أم مقامات فاطمة الزهراء عليها السلام في الكتاب و السنه

اشارة

عنوان و نام پديدآور:أم مقامات فاطمة الزهراء عليها السلام في الكتاب و السنه/ محاضرات محمد سند؛ بقلم حسن العالي ؛ اعداد ممدوح العالي

مشخصات نشر: تهران : نشر كوخ ، 1436 ه = 2015م = 1394 ش

مشخصات ظاهري:ص 496

وضعيت فهرست نويسي:فهرستنويسي قبلي

يادداشت:عربي.

يادداشت:كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع:فاطمه زهرا(س)، 8؟ قبل از هجرت - ق 11

شناسه افزوده:سند، محمد، . - 1340

رده بندي كنگره: 1394 ، 73 م 9 س / 27/2 Bp

رده بندي ديويي:297/973

شماره كتابشناسي ملي: 3881496

ص: 1

اشارة

ص: 2

مقدمة المقرر

بسم الله الرحمن الرحيم

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22) (1)

ص: 3


1- سوره 55 - آيه 19

مقدمة المقرر

هذا هو الجزء الثالث من كتاب مقامات فاطمة(عليها السلام) في الكتاب والسنة ماثل بين يدي القارئ الكريم، وهو عبارة عن دروس وأبحاث عقائدية عالية ألقاها الشيخ الأستاذ آية الله محمد السند حفظه الله علي جمع من فضلاء الحوزة العلمية في مسجد عمران بن شاهين بجوار مرقد باب مدينة علم النبي(صلي الله عليه و آله).

وقد جاء الكتاب في بابين:

الباب الأول: في ضوابط وقواعد دينية جليلة تتصل بأكثر من أصل من أصول الدين لكنها تتمركز حول المقامات العامة لأهل البيت(عليهم السلام) والتي تمثل الحدود المشتركة بينهم وإن كانوا متفاوتين في الموقعية صعودا ونورية فيما هو مشترك.

وتبرز أهمية تلك الحدود المشتركة بعمق في بحثنا حول مقامات البضعة الطاهرة(عليها السلام)، وذلك لوجود سطحية في الفهم لدي كثيرين حول شراكتها في المقام والدور للنبي والائمة(عليهم السلام) لإشكالية كونها امرأة.

ولذا تنقّح من مجموع ما طرحه الشيخ الأستاذ في الضوابط مدي ما للزهراء(عليها السلام) من موقع أصيل في دائرة أهل البيت(عليهم السلام) بل تبوؤها موقع صدارة بينهم.

وفي الباب الثاني: فتح الشيخ الأستاذ الباب علي مصارعيه في

ص: 4

البحث العقائدي والمعرفي الدقيق حول مقاماتها مبينا رتب مقاماتها(عليها السلام)، والمقام الأم بين تلك المقامات، بل تصب نتيجة كل الأبحاث والمقالات في الدليلية علي أم مقاماتها وهيمنتها علي مقامات الأئمة من ولدها(عليهم السلام).

وتناول الأستاذ الكثير مما خفي علي المتكلمين ولم يذكروه في كلماتهم الا ارتكازا مما لفاطمة البتول(عليها السلام) من مقام حجية وولاية، متوسعا في بيان ولايتها بلحاظ عالم الدنيا وبقية العوالم العالية.

ولذا كان البحث كالبحر المتلاطم كلما عبرنا منه موجا استقبلتنا أمواج وأمواج فتأكد اليقين أن البحث في شخصية ومقام البضعة الطاهرة(عليها السلام) لا يتوقف عند أفق ولا ينتهي عند حد.

والأمل معقود أن يتلو هذا الجزء أجزاء بقدر طاقتنا من الاغتراف من بحر النبوة ولبوة الرسالة.

ويحدونا الأمل أن يفتح هذا الكتاب الطريق للباحثين المجيدين ليشمروا عن سواعد التنقيب في روايات الوحي وبالخصوص في روايات مقامات فاطمة(عليها السلام) لتأخذ العقيدة بها(عليها السلام) موقعها الديني المناسب، ويرتفع شيء من القصور والتقصير العلمي لدي النخب وجمهورالمسلمين.

النجف الأشرف

رجب الأصب 1436ه-

ص: 5

الباب الأول:ضوابط عامة

اشارة

الضابطة الأولي: المحكمات وطبقاتها الضابطة لمعرفتها.

...* كيف نتعرف عَلَي طبقات المحكمات.

...* ولاية أهل البيت(عليهم السلام) مثبتة في أم الكتاب.

...* وقفة مَعَ السِّيّد المرتضي....

ص: 6

ص: 7

الضابطة الأولي: المحكمات وطبقاتها الضابطة لمعرفتها

اشارة

بادئ ذي بدء ثمة مجموعة مِنْ الأسئلة:

أوَّلاً: كيف نتعرف عَلَي محكمات القُرآن الكريم؟

ثانياً: وكيف نُميِّز بين طبقات محكماته؟

إذْ لا يخفي أنه بَعْدَ التمييز والفرز بين المحكمات والمتشابهات لابُدَّ أنْ نعقد بحثاً آخر تعميقاً لهذه الحقيقة وتجلية لأبعادها.

وخلاصته هو أنَّ كُلّ محكم بالقياس إلي ما فوقه مِنْ المحكمات يعتبر مُتشابهاً محكمه المحكم الذي فوقه.

بمعني أنَّ المحكم الفوقي يزيح ويكشف تشابه المحكم الذي دونه، إذْ أنَّ إحكام المحكم إنَّما هُوَ صفة لَهُ باعتبار ما تحته، لكنَّهُ وبالنظر لما فيه مِنْ مساحات تمتزج بالتشابه أحتيج فِي كشف منطقة تشابهه إلي إرجاعه إلي ما فوقه مِنْ المحكمات.

ص: 8

وإيضاحا لهذا المطلب يمكن أنْ نمثِّل بدرجات النُّور، إذْ هُوَ بمستوي معيّن نور وَلَيْسَ ظلمة، وَهَذَا النُّور إذا ما قايسناه بنور أكبر منه يكون بالقياس والمقابلة نوراً مُمتزجاً بظلمة.

فلو قست النُّور فِي درجة الخمسين إلي النُّور فِي درجة المئة لاضمحل الأوَّل فِي الثَّانِي، بحيث لا يطلق علي نوريته اسم النُّور بالقياس بالثاني.

وَقَدْ أيّدت الاكتشافات العلمية الحديثة ما وَرَدَ عَنْ الإمام زين العابدين(عليه السلام) فِي قوله:

«سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور»(1).

إذْ نسب للظلمة وزنا؛ ولذا اكتشفوا أنَّ الظلمة ليست عدماً مطلقاً، وَإنَّما هِيَ نور ضعيف، وإطلاق وصف الظلمة عَلَيْهَا إنَّما هُوَ بالقياس للنور الأقوي منها.

ومما يُؤكِّد وجود نوريّة ضعيفة فِي الظلمة أنَّ العدسات الليلية المستعملة فِي الرؤية آناء الظلام وظيفتها الفيزيائية استثمار ذَلِكَ النُّور الضعيف المصاحب للظلمة فتتحقق به الرؤية.

وَعَلَي ذَلِكَ تقاس الأنوار بعضها إلي بَعْض.

وَبِهَذَا المثال يتقرب للأذهان الاختلاف فِي درجات المحكمات،4.

ص: 9


1- ( (الصحيفة السجادية (الابطحي) الإمام زين العابدين 24.

فَكَمَا أنَّه فوق كُلّ ذي نور نور أكبر وأقوي فكذلك فوق كُلّ ذي محكم محكم.

وَالنُّور فِي درجاته النهائية يطلق عَلَيْهِ نور الأنوار، ويطلق علي المحكم فِي درجاته النهائية عنوان أحكم المحكمات.

وَعَلَي هَذَا الأساس أطلق الباري في القُرآن عنوان (أمِّ الكتاب) عَلي بَعْض درجات آياته.

ولخطورة بحث طبقات المحكمات فقد نزلت أكثر من آية من آيات القُرآن الكريم لبيانها، كما اعتني أهل البيت(عليهم السلام) وتشددوا فِي الدلالة عليها، مما يؤكد مدي تأثيرها في معارف الإنسان وفهمه للقُرآن.

وفي غَيْر موضع طرحت آيات القُرآن الكريم حقيقتين مهمتين:

الأولي: ضرورة الإيمان بالحجج الإلهية بشكل عام.

الثانية: التمييز فِي الإيمان بين درجات الحجج ومقاماتها.

فَعَلَي صعيد الاعتقاد بالأنبياء(عليهم السلام) نزل قوله تَعَالَي: ( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلي إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسي وَ عِيسي وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ )(1) (2)6.

ص: 10


1- سورة البقرة: الآية 136.
2- سوره 2 - آيه 136

فأمر بالإيمان بهم جميعاً، لكنَّهُ لَمْ يكتفي بِهَذَا المقدار فأنزل قوله تَعَالَي: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ )(1) (2)

فدلَّت الآية الأخيرة عَلَي وجوب الإيمان بهم عَلَي طبقات ودرجات، ففي حين أن بعض الآيات نهت عن التفريق بين الرسل فِي صراطهم الحَقّ ونهجهم القويم ودينهم الواحد، أمرت آيات أخري بالاعتقاد بوجود طبقات فِي ذَلِكَ الصراط، وبوجود تفاوت في ذَلِكَ المنهاج، وَهَذَا معني التحفظ فِي الإيمان عَلَي الطبقات والوحدة، أي وحدة في الكثرة وكثرة فِي الوحدة.

فلو اعتقدت بالوحدة بلا اكتراث بالكثرة كفرت وجحدت، ولو اعتقدت بالكثرة بلا وحدة لكفرت وجحدت، إذْ معني (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) (3) هُوَ القول بالوحدة، ومعني (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ ) (4) هُوَ القول بالكثرة.

وكذلك جمع القُرآن الكريم بين نغمة الوحدة ونغمة الكثرة فِي محكمات القُرآن.

فشدَّد مِنْ جهة عَلَي وجود المحكمات، وشدَّد مِنْ جهة أُخري عَلَي طبقات المحكمات، فمحكم هُوَ لما دون ومتشابه بالنسبة إلي ما53

ص: 11


1- سورة البقرة /253
2- سوره 2 - آيه 253
3- سوره 2 - آيه 136
4- سوره 2 - آيه 253

فوق إلي أنْ نصل إلي أم المحكمات، وفي ذَلِكَ وَرَدَ قوله تَعَالَي: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ )(1) (2)

وأُمّ الكتاب هِيَ محكم لِكُلِّ المحكمات.

كيف نتعرف عَلَي طبقات المحكمات:

بات مِنْ الوضوح بمكان لدي المحققين مِنْ المفسرين بطلان التعريف القديم الدارج الذي يفرّق بين المحكمات والمتشابهات بأنَّ المتشابه ما كَانَ لفظه مجملا ومغلقا، وأنَّ المحكم ما كَانَ لفظه بيناً واضحاً.

ووجه البطلان ما وصف الله به جميع آيات قُرآنه بقوله تَعَالَي: (وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (3). (4)

الدَّالَّة عَلَي أنَّه لَيْسَ بين آيات القرآن لفظ مجمل عَلَي صعيد المعني.

وبالتالي لابُدَّ مِنْ التفريق بين المحكم والمتشابه بوجه آخر.

وَقَدْ بُيِن فِي التحقيقات الأخيرة فِي علم التفسير أنَّ التشابه

ص: 12


1- سورة آل عمران: الآية 7.
2- سوره 3 - آيه 7
3- سورة النحل: الآية 103.
4- سوره 16 - آيه 103

والإحكام لا محل لهما عَلَي صعيد اللفظ ودلالته الأولية، وَإنَّما يتطرّق التشابه والإحكام للقرآن عَلَي صعيد المعني وطبقاته، بَلْ عَلَي صعيد ما هُوَ أعظم مِنْ المعني وطبقاته وَهُوَ الحقائق وطبقاتها.

وبعبارة أُخري: بَعْدَ أنْ ينتقل السامع للألفاظ منها إلي معانيها ينشأ لديه فِي واحة المعاني وضوح وإبهام، وَلَيْسَ السبب فِي الوضوح والإبهام نفس القُرآن الكريم وَإنَّما هُوَ مُسبب عَنْ درجة علم البشر بالمعاني ودرجة علمهم بالحقائق.

فيخطأ مِنْ يظن أنَّ التقسيم والتنويع لآيات القُرآن سببه الألفاظ أو المعاني بما هِيَ مدلولات للألفاظ، والسرّ فِي ذَلِكَ وصف القُرآن كُلّ آياته بالعربي المبين، وإنما نشأ التقسيم بَعْدَ مغادرة منصّة الألفاظ إلي منصّة المعاني وطبقاتها.

وَبَعْدَ التعرف عَلَي اشتمال القُرآن عَلَي محكم ومتشابه وأن نفس محكماته عَلَي طبقات ينبثق هَذَا السُّؤال:

كيف نُميّز طبقات المحكمات، وما هِيَ المحكمات الأشد إحكاماً والمحكمات الأدني إحكاماً؟

وجوابه: إنَّ الحقيقة كلما كانت ذَاتَ موقعية كبيرة فِي الدِّين، وكذا المعني كلمَا كَانَ ذا موقعية مُتَقَدِّمَة بين المعاني الدينية اعتبر ذَلِكَ المعني أشدّ إحكاماً مِنْ المعاني والحقائق الأنزل مِنْهُ.

ص: 13

وبعبارة أوضح: إنَّ الآيات المُتعرِّضة للمعارف الَّتِي هِيَ مِنْ أصول الدِّين وعقائده تعتبر أشد إحكاماً مِنْ الآيات الَّتِي تتعرض إلي فروع الدِّين، والسرّ فِي ذَلِكَ هُوَ أنَّ المعني فِي العقائد وفي أصول الدِّين أعلي مرتبة وجودية وحقائقية مِنْ المعني فِي فروع الدِّين.

وَبِهَذَا يتبيَّن أنَّ أشد آيات القُرآن إحكاماً هِيَ الآيات الَّتِي تتعرض إلي التوحيد ومعارفه.

والسُّؤال لِمَ ذَلِكَ؟

قَدْ مَرَّ آنفاً أنَّ آيات العقائد أشدّ إحكاماً مِنْ آيات الفروع، ولمّا كَانَ التوحيد أساس كُلّ الدِّين وأساس كُلّ معارف القُرآن فلا محالة أنْ يوزن به غيره لا أنَّ غيره يزنه، لِأنَّ معني المحكم هُوَ الأم، والأم معناها الميزان والمدار، ولا يعقل أنْ يكون شيء مِنْ الأصول فوق أصل التوحيد ليوزن به.

وتأتي فِي الرتبة اللاحقة الآيات الَّتِي تتعرض للنبوة فَهِيَ أعظم وأشدّ إحكاماً مِنْ الآيات الَّتِي تتعرّض لبقية أصول الدِّين، لِأنَّ موقعية النبوة موقعية مدارية بَعْدَ موقعية التوحيد.

والمعاد إذَا ما لاحظناه فِي قسمه المرتبط بالتوحيد يكون بِهَذَا المعني أعظم مِنْ النبوة، وإذا لاحظناه في قسمه الذي لا يرتبط بالتوحيد تكون النبوة أعظم مِنْهُ، وَبَعْدَ النبوة تأتي موقعية الإمامة،

ص: 14

فتكون الآيات المتعرضة لها أشد إحكاماً مِنْ الآيات المتعرضة لما هُوَ دونها.

ولاية أهل البيت(عليهم السلام) مثبتة في أم الكتاب:

وما أثبتناه مِنْ أنَّ محكم الآيات نازلة فِي بيان أحكم العقائد يتجلي بوضوح فِيما بينته الزيارات المأثورة الناصّة عَلَي أنَّ ولاية أهل البيت(عليهم السلام) مثبتة فِي محكمات الآيات:

منها ما وَرَدَ فِي زيارة أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام):

«وأشهد أنَّكَ أمير المُؤْمِنِين الحقّ الذي نطق بولايتك التنزيل»(1).

ومنها ما ورد في زيارة الحسن(عليه السلام) وَرَدَ:

«والذي نطق بفضله التنزيل»(2).

وَهَذَا البند اللطيف واللغة العظيمة مما غفل عنه جملة مِنْ المتكلمين فظنّوا أنَّ ولاية أهل البيت(عليهم السلام) ثابتة بالتأويل للآيات، بَيْنَمَا نصوص الزيارات تثبت أنَّ إمامته وفضله نزل بها التنزيل، بمعني أنَّ الله نصَّ عَلَي ولايته وإمامته فِي التنزيل، وأحد معاني الإحكام هُوَ التنزيل.

ص: 15


1- المزار، المشهدي 265
2- المزار، المشهدي 104

ولو تتبعنا أكثر نصوص الزيارات لوجدنا ما هُوَ أرقي مما مَرَّ، إذْ وَرَدَ فِي زيارة أمير المُؤْمِنِين (عليه السلام) قولهم: «الذي ذكره الله فِي محكم الآيات فَقَالَ تَعَالَي: (وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (1). (2)

وورد في زيارته(عليه السلام):

«السَّلامُ عَلي مَنْ أَنْزَلَ الله فِيهِ وَإِنَّهُ فِي امِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيُّ حَكِيمٌ».

ففضلاً عَنْ نزول القُرآن بالولاية فِي التأويل، وفضلاً عَنْ نزوله بالولاية فِي التنزيل، فَإنَّهُ نصّ عَلَي ولايته فِي أم محكمات الآيات.

وَعَنْد هَذَا البيان لابُدَّ أنْ تستوقف الأقلام وتعمّل العقول فِي هذا المُدّعي الخطير، إذْ لَيْسَ ثمة آيات دلّت عَلَي ولاية علي(عليه السلام) وولاية فاطمة(عليها السلام) وولاية الحسنين(عليهم السلام) وانتهي الأمر، وليست ولايتهم مورد تنزيل الكتاب وكفي، كَمَا أنَّها ليست منصوصة فِي المحكمات فحسب، بَلْ تكفل بالنصّ عَلَيْهَا والنطق بوجوبها أم المحكمات.

وَعَلَي أساس ذَلِكَ نحن مطالبون بإقامة الدلائل عَلَي إمامة علي(عليه السلام) وولاية الزهراء(عليها السلام) وأولادهما(عليهم السلام) لا فِي تأويل الكتاب وحسب، ولا فِي تنزيل الكتاب وكفي، ولا بالمحكمات وانتهي الأمر.

بَلْ مطالبون بإقامة الدلائل عَلَي إمامتهم وولايتهم(عليهم السلام) بالآيات الَّتِي تتصدر قائمة المحكمات ولا أمومة عَلَيْهَا من آيات أخري، أيّ18

ص: 16


1- المزار، المشهدي 218
2- سوره 43 - آيه 4

الآيات الأكثر إحكاماً فِي القُرآن.

وانعقاد أم المحكمات فِي إثبات الولاية أدلّ دليل عَلَي كونها مِنْ أمهات أصول الدِّين وأحكم محكماته الَّتِي يدور عَلَيْهَا جملة كثيرة مِنْ أصوله وعقائده.

وقفة مَعَ السِّيّد المرتضي:

ومما تَقَدَّمَ مِنْ بيان دلالة القُرآن في أم محكماته عَلَي إمامة علي وولايته(عليه السلام) يتبيَّن وجه المناقشة فيما قاله السِّيّد المرتضي مِنْ أنَّ دلالة القُرآن عَلَي الولاية بيِّنة عَلَي مستوي الظاهر الخفي وَلَيْسَ الظاهر الجلي، فَإنَّ ما تَقَدَّمَ يوضِّح أنَّ الولاية فِي القُرآن ليست مِنْ الظاهر الخفي، أيّ ظاهر بالمعني الأعم، كَمَا أنَّهُ لَيْسَ مِنْ الظاهر الجلي بَلْ أعظم مِنْ ذَلِكَ، إذْ لا يناسب الولاية الَّتِي هِيَ مِنْ أحكم محكمات المعارف إلَّا أنْ تكون ظاهرة وجلية وواضحة بدرجات فائقة فِي الوضوح في أمهات آيات القرآن.

وفي صدارة ولاية أهل البيت(عليهم السلام) بَعْدَ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) تأتي ولاية فاطمة(عليها السلام) لا سيما وعنوان القربي فِي آيات الولاية أوَّل انطباقها عَلَيْهَا(عليها السلام)، وبتوسطها ينطبق عَلَي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام).

وكذلك عنوان (أهل البيت) فَإنَّهُ خاصّ ابتداء ونزولاً بالخمسة أصحاب الكساء.

ص: 17

وبعبارة أُخري: إنَّ انتشار الشبهات والالتباسات وإنَّ سبّب احتجاب أنوار القُرآن عَنْ أنْ يبصرها عموم المسلمين المستضعفين لكنَّ ذَلِكَ لا يوجب تزلزل الضياء البرهاني فِي دلالة الآيات عما هُوَ عَلَيْهِ نظير الحال فِي أدلّة التوحيد، فَإنَّ شبهات الإلحاد والملحدين قَدْ يُفرض لها انتشار ورواج وبالتالي يكون لها تعمية عَلَي عقول البسطاء لكنَّ ذَلِكَ لا يعني زوال بينات وأدلة التوحيد عمّا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ بداهة.

وبعبارة ثالثة:

تارة يعرّف البديهي والظاهر كوصف إدراكي للأشخاص والأفراد فَهَذَا يكون نسبيا ومتغيرا، وَأُخري يعرّف بلحاظ مقدمات الاستدلال ومناشيء الدلائل فَهَذَا لا يطرأ عَلَيْهِ أي تغيير.

ص: 18

ص: 19

الضابطة الثانية: موقع العقائد فوق عالم الدنيا

*الاعتقاد والمعرفة بمقامات الزهراء(عليها السلام) حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أصول الدِّين وَلَيْسَ مِنْ الفروع فَهُوَ مقام اعتقادي.

*لذا فَإنَّهُ لا تنحصر تداعياته وآثاره وتأثيره علي الحياة الدنيا فقط، بل يسع ويتسع إلي جميع العوالم بل الي ما فوق الجنة الابدية من عوالم النور.

لأصول الدِّين وعقائده موقعية وجودية عالية كَمَا أنَّ لفروع الدِّين موقعية نازلة.

فَأمَّا موقعية الفروع فمحصورة فِي النشأة الدنيوية بقسميها الأولي مِنْ الدُّنْيَا والآخرة منها، وأمَّا العقائد الدينية والمعارف الاعتقادية والأصول المعرفية فنشأتها الوجودية تعم وتستوعب عوالم سابقة وعالم لاحقة.

ولا شك أنَّ عظمة وخطورة العقائد مُتَقَدِّمَة عَلَي فروع الدِّين لاختلاف الموقعية؛ ولذا فَكُلّما كبر الموقع الوجودي للشيء فِي ما

ص: 20

يتعرّض لَهُ القُرآن يصبح الشيء أشدّ إحكاماً.

وبعبارة أُخري:

ثمة فرق بل فروق بين الدِّين والشريعة، فَإنَّ الشريعة خاصّة بالنشأة الأرضية، بَيْنَمَا للدين عموم وعمومية لِكُلِّ عوالم الخلقة؛ ولذا فَالدِّين لا تقف حدوده عِنْدَ نشأة مضت أو بتاريخ مضي أو بوضع راهن بَلْ هُوَ مرتبط بكُلِّ العوالم.

ويخطأ الكثير عِنْدَمَا يظنون أنَّ الدِّين لَيْسَ داخلاً فِي اهتمام المُؤْمِنِين بعدما يذهبون إلي الجنّة، بَلْ الصحيح أنَّ الدِّين حاكم عَلَي كُلّ العوالم بما فيها عالم الجَنّة الأبدية.

كَمَا أنَّ للدين نظاما حاكما عَلَي أهل النيران فِي النَّار، وللدين أيضا نظام حاكم فِي عالم الذر وعالم الميثاق الذي مضي.

وعلي ضوء ما تأسس فإن الاعتقاد والمعرفة بمقامات الزهراء(عليها السلام) حيث إنه من أصول الدين وليس من الفروع فهو مقام اعتقادي لا تنحصر تداعياته وآثاره وتأثيره علي الحياة الدنيا فقط، بل يسع ويتسع إلي جميع العوالم بل الي ما فوق الجنة الابدية من عوالم النور.

وبالتالي يكون نورا ومنهاجا وضياء وصراطا يعرج به فيها .

ص: 21

الضابطة الثَّالثة: العمي عن المعارف في الدنيا عمي في العوالم الأخري

*مدي خطورة العمي في العوالم الآتية تتحدد وفق خطورة الاعتقاد في عالم الدنيا..

*فما هو العمي الأخروي الذي سينجم عن تضييع معرفة مقامات الصديقة فاطمة(عليها السلام).

قَدْ تضمّنت آيات القُرآن هذه الضابطة بصراحة ووضوح كما فِي قوله تَعَالَي: (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمي فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمي وَ أَضَلُّ سَبِيلاً) (1). (2)

ومعني العمي وأعمي هُوَ الخلو مِنْ المعارف، فَكُلّ مَنْ هُوَ غَيْر عارف فِي نشأة الدُّنْيَا فَهُوَ أعمي وَغَيْر عارف فِي الآخرة، بل وأضلّ سبيلاً.

ص: 22


1- سورة الإسراء / 72
2- سوره 17 - آيه 72

فعلي السالكين لله أنْ يكونوا بصراء وبصيرين وذو بصيرة هُنَا كي لا يضلّوا السبيل فِي القيامة.

وثمة نص معرفي يتداوله الفلاسفة والمتكلمون كثيرا وَهُوَ قولهم «المعرفة بذر المشاهدة» فبغض النظر عن قائله فَهُوَ مطابق لمضمون الآية، فَإنَّ للآية منطوقا ومفهوماً، ومنطوقها إنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أعمي فَهُوَ فِي الآخرة أعمي وأضل سبيلاً.

ومفهومها أيّ عكسها مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ بصيراً فَهُوَ فِي الآخرة أكثر بصيرة وأشدّ رشداً وهداية، وَهَذَا هُوَ مضمون الحديث السابق؛ إذْ معني (المعرفة بذر المشاهدة) هُوَ كون المعرفة فِي الدُّنْيَا بوابة نافذة لأجل المشاهدة فِي الآخرة.

فالآية وَالرِّوَايَة يتضمنان بيان نقطة معرفية مِنْ جهة، وَمِنْ جهة أُخري يشتملان عَلَي إنذار كبير للبشر وتخويف مِنْ القصور والتقصير فِي المعرفة فِي دار الدُّنْيَا.

ولنا أنَّ نتوغّل أكثر فِي معني الآية وَالرِّوَايَة فنقول إنَّ العمي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا والعمي والضلال فِي الآخرة إمَّا أنْ يكون عَنْ أصل الحقيقة أو يكون عَنْ طبقات الحقيقة، فَمِنْ عمي وتاه عَنْ أصل الحقيقة فِي دار الدُّنْيَا عمي وضلّ عَنْ أصل الحقيقة فِي عالم الآخرة، وَمَنْ ضلّ وعمي عَنْ طبقات الحقيقة وشؤونها وأبعادها عمي وضل عَنْ درجات الحقيقة فِي عالم الآخرة.

ص: 23

فبقدر ما يتعامي عنه وينكره ويجحده فِي عالم الدُّنْيَا يتعامي وينكر ويضل عنه فِي عالم الآخرة.

ولذا قَدْ يهتدي إلي الجنان فِي الآخرة لكنَّهُ يتعامي ويضل عَنْ أعالي الجنان فيها، لأنَّهُ لا يدرك مِنْ الآخرة إلا ما أدركه فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ لَمْ يبصر أعالي المعارف مِنْ ها هُنَا عمي عنها وضل سبيلها هُنَاك.

وَهَذَا هُوَ معني القاعدة القرآنية المودعة فِي قوله تَعَالَي: (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1) (2) ، والكسب هُوَ درجات المعرفة.

فإذا كان هذا حال الاعتقادات الواجبة المعتادة فكيف بالاعتقاد بأصل من أصول الدين ومدي خطورة العمي الذي سينجم منه كمعرفة مقامات الصديقة فاطمة(عليها السلام).

وقد ورد في روايات الرجعة في ذيل الآية المتقدمة أن من كان ضالا في الحياة الأولي من الدنيا يبعث في الرجعة أشد ضلالا.

فعن أبي بصير، عن أحدهما (عليه السلام)، في قول الله عز وجل: (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمي فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمي وَ أَضَلُّ سَبِيلاً) (3) قال: في الرجعة) (4).9.

ص: 24


1- سورة طور: الآية 16.
2- سوره 52 - آيه 16
3- سوره 17 - آيه 72
4- تفسير البرهان، السيد هاشم البحراني 3 /559.

ص: 25

ص: 26

الضابطة الرابعة: العقيدة رؤية لماض أم منهج لحاضر ومستقبل

*لفاطمة(عليها السلام) من الولاية في مستقبل الدنيا وهي الرجعة وما يلحقها من رجعات وعوالم لاحقة كعالم القيامة، وعند الحساب تكون(عليها السلام) آمرة وناهية وهو يوم الأهوال وتنصاع اليها جميع الملائكة.

يتوهّم كثيرون أنَّ العقائد تراث لتاريخ مضي ورؤية لتاريخ غابر، بَيْنَمَا الصحيح أنَّ العقيدة هِيَ رؤية لحاضر راهن ولمستقبل واعد، وَهِيَ بذلك لها تداعيات خطيرة وأمواج وانعكاسات عَلَي الوضع الراهن والوضع المستقبلي وبه يتبين أنَّ العقيدة أمر مصيري وليست أمراً اختيارياً أو ندبياً.

وهذا ما يستبين أن لفاطمة(عليها السلام) من الولاية في مستقبل الدنيا وهي الرجعة وما يلحقها من رجعات وعوالم لاحقة كعالم القيامة، وعند الحساب

ص: 27

تكون(عليها السلام) آمرة وناهية وهو يوم الأهوال وتنصاع اليها جميع الملائكة.

فتبين ثمة ملكها للأمر ومقامها وليس ذلك الا انكشاف لما كانت عليه من ولاية في دار الدنيا وما قبل ذلك من عوالم وإن لم تكن محسوسة ومعروفة لنا، فإن ولايات المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام) هي ذات مراتب ورتب متسلسلة يقوم كل منهم بالولاية عمن قبله ممن يفوقه رتبة.

ص: 28

الضابطة الخامسة: لغة الفضائل ترجمانها الحجية و لغة الذم إسقاط للحجية

*ثمة موازاة ومحاذاة بين لغة العقل العملي ولغة العقل النظري، أيّ كُلّ لغة من لغات العقل العملي لها ما يوازيها فِي لغة العقل النظري.

للوحي مناهج وطرق لبيان العقائد، وإحدي تلك المناهج ما يعرف بلغة العقل العملي أو لغة الفضائل والمديح وفي قبالها لغة الذم، فَإنَّ الفضائل الَّتِي تنسب فِي لسان الوحي لأهل المقامات العقائدية تعني إسناد الحجية لهم، بَيْنَمَا الذم فِي لغة العقائد يعني عدم الحجية.

فالمواطن القرآنية الَّتِي يذم فيها القُرآن أفعال بَعْض زوجات الْنَّبِيّ كَمَا فِي سورة التحريم تمثل إشارة مِنْ القُرآن مفادها أنَّ زوجات الْنَّبِيّ لسن حجة مِنْ الله.

بَيْنَمَا تشير المواطن الَّتِي مدح القُرآن فيها أهل البيت(عليهم السلام) بمدح

ص: 29

إلهي ناموسي - لَيْسَ عَلَي مُقْتَضَي العادة والعرف - إلي إثبات الحجية لهم(عليهم السلام).

فثمة موازاة ومحاذاة بين لغة العقل العملي ولغة العقل النظري، أيّ كُلّ لغة من لغات العقل العملي لها ما يوازيها فِي لغة العقل النظري.

وَقَدْ أجمع المسلمون اكتعون عَلَي أنَّ أهل البيت(عليهم السلام) المخصوصين قَدْ مدحهم القُرآن الكريم بأوصاف خاصّة كَمَا فِي سورة الدهر وسورة الحشر وسور أُخر عديدة، وبيَّن فضائلهم عِنْدَ الله وكرامتهم لديه، وَهَذِهِ اللغة مِنْ لغات العقل العملي لها ما يوازيها فِي لغة العقل النظري، وَهُوَ ثبوت الحجية والاصطفاء ووجوب الطاعة لهم(عليهم السلام).

وبعبارة أُخري:

سلك القُرآن الكريم مسالك عِدَّة لبيان ما لأهل البيت(عليهم السلام) مِنْ مقام فمرّة قَالَ تعالي: (أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(1) (2) ، وَمَرَّة سلك لغة أُخري، فَقَالَ مادحاً للنبي(صلي الله عليه و آله): (ثُمَّ دَنا فَتَدَلّي )(3) (4) ، وَقَالَ مادحاً لأهل البيت(عليهم السلام): (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(5) (6)3.

ص: 30


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سوره 4 - آيه 59
3- سورة النجم: الآية 8 ، 9.
4- سوره 53 - آيه 8
5- سورة الأحزاب: الآية 33.
6- سوره 33 - آيه 33

إذْ لا معني لهذه الحفاوة وَذَلِكَ التكريم وتلك الوجاهة مِنْ الخالق الأزلي وبموازين إلهية غَيْر بشرية إلَّا إسناد الحجية والاصطفاء ووجوب الطاعة ووجوب الولاية.

وَمِنْ ثمّ فلا فرق بين المسلكين واللغتين القرآنيتين إلَّا أنَّ الأولي «أطيعوا» لغة للعقل النظري، والثانية «المدح» لغة للعقل العملي.

فلغة الكرامة والفضائل فِي منظور العقائد هِيَ لغة حجيّة وليست نظير المدح والمديح الشعري.

ولأجل أنَّ ينبّه القُرآن الكريم البشر عَلَي مفادات لغاته أَكَّدَ المرة بَعْدَ الآخرين عَلَي أنَّهُ لَيْسَ بشعر شاعر، وَإنَّما هُوَ نور كاشف للحقائق الكونية، فإذا ما اعترف البشر بأنَّ القُرآن الكريم وَالْنَّبِيّ الأكرم(صلي الله عليه و آله) قَدْ مدحا أهل البيت(عليهم السلام) بفضائل خاصّة وَلَمْ يشركا أحداً مِنْ هَذِهِ الأُمَّة فِي فضيلة مِنْ تلك الفضائل بَلْ خصّوا بخصوصهم، فَهَذَا التخصيص بتلك الفضائل تذكير بالحقائق الثابتة والواقعية، وَلَمْ يمدحهم ليُترنم بتلك المدائح ويداعب بها الخيال.

ولذلك لابُدَّ أنْ يؤخذ ما مَرَّ دليلاً وبرهاناً عظيماً عَلَي حجية الزهراء(عليها السلام) لِأنَّ القُرآن الكريم فِي مواطن عديدة ركّز عَلَي خصوص مديح البضعة، بينها ذم زوجات الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي مواطن وموارد عديدة.

فَمِنْ جانب يُعلي مِنْ شأن فاطمة(عليها السلام) بخصوصها، وَمِنْ جانب

ص: 31

يؤنِّب ويعاتب ويذم زوجات الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، والمغزي مِنْ ذَلِكَ تنبيه وتفهيم المسلمين عَلَي حجيّة الزهراء(عليها السلام) مِنْ جهة وَعَلَي عدم حجية زوجاته مِنْ جهة أُخري.

وَهَذَا هُوَ معني ما قلناه مِنْ أنَّ المديح لغة مِنْ لغات الحجية والاصطفاء، والذم لغة مِنْ لغات إسقاط الحجية والاصطفاء.

وَعَلَي وجه عام ينبغي أنْ لا نغفل ونحن نتتبع منظومة معارف القُرآن والوحي عَنْ مفاد لغة المدح ولغة الذم.

وَمِنْ هَذَا القبيل وصف القُرآن لموسي وعيسي(عليهما السلام) بالوجيه في قوله تعالي: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (1). (2)

وقوله تعالي: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسي فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً) (3). (4)

إذْ لا يحتمل المسلم أنَّ المُراد مِنْ نعت الوجيه هُوَ محاباة رحم أو قرابة، إذْ لَيْسَ بين الله تَعَالَي وبين أحد صلة رحم وقرابة، كَمَا لا يحتمل مسلم أنَّ وزان توصيف القُرآن هُوَ زان التوصيف الشعري، إذْ لَيْسَ عِنْدَ الله تَعَالَي عجز عَنْ التوصيف المطابق.9.

ص: 32


1- سورة آل عمران: الآية 45.
2- سوره 3 - آيه 45
3- سورة الأحزاب: الآية 69.
4- سوره 33 - آيه 69

وَمِنْ ثمّ فَالمُراد مِنْ المديح بالوجاهة والوجيه هُوَ الاصطفاء.

وَعَلَي هَذَا الأساس إذَا تبدّه لدينا أنَّ أهل البيت(عليهم السلام) بخصوصهم مكرّمين وممدوحين فِي منطق الوحي (الخصوصية تعني لا لأجل شرطية عمل أو صفة مفروغ عنها فيهم بَلْ هُمْ بشخصهم الشخيص مكرمون ) فَهُمْ حينئذ مصطفون ذاتاً.

ولنا أنَّ نقرِّب دلالة لغة المديح عَلَي الحجية بما وَرَدَ فِي القُرآن مِنْ مديح الله لمريم بالطهارة، وَقَدْ جاء عَلَي لسان الوحي قوله تَعَالَي (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ )(1) (2)

وَمِنْ أعظم قصص القُرآن ما حدَّثت به الآيات مِنْ تأريخ مريم؛ لذا ففي مريم للمسلمين عبرة، والعبرة تعني العبور، أيّ خذوا مِنْ مريم معبراً؛ ولذا جسَّد رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) الآية فأشار للمسلمين بضرورة العبور مِنْ مريم إلي مريم الكبري، أيّ إذَا ما وصفت مريم بمريم حَيْثُ أنَّهُ اسم علم مأخوذ بمعني الطاهرة والبتول، فإذا كانت مريم طاهرة متبتلة فثمة مَنْ هِيَ أطهر مِنْ مريم، وَهِيَ فاطمة(عليها السلام) وبنصّ القُرآن.1.

ص: 33


1- سورة يوسف: الآية 111.
2- سوره 12 - آيه 111

وما مَرَّ يسترعي التساؤل فَيُقَال:

سلمنا أنَّ لغة الفضائل والمناقب ذَاتَ بُعد تشريعي وعقائدي وقانوني وأنَّ القراءات عديدة فِي منطق القُرآن.

والسُّؤال: لم اعتمدها القُرآن الكريم فعبَّر عَنْ الحجّيّة بلغة مناقبية بدلاً عَنْ وصفهم بالحجّية بلغة مُبَاشَرَة وواضحة؟

إنَّ أحد أسرار ذَلِكَ هُوَ وقاية مقامات أهل البيت(عليهم السلام) عَنْ الطمس والتغييب مِنْ قبل أعدائهم وخصومهم، إذْ لو بُيّنت تلك الحقائق وأُبرزت بلغة قانونية صرفة أو بلغة عقائدية واضحة فإنه لا يستبعد أنْ تمتد يد التحريف وأقلام الطمس لتلك الفضائل والمناقب، إذْ لصراحتها يتحسس منها الخصوم والحسّاد أكثر، بَيْنَمَا لغة الفضائل فيها نوع مِنْ الاستتار والخفاء فِي الإفصاح عَنْ الحجية، وأهل التعقل وحدهم يدركون أن اللغة القانونية واللغة العقائدية هِيَ لب ولباب لغة المديح والفضائل وليست هِيَ السطح الظاهر فيها.

ص: 34

الضابطة السادسة: لغة القرآن والزيارات

إنَّ الأدعية والزيارات مِنْ أعظم مصادر المعارف، وَمِنْ أحكم محكمات أدلة المعارف.

أشار الشَّيْخ المجلسي الأب إلي أنَّ درجات المعرفة المحكية بالنصوص الواردة عَنْ أهل البيت(عليهم السلام) متفاوتة، فالمعارف المودعة فِي الأدعية والزيارات يختلف مستواها عَنْ سائر رواياتهم.

فما هُوَ السر فِي ذَلِكَ؟

سره أن المخاطب في الأدعية الشريفة هُوَ الله، وَمِنْ شأن ووزان الخطاب مَعَ الله أنْ يصعد ويرتقي جزالة فِي المعني والبلاغة علماً ورمزاً.

والمخاطب فِي الزيارة هُوَ المعصوم لا عموم الناس، وَمِنْ شأن، ووزان الخطاب للمعصوم أنْ يتميز فِي علو العلوم والمعارف وفي البلاغة وجزالة الكلام عَنْ سائر الروايات.

ص: 35

وما أشار إليه المجلسي مِنْ فائدة ينم عَنْ بصيرة وفطنة بلغات الكلام الصادر عَنْ أهل البيت، إذْ مفاده أنَّ جلّ إنْ لَمْ يكن كُلّ العقائد المبيّنة فِي الأدعية والزيارات لا تحتمل التقيّة، فَإنَّ الإمام إذَا ما سئل مِنْ سائل عَنْ مسألة فقهية أو عقيدية فَإنَّهُ قَدْ يواري فِي الجواب فلا يبين الحَقّ بشكل صريح، أو قَدْ يعرّض لأجل أنَّ المقام يقتضي التقية، فيرعي ويحفظ المُؤْمِنِين عَنْ شراسة الظالمين بالتعريض فِي الجواب أو بإخفاء الحقيقة فيه، إلَّا أنَّ المقام فِي الدُّعاء أو فِي الزيارات مختلف تماما.

وَقَدْ عبَّر المجلسي الأوَّل بتعبير دقيق فقال: إنَّ محفل الدُّعاء محفل خاص بين المعصوم والله، كَمَا أنَّ المخاطب فِي الزيارات هُوَ المعصوم، واللغة فِي الخطابين وإنْ كانت مشفّرة لكنّها مشتملة عَلَي حقائق عالية وبطون خفية.

وبذلك يتبين أنَّ الأدعية والزيارات مِنْ أعظم مصادر المعارف، وَمِنْ أحكم محكمات أدلة المعارف.

فلو لاحظنا مثلا دعاء الندبة بشيء من التأمل لأدركنا ما فيه مِنْ منظومة معادلات يتلو بعضها بعضاً فِي علم المعارف والعقائد يعجز عَنْ التفطن لها المفسرون والعرفاء والمتكلمون إلَّا بالاستعانة بنصوصهم وكلامهم(عليهم السلام).

ومن سديد القول الإعتقاد بأنَّ الزيارة الواحدة لأي مِنْ

ص: 36

المعصومين(عليهم السلام) عبارة عَنْ دورة لمنظومة عقائدية.

وَقَدْ قال كبار علماء الإمامية جيلاً بَعْدَ جيل أن مَنْ أراد إدراك وفهم منظومة عقائدية كاملة فعليه بسبر زياراتهم، كزيارة عاشوراء وزيارة وارث وزيارة أمين الله.

ومما يؤسف لَهُ أنَّ الكثير مِنْ المُؤْمِنِين المتعلمين عَلَي سبيل نجاة، بَلْ كثير مِنْ أهل الفضل والفضيلة فِي غفلة وسبات عَنْ المصادر الأم الَّتِي يُستقي منها منظومة العقائد الإيمانية، إذْ ربما يتوهّم كثير مِنْ أهل الفضل أنَّ بإمكانه أنْ يقتنص عقائد الدين مِنْ كتاب باب الحادي عشر للعلامة الحلي أو مِنْ كتاب التجريد للخواجة وشرح العلامة أو مِنْ أيّ كتاب آخر ألَّفه فحول العُلَمَاء- وَهُمْ شكر الله سعيهم وقدس الله أسرارهم - وإن قدّموا خدمات جليلة فِي هَذَا المجال إلَّا أنَّه لا يقايس بما يمكن أنْ يغترف مِنْ الوحي عَلَي قدر السعة والطاقة البشرية.

ولذا فالعكوف والاقتصار عَلَي مصدر أو مصدرين مما ألَّفه أهل العلم لا ريب أنَّهُ يوجب الغفلة والبعد عَنْ حقائق عالية يتقوّم بها الإيمان.

والسر فِي ذَلِكَ أنَّ ما كتبه فحول العُلَمَاء لَمْ يستوعب بناء تمام المنظومة العقيدية.

ولذا فَكُلّ سلسلة كتب العقائد الَّتِي ألفها الشَّيْخ الصَّدُوق، بَلْ

ص: 37

كل ما أنتجته بَقيَّة الأقلام العلمية فِي طبقة واحدة وفِي قرن واحد لا يمكن أنْ تستوفي مجموع منظومة عقائد الإمامية، بَلْ أنَّ منظومة العقائد الإمامية الكاملة لا تستوفي مِنْ جيلين بَلْ مجموعة أجيال من علماء الإمامية مُنْذُ عهد الأئمة(عليهم السلام) إلي يومنا هَذَا.

وحينئذٍ فمِنْ أين تستقي الحقيقة المعرفية الكاملة لمذهب الإمامية؟

إنَّ السبيل إلي ذَلِكَ هو بالأخذ بما صدر عَنْ مجموع علماء الإمامية، بَلْ إنَّ سيرة أتباع أهل البيت(عليهم السلام) مُضافاً لعلماء الإمامية، أيّ مجموع سيرتهم عبر الأجيال المختلفة يمثل جسراً واصلاً بيننا وبين أهل البيت(عليهم السلام).

فإنَّ مَنْ عرف أن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) هِيَ بحر طمطام يُدرك أنَّ ذَلِكَ البحر لا يمكن أنْ يغرفه عالم أو اثنان أو جيل أو أجيال.

وَقَدْ ذكرنا فِي علم الرجال ثمرة للحقيقة الآنفة، وَهِيَ أنَّهُ لا يمكن أنْ يجعل القيم عَلَي تراث أهل البيت(عليهم السلام) شخصية واحدة أسمها النجاشي أو شخصيات متعدّدة.

وَمِنْ يتبع ذَلِكَ المنهج الخاطئ فِي علم الرجال فَقَدْ سلك منهجاً منكوساً يضيّع عَلَيْهِ كثيراً مِنْ حقائق مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

والمنهج الصحيح هُوَ أنَّ كُلّ مجموع علماء الإمامية مأمونون عَلَي

ص: 38

تراث مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وَلَيْسَ لأحد بخصوصه أو جماعة بعينها أيّ صفة وصاية في أنْ تكون هُي الجسر الوحيد الواصل بيننا وبين تراث أهل البيت(عليهم السلام).

وَمِنْ المنبّهات عَلَي ما نحن فيه قاعدة الإجماع، حَيْثُ يُقَال (أجمعت العصابة عَلَي تصحيح ما يصحّ عنهم)، فيتبيّن بها أنَّ لقول الجماعة دور؛ ولذا لا يمكن بحال أنْ نشطب قاعدة الإجماع فِي الرجال ليكون البديل الاكتفاء بقول النجاشي مثلا، وَإنَّما المنهج العلمي أنْ يكون لِكُلِّ مشاركة فِي إيصالنا لتراث أهل البيت(عليهم السلام).

وقد ذكرنا فِي الإجماع فِي علم الأصول أنه لا يمكن الاقتصار فيه عَلَي طبقة أو طبقتين وَإلَّا لا يكون إجماعاً.

وَعَلَي ضوء ما مَرَّ فَلَيْسَ مِنْ الصحيح أنْ يأتي أحدهم فيقول لَمْ أجد فِي كتب علم الكلام ذكراً لمقامات فاطمة(عليها السلام) وَإنَّما ذكرت مقامات الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والنبوة ومقامات الإمامة والأئمة فحسب..

فإنا نقول: إنَّ مصدر معارفنا هُوَ الكتاب وَالسَّنَة قبل تأليفات البشر، إذْ لا يشك أنَّ كتاب الله أعظم مِنْ كتب البشر وَأنَّهُ المصدر الأوَّل، ونصوص القُرآن فِي مقامات فاطمة(عليها السلام) عديدة وَذَاتَ مغازي عظيمة هَذَا أوَّلاً، وثانياً لَيْسَ مِنْ المنهج العلمي كَمَا مَرَّ بنا لاستلهام منظومة المعارف دراسة كتاب أو كتابين، بَلْ المنهج العلمي يسوقنا

ص: 39

لمراجعة كتب كُلّ علماء الإمامية وَالَّتِي منها كتب المحدثين المختصّة بالعقائد وَفيها قَدْ أثبتت موقعية فاطمة(عليها السلام) بأنَّها ولية الأمر، وَهُوَ مقام يعدّ مِنْ العقائد الأساسية فِي مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، إذْ إنَّ مقامات المعصومين(عليهم السلام) لا تقتصر عَلَي مقامي النبوة والإمامة.

وَمِنْ الغرائب أنْ تستشهد لِمَنْ يسأل عَنْ مقامات فاطمة(عليها السلام) بنصوص قرآنية فِي فضلها فيردّ مستشكلا بخلو كتاب المتكلم الفلاني عَنْ ذكر مقام لفاطمة(عليها السلام) غافلاً عَنْ أنَّ مقام العقائد مقام تحقيق لا مقام تقليد، وَمِنْ المجمع عَلَيْهِ عدم جواز التقليد فِي العقائد وأنَّ التعلم والتحقيق والبحث والتنقيب هُوَ المبرئ للذمة.

وبضرس قاطع نقول إنَّ معارف أهل البيت(عليهم السلام) ليست حكراً عَلَي مشرب واحد، بَلْ المشارب بمجموعها هِيَ الموصلة للمنظومة العقائدية الكاملة، وبالتالي يجب أنْ نستقيها مِنْ كتب مجموع المشارب مِنْ محدثين وأصوليين ومفسرين ومتكلمين وفلاسفة وعرفاء.

وفي هَذَا السياق مِنْ الخطأ أنْ أتعرّف عَلَي مقامات الزهراء(عليها السلام) أو علي مصحفها مِنْ كتاب واحد، فلا الكافي لوحده حوي كل المنظومة العقدية، بَلْ ولا الكتب الأربعة تمثل كُلّ تراث أهل البيت(عليهم السلام).

وَمِنْ الفوائد الَّتِي ينبغي أنْ لا نغفل عنها هِيَ أنَّ تناول العقائد والمعارف لَيْسَ مقصوراً عَلَي المتكلمين، وإنما تناولها مجموعة كثيرة مِنْ

ص: 40

رواد المدارس والتخصصات، فللمفسرين شاكلة ولون ومزاج فِي تناول بحث المعارف، لأن التفسير مدرسة للعقائد، والمقصود مِنْ المدرسة هِيَ الشاكلة والمنهجية.

وللمحدثين منهج ومدرسة ونمط فِي دراسة العقائد سواءً كَانَ مبني ذَلِكَ المحدث إخبارياً أو أصولياً أو كلامياً أو فلسفياً، فلكل محدث لون وشاكلة إلَّا أنها تتلون بلغة حديثية.

وَقَدْ جرت مداولة فِي جملة مِنْ الندوات العلمية حول ما لدي مدرسة أهل سنة الخلافة مِنْ المعتقدات الضرورية المسلَّمة بحسب كتب التفسير والحديث عندهم وَقَدْ تنكّر لها المتكلمون منهم، وفي ذَلِكَ دلالة عَلَي أنَّ الكثير مِنْ حقائق الدِّين الَّتِي أبداها الوحي الإلهي فِي القُرآن وَعَلَي لسان الرسول(صلي الله عليه و آله) وَقَدْ تنبّه لها المفسرون والمحدثون، وَمِنْ ثمّ أرسلوها إرسال المسلمات والضروريات بَيْنَمَا تنّكر لها جملة كتّاب المدرسة الكلامية لديهم والمدرسة الفلسفية لديهم، لعدم إطلاع المتكلمين والفلاسفة عَلَي ما أفاضه الوحي مِنْ معارف وحقائق.

ولذا إذَا ما أردنا أنْ نحيط علماً بمدرسة معيّنة أو بمذهب معين أو بديانة معيّنة فَلابُدَّ مِنْ الإلمام بالمشارب المختلفة عِنْدَ علمائها ومفكريها.

وبناءً عَلَي ما قرّرناه نفهم أنَّ ما درج عَلَيْهِ لدي علماء مدرسة أهل

ص: 41

البيت(عليهم السلام) مِنْ حصر الأصول الاعتقادية فِي الأصول الخمسة هُوَ مُجَرَّد تنظيم تبويبي فني محض وَإلَّا فالأصول الاعتقادية عِنْدَ القدماء لا تنحصر فِي عشرة أو عشرين أو ثلاثين فضلاً عَنْ الخمسة، أيّ حصرها فِي الخمسة لمجرد التعليم وَالتّربية العقائدية، ولمجرد التبويب الفني مِنْ قبل العلّامة الحلي وغيره وَإلَّا فالأصول العقائدية كثيرة.

ومما يشهد عَلَي كثرة أصول العقائد فِي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) كثرة الكتب الَّتِي تناولت العقائد منها كتاب الهداية للصدوق المشتمل عَلَي قسمين، والقسم الأوَّل مِنْهُ مخصص لتناول العقائد بلغة حديثية، بينما القسم الثَّانِي مِنْهُ فِي الفقه، وَمِنْ الخطأ أنْ يصنّف كتاب الهداية بأنَّه كتاب متمحض في الفقه.

ومنها كتاب الاعتقادات للشيخ الصَّدُوق وَقَدْ شرحه المفيد، وَقَدْ كَانَ مدارا للتدريس عِنْدَ علماء الإمامية وَإلي يومنا هَذَا.

ومنها كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد، ومنها كتاب حق اليقين للسيد عبدالله شبر وغيرها، بَلْ نفس كتب الملل والنحل مشتملة عَلَي نمط آخر مِنْ العقائد، وممن كتب فِي الملل والنحل سعد بن عبدالله الأشعري، وكذا النوبختي كتب فِي فرق الشيعة وذكر كثيراً مِنْ ضروريات الإمامية الَّتِي لا أثر لها فِي كتاب التجريد ولا شرح التجريد ولا فِي باب الحادي عشر.

ص: 42

وكذا تتلمس فِي كتاب الغيبة للشيخ الطوسي كثيراً مِنْ ضروريات معتقدات مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

بَلْ فيه بيان لكثير مِنْ معالم الاعتقادات الإمامية لَمْ يثبتها الشَّيْخ نفسه فِي كتبه العقائدية الأُخري ككتاب الاقتصاد، بَلْ كثير مِنْ المباني العقائدية الأصيلة العميقة ذكرها الشَّيْخ الطوسي فِي تفسير التبيان ولَمْ يذكرها فِي كتب أُخري.

وَعَلَي هَذَا الأساس فالذي يقتضيه الإلمام العلمي بالعقائد هُوَ مدارسة مختلف كتب المعارف والعقائد بمدارسها ومشاربها الكثيرة بَعْدَ الاطلاع عَلَي المصدرين الأصليين وَهُمَا الكتاب وَالسَّنَة المطهرة للنبي(صلي الله عليه و آله) ولأهل بيته(عليهم السلام).

وَمِنْ باب التقريب لضرورة أخذ العقائد مِنْ مختلف المصادر نمثل بمقام المحدث الذي هُوَ مِنْ المقامات المسلمة عِنْدَ المسلمين وأنه يتلو مقام النبوة والرسالة، فَقَدْ أثبت هَذَا المقام كضرورة عِنْدَ محدثي السَّنَة، وحَتّي البخاري يعتقد أنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصحيح حصر المقامات العقائدية فِي الرسول وفي الْنَّبِيّ، بَلْ وراء هذين المقامين مقام المحدث المعصوم.

بَلْ أثبت هَذَا المقام فِي الصحاح السَّتة، وكذا أثبته ابن حجر العسقلاني فِي شرح الباري وغيرهم مِنْ محدثي ومفسري السَّنَة فِي حين

ص: 43

أنَّ المتكلمين من أهل السنة في كتبهم يجحدون ذَلِكَ المقام، غَيْر أنَّ إنكارهم لا ينفي الحقيقة ولا يعتم عَلَيْهَا، إذْ لا يمكن أنْ نصادر مسار أهل السَّنَة ونختصره فِي كتب المتكلمين والحال أنَّ المتكلمين عندهم قَدْ غفلوا وقصّروا واعتمدوا عَلَي كثير مِنْ المباحث بخلاف المفسرين والمحدثين عندهم.

والباحث فِي كتب الكلام لدينا ولدي العامّة يتلمس عدم الرحابة والسعة فيها، فِي مقابل رحابة وسعة كتب الحديث والتفسير.

وسرّ ذَلِكَ أنَّ همّ المتكلم عادة هُوَ الجدل الكلامي، والجدل يقوقعه ويحبسه فِي أفق الطرف الآخر بدلاً مِنْ أنْ يحلّق فِي سماء الحقيقة بسعتها الرحبة، أيّ أنَّ آفة الخصومة فِي الدِّين أنَّها تصرفك عَنْ سعة الحقيقة إلي أفق ضيِّق يجادل فيه الطرف الآخر؛ ولذا مَعَ حسن المداراة إلَّا أنَّ أحد آفاتها أنَّها تلوّن الطرف الأوَّل بالطرف الآخر مِنْ حَيْثُ لا يشعر.

وَمِنْ ثمّ نجزم أنَّ المتكلمين- شكر الله مساعيهم- أخفقوا إخفاقاً كبيراً حينما لَمْ يفرزوا بحثاً مستقلاً لمقامات فاطمة(عليها السلام) الاعتقادية فِي علم الكلام وإنْ كَانَ جملة منهم ذكروا بَعْض مقاماتها مِنْ باب الاستطراد.

وَقَدْ أخفقوا فِي ذَلِكَ أيضاً إذْ كيف يكون البحث فِي الركن الركين بحثاً استطرادياً، وَهَذَا ما أوجب الغفلة والوهم لدي بَعْض

ص: 44

الفضلاء أو ربما بَعْض الأجلة، فقالوا أنَّ الاعتقاد بمقامات فاطمة(عليها السلام) وعصمتها حسب كلمات المتكلمين لَيْسَ مِنْ الأصول الاعتقادية - نعوذ بالله مِنْ ذَلِكَ -.

ونعود للتأكيد علي أنَّ المتكلمين قصّروا فِي تدوين وبلورة مقاماتها(عليها السلام) وإنْ كانوا ارتكازاً ليسوا بنافين لها ولا منكرين ولا جاحدين.

وعدم عقدهم فصلاً مستقلاً فِي مقاماتها يمثل مآخذة حضارية دينية عَلَيْهِم إذْ لَمْ يراعوا نفس القولبة الموجودة فِي منظومة الكتاب ومنظومة الحديث مما أوجب التشويش عِنْدَ عامة المُؤْمِنِين فِي مقاماتها وموقعيتها رغم أنَّ موقعيتها ليست محل جدل فِي الإيمان بحسب ما يرسمه القُرآن الكريم وَهُوَ العمدة فِي البيانات والأدلة الوحيانية الضرورية، وَهُوَ أكبر بيان وبرهان ونور وهداية لتبيان تلك الحقائق.

كَمَا أنَّ موقعيّتها وحجّيتها ليست محل إبهام بحسب ما ترسمه بيانات أهل البيت(عليهم السلام) الكثيرة وَالمُسْتَفِيضَة وَالَّتِي منها أنَّ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لقّن حمزة سَيِّد الشهداء ليلة استشهاده الشهادة الأولي والشهادة الثانية والشهادة بإمامة الأئمة، والشهادة بمقام فاطمة(عليها السلام) وَأنَّهُ سيُسأل عنه فِي القبر.

فقد ورد عن موسي بن جعفر عن أبيه(عليهما السلام)قال:

«ولما كانت الليلة التي أصيب حمزة في يومها دعا به رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال: يا حمزة يا

ص: 45

عم رسول الله، يوشك أن تغيب غيبة بعيدة، فما تقول لو وردت علي الله تبارك وتعالي، وسألك عن شرائع الإسلام وشروط الإيمان؟ فبكي حمزة وقال: بأبي أنت وأمي أرشدني وفهمني، فقال: يا حمزة تشهد أن لا إله إلا الله مخلصا، وأني رسول الله تعالي بالحق قال حمزة: شهدت، قال: وأن الجنة حق، وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الصراط حق، والميزان حق، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وفريق في الجنة، وفريق في السعير، وأن عليا أمير المؤمنين، قال حمزة: شهدت وأقررت وآمنت وصدقت وقال: الأئمة من ذريته الحسن والحسين، وفي ذريته قال حمزة: آمنت وصدقت، وقال: فاطمة سيده نساء العالمين قال: نعم صدقت، وقال: حمزة سيد الشهداء وأسد الله وأسد رسوله وعم نبيه، فبكي حتي سقط علي وجهه وجعل يقبل عيني رسول الله(صلي الله عليه و آله)، وقال: جعفر ابن أخيك طيار في الجنة مع الملائكة، وأن محمد وآله خير البرية تؤمن يا حمزة بسرهم وعلانيتهم وظاهرهم وباطنهم، وتحيي علي ذلك وتموت، توالي من والا هم، وتعادي من عاداهم قال: نعم يا رسول الله، أشهد الله وأشهدك وكفي بالله شهيدا، فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله): سددك الله ووفقك»(1).0.

ص: 46


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي 22 / 278 ، 280.

الضابطة السابِعِة: الاعتقاد بالنبوة أعظم من الاعتقاد بالجنة والنار

*إنَّ لِكُلِّ معنيً عقائدي وراء كونه حقاً موقعية حقائقية وجودية.

*وإذا ما قلنا أنَّ أصل النبوة أعظم الأصول بَعْدَ أصل التوحيد فَلَيْسَ المقصود نبوة بدن الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) أو بعثته للرسالة فِي الأرْض، بَلْ المقصود بعثة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) حَتّي فِي العوالم الأُخري.

*والإيمان بالنبوة بهذه الحدود بلا أدني شك أعظم مِنْ الاعتقاد بالجنة وَالنَّار.

يغفل كثير مِنْ المتكلمين عَنْ حقيقة أنَّ الاعتقاد بالجنة وَالنَّار لَيْسَ بأعظم مِنْ الاعتقاد بالنبوة، وَلَيْسَ بأعظم مِنْ الاعتقاد بالإمامة.

وَقَدْ يتوهم البعض مِنْ مصطلح النبوة هِوَ بدن الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) إلَّا أنَّ

ص: 47

حقيقة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ليست ببدنه، وحينما نقول أنَّ أعظم الخلائق خلقة بحسب بيانات القُرآن والعترة هُوَ سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله)، فَلَيْسَ المقصود بدنه الأرضي وإنْ كَانَ بدنه مقدساً وعظيماً وَإنَّما مرادنا مِنْ عظمة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) هُوَ عظمة نوره الأطهر، وحينئذٍ فأين الجَنّة وَالنَّار مِنْ نور سَيِّد الأنبياء عظمة وقدسية؟!

وَمِنْ الأعاجيب ما يؤمن به البعض مِنْ أنَّ الشهادة بأن الجَنّة حق وَالنَّار حق ذكر لله وأمَّا الشهادة لعلي(عليه السلام) بالولاية فليست بذكر لله تَعَالَي رغم أنَّ الجَنّة وَالنَّار مِنْ فروع الولاية لعلي(عليه السلام).

بمعني أنَّ التولي لَهُ باب للجنة وعدم توليه باب النَّار.

وَمِنْ ثمّ فَإنَّ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ونور الوصي(عليه السلام) قبل عالم السَّماء وعالم الأجسام، وبهذه الحقيقة تترتب منظومة العقائد والمعارف، فَعَلَي صعيد الاعتقاد بالأنبياء(عليهم السلام) لا يمكن أنْ يقارن أحد منهم بسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ )(1). (2)

كَمَا أنَّ كون الجَنّة وَالنَّار حق لا يعني تقدمهما عَلَي نبوة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وولاية الوصي(عليه السلام).

وَمِنْ الأهمية بمكان بَعْدَ معرفة الحقائق الاعتقادية مِنْ أنَّ الجَنّة حق وَالنَّار حق والصراط حق والميزان حق والحساب حق والحشر3.

ص: 48


1- سورة البقرة: الآية 253.
2- سوره 2 - آيه 253

حق أن نتعرف عَلَي طبقات تلك الحقائق، إذْ أنَّ القُرآن وبوضوح شديد قَدْ أشار إلي أنَّ معرفة الحقائق تمثل نصف المعرفة، بَيْنَمَا تمثل طبقات المعرفة النصف الآخر، وَمِنْ شواهد ذَلِكَ قوله تَعَالَي: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )(1). (2)

فَهَذَا نصف ومنتصف الطريق وَلابُدَّ أنْ ينظم إليه قوله تَعَالَي: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ ) (3) لتكون منظومة المعرفة بمقام النبوة كاملة متكاملة.

والمقصود بطبقات المعرفة هُوَ معرفة الموقعية الوجودية للأمر الاعتقادي، إذْ أنَّ لِكُلِّ معنيً عقائدي وراء كونه حقاً موقعية حقائقية وجودية، وإذا ما قلنا أنَّ أصل النبوة أعظم الأصول بَعْدَ أصل التوحيد فَلَيْسَ المقصود نبوة بدن الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) أو بعثته للرسالة فِي الأرْض، بَلْ المقصود بعثة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) حَتّي فِي العوالم الأُخري.

والإيمان بالنبوة بهذه الحدود بلا أدني شك أعظم مِنْ الاعتقاد بالجنة وَالنَّار.

وربما مِنْ المسلمات أنَّ مِنْ آمن بالإسلام وَلَمْ يستطع أنْ يتعلم معارف الجَنّة وَالنَّار فلا يضر ذَلِكَ بنجاته أخروياً لكنَّهُ إذَا لَمْ يتعلم ويتفقّه فِي معارف أصل النبوة فلا سبيل لَهُ للنجاة أُخروياً.5.

ص: 49


1- سورة البقرة: الآية 285.
2- سوره 2 - آيه 285
3- سوره 2 - آيه 253

1) ومما يشهد عَلَي كون النبوة والإمامة أعظم طبقة مِنْ معارف الحساب وَالجَنّة وَالنَّار أنَّ الأخيرة بتمامها نتائج وفروع وثمار الأصول الثلاثة وأولها التوحيد، وكيف تكون الفروع أعظم مِنْ الأصول؟!

2) وَمِنْ الشواهد الأُخري تَقَدَّمَ خلقة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) النورية، بَلْ دلّت الروايات الكثيرة أنَّ الجَنّة خلقت مِنْ نورهم كَمَا فِي الرِّوَايَة القائلة أنَّ الجَنّة خلقت مِنْ نور الحسين(عليه السلام)، فعن رسول الله(صلي الله عليه و آله) في رواية طويلة:

«وفتق نور الحسين فخلق منه الجنان والحور العين والحسين والله أجل من الجنان والحور العين»(1).

وأيُّ معني لاستلال خلق الجَنّة مِنْ أنوار المعصومين(عليهم السلام)غَيْر تقدمهم فِي الطبقة العقائدية المحكمة وهو مدلول ذيل المقطع السابق.

والقول بطبقات العقائد لَيْسَ مِنْ الاعتقادات الترفيّة أو مِنْ المعارف الهامشيّة، إذْ لو كانت كَذَلِكَ لما قَالَ تَعَالَي فِي قرآنه: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(2) (3) ، وقوله تَعَالَي: (وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمي فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمي وَ أَضَلُّ سَبِيلاً)(4). (5)

فالضلال والعمي عَنْ موقع الإمامة وإنْ كَانَ ممن اهتدي فِي2.

ص: 50


1- الفضائل، بن شاذان/ 129.
2- سورة الإسراء: الآية 71 .
3- سوره 17 - آيه 71
4- سورة الإسراء: الآية 72.
5- سوره 17 - آيه 72

الدُّنْيَا لمعرفة شؤون المعاد موّلد للعمي فِي الآخرة، بَلْ وأضل سبيلاً.

وَلَقَدْ ضلَّ كثير مِنْ أهل الفرق الباطنية وعلماء الصوفية حين خلطوا معارفهم الحقّة الصحيحة بتفسيرات خاطئة، أيّ اعتقدوا بالعنوان الصحيح ولكنّهم ضمّنوه معنيً باطلاً، فقالوا أنَّ لسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) ولسيد الأوصياء(عليه السلام) ولسيدة النساء(عليها السلام) ولسيدي شباب أهل الجَنّة تقرر ووجود فِي عوالم مخلوقة سابقة عَلَي عالم الدُّنْيَا، وإنَّ ذَلِكَ مِنْ التناسخ فِي حين أنَّ الموقعية الوجودية لهم فِي تلك العوالم لا صلة لَهُ بالتناسخ الباطل، إذْ أنَّهُ سنخ وجود نوري لا بجسم ومادة.

وَهَذِهِ مِنْ البحوث الَّتِي لَمْ يستطع الفلاسفة أنْ يتعرّفوا عليها، بَلْ لَمْ يخوضوا فيها لافتقار المعرفة بها إلي بيانات الوحي فِي حين تكثّرت الروايات الكاشفة عَنْ وجودات مجرّدة فِي عالم الأظلّة وعالم الأنوار وأوضحت أنَّ الأنوار عَلَي طبقات.

وَمِنْ هُنَا انفتح الباب للجزم بأنَّ وجود الخمسة أصحاب الكساء غَيْر محصور فِي الأجسام الخاصة بهذه النشأة الدنيوية، بَلْ لهم تواجد ووجود فِي نشاءات أخري مهيمنة علي نشأة الأرض وعالم الدنيا، ولهم شؤون وصلاحيات فيما سبق مِنْ العوالم كَمَا أنَّهم لهم شؤون وأدوار فِي القادم مِنْ العوالم.

وَمِنْ الشواهد عَلَي تَقَدَّمَ معرفتهم فِي طبقات المعارف هُوَ أنَّ أعظم حدث استعرضه القُرآن الكريم بَعْدَ أصل التوحيد هُوَ حدث

ص: 51

استخلاف خليفة الله فِي الأرْض فِي قوله تَعَالَي: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(1). (2)

حَيْثُ إنَّ ذَلِكَ الحدث يمثل مطلع عالم الخلقة ومطلع عالم الدُّنْيَا، وبيَّن القُرآن مضافاً إلي ذَلِكَ ارتباط تلك الخلافة بتلك الأنوار.

وَقَدْ يشكل مَنْ لا أنس لَهُ بالنصوص قرآناً ورواية ويقول مِنْ أين جئتم بلفظ عالم الأنوار؟

وَهُوَ سؤال سيّال يواجه به أهل المعرفة، ففضلاً عَنْ اتهام معارفهم بالبطلان تتهم ألفاظ وعناوين معارفهم بالغرابة والشذوذ عَنْ تعبيرات أهل العلم.

وَالحَقّ أنَّهُ ما مِنْ لفظ أو عنوان رائج فِي علوم المعارف إلا وله أصل فِي روايات أو زيارات المعصومين، بَلْ الكثير مِنْ مصطلحاتهم مُستلّة مِنْ آيات القُرآن لفظاً ومعنيً، وَمِنْهُ ما نحن فيه مِنْ التعبير عَنْ تقرّر وجودات أهل البيت(عليهم السلام) فِي نشأة المجرّدات بعالم الأنوار، فَقَدْ صدح القُرآن بتلك اللفظة فِي سورة النُّور فِي قوله تَعَالَي: (اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلي نُورٍ يَهْدِي اللّهُ (3)0.

ص: 52


1- سورة البقرة: الآية 30.
2- سوره 2 - آيه 30
3- سوره 24 - آيه 35

لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (1). (2)

فبيَّن تقرر وجود أنوار خمسة، وَمِنْ بعدها أنوار أُخري متعاقبة «نور علي نور» أيّ نور يشتق مِنْ نور، ونور يعمل عَلَي أثر نور.

وللباحث القرآني أنْ يتأمَّل فِي كون تلك الأنوار خمسة، فَهَلْ الله واحد أو خمسة، وَمِنْ ثمَّ يتبيّن أنَّها أنوار مخلوقة لَهُ تَعَالَي مناسبة فِي وجودها لتجرّدها فِي تلك النشأة.

وبناء عَلَيْهِ فما يذكر للنبي(صلي الله عليه و آله) مِنْ أوصاف كوصف النبوة والرسالة والعبودية ليست ثابتة لَهُ فِي النشأة الأرضية فحسب، فوصف الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بأنه عبد وَرَسُوُل لله يستوعب عوالم فوق نشأة الأرْض، فَهُوَ عبد لله فِي الجَنّة وفي عالم الذر وسائر العوالم، وَهُوَ رَسُوُل وواسطة بين الله وخلقه فِي كُلّ النشاءات والعوالم الوجودية، وإذا كَانَ مولد وجوده البدني فِي عام الفيل فَلَيْسَ لوجوده النوري وقت زمني أرضي.

وَمِنْهُ يتبيّن ما يرسمه القُرآن الكريم لفاطمة(عليها السلام) مِنْ موقعية عظيمة تتخطي الموقع الأرضي إلي الموقع الوجودي النوري.

والشاهد عَلَي ما للزهراء(عليها السلام) مِنْ مواقع وجودية عليا ما يبيِّنه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مِنْ الملفات المودعة فِي مصحف فاطمة(عليها السلام)، وَمِنْ تلك الملفات ملف الحكومات فِي الأرْض، أيّ الإحاطة بكُلِّ مِنْ5.

ص: 53


1- سورة النُّور: الآية 35.
2- سوره 24 - آيه 35

سيحكم ويملك فِي الأرْض إلي قيام الساعة.

وَقَدْ عرَّفوا مصحفها بكونه صحفاً وحيانية، وليس وحي نبوة، وَلَهُ نظير فِي القُرآن وَهُوَ قوله تَعَالَي: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ )(1). (2)

ومعني الآية تمثِّل جبرائيل لمريم، ولمّا كانت فاطمة(عليها السلام) أعظم شأناً ومقاماً مِنْ مريم فلا غرابة فِي ثبوت هَذَا السنخ مِنْ الوحي لفاطمة(عليها السلام).

والسُّؤال كيف لمصحف فاطمة(عليها السلام) أنَّ يحيط علماً بالماضي والحاضر والمستقبل؟

السِّر فِي ذَلِكَ هُوَ كونه موحي ببركات الاتصال بباطن سيّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله)، أيّ أنَّ نور سَيِّد الأنبياء هُوَ الوسيط فِي فيض ذَلِكَ الوحي، فَهُوَ تنزل مِنْ باطن الْنَّبِيّ عَلَيْهَا، لِأنَّ ارتباط أهل البيت(عليهم السلام) بالنبي(صلي الله عليه و آله) لَيْسَ مِنْ سنخ الارتباط الحسّي فحسب، فَإنَّ أقوي رابطة بينهم وبينه هِيَ الرابطة النورية بنصّ دلالات آيات وروايات كثيرة.

وبنصّ الحديث القدسي المتواتر لدي الفريقين فِي ذيل سورة براءة حَيْثُ قال تَعَالَي

«لا يبلغ عنك إلَّا أَنْتَ أو رجل منك»(3).

إذْ مِنْ حق الباحث أنْ يتساءل تحت قوله تَعَالَي:

«لا يبلغ عنك إلَّا98

ص: 54


1- سورة آل عمران / 42
2- سوره 3 - آيه 42
3- معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق 298

أنت» فَهَلْ للنبي(صلي الله عليه و آله) شخصيتان؟

وَهَلْ يُعقل أنْ يبلغ الشخص عَنْ نفس الشخص؟

الجواب: إنَّ لوجود الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) طبقتين مِنْ الوجود طبقة نورية يُبلّغ عنها ويُستمد منها، وطبقة بدنية مستمدة ومبلّغة، أيّ أنَّ جوارح بدنه الشريف تُبلِغ عَنْ مرتبة نوره الأقدس.

وَمِنْهُ يُعرف نوع نيابة علي(عليه السلام) عَنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) إذْ مِنْ الخطأ أنْ يُحصر تبليغ علي(عليه السلام) للنبي(صلي الله عليه و آله) فيما يتلقاه مِنْ بدن الْنَّبِيّ كَمَا هُوَ شأن سائر الصحابة، بَلْ ثمة تلقي مِنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) يختص به علي(عليه السلام) وَهُوَ تلقيه مِنْ طبقة نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) كَمَا يتلقي بدن النبي من طبقة نوره.

وَمِنْه يعرف وجه عظمة الحديث القدسي المتواتر لدي الفريقين، وبه يثبت أنَّ علياً(عليه السلام)يستمد مِنْ مقام نور وقلب وروح الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، وسنخ تلك الرابطة والاستمداد ثابتة لفاطمة(عليها السلام) حَيْثُ تتلقي مِنْ باطن النبوة وَمِنْ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله).

ولذا وَرَدَ فِي رواياتنا أنَّ مصحف فاطمة(عليها السلام) إملاء مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) .

فكيف يكون ذَلِكَ وَقَدْ ارتحل مِنْ عالم الدُّنْيَا؟

والجواب: إنَّ لها نحو ارتباط بأبيها نوراً وروحاً.

ص: 55

ص: 56

الضابطة الثامنة: أنحاء ارتباط الحجج بالبشر

*لَيْسَ مِنْ الضروري فِي الحجج أنْ يكون لها ارتباط مباشر بالبشر.

*بَلْ يستعاض عَنْ ذَلِكَ بحجج معصومين آخرين.

*وكثيراً ما يكون الحجة الإلهية لعلو مقامه غَيْر مرتبط بالبشر بالمباشرة لكنَّهُ يرتبط بهم بحجج آخرين يتلونه فِي الحجية.

لَيْسَ مِنْ الضروري فِي الحجج أنْ يكون ثمة تماس مباشر بينها وبين البشر، وَلَيْسَ مِنْ الضروري أداء المسؤولية فِي كُلّ الأحوال بالمباشرة.

فقَدْ ثبت أنَّ بَعْض الحجج ممن لهم مقامات عظيمة وأوكل إليهم إدارة ومسؤولية فِي ضمن الحجج اقتصر دورهم عَلَي الإشراف فِي ضمن دائرة الحجج.

ص: 57

ويمكن أنْ نمثل لذلك بأمثلة كثيرة، منها نحو ارتباط سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) بالأُمم السابقة كقوم نوح وإبراهيم وموسي(عليهم السلام) فلا تكاد تجد أحداً مِنْ أهل العلم ينفي ارتباط الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بالأُمم السابقة عَلَيْهِ، كَمَا لا يقول أحد بتأثيره بالمباشرة فيمن سبقه مِنْ الأمم.

فكيف نجمع بين تبليغه وتأثيره فيهم مَعَ عدم حضوره الجسدي معهم؟

وَلَقَدْ أثبت القُرآن بلاغ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وتأثيره فِي الأُمم السابقة فِي قوله تَعَالَي: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلي ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ )(1). (2)

ففيها يخاطب الله أنبياءه بقوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ) (3) بمعني أنكم تابعون لَهُ، فتكون الآية مبيّنة لشأن عظيم فِي سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وَهُوَ أنَّ جميع الرسل السابقين كانوا رسلاً لَهُ عَلَي الأمم السابقة.

وَمِنْ ثمَ يثبت حجية لرسول الله(صلي الله عليه و آله) عَلَي تلك الأمم بواسطة رسل تلك الأمم وَلَيْسَ بالمباشرة.

ومما تَقَدَّمَ ينحل إشكال مفاده: كيف تؤثر فاطمة(عليها السلام) فِي الأُمَّة1.

ص: 58


1- سورة آل عمران: الآية 81.
2- سوره 3 - آيه 81
3- سوره 3 - آيه 81

وَلَيْسَ لها حالة اتصال مباشر بها؟

وجوابه: إنَّ لفاطمة(عليها السلام) وَكَمَا سيتبين مِنْ جملة مِنْ الشواهد ولاية الأمر وَهِيَ مفترضة الطاعة عَلَي أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بدءً مِن الحسن ومروراً بالحسين وانتهاءً بالتسعة مِنْ ولده فضلاً عَنْ سائر الأنبياء والمرسلين، وعبر تأثيرها ودورها فِي ضمن دائرة الحجج تؤثر وترتبط بالبشر، فَلَيْسَ مِنْ الضروري فِي الحجج أنْ يكون لها ارتباط مباشر بالبشر، بَلْ يستعاض عَنْ ذَلِكَ بحجج معصومين آخرين، وكثيراً ما يكون الحجة لعلو مقامه غَيْر مرتبط بالبشر بالمباشرة لكنَّهُ يرتبط بهم بحجج آخرين يتلونه فِي الحجية.

ص: 59

ص: 60

الضابطة التاسعة: المقامات المشتركة بين الخمسة لا تنافي التراتبية

*ينبغي التنبيه إليه هُوَ أن استعراض المقامات المشتركة والصلاحيات المتحدة بين الخمسة أصحاب الكساء لَيْسَ المقصود مِنْهُ إلغاء التراتبية فِي المقام بينهم.

*بَلْ بيان أنهم قرنوا فِي مرتبة مِنْ المراتب وإنْ كانت هِيَ المرتبة الأولي مَعَ التحفظ عَلَي التراتبية بينهم.

*وَلا بُدَّ مِنْ التنبّه إلي أنَّ ذَلِكَ الاقتران والمشاركة ليست عَلَي نحو التشريف والمجاملة والفضيلة العامّة، بَلْ عَلَي نحو الحقيقة.

معلوم أنَّ كتاب الله لَيْسَ فيه خطل ولا خلل، بَلْ كُلّ كلام فيه موزون بميزان إلهي دقيق كَمَا أنَّ كُلّ آياته حقائق، بَلْ مِنْ أدق وأعمق الحقائق الوحيانية بحيث يهيمن عَلَي ما بُيِّن مِنْ درجات الوحي فِي

ص: 61

التوراة والإنجيل والزبور.

وَقَدْ وقع من لا حظّ لَهُ فِي العلم بالمعارف فِي الإشكال عِنْدَ المقارنة بين معارف الوحي القرآني وبين معارف التوراة.

فَقَالَ ما مفاده: إنَّ الفرق الملاحظ بينهما هُوَ أنَّ الأحداث والبيانات المودعة فِي التوراة جاءت فِي نسق مُرتّب ونظام متسلسل كَمَا هِيَ العادة فِي التأليفات والكتابات.

بَيْنَمَا تميّز القُرآن بعدم التسلسل والترابط فِي الأحداث والقضايا والمعارف، ونص كلام المستشكل هُوَ «السور القرآنية لا تخضع لوحدة موضوع كمن يدخل بستاناً ينتقل بين أزهاره، والتوراة خاضعة لشروط التأليف المتعارف فِي وحدة الموضوع وتسلسل الأحداث».

ويمكن الإجابة عليه بَعْدَ ملاحظة أنَّ ترتيب السور والآيات متلقي مِنْ المعصومين(عليهم السلام) وَلَيْسَ باقتراح أحد، بأن يُقَال أنَّ ما توهّمه القائل ميزة للتوراة عَلَي القُرآن ليست كَذَلِكَ فَإنَّ التراتبية الواضحة عادة ما يلاحظ فيها متوسطي العقول والأفهام بغية إلقامهم الحقائق المبسطة، بَيْنَمَا ما يلوح مِنْ عدم ترابط موضوعات وأحداث القُرآن هُوَ وليد النظرة السطحية وَهِيَ غَيْر مؤهلة لفهم الترابط والمنظوميّة بين الحقائق العالية الَّتِي يختصّ بها الوحي القرآني.

وبعبارة أُخري:

ص: 62

إنَّ الملحوظ والمراعي في تسلسل موضوعات القُرآن وأحداثه هو المعادلات والحقائق الاعتقادية المُهِمَّة، إذْ لَيْسَ الغرض مِنْهُ أنْ يفهم المتلقين تلك المعارف بنموذج القصص المسلّية، وَإنَّما ما ألقي فِي القُرآن شبيه بالمعادلات النهائية فِي المحاكم القانونية، إذْ لا تطرح النتائج والمعادلات بحسب تسلسل أحداث القضايا وَإنَّما يُفصح عَنْ المعادلة النهائية بَعْدَ الموازنة بين الأحداث.

ثمَّ أنَّهُ مِنْ أهم دلالات الإشكال السابق هُوَ جهل قائله بأصل مفروغ مِنْهُ فِي علم المعارف وَهُوَ أنَّ بيانات الوحي قَدْ تنزّلت عَلَي قدر سعة الإفهام لدي أجيال البشرية، وحين بلغت البشرية مبالغ الرشد العقلي تنزّلت عَلَيْهَا آخر أطروحة إلهية.

ثمَّ إنَّ المعادلات القرآنية المودعة فِي الآيات لَمْ تتنزل وفق درجة واحدة، وإنما عَلَي درجات، فمنها:

(1) محكمات.

(2) ومتوسطات المحكمات.

(3) وأحكم المحكمات.

والأخيرة هِيَ الَّتِي تتكفل ببيان أحكم محكمات العقائد كالتوحيد والنبوة، وفي أحكم المحكمات قرن الله تَعَالَي بسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) أصحاب الكساء وَلَمْ يقرن به أحداً مِنْ الأنبياء، بَلْ تشير بيانات

ص: 63

الإمام الصَّادِق(عليه السلام) إلي أنَّ ذَلِكَ الاقتران بين الخمسة أصحاب الكساء فِي مرتبة مِنْ مراتبه لَمْ يقرن بهم بَقيَّة الأئمة التسعة مِنْ أهل البيت، وَإنَّما قرنوا بهم فِي رتبة لاحقة.

وبعبارة أُخري:

وَرَدَ فِي جملة مِنْ بيانات أهل البيت(عليهم السلام) أنَّ مقامات سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) ذَاتَ مراتب، وفي المرتبة الأولي منها قرن الله به بَقيَّة أصحاب الكساء، وفي المرتبة الثانية منها قرن بالنبي(صلي الله عليه و آله) التسعة مِنْ ولد الحسين(عليه السلام).

وَلا بُدَّ مِنْ التنبّه إلي أنَّ ذَلِكَ الاقتران والمشاركة ليست عَلَي نحو التشريف والمجاملة والفضيلة العامّة، بَلْ عَلَي نحو الحقيقة.

وَمِنْهُ يعرف الحظوظ العالية فِي المقامات لفاطمة(عليها السلام) حَيْثُ يقرن ويشارك الله تَعَالَي فِي قرآنه موقعية الصديقة(عليها السلام) بموقعية الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي مواقع لَمْ يشارك فيها بين الأنبياء مِنْ أولي العزم وَالْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فضلاً عَنْ بَقيَّة الأنبياء وسائر المرسلين.

وسيأتي فِي مقالات هَذَا الكتاب بيان جملة مِنْ المقامات المشتركة.

ومما ينبغي التنبيه إليه هُوَ أن استعراض المقامات المشتركة والصلاحيات المتحدة بين الخمسة أصحاب الكساء لَيْسَ المقصود مِنْهُ إلغاء التراتبية فِي المقام بينهم، بَلْ بيان أنهم قرنوا فِي مرتبة مِنْ المراتب

ص: 64

وإنْ كانت هِيَ المرتبة الأولي مَعَ التحفظ عَلَي التراتبية بينهم، أيّ أنَّ الخصائص المشتركة للمجموعة لا تنافي التَقَدُّم والتأخر بقياس بعضهم للبعض الآخر.

وبعبارة أُخري:

إنَّ اشتراكهم فِي المقامات بلحاظ عالم الأرْض وبلحاظ عوالم أُخري ينسجم مَعَ القول بالتفاوت المقامي بينهم وبلحاظ كُلّ العوالم.

ص: 65

ص: 66

الضابطة العاشرة: إمامة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم

*الجدير ذكره أنَّ مبحث الإمامة لا يبتدأ مِنْ إمامة علي(عليه السلام) وَإنَّما بدأت وانبثقت مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله)، أيّ أنَّهُ بتنصيب إلهي وحياني كَانَ للنبي(صلي الله عليه و آله) إمامة إلهية إلي جانب ما لَهُ مِنْ رسالة ونبوة.

*وإذا ثبت لَهُ منصب الإمامة يكون قوله(صلي الله عليه و آله): «إلَّا أنَّهُ لا نبي بعدي»(1) مِنْ براهين وأدلة دوام منصب الإمامة بَعْدَ رحلته، إذْ لَمْ يقل (لا إمامة بعدي) بَلْ قَالَ (لا نبي بعدي)، فأثبت للنبوة صفة الخاتمية وأثبت للإمامة صفة الديمومة.

مما يُؤسف لَهُ أنَّ البحث عَنْ الإمامة فِي المدارس الكلامية قَدْ هبط إلي مستوي متدن بحيث اقتصر عندهم البحث عَنْ الإمامة فِي حدود الأرْض، وبنوا عَلَي هَذَا البحث تعريفاً قاصراً للإمامة يُخلّ

ص: 67


1- المحاسن، احمد بن محمد بن خالد البرقي 1 / 159

بحقيقتها وسعة أدوارها.

وَعَلَي ضوء ذَلِكَ التعريف شديد الاقتضاب والقصور ترتبت شبهات عديدة، منها شبهات حداثوية عصرية لَمْ يستند أصحابها عَلَي التحقيقات فِي أصل الإمامة، وَإنَّما انبثقت تساؤلاتهم وإشكالياتهم بسبب ضمور وقصور التعريف الكلامي للإمامة.

وَقَدْ تبيَّن مما سبق أنَّ للإمامة كَمَا للنبوة ثلاثة أبعاد:

الأوَّل: دور الأئمة فِي دار الدُّنْيَا.

الثَّانِي: دور الأئمة فِي عالم الرجعة.

الثَّالِث: دورهم فِي عالم الآخرة.

وفي مباحث الإمامة ربما يغفل الكثير عَنْ عقيدة مسلمة وَهِيَ عقيدة إمامة رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فَهُوَ فِي درجة مِنْ الإمامة يكون فيها إمام الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام).

ورغم التسالم بين محدثيّ الفريقين وجُلّ مفسري المسلمين علي ذلك إلَّا أنَّ المتكلمين مِنْ الفريقين لَمْ يثبتوا هَذَا المبحث وإنْ ذكروه بشكل ضمني.

ولكن الجدير ذكره أنَّ مبحث الإمامة لا يبتدأ مِنْ إمامة علي(عليه السلام) وَإنَّما بدأت وانبثقت مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله)، أيّ أنَّهُ بتنصيب إلهي وحياني

ص: 68

كَانَ للنبي(صلي الله عليه و آله) إمامة إلهية إلي جانب ما لَهُ مِنْ رسالة ونبوة.

وإذا ثبت لَهُ منصب الإمامة يكون قوله(صلي الله عليه و آله):

«إلَّا أنَّهُ لا نبي بعدي»(1)مِنْ براهين وأدلة دوام منصب الإمامة بَعْدَ رحلته، إذْ لَمْ يقل ( لا إمامة بعدي ) بَلْ قَالَ (لا نبي بعدي)، فأثبت للنبوة صفة الخاتمية وأثبت للإمامة صفة الديمومة.

وبعبارة أُخري:

لَقَدْ قَالَ الله فِي سورة البقرة: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (2). (3)

فثبت بها دوام واستمرار قاطرة الإمامة، وَالْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي قوله: «لا نبي بعدي» بيَّن ختم النبوة بعده فيتشكّل بذلك برهان نتيجته ديمومة الإمامة بَعْدَ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) بمعناها القرآني والروائي لا بما ذكره فقهاء الظاهر وعلماء الكلام.

إذْ بمراجعة آيات الإمامة فِي القُرآن يتبيَّن أنَّها منظومة مقامات وَذَاتَ أبعاد وزوايا مختلفة، وبتلك المعرفة الواسعة لمقامات الإمامة تنجلي كثير مِنْ الشبهات والتساؤلات والإثارات والتشكيكات والإنكارات الَّتِي نشأت بسبب قصور التعريفات فِي كتب الأعلام.4.

ص: 69


1- المحاسن، احمد بن محمد بن خالد البرقي 1 / 159.
2- سورة البقرة: الآية 124.
3- سوره 2 - آيه 124

والسُّؤال هَلْ للصديقة فاطمة(عليها السلام) حظ من مقامات الإمامة؟

إن رتبة البضعة الطاهرة(عليها السلام) في الولاية تأتي في المرتبة الثالثة بعد النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام) في ضمن سلسلة هذه المرابت، كما دلت عليه الأدلة المتعددة والكثيرة.

ص: 70

الباب الثاني: المقالات

اشارة

المقالة الأولي: موقع الزهراء عَلَيْهَا السَّلامُ فِي أصول العقائد:

*الشاهد الأوَّل: ملكها فِي العوالم الآتية.

*الشاهد الثَّانِي: تلقين الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لحمزة(عليه السلام).

*الشاهد الثَّالِث: اعتراف أبي بكر بمقامات فاطمة عَلَيْهَا السلام

ص: 71

ص: 72

المقالة الأولي: موقع الزهراء عَليها السلام فِي أصول العقائد

اشارة

تقسَّم العقائد الدينية إلي أصول وتفاصيل، وَقَدْ يصطلح عَلَيْهَا بأسس العقائد وتفريعاتها، والفرق بينهما أنَّ الأسس والأصول:

أوَّلاً: يجب عَلَي كُلّ مكلف تعلّمها والإيمان بها.

ثانياً: النجاة الأخروية مرهونة بها.

ثالثاً: يُساءل كُلّ مكلف عنها.

ربعاً: تستوعب تداعياتها مسير الإنسان فِي راهنه ومستقبله.

بَيْنَمَا تفاصيل العقائد وتفريعاتها:

أوَّلاً: شرط وجوب الاعتقاد بها مُعلَّق علي حصول العلم بها، فإنْ لَمْ يحصل فلا وجوب فِي ذمّة المكلف للسعي نحو تحصيله.

ثانياً: تحصيل العلم بالتفاصيل ندبي، والسعي للعلم بها مستحب فإنْ حصل العلم بها وجب الاعتقاد بها.

ص: 73

ثالثاً: لها تداعيات وآثار عَلَي راهن الإنسان ومستقبله لكنَّهُ لَيْسَ بوزان ومستوي تداعيات أصول العقائد.

وما ذكرناه مِنْ تقسيم هُوَ التقسيم الرئيسي وَإلَّا فالعقائد درجات ومراتب وأقسام.

والسُّؤال ها هُنَا: هَلْ أنَّ المعرفة الاعتقادية بمقام الزهراء(عليها السلام) داخل فِي أساسيات وأصول العقائد أم أنَّهُ مِنْ تفاصيلها ؟

وبصياغة أُخري:

هَلْ أنَّ ما يرسمه الدِّين الحنيف فِي نصوص القُرآن وحديث الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وروايات المعصومين لفاطمة(عليها السلام) مِنْ موقعية فِي العقيدة يُعدّ مِنْ العقائد التفصيلية التفريعية أو مِنْ أسس الدِّين وأصول العقائد؟

وجوابه: إنَّ المعرفة الاعتقادية بمقام الزهراء(عليها السلام) هُوَ واحد مِنْ جملة الأُسس والأصول الدينية، بَلْ الإيمان بها معتقد ركني مِنْ جملة أركان الدِّين.

وإليك مجموعة مِنْ الشواهد والأدلّة عَلَي ذَلِكَ:

الشاهد الأوَّل: ملكها فِي العوالم الآتية:

روي في الاحتجاج عن موسي بن جعفر عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) عن الحسين بن علي(عليه السلام) قال: إنَّ يهودياً من يهود الشام وأحبارهم كان

ص: 74

قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء(عليهم السلام) وعرف دلائلهم، جاء إلي مجلس فيه أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله) وفيهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو سعيد الجهني، فقال: يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة، ولا لمرسل فضيلة إلا أنحلتموها نبيكم، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه.

فقال علي بن أبي طالب(عليه السلام): نعم ما أعطي الله نبيا درجة، ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد(صلي الله عليه و آله) وزاد محمدا علي الأنبياء أضعافا مضاعفة.

فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟ قال له: نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله(صلي الله عليه و آله) ما يقر الله به عين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله(صلي الله عليه و آله) ... قال له اليهودي: فإن هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟ فقال علي(عليه السلام): لقد كان كذلك ومحمد(صلي الله عليه و آله) أعطي ما هو أفضل من هذا إنه هبط إليه ملك لم يهبط إلي الأرض قبله وهو: ميكائيل فقال له: يا محمد عش ملكا منعما وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك، ويسير معك جبالها ذهبا وفضة، ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شيء، فأومي إلي جبرئيل- وكان خليله من الملائكة - فأشار عليه أن تواضع فقال له: بل أعيش نبيا عبدا آكل يوما ولا آكل يومين والحق بإخواني من الأنبياء فزاده الله تبارك وتعالي الكوثر، وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلي آخرها سبعين مرة،

ص: 75

ووعده المقام المحمود، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله عز وجل علي العرش، فهذا أفضل مما أعطي سليمان)(1).

وروي في بصائر الدرجات عن محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال سألت أبا عبد الله(عليه السلام)عن قول الله عز وجل (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (2) فقال الأنبياء رسول الله(صلي الله عليه و آله) وإبراهيم وإسماعيل وذريته والملوك الأئمة(عليهم السلام) قال فقلت وأي ملك أعطيتم فقال ملك الجنة وملك الكرة ) (3).

ومفاد الرِّوَايَة مُستلّ مِنْ أوصاف الآخرة فِي القُرآن الكريم فَإنَّه وصف عرض الجَنّة كعرض السموات والأرض في قوله تعالي: (سابِقُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ )(4). (5)

وبأنّ الأرْض وَالسَّماء فيها غَيْر الأرْض وَالسَّماء فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ الطبيعي أنْ يكون الحكم والملك الأخروي أعظم منهما فِي عالم الدُّنْيَا لاختلاف العالمين فِي المساحة والطاقات والقدرات.

وَقَدْ أُشير فِي الروايات أنَّ لفاطمة(عليها السلام) مقامات فِي العوالم الآتية1.

ص: 76


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي 1 / 314 ، 331 / الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي 2 / 917 ، 921.
2- سوره 5 - آيه 20
3- مختصر بصائر الدرجات ، حسن بن سليمان الحلي / 28.
4- سورة الحديد: الآية 21.
5- سوره 57 - آيه 21

ومنها عالم الآخرة الذي لا مُصانعات ولا مُجاملات فيه، وَهُوَ يَوُم لا يتكلم فيه إلَّا مِنْ أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صوابا، وَهُوَ يَوُم يتبيَّن فيه التجلي الإلهي كأعظم ما يكون ...

والسُّؤال: أيُّ معني للإفصاح عَنْ مقام للزهراء(عليها السلام) فِي ظل ذَلِكَ العالم؟

والذي يزيد العقل حيرة أنَّ القُرآن الكريم لَمْ يفصح عَنْ دور للأنبياء العظام فِي ذَلِكَ العالم، فَلَمْ يعطي دوراً لإبراهيم الخليل ولا لموسي الكليم، ولا لعيسي روح الله، ولا لنوح صفي الله، بيد أنَّهُ يعطي للزهراء(عليها السلام) دوراً بَلْ أدواراً.

ألا يكفي هَذَا شاهدا عَلَي كونها مِنْ الأصول الاعتقادية!!

ومما يؤسف لَهُ أنَّ تجعل المناصب الإلهية فِي الدُّنْيَا للمصطفين دليلاً دافعاً عَلَي موقعيتهم فِي الدِّين، بَيْنَمَا تهمل دلالة الأوسمة الإلهية الأخروية لبعض المصطفين عَلَي موقعيتهم الركنية فِي الدِّين، إذْ أن ذلك لا يصحّ إلَّا بأنْ نعتقد فِي المرحلة السابقة بكون ملك الدُّنْيَا أعظم مِنْ ملك الآخرة ولا يقول به أحد.

الشاهد الثَّانِي: تلقين الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لحمزة(عليه السلام):

كَانَ مِنْ ديدن الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الروايات تلقينه العقائد الحقّة للأبعدين مِنْ سائر الناس فضلا عن الأقربين مِنْ ذويه.

ص: 77

وَقَدْ وَرَدَ أنَّهُ قَدْ لقَّن عمه حمزة سَيِّد الشهداء وأسد الله العقائد الحقّة مَرَّة قبل واقعة بدر وَأُخري قبل واقعة أحد الَّتِي استشهد فيها.

فعن موسي بن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: ..ولما كانت الليلة التي أصيب حمزة في يومها دعا به رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال: يا حمزة يا عم رسول الله، يوشك أن تغيب غيبة بعيدة فما تقول لو وردت علي الله تبارك وتعالي وسألك عن شرائع الإسلام وشروط الإيمان؟

فبكي حمزة وقال: بأبي أنت وأمي أرشدني وفهمني.

فقال: يا حمزة تشهد أن لا إله إلا الله مخلصا، وأني رسول الله تعالي بالحق، قال حمزة: شهدت، قال: وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الصراط حق، والميزان حق، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وفريق في الجنة، وفريق في السعير، وأن عليا أمير المؤمنين.

قال حمزة: شهدت وأقررت وآمنت وصدقت وقال: الأئمة من ذريته الحسن والحسين وفي ذريته .

قال حمزة: آمنت وصدقت، وقال: فاطمة سيده نساء العالمين، قال: نعم صدقت، وقال: حمزة سيد الشهداء وأسد الله وأسد رسوله وعم نبيه، فبكي (حتي سقط علي وجهه وجعل يقبل عيني رسول الله(صلي الله عليه و آله) وقال: جعفر ابن أخيك طيار في الجنة مع الملائكة، وأن محمد وآله خير البرية تؤمن يا حمزة بسرهم وعلانيتهم وظاهرهم وباطنهم، وتحيي علي ذلك

ص: 78

وتموت، توالي من والاهم، وتعادي من عاداهم.

قال: نعم يا رسول الله، أشهد الله وأشهدك وكفي بالله شهيدا، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): سددك الله ووفقك) (1).

ومما يُستفاد مِنْ سيرة رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) أنَّ ثمة سنة مؤكَّدة مفادها استحباب تجديد العهد بالعقائد الحقّة وأصول الدِّين كُلّما حفّت بالإنسان المخاطر وصار فِي معرض الانتقال مِنْ دار إلي دار.

ومما علمه رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) عمه الحمزة ولقّنه به الشهادة الأولي والشهادة الثانية والشهادة بإمرة أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) والأئمة المعصومين، ثمَّ أردف ذَلِكَ بالشهادة للزهراء(عليها السلام) بكونها سيدة نساء العالمين(عليها السلام).

وَهَذَا معناه أنَّ مِنْ جملة الأُمُور الَّتِي يجب تعلمها وَالَّتِي يُساءل عنها فِي القبر والبرزخ وَعِنْدَ الميزان والحساب الاعتقاد بمقام فاطمة(عليها السلام) فِي الدِّين وبكونها سيدة نساء العالمين.

فوضح مِنْ هَذَا التلقين النبوي الشريف انطباق خصائص الأصول الاعتقادية الَّتِي قررناها فِي أوَّل المقالة عَلَي الاعتقاد بمقام فاطمة(صلي الله عليه و آله).

ولا يغيب عَنْ ذهن القارئ الكريم أنَّ مما يوثّق ركنية الاعتقاد بمقام فاطمة(عليها السلام) أنَّ الذي يُساءل عنه لَيْسَ عموم الناس فحسب، بَلْ يُساءل أمثال حمزة مِنْ عبد المطلب الذي لَهُ تلك المكانة و المقام العظيم.0.

ص: 79


1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي 22 / 278 ، 280.

الشاهد الثَّالِث: اعتراف أبي بكر بمقامات فاطمة(عليها السلام):

وَمِنْ الشواهد عَلَي أنَّ معرفتها ركن فِي الدِّين ما أفصح عنه أبو بكر فِي مواجهته وسجاله مَعَ الزهراء(عليها السلام).

فقد ورد في الاحتجاج فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان وقال: يا بنت رسول الله ... وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء،... وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لاندفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي ..

فقال أبو بكر: أنت معدن الحكمة وموطن الهدي والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك ..)(1).

فَقَدْ أقرَّ لها بعدد طائل من المقامات العقيدية العظيمة أحدها أنَّها ركن الدِّين، وَهَذَا مثبوت فِي مصادر الفريقين.

وَمِنْ البيِّن إنَّ ما وصف به موقعية الزهراء(عليها السلام) إنَّما هُوَ رواية عَنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) إمَّا رواية لنصّ ما وَرَدَ عَنه(صلي الله عليه و آله) أو رواية لمفادات ومضامين هي بمثابة الترجمان لنصوص نبوية مسلمة.

وتلك النصوص تمثِّل كليات مِنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي شأن فاطمة(عليها السلام) كقوله(صلي الله عليه و آله) تارة وَهُوَ يصفها بأنَّها (سيدة نساء العالمين) وتارة أنها (سيدة نساء أهل الجَنّة).

ص: 80


1- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي 1 / 141 ، 145.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله):

«أنا سيد الأنبياء والمرسلين، وأفضل من الملائكة المقربين، وأوصيائي سادة أوصياء النبيين والمرسلين،...وابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين»(1).

وعنه، قال: إن رسول الله(صلي الله عليه و آله) كان جالسا ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، فقال: اللَّهُمَّ إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس علي فأحبب من أحبهم، وأبغض من أبغضهم، ووال من والاهم ... وإنها لسيدة نساء العالمين.

فقيل له: يا رسول الله، أهي سيدة نساء عالمها ؟ فقال النبي(صلي الله عليه و آله): ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة «إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين»(2).

وروي في الخصال عن رسول الله (صلي الله عليه و آله):

«...هنيئا لك يا علي فإن الله عز وجل زوجك فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»(3).3.

ص: 81


1- الأمالي، الشيخ الصدوق 374.
2- الأمالي ، الشيخ الصدوق 574 ، 575.
3- الخصال ، الشيخ الصدوق 573.

ص: 82

المقالة الثانية: الاعتقاد بها عليها السلام فريضة مودة أم إيمان بموقعها الخاص

*هل النصوص بصدد إيجاب فريضة مودتها وحبها كَمَا هُوَ فَهُمْ العامّة لسائر الآيات المادحة لأهل البيت(عليهم السلام)؟

أم أنَّها بصدد رسم موقعية خاصة؟

ثمَّة آيات كثيرة نزلت للإشادة بفضائل فاطمة(عليها السلام)، وثمة أحاديث نبوية كثيرة رواها رواة الفريقين، وثمة أحاديث كثيرة للمعصومين(عليهم السلام) فِي شأنها.

وَكُلّ ذَلِكَ بمجموعه يستدعي التساؤل عَنْ ما ترسمه لنا النصوص مِنْ شأن ومكانة لها(عليها السلام).

فَهَلْ هِيَ بصدد إيجاب فريضة مودتها وحبها كَمَا هُوَ فَهُمْ العامّة لسائر الآيات المادحة لأهل البيت(عليهم السلام)؟

أم أنَّ النصوص بصدد رسم موقعية خاصة ومقام استثنائي

ص: 83

لها(عليها السلام) ضمن خريطة مواقع المصطفين مِنْ الله؟

ونجيب بضرس قاطع أنَّ الآيات الكريمة فِي مقام رسم ما لها مِنْ موقع ديني بَلْ ما لها مِنْ مواقع إلهية، وهي كثيرة:

أحدها: موقع الحقيبة الوزارية فِي حكومة دولة رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) السياسية حال حياته(صلي الله عليه و آله).

وَهُوَ موقع متسالم عَلَيْهِ بين الفريقين بنحو ارتكازي، وبلورته أنَّ لها شأنا وولاية عَلَي الأموال العامة فِي الدولة الإسّلاميَّة كَمَا فِي سورة الحشر وسورة الروم وسورة الإسراء، أيّ أن الله أمر رسوله(صلي الله عليه و آله) بتفعيل دورها فِي حكومته، بَلْ وأنذر بلزوم تفعيله قبل أمره وإنذاره بولاية علي(عليه السلام) فِي آية الغدير، وإنْ كَانَ قَدْ أنذر(صلي الله عليه و آله) بنصب علي(عليه السلام) إماماً وزيراً فِي بني هاشم مِنْ أوَّل أيام البعثة النبوية بقوله تَعَالَي: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )(1). (2)

وَقَدْ نصّت عَلَي ذَلِكَ كتب الفريقين فِي حديث الدار يَوم الإنذار.

ثانيها: مقام الولاية العظمي والحجّية الكبري، ويقصد به الولاية العظمي للنبي(صلي الله عليه و آله) وأصحاب الكساء عَلَي الخلائق فِي الدولة الإلهية الَّتِي لا تقتصر عَلَي الحاكمية فِي الأرْض، بَلْ هِيَ ظل حاكمية الله فِي كُلّ العوالم وعَلَي كُلّ الخلائق.

وَقَدْ بيَّنا ذَلِكَ فِي غَيْر واحدة مِنْ الضوابط السابقة.4.

ص: 84


1- سورة الشعراء: الآية 214.
2- سوره 26 - آيه 214

المقالة الثَّالثة: نورية الزهراء عَليها السلام و ما يترتب عليها من أدوار

*مِنْ الخطأ أنَّ تفسَّر النورية واشتقاق الأنوار عَلَي المعني الشرفي.

*بَلْ هُوَ بيان لعظمة الخلقة وعظمة الكمال، وَمِنْ ثمَّ عظمة درجة الحجّية، وعظمة التمثيل لدور القدوة والأُسوة، وَمِنْهُ تبني خريطة كُلّ جوانب الكمال.

*إنَّ الزهراء(عليها السلام) تسبق أولادها عَلَي كُلّ صعيد، فعلمها يكبر علمهم، ومقامها فوق مقامهم، وهكذا فِي بَقيَّة الكمالات تتصدر موقع الأصل والمعصومون مِنْ أولادها فِي موقع الفرع.

المتتبع لروايات الفريقين يقف عَلَي مفاد متفق عَلَيْهِ فيما يخص الوجود النوري لأهل البيت(عليهم السلام)، وَمِنْ تلك الروايات روايات اشتقاق نور فاطمة(عليها السلام) مِنْ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ونور علي(عليه السلام)، وأنَّ الأنوار الثلاثة خلقت مُتعاقبة باشتقاق المتأخر مِنْ المتقدم بنحو متسلسل.

ص: 85

فأوَّل ما خلق هُوَ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) واشتق مِنْهُ نور علي(عليه السلام) وَمِنْهُ اشتق نور فاطمة(عليها السلام).

ففي الرواية عن سلمان الفارسي قال: دخلت علي رسول الله (صلي الله عليه و آله) ... قال: يا سلمان خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطعته وخلق من نوري عليا فدعاه إلي طاعته فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي(عليه السلام) فاطمة فدعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي ومن فاطمة الحسن والحسين ....)(1).

فما هُوَ المُراد مِنْ النورية وتعاقب الأنوار؟

ثمّةَ قراءة فلسفية وعرفانية ومعرفية تبيِّن معني الخلقة النورية، فَعِنْدَمَا يُقَال أوَّل ما خلق الله نوّر نبيك يا جابر فَهُوَ إشارة إلي أوَّل وأعظم مخلوق خلقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَي، وذاك هُوَ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) أيّ الْنَّبِيّ بطبقته النورية، وَعِنْدَمَا يُقَال خلق مِنْ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) نور علي(عليه السلام) فَإنَّ المشار إليه بأنّه المخلوق الثَّانِي لَيْسَ هُوَ بدن علي(عليه السلام) وَلَيْسَ هُوَ روحه وَإنَّما هُوَ نوره، أيّ علي(عليه السلام) بوجهه النوري فِي العوالم السابقة.

وحينما يُقَال أنَّ نور فاطمة(عليها السلام) اشتقّ ثالثاً وقبل اشتقاق أنوار المعصومين فَهُوَ إشارة إلي أنَّ ثالث المخلوقين عظمة هُوَ نور فاطمة، ونورها يكبر أنوار المعصومين(عليهم السلام).6.

ص: 86


1- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي 25 / 6.

وما مَرَّ هُوَ التحليل الفلسفي والعرفاني والعقلي للأنوار، وترجمانه بالقراءة الكلامية اختلاف الحجج فِي المراتب، وأنَّ حجّيّة فاطمة(عليها السلام) فوق حجيّة أولادها المعصومين(عليهم السلام).

وَمِنْ الخطأ أنَّ تفسَّر النورية واشتقاق الأنوار عَلَي المعني الشرفي، بَلْ هُوَ بيان لعظمة الخلقة وعظمة الكمال، وَمِنْ ثمَّ عظمة درجة الحجّية، وعظمة التمثيل لدور القدوة والأُسوة، وَمِنْهُ تبني خريطة كُلّ جوانب الكمال، بمعني أنَّ الزهراء(عليها السلام) تسبق أولادها عَلَي كُلّ صعيد، فعلمها يكبر علمهم، ومقامها فوق مقامهم، وهكذا فِي بَقيَّة الكمالات تتصدر موقع الأصل والمعصومون مِنْ أولادها فِي موقع الفرع.

وَقَدْ أثبت فِي غَيْر واحدة مِنْ الروايات لفاطمة(عليها السلام) مقام الوساطة العلمية الغيبية بين غيب الغيوب والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، وتلك الوساطة تطبيق مِنْ تطبيقات تَقَدَّمَ خلقتها النورية الَّتِي ذكرت فِي روايات مستفيضة عِنْدَ الفريقين.

والمتتبع لأوصافها(عليها السلام) الَّتِي وصفها بها الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) يلحظ أنَّها أوصاف يؤيد بعضها البعض الآخر، وَمِنْ أوصافها الوحيانية الَّتِي تقرب مِنْ معني ما نحن فيه وصف «أم أبيها» الذي وَرَدَ عَلَي لسان الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله).

فقد روي في المناقب عن كثير بن يزيد عن جعفر بن محمد عن

ص: 87

أبيه قال: كنية فاطمة بنت ر سول الله (صلي الله عليه و آله) أُمُّ أَبِيها)(1).

وَهُوَ وصف ينطوي عَلَي عِدَّة معاني وتفسيرات:

أحدها: أنَّها سيدة الأُمَّة أو سيدة نساء الأُمَّة أو سيدة نساء الجَنّة أو سيدة نساء العالمين.

والآخر: يفهم مِنْ تفسير معني «الأم» وَهُوَ الأصل، فَقَدْ سميت الأم إماً لأنَّها أصل الأولاد فيكون معني «أم أبيها» أنَّها هِيَ الأصل لوالدها رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله).

وبالمعني العرفاني الفلسفي اشتقاق وتنزّل وجود رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) مِنْ وجودها(عليها السلام) وَهَذَا لا يعني التدافع مَعَ ما مَرَّ مِنْ اشتقاق وجودها من وجود النبي(صلي الله عليه و آله)، إذ هو اشتقاق طبقتها النورية من طبقته النورية أمَّا الآخر فَهُوَ اشتقاق وخلق الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بطبقته البدنية مِنْ طبقتها النورية.

وَالثَّالِث: يعرف بالمقايسة بين وصفها بأمِّ أبيها عَلَي لسان الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وبين وصف القُرآن لنساء الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بأمهات المُؤْمِنِين فِي قوله تَعَالَي (وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) (2). (3)

فَقَدْ فُسِّرت أمومتهم للمؤمنين بحرمة زواج المُؤْمِنِين منهنّ6.

ص: 88


1- مناقب علي بن أبي طالب*، ابن المغازلي 267.
2- سورة الأحزاب: الآية 6.
3- سوره 33 - آيه 6

فِي قوله تَعَالَي: (وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً)(1). (2)

وَلَيْسَ فِي الآية ما يَدُلّ عَلَي المعني التشريفي والتكريمي، لأن التشريف والاحترام لَهُنَّ مشروط بالتقوي ودرجاتها لقوله تعالي: (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (3). (4)

وَمَعَ سقوط هَذَا الشرط لا يكون لَهُنَّ أيّ فضل عَلَي الآخرين، وكم فرق بين تلك الأمومة بما لها من معني مبين فِي القُرآن وبين أمومة فاطمة(عليها السلام)لأبيها، بَيْنَمَا هُنَاك أمومة عَلَي المُؤْمِنِين، فما هُوَ المقصود مِنْ أم أبيها؟

يتوقف معرفة واحد مِنْ أعمق معاني وصفها «أم أبيها»عَلَي إيضاح مقدمة معرفية مجهولة وَهِيَ كون أنوارهم فِي العوالم العلوية عَلَي طبقات وَلَيْسَ عَلَي طبقة واحدة، فطبقة مِنْ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) هِيَ الأساس فِي اشتقاق نور علي والزهراء(عليهما السلام) والمعصومين(عليهم السلام)، وتلك الطبقة هِيَ الأساس لاشتقاق نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي طبقة نورية أدون.

وَمِنْهُ يكون معني «أم أبيها» أنَّ فاطمة(عليها السلام) فِي طبقة نورية مِنْ2.

ص: 89


1- سورة الأحزاب: الآية 53.
2- سوره 33 - آيه 53
3- سورة الأحزاب: الآية 32.
4- سوره 33 - آيه 32

وجودها يشتق منها نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ونور علي(عليه السلام)بلا تدافع ولا تهافت لحفظ الرتبة النورية واختلافها شدةً وضعفاً.

وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ أحد معاني ما وَرَدَ عَنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي علي(عليه السلام):

«علي مني وأنا من علي»(1) .

وفي الحسن(عليه السلام):

«حسن مني وأنا منه»(2)، وفي الحسين(عليه السلام):

«حسين مني وأنا من حسين»(3) .

ومما يشهد عَلَي طبقات الأنوار ما وَرَدَ مَرَّة مِنْ كون نورهم(عليهم السلام) فوق العرش، وَمَرَّة تحت العرش .6.

ص: 90


1- الأمالي ، الشيخ الصدوق 57 ، 58.
2- بحار الأنوار ، العلامة المجلسي 43 ، 306.
3- كامل الزيارات ، جعفر بن محمد بن قولويه 116.

المقالة الرابعة: الزهراء عليها السلام بضعة روح الوجود

اشارة

*أنحاء القرابة والقربي.

*إجمال مقامات فاطمة(عليها السلام) في كتب المتكلمين

أنحاء القربي:

مما يؤسف لَهُ هُوَ اعتقاد كثير مِنْ المسلمين أنَّ كُلّ الشأن فِي خصوصية أهل البيت(عليهم السلام) كونهم قربي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بمعني القربي الطينية والتوالد البدني والنسب الدموي والنسبة الجسدية، لكنه وإنْ كَانَ هَذَا النوع مِنْ الصلة ذا شأن إلَّا أنَّ جلَّ مراتب الشأن فيهم فِي واد آخر يُعبَّر عنه بالقربي النورية والتوالد المعنوي والنسبة الروحية.

وَمِنْ ثمَّ فَإنَّ قربي الرسول(صلي الله عليه و آله) عنوان يشير إلي الصلة النورية والتي هي أصل الصلة البدنية.

والقربي الدينية المعنوية موازية للقربي الاصطفائية، أيّ أنَّهُ

ص: 91

اصطفاهم بَعْدَ اصطفاء الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) عَلَي أساس قويم هُوَ صلتهم ووصالهم الروحي الدِّيني مِنْهُ، وَلَيْسَ علي أساس مجرّد قرباهم مِنْ بدنه.

ومقام فاطمة(عليها السلام) مِنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) كَمَا أنَّهُ مقام متقدم ورابط لغيرها بالنبي(صلي الله عليه و آله) عَلَي مستوي القربي البدنية، فكذلك لها مقام متقدم بالنبي(صلي الله عليه و آله) عَلَي مستوي القربي الدينية الاصطفائية.

ومما يشهد عَلَي موقعها الرائد والمتقدم فِي دائرة القربي الدينية قوله(صلي الله عليه و آله)

«فاطمة بضعة مني»(1).

وَقَدْ شطّ وجاوز الحقيقة مَنْ فسَّر عنوان «بضعة النبوة» بالبضع البدني، وكذا مِنْ حمل معني البضعية عَلَي صرف الحنان الأبوي العاطفي وقرأها قراءة ساذجة وهابطة، بَلْ إنَّ عنوان البضعة خصوصاً مَعَ ما تلاها مِنْ قول الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله):

«هِيَ روحي الَّتِي بين جنبيّ»(2)فيه دلالة صريحة عَلَي كونها بيانا نوريا دينيا أديانيا.

وَقَدْ أجاد الآلوسي فِي تفسيره روح المعاني تحت السُّؤال الذي مفاده: هَلْ فاطمة أفضل أم عائشة؟

فأجاب: «والذي أميل إليه أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله(صلي الله عليه و آله)...إذ5.

ص: 92


1- الأمالي ، الشيخ الصدوق 165.
2- الأمالي ، الشيخ الصدوق 175.

البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء، وأين الثريا من يد المتناول، ومن هنا يعلم أفضليتها علي عائشة رضي الله تعالي»(1).

ولا يفوتنا تسجيل فائدة معرفية لطيفة، وفيها جواب عَلَي سؤال مقدَّر وَهُوَ: لَمْ لا تحمل البضعية الواردة فِي أحاديث الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) عَلَي البضعية البدنية وكونها قطعة مِنْ جسده الشريف؟

فنقول: إنَّهُ كُلّما وَرَدَتْ كلمة «مني» عَلَي لسان رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فِي التعريف بواحد مِنْ أهل بيته(عليهم السلام) فمعناها الاشتقاق النوري، وَهَذَا الاستظهار يُؤيّد بالتأمل فِي تلك الروايات الَّتِي وَرَدَتْ فيها لفظة «مني» جميعاً، ليتبيِّن أنَّها تتوافق فِي الإفصاح عَنْ ذَلِكَ المعني النوري.

وَقَدْ وقع العديد مِنْ الباحثين فِي الشبهة والإشكال عَنْد تحليل تلك الروايات لغفلتهم عَنْ المقام النوري الذي تشير إليه لفظة «مني».

وفيما نحن فيه يكون معني «بضعة مني» نظير قوله(صلي الله عليه و آله): «حسين مني» وقوله تَعَالَي فِي الحديث القدسي: «لا يبلغ عنك إلَّا أَنْتَ أو رجل منك».

هَذَا مضافاً إلي أنَّ حمل البضعية عَلَي معني التوالد البدني لفاطمة(عليها السلام) مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فيه تسطيح للمعني وبيان للواضحات5.

ص: 93


1- تفسير الآلوسي ، الآلوسي 3 / 155.

مَعَ عدم وجود شبهة نفي الصلة بينهما مِنْ أحد، فلا موجب لتأكيدها وبيانها حينئذٍ.

إجمال مقامات فاطمة(عليها السلام) في كتب المتكلمين:

وَقَدْ ينكر علينا البعض فيقول: مِنْ أين لكم أنَّ تنسبوا لفاطمة(عليها السلام) موقعاً نورياً قربياً استثنائيا مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فِي حين أنَّ المتكلمين فِي كتبهم الكلامية والفلاسفة فِي أبحاثهم العقلية لَمْ يشيروا إلي ذَلِكَ المقام الاعتقادي لها؟

وفي الجواب ننبِّه عَلَي عِدَّة نقاط مُهمّة يحسن أنْ تكرّر فِي ثنايا البحث بصياغات مختلفة:

أوَّلاً: إنَّ أصل الدِّين ومقامات الأولياء الاعتقادية مودع فِي الكتاب وَالسَّنَة، وما كتب المتكلمين إلَّا نتاج بشري فيه استفادات مِنْ الوحي، لكنَّهُ لَيْسَ الوحي المقدس بعينه.

ولذا تعارف بين أهل التحقيق قولهم «كم ترك الأول للآخر» ومقصودهم أنَّ الفهم البشري وإنْ واكب بَعْض حقائق الوحي إلَّا أنَّ غفلاته عَنْ الحقائق كثير.

ثانياً: لم نحصر المقامات الاعتقادية فيما أثبته المتكلمون فِي كتبهم!!

أليس في هَذَا إغفال لمشارب ومدارس العلوم الأُخري ذَاتَ المكانة الرفيعة مثل مدرسة التفسير والحديث وغيرها!!

ص: 94

وَهَلْ يظن مِنْ يتحري مظان الحقيقة أنَّ بالإمكان الوقوف عَلَيْهَا بقراءة صنف واحد مِنْ الكتب والمؤلفات.

ثالثاً: يتعصب الكثير لعلم الفلسفة والمعقول وينكرون أيّ حقيقة لَمْ يُشر إليها الفلاسفة، بيد أنَّ هَذَا التعصب للفلسفة مخالف لشعار الفلسفة والفلاسفة أنفسهم فِي نبذ التعصب، فَإنَّ الفلسفة قائمة عَلَي التحقيق والاجتهاد بلا وقوف ولا تلكأ.

وَلَيْسَ للتقليد قدم ولا أثر فِي حقل الفلسفة، بَلْ المدار عَلَي تحري الدَّليل، كَمَا أنَّهُ لَيْسَ مِنْ سوء الأدب والتطاول مناقشة الكبار ونقد جهودهم العلمية بفتح الحوار العلمي فِي آثارهم ونتائجهم، فَإنَّ الاحترام والتوقير لهم شيء والبحث العلمي لمظان الحقيقة شيء آخر.

فلو رأي أجيال الفلاسفة أنَّ فِي التحقيق لنتائج مِنْ سبقهم سوء أدب وَمِنْ ثمَّ أحجموا عَنْ التفكير فيها وأخذوها أخذ المسلمات لما وصل الفكر الفلسفي لما هُوَ عليه أخيرا مِنْ الانبساط والتوسع.

ص: 95

ص: 96

المقالة الخامسة: مقام المحدثة

اشارة

-1 -

*المقامات الاصطفائية فِي القُرآن.

*المحدثة وسام إلهي عظيم لفاطمة(عليهما السلام).

*فاطمة(عليها السلام) محدثة مِنْ الملائكة والرُّوُح الأمري.

قَالَ الله تَعَالَي: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ ) (1). (2)

وَقَدْ وَرَدَ فِي قراءة أهل البيت(عليهم السلام) وَهِيَ قراءة معروفة فِي القراءات المشهورة أن الآية بهذا النحو «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي و لا محدث» فقد روي عن أبي عبد الله(عليه السلام) أن رسول الله(صلي الله عليه و آله) أصابه خصاصة فجاء إلي رجل من الأنصار فقال له: هل عندك من طعام؟ فقال: نعم يا رسول الله وذبح له عناقا وشواه فلما أدناه منه تمني رسول الله(صلي الله عليه و آله) أن يكون معه علي وفاطمة والحسن

ص: 97


1- سورة الحج: الآية 52.
2- سوره 22 - آيه 52

والحسين (عليهم السلام) فجاء منافقان ثم جاء علي بعدهما فأنزل الله في ذَلِكَ: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي و لا محدث»(1).

ولا صلة لهذه القراءة بالتحريف فِي القُرآن الكريم بَلْ هِيَ قراءة مِنْ القراءات، وَقَدْ أشار إليها البخاري فِي صحيحه، بَلْ واعترف بها المحدِّثون مِنْ الفريقين عَلَي أنَّها إحدي القراءات المعتبرة.

وَقَدْ بحثنا فِي محلّه فِي الوثائق والمصادر الدَّالَّة عَلَي صحة هَذِهِ القراءة وَقَدْ تبين أنها مذكورة فِي شروح البخاري وكذا شروح مسلم وشروح الصحاح الأُخري.

فكونها قراءة مِنْ القراءات أمر مفروغ مِنْهُ، وطبقاً لها يثبت أنَّ مقام المحدث مقام لدني مِنْ الله وَهُوَ مغاير لمقام النبوة ومغاير كَذَلِكَ لمقام الرسالة.

المقامات الاصطفائية في القُرآن:

وَقَدْ دَلَّتْ آيات قُرآنية أخري عَلَي وجود مقامات اصطفائية لدنية أُخري ليست بنبوة وليست برسالة، كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً)(2). (3)

ص: 98


1- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي 2 /86.
2- سورة البقرة: الآية 247.
3- سوره 2 - آيه 247

فَلَمْ يقل نبياً ولا رسولاً وَإنَّما ملكاً، أيّ أنَّ الله اصطفاه باصطفاء لَيْسَ هُوَ عَلَي حدّ اصطفاء النبوة، وبعثه بعثة ليست هِيَ عَلَي حدّ الرسالة، وَإنَّما بعثه ملكاً إماماً لتدبير الأُمُور، حَيْثُ إنَّ بعثته كانت جواباً عَنْ طلبهم لما طلبوا مِنْ الله: (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1). (2)

وَهَذَا يناسب مقام القيادة، والقيادة هِيَ الإمامة، وجعل آية ملكه وملك إمامته أنْ يأتي بمعجزة ودليل برهاني غيبي إلهي عَلَي إمامته، وفيه يقول تَعَالَي: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسي وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (3). (4)

فتلخص أنَّ الإرسال فِي منظومة السَّماء لا يقتصر عَلَي النبوة والرسالة، وَقَدْ دَلَّتْ الآيات فِي قالب وحياني آخر عَلَي اتّحاد بعثة القيادة وبعثة الملك مَعَ بعثة الإمامة كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلي ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(5) (6) ، والملك هُوَ ملك تدبير الأُمُور4.

ص: 99


1- سورة البقرة: الآية 246.
2- سوره 2 - آيه 246
3- سورة البقرة: الآية 248.
4- سوره 2 - آيه 248
5- سورة النساء: الآية 54.
6- سوره 4 - آيه 54

وَهُوَ تعبير آخر عَنْ ولاية الأمر.

وَقَدْ ذكرنا فِي بحوث قواعد التفسير أحدي آليات اعتماد قراءة مِنْ القراءات والإيقان بصحتها، وَهُوَ تطابق تلك القراءة لمحكمات قرآنية أُخري، وَهَذَا المعيار والآلية ينطبق فِي موردنا فَإنَّ قراءة الآية موضع البحث بهذه الصورة «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي و لا محدث)(1)متطابق مَعَ ما فِي آية سورة البقرة وآية سورة النساء، وكذلك مَعَ آيات سور أُخري.

وَمِنْ الجدير بالذكر أنَّ المذهب الوحيد الذي ترجم هَذِهِ العقيدة الأصيلة القرآنية هُوَ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) دون بَقيَّة مذاهب المسلمين.

المحدثة وسام إلهي عظيم لفاطمة(عليها السلام):

وَقَدْ حبا الله فاطمة(عليها السلام) بوسام عظيم لكنَّهُ مغاير لوسام الرسالة ووسام النبوة ووسام الإمامة فدلّت الأدلة عَلَي أنَّ أحد ألقابها هُوَ أنَّها(عليها السلام) (محدثة).

ومضافا إلي أنه قد ثبت لها بالروايات عنوان المحدّثة، فَقَدْ ثبت لها بالآيات روح هَذَا العنوان ولبه وإنْ لَمْ يعنون بنفس الألفاظ، بَلْ دلَّت علي أنَّها محدثة ممن هُوَ أعظم مِنْ جبرائيل.

ص: 100


1- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي 2 /86.

وَهَذَا أحد الشواهد عَلَي علو مقامها عَلَي مقام مريم، فَإنَّ مريم محدثة مِنْ جبرائيل أو من طبقات أخري من الملائكة بنصّ القُرآن الكريم فِي قوله تَعَالَي: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلي نِساءِ الْعالَمِينَ ) (1). (2)

وأمّا فاطمة(عليها السلام) فَهِيَ محدثة وبنص الأدلة تارة مِنْ قبل الملائكة وتارة مِنْ قبل جبرائيل وَأُخري مِنْ قبل ممن هُوَ أعظم مِنْ جبرائيل.

فإنْ قلت: وأين ذَلِكَ النصّ فِي القُرآن؟

وجوابه أن القرآن قد رسم في آياته ذَلِكَ المقام لفاطمة(عليها السلام) بوضوح، لكن يتوقف فهمه علي ضم مجموعة نصوص قرآنية بعضها لبعض تتآلف في تكوين مضمون واحد.

1) فقد دلت الآيات فِي سورة الواقعة (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)(3) (4) عَلَي وجود جانب غيبي للقرآن، بَلْ عَلَي مقامات ومنازل غيبية لَهُ لا ينالها إلا المطهرون.

2) ودلَّت َلَي ذَلِكَ سورة الشوري فِي قوله تَعَالَي: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ (5)9.

ص: 101


1- سورة آل عمران: الآية 42.
2- سوره 3 - آيه 42
3- سورة الواقعة: الآية 77 - 79.
4- سوره 56 - آيه 77
5- سوره 42 - آيه 52

نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )(1) (2) والموجود المعبّر عنه «بالروح» أعظم مِنْ جبرائيل، لأنَّ القُرآن لَمْ يصف جبرائيل أنَّهُ مِنْ عالم الأمر وَهُوَ عالم كُنْ فيكون.

3) وَأنبأت سورة النحل أنَّ جبرائيل(عليه السلام) يعرج وينزل بالروح الأمري فِي قوله تَعَالَي: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ )(3) (4) ، والملائكة عنوان عام يدخل فيه جبرائيل، بَلْ يعم إسرافيل أيضاً.

4) وإنَّ هَذَا الرُّوُح الأمري الذي به اقتدار إسرافيل وجبرائيل وعزرائيل وميكائيل(عليهم السلام) ذكره القُرآن الكريم فِي سورة الشوري بوصف أنَّهُ حقيقة القُرآن، فَقَالَ تَعَالَي: (كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). (5)

فالموحي لَيْسَ هُوَ مُجَرَّد كلام وقول كَمَا أنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّد طرد بريدي، بَلْ هُوَ روح أمري أودع فِي ذَاتَ الموحي إليه.

ولو قلت ما هُوَ الدَّليل عَلَي كون الموحي هُوَ نفس الرُّوُح الأمري؟

فجوابه فِي نفس الآية فِي قوله تَعَالَي: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ (6)2.

ص: 102


1- سورة الشوري: الآية 52.
2- سوره 42 - آيه 52
3- سورة النحل: الآية 2.
4- سوره 16 - آيه 2
5- سوره 42 - آيه 52
6- سوره 42 - آيه 52

مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1). (2)

إذْ مفادها أنَّ ذَلِكَ الرُّوُح هُوَ عين الكتاب وَإلَّا لا يكون فِي صلة ولا ارتباط بين مقطع (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً ) (3) ومقطع (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ) (4) .

وفي المقطع الأخير (لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ) (5) وصف للروح الأمري بأنه مِنْ عالم النُّور وَلَيْسَ وَلَيْسَ مِنْ عالم الخلق، وَهُوَ نفسه المشار إليه فِي قوله تَعَالَي: (فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(6). (7)

وَهَذَا الوصف للروح لَمْ يوصف به جبرائيل فِي القُرآن فَلَمْ ينزل جبرائيل مِنْ عالم النُّور.

5) وإذا تنقّح هَذَا المطلب القُرآني كمقدمة لما نحن فيه فَإنَّ الفصل الثَّانِي فِي خريطة القُرآن هُوَ ما أشير إليه فِي الآيات مِنْ أنَّ فاطمة(عليها السلام) مِنْ أهل آية التطهير وَهُوَ ما يعتقد به كافة المسلمين ضرورة.

6) فتكون النتيجة أنَّها ممن ينال ويخص بذلك النُّور والرُّوُح الأمري، أيّ أنَّها تحيط علماً بالكتاب النوري، وَهَذَا هُوَ لُبّ ولباب مقام المحدثة.8.

ص: 103


1- سورة الشوري: الآية 52.
2- سوره 42 - آيه 52
3- سوره 42 - آيه 52
4- سوره 42 - آيه 52
5- سوره 42 - آيه 52
6- سورة التغابن: الآية 8.
7- سوره 64 - آيه 8

فاطمة(عليها السلام) محدثة من الملائكة والروح الأمري:

بيَّن القُرآن نزولين لآياته؛ الأول نزول نازل وَهُوَ شأن جبرائيل الذي كَانَ ينزل بالكلمات والأصوات والمعاني وعبَّر عَنْه بالنزول النجومي، وكانت بدايته فِي السَّابِع والعشرين مِنْ رجب.

ومعني مصطلح نجومي هُوَ المؤقت كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (1) (2) فيعبّر عَنْ أحد مراتبه النازلة بالقول.

والآخر نزول دفعي عالي.

وَالقُرآن خلافاً للمفسرين مِنْ الفريقين لا يطلق عَلَي الدفعي العالي مصطلح النزول، وتسمية المفسرين لَهُ بالنزول مِنْ الخطأ، لِإنَّهُ لَيْسَ مِنْ النازل، بَلْ يسميه القُرآن فِي سورة الشوري: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )(3) (4) ، فعبّر ب- «أوحينا» وَلَيْسَ أنزلنا.

ولذا لا يعبّر عنه لا نزول ولا تنزيل.

وَهَذَا الأخير الذي نعبِّر عنه بالنزول مسامحة هُوَ أعظم مِنْ جبرائيل والملائكة(عليهم السلام)، وَقَدْ نالته البضعة الطاهرة(عليها السلام)، فكانت بذلك محدّثة.

ص: 104


1- سورة الحاقة: الآية 40.
2- سوره 69 - آيه 40
3- سورة الشوري: الآية 52.
4- سوره 42 - آيه 52

وَهَذَا لا ينفي كونها(عليها السلام) محدّثة بالمقام النازل مِنْ جبرائيل وإسرافيل، بَلْ دَلَّتْ النصوص المعتبرة لدينا أنَّ إسرافيل آتاها بَعْدَ شهادة المصطفي ورحيله(صلي الله عليه و آله) إلي الرفيق الأعلي ومعه جملة مِنْ الملائكة فِي ليلة وَهِيَ تتهجد إلي الله وَلَمْ يقطعوا عَلَيْهَا وردها ثمَّ حدثوها بقسم مِنْ المصحف وَهُوَ المرتبة النازلة مِنْ مقام المحدثة والمرتبة الصاعدة مِنْهُ هُوَ تحديث الرُّوُح الأمري.

بَلْ وَرَدَ فِي بَعْض الروايات أنَّ لفاطمة(عليها السلام) النصيب الأعلي مِنْ الرُّوُح الأمري بَعْدَ علي(عليه السلام) ولذا سميت بليلة القدر لِأنَّ مدار ليلة القدر هُوَ الرُّوُح المنزل فيها.

وإذا رمنا أنْ نستوضح هَذَا المقام الخطير لفاطمة(عليها السلام) فثمة باب رسمه لنا القُرآن فِي قصة مريم، والغوص فيه يفتح الطريق لمعرفة ذَلِكَ المقام الخطير فِي فاطمة(عليها السلام).

فَقَدْ بيَّن القُرآن أنَّ مريم محدّثة فِي قوله تَعَالَي: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلي نِساءِ الْعالَمِينَ )(1) (2) فَهِيَ محدثة مَعَ أنها ليست بنبية ومحدثها الملائكة وجبرائيل.

وبذلك يثبت أنَّ مريم(عليها السلام) ما كانت تتلقي ما تتلقاه مِنْ أمر إلهي2.

ص: 105


1- سورة آل عمران: الآية 42.
2- سوره 3 - آيه 42

وبيان رباني عبر لسان الْنَّبِيّ زكريا(عليه السلام) والصلة البدنية به، وَإنَّما مضافاً إلي ذَلِكَ تتلقي مُبَاشَرَة مِنْ الملائكة وَمِنْ جبرائيل(عليه السلام).

وَلَقَدْ أفاض القُرآن فِي بيان تفاصيل تحديث الملائكة لمريم وَأنَّهُ جري ذَلِكَ مرات ومرات وَلَيْسَ مَرَّة واحدة.

هَذَا مضافاً إلي أنَّها كانت تتجاوب مَعَ مَنْ يحدثها، أيّ كَانَ التفاعل مِنْ الطرفين إلقاءً وسؤالاً وجواباً، ففي سورة آل عمران بيان أنَّ تحديثها بدأ مِنْ بشارة الله لها بكلمته فِي قوله تَعَالَي: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (1) (2)، ونلاحظ أنَّ هَذِهِ البشارة الملكوتية مِنْ الله مَعَ كونها كَذَلِكَ لكنَّها تشتمل عَلَي مأمورية إلهية خطيرة وَعَلَي دور عظيم عصيب قَدْ أوكل إلي مريم، وَمِنْ شأنه أنْ تتزلزل فيه الأقدام وتخار دونه العزائم.

وفي سورة مريم يقول تَعَالَي: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا(17)قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا(18)قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا(19)قالَتْ أَنّي يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا(20)قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً (3)5.

ص: 106


1- سوره 3 - آيه 45
2- سورة آل عمران: الآية 45.
3- سوره 19 - آيه 17

مَقْضِيًّا(21) (1). (2)

وفي المقطع الأخير مِنْ الآيات يذكرها الملك بقول الله لها سابقاً.

وتشير الآيات إلي تحديث آخر لها لما رفعت حملها فِي قوله تَعَالَي: (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(24)وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا(25)فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا(26) (3). (4)

فتبيّن الآيات أنَّ العبء الكبير الذي تتطلبه حصول البعثة الجديدة لنبي مِنْ أولي العزم كله قَدْ وقع عَلَي مريم وَلَمْ يقع عَلَي زكريا وَعَلَي عَلَي يحيي(عليهما السلام).

وأنَّ أول مِنْ تحمّل مسؤولية الإعلان الإلهي عَنْ بدء نبوة ناسخة لشريعة سابقة وفي ظل دجل وعقد بني إسرائيل هِيَ مريم وَلَيْسَ غيرها، وأنَّ الَّتِي خاطرت بشرفها وعرضها للإعلان عَنْ سطوع برهان نور النبوة الجديدة وكابدت فِي جهاد قلَّ نظيره وكثرة تبعاته هِيَ مريم، وَلَمْ يكن ايفاؤها بتلك المأمورية بتوسّط بدن زكريا ولا بوحي أتاها عَنْ لسانه.6.

ص: 107


1- سورة مريم: الآية 17 - 21.
2- سوره 19 - آيه 21
3- سورة مريم: الآية 24 - 26.
4- سوره 19 - آيه 24

وفي ذَلِكَ وَرَدَ قوله تَعَالَي: (فكلي و اشربي و قري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)(1) أي أفصحي عَنْ وجود أمر ومأمورية، وتلك المأمورية غَيْر مرتبطة بفروع الدِّين لقوله تَعَالَي: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا(27)يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا(28)فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا(30)(2) (3) ، فالمأمورية مرتبطة بأصل متقدم فِي منظومة أصول الدِّين وَهُوَ النبوة.

وتشير الآيات إلي وجود ما يشبه التواطئ وتكامل الأدوار ووجود نوع مِنْ النظم والبرمجة فِي المسؤولية، حَيْثُ يقول الله تَعَالَي: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(4) (5) ، أيّ استنطقوه عَنْ دوره وَعَنْ مأموريته الإلهية.

بَلْ كانت المأمورية الإلهية عَلَي مريم ضخمة ومعقدة، بحيث أنَّ ما تقوم به لَمْ يكن مرتبطاً بفروع الدِّين ولا مرتبطاً بأصول الدِّين فحسب، بَلْ أوكل إليها تدشين وتأسيس نبوة نبي مِنْ أولي العزم ناسخة لشريعة الْنَّبِيّ موسي(عليه السلام).9.

ص: 108


1- سورة مريم: الآية 26.
2- سورة مريم: الآية 27 - 30.
3- سوره 19 - آيه 27
4- سورة مريم: الآية 29.
5- سوره 19 - آيه 29

وللباحث ها هُنَا أنْ يتصوَّر حجم المرارة الَّتِي ستكابدها مريم جراء إعلانها عَنْ تلك المأمورية، فَمِنْ جهة كَانَ أوَّل مَنْ أعلن عَنْ الأمر الإلهي الجديد هِيَ مريم المرأة، وَمِنْ جهة كَانَ المعلن إليهم والمكلف بالتحوّل مِنْ شريعة إلي شريعة هُمْ بنو إسرائيل الَّذِيْنَ قصّ لنا القُرآن فِي سورة البقرة عَنْ لجاجهم وحجاجهم للساحة الربوبية فِي أكثر مِنْ تشريع واكثر مِنْ تكليف، وقصّ علينا كَذَلِكَ إجهادهم للأنبياء السابقين مِنْ يعقوب إلي يوسف ثمَّ موسي وهارون وزكريا ويحيي(عليهم السلام)، وكذا أنبياء عديدون قَدْ نالهم الإعياء والإجهاد جرَّاء تكليفهم بهداية بني إسرائيل.

وَمِنه يتبيّن ما يمكن أنْ ينال مريم منهم، وَمَعَ كُلّ ذَلِكَ كانت هِيَ المأمورة بالخطاب الإلهي المباشر أنْ تكون واسطة بين شريعتين.

ونفس جعل المأمورية عَلَي عاتق مريم يشهد بما لها مِنْ مقام وسُؤدد، حَيْثُ كانت حلقة رابطة وناقلة للبشر مِنْ نبوة موسي إلي نبوّة عيسي فِي حين أنَّهُ لَمْ يوكل ذَلِكَ الدور لزكريا أو يحيي أو غيرهما مِنْ الأنبياء(عليهم السلام).

وَقَدْ اعتقد بنو إسرائيل أنَّ العدوان عَلَي مريم كَانَ سهلاً لكونها امرأة وَغَيْر موصوفة بنبوة ولا برسالة، فَكَانَ خطابهم كَمَا حكاه القُرآن في قوله تعالي: (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(1). (2)8.

ص: 109


1- سورة مريم: الآية 28.
2- سوره 19 - آيه 28

وفي هَذَا اللِّسَان تعد صارخ وإعدام للشخصية، وكم فِي المرأة مِنْ نقاط تغري عدوها بالعدوان والعتو والطغيان عَلَيْهَا، وَمَعَ كُلّ ذَلِكَ تختارها السَّماء لهذا الدور العصيب، وكأنه إفصاح عَنْ عدم صلاحية أحد مِنْ الرجال للقيام بهذه الوظيفة.

وَمِنْهُ ندرك أنَّ قوله تَعَالَي: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلي نِساءِ الْعالَمِينَ )(1) (2) لَيْسَ هبة مجانية وَإنَّما فِي قبالها امتحان عصيب ومسؤولية عظيمة كانت يمكن أنْ تطيح بمريم وتصفي وجودها بمنطق بني إسرائيل.

وما كَانَ منها فِي مقابل تطلعهم لتصفيتها وإعدامها جسدياً ومعنوياً إلَّا تطلعها لما هُوَ أعظم مِنْ الدفاع عَنْ وجودها الجسدي وموقعها المعنوي وَهُوَ استئصال كُلّ مسارهم الضال والباطل وتبديل نسيج ديني متراكم.

وكم كَانَ لها مِنْ همة ومغالبة لَمْ يتجرأ عَلَيْهَا زرافات مِنْ الأنبياء(عليهم السلام)، فَلَمْ يتصدّ داود(عليه السلام) لنسخ شريعة موسي(عليه السلام)، وَلَمْ يتصد سليمان(عليه السلام) كَذَلِكَ لنسخها، وما كَانَ مِنْ المؤمل والخيال أنْ يحيد بنو إسرائيل عَنْ شريعة الْنَّبِيّ موسي(عليه السلام)، ولذا قتلوا كثيراً مِنْ الأنبياء وخُوُّنوهم واتّهموهم بكونهم غَيْر مأمونين عَلَي شريعة موسي وَغَيْر2.

ص: 110


1- سورة آل عمران: الآية 42.
2- سوره 3 - آيه 42

مؤتمرين بالتوراة مَعَ أنَّهُم كانوا مِنْ أتباع موسي(عليه السلام) ومنهاجهم التوراة.

لكنَّ كُلّ هَذَا المخزون مِنْ العناد واللجاج والغرور المعجون فِي هوية بني إسرائيل ينسخ أمده وينتهي بقاؤه عَلَي يد إمرأة، فَقَدْ كَانَ همتها وهمها استئصال الغي المتراكم فيهم، وَكَانَ همهم وهمتهم استئصال مريم وجودياً ومعنوياً.

وما مَرَّ في الصورة القرآنية بكُلِّ حيثياتها تحقق بما هو أعظم منها فِي دور لبوة النبوة البضعة الطاهرة(عليها السلام)، فَقَدْ كابدت:

أوَّلاً: زلزال تصفية الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) ورأت سلسلة المؤامرات والتخطيطات ضد أبيها جسدياً ومعنوياً، وَهِيَ تشبّ فِي الشهر ما تشبّ فِي السَّنَة وبدأت عَلَيْهَا ملامح البلوغ فِي السن وَهِيَ فِي سنيها المبكرة، وَلَمْ يكن ذَلِكَ مِنْ العبث والجزاف وَإنَّما كَانَ ذَلِكَ إعدادا لها لإنجاز مأمورية عظيمة عَلَي وفق قوله تَعَالَي: (وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )(1). (2)

فمسؤوليتها الملقاة عليها مَعَ أبيها وقبل زواجها تتطلب أنْ تشب سريعاً في كل الجهات والنواحي لتكون سكنا وكهفا للنبي(صلي الله عليه و آله) سكن تدبير وعضيد مسؤولية.

ومن يقرأ مذكرات حياة الشخصيات ذات الطابع الأمني يدرك2.

ص: 111


1- سورة يوسف: الآية 22.
2- سوره 12 - آيه 22

أن من ترتبط به من النساء إذا لم تكن علي مستوي من الوعي السياسي والأمني والوعي الاستيراتيجي بدرجة مناسبة لزوجها فإنها تكون الباب لاختراقه سياسيا وأمنيا لأن الشبكة العدوانية المناؤة له لن توفر أي ثغرة يمكن منها اختراقه وافشال مهمته.

ولقد كانت البضعة الطاهرة(عليها السلام) وفي ظل وجود والدتها خديجة راعية للنبي(صلي الله عليه و آله) علي مستوي يكبر ويغاير رعاية خديجة له لما لها من عظيم علم وحكمة ودراية وتدبير.

ففي التسع سنين لقطات عصيبة زلزل فيها النبي(صلي الله عليه و آله) ووقفت فيها فاطمة(عليها السلام) مدافعة وراعية وحاضنة، فكان للنبي(صلي الله عليه و آله) يدان، يد قاضمة وهي يد أمير المؤمنين(عليه السلام) ويد حانية وهي يد فاطمة(عليها السلام).

وكان دورها مع النبي(صلي الله عليه و آله) هو الفصل الأول من أداء المأمورية الخطيرة، وكان الفصل الأخير وقوفها في وجه مشروع السقيفة إلي جانب أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو الآخر لا يقل خطورة وزلزالا للدين ولحامله عن الفصل الأول، فقد اجتمعت فيه من الملابسات ما يمكن أن يمرر من خلالها المشروع الجديد علي الناس بأن يصوروا عليا(عليه السلام) طالب ملك وساع للرئاسة، فكان بمثل هذه الملابسات والتلبيسات والاهامات امكانية تمرير الخطة والحيلة علي المسلمين في شأن علي(عليه السلام) لكنه لم يكن في الإمكان أن تمرر مثل تلك الملابسات في شأن

ص: 112

فاطمة(عليها السلام).

فقد كان موقفها(عليها السلام) شبيه موقف مريم(عليها السلام) التي خاطرت بشرفها وعرضها ولم يكن بيد بني اسرائيل أن يمرروا علي الناس فكرة أنها طالبة للزعامة في حين أنه لو تصدي لتلك المأمورية يحيي أو زكريا أو أي نبي من الأنبياء لأمكن الطعن عليهم بتلك التدليسات والتحريفات.

ص: 113

ص: 114

المقالة السادسة: مقام المحدثة

اشارة

-2 -

*أهل البيت(عليهم السلام) رواة عن كل طبقات وجود النبي(صلي الله عليه و آله)...

*المحدث مرتبط بروح من أرواح النبي(صلي الله عليه و آله)...

ثمة عدة من الآيات بينت أن الروح الأمري الذي هو حقيقة الكتاب - الكتاب هو المقام العلوي الوجودي الذي لا يتجافي عن موقعه وهو الروح الأمري- أورث لثلة بشرية خاصة بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله).

منها ما في سورة الشوري: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا)(1). (2)

ومفادها الجمع بين مقام النبوة ومقام الثقلين.

ص: 115


1- سورة الشوري: الآية 52.
2- سوره 42 - آيه 52

ومنها مافي سورة النحل وهي قوله تعالي: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (1). (2)

والمعادلة في هذه الآيه عين المعادلة في الآية السابقة ومفادها تنزل الروح الأمري علي مجموعة من عباده وليس علي من يشاء من أنبيائه ورسله، أي علي ثلة من عباده المصطفين باصطفاء وراء اصطفاء النبوة.

ونفس المعادلة بينت في سورة غافر في قوله تعالي: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) (3) (4).

ونفس العنوان أشير إليه في سورة الواقعة في قوله تعالي: (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)(5). (6)

وصرح بهذا المطلب في سورة فاطر في قوله تعالي: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (7). (8)

وحيث إن فاطمة(عليها السلام) واحدة من أؤلئك المصطفين المطهرين بنص القرآن وتعاليم روايات الفريقين، فيثبت لها أنها محدثة من الروح2.

ص: 116


1- سورة النحل: الآية 2.
2- سوره 16 - آيه 2
3- سوره 40 - آيه 15
4- سورة غافر: الآية 15.
5- سورة الواقعة: الآية 78 - 79.
6- سوره 56 - آيه 78
7- سورة فاطر: الآية 32.
8- سوره 35 - آيه 32

الأمري.

ثم إن وزان مقام المحدث كوزان مقام الرسالة والنبوة فكما أن القرآن صرح بأن الرسل والأنبياء علي طبقات كما في قوله تعالي: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) (1) (2) فكذلك الأمر في المحدثين فهم علي طبقات ودرجات.

أهل البيت (عليهم السلام) رواة عن كل طبقات وجود النبي(صلي الله عليه و آله):

وهنا تثبت لأهل البيت(عليهم السلام) خصيصة علي بقية أصحاب النبي(صلي الله عليه و آله) ومن أخذ عنه من الرواة وهي الجواب عن سؤال مكرر، فلطالما طُرح تساؤل مفاده:

ماهي خصيصة علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) في تلقيهم عن النبي(صلي الله عليه و آله)؟

فإن كانوا هم رواة عن النبي(صلي الله عليه و آله) فإن سلسلة من الصحابة كانوا يروون عنه؟

وجوابه:

إن النقل عن النبي(صلي الله عليه و آله) علي نحوين: فتارة يكون نقلاَ عن بدن النبي(صلي الله عليه و آله) وتارةَ يكون نقلا عن روح النبي(صلي الله عليه و آله) ونوره، وأهل البيت(عليهما السلام)

ص: 117


1- سوره 2 - آيه 253
2- سورة البقرة: الآية 253.

لهم خصيصة علي غيرهم في كلا النحوين، فإن نقلهم عن بدن النبي(صلي الله عليه و آله) لا يشابهه نقل أحد من الصحابة عن بدنه الشريف ضبطا ودقة وإدراكا لمحل عصمتهم، ويتجلي تميزهم وخصيصتهم بوضوح في النحو الثاني إذ لا يشاركهم أحد في النقل عن نفس النبي(صلي الله عليه و آله) وروحه ونوره وسائر طبقاته الغيبية.

ولم يدع أحد من الرواة مهما وسمت نقولاته بالصحة والمطابقة أنه كان يتلقي من هذا الباب الغيبي إلا أهل البيت(عليهما السلام)، فلم يقتصر ارتباطهم بالنبي(صلي الله عليه و آله) علي الاتصال ببدنه، بل لهم ارتباط ببدنه البرزخي وارتباط بنفسه وروحه، وارتباط بنوره وطبقات ذاته.

وأحد طبقات ذوات النبي(صلي الله عليه و آله) هو ما بينه الله تعالي في سورة الشوري في قوله: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ) (1) (2) ففيها تصريح أن أحد أرواح النبي(صلي الله عليه و آله) هو نفس الروح الأمري، وفي المقطع الأخير تصريح بأن من (يشاء من عباده) يمسون وينالون ويتصلون ويرتبطون بذلك الروح الأمري، أي هم علي دوام في الإرتباط بطبقات متعددة من ذات النبي(صلي الله عليه و آله) علاوة علي ارتباطهم بالبدن الدنيوي له.2.

ص: 118


1- سوره 42 - آيه 52
2- سورة الشوري: الآية 52.

المحدث مرتبط بروح من أرواح النبي(صلي الله عليه و آله):

وعلي هذا الأساس يتبين معني أن فاطمة(عليها السلام) محدثة، وبيانه أن القرآن صرّح بأن الروح الأمري قوة من قوي النبي(صلي الله عليه و آله) وروح من أرواحه الخادمة في ذاته، فإذا قيل أن فاطمة(عليها السلام) محدثة فمعناه أنها مرتبطه بقوة وروح من أرواحه الخادمة.

والروح الأمري المحدث لفاطمة(عليها السلام) هي الروح النازل في ليلة القدر كما ورد في نصوص الآيات والروايات، فمحدثها علي هذا البيان طبقة من طبقات ذات النبي(صلي الله عليه و آله).

ولذا فعنعنة الرواة عن النبي(صلي الله عليه و آله) عنعنة بدنية فقط، بينما عنعنة علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين(عليهم السلام) عن النبي(صلي الله عليه و آله) عنعنة نورية، وتسمي هذه العنعنه بالأداء والإبلاغ عن النبي(صلي الله عليه و آله) ولا تسمي نقلا عنه.

وقد صرّح بذلك الحديث القدسي الذي مر علينا سابقا: «لا يبلغ عنك إلَّا أَنْتَ أو رجل منك»(1).

فيثبت لفاطمة(عليها السلام) ببركة مقام المحدثة أنها ممن يؤدي ويبلغ عن نور وقلب النبي(صلي الله عليه و آله).

ولذا ورد في روايات مصحف فاطمة(عليها السلام) التعبير تارة بأنه إملاء

ص: 119


1- معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق298

رسول الله(صلي الله عليه و آله) أي أن الذي حدثها هو رسول الله(صلي الله عليه و آله)، وتارة أنه إملاء أوحي الله به إليها، ولا تباين بين الأمرين فإن وصال واتصال فاطمة(عليها السلام) لم ينقطع برهة بالنبي(صلي الله عليه و آله) بعد رحيله البرزخي لكنه ليس وصالا بالبدن النبوي.

وبعبارة آخري:

كان لفاطمة(عليها السلام) من الأول وقبل موت النبي(صلي الله عليه و آله) وصالان واتصالان به(صلي الله عليه و آله) أحدهما بدني والآخر نوري، وبموته وانقطاع بدنه عن الدنيا انقطع الوصال البدني الدنيوي وبقي الوصال النوري علي حاله لعدم موت ورحيل طبقات نوره بموت بدنه.

والوصال الثاني قائم في كل برهة بين أهل البيت(عليهم السلام) ومنهم الإمام الثاني عشر(عليه السلام) ورسول الله(صلي الله عليه و آله) كما صورناه سابقا، وهو وصال علي درجات، وصال ببدنه البرزخي ووصال بروحه ونفسه ووصال بروحه الكلية ووصال بنوره وطبقات متعددة من ذاته.

وهذا الوصال والإرتباط هو نوع تأييد واداء وإملاء من الرسول(صلي الله عليه و آله) لهم وهو مختلف بالكلية عن شبهة التناسخ التي يهلوس بها بعض الفرق الباطنية المنحرفة.

وأحد الشواهد علي عظمة مقام المحدثة الثابت لفاطمة(عليها السلام) ما رواه في بصائر الدرجات عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال

ص: 120

قيل له إن عبد الله بن الحسن يزعم أنه ليس عنده من العلم الا ما عند الناس فقال:

«صدق والله ما عنده من العلم الا ما عند الناس ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام وعندنا الجفر أفيدري عبد الله أمسك بعير أو مسك شاة وعندنا مصحف فاطمة اما والله ما فيه حرف من القرآن ولكنه املاء رسول الله صلي الله عليه وآله وخط علي عليه السلام كيف يصنع عبد الله إذا جائه الناس من كل فن يسألونه اما ترضون ان تكونوا يوم القيمة اخذين بحجزتنا ونحن اخذون بحجزة نبينا ونبينا اخذ بحجزة ربه»(1)وهذا يدل علي هيمنتها(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام) وإلا فما معني أنها تقرر الوظائف لهم غير كونها ذات هيمنة!!

فقد كانت علاوة علي كونها بنت بدن النبي(صلي الله عليه و آله) هي بنت نور النبي(صلي الله عليه و آله) فلها هيمنة علمية نورية ولها ولاية أعظم من ولايتها علي البشر وهي ولايتها علي الأصفياء وولايتها علي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام).

فمقام المحدثة يثبت لها ولاية الأمر لإدارة الدولة الإلهية، ولعل أحد تفاسير ما ورد: «علي معرفتها دارت القرون الأولي»(2)هو دوران القرون الأولي في الدولة الالهية السابقة علي معرفتها وولايتها، ولها8.

ص: 121


1- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار/ 181 باب ان الأئمة أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة(عليها السلام).
2- الأمالي، الشيخ الطوسي668.

ولاية عظمي بلحاظ النشاءات الآتية.

وقد قيل إن الكثير من أهل التشرف وأهل المعني رأوا رأي العين هيمنة فاطمة(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام) وكونهم تحت إمرتها، والمدار كله في الاثبات علي ما قدمناه من دليل.

ص: 122

المقالة السابعة: دلالة مصحف فاطمة عليها السلام علي مقامها الشامخ

اشارة

المطلب الأوَّل: مراسيم تسليم المصحف لفاطمة(عليها السلام)...

المطلب الثاني: العلوم المودعة فِي مصحفها...

نهج فاطمة(عليها السلام) قدوة...

المطلب الثَّالِث: إشراف فاطمة(صلي الله عليه و آله) عَلَي الإمامة الإلهية...

البعد الأول: الوساطة النورية...

البُعد الثَّانِي: الوساطة النورية تثبت الحجية...3

تحت عنوان مصحف فاطمة(عليها السلام) يقف الباحث عَلَي مطالب جليلة تصبّ كُلَّهَا فِي تقريب ما لها من مقام إلهي خطير وموقع ديني خاص، منها:

المطلب الأوَّل: مراسيم تسليم المصحف لفاطمة(عليها السلام):

قَالَ أحد المحققين الكبار مِنْ علماء الإمامية بعد أن اطّلع عَلَي بَعْض فقرات روايات المصحف: إنَّ المصحف الشريف نزل عَلَي

ص: 123

فاطمة(عليها السلام) بكوكبة وهالة إلهية ملكوتية خاصة. انتهي

فلو أنَّهُ اطّلع عَلَي المقاطع الأُخري فِي الروايات فماذا يمكنه أنْ يقول!!

إذْ الهيئة الاحتفالية والكوكبة الإلهية حين نزول الوحي الإلهي عليها(عليها السلام) نادراً ما نجدها فِي الأنبياء أولي العزم إلَّا سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله).

فتذكر في تسليم المصحف لفاطمة(عليها السلام) ما لَمْ يذكر فِي نزول الوحي عَلَي الأنبياء، فَقَدْ أنزل عَلَيْهَا المصحف فِي ليلة الجمعة في الثلث الثالث من الليل وكان النزول بأمر من الله تعالي وبتوسط جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وَهُوَ أمر غريب ونادر، إذْ غالباً ما كَانَ نزول الوحي عَلَي سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) بتوسط نزول جبرائيل وفي بعض الحالات النادرة بتوسط إسرافيل أو بالوحي الذي هو أعظم من ذلك إذا لم يكن بين الله وبين سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وسيط مِنْ الملائكة.

والملك الذي كان نزوله للتوسّط فِي الوحي عَلَي رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) نادراً وَهُوَ إسرافيل كَانَ هُوَ مِنْ وسائط إنزال المصحف الشريف عَلَي فاطمة(عليها السلام).

ويخطأ مِنْ يظن أنَّ مقامات الملائكة عَلَي مستوي موحَّد، بَلْ الروايات بينت أنهم عَلَي طبقات، فَإنَّ إسرافيل فِي وصف الروايات ذا

ص: 124

شأن عظيم بحيث أنَّ جبرائيل بالنسبة إليه كعصفور فِي بحر، بَلْ كان يتخوّف ويذعر مِنْ قدرة إسرافيل وقوته ذعراً شديداً بحيث يلوذ بسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) هَذَا مع ما وَرَدَ فِي الروايات مِنْ وصف جبرائيل بذي القوة المتين بحيث يقلب قري قوم لوط بطرفٍ مِنْ جناحه.

فقد روي في تفسير القمي عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) جالس وعنده جبرئيل إذ حانت من جبرئيل(عليه السلام) نظرة قبل السماء فامتقع لونه حتي صار كأنه كركمة ثم لاذ برسول الله(صلي الله عليه و آله).

فنظر رسول الله إلي حيث نظر جبرئيل فإذا شئ قد ملا ما بين الخافقين مقبلا حتي كان كقاب من الأرض ثم قال:

يا محمد إني رسول الله إليك أخبرك أن تكون ملكا رسولا أحب إليك أو تكون عبدا رسولا.

فالتفت رسول الله(صلي الله عليه و آله) إلي جبرئيل وقد رجع إليه لونه.

فقال جبرئيل: بل كن عبدا رسولا.

فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله): بل أكون عبدا رسولا، فرفع الملك رجله اليمني فوضعها في كبد السماء الدنيا ثم رفع الأخري فوضعها في الثانية ثم رفع اليمني فوضعها في الثالثة ثم هكذا حتي انتهي إلي السماء السابعة كل سماء خطوة وكلما ارتفع صغر حتي صار آخر ذلك مثل

ص: 125

الذر - الصر ( ك ).

فالتفت رسول الله(صلي الله عليه و آله)إلي جبرئيل فقال: لقد رأيتك ذعرا وما رأيت شيئا كان أذعر لي من تغير لونك.

فقال: يا نبي الله لا تلمني أتدري من هذا ؟

قال: لا، قال: هذا إسرافيل حاجب الرب ولم ينزل من مكانه منذ خلق الله السماوات والأرض، فلما رأيته منحطا ظننت انه جاء بقيام الساعة، فكان الذي رأيت من تغير لوني لذلك، فلما رأيت ما اصطفاك الله به رجع إلي لوني ونفسي أما رأيته كلما ارتفع صغر انه ليس شيء يدنو من الرب إلا صغر لعظمته، ان هذا حاجب الرب وأقرب خلق الله منه واللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء فإذا تكلم الرب تبارك وتعالي بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ثم يلقيه الينا فنسعي به في السماوات والأرض انه لأدني خلق الرحمن منه وبينه وبينه سبعون حجابا من نور تقطع دونها الابصار ما لا يعد ولا يوصف واني لأقرب الخلق منه وبيني وبينه مسيرة الف عام)(1).1.

ص: 126


1- تفسير القمي، القمي2/ 28. بحار الانوار عنه. كتاب العرش، محمد بن عثمان ابن أبي شيبه/88 مع اختلاف يسير. ويدل علي علو مقام إسرافيل علي جبرائيل عدة شواهد منها ما ورد في روايات كثيرة أن جبرئيل يحدث عن اسرافيل وأسرافيل عن الله أو عن اللوح ومثاله ما رواه في معاني الأخبار بسنده عن علي بن موسي الرضا عن آبائه عن النبي ، عن جبرئيل ، عن ميكائيل، عن إسرافيل، عن اللوح، عن القلم، قال: يقول الله تبارك وتعالي: «ولاية علي بن أبي طالب - صلوات الله عَلَيْهِ - حصني، فمن دخل حصني أمن ناري». معاني الأخبار، الصدوق/371. ومنها أنه سيد الملائكة فقد روي في شرح الاخبار عن النبي: النبي: ما خلق الله عز وجل شيئا إلا جعل له سيدا ، فالنسر سيد الطيور والثور سيد البهائم والأسد سيد السباع وإسرافيل سيد الملائكة ويوم الجمعة سيد الأيام وشهر رمضان سيد الشهور وأنا سيد الأنبياء وعلي سيد الأوصياء. شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي223/1.

وإذا كان جبرائيل مَعَ ما لَهُ مِنْ مقام هُوَ الذي كَانَ ينزل عَلَي مريم فَإنَّ إسرافيل كَانَ مِنْ جملة مِنْ ينزل عَلَي فاطمة(عليها السلام) فِي حالة خاصّة وطقوس ملكوتية واحتفالية إلهية، وَهُوَ ما لَمْ يعهد فِي أحد مِنْ الأئمة(عليهم السلام) حسب بياناتهم، هَذَا بالالتفات إلي أنَّ تلك الهالة الملكوتية ليست تشريفات شكلية إذْ أنَّ كُلّ شيء عِنْدَ الله بقدر وميزان.

ومما تَدُلُّ عَلَيْهِ تلك المراسيم بدقائقها ما لدي فاطمة(عليها السلام) مِنْ قدرة وأهليّة عَلَي تحمل نزول الوحي الإلهي، إذْ أنَّ نزول الوحي بكيفياته المختلفة يتطلب مِنْ متلقيه قدرة اصطفائية خاصة، فَهُوَ مما لا يمكن حتي للشياطين مَعَ ما لها مِنْ نفوذ بإذن الله أنْ تدخل فيه، إذْ يرافقه حصانة خاصة ليصل لمتلقيه كَمَا أراده الله؛ ولذا يتطلب قدرة خاصة وأهليّة استثنائية.

فما كَانَ مِنْ قدرة للنبي موسي(عليه السلام) لتحمل نزول وتنزل التوراة وما كَانَ لعيسي(عليها السلام) مِنْ أهلية لتلقي الإنجيل وما كَانَ مِنْ قابلية لدي سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) لتلقي القُرآن، كُلّ ذَلِكَ زوّدت به فاطمة(عليها السلام).

ص: 127

المطلب الثاني: العلوم المودعة فِي مصحفها:

اشارة

ومما وَرَدَ فِي روايات مصحفها أنَّ فيه خبر ما كَانَ وما يكون، وخبر كُلّ سماء فسماء.

ولكي نقف عَلَي سعة هَذَا العلم وعظمته لابُدَّ أنَّ نستعلم مِنْ الروايات عدد السموات وأصنافها، فَقَدْ نظن أنَّ عدد السموات محصور فِي سبع، فَهَلْ هُوَ كَذَلِكَ فحسب؟

إنَّ ما تشير إليه الروايات هُوَ وجود آلاف وآلاف مِنْ السموات السَّبع، فَإنَّ ما يطلق عَلَيْهِ سبع سموات عادة هُوَ بحسب بيانات الوحي ما فِي العالم الجسماني وَإلَّا فَهِيَ فيما لا يتناهي مِنْ الجسم اللطيف الذي فوق السموات السَّبع، إذَا ثمة جبال مِنْ بردي وماء الذهب وغيرها، فالعوالم الجسمانية فوق بعضها البعض، وما هُوَ فوق لا يقاس لما هُوَ دون.

وَمِنْهُ ندرك ما معني أنَّ تعطي فاطمة(عليها السلام) خبر كُلّ سماء فسماء، فليس المعني أنَّها أعطيت خبر سبع سموات إذْ عدد السموات غَيْر معلوم لدينا.

ولذلك انذهل أبو بصير حين سمع كلام الإمام الصَّادِق(عليه السلام)، وَقَالَ متسائلاً هَلْ كُلّ هَذَا العلم فِي المصحف؟ فَقَالَ ويحك هَذَا فِي ورقتين مِنْ المصحف.

ص: 128

ومما وَرَدَ أيضاً أنَّ مِنْ علوم مصحفها خبر الحكومات فِي كُلّ الأرْض وخبر كُلّ ملوكها وحكّامها.

ففي مصححة أبي بصير في دلائل الامامة وقد رواها عن أعلام زعماء الإمامية قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي(عليه السلام) عن مصحف فاطمة(عليها السلام) فقال: انزل عليها بعد موت أبيها.

فقلت: ففيه شيء من القرآن؟ قال: ما فيه شيء من القرآن.

قال: قلت: فصفه لي، قال: له دفتان من زبرجدتين علي طول الورق وعرضه حمراوين .

قلت له: جعلت فداك صف لي ورقه، قال: ورقه من در أبيض قيل له: ( كن ) فكان .

قلت: جعلت فداك، فما فيه؟

قال: فيه خبر ما كان، وخبر ما يكون إلي يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في سماء سماء من الملائكة، وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلا وغير مرسل، وأسماؤهم، وأسماء الذين أرسلوا إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب منهم، وفيه أسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، من الأولين والآخرين، وأسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون

ص: 129

الأولي وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وفيه أسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك واحدا واحدا، وفيه صفة كراتهم، وفيه صفة جميع من تردد في الأدوار من الأولين والآخرين.

قال: قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال: خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار، وفيه أسماء جميع من خلق الله من الأولين والآخرين وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل والزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد.

قال أبو جعفر(عليه السلام): فلما أراد الله تعالي أن ينزله عليها، أمر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوا المصحف فينزلوا به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل، هبطوا به عليها وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياما حتي قعدت، فلما فرغت من صلاتها سلموا عليها، وقالوا لها: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها.

فقالت لهم: الله السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلي السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلي زوال الشمس تقرأه، حتي أتت علي آخره .

ولقد كانت طاعتها مفروضة علي جميع من خلق الله من الجن والإنس، والطير والبهائم، والأنبياء والملائكة.

ص: 130

فقلت: جعلت فداك فلما مضت إلي من صار ذلك المصحف؟ فقال: دفعته إلي أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلما مضي صار إلي الحسن، ثم إلي الحسين، ثم عند أهله حتي يدفعوه إلي صاحب هذا الأمر .

فقلت: إن هذا العلم كثير!

فقال: يا أبا محمد، إن هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله، وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثالثة، ولا تكلمت بحرف منه»(1).

وَهَذَا يثير السُّؤال عَنْ صلة فاطمة(عليها السلام) بِهَذَا الصنف مِنْ الأخبار والعلوم.

فلم يطلع الله تَعَالَي فاطمة(عليها السلام) عَلَي ملوك الأرْض وملفات حكوماتها، وما شأن فاطمة(عليها السلام) بذلك، وما هَذَا الملف السياسي الذي يكشف لفاطمة(عليها السلام)؟.

ألا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَي ما لها مِنْ شأن فِي مثل تلك الموضوعات والأحداث؟

وألا يَدُلّ عَلَي كونها مسؤولة مِنْ المسؤولين الكبار فِي الدولة الإلهية وفي الملكوت الإلهي فِي الظاهر والباطن؟6.

ص: 131


1- دلائل الإمامة ، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) 104 ، 106.

وكيف يعزي لها كُلّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يكن لها ولاية عظمي عَلَي العوالم المختلفة؟

وأعظم مِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ فِي الروايات مِنْ خبر اللوح الأخضر، والذي لَمْ يودع فيه علم حكّام الأرْض بَلْ ضمّن علم حكّام الدولة الإلهية وأسماء الأئمة الاثني عشر، ذَلِكَ اللوح عِنْدَمَا ينزله الله عَلَي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) يخصّه بفاطمة(عليها السلام)، أيّ أنَّ علم دولة الإمامة الإلهية واقع تحت إشراف فاطمة، فَأيّ ولاية لها، وَأيّ موقع صدارة خصّت بها.

فقد روي في الإمامة والتبصرة عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال أبي(عليه السلام) لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة، فمتي يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها ؟

فقال له جابر: في أي الأوقات شئت، فخلي به أبو جعفر(عليه السلام)، قال له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه و آله) وما أخبرتك به أنه في ذلك اللوح مكتوبا، فقال جابر: أشهد بالله، أني دخلت علي أمك فاطمة(عليها السلام) في حياة رسول الله(صلي الله عليه و آله) أهنئها بولادة الحسين(عليه السلام)، فرأيت في يدها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد، ورأيت فيه كتابة بيضاء شبيهة بنور الشمس، فقلت لها: بأبي أنت وأمي يا بنت رسول الله ما هذا اللوح ؟

فقالت: هذا اللوح أهداه الله عز وجل إلي رسوله(صلي الله عليه و آله) فيه اسم

ص: 132

أبي، واسم بعلي، واسم ابني، وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه أبي ليسرني بذلك»(1).

ولو أردنا تعميق هَذَا المطلب وبيان دورها وتأثيرها فِي سلسلة الحكّام فِي الأرْض فَلابُدَّ أنْ نطرح هَذِهِ المقدمة، وهي:

إنَّ سلسلة الأحداث فِي الأرْض ليست جبراً عَلَي البشر كَمَا أنَّها غَيْر مفوّضة لهم، وَإنَّما هِيَ جارية عَلَي وفق نظام الأمر بين الأمرين.

إذْ أن هَذَا النظام كَمَا هُوَ حاكم عَلَي صعيد الفِعْل الفردي إذْ لا جبر ولا تفويض فِي فعل الإنسان الواحد، كَذَلِكَ هُوَ حاكم عَلَي الفِعْل الاجتماعي بنفس المقدار.

فلا تفويض للبشر فِي صنع وبلورة وصياغة أحداث الأرْض كَمَا أنَّهُ لا جبر ولا إلزام مِنْ طرف الله تَعَالَي، أي أنَّ لله فعلاً ودوراً وللبشر فعلاً ودوراً، فَمِنْ جانب البشر فعلهم هُوَ الإعداد لاتّجاهات الحدث وَمِنْ جانب الله يكون دور العطاء غَيْر المحظور.

وَعَلَي هَذَا الأساس فلا يظن أنْ أمر الحكومات فِي الأرْض موكول فَقَطْ وَفَقَطْ لإرادة البشر، بَلْ مِنْ الحتمي أن لقضاء الله وقدره تأثيرا.

والسُّؤال: مَنْ هُوَ الذي ولّاه الله تقدير أمر الحكّام فِي الأرْض؟1.

ص: 133


1- الإمامة والتبصرة، علي ابن بابويه القمي 103 ، 109. الامالي، الطوسي/ 291.

أو قل مَنْ هُوَ المخلوق الذي يتجلّي فيه فعل الله المبيّن فِي قاعدة «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»؟

وَجوابه: إنَّ ما وَرَدَ فِي روايات المصحف مِنْ كون فاطمة(عليها السلام) معنيّة بأمر مَنْ يملك فِي الأرْض وَمَنْ يحكم فيها سواء فِي الزمن الذي تكون فيه فاطمة(عليها السلام) عَلَي قيد الحياة أو بعده فيه إشارات إلي عموم ولايتها، وأنَّ لها مسؤولية إلهية مستمرة بلا توقّف.

ومعني أنَّ فاطمة(عليها السلام) تجلّي لفعل الله فِي سلسلة الأحداث عَلَي المستوي الفردي والمستوي الاجتماعي لَيْسَ هُوَ الحتم والجبر وَإنَّها مسؤولة عَنْ تسيير الأحداث بقالب جبري، بل هِيَ معنيّة ومسؤولة عَنْ حتم الأحداث مَعَ اشتمالها عَلَي البداء وبقاء مسؤولية البشر.

وبعبارة أُخري:

إنَّ الله تَعَالَي لَمْ يخلق الكون ثمَّ اعتزل عَنْ مملكته وترك الأُمُور عَلَي عواهنها ففوض أمر الأفراد للأفراد، وأمر المجتمعات للإرادة الجمعيّة!!

وَإنَّما لله إرادة وفعل فِي كُلّ حدث، والمعني بالجانب الإلهي فِي أفعال البشر هُوَ فاطمة(عليها السلام).

حَيْثُ لَمْ يُعط أحدا مسؤولية الاطّلاع عَلَي مَنْ سيتقلّد الحكم والملك فِي الأرْض سواء كَانَ مِنْ المسلمين أو غيرهم إلَّا فاطمة(عليها السلام).

ص: 134

وَعَلَي هَذَا الأساس نتلمس التطابق والتشاهد بين المفاد الروائي الوارد فِي مصحفها وبين ما سيأتي مِنْ شهادة القُرآن لها بولاية أحوال الأرْض فِي قوله تَعَالَي: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُري فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ )(1). (2)

نهج فاطمة(عليها السلام) قدوة:

وبَعْدَ كل ما بين مِنْ أدوار ومسؤوليات لفاطمة(عليها السلام) مِنْ حقنا أنَّ نستغرب مِنْ سيرة الكثير مِنْ المسلمين الَّذِيْنَ يبنون عَلَي الاستغاثة والتوسل بأهل البيت(عليهم السلام) أو صحابة الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) لكنّهم يهجرون التوسل علماً وجهلاً بمنهاج فاطمة(عليها السلام) رغم أنَّ منهاجها غوث وغياث فِي القرب مِنْ الله، فَلَيْسَت الزفي محصورة فِي التحبب لأهل البيت(عليهم السلام) وإنْ كَانَ حبهم مِنْ أعظم الزلفي، لكنَّ أحد أسباب التقرب والقرب إلي الله هو المثابرة فِي فهم نهج فاطمة(عليها السلام) وأدوارها بَعْدَ أبيها إلي جنب أدوار أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام).

فَقَدْ كَانَ مِنْ منهجها أنَّها استنهضت الأنصار عسكرياً فِي خطبتها لتثور ضد المستولي الأوَّل، وَلَمْ يجرؤ بحضرتها(عليها السلام) أنْ يُبدي أيّ

ص: 135


1- سورة الحشر: الآية 7.
2- سوره 59 - آيه 7

اعتراض، وهكذا سائر أركان السقيفة لَمْ يجرؤا أمام مرأي المسلمين أنْ يبدوا صوت اعتراض عَلَي منطق فاطمة(عليها السلام).

وإنْ دلّ ذَلِكَ عَلَي شيء فَهُوَ يَدُلّ عَلَي ارتكاز لدي المسلمين والصحابة بثبوت صلاحيات لفاطمة(عليها السلام) وموقع إلهي فِي المسؤولية عَنْ ملوك وحكّام الأرْض.

كَمَا أنَّها أفصحت عَنْ دور المُؤْمِنِين والمجتمع الإيماني فِي تغيير الحكومات والأحداث بمقتضي قاعدة «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».

وستظل الحقيقة الكاملة فيما يخص معارف الدِّين وأحداث الصراع الأوَّل ضائعة وخفيّة ما لَمْ يسترجع الباحثون البحث المركّز فِي منهاج فاطمة(عليها السلام).

إذْ أنَّهُ لولا موقفها لما وصلت الحقيقة الكاملة للأجيال، فَقَدْ كَانَ دورها نبراساً لأساس الدِّين ومنهاجاً لإصلاح ما فسد مِنْ أُمُور المسلمين.

المطلب الثَّالِث: إشراف فاطمة(عليها السلام) عَلَي الإمامة الإلهية

اشارة

مِنْ أعظم ما وَرَدَ فِي مقام بيان الولاية الكبري لفاطمة(عليها السلام) ما في المأثور: «ما تكاملت النبوة لنبي حتي أقر بفضلها ومحبتها » (1).

ص: 136


1- مجمع النورين، أبو الحسن المرندي/40 عن السيد في مدينة المعاجز، ويشهد له ما رواه في بصائر الدرجات بسند عال عن حذيفة بن أسعد قال قال رسول الله: «ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتي عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومثلوا له فأقروا بطاعتهم وولايتهم» . 93.

ويمكن أنْ نُعبِّر عَنْ مفاد هَذِهِ الرِّوَايَة بإشراف فاطمة(عليها السلام) عَلَي النبوة ومقام الإمامة الإلهية فما مِنْ صاحب مقام - عدا سَيِّد الأنبياء - إلَّا وَهُوَ واقع تحت إشرافها ومباركتها لمقامه.

وما نحن بصدد الحديث عنه وَهُوَ مصحف فاطمة(عليها السلام) بيان بيَّن لما لها مِنْ إشراف عَلَي الإمامة الإلهية وَمِنْ أكثر مِنْ بَعْدَ.

البعد الأول: الوساطة النورية:

مِنْ أجلي المعارف الَّتِي أفصحت عنها روايات المصحف هِيَ كونه(عليها السلام) مِنْ مصادر علوم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وبذلك يثبت لها(عليها السلام) بالنسبة لأولادها دور المعلِّم الإلهي، أيّ مقام الوسيط بين الغيب والأئمة فِي تلقي العلوم الخاصّة.

أي أنَّ علوم المصحف لَمْ تتلقاها فاطمة(عليها السلام) مِنْ تعليم الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) مِنْ خلال نطقه وتلفّظه، وَهَذَا لا يعني أنَّ ثمة علم يُتلقي مِنْ غَيْر وساطة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، ولو افترض أنَّ سنخاً مِنْ العلم لَمْ يتوسّط الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فيه لنُزعت عنه صفة الحجية والوحيانبة.

وَعَلَي هَذَا الأساس تكون وساطة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي وصول علوم المصحف لفاطمة(عليها السلام) وساطة روحيّة نورية، وَهَذَا معني ما قلناه مِنْ

ص: 137

أنَّها لَمْ تتلقَ العلم اللّدني الإلهي مِنْ شفتي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بينما تلقته مِنْ روح الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله).

وَهَذِهِ قاعدة معرفية عامة مفادها أنَّ كُلّ واحد مِنْ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وإنْ لَمْ يلتقِ بجسد الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ويسمع مِنْ شفتيه المباركتين إلَّا أنَّهُ يتلقي العلوم مِنْ نور الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بَلْ هُمْ عَلَي اتّصال دائم بطبقة نوره.

وَقَدْ مَرَّ بيان هذا السنخ مِنْ الاتّصال عِنْدَ الكلام حول الحديث القدسي فِي تبليغ سورة البراءة.

وعلي هذا الأساس يثبت لها وساطة فيما بين الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والأئمة(عليهم السلام) نظير الوساطة النورية للنبي(صلي الله عليه و آله) بين الله والأئمة، فَهِيَ وسيط علمي لهم بما توسطت فيه مِنْ علوم المصحف، بل هِيَ دائمة الوساطة حَتّي وَهِيَ فِي عالم برزخها.

وبتصور هَذِهِ الوساطة العلمية يتبيَّن نحو مِنْ إشراف فاطمة(عليها السلام) عَلَي مقام الإمامة الإلهية.

البُعد الثَّانِي: الوساطة النورية تثبت الحجية:

مِنْ الخطأ أنْ تفهم الوساطة العلمية فِي سنخها النوري عَلَي أنَّها مجرَّد نقل للعلوم مِنْ الأصل إلي الفرع كنقل علوم العالم للمتعلمين عبر الكتب المؤلفة، بَلْ الصحيح أنَّ للواسطة العلمية الإلهية مقاما أعلي

ص: 138

وأشرف مِنْ مقام المتلقين عنها، ولأجل ذَلِكَ جعلت واسطة، وَهَذَا ما يَدُلّ علي أنَّ إيمان المؤمن لا يَتِمُّ بالاعتقاد بإمامة الأئمة الإلهيين مقطوعاً عَنْ الإقرار لفاطمة(عليها السلام) بالحجيّة.

وبذلك يثبت حجيتها(عليها السلام) بدليل مصحفها وما فيه مِنْ علوم، ويثبت أنَّها صاحبة مقام ملكوتي أعلي، وَهُوَ معني إشرافها عَلَي الإمامة الإلهية.

فإنْ قَالَ قائل:

إنَّها لَمْ تكن إماماً ولا قائداً عسكرياً، فكيف يثبت لها إشراف حقيقي ومقامي عَلَي الإمامة الإلهية؟

وجوابه: إنَّ المقامات التنفيذية والعسكرية شيء وأهلية الأمانة عَلَي الوحي ومعارفه شيء آخر، فَكَمَا أنَّ جبرائيل قَدْ ثبت لَهُ مقام الأمين عَلَي الوحي ويجب الاعتقاد لَهُ بذلك مِنْ غَيْر أنْ يكون قائداً عسكرياً ولا ذا إمامة تنفيذية فكذلك لفاطمة(عليها السلام) إشراف عَلَي الإمامة الإلهية لما لها مِنْ أهلية الأمانة عَلَي الوحي، أيّ أمانة مِنْ سنخ عالم النُّور.

وَقَدْ مَرَّ بنا سابقاً أنَّهُ لَيْسَ مِنْ الضروري فِي الحجج وتمييز مراتبها أنْ يكون لها تماس مباشر بالبشر، فَإنَّ بَعْض الحجج ممن ثبتت لهم مقامات عظيمة هِيَ ثابتة لهم بما لهم مِنْ إدارة وتدبير فِي دائرة

ص: 139

المصطفين، وبما لهم مِنْ إشراف فِي ضمن حلقة الحجج الإلهية.

ومما يشير ويُؤكِّد عَلَي موقع إشراف لفاطمة(عليها السلام) ما وَرَدَ فِي روايات الخمس تحت قوله تَعَالَي: ( (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي وَ الْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ )(1). (2)

فَإنَّ بين القربي وَهُمْ (الحسن والحسين والتسعة المعصومين) وبين رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) همزة وصل ببركتها يرث الحسنان(عليهما السلام) ويرث التسعة المعصومون(عليهم السلام) مِنْ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله)، أيّ أنَّ الوراثة تمر بحلقة واصلة، فَلَمْ يثبت للأئمة(عليهم السلام) ولاية عَلَي الخمس وَلَمْ تسند لهم ولاية الفيء إلَّا عبر الوساطة والوراثة مِنْ فاطمة(عليها السلام)، فَكُلّ واحد مِنْ الأئمة المعصومين(عليهم السلام) حَتّي آخرهم وَهُوَ الحجة المهدي(عليه السلام) إنَّما هُوَ الآن في كنف ولاية جدته فاطمة(عليها السلام) وينفّذ ما يكون فِي دائرة آمريتها.

وهذه المضامين بألفاظ مُتعدّدة قَدْ قُرِّرت فِي الروايات الشريفة.

وإنْ سألت عَنْ مقام علي(عليها السلام)، فمقامه فِي التوسّط فِي الوراثة مقام الشراكة مَعَ الزهراء(عليها السلام).1.

ص: 140


1- الانفال: الآية 41.
2- سوره 8 - آيه 41

المقالة الثامنة: ليلة القدر أحد مقامات فاطمة عليها السلام

اشارة

*كلام المجلسي في هذا المقام.

*النقطة الأولي: فاطمة(عليها السلام) ثالثة الحجج....

*النقطة الثانية: البيت بيت الرُّوُح.

*النقطة الثالثة: الارتباط بين أرواحهم والعرش.

*النقطة الرابعة: ارتباطهم بالعرش معراج.

*النقطة الخامسة: امتداد صرح بيوت أرواحهم....

قد ورد في روايات متعددة تصريحا وتلويحا أن فاطمة(عليها السلام) هي ليلة القدر، أو أنها روح القدس، وغير ذلك من الأوصاف التي تشير إلي أنها واسطة فيض علمي للائمة من ذريتها(عليها السلام).

ولا يخفي أن تنزل الملائكة ورح القدس لا يقتصر علي ليلة في شهر رمضان، بل قد ورد أنه في كل ليلة جمعة، بل في كل ساعة بعد ساعة يتنزل الأمر.

ص: 141

وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في صحيحة أبي بصير:

«أن هذا العلم هو أعظم علومهم وأنه أعظم من علمهم بالجامعة وعلمهم بالجفر ومن علمهم بالف باب يفتح منه الف باب ومن علمهم بمصحف فاطمة»(1) .

فهذا العلم وإن كان أعظم من علمهم بمصحف فاطمة(عليها السلام) إلا أنه في هذه الرواية بيان أن هذا العلم هو الآخر يستفيضه الائمة من ذريتها بواسطتها(عليها السلام)، مع أن علمهم بمصحف فاطمة(عليها السلام) قد جعل في هذه الصحيحة أعظم من العلم الذي علمه رسول الله(صلي الله عليه و آله) لعلي(عليه السلام) الذي هو ألف باب يفتح من كل باب ألف باب، وأعظم من علم الجامعة الذي هو املاء رسول الله(صلي الله عليه و آله) وخط علي(عليه السلام)، وأعظم من علم الجفر الذي فيه علم كل النبيين وكل الأوصياء من الأمم السابقة بل كل علم علماء الماضين .

والعمدة أن هذا المقام من كونها ليلة القدر جعل في صحيحة أبي بصير أعظم من مقامها(عليها السلام) في تلقي المصحف ووساطتها لعلم الائمة(عليهم السلام) بتوسط مصحفها.

ويشير إلي ذلك عدة روايات:

1) فرات قال: حدثنا محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن أبي9.

ص: 142


1- الكافي، الشيخ الكليني 1 / 239.

عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (1) الليلة فاطمة والقدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإما سميت فاطمة لان الخلق فطموا عن معرفتها وقوله: ( وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) ) (2) يعني خير من ألف مؤمن وهي أم المؤمنين.

( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها ) (3) والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد (صلي الله عليه و آله) والروح القدس هي فاطمة (عليها السلام) (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)سَلامٌ هِيَ حَتّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5) (4) يعني حتي يخرج القائم (عج)(5).

2) وفي تأويل الآيات عن زرارة عن حمران قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عما يفرق في ليلة القدر هل هو ما يقدر الله فيها ؟

قال: لا توصف قدرة الله إلا أنه قال (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) (6) فكيف يكون حكيما إلا ما فرق، ولا توصف قدرة الله سبحانه، لأنه يحدث ما يشاء .

وأما قوله ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) (7) يعني فاطمة (عليها السلام)،وقوله ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها ) (8) والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد (صلي الله عليه و آله) والروح روح القدس وهو في فاطمة (عليها السلام) (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ ) (9) يقول: من كل أمر مسلمة) (حَتّي (10)2.

ص: 143


1- سوره 97 - آيه 1
2- سوره 97 - آيه 2
3- سوره 97 - آيه 4
4- سوره 97 - آيه 4
5- تفسير فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي582.
6- سوره 44 - آيه 4
7- سوره 97 - آيه 3
8- سوره 97 - آيه 4
9- سوره 97 - آيه 4
10- سوره 97 - آيه 5

مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (1) حتي يقوم القائم (عليه السلام)(2).

ومفاد الروايتين علي تأويل الآية الكريمة بنمط من التأويل أخفي مما ورد في بقية الروايات فقوله(عليه السلام) في الروايتين: (والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد(عليهم السلام) لعل ظاهره الائمة من آل محمد(عليهم السلام) إذ أحد العناوين التي أشار بها القرآن لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في القرآن هو عنوان (المؤمنون) كما أشارت إليه جملة من الروايات في عدة مواضع من السور القرآنية.

فعن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) (3) قال: هم الأئمة»(4).

وعن عبد الله بن أبان الزيات وكان مكينا عند الرضا(عليه السلام) قال: قلت للرضا(عليه السلام): ادع الله لي ولأهل بيتي فقال: أو لست أفعل ؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة، قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرء كتاب الله عز وجل: ( وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) (5)

؟قال: هو والله علي بن أبي طالب(عليه السلام)(6).9.

ص: 144


1- سوره 97 - آيه 5
2- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي الغروي 818.
3- سوره 9 - آيه 105
4- الكافي، الشيخ الكليني 1 / 219.
5- سوره 9 - آيه 105
6- الكافي، الشيخ الكليني 1 / 219.

وعلي ضوء ذلك فتكون نسبة مقام فاطمة(عليها السلام) مع الائمة من ولدها نسبة الروح إلي الملائكة، وقد ورد أن الفارق بين الروح والملائكة أي روح القدس وجبرائيل(عليه السلام) وأخوته من الملائكة المقربين هو فارق شاسع جدا في القدرة والعلم والشأن.

فإذا كان تأويل الآية بارادة فاطمة(عليها السلام) من الروح وارادة الائمة(عليهم السلام) من الملائكة فهذا يبين الفارق بين مقامها(عليها السلام) ومقام الائمة من ولدها(عليهم السلام) .

فهي(عليها السلام) تكون بمثابة الأم لهم أي الأصل النوري والمرجع والمآل لهم، وأنهم منها انشعبوا ومنها اشتقوا، وأنها المحكم والأمومة المحكمة لتفصيل أنوارهم وعلومهم وهداياتهم.

وهذا مطابق لما ورد في القرآن وروايات الفريقين من أنها وعلي(عليهما السلام) البحران الذان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

ويعاضد هذا الاحتمال في استظهار الائمة من أهل البيت(عليهم السلام) أن الامامة قد ورد التعبير عنها بالملك في القرآن الكريم في موارد عديدة، كما في قوله تعالي: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلي ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) (1) (2) و4.

ص: 145


1- سوره 4 - آيه 54
2- سورة النساء: الآية 54.

ملك العلم هو ملك القدرة والولاية.

وقوله تعالي: ( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً ) (1). (2)

قال: فالنار هو القائم (عليه السلام) الذي قد أنار ضوءه وخروجه لأهل الشرق والغرب .

و «الملائكة» هم الذين يملكون علم آل محمد (صلي الله عليه و آله) (3).

وعلي ضوء هذه الاحتمال في الرواية يحتمل كون المراد من المؤمنين هم الشيعة الحواريون لأهل البيت(عليهم السلام) نظير أصحاب القائم .

بل يقوي احتمال كونهم ائمة أهل البيت(عليهم السلام)، وأصحاب القائم(عليه السلام) شركاؤه في امامة أهل البيت(عليهم السلام) من بقية الائمة، كما ورد التعبير في الحديث النبوي عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) فقد روي في بصائر الدرجات عن جعفر عن أبيه(عليهما السلام) أن رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم لا عذر لكم في تركه وما لم يكن في كتاب الله وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فخذوه، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم فبأيها اخذ اهتدي وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم،د.

ص: 146


1- سورة المدثر: الآية 31.
2- سوره 74 - آيه 31
3- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي الغروي 710، كنز جامع الفوائد.

واختلاف أصحابي لكم رحمة قيل: يا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ومن أصحابك قال أهل بيتي»(1).

وعلي كلا التقديرين فيظهر لها(عليها السلام) الشأن والمقام والهيمنة في الولاية علي تدبير الأمور.

كلام المجلسي(ره) في هذا المقام:

اشارة

قال المجلسي(ره) في شرح الرواية الأولي:

وأما تأويله(عليه السلام) ليلة القدر بفاطمة(عليها السلام) فهذا بطن من بطون الآية، وتشبيهها بالليلة إما لسترها وعفافها، أو لما يغشاها من ظلمات الظلم والجور.

وتأويل الفجر بقيام القائم بالثاني أنسب فإنه عند ذلك يسفر الحق وتنجلي عنهم ظلمات الجور والظلم، وعن أبصار الناس أغشية الشبه فيهم، ويحتمل أن يكون طلوع الفجر إشارة إلي طلوع الفجر من جهة المغرب الذي هو من علامات ظهوره.

والمراد بالمؤمنون الأئمة(عليهم السلام) وبيّن (عليه السلام) أنهم إنما سموا ملائكة لأنهم يملكون علم آل محمد(عليهم السلام) ويحفظونها ونزولهم فيها كناية عن حصولهم منها موافقا لما ورد في تأويل آية سورة الدخان أن الكتاب

ص: 147


1- بصائر الدرجات، الصفار: 31.

المبين أمير المؤمنين(عليه السلام) والليلة المباركة فاطمة(عليها السلام) وفيها يفرق كل أمر حكيم» أي حكيم بعد حكيم وإمام بعد إمام .

وقوله: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)سَلامٌ هِيَ) (1) علي هذا التأويل هي مبتدأ، وسلام خبره، أي ذات سلامة، ومن كل أمر متعلق بسلام، أي لا يضرها وأولادها ظلم الظالمين، ولا ينقص من درجاتهم المعنوية شيئا، أو العصمة محفوظة فيهم فهم معصومون من الذنوب والخطاء والزلل إلي أن تظهر دولتهم ويتبين لجميع الناس فضلهم»(2).

3) روي الكليني في الكافي بسنده إلي يعقوب بن جعفر بن ابراهيم قال كنت عند ابي الحسن موسي(عليه السلام) إذ اتاه رجل نصراني ... فقال النصراني:

إني أسألك - أصلحك الله - قال: سل، قال: أخبرني عن كتاب الله تعالي الذي انزل علي محمد ونطق به، ثم وصفه بما وصفه به، فقال: (حم (1)وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (3)فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) (3) ما تفسيرها في الباطن؟

فقال: أما حم فهو محمد (صلي الله عليه و آله) وهو في كتاب هود الذي انزل عليه وهو منقوص الحروف وأما «الكتاب المبين» فهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأما الليلة ففاطمة وأما قوله: «فيها يفرق كل أمر حكيم» يقول: يخرج9.

ص: 148


1- سوره 97 - آيه 4
2- بحار الأنوار، المجلسي 25 / 99.
3- سوره 44 - آيه 1

منها خير كثير فرجل حكيم ورجل حكيم»(1).

وهذه الرواية هي الأخري دالة علي تقدم رتبة الصديقة(عليها السلام) علي الائمة(عليهم السلام) من ذريتها وأن رتبتها بعد النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام)، وأن مقامها مقام التدبير والتقدير وأن الائمة(عليهم السلام) من ذريتها أعوان وأعضاد ووزراء لها(عليها السلام)، وأنها واسطة فيض العلم من النبي وأمير المؤمنين(عليهم السلام) إلي الائمة من ذريتها(عليهم السلام) ومثلها دلالة الرواية السابقة.

ومفاد هذه الرواية يطابق ما مرّ من روايات الفريقين من تأويل البحرين ببحر علي وفاطمة(عليهما السلام)، وأن الائمة(عليهم السلام) من ذريتها هم ثمار وجواهر مستخرجة من بحر علي وبحر فاطمة(عليهما السلام).

وكذلك هذه الرواية تبين أن من الخير الكثير الذي يخرج من فاطمة(عليها السلام) الائمة(عليهم السلام) من ذريتها رجل حكيم بعد رجل حكيم وامام بعد امام.

4) عن عبد الله بن عجلان السكوني قال:

سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول:

«بيت علي وفاطمة من حجرة رسول الله(صلي الله عليه و آله)، وسقف بيتهم عرش رب العالمين، وفي قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلي العرش معراج الوحي، والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحا ومساء، وفي كل ساعة9.

ص: 149


1- الكافي، الشيخ الكليني 1 / 479.

وطرفة عين، والملائكة لا ينقطع فوجهم، فوج ينزل وفوج يصعد.

وإن الله تبارك وتعالي كشط لإبراهيم(عليه السلام) عن السماوات حتي أبصر العرش وزاد في قوة ناظره.

وإن الله زاد في قوة ناظر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، وكانوا يبصرون (العرش) ولا يجدون لبيوتهم سقفا غير العرش فبيوتهم مسقفة بعرش الرحمن، ومعارج: معراج الملائكة، والروح فوج بعد فوج لا انقطاع لهم.

وما من بيت من بيوت الأئمة منا إلا وفيه معراج الملائكة لقول الله عز وَجَلَّ «تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم بكل أمر سلام». قال: قلت: «من كل أمر»؟ قال: بكل أمر، قلت: هذا التنزيل؟ قال: نعم»(1) .

بيان الرواية في نقاط:

النقطة الأولي: فاطمة(عليها السلام) ثالثة الحجج:

مفاد الرواية هو الآخر يبين أن رتبة فاطمة(عليها السلام) هي الثالثة في الاصطفاء بعد الرسول(صلي الله عليه و آله) وأمير المؤمنين(عليه السلام) حيث بدأ بالثلاثة واشتراكهم في بيت

ص: 150


1- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة ، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي 818.

واحد، حيث إن التعبير أن البيت المشترك لعلي وفاطمة(عليهما السلام) هو من حجرة رسول الله(صلي الله عليه و آله)، أي أن البيت المشترك بينهما ناشئ من حجرة رسول الله(صلي الله عليه و آله)، ثم جمع(عليه السلام) الثلاثة في عنوان واحد وهو قوله (وسقف بيتهم).

النقطة الثانية: البيت بيت الرُّوُح:

لا يخفي إن المراد بالبيت هنا ليس هو الذي من حجر ومدر وطين كما بين الباقر(عليه السلام) في رواية أخري لقتادة(1)، بل المراد طبقات أبدانهم لأن البدن بيت للروح، والروح جسم رقيق، فالروح ذات الجسم الرقيق بيت لروح الروح وهلم ما جري.

ومن ثم نلاحظ أنه(عليه السلام) أفرد عنوان البيت ابتداءا وأسنده إلي علي وفاطمة(عليهما السلام) ثم أفرده وأسنده إلي الثلاثة ثم ذكره بصيغة الجمع وأسنده إلي الثلاثة، وعلي ذلك فكون سقفهم عرش رب العالمين يراد اتصال وارتباط أرواحهم الشريفة بالعرش.

النقطة الثالثة: الارتباط بين أرواحهم والعرش:

قوله(عليه السلام) أن سقف بيتهم عرش رب العالمين، ليس يفيد الارتباط فقط بل يفيد حملهم للعرش.

ص: 151


1- الكافي، الكليني256/6.

ولعله أكثر من الحمل أيضا، وأما بيان كيفية نسبة هذا الحقيقة من الارتباط بين أرواحهم والعرش من كونه سقفا لبيوتهم أي بيوت أرواحهم أو أن قعر بيوتهم أي وسط أرواحهم وهو كناية عما بطن وأبطن من طبقات الأرواح التي فيهم، أن فيها فرجة مكشوطة أي باب مفتوح إلي العرش، وهذا غير أبواب السماوات، مع - حملة العرش - في قوله تعالي: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) (1). (2)

وكذا مع قوله تعالي: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ )(3). (4)

وقوله تعالي: ( وَ الْمَلَكُ عَلي أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (5) (6) ، لا سيما مع قوله(عليه السلام):

«وإن الله زاد في قوة ناظرة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وكانوا يبصرون العرش ولا يجدون لبيوتهم سقا غير العرش فبيوتهم مسقفة بعرش الرحمن».

النقطة الرابعة: ارتباطهم بالعرش معراج:

ثم إنه(عليه السلام) بيّن الرابطة بينه وبين العرش بأن هذا الارتباط معراج للوحي والملائكة والروح فوج بعد فوج لا ينقطع لا صباحا ولا مساءا

ص: 152


1- سورة غافر: الآية 7.
2- سوره 40 - آيه 7
3- سورة الحاقة: الآية 16.
4- سوره 69 - آيه 16
5- سورة الحاقة: الآية 17.
6- سوره 69 - آيه 17

ولا ساعة ولا طرفة عين.

ثم إنه(عليه السلام) شارك بيوت الأئمة(عليهم السلام) بهذا الوصف أيضا وأنه مفاد قوله تعالي:

«تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم بكل أمر سلام» وأن هذا التنزل وهو مفاد السورة دائم دائب لا ينقطع.

النقطة الخامسة: امتداد صرح بيوت أرواحهم:

أن قوله(عليه السلام):

«لا يجدون لبيوتهم سقفا غير العرش فبيوتهم مسقفة بعرش الرحمن» يدل علي امتداد صرح بيوت أرواحهم، والروح جسم رقيق في طبقات أرواحهم، أي طبقات الأجسام الرقيقة المشتدة لطافة بطبقات ممتدة في اللطافة إلي العرش بناءا علي أن العرش من الروحانيين كما بسطنا بحثه في الجزء الرابع من كتاب الرجعة.

والمحصلة:

قد مرّ وجوه دلالة الرواية في صدرها علي كونها(عليها السلام) في الرتبة الثالثة في أهل البيت(عليهم السلام) اصطفاءا وأن لها(عليها السلام) نحو مشاركة لأمير المؤمنين(عليه السلام) ولرسول الله(صلي الله عليه و آله)، وفي وسط الرواية أيضا قوله(عليه السلام) الذي مر «إن الله زاد في ناظرة محمد وعلي وفاطمة..» جعلت فاطمة(عليها السلام) في الرتبة الثالثة .

ص: 153

ص: 154

المقالة التاسعة: إرهاصات النبوة فِي فاطمة عليها السلام

اشارة

*الأمر الأول: تكرر نزول الملائكة العظام عليها...

*الأمر الثاني: التعبير عما تتلقاه بالنزول...

*الأمر الثالث: تسالم المسلمين علي الخصائص الاصطفائية لفاطمة(عليها السلام)...

*الأمر الرابع: التولد من النبي(صلي الله عليه و آله) ممزوج بالجينات النبوية.

*الأمر الخامس: توصيفها ببنوة أوصاف مقامات النبي(صلي الله عليه و آله)...

*الأمر السادس: مصحف فاطمة(صلي الله عليه و آله) فيه تنزيل وتأويل القُرآن.

*علم جمع الجمع النبوي لدا فاطمة(عليها السلام)...

*ارهاصات الوحي...

*ذكر شؤونها وصلاحياتها من المصحف...

*مسألة: هل المصحف أكبر من القرآن...

ص: 155

دلت علي وجود إرهاصات للنبوة في فاطمة(عليها السلام) عدة نصوص وروايات، منها:

ما في زيارة عظيمة من زياراتها رواها بن طاووس في الإقبال والتي منها «.. وسللت منها أنوار الأئمة، وأرخيت دونها حجاب النبوة) (1).

وما رواه في الاحتجاج من قول أمير المؤمنين(عليه السلام) لها(عليها السلام): «لا ويل لك بل الويل لشانئك، ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة، وبقية النبوة»(2).

وما رواه في المناقب عن النبي(صلي الله عليه و آله): فأنزل الله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)، يقول [الله]: أنا أرسلت البحرين علي بن أبي طالب بحر العلوم، وفاطمة بحر النبوة) (3).

إن الملاحظ فيما يرتبط بشؤون مقام العلم اللدني لفاطمة(عليها السلام) ورود التعبير المتعدد من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بما يبين أن فاطمة(عليها السلام) وإن لم تكن نبية لكنها وعاء لنبوة أبيها، وأنها اختصت بشؤون نبوة أبيها وورثت تلك الشؤون عنه (صلي الله عليه و آله)، فهي وإن لم تكن نبية إلا أن جملة من شؤون الأنبياء والوحي النبوي النازل عليهم قد تحقق لها(عليها السلام)، فهي01

ص: 156


1- إقبال الأعمال ، السيد ابن طاووس 3 / 166
2- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي 1 / 146
3- مناقب آل أبي طالب، بن شهر آشوب3 / 101

وإن لم تكن نبية إلا أنها واجدة لكمالات النبوة .

وقد أشير إلي هذه الشؤون في الروايات المستفيضة بألفاظ وعناوين عديدة، ونظيره المقام ما حررناه في الجزء الثاني من أن فاطمة(عليها السلام) وإن لم تكن إماما إلا أنها واجدة لكل مقامات الإمامة الإلهية بنص القرآن والسنة النبوية وسنة المعصومين القطعية، فكذلك الحال بالنسبة إلي مقام النبوة والوحي النبوي.

ولبيان ذلك نذكر عدة أمور مرتبطة بشؤونها في هذا المقام توضح معني ارخاء حجاب النبوة عنها ومعني كونها بقية النبوة ومعني كونها بحر النبوة.

الأمر الأول: تكرر نزول الملائكة العظام عليها(عليها السلام):

إن المستفاد من الروايات المستفيضة في مصحف فاطمة(عليها السلام) تعدد وتكرر نزول جبرئيل عليها بعد موت أبيها كما في قول الصادق(عليه السلام) في شرح مصحف فاطمة(عليها السلام): ( وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاها علي أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة) (1).

وهذا الحديث يبين أن مجيء جبرائيل ونزوله عليها كان باستمرار

ص: 157


1- بصائر الدرجات، الصفار174.

وأن قسما مهما من مصحفها كان نزوله تدريجيا وبنحو مستمر لا دفعة كما في قسم آخر من المصحف كما بينته رواية الباقر(عليه السلام).

وهذا التعبير بحد نفسه أيضا مما يناسب شؤون الوحي النبوي وإن لم تكن بنبية.

بل في بعض الروايات نزول إسرافيل وميكائيل عليها، بل في بعض الروايات جملة من الملائكة العظام.

وهذا الشأن من تكرر نزول جبرئيل والملائكة العظام لا يتحقق إلا للأنبياء أولي العزم ومن يتلو تلوهم من الأنبياء لا لسائر الأنبياء كما نبّه إلي ذلك المحقق الشاه آبادي(ره) حسب ما نقل عنه.

وقد شذّ المحقق القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) فذهب إلي كون مريم نبية لتحديث الملائكة لها وتمثل جبرائيل وتكلمه لها(1)، مع أنه لم يحصل لمريم ما حصل لفاطمة(عليها السلام) من تكرر نزول جبرائيل فضلا3.

ص: 158


1- (وإذا تقرر هذا فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم(عليها السلام) و آسية نبيتين، وقد قيل بذلك، والصحيح أن مريم نبية، لأن الله تعالي أوحي إليها بواسطة الملك كما أوحي إلي سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في (مريم)، وأما آسية فلم يرد ما يدل علي نبوتها دلالة واضحة بل علي صديقيتها وفضلها، علي ما يأتي بيانه في التحريم..... فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلي آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والاخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء ، فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي ). الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي ) 4 / 83.

عن اسرافيل وميكائيل ولا أنزل عليها مصحف ومع ذلك استدعي هذا الشأن في مريم القرطبي إلي القول بأنها نبية.

وهذا القول وإن كان خاطئا عن الحقيقة وشاذا بين علماء الأمة إلا أنه ينبه علي أنه تحقق لمريم بعض شؤون النبوة وإن لم يكن نبوة حقيقية فكيف بما تحقق لفاطمة(عليها السلام) مما هو أعظم.

الأمر الثاني: التعبير عما تتلقاه بالنزول:

إنه ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) في بيان مصحف فاطمة(عليها السلام) تعبير الباقر (عليه السلام) بقوله: «انزل عليها بعد موت أبيها»(1) .

وهذا التعبير نظير ما ينزل علي الأنبياء(عليهم السلام) من كتب وكذلك نظير قوله(عليه السلام): «فلما أراد الله تعالي أن ينزله عليها، أمر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوا المصحف».

وهذا التعبير إنما يرد في وصف الوحي النبوي علي عظام الأنبياء(عليه السلام)، فهذه الارهاصات ارهاصات شؤون الوحي النبوي وإن لم تكن نبية.

ونظيره قوله(عليه السلام): «فهبطوا به وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياماً حتي قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا: السلام

ص: 159


1- دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري (الشيعي) 105.

يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها»(1) .

فهذا تعبير عن شؤون نزول الوحي النبوي ثم كيفية تعظيمهم لها وتسليمهم لها المصحف نظير نزول الألواح علي النبي موسي(عليه السلام) ثم نقلهم قول الله لها بالسلام ولاسيما أنه(عليه السلام) ذيّل هذا الشأن لها بوصفه: «ولقد كانت مفروضة الطاعة علي جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحوش والأنبياء والملائكة»(2) .

فبيّن(عليه السلام) ولايتها(عليها السلام) علي جميع الأنبياء(عليهم السلام) وعلي جميع الملائكة وهذا إنما هو مقام خليفة الله في الأرض بل أعلي خلفاء الله في الأرض.

الأمر الثالث: تسالم المسلمين علي الخصائص الاصطفائية لفاطمة(عليها السلام):

الملفت للنظر أن ائمة أهل البيت(عليهم السلام) رغم تسترهم في بيان أسرار الإمامة الإلهية وطريق الارتباط الوحياني بينهم وبين الغيب والسماء وتعبيرهم عن قناة ارتباطهم بألفاظ وعناوين بعيدة عن الايهام بأنها وحي نبوي، بينما نراهم(عليهم السلام) في شأن مصحف فاطمة(عليها السلام) وكيفية نزوله عليها لا يتحاشون هذه التعبيرات التي هي خاصة بشؤون الأنبياء.

وهذا مما ينبّه علي اصرار أئمة أهل البيت(عليهم السلام) علي بيان عظمة

ص: 160


1- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي 6 / 208.
2- مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي 6 / 208.

شؤون مقام العلم الوحياني لفاطمة(عليها السلام) كما أن ذلك يؤشر علي تسالم المسلمين علي خصائص اصطفائية إلهية في فاطمة(عليها السلام) فلا يستطيع المخالفون الانكار علي أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ما يبينونه من عظائم شؤون علم فاطمة(عليها السلام) ولا يتخوفون من ايهام ذلك بالقول بنبوتها بعد بداهة أنها ليست بنبية .

الأمر الرابع: التولد من النبي(صلي الله عليه و آله) ممزوج بالجينات النبوية:

إن خصوصية الوراثة والولادة من النبي(صلي الله عليه و آله) تعطي خصائص متميزة وراثيا، وقد أكد القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) علي خصوصية الوراثة وتأثيرها في النسل والسلالة نظير قوله تعالي: ( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1). (2)

ونظير ذكر القرآن آل ابراهيم وآل موسي وآل هارون وآل داود فضلا عن ذكر آل ياسين وهم آل محمد.

وكذلك قوله تعالي: ( وَ تَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) (3). (4)

وكذلك قوله تعالي علي لسان زكريا: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا(6) (5). (6)

ص: 161


1- سورة آل عمران: الآية 34.
2- سوره 3 - آيه 34
3- سورة الشعراء: الآية 219.
4- سوره 26 - آيه 219
5- سورة مريم: الآية 5 - 6.
6- سوره 19 - آيه 5

وقوله تعالي: (وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (1). (2)

فضلا عما ورد في متواتر الزيارات المروية من نعت أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بكينونتهم في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة.

والحاصل إن تركيز الوحي علي العامل الوراثي الحاضن شيء كبير لسنا في صدد الخوض والبسط فيه.

وقد ورد عن النبي(صلي الله عليه و آله) في توصيف عمه أبي طالب(عليه السلام): «لو أن أبا طالب ولد الناس لكانوا شجعانا»(3).

وفي كشف الغمة «لله در أبي طالب لو ولد الناس كلهم كانوا شجعانا»(4).

وورد عنه قوله(صلي الله عليه و آله) في شأن ابنه ابراهيم: «ولو عاش إبراهيم لكان نبيا»(5).

وهذا يعطي الميزة الوراثية للنبي(صلي الله عليه و آله) في سلالته أنها انبائية .5.

ص: 162


1- سورة النمل: الآية 16.
2- سوره 27 - آيه 16
3- ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، الزمخشري 2 / 204 / شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد 78/10.
4- كشف الغمة في معرفة الائمة، الاربلي 2/ 235.
5- كنز جامع الفوائد / تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي 832 / تفسير فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي 586 / حلية الأبرار، السيد هاشم البحراني 2 / 409 فتح الباري، ابن حجر 10 / 477 / كنز العمال، المتقي الهندي12 /455.

وقد ورد في شأن القاسم والطاهر ابنائه من خديجة ما يدل علي اصطفائهما، فعن حذيفة قال: خرج علينا رسول الله(صلي الله عليه و آله) حاملا للحسن علي عاتقه والحسين علي صدره،... ثم قال: هذا الحسن والحسين خير الناس جدا وجدة، وهذا الحسن والحسين خير الناس أما وأبا، وهذا الحسن والحسين خير الناس عما وعمة، وهذا الحسن والحسين خير الناس خالا وخالة.

أما جدهما فرسول الله (صلي الله عليه و آله) وجدتهما خديجة وهما في الجنة .

وأما أبوهما فعلي وأمهما فاطمة (عليها السلام) وهما في الجنة .

وأما عمهما فجعفر بن أبي طالب وعمتهما أم هانئ ابنة أبي طالب وهما في الجنة .

وأما خالهما فإبراهيم والقاسم ابنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) وخالتهما رقية وزينب وأم كلثوم وهم في الجنة)(1).

وروي في كشف الغمة عن يونس بن عبيد قال لمّا حضرت الحسن بن عليّ(عليهما السلام) الوفاة كأنّه جزع عند الموت! فقال له الحسين(عليه السلام)-2.

ص: 163


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين، محمد بن سليمان الكوفي 2 /411 شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي 1 / 120 / مناقب علي بن ابي طالب ، بن المغازلي 241 / الروضة في فضائل أمير المؤمنين ، شاذان بن جبرئيل القمي ( بن شاذان) 90 / الطرائف في معرفة مذهب الطوائف ، السيد بن طاووس 92 / حلية الابرار، السيد هاشم البحراني 2 / 145 / مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني 3 / 282.

كأنّه يعزّيه -: يا أَخي! ما هذَا الْجَزَعُ؟ إِنَّكَ تَرِدُ عَلي رَسُولِ الله(صلي الله عليه و آله) وَعَليّ(عليه السلام)، وَهُما أبواكَ، وَعَلي خَديجَةَ وَفاطِمَةَ وَهُما أُمّاكَ، وَعَلَي الْقاسِمِ وَالطّاهِرِ وَهُما خالاكَ، وَعَلي حَمْزَة وَجَعْفَر وَهُما عَمّاكَ»(1).

وهذا مما يدل علي أن السلالة الوراثية عن سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) ممزوجة بالجينة النبوية والطينة الإنبائية.

الأمر الخامس: توصيفها ببنوة أوصاف مقامات النبي(صلي الله عليه و آله):

يلاحظ في زيارة البضعة الصديقة(عليها السلام) - التي من فقراتها:

«السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يا بنت نبي الله، السلام عليك يا بنت حبيب الله، السلام عليك يا بنت خليل الله، السلام عليك يا بنت صفي الله، السلام عليك يا بنت أمين الله، السلام عليك يا بنت خير خلق الله، السلام عليك يا بنت أفضل أنبياء الله ورسله وملائكته، السلام عليك يا بنت خير البرية»(2)- التركيز علي توصيفها ببنوة أوصاف مقامات النبي(صلي الله عليه و آله) .

فكيف يكون شأنا ومقاما لها (عليها السلام)؟

ص: 164


1- كشف الغمة في معرفة الائمة، الاربلي 2/ 175
2- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي 711 / تهذيب الاحكام، الشيخ الطوسي 6 /10 / من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق 2/ 573 / المزار، محمد بن جعفر المشهدي80.

ولبيان ذلك نقول: إن كل مقام من مقامات النبي(عليها السلام) لا محالة ينعكس عليها وراثة، ولاسيما وأنها وريثة له بوراثة اصطفائية، أي ترث مقاماته الاصطفائية باصطفاء الله لها كوارث، وما اعظمه من مقام وشأن.

ومن ثم قد يعد هذا المقام من أعظم مقاماتها، وهذا ما نراه بوضوح في رواية المفاضلة بينها وبين أمير المؤمنين(عليه السلام).

فهذا المقام يفتح عموم اتصافها بمقامات أبيها تبعا ويا له من مقام.

الأمر السادس: مصحف فاطمة فيه تنزيل وتأويل القُرآن:

اشارة

روي في الكافي عن أبي بصير قال: بينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) ذات يوم جالسا... ثم أتي الوحي إلي النبي(صلي الله عليه و آله) فقال: سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين (بولاية علي) ليس له دافع * من الله ذي المعارج» قال: قلت: جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا، فقال: هكذا والله نزل بها جبرئيل علي محمد(صلي الله عليه و آله) وهكذا هو والله مثبت في مصحف فاطمة »(1).

وروي في شرح الأخبار عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، إنه قال في قول الله عز وجل:

«سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج»، قال: نزلت والله

ص: 165


1- الكافي، الشيخ الكليني 8 / 58 ، تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي724 / ما رواه محمد البرقي.

بمكة للكافرين بولاية علي(عليه السلام)، وكذلك هي في مصحف فاطمة»(1) .

وفي البحار عن تأويل الآيات عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قال: والله ما كني الله في كتابه حتي قال: «يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا» وإنما هي في مصحف فاطمة(عليها السلام) «يا ويلتي ليتني لم أتخذ - الثاني - خليلا» وسيظهر يوما»(2).

وهذا مما يعطي عظمة أخري لمصحف فاطمة(عليها السلام) أنه يضاهي مصحف علي(عليه السلام) الذي جمعه بخط يده وزياد.

ومن ثمة ورد في روايات أخري أن في مصحف فاطمة(عليها السلام) علم القرآن كما أنزل وعلم التوارة كما أنزل وعلم الانجيل كما أنزل وعلم الزبور كما انزل فضلا عن الأبواب الأخري في مصحفها (عليها السلام).

وهذا المفاد بنفسه يبيّن هيمنة فاطمة(عليها السلام) علي الأنبياء من أولي العزم علما، بل علي الأئمة(عليهم السلام) من ذريتها علما وقدرة وولاية .

علم جمع الجمع النبوي لدي فاطمة(عليها السلام):

وإن علمها من جوامع العلوم النبويّة وإلي هذا يشير وصفها ببقية النبوة أو بحر النبوة أو أرخت دونها حجاب النبوة وليس المقصود نبوءات الأنبياء بل نبوة سيد الأنبياء.

ص: 166


1- شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي 1 /241.
2- بحار الأنوار، المجلسي 30 / 245 ينقله عن كنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة.
ارهاصات الوحي:

وروي في بصائر الدرجات عن الصادق(عليه السلام) أنه قال:

«إن الله تبارك وتعالي لما قبض نبيه(صلي الله عليه و آله) دخل علي فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه الا الله عز وجل فأرسل إليها ملكا يسلي عنها غمها ويحدثنا فشكت ذلك إلي أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال لها إذا أحسست بذلك فسمعت الصوت فقولي لي فأعلمته فجعل يكتب كلما سمع حتي أثبت من ذلك مصحفا.

قال ثم قال أما أنه ليس فيه من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون»(1).

وروي بصائر الدرجات عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلت مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد إنما هو شئ املاها الله وأوحي إليها»(2).

وروي في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مصحف فاطمة ما فيه شئ ما كتاب الله وإنما هو شئ القي عليها بعد موت أبيها (صلي الله عليه و آله)» (3).

ص: 167


1- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن( الصفار) 177 / الكافي، الشيخ الكليني 1 / 240.
2- نفس المصدر / 172.
3- بصائر الدرجات ، الصفار / 169.

وروي في دلائل الامامة عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي(عليه السلام) عن مصحف فاطمة(عليها السلام) فقال: انزل عليها بعد موت أبيها»(1).

وهذه النصوص تبيّن مدي قابلية الزهراء(عليها السلام) لتنزل الملك عليها واحساسها به، ومن ثم تعلم أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وهذا نظير ما في الخطبة:

«ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّه (صلي الله عليه و آله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَي نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (صلي الله عليه و آله) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَي مَا أَرَي إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَي خَيْرٍ»(2).

وقد يثار تساؤل وهو إن التعبير بنزول أو بإلقاء مصحف لفاطمة(عليها السلام) من الله تعالي هل هو نظير نزول القرآن علي محمد(صلي الله عليه و آله) أو إلقاء التوراة لموسي(عليه السلام) والإنجيل لعيسي(عليه السلام) والزبور علي داود(عليه السلام)؟

وهل فاطمة(عليها السلام) في عداد الأنبياء ينزل عليها كتاب ويلقي عليها مصحف؟

وكيف يتم التعبير من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إن المصحف«املاها1.

ص: 168


1- دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري الشيعي105.
2- نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( تحقيق صالح) 301.

الله وأوحي إليها، انزل عليها، القي عليها»؟

وهذه التعابير نظير نزول الكتب علي الأنبياء لا سيما وأن المصحف كما بينّت الروايات فيه علم القرآن كله وعلم التوراة كله وعلم الزبور كله، أي علم الكتب السماوية كلها غير ما فيه من أمور عظام كبيرة وكثيرة ومهولة، فأي كتاب هذا ؟

وكيف أصبحت فاطمة(عليها السلام)من أصحاب الكتب في عداد وصف الأنبياء وإن لم تكن بنبية بالبديهية لكنها وصفت في الروايات في طرق الفريقين أنها بحر النبوة.

والتعبير ب- (بحر النبوة) فيه من الاشارة والتلويح الشيء العظيم حيث إنه يشير إلي أنها معدن النبوة والنبواءات لسائر الأنبياء، وأنها مخزن نبوة أبيها الذي له أعظم النبوءات .

وقد مرّ أن أمير المؤمنين(عليه السلام) وصف أنه (بحر العلم) بينما وصفت هي ب-(بحر النبوة)، وفي ذلك اشارة واضحة إلي أن سنخ مستقي علم أمير المؤمنين(عليه السلام) هو علم الولاية، بينما سنخ مستقي الصديقة(عليها السلام) هو علم النبوة فمن ثم شوهد فيها ارهاصات النبوة ونزول هذا الكتاب العظيم عليها وإن لم تكن بنبية.

ومن الملفت للنظر أن هذا المصحف ليس علمه لعموم الناس، بل ولا لعموم العلماء، بل ولا لعموم الأنبياء، بل هو خاص خصيص

ص: 169

بأئمة أهل البيت(عليهم السلام) .

فما السِّر السّار في علم هذا الكتاب الذي حجب عن جميع الأنبياء وخص به أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ومن ثم ورد في شأنها أن الخلق فطموا عن معرفتها بما فيهم الأنبياء والرسل «وأن علي معرفتها دارت القرون الأولي»(1).

ولعل أحد أهم معاني ( دارت) الحيرة والتحير.

ذكر شؤونها وصلاحياتها من المصحف:

ففي مصححة أبي بصير في دلائل الإمامة وقد رواها عن أعلام زعماء الإمامية قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي(عليه السلام) عن مصحف فاطمة(عليها السلام)، فقال: انزل عليها بعد موت أبيها.

فقلت: ففيه شيء من القرآن؟ قال: ما فيه شيء من القرآن.

قال: قلت: فصفه لي، قال: له دفتان من زبرجدتين علي طول الورق وعرضه حمراوين .

قلت له: جعلت فداك صف لي ورقه، قال: ورقه من در أبيض قيل له: (كن) فكان .

قلت: جعلت فداك، فما فيه؟

ص: 170


1- الأمالي ، الشيخ الطوسي 668.

قال: فيه خبر ما كان، وخبر ما يكون إلي يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في سماء سماء من الملائكة، وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلا وغير مرسل، وأسماؤهم، وأسماء الذين أرسلوا إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب منهم، وفيه أسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، من الأولين والآخرين، وأسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين،وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولي وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وفيه أسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك واحدا واحدا، وفيه صفة كراتهم، وفيه صفة جميع من تردد في الأدوار من الأولين والآخرين.

قال: قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال: خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار، وفيه أسماء جميع من خلق الله من الأولين والآخرين وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل والزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد .

قال أبو جعفر(عليه السلام): فلما أراد الله تعالي أن ينزله عليها، أمر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوا المصحف فينزلوا به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل، هبطوا به عليها وهي قائمة

ص: 171

تصلي، فما زالوا قياما حتي قعدت، فلما فرغت من صلاتها سلموا عليها، وقالوا لها: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها .

فقالت لهم: الله السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلي السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلي زوال الشمس تقرأه، حتي أتت علي آخره .

ولقد كانت(عليها السلام) طاعتها مفروضة علي جميع من خلق الله من الجن والإنس، والطير والبهائم، والأنبياء والملائكة.

فقلت: جعلت فداك فلما مضت إلي من صار ذلك المصحف؟ فقال: دفعته إلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما مضي صار إلي الحسن، ثم إلي الحسين، ثم عند أهله حتي يدفعوه إلي صاحب هذا الأمر .

فقلت: إن هذا العلم كثير!

فقال: يا أبا محمد، إن هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله، وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثالثة، ولا تكلمت بحرف منه) (1).

وفي هذه الرواية بيان لما يتضمنه المصحف وهو في الحقيقة بيان لمواطن ولاية فاطمة(عليها السلام) وهيمنتها في التدبير.6.

ص: 172


1- دلائل الإمامة ، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) 104 ، 106.

وكتابة هذه الحقائق العظيمة المهمولة في مصحفها ليس مجرد إنباء وإخبار، وإنما هو بيان مواطن وموارد مسؤولياتها ومحال رعايتها لتلك الأمور وتدبيرها لها وصلاحياتها الموكلة لها من الله تعالي، ولاسيما مع ما تمت الإشارة إليه من أن مصحف فاطمة(عليها السلام) ليس مجرد ورق منقوش بل أصله روح من عالم الأمر وإنما هذا المتنزل تنزيل له وهذا شأن جميع الكتب السماوية النازلة، وبالتالي فإن هذا الروح من عالم الأمر هو مقام وقدرة تكوينية مهيمنة علي أرواح الكتب السماوية.

مسألة: هل المصحف أكبر من القُرآن:

وقد يعترض أن هذا الشأن المهمول العظيم لمحصف فاطمة(عليها السلام) ولا سيما أنه حقيقة ملكوتية تفوق بقية الكتب السماوية، فهل هذا يعني أنه قد أنزل علي فاطمة(عليها السلام) مالم ينزل علي سيد الرسل(صلي الله عليه و آله)، وهل يعني ذلك أن كتابها يعظم كتاب أبيها، وكيف يصار إلي ذلك؟

والجواب:

1) قد بيّن في الروايات أنه إملاء من رسول الله(صلي الله عليه و آله)، أي من مقامه النوري وقلبه الذي هو بيت الله المعمور وخط علي(عليه السلام).

ولا منافاة بين ما ورد من أنه إملاء الله إليها وأوحي إليها وبين ما ورد أنه إملاء من رسول الله(صلي الله عليه و آله) لكنه إملاء منه بعد رحيله إلي الرفيق الأعلي.

ص: 173

والحاصل أن ما نزل علي فاطمة(عليها السلام) إنما هو من فيوضات النبي(صلي الله عليه و آله)، أي أنه فيض الله علي فاطمة(عليها السلام) بتوسط النبي(صلي الله عليه و آله).

وقد قرر أهل البيت(عليهم السلام) قاعدة في معارفهم قد عقد لها الكليني بابا في أصول الكافي وهي أن ما ينزل علي عترة النبي(صلي الله عليه و آله) من علوم وكمالات وفيوضات إنما هي من الله بتوسط وواسطة من النبي(صلي الله عليه و آله)، فهو الشافع التكويني لنزول الفيض لهم من الله تعالي.

2) إن ما ذكر من شؤون في مصحف فاطمة(عليها السلام) إنما هو باطن حقيقة القرآن وتأويلاته .

وقد ورد نظير هذه المقامات والشؤون لمنازل ومقامات القرآن الغيبية.

وأما ما ورد في عدة روايات أن مصحف فاطمة(عليها السلام) ليس فيه (شيء من قرآنكم) فالمراد به تنزيل القرآن وهو المصحف الشريف، ومن ثم(عليه السلام) أضاف القرآن إلي الناس( قرآنكم).

3) قد بيّنا في كتاب (مقامات النبوة) أن ما يشير إليه القرآن من مقامات النبي(صلي الله عليه و آله) هي أعظم من القرآن، وأن القرآن العظيم هو أحد بحور النور النابع من مقامات النبي(صلي الله عليه و آله).

ومن ثم قدمت مقامات النبي(صلي الله عليه و آله) الغيبة المشار اليها بالحروف المقطعة في بديات السور علي اسم الكتاب نظير قوله تعالي: ( يس (1) (1)

ص: 174


1- سوره 36 - آيه 1

وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (1)(2) (3) ، ونحو ذلك .

وقد اشار إلي ذلك زين العابدين(عليه السلام) في الصحيفة السجادية في ذكر الصلوات وهي: (وقلت جل قولك له حين اختصصته بما سميته من الأسماء: ( طه (1)ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقي (2) ) (4) وقلت عز قولك: ( يس (1)وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) (5) وقلت تقدست أسماؤك ( صور القرآن ذي الذكر) وقلت عظمت آلاؤك ( قو القرآن المجيد ) فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلا وهو اسمه، وذلك شرف شرفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به» (2).

وقد ذكر(عليه السلام) في الرواية السابقة جملة مواطن لولايتها وهيمنتها ومقام تدبيرها:

1) خبر ما سيكون إلي عالم القيامة.

والظاهر أن المراد من ذلك مستقبل العوالم من البرزخ والرجعة والرجعات إلي يوم القيامة.ر.

ص: 175


1- الصحيفة السجادية، الامام زين العابدين (الابطحي) 311 دعاؤه* في يوم الفطر.
2- سورة يس: الآية 1 - 2.
3- سوره 36 - آيه 2
4- سوره 20 - آيه 1
5- سوره 36 - آيه 1

2) عدد كل سماء سماء.

3) وعدد ما في سماء سماء من الملائكة، وغير الملائكة.

4) وعدد الأنبياء المرسلين وغير المرسلين، وأسماء الذين أرسلوا إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب منهم.

وهذه احاطة عظيمة بمسؤوليات الأنبياء(عليهم السلام).

5) أسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، من الأولين والآخرين.

وهذا ديوان حساب الخلائق يوم القيامة مما يبين أنها(عليها السلام) ولية الحساب.

6) أسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين.

وهذا مما يدلل علي ولايتها(عليها السلام) علي كل أهل الأرض ورعايتها وتدبيرها لهم.

7) صفة القرون الأولي وقصصهم، وصفة أسماء جميع من خلق الله من الأولين والآخرين وآجالهم.

وهذا ما يدل علي أن ولايتها(عليها السلام) قبل ولادتها، وأنها شاهدة علي كل الخلق، وأنها وليّة الحساب علي الإنس والجن والملائكة وغيرهم

ص: 176

من المخلوقات.

8) ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم.

9) وفيه أسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك واحد واحد، وفيه صفة كراتهم.

وكون مصحفها(عليها السلام) حاويا لأسماء أئمة أهل البيت(عليهم السلام) نظير ما ورد من نزول اللوح الأخضر المدوّن فيه أسماء الأئمة(عليهم السلام) واسم النبي(صلي الله عليه و آله) واسم الوصي(عليه السلام) ليس شأن هذا التدوين لأسمائهم يقف عند كونه سجل ملكوتي دوّن فيه مقامات سادات الأوصياء فحسب، بل إن في ذلك اطلاع وإنباء عن أخطر أسرار المقامات الإلهية، وهو بيان أسماء أئمة العترة(عليهم السلام) .

وهذا مما يبين أنها(عليها السلام) ذات صلة وشأن بتعيين وجعل الله لإمامة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فإن لاطلاع الله تعالي لها(عليها السلام) علي هذا الجعل الإلهي العظيم دلالة واضحة أنها معنيّة بشؤون الإئمة من ذريتها كما أنها معنيّة بنبوة أبيها(صلي الله عليه و آله) وإمامة بعلها(عليه السلام) شراكة تبعية لسيد الأنبياء وسيد الأوصياء.

وكذلك أنها(عليها السلام) مهيمنة علي إمامة ذريتها(عليهم السلام)، ففي صحيحة سليمان بن خالد الواردة حول منازعة بني الحسن وادعائهم الإمامة في زمان الصادق(عليه السلام) قال سمعته يقول: (إن في الجفر الذي يذكرونه لما

ص: 177

يسؤهم لأنهم لا يقولون الحق والحق فيه فليخرجوا قضايا علي(عليه السلام) وفرايضه إن كانوا صادقين، وسلوهم عن الخالات والعمات وليخرجوا مصحف فاطمة فإن فيه وصية فاطمة ومعه سلاح رسول الله(صلي الله عليه و آله)، إن الله يقول إيتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم أن كنتم صادقين) (1)، وكذا صحيحة هشام بن سالم.

ومفاد هذا الصحيح كما بيناه في الجزء الأول من كتاب المقامات دال بوضوح علي أن مقام الإمامة في ذريتها هو من شؤون وصيتها، ووصية الموصي إنما تتعلق بموارد وشؤون ولايته.

فهذا المفاد دال بوضوح علي أنها(عليها السلام) ذات مقام ولائي مشرف ومهيمن علي إمامة الأئمة(عليهم السلام) من ذريتها.

10) وفيه صفة جميع من تردد في الأدوار من الأولين والآخرين، وأن كل دور خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار.

وهذا مما يدلل علي أن ولاية فاطمة(عليها السلام) محيطة بدورات الخلق السابقة نظير ما ورد أن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (2) فقال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفني هذا الخلق وهذا العالم وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عز وجل عالما غير هذا7.

ص: 178


1- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن ( الصفار) 177.
2- سوره 50 - آيه 15

العالم وجدد عالما من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحدونه، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم وسماء غير هذه السماء تظلهم، لعلك تري أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد، وتري أن الله عز وجل لم يخلق بشرا غيركم، بل والله لقد خلق الله تبارك وتعالي ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين»(1)، إلي غير ذلك مما يشير في الروايات إلي دورات الخلق السابقة.

11) وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.

وهذا يبيّن ولايتها(عليها السلام) علي الحساب نظير ما ذكر من مقام لأمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قسيم الجنة والنار فقد روي في الأمالي عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله): (معاشر الناس، إن عليا قسيم النار، لا يدخل النار ولي له، ولا ينجو منها عدو له، إنه قسيم الجنة، لا يدخلها عدو له، ولا يزحزح عنها ولي له» (2).

وقال(عليه السلام):

«أنا قسيم الجنة والنار ادخل أوليائي الجنة و ادخل أعدائي النار»(3).

وورد في زيارته(عليه السلام):

«السلام عليك يا قسيم الجنة والنار»(4).0.

ص: 179


1- الخصال، الشيخ الصدوق: 652.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق: 83.
3- بصائر الدرجات،محمد بن الحسن الصفار 435.
4- الكافي، الشيخ الكليني 4 / 570.

12) وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت وعلم الإنجيل والزبور.

وهذا اشارة إلي هيمنة مصحفها(عليها السلام) علي الكتب السماوية وهي ما تلقته عن نور النبي(صلي الله عليه و آله) وقلبه الذي هو البيت المعمور وليس عن بدنه، إذ قد انزل عليها وأوحي اليها بعد شهادة أبيها.

ومصحفها مهيمن علي تنزيل القرآن، إذ قد مر أن هذا المصحف الشريف متطابق مع باطن القرآن.

13) وتنصيصه(عليه السلام) بقوله: (طاعتها(عليها السلام) مفروضة علي جميع من خلق الله من الجن والإنس، والطير والبهائم، والأنبياء والملائكة) لأجل أن يبعد عن ذهن الراوي توهم الاعتراض علي هول ما في مصحف فاطمة(عليها السلام) من عظام الأمور من أسرار أمر الله ووحيه فيجيبه(عليه السلام) بأن مقام ولايتها(عليها السلام) مهيمن علي الخلق كلهم بما فيهم الأنبياء وجميع الملائكة.

فكيف لا يكون ما اوحي إليها من المصحف مشتمل علي هذه المقامات والشؤون العظيمة من الصلاحيات والولايات في العوالم كُلَّهَا!.

14) ووصف المصحف الشريف في الرواية

«له دفتان من زبرجدتين علي طول الورق وعرضه حمراوين، وورقه من در أبيض»،

ص: 180

وأنه مشتمل علي ورق وأن ما حكاه(عليه السلام) إنما هو ورقتين.

فيه اشارة إلي أن فيه أمور عظام لم يتحملها أبو بصير وهي من الأسرار الخاصة بأئمة أهل البيت(عليهم السلام) والظاهر ارتباطها بشؤون إمامتهم.

ومن ثم ورد في الرواية أن من علامات إمامة الإمام قبضه لمصحف فاطمة(عليها السلام)، فعن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول:

«ما مات أبو جعفر(عليه السلام) حتي قبض مصحف فاطمة(عليها السلام)»(1) .

وكل ما ذكره الإمام(عليه السلام) من شؤون وصلاحيات لفاطمة(عليها السلام) في العوالم مذكور في ورقتين من مصحفها، فكم بقي من ورق؟8.

ص: 181


1- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن ( الصفار) 178.

المقالة العاشرة: الكفوئية

اشارة

*منهج الاستدلال علي المقامات...

*حديثا الثقلين والكفؤية قرآنيان...

*فوائد من حديث الكفوئية...

*الفائدة الأولي: المديح الشخصي في القرآن اصطفاء إلهي...

*الفائدة الثانية: ضرورة إرجاع معادلات الروايات للقرآن...

*الفائدة الثالثة: علم فاطمة(عليها السلام) أسمائي جامع...

*الفائدة الرابعة: علو رتبتها علي الأنبياء ما عدا الخاتم...

*لفتة معرفية...

*اشكالية الكفؤية الاجتماعية...

*تقريب ثالث لحديث الكفاءة...

*سؤال حول الكفؤية...

*تنافسهما قربي لا قبلي...

*وصيتها لعلي (عليه السلام) وشراكتهما في الأمر...

من عظيم مقاماتها وأعالي شؤونها(عليها السلام) ما ورد في الرواية المستفيضة:

«لولا أن أمير المؤمنين(عليه السلام) تزوجها لما كان لها كفو إلي يوم القيامة علي وجه

ص: 182

الأرض آدم فمن دونه»(1) .

منهج الاستدلال علي المقامات:

ويحسن في البداية أن ننبه علي مطلب مغفول عنه عند الخاصة فضلا عن العامة في منهج الاستدلال علي مقامات أهل البيت(عليهم السلام).

وهو أن أكثر مقاماتهم(عليهم السلام) إذا ما كان كلها ورد دليلها في القرآن فضلا عن السنة المطهرة، وعليه فما جاء في السنة ليس تأسيسا لأمر ليس في القرآن، وإنما هو شرح وبسط بلغة معرفية يفهمها الناس.

فلو وضع الباحث يده علي كل رواية حكت مقاما لهم(عليهم السلام) وتذرع بالتنقيب العلمي بلا كلل لوجد أن القرآن قد طرح ذلك في معادلة من معادلاته الجزلة.

حديثا الثقلين والكفؤية قرآنيان:

اشارة

خذ مثالاً علي ذلك معادلة ملازمة الثقلين في الحديث المشهور، فقد دار الجدل العلمي كررا بين الشيعة وأهل الخلاف في أن المعادلة الروائية النبوية هل هي ملازمة (الكتاب والسنة) أم هي ملازمة (الكتاب والعترة)؟

ص: 183


1- الخصال، الشيخ الصدوق/414.

وبغض النظر عن امكانية الجمع بين المعادلتين وعن كثرة ورود المعادلة في كتب الفريقين بهذا النحو (كتاب الله وعترتي)(1) إنه بغض النظر عن كل ذلك فإن الشيعة فضلا عن السنة لم يتوسلوا لرفع النزاع ببيان أن احدي المعادلتين قرآنية في الأصل.

والحال أن المحققين أخيرا يعبرون عن بعض الآيات بأنها حديث الثقلين القرآني، أي أنه بالتتبع و التعمق تبين أن الملازمة بين الثقلين ( الكتاب والعترة) ملازمة قرآنية قبل أن تكون روائية، والقرآن هو من أسسها وما في الروايات إنما هو صياغة أخري لما في القرآن، وواحدة من آيات الثقلين في القرآن قوله تعالي: (وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) 2 . (2)

ونظيره ما نحن فيه فإن مقام الكفوئية بين فاطمة وعلي(عليهما السلام) تأسيسه من القرآن في آيات كثيرة وتبيانه روائي، فإن آيات الولاية وآيات القربي أسست لكفؤية فاطمة وعلي(عليهما السلام) قبل حديث المفاضلة وحديث7.

ص: 184


1- روي في البصائرعن أبي جعفر* أنه قال: «دعا رسول الله أصحابه بمني قال يا أيها الناس اني تارك فيكم الثقلين اما ان تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض ...». بصائر الدرجات، الصفار/ 434. وروي في فضائل الصحابة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله: «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي واحد منهما أكبر من الآخر كتاب حبل ممدود من السماء إلي الأرض وعترتي أهل بيتي إلا وأنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض » فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل585/2 .
2- سوره 3 - آيه 7

الكفؤية، وبالتالي فهما صدي وانعكاس عن ما في القرآن الكريم، وسيجيء ذلك تحت قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) (1). (2)

وكم لهذا المنهج في الاستدلال من ثمار جليلة سواء علي مستوي تقوية اليقين بمقاماتهم(عليهم السلام) أو علي مستوي توضيح الحق في الحواريات المذهبية.

إذ أن الاستدلال بالقرآن وحده عادة مايواجه بالاحتمالات الكثيرة تأويلا، كما أن الاستدلال بالسنة المطهرة وحدها يواجه إما بأنها روايات خاصة وإما برميها بالضعف السندي رغم رواية رواة الفريقين لها، ولا يمكن التخلص من هذه الاشكالات الا بمنهج معية الثقلين، وببيان المعادلات القرآنية بمحكمات معادلاته وبولاية أهل البيت(عليهم السلام).9.

ص: 185


1- سورة الرحمن: الآية 19.
2- سوره 55 - آيه 19

ص: 186

فوائد من حديث الكفوئية
اشارة

وفي حديث الكفؤية عدة فوائد:

الفائدة الأولي: المديح الشخصي في القرآن اصطفاء إلهي:

إن المدح في لسان الوحي علي نحوين:

أولهما: أن ينصب المدح في لسان الوحي علي وصف عام وعنوان عام ينطبق علي أفراد كما في قوله تعالي: ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (1). (2)

وثانيها: أن ينصب المدح الوحياني علي العنوان الشخصي والهوية الشخصانية لواحد بعينه، أو علي عنوان مشير لشخصه.

وهذا النمط من المدح في لسان الوحي يعني الاصطفاء ويشير

ص: 187


1- سورة الفتح: الآية 18.
2- سوره 48 - آيه 18

للمقام و المنصب الالهي والموقعية الدينية، وليس من عادة الوحي أن يمدح بالعنوان الشخصي ويكون المشار إليه في الشخص من قبيل الكمالات المعتادة .

وحديث الكفوئية من قبيل الثاني، أي مدح بلسان وحياني لفاطمة وعلي(عليهم السلام) وسيتبين أنه يحكي عن مقام اصطفاء لهما وعن كمال وسؤدد غير اعتيادي فيهما.

الفائدة الثانية: ضرورة إرجاع معادلات الروايات للقرآن:

إن معادلات الروايات كما هي معادلات القرآن إذا ما أرجعت لمطالب ومعادلات محكمة وواضحة فيهما فإنه يتبين عمق الدلالة المطروحة، فإذا قورن في روايات لسان الوحي بين علي وهارون(عليهما السلام) أو بين فاطمة ومريم(عليهما السلام) فهذا بالتالي ارجاع للقرآن في معادلات شبيهة توخيا للتوضيح والتبيين، أي علي الباحث أن ينقب قرآنيا عن مقامات هارون ليتعرف علي سنخ المقامات التي تثبت لعلي(عليه السلام)، وليفتش عن سؤدد مريم في القرآن ليعرف أي سؤدد وعلو لفاطمة(عليها السلام)، ولهذا الارجاع غايات مهمة:

منها: بيان أن ما في القرآن من مقامات الأولياء السابقين إنما هي أمثلة ضربت لبيان مقامات الأولياء في أمة الخاتم(صلي الله عليه و آله).

ومنها: إن الإرجاع خير وسيلة لدفع الاستنكار والاستبعاد

ص: 188

الذي يخالج أذهان الكثيرين عند تعداد مقامات أهل البيت(عليهم السلام)، إذ أن وجود نظائرها في القرآن ينتج أنها ليست بدعا وليست أمرا منكرا.

وفي حديث الكفؤية جعلت موقعية آدم صفي الله دون موقع فاطمة(عليها السلام)، فيكون لهذا الحديث لوازم وأبعاد وإشارات مهمة لا تقرأ في سطحه بل تقرأ في اللغة الاشارية له، فكأنه يعزو الباحث للقرآن ليتعرف علي موقعية آدم فيه ليكون دليلا له في استيعاب مقامات فاطمة(عليها السلام).

1) ومما يشير إليه القرآن أن آدم(عليه السلام) أول نبي من أنبياء الله وفي ذلك يقول تعالي: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفي آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَي الْعالَمِينَ )(1). (2)

وفي قراءة عبدالله بن عباس (وآل محمد علي العالمين) فعن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفي آدَمَ وَ نُوحاً ) (3) فقال: هو آل إبراهيم وآل محمد علي العالمين، فوضعوا اسماً مكان اسم) (4).

فأول الأصفياء في سلسلة النبوات زمانا وليس رتبة هو آدم، وبحسب رواية البحث يكون اصطفاء فاطمة(عليه السلام) فوق اصطفاء آدم8.

ص: 189


1- سورة آل عمران: الآية 33.
2- سوره 3 - آيه 33
3- سوره 3 - آيه 33
4- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي 1 /168.

رتبة.

2) كما أن أحد مقامات آدم أنه نبي، أي له علم من جهة النبوة، فيكون العلم الذي لفاطمة(عليها السلام) من جهة النبوة فوق ما لآدم.

3) ومما ثبت لآدم قرآنيا أنه خليفة الله في الأرض كما في قوله تعالي: (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(1). (2)

وإذا ثبتت الخلافة عن الله لآدم في الأرض فكيف بمن كان فوق آدم، فيثبت بدلالة الحديث النبوي والتأمل القرآني أن فاطمة(عليها السلام) خليفة الله في الأرض بل ويثبت أن خلافتها أعظم من خلافة آدم.

ولو سأل سائل: إن ما لآدم من مقامات قد نص عليه القرآن، والقرآن لم ينص علي ما تقولونه في فاطمة(عليها السلام)؟

فجوابه إنه بعد ثبوت حديث الكفؤية وشهرته يكون بنفسه تنصيص علي كون فاطمة(عليها السلام) خليفة الله وولية الأمر.

وأيضا مما دل عليه القرآن أن ولاية آدم وطاعة أمره افترضت علي جميع الملائكة وطبقاتهم أي علي جبرائيل واسرافيل وميكائيل ورضوان خازن الجنان ومالك خازن النيران، ومن فوقهم.

حَيْثُ إنَّ الآيات المتعددة تفيد فرض طاعة آدم علي عموم0.

ص: 190


1- سورة البقرة: الآية 30.
2- سوره 2 - آيه 30

الملائكة بلا استثناء ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ )(1). (2)

فَقَدْ دَلَّتْ الآية علي التعميم بدوال متعددة، بل طبيعة الأمر بالخضوع لولاية آدم أخذت بنحو صارم علي الملائكة ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) (3). (4)

فليس المطلوب السجود حتي لو كان عن تراخ بل سجود فوري وقهري وصارم فضلا عن أنه منتهي الخضوع والتسليم.

فلآدم ولاية تكوينية وولاية تشريعية لا بمعني أنه يفعل بهواه وبمشيئته بل ضمن برنامج المشروع الإلهي فهو القائد والملائكة اتباعه وتحت إمرته.

وملف أنشطة الملائكة في القرآن عظيم ومبسوط فما من مجال إلا ولهم فيه نشاط وفعل، فما من أمر في الأرض أو في السماء أو في الهواء أو أمر من الموت أو أمر من الحياة الا ولهم فيه النشاط الأكبر وفيه يقول تعالي: (وَ الذّارِياتِ ذَرْواً(1.)فَالْحامِلاتِ وِقْراً(2.)فَالْجارِياتِ يُسْراً(3.)فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(4.)(5). (6)

ولا تقتصر أنشطتهم علي عالم الدنيا بل عظيم نشاطهم سيكون4.

ص: 191


1- سورة الحجر: الآية 30.
2- سوره 15 - آيه 30
3- سورة الحجر: الآية 29.
4- سوره 15 - آيه 29
5- سورة الذاريات: الآية 1 - 4.
6- سوره 51 - آيه 1

في يوم القيامة (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)(1). (2)

وتعداد أنشطة الملائكة بحسب القرآن خارج عن إحاطتنا، غير أن كل الملائكة بأنشطتهم تحت نظام قيادة خلفاء الله، وخلافة الله طبقات وآدم طبقة من الخلافة وتتلوه سلسلة من طبقات الخلافة.

ويتحصل أن كل ما ثبت لآدم من ولاية تكوينية في الدنيا والآخرة وما ثبت له من حكومة علي الملائكة بنص القرآن تكون بنمط أعلي وأشرف ثابتة لفاطمة(عليها السلام) بنص حديث الكفؤية.

ثم إن ولاية آدم لم يثبتها القرآن الكريم لمريم، لكننا استفدنا من خلال الجمع بين السنة والقرآن ثبوت سنخ ولايته لفاطمة(عليها السلام)، إلا أن ما لفاطمة(عليها السلام) من ولاية مشابهة لولاية آدم نحوها أعلي وأشرف لكونه ليس كفؤا لها، فآدم ومن تحت إمرته وفي ولايته تحت طاعة وولاية فاطمة(عليها السلام).

ونفس سورة البقرة تدل علي أن الخلافة طبقات وأنه فوق خلافة آدم طبقات باعتبار أن تشرف آدم بالخلافة كان نتيجة توسل آدم بما هو أكبر منه كما في قوله تعالي: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي (3)32

ص: 192


1- (1) الحاقة 31-32
2- سوره 69 - آيه 31
3- سوره 2 - آيه 31

الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(1). (2)

ولم يقل (عرضها) مما يدلل علي أنها أسماء حية وغير جامدة وأنها شاعرة وغير ساكنة.

فما هي تلك الأسماء؟؟

لقد أفصح الحديث الشريف بأن تلك الموجودات الحية الشاعرة العاقلة الموجودة قبل آدم بوجود نوري واضح في ملكوت السماء هم أهل البيت(عليهم السلام) وفيهم فاطمة(عليها السلام)(3).

وبالتالي فإن الحديث يدل علي أن ولاية آدم وبما يندرج تحتها مندرجة تحت ولاية فاطمة(عليها السلام).

وفي نفس السورة عندما يحاسب الباري ويعاتب ابليس يخاطبه بهذا الخطاب: (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) (4). (5)

ولفظة (العالين) في الآية تشير إلي العالين علي آدم عن أن يطيعوه، أي لهم علو حقيقي مقامي علي الملائكة بل علي آمر الملائكة وهو أدم، فهم فوق أن يسجدوا ويخضعوا له، وفاطمة من العالين علي5.

ص: 193


1- سورة البقرة: الآية 31.
2- سوره 2 - آيه 31
3- تفسير العسكري/217.
4- سورة ص: الآية 75.
5- سوره 38 - آيه 75

آدم الذين اندرج آدم بما تحته تحت ولايتهم(1).

فيدل وينص حديث الكفؤية علي أن فاطمة(عليها السلام) من العالين، أي أنها من الأسماء الإلهية النورانية الحية الشاعرة قبل وجودها البدني، فهي وجود ملكوتي مفترض الطاعة ومن ذلك العالم.

الفائدة الثالثة: علم فاطمة(عليها السلام) أسمائي جامع:

ومن فوائد حديث الكفؤية أن لفاطمة(عليها السلام) سنخا خاصا من العلم، إذ إن قوله تعالي: ( وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) (2) يشير إلي العلم المعبر عنه بالعلم الاسمائي وهو علم جامع وبه استحق آدم الخلافة، فيثبت أن لفاطمة(عليها السلام) علما اسمائيا جامعا وبنحو أعلي مما ثبت لآدم ببركة حديث الكفوئية.

ص: 194


1- روي في صفات الشيعة عن أبي سعيد الخدري قال كنا جلوسا مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إذ أقبل إليه رجل فقال يا رسول الله اخبرني عن قوله عز وجل لإبليس ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) فمن هو يا رسول الله الذي هو أعلي من الملائكة فقال رسول الله انا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل ان يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة ان يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجد الملائكة كلهم الا إبليس فإنه أبي (و) لم يسجد فقال الله تبارك وتعالي ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) عني من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش فنحن باب الله الذي يؤتي منه بنا يهتدي المهتدي فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره ولا يحبنا الا من طاب مولده. صفات الشيعة، الصدوق/8.
2- سوره 2 - آيه 31
الفائدة الرابعة: علو رتبتها علي الأنبياء ما عدا الخاتم:

ومن الفوائد العالية لحديث الكفؤية - الذي لا ينتهي رفده ونميره الصافي - علو وتعالي رتبة فاطمة(عليها السلام) علي رتب الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام)، لأن في الحديث صدرا وذيلا، وصدره هو قوله تعالي: (لولا أن أمير المؤمنين) وبهذه الفقرة والضابطة يكون الصدر أعظم من الذيل وهو قوله: (آدم فمن دونه) لأن عليا(عليه السلام) ميزان كبير وأكبر من ميزانية آدم ومن دونه في الرتبة إلا أن نرجع قوله ( آدم فمن دونه) إلي الحيثية الزمانية لا إلي الحيثية الرتبية أي دونه زمانا فيشمل كل الأنبياء عدا سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وحينئذ تتطابق الضابطتان.

وعلي كل حال فإن حصر الكفؤية في علي(عليه السلام) - بنص القرآن وبيانات أهل البيت(عليهم السلام) وتعليمهم - يدل علي أن عليا(عليه السلام) يفوق مقام بقية الأنبياء من أولي العزم والرسل، لأنه جعل عدلا لمن لا يكافؤها آدم ومن دونه، هذا مضافا إلي أن القرآن وصفه بأوصاف لم يصف بها ابراهيم وموسي وعيسي(عليهم السلام) وغيرهم، منها أنه(عليه السلام) بمنزلة نفس النبي(صلي الله عليه و آله) وهو وصف لم يصف به القرآن أحدا من النبيين.

بل حصر الكفؤية في علي(عليه السلام) دون البقية هو دليل أعظمية علي(عليها السلام) علي سائر الأنبياء عدا الخاتم(صلي الله عليه و آله) من جهة، ومن جهة أخري هو بنفسه دليل أعظمية فاطمة(عليها السلام) علي الحسنين(عليهما السلام) وعلي الحجة

ص: 195

وبقية المعصومين(عليهم السلام) لأن مرتبة ومقام عدلها وهو علي(عليه السلام) فوق رتب المعصومين.

ولأن أولاد أمير المؤمنين(عليه السلام) في عالم الأنوار هم أولاد فاطمة(عليها السلام) فلا يمكن أن يكونوا لها كفوا في الزواج، والمسألة قبل ترتيب النسل والترتيب في النسل بيد الله هو المقدم وهو المؤخر.

وقد اعترضت إحدي زوجات النبي(صلي الله عليه و آله) علي وصفه عليا(عليه السلام) بالأخوة، فقد روي في المناقب عن علي(عليه السلام) قال: جاء رسول الله(صلي الله عليه و آله) ذات ليلة يطلبني فقال: يا أم أيمن أين أخي؟

قال: فقالت له: من أخوك ؟

قال: علي .

قالت: أخوك وتزوجه ابنتك؟ قال: نعم أما والله لقد زوجتها كفوا شريفا في الدنيا والآخرة ومن المقربين»(1).

ومضمون جوابه(صلي الله عليه و آله) هو أنه أخي في النور وليس أخا في البدن، وأخوة البدن مانعة عن الزواج دون أخوة النور.

لفتة معرفية:

إن إخبار النبي(صلي الله عليه و آله) عن الأخوة النورية يفتح بابا ينفتح منه ألف

ص: 196


1- مناقب الإمام امير المؤمنين، محمد بن سليمان الكوفي 1 / 310.

باب، منها إن قول النبي(صلي الله عليه و آله): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»(1) محصله أنه حسب عالم النور يكون سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) أبا لآدم وأبا لعبدالله والده وأبا لإبراهيم، والأب هنا بمعني المنشأ.

وقوله(صلي الله عليه و آله): «يا علي، أنا وأنت أبوا هذه الأمة»(2) يشمل الأنبياء لأن كل النبيين من أمة سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وتابعون ومنقادون له ورسل عنه، وفي الرجعة تكون الأمم أمة واحدة تحت سلطانه ومنقادين له ومتعبدين بشريعته.

والأبوة هي أبوة نور لكل الأنبياء وأحكام عالم النور مغايرة لأحكام عالم البدن.

ولذا فقولهم(عليهم السلام) «لولا أمير المؤمنين» لا يشير إلي خلقه بحسب الولادة والبدن بل بحسب عالم النور، أي لو لم يخلق نور علي(عليه السلام) لم يكن لفاطمة(عليها السلام) كفؤ، ليس بحسب البدن والتزاوج البدني، بل حتي بحسب تزاوج عالم الأنوار لأن آدم ها هنا وبحسب البدن أب .

ص: 197


1- مناقب آل ابي طالب، بن شهر اشوب 1 / 183،عوالي اللئالي، ابن ابي جمهور الاحسائي121/4. ويؤيده قوله «نبئت وآدم بين الروح والجسد» الاحتجاج، الطبرسي2 /248، الفضائل، شاذان بن جبرئيل القمي34 ، وقوله:( كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ) المستدرك ، النيشابوري609/2، كنز العمال، المتقي الهندي 11/ 409، ويؤيده قول أمير المؤمنين*: «صدقته وآدم بين الروح والجسد» الأمالي، المفيد 6 . الأمالي، الطوسي/626.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق/ 755، علل الشرائع، الصدوق 1/ 127، روضة الواعظين، النيسابوري/ 322 .

لفاطمة(عليها السلام) فلو كان بحسب البدن فكيف يتم الحديث؟

ولذا ورد حتي في علاقتها بعلي(عليه السلام): «يا محمد زوج النور من النور».

وعليه فقوله(عليهم السلام): «لو لا أمير المؤمنين» هذا ليس ملحوظ فيه عالم البدن بل وقبل تقدير وقضاء عالم البدن وهندسة عالم الدينا وفي عالم الأنوار، فليس لها كفؤ إلا علي(عليه السلام) بعد سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله)، وسيد الأنبياء ليس كفؤا لفاطمة(عليها السلام) بل أعلي منها.

كما أن هذا الحديث الشريف دليل علي أن رتبة فاطمة(عليها السلام) رتبة مشاركة لرتبة علي(عليه السلام) في الولاية، وإن كان لها مرتبة تتلو مرتبته في حيثيات معينة.

وهذا دليل علي أن موقع فاطمة(عليها السلام) في الكائنات وفي الملكوت وفي الأنوار وفي الخلائق وفي الحجية وفي الدين وفي الصلاحية وفي المنصب بعد الله ورسوله(صلي الله عليه و آله) قرن بأمير المؤمنين(عليه السلام).

فلا يتأتي لأحد من المعصومين(عليهم السلام) غير علي(عليه السلام) أن يعدل فاطمة(عليها السلام)، وقد بينا سابقا في آية الفيء أن لها آمرية علي أولادها.

وسيجيء في مقالة مستقلة حول مقامها الأم أن لها ولاية علي الأحد عشر(عليهم السلام).

ونفس هذه المعادلة والرسم المعرفي والتسلسل المقامي مبين في حديث الكفاءة.

ص: 198

اشكالية الكفؤية الاجتماعية:

قد يقول قائل لقد شرقتم وغربتم واطلتم وافضتم في بسط معارف حديث الكفؤية إلا أننا يمكن أن نعالج مفاد الحديث بالالتفات إلي مسالة فقهية واضحة وهي مسألة الكفوء في باب الزواج ومرادهم الكفؤ في باب الحسب والنسب والرتبة الاجتماعية.

وهذا هو المقصود من الكفوئية ولا دخل لعالم الأنوار وعالم الحجية وعالم الاصطفاء وغيره ولا موجب لهذا البسط والغور وإنما المسألة وبكل وضوح تختصر في باب الكفؤية الاجتماعية.

والجواب:

نقبل من السائل تفسيره الكفؤ بهذا المعني لكن هذا المعني للكفؤ منطو فيه كل شيء، لأن الكفؤ الاجتماعي بحسب توصيات الدين ليس بحسب المال بالأصل لأن المؤمن كفؤ المؤمنة، وإنما هو بحسب ديني ولا تنفي الشؤون الاجتماعية التي أدرجها جملة من الفقهاء، لكن الشؤون المادية الدنيوية لا مانع فيه لكن الأصل فيها هو الدين أي الدين ودرجات الدين والإيمان هو الكفؤية في الأصل.

وعليه ما هو دين آدم(عليه السلام) ؟

إن دينه دين النبوة والاصطفاء ودين عصمة وخلافة الهية، وإذا كان تدين وعصمة وطهارة واصطفاء آدم ليس بدرجة ما لفاطمة(عليها السلام)

ص: 199

من دين وعصمة وطهارة واصطفاء، وإنما بدرجة دينها وطهارتها واصططفائها وعلمها درجة علي(عليه السلام) فقط وفقط فهو رجوع لنفس روح المطلب الذي قررناه.

هذا مضافا إلي أن الحسب والشرف في منطق الدين غير الحسب والشرف لدا البشر، وحسب وشرف الدين أشير إليه في قوله تعالي: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(1). (2)

وهذا هو المرعي توصيته في الروايات.

وحسب علي(عليه السلام) ليس في نسبه القبلي وإن كان نسبه اصطفائيا وإنما حسب علي(عليه السلام) في الاصطفاء نفسه.

تقريب ثالث لحديث الكفاءة:

وهناك تقريب ثالث لأصل مفاد الحديث يعرف بملاحظة مساجلات الصحابة مع بني هاشم، وهي نوع من المنازلة تجري دائما بين قبائل العرب أو بين قريش وبني هاشم، ومنها وهي متواترة عند المسلمين ما رواه علي بن إبراهيم: أن صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت، فقال لها الثاني غطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله(صلي الله عليه و آله) لا تنفعك شيئا، فقالت له هل رأيت لي قرطا يا بن اللخناء، ثم دخلت

ص: 200


1- سورة الحجرات: الآية 13.
2- سوره 49 - آيه 13

علي رسول الله(صلي الله عليه و آله) فأخبرته بذلك وبكت، فخرج رسول الله(صلي الله عليه و آله) فنادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس.

فقال ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع لو قد قربت المقام المحمود لشفعت في أحوجكم، لا يسألني اليوم أحد من أبواه إلا أخبرته، فقام إليه رجل فقال من أبي فقال أبوك غير الذي تدعي له أبوك فلان بن فلان، فقام آخر فقال من أبي يا رسول الله؟

فقال أبوك الذي تدعي له، ثم قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسئلني عن أبيه، فقام إليه الثاني فقال له أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله اعف عني عفي الله عنك فأنزل الله تعالي ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (1) الي قوله - ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) 1) (2) .

ومفادها في نقاط:

1) كان لصفية شأن ففي حرب الأحزاب قتلت يهوديا وهي بنت عبد المطلب، وبنات عبد المطلب عظام، وقد دفنت في البقيع وبقربها مدفونة أم البنين وعاتكة.

ومن شأنها أن النبي(صلي الله عليه و آله) غطي الحمزة سيد الشهداء لكي لا تراه صفية.8.

ص: 201


1- سوره 5 - آيه 101
2- سوره 5 - آيه 102

2) أحاديث واقعة استهزاء ذلك الصحابي بصفية متواترة ومرصودة في كتب الفريقين.

3) إن غضب النبي(صلي الله عليه و آله) لا يكون إلا غضبا وحيانيا ولا يكون إلا غضبا إلهيا، بل لا يكون غضبه عقليا كما في موسي فقد كان غضبه عقليا قال تعالي: ( وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الْغَضَبُ )(1) (2) سكت مقابل نطق أي هو عقلي، لكن غضب نبينا(صلي الله عليه و آله) وحياني، وهو منزه حتي عن الغضب العقلي لقوله تعالي: (وَ إِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ )(3). (4)

4) إن الغضب الذي أبداه النبي(صلي الله عليه و آله) كان لأجل الاستهزاء بمقام اصطفائي لبني هاشم، ومقام الأصطفاء مرة يكون في الدائرة الأولي وتارة يكون للدائرة الثانية، وقد حققناه في بحوث تحت الطبع.

5) الاصطفاء في دائرة بني هاشم ليس تعصبا وإنما هو عناية من الله أي أن الأصلاب الطاهرة الشامخة والأرحام المطهرة اصطفاء وفعل الله تعالي، وفي ذلك يقول تعالي: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفي آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَي الْعالَمِينَ (33)(5). (6)

فهو فعل من الله وتقدير واعداد رباني.3.

ص: 202


1- سورة الأعراف: الآية 154.
2- سوره 7 - آيه 154
3- سورة القلم: الآية 4.
4- سوره 68 - آيه 4
5- سورة آل عمران: الآية 33.
6- سوره 3 - آيه 33

وسواء ثبتت قراءة بن عباس (وآل محمد علي العالمين) أم لم تثبت ففي القرآن آية أخري وهي قوله: (سَلامٌ عَلي إِلْ ياسِينَ )(1) (2) والمقصود آل محمد.

6) حتي لو بنينا علي الكفؤية بمعني البعد الاجتماعي فهذا البعد في بني هاشم نسبا وحسبا وفخارا وهو اصطفائي، وبينت الآيات أن حسب ونسب وفخار بني هاشم اصطفائي وليس بشريا وقبليا في قوله تعالي: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )(3) (4) وفي قراءة كثير من القراء: (ورهطك المخلصين).

فقد روي في الأمالي عن الريان بن الصلت، قال: حضر الرضا(عليه السلام) مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان،...قالت العلماء: فأخبرنا هل فسر الله عز وجل الاصطفاء في الكتاب؟

فقال الرضا(عليه السلام): فسر الاصطفاء في الظاهر سوي الباطن في اثني عشر موضعا وموطنا، فأول ذلك قوله عز وجل: (وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك المخلصين) هكذا في قراءة أبي بن كعب، وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عني الله عز وجل بذلك الآل، فذكره لرسول4.

ص: 203


1- سورة الصافات: الآية 130.
2- سوره 37 - آيه 130
3- سورة الشعراء: الآية 214.
4- سوره 26 - آيه 214

الله(صلي الله عليه و آله)، فهذه واحدة)(1).

وهذه القراءة سواء كانت قرانية أو تأويلا نبويا فهي تدل علي أن رهط النبي(صلي الله عليه و آله) مخلصين له وللدين.

والغريب أنهم لا يثبتونها في القرآن وهي موجودة في أكثر القراءات.

وأحد أعمدة بني هاشم أبو طالب، فلو سألت أين يشهد القرآن لأبي طالب بالاصطفاء؟

جوابه في آية الانذار السابقة، وفي موضع آخر يشهد القرآن لأبي طالب بمقام الاصطفاء في قوله تعالي: (أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوي ) (2). (3)

فالله يسند فعل أبي طالب لنفسه وهو فعل منه أجراه علي يد أبي طالب، وهذا معناه أنه فعل اصطفائي، فهو نظير قوله تعالي: ( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمي )(4). (5)

وقوله تعالي: (قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلي رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)(6). (7)

فدوما يسند الله الفعل الاصطفائي إلي جنده ويسنده إلي نفسه1.

ص: 204


1- الأمالي، الشيخ الصدوق/ 618.
2- سورة الضحي: الآية 6.
3- سوره 93 - آيه 6
4- سورة الأنفال: الآية 17.
5- سوره 8 - آيه 17
6- سورة السجدة: الآية 11.
7- سوره 32 - آيه 11

لأنهم لا يفعلون إلا بأمر منه تعالي.

والمحصلة أن هناك أحاديث متواترة عديدة دلت علي اصطفاء بني هاشم، وبالتالي لو اخذنا كفؤية فاطمة(عليها السلام) في بعدها الاجتماعي والحسب والنسب فإن اصطفاء الله لها في الحسب والنسب والفخار والشرف أعظم من اصطفاء آل ابراهيم وغيرهم وهذا مثبت في الروايات، فقد بين (صلي الله عليه و آله) أن الله لازال يصطفيه من اصفياء، فقد روي في الأمالي عن جابر قال رسول الله(صلي الله عليه و آله): ياجابر

«إن الله تعالي لما أحب أن يخلقني، خلقني نطفة بيضاء طيبة، فأودعها صلب أبي آدم(عليه السلام)، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلي رحم طاهر إلي نوح وإبراهيم(عليهم السلام)، ثم كذلك إلي عبد المطلب، فلم يصبني من دنس الجاهلية، ثم افترقت تلك النطفة شطرين: إلي عبد الله وأبي طالب، فولدني أبي فختم الله بي النبوة، وولد علي فختمت به الوصية...الحديث»(1).

يعني تطهير بعد تطهير، أي أطهر فاطهر وأصفي فاصفي، فصفاء آل ابراهيم دون بني هاشم فكيف بغير آل براهيم؟

والاصطفاء الأعظم لبني هاشم ومن هو أعظم في الاصطفاء لا كفؤ له إلا أن يكون من دائرة اصطفاؤهم أعظم .

فتبين أن الكفؤ حتي بحسب النسب والشرف والفخر الاجتماعي .

ص: 205


1- الامالي، الطوسي/ 501 .

يكون في لبة الاصطفاء .

وسيجيء زيادة في بيان الكفؤية بين علي وفاطمة(عليهما السلام) في آية (مرج البحرين).

سؤال حول الكفؤية:

ما هو المقصود من حجية فاطمة(عليها السلام) وكيف تكون حجة علي علي(عليه السلام)؟ ألا يتعارض مع ما له من كمال؟

الجواب:

لا يخفي أن مقام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) مقدم علي مقام فاطمة(عليها السلام) من جهات، وإن كان بينهما اشتراك تكافؤ في الحجية من جهات.

وهكذا حال الولاية بينهما، والتكافئ مقتضاه المعية في الولاية والحجية كوزيرين لسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) كما ورد في نصوص الفريقين أنهما البحران في قوله تعالي (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لايبغيان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وهذه الصورة التي يرسمها القرآن كأصل لهندسة بنيان الولاية والحجية بين علي وفاطمة(عليهما السلام) ومن بعدهما الائمة(عليهم السلام) من ذريتهما وبينما البرزخ المهيمن عليهما هو النبي(صلي الله عليه و آله).

وغير ذلك من الدلائل القرآنية والسنة القطعية الدالة علي التكافؤ من جهات وأفضلية علي(عليه السلام) من جهات أخري.

ص: 206

والمعية التكافؤية لا تستلزم نقص في الحجج وإلا استلزم تفضيل الرسل والأنبياء بعضهم علي بعض نقصا فيهم.

كما أن تقدم الخضر(عليه السلام) من جهة علي موسي النبي(عليه السلام) من أولي العزم وتقدم موسي علي الخضر من جهة لا يستلزم نقص فيهما كما لم يستلزم تساويهما في المحصلة النهائية فإن موسي(عليه السلام) في المحصل المجموعي أفضل من الخضر(عليه السلام) كما بعض الروايات.

ولباب المطلب:

1) إن نسبة مقامها(عليها السلام) لعلي(عليه السلام) تختلف عن نسبة مقامها لبقية الأئمة(عليهم السلام) فإنها في الثاني مهيمنة ولاية وحجية كما سيأتي.

وأما في الأول فتكافؤ من جهات وأفضلية وتقدم لعلي(عليه السلام) من جهات .

2) إن ائتلاف جهاز المصطفين كمجموع دولة إلهية كل يقوم بدور وموقع لايحتاج إلي من هو خارج الجهاز الإلهي من الرعية.

وأما تعاضد الجهاز بعضه ببعض فلايستلزم نقصا في أي منهم.

أليس جبرئيل(عليه السلام) ينزل بالوحي علي النبي(صلي الله عليه و آله) مع أن النبي(صلي الله عليه و آله) أفضل من جبرئيل في كل الكمالات بلحاظ مرتبة نور النبي(صلي الله عليه و آله) لا بدنه أو نفسه النازلة.

ص: 207

وهذه الشؤون لابد من الالتفات إليها.

قد يقال: الا إن تعبير الحجية علي علي(عليه السلام) معناه ماهو؟ فهل هو بحاجة لمصحفها؟

الجواب:

ليس الحجية علي علي(عليه السلام) بنسق مافي بقية الأئمة(عليهم السلام) كما مرّ مفصلاً.

أما أخذه(عليه السلام) بما أنزل عليها فهو مفاد روايات مصحفها التي روتها طائفة الإمامية.

وهذا علي نسق أخذ النبي(صلي الله عليه و آله) مايوحيه إليه جبرئيل(عليه السلام) الزاما مع أنه(صلي الله عليه و آله) أفضل من جبرئيل.

فلو قيل: هل المراد والمقصود من الحجية كونها منبع علم وواسطة ليس أكثر؟

الجواب:

العلم اللدني الوحياني ليس وساطة رواية كالرواة بل وساطة فيض كمالات وولاية لكن بالمعني غير المنافي للأفضلية إذا كما إذا قايسنا نور النبي(صلي الله عليه و آله) مع جبرئيل بخلاف جسده ونفسه النازلة .

ص: 208

تنافسهما قربي لا قبلي:

روي في المناقب عن عائشة أنه قال علي(عليه السلام) للنبي(صلي الله عليه و آله) لما جلس بينه وبين فاطمة(عليها السلام) وهما مضطجعان: أينا أحب إليك أنا أو هي؟

فقال(صلي الله عليه و آله): هي أحب إلي وأنت أعز علي منها)(1).

وفي المناقب في خبر عن جابر بن عبدالله: أنه افتخر علي وفاطمة بفضائلهما، فأخبر جبرئيل للنبي(صلي الله عليه و آله) أنهما قد أطالا الخصومة في محبتك فاحكم بينهما، فدخل وقص عليهما مقالتهما ثم أقبل علي فاطمة(عليها السلام) وقال: لك حلاوة الولد، وله عز الرجال، وهو أحب إلي منك.

فقالت فاطمة(عليها السلام): والذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدي بك الأمة لا زلت مقرة له ما عشت)(2).

والسؤال من سيد الأوصياء(عليه السلام) وسيدة النساء(عليها السلام) ليس تفاخر عصبيات قبلية أو عنصرية ولا مجرد تغالب، بل تنافس في القرب من رسول الله(صلي الله عليه و آله)، وهذا القرب لا محالة اصطفائي ومرتبط بالمقامات.

كما أن جوابه(صلي الله عليه و آله) ليس عاطفة بشرية طبعية نازلة كغرائز طبعية نفسانية بل جوابه بحسب القرب الاصطفائي من مقامه(صلي الله عليه و آله) النوري الاصطفائي، فعندما تخص فاطمة(عليها السلام) بالأكثر حبا ويتميز أمير المؤمنين(عليه السلام) بالأكثر عزا فهذا يعني تكافئهما(عليهما السلام)من جهات.

ص: 209


1- مناقب آل أبي طالب، بن شهر آشوب 3 / 112.
2- نفس المصدر.
وصيتها لعلي(عليه السلام) وشراكتهما في الأمر:

روي في معاني الأخبار عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: لما حضرت فاطمة(عليها السلام) الوفاة دعتني فقالت: أمنفذ أنت وصيتي وعهدي؟ قال: قلت: بلي، أنفذها.

فأوصت إلي وقالت: إذا أنا مت فادفني ليلا ولا تؤذنن رجلين ذكرتهما ) (1).

وفي نسخة أخري في أنوار اليقين أنه لما حضرت فاطمة(عليها السلام) الوفاة، دعت عليا(عليه السلام) فقالت: أمنفذ أنت وصيتي وعهدي، أو والله لأعهدن إلي غيرك، فقال(عليه السلام): بلي أنفذها، فقالت(عليها السلام): إذا أنا مت فادفني ليلا ولا تؤذنن بي أبا بكر وعمر)(2).

فكانت إرادتها(عليها السلام) أن تنجز وصيتها بنحو الحتم، وهذه الإرادة الحتم منها كمسؤولية تقع علي عاتقها لبناء صرح الدين، ولا تريد أن تفرط في القيام بهذه المسؤولية الملقاة علي عاتقها وإن كان أمير المؤمنين(عليه السلام) معذورا في عدم القيام بها، فكان اللازم عليها(عليها السلام) علي هذا التقدير لو فرض أن توصي وتعهد لغير أمير المؤمنين(عليه السلام) لانجاز ذلك.

وهذا مما يشير إلي أن فاطمة(عليها السلام) كانت تتشاطر مع أمير

ص: 210


1- معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق 355 ، 356 .
2- أنوار اليقين( مخطوط) 27 / الجنة العاصمة 303.

المؤمنين(عليه السلام) في القيام بمسؤوليات حفظ الدين كلا منهما في عرض الآخر وإن كان كل منهما قد أختص بوظائف مسؤول عنها، ولا بد له من القيام بها وإن كان الآخر معذورا أو ممنوعا عن القيام بها.

ثم إن مضمون ومفاد هذا الخطاب من فاطمة(عليها السلام) لأمير المؤمنين(عليه السلام) إنما هو من الكفؤ للكفؤ في الولاية ولو في بعض المساحات المشتركة، بخلاف بقية الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) فإنه لم يكن لهم هذا الشأن مع أبيهم أمير المؤمنين(عليه السلام).

فإذا كان هذا شأنها(عليها السلام) مع أمير المؤمنين(عليه السلام) فتبين بوضوح هيمنتها بوضوح علي أولادها(عليهم السلام).

ص: 211

ص: 212

المقالة الحادية عشر: شراكتها لعلي عليه السلام وتقدم رتبتها عليها السلام علي رتبة أولادها

اشارة

*التوازن والعدل بين اقتضاء البحرين وآثارهما هو ببرزخ الهيمنة النبويّة.

*رتبة فاطمة (عليها السلام) بعد النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي (عليه السلام) ثم الحسنين ثم التسعة (عليهم السلام)....

قال تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22)(1). (2)

هذه الآية الكريمة من الطوائف الدالة علي مرتبتها(عليها السلام) ودرجة مرتبتها، وقد ذكرت هذه الفضيلة لها(عليها السلام) في مصادر عديدة من الفريقين وبأسانيد كثيرة.

فقد روي بن شهر آشوب في مناقبه: (وفي الحديث ان آسية بنت

ص: 213


1- سورة الرحمن: الآية 19 - 22.
2- سوره 55 - آيه 19

مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة يمشين أمام فاطمة(عليها السلام) كالحجاب لها إلي الجنة، وفي الحساب من سيدة الحور من ولد آدم كلهم، وزنه أم الحجج فاطمة البتول»(1).

وروي علي بن إبراهيم في تفسيره موثقة يحيي بن سعيد القطان (العطار خ ل) قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالي ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) ) (2) قال علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما علي صاحبه «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» قال الحسن والحسين(عليهما السلام)، وقال علي بن إبراهيم في قوله: «مرج البحرين يلتقيان» أمير المؤمنين وفاطمة(عليهم السلام) «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» الحسن والحسين (عليهما السلام)»(3).

وفي طريق الصدوق في الخصال قال: «علي وفاطمة (عليهما السلام) بحران من العلم عميقان»(4).

وروي قريبا منه بهذا التأويل بطرق أخري محمد بن العباس بن مهيار عن الصادق(عليه السلام) تارة بطرق مسندة وعن أبي سعيد الخدري وعن بن عباس وعن أبي ذر(5).2.

ص: 214


1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب 3 / 105.
2- سوره 55 - آيه 19
3- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي 2 / 34.
4- الخصال، الشيخ الصدوق/ 65، وفي روضة الواعظين، الفتال النيسابوري 148.
5- تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، السيد شرف الدين علي الحسيني الأستر آبادي636/2.

وفي المناقب ذكر بن شهر آشوب ثمان مصادر من كتب الحديث والتفسير أنهم رووا عن سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وأبو نعيم الأصفهاني مسندا عن أنس وعن بن عباس والقاضي النطنزي عن سفيان بن عيينه بهذا المضمون .

وفي المناقب لابن المغازي(1).

وروي الثعلبي بسنده إلي سفيان الثوري في ذيل الآية(2).

وروي بن شهر آشوب في مناقبه عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس إن فاطمة(عليها السلام) بكت للجوع والعري، فقال النبي(صلي الله عليه و آله): اقنعي يا فاطمة بزوجك فوالله إنه سيد في الدنيا سيد في الآخرة، وأصلح بينهما فأنزل الله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) (3) يقول: أنا الله أرسلت البحرين: علي بن أبي طالب بحر العلوم، وفاطمة بحر النبوة، يلتقيان يتصلان، أنا الله أوقعت الوصلة بينهما.

ثم قال: (بينهما برزخ) مانع رسول الله(صلي الله عليه و آله) يمنع علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن يحزن لأجل الدنيا، ويمنع فاطمة(عليها السلام) أن تخاصم بعلها لأجل الدنيا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) (4) يا معشر الجن والإنس (تكذبان) بولاية أمير المؤمنين وحب فاطمة الزهراء ( فاللؤلؤ ) الحسن(عليه السلام) (والمرجان)2.

ص: 215


1- مناقب علي بن أبي طالب* ، ابن المغازلي 294.
2- الكشف والبيان عن تفسير القرآن ( تفسير الثعلبي )، الثعلبي 9 / 182.
3- سوره 55 - آيه 19
4- سوره 55 - آيه 13

الحسين(عليه السلام)، لأن اللؤلؤ الكبار، والمرجان الصغار، ولا غرو أن يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما، فإن البحر سمي بحرا لسعته، وأجري النبي (صلي الله عليه و آله) فرسا فقال: وجدته بحرا)(1).

ولا يخفي سر التعبير عنهما بالبحرين في الآية الكريمة فإنه مطابق لما في بيانات الوحي المستفيضة في الآيات والرويات عن عوالم الملكوت مما دون العرش أو فوقه بالبحر والبحور، فالتقاء البحرين إلتقاء واقتران وتناسب وتناسق وتوافق وتوازن وترابط شأنين ملكوتيين ذوي هول عظيم.

وبعبارة أخري:

إن تكيّف موجودين جوهريين ماديين عن التزاحم والتدافع والتنافر إلي التواؤم والتلاؤم والتأثير المشترك الموحّد يتوقف علي إعدادات تكوينية وكونية عديدة، فكيف الحال بموجودين من عالم الملكوت، وكيف الحال بموجودين من أعلي مراتب الملكوت، ألا تري إلي صعوبة انقياد الملائكة لجعل خليفة لله تعالي إلي أن أطوعهم الله عز وجل إلي ذلك الخليفة والملائكة من عالم الملكوت، وكذلك لاحظ قوله تعالي: (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلي إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)إِنْ يُوحي إِلَيَّ إِلاّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)(2) (3) ، ولعله1.

ص: 216


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب 3 / 101.
2- سورة ص: الآية 69 - 71.
3- سوره 38 - آيه 69

يشير إلي ما ذكرناه من اختصام الملائكة في شأن استخلاف خليفة الله وجعل آدم خليفة، ونظير اعتراض النبي إبراهيم(عليه السلام)وهو من أولي العزم علي إهلاك قوم لوط فقال تعالي: (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ (75)يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ(76)(1) (2) ، ونظير ما جري بين الخضر وموسي إلي غير ذلك من الموارد التي يستعرضها القرآن والروايات لبيان احتياج الملائكة المقربين أو الأنبياء المرسلين إلي هاد موفق بينهم مما يدلل علي أن شؤون عوالم الملكوت والموجودات الملكوتية تحتاج توفيق بينها بمهيمن عليهم.

وهذا شأن ملحوظ حتي في الأسماء الإلهية فإن لكل إسم إلهي حكما وآثارا واقتضاءا لا بد من التوفيق والتوافق بينه وبين حكم إسم آخر وتأثيره وآثاره واقتضائه .

ومن ثم يلاحظ في الآيات والروايات أن الأسماء الإلهية المركبة الشفع أكبر رتبة من إنفراد تلك الأسماء، وأما الإسم الفرد المهيمن عليها فهو وتر أعلي رتبة من الشفع، فالشفع في الأسماء أعلي من وتر الأسماء المشفوعة، ولكن الوتر المهيمن عليها أعلي من شفعها، نظير السميع العليم فإن السميع بوتره والعليم بانفراده دون الشفع في السميع العليم، بينما (الله) الإسم الوتر المهيمن علي السميع العليم أعلي6.

ص: 217


1- سورة هود: الآية 75 - 76.
2- سوره 11 - آيه 75

رتبة منهما، وكذلك الحال فيما بين (الله) و (تبارك) و (تعالي) بالمقارنة مع (هو) أي أن الثلاثة منفردة دون الثلاثة الشفع لكنها شفعا دون وتر(هو)، وهذا يستفاد من أوائل آيات سورة الحديد وأواخر آيات سورة الحشر كما بينته روايات أهل البيت(عليهم السلام).

فإذا تقرر ذلك فيتبين خطورة وأهمية مفاد قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (1) ، ولا سيما وأن التعبير ورد بلفظة (مرج) والمروج في كل بحر يزيد هول الحقيقة، فالبحر من جهة أنه بحر فيه هول العظمة، وإذا أسند إليه المرج والمروج إزداد هول العظمة أكثر، وإذا التقي هول عظمة كل بحر مع الآخر ازداد الهول هولا والعظمة عظمة، لكن التوازن والعدل بين اقتضاء البحرين وآثارهما هو ببرزخ الهيمنة النبويّة، وهذا سر عظمة خطب هذه الآية الكريمة في شأن علي وفاطمة(عليهما السلام)، وهو سر هول خطب تزويج علي من فاطمة(عليهما السلام).

رتبة فاطمة(عليها السلام) بعد النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام) ثم الحسنين ثم التسعة(عليهم السلام):

روي في المحتضر عن بن عباس قال: سمعت النبي(صلي الله عليه و آله) يقول: (ليلة عرج بي إلي السماء .. فرآيت سرير علي وعلي واقف يصلي وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين عن شماله يصلون بصلاته والملائكة تنزل عليهم أفواجا أفواجا تقف في نورهم وتسمع

ص: 218


1- سوره 55 - آيه 19

قراءتهم..)(1).

فوقوفها(عليها السلام) عن يمين أمير المؤمنين(عليه السلام) دون خلفه مع أن الحكم في بقية الناس أن تقف في الخلف، كما أن وقوفها عن اليمين والحسنان عن الشمال لا العكس هو مؤشر ومنبه علي تقدم رتبتها علي الحسنين(عليهما السلام)، كما أن وقفها علي يمينه دون خلفه دال علي أن مقام علي(عليه السلام) وإن تقدم عليها(عليها السلام) إلا أن بينهما نحو من المشاركة والكفوئية كما هو مقتضي الحديث عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) في حديث قال: هبط علي جبرئيل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: لو لم أخلق عليا، لم يكن لفاطمة بنتك كفو علي وجه الأرض، من آدم ومن دونه)(2).

وقد أشرنا فيما تقدم من الأجزاء المطبوعه في مقاماتها أن مستفيض روايات النور الدالة علي صدور نورها ثالثا، ولا ينافي ما في لسان البعض الآخر من صدور نورها بعد الاثني عشر، فإنه لا تعرض فيه لوساطة أنوار الاثني عشر في إيجاد وصدور نورها، بخلاف اللسان الأول الأكثر استفاضة، والأول محمول علي خلقة أنوارهم قبل العرش بينما الثاني يتعرض إلي طبقات أنوارهم الأخري ما دون العرش.

وفي رواية الروضة والفضائل بالإسناد - يرفعه - إلي عبد الله بن8.

ص: 219


1- المحتضر، الحلي ح156 / 146.
2- الفصول المهمة في أصول الائمة، الحر العاملي 1 / 408.

أبي أوفي عن رسول الله (صلي الله عليه و آله) أنه قال: لما خلق الله إبراهيم الخليل كشف له عن بصره، فنظر إلي جنب العرش نورا، فقال: إلهي من هذا النور؟ فقال: هذا محمد صفوتي.

فقال: إلهي وسيدي إني أري بجانبه نورا آخر؟

فقال: يا إبراهيم هذا علي ناصر ديني.

فقال: إلهي وسيدي ومولاي إني أري بجانبه نورا آخر ثالثا؟

فقال: يا إبراهيم، هذه فاطمة تلي أباها وبعلها، فطمت محبيها عن النار.

فقال: إلهي وسيدي إني أري نورين يليان الثلاثة الأنوار؟

قال: يا إبراهيم، هذان الحسن والحسين، نوراهما يليان أباهما وأمهما وجدهما.

قال: إلهي وسيدي إني أري تسعة أنوار، فقد أحدقوا بالخمسة الأنوار؟

قال: يا إبراهيم، هذه الأئمة من ولدهم...)(1).

فإن الرواية صريحة في أن مرتبتها(عليها السلام) الثالثة في مراتب أهل البيت(عليهم السلام).8.

ص: 220


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين بن شاذان/ 186، الفضائل، بن شاذان / 158.

المقالة الثانية عشر: طبقات تزويج الزهراء عليها السلام بعلي عليه السلام قرآن فِي عوالم الولايات

اشارة

*سر هول وعظمة تزويج علي من فاطمة (عليهما السلام)...

*النقطة الأولي: ولاية أمر زواجها(عليها السلام) بيد الله خاصة...

*النقطة الثانية: الحفاوة الملكوتية لزواجهما(عليهم السلام)...

*الأمر الأول: ولاية زواج علي(عليه السلام) أيضا بيد الله...

*الأمر الثاني: اقترانهما (عليهم السلام) تمّ في الجنة الابدية قبل الدنيا...

*الأمر الثالث: الحفاوة بزواجها(عليها السلام) ذو صلة بولايتها...

*الأمر الرابع: مهرها توليّة الهية لها علي شؤون العالم كله...

*تبرّك الملائكة المباركين ببركات زواجها(عليها السلام)...

*محورية فاطمة(عليها السلام) كفؤ لعلي(عليه السلام) في الرتبة...

*انفعال العرش وما دونه بزواجها(عليها السلام) ارتباط الداني بالعالي...

*تولي الله لزواجهما لكونه اقتران نظم وتدبير الهي...

*النقطة الثالثة: التزويج و المؤاخاة...

ص: 221

*التراتبية بين الثلاثة...

*قران كفؤية في عالم الملكوت...

*زواجهما نظير القران الأسمائي...

*المؤاخاة بين النبي(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) نورية...

*النقطة الرابعة: حديث الكساء...

*التآلف في الولايات الاصطفائية سر عظمة أهل البيت (عليهم السلام)...

*تفوق علي(عليه السلام) في امتحان الولاية تدبير الملائكة...

*أهل البيت نبراس في تدبير الولاية لكل طبقات الملكوت وطبقات الملك...

*اختصام أصحاب الولايات الإلهية في الملكوت والملك...

*النقطة الخامسة: الولادة في الكعبة والتزويج...

سر هول وعظمة تزويج علي من فاطمة(عليهما السلام):

اشارة

الملاحظ في روايات التزويج بين فاطمة وعلي(عليهما السلام) أنه لم يكن كبقية الزيجات بين البشر، بل إنه زواج اصطفائي من الله ويحمل أسرارا في المقامات والمراتب في شؤون الولاية الإلهية.

ولتوضيح نبذة من حقيقته نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولي: ولاية أمر زواجها(عليها السلام) بيد الله خاصة:

إنه قد ورد عنه (صلي الله عليه و آله) أن ولاية تزويج فاطمة(عليها السلام) ليست بيده مع

ص: 222

أنه(صلي الله عليه و آله) سيد الخلائق وإمام الأئمة وأولي بالناس من أنفسهم وأعظم الخلق ولاية بعد الله، ومع كل ذلك فإن تزويج فاطمة(عليها السلام) خاص بيد الله.

وهذا سر عظيم الشأن في مقامها(عليها السلام) نظير ما مرت الإشارة إليه في بعض الروايات من أنها(عليها السلام) تحفة إلهية لرسوله(صلي الله عليه و آله) لم تدرج في الأصلاب بل في خصوص صلب النبي(صلي الله عليه و آله) نزولا من الجنة وفي رحم المطهرة خديجة(عليها السلام).

فقد روي في المناقب عن أم سلمة وسلمان الفارسي وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: لما أدركت فاطمة بنت رسول الله مدرك النساء، خطبها أكابر قريش من أهل السابقة والفضل في الإسلام والشرف والمال، وكان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله اعرض رسول الله عنه بوجهه حتي كان الرجل منهم يظن في نفسه أن رسول الله ساخط عليه، أو قد نزل علي رسول الله(صلي الله عليه و آله) فيه وحي من السماء، ولقد خطبها من رسول الله (صلي الله عليه و آله) أبو بكر الصديق فقال له رسول الله: يا أبا بكر أمرها إلي ربها، وخطبها بعد أبي بكر عمر ابن الخطاب فقال له كمقالته لأبي بكر.

وإن أبا بكر وعمر كانا ذات يوم جالسين في مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله) ومعهما سعد بن معاذ الأنصاري، ثم الأوسي فتذاكروا أمر

ص: 223

فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال أبو بكر: لقد خطبها من رسول الله(صلي الله عليه و آله) الأشراف فردهم رسول الله(صلي الله عليه و آله) وقال: أمرها إلي ربها إن شاء أن يزوجها زوجها ...) (1).

النقطة الثانية: الحفاوة الملكوتية لزواجهما(عليهم السلام)
اشارة

إن الباري تعالي قد أعد لهذا الزواج حفلا وحفاوة في الملكوت لم يذكر في الوحي زواجا مثله، وحضّار هذا الحفل كما في جملة من الروايات حملة العرش جبرئيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل(2) واللوح المحفوظ والقلم ونون، وهذا الإعداد الإلهي ليس لهوا ولعبا إذ لا مسرح له في أفعاله تعالي بل الحق هو الحكمة وتمام الجد.

فقد روي في الهداية الكبري عن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام) قال: (خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فاطمة، فقال رسول الله (صلي الله عليه و آله): يا علي ما خطبتها إلا والله زوجك إياها في السماء لأن الله وعد ذلك فيك وفي ابنتي فاطمة.

فقام إليه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وقال: يا رسول الله وقد زوج الله عليا في السماء بفاطمة(عليها السلام)؟ فقال له(صلي الله عليه و آله): نعم يا ابن

ص: 224


1- المناقب، الموفق الخوارزمي344، كشف الغمة في معرفة الائمة، علي بن ابي الفتح الاربلي1/ 364.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق 524 ، مناقب الامام امير المؤمنين، محمد بن سليمان الكوفي595/2. روضة الواعظين، الفتال النيسابوري 122.

أيوب أمر الله الجنة أن تتزخرف وشجرة طوبي أن تنشر أغصانها في السبع سماوات إلي حملة العرش، وأن تحمل بأغصانها درا وياقوتا ولؤلؤا ومرجانا وزبرجدا وزمردا أصكاكا مخطوطة بالنور، هذا ما كان من الله للملائكة وحملة عرشه وسكان السماوات كرامة لحبيبة وابنته فاطمة ووصيه علي وأمر لجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل واللوح المحفوظ والقلم ونون، وهي مخازن وحي الله وتنزيله علي أنبيائه ورسله وان يقفوا في السماء الرابعة، وأن يخطب جبريل بأمر الله، ويزوج ميكائيل عن الله، ويشهد جميع الملائكة وانتثرت طوبي من تحت العرش إلي السماء الدنيا فالتقط الملائكة ذلك النثارة الصكاك فهو عندهم مذخور....)(1).

وفي الرواية أمور:

الأمر الأول: ولاية زواج علي(عليه السلام) أيضا بيد الله:

فقوله (صلي الله عليه و آله): (يا علي ما خطبتها إلا والله زوجك إياها في السماء).

فيه دلالة علي أن تزويج علي من فاطمة(عليهما السلام) كان بولاية من الله علي علي(عليه السلام) وعلي فاطمة(عليها السلام)، فكما أن ولاية تزويجها ليس بيد رسول الله(صلي الله عليه و آله) بل بيد الله، فكذلك تزويج علي من فاطمة هو الآخر ليس بيد علي ولا بيد فاطمة، ويدل عليه ما في رواية أخري: ( إن الله يأمرك أن

ص: 225


1- الهداية الكبري، الحسين بن حمدان الخصيبي 113.

تزوج النور من النور).

وما سيأتي في الرواية الآتية: (فكان الخاطب جبرائيل(عليه السلام)، والولي الله، والشاهد الملائكة) هي صريحة في أن الولاية عليها(عليها السلام) في أمر تزويجها بيد الله.

الأمر الثاني: اقترانهما(عليهما السلام) تمّ في الجنة الابدية قبل الدُّنْيَا:

إن قوله(صلي الله عليه و آله): (أمر الله الجنة ان تتزخرف وشجرة طوبي أن تنشر أغصانها في السبع سماوات إلي حملة العرش ) دال علي أن هذا التزويج جناوي قد تمّ في الآخرة الأبدية .

وأما أنه كيف يتم أمر في الآخرة الأبدية قبل الدنيا مع أن المعروف فيما هو مقرر في العلوم الرسمية في المعارف أن الآخرة بعد الدنيا لا قبل الدنيا فهذا مبحث قد بسطنا الكلام فيه في الجزء الرابع من كتاب الرجعة، وملخصه أن الآخرة الأبدية كما تقع في قوس الصعود فهي قد وقعت في قوس النزول.

بل في رواية فرات الكوفي قوله(صلي الله عليه و آله): «زوجك الرحمن فوق عرشه»(1).

الأمر الثالث: الحفاوة بزواجها(عليها السلام) ذو صلة بولايتها:

إنه(صلي الله عليه و آله) قد علل هذا الاستنفار في ملكوت السماوات والجنة

ص: 226


1- تفسير فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي 415 ح 552 في ذيل سورة الاحقاف.

وطبقات الملائكة بأنه كرامة من الله في قوله: «كرامة لحبيبه وابنته فاطمة ووصيه علي»، وهذا التكريم في محفل عظام الملائكة الذين بيدهم إدارة ما دون العرش من الجنة والنار والسماوات السبع والأرض ليس مجاملات وحفاوة صورية منه تعالي، بل إشارة إلي مقامات وولايات تكوينية نظير ما في المحفل الإلهي الذي أقامه الله تعالي لآدم .

فإن المدح بالفضائل والتعاطي بالكرامات في لغة العقل العملي بيان لحقائق الكمالات بتلك اللغة في قبال لغة العقل النظري كما مر في الباب الأول في الضوابط، فهذا التكريم يدل علي أن مقام فاطمة(عليها السلام) ذو صلة وولاية علي كل من هم دون العرش من الملائكة العظام.

الأمر الرابع: مهرها توليّة الهية لها علي شؤون العالم كله:
اشارة

إن جعل مهر فاطمة(عليها السلام) في التزويج خمس الدنيا وما فيها والنيل والفرات وسيحان وجيحان، وكل باب الخمس وأقسامه نحلة من الله وحباء لا يحل لأحد أن يظلمها فيه بورقة، وهذا المهر ليس نظير مهر النساء، وإنما هو ولاية وتولية إلهية لها علي مقدرات الأرض وعلي شؤون البشر وشؤون الشعوب والدول، لأن الخمس ليس ضريبة فردية فقط بل ضريبة علي ثروات الدول وما تغنمه في الحروب.

كما أن هذه الرواية في هذا المقطع دالة بوضوح علي أن ولاية الخمس والفيء للأئمة(عليهم السلام) من ذريتها وراثة اصطفائية من ولايتها.

ص: 227

وهذا ما قررناه في الجزئين السابقين من أن مقتضي جعل الخمس والفيء لعنوان ذوي القربي، فإنها أول القربي وولدها إنما يرثون رسول الله(صلي الله عليه و آله) بتوسطها(عليها السلام).

وروي في شرح الأخبار أن النبي(صلي الله عليه و آله) قال لفاطمة(عليها السلام): (يا فاطمة والذي بعث أباك بالحق واصطفاه بالرسالة ما زوجتك عليا حتي زوجك الله إياه من فوق عرشه.

اعلمي يا فاطمة إنه لما أراد الله عز وجل تزويجك عليا أوحي إلي جبرائيل أن ناد في السماوات السبع، فنادي جبرائيل(عليه السلام)، فاجتمع الملائكة إلي السماء الرابعة بإزاء البيت المعمور، ثم أمر جبرائيل فنصب منبرا من نور عرشه وأمره أن يخطب، ويزوجك عليا، فكان الخاطب جبرائيل(عليه السلام)، والولي الله، والشاهد الملائكة .

ثم أوحي جل ثناؤه إلي رضوان -خازن الجنان- أن زخرف الجنان، وزين الحور.

وأمر الله عز وجل شجرة طوبي أن احملي، فحملت، وأمرها أن تنثر علي الحور من عجائب ما انتثر عليهم، فكل حورية خلقت بعد ذلك، فالتي خلقت قبلها تفتخر عليها بما عندها من نثار ملاكك)(1).

وهذه الرواية فيها ما تقدم في الرواية السابقة وتمتاز بالآتي:6.

ص: 228


1- شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي2 / 376.
تبرّك الملائكة المباركين ببركات زواجها(عليها السلام):

أولاً: بما بين(صلي الله عليه و آله) أن من بركات زواجها(عليها السلام) تنزل خيرات وبركات من شجرة طوبي، وهي شجرة الجنة الأبدية، وأنها تنثر علي ما دونها من عالم السماوات.

وقد ذكر(صلي الله عليه و آله) أن الملائكة المباركين تتبرك بذلك النثار، وكذلك الحور العين في الجنة، مع أن الملائكة والحور العين في الأصل هم عين البركة، والبركة إشارة إلي الكمال والتكامل القدسي التكويني.

محورية فاطمة(عليها السلام) كفؤ لعلي(عليه السلام) في الرتبة:

ثانيا: قوله(صلي الله عليه و آله): «يا فاطمة إن الله نظر إلي الأرض نظرة فاختار منها عليا فجعله لك بعلاً» بيان أن محورية فاطمة(عليها السلام) كفؤ لعلي(عليه السلام) في الرتبة حيث قال(صلي الله عليه و آله): «فجعله لك بعلاً» ولم يقل(صلي الله عليه و آله): «فجعلك له زوجاً» وجعل الأمير لها إشارة إلي الكفوئية.

وفي دلائل الإمامة عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنه قال: هممت بتزويج فاطمة حينا، ولم أجسر علي أن أذكره لرسول الله(صلي الله عليه و آله)، وكان ذلك يختلج في صدري ليلا ونهارا، حتي دخلت يوما علي رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال: يا علي، فقلت: لبيك يا رسول الله.

فقال: هل لك في التزويج؟

ص: 229

فقلت: الله ورسوله أعلم، فظننت أنه يريد أن يزوجني ببعض نساء قريش، وقلبي خائف من فوت فاطمة، ففارقته علي هذا، فوالله ما شعرت حتي أتاني رسول رسول الله، فقال: أجب يا علي وأسرع.

قال: فأسرعت المضي إليه، فلما دخلت نظرت إليه، فلما رأيته ما رأيته أشد فرحا من ذلك اليوم، وهو في حجرة أم سلمة فلما أبصرني تهلل وتبسم، حتي نظرت إلي بياض أسنانه لها بريق، قال: يا علي هلم فإن الله قد كفاني ما همني فيك من أمر تزويجك.

فقلت: وكيف ذلك يا رسول الله ؟

قال: أتاني جبرئيل، ومعه من قرنفل الجنة وسنبلها قطعتان، فناولنيها، فأخذتهما وشممتهما، فسطع منها رائحة المسك، ثم أخذها مني، فقلت: يا جبرئيل، ما شأنهما؟

فقال: إن الله أمر سكان الجنة أن يزينوا الجنان كلها بمفارشها ونضودها وأنهارها وأشجارها، وأمر ريح الجنة التي يقال لها (المثيرة) فهبت في الجنة بأنواع العطر والطيب، وأمر الحور العين بقراءة سورتي طه ويس، فرفعن أصواتهن بهما.

ثم نادي مناد: ألا إن اليوم يوم وليمة فاطمة بنت محمد، وعلي بن أبي طالب رضي مني بهما.

ثم بعث الله (تعالي) سحابة بيضاء، فمطرت علي أهل الجنة من

ص: 230

لؤلؤها وزبرجدها وياقوتها، وأمر خدام الجنة أن يلقطوها، وأمر ملكا من الملائكة يقال له: (راحيل) فخطب خطبة لم يسمع أهل السماء بمثلها .

ثم نادي (تعالي): يا ملائكتي وسكان جنتي باركوا علي نكاح فاطمة بنت محمد وعلي بن أبي طالب، فإني زوجت أحب النساء إلي من أحب الرجال إلي بعد محمد.

ثم قال(صلي الله عليه و آله): يا علي أبشر أبشر، فإني قد زوجتك بابنتي فاطمة علي ما زوجك الرحمن من فوق عرشه، وقد رضيت لها ولك ما رضي الله لكما، فدونك أهلك »(1).

ولا يخفي أن صورة لفظ الحديث هي بحسب متنها في دلائل الإمامة للطبري، وهو يختلف في الجملة عن صورة المتن في رواية الصدوق في الآمالي وتمتاز هذه الرواية:

انفعال العرش وما دونه بزواجها(عليها السلام) ارتباط الداني بالعالي:

أولاً: ظاهر الرواية والروايات المتقدمة بوضوح أن العرش وما دونه من الجنة الأبدية والسبع سماوات والسبع أرضين وكل من يسكن تلك العوالم قد تأثر وانفعل ابتهاجا بهذا الحدث الذي يقع في

ص: 231


1- دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري الشيعي 87 ، الأمالي ، الشيخ الصدوق 654.

بيت النبوة، مما يدل بوضوح علي الارتباط الروحي لهذه العوالم وأهلها من العرش فما دونه بأهل البيت، وهو من ارتباط الداني بالعالي، وهذا مؤشر علي مقام الولاية للنبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) تكوينا ودينا.

تولي الله لزواجهما لكونه اقتران نظم وتدبير إلهي:

ثانيا: قوله(صلي الله عليه و آله) بحسب صورة الحديث في الأمالي:

«ألا إني أشهدكم أني قد زوجت فاطمة بنت محمد من علي بن أبي طالب رضا مني، بعضهما لبعض»(1).

وفي هذا المقطع دلالة بوضوح علي أن ولاية هذا التزويج سواء من طرف فاطمة أو من طرف علي ليس بتولية من النبي(صلي الله عليه و آله) ولا من علي ولا من فاطمة بل منه تعالي، وهذا المفاد مستفيض في روايات تزويجهما.

وقد تقدم أن هذا يفيد عظم شأنهما(عليهما السلام) وعظم حدث الاقتران بينهما، وأنه ليس اقتران أبدان ولا مجرد اقتران أرواح بل هو اقتران نظم وتدبير إلهي في مقام الولاية وشؤونها، وأنه تتشاطر فاطمة وعلي(عليهما السلام) شؤون الولاية الإلهية في العوالم العلوية بعد مرتبة النبي(صلي الله عليه و آله) وأنهما يتشاطران المقامات النبوية اصطفاءا وراثيا.

ص: 232


1- الأمالي، الشيخ الصدوق 654، تفسير فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي 415.

وهذا هو سر لغز هذا الهول والخطب في كل عالم الملكوت حتي ارتج ارتجاجا في هذا الاقتران، وإليه الإشارة في ما مر من قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) (1) فإن بحر العلم وهو بحر علي هو بحر الولاية، وبحر النبوة وهو بحر فاطمة هو بحر الوراثة الاصطفائية لها من أبيها، وهما بحران عظيمان من الملكوت من سنخين متعددين وإلتقاؤهما في التأثير والتدبير لما دونهما من شؤون العوالم يتطلب توازنا تكوينيا في غاية اللطافة والدقة، وليس هذا التوازن إلا بهيمنة المقام النوري للنبي(صلي الله عليه و آله)، وإلتقاء البحرين اقتران وتقارن.

وروي في المناقب عن عبد الرزاق باسناده إلي أم أيمن في خبر طويل عن النبي(صلي الله عليه و آله):

«وعقد جبرئيل وميكائيل في السماء نكاح علي وفاطمة، فكان جبرئيل المتكلم عن علي وميكائيل الراد عني»(2).

وروي في المناقب أيضا حديث خباب بن الأرت:

«إن الله تعالي أوحي إلي جبرئيل أن زوج النور من النور»(3).

ومفاد هاتين الروايتين بوضوح:

أولا: أن طبقات التزويج بينهما(عليهما السلام) العمدة فيه اقتران نوريهما.ر.

ص: 233


1- سوره 55 - آيه 19
2- مناقب آل ابي طالب، بن شهر آشوب 3 /124.
3- نفس المصدر.

ثانيا: هذا التزويج جري بتولية من الله علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وعلي فاطمة(عليها السلام) سواء، وأن الولي هو الله تعالي.

وكان قوّام الزواج وشهوده من الملائكة، كما أن قوّام العقد كانوا هم الملائكة المقربين وشهوده ملائكة السماوات، مما يبين أن الاقتران بينهما أصل بيئته في طبقات الملكوت، فكانت الملائكة ممن لهم ارتباط بهذا القران .

النقطة الثالثة: التزويج و المؤاخاة:
اشارة

قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) لعلي(عليه السلام):

«وقد أمرني الله يخبرني مشافهة - حيث أسري بي إليه - أمرني أن أو أخيك وأزوجك بفاطمة بنتي سيدة نساء العالمين في الأرض بعد أن زوجك الله في السماء»(1).

وبيان الرواية في نقاط:

التراتبية بين الثلاثة:

أولا: ردف المؤاخاة بين علي(عليه السلام) وبين النبي(صلي الله عليه و آله) وفرّع علي ذلك تزويج فاطمة(عليها السلام) به(عليه السلام)، وهذا مما يعطي عظم شان فاطمة(عليها السلام) بعد كون التزويج منطوي في ماهيته الكفوئية والكفاءة والاقتران.

ص: 234


1- الهداية الكبري، الحسين بن حمدان الخصيبي 64.

مما يدل علي المشاركة والترتب بين الثلاثة حيث بدأ أولا بالمواخاة وهي دالة علي المشاركة بين أمير المؤمنين(عليه السلام) والنبي(صلي الله عليه و آله) مع كون النبي(صلي الله عليه و آله) هو الأصل ورتبة أمير المؤمنين(عليه السلام) الثانية، ثم فرّع علي المؤاخاة بينهما تزويج علي بفاطمة(عليهما السلام)، والتزويج نحو مقارنة واشتراك، وحيث كان فرع المؤاخاة كان فيه إشارة إلي تأخر رتبة فاطمة(عليها السلام) عنه(عليه السلام) في حين الكفوئية والمشاركة.

قران كفؤية في عالم الملكوت:

ثانيا: ثم إن هذا الاقتران قد بدأ في السماء قبل كونه في الأرض أي أنه اقتران وكفوئية في عالم الملكوت والنور ومن ثم أردف ذلك في بعض الرويات: ان الله تعالي أوحي إلي جبرئيل: زوج النور من النور، وكان الولي الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين )(1).

وفي الرواية: ( نزل جبرائيل علي النبي(صلي الله عليه و آله) فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة من علي)(2).

وفي شرح الأخبار عن موسي بن جعفر(عليه السلام) انه قال: بينا رسول الله (صلي الله عليه و آله) جالس إذ دخل عليه ملك له أربعة وعشرون وجها، فقال له

ص: 235


1- مناقب آل ابي طالب، بن شهر آشوب 3 /124.
2- شرح الاخبار، القاضي النعمان المغربي 3 / 28.

رسول الله: حبيبي جبرئيل لم أرك في مثل هذه الصورة فقال الملك لست بجبرئيل أنا محمود بعثني الله تعالي أن أزوج النور من النور قال من ومن؟ قال: فاطمة من علي)(1).

وروي في كشف الغمة قال الخوارزمي وأنبأني أبو العلا الحافظ الهمداني يرفعه إلي الحسين بن علي(عليه السلام) قال: بينا رسول الله(صلي الله عليه و آله) في بيت أم سلمة إذ هبط عليه ملك له عشرون رأسا، في كل رأس الف لسان يسبح الله ويقدسه بلغة لا تشبه الأخري، راحته أوسع من سبع سماوات وسبع أرضين، فحسب النبي(صلي الله عليه و آله) أنه جبرئيل(عليه السلام) فقال: يا جبرئيل لم تأتني في مثل هذه الصورة قط؟ قال: ما أنا جبرئيل، أنا صرصائيل بعثني الله إليك لتزوج النور من النور، فقال النبي(صلي الله عليه و آله): من من من قال؟ ابنتك فاطمة من علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فزوج النبي(صلي الله عليه و آله) فاطمة من علي بشهادة جبرئيل وميكائيل وصرصائيل...)(2).

زواجهما(عليهما السلام) نظير القران الأسمائي:

ثالثا: إن التزويج بين الأبدان وبين النفوس النازلة أمر معهود معروف، وأما التزويج بين الأنوار فهو سنخ ونمط من القران

ص: 236


1- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري 146، دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري (الشيعي)، الطبري 93.
2- كشف الغمة في معرفة الائمة، علي بن ابي الفتح الاربلي 1 / 361.

والشفاعة يقترب من بحث الشفاعة الذي هو اقتران في الأسماء الإلهية ويحتاج إلي مزيد بحث وبسط، كما أوضحناه في بحث مرج البحرين.

المؤاخاة بين النبي(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) نورية:

رابعاً: وحيث كان التزويج سماويا ونورانيا ومتفرعا علي المؤاخاة كشف ذلك عن كون المؤاخاة نورية برتبة أعلي.

النقطة الرابعة: حديث الكساء:
اشارة

إن عظمة هذا الحفل والتزويج لم يرد في تزويج سيد الرسل(صلي الله عليه و آله) بخديجة فضلا عن بقية الأنبياء(عليهم السلام)، مع كون النبي(صلي الله عليه و آله) أفضل منهما وسيدهما، بل إن فضل وعظمة تزويجهما منشؤها عظمة النبي(صلي الله عليه و آله).

فما لهذا الاهتمام في الإرادة والمشيئة الإلهية بهذا التزويج، أي لتكوين هذه النواة من بيت النبوة والأسرة النورية .

وهذا عين المفاد الوارد في حديث الكساء أن نواة أصحاب بيت الكساء وبيت النور الذي هو مفاد سورة النور أنه محور لوحي الاصطفاء.

التآلف في الولايات الاصطفائية سر عظمة أهل البيت(عليهم السلام):

فهذا البيت وهذه الأسرة ليست قدويتها في جانب عيشها الاجتماعي الدنيوي فحسب كنبراس للأنبياء والمرسلين والأوصياء

ص: 237

من ذريتهما(عليهما السلام) في تكوين الأسرة في المعيشة الاجتماعية الدنيوية، بل الأعظم من ذلك هو التآلف والتوازن والتوافق في الولايات الاصطفائية بعضها مع البعض الآخر مع اختلافها رتبة من جهة وتشاركها من جهة أخري.

فإن هذا أعظم شأنا أي أسروية وبيت الولايات الاصطفائية.

فأصحاب الكساء الخمسة(عليهم السلام) قدوة للملائكة المقربين في التنسيق في شؤون الولايات الملكوتية في المقامات الخطيرة من تدبير الأمر الإلهي.

ومن ثم ورد من مباهاة الله عزوجل بأمير المؤمنين علي(عليه السلام) ليلة المبيت علي فراش النبي(صلي الله عليه و آله).

روي في المناقب عن كثيرين من العامة وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي إلينا بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي رافع وهند بن أبي هالة: أنه قال رسول الله(صلي الله عليه و آله): «أوحي الله عز وجل إلي جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر أيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟

فاختار كلاهما الحياة فأوحي الله عز وجل أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب صلوات الله علي نبينا وعليه آخيت بينه وبين محمد فبات علي فراشه ففديه بنفسه وآثره بالحياة اهبطا إلي الأرض فاحفظاه من عدوه،

ص: 238

فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي بخ بخ من مثلك با ابن أبي طالب يباهي تعالي بك الملائكة، فأنزل الله عز وجل «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد»(1).

وهذه بالدقة ليست مباهاة الله علي صعيد البعد الشخصي بين أحد الأدميين واثنين من الملائكة المقربين، بل هو في الحقيقة تعليم من الله وتربية منه لعظام الملائكة المقربين علي أن مسؤولية التدبير للأمر الإلهي والتنسيق تتطلب درجة من تفاني الذات والتخلص من الذاتية والذوبان في الأمر الإلهي الدرجة الكبيرة كي ينتظم الفعل الإلهي في التنزل من القدس الأعلي إلي العوالم النازلة.

تفوق علي(عليه السلام) في امتحان الولاية تدبير الملائكة:

ومن ثم في هذا الحديث هنّأ جبرئيل وميكائيل عليا(عليه السلام) بأنه فاق في امتحان تدبير الولاية كلا من جبرئيل وميكائيل، فكيف لا يكون علي(عليه السلام) معلما وقدوة لجبرئيل وميكائيل في تدبير الولايات الملكوتية وشؤون الأمر الإلهي.

فعظمة بيت أصحاب الكساء في الأساس والأصل هي تعاظم نسق الولاية بين سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وسيد الأوصياء(عليه السلام) وسيدة النساء(عليها السلام)

ص: 239


1- مناقب آل أبي طالب، بن شهر آشوب 1/ 339.

وسيدي شباب أهل الجنة(عليهما السلام) حيث إن الله جعلهم سادات الولايات الإلهية في العوالم والأكوان في أعلي علو عوالم الملكوت ونزولا إلي سابع أرضين، فهي بمثابة الهيئة الحاكمة العليا في دولة الشأن والأمر الإلهي وغرفة التحكم في مقامات الولايات للملائكة المقربين وحملة العرش وللأنبياء والمرسلين والأصفياء والصديقين.

أهل البيت(عليهما السلام) نبراس في تدبير الولاية لِكُلِّ طبقات الملكوت وطبقات الملك:

فهذه الإلفة بين أركان أصحاب الكساء(عليهم السلام) البالغة غايتها ولاسيما وأن هذه الإلفة لم تقتصر علي الملكوت الأعلي بل هي بالغة غايتها أيضا في عالم الملك الأدني الذي هو مثار التزاحم والتضاد والتناقض علي أشد ما يمكن، فيكون ذلك البيت وأصحابه نبراسا عظيما وقدوة في الإدارة والتدبير والولاية لكل طبقات الملكوت وطبقات الملك، فضلا عن الحياة الإجتماعية السياسية للبشر في نظام الإدارة وفضلا عن نظام الأسرة المعيشية التي هي لبنة المجتمع.

فالأصل في عظمة الجلوس تحت الكساء من أصحاب الكساء وتكوينهم كينونة البيت النبوي أساسه أن ولايتهم نظام للولايات الإلهية سواء في عالم الأرواح الأمرية أو للملائكة المقربين أو للأنبياء والمرسلين والأوصياء والمصطفين(عليهم السلام)، وأن نظم الولاية في ما بين

ص: 240

أصحاب الكساء(عليهم السلام) أمان من فرقة وتزاحم أصحاب الولايات الإلهية في الملكوت والملك.

اختصام أصحاب الولايات الإلهية في الملكوت والملك:

ألا تري ما جري بين موسي والخضر(عليهما السلام) وكان أحدهما نبي من أولي العزم والآخر من أعاظم الأولياء في زمرة العلماء بأمر الله، فلم يصبر أحدهما علي الآخر، فقال الخضر لموسي كراراً: ( قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً(72)(1) (2) فلم يصبر موسي(عليه السلام) علي الخضر كما أن الخضر لم يصبر علي موسي في قوله تعالي: ( قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ )(3) (4) فلم يرتضي مصاحبة موسي ولم يصابر الخضر علي عدم مصابرة موسي وفوق كل ذي صبر صبور.

وقد بين أن الصبر في الإدارة والولاية منشؤها العلم كما في قول الخضر: ( وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلي ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (5). (6)

مما يدلل علي أن صبر الأولياء في الإدارة والتدبير للأمر الإلهي وليد أو متأثر بدرجة العلم لذلك الولي وذلك الصفي، فكلما اتسع علمه وتنوّع وتبحّر وترامي خبرا كلما ازداد تحمله وكفاءته في الولاية

ص: 241


1- سورة الكهف: الآية 75.
2- سوره 18 - آيه 72
3- سورة الكهف: الآية 78.
4- سوره 18 - آيه 78
5- سورة الكهف: الآية 68.
6- سوره 18 - آيه 68

والتدبير للشأن والامر الإلهي .

ومن ثم فإن الإلفة التي بين أصحاب الكساء(عليهم السلام) إلي منتهي الغاية ولا يقول أحدهما للآخر «هذا فراق بيني وبينك» كما لا يقول بعضهم لبعض «إنك لن تستطيع معي صبرا»، كما أنهم لا يختصم بعضهم مع البعض كما هو حال من هم في الملأ الأعلي، كما أنه لا يقول أحدهم للآخر: ( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (150)(1) (2) ولا: ( قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي )(3). (4)

وليس هذا البيت نظير بيت آدم وحواء حيث أخرجهما الشيطان مما كانا فيه ( فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ)(5) (6) رغم أنها صفية وآدم صفوة الله ( وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (35)(7) (8) ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ )(9). (10)

ولا نظير الذي جري بين هاجر وساري وإبراهيم الخليل(عليه السلام) حتي اضطر إبراهيم إلي ما قاله تعالي: ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي (11)6.

ص: 242


1- سورة الأعراف: الآية 150.
2- سوره 7 - آيه 150
3- سورة طه: الآية 94.
4- سوره 20 - آيه 94
5- سورة الأعراف: الآية 22.
6- سوره 7 - آيه 22
7- سورة البقرة: الآية 35.
8- سوره 2 - آيه 35
9- سورة البقرة: الآية 36.
10- سوره 2 - آيه 36
11- سوره 14 - آيه 37

بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ )(1) (2) وإن كان ذلك مشتملا علي حكمة إلهية عظيمة في تدبير الله تعالي.

وليست الإلفة بين أصحاب الكساء(عليهم السلام) تحت وطأت صرامة القانون وتحت مظلة التشارط والتعاقد والتعاوض كالذي بين موسي وشعيب(عليهما السلام) كما في قوله تعالي: ( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ (27) ) (3) (4) بل إن الإلفة بينهم معرفية ونورية وروحية وخلقية قبل أن تكون قانونية في مادة البدن.

ولا التنسيق فيما بينهم فيه وقفة تروّي وفترة تدبر كالذي جري بين إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) في قوله تعالي: ( فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَري فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَري قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ (102)(5). (6)

والحاصل أنه رغم عظم مقام ولاياتهم لم يوجب ذلك تمحور كل ذات منهم حول نفسه مع أن طبيعة الإنسان بل كل مخلوق أنه يطغي أن رآه استغني، فانظر إلي منشأ الاعتراض لدي الملائكة: ( قالُوا (7)2.

ص: 243


1- سورة إبراهيم: الآية 37.
2- سوره 14 - آيه 37
3- سوره 28 - آيه 27
4- سورة القصص: الآية 27.
5- سورة الصافات: الآية 102.
6- سوره 37 - آيه 102
7- سوره 2 - آيه 30

أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ )(1). (2)

فوصفوا أنفسهم بالتسبيح والتقديس الذي أوجب كونه مدعاة للإعتراض علي جعل الله .

ونظيره ورد في قبض روح إبراهيم الخليل(عليه السلام)، فقد أخرج في الدر المنثور: أن ملك الموت جاء إلي إبراهيم(عليه السلام) ليقبض روحه فقال إبراهيم يا ملك الموت هل رأيت خليلا يقبض روح خليله فعرج ملك الموت إلي ربه فقال قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله)(3).

ونظيره ماورد أنه إذا نفخ في الصور يأمر الله بقبض روح ملك الموت، فيقول:( إلهي وسيدي ارحم عبدك ملك الموت فإنه ضعيف، فيقول الله عز وجل له: يا ملك الموت، ضع يمينك تحت خدك الأيمن بين الجنة والنار ومت.. فيضطجع ملك الموت علي يمينه ويضع يده اليمني تحت خده الأيمن، ويده الشمال علي وجهه ويصرخ صرخة فلو أن أهل السماوات والأرض أحياء لماتوا لشدة صرخته) (4).

فنلاحظ في قبض روح إبراهيم(عليه السلام) وملك الموت وكذا جبرئيل وميكائيل واسرافيل(عليهم السلام) تترائي لهم مكانة أنفسهم في مقامات الولاية8.

ص: 244


1- سورة البقرة: الآية 30.
2- سوره 2 - آيه 30
3- الدر المنثور ، السيوطي 117/1.
4- البحار ، المجلسي 57 /258.

فلا ينطلق منهم التسليم الذي لدي أصحاب الكساء(عليهم السلام) عند قبض أرواحهم بينما نري أن سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) أول ما أخذ الله عليه أن يكابد طول حياته طعم موت والاغتيال، وكذلك في سيد الأوصياء(عليه السلام) حيث ورد في مصباح الزائر:

«السلام علي من عجب من حملاته في الحروب ملائكة سبع سماوات»(1) .

ونظير ما ورد في شأن سيد الشهداء(عليه السلام)

«وقد عجبت من صبرك ملائكة السماء»(2).

ونظير ما في شأن صاحب العصر(عليه السلام)

«عزيز علي أن تحيط بك دوني البلوي، ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوي ... عزيز علي أن يجري عليك دونهم ما جري»(3).

وروي الطوسي عن أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام):

«ذو الغيبة الشريد الطريد»(4).

وروي النعماني في الغيبة عن الباقر(عليه السلام)وصف صاحب الأمر: الشريد الطريد الفريد الوحيد)(5).4.

ص: 245


1- البحار، المجلسي302/97.
2- المزار، المشهدي /504.
3- نفس المصدر 581.
4- الغيبة، الشيخ الطوسي 163.
5- الغيبة، ابن ابي زينب النعماني 184.

فرغم عظمة شؤون مقامات الولاية التي أعطيت لهم بأعلي مما لدي الملائكة والأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) إلا أنهم كما ورد في زيارتهم(عليهم السلام):

«لا يسبقهم ثناء الملائكة في الإخلاص والخشوع ولا يضادكم ذو ابتهال وخضوع أني ولكم القلوب التي تولّي الله رياضتها بالخوف والرجاء.. الفترة»(1).

ومن ثم بلغوا في مقامات الولاية درجة كبراء الصديقين وأمراء الصالحين وقادة المحسنين وأنوار العارفين وشموس الأتقياء وبدور الخلفاء ودعائم الأخيار ...وركن الأولياء.

النقطة الخامسة: الولادة في الكعبة والتزويج:

ورد في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام):

«السَّلامُ عَلَيكَ يا مَنْ وُلِدَ فِي الكَعْبَةِ وَزُوِّجَ فِي السَّماء بِسَيِّدَةِ النَّساءِ وَكانَ شُهُودُها المَلائِكَةُ الأصْفِياء»(2).

ولا يخفي أن أدني ما يفيده الجمع بين الولادة في الكعبة والتزويج في السماء هو كون شؤون علي(عليه السلام) كلها إلهية وتحت ولاية الله، فما هو واقع تحت اختياره أو ليس بواقع تدبيره بولاية الله، مما يشير إلي أنه وجود إلهي محض.

ص: 246


1- المزار، محمد بن جعفر المشهدي 293.
2- المزار، محمد بن جعفر المشهدي 207، الاقبال، السيد بن طاووس 3 / 131.

المقالة الثَّالثة عشر: نسبة فاطمة عليها السلام لعلي عليه السلام

اشارة

*كفؤيته(عليه السلام) لفاطمة(عليها السلام) وتقدمه علي اولاده(عليهم السلام)...

*اللون المشترك في دائرة الحجج لا ينافي التفاضل...

*دائرة التسعة تتلو دائرة الحسنين(عليهما السلام)...

*شواهد تقدم مقام الزهراء(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام)...

*أيّهما أقرب للنبي(صلي الله عليه و آله) فاطمة أم علي(عليهم السلام)...

نبدأ الشروع فِي هَذِهِ المقالة بذكر قواعد وأصول، وَمِنْ ثمَّ نصل إلي المقصود بنحو سلس.

كفؤيته(عليه السلام) لفاطمة(عليها السلام) وتقدمه علي اولاده(عليهم السلام):

لعلي وفاطمة(عليهما السلام)خصوصيات مشتركة ودائرة يحلّقان فيها لوحدهما بَعْدَ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله).

ص: 247

وَقَدْ مَرَّ فِي المقالة السابقة أنَّ لها(عليها السلام) علماً خاصاً وتكافئا مَعَ علم أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام).

ويبين بوضوح الدائرة الخاصّة بهما(عليهم السلام) قول رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فِي رواية الفريقين، فنص ما في الكافي عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: لولا أن الله تبارك وتعالي خلق أمير المؤمنين(عليه السلام) لفاطمة، ما كان لها كفو علي ظهر الأرض من آدم ومن دونه)(1).

وفي الفصول المهمة عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) في حديث قال: (هبط علي جبرئيل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: لو لم أخلق عليا، لم يكن لفاطمة بنتك كفو علي وجه الأرض، من آدم ومن دونه)(2).

وبتلك الخصوصيات المشتركة يتقدمان فِي الفضل والفضيلة عَلَي سائر الأئمة مِنْ أولادهم(عليهم السلام).

ومما يشهد لهذا الأصل ما في تفسير العسكري عَنْ الإمام الرضا(عليه السلام): (... إنما شيعته الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان والمقداد وعمار و محمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره، ولم يركبوا شيئا من فنون زواجره)(3).3.

ص: 248


1- الكافي، الشيخ الكليني: 461/1/الأمالي، الشيخ الطوسي: 43/المحتضر، حسن بن سليمان الحلي 240.
2- الفصول المهمة في أصول الائمة، الحر العاملي 1/ 408.
3- تفسير الامام العسكري 313.

فَلَيْسَ هُمَا(عليهما السلام) بكفوين لَهُ(عليه السلام).

وَقَدْ وَرَدَ عَلَي لسان عِدَّة مِن الأئمة كالباقر وَالصَّادِق والكاظم(عليهم السلام) نظير ما رواه في الروضة عن الصادق(عليه السلام):

(ولايتي لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أحب إلي من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل)(1).

أيّ أنَّ النسب المعنوي والتبعيّة الروحيّة والمشاكلة الدينيّة خير مِنْ النسبة البدنية التوالدية.

وبالتالي فَهَذَه شهادة منهم(عليهم السلام) أنَّهُم ليسوا بكفؤ.

وَقَدْ أصاب مِنْ قَالَ أنَّ علياً(عليه السلام) قَدْ أتعب أولاده مِنْ بعده فَلَمْ يستطيعوا بلوغ نحو عبادته ومقامه الخاص مَعَ ما كانوا عَلَيْهِ مِنْ عبادة لا توصف ومقام لا يُدرك وجهد وجهاد لا يُجاري.

وَمِنْ ثمَّ فَلَمْ يوصف أحد بأنه كفؤ لعلي(عليه السلام) إلَّا فاطمة(عليها السلام).

اللون المشترك في دائرة الحجج لا ينافي التفاضل:

إن الحكم عَلَي مجموعة مِنْ الحجج بكونهم فِي دائرة واحدة يعني أنَّ لهم لوناً مشتركاً مِنْ المقامات، أو أقل إنَّ ثمة حداً أدني مِنْ المقامات قَدْ اشتركوا فِي بلوغه، لكنَّ هَذَا لا يعني ولا ينافي أنْ يحكم عَلَيْهِم

ص: 249


1- الروضة في فضائل امير المؤمنين، شاذان بن جبرئيل القمي 103.

بالتفاضل والتمايُز مَعَ اشتراكهم فِي اللون الواحد، لِأنَّ الاشتراك مصبّه الحدّ الأدني والتفاضل مصبّه الخصوصيات بلحاظ الحدّ الأعلي.

وَعَلَي هَذَا الأساس فَهُنَاك دائرة مِنْ الفضل يشترك فيها الحسنان(عليهما السلام) ويتقاربان ويتمايزان فيها عَنْ سائر المعصومين(عليهم السلام) مِنْ بعدهم، وَهُوَ لا ينافي امتياز الحسن(عليه السلام) عَلَي الحسين(عليه السلام) فِي بَعْض الخصوصيات.

دائرة التسعة(عليهم السلام) تتلو دائرة الحسنين(عليهما السلام):

وتتلو دائرة الحسنين(عليهما السلام) في الكمال والتكامل دائرة ثالثة جامعة لِكُلِّ الأئمة(عليهم السلام) الثمانية مِنْ علي بن الحسين إلي الإمام العسكري(عليها السلام)، فلهم لون فِي دائرة واحدة مَعَ عدم منافاة تقدم كُلّ أب عَلَي ابنه فِي بَعْض الخصوصيات.

وَقَدْ أفرد أهل التحقيق دائرة مِنْ الفضل يسبق بموجبها الإمام الحجة(عج) آباءه الثمانية ويتلو بموجبها دائرة الحسنين(عليهما السلام).

شواهد تقدم مقام الزهراء(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام):

ثمة شواهد توضِّح سبق الزهراء(عليها السلام) فِي المقام عَلَي مقام أولادها(عليهم السلام) جميعاً.

وَمن هَذِهِ الشواهد ما مَرَّ فِي مصحفها، إذْ تَقَدَّمَ أنْ لها اطّلاعا عَلَي

ص: 250

ملك الأئمة(عليهم السلام) فِي أدوار الإمامة الإلهية، إذْ لو ترجمنا هَذَا العلم بلغة عصرية لتبيَّن ما لها مِنْ خطورة خاصّة فِي المقام بيسر وسهولة، فإنّه لو حبي شخص من رئاسة الدولة باطلاعه عَلَي أسماء الوزراء والمدراء وملفاتهم ومدة ملكهم وتراتبيتهم وما يجري عَلَيْهِم مِنْ الشؤون فَأيّ شيء يعني ذَلِكَ؟

وَهَلْ يمكن أنْ تفتح سجلات الخصوصيات الخاصّة بالوزراء لِمَنْ هُوَ دونهم في المقام والتمثيل فِي الدولة؟

ألا يؤشر ذَلِكَ عَلَي أنَّ مِنْ يعطي ويُحبي ذَلِكَ العلم يتمتع بصفة المراقب والمشرف والمهيمن!

وَهَلْ يصح أنْ يتصوّر أحد فِي حق أيّ واحد مِنْ الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) أنْ يفتح باب السُّؤال والحساب ليُقدم تقريرا أو ما يشابهه فيما يخص أدوار إمامة أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) ولو علي نحو الحساب الصوري؟

لكن هذا بنحو ما صدر من فاطمة (عليها السلام) فيما يخص أمير المؤمنين(عليه السلام) فِي قولها(عليها السلام):

«يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل»(1).

وليكن واضحا أنَّ حمل ما وَرَدَ عنها(عليها السلام) عَلَي معني الحساب الصوري ومسؤلياتها فِي المراقبة لَيْسَ هُوَ بمعني استنقاص أمير5.

ص: 251


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي 1/ 145.

المُؤْمِنِين(عليه السلام)، بَلْ هُوَ رقابة وحساب شكلي لإفهام الآخرين بأنَّ علياً(عليه السلام) لَمْ يفرّط فِي شيء مِنْ الحرمات والمسؤوليات.

وحاشا للصديقة(عليها السلام) أنْ تخطو خطوة أو تلفظ قولاً لا مناسبة لَهُ بالحوادث ومقام الإمامة الإلهية.

وَمِنْ ثمَّ ولأجل مجاراة عتابها والإفصاح عَنْ كونه مناسبا للشأن وخطورة المقام أتت استجابة أمير المُؤْمِنِين(عليها السلام) سريعا، فقد روي أن فاطمة(عليها السلام) حرضته يوما علي النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن (اشهد أن محمدا رسول الله) فقال لها أيسرك زوال هذا النداء من الأرض قالت لا قال فإنه ما أقول لك)(1).

وَمِنْ ثمَّ تبين أنَّ اطّلاع فاطمة(عليها السلام) عَلَي ملفات الإمامة الإلهية مِنْ أدلّ الإدلة عَلَي كونها(عليها السلام) ذات صلة حيّة وموقعيّة تعلو الأئمة مِنْ أولادها(عليهم السلام).

ويزيد ذَلِكَ وضوحاً ما يسمي بالكتاب الذي يفتحه كُلّ إمام لنفسه لكنّه لا يفتح كتاب إمام آخر فِي حين أنَّ كتب الأئمة تعطي للزهراء(عليها السلام) بما فيها مِنْ أسرار عالم الغيب، وما أعدّه الله للبشر فِي كُلّ المحطّات والملاحم الغيبية.3.

ص: 252


1- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد 11 / 113.

أيّهما أقرب للنبي(صلي الله عليه و آله) فاطمة أم علي(عليهما السلام):

بَعْدَ كُلّ ما اثبتناه مِنْ تربّع علي وفاطمة(عليها السلام) عَلَي عرش مشترك مِنْ الكمالات والفضائل وتقدمهما عَلَي أولادهما المعصومين(عليهم السلام) يصل المقام للسؤال عَنْ ميزة أحدهما عَلَي الآخر برغم ما لهما مِنْ الدرجات المُتقاربة، فَهَلْ مقام فاطمة(عليها السلام) أقرب لمقام أبيها مِنْ مقام علي مِنْهُ؟

ومما أوضحه القُرآن الكريم بشكل جلي أنَّ مِنْ أقرب المُقربين للرسول(صلي الله عليه و آله) علي ابن أبي طالب(عليه السلام)، بَلْ عبّر عَنْ شدة القرب بأنَّ جعله بمنزلة نفس الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) كَمَا فِي آية المباهلة فِي قوله تَعَالَي: ( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ) (1). (2)

ودلَّ عَلَي المنزلة القريبة المعنوية بينهما فِي آية الولاية وَهُوَ قوله تَعَالَي: ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55) (3). (4)

بَيْنَمَا فِي آيات أُخري كآية المودة وآية الفيء الَّتِي هِيَ آية ولاية بيَّن القُرآن أنَّ أقرب المُقربين من رسول الله(صلي الله عليه و آله) فاطمة(عليها السلام).

فَهَلْ هُنَاك تدافع بين آيات القُرآن؟

وجوابه: إنَّ الجمع بين تلك الآيات يكون مِنْ خلال القول

ص: 253


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- سوره 3 - آيه 61
3- سورة المائدة: الآية 55.
4- سوره 5 - آيه 55

بكفؤية فاطمة لعلي(عليهما السلام) وكفؤية علي لفاطمة(عليهما السلام) وكونهما لونا واحدا بلا أيّ منافاة فِي تَقَدَّمَ علي(عليه السلام) عَلَيْهَا فِي بَعْض الخصوصيات.

وفي القُرآن شاهد أنَّ الولاية بَعْدَ الله ورسوله(صلي الله عليه و آله) لعلي وفاطمة(عليهما السلام) فِي الدرجات الأولي قبل الحسن والحسين(عليهما السلام) وقبل التسعة المعصومين(عليهم السلام)فضلاً عَنْ سائر الأنبياء(عليهم السلام)، ففي آية المودة وَهِيَ قوله تَعَالَي: ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي ) (1) (2) بيان ما قلناه، إذْ هِيَ دالّة عَلَي أنَّ أساس الدِّين مودة القربي، وأقرب القربي هِيَ فاطمة(عليها السلام).

وَلابُدَّ مِنْ التدقيق أنَّ مودة القربي لَمْ تجعل أساساً للشريعة، بَلْ أساس للدين، والدِّين قَدْ بعث به جميع الأنبياء(عليهم السلام)، فسائر النبيين يدينون إلي الله بولاية الله وبطاعة خاتم الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وبطاعة قربي خاتم الأنبياء.

أيّ أنَّ قوله تَعَالَي: ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ) (3) فالضمير فِي كلمة «عليه» لا يرجع إلي الشريعة، بَلْ يرجع إلي الدِّين أو إلي جهود الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي تبليغ الدِّين، وبالتالي فَهُوَ راجع إلي الدِّين، والدِّين كَمَا هُوَ معلوم واحد بين الأنبياء فِي نظامه ومنظومته، وإنْ كَانَ فيه تفاضل فِي العمق مِنْ شريعة إلي أخري.

وَمِنْ ثمَّ فَإنَّ الدِّين الموحَّد بين الأنبياء(عليهم السلام) مرتّب فِي القُرآن عَلَي3.

ص: 254


1- سوره 42 - آيه 23
2- سورة الشوري: الآية 23.
3- سوره 42 - آيه 23

درجات والرتبة الأولي مِنْهُ لله بلا أن يكافئه أحد، والرتبة الأولي فيه بحسب دائرة المخلوقين وفي العباد المقربين المكرمين هُوَ سَيِّد الأنبياء وبعده قرباه(عليهم السلام).

وخلاصة المطلب أنَّهُ ثبت لفاطمة(عليها السلام) كُلّ ما للأئمة(عليهم السلام) مِنْ صلاحيات وولايات وحجية واصطفاء ولزوم طاعة، وزادت عَلَيْهِم فِي أنَّ رتبتها تتلو أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام).

وفي بيانات وشواهد كثيرة أنَّ الأنبياء(عليهم السلام) إنَّما أوتوا النبوة بإقرارهم بالولاية لسيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) والولاية لأهل بيته(عليهم السلام) مِنْ أولهم وَهُوَ أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) ثمَّ فاطمة(عليها السلام) ثمَّ الحسن والحسين والتسعة من ذريته(عليهم السلام)، وقد مرّ ذلك.

ولا يتوهّم أحد أنَّ الإقرار بهم مخصوص ببعثة سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) لِأنَّ ذَلِكَ عقيدة، والعقيدة لا نسخ ولا تبدّل فيها مِنْ نبي إلي نبي، والدِّين منظومته ثابتة بعث بها آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وسائر الأنبياء(عليهم السلام).

وما للقرآن مِنْ هيمنة عَلَي علم موسي «التوراة» وَعَلَي علم عيسي «الإنجيل» وَعَلَي علم إبراهيم «الصحف» ثابت للنبي(صلي الله عليه و آله) ولأهل بيته المطهّرين(عليهم السلام)، وبالتالي فلفاطمة(عليها السلام) مهيمنة عَلَي أولادها المعصومين(عليهم السلام) وَهِيَ مُهيمنة عَلَي علوم الأنبياء(عليهم السلام).

ص: 255

المقالة الرابعة عشر: مقام ولاية الأمر ثابت لفاطمة عليها السلام

اشارة

*ثبوت ما وراء الإمامة السياسية لفاطمة(عليها السلام)

*ولاية أمر الأئمة(عليهم السلام) وراثة من فاطمة(عليها السلام)

*إنعكاس ولاية فاطمة(عليها السلام) الملكوتية في الشؤون الخطيرة

*الأبعاد الثابتة من ولاية الأمر لفاطمة(عليها السلام)

*سؤدد وطهارة وحجية فاطمة مأخوذ في الدين

*أدلّة ولايتها الأمريّة

*خلو كتب الكلام عن نسبة عنوان ولاية الأمر لفاطمة

*دليل ولايتها للأمر بمعناه الأرضي...

*الفرق بين الآمرية الدينية والفرعونية الدكتاتورية...

*تروّي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي إسناد ولاية إلي لفاطمة(عليها السلام)...

ص: 256

ثبوت ما وراء الإمامة السياسية لفاطمة(عليها السلام):

لقد ثبت لفاطمة(عليها السلام) بأدلة قُرآنية محكمة وأدلة روائية متينة كُلّ ما ثبت للأئمة(عليهم السلام) من مقامات عدا الإمامة السياسية ومباشرة أُمُور الرجال، وما فِي معني ذَلِكَ مِنْ المناصب التنفيذية.

وأمَّا ما وراء الإمامة السياسية مِنْ مقامات خطيرة كمقام ولاية الأمر المشار إليه فِي قوله تَعَالَي: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(1) (2) فَهِيَ ثابتة بحسب كُلّ معادلات القُرآن ومعادلات السَّنَة النبوية والمعادلات العلمية الرصينة للصديقة(عليها السلام)، بَلْ ثبوت مقام ولاية الأمر لها بحسب الدَّليل مقدّم عَلَي ثبوته للحسنين(عليهما السلام) والأئمة التسعة(عليهم السلام).

وَمِنْ أوضح الشواهد عَلَي ذَلِكَ قوله تَعَالَي: ( ما أَفاءَ اللّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُري فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي ) (3) (4)،إذْ أنَّ أوَّل القُربي هِيَ فاطمة(عليها السلام).

ولاية أمر الأئمة(عليهم السلام) وراثة من فاطمة(عليها السلام):

ومما يستفاد هاهُنَا مِنْ قاربتها القريبة أنَّها تورّث أولادها المعصومين(عليهم السلام) مقام ولاية الأمر، ففضلاً عَنْ كونها ولية أمر بحسب

ص: 257


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سوره 4 - آيه 59
3- سوره 59 - آيه 7
4- سورة الحشر: الآية 6.

القاعدة القرآنية المبدّهة فإنّها زيادة عَلَي ذَلِكَ تتوسّط فِي توريث ذَلِكَ المقام بما لَهُ مِنْ طبقات ودرجات لبقية المعصومين(عليهم السلام).

وَمِنْ الوهم أنْ يعتقد بانحصار ولاية الأمر فِي البُعد السياسي والقيادة السياسية فيُفسَّر قوله تَعَالَي: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ)(1) (2) عَلَي أنَّها نازلة فِي بيان الحاكمية السياسية للأئمة(عليهم السلام)، بَلْ الصحيح أنَّ الحاكمية السياسية بعد نازل بمراتب مِنْ ولاية الأمر، وَإلَّا فَإنَّ لمقام ولاية الأمر أصل وبُعد متجذّر وَهُوَ ولاية الأمر الملكوتي الأعلي، وما الحاكمية السياسية فِي الأرْض إلَّا ظل وظلال مِنْ ذَلِكَ الأصل.

وَقَدْ بيَّن القُرآن الكريم حقيقة الأمر فِي قوله تَعَالَي ( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)(3). (4)

وأفصح فِي سورة الواقعة أنَّ ذَلِكَ الرُّوُح يمسه المطهرون، وبيَّن مصداق المطهرين فِي سورة الأحزاب، وَهُمْ أهل البيت الخمسة وأحدهم فاطمة(عليها السلام)، فيثبت لها مقام ولاية الأمر بذلك المعني الأصل الذي تتفرع عَلَيْهِ ولاية الأمر فِي عالم الأرْض، إذْ مِنْ الخطأ انسباق المعني الأرضي مِنْ الأمر حَيْثُ إنَّ القُرآن قسَّم العوالم إلي خلقية وأمرية، وعالم الأمر هُوَ عالم الإبداع، وعالم (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ (5)2.

ص: 258


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سوره 4 - آيه 59
3- سورة الشوري: الآية 52.
4- سوره 42 - آيه 52
5- سوره 36 - آيه 82

يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(1) (2) ، وعالم (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً)(3) (4) ، فالمعني الأوَّل والأصل لقولنا إنَّ فاطمة(عليها السلام) وليّة الأمر أنَّها تلي عالم الأمر.

إنعكاس ولاية فاطمة(عليها السلام) الملكوتية في الشؤون الخطيرة:

ولو سأل سائل عَنْ صدي ومقابل ما لها مِنْ ولاية أمرية ملكوتية عَلَي عالم الخلق وعالم الأرْض؟

فلو قيل: هَلْ انعكس ما تثبتونه لها مِنْ مقام أمري عَلَي دورها فِي عالم الدُّنْيَا، إذْ أنَّ الأدوار الأرضية كيفاً ومساحة منعكسة عَنْ سعة المقام الأمري؟

وقبل الإجابة يحسن أنْ نشير إلي اشتباه البعض فِي وزن المقامات الأمرية للحجج بما ينعكس عنها لهم فِي عالم الدُّنْيَا بنحو ظاهر وواضح، فلو لَمْ يُشهد لهم احتكاك مباشر بعالم الخلق والأرض لكان ذَلِكَ ذريعة لإنكار ما لهم مِنْ مقام فِي عالم الأمر!!

أيّ أنَّهُ مَعَ القول بضرورة انعكاس ما هُنَاك عَلَي ما هُنَا إلَّا أنَّ الاشتباه هُوَ فِي وضوح الانعكاس الذي هُوَ المهم لدي المشتبه.

ص: 259


1- سورة يس: الآية 82.
2- سوره 36 - آيه 82
3- سورة الإسراء: الآية 85.
4- سوره 17 - آيه 85

وَمِنْ ثمَّ فنحن نقول بضرورة كون الزهراء(عليها السلام) وليّة للأمر فِي عالم الدُّنْيَا انعكاساً عمّا لها مِنْ ولاية للأمر فِي عالم الأمر لكنَّهُ لَيْسَ بنحو ما لأولادها(عليهم السلام) حرفياً لخصوصية الأنثي فيها.

ولنضرب مثالاً لإيضاح المطلب وَهُوَ أنَّ القُرآن يلزمنا بالاعتقاد بجرائيل(عليه السلام) وبمقام أمين الله عَلَي وحيه فِي قوله تَعَالَي: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ )(1) (2) ، والمقصود به جبرائيل ويصفه القُرآن بذي قوة وَأنَّهُ مكين لذي العرش.

ويترتب عَلَي ذَلِكَ ضرورة الإيمان بأمانة جبرائيل(عليه السلام) فِي نقل الوحي وَإلَّا تتلاشي العقيدة بالقرآن.

ولا شك أنَّ مَنْ يسأل عَنْ انعكاس مقامات الزهراء(عليها السلام) الأمرية عَلَي وجودها الدنيوي يؤمن بحجّية جبرائيل(عليه السلام) برغم أنَّهُ لا يتعاطي مَعَ البشر وَلَيْسَ لَهُ تماس مباشر معهم.

فلنا أنْ نتساءل هُنَا أيضاً أين هُوَ انعكاس مقام جبرائيل(عليه السلام) الأمري وَهُوَ الوساطة بين المقام الصاعد والمقام النازل لسيّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) فِي عالم الأرْض وفي حركة البشر!!

وبعبارة أُخري:

إنَّهُ لا تستتم لدي أيّ مسلم الشهادة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) بالرسالة إلَّا9.

ص: 260


1- سورة التكوير: الآية 20 , 19.
2- سوره 81 - آيه 19

بالاعتقاد بإن جبرائيل أمين الله عَلَي وحيه، ولا يبرر عدم كونه إماماً ولا قائداً بشرياً وأنه لَيْسَ لَهُ تماس بالبشر رفع أحد اليد عما لَهُ مِنْ مقامات واجبة الاعتقاد.

ونظير ذَلِكَ فِي فاطمة(عليها السلام) فعدم كونها إماماً أو قائداً بشرياً عَلَي حدّ ما للأئمة(عليهم السلام) من قيادة تنفيذية لا يزعزع الاعتقاد بولايتها الأمرية ومقامها الأمري.

وَقَدْ انعكس ما ثبت لها هُنَاك عَلَي وجودها الأرضي فكانت معلّمة وملهمة لخاصة أولياء الله، وهذا أعظم أثرا من أن يكون لها نشاط فِي تعليم عموم البشر.

الأبعاد الثابتة من ولاية الأمر لفاطمة(عليها السلام):

ولنخوض أكثر فِي أبعاد ولاية الأمر الثابتة للزهراء(عليها السلام)، فَإنَّهُ مقام لا يضاهيه مقام ولاية الأمر للأنبياء(عليهم السلام) وولاية الأمر لمريم(عليها السلام).

ودليله آيات قرآنية عظيمة لا يخطأ مفادها العقل لو تسلّح بسلاح التدبر مقروناً بإشارات روايات أهل البيت(عليهم السلام).

فَإنَّ تلك الآيات الناصّة عَلَي مقام فاطمة(عليها السلام) سلكت منهاجاً وأسلوباً غَيْر ما هُوَ معهود مِنْ أسلوب قرآني فِي آيات مريم وسائر الأنبياء(عليهم السلام)، فَإنَّهُ فِي مريم وسائر الأنبياء أثبت لهم المقامات بأسلوب

ص: 261

مباشر وبالتنصيص عَلَي الأسماء، غَيْر أنَّهُ أثبت مقام ولاية الأمر وغيرها مِنْ المقامات لفاطمة(عليها السلام) فِي ضمن إثباتها لأهل البيت(عليهم السلام)، فشارك الله فِي ولاية وطهارة وسؤدد رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، وَلَمْ يشارك غيرهم مِنْ المصطفين لا مِنْ الأنبياء والمرسلين ولا مِنْ النساء الطاهرات.

ومعلوم سلفاً أنَّ سائر مقامات سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) لا يشاكلها ولا يجانسها ولا يشابهها ما لدي الأنبياء والمرسلين مِنْ مقامات.

فإشراك أهل البيت(عليهم السلام) مع سيّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) فِي بيان لما لَهُ مِنْ مقامات كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً..)(1) (2) يوضح أنَّ ما ثبت لهم(عليهم السلام) يكبر ويعظم ما ثبت للنبيين.

سؤدد وطهارة وحجية فاطمة(عليها السلام) مأخوذ في الدِّين:

وإذا كَانَ القُرآن لا يفتأ مِنْ المناداة بسيادة مريم(عليها السلام) وطهارتها وحجيتها وولايتها فمناداته بسيادة وطهارة وحجية وولاية فاطمة(عليها السلام) أكبر وأعظم.

وإذا ما فتأ عَنْ الإشادة بخصال ومقام واصطفاء وسؤدد أولي

ص: 262


1- سورة الأحزاب: الآية 33.
2- سوره 33 - آيه 33

العزم مِنْ الأنبياء فإشادته باصطفاء وسؤدد فاطمة(عليها السلام) أكبر وأعظم.

وَمِنْ ثمَّ إذَا كَانَ سؤدد رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) عَلَي الأنبياء مؤخوذا فِي دين الله فسؤدد فاطمة(عليها السلام) مؤخوذ عَلَي مريم وحواء وسارة وسائر الأنبياء(عليهم السلام) فِي دين الله.

وَلَقَدْ حرص رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) عَلَي بيان أنَّ سؤددها ثابت لها فِي الدُّنْيَا والآخرة، فبقوله(صلي الله عليه و آله):

«فاطمة سيدة نساء العالمين»(1)أفصح عَنْ سؤددها فِي عالم الدُّنْيَا، وبقوله: «

فاطمة سَيِّد نساء أهل الجنة»(2)أثبت سؤددها عَلَي غيرها فِي عالم الآخرة.

ولا ينحصر معني السؤدد الأخروي فِي الفضيلة والتفضيل، وَإنَّما هُوَ بما تُعطي فِي ذَلِكَ العالم مِنْ صلاحيات وحاكمية ومقام تدبير وسلطة إدارة بإذن مِنْ الله تَعَالَي سواء قبل دار الجَنّة أو فيها، إذْ فِي الجَنّة مراتب مِنْ منظومة الإدارة ومنظومة الصلاحيات وما شابه ذَلِكَ مما لَيْسَ فِي دار الدُّنْيَا.

فَكَمَا أنَّ عالم الملائكة فيه آمر ومأمور وسَيِّد ومسود ونظام وتراتبية صلاحيات، فكذلك الحال فِي عالم الجَنّة، فمع كونها دار نعيم3.

ص: 263


1- الأمالي، الشيخ الصدوق175، كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق260، المستدرك، النسابوري:156/3، مسند ابي داود الطيالسي، سليمان بن داود الطيالسي197.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق187، كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق263، مسند احمد، الامام احمد بن حنبل 3 / 80 ، صحيح البخاري، البخاري4 / 183.

لا يتخللها أيّ تسيّب أو فوضوية بَلْ يحكمها نظام الإمام والمأموم وَالسِّيّد والمسود ونظام الإدارة والحاكمية.

وَقَدْ مَرَّ فِي ضوابط البحث أنَّ الدِّين وَلَيْسَ الشريعة موجود فِي كُلّ العوالم أرضية أو سماوية ودنيوية أو أخروية وبشرية أو ملائكية وآدميّة أو جنيّة وظاهرية أو برزخيّة.

وتقدم أنَّ مَنْ لَهُ موقعية فِي الدِّين لَهُ موقعية فِي كُلّ العوالم الَّتِي يحكمها الدِّين.

ومما يوضح أن الولاية مِنْ الدِّين قوله تَعَالَي: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ ...)(1) (2) حَيْثُ أسند الولاية الحقيقية لله تَعَالَي وما لله دين عام مستمر وَلَيْسَ شريعة متبدلة، فكذلك ما أُسند لأهل البيت(عليهم السلام) مِنْ ولاية ظليّة هِيَ مِنْ الدِّين الثابت فلهم ولاية في التكوين وولاية فِي التشريع وولاية فِي سائر العوالم.

وَمِنْ الخطأ القول أنَّ مفاد قوله تَعَالَي: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ...) (3) هُوَ مفاد تشريعي بَلْ هُوَ مفاد اعتقادي، أيّ مرتبط بجانب الدِّين وَلَيْسَ بجانب الشريعة.

وَمِنْ ثمَّ فكون فاطمة(عليها السلام) وليّة الأمر يعني أنَّ لها ولاية دينية وسيعة بسعة العوالم، وعلي اختلافها وتنوعها.5.

ص: 264


1- سورة المائدة: الآية 55.
2- سوره 5 - آيه 55
3- سوره 5 - آيه 55

أدلّة ولايتها الأمريّة:

روي في الكافي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجل لما عرج بنبيه (صلي الله عليه و آله) إلي سماواته السبع... ثم أوحي الله عز وجل إليه اقرأ يا محمد نسبة ربك تبارك وتعالي: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اَللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»... (1) ثم أوحي الله عز وجل إليه اقرأ إنا أنزلناه فإنها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلي يوم القيامة)(2).

فما هُوَ معني النسب، وما هو معني إضافتهم لسورة القدر؟

وجوابه: إنَّ الحديث القدسي يخط المسار الذي ينبغي أن يتوجّه مِنْ خلاله للتعرف عَلَي هوية أهل البيت(عليهم السلام)، فإذَا أراد الباحث أنْ يتعرّف عَلَي الهوية الحقيقية لهم(عليهم السلام) فلا سبيل لَهُ لذلك فِي المسار التأريخي العائلي، فليست حقيقة تعريف الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) أنَّهُ مُحمَّد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وليست حقيقة علي(عليه السلام) أنَّهُ علي بن أبي طالب، وليست هوية فاطمة(عليها السلام) أنَّها فاطمة بنت مُحمَّد بن عبدالله بن عبدالمطلب، بَلْ التعريف الحقيقي في هويتهم القرآنية الإلهية أعظم بمراتب مِنْ انتمائهم العائلي وإنْ كَانَ نسبهم فِي الشرف والسؤدد لا يُجاري ولا يضاهي،

ص: 265


1- سوره 112 - آيه 1
2- الكافي، الشيخ الكليني: 486/3، ويدل عليه ما رواه في كمال الدين بسنده عن أبي جعفر الثاني، عن أبيه عن آبائه^ أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: سمعت رسول الله يقول لأصحابه: آمنوا بليلة القدر إنها تكون لعلي بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعده. كمال الدين وتمام النعمة/281.

لكنه لا يجاري نسب هوياتهم القرآني والإلهي.

وبكلمة أدقّ:

إن نسب الله تَعَالَي فِي رتبة مِنْ رتب آيات القُرآن وبالتحديد فِي سورة التوحيد، أيّ أنَّها المنظار المُقرِّب للمعرفة التوحيدية.

ونسب أهل البيت(عليهم السلام) فِي رتبة مِنْ رتب آيات القُرآن وبالتحديد فِي سورة القدر.

فَأيّ باحث أراد أنْ يُسلِّط الأضواء ليقترب مِنْ هوياتهم الحقيقة فلا سبيل لَهُ إلَّا الغوص الفكري والسباحة العقلية بين طيّات آيات سورة القدر، فلُبَّ هويتهم ولُباب حقيقتهم كامن فِي (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )(1). (2)

وختام آيات سورة القدر قوله تَعَالَي: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ ...)(3). (4)

والسُّؤال مَنْ هُمْ أصحاب الأمر، والَّذِيْنَ لا يتنزّل الأمر إلَّا عَلَيْهِم؟

ذَلِكَ ما توضحه سورة النحل فِي قوله تَعَالَي: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ..)(5). (6)2.

ص: 266


1- سورة القدر: الآية 1.
2- سوره 97 - آيه 1
3- سورة القدر: الآية 4.
4- سوره 97 - آيه 4
5- سورة النحل: الآية 2.
6- سوره 16 - آيه 2

فَلَمْ يقل مِنْ أنبيائه أو رسله إنَّما قَالَ مِنْ عباده، أيّ أنَّ أصحاب الأمر ليسوا هُمْ بالخصوص مِنْ الأنبياء والرسل وَإنَّما هُوَ فِي الدرجة الأولي لسيّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وَمِنْ ثمَّ لعترته(عليهم السلام).

ويتجلي نفس هَذَا المعني فِي سورة الدخان فِي قوله: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ ) (1). (2)

وفي قوله تَعَالَي: ( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ )(3). (4)

وقوله تَعَالَي: (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )(5). (6)

فتلاحظ أنَّ الله تَعَالَي قَدْ ذكر فِي كُلّ تلك الآيات أصحاب الأمر بلفظ عبادنا وَلَمْ يذكرهم بلفظ أنبياء أو رسل، فيكون معناه أنَّ للقُرآن حقيقة عظيمة وَهُوَ ذَلِكَ الأمر الملكوتي وَهُوَ ذَلِكَ الرُّوُح الأمري، وَأنَّهُ يُلقي ويستودع عَنْد مَنْ يشاء الله مِنْ عباده مِنْ بَعْدَ رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله).

فثمة مَنْ يورّثهم الله ذَلِكَ الأمر الملكوتي.2.

ص: 267


1- سورة الدخان: الآية 3 - 5.
2- سوره 44 - آيه 3
3- سورة غافر: الآية 15.
4- سوره 40 - آيه 15
5- سورة الشوري: الآية 52.
6- سوره 42 - آيه 52

وَفي خطوة معرفية أخري أفصح القُرآن الكريم عَنْ أصحاب ذَلِكَ الأمر المقرونين بالقرآن والمستودع عندهم الرُّوُح فِي سورة الواقعة فِي قوله تَعَالَي: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ *لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)(1) (2) وَلَمْ يقل المتطهرون الَّذِيْنَ تطهروا بالتوبة، وَإنَّما المطهرون الَّذِيْنَ طُهروا مِنْ قبله تَعَالَي، وَهُمْ الَّذِيْنَ أفصح عنهم القُرآن فِي سورة الأحزاب فِي قوله تَعَالَي: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(3). (4)

ومحصل تلك المعادلات هو أنَّ أصحاب الأمر فِي الدرجة الأولي هُمْ الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام)، وفي الدرجة الثانية هُمْ التسعة المعصومون مِنْ ذريّة الحسين، وفاطمة(عليها السلام) ثالث أفراد الدرجة الأولي فيثبت لها كُلّ صلاحيات ولي الأمر.

خلو كتب الكلام عن نسبة عنوان ولاية الأمر لفاطمة(عليها السلام):

وإذا قلت: إنَّ ما وصلتم إليه مِنْ نتيجة عقائدية في مقامات فاطمة(عليها السلام) لم يثبتها المتكلمون فِي كتبهم الكلامية برغم تعدّدها؟

فنقول: إنَّ النتيجة الَّتِي وصلنا إليها نتيجة قطعيّة مِنْ ضمن معادلات قرآنية، فكيف يجوز أنْ نحيد عَنْ الدَّليل وَهُوَ ماثل أمام

ص: 268


1- سورة الواقعة: الآية 77 - 79.
2- سوره 56 - آيه 77
3- سورة الأحزاب: الآية 33.
4- سوره 33 - آيه 33

أعيننا، فيثبت أنها(عليها السلام) ولية أمر، بل من أعظم مقاماتها أنها ولية أمر في الدين وبما للدين مِنْ رحب وسيع فِي كُلّ العوالم.

هَذَا فضلاً عَنْ الروايات الشريفة الَّتِي أثبتت لها أنَّها ولية أمر، بَلْ أنَّها تسبق أولادها فِي هَذَا المقام، وَمِنْ ثمَّ يُدين كلهم بطاعتها وولايتها.

دليل ولايتها للأمر بمعناه الأرضي:

وما مَرَّ هو دليل ولايتها للأمر بمعناه الملكوتي، وأمَّا دليل ولايتها للأمر بمعناه الأرضي فلتوضيحه نمهّد بهذه المقدمة:

فَإنَّهُ لا يرتاب عاقل فِي أنَّ العلم والقوة والثروة مِنْ الأركان الَّتِي تقوم عَلَيْهَا الحكومات فِي الأرْض.

وَهِيَ العوامل الرئيسية للحاكمية فِي الأرْض، وَهِيَ الآثار الَّتِي يقوم عَلَيْهَا الحكم السياسي.

والثروة باعتبارها أحد الأركان ليست عنوانا للصلاحية فِي جانب المال وَإنَّما هِيَ عنوان للحاكمية السياسية.

وَلَقَدْ أفصح القُرآن عَنْ توافر تلك الأسباب للحاكمية فِي أهل البيت(عليهم السلام)، وفاطمة(عليها السلام) ممن جُعل لهم الولاية عَلَي الأمول العامة فِي الأرْض كُلَّهَا، حَيْثُ عزي وأسند وولّي الحاكمية والإدارة والتدبير لها(عليها السلام) كَمَا فِي سورة الحشر فِي قوله تَعَالَي: ( ما أَفاءَ اللّهُ عَلي رَسُولِهِ مِنْ (1)

ص: 269


1- سوره 59 - آيه 7

أَهْلِ الْقُري فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي ..)(1). (2)

والفيء فِي تعريف كافة مذاهب المسلمين عَلَي اختلاف تعابيرهم هُوَ عبارة عَنْ كُلّ ثروات الأرْض باستثناء الملكيات الخاصّة، أو قل هُوَ خاص بالثروات العامّة، وَهُوَ نفسه متّحد ومنطبق عَلَي الأنفال الوارد فِي قوله تَعَالَي: ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ )(3). (4)

وفي قراءة قرأ بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن الحسين، وأبو جعفر بن محمد بن علي الباقر، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، وطلحة بن مصرف: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ )(5). (6)

فَهِيَ تسند أمر الثروات العامّة أو تنقل ما زاد وما خرج عَنْ الملكيات الخاصّة مِنْ الثروات العامّة لله والرسول(صلي الله عليه و آله)، وَلَيْسَ أمرها مسنوداً لسائر المسلمين، هَذَا بحسب آية الأنفال.

وأمَّا آية الفيء فِي سورة الحشر فتضيف قوله تَعَالَي: (وَ لِذِي الْقُرْبي ) (7) وَحَيْثُ إنَّ كُلّ لفظ فِي القُرآن بحساب ووزن، فَالسُّؤال هُنَا عَنْ تكرر اللام ثلاث مرات فِي نفس السياق، حَيْثُ مَرَّة دخلت عَلَي لفظ الجلالة وَمَرَّة عَلَي لفظ الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) وَأُخري عَلَي ذي القربي، بَيْنَمَا جرَّدت ألفاظ «اَلْيَتامي وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ » (8) عَنْ سبقها بالام، مما3.

ص: 270


1- سورة الحشر: الآية 7.
2- سوره 59 - آيه 7
3- سورة الأنفال: الآية 1.
4- سوره 8 - آيه 1
5- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي 4/ 423.
6- سوره 8 - آيه 1
7- سوره 8 - آيه 41
8- سوره 59 - آيه 7

يعطي حقيقة مفادها أنَّ كُلّ ما وَرَدَ فِي الآية لَهُ صلة وعلاقة بالأنفال لكنَّها تختلف وتتفاوت نوعاً وسنخاً، فإنَّ دخول اللام عَلَي قوله: (فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبي) (1) يوحي بالهيمنة مِنْ الله وَالرَّسُول وذي القربي عَلَي ثروات الأرْض.

وليست «اللام» مُجَرَّد تعبير عَنْ ملكية متواضعة عَلَي حدّ ما فِي الملكية الخاصّة، وَإنَّما هِيَ لام الولاية، وفرق بين الملكية الخاصّة الَّتِي لا شأن فيها وبين ملكية الولاية عَلَي الأموال والثروات، فَإنَّ أمرها أعظم وشأنها أجل.

إذْ مِنْ الفوارق بينهما أنَّ الملكية الخاصّة إذَا ما تعارضت مَعَ الصالح العام للمجتمع ولعمران المدن وحاجات العباد فَإنَّها تسقط، كَمَا إذَا استلزمت المصالح المدنية العامة شق طريق يمر عَلَي أرض مملوكة بملكية خاصّة فَإنَّ الصالح العام يتغلّب عَلَي الملكية الخاصّة وتزال الأرْض عَنْ صفتها الأولي ويشق الطريق العام.

بَيْنَمَا الملكية بالولاية لا يمكن أنْ تُزال أو تتزلزل، فالولاية ملكية أعظم لاشتمالها عَلَي التدبير والتصرّف المتصل بالانتفاعات الخطيرة.

أو قل إنَّ ملكية الولاية تعني ملكية التدبير والإدارة والحاكمية.

ولنضرب مثلاً توضيحيا للفرق بينهما فِي ملكية الرقبة، فَإنَّ ملك المالك لرقبة العبد ملك بحسب الواقع لمنافع محدودة فِي العبد، فَهِيَ

ص: 271


1- سوره 59 - آيه 7

وإن عُبّر عنها بملك الرقبة لكنها بالدقة ملك لمنافع خاصّة.

وَقَدْ يغفل مَنْ يخالف الإسلام فِي بحث العبيد والرقيق فيتصور أنَّ الإسلام يُبيح بالرق إنسانا لآخر بشكل مُطلق، وَمِنْ هَذَا المنطلق يُشكل وسيتفهم، بَيْنَمَا ملك العبيد فِي دين الإسلام شبيه بالدقة بالأجير والمستأجر، فَكَمَا أنَّ المُستأجر لَهُ دائرة خاصّة يحق له فيها أن يتحكم في الأجير لكنها ليست مطلقة، ولا يتحكم فيه كيفما يشاء، بَلْ لَهُ الحاكمية فِي منافع خاصّة فكذلك في ملك العبيد.

وَهَذَا بخلاف منْ ملّكه الله طاعة البشر بدائرة مُطلقة فَهُوَ يملك مِنْ البشر الكثير والكثير مِنْ المنافع.

أو قل ملكية الولي للإنسان وسيعة بسعة الدِّين، فَلَيْسَ لطاعة الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) حد محدود كَمَا لَيْسَ لطاعة الإمام(عليه السلام) حدّ أو قيد.

الفرق بين الآمرية الدينية والفرعونية الدكتاتورية:

ومما ينبغي الإلفات إليه أنَّ آمرية الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) مختلفة سنخاً عَنْ الديكتاتورية والفرعونية الَّتِي هِيَ ناتجة عَنْ تضخم الأنا والزهو بفعل إغراء إبليس الرجيم، بَلْ إنَّ ملاك وأساس طاعته وولايته(صلي الله عليه و آله) كونه أعبد الخلق وأطوعهم لله تَعَالَي، وولايته عَلَي الناس تعكس تجليات ومشيئات الله، فمعني آمريته(صلي الله عليه و آله) هُوَ أنَّهُ أجلي مِنْ يتجلي فيه أمر الله تَعَالَي لعبوديته كأعظم مخلوق لله.

ص: 272

وَهَذَا بعينه يجري فِي ولاية أهل البيت(عليهم السلام) عَلَي الخلق وولاية فاطمة(عليها السلام) فلأنَّهم أعبد الخلق وأجلي تجليات الله فِي نزول آمريته ومشيئته وربوبيته لخلقه وجب طاعتهم.

وبما مَرَّ يتبيَّن معني ملكية الولاية المُبيَّنة فِي آية الفيء إذْ مفادها إسناد الفيء للرسول(صلي الله عليه و آله) ولذي القُربي(عليهم السلام)، أيّ أنَّهم أولياء ثروات الأرْض وأنَّهم الحاكمون فِي الأرْض.

وَقَدْ مَرَّ بنا القول أنَّ الثروة ها هُنَا عنوان للحاكمية الَّتِي هِيَ حاكمية مُتولِّدة ومنشعبة وممتدة مِنْ حاكمية الله وحاكمية الرَّسُول(صلي الله عليه و آله).

ولأن فاطمة(عليها السلام) أوَّل مصداق لقربي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، فالنتيجة أنَّ الآية وبصريح العبارة تسند الحاكمية بَعْدَ الله وَالرَّسُول(صلي الله عليه و آله) لعلي وفاطمة(عليهما السلام) عَلَي السواء.

وَهَذَا معني ما مَرَّ بنا غَيْر مَرَّة مِنْ أنَّ النصوص القُرآنية قَدْ فعّلت الحقيبة الوزارية للزهراء(عليها السلام) - إنْ صحَّ التعبير - فِي حكومة الرَّسُول(صلي الله عليه و آله)، بَلْ المعني فِي ولاية الزهراء(عليها السلام) أعظم وأكبر شأناً مما يسمي بالحقيبة الوزارية.

وأعجب ما فِي الأمر أنْ تُسند لها تلك الوزارة فِي ضمن حكومة أبيها(صلي الله عليه و آله) وتحت ظل حاكميته هَذَا مَعَ التحفظ عَلَي عدم إطلاق عنوان الإمامة عَلَي موقعية فاطمة(عليها السلام) مَعَ ما لها مِنْ ولاية أرضية وحاكمية

ص: 273

عَلَي ما بيّناه؛ وَذَلِكَ لعدم إسناد عنوان الإمامة لها فِي لسان الوحي؛ ولأجل ذَلِكَ فإننا نتقيّد بالقوالب والأوسمة الوحيانية، إذْ أنَّ لِكُلِّ وسام وحياني أساسا تكوينيا غيبيا وحقيقة غيبية لا نُدرك عمقها ولا نتلمس شأوها.

ولذا لا نُطلق عَلَيْهَا(عليها السلام) عنوان الإمام ولكن تسند لها ولاية الأمر لورود هَذَا العنوان فِي ألفاظ الوحي وإنْ كانت الشؤون المختصّة بالرجال لَمْ تُسند لها.

تروّي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي إسناد ولاية إلي لفاطمة(عليها السلام):

مِنْ الجدير بالذكر إنَّ إجماع المُفسرين وإجماع روايات الفريقين قائم عَلَي أنَّ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) قَدْ تروّي فِي تفعيل ذَلِكَ المنصب لفاطمة(عليها السلام).

وَكَانَ ذَلِكَ التروّي إشفاقا مِنْهُ ودرءا لفتنة أهل الشقاق والنفاق، وَحَتّي لا يُقَال أنَّهُ رتَّب الشؤون الدينية لذويه وحسبه، أو يُثار فِي وجهه نعرات الجاهليّة فَيُقَال كيف أسند مثل تلك الصلاحيات لإمرأة، فلأجل تلك الأسباب وغيرها تروّي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي إسناد ذَلِكَ المقام لفاطمة(عليها السلام) كَمَا تروّي فِي إسناد الإمامة لعلي(عليها السلام) إلي بيعة الغدير.

وَكَمَا أتته(صلي الله عليه و آله) النذارة الخاصّة مِنْ الله بضرورة التفعيل للإمامة وإسنادها لعلي(عليه السلام) بقوله تَعَالَي: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا (1)

ص: 274


1- سوره 5 - آيه 67

يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ )1، (1) ومعناها العصم مِنْ فتنة الناس، فكذا وَرَدَ الإنذار وباتفاق أكثر المفسرين مِنْ الفريقين واتفاق روايات الفريقين فِي تفعيل منصب فاطمة(عليها السلام).

فالمشهد القرآني الذي حث في الرَسُول(صلي الله عليه و آله) عَلَي سرعة الإفصاح عَنْ إمامة علي(عليه السلام) لَهُ نظير فِي ما يتصل بمنصب فاطمة(عليها السلام)، حَيْثُ إنَّ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) قَدْ تروَّي فِي تفعيل صلاحيات فاطمة(عليها السلام) فِي العلن فأتته نذارة مِنْ الله فِي سورتين قرآنيتين فِي الروم قوله تَعَالَي: (فَآتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ )(2) (3) ، وفي الإسراء فِي قوله تَعَالَي :(وَ آتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)(4). (5)

فَقَدْ وَرَدَ فِي روايات الفريقين أنَّ جبرائيل نزل بها عَلَي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ليُعط لفاطمة(عليها السلام) ما أُسند إليها مِنْ قبل الله تَعَالَي.

وَلَيْسَ ما أُسند إليها مِنْ قبل الله تَعَالَي هُوَ ما تبادر مِنْ معني للمفسرين مِنْ الفريقين عَلَي أنَّهُ إسناد للملكية الخاصّة والذي بيّنا أنَّهُ معنيً هابط وضحل، فليس ما أُسند لفاطمة(عليها السلام) في آية سورة الحشر هُوَ الملكية الخاصّة وما يترتب عَلَيْهَا مِنْ لذائذ ونزوات نفسانية، وَإنَّما هُوَ ملكية ولاية الأمر وَهُوَ عبارة عَنْ الحاكمية.6.

ص: 275


1- سوره 5 - آيه 67
2- سورة الروم: الآية 38.
3- سوره 30 - آيه 38
4- سورة الإسراء: الآية 26.
5- سوره 17 - آيه 26

فيكون معني قوله تَعَالَي: (وَ آتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ ) (1) هُوَ ضرورة أن يفعِّل الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي حياته ذَلِكَ المنصب الولائي لفاطمة(عليها السلام)، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تروّي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) رأفةً بالعباد وبغية ترويضهم عَلَي استيعاب ما لفاطمة(عليها السلام) مِنْ منصب، فنزلت مَرَّة أُخري آية ثالثة تدفع الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) للتعجيل والإسراع فِي تفعيل ذَلِكَ المقام لفاطمة(عليها السلام)، فَقَدْ أجمع المفسرون واتفقت روايات الفريقين أنَّ قوله تَعَالَي: (وَ آتِ ذَا الْقُرْبي حَقَّهُ ) (2) نزلت فِي سورة الروم بحسب التسلسل الزمني للآيات.

ومما يُؤسف لَهُ أنَّ ما بيّناه مِنْ مقام لها(عليها السلام) لَمْ يبلور حَتّي الآن لا فِي بحوث الفقه ولا فِي بحوث الكلام رغم أنَّهُ مِنْ العقائد الخطيرة والواجبة الاعتقاد.

وَقَدْ قامت عَلَي إثباته مواد قُرآنية ومواد الحديث النبوي ومواد حَديْثُ العترة، وَهُوَ المُعوَّل عَليه فِي تكامل المعرفة ورصد العقائد وتطوير الجانب العلمي، وَلَيْسَ المُعوّل علي النتاج العلمي البشري.

ص: 276


1- سوره 17 - آيه 26
2- سوره 17 - آيه 26

المقالة الخامسة عشر: حقيقة فاطمة عليها السلام

اشارة

*تعريف أهل البيت(عليهم السلام) علي وجه الحقيقة...

*حقيقة الإنسان لا في بدنه ولا في عقله بل في كماله النهائي

*التعريف الوحياني لفاطمة(عليها السلام)

تعريف أهل البيت(عليهم السلام) علي وجه الحقيقة:

لَعَلَّهُ يستغرب الكثير إذَا ما قلنا أنَّ لفاطمة(عليها السلام) أدواراً وتأثيراً فِي عوالم عديدة، وَهِيَ عوالم قوس الصعود وعوالم قوس النزول.

ونظير هَذَا الاستغراب يبديه البعض اتّجاه البحث عَنْ أدوار المعصومين(عليهم السلام) قبل الأرْض وفيها وبعدها.

وسبب هَذَا الاستغراب يكمن فِي التعريف الناقص بحقيقة المعصومين(عليهم السلام)، إذْ أنَّ الاقتصار فِي تعريف حقيقتهم عَلَي الدِّين

ص: 277

وشؤونه الدنيوية يُفضي إلي إنكار سعة أدوارهم وتأثيرهم فِي بَقيَّة العوالم.

إلَّا أنَّ هَذَا الاستغراب لا محل لَهُ إذَا ما عرفنا واقتربنا مِنْ فَهُمْ حقيقتهم(عليهم السلام) عَلَي ما هِيَ عَلَيْهِ، وعندها سنُؤمن بما لهم مِنْ منظومة أدوار مِنْ البدء إلي الختم، أيّ فِي الدنيا وما قبلها وفي البرزخ وما بعده وفي القيامة وما يتلوها.

حقيقة الإنسان لا في بدنه ولا في عقله بل في كماله النهائي:

ولذا فَكَمَا أنَّ حقيقة الإنسان وحقيقة كُلّ شيء بفصله الأخير لا بمادته ولا بصورته، أيّ حقيقته بكماله الأخير، وَلَيْسَ بكماله النازل الذي ابتدأ فِي أطوار وجوده، فليست حقيقته بالنطفة وإنْ كانت هِيَ مِنْ مبادئه، وليست حقيقته برجله ويده وسائر أعضائه ولا ببدنه كله، كَمَا أنَّهُ ليست حقيقته بروحه أيّ بغرائزه النازلة كغريزة الشَّهْوَة، إذْ أنَّ الشَّهْوَة مَرَّة تكون مَعَ الإنسان وتارة تكون مجمّدة وَغَيْر مفعّلة.

وليست حقيقته بغريزة الغضب إذْ هِيَ كَذَلِكَ ربما تفعّلت لديه وربما سكنت وجمدت.

فالبحث عَنْ الحقيقة للشيء هُوَ بحث عَنْ الهوية المفعّلة فيه دائماً؛

ص: 278

ولذا قالوا فِي مباحث المعارف: إنَّ حقيقة الإنسان فضلاً عن أنها ليست ببدنه فَهِيَ أيضاً ليست بعقله بَلْ شيء وراء عقله، وخلصوا إلي أنَّ حقيقته تكمن بكماله الأخير.

وَيَدُلّ عَلَي ذَلِكَ الإشارة الخفيّة فِي قول النبي(صلي الله عليه و آله):

«من عرف نفسه فقد عرف ربه »(1).

إذْ معرفة النفس بحقيقتها كَمَا أسلفنا بمعرفة كمالها الأخير وَلَيْسَ هُوَ إلَّا غايتها وخالقها ومرجعها.

وَعَلَي ضوء هَذَا التقريب يصحّ القول مَنْ عرف نفسه عرف نبيه(صلي الله عليه و آله) وَمَنْ عرف نفسه عرف إمامه(عليهم السلام)، وَمَنْ عرف نفسه عرف الصديقة(عليها السلام)، فَهُمْ أبواب الكمال الأخير وَهُمْ تجليه وآياته.

وَمِنْهُ تعرف معني قوله تَعَالَي: ( نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ )(2). (3) أيّ نسوا الهوية والكنه والغاية، فترتّب عَلَيْهِ تضييع النفس والغفلة عنها.

وفي آيات القُرآن إشارات معرفية توضح كيفية تعريف الأشياء بحقيقتها ففي قوله تَعَالَي: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحي إِلَيَّ )(4) (5) إفصاح0.

ص: 279


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي 2 /32.
2- سورة الحشر: الآية 19.
3- سوره 59 - آيه 19
4- سورة الكهف: الآية 110.
5- سوره 18 - آيه 110

عَنْ حقيقة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لا بإنه ناطق عاقل بَلْ بما هُوَ فوق العقل وَهُوَ أنَّهُ المدد الدائم لوحي الله، ففي الآية اغضاض عَنْ الجنبة البشرية وشؤونها وتعريف لَهُ(صلي الله عليه و آله) بالجنبة الَّتِي يتميز بها عَنْ سائر المخلوقات وَهِيَ أنَّهُ «وحي يوحي».

التعريف الوحياني لفاطمة(عليها السلام):

وَعَلَي هَذَا جرت الروايات فِي تعريف فاطمة(عليها السلام) فعرّفتها بالنور والحورية وبأنَّ حقيقتها ليلة القدر مما لا يتصل بشؤون البدن فِي شيء.

فَلَيْسَ تعريفها كامن فِي بدنها وفي سنة ولادتها وإنْ كَانَ لبدنها شرافة، لكنَّ حقيقتها(عليها السلام) بطبقات مِنْ ذاتها مخلوقة قبل بدنها.

ولإيضاح المطلب بنحو أجلي نطرح هَذَا المثال:

وَهُوَ أنَّ القصد لزيارة شخص عزيز يتطلب التوسل بمعرفة عنوانه ومحل سكنه والطريق المؤدي إلي بيته، فإذا ما وصل القاصد إلي باب بيت مقصوده فَإنَّه يعرض عَنْ كُلّ شيء ويقبل عَلَي الشخص الساكن ولا يُعير أهمية للبيت المسكون.

وَهَذَا نظير ما نحن فيه مِنْ تعريف الأشياء، فَإنَّ الوقوف عِنْدَ أبدان وغلاف الأشياء هُوَ اعتناء بالبيت المسكون وتمسك به، بَيْنَمَا فِي داخله تكمن الهوية والرُّوُح، وفي داخل بيت الرُّوُح يسكن النُّور، وفي

ص: 280

بيت النُّور يسكن نور النُّور.

وَعَلَي هَذَا الأساس فَإنَّ تعريف الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) أو أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) أو فاطمة(عليها السلام) إذَا لَمْ يلحظ فيه تلك الطبقة النورية وَذَلِكَ الكنه الروحاني فَهُوَ شط وابتعاد عن الحقيقة وَلَيْسَ قرباً منها.

ولذا وَرَدَتْ التوصية الوحيانية بالتعرف عَلَيْهِم بالنورانية، بَلْ أشارت كثير مِنْ الروايات بمعرفتهم بالنوارنية، أيّ تعريفهم بأوَّل طبقة فِي خلق ذواتهم، فَهِيَ كنههم وغايتهم.

ففي البحار عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله(صلي الله عليه و آله): (أول شئ خلق الله تعالي ما هو؟

فقال: نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير »(1).

وَوَرَدَ عنه(صلي الله عليه و آله):

«كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»(2).

وَلَمْ يقل كُنْت بدناً لِأنَّ نبوة الْنَّبِيّ ليست ببدنه أو روحه أو قلبه وَإنَّما بنوره.

ونظيره سارٍ فِي تعريف فاطمة(عليها السلام) فَإنَّ تعريفها بالنور هُوَ التعريف المظهر لحقيقتها.1.

ص: 281


1- بحر الانوار، المجلسي24/15 عن رياض الجنان.
2- عوالي اللئالي، أبن أبي جمهور الاحسائي 4 / 121.

وبما ذكرناه يتقرّب للأذهان ما فِي بيانات الآيات والروايات مِنْ أنَّ لفاطمة(عليها السلام) منظومة أدوار فِي مبدأ الخلقة ووسطها ومنتهاها، كَمَا أنَّ لها أدواراً فِي البرزخ والرجعة وفي القيامة بمواطنها المختلفة مِنْ موطن الشفاعة وَحتي دخول الجَنّة.

وبذلك يثبت لها شأنٌ فِي الحجية لا يقتصر عَلَي عالم الدُّنْيَا، بَلْ يدوم لها ما دامت الخلقة، وبذلك تشترك مَعَ النبوة والإمامة فِي تأبيد الحجية وما يترتب عَلَيْهَا.

ص: 282

المقالة السادسة عشر: دليل وفلسفة ظلامة الزهراء

اشارة

*النقطة الأولي: الدَّليل عَلَي ظلامتها...3

*تحليل السياقات الطبيعية للحدث وسيلة لفهمه

*اهمال القصاصات المحتملة تغريد خارج سرب فطرة البشر

*الحجج المجموعية دون الحجج المستقلة نبع الحقيقة

*بعض أنماط تنقية التراث تعمية علي الحقائق

*تراكم وتوزّع قصاصات ظلامتهم في كتب المسلمين...

*التسرّع في نفي الأحداث مناقض للمنهج العلمي

*النقطة الثانية: فلسفات إثبات ظلامتها(عليها السلام)

*الفلسفة الأولي: إحياء المظلومية إحياء للمنهج القويم

*الفلسفة الثانية: التعرّف علي الظلامات تمييز للقدوات

ص: 283

*علل تصفية الزهراء(عليها السلام)

*العلة الأولي: حيلولة وجود الزهراء(عليها السلام) عن البيعة

*العلة الثانية: تصفيتها لمصادرة حقها

*العلة الثَّالثة: شرعيتها المحكمة(عليها السلام) اسقاط لشرعيتهم

*الشاهد الأوَّل

*الشاهد الثَّاني

*الفرية علي الزهراء(عليها السلام) فرية علي الدين

*اشتراك الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وبضعته(عليها السلام) فِي شدة الظلامة

وها هُنَا نستعرض نقطتين:

النقطة الأولي: ما هُوَ الدَّليل عَلَي وقوع ظلاماتها:

اشارة

إنَّ المصادر الَّتِي تثبت وقوع الظلامات عَلَي فاطمة(عليها السلام) مصادر مستفيضة وكثيرة، فوقوعها لَمْ يخرجه مصدر واحد أو اثنين أو ثلاثة.

كَمَا أنَّ مصادر ظلامتها غَيْر مختصة بكتب الشيعة الإمامية أو كتب فرق الشيعة الأُخري، وإنما هِيَ مثبتة فِي بطون كتب المسلمين جميعاً.

فلو تحلي الباحث بالتتبع والاستقصاء لظفر بمصادر إثبات غَيْر

ص: 284

متوقعة عدداً.

ولربما تتلبد الرؤية وتضمر القناعة بذلك عِنْدَ بَعْض الخاصّة ومنشؤها السُبات والغفلة والقصور المنهجي فِي التتبع للقصاصات المُبَاشَرة وَغَيْر المُبَاشَرة، وَإلَّا فما مِنْ صحيح مِنْ كتب الحديث لدي الجمهور وأهل سنة السلطان إلَّا وفيها بصمات عديدة وزوايا كثيرة وشواهد غَيْر خفيّة مِنْ ظلامتها(عليها السلام).

ويتساوي فِي ذَلِكَ صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الترمذي وغيرها.

والعجب ممن يقرأ عبارات مفعمة بالإشارة إلي ظلاماتها ولكن مِنْ غَيْر تنبّه والتفات إلي دلالتها كعبارة «ماتت وَهِيَ واجدة»(1) أو عبارة «وددت أني لم اكشف بيت فاطمة»(2) فَلَيْسَ المقصود مِنْ العبارة الأولي التأثر النفساني لخلاف دنيوي، كَمَا أنَّهُ لَيْسَ المقصود مِنْ عبارة «كشف عَنْ بيتها» مُجَرَّد إزاحة الستار.

فإن أمثال تلك القراءات هِيَ وليدة الفهم البارد والذهن الفاتر فَإنَّهُ لا يتوقع أنَّ يُنقل تفاصيل التفاصيل فِي شق ظلامتها، ولكن كَمَا قِيلَ «الحر تكفيه الإشارة».8.

ص: 285


1- شرح نهج البلاغة، بن أبي الحديد 6 /50.
2- الايضاح، الفضل بن شاذان 518.

فالذهن المنفتح والمقتنص لِكُلِّ شوارد ما جري مَعَ وضع أسس الخلاف القائم آنذاك نصب العين يكفي لفهم ما جري عَلَيْهَا مِنْ ظلامة بعمق وحرارة.

فماهو المتوقع مِنْ الأحداث والتجاوزات والتعديات إذَا كَانَ أصل الحدث هُوَ الصدام حول الرئاسة بحيث تداخلت فيه جملة مِنْ القوي والتوازنات، فَهَلْ يُظن أنَّ أجواء مِنْ الرفق واللين والأسلوب الديمقراطي لها أيّ فرصة أو مجال؟

ويمكن أنْ نعطي ها هُنَا إشارات تُبيّن نمط الأسلوب الذي واجهوا به الزهراء(عليها السلام) لنفهم شدة ما وقع عَلَيْهَا مِنْ ظلامة.

أوَّلاً: افتراض أنَّهُم قَدْ واجهوا تخلّف علي والزهراء(عليها السلام) عَنْ تأييد الخلافة القائمة بحضارية ونمط مِنْ الديمقراطية يكذبه الهجوم عَلَي بيتها رغم أنَّ معارضة علي وفاطمة(عليهما السلام) لَمْ تسلك أسلوب الخروج للشارع وتحشيد الجموع وتأليب الجماهير، وَمَعَ ذَلِكَ هجموا بأعداد غَيْر قليلة عَلَي بيت علي وفاطمة(عليهما السلام).

ولو أردنا أنَّ نحلّل بَعْض دلالات هَذَا الأسلوب فَإنَّ أوضح دلالة هِيَ أنَّهُم يرون فِي ذَلِكَ البيت أنَّهُ يمثل عنوان المعارضة ومركز القيادة فإذا لَمْ يُقتحم لا تستتب عملية التغيير ولا تضمن السيطرة الكاملة.

ص: 286

ومن الواضح أنَّ نفس الهجوم عَلَي بيتها(عليها السلام) يُبيّن أنَّ الأحداث كانت ذَاتَ طابع إرهاب وعنف وَلَمْ تكن مخملية أو ناعمة.

تحليل السياقات الطبيعية للحدث وسيلة لفهمه:

وبنحو القاعدة لابُدَّ أنْ تقرأ النصوص التأريخية بنحو مستوعب بحيث يُقتنص تفاصيلها الطبيعية والمنطقية.

ومما يستدعي الاستغراب أنَّ غير المنصفين علمياً سواء مِنْ الوسط الداخلي أو الخارجي يقفون عَلَي اللقطات التأريخية بما هِيَ، أيّ كَمَا وَرَدَتْ فِي التأريخ مبتورة ومقطوعة عمّا قبلها وعمّا بعدها، ويرون لأنفسهم عذراً وتبريراً بحجة خلو مصادر التأريخ عَنْ التفاصيل، إلا أنَّ مِنْ حق الباحث المنقّب أنْ يسلط منظار القوة التحليلية عَلَي نفس تلك اللقطة الَّتِي يثبتها التأريخ ليفهم السياقات الطبيعية الَّتِي لابُدَّ أنْ ترافق الحدث التأيخي بحسب نوعه وطبيعته.

وَمِنْ باب المثال إنَّ التأريخ قَدْ أثبت وقائع عديدية حدثت فِي كربلاء، وجاء الكثير منها مبتوراً عما قبله وعما بعده، فَهَلْ يمنع ذَلِكَ مِنْ التحليل لنفي لمستلزمات الحدث.

فإذا نصَّ فِي المصادر أنَّ الخيام فِي كربلاء حُرقت ولنفترض أنَّ التفاصيل السابقة واللاحقة لَمْ تذكر لكنَّ السُّؤال يظل قائماً عمّا يمكن أنْ يستتبع ذَلِكَ الحدث.

ص: 287

فإذا كَانَت الخيام قَدْ حُرقت فما هُوَ حال ومصير مِنْ يبقي فيها مِنْ النساء والأطفال، وما هُوَ حال ومصير مِنْ يفرّ منها عَلَي وجهه إذْ أنَّ جيشاً دموياً فتّاكاً يدور حول الخيام.

أفهل يمكن القول أنَّ تلك الدلالات مُجَرَّد اختلاقات، ومصادر التاريخ عارية عنها، أو أنَّ الاختلاق والتزوير هُوَ نكران تلك الدلالات بأنْ يفهم أنَّ متن ما جري هُوَ حرق الخيام وأمَّا ما قبل الحدث وما بعده فَهِيَ أُمُور هادئة ليّنة؟

أيكون مِنْ الاختلاق القول أنَّ بَعْض الأطفال قَدْ سُحقوا تحت سنابك الخيول وَهُوَ أمر سياقي منطقي لأصل الحدث، أو أنَّ الاختلاق هُوَ إلصاق صفة البرود والهدوء لما قبل ولما بَعْدَ الحدث الوحشي الدامي؟

وبعبارة أُخري:

لو اعترف الجاني بلقطة مِنْ لقطات الجريمة المنسوبة إليه فَهَلْ يكتفي المحقق الجنائي بالمقطع الذي اعترف به الجاني أم أنَّهُ يتوسّل بالثابت مِنْ اللقطات لفهم مقاطع أُخري مِنْ الجناية والحدث؟

إنَّ الاستقصاء الجنائي قائم الآن عِنْدَ كُلّ البشر عَلَي التحفّظ علي كُلِّ قصاصة وخيط مِنْ خيوط الحدث والتوسّل بها لفهم كُلّما جري.

ص: 288

اهمال القصاصات المحتملة تغريد خارج سرب فطرة البشر:

وَهَذَا منهج فطري لا يمكن أنَّ يُفرّط فيه بأي حال مِنْ الأحوال فَإنَّ تراكم الاحتمالات يوصل إلي الصورة الواضحة الكاملة.

بَلْ يُعدُّ الإهمال لأي معلومة وإنْ كانت ضئيلة تفريطاً وتضييعاً للحدث، بَلْ يُعدُّ مِنْ ضروب الجنون أنْ تترك رؤوس خيوط الحدث ولو كانت ضئيلة.

فَإنَّ الحدث ما هُوَ إلَّا صورة كبيرة تبعثرت فِي قصاصات، ووظيفة الباحث بحسب علمه - الباحث فِي الآثار أو الباحث الجنائي أو الباحث عَنْ الحقيقة- أنْ يستثمر كُلّ قصاصة ليعبر مِنْ خلالها لغيرها، وَحَتّي لو فرض عدم مقدرة الجيل الأوَّل مِنْ الباحثين عَلَي استثمار ما وقع بأيديهم مِنْ خيوط فَهُوَ لا يبرر إهمال وتضييع تلك القصاصات، إذْ أنَّ الاحتمال قائم باقتدار الجيل الثَّانِي أو الثَّالِث مِنْ الباحثين عَلَي الربط والتحليل والاستنتاج.

ومما يُؤكِّد ذَلِكَ أنَّ الكثير مِنْ تقارير المستندات العلمية حول الجنايات لا سيما فِي الأحداث الكبيرة كالأحداث الَّتِي تخصّ علاقات الشعوب وعلاقات الدول بعضها ببعض وبالأخصّ الَّتِي ترتبط بالديانات والدِّين لَمْ تكتشف حقائقها إلَّا بَعْدَ قرون.

ص: 289

ومما يدعم ما نحن فيه أنَّ طبيعة النتائج الموضوعية لا سيما فِي الأُمُور المعقدة تتطلب تظافر جهود أجيال، فيكون دور الباحث الجنائي فِي الجيل الأوَّل مقتصراً عَلَي جمع القصاصات والقرائن غَيْر أنَّهُ لا يقتدر عَلَي ترتيبها وتأليفها بما يطابق واقع الحقيقة.

فتكون تلك المُهِمَّة موكولة إلي الجيل الثَّانِي ليستنتج صورة أولية وربما تكون باهة عَنْ واقع الحقيقة.

بَيْنَمَا قَدْ يقتدر الجيل الثَّالِث وببركة البناء عَلَي جهود الجيلين السابقين مِنْ أنْ يظهروا الحقيقة الكاملة بتمام أبعادها.

وكم لذلك مِنْ نظير وخصوصاً عَلَي صعيد عالم الآثار إذْ دأب البشرية عَلَي تحصيل العلم بحقائقه عَلَي تراكم الجهود والنتائج.

ولذا يكون حال مَنْ يطالب بعدم الاكتراث بالقصاصات المتناثرة بحجة أنَّها ضئيلة فِي الاحتمال حال مِنْ يغرّد خارج سرب البشر.

الحجج المجموعية دون الحجج المستقلة نبع الحقيقة:

ولذا يعتمد المشهور الأعظم مِنْ الفقهاء عَلَي صعيد الفقه عَلَي الحجج المجموعية وَلَيْسَ عَلَي الحجج المستقلة، أيّ أنَّ مجموع الحجج هِيَ الحجة ومجموع الأدلة هِيَ منبع الاستنتاج، فدأبهم عَلَي حشد عِدَّة

ص: 290

روايات كُلّ منها مُعْتَبَر ولا يكتفون برواية واحدة رغم اعتبارها، إذْ أنَّ الالتفات إلي مجموع ما هُوَ حجة وَمُعْتَبَر فيه زيادة فِي الحجية وزيادة وثوق وَهُوَ المسلك الذي يُعبّر عنه الشَّيْخ الأنصاري والوحيد البهبهاني بمسلك تجميع القرائن.

وتكمن ثمرة هَذَا المسلك فِي الحجج الكثيرة المبتلي كُلّ واحد منها بزاوية مِنْ الضعف فِي إراءة الحقيقة بحيث أنَّهُ لو اعتمد عَلَي كُلّ واحد بالاستقلال لكان أقصي ما يَدُلّ عَلَيْهِ هُوَ احتمال مطابقته للواقع إلَّا أنَّهُ لو ضُمَّ بعضها للبعض لأوجب ترميم زاوية الضعف فِي الأوَّل بجانب القوة فِي الثَّانِي وهكذا، فتنتج بمجموعها النتيجة الواضحة بضم القرائن وترميم بعضها للبعض.

وفي الحقيقة أنَّ مسلك تجميع القرائن هُوَ مسلك بشري متبع فِي كُلّ العلوم والتخصصات لا سيما العلوم الإنسانية والنقلية والتأريخية والأثرية.

بَيْنَمَا مسلك إهمال القرائن وعدم الاكتراث بها وشطبها تأسيس للجهل والجهالة فِي الوسط العلمي.

ومن هنا يتأكَّد ضرورة الحفاظ والاحتفاط بالأدلة والقرائن مهما تضاءل احتمالها فِي الأحداث والفجائع الكبري أو ذَاتَ التأثير العقيدي والديني، فحتي لو كَانَ احتمالها مِنْ الضآلة إلي الواحد بالمائة فَإنَّها تمثل نافذة للانفتاح عَلَي كبد الحقيقة.

ص: 291

بعض أنماط تنقية التراث تعمية علي الحقائق:

وَمِنْهُ تعرف سخف دعوي مِنْ ينادي بحذف قصاصات كثيرة سواءً فِي مسيرة الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) أو مسيرة الزهراء(عليها السلام) أو مسيرة علي(عليه السلام) أو فِي مقتل سَيِّد الشهداء(عليه السلام).

فَأيّ عقل يُجيز هكذا مسلك بأن تتقصد القرائن فِي المجاميع الحديثية كموسوعة البحار لتُهدم وتُخفي بحجة تنقية التراث؟!

والمحصلة أنْ لا ننخدع ولا نخادع بجهالات ترفع باسم العلم وتضيّع علينا الخيوط الموصلة للحقائق ولو بَعْدَ أجيال.

ونحن هُنَا لا نحاكم النيات ولا شأن لنا بالشخوص، ولكن كُلّ ما يُعنينا هُوَ تسليط الأضواء عَلَي زوايا الخطأ فِي بَعْض المناهج، وَهُوَ مِنْ الدأب العلمي الذي درج عَلَيْهِ مشهور علماء الإمامية ومشهور علماء المسلمين.

بَلْ نترقي فِي القول بضرورة حفظ القصاصات والقرائن حَتّي فِي كتب المخالفين فضلاً عَنْ كتبنا فبها جميعاً تترابط الأحداث وتتكامل الصورة.

تراكم وتوزّع قصاصات ظلامتهم في كتب المسلمين

وخذ مثالاً عَلَي ذَلِكَ الذهبي صاحب كتاب سير أعلام النبلاء إذْ بغض النظر عمّا يُقَال من أنه ناصبي إلَّا أنَّهُ فِي ذَلِكَ الكتاب أثبت

ص: 292

وسجّل كُلّ الأحداث الأليمة الَّتِي وقعت عَلَي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) بسوء مواقف الصحابة، وجرت عَلَي علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، لكنَّهُ أثبتها بنحو موزّع ومشتت ومنتشر؛ ولذا فحفظ القصاصات الواردة فِي كتابه وأمثاله بمكان مِنْ الأهمية لكون كُلّ قصاصة مبعثرة تلقي بضوئها عَلَي فَهُمْ الحقيقة الكاملة.

وَمِنْ الجدير ذكره أنَّ الذهبي فِي سير أعلام النبلاء قَدْ ذكر ما جري عَلَي الزهراء(عليها السلام) مِنْ إسقاط الجنين وضرب البطن وكسر الضلع والهجوم عَلَي الدار وتلويعها يَوم أنْ خرجت حَتّي عدّ بَعْض المتتبعين عشرة مواطن تَمَّ فيها الهجوم عَلَي الزهراء(عليها السلام)، فلو جمعت كُلّ تلك القصاصات لوصلت إلي اليقين بحقيقة أنَّهُم أفرغوا كُلّ الأحقاد النفسيّة اتّجاه سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) عَلَي ابنته سيدة النساء(عليها السلام).

وبالغور فِي التحليل يبان أنَّ تشفيهم مِنْ سيدة النساء(عليها السلام) لَيْسَ قصة أحقاد، وَإنَّما هُوَ اختلاف منهجيّة وديانة عَنْ ديانة سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله).

ونكرر القول أنَّ ما نقله الذهبي فِي شأن ما جري عَلَي الزهراء(عليها السلام) لا يعثر عَلَيْهِ الباحث فِي موضع ترجمته للزهراء(عليها السلام) فَقَطْ أو فِي ترجمته لسيرة الصحابة فحسب، كَمَا أنَّهُ لَيْسَ الاقتصار فِي البحث عَلَي موضوع واحد يعدّ مِنْ المراجعة العلمية بَلْ هِيَ شبيهة بعمل

ص: 293

المحقق الجنائي الذي لا يكلّ مِنْ مراجعة كُلّ زوايا الحادثة ولا يفرِّط فِي أيّ معلومة مهما تضاءلت نسبتها للحدث.

وَقَدْ أدرك الوهابية والسلفية ما يحتويه كتاب سير أعلام النبلاء بين طيّاته مِنْ معلومات وقضايا تأريخيّة غاية فِي الأهمية وَالَّتِي فيها ذكره لِكُلِّ الاغتيالات الَّتِي دبّرها الصحابة للنبي(صلي الله عليه و آله)، فلمّا أرادوا أنْ يجددوا طبع الكتاب تحسسوا الخطر وضرورة حذف كثير مما فيه مِنْ شواهد تدين مهندسي تلك الاغتيالات، لكنَّهم وجدوا أنَّ حذف تلك المواضع كاملة لا يُبقي مِنْ الكتاب شيئاً.

وكذلك فعل الذهبي فِي كتابه الرجالي ميزان الاعتدال فضمّنه ملفات خطيرة فيما يخصّ ظلامة الزهراء(عليها السلام) وما يخص سم الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) ومثله فعل البخاري فِي بَعْض أبواب صحيحه، كَمَا فِي كتاب الطب(1)

والمحصل مِنْ كُلّ ذَلِكَ أنَّ بصمات الأحداث الخطيرة وقصاصات المسائل موضع النزاع بين المذاهب الإسّلاميَّة مبثوثة وموزّعة فِي مصادر المسلمين ولو جُمعت لتبيَّن بها حقائق ما جري فِي التأريخ؛ ولذا وجب أنْ يتحفظ كُلّ جيل عَلَي ما يصل مِنْ معلومات ليستثمرها الجيل الآتي مَعَ ما يجده ويظفر به مِنْ معلومات لتطلع شمس الحقيقة فِي يَوُم مِنْ الأيام.17

ص: 294


1- صحيح البخاري، البخاري 7 / 17

ونقدم ها هُنَا ثمة شاهد يشهد عَلَي ما قلناه مِنْ كون بصمات الحقيقة التأريخية مبثوثة فِي الكتب، فَقَدْ كُنْت اتصفح يوماً كتاباً مِنْ الكتب المطبوعة بملايين النسخ فِي مَكَّة والمدينة والرياض وَهُوَ كتاب (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفي للسمهودي)، وَكَانَ الغرض مِنْ مطالعته البحث فِي مطلب إلَّا أنني عثرت مصادفة عَلَي عِدَّة مصادر روائية لدي العامّة يذكرها فِي ذَلِكَ الكتاب مضمونها أنَّ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) كَانَ يدخل عَلَي أصحاب الكساء فيُسرّ بهم فما يلبث أنْ ينزل عَلَيْهِ جبرائيل فيُخبره بما يلقونه مِنْ بعده، فيخاطبهم(صلي الله عليه و آله) بقوله وَهَذِهِ عبارة مستفيضة فِي طرقهم ومستفيضة فِي طرقنا - وَهِيَ: (أنَّكم قتلي ومصارعكم شتي»(1).

وفي البحار روي الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن سيد العابدين علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: زارنا رسول الله (صلي الله عليه و آله) فعملنا له خزيرة وأهدت إليه أم أيمن قعبا من زبد وصحفة من تمر، فأكل رسول الله(صلي الله عليه و آله) وأكلنا معه ثم وضأت رسول الله(صلي الله عليه و آله) فمسح رأسه ووجهه بيده، واستقبل القبلة فدعا الله ما شاء، ثم أكب إلي الأرض بدموع غزيرة مثل المطر، فهبنا رسول الله(صلي الله عليه و آله) أن نسأله، فوثب الحسين (عليه السلام) فأكب علي رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال: يا أبه رأيتك تصنع ما لم تصنع مثله قط، قال: يا بني سررت بكم اليوم سرورا لم أسر بكم مثله، وإني.

ص: 295


1- وفاء الوفاء وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفي ، السمهودي.

حبيبي جبرئيل أتاني وأخبرني أنكم قتلي ومصارعكم شتي)(1).

ولندقِّق فِي العبارة كالمدقق الجنائي ونتساءل: هَلْ معني العبارة الإخبار عَنْ قتلهم أو عَنْ القتل بخصوصيات معيّنة؟!

إنَّ معني المصرع هُوَ الطريقة الشرسة فِي القتل، مما يعني أنَّ لِكُلِّ واحد مِنْ الأربعة مصرعاً وقتلاً بشراسة ورعونة، وَهُوَ ما يثبت صحة الخصوصيات الَّتِي ذكرت فِي كُلّ مصرع مِنْ مصارع الأربعة، فلو استبعد أحد بَعْض الخصوصيات لعدم ظفره بمستند واضح عَلَيْهِ فَإنَّ ما وَرَدَ مستفيضاً عَنْ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) يُلقي الضوء ويرفع الاستبعاد.

وَمِنْ الجدير ذكره أيضاً أنَّ السعي العلمي للظفر بالشواهد عَلَي الأحداث المؤلمة لا ينحصر فِي البحث والتفتيش فِي كتب التراجم وإنْ كانت هِيَ المعين الأوَّل لذلك، بَلْ حسّ التحقيق يتطلب التتبع فِي قصاصات الأحداث المطوّية فِي جميع كتب المسلمين بما فيها الكتب التفسيرية والرجالية والحديثية، بَلْ أنَّ بَعْض الإشارات البديعة واللفتات السريعة الَّتِي تشهد عَلَي الظلامات قَدْ يظفر بها فِي كتب اللغة القديمة وَالَّتِي قَدْ ترسل بعض العبارات إرسال المسلمات فِي الاستشهادات اللغوية لكنّها مِنْ زاوية التحقيق ذَاتَ فائدة فِي الإثبات أو التأييد أو التوضيح لعبائر ذكرت فِي كتب التراجم أو غيرها.5.

ص: 296


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي 18 / 125.
التسرّع في نفي الأحداث مناقض للمنهج العلمي:

وَمِنْ المنطقي أنَّ هَذَا النمط مِنْ الاستقصاء يتوقف عَلَي اجتماع سواعد علمية وتظافر جهود تحقيقية، وإذا لَمْ يتوفّر ذَلِكَ فِي زمان فلا يحق لعلماء ذَلِكَ الزمان أنْ ينفوا بَعْض ما وَرَدَ فِي التاريخ لعدم الشواهد عَلَيْهِ، لِأنَّهُ فِي الحقيقة لا يمكن لأحد أنْ يجزم بعدم وجود الشواهد ما دام البحث يتطلّب توسع الاستقصاء بالنمط الذي ذكرناه.

ويتحصل بما مَرَّ أيضاً أنَّ المنهج المُتسرِّع فِي شطب الأحداث أو إنكارها لعدم وضوح الدَّليل لا يمت للمنهج العلمي بصلة بَلْ موجب لعرقلة المسير العلمي والتحقيقي لدي الأجيال المستقبلية.

إذْ ثمة فرق بين أنْ يقول الباحث فِي الجيل الأوَّل لَمْ أظفر بدليل وشواهد كافية عَلَي الظلامة الكذائية وبين أنْ يقول أجزم بكذبها، فَإنَّ العبارة الأولي مُضافاً لكونها عبارة علمية منهجيّة هِيَ تفتح الطريق للباحثين فِي الجيل الثَّانِي وَالثَّالِث، بَيْنَمَا العبارة الثانية مضافاً لكونها غَيْر علمية وَغَيْر منهجية هِيَ تصفية وعرقلة لمسير البحث العلمي لدي الأجيال المستقبلية.

النقطة الثانية: فلسفات إثبات ظلامتها(عليها السلام):

اشارة

قَدْ يظن البعض أنَّ فلسفة التأكيد عَلَي ظلامات فاطمة(عليها السلام) تنحصر في أمرين:

ص: 297

1) هدفها شحن الصدور بالكراهية وإشعال فتيل الخلاف والنزاع بين المسلمين.

2) إثارتها لأجل التأثر والحزن والتألم والمواساة.

وهاتان الفلسفتان وإنْ كانتا مطلوبتين بمعني مِنْ المعاني إذْ أنَّ شحن الصدور بالكراهية جرّاء رواية ظلامتها مطلوب اتّجاه المباشرين للحدث باعتبار أن الانكار القلبي من مراتب الأمر بالمعروف، ولا شأن له بإثارة الخلاف والنزاع بين المسلمين، بَلْ التأثر النفسي مِنْ مقدمات التبري كَمَا أنَّ الحزن والمواساة أمران عظيمان.

إلا أنه مَعَ كُلّ ذَلِكَ فثمة فلسفات وأبعاد عظيمة منها:

الفلسفة الأولي: إحياء المظلومية إحياء للمنهج القويم:

إنَّهُ لا فرق بين استعراض مظلومية الزهراء(عليها السلام) ومظلومية أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام) وبين إحياء المنهج والصراط القويم ووقاية المسلمين عَنْ السير فِي صراط الجحيم وَعَنْ الاستمساك بمنهج الزيغ والتزييف.

وَهَذَا ما يغفل عَنْه الكثير مِنْ المسلمين، فيظن أنَّ التاريخ صفحة زائلة وَأنَّهُ واقع منصرم وَأنَّهُ حلقة مقطوعة لا أثر لها فِي الأجيال الآتية، ولا تداعيات لَهُ عَلَي العصر الراهن، فضلاً عَنْ المستقبل الواعد.

ص: 298

وَعَلَي هَذَا الأساس ثمة دعوي لتجديد تقويم تأريخي يبتدأ مِنْ عصرنا أو يبتدأ مِنْ المستقبل بالنسبة للأجيال اللاحقة، أيّ كُلّ جيل وطبقة تأريخية تدشن لها تقويما تاريخيا مقطوع الصلة عَنْ الطبقة السابقة.

إنَّ رفع مثل هَذَا الشعار فيه استئصال للمنهج العلمي وانقلاب عَلَي المسير البشري ودفن لمقتضيات الفطرة الإنسانية، لِأنَّ العصر الراهن والمستقبل الواعد ما هُوَ إلَّا تداعيات لما حدث فِي السابق، بَلْ هُمَا أمواج طوفان الماضي، ولا يمكن للنسيج الحضاري أنْ يُبني فِي المستقبل بلحاظ كُلّ زوايا الحياة إذَا ما انقطع الحاضر والمستقبل عَنْ الماضي.

وَهُنَاك شاهدان عَلَي سُخف مِنْ ينادي بشعار الفصل بين الماضي والحاضر:

أولهما: ما يُعرف بتداخل الطبقات، إذْ أنَّ التاريخ البشري قائم عَلَي أجيال وطبقات إلَّا أنَّ التداخل بين الطبقات أمر لازم أي اجتماع بَعْض مَنْ كَانَ في طبقة سابقة وَبَعْض مِنْ سيكون مِنْ طبقة لاحقة، ولا شكَّ أنَّ ذَلِكَ تلقائياً يوصل الطبقات بعضها ببعض مما يوجب تأثير وتأثر بعضها ببعض.

وثانيهما: نسأل مَنْ يرفع شعار الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل الواعد هَلْ تريد به الفصل الكلي؟ وَهُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بالتالي

ص: 299

مناداة بدفن الإنتاج العلمي والحضاري الماضي وقطعه عَنْ التأثير فِي النتاج العلمي الحاضر.

وَهَذَا يعني الانقطاع عَنْ تاريخ العلم وعلم التاريخ وَهُمَا شيء واحد، والمناداة بذلك هُوَ شبيه بالقول أنَّ عَلَي البشرية أنْ تصفّر العلم وَهُوَ شبيه كَذَلِكَ بالقول أنَّ عَلَي البشرية أنْ تلغي الهوية العقلية وَهُوَ ما يسمي بالمصطلح الحديث فِي علم الحاسوب (الفورمات).

وَعَلَيْهِ نسأل عَلَي وفق أيّ برنامج ونظام علمي تسير البشرية لو ألغت تاريخها العلمي، وَأيّ إنتاج لها سيتطور إذَا ابتدأت مِنْ الصفر، وكيف ستتبلور لها حضارة إذَا هدّت دعامات الماضي.

إنَّ التأريخ عبارة عَنْ مخزن علمي عظيم ومنظار للبصيرة والرؤية العلمية وما بُنيت الحضارة فِي كُلّ جيل إلَّا عَلَي ثروات الماضي، فكيف يمكن للبشرية أنْ تبتدأ بتقويم جديد!!

ولذا وَعَلَي ضوء ما تَقَدَّمَ مِنْ الإشكاليات لَمْ يكن أمام المنادين بالانقطاع عَنْ الماضي إلَّا رفع مقولتهم كشعار عام لكنّهم يمارسون عملاً الانتقائية التأريخية المزاجية، أيّ فِي الوقت الذي فيه يقطعون أنفسهم عَنْ صفحات مِنْ التأريخ ينسبونها إلي صفحات أُخري إمَّا بميزان المزاجية أو بميزان العصبية أو بميزان السياسة أو غيرها إلَّا ميزان العلم وميزان البُرْهَان.

ص: 300

الفلسفة الثانية: التعرّف علي الظلامات تمييز للقدوات:
اشارة

مما لَهُ دخاله فِي تمييز المنهج القويم عَنْ المنهج الغوي هُوَ أنْ نعرف مَنْ كَانَ عَلَي المنهج القويم وَمَنْ كَانَ عَلَي المنهج الغوي فِي تاريخ الإسلام، إذْ أنَّ الأشخاص فِي التأريخ لهم دور الإيصال للمنهج، فلو لَمْ يُمحّصوا ويُميِّزوا لكانت تبعيتهم بعمياوية موجبة للضلال والانحراف، وَقَدْ يظن متبعهم أنَّهُ يُحسن صُنعا.

وَعَلَيْهِ لا تظن أنَّ ما تقوم به التيارات والمنظمات المنحرفة كالقاعدة ومسمياتها الأُخري وليد تاريخها الحاضر، وَإنما وليد تبعية وأتمام لرجال تأريخيين قاموا بنفس أنماط الأعمال البشعة الَّتِي يقومون بها الآن.

فأصحاب الفتنة فِي حرب الجمل قاموا بسفك دماء المسلمين وهتك حرماتهم، وبكل رعونة وعنجهية وتحت لافتة شعار مِنْ الشعارات الأصيلة فِي الدِّين، وَكُلّ ذَلِكَ انعكس فِي التأريخ الراهن عَلَي الاتباع والمشايعين.

فما يجري اليوم مِنْ إشعال النيران الَّتِي تكاد أنْ تحرق بلاد الإسلام والشعوب المسلمة، وكذا قتل الأبرياء والتعدي عَلَي حرمات النساء والتمثيل والتنكيل بالأطفال وأكل لحوم البشر لَيْسَ كُلّ ذَلِكَ مِنْ باب الصدفة وَإنَّما هِيَ وليد ثقافة أخذوها مِنْ التأريخ وانعكاس

ص: 301

لمنهج مِنْ ظلموا الزهراء(عليها السلام) وأهل البيت(عليهم السلام).

ولا مبالغة إذَا ما قلنا أنَّ الكثير مِنْ المسلمين فِي الوقت الراهن يقتات عَلَي أفكار ومناهج تأريخية سرطانية وَهِيَ بطبيعتها لا تفرز إلَّا غدداً خطيرة تفت فِي جسم الأُمَّة وبنية المسلمين وعقيدة التوحيد.

ومما ذكر فِي التأريخ ابتلاء المسلمين بالمغول وفي مصادر أهل السَّنَة ذكر أنَّ الذي جاء بالمغول ودعاهم للهجوم عَلَي بلاد المسلمين فِي إيران وأتوا بما أتوا به مِنْ سفك الدماء إنَّما هُوَ الخليفة العباسي وَهُوَ نفس الخليفة الذي يُتباكي عَلَيْهِ ويُتباكي عَلَي خلافته الَّتِي تنعت بالخلافة الإسّلاميَّة برغم أنَّ صاحبها هُوَ الذي حرّش المغول عَلَي بلاد الإسلام الشيعية.

ذَلِكَ ما كتبه اثنان مِنْ علماء السَّنَة أحدهما يدعي بالهمداني والآخر يُدعي بالطباطبائي، ومما أثبتاه فِي كتابيهما أنَّ الذي أغري المغول بالهجوم عَلَي بغداد قاضي القضاة الشافعي، وَهُوَ الذي دخل بغداد سراً مَعَ المغول متأخراً ومتواطئاً.

ولا يظن أحد أنَّ التركيز عَلَي هَذِهِ الأمثلة هدفه خلق التشنج وإثارة القلاقل بين المسلمين، بَلْ المقصود هُوَ الدعوة إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فَإنَّ نبذ الفتنة بين المسلمين وضرورة المداراة بينهم لا يعني أنْ نتعامي عَنْ الحقيقة بَلْ ينسجم ذَلِكَ مَعَ

ص: 302

الإفصاح عَنْ الحقيقة بأسلوب ليِّن وطريقة هادئة وحوار برهاني.

وَإلَّا لو أغضضنا عَنْ الحقيقة لبقت المواد التأريخية المسرطنة تبث غددها فِي الأُمَّة لتهدد وجودها بين آونة وَأُخري.

كَمَا أنَّهُ لابُدَّ أنْ يُتنبه إلي أنَّ إثارة ما فِي التأريخ مِنْ ظلامات لا لتعميمها إلي جماعات بريئة وَإنَّما المُراد خلق الوعي بأنَّ المفردات التأريخية هِيَ ظاهرة منهج، وَأنَّ ما يقع فِي الراهن الحاضر هُوَ بسبب الامتداد الفكري لتاريخ معيّن.

وَعَلَي هَذَا الأساس إذَا ما رفعت ظلامة الزهراء(عليها السلام) جلية واضحة كانت عبارة عَنْ صرخة فِي ضمير الأُمَّة بضرورة الرجوع إلي منهج المظلومين مِنْ أهل البيت(عليهم السلام) وَإلَّا يترتب ما أخبرت عنه بقولها(عليه السلام):

«ثم احتلبوا ملاء القعب دماً عبيطا»(1) .

وَقَدْ وقعت الأُمَّة فِي المحذور الذي أنبأت به الزهراء(عليها السلام) ولا زالت ملحمتها قائمة فاعلة، فَإمَّا أنْ ترجع الأُمَّة عَنْ أصحاب المنهج الغوي إلي أصحاب الصراط المستقيم أو يكون مصيرها تعاقب المشاريع الدموية، فَمَرَّة واقعة الحرة وهدم الكعبة، وَإلي الوصول لفتنة المغول والاستعمار والآن فتنة القاعدة وداعش، ولن تتوقف الفتن الدموية إلَّا بالرجوع إلي دواء الخلاص ومرهم الشفاء وَهُمْ آل8.

ص: 303


1- الاحتجاج، الطبرسي 1 / 148.

مُحمَّد(عليهم السلام)، وبالخصوص إلي ظلامات الزهراء(عليه السلام) تحليلا واستيعابا وعبرة، وَكُلّما ابتعدنا عَنْ توصيات الزهراء(عليها السلام) ازداد السرطان تفشياً فِي الأُمَّة ويتحقق ما أنذرت به(عليها السلام).

فَقَدْ رسمت(عليها السلام) فِي خطبتها الشريفة الخريطة الحضارية وبيَّنت عوامل وأسباب النهوض الحضاري وعوامل وأسباب السقوط الحضاري، فَقَدْ أجادت فِي قراءة تاريخ الأجيال مِنْ منظور إلهي محكم.

وما لَمْ ترعو الأُمَّة إلي وصيتها ووصاياها فَإنَّها تقترب مِنْ زمن يأجوج ومأجوج كَمَا في تسمية الوحي، أيّ أنَّ الابتعاد عَنْ صراطها وصراط أهل البيت(عليهم السلام) لا يؤثر فحسب فِي حظوظ الإنسان مِنْ الإسلام وَإنَّما يصيّره إلي واقع يأجوج ومأجوج، أيّ يتأجج بالفتنة ويؤجج الفتنة والدمار والفساد فِي الأرْض تحت شعار مِنْ شعارات الإسلام.

وَمِنْ ثمَّ يمكننا أنْ نعنون ذكري الزهراء(عليها السلام) بذكري الخلاص وصراط النجاة ودواء الشفاء لِكُلِّ ما تعانيه وتأنّ مِنْهُ الأُمَّة.

وَقَدْ عقلت البشرية غرباً وشرقاً أنْ منشأ مصائبها إنَّما هُوَ مِنْ الحكم والقيادة وَمِنْ فكر يأجوج ومأجوج الذي يستبيح الحرمات ويقوّض كُلّ ثوابت الإسلام تحت شعار مِنْ شعارات الإسلام.

ص: 304

علل تصفية الزهراء(عليها السلام):
اشارة

وفي ذيل هَذِهِ المقالة نتساءل حول الأسباب والعلل الَّتِي دفعت خصوم أهل البيت لتصفية الزهراء(عليها السلام)؟

ونكتفي ها هُنَا بتسجيل أهم تلك العلل وَهِيَ ثلاث:

العلة الأولي: حيلولة وجود الزهراء(عليها السلام) عن البيعة:

لَقَدْ كَانَ مِنْ أهم الخطوات لإحكام سلطة المستولي عَلَي الخلافة أخذ البيعة مِنْ الممثل الشرعي للخلافة، إذْ لو تمت البيعة وسوقت عَلَي أنَّها بيعة عَنْ رضا وقبول وانسجام مَعَ العهد الجديد لانساقت مجاميع المسلمين وبلا أدني تردد للمبايعة والرضوخ.

وَلَقَدْ كَانَ لوجود فاطمة(عليها السلام) أكبر الأثر فِي الحيلولة دون حصول البيعة ولو صورة، إذْ أنَّها دافعت عَنْ مقام علي ومانعتهم مِنْ إرغامه عَلَي البيعة.

وَمِنْهُ يُفهم أنَّ أوَّل علة لتصفيتها هُوَ إخفاء دورها والتفرّد بعلي(عليه السلام).

العلة الثانية: تصفيتها لمصادرة حقها:

إنَّها(عليها السلام) بنفسها بُنيان للولاية لأنَّها متشاطرة مع علي(عليه السلام) فيها، وَمِنْ ثمَّ كَانَ مطالبتها بفدك باعتبار حق ولايتها(عليها السلام) وحق ولاية

ص: 305

علي(عليه السلام)، ولأنَّهم أرادوا غصب ذَلِكَ الحَقّ، فَكَانَ لابُدَّ مِنْ تصفية صاحبه وَهِيَ فاطمة(عليها السلام).

العلة الثَّالثة: شرعيتها المحكمة(عليها السلام) اسقاط لشرعيتهم:
اشارة

لقد كان وجودها(عليها السلام) إسقاطا لشرعيتهم، فَإنَّ قرابتها مَعَ ما لها مِنْ مقامات وسؤدد يكشف أقنعة الشرعية الَّتِي تلبّسوا بها ولما لها مِنْ مخزون مقام شرعية محكم لا تشابه فيه ولا ضبابية عَلَيْهِ.

وَعَلَي هَذَا الأمر شواهد:

الشاهد الأوَّل:

استنهاضها(عليها السلام) للمسلمين عسكرياً مرتين جهاراً نهاراً أمام المستولي الأوَّل عَلَي الخلافة وَمِنْ دون أنْ يُنكر عَلَيْهَا هَذَا الاستهاض والإعلان للحرب، إذْ أنَّ إعلانها للحرب إسقاط لِكُلِّ حرمات مجموعة السقيفة دماً ومالاً.

وَمِنْ مقاطع خطبتها الدَّالَّة عَلَي استنهاضها قولها(عليها السلام): « أيها بني قيلة أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأي مني ومسمع، ومنتدي ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير

ص: 306

والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون...)(1).

كَمَا أنَّ خروجها لمدة أربعين ليلة تدور عَلَي بيوت أهل المدينة تدعوهم للرجوع إلي البيعة الشرعية استنهاض لهممهم ودفعهم للتمرد والاستعصاء عَلَي الحكم القائم .

ففي الاختصاص: (حملها علي علي أتان عليه كساء له خمل، فدار بها أربعين صباحا في بيوت المهاجرين والأنصار والحسن والحسين(عليهما السلام) معها وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار انصروا الله فإني ابنة نبيكم وقد بايعتم رسول الله(صلي الله عليه و آله) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ففوا لرسول الله(صلي الله عليه و آله) ببيعتكم، قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها)(2).

الشاهد الثَّاني:

وهو ما ذكره ابن أبي الحديد مِنْ أنَّها لما خطبت أشعلت ضمائرهم وأذكت فيهم حسّ المسؤولية فهتف الأنصار بولاية علي(عليه السلام) واسمه.

ص: 307


1- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي 1 / 140 ، 141.
2- الاختصاص ، الشيخ المفيد 184 ، وروي ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة.

وَكَانَ ذَلِكَ بحضور المستولي الأوَّل عَلَي الخلافة ولكنَّهُ لَمْ يستطع أنْ ينبس ببت شفة يدين بها الزهراء(عليها السلام) مما يَدُلّ عَلَي رصيد ضخم مِنْ الشرعية لديها بحيث لا يمكن أنْ يواجه به، فضلاً عَنْ أن يقلب الأُمُور لصالحه ويداين الزهراء(عليه السلام).

وعكس هَذَا الأمر حصل بين علي وعائشة فِي المواجهة إذْ لمّا خرجت وألّبت البعض كذباً وزوراً ضد إمام زمانها واجهها الإمام(عليه السلام) بكُلِّ ثبات فَلَمْ تستطع أنْ تقلب وجه الشرعية؛

ولذا قَالَ(عليه السلام):

«( فأنا فقأت عين الفتنة)(1).

إذْ لما واجهوه بشرعية مقنّعة مدلّسة غَيْر مَرَّة واجههم برصيد أكبر مِنْ الشرعية، فأقسط كُلّ العناوين مِنْ سابقة للإسلام للبعض أو هجرة وجهاد أو زوجية للنبي(عليه السلام).

فلمّا تذرّع طلحة والزبير بما لهما مِنْ عناوين كالهجرة والجهاد وأشعلا فتنة ضد حكم علي(عليه السلام)، وكذا لمّا استغلت عائشة عنوان زوجيتها للنبي(صلي الله عليه و آله) وعنوان أمومتها للمسلمين فحرّضت عَلَي حرب علي(عليه السلام) ما كَانَ لذلك أنْ يصمد أمام شرعيته الإلهية.

فثبت مِنْ الصراع الأوَّل والصراع الثَّانِي ما لعلي وفاطمة(عليهما السلام) مِنْ مقام ورصيد فِي الشرعية.2.

ص: 308


1- نهج البلاغة، خطب الامام علي 1/ 182.

وَنُؤكِّد ها هُنَا عَلَي علو مقام الزهراء(عليها السلام) فِي المسلمين خلافاً لما يصوّره بَعْض المذاهب مِنْ أنَّ مقامها فِي الأُمَّة مقام عادي متعارف، إذْ أنَّ وجودها بنفسه هُوَ مدار الشرعية فلا تستقيم لأحد خلافة مِنْ رجالات السقيفة فضلاً عَنْ بني أمية مَعَ وجودها وعدم تصفيتها واغتيالها وترحيلها عَنْ دار الدُّنْيَا.

فلو طال بقاؤها لما استقامت أيّ شرعية مغلّفة ولكانت محطّ استقاء الشرعية فِي نظر كُلّ مِنْ يدخل الإسلام مِنْ أقاصي الديار، حيث يُشاهد ويُلاحظ ما عَلَيْهِ ريحانة النبي(صلي الله عليه و آله) من اعتقاد ديني أو سياسي فينتزع بذلك أيّ ادعاء شرعية فِي مسار السقيفة.

فرحيلها(عليها السلام) السريع فِي غضون أربعين يوماً أو سبعين يومأً أو تسعين يوماً عَلَي اختلاف الروايات تصفية متعمدة واخفاء قسري لوجودها لما تمثله فِي نفسها مِنْ مقام شامخ وحضور رائد قادر عَلَي تقويض كُلّ جهودهم وإفشال كُلّ تخطيطاتهم، إذْ لَمْ ينفعهم مقارعتها بالإرهاب السقيفي أو استدعاء المرتزقة إلي داخل المدينة، حَيْثُ أتوا بقبيلة بني أسلم كمرتزقة لتقوية الحكم كَمَا جاء ذَلِكَ فِي الزيارة الجامعة لأئمة المُؤْمِنِين(عليهم السلام):

فحشر سفلة الأعراب، وبقايا الأحزاب، إلي دار النبوة والرسالة..)(1).7.

ص: 309


1- المزار، محمد بن جعفر المشهدي297.

وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ كُلّ الأُمَّة فِي جانب ولبوة النبوة فِي جانب لا تحيد ولا تحاد عَنْ خط أبيها تحت أيّ ظرف وتحت أيّ ترهيب .

ومما يشد لمقامها فِي الأُمَّة وصية الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لأمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) بقوله(صلي الله عليه و آله):

(يا علي انفذ لما أمرتك به فاطمة) (1)وَهِيَ وصية عظيمة إذْ مفادها أمر أمام الأُمَّة والوصي المنصوب مِنْ قبل الله بالإئتمار بأمر فاطمة(عليها السلام).

وبالتحليل للمواد التأريخية مضمومة لمواد روائية وحيانية مَعَ المبالغة فِي المقابلة والمقارنة والتحليل بنظام الشبكية تتجلي لنا المسألة بنحو واضح، ويظهر معني أنَّ الزهراء(عليها السلام) قَدْ صفيّت واغتيلت واختُلست إذْ أنَّ بقاءها يلغي أيّ فرصة لاستتباب حكم الجور والغي.

فَيَدُلّ ذَلِكَ عَلَي كونها فِي القوة والمنعة كالجبال مِنْ العظمة والشرعية.

الفرية علي الزهراء(عليها السلام) فرية علي الدِّين:

وثمة مثل قرآني يوضح ما نحن فيه، فلو لاحظنا سورة النساء فِي المقاطع القرآنية الَّتِي يشرح فيها القُرآن سبب كفر اليهود، فيقول تَعَالَي فِي تعداد الملفات الَّتِي يؤاخذ عَلَيْهَا اليهود: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (2)

ص: 310


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي22 / 485.
2- سوره 4 - آيه 155

وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً * وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلي مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً)(1). (2)

فذكرت الآيات عِدَّة أسباب:

أولها: كفرهم بنقض ميثاقهم مَعَ الله.

ثانيها: قتلهم الأنبياء بغير حق.

ثالثها: الإضلال الإلهي لهم جزاءً ونتيجة.

رابعها: فريتهم عَلَي مريم(عليها السلام).

وها هُنَا يساوي القُرآن الكريم فريتهم عَلَي مريم(عليها السلام) بكفرهم بالله، ويساوي قتلهم للأنبياء بفريتهم عَلَي مريم.

وَهَذَا يستثير السُّؤال عَنْ حجم التمثيل الذي تمثله مريم(عليها السلام) بحيث تكون الفرية عَلَيْهَا كفر بالله وقتل للأنبياء(عليهم السلام)؟

وما هُوَ وجه الربط بين الفرية عَلَي مريم وبين الدِّين؟

إنَّ فِي الآيات تصريحاً بأنَّ فرية اليهود عَلَي مريم مِنْ جهة طهارتها مربوطة بالنبوة، وإنَّ لها موقعاً ببركته تكون الفرية عَلَيْهَا افتراء عَلَي6.

ص: 311


1- سورة النساء: الآية 155 - 156.
2- سوره 4 - آيه 155

الدِّين.

وإذا كَانَ هَذَا الشأن فِي مريم(عليها السلام) فكيف بمن هِيَ أعظم مِنْ مريم، أليست الأولوية القطعية حاكمة بإن فريتهم عَلَي مريم الكبري فرية عَلَي موقع الأنبياء(عليهم السلام) وفرية عَلَي الدِّين وأصوله، وَإلَّا فكيف يقرن الله تَعَالَي بين شيء مِنْ أصول الدِّين وآخر لَيْسَ مِنْ أصوله، بَلْ السياق كله منعقد عَلَي أصول دينية وَأُمُور اعتقادية.

ولذا فالفرية عَلَي فاطمة(عليها السلام) لَيْسَ طابعها فردياً، وَلَيْسَ وزانها أُسرياً، وَلَيْسَ شأنها شأن الفرية عَلَي عموم المُؤْمِنِين، وَإنَّما الفرية عَلَيْهَا سواء فِي فدك أو فِي غَيْر فدك فريّة عَلَي ولايتها وَعَلَي موقعيتها، إذْ أنَّ فدك هِيَ رمز لولايتها وموقعيتها بنص سورة الحشر وسورة الإسراء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الحديث فيهما، فالفرية عَلَيْهَا فِي فدك إنكار لولايتها عَلَي الفيء وبالتالي فَهُوَ إنكار لولايتها فِي الدِّين وأموره.

اشتراك الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وبضعته(عليها السلام) فِي شدة الظلامة:

لا يخفي عَلَي مَنْ لَهُ أدني تتبع شدة ما وقع مِنْ التفاصيل المؤلمة والشدائد الأمنية والظلامات المقرحة عَلَي أهل البيت(عليهم السلام).

وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ تفاصيل ما جري عَلَي الزهراء(عليها السلام) موزّعة فِي كتب المسلمين وَهِيَ تنبأ عَنْ فوادح كبيرة لاقتها بَعْدَ رحلة الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ خفي عَلَي كثيرين ما لاقي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) نفسه مِنْ الشدائد الأمنية

ص: 312

وَمِنْ حرب شرسة مزلزلة بحيث لو وزن ما جري عَلَيْهِ بما جري عَلَي آله لكان ما جري عَلَي آل البيت(عليهم السلام) فِي كفّة وما جري عَلَي الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) مِنْ مؤامرات اغتيال فِي كفّة أُخري.

ولذا مِنْ الأُمُور الَّتِي أخذ الله عَلَي رسوله(صلي الله عليه و آله) ميثاقها فِي أوائل بعثته وفي المعراج تحمل شدة الخوف أيّ أنَّهُ سيلاقي مِنْ الظروف ما فيها إرهاب وشدة عَلَي أصل حياته.

بَلْ بحسب ما وَرَدَ فِي الحديث القدسي فَإنَّما لاقاه الرَّسُول(صلي الله عليه و آله) طيلة حياته بَلْ حَتّي فِي أصلاب آبائه وأجداده مِنْ أسباب الاغتيال لَمْ يلاقيه أحد مِنْ البشر، وَقَدْ اشتدت وكثرت سلسلة الاغتيالات والمؤامرات عَلَي حياته بَعْدَ بعثته خلال الثلاثة والعشرين سنة.

وَمِنْ الشواهد الَّتِي لا زالت ماثلة وشاهدة عَلَي شدة الاحتياطات الأمنية لدي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وجود اسطوانة مِنْ الاسطوانات القريبة مِنْ قبره تسمي بأسطوانة الحرس، وَكَانَ الحارس لَهُ طيلة حياته فِي المدينة فِي الغالب هُوَ علي ابن أبي طالب(عليها السلام).

وَهُوَ أمر يثير التساؤل والاستفهام، فَلِمَ لَمْ يكن حارسه سلمان أو أبو ذر أو المقداد أو الحمزة، وَلِمَ لَمْ يكن إلَّا أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام)؟

إنَّ أوضح دلالات ذَلِكَ هُوَ أنَّ الحالة الأمنية صاعدة بشكل استثنائي بحيث يتطلب أنْ يكون أشجع وأأمن وأثبت مِنْ حول

ص: 313

النبي(صلي الله عليه و آله) هُوَ المتكفل بحراسته بشكل مباشر.

والغريب أنَّ ما لاقاه وعاناه الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) مِنْ شدائد أمنية ظلَّ مغموراً فِي التأريخ ومكتماً عَلَيْهِ.

وَقَدْ انبري أخيراً بَعْض الباحثين مِنْ تلامذة العلامة الطباطبائي فألَّف كتاباً تحت عنوان (المواجهة بين الْنَّبِيّ وبين المنافقين رصد قرآني) وَهُوَ العلامة الشَّيْخ عبدالكريم النيري، وقد طبع أخيرا في ثلاثة أجزاء.

وَقَدْ رصد فيه شيئاً مِنْ سلسلة الاغتيالات الَّتِي تعرَّض لها الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وبنص القُرآن.

وثمة تشابه بين ما لقيه الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وما عانته البضعة الطاهرة(عليها السلام)، فَقَطْ جري عَلَيْهَا مِنْ العدوان الشرس ما يَدُلّ عَلَي منتهي الشقاق والعناد لدي مِنْ هجم عَلَي بيتها وآذاها بَعْدَ رحلة أبيها(صلي الله عليه و آله).

وَلَيْسَ ما جري عَلَيْهِ(صلي الله عليه و آله) وَعَلَيْهَا(عليها السلام) مِنْ قبيل الصدفة، وَإنَّما كَانَ لما يمثله وتمثله مِنْ شرعية ومشروع إلهي عَلَي الأرْض، إذَا ما قاما به يهدد عروش طواغيت وفراعنة البشر كَمَا أنَّهُ يهدد كُلّ حضاراتهم البالية.

ولذا تواطأت وتحالفت قريش مَعَ الأكاسرة وملوك الأقاصرة وَمَعَ اليهود والنصاري فِي تآلبهم عَلَي رَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) فكانت مؤامرة

ص: 314

عالمية وحلفاً إبليسياً وتنظيماً شيطانياً عفريتياً وَهِيَ أعظم مِنْ شيطنة وشرر البشر.

وكذا لَمْ يكن تصفية واغتيال الزهراء(عليها السلام) صدفة وَإنَّما هو اغتيال صريح هدفه اسكاتها وجودياً حَتّي لا يستمد المسلمون مِنْ شرعيتها، فَلَمْ يكن هجومهم لمجرد المجابهة كَمَا لَمْ يكن عدوانهم لمجرد الانتقام، وَإنَّما كَانَ عدواناً للتصفية.

وَقَدْ رصد بَعْض المحققين عشرة مواطن واجهوا فيها الزهراء(عليها السلام) فكَانَ نمط تكالبهم نمط مِنْ يريد القتل والتصفية.

بَلْ أنَّهُ لخطورة دورها(عليها السلام) أرادوا تصفيتها عَلَي مراحل، أي تصفية وجودها فِي حياتها، وتصفية ذكرها بَعْدَ مماتها، وإخفاء ما لها مِنْ شأن وموقعية حَتّي لا يفضحهم إشعاع نورها ونفحات شرعيتها بأيّ مستوي مِنْ المستويات.

ص: 315

ص: 316

المقالة السابعة عشر: مضامين رثاء علي لفاطمة عليهما السلام

اشارة

*معني زيارته(عليه السلام) النبي(صلي الله عليه و آله) نيابة عن النازلة ببقعته...

*أسرار سرعة لحوق الزهراء(عليها السلام) بأبيها(صلي الله عليه و آله)...3

*فقد النبي(صلي الله عليه و آله) خسارة لا تعوض

*رجوع النبي وفاطمة(عليهما السلام) مرهون باستحقاق البشرية.

*صرعت الزهراء(عليها السلام) عن عمد ومكابرة ومباغتة... ...

سجّل لنا التاريخ رثاءا حارا ذا أبعاد وأسرار متعددة قاله أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد دفنه الصديقة الطاهرة(عليها السلام).

فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن وأدار طرفه إلي قبر رسول الله(صلي الله عليه و آله) وتلي رثاءه، وروي ذلك الرثاء الكليني في أصول الكافي واخرجته مصادر أخري.

ص: 317

(السلام عليك يا رسول الله عني والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثري ببقعتك والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي، إلا أن لي في التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت نفسك بين نحري وصدري، بلي وفي كتاب الله لي أنعم القبول، إنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله.

أما حزني فسرمد و أما ليلي فمسهد وهم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج سرعان ما فرق بيننا وإلي الله أشكو وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك علي هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلي بثه سبيلا، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، واه واها والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفا ولا عولت إعوال الثكلي علي جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر وإلي الله يا رسول الله المشتكي وفيك يا رسول الله أحسن العزاء صلي الله

ص: 318

عليك وعليها السلام والرضوان)(1).

وكان رثاؤه(عليه السلام) مشتملا علي مقاطع:

أولا: قوله(عليه السلام) (السلام عليك يا رسول الله عني والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثري ببقعتك).

معني زيارته(عليه السلام) النبي(صلي الله عليه و آله) نيابة عن النازلة ببقعته:

وبهذا المقطع يفتح الإمام(عليه السلام) بابا معنويا عظيما حيث يزور النبي(صلي الله عليه و آله) نيابة عن ابنته فاطمة(عليها السلام) وهي توا قد انتقلت إلي البرزخ وإلي عالم أبيها، وهذا فتح لباب من الأدب الإلهي بين المعصومين، وإذا كان المعصوم يزور عن المعصوم والحال أن المزور عنه منتقل إلي عالم البرزخ فمطلوبية هذا الأدب في الزيارة أوضح وأولي في غير المعصومين.

وبعبارة أخري:

إن عليا(عليه السلام) قد وقف زائرا للنبي(صلي الله عليه و آله) أصالة عن نفسه ونيابة عن زائرته(صلي الله عليه و آله) إذ هو القائل: (والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك) وفي هذا بيان لخصائص عالم الأرواح وكيف يمكن النيابة فيها من الحي عن الميت، فإنه يمكن للحي أن ينوب عن طبقة من طبقات الميت رغم

ص: 319


1- الكافي، الشيخ الكليني 459/1، نهج البلاغة، خطب الامام علي319، روضة الواعظين، النيسابوري/152، دلائل الامامة، الطبري الشيعي/ 138.

أنه بطبقة أخري راحل إلي ذلك العالم.

وها هنا وصف أمير المؤمنين(عليه السلام) فاطمة(عليها السلام) بالزائرة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) ومع ذلك ينوب عنها في الزيارة له، فلعل المعني هو أنها زائرة وحالّة ومنتقلة لعالم رسول الله(صلي الله عليه و آله) بطبقة من طبقات وجودها وهو ينوب عنها في الزيارة بلحاظ طبقة أخري من طبقات وجودها.

إذ أن بدنها الساكن في التراب والبائت في الثري عاجز عن تأدية مراسيم الزيارة في حين أن بدنها البرزخي وطبقات وجودها الأخري زائرة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) ومنتقلة إليه.

وهذا نظير نيابة الحي القريب من قبر المعصوم عن الحي البعيد عن قبره، فرغم قدرة الحي البعيد علي الزيارة بروحه وإن كان نائيا إلا أن الحي الحاضر ينوب عنه في الزيارة البدنية الروحية عن قرب لعجزه عن بعض مراتب الزيارة بسبب البعد.

وبلحاظ مقام أهل البيت(عليهم السلام) وبرغم حضورهم جميعا عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) بالأبدان البرزخية والطبقات الأخري فثمة داع آخر غير ما قلنا يفسر زيارة علي(عليه السلام) للرسول(صلي الله عليه و آله) نيابة عن الزهراء(عليها السلام) وهو النيابة في الخطاب عنها وبلسانه الشريف، فهي نيابة في الوفود علي الرسول مع كونهما وافدين عليه(صلي الله عليه و آله) في كل حين كتقدم الإمام في الصلاة علي المأموم في الوفود علي الله رغم كونهما وافدين.

ص: 320

ثانيا: قوله(عليه السلام) (والمختار الله لها سرعة اللحاق بك) ومفاد هذا المقطع أن الله اختار بلطفه سرعة لحاق والتحاق الزهراء(عليها السلام) بأبيها.

والسؤال: ماهي الأسرار المرتبطة بسرعة لحاقها بأبيها؟ إذ أن مثل هذه المطالب لا تكون بلا سر وأسرار.

أسرار سرعة لحوق الزهراء(عليها السلام) بأبيها(صلي الله عليه و آله):

وهذه الأسرار لا تخلو منها اشارات الروايات، بل بعض الصوفية في مكة يشيرون إليها في أشعارهم التي يتلونها في ميلاد الزهراء(عليها السلام) وتلك الأسرار ترتبط بعلوها وعلو مقامها وشدة قربها.

ولا يقال ها هنا أن شدة القرب القريب من رسول الله(صلي الله عليه و آله) يتصف به كل واحد من الأربعة أصحاب الكساء ولا تختص به فاطمة(عليها السلام)، لأن الأمر وإن كان كذلك لكن الجانب الأكثر خصوصية في فاطمة(عليها السلام) هو شدة تعاظم الجانب العاطفي المادي والنوري بينها وبين أبيها.

ولعل ذلك هو أحد اشارات ما ورد في المقايسة بينها وبين علي(عليه السلام) بالنسبة للرسول(صلي الله عليه و آله) من أن عليا أعز وفاطمة أحب، فإنه فرق بينهما في الهالة العاطفية فإن ما بينها وبين رسول الله(صلي الله عليه و آله) من رحم عاطفي مادي ومعنوي لا يدركه إلا الله، ومثل هذا الإتصال والقرب يحتم رحيلها السريع فلا يتصور لها البقاء بدونه(صلي الله عليه و آله)، ولو عاشت عمرا

ص: 321

مديدا لقضته غارقة في أحزانها وندبتها.

وعلي هذا الأساس فإن من الخطأ بمكان قياس حزن وألم أي بنت فقدت أباها بحزن وألم فقد فاطمة(عليها السلام) لأبيها، فمن له معرفة بأبيه كما لفاطمة(عليها السلام) من معرفة بأبيها، لذا فالله وحده يعلم أي مرارة ومكابدة عاشتها فاطمة(عليها السلام) في أيامها القليلة قبل رحيلها إلي عالم أبيها.

فهي لم تكن تتحمل فراقه علي مستوي نظر العين واتصال البدن والإحساس بالأنفاس المادية برغم اتصالها البرزخي والنوري به في كل آن.

وإن قلت: إن فاطمة(عليها السلام) كانت زوجة وزوجها علي قيد الحياة، ومن طبع الرجل والمرأة أن يهون عليهما فقد أحد أفراد الأسرة الأولي بعد تكون أسرة الزوجية ولا سيما وأن للزوج ولاية علي زوجته، فلم لم تقدر فاطمة(عليها السلام) علي مفارقة أبيها، ولم لا يفترض أنها لو عاشت بعد أبيها مدة لأوجب طول العهد تخفيف المصاب وهون المصيبة.

جوابه:

إن القياس بين شؤون أهل البيت(عليهم السلام) وشؤون غيرهم بما فيها الشؤون العادية المستمرة بين البشر قياس لا يصح.

وهاهنا نمثل بمثال واضح ليتقرب لنا ما نحن فيه، فقد ورد في روايات الفريقين أن البضعة الزهراء(عليها السلام) قد خطبت من أبيها عدة

ص: 322

مرات وكان رسول الله يعتذر في كل مرة بنفس العذر وقبل الرجوع لمشاورة ابنته، وعذره هو أن أمرها ليس بيدي وإنما هو بيد الله تعالي .

وهذا الجواب منه يستدعي السؤال وهو أن سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) أولي بالمؤمنين من أنفسهم مضافا إلي أنه والد للزهراء(عليها السلام) بالولادة البدنية والولادة الروحية فكيف يعتذر بأن ولاية أمر نكاح فاطمة(عليها السلام) ليس بيده؟

وبعبارة أخري:

للنبي(صلي الله عليه و آله) ولايتان علي الزهراء(عليها السلام) ولاية كونه أولي بالمؤمنين من أنفسهم وهي ولاية خاصة له بجعل الله، وولاية الأبوة وهي ولاية عامة فقهية لموقع الأبوة.

ومع هذا التنوع في ولايته كيف يخرج شيء من أمور فاطمة(عليها السلام) عن حيطته(صلي الله عليه و آله)؟

وبهذا يتبين أن لا منافاة بين عموم ولايته بلحاظ موقع النبوة وولايته بلحاظ موقع الأبوة وبين خروج شيء من أمور ابنته عن تصرفه ليكون المتصرف مباشرة هو الله تعالي.

وهذا يفيد أن فاطمة(عليها السلام) خلقة إلهية ذات مقام وشأن خاص بحيث إن تدبير بعض شؤونها من الله مباشرة.

ولا نشط بعيدا إذا قلنا بأن وجودها لما كان وجودا الهيا محضا

ص: 323

مضافا إلي أنه لما كان زواجها بيئة لدفع عجلة الدين وترعرع أصوله ومقوماته كان تدبير ذلك بجعل وتدبير الله مباشرة.

ونلاحظ هذا الاستثناء في شؤونهم حتي علي مستوي جعل الأسماء فلما يولد مولود لهم ذو شأن خاص كانوا ينتظرون تسمية الله له ولا يتقدمون علي الله تعالي، حتي في مثل زينب(عليها السلام)، فقد ورد أن فاطمة(عليها السلام) قالت لا أتقدم في تسميتها علي أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) وأن عليا(عليه السلام) قال لا أتقدم في تسميتها علي رسول الله(صلي الله عليه و آله)، ورسول الله(صلي الله عليه و آله) قال ما كنت أسبق ربي بتسميتها.

فإن هذه الشؤون ليست من الجزاف والاعتباط في شيء وإنما لها دلالات، منها أن لهذه المولودة درجة اصطفاء خاص وإن لم يصل إلي شأو درجة اصطفاء المعصومين في الدائرة الأولي.

وعلي هذا الأساس فلا منافاة بين أن تكون فاطمة(عليها السلام) أماً في أسرة وزوجة تحت ولاية زوجها وبين عدم تحملها فراق النبي(صلي الله عليه و آله) وسرعة التحاقها به فكما خرج بعض شؤونها عن هيمنة النبي(صلي الله عليه و آله) إلي هيمنة الله كذلك خرجت حالات وشؤون منها من هيمنة الأسرة الخاصة إلي

ص: 324

هيمنة رسول الله(صلي الله عليه و آله).

وليس بالأمر الهين أن تكون بعد أبيها تحت إمامة وولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) بحسب أمر الولاية العامة الا أنها مع ذلك تكون تحت هيمنة الله وهيمنة رسول الله(صلي الله عليه و آله) .

وقد ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يؤبنها سرعة لحاقها للإشادة بمقامها وعلو مقاماتها ومدي ما لها من عظمة.

ولولا الخوف من أن تتلبد المعاني لدقة السر وخفاء الأمر لأفضنا في البيان والتحليل.

والخلاصة:

إن سرعة اللحاق بأبيها ذو سر بديع في شخصية فاطمة(عليها السلام)، فمع ما لبعلها(عليه السلام) من مقام وخصوصيات يتميز بها عنها ومع كونهما كفؤين، ومع كونهما يعيشان في سعادة زوجية تامة وهناء زوجي متكامل لكنه يجب أن تبقي هيمنة سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وهيمنة الله عليها حتي بعد الرحلة النبوية.

فقد النبي(صلي الله عليه و آله) خسارة لا تعوض:

وها هنا لفتة بديعة تتمة لمحل بحثنا، فقد ورد أن النبي(صلي الله عليه و آله) في موطن من المواطن قال لأصحابه سيأتيكم من يعلمكم كيف تدعون فقالوا يا رسول الله، من يأتي ويعلمنا قال هو اويس القرني.

فلما سئل ماذا كنت ستدعو: قالت كنت ادعو أن يبقي الله رسول الله(صلي الله عليه و آله) حيا إلي يوم القيامة.

ص: 325

وفي روايات مستفيضة كما في الوسائل في أبواب الميت تبيان أنه لم تصب البشرية ولم يصب كل آحاد البشرية بمصاب وخسارة أعظم فداحة من فقد رسول الله(صلي الله عليه و آله) .

وهذا أمر عظيم وإشارة بديعة فبرغم وجود الأربعة أصحاب الكساء بعد رحلة رسول الله(صلي الله عليه و آله) وبرغم استمداد الأمة منه بعد رحيله عبرهم إلا أن فقدان الشخص الشخيص لرسول الله(صلي الله عليه و آله) خسارة عظيمة وفادح أليم.

وإذا كان أهل البيت(عليهم السلام) ومع بقاء اتصالهم ووصالهم بطبقات رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقولون ما أصابنا مصاب كمصابنا برسول الله(صلي الله عليه و آله) فكيف بالأمة!!

ومن ثم أشارت الروايات إلي أن كل واحد من الأمة بل من البشر مصاب بمصيبة فقد النبي(صلي الله عليه و آله) وإلي هذه اللحظة.

وستبقي البشرية تعاني من ألم هذا الفقدان وألم تلك الخسارة العظيمة وغياب الرحمة المتفجرة والكمال الحضاري العالي برحيل رسول الله(صلي الله عليه و آله) حتي يجيء زمان آخر دولة في عالم الرجعة وهي دولة الدول بحاكمية رسول الله(صلي الله عليه و آله) وبحضور مبارك عظيم لفاطمة البتول(عليها السلام).

ومن العجيب أن يسخر بعض أهل الحداثة من خلود نبوة

ص: 326

النبي(صلي الله عليه و آله) المعنوية والدينية وبقاء وصايتها مع أنهم في ذاتهم يعانون من خسارة رحيله وفقدان شخصه من غير أن يعلموا بذلك.

ثالثا: قوله(عليه السلام) (قل يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي).

وهذه لفتة لطيفة أخري في بيان مقامها وعظمتها فإن رحيلها خسارة فادحة أخري تتلو الخسارة برحيل الشخص الشخيص لرسول الله(صلي الله عليه و آله) ومعروف أنه في اليوم الذي استشهدت فيه الزهراء(عليها السلام) ضجت المدينة كيوم مات فيه رسول الله(صلي الله عليه و آله).

وسره أنها اللون المركز العظيم من النبي(صلي الله عليه و آله) ونخبة وجوده، وخفوتها يزلزل العالم والموجودات علي حد سواء فكيف بأمير المؤمين(عليه السلام) وهو العارف بها وبمقاماتها وبظلامتها .

رجوع النبي(صلي الله عليه و آله) وفاطمة(عليها السلام) مرهون باستحقاق البشرية:

ومما يفيده رحيلها السريع أن البشرية كما أنها لم تستحق البقاء الطويل لرسول الله(صلي الله عليه و آله) لا تستحق ولا تستأهل البقاء الطويل لفاطمة(عليها السلام).

وستبقي البشرية عاجزة عن احتضان الرسول(صلي الله عليه و آله) من جديد وغير مستحقة لوجوده حتي في عصر الظهور ومع وجود حكومة

ص: 327

الامام الحجة(عليه السلام)، ولذا لا بد من تكامل التمهيد ليكون الاستحقاق فعليا، ومن الممهدات دولة الحجة(عليه السلام) ثم تتلوها دولة الحسين(عليه السلام) في الرجعة فتكون رجعة الحسين(عليه السلام) الخطورة الممهدة الثانية.

وهذا التمهيد هو جار كذلك حتي ظهور دولة أمير المؤمنين(عليه السلام).

وإذا استحقت البشرية ظهور دولة أمير المؤمنين(عليه السلام) يكون لدولته كرات ومرات وجولات كي تستأهل وتستحق البشرية أعظم دولة وآخر دولة وهي دولة رسول الله(صلي الله عليه و آله).

وسيكون عمر مكوث الدولة النبوية أربعة وأربعون ألف سنة مع العلم أن البشرية منذ دولة آدم وإلي الآن حسب دراسات بشرية غربية وشرقية وأديانية لم يمضي عليها أكثر من سبعة آلاف سنة إلي عشرة آلاف سنة.

بل تشير الروايات إلي أن المعصومين كالحجة والحسين(عليهم السلام) لهم رجعات كرات ومرات، وأمير المؤمنين(عليه السلام) أكثرهم كرورا ورجوعا وكلها تمهيدات وتقديمات وتوطئة لأعظم دولة وأعظم مرحلة وهي رجوع النبي(صلي الله عليه و آله)، وعندها تستأهل البشرية رجعته(صلي الله عليه و آله) ورجعة ابنته الزهراء(عليها السلام).

وهذا مطلب نفيس عظيم، فالبشرية إما أن تفقد استحقاقها من حضور الاثنين الرسول وفاطمة(عليهما السلام) أو تستحق فيرجع الاثنان، فهذا

ص: 328

القرب بينهما رحيلا ورجوعا فيه من الدلالات العظيمة علي مقامها وسؤددها وعظم ولاية أمرها.

ومن هنا يقول أمير المؤمنين(عليه السلام):

(قل يارسول الله عن صفيتك صبري) وهذه العبارة منه مقرونة بسرها، فلو سئل لم هذا التلاشي للصبر، فجوابه أنه(عليه السلام) فقد المصطفاة التي صفاها أبوها، فلا صبر ولاتجلد عن رحيل الجوهرة العرشية والدرة الإلهية.

رابعا: قوله(عليه السلام)

(وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك علي هضمها).

وهنا لم يتظلم أمير المؤمنين(عليه السلام) بظلامة نفسه برغم أن الظلم والحيف قد وقع عليه وعلي فاطمة(عليهما السلام) فقد تمردت الأمة عليهما ولم تنصاع لإرادتهما.

ويري الإمام(عليه السلام) كل ظلاماته هي ظلامات بضعة الرسالة ويشكو لرسول الله(صلي الله عليه و آله) مافعلته الأمة بها، فإنها ما تحملت تربية الزهراء(عليه السلام) ولم تنصاع لإرادتها بل صبت عليها أنحاء من الظلم عن عمد وتخطيط وتدبير.

خامسا: قوله(عليه السلام)

«فأحفها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلي بثه سبيلاً».

فيخبر(عليه السلام) أن هذه الدنيا لم تبقي لفاطمة(عليها السلام) كهفا تودع عنده سرها وتشكو إليه اهتضامها، وحتي زوجها غرق في أحزانه وآلامه،

ص: 329

وليس من شأن الزهراء(عليها السلام) أن تبث شكواها إليه لتزيده هما ونكدا، فما بقي لها من كهف ولا سند إلا أنت يارسول الله، ولذا أسرعت في اللحوق بك.

سادسا: قوله(عليه السلام)

«فبعين الله تدفن ابنتك سرا».

ويبين(عليه السلام) في هذا المقطع كيف أن الفاصلة بين الزهراء(عليها السلام) والأمة فاصلة كبيرة جدا حيث إن الاقتراب من جثمانها لموارته بعد الموت حرام عليها، لأنها أمة غير مؤهلة ولا مستحقة لهذا الشرف العظيم.

وقد تتبعنا روايات الرجعة فوجدنا أن الأمة غير مؤهلة لأن تربي علي يد الزهراء(عليها السلام) إلا بمعية رسول(صلي الله عليه و آله)، وهذا سر عظيم ينبأ عن مقام كبير للصديقة(عليها السلام).

سابعا: قوله(عليه السلام)

«قد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة».

وهذا يؤكد ما مر سابقا من أن الزهراء(عليها السلام) جوهرة ثمينة لم تودع عند الأمة ولم تودع حتي عند الحسنين(عليهما السلام)، وانما بالكاد اودعت أياما عند أمير المؤمنين(عليه السلام) والا فمحل هذا الطائر القدسي يكون دوما تحت جناح رسول الله(صلي الله عليه و آله) ومقرونا بعالمه وولاية أمره مباشرة تحت هيمنة الله ورسوله.

ثامنا: قوله(عليه السلام)

«واُخلست الزهراء».

وعبارة (اخلست) موجودة في الكافي فما معني اخلاس الشيء؟

ص: 330

صرعت الزهراء(عليها السلام) عن عمد ومكابرة ومباغتة:

في كتاب العين للخليل يقول الاخلاس هو الأخذ مباغة ومكابرة نظير الاختلاس اي الاغتيال(1).

والمرحوم الطريحي لم يقف علي ظرافة المعني ففسرها بالأخذ مفاجئة(2)، لكنه وفاقا لكلام الخليل فإن الخلس يأتي بمعني القتل والمصارعة، وهذا يعني أنها(عليها السلام) صرعت في القتل بالاغتيال أي أن رحيلها كان عن صرع وقتل ومباغتة ومفاجئة وفيه طغيان ومكابرة.

وقد مرّ ما يشهد علي هذا المعني فيما يرويه الفريقان ورواه السمهودي في وفاء الوفاء من أن النبي(صلي الله عليه و آله) قال لأصحاب الكساء

(أنكم قتلي ومصارعكم شتي) فليس قتلا فحسب وإنما نوع عنف في القتل وشدة فيه.

والخطاب كان للجميع وهذا معناه أن الزهراء(عليها السلام) قتلت

ص: 331


1- خلس: الخلس والاختلاس: أخذ الشيء مكابرة، تقول: اختلسته اختلاسا واجتذابا. والخلس والاختلاس: النهزة، والاختلاس أوحاهما وأخصهما. والخلسة: النهزة. والقرنان يتخالسان، أيهما يقدر علي صاحبه [ويناهز كل واحد منهما قتل صاحبه ]. والخلس في القتال والصراع. كتاب العين، الفراهيدي197/4 .
2- يقال خلست الشيء خلسا من باب ضرب: اختطفته بسرعة علي غفلة ، واختلسته كذلك. والخلسة بالفتح المرة وبالضم: ما يخلس .وفي الحديث الدغارة وهي الخلسة. ومن كلام علي* في خطاب النبي وقد دفن الزهراء(عليها السلام) قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة وأخلست الزهراء. مجمع البحرين، الطريحي66/4.

وصرعت واغتيلت.

ويخطأ من يظن أن ما وقع علي الزهراء(عليها السلام) من أذي أدّي بها إلي الموت هو نظير ما يقع خطأ من قتل علي الأبرياء المدنيين في الحروب فيذهبون ضحايا من غير أن يكونوا مقصودين! إنه ليس كذلك بل كانت تصفيتها عن تخطيط وتدبير وعمد متعمد.

فإذا كان أمر علي(عليه السلام) بحسب الخطة دائرا بين القتل أو البيعة فلم يكن في تدبير خطتهم تخيير بالنسبة للزهراء(عليها السلام)، فلا يتم لهم الأمر إلا بتصفيتها.

أي من الاستحالة أن تبايعهم البضعة النبوية، وليس بيدهم أن يفبركوا بيعة لها(عليها السلام) بأن يضربوا علي يدها كما فعلوا لأمير المؤمنين(عليه السلام) فبالتالي لا طريق للتخلص من معارضتها إلا اختلاسها واغتيالها.

ص: 332

المقالة الثامنة عشر: مقام الحوراء الأنسية

اشارة

*الوجه الأول: نزولها(عليها السلام) من الجنة لصلب النبي(صلي الله عليه و آله)

*الوجه الثاني: تفعّل كمالاتها(عليها السلام) في بدء وجودها

*آثار الكمالات الملكوتية علي بدنها المادي...

*الوجه الثالث: جسمها الظلي لم يودع في الأصلاب...

*عرض نورها لآدم تقدم لخلقتها نورا وولاية عليه...

*مقام المنصورة وولايتها في الملكوت ومقامها في الرجعة...

روي في معاني الأخبار عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: خلق نور فاطمة(عليها السلام) قبل أن تخلق الأرض والسماء.

فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية؟ فقال(صلي الله عليه و آله): فاطمة حوراء إنسية قال: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية؟ قال: خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح فلما

ص: 333

خلق الله عز وجل آدم عرضت علي آدم .

قيل: يا نبي الله وأين كانت فاطمة؟ قال: كانت في حقة تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟ قال: التسبيح، والتهليل، والتحميد.

فلمّا خلق الله عز وجل آدم وأخرجني من صلبه أحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرئيل (عليه السلام) فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد، قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل.

فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام.

قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة فأخذتها وضممتها إلي صدري.

قال: يا محمد يقول الله جل جلاله: كلها، ففلقتها فرأيت نورا ساطعا ففزعت منه فقال: يا محمد مالك لا تأكل؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك النور المنصورة في السماء وهي في الأرض فاطمة، قلت: حبيبي جبرئيل، ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: سميت في الأرض فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم أعداءها عن حبها، وهي في السماء المنصورة، وذلك قول الله عز وجل:

ص: 334

(وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) (1) يعني نصر فاطمة لمحبيها(2).

وروي في فرات الكوفي عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: معاشر الناس تدرون لما خلقت فاطمة ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم .

قال: خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية، قال: خلقت من عرق جبرئيل ومن زغبه، قالوا: يا رسول الله أشكل علينا تقول: حوراء إنسية لا إنسية ثم تقول من عرق جبرئيل ومن زغبه ؟! قال: إذا أنا أنبئكم أهدي إلي ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرئيل فضمها إلي صدره فعرق جبرئيل(عليه السلام) وعرقت التفاحة فصار عرقهما شيئا واحدا ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قلت: وعليك السلام يا جبرئيل فقال: إن الله أهدي إليك تفاحة من الجنة فأخذتها فقبلتها ووضعتها علي عيني وضممتها إلي صدري ثم قال: يا محمد كلها، قلت: يا حبيبي جبرئيل هدية ربي تؤكل؟ قال: نعم قد أمرت بأكلها فأفلقتها فرأيت منها نورا ساطعا ففزعت من ذلك النور قال: كل فإن ذلك نور المنصورة فاطمة.

قلت: يا جبرئيل ومن المنصورة؟ قال: جارية تخرج من صلبك اسمها في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة.7.

ص: 335


1- سوره 30 - آيه 4
2- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق 397.

فقلت يا جبرئيل ولم سميت في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: سميت فاطمة في الأرض لأنه فطمت شيعتها من النار وفطمت أعداؤها عن حبها وذلك قول الله في كتابه (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *بِنَصْرِ اللّهِ ) (1) ينصر فاطمة(عليها السلام)(2).

لقد وردت روايات مستفيضة فيها توصيف لفاطمة(عليها السلام) بأنها حوراء انسية، وفي كتب الفريقين.

فما هو وجه توصيفها بذلك؟

وفي الحقيقة ثمة مسألتان في تلك الروايات تسترعي الانتباه والتساؤل:

الأولي: دمج الوصفين في توصيفها فإن المعلوم في خلق البشر هو تكوينهم من عنصر واحد وهو البشرية والإنسية، كما أن قول أهل الفلسفة بتركب الإنسان من روح وبدن ومن عنصر مجرد وآخر مادي لا يخرجه عن دائرة الإنسية والبشرية .

ومنه يعرف أنه ليس معني توصيف فاطمة(عليها السلام) بالحوراء الإنسية بيان تركبها من روح وبدن كما هو المتعارف في جميع البشر إذ لو كان المعني كذلك فما هو الداعي من بيانه فيها علي نحو الخصوص، وما هو الداعي في استفاضت الروايات في هذا المعني؟2.

ص: 336


1- سوره 30 - آيه 4
2- تفسير فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي 322.

فتحصل أنه لدمج الوصفين معني آخر، فما هو ؟

الثانية: ما هو الوجه في تقديم وصف الحوراء علي وصف الانسية بينما في سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) ذكر وصف البشرية أولا فيه وعقّب ذلك بوصف أنه يوحي إليه في قوله تعالي: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحي إِلَيَّ )(1). (2)

فلم ها هنا تؤصل الروايات كينونة الحورية علي كينونة الإنسية في فاطمة(عليها السلام)؟

فيحتمل في ذلك عدة وجوه:

الوجه الأول: نزولها(عليها السلام) من الجنة لصلب النبي(صلي الله عليه و آله):

من القوانين العامة الجارية في كل البشر تقلبهم في الأصلاب والأرحام، وقد خرج من هذا القانون آدم(عليه السلام) فلم يتقلّب في صلب ولا في رحم، وإنما خلق كما اخبر القرآن في قوله تعالي: (نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(3). (4)

كَمَا خرج من ذلك القانون العام عيسي(عليه السلام) فما تقلّب في الأصلاب ولا في الأرحام بل كان كما اخبر القرآن قي قوله تعالي: (وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي (5)

ص: 337


1- سورة مريم: الآية 110.
2- سوره 18 - آيه 110
3- سورة الحجر: الآية 29.
4- سوره 15 - آيه 29
5- سوره 66 - آيه 12

أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)(1). (2)

وقوله تعالي: ( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلي مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ )(3). (4)

والمقصود من الكلمة هي الكلمة الوجودية.

وعليه فلعل معني توصيفها(عليها السلام) بالحوراء الإنسية هو أنها لم تتقلب في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، بل حسب الروايات العديدة المستفيضة كما سيأتي نزولها من عالم الجنة إلي صلب النبي(صلي الله عليه و آله) مباشرة من دون توسيط الآباء والأجداد وهذا بخلاف بقية المعصومين(عليهم السلام).

وبذلك يتقرر أن نشأتها(عليها السلام) في الأصل جناوية متنزلة إلي العالم الجسماني .

الوجه الثاني: تفعّل كمالاتها(عليها السلام) في بدء وجودها
اشارة

ثمة قانون آخر يشترك فيه البشر وهو تفعّل وظهور كمالات وطاقات الجانب البدني قبل تفعّل كمالات الجانب الروحي، ففي بدء الولادة تكون بعض الكمالات البدنية بالفعل بينما تكون سائر الكمالات الروحية بالقوة .

ص: 338


1- سورة التحريم: الآية 12.
2- سوره 66 - آيه 12
3- سورة النساء: الآية 171.
4- سوره 4 - آيه 171

ومنه يعرف ما للزهراء(عليها السلام) من خصوصية وهي أنها منذ ولادتها تختلف عن بقية البشر من كون الجسم الجناوي فيها متكامل متفعل، فلم تكن تتعاطي بالجسم الإنساني فحسب بل بالجسم الجناوي الأخروي.

آثار الكمالات الملكوتية علي بدنها المادي:

ومن ثم ظهر من بدنها(عليها السلام) آثار عديدة لا تتناسب مع البدن الطيني، كالنور الذي يبزغ منها في الصباح بلون وفي آخر النهار بلون بحيث تضيء لأمير المؤمنين(عليه السلام).

فقد روي في العلل عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام) يا بن رسول الله لم سميت الزهراء(عليها السلام) زهراء؟

فقال: لأنها تزهر لأمير المؤمنين(عليه السلام) في النهار ثلاث مرات بالنور، كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فرشهم فيدخل بياض ذلك النور إلي حجراتهم بالمدينة فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك فيأتون النبي(صلي الله عليه و آله) فيسألونه عما رأوا فيرسلهم إلي منزل فاطمة(عليها السلام) فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها من وجهها فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة(عليها السلام).

فإذا نصف النهار وترتبت للصلاة زهر وجهها(عليها السلام) بالصفرة فتدخل الصفرة حجرات الناس فتصفر ثيابهم وألوانهم فيأتون

ص: 339

النبي(صلي الله عليه و آله) فيسألونه، عما رأوا فيرسلهم إلي منزل فاطمة(عليها السلام) فيرونها قايمة في محرابها وقد زهر نور وجهها(عليها السلام) بالصفرة فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجهها، فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس أحمر وجه فاطمة(عليها السلام) فأشرق وجهها بالحمرة فرحا وشكرا لله عز وجل فكان يدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم فيعجبون من ذلك ويأتون النبي(صلي الله عليه و آله) ويسألونه عن ذلك فيرسلهما إلي منزل فاطمة(عليها السلام) فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها يزهر بالحمرة فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة(عليها السلام) فلم يزل ذلك النور في وجهها حتي ولد الحسين(عليه السلام) فهو يتقلب في وجوهنا إلي يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام)(1).

وروي في المناقب عن أبي هاشم العسكريّ: سألت صاحب العسكريّ(عليه السلام): لم سمّيت فاطمة الزهراء؟

فقال: كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين(عليه السلام) من أوّل النّهار كالشمس الضاحية، وعند الزوال كالقمر المنير، وعند غروب الشّمس كالكوكب الدّريّ)(2).

وفي كتاب سليم بن قيس عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله(عليها السلام) عن فاطمة لم سميت الزهراء ؟ فقال لأنها0.

ص: 340


1- علل الشرائع، الشيخ الصدوق 1/ 180.
2- مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب 3 / 110.

كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض)(1).

وقد روت عائشة أننا نستضيء بنور وجه فاطمة، وفي الروايات أن الوجه في تسميتها بالزهراء هو ذلك.

كما أن الأثر الآخر لاشتداد كمالات الجسم الجناوي فيها هو ما ذكر في جملة من الروايات من قوة مدافعتها ضد المهاجمين لبيتها سواء عند فتح الباب أو عند شدهم الحبال لأخذ أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث لم يستطيعوا فتح الباب إلا بعد ضرب أناملها بالسياط كما في البحار أنها قالت: يا عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرمته، فتصعب علي، فضربت كفيها بالسوط فآلمها، فسمعت لها زفيرا وبكاء فكدت أن ألين وانقلب عن الباب)(2).

كما لم يستطيعوا جذب الحبل من يدها بشدهم رغم كثرة عددهم إلا بضرب السياط وغمد السيف فيها ففي كتاب سليم بن قيس: (وثار علي(عليه السلام) إلي سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه فألقوا في عنقه حبلا، وحالت بينهم وبينه3.

ص: 341


1- علل الشرائع، الشيخ الصدوق 1/ 180.
2- بحار الانوار، المجلسي 30 /293.

فاطمة(عليها السلام) عند باب البيت، فضربها قنفذ الملعون بالسوط)(1).

والحاصل أن آثار جسمها الجناوي هو الأصل المفعّل في تكوينها وهذا يتناسب من كون تكوينها متنزل من الجنة.

ولا يخفي التشابه بين هذا الوصف فيها ونمط بدن النبي(صلي الله عليه و آله) الذي عرج به إلي الجنة فبدن النبي(صلي الله عليه و آله) هو الآخر ذو خصائص تختلف تماماً عن بقية أبدان البشر حيث لا يري له ظل، ويري من خلفه كما يري من أمامه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، والقلب هنا هو البدن غير الأرضي، أي الجسم الروحي الرقيق.

وعدم نومه(صلي الله عليه و آله) كناية عن عدم احتياجه في العروج إلي انفصاله عن تدبير البدن الأرضي فإنه لا يشغله العروج عن تدبير ما دونه كما لا يشغله تدبير ما دونه عن الاتصال الدائم كما هو الحال في سائر الأرواح.

ومن ثم تختلف قوة الحضور والتدبير العقلي في المنام من روح إلي روح بحسب قوة وضعف الروح.

كما اختلف عروج عيسي(عليه السلام) إلي السماء الأولي أو الثانية ولم يقوي علي ذلك ألا أن توفّاه الله ثم رد عليه روحه بعد العروج به كما هو مفاد قوله تعالي: ( إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسي إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ )(2). (3)5.

ص: 342


1- كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي الكوفي151.
2- سورة آل عمران: الآية 55.
3- سوره 3 - آيه 55

وهذا بخلاف سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) فإنه لم يرد عنه لا في القرآن ولا في روايات المعراج التعبير بالتوفي.

والظريف في هذا الشأن أن البراق لم يتحمّل صعود النبي(صلي الله عليه و آله) عليه في البدء بل وقف عروجه إلي سدرة المنتهي والجنة ثم استبدل بالرفرف وهو الآخر لم يواصل إلي طبقات العروج الأخري وهي طبقات العروج الأخري وهي طبقات العروج القلبي بعد ذلك.

ومما يؤكد هذا المعني في بدن فاطمة(عليها السلام) ما في الرواية من أن بعض الناس استغرب من كلام النبي بأن نور فاطمة(عليها السلام) خلق قبل الأرض والسماء وبيّن سبب استغرابه (هذا البعض) باستفهامه عن الأصل في فاطمة(عليها السلام) وأنها أنسية فقال: يا رسول الله أفليس هي إنسية فأجاب النبي (صلي الله عليه و آله) بأنها حوراء إنسية.

الوجه الثالث: جسمها الظلي لم يودع في الأصلاب:
اشارة

إن ثمة اختلاف لها(عليها السلام) عن بقية الأدميين ونظيره في القرآن قوله تعالي: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسي عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)(1) (2) ، فكذلك الشأن فيها فقد اقتصرت نشأتها علي صلب أبيها ورحم أمها خديجة.

ص: 343


1- سورة آل عمران: الآية 59.
2- سوره 3 - آيه 59

فجسمها الظلي والشبحي الذي هو من الأجسام الأخروية والجناوية لم يوضع كبقية ذرية بني آدم في صلب آدم والآباء، وإنما اودع مباشرة في صلب النبي(صلي الله عليه و آله).

ورغم تشابه خلقها وتكوينها بآدم وعيسي إلا أن وصف حوراء إنسية لم يطلق علي أحد من البشر حتي علي مريم فهي ميزة لها دون بقية نساء العالمين.

ومن ثم وصفت أزواج المؤمنين في الجنة إما أنها حورية أو مؤمنة آدمية بينما في فاطمة(عليها السلام) لا هي حوراء ولا هي مؤمنة آدمية بل هي مؤمنة حوراء إنسية.

فائدة - 1-: عرض نورها لآدم تقدم لخلقتها نورا وولاية عَلَيْهِ:

يستفاد من صدر رواية معاني الأخبار الموثقة أن نور فاطمة(عليها السلام) عرض علي آدم، أي ولايتها(عليها السلام) عرضت علي آدم(عليه السلام) وأنها من ضمن الأسماء التي علّمت لآدم وعرضت عليه والمذكورة في سورة البقرة.

ثم إن التعليل في الرواية لأخذ ولايتها وعرض نورها علي آدم هو تقدم خلقة نورها علي خلقة آدم، وهذا التعليل يعمم علي سائر الأنبياء والأوصياء، ويفتح بابا لتفسير وترجمة الخلقة النورية التي وردت فيها روايات مستفيضة أن مقتضاها أخذ ولايتها وعرض نورها علي جميع من دونها في الخلقة، وأن الخلقة النورية قاعدة ولغة

ص: 344

معرفية وبيان المقام والدرجة والرتبة في الولاية.

فائدة - 2-: مقام المنصورة وولايتها في الملكوت ومقامها في الرجعة:

تبين الرواية أن ولايتها(عليها السلام) في السماء أعظم ظهورا منها في الأرض، وأن لقب المنصورة إشارة إلي مقام نفوذ ولايتها في الملكوت.

ولا يخفي أن هذا اللقب هو أيضا للنبي(صلي الله عليه و آله) وأن تأويل الآية: ( وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)بِنَصْرِ اللّهِ ) (1) المراد من اليوم هو عالم الآخرة والملكوت، وفيه بيان أن في مقام من مقامات الرجعة مما يرتبط بالسماء يتجلي ويظهر في تلك المرحلة ولايتها فضلا عن يوم عالم القيامة ويوم عالم الجنة الأبدية.

وقد ورد أن مقام الحسين(عليه السلام) في الرجعة المنصور في روايات الفريقين.

وأما مقام فاطمة(عليها السلام) فإن ولاءها وتولي شيعتها لها فاطم لهم عن فتن الدنيا.

ص: 345


1- سوره 30 - آيه 4

ص: 346

المقالة التاسعة عشر: حوارية علي وفاطمة عليهما السلام

اشارة

*الأدب الملتزم في حواريات الأولياء إظهار للمقامات

*أدب الأطفياء لا نظير له في المواقع الاعتبارية...

*تشابه وفوارق حوارية علي وفاطمة(عليهما السلام)لحوارية موسي وهارون(عليهما السلام)...

*نبرة الأدب بين الأئمة(عليهم السلام) افصاح عن تفاوت الصلاحيات

قبل الدخول فِي صُلب البحث نطرح أمراً استقرَّ عَلَيْهِ المحققون مِنْ المُتكلمين والمُفسرين والمتضطلعون مِنْ أهل المعارف.

الأدب الملتزم في حواريات الأولياء إظهار للمقامات:

وَهُوَ أنَّ الأدب الملتزم به فِي خطاب الله لأصفيائه أو فِي خطاب الأصفياء لله تَعَالَي أو فِي خطاب الأصفياء بعضهم لبعض لَيْسَ مُجَرَّد تعارفات وصرف مجاملات، وإنما يرجع الأدب فِي حقيقته إلي مقامات

ص: 347

دينية وينبأ عَنْ تمايزات فِي الصلاحيات الشرعية والمواقع العقائدية.

وَمِنْ أوضح الأمثلة عَلَي ذَلِكَ ما حدَّث به القُرآن الكريم مِنْ أدب فِي حوارية موسي للخضر(عليهما السلام)، فَقَدْ عبَّرت الآيات بتعابير وألفاظ تحمل مِنْ الأدب والتخاضع ما هُوَ غَيْر خافٍ كما في قوله تَعَالَي: ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً)(1). (2)

وقوله: ( قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)(3). (4)

فَإنَّها تَدُلُّ:

أوَّلاً: عَلَي الاستئذان فِي الاتّباع وَلَيْسَ عَلَي الحتم والحزم فِي الإتّباع.

وثانياً: فيها طلب للعلم والتعلم.

وثالثاً: نفي المعصية عَنْ نفسه فِي حال الإتّباع.

ورابعاً: نسبت الآمرية للخضر.

والسُّؤال: هَلْ وصف نفسه بالتابع والمتعلم وَغَيْر العاصي، ووصف الخضر بالآمر مِنْ قبيل الشعر والتعارف أم أنَّها حقائق؟

بمعني أنَّ للخضر موقعية غيبية لَيْسَ للنبي موسي(عليه السلام) مثيلها،9.

ص: 348


1- سورة الكهف: الآية 66.
2- سوره 18 - آيه 66
3- سورة الكهف: الآية 69.
4- سوره 18 - آيه 69

وإنَّ كَانَ لِكُلٍ ٍٍٍّ موقعا متميّزا كَمَا هو مدلول الجمع بين آيات القرآن فللخضر فضل و لموسي فضل .

ولا تنافي بين أنْ يكون لِكُلِّ واحد جنبة مِنْ الفضل وأنْ يتخاضع أحدهما تأدباً وَعَلَي نحو الحقيقة للآخر بلحاظ جنبة فضله وتقدّمه.

كَمَا أنَّهُ لو لاحظنا الحوارية مِنْ جانب الخضر لأدركنا قبوله للأدب الصادر مِنْ موسي(عليه السلام): ( قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً(70)(1) (2) ، فنسب التابعية والتابع لموسي ونسب المتبوعية لنفسه، وَمَعَ ذَلِكَ تأدب فِي خطابه فَلَمْ يقل «اتبعني» وَإنَّما قَالَ: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي» (3) بجعل الخيار للنبي موسي فِي الإتباع.

فندرك بذلك التحفظ مِنْهُ عَلَي موقعه مِنْ جهة وَعَلَي موقع موسي مِنْ جهة أخري، إذْ بجعله الخيار لموسي فِي الإتباع ينفي ولايته عَلَيْهِ، فتكون النتيجة أنَّ ثمة مشاركة ولائية بينهما وتوزّع أدوار ومواقع.

الأدب السائد بين الأصفياء لا نظير له في المواقع الاعتبارية:

ولا مبالغة فِي القول إنَّ ما فِي الآية مِنْ أدب بين الأصفياء بنحو متبادل بديع جداً ولا نجد مثيله فِي المواقع الاعتبارية الدنيوية بين الدول والحكومات والرؤساء، مما يَدُلّ عَلَي النظم الدقيق فِي عالم

ص: 349


1- سورة الكهف: الآية 70.
2- سوره 18 - آيه 70
3- سوره 18 - آيه 70

الأصفياء صفاء ودقة فِي الحقائق والمواقع والمأموريات والمناصب والصلاحيات والمقامات، فلا ينطق ولا يتحرك أحد إلَّا حسب قدره وشأنه موقعه.

وربما صدر الأدب مِنْ واحد لآخر مِنْ جهة وبادله الأخير الأدب مِنْ جهة أخري.

ولذا فثمة قاعدة ها هُنَا مفادها أنَّ الأدب الإلهي بين الأصفياء المصطفين ينبأ عَنْ المواقع الرسميّة الإلهية وَعَنْ نمط ودرجات الولاية، فلربما كَانَ الأدب بالمطلق مِنْ طرف لآخر فَيَدُلّ عَلَي علوّ مقام الثَّانِي عَلَي الأوَّل، وربما كَانَ الأدب متبادلاً بلحاظ جهات الفضل المختلفة فَيَدُلّ عَلَي مدارية ومحورية الأثنين بلحاظين.

تشابه وفوارق حوارية علي وفاطمة(عليهما السلام) لحوارية موسي وهارون(عليهما السلام):

وتأسيساً عَلَي ما مَرَّ ندقق النظر فِي الحوارية الَّتِي جرت بين أمير المُؤْمِنِين وفاطمة(عليهما السلام)سواء مِنْ فاطمة لعلي أو مِنه لفاطمة وسنتلمس أنَّها قريبة الأفق مِنْ الحوارية الَّتِي جرت بين موسي وهارون فَإنَّ بينهما مِنْ التشابه الشيء الكثير فِي لحن الكلام ونبرته وتوازنه.

فَمِنْ حوارية موسي وهارون(عليهما السلام) بحسب بيانات القُرآن ندرك النقاط التالية:

ص: 350

أوَّلاً: الشراكة بينهما فِي الأمر، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قوله تَعَالَي: (هارُونَ أَخِي (30)اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)(1). (2)

ثانياً: عتب موسي عَلَي هارون بَعْدَ ضلال بني إسرائيل كَمَا فِي قوله تَعَالَي: (أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي)(3). (4)

وفهم أهل التحقيق مِنْ المفسرين أنَّ هَذَا اللحن مِنْ الخطاب بينهما جارٍ وفق ما يدور فِي خلد الناس، وَإلَّا فَإنَّ الْنَّبِيّ موسي يعلم باصطفاء هارون وشراكته، وَقَدْ أخبره الله بافتتان قومه، وَمَعَ ذَلِكَ عاتب موسي أخاه وأجابه هارون بقوله: (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)(5). (6)

فَكَانَ السائل والمجيب والعاتب والمعاتب هُمَا الشريكان فِي المسؤولية الإلهية بُغية دفع الالتباس الذي ربما يخالج أفكار البعض وأذهانهم فَكَانَ الهدف مِنْ الحوارية تبيان أنَّ الالتباس الذي يدور فِي خلجهم فِي غَيْر محله.

كَمَا أنَّ الحوارية مُشتملة عَلَي هدف آخر وَهُوَ استعظام ما جري مِنْ الناس وإدانته والاستنكار عَلَيْهِ وإنْ كَانَ بلغة التعاتب بين الأصفياء.4.

ص: 351


1- سورة طه: الآية 30 - 32.
2- سوره 20 - آيه 30
3- سورة طه: الآية 93.
4- سوره 20 - آيه 93
5- سورة طه: الآية 94.
6- سوره 20 - آيه 94

ونفس ما جري بين موسي وهارون(عليهما السلام) جري فِي الحوارية بين فاطمة وأمير المُؤْمِنِين فِي قولها(عليها السلام):

«يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل»(1).

فلا يجوز والعياذ بالله أنَّ تفهم هَذِهِ الحوارية عَلَي أنَّها عتب وادانة من الصديقة(عليها السلام) لما قام به أمير المؤمنين(عليه السلام) وإنما الأمر جار علي ما بيّناه فِي حوارية فِي موسي لهارون، فَإنَّ عتبها ها هُنَا يرجع إلي مساءلة عَلَي لسان المحبين فضلاً عَنْ المناوئين.

إذْ أنَّ كُلّ مَنْ يقرأ الموقف الذي ألتزمه أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) يتبادر لذهنه هَذَا التساؤل وَهُوَ ما هُوَ سر اختلاف دور أمير المُؤْمِنِين عَنْ دور فاطمة(عليها السلام)؟

وما السر فيما سلكه أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) اتّجاه ما وقع عَلَي فاطمة(عليها السلام)؟

وَقَدْ وَرَدَ فِي الروايات أنَّ نحو هَذِهِ التساؤلات وَرَدَتْ عَلَي خواص الخلص مِنْ أصحاب أمير المُؤْمِنِين كسلمان وعمّار، إلَّا المقداد فَلَمْ تخالج خاطره عَلَي نحو ما مَرَّ.

فانعقدت الحوارية بين فاطمة وعلي(عليهما السلام) لتترجم ما يمكن أنَّ يرد عَلَي الخواطر، وَمِنْ نظائره فِي القُرآن قول الباري تَعَالَي لعيسي(عليه السلام):1.

ص: 352


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي 145/1.

( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ )(1). (2)

فمع علم الله بفرية وتدليس النصاري عَلَي عيسي وَمَعَ أمانته فِي تحمّل أعباء الرسالة يخاطبه الله تَعَالَي بعبارة توحي بالريبة والتهمة لَهُ، بَلْ يبدأ الخطاب «أأنت» أيّ أنطلاقاً مِنْ موقعك وَهُوَ موقع المخلوق وكأنما فيه تصغير لَهُ إلَّا أنَّ الحقيقة أنَّ الله تَعَالَي بصدد تفنيد فرية النصاري عَلَي المسيح.

وَهَذَا ما يسمونه حواريّة تسجيل ما يدور بين طرفين عَلَي نحو تقمص الأدوار، أيّ حوار بين طرفين يعكسان ما يدور عِنْدَ الأطراف الأُخري بغية رفع اللبس والالتباس عَنْ أذهان الآخرين.

وفي حوارية أُخري لها مَعَ أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) فِي أواخر حياتها تقول فيها(عليها السلام):

(يا بن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني)(3).

وإذا كَانَ المقصود مِنْ الحوارية السابقة دفع خواطر إدانة أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) فَهَذِهِ الحوارية إدانة لأي جهة؟ إذْ مِنْ غَيْر المعقول أنَّها لدفع خواطر فِي نفس أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) والعياذ بالله.

كيف وَقَدْ شهد لها أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) فِي جوابه بمقامات عالية؛1.

ص: 353


1- سورة المائدة: الآية 116.
2- سوره 5 - آيه 116
3- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري 151.

ولذا فَإنَّ المخاطب فِي الحوارية وإنْ كَانَ هُوَ أمير المُؤْمِنِين ولكنّها بصدد دفع الالتباسات عَنْ الآخرين، فقولها(عليها السلام)

«ما عهدتني كاذبة ولا خائنة» نفي لتوصيف الزهراء(عليها السلام) بذلك فِي خلد الآخرين، ولأنّها تفصح عَنْ اتهامات وإهانات وجهها القوم لها لما دفعوها عَنْ حقها وَلَمْ يقبلوا شهادتها، فَهِيَ التباسات تدور فِي فكر الآخرين لا فِي ما يخص البُعد الفردي أيّ بُعد الزوجية، فَقَدْ كان زواجها مِنْ أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) زواج ولاية بولاية وزواج نور مِنْ نور ومشاركة واقتران نوري، إذْ قد وَرَدَ فِي الرِّوَايَة

«زوّج النُّور مِنْ النور».

وكيف يُتوهّم صدور تعد منها وتجاوز أسري وَقَدْ وصفها القُرآن الكريم في قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ )(1). (2)

وَقَدْ مَرَّ بنا نمط الأدب الإلهي السائد بين الأصفياء، فَقَدْ شهد القُرآن أنَّ موسي لَمْ يتعد فِي صلاحياته عَلَي صلاحيات الخضر، كَمَا لَمْ يتعد الخضر فِي صلاحياته عَلَي صلاحيات موسي، ونفسه جارٍ فِي علي وفاطمة(عليهما السلام)، فَقَدْ كَانَا بحرين مِنْ الملكوت وَالنُّور، وَالْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) برزخٌ بينهما،، فالمسؤوليات محددة والصلاحيات كَذَلِكَ فلا محل لتجاوز أحد عَلَي الآخر.

ولذا فقولها(عليها السلام):

«ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ0.

ص: 354


1- سورة الرَّحْمَن: الآية 19 - 20.
2- سوره 55 - آيه 19

عاشرتني» نظير قول موسي للخضر ( قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً(69)(1) (2) ، فَلَمْ تتخلّف عَنْ أمر عالم الولاية وَلَمْ يكن ما قامت به الصديقة(عليها السلام) وأشادته مِنْ بنيان عقائدي مخالف للمسار والبنيان العقائدي لأمير المُؤْمِنِين(عليه السلام)، وَلَمْ يصدر منها أيّ خيانة فِي الدِّين لمواثيق الله ورسوله.

بَلْ ثمة فارق بين حوارية موسي والخضر(عليهما السلام)وحوارية فاطمة وعلي(عليهما السلام)فَقَدْ حكم الخضر عَلَي موسي بقوله: (قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)(3) (4) ، عِدَّة مرات إلي أنْ اعترف موسي بذلك، فَقَالَ: ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)(5). (6)

ولذا في الجامع للطبري قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) يوما:

رحمة الله علينا وعلي موسي لو صبر علي صاحبه لرأي العجب ولكنه قال: ( فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً(76). (7)

والذي في صحيح مسلم قال رسول الله (صلي الله عليه و آله):

«رحمة الله علينا وعلي موسي لولا أنه عجل لرأي العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأي العجب»(8) .

وأمَّا جواب أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) لحوارية فاطمة(عليها السلام) فَهُوَ:

«معاذ الله1.

ص: 355


1- سورة الكهف: الآية 69.
2- سوره 18 - آيه 69
3- سورة الكهف: الآية 72.
4- سوره 18 - آيه 72
5- سورة الكهف: الآية 76.
6- سوره 18 - آيه 76
7- سوره 18 - آيه 76
8- الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، القرطبي 23/11.

أنت أعلم بالله وأبر وأتقي وأكرم وأشد خوفا من الله ان أوبخك غدا بمخالفتي»(1)، أي أنَّك أرفع مِنْ أنْ ينالك عتب ظريف لطيف.

وَمِنْهُ يُفهم أنَّ واحدا مِنْ غايات الأمثال فِي القُرآن إلفات النظر لما هُوَ أعظم مِنْ الأدب وما هُوَ أظرف فِي المشاركة العقائدية، فمثل فاطمة وعلي(عليهما السلام) أعظم مِنْ مثل موسي والخضر(عليهما السلام)، فقَدْ أثمر اقتران ومشاركة فاطمة لعلي(عليهما السلام) ما فِي قوله تَعَالَي: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22)(2). (3)

فلما كَانَا أعظم مثالاً فِي الأدب الإلهي وحفظ المواقع والصلاحيات كَانَا أعظم أثراً.

ويشهد جواب علي(عليه السلام) لعتاب الزهراء(عليها السلام) قولاً وفعلاً عَلَي ما لفاطمة(عليها السلام) مِنْ صلاحيات فِي الدِّين، فَأمَّا عَلَي مستوي الفِعْل فَقَدْ وَرَدَ أنَّهُ لبس القباء الأصفر وأخذ حمائل السيف.

وأمَّا عَلَي مستوي القول فأجابها بهذه اللغة بَعْدَ سماعه الأذان

«أيسرك زوال هذا النداء من الأرض قالت لا قال فإنه ما أقول لك»(4).

فقوله(عليه السلام) لها إنْ شئت أفصاح بصلاحيتها فِي أصل كيان الدِّين، بَلْ كَانَ جوابه لها بالموقف والقول تنفيذا لقول الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله):

«يا علي انفذ3.

ص: 356


1- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري 151.
2- سورة الرَّحْمَن: الآية 22.
3- سوره 55 - آيه 22
4- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد 11 / 113.

لما أمرتك به فاطمة»(1)فلمحل أمره(صلي الله عليه و آله) بوجوب تنفيذ أمرها سارع(عليه السلام) فِي ندبتها وإجابتها وعلَّق الأمر عَلَي مشيئتها.

وَلَيْسَ الأمر محمولاً عَلَي الهيجان العاطفي، وَهَلْ يُتصور فِي حق علي(عليه السلام) أنْ ينساق ويهيج لمجرد حماسة لإمرأة بما هِيَ امرأة والحال أنْ حماسته وانبعاثه كَانَ فِي أُمُور تمس أصل الدِّين، بَلْ كَانَ انبعاثه عَنْ أمر وليّة الأمر(عليها السلام) وَكَانَ تحركه جواباً لِمَنْ لها مشيئة مرتبطة بأصل الدِّين.

وَمِنْهُ ندرك أنَّ انتقاء سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) فِي وصيته لعلي(عليه السلام) عبارة «أنفذ ما تأمرك به» دالٌّ عَلَي ما لها مِنْ مسؤولية فِي إشادة الدِّين، وإنْ كَانَ لعلي(عليه السلام) موقع الإمامة عَلَي فاطمة(عليها السلام)، أيّ لَهُ تفاوت عنها لكنَّهُ لَيْسَ نظير التفاوت بينه وبين الحسنين(عليهما السلام)، بَلْ بالنمط الذي رسمه القُرآن ونبّه عَلَيْهِ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تحت قوله تَعَالَي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ). (2)

ولا نبالغ إذَا ما قلنا أنَّ حواريتها تمثل ملحمة عقائدية عظيمة، وَهِيَ مِنْ أدلة صلاحياتها، بَلْ لا يتلكأ الباحث فِي القول أنَّ مشيئتها مشيئة الله ومشيئة رسوله(صلي الله عليه و آله) وذلك لتعليق أمير المُؤْمِنِين(عليه السلام) أصل ثابت الدِّين وبقائه عَلَي مشيئتها، وَلَيْسَ فِي كلامه أيّ مجاملة أو محاباة، بَلْ قائم عَلَي قواعد الأدب الإلهي الَّتِي تَقَدَّمَ بيانها.5.

ص: 357


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي22 / 485.
2- سوره 55 - آيه 19
نبرة الأدب بين الأئمة(عليهم السلام) افصاح عن تفاوت الصلاحيات:

ذكرنا أنَّ مِنْ لوازم الأدب حفظ المواقع والصلاحيات والمقامات؛ ولذا مع ما للحسن(عليه السلام) مِنْ شيء مِنْ التَقَدُّم عَلَي الحسين(عليه السلام) لكنَّ نبرة الأدب بين الحسنين وسائر الأئمة(عليهم السلام) تختلف، فلها مستوي آخر ينمّ عَنْ التفاوت فِي الصلاحيات والمواقع والمقامات.

وَيَدُلّ عَلَيْهِ التعبير النبوي عَنْ الحسن والحسين بال- «الفرقدين» وتعبير القُرآن عَنْ علي وفاطمة(عليهما السلام) بالبحرين ويجمعهما بيان تشاطر المسؤولية وتشارك الصلاحية.

وَمِنْ شواهد نمط الأدب الخاص بين الحسنين(عليهما السلام) والذي هُوَ نظير الأدب بين علي وفاطمة(عليهما السلام) ما كَانَ مِنْ بيعة الحسن(عليه السلام) وهدنته لمعاوية وتبعية كُلّ الأُمَّة لَهُ لكنَّ الحسين(عليه السلام) بمفرده لم يدخل فِي التزام الصلح مَعَ معاوية ولا مهادنته وبشرط مِنْ الإمام الحسن(عليه السلام).

إذْ قَدْ يُقَال أليس للحسن(عليه السلام) إمامة عامة واجبة الإتباع مِنْ قبل كُلّ الأُمَّة ويجب الإنقياد لها مِنْ قبل كُلّ الأطراف، فكيف يختلف ها هُنَا موقف الإمام الحسين(عليه السلام)؟!

إنَّ لهذا البحث فلسفة فقهية وعقائدية ومعرفية وسياسية، وفيه عبرة لنا عَلَي طول التأريخ.

فيظل التساؤل ماثلاً لِمَ قدر الله أنْ تكون ثمة مزاوجة ومقاربة

ص: 358

بين المعصومين كعلي وفاطمة(عليهما السلام) وكالحسن والحسين(عليهما السلام) لا بين السجاد والباقر(عليهما السلام) ولا بين الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وباقي أصحاب الكساء(عليهم السلام).

وَلَعَلَّ أحد وأسرار ذَلِكَ أنَّ التوازن فِي الدِّين لا يحصل إلَّا بوجود لون حسني ولون حسيني بالتقارن والتزامن فِي زمان واحد واتّجاه موضوع واحد وشرائط واحدة، ووجود لون فاطمي ولون علوي فِي آن واحد واتّجاه موضوع واحد، لكنَّ ذَلِكَ غَيْر موجود فِي زمان الباقر وَالصَّادِق(عليهما السلام) أو الحسين والسجاد(عليها السلام) فلا يجتمع لون باقري ولون صادقي فِي زمان واحد واتّجاه موضوع واحد.

وَإنَّما تتنوّع ألوان الأدوار وبحسب مصلحة الدِّين مَعَ التقارب فِي الرتبة بالنحو الذي بين علي وفاطمة(عليهما السلام) والحسن والحسين(عليهما السلام).

فإذا توقّف قوام الدِّين بالموازنة والمزامنة لذينيك المقامين جرت الحكمة الإلهية بذلك.

واللطيف أنَّهُ مَعَ تعدد اللونين مِنْ متقاربي الرتبة لمصلحة فِي أصل بقاء الدِّين تكون الغالبية مِنْ الاتباع منقادة لطرف، فقد كانت غالبية الأتباع فِي زمن علي وفاطمة(عليهما السلام) مَعَ علي والقلة مَعَ فاطمة(عليها السلام) مَعَ ضرورة اللون والدور الفاطمي.

وكذا كانت الغالبية مَعَ الإمام الحسن(عليه السلام) مَعَ ضرورة وجود اللون الحسيني فِي نفس الشرائط.

ص: 359

ص: 360

المقالة العشرون: أم مقاماتها وهيمنتها

اشارة

*مقامات الزهراء(عليها السلام) مغيبة في الاوساط العلمية

*أم مقاماتها هو هيمنة كل فضائها علي فضائل أولادها

*آل محمد دائرة متمايزة عن النبيين وبين أفرادها تمايز

*المنبة الأول: هيمنتها العلمية علي علم أولادها(عليهم السلام)

*قصور البحوث الكلامية عن استيعاب منظومة العقائد

*المنبة الثاني: تفوقها علي مسرح الشجاعة والجرأة...

*التراتبية في الفضل في دائرة أهل البيت(عليهم السلام)

*مأمورية علي(عليه السلام) في جملة من الموارد بإنفاذ أمر فاطمة(عليها السلام)

*أدلة هيمنة مقامها(عليها السلام)علي مقام الحسنين(عليهما السلام)

*الدليل الأول: حديث الكفؤية

*الدليل الثاني: روايات النور

*الطبقة النورية باللغة الفلسفية

*الدليل الثالث: هيمنة مصحفها الشريف

ص: 361

*السؤال تحر عن الحقيقة لا إنكار لها

*الدليل الرابع: آمريتها في عالم الآخرة...

*فاطمة(عليها السلام) لسان الميزان والحسنان(عليهما السلام) الكفتان

*الدليل الخامس: كونها بحر علم النبوة

*علي وفاطمة(عليهما السلام) رافدان للمعرفة الكاملة بالنبي(صلي الله عليه و آله)

*منهاج فاطمة(عليها السلام) محكم علي مناهج الأئمة(عليهم السلام)

مقامات الزهراء(عليها السلام) مغيبة في الاوساط العلمية:

لا نبالغ في القول بأن مقام الزهراء(عليها السلام) مغيّب فِي الأوساط العلمية تدويناً وخطابة وثقافة، فضلاً عَنْ الأوساط غير العلمية.

وأعظم شؤونها المغيّبة هو كون مقاماتها(عليها السلام) فِي كُلّ شيء تتلو مقامات الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) وتعلوا مقامات أولادها(عليهم السلام).

وَهَذِهِ الغفلة العلمية عن إدراك مقاماتها(عليها السلام) لا تضر بالحقيقة في نفسها وواقعها شيئاً، لكنها تعني تمادي تقصيرنا عَنْ إدراك الحقيقة.

والتمادي في الجهل بالمعارف يولد سلبيتين مهمتين:

الأولي: انقلاب الأدلة علي الحقيقة من بديهية واضحة إلي نظرية غامضة في عقول الناس، وبالتالي فلا يقف علي الحقيقة وما يترتب عليها من فوائد إلا البصيرين بالأدلة النظرية، وهذا لا يؤخر موقع

ص: 362

الحقيقة في سلم المعارف، بل تظل في موقعها وتبقي المسؤولية العلمية علي عاتق الناس بلزوم الاعتقاد بها عن دليل.

الثانية: إن أي جهل وضبابية تصيب العقول بأي حلقة من حلقات المعارف الدينية تلقي بتأثيرها علي الحلقات الأخري سواء الحلقات التي فوقها والحلقات التي تحتها.

فلا يظن من يؤمن بالتوحيد والنبوة ويجهل الولاية أنه بلغ علما بالتوحيد والنبوة أو أنه أعطي الاعتقاد حقه في الحلقات التي تلي الولاية، كما أن من يجهل مقامات تالية النبي (صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) لا يتوقع أنه بلغ علما في معرفة الوصي(عليه السلام) والنبي(صلي الله عليه و آله) والتوحيد أو أنه أعطي العقيدة بالأحد عشر(عليهم السلام) حقها المناسب بشأنها.

وَهَذَا المبحث (كون فاطمة(عليها السلام) تالية للنبي(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) وتعلو الأحد عشر معصوما(عليهم السلام) مغيّب كذلك فِي كتابات الكثير مِنْ المتكلمين وكتابات المحدثين، لكنه بحسب الأدلة - والمدار عَلَيْهَا ولا سيما الأدلة المرتكزة عِنْدَ علماء المذهب- بديهي، أي أن هيمنة مقام الزهراء (عليها السلام) عَلَي مقام الإمامين الحسنين(عليهما السلام) فضلا عن التسعة المعصومين(عليهم السلام) من ولد الحسين من البداهة بمكان.

بَلْ هَذَا المبحث مِنْ أمهات المباحث فِي سلسلة مقامات فاطمة(عليها السلام)، وإذا قرر هَذَا المبحث فَإنَّها ستكون واجدة لِكُلِّ مقامات

ص: 363

الأحد عشر وزيادة.

وَلابُدَّ من إلفات النظر إلي أن هذا المبحث ورغم أنَّهُ غَيْر مجمع عَلَيْهِ، بَلْ قلة مِنْ الأعلام مِنْ تنبه إليه إلا أن الأدلة عليه متكاثرة بل هي أدلة قطعية بل ندّعي دعوي زائدة وهي بداهة الأدلة علي هيمنتها.

كما لابد أن نلتفت إلي أن كونها تالية علي(عليه السلام) في المقام لَيْسَ معناه أنَّها دونه فِي كُلّ شيء، بَلْ مِنْ جانب كفؤية ومن جانب تتلوه، كما أن المقام الأم (هيمنتها علي أولادها) لَيْسَ بلحاظ الولاية العامة بَلْ بلحاظ ولايتها عَلَي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام).

ولهذا المبحث تداعيات كثيرة منها تأثيره علي النتائج المهمة في جملة مهمة من أبواب الفقه وسيأتي في ضمن البحث.

ويمكن أن نلخص نقاط البحث في التالي:

أوَّلاً: إن أم مقاماتهابحسب تتبعنا وبحسب علمنا القاصر وتحليلنا وإدراكنا والعلم بالواقع عند الله فلربما كان هناك أعظم من هذا المقام- هو هيمنة وتقدم مقامها عَلَي مقامات الأئمة مِنْ بنيها(عليهم السلام).

وَهَذَا بحسب قوالب الأدلة.

ومعني أم مقاماتها هو المقام المهيمن عَلَي مقامات أولادها، وهو مقامها العظيم الأعظم.

ص: 364

ثانياً: مشاركتها(عليها السلام) فِي الجملة لمقامات علي(عليه السلام) وإنْ كانت تتلوه وَهُوَ إمامها.

ثالثاً: إنَّ هَذَا المقام الأم لمقاماتها مبدّه لا بحسب كلمات العُلَمَاء وَإنَّما بحسب الأدلة المتسالم عَلَيْهَا، فَهُوَ لَيْسَ فَقَطْ قطعي بَلْ مبدّه.

وحينئذ فنحن مطالبون أنَّ نطرح أدلة مبدّه فضلاً عَنْ أنَّها قطعية.

رابعاً: رغم تسالم علماء الإمامية عَلَي حجيتها وعصمتها(عليها السلام) إلَّا أنَّهُم لَمْ يخضوا في تحرير المقام الأم تفصيلا وبلورته تصريحا وإنْ كَانَ موجوداً لديهم ارتكازاً.

خامساً: لهَذَا المبحث العظيم نتائج صناعية وعلمية تلون منظومة العقائد، وَلَهُ تأثير عَلَي أبواب هامة في الفقه.

سادساً: إنه ما لَمْ تتم وتستكمل دراسات فقهية وعقائدية عَنْ توصيات ما وَرَدَ عَنْ الزهراء(عليها السلام) فِي خطبتها الَّتِي هِيَ دستور الإسلام، وأنْه ما لَمْ تحكّم توصياتها عَلَي أبواب الفقه وَعَلَي مسار الأُمَّة في العصر الراهن، فلن يَتِمُّ بناء خارطة للظهور والفرج، فالأخذ بمنهج فاطمة(عليها السلام) يفتح الطريق للظهور وقيام المنجي، أي أن هجران التوصيات المأثورة التي صدرت من فاطمة(عليها السلام) يعرقل مسيرة الفحص الكامل عن مرام نهج أهل البيت(عليهم السلام).

وقد أودعت تلك التوصيات في خطبتها التي هي بحق عبارة

ص: 365

عن ديباجة دستور الإسلام، فما لم تحكّم توصياتها كعمومات في أبواب الفقه وفي المشاكل الراهنة للعصر الحاضر لم يتم رسم خارطة طريق للظهور وقيام المشروع المهدوي.

فإن واحدة من الزوايا المهمة الركنية لمشروع المنجي هو تدشين نهج فاطمة(عليها السلام) علي ضوء ما استفدناه من معارف أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

وإذا تمت هذه الفهرسة فنشرع في تفاصيلها.

أم مقاماتها هو هيمنة كل فضائها علي فضائل أولادها:

أول سؤال ينبثق في خضم هذا المبحث الخطير هو كيف يكون المقام المذكور هُوَ أم مقاماتها؟!

وجوابه هو ِإنَّهُ إذَا تقرر واستفيد من الأدلة المبدّهة القطعية بحسب الإرتكاز والإجمال أنَّ مقامها مهيمن في كل الأصعدة عَلَي مقامات الأحد عشر(عليهم السلام) فستكون آمريتها وناهويتها وحاكميتها مهيمنة عَلَي آمرية وحاكمية وناهوية الحسن والحسين(عليهما السلام) فِي كُلّ العوالم، أي كُلّ عوالم الخلقة سابقة ولاحقة، وَلَيْسَ فِي الأرض فحسب ولا في البرزخ ولا في الرجعة ولا في القيامة ولا في الجنة.

فهي بَعْدَ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) في المقدمة والصدارة، وهِيَ الحاكم وَهِيَ الأشجع وهي الأعلم، وهذا التفاوت بينهم هو مقتضي

ص: 366

البيان العقلي، وإن كان كلهم واحد في العلم والنور والشجاعة.

وَهَذَا ما دل عليه القُرآن الكريم في تراتبية النبيين مقاما، فمن جهة يقول تعالي: ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)(1) (2) ، ويقول من جهة أخري: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلي بَعْضٍ )(3) (4) ، بلا أي تدافع ولا تناقض.

ونظيره ما نزل في آيات الإمامة حيث بيّن أنَّ الإمامة علي درجات، كَمَا أشير إليه فِي سورة البقرة في قصة إبراهيم الخليل(عليه السلام) فبعد أن نال أصل مقام الإمامة بمقتضي قوله تعالي: ( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (124)(5) (6) طمع فِي مقام آخر ونور أعلي فطلب بقوله: ( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ )(7) (8) ، ومفادها أنه دعا باصطفاء أعلي في درجات الإمامة مِنْ إصطفاء الإمامة الأوَّل، فأوضح ما دلّ علي تعدد درجات الإمامة دعاء وطلب إبراهيم بعد أن نال طبقة منها الاستزادة والرقي لطبقة أخري.

وهذا ما بيّنه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تحت آيات النبوة وآيات الإمامة8.

ص: 367


1- سورة البقرة: الآية 136.
2- سوره 2 - آيه 136
3- سورة البقرة: الآية 253.
4- سوره 2 - آيه 253
5- سورة البقرة: الآية 124.
6- سوره 2 - آيه 124
7- سورة البقرة: الآية 128.
8- سوره 2 - آيه 128

فأكدوا أن النبوة والإمامة علي درجات.

والمحصلة أن النبيين والمرسلين(عليهم السلام) مسار واحد وماركة واحدة، إلا أن دولة آل مُحمَّد(صلي الله عليه و آله) تتفاوت عَنْ دولة آل إبراهيم ودولة آل داوود ودولة آل هارون ودولة آل يعقوب..

ونفس دولة آل مُحمَّد(صلي الله عليه و آله) لها لون واحد يتميز عَنْ لون البيوتات النبوية الأخري، فهم في العلم سواء أي لهم لون علمي هم فيه سواء وهو متميز عَنْ علم آل إبراهيم وعلم آل يعقوب، فهم سواء فِي اللون المتميز والشجرة الواحدة.

وفِي عين هَذِهِ الوحدة فِي كُلّ المقامات وتميزهم عَنْ سائر ألوان النبيين والمرسلين لكونهم الوارثين للكتاب كما في قوله تعالي: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)(1) (2) إلا أنهم في ظل المجموعة ذَاتَ اللون الواحد والخصائص الواحدة متفاوتين علي طبقات.

آل محمد(عليهم السلام) دائرة متمايزة عن النبيين وبين أفرادها تمايز:
اشارة

فمرة تكون المقارنة بين دائرة آل محمد(عليهم السلام) والدوائر الأخري

ص: 368


1- سورة فاطر: الآية 32.
2- سوره 35 - آيه 32

للنبيين(عليهم السلام) فتكون النتيجة أن لدائرة آل محمد(عليهم السلام) لونا واحدا خاصا ولهم سوائية واحدة، وقد عبّر عنها في ألسنة وحيانية متعددة نظير ما رواه في الغيبة بسنده إلي زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): أيّما أفضل: الحسن أم الحسين(عليهما السلام)؟

فقال: إنّ فضل أوّلنا يلحق بفضل آخرنا وفضل آخرنا يلحق بفضل أوّلنا، فكلّ له فضل .

قلت: جعلت فداك! وسّع عَلَيّ في الجواب فإنّي والله ما سألتك الأمر تادّاً.

فقال: نحن من شجرة طيّبة، برأنا الله من طينة واحدة، فضلنا من الله، وعلمنا من عند الله، ونحن امنائه علي خلقه، والدعاة إلي دينه، والحجاب فيما بينه وبين خلقه .

أزيدك يا زيد ؟ قلت: نعم.

فقال: خلقنا واحد، وعلمنا واحد، وفضلنا واحد، وكلّنا واحد عند الله عزّ وجلّ.

قلت: فأخبرني بعدّتكم.

فقال: إثنا عشر، هكذا حول عرش ربّنا في مبتدأ خلقنا: أوّلنا محمّد وأوسطنا محمّد وآخرنا محمّد)(1).7.

ص: 369


1- غيبة النعماني: 87.

وما رواه في الخصال عن أبي الحزور عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله):

«خلق الناس من شجر شتي، وخلقت أنا وابن أبي طالب من شجرة واحدة، أصلي علي وفرعي جعفر»(1) .

وما رواه في مقاتل الطالبيين عن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهو يقول:

«الناس من شجر شتي وانا وجعفرمن شجرة واحدة»(2).

ومفاد هذه النصوص كون كل شجرة بني هاشم شجرة اصطفائية فلا تقارن أنوارهم بأنوار غيرهم، ولا يساوي علمهم بعلم غيرهم، ولا يقارن كتابهم الذي هو تحفة سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) لآله بصحف إبراهيم أو صحف موسي أو إنجيل عيسي، وهو معني هيمنة القرآن علي سائر الكتب والصحف.

ومرة تكون المقارنة بين أفراد دائرة آل محمد(عليهم السلام) وبهذا اللحاظ لا تناقض بين الحكم عليهم باللون الواحد في المقارنة الأولي والحكم بالتفاوت بينهم بلحاظ المقارنة الثانية، وبلحاظ المقارنة الثانية تختلف رتبة الحجية والنورية والهيمنة.

وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في الفرق بين فرض الله والسنن التي1.

ص: 370


1- الخصال، الصدوق/ 21.
2- مقاتل الطالبيين، أبي فرج الاصفهاني/10 ، كنز العمال، المتقي الهندي663/11.

سنّها سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) فبرغم كون الحجية فيهما بمعني سواء أي سواء في الحجية والالزام لقوله تعالي: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(1) (2) لكن مراتب الهيمنة مختلفة، لذا روي في الخصال عن زرارة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال:

«... ولا تنقض السنة الفريضة»(3) .

وفي المقارنة في النوع الثاني أي بين افراد دائرة آل محمد(عليهم السلام) يكون لفاطمة(عليها السلام) تميز وتمايز ولها مقامات خاصة، وأم مقاماتها هو كون شجاعتها أرفع ونورها أنور وطهرها أطهر وعلمها أعلم وولايتها أعظم وآمريتها أأكد وناهويتها أبلغ وحجيتها أكثر هيمنة من شجاعة ونور وطهر وولاية وآمرية وناهوية وحجية أولادها الأحد عشر(عليهم السلام).

وعلي هذا الأساس يثبت لها نظير ما ثبت لأمير المؤمنين(عليه السلام) بالنسبة لأولاده المعصومين(عليهم السلام) فقد ورد عن الرضا(عليه السلام):

«إنما شيعته الحسن والحسين.. الحديث»(4) فضلاً عَنْ الأئمة التسعة، وهو صادق في الزهراء(عليها السلام) فالحسن والحسين(عليهما السلام) فضلا عن التسعة من شيعتها وأتباعها.

ويصدق في حقها ما ورد عن الصادق(عليه السلام) في فخاره الديني أنه قال:

«ولايتي لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أحب إلي من ولادتي منه...»(5) بَلْ3.

ص: 371


1- سورة النساء: الآية 59.
2- سوره 4 - آيه 59
3- الخصال، الصدوق/285.
4- تفسير الامام العسكري/ 313.
5- الروضة في فضائل أمير المؤمنين، شاذان بن جبرئيل القمي/ 103.

مِنْ المظنون به أنَّ كُلّ الأئمة قالوا ذَلِكَ، أي أن هذا اللسان من الفخار بالانتساب للولاية العظمي سيال لدا أئمة أهل البيت(عليهم السلام) .

ومعناه أنَّ ولاية علي(عليه السلام) أكمل فِي كَمَالهم من نسبهم لعلي(عليه السلام)، فولاية السجاد والباقر والصادق(عليهم السلام) لأمير المؤمنين(عليه السلام) أحب وأعز إليهم وأكمل في كمالاتهم وتكاملهم واصطفائهم وعلو مقامهم من نسبهم له رغم أن نسبهم اصطفاء واحتباء.

والمحصلة أن هذا النمط من الفخار الديني من قبل الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) اتجاه ولاية علي(عليه السلام) بعينه ونفسه لديهم اتجاه امهم فاطمة(عليها السلام) وهو معني الهيمنة عليهم من قبلها وهو أم مقاماتها، أي أن أم مقاماتها كون الحسن والحسين(عليهما السلام) شيعة لها وانهم يفتخرون بحجيتها عليهم.

وكونهما(عليهما السلام) شيعة لفاطمة(عليها السلام) ليس من التخرص والتكلف وإنما هو مستلّ من روح أقوالهم وتعاليمهم كما أنه ليس من الدلالات الظنية بل من الدلالات القطعية بل من الدلالات المبدهة.

ونسجل هاهنا بعض المؤشرات والمنبهات علي هذا المبحث:

المنبة الأول: هيمنتها العلمية علي علم أولادها(عليهم السلام):
اشارة

لقد روي كبار المحدثين روايات كثيرة في مصحف فاطمة(عليها السلام)، ومما روي في أوصافه أنه مصدر علم أئمة أهل البيت(عليهم السلام)،

ص: 372

فقد رووا عن الصادق(عليه السلام) افتخاره بكون أحد مصادر علومهم هو مصحف فاطمة(عليها السلام) كما تقدم في مقالة مصحفها.

وهذا بلغة عقائدية يعني أن فاطمة(عليها السلام) واسطة علمية بين السماء وأئمة أهل البيت(عليهم السلام).

قصور البحوث الكلامية عن استيعاب منظومة العقائد:

وليس من السهل ثبوت هذا الدور لها بل هو من القول الثقيل، فقد ثقل هضمه واستيعابه علي علماء الإمامية فضلا عن علماء العامة.

بل هو ثقيل الهضم والاستيعاب علي الأنبياء(عليهم السلام) كما هو مفاد الروايات، فقد أكدت الروايات علي أن معرفة فاطمة(عليها السلام) معرفة ثقيلة الوزن علي الأنبياء(عليهم السلام) غامضة المعاني مبهمة صعبة، بل من الصعب المستصعب.

هذا فضلا عن علماء العامة، فقد استعصي عليهم واستصعب أن يكتبوا ترجمة تفسيرية وترجمة كلامية لمقام مريم الصغري برغم توفّر الآيات ووضوح دلالاتها، حتي نسب القرطبي مقام النبوة لها لعدم وجود سعة في الفهم والإطلاع لديهم علي ما في منظومة المعارف الدينية من مقامات غير مقام النبوة.

وإذا استعصي عليهم فهم مقامات مريم الصغري وهي مثال

ص: 373

صغير لفاطمة الكبري(عليها السلام) في القرآن، بل بنص تعبير سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) أن مريم هي مريم الصغري وفاطمة(عليها السلام) هي فاطمة الكبري- هذا وقد نص القرآن والنصوص الوحيانية علي أن الفاصلة بين مريم وفاطمة(عليها السلام) كبيرة جدا- فإذا استعصي عليهم استيعاب مقامات مريم الصغري مع كون الفاصلة كبيرة بينها وبين مقامات مريم الكبري فأنّي لهم ومن أين السبيل لديهم ليهضموا شيئا من مقامات فاطمة(عليها السلام).

وهم إذا لم يستطيعوا أن يهضموا مقامات الإمامة برغم كثرة الآيات الشارحة لها فأنّي لهم أن يقفوا علي مقام المهيمنة علي مقام الإمامة.

بل وهذه كتب علم الكلام الشيعي ببابك فنقب فيها فإنك لن تجد بابا مستقلا لشرح مقام مريم، وليس حال محدثي علماء الإمامية ومفسريهم بأفضل حالا من متكلميهم، فلم يخصص هؤلاء ولا هؤلاء بحثا مستقلا لبيان مقام مريم في منظومة العقائد.

ونحن هاهنا لا ننسب لهم النكران لمقامها -والعياذ بالله- فإنهم أجل من ذلك، وإنّ ما نقوله بضرس قاطع أنهم لم ينجزوا كل شيء، فإن جواهر أنوار القرآن والسنة لازالت مكمكمة.

بل العالم الواحد منهم كالشيخ الطوسي وهو فقيه ومحدث ومتكلم ومفسر أنجز في العقائد علي صعيد الحديث أكثر مما أنجزه في كتبه الكلامية.

ص: 374

وفي هذا تنوير علمي للباحثين مفاده أن منظومة العقائد لدا علماء الإمامية في كتب الحديث أوسع منها لديهم في كتب الكلام.

ولذا بات من غير المقبول موضوعيا وعلميا أن يقول الباحث بتسالم علماء الإمامية علي تعداد أصول عقائدية قليلة لا تتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة وأنّ ما عداها لم يذكروه ولم يثبتوه، وإذا سألته عن المصادر التي راجعها يجيب بأن ذلك هو ما وجده في كتب الكلام لديهم، برغم أنهم ذكروها في علم الحديث أو في علم التفسير.

ولذا فالبناء علي أن كل علوم وأبحاث وآراء علماء الإمامية في العقائد قد أثبتت في علم الكلام شطط عن الحقيقة، بل الواقع العلمي يشهد علي أن الكثير من الأصول والتفاصيل قد بثوها في علوم وكتب أخري.

بل الموضوعية تقتضي التفتيش والتنقيب في سائر كتبهم بما فيها كتب المزارات والأدعية فضلا عن كتب الحديث والتفسير والفقه للوقوف علي منظومة أقوالهم وآرائهم.

فهذا أستاذ الشيخ المفيد بن قولويه المدفون عند رجل الإمام الكاظم(عليه السلام) وبجنب تلميذه المفيد والذي يعبر عنه النجاسي بأنه زعيم الفقه في زمانه(1) وهو كذلك محدث نحرير، والكتاب الذي بقي لابن3.

ص: 375


1- قال في رجال النجاشي: (وكل ما يوصف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه) رجال النجاشي/ 123.

قولويه الآن - وعظمة بن قولوية فيه أعظم من عظمته في كتبه الفقهية التي لم تصل إلينا - هو كتاب (كامل الزيارات) ورغم أن اسمه (كامل الزيارات) لكنه بحق من أوله إلي آخره كتاب معارف، بل هو مصدر فقهي لفقه الشعائر الحسينية والدينية، ومصدر فقهي عظيم لفقه العتبات.

وتأسيسا علي ذلك فإنه قد تسالم علماء الإمامية علي رصد بعض آرائهم وأفكارهم العقائدية في كتب الكلام وثمة تسالمات أخري لديهم في علوم الأخري.

والغاية من إثبات هذا المطلب هو توسعة الأفق العلمي للتتبع الصحيح في البحوث العلمية بغية الحصول علي نتائج علمية واقعية.

ومن المقامات المهمة التي لم يسلطوا الضوء عليها في كتب علم الكلام هو المقام الذي نعبر عنه بأم مقامات فاطمة(عليها السلام)، وهو أنها(عليها السلام) مهيمنة علي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) في كل الفضائل والكمالات والآثار.

بل ثمة حيص وبيص في مصحف فاطمة(عليها السلام) عند الإمامية فقهيا وكلاميا وأصوليا، وكلهم يعترفون باستفاضة الروايات فيه لكنهم إلي الآن ما وضعوا تصويرا عقليا وكلاميا له، ولم يوضحوا تفسيره الفقهي

ص: 376

ولم يبلوروا تفسيره الأصولي، ولم يكن فيهم من دني وتدلي من هذا البحث فكان قاب قوسين من حقيقته، وهو المصحف الذي يثبت هيمنتها العلمية، أي أنها أم لأولادها في العلم إذ إن الواسطة في العلم لها هيمنة علمية علي من يستقي منها.

المنبة الثاني: تفوقها(عليها السلام) علي مسرح الشجاعة والجرأة:

ويشير إلي عظمة شجاعتها برغم كونها أنثي ما أبدته من شجاعة مهيمنة علي شجاعة العديد من الرجال وفي مواقف مختلفة، فقد كان لها من الرجولة بمعني الصلابة ما يعجز عن وصفه البيان أو يحيط بتفسيره البنان، كيف لا وهي لبوة النبوة وبضعة الرسالة.

وتجلت شجاعتها في مواطن:

منها: ما ذكرناه سابقا من صدها للعصابة التي هجمت علي باب بيتها، ورغم عددهم وعدتهم لم يستطيعوا أن يفتحوا الباب فعمدوا إلي ضربها..

ومنها: ما ذكرناه أيضا من أن القوم لما لببوا أمير المؤمنين(عليه السلام) بالحبال بحمائل سيفه أخذت فاطمة(عليها السلام) طرفا من الحبال وكان الطرف الآخر بيد الأراذل فلم يستطيعوا أن يزحزحوا أمير المؤمنين(عليه السلام) مع لزوم فاطمة(عليها السلام) الحبل بيدها، فلجؤا لضرب متنها ويدها بالسياط وإلي غمد السيف في جنبها.

ص: 377

فهذه القوة المتميزة لفاطمة(عليها السلام) وهذه الشجاعة لإمراة هي رجل في الصلابة والاستقامة تُقرِِِِّب ما قلناه من هيمنة لها علي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) فضلا عمن دونهم هيمنة وشجاعة وقوة وصلابة واستقامة.

التراتبية في الفضل في دائرة أهل البيت(عليهم السلام):

تبيّن سابقا وجود تفاوت في الفضل بين المعصومين الأربعة عشر(عليهم السلام) ونضيف أن بعدية فاطمة(عليها السلام) لعلي(عليه السلام) ليست كبعدية السجاد للحسين(عليهما السلام) فهي من جهة بعدية ومن جهة كفوئية بحسب النصوص الوحيانية بلا تنافي بين الأمرين.

ونظيره بين الإمامين الحسنين(عليهما السلام) إذ بينهما مشاركة متقاربة في المقام والحجية مع تقدم فضل الحسن المجتبي(عليه السلام) علي الحسين (عليه السلام).

لكن الفاصلة بين الحسنين(عليهما السلام) ليست كالفاصلة بين سيد الشهداء والحجة(عليهما السلام)، فمع كون رتبته(عليه السلام) تالية لرتبة الحسنين(عليهما السلام) إلا أن الفاصلة بين الحسنين(عليهما السلام) أقل من الفاصلة بين الحسين والحجة(عليهما السلام).

كما دلّت الأدلة الوحيانية علي وجود مشاركة في الجملة بين أمير المؤمنين(عليه السلام) ورسول الله(صلي الله عليه و آله) إلا أنها ليست بقدر المشاركة بين علي وفاطمة(عليهما السلام) أي أن الفاصلة بين فاطمة وعلي(عليهما السلام) أقل مع كون أمير المؤمنين(عليه السلام) نفس رسول الله(صلي الله عليه و آله) وباب علمه.

ص: 378

كما دلّت الأدلة أيضا علي أن الفاصلة بين الحجة والإمام زين العابدين(عليه السلام) غير الفاصلة بين الحسن والحسين(عليهما السلام)، فالفاصلة بين الحسن والحسين(عليهما السلام) أقل، كما أن السجاد(عليه السلام) مقدم علي الباقر(عليه السلام) والباقر(عليه السلام) مقدم علي الصادق(عليه السلام) والصادق(عليه السلام) مقدم علي موسي(عليه السلام) إلي آخره.. كما التزم بذلك السيد المرتضي لوجود روايات ناصة علي تقدم فضل كل إمام أب علي كل إمام إبن عدا ما خرج بالدليل وهو الحجة، فمع أنه ابن للثمانية(عليهم السلام) لكنه يتقدمهم فضلا ومقاما كما نص علي ذلك سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) في خطبة الغدير وروايات أخري عن الأئمة(عليهم السلام) من أن الحجة أفضل التسعة(عليهم السلام)، وأن تاسعهم قائمهم وهو ظاهرهم وهو باطنهم وهو أفضلهم.

روي في كمال الدين بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله):

«إن الله عز وجل اختار من الأيام الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختارني علي جميع الأنبياء، واختار مني عليا وفضله علي جميع الأوصياء، واختار من علي الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء من ولده، ينفون عن التنزيل تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل المضلين، تاسعهم قائمهم و(هو) ظاهرهم وهو باطنهم»(1) .

وروي في مقتضب الأثر عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:1.

ص: 379


1- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق/281.

قال رسول الله(صلي الله عليه و آله):

«ان الله اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر ومن الشهور شهر رمضان، واختارني وعليا، واختار من علي الحسن والحسين، واختار من الحسين حجج العالمين تاسعهم قائمهم اعلمهم أحكمهم»(1).

فمقام الحجة مقام عظيم بالقياس للتسعة(عليهم السلام) إلي درجة أن الإمام الصادق(عليه السلام) يخاطبه بعبارة (سيدي) فقد روي في كمال الدين بسنده عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب علي مولانا أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) فرأيناه جالسا علي التراب وعليه مسح خيبري مطوق بلا جيب، مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلي، ذات الكبد الحري، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيير في عارضيه، وأبلي الدموج محجريه وهو يقول: «سيدي غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وابتزت مني راحة فؤادي سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد.. الحديث»(2).

كما أن الإمام الرضا(عليه السلام) يقوم اجلالا لذكره(3).

ويخاطبه أبوه العسكري(عليه السلام) بقوله (يا سيد أهل بيته)(4) في ظل3.

ص: 380


1- مقتضب الأثر، أحمد بن عبيدالله بن عياش الجوهري/9
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق/352.
3- الغدير، الأميني361/2.
4- الغيبة، الطوسي/273.

وجوده، أي أن للحجة(عليه السلام) سؤددا في ظل وجود أبيه.

ونظيره في القرآن تفاوت مقام يوسف الإبن عن مقام يعقوب الأب، ودلّ علي هذا التفاوت من نصوص القرآن مقاطع عديدة منها قوله تعالي: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)(1) (2) وقوله تعالي في ذيل الآية: ( أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ )(3) (4) فأمر يوسف بهجرة يعقوب دون العكس دليل ثبوت ولاية وآمرية ليوسف، ولا يخلو تأثير القميص المنسوب ليوسف بقوله (بِقَمِيصِي هذا)(5) (6) علي ناظر يعقوب من دلالة علي تقدم فضل له.

وكذا قوله تعالي: ( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (7) (8) (9).

ومنه يتبين أن الفاصلة في المقام بين الإمام الإبن والإمام الأب ليست تأسيسا في شريعة الإسلام.1.

ص: 381


1- سورة يوسف: الآية 93.
2- سوره 12 - آيه 93
3- سورة يوسف: الآية 93.
4- سوره 12 - آيه 93
5- سورة يوسف / 93
6- سوره 12 - آيه 93
7- سورة يوسف: الآية 100.
8- سوره 12 - آيه 100
9- قال في الميزان: (انما اخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم وعبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة ومن المعلوم ان الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها الا الله سبحانه وتعالي ).الميزان، السيد الطبأطبائي247/11.

وعلي ضوء ما مرّ من تقدم الإمام الأب علي الإمام الإبن وتقدم الحجة(عليه السلام) علي الثمانية يتبيّن أن الفاصلة بين الإمام الأب والإمام الإبن أقل من الفاصلة بين الإمام الجد والإمام الحفيد وتكبر الفاصلة كلما ابتعدت طبقة الحفيد.

وعلي ضوئه أيضا يتبيّن أن الفاصلة بين الحجة(عليه السلام) والأئمة الثمانية(عليهم السلام) ليست علي نسق واحد وبرهانه تقدم كل إمام أب علي كل إمام إبن.

فإذا قلنا بتقدم الحجة(عليه السلام) علي الجميع فهو تقدم عن دائرة فيها تفاضل وتمايز فتكون نسبته لأولهم في الفضل أقل فاصلة من نسبته لمن يليه، وتقدمه في الفضل علي من يلي الذي يليه أقل ممن بعده وهلم جرا.

مأمورية علي(عليه السلام) في جملة من الموارد بإنفاذ أمر فاطمة(عليها السلام):

ونعود إلي ما نحن فيه وهو أنه في حين أن فاطمة(عليها السلام) مأمورة بطاعة علي(عليه السلام) وهو ما يثبت إمامته عليها فكذلك فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) في جملة من الموارد حسب النصوص الوحيانية مأمور بطاعة الزهراء(عليها السلام) كما مرّ اثباته سابقا.

ولا يتوهم أحد أن مأمورية الزهراء(عليها السلام) بطاعة علي(عليه السلام) دينية، بينما الوصية بطاعته للزهراء(عليها السلام) ذات طابع شخصي، إذ ليس للزهراء(عليها السلام)

ص: 382

شأن خاص منفك عن موقعيتها في الأمة، بل كل شأنها مرتبط بأبيها وبعلها ودين الإسلام.

وقد تفطن أعداؤها بارتباط وصيتها(عليها السلام) بأصل الدين فراموا نبش قبرها، فلو كان المرتكز عندهم أن توصياتها ذات طابع شخصي فماذا يهيجهم لو منعتهم من الصلاة عليها وشهود جنازتها وحضور تشييعها، فهيجانهم وغضبهم من أدل الأدلة علي وجود ارتكاز لديهم في أن استثناءهم من وصاياها اسقاط ديني لهم عن الموقعية.

ومن شواهد ارتباط شؤونها(عليها السلام) بأصل الدين أنها لما أوشكت أن ترفع القناع عن رأسها وهمّ العذاب بالنزول عليهم طلب منها أميرالمؤمنين(عليه السلام) الكف عنهم بنحو الالتماس وليس بنحو الأمر وهو المفاد الدقي لقوله(عليه السلام):

«ان أباك بعث رحمة»(1) .

ثم إن استجابة السماء والإرادة الإلهية لها مع وجود أمير المؤمنين(عليه السلام) يوضح أن لها شأنا مغايرا لشأن الحسنين(عليهما السلام) في ظل إمامة6.

ص: 383


1- روي في المسترشد أنه قول سلمان، (قال سلمان : وكنت قريب منها ، فرأيت والله حيطان مسجد رسول الله انقلعت من أسفلها، حتي لو أراد الرجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ! فقلت: يا سيدتي ومولاتي، إن الله تبارك وتعالي بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة.. ) المسترشد، الطبري الشيعي/ 382. وروي في الاختصاص أن عليا* بعث سلمانا، فقال علي* لسلمان : يا سلمان أدرك ابنة محمد صلي الله عليه وآله فإني أري جنبتي المدينة تكفئان، فوالله لئن فعلت لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها، قال: فلحقها سلمان فقال: يا بنت محمد إن الله تبارك وتعالي إنما بعث أباك رحمة فانصرفي..) الاختصاص، المفيد/ 186.

وولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو دليل علي الشراكة بينهما(عليهما السلام).

فقد روي في الاحتجاج (قال سلمان رضي الله عنه: كنت قريبا منها، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله) تقلعت من أسفلها حتي لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها فقلت: يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالي بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة، فرجعت ورجعت الحيطان حتي سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا)(1).

وما سنستعرضه من الأدلة لاحقا كله يصب في رسم قالب الشراكة بينهما، فبرغم كونه إمامها وله تقدم في الفضل عليها لكنها تشاركه في الجملة.

وشراكتها(عليها السلام) في جملة من الموارد لأمير المؤمنين(عليه السلام) يرسم لنا في المقابل الفاصلة بينها وبين الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام).

أدلة هيمنة مقامها(عليها السلام) علي مقام الحسنين(عليهما السلام):
اشارة

وقد وعدنا أن يكون اعتمادنا علي الأدلة القطعية وليس الأدلة الظنية، فإن موضوع بحثنا لا يمكن اثباته والركون إليه إلا بالقطع دون الظن، وسيتبين أن الأدلة التي سنطرحها مبدهة ارتكازا وإن لم تبسط وتشقق تداعياتها ومعانيها، وجملة منها مثبت لدي الفريقين.

ص: 384


1- الاحتجاج، الطبرسي1/ 114.

وسنحيل القارئ الكريم في بعض الموارد إلي ما تقدم بيانه تفاديا للتكرار.

الدليل الأول: حديث الكفؤية:

وتقدم الحديث عنه مفصلا في مقالة مستقلة(1) وهو حديث ثابت بثبوت قطعي لا بثبوت ظني، والحكم بكفؤيتها لعلي(عليه السلام) يثبت تقدمها علي أولادها(عليهم السلام) لتقم علي(عليه السلام) عليهم جزما وقطعا وكون مقاماته مهيمنة علي مقاماتهم(عليهم السلام).

ولو قيل: إن عدم كفؤية الحسنين(عليهما السلام) لإمهما باعتبار البنوة؟

لأجبنا أن جعل البنوة إنما هو لاحق علي التقدير، أي أن التقدير والإصطفاء سابق علي تحديد من يكون الأب ومن يكون الأبن بحسب سلسلة الشرف.

فهم(عليهم السلام) غير كفؤ لها من عالم النور وقبل تحديد النسب الدنيوي.

الدليل الثاني: روايات النُّور:
اشارة

وهي من الروايات القطعية الصدور عند الفريقين، ولروايات النور لسانان لسان أكثر ورودا ولسان أقل ورودا.

أما اللسان الأول فهو لسان أن أول ما خلق الله نور النبي(صلي الله عليه و آله) ثم

ص: 385


1- المقالة العاشرة من هذا الكتاب.

خلق منه نور الوصي(عليه السلام) ثم خلق من نورهما نور فاطمة(عليها السلام) ثم خلق من نور الثلاثة نور الحسنين(عليهما السلام)ثم خلق من نور الحسين(عليه السلام) نور التسعة(عليهم السلام)(1) ثم خلق من نور الأربعة عشر نور الدائرة الإصطفائية الثانية، ومنهم أبو طالب وعبدالله وحمزة وجعفر وأبو الفضل العباس والعقيلة زينب(عليهم السلام)..

ولابد هاهنا من بيان مطلب أساسي ومؤثر في عالم المعارف وهو أن خلقة نور النبي(صلي الله عليه و آله) علي طبقات، أي أن النبي(صلي الله عليه و آله) يُخلق من طبقات من نوره بلا تناقض ولا تهافت، أي أن نور النبي(صلي الله عليه و آله) يُخلق منه طبقة نورية ثم من هذه الطبقة النورية يخلق نور النبي(صلي الله عليه و آله) في طبقة أخري بحسب العوالم المتعددة.

ففي جملة من الروايات أن العرش خلق من نور النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام)5.

ص: 386


1- روي في الهداية الكبري بسنده عن سلمان قال دخلت علي رسول الله فنظر إلي وقال يا سلمان الله تبارك وتعالي لم يبعث نبيا ولا رسولا الا جعل له اثني عشر نقيبا قال قلت له يا رسول الله قد عرفت هذا من أهل الكتابين التوراة والإنجيل قال يا سلمان فهل علمت من نقبائي ومن الاثني عشر الذين اختارهم الله للأمة من بعدي فقلت الله ورسوله اعلم فقال يا سلمان خلقني الله من صفوة نوره ودعاني فاطعته وخلق من نوري عليا ودعاه فاطاعه وخلق من نوري ومن نور عليا فاطمة ودعاها فأطاعته وخلق مني ومن علي وفاطمة الحسن ودعاه فاطاعه وخلق مني ومن علي وفاطمة والحسن والحسين ودعاه فاطاعه فسمانا الخمسة الأسماء من أسمائه الله محمود وانا محمد والله العلي وهذا علي والله فاطر وهذه فاطمة والله الاحسان وهذا الحسن والله المحسن وهذا الحسين ثم خلق منا ومن صلب الحسين تسعة أئمة .. الحديث) الهداية الكبري، الخصيبي/ 375.

وثمة روايات أن نور النبي(صلي الله عليه و آله) خلق من العرش، والرافع للتناقض والتدافع البدوي هو ما أشرنا إليه من أن نور النبي(صلي الله عليه و آله) علي طبقات.

وكذلك الحال في نور علي(عليه السلام) ونور فاطمة(عليها السلام) وسائر أنوار المعصومين(عليهم السلام) فهي علي طبقات.

وَهُمْ يتلقون مِنْ بعضهم فِي الطبقات النورية، لِأنَّ أوَّل ما نزل القُرآن فِي السَّماء الرَّابعة أيّ البيت المعمور، وفي روايات أنَّهُ قلب الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) أيّ طبقة مِنْ طبقات وجوده العلوي، فَهُمْ رواة عَنْ مقام النُّور، وغيرهم رواة عِنْ طبقة البدن، ولذا فأول من يتلقي عن النبي(صلي الله عليه و آله) هو الإمام علي(عليه السلام) ولو نزل شيء عَلَي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وهو مسافر فهو يتلقاه قبل مِنْ هُوَ حاضر عِنْدَ الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله)، كما أنه يتلقاه بتلقي أعظم مما يتلقاه مِنْ هُوَ حاضر عِنْدَ الجسد، لِإنَّ تلقيه نوري مطابق وأكثر شفافية ولطافة.

وإذا صار هذا المطلب واضحا فإن جملة كثيرة من الروايات بينت أن موقع نور الزهراء(عليها السلام) هو في المرتبة الثالثة، بل دلّت سورة النور علي درجتها الثالثة أيضا في قوله تعالي: ( اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها) (1). (2)5.

ص: 387


1- سورة النُّور: الآية 35.
2- سوره 24 - آيه 35

فلا يظن أحد أن الخلقة النورية هي مفاد روايات قطعية فحسب، بل هي في الأصل معرفة قرآنية وأصل أصيل في القرآن .

وبعبارة أخري:

إن حديث الخلقة النورية نظير حديث الثقلين وحديث الكفاءة فقد بينّا سابقا أنهما في الأصل قرآنيان، فكذلك حديث النور تأسيسه قرآني بل اللسان الأوفر والأكثر ورودا من روايات النور تأسيسه أيضا قرآني وهو اللسان الذي ذكر فيه أن خلقة فاطمة(عليها السلام) النورية ثالثة الأنوار.

وأمّا اللسان الأقل ورودا في روايات خلقة النور فمضمونه أن الله خلق نور النبي(صلي الله عليه و آله) ثم نور أمير المؤمنين(عليه السلام) ثم نور الحسنين(عليهما السلام) ثم نور فاطمة(عليها السلام) أو نور الاثني عشر(عليهم السلام) ثم نور فاطمة(عليها السلام)(1).

والجدير بالذكر أن هذا اللسان غير مشتمل علي كون نور فاطمة(عليها السلام) منشعب من نور الاثني عشر(عليهم السلام)، وإنما هو مشتمل علي عكس ذلك وهو أن نور فاطمة(عليها السلام) ليس منشغبا من نور الإثني عشر(عليهم السلام).

وهذا أمر دقيق وفيصل في بيان عدم التهافت بين اللسانين، وبيان عدم التدافع بينهما في نقطتين:

الأولي: إن اللسان الثاني بُيّن فيه انشعاب نور علي(عليه السلام) من نور1.

ص: 388


1- الخصال ، الصدوق/481.

النبي(صلي الله عليه و آله) وانشعاب نور الحسنين(عليهما السلام) من نور النبي(صلي الله عليه و آله) ونور علي(عليه السلام) وانشعاب نور التسعة(عليهم السلام)من نور الحسين(عليه السلام) واستثنت نور فاطمة(عليها السلام) فلم تنص علي انشعابه من نور أولادها(عليهم السلام).

ومفاد ذلك أنها(عليها السلام) ليست متأخرة رتبة.

الثانية: علاوة علي عدم ذكر انشعاب نورها(عليها السلام) من أنوار الإثني عشر وعدم النص في هذا اللسان علي تأخرها رتبة فإن ما يرفع التدافع مضافا إلي ذلك ما ذكرناه من أن طبقات أنوار المعصومين(عليهم السلام) متعددة.

واللسان الثاني يشير إلي الخلقة النورية في السبع سماوات حيث إن لهم في كل سماء طبقة نورية غير ما لهم مما هو قبل العرش ودون العرش وفوق الجنة ومع الجنة.

فإذا لاحظنا طبقة نور الزهراء(عليها السلام) في السبع سماوات فهي متأخرة رتبة عن أنوار الاثني عشر(عليهم السلام) بلحاظ طبقة أنوارهم فوق السبع سموات(1).5.

ص: 389


1- قال في البحار: (والاختلافات الواردة في أزمنة سبق الأنوار يمكن حملها علي اختلاف معاني الخلق ومراتب ظهوراتهم في العوالم المختلفة فإن الخلق يكون بمعني التقدير، وقد ينسب إلي الأرواح وإلي الأجساد المثالية وإلي الطينات ولكل منها مراتب شتي، مع أنه قد يطلق العدد ويراد به الكثرة لا خصوص العدد، وقد يراعي في ذلك مراتب عقول المخاطبين وأفهامهم ، وقد يكون بعضها لعدم ضبط الرواة) بحار الأنوار، المجلسي25/25.
الطبقة النورية باللغة الفلسفية:

والمحصلة هي أن البناء علي كون نور فاطمة(عليها السلام) هو الثالث رتبة سيّما في الطبقات الأولي وسبقه علي نور الحسنين(عليهما السلام) وأنوار التسعة(عليهم السلام) ينتج تقدمها عليهم رتبة.

وباللغة الفلسفية هي علة وواسطة فيض لنور الحسنين(عليهما السلام) وأنوار التسعة(عليهم السلام)، ومعني واسطة الفيض هي العلة المهيمنة في كل الكمالات علي من يستقي فيضها.

ويعبر في البحوث العقلية عن المخلوق الأسبق والذي ينشعب منه ويترشح عنه مخلوق متأخر بالعلة، بينما يعبر عن المخلوق المنشعب بالمعلول.

وفي العقليات إذا قيل صادر أوَّل وصادر ثاني وصادر ثالث فهو إشارة إلي أن كل متأخر معلول، والمعلول رشحة مِنْ رشحات العلة وتجل نازل عن علته، وهو ظهور مِنْ ظهورات علته، كما أنه اسم لظهور الصادر المتقدم عليه.

وبرهن فلسفيا علي حقيقة مفادها لو بقي المعلول أبد دهره في صراط التكامل فإنه لن يرقي إلي كمال علته، فما دامت العلة علة والمعلول معلول فدوما ستكون العلة مستوعبة والمعلول مستوعبا.

ويعبر فلسفيا أيضا عن المعلول بالرقيقة وعن العلة بالحقيقة،

ص: 390

فالعلة بالنسبة للمعلول حقيقة والمعلول بالنسبة لعلته رقيقة، أي تجل نازل عنها.

وعلي هذا الأساس فإن ترجمة آيات النور باللغة العقلية الفلسفية والكلامية والعرفانية هو أن فاطمة(عليها السلام) في كل الكمالات مهيمنة علي الأحد عشر(عليهم السلام) وإن الأحد عشر(عليهم السلام) رقيقة نازلة عن الحقيقة الفاطمية.

والتعبير عن فاطمة في بعض المرويات بأنها حجة علي الحجج هو لغة فقهية وكلامية، وَهِيَ بلغة عقلية اشتقاق أنواهم مِنْ نور فاطمة(عليها السلام).

وَهَذَا برهان كونها فِي عوالم علوية أعلي، وَأنهم إنما صاروا أولادها فِي الدُّنْيَا لأنهم اشتقاقات منها فِي عالم الأنوار.

بل التعبير في آيات وروايات النور بانشعاب نور الحسنين(عليهما السلام) وأنوار التسعة(عليهم السلام) من نور فاطمة(عليها السلام) أعظم بمراتب من التعبير بأنهم حجج الله وفاطمة(عليها السلام) حجة عليهم، لأن ما في آيات وروايات النور بيان تكويني، بينما المنظور في التعبير الآخر هو البيان التشريعي والمعرفي.

فالأئمة(عليهم السلام) أسماء وظهورات وآيات لظهور علي وفاطمة(عليهما السلام)، وعلي وفاطمة أسماء وظهور وآيات لظهور سَيِّد الأنبياء(صلي الله عليه و آله).

ص: 391

والحسن والحسين آية لظهور فاطمة(عليها السلام).

فدليل الأنوار بصياغة وترجمة عقلية هو هيمنة فاطمة(عليها السلام) عَلَي الأئمة(عليهم السلام).

والمفاد الدقي للبيان التكويني لنصوص النور هو أن كمالات فاطمة(عليها السلام) أصل ومنشأ لكمالات الحسنين(عليهما السلام)، بل أصل لكل كمالات الحسنين(عليهما السلام) العلمية والعملية والجهادية والعبادية.

وللتقريب نطرح هذا المثال تنبيها لما قلناه فقد وصف الحسن البصري عبادة الزهراء قائلا: (ما كان في هذه الأمة اعبد من فاطمة، كانت تقوم حتي تورم قدماها)(1).

وروي في علل الشرائع عن الإمام الحسن(عليه السلام) في وصف عبادة أمه فاطمة(عليها السلام) أنه قال:

«رأيت أمي فاطمة(عليها السلام) قائمة في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتي انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشئ، فقلت: يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟

فقالت: يا بني، الجار ثم الدار» (2) .

ومفاد الرواية أن سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام) يري نفسه متصاغرا1.

ص: 392


1- مناقب آل أبي طالب، بن شهر اشوب119/3.
2- علل الشرائع، الصدوق182/1.

أمام هول عبادة أمه فاطمة(عليها السلام)، وهذا يفسر جانبا من هيمنتها في كافة الكمالات علي كمالات أولادها(عليهم السلام) وهيمنة عبادتها في الرواية مثال.

الدليل الثالث: هيمنة مصحفها الشريف:
اشارة

وفي روايات مصحفها أكبر الأدلة علي هيمنة علمها(عليها السلام) علي علم أولادها(عليهم السلام)، كما أن نزول المصحف عليها تعبير وترجمة لما ورد في الزيارات

«إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم والصادر عما فصل من أحكام العباد»(1) فهم المركزية والقطبية وبالتحديد أمهم فاطمة(عليها السلام).

وقد بسطنا الحديث في مفادات مصحفها الشريف في مقالة مستقلة، وهنا نركز علي مفاد آخر وهو أن روايات المصحف تبين أن طبقات الملائكة كانت تنزل بالعلم علي فاطمة(عليها السلام) من دون أن يمرّ بأمير المؤمنين(عليه السلام)، فكأنما الزهراء(عليها السلام) هي اللاقط النبوي وأمير المؤمنين(عليه السلام) يأخذ ما تنزل عليها وانعكس منها، وهو ما رواه في الكافي من قول علي(عليه السلام):

«إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين(عليه السلام) يكتب كلما سمع حتي أثبت من ذلك مصحفا)(2) ومفاده أنه(عليه السلام) يسمع مصحف فاطمة(عليها السلام) ويكتبه

ص: 393


1- الكافي، الكليني577/4.
2- الكافي، الشيخ الكليني 240/1.

بتبع ما يتنزل علي فاطمة(عليها السلام) فهي المبلّغ عن المقام النوري لأبيها(صلي الله عليه و آله).

وروايات المذهب الاثني عشر قائمة علي هذه الحقيقة وهي من ثوابت المدرسة الإمامية .

وهذا من أوضح الشواهد علي المشاركة بين الزهراء وأمير المؤمنين(عليهما السلام) في إدارة الدين.

السؤال تحر عن الحقيقة لا إنكارها:

وهاهنا لفتة لا بد من التأكيد عليها وهي أن البعض يخول لنفسه أنكار الحقيقة بمجرد أن ينبثق لذهنه سؤال حولها، ومن هذا القبيل تساؤل البعض عن ما تنسبه الشيعة لفاطمة(عليها السلام) من مقامات، فحيث يطرأ علي أذهانهم التساؤل فمباشرة يتهمون الشيعة بأنهم ينسبون لفاطمة(عليها السلام) بدعا من الأمر، والحال أن السؤال في حد ذاته كاشف عن الجهل ودليل علي تدني المعرفة وشاهد عجز علمي عن تفسير ظواهر الكتاب فضلا عن بواطنه وتأويلاته.

ولذا فلابد أن نفخر بامتلاكنا الحقيقة والمعلومة أمام من يزدري عقائدنا، بل حتي مقابل من يسأل ويستشكل مرتابا، فبدلا من أن نكون في موقع المتهم لا بد أن نتحسس شعور المتعزز بنيل الحقيقة وتجليها من سطوح القرآن وتنزيلاته فضلا عن تأويلاته.

ص: 394

وبعبارة أخري:

ما يفعله الكثير من السائلين والمستشكلين علي العقائد أو آراء العلماء من مجابهتهم بلغة حدية ولهجة قوية هو خلاف مقتضي كونهم سائلين وطالبين للمعلومة، فإن تحمل شعور ذل المسألة في العلم أمر ممدوح وهو المقتضي الطبيعي لموقع السائل، فتقمصه لشخصية العالم وواجد الحقيقة حين سؤاله لبس لثوب غير ثوبه.

ويتأكد الأمر فيما نحن فيه فمن يتهم الشيعة بالبدعة والخرافة في عقيدتهم بمقامات فاطمة(عليها السلام) لمجرد وجود أسئلة في ذهنه، هذا منه خروج عن حال السائل المستفهم، فكيف إذا كان ما نقوله في فاطمة(عليها السلام) قد أثبته القرآن في ظواهر آياته لمن هي دون فاطمة(عليها السلام) مقاما وشأنا!!

فثمة جملة من الآيات نازلة في شأن مريم تنبأ عن تنزل مأموريات عليها من الله بلا توسط نبي زمانها، وهذا مثبوت في ظاهر القرآن.

وتنزل الملك مباشرة عليها ايذان وافصاح عن شراكتها في إقامة أمر الله.

وهو ما نقوله في فاطمة(عليها السلام) بنحو أعلي وأشرف، فمن يستصعب فهم ذلك أو يلح عليه السؤال فحاله حال الجاهل الفاحص عن العلم لا حال العالم الناقد للعلوم والمعارف.

ص: 395

ثم إنه إذا ما أخبر القرآن بتنزل الملك علي مريم عدة مرات فإن ما ورد في مصحف فاطمة(عليها السلام) - وبينا شواهده سابقاً - هو كثرة تردد طبقات الملائكة علي فاطمة(عليها السلام) مما يؤكد علي أنها بحر علم النبوة.

وهذا ما التفت إليه بعض كبار المحققين كالمرحوم الشاه آبادي(ره) وقد مر سابقا.

الدليل الرابع: آمريتها في عالم الآخرة:
اشارة

ومن شواهد هيمنتها ما مرّ في مقالة آمريتها في يوم القيامة، فقد ورد النص بهذا التعبير «أما تحبين أن تأمرين غدا فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب» فإن هذا التعبير بالتخصيص والاسم لم يرد لأحد المعصومين من أولادها(عليهم السلام) إلا النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام).

وما ورد في بقية الأئمة(عليهم السلام) مما يثبت مقام آمرية لهم في الآخرة وارد بصيغة الجمع أي ورد أنهم أمرون وناهون، وأما صيغة التخصيص في لسان الوحي فلم ترد إلا في النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام).

وهذا شاهد علي أن الهيمنة الثابتة للنبي(صلي الله عليه و آله) ولعلي(عليه السلام) علي الأئمة(عليهم السلام) ثابتة لفاطمة(عليها السلام) علي أولادها المعصومين.

والرواية التي تثبت مقام الآمرية لها في عالم الآخرة تثبت لها أنها بحر علم النبوة، فكونها آمرة في يوم يوضع فيه الموازين بالقسط، أي

ص: 396

تكون فيه المحاسبة بلا ظلم يثبت أن لها علما بالدين وعلما بالشريعة وعلما بالموضوعات وعلما بالأحوال، وأنها تلم بكافة ملابسات ومتعلقات قضايا العباد بلا طروء أي شبهة من الشبهات علي علمها، فلا شبهة موضوعية ولا شبهة حكمية ولا شبهة برزخية ولا شبهة اجتماعية.

بل الأمر والنهي في ذلك العالم لا يكفي فيه الإحاطة بعلم التشريع وعلم التنظير وعلم الموضوعات وإنما يتطلب العلم بمقتضي الأسماء الإلهية، ومقتضي الجمال والجلال الالهي، ومقتضي العوالم الصاعدة والنازلة، أي أن الإنصاف المناسب لهوية عالم الآخرة يتطلب الإحاطة بجوامع العلم كلها.

ولذا لم يوصف جبرائيل بلحاظ ذلك العالم بأنه أمر وناه، ولم يوصف إسرافيل ولا عزرائيل ولا آدم ولا إبراهيم ولا موسي ولاعيسي، فغاية ما وصفوا به هو آمرية وناهوية الدنيا، وأما آمرية وناهوية الآخرة فمدارها وشرطها علم جمع الجمع.

وبذلك يثبت أن التدبير الكلي للعوالم بعد النبي(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) ثابت لفاطمة(عليها السلام).

فاطمة(عليها السلام) لسان الميزان والحسنان(عليهما السلام) الكفتان:

وثمة رواية ذات مفاد عجيب رواها في المحتضر وكشف الغمة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:

ص: 397

(دخلت يوماً منزلي فإذا رسول الله(صلي الله عليه و آله) جالس والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وفاطمة بين يديه وهو يقول:

يا حسن ياحسين! أنتما كفّتا الميزان وفاطمة لسانه ولا يعتدل الكفّتان إلاّ باللسان، ولا يقوم اللسان إلاّ بالكفّتين.

أنتما الإمامان ولاُمّكما الشفاعة.

ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا الحسن! أنت توفّي المؤمنين اجورهم وتقسّم الجنّة بين أهلها ) (1).

ورواه من العامة بألفاظه الشيخ عبد الرحمن بن عبد السلام بن عثمان الصفوري الشافعي مؤرخ أديب من أهل مكة(2).

ومعلوم أن تعادل كفتي الميزان مرهون بلسان الميزان، فوصف فاطمة(عليها السلام) بلسان الميزان في قبال وصف الحسنين(عليهما السلام) بكفتيه يفيد أن نهج الحسنين(عليهما السلام) وهدايتهما ونورهما وعلمهما وسننهما لا تفهم بنحو متوازن الا بهيمنة علم فاطمة(عليها السلام) وهيمنة تربيتها وهدايتها وسننها ونورها.

وذيل الرواية هو (أنتما الإمامان ولاُمّكما الشفاعة) ومفاد هذا).

ص: 398


1- المحتضر، بن سليمان الحلي/ 180.
2- نزهة المجالس ومنتخب النفائس(المطبعة الكاستلية- مصر)، عبد الرحمن بن عبد السلام الصفوري176/2 (المتوفي سنة: 894ه- الموافق 1489م).

التقابل الذي يذكره النبي(صلي الله عليه و آله) هو أن للحسنين(عليهما السلام) خصوصية في الأمور الإجرائية في عالم الدنيا لكونهما إمامين، ولأمهما فاطمة(عليها السلام) فوقهما خصوصية تحديد الحساب النهائي وتقدير المعدل النهائي، فهي بالقياس لهما ذات مقام مهيمن، إذ معني الشافعة هي من بيدها تعيين النتيجة النهائية.

وصلاحيتها(عليها السلام) في تحديد النتيجة النهائية بما لها مقام الشفاعة دليل مستقل علي هيمنتها في كل الفضائل علي أولادها(عليهم السلام)، بل يصلح هذا الدليل لإثبات هيمنتها المطلقة وفي كل عوالم الولاية عليهم باعتبار أنها الغاية والنهاية.

الدليل الخامس: كونها بحر علم النبوة:
اشارة

ومن أدلة هيمنتها ومثبتات أم مقاماتها ما طرحناه في مقالة مستقلة تحت قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)(1) (2) فوصفها القرآن بالبحر.

بينما وصف أولادها(عليهم السلام) بقوله: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ )(3) (4) أي أن الحسنين(عليهما السلام) ثمرة من ثمرات بحر علي(عليه السلام) وبحر فاطمة(عليها السلام).

ولم يعبر عن الأئمة(عليهم السلام) بالبحر أو البحار وإن كانوا بحورا

ص: 399


1- سورة الرَّحْمَن: الآية 19.
2- سوره 55 - آيه 19
3- سورة الرَّحْمَن: الآية 22.
4- سوره 55 - آيه 22

بالنسبة لمن دونهم.

وخصوصية هَذَا الدَّليل:

أوَّلاً: أصله قرآني وَلَيْسَ بيان حديثي فحسب.

وثانيا: الحديث رواه رواة الفريقين.

وهذا المقام بنفسه يستحق أن يدون فيه موسوعة كاملة لأنه بوابة وباب عظيم في مقامات علي وفاطمة(عليهما السلام).

وها هُنَا نكتة تفسيرية بينها الإمام الصَّادِق(عليه السلام) ببرهان عقلي، وقد فصلناه في مباحث التفسير.

وهي أن ما يذكره القُرآن مِنْ جبال وأوتاد وبحر ولؤلؤ ومرجان وسحاب ومطر وشمس وقمر وظل وسماء وما هو من هذا القبيل، لا يريد بها الموجودات الأرضية فحسب، وَإنَّما المُراد مِنْ هَذِهِ العناوين جبال الملكوت ومطر الملكوت وعالم الأرواح وأرض الأنوار وأرض العوالم الأخري، والبحر في الآية لَيْسَ هُوَ البحر المعهود، وَإنَّما هو بحر العلم.

وعليه فعلي وفاطمة(عليهما السلام) لَيْسَا بحرا وبحراً عَلَي كوكب الأرْض.

وإذا رجعنا إلي تسلسل الآيات في ذكر الآلاء الرحمانية يتبين المراد من عنوان البحر حيث يقول: ( الرَّحْمنُ (1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (1)

ص: 400


1- سوره 55 - آيه 1

خَلَقَ الْإِنْسانَ (3)عَلَّمَهُ الْبَيانَ ... (1) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ ..... (2) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ... (3) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ 1 ). (4)

فأول شيء ذكره تعليم القُرآن وهو أعظم نعمة من النعم وأعظم من نعمة الإنسان نفسه، ثمَّ ذكر خلقة الإنسان أي أصل الخلقة وطبيعة خلقة الإنسان والأفراد الكمل منه، ثمَّ ذكر تعليمه البيان، ثمَّ أردف الكلام حول البحرين، وَبَعْدَ ذَلِكَ ذكر الجَنّة وَالنَّار.

فَأيّ بحر هَذَا الذي هو أعظم مِنْ الجَنّة وَالنَّار؟!!

من المقطوع به أن الآلاء التي تفوق وتهيمن علي الجنة والنار ليست هي الآلاء بعناوينها المادية وإنما بعناوينها الملكوتية.

وعلي هذا الأساس فالمراد من البحر كوصف لفاطمة(عليها السلام) والبحر كوصف لعلي(عليه السلام) والبرزخ المهيمن العادل الناظم بين البحرين كوصف لرَسُوُل الله(صلي الله عليه و آله) واللؤلؤ والمرجان كوصف للحسن والحسين(عليهما السلام) تصوير الفارق في المراتب بينهم بحسب التسمية والتوصيف.

فكم فرق بين البحرين والبرزخ الناظم بينهما، وكم فرق وفاصل8.

ص: 401


1- سوره 55 - آيه 3
2- سوره 55 - آيه 19
3- سوره 55 - آيه 31
4- سوره 55 - آيه 37

بين البحر ونتاجات البحر وهما الحسنان(عليهما السلام) فضلا عن بقية الأئمة التسعة(عليهم السلام) وفضلا عن بقية الأنبياء والرسل(1).

ومن حقنا أن نتساءل لم يريد القُرآن أنْ يعطينا صورة منابع الغيب فِي علي وفاطمة(عليهما السلام) بينما يصور شأن البقية كثمار ونتائج؟

ولم هذا الافخام والتفخيم من القرآن لمقام علي وفاطمة(عليهما السلام) تحت هيمنة سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وفوق مستوي مقامات بقية الأئمة(عليهم السلام) ؟

أليس هذا هو أفضل بيان وترجمان لهيمنة علي وفاطمة(عليهما السلام) عَلَي الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام).

ولا يظن أحد أن الهيمنة تعني التفوّق في درجة، فليس الأمر بهذه .

ص: 402


1- ويشبه هذا التوصيف توصيف علي بالتاج علي* رأس الزهراء(عليها السلام) وتوصيف الحسن والحسين بالقرطين في اذنيها، وهو ما رواه في المحتضر في فضائل الصديقة(عليها السلام) وروي عن رسول الله أنّه قال: لمّا خلق الله - تعالي آدم وحوّا تبخترا في الجنّة . فقال آدم لحوّاء: ما خلق الله خلقاً أحسن منّا. فأوحي الله - عزّ وجلّ - إلي جبرئيل: ائتني بعبدتي التي في جنّة الفردوس الأعلي . فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلي جارية علي درنوك من درانيك الجنّة ، علي رأسها تاج من نور، وفي اذنيها قرطان من نور، وقد أشرقت الجنان من حسن وجهها. فقال آدم: حبيبي جبرئيل! من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمّد نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان . قال: فما هذا التاج الذي علي رأسها ؟ قال: بعلها عليّ بن أبي طالب. قال: فما القرطان اللذان في اذنيها ؟قال: ولداها الحسن والحسين . قال: حبيبي جبرئيل ! أخُلقوا قبلي ؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله - تعالي - قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة. المحتضر، الحسن بن سليمان الحلي/ 232 .

البساطة والسهولة.

ويمكن تصوير الفاصلة في المراتب بما ذكر في بعض الروايات عن سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) في المقارنة بين عوالم الخلقة والفاصل بين عالم وعالم، مبينا أن السماء الأولي عند السماء الثانية كالقطرة في المحيط اللامتناهي وكحلقة في فلاة قي(1).

ومعني(قي)هو انتهاء الصوت في الصحراء المفتوحة اللامتناهية، أي بعد ابتعاد الصوت تحدث النغمة شبيهة ب- (قيييي)، فلا يفهم منها شيء، و(قي) اسم فعل يعني لا متناهي.

وعليه إذا كان حال السماء الأولي عند السماء الثانية هكذا فما هي النسبة في التصاعد في السماء السادسة والسابعة، وما هي النسبة عند عوالم ما فوق السابعة.

وهذا هو تصوير مقام الحسنين(عليهما السلام) في الكمالات العلمية وفي كل شيء من الفضائل بالقياس إلي مقام علي وفاطمة(عليهما السلام)، فهما وبقية الأئمة(عليهم السلام) عند أمهما كحلقة في فلاة قي .

وقد بينا سابقا أن الفاصل بين علي وفاطمة(عليهما السلام) وبقية الأئمة(عليهم السلام) ليس علي حد الفاصل في الرتب بين الأئمة(عليهم السلام)، فكما أن الفاصل كبير جدا بين سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وعلي وفاطمة(عليهما السلام) فكذلك الفاصل كبير8.

ص: 403


1- الكافي، الشيخ الكليني153/8.

جدا بين علي وفاطمة(عليهما السلام) وباقية الأئمة(عليهم السلام).

وترجم الإمام الصادق(عليه السلام) ذلك في بعض الروايات البيانية فكان إذا ذكر اسم النبي(صلي الله عليه و آله) ذكره باجلال واعظام حتي يكاد يسجد كما في روايات العقيقة في الكافي، فقد روي الكليني بسنده عن أبي هارون مولي آل جعدة قال: كنت جليسا لأبي عبد الله(عليه السلام) بالمدينة ففقدني أياما ثم إني جئت إليه فقال لي: لم أرك منذ أيام يا أبا هارون، فقلت: ولد لي غلام، فقال: بارك الله فيه فما سميته؟ قلت: سميته محمدا قال: فأقبل بخده نحو الأرض وهو يقول: (محمد محمد محمد حتي كاد يلصق خده بالأرض ثم قال: بنفسي وبولدي وبأهلي وبأبوي وبأهل الأرض كلهم جميعا الفداء لرسول الله(صلي الله عليه و آله).. الحديث)(1).

وهكذا حاله في الخضوع والإجلال إذا ذكر اسم فاطمة(عليها السلام) بحضرته.

وهذا أدب حقيقي لترجمان الفاصلة والفرق في الرتب.

وهنا يأتي هذا السؤال:

لم أختار القرآن التعددية في توصيف علي وفاطمة(عليهما السلام) فعبر عن علي(عليه السلام) أنه بحر وعبر عن فاطمة(عليها السلام) أنها بحر؟

أي أن فيض رسول الله(صلي الله عليه و آله) ينشعب إلي بحر علي وبحر1)

ص: 404


1-

فاطمة(عليهما السلام)، فما هو المعني والمغزي من ذلك؟

إن لذلك دلالات عديدة وهي كالتالي:

أولا: بيان الكفوئية، وقد مرّ بيانه تفصيلا.

ثانيا: يفسر التعددية وصايا النبي(صلي الله عليه و آله) لعلي(عليه السلام) بالائتمار بوصايا فاطمة(عليها السلام) وإن كان لعلي(عليه السلام) تقدم في الرتبة كما بينا.

علي وفاطمة(عليهما السلام) رافدان للمعرفة الكاملة بالنبي(صلي الله عليه و آله):

ومؤدي ذلك هو أن الطريق لمعرفة رسول الله(صلي الله عليه و آله) تتوقف علي التعرف عليه بعلي(عليه السلام) والتعرف عليه بفاطمة(عليها السلام)، فالتعرف عليه بفاطمة فقط غير ممكن كما أن التعرف عليه بعلي فقط غير ممكن، فهما بابان لمعرفة النبي(صلي الله عليه و آله) فمن رام أن يفهم سنة النبي(صلي الله عليه و آله) بالخوض في بحر علي(عليه السلام) فحسب لم يعرف النبي(صلي الله عليه و آله) معرفة كاملة، ومن رام أن يفهم سنة النبي(صلي الله عليه و آله) بالخوض في بحر فاطمة(عليها السلام) فحسب لم يعرفه معرفة كاملة، بل المعرفة الكاملة بسنة النبي(صلي الله عليه و آله) ونهجه وصراطه ودينه يكون بالخوض والسباحة والسياحة الفكرية السلوكية في بحر علي(عليه السلام) وفي بحر فاطمة(عليه السلام).

ولا نطرح هذه الإطروحة علي سبيل المجاملات أو لمجرد التفنن الأدبي، بل هو بيان لحقائق واقعية ومراتب تكوينية علي ضوء أدلة

ص: 405

قطعية مبدهة.

ولو تساءل البعض لأي مغزي يكون لفاطمة(عليها السلام) دور وأثر بوجود علي(عليه السلام)؟

لأجبنا إن إيكال الدور لها ليس لمجرد التقاسم الإعتباري أو المعونة والمساعدة الجسدية أو عدالة إرث مادي، وإنما هو تقاسم علي ضوء الواقع التكويني الرتبي، فلما كانا بحرين علي نحو التعادل والكفوئية لزم فيهما تقاسم الأدوار والمسؤوليات والوظائف لإقامة دين الله.

ومن أهم النتائج المترتبة علي هذا البحث ضرورة أن يصطبغ الفقه الجعفري بمنهج ومنهاج فاطمة(عليها السلام) وإلا لن يكون علي الموازين.

أي أن الأثر الفقهي لما نحن فيه هو لابدية أن يسير الفقه الجعفري وسنن أهل البيت(عليهم السلام) علي قاعدة التوازن بين نهج علي(عليه السلام) ونهج فاطمة(عليها السلام) لرسم خريطة للظهور علي الموازين الإلهية، فلو غيب نهج فاطمة(عليها السلام) فلن يكون ثمة صراط هداية سوي .

وعلي هذا الأساس فالصورة المتزنة والمنتظمة والعادلة عن النبي(صلي الله عليه و آله) والنبوة لها رافدان أساسيان، أولهما بحر علي(عليه السلام) وثانيهما بحر فاطمة(عليها السلام).

والمحصلة أن الأدلة والشواهد والمنبهات المزبورة تؤكد جانب

ص: 406

شراكة ومشاركة فاطمة(عليها السلام) لعلي(عليه السلام)في إقامة أمر الدين مع التحفظ علي خصوصية تقدم أمير المؤمنين(عليه السلام)، فيثبت بالجنبة الأولي أن الفاصلة بين فاطمة وعلي(عليهما السلام) ليست مطابقة للفاصلة بين علي(عليه السلام) والحسنين(عليهما السلام)، كما يثبت مقام أم مقاماتها ومقامها العظيم الأعظم وهو هيمنة كمالاتها(عليها السلام) علي كافة الأصعدة علي كمالات أولادها(عليهم السلام).

منهاج فاطمة(عليها السلام) محكم علي مناهج الأئمة(عليهم السلام):

ومِنْ النتائج الخطيرة لهَذَا المقام أنه لا يمكن الاحتجاج بمنهج أيّ إمام مِنْ الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام) فِي أيّ باب فقهي مِنْ دون الاعتماد والارتكاز عَلَي منهج ونهج فاطمة(عليها السلام)، فمع كونهم نورا واحدا إلا أنه لا يمكن رسم نهج أهل البيت(عليهم السلام) بلون نهج إمام واحد.

فلو قال قائل: أليس كل إمام هو الكل في الكل؟

لقلنا ذلك صحيح لكن الكلام هاهنا في فهم عقولنا لنهج الإمام الواحد.

وبعبارة أصرح:

إن كلامنا في قدرتنا علي استيعاب نهج أهل البيت(عليهم السلام) المتكامل كمنظومة من خلال ما ينطبع لدينا من فهم سيرة ونهج إمام واحد.

وبعبارة ثالثة:

ص: 407

إذا أردنا أن نحتج بما ورد عن المعصوم الواحد فلابد من جمع كل كلماته، أي أن مغزي ومرام أي واحد من الائمة(عليهم السلام) لا يمكن فهمه من رواية أو روايتين .

وإن قيل: أوليس الإمام المعصوم(عليه السلام) هو معصوم في الرواية الواحدة؟

فجوابه إن فهمنا للمعصوم بكله لا يكون من خلال الاعتماد علي كلام واحد، فلا نقص من ناحية المعصوم لكن النقص في رؤيتنا، إذ ليس في قدرتنا وقابليتنا أن نرسم رؤية متكاملة عن المعصوم من كلام واحد.

وهذا نظير ما دأب عليه الفقهاء والأصوليون والمتكلمون من القول أن العام والخاص ليس بحجة إلا بعد الفحص، وذلك لأن الدين منظومة واحدة فبرغم أن كل آية من القرآن حق إلا أن قابلية البشر لا تتسع لهضم المنظومة من حقيقة واحدة .

ونظير هذا نقوله في العلاقة بين نهج فاطمة(عليها السلام) ومنهاج الأئمة(عليهم السلام) من أولادها، فإن ما يفهم من نهجها وخطبتها وفعلها وسننها محكّم علي سنن وكلمات ومناهج من بعدها من الأئمة، فلا تنضبط الرؤية لمنهج أي معصوم إلا بالمراجعة لنهج فاطمة

ص: 408

المقالة الواحدة والعشرون: خطب الزهراء عليها السلام

اشارة

*عدد خطب الزهراء(عليها السلام)

*تعدد خطبها تعبير عن مدوامة مقاومتها

*الخطبة الثانية: بيان مقام ولايتها علي رجال الأمة والمهاجرين والأنصار

*الخطبة الثالثة: مسؤوليتها(عليها السلام) حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين

*الخطبة الرابعة: علي وفاطمة ركنا الولاية وأخا تيم وعدي ركنا الظلم

عدد خطب الزهراء(عليها السلام):

من الملفت للنظر لمن أخذ بشيء من السبر والتتبع أن خطبها(عليها السلام) لم تقتصر علي اثنتين كما هو معروف ومشهور، بل هناك خطبتان أخريتان فيكون المجموع أربع خطب لها(عليها السلام)، ولعل المتتبع يجد أكثر من ذلك.

قال الشيخ الحر العاملي أن فاطمة(عليها السلام) خطبت مرارا...

ص: 409

وروي فيه: أن فاطم(عليها السلام) ادعت ثلاثة أشياء: الميراث والنحلة وسهم ذوي القربي وأن أبا بكر لم يقبل شيئا منها بل منعها وأن فاطمة خطبت في ذلك مرة بعد أخري، وأنشدت شعرا واظهرت من التظلم والشكاية والتأذي والغضب علي من غصبها وعلي من ساعده وعلي من خذلها ولم ينصرها شيئا كثيرا بليغا لم أنقله خوفا من الاطالة، وجميع تلك الروايات من طرق السنة لا من طرق الشيعة)(1).

والخطبة الثالثة هي التي رواها ابن شهرآشوب عند عيادة خصوص أم مسلمة لفاطمة(عليها السلام).

كما أن هناك خطبة رابعة رواها الشيخ الطوسي في الأمالي وهي عند زيارة عائشة بنت طلحة لفاطمة(عليها السلام).

والملاحظ في هذه الخطب الأربع أنها ذات اتجاه وهدف ونبرة واحدة وهي مواجهة أصحاب السقيفة والانحراف الذي حصل في الخلافة، وغصبها والاستيلاء عليها ولكن من زوايا مختلفة ولكن المحاور الأساسية واحدة.

تعدد خطبها تعبير عن مدوامة مقاومتها:
اشارة

وتعدد خطبها مؤشر علي استمرار نهج معارضتها المعلن بنحو

ص: 410


1- إثبات الهداة، الحر العاملي2 / 358 حديث 160.

صارخ في قبال أصحاب السقيفة وقبال تخاذل المهاجرين والأنصار، فلم تهدأ مجلجلة الخطاب في الإدانة للمتواطئين من جهة واستفزاز وعتاب للمتخاذلين من جهة أخري.

وأكدت(عليها السلام) في خطبها علي التوحيد والنبوة والقرآن وأصل دين الإسلام والمعاد، أي الثوابت لبني الإسلام لئن لا تهدم وتزلزل وتزال كما ارادوا صنع ذلك بالامامة والولاية.

فكان ذلك منها درءا من التحريف وقطعا لأطماعهم عن المزيد من الإحداث في الدين، ومن ثم حاججت أبا بكر بالكتاب والسنة فعيّ عن جوابها ولم يكن له مجال للتذرع الا برضا الصحابة بما صنعوا.

ومن ثم عاتبتهم(عليها السلام) علي نبذ الكتاب ونبذ سنة النبي(صلي الله عليه و آله) وعهده وظلمهم للعترة وتواردهم علي آل الرسول(عليهم السلام) وأنذرتهم عن الردة عن ذلك

ص: 411

ص: 412

الخطبة الثانية: بيان مقام ولايتها علي رجال الأمة والمهاجرين والأنصار
المحاسب والحاكم علي المهاجرين والأنصار علي أكبر مسؤولية وهي اقصاء امير المؤمنين(عليه السلام) عن الخلافة:

روي في الاحتجاج، قال سويد بن غفلة: لما مرضت فاطمة(عليها السلام) المرضة التي توفيت فيها دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله ؟

فحمدت الله، وصلت علي أبيها، ثم قالت: أصبحت والله: عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجنتهم، وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفات وصدع القناة، وختل الآراء، وزلل الأهواء، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون.

لا جرم لقد قلدتهم ربقتها وحملتهم اوقتها وشننت عليهم غاراتها فجدعا، وعقرا وبعدا للقوم الظالمين(1).

ص: 413


1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي:146/1، 149، المطالب المهمة في تاريخ النبي والزهراء والأئمة 20، أعيان النساء عبر العصور المختلفة 442 وللوقوف علي مزيد من المصادر راجع الموسوعة الكبري عن فاطمة الزهراء 13 / 405.

وفي نسخة أخري: عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين(عليه السلام) قال: لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول(عليها السلام) اجمتع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علتك؟

فقالت: أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن عجمتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لا جرم لقد قلدتهم ربقتها وشننت عليهم عارها فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين)(1).

وفي هذه الخطبة الشريفة برمتها قد جعلت فاطمة(عليها السلام) محور كلامها حول ولاية أهل البيت(عليهم السلام) في الخلافة، وتقريع رجال المهاجرين والأنصار حول مهادنة أصحاب السقيفة وانقيادهم وبيعتهم لهم.

ثم إن الخطبة علي مقاطع:

المقطع الأول: بينت الزهراء(عليها السلام) ولايتها من موقع الآمر والناهي للمهاجرين والأنصار ورجال الأمة .5.

ص: 414


1- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق 354 ، 355.

فكل كلماتها(عليها السلام) كانت من موقع هيمنة ولايتها علي المهاجرين والأنصار فضلا عن بقية رجال الأمة وهو يطابق ما أقر به أبو بكر علي ما نقله ابن أبي الحديد بعد خطبتها في مسجد النبي(صلي الله عليه و آله).

وهذا مطابق لفحوي خطبتها في مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله) من موقع المحاكم والمحاسب للمهاجرين والأنصار ولرجال الأمة في أمر الخلافة والبيعة، والمهاجرين والأنصار كلهم وبما فيهم أصحاب السقيفة كلهم أذن صاغية لا ينبسون ببنت شفة بل لم يعترضوا عليها حتي أبي بكر بأنها تدخلت في أعظم شأن في الأمة.

بل كانت أجوبة أبي بكر لفاطمة(عليها السلام) كجواب الرعية لمحاسبة الوالي يبرر ويعذر ما قام به في السقيفة مع اعتراف منه بموقع الولاية والحجية لفاطمة(عليها السلام).

فقال لها: (وأنت سيدة أمة أبيك)، فسؤددها علي الأمة رجالا ونساء أي ولايتها عليهم.

كما وصفها أنها (عين الحجية) إلي بقية الأوصاف التي كلها إقرار منه لولاية فاطمة(عليها السلام).

وقولها(عليها السلام): (أصبحت والله عائفة لدنياكم) من الواضح أن المراد من دنياكم أي الإدارة لشؤونكم، وهذه الإعافة إعافة الرئيس عن موقع مديريته، لأن إسناد الدنيا إليهم يدل علي كون حديثها عن إسناد

ص: 415

الدنيا إليهم كمجموع، فيكون المراد هو حياتهم الاجتماعية والسياسية جميعا.

كما أن قولها(عليها السلام): (قالية لرجالكم) يدل علي أن لها شأنا من الهيمنة علي رجال المهاجرين والأنصار بمجموعهم، فالقلاء لمجموع الرجال في مقابل عنايتها لهم، وإنما هو شان الولي علي الرعية .

ويشهد لهذا المفاد قولها(عليها السلام): ( لفظتهم قبل أن عجنتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم)، فيدل هذا علي أنها تمتحن الرجال من المهاجرين والأنصار فضلا عن بقية الرجال وأنها في مقام الممتحن لنخبة الأمة، وأنها أبعدتهم وطردتهم عن شأنية جدارة القيام بالمسؤولية المصيرية للدين والأمة كنخبة في الأمة.

ثم أنها(عليها السلام) أدانتهم بقولها(عليها السلام) (فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفات وصدع القناة، وختل الآراء، وزلل الأهواء) لخذلانهم أمير المؤمنين(عليه السلام) والإخلاد إلي الخفض والدعة والغدر الذي خامر قلوبهم وإسراعهم للباطل واغضاضهم عن الفعل الهالك الملك للأمة ونكصوا بعد الإقدام وأشركوا بعد الإيمان، كما أشارت إلي ذلك في خطبتها في مسجد النبي وارتابوا بعد البيان ومال بهم الهوي وما أقدموا عليه يوجب الخلود في العذاب.

وقولها(عليها السلام) (لقد قلدتهم ربقتها) فهو مداينة للمهاجرين والأنصار

ص: 416

بأثم الانحراف في الخلافة والإحداث والتبديل في الزعامة عما أمر الله تعالي وسن النبي(صلي الله عليه و آله) كما أنها داينت رجال الأمة بفعلها وألزمتهم عار هذا الانحراف.

وهذا واضح أنها تبين مقام ولايتها ومسؤوليتها علي المهاجرين والأنصار ورجال الأمة في الأمر المصيري لمسير الدين والأمة.

المقطع الثاني: قد تصدت فاطمة(عليها السلام) إلي بيان إمامة علي(عليها السلام) وحقه في الخلافة ودلائل نصب الله ورسوله له وليا وزعيما للأمة.

وبيّنت عظمة الكمالات والسعادة التي تصل إليها الأمة من تولي أمير المؤمنين(عليه السلام) زمام الخلافة.

وأشارت(عليها السلام) إلي أن تخليهم عن أمير المؤمنين(عليه السلام) هو الخسران المبين، وأن دواعيهم من الإنحراف عنه هو تبرؤهم من الإستقامة، وأن انحرافهم عن أمير المؤمنين(عليه السلام) تبرما وخوفا من قوة حزمه ورعب سطوته في ذات الله والصرامة في حدود الله مع زهده في الدنيا وتعففه عن نهب الثروات، ونصحه لما هو صالح للدين والأمة.

فقالت(عليها السلام):

«ويحهم أني زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور الدنيا والدين ؟! ألا ذلك هو الخسران المبين! وما الذي نقموا من أبي الحسن(عليه السلام)؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلة مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال

ص: 417

وقعته، وتنمره في ذات الله»(1).

وأن توليهم لأبي بكر من الأعاجيب والمهازل وأنه لبئس البدل، وأنهم تكالبوا علي الغدر بأهل البيت وأقدموا علي التآمر عليهم، فقالت(عليها السلام):

«ليت شعري إلي أي إسناد استندوا؟! وإلي أي عماد اعتمدوا؟! وبأية عروة تمسكوا؟! وعلي أية ذرية أقدموا واحتنكوا لبئس المولي ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا».

المقطع الثالث: ذكرت(عليها السلام) النتائج المدمرة لمصير الأمة من غصب الخلافة بتوسط مشروع السقيفة والهول الذي ينتظر الأمة نتاج ذلك، وما سينجم عن ذلك من وصول أشرار الأمة إلي السلطة وطمعهم فيها وسفك الدماء وهتك الأعراض واستمرار سلسلة الحكومات الظالمة الجائرة المستبدة علي رقاب الأمة عبر القرون حتي يفرّج الله بأهل البيت(عليهم السلام) .

المقطع الرابع: تكفلت(عليها السلام) ببيان وحدة ولاية أهل البيت(عليهم السلام) وأنهم لا يقومون بالأمر بإلجاء الأمة وجبرها لأن الامتحان اختياري وليس جبريا بمنطق القرآن في قوله تعالي: ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ )(2) (3) ، وذلك باستشهادها بقوله تعالي: ( أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)(4). (5)8.

ص: 418


1- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي 1 / 146 ، 149.
2- سورة الرعد: الآية 11.
3- سوره 13 - آيه 11
4- سورة هود: الآية 28.
5- سوره 11 - آيه 28

فهنا جمعت بين شأن ولايتها وولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) وولاية أهل البيت(عليهم السلام).

والملفت في الخطبة أنها ابتدأت من موقع ولايتها والمسؤوليات التي اضطلعت بها اتجاه الدين والأمة والمهاجرين والأنصار ثم ثنّت بولاية وإمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم ذكرت ثالثا فادحة استيلاء أبي بكر علي الخلافة وتمايل المهاجرين والأنصار إلي ذلك، ثم العواقب الوخيمة الناتجة من ذلك علي مستقبل الدين والأمة، وأن أهل البيت(عليهم السلام) وولايتهم كولاية الله ورسوله ليست بالإلجاء والإكراه والجبر التكويني للأمة، بل قائمة علي امتحان الأمة بالاستجابة لذلك.

وفي جملة من المصادر أن النساء أعادت قولها(عليها السلام) علي رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا:

«يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا لأمر قبل أن يبرم العهد، ويحكم العقد، لما عدلنا عنه إلي غيره، فقالت(عليها السلام): إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم»(1) .9.

ص: 419


1- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسي 1 / 149.

ص: 420

الخطبة الثالثة: مسؤوليتها عَليها السلام حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين

قال ابن شهر آشوب في ذكر عيادة أم سلمة:

ودخلت أم سلمة علي فاطمة(عليها السلام) فقالت لها: كيف أصبحت عن ليتك يا بنت رسول الله؟ قالت أصبحت بين كمد وكرب فقد النبي(صلي الله عليه و آله) وظلم الوصي هتك والله حجبه أصبحت إمامته مقتصة علي غير ما شرع الله في التنزل وسنها النبي في التأويل ولكنها أحقاد بدرية وترات أحدية كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لإمكان الوشاة، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق.

فيقطع وتر الإيمان من قسي صدورها وليس عليّ ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد انتصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكروب ومنازل الشهادات)(1).

ص: 421


1- مناقب آل أبي طالب، اين شهرآشوب: 49/2.

وفي مطلعها تبين(عليها السلام) هدفين مهمين تركز عليهما وتعبأ الأمة اتجاههما من خلال ثورتها في البكاء وزلزال جزعها ومعالم حركتها بنحو دائم:

الأول: خسارة فقد النبي(صلي الله عليه و آله) لتنشد الأمة بالذكري الحية للرسول(صلي الله عليه و آله) ويظل ماثلا أمام عقولهم وأرواحهم ومنشدة إليه قلوبهم لتتبع سنته ويؤخذ بهديه فلا تنحرف الأمة بالمستولين علي الخلافة من بعده.

الثاني: بناء الوعي والمعرفة في عقل وروح الأمة بإمامة الوصي(عليه السلام) واستحقاقه الخلافة، وأن سعادة ونجاة الأمة دنيا وآخرة به.

ثم بيّنت أنه قد هتك حجاب الوحي بتجرئهم علي غصب الخلافة والتطاول عليه وزحزحته عن مقامه، وأن الأمة لم تتبع شرع الله ولا سنة النبي(صلي الله عليه و آله) في إمامته، وأن سبب انحراف الغاصبين للخلافة ومن يقف ورائهم ويساندهم امتلاؤهم بالأحقاد والعداوات نتيجة ما كبّدوا من ضربات واستئصال في بدر وأحد فشاقوا أهل البيت(عليهم السلام) في ولايتهم ومقامهم.

وأمّا قولها(عليها السلام): (فليس عليّ) فالظاهر أن المراد هو ليس علي ضير أو خسران بعدما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين.

ص: 422

وفي هذا إشارة إلي مقام ولايتها وأن المسؤولية الملقاة علي عاتقها هي حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين فهي الحافظة للرسالة والكافلة للمؤمنين.

فلفظة (عليّ) أي المسؤولية علي، والتقدير وإن كان الضير والضرر والبأس هو حفظ الرسالة إلا أن المتعلق المرتبط بشأنها من نفي الضرر والضير أو البأس هو حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين، مما يدلل علي أن عمدة اهتماماتها هي حفظ الرسالة وهو الذي مرّ بيان المحورين في صدر كلامها (فقد النبي وحزن الوصي) وهذا هو حفظ الرسالة، ثم أضافت إلي ذلك كفالة المؤمنين، والكافل للمؤمنين ليس إلا مسؤولية الوالي، فهذا يبين مقامها وولايتها بجنب ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) ومسؤوليته.

وتبين(عليها السلام) سبب عدم خوفها من المآل والعواقب أنه تعالي بالغ أمره وسيظهر الدين ولو كره الكافرون والمشركون، وأن غاية ما قام به الغاصبون في السقيفة ومن ورائهم إنما هو غرور متاع قليل للدنيا، وهذا لا يضر بما أنجزه أمير المؤمنين(عليه السلام) من الانتصار بإقامة قواعد الرسالة وذلك عبر تطهير البلاد والعباد من فراعنة قريش وطغاة العرب وطغام الناس، فهذا الصرح المشيد قائم لا يتزلزل بغصب الخلافة من أصحاب السقيفة مؤقتا.

ص: 423

ص: 424

الخطبة الرابعة: علي وفاطمة ركنا الولاية وأخا تيم وعدي ركنا الظلم

أنه وجده في كتاب لأبي غانم المعلم الأعرج، وكان مسكنه بباب الشعير، وجد بخطه علي ظهر كتاب له حين مات: وهو أن عائشة بنت طلحة دخلت علي فاطمة(عليها السلام) فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت وأمي، ما الذي يبكيك؟

فقالت لها(عليها السلام): أسائلتي عن هنة حلق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفع إلي السماء أثرا، ورزئت في الأرض خبرا، أن قحيف تيم وأحيوك عدي جاريا أبا الحسن في السباق، حتي إذا تقربا بالخناق، أسرا له الشنآن، وطوياه الإعلان، فلما خبا نور الدين، وقبض النبي الأمين، نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلا بفدك، فيا لها لمن ملك، تلك أنها عطية الرب الأعلي للنجي الأوفي، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وأنها ليعلم الله وشهادة أمينه، فإن انتزعا

ص: 425

مني البلغة، ومنعاني اللمظة، واحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدنها آكلوها ساعرة حميم، في لظي جحيم )(1).

وفي الخطبة جهرت(عليها السلام) بالإدانة لأبي بكر وعمر وأنهما كان يحيكان هذه الفتنة من زمن رسول الله(صلي الله عليه و آله) وأنهما غصباها فدك.

ففي الخطبة ترسيم لكونهما مركز الفتنة وأنهما المحور للظلم الذي وقع علي أمير المؤمنين(عليه السلام) وعليها كما أنها بينت بأن مشروع السقيفة استهدف كلا من علي وفاطمة(عليهما السلام) بنحو سواء، مما يدلل ويثبت بوضوح أن كيان الولاية قائم بعلي وبفاطمة(عليهما السلام) في الدرجة الأولي.

وهذا مما يشير إلي تكافئهما وتشاطرهما المسؤولية وأن ما قام به الخصوم خطر عظيم وفيه مطاولة لعظمة علو الله تعالي، وهو مما يبين أن ولاية علي وفاطمة(عليهما السلام) بتلك المكانة من تجلي شأن عظمة الله.5.

ص: 426


1- الأمالي، الشَّيْخ الطوسي: 204، 205.

المقالة الثانية والعشرون: إقرار أبو بكر لفاطمة عليها السلام

اشارة

*ذكره لشؤون مقاماتها إرادة منه لدفع ما قد يعترض عليه في مجادلته لفاطمة(عليها السلام) فأراد اظهار صورة للمهاجرين والأنصار أنه غير ناكر ولا جاحد ولا ناس لشأن من شؤونها ولا لمقام من مقاماتها وأنه رغم ذلك يتعذر في شرعية ما يدعيه إلي الرواية التي يزعم روايتها عن النبي(صلي الله عليه و آله): ( ما تركناه صدقه).

*أي شرعية وموضوعية للخليفة المنصب بالشوري إذا دافع ضرورة الكتاب والسنة!

*فوصول المحاججة لهذا الموضع قدرة عظيمة من فاطمة(عليها السلام) لكشف زيغ أهل السقيفة وزيغ وانقلاب الصحابة علي اعقابهم.

*شرح المقامات

ص: 427

قال أبو بكر: يا بنت رسول الله(صلي الله عليه و آله) أنت عين الحجة(1)، ومنطق الرسالة،..)(2).

وفي بلاغات النساء فأجابها أبو بكر عبدالله بن عثمان وقال: «فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، علي الخير أدلتنا، وإلي الجنة مسالكنا(3)، وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلا بإذنه».

«وأنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لاندفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي».

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدي والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة»(4).

وفي شرح النهج: لما كلمت فاطمة(عليها السلام) أبا بكر بما كلمته به حمد4.

ص: 428


1- دلائل الامامة للطبري/30، علل الشرائع:/24 شطرا منها، اعيان النساء عبر العصور المختلفة/ 429.
2- بحار الانوار، المجلسي 29 / 239.
3- بلاغات النساء 26 ، انوار اليقين في امامة امير المؤمنين للحسني اليمني مخطوط 276.
4- الاحتجاج، الطبرسي 1/ 144.

أبو بكر الله وأثني عليه وصلي علي رسوله ثم قال: يا خيرة النساء، وابنة خير الاباء، ...»(1).

وقد يطرح تساؤل هل هذه الأوصاف التي هي مقامات خطيرة في الدين وصف بها أبو بكر فاطمة(عليها السلام) كانت انشاء من عند نفسه أم هي اقرار ورواية بما سمعه من رسول الله(صلي الله عليه و آله) في شأنها؟

الجواب:

لبيان حقيقة الحال وأنها رواية بما سمعه من رسول الله(صلي الله عليه و آله) وإقرار به نذكر النقاط التالية:

أولا: أن جوابه هذا كان في محضر ملأ المسلمين ولم يعترض عليه أحد بما قاله حتي أولئك المناؤون لأهل البيت وفاطمة(عليها السلام) .

ثانيا: إن ما ذكره كان بمثابة اقرار منه بهذه الشؤون والمقامات لفاطمة(عليها السلام) أمام ملأ المسلمين أيضا.

ثالثا: أن أبا بكر كان في مقام منازعة ومجادلة لفاطمة(عليها السلام) لا سيما وأن هذا النزاع لم يقف علي فدك وأنما احتجاج الطرفين علي أصل الخلافة وحق أهل البيت(عليهم السلام) فيها.

فمع هذا الحال يكون الاقرار منه بهذه الشؤون لفاطمة(عليها السلام) لا3.

ص: 429


1- شرح ابن ابي الحديد، ابن ابي الحديد 16 / 213.

يخلو إما هي مقامات لم يسمعها المسلمون من قبل فيكون اقراره بها دحضا لحجته امام حجة فاطمة(عليها السلام)، وكيف وهو يريد أن لا يسقط أمام المهاجرين والأنصار عن الشرعية .

فهذا الاحتمال لا يمكن تعقله ولا امكانية له.

والاحتمال الآخر أن هذه الشؤون والمقامات حيث إنها كانت مسلمة عند المسلمين ثبوتها لفاطمة(عليها السلام) سمعا من رسول الله(صلي الله عليه و آله) وتنزيلا من الذكر الحكيم في شأنها بما بينه النبي(صلي الله عليه و آله) في ذلك أراد أبو بكر في محاججته أن يفهم ملأ المهاجرين والأنصار أنه غير منكر لشؤون ومقامات فاطمة(عليها السلام)، وأن رغم هذه الشؤون والمقامات هو يستند في ما يزعمه من شرعية موقفه إلي حديث رواه عن النبي(صلي الله عليه و آله) في شأن فدك.

فذكره لشؤون مقاماتها إرادة منه لدفع ما قد يعترض عليه في مجادلته لفاطمة(عليها السلام) أنها حيث كانت ذات هذه الشؤون والمقامات فكيف ينازعها هذا الأمر، فأراد اظهار صورة للمهاجرين والأنصار أنه غير ناكر ولا جاحد ولا ناس لشأن من شؤونها ولا لمقام من مقاماتها وأنه رغم ذلك يتعذر في شرعية ما يدعيه إلي الرواية التي يزعم روايتها عن النبي(صلي الله عليه و آله): ( ما تركناه صدقه)، ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة

ص: 430

والعلم والنبوة وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ).

رابعا: لا يخفي أن فيما روي عن محاججة فاطمة(عليها السلام) لأبي بكر أنها قطعت الطريق عليه في كل ذرائعه بالآيات وضرورات الدين، فلم يركن بعد ذلك أبو بكر لأي احتجاج إلا بأن هؤلاء المسلمون نحكمهم في النزاع بيني وبينك بأنهم نصبوه خليفة وبأنهم اتفقوا علي أخذ فدك والخلافة من أهل البيت، حيث قال: (ولكن المسلمون بيني وبينك، هم قلدوني ما تقلدت، وأتوني ما أخذت وتركت)(1).

(هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود)(2).

وهذا الكلام مرة أخري منه اعتراف وتسليم منه بشؤون ومقامات فاطمة(عليها السلام) وأنه لا يريد أن يكابرها، ففاطمة(عليها السلام) ليست ممن يكابر، أي ممن ينقاد اليها ويسلم إليها.

ولا يصح منازعتها الأمر وإنما يستند في شرعية ذلك إلي اتفاق المسلمين وأنه خليفة.4.

ص: 431


1- دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري الشيعي 124.
2- الاحتجاج، الطبرسي 1 / 144.

خامسا: لا يخفي أن أبا بكر بعد ما افحم بالحجج وانقطع به الاحتجاج واستند إلي اتفاق المسلمين علي تقلده خليفة وعلي أن يأخذوا الأمر من أهل البيت(عليهم السلام) وفدك دليل عيّه عن منطق الجواب وعجزه عن الاستناد إلي أي شرعية من الكتاب والسنة، بل الكتاب والسنة بما بينت فاطمة(عليها السلام) داحضا لما ارتكب.

وأي شرعية في اتفاق الأمة المناقض لكتاب الله وسنة نبيه.

وأي شرعية وموضوعية للخليفة المنصب بالشوري إذا دافع ضرورة الكتاب والسنة، فوصول المحاججة لهذا الموضع قدرة عظيمة من فاطمة(عليها السلام) لكشف زيغ أهل السقيفة وزيغ وانقلاب الصحابة علي اعقابهم كما اخبر بذلك القرآن بعد موت رسول الله(صلي الله عليه و آله).

ومن ثم ادارت خطابها(عليها السلام) بعد ذلك إلي المسلمين بعتابهم وتقريعهم وإدانتهم علي الباطل الذي يرتكبونه والشر الذي يقيمونه واغتصاب الحق الذي يقدمون عليه.

سادسا: ولا يخفي أن هذه المحاججة بينها وبين أبي بكر قد نقلت في مصادر كثيرة وعديدة مع اختلاف في اختصار المتن وتوسطه أو نقله مبسوطا، وعلي أي تقدير ففي جملة من المصادر الكثيرة التي نقلت هذه المحاججة قد اعترف وروي أبو بكر هذه المقامات المتعددة موزعة في ثلاثة مواطن.

ص: 432

سابعا: لا يخفي أن جملة من المصادر منها شرح أبن أبي الحديد وغيره وقد اشرنا إلي غيره من المصادر قد نقلوا أن المهاجرين والأنصار هاجوا بعد هذه الخطبة والمحاججة وخاف أبو بكر انقلاب الأمر عليه فصعد المنبر وشتم أمير المؤمنين(عليه السلام) وعرض بالزهراء(عليها السلام) أنها من النساء قد دفعها إلي ذلك زوجها أمير المؤمنين بقوله: ( كلا بل هو ثعالة شهيده ذنبه لعنه الله، وقد لعنه الله، مرب لكل فتنة، يقول: كروها جذعة، ابتغاء الفتنة من بعد ما هرمت، كأم طحال أحب أهلها الغوي...يستعينون بالصبية، ويستنهضون النساء)(1).

وهذا المشهد يظهر أن أبا بكر قد فقد توازنه في الخطاب وعجز عن تغطية نواياه الأصلية في ما قام به من الإستيلاء علي الخلافة.

وهذا يناقض ما اقرّ به من شؤون من مقامات فاطمة(عليها السلام)، ومن ثم اعترضت عليه أم سلمة فأطلعت رأسها من بابها وقالت: ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا، وهي الحوراء بين الإنس، والإنس للنفس، ربيت في حجور الأنبياء، وتداولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير منشأ، وربيت خير مربي.

أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها؟! وقد قال الله له: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) ؟ أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي4.

ص: 433


1- دلائل الامامة، الطبري ( الشيعي) 124.
2- سوره 26 - آيه 214

خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة مريم ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، فيوسدها يمينه، ويلحفها بشماله، رويدا فرسول الله بمرأي لغيكم، وعلي الله تردون، فواها لكم وسوف تعلمون)(1).

قال: فحرمت أم سلمة تلك السنة عطاءها، ورجعت فاطمة(عليها السلام) إلي منزلها فتشكت.

وفي مصدر آخر قالت أم سلمة حيث سمعت ما جري لفاطمة(عليها السلام): ألمثل فاطمة بنت رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقال هذا القول، هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس.... )(2).

فبدأت أم سلمة تذكر بقية شؤون ومقامات فاطمة(عليها السلام) دحضا لأبي بكر عندما انقلب علي وعن ما اقرّ به من شؤون ومقاماتها.

والملفت أنها تقسم بالله أن هذه مقامات وشؤون لفاطمة(عليها السلام) وهذا القسم كما هو واضح تأكيد لبداهة هذه الشؤون سمعا من رسول الله(صلي الله عليه و آله) بل وبحسب تنزيل القرآن علي ما ذكره من فضائلها.

ويستفاد من كلامها روايتها لجملة أخري من مقامات وشؤون فاطمة(عليها السلام).0.

ص: 434


1- دلائل الامامة، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) 124.
2- الدر النظيم، يوسف بن حاتم الشامي المشغري العاملي 480.

سابعا: لا يخفي أن اسلوب اعتراف ابو بكر بهذه الأوصاف التي تمثل شؤون ومقامات فاطمة(عليها السلام) ذكرها أمام ملأ المهاجرين والأنصار بنمط أنه أمر مفروغ منه متسالم عليه واضح بديهة من المسلمين .

وهذا هو أيضا شاهد آخر أن هذه الأوصاف هي حقائق دينية متلقاة من النبي(صلي الله عليه و آله) والأحاديث القدسية وموارد تنزيل القرآن العظيم.

ثامنا: لا يخفي أن جملة هذة المقامات المذكورة في كلام أبي بكر وكلام أم سلمة سيتبين أنها مدلول جملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المستفيضة وإن اختلف اللفظ إلا أن المعني متحد.

تاسعا: لا يخفي أن ما سنبينه من دلائل في شرح هذه الأوصاف والعناوين والقوالب من شؤونها ومقاماتها(عليها السلام) بمقتضي محكمات الآيات والمستفيض من الروايات ليس بمعني أن هذه المعاني والحقائق الشامخة اختلجت وخطرت علي ذهن أبي بكر بما لها من خطورة بل لا نحتمل ذلك لأن هذه القوالب والعناوين فوق أن يمكنه تصور حقائقها فضلا عن أن ينشأ ألفاظها وقوالبها.

بل من البديهي أن هذه العناوين والقوالب كلها من مصطلحات الوحي الالهي، وليس لها أثر ولا عين في لغة العرب ولا في الكلمات المنثورة في الأدب أو شعر الشعراء في الجاهلية.

وهذا هو أحد البراهين أن هذه الأوصاف من مسموعات

ص: 435

الوحي وإن ذكره واقراره بها في ملأ المهاجرين والأنصار كشيء متسالم بمثابة اجماع الأمة علي رواية هذه المقامات لها(عليها السلام) عن النبي(صلي الله عليه و آله) والوحي الإلهي.

ص: 436

شرح المقامات
1- عين الحجة:

(إنها منبع الحجية في الدين وهيمنتها علي كل الحجج)

ولا يخفي أن هذا العنوان والقالب ليس يحمل تقرير الحجية الدينية الاصطفائية لفاطمة(عليها السلام) بل هذا العنوان والقالب يحمل في مفاده ومقتضاه:

أولاً: أنها(عليها السلام) مصدر ومبدأ تفرّع الحجج في الدين، فهي بمثابة الحجة المهيمنة علي بقية حجج الدين.

ثايناً: يحمل هذا القالب معني آخر وهو إرادة الحجة الواقعية التي لا تقبل الخطأ بل عين الصواب وهذا مقتضاه العصمة الكبري.

وكلا المعنيين مما اشارت إليه الآيات والروايات كما بيناه في مقالات هذا الجزء والجزئين السابقين من مقامات فاطمة(عليها السلام).

ص: 437

وواضح من مجموع هذه القوالب التي ستأتي في شؤونها ومقاماتها(عليها السلام) أنها مهيمنة في المقامات بعد الله ورسوله ككفؤ مشاطر لعلي أمير المؤمنين(عليه السلام) وإن كان التقدم لأمير المؤمنين(عليه السلام)، كما تعرضنا له في مقالة كفئيتها لعلي(عليه السلام).

وروي في تفسير فرات الكوفي في ذيل سورة الاحقاف حديث قدسي عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) عن الله تعالي في شأن تزويج علي من فاطمة(عليهما السلام): «أني أجمعهما علي محبتي وأجعلهما معدنين لحجتي إلي يوم القيامة»(1).

2- منطق الرسالة:

وهذا المقام قريب من الحديث القدسي الوارد في تبليغ سورة براءة (التوبة) الذي رواه الفريقان: «لا يبلغ عنك إلَّا أَنْتَ أو رجل منك»(2).

وقد ورد في الحديث النبوي

«فاطمة بضعة مني»(3).

ص: 438


1- تفسيرات فرات الكوفي، فرات بن ابراهيم الكوفي 414.
2- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق298
3- الأمالي، الشيخ الصدوق 165، روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري 150 ، كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي الكوفي 391 ، دلائل الامامة ، الطبري ( الشيعي) 135 ، مسند احمد ، الامام احمد بن حنبل 4 / 5 ، صحيح البخاري 4 / 210 ، سنن الترمذي 5 / 259 ، السنن الكبري، البيهقي 7 / 307 ، فضائل الصحابة، النسائي 78.

فالناطق الإلهي عن الرسالة صلاحية الهية عظيمة ولا سيما عن سيد الرسل(صلي الله عليه و آله)، وعلي وفاطمة والائمة من ذريتهم(عليهم السلام) لا ينطقون عن بدن النبي(صلي الله عليه و آله) فحسب بل يتلقون عن روحه وقلبه ونوره الشريف.

3- سيدة أمة ابيك:

وهذا الوصف والعنوان والمقام من الواضح فيه عدم اختصاص سؤددها لكونها قمة اصطفائية علي النساء المصطفيات الكاملات فضلا عن سائر النساء بل يفيد سؤددها علي رجالات الأمة أيضا .

وهذا هو الذي بيّنه القرآن الكريم من ولايتها علي جميع الأمة، بل قد بيّنا جملة من دلالات الآيات وإشاراتها علي ولايتها علي بقية الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) بل بيّنا في هذا الجزء والجزئين السابقين هيمنة ولايتها علي الحسنين والتسعة من ولد الحسين(عليهم السلام).

4- الشجرة الطيبة لبنيك:

وهذا الوصف ورد مستفيضا في الروايات، فقد روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: قال جبريل(عليه السلام) للنبي(صلي الله عليه و آله): أنت الشجرة وعلي غصنها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها)(1).

وروي ابن عقدة عن أبي جعفر(عليه السلام) أن الشجرة رسول الله(صلي الله عليه و آله)،

ص: 439


1- تفسير مجمع البيان ، الشيخ الطبرسي 6 /74.

وفرعها علي(عليه السلام)، وعنصر الشجرة فاطمة(عليها السلام)، وثمرتها أولادها، وأغصانها وأوراقها شيعتنا»(1).

وروي في مناقب أمير المؤمنين عن رسول الله(صلي الله عليه و آله): (قال لي ربي ليلة أسري بي: من خلفت علي أمتك يا محمد ؟ فقلت: أنت يا رب أعلم.

فقال: يا محمد (إني) انتجبتك لرسالتي واصطفيتك لنفسي فأنت نبيي وخير خلقي ثم الصديق الأكبر الذي خلقته من طينتك وجعلته وزيرك (وهو) أبو سبطيك الشهيدين سيدي شباب أهل الجنة وزوجته خير نساء العالمين أنت شجرتها وعلي أغصانها وفاطمة ورقها والحسن والحسين ثمارها»(2).

وفي أحدي زيارات أمير المؤمنين(عليه السلام):

«السَّلامُ عَلي شَجَرَةِ طُوبي»(3).

وهو إشارة إلي الاصطفاء، وأن ببركة المقام الاصطفائي لها(عليها السلام) تفرّع اصطفاء ذريتها وبنيها.

وهو أيضا يعطي مقام الهيمنة لها علي الحسنين والتسعة من ذرية الحسين(عليهم السلام).7.

ص: 440


1- تفسير مجمع البيان ، الشيخ الطبرسي 6 /74.
2- مناقب أمير المؤمنين، محمد بن سليمان الكوفي 1/ 479.
3- المزار، محمد بن جعفر المشهدي217.

وهذا الوصف ورد نظيره في رسول الله(صلي الله عليه و آله) بالقياس لعترته الطاهرة(عليهم السلام) فعن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه(عليه السلام) قال سألته عن قول الله «مثل كلمة طيبة الآية».

قال الشجرة رسول الله(صلي الله عليه و آله) أصلها نسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن أبي طالب(عليه السلام) وغصن الشجرة فاطمة(عليها السلام)وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة(عليها السلام) وشيعتهم ورقها»(1).

5- حكمك نافذ:

والمجيء في كلامه بعنوان ومادة الحكم والحاكمية باسناد ذلك إليها ثم جعل مقام حاكميتها فوق المقام الذي يتقلده هو بزعمه كخليفة وبزعم من بايعه من المسلمين نطق واقرار عظيم بهيمنة ولايتها(عليها السلام) علي مقاليد الدين والامة، وأن لها الولاية علي من يتقلد الخلافة علي المسلمين.

6- أنت معدن الحكمة:

وهذا القالب والعنوان يقارب ما مرّ بنا من عنوان ( عين الحجة ) إلا أن اللفظ هاهنا اسندت إلي الحكمة .

ص: 441


1- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي1 /369.

وهذا يبيّن مدي تسالم هذا المقام لها(عليها السلام) عند المهاجرين والأنصار وجلال ما تقوم به وعظم كل خطوة تخطوها في شؤون الدين والأمة.

ولا يخفي أن الحكمة يلحظ فيها جانب التدبير والإدارة للشؤون العامة بخلاف مقام (عين الحجة) فهو في جانب التنظير والتشريع وتبيانه وإن كان يشمل أيضا جانب التنفيذ.

7- موطن الهدي والرحمة:

وهذا فيه إشارة إلي الارتباط الوحياني لها(عليها السلام) وراثة للوحي النبوي بغض النظر عن التفات أبي بكر لذلك أم غفلته، فإن هذا القالب والعنوان يعني في بيانات الوحي هذا المقام.

فإن الموطن يعني محل وموضع نزول الهدي كما استعمل ذلك في مستفيض الروايات والزيارات، كما أن اسناد الموطن للرحمة هو الآخر يشير إلي أنها أمان للأمة والبشرية.

فقد ورد الحديث النبوي وصف العترة بذلك:

«إن أهل بيتي الهداة بعدي أعطاهم الله فهمي وعلمي وخلقوا من طينتي فويل للمنكرين حقهم من بعدي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي»(1).

وعنه(صلي الله عليه و آله):

«النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لامتي»(2).

ص: 442


1- بصائر الدرجات، الصفار 69.
2- عيون أخبار الرضا ، الشيخ الصدوق 2 / 30.
8- ركن الدِّين:

وهذا التعبير هو الآخر عنوان وقالب يفيد أن مقامها وشؤونها ركن الدين الأوحد بعد الله ورسوله، وأنها(عليها السلام) ولية الأمر بعد الله ورسوله(صلي الله عليه و آله) وأمير المؤمنين(عليه السلام).

والمهم الالتفات إليه أن وصفها (ركن الدين) يغاير التعبير أنها من أركان الدين، بل توحيد الوصف يفيد المحورية المركزية والهيمنة، ثم اضافة هذا الركن للدين دون الشرعية يفيد أن هذا المقام ومقاماتها من أصول العقيدة التي هي المساحة الأصلية في الدين بخلاف الشريعة التي هي في تفاصيل الفروع وهو أعظم من ركن الملة، لأن الدين أعظم من الملة والشريعة والحكمة والطريقة بل يشمل كل ذلك والحقيقة.

9- الخيرة المنتجبون:

وهذا العنوان والقالب هو الآخر اصطلاح وحياني توقيتي توقيفي من الوحي دال علي الاصطفاء بل علي الدرجات العليا منه .

10 - علي الخير أدلتنا .........دليل الأمة علي الخير:

وهذا العنوان هو الآخر دال علي ما قررناه في الجزء الثاني من مقاماتها من أنها(عليها السلام) لها سائر مقامات الإمامة من الولاية والهداية

ص: 443

الإيصالية وغيرها والوراثة الإصطفائية لمقام النبي(صلي الله عليه و آله) عدا بعض الشؤون المرتبطة بمباشرة الحرب ونحوها مما يتطلب المباشرة في السلطة التنفيذية.

11 - وإلي الجنة مسالكنا ............مسالك الأمة للجنة:

وهذا العنوان مطابق لما ورد في الأحاديث النبوية في وصف العترة الطاهرة أنهم السبيل إلي الله كما ورد في دعاء الندبة:

«فكانوا هم السبيل إليك، والمسلك إلي رضوانك»(1) .

وقال تعالي: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلاً(57)(2). (3)

وبأنهم الصراط المستقيم، وهذا المقام يشير إلي امتداد مقاماتهم إلي ما وراء عالم الدنيا من العوالم الاتية ونشأة القيامة والآخرة الأبدية وأنه لا تنحصر ولاية العترة(عليهم السلام) بدار الدنيا بل ما سيأتي أعظم وأعظم.

12 - خيرة النساء:

وهذا مطابق لعنوان (سيدة المؤمنين) ففي وصول الأخيار قال: وروي في الجمع بين الصحاح أن رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال بطريق آخر ( ألا

ص: 444


1- المزار، محمد بن جعفر المشهدي576.
2- سورة الفرقان: الآية 57.
3- سوره 25 - آيه 57

ترضين ان تكوني سيدة المؤمنين)(1).

ومطابق كذلك لعنوان (سيدة نساء العالمين)(2) الوارد عند الفريقين.

وعن عماد الدين الطبرسي في أسرار الإمامة عن جابر بن عبدالله الانصاري قال رسول الله(صلي الله عليه و آله): (يا فاطمة انت سيدة نساء امتي وسيدة نساء أمم النبيين قبلي )(3).

13 - بنت خير الانبياء (خير الآباء):

وهذا المقام لأعظم وراثة اصطفائية فاخرت به فاطمة(عليها السلام) أغلب المقامات لأمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث المفاخرة، فقد روي أنه جاء في الخبر أن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) كان ذات يوم هو وزوجته فاطمة(عليها السلام) يأكلان تمرا في الصحراء، إذا تداعبا بينهما بالكلام فقال علي(عليه السلام) يا فاطمة إن النبي(صلي الله عليه و آله) يحبني أكثر منك.

ص: 445


1- وصول الأخيار الي اصول الاخبار، والد البهائي العاملي 72،71 / الأمالي، الشيخ الصدوق 692.
2- مسند ابي داود وفي الجزء الرابع من صحيح مسلم / تفسير العسكري المنسوب الي الامام العسكري 433 ، 434 / حلية الابرار، السيد هاشم البحراني 1 / 190 / الهداية الكبري ، الخصيبي 417 ، 419 / شرخ الاخبار ، القاضي النعمان المغربي 3 / 23 ، 24 / الامالي ، الشيخ المفيد 281 ، 283 / الاختصاص ، الشيخ المفيد 37.
3- أسرار الامامة ،عماد الدين الحسن بن علي الطبرسي 466 ، 467.

فقالت واعجبا منك يحبك أكثر مني وأنا ثمرة فؤاده وعضو من أعضائه وغصن من أغصانه وليس له ولد غيري.

فقال لها علي(عليه السلام) يا فاطمة إن لم تصدقيني فأمضي بنا إلي أبيك محمد(صلي الله عليه و آله).

قال فمضينا إلي حضرته(صلي الله عليه و آله) فتقدمت وقالت: يا رسول الله(صلي الله عليه و آله) أينا أحب إليك انا أم علي(عليه السلام)؟

قال النبي(صلي الله عليه و آله) أنت أحب إلي وعلي أعز علي منك .

فعندها قال سيدنا ومولانا الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) ألم أقل لك أنا ولد فاطمة ذات التقي.

قالت فاطمة: وأنا ابنة خديجة الكبري، قال علي: وأنا ابن الصفا، قالت فاطمة: أنا ابنة سدرة المنتهي، قال علي: وأنا فخر الوري، قالت فاطمة: وأنا ابنة دني فتدلي وكان من ربه قاب قوسين أو أدني، قال علي: وأنا ولد المحصنات، قالت فاطمة: أنا بنت الصالحات والمؤمنات، قال علي: خادمي جبرائيل، قالت فاطمة: وأنا خاطبني في السماء راحيل وخدمتني الملائكة جيلا بعد جيل، قال علي: وأنا ولدت في المحل البعيد المرتقي، قالت فاطمة: وانا زوجت في الرفيع الاعلي وكان ملاكي في السماء، قال علي: أنا حامل اللواء، قالت فاطمة: وأنا ابنة من عرج به إلي السماء، قال علي: أنا ابن صالح المؤمنين، قالت

ص: 446

فاطمة: وأنا ابنة خاتم النبيين، قال علي: وأنا الضارب علي التنزيل، قالت فاطمة: وأنا صاحبة التأويل، قال علي: وأنا شجرة تخرج من طور سينين، قالت فاطمة: وأنا الشجرة التي نخرج اكلها أعني الحسن والحسين(عليهما السلام) قال علي: وأنا المثاني والقرآن الحكيم، قالت فاطمة: وأنا ابنة النبي(صلي الله عليه و آله) الكريم، قال علي: وأنا النبأ العظيم، قالت فاطمة: وأنا ابنة الصادق الأمين، قال علي: وأنا الحبل المتين، قالت فاطمة: وأنا ابنة خير الخلق أجمعين، قال علي: أنا ليث الحروب، قالت فاطمة: أنا من يغفر الله به الذنوب، قال علي: وأنا المتصدق بالخاتم، قالت فاطمة: وأنا ابنة سيد العالم، قال علي: أنا سيد بني هاشم، قالت: أنه ابنة محمد المصطفي قال علي: أنا الامام المرتضي، قالت فاطمة: أنا ابنة سيد المرسلين، قال علي: أنا سيد الوصيين، قالت فاطمة: أنا ابنة النبي العربي، قال علي: وأنا الشجاع الكمي، قالت فاطمة: وأنا ابنة احمد النبي(صلي الله عليه و آله) قال علي: أنا المبطل الأروع، قالت فاطمة: أنا الشفيع المشفع، قال علي: أنا قسيم الجنة والنار، قالت فاطمة: أنا ابنة محمد المختار، قال علي أنا قاتل الجان، قالت فاطمة: أنا ابنة رسول الملك الديان، قال علي: أنا خيرة الرحمن، قالت فاطمة: وأنا خيرة النسوان، قال علي: وانا مكلم أصحاب الرقيم، قالت فاطمة: وأنا ابنة من ارسل رحمة للمؤمنين وبهم رؤوف رحيم، قال علي: وأنا الذي جعل الله نفسي نفس محمد(صلي الله عليه و آله) حيث يقول في كتابه العزيز وأنفسنا وأنفسكم، قالت فاطمة: وانا الذي

ص: 447

قال في ونساؤنا ونساؤكم وأبناؤنا وأبناؤكم، قال علي: انا علمت شيعتي القرآن، قالت فاطمة: وأنا يعتق الله من أحبني من النيران، قال: انا شيعتي من علمي يسطرون، قالت فاطمة: وانا من بحر علمي يغترفون، قال علي: انا الذي اشتق الله تعالي اسمي من اسمه فهو العالي وانا علي، قالت فاطمة: وانا كذلك فهو الفاطر وانا فاطمة، قال علي: انا حياة العارفين، قالت فاطمة: انا مسلك نجاة الراغبين، قال علي: وانا الحواميم، قالت فاطمة: وانا ابنة الطواسين، قال علي: وانا كنز الغني، قالت فاطمة: وانا الكلمة الحسني، قال علي: انا أبي تاب الله علي آدم في خطيئته، قالت فاطمة: وانا بي قبل الله توبته، قال علي: انا كسفينة نوح من ركبها نجا، قالت فاطمة: وانا أشاركك في الدعوي، قال علي: انا طوفانه، قالت فاطمة: وانا سورته، قال علي: وانا النسيم المرسل لحفظه، قالت فاطمة: وانا مني انهار الماء واللبن والخمر والعسل في الجنان، قال علي: وانا الطور، قالت فاطمة: وانا الكتاب المسطور، قال علي: وانا الرق المنشور، قالت فاطمة: وانا البيت المعمور، قال علي: وانا السقف المرفوع، قالت فاطمة: وانا البحر المسجور، قال علي: انا علمي النبيين، قالت فاطمة: وانا ابنة سيد المرسلين من الأولين والآخرين، قال علي: انا البئر والقصر المشيد، قالت فاطمة: انا مني شبر وشبير، قال علي: وانا بعد الرسول خير البرية، قالت: انا البرة الزكية.

فعندها قال النبي(صلي الله عليه و آله) لا تكلمي عليا فإنه ذو البرهان، قالت

ص: 448

فاطمة: انا ابنة من انزل عليه القرآن، قال علي: انا البطين الأصلع، قالت فاطمة: انا الكواكب الذي يلمع، قال النبي(صلي الله عليه و آله) فهو الشفاعة يوم القيامة، قالت فاطمة: وانا خاتون يوم القيامة.

فعند ذلك قالت فاطمة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) لا تحام لابن عمك ودعني وإياه، قال يا علي يا فاطمة انا من محمد عصبته ونخبته قالت فاطمة وانا لحمه ودمه، قال علي: انا الصحف،قالت فاطمة: وانا الشرف، قال علي: وانا ولي زلفي، قالت فاطمة: وانا الخمصاء الحسناء، قال علي: وانا نور الوري، قالت فاطمة: وانا الزهراء.

فعندها قال النبي(صلي الله عليه و آله) لفاطمة يا فاطمة قومي وقبلي رأس ابن عمك فهذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل مع أربعة آلاف من الملائكة يحامون مع علي(صلي الله عليه و آله) وهذا اخي راحيل ودردائيل مع أربعة آلاف من الملائكة ينظرون بأعينهم، قال فقامت فاطمة الزهراء(عليها السلام) فقبلت رأس الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بين يدي النبي(صلي الله عليه و آله) وقالت يا أبا الحسن بحق رسول الله(صلي الله عليه و آله) معذرة إلي الله عز وجل واليك والي ابن عمك، قال فوهبها الامام(عليه السلام) وقبلت يد أبيها عليه وعليهم السلام)(1).

14 - صدق الله ورسوله وصدقت ابنته:

فجعل صدقها تالي تلو صدق الرسول(صلي الله عليه و آله) مما يشير إلي هيمنة مقامها علي مقام حجج الدين وولايات العترة من ولدها، أي بعد الله

ص: 449


1- الفضائل، شاذان بن جبرئيل القمي ابن شاذان 80.

ورسوله(صلي الله عليه و آله) وأمير المؤمنين(عليه السلام).

وقد تسالم عند المهاجرين والأنصار أن صدقها(عليها السلام) في الدين يأتي بعد صدق الله وصدق رسوله(صلي الله عليه و آله).

15 - سابقة في وفور عقلك:

وهذا هو الآخر عنوان يدل علي سبقها(عليها السلام) علي جميع الأمة في وفور العقل ومقتضاه ولاتيها علي الأمة.

16 - غير مردودة عن حقك:

وهذا اقرار منه علي حجية قولها وفعلها واستحقاقها المقامات في الدين وفدك أحد الأمور التي طالبت(عليها السلام) بها وهي مثال وتطبيق لعموم الولاية غير مختص بخصوص تلك الأرض، لأنه يمثل تركيز علي المنشأ والمستند لاستحقاقها تلك الأرض وهو غير خاص وهو عام يشمل ما مضي وما سيأتي.

17 - ما عدوت رأي رسول الله:

وهذا العنوان هو الآخر كالسابق دال علي عصمة استقامتها علي سنة النبي(صلي الله عليه و آله) الوحيانية واقرار منه أن قولها فصل وحياني، وما ادعاه من الرواية الظنية لا يقاوم حجتها.

ص: 450

وهذا ما انتهي إليه مصيره في نهاية محاججته مع الزهراء(عليها السلام) أنه انقطعت به الحجة من الكتاب والسنة فالتجأ إلي توافق المسلمين علي ذلك وعلي تنصيبه خليفة.

ما ذكرته أم سلمة من مقامات وشؤون لفاطمة(عليها السلام):
1- الحوراء بين الانس:

وهذا يغاير ما ورد في بقية الأحاديث من كونها (حوراء انسية) إذ فيه اشارة إلي غلبة أحكام وصف الحوراء عليها علي أحكام البشرية، وأن أم سلمة ونساء المسلمين قد شاهدوا ذلك منها بوضوح، فهي(عليها السلام) ملكوت أعلي في الأرض ونافذة وباب عظيم للملكوت الأعلي بين البشر.

إلا أن الله تعالي سرعان ما سلب البشر هذه النعمة لجحدهم وكفرهم بهذه النعمة العظيمة فقبضها الله اليه بمدة وجيزة بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله).

2- النفس للنفس:

وصف أم سلمة وروايتها لهذا المقام في شأن فاطمة(عليها السلام) هو من أسرار مقامات عترة النبي(صلي الله عليه و آله) كالذي ورد في الزيارة الجامعة: (وأنفسكم في النفوس)(1).

ص: 451


1- المزار، محمد بن جعفر المشهدي 532.

أي أن الفارق بين نفس فاطمة(عليها السلام) ونفوس البشر كالفاصل والفارق بين النفس والبدن.

فكما أن النفس تتصرف في البدن تكوينا فنفس فاطمة(عليها السلام) لها هذا المقام بالاضافة إلي نفوس البشر، فهي روح الأرواح والنفس للنفوس قوام حياة النفوس بما هو مثابة النفس لها، كما أن قوام حياة البدن بالروح والنفس فهي(عليها السلام) ممد الحياة كفيض الهي علي الأرواح .

وهذا مقام وولاية تكوينية لها(عليها السلام)، وقد شعرت أم سلمة بهذا المقام لفاطمة(عليها السلام) وجدانا وعيانا.

3- ربيت في حجور الأنبياء:

وهذه اشارة إلي شرائط الوراثة الإصطفائية كما أشرنا إلي ذلك في الجزء الثاني من مقاماتها.

ولاسيما وأن تلك التربية من أعظم مربي إلهي وهو سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) وأن تربيته وحيانية مسددة.

4- تداولتها أيدي الملائكة:

وهذا المقام أحد بنود وأركان قوام العصمة، وقد أشير إليه في دعاء الندبة لكل من يصطفيه الله من الحجج من الأنبياء والرسل والأوصياء: «بعد أن شرطت عليهم الزهد في زخارف هذه الدنيا

ص: 452

الدنية وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقربتهم، وقدمت لهم الذكر العلي والثناء الجلي، وأهبطت عليهم ملائكتك، وكرمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذرايع إليك، والوسيلة إلي رضوانك»(1).

وهذا مطابق لرواية عماد الدين الطبري في بشارة المصطفي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) في حديث طويل: «إن الله قد وكل بفاطمة(عليها السلام) رعيلا من الملائكة، يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن يسارها، وهم معها في حياتها وعند قبرها بعد موتها، يكثرون الصلاة علي أبيها وبعلها وبينها»(2).

وهذه من خصائصها(عليها السلام) في العصمة من بين العترة نظير ما ورد عن الحسن المجتبي(عليه السلام) في وصفه لأبيه أمير المؤمنين(عليه السلام) يوم شهادته: فقام في مسجد الكوفة فحمد الله وأثني عليه وصلي علي النبي(صلي الله عليه و آله).

ثم قال: أيها الناس إنه قد قبض في هذ الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، إنه كان لصاحب راية رسول الله(صلي الله عليه و آله)، عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل)(3).

وورد في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام):

«السَّلامُ عَلي مَنْ أَيَّدَهُ الله7.

ص: 453


1- المزار الكبير، محمد بن جعفر المشهد 574.
2- مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي 10 / 182، 183.
3- الكافي ، الشيخ الكليني 1 / 457.

بِجِبْرائِيلَ وَأَعانَهُ بِمِيكائِيلَ»(1).

ونظير ما ورد عن علي أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته القاصعة في وصف رسول الله(صلي الله عليه و آله):

«ولقد قرن الله به(صلي الله عليه و آله) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره»(2).

وكما ورد كذلك في دعاء الندبة:

«وحففته بجبرئيل وميكائيل والمسومين من ملائكتك»(3)، فهم محاطون بالملائكة.

5- ونمت في حجور الطاهرات:

وهذا وصف لشرط آخر من شرائط الوراثة الاصطفائية.

6- ونشأت خير منشأ:

وهذا القالب إشارة لشرط ثالث من الشرائط الإعدادية للوراثة الإصطفائية .

7- وربيت خير مربّي:

يتبين عظمة هذا العنوان لفاطمة(عليها السلام) بما ورد عن علي أمير

ص: 454


1- المزار، محمد بن جعفر المشهدي217.
2- نهج البلاغة، خطب الامام علي 2/ 158.
3- المزار، محمد بن جعفر المشهدي575.

المؤمنين(صلي الله عليه و آله) في خطبته القاصعة: «ولقد قرن الله به (صلي الله عليه و آله) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره»(1).

إذا كان هذا شأن رسول الله(صلي الله عليه و آله) وعظمة مقامه فمقام فاطمة(عليها السلام) يتجلي بوضوح فكيف وهي تحت تربيته ورعايته.

8- أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها؟!

وقد قال الله له: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )، (2) أفأنذرها وجاءت تطلبه:

ذكرت أم سلمة استدلالا أمام المهاجرين والأنصار في الرد علي المستولي الأول، وهو أن كل ما يمكن أن يبلغه الرسول(صلي الله عليه و آله) من علم الدين كله حوته فاطمة(عليها السلام) والدليل قوله تعالي: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) (3). (4)

والاستدلال منها بديع بملاحظة أنه حين نزول الآية لم تكن فاطمة(عليها السلام) موجودة، لأنها ولدت في السنة الخامسة للهجرة ولكن الآية لا تخصص بمورد النزول.

فإن أقرب الأقربين هي فاطمة(عليها السلام)، وإذا كان هناك أمر بالنذارة فلابد أن يبلغه لفاطمة(عليها السلام)، بل ورد في روايات مستفيضة عند

ص: 455


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي 2/ 158.
2- سوره 26 - آيه 214
3- سورة الشعراء: الآية 214.
4- سوره 26 - آيه 214

الفريقين أن الرسول(صلي الله عليه و آله) يخص الأقربين بنذارة لا يشمل بها العامة ولذا ورد عنه(صلي الله عليه و آله): «بعثت إليكم بخاصة»(1)، أي بأمور خاصة لكم لا تشمل غيركم فهو يوصل إليهم ما لم يوصله إلي الناس.

ومن هنا تقول أم سلمة أن علم فاطمة(عليها السلام) لا يتطرق له جهل بأمور الدين، فإذا طالبت بفدك أو بغيره فلا يحق لأحد من الأمة أن يعارضها.

ومفاد ذلك الانذار لفاطمة(عليها السلام) تنصيب الولاية لها فلا اختصاص لعلي بآية ( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) (2) وإن كان هو الركن الركين في ملف النذارة.

والمركوز في أذهان المسلمين بشاهدة أم سلمة أن آية ( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) (3) جارية لفاطمة(عليها السلام) وليست خاصة بالأربعين الذين اجتمعوا في يوم الانذار.

والملاحظ أن الآية لم تعم كل بني هاشم وإنما قيدت القرابة بالأقربين، ومن أقرب من فاطمة(عليها السلام) التي لحمتها لحمة لرسول الله(صلي الله عليه و آله)؟

والآية من أدل الأدلة علي تقدم أهل البيت(عليهم السلام) علما ومسؤولية، لأن الأمة تنذر بنذارة عامة عبر الرواة والنقل فإن آية ( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ (4)ر.

ص: 456


1- تاريخ الطبري321/2، مسند أحمد165/2/ح1372، شاكر.
2- سوره 26 - آيه 214
3- سوره 26 - آيه 214
4- سوره 26 - آيه 214

الْأَقْرَبِينَ (214) (1) هي أمر للرسول(صلي الله عليه و آله) بأن ينذر مباشرة بلا توسيط واسطة.

ويدل الاستدلال هاهنا علي هيمنتها(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام) فضلا عن سائر الأمة لأن وراثة ابنائها من رسول الله(صلي الله عليه و آله) إنما بتوسطها، وتقرر في محله أن وراثة الأقرب تمنع الأبعد ويتوسط في الإيصال إليه.

وقد اعترف المفسرون من الفريقين أن الوراثة الاصطفائية ثابتة بين الرسول(صلي الله عليه و آله) وفاطمة(عليها السلام) وهم لا يدرون أن هذه الوراثة أدل علي الحق المادي لفاطمة(عليها السلام).

وعنوان القربي موجود في القرآن وإن لم يكن بهذا القالب، فقد ورد بعنوان الأرحام في قوله تعالي: ( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75) (2). (3)

وأولي رحم هو رحم رسول الله(صلي الله عليه و آله) وأعظم رحم أمر الله بصلته رحمه.

وهذا اعتراف بعصمتها(عليها السلام) العلمية والعملية.

9- وهي خيرة النسوان:

تقدّم شرح هذا المقام، وقد ورد هذا العنوان في روايات الفريقين.

فعن جابر بن يزيد الجعفي عن رجل من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)

ص: 457


1- سوره 26 - آيه 214
2- سورة الأنفال: الآية 75.
3- سوره 8 - آيه 75

قال: دخل سلمان (الفارسي)علي أمير المؤمنين(عليه السلام)... قال: ثم دخل الحسن والحسين(عليهما السلام)فقال: يا سلمان هذان شنفا عرش رب العالمين وبهما تشرق الجنان، وأمهما خيرة النسوان)(1).

ويشير إلي بداهة هذه المقامات بين زوجات النبي(صلي الله عليه و آله) والمهاجرين والأنصار وبقية المسلمين.

10 - وأم سادة الشبان:

وهذا مقام اصطفائي لها باعتبار أنها وعاء لسادة الأصفياء المصطفين(عليهم السلام).

11 - وعديلة مريم ابنة عمران:

وهذا المقام قد استبان للمسلمين في شأنها ومكانتها(عليها السلام) إذ أن أم سلمة في صدد الاحتجاج علي أبي بكر والاعتراض عليه أمام المسلمين بما هو متسالم عليه من شؤون فاطمة(عليها السلام) في الدين.

وفي هذا تصريح بعصمتها وطهارتها وحجيتها كما هو مفاد قوله تعالي: ( وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلي نِساءِ الْعالَمِينَ (42)(2) (3) ، وبيّناه في الجزء الأول.

ص: 458


1- مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني 2 /31 ، تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة ، السيد شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي 505.
2- سورة آل عمران: الآية 42.
3- سوره 3 - آيه 42

نعم المراد بوصف (عديلة مريم) ليس هو التساوي والمكافئة كيف وفاطمة(عليها السلام) سيدة مريم بنص أنها سيدة نساء أهل الجنة وأنها خير النسوان الذي رواه كل من أبي بكر وأم سلمه.

فالمراد من العدل هنا هو سنخ ونمط أصل الاصطفاء لا في درجة الاصطفاء والا فمقامات الاصطفاء لفاطمة(عليها السلام) في القرآن أعظم من سائر أنبياء أولي العزم(عليهم السلام) فكيف بمريم كما بينّاه في الجزئين السابقين من مقاماتها.

12 - وحليلة ليث الأقران:

والظاهر أن أم سلمة تشير في هذا المقطع إلي سوابق أمير المؤمنين(عليه السلام) في اقامة الفتح للدين وتشييده، وإنها(عليها السلام) باعتبار ذلك قرينته في هذه المنقبة الموجبة لأحقيته بالولاية في الدين وعلي الأمة، وأن العترة(عليهم السلام) أحق راع يرعي الدين وأمته.

وأن المستولين علي الخلافة لم يقوموا بذلك ولم يتم علي يدهم الفتح والنصر للدين بل كانوا معروفين بالفرار في كل الحروب.

13 - تمت بأبيها رسالات ربه:

وهذا اشارة إلي أعظم وراثة اصطفائية لأن سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) سيد الوحي، فيشير إلي اتصالها بوحي أبيها.

ص: 459

14 - فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر، فيوسدها يمينه، ويلحفها بشماله:

وهذا أيضا بيان لشرط رابع للوراثة الاصطفائية ولقوام العصمة الذي مر بيانه في (ربيت في حجور الأنبياء، تداولتها أيدي الملائكة) فتدل علي شدة رعاية النبي(صلي الله عليه و آله) القصوي لفاطمة(عليها السلام) .

ص: 460

المقالة الثَّالثة والعشرون: سر شدة بكاء الزهراء

اشارة

*الغاية الأولي: بيان فادح رحيل النبي(صلي الله عليه و آله)

*الغاية الثانية: بكاؤها معارضة سياسية...

*الغاية الثالثة: بكاؤها بكاء معرفي...

مما ثبت في تأريخ فاطمة(عليها السلام) بعد رحلة أبيها المصطفي(صلي الله عليه و آله) شدة وغزارة بكائها وبوتيرة ملفتة وبنحو الاستمرار ليلا ونهارا حتي ضج رجال المدينة من ألوان بكائها، فما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا أن بني لها بيتا، وسمي بيت الأحزان لتقضي فاطمة(عليها السلام) وطرها من البكاء فيه بعد شكوي المهاجرين وانزعاجهم منها.

وهاهنا تنبثق عدة أسئلة:

أولا: هل الرواية التي رواها صاحب بحار الأنوار حول بكائها وبناء بيت الأحزان علي الموازين؟

ص: 461

ثانيا: هل كان بكاؤها(عليها السلام) مسموعا لأهل المدينة؟

ثالثا: هل يجوز للمرأة أن تبكي بصوت مرتفع بحيث يسمعه الرجال؟

رابعا: ما هدف الزهراء(عليها السلام) من البكاء ليلا ونهارا؟ هل لمكانة الرسول(صلي الله عليه و آله) وقربها منه؟ أم لأمور أخري أعمق من ذلك؟

الجواب يتضح في نقاط:

(1) إن البكاء فعل ممدوح في القرآن بينما الفرح مذموم غالبا.

(2) إن صوت المرأة المنهي عن سماعه الرجال هو الذي اشار إليه القرآن في قوله تعالي: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )(1) (2) ، فالتغنج والترقق في الصوت هو المحرم لكونه يثير الفتنة لدي الطرف اخر.

أما صوت البكاء والحزن والجزع فهو يكسر جمود وقساوة القلوب، ولذلك فإن التواريخ مجمعة علي أن بكاءها(عليها السلام) كان يثير الحزن والغم والضجر والكمد لديهم لا الخفة والميول، فمن ثم ضجوا واعترضوا وتأذوا.

(3) إن في القرآن جملة من الشواهد علي أن صوت المرأة مع الحشمة و جو العفاف ليس محلا للنهي لاسيما مع تتويجه2.

ص: 462


1- سورة الأحزاب: الآية 32.
2- سوره 33 - آيه 32

بهدف سامي مقدس نظير قوله تعالي: ( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ (43)(1) (2) ، والخطاب بلحاظ اعتكافها في بيت المقدس.

وقوله تعالي: ( وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)(3) (4) ، وهذا في البيت المقدس.

وقد وصفها القرآن بالطهارة والطهر مرتين وبالاصطفاء.

ومع أنه يضرب الله مريم مثلا وقدوة كقوله تعالي: ( وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... (5) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ) (6). (7)

وقوله تعالي: (فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا(26)فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا(27)يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا(28)فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ (8)2.

ص: 463


1- سورة آل عمران: لاآية 43.
2- سوره 3 - آيه 43
3- سورة آل عمران: الآية 44.
4- سوره 3 - آيه 44
5- سوره 66 - آيه 11
6- سورة التحريم: الآية 12.
7- سوره 66 - آيه 12
8- سوره 19 - آيه 26

صَبِيًّا(29)(1). (2)

وغيرها من المهمات الإلهية التي قامت بها مريم(عليها السلام) في محافل مواجهة للرجال لكن في أداء من الحشمة والعفاف.

وقوله تعالي في شأن ابنتي النبي شعيب(عليه السلام): ( وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتّي يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23)فَسَقي لَهُما ثُمَّ تَوَلّي إِلَي الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَي اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (25)قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)(3) (4) ، وغيرها من الموارد التي استعرضها القرآن الكريم عن المصطفيات والصالحات.

(4) إن هذا الفصل من تأريخها يدل علي أن بكاءها لم يكن محض استنفار سياسي ومحض مظلومية، وإنما هو بكاء حقيقي صادر من أعماقها، ولذا لم تتوقف عنه حتي في خلواتها بعد أن بني لها ذلك البيت والمأتم الخاص، ومما يشهد علي ذلك اقتران بكائها بالجوع والعطش والعزوف6.

ص: 464


1- سورة مريم: الآية 26 - 29.
2- سوره 19 - آيه 29
3- سورة القصص: الآية 23 - 26.
4- سوره 28 - آيه 23

حتي عن الحاجات الطبيعية، وهو ديدن الثاكل حقيقة.

هذا ولا ننكر أن يكون لبكائها فائدة سياسية وهي إبراز ظلامتها، لكنه غاية تبعية، فلو لم تظلم أو يغصب حقها لما نقص من بكائها وألمها وحرقتها درجة.

(5) إن بكاءها يحمل أبعادا وغايات هامة وسنة فاطمية عظيمة، ومن تلك الغايات:

الغاية الأولي: بيان فادح رحيل النبي(صلي الله عليه و آله):

بيان أهمية وعظمة النبي(صلي الله عليه و آله) وضرورة التعلق بشخصيته، وبالتالي التأسي والاقتداء به والاستنان بسنته.

وهذا لا يحصل إلا أن تبقي صورة النبي(صلي الله عليه و آله) حاضرة وماثلة وراهنة في النفوس والعقول، وهو لا يحصل إلا بشدة تذكره وإحياء اسمه.

وهذا في قبال أصحاب السقيفة فقال أبو بكر: أما بعد من كان منكم يعبد محمد(صلي الله عليه و آله) فان محمدا قد مات ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالي: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل إلي قوله الشاكرين)(1)، فلاحظهذا الشعار لهم فإن محمد(صلي الله عليه و آله)

ص: 465


1- صحيح البخاري، البخاري 5/ 143.

قد مات بينما شعار فاطمة(عليها السلام) إن ذكر النبي(صلي الله عليه و آله) حي لا يندرس.

وشعار السقيفة هو دعوي التعلق بمن كان يعبد محمد(صلي الله عليه و آله) بلا وسيلته فقد مات.

بينما شعار فاطمة(عليها السلام) هو أن الإيمان بمحمد(صلي الله عليه و آله) هيام نوري إلهي في حياته وفي مماته، لاسيما أن رحيله(صلي الله عليه و آله)لازال في أوائله، فأرادت من البداية أن تخط وترسم سُنة في ذكراه لأجيال المسلمين والمؤمنين وهي كيفية ودرجة التعلق بالنبي(صلي الله عليه و آله).

ففاطمة(عليها السلام)بما لها من حجية سنت في الدين سنة كبري وهي شدة التعلق بالنبي(صلي الله عليه و آله) في قبال السقيفة وقريش التي تسعي بكل جهدها لطمس ذكره واماتة اسمه(صلي الله عليه و آله).

ألم تحرق السلطة المستولية علي مقاليد أمور المسلمين كتب الحديث النبوي وعاقبت الصحابة علي رواية الحديث بالاقامة الجبرية لهم لئلا ينتشرون في البلاد فينشرون الحديث النبوي.

إلي غير ذلك من طمس الآثار الجغرافية ذات الصلة بالمعالم والمشاهد النبوية، والأعظم تغيير سنن النبي(صلي الله عليه و آله) إلي غير ذلك من ما قامت به السقيفة لمواجهة السنة النبوية.

ولذلك من أعظم صفات أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)هي اتباع سنن نبيه(صلي الله عليه و آله).

ومن أعظم أدوار فاطمة(عليها السلام) إحياء ذكري النبي(صلي الله عليه و آله) في نفوس

ص: 466

الصدر الأول لتتداعي صدي ذكراه للأجيال اللاحقة.

فلاحظ يومنا الراهن كيف يحيي النصاري ذكري ميلاد المسيح (الكرسمس) فيقيمون العالم والكرة الأرضية ولايقعدونها، وهو إحياء وتعظيم ميلاد نبي من أولي العزم، بينما المسلمون والمؤمنون لا يقوموا بعشر معشار ما يقوم به أؤلئك رغم الفرق الشاسع في الكمال بين عيسي وسيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله) .

مع أن القرآن يبين أنه لا سعادة ولا خلاص للبشر من الأزمات إلا بالتعلق بشخصية سيد الأنبياء(صلي الله عليه و آله)، حيث لم يصف نبيا ولا وصيا بالأوصاف التي ذكرها له نظير قوله تعالي: (وَ إِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ )(1) (2) أي قدوة للعالمين ليرتقي البشر إلي المعالي.

الغاية الثانية: بكاؤها معارضة سياسية:

من الواضح أن بكاءها يحمل أيضا طابعا اعتراضيا علي نهج السقيفة، وأنه علي نقيض سنة النبي(صلي الله عليه و آله) وهديه ومنهاجه، ومن ثم لمس المستوليين علي الأمور مدي خطورة الشحن الذي توقده الزهراء (عليها السلام) في النفوس جراء بكائها وتذكير الأمة بالنبي(صلي الله عليه و آله) مما يعيد للنفوس حيوية تعلقها بالنبي(صلي الله عليه و آله) ووصاياه، وفي هذا تجييش واستنهاض للأمة تجاه مشروع السقيفة.

ص: 467


1- سورة القلم: الآية 4.
2- سوره 68 - آيه 4

الغاية الثالثة: بكاؤها بكاء معرفي:

لقد كان تعلق الزهراء(عليها السلام) بالنبي(صلي الله عليه و آله) منقطع النظير بحيث فاق العلاقة بين يعقوب ويوسف(عليهما السلام)وهما نبيان والعلاقة بين زين العابدين وأبيه الحسين(عليهما السلام)، فقد روي أنه(عليه السلام) مع كونه بكي طيلة حياته علي أبيه إلا أنه تفجع لشدة تفجع جدته(عليها السلام).

هذه العلاقة المتميزة للصديقة(عليها السلام) بأبيها لا محالة متميزة لأنها بين أعظم شخصية في الخلق وأعظم شخصية تأتي في الرتبة الثالثة بعد أبيها، ولا يعرف النبي (صلي الله عليه و آله) أحد بقدرها بعد أميرالمؤمنين (عليه السلام).

ومع هذا السنخ من القرب المعنوي كيف لا تنجذب الصديقة(عليها السلام) لأبيها(صلي الله عليه و آله) بهذه الهالة؟!

وقد ورد متواترا عنهم(عليهم السلام) أن أعظم مصيبة علي كل إنسان هي فقده لرسول الله(صلي الله عليه و آله) ولن يصاب أحد بأعظم خسارة ومصاب من فقده لرسول الله(صلي الله عليه و آله).

وهذه الحقيقة التي باح بها أهل البيت(عليهم السلام) تنم عن مدي الكمال الذي يفقده كل انسان بسبب فقده للنبي(صلي الله عليه و آله)، فكيف هو حال من يدرك هذه الحقيقة وكان ينهل من النبي(صلي الله عليه و آله) أعظم ما يمكن لأحد أن ينهل ويتكامل به(صلي الله عليه و آله).

ثم إن شدة تفجعها وبكائها كان تربية وتعليما منها(عليها السلام) لكل

ص: 468

البشر والمخلوقات بضرورة التعلق بالنبي(صلي الله عليه و آله)، وانه لابد أن يكون تعلقهم به بعد التعلق بالله تعالي بهذا الحجم كمّا وكيفا لينالوا التكامل ويتمكنوا من العروج في مدارج القرب الإلهي.

ص: 469

ص: 470

المقالة الرَّابعة والعشرون: ولايات فاطمة عَليها السلام فِي العوالم الآتية

اشارة

*النبي (صلي الله عليه و آله) شفيع وفاطمة (عليها السلام) حاكم....

*اعتراض....

*جواب الاعتراض....

روي في فرات الكوفي أن رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: (يا فاطمة بنت محمد! أما تحبين أن تأمرين غدا فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب.

أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش.

أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة.

أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه.

أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار يأمر النار فتطيعه يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء.

ص: 471

أما ترضين أن تنظرين إلي الملائكة علي أرجاء السماء ينظرون إليك وإلي ما تأمرين به وينظرون إلي بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك إذا أفلحت حجته علي الخلائق وأمرت النار أن تطيعه.

أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كل شئ.

أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلي بيت ..)(1).

بالإلتفات إلي أوصاف وأحكام عالم القيامة الثابتة بالقرآن والآيات المحكمة ندرك من الرواية الآنفة الحاكية لمقامات الزهراء(عليها السلام) في ذلك العالم عدة أمور وخصائص نذكر هاهنا بعضها:

(1) الرواية صريحة في ثبوت ولاية للزهراء (عليها السلام) علي جميع الخلق، لا سيما أن يوم الحساب هو يوم ظهور وبروز ونفوذ إرادة الله، كما في قوله تعالي: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ)(2). (3)

(2) يقول تعالي: ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ (4)6.

ص: 472


1- تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي 172.
2- سورة غافر: الآية 16.
3- سوره 40 - آيه 16
4- سوره 20 - آيه 108

الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً(108)(1). (2)

وقوله تعالي: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً(38)(3). (4)

فالرواية تنبأ أنه في يوم ظهور ملكوت وجبروت الله يكون لها(عليها السلام) أمر ولها طاعة من الخلائق.. فأي مقام هذا؟

(5) وفي الرواية ثلاث جمل تدل علي ولايتها(عليها السلام):

أولها: قوله (يافاطمة بنت محمد)

وثانيها: (تأمرين)

وثالثها: (تطاعين)

وهذا كله بلحاظ ذلك اليوم الذي وصفه الله في قرآنه بقوله تعالي: (وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ )(3) (6) يكون للزهراء(عليها السلام) موقع آمر ومهيمن.

(4) وقد بين الله في مواضع عديدة من القرآن في أوصاف يوم القيامة أن الدقة في التصرفات والنتائج أكثر من أي عالم، أكثر من عالم الدنيا وعالم البرزخ وعالم الرجعة، منها قوله8.

ص: 473


1- سورة طه: الآية 108.
2- سوره 20 - آيه 108
3- سورة النبأ: الآية 38.
4- سوره 78 - آيه 38
5- سورة الأعراف: الآية 8.
6- سوره 7 - آيه 8

تعالي: ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(40) (1). (2)

ومنها استحكام التدبير الإلهي في ذلك العالم، وفيه يقول الله تعالي: ( وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً(100)(3). (4)

إنه في يوم الجمع ويوم الإرهاب ويوم مراسيم ملكية مهولة لإظهار الهيمنة الإلهية، في ذلك الجو العظيم والمحفل المرهب، يكون للزهراء(عليها السلام) ولاية وأمر ونهي.

(5) ويقول تعالي: ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً(109) (5) (6) ففي حين لا تنفع الشفاعة للبعض ويكون للبعض شفاعة، يكون للزهراء(عليها السلام) ولاية وأمر ونهي، أي فوق الشفاعة لأن الشفيع وسيط والآمر فيصل وقاض.

(6) وقال تعالي: ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (56)(7) (8) فكيف يكون لها ملك هناك فتأمر!! وأمرها قدرة تصرف6.

ص: 474


1- سورة النساء: الآية 40.
2- سوره 4 - آيه 40
3- سورة الكهف: الآية 100.
4- سوره 18 - آيه 100
5- سورة طه: الآية 109.
6- سوره 20 - آيه 109
7- سورة الحج: الآية 56.
8- سوره 22 - آيه 56

وتكوين.

(7) ويقول تعالي: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101)(1). (2) وقوله تعالي: ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) (3). (4)

فلا يوجد أدني حيف أو جور أو اشتباه، بل حتي ترك أولي، والحكم كله منسوب لله، بل كله حسب إرادة الله تعالي، وفي هذا الجو المشحون بالعدالة بكل دقائقها يكون للزهراء(عليها السلام) أمر وطاعة.

(8) ومن هول ذلك اليوم يقول تعالي: ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)(5) (6) ، أي ينسون كل شيء ولا يمكنهم التفكير والتركيز، لكنه في ظل ذلك الجو المشتت للفكر يوجد احاطة للزهراء(عليها السلام) لأنها آمرة، وهذا يدل علي رفعة المقام الروحي لها.

(9) ومن أوصاف القيامة الكبري ما في قوله تعالي: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ )(7) (8) ، أي لا يمكن للشخص أن يرعي نفسه، لكنها(عليها السلام) ترعي الخلق كله.

(10)3.

ص: 475


1- سورة المؤمنون: الآية 101.
2- سوره 23 - آيه 101
3- سورة النُّور: الآية 25.
4- سوره 24 - آيه 25
5- سورة القصص: الآية 66.
6- سوره 28 - آيه 66
7- سورة الروم: الآية 43.
8- سوره 30 - آيه 43

وفي عظمة ذلك اليوم يقول تعالي: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16)(1) (2) ، أي يأخذ السماء من عظمة ذلك اليوم الوهي بينما سيدة النساء(عليها السلام) في مقام شامخ.

النبي (صلي الله عليه و آله) شفيع وفاطمة (عليها السلام) حاكم:

قال(صلي الله عليه و آله) في بعض فقرات الرواية: (أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة).

وفي هذا المقطع دلالة علي تمكين النبي(صلي الله عليه و آله) بمقام مكين في الشفاعة للتعبير فيها بالفعل المضارع (يكون)و(يأتونه)و(يسألونه) وهي أفعال مضارعة تدل علي الاستمرار ودوام الطلب من النبي(صلي الله عليه و آله) في أصل النجاة وفي رفعة المقامات.

اعتراض:

وربما يعترض أن ما مرّ من تقرر حاكمية الزهراء(عليها السلام) في الحساب هو أعلي مقاما من الشفيع، فكيف يكون لها ما ليس لأبيها؟

جواب الاعتراض:

إن شفاعة النبي(صلي الله عليه و آله) بلحاظ حاكمية الله لا بلحاظ حاكمية نفسه

ص: 476


1- سورة الحاقة: الآية 16.
2- سوره 69 - آيه 16

التي هي في طول حاكمية الله تعالي، فضلا عن حاكمية ابنته الزهراء(عليها السلام)، فبلحاظ هذا المطلب يكون مقام شفاعة النبي(صلي الله عليه و آله) أعظم من مقام حاكمية النبي(صلي الله عليه و آله) نفسه فضلا عن حاكمية ابنته الزهراء(عليها السلام)، لأنها مرتبطة بحاكمية الله تعالي.

والملاحظ أن المقاطع في الرواية التي تستعرض مقامات النبي(صلي الله عليه و آله) ومقامات الوصي(عليه السلام) ومقام الحسين(عليه السلام) لها إضافات ونسب للصديقة الطاهرة(عليها السلام)، بمعني أن تلك الكمالات في حين أنها كمالات لهم(عليهم السلام) لها ارتباط بكمال منسوب لها.

ص: 477

ص: 478

فهرس الموضوعات

هوية الكتاب...4

مقدمة المقرر...5

الضابطة الأولي: المحكمات وطبقاتها الضابطة لمعرفتها...9

كيف نتعرف عَلَي طبقات المحكمات:...13

ولاية أهل البيت(عليهم السلام) مثبتة في أم الكتاب:...16

وقفة مَعَ السِّيّد المرتضي:...18

الضابطة الثانية: موقع العقائد فوق عالم الدنيا...21

الضابطة الثَّالثة: العمي عن المعارف في الدنيا...23

ص: 479

الضابطة الرابعة: العقيدة رؤية لماض أم منهج لحاضر ومستقبل...27

الضابطة الخامسة: لغة الفضائل ترجمانها الحجية...29

الضابطة السادسة: لغة القرآن والزيارات...35

الضابطة السابِعِة: الاعتقاد بالنبوة أعظم من الاعتقاد...47

الضابطة الثامنة: أنحاء ارتباط الحجج بالبشر...57

الضابطة التاسعة: المقامات المشتركة بين الخمسة...61

الضابطة العاشرة: إمامة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم...67

المقالة الأولي: موقع الزهراء عَليها السلام فِي أصول العقائد...73

الشاهد الأوَّل: ملكها فِي العوالم الآتية:...74

الشاهد الثَّانِي: تلقين الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) لحمزة(عليه السلام):...77

الشاهد الثَّالِث: اعتراف أبي بكر بمقامات فاطمة(عليها السلام):...80

المقالة الثانية: الاعتقاد بها عليها السلام فريضة مودة...83

المقالة الثَّالثة: نورية الزهراء عَليها السلام...85

ص: 480

المقالة الرابعة: الزهراء عليها السلام بضعة روح الوجود...91

أنحاء القربي:...91

إجمال مقامات فاطمة(عليها السلام) في كتب المتكلمين:...94

المقالة الخامسة: مقام المحدثة...97

المقامات الاصطفائية في القُرآن:...98

المحدثة وسام إلهي عظيم لفاطمة(عليها السلام):...100

فاطمة(عليها السلام) محدثة من الملائكة والروح الأمري:...104

المقالة السادسة: مقام المحدثة...115

أهل البيت (عليهم السلام) رواة عن كل طبقات وجود النبي(صلي الله عليه و آله):...117

المحدث مرتبط بروح من أرواح النبي(صلي الله عليه و آله):...119

المقالة السابعة: دلالة مصحف فاطمة عليها السلام...123

المطلب الأوَّل: مراسيم تسليم المصحف لفاطمة(عليها السلام):...123

المطلب الثاني: العلوم المودعة فِي مصحفها:...128

ص: 481

نهج فاطمة(عليها السلام) قدوة:...135

المطلب الثَّالِث: إشراف فاطمة(عليها السلام) عَلَي الإمامة الإلهية...136

البعد الأول: الوساطة النورية:...137

البُعد الثَّانِي: الوساطة النورية تثبت الحجية:...138

المقالة الثامنة: ليلة القدر أحد مقامات فاطمة عليها السلام...141

كلام المجلسي(ره) في هذا المقام:...147

النقطة الأولي: فاطمة(عليها السلام) ثالثة الحجج:...150

النقطة الثانية: البيت بيت الرُّوُح:...151

النقطة الثالثة: الارتباط بين أرواحهم والعرش:...151

النقطة الرابعة: ارتباطهم بالعرش معراج:...152

النقطة الخامسة: امتداد صرح بيوت أرواحهم:...153

المقالة التاسعة: إرهاصات النبوة فِي فاطمة عليها السلام...155

الأمر الأول: تكرر نزول الملائكة العظام عليها(عليها السلام):...157

ص: 482

الأمر الثاني: التعبير عما تتلقاه بالنزول:...159

الأمر الثالث: تسالم المسلمين...160

علي الخصائص الاصطفائية لفاطمة(عليها السلام):...160

الأمر الرابع: التولد من النبي(صلي الله عليه و آله) ممزوج بالجينات النبوية:...161

الأمر الخامس: توصيفها ببنوة أوصاف مقامات النبي(صلي الله عليه و آله):...164

الأمر السادس: مصحف فاطمة فيه تنزيل وتأويل القُرآن:...165

علم جمع الجمع النبوي لدي فاطمة(عليها السلام):...166

ارهاصات الوحي:...167

ذكر شؤونها وصلاحياتها من المصحف:...170

مسألة: هل المصحف أكبر من القُرآن:...173

المقالة العاشرة: الكفوئية...182

منهج الاستدلال علي المقامات:...183

حديثا الثقلين والكفؤية قرآنيان:...183

ص: 483

فوائد من حديث الكفوئية...187

الفائدة الأولي: المديح الشخصي في القرآن اصطفاء إلهي:...187

الفائدة الثانية: ضرورة إرجاع معادلات الروايات للقرآن:...188

الفائدة الثالثة: علم فاطمة(عليها السلام) أسمائي جامع:...194

الفائدة الرابعة: علو رتبتها علي الأنبياء ما عدا الخاتم:...195

لفتة معرفية:...196

اشكالية الكفؤية الاجتماعية:...199

تقريب ثالث لحديث الكفاءة:...200

تنافسهما قربي لا قبلي:...209

وصيتها لعلي(عليه السلام) وشراكتهما في الأمر:...210

المقالة الحادية عشر: شراكتها لعلي عليه السلام...213

رتبة فاطمة(عليها السلام) بعد النبي(صلي الله عليه و آله) وعلي(عليه السلام)...218

ثم الحسنين ثم التسعة(عليهم السلام):...218

ص: 484

المقالة الثانية عشر: طبقات تزويج الزهراء عليها السلام...221

سر هول وعظمة تزويج علي من فاطمة(عليهما السلام):...222

النقطة الأولي: ولاية أمر زواجها(عليها السلام) بيد الله خاصة:...222

النقطة الثانية: الحفاوة الملكوتية لزواجهما(عليهم السلام)...224

الأمر الأول: ولاية زواج علي(عليه السلام) أيضا بيد الله:...225

الأمر الثاني: اقترانهما(عليهما السلام) تمّ في الجنة الابدية قبل الدُّنْيَا:...226

الأمر الثالث: الحفاوة بزواجها(عليها السلام) ذو صلة بولايتها:...226

الأمر الرابع: مهرها توليّة الهية لها علي شؤون العالم كله:...227

تبرّك الملائكة المباركين ببركات زواجها(عليها السلام):...229

محورية فاطمة(عليها السلام) كفؤ لعلي(عليه السلام) في الرتبة:...229

انفعال العرش وما دونه بزواجها(عليها السلام) ارتباط الداني بالعالي:...231

تولي الله لزواجهما لكونه اقتران نظم وتدبير إلهي:...232

النقطة الثالثة: التزويج و المؤاخاة:...234

ص: 485

التراتبية بين الثلاثة:...234

قران كفؤية في عالم الملكوت:...235

زواجهما(عليهما السلام) نظير القران الأسمائي:...236

المؤاخاة بين النبي(صلي الله عليه و آله) والوصي(عليه السلام) نورية:...237

النقطة الرابعة: حديث الكساء:...237

التآلف في الولايات الاصطفائية سر عظمة أهل البيت(عليهم السلام):...237

تفوق علي(عليه السلام) في امتحان الولاية تدبير الملائكة:...239

أهل البيت(عليهما السلام) نبراس في تدبير الولاية لِكُلِّ...240

طبقات الملكوت وطبقات الملك:...240

اختصام أصحاب الولايات الإلهية في الملكوت والملك:...241

النقطة الخامسة: الولادة في الكعبة والتزويج:...246

المقالة الثَّالثة عشر: نسبة فاطمة عليها السلام...247

كفؤيته(عليه السلام) لفاطمة(عليها السلام) وتقدمه علي اولاده(عليهم السلام):...247

ص: 486

اللون المشترك في دائرة الحجج لا ينافي التفاضل:...249

دائرة التسعة(عليهم السلام) تتلو دائرة الحسنين(عليهما السلام):...250

شواهد تقدم مقام الزهراء(عليها السلام) علي أولادها(عليهم السلام):...250

أيّهما أقرب للنبي(صلي الله عليه و آله) فاطمة أم علي(عليهما السلام):...253

المقالة الرابعة عشر: مقام ولاية الأمر...256

ثبوت ما وراء الإمامة السياسية لفاطمة(عليها السلام):...257

ولاية أمر الأئمة(عليهم السلام) وراثة من فاطمة(عليها السلام):...257

إنعكاس ولاية فاطمة(عليها السلام) الملكوتية في الشؤون الخطيرة:...259

الأبعاد الثابتة من ولاية الأمر لفاطمة(عليها السلام):...261

سؤدد وطهارة وحجية فاطمة(عليها السلام) مأخوذ في الدِّين:...262

أدلّة ولايتها الأمريّة:...265

خلو كتب الكلام عن نسبة عنوان ولاية الأمر لفاطمة(عليها السلام):...268

دليل ولايتها للأمر بمعناه الأرضي:...269

ص: 487

الفرق بين الآمرية الدينية والفرعونية الدكتاتورية:...272

تروّي الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) فِي إسناد ولاية إلي لفاطمة(عليها السلام):...274

المقالة الخامسة عشر: حقيقة فاطمة عليها السلام...277

تعريف أهل البيت(عليهم السلام) علي وجه الحقيقة:...277

حقيقة الإنسان لا في بدنه ولا في عقله...278

بل في كماله النهائي:...278

التعريف الوحياني لفاطمة(عليها السلام):...280

المقالة السادسة عشر: دليل وفلسفة ظلامة الزهراء...283

النقطة الأولي: ما هُوَ الدَّليل عَلَي وقوع ظلاماتها:...284

تحليل السياقات الطبيعية للحدث وسيلة لفهمه:...287

اهمال القصاصات المحتملة...289

تغريد خارج سرب فطرة البشر:...289

الحجج المجموعية دون الحجج المستقلة نبع الحقيقة:...290

ص: 488

بعض أنماط تنقية التراث تعمية علي الحقائق:...292

تراكم وتوزّع قصاصات ظلامتهم في كتب المسلمين...292

التسرّع في نفي الأحداث مناقض للمنهج العلمي:...297

النقطة الثانية: فلسفات إثبات ظلامتها(عليها السلام):...297

الفلسفة الأولي: إحياء المظلومية إحياء للمنهج القويم:...298

الفلسفة الثانية: التعرّف علي الظلامات تمييز للقدوات:...301

علل تصفية الزهراء(عليها السلام):...305

العلة الأولي: حيلولة وجود الزهراء(عليها السلام) عن البيعة:...305

العلة الثانية: تصفيتها لمصادرة حقها:...305

العلة الثَّالثة: شرعيتها المحكمة(عليها السلام) اسقاط لشرعيتهم:...306

الشاهد الأوَّل:...306

الشاهد الثَّاني:...307

الفرية علي الزهراء(عليها السلام) فرية علي الدِّين:...310

ص: 489

اشتراك الْنَّبِيّ(صلي الله عليه و آله) وبضعته(عليها السلام) فِي شدة الظلامة:...312

المقالة السابعة عشر: مضامين رثاء علي لفاطمة...317

معني زيارته(عليه السلام) النبي(صلي الله عليه و آله) نيابة عن النازلة ببقعته:...319

أسرار سرعة لحوق الزهراء(عليها السلام) بأبيها(صلي الله عليه و آله):...321

فقد النبي(صلي الله عليه و آله) خسارة لا تعوض:...325

رجوع النبي(صلي الله عليه و آله) وفاطمة(عليها السلام) مرهون باستحقاق البشرية:...327

صرعت الزهراء(عليها السلام) عن عمد ومكابرة ومباغتة:...331

المقالة الثامنة عشر: مقام الحوراء الأنسية...333

الوجه الأول: نزولها(عليها السلام) من الجنة لصلب النبي(صلي الله عليه و آله):...337

الوجه الثاني: تفعّل كمالاتها(عليها السلام) في بدء وجودها...338

آثار الكمالات الملكوتية علي بدنها المادي:...339

الوجه الثالث: جسمها الظلي لم يودع في الأصلاب:...343

فائدة - 1-: عرض نورها لآدم تقدم لخلقتها نورا وولاية عَلَيْهِ:...344

ص: 490

فائدة -2-: مقام المنصورة وولايتها في الملكوت ومقامات فِي الرجعة...345

المقالة التاسعة عشر: حوارية علي وفاطمة عليهما السلام...347

الأدب الملتزم في حواريات الأولياء إظهار للمقامات:...347

الأدب السائد بين الأصفياء لا نظير لَهُ فِي المواقع الاعتبارية...349

تشابه وفوارق حوارية علي وفاطمة(عليهما السلام) لحوارية موسي وهارون(عليهما السلام)...350

نبرة الأدب بين الأئمة(عليهم السلام) افصاح عن تفاوت الصلاحيات:...358

المقالة العشرون: أم مقاماتها وهيمنتها...361

مقامات الزهراء(عليها السلام) مغيبة في الاوساط العلمية:...362

أم مقاماتها هو هيمنة كل فضائها علي فضائل أولادها:...366

آل محمد(عليهم السلام) دائرة متمايزة عن النبيين وبين أفرادها تمايز:...368

المنبة الأول: هيمنتها العلمية علي علم أولادها(عليهم السلام):...372

قصور البحوث الكلامية عن استيعاب منظومة العقائد:...373

المنبة الثاني: تفوقها(عليها السلام) علي مسرح الشجاعة والجرأة:...377

ص: 491

التراتبية في الفضل في دائرة أهل البيت(عليهم السلام):...378

مأمورية علي(عليه السلام) في جملة من الموارد بإنفاذ أمر فاطمة(عليها السلام)...382

أدلة هيمنة مقامها(عليها السلام) علي مقام الحسنين(عليهما السلام):...384

الدليل الأول: حديث الكفؤية:...385

الدليل الثاني: روايات النُّور:...385

الطبقة النورية باللغة الفلسفية:...390

الدليل الثالث: هيمنة مصحفها الشريف:...393

السؤال تحر عن الحقيقة لا إنكارها:...394

الدليل الرابع: آمريتها في عالم الآخرة:...396

فاطمة(عليها السلام) لسان الميزان والحسنان(عليهما السلام) الكفتان:...397

الدليل الخامس: كونها بحر علم النبوة:...399

علي وفاطمة(عليهما السلام) رافدان للمعرفة الكاملة بالنبي(صلي الله عليه و آله):...405

منهاج فاطمة(عليها السلام) محكم علي مناهج الأئمة(عليهم السلام):...407

ص: 492

المقالة الواحدة والعشرون: خطب الزهراء عليها السلام...409

عدد خطب الزهراء(عليها السلام):...409

تعدد خطبها تعبير عن مدوامة مقاومتها:...410

الخطبة الثانية: بيان مقام ولايتها...413

المحاسب والحاكم علي المهاجرين والأنصار .... :...413

الخطبة الثالثة: مسؤوليتها عَليها السلام حفظ الرسالة...421

الخطبة الرابعة: علي وفاطمة ركنا الولاية...425

المقالة الثانية والعشرون: إقرار أبو بكر لفاطمة...427

شرح المقامات...437

1 - عين الحجة:...437

2 - منطق الرسالة:...438

3 - سيدة أمة ابيك:...439

4 - الشجرة الطيبة لبنيك:...439

ص: 493

5 - حكمك نافذ:...441

6 - أنت معدن الحكمة:...441

7 - موطن الهدي والرحمة:...442

8 - ركن الدِّين:...443

9 - الخيرة المنتجبون:...443

10 - علي الخير أدلتنا ... دليل الأُمَّة عَلَي الخير:...443

11 - وإلي الجنة مسالكنا ... مسالك الأُمَّة للجنة:...444

12 - خيرة النساء:...444

13 - بنت خير الانبياء (خير الآباء):...445

14 - صدق الله ورسوله وصدقت ابنته:...449

15 - سابقة في وفور عقلك:...450

16 - غير مردودة عن حقك:...450

17 - ما عدوت رأي رسول الله:...450

ص: 494

ما ذكرته أم سلمة من مقامات وشؤون لفاطمة(عليها السلام):...451

1 - الحوراء بين الانس:...451

2 - النفس للنفس:...451

3 - ربيت في حجور الأنبياء:...452

4 - تداولتها أيدي الملائكة:...452

5 - ونمت في حجور الطاهرات:...454

6 - ونشأت خير منشأ:...454

7 - وربيت خير مربّي:...454

8 - أتزعمون أن رسول الله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها؟!:...455

9 - وهي خيرة النسوان:...457

10 - وأم سادة الشبان:...458

11 - وعديلة مريم ابنة عمران:...458

12 - وحليلة ليث الأقران:...459

ص: 495

13 - تمت بأبيها رسالات ربه:...459

14 - فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر ... :...460

المقالة الثَّالثة والعشرون: سر شدة بكاء الزهراء...461

الغاية الأولي: بيان فادح رحيل النبي(صلي الله عليه و آله):...465

الغاية الثانية: بكاؤها معارضة سياسية:...467

الغاية الثالثة: بكاؤها بكاء معرفي:...468

المقالة الرَّابعة والعشرون: ولايات فاطمة عَليها السلام...471

النبي (صلي الله عليه و آله) شفيع وفاطمة (عليها السلام) حاكم:...476

اعتراض:...476

جواب الاعتراض:...476

فهرس الموضوعات...479

ص: 496

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.