اثبات الرجعة

اشارة

سرشناسه : آل محسن، علی، 1334 -

عنوان و نام پديدآور : اثبات الرجعة [کتاب]/ تالیف علی آل محسن.

زبان: عربی

ناشر: نشر مشعر - تهران - ایران

سال نشر: 1429 هجری قمری

موضوع : محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق. - -- احادیث

موضوع : محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق. - -- غیبت -- احادیث

موضوع : رجعت -- احادیث

موضوع : *Raj'ah -- Hadiths

موضوع : مهدویت-- احادیث

موضوع : Mahdism-- Hadiths

ص :1

اشارة

ص :2

اثبات الرجعة

تالیف علی آل محسن

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

مقدمة

بسم الله الرّحيم الرّحمن الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، محمد و آله الطيبين الطاهرين، و بعد:

فهذه رسالة مختصرة في بيان عقيدة الرجعة، و هي من عقائد الشيعة الإمامية التي كانت محل أخذ ورد و تشنيع من قبل خصومهم.

و هي عقيدة إسلامية دلّت عليها الآيات القرآنية الكثيرة، و أثبتتها الأحاديث الصحيحة، و وقعت مكرّرة في الأمم السالفة، و ورد في صحاح الأخبار أنها ستقع في هذه الأمة.

ص:7

إلا أن بعض علماء المذاهب الإسلامية الأخرى تلقّوا إنكار الرجعة من أسلافهم، فأخذوا هذا الإنكار أخذ المسلّمات، و شنّعوا على من يقول بها من غير تأمل و لا رويّة، فوقعوا في الخطأ الذي وقع فيه أسلافهم.

و نحن في هذه الرسالة الموجزة سنبيّن المراد بالرجعة التي نقول بها، و سنستدل عليها بما ورد في القرآن الكريم و الأحاديث التي وردت في كتب مخالفي الشيعة الإمامية، و كلمات علمائهم المعروفين التي ذكروها في كتبهم المشهورة، سائلين المولى سبحانه أن ينفع بها المؤمنين بمنّه و لطفه و كرمه، إنه سميع مجيب، و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين، و صلى اللّه على محمد و آله الطيبين الطاهرين.

20/6/1429 ه علي آل محسن

ص:8

ما هي الرجعة؟

الاعتقاد بالرجعة هو الاعتقاد بأن أقواما يرجعون في دولة الإمام المهدي عليه السّلام إلى الحياة الدنيا بعد موتهم، و يحيون في هذه الدنيا حياة ثانية إلى أن يموتوا مرة أخرى أو يقتلوا.

و قد دلت الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام أن الذين يرجعون إلى الدنيا هم أئمة الدين، و خلّص المؤمنين الذين محضوا الإيمان محضا، و عتاة الكفار و المنافقين الذين محضوا الكفر و النفاق محضا.

و الحكمة في وقوع الرجعة هي أن اللّه تعالى قد كتب الغلبة في الحياة الدنيا قبل الآخرة له و لأنبيائه و أوليائه، حيث قال في كتابه العزيز: كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [1] (المجادلة: 21)، و قال: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [2] (المائدة: 56).

و حيث إن كثيرا من أنبياء اللّه تعالى و رسله و أوليائه

ص:9

قتلوا و شرّدوا، و وقع لهم من الذل و الهوان و الخوف على يد أعداء الدين ما هو معلوم، و لم يتمكنوا من غلبة أهل الكفر و النفاق في حياتهم إلى أن ماتوا، فإن اللّه سبحانه أراد أن يرجعهم إلى الحياة الدنيا مرة ثانية؛ لتكون لهم الغلبة على أعدائه، و لكي يذيقوا أعداءه ألم الذل و الهوان في الحياة الدنيا قبل يوم القيامة؛ لئلا يبقى في نفوس أوليائه شيء من آثار ما أصابهم في حياتهم الأولى، و ليسعد المؤمنون بالعز و الكرامة في دولة الإمام المهدي المنتظر عجّل اللّه فرجه الشريف، و ليتمتّعوا بظهور الحق، و ذهاب الباطل، و نشر العدل، و انحسار الظلم.

ص:10

رأي الشيعة الإمامية في الرجعة

ذهب علماء الشيعة الإمامية إلى القول بأن الرجعة وقعت في الأمم السالفة، و أنها ستقع أيضا في هذه الأمة في آخر الزمان، و استدلوا على ذلك بطائفة كبيرة من الآيات الشريفة التي سيأتي ذكر بعضها، و بجملة وافرة من الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

قال الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد أعلى اللّه مقامه (ت 413 ه): إن اللّه تعالى يردّ قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز منهم فريقا، و يذل فريقا، و يديل المحقين من المبطلين، و المظلومين منهم من الظالمين، و ذلك عند قيام مهدي آل محمد عليهم السّلام و عليه السلام. و أقول: إن الراجعين إلى الدنيا فريقان: أحدهما: من علت درجته في الإيمان، و كثرت أعماله الصالحات، و خرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه اللّه عزّ و جل دولة الحق، و يعزّه بها، و يعطيه من الدنيا ما كان يتمناه، و الآخر من بلغ الغاية في

ص:11

الفساد، و انتهى في خلاف المحقّين إلى أقصى الغايات، و كثر ظلمه لأولياء اللّه و اقترافه السيئات، فينتصر اللّه تعالى لمن تعدّى عليه قبل الممات، و يشفي غيظهم منه بما يحله من النقمات، ثم يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت، و من بعده إلى النشور و ما يستحقونه من دوام الثواب و العقاب، و قد جاء القرآن بصحة ذلك، و تظاهرت به الأخبار، و الامامية بأجمعها عليه إلا شذاذا منهم، تأوّلوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجه يخالف ما وصفناه. (أوائل المقالات:

88).

و قال السيد علي بن الحسين المرتضى أعلى اللّه مقامه (ت 436 ه): اعلم أن الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه أن اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي عليه السّلام قوما ممن كان قد تقدّم موته من شيعته، ليفوزوا بثواب نصرته و معونته و مشاهدة دولته، و يعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق و علو كلمة أهله. (رسائل المرتضى 1/125).

و قال أمين الإسلام الطبرسي قدّس سرّه (ت 548 ه) في

ص:12

مجمع البيان: و قد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى اللّه عليه و آله في أن اللّه تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدّم موتهم من أوليائه و شيعته؛ ليفوزوا بثواب نصرته و معونته، و يبتهجوا بظهور دولته، و يعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، و ينالوا بعض ما يستحقّونه من العذاب في القتل على أيدي شيعته، و الذل و الخزي بما يشاهدون من علو كلمته. و لا يشك عاقل أن هذا مقدور للّه تعالى غير مستحيل في نفسه، و قد فعل اللّه ذلك في الأمم الخالية، و نطق القرآن بذلك في عدة مواضع، مثل قصة عزير و غيره، على ما فسّرناه في موضعه، و صحّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله قوله: سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه. (مجمع البيان 7/234).

و قال المولى محمد صالح المازندراني قدّس سرّه (ت 1081 ه): و أنت خبير بأن قولهم بإبطال الرجعة باطل؛ إذ لا دليل لهم عقلا و نقلا على بطلانه مع دلالة الآيات و الروايات على وقوعها في هذه الأمة و في الأمم السابقة كما

ص:13

في حكاية عزير و موسى و عيسى عليهم السّلام، و من البين أن الحكم بعدم وجود شيء لا يستحيل وجوده عقلا باعتبار عدم وجدان الدليل على وجوده باطل، فكيف إذا وجد الدليل عليه، و أما عدم احتياج هذه الدولة القاهرة إلى الاستعانة بالموتى فممنوع، و على تقدير التسليم يجوز أن يكون فائدة الرجوع إدخال السرور فيهم، و تشفّي صدورهم من مشاهدة نكال الأعداء، و اكتسابهم الأجر مرتين. (شرح أصول الكافي 11/371).

و كلمات أعلام الشيعة الإمامية في إثبات الرجعة كثيرة جدا، لا حاجة لاستقصائها، و فيما ذكرناه غنى و كفاية.

إلا أن المهم بيانه في المقام هو أن الرجعة و إن قال بها الشيعة الإمامية إلا أنها ليست من أصول مذهبهم، فمن جهل بها لا يخرج بجهله بها عن مذهب الشيعة الإمامية، و إن كان لا يجوز له إنكارها.

و قد سئل المرجع الكبير آية اللّه العظمى الشيخ ميرزا جواد التبريزي قدّس سرّه سؤالا نصّه: ما قولكم في

ص:14

الرجعة؟ و هل يصح عدّها من أصول المذهب؟

فأجاب قدّس سرّه بقوله: ليست من أصول المذهب، و لكنها ثابتة يقينا؛ لورود أخبار معتبرة فيها، و لا يبعد تواترها إجمالا، و اللّه العالم. (صراط النجاة 2/614).

و قد ذكر غير واحد من علماء الطائفة المحقّة قدّس اللّه أسرارهم أن أخبار الرجعة متواترة عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام.

قال الشيخ المجلسي قدّس سرّه: اعلم يا أخي أني لا أظنك ترتاب بعد ما مهّدت و أوضحت لك في القول بالرجعة، التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار، و اشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار، حتى نظموها في أشعارهم، و احتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم، و شنّع المخالفون عليهم في ذلك، و أثبتوه في كتبهم و أسفارهم، منهم الرازي، و النيسابوري، و غيرهما، و قد مرّ كلام ابن أبي الحديد حيث أوضح مذهب الإمامية في ذلك، و لو لا مخافة التطويل من غير طائل لأوردت كثيرا من كلماتهم في ذلك. و كيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة

ص:15

الأطهار عليهم السّلام فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح، رواها نيّف و أربعون من الثقات العظام، و العلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم، كثقة الإسلام الكليني، و الصدوق محمد بن بابويه، و الشيخ أبي جعفر الطوسي، و السيد المرتضى، و النجاشي، و الكشي، و العياشي، و علي بن إبراهيم، و سليم الهلالي، و الشيخ المفيد، و الكراجكي، و النعماني، و الصفار، و سعد بن عبد اللّه، و ابن قولويه، و علي بن عبد الحميد، و السيد علي بن طاووس، و ولده صاحب كتاب زوائد الفوائد، و محمد بن علي بن إبراهيم، و فرات بن إبراهيم، و مؤلف كتاب التنزيل و التحريف، و أبي الفضل الطبرسي، و إبراهيم بن محمد الثقفي، و محمد بن العباس بن مروان، و البرقي، و ابن شهرآشوب، و الحسن بن سليمان، و القطب الراوندي، و العلامة الحلي، و السيد بهاء الدين علي بن عبد الكريم، و أحمد بن داود بن سعيد، و الحسن بن علي بن عبد الكريم، و أحمد بن داود بن سعيد، و الحسن بن علي بن أبي حمزة، و الفضل بن شاذان، و الشيخ الشهيد محمد بن مكي، و الحسين بن حمدان، و الحسن بن محمد بن جمهور العمي مؤلّف كتاب الواحدة، و الحسن بن

ص:16

محبوب، و جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، و طهر بن عبد اللّه، و شاذان بن جبرئيل، و صاحب كتاب الفضائل، و مؤلّف كتاب العتيق، و مؤلف كتاب الخطب، و غيرهم من مؤلّفي الكتب التي عندنا، و لم نعرف مؤلفه على التعيين، و لذا لم ننسب الأخبار إليهم، و إن كان بعضها موجودا فيها. و إذا لم يكن مثل هذا متواترا ففي أي شيء يمكن دعوى التواتر، مع ما روته كافة الشيعة خلفا عن سلف؟ و ظني أن من يشك في أمثالها فهو شاكّ في أئمة الدين، و لا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين، فيحتال في تخريب الملة القويمة، بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين، و تشكيكات الملحدين، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [1] . (بحار الأنوار 53/122).

قلت: إذا كانت أحاديث الرجعة متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام فلا يجوز إنكار أصل الرجعة؛ لأن إنكارها يستلزم حينئذ تكذيب الأئمة الأطهار عليهم السّلام، و تكذيبهم لا يجتمع مع اعتقاد إمامتهم، فيكون مخرجا عن المذهب الحق.

ص:17

و مع ثبوت الرجعة في كتاب اللّه تعالى، و استفاضة الروايات المروية عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام أو تواترها، إلا أنا لا نعلم بتفاصيل ما يجري في ذلك الزمان، و لذلك فنحن نؤمن بها إجمالا، و نثبت ما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، و أما ما دلّت عليه الروايات الضعيفة من تفاصيل الرجعة، فنحن لا ننكره، كما لا نثبته، و علمه عند اللّه سبحانه.

ص:18

رأي علماء أهل السنة في الرجعة

اشارة

أما علماء أهل السنة فإنهم أنكروا القول بالرجعة، بل شنّعوا بها على الشيعة، و جعلوا القول بها من الأمور القبيحة التي عابوا بها جملة من الرواة، أو ضعّفوهم مع أنهم ثقات في أنفسهم، و متحرّزون عن الكذب في مروياتهم.

منهم: جابر بن يزيد الجعفي:

فقد أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن جرير أنه قال: لقيت جابر بن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه، كان يؤمن بالرجعة.

و عن سفيان قال: كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتّهمه الناس في حديثه، و تركه بعض الناس. فقيل له: و ما أظهر؟ قال:

الإيمان بالرجعة. (صحيح مسلم 1/20).

هذا مع أن سفيان الثوري كان يقول: كان جابر ورعا في الحديث، ما رأيت أورع في الحديث من جابر.

(الجرح و التعديل 497/2، 77/1).

ص:19

و قال فيه شعبة: صدوق في الحديث.

و قال أيضا: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذين يقعون في جابر - يعني الجعفي - هل جاءكم عن أحد بشيء لم يلقه؟ (الجرح و التعديل 1/136).

و روى ابن أبي حاتم في الجرح و التعديل عن سفيان أنه قال: إذا قال جابر: «حدثنا» و «أخبرنا» فذاك. و عن يحيى بن أبي كثير قال: كنا عند زهير - يعني ابن معاوية - فذكروا جابرا الجعفي، فقال زهير: كان جابر إذا قال:

«سمعت» أو «سألت» فهو من أصدق الناس. (المصدر السابق 2/497).

و عن وكيع أنه قال: مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا أن جابر بن يزيد أبا محمد الجعفي ثقة. (الجرح و التعديل 2/498).

و منهم: الحارث بن حصيرة:

قال ابن حجر: الحارث بن حصيرة الأزدي، أبو النعمان الكوفي... قال جرير: شيخ طويل السكوت، يصرّ

ص:20

على أمر عظيم. رواها مسلم في مقدمة صحيحه 1/21 عن جرير، و قال أبو أحمد الزبيري: كان يؤمن بالرجعة.

و قال ابن معين: خشبي ثقة، ينسبونه إلى خشبة زيد بن علي التي صلب عليها. و قال النسائي: ثقة. و قال أبو حاتم:

لو لا أن الثوري روى عنه لترك حديثه. و قال ابن عدي:

عامة روايات الكوفيين عنه في فضائل أهل البيت، و إذا روى عنه البصريون فرواياتهم أحاديث متفرقة، و هو أحد من يعدّ من المحترقين بالكوفة في التشيع، و على ضعفه يكتب حديثه. قلت: علق البخاري أثرا لعلي في المزارعة، و هو من رواية هذا، ذكرته في ترجمة عمرو بن صليع. و قال الدارقطني: شيخ للشيعة يغلو في التشيع. و قال الآجري عن أبي داود: شيعي صدوق. و وثّقه العجلي و ابن نمير.

و قال العقيلي: له غير حديث منكر لا يتابع عليه، منها حديث أبي ذر في ابن صياد. و قال الأزدي: زائغ، سألت أبا العباس بن سعيد عنه، فقال: كان مذموم المذهب، أفسدوه. و ذكره ابن حبان في الثقات. (تهذيب التهذيب 2/121).

ص:21

و منهم: أصبغ بن نباتة:

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ق (ابن ماجة) أصبغ بن نباتة التميمي ثم الحنظلي أبو القاسم الكوفي...

قال جرير: كان مغيرة لا يعبأ بحديثه، و قال عمرو بن علي: ما سمعت عبد الرحمن و لا يحيى حدّثا عنه بشيء. و قال يونس بن أبي إسحاق: كان أبي لا يعرض له.

و قال أبو بكر بن عياش: الأصبغ بن نباتة و هيثم من الكذابين.

و قال ابن معين: ليس يساوي حديثه شيئا. و قال أيضا: ليس بثقة. و قال مرة: ليس حديثه بشيء. و قال النسائي: متروك الحديث. و قال مرة: ليس بثقة. و قال ابن أبي حاتم عن أبيه: ليّن الحديث. و قال العقيلي: كان يقول بالرجعة. و قال ابن حبان: فتن بحب علي، فأتى بالطامّات، فاستحق الترك. و قال الدارقطني: منكر الحديث.

و قال ابن عدي: عامة ما يرويه عن علي لا يتابعه أحد عليه، و هو بيّن الضعف. ثم قال: و إذا حدّث عنه ثقة فهو عندي لا بأس بروايته، و إنما أتى الإنكار من جهة من

ص:22

روى عنه. و قال العجلي: كوفي تابعي ثقة. (تهذيب التهذيب 316/1).

و منهم: داود بن يزيد الأودي:

قال ابن حبان: داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الزعافري، من أهل الكوفة، كنيته أبو يزيد، و هو عم عبد اللّه بن إدريس، يروي عن أبيه و الشعبي، روى عنه وكيع و المكي، مات سنة إحدى و خمسين و مائة، و كان ممن يقول بالرجعة، و كان الشعبي يقول له و لجابر الجعفي: لو كان لي عليكما سلطان، ثم لم أجد إلا إبرة لشبكتكما، ثم غللتكما بها. (كتاب المجروحين 1/289).

و غير هؤلاء ممن عابهم القوم لقولهم بالرجعة أو ضعّفوهم لذلك كثير، يعثر عليهم المتتبّع في كتب الرجال المعروفة، و فيما ذكرناه كفاية.

ص:23

إمكان الرجعة عند العقل

لقد تطابقت كلمة المسلمين على أن اللّه جلّت قدرته يبعث الأموات يوم القيامة بصورهم و أجسادهم، و يعيدهم إلى الحياة؛ ليجزي المحسن بإحسانه، و يعاقب المسيء على إساءته.

و اتفقوا على أن منكر ذلك كافر؛ لأن القول بالمعاد مما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قطعا، و نصّت عليه آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

و اتفقوا على أن الإعادة من بعد الموت ليست بمحال عقلا، بل هي أمر ممكن لا مانع من وقوعها إذا اقتضتها الحكمة الإلهية، و تعلقت بها القدرة الربانية؛ و ذلك لأن اللّه سبحانه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء، و لا يمتنع عليه ممكن.

و عليه فلا مانع أيضا عند العقل من وقوع هذا النوع من بعث الأموات قبل يوم القيامة بقدرة اللّه تعالى، فيبعث أقوام من الناس من بعد موتهم إلى الحياة الدنيا إذا

ص:24

اقتضت الحكمة الإلهية ذلك.

بل عند التأمل نقول: إن إمكان وقوع مثل ذلك يكون بالأولوية القطعية، باعتبار أن هذه الرجعة خاصة بأقوام مخصوصين، و أنها في الحياة الدنيا، و قد وقع نظائرها في الأزمنة السالفة، بخلاف البعث يوم القيامة، فإنه عام لجميع الناس، و لم يقع مثله.

و هذا كله واضح لا إشكال فيه، و إنكاره عناد و مكابرة واضحة.

إلا أن الكلام في ثبوت ذلك بالدليل الصحيح؛ لأن الإمكان أعم من الوقوع، فكم من أمر ممكن لم يقع.

و عليه، فإن تمّ الدليل على الرجعة وجب القول بها من غير مبالاة بمن شنّع على القائل بها، و إلا لزم إنكارها و ردّها؛ لعدم قيام دليل صحيح عليها، لا لوجود إشكال فيها في نفسها.

ص:25

الآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في الأمم السالفة

الآيات القرآنية الدالة على الرجعة كثيرة، و لنا أن نقسم هذه الآيات إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: هي الآيات الدالة على وقوع الرجعة في الأمم السالفة.

و الطائفة الثانية: هي الآيات الدالة على وقوع الرجعة في آخر الزمان.

أما الطائفة الأولى فمنها: قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ [1] . (سورة البقرة: 243).

و هذه الآية المباركة تدل بوضوح على أن جماعة يعدّون بالألوف، خرجوا من ديارهم، فأماتهم اللّه سبحانه، ثم أرجعهم إلى الحياة الدنيا مرة ثانية، و هذه هي الرجعة

ص:26

التي نقول بها.

قال ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل، استوخموا أرضهم(1) ، و أصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فرارا من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا واديا أفيح(2) ، فملؤوا ما بين عدوتيه(3) ، فأرسل اللّه إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي، و الآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر، و بني عليهم جدران، و فنوا، و تمزّقوا، و تفرّقوا، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل، فسأل اللّه أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، و أمره أن يقول: «أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك أن تجتمعي»، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى:

«أيتها العظام إن اللّه يأمرك بأن تكتسي لحما و عصبا

ص:27


1- أي وجدوها ثقيلة، لم يوافق هواؤها أبدانهم.
2- أفيح: أي واسع.
3- أي ملؤوا ما بين جانبيه.

و جلدا»، فكان ذلك و هو يشاهده، ثم أمره فنادى: «أيتها الأرواح إن اللّه يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره»، فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم اللّه بعد رقدتهم الطويلة، و هم يقولون: «سبحانك لا إله إلا أنت».

و كان في إحيائهم عبرة و دليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة. (تفسير القرآن العظيم 1/298).

و منها: قوله سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [1] . (سورة البقرة:

259).

قال ابن كثير في تفسيره: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [2] اختلفوا في هذا المارّ من هو، فروى ابن

ص:28

أبي حاتم... عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير. و رواه ابن جرير عن ناجية نفسه، و حكاه ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس و الحسن و قتادة و السدي و سليمان بن بريدة، و هذا القول هو المشهور...

إلى أن قال: و أما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مرّ عليها بعد تخريب بختنصر لها و قتل أهلها، وَ هِيَ خاوِيَةٌ [1] أي ليس فيها أحد... فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، و قال: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها [2] ، و ذلك لما رأى من دثورها، و شدة خرابها، و بعدها عن العود إلى ما كانت عليه. قال اللّه تعالى:

فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [3] ، قال: و عمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، و تكامل ساكنوها، و تراجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه اللّه عزّ و جل بعد موته، كان أول شيء أحيا اللّه فيه عينيه، لينظر بهما إلى صنع اللّه فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويا قال اللّه له - أي بواسطة الملك:

كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [4] . قال: و ذلك أنه

ص:29

مات أول النهار، ثم بعثه اللّه في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: أو بعض يوم.

قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [1] ، و ذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب و تين و عصير، فوجده كما تقدم لم يتغيّر منه شيء، لا العصير استحال، و لا التين حمض و لا أنتن، و لا العنب نقص. وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ [2] ، أي كيف يحييه اللّه عزّ و جل و أنت تنظر، وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ [3] أي دليلا على المعاد. (تفسير القرآن العظيم 1/314).

و قال الطبري في تفسيره: لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، و إنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة اللّه على إحيائه خلقه بعد مماتهم، و إعادتهم بعد فنائهم، و أنه الذي بيده الحياة و الموت، من قريش و من كان يكذّب بذلك من سائر العرب. (تفسير الطبري 3/29).

و منها: قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [4] . (سورة البقرة: 72، 73).

ص:30

و منها: قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [1] . (سورة البقرة: 72، 73).

قال ابن كثير في تفسيره: عن عكرمة: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها [2] فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان.

قال ابن أبي حاتم: و روي عن مجاهد و قتادة و عكرمة نحو ذلك. و قال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش فسألوه فقال: قتلني ابن أخي. و قال أبو العالية:

أمرهم موسى عليه السّلام أن يأخذوا عظما من عظامها فيضربوا به القتيل، ففعلوا فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان... و قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى [3] أي فضربوه فحيي، و نبّه تعالى على قدرته و إحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك و تعالى ذلك الصنيع حجّة لهم على المعاد، و فاصلا ما كان بينهم من الخصومة و العناد. (تفسير القرآن العظيم 1/112).

قلت: و كذلك جعل اللّه جلّت قدرته هذه الواقعة حجّة للقائلين بالرجعة، و بيانا للخلق بأن اللّه سبحانه إذا

ص:

أراد شيئا أوجده بأيسر الأسباب.

و منها: قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [1] . (سورة البقرة:

55، 56).

قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [2] أي أحييناكم. قال قتادة: ماتوا و ذهبت أرواحهم، ثم ردّوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس: و هذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، و احتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا، و المعنى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [3] ما فعل بكم من البعث بعد الموت. و قيل: ماتوا موت همود يعتبر به الغير، ثم أرسلوا. (تفسير القرطبي 1/404).

و قال الطبري: يعني بقوله: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ [4] ثم أحييناكم. (تفسير الطبري 1/230).

و قال: و يعني بقوله: مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [5] من بعد

ص:32

موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم. (المصدر السابق 1/231).

أقول: هذه الآيات و غيرها دالّة بوضوح على تحقق رجعة أقوام في وقائع مختلفة إلى الحياة الدنيا بعد الموت، و لم نجد في ذلك خلافا بين المسلمين، و لذلك تطابقت كلمات المفسّرين و غيرهم على رجعة من ذكرتهم الآيات الشريفة.

و هناك آيات أخر كثيرة في كتاب اللّه دلّت على رجوع أقوام آخرين بعد موتهم، و ما ذكرناه كاف في بيان المراد.

ص:33

الآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في آخر الزمان

و أما الطائفة الثانية من آيات الكتاب العزيز فقد دلّت على أن أقواما في آخر الزمان سيرجعون إلى الحياة الدنيا من بعد موتهم لحكمة أرادها اللّه سبحانه، و هي آيات كثيرة:

منها: قوله تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ [1] . (سورة النمل: 83).

فإن الحشر هو البعث إلى الحياة من بعد الموت، و الفوج هو الزمرة و الجماعة، و الآية دالة بوضوح على أن اللّه سيحشر من كل أمة جماعة من المكذّبين بآيات اللّه، و لا ريب في أنه لا يراد بهذا الحشر البعث العام لجميع الخلائق يوم القيامة؛ لأن البعث يوم القيامة لا يكون خاصا بفوج دون فوج، بل هو عام لجميع الناس كما قال جل شأنه: وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [2] . (سورة الكهف: 47).

ص:34

فلا بد أن يكون هذا الحشر الخاص واقعا في الحياة الدنيا و قبل الحشر العام، و هذا هو المراد بالرجعة.

و في صحيحة حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما يقول الناس في هذه الآية: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [1] ؟ قلت: يقولون إنها في القيامة. قال: ليس كما يقولون، إن ذلك في الرجعة، أ يحشر اللّه في القيامة من كل أمّة فوجا و يدع الباقين؟ إنما آية القيامة قوله: وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [2] . (تفسير القمي 2/130).

فهذه الآية واضحة الدلالة على ذلك، إلا أنه لما كان معناها يتنافى مع عقيدة أهل السنة في إنكار الرجعة، فإن بعض مفسّري أهل السنة فرّوا من بيانها، مكتفين من الآية ببيان معنى (الفوج) و (يوزعون) كما صنع الطبري و القرطبي و الواحدي في تفاسيرهم، و السيوطي في الدر المنثور، و ابن الجوزي في زاد المسير، و غيرهم(1).

و آخرون منهم ذكروا أن المراد بهذا الحشر هو الحشر

ص:35


1- تفسير الطبري 20/12. الدر المنثور 6/384. تفسير القرطبي 13/238. زاد المسير 6/194. تفسير الواحدي 2/810.

للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق. (فيض القدير 4/154).

و هذا تكلّف واضح، بل هو خلاف ظاهر الآية، فإن الآية أثبتت حشرا خاصا بأفواج من المكذّبين، و لم تثبت أن هذا الحشر وقع قبله حشر عام آخر، و لو كان الأمر كذلك لما كان وجه لتخصيص هؤلاء بالحشر و قد حشروا في جملة غيرهم، ثم لا أدري كيف يحشر هؤلاء المكذبون مرة ثانية بعد الحشر الأول العام لجميع الخلائق، و الحال أن حشر عامة المكذبين يكون للعذاب، فلم خصّ هؤلاء بالحشر دون غيرهم من المكذبين؟!

فهذه الآية واضحة الدلالة على ثبوت الرجعة في آخر الزمان لجماعة من المكذّبين، و هو معنى لا يقول به منكرو الرجعة، و صرف الآية المباركة عن هذا المعنى تحريف لآيات الكتاب العزيز، ورد لدلالاتها بالأهواء و الظنون و الخيالات.

و منها: قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ [1] .

ص:36

و منها: قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ [1] .

(سورة آل عمران: 81).

فإن أخذ الميثاق من النبيين بالإيمان بالنبي صلى اللّه عليه و آله و بنصرته بهذا التأكيد الشديد(1) ، المستتبع بأخذ الإقرار منهم، و الشهادة منهم و معهم، يظهر بوضوح أن المراد بالنصرة هي النصرة التي يرجى وقوعها منهم في الرجعة، لا مجرد أخذ الميثاق على نصرته صلى اللّه عليه و آله لو أدركه الأنبياء حيّا كما ذكره ابن كثير في تفسيره و غيره، فإن مجرّد ذلك لا يستدعي كل هذا التأكيد و أخذ الميثاق منهم، خصوصا مع علم اللّه سبحانه بعدم إدراكهم زمانه، و عدم تحقّق النصرة منهم له، فإن صدور مثل ذلك من العالم بعدم وقوعه يعد

ص:


1- فإن الآية اشتملت على عدة مؤكدات: منها: أن في قوله تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ ستة مؤكدات: القسمين و اللامين و النونين. و منها: أخذ الإقرار منهم، و تقريرهم بقبول عهد اللّه. و منها: أمرهم بالشهادة. و منها: الشهادة معهم.

عند العرف عبثا و لغوا، بل فعلا مستهجنا معيبا، لا يمكن صدوره من الحكيم جل شأنه، و هذا واضح جلي.

و منها: قوله تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [1] . (سورة الأنبياء: 95).

قال عكرمة: لم يكن ليرجع منهم راجع، حرام عليهم ذلك. (تفسير الطبري 17/69).

أي يمتنع على أية قرية أهلكها اللّه بالعذاب أن يرجعوا.

و ظاهر الآية أن المراد بالرجوع هو رجوعهم إلى الحياة الدنيا، بقرينة المقابلة مع الإهلاك الواقع في الدنيا، و بدليل أن القرى المهلكة ترجع يوم الحشر، ففي الآية حينئذ إشارة إلى أن القرى التي لم يهلكها اللّه سبحانه بالعذاب، بل جاءها الموت بأسبابه الطبيعية، لا يمتنع رجوع أهلها إلى الدنيا، و في هذا إثبات للرجعة، و لو لا ذلك لما كان في هذا الإخبار أية فائدة، لأنّا إذا لم نقل بالرجعة فكل من فارق الدنيا - بهلاك أو بغيره - لا يرجع

ص:38

إليها، فلا وجه حينئذ لتخصيص القرى التي أهلكها اللّه بعدم الرجوع إلى الدنيا.

و أما إن قلنا: إن المراد هو رجوعهم عن كفرهم، ليكون معنى الآية: و يمتنع على أية قرية أهلكناها أن يرجعوا عن كفرهم، فهو معنى غير صحيح و إن كان مرويّا عن ابن عباس، و عكرمة، و مال إليه الطبري في تفسيره؛ لأن معنى الآية حينئذ لا يكون مفيدا، فإن كل قرية أهلك اللّه أهلها لا يمكن لهم أن يرجعوا عن كفرهم و يتوبوا بعد موتهم، إذ لا توبة بعد الموت كما هو معلوم.

أو يكون معناها: و يمتنع على أية قرية أردنا إهلاك أهلها أن يرجعوا عن كفرهم.

و هذا المعنى و إن كان غير ممتنع، إلا أن حمل الإهلاك على إرادة الإهلاك خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه إلا بقرينة، و لا قرينة في البين.

و عليه فلا مناص من حمل الآية على الرجعة إلى الدنيا، و أما في الآخرة فكل الناس يرجعون إلى الحياة الدائمة، من أهلكهم اللّه و من لم يهلكهم، و لا فرق بينهم

ص:39

في ذلك.

و بهذا الذي قلناه ورد التفسير عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فقد أخرج الطبري في تفسيره بسنده عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عن الرجعة، فقرأ هذه الآية وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [1] .

قال الطبري: فكأن أبا جعفر وجّه تأويل ذلك إلى أنه و حرام على أهل قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا.

(تفسير الطبري 17/69).

و عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: كل قرية أهلك اللّه أهلها بالعذاب، و محضوا الكفر محضا، لا يرجعون في الرجعة، و أما في القيامة فيرجعون، أما غيرهم ممن لم يهلكوا بالعذاب و محضوا الكفر محضا يرجعون. (تفسير القمي 2/75).

و إلى هذا ذهب بعض المفسّرين أيضا:

منهم: الجبائي، فإنه قال: معناه و حرام على قرية أهلكناها عقوبة لهم أن يرجعوا إلى دار الدنيا. (التبيان في

ص:40

تفسير القرآن 7/278).

و قيلت في هذه الآية وجوه من التفسير لا تعدو كونها مجرد تخرّصات أو تكلّفات لا قيمة لها.

و منها: قوله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [1] . (سورة غافر: 11).

بتقريب أن هؤلاء القائلين أقرّوا على أنفسهم بأنهم ماتوا مرتين و أحيوا مرتين: أما الحياة الأولى فهي حياتهم الأولى بعد الولادة، و هذه الحياة أعقبها موت، ثم حصلت لهم حياة أخرى في الرجعة بعد موتهم الأول، ثم حصل لهم موت آخر بعد الحياة الثانية.

هذا ما ينبغي أن تحمل عليه الآية الشريفة، و كل ما قالوه خلاف ذلك فهو لا يخلو عن إشكال.

أما ما قاله السدي و اختاره الجبائي و البلخي من أن الإماتة الأولى في الدنيا، و الثانية في البرزخ إذا أحيي للمسألة قبل البعث يوم القيامة.

ص:41

فيرد عليه أن الحياة في البرزخ للمساءلة ليست مرادة لهؤلاء القائلين، فإنها لا عمل فيها، و لا يكتسب فيها المرء ثوابا و لا إثما، مع أن الآية تدل على أنهم قد ارتكبوا في كلا الحياتين آثاما اعترفوا بها، و لهذا قالوا: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا [1] ، يعني بما ارتكبناه من الإثم في هاتين الحياتين، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [2] ، أي فهل ثمة سبيل إلى رجوع ثالث للحياة الدنيا، لعلنا نتدارك بعض ما فاتنا من الطاعة.

و قال قتادة: الإماتة الأولى حال كونهم نطفا، فأحياهم اللّه، ثم يميتهم، ثم يحييهم يوم القيامة.

و مراده أن الناس حال كونهم نطفا كانوا موتى، فهذا هو الموت الأول، ثم لما تكامل خلقهم حصلت لهم الحياة الأولى، ثم حصلت لهم الإماتة الثانية، ثم لما بعثهم اللّه يوم القيامة حصلت لهم الحياة الثانية.

و هذا فيه من التكلّف ما لا يخفى، فإن النطفة لو صحّ أن توصف حينئذ بأنها ميتة، لما صحّ توصيفها بأنها

ص:42

مماتة، فإن الإماتة لا بد في تحقّقها من سبق الحياة، فلا يمكن إماتة الميت؛ لأن ذلك من تحصيل الحاصل الذي هو محال، مع أن الآية نصّت على حصول إماتتهم مرتين لا على تحقق موتهم.

و لهذا وصف اللّه سبحانه و تعالى الناس قبل بدء حياتهم بأنهم أموات، و أن إماتتهم إنما تقع بعد تحقق حياتهم، فقال عزّ من قائل: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [1] . (سورة البقرة: 28).

و منها: قوله تعالى: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [2] . (سورة غافر: 51).

بتقريب أن اللّه سبحانه أخبر أنه ينصر رسله و المؤمنين في الحياة الدنيا و في الآخرة، و أكّد ذلك بأكثر من مؤكّد، مع أن كثيرا من الرسل لم ينصروا حال حياتهم، بل بعضهم قتلهم أقوامهم، و بعض آخرون فرّوا خوفا من أعدائهم، كما أخبر اللّه سبحانه في كتابه العزيز، فلا مناص

ص:43

من كون تلك النصرة في آخر الزمان، حينما يظهر الإمام المهدي المنتظر عليه السّلام، و ينزل عيسى بن مريم عليه السّلام من السماء، و يعز اللّه أولياءه المؤمنين بنصره.

و في الخبر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [1] ، قال: ذلك و اللّه في الرجعة، أما علمت أن أنبياء كثيرة لم ينصروا في الدنيا و قتلوا، و الأئمة بعدهم قتلوا و لم ينصروا، ذلك في الرجعة. (تفسير القمي 2/258).

و مثل هذه الآية قوله تعالى: كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [2] . (سورة المجادلة: 21).

و قد أورد الطبري في تفسيره على هذه الآية سؤالا، فقال: ما معنى إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [3] و قد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، و مثّلوا به كشعياء و يحيى بن زكريا و أشباههما، و منهم من همّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم، حتى فارقهم

ص:44

ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، و عيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله و المؤمنين به في الحياة الدنيا؟

ثم أجاب عن ذلك بجوابين:

و حاصل الأول أن النصرة إما أن تكون بإعلاء اللّه أنبياءه على أعدائه، و تمكينهم من الظفر بهم حتى يقهروهم و يذلّوهم، كما حصل لداود و سليمان، فأعطاهما من الملك و السلطان ما قهرا به كل كافر، و لمحمد صلى اللّه عليه و آله و سلم بإظهاره على من كذّبه من قومه.

و إما أن تكون النصرة بالانتقام ممن حادّهم و شاقّهم بإهلاكهم، و إنجاء الرسل ممن كذّبهم و عاداهم، كما صنع بنوح عليه السّلام و قومه من تغريق قومه و إنجائه منهم، و كما صنع بموسى و فرعون و قومه إذ أهلكهم غرقا، و نجا موسى و من آمن به من بني إسرائيل و نحو ذلك.

و إما أن تكون النصرة بالانتقام في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة الرسل، كنصرة شعياء بعد وفاته

ص:45

بتسليط من سلطهم اللّه على قتلته، و كتسليط بختنصر على قتلة يحيى بن زكريا، و كنصرة عيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكهم اللّه بهم. (تفسير الطبري 24/48).

و روى عن السدي أنه أجاب عن ذلك بجوابين أيضا:

أحدهما: الجواب الأخير للطبري المتقدم ذكره.

و الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن جميع الرسل و المؤمنين و المراد به واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ إنّا لننصر رسولنا محمدا صلى اللّه عليه و سلم و الذين آمنوا به في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد، فإن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع و المراد واحد. (تفسير الطبري 24/49).

و يرد على ما قاله الطبري أن نصرة بعض الرسل و المؤمنين في الحياة الدنيا - و هم القلة القليلة - بالتمكين و القهر لأعدائهم، أو بإنجائهم و إهلاك أعدائهم، و إن كانت نصرة حقيقية، إلا أن ذلك خلاف ظاهر الآية، فإن الظاهر منها أن اللّه سبحانه ينصر جميع الرسل و المؤمنين في الحياة الدنيا، أو أكثرهم، لا القلة القليلة منهم.

ص:46

نعم، إطلاق لفظ الكل أو الجمع و إرادة البعض أو الواحد و إن كان جائزا في اللغة على نحو المجاز، إلا أنه يحتاج إلى قرينة دالة عليه، و لا قرينة في البين على ذلك، فلا يمكن حمل الكلام عليه حينئذ.

كما أن حمل لفظ (لننصر) على الانتصار لهم و لو بعد الموت خلاف ظاهر اللفظ، و حمل له على المجاز بلا قرينة، و هذا لا يصح في لغة العرب كما هو معلوم.

مضافا إلى أنه ليس كل الرسل و المؤمنين انتصر اللّه لهم في الحياة الدنيا كما لا يخفى على من تدبّر الحوادث الجارية و الوقائع السالفة.

و يرد على ما قاله السدي أن حمل لفظ (رسلنا و رسلي) على الواحد لو جاز في لغة العرب فإنه خلاف الظاهر من اللفظ، و حمل له على المجاز، و هو يحتاج إلى قرينة، و لا قرينة على ذلك كما مرّ.

و عليه فلا مناص من حمل ألفاظ الآيتين على معانيها الحقيقية، فيكون المراد ب (رسلنا و رسلي) كافة الرسل، و المراد ب (ننصر) هو النصرة الحقيقية حال حياتهم لا بعد

ص:47

وفاتهم، و ذلك إنما يتحقق في الرجعة ليس غير.

و في كتاب اللّه العزيز آيات أخر كثيرة دالة على وقوع الرجعة في آخر الزمان، و فيما ذكرناه كفاية.

ص:48

أحاديث الرجعة في كتب الشيعة الإمامية

لقد ذكرنا فيما تقدّم أن الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام مستفيضة إن لم تكن متواترة، و عليه فذكرها يستلزم إطالة الكتاب، و نحن سنقتصر على ذكر بعض منها.

فقد روى الصدوق قدّس سرّه في كتابه (من لا يحضره الفقيه)، عن إمامنا الصادق قال: ليس منا من لم يؤمن بكرّتنا، و يستحل متعتنا. (من لا يحضره الفقيه 3/299).

و الإيمان بالكرّة هو الإيمان بالرجعة.

و منها: صحيحة مثنى الحنّاط، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: أيام اللّه عزّ و جل ثلاثة: يوم يقوم القائم، و يوم الكرّة، و يوم القيامة. (الخصال: 108).

و منها: ما رواه الشيخ الصدوق قدّس سرّه في عيون أخبار الرضا في حديث طويل جاء فيه: فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة؟ فقال الرضا عليه السّلام: إنها لحق، قد

ص:49

كانت في الأمم السالفة، و نطق به القرآن، و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة. (عيون أخبار الرضا 1/217).

و منها: صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: قول اللّه عز و جل: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [1] (غافر:

51)، قال: ذلك و اللّه في الرجعة، أما علمت أن أنبياء اللّه كثيرا لم ينصروا في الدنيا، و قتلوا، و أئمة قد قتلوا و لم ينصروا؟ فذلك في الرجعة. قلت: وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [2] (ق: 41-42)، قال: هي الرجعة. (مختصر البصائر: 18).

و منها: صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: سمعته يقول: في الرجعة من مات من المؤمنين قتل، و من قتل منهم مات. (مختصر البصائر: 19).

قلت: أي أن من مات في حياته الأولى فإنه يقتل في

ص:50

الرجعة، و من قتل في حياته الأولى فإنه يموت في الرجعة.

و منها: صحيحة أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً [1] (الإسراء: 72)، قال: في الرجعة. (مختصر البصائر: 20).

قلت: أي أن من كان في حياته الأولى ضالاّ عن الهدى فهو في الرجعة كذلك.

و منها: صحيحة المعلى بن خنيس، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: أول من يرجع إلى الدنيا الحسين بن علي عليهما السّلام، فيملك حتى يسقط حاجباه على عينيه من الكبر. قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [2] (القصص: 85)، قال:

نبيّكم صلى اللّه عليه و آله راجع إليكم. (مختصر البصائر: 28).

و منها: صحيحة حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قلت له: كان في بني إسرائيل شيء لا يكون ههنا مثله؟ فقال: لا. فقلت: فحدثني عن قول اللّه عزّ و جل:

ص:51

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [1] ، حتى نظر الناس إليهم، ثم أماتهم من يومهم، أو ردّهم إلى الدنيا؟ فقال: بل ردّهم إلى الدنيا، حتى سكنوا الدور، و أكلوا الطعام، و نكحوا النساء، و لبثوا بذلك ما شاء اللّه، ثم ماتوا بالآجال.

(مختصر البصائر: 23).

و منها: صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت حمران بن أعين و أبا الخطاب يحدثان جميعا قبل أن يحدث أبو الخطاب ما أحدث، أنهما سمعا أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

أول من تنشق الأرض عنه، و يرجع إلى الدنيا: الحسين بن علي عليهما السّلام، و إن الرجعة ليست بعامة، و هي خاصة، لا يرجع إلا من محض الإيمان محضا، أو محض الشرك محضا. (مختصر البصائر: 24).

و منها: صحيحة بكير بن أعين، قال: قال لي من لا أشك فيه يعني أبا جعفر عليه السّلام: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و عليّا عليه السّلام سيرجعان. (مختصر البصائر: 24).

و منها: صحيحة أبي بصير، قال: قال لي أبو جعفر

ص:52

عليه السّلام: ينكر أهل العراق الرجعة؟ قلت: نعم. قال: أما يقرؤون القرآن: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [1] الآية؟ (مختصر البصائر: 25).

و الأحاديث في ذلك كثيرة، و فيما ذكرناه كفاية.

ص:53

أحاديث الرجعة في كتب أهل السنة

اشارة

عند ما نطالع ما كتبه علماء أهل السنة في كتبهم المشهورة نجد أنهم يروون أحاديث و آثارا دالة على الرجعة غير ما سبق ذكره في تفسير آيات الرجعة.

و هي تنقسم إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: الأحاديث و الآثار الدالة على وقوع الرجعة في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله.

و منها: ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن الشعبي أن رجلا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمعة معه، حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، قال ذلك مرارا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ذاك أبو جهل بن هشام، يعذّب إلى يوم القيامة. (دلائل النبوة 3/89. البداية و النهاية 3/290).

و منها: ما أخرجه ابن أبي الدنيا بسنده عن سالم بن عبد اللّه، عن أبيه، قال: خرجت مرة لسفر، فمررت بقبر

ص:54

من قبور الجاهلية، فإذا رجل قد خرج من القبر يتأجّج نارا، في عنقه سلسلة من نار، و معي إداوة(1) من ماء، فلما رآني قال: يا عبد اللّه، اسقني. قال: فقلت: عرفني فدعاني باسمي، أو كلمة تقولها العرب: يا عبد اللّه، إذ خرج على أثره رجل من القبر، فقال: يا عبد اللّه لا تسقه؛ فإنه كافر.

ثم أخذ السلسلة فاجتذبه و أدخله القبر، قال: ثم أضافني الليل إلى بيت عجوز، إلى جانب بيتها قبر، فسمعت من القبر صوتا يقول: بول و ما بول، شنّ(2) و ما شنّ. فقلت للعجوز: ما هذا؟ قالت: كان هذا زوجا لي، و كان إذا بال لم يتّق البول، و كنت أقول له: ويحك إن الجمل إذا بال تفاج(3). فكان يأبى، فهو ينادي منذ يوم مات: بول و ما بول. قلت: فما الشن؟ قالت: جاءه رجل عطشان، فقال:

اسقني. فقال: دونك الشن. فإذا ليس فيه شيء، فخرّ الرجل ميتا، فهو ينادي منذ يوم مات: شن و ما شن. فلما قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخبرته، فنهى أن يسافر الرجل

ص:55


1- الإداوة: إناء صغير من جلد.
2- الشّن: القربة الخلق الصغيرة.
3- تفاجّ: أي فرّج ما بين رجليه كي لا يصيبه البول.

وحده. (من عاش بعد الموت: 32).

و الطائفة الثانية: الأحاديث و الآثار الدالة على وقوع الرجعة بعد زمان النبي صلى اللّه عليه و آله، و منها ما يلي:

1 - رجوع بعض صحابة النبي صلى اللّه عليه و آله إلى الدنيا:

اشارة

فقد اشتهر بينهم أن بعض صحابة النبي صلى اللّه عليه و آله رجعوا إلى الحياة بعد الموت، و أنهم تكلّموا بما يثبت مذهبهم من تقديم أبي بكر و عمر على غيرهما:

منهم: زيد بن خارجة:

فقد أخرج البيهقي بسنده عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري، ثم من بني الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عفان، فسجّي بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم ثم قال:

أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق، الضعيف في نفسه، القوي في أمر اللّه، في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب، القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على

ص:56

منهاجهم، مضت أربع، و بقيت اثنتان أتت بالفتن، و أكل الشديد الضعيف، و قامت الساعة، و سيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، و ما بئر أريس.

قال يحيى: قال سعيد: ثم هلك رجل من بني خطمة فسجّي بثوبه، فسمع جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج صدق صدق.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، و له شواهد.

(دلائل النبوة للبيهقي 55/6).

و أخرج البيهقي في دلائل النبوة، و أبو بكر عبد اللّه بن أبي الدنيا في كتاب (من عاش بعد الموت) بسنده عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان بن بشير - يعني إلى أمه -: بسم اللّه الرحمن الرحيم من النعمان بن بشير إلى أم عبد اللّه بنت أبي هاشم، سلام عليك، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو، فإنك كتبت إليّ لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، و أنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، و هو يومئذ من أصح أهل

ص:57

المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى و صلاة العصر، فأضجعناه لظهره، و غشيناه ببردين و كساء، فأتاني آت في مقامي، و أنا أسبح بعد العصر، فقال: إن زيدا قد تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسرعا، و قد حضره قوم من الأنصار، و هو يقول أو يقال على لسانه: الأوسط أجلد القوم، الذي كان لا يبالي في اللّه لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد اللّه أمير المؤمنين، صدق صدق، كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قال: عثمان أمير المؤمنين و هو يعافي الناس من ذنوب كثيرة، خلت اثنتان و بقي أربع، ثم اختلف الناس و أكل بعضهم بعضا، فلا نظام، و أبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنون. و قال: كتاب اللّه و قدره، أيها الناس أقبلوا على أميركم و اسمعوا و أطيعوا، فمن تولى فلا يعهدن دما، و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، اللّه أكبر هذه الجنة و هذه النار، و يقولن النبيون و الصديقون: سلام عليكم، يا عبد اللّه بن رواحة هل أحسست لي خارجة لأبيه، و سعدا اللذين قتلا يوم أحد؟ كَلاّ إِنَّها لَظى (15) نَزّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى [1] . ثم خفت صوته، فسألت

ص:58

الرهط عما سبقني من كلامه، فقالوا: سمعناه يقول:

أنصتوا أنصتوا. فنظر بعضنا إلى بعض، فإذا الصوت من تحت الثياب، قال: فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول اللّه، سلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته.

ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين خليفة رسول اللّه، كان ضعيفا في جسمه، قويا في أمر اللّه، صدق صدق و كان في الكتاب الأول.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. (دلائل النبوة للبيهقي 6/55).

و قال البخاري في التاريخ: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهد بدرا، توفي زمن عثمان، و هو الذي تكلم بعد الموت. (التاريخ الكبير 3/383).

و كذا قال ابن أبي حاتم في الجرح و التعديل 3/562، و ابن حبان في الثقات 3/137، و في مشاهير علماء الأمصار: 37، و الذهبي في الكاشف 1/416، و ابن حجر في تقريب التهذيب: 223، و تهذيب التهذيب 3/353، و الإصابة 2/190، و المزي في تهذيب الكمال

ص:59

60/10، 61، و ابن عبد البر في الاستيعاب 2/417، و ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/524، و غيرهم.

و قال ابن عبد البر في الاستيعاب: زيد بن خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك... و هو الذي تكلّم بعد الموت لا يختلفون في ذلك، و ذلك أنه غشي عليه قبل موته، و أسري بروحه، فسجّي عليه بثوبه، ثم راجعته نفسه، فتكلّم بكلام حفظ عنه في أبي بكر و عمر و عثمان، ثم مات في حينه. روى حديثه هذا ثقات الشاميين عن النعمان بن بشير، و رواه ثقات الكوفيين عن يزيد بن النعمان بن بشير عن أبيه، و رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب. (الاستيعاب 2/547).

و قال ابن الأثير في أسد الغابة: و هذا زيد هو الذي تكلم بعد الموت في أكثر الروايات، و هو الصحيح. (أسد الغابة 2/354).

و منهم: ربيع بن حراش:

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى 6/127:

ربيع بن حراش الذي تكلم بعد الموت.

ص:60

و قال ابن أبي حاتم في الجرح و التعديل 3/456:

ربيع بن حراش أخو ربعي بن حراش الذي تكلم بعد الموت، و ذكر أمره لعائشة فقالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: إنه يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خير التابعين.

و أخرج البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن ربعي بن حراش، قال: أتيت فقيل لي: إن أخاك قد مات.

فجئت فوجدت أخي مسجّى عليه ثوب، فأنا عند رأسه أستغفر له، و أترحم عليه، إذ كشف الثوب عن وجهه، فقال: السلام عليك. فقلت: و عليك. فقلنا: سبحان اللّه أبعد الموت؟! قال: بعد الموت، إني قدمت على اللّه عزّ و جل بعدكم فتلقّيت بروح و ريحان و ربّ غير غضبان، و كساني ثيابا خضرا من سندس و إستبرق، و وجدت الأمر أيسر مما تظنون، فلا تتكلوا، إني استأذنت ربي عزّ و جل أن أخبركم و أبشّركم، فاحملوني إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقد عهد إليّ ألا أبرح حتى ألقاه. ثم طفي كما هو.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح لا يشك حديثيّ في

ص:61

صحّته. (دلائل النبوة 6/454).

قلت: ثم إنهم رووا أيضا أن قوما آخرين غير زيد و الربيع قد تكلموا بعد الموت.

قال البيهقي: و قد روي في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة.

و أخرج بسنده عن عبد اللّه بن عبيد الأنصاري، أن رجلا من قتلى مسيلمة تكلم، فقال: محمد رسول اللّه، أبو بكر الصديق، عثمان الأمين الرحيم. لا أدري أيش قال لعمر. (دلائل النبوة 6/58).

و أخرج أيضا بسنده عن عبد اللّه بن عبيد الأنصاري قال: بينما هم يثورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلم رجل من الأنصار من القتلى، فقال: محمد رسول اللّه، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم. ثم سكت.

قلت: و الأحاديث التي رووها في ذلك كثيرة جدا لا يسعنا استقصاؤها(1) ، و قد ألّف ابن أبي الدنيا في ذلك

ص:62


1- راجع مجمع الزوائد 180/5، 230/7. المعجم الأوسط 7/347. المعجم الكبير 202/4، 218/5-219.

كتابا أسماه: (من عاش بعد الموت)، جمع فيه وقائع كثيرة، فراجعه تجد فيه العجائب.

ثم إن زيد بن خارجة و غيره ممن ذكروا أنهم تكلموا بعد الموت، إن كانت أرواحهم قد ردّت إليهم بعد الموت، فهذا إقرار منهم بالرجعة، و إن كانت أرواحهم لم تردّ إليهم، بل تكلّم على لسانهم، فهذا لا يعدّ فضيلة لهم، و كلام من تكلم بعد موته حينئذ لا قيمة له، فإنه لا يعلم أنه قول صحابي، بل لا يعلم قول من هو؟ فلعله قد جرى على لسانهم قول شيطان، أو قول واحد من نواصب الجن، بقرينة إغفاله ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام في جميع الروايات التي رووها، أو لعل القضية من أصلها مختلقة كما هو الراجح؛ فإن كثيرا من تلك الروايات مروي عن الشعبي، و هو ضعيف عندنا، و إن كان ثقة عندهم يحتج به عليهم.

2 - رجوع حمار إلى الدنيا:

أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه (من عاش بعد الموت) بسنده عن الشعبي أن قوما أقبلوا من اليمن

ص:63

متطوّعين في سبيل اللّه، فنفق(1) حمار رجل منهم، فأرادوه أن ينطلق معهم فأبى، فقام فتوضّأ و صلى، فقال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهدا في سبيلك و ابتغاء مرضاتك، و إني أشهد أنك تحيي الموتى، و تبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ منّة، و إني أطلب إليك أن تبعث لي حماري.

ثم قام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه و ألجمه، ثم ركبه فأجراه فلحق بأصحابه، فقالوا: ما شأنك؟ قال: شأني أن اللّه بعث لي حماري. قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع بالكناسة - يعني بالكوفة(2).

قلت: إن الشيعة عند ما يروون أمثال هذه الكرامات عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام يتّهمهم مخالفوهم بأنهم يغالون فيهم، و أما رواية هذا الخبر و غيره في حق رجل مجهول من اليمن لا يعرف من هو فإنه لا يعدّ غلوّا عند القوم، فلا أدري لم باؤهم تجر، و باء غيرهم لا تجر؟

ص:64


1- نفق: أي مات.
2- من عاش بعد الموت: 31. و نقله ابن كثير عنه في البداية و النهاية 6/161 و قال: قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.

نعم، باء غيرهم لا تجر بسبب البغض المستتر، و العداء المضمر، و علامات النّصب الظاهرة لأهل البيت عليهم السّلام و لشيعتهم.

3 - رجوع فصيل ناقة صالح:

قال القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) في بيان أقوال علماء أهل السنة في دابة الأرض: فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح، و هو أصحّها...

إلى أن قال: و ذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب، فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن اللّه عزّ و جل. (الجامع لأحكام القرآن 13/235).

قلت: إن كان فصيل ناقة صالح قد مات لما دخل في جوف الحجر فحياته بعد ذلك إقرار بالرجعة للبهائم، و إن كان الفصيل لم يمت فبقاؤه هذا العمر الطويل جائز في حق البهائم، فكيف لا يجوز عندهم في حق إمام العصر عجل اللّه تعالى فرجه الشريف؟!

و العجب أن أهل السنة الذين قالوا برجعة بعض

ص:65

البهائم شنّعوا على الشيعة؛ لقولهم برجعة أئمة أهل البيت عليهم السّلام و جملة من المؤمنين و بعض المنافقين، كما أنهم سفّهوا الشيعة لقولهم ببقاء الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري عليه السّلام عمرا طويلا، مع أنهم زعموا بقاء بعض البهائم عمرا أطول من عمره عليه السّلام، و ما عشت أراك الدهر عجبا!!

ص:66

كلمات أعلام أهل السنة في رجعة النبي صلى اللّه عليه و آله و أنبياء آخرين

كتب جلال الدين السيوطي رسالة أسماها (تنوير الحلك(1) في إمكان رؤية النبي و الملك)، و هي مشتملة على فوائد كثيرة ترتبط بموضوع رجعة النبي صلى اللّه عليه و آله و غيره من الأنبياء عليهم السّلام إلى الحياة الدنيا بعد موتهم، و هو و إن لم يصرّح بلفظ الرجعة، إلا أن المؤدّى واحد، و لهذا أحببت أن أنقل منها ما ينفع في المقام.

قال السيوطي: فقد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي صلى اللّه عليه و سلم في اليقظة، و أن طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك و التعجب منه، و ادّعوا أنه مستحيل، فألفت هذه الكراسة في ذلك و سمّيتها: (تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي و الملك)، و نبدأ بالحديث الصحيح الوارد في ذلك. أخرج البخاري و مسلم و أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، و لا يتمثّل

ص:67


1- الحلك: الظلام.

الشيطان بي(1).

و بعد أن ذكر اختلاف الأقوال في معنى الحديث، خلص إلى القول بأن المراد هو أن من رأى النبي صلى اللّه عليه و آله في منامه فسيراه في اليقظة في حياة النبي صلى اللّه عليه و آله و بعد وفاته.

و نقل عن الإمام أبي محمد بن أبي جمرة قوله: و قد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه، و قال على ما أعطاه عقله: و كيف يكون من قد مات يراه الحيّ في عالم الشاهد؟ قال: و في هذا القول من المحذور وجهان خطيران:

أحدهما: عدم التصديق بقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى اللّه عليه و سلّم.

و الثاني: الجهل بقدرة القادر و تعجيزها، كأنه لم يسمع في سورة البقرة قصة البقرة، و كيف قال اللّه تعالى:

اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى [1] (البقرة: 73)، و قصة إبراهيم عليه السّلام في الأربع من الطير، و قصة عزير عليه السّلام،

ص:68


1- صحيح البخاري 4/2190. صحيح مسلم 4/1775. سنن أبي داود 4/305.

فالذي جعل ضرب الميت ببعض البقرة سببا لحياته، و جعل دعاء إبراهيم عليه السّلام سببا لإحياء الطيور، و جعل تعجّب عزير سببا لموته و موت حماره، ثم لإحيائهما بعد مائة سنة، فمن قدر على ذلك قادر على أن يجعل رؤيته صلى اللّه عليه و سلم في النوم سببا لرؤيته صلى اللّه عليه و اله و سلم في اليقظة.

إلى أن قال: و قد ذكر عن السلف و الخلف و هلم جرّا عن جماعة ممن كانوا رأوه صلى اللّه عليه و اله و سلم في النوم، و كانوا ممن يصدّقون هذا الحديث، فرأوه بعد ذلك في اليقظة، و سألوه عن أشياء كانوا منها متشوّشين، فأخبرهم بتفريجها، و نصّ لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة و لا نقص.

قال: و المنكر لهذا لا يخلو إما أن يصدّق بكرامات الأولياء أو يكذّب بها، فإن كان ممن يكذب بها فقد سقط البحث معه؛ فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، و إن كان مصدّقا بها فهذه من ذلك القبيل؛ لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي و السفلي عديدة، فلا ينكر هذا مع التصديق بذلك.

ص:69

انتهى كلام ابن أبي جمرة. (تنوير الحلك ضمن الحاوي للفتاوي: 660).

ثم نقل السيوطي بعض أقوال علماء أهل السنة في رؤية الأولياء للنبي صلى اللّه عليه و آله حقيقة و في اليقظة، فقال:

و قال القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه (قانون التأويل): ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس، و تزكية القلب، و قطع العلائق، و حسم مواد أسباب الدنيا، من الجاه، و المال، و الخلطة بالجنس، و الإقبال على اللّه تعالى بالكلية علما دائما، و عملا مستمرّا، كشفت له القلوب، و رأى الملائكة، و سمع أقوالهم، و اطلع على أرواح الأنبياء، و سمع كلامهم.

ثم قال ابن العربي من عنده: و رؤية الأنبياء و الملائكة و سماع كلامهم ممكن، للمؤمن كرامة، و للكافر عقوبة.

و قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في (القواعد الكبرى): و قال ابن الحاج في المدخل: رؤية النبي صلى اللّه عليه و سلم في اليقظة باب ضيق، و قلّ من يقع له ذلك، إلا من كان على

ص:70

صفة عزيز وجودها في هذا الزمان، بل عدمت غالبا، مع أننا لا ننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم اللّه تعالى في ظواهرهم و بواطنهم.

ثم قال: و قال القاضي شرف الدين هبة اللّه بن عبد الرحيم البارزي في كتاب (توثيق عرى الإيمان): و قد سمع من جماعة من الأولياء في زماننا و قبله أنهم رأوا النبي صلى اللّه عليه و سلم في اليقظة حيّا بعد وفاته.

ثم نقل السيوطي أقوال الذين قالوا: إنهم رأوا النبي صلى اللّه عليه و آله أو غيره من الأنبياء عليهم السّلام، فقال:

و قال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في رسالته، و الشيخ عفيف الدين اليافعي في (روض الرياحين): قال الشيخ الكبير قدوة الشيوخ العارفين و بركة أهل زمانه أبو عبد اللّه القرشي: لما جاء الغلاء الكبير إلى ديار مصر توجهت لأن أدعو، فقيل لي: لا تدع، فما يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء. فسافرت إلى الشام، فلما وصلت إلى قريب ضريح الخليل عليه السّلام تلقاني الخليل، فقلت: يا رسول اللّه اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر. فدعا لهم،

ص:71

ففرّج اللّه عنهم.

قال اليافعي: و قوله: «تلقاني الخليل» قول حق، لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماء و الأرض، و ينظرون الأنبياء أحياء غير أموات، كما نظر النبي صلى اللّه عليه و سلم إلى موسى عليه السّلام في الأرض، و نظره أيضا هو و جماعة من الأنبياء في السماوات، و سمع منهم مخاطبات، و قد تقرّر أن ما جاز للأنبياء معجزة، جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي.

قال: و قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في (طبقات الأولياء): قال الشيخ عبد القادر الكيلاني: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل الظهر، فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم، كيف أتكلم على فصحاء بغداد؟ فقال: افتح فاك. ففتحته، فتفل فيه سبعا، فقال:

تكلم على الناس، و ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة. فصليت الظهر، و جلست، و حضرني خلق كثير، فارتج عليّ، فرأيت عليّا قائما بإزائي في المجلس، فقال لي:

يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد أرتج عليّ. فقال: افتح

ص:72

فاك. قال: ففتحته، فتفل فيه ستّا، فقلت: لم لا تكملها سبعا؟ قال: أدبا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. ثم توارى عني...

و قال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقظة و مناما، و كان يقال: إن أكثر أفعاله متلقاة منه صلى اللّه عليه و سلم بأمر منه، إما يقظة و إما مناما، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة، قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني، كثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي.

ثم قال: و قال الشيخ عبد الغفار بن نوح القوصي في كتاب (الوحيد) من أصحاب الشيخ أبي يحيى أبي عبد اللّه الأسواني المقيم بأخميم، كان يخبر أنه يرى النبي صلى اللّه عليه و سلم في كل ساعة، حتى لا يكاد يكون ساعة إلا و يخبر عنه.

و قال في (الوحيد) أيضا: كان للشيخ أبي العباس المرسي وصلة بالنبي صلى اللّه عليه و سلم، إذا سلّم على النبي صلى اللّه عليه و سلم ردّ عليه السلام، و يجاوبه إذا تحدّث معه.

و قال الشيخ تاج الدين بن عطاء اللّه في (لطائف المنن): قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي: يا سيدي

ص:73

صافحني بكفّك هذه، فإنك لقيت رجالا و بلادا. فقال:

و اللّه ما صافحت بكفي هذه إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. و قال الشيخ: لو حجب عني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين.

ثم نقل حكايات كثيرة عمن يخبر أنه رأى النبي صلى اللّه عليه و آله في اليقظة، ثم قال:

ثم رأيت في كتاب (مزيل الشبهات في إثبات الكرامات) للإمام عماد الدين بن إسماعيل بن هبة اللّه بن باطيش ما نصّه: و من الدليل على إثبات الكرامات آثار منقولة عن الصحابة و التابعين فمن بعدهم، منهم: أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه...

إلى أن قال: و منهم عثمان بن عفان، قال عبد اللّه بن سلام: أتيت عثمان رضي اللّه عنه لأسلم عليه و هو محصور، فقال:

مرحبا بأخي، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و من هذه الخوخة، فقال: يا عثمان حصروك؟ قلت: نعم. قال: عطشوك؟ قلت: نعم. فأدلى لي دلوا فيه ماء، فشربت حتى رويت، حتى إني لأجد برده بين ثديي و بين كتفي، فقال: إن شئت

ص:74

نصرت عليهم، و إن شئت أفطرت عندنا. فاخترت أن أفطر عنده صلى اللّه عليه و سلم. فقتل ذلك اليوم. انتهى.

قال السيوطي: و هذه القصة مشهورة عن عثمان، مخرجة في كتب الحديث، أخرجها ابن أبي أسامة في مسنده و غيره، و قد فهم المصنف منها أنها رؤية يقظة، و إلا لم يصلح عدّها في الكرامات؛ لأن رؤيا المنام يستوي فيها كل أحد، و ليست من الخوارق المعدودة في الكرامات، و لا ينكرها من ينكر كرامات الأولياء. (تنوير الحلك ضمن الحاوي للفتاوي: 666).

قال السيوطي: و لا يمتنع رؤية ذاته الشريف بجسده و روحه؛ و ذلك لأنه صلى اللّه عليه و سلم و سائر الأنبياء عليهم السّلام أحياء ردّت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا، و أذن لهم في الخروج من قبورهم، و التصرّف في الملكوت العلوي و السفلي، و قد ألّف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء، و قال في (دلائل النبوة): الأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء.

و قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي: المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا أن نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم

ص:75

حي بعد وفاته، و أنه صلى اللّه عليه و سلم يبشّر بطاعات أمّته، و يحزن بمعاصي العصاة منهم، و أنه صلى اللّه عليه و سلم يبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته. و قال: إن الأنبياء لا يبلون، و لا تأكل الأرض منهم شيئا، و قد مات موسى عليه السّلام في زمانه، و أخبر نبينا صلى اللّه عليه و سلم أنه رآه في قبره مصليا، و ذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء الرابعة، و رأى آدم، و إبراهيم، و إذا صحّ لنا هذا الأصل قلنا: نبينا صلى اللّه عليه و سلم قد صار حيّا بعد وفاته و هو على نبوّته. انتهى.

قال: قال القرطبي في التذكرة في حديث الصعقة عن شيخه: الموت ليس بعدم محض، و إنما هو انتقال من حال إلى حال، و يدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم و موتهم أحياء يرزقون فرحين مستبشرين، و هذه صفة الأحياء في الدنيا، و إذا كان هذا في الشهداء فالأنبياء أحق بذلك، و قد صحّ أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء عليهم السّلام، و أنه صلى اللّه عليه و سلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس و في السماء، و رأى موسى عليه السّلام قائما يصلي في قبره، و أخبر صلى اللّه عليه و سلم أنه يرد السلام على كل من يسلّم عليه، إلى غير ذلك مما

ص:76

يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء عليهم السّلام إنما هو راجع إلى أن غيّبوا عنا بحيث لا ندركهم، و إن كانوا موجودين أحياء، و لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصّه اللّه تعالى بكرامته. انتهى.

و قال: قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون كساير الأحياء حيث ينزلهم اللّه تعالى.

ثم قال: و قال الإمام بدر الدين بن الصاحب في تذكرته: فصل في حياته صلى اللّه عليه و سلم بعد موته في البرزخ، و قد دلّ على ذلك تصريح الشارع و إيماؤه، و من القرآن قوله تعالى:

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [1] (آل عمران: 169)، فهذه الحالة - و هي الحياة في البرزخ بعد الموت - حاصلة لآحاد هذه الأمة من السعداء، و حالهم أعلى و أفضل ممن يكون له هذه الرتبة، لا سيما في البرزخ، و لا يكون رتبة أحد من الأمة أعلى من رتبة النبي صلى اللّه عليه و سلم، بل إنما حصل لهم هذه الرتبة ببركته و تبعيته، و اتصافا بما استحقوا هذه الرتبة بالشهادة، و الشهادة حاصلة للنبي صلى اللّه عليه و سلم على أتم الوجوه. و قال صلى اللّه عليه و سلم: «مررت على موسى ليلة

ص:77

أسري بي عند الكثيب الأحمر و هو قائم يصلي في قبره»، و هذا صريح في إثبات الحياة لموسى عليه السّلام، فإنه وصفه بالصلاة، و أنه كان قائما، و مثل هذا لا يوصف به الروح، و إنما يوصف به الجسد، و في تخصيصه بالقبر دليل على هذا؛ فإنه لو كان من أوصاف الروح لم يحتج لتخصيصه بالقبر؛ فإن أحدا لم يقل: إن أرواح الأنبياء مسجونة في القبر مع الأجساد، و أرواح السعداء و المؤمنين في الجنة.

إلى أن قال: فإذا كان القاضي عياض يقول: «إنهم يحجّون بأجسادهم، و يفارقون قبورهم»، فكيف يستنكر مفارقة النبي صلى اللّه عليه و سلم لقبره؟! فإن النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا كان حاجّا، و إذا كان مصليا، و إذا كان يسرى به بجسده إلى السماء، فليس مدفونا في القبر. انتهى.

ثم ختم السيوطي كلامه بقوله: فحصل من مجموع هذه النقول و الأحاديث أن النبي صلى اللّه عليه و سلم حي بجسده و روحه، و أنه يتصرّف و يسير حيث شاء في أقطار الأرض و في الملكوت، و هو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدّل منه شيء، و أنه مغيّب عن الأبصار كما غيّبت الملائكة مع

ص:78

كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد اللّه رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك، و لا داعي إلى التخصيص برؤية المثال. (تنوير الحلك ضمن الحاوي للفتاوي: 669).

قلت: هذا بعض ما قالوه في كتبهم، و هو كثير جدّا، و نقل ما قاله علماء أهل السنة في ذلك بكامله يستدعي الإطالة، و نحن قد اقتصرنا على نقل مقدار الحاجة منه، فمن أراده فليطلبه من مظانّه، و هو يدل على ما نذهب إليه من الرجعة، و هم و إن لم يطلقوا عليه لفظ الرجعة، إلا أنّا لا نقول في الرجعة أكثر من ذلك، فإن هؤلاء الذين ذكرنا بعض أقوالهم آنفا و غيرهم ذهبوا إلى أن الرجعة قد وقعت في الصدر الأول و ما بعده من العصور السالفة، و إن أبوا أن يطلقوا لفظ الرجعة عليها.

ص:79

سبب شدة النفرة من القول بالرجعة

من كل ما مرّ يتّضح أن الرجعة إلى الحياة الدنيا ممكنة عقلا، بل هي واقعة، قد وقعت كثيرا، و قد اعترف علماء أهل السنة بوقوعها كما أوضحناه مفصّلا.

إلا أن القوم أنكروا الرجعة أي إنكار، لا لشيء فيها، و إنما للقول بأن أمير المؤمنين عليه السّلام يرجع إلى الدنيا في آخر الزمان دون الخلفاء الثلاثة، مع أنهم رووا عن علي عليه السّلام أنه قال: قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يا علي إن لك في الجنة كنزا، و إنك ذو قرنيها...(1).

قال المنذري في الترغيب و الترهيب: قوله صلى اللّه عليه و سلم لعلي:

«و إنك ذو قرنيها» أي ذو قرني هذه الأمة، و ذاك لأنه كان له شجّتان في قرني رأسه، إحداهما من ابن ملجم لعنه اللّه،

ص:80


1- المستدرك على الصحيحين 3/123 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. و وافقه الذهبي. مجمع الزوائد 277/4، 63/8 قال الهيثمي: رواه البزار و الطبراني في الأوسط... و رجال الطبراني ثقات.

و الأخرى من عمرو بن ود. (الترغيب و الترهيب 3/8).

قلت: بل لأنه يضرب أولا من ابن ملجم لعنه اللّه، فيموت ثم يحيا، فيضرب مرة ثانية على رأسه فيموت.

و لو لا ذلك لما كان لأمير المؤمنين عليه السّلام أي خصوصية بسبب تلكم الضربتين، فإن غيره قد ضرب على رأسه ضربات كثيرة.

و يدل على ذلك أنهم رووا عن علي عليه السّلام أنه قال:

سلوني قبل أن لا تسألوني، و لن تسألوا بعدي مثلي. فقام إليه ابن الكوّاء فقال: ما كان ذو القرنين؟ أملك كان أم نبي؟ فقال: لم يكن ملكا و لا نبيّا، و لكنه كان عبدا صالحا، أحبّ اللّه و أحبّه اللّه، و ناصح فنصحه، ضرب على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه اللّه عزّ و جل، و ضرب على قرنه الأيسر فمات، و فيكم مثله(1).

ص:81


1- المصنف لابن أبي شيبة 6/349. كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/583. فتح الباري 6/295 قال ابن حجر: و سنده صحيح، سمعناه في الأحاديث المختارة للحافظ الضياء. قلت: أخرجه في الأحاديث المختارة 2/175 إلا أنه لم يقل: «و فيكم مثله»، و لعل هذا من التحريف المتعمد للتراث.

و هذه الرواية واضحة الدلالة على أن سبب تسمية ذي القرنين بهذا الاسم هو أنه ضرب أولا على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه اللّه، ثم ضرب ثانيا على قرنه الأيسر فمات.

و قوله: «و فيكم مثله» ظاهر في أن أمير المؤمنين عليه السّلام كذلك، و هذا واضح لا غبار عليه.

و بذلك يتضح أن هذه الأخبار فيها إشارة إلى أن أمير المؤمنين عليه السّلام يضربه ابن ملجم لعنه اللّه على قرنه فيموت، ثم يرجع إلى الدنيا، فيضرب على قرنه مرة أخرى، فيموت كما وقع مثل ذلك لذي القرنين.

فهذه الأخبار و الآثار دالة على رجعة أمير المؤمنين عليه السّلام، و هي واضحة لا تحتاج إلى مزيد تأمل، إلا أن القوم أنكروا دلالتها على ذلك؛ لأنها تثبت فضيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام لم تثبت لواحد من الخلفاء الثلاثة، و هذا دأبهم في إنكار كثير من فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام للسبب نفسه، و اللّه المستعان على ما يصفون.

ص:82

شبهات حول الرجعة

ذكر القوم عدة شبهات حول الرجعة، و نحن سنذكر أهمها.

الشبهة الأولى: أن الرجعة لو صحّت لجاز وقوع التوبة من عتاة هذه الأمة و غيرهم؛ لأنهم لما ماتوا و ذاقوا عذاب القبر، و رأوا أهواله، و شدّته، فلن يتوقع منهم إذا عادوا إلى الدنيا أن يتمادوا في غيّهم و ضلالهم، بل المتوقع منهم أن يتوبوا إلى اللّه تعالى، و لا سيما أن الملك و السلطان قد انتقل عنهم إلى غيرهم، و كان سلطانهم هو الداعي إلى وقوع المعاصي منهم.

و جوابها: أن هؤلاء العتاة و إن كانت توبتهم ممكنة، إلا أنهم لا يوفّقون لها، و عذاب القبر الذي عاينوه ليس بأشد من عذاب يوم القيامة، و اللّه سبحانه قد أخبر في كتابه العزيز أن الكافرين المعاندين الذين حقّ عليهم العذاب يوم القيامة يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا بزعمهم ما فسد منهم، إلا أن اللّه تعالى أكذبهم، فقال: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [1] (الأنعام: 27-28)، فحال أولئك الذين عادوا إلى الدنيا في الرجعة لن يكون أحسن من حال هؤلاء الذين بعثوا يوم القيامة و عاينوا عذاب النار.

ص:83

و جوابها: أن هؤلاء العتاة و إن كانت توبتهم ممكنة، إلا أنهم لا يوفّقون لها، و عذاب القبر الذي عاينوه ليس بأشد من عذاب يوم القيامة، و اللّه سبحانه قد أخبر في كتابه العزيز أن الكافرين المعاندين الذين حقّ عليهم العذاب يوم القيامة يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا بزعمهم ما فسد منهم، إلا أن اللّه تعالى أكذبهم، فقال: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [1] (الأنعام: 27-28)، فحال أولئك الذين عادوا إلى الدنيا في الرجعة لن يكون أحسن من حال هؤلاء الذين بعثوا يوم القيامة و عاينوا عذاب النار.

و هذا المعنى يمكن أن يستفاد من صحيحة أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً [2] (الإسراء: 72)، قال:

في الرجعة. (مختصر بصائر الدرجات: 20).

قلت: أي أن من كان في حياته الأولى ضالاّ عن الهدى فهو في الرجعة كذلك، فكيف تتحقق منه التوبة.

و قد أجاب شيخنا محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد أعلى اللّه مقامه عن هذه الشبهة في كتابه (الفصول المختارة) فقال:

سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية و أنا حاضر في مجلس، فيهم جماعة كثيرة من أهل النظر

ص:

و المتفقهة، فقال: إذا كان من قولك: إن اللّه يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم؛ ليشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين، و ينتقم لهم منهم كما فعل من بني إسرائيل، حيث يتعلقون بقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [1] (سورة الإسراء: 6)، فما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد، و شمر، و ابن ملجم، و يرجعوا عن كفرهم، فيجب عليك ولايتهم و القطع بالثواب لهم؟ و هذا خلاف مذهب الشيعة.

فقال الشيخ المسؤول: القول بالرجعة إنما قلته من طريق التوقيف، و ليس للنظر فيه مجال، و أنا لا أجيب عن هذا السؤال؛ لأنه لا نصّ عندي فيه، و لا يجوز لي أن أتكلف - من غير جهة النص - الجواب. فشنّع السائل و جماعة المعتزلة عليه بالعجز و الانقطاع.

قال الشيخ أيّده اللّه: فأقول: أنا أبيّن في هذا السؤال جوابين:

أحدهما: أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل؛ لأنه يكون آنذاك قادرا عليه و متمكنا منه،

ص:85

لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى عليهم السّلام بالقطع عليهم بالخلود في النار، و التدين بلعنهم و البراءة منهم إلى آخر الزمان، منع من الشك في حالهم، و أوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون و هامان و قارون، و مجرى من قطع اللّه على خلوده في النار. و دل القطع على أنهم لا يختارون الإيمان ممن قال اللّه: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ [1] (الأنعام: 111)، يريد: إلاّ أن يلجئهم اللّه، و الذين قال اللّه تعالى فيهم: وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [2] (سورة الأنفال: 8)، و قال اللّه تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [3] (سورة ص: 85)، و قال: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [4] (سورة ص: 78) و قال: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [5] (سورة الأنعام: 28)، و قال: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [6] (سورة المسد: 3)، فقطع عليه بالنار، و أمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب، و إذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما

ص:86

توهّموه.

و الجواب الآخر: أن اللّه سبحانه إذا ردّ الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم تقبل لهم توبة، و جروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق، قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [1] (سورة يونس: 90)، قال سبحانه له: آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [2] (سورة يونس: 91)، فردّ اللّه عليه إيمانه، و لم ينفعه في تلك الحال ندمه و إقلاعه، و كأهل الآخرة الذين لا يقبل اللّه لهم توبة و لا ينفعهم ندم؛ لأنهم كالملجئين إلى ذلك الفعل؛ و لأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا، و توجب اختصاصها ببعض الأوقات. و هذا هو الجواب الصحيح على مذهب الإمامية، و قد جاءت به آثار متظافرة عن آل محمد عليهم السّلام، فروي عنهم في قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ [3] (سورة الأنعام: 158)، فقالوا:

«إن هذه الآية هو القائم عليه السّلام، فإذا ظهر لم تقبل توبة

ص:87

المخالف»، و هذا يبطل ما اعتمده السائل. (الفصول المختارة: 115).

الشبهة الثانية: أن من يرجع إلى الحياة الدنيا في الرجعة لا يخلو إما أن يكون مكلفا أو غير مكلف، فإن رجع إلى الدنيا غير مكلّف، كان له أن يفعل ما يشاء من الموبقات و المآثم من دون أن يلحقه إثم و لا عقاب، و لا حاجة له حينئذ لعمل الطاعات لعدم حصوله على الثواب بفعلها، فنصرة صاحب الزمان عليه السّلام لا ثواب فيها، مع ما في نصرته عليه السّلام من احتمال القتل أو الجرح من دون فائدة.

كما لا يعاقب من حاربه ممن رجع من العتاة و المنافقين، و هو باطل بالاتفاق.

و أما إن قيل: إنه يرجع مكلّفا، فقد انتقض ما هو متفق عليه من أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله.

و جوابها: أنا نقول: إن من مات انقطع عنه التكليف، و لكن إذا رجع إلى الدنيا عاد إليه التكليف من جديد، و لا محذور في ذلك، فإن الدنيا دار تكليف من غير فرق بين من يحيا فيها حياته الأولى أو حياته الثانية في

ص:88

الرجعة.

الشبهة الثالثة: أن كل من مات فإنه يعلم أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، و يكون قبره بعد المساءلة إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. فمن علم أنه من أهل الجنة كيف يرجع إلى دار التكليف مرة ثانية، فلا يدري بعد ذلك ما يقع في حياته الثانية، فربما يفتن في دينه فيكون من أهل النار، و هذا يقتضي ألا يرضى عاقل برجوعه إلى الدنيا مرة ثانية.

و جوابها: أن من عاش في دولة سلاطين الجور، التي التبس فيها الحق بالباطل، و في زمان الخوف و التقية، حيث كانت الأهواء و الفتن تحوطه من كل جانب و مكان، و مع ذلك آمن و عمل صالحا، مع صعوبة الأمر و شدّته، إلى أن مات مستوجبا رضوان اللّه و جنانه، فكيف يزل عن الحق إذا رجع إلى الدنيا، و عاش في دولة الحق و العدل و قد زالت الفتن، و انحسرت الأهواء، و ارتفع الخلاف بين الناس؟

و لعل الكثير من المؤمنين يطمعون في أن يرجعوا إلى الدنيا؛ ليجاهدوا في سبيل اللّه تحت راية إمام عادل،

ص:89

و لينعموا في دولة العدل، و يسعدوا بظهور الحق، و يستكثروا من الأجر و الثواب، و غير ذلك من الدواعي المهمة التي لا تنال إلا بالرجعة.

الشبهة الرابعة: و هي أقوى شبهات منكري الرجعة كما قال الحر العاملي في كتابه (الإيقاض من الهجعة):

412. و حاصلها أنه قد تقرّر أن الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين و الدنيا، و أن المهدي عليه السّلام خاتم الأوصياء و الأئمة، فلا يجوز أن تكون الرجعة في زمان المهدي عليه السّلام و لا بعده؛ لأنه يلزم إما عزله عليه السّلام، و قد ثبت استمرار إمامته إلى يوم القيامة، و إما تقديم المفضول على الفاضل، أو زيادة الأئمة على اثني عشر، و عدم عموم رئاسة الإمام.

و قد أجاب الحر العاملي على هذه الشبهة بعدة إجابات:

منها: أنه يمكن كون رجعة الأئمة عليهم السّلام كلها بعد موت المهدي عليه السّلام و هو الظاهر؛ لما روي من طرق كثيرة أن أول من يرجع إلى الدنيا الحسين عليه السّلام في آخر عمر المهدي، فإذا عرفه الناس مات المهدي، و غسله الحسين عليه السّلام، و تلك

ص:90

المدة اليسيرة جدا تكون مستثناة للضرورة.

قلت: لعل استثناء هذه المدة اليسيرة من أجل أن يتسلّم الإمام الحسين عليه السّلام مهام الدولة من الإمام المهدي عجّل اللّه فرجه الشريف.

و يظهر من بعض الأخبار أن رجعة الإمام الحسين عليه السّلام إنما تكون بعد موت الإمام المهدي عليه السّلام، فلا تكون هناك مدة يسيرة مستثناة.

و من تلك الأخبار ما رواه الشيخ الحسن بن سليمان الحلي قدّس سرّه في مختصر البصائر: 165، بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: سئل عن الرجعة، أحق هي؟ قال: نعم. فقيل له: من أول من يخرج؟ قال: الحسين عليه السّلام يخرج على أثر القائم.

قلت: و معه الناس كلهم؟ قال: لا، بل كما ذكر اللّه تعالى في كتابه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [1] ، قوما بعد قوم.

و يمكن لنا أن نجيب عن هذه الشبهة أيضا بأنا نحتمل أن يقوم جميع الأئمة عليهم السّلام بمهام الإمامة في وقت واحد من غير حاجة إلى عزل الإمام المهدي عليه السّلام عن إمامته، و لا يلزم على ذلك إشكال تقديم المفضول على

ص:91

الفاضل، و لا عزل الإمام المهدي عليه السّلام عن إمامته، و هو واضح.

كما يمكن الجواب بأن أحاديث الرجعة مسلّمة و متواترة عندنا بنحو الإجمال، و أما تفاصيل ما يحدث في الرجعة - و منها تفاصيل تولي الإمامة في حال اجتماع الأئمة عليهم السّلام - فهذا لا نعلمه، و لا نقول فيه بغير علم، و نحن لسنا مكلفين به في ظرفه، و لا تجب علينا معرفة التكليف فيه، فحاله حال كثير من الأمور التي تقع في آخر الزمان مما لا نعلمه.

ص:92

حوادث طريفة حول الرجعة

حفلت كتب التاريخ و الأدب بسرد وقائع حصلت بين بعض الشيعة القائلين بالرجعة، و بين آخرين ينكرونها، بل و يشنّعون على الشيعة بها، و بعض تلك الحوادث لا يخلو من فائدة و طرافة.

منها: ما ذكره محمد بن خلف بن حيان في كتابه (أخبار القضاة)، بسنده عن الحارث بن عبد اللّه الربعي، قال: كنت جالسا في مجلس للمنصور و هو بالحبس الأكبر، و [القاضي] سوار عنده، و السيّد [الحميري] ينشده:

إنّ الإله الذي لا شيء يشبهه

آتاكم الملك للدنيا و للدين

آتاكم اللّه ملكا لا زوال له

حتى يقاد إليكم صاحب الصين

و صاحب الهند مأخوذ برمّته

و صاحب الترك محبوس على هون

ص:93

حتى أتى على القصيدة و المنصور مسرور، فقال سوار: هذا يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، و اللّه إن القوم الذين يدين بحبّهم غيركم، و إنه لينطوي على عداوتكم.

فقال السيّد: و اللّه إنه لكاذب، و أني في مدحيك لصادق، و لكنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، و إنّ انقطاعي و مودّتي لكم أهل البيت، و خلافي لرأي أبويه، و معاندتي لهما، لم تساير من أنصرف عنكم، و إن هذا و قومه لأعداؤكم في الجاهلية و الإسلام، و قد أنزل اللّه عزّ و جلّ على نبيّه عليه السّلام في أهل بيته: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [1] . (الحجرات: 4). فقال المنصور: صدقت. فقال سوار: إنه يقول بالرجعة. فقال:

أما قوله: «إنه يقول بالرجعة»، فإن اللّه عزّ و جل يقول:

رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [2] ، و قال: فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [3] ، و قال: فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [4] ، إنما قلت مثل هذا، و لكنه يرجع بعد الموت كلبا أو قردا أو خنزيرا أو ذرّة؛ لأنه متجبّر، و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:

«يحشر المتكبّرون في صورة الذّر يوم القيامة»، و في حديث

ص:94

آخر: «في صورة القردة و الخنازير، يغشاهم الذل من كل مكان».

ثم قال:

جاثيت سوارا أبا شملة عند الإمام الحاكم العادل

فقال قولا خطل كلّه عند الورى الحافل و الشاغل

ما دبّ عما قلت من وصمة في أهله بل لجّ في الباطل

و بان للمنصور صدقي كما قد بان كذب الأنوك الجاهل

يبغض ذا العرش و من يصطفي من غلّه بالبيّن الفاصل

و يعتدي في الحكم في معشر أدّوا حقوق الرّسل للراسل

فبيّن اللّه تزاويقه فصار مثل الهائم الهامل(1)

و قال صلاح الدين الصفدي في كتابه (الوافي بالوفيات): قال الصولي: حدثنا أبو العيناء، قال: السيّد مذبذب يقول بالرجعة، و قد قال له رجل من ثقيف: بلغني يا أبا هاشم أنك تقول بالرجعة! قال: هو ما بلغك. قال:

فأعطني دينارا بمائة دينار إلى الرجعة! فقال له السيّد: على

ص:95


1- أخبار القضاة 2/74، و قد أصلحنا بعض الأبيات بالرجوع إلى مصادر أخرى ذكرت هذه الواقعة.

أن توثّق لي بمن يضمن أنك ترجع إنسانا، أخاف أن ترجع قردا، أو كلبا، فيذهب مالي(1).

و أخرج الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) بسنده عن محمد بن جعفر الأسامي، قال: كان أبو حنيفة يتّهم شيطان الطاق بالرجعة، و كان شيطان الطاق(2) يتّهم أبا حنيفة بالتناسخ، قال: فخرج أبو حنيفة يوما إلى السوق، فاستقبله شيطان الطاق و معه ثوب يريد بيعه. فقال له أبو حنيفة: أتبيع هذا الثوب إلى رجوع عليّ؟ فقال: إن أعطيتني كفيلا أن لا تمسخ قردا بعتك. فبهت أبو حنيفة.

ص:96


1- الوافي بالوفيات 198/9.
2- هو محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريقة البجلي مولى، الأحول أبو جعفر، كوفي، صيرفي، يلقّب بمؤمن الطاق و صاحب الطاق، و يلقبه المخالفون بشيطان الطاق، روى عن الإمام زين العابدين، و الإمام الباقر، و الإمام الصادق عليهم السّلام. و كان له دكان في طاق المحامل بالكوفة، فيرجع إليه في النقد، فيرد ردّا يخرج كما يقول، فسمّي شيطان الطاق. له كتاب (افعل لا تفعل)، و كتاب (الاحتجاج) في إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كتاب مجالسه مع أبي حنيفة و المرجئة. قال الشيخ الطوسي في الفهرست: 207: و كان ثقة متكلما حاذقا حاضر الجواب. (رجال النجاشي 2/203 باختصار).

قال: و لما مات جعفر بن محمد، التقى هو و أبو حنيفة، فقال له أبو حنيفة: أمّا إمامك فقد مات. فقال له شيطان الطاق: أما إمامك فمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم(1).

ص:97


1- تاريخ بغداد 13/411.

ص:98

خاتمة

بعد هذا البيان كله يتضح جليّا أن الرجوع إلى الحياة الدنيا من بعد الموت أمر ممكن عقلا، بل هو واقع في الأزمنة السالفة، و واقع في هذه الأمة كما مرّ، بل سيقع في آخر الزمان حتما.

و هذا الذي قلناه هو الذي نطقت به الآيات القرآنية الشريفة، و دلّت عليه الأحاديث الثابتة عند الشيعة و أهل السنة، فلا مناص حينئذ من الاعتقاد بالرجعة، و لا سبيل إلى جحدها و إنكارها.

و سواء أثبتت الرجعة كما يقول الشيعة الإمامية، أم لم تثبت كما يقول أهل السنة، فإنها تبقى مسألة خلافية يجوز فيها الاجتهاد، و لا يحق لمنصف أن يعمد إلى تكفير القائلين بها أو تفسيقهم، و لا سيما أنها لا تعد من أصول مذهب الشيعة الإمامية، و لا يضر جهل الشيعي بها، و من قال بالرجعة إن كان مخطئا فخطؤه ناشئ عن اجتهاد منه، و لا يستلزم القول بها إنكار أصل من أصول الدين، أو جحد

ص:99

آية من آيات الكتاب العزيز، حتى يلزم تكفيره، أو تفسيقه، أو رد روايته.

و لئن كان أعلام أهل السنة السابقون يحملون على من يقول بالرجعة، و يضعّفون الراوي لأجل ذلك و إن كان صدوقا ثبتا، إلا أنه لا يجب تقليدهم في هذه المسألة، و اللازم هو النظر في أدلتهم بإنصاف، لقبولها أو ردّها، من أجل الوصول إلى قناعة جديدة حول هذه المسألة، و حول تقييم القائلين بالرجعة.

هذا ما أردنا بيانه في هذه الرسالة الموجزة، و نسأل اللّه سبحانه و تعالى أن يرينا الحق حقّا، و يرزقنا اتباعه، و يرينا الباطل باطلا، و يرزقنا اجتنابه، و ألا يكلنا إلى أنفسنا فنتبع هوانا، إنه على كل شيء قدير، و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين، و صلى اللّه على سيّدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين.

ص:100

ص:101

المحتويات

مقدمة 7

ما هي الرجعة؟ 9

رأي الشيعة الإمامية في الرجعة 11

رأي علماء أهل السنة في الرجعة 19

إمكان الرجعة عند العقل 24

الآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في الأمم السالفة 26

الآيات القرآنية الدالة على وقوع الرجعة في آخر الزمان 34

أحاديث الرجعة في كتب الشيعة الإمامية 49

أحاديث الرجعة في كتب أهل السنة 54

1 - رجوع بعض صحابة النبي صلى اللّه عليه و آله إلى الدنيا 56

2 - رجوع حمار إلى الدنيا 63

3 - رجوع فصيل ناقة صالح 65

كلمات أعلام أهل السنة في رجعة النبي صلى اللّه عليه و آله و أنبياء آخرين 67

ص:102

سبب شدة النفرة من القول بالرجعة 80

شبهات حول الرجعة 83

حوادث طريفة حول الرجعة 93

خاتمة 99

محتويات الكتاب 102

ص:103

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.