سرشناسه:علی احمدی، قاسم، - 1345
عنوان و نام پديدآور:وجود العالم بعد العدم عند الامامیه/ تالیف قاسم علی احمدی
مشخصات نشر:قم: نشر مولود کعبه، 1422ق. = 1380.
مشخصات ظاهری:ص 203
شابک:964-6343-35-x
يادداشت:عربی
يادداشت:پشت جلد به انگلیسی:Being world after no being.
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس
موضوع:معاد -- احادیث
موضوع:رستاخیز -- احادیث
موضوع:شیعه -- عقاید -- احادیث
رده بندی کنگره:BP141/م58 ع8 1380
رده بندی دیویی:297/218
شماره کتابشناسی ملی:م 80-13388
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
وجود العالم بعد العدم عند الامامیه
«فی اثبات حدوث العالم زمانا»
تالیف قاسم علی احمدی
ص: 4
الحمد للّه فاطر الأشياء إنشاءا ، ومبتدعها ابتداءا . . بقدرته وحكمته لا من شيء فيبطل الاختراع ، ولا لعلّة فلا يصحّ الابتداع . . خلق ما شاء كيف شاء ، متوحّداً بذلك لإظهار حكمته ، وحقيقة ربوبيته(1) .
والصلاة والسلام على أوّل من خلقه اللّه (2) وابتدأه(3) « بعد أن لم يزل تبارك وتعالى متفرّداً بوحدانيته(4) ، وكان عزّوجلّ ولا شيء معه(5) ، ولا شيء
ص: 5
غيره(1) » خاتم النبييّن ، وسيّد المرسلين محمّد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وآله الصراط
المستقيم الأئمّة المعصومين ، لاسيّما الكهف الحصين وغياث المضطرّ المستكين « الحجّة بن الحسن العسكري » روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء .
ولعنة اللّه على أعدائهم الفجرة الأشقياء ، ومن ظلمهم من الكفرة الأدعياء ، ومن أنكر إمامتهم أبد الآبدين . .
أمّا بعد ؛ فيقول تراب أقدام شيعة أمير المؤمنين عليه السلامالعبد الفقير المحتاج إلى ربّه السيّد قاسم بن إبراهيم علي أحمدي غفر اللّه لهما بشفاعة مواليهما المنتجبين :
هذه رسالة في إثبات حدوث العالم ووجوده على نحو الحدوث الحقيقي ، أي المسبوقيّة بالعدم الصريح ونفي أزليّة ما سواه تعالى .
ولمّا كان هذا البحث من أعظم الأصول الإسلاميّة - لاسيّما عند الفرقة الناجية الإمامية - وعدم القول بذلك يستلزم فساد العقيدة والدين ، كتبت هذه الرسالة تبصرة لنفسي ورجاءا لانتفاع غيري من طالبي العلم والدين بها .
ورتّبتها على مقدّمة ، وأربعة مقاصد ، وخاتمة :
ففي بيان معاني الحدوث والقدم .
فالمقصد الأوّل : في تحقيق الأقوال في حدوث ما سوى اللّه تعالى .المقصد الثاني : بيان الأدلّة النقلية .
ص: 6
المقصد الثالث : بيان الأدلّة العقلية .
المقصد الرابع : التعرّض لبعض الشبهات وجوابها .
وأمّا الخاتمة : ففي الإشارة إلى بعض المفاسد المترتبة على القول بقدم العالم .
هذا ، ونستمدّ من العليّ القدير ان يسدّد خُطانا ، ويُخْلص اعمالنا ، ويجعل قادم ايامنا خيرا من ماضيه ، ويُرضي موالينا سلام اللّه عليهم عنّا ..
وآخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين .
يوم ولادة ناموس الرسالة ، شريكة اخيها الحسين عليه السلام ، زينب الكبرى سلام اللّه عليها . في بلدة قم المقدسة عش آل محمد عليهم السلام فيكنف فاطمه المعصومه سلام اللّه عليها.
5 / جمادى الاولى / 1422 ه
ص: 7
ص: 8
القدم والحدوث عند الفلاسفة زماني وذاتي .
فهو كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ وهو حصول الشئبعد أن لم يكن ، بعديّة لا تجامع القبلية ، ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الزماني الذي هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ .
فهو كون وجود الشيء مسبوقاً بالعدم المتقرّر في مرتبة ذاته ، والقدم الذاتي خلافه(1) .
وبعبارة أُخرى : الحدوث الزماني هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني ، ويقابله القدم الزماني ؛ وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني . والحدوث الذاتي هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته ، ويقابله القدم الذاتي ؛ وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في حدّ ذاته(2) .
ص: 9
وأشار إلى هذه الأقسام المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد حيث قال : الموجود إن أُخذ غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم وإلاّ فحادث(1) .
ولا يخفى أنه أشار بقوله : بالغير . . إلى تعريف القدم الذاتي ، وبقوله : بالعدم . . إلى تعريف القدم الزماني ، على ما عليه الحكماء .
وتقدير كلامه : الوجود إن أُخذ غير مسبوق بالغير فقديم ذاتي ، أو بالعدم فقديم زماني ، وإلا . . أي وإن لم يؤخذ غير مسبوق بل مسبوقاً بالغير فحادث ذاتي ، أو بالعدم فحادث زماني على أن يكون المراد بالعدم هو الزماني المقابل للوجود ، وهذا الكلام يوافق الأقسام الأربعة التي ذكرها الفلاسفة على اصطلاحهم .
وأمّا المتكلّمون ؛ فلم يقسّموا الحدوث والقدم إلى الذاتي والزماني ، بل هما ليسا عندهم إلاّ زمانييّن ، فالقديم عندهم هو اللّه تعالى والحادث هو العالم .
هذا ، ولا نجد ثمة ضرورة في البحث والمناقشة في هذه التعريفات ؛ لعدم دخلها في المقصود ، بل الذي نحن بصدد إثباته لا يتوقّف على تحقيق هذه الأمور ، فانّ الذي ثبت باجماع أهل الملل والنصوص المتواترة هو : حدوث جميع ما سوى اللّه سبحانه وتعالى ؛ بمعنى أن أزمنة وجوده في جانب الأزل متناهية وفي وجوده ابتداء ؛ والأزلي القديم - بمعنى ما لا أوّل له ولم يكن مسبوقاً بالعدم - هو اللّه سبحانه(2) .
ص: 10
وبعبارة أُخرى : نحن بصدد إثبات الحدوث الزماني لجميع ما سوى اللّه ، بمعنى : أنّ الزمان والزمانيات كانت معدومة مطلقا قبل خلق العالم ، بل هينفي صرف .
وبعبارة ثالثة : إنّ الزمان والزمانيات وسلسلة الحوادث كلّها متناهية في طرف الماضي ، وإنّ جميع الممكنات تنتهي في جانب الماضي إلى عدم مطلق ولا شي بحت ، لا امتداد فيه ولا تكمّم ولا تدريج ولا قارّية ولا سيلان ؛ ولم يكن شيء قبل ابتداء الموجودات إلاّ الواحد القهّار .
والتّعبير ب- :« تنتهي الموجودات إلى عدم مطلق » وكذا : « قبل ابتداء الموجودات » من ضيق العبارة ، إذ لا يمكن تصوّر القبلية والانتهاء بالنسبة إلى العدم حقيقة .
ص: 11
إنّ الزمان وجميع الموجودات الممكنة في جانب الماضي لا يتصور فيها امتداد اصلاً ، لا « موجود » كما زعمت الفلاسفة ، ولا « موهوم » كما توهّمه بعض المتكلمين ، فلا يمكن أن يكون فيها حركات ؛ كما استدلّ به الحكماء على عدم تناهي الزمان ، بل لا شيء مطلق وعدم صرف .
ومن هنا يتّضح أنّ التعبير ب- :الحدوث الزماني إنّما هو لأجل ضيق العبارة ، إذ القائل بحدوثه - بالمعنى المذكور - قائل بحدوث الزمان أيضاً ؛ لأنه من
أجزاء العالم .
ص: 12
ص: 13
ص: 14
نذكر كلمات الأعلام في المقام حتى يظهر أنه لا خلاف بين المسلمين - بل جميع أرباب الملل - في أنّ ما سوى اللّه سبحانه وتعالى حادث بالمعنى الذي ذكرناه ، ولوجوده ابتداء . . بل قد عدّ ذلك من ضروريات الدين .
قال في الكافي في باب جامع التوحيد بعد ذكره الحديث الأوّل :
هذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه السلام حتى لقد ابتذلها العامة ، وهي كافية لِمَن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها وفهم ما فيها . . .
إلى أن قال : ألا ترون . . . إلى قوله : « لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان » فنفى بقوله : « لا من شيء كان » معنى الحدوث ، وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثالٍ ، نفياً لقول من قال(1) : إنّ الأشياء كلّها محدثة بعضها من بعض ، وإبطالاً لقول الثنويّة الذين زعموا أنه لا يُحدث شيئاً إلا من أصل ولا يدبّر إلا باحتذاء مثالٍ ، فدفع عليه السلام بقوله : « لا من
ص: 15
شيء خلق ما كان » جميع حُجَج الثنوية وشبههم ، لأنّ أكثر ما يَعْتَمِدُ الثنوية(1) في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء ، فقولهم : من شيء خطأ ، وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة لأنّ « مِنْ » توجب شيئاً « ولا شيء » تنفيه فأخرج أمير المؤمنين عليه السلامهذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحّها ، فقال : « لا من شيء خلق ما كان . . » فنفى « من » إذ كانت توجب شيئاً ، ونفى الشيء إذ كان كلّ شيء مخلوقاً محدثاً لا من أصل أحدثه الخالق كما قالت الثنوية : أنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثالٍ(2) .
قال : الدليل على أنّ اللّه - تعالى عزّوجلّ - عالمٌ حيٌّ قادرٌ لنفسه لا بعلمٍ وقدرةٍ وحياةٍ هو غيره : أنّه لو كان عالماً بعلمٍ ، لم يخل علمه من أحد أمرين إما أن
يكون قديماً أو حادثاً ، فإن كان حادثاً فهو - جلّ ثناؤه - قبل حدوث العلم غير عالم ، وهذا من صفات النقص ، وكلٌّ منقوصٍ محدثٌ بما قدّمنا ؛ وإن كان قديماً وجب أن يكون غير اللّه - عزّوجلّ - قديماً ، وهذا كفرٌ بالإجماع . . إلى آخركلامه(3) .
ص: 16
وقال - في عداد اسمائه تعالى - : القديم : معناه أنه المتقدّم للأشياء كلّها ، وكلّ متقدمٍ لشيء يسمى قديماً إذا بولغ في الوصف ، ولكنّه سبحانه قديم لنفسه بلا أولٍ ولا نهايةٍ ، وسائر الأشياء لها أولٌ ونهايةٌ ، ولم يكن لها هذا الإسم في بدءها
فهي قديمةٌ من وجه ومحدثةٌ من وجه .
وقد قيل : إنّ القديم معناه : إنه الموجود لم يزل ، وإذا قيل لغيره عزّوجلّ : إنّه قديمٌ كان على المجاز ؛ لأنّ غيره محدثٌ ليس بقديمٍ(1) .
وقال أيضاً في موضع آخر منه :
إنّ المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن ، والقديم هو الموجود لم يزل ، والموجود لم يزل يجب أن يكون متقدّماً لما قد كان بعد أن لم يكن . . .
إلى أن قال في آخر كلامه :
هذه أدلّة أهل التوحيد الموافقة للكتاب والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام(2) .
قال في المسائل العكبرية في المسألة السابعة عشرة :
قال السائل : اعترض فلسفي فقال : إذا قلتم إنّ اللّه وحده لا شيء كان معه ، فالأشياء المحدثة من أيّ شيء كانت ؟
فقلنا له : مبتدعة لا من شيء .
ص: 17
فقال : أحدثهما معاً أو في زمان بعد زمان ؟ !
قال : فإن قلتم : معاً ، أوجدناكم انها لم تكن معاً وانها حدثت شيئاً بعد شيء . وإن قلتم : أحدثها في زمان بعد زمان ؛ فقد صار معه شريك وهو الزمان !
( قال الشيخ المفيد رحمه الله ) :
والجواب - وباللّه التوفيق - : إنّ اللّه لم يزل واحداً لا شيء معه ولا ثاني له ، وانه إبتدأ ما أحدثه في غير زمان ، وليس يجب إذا أحدث بعد الأوّل حوادث أن يحدثها في زمان ، ولو فعل لها زماناً لما وجب بذلك قدم الزمان ، إذ الزمان حركات الفلك أو ما يقوم مقامها مما هو بقدرها في التوقيت ، فمن أين يجب عند هذا الفيلسوف أن يكون الزمان قديماً إذا لم توجد الأشياء ضربةً واحدةً ، لولا أنه لا يعقل معنى الزمان ؟ . . إلى آخره(1) .
وقال :
القول بأنّ أشباحهم عليهم السلام قديمة فهو منكر لا يطلق ، والقديم في الحقيقة هو اللّه تعالى الواحد الذي لم يزل وكلّ ما سواه محدث مصنوع مبتدأ له أوّل . والقول بأنهم لم يزالوا طاهرين قديمي الأشباح قبل آدم كالأول في الخطأ ، ولا يقال لبشر إنّه لم يزل قديماً(2) .
وقال - في الجواب عن قول السائل : إذا صحّ أنّ الأنوار قديمة ، فما بال ابراهيم قال : « رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ . . . »(3) - :
ص: 18
إنا غير مصحّحين لقدم الأنوار التي ذكرها السائل(1) .
وقال في موضع آخر في ضمن جوابه :
قوله : إنّ الأشباح مخلوقة قديمة فهو باطل ، وكلام متناقض ، اللهم إلاّ أن يريد بذكر القدم تقدم الزمان الذي لا ينافي الابتداء والحدوث ، فذلك ممّا يسلم به الكلام من التناقض ، إلاّ إنا لسنا نعلم ما أراد بقوله : الأشباح قديمة ومخلوقة ،
ولا ما عناه بذلك ؟ ! فيكون كلامنا بحسبه ، والقول بأن الأشباح قديمة بدع من القول ، لم يثبت عن صادق عن اللّه سبحانه فيما نعرفه إلاّ من كلام طائفة من الغلاة
وعامّة لا معرفة لهم بمعاني الكلام(2) .
وقال في تصحيح الاعتقاد :
المفوّضة صنف من الغلاة ، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة عليهم السلام وخلقهم ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ، ودعواهم أنّ اللّه سبحانه وتعالى تفرّد بخلقهم خاصّة وأنه فوّض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال(3) .
وقال أيضاً :
ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة عليهم السلام سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم . . إلى آخره(4) .
ص: 19
وقال رحمه الله - في الردّ على القول بالحال - :
فكره أن يثبت الحال شيئاً فتكون موجودة أو معدومة ، ومتى كانت موجودة لزمه - على أصله وأصولنا جميعا - أنها لا تخلو من القدم والحدوث ، وليس يمكنه الإخبار عنها بالقدم فيخرج بذلك عن التوحيد ويصير به أسوء حالاً من أصحاب الصفات(1) .
وساق الكلام إلى أن قال :
. . ومن دان بالهيولى وقدم الطبيعة(2) أعذر من هؤلاء القوم إن كان لهم
عذرٌ . ولا عذر للجميع فيما ارتكبوه من الضلال لأنهم يقولون : إنّ الهيولى هو أصلُ العالم ، وإنه لم يزل قديماً ، وإنّ اللّه تعالى هو محدث له كما يُحدث الصائغ من السبيكة خاتماً والناسج من الغزل ثوباً والنجار من الشجرة لوحاً(3) .
قال : وإرادته فعله ، لاستحالة كونه مريداً لنفسه مع كونه كارهاً ؛ لأنّ ذلك يقتضي كونه مريداً كارهاً لكل ما يصحّ كونه مراداً ، وذلك محال ، ولأن ذلك يوجب كونه مريداً لكلّ ما تصحّ إرادته من الحسن والقبح . . وسنبيّن فساد ذلك .
أو بإرادة قديمة ، لفساد قديم ثان ؛ ولأنّ ذلك يقتضي قدم المرادات ، أو كون إرادته عزماً . . وكلا الأمرين مستحيل .
ص: 20
وكونها من فعل غيره من المحدثين محال ؛ لأنّ المحدث لا يقدر على فعلالإرادة في غير،لاختصاص إحداثها بالابتداء وتعذّر الابتداء من المحدث فتغيره ، ويستحيل وجود قديم ثان على ما نبيّنه ، فلا يمكن تقدير احداثها به(1) .
وقال أيضاً :
إذا تقرّر ما قدّمناه من مسائل التوحيد ، وعلمنا صحّتها بالبرهان ، لزم كلّ عاقل اعتقادها أمناً من ضررها ، قاطعاً على عظيم النفع بها . . وفساد ما خالفها من المذاهب ، وحصول الأمان من معرّتها ، ونزول الضرر بمعتقدها من حيث كان علمه بحدوث الأجسام والأعراض يقتضي بفساد مذاهب القائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم . .
إلى أن قال :
وعلمنا بتفرّده سبحانه بالقدم والصفات النفسية التي عيّناها يبطل مذاهب الثنوية والمجوس وعبّاد الأصنام و . . . والغلاة والمفوّضة والقائلين بقدم الصفات زائداً على ما تقدّم(2) .
قال الكراجكي - تلميذ السيد المرتضى - في كتاب كنز الفوائد :
اعلم - أيدك اللّه - إنّ من الملاحدة فريقا يثبتون الحوادث ومحدثها ويقولون : إنه لا أوّل لوجودها ولا ابتداء لها ، ويزعمون : أنّ اللّه سبحانه لم يزل
ص: 21
يفعل ولا يزال كذلك ، وإنّ أفعاله لا أوّل لها ولا آخر ؛ فقد خالفونا في قولهم : إنّ
الأفعال لا أوّل لها . . إذ كنّا نعتقد إنّ اللّه تعالى ابتدأها وإنه موجود قبلها ،ووافقونا بقولهم : لا آخر لها ؛ لأنهم وإن ذهبوا في ذلك إلى بقاء الدنيا على ما هي عليه واستمرار الأفعال فيها وإنه لا آخر لها .
فإنا نذهب في دوام الأفعال إلى وجه آخر ، وهو تقضّي أمر الدنيا وانتقال الحكم إلى الآخرة ، واستمرار الأفعال فيها من نعيم الجنة الذي لا ينقطع عن أهلها ، وعذاب النار الذي لا ينقضي عن المخلّدين فيها ، فأفعال اللّه عزّوجلّ من هذا الوجه لا آخر لها .
وهؤلاء - أيدك اللّه - هم الدهرية القائلون : بأن الدهر سرمديّة لا أوّل له ولا آخر ، وإنّ كل حركة تحرّك بها الفلك فقد تحرّك قبلها بحركة من غير نهاية وسيتحرّك بعدها بحركة بعدها حركة لا إلى غاية ، وأنه لا يوم إلاّ وقد كان قبله ليلة ولا ليلة إلاّ وقد كان قبلها يوم ، ولا إنسان إلاّ أن يكون من نطفة ولا نطفة تكوّنت إلاّ من انسان ، ولا طائر إلاّ من بيضة ولا بيضة إلاّ من طائر ، ولا شجرة إلاّ من حبّة ولا حبّة إلاّ من شجرة . .
وإنّ هذه الحوادث لم تزل تتعاقب ولا تزال كذلك ، ليس للماضي فيها بداية ولا للمستقبل فيها نهاية ، وهي مع ذلك صنعة لصانع لم يتقدمها وحكمة من لم يوجد قبلها ، وإنّ الصنعة والصانع قديمان لم يزالا . . !
تعالى اللّه الذي لا قديم سواه وله الحمد على ما أسداه من معرفة الحق وأولاه ، وأنا بعون اللّه أُورد لك طرفاً من الأدلة على بطلان ما ادّعاه الملحدون وفساد ما تخيّله الدهريون(1) .
ص: 22
وقال الكراجكي أيضاً :اعلم إنّ الملاحدة لمّا لم تجد حيلة تدفع بها تقدّم الصانع على الصنعة ، قالت : إنه متقدم عليها تقدّم رتبة لا تقدّم زمان(1) .
قال في كتاب الاقتصاد - :
فصل : في أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم :
لو كان مع اللّه تعالى قديم ثانٍ لوجب أن يكون مشاركاً له في جميع صفاته ، لمشاركته له في القدم التي هي صفة ذاته التي باين بها جميع الموجودات لأن جميع أوصافه من كونه عالماً وقادراً وحيّاً وموجوداً ومريداً وكارهاً ومدركاً - يشاركه غيره من المحدثات قديماً ، ولا يشاركه في القدم فبان أنه يكون قديما -(2) يخالف المحدثات .
والشيء إنما يخالف غيره بصفته الذاتية ، وبها يتماثل ما تماثله ، كما أنّ ما شارك السواد في كونه سواداً ، ويخالف غير السواد من أنّ السواد يخالف البياض والحموضة وغيرهما أيضاً بكونه سواداً .
فعلم بذلك أنّ الاشتراك في صفة الذات يوجب التماثل ، وكان يجب من ذلك مشاركة القديمين في كونهما قادرين عالمين حيّين وفي جميع صفاتهما .
. . إلى أن قال :
ص: 23
فإذا ثبت ذلك بطل إثبات قديمين ، وإذا بطل وجود قديمين بطل قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة ، وبطل قول المجوس القائلين باللّه والشيطان ،وبطل قول النصارى القائلين بالتثليث(1) .
وقال أيضاً في رسالة الاعتقادات :
والدليل على أنّ اللّه تعالى قديم أزلي : لأن معنى القديم والأزلي : هو الذي لا أوّل لوجوده ، فلو كان الباري تعالى لوجوده أولاً لكان محدثاً ، وقد ثبت أنه تعالى واجب الوجود ، فيكون قديما أزلياً .
والدليل على أنه تعالى قادر مختار لا موجب ، لأن القادر المختار هو الذي يصدر عنه الفعل المحكم المتقن مع تقدّم وجوده ويمكنه الترك ؛ والموجب هو الذي يصدر هو وفعله دفعة واحدة ، فلو كان الباري تعالى موجباً لزم قدم العالم ، وقد بيّنا أنه قديم فيكون الباري تعالى قادراً مختاراً وهوالمطلوب(2) .
قال : وقوله تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ »(3) فإذا ثبت ذلك فكل ما يفعله اللّه تعالى من الآلام والتكاليف وخلق المؤذيات والحشرات والسباع حسن ، لأنه ثبت أنه لا يفعل القبيح وإن لم نعلم وجه حسنها على وجه التفصيل ، وكلام اللّه تعالى محدث ، لأنه لو كان قديماً لكان معه قديم آخر ولا
ص: 24
يجوز عليه الزوال لو كان قديماً(1) .
وقال أيضاً بعد ذكر أدلة حدوث العالم :اعلم ان اللّه تعالى قد ذكر في القرآن أدلة كثيرة على حدوث العالم وعلى إثباته وإثبات صفاته وما لا يجوز عليه وما يجوز أكثر مما ذكرنا ، وإنما لم نورد جملتها مخافة التطويل ، وفي هذا القدر كفاية إن شاء اللّه .
فينبغي للعاقل أن يتأمل في هذه الآيات وينظر فيها ليحصل له العلم باللّه تعالى ، ويعلم أنّ ما قاله المتكلمون ليس بخارج من القرآن والآثار الصحيحة . . إلى آخره(2) .
قال الشهرستاني صاحب الملل والنحل في كتاب نهاية الأقدام وصحّحه المحقق الطوسي رحمه الله (3) :
مذهب أهل الحق من الملل كلّها أنّ العالم محدث مخلوق له أوّل ، أحدثه الباري تعالى وأبدعه بعد أن لم يكن ، وكان اللّه ولم يكن معه شيء ، ووافقهم على ذلك جمع من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة ، مثل ثاليس ، وإنكساغورس ، وإنكسيمايس من أهل ملطية ، ومثل فيثاغورس ، وإنباذقلس ، وسقراط ، وأفلاطون من أهل آثينيّة ويونان جماعة من الشعراء والأوايل والنسّاك .
ص: 25
وإنما القول بقدم العالم وأزليّة الحركات بعد إثبات الصانع ، والقول بالعلّة الاولى إنما ظهر بعد أرسطاطاليس ، لأنّه خالف القدماء صريحاً وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنّها حجّة وبرهاناً ، وصرّح القول فيه من كان من تلامذته مثلالاسكندر الافروديسيّ ، وثامسطيوس ، وفرفوريوس ، وصنّف برقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه المسألة كتاباً أورد فيه هذه الشبهة(1) .
قال : إنّ الفلاسفة قالت : إنّ الهيولى قديمة ، وانها أصل العالم ، وإنّ اللّه ليس له في وجود الهيولى قدرة ولا أثر ، لأنهم ذكروا أنّها لا أوّل لوجودها ، وهي عندهم مشاركة للّه في القدم ، وقالوا : إنّ اللّه يصوّر منها الصور ، فليس له إلاّ
التصوير فحسب ، وقد بطل قولهم بما ثبت من حدوث العالم وحدوث كل ما سوى اللّه تعالى . . (2) .
قال في كتاب الفصول :
أصل : قد ثبت أنّ وجود الممكن من غيره ، فحال إيجاده لا يكون موجوداً ، لاستحالة إيجاد الموجود ، فيكون معدوماً ، فوجود الممكن مسبوق بعدمه وهذا الوجود يسمّى : حدوثاً ، والموجود : محدثاً ، فكل ما سوى الواجب
ص: 26
من الموجودات محدث ، واستحالة الحوادث لا إلى أوّل - كما يقوله الفلسفيّ - لا يحتاج إلى بيان طائل بعد ثبوت إمكانها المقتضي لحدوثها .
ثمّ قال :مقدمة : كل مؤثر إمّا أن يكون أثره تابعاً للقدرة والداعي أو لا يكون ، بل يكون مقتضى ذاته ؟ والأوّل يسمّى : قادراً ، والثاني : موجبا ، وأثر القادر مسبوق بالعدم ، لأن الداعي لا يدعو إلاّ إلى المعدوم ، وأثر الموجب يقارنه في الزمان ؛ إذ لو تأخّر عنه لكان وجوده في زمان دون آخر ، فإن لم يتوقّف على أمر غير ما فرض مؤثرا تامّاً كان ترجيحاً من غير مرجّح ، وإن توقف لم يكن المؤثّر تامّاً ، وقد فرض تامّاً ، وهذا خلف .
ثمّ قال :
نتيجة : الواجب المؤثر في الممكنات قادر ؛ إذ لو كان موجباً لكانت الممكنات قديمة ، واللازم باطل - لما تقدّم - فالملزوم مثله(1) .
وقال رحمه الله في تجريد الاعتقاد :
وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب .
وقال العلاّمة الحلي رحمه الله في شرحه :
لمّا فرغ من الدلالة على وجود الصانع تعالى شرع في الاستدلال على صفاته تعالى وابتدأ بالقدرة ، والدليل على أنه تعالى قادر : أنا قد بيّنا أنّ العالم
حادث ، فالمؤثر فيه إن كان موجباً لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثاً ، أعني العالم ، والتالي بقسمية باطل .
ص: 27
بيان الملازمة ؛ ان المؤثر الموجب يستحيل تخلّف أثره عنه ، وذلك يستلزم إما قدم العالم وقد فرضناه حادثاً ، أو حدوث المؤثر ويلزم التسلسل ،فظهر أنّ المؤثر للعالم قادر مختار(1) .
قال في كتاب الياقوت في علم الكلام :
لأنها إذا اختصّت بجهة فهي : إمّا للنفس ويلزم منه عدم الانتقال ، أو لغيره ، وهو إمّا موجب أو مختار ، والمختار قولنا والموجب يبطل ببطلان التسلسل ؛ ولأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة لعدمها المعلوم ، والقديم لا يعدم ، لأنه واجب الوجود ، إذ لو كان وجوده جائزاً لكان إمّا بالمختار وقد فرضناه قديماً ، أو بالموجب ويلزم منه استمرار الوجود ، فالمقصود أيضاً حاصل(2) .
وقال العلاّمة الحلي ؛في شرحه :
هذه المسألة من أعظم المسائل في هذا العلم ومدار مسائله كلها عليها ، وهي المعركة العظيمة بين المسلمين وخصومهم .
واعلم ؛ إنّ الناس اختلفوا في ذلك اختلافاً عظيماً وضبط أقوالهم : إنّ العالم إمّا محدث الذات والصفات ، وهو قول المسلمين كافّة والنصارى واليهود والمجوس ، وإمّا أن يكون قديم الذات والصفات ، وهو قول أرسطو ،
ص: 28
وثاوفرطيس ، وثاميطوس ، وأبي نصر ، وأبي عليّ بن سينا . . فإنهم جعلواالسماوات قديمة بذاتها وصفاتها إلاّ الحركات والأوضاع ، فإنها بنوعها قديمة ، بمعنى أنّ كل حادث مسبوق بمثله إلى ما لا يتناهى .
وإما أن يكون قديم الذات ، محدث الصفات ، وهو مذهب انكساغورس ، وفيثاغورس ، والسقراط ، والثنوية . . ولهم اختلافات كثيرة لا تليق بهذا المختصر .
وإما أن يكون محدث الذات ، قديم الصفات ؛ وذلك مما لم يقل به أحد لاستحالته ، وتوقّف جالينوس في الجميع(1) .
قال في الجواب عن سؤال السيد المهنّا : مايقول سيدنا فيمن يعتقد التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة لكنّة يقول بقدم العالم ؟ ما يكون حكمه في الدنيا والآخرة ؟ بيّن لنا ذلك ،أدام اللّه سعدك وأهلك ضدّك .
قال :من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف ؛ لأن الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الآخرة حكم باقي الكفار بالإجماع(2) .
وقال السيد المهنّا : ما يقول سيدنا في المثبتين القائلين بأن الجواهر والأعراض ليست بفعل الفاعل ، وأنّ الجوهر جوهر في العدم كما هو جوهر في الوجود ؟ فهل يكون هذا الاعتقاد الفاسد الظاهر البطلان موجبا لتكفيرهم ،
ص: 29
وعدم قبول إيمانهم وأفعالهم الصالحة ، وعدم قبول شهادتهم ، وجواز مناكحتهم ؟ أم لا يكون موجباً لشيء من ذلك وأي شيء يكون حكمهم في الدنيا والآخرة ؟وما الذي يجب أن يعتقد المكلف في معتقد هذه المقالة المتدين بها ، المناظر عليها ، مع ظهور فسادها . . أوضح لنا ذلك غاية الإيضاح .
فأجاب العلاّمة الحلي رحمه الله :
لا شك في رداءة هذه المقالة وبطلانها ، لكنّها لا توجب تكفيرا ولا عدم قبول إيمانهم وأفعالهم الصالحة ، ولا ردّ شهادتهم ، ولا تحرم مناكحتهم ، وحكمهم في الدنيا والآخرة حكم المؤمنين ، لأن الموجب للتكفير إنّما هو اعتقاد قدم الجواهر وهم لا يقولون بذلك ، لأن القديم يشترط فيه الوجود وهم لا يقولون بوجوده في الأزل . . (1) .
وقال العلاّمة الحلي رحمه الله في شرح كلام المحقق الطوسي رحمه الله في التجريد : « ولا قديم سوى اللّه تعالى » :
قد خالف في هذا جماعة كثيرة ؛ أمّا الفلاسفة فظاهر لقولهم بقدم العالم . . .
إلى أن قال :
وكل هذه المذاهب باطلة ؛ لأنّ كلّ ما سوى اللّه ممكن ، وكل ممكن حادث(2) .
وقال رحمه الله في كتاب نهاية المرام في علم الكلام :
قد اتفق المسلمون كافّة على نفي قديم غير اللّه تعالى وغير صفاته ،
ص: 30
وذهبت الإمامية إلى أنّ القديم هو اللّه تعالى لا غير .وقال فيه أيضاً :
أن يكون العالم محدث الذات والصفات وهو مذهب المسلمين وغيرهم من أرباب الملل وبعض قدماء الحكماء .
أن يكون قديم الذات والصفات ، وهو قول أرسطو وجماعة من القدماء ، ومن المتأخرين قول أبي نصر الفارابي والرئيس ، قالوا : السماوات قديمة بذواتها وصفاتها إلاّ الحركات والأوضاع فإنها قديمة بنوعها لا بشخصها ، والعناصر الهيولى منها قديمة بشخصها ، وصورها الجسميّة قديمة بنوعها لا بشخصها ، والصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها ولا بشخصها . . (1) .
وقال رحمه الله في كتاب واجب الاعتقاد :
يجب على المكلف أن يعرف أنّ اللّه تعالى موجودٌ ؛ لأنه أوجد العالم بعد أن لم يكن ، إذ لو كان قديما لكان إمّا متحركاً أو ساكناً . . والقسمان باطلان . . (2) .
قال في أنه تعالى متكلم :
المقام الرابع : في قدمه وحدوثه ، فقالت الأشاعرة بقدم المعنى ، والحنابلة بقدم الحروف ، وقالت المعتزلة بالحدوث ، وهو الحقّ لوجوه :
ص: 31
الوجه الأوّل : أنه لو كان قديماً لزم تعدّد القدماء وهو باطل ؛ لأنّ القولبقدم غير اللّه كفر بالإجماع ، ولهذا كفرت النصارى لإثباتهم قدم الاُقنوم . .الى آخر كلامه رحمه الله(1) .
قال : ولابد من قدرته للزوم قدم العالم أو حدوثه تعالى عند فرض ايجابه . . إلى آخره(2) .
قال في أُنموذجه : وقد خالف في الحدوث الفلاسفة أهلَ الملل الثلاث ، فإن أهلها مجمعون على حدوثه ، بل لم يشذّ من الحكم بحدوثه من أهل الملل مطلقا إلاّ بعض المجوس ، وأمّا الفلاسفة فالمشهور أنّهم مجمعون على قدمه على التفصيل الآتي .
ونقل عن أفلاطون القول بحدوثه ، وقد أَوّله بعضهم بالحدوث الذاتي .
ثمّ قال : فنقول : ذهب أهل الملل الثلاث إلى انّ العالم - ما سوى اللّه تعالى وصفاته من الجواهر والأعراض - حادث ، أي كائن بعد أن لم يكن ، بعديّة حقيقيّة لا بالذات فقط ، بمعنى أنها في حدّ ذاتها لا يستحقّ الوجود ، فوجودها متأخّر عن عدمها بحسب الذات - كما تقوله الفلاسفة - ويسمّونه : الحدوث
ص: 32
الذاتي ، على ما في تقرير هذا الحدوث على وجه يظهر به تأخّر الوجود عن العدممن بحث دقيق أوردناه في حاشية شرح التجريد .
وذهب جمهور الفلاسفة إلى أنّ العقول والأجرام الفلكية ونفوسها قديمة ، ومطلق حركاتها وأوضاعها وتخيّلاتها أيضاً قديمة . . (1) .
وقال المحقق الدواني في كتاب شرح العقايد العضديّة :
المتبادر من الحدوث الوجود بعد أن لم يكن ، بعديّة زمانيّة ، والحدوث الذاتي مجرد اصطلاح من الفلاسفة .
وقال : والمخالف في هذا الحكم الفلاسفة ، فإنّ أرسطاطاليس وأتباعه ذهبوا إلى قدم العقول والنفوس الفلكيّة ، والأجسام الفلكيّة بموادّها وصورها الجسميّة والنوعيّة وأشكالها وأضوائها ، والعنصريات بموادّها ، ومطلق صورها الجسيمّة لا أشخاصها ، وصورها النوعيّة ؛ قيل بجنسها ، فانّ صور خصوصيّات أنواعها لا يجب أن تكون قديمة ، والظاهر من كلامهم قدمها بأنواعها .
ثمّ قال : ونقل عن جالينوس التوقّف ، ولذلك لم يعدّ من الفلاسفة لتوقّفه فيما هو من أصول الحكمة عندهم(2) .
ص: 33
قال في القبسات :
القول بقدم العالم نوع شرك .
وقال في موضوع آخر منه : إنه إلحاد .وقال أيضاً :
عليه - أي على الحدوث - إجماع جميع الأنبياء والأوصياء(1) .
ص: 34
قال في رسالة حدوث العالم :
فمن العقلاء المدققين والفضلاء المناضرين ، من اعترف بالعجز عن هذا الشأن من إثبات الحدوث للعالم بالبرهان قائلاً : العمدة في ذلك الحديث المشهور والإجماع من المليين ، وأنت تعلم أنّ الاعتقاد غير اليقين . .(1) .
وقال : القول بقدم العالم إنما نشأ بعد الفيلسوف الأعظم أرسطو بين جملة رفضوا طريق الربانيين والأنبياء ، وما سلكوا سبيلهم بالمجاهدة والرياضة والتصفية وتشبثوا بظواهر أقاويل الفلاسفة المتقدمين من غير بصيره ولا مكاشفة ، فأطلقوا القول بقدم العالم .
وهكذا أوساخ الدهرية والطبيعية من حيث لم يقفوا على أسرار الحكمة والشريعة ، ولم يطلعوا على اتحاد مأخذها واتفاق مغزاهما .
ولشدّة رسوخهم فيما اعتقدوا من قدم العالم وزعمهم أن هذا مما يحافظ على توحيد الصانع وانثلام الكثرة والتغيير على ذاته ، وأنّ قياساتهم مبتنية على مقدمات ضرورية هي مبادي البرهان ، لم يبالوا بأن ما اعتقدوا مخالف لما ذهب إليه أهل الدين بل أهل الملل الثلاث من اليهود والنصارى والمسلمين من أنّالعالم - بمعنى ما سوى اللّه وصفاته وأسمائه - حادث . . أي موجود بعد أن لم يكن
ص: 35
بعدية حقيقية وتأخراً زمانياً ، لا ذاتياً فقط ؛ بمعنى أنه مفتقر إلى الغير متأخر عنه
في حد ذاته ، كما هو شأن كل ممكن بحسب حدوثه الذاتي وهو لا استحقاقية الوجود ولاعدم من نفسه .
ومنهم ، وإن كان ممن التزم دين الإسلام لكنّه يعتقد قدم العالم ، ويظنّ أنّ ما ورد في الشريعة والقرآن واتفق عليه أهل الأديان في باب الحدوث للعالم ، إنما المراد منه مجرد الحدوث الذاتي والافتقار إلى الصانع .
وذلك القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء من حيث لا يدري ، ولا يخلص قائله ، ولا يأمن من التعذيب العقلي والحرمان الأبدي ، لأن الجهل في الأُصول الإيماني إذا كان مشعوفاً بالرسوخ يوجب العذاب الروحاني في دار المآب .
ثمّ تأويل ما ورد في نصوص الكتاب والسنة إنما هو لقصور العقول عن الجمع بين قواعد الملة الحنيفة والحكمة الحقيقة ، وإلاّ فألفاظ الكتاب والسنة غير قاصرة عن إفادة الحقائق وتصوير العلوم والمعارف المتعلقة بأحوال المبدأ والمعاد حتى يحتاج إلى الصرف عن الظاهر للأقاويل وارتكاب التجوز البعيد والتأويل .
وهكذا فعله أبو نصر فارابي في مقالة التي في الجمع بين الرأيين والتوفيق بين مذهبي الحكيمين أفلاطون وأرسطو ، حيث حمل الحدوث الزماني الوارد في كلام أفلاطون حسب ما اشتهر منه ودلت عليه الألفاظ المأثورة منه على الحدوث الذاتي ، وهذا من قصور في البلوغ إلى شأوا الأقدميينالأساطين(1) .
ص: 36
منها : إنّ الفلاسفة لم يبالوا من مخالفة الشريعة فيما ذهبوا إليه من القدم الذاتي .
ومنها : إنهم أوّلوا نصوص الكتاب والسنة ، وما اتفق عليه أهل الأديان في باب حدوث العالم ، وقالوا : إنّما المراد منه مجرد الحدوث الذاتي والافتقار إلى الصانع ، وهذا القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء ومستلزم للعقاب الأبدي .
ومنها : ألفاظ الكتاب والسنة غير قاصرة عن إفادة الحقائق كي تحتاج إلى صرفها عن ظواهرها ، وارتكاب التجوزات البعيدة فيها ، فالمستفاد من الكتاب والسنة ليس إلاّ الحدوث الزماني ؛ بمعنى مسبوقية العالم للعدم وإنّ له أوّلاً
وابتداء .
ولا يخفى أنّ قوله هذا اعتراف وإقرار بما ذكرناه من اتفاق الآيات والأخبار والمليين على حدوث العالم زماناً . . أي مسبوقيته بالعدم الصريح .
ثم إنّ ما نسبه ملا صدرا إلى الفلاسفة من التأويل ، وعدم الفهم ، والقصور في الإدراك ، وتكذيب الأنبياء ، ومخالفة الضرورة . . وأمثالها يشمل نفسه قبل أن يشمل غيره ، كيف لا وهو يقول :
إنّ العقول المفارقة خارجة عن الحكم بالحدوث لكونها ملحقة بالصقع الربوبي ، لغلبة أحكام الوجود عليها ، فكأنها موجودة بوجوده تعالى لا بإيجادهوما سوى العقول من النفوس والأجسام وما يعرضها حادثة بالحدوث الطبعي
ص: 37
- أي الزماني - (1) .
فليس حكم الحدوث عنده سارياً بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم ، لخروج العقول عنده عن هذا الحكم ، بل فيما يجري فيه الحركة الجوهرية وهو عالم الطبايع والأجسام وما يتعلق بها .
وقال أيضاً :
الفيض من عند اللّه باق دائم ، والعالم متبدّل زائل في كلّ حين ، وإنما بقاؤه بتوارد الأمثال كبقاء الأنفاس في مدّة حياة كل واحد من الناس ، والخلق في لبس وذهول عن تشابه الأمثال ، وبقائها على وجه الاتصال(2) .
والحاصل : إنه قد سلّم بعدم تناهي سلسلة الحوادث من حيث البدء ، وقال بأزليتها وعدم انقطاع وجودها في الأزل إلى حدّ(3) .
ثم إنّ هذا الكلام على خلاف ما ذهب إليه المليون ، ودلّت عليه الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة كما سيأتي قريبا بيانه إن شاء اللّه تعالى .
مضافاً إلى أن ما فيه من مفاسد أُخر . . لا تخفى .
والمقصود في المقام : إنه مع توغّله وتبحّره في المباحث الفلسفيّة ، والتزامه بقواعدهم العقلية . . أقرّ بصراحة الكتاب والسنة واتفاق المليين على الحدوث الزماني للعالم .
ص: 38
قال ما ترجمته :
لابد أن يعلم إن الظاهر بل الضروري من الشريعة المقدسة حدوث العالم - أي ما سوى اللّه - زماناً ، بمعنى أنّ لوجوده ابتداء ، وزمان وجوده من الابتداء إلى الآن متناه ، فالقول بقدم العالم - أي المعنى المقابل لما ذكرناه - كما ذهبت إليه
الحكماء . . باطل وفاسد . . .
ومع هذا فقد ذهب في هذه الأعصار جمع من الجهّال ، الفضلاء غير المطّلع بالشرع أو المقيّد به تبعاً للحكماء إلى قدم العالم .
وقد أشرت إلى حقيقة الحال لأن يحترز كلّ من كان مقيداً بالدين من متابعة هذه الفرقة التي لا دين لها(1) .
قال في باب حدوث العالم :
المراد بالعالم : ما سوى اللّه ، وهو مع تكثّره منحصر في الجواهر والعرض ، وبحدوثه : أن يكون وجوده مسبوقاً بالعدم .
وقد اختلف الناس فيه ؛ فذهب المسلمون واليهود والنصارى والمجوس إلى أنّ الأجسام حادثة بذواتها وصفاتها ، وذهب أرسطوا وأتباعه إلى أنها قديمة بذاتها وصفاتها ، وذهب أكثر الفلاسفة إلى أنها قديمة بذواتها ومحدثة بصفاتها ، وقالوا لتوجيه ذلك ما لا طائل تحته ، وأمّا العكس فالظاهر أنه لم يقل
ص: 39
به أحدلأنه باطل بالضرورة ، وذهب جالينوس إلى التوقف في جميع ذلك(1) .
قال في شرح قوله
عليه السلام : « وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع عن الحدث » :
هذا واضح بحمد اللّه وحاصله : أنّ الحدوث هو المسبوقية بالعدم مطلقا ، والأزل هو اللا مسبوقية به ، فكل حادث يمتنع أن يكون أزليّاً ، وكل أزليّ يمتنع أن يكون حادثاً بوجه من الوجوه ، ومن ذلك قيل : إنّ أفلاطون الإلهي أنكر وجود حوادث لا إلى نهاية للزوم التناقض الذي ذكرنا ، فافهم(2) .
وقال أيضاً :
ص: 40
اعلم إن طبيعة الموجود من حيث هو موجود يقتضي المسبوقية بالعدم ، إذ تلك الطبيعة من حيث هي هي معلوم الحقيقة ، وقد مضى أنّ كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل مصنوع فقد سبقه عدم صريح لا محالة ، فكل ما يصدق عليه تلك الطبيعة المعلومة الحقيقة فهو بعد عدم واقعي بلا مرية ، فاللّه سبحانه موجود لا كالموجودات ولم يسبقه عدم . . (1) .
قال في كتاب الاعتقادات :
لابد أن تعتقد أنّ العالم حادث . . أي جميع ما سوى اللّه ، بمعنى أنه ينتهيأزمنة وجوده في الأزل إلى حدّ وينقطع لا على ما أوّله الملاحدة من الحدوث الذاتي ، فإنّ على المعنى الذي ذكرنا إجماع جميع المليين والأخبار به متظافرة متواترة .
فالقول بقدم العالم . . وبالعقول القديمة . . والهيولى القديمة - كما يقوله الحكماء - كفر (2) .
وقال في عين الحياة - ما ترجمته - :
لابد من الاعتقاد بأن كل ما سوى اللّه تعالى ينتهي وينقطع زمان وجوده في الأزل إلى حدّ وأمد ، ولكن اللّه تعالى قديم وليس لوجوده بداية ولا نهاية ، وحدوث العالم - بهذا المعنى - مما أجمع عليه أهل الأديان كافّة ، وهو قول كل
ص: 41
طائفة دانت بدين وآمنت برسول ، ودلت على هذا آيات كثيرة وروايات متواترة . .
ولكن جمعاً من الحكماء الذين لم يؤمنوا بنبيّ وما تديّنوا بدين وجعلوا مدار الأمور على عقولهم الناقصة قالوا : بقدم العالم ، وبالعقول القديمة ، وقدم الأفلاك ، وهيولي العناصر . . وهذا كفر صريح مع أنه مستلزم لتكذيب الأنبياء وإنكار كثير من الآيات القرآنية لقولهم بأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه(1) .
وقال في كتاب حق اليقين - ما ترجمته - :
المبحث الثامن : ليس للّه تعالى في القدم شريك ، وكل ما سوى اللّه تعالى حادث ، وعلى هذا اتفق جميع أرباب الملل ، وإن كان الحكماء أطلقوا الحدوث والقدم على معانٍ .أمّا الذي اتفق عليه أرباب الملل هو أنّ ما سوى اللّه تعالى مبتدأ له أوّل ، وينتهي وينقطع أزمنة وجوده في الأزل إلى حدّ ، وليس موجود أزلي غيره تعالى ، فإن ذلك مما أطبق عليه المليون ودلّت عليه الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة الصريحة في ذلك .
ثم قال : وقد أوردت في كتاب بحار الأنوار ما يقرب من مأتين حديثاً في هذا الباب من الخاصة والعامة ، مع ما أقمت من أدلة عقلية وما أجبت به عن شبهات فلسفية .
وقد ورد في الأحاديث المعتبرة بأن من اعتقد بقديم غير اللّه تعالى
ص: 42
فهوكافر(1) .
وقال في بحار الأنوار :
اعلم إنه لا خلاف بين المسلمين - بل جميع أرباب الملل - في أنّ ما سوى الربّ سبحانه وصفاته الكمالية كله حادث بالمعنى الذي ذكرنا ولوجوده ابتداء ، بل عدّ من ضروريات الدين(2) .
وقال أيضاً :
اعلم أنّ المقصود الأصلي من هذا الباب - أعني حدوث العالم - لمّا كان من أعظم الأصول الإسلامية - لاسيّما الفرقة الناجية الإمامية - وكان في قديم الزمان لا ينسب القول بالقدم إلاّ إلى الدهريّة والملاحدة والفلاسفة المنكرين لجميع الأديان ، ولذا لم يورد الكليني رحمه الله وبعض المحدثين لذلك باباً مفردا في كتبهم ، بلأوردوا في باب حدوث العالم أخبار إثبات الصانع تعالى اتكالاً على أنّ بعد الإقرار بالحق جلّ وعلا لا مجال للقول بالقدم ؛ لاتفاق أرباب الملل عليه .
وفي قريب من عصرنا لمّا ولع الناس بمطالعة كتب المتفلسفين ورغبوا عن الخوض في الكتاب والسنة وأخبار أئمة الدين ، وصار بعد العهد عن اعصارهم عليهم السلام سبباً لهجر آثارهم ، وطمس أنوارهم ، واختلطت الحقائق الشرعية بالمصطلحات الفلسفية ، صارت هذه المسألة معترك الآراء ومصطدم الأهواء ، فمال كثير من المتسمّين بالعلم ، المنتحلين للدين . . إلى شبهات المضلّين ، وروّجوها بين المسلمين ، فضلّوا وأضلّوا وطعنوا على أتباع الشريعة حتى ملّوا
ص: 43
وقلّوا ، حتى أنّ بعض المعاصرين منهم يمضغون بألسنتهم ، ويسوّدون الأوراق بأقلامهم : أن ليس في الحدوث إلاّ خبر واحد هو : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » . . ! ثمّ يؤوّلونه بما يوافق آراءهم الفاسدة . .
فلذا أوردت في هذا الباب أكثر الآيات والأخبار المزيحة للشك والارتياب ، وقفّيتها بمقاصد أنيقة ومباحث دقيقة تأتي بنيان شبههم من قواعدها ، وتهزم جنود شكوكهم من مراصدها تشييداً لقواعد الدين ، وتجنباً من مساخط ربّ العالمين كما روي عن سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله وسلم : « إذا ظهرت البدع في
أُمّتي فليظهر العالم علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين »(1) .
وقال في مرآة العقول ، في ذيل قول الكليني رحمه الله : باب حدوث العالم وإثبات المحدث :
أقول : أراد بالعالم : ما سوى اللّه تعالى ، والمراد بحدوثه : كونه مسبوقاًبالعدم وكون زمان وجوده متناهياً في جانب الأوّل ، وقد اختلف الناس فيه ، فذهب جميع المليين من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس إلى أنّها حادثة بذواتها وصفاتها وأشخاصها وأنواعها ، وذهب أكثر الفلاسفة إلى قدم العقول والنفوس والأفلاك بموادّها وصورها وقدم هيولى العناصر . . وإليه ذهبت الدهريّة والناسخية .
ولمّا لم يكن في صدر الإسلام مذاهب الفلاسفة شايعة بين المسلمين ، وكان معارضة المسلمين في ذلك مع الملاحدة المنكرين للصانع كانوا يكتفون غالباً
ص: 44
في إثبات هذا المدّعى بإثبات الصانع ، مع أنه كان مقرّراً عندهم أنّ التأثير لا يعقل في القديم .
ويحتمل أن يكون غرضه من عقد هذا الباب حدوث العالم ذاتاً واحتياجه بجميع اجزائه إلى المؤثر ، لكن هذا لا يدلّ على عدم قولهم بالحدوث الزماني ، بمعنى نفي عدم تناهي وجود العالم من طرف الأزل ، ولا على عدم ثبوته بالدلايل ، فانّ ذلك مما أطبق عليه المليّون ، ودلت عليه الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة الصريحة في ذلك .
وعدم القول بذلك مستلزم لإنكار ما ورد في الآيات والأخبار من فناء الأشياء وخرق السماوات وانتشار الكواكب بل المعاد الجسماني ، وقد فصّلنا الكلام في ذلك في كتاب السماء والعالم من كتاب بحار الانوار ، وسنشير في ضمن الأخبار الدالة على هذا المطلوب عند شرحها إلى ذلك(1) .
قال في الرسالة التي كتبها في تفسير الآية الشريفة « وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ »(2) ما ترجمته :
من قال بوجود عقل مجرد ذاتاً وفعلاً فقد قال بقدمه ، وهو يستلزم القول بقدم العالم ، والقائل بقدم ما سوى اللّه - وإن كان من الإماميّة - كافر بإجماع المسلمين(3) .
ص: 45
قاله في مقام ذكر الأقسام الأربعة من القسم الثاني فيما كان من الحيوان نجسا ، بعد أن ذكر الكافر وقسّمه قسمان ؛ أوّلهما الكافر بالذات ؛ وهو الكافر باللّه
تعالى أوبنبيه أو المعاد . . إلى أن قال :
القسم الثاني : ما يترتب عليه الكفر بطريق الاستلزام ؛ كانكار بعض الضروريات الإسلامية والمتواترات عن سيّد البرية كالقول بالجبر والتفويض والإرجاء والوعد والوعيد وقدم العالم وقدم المجرّدات والتجسيم والتشبيه بالحقيقة والحلول والاتحاد ووحدة الوجود أو الموجود . . . أو أنّ الأفعال بأسرها مخلوقة للّه . . (1) .
وقال في موضع آخر منه :
الكفر أقسام :
الأوّل : ما يستحلّ به المال وتسبى به النساء والأطفال ، وهو كفر الإنكاروالجحود والعناد والشك . .
والقسم الثاني : ما يحكم فيه بجواز القتل ، ونجاسة السؤر ، وحرمة الذبايح والنكاح من أهل الإسلام دون السبي والأسر وإباحة المال ، وهو كفر من دخل في الإسلام وخرج منه بارتداد عن الإسلام ويزيد الفطري منه في الرجال بإجراء احكام الموتى ، أو كفر نعمة من غير شبهة ، أو هتك حرمة ، أو سبّ لأحد المعصومين عليهم السلام ، أو بغض لهم عليهم السلام ، أو بادّعاء قدم العالم بحسب الذات ، أو وحدة الوجود ، أو الموجود على الحقيقة منهما ، أو الحلول ، أو الاتحاد ، أو التشبيه ، أو
ص: 46
الجسميّة . . (1) .
قال ما ترجمته :
إنه تعالى كان ولا شيء معه ، فليس له شريك في القدم ، كما عليه إجماع جميع أهل الأديان(2) .
قال في عداد كتب الضلال :
. . ككتب القدماء من الحكماء القائلين بقدم العالم وعدم المعاد ، وكتب عبدة الأصنام ومنكري الصانع . . (3) .
قال : إجماع جميع الشرايع على حدوث العالم زماناً(4) .
قال : لابد لتصوّر مسبوقية وجود العالم عن عدمه الواقعي الفكّي الغير
ص: 47
المجامع لوجوده من مخلص آخر ، إذ القول بحدوث العالم كذلك من ضروريات الدين ، بل المتفق عليه بين أهل الملل والنحل .
فلا ينبغي القناعة في المقام بالقول بحدوث العالم ذاتاً - بمعنى تأخره عن العدم المجامع مع وجوده كما عليه بعض الحكماء - لأنه مخالف مع قول المليين فتدبّر ودقّق النظر ؛ لأنّ المقام مزلّة الأقدام . . (1) .
قال بعد تصريحه بقوله : منع قدم العالم وعدم تناهي النفوس :
إجماع المليين على الحدوث الزماني لا الحدوث الذاتي ولا الحدوث الثابت من جهة الحركة الجوهرية(2) .
على اليسير منها خوفا من الإطالة وملل القاري ولحصول الغرض بذلك .
على ضوء الأقوال التي ذكرناها نجد ان كلمة جميع أرباب الملل والمذاهب اتفقت على وقوع التفكيك بين الخالق والمخلوق ، وأنّ العالم - أي جميع ما سوى اللّه بجميع أجزائه وصفاته - حادث وكائن بعد أن لم يكن بعديةً حقيقيةً ، لا بالذات فقط ، حتى يقال : إنه في حدّ ذاته لا يستحقّ الوجود ، وأن وجوده متأخر عن عدمه بحسب الذات ، كما عليه الفلاسفة .
وإنّ اللّه تعالى قد أبدع وأحدث الأشياء بعد أن لم تكن موجودةً بعدّيةً حقيقيةً ، وأنّ للأشياء ابتداء وأوّلاً زمانيا ، وأنّ الأزلية والقدمة مختصة بذات الباري تعالى .
والعالم عندهم حادث بالذات والزمان ، والزمان عندهم أعمّ من الزمانالحادث والموهوم ، والدهر والسرمد ، بل التعبير بالزمان هنا من باب ضيق العبارة ومجرد اصطلاح ، إذ القائل بحدوثه بالمعنى المذكور قائل بحدوث الزمان أيضاً ، لأنه من أجزاء العالم .
والمقصود واضح وهو أنه تعالى أبدع وأحدث وأوجد الأشياء بعد أن لم تكن بعدية حقيقية كما هو مضمون الآيات والأخبار المتواترة ، والمخالف في المسألة هم الفلاسفة ، والمشهور منهم يقولون بأن ما سوى اللّه حادث بالذات وقديم بالزمان .
ص: 49
قد يقال : إنّ المسألة - أي بحث حدوث العالم - من المسائل العقلية الكلاميّة التي لاينفع فيها التمسك بالإجماع ، لأنّ الإجماع الحجة ما كان كاشفا عن قول الإمام عليه السلامفي المسائل الشرعية لا في المسائل العقلية إذ الاستكشاف المزبور إنما يتأتي فيما إذا كان شأن الشارع بيانه والحجة في المطالب العقلية هي العقل الحاكم فيها .
هو أنّ كون المسألة عقلية كلامية لا يمنع عن التمسك بالإجماع وساير الأدلة السمعية فيها .
فإنّه بعد إثبات وجود الخالق تعالى ونبوّة النبي صلى الله عليه و آله وسلملو فرضنا أمرين ممكنين في أنفسهما وقد صرّح الشرع بتعيين أحدهما لوجب الاعتقاد به فضلاً عما إذا كان أحد الأمرين مستحيلاً في نفسه ، وهو القدم لغير اللّه .
بل الاعتماد في كثير من المسائل الكلامية إنما هو عليه ، ألا ترى أنّ المحقق الدواني وسائر المتكلمين قد تمسّكوا في إثبات هذه المسألة - أي حدوث العالم زماناً وكونه مسبوقاً بالعدم غير المجامع - بإجماع المسلمين أو المليّين عليه ، كماوقد تمسّك بعضهم بالأخبار المتواترة فيه .
وجعل العلاّمة المجلسي رحمه اللهالدليل المعتمد في مسألة التوحيد هو مثل قوله : « قُلْ هُوَ اللّه ُ أحدٌ » ولا إشكال في ذلك ، إذ بعد إثبات الصانع الواجب تعالى وكونه عالماً وقادراً وصانعاً وصادقاً ، وإثبات الرسول صلى الله عليه و آله وسلموكونه معصوماً ببرهان العقل . . يمكن التمسك بقولهما على إثبات ساير الصفات التي لا تتوقّف عليها
ص: 50
إثبات النبوّة ،(1) ولهذا نجد المحقق الطوسي رحمه اللهذهب في التجريد إلى إثبات المعاد الجسماني وثبوته بالسمع(2) ، وقد حكي مثله عن ابن سينا في بعض كتبه .
ولا يخفى أنّ الموارد التي تمسّك فيها العلماء بالأدلة السمعية في المسائل الكلامية أكثر من أن تحصى ، وشأن الشارع كما هو بيان الأحكام الفرعيّة كذلك بيان الأحكام الأصولية أيضاً من وظيفته ، بل هذا الأمر يمتاز باهمية خاصة لأنّ شرف العلم بشرف معلومه ، وقد قسّموا الأحكام الشرعيّة في أوائل كتب الأصول إلى الأصولية الاعتقادية والأصولية العملية والفرعية .
فعلى هذا يكون في كلّ موضع لا يحكم العقل فيه بشيء كمسألة حدوث العالم على ما ادّعاه بعض الفلاسفة بل معلّمهم حيث ادّعى أنّ أدلّة الطرفين جدلية غير برهانية ، أو كالمعاد الجسماني على ما ادّعاه بعضهم من عدم حكمالعقل به . . يكون الإجماع فيه كاشفاً عن الحكم التأسيسي للشارع .
وفي كل موضع يحكم العقل به يكون التمسك بالإجماع مثلاً إمّا من جهة كشفه عن الحكم الإمضائي للشارع ، أو مع قطع النظر عن الدليل العقلي .
نعم شأن الشارع ليس بيان الأحكام العقلية المحضة مثل : الكل أعظم من الجزء ، ولا وجه للتمسك بالإجماع فيها ولم يتمسك أيضاً أحد به فيها .
ص: 51
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في عداد براهين التوحيد :
السابع : الأدلة السمعيّة من الكتاب والسنة ، وهي أكثر من أن تحصى ، وقد مرّ بعضها ، ولا محذور في التمسك بالأدلة السمعيّة في باب التوحيد ، وهذه هي المعتمد عليها عندي(1) .
وقال أبو الصلاح الحلبي رحمه الله في عداد براهين التوحيد :
طريقة أُخرى ، وهو علمنا من طريق السمع المقطوع على صحته :
إنّ صانع العالم سبحانه واحد لا ثاني له ، والاعتماد على إثبات صانع واحد سبحانه من طريق السمع أحسم لمادّة الشغب وأبعد من القدح ، لأنّ العلم بصحّة السمع لا يفتقر إلى العلم بعدد الصناع ، إذا كانت الأصول التي يعلم بصحتها صحة السمع سليمة ، وإن جوز العالم بها تكاملها لأكثر من واحد ، من تأمل ذلك وجده صحيحاً ، وإذا لم يفتقر صحة السمع إلى تميّز عدد الصناع أمكن أن يعلم عددهم من جهته ، فإذا قطع العدد بكونه واحداً وجب العلم به والقطع ينفي ما زاد عليه(2) .وقال الطبرسي النوري رحمه الله بعد نقل الكلام المتقدم للعلاّمة المجلسي ما ترجمته :
الحق إنه كلام متين ، وقد تبع فيه قول اللّه تعالى وقول أمير المؤمنين عليه السلامالمذكوران ، لأن من تأمل وعلم أنه تعالى أصدق الصادقين ، وتأمّل حقيقة المنزَل - أي القرآن - والمنزل عليه ، ولاحظ طهارته وعصمته لوجد أنّ
ص: 52
أمتن الأدلة على التوحيد هو كلامهم عليهم السلامولكن بعد تمامية السند والدلالة وثبوت أنه من كلامهم عليهم السلام ، كما أنّ أكثر الأدلة على التوحيد كذلك ، يعني إما من قبيل النصوص والمحكمات القرآنية وإما من قبيل الأخبار المحكمة المتواترة منهم عليهم السلام .
ولا تصغ إلى مزخرفات بعض الحكماء والصوفية الذين يتعبدون بالقواعد والاستحسانات المنخرمة التي أكثرها أوهن من بيت العنكبوت ، وأوّلوا نصوص الكتاب والأخبار على خرافاتهم وليس طريقتهم إلا الإدبار عن كتاب اللّه تعالى والإعراض عن سنة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله وسلم ، وليس هذا إلا لعدم معرفتهم بحقيقة كلامهم ، وعدم معرفتهم بحق المنزِل والمنزَل والمنزل عليه .
ومن المحال للموحّد المؤمن باللّه وبما جاء نبيّه صلى الله عليه و آله وسلم - بعد معرفة حقيقة كلامهم - أن لا يحصل له كمال الجزم واليقين بما أفادوا عليهم السلام من أصول الدين (1) .
والعجب من صاحب الشوارق حيث قال - بعد تضعيف إجماع المتكلمين على الحدوث الزماني بأنه لا فائدة في هذا الاجماع - :
ليس في أحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام التصريح بأحد الوجهين منالحدوث الذاتي والزماني(2) .
والوجه فيه : إنه كيف يمكن نفي فائدة الإجماع على الحدوث الزماني وقد استدلّ هو نفسه بالإجماع على الحدوث الذاتي(3) .
ص: 53
فإن كان الإجماع غير مفيد فلا اعتبار له في المقامين ، وادعاء صحة الاستدلال به على الحدوث الذاتي دون الزماني تحكّم .
وقد ذكرنا آنفاً جواز الاستدلال بالأدلة النقلية كالإجماع و . . . في المسائل الكلامية العقلية .
وقلنا : يجوز اثبات كل صفة لا يتوقف عليها إثبات النبوة والإمامة بالدليل العقلي والنقلي بخلاف ما يتوقف عليه إثباتهما كالعلم والقدرة فلابد أن تثبت بالدليل العقلي .
فعلى هذا بعد إثبات الصانع تعالى وكونه عالماً وقادراً ، وإثبات الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وكونه معصوماً ببرهان العقل ، يمكن وأن يتمسك بقولهما في إثبات ساير الصفات .
بل نقول : إنّ المقصود من الإجماع والاتفاق في المقام هو ادعاء الضرورة من الدين على أنّ ما سوى اللّه كائن بعد أن لم يكن بعدية حقيقية ، وأنّ للأشياء ابتداء ، وكان اللّه ولم يكن معه شيء ثمّ خلق الأشياء ، ولذا قال السيّد الداماد :
القول بقدم العالم نوع شرك ، وإنه إلحاد .وقال العلاّمة الحلي رحمه الله : من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف .
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله : من قال بقديم غير اللّه فهو كافر . . وقد مرّ كلامهم .
وهذه الحقيقة واضحة لانّه يحصل لنا بإجماع المليّين القطع بالحكم كما يحصل ذلك من الآيات والأخبار المتواترة على الحدوث الزماني ، فعلى هذا كيف يمكن مخالفة ما تبيّن بالقطع والضرورة أنّه من الدين .
ص: 54
وأمّا إنكار صاحب الشوارق حدوث العالم - بالمعنى الذي ذكرناه من الروايات - فهو إمّا لعدم اطلاعه بما ورد من الأحاديث المتواترة الصريحة الواضحة كالشمس في رابعة النهار التي تنادي بأعلى صوتها على الحدوث الحقيقي . . بمعنى إيجاد الأشياء بعد أن لم تكن كما سنبيّن ذلك ، وإمّا لاعتماده على
أصول الفلاسفة الفاسدة وآرائهم الباطلة .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
فإنّه ثبت بنقل المخالف والمؤالف اتفاق جميع أرباب الملل مع تباين أهوائهم وتضادّ آرائهم على هذا الأمر ، وكلّهم يدّعون وصول ذلك عن صاحب الشرع إليهم .
وهذا ممّا يورث العلم العادي بكون ذلك صادراً عن صاحب الشريعة ، مأخوذاً عنه ، وليس هذا مثل سائر الإجماعات المنقولة التي لا يعلم المراد منها ، وتنتهي إلى واحد وتبعه الآخرون .
ولا يخفى الفرق بينهما على ذي مسكة . .
ص: 55
ص: 56
ص: 57
ص: 58
منها ما فيها لفظ « خَلَقَ » كقوله تعالى :
« هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً »(1) .
« إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه ُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ »(2) .
« وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ »(3) .
« الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ »(4) .
« أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً »(5) .
« اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ »(6) .
ومنها ما فيها لفظ « بَدأ » كقوله تعالى :
ص: 59
« إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ »(1) .
« قُلِ اللّه ُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ »(2) .
« أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّه ُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ »(3) .
ومنها ما فيها لفظ « بديع » كقوله تعالى :
« بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ »(4) .
« بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ »(5) .
ومنها ما فيها لفظ « انشأ » كقوله تعالى :
« هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ »(6) .
« هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ »(7) .
والحاصل : إنّ الآيات الدالّة على حدوث خلق السماوات والأرضيين و ما بينهما - عموماً و خصوصاً - كثيرة جدّاً .
ويتبيّن لكلّ من يتتبّع كلام العرب وموارد استعمالاتهم وكتب لغتهم أنّ أالفاظ « الخلق »و« الإبداء » و« الإبداع » و« الإيجاد » و« الإحداث » و« الفطر »
ص: 60
و« الاختراع » و« الصّنع » و« الجعل » ، لاتُطْلق إلا على الإيجاد بعد العدم(1) .
وقال المحقق الطوسي في شرح الإشارات :
الصّنع : إيجاد شيء مسبوق بالعدم ، وفي اللغة : الإبداع الإحداث ، ومنه « البدعة » لمحدثات الأمور ، وفسّروا الخلق بإبداع شيء بلا مثال سابق (2) .
وجدير بنا أن ننقل كلام بعض أهل اللغة ليظهر لك حقيقة ما ذكرناه .
لفظ « بدأ » :
في أقرب الموارد : بَدَاتُ بالشيء بدأً وابتدأتُه وبه وتَبَدّأتُ به : افتتحتهُ .
البدأ : افتتاح الشيء والأوّل والابتداء(3) .
وفي مجمع البحرين : بدأتُ الشيء : فعلته ابتداءا(4) .
وفي لسان العرب : بَدأتُ الشيءَ : فعلته ابتداءا .
البدء والبديء : الأوّل .
البدء : فعل الشيء الأوّل .
بدأ : في أسماء اللّه عزّوجلّ المُبْدئ : هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها
ص: 61
ابتداءا من غير سابق مثال(1) .
لفظ : « خَلَقَ » :
في لسان العرب : الخلق في كلام العرب : ابتداع الشيء على مثال لم يُسْبَق إليه وكلّ شيء خَلَقَه اللّه فهو مبتَدِئه على غير مثال سبق إليه :
«أَلا لَه الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّه أَحْسَن الخالِقين» .
ابن سيده : خلق اللّه الشيء يخلقه خلقا ، أحدثه بعد أن لم يكن(2) .
وقال في النهاية : في لغة خَلَقَ : في أسماء اللّه تعالى : الخالق ، وهو الذي أوجد الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة(3) .
وفي أقرب الموارد : خَلَقَ الشيء : أوجده وأبدعه على غير مثال سبق(4) .
لفظ « أنشأ » :
في لسان العرب : أنشَأَه اللّه : خَلَقَه .
أنْشَأ اللّه الخلق أيْ ابتدأ خلقَهم .
وقال الزجاج في قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ »(5) : أي ابتدعها وابتدأ خلقَها(6) .وفي مجمع البحرين : قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ » أيابتدأكم
ص: 62
وخلقكم وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه ، ومثله : أنشأ جنّات معروشات وينشئ السحاب الثقال(1) .
وفي أقرب الموارد : أنْشَأ الشيء : أحدثه .
أنشأ اللّه الخلقَ : ابتدأ خلقهم .
أنشَأ اللّه الشيء : خلقه(2) .
وفي مجمع البيان : الإنشاء : إحداث الفعل ابتداءا لا على مثالٍ سبق ، وهو كالابتداع .
وقال في قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ »(3) أي خلق وابتدع لا على مثال(4) .
لفظ « بدع » :
في أقرب الموارد : بَدَعه وأبْدَعَهُ وابْتَدَعَهُ كلها بمعنى اخترعه لا على مثال .
البِدْعَةُ : ما اختُرع على غير مثالٍ سابق(5) .
وفي لسان العرب : بدع الشيء يبدعُهُ بَدْعاً وابتدعه : أنْشَأه وبدأه .
البديعُ والبِدْعُ : الشيء الذي يكون أوّلاً .
وفي التنزيل : « قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ »(6) أي ما كنتُ اوّل من أُرسِل ،
ص: 63
قد أُرْسِلَ قبلي رُسُلٌ كثيرٌ
فلانٌ بِدْعٌ في هذا الأمر أي أوّل لم يسبقه أحدٌ .
ابتدعتُ الشيءَ : اخترعتُه لا على مثال .
بديع السموات والأرض : أي خالقها ومبدعها فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثالٍ سابقٍ(1) .
وفي مجمع البحرين : بدع : ما كنت بدعاً من الرسل ، أي ما كنت بدءاً من الرسل أي ما كنت أوّل من أُرسل من الرسل ، قد كان قبلي رسل كثيرة .
بديع السماوات والأرض . . : أي مبدعهما وموجد لهما من غير مثال سابق(2) .
وفي كتاب العين : البدع : إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة .
واللّه بديع السموات والأرض : ابتدعهما ولم يكونا قبل ذلك شيئاً يتوهمهما متوهم ، وبدع الخلق .
البدع : الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر ، كما قال اللّه عزّوجلّ : « قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ »(3) أي لست أوّل مرسل(4) .
إنّ المستفاد من كتب اللغة أنّ لفظ « بدع » مختص بالإيجاد
ص: 64
الابتدائي أي الإيجاد بعد العدم ، ولا يستعمل في الإيجاد من شيء (1).
ولا يخفى إنّ المعنى الذي ذكرناه في « بَدَءَ » و« خَلَقَ » و« بَدَعَ » هو نفس المعنى المستفاد من سائر الكلمات - أي « الإيجاد » و« الإحداث » و« الاختراع » . . . - على ضوء كتب اللغة .
وهذا المعنى هو الظاهر والمتبادر من هذه الكلمات بلا احتياج إلى قرينة وبالرجوع إلى كتب اللغة وموارد استعمالاتهم يحصل الاطمئنان بأنها لا تطلق إلاّ على الإيجاد بعد أن لم يكن . . أي الخلق الابتدائي ، وفهم المعنى الآخر يحتاج إلى قرينة .
فالمعنى الأوّل والمتبادر من هذه الكلمات هو الخلق الابتدائي أي الإيجاد بعد العدم .
وسنذكر الأحاديث الكثيرة الصريحة في هذا المعنى وانّها تصدّق الظهور المستفاد من الآيات .ولا يبقى ريب فيما قلناه لمن تتبع الآيات والأخبار ، كقوله عليه السلام : « لا من
ص: 65
شيء فيبطل الاختراع ولا لعلّة فلا يصحّ الابتداع »(1) كما قد وقع التصريح بالحدوث بالمعنى المعهود في أكثر النصوص الآتية بحيث لا تقبل التأويل ، وبانضمام بعضها مع بعض يحصل القطع بالمراد .
فعلى هذا إنّ التأمّل في الآيات المتظافرة والأحاديث المتواترة بأساليب مختلفة تسبّب حصول القطع بالحدوث بالمعنى الذي أسلفناه .
ص: 66
أمّا الروايات الدالة على وقوع التفكيك بينه تعالى وبين ما سواه وأنّ جميع ما سوى اللّه حادث بمعنى انتهاء أزمنة وجودها في الأزل إلى حدّ وينقطع وأنّها كائنة بعد أن لم يكن بعديّة حقيقية لا بالذات فقط فمتواترة جدّاً كما لا تخفى على العارف بالأخبار .
ونحن نذكر الآن جملة منها ، ولكن قبل سرد الروايات لابد من الاشاره إلى أنّ البحث الذي نحن الأن بصدد بيانه هو حول الدليل النقلي مع قطع النظر عن الدليل العقلي ، وإن كان بعض الأدلّة النقلية الآتية متضمنة للدليل العقلي أيضاً .
* روى الشيخ الطبرسي - ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسائل كثيرة . . - :
إنّه قال الزنديق : من أيّ شيء خلق اللّه الأشياء ؟
قال عليه السلام : « لا من شيءٍ » .
فقال : كيف يجيء من لا شيء شيء ؟
قال عليه السلام : « إنّ الأشياء لا تخلو ، إمّا أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كان خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثاً ولا يفنى ولا يتغيّر . . » .
إلى أن قال الزنديق : فمن أين قالوا إنّ الأشياء أزليةٌ ؟
قال : « هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم ديناً
ص: 67
بآرائهم واستحسانهم . . . لو كانت قديمة أزليّة لم تتغيّر من حال إلى حال ، وإنّ الأزلي لا تغيّره الأيام ولا يأتي عليه الفناء »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
بيان : « والقديم لا يكون حديثاً . . » ، أي ما يكون وجوده أزلياً لا يكون محدثاً معلولاً فيكون الواجب الوجود بذاته ، فلا يعتريه التغيّر والفناء .
وقد نسب إلى بعض الحكماء أنه قال : المبدع الأوّل هو مبدع الصور فقط دون الهيولى ، فإنّها لم تزل مع المبدع . . فأنكر عليه سائر الحكماء ، وقالوا : إنّ
الهيولى لو كانت أزليّة قديمة لما قبلت الصور ، ولما تغيّرت من حال إلى حال ، ولما قبلت فعل غيرها . . إذ الأزليّ لا يتغيّر(2) .
* عن إلامام أمير المؤمنين علي عليه السلامأنه قال :
« الحمد للّه خالق العباد ، وساطع المهاد ، ومسيل الوهاد ، ومخصب النجاد ، ليس لأوليّته إبتداء ، ولا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل لم يزل ، والباقي بلا أجل . . »
إلى أن قال عليه السلام :
« لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة ولا من أوائل أبديّة ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه وصوّر ما صوّر فأحسن صورته . . »(3).
ص: 68
إنّ صراحة قوله عليه السلام : « لم يخلق الأشياء من أصول أزلية » واضحة ومبيّنة لحدوث العالم بشكل لا يقبل التأويل بأيّ وجه من الوجوه .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي اسحاق اللّيثي ، قال : قال لي أبو جعفر محمدّ بن علي الباقر عليهماالسلام :
« يا ابراهيم ! إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل عالماً قديماً ، خلق الأشياء لا من شيء ، ومن زعم أنّ اللّه تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر ؛ لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديما معه في أزليته وهويّته كان ذلك الشيء أزليّاً ، بل خلق اللّه تعالى الأشياء كلّها لا من شيء . . »(1) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال : أخبرني عن الربّ تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه فأسماؤه وصفاته هي هو ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام :
« . . . إن كنت تقول : لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ اللّه أن يكون معه شيء غيره ، بل كان اللّه ولا خلق ثمّ خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرّعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره ، وكان اللّه ولا ذكر ، والمذكور بالذكر هو اللّه القديم الذي لم يزل »(2) .
ص: 69
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
هذا صريح في نفي تعدد القدماء ، ولا يقبل تأويل القائلين بمذاهب الحكماء(1) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن جابر الجُعْفي قال : جاء رجلٌ من علماء أهل الشام إلى أبي جعفر عليه السلام فقال : جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحداً يُفسّرها لي ، وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس فقال كلّ صنف غير ما قاله الآخر !
فقال أبو جعفر عليه السلام : « وما ذلك ؟ »
فقال : أسألك ما أوّل ما خلق اللّه عزّوجلّ من خلقه ؟ فإنّ بعض من سألته قال : القدرة ، وقال بعضهم : العلم ، وقال بعضهم : الروح .
فقال أبو جعفر عليه السلام :
« ما قالوا شيئاً ، أُخبرك أنّ اللّه علا ذكره كان ولا شيء غيره ، وكان عزيزاً ولا عزّ ، لأنه كان قبل عزّه ، وذلك قوله : « سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ »(2) وكان خالقاً ولا مخلوق ، فأول شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء » .
فقال السائل : فالشيء خلقه من شيء أو من لا شيء ؟
فقال عليه السلام :
« خلق الشيء لا من شيء كان قبله ، ولو خلق الشيء من شيء إذاً لم يكن له انقطاعٌ أبداً ، ولم يزل اللّه إذاً ومعه شيء ، ولكن كان
ص: 70
اللّه ولا شيء معه فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء »(1) .
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
هذا الخبر نصّ صريح في الحدوث ولا يقبل التأويل بوجه(2) .
* ورواه الكليني مسنداً عن محمدّ بن عطية عن أبي جعفر عليه السلامقال :
« . . . أُخبرك أن اللّه تعالى كان ولا شي غيره ، وكان عزيزاً ولا أحد كان قبل عزّه ، وذلك قوله : « سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ »(3) وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان أوّل ما خلق من خلقه ، الشيء من الشيء إذاً لم يكن له انقطاع أبداً ولم يزل اللّه إذاً ومعه شيء ، ليس هو يتقدّمه ، ولكنه كان إذ لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسباً يضاف إليه . . »(4) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
توضيح : قوله عليه السلام : « ولو كان أوّل ما خلق . . » أي لو كان كما تزعمه الحكماء : كل حادث مسبوق بمادّة ، فلا يتحقق شيء يكون أوّل الأشياء من
ص: 71
الحوادث ، فيلزم وجود قديم سوى اللّه وهو محال(1) .
* عن أمير المؤمنين علي عليه السلامأنه قال :
« لا تصحبه الأوقات ولا تَرْفِدُهُ الأدوات ، سَبَقَ الأوقاتَ كونُهُ ، والعدمَ وجودُه ، والابتداء أزله . . »
إلى أن قال عليه السلام :
« لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ ! إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتَجَزَّأَ كُنهه ولامتنع من الأزل معناه . . . »
إلى أن قال عليه السلام :
« يقول لما أراد كونه : كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا نداء يسمع ، وإنما كلامه سبحانه فعلٌ منه أنشأهُ ومثَّلهُ ، لم يكن من قَبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » .
« لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل ، ولا له عليها فضل فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع . . . »
إلى أن قال :
« هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتدائها بأعجب من إنشائها واختراعها ، كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان
ص: 72
من مراحها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها ومتبلّدة أُممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنها مقهورة مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها .
وإنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلاّ اللّه الواحد القهار »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في شرح قوله عليه السلام : « ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً . . » :
هذا صريح في أنّ الإمكان لا يجامع القدم ، وأنّ الإيجاد إنما يكون لما هو مسبوق بالعدم ، فالقول بتعدّد القدماء مع القول بإمكان بعضها قول بالنقيضين(2) .
وقال في موضع آخر في شرح هذه الفقرة :
يدلّ على أن القدم ينافي الإمكان ، وأنّ القول بقدم العالم شرك(3) .
وقال رحمه الله - في شرح قوله عليه السلام : « كما كان قبل ابتدائها . . » - :
ص: 73
صريح في حدوث ما سوى اللّه تعالى ، وظاهره نفي الزمان أيضاً قبل
العالم ، وعدم زمانيّته سبحانه إلى أن يحمل على الأزمنة المعيّنة من الليالي والأيام
والشهور والسنين ، ويدل على فناء جميع أجزاء الدنيا بعد الوجود ، وهذا أيضاً ينافي القدم ، لأنهم أطبقوا على أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وأقاموا عليه البراهين العقلية(1) .
يتبيّن من قوله عليه السلام : « لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها . . . على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها » ، أنّ معنى الخلق هو الإيجاد بعد العدم ، وعلى هذا إنّ الأزلية والقدمة مختصة به تعالى ولايوجد شيء قديم سوى اللّه تعالى ، بل لكلّ ما سوى اللّه سبحانه ابتداء وأوّل وهو كائن بعد أن
لم يكن بعدية حقيقة .
* روى الصدوق - مسنداً - عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال :
« اعلم علّمك اللّه الخير إنّ اللّه تبارك وتعالى قديم ، والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميّته ، فقد بان لنا بإقرار العامّة مع معجزة الصفة أنه لا شيء قبل اللّه ولا شيء مع اللّه في بقائه .
وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء ، وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له ؛ لأنه لم يزل
ص: 74
معه فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه ؟ ! ولو كان قبله شيءكان الأوّل ذلك الشيء لا هذا ، وكان الأوّل أولى بأن يكون خالقاً للأول الثاني . . »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
لا يخفى أنه يدل على أنه لا قديم سوى اللّه ، وعلى أنّ التأثير لا يعقل إلاّ في الحادث ، وأنّ القدم مستلزم لوجوب الوجود(2) .
وقال أيضاً في بحار الأنوار :
هذا الخبر صريح في الحدوث ومعلّل(3) .
* روى الطبرسي عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدث صاحب شبرمة أن أُدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فاستأذنته فأذن له فدخل فسأله عن أشياء من الحلال والحرام والفرائض والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال له : أخبرني - جعلني اللّه فداك - عن كلام اللّه لموسى ؟ . . .
وساق الكلام إلى أن قال : فما تقول في الكتب ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام :
« التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكلّ كتاب أنزل ، كان كلام
اللّه أنزله للعالمين نوراً وهدىً ، وهي كلّها محدثة ، وهي غيراللّه . . »
ص: 75
قال أبو قرّة : فهل تفنى ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام :
« أجمع المسلمون على أنّ ما سوى اللّه فانٍ ، وما سوى اللّه فعل اللّه ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل اللّه ، ألم تسمع الناس يقولون : ربّ القرآن وإنّ القرآن يقول يوم القيامة يا ربّ هذا فلان - وهو أعرف به - قد أظمأت نهاره ، وأسهرت ليله فشفّعني فيه ؟ وكذلك التوراة والإنجيل والزبور وهي كلّها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء هدىً لقوم يعقلون ، فمن زعم أنّهن لم يزلن معه فقد أظهر أنّ اللّه ليس بأوّل قديم ولا واحد ، وأنّ الكلام لم يزل معه وليس له بدء وليس بإله »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
بيان : « وليس له بدء . . » أي ليس للكلام علة ؛ لأنّ القديم لا يكون مصنوعاً ، « وليس باله . . » أي والحال إنه ليس بإله فكيف لم يحتج إلى الصانع ، أو الصانع يلزم أن لا يكون إلهاً لوجود الشريك معه في القدم(2) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في خطبته الطويلة قال :
ص: 76
« أوّل عبادة اللّه معرفته ، وأصل معرفة اللّه توحيده ، ونظامتوحيد اللّه نفي الصفات عنه لشهادة العقول أنّ كلّ صفةٍ وموصوفٍ مخلوق ، وشهادة كلّ مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف ، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ، وشهادة الاقتران بالحدث ، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث . . . سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله . . . له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم إذ لا معلوم ، ومعنى الخالق إذ لا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ، ليس منذ خَلَقَ استحق معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية . . . كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث . . . »
« ليس في محال القول حجة ، ولا في المسألة عنه جواب ، ولا في معناه له تعظيم ، ولا في إبانته عن الخلق ضيمٌ إلاّ بامتناع الأزلي أن يثنّى وما لا بدء له أن يُبدأ . . »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
قد دلّت - أي هذه الخطبة - على تنافي الحدوث أي المعلولية والأزلية ، وتأويل الأزليّة بوجوب الوجود ، مع بعده يجعل الكلام خالياً عن الفائدة .
ص: 77
ودلالة سائر الفقرات ظاهرة كما فصّلناه سابقاً ، وظاهر أكثر الفقرات نفي الزمانيّة عنه سبحانه وكذا قوله عليه السلام : « إلاّ بامتناع الأزلي أن يثنّي . . » يدلّ علىامتناع تعدد القدماء وكذا الفقرة التالية لها(1) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن الحسن بن محمّد النوفلي ، أنه قال : قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ، ثمّ قال له : إنّ ابن عمّي عليّ بن موسى قدم عليّ من الحجاز وهو يحبّ الكلام . . .
إلى أن قال سليمان : فإنه لم يزل مريداً .
قال عليه السلام : « يا سليمان فإرادته غيره ؟ »
قال : نعم .
قال : « فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل » .
قال سليمان : ما أثبتُّ .
فقال عليه السلام : « هي محدثة ، يا سليمان ! فإن الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً ، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً . . »
وجرى المناظرة إلى أن قال عليه السلام :
« ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل ؟ »
قال : بل هي فعل .
قال : « فهي محدثة ؛ لأن الفعل كله محدث » .
قال : ليست بفعل .
ص: 78
« قال : فمعه غيره لم يزل » .
قال سليمان : إنّها مصنوعة .
قال : « فهي محدثة » .وساق الكلام إلى أن قال :
قال سليمان : إنما عنيت أنها فعل من اللّه لم يزل .
قال عليه السلام : « ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً ، وحديثاً وقديماً في حالة واحدة ؟ ! »
فلم يُحِر جواباً .
ثمّ أعاد الكلام إلى أن قال عليه السلام : « إنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً » .
قال سليمان : ليس الأشياء إرادة ، ولم يرد شيئاً .
قال عليه السلام : « وَسوَستَ يا سليمان ! فقد فعل وخلق ما لم يرد خلقه وفعله ؟ ! وهذه صفة ما لا يدري ما فعل ، تعالى اللّه عن ذلك . . »
ثم أعاد الكلام إلى أن قال عليه السلام : « فالإرادة محدثة وإلاّ فمعه غيره »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
حكم عليه السلام في هذا الخبر مراراً بأنه لا يكون قديم سوى اللّه ، وأنه لا يعقل التأثير بالإرادة والاختيار في شيء لم يزل معه(2) .
* روى الصدوق رحمه الله - في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع أهل الأديان
ص: 79
وأصحاب المقالات - فقال عمران الصابي : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق ؟
قال عليه السلام :« سألت فافهم . . ! أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا
حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك ، ثمّ خلق الخلق مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة ، ولا في شيء أقامه . . . »
إلى أن قال له عمران : يا سيّدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ؟
قال الرضا عليه السلام :
« لم يتغيّر عزّوجلّ بخلق الخلق ولكنّ الخلق يتغيّر بتغييره . . » .
إلى أن قال : يا سيّدي ألا تخبرني عن اللّه عزّوجلّ هل يوحّد بحقيقة أو يوحّد بوصف ؟
قال الرضا عليه السلام :
« إنّ اللّه المبدى ء الواحد الكائن الأوّل لم يزل واحداً لا شيء معه ، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولا ولا محكماً ولا متشابهاً ولا مذكوراً ولا منسياً ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره ، ولا من وقتٍ كان ، ولا إلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ، ولا إلى شيء يقوم ، ولا إلى شيء استند ، ولا في شيء استكنّ ، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء غيره »(1) .
ص: 80
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
بيان :« لا في شيء أقامه . . » أي في مادّة قديمة كما زعمته الفلاسفة . . . « هل يوحّد بحقيقة . . » . . . فأجاب عليه السلام بأنه سبحانه يعرف بالوجوه التي هيمحدثة في أذهاننا وهي مغايرة لحقيقته تعالى .
وما ذكره أوّلاً لبيان أنه قديم أزلي والقديم يخالف المحدثات في الحقيقة ، وكل شيء غيره فهو حادث .
وقوله عليه السلام : « لا معلوماً . . » تفصيل وتعميم للثاني أي ليس معه غيره ، لا معلوم ولا مجهول ، والمراد بالمحكم ما يعلم حقيقته وبالمتشابه ضدّه .
ويحتمل أن يكون إشارة إلى نفي قول من قال بقدم القرآن ، فإن المحكم والمتشابه يطلقان على آياته(1) .
يظهر ممّا ذكرنا من الروايات أنّ قوله : « ولا يزال كذلك . . » يرجع إلى قوله : « بلا حدود ولا أعراض » لا إلى مجموع ما تقدّم كي يوهم صحة تأويل قولهم صلوات اللّه عليهم : « كان اللّه ولا شيء معه »(2) بالمعيّة الرتبيّة .
وأضف إلى ذلك أنّ قوله عليه السلام : « ثمّ خلق . . » في الرواية التي مّر ذكرها يشير
إلى الترتيب الزماني وان تقريره عليه السلام لقول السائل حينما قال : « اذا كان واحداً لاشيء غيره . . . » فيه اشاره الى الغيرية الحقيقية .
* في الاحتجاج والتفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري عن
ص: 81
آبائه عليهم السلام قال :
« احتجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على الدهريّة ، فقال : ما الذي دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لابدء لها ، وهي دائمة لم تزل ولا تزال ؟ » .
فقالوا : لأنّا لا نحكم إلاّ بما نشاهد ، ولم نجد للأشياء حدثاً فحكمنا بأنّها لمتزل ، ولم نجد لها انقضاءا وفناءا فحكمنا بأنّها لا تزال .
فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :
« أفوجدتم لها قدماً أم وجدتم لها بقاءا أبد الأبد ؟ »
« فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ! »
« ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذّبكم العالمون الذين يشاهدونكم » .
قالوا : بل لم نشاهد لها قدماً ولا بقاءا أبد الأبد . . !
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :
« فلِم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائماً لأنكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضائها أولى من تارك التميّز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنّه لم يشاهد لها قدماً ولا بقاءا أبد الأبد ، أولستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما قبل الآخر ؟ »
فقالوا : نعم .
فقال : « أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ »
فقالوا : نعم .
ص: 82
فقال : « أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ »
فقالوا : لا .
فقال صلى الله عليه و آله وسلم : « فإذن ينقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جارياً بعده » .
قالوا : كذلك هو .فقال : « قد حكمتم بحدوث ما تقدّم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما فلا تنكروا اللّه قدره » .
ثمّ قال صلى الله عليه و آله وسلم : « أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه ؟
فإن قلتم : إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله .
وإن قلتم : إنه متناه فقد كان ولا شيء منهما » .
قالوا : نعم .
قال لهم : « أقلتم إنّ العالم قديم ليس بمحدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه ؟ »
قالوا : نعم .
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر ، لأنّه لا قوام للبعض إلاّ بما يتّصل به كما ترى البناء محتاجاً بعض اجزائه إلى بعض ، وإلاّ لم يتّسق ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما يُرى » .
قال صلى الله عليه و آله وسلم : « فإن كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثاً كيف كان يكون ؟ وكيف إذاً كانت تكون صفته ؟ »
ص: 83
قال عليه السلام : « فبُهتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلاّ وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم .
فوجموا وقالوا : سننظر في أمرنا »(1) .
استدلّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم على حدوث العالم بثلاثة طرق :
بما يشاهد من الليل والنهار واختلافهما وتقدمهما وتأخرهما ، فإن التقدم والتأخر يلازمان الأوليّة والآخرية ، وهذا دليل الحدوث .
بالحادث اليومي ؛ لأنّه إن كان متناهياً فهو مسبوق بعدمه وإلاّ يلزم اتصاف الحادث بآخر بلا اتصاف بأول ، مع أنهما متضائفان ، وتحقق أحدهما دون الآخر محال .
بتذكّر أوصاف القديم والحادث ، فما يشاهد من التغيّر والتبدل والزوال والفناء والاحتياج فهو دليل على حدوثه ، وإلاّ فإن كان هذا المحتاج قديماً فكيف يكون لو كان حادثاً ؟ !
* روى الكليني رحمه الله عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام . . . قام خطيباً فقال :
« الحمد للّه الواحد الأحد الصمد المتفرّد الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان . . . ولا يتكأده صنع شيء كان ، إنّما قال - لما شاء - كن فكان ، ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ، ولا تعب ولا نصب ، وكلّ صانع شيء فمن شيء صنع ، واللّه لا من شيء
ص: 84
صنع ما خلق . . »(1) .
فرّق الإمام عليه السلام في هذا الحديث الشريف بين صنع اللّه تعالى الذي يكون لا من شيء وبين صنع غيره تعالى الذي يكون من شيء ، حيث قال عليه السلام : « كل صانع شيء فمن شيء صنع واللّه لا من شيء صنع ما خلق » .ولا يخفى أنّ هذا الحديث نصّ في أنّ المراد من « خلق » و« صنع » و« أبدع » بالنسبة إليه تعالى هو المعنى المستفاد من ظاهر الآيات ، فهذه الكلمات ظاهرة في الخلق الابتدائي . . أي الخلق لا من شيء ، بل نصّ فيه بملاحظة الروايات المذكورة .
وعلى هذا : فإنّ استعمال هذه الكلمات في الخلق من شيء لابدّ وأن يكون مع وجود قرينة ، كما في قوله تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طين »(2) فإن قوله تعالى : « مِن طِين »شاهد على عدم كون الخلق ابتدائياً .
* روى الصدوق رحمه الله - مسندا - عن أبي الحسن الرضا
عليه السلام أنه قال :
« المشيّة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد »(3) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله(4) :
ص: 85
بيان : لعلّ الشرك باعتبار أنّه إذا كانت الإرادة والمشية أزليّتين فالمراد والمشييء أيضاً يكونان أزليّين ، ولا يعقل التأثير في القديم ، فيكون إلهاً ثانياً كما
مرّ مراراً .
أو انّهما لمّا لم يكونا عين الذات ، فكونهما دائماً معه سبحانه يوجب إلهين آخرين بتقريب ما مرّ .ويؤيّد الأوّل ما رواه في التوحيد - أيضاً - عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : لم يزل اللّه مريداً ؟ فقال : « إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه بل لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد »(1) .
قال السيد الخوئي رحمه الله في بحث الإرادة :
إنّ قوله عليه السلام في الصحيحة المتقدمة : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه » إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية لو كانت ذاتية لزم قدم العالم وهو باطل ، ويؤيد هذا رواية الجعفري عن الرضا عليه السلام : « فمن زعم أن اللّه لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » فانه صريح في أنّ إرادته ليست عين ذاته كالعلم ، والقدره ، والحياة .(2) .
لا يخفى على من راجع الأخبار والأحاديث أنّ الإرادة والمشية من
ص: 86
صفات الفعل التي يصح سلبها عنه تعالى في الأزل ،(1) ولا يلزم منه نقص ، لا من صفات الذات المعتبرة له في الأزل مثل العلم والقدرة فإن نفيها عنه تعالى يوجبالنقص فيه للزوم الجهل والعجز .
وقد دلّت الروايات الكثيرة على أنّ فاعليته تعالى للأشياء إنّما هي بالإرادة والمشية لا بالذات ،(2) وإلاّ يلزم أن يكون اللّه تعالى موجباً في فعله ؛ لأنّ تخلف ما بالذات عن الذات محال .
فاذا كانت الإرادة والمشية محدثة ، وجميع الأشياء موجودة بالإرادة
ص: 87
والمشية فهي أولى بالحدوث .
وهذا دليل مستقل في اثبات حدوث العالم بالمعنى الذي ذكرناه .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن الحسين بن الخالد ، قال : سمعت الرضا عليّ بن موسى عليهماالسلام يقول :
« لم يزل اللّه تبارك وتعالى عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً . . »
فقلت له : يا ابن رسول اللّه ! إنّ قوماً يقولون : إنه عزّوجلّ لم يزل عالماًبعلم . . وقادراً بقدرة . . وحيّاً بحياةٍ . . وقديماً بقدمٍ . . وسميعاً بسمعٍ . . وبصيراً
ببصر . . ! !
فقال عليه السلام :
« من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع اللّه آلهةً أُخرى وليس من ولايتنا على شيء » .
ثم قال عليه السلام :
« لم يزل اللّه عليما قادرا حيّا قديماً سميعاً بصيراً لذاته . . تعالى عمّا يقول المشركون والمشبهون علواً كبيراً . . »(1) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنه كان يقول :
ص: 88
« . . . الحمد للّه الذي كان إذ لم يكن شيء غيره وكوّن الأشياء فكانت كما كوّنها ، وعلم ما كان وما هو كائن »(1) .
* وقال أمير المؤمنين عليه السلام :
« . . المعروف من غير رؤية ، والخالق من غير رويّة ، الذي لم يزل قائماً دائماً ، إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج ، ولا ليل داجٍ ، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج ، ولا فجّ ذو إعوجاج ، ولا أرض ذات مهاد ، ولا خلق ذو اعتماد ، ذلك مبتدع الخلق ووارثهوإله الخلق ورازقه »(2) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
أبدعت الشيء وابتدعته . . : أي استخرجته وأحدثته ، و « الابتداع » الخلق على غير مثال ، و « وارثه » أي الباقي بعد فنائهم ، والمالك لما ملكوا ظاهراً ، ولا يخفى صراحته في حدوث العالم(3) .
* سأل حمران أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه تبارك وتعالى : « بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » .
قال عليه السلام : « إنّ اللّه ابتدع الأشياء كلّها على غير مثال كان ، وابتدع
ص: 89
السماوات والأرض ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى :« كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ »(1) ؟ ! »
* روى الكليني عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال :
« الحمد للّه الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه ، لأنه كلّ يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن . . . أتقن ما أراد خلقه من الأشباح كلّها لا بمثال سبق إليه ، ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه ، ابتدأ ما أراد ابتداءه ، وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد منالثقلين ليعرفوا بذلك ربوبيته . . »(2) .
* وفي خطبة له عليه السلام - يذكر فيها ابتداء خلق السماوات والأرض وخلق آدم عليه السلام - :
« الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون . . . أنشأ الخلق انشاءا ، وابتدأه ابتداءا بلا روية أجالها . . . عالماً بها قبل ابتدائها . . »(3) .
* عن الحسن بن علي عليهماالسلام :
« الحمد للّه الذي لم يكن له أوّل معلوم ولا آخر متناه . . . خلق
ص: 90
الخلق فكان بديئاً بديعاً ، ابتدأ ما ابتدع وابتدع ما ابتدأ ، وفعل ما أراد وأراد ما استزاد ، ذلكم اللّه ربّ العالمين »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
الابتداع . . : إيجاد بلا مادّة أو بلا مثال .
* وجاء في دعاء يوم عرفة لمولانا زين العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام :
« . . أنت اللّه لا إله إلاّ أنت ، أنشأتَ الأشياء من غير سنخ ، وصوّرتها ما صوّرت من غير مثال ، وابتدأت المتبدعات بلا احتذاء . . . أنت الذي ابتدأ واخترع واستحدث وابتدأ وأحسن صنع ما صنع ، سبحانك من لطيف ما ألطفك . . »(2) .* وفي دعاء آخر ليوم عرفة :
« . . ولك الحمد قبل أن تخلق شيئاً من خلقك وعلى بدء ما خلقت إلى انقضاء خلقك »(3) .
* روى الكليني رحمه الله - بسنده - عن محمّد بن زيد ، قال : جئت إلى الرضا عليه السلامأسأله عن التوحيد فأملى علىّ :
« الحمد للّه فاطر الأشياء إنشاءا ، ومبتدعها ابتداعاً بقدرته وحكمته ، لا من شيء فيبطل الاختراع ، ولا لعلّة فلا يصحّ
ص: 91
الابتداع ، خلق ما شاء كيف شاء ، متوحّداً بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيّته . . »(1) .
* عن أبي الحسن الرضا عليه السلام :
« الحمد للّه الملهم عباده الحمد ، وفاطرهم على معرفة ربوبيّته ، الدالّ على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزليته . . . خالق إذ لا مخلوق ، وربّ إذ لا مربوب ، وإله إذ لا مألوه ، وكذلك يوصف ربّنا ، وهو فوق ما يصفه الواصفون »(2) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن محمّد بن أبي عمير ، قال : دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهماالسلام فقلت له : يابن رسول اللّه ! علّمني التوحيد .فقال :
« . . وهو الأوّل الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث ، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيرا »(3) .
* روى الطبرسي أنه سئل أبو الحسن علي بن محمّد عليهماالسلام عن التوحيد ،
ص: 92
فقيل : لم يزل اللّه وحده لا شيء معه ثمّ خلق الأشياء بديعا ، واختار لنفسه أحسن الأسماء ؟ أو لم تزل الأسماء والحروف معه قديمة ؟ !
فكتب :
« لم يزل اللّه موجوداً ثمّ كوّن ما أراد . . »(1) .
* روى الصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره . . »(2) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن جعفر بن محمّد عليهماالسلامأنه كان يقول :
« الحمد للّه الذي كان قبل أن يكون كان . . . بل كوّن الأشياء قبل كونها فكانت كما كوّنها ، علم ما كان وما هو كائن ، كان إذ لم يكن شيء ولم ينطق فيه ناطق فكان إذ لا كان »(3) .قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : يدلّ الخبر على حدوث العالم .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام : قال : سمعته يقول :
ص: 93
« كان اللّه ولا شيء غيره ، ولم يزل عالماً بما كوّن ، فعلمه به قبل كَوْنه كعلمه به بعد ما كوَّنه »(1) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن علي بن مهزيار قال : كتب
أبو جعفر عليه السلام إلى رجل بخطه وقرأتُه في دعاء كتب به أن يقول :
« يا ذا الذي كان قبل كلّ شيء ، ثمّ خلق كل شيء ثمّ يبقى ويفنى كلّ شيء ، ويا ذا الذي ليس في السماوات العُلى ولا في الأرضين السفلى ولا فوقهن ولا بينهن ولا تحتهن إله يُعبدُ غيره »(2) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال :
« الحمد للّه الذي لا من شيء كان ولا من شيء كوّن ما قد كان ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفنا على دوامه . . . مستشهد بكليّة الأجناس على ربوبيته وبعجزها علىقدرته وبفطورها على قدمته »(3) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
ص: 94
بيان : قوله عليه السلام : « ولا من شيء كوّن ما قد كان . . » ردّ على من يقول بأنّ كل حادث مسبوق بالمادّة ، « المستشهد بحدوث الأشياء على أزليته . . » الاستشهاد : طلب الشهادة أي طلب من العقول بما بيّن لها من حدوث الأشياء الشهادة على أزليته ، أو من الأشياء أنفسها بأن جعلها حادثة فهي بلسان حدوثها تشهد على أزليته . . (1) .
لا يخفى أنّ حمل قولهم صلوات اللّه عليهم : « كان اللّه ولا شيء معه » على نفي المعيّة في الرتبة لا في التحقق والواقع مخالف لظاهر هذا الكلام ، ولما هو صريح الروايات المذكورة وغيرها .
* روى السيد ابن طاوس رحمه الله - مسنداً - عن الحارث بن عمير ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : « علّمني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هذا الدعاء وذكر له فضلاً كثيراً :
« الحمد للّه الذي لا إله إلاّ هو . . . والباقي بعد فناء الخلق . . . كنتَ إذ لم تكن سماء مبنيّة ولا أرض مدحيّة ولا شمس مضيئة . . . كنتَ قبل كلّ شيء وكوّنت كلّ شيء وابتدعت كل شيء . . »(2) .* وروى - أيضاً - عن أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء المعروف :
« . . وأنت الجبّار القدّوس الذي لم تزل أزليّاً دائماً في الغيوب
ص: 95
وحدك ليس فيها غيرك ، ولم يكن لها سواك . . »(1) .
* وأيضاً روى عنه في دعاء علّمه جبرئيل النبي صلى الله عليه و آله وسلم :
« . . الأوّل والآخر والكائن قبل كلّ شيء والمكوّن لكلّ شيء ، والكائن بعد فناء كلّ شيء . . »(2) .
* روى الكليني رحمه الله ، بإسناده عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : كان اللّه ولا شيء ؟
قال : « نعم كان ولا شيء » .
قلت : فأين كان يكون ؟
قال : - وكان متكئاً فاستوى جالساً وقال - : « أحلت - يا زرارة ! - وسألت عن المكان إذ لا مكان »(3) .
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي عبد اللّه عليه السلامقال :
« . . الحمد للّه الذي كان قبل أن يكون كان ، لم يوجد لوصفهكان . . . كان إذ لم يكن شيء ولم ينطق فيه ناطق فكان إذ لا كان »(4) .
ص: 96
* روى الصدوق رحمه الله - مسنداً - عن أبي عبد اللّه ، عن أبيه عليهماالسلامقال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم - في بعض خطبه - :
« الحمد للّه الذي كان في أوليته وحدانياً . . . ابتدع ما ابتدع وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق لشيء مما خلق ، ربّنا القديم بلطف ربوبيته ، وبعلم خبره فتق وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق . . »(1) .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« الحمد للّه الذي لا يبلغ مدحته القائلون . . .كائن لا عن حدث ، موجودٌ لا عن عدم . . . متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده ، أنشأ الخلق انشاءا وابتدأه ابتداءا . . »(2) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : « كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم . . » ظاهره الاختصاص به سبحانه وحدوث ما سواه ، وكذا قوله عليه السلام : « متوحد إذ لا سكن يستأنس به . . » يدلّ على حدوث العالم .
والإنشاء : الخلق ، والفرق بينه وبين الابتداء : بأنّ الإنشاء كالخلق أعمّ منالابتداء قال تعالى : « خَلَقَ الاْءِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ »(3) ، والابتداء : الخلق من غير سبق مادّة ومثال ، وإن لم يفهم هذا الفرق من اللغة لحسن التقابل حينئذ وإن
ص: 97
أمكن التأكيد . . (1) .
* روى الكليني رحمه الله - بسنده - عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلامقال : سمعته يقول :
« كان اللّه عزّوجلّ ولا شيء غيره ، ولم يزل عالماً بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه »(2) .
* وأيضاً روى الكليني - بسنده - عن فصيل بن سكرة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : جعلت فداك إن رأيت أن تعلّمني هل كان اللّه جلّ وجهه يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده ؟ فقد اختلف مواليك ، فقال بعضهم : قد كان يعلم قبل أن يخلق شيئاً من خلقه . . ! وقال بعضهم : إنّما معنى يعلم يفعل فهو اليوم يعلم أنه لا
غيره قبل فعل الأشياء . . ! فقالوا : إن أثبتنا أنه لم يزل عالماً بأنّه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليّته ؟ فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني ما لا أعدوه إلى غيره ؟
فكتب عليه السلام :
« ما زال اللّه عالماً تبارك وتعالى ذكره »(3) .* وروى الكليني رحمه الله - بسنده - عن جعفر بن محمّد بن حمزة قال : كتبت إلى الرجل عليه السلامأسأله : إنّ مواليك اختلفوا في العلم ، فقال بعضهم : لم يزل اللّه عالماً قبل
ص: 98
فعل الأشياء ، وقال بعضهم : لا نقول لم يزل اللّه عالماً لأنّ معنى يعلم يفعل ، فان
أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً ، فإن رأيت جعلني اللّه فداك أن تعلّمني
من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه ؟
فكتب عليه السلام بخطّه :
« لم يزل اللّه عالماً تبارك وتعالى ذكره »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله في بيانه :
يدلّ هذا الخبر على أنه كان معلوماً عند الأصحاب أنه لا يجوز أن يكون شيء مع اللّه في الأزل ، ولمّا توهّموا أنّ العلم يستلزم حصول صورة ، نفوا العلم في
الأزل لئلاّ يكون معه تعالى غيره قياساً على الشاهد ، فلم يتعرّض عليه السلاملإبطال توهّمهم ، وأثبت العلم القديم له تعالى .
وبالجملة ؛ هذه الأخبار صريحة في أنّ المخلوقات كلّها مسبوقة بعدم يعلمها سبحانه في حال عدمها(2) .
وهنا روايات مثل :
* قوله عليه السلام :« خلق الخلق على غير تمثيل . . »(3) .
ص: 99
* وقوله عليه السلام :
« يا من خلق الخلق بغير مثال . . »(1) .
* وقوله عليه السلام :
« الحمد للّه الذي خلق الخلق على غير مثال . . »(2) .
* وقوله عليه السلام :
« . . ابتدع الخلق على غير مثال امتثله . . »(3) .
* وقوله عليه السلام :
« . . أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء بلا روية أجالها ولا تجربة . . »(4) .
* وقوله عليه السلام :
« . . لا يقال له كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفاتالمحدثات . . »(5) .
ص: 100
* وقوله عليه السلام :
« الدالّ على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده . . . مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته »(1) .
* وقوله عليه السلام :
« الحمد للّه . . . مخرج الموجود من العدم والسابق الأزلية بالقدم . . »(2) .
وفي المقام روايات أُخرى ولكن اكتفينا بهذا المقدار خشية الاطالة وملل القارئ .
وبعد كل هذا وغيره ، فلا نحسب أن الروايات هذه تحتاج الى بيان إذ هي تبيان ، ومع ذلك لسائل أن يقول :
هل يصحّ تأويل جميع هذه النصوص الصريحة على خلاف ظاهرها ؟ !
وهل كان بإمكان الأحاديث أن تبيّن المقصود بأكثر ممّا بيّنت ؟ !هل يستطيع أحد تبيين وجود الأشياء بعد عدمها بأصرح من هذه التعابير :
كقوله عليه السلام : « إنّ الشيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً وإذا لم يكن محدثاً
ص: 101
كان أزلياً . . . ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً ، وقديماً وحديثاً في حالة
واحدة » .
وقوله عليه السلام : « كيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه » .
وقوله عليه السلام : « لو كان ( أي الكلام ) قديماً لكان إلهاً ثانياً » .
وقوله عليه السلام : « لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة » .
وقوله عليه السلام : « لو كان أوّل ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذاً لم يكن له انقطاع أبداً ولم يزل اللّه إذاً ومعه شيء » .
وقوله عليه السلام : « من زعم أنهن لم يزلن معه فقد أظهر أنّ اللّه ليس بأوّل قديم ، ولا واحد ، وأنّ الكلام لم يزل معه وليس له بدء ، وليس بإله .
وغيرها من الأحاديث » .
ولنا أن نتسائل بعد هذا لو لم تكن هذه صريحة في المطلوب فما هو اللفظ الصريح إذا . . ؟ !
إذا أمعنت النظر فيما قدّمناه وسلكت مسلك الإنصاف ونزلت عن مطيّة التعنّت والاعتساف حصل لك القطع من الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة - الواردة بأساليب مختلفة وعبارات متفنّنة - من اشتمالها على بيانات شافية ، وأدلّة وافية بالحدوث بالمعنى الذي أسلفناه .ومن تتبّع كلام العرب وموارد استعمالاتهم وكتب اللغة يعلم أنّ « الإيجاد » و« الإحداث » و« الخلق » و« الفطر » و« الإبداع » و« الاختراع » و« الصنع » و« الإبداء » . . لا تطلق إلاّ على الإيجاد بعد العدم .
ص: 102
وقال المحقق الطوسي رحمه الله في شرح الإشارات :
إنّ أهل اللغة فسّروا الفعل بإحداث شيء .
وقال أيضاً :
الصنع : إيجاد شيء مسبوق بالعدم ، وفي اللغة : الإبداع : الإحداث ومنه : البدعة لمحدثات الأمور ، وفسّروا الخلق بإبداع شيء بلا مثال سابق .
وقال ابن سينا - في رسالة الحدود - :
الإبداع اسم مشترك لمفهومين : أحدهما تأييس شيء لا عن شيء ولا بواسطة شيء ، والمفهوم الثاني : أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسّط ، وله في ذاته أن يكون موجوداً وقد أفقد الذي في ذاته إفقاداً تامّاً .
ونقل في الملل والنحل عن ثاليس الملطّى أنه قال :
الإبداع هو تأييس ما ليس بأيس فإذا كان مؤيّس الأيسات فالتأييس لا من شيء متقادم ( إنتهى ) .
ومن تتبّع الآيات والأخبار لا يبقى له ريب في ذلك كقوله : « لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع » مع أنه قد وقع التصريح بالحدوث بالمعنى المعهود في أكثر النصوص المتقدمة بحيث لا يقبل التأويل .
وبانضمام الجميع بعضها مع بعض يحصل القطع بالمراد ، ولذا ورد أكثر المطالب الأصولية الاعتقادية كالمعاد الجسماني وإمامة أمير المؤمنين عليه السلاموأمثالهمافي كلام صاحب الشريعة بعبارات مختلفة وأساليب شتّي ، ليحصل الجزم بالمراد من جميعها ، مع أنها اشتملت على أدلّة مجملة من تأمّل فيها يحصل له القطع بالمقصود(1) .
ص: 103
ما تقول في قولهم عليهم السلام : « يا دائم الفضل على البريّة . . »(1) و « . . يا قديم الإحسان . . »(2) و « . . يا قديم الفضل . . »(3) . . ونحوها ؛ فإنّ قدم الفضل والإحسان يستلزم قدم العالم ؛ لأنّ الفضل والإحسان يقتضيان الشيء الذي يفضل ويحسن عليه .
إنّ الآيات المتظافرة والأحاديث المتواترة التي أثبتنا بها حدوث العالم تعتبر من المحكمات وأنّ ما يخالفها يعدّ من المتشابهات ، وقد ثبت في محلّه لزوم إرجاع المتشابهات إلى المحكمات . ولا شبهة في أن المراد من القدم في هذه الأحاديث هو القدم الإضافي لا الحقيقي ، ومعناه أنّه تعالى كثير الإحسان والفضل .
وأيضاً قد ثبت في بحث تعارض النصّ والظاهر من علم الأصول لزومتقديم النصّ على الظاهر فيما لو كان أحد الدليلين قطعياً ونصّاً في أمر وكان الدليل المخالف ظاهراً فيه .
وحينئذ فلابدّ من التصرف في ظاهر هذه الأحاديث وحملها على القدم العرفي والإضافي أو طرحها إن لم يمكن توجيهها أو تأويلها لأنّ الظهور لا يصادم البرهان .
ص: 104
وأضف إلى ذلك أنّ قوله عليه السلام : « يا دائم الفضل على البريّة . . » لا يثبت دوام البريّة بل يثبت دوام الفضل على البريّة ، ومعنى ذلك أنّ فضله على البريّة لم ينقطع في ما لو كانت البريّة موجودة فهو معنى إضافي لا حقيقي .
ورد في بعض الأحاديث « إنّ اللّه خلقنا من نور عظمته »(1) و « إنّ اللّه عزّوجلّ خلق محمّداً وعليّاً والأئمة الأحد عشر من نور عظمته »(2) ولا شك في أنه تعالى قديم أزلي فلابدّ أن تكون أنوارهم عليهم السلامأيضاً قديمة ؛ لأنها خُلِقَتْ من نور عظمته تعالى .
والجواب عن ذلك بوجوه :
بعد إثبات حدوث جميع ما سوى اللّه - بالمعنى الذي ذكرناه - بالآيات المتظافرة والأحاديث المتواترة القطعية فلابدّ من إرجاع المتشابهات إليها ، مضافاً إلى أنّ الظهور - على فرض تسليمه - لا يصادم البرهان والنصّ .
بعد التصريح الوارد في الأحاديث الكثيرة بأنّ نورهم عليهم السلاممسبوقبالعدم فلابدّ من توجيه هذه الأحاديث وأمثالها بأنّ إضافة النور إليه تعالى تشريفية ، ومعناها أنّ النور المذكور هو شيء حادث مخلوق ، ولكنّه تعالى أضافه لنفسه للتشريف والتكريم وهو من قبيل إضافته تعالى الكعبة والروح إلى نفسه .
* كما روى الكليني رحمه الله - بسنده - عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه السلامعمّا يروون : إنّ اللّه خلق آدم على صورته .
ص: 105
فقال :
« هي صورة محدثة مخلوقة واصطفاها اللّه واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه ، والروح إلى نفسه ، فقال « بيتي » ، « ونفختُ فيه من
روحي » »(1) .
* وروى الصدوق رحمه الله - بسنده - عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلامعن قول اللّه عزّوجلّ : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي »(2) .
قال :
« روح اختاره اللّه واصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه وفضّله على جميع الأرواح ، فأمر فنُفخ منه في آدم عليه السلام »(3) .* وروى الكليني رحمه الله - بسنده - عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي »(4) :كيف هذا النفخ ؟
فقال :
« إنّ الروح متحرِّك كالرّيح ، وإنّما سُمِّي روحاً لأنه اشتقَّ اسمه من الريح ، وإنما أخرجه عن لفظة الريح ؛ لأنّ الأرواح مجانسة للريح ،
ص: 106
وإنّما اضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح ، كما قال لبيتٍ من البيوت : بَيتي ، ولرسولٍ من الرّسل : خليلي . . وأشباه ذلك ، وكل ذلك مخلوق مصنوع مُحدَثٌ مربوبٌ مدبَّر »(1) .
وأمّا الأحاديث الدالة على أنّ نورهم : مسبوق بالعدم وليس بأزلي ، فمنها :
* ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال : « يا جابر ! كان اللّه ولا شيء غيره لا معلوم ولا مجهول ، فأول ما ابتدأ من خلقه أنّ خلق محمّداً صلى الله عليه و آله وسلم وخلقنا أهل
البيت معه من نور عظمته فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر . . »(2) .* وعن أمير المؤمنين عليه السلام :
« كان اللّه ولا شيء معه فأول ما خلق نور حبيبه محمدّ صلى الله عليه و آله وسلم »(3) .
* وعن محمّد بن سنان ، قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال : يا محمّد ! إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيّته ، ثمّ خلق محمّداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورها إليهم فهم يحلّون ما يشاؤون ويحرّمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلاّ أن يشاء اللّه تبارك وتعالى .
ص: 107
ثمّ قال :
« يا محمّد ! هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها محق ، ومن لزمها لحق . . خذها إليك يا محمّد »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : هذا الخبر صريح في حدوث جميع أجزاء العالم(2) .
* وأيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى أحد واحد تفرّد في وحدانيّته ، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نوراً ثمّ خلق من ذلك النور محمّداً صلى الله عليه و آله وسلموخلقني وذريتي . . »(3) .
إنّ هذه الأحاديث ونظائرها صريحة في أنّه تعالى كان أحداً متفرّداً ولم يكن معه شيء ثمّ أبدعهم وخلق أنوارهم عليهم السلام بعد أن لم يكونوا .
وكذلك هنالك أخبار ورد فيها التصريح بأنّ « أوّل ما خلق اللّه نوره صلى الله عليه و آله وسلم »(4) فهي تدلّ على عدم وجود أيّ مخلوق قبله صلى الله عليه و آله وسلم(5) .
ص: 108
لا يمكن الاستدلال بهذا الأحاديث على قدم أنوارهم عليهم السلام ، لأنّ مثل هذه التعابير قد وردت في غيرهم عليهم السلام .
* كما روى الصدوق رحمه الله بإسناده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :
« يا جابر ! . . . إنّ الأنبياء والأوصياء مخلوقون من نور عظمة اللّه جلّ ثناؤه يُودع اللّه أنوارهم أصلاباً طيّبة وأرحاماً طاهرة . . (1) » .
* وعن الصدوق رحمه الله أيضاً بإسناده عن المفضّل بن عمر ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام :
« إنّ اللّه عزّوجلّ خلق المؤمنين من نور عظمته وجلال كبريائه ،(2) فمن طعن عليهم أو ردّ عليهم قولهم فقد ردّ اللّه في عرشه وليس من اللّه في شيء إنما هو شرك الشيطان »(3) .
ص: 109
* روى رحمه الله أيضاً بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :
« شيعتنا من نور اللّه خلقوا . . (1) » .
* وعنه كذلك بإسناده ، عن أبي بصير ، عن الصادق عليه السلام قال :
« . . إنا إذا دخل علينا حزن أو سرور كان ذلك داخلاً عليكم ، ولأنّا وإيّاكم من نور اللّه عزّوجلّ ، فجعلنا وطينتنا وطينتكم واحدة . . »(2) .قد يستشكل البعض بما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء(3) غيره ، نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه وعالماً لا جهل فيه ، وحيّاً لا موت فيه . . وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً »(4) .
إنّ « كان » تامةٌ ، والجملة معطوفة عليها ، و « نوراً » مع ما بعده من المنصوبات أحوال لفاعل كان ، وعلى هذا فمعنى قوله : « وكذلك هو اليوم » إنه اليوم كان ولا شيء غيره(5) .
ص: 110
فمع إرجاع قوله عليه السلام : « وكذلك هو اليوم » . . إلى قوله : « كان اللّه ولا شيء غيره » يفهم صحة تأويل قولهم صلوات اللّه عليهم : « كان اللّه ولا شيء معه » بالمعيّة الرتبيّة .
ويمكن الجواب عنه بوجوه :
قوله عليه السلام : « نورا » خبر كان و « اللّه » اسم كان .
وقوله : « لا شيء غيره » جملة معترضة بينهما ، وزيادة الواو حينئذ لا بأس بها .
واستفادة المعنى الذي قاله المستشكل مخالف للضرورة وأجنبي عن السياق ويناقض القرائن الموجودة في نفس الرواية ، والشاهد على هذا المعنى هو :* ما روي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنّه قال :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى لا تُقدر قدرته ، ولا يقدر العباد على صفته ، ولا يبلغون كنه علمه ولا مبلغ عظمته ، وليس شيء غيره ، وهو نور ليس فيه ظلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل ليس فيه جور ، وحق ليس فيه باطل ، كذلك لم يزل ولا يزال أبد الآبدين(1) .
* وأيضاً روي عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه قال :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى كان لم يزل بلازمان ولا مكان وهو الآن كما كان »(2) .
ص: 111
إنّ الواو حالية ، فجملة : « ولا شيء غيره » حالية ، وقوله : « نوراً » خبر كان ، وقوله : « كذلك هو اليوم » يرجع إلى قوله : « نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه ، وعالماً لا جهل فيه ، وحيّاً لا موت فيه » .
ما أفاده بعض الأعلام : إنّ قوله : « كان ولا شيء غيره » جملة مستقلة ، وقوله : « نوراً . . . » جملة مستقلة أُخرى بتقدير كان . . أي كان اللّه نوراً
لا ظلام فيه . . وكذلك اليوم .
إنّ هذه الروايات وإن سلّمنا بظهور مضامينها على مراد الخصم إلاّ أنه لا سبيل لنا سوى توجيهها وتأويلها ، لأنّها تعارض الآيات والروايات المتواترة ، واتفاق المليّين على حدوث العالم ؛ بمعنى كونه بعد أن لم يكن ببعديةحقيقية لا الحدوث الذاتي كما ذهبت إليه الفلاسفة ، ولا الثابت بالحركة الجوهرية ، ولا الحدوث الدهري ، ولا الحدوث الاسمي .
وعلى هذا لابدّ من توجيه ما يخالف المحكمات والنصوص القطعيّة واتّفاق جميع اهل الشرائع والأديان ، أو طرحه مع عدم تمكّن توجيهه كما هو واضح مسلم عند الكل (1).
هل يجترى ء من يتّقي ربّه ومن لاح قلبه نور الإيمان أن يعرض عن جميع هذه الآيات والأحاديث المتواترة والصّريحة وينبذها وراء ظهره تقليداً للفلاسفة واتكالاً على شبهاتهم الفاسدة ومذاهبهم المنحرفة ؟ !
ص: 112
ص: 113
ص: 114
نذكر هنا بعض الأدلّة العقليّة التي ذكرها بعض الأعلام في هذا المقام تبعاً للقوم وتتميماً لهذه الرسالة .
ما أفاده المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في الفصول :
مقدّمة : كلّ مؤثر إما أن يكون أثره تابعاً للقدرة والداعي أو لا يكون بل يكون مقتضى ذاته ، والأوّل يسمّى : قادراً ، والثاني : موجَباً ، وأثر القادر مسبوق بالعدم ؛ لأنّ الداعي لا يدعو إلاّ إلى المعدوم وأثر الموجَب يقارنه في الزمان ، إذ لو تأخّر عنه لكان وجوده في زمان دون آخر ، فإن لم يتوقف على أمر غير ما فرض مؤثراً تامّاً كان ترجيحاً من غير مرجّح ، وإن توقّف لم يكن المؤثّر تامّاً ، وقد فرض تامّاً ، وهذا خلف .
ثمّ قال : نتيجة : الواجب المؤثّر في الممكنات قادر ، إذ لو كان موجباً لكانت الممكنات قديمة ، واللازم باطل - لما تقدّم - فالملزوم مثله(1) .
ص: 115
ما ذكره أيضاً المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في كتاب الفصول :
أصل : قد ثبت أنّ وجود الممكن من غيره ، فحال إيجاده لا يكون موجوداً ؛ لاستحالة إيجاد الموجود ، فيكون معدوماً ، فوجود الممكن مسبوق بعدمه ، وهذا الوجود يسمّى : حدوثاً ، والموجود : محدَثاً ، فكل ما سوى الواجب من الموجودات محدث .
واستحالة الحوادث لا إلى أوّل - كما يقوله الفلسفيّ - لا يحتاج إلى بيان طائل بعد ثبوت إمكانها المقتضي لحدوثها(1) .
وقريبا من هذا البيان قول العلاّمة الحلّي رحمه الله :
العالم ممكن ، وكلّ ممكن محدث ؛ فالعالم محدث ، والصغرى سيأتي في باب الوحدانية ّ . وبيان الكبرى : إنّ المؤثر إمّا أن يؤثر حال البقاء وهو محال وإلاّ لكان تحصيلاً للحاصل ، أو حال العدم ، أو الحدوث ، وكيف كان حصل المطلوب ، والقسم الأوّل من المنفصلة مشكل(2) .
إنّ الجعل لا يتصور للقديم ؛ لأنّ تأثير العلّة ، إمّا إفاضة أصل الوجود ، وإمّا إفادة بقاء الوجود واستمرار الجعل الأوّل ، والأوّل : هي العلّة الموجدة ، والثاني : هي المُبقية .
ص: 116
والموجود الدائمي محال أن تكون له علة موجدة كما تحكم به الفطرة السليمة ، سواء كان بالاختيار أو بالايجاب ، وإن كان امتناع الأوّل أوضح وأظهر .
وممّا ينبّه عليه أنّ في الحوادث المشاهدة ففي الآن الأوّل يكون تأثير العلّة هو افاضة أصل الوجود ، وفي كلّ آن بعده من آنات الوجود هو إبقاء الوجود واستمرار الجعل الأوّل ، فلو كان ممكن دائمي الوجود فكلّ آن يفرض من آنات وجوده - غير المتناهي في طرف الماضي - فهو آن البقاء واستمرار الوجود ، ولا يتحقق آن إفاضة أصل الوجود فيصبح جميع آنات الوجود هو زمان البقاء ، ولا يتحقق آن ولا زمان للإيجاد وإعطاء أصل الوجود قطعاً (1).
* ومثله ما روي عنه عليه السلام :
« ألا تعلم(1) أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وقديماً وحديثاً في حالة واحدة . . »(2) .
* وعنه عليه السلام :
« من زعم أنّهنّ لم يزلن معه فقد أظهر أنّ اللّه ليس بأول قديم ولا واحد وأنّ الكلام لم يزل معه وليس له بدء . . »(3) .
فنقول في توجيه الملازمة التي ذكرها المعصوم في الحديث الأوّل : لو كان الكلام الذي هو فعله تعالى قديما دائميّ الوجود لزم أن لا يحتاج إلى علة أصلاً ، أمّا المُوجدة فلما مرّ ، وأمّا المبقية فلأنّها فرع المُوجدة ، فلو انتفى الأوّل انتفى الثاني بطريق أولى .
والمستغني عن العلة أصلاً هو الخالق القديم الأزلي الموجود بنفسه ، فلو كان الكلام قديما يكون إلهاً ثانياً ، وهو خلاف المفروض أيضاً ؛ لأن المفروض أنه كلام الخالق وفعله سبحانه .
والحديث الثاني على منوال الحديث الأوّل .
* ويؤيّده ما في حديث الفرجة عن الصادق عليه السلامحيث قال للزنديق :
ص: 118
« . . ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما(1) حتى يكونا اثنين
فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما . . فيلزمك ثلاثه ! »(2) .
حيث حكم عليه السلام على الفرجة من جهة القدم بكونها إلهاً ثالثاً .
لا يمكن الجمع بين قدم العالم والحشر الجسماني أيضاً ؛ لأن النفوس الناطقة لو كانت غير متناهية على ما هو مقتضى القول بقدم العالم امتنع الحشر الجسماني عليهم ؛ لأنه لابدّ في حشرهم جميعاً من أبدان وأمكنة غير متناهية وقد ثبت أنّ الأبعاد متناهية .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
منافاة القول بالقدم مع الحشر الجسماني فإنما يتمّ لو ذهبوا إلى عدم تناهي عدد النفوس ووجوب تعلّق كل واحدة بالأبدان لا على سبيل التناسخ كما ذهب إليه أرسطو ومن تأخر .
اما لو قيل بقدمها وحدوث تعلّقها بالأبدان كما ذهب إليه أفلاطون ومن تبعه - فإنه ذهب إلى قدم النفوس وحدها وحدوث سائر العالم وتناهي الأبدان - أو قيل بجواز تعلّق نفس واحدة بأبدان كثيرة غير متناهية على سبيل التناسخ ، وأنّ في المعاد ترجع النفس مع بدن واحد . . فلا يتمّ أصلاً .
ص: 119
نعم القول بقدم النفوس البشريّة بالنوع وحدوثها بحدوث الأبدان ، على سبيل التعاقب ، وعدم تناهيها - كما ذهب إليه المشائيون على ما نقل عنهم المتأخرون - ممّا لا يجتمع مع التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه و آله وسلم من وجوه أُخر أيضاً :
التصديق بوجود آدم وحواء على ما نطق به القرآن والسنّة المتواترة مشروحاً .
إنّهم ذهبوا إلى قدم هيولى العناصر بالشخص وتعاقب صور غير متناهية عليها ، فلابدّ لهم من القول بتكوّن أبدان غير متناهية من حصص تلك الهيولى ، وتعلّق صور نفوس غير متناهية بكلّ حصّة منها .
وعندهم أيضاً : انّه لا يمكن اجتماع صورتين في حصّة من تلك الهيولى دفعة ، فيلزمهم اجتماع نفوس غير متناهية في بدن واحد إن اعترفوا بالمعاد الجسماني .
. . إلى غير ذلك من المفاسد تركناها روماً للاختصار(1) .
برهان التطبيق ؛ وهو : إنا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا يتناهى ووضعناها جملة ، ثمّ قطعنا منها جملة متناهية ، ثمّ أطبقنا إحدى الجملتين بالأُخرى بحيث يكون مبدء كلّ واحدة من الجملتين واحداً فإن استمرّتا إلى ما لا يتناهى كانت الجملة الزائدة مثل الناقصة . . وهذا خلف ، وإن انقطعت الناقصة
ص: 120
تناهت ، ويلزم تناهى الزائدة ؛ لأنّ ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه(1) .
ص: 121
ولا يخفى أنّ قبول هذا المبنى - أي استحالة اللامتناهى مطلقا يزلزل بعض أُسس القواعد الفلسفيّة ويبيّن بطلان بعض مبانيهم ، منها : إنكار بعضهم لحدوث العالم بالمعنى الحقيقي .
قد مرّ جواز الاستدلال بالأدلّة الشرعيّة في المسائل الكلاميّة ، ومنها مسألة حدوث العالم ،وقلنا : بعد إثبات الصانع تعالى وكونه عالماً وقادراً وصانعاً وصادقاً ، وإثبات الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وكونه معصوماً ببرهان العقل يمكن التمسك
بقولهما على إثبات سائر المسائل التي لا تتوقف عليها إثبات النبوّة ، وعلى هذا لا ينحصر إثبات حدوث العالم في الدليل العقلي فقط ، بل يكفي وجود الدليل الشرعي كذلك مع قطع النظر عن وجود أيّ دليل آخر .
ومن تأمل في الروايات المتقدّمة وغيرها وجد في كثير منها أنّ الإمام عليه السلام يستدل بالدليل العقلي لإثبات حدوث العالم ، فلا تنحصر الأدلة العقلية فيما ذكرنا(1) .
ولهذا نذكر جملة من الأخبار الدالة على حدوث مطلق ما سوى اللّه ونفي
ص: 122
وجود واسطة بين الخالق والمخلوق مجرّداً عن الزمان ، والتأمل في هذه الأحاديثيفيد وجود ملاك المخلوقيّة ويثبت أنّ الإمكان لا يجامع القدم وأنّ القدمة تساوق الأُلوهيّة :
* فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام -في محاجّته مع ابن أبي العوجاء- :
« . . ولو كان قديماً . . ما زال ولا حال ؛ لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأزل دخوله في العدم ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شيء واحد . . »(1) .
* وفي محاجّة مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام . . عند قول سليمان : إنّما عنيتُ إنّها - أي الإرادة - فعل من اللّه لم يزل .
قال عليه السلام : « . . ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً وحديثاً وقديماً في حالة واحدة » .
قال : بل هي فعل .
قال عليه السلام : « فهي محدثة ؛ لأن الفعل كلّه محدث » .
قال : ليست بفعل .
قال : « فمعه غيره لم يزل . » .(2) .
ص: 123
* وعنه عليه السلام : « . . فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه . . »(1) .* عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال :
« . . إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً ، لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات . . »(2) .
* عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال :
« . . ولو كان أوّل ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذاً لم يكن له انقطاع أبداً ولم يزل اللّه إذاً ومعه شيء ليس هو يتقدّمه ولكنّه كان إذ لا شيء غيره . . »(3) .
* وعنه عليه السلام :
« . . لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء ، ومن زعم أنّ اللّه تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر ؛ لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليته وهويته كان ذلك الشيء أزلياً . . »(4) .
ص: 124
* وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال :« . . لم يخلق الأشياء من أصول أزلية . . »(1) .
* وعن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال :
« . . إمّا أن أكون صنعتُها وكانت موجودةً أو صنعتها وكانت معدومة ؟ ؛ فإن كنت صنعتها وكانت موجودةً فقد استغنت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً . . »(2) .
* قيل لمولانا الصادق عليه السلام : ما الدليل على أنّ للعالم صانعاً ؟
فقال :
« أكثر(3) الأدلّة في نفسي ؛ لأني وجدتها لا تعدو أحد أمرين : إمّا أن أكون خلقتها وأنا موجود ، وإيجاد الموجود محال ، وإمّا أن أكون خلقتها وأنا معدوم فكيف يخلق لا شيء ؟ ! فلمّا رأيتها فاسدتين من الجهتين جميعاً علمتُ أنّ لي صانعاً ومدبّراً »(4) .
* عن أبي جعفر الثاني عليه السلام :
« هو اللّه القديم الذي لم يزل . . . هو اللّه الذي لا يليق به الاختلاف
ص: 125
ولا الائتلاف وإنما يختلف ويأتلف المتجزّئُ ، فلا يقال اللّه مؤتلفٌ ولا اللّه قليل ولا كثير ، ولكنّه القديم في ذاته ؛ لأنّ ما سوىالواحد متجزّئ ، واللّه واحد لا متجزّئ ولا متوهم بالقلّة والكثرة ، وكلّ متجزّئ أو متوهّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له »(1) .
* عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال :
« . . لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف إنّما يختلف المتجزّئ ويأتلف المتبعض فلا يقال له مؤتلف ولا مختلف . . . لأنّ ما سواه من الواحد متجزّئ وهو تبارك وتعالى واحد لا متجزّئ ولا يقع عليه العدّ »(2) .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« . . لا تجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ؟ ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ إذن لتفاوت ذاته ولتجزّء كنهه ، ولا امتنع من الأزل معناه . . »(3) .
ص: 126
* عن أبي الحسن الرضا عليه السلام :« . . فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ، لا تجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويعود فيه ما هو ابتدئه ؟ إذن لتفاوتت اجزاؤه ولامتنع من الأزل معناه ، ولما كان للباري معنىً غير المبروء ولو حُدّ له وراءٌ إذاً حُدّ له أمام ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان ، كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث . . »(1) ؟
* عن أبي عبد اللّه عليه السلام :
« إنه ليس شيء إلاّ يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغير والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ، ومن هيئة إلى هيئة ، ومن صفة إلى صفة ، ومن زيادة إلى نقصان ، ومن نقصان إلى زيادة إلاّ ربّ العالمين . . »(2) .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« من وصف اللّه فقد حدّه ، ومَن حدّه فقد عدّه ، ومَن عدّه فقد
ص: 127
أبطل أزله . . »(1) .
وقد روي هذا الحديث أيضاً عن الإمام موسى بن جعفر والإمام علي بن موسى الرضا عليهماالسلام .
والمستفاد من هذا الحديث الشريف هو عدم اجتماع الحدّ والمقدار والعدّ مع الأزلية .
* عن الإمام علي بن الحسين عليهماالسلام أنه قال :
« . . أنت الذي لا تحدّ فتكون محدوداً . . »(2) .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« . . فالحدّ لخلقه مضروب وإلى غيره منسوب . . »(3) .
* عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام :
« . . ما احتمل الزيادة كان ناقصاً ، وما كان ناقصاً لم يكن تامّاً ، وما لم يكن تامّاً كان عاجزاً ضعيفاً . . »(4) .
فكلّ شيء له مقدار قابل للزيادة ذاتاً فهو في أيّ حدّ كان ناقص ،
ص: 128
وتوهّم عدم التناهي له غير معقول .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال :« . . كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل . . »(1) .
إنّ للخلق أجزاء مقداريّة عدديّة قابلة للوجود والعدم ، والمقدار في أيّ حدّ فُرض فهو قليل قابل للزيادة .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« . . ومن قال : إلى مَ . . فقد نهّاه ، ومن قال : حتى مَ . . فقد غيّاه . . »(2) .
يستفاد من هذا الحديث أنّ مجرد نسبة الشيء إلى الزمان والمكان - الذين هما علامتان للمقدار - مستلزم للتناهي والحدوث .
* عن مولانا جواد الأئمة عليه السلام :
« . . كل متجزّئ أو متوهّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له . . . وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً . . »(3) .
ص: 129
* وعن النبي صلى الله عليه و آله وسلم :
« . . أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه ؟ فإنقلتم أنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله ، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء منهما . . »(1) .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :
قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « أتقولون ما قبلكم » إثبات لانقطاع الليل والنهار من جهة الماضي ، لاستحالة ما لا نهاية له وهو انقطاع الزمان ، ويلزم منه انقطاع الحركات وحدوث الأجسام والأعراض القائمة بها (2) .
ويستفاد من الحديث الشريف : كلّ ما له آخر ، فلا ريب في أنّ له أوّلاً فالانقضاء لا معنى له في اللايتناهى ؛ لأنّ انقضاء اللايتناهى مساوق للتناهي والمحدوديّة .
وبعبارة أُخرى : كلّ ما يقبل الزيادة فهو محدود متناه .
* عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام :
« . . إنّه متى ما ضمّ شيء إلى مثله كان أكبر وفي جواز التغيير عليه خروجه من القدم كما بان في تغييره دخوله في الحدث »(3) .
ص: 130
* قال بعض الزنادقة لأبي الحسن عليه السلام : . . فحدّه لي .
قال : « لا حدّ له » .
قال : ولم ؟قال : « لأن كلّ محدود متناه إلى حدّ ، فإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ، ولا متزائد ، ولا متناقص ، ولا متجزّء ، ولا متوهّم . . »(1) .
فالتوصيف والبيان فرع المقدار ، والمقدار يستلزم التناهي والتجزي .
* وفي مناظرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مع الدهريّة قال :
« . . أولستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟ »
فقالوا : نعم .
فقال صلى الله عليه و آله وسلم : « أفترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ »
فقالوا : نعم .
فقال : « أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ »
فقالوا : لا .
فقال صلى الله عليه و آله وسلم : « فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جارياً بعده » .
قالوا : كذلك هو .
فقال : « قد حكمتم بحدوث ما تقدّم من ليل ونهار لم تشاهدوهما ، فلا
ص: 131
تنكروا للّه قدرته . . »(1) .* وفي مناظرة أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام مع عبد الكريم : . . فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها .
فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام :
« . . إنك تزعم أنّ الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخرّت ؟ ! »(2) .
إنّ التقديم والتأخير فرع المقدار والتجزي ؛ فلا معنى لعدم التناهي فيهما ، ولا يخفى أن هذه الروايات تبيّن الملازمة بين المقدار والتناهي ّ .
وممّا ذكرناه ظهر استحالة اللايتناهى وهو يدلّ على استحالة الزمان اللامتناهي وقدم المخلوقات مطلقا .
ثم إنّ جملة من الأدلة العقلية التي اقيمت على حدوث العالم :
منها :كلّ ما يصح فيه الوجود والعدم المصطلح عليه ب- : الحقيقة المقداريّة ، فهو - لا ريب - موجود بالغير ، ولا وجود تأصّلي له ، كما أنّ من البديهي أنّ كل
ص: 132
ما يوجد بالغير فهو حادث ، لبداهة استحالة إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل .
ومنها : كلّ ما يوجد بالغير فهو متّصف بالزمان ، ولا شك الزمان متناه فكلّ ما يتّصف به يكون حادثاً .
ومنها : إنّ مجرّد إمكان التعدّد والتقارن للممكنات - فضلاً عن التغيّر والتبدّل - يدلّ على استحالة القدم .ومنها : إنّ قدم الممكن يستلزم تقارنه مع الخالق ، وذلك يستلزم دخول الخالق في المقدار والعدد والزمان والحدوث .
ومنها : برهان التطبيق ألسالف بيانه ألدال على استحالة اللايتناهى وقدم المخلوق وقد مرّ تقريره .
فادّعائهم بإمكان وجود الممكن القديم باطل بالبداهة فضلاً عن الدليل .
ولا يخفى أنّ هذه البراهين لا تقصر أهميّتها عمّا ذكرناه سابقاً من الدلائل العقليّة .
ص: 133
ص: 134
ص: 135
ص: 136
إنّ مراد المتكلّمين من الحدوث الزماني هو : كون العالم حادث . . بمعنى أنه كائن بعد أن لم يكن ببعديّة حقيقية ، ويكون له ابتداء وأوّل ، وأنه تعالى كان ولم يكن معه - بحسب الواقع ونفس الأمر وفي الخارج - شيء ، ثمّ إنه تعالى خلق الأشياء .
ولا يخفى أنّ القبلية والبعدية في المقام من ضيق العبارة ؛ لأن الزمان أيضاً من أجزاء العالم وكائن بعد أن لم يكن .
فمراد المتكلّمين من حدوث الأشياء بالذات وبالزمان هو أن جميع ما سوى اللّه - حتى الزمان - كائن بعد أن لم يكن ، وهذا المعنى هو المستفاد من الأدلة العقلية والنقلية من الكتاب والسنة والإجماع والضرورة من المذهب والدين .
إلا ان مراد الفلاسفة من الحدوث الذاتي هو الحاجة والافتقار إلى العلّة ، ويقابله القديم بالذات الذي لا يستند ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء ، ومن القديم بالزمان هو أنه معلول لذاته تعالى ، وتخلّف المعلول من العلة ممتنع واقعاً وخارجاً ، وبينهما معيّة خارجية ، وانفكاكهما مستحيل في نفس الأمر
ص: 137
والخارج . . كما صرّحوا به في بحث التقدم بالعليّة .وبعبارة أُخرى : إنّ مراد الفلاسفة من قولهم : إنّ العالم حادث بالذات وقديم بالزمان هو : عدم كونه في مرتبته تعالى الذي هو علة للأشياء ، وأنه تعالى يتقدم على الأشياء تقدّم العليّة ، وإن كان بحسب الواقع والخارج ليس بينهما تقدّم وتأخّر في الوجود وكان بينهما معية .
وهذا المعنى هو ما نفاه الكتاب والسنة المتواترة والإجماع والضرورة .
وقد تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام - بألفاظ مختلفة - : كان اللّه ولم يكن معه شيء ، ثمّ خلق الأشياء اختراعاً وابتداء .
* كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :
« يا علي ! إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء معه »(1) .
* وقال أمير المؤمنين عليه السلام :
« كان اللّه ولا شيء معه ، فأول ما خلق نور حبيّه محمّد صلى الله عليه و آله وسلم »(2) .
وقد صرّحوا عليهم السلام بعدم معيّة شيء من الأشياء معه تعالى وأثبتوا الابتداء لوجود كل مخلوق .
وبذلك يظهر فساد ما قيل(3) : من أنّ ما اتّفق عليه جميع أرباب الملل والمذاهب ، ودلت عليه الأخبار والآثار هو الحدوث الذاتي لا الزماني(4) .
ص: 138
كما يظهر فساد ما تخيّل بعضهم من أنه : إذا كان العالم - ومن جملته الزمان - حادثاً فكان تقدّمه تعالى عليه تقدّم رتبة لا زمان ، وحينئذ فلا معنى لحدوث العالم زماناً ، بل العالم حادث ذاتاً وقديم زماناً وذلك لعدم وجود فصل زماني بينه تعالى وبين العالم .
والوجه فيه : إنّ عدم الفصل الزماني بينه تعالى وبين العالم لا يقتضي المعيّة بينهما بحسب الواقع ونفس الأمر والوجود الخارجي كما التزموها بمقتضى القواعد المسلمة عندهم من أن تقدّم العلة على المعلول هو التقدم بالعليّة التي يقتضي عدم انفكاك المعلول عن العلة ومعيّتهما في التحقق والوجود الخارجي .
وهذا الأمر أيضاً لا ينافي ما ذكرناه بأنّه تعالى كان واحداً متفرداً ولم يكن معه شيء موجوداً ثمّ أوجد الأشياء .
فتلخص ؛ إنّ عدم الفصل الزماني بين القديم - أي اللّه تعالى - وبين الحادث - أي العالم - لا يقتضي أزلية العالم ، كيف وإنّ له أوّلاً وابتداء ، ولم يكن موجود إلاّ اللّه تعالى وحده لا شريك له ثمّ أوجده تعالى .
ولا يخفى أنّ قولنا : ثمّ أوجده . . من ضيق التعبير ، ولا يكون شيء من الأشياء موجوداً في الأزل معه تعالى بل كان اللّه ولا شيء موجود حتى الزمان ثمّ ابتدء واخترع الشيء ، فالشيء مسبوق بعدم حقيقي .
ولذا قال العالم الجليل المتكلم الكراجكي :
اعلم أنّ الملاحدة لمّا لم تجد حيلة تدفع بها وجوب تقدّم الصانع على الصنعة قالت إنه متقدم عليها تقدّم رتبة لا تقدّم زمان ! فيجب أن نطالبهم بمعنى
ص: 139
تقدّم الرتبة ؟وقد سمعنا قوماً منهم يقولون : إنّ معنى ذلك أنه الفعّال فيها والمدبّر لها . . ! فسألناهم هل يدافع ذلك عنها حقيقة الحدث ؟ ! فعادوا إلى الكلام الأوّل من أنّ كل واحد من أجزاء الصنعة محدث ، فأعدنا عليهم ما سلف حتّى لزمهم الإقرار بحدث الكلّ ، وطالبناهم بحقيقة المحدث والقديم فلم يجدوا مهرباً من القول بتقدم القديم في الوجود على المحدَث التقدّم المفهوم المعلوم الذي يكون أحدهما به موجوداً والآخر معدوماً . .
ولسنا نقول : إنّ هذا التقدّم موجب للزمان ؛ لأنّ الزمان أحد الأفعال ، واللّه تعالى متقدم لجميع الأفعال .
وليس أيضاً من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان ؛ لأن الزمان نفسه قد يتقدم بعضه على بعض ، ولا يقال : إنّ ذلك مقتض لزمان آخر ، والكلام في هذا الموضع جليل ، ومن فهم الحقّ فيه سقطت عنه شبه كثيرة(1) .
وسنرجع إلى تتمة كلامه طاب رمسه قريبا .
من الواضح أنّه تعالى منزّه عن الزمان والزمانيات ، لأنّ الزمان حقيقة مقدارية عددية ، وكل مقدار متناه حادث معلول مخلوق ، فكما أنه تعالى منزّه
ص: 140
عن المكان والمكانيات فكذلك منزّه عن الزمان والزمانيات ، وليس نسبة الزمان إليه تعالى إلاّ كنسبة المكان والمكانيات إليه ؛ لأنّ الزمان كغيره منالمقادير من الحوادث المخلوقة المنفية عنه تعالى .
فما يستشم منه خلاف ذلك يحمل على ضيق العبارة ، إذ أنّ اللغويين لا يفهمون التجرّد من الزمان ، وقد وضعوا الألفاظ للمعاني المتعارفة بينهم لتفهيم عامة الناس ، فانّ تصوّر التجرّد عن الزمان صعب جدّا ولا يعرف إلاّ بالدليل العقلي .
من الأدلّة على تنزيهه تعالى من الزمان - مضافاً إلى ما ذكرناه من حكم العقل - هي الأخبار المتواترة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام المتكفلة لعدم كونه سبحانه زمانيّاً ولا بأس بالإشارة إلى بعضها :
* عن الصادق عليه السلام :
« إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً » (1) .
ص: 141
* عن أبي ابراهيم عليه السلام قال :
« إنّ اللّه تعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان . . » (1) .* عنه عليه السلام أيضاً :
« إنّ اللّه لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان » (2) .
* ورد في أخبار كثيرة عنهم عليهم السلام :
« واللّه لا يوصف بخلقه » (3) .
* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود » (4) .
* عنه عليه السلام :
« لم يسبق له حال حالاً فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً ، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً » (5) .
ص: 142
* قوله عليه السلام :
« لا تصحبه الأوقات » (1) .* قوله عليه السلام :
« ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال » (2) .
* قوله عليه السلام :
« ليس لصفته حدّ محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » (3) .
* عن امير المومنين عليه السلام :
« إن قيل : كان فعلى تأويل أزليّة الوجود ، وإن قيل : لم يزل فعلى تأويل نفى العدم » (4) .
بيان : وحيث لا أوّل لأوّليته ، ولا ابتداء لأزليّته ، إن قيل : كان لم يرد به الكون الزماني الملازم للحدوث ، بل أريد به محض الثبوت المنسلخ عن الزمان ، فعلى
ص: 143
تأويل يطلق عليه كان ويؤ إلى إرادة الوجود الأزلي ، وكذلك إن قيل : لم يزل مريدا للقدم ، فهو موءوّل إلى نفى العدم ؛ أى لم يكن معدوما لا إثبات أوّليته لأزليّته كما أفيد .* عن أمير المؤمنين عليه السلام :
« لم يختلف عليه حقب الليالي والأيام » (1) .
* عنه عليه السلام :
« لا يزال وحدانياً أزلياً قبل بدو الدهور وبعد صرف الأمور » (2) .
* عنه عليه السلام :
« إنه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان » (3) .
* عنه عليه السلام :
« لا تضمّنه الأوقات . . . مخبرة بتوقيتها أنّ لا وقت لموقّتها » (4) .
ص: 144
* عنه عليه السلام :
« سبق الأوقات كونه والابتداء أزله . . . كيف يجري عليه ما هو أجراه » (1) .* عنه عليه السلام :
« لا يقال له متى ولا يضرب له أمد بحتّى » (2) .
* عن الرضا عليه السلام :
« لا تصحبه الأوقات . . . ففرّق بها بين قبل وبعد ليُعلم أن لا قبل له ولا بعد . . . مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها . . . ولا توقّته متى ، ولا تشمله حين ولا تقارنه مع . . . فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه ، ولا تجرى عليه الحركة والسكون وكيف يجري عليه ما هو أجراه ويعود فيه ما هو ابتدأة ؟ » (3) .
ولا يخفى أنّ كلّ ذلك يدلّ بالصراحة على نفي كونه سبحانه زمانياً .
وبالجملة ؛ الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، وقد نسب إلى أكثر الحكماء استحالة عروض الزمان للواجب تعالى ، كما نُقل عن أرسطو والشيخ - في
ص: 145
تعليقاته والشفاء - والفارابي - في الفصوص والتعليقات - وشيخ الإشراق ، والشيرازي ، وشارح التلويحات ، وفخر الدين الرازي ، والمحقّق الدواني . . وغيرهم .
قال المحقق الطوسي في نقد المحصّل :
والعقل كما يأبى عن اطلاق التقدّم المكاني كذلك يأبى عن اطلاق التقدّمالزماني ، بل ينبغي أن يقال : إنّ للباري تعالى تقدّماً خارجاً عن القسمين ، وإن كان الوهم عاجزاً عن فهمه .
وقال في شرح رسالة العلم :
أزليته تعالى إثبات سابقيّة له على غيره ، ونفي المسبوقيّة عنه ، ومن تعرّض للزمان أو الدهر أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود .
ولا يخفى أن قصور فهم عقلاء البشر - فضلاً عن جهلائهم - بل عجز مكاتب المعرفة البشريّة عن الوصول إلى الإحاطة ب- : العلوم السماويّة وفهم حقيقة معنى التجرّد عن الزمان والمكان هو منشأ الخلط والخبط والوهم في ذلك كلّه ، وهذا الباب من المعرفة إن لم يمنّوا بها أولياء الوحي علينا فما كان للعقل سبيل إلى معرفته مطلقا فضلاً عن الظنون والأهواء والاستحسانات الواهية . فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه .
* فعن الإمام الرضا ثامن الحجج عليه السلام :
« . . إنما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم اللّه بصفة أنفسهم ،
ص: 146
فازدادوا من الحقّ بُعداً ولو وصفوا اللّه عزّوجلّ بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيّروا فيه ارتبكوا واللّه يهدي من يشأ إلى صراط مستقيم . . » (1) .إذا تمهّد هذا ؛ فنقول :
إنّ ما نقل عن بعض الفلاسفة - من أن ذات الواجب تعالى إمّا أن تستجمع جميع شرائط التأثير في الأزل أو لا ؟ وعلى الأوّل يلزم قدم الأثر بالضرورة ، لامتناع التخلف عن الموجب التام ، وعلى الثاني توقف وجود الأثر - وهو العالم - على شرط حادث . . وننقل الكلام إليه حتى يلزم التسلسل - ممنوع لوجوه :
إنّا نختار أنّه تعالى مستجمع لجميع شرائط التأثير في الأزل من جهة
القدرة والسلطنة التامّة على الفعل والترك ، ولكن نقول : إنّ الشبهة مبتنية على توهّم كون الخالق تعالى زمانياً .
ولكن الحقيقة هي أنّ الزمان والزمانيات قبل خلق العالم معدومة مطلقا ومنفيّة صرفاً ، وإنّ القول بأُلفة الباري عزّ وجلّ بالزمان والمكان أوهام كاذبة مخترعة ، وأنّ اللّه جلّ شأنه مقدّس عن أمثال هذه الأمور ولا يبلغ عقل أيّ عاقل إلى كنه عظمته وجلاله ، بل لا يمكن لنا تصوّر ذاته خارجاً عن الزمان والمكان ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلاّ بالإقرار والتصديق العقلي فقط .
ص: 147
ولا يخفى أن الزمان والحركات وسلسلة الحوادث كلّها متناهية في طرف الماضي ، وأنّ جميع الممكنات تنتهي فى جهة الماضي خارجا إلى عدم مطلق ولا شيء بحت لا امتداد فيه ولا تكمّم ولا تدريج ولا قارّية ولا سيلان ، وأنّ قبل ابتداء الموجودات لم يكن شيء سوى الواحد القهّار .
وإنّ عبارة « تنتهي الموجودات إلى عدم مطلق » وكذا عبارة « قبل ابتداء الموجودات » إنّما عبّر بها لعدم استيعاب الألفاظ للتعبير أكثر من ذلك ، لأنّه لايمكن تصوّر القبليّة للعدم المطلق حقيقة .
وبالجملة ؛ إنّ الزمان وجميع الموجودات الممكنة في جانب الماضي لا يتصور فيه امتداد أصلاً ، لا « موجود » - كما زعم بعض الحكماء - ولا « موهوم » - كما توهّمه بعض المتكلّمين - فلا يمكن فيه حركات كما استدل به الحكماء على عدم تناهي الزمان بل لا شيء مطلق وعدم صرف .
ولمّا شاهدوا موجوداً قبل موجود وزماناً قبل زمان صعب عليهم تصوّر اللاّشيء المحض ، فذهبت طائفة من الحكماء إلى لا تناهى الزمان الموجود ، وطائفة من المتكلّمين إلى لا تناهى الزمان الموهوم .
ونظير تناهي الزمان - والامتداد غير القارّ - تناهي المكان والأبعاد القارّة ، فإن الأبعاد القارّة والأمكنة تنتهي إلى العدم المطلق للأبعاد والجسمانيات ، ولا يتصوّر وراء آخر الأجسام بُعد سواء كان موجودا او موهوما بل لا فضاء مطلقا .
ولا يخفى أن تصوّر اللازمان المطلق أصعب من تصوّر اللاّمكان ويحتاج الى زيادة دقّة وتأمّل .
ص: 148
وقد اختار هذا القول السيد المرتضى رحمه الله(1) ، والشيخ الكراجكي رحمه الله(2) ، والعلاّمة الحلي رحمه الله(3) ، والعلاّمة المجلسي رحمه الله(4) ، والطبرسيالنوري
رحمه الله(5) . . وغيرهم .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله : هذا الجواب في غاية المتانة .
وقد نسب هذا القول إلى المحقق الطوسي رحمه الله أيضاً حيث قال :
التخلف عن العلة التامة إنما يستحيل إذا أمكن وجود ظرفين يمكن تحقق المعلول في كل منهما ، ومع ذلك خصّ وجود المعلول بالأخير منهما من غير تفاوت في أجزاء العلة وشرائط إيجابها بالنسبة إلى الوقتين ، وهنا ليس كذلك ، إذ الوقت من جملة أجزاء العالم فلا وقت قبل حدوث العالم حتى يسئل عن حدود ذلك الوقت وأنه لِمَ لم يقع المعلول في تلك الحدود (6) . . !
وقال الطبرسي النوري رحمه الله - بعد نقل هذا الكلام عن المحقق الطوسي رحمه الله - :
وقد أجاد وأتي بما فوق المراد(7) .
ينبغي هنا نقل كلام بعض المتقدّمين ليعلم أنّ هذه المعارف الجليلة هي من الواضحات عند القدماء الأجلاء ، والشبهة في ذلك إنما نشأ من التوغّل
ص: 149
في الفلسفة اليونانية .
قال العلامة الكراجكي رحمه الله :
اعلم أنّ الملاحدة لمّا لم تجد حيلة تدفع بها تقدّم الصانع على الصنعة قالت : إنه متقدم عليها تقدّم رتبة لا تقدّم زمان ، فيجب أن نطالبهم بمعنى تقدّم الرتبة ليوضّحوه فيكون الكلام بحسبه .وقد سمعنا قوماً منهم يقولون : إنّ معنى ذلك : أنه الفعّال فيها والمدبّر لها . . فسألناهم هل ذلك يدافع عنها حقيقة الحدوث ؟ فعادوا إلى الكلام الأوّل من أنّ كل واحد من أجزاء الصنعة محدث ، فأعدنا عليهم ما سلف حتى لزمهم الإقرار بحدوث الكلّ ، وطالبناهم بحقيقة المحدث والقديم ، فلم يجدوا مهرباً من أنّ التقدم والقديم في الوجود على المحدث ، هو التقدم المفهوم المعلوم الذي يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً .
ولسنا نقول : إنّ هذا التقدم موجب للزمان ؛ لأن الزمان أحد الأفعال ، واللّه تعالى متقدّم لجميع الأفعال ، وليس أيضاً من شرط التقدم والتأخّر في الوجود أن يكون ذلك في زمان ؛ لأن الزمان نفسه قد يتقدّم بعضه على بعض .
ولا يقال : إنّ ذلك مقتض لزمان آخر ، والكلام في هذا الموضع جليل ، ومن فهم الحقّ فيه سقطت عنه شبه كثيرة(1) .
وقال رحمه الله - بعد إيراد جواب السيد رحمه الله عن شبهة القائل بالقدم - : . .
وجميع ما تضمّنه من إطلاق القول بأنّ بين القديم وأوّل المحدثات أوقات لا أوّل لها . . فإنما المراد به تقدير أوقات ، دون أن يكون القصد أوقاتاً في الحقيقة ؛
ص: 150
لأنّ الأوقات أفعال ، وقد ثبت أنّ للأفعال أولاً ، فلو قلنا : إنّ بين القديم وأوّل
الأفعال أوقاتاً في الحقيقة لناقضناه ودخلنا في مذهب خصمنا ، نعوذ باللّه من القول بهذا(1) .
ثمّ قال : وقد قال بعض أهل العلم : إنه لا ينبغي أن نقول بين القديم وبين المحدث ؛ لأن هذه اللفظة إنما تقع بين شيئين محدودين ، والقديم لا أوّل له ،والواجب أن نقول : إنّ وجود القديم لم يكن عن عدم . .
إلى أن قال رحمه الله :
ولسنا نريد بذلك أنّه كان قبل أن فعل مدّة يزيد امتدادها ؛ لأنّ هذا هو الحدوث والتجدّد ، وهو معنى الزمان والحركة .
فإن قال قائل : إنه لا يثبت في الأوهام إلاّ هذا الامتداد .
قيل له : ليس يجب إذا ثبت في الوهم أن يكون صحيحاً ، أليس عندكم أنه ليس خارج العالم خلأ ؟ ! وذلك غير متوهم . .
إلى أن قال : ثمّ قال هذا المتكلم : فإن قالوا : فإذا لم تثبتوا مدةً مديدة قبل الفعل فقد قلتم أنّ الباري سبحانه لم يتقدّم فعله . . !
قيل : بل نقول : إنه يتقدّم على معنى ؛ أنّ وجوده قارَنَ عدم فعله ثمّ قارَنَ وجود فعله ، وقولنا : « ثمّ » يترتب على عدم الفعل لا غير . .
وساق الكلام إلى أن قال رحمه الله : هذه الطريقة التي حكيتها هي عندي قاطعة لمادّة الشبهة ، كافية في إثبات الحجّة على المستدلّ ، وهي مطابقة لاختيار أبي القاسم البلخي ؛ لأنه لا يطلق القول بأن بين القديم وأوّل المحدثات مدّة ، ويقول :
ص: 151
إنه - أي الصانع تعالى - قبلها ؛ بمعنى أنه كان موجوداً ثمّ وجدت ، وهو معنى ما ذكر هذا المتكلم في قوله : إنّ وجوده قارن عدم فعله ، ثمّ قارن وجود فعله ، فهو على هذا الوجه قبل أفعاله .
ثمّ قال رحمه الله :
اعلم - أيّدك اللّه - أنّ العبارات في هذه المواضع تضيّق عن المعاني وتدعو الضرورة إلى النطق بما عُهِدَ ووُجِدَ في الشاهد ، وإن لم يكن المراد حقيقة فيالمتعارف ، ويجوز ذلك إذا كان مؤدّياً لحقيقة المعنى إلى النفس ، كقولنا : قبل ، وبعد ، وكان ، وثمّ . . فليس المعهود في الشاهد استعمال هذه الألفاظ إلاّ في الأوقات والمُدد .
فإذا قلنا : إنّ اللّه تعالى كان قبل خلقه ، ثمّ أوجد خلقه . . فليس هذا التقدم والتأخير مفيداً لأوقات ومُدد ، وقد يتقدم بعضها على بعض بأنفسها من غير أن يكون لها أوقات أُخر .
وكذلك ما يطلق به اللفظ من قولنا : إنّ وجود اللّه قبل وجود خلقه . .
فليس الوجود في الحقيقة معنى غير الموجود ، وإنّما هو اتساع في القول والمعنى مفهوم معقول(1) .
لا ريب أنّ العلّة تامّة ، ولا نقص ثمّة ولا مانع لها من التأثير ، كما أنّ إمكان وجود المعلول وتحققه في الأزل ايضاً من الشرائط المعتبرة في وجوده .
ص: 152
والممكن - باعتبار ماهية إمكانيته - غير قابل للأزلية والقدم ، وليس في ذاته اقتضاء الوجود ولا العدم ، بل لابد له من أوّل وابتداء في الوجود ، فالنقص من القابل - أي الممكن - لا من العلة ، ولا من جهة تأثير الفاعل ؛ فإنّ اللّه تعالى
على كل شيء قدير ، ولا ريب أنّ قابلية المحل أيضاً من شرائط وجود المعلول ، وماهية الممكن مما لا يقبل الوجود من غير ابتداء . . وهو المطلوب .
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله :إنّ إمكان وجود المعلول معتبرٌ وهو من شرائط قبول المعلول للوجود ، لا من شرائط تماميّة الفاعل في التأثير ، لكونه من متمّمات ذات المعلول المفتقر إلى المؤثّر ، ويجوز أن يكون بعض أنحاء الوجود بالنسبة إلى ماهيّة واحدة ممكناً دائماً ، وبعض آخر ممتنعاً بالذات دائماً - كما بيّن في محلّه - ومثل هذا لا يستلزم
تغييراً أصلاً لا من طرف العلّة ولا من طرف المعلول حتى نطلب له سبباً ، بل أبداً هذا النحو من الوجود ممكن وذاك ممتنع .
إذا تقرّر هذا فنقول : لعلّ الوجود الدائمي لا تقبله الماهيّة الممكنة أصلاً ، وقد مرّ من الأخبار والمؤيّدات العقليّة ما يؤكّده ، وسيظهر تأييد آخر من جواب النقض على دليلهم .
وبالجملة ؛ يجب عليهم إثبات أنّ الممكن يقبل الوجود الأزلي حتّى يتمّ دليلهم ، ودونه خرط القتاد(1) .
وقد ثبت أنّ الفعل لا يكون إلاّ حادثاً ، وما لا يكون حادثاً فلا يكون فعلاً ، والأزلية وقبول الوجود متناقضان .
ص: 153
إنّ قولهم : « إن القول بالحدوث الزماني للعالم يستلزم انفكاك المعلول عن العلة » منقوض بالحوادث اليومية التي لا شك في حدوثها ، مع أنها أيضاً من جملة العالم - أي ما سوى اللّه - فلابدّ أن تكون قديمة فإذا جاز انقطاع الفيض بالنسبة إليها لِمَ لا يجوز بالنسبة إلى جميع العالم ؟ أليس حكم الأمثال فيما يجوزوفيما لا يجوز واحداً .
فكل ما أجابوه هناك قلنا به في بقيّة ما سوى اللّه تعالى .
قال العلاّمة الحلي رحمه الله :
عارضوهم بالحادث اليومي ، فإنه معلول ، فعلّته إمّا القديم فيلزم قدمه ، أو الحادث فيلزم التسلسل(1) .
وتبعه العلاّمة المجلسي رحمه الله في النقض المذكور(2) .
لا يخفى أنّ المستفاد من الآيات والأحاديث الكثيرة أنّ المخصص والمرجح لحدوث العالم فيما لا يزال هو إيجاد الخالق تعالى له ، وهو معنى إرادته تعالى .
وملاك صحة الإيجاد هو كون الذات تامّ القدرة والسطنة على الفعل والترك ، وهو معنى كونه تعالى مختاراً ، كما في الحديث : « خلق اللّه المشية بنفسها
ص: 154
ثم خلق الأشياء بالمشية (1) .
وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى الإشكال ؛ بأنّ الإرادة إن كانت حادثة فعلّتها إمّا قديمة أو حادثة .
وعلى الأوّل ؛ يلزم قدم الإرادة ، وعلى الثاني ؛ تحتاج إلى علة أُخرى . . لأنّه تعالى فاعل مختار ، وباختياره يريد ، وإرادته تعالى فعله ، ولا ينفكّ المراد عنها ، فكل حادث يحتاج إلى الموجد لا إلى العلة الفلسفية التي هي في الحقيقةتطوّر شيء واحد بأطوار مختلفة ، وليست من معنى العلّة والمعلول الحقيقي في شيء .
فالتوهم المزبور ناشئ من الاشتباه في فهم حقيقة معنى العلة والمعلول ، بل تحريفهما عمّا هما عليه ، كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى .
قال بعض الأعلام في هذا المقام - ما ترجمته - :
إنّ القدرة من الأوصاف الكمالية الواقعية ، بل تمام الكمال هو القدرة على الفعل .
ومن البديهي أنّ القدرة التامّة في الفاعل بقدرته على الفعل والترك وإلاّ إذا لم يكن الفاعل قادراً على الإمساك وترك الفعل فقدرته تكون ناقصة إذا .
والوجدان حاكم على أنّ الفاعل الذي يقدر على الفعل والترك على السويّة فهو قادر على الإمساك من الفعل .
فالفعل بالنسبة إلى الفاعل العالم القادر على الطرفين باق بحاقّ الإمكان ،
ص: 155
ووجوبالفعل مخالف ومناقض للقدرة .
وأيضاً من البديهي أنّ الفعل والترك لابد أن يكونا مطابقان للحكمة والمصلحة وإلاّ كان عبثاً وجزافاً ، ولا ينبغي من الحكيم ذاك .
فيمكن ان يقال : بأنّ إظهار القدرة التامة والكمال الأتمّ هو الداعي والحكمة على إيجاد العالم بعد عدمه .
ومن العجب أنّ جماعة من أعاظم المعارف البشرية يعتقدون أنّ لكل صفات ذاته تعالى وكمالاته مظاهراً في العالم حتى أنهم يقولون بأن الشيطان مظهر لصفة القهّار والجبّار ! ولكنهم لا يلتزمون بذلك في القدرة التامّة الإلهية ، بلالظهور والمظهر للقدرة التامة عندهم محال .
ومن البديهي أنّ أزلية الفعل(1) ليست كمالاً للفاعل ، بل الإيجاد بعد عدم العالم إظهار لظهور القدرة وكمال له تعالى ، فيندفع ادعاء استحالة انفكاك المعلول من العلة التامّة ؛ لأن الانفكاك من الفاعل - الذي فعله ناش من القدرة والمشية والإرادة - صحيح بلا ريب ، نعم لو كانت فاعلية الفاعل بالطبع والعناية - طبعا في حالة تمامية العلة - يستحيل عندئذ انفكاك المعلول عن علته .
ولازم تامّ الفاعلية بالمشيّة والإرادة صدور الفعل بالإرادة ، بمعنى إن أراد صدر منه الفعل وإلاّ فلا .
والمرجّح - بمعنى الحكمة والداعي والغاية في الفاعل بالمشية - ظهور القدرة والكمال الذاتي للمبدء المتعال على الإيجاد وعدمه ، والاعتقاد بأزلية العالم يناقض قدرته تعالى واختياره .
ص: 156
وقد ظهر من هذا البيان فساد ما زعموه وأوردوه من أنّ المرجح إمّا عين الذات أو زائد عليها ، والإرادة إمّا حادث أو قديم فإن كانت حادثة فنسأل عن سبب حدوثها . . بل مندفع لا موضوع له ،
إذ الوجه فيه : إنّ مخصّص الفعل هو ذات الفاعل بمشيّته وإرادته ، ومخصّص المشيّة نفس ذات الفاعل كما في الحديث : « خلق اللّه الأشياء بالمشيّة وخلق المشيّة بنفسها » .
وما أجابوه : من أنه إن كان الداعي لتعطيل الجود مسبوقية الشيء بالعدم ، فهو ضعيف .قلنا في جوابهم : إنه قد ظهر أنّ الداعي هو ظهور القدرة التامّة وكمال الذات .
وما ذكروه من أنه لا يلزم مسبوقية الممكن بالعدم إذ إنّ علّة الحاجة هو الإمكان لا الحدوث .
ففيه : إنّ هذه الدعوى تتفرّع على القول بقدم العالم ، فإن كان قديماً فعلة الحاجة إلى المبدء هو الإمكان الذاتي وإلاّ فالعلة هو الحدوث ، فالبيان المنقول من الفلاسفة يحتاج إلى إثبات قدم العالم . . .
وساق الكلام إلى أن قال : وبالجملة ؛ على القول بالإيجاب والفاعلية بالعناية لا يبقى مجال للتعبير بأنّه تعالى : إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ؛ لأنّ
المشيّة عين العلم والعلم علة ، وهو - أي صدور الفعل على طبقه - يقتضي الايجاب ، ويلازم القدم وسلب القدرة عن ترك الفعل .
والحاصل ؛ أنّ المقصود من هذه العبارة وتعليق الفعل على المشيّة في الآيات إثبات وإشارة إلى قدرته تعالى واختياره(1) .
ص: 157
وقال الآغا جمال الدين الخوانساري رحمه الله في جوابه عن الإشكال المذكور آنفاً - أي إن كانت الإرادة حادثة فلابدّ أن يحتاج حدوثها إلى إرادة أُخرى ويلزم منه التسلسل في الإرادات - ما ترجمته :
حدوث كل فعل غير الإرادة يحتاج إلى الإرادة ، وأمّا حدوث الإرادة فلا يحتاج إلى إرادة أُخرى ، ومع هذا فهو اختياري . . (1) .
إنّ فاعليته تعالى للأشياء هي بالإرادة والمشيّة لا بالذات ، فما هو العلة
ص: 158
لوجود العالم هو إرادته ومشيته تعالى أي إيجاده الذي هو فعله تعالى وهو أمر حادث كما ورد في الآيات والأخبار الكثيرة(1) .
ص: 159
ص: 160
ص: 161
ص: 162
ص: 163
ولقد أجاد السيد الخوئي رحمه الله في مباحثه الأصولية حيث قال :
إنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعيّة يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعليّة في نقطة ويشترك معه في نقطة أُخرى :
أمّا نقطة الافتراق فهي : أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها ، ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب .
وأمّا المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها ، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسألة التناسب ، نعم يرتبط المعلول فيها بمشية الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتيا ، يعني يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءا ، ومتى تحقّقت المشيّة تحقق الفعل ، ومتى انعدمت انعدم .
وعلى ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونيّة بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلى
ارتباط تلك الأشياء بمشيّته وإعمال قدرته ، وإنّها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً ، وتتعلق بها حدوثاً وبقاءا ، فمتى تحقّقت المشيّة الإلهية بإيجاد شيء وجد ، ومتى انعدمت انعدم ، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها ، ولا تتعلق بالذات الأزلية ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها كما عليه الفلاسفة . . (1) .
ص: 164
إن قلت : لابد من الالتزام بقدم العالم زماناً لقاعدة العليّة والمعلوليّة ؛ لأنّ القول بالحدوث الزماني - بمعنى المسبوقية بالعدم الصريح - للعالم يستلزم انفكاكالعلّة عن المعلول ، وهو محال .
إنّ العليّة والمعلولية بين حقيقة وجود الخالق والمخلوق مقالة فاسدةمن أصلها ، فكيف بالتفريع عليهما ، فإن باب الخالقية والمخلوقية ليس من باب العلية والمعلولية الطبيعية التطورية ، والفرق بينهما بوجوه :
إنّ باب العلية والمعلولية يتمّ فيما إذا كان إعطاء المعطي من ذاته ، وأمّا بالنسبة إلى المبدء المتعال الذي إعطاؤه حقائق الأشياء كان بالإبداع لا من شيء فلا .
وبعبارة أُخرى : موضوع الأوّل ما إذا كانت الفاعلية بالرشح والفيضان بالمعنى الحقيقي عن ذات العلة ، أمّا الحقّ تعالى فهو منزّه من تولّد شيء منه ، بل فاعليّته بالمشيّة والإبداع لا من شيء فلا مجرى للقاعدة المذكورة عليه(1) .
ص: 165
ص: 166
ص: 167
ص: 168
ص: 169
ص: 170
ص: 171
ص: 172
إن كانت فاعليته تعالى للأشياء بنحو العلية والترشح فلابدّ أن تكون
هناك سنخيّة بينه تعالى وبين خلقه - وهو المعلول - لأن من الواجب أن يكون بين العلة الفائضة ومعلولها - الذي يكون رشحاً من ذاتها - سنخية ذاتية ، ولا يخفى أنّ الدليل العقلي والنقلي من الآيات المتظافرة والروايات المتواترة وردت في نفي السنخية بينه تعالى وبين خلقه ، بل لا يكون معرفة التوحيد الحقيقي إلاّ بمعنى معرفة تنزّه وجوده تعالى وتعاليه عن خلقه وتباينهما ، والشرك أيضاً لا يكون إلاّ بمعنى الاعتقاد بالتشابه بين الخالق والمخلوق ، ولا يكون التوحيد الحقيقي بمعنى الوحدة العددية(1) .
ص: 173
ص: 174
ص: 175
ص: 176
إنّ العليّة التوليدية تقتضي الإيجاب وليس اللّه تعالى موجباً في فعله .
وبعبارة أُخرى : هذا الدليل يتمّ لو كان المؤثر موجباً وأمّا إذا كان مختاراً فلا .
ولا يخفى أنّ فاعليّته تعالى للأشياء إنّما هي بالإرادة والمشيّة لا بالذات ، وإلاّ يلزم أن يكون اللّه تعالى موجباً في فعله ، لأنّ تخلف ما بالذات عن الذات محال ، وتخلف المعلول عن العلة الموجبة محال ، وهذا ينافي اختياره اللّه سبحانه وتعالى لأنّه عزّ وجلّ يفعل ما يشاء ويختار ما يشاء باتفاق العقل والشرع .
إن كانت فاعليّته تعالى للأشياء بنحو العلية والترشح لزم تعدد القدماء
وقدم الممكنات ؛ لأن الانفكاك بين العلة والمعلول محال ، كما مرّ .
وقد أثبتنا بالدلائل الواضحة الصريحة حدوث العالم بالمعنى الصحيح ، وقلنا : إنّ الحدوث لا يجامع القدم ، والاعتقاد بتعدد القدماء شرك ، واختراع معنى الحدوث الذاتي ليس إلاّ للتمويه على أهل التوحيد .
ص: 177
إن كانت فاعليّته تعالى بنحو العلية والترشح لزم انتفاء وجوده تعالىبانتفاء شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطوليّة ، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علته التامّة(1) .
وهذا مخالف لما ثبت في الدين والمذهب من أنّ سلطنته تعالى تامّة ولا يتصور فيها نقص ، وأنه فاعل ما يشاء كيف شاء وهو متى شاء إيجاد شيء أو إعدامه أوجده أو أعدمه بلا توقف على أيّة مقدمة خارجية .
إنّه يستلزم الاعتقاد بقاعدة : الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ؛ لأنه لو صدرت عن العلة الواحدة - وهي التي ليست لها في ذاتها إلاّ جهة واحدة - معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة غير راجعة إلى جهة واحدة ، لزمه تقرّر جهات كثيرة في ذاتها ، وهي ذات جهة واحدة ، وهذا محال ، وإنّ ما يصدر عنه
ص: 178
الكثير من حيث هو كثير فإن في ذاته جهة كثرة .
وهذا الاعتقاد فاسد من أصله وباطل بوجوه - وليس هنا محل بحثها - ويكفيك ما أجاب به العلاّمة الحلي رحمه الله حيث قال : بعد تسليم أصوله ، إنه إنما يلزملو كان المؤثر موجباً ، وأمّا إذا كان مختاراً فلا ، فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله(1) .
إنّ ما ذكرناه آنفاً في الردّ على العلية والمعلولية يأتي هنا أيضاً من إنه يستلزم أن تكون فاعليته تعالى للأشياء بالذات لا بالإرادة ، ويلزم السنخية بينهما ، وأن يكون موجباً في فعله ، وأن يتعدد القديم ، مضافاً إلى أنه مخالف لما ثبت عقلاً وشرعا في أصول التوحيد من أنه لا مؤثر في إيجاد الموجودات إلاّ اللّه تعالى .
إنّ فاعليّته تعالى وخالقيته ليست بالعناية ولا بالرضا ولا بالتجلّي ولا . . بل إنّ اللّه تعالى فاعل بالقدرة والمشية .
وبعبارة أُخرى : إنّه تعالى فاعل بالمشيّة عن قدرة وعلم .
والمراد من قدرته تعالى هو كون ذاته تعالى مختاراً فعّالاً لما يشاء وتاركاً لما يكره سواء كان من شيء أو لا من شيء وسواء كان شيئاً واحداً أو أشياء كثيرة ولو في رتبة واحدة ،(2) فكان تعالى بذاته قادراً حقيقة على إبداع كل شيء
ص: 179
فليست فاعليته كفاعليّة سائر الأشياء إذ ليس كمثله شيء .
وهذا النحو من الفاعليّة والقدرة إنما يكون من الكمال بالضرورة ، فلو لمتكن ذاته المقدّسة كذلك لزم نقصه - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - كما تشهد الفطرة السليمة الأولية على معرفته تعالى كذلك .
إن قلت : مقتضي قاعدة : إنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد ، هو امتناع صدور شيء واحد مركّب عن الذات البسيطة فضلاً عن صدور أشياء كثيرة في رتبة واحدة .
هذه القاعدة - لو سلمت - إنما تجري عقلاً فيما إذا كان الفاعل منفرداً عن معنى الفاعلية الحقيقية ، بل كان أثره على نحو الفيضان والترشح منه كما ذكرناه آنفاً .
ولكن حيث إنّ فاعليّته تعالى ليست على نحو الفيضان والتنزّل بل هي على نحو الإبداع لا من شيء فلا يمتنع منه إيجاد المركّب أو الأشياء الكثيرة كائنةً ما كانت في رتبة واحدة(1) .
ص: 180
ص: 181
فإنّ الفطرة والعقل كما أشرنا يحكمان بأنّ الموجود القادر على إبداع الحقائق والأشياء لا من شيء أشرف وأكمل من الموجود الّذي تكون فاعليّته وقادريّته بفيّاضيّته من ذاته .(1)
وهذا النحو من الفاعلية هو من كمالاته وخصائص ذاته تعالى شأنه وليس كمثله شيء ، والّذين ذهبوا إلى خلاف ذلك ما قدروا اللّه حقّ قدره .
وأيضاً ظهر ممّا قلناه أنّ عدم جريان قاعدة الواحد في مورد ذاته تعالىوخروجه سبحانه عنها يكون من باب الخروج الموضوعي والتخصّص ، لا الخروج الحكمي والتخصيص في حكم عقلي ، فلا مجال لتوهم هذا الإشكال أيضاً في هذا الباب كما لا يخفى(2) .
ص: 182
ثم إني ألفيت ما أشرت له في كلام المرجع الديني السيد الخوئي رحمه الله- في مباحث أصول الفقه - حيث قال في ردّه على مقالة بعض الفلاسفة :
من البديهي أنّ وجوب وجوده تعالى لا يستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج ، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كإسناد المعلول إلى العلّة التامّة لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار .فلنا دعويان :
الأُولى : إنّ إسناد الفعل إليه ليس كإسناد المعلول إلى العلة التامة .
الثانية : إنّ إسناده إليه كإسناد الفعل إلى الفاعل المختار .
أمّا الدعوى الأُولى فهي خاطئة عقلاً ونقلاً .
ص: 183
أمّا الأوّل : فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى فإنّ مردّ هذا القول إلى أنّ الموجودات بكافّة مراتبها الطولية والعرضية موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتمّ وتتولّد منه على سلسلتها الطولية تولّد المعلول عن علّته التامة ، فإنّ المعلول من مراتب وجود العلة النازلة وليس شيئاً أجنبيا عنه .
مثلاً : الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها وليست أجنبيّة عنها . . وهكذا ، وعلى هذا الضوء فمعنى علية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علة طبيعية غير شاعرة .
ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة ؟
على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفاء شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علة التامة .
وأمّا الثاني : فقد تقدّم ما يدلّ من الكتاب والسنة على أنّ صدور الفعل منهتعالى بإرادته ومشيته .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري - وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري - لا يرجع إلى محصل ، بداهة أنّ علم العلة بالمعلول
ص: 184
وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها .
فإنّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف .
فما قيل : من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني ، فلأجل ذلك قالوا : إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري ؛ لا واقع موضوعي له أصلاً ، لما عرفت من أنّ مجرّد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلى كليهما على حدّ نسبة المعلول إلى العلة التامة .
وأمّا الدعوى الثانية ، فقد ظهر وجهها مما عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالى إسناد إلى الفاعل المختار ، وقد تقدّم أنّ صدوره بإعمال القدرة والسلطنة ، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير ، وحيث إنّ سلطنة الباري عزّوجلّ تامّة من كافّة الجهات والحيثيات ولا يتصوّر فيها النقص أبداً ، فهو سلطان مطلق وفاعل ما يشاء ، وهذا بخلاف سلطنة العبد ؛ حيث إنها ناقصة بالذات فيستمدّها في كل آن من الغير ، فهو من هذه الناحية مضطرّ فلا اختيار ولا سلطنة له وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحيةأُخرى ، وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته ، وأمّا سلطنته تعالى فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين . .(1) .
ص: 185
من أقوى ما استدلّ به القائلون بالقدم هو :
إنّ المؤثر التامّ في العالم إمّا أن يكون أزليا أو حادثا .
فإن كان أزليّا ؛ لزم قدم العالم لأنّ عند وجود المؤثر التامّ يجب وجود الأثر معه لأنه لو تأخر عنه ثمّ وجد لم يخل إمّا أن يكون لتجدّد أمر أو لا ، والأوّل
يستلزم كون ما فرضناه مؤثرا تامّا ليس بتامّ ، هذا خلف ، والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا لمرجّح لأن اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده - مع حصول المؤثر التامّ - يكون ترجيحاً من غير مرجّح .
وإن كان المؤثر في العالم حادثاً نقلنا الكلام إلى علّة حدوثه ، ويلزم التسلسل والانتهاء إلى المؤثر القديم ، وهو محال لتخلّف الأثر عنه ، وهذا المحال إنما نشأ من فرض حدوث العالم .
وبعبارة أُخرى : إنّ كلّ ما يتوقف عليه الإيجاد إن كان أزلياً كان العالم أزلياً ، وإلاّ لكان حدوثه في وقتٍ دون آخر إن توقف على أمرٍ كان ما فرضناه أزلياً ليس بأزليّ ، وإن كان لا لأمرٍ ترجّح الممكن لا لمرجّح ، وإن كان حادثاً تسلسل .
وقد مرّ هذا الإشكال وجوابه ولكن لمّا كان من أعظم شبهاتهم وقد قرّروها تارة بالبيان السابق ، وأُخرى بهذا التقرير وكان بينهما فرق ما فلا بأس بذكره والجواب عنه هنا حتى ينحسم مادة الشبهة بالمرّة .
والجواب عنها بوجوه :
ص: 186
إنّ المؤثر التام إنما يجب وجود أثره معه لو كان موجباً ، وأمّا إذا كان مختاراً فلا ، لأنّ المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بنفس كونه مختاراً ، فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده لكن المؤثّر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده .
والحاصل : إنا نختار الأوّل ، وقوله : يلزم إيجاد العالم في الأزل . . قلنا : لا نُسلّم ، فإن هذا في حق الموجب أمّا المختار فلا .
إنّ علّة تخصيص إيجاد العالم بوقت دون آخر هو إرادته تعالى ، وبعبارة
أُخرى : إنّ اللّه تعالى أراد ايجاد العالم وقت وجوده ، والإرادة فعل الفاعل المختار
ولاتتوقّف على أيّ شيء سوى كون الفاعل قادراً مختاراً ، فالمخصّص والمرجّح لحدوث العالم هو مشيّته تعالى وإرادته التي تكون فعله وإعمال قدرته وإنفاذ سلطنته التامة .
ولا يخفى أنّ المرجحات أيّاً كانت بجميع أنحائها وأنواعها ، وإن كانت فينهاية التأكّد فهي واقعة في طول القدرة والمالكية . ولا تنفعل القدرة والمالكية بتلك المرجحات ، بل القدرة حاكمة عليها ونافذة في الفعل والترك على حدّ سواء بحسب التكوين قبل الفعل وبعده أيضاً .
فملاك الترجيح في الأمور المترجّحة الوجوديّة وكذلك الفعل ونقيضه ينتهي إلى المالكية الذاتية في مرتبة ذات الفاعل .
وربّنا المالك الماجد القادر القدوس يفعل الأمور الراجحة الحسنة لحسنها فيُحمد عليها
ص: 187
ولا يفعل الأمور المرجوحة لقبحها فيقدّس وينزّه عنها ويختار من المتساويين المترجّحين من جميع الجهات ، ما يختار بمشيته وإرادته وقدره وقضائه وحكمته ، وفي مرتبة فعله إحدهما ، قادر ومختار في إتيان بدله أيضاً .
النقض بالحوادث اليوميّة إذ إنّ هذه الشبهة واردة فيها بشكلٍ أتمّ وأكمل مع أنّها حادثة قطعاً وقد مرّ البحث عنها فيما سبق .
إنّ استحالة أزلية وجود العالم في الأزل مسلّمة ، ولهذا تخلّف وجوده عن وجود اللّه سبحانه وتعالى .
إنّ القبليّة والبعديّة لا تعقل إلاّ مع وجود العالم ، فإذا كان العالم معدوماًاستحال أن يقال : لم خصّص إيجاده بوقت دون وقت فتأمل في الأخيرين .
ص: 188
إن قلت : وجود العالم جود ، فلو كان حادثاً لكان اللّه تعالى تاركاً للجود .
وبعبارة أُخرى : إنه تعالى فيّاض وجواد وهو يقتضي قدم العالم وإلاّ يلزم انقطاع الفيض والجود .
إذا ثبت أنّ وجود العالم في الأزل أمر محال فلا يحق لأحد أن يقول بأنّه تعالى تارك للجود .
لو كان مقصود القائل من كونه تعالى فيّاضاً وجواداً ، هو نفي النّقص من ذاته وصفاته الكماليّة كقدرته وعلمه فذلك أمر مسلّم ولا يلزم منه وجوب إيجاد العالم أزلاً ، لأنّ الإيجاد متوقّف على إرادة اللّه تعالى المستندة إليها الأشياء ، وإنّه تعالى فاعل مختار إن شاء فعل وإن شاء ترك .
ولا يخفى أنّ إرادته تعالى لم تتعلّق أزلاً إلى إيجاد العالم في الأزل لأنها من
ص: 189
صفات الفعل وهي حادثة كما ورد في الأخبار الكثيرة .
وإن كان مقصود القائل أنّه تعالى كامل بالذات وعلّة تامة لإيجاد العالم ، وتخلّف العلة عن المعلول أمر ممتنع ، فقد مرّ جواب ذلك وأثبتنا بطلان هذا المبنى من أساسه .
إنّ الجود فعل ؛ ولا يلزم من ترك الفعل اختياراً نقص الذات .
إنّ المتبادر من لفظ « الجواد » هو أنّ الشخص الجواد هو من لا يبخل عن الجود إذا وجد مقتضيه ، وإن لم يصدر الجود عنه بالفعل مطلقا ،والدليل على أنّ جواديته تعالى لا تتوقّف على الإعطاء والبذل مضافاً إلى المعنى المتبادر منه بعض الأخبار .
* كرواية الصدوق بسنده عن احمد بن سليمان قال : سأل رجل أبا الحسن عليه السلام- وهو في الطواف - فقال له : أخبرني عن الجواد .
فقال له : إنّ لكلامك وجهين : فإن كنت تسأل عن المخلوق ، فإن الجواد الذي يؤدّي ما افترض اللّه عزّوجلّ عليه ، والبخيل من بَخِلَ بما افترض اللّه عليه ، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع ، لأنّه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له وإن منع منع ما ليس له(1) .
إنّ المعنى الذي ذكروه - وهو استلزام وجود الخالق تعالى وجود
ص: 190
العالم رشحاً وفيضاناً بالوجوب الأزلي - لا يكون كمالاً للخالق جلّ وعلا ، بل لا يمكن نسبة نقصان أقبح منه إليه تعالى بل الكمال اللائق بمقام قدسه تعالى هو انفراده ووحدانيّته تعالى بالقدم والأزلية ، فالأزلية من الكمالات الذاتيّة للّه عزّ وجلّ كما ورد في الحديث : كان اللّه ولم يكن معه شيء .
إنّ الذي دعاهم إلى التوجيهات والتأويلات الباطلة في معنى الحدوثوالقدم ، والقول بالزمان الموهوم - الذي ذهب إليه بعض المتكلمين - والحدوث الدهري - الذي اختاره المحقق الداماد - والحدوث الطبعي - أي الثابت بالحركة الجوهرية الذي اختاره صاحب الأسفار - والحدوث الاسمي - الذي اصطلح عليه واختاره السبزواري - هو أمران :
توهّم لزوم انقطاع الفيض الأزلي عن الخالق جلّ وعلا .
استحالة انفكاك العلة عن المعلول .
وقد مرّ الجواب عنهما وقلنا : إنّ الحقّ عدم لزوم المحذورين في الفاعل المختار الذي كانت فاعليته بالمشية والإرادة ، ويكون بذاته المتعالية منزّهاً عن الاتصاف بالزمان والمكان ، والقبل والبعد ، والتوليد والترشيح ، والتطوّر والصدور والإصدار ، والتجلّي والظهور . . وأمثال هذه الصّفات الّتي هي خاصّة بالمخلوقات المحدودة المقداريّة والمتجزيّة ، فلهذا لابد من الالتزام بالحدوث بالمعنى الذي قد مرّ وهو إيجاد العالم بعد أن لم يكن بعديّة حقيقية .
ص: 191
ص: 192
ص: 193
ص: 194
بعد ملاحظة ما ذكرناه من الأخبار عن الأئمة المعصومين عليهم السلام لا عذر لأحد في التشكيك في هذه المسألة المهمّة الّتي كانت من أعظم الأصول الدينية .
ولذا قال العلاّمة الحلي رحمه الله :
من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف ، لأن الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الآخرة حكم باقي الكفار بالإجماع(1) .
وعدّ الشيخ الكبير كاشف الغطاء من أقسام الكافر والمرتدّ القائل بقدم العالم وقدم المجردات(2) وكذا العلامة المجلسي وغيرهم ، وقد ذكرنا ذلك في المقصد الأوّل .
كما أنّ الأخبار التي ذكرناها صريحة في أن اللّه سبحانه متفرّد ومتوحّد بالأزليّة ، ليس مقارناً لوجوده سبحانه شيء ، وكذلك لم يكن شيء في طوله معه أيضاً .
ثمّ إنّه تعالى أحدث واخترع الخلق ، وهذا الاختراع والإحداث لم يكن مسبوقاً بشيءٍ ليكون هذا الشيء مع اللّه سبحانه لأنّ ذلك خلف واضح .
ص: 195
واستشهد تعالى بهذا الإحداث والاختراع والابتداع على تفرّده وتوحّده في الأزلية ، وهذه الأفعال تدلّ وتشهد على إيجاد العالم على نحو الحدوث الحقيقيّ أي المسبوقيّة بالعدم الصّريح .
وهذه الأخبار أيضا تدلّ على بطلان قول القائل بأنّ صدور العالم عن اللّه سبحانه إنّما هو على نحو العلّيّة والمعلوليّة ، وأنّ علمه تعالى علّة لهذا النظام المحدود
من دون فرق بين أوّله وآخره الذي لا منتهى له ، وأنّ هذا النظام الذي افترضوه صدر عن علمه تعالى من دون فرق بين أوّله وآخره . . أي كما أنّ أوّل النظام معلول لعلمه تعالى كذلك آخره أيضاً معلول له بلا فرق بينهما(1) .
ص: 196
منها : أن يكون العالم قديماً بقدمه تعالى ، وهو خلاف البرهان وضرورة الشرايع الإلهية .
ومنها : أن يكون اللّه تعالى موجباً في فعله ، لأنّ صدور الشيء عن العلم صدوراً ضرورياً وامتناع عدم الصدور امتناعاً ذاتياً بحسب الواقع ، هو نفس الالتزام بالإيجاب وكونه تعالى موجَباً وتسمية ذلك بالقدرة في الواقع - في عين إنكار القدرة - تسمية كاذبة ، وتلبيس للحقّ ، وإغفال لضعفاء المحصّلين فإنّ للّه الأمر من قبل ومن بعد .
ومنها : أن تكون الجنايات والخيانات القبيحة كلّها عين فعله تعالى ولا يكون لأحد فعل يسأل عنه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .
ولتوضيح هذا المقال أكثر ممّا ذكرناه فراجع إلى مظانه .
وقال بعض الأعلام رحمه الله في هذا المقام :
والنزاع في ذلك يرجع عند التحليل إلى أنّ المؤثر في إيجاد العالم هل هو اقتداره واستطاعته ومالكيته تعالى للفعل في مرتبة فعليّته ونقيضه وأضداده ، أو هو علمه سبحانه بالنظام الواحد الأصلح فيكون هو السبب الوحيد في فيضان هذا النظام عنه بالإيجاب ، واستحال تخلّفه عنه في الأزل ، وعليه هذه الحوادث المتجدّدة - حسب النظر البدويّ - منطوية ومقدّرة في العلم الأزلي ومستندة إلى أسبق عللها فلابد أن يحدث كل منها في ظرفه وموقعه طبق التقدير الأزلي وليست حادثة بمعناه الحقيقي ، ويستحيل تخلّف هذا عن العلم مع جميع أجزائه وحوادثه وشرائطه ، فإنّ كلّ ما هو معلوم في الأزل في جملة النظام الخير لابدّ أن
ص: 197
يقع وما لم يكن معلوماً فيستحيل وقوعه فقد جفّ القلم بما كان وبما هو كائن إلىالأبد ، وقد فرغ من الأمر .
فعلى هذا يكون القول بحدوث العالم بمعناه الحقيقي ، ونفي الأزليّة بمعنى عدم تأثير الذات في الإيجاد ، التزاماً بالإمكان في ذاته تعالى على زعمهم ، ومن هنا يعلم أنّ عدم التزام القوم بالقدرة فيه تعالى بالمعنى الذي ذكرناه ، إنّما هو لأجل فرارهم عن لزوم الإمكان على زعمهم الفاسد .
وقد صرّحت محكمات الكتاب وقطعيّات السنن على حدوث العالم بمعناه الحقيقي . . أي نفي أزلية ما سواه تعالى وتوحّده سبحانه بالأزليّة لا الحدوث المصطلح عندهم .
وواضح عند أُولي الألباب أنّ نفي ما سواه في الأزل وتفرّده تعالى بالأزليّة ، ليس لأجل الإمكان والنقص في فاعليّة الفاعل والخالق سبحانه ، بل هو لأجل شدّة سلطانه وتمكّنه واستيلائه وعلوّه ، سبحانه من أنّ يتعالى عليه الفعل على رغمه إيجاباً .
ضرورة أنّ تأثير الفاعل في الفعل وصدور الفعل عنه إيجاباً ومتعالياً عليه ليس من كمال الفاعل ، والعلم بصدور الفعل مع إيجاب المشية عليه تعالى غير جابر لتلك النقيصة ، فكم من فرق بين صدور الفعل إيجاباً عليه - وإن كان عالماً به - وبين صدور الفعل عن سلطانه وتمكّنه واقتداره ، فالأول عجز وذلّة وهوان ، والثاني مجد وعزّة وجلال .
وعدم صدور الفعل أيضاً ليس مستندا اِلاّ إلى شدّة سلطانه ونفوذه وتمكّنه ، فوقوع الفعل وعدم وقوعه مستند إلى كمال حقيقيّ وهي القدرة التي هي
ص: 198
عين الذات الأحديّة مثل العلم والحياة وهي المؤثّرة في الوقوع واللاّوقوع بحيثواحد بالحقيقة .
وصريح الكتاب ومذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام هو إنشاؤه تعالى الخلق وإبداؤه مقتدراً على ذلك ومتمكّناً منه ، ولا دليل للصدور الذي ذكروه من محكمات الكتاب وقطعيّات السنن وضرورة العقول القويمة . إنتهى كلامه .
تحصّل من الأدلّة الّتي أثبتنا بها حدوث العالم - بمعنى مسبوقيّة جميع ما سوى اللّه سبحانه بالعدم - سقوط ما استدل به الفلاسفة وأتباعهم وبطلان مبانيهم ومعتقداتهم في ما يلي :
1 - ما ذكروه في باب المبدء ؛من أنّه تعالى بنفس ذاته المتعالية ووجود الأزلي علة تامة لما سواه .
2 - ما قرروه في باب العلم من أنه تعالى فاعل بالعناية ؛ بمعنى أنه يكفي في صدور الأشياء علمه تعالى بها ، كما أنّ من غريب إدّعاءاتهم قولهم بأنّ العلم له شأنيّة العلّيّة لإيجاد الأشياء .
3 - ما نصّوا عليه في باب القدرة والمشية والإرادة من أنها هي العلم لا غير .
4 - ما أثبتوه في باب الحدوث من أن الشيء الحادث المسبوق بالعدم لابد أن يكون مسبوقاً بمادّة أو مدّة .
5 - ما أسسوه في باب التوحيد من أن وجوده تعالى عين وجود خلقه ..(1) اذ لو كانت الموجودات عين الحق ، فلا معنى لمسبوقيتها بالعدم الحقيقي
ص: 199
ص: 200
ص: 201
الصريح كما لا يخفى .
كما أنّ بطلان هذه الأمور الخمسة لا يقتصر على أدلة الحدوث ، بل مع قطع النظر عنها ، فإنّها بنفسها مخالفة للآيات والروايات الكثيرة الّتي قد ورد ذكرها في محلّها .
هذا وإنّ لهؤلاء شبهات واهية أُخرى يظهر جوابها للمتأمّلّ فيما أوردناه من المباحث السالفة ،
ولا نحسب - وأيم اللّه - إنّ ما أدرجناه هنا من بعض أدلة الحدوث ، مع صريح الآيات الكريمة والروايات الشريفة في المقام . . ذو مسكة يشكّ بعد ذاك في
ص: 202
بطلان سفسطة هؤلاء وزيف دعاويهم ، إذ كيف يتأتّي للباحث أن يجتري على مخالفة الكتب السماويّة والأخبار المتواترة النبويّة ، والأحاديث المتظافرة المأثورة عن الأئمّة الهداة الّذين هم معادن الحكمة والوحي والإلهام وبعثهم اللّه لتكميل الأنام .كما أنّ هذه الشبهة هي من الشبهات الّتي قد اعترف مبدعها بضعفها ، وقد صرّح الشيخ وأرسطو : بأنّ هذه المسألة جدليّة الطرفين - أي يمكن الجدل في إثباتها ونفيها - فهم يذعنون بأنّ ماذهبوا إليه ليس حقيقة واضحة .
وأخيراً أقول لإخواني في الدّين : أرجو أن تنظروا إلى هذه المسألة ببصيرة قد طهّرها صاحبها من أدران التعصّب والأهواء ليمكنكم الوصول إلى حقائق أصول الدين ، ولتكونوا على نهج الأنبياء والأوصياء والصدّيقين ، ولينجوا الإنسان من هواه في طريق البحث والوصول إلى المقاصد الدينيّة ، والشؤون العقائديّة .
فعلينا أن نزن أفكارنا بميزان الشرع المبين ، ومقياس الدين المتين ، وما تحقّق صدوره عن الأئمة المعصومين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين لئلاّ نكون من الهالكين .
هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة ، والحمد للّه رب العالمين كثيراً وصلى اللّه على سيدنا ونبيّنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، ولعنة اللّه
على أعدائهم ومخالفيهم أبد الآبدين ودهر الداهرين .
حصل الفراغ عن ذلك في اليوم 21 من شهر رمضان المبارك ،
سن-ة 1421 من هجرة سيّد الأنام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم - قم المقدّسة .
ص: 203