء9

مقدمة المؤسّسة11

قسم الرسائل الجامعية في مؤسسة وارث الأنبياء15

المقدمة19

الفصل الاول

الحجاج: مفهومه، نظرياته، مقوماته

المبحث الأول: مفهوم الحجاج وارتباطاته الدلالية27

الحِجَاج لغة واصطلاحاً27

الحِجَاج لغةً27

الحِجَاج اصطلاحاً28

مفهوم الحجاج29

ومن تعريفات الحِجَاج29

الحُجَّة31

1 - المحاجّة33

2 - الاحتجاج34

3 - الفوارق بين الحجاج اللّساني والحِجَاج الفلسفي36

4 - الحِجَاج المغالط (السفسطة)37

ص: 371

5 - الخطابة38

6 - الجدل40

6 - المذهب الكلامي43

8 - البرهان44

الفوارق بين البرهان والحجاج اللّساني:44

9 - المناظرة47

ومن أهم الفوارق بين المناظرة والحِجَاج:48

10 - المناقشة49

ومن أهم الفوارق بين المناقشة والحِجَاج:49

المبحث الثاني: نظريات الحِجَاج51

توطئة51

الحِجَاج عند بيرلمان وتيتيكاه51

مظاهر التواصل في نظريتهما54

أ - المقام55

ب - ثنائية المحاجج والمتلقي55

طرائق العرض الحِجَاجية57

التقنيات الحِجَاجية 58

أ- تقنية الوصل:58

ب - تقنية الفصل:59

الحِجَاج عند تولمين62

الحِجَاج عند ديكرو وتلامذته69

السلالم الحِجَاجية72

قوانين السلالم الحِجَاجية74

الروابط والعوامل الحِجَاجية75

أ - الروابط الحِجَاجية:75

ب - العوامل الحِجَاجية:76

التوجيه الحِجَاجي والقيمة الحِجَاجية76

ص: 372

المعني الحِجَاجي والمعني الإخباري78

المواضع (المبادئ) الحِجَاجية80

المبحث الثالث: النص الحِجَاجي وتأثيره الإقناعي85

النص الحِجَاجي85

مقومات النصّ الحِجَاجي86

ضوابط النص الحِجَاجي89

الحِجَاج فن الإقناع90

الإقناع والاقتناع في العملية الحِجَاجية90

وسائل الإقناع93

الإقناع والتطويع94

ومن صفات المطوع95

الفصل الثاني

الحجاج في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في ضوء مجالات الخطاب الحجاجي

(التداولي، اللغوي، الأسلوبي، البياني)

المبحث الأوَّل: قوة فعل الكلام99

فعل الاقتضاء104

لفظة (أبي)105

لفظة (جدّي)107

قوله: (ابن بنت)112

لفظة (الدّعي)113

فعل مفهوم (الاستلزام الحواري)115

المبحث الثاني: حجاجه اللغوي121

ص: 373

الروابط والعوامل الحِجَاجية122

1 - الروابط الحِجَاجية122

الروابط المدرجة للحجج123

الروابط التي تدرج حججاً قوية126

2 - العوامل الحِجَاجية130

عاملية أدوات النفي الحِجَاجية131

عاملية أدوات القصر الحِجَاجية132

3 - السلالم الحِجَاجية135

آليات السلالم الحِجَاجية139

4 - القياس الضمني140

المبحث الثالث: أسلوبه الحجاجي141

الأسلوب والأسلوبية141

الأسلوب141

الأسلوبية142

1 - أسلوب التوكيد143

2 - أسلوب التكرار152

3 - الاستفهام التقريري155

4 - التقديم والتأخير158

5 - الالتفات160

المبحث الرابع: حجاجه البياني163

التشبيه164

التمثيل169

الاستعارة173

الكناية182

التعريض184

ص: 374

الفصل الثالث

دراسة حجاجية تطبيقية لنماذج من كلام الإمام الحسين (عليه السلام)

المبحث الأوَّل: كلامه (عليه السلام) في المدينة المنورة191

مع عمر بن الخطاب191

القسم الأول:193

القسم الثاني:194

القسم الثالث:202

خطبته التي بددت آمال معاوية في كسب البيعة ليزيد211

أولاً: المقدمة213

ثانياً: الموضوع214

القسم الأول215

القسم الثاني215

القسم الثالث218

القسم الرابع220

ثالثاً: الخاتمة230

ردِّه (عليه السلام) علي مروان بن الحكم234

المقام235

الوظيفة الحجاجية236

النداء237

التنكيت237

الاقتضاء238

الاستفهام التقريري240

التقديم والتأخير241

دلالة النفي242

ص: 375

أم المعادلة243

الحذف المقابلي243

الالتفات (شجاعة العربية)243

التوجيه244

النتيجة244

1 - النتيجة المصرّح بها (الظاهرة)244

2 - النتيجة المضمرة (العامة)245

المبحث الثاني: كلامه (عليه السلام) أول خروجه من مكة لحين نزوله في كربلاء247

التوطئة247

عندما عزم علي الخروج إلي العراق248

خطبته بجيش الحرّ بالبيضة قرب العذيب267

المبحث الثالث: كلامه (عليه السلام) في كربلاء277

خطبته في العاشر من المحرم قبل الواقعة283

الخاتمة والنتائج307

أ- النتائج التنظيرية307

ب - النتائج التطبيقية309

ملحق بكلام الإمام الحسين (عليه السلام) 315

المصادر والمراجع347

المصادر والمراجع347

الرسائل و الأطاريح الجامعية362

البحوث العلمية365

المواقع الإلكترونية367

فهرس المحتويات371

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.