في ظلاک دعاء الافتتاح

اشارة

في ظلاکِ دُعاءِ الافتِتاحِ

تألیفُ :سَماحی العلامة السيِدُ منير الخَباز القطیفي

دار کميل للطباعة والنشر والتوزيع في لبنان

موضوع: ادعیه -زیارات

تعداد صفحات: 256 ص

ص:1

اشارة

في ظلاکِ دُعاءِ الافتِتاحِ

العلّامة السيِدُ منير الخَباز

الناشر: دار کميل للطباعة والنشر والتوزيع في لبنان

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

طبع هذا الكتاب بعد أخذ الموافقه

من مؤلف الكتاب سماحة السيد منير الخباز حفظه الله

ودار کميل للطباعة والنشر والتوزيع في لبنان

ص: 4

دعاء الافتتاح

بسم الله الرحمن الرحیم

الوارد عن الامام الحجة « عجل الله فرجه الشریف»

اَللَّهُمَّ إِنِّی أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك وَ أَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّك وَ أَیقَنْتُ أَنَّك أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ فِی مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَ الرَّحْمَةِ وَ أَشَدُّ الْمُعَاقِبِینَ فِی مَوْضِعِ النَّكالِ وَ النَّقِمَةِ وَ أَعْظَمُ الْمُتَجَبِّرِینَ فِی مَوْضِعِ الْكبْرِیاءِ وَ الْعَظَمَةِ اللَّهُمَّ أَذِنْتَ لِی فِی دُعَائِك وَ مَسْأَلَتِك فَاسْمَعْ یا سَمِیعُ مِدْحَتِی وَ أَجِبْ یا رَحِیمُ دَعْوَتِی وَ أَقِلْ یا غَفُورُ عَثْرَتِی فَكمْ یا إِلَهِی مِنْ كرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَهَا وَ هُمُومٍ [غُمُومٍ] قَدْ كشَفْتَهَا وَ عَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَهَا وَ رَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَهَا وَ حَلْقَةِ بَلاءٍ قَدْ فَككتَهَا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی لَمْ یتَّخِذْ صَاحِبَةً وَ لا وَلَدا وَ لَمْ یكنْ لَهُ شَرِیك فِی الْمُلْك وَ لَمْ یكنْ لَهُ وَلِی مِنَ الذُّلِّ وَ كبِّرْهُ تَكبِیرا. اَلْحَمْدُ لِلهِ بِجَمِیعِ مَحَامِدِهِ كلِّهَا عَلَی جَمِیعِ نِعَمِهِ كلِّهَا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی لا مُضَادَّ لَهُ فِی مُلْكهِ وَ لا مُنَازِعَ لَهُ فِی أَمْرِهِ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی لا شَرِیك لَهُ فِی خَلْقِهِ وَ لا شَبِیهَ [شِبْهَ] لَهُ فِی عَظَمَتِهِ الْحَمْدُ لِلهِ الْفَاشِی فِی الْخَلْقِ أَمْرُهُ وَ حَمْدُهُ الظَّاهِرِ بِالْكرَمِ مَجْدُهُ الْبَاسِطِ بِالْجُودِ یدَهُ الَّذِی لا تَنْقُصُ خَزَائِنُهُ وَ لا تَزِیدُهُ [یزِیدُهُ] كثْرَةُ الْعَطَاءِ إِلا جُودا وَ كرَما إِنَّهُ هُوَ الْعَزِیزُ الْوَهَّابُ اللَّهُمَّ إِنِّی أَسْأَلُك قَلِیلا مِنْ كثِیرٍ مَعَ حَاجَةٍ بی إِلَیهِ عَظِیمَةٍ وَ غِنَاك عَنْهُ قَدِیمٌ وَ هُوَ عِنْدِی كثِیرٌ وَ هُوَ عَلَیك سَهْلٌ یسِیرٌ. اَللَّهُمَّ إِنَّ عَفْوَك عَنْ ذَنْبِی،

ص: 5

وَ تَجَاوُزَك عَنْ خَطِیئَتِی وَ صَفْحَك عَنْ ظُلْمِی وَ سَتْرَك عَلَی [عَنْ] قَبِیحِ عَمَلِی وَ حِلْمَك عَنْ كثِیرِ [كبِیرِ] جُرْمِی عِنْدَ مَا كانَ مِنْ خَطَای [خَطَئِی] وَ عَمْدِی أَطْمَعَنِی فِی أَنْ أَسْأَلَك مَا لا أَسْتَوْجِبُهُ مِنْك الَّذِی رَزَقْتَنِی مِنْ رَحْمَتِك وَ أَرَیتَنِی مِنْ قُدْرَتِك وَ عَرَّفْتَنِی مِنْ إِجَابَتِك فَصِرْتُ أَدْعُوك آمِنا وَ أَسْأَلُك مُسْتَأْنِسا لا خَائِفا وَ لا وَجِلا مُدِلا عَلَیك فِیمَا قَصَدْتُ فِیهِ [بِهِ] إِلَیك فَإِنْ أَبْطَأَ عَنِّی [عَلَی] عَتَبْتُ بِجَهْلِی عَلَیك وَ لَعَلَّ الَّذِی أَبْطَأَ عَنِّی هُوَ خَیرٌ لِی لِعِلْمِك بِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ فَلَمْ أَرَ مَوْلًی [مُؤَمَّلا] كرِیما أَصْبَرَ عَلَی عَبْدٍ لَئِیمٍ مِنْك عَلَی یا رَبِّ إِنَّك تَدْعُونِی فَأُوَلِّی عَنْك وَ تَتَحَبَّبُ إِلَی فَأَتَبَغَّضُ إِلَیك وَ تَتَوَدَّدُ إِلَی فَلا أَقْبَلُ مِنْك كأَنَّ لِی التَّطَوُّلَ عَلَیك، فَلَمْ [ثُمَّ لَمْ] یمْنَعْك ذَلِك مِنَ الرَّحْمَةِ لِی وَ الْإِحْسَانِ إِلَی وَ التَّفَضُّلِ عَلَی بِجُودِك وَ كرَمِك فَارْحَمْ عَبْدَك الْجَاهِلَ وَ جُدْ عَلَیهِ بِفَضْلِ إِحْسَانِك إِنَّك جَوَادٌ كرِیمٌ الْحَمْدُ لِلهِ مَالِك الْمُلْك مُجْرِی الْفُلْك مُسَخِّرِ الرِّیاحِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ دَیانِ الدِّینِ رَبِّ الْعَالَمِینَ الْحَمْدُ لِلهِ عَلَی حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَ الْحَمْدُ لِلهِ عَلَی عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ وَ الْحَمْدُ لِلهِ عَلَی طُولِ أَنَاتِهِ فِی غَضَبِهِ وَ هُوَ قَادِرٌ [الْقَادِرُ] عَلَی مَا یرِیدُ الْحَمْدُ لِلهِ خَالِقِ الْخَلْقِ بَاسِطِ الرِّزْقِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ ذِی الْجَلالِ وَ الْإِكرَامِ وَ الْفَضْلِ [وَ التَّفَضُّلِ] وَ الْإِنْعَامِ [الْإِحْسَانِ] الَّذِی بَعُدَ فَلا یرَی وَ قَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوَی تَبَارَك وَ تَعَالَی الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی لَیسَ لَهُ مُنَازِعٌ یعَادِلُهُ وَ لا شَبِیهٌ یشَاكلُهُ وَ لا ظَهِیرٌ یعَاضِدُهُ قَهَرَ بِعِزَّتِهِ الْأَعِزَّاءَ وَ تَوَاضَعَ لِعَظَمَتِهِ الْعُظَمَاءُ فَبَلَغَ بِقُدْرَتِهِ مَا یشَاءُ. اَلْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی یجِیبُنِی حِینَ أُنَادِیهِ وَ یسْتُرُ عَلَی كلَّ عَوْرَةٍ وَ أَنَا أَعْصِیهِ وَ یعَظِّمُ النِّعْمَةَ عَلَی فَلا أُجَازِیهِ فَكمْ مِنْ مَوْهِبَةٍ هَنِیئَةٍ قَدْ أَعْطَانِی وَ عَظِیمَةٍ مَخُوفَةٍ قَدْ كفَانِی وَ بَهْجَةٍ مُونِقَةٍ قَدْ أَرَانِی فَأُثْنِی عَلَیهِ حَامِدا وَ أَذْكرُهُ مُسَبِّحا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی لا یهْتَك حِجَابُهُ وَ لا یغْلَقُ بَابُهُ وَ لا یرَدُّ سَائِلُهُ وَ لا یخَیبُ [یخِیبُ] آمِلُهُ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی یؤْمِنُ الْخَائِفِینَ وَ ینَجِّی [ینْجِی] الصَّالِحِینَ [الصَّادِقِینَ] وَ یرْفَعُ الْمُسْتَضْعَفِینَ وَ یضَعُ الْمُسْتَكبِرِینَ وَ یهْلِك مُلُوكا وَ یسْتَخْلِفُ

ص: 6

آخَرِینَ وَ الْحَمْدُ لِلهِ قَاصِمِ الْجَبَّارِینَ مُبِیرِ الظَّالِمِینَ مُدْرِك الْهَارِبِینَ نَكالِ الظَّالِمِینَ صَرِیخِ الْمُسْتَصْرِخِینَ مَوْضِعِ حَاجَاتِ الطَّالِبِینَ مُعْتَمَدِ الْمُؤْمِنِینَ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی مِنْ خَشْیتِهِ تَرْعَدُ السَّمَاءُ وَ سُكانُهَا وَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ عُمَّارُهَا وَ تَمُوجُ الْبِحَارُ وَ مَنْ یسْبَحُ فِی غَمَرَاتِهَا.

اَلْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كنَّا لِنَهْتَدِی لَوْ لا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِی یخْلُقُ وَ لَمْ یخْلَقْ وَ یرْزُقُ وَ لا یرْزَقُ وَ یطْعِمُ وَ لا یطْعَمُ وَ یمِیتُ الْأَحْیاءَ وَ یحْیی الْمَوْتَی وَ هُوَ حَی لا یمُوتُ بِیدِهِ الْخَیرُ وَ هُوَ عَلَی كلِّ شَیءٍ قَدِیرٌ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَ رَسُولِك وَ أَمِینِك وَ صَفِیك وَ حَبِیبِك وَ خِیرَتِك [خَلِیلِك] مِنْ خَلْقِك وَ حَافِظِ سِرِّك وَ مُبَلِّغِ رِسَالاتِك أَفْضَلَ وَ أَحْسَنَ وَ أَجْمَلَ وَ أَكمَلَ وَ أَزْكی وَ أَنْمَی وَ أَطْیبَ وَ أَطْهَرَ وَ أَسْنَی وَ أَكثَرَ [أَكبَرَ] مَا صَلَّیتَ وَ بَارَكتَ وَ تَرَحَّمْتَ وَ تَحَنَّنْتَ وَ سَلَّمْتَ عَلَی أَحَدٍ مِنْ عِبَادِك [خَلْقِك] وَ أَنْبِیائِك وَ رُسُلِك وَ صِفْوَتِك وَ أَهْلِ الْكرَامَةِ عَلَیك مِنْ خَلْقِك اللَّهُمَّ وَ صَلِّ عَلَی عَلِی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَ وَصِی رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِینَ،عَبْدِك وَ وَلِیك وَ أَخِی رَسُولِك وَ حُجَّتِك عَلَی خَلْقِك وَ آیتِك الْكبْرَی وَ النَّبَإِ الْعَظِیمِ وَ صَلِّ عَلَی الصِّدِّیقَةِ الطَّاهِرَةِ فَاطِمَةَ [الزَّهْرَاءِ] سَیدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وَ صَلِّ عَلَی سِبْطَی الرَّحْمَةِ وَ إِمَامَی الْهُدَی الْحَسَنِ وَ الْحُسَینِ سَیدَی شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ صَلِّ عَلَی أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِینَ عَلِی بْنِ الْحُسَینِ وَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِی وَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَ مُوسَی بْنِ جَعْفَرٍ وَ عَلِی بْنِ مُوسَی وَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِی وَ عَلِی بْنِ مُحَمَّدٍ وَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِی وَ الْخَلَفِ الْهَادِی الْمَهْدِی حُجَجِك عَلَی عِبَادِك وَ أُمَنَائِك فِی بِلادِك صَلاةً كثِیرَةً دَائِمَةً اللَّهُمَّ وَ صَلِّ عَلَی وَلِی أَمْرِك الْقَائِمِ الْمُؤَمَّلِ وَ الْعَدْلِ الْمُنْتَظَرِ وَ حُفَّهُ [وَ احْفُفْهُ] بِمَلائِكتِك الْمُقَرَّبِینَ وَ أَیدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ یا رَبَّ الْعَالَمِینَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ الدَّاعِی إِلَی كتَابِك وَ الْقَائِمَ بِدِینِك اسْتَخْلِفْهُ فِی الْأَرْضِ كمَا اسْتَخْلَفْتَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِ مَكنْ لَهُ دِینَهُ الَّذِی ارْتَضَیتَهُ لَهُ أَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ أَمْنا یعْبُدُك لا

ص: 7

یشْرِك بِك شَیئا،اَللَّهُمَّ أَعِزَّهُ وَ أَعْزِزْ بِهِ وَ انْصُرْهُ وَ انْتَصِرْ بِهِ وَ انْصُرْهُ نَصْرا عَزِیزا وَ افْتَحْ لَهُ فَتْحا یسِیرا وَ اجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْك سُلْطَانا نَصِیرا اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِینَك وَ سُنَّةَ نَبِیك حَتَّی لا یسْتَخْفِی بِشَیءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَیك فِی دَوْلَةٍ كرِیمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الْإِسْلامَ وَ أَهْلَهُ وَ تُذِلُّ بِهَا النِّفَاقَ وَ أَهْلَهُ وَ تَجْعَلُنَا فِیهَا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَی طَاعَتِك وَ الْقَادَةِ إِلَی سَبِیلِك وَ تَرْزُقُنَا بِهَا كرَامَةَ الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ. اَللَّهُمَّ مَا عَرَّفْتَنَا مِنَ الْحَقِّ فَحَمِّلْنَاهُ وَ مَا قَصُرْنَا عَنْهُ فَبَلِّغْنَاهُ اللَّهُمَّ الْمُمْ بِهِ شَعَثَنَا وَ اشْعَبْ بِهِ صَدْعَنَا وَ ارْتُقْ بِهِ فَتْقَنَا وَ كثِّرْ بِهِ قِلَّتَنَا وَ أَعْزِزْ [أَعِزَّ] بِهِ ذِلَّتَنَا وَ أَغْنِ بِهِ عَائِلَنَا وَ اقْضِ بِهِ عَنْ مُغْرَمِنَا [مَغْرَمِنَا] وَ اجْبُرْ بِهِ فَقْرَنَا وَ سُدَّ بِهِ خَلَّتَنَا وَ یسِّرْ بِهِ عُسْرَنَا وَ بَیضْ بِهِ وُجُوهَنَا وَ فُك بِهِ أَسْرَنَا وَ أَنْجِحْ بِهِ طَلِبَتَنَا وَ أَنْجِزْ بِهِ مَوَاعِیدَنَا وَ اسْتَجِبْ بِهِ دَعْوَتَنَا وَ أَعْطِنَا بِهِ سُؤْلَنَا وَ بَلِّغْنَا بِهِ مِنَ الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ آمَالَنَا وَ أَعْطِنَا بِهِ فَوْقَ رَغْبَتِنَا یا خَیرَ الْمَسْئُولِینَ وَ أَوْسَعَ الْمُعْطِینَ اشْفِ بِهِ صُدُورَنَا وَ أَذْهِبْ بِهِ غَیظَ قُلُوبِنَا وَ اهْدِنَا بِهِ لِمَا اخْتُلِفَ فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِك إِنَّك تَهْدِی مَنْ تَشَاءُ إِلَی صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ وَ انْصُرْنَا بِهِ عَلَی عَدُوِّك وَ عَدُوِّنَا إِلَهَ الْحَقِّ [الْخَلْقِ] آمِینَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكو إِلَیك فَقْدَ نَبِینَا صَلَوَاتُك عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ غَیبَةَ وَلِینَا [إِمَامِنَا] وَ كثْرَةَ عَدُوِّنَا وَ قِلَّةَ عَدَدِنَا،وَ شِدَّةَ الْفِتَنِ بِنَا وَ تَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَینَا فَصَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ [آلِ مُحَمَّدٍ] وَ أَعِنَّا عَلَی ذَلِك بِفَتْحٍ مِنْك تُعَجِّلُهُ وَ بِضُرٍّ تَكشِفُهُ وَ نَصْرٍ تُعِزُّهُ وَ سُلْطَانِ حَقٍّ تُظْهِرُهُ وَ رَحْمَةٍ مِنْك تُجَلِّلُنَاهَا وَ عَافِیةٍ مِنْك تُلْبِسُنَاهَا بِرَحْمَتِك یا أَرْحَمَ الرَّاحِمِینَ.

ص: 8

المقدمة

إن هذه الصفحات تضم بين سطورها مجموعة من المحاضرات التي ألقاها سماحة العلامة السيد منير الخباز - دام مؤيداً- بمسجد الإمام علي عليه السّلام، في شهر رمضان المبارك عام 1422ه- تحت ظلال دعاء الافتتاح الوارد عن الإمام الحجة - عجَّل الله فرجه الشریف - وهي تتضمن زخما من النظريات الفلسفية والعرفانية بالنقد والتحليل، وتختزن النفوذ الأعماق فقرات الدعاء ومقاطعه لاستنطاق المفاهيم التربوية والاجتماعية بلمساتها الروحية الشفافة، كما تتناول المواكبة والتلاحم بين أجواء الدعاء وأجواء الواقع المعاصر الذي تفشى فيه مرض الجفاف الروحي، وشوَّهته ألوان الترف المادي.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله نميراً تنهل منه أفئدة الطليعة من الشباب الطامح نحو آفاق الزُّلفي وأسمى مراتب العروج إلى سدرة المنتهى، والحمد لله ربَّ العالمين.

لجنة النور

ص: 9

ص: 10

بِسمِ الله الرحمن الرحیم

وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.

جاء في دعاء الافتتاح الوارد استحباب قراءته خلال شهر رمضان المبارك الحجّة

«عجّل الله فرَجَه الشريف»، قوله:

«اَللَّهُمَّ إِنِّی أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك».

هذه الفقرة تتضمّن عدّة نقاط:

الفرق بين الحمد والشكر والتسبيح:

إن الثناء على الله تبارك وتعالى له ثلاثة أنواع:

الحمد، والشكر، والتسبيح.

الحمد: هو عبارة عن الثناء على الجميل الاختياري.

فمثلاً: إذا صدر من ولدك فعل جميل كمواظبته على المذاكرة، أو مواظبته على أداء الفرائض في أوقاتها، فأثنيت على ولدك لما قام به من أفعال جميلة،

ص: 11

يسمّى هذا الثناء حمداً، فالحمد إذاً الثناء على الجميل الاختياري.

ولذلك فالله تبارك وتعالى حقيق بالحمد؛ لأنّ ذاته تبارك وتعالى عين الجمال، وجمال ذاته منشأ لجمال أسمائه، وجمال أسمائه منشأ لجمال أفعاله، فهو تبارك وتعالی منشأ الجمال وإليه ينتهي الجمال؛ لذلك فالثناء عليه تبارك و تعالی مصداق جليّ من مصاديق الحمد.

الشكر: هو عبارة عن الثناء على النعمة، كلّ نعمة أنعمت عليك فأثنيت على من أنعمها كان هذا شكراً منك، فإذا أنعم عليك والدك بنعمة أو أنعم عليك معلّمك بنعمة فالثناء على النعمة يسمّى شكراً.

التسبيح: وهو عبارة عن التنزيه عن النقص، فإذا قلنا بأن الله ليس بجاهل،

وليس بعاجز، وليس ببخیل، وليس بمركّب، وليس بجسم، فهذا يسمّى تسبيحاً، فهو تنزيه الباري تبارك وتعالى عن جميع أنواع النقص وشوائبه.

الافتتاح بالحمد والختم به:

نلاحظ أن الدعاء افتتح الثناء بالحمد، وجعل الفاتحة بالحمد: «اَللَّهُمَّ إِنِّی أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك»، وكما أنّ الحمد يختتم به كما في قوله تعالى حكاية عن أهل الجنّة:«وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1)، فالحمد أيضاً يُفتتح به ويختتم به.

هنا يأتي السؤال: لماذا يفتتح بالحمد ويختتم به؟

أمَا بالنسبة للافتتاح، فالحمد هو مفتاح جميع أنواع الثناء، وهو أشمل جميع أنواع الثناء، وكما ذكرنا في النقطة الاُولى فإنّ كلا النوعين الآخرَين من

ص: 12


1- سورة يونس، الآية 10.

الشكر والتسبيح يعتمدان على الحمد، فلولا الحمد لما كان هناك شکر، ولولا الحمد لما كان هناك تسبيح؛ وذلك لأنّ من لم يدرك جمال الله تبارك وتعالی وجمال أفعاله لم يعرف نعمه.

إنّ معرفة النعم تحتاج لمعرفة أفعاله الجميلة تبارك وتعالى؛ لأنّ النعمة فعل من أفعاله الجميلة، والشكر هو الثناء على النعمة، فلا بد من إدراك جمال الفعل أوّلاً حتّى يدرك أنّه نعمة، وبعد إدراك النعمة يتقدّم بالثناء على الله تبارك وتعالى وشكره، وبما أنّ إدراك كون الجميل نعمة هو بنفسه ثناء عقلي لا لفظي، والثناء على الجميل حمد؛ لذلك فالشكر يتوقّف على الحمد.

التسبيح أيضاً متوقّف على إدراك الجمال، فمن لم يدرك جماله لم ينزّهه عن النقص، فالتنزيه عن النقص فرع معرفة أنّه جمال بذاته تبارك وتعالى، وأنّه جمال بأسمائه وجمال بأفعاله، ومن كان جميلاً محض الجمال ينبغي تنزيهه عن جميع أنواع النقص وشوائبه، وبما أنّ إدراك الملازمة بين محض الجمال ونفي النقص هو حمد في حدَّ نفسه، فالتسبيح والشكر فرعان للحمد؛ لذلك كان مفتاح الثناء هو الحمد، فقال عليه السّلام: «اَللَّهُمَّ إِنِّی أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك».

كما أنّ الحمد أيضاً هو أهمّ أنواع الثناء لأنّه لا يختصّ بالأفعال بل يشمل الذات والأسماء والأفعال، فهو كما ذكرنا الثناء على الجميل، فذاته بما أنّه عين الوجود - ما ذكر الفلاسفة - والوجود مجموع للكمالات ومجمع لأنواع الجمال لذلك فذاته عين الجمال، وصِرف الجمال، ومحض الجمال، وجمال ذاته منشأ لجمال أسمائه، لذلك قال سبحانه في القرآن: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى»(1)، فجمال ذاته أضفى الجمال على أسمائه

ص: 13


1- سورة الإسراء، الآية 110.

وأفعاله أيضاً.

لاحظ قوله تبارك وتعالى: ««الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ»(1)، فما صدر منه إلّا الفعل الحسن والخلق الحسن، والنتيجة أنّ الثناء على ذاته - سبحانه - لا بما هي، بل بما هي منشأ للجمال، وكذلك الثناء على أسمائه بما هي معادن الجمال في أفعاله ثناءٌ على الجميل الاختياري، سواءً كان نعمة أم غيرها، والثناء الجميل الاختياري حمدٌ.

إذاً الشكر خاصّ بالنعم، والتسبيح خاصّ بالتنزيه عن النقص، أمّا الحمد فهو عام لذاته ولأسمائه و لأفعاله، فلذلك جعله الإمام عليه السّلام في هذا الدعاء مفتاحاً للثناء.

وأمّا الاختتام بالحمد، فلأنّ المتحدّث بعد استعراضه في حديثه لصنوف ومظاهر الجمال الإلهي يدرك جمال الحقّ إدراكاً تفصيليّاً، والإدراك التفصیلی حمد له تعالی فيبرز ذلك في الختام، أو أنّه يختم بالحمد لتوفيقه على إتمام ذکر النعم، فالحمد على توفيقه للحمد.

جميع أنواع الحمد راجعة له تعالى:

فمثلاً: إذا رأيت جميلاً من شخص فحمدته، أو وعدك أن يفعل فعلاً جميلاً فحمدته، فإنّ كلّ حمد على جميل تحمد عليه إنساناً، فهذا راجع إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنّ كل جمیل يصدر من أي مخلوق فهو منتسب الله تبارك وتعالى، فلولا جمال أفعاله لما وفق أي إنسان لفعل الجميل، إذ لا يمكن لأي مخلوق أن يصدر الجميل لولا أنّ الله تبارك وتعالى أعطاه طاقة الجمال وجعله وعاء الجمال، فكلّ جمیل صادر هو مستند إلى الله تبارك وتعالى، فجميع أنواع الحمد وإن كانت

ص: 14


1- سورة التغابن، الآية 7.

للمخلوقين هي راجعة إليه؛ لأنّه مصدر الجمال، فإليه يرجع الحمد، لذلك تقرأ في الآية المباركة: «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1)، فمن ملك أزمّة الوجود فكلّ جمال للوجود فهو منه، وبما أنّ كلّ جمال في ملکه صادر عنه إذاً فله الحمد تبارك وتعالى، فالآية تريد أن تشير للملازمة بين الملك والحمد «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وأنّ الوجه في هذه الملازمة هو قدرته تبارك وتعالى على كلّ شيء.

الاقتصار على الحمد دون التسبيح:

فبعض الموارد قُرن فيها التسبيح بالحمد، وقرن الحمد بالتسبيح كما في أذكار الصلاة، تقول: «سبحان ربّي العظيم وبحمده»، أي أنّ تسبیحي ممتزج بحمدي، وحمدي ممتزج بتسبيحي. قال تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(2)، كلّ شيء في الكون يصدر منه ثناء مركّب من تسبيح وحمد، فنحن نلاحظ في كثير من الأذكار أنّ التسبيح مقترن بالحمد، ونلاحظ أحياناً أن الحمد مجرّد من التسبيح كما في الدعاء الشريف: «اَللَّهُمَّ إِنِّی أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك»، والسبب هو اختلاف المقامات، فاختلاف المقامات منشأ لاختلاف أنواع الثناء. فالمقام الأوّل مقام الشهادة، ومقام الشهادة يعتبر فيه إحاطة الشاهد بتمام أطراف المشهود به، فإذا أراد المخلوق أن يشهد الله تبارك وتعالى فلابد أن تكون شهادة المخلوق شاملة لأوصاف الذات الإلهيّة، فالذات الإلهيّة هي عبارة عن النور الذي لا نقص فيه.

ص: 15


1- سورة التغابن، الآية 1.
2- سورة الإسراء، الآية 44.

وبما أنَ الثناء على الباري سبحانه وتعالى من جهة النور حمد، والثناء عليه من جهة أنّه لا نقص فيه هو تسبيح، فعندما يريد المخلوق أن يشهد للذات الإلهيّة فلابد أن يشهد بتمام واقعها، وواقعها نور لا نقص فيه، فلابدّ أن تكون الشهادة مقترنة بالتسبيح والتحميد فيقول: «سبحان ربّي الأعلى وبحمده».

أمّا في مقام الدعاء، فالدعاء توفيق منه تبارك وتعالى، فلولا توفيقه لما دعوته، ومثال ذلك ماورد في الصحيفة السجّاديّة: «فَكَيفَ لي بِتَحصيل الشُّكرِ وَشُكرى إيّاكَ يَفتَقِرُ إلى شكرِ، فَكُلَّما قُلتُ لَكَ الحَمدُ، وَجَبَ عَلَىَّ لِذلِكَ أَن أَقولَ لَكَ الحَمدُ»(1)، فكلّما وُفقت لدعاء فهو نعمة تحتاج إلى الشكر.

ولأنّي في مقام الدعاء والنظر إلى توفيقه وهدايته لأن أدعوه لذلك جئت بالحمد وقلت:

«اللّهُمَّ إِنّي أَفتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمدِكَ»، فهذا الثناء توفيق منك يا ربّ يحتاج إلى الحمد، فمقام الشهادة يختلف عن مقام الدعاء، واختلاف المقام أوجب الاقتصار هنا على الحمد، وأوجب الاقتران هناك بين التسبيح والحمد.

والحمد قد يكون حمداً قلبيّاً وهو إدراك الجمال الإلهي، وقد يكون حمداً لسانيّاً، كأن نقول: «حمداً لله»، و«شكراً لله»، وقد يكون حمداً سلوكيّاً، والمهمّ هو الحمد السلوكي والعملي، فالمهمّ أن نكون حامدين حمداً عمليّاً وسلوكيّاً.

مظاهر الحمد السلوكي:

المظهر الأوّل: التفقه في الدين

فمن مشاكل عصرنا الآن عدم التفقّه في الدين، فقد ورد في الحديث

ص: 16


1- الصحيفة السجاديّة: المناجاة السادسة: مناجاة الشاكرين.

الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين کسبه، وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»(1)، فمشكلة عصرنا الحاضر هو التعامل مع المال من دون التفقّه في الدين، وإبرام العقود والمعاملات في الأسواق من دون التفقّه في الدين، فالسؤال عن أحكام المعاملات، والسؤال عن أحكام هذه العقود، وكيفيّة التعامل معها هو نوع من الحمد، فحمدك ربّك على نعمة المال وشكرك عليه هو أن تتفقّه في كيفيّة اكتساب المال، ومعرفة المعاملات المحلّلة والمعاملات المحرّمة.

المظهر الثاني: إخراج الحقوق من الأموال

فقد ورد عن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (الإمام الباقر): ما أيسر ما يدخل به العبد النّار؟ قال: «من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم»(2).

وبالنتيجة، إخراج الحقوق الشرعيّة من الأموال - خمساً أو زكاة - نوع من

أنواع الحمد على المال.

دخل الإمام عليّ علیه السّلام على دار الحارث بن زیاد فوجدها واسعة، قال: «یا حارث، ماذا تصنع بهذه الدار الواسعة؟»، فسكت الحارث، فقال له الإمام عليه السّلام: «إنّك تستطيع أن تصل بها الآخرة»، فقال الحارث: كيف سيّدي؟ قال عليه السّلام:

«تُقري الضيف، وتصل الرحم، وتُخرج الحقوق من مخارجها ، فإذا أنت فعلت

ذلك فقد وصلت بها الآخرة».

فليس محجوباً على الشخص أن يكون في نعمة، وليس ممنوعاً على الشخص

ص: 17


1- بحار الأنوار: ج 7، ص 258، ب 11، ح 2.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 42، باب الخمس، ح 1650.

أن يكون في ثراء، ولكنّ المهمّ أن تكون نعمه وثراؤه مشفوعين بالحمد، والحمد عبارة عن إخراج الحقوق من مخارجها.

المظهر الثالث: عدم الإسراف في استخدام وبذل هذه الثروات

فهذا الصرف الهائل في أعراسنا ومآدبنا والتي تقام في الفنادق وتستدعي بذل أموال طائلته، وحتّى الفواتح أصبحت مواضع إسراف وخصوصاً على مستوى النساء، هذا البذل من أوضح المصادیق على الإسراف المحرَّم، وقد قال تعالى: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»(1)، فبذل الأموال بدون حدّ، ومن دون وضعها في مواضعها مصداق للإسراف.

فالحمد على النعمة هي بوضع المال في موضعه، قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ»(2)، تركت الحمد، وتركت الشكر، وتلاعبت بالثروات والنعم «فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»(3)، فكلّ بلد لا يحافظ على ثرواته ولا يوزّعها توزیعاً عادلاً تشمله هذه السنّة الكونيّة الاجتماعيّة التي لا مفرَّ منها، فتنتشر فيه المجاعات والحروب ويشتدّ فيه الخوف.

اللّهم ارزقنا شكر نعمائك، واجعلنا من الحامدين لك، والحمد لله ربّ

العالمين.

ص: 18


1- سورة الإسراء، الآية 31.
2- سورة النحل، الآية 12.
3- سورة النحل، الآية 12.

قوله (عج): «وَأَنتَ مُسَدَّدٌ لِلصَّواب بِمَنَّكَ».

علاقة التسديد بالافتتاح بالحمد:

قال: «اللّهُمَّ إِنّي أَفتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمدِكَ»، ثمّ قال: «وَأَنتَ مُسَدَّدٌ لِلصَّواب بِمَنَّكَ»، وهنا ثلاثة محتملات في العلاقة بين افتتاح الثناء بالحمد، وبين التسديد:

المعنى الأوّل: أن يكون علاقة هذه الفقرة بسابقتها علاقة العلّة بالمعلول،

أي ما هي العلَة لافتتاحي بالحمد؟

العلّة لافتتاحي هذا أنّك سدَّدتني للصواب بمنّك، فالفقرة الثانية هي بمثابة

العلّة للفقرة الاُولى.

المعنى الثاني: أن يكون الأمر بالعكس، وهي علاقة الفقرة الثانية بالاُولى علاقة المعلول بالعلّة، أي أنَ مقصوده: لأنّي افتتحت الثناء بحمدك فقد سدَّتني للصواب بمنّك، أي أنَ دعائي وحمدي هو تسديد للصواب، وإقبالي

ص: 19

عليك هو صواب وأنت الذي سدَّدتني إليه بتفضّلك ومنّك، فالفقرة الثانية متفرّعة على الفقرة الاُولى.

المعنى الثالث: أن تكون الجملة مستأنفة دعائيّة، كما ورد في كثير من الروايات الدعاء بالجملة الاسميّة؛ لأنّه أبلغ في صياغة الدعاء، فمثلاً السلام في الصلاة، تقول: «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، فهو نوع من الدعاء، وكذلك الأمر في المقام، فإنّ المقصود بهذه الفقرة هو: وسدَّدني للصواب بمنّك وأبقني على التسديد للصواب بمنَّك وتفضُّلك.

التسديد هداية أمريَّة:

التسديد للصواب هو عبارة عن الهداية الأمريّة والمسماة عند الحكماء

بالعصمة، فما معنى ذلك؟

أقسام الهداية:

الهداية على قسمين: هداية تكوينيّة، وهداية تشريعيّة.

الهداية التشريعيّة: هي الهداية التي يقوم بها الأنبياء والرسل، قال تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1)، والإنذار والتبشیر هداية تشريعيّة.

الهداية التكوينيّة: هي الهداية التي لا يتوسّط فيها لا نبيّ ولا رسول، وهي

على قسمين:

ص: 20


1- سورة النساء، الآية 165.

أ- هداية استحقاقيّة: وهي التي يستحقّها العبد على الله تعالی لوعده له بها، لا لكفاءته لذلك، وهي ما عبّر عنها قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(1)، إذا رأى الله عبداً مقبلاً على العبادة منيباً إليه مقبلاً على خشوعه، رزقه نور الهداية وطعم قلبه بطعم الهداية، فهذه هداية استحقاقيّة، وفي آية اُخرى: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى»(2)، أصحاب الكهف لأنّهم آمنوا بربّهم وكانوا مؤمنين زدناهم هدى وهي الهداية الاستحقاقيّة.

ب - هداية تفضّليّة: وهي التي يهبها الله تعالى عباده ويتفضّل بها على

عباده ابتداءً حتّى ولو لم يقوموا بجهد ولا عمل، وهذه الهداية على قسمين:

1- هداية عامّة: هي هداية كلّ مخلوق لخالقه، قال تعالى: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(3)، كلّ شيء لمّا خُلِق اُعطى الهداية لخالقه، حتّى الصخرة الصمّاء وهذا الجبل الصلب، يقول القرآن الكريم: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(4)، لا يوجد شيء ليست عنده درجة من الهداية، ودرجة من التسبيح، ودرجة من الشعور بالله تبارك وتعالی.

وهذا مبنيّ على مسلك في الفلسفة الوجود مساوق للعلم والشعور - کلّ موجود مادام يملك وجوداً فهو يملك حظّاً من العلم وحظّاً من الشعور، وكلّ

ص: 21


1- سورة العنكبوت، الآية 69.
2- سورة الكهف، الاية 13.
3- سورة طه، الآية 50.
4- سورة الإسراء، الآية 44.

موجود يعلم بنقصه وحاجته، وكلّ موجود علم بنقصه علم بأنّ هناك مبدءً غيبياً يمدُّه بالكمال ويمدّه بالعطاء، ألا وهو الله تبارك تبارك وتعالى، فلولا أنّه يملك هداية وشعوراً بالله لما هبط من خشية الله.

وآية اُخرى قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(1)، فكلّ موجود بما أنّه يملك طاقة من الوجود فهو يملك حظّاً من الشعور وحظّاً من الهداية، لذلك فهو مسبّح حامد، وهذه الهداية تسمّى بالهداية العامّة.

2- هداية خاصّة: وهي لخصوص البشر العاقل، وتنقسم إلى قسمين:

أ- هداية خلقيّة: وهي هداية عن طريق تهيئة الأسباب المادّية للهداية، فإنّ من أعدّ الله له الأسباب المادية للهداية هُدي، وهذه الهداية تسمى هداية خلقيّة؛ لأنّها ترتبط بأسباب مادّية، كقول الشاعر:

لا عذب الله اُمّي إنّها شربت *** حبّ الوصي وغذّتنيه في اللبن

وكان لي والدٌ يهوى أبا حسن *** فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسن

أي أنّ هذه الهداية لأسباب ماديّة؛ لأنّي وُجدت من أبوين مهتديين، ولأنّي

وُجدت من سلالة مهتديّة وفي بيئة مهتدية هُدیت، حتّى الجينات الوراثيّة تؤثّر على الإنسان، فإذا كان منحدراً من سلالة كلّها طاهرة وكلّها هداية، فإنّ هذه الجينات بالنتيجة تنعكس على هذا الوجود.

لذلك تلاحظ أن القرآن الكريم يقول: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ»

ص: 22


1- سورة الحشر، الآية 21.

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1)، كلّ هؤلاء شجرة واحدة، والعامل الوراثي حقق مفعوله، إذاً تهيئة العامل المادي والأسباب المادية هي المسماة بالهداية الخلقيّة.

ب - هداية أمريّة: وهي أنّ الله تبارك وتعالى يزرع الهداية في قلب الإنسان المؤمن بدون وسائط، وهذا الزرع للهداية بلا أسباب ولا وسائط، ولا مقدمات إعداديّة في قلب المؤمن، ويسمّى هداية أمريّة.

وهي عبارة عن انبثاق هذا النور دون مقدّمات، قال تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»(2)، عنده نور من الله تبارك وتعالی.

وقال جل وعلا: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3)، فهذه هي الهداية الأمريّة.

وقد ذكر القرآن الكريم أنّ الأئمة قادرون على الهداية الأمريّة حيث قال٫

تبارك وتعالى:«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»(4)، أي أنّ الإمام قادر على أن يزرع نور الهداية في قلب أي إنسان من دون أسباب ماديّة ومن دون مقدّمات، فشعاع نور المعصوم يتّصل بقلب الإنسان الآخر فيزرع نور الهداية في قلبه وفي جوانحه، وهذا ما يسمّى بالهداية الأمريّة.

ص: 23


1- سورة آل عمران، الآية 33 - 34.
2- سورة الزُّمر، الآية 22.
3- سورة الأنعام، الآية 122.
4- سورة الأنبياء، الآية 73.

الهداية الأمريّة هي العصمة:

والهداية الأمريّة هي عبارة عن العصمة، والعصمة لها درجات، وأدنی درجاتها التسديد للصواب، وأعلى درجاتها أن يمتنع الإنسان عن المعصية من أجل تلطف قلبه بنور العصمة.

وأنت عندما تدعو في دعاء الافتتاح، وتقول: «وَأَنتَ مُسَدَّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنَّکَ»، فأنت تطلب العصمة، وتسديد الصواب هو عبارة عن زرع نور الهداية في قلبك، أي سدَّدني للصواب صواباً علمياً وصواباً عمليّاً.

لأنّ الصواب ينقسم إلى قسمين:

صواب علميّ، وصواب عمليّ، سدّدني للصواب في معلوماتي فلا يقع في ذهني معلومات خاطئة، وسدَّدني للصواب في عملي فلا اُخالف أمر الله تبارك وتعالى لأنّي مسدَّد للصواب.

فتسديد الصواب بقسميه العلميّ والعمليّ هو عبارة عن درجة العصمة، والعصمة لها درجات مختلفة يمكن لأي إنسان أن ينال أقلَ درجة من درجاتها، وللإمام عليه السّلام أعلى درجاتها، فالعصمة هي نور واحد ولكنّها درجات مختلفة، فيمكن حتى للإنسان العادي أن ينال مرتبة منها، وهو أن يسدَّد للصواب علماً وعملاً.

دعاء الإمام عليه السّلام لنفسه بالتسديد:

إذا كان المقصود بتسديد الصواب هو العصمة، فكيف يدعو الإمام لنفسه؟ إذا كان مسدّداً للصواب وهو معصوم، فكيف يطلب من ربّه العصمة؟ كذلك

ص: 24

يمكن أن نطرح نفس السؤال في قول الإمام عليه السّلام في صلاته: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(1)، فكيف يطلب الهداية وهو مهتدٍ؟ ألا يقرأ الإمام هذه العبارة خاضعاً خاشعاً؟! فكيف يطلب الهداية من ربّه وهو مهتدٍ ولا يحتاج إلى هداية؟

من المحتمل أنّ المقصود منه دوام التسديد وبقاؤه.

ومن المحتمل أنّ المقصود منه أنّ نفس العصمة التي اُعطيت

للمعصوم عل لها مفهومان:

أحدهما: متواطئ، وهو عبارة عن امتناع الذنب والخطأ ومخالفة الأولى،

وهذا سارٍ في جميع الأئمّة على حدّ سواء.

وثانيهما: مشكّک، وهو الكمال الروحي الناشئ عن انکشاف عالم الملكوت، والعصمة بهذا المعنى لها مراتب متفاوتة؛ لأنّها تابعة للعلم، فكما أنّ العلم له درجات متفاوتة: درجة علم اليقين، ودرجة عين اليقين، ودرجة حقّ اليقين، كذلك العصمة.

العصمة أيضاً لها درجات متفاوتة، فإن أكمليّة محمّد الله على علىّ عليه السّلام من الناحية العلميّة موجبٌ لأكمليّته على عليّ عليه السّلام من الناحية الروحيّة، وأكمليّة علىّ علیه السّلام على أبنائه المعصومين من الناحية العلميّة موجب

الأكمليته علی أبنائه عليهم السّلام من الناحية الروحيّة.

لذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السّلام: «نحن في الفضل

سواء، ولكنّ بعضنا أعلم من بعض»(2).

ص: 25


1- سورة الفاتحة، الآية 6.
2- بحار الأنوار، ج 36، ص 409.

وورد في الحديث الشريف عن الإمام زين العابدین علیه السّلام، قال لابنه أبي جعفر: «یا بني، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب علیه السّلام، فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجّراً، وقال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب علیه السّلام»(1).

إذن لولا تفاوتهم في درجات العلم لمّا كان هناك تفاوت في الدرجات الروحيّة، فلا مانع من أنّ يكون الإمام المعصوم معصوماً في الوقت الذي هو أكمل النّاس علماً وعصمة، ومع ذلك يريد أن يزداد علماً وقرباً من الله تبارك وتعالى فيدعو بهذا الدعاء:

«وَأَنتَ مُسَدَّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنَّكَ»، يطلب الزيادة في التسديد والزيادة في مراتب ودرجات التسديد، اللّهمّ اجعلنا ممّن سدّدته للصواب بمنَّك.

ص: 26


1- بحار الأنوار، ج 46، ص 75.

العلاقة الغيبية بين المؤمن وروح القدس

قوله «عج»: «وَأَنتَ مُسَدَّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنَّكَ».

ذكرنا أن المقصود بالتسديد للصواب مرتبة من مراتب الهداية الأمرية المعبَّر عنها بالعصمة، وهناك وجه آخر يُحمل عليه التسديد للصواب وهو عبارة عن الاتصال بروح القدس.

حيث ذكر القرآن الكريم أن روح القدس روح تتصل بالمؤمنين وبالأنبياء والأئمة عليهم السّلام، فقد ذكر القرآن الكريم بالنسبة للمؤمنين «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(1)، وذكر بالنسبة للانبياء كما في حديثه عن النبي عیسی علیه السّلام، «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»(2).

روح القدس -كما ورد في النصوص الشريفة - ليس هو جبرئیل علیه السّلام بل روح القدس هو موجود و مخلوق أعظم خلقاً من الملائكة وصلاحياته واسعة وتأثيره أقوى من الملائكة، لذلك في سورة القدر المباركة عطف الروح على الملائكة «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا»(3).

ص: 27


1- سورة المجادلة، الآية 22.
2- سورة البقرة، الآية 87.
3- سورة القدر، الآية 4.

وبما أن العطف دليل المغايرة؛ فإن الروح غير الملائكة بل أعظم وجوداً وأوسع نفوذاً من الملائكة، إن روح القدس يبث تأثيره وإمداده للأنبياء والرسل والأئمة والمؤمنين أيضاً.

القول بأن العصمة التبليغية قهرية ومناقشته:

وهنا بحث يستحق التعرض له، وهو أن المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية ذهب إلى أن العصمة التبليغية عصمة قهرية آلية؛ فالرسول الأعظم كما هو معصوم في أعماله وأفعاله؛ كذلك هو معصوم في تبليغه للأحكام، إلا أن عصمة الرسول في مقام التبليغ عصمة قهرية.. مامعنى العصمة القهرية؟

يعني أن الرسول الله في مقام التبليغ مثل الآلة التي لا يمكن أن٫تتخلف عن الوحي الإلهي، واستند في هذا الرأي إلى الأية المباركة وهي قوله تعالى:«عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا»(1).

فالآية تصرَّح بأن هذا الرسول محاط برصد من الملائكة لكي يحصل العلم بأنه بلَّغ الرسالة بتمامها وكمالها دون زيادة أو نقصان، فهو كالآلة التي تبلغ ما أنُزل إليها قهراً دون تأخر أو تخلف.

إذن فالعصمة التبليغية في رأيه عصمة قهرية لا مجال لإرادة

الرسول فيها ولا لاختياره.

وهذا الرأي الذي ذكره غير صحيح، والسبب في ذلك أنه

ص: 28


1- سورة الجن، الآية 26 - 28.

لا فرق بين التبليغ وبين غيره من الأفعال التبليغ فعل من أفعال النبي وهو فعل اختياري خاضعٌ لإرادته واختياره.

نعم نتيجة تلطُّف ذاته وتشرُّف ذاته بنور العصمة فهو ممتنع أن يزيد أو ينقص أو يخطيء أو يسهو أو ينسى أو يبلّغ خلاف ما أُنزل إليه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ»(1).

فلو كان مقهوراً لما أمكنه أن يتقوَّل أو يزيد أو ينقص، مضافاً إلى أن هذه الآية من باب التوعيد وهو يكشف عن أنه علل مختار في عملية التبليغ وأن عملية التبليغ خاضعة لإرادته ولاختياره.

ولكن لكون قلبه معطراً بنور العصمة ومشرفاً بنور العصمة، فهو باختياره وبإرادته لا ينقص أو يزيد بل يبلغ الوحي كما أنزل إليه من قبل السماء «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *

«إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(2).

أما الآية التي استشهد بها فليست ناظرة للعصمة، بل ناظرة للتسديد بروح القدس، الذي هو الرصد، «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ»(3).

أذن الآیة تريد أن تقول أن النبي مضافاً إلى أن قلبه مطهَّر بنور العصمة، فهو مسدَّد بروح القدس، فالتسديد بروح القدس غير العصمة، وكما أن الله وهبه العصمة فإنه سدَّده بروح القدس.

فالعصمة شيء والتسديد بروح القدس شيء آخر، ومن الآيات الدالة على الاختيار في تلقّيه للوحي وتبليغه هو قوله تعالى: «وَلا

ص: 29


1- سورة الحاقة، الآية 44 - 46.
2- سورة النجم، الآية 3-4.
3- سورة الجن، الآية 27 - 8.

تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ»(1)، وقال في آية

أخرى: «لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ».

والخلاصة أن هذه الفقرة من فقرات دعاء الافتتاح، وهي قوله

علیه السّلام: «وأنت مسدد للصواب بمنَّك» تُحمل على وجهين:

الوجه الأول: المقصود بالتسديد درجة من درجات العصمة

ومرتبة من مراتب الهداية الأمرية.

الوجه الثاني: أن المقصود به هو التأييد بروح القدس، أي أيدنا

بروح القدس واجعلنا متصلين به مادمنا مؤمنين وداعين ومتضرعين.

قوله علیه السّلام: «وَأَيقَنتُ أَنَّكَ أَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ في مَوضع

العَفوِ وَالرَّحمَةِ»(2).

الحديث عن هذه الفقرة في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: الرحمة من صفات الفعل:

ذکر علماء الكلام أن الرحمة من صفات الفعل لا من صفات الذات، فالرحمة هي عبارة عن إفاضة الخير وهي عبارة عن البذل والعطاء، فإفاضته للخلق وللرزق وللهداية وللبركة تسمى رحمة، وقد قُسَّمت صفاته تبارك وتعالى في علم الكلام إلى صفات ذاتية وصفات فعلية.

الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية:

الصفات الذاتية: هي عبارة عن صفاته التي لا تتخلف عن ذاته

ص: 30


1- سورة طه، الآية 114.
2- سورة القيامة، الآية 16 - 19.

ولا يتوقف وجودها على شيء في الخارج، فقدرته عين ذاته، وعلمه

عين ذاته، وحياته عين ذاته.

الصفات الفعلية: هي التي لا تتحقق إلا إذا وُجد شيء في

الخارج، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ فالخلق يتحقق إذا أفاض

الله الوجود، والرزق يتحقق إذا أفاض الله العطاء، والإحياء يتحقق إذا أفاض

الله الحياة.

فهذه الصفات ليست كالصفات الذاتية لا تتخلف عن ذاته عز وجل بل هذه الصفات فعلية يعني أنها عين فعله وعين إفاضته تبارك وتعالى، فالرحمة من صفاته الفعلية.

الفرق بين الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية:

وقد قسَّم علماء الكلام الرحمة أيضاً إلى قسمين:

الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية:

1- الرحمة الرحمانية: وهي مستفادة من قوله تعالى: «الرَّحمَنُ»،

وهي التي شملت الوجود بأسره من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، قال

تبارك وتعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

كل شيء موجود فهو وعاءٌ للرحمة الإلهية، وهذه الرحمة تُسمى بالرحمة الرحمانية. لاحظ الآية المباركة «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(2)،

لماذا عبَّر هنا بالرحمن؟

يقول علماء التفسير أن من سيطر على العرش سيطر على

ص: 31


1- سورة الأعراف، الآية 156.
2- سورة طه، الآية 5.

الكون، وكل شيء له مرکز، وهذا الكون أيضاً له مرکز معين منه جميع الوجود يتحرك، من العرش مصدر الأوامر تصدر الإشارات الكونية وتصدر النواهي.

فالآية المباركة تقول:«الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»، بمعنى أن الكون خاضع لسيطرته وخاضع لقيمومیته وهيمنته سبحانه وتعالى لأن العرش وهو مركز الكون تحت هيمنته وسيطرته ومن سيطر على العرش سيطر على الكون.

فإذا كانت سيطرته على العرش محفوفة بالرحمة انبثت الرحمة إلى

جميع أجزاء الكون وإلى جميع آفاق الكون.

2- الرحمة الرحيمية: مأخوذة من قوله تعالى: «الرَّحيم»،

وهي الخاصة بالمؤمنين.

المؤمنون وعاء للرحمة الرحيمية، الرحمة الخاصة التي عبر عنها

تعالى بقوله:«فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ»(1)، وقوله عزَّ من قائل:

«أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ»(2)، هذه هي الرحمة الرحيمية.

التركيز على صفة الرحمة:

الأمر الثاني: لماذا ركز الإمام في هذه الفقرة على صفة الرحمة.

«وَأَيقَنتُ أَنَّكَ أَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ في مَوضع العَفوِ وَالرَّحمَةِ».

إنما تعرَّض لصفة الرحمة في هذه الفقرة لوجهين:

ص: 32


1- سورة الأنعام، الآية 125.
2- سورة الزمر، الآية 22.

الوجه الأول: أن الدعاء مساوق لطلب الرحمة فالداعي إما أن يطلب المغفرة والمغفرة رحمة، أو يطلب الرزق والرزق رحمة، أو يطلب الهداية وهي رحمة، أو يطلب الوجود كطول العمر والصحة وكل ذلك٫ رحمة، فالدعاء مساوق لطلب الرحمة، لذا كان من المناسب افتتاحه بصفة الرحمة والتأكيد على الرحمة، فإن الإنسان إذا طلب طلباً من شخص فالمناسب أن يصفه بالوصف المناسب للطلب. مثلاً إذا طلبت علماً من عالم أصفه بالوصف المناسب لطلبه ألا وهو وصف الرحمة «وأيقنت أنك أنت ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة».

الوجه الثاني: أراد الإمام علیه السّلام - على ما ورد عنه- أن يشير بهذه الفقرة إلى أن الدعاء نفسه رحمة إلهية، فتوفيق الإنسان للدعاء هو رحمة إلهية، وكون الإنسان داعياً، كونه مقبلاً على الله، كونه متضرعاً إلى الله، ابتهال الإنسان، تسابيح الإنسان، اتجاه قلبه إلى السماء هو بنفسه رحمة من الله تبارك وتعالى، رحمنا فجعلنا من الدعاة له ورحمته شملتنا فجعلنا من الداعين، «وَأَيقَنتُ أَنَّكَ أَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ في مَوضع العَفوِ وَالرَّحمَةِ».

ص: 33

ص: 34

فیض الرحمة فی واحة الدعا

قوله علیه السلام: «وَأَيقَنتُ أَنَّكَ أَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ في مَوضع العَفوِ وَالرَّحمَةِ».

حديثنا حول هذه الفقرة في نقطتين:

1- في تأكيد الإمام عليه السّلام على صفة الرحمة.

2- الآثار التربوية للدعاء.

التأكيد على مظاهر الرحمة:

إن التأكيد على صفة الرحمة - كما ذكرنا- للإشارة إلى أن الدعاء نفسه رحمة،

توفیق الإنسان لأن يخلو ويدعو ربه هو بنفسه رشحة من رشحات الرحمة الإلهية باعتبار أن الدعاء يتضمن مجموعة من مظاهر الرحمة الإلهية.

المظهر الأول: أن الدعاء تنفيس يرفع ثقل الهموم وکابوس

الغموم المخيم على النفس.

إن الإنسان قد يصاب بالظروف الحياتية القاسية، ولا

يستطيع أن

يعبر عن ألمه نتيجة قسوة الظروف وضغطها عليه، والإنسان قد يبتلى

ص: 35

بالذنوب والمعاصي والمؤمن إذا ابتُلي بالذنب ساءه الذنب وخيّم على

قلبه.

المؤمن ليس كالمنافق، فالمنافق كما ورد في الحديث الشريف: «إذا

أذنب المنافق كان ذنبه كذبابة طارت أمام عينه، أما المؤمن إذا أذنب

كان ذنبه كالجبل على صدره».

المؤمن نتيجة لعلاقته بالله تعالى، ونتيجة لارتباطه بالله عزّ وجلّ؛

إذا أذنب ذنبأ، أو شذّ شذوذاً، أو زلّ زلّة، خلّفت له آثاراً نفسية وكآبة

تخيّم على قلبه ونفسه.

وإذا لم يُعبّر الإنسان عن همومه، وإذا لم يُفصح عن غمومه، وإذا

لم ينفس بلسانه عمَّا يخيَّم على قلبه من كآبة الذنوب وكآبة المعاصي

وكابوس الظروف المظلمة سوف تبقى هذه الكآبة عقدة مزمنة تمسك

بنفسه لا يتخلص منها.

ليس هناك علاج نفسي لمرض الكآبة، ولإزالة ظلمات الذنوب إلا بالدعاء.. الدعاء ينفّس عن أجواء الهموم والغموم، وبذلك يكون مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية،

«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1).

المظهر الثاني: أن الدعاء علاج لمرض القسوة.

قال تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»(2).

ص: 36


1- سورة الزمر، الآية 53.
2- سورة البقرة، الآية 74.

فالقسوة إذا هيمنت على القلب نتيجة الإسراف والإفراط في المعاصي والرذائل فنتيجتها أن الإنسان يبتعد عن حظيرة الله ويبتعد عن حظيرة منازل أولياء الله.

مرض القسوة هو مسبَّب عن الإفراط في الذنوب؛ لاحظ الرواية الواردة عن الإمام الصادق علیه السَّلام: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً(1).

ليس المقصود فعلاً أن تخرج نكتة سوداء، وإنما هذا التعبير کناية عن أثر الذنوب والمعاصي، فالإفراط في الذنوب والمعاصي يسبب ظلمة قاتمة توحش النفس وترهب القلب، وذلك قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»(2)، فإن الرَّين هو الصبغ يعلق بالقلب ويهيمن عليه نتيجة الإفراط في المعاصي والذنوب.

من أفرط في الذنوب وأسرف في المعصية وانجرف وراء الرذيلة بمختلف ألوانها وأشكالها أُصيب بمرض القسوة، ومن أصيب بمرض القسوة فمن أهم أعراض هذا المرض أن الإنسان يرى نفسه تنفر من الموعظة ويرى نفسه تنفر من ذكر الموت وذكر الآخرة، ونفور النفس من الموعظة ومن ذكر الآخرة عَرَض واضح يكشف أن الإنسان مصاب بمرض القسوة نتيجة الإفراط في الذنوب والإسراف في المعاصي.

فما هو علاج هذا المرض؟

علاج هذا المرض هو الدعاء، فالدعاء هو الذي يرققُ النفس،

ص: 37


1- الكافي، ج2، ص271، ح 13.
2- سورة المطففين، الآية 14.

وهو الذي يكسب النفس طعم الرفق والعطف والحنان والرقة، عوَّد نفسك على أن تبكي، عوَّد نفسك على أن تنحب، عوَّد نفسك على أن تتأسف، عوَّد نفسك على أن تتحسَّر، تعويد النفس على دعاء البكاء والحسرة والندامة يرقق النفس ويرفع عنها غشاوة القساوة التي قد تخيَّم عليك.

الإمام زين العابدین وسیَّد الساجدين علیه السّلام يقول: «ومالي لا اَبكي - هل أنا حجر أصمّ! هل أنا صخرة قاسية لا تنفعل ولاترقُّ ولا تحسّ - ومالي لا أبكي - أنا إنسان والإنسان مجموعة من العواطف والمشاعر - وَلا اَدري اِلى ما يَكُونُ مَصيري، وَاَرى نَفسي تُخادِعُني، وَاَيّامي تُخاتِلُني، وَقَد خَفَقَت عِندَ رَأسي اَجنِحَةُ المَوتِ، فَمالي لا اَبكي اَبكي، لِخُروجِ نَفسي، اَبكي لِظُلمَةِ قَبري، اَبكي لِضيقِ لَحَدي، اَبكي لِسُؤال مُنكر ونَكير اِيّايَ - أهوال القبر والبرزخ وأهوال الآخرة - اَبكي لِخُرُوجي مِن قَبري عُرياناً ذَلیلاً حامِلاً ثِقلي عَلى ظَهري - ومن ذا يكون عوني، ومن ذا يساعدني، ومن ذا يقف معي في هذه الشدائد والأهوال كلها - اَنظُرُ مَرَّةً عَن يَميني وَاُخرى عَن شِمالي، اذ الخَلائِقِ في شَأن غير شَأني «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * َوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ»(1).

وذلة»(2).

الإمام الحسن الزكي علیه السّلام إمام معصوم، وهو عندما يلفظ

أنفاسه الأخيرة يبكي، فيقال له: يا بن رسول الله أتبكي ومكانك من رسول الله الذي أنت بها، قد قال فيك رسول الله ما قال!، وقد حججت عشرين حجة ماشياً!، وقد قاسمت ربك مالك

ص: 38


1- سورة عبس، الآية 37 - 41.
2- البلد الأمين، ص 191.

ثلاث مرات حتى النعل والنعل!، فقال علیه السّلام: «إنما أبكي لخصلتين:

هول المطلع، وفراق الأحبة»(1).

الإمام الزكي علیه السّلام يبكي لهول المطَّلع إذا تذكّر تلك الأهوال الخطيرة وتلك الظلمات المتتابعة التي تمر بها النفس وهي بين صعود ونزول، بين الخوف والرجاء حتى تصل إلى حظيرة القدس، يبكي لهول المطلع، إذا فالدعاء يرقق النفس ويسلب عنها غشاوة القساوة فيكون الدعاء مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية.

الآثار التربوية للدعاء:

الأثر الأول: الدعاء تعويد للنفس على مبدأ المحاسبة

ورد عن الرسول الأكرم: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر»(2).

إنها الفرصة الثمينة؛ فرصة الحياة.. ما دامت هناك دقائق تعيشها

وما دامت هناك لحظات تعيشها فهي فرصتك الثمينة فاغتنمها.

ورد عن الرسول الله: «يا أباذر، إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا

أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري ما اسمك غدا.

يا أباذر، إياك أن تدركك الصرعة عند العثرة، فلا تُقال العثرة، ولا تمكن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت بما تركت، ولا

ص: 39


1- الكافي، ج 1، ص 461، ح 1.
2- وسائل الشيعة، ج16، ص99، باب وجوب محاسبة النفس كل يوم.

يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به.

يا أباذر، كن على عمرك أشح منك على درهمک و دینارك»(1).

اغتنم فرصة الوقت، اغتنم فرصة العمر.. نحن مع الأسف مبتلَون بمرض الغفلة، نمشي على درب الحياة دون أن نحاسب خطواتنا ودون أن نراجع ماضينا ودون أن نتأمل في كل خطوة تخطوها.

يقول القرآن الكريم: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(2)، هل يُقبل من التاجر أن يمشي في تجارته دون أن يحاسب ربحه وخسارته!

لو أن التاجر دخل في أجواء التجارة من دون أن يحاسب ربحه وخسارته، ألا يُلام بحسب الموازين السوقية والعقلانية؟ كذلك أنت تُلام عندما تسير في درب الحياة دون أن تعرف ماذا أنتجت وماذا خسرت، وما الذي حصلت عليه وما الذي ضاع منك.

أنت مهتم في هذه الحياة، بالعمل، الزوجة، الأسرة، الأهل، الأصدقاء.. والنفس أين موضعها؟ وأين محلها؟ متى تحاسبها؟ ومتى تلتفت إليها؟ ومتى تدير النظر لتربيتها وإصلاحها وتهذيبها؟

أمير المؤمنين علیه السّلام يقول: «وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى»(3)، وانتهى قوم من حرب المشركين وجاءوا للرسول عمالة قالوا: يا رسول الله فرغنا من الجهاد، قال: انتهيتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم

ص: 40


1- بحار الأنوار، ج 74، ص 75.
2- سورة الأعراف، الأية 179.
3- نهج البلاغة، كتابه علیه السّلام إلى عثمان بن حنيف.

الجهاد الأكبر، قالوا: وما هو یارسول الله؟ قال: «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(1).

وَعَن هِشَام بن الحَكَم عَن الكَاظِم علیه السّلام أنَّهُ قَالَ: «يَا هِشَامُ لَيسَ مِنَّا مَن لَمِ يُحَاسِب نَفسَهُ فِي كُلّ يَومٍ فَإِن عَمِلَ حَسَنَةً استَزَادَ مِنهُ وَإِن عَمِلَ سَيَّئاً استَغفَرَ اللهَ مِنهُ وَتَابَ»(2).

شیعتنا يملكون بعد النظر وبعد التفكير، فبعد النظر لا ينحصر في التحليلات السياسية والاجتماعية والعلمية، فمن أوضح مظاهر بُعد التفكير تفكيرك في سفرك من أين وإلى أين، رحم الله عبداً عرف من أين وإلى أين وفي أين، كيف جئت؟ كيف أنتهي؟ وإلى أين أسير؟ هل أسير طبق الدرب الذي صنعه الله لي أم زللت عنه؟!

أخلُ بنفسك خمس دقائق قبل النوم أو بعد النوم، فالخلوة بالنفس خمس دقائق تراجع خطواتك وجدول أعمالك، وتراجع سيرتك هي الطريق للأفضل.

إن محاسبة النفس هي التي تجعل منك إنساناً فاضلاً، قال تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(3).

إذن فالدعاء تعويد على مبدأ المحاسبة فهو مظهر من مظاهر الرحمة.

الأثر الثاني: الدعاء يطعَّم القلب بحبَّ الله

إن الدعاء يطعم قلبك بحب الله وكلنا يحتاج إلى حب الله، من منا

لا يحتاج إلى رشحة ونهلة من حب الله تغمر قلبه وتملأ جوانحه؟ إن

ص: 41


1- وسائل الشيعة، ج15، ص163، أبواب جهاد النفس.
2- مستدرك الوسائل، ج12، ص153.
3- سورة الرعد، الأية 11.

الإفراط في حب أي شيء سوف يكون على حساب شيء آخر، من

أفرط في حب شيء كان إفراطه على حساب شيء آخر.

من أفرط في حب زوجته أثر ذلك على واجباته الاجتماعية

وقضاياه الأخرى، ومن أفرط في حب التجارة وحب الأموال انعکس ذلك على زوجته وأسرته فتراه مقصراً في حقهم، لماذا؟ لأنه أفرط في هذا المجال على حساب المجال الآخر، فالإفراط في جهة ينعكس سلباً على الجهة الأخرى.

لذلك تجد الأحاديث تنصُّ على هذا «مثل الحريص على الدنيا - أي الذي أفرط في حب الأموال والتجارة- كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج»، كيف تخرج من هذا الشبك؟ كيف تخرج من هذه الظلمات المتراكمة المتتابعة؟ «کان أبعد لها من الخروج»، فالإفراط في حب الدنيا سوف ينعكس على الأشياء الأخرى.

أما إذا أغرقت في حب الله عز وجل فهذا هو المكان المناسب للإفراط والإغراق لأن الإفراط في هذا المجال والإغراق في هذا المجال سوف ينعكس بالآثار الخيرة الطيبة على سلوكك وتصرفاتك مع الناس، مع أسرتك، مع المجتمع، مع أموالك، مع دنياك، مع قضاياك، مع جميع علاقاتك، الإغراق في حب الله هو الوحيد الذي ينتج حسناً وخيراً من ناحية سلوكك، حب الله يعارض ويضادُّ حب الدنيا، والقرآن الكريم يصنف الناس على فريقين:

1- فريق أغرق في حب المظاهر والزخارف:

قال تعالى:««زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ

ص: 42

وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1)، غريزة حب الذات جعلتنا تحوم حولها فنحب كل ما نلتذ به.

2- فريق أغرق في حب الله:

قال تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ»(2)، هؤلاء هم الذين أغرقوا واستغرقوا وتفانوا وذابوا في حب الله عزَّ وجلَّ، «حُبُّ الدُّنيَا رَأسُ كُل خَطِيئَةٍ وَ رَأسُ العِبادَةِ حُسنُ الظنَّ بِاللهِ»(3)، فعلماء العرفان يذكرون أثرين مهمين لحب الله عزَّ وجلَّ.

أ- أن حب غير الله محفوف بالقلق،

وأن حبه تعالی محفوف بالاطمئنان:

من أحب شخصاً كان حبه له مصاباً بالقلق لأنه لا يضمن أن

لايتغير هذا الحب، حبه لزوجته مشوب بالقلق، حبه لأمواله محفوف بالقلق، وكذلك حبه لدنياه.

إن الحب الوحيد الذي يزرع حوله زهور الاطمئنان ويزيل أشواك القلق والريب هو حب الله عزَّ وجلَّ «ألا بذكر الله تطمئن القلوب».

ب- أن حب الله لا غم فيه ولا حزن:

الإنسان الذي يحب الدنيا دائماً في غم وحزن، لماذا؟ لأنه لايربح

دائماً بل قد يخسر أحياناً فلأنه متعلق بالدنيا متى ما خسر خسارةً دخل في صومعة الحزن والغم على الخسارة ولأنه متعلق بهذه المظاهر

ص: 43


1- سورة آل عمران، الآية 14.
2- سورة البقرة، الآية 165.
3- مستدرك الوسائل، ج12، ص40.

متى ما خسر مظهراً أصيب بالحزن والغم.

أما الذي يحب الله وهو يعلم أن الله لا يتعامل معه إلا بالجميل وبالحسني مادام محبا لله فإن هذا الحبوب ألا وهو الله لاينساه أبداً ولايبتعد عنه أبداً ولايغفل عنه ودائماً هو في نعمة وفي صلاح وخير، لذلك الآية المباركة تحدثت عن أحباء الله فقالت: «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(1).

هم دائماً في لذة وبهجة لأنهم واثقون بمحبوبهم الذي ضمن لهم النعيم وضمن لهم الحياة السرمدية السعيدة«لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ»(2).

إذن الدعاء يربي في الإنسان حب الله تعالى، إذا أردت أن تربي في قلبك حب الله فتعلَّق بالدعاء وبالمناجاة وبالخلوات، تعلَّق بالخشوع والخضوع أمام ربك فإن الدعاء يورثك طعم حب الله عزوجل وبذلك يكون الدعاء مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية.

الأثر الثالث: التربية على الغيرية:

إن الدعاء يربينا على الغيرية ويبعدنا عن طريق الأنانية، فكثير منا لايبالي إلا بنفسه فدائماً يركز على أنا. أنا، جَيبي، بطني، راحتي، سعادتي، لذتي لايبالي إلا بنفسه يحوم حول نفسه طول الوقت وطول الشهور وهو يحوم حول نفسه.

وهذا إما نتيجة خطأ في التربية الأسرية أو نتيجة آثار سلوكية انعكست عليه، أو نتيجة مصاحبة أصدقاء السوء وأهل السوء فتربی

ص: 44


1- سورة يونس، الآية 67.
2- سورة يونس، الآية 62 - 63.

على حب الذات وأن لايبالي إلا بنفسه.

كيف يخرج من طوق الأنانية؟ كيف له أن يتجاوز ذاته؟ كيف له أن ينسى أنا ويذكر أنت؟ كيف للإنسان أن ينطلق من هذا القيد المسيطر على ذاته وأن يتحرر منه وأن يحسَّ بالآخرين؟

تربيتك على الشعور بالمجتمع، على الشعور بالام الناس، على الشعور بحرمان المحرومين، على الشعور بحاجة المحتاجين، على الشعور بمأساة المظلومين، تربية النفس على الشعور بالآخرين تأتي من داخل الدعاء كما علمنا أئمتنا عليهم السّلام.

الإمام زین العابدین وسید الساجدین علیه السّلام يعلمنا روح الغيرية وتجاوز الذاتية من خلال دعائه في الاعتذار من تبعات العباد: «اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوفره، ومن معروف أسدي إلي فلم أشكره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره.

اللهم وسدَّدني لأن أُعارض من غشَّني بالنصح وأُثيب من هجني بالبر وأُكافي من قطعني بالصلة وأُخالف من اغتابني إلى حسن الذكر اللهم سددني لأن أشكر الحسنة وأُغضي عن السيئة»(1)،

تربية النفس على روح الغيرية.

فاطمة الزهراء عليهالسّلام سيدة الداعين والمتهجدين يقول عنها الإمام

الحسن علیه السَّلام: «ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة علیهالسّلام»(2).

ويقول عليه السّلام عن هذه المرأة العظيمة البطلة: «رأيت أمي فاطمة

ص: 45


1- الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السّلام في الاعتذار من تبعات العباد، ص166.
2- البحار، ج 43، ص76.

قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتکثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أُماه، لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لنفسك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار»(1).

لأنهم كانوا في سلوكهم اجتماعيين، لأن المجتمع يعيش في قلوبهم وفي تسابيحهم، رؤية المجتمع تعيش في أفعالهم وتصرفاتهم، لأن فاطمة تدعو للمؤمنين والمؤمنات، لذلك فاطمة مدحها القرآن الكريم

«وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»(2)، هذا هو الدرب الفاطمي وهذه هي سيرة الزهراء وهي السيرة الناصعة الزاكية لسيدتنا فاطمة الزهراء علیهالسّلام.

فالدعاء يجمع مظاهر الرحمة وله آثار تربوية عظيمة، لذلك

فتوفيقنا للدعاء هو بنفسه رحمة من الرحمات الإلهية.

وأيقنت أنك أنت الراحمين في موضع العفو والرحمة».

ص: 46


1- الوسائل ج4، ص1150.
2- سورة الإنسان، الآية 8 - 9.

الحكمة في مفهوميها البشري والإلهي

قوله «عجّل الله فرجه الشريف»:

«وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة،

وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة».

في الربط بين رحمته جلَّ وعلا وحكمته:

لاحظ التقييد بالموضع «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة»، تقیید رحمته وجزائه وكبريائه بموضع معیَّن دليل على عدم انفصال أفعاله وصفاته عن حكمته تبارك وتعالى.

رحمته محفوفة بالحكمة ومقتضى الحكمة وضع الرحمة في موضعها

المناسب، وجزاؤه محفوف بالحكمة ومقتضى حكمته وضع عقابه في الموضع المناسب، وكبريائه وعظمته محفوفة بالحكمة ومقتضی حکمته وضع كبريائه وجبروته في الموضع المناسب. إذا التقييد بالموضع دلیل على اقتران صفاته وأفعاله بالحكمة، وإلا لكان فعله لغواً.

وضع الرحمة في غير موضعها لغو، واللغو قبيح لا يصدر من

ص: 47

الحكيم تعالى، وضع العقاب في غير موضعه لغو وعبث، واللغو والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر منه تعالى. إذاً تقیید هذه الأفعال بالموضع المعيَّن دليل على اقتران أفعاله بحكمته، وإلا لكان فعله لغواً، واللغو لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى.

ما هو الميزان في موضع الرحمة وموضع النقمة؟

متى يكون العبد موضعا للرحمة؟

الميزان - كما يذكر علماء العرفان- هو أمر واحد وهو إظهار العبودية أو إظهار التجريَّ، فإظهار العبودية يجعل العبد موضعاً لرحمته تبارك وتعالى، وإظهار التجري والطغيان يجعل العبد موضعاً لنقمته تبارك وتعالى.

ولكي يتضح هذا المعنى لاحظوا ما ورد عن الامام الصادق علية السّلام:

«خفِ الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت».

من لا يعترف برقابته سبحانه فهو لايعترف بعلمه تبارك وتعالى فهو كافر، «وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته

من أهون الناظرين عليك»(1).

يعني مع التفاتك لرقابته وعلمه تحدَّيت رقابته وتحدَّيت علمه وإحاطته وبرزت بالمعصية بدافع التمرد، والتحدَّي موجب للاستهانة بذاته تباك وتعالى، والاستهانة بذاته والاستخفاف بمقامه جلت عظمته هو عبارة عن كون العبد في مقام التمرُّد والتجرَّي والطغيان مما يجعل العبد في موضع النقمة الألهية.

ص: 48


1- الكافي، ج 2، ص 68، باب الخوف والرجاء، ح 2.

لذلك أنت تقرأ في دعاء أبي حمزة الوارد عن الامام السجاد علیه السّلام:

«ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌ ولا بنکالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا بأمرك مستخف ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني عليها شقوتي»(1)، يعني لم تكن معصيتي بدافع الطغيان ولم تكن معصيتي بدافع الاستهانة بنظرك أو الاستخفاف بمقامك، وإنما صدرت المعصية مني لغلبة الهوى أو لغلبةالشهوة أو لغلبة الطغيان وحكومة النفس الأمارة بالسوء، «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»(2).

ليست معصيتي في مقام الطغيان والتجري حتى أكون موضع النقمة وإنما معصيتي صدرت لغلبة الهوى والشهوة فأنا مازلت موضعاً للرحمة ولستُ موضعاً للنقمة «ولا بنکالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا بأمرك مستخف، ولكن سوَّلت لي نفسي، وأعانني عليها شقوتي».

إذاً المسألة هي إظهار العبودية أو إظهار الطغيان. إظهار العبودية يجعلك موضعاً للرحمة حتى لو فعلتَ المعصية، حتى لو ارتكبت المعصية لغلبة الهوى أو لغلبة الشهوة، لكنك شخص في مقام العبودية، في مقام إظهار الخضوع لله عزَّ وجلَّ، وهذا كفيل بإبقاء الإنسان في موضع الرحمة، ولكن بمجرد صدور المعصية من الإنسان تمرداً وطغياناً واستخفافاً بأمره سبحانه وتعالى فهو مما يجعل العبد موضعاً للنقمة.

بالنتيجة، الميزان في موضع الرحمة وفي موضع النقمة هو صدق عنوان إظهار العبودية أو صدق عنوان التجري والتمرُّد والاستخفاف بأمره تبارك وتعالى.

ص: 49


1- البحار، ج 46، ص 81.
2- سورة يوسف، الآية 53.

في كيفية استكشاف الحكمة الإلهية:

الإشكال المطروح حول حكمته تبارك وتعالى، وهو أن العبد لا يمكنه معرفة أن الله حکيم أو ليس بحکیم، يعني نحن لا يمكننا أن تصل أذهاننا إلى معرفة أن الله حکيم أو ليس بحكيم، لماذا؟

هناك بيانان لصياغة الإشکال:

البيان الأول: إن الحكيم هو من يتطابق فعله مع المصالح النظامية، فإذا وجدنا شخصاً يقوم بأفعال معينة من خلال مؤسساته أو من خلال تصرفاته الشخصية ورأينا أفعاله تتطابق مع المصالح الاجتماعية العامة، نقول: هذا الشخص حکیم.

الحكمة منتزعة من مطابقة الفعل للمصالح النظامية العامة، فكيف نقول: الله تبارك وتعالى حکیم، يعني كيف نعرف أنه حكيم أو ليس بحكيم، والمفروض أنه ليس وراء فعله شيء حتى نطابق فعله وبين ذلك الشيء الآخر.

الحكمة أن تطابق بين فعل إنسان وبين مصالح نظامية موجودة، فان وجدتَ الفعل مطابقاً للمصالح النظامية كان هذا حكمة، وإن لم يكن مطابقاً كان هذا الفعل لغواً وعبثاً، أما إذا لم يكن هناك شيء وراء الفعل فأين المطابقة؟

اليس وراء فعله تبارك وتعالى شيء، فهذا الكون بجميع اجزائه هو فعله، هذا الكون من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، بسماواته، بنجومه، بمخلوقاته العاقلة وغير العاقلة، كل هذا الكون فعله.

ونحن نريد الآن أن نطابق فعله مع المصالح النظامية حتى نعرف أن فعله عن حكمة أو فعله عن لغو، وليس وراء فعله يعني وراء الكون بأكمله شيءٌ آخر نطابق بين فعله وبين ذلك الشيء الآخر لنستكشف

ص: 50

أنه حكيم أو ليس بحکیم

إذا لم يكن وراء فعله شيءٌ يسمى بالمصالح النظامية العامة فكيف يمكن لنا استكشاف حكمته تبارك وتعالى ومعرفة أنه حكيم، والحال أن الحكمة هي عبارة عن المطابقة بين الفعل وبين شيء خارجي هو عبارة عن المصالح النظامية، وهذه نكتة عقائدية دقيقة جداً وهي كيفية التوصل إلى معرفة حكمته تبارك وتعالى.

ولأجل إيضاح هذه النقطة وبلورتها لابدَّ من ذكر أمرين:

1- شرح معنى الحكمة في الإنسان لمعرفة معنى الحكمة في الله

تبارك وتعالى.

2- طرح البرهان العقلي على استكشاف حكمته عن غير طرق

المطابقة.

أما بالنسبة إلى الأمر الأول، فإن كل فعل اختياري مرتبط

بعنصرين أحدهما مقوَّم له، وثانيهما مصحح له:

أ- الغرض والغاية.

ب- تطابق الغرض والغاية مع المصالح النظامية.

والغاية، فالعلماء

العلل الأربع:

أما تقوُّمه بالعنصر الأول وهو عنصر الغرض و الغایة، فالعلماء

في الفلسفة يقولون: كل فعل له على أربع:

1- علة فاعلية.

2- علة مادية.

3- علة صورية.

4- علة غائية.

ص: 51

ويستحيل صدور الفعل من دون هذه العلل الأربع، مثلاٌ نجارة

هذا الكرسي فعل، وهذا الفعل له علل أربع:

العلة الفاعلية: وهي من صدر منه الفعل وهو النجَّار نفسه،

هذا يُسمى علة فاعلية.

العلة المادية: وهو الخشب ذاته، إذ لا يمكن حدوث النجارة

بدون مادة، فالخشب علة مادية.

العلة الصورية: هي صورة الكرسي، فيستحيل إحداث فعل النجارة من دون صورة يقوم بها هذا الفعل.

العلة الغائية: هي الغرض الذي من أجله فُعِلَ الفِعل، وهو

الجلوس مثلاً.

مراحل الإرادة:

وإنما يستحيل صدور فعل اختياري من دون غرض، ولو كان الغرض هو العبث، لأن الاختيار مسبوق بتصور لعمل المختار، والتصديق بفائدته.

فمثلاً اختيارك للصلاة له مراحل:

أولاً: تصور الصلاة.

ثانياً: التصديق بفائدتها، ولو فائدة عبثية، ولو فائدة لغوية.

ثالثاً: الرغبة فيها.

رابعاً: العزم عليها.

فالاختيار مسبوق بمقدمات أربع: تصور الشيء - التصديق بفائدته - حدوث الرغبة إليه - العزم والتصميم على فعله، ومتى ما ترتبت المقدمات الأربع، اختار الإنسان فعل الشيء.

ص: 52

فيستحيل أن تختار شيئاً قبل أن تتصوره، ومستحيل أن تختار شيئاً قبل أن تصدَّق بجدواه، ولو كانت جدواه عبثية ولغوية، وهذا معنى الغرض والغاية

إذا كل فعل اختياري كما هو محفوف بالعلة الفاعلية والعلة

المادية والعلة الصورية فهو محفوف بالعلة الغائية يعني مسبوق بالغرض الداعي إلى ايجاده وإحداثه باعتبار أن الاختيار يستند إلى المقدمات الأربع التي ذكرناها، فهذا العنصر ضروري في كل فعل

وأما العنصر الثاني المصحح لكل فعل اختياري هو كون الغاية من هذا الفعل مطابقة للمصالح العامة، فيمكن أن يصدر منك الفعل بغرض اللغو والعبث، لكن لا يكون الفعل مندرجاً تحت عنوان الفعل الحسن إلا أذا صدر بداعي المطابقة مع المصالح النظامية العامة، فإذا صدر الفعل بداعي المطابقة مع المصالح النظامية كان الفعل حکیماً، وإذا لم يصدر بداعي ذلك كان لغواً، واللغو قبيح والقبيح لا يصدر من العاقل الملتفت الحكيم.

إذاً بالنتيجة، كل فعل اختیاري في الإنسان مرتبط بعنصرين؛ أن يكون له غرض وإلا استحال صدوره، وأن يكون غرضه المطابقة بين الفعل وبين المصالح النظامية، وإلا فهو حينئذ وإن كان ممكن الصدور، إلا أنه لا يندرج تحت الحَسَن حتى يكون الغرض منه المطابقة.

وهنا يأتي السؤال، وهو أنه إذا كانت الحكمة عبارة عن تطابق الفعل مع المصالح النظامية؛ فليس وراء فعله تبارك وتعالى شيء کي تعقل المطابقة بلحاظه.

في معاني الحكمة الإلهية:

ذكرنا فيما سبق أن التقييد بالموضع «وأيقنت أنك أرحم الراحمين

ص: 53

في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبَّرين في موضع الكبرياء والعظمة»، دال على أن أفعاله تبارك وتعالى محفوفة بحكمته، فلارحمة له إلا في ضمن حكمته، ولا تجبُّر له إلا في ضمن حكمته فجميع أفعاله تبارك وتعالى محفوفة ومقترنة بالحكمة.

وقد ذكرنا فيما سبق أنه قد يعترض على الحكمة الإلهية بأحد

بیانین، وقد مضى البيان الأول.

وأما البيان الثاني؛ فحاصله أن الحكمة في الله عزَّ وجلَّ على أحد

معنيين؛ المعنى الأول غير معقول، والمعنى الثاني لا دليل عليه.

المعنى الأول: غاية الفعل.

المعنى الثاني: مطابقة الفعل للمصالح النظامية.

والمعنى الأول غير معقول في الله عز وجل، والمعنى الثاني قد يقال أنه لا دليل عليه من قِبَل الوجدان، إذن فكيف ننسب الحكمة الله تعالى مع أن أحد معنیيها غير معقول والثاني لا دليل عليه وجداناً؟

لماذا المعنى الأول غير معقول؟

في الفرق بين الفاعل الناقص والفاعل الكامل

ذكرنا مراراً أن الفلاسفة يقولون: «إن الفاعل الناقص مستكمل بغايته، والفاعل الكامل لا غاية له بل غايته ذاته»؛ وبيان ذلك بالمثال: افترض أن شخصاً بخيلاً أراد أن يكتسب ملكة الكرم فصار يعوَّد نفسه على البذل والعطاء، فإن هذا العطاء له غاية، فيقال له: ما غايتك من هذا الإنفاق والبذل؟ فيقول: إن غايتي تکمیل ذاتي، فأنا إنسان فاقد الملكة الكرم، ولكي أكمَّل ذاتي وأحلّيها بملكة الكرم، أقوم بهذه الأعمال.

ص: 54

إذن الفاعل الناقص يستكمل بغايته، أي أن غايته من أفعاله التي يقوم بها هي تكميل نفسه وذاته، ونظير ذلك الإنسان الجبان، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علیه السَّلام : «إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه»(1).

أما إذا وصل لمرتبة الشجاعة ومرتبة الكرم، فلا يصح أن يُقال له ما غايتك من هذا؟ لأنه سيقول لا غاية لي، فمقتضی کرمي أن أعطي، لا لوجود غاية لي في ذلك.

إن الفاعل الكامل لا غاية له، وإنما غايته ذاته، وبما أن ذاته متصفة بالكرم، فمقتضی کرمه العطاء، وبما أنه متصف بالشجاعة فمقتضى شجاعته جرأته بلا غاية، فالفاعل الناقص هو الذي يُسأل عن الغاية لأنه يستكمل بها، أما الفاعل الكامل لايُسأل عن الغاية لأن غايته ذاته، أي مقتضى ذاته الكاملة أن يعطي، وأن يقدَّم وأن يبذل، لا لغرض يعود إليه.

لذلك بالنسبة للباري تبارك وتعالى بما أنه عين الكمال، ولا يوجد كمال إلا وهو مستبطن في ذاته، فهو الفاعل الكامل، فلا يسأل ما حکمتك في الرزق؟ وما حكمتك في الخلق؟ وما حكمتك في العطاء؟

لأن مقتضى ذاته إفاضة الخير، ومقتضى ذاته إفاضة العطاء.. إفاضة الرزق.. إفاضة الحياة.. إفاضة الخلق.. إفاضة النعم.. إفاضة العطايا .. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:

«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(2).

إذن فالحكمة بالمعنى الأول أي الغاية من الفعل أمر غير معقول

ص: 55


1- نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 175.
2- سورة الأنبياء، الآية 23.

في حق الله، لأن كماله يعني عدم وجود غاية له في أفعاله راجعة إليه.

الحكمة بمعنى مطابقة الفعل مع المصالح النظامية:

وهنا قد يقال أن لا دليل من الوجدان على ذلك، لأننا لا ندرك أن أفعاله دائماً على طبق المصلحة، فمثلاً خلق الله سبحانه وتعالى لنا الشمس وقد ترتب عليها الحياة على وجه الأرض.

ولكن لماذا خلق إبليس وماذا يترتب عليه من المصالح؟!

ولماذا خلق الأمراض؟! ولماذا خلق لنا الكوارث والزلازل

والبراكين؟! فأي مصلحة تترتب على ذلك؟!

إذا كانت الحكمة بمعنى تطابق الفعل مع المصالح النظامية فهذا أمر لا نستطيع أن نثبته لأنا لا ندرك المصالح النظامية التي وراء أفعاله حتى نطابق بين أفعاله وبين تلك المصالح النظامية فنرى أنها متطابقة وحكيمة أو ليست متطابقة فهي لغو.

الجواب على ذلك: أن الحكمة في الله عز وجل بالمعنى الثاني؛

ترتب المصالح النظامية الوجودية على أفعاله ودليلنا على ذلك هو

البرهان لا الوجدان -أي البرهان العقلي - لا الوجدان الاستقرائي، فما هو البرهان العقلي على حكمة الله؟!

إن الفاعل عندما يفعل لغواً فله أحد أسباب ثلاثة لا غيرها: إما

الجهل, وإما الحاجة، وإما العجز.

والجميع منتف في حقه تبارك وتعالى، فلو فرضنا أن الفعل الذي فعله سبحانه وتعالى لغو، فهذا اللغو صادر منه إما لجهله وهو خلاف التسليم بعلمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ

ص: 56

إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(1).

وإما لعجزه، أي أنه يعرف الفعل الحسن ولكن يفعل الفعل غير

الحسن لعجزه، وهو ممنوع أيضاً فإن الله قادر على كل شيء.

وإما لحاجته -أي بمعنى أن ذاته تحتاج إلى اللغو وتحتاج إلى العبث فيقوم بفعل العبث والمفروض أنه تبارك وتعالى هو الغني المطلق، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»(2).

والغني في الفلسفة بمعنى أن ذاته تبارك وتعالى عين الوجود اللامحدود، والوجود الذي لا حد له هو الوجود الغني فمقتضی عدم محدوديَّته غناه، والغني لا يحتاج إلى تنفيس ولا إلى ترفيه ولا إلى عبث، والنتيجة أن التسليم بهذه الصفات الثلاث يقتضي التسليم بأنه حکیم سبحانه وتعالى.

في الفرق بين الجبار والكبير والعظيم:

قوله علیه السّلام: «وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة».

هناك ثلاثة عناوين يصف الله تبارك وتعالى بها نفسه:

1- الجبار.

2- الكبير.

3- العظيم.

كما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في القرآن الكريم بهذه

ص: 57


1- سورة يونس، الآية 61.
2- سورة فاطر، الأية 15.

الصفات الثلاث.

1- الجبار: بمعنی نافذ المشيئة ولا رادَّ له، قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1).

2- الكبير: بمعنى أن كل كمال فهو له، والشاهد على ذلك أن

الوجود هو منشأ الكمالات.

وبما أنه عين الوجود البسيط الصَّرفِ، فهو مجمع لسائر الكمالات والصفات الحسنة الموجودة في هذا الكون، لذلك يعبَّر عن استجماع ذاته لسائر الكمالات بالكِبَر أي أنه تبارك وتعالى كبير.

3- العظمة: العظيم بمعنى ظاهر السلطنة والملكية.

أقسام الملكية:

وبيان ذلك أن الملكية يقسَّمها الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ملكية اعتبارية، كملكيَّة الإنسان لقطعة أرض مثلاً، فهذه الملكية ليست ملكية حقيقية، وإنما ملكية اعتبارية تثبت بصك أو ورقة، وإلا الأرض في الحقيقة ليست ملکه.

القسم الثاني: ملكية حقيقية، كملكية الإنسان لنفسه، فأنت

تملك نفسك ملكية حقيقية، لأن سائر قواها ومشاعرها بيدك.

القسم الثالث: الملكية الحقَّة، وهي ملكية الإيجاد والإعدام، وهذا القسم من الملكية خاص به تبارك وتعالى، فهو يملك سائر الوجود من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، وملكيته حقيقية حقة، بمعنى أن إيجاد هذا الوجود وإعدامه بیده تبارك وتعالى فالوجود معلَّق به حدوثاً وبقاءً.

ص: 58


1- سورة يس، الآية 82.

لأن كل الوجود هو عين الربط بوجوده الأتم تبارك وتعالى، فإذا عرفنا هذه العناوين الثلاثة: الجبار، الكبير، العظيم، عرفنا أنه سبحانه إنما يظهر جبروته في مواضع معينة، أي نفوذ مشيئته في مواضع معينة؛ في مواضع الكبرياء والعظمة، مثلاً الأجال، قال تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(1).

فهذا موضع يظهر فيه نفوذ مشيئته تبارك وتعالى، وسلطانه، وجبروته، فترى البلد الأمن المستقر بخيراته وبنيته التحتية فجأةً يضربه الإعصار أو الزلزال من دون مقدمات ولا مؤشرات، كل ذلك مظهر من مظاهر نفوذ مشيئته، وكبريائه وعظمته وأن الأمر بيده، قال تعالى:

«فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2).

وفي الحديث القدسي (إن صح سنده): «من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر على نعمائي، فليعبد رباً سوائي، وليخرج من أرضي وسمائي»(3)، إذا كان هناك موضع لا علاقة له بملكي ولا نفوذ فيه لمشيئتي فاذهب إليه، وأما ما دمت في مملكتي وتحت سيطرتي وتحت نفوذ مشيئتي وإرادتي فلا مجال لك أن تقول أخَّر الموت أو قدَّمه.

لا مجال لأن تقول: أخَّر هذه الكوارث أو قدَّمها، فهذه مواضع

النفوذ مشيئته وإرادته تبارك وتعالى لإظهار کبریائه وعظمته.

والخلاصة أنه سبحانه نافذ المشيئة في مواضع الكبرياء من أجل ظهور كماله، وفي مواضع العظمة من أجل ظهور ملکه كما قال.

«وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة».

ص: 59


1- سورة الأعراف، الآية 34.
2- سورة يس، الآية 83.
3- شرح أصول الكافي، ج 1، ص 222.

ص: 60

المدد الإلهي في رحاب الدعاء

قوله علیه السّلام:

«اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك فاسمع يا سميع مدحتي

وأجب یا رحیم دعوتي».

في الفرق بين الإذن التشريعي والإذن التكويني:

قد يقول قائل: لا معنى لهذا التعبير بعد أن قال القرآن الكريم بأن الله قد فتح باب الإجابة وأذن بالدعوة، قال تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(1)، و قوله عزَّ من قائل: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»(2).

فلماذا ذكر الإمام هذه الفقرة؟ وهل المقصود إذن خاص بدعاءالإمام علیه السّلام؟

الجواب عن هذا السؤال، هو أن الإذن على قسمين:

ص: 61


1- سورة غافر، الآية 60.
2- سورة البقرة، الآية 186.

1- إذن تشريعي.

2- إذن تكويني.

الإذن تشريعي: هو عبارة عن رفع الحرمة والحظر أو دفعهما، كإذن الله سبحانه لنا في المباحات من النوم والأكل والشرب، فهذا إذن تشريعي.

والإذن التكويني: بمعنى التخلية بين السبب وبين المسبَّب، فالله تبارك وتعالى اقتضت حكمته أن يسير نظام الوجود على ربط المسببات بأسبابها، ولكن ربط المسببات بأسبابها - كربط الإحراق بالنار مثلا، وربط وجود الجنين بوجود النطفة، وربط الشفاء للمريض٫ بأخذ الدواء مثلاً- لا يعني أن الله رفع يده وفوَّض التأثير للأسباب، حتى صار تأثير الأسباب في مسبباتها تأثير استقلالي غير مستند إليه سبحانه وتعالى!

بل هو تبارك وتعالى في عين ربطه للمسببات بأسبابها أوقف

السببية على إذنه ومشيئته تبارك وتعالى.

إذن مجرد ربط الإحراق بالنار لا يعني أن النار سبب مستقل في التأثير،

بل إن سببية النار في وجود الإحراق متقوَّمة بإفاضته ومتقوَّمة بإذنه.

لذلك لو أراد أن يجعل مانعاً بين السبب وبين المسبب فالأمر بيده سبحانه، قال تعالى:

«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1)، و قال سبحانه: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ»(2).

ص: 62


1- سورة الملك، الآية 1.
2- سورة الأنبياء، الآية 69.

فتأثير الأسباب لمسبباتها يتوقف على أن يخلي الله بين السبب وبين المسبب بأن لا يوجد مانعاً ولا صارفاً عن التأثير، وهذا معنى الإذن في قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»(1)، وقوله سبحانه: «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ»(2).

المقصود بالإذن في الدعاء:

وحينئذٍ فإن المقصود بالإذن بالنسبة لهذه الفقرة في الدعاء أحد

وجهين:

الوجه الأول: التوفيق للدعاء أي لولا أنك ألهمت قلبي أن أدعوك؛ لما دعوتك، ولولا أنك أوجدت في قلبي الرغبة للدعاء؛ لما دعوتك، إذن فنفس دعائي هو بإذنك بسبب إلهامك وتوفيقك وتجليك، فيكون المقصود بالإذن في قوله: «اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك» هو الإذن التكويني.

الوجه الثاني: أن المراد به الإذن القرآني في الآيات السابقات، وهو عبارة عن وعبارة عن وعده تعالى بالإجابة، والمقصود بهذه الفقرة هو إظهار الأدب مع الله سبحانه وتعالى.

نظير أن إنسان يفتح داره ويقول: أيها الناس ادخلوا داري وكلوا من غذائي وطعامي، ومع ذلك أنا آتي وأقول أتأذن لي أن أدخل، وإن كان هناك إذن عام لجميع الناس ولكني من باب إظهار الأدب أقول له: أتأذن لي أن أدخل بيتك مع من أذنت له فلعلَّ وجودي مبغوض.

فقوله علیه السّلام: «اللهم أذنت لي ...» يعني هل تقبل صوتي بين

ص: 63


1- سورة التغابن، الآية 11.
2- سورة آل عمران، آية 49.

الأصوات؟ لعلَّ صوتي قد اقترن بالمعصية فرفضته، ولعلَّ صوتي قد اقترن بالرذيلة فأعرضت عنه.

لعل صوتي قد اقترن بالإثم فلم تنظر له ولم تستمع إليه برحمتك وعطفك تباركت وتعاليت. إذن الإذن هنا إظهار للأدب ولكمال التذلل ولرفع المبغوضية والنفور.

في الفرق بين الدعاء والمسألة:

قوله علیه السّلام: «اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك»، وبيان ذلك:

أن النسبة بين الدعاء والمسألة عموم من وجه، فالدعاء متقوَّم بالخضوع والتذلل، ولذلك فإن مجرَّد الإقرار له تعالى بالقصور والضعف يتحقق الدعاء وإن لم يكن متضمَّنا لمسألة.

والمسألة هي طلب العطاء سواءً كان مقترناً بالخضوع أو لا، ولذلك يُسمى الاستفهام سؤالاً، لأنه طلب الفهم وإن لم يكن على جهة الخضوع.

ومما يتفرع على ذلك الفرق في المقام بين الدعاء والمسألة كالفرق بين الغاية والمغیَّا، فالدعاء يكفي فيه إلفات نظر المدعو إلى الداعي، فإذا التفت إليه قال له: (أعطني كذا واصنع لي كذا)، والمسألة هدف وغاية تترتب على الدعاء.

هنا قد يقول قائل: لا معنى لإلفات نظر الله، فالله تبارك وتعالى عالم وملتفت للداعي قبل وأثناء دعائه وبعد دعائه فلا معنى لتوجيه نظره إلى الداعي وهو سبحانه وتعالى يقول: «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى»(1)، وقال سبحانه: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ».

ص: 64


1- سورة طه، الآية 7.

يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ»(1).

المقصود بتوجيه نظره هنا شمول العبد بنظر الرحمة، فالله يعلم بك

ولكن هل ينظر إليك نظرة رحيمة.

إذن علاقة الدعاء بالمسألة هي علاقة المغيّا بالغاية، فقوله:

«أذنت لي في دعائك ومسألتك»، أي أذنت لي أن أقف هذا الموقف وأقوم هذا المقام ألا وهو مقام توجیه نظرك إلىَّ نظرة الرحمة ونظرة العطف، ثم بعد أن شملتني رحمتك ونظرت إليَّ نظرة العطف وجهت إليك مسألتي.

في وجه إضافة الدعاء إلى الباري تعالى:

قوله علیه السّلام: «اللهم أذنت لي في دعائك».

هنا يقول المفسرون في تفسير قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(2)، أن الوصف بالفعل لغو.

فمثلاً قولك: أكرم الجالس إذا جلس، أو لا توقظ النائم إذا نام، تقييد للوصف بالفعل، ولا يصح ذلك، فكيف يصحُّ أن يقول سبحانه:

و «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ».

مقوَّمات الدعاء الحقيقي:

والجواب عن ذلك هو أن الداعي قد يكون دعاؤه دعاء حقيقياً وقد لا يكون دعاؤه دعاءً حقيقياً، فليس كل دعاء هو حقيقي، فما هو

ص: 65


1- سورة البقرة، الآية 284.
2- سورة البقرة، الآية 186.

الدعاء الحقيقي؟

الدعاء الحقيقي هو الدعاء المتقوَّم بوصفين:

الوصف الأول: أن يكون دعاءً قلبياً لا دعاءً لسانياً فحسب، فالكثير منَّا دعاؤه دعاء لساني وليس دعاءً قلبياً، فالدعاء القلبي هو الذي عبَّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(1)، وهو الدعاء المقترن بالخشوع والدعاء المقترن بالخوف والرجاء.

وقال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»(2)، فإذا تذكر المؤمن الذنوب والمعاصي وجل قلبه وإذا تذكر قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(3)، رجا رحمة ربه، فتأرجُحُ النفس بين الخوف والرجاء وامتلاء النفس خشوعاً ورغبة ورهبة من الله تبارك وتعالى هو الدعاء القلبي والدعاء الحقيقي.

الوصف الثاني: هو الانقطاع إلى الله دونما سواه فلا يوجد شيء،

في ذهنك غير الله أثناء الدعاء.

صحيح أن الله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها، فأنا أحتاج أن

أشرب الدواء وأنا أحتاج إلى فلان لتحصیل رزقي وأحتاج أن أسعى التحصیل رزقي، ولكن أنا مؤمن أن كل هذه الأسباب لولا إفاضة الله ولولا سببيته لماكان لأي سبب نوع من السببية ومرتبة من السبية.

فعندما أدعوه أنقطع إليه وأنا مؤمن بأن لا مسبب ولا مؤثر إلا هو تبارك وتعالى، وهذا هو معنى قوله تعالى: «إذا دعانِ»، أي لم

ص: 66


1- سورة الأنبياء، الآية 90.
2- سورة الأنفال، الآية 2.
3- سورة الأعراف، الأية 156.

يشرك معي غيري، لذلك يقول المفسرون في تفسير هذه الأية: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ»(1)، المضطر هو المنقطع إلى الله تبارك وتعالى موقناً أن لا مؤثر سواه.

إذن وجه التقييد بقوله سبحانه: «إذا دعانِ» إشارة إلى أن موضع الإجابة هو الدعاء الحقيقي، والدعاء الحقيقي هو ما كان متقوماً بالعنصرين اللذين ذكرناهما، فوجه الإضافة في هذه الفقرة «اللهم أذنت لي في دعائك» إشارة إلى الدعاء الحقيقي المتقوَّم بهذين العنصرين السابقين.

في بيان المراد بقوله علیه السّلام :

«فاسمع يا سميع مدحتي وأجب يا رحيم دعوتي وأقل یا غفور

عثرتي».

والمراد منها يحتمل وجهين:

أ- أن يكون تفريعاً على ما سبق، حيث أن الفقرة السابقة

مشتملة على ثلاثة أوصاف:

1- أنه أرحم الراحمين، والمناسب لهذا الوصف أن يُدعی:

«وأجب یا رحیم دعوتي».

2- أنه أشد المعاقبين، والمناسب لهذا الوصف أن يقال له: «وأقل

یا غفور عثرتي.

3- أنه أعظم المتجبرين، والمناسب لذلك أن يقال تفريعاً عليه:

«فاسمع يا سميع مدحتي».

ص: 67


1- سورة النمل، الأية 62.

المقصود بمراتب القرب الإلهي:

ب- الإشارة إلى مراتب القرب:

وبيانها أن مراتب القرب - كما يقسمها علماء العرفان- ثلاث

مراتب:

1- مرتبة الإقبال منه تعالى لجعل العبد مقبلا عليه.

2- مرتبة إفاضة الرحمة.

3- مرتبة الطهارة.

المرتبة الأولى: متى يكون الإنسان قريباً من ربه؟

عندما يكون الإنسان وعاءً للرحمة يكون قريباً من الله تعالى، «فاسمع يا سميع مدحتي» أي اعتبرني وعاءً مستحقاً لأن تشمله رحمتك،

وتقبل عليه بعطفك، وهذه هي المرتبة الأولى.

المرتبة الثانية: بعد أن صرتُ وعاءً مستحقاً للرحمة، إذن یا رب ارحمني واخلعني من هذه الصورة المادية الدنيوية إلى الصورة الروحانية الملكوتية،فالإنسان مكون من عنصرين: مُلكٌ وملكوتٌ. قال تعالى:

«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»(1)، هذا هو العالم المادي، وقال سبحانه: «سُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ»(2)، وهذا هو عالم الروح.

أي أنني أرجو أن تخلعني من قيود الملك إلى حرية الملكوت، أريد أن تنقلني من هذا السجن وهذا الأسر إلى أفاق سمو الروح وانطلاقها،

«وأجب یا رحیم دعوتي».

ص: 68


1- سورة الملك، الآية 1.
2- سورة يس، الأية 83.

التفاعل مع الدعاء نوع من الإجابة:

وهذه المرتبة هي التي يعبَّر عنها بمرتبة إفاضة الرحمة التحقيق الخُلع، فهناك أناس كثيرون يقولون: نحن ندعو ولا يستجيب الله دعاءنا مع أننا ندعوه بإخلاص وتقرُّبٍ ويقين وبكاء.

والصحيح أن نفس التفاعل الروحي مع الدعاء نوع من الإجابة،

فإذا فتحت دعاء كميل وبمجرد قراءتك للدعاء انهمرت دموعك على خديك، وأصبحت تحلق في حضيرة القدس وانطلقت التسابيح والنجاوی متعلقة بالله تعالى، متدلية بمعدن العظمة، فإن نفس هذه الانطلاقة الخشوعية الروحية هي نوع من الإجابة.

المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الطهارة «وأقِل يا غفور عثرتي».

الإنسان مادام ينطلق من نفسه «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»(1)، فهو معرَّض للأخطاء والعثرات والمظالم والآثام، إذن يا رب كما شملتني برحمتك ووفقتني في دعائك أسألك أن تطهَّرَني من الذنوب والأخطاء. فالغفور هو الذي يستر الذنوب ويغطيها «وأقل یا غفور عثرتي» يعني أعطني الطهارة والنقاء والصفاء حتى يكون قلبي قطعة مشرقة بيضاءناصعة لا فحمة سوداء مظلمة، واجعل قلبي مملوءً بالزهور، لا دربا مملوءً بالأشواك والقذارات «وأقل یا غفور عثرتي».

ص: 69


1- سورة يوسف، الآية 53.

قوله علیه السّلام:

«فكم يا إلهي من كربة قد فرَّجتها، وهموم قد كشفتها، ورحمة قد نشرتها وحلقة بلاء قد فككتها، الحمد لله الذي لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبَّره تكبيراً».

أنواع النعم التي استعرضها الدعاء الشريف:

نلاحظ أن الدعاء الشريف ذكر عدة مصادیق وعدة موارد للنعم «فكم يا إلهي من كربة قد فرَّجتها، وهموم قد كشفتها، ورحمة قد نشرتها وحلقة بلاء قد فككتها».

هذه إشارة إلى نعمه تبارك وتعالى، ونعمه تبارك وتعالى إما إفاضة خير أو إزاحة شر.

والشر إما شر نفسي أو شر خارجي، إما شر اختیاري أو شر قهري، والشر القهري إما إزاحته بالرفع أو بالدفع، وقد تعرض لهذه الأنواع في هذه الفقرة التي ذكرها.

أما نعمته بإفاضة الخير فهو ما عبَّر عنه بقوله علیه السّلام «ورحمة قد نشرتها»، فإن هذا التعبير عبارة عن إفاضة الخير سواء كان الخير رزقاً أو رحمة أو علماً أو مالاً أو جاهاً أو أي نوع من أنواع الرحمة.

وأما تفضُّله بإزاحة الشر فقد ذكرنا أن الشر قد يكون شراً داخلياً أي شراً نفسياً وقد يكون شراً خارجياً، والشر النفسي هو الذي عبَّر عنه بقوله علیه السّلام:

«وهموم قد كشفتها»، نحو الكآبة والكابوس الذي يخيم على النفس ويسيطر على قلب الإنسان نتيجة ابتلاءه ببعض الحوادث أو الظروف القاسية.

والشر الخارجي الذي ليس هو شراً نفسياً تارة يكون شراً من

قِبَل الإنسان نفسه وتارة يكون شراً قهرياً.

ص: 70

فالشر الذي هو صفة للإنسان نفسه هو الذي عبر عنه الإمام علیه السّلام كما ورد عنه بقوله «وعثرة قد أقلتها»، فإن العثرات عن الطريق المستقيم شر مستند إلى الإنسان ومع ذلك فإن الله تعالى بمقتضی رحمته وتفضُّله عز وجل، يمحوه تعالى بعطفه ورحمته، قال تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1).

وأما الشر الذي يطرأ على الإنسان قهراً عليه من دون أن يكون مستنداً إلى حركته واختياره فهو إما شر يزاح بالدفع أو شر يزاح بالرفع. أما الشر الذي يزاح بالرفع فمثاله أن يقع البلاء أحياناً بالإنسان بحيث لا مفرَّ له منه، كأن يقع الإنسان في مصيدة أو شبكة بلاء لا مفرَّ له منها إلا بتفضُّله تبارك وتعالى ورحمته تبارك وتعالى.

وهذا ما عبَّر عنه علیه السّلام بقوله: «وحلقة بلاء قد فككتها» يعني وقعت في مكيدة أو مصيدة أو إطار شر لا مفر لي منه، إلا أنك تفضلت عليَّ برحمتك.

كما روى الرواة أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام- لما أُوقع في لُجَّة النيران، وهو بعدُ لم يصب بأذى لكنه صار معرضاً للخوف والرعب والرهبة لأنه أُوقع في لُجَّة النيران.

فاعترضه جبرائیل علیه السّلام في الفضاء وقال: يا إبراهيم إن شئتَ أخذتُ بيدك وأخرجتك من داخل النار، فقال له إبراهيم علیه السّلام: ليس عندي إليك حاجة.

فاعترضه إسرافيل علیه السّلام وقال له: يا إبراهيم إن شئتَ اطفئتُ لك النيران وحولتها دخاناً، فقال له: ليس عندي إليك حاجة، قال: إذن

ص: 71


1- سورة الزمر، الآية 83.

حاجتك عند من؟ قال: حاجتي عند ربي، قال: إذن فادعه، قال: «علمه بحالي يغني عن سؤالي»، «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ»(1)، وفي الرواية: حتى اصطكت أسنانه من شدة البرد.

قال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(2)، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق علیه السّلام(3): «من أعطى ثلاثاً لم يُحرِمِ ثلاثاً؛ من أعطى الدعاء أُعطيَ الإجابة لأن الله تعالى يقول:

«وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(4)، ومن أُعطيَ الشكر أعطي الزيادة لأن الله تعالى يقول: «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(5)، ومن أعطى التوكل أعطىَ الكفاية، إن الله تعالى يقول: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(6).

وأما الشر الذي يُزاح بالرفع فهو الشر الذي يصيب الإنسان بألم أو ضرر أو مرض أو تلف، فهذا لا طريق لرفعه إلا بفضله، وهذا ما عبَّر عنه الإمام علیه السّلام بقوله: «فكم يا إلهي من كربة قد فرَّجتها، هذا بالنسبة لتعرض الإمام علیه السّلام لأنواع النعم كما بيّناها، وهذا هو الأمر الأول.

الوجه في تعداد النعم في فقرات الدعاء:

لماذا لم يكتف الإمام علیه السّلام بأن يقول: فكم يا الهي من نعمة قد أنعمت بها عليَّ؟ لماذا يعدد ويقول: «فكم يا إلهي من كربة قد

ص: 72


1- سورة الأنبياء، الآية 69.
2- سورة الطلاق، الأية 3.
3- شرح أصول الكافي، ج8، ص 211.
4- سورة غافر، الآية 60.
5- سورة إبراهيم، الآية 7.
6- سورة الطلاق، الآية 3.

فرجتها وهموم قد كشفتها وحلقة بلاء قد فككتها....».

الجواب هو أن التعداد من مصادیق الشكر للنعمة، فأنت إذا أردت أن تشکر إنساناً، فنفس تعدادك لفواضله ومواهبه یعدُّ شکراً له، فإذا قلت لأبيك مثلاً ربيتني وغذيتني صغيراً وأعطيتني كذا، فنفس هذا التعداد شكر متكرر للنعمة.

وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى خاطب النبي موسى وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، فقال: «يا موسی اشكرني حق شکري، قال: كيف أشكرك حق شكرك، وكلما وصلت إلى شكر علمت أنه نعمة منك تستحق الشكر عليها؟ قال: الآن شكرتني حق شکري حيث علمتَ أن ذلك مني»(1).

ص: 73


1- الكافي، ج2، ص92، باب الشكر.

ص: 74

التوحيد بين البرهان والوجدان

قوله علیه السّلام: «الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً».

قوله: «الحمد لله»، من الطبيعي أن الإنسان عندما يذكر النعم ينتقل إلى الحمد، ولذلك فالدعاء بعد أن عدَّ النعم، «فكم يا إلهي من کربة قد فرَّجتها، وهموم قد كشفتها، ورحمة قد نشرتها وحلقة بلاء قد فككتها»، انتقل إلى مقابلة هذه النعم بما يناسبها وهي المقابلة بالحمد والشكر، فقال: «الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً».

بحث فلسفي في نفي الولدية والصاحبية:

وهنا بحث فلسفي يتعلق بنفي الولدَّية ونفى الصاحبيَّة عن الله عز وجل، فقد ذكر علماؤنا الأبرار أنه يستحيل أن يكون الله بنوَّة وولديَّة، وذلك لأن البنوة إما بنوة حقيقية، وإما بنوة اعتبارية، وكلاهما مستحيل في حقه تبارك وتعالى.

في نفي البنوة الحقيقية:

أما البنوة الحقيقية فلأنها تقتضي الاشتقاق؛ اشتقاق وجود من وجود، واشتقاق وجود عن وجود يقتضي المشاركة في سنخ الصفات، ولذلك فإن الولد إذا اشتق من أبيه شاركه في صفاته فتنعكس عليه

ص: 75

صفات أبیه قهراً.

ولهذا ورد عن الإمام زین العابدین علیه السّلام في رسالة الحقوق:

«وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلک»(1) يعني صفاتك اشتقاق من

صفاته وسمائك اشتقاق من سماته، وهذا أمر قهري.

فلو كان الله تعالى بنوَّة حقيقية لَلَزم أن يكون ولده المفروض مشارك له في صفاته سبحانه، فكما لله تعالى علم مطلق فللولد علم مطلق، وكما له قدرة مطلقة، فللولد قدرة مطلقه، وكما له حياة مطلقة فللولد حياة مطلقة، فإن مقتضى الاشتقاق هو الاشتراك، والشراكة تقتضي الحدود، والحد مناف للإطلاق.

وبعبارة أخرى؛ إن الوجود الإلهي - وجود الله عز وجل - وجود لا حدود له من جهة علمه، ولا حد له من جهة قدرته، ولا حد له من جهة حياته، وجود هو عين الإطلاق وعين عدم الحد.

فلو افترضنا أن هناك موجوداً آخر يملك نفس الصفة من حيث عدم محدودية علمه وحياته وقدرته، فلازم ذلك محدودية الموجود الأول بالموجود الثاني، فكل مثل محدود بمثله، إذ لا يمكن أن يمتد وجوده المثيله ولا يمكن أن يمتد وجود مثيله له، فوجود كل من الله سبحانه ووجود مثيله محدود بعدم الامتداد إلى الآخر.

وهذا يقتضي أن وجوده ليس مطلقاً، بل محدوداً، ففرض المثيل يعني المحدودية، والمحدودية تعني عدم الاطلاق، وهذا منافٍ للقول بأن الله تبارك وتعالى عين الوجود المطلق، فلا يعقل أن يكون له ولد ولا يعقل أن يكون له مثيل.

ص: 76


1- من لا يحضره الفقیه، ج 2، ص 662.

في نفي البنوة الاعتبارية:

أما البنوة الاعتبارية فمعناها أنه كما اتخذ رسولا فاعتبر محمداً نبياً رسولاً أو اتخذ المعصوم إماماً، فليعتبر واحداً من الخلق ولداً كالنبي عیسی مثلاً.

فهذه البنوة مع أنها اعتبارية فهي مستحيلة، لماذا؟ لأن اعتبار البنوة مناف لقاهريته، فإنه إذا اعتبر زبداً من الناس ولداً كما ادعي بالنسبة للنبي عیسی علیه السّلام مثلاً، فإنه يكتسب الشرف الإلهي قهراً لأن الانتساب إلى الإله موجب لاكتساب شرف الإله نفسه.

والله تبارك وتعالى كما وصف نفسه في القرآن الكريم «هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(1)، و القهار هو الذي لا يستقل كماله عن سلطته، فأي كمال للكون فهو خاضع لسلطنته ويستطيع أن يعطيه من يشاء أو يمنعه.

أما إذا اعتبر أي مخلوق ولداً، فإنه يكتسب الشرف قهراً وإذا اكتسب الشرف فلا يمكن سلبه، وعدم إمكان سلب الشرف والسؤدد الذي اكتسبه المخلوق قهراً منافٍ القاهريته سبحانه وتعالى وأن لا شرف ولا كمال إلا وهو خاضع لسلطنته وبیده حدوثه وبقاؤه رفعاً ودفعاً.

وهو ما أُشير إليه في قوله تعالى: «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(2).

فاتخاذه مناف القاهريته تبارك وتعالى.

و ببيان آخر: إن اتخاذ شخص ولداً أو صاحبة إما لحاجة أو

ص: 77


1- سورة الزمر، الآية 4.
2- سورة الزمر، الآية 4.

بدونها، فإن كان لحاجة فهو منافٍ لغناه تبارك وتعالى، وإن لم يكن

لحاجة، فالفعل لغو، واللغو لا يصدر عن الحكيم تبارك وتعالى.

قوله علیه السّلام:

«الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك

في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيراً».

والكلام في بيان هذه الفقرة وهي قوله عليه السّلام: «ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيراً» يستدعي أن نطرح أموراً:

نفي الوحدة العددية عنه تعالى:

الأمر الأول: أنه عندما نقول بأن الله واحد، فليس المراد بالوحدة الوحدة العددية، بل المراد هو الوحدة الذاتية، وهناك فرق بين الوحدة العددية والوحدة الذاتية.

فالوحدة العددية تنتزع من عدم وجدان الشيء ما لغيره، إذ لو كان واجداً لما في غيره لم يكن واحداً وحدة عددية، فمثلاً إذا افترضنا أن عندنا ماء حوض مثلاً، فإذا فرقناه على آنية متعددة وأضفنا في كل إناء مقداراً من الماء فالإناء الأول نقول عنه واحد، وما معنى واحد؟

واحد يعني ليس فيه ما في الإناء الثاني، إذ لو كان فيه ما في الإناء الثاني لم يكن واحداً مقابل الإناء الثاني، أي أن الوحدة العددية لا ترجع لحد إيجابي بل ترجع إلى حد سلبي وهو عبارة عن انتزاع الوحدة من عدم وجدان هذا الإناء لما في الإناء الآخر.

هذا ما يعبر عنه بالوحدة العددية إذ قبل أن نفرق هذا الماء إلى آنية ما كان هذا واحداً وهذا اثنين وهذا ثلاثة وهذا أربعة.

ص: 78

وقد تصور الكثير من الناس أن الله تبارك وتعالى واحد بالوحدة العددية؛ لذلك اعترضوا على النبي، قال تعالى: «وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ»(1)، يعني وحدة عددية مقابل آلهة متعددة.

تصوروا أن معنى الوحدة وحدة عددية، والحال بأنه لا يمكن وصف الله بالوحدة العددية، لأن لازم الوحدة العددية المحدودية، والمحدودية منافية لإطلاق وجوده تبارك وتعالى لأن الواحد بمعنى الوحدة العددية ليس فيه ما في غيره فصار محدوداً بعدم وجدانه لما في غيره.

فمقتضى الوحدة العددية المحدودية، ومحدودية الوجود منافية الكون الوجود وجوداً إطلاقياً، لا يطرأ عليه نقصٌ من أي جهة ومن أي طرف.

إذن وصف الله تعالى بالوحدة العددية أمرٌ غير معقول، وهذا ما أردنا بيانه في الأمر الأول.

اتصافه تعالى بالوحدة الذاتية:

الأمر الثاني: أن الله تبارك وتعالى متصف بالوحدة الذاتية لا بالوحدة العددية، والمقصود بالوحدة الذاتية أن وجوده يقتضي أن كل ما فرض من كمال ووجود فهو منه ومستفاد منه ومحاط بوجوده تبارك وتعالى. ما معنىهذا الكلام؟

لنطرح مثالاً على ذلك؛ إذا افترضنا أن هناك خطين مثلاً، خطاً

لا نهاية له من تمام أطرافه وجهاته، وليس فقط من جهة الطول مثلاً.

و خطاً متناهياً سواءً طولاً أو عرضا أو عمقاً، فمعنى أن هذا متناهٍ

ص: 79


1- سورة ص، الآية 4 - 5.

وذاك غير متناهٍ، هو إحاطة غير المتناهي بالمتناهي بحيث يقع الخط المتناهي تحت إحاطة غير المتناهي وتحت دائرته وإلا لم يكن غير متناهٍ.

معنی کونه غير متناهٍ أنك كلما فرضت خطاً آخر من الخطوط فهو داخل تحت خطيته وتحت إحاطته وإلا لم يكن غير متناهٍ.

إذن بما أننا نعتقد أن الله تعالى هو الخالق؛ فخالقيته تقتضي وجوب وجوده، ووجوب وجوده يقتضي إطلاقه وعدم محدودیته، وإطلاقه وعدم محدودیته يقتضي وحدة ذاته، أي كلما فرضنا وجوداً آخر وفرضنا كمالاً آخر فهو محاط بوجوده ومستند إليه ومستفاد منه، وهذا هو معنى الوحدة الذاتية ومعنى وحدانيته تبارك وتعالى.

الأمر الثالث: بما أنه تبارك وتعالى واحد بالوحدة الذاتية لا بالوحدة العددية؛ لذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يركز على الوحدة الذاتية، فتارة يعبر عنه تبارك وتعالى ب- «أحد»، كما في قوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(1).

فلم يعبر عنه سبحانه بالواحد في هذه الآية، حتى يبين لنا أن المراد بالوحدة هي وحدة الذات لا وحدة العدد، فالأحد رمز وعنوان للوحدة الذاتية، أي لا يُتصور شيء آخر إلا وهو منه وليس مستقلاً عنه سبحانه وتعالى.

ثم يفرَّع على ذلك بقوله سبحانه: «اللَّهُ الصَّمَدُ»(2)، أي لأنه واحد وحدة ذاتية فلا شيء آخر معه، ولا حد له حتى يكون وراء حده شيء، فلا شيء إلا وهو ولا حد له حتى يكون وراء حده شيء، فرَّع عليه: «اللَّهُ الصَّمَدُ».

ص: 80


1- سورة الإخلاص، الآية 1.
2- سورة الإخلاص، الآية 2.

فمن لم يكن له ثانٍ ومن لم يكن وراءه شيء فهو صمد يعني أن جميع أنحاء الوجود وذرات الوجود صامدة إليه متجهة إليه تستقي منه وتستند إليه.

ولأنه واحد وحدة ذاتية فلذلك ً«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ»(1)، إذ لو وُلِد من شيء لم يكن مطلقاً، ولو وَلَدَ شيئاً لكان محدوداً بوجود وَلَدِه «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ»، بل مقتضی وحدته الذاتية أن لا ثاني له، «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»(2).

وتارة يعبر عنه بالواحد ويضيف إليه كلمة قهار حتى لا يتوهم الوحدة العددية، قال تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(3)، وقال سبحانه: «أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(4).

أي أن ذاته واحدة بحيث لو فُرض وجود آخر فهذا الوجود منه و مستند إليه، ولو فرضنا الوجود الأخر وجوداً مستقلاً لكان وجوده تبارك وتعالى محدوداً بذاك الوجود الأخر.

ومحدودية وجوده بالوجود الآخر تنافي قهَّاریته وتنافي غالبيته وتنافي أن وجوده هو المصدر الأول لكل الوجود، «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا»(5)، «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا»(6)، «أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(7).

ص: 81


1- سورة الإخلاص، الآية 3.
2- سورة الإخلاص، الآية 4.
3- سورة غافر، الآية 16.
4- سورة يوسف، الآية 39.
5- سورة البقرة، الآية 165.
6- سورة النساء، الآية 139.
7- سورة يوسف، الآية 39.

لذلك في الدعاء الشريف قال: «ولم يكن له شريك في الملك، ولم

يكن له ولي من الذل».

فمن كان واحداً بالوحدة الذاتية فهو الكبير حقاً بمعنى أن لا كبير وراءه، فأي كبير تفرضه فهو مستفاد من كبره تبارك وتعالى، لذلك لما أشار إلى الوحدة الذاتية أشار إلى الكبير وقال علیه السّلام: «وكبره تكبيراً»، يعني لا كبير غيره ولا كبير إلا وكِبَرُهُ مستفاد من وجوده تبارك وتعالى.

ص: 82

مساحة الشکر فی عالم النعم

«الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها»

من هاتين الفقرتين تنبثق ثلاثة أسئلة:

1- ما هو مقصوده بجميع محامده كلها؟

2- ما هو وجه التأكيد على جميع النعم، بجميع نعمه كلها؟

3- هل أن النعم التي يحمد الإنسان ربه عليها حاضرة لديه

مدركة عنده أم لا؟

ولأجل الجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة نتعرض لثلاث نقاط

ليتبين الجواب عن هذه الأسئلة.

سيطرة قانون العلية على الوجود:

الامر ليس بإجراء سنة إلهية بحادثة بعد حادثة، فمثلاً عندما نلاحظ أن هناك ناراً وهناك إحراقاً، فتَعَقُّبُ الإحراق للنار ليس بمعنى أن الله تبارك وتعالى جرت سنَّته على أن يوجد الإحراق إذا وُجِدَت النار، وجرت سنَّته على أن يوجد الثمرة إذا وُجِدَت البذرة من دون أن يكون هناك ارتباط وجودي بين النار والإحراق وبين البذرة والثمرة.

المسألة ليست هكذا. المسألة مسألة نظام العلية والمعلولية، والمقصود

ص: 83

بنظام العلية والمعلولية أنه تبارك وتعالى جعل النار متقومة باقتضاء الإحراق، وجعل الإحراق محتاج إلى وجود النار، فجعل في كل من الطرفين اتجاهاً نحو الأخر، ونتيجة ذلك حصل ارتباط وجودي بين النار والإحراق بحيث أن النار تفرز الإحراق والإحراق لا تفرزه إلا النار فهناك عملية ارتباط وجودي.

إذن فجعل كل موجود في حاجة إلى الموجود الآخر هو ما يسمى بنظام السببية والمسببية وما يسمى بنظام العلية والمعلولية، ونتيجة لذلك فكل موجود سبب من جهة ومسبَّب من جهة؛ مؤثر من جهة ومتأثر من جهة، علة من جهة ومعلول من جهة أخرى.

جميع أرجاء الوجود وجميع أجزاء الكون هي مؤثرة ومتأثرة، تأخذ وتعطي، ولولا أن الله تبارك وتعالى جعل الكون هكذا، البذرة تحتاج الثمرة، والإحراق يحتاج النار، والنار تحتاج إلى العناصر، لبطلت حركة الوجود، ولبطلت حركة الكون لأن الحركة فرع الحاجة فإذا لم

تكن حاجة فلا حركة.

الحركة فرع الحاجة فلولا انبثاث الحاجة في جميع أجزاء الكون في غاياته إذن بطلت حركة الكون وصار وجود الكون لغواً وعبثاً، فقد اقتضت حكمته تبارك وتعالى أن يكون النظام المسيطر على هذا الوجود هو نظام الحاجة، أي نظام العلية والمعلولية ونظام السببية والمسببية.

بناءٌ على هذه النقطة يتضح لنا أن الإنسان محفوف بالنعم من جميع الجهات وأن الإنسان جميع أجزاء الوجود يخدمه فلا شيء في الكون لا يخدم الإنسان، قال تعالى:«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»(1)، جميع أجزاء الوجود تخدم

ص: 84


1- سورة لقمان، الآية 20.

الإنسان، لماذا؟

فإن النبات الذي يأكله الإنسان، يحتاج إلى التربة إذن التربة تخدم الإنسان، والنبات يحتاج إلى السماد إذن السماد يخدم الإنسان، والنبات يحتاج إلى الرياح، إذن الرياح تخدم الإنسان، والنبات يحتاج إلى الشمس، إذن الشمس تخدم الإنسان، والنبات يحتاج إلى القمر، إذن القمر يخدم الإنسان.

وهكذا تلاحظ أن كل جزء من أجزاء الوجود يؤثر في الجزء الذي بعده وذلك الجزء يؤثر في الجزء الذي بعده والجزء الثالث يؤثر في الجزء الرابع، فكل جزء يؤثر ويتأثر إلى أن تنتهي النتيجة إلى خدمة الإنسان نفسه، قال تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(1).

فإذا لاحظ الإنسان هذا النظام؛ نظام السببية والمسببية وأن أجزاء الوجود كلها تخدمه ومسخرة لخدمته، استطاع هذا الإنسان أن يُدرك ما ذكر القرآن الكريم في قوله تعالى:

«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(2)، أيَّ شيء أحصي مادام كل الوجود في خدمتي، إذن فكل الوجود نعمة لي.

وهل يستطيع إنسان أن يحصي أجزاء الوجود من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة؟! هل يستطيع إنسان أن يحصي أو يسرد جميع تفاصيل هذا الوجود؟! وبما أنك لا تستطيع أن تحصي تفاصيل نظام الوجود إذن لا بد أن تذعن بمضمون هذه الآية «وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(3).

ص: 85


1- سورة الإسراء، الآية 20.
2- سورة النحل، الآية 18.
3- سورةإبراهيم، الآية 24.

وبهذا النظر يلاحظ في الدعاء التأكيد على الكلية والجمعية «على جميع نعمه كلها»؛ على كل جزء يخدمني وكل ذرة تخدم وجودي وتخدم غاياتي فهي نعمة أنا أشكر الله عليها، «على جميع نعمه كلها».

وفي آية آخرى يقول سبحانه: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(1)، النعم الظاهرة جوارحك ووجودك والرياح والهواء والشمس والقمر، والنعم الباطنة توفيقك وتسديدك للهداية والتوبة والإنابة، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(2)، «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»(3)، هذه الهداية القلبية هي النعمة الباطنة.

إن الوجود كله نعم:

يقرر الفلاسفة أنه لا يوجد في ساحة الكون شيء هو شرّ، جميع ما في الكون نعمة وجميع ما في ساحة الوجود عطاء من الله تبارك وتعالى.

إن قلت: كيف هذا والإنسان يرى بوجدانه الشرور ویری بوجدانه النقمة؟ الإنسان يرى شرور الذنوب، شرور الآفات، شرور الأمراض، شرور الكوارث الطبيعية.

لاحظوا القرآن الكريم ينص على أن الله تبارك وتعالى فعلين:

1- فعل الخلق.

2- فعل الإحسان.

ص: 86


1- سورة لقمان، الآية 20.
2- سورة العنكبوت، الآية 69.
3- سورة الإنسان ، الآية 3.

أما بالنسبة لصفة الخلق، فهو كما في قوله تعالى: ««ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»(1)، أي أنه لا شيء إلا وهو مخلوق الله عز وجل، وأما بالنسبة لصفة الإحسان، فهو كما في قوله تعالى:

«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ»(2)، أي أنه لا يوجد خلق غير حسن، ولا يُتَصَوَّر خلق غير حسن، حتى الذبابة وحتى البعوضة، أي خلق في هذا الكون فهو حسن «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ».

إذا تصورنا هاتين الحقيقتين، وهما أن الله خالق كل شيء وأنه لم يخلق شيئاً إلا وهو حسن، فكيف نوفق بين هذا وبين ما نرى بوجداننا من الشرور والآفات والكوارث والأمراض؟

يقول الفلاسفة: كل موجود فهو من جهة وجوده وانتسابه إلى الله هو حسن، فإن كل موجود فهو يحمل الوجود والوجود طاقة والطاقة أمر حسن، فكل موجود من جهة وجوده وانتسابه إلى خالقه جل وعلا فهو حسن وخير. إذن من أين يأتي الشر؟

لا يأتي الشرُّ من جهة الوجود، أي من جهة انتساب هذا الموجود واستمداد هذا الوجود من الله تبارك وتعالى، بل يأتي الشر من منشأ إما عدمي أو اعتباري أو نسبي، يأتي الشر من مناشئ غير الوجود وإلا فنفس الوجود بما هو طاقة مستمدة من الله عز وجل ومفاضة من قبل الله عز وجل، حسن وخير.

أما المنشأ الاعتباري، فمثاله الزنا والزواج، حيث لا فرق بين الزنا والزواج من ناحيةٍ وجوديةٍ، نفس العلاقة الجنسية عملية واحدة من جهة أنها وجود، فهي من حيث ذات العملية وجود يستند إلى

ص: 87


1- سورة غافر، الآية 62.
2- سورة السجدة، الآية 7.

إفاضة العطاء من الله تبارك وتعالى. إذن من أين توصف هذه العملية بأنها زنا وبأنها شر؟

إنما جاء الشر من ناحية اعتبارية، وهو حكم الشارع أن لا تكون هذه العلاقة إلا مع العقد، وهذا نظير أن الشارع مثلاً يعتبر الكافر مباح المال والمسلم غير مباح المال، أو بالنسبة إلى النجاسة والطهارة فهل هناك فرق بين جسم الكافر وجسم المسلم؟ هل جسم المسلم أنقى من جسم الكافر؟ لا فرق من حيث الجسم هذا وجود وهذا وجود، هذا خير وهذا خير، والفرق مجرد اعتبار شرعي.

إذن عنوان الشر لم يأتِ من حاقَّ الوجود، فالوجود كله خير، وإنما جاء من أمر اعتباري، وإلا فنفس الوجود بما هو وجود لا شريَّة فيه وأما المنشأ العدمي فمثاله مسألة الأمراض؛ فالذبابة في حدَّ ذاتها طاقة ومن حيث هي وجود خير، لكن نتيجة عدم انسجام الذبابة مع بعض خلايا الجسم نشأ الشرّ، فالشر نشأ عن منشأ عدمي لا عن الوجود نفسه، نشأ عن عدم انسجام هذه الطاقة مع طاقة أخرى.

مثل الطعام والشراب فالإنسان إذا شرب ماءً أكثر من طاقته يصير عليه شراً، فالماء خير لكن إذا شربت أكثر من طاقتك فنتيجة عدم الانسجام بين الماء الكثير وبين الجسم يقال حصل شر فالشر لم ينشأ عن الوجود وإنما نشأ عن منشأ عدمي وهو عدم الانسجام بين هذه الطاقة والطاقة الأخرى،وبين هذا الوجود وهذا الوجود الأخر.

والخلاصة إذا تأملت ورأيت أن الوجود كله خير وكله نعمة أيقنت بهذا التعميم في هذا الدعاء الشريف «على جميع نعمه كلها» يكرر التعميم مرتين، مرةً يقول «جميع» ومرة يقول «كلها»، هذا التأكيد للإشارة أنه ليس في ساحة الوجود إلا النعمة.

ص: 88

إن الوجود مساوق للإدراك:

ذكر الفلاسفة المسلمون أن كل موجود فهو مدرك، حتى الحجر، أي أن كل موجود بمقدار ما ينال من الوجود له حظ من الإدراك لأن الوجود كما ذكرنا في النقطة الثانية خير ومنشأ لكل خير فمتى ما افترضت وجوداً افترضت معه خيراً وحياة، فمتى ما افترضنا وجوداً افترضنا معه الإدراك لأن الإدراك خير، فكل وجود مساوق للإدراك حتى الحجر الأصم بما أنه موجود، إذن عنده نصيب من الإدراك.

وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1)، وقال سبحانه: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (2)، أي أن عنده إدراك،

«لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»(3)، وهو حجر أصم لكن عنده إدراك، فكل وجود مساوق للإدراك.

بناء على هذا، كل موجود مدرك، وكل موجود مسبح وحامد وكل موجود ملتفت إلى الجمال والجلال، وهذه علاقات يكمل بعضها بعضاً كما ذكر علماء العرفان:

العلاقة الأولى: أن كل موجود مدرك، وشرحنا معناها وقلنا الإدراك خير والوجود منشأ لكل خير فكل موجود فهو مدرك.

العلاقة الثانية: كل مدرك فهو مسبح وحامد لأن كل موجود

ص: 89


1- سورة الإسراء، الآية 4.
2- سورة البقرة، الآية 74.
3- سورة الحشر ، الآية 21.

يدرك نفسه وإذا أدرك نفسه أدرك ربه، «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1).

بيان ذلك أن الموجود يدرك نفسه من جهتين: من جهة وجودية ومن جهة عدمية، فالإنسان مثلاً، يدرك أنه حياة وهذه جهة وجودية، ويدرك أنه عقل وهذه جهة وجودية، ويدرك أنه طاقة وهذه جهة وجودية، فإذا أدرك الجهات الوجودية أدرك عنصر الجمال، وإذا أدرك عنصر الجمال في نفسه فقد أدرك الجمال في نفسه، وإذا أدرك جمال ذاته أدرك أن لهذا الجمال مصدر وفاقد الشيء لا يعطيه، فلا بد أن يكون مصدر الجمال عين الجمال، إذن من جمال ذاته يدرك جمال بارئه تبارك وتعالى وهذا هو الحمد.

أما التسبيح فبيانه أن الإنسان مثلما يدرك العناصر الإيجابية ، يدرك العناصر السلبية، فهو قادر وعنده طاقة وعنده علم، ولكن عنده جهل وعنده ضعف.

وإذا أدرك الجهة السلبية في ذاته أدرك أن المصدر الذي أفاض عليه الوجود لا سلبية له فينتقل من إدراك نقصه إلى تنزیه مصدره عن النقص وتنزيه المصدر عن النقص هو التسبيح، و هو المسمى بإدراك الجلال.

وحينئذ يصح أن يقال: كل موجود مسبح وحامد قال تعالى:

«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(2).

نتيجة هذا المطلب نقول: كل موجود يدرك جمال الله، فكل

ص: 90


1- سورة فصلت، الآية 53.
2- سورة الإسراء، الآية 44.

موجود يحمد الله، وبمقدار اختلاف الموجودات في إدراك الجمال يختلف الحمد من الموجودات. أنا أدرك جمال الله فأحمده والإمام يدرك جمال الله فیحمده، ولكن هل إدراكي للجمال كإدراك الإمام.

بما أن إدراك الإمام لجمال الله أشد من إدراكي فحمده أشد من حمدي، والنبي محمد أقرب المخلوقات إلى الله، إذن فإدراكه لجمال الله أتُّم من غيره، فحمده لله أتم أنواع الحمد.

فاختلاف الموجودات وتفاوتها في إدراك الجمال يقتضي تفاوتها في الحمد وتفاوتها في الحمد يعني أن هناك محامد متعددة، لذلك ظهر الجواب عن فقرة «الحمد لله بجميع محامده كلها». ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام: فقد ابي بغلة له -يعني الإمام الباقر علیه السّلام - فقال: لَئن ردّها الله تعالى لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتي بسرجها ولجامها، فلما استوى عليها وضمن إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال: الحمد لله، فلم يزد، ثم قال: ما تركت ولا بقيت شيئاً، جعلت كل أنواع المحامد الله عز وجل فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت»(1) بمعنى أن أل في لفظ - الحمد للاستغراق فيشمل جميع مراتب الحمد ومصادیقه.

ص: 91


1- بحار الأنوار، ج 46، ص290.

ص: 92

جلال الملك وعظمة الملكوت

«الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه ولا منازع له في أمره ولا

شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته»

كلامنا حول هذه الفقرات الشريفة يكون في عدة أمور:

الفرق بين الخلق والأمر:

كما ورد في الآية المباركة «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ»(1)، هو أن

إفاضة الوجود على نوعين؛ إفاضة بتقدير وإفاضة دفعية.

الفرق بين الإفاضة الدفعية والتدريجية:

الإفاضة بالتقدير: ومعنى الإفاضة بالتقدير أي ربط الوجود بسبب معين، فمثلاً إفاضة وجود الإنسان يكون مقدراً بوجود النطفة، فهى إفاضة تقديرية.

الإفاضة الدفعية: أي بلا تقدير يعني بلا توسيط سببٍ مادي أو مادة معينة، فالإفاضة بتقدير تسمى بالخلق، والإفاضته الدفعية بدون

ص: 93


1- سورة الأعراف، الآية 54.

تقدير تسمى بالأمر، فالخلق والأمر نوعان من الإفاضة.

ولأن الإفاضة الخلقية إفاضة بتقدير لذلك تقبل التدريج المهلة، بينما الإفاضة الدفعية لأنها بدون واسطة لا تقبل التدريج ولا تقبل المهلة، لذلك تبارك وتعالى عبَّر عن الإفاضة الخلقية بالتدريج، قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ»(1).

وقال تبارك وتعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا»(2).

بينما الإفاضة الأمرية لأنها لا تتبع التقدير فلا تقبل التدريج، قال تعالى: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»(3)، فلا تدريج في الإفاضة الأمرية.

ولأن الإفاضة الأولى إفاضة تقديرية لذلك اعتبر إيجاد الجسد من قسم الخلق، ولأن الإفاضة الثانية إفاضة دفعية غير تدريجية اعتبرت الروح قسماً من الأمر.

وفي الآيات المباركات دلالة على أن الجسد والمادة من قسم عالم الخلق، قال تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(4)، أي أنه خلق الجسد خلقاً تدريجياً، أما إفاضة الروح فهي إفاضة دفعية لا تدريج فيها.

فهي توجد بنفس قوله سبحانه: «کن» ولأنها توجد بكلمة كن

ص: 94


1- سورة الحديد، الآية 4.
2- سورة المؤمنون، الآية 12 - 13.
3- سورة القمر، الآية 50.
4- سورة آل عمران، الأية 59.

سميت الروح من عالم الأمر، «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1).

وقال تعالى «َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(2)، لم يقل (من خلق) أي ليس أمراً تدريجياً «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»(3).

الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت:

الموجود الذي يوجده الله تبارك وتعالى لا يخرج عن سيطرته تبارك وتعالى ولا عن قيمومته تبارك وتعالى لأن هذا الموجود مفاض من قبله، فإذا كان مفاضاً من قبله فهو به مرتبط ارتباط الإفاضة بالمفيض.

ومعنى ارتباط الإفاضة بالمفيض - كما يذكر الفلاسفة- أن الإفاضة هي عين الربط لاشيء له الربط، إذ لو افترضنا للإفاضة شيئية وراء الربط فمن أعطاها هذه الشيئية؟ ليس لأي شيء شيئية إلا بارتباطه بالله عز وجل، فجميع الأشياء هي عين الربط به لا شيء له الربط، إذ لا شيئية لها ولا إنَّية لها ولا نفسية لها وراء نفس الارتباط ونفس التعلق بالوجود الأتم له تبارك وتعالى.

إذن بما أن الموجود هو عين الربط به تبارك وتعالى، فالموجود تحت سيطرته حدوثاً وبقاءً وإيجاداً وإعداماً، وهذه السيطرة تقسم إلى قسمين في الفلسفة والعرفان: سيطرة ملكية وسيطرة ملكوتية. ما معنى السيطرة الملكية والسيطرة الملكوتية؟

كل شيء من الأشياء له ظاهر و باطن، له شهادة وغيب، «عَالم

ص: 95


1- سورة يس، الأية 82.
2- سورة الإسراء، الآية 85.
3- سورة الإسراء، الآية 85.

«الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ»(1)، بمعنى أن كل شيء من الأشياء له جنبتان؛ جنبة ظاهرة تسمى بالشهادة، وجنبة باطنة تسمى بالغيب. فما هو الفرق بين الجنبة الظاهرية والجنبة الباطنية؟

الجنبة الظاهرية هي الحدود، والجنبة الباطنية هي ارتباط الوجود بوجوده تبارك وتعالى، فإذا نظرنا للحدود فهذا هو الظاهر، وهذا هو عالم الشهادة شكل محدود وطاقة محدودة وعلم محدود وقدرات محدودة، بينما وراء هذه الحدود كلها ارتباط بين هذه الطاقة الوجودية وبين الوجود الواجبي تبارك وتعالى وتعلُّق وتدلي لهذا الوجود بالوجود الأتم يسمى بعالم الغيب ويسمي بعالم الملكوت، وكما أن الله تبارك وتعالى مسيطر على عالم الشهادة المعَّبر عنه بالملك، فهو مسيطر على عالم الغيب أي مسيطر على عالم الملكوت.

لذلك نصَّ القرآن الكريم على سيطرته تبارك وتعالى على عالم

الملك، فقال:«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»(2)، ونصَّ على سيطرته على عالم الملكوت، فقال:

«فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ»(3)، ولكن من يدرك عالم الملك ومن يدرك عالم الملكوت؟

نحن البشر العاديون لا ندرك إلا عالم الملك ولاندرك إلا الحدود لكن هناك أناساً يبصرون عالم الملكوت أي يرون الجهة الخفيَّة وهي جهة ارتباط هذا الوجود بالوجود الواجبي، قال تعالى: ««وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»(4)، ما وصل إبراهيم لليقين إلا لأنه انكشف عالم الملكوت فرأى جهة

ص: 96


1- سورة المؤمنون، الآية 92.
2- سورة الملك، الآية 1.
3- سورة يس، الآية 83.
4- سورة الأنعام، الآية 75.

الربط بين هذا الوجود كله وبين الوجود الواجبي له تبارك وتعالى، فقرأ عالم الملكوت.

ما ذكره علماء العرفان حول الجنة والنار:

ولذلك قال علماء العرفان إن هذا الوجود الذي نراه هو نفس الجنة والنار، نفس هذا الكون الذي نعيش فيه هو عينه الجنة والنار لا شيئاً آخر، فنحن نراه بجهته الملكية، نرى سماءً وأرضاً وشمساً وحجراً وبشراً إنساناً، ونحن نرى العالم الملكي.

أما الذين يرون الجانب الملكوتي من هذا الوجود فهم يرون الجنة والنار في هذا الوجود نفسه لا شيئاً آخر، والقرآن الكريم بنصُّ على هذا المعنى: «كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ»(1).

وكذلك الآية الأخرى: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ»(2)، لو كان لكم علم اليقين الرأيتم الجنة والنار وعالم العليين وعالم الجحيم وأنتم في هذه الدنيا.

مشاهدة الإمام علي علیه السّلام لعالم الملكوت:

ولذلك ورد عن الإمام علي علیه السّلام: «لو كُشف لي الغطاء ما

ازددت يقيناً»(3)، فإن انکشاف الغطاء بمعنى الموت؛ قال تعالى:

ص: 97


1- سورة المطففين، الآية 18 - 21.
2- سورة التكاثر، الآية 5- 7.
3- عين العبرة في غبن العترة، جمال الدين أحمد بن موسی بن طاووس، ص22.

«فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(1) فمفاد کلامه علیه السّلام أنه لا فرق عندي بين الموت والحياة لأني رأيت عالم الملكوت وملکت أعلى درجة من اليقين به وأنا في الدنيا.

فالإنسان العادي يكتشف هذه الأمور إذا مات، ورُفعت الغشاوة عن بصره، أماأولياء الله فهم في الدنيا وهم يكتشفون هذا العالم بأسره، «كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ»(2)، «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ»(3).

إذاً بالنتيجة اتضح لنا الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت، ونتيجة لما أوضحناه من الأمرين يظهر المقصود من فقرات الدعاء «الحمد لله الذي لا مضاد له في ملکه» ، إذا كان كل شيء مفاضاً من عنده، وكان كل شيء ملكه، فكيف يكون له مضاد؟ إذا كان كل شيء مستفاداً منه فكل شيء ملك له، فإذا كان كل شيء له، فكيف يعقل أن يكون له مضاد؟

في نفي الشَّركَة:

فإن هذا المضاد ملکه، ومستفاد منه، ومفاض من قِبَلهِ؛ وهل يُعقل أن يكون المملوك مضاداً لمالكه؟! وهل يعقل أن تكون الإفاضة مضادة لمفيضها؟! «لا مضاد له في ملكه ولا منازع له في أمره»، وإذا كان أمره دفعياً لا يقبل المهلة ولا يقبل التدريج فلا يُعقل أن يكون له منازع في أمره.

ص: 98


1- سورة ق، الآية 23.
2- سورة المطففين، الأية 18 - 21.
3- سورة التكاثر، الأية 5 - 7.

لأن فرض المنازع يعني فرض المانع من نفوذ إرادته ومشيئته، وهذا خلف كون أمره أمراً دفعياً، فهذه الفقرات تريد أن توضح أن «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»(1)، لا يقبل وجود مانع ولا حاجز.

منشأ الشَّركَة إما الحاجة أو المغلوبية:

أما قوله علیه السّلام: «ولا شريك له في خلقه»، فمعناه يتفرع على معنى الفقرتين السابقتين؛ وذلك لأن جعل الشريك ناشیء عن أحد سببين لا يتصور لهما سبب ثالث؛ فهو إما بسبب الحاجة، وإما بسبب المغلوبيةأي إما أن يرى الشخص نفسه محدوداً فيحتاج إلى شريك ليساعده في إنجاز أموره وفي إدارة شئونه، وإما لأنه غير محتاج لكن الشريك الأخر سيطر عليه وغلبه وصارت شركته معه أمراً قهرياً لا مفرَّ منه.

فالشركة منشؤها أحد سببين؛ إما الحاجة وإما المغلوبية، وكلاهما لا يُتصور في حقه تبارك وتعالى، فهو لا حاجة له لأنه كما ذكرنا في الفقرة السابقة «ولا مضاد له في ملکه»، من كان كل شيء مفاض من عنده، فلا يعقل أن يكون محتاجاً إلى سواه.

كما أنه ليس مغلوباُ لقوله علیه السّلام «ولا منازع له في أمره»، فمن لم يكن له منازع في أمره، بل كانت إرادته ومشيئته نافدة بلا مهلة، فلا يعقل أن يغلبه أحد كي يكون له شريك قهراً.

سمات العظمة:

ما هي العظمة؟ العظيم من جمع أوصافاً ثلاثة: الملك، ونفوذ الإرادة، والتفرد، فمن كان ملكاً نافذ الإرادة ومتفرداً في ملکه لاندَّ له

ص: 99


1- سورة القمر، الآية 50.

فهو عظيم، فإذا ثبت له تعالى وصف الملك لقوله «لا مضاد له في ملکه»، وثبت له الوصف الثاني وهو نفوذ المشيئة والإرادة لقوله «ولا منازع له في أمره»، وثبت له الوصف الثالث وهو التفرد والوحدانية لقوله علیه السّلام «ولا شريك له في خلقه»، فهو عظيم.

فكيف بمن جمعها بأجلى معانيها فهو ليس عظيماً فقط بل لا شبيه له في عظمته، فالتأمل في الفقرات السابقة يقود إلى معنى هذه الفقرة، وأن من لم يكن له مضاد في ملكه ولا منازع له في أمره ولا شريك له في خلقه، فلا شبيه له في عظمته تبارك وتعالى.

ص: 100

نبع العطاء في خزائن الغيب

«الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده الظاهر بالكرم مجده الباسط بالجود يده الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثره العطاء إلا جوداً وکرماً إنه هو العزيز الوهاب».

الفقرة الأولى: قوله علیه السّلام: «الحمد لله الفاشي في الخلق أمره

وحمده». وهي مؤلفة من جزئين:

بالنسبة للجزء الأول من الفقرة «الفاشي في الخلق أمره» فإن

الأمر يستعمل بمعنيين في النصوص الشريفة.

معاني كلمة الأمر في الدعاء:

المعنى الأول: المراد به عالم الأمر مقابل عالم الخلق كما شرحناه في

المحاضرة السابقة، وهو ليس مقصوداً في المقام.

المعنى الثاني: المراد به أمر التدبير فإن النصوص استعملت الأمر في مقام التدبير، كما في قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ»(1)، أو قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ»

ص: 101


1- سورة يونس، الآية 3.

بِأَمْرِهِ»(1)، أي بتدبيره.

وتدبير الكون ربط المسبَّبات بالأسباب، ويعبر عنه بالتربية أيضاً، كما في قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، الرب هو المدبر «رَبِّ الْعَالَمِينَ»، يعني مدبر العالمين.

فالتربية والتدبير والأمر ألفاظ بمعنى واحد، والمراد بها تدبير الكون أي ربط المسبَّبات بمسبباتها، فالإمام علیه السّلام يريد أن يقول كما ورد عنه في هذه الفقرة: لا يوجد خلق من مخلوقاته إلا وهو خاضع لتدبيره سبحانه وتعالى.

وأما النسبة للجزء الثاني من الفقرة وهي كلمة «حمده»، فقد

ذكرنا فيما سبق قضيتين مسلمتين.

القضية الأولى: أن الوجود مساوق للشعور والإدراك، فكل

موجود يملك حظا من الإدراك حتى الحجر الأصم.

القضية الثانية: أن كل موجود يدرك جماله، فهو يدرك جمال خالقه وبارئه تبارك وتعالى، وإدراك جمال الخالق يعدُّ حمداً بنفسه، قال

تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ»(2).

فكما أن تدبير تبارك وتعالى فاشٍ في الخلق فلا يوجد خلقٌ إلا وهو خاضع لتدبيره، كذلك حمده فاشٍ في الخلق فلا يوجد خلقٌ ولا موجودٌ إلا وهو حامدٌ له تبارك وتعالى لإدراكه جماله تبارك وتعالى، «الفاشي في الأمر خلقه وحمده».

ص: 102


1- سورة إبراهيم، الآية 33.
2- سورة الإسراء، الآية 44

الفقرة الثانية: «الظاهر بالكرم مجده».

مراتب التجلي في العرفان:

ذکر علماء العرفان أن الله تبارك وتعالى ثلاث مراتب للتجلي: تجلي ذاته لذته: يعني علمه بذاته، وظهور ذاته لذاته.

المرتبة الثانية: تجليه بأسمائه، كالخلق، والقدرة، والعلم، والحياة.

المرتبة الثالثة: تجلّيه بأفعاله، كتجلّيه بالخلق، وبالرزق، وبالإحياء،

وبالإماتة، فإن أفعاله تعدُّ مرتبة من مراتب تجلّيه، ومرتبة من مراتب ظهوره، فكما ظهر بذاته وظهر بأسماءه ظهر أيضاً بأفعاله تبارك وتعالى، فنفس فعله كخلقه ورزقه ظهور وتجلَّ من تجلياته تبارك وتعالى.

وقد أشير في آية النور إلى تجلياته تبارك وتعالى، «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1)، يعني نفس وجود السموات والأرض هو تجلّ من تجلياته تبارك وتعالى وظهور من ظهوراته تبارك وتعالى، ثم بیَّن تفاوت مراتب نوره و تفاوت مراتب تجلياته، فقال: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ»(2).

فظهور المصباح في الزجاجة هذه المرتبة الأولى، وظهور نور الزجاجة في الكوَّة المسماة بالمشكاة هذه المرتبة الثانية من الظهور، وظهور المشكاة بالنور لجميع من بالخارج هذه المرتبة الثالثة للظهور فهناك ثلاث مراتب للظهور؛ ظهور المصباح للزجاجة، وظهور الزجاجة بنورها للمشكاة، وظهور المشكاة بنورها لما في الخارج.

ص: 103


1- سورة النور، الآية 35.
2- سورة الإسراء، الآية 35.

إذن قوله علم: «الظاهر بالكرم مجده، إشارة إلى المرتبة الثالثة من مراتب تجليه تبارك وتعالى ألا وهو الظهور من خلال کرمه.

الفقرة الثالثة: قوله: «الباسط بالجود يده الذي لا تنقص

خزائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلا كرماً وجوداً».

التعبير باليد كناية عن عطائه، وكناية عن نعمه تبارك وتعالى، فإن اليد قد تستعمل أحياناً كناية عن القدرة، كما في قوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1)، يعني قدرة الله حاكمة ومسيطرة على قدراتهم، وأحيانا تستعمل اليد بمعنى النعمة كما في قوله تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا»(2)، اليد هنا كناية عن النعمة والهبة والعطاء منه تبارك وتعالى، فإذن قوله علیه السّلام «الباسط بالجود يده» كناية عن ترادف وتتابع نعمه،

«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(3).

أما قوله علیه السّلام: «الذي لا تنقص خزائنه» ففي هذه الفقرة ثلاثة أمور:

معنی خزائن الله:

لقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(4)، ويحتمل معنيين:

ص: 104


1- سورة الفتح، الآية 10.
2- سورة يس، الآية 72.
3- سورة النحل، الآية 18.
4- سورة الحجر، الآية 21.

الخزائن هي عناصر التأثير:

أن المقصود بالخزائن هي عناصر التأثير في الموجودات.

فإن كل موجود له عدة عناصر تؤثر في مسيرته وتكامل وجوده، فالإنسان مثلاً تحتاج مسيرة وجوده إلى الشمس، والأرض والهواء، والغذاء..

وكذا النبات لا يمكن أن يعيش بدون تربة وماء وهواء، وهكذا جميع هذه العناصر مؤثرة في وجود النبات. إذن وجود النبات له خزائن يعني له مصادر تمدُّه بمسيرة الوجود، وتمده لاكتمال هذه المسيرة وهذا الطريق، «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ»(1).

الخزائن هي الوجود الإبهامي:

أن المراد بالخزائن هي مرتبة الوجود الإبهامي الإجمالي.

قرر الفلاسفة أن لكل موجود -بما في ذلك الإنسان۔ مرتبتين من الوجود: المرتبة المحدودة وهي وجوده في عالم المادة، والمرتبة غير المحدودة وهي وجوده الإبهامي أو الإجمالي.

ومعنى ذلك أن وجود الإنسان في عالم المادة وجود محدود وقدرة محدودة وعالم محدود وشکل محدود وظرف محدود، ولد من أب فلان وأم فلانية وفي زمن كذا، وفي هذا الشكل، هذه كلها حدود لا يكون الموجود في عالم المادة إلا وهو محدود بحدود معينة.

أما وجوده في عالم ما وراء المادة فهو وجود لا حدَّ له، وجود

معرى من الحدود، وجود إبهامي، إجمالي.

ص: 105


1- سورة الحجر، الآية 21.

والقرآن الكريم عبر عنها بالخزائن، «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ»(1)، أي أنه موجودٌ عندنا وجوداً إجمالياً إبهامياً ثم لما أنزلناه إلى عالم المادة أنزلناه بقدر،«وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(2). فهناك مرتبتان للوجود؛ مرتبة الوجود الإجمالي، ومرتبة الوجود المحدود بالحدود المقدر بالأقدار، والإمام عندما ذكر في الفقرة الأولى أنه منعم «الباسط بالجود يده» فربما يُتخَيَّل أنه إذا بسط بالجود يده؛ نفذ ما عند يده ونقصت خزائنه لأنه بسط بالجود يده، فقال: «الذي لا تنقص خزائنه»، ليوضح الفرق بين جُود المخلوق وَجُود الخالق. جود المخلوق موجب لنقصه ونفاد ما عنده، أما جود الخالق فلا يؤثر على خزائنه شيء.

وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم في قوله تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا»(3)، كما نمدُّ المؤمنين من العطاء كذلك نمدُّ الكافرين أيضاً.

فالمقصود بالخزائن هو مدد الوجود المادي ألا وهو الوجود الإجمالي «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي»(4).

فإنه ليس المقصود بالكلمات ما يُكتب من حروف، بل المقصود بها الوجود،كما في قوله تعالى في حق عیسی بن مریم علیه السّلام: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ»(5).

ص: 106


1- سورة الحجر، الآية 21.
2- سورة الحجر، الآية 21.
3- سورة الإسراء، الآية 20.
4- سورة الكهف، الأية 109.
5- سورة النساء، الآية 171.

فقد عبّر عن هذا الوجود العظيم بأنه كلمة منه سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى:«لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا»(1).

إذن ما ذكرناه من أن هذه الفقرة تفريعٌ على الفقرة الأولى.

يعني لما ذكر في الفقرة الأولى أنه بسط بالجود يده كصفة جمالية له تبارك وتعالى أردف ذلك بالصفة السلبية وهي أن بسط جوده غير موجب لنقصه «لا تنقص خزائنه».

الخزائن هي الفيض المطلق:

المقصود بقوله: «الذي لا تنقص خزائنه، ولا تزيده كثرة

العطاء إلا جوداً و کرماً».

أنه سبحانه وتعالى واجب الوجود، ومقتضى كونه واجب الوجود أن وجوده مطلق لا حدَّ له، لأنه لو كان له حدّ لانعدم فيما وراء ذلك الحد، وانعدامه فيما وراء ذلك الحد مناف لكونه واجب الوجود تبارك وتعالى، فوجوب وجوده يقتضي أن لا حد له وأن وجوده مطلق.

فإذا ثبت أن وجوده مطلق، ثبت أن أثره وفيضه مطلق أيضاً بمقتضى قاعدة السنخية بين العلة والمعلول، وأن لكل علة معلولاً يجانسها، فالبذرة معلوها الثمرة، والإنسان معلوله النطفة، والنار معلوها الحرارة.

وهكذا كل علة لها معلول يناسبها، وإلا لصدر كل شيء من كل شيء، ولو لم يكن هناك سنخية بين العلة والمعلول لصدرت الثمرة من

ص: 107


1- سورة الكهف، الآية 109.

الإنسان وصدرت النطفة من البذرة، وهذا أمر مخالف لطبيعة النظام

الكوني.

إذن مقتضى السنخية بين العلة والمعلول أنه كما أن وجوده مطلق تبارك وتعالى، فإن فيضه أيضاً مطلق لا حدَّ له ولا نقص فيه تبارك وتعالى، لذلك قال علیه السّلام في الدعاء: «الذي لا تنقص خزائنه».

أما الفقرة التي تليها

«ولا تزيده كثره العطاء إلا كرماً وجوداً»

فيمكن حملها على صفة جمالية، كما يمكن حملها على صفة جلالية، فإن كثرة عطائه لم يكن عن قهر عليه ومغلوبية منه، بل كان عطاؤه اختیاراً وتفضلاً وامتناناً منه تبارك وتعالى، فهذه الفقرة كناية عن استمرار فيضه وكناية عن نزاهته عن المغلوبية.

أما قوله علیه السّلام: «إنه هو العزيز الوهاب» فالمقصود به أن: جوده ليس مقهوراً عليه وأن عطاءه ليس مغلوباً عليه، وإنما عطاؤه وجوده مع العزة، وهبته مقترنة بقاهريته «إنه هو العزيز الوهاب»، لا هبته تغلب على عزّته ولا عزته تغلب على هبته تبارك وتعالى إنه هو العزيز الوهاب.

ص: 108

عطاء السماء تفضل أم استحقاق؟

«اللهم إني أسألك قليلاً من كثير مع حاجة بي إليه عظيمة،

وغناك عنه قدم، وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير».

ثم قال علیه السّلام:

«اللهم إن عفوك عن ذنبي، وتجاوز عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي عند ما كان من خطئي وعمدي أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك».

الدعاء متقوم بجناحي الخوف والرجاء:

هنا مقطعان نتحدث عنهما تباعاً.

المقطع الأول ويتضمن أمرين:

أ- جاء هذا المقطع مجسداً لأسلوب من أساليب الدعاء ألا وهو أسلوب الرجاء، فإن القرآن الكريم قد مدح المؤمنين بأن دعاءهم، إما بأسلوب الخوف أو بأسلوب الرجاء، قال تعالى:

«يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ»(1)، وقال تعالى: «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا

ص: 109


1- سورة الأنبياء، الآية 90.

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(1).

ب- تصوير الدعاء فقر المخلوق وغنى الخالق.

بيان ذلك إن هناك أسلوباً بنحو الخوف وهناك أسلوب بنحو الرجاء والمؤمن من جمع بين الأسلوبين في دعائه ومناجاته، فالإمام علیه السّلام في هذا المقطع يريد أن يجسد الرجاء في الدعاء، فكيف يكون دعاؤه مندرجاً تحت عنوان الرجاء؟

مناط وجوب طاعة المولى هل هو قبح الظلم؟

هناك بحث في علم الكلام وهو أن مناط المعصية هل هو الظلم

أم شيء أخر؟

ذهب أغلب علمائنا من علماء الكلام إلى أن مناط المعصية هو

الظلم، ومعنى ذلك أن هناك قسمين من أقسام المولوية:

1- مولوية اعتبارية.

2- مولوية حقيقية.

مولوية السلطان مولوية اعتبارية، أي أن الناس يعتبرون السلطان مولي، مولوية الأب مثلاً أو مولوية الأستاذ اعتبارية، أي أن البناء الاجتماعي أو القانون الديني يعتبر الأستاذ أو الأب مولى، وإلا فليست هناك مولوية حقيقية للأب أو للسلطان أو الأستاذ وإنما هي مولوية تبانی المجتمع على اعتبارها والعمل على طبقها. المولوية الحقيقية لله تبارك وتعالى، والسر في أن مولویته حقيقية تبارك وتعالى، هو أن مولویته بمناط خالقيته، قال تعالى:

«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»(2).

ص: 110


1- سورة الأعراف، الآية 56.
2- سورة غافر ، الآية 62.

فمولویته بمقتضی خالقيته لكل شيء، فهو مولى بذاته، وبمقتضی مولويته الذاتية يثبت حق الإطاعة له على عباده إما بمناط أنه منعم، وإما بمناط أنه عظيم والعظمة مناط في وجوب الطاعة والعبادة.

إذاً بما أن مولويته ذاتية فله حق الإطاعة على العباد، فلو لم يطع العبد وعصي لكانت معصيته ظلماً لله عز وجل، لأن الظلم هو عدم إعطاء ذي الحق حقه والعدل هو إعطاء ذي الحق حقه، فإذا أطاع العبد مولاه فقد أعطاه حقه، وإذا عصاه لم يعطه حقه، فتكون معصية العبد ظلماً لله عز وجل، فالمناط في صدق المعصية هو ظلم العبد لربه، أي عدم إعطائه حقه من الإطاعة والعبادة. هذا رأي أغلب علمائنا من علماء الكلام.

هل الظلم عدم إعطاء ذي الحق حقه؟

ولكن بعض أهل التحقيق قالوا بأن الظلم - أي ظلم العبد لربه - مستحيل، ولا يُعقل أن يكون العبد ظالماً لربه، لأن الظلم ليس هو عدم أداء الحق بل الظلم هو إحداث النقص في المظلوم إما نقصاً حسياً أو نقصاً اعتبارياً. مثلاً الإنسان يأخذ مال الآخرين، هذا نقص حسي، لأنه نقصٌ في أموالهم.

وتارة لا يحدث نقصاً حسياً، ولكن يحدث نقصاً اعتباریاً كما لو كان هناك شيخ للقبيلة أو شيخ للعشيرة، فإذا خالف أحد من أفراد القبيلة أو من أفراد العشيرة وعصى أمره وتمرد عليه، فهذا لم يحدث نقصاً حسَّياً فيه، ولكن أحدث نقصاً اعتباریاً، يعني مقتضی مكانة شیخ العشيرة أن لا تُهتك حرمته، فعصيان أمره هتك لحرمته، ويكون موجباً لنقص اعتباري لا نقصٍ حسي فيُعدُّ ظلماً.

مخالفة العبد لربه، ومعصية العبد لربه لیست ظلماً لأن هذه المعصية لا توجب نقصاً حسياً ولا نقصاً اعتبارياً، أما عدم استلزامها

ص: 111

للنقص الحسي فواضح؛ هل يُتصور من مخلوق صغير على كوكب صغير في هذا الفضاء اللامتناهي من بين آلاف الأجرام التي تسبح في الفضاء؛ أن تكون مخالفته موجبة للنقص في مملكة الله عز وجل أو موجبة للنقص في قيموميته تبارك وتعالى؟!

هل يُتصور من نملة تمشي على جبل أن تحدث نقصاً في ذلك الجبل الأشم! فلا يُتصور من هذا الإنسان الذي هو مخلوقٌ صغير على کوکب صغير من بين ملايين الأجرام والكواكب أن تكون معصيته نقصاً في مملكة الله عز وجل.

كما لا يُتصور أن هذه المعصية موجبة للنقص الاعتباري، فلا نقص حسي ولا نقص اعتباري.

بما أن مولوية شيخ العشيرة اعتبارية فعصيانها يوجب هتكها، أما مولوية الله فهي مولوية ذاتية لا تتوقف على اعتبار معتبر ولا على بناء اجتماعي، فالمعصية لا تخدش في حيثيتها ولا تخدش في حرمتها لأنها مولوية ذاتية لا تتأثر ولا تنثلم ولا تنفصم بهذه المعصية وبهذه المخالفات وبهذه التجاوزات.

إذن فالمناط في لزوم الطاعة وترك المعصية ليس هو حكم العقل

العملي بقبح الظلم بل هو إدراك العقل النظري لما يستنبطه التكليف المولوي من الوعيد على المخالفة، وقضاء الفطرة بدفع الضرر عن النفس، لذلك تلاحظ الآيات القرآنية تركز على أن المعصية ظلمَّ للنفس وليس ظلماً الله، قال تعالى: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(1).

من هذا المنطلق نأتي لبيان هذه الفقرة، فنقول أنه تارة نتحدث

ص: 112


1- سورة البقرة، الآية 57.

على مستوى الذنب وتارة على مستوى العفو، تارة بالنظر لفعل العبد وتارة بالنظر لفعل المولى تبارك وتعالى.

فبالنسبة لمستوى الذنب فإن العبد يخاطب ربه كما في الدعاء الوارد عن زين العابدین علیه السّلام: «إلهي، لم أعصك حين عصيتك وأنا الربوبيتك جاحد، ولابأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرَّض، ولا الوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت، وسولت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرَّني سترك المرخي علي»(1).

هل يُعقل أن يكون هذا الذنب الصادر مني بدافع النفس الأمارة بالسوء خدشاً في مملكتك أو ضرراً في سلطانك أو خطراً على جبروتك وهيمنتك وربوبيتك تباركت وتعاليت؟!

فذنبي حتى لو صدر مني بدافع التمرد وبداعي الاستخفاف وبداعي عدم المبالاة بأوامرك ونواهيك، فهو ليس إلا كتراجع النملة عن مسيرها على الجبل الأشم لا يخدش سلطانك ولا يضر مملكتك، وعفوك عني ورحمتك لي وغمضك عن هذا الذنب الحقير هو بمقتضی عدم ضررية الذنب بمملكتك وسلطانك.

وأما على مستوى فعل الله وعلى مستوى رحمة الله، فماذا ينقص من رحمتك وعطائك لو تفضلت بالعفو على عبدك المذنب الحقير.

مقتضی امتنانك، ومقتضي فيضك أن تمن بالعفو على هذا المذنب الحقير «اللهم إني أسئلك قليلاً من كثير» أنا لست أسألك إلا ذرة من مليارات الذرات من رحمتك «قليلاً من كثير مع حاجة بي إليه عظيمة».

ص: 113


1- الصحيفة السجادية (أبطحي)، دعاء أبي حمزة، ص2204

إذاً لولا عفوك لكنت معرضاً للهب النيران، ولولا عفوك لكنت معرضاً للعذاب الذي لا تستطيع السموات والأرضون تحمله والقيام به، فكيف بي وأنا عبدك الحقير المسكين المستكين، فأنا محتاج إلى ثواب يقيني من لهب النار، محتاج إلى حصانة تحوطني من عذاب الجحيم، «مع حاجة بي إليه عظيمة، وغناك عنه قدیم.

أنت لست محتاجاً إلى عذابي ولست محتاجاً إلى عقابي لا من الأول ولا من الآخر، «وغناك عنه قديم، وهو عندي كثير»، لأنه انقذني من خطر النار وأدخلني في سعة رحمتك وظل عفوك تبارکت وتعاليت، «وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير».

معنی قدم الغني فيه تعالى:

وعندما يركز الإمام علیه السّلام - كما ورد عنه- على كلمة قديم، «وغناك عنه قدیم»، يريد أن الإنسان قد لا يحتاج إلى شيء فيعطيه الآخرين لا من باب التفضل بل من باب عدم الحاجة، لكن الله تبارك وتعالى عطاؤه لا من باب عدم الحاجة بل من باب التفضل والرحمة.

وكأن الإمام علیه السّلام يقول: لو كان الله تبارك وتعالى محتاجاً إلى

عذابنا يوم من الأيام - من باب فرض المحال، وفرض الحال ليس بمحال۔ ثم استغنى عن عقابنا فرفع العقاب، فلا يكون رفع العقاب حينئذ لأجل الرحمة والتفضل بل لأجل عدم الحاجة.

ورفع العقاب لأجل عدم الحاجة لا لأجل الرحمة والتفضل خلاف الحكمة، فإن مقتضى الحكمة أن يضع عفوه في موضعه، ووضع العفو في موضعه إنما يتم إذا كان العفو بمناط الرحمة والتفضل، لذلك قال الإمام علیه السّلام كما ورد عنه: «وغناك عنه قدم» ليشير إلى أن عفوه لا بمناط عدم الحاجة، يعني كان محتاجاً ثم استغنى وعفى لأنه استغني، بل إن عفوه من الأزل هو رحمة وتفضُّل وامتنان محض منه تبارك وتعالى.

ص: 114

أخطار المعصية:

المقطع الثاني: وهو قوله علیه السّلام كما ورد عنه: «اللهم إن عفوك عن ذنبي، وتجاوزک عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عند ما كان من خطائي وعمدي، أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرفتني من إجابتك».

هذا المقطع يتعرض لأخطار الذنب؛ فكل فقرة تتناول خطراً من أخطار الذنب. ومن المؤسف يظن الإنسان أنه إذا أذنب، فكأن لم يكن شيء مع أن للذنب أخطارة جسيمة، فقد ورد في الحديث الشريف: «المنافق إذا أذنب كان ذنبه كذبابة مرت على وجهه، والمؤمن إذا أذنب كان ذنبه على صدره كالصخرة الثقيلة»، فالمؤمن إذا أذنب ندّ لأنه ملتفت إلى أخطار الذنوب.

خطر العقوبة:

الخطر الأول: أن المعصية موجبة للعقوبة وموجبة للعذاب.

وبهذا اللحاظ تسمى المعصية ذنبا، بل على نظرية تجسم الأعمال، نفس المعصية تتحول إلى عقوبة كما في قوله تعالى:«إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1)، أي أن جزاءكم هو نفس عملكم وليس شيئاً آخر، فنفس عقوق الوالدين يتحول إلى جحيم من دون أن يكون هناك شيء آخر يعد عتاباً.

فأنت لو التفتَّ إلى أعمالك لرأيت النار التي أعددتها لنفسك،

ص: 115


1- سورة الطور، الآية 16.

عطاء السماء تفضل أم استحقاق؟

أنت تعيش فيها وتمشي فيها، ونفس الطاعات ونفس القربات هي جنتك التي أنت تبنيها، أنت تبنيها لبنة لبنة، خطوة خطوة، تبنيها بالطاعات والقربات، أعمالك الصالحة هي جنتك ولو كشف لك الغطاء لرأيت أنك تعيش في بحبوحة من الجنان وهي نفس أعمالك الصالحة.

فالخطر الأول من أخطار الذنب كونه موجباً للعقوبة الإلهية، وبهذا تسمى المعصية ذنباً لأنها موجبة للعقوبة، «عفوك عن ذنبي» سماها ذنباً باعتبار استیجابها للعقوبة.

اخطر اسوداد النفس:

الخطر الثاني: أن المعصية تسوَّد النفس.

إن المعصية موجبة لظلام النفس، موجبة لاصطباغ القلب بصبغة سوداء قاتمة كما ورد عن الإمام الصادق علیه السّلام: «إذا أذنب العبد خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن عاد عادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً، وذلك قوله تعالى: «کلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون»(1).

وبلحاظ هذا الخطر تسمى المعصية خطيئة، ولذلك قال علیه السّلام:

«وتجاوز عن خطيئتي».

خطر البعد عن الله:

الخطر الثالث: أن المعصية موجبة للبعد عن الله عز وجل.

كثير من الناس يتصورون أنه ما دام أهل البيت علتهم يشفعون

ص: 116


1- سورة المطففين، الآية 14.

لنا في الآخرة، فلا نبالي بالمعصية مع أن العفو عن الذنب وشفاعة أهل البيت إنما تسقط العقوبة، البعد عن الله عز وجل فإنه باق.

فإن الذنب كما يوجب العقوبة يوجب البعد عن الله عز وجل بأن تكون بعيداً عن فيضه، بأن لا يكون العبد وعاءاً لإفاضة رحمته ولإفاضة عطائه تبارك وتعالى، وبهذا اللحاظ يسمى الذنب ظلماً

«ظلمتُ نفسي»، أي وضعتها في موضع البعد عن فيض الله وعطائه، «وصفحك عن ظلمي».

خطر القبح:

الخطر الرابع: من أخطار الذنب اتصاف العمل بالقبح عند الشاهدين.

إن الفعل إذ لحظه الشهداء فعلاً قبيحاً كان موجباً المذمة والملامة، من هم الشهداء؟ الشاهد الأول بعد الله تبارك هم الملائكة المقربون الكاتبون، «الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني، وجعلتهم شهوداً علي مع جوارحي، وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم»(1)، والشاهد الأخر هو محمد صلی الله عليه وآله، قال سبحانه: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(2).

وبناءً على ذلك فإن العفو عن الذنب وإن أسقط العقوبة ولكنه لا يرفع القبح، فإن هذا الفعل مازالت صورته قبيحةً في عين الملائكة، مازالت صورة ذلك الفعل قبيحةً ذميمةً في أنفس الشهداء، مازالت صورتي قبيحةً في أعين الملائكة في أعين محمد وأهل بيته، وهذا خطر من أخطار الذنب، «وسترك على قبيح عملي».

ص: 117


1- مفاتیح الجنان، دعاء كميل بن زياد، ص100.
2- سورة البقرة، الآية 143.

خطر الجرأة على المعاصي:

الخطر الخامس: إن الذنب يجرَّيء على المعصية.

إذا أذنب العبد ذنباً اجترأ على الذنب الآخر، وإذا أذنب الثاني اجترأ على الثالث. ورد عن الإمام زين العابدین علیه السّلام: «اتَّقُوا الكَذِبَ الصَّغِير مِنهُ وَالكَبيرَ في كُلّ جِدَّ وَهَزلٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجتَرَى عَلَى الكبِيرِ»(1).

ولذلك ورد في الحديث الشريف أمير المؤمنين علیه السّلام: «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه»(2)، فهو موجب للجرأة على المعاصي وبهذا اللحاظ يسمى الذنب جرماً وهو ما قصده علیه السّلام بقوله: «وحلمك عن كثير جرمي».

هذه الفقرات تتعرض للأخطار الخمسة التي ذكرناها، فالمؤمن في هذا المقام يقول لربه: یا ربَّ قني من الذنوب ومن أخطار الذنوب، قني من الخطر الأول وهو خطر العقوبة بالعفو والعفو هو عبارة عن محو العقوبة، «إن عفوك عن ذنبي.

وقني من الخطر الثاني وهو خطر اسوداد النفس وظلامها بأن تجعل قلبي صفحة مشرقة بيضاء، «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ»(3)، «وتجاوزك عن خطيئتي» التجاوز عن الخطيئة برفع اسوداد القلب الذي حدث نتيجة الذنب.

وقني من الخطر الثالث وهو خطر البعد عنك، بأن تقربني منك، بأن تجعلني وعاءً مستحقاً لرحمتك، ولذلك قال علیه السّلام «وصفحك عن

ص: 118


1- الكافي، ج2، ص338، باب الكذب.
2- وسائل الشيعة، ج10، ص312.
3- سورة الزمر، الأية 22.

ظلمي»، والصفح هو عدم التثريب، وعدم اللوم، وعدم المعاتبة.

وقني الخطر الرابع وهو اتصاف صورتي بالقبح في أعين الملائكة وفي أعين محمد وآل محمد من الشهداء، بأن تستر ذنبي حتى عن أعين هؤلاء، ولذلك قال علیه السّلام

«وسترك عن قبيح عملي».

وقني من الخطر الخامس وهو خطر الجرأة على المعاصي والذنوب، بأن تلهمني نور الهداية ونور التوبة وأن تجعلني من التائبين المنيبين المقبلين إليك، «اللهم إن كان الندم على الذنب توبة، فإني وعزَّتِك من النادمين»(1)، «وحلمك عن كثير جرمي».

أنت تقابلني بحلمك وأنا أقابلك بجرأتي، فكلما تجرأتُ عليك، وكلما استخففت بأوامرك، فقابلني بحلمك، أي أسبغ نور الهداية ونور التوبة في قلبي، فلا أتجرأ على معاصيك وعلى اقتحام الرذائل، «وحلمك عن كثير جرمي عند ما كان من خطائي وعمدي أطمعني في أن أسئلك ما لا أستوجبه منك».

ص: 119


1- البحار، ج 91، ص142، باب 32.

ص: 120

الدعاء مهد الأمن والسلام

«اللهم إن عفوك عن ذنبي، وتجاوز عن خطيئتي، وصَفحَك عن ظُلمي، وسترَكَ على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جُرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قُدرتك، وعرَفتني من إجابتك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدِلاً عليك فيما قصدتُ فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبتُ بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عني، هو خير لي لعِلمِك بعاقبة الأمور».

وحديثنا في مقطعين:

هل الثواب تفضل أم استحقاق:

المقطع الأول: «أطمعني في أن أسألك مالا أستوجبه منك».

في المقام بحث وهو: هل أن ثواب الله تبارك وتعالى على الأعمال

الصالحة من باب التفضل، أو من باب الاستحقاق؟

ذهب أغلب علمائنا إلى أن الثواب من باب التفضل، أي أن العبد مهما عمل من أعمال صالحة فإنه لا يستحق الثواب على الله

ص: 121

عز وجل، فإعطاء الله له الثواب تفضُّلٌ محض، وأمتنان محض، وذلك

لوجهين:

الوجه الأول: أنه ليس بين الله والعبد عقد معاوضي حتى يكون إتيان العبد بالأعمال الصالحة من باب الوفاء بالعقد المعاوضي فيكون مستحقاً على الله الأجر والمعاوضة. بخلاف ما إذا عقدت معاملة بينك وبين شخص، فتقلت: بعتك هذا الكتاب بعوض وهو مثلاً خمسون ريالاً. فإن هذا عقد معاوضي بينك وبين الشخص الأخر، وبما أنك ملكته الكتاب بعوض، فأنت تستحق عليه ذلك العوض ألا وهو خمسون ريالاً.

أما بين العبد وربه فليس هناك عقد معاوضي بأن يقول العبد: لربه أنا ملكتك الأعمال الصالحة بعوض وهو أن تثيبني الجنة أو درجات النعيم، حتى يستحق على ربه العوض.

بل إن العبد لو قصد بالأعمال الصالحة المعاوضة، لبطلت عباداته،لأن صحة العبادة متقومة بالمقربية، بمعني بأن يكون العمل مقرَّباً إلى الله عز وجلَّ.

والعمل إذا أتي به العبد بقصد المعاوضة لم يكن عملاً مقرَّباً، بل صار تعامل العبد مع ربه كتعامل تاجر مع تاجر آخر، كتعامل المتبادلين..

فلابدَّ أن يأتي بالعبادة بدافع امتثال الأمر، أو بدافع شكر المنعم، أو بدافع أن الله أهلٌ للعبادة، والمهم أن يأتي بالعمل بدافع يقرَّبه من الله، لا بدافع المعاوضة بين العمل وبين الثواب وإلا لكانت العبادة باطلة لعدم انطباق عنوان المقربية على العمل المعاوضي.

الوجه الثاني: كيف يمكن أن يستحق الإنسان ثواباً إذا سلَّم

ص: 122

الملك لمالكه؟! وهل تسليم الملك لمالكه موجب للعطاء؟

مثلاً إذا كان عندك ملك للآخرين وجب عليك أن تردَّ ملكهم إليهم، فإذا رددت ملكهم إليهم وأعطيتهم إياه، فهل يجب عليهم أن يثيبوك وأن يعوَّضوك؟!

کلاً ردُّ الملك لمالكه لا يكون سبباً و مناطاً لاستحقاق العوض أو استحقاق الثواب. وكذلك إذا أرت أن تعمل عملاً صالحاً فهذا العمل الصالح لا يمكن أن تعمله إلا بعد أن تتصوَّره، وأن تصدق بفائدته، وأن تعزم على فعله، ثم تأتي بالعمل خارجاً، وكل هذه الأمور من أنحاء الوجود.

وبما أن جميع هذه الأمور فيضه وعطاؤه وملکه، وتسليم الملك لمالكه ليس سبباً مستوجباً لاستحقاق العوض ولاستحقاق المثوبة والبذل، إذاً ثواب الله تفضُّل محض وامتنان محض وليس استحقاقاً

هذا من ناحية الثواب على الأعمال الصالحة، فكيف بغيرها من العطاء الابتدائي الذي يبتدأ به الله عبده فإنه أولى بأن يكون تفضلاً محضاً، لذلك الإمام علیه السّلام في هذا المقطع - كما ورد عنه- يقول: «إن عفوك عن ذنبي، وتجاوز عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي عندما كان من خطأي وجهلي، أطمعني»، أي أن عفوك السابق عن ذنوبي «أطمعني في أن أسألك مالا أستوجبه منك».

فأنا لا أستحق عليك شيئاً، بل أنت دائماً موضع المنَّ والفضل،

وقد بيَّنه الإمام علیه السّلام بثلاث فقرات:

«الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرَّفتني من

إجابتك».

ص: 123

أقسام الفيض الإلهي:

إن عطاء الله للعبد، ينقسم إلى ثلاث أقسام:

القسم الأول: فيض بالنعمة، كأن يعطيه نعمة العلم، ونعمة

المال، ونعمة الشرف، وهذه النعم الابتدائية مصداق من مصادیق الرحمة، فلذلك قال عليه السّلام: «الذي رزقتني من رحمتك».

القسم الثاني: فيضٌ بدفع النقمة، والمكاره التي قد تنزل بالإنسان ويصل الإنسان إلى حد اليأس من أن تُرفع عنه. ومع ذلك فإنه تبارك وتعالى يرفع هذه المكاره، «یا من تحلُّ به عُقَدُ المكاره، ويا من يفثأُ به حد الشدائد»(1).

فدفع الله للمكاره مصداق من مصادیق قدرته فذلك قال عليه السّلام:

«وأريتني من قدرتك» أي حينما دفعت عني المكاره.

القسم الثالث: فيض بإجابة الدعاء. إن العبد يدعو فيجيب الله دعاءه مباشرة. وإجابة الله للدعاء كاشف عن حبَّه لعبده، قال تعالى:

«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»(2)، «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»(3).

إن إجابة الدعاء فيض منه، ولكن هذا الفيض يتميز عن القسمين الأولين بأنه كاشف عن حبه وعنايته واهتمامه تبارك وتعالى، وعرفتني من إجابتك»، إذاً الرحمة ودفع النقمة وإجابة الدعاء فيض، وليس استحقاقاً.

ص: 124


1- مفاتیح الجنان، دعاء الأمن، ص162.
2- سورة آل عمران، الآية 31.
3- سورة المائدة، آية 54.

«أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرَّفتني من إجابتك، فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً».

في هذا المقطع نذكر أموراً:

الأمر الأول: المعنى العام لهذا المقطع أن الله تبارك وتعالى إذا رأى

العبد في مقام التذلل وفي مقام الخضوع شمل العبد بحبه وعنايته..

ولا توجد سعادة أعظم من شعور العبد بحنان ربه، ولا يوجد مصداق للسعادة أكبر وأعظم من إحساس العبد بعطف ربه «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)، «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»(2). و أن العبد إذا أحس بعطف ربه

أقبل عليه يُقبل على ربه بتمام جوانحه ومن أعماق قلبه، يسأل ويرجو ويتوسل ويستعطف ويخشع ويعاتب ويطلب ويعود...

كما إذا شعر الطفل بحنان والده وعطفه ورأفته، فإنه يتعلَّق بأذيال والده، يسأله ويستعطفه بل يتطور به الأمر بمقتضی عطف والده، إلى أن يعاتب والده.

كذلك شعور العبد بفتح أبواب الدعاء وفتح أبواب الإجابة يجعله يسأل ربه كما يسأل الطفل أباه، «أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرَّفتني من إجابتك، فصرت أدعوك آمنا وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً».

ص: 125


1- سورة غافر، الآية 60.
2- سورة البقرة، الآية 186.

الأمر الثاني: إن هذه الفقرة ذكرت صفة الأمن، فصرت أدعوك آمناً»، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم في عدة موارد من أن المؤمن آمن من جهة ربه، «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(1)، أي ليس عندهم قلق وليس عندهم حزن.

فهم من جهة ربهم آمنون مطمئنون، «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»(2)، وقالت آية أخرى: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(3).

التوفيق بين آيات الاطمئنان وآيات الوجل والخوف:

وقد يقال كيف نوفق بين هذه الآية وبين الآيات التي تذكر أن المؤمنين أشدُّ خوفاً من غيرهم قال تعالى: «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(4)، والآية الأخرى تقول: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ»(5).

و الآية الثالثة تقول: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(6)، الآية الرابعة تقول: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ»(7).

فإذا كان هؤلاء يخافون ربهم، فكيف يقول القرآن الكريم أنهم لا

ص: 126


1- سورة يونس، الآية 62.
2- سورة الفجر ، الآية 27 - 28.
3- سورة الرعد، الآية 28.
4- سورة الأنفال، الآية 3.
5- سورة فاطر، الآية 28.
6- سورة النازعات، الآية 40 - 41.
7- سورة الرحمن، الآية 46.

يحزنون وأن ذكر الله يطمئن القلوب؟

والجواب عن ذلك، بوجوه:

أ- إن للإنسان علاقتين: علاقته بربه وعلاقته بسائر المخلوقات،

فإذا كان المنظور إليه العلاقة الأولى فذكر الله تعالی موجب للوجل والخوف لشعور المؤمن بالتقصير وعدم الوفاء بشكر المنعم الحق، وإذا كان المنظور إليه العلاقة الثانية فذكر الله مصدر الاطمئنان إذ لاكافي من شر المخلوقات سواه.

ب- إن للعبد مرحلتين؛ الأولى إدراكه أنه خاضع للقدر الإلهي المتصرف فيه بالنعمة والنقمة، وذكر الله في هذه المرحلة مصدر للوجل والقلق.

الثانية: إدراكه أن جميع ما يجري عليه من قبل المنعم تعالى هو في واقعه نعمة وإن كان ظاهره نقمة، وذكر الله في هذه المرحلة مصدر للإطمئنان.

ج- أن الخوف من الله والاطمئنان به مختلف باختلاف ما هو

الملحوظ لدى العبد، ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يمرُّ بمرحلتين:

المرحلة الأولى: هي مرحلة الوجل، «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»(1).

المرحلة الثانية: هي مرحلة الاطمئنان، «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ»(2).

ص: 127


1- سورة الأنفال، الآية 3.
2- سورة الرعد، الآية 28.

أما مرحلة الوجل، فالمقصود بها أن المؤمن إذا التفت إلى أن ربه بيده الرحمة إعطاءً أو إمساكاً، قال تعالى:«مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ»(1)، عرض عليه الوجل والخوف وهذا معنى «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ»(2)، ولم يقل: خاف ربه،

وقال أيضاً: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ»(3)، فإن خوف المقام غير الخوف من الله.

فإن معنى خوف المقام أنه تبارك وتعالى قائم مقام العظمة، ومن قام مقام العظمة وكانت بيده أزمة الأمور إعطاءً ومنعاً، خافه الإنسان.

المرحلة الثانية: إن العبد المؤمن إذا تأمل وأدرك أن السبب الوحيد المؤثر في نيل السعادة هو الله عز وجل، ولا طريق غيره.

اطمئن أنه لا سعادة إلا في طريق الله، وتوضيح ذلك إن أسباب السعادة على قسمين:

1- سبب فيه غلبة.

2- سبب فيه مغلوبية.

المال سبب من أسباب السعادة، لكن المال قد يوفر سعادة وقد يوفر شقاء، والجاه سبب للسعادة، ولكن قد يوفر سعادة أحياناً وقد يوفر شقاء، وهكذا بقية الأمور، فإذا التفت الإنسان رأى أن جميع أسباب السعادة فيها جهة قوة وفيها جهة ضعف، فيها جهة غلبة وفيها جهة مغلوبية، فلا يوجد سبب للسعادة متصف بالغالبية المحضة،

ص: 128


1- سورة فاطر ، الآية 2.
2- سورة النازعات، الآية 40.
3- سورة الرحمن، الآية 46.

وأنه منشأ للسعادة المحضة، إلا الله تبارك وتعالى.

فإن جميع الأسباب إنما يكون لها سببية للسعادة بإفاضة السببية من المسبب تبارك وتعالى، إذ لولا إفاضة السببية لما كان لسبب سببية للسعادة أبداً، وإذا التفت الإنسان إلى ذلك اطمئن بأن طريق السعادة منحصر فيه تبارك وتعالى، «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(1).

ولذلك الآية القرآنية تشير إلى هاتين المرحلتين مرحلة الوجل ومرحلة القلق، تقول: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»(2)، أي أنهم أولاً يمرون بالمرحلة الأولى وهي مرحلة الاقشعرار والوجل، ثم يمرون ويصلون للمرحلة الثانية وهي مرحلة الاطمئنان والخلاص.

قال تعالى: «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ»(3)، ويقول الإمام علیه السّلام: «فصرت أدعوك آمنا وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه إليك».

ص: 129


1- سورة الرعد، الأية 28.
2- سورة الزمر، الآية 23.
3- سورة الزمر، الآية 23.

ص: 130

فاعلية الدعاء وآثاره

«فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك ولعل الذي أبطأ عني هو

خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

في الجمع بين الدعاء وحتمية القضاء والقدر:

هناك سؤال يتبادر إلى الأذهان غالباً، وهو أننا ندعو الله تبارك وتعالى دعاءً مملوءاً بالخشوع والإخلاص والقرب من الله تبارك وتعالى.

ومع ذلك لا نجد إجابة لدعائنا، فإذا كنا ندعو الله تبارك وتعالى بإخلاص وخشوع ومع ذلك لا تستجاب دعواتنا، إذاً ما معنى قوله تعالى:

«وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(1)، أو ما معنى قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»(2). الجواب عن هذا السؤال هو أن للدعاء عنصرين أساسين:

الثقة بالله تبارك وتعالى:

ورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي، فلا يظنَّ بي إلا

ص: 131


1- سورة غافر، الآية 10.
2- سورة البقرة، الآية 186.

خيراً(1). ومعنى الثقة بالله تبارك وتعالى هو أن لا يعتقد الإنسان أن لا معنى لدعائه ولا أثر لدعائه، وتوضيح ذلك: هناك كثير من الناس يقول بأن دعاءنا لغو ولا أثر له، لأن مطالبنا إما مقدرة وإما غير مقدَّرة.

مثلاً نحن نطلب الرزق، نطلب المغفرة، نطلب الفرج والرزق إما مقدَّرٌ من قبل الله أو غير مقدَّر من قبل الله، فإن لم يكن مقدراً فهو أمر محال الوقوع، فدعائنا بأن يرزقنا الله مع كونه غير مقدر يعدُّ لغواً، وإن كان مقدراً فلا بد أن يقع، لأن ما قدَّره الله لا بد أن يقع.

فدعاؤنا بوقوعه لغو أيضاً. إذاً الدعاء لغوٌ على كل حال لأن الأمر المطلوب بهذا الدعاء إما غير مقدر فيستحيل وقوعه، وإما مقدر فيجب وقوعه، فإذا كان وقوعه واجباً فدعاؤنا بوقوعه لغوٌ. ربما يعتقد الإنسان هذه العقيدة أو ترد على ذهنه هذه الشبهة، والجواب عن هذه الشبهة المطروحة في ذهن الإنسان والتي يركز عليها كثير من الجبريين، هي أن ما يطلب بالدعاء مقدر، ونحن لا ننفي هذا، لكنه مقدر بأسبابه، بمعنى أن الله تبارك وتعالى کتب لك هذه الأمور مشروطة ومقيدة بأسبابها.

ومن أسبابها الدعاء نفسه، نفس الدعاء سبب من الأسباب، يعني قدر لي الرزق من الأزل، ولكن الرزق مشروط بسببه، وسببه الدعاء، وقدَّر لي المغفرة من الأزل، ولكن قدَّرها مشروطه بسببها، ومن أسبابها الدعاء نفسه وقدر لي الفرج من الأزل ولكن قدره لي مشروطاً بسببه ومن أسبابه الدعاء نفسه.

إذاً بالنتيجة؛ إذا كان ما قدَّره الله عزَّ وجلَّ لا بد أن يقع، فإن ما قدَّره هو الرزق عن دعاء منَّي، فلا بد أن يقع الدعاء منَّي حتى يقع

ص: 132


1- بحار الأنوار، ج90، ص305.

المسبَّب ألا وهو الرزق، وبالتالي لا يقع الدعاء لغواً ما دام الله تبارك وتعالى قد ربط كل مسبَّب بسببه، فكما قدَّر من الأزل أن زيداً يوجد في الزمن الفلاني.

ولكن بسبب نطفة تتكوَّن من فلان، كذلك قدَّر من الأزل أن یُرزق فلان كذا من الرزق بدعائه.

فالدعاء من جملة الأسباب الطبيعية، وإذا كان الدعاء من جملة الأسباب الطبيعية، فكما أن الشفاء سببه الطبيعي الدواء، وكما أن الذهاب إلى الحج سببه الطبيعي السفر، وكما أن الصحة سببها الطبيعي الصوم، والمغفرة، كذلك الرزق سببه الطبيعي الدعاء.

فلا معنى لأن يقول قائل: ما أطلبه إما مقدَّر، فهو صائر، وإن لم يكن مقدَّراً، فحينئذٍ حتى لو دعوت مليون مرة، فإنه لن يقع.

وجوابه أن ما تطلبه مقدَّر، ولكنه مقدَّرٌ بدعائك، وحينئذ فاعلاً، يكون دعاؤك ومؤثراً، ولا يكون دعاؤك لغواً، إذا اعتقاد الإنسان بأن الدعاء سبب من أسباب ما يطلبه من الرزق أو المغفرة أو الفرج أو المنصب أو الجاه أو أي شيء آخر محفز له نحوه. وهذا هو اعتقادنا بالبداء.

حقيقة البداء عند الإمامية:

نحن نسمع أن من معتقدات الإمامية البداء. ما معنى البداء؟

البداء هو أن تعتقد بأن الأسباب الاختيارية لها أثر. إذا لم تعتقد أن الأسباب الاختيارية لها أثر فلست معتقداً بالبداء، وإلا فلو قال العبد: إن كان الله تبارك وتعالى يعلم بي بأني مطيع، فلا بدَّ أن أكون مطيعاً.

ص: 133

لأنه لو لم يتحقق ما علمه تبارك وتعالى لانقلب علمه جهلاً، وانقلاب علمه جهلاً محال، وإن كان علم بأني سأعصي فلا بد أن أعصي وإلا إنقلب علمه جهلاً.

وهذا هو اعتقاد اليهود، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ»(1)، فهم يقولون أن الشيء الذي علمه الله سبحانه وتعالى لابد أن يقع، فأنا مجبور، ولا مجال لاختياري، ولا مجال لإرادتي.

وهذا هو منشأ القول بالجبر، وأن الإنسان مجبور لأن ما علمه الله لابدَّ أن يقع.

والجواب على ذلك هو الاعتقاد بالبداء. ومفهومه أن ما علمه الله يقع وإلا انقلب علمه جهلاً، ولكن ما الذي علمه؟ هل علم الله بأني سأصلي، أو علم الله بأنني سأصلي عن إرادة منَّي؟ لو كان ما علمه الله أنني سأصلي، فلا بد أن تقع الصلاة، سواءً اخترت ذلك أم لم أختر!

وحينئذٍ تأتي شبهة اليهود، شبهة الجبرية، لكننا نقول: لا. ما علمه الله هو أن الصلاة ستقع باختياري، وبأنني سأشفى من المرض الفلاني إذا شربت الدواء باختياري.

إذاً ما علمه الله هو وقوع العمل بإرادة منَّي واختيار منَّي، فيستحيل وقوع العمل خارجاً من دون واسطة الإرادة والاختيار، وإلا لانقلب علمه تبارك وتعالى جهلاً.

وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من المسببات وكثير من القضايا التي

ص: 134


1- سورة المائدة ، الآية 64.

ربطها الله بدعائي، مثلاً علم الله من الأزل بأن فلاناً سيعيش سبعين سنة بصلته لرحمه وسیعیش سبعين سنة بدعائه، أو سيعيش سبعين سنة بصدقته على الفقراء.

إذا علمت أن هناك مسببات إنما تقع بالصدقة، أو تقع بالدعاء،

أو تقع بصلة الرحم، فسوف أندفع إلى صلة الرحم والصدقة وإلى الدعاء لتحقيق هذه المسببات التي رُبطت بهذه الأسباب الاختيارية من دعاء أو صدقة أو صلة رحم، وهذا هو معنى البداء.

والملخص أن معنى البداء هو أن تعتقد أن المسبَّبات الكونية لا تقع دائماً بأسباب حتمية وإنما المسبَّبات الكونية كثير منها مربوط بأسباب اختيارية، فإذا اعتقدت أن بعض المسبَّبات تقع نتيجة عمل اختياري منك، حينئذ تُقبلُ على هذه الأسباب الاختيارية. ولذلك ورد في الحديث: «مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ مِثلِ البَدَاءِ»(1)، أي الاعتقاد بتأثير الأسباب الاختيارية.

وورد في الحديث: «الدعاء مخ العبادة»(2)، يعني إذا اعتقدت أن الدعاء سبب مؤثر في كثير من المسببات فهذا هو مخ العبادة. إذاً بالنتيجة، حسن الظن بالله تبارك وتعالى هو أن تعتقد أن لدعائك أثراً، لتضرعك أثر، وأما إذا اعتقدت أنه ليس له أثر، دعوت أم لم تدعُ، لن يؤثّر، فهذا هو عدم الثقة بالله، وعدم الثقة بالله موجب للغوية الدعاء، و مانع من استجابة الدعاء.

ص: 135


1- في الكافي ج 1، ص 146، باب البداء.
2- وسائل الشيعة، ج7، ص27، باب استحباب الإكثار من الدعاء.

ص: 136

عناصر الدعاء المستجاب

«فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك ولعلَّ الذي أبطأ عني هو

خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

عناصر استجابة الدعاء:

إن الدعاء الذي هو موضع للإجابة والذي هو وعاء للاستجابة

هو ما كان جامعاً لعنصرين:

العنصر الأول: الاعتقاد بتأثير الدعاء:

من شروط استجابة الدعاء الاعتقاد بأن الدعاء مؤثر وفاعل، ولكن قد يقول إنسان بأن هذا الاعتقاد سبب يتنافى مع الاعتماد على الأسباب المادية.

في الجمع بين سببية الدعاء وسببية الأسباب المادية:

فإذا اعتقدنا أن الدعاء سبب للشفاء سنتخلى عن شرب الدواء

ومراجعة الأطباء، وإذا اعتقدنا أن الدعاء سبب لتحصيل الرزق سوف نتخلى عن السعي لطلب الرزق، وإذا اعتقدنا أن الدعاء سبب للحصول على الهداية فسوف نتخلى عن العبادة المستحبة.

ص: 137

إذا كان الدعاء في حد ذاته سبباً، فحينئذ لا وجه للاعتماد على الأسباب المادية بل يُكتفي بالدعاء في تحصيل هذه الأمور وهذا منافٍ للسنن الإلهية الجارية في هذا الكون بربط المسبَّبات بأسبابها المادية.

والجواب عن هذه المقولة أنه لا منافاة بين الاعتقاد بسببية الدعاء وبين الاعتماد على الأسباب المادية، ويمكن أن نمثّل لذلك بتعاملنا مع الإنسان.

هذا الإنسان له عين يبصر بها، وله أذن يسمع بها وله يد يمسك بها ويبطش بها، ولكن هل يمكن لنا أن نطالبه بأن يبني لنا البيت من دون أن يعتمد على يديه؟!

إن هذا أمر غير ممكن؛ عندما يريد الإنسان أن يصنع البناء، فلا بدَّ له من وجود واسطة في التأثير وهي اليدان يعتمد عليهما في سبيل القيام بعملية البناء، ولو قلنا له: نحن لا نريد أن تبني لنا البيت بل نريد البناء من يديك فقط لا منك، فإنه يقول: هذا غير ممكن...

في الفرق بين المقتضي والشرط:

يقرر العلماء أن هناك فرقاً بين السبب وبين الشرط، فالسبب في الإحراق مثلاً هي النار، فمنها تحصل عملية الإحراق، ولكن النار لا يمكن أن تحرق إلا بواسطة في التأثير وهي اقتراب الجسم. فإذا لم يقترب الجسم من النار، فالنار لا تحرقه.

النار بما أنها تتضمن درجة عالية من الحرارة، فهي مصدر للإحراق، والإحراق إنما يتم بواسطة في التأثير، وهي اقتراب الجسم منها. فالنار هي السبب، والاقتراب واسطة في التأثير.

إذن حتى تتم عملية الإحراق، لا بدَّ من توفر أمرين:

ص: 138

أ- مفيض أو سبب أو علة وهو ما منه الأثر، وهي النار في مثالنا.

ب- واسطة في التأثير والإفاضة أو شرط التأثير ويسمى ما به

الأثر، كاقتراب الجسم من النار.

وكذلك بالنسبة لأفعال الإنسان، فما منه الأثر هو الإنسان، لكن الشرط والواسطة في التأثير هي يده، و رجله ولولا هذه الوسائط لما أمكن للنفس أن تنقل أثرها من البناء ومن المشي وما أشبه ذلك.

فهناك علة فاعلة وهي النفس الإنسانية، وواسطة في التأثير وهي الجوارح التي يمتلكها الإنسان لذلك لا يمكن الاعتماد لحصول الفعل على السبب وحده من دون واسطة التأثير.

ونفس الكلام في التعامل مع الله تبارك وتعالى، فإنه مصدر الإفاضة وما منه الأثر، ولكن اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها، فهناك وسائط وشروط في التأثير كالسعي إلى الرزق والاستغفار کواسطة في حصول المغفرة وشرب الدواء كواسطة في حصول الشفاء .

لذلك ذكر بعض من علمائنا أن علاقة أهل البيت عليهم السّلام بالكون هي علاقة الشرط، علاقة الواسطة، أي أن مصدر الإفاضة ومصدر الخلق لهذا الكون هو الله تبارك وتعالى، فهو الخالق وهو الرازق.

ولكن الله تبارك وتعالى كما جعل الدواء واسطة في حصول الشفاء، وكما جعل السعي إلى الرزق واسطة في الحصول على الرزق، جعل محمداً وأهل بيته عليه السّلام واسطة في الوجود، لا لحاجة منه، إذ يمكنه أن يعطي الشفاء بلا دواء، ويمكنه أن ينزل الرزق بدون سعي، إلا أن سنته اقتضت ربط هذه المسبَّبات بوسائط معينة لأجل استقرار الوجود.

ص: 139

وكما أن سنته تبارك وتعالى اقتضت ربط الشفاء بشرب الدواء كذلك اقتضت سنته تبارك وتعالى أن يفيض هذا الوجود بسمائه وأرضه ونجومه وذراته وعاقله وغير عاقله، بواسطة أهل بيت الرحمة صلوات الله وسلامه عليهم.

ولذلك تقرأ في الزيارة الجامعة «بكم فتح الله وبكم يختم»، أي أن الفتح والختم من الله تبارك وتعالى، وهم شروط ووسائط في التأثير، «بكم فتح الله وبكم يختم، وبکم ینزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بأذنه...»(1)، إلى أخر الفقرات في الزيارة الجامعة.

إذاً لأجل أننا نعتقد أن العلة المفيضة، ما منه الأثر هو الله نبتهل إليه بالدعاء، ولأجل أننا نعتقد أن هناك وسائط في التأثير أيضاً، نعتمد على الوسائط، فنحن نجمع بين شرب الدواء وبين الدعاء.

الاعتماد على شرب الدواء لأنه واسطة في التأثير، والاعتماد على الدعاء لأن المدعو هو العلة المفيضة وهو مصدر العطاء وما منه الأثر، فلا منافاة بين الاعتقاد بفاعلية الدعاء وبين الاعتقاد بدخالة الأسباب المادية الأخرى وبوجه آخر- إن ما منه الأثر هو فيضه تبارك وتعالى وماله الأثر هو دعاؤه والأسباب المادية الأخرى فلا يمكن الاستغناء ببعض الوسائط دون البعض الآخر..

الدعاء طلب الخير:

العنصر الثاني المقوَّم لحقيقة الدعاء المستجاب هو أن الدعاء في واقعه طلب للخير، سواءً طلب الرزق ولولا أن ذلك خير لما طلبه الإنسان من ربه.

ص: 140


1- الفقيه، ج2، ص594.

فإذا أراد الله أن يستجيب الدعاء فلا بد أن تكون الإجابة خيراً

للإنسان، إذ لو كانت الإجابة شراً للإنسان لم تكن إجابة للدعاء.

فلو قال شخص (یا رب، أنا دعوتك أن تشفيني، ودعوتك أن ترزقني العلم والمال، فلم تجب دعائي). فلله سبحانه أن يقول له: أنت ما طلبت مني المال بما هو مال، وما طلبت مني العلم بما هو علم، وما طلبت مني الثروة بما هي ثروة، وإنما طلبت مني العلم والثروة والمال بما هو خير، فأنا لا أعطيك إياه إلا إذا كان خيراً لك.

فإنه إذا لم تكن هذه الأمور خيراً لك، فإعطاؤك إياها ليس جواباً على طلبك، لأنك طلبت هذه الأمور بما هي خير، فلو أعطيتك إياها وهي ليست بخير لك لم أجب دعاءك، مضافاً إلى أن إعطاءك هذه الأمور مع أنها ليست خيراً لك خلاف الحكمة، لأن الحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها، فلو أعطيتك هذه الأمور مع أنها ليست خيراً لك، لكانت لغواً وعبثاً.

والقبيح محال على الحكيم تعالى، وبهذا يتبيَّن لنا ما تعرض إليه الإمام علیه السّلام كما ورد عنه: «فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلَّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

تعامل الله مع العبد بنوعيه المحبة والمودة والفرق بينهما:

ثم يدخل الإمام علیه السّلام في تفاصيل الدعاء، فيقول:

«فلم أرَ مولاً كريماً أصبر على عبد لئيم منك عليَّ يا رب، إنك تدعوني فأولي عنك، ونتحبب إلي فأتبغَّض إليك وتتودَّد إليَّ فلا أقبل منك، كأن لي التطوُّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلىَّ والتفضُّل علي بجودك وكرمك».

ص: 141

ونتعرف فيه إلى أمرين:

الأمر الأول: المعنى العام لهذا المقطع:

يشرح الإمام علیه السّلام في هذا المقطع مدى حلم الله عزَّ وجلَّ على عبده ومدى رحمته على مخلوقه، فإن هذا المخلوق على الرغم من إصراره على المعصية ومبالغته في الرذيلة وإغراقه وإسرافه في الأثم، ومع ذلك لا يقابله الله تعالى إلا بالرحمة، بالهداية وبالتوفيق.

بل إن رحمته وعطفه على عبده تصل أحياناً إلى أن يجازيه الجزاء الوفير مع إصراره على المعصية وعدم المبالاة بالذنب، «فلم أرَ مولأ كريماً أصبر على عبدٍ لئيم منك عليَّ يا رب».

إن الله جعل للإنسان - كما في الحديث الشريف حجَّتين:

1- حجة ظاهرة: كما في الأنبياء والرسل.

2- حجة باطنة: وهي العقل.

وكلا الحجتين الظاهرة والباطنة يدعوان الإنسان، بأن يستقیم على الطريق، «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ»(1)، «فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2).

ومع أن الحجتين يأمران ويدعوان الإنسان بالاستقامة ليلاً ونهاراً فإن صوت هاتين الحجتين ضعيف أمام صوت الشهوة وأمام صوت النفس الأمارة بالسوء، «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»(3)، إنك تدعوني فأولي عنك، وتتحبَّب إلي

ص: 142


1- سورة هود، الأية 112.
2- سورة يونس، الآية 89.
3- سورة يوسف، الآية 53.

فأتبغض إليك، وتتودَّد إلى فلا أقبل منك».

الفرق بين تعامل الحبة وتعامل المودة:

وهنا سؤال: ما هو الفرق بين الحب والودّ؟

يقول علماء اللغة الفرق بينهما أن الحب هو الصفة الكامنة في النفس، والودّ هو إظهار الحب، فإذا أظهر الإنسان الحب قيل له ودود، وإذ كان قلبه مملوءاً بالميل والرغبة لشخص آخر قيل له محبّ، فالحب عنوان لما في النفس، والودُّ عنوان لما يظهره الإنسان لغيره.

والله تبارك وتعالى تعامل مع العبد بكلا الأسلوبين؛ معاملة الحبَّ ومعاملة الودَّ.

أما معاملة الحبَّ، فإن الإنسان تمرُّ عليه أيَّام حياته سوانح وومضات، تدعوه إلى التوبة، والإنابة، تمرُّ عليَّ بعض الأحيان فترات أشعر في قلبي حباً للصلاة، وحباً للدعاء، وحباً لقراءة القرآن، وحباً لأولياء الله وحباً لمحمد وآله.

إن هذه الومضات التي تخطر على قلبي أحياناً وهذه السوانح التي تمرُّ على قلبي في بعض الأوقات هي تحبُّبُه إلىَّ تبارك وتعالى، وتحبُّبُه إلىّ يعني أن يزرع في قلبي بعض الومضات وبعض السوانح التي تحبّبُني إلى الآفاق الروحية وإلى أجواء العلاقة والتعلق به تبارك وتعالى.

ومع أن هذه الومضات أحياناً تمرُّ على قلبي لكني أتبغَّض إلى الله

تبارك وتعالى بصوت الشهوة الأمارة بالسوء.

إن صوت الشهوة أقوى من هذه الومضات، إن ظلمة الشهوة

وظلمة النفس وظلمة النوازع الشيطانية وظلمة الميول الشيطانية أقوى من نور هذه الومضات، إن سيطرة نفسي علىَّ أكثر من سيطرة هذه الومضات الروحانية والسوانح والرشحات الإلهية، فإذا كانت نفسي أقوى سيطرة عليَّ وعلى ميولي وعلى اتجاهاتي فحينئذ يقودني الهوى

ص: 143

وتقودني الشهوة وتقودني نفسي الأمارة بالسوء إلى مزاولة الرذيلة والإغراق في المعصية وعدم المبالاة بهذه الومضات.

ونتيجة ترادف الذنب على الذنب وتتابع المعصية يحصل عندي نفور من المسجد ونفور من الدعاء ونفور من النافلة ونفور من العلاقة مع الله، فأبغض هذه الروافد وأكرهها بسيطرة النفس عليَّ،

«وتتحبب إلىَّ وانبغض إليك، وتتودَّد إلي فلا أقبل منك».

وأما معاملة الود فليس نهجك يا إلهي معي أن تزرع ومضاتٍ في قلبي أو تنشر رشحات في روحي فقط بل إنك تظهر ذلك إليَّ، بل إنك تتودَّد إليَّ وتشعرني بالنعم الوافرة، وتشعرني بالمواهب العظيمة مع إصراري على المعصية، بلطفك ورحمتك ونعمتك عليَّ إنك مازلت تسدُّ أمامي أبواب المعصية، فأنا أُصرُّ على الذنب وأعزم عليه لكنك تضع عوائق كثيرةً أمام مزاولته، وما هذا إلا توددٌ منك إلىَّ.

ومع أنك يا إلهي تتودَّد إليَّ بهذه النعمة أو بنعمة العلم أو بنعمة الرزق أو بالنعم الوفيرة، «أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(1)، ومع ذلك لا أقبل منك.

أقول هذا أمر طبيعي، أنا مثل الناس، فإن الناس أيضاً يرزقون النعم، ويحصلون على العطايا، أنا لا أقبل هذا النوع من النعم، ولا أقبل هذا النوع من الرزق، هذا أمر مشترك بيني وبين غيري.

أنا سأبقى على طريقي حتى تجعلني مميزاً أو حتى أكون صاحب نعمة خاصة وصاحب ميزة خاصة فلا اقبل منك، كأن لي فضلاً عليك أو كأنني صاحب فضل ومنَّة أو صاحب مواهب، «كأن لي التطوُّل عليك»، ومع ذلك كله «فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان

ص: 144


1- سورة لقمان، الأية 20.

إليَّ والتفضل عليَّ بجودك وكرمك».

وهنا ثلاثة عناوین: الإحسان والتفضل والرحمة.

الرحمة: هي العطاء العام الذي يشترك فيه سائر المخلوقين المؤمن والكافر، وأنت يا إلهي مع إصراري على المعصية تسبغ عليَّ الرحمة التي تسبغها على غيري من المؤمنين.

والإحسان: شعبة من شعب الرحمة، ولقد استعمل القرآن الكريم كلمة «الإحسان» في مقام الجزاء، فلم توجد آية نعتت الله بأنه محسن إلا في مقام الجزاء، «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ»(1)، والمقصود حينئذٍ أنك يا إلهي كما رحمتني ورحمت غيري، فإنك بمجرد أن ترى مني خصلة طيبة، يوماً صدقة أو صلة رحم أو عبادة أو نافلة، فإنك بسرعة تجازيني على ذلك وتغدق على طاقة من الهداية وطاقة من الرحمة تقابلني بما صنعت من القليل الإحسان إليَّ والتفضل عليَّ.

والفضل: هو عبارة عن تميُّز الشخص على غيره، والمقصود حينئذٍ أنك يا إلهي لست فقط ترحمني يا إلهي ولست فقط تجازيني على ما صنعتُ، بل تميَّزني على الآخرين بنعمة أوفر، وبرزق أوفر، وبعلم أوفر، وبصحة أوفر. «والتفضل عليَّ بجودك وكرمك»، إذاً هذه الفقرات تتعرض إلى مدى حلمه تبارك وتعالى ومدى عطفه ورحمته بعبده المذنب.

ص: 145


1- سورة الرحمن، الآية 60.

ص: 146

المعرفة بين الكم والكيف

«فلم أرَ مولى كريماً أصبر على عبد لئيم منك علي يا رب،

إنك تدعوني فأوَلّي عنك، وتتحبَّبُ إلىَّ فأتبغَّض إليك، وتتودَّدُ إليَّ فلا أقبل منك، كأن لي التطوُّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي، والإحسان إلي، والتفضُّل عليَّ بجودك وكرمك، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل إحسانك إنك جواد کریم. الحمد لله مالك الملك مجري الفلك مسخر الرياح فالق الإصباح ديان الدين رب العالمين».

هنا مقطعان:

المقطع الأول: «فلم أرَ مولى كريماً أصبر على عبدٍ لئيم منك

علي يا رب».

وقد شرحناه سابقاً، وبقي سؤال يتعلق بهذا المقطع:

ما هو الوجه في تعرض الإمام لهذه التفاصيل؟ يعني لماذا لم يقل الإمام عليه السّلام، مثلاً: يا ربَّ كلما تعاملتُ معك بالذنب تعاملتَ معي بالرحمة والحلم.

فإن كل هذه الجمل تشترك في مضمون واحد، وهو أن العبد كلما أجرم وأذنب فإن الله يقابله بالعفو والرحمة واللطف، «فلم ارَ

ص: 147

مولىَّ كريماً أصبر على عبدٍ لئيم منك عليَّ يارب إنك تدعوني فأولي عنك وتتحبب إليَّ فأتبغض إليك..» إلى آخر المقطع من الدعاء ..

تفصيل الذنوب طريقة تربوية:

وبما أن هذه الجمل تشترك في مضمون واحد، فلماذا هذا

التفصيل؟!

هذا التفصيل يُتَصوَّر فيه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: تحسيس الإنسان بالجريمة تمهيداً لتحصيل التوبة الصادقة.

فإن الإنسان إذا ارتكب جُرماً وأراد أن يتوب عن هذا الجرم توبة صادقة نصوحاً؛ إنما تتحقق منه التوبة الصادقة إذا أحسَّ بشناعة الجُرم وتوغل في نفسه عِظَمُ الجُرم وبشاعته، وحينئذ بعد ندم قلبه وتأنيب ضميره يبادر إلى التوبة الصادقة، فحصول التوبة الصادقة النصوح إنما يتم بعد الإحساس بشناعة الجُرم وفظاعته.

ومن أجل تحسيس العبد بشناعة جرمه وفظاعة معاصيه وقباحة أعماله، قال الإمام عليه السّلام بتفضل الذنوب، فإن الإنسان إذا ذكر الأفعال بشكل تفصيلي شعر بفظاعة جرمه.

أي حينما يتذكَّر بأنه فعل كذا فقوبل بالعفو، ثم فعل كذا فقوبل بالحلم، ثم فعل كذا فقوبل بالرحمة، ثم فعل كذا وقوبل باللطف؛ إذا تعرض الإنسان إلى ذنوبه تفصيلاً، ولما عامله به ربه مقابل هذه الذنوب؛ أحسَّ بحقارة نفسه وأحسَّ بشناعة جُرمه وأنه أصرَّ على المعصية، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى عامله باللطف والرحمة.

فالتفصيل في ذكر الذنوب أسلوب لتحسيس الإنسان بشناعتها

ص: 148

وعِظمها وإذا أحسَّ بشناعتها وعظمتها انقادت نفسه إلى التوبة الصادقة والتوبة النصوح، «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا»(1).

الأمر الثاني: الطريقة التربوية لنقد الذات:

الأئمة من خلال أدعيتهم يعلموننا الطرق التربوية لنقد

الذات.

فإن الإنسان محتاج إلى نقد ذاته، إذ ليس المطلوب فقط هو أن ننقد مجتمعنا، وأن ننقد أوضاعنا، بل إن من الأمور المهمة أيضاً أن ننقد ذاتنا وأن نضع أنفسنا وذاتنا وأعمالنا على الميزان لمعرفتها خطوة خطوة وحرفاً حرفاً تفصيلاً.

والإمام علیه السّلام يريد أن يربَّينا على طريقة نقد الذات، فلو تعرَّض للأمر تعرضاً إجمالياً وقال: يا ربَّ فعلتُ معاصي وأنت عاملتني بالحلم، وانتهت القضية، ولم يتعرَّض للذنوب تفصيلاً، لما تناسب ذلك مع عملية نقد الذات ومحاسبتها وإيقافها على كل ذنب وعلى كل جرم وعلى كل خطأ وعلى كل موبقة.

هذا الاستعراض التفصيلي طريقة تربوية تحقيق لما أوصى به الإمام أمير المؤمنين علي لتعليمنا نقد ذواتنا: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وَزِنُوها قبل أن تُوزَنُوا»(2)، «ليس منَّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(3)، إن محاسبة ونقد الذات إنما يتم باستعراض جدول الأعمال كله ومحاسبة النفس على كل خطوة منه وعلى كل فعل منه.

ص: 149


1- سورة التحريم، الآية 8.
2- مجموعة ورام، ج 1، ص298.
3- بحار الأنوار، ج68، ص259، باب 73.

الأمر الثالث: التنفيس عن الذات:

إن هذا الاستعراض التفصيلي هو أسلوب نفسي للتنفيس عن داخل الذات، فإن الإنسان إذا خيَّمت على قلبه الظلمة والكآبة نتيجة ترادف الذنوب وكثرة المعاصي، فلا طريق له عن التنفيس عن ذاته لرفع الكابوس المخيَّم على روحه إلا بأن يصرّح بذنوبه بشكل تفصيلي.

أما لو صرَّح بذنوبه بشكل إجمالي فإن الحزازة تبقى في النفس،

مهيمنة عليها ولا مجال للتنفيس ورفع هذا الكابوس إلا إذا استعرض الإنسان ذنوبه بالتفصيل.

إذاً هناك أموراً ثلاثة يمكن تصوُّر قصد الإمام تحقيقها من خلال

هذا الإستعراض التفصيلي.

ثم انتقل الامام عليه السّلام إلى المقطع الآخر في قوله: «الحمد لله مالك الملك مجري الفلك مسخر الرياح فالق الإصباح ديان الدين رب العالمين».

نلاحظ أن الإمام كرر الحمدَ في هذا الدعاء عدة مرات، ففي أول الدعاء قال عليه السّلام: «اللهم إني أفتتح الثناء بحمدك»، وفي وسط الدعاء قال: «الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليَّ من الذلٌ وكبره تكبيراً، الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملکه...».

وهنا أيضاً يرجع الإمام إلى الحمد مرة أخرى: «الحمد لله مالك الملك..»، فما هو الوجه في تكرار الحمد أول الدعاء، وسط الدعاء، آخر الدعاء، و ما هو الغرض؟

ص: 150

تقسيم المعرفة لكمية وكيفية:

والجواب عن ذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري فمنشأ الحمد هو إدراك جماله تعالى وكلما تكرر المنشأ تكرر الحمد، ولذلك فالإمام علیه السّلام: في فقرات الدعاء متى ما تعرض لصور جماله تعالى كرر الحمد، ومن أجل أن نفهم مظاهر الجمال الإلهي في هذه الفقرات ينبغي أن نتعرض لبحث فلسفي يرتبط بهذه النقطة وهو تقسيم المعرفة إلى معرفة كمَّية ومعرفة كيفية، فما هو الفرق بين المعرفة الكمية والمعرفة الكيفية؟

المعرفة الكمية هي عبارة عن دراسة الظواهر وعدم النفاذ إلى المضمون والجوهر الذي يحكم هذه الظواهر.

والمعرفة الكيفية هي عبارة عن التركيز في المضمون الذي يحكم

الظواهر ويجمعها.

مثلاً: عندما فلان مقياس ضغطه كذا، ومقیاس طوله كذا،

ومقدار حجمه كذا، مقدار وزنه كذا، هذه تسمى معرفة كمية، فهي ليست إلا عبارة عن دراسة الظواهر المحيطة بهذا الإنسان.

أما حين يأتي العالم النفسي لدراسة نفس الإنسان، ما هي ميوله؟ وما هي اهدافه؟ وماهي ثقافته؟ وما هو خطه؟ وما هو منهج تفكيره؟ وما هي طريقة تعامله مع الأخرين؟ وما هو مقدار طموحه في الحياة؟ ما هو مقدار بعد نظره؟ هذه الدراسة تسمى معرفة كيفية لأنها دراسة للمضمون والجوهر الذي يكمن وراء الظواهر كلها، فهناك نوعان من المعرفة؛ معرفة كمية و معرفة كيفية.

نحن عندما ننظر إلى هذا العالم بأسره، بسمائه ونجومه وذراته ومجراته وجميع أجزائه، فيمكن أن ننظر إليه بنظرتين؛ نظرة كمية ونظرة کيفية.

ص: 151

فالعالم الفيزيائي أو عالم الفلك أو عالم الأحياء مثلاً ينظر إلى الكون ويدرسه ويتعرف عليه معرفة كمية وليست معرفة كيفية، لأت مركز بحثه عماما هو مقدار البعد بين السماء و الأرض؟ ما هو مقدار حجم الأرض؟ وم عدد الكواكب والمجرات التي تسبح في هذا الفضاء؟ وما هي نسبة حجم الأرض للشمس؟ وما هي نسبة حجم القمر للشمس؟

وهذه كلها معرفة كمية، لأنها دراسة هذه الظواهر التي يلحظها الإنسان بإحساسه أو بواسطة الأجهزة المجهرية البعيدة، أما عندما نسجل أسئلة أخرى عن الكون، ما هو مبدأه وما هو منتهاه؟ هل الوجود بأسره، قِطَعٌ متناثرة أم هو جسم واحد يرتبط أوله بآخره؟ وإذا كان مترابطاً، هل كان هذا الترابط على نحو الصدفة؟ أم هو خاضع للحكمة وللإتقان؟

وهل تعيش الحياة في جميع أجزائه؟ أم أن الحياة ليست في جميع اجزائه؟ هذا الوجود، هل له هدفية أم ليس له هدفية؟ إن هذه المعرفة نسمَّيها معرفة كيفية، لأنها دراسة لمضمون الوجود، ودراسة لجوهر هذا الوجود الذي هو وراء هذه الظواهر كلها.

فهناك معرفة كمية ومعرفة كيفية معرفة الوجود من الناحية الكمية تفيد الإنسان في كيفية السيطرة على الوجود وإخضاعه ليد الإنسان وأجهزة الإنسان.

ولكن هذه المعرفة الكمية لا تفيدك في معرفة ما هي علاقتك مع

هذا الوجود، هل هي علاقة أخذ وعطاء؟ أو علاقة انفصال؟

إن المعرفة الكمية وحدها لاتوصلك إلى معرفة الربط بين هدفك وهدف الوجود، لاتعرَّفك ماهو موقعك كإنسان هادف من هذا الوجود.

ص: 152

الحاجة إلى المعرفة الكيفية:

إذاً بالنتيجة نحن نحتاج إلى المعرفة الكيفية، فإذا عرفنا موقعنا من هذا الوجود، عرفنا نسبة أهدافنا إلى أهداف الوجود، وعرفنا مقدار تدخلاتنا وسيطرتنا في مسيرة الوجود وتحقيق اهدافه، وإذا كان المطلوب هو المعرفة الكيفية؛ فإن المعرفة الكيفية لها طريقان:

الطريق الأول: المعرفة الآفاقية.

الطريق الثاني: المعرفة الأنفسية.

أما المعرفة الآفاقية، فهي معرفة الصور، كما إذا وقفت أمام المرآة، فأنت ترى الصورة ولا ترى نفسك، فمعرفتك بهذه الصورة المرتسمة في المرآة معرفة صورية لا معرفة حقيقية.

بل حتى رؤيتك لصديقك هي رؤية غير حقيقية! هل يوجد أعظم من هذا؟ إنسان يرى صديقه كل يوم ویری وزوجته وولده! الأ أن رؤيته لهم لیست رؤية حقيقية.

حتى أنت الذي تجلس أمامي تتوهم أنك تراني حقيقة، وإنما أنت تری صورتي ولا تراني حقيقة، وكذلك رؤيتك إلى أقرب الأشياء إليك کيدك ورأسك هي رؤية صورية وليست رؤية حقيقية، معرفة صورية وليست معرفة حقيقية.

وهذا الرأي غير خاص بالفلاسفة المسلمين، بل حتى عند غيرهم. هذا الفيلسوف (راسل) يذكر هذا المثال. يقول الفيلسوف (راسل): إذا رأيت السيد (جونز)، تقول بأنك رأيت السيد (جونز)، لكنك لم ترَه؟ أنت رأيت ألواناً متتابعة، وصوراً متحركة، ربطت بينها فيما بعد في ذهنك، واستنتجت أنك رأيت السيد (جونز) ومعنى ذلك أنك إذا جلست أمامي؟ فبصري ينال شكلك، وسمعي ينال صوتك،

ص: 153

إحساسي ينال هذا الحجم الذي هو أمامي. والصورة... الصوت.... الحجم... كل هذه صور تنتقل إلى الدماغ، وإذا وصلت إلى الدماغ جاء الذهن وربط بينها.

فالصورة + الحجم + الصوت = فلان بن فلان، فأنا لم أرَك رؤية حقيقية، وإنما رأيتك رؤية استنتاجية، أي قمت بعملية ذهنية حتى أيقنت بأنك أنت وليس غيرك.

فالمسألة مسألة ذهنية، ومسألة استنتاجية، لأن هناك صورةً وهناك صوتاً، ولأن هناك حجماً معيناً، ربطت بين هذه الأمور الثلاثة فاستنتجت منها أنوراء الصوت ووراء الصورة ووراء الحجم ووراء الشكل يوجد شيء اسمه فلان بن فلان.

ولذلك قال الفلاسفة الإنسان لا يعرف أحداً معرفة حقيقية إلا نفسه التي بين جنبيه فقط أما غير نفسه فلا يستطيع أن يعرفها إلا معرفة صورية فقط.

إذن فالذي أعرض حقيقة وبلا واسطة هي نفسي فقط.

أما بقية الأشياء التي حولي؛ كتابي، زوجتي، أولادي، سيارتي، بيتي، جميع الأشياء التي حولي لا أعرفها إلا بواسطة صورة وبواسطة استنتاج عقلي معرفي.

معرفة الوجود بطريقين:

وبعد هذا نقول لماذا يتعرف الإنسان على الوجود؟ والجواب الأجل أن يصل إلى معرفة الله، والتعرف على الوجود للتعرف على الله تعالى له طريقان:

إما طريق استنتاجي ويسمى بالبرهان في كتب الفلسفة، وهو

ص: 154

التأمل في هذه الآفاق وهذا الوجود «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(1)، فالمعرفة الآفاقية، تعني الوصول لله عبر الطريقة الإستنتاجية، عبر المعرفة الصورية.

وتارة تعبر إلى الله من خلال الداخل، أي من داخل أنفسنا، ومن خلال المعرفة الحقيقية. فبما أني لا أعرف شيئاً معرفة حقيقية إلا نفسي، فإذا عبرت من نفسي إلى الله سبحانه، وانطلقت من نفسي إلى الله سبحانه، وصلت إلى المعرفة الحقيقية لله سبحانه وتعالى من دون أن تكون هناك واسطة أو عائق أو مظهر. معرفة الله عن طريق النفس معرفة لمَّیة لا إنَّية، معرفة حقيقية لا صورية، معرفة وجدانية لا استنتاجية.

فمعرفة الله عن طريق النفس أنفع من معرفته عن طريق الآفاق، لذلك ورد عن الرسول:

«من عرف نفسه عرف ربه»(2)، أي وصل إلى المعرفة الحقيقية، وورد عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام:

«المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين»(3).

إذاً بعد أن تعرفنا على أن المعرفة معرفة كمَّية ومعرفة كيفية،

والمعرفة الكيفية هي معرفة آفاقية ومعرفة أنفسية، نرى أن الإمام من خلال الدعاء، يركز على النوعين من المعرفة؛ المعرفة الأفاقية والمعرفة الأنفسية، والمعرفة الصورية والمعرفة الحقيقية، فيتعرض في هذا المقطع للمعرفة الصورية الاستنتاجية، «الحمد لله مالك الملك»،

ص: 155


1- سورة آل عمران، الآية 191.
2- في غرر الحكم عن الإمام علي علیه السّلام، ص232 الحكمة رقم 4637.
3- غرر الحکم، ص232، الحكم رقم 4630.

والملك يعني السيطرة والملكية.

وقد تعرضنا في البحوث السابقة إلى أن ملكية الله لهذا الكون

ملكية حقيقية حقة، وجوده، عدمه، وابقاءه، إعطاءه بيد فمنه فيض الحياة ورشحات الحياة في كل لحظة وفي كل آن، «الحمد لله مالك الملك».

ثم يتعرض لمظاهر الملك، وهذه معرفة آفاقية «الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخَّر الرياح، فالق الإصباح، دیَّان الدين، ربّ العالمين».

ص: 156

الجمال الإلهي في علاقة التكوين

«اَلحَمدُ لله مالك الملك، مجري الفلك مسخر الرياح فالق

الإصباح ديان الدين رب العالمين».

الحمد - كما ذكرنا سابقاً- هو الثناء على الجمال الاختياري، فلا بد أن يكون هناك جمال يترتب عليه حمدُ الإنسان لربه عزَّ وجلَّ، وقد ذكر الإمام عليه السّلام في هذه الفقرة مظهرين من مظاهر الجمال الإلهي.

مظاهر الجمال الإلهي:

«الحمد لله مالك الملك» فإن ملكيته تبارك وتعالى على نحو الملكية الحقيقية مظهرٌ لجماله، وقد ذكر الإمام، فيما ورد عنه مصاديق للملك فقال: «الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخَّر الرياح، فالق الإصباح، دیان الدين، رب العالمين».

كل هذه المصادیق، مظاهر لملكيته تبارك وتعالى، وبما أنها مظاهر لملكيته ولسيطرته؛ فهي صورة من صور جماله تبارك وتعالى.

العلاقة بين عالم التكوين وعالم التشريع:

لاحظوا قوله علیه السّلام: «مالك الملك، مجري الفلك، مسخَّر الرياح»،

هذه كلها أمور تكوينية، ثم عطف عليها الأمر التشريعي «ديان الدين».

ص: 157

دیَّان الدين بمعنى أنه مشرَّعُ الدين، فهو الذي جعل القوانين التي تنظم مسيرة الإنسان، وتنظم سلوك الإنسان، وإنما ذكر عليه السّلام نعمة التكوين ونعمة التشريع البيان أن هناك ربطاً بين عالم التكوين وعالم التشريع، فما هو وجه الترابط بين عالم التكوين وعالم التشريع؟

وقد أجاب العدلية عن ذلك بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها والا لكان التشريع لغواً؛ واللغو قبيح على الحكيم تعالى كما ذكر علماء الكلام بأن الأحكام الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية بحيث لو أنكشف للعقل ملاك الحكم الشرعي

الألزم المكلف بتحصيله.

ومن أجل توضيح ذلك هنا أذكر نقطة واحدة من نقاط الربط بين عالم التكوين وعالم التشريع يتضح بها النقاط الأخرى، وهو ما ذكره علماء القانون من الربط بين مجموع العلة الفاعلية والعلة الغائية وبين ثبوت الحق.

فقهاؤنا يقولون: كيف يثبت الحق؟ كأن يكون لك حق التحجير في الأرض، أو أن يكون لك حق الاختصاص في المال، كيف يثبت الحق؟

الحق الاعتباري يرتكز على العلاقتين الفاعلية والغائية:

إنما يثبت الحق - وهو أمر تشريعي وأمر قانوني. فرع ثبوت علاقة تكوينية، يعني العلاقة التكوينية منشأ للعلاقة التشريعية، وذلك عن طريق العلة الغائية والعلة الفاعلية.

بيان ذلك: إن العلاقة بين الأشياء تارة تكون علاقة فاعلية، كعلاقة النجَّار بالكرسي الذي يصنعه، وتارة تكون علاقة غائية كعلاقة الكرسي بالجلوس عليه والاستفادة منه فهي علاقة غائية، أي

ص: 158

أن الغاية من صنع الكرسي هو الجلوس عليه، فالكرسي له علاقتان؛ علاقة فاعلية بالنجَّار، وعلاقة غائية بالجلوس عليه.

فإذا كانت هناك علاقة غائية بين شيءٍ تكويني وبين الإنسان فهذه العلاقة منشاً لثبوت حق في ذلك الشيء على نحو الاقتضاء ويصير الحق فعلياً بالعلاقة الفاعلية.

فالعلاقة الغائية والعلاقة الفاعلية إذا توفرتا، ثبت للإنسان حقٌ

في أي شيء من الأشياء.

نضرب أمثلة على ذلك:

إذا قارنا بين الطفل وبين ثدي أمه؛ فإنه بمجرد أن يولد الطفل نرى أن هذا الثدي يمتلئ بالحليب ويستعد للتغذية، ونرى أن هذا الطفل بغريزته، وبدون أن يعلمه أحد له جهاز هضمي يستقبل الحليب، وله شفتان تمتص الحليب، وله لسان وغدد تتفاعل مع امتصاص الحليب.

إذا قارنا بين هذين الأمرين من دون أن يكون هناك معلم، ومن دون يكون هناك مرشد، ندرك أن هناك علاقة غائية بين حليب الأم وبين الطفل، يعني الغاية من هذا الحليب هي غذاء هذا الطفل، فهناك علاقة غائية بين حليب الأم وبين غذاء هذا الطفل.

وهذه العلاقة الغائية - مع أنها علاقة تكوينية- أوجبت أن يكون

للطفل حقٌ في حليب أمه.

بهذه العلاقة الغائية نفهم أن هناك حقاً قانونياً للطفل في حليب أمه، وصارت العلاقة التكوينية منشأ لعلاقة تشريعية اقتضائية وإنما يكون الحق فعلياً بالعلاقة الفاعلية كاستعداد الطفل لامتصاص الحليب والتغذي به والا لكان الحق منتفياً بانتفاء موضوعه.

ص: 159

إذا ما دام الطفل قادراً على أن يقترب من ثدي أمه ويمدَّ شفتيه، ويقوم بعملية الامتصاص، وتقوم الغدد بفرز اللعاب حتى ينسجم مع الحليب الممتص الذي يكون غذاء لجسم الطفل، وحياة لأنسجة بدنه، فله حقه القانوني في حليب أمه.

إذن فاجتماع العلاقتين؛ العلاقة الغائية من جهة والعلاقة الفاعلية من جهة أخرى وفرت الحق هذا المخلوق، وهذا الذي نريد أن نقوله؛ من أنه هناك علاقة بين عالم التكوين وعالم التشريع.

مثال آخر؛ إذا قارنا بين الإنسان وبين عشب الأرض ونبات

الأرض، هذا الإنسان يمتلك أسناناً للهضم وللتقطيع، و يمتلك جهازاً هضمياً يساعده على هضم هذه الأطعمة وتوزيعها على بدنه، وكل جزء يأخذ منها حاجته وغذاءه.

فإذا قارنا بين أجهزة الإنسان وبين الأعشاب التي تتولد وتنمو وتؤتي أكلها وثمارها؛ أدركنا حتماً بأن هناك علاقة غائية بين هذا الجسم وبين هذا العشب، وهذه العلاقة الغائية أثبتت لنا قانونياً أن للإنسان حقاً في عشب الأرض، وأن للإنسان حقاً في خير الأرض لكنه على نحو الاقتضاء.

فإذا أراد الإنسان أن يحصل على هذا الحق بالفعل، فلا بدَّ له من علاقة فاعلية، أي لا بدَّ له من أن يسعى ليحوز هذا العشب أو لیزرعه.

وهنا تأتي الأحاديث الشريفة «من أحيا أرضاً مواتاً، فهي له»(1)، يعني بالعلاقة الفاعلية حاز الحق، إذا قلنا بأن مفاد الحديث ثبوت الحق لا الملك أو ثبوت جامع السلطنة المنطبق على كليهما وهنا تأتي الأحاديث

ص: 160


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج2، ص461.

الشريفة: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به»(1).

إذاً بالنتيجة، صارت هناك علاقة بين عالم التكوين وعالم التشريع، ولذلك نراه في هذا الدعاء مشي بشكل متسلل فذكر أولا منبع الجمال في ذاته تبارك وتعالى وهو أن الملك التكويني تحت سيطرته ثم فرَّع على ذلك مظاهر الملك فقال علیه السّلام: «الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك مسخر الرياح» ثم بعد أن ذكر مظهر الجمال في لوح التكوين، ذكر مظاهر الجمال في لوح التشريع للإشارة إلى استحقاقه تعالى للحمد على هذين المظهرين ولبيان الربط بينهما وبعد أن تعرض المالكيته لعالمي التكوين والتشريع فرع عليه أن إدارته تعالى للتكوين والتشريع تربية منه للعالمين، فالعالم الذي يحتاج تدبيره للجمال التكويني وهبه له والعالم الذي يحتاج تدبيره للجمال التشريعي وهبه له.

التركيز على مسألة صنع الفلك في القرآن والحديث:

وقد يسأل إنسان هنا ماهو الداعي لذكر «مجري الفلك»؟ الفلك ليس من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وإنما هو من مصنوعات الإنسان، والإمام عليه السّلام في مقام ذکر مخلوقات الله سبحانه، فكيف يذكر مصنوعات الإنسان؟

فلماذا ذكرها الإمام عليه السّلام في بيان مظاهر الملك، ومظاهر الجمال.

والجواب عن ذلك أننا نلاحظ أن القرآن أيضاً في كثير من آياته ينصُّ على صنع الفلك «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ»(2)،

«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *

ص: 161


1- مستدرك الوسائل، ج17، ص111، باب من أحيا أرضاً مواتاً فهي له.
2- سورة إبراهيم، الآية 32.

«وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ»(1)، فلماذا التركيز على مسألة الفلك؟

إن التركيز على مسألة الفلك، كالتركيز على مسألة القلم، «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ»(2)، لا لخصوصية القلم أو الفلك، وإنما للإشارة إلى أن الإنسان يمتلك عقلية الإبداع، وعقلية الصنع.

فليست الفلك هي النعمة، وإنما الفلك مظهر القدرة الإنسان على الصنع والإبداع؛ فأراد أن يقول لنا سبحانه وتعالى أننا سخَّرنا الرياح وفلقنا الإصباح، وأعطينا الإنسان أيضاً عقلية الصنع وعقلية الإبداع.

ولأننا أعطينا الإنسان عقلية الإبداع وعقلية الصنع، استطاع أن يمسك القلم وأن يحرَّرَ أفكاره ويوصلها إلى أبعد المدى، واستطاع أن يصنع الفلك ليخوض البحار ويستخرج كنوزها.

إذاً ذكر الفلك كذكر القلم؛ كلاهما من صناعة الإنسان، لكن ذكرهما للإشارة إلى عقلية الإبداع وعقلية التغيير عند الإنسان، «مجري الفلك، مسخرَّ الرياح،فالق الإصباح، دیان الدين، رب العالمين».

اهتمام الإسلام بالبيئة:

ومن هذه الفقرة الأخيرة - أي تربيته تعالى- للعالمين جميعاً إلى ما يسمى بعلاقة الإسلام بالبيئة؛ إذ ربما يتصوَّر الكثيرون بأن القوانين الوضعية اهتمت بالبيئة، بينما نجد الإسلام اهتم بالعبادات؛ وبالواجبات الشرعية، ولم يوضح لنا اهتمامه بالبيئة.

ص: 162


1- سورة يس ، الآية 41 -42.
2- سورة القلم، الآية 1.

نقول: من هذه الفقرات التي تعرضت لحالة التوازن بين جريان

الفلك وسكون الرياح لكي يصل الإنسان إلى أهدافه في خوض البحار، وحالة التلائم بين جريان الفلك وانبلاج ضوء الإصباح لكي يقدر الإنسان من خلال ضوء الشمس على خوض البحار ونیل ما في أعماقها، ولحالة الانسجام بين جريان الفلك والقوانين التي شرعها ديان الدين من أجل رفع التزاحم بين العباد في استيفاء خيرات الأرض ندرك اهتمام الإسلام بالبيئة والمحافظة عليها.

لاحظوا ما ورد عن علي عليه السّلام الذي يقول: «فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع، والبهائم»(1)، أنتم لستم مسؤولين عن الصلاة والصوم فقط، ولستم مسؤولين عن الخمس والزكاة والحج فقط؛ أنتم مسؤولون عن الأرض ومسؤولون عن هذا التراب الذي تعيشون فوقه.

ما معنى «مسؤولون عن البقاع»؟

إن القرآن الكريم يقول: «أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(2)، «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ»(3)، إذاً معنى «مسؤولون حتى عن البقاع» يعني مسؤولون

عن إعمارها، واستخراج بركاتها، وإقامة الحضارة عليها.

والإمام على عليه السّلام في عهده لمالك الأشتر قال: «هذا ما أمر به عبدُالله عليٌ أميرُ المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(4)، فعليٌ عليه السّلام لم يقل كما قال معاوية:

«والله إني ما قاتلتكم لتصلُّوا ولا

ص: 163


1- نهج البلاغة، ص242، الخطبة رقم 167.
2- سورة هود، الأية 61.
3- سورة الأعراف، الأية 10.
4- نهج البلاغة، ص426، كتاب رقم 53.

لتصوموا ولا لتحجُّوا ولا لتزکُّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون»(1).

بل كان عليه السّلام يقول: أنا وليتُ مالك الأشتر عليكم لا لأتأمر عليكم، بل لأجل إقامة حضارة إسلامية في بلادكم، لأجل استخراج كنوز الأرض من بلادكم، «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها».

ولا غرابة فعليٌ عليه السّلام منبع الحضارة، وعليٌ مصدر من مصادر التفكير في إقامة الحضارة، عليٌ يخطط وهو في الكوفة كيف يقيم حضارة إسلامية على أكبر امبراطورية إسلامية آنذاك، «وعمارة بلادها».

إذاً عمارة الأرض مسؤولية شرعية، إذ لو لم تعمر الأرض لما توفرت الزكاة، وإذا لم تتوفر الزكاة، ضاع حق الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل.

قال تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ»(2).

فهناك حق إعمار الأرض، وهناك حق المحافظة عليها، فهو حق وضعه الإسلام للأرض على كاهل الإنسان، فلنمتثل لأقوال علي عليه السّلام الذي يعلمنا القوانين الحضارية، والذي يرشدنا إلى إقامة الحضارة، وبناء كيانها.

ص: 164


1- بحار الأنوار، ج 44، ص48، وتاريخ مدينة دمشق، ج59، ص150.
2- سورة التوبة، الآية 60.

شخصية أمير المؤمنين في أدعية أهل البيت

«اللهم وصلّ على عليّ أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين عبدك ووليك وأخي رسولك وحجتك على خلقك وآيتك الكبرى والنبأ العظيم».

الحديث في هذه الفقرة من عدة جهات:

وجوه تقديم الوصاية على العبودية:

نلاحظ في هذه الفقرة تقديم الإمرة والوصاية على العبودية، فوصفه أولاً بأنه أمير ووصي ثم وصفه بأنه عبد، مع أن اتصافه بالعبودية لله عز وجل سابق رتبة لازماناً على اتصافه بالإمرة والوصاية.

وذلك نظير ما ورد في حق إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، «إن الله اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتَّخذه رسولاً، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً»(1).

ص: 165


1- الكافي، ج 1، ص 175، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة.

فاتصاف علي علیه السّلام بالعبودية سابق رتبة على اتصافه بكونه أمير المؤمنين أو كونه وصي الرسول الله، إلا أن هذه الفقرة من الدعاء قدمت وصفه بالإمرة وبالوصاية على وصفه بالعبودية، فما هو السبب في ذلك؟

هنا وجوه:

1- إن العبودية بمعنى المخلوقية سابقة رتبة على الإمامة ولكن العبودية بمعنى إظهار الطاعة لله عز وجل ليست كذلك، فإن العبودية بهذا المعنى تفتقر إلى وجود الإمام إذ لا يمكن عبادته تعالى إل بما يليق بذاته عز وجل، وتحديد ما يليق بذاته تعالى متوقف على وجود الدليل الهادي كما قال تعالى: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»(1) فالإمرة والوصاية بلحاظ دلالتهما على العبادة الواقعية سابقتان رتبة على العبودية، إذن فكونه عبداً في طول إمامته ودلالته.

2- إن تقديم الوصاية والإمرة لبيان أن الاعتقاد بهما يختلف عن الأعتقاد بباقي صفات أمير المؤمنين كالأخوة ونحوها فإن إمامته بمعنى إمرته ووصايته للرسول هي أصل من الأصول وحد فاصل لا يُقبل العمل إلا به كما ورد في الحديث عن النبي: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(2)، وورد عن الصادق علیه السّلام:

«أَمَا لَو أَنَّ رَجُلاً صَامَ نَهَارَهُ وَقَامَ لَيلَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَميع مَاله وَحَجَّ جَمِيعَ دَهرِهِ وَ لَمِ يَعرِف وَلايَةَ وَلِيَّ اللهِ فَيُوَالِيَهُ وَتَكُونَ جَمِيعُ أَعمَالِهِ بِدَلالِتِه إِلَيهِ مَا كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ ثَوَابٌ ولا كان مِن أَهلِ الإِيمَانِ»(3).

ص: 166


1- سورة الرعد، الآية 7.
2- الوسائل، ج16، ص246، باب تحريم تسمية المهدي.
3- الوسائل، مؤسسة أهل البيت، ج27، ص42، باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي.

إذاً دوران العمل قبولاً من الله تعالى ورفضاً مداره إمامته علیه السّلام والإذعان والاعتقاد بولايته أصل من الأصول فلا يمكن الغض عن ذلك، وهذه الفقرة من الدعاء جاءت لتأكيد هذا المعنى فبدأت بالحديث عن الإمامة قبل الحديث عن العبودية.

3- اصطفاؤه لمقام الإمامة قبل خلق الخلق: إن الله تبارك وتعالى اجتبي أمير المؤمنين علیه السّلام واصطفاه لمقام الإمامة و الإمرة والوصاية قبل خلق المخلوقات كلها ففي الزيارة الجامعة «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتى منَّ علينا بكم، فجعلكم في بيوت أذِنَ الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه»(1) فإذا عرفنا أن العرش هو مرکز أسرار الكون بجميع عوالمه فالأرواح المحدقة به هي الأرواح التي أنيط بها إدارة العالمين تكويناً وتشريعاً لمعرفتها بمفاتيح العلوم وأسرار الخلق.

إذاً اصطفاؤهم وانتخابهم لمنصب الإمامة سابق على كونهم في مقام العبودية أو في مقام التعبُّد والتقرب إلى الله تبارك و تعالى، لذلك قدَّم الإمامة على على العبودية.

تعداد الأوصاف ذات المعنى الواحد:

نلاحظ في هذه الفقرة ذكر أوصاف متعددة بمعنى واحد فقد قال علیه السّلام: «أمير المؤمنين، ووصي رسول رب العالمين، وحجتك على خلقك، ووليَّك»، وكلها بمعنى واحد، فالوصي والولي والأمير والحجة بمعنى واحد، وهو خلافة النبي، فإن من كان خليفة للرسول الله بالنص فهو وليٌ وحجة ووصي وأمير، فهذه الأوصاف المتعددة تشير إلى معنى واحد ألا وهو خلافته عن النبي عليه بالنص، فلماذا ذكرها

ص: 167


1- مفاتیح الجنان، الزيارة الجامعة، ص622.

الإمام كلها مع أن المشار إليه بهذه العناوين واحد؟

والجواب أن هذه العناوين كما يقول الفقهاء في كلمة الفقير والمسكين، إذا اجتمعتا افترقنا وإذا افترقتا اجتمعتا. فإذا قيل فقير ومسكين في سياق واحد كما إذا قيل: أعط الفقير والمسكين، فالمقصود بكلمة المسكين يفترق ويختلف عن المقصود بكلمة الفقير، وإذا افترقتا في الذكر والسياق، اجتمعتا من حيث أصل المعنى.

وهذه العناوين المذكورة في الدعاء أيضاً إذا أُفرد كل واحد منها بالذكر دون الآخر فالمراد منها معنى واحد، وأما إذا اجتمعت في الذكر ووردت في سياق واحد فالمراد من كل عنوان يختلف عن العنوان الأخر.

ومن أجل توضيح ذلك نقول إن الإمام خليفة الرسول الله

بالنصَّ، ومن كان خليفة رسول الله بالنص فله حيثيات أربع:

1- أن له الولاية العامة:

إن خليفة رسول الله له بالنصَّ هو ولي أمر المسلمين أي له الولاية العامة على الأنفس والأموال والأعراض، فله حق التصرف في هذه الأمور في رتبة سابقة على حق تصرف الإنسان في نفسه، بمعنى أن الإنسان ليس له حق التصرف في نفسه، وليس له الولاية على نفسه إذا أعمل الإمام ولايته. فالإمام المعصوم أولى بالتصرف في نفسه وأمواله وسائر شئونه، «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).

أي أن ولايتك على نفسك وشئونك في طول ولاية النبي وأهل بيته، فولايتهم أسبق رتبة من ولايتك على نفسك

ص: 168


1- سورة الأحزاب، الآية 6.

وعلى شئونك وعلى سائر توابعك «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1)، وكذلك من جعله النبي ولياً على حد ولايته.

إذاً إذا نظرنا للولاية العامة فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في سائر شئونهم وفي سائر أمورهم، وهذا ما يعبر عنه بالإمرة، «أمير المؤمنين».

2- انکشاف عالم الملكوت له:

الحيثية الثانية أن الإمام من ينكشف له عالم الملكوت، أي عالم

حقائق الأشياء، «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»(2)، نريه ما في عالم البرزخ وما في عالم الملائكة وما في عالم الجبروت والملكوت والملك من الإنس والجن.

ولذلك يرى وهو في الدنيا عالم الجنة وعال النار وجميع حقائق الأشياء وواقعها، ونتيجة اتصال روح الإمام بعالم الملكوت ثبوت الولاية التكوينية له.

فإذا ثبت له الولاية التكوينية في التصرف في سائر الأشياء، ومن هذه الأشياء نفوس المؤمنين، فهو قادر على التصرف في نفوس المؤمنين بأن يزرع فيها نور الهداية، وأن يقرَّبها إلى الله تبارك وتعالى بفيض روحي ورشحات ملكوتية.

ولذلك فمن آثار الإمام المنتظر (عج) - مع أنه غائب عنا، غيبة عنوانية لا غيبة شخصية - كما ورد في الحديث عنه نفسه علیه السّلام: «وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس، إذا غیَّبتها عن

ص: 169


1- سورة الأحزاب، الآية 6.
2- سورة الأنعام، الآية 75.

الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء»(1).

فإن الإمام وهو غائب يتصرف في نفوس بعض المؤمنين بهدايتها

وإفاضة الرحمة عليها فإذا كان الشيطان يتصرف في نفوس الناس بالوسواس، وبث روح المعصية «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»(2)، فكيف لا يكون الإمام قادراً على التصرف في نفوس الناس بإشعال نور الرحمة والهداية في نفوسهم.

إذاً بالإضافة لاتصاله علیه السّلام الغيبي بعالم الملكوت وثبوت الولاية التكوينية له يعبَّر عنه بالولي «ولیَّك».

3- وصايته على الخلق:

من قبل الرسول: والمقصود بها أن المسيرة التي بدأها النبي في عالم التشريع وسن القوانين وفي عالم إنشاء الدولة الاسلامية بتمام مرافقها وفي عالم تربية النخبة الصالحة من الأمة الإسلامية حيث لم يمهله القدر لإكمالها بلحاظ قصر عمر الرسالة وهو خمسة وعشرون سنة لذلك جعل النبي وصياً من قبله لإكمال هذه المسيرة، ولذلك نزلت هذه الآية الشريفة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(3) بعد تنصيب علي علیه السّلام للإشارة إلى أن إكمال الدین بوصايته وإمامته.

ولعل التعبير بالوصي للإشارة إلى أن الخلق قاصرون عن تشخیص من يطبَّق الأحكام الشرعية في مواضعها بلا زيادة ولا

ص: 170


1- البحار، ج52، ص92، باب 20.
2- سورة الناس.
3- سورة المائدة، الآية 3.

نقصان، ومن يعلم علم التشريع علماً لدنياً لا بالاكتساب، ومن هو متَّصلٌ بالواقع الشرعي دون غيره.

فلأجل قصور الخلق عن تحديد من هو الإمام الواقعي جاء التعبير بالوصية للإشارة إلى قصور الخلق عن التحديد.

4- کاشفيته القطعية عن الواقع:

إن الإمام معصوم عصمة علمية، وعصمة تبليغية وعصمة عملية أما كونه معصوماً عصمة علمية فإنه لا يستوعب خطأ ولا يتصور خطأ ولا تعرض على ذهنه صورة عن نسيان أوعن جهل أو عن ارتباك.

فالإمام لا يقع في ذهنه إلا صورة الواقع وصورة الصواب فهو معصوم عصمة علمية، ولأجل ذلك فهو لا يبلغ شيئاً عن الله جلَّ وعلا إلا كان مطابقاً للواقع، «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(1)، فهو معصوم عصمة تبليغية.

وأما عصمته العملية، فإنه لا يعمل إلا ما هو مطابق للواقع فإذا قال قولاً أو عمل عملاً كان قوله حجة على الإنسان، لأن قوله وعمله کاشف عن الواقع، فإذا انكشف الواقع وجب على الإنسان عقلاً اتباع الواقع، وللإشارة إلى حيثية كاشفيته عن الواقع عبَّر عنه ب- «الحجة».

إذاً لكل من هذه العنوانين والتعبيرات مدلول يختلف عن مدلول التعبير الأخر.

ص: 171


1- سورة النجم، الأية 3-4.

أوصافه علیه السّلام في الروايات الشريفة:

وقد وردت هذه الأوصاف نفسها للإمام علي علیه السّلام في الروايات

الشريفة.

1- أمير المؤمنين:

أما بالنسبة إلى لفظ الأمير فقد ورد في بحار الأنوار عن الإمام الرضا عليه السّلام عن آبائه علیهم السّلام قال: «قال رسول الله: يا علي إنك: سید المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ويعسوب الدين»(1)، ورواه أيضاً ابن قتيبه الدينوري في كتاب المعارف، والقندوزي الحنفي في كتاب ينابيع المودة(2).

واليعسوب يُطلق على أمير النحل، فتوصیف عليَّ بأنه يعسوب

الدين تعبير آخر عن توصيفه بأمير المؤمنين.

وروى أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء عن ابن عبَّاس أن الرسول كان يقول: «ما أنزل الله آية وفيها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»، إلا وعلي رأسها وأميرها»(3)، يعني أنه أمير المؤمنين.

2- الوصي:

وقد ورد في النصوص عن النبي لما نزل قوله تعالى: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(4)، جمع رسول الله عشيرته، وقال: «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما

ص: 172


1- بحار الأنوار، ج 40، ص24.
2- ينابيع المودة، ج1، ص242.
3- بحار الأنوار، ج35، ص350، باب13.
4- سورة الشعراء، الآية 214.

جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، قال الإمام عليٌ علیه السّلام: فأحجم القوم عنها جميعاً، وأني لأحدثهم سناً، فقلت: أنا يا نبي الله أكون وزیرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(1).

وقد ورد لفظ الوصي في هذا الحديث المسمى بحديث الدار المروي بعدة طرق، كالشافعي في السيرة الحلبية وأبو الفداء في تاريخه والمعتزلي في شرح النهج وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم ممن روی هذا الحديث.

3- أخو رسول الله:

هذا الإمام علي علیه السّلام يقول: «آخی رسول الله بين أصحابه وتركني، فقلت: يا رسول الله آخيت بين أصحابك وتركتني فرداً لا أخ لي، فقال: إنما اخترتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإن حاجَّك أحد فقل: إني عبد الله وأخو رسول الله»(2)، وإنما ترك مؤاخاة الأنصار، وآخى علياً علیه السّلام ليدلل لهم على أن المؤاخاة كناية عن مساواة عليَّ السّلام للنبي في جميع الفضائل إلا النبوة، ولولا النبوة لكان عليّ مساوياً لرسول الله في جميع الفضائل والمناقب.

ولهذا عبَّر القرآن عن علي أنه نفسه، قال تعالى: «فَمَن

ص: 173


1- بحار الأنوار، ج18، ص192، باب1، وكنز العمال، ج13، ص133، وتاریخ الطبري، ج2.
2- نهج الحق، ص217، حديث المؤاخاة، وبحار الانوار، ج38، وکنز العمال، ج13، ص140.

«حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1)، فلما صار وقت المباهلة دعى علياً وفاطمة والحسن والحسين، «أبناءنا» الحسن والحسين، «نساءنا» فاطمة الزهراء، «أنفسنا» علىٌ علیه السّلام.

فهذه الآية تدل على أن علياً نفس رسول الله، بمعنى أنه يساويه في الفضائل والمناقب التي ثبتت له إلا النبوة باعتبار أن النبي انكشف له عالم الوحي بالمباشرة وانكشف لعلي بواسطة انکشافه للنبي، وبما أن النبي انكشف له عالم الوحي بالمباشرة لا بالواسطة، وانکشاف هذا العالم بالمباشرة فضيلة لا تساويها فضيلة لذلك كان النبي أفضل من الإمام عليّ علیه السّلام.

ولولا هذا لكان مساوياً له في سائر الفضائل والمناقب ومنها أن النبي أفضل من سائر الأنبياء والرسل، بل وأفضل من سائر الخلق فكذلك علىّ أفضل من الأنبياء والرسل وأفضل من سائر الخلق لأنه نفس رسول الله.

4- الوليّ:

يذكر الرازي في تفسيره(2) عن أبي ذر لما دخل السائل المسجد يسأل الحاجة، ولم يكن عند الرسول ما يعطيه، مدَّ عليٌ يده و كان فيها خاتم له وهو راكع، فأخذه السائل واشتری به طعاماً له، فلما سمع الرسول وهو في المحراب، قال: «إن أخي موسي سألك، قال: ربَّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني

ص: 174


1- سورة آل عمران، آية 61.
2- التفسير الكبير، وشواهد التنزیل، ج1، ص230.

يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري، فأنزلت عليه «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا»(1).

وأنا أدعوك؛ ربَّ اشرح لي صدري ويسَّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به أزري وأشركه في أمري، فما أتم كلامه حتى نزل علیه جبرائیل بهذه الآية «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(2).

وقد دلت الآية المباركة على أن ولاية علي علیه السّلام في عرض ولاية النبي زماناً وإطلاقاً لولا حكومة قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(3)، فإن لفظ المؤمنين شامل للإمام علي، والملخص أن علياً وليٌ على الناس منذ زمان النبي بل منذ ولادته على جميع الخلق ما عدا رسول الله، بمقتضی دلالة هذه الآية المباركة التي تدل على مقام الولاية لله وللرسول ولهؤلاء في وقت واحد وفي زمان واحد.

ويعترض المعترضون بأنه كيف تصدَّق علي علیه السّلام وهو في صلاته! أفمن كان خاشعاً لربه كيف يلتفت للأمور الدنيوية ويمارس القضايا الاجتماعية مع أنه مشغول بلقاء الله

والجواب عن ذلك كما نقله ابن الجوزي عن بعض الشعراء:

يسقي ويشرب لا تلهيه سکرته *** عن النديم ولا يصحو من الكاس

ص: 175


1- سورة القصص، الآية 35.
2- سورة المائدة، الآية 55.
3- سورة الأحزاب، الآية 6.

أطاعه سكره حتى تمكن من*** فعل الصحاة فهذا أعظم الناس

إن علياً لم ينشغل عن عبادة بأمر دنيوي، وإنما جمع بين عبادتين

فالزكاة عبادة كما أن الصلاة عبادة، في وقت واحد، وجمع بين خشوعين في وقت واحد، وجمع بين قربتين في وقت واحد، وهذا دليل تعلُّقه بالله، لا دليل انشغاله عن الله عزَّ وجلَّ.

5- النبأ العظيم:

ومما ورد من الأوصاف في حقه علیه السّلام أنه «النبأ العظيم»، فقد ذكر الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود في قوله تعالى:

«عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ»(1)، قال: «النبأ العظيم، إمامة علي بن أبي طالب» علیه السّلام، وإنما سماها الله نبأ عظيماً لأنه كان ثقيلاً على نفوسهم، كانوا يبغضونه منذ زمان رسول الله، حيث «أودع قلوبهم أحقاداً بدريةً وخيبريةً وحنينيةً وغيرهن، فأضبَّت على عداوته وأكبَّت على منابذته»(2).

وكما قالت سیدتنا وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهالسلام في خطبتها: «كلّما فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفيء حتى يطأ خماصها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله، لا تأخذه الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاکهون، تتربصون بنا الدوائر، وتنكصون عند النزال، وتفرُّون عند القتال»(3).

ص: 176


1- سورة النبأ، الأية 1 - 3.
2- مفاتیح الجنان، دعاء الندبة، ص609.
3- بحار الأنوار، ج29، ص223.

إذاً النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون هي ولايته وإمامته علیه السّلام التي يُسأل عنها الإنسان، كما ورد عن ابن عباس وروى أيضاً صاحب كتاب ينابيع المودة عن رسول الله: «يا علي إن أول ما يُسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنك ولي المؤمنين بما جعله الله وجعلته، فمن أقر بذلك وكان معتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له»(1).

فمن قال بإمامته لم يتركه عليَّ وهو في قبره في ذلك الهول العظيم

و ذلك الموقف الرهيب.

يا حارَ همدانَ من يمت یرني *** مِن مؤمنٍ أو منافقٍ قُبلا

يعرفني طرفه وأعرفه *** باسمه وبالكُنى وما فعلا

وأنت يا حارُ إن تمت ترني *** فلا تخف عثرة ولا زللا

أسقيك من باردٍ على ظمأٍ *** تخاله في الحلاوة العسلا

أقول للنار حين تُعرض في ال- *** حشرِ ذَريهِ لا تقربي الرجلا

ذَريهِ لا تقربيه إن له *** حبلاً بحبل الوصي متصلا(2)

اللهم ثبتَّنا على ولاية أمير المؤمنين علیه السّلام وأرزقنا شفاعته

واحشرنا في زمرته.

ص: 177


1- ينابيع المودة، باب 37، ص111.
2- مناقب آل أبي طالب، ج3، ص34، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج1، ص 299.

ص: 178

دعاء المعصوم ومبرراته

«الحمد لله على حلمه بعد علمه وعلى عفوه بعد قدرته وعلى

طول أناته في غضبه».

من هذه الفقرات ننتقل إلى بحث تكلَّم فيه العلماء كثيراً ألا وهو

تبریر دعاء المعصوم علیه السّلام .

في فلسفة استغفار المعصوم لنفسه:

إذا كان الداعي معصوماً لا يرتكب الخطأ، ولا يفعل الرذيلة، فما هو الوجه في أنه يستغفر ويطلب العفو، بل يبكي ويتألم، ويغشی عليه من كثرة تضرُّعِه وتوسُّلِه لربَّهِ عَزَّ وجلَّ، فمع الالتفات إلى عصمته وأنه لا يرتكب الرذيلة ولا المعصية؛ فما هو الوجه المبرَّر لهذا البكاء والخشوع والاستغفار والاستعفاء؟

هنا أذكر وجوهاً ثلاثة:

مقام التعليم:

ذكر كثير من العلماء أن الوجه في دعاء المعصوم هو التعليم، أي أن الإمام كما أنه في مجلسه يكون في مقام تعليم الأحكام الشرعية من الحلال والحرام والواجب والمستحب وما شاكل ذلك من

ص: 179

تفاصيل الأحكام الشرعية؛ كذلك إذا كان في محرابه.

فهو في دعائه في مقام التعليم أيضاً، يُعلّمُ العباد كيفية التعامل مع الله، وكيفية مناجاة الله، وكيفية الابتهال إلى الله تبارك وتعالى، فهو في محرابه كما هو في مجلسه في مقام تعليم لغة التعامل والتخاطب، لغة المناجاة، لغة التقرُّب، لغة الدعاء مع الله عزّ وجلّ، فهو في مقام التعليم وليس في مقام الدعاء لنفسه.

إن هذا الوجه غير منسجم مع واقع الدعاء الصادر عن الأئمة، فالإمام علي كما ورد عنه - يكاد يغشى عليه من فرط البكاء وكثرة التضرُّع، و الإمام الحسين علیه السّلام لما دعا دعاء يوم عرفة أشفق عليه من حوله من شدة بكائه وشدة حزنه.

فهل يمكن أن نتَصوَّر من شخص في مقام التعليم أن يكثر منه البكاء، بحيث يُخشى عليه من الهلاك! إذاً فمقام التعليم لا ينسجم مع كثرة البكاء إلى درجة يُخاف عليه من الموت.

الذنب العرفاني:

والمقصود بذلك إن الذنوب على أربعة أقسام:

أ- الذنب الشرعي

ب- الذنب الخُلُقي.

ج - الذنب العقلي.

د- الذنب العرفاني.

وكل ذنب من هذه الذنوب ينسجم معه نوع من المغفرة والعفو.

أ- الذنب الشرعي: وهو عبارة عن مخالفة الأمر أو مخالفة النهي

ص: 180

الإلزاميَّين الواردين عن الشارع المقدس وهذا مصداقٌ من مصادیق المعصية الحقيقية، فلا يمكن صدوره من المعصوم.

ب- الذنب العقلي: وهو عبارة عن مخالفة الوظيفة العقلية في موارد الشبهات الحكمية، فإذا شكَّ الإنسان في أمر هل هو حلال أم

حرام، ولم يفحص عن دليل على حرمته أو حليَّته، فاقتحامه في هذه

الشبهة الحكمية يُعتبر مخالفةً للوظيفة العقلية.

كما لو شكَّ الإنسان في أنَّ حلق اللحية حرام أم حلال، ولم يفحص عن دليل على الحرمة أو على الحليَّة، فحَلَقَ لحيته من دون أن يكون لديه حجَّة على الحرمة أو الحليَّة، فهذا الاقتحام لا يُعَدُّ معصية شرعية، أي لا يُعَدُّ ذنباً شرعياً بل يُعدُّ ذنباً عقلياً فإن كان واقعاً حراماً فما صدر منه معصية وإن كان حلالاً فقد تحقق منه التجري والتمرد على مقام المولوية الحقيقة الحقة.

ج- الذنب الخُلُقِي: وهو عبارة عن مخالفة مقتضى كمال الأدب مع الله عزَّ وجلَّ - كما ورد في قضية آدم - حيث أن آدم عندما نُهي عن الأكل من الشجرة،«وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ»(1)، لم يكن النهي نهياً شرعياً إلزامياً، وإنما كان النهي نهياً إرشادياً.

فبمقتضى كمال الأدب مع الباري عزَّ وجلَّ أن لا يخالف النبي النهي، ولو كان نهاياً إرشادياً لا نهياً تحريمياً.

ولكنه خالف، فهو لم يرتكب ذنباً شرعياً، ولم يرتكب ذنباً عقلياً ولكنه ارتكب ذنباً خُلُقِياً أدبياً، لذلك اعتُبر هذا العمل بالنسبة لآدم معصية كبيرة، فعبَّر عنها القرآن الكريم بلفظة «المعصية»، «وَعَصَى

ص: 181


1- سورة البقرة، الآية 35.

آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى»(1).

د. الذنب العِرفَاني: والمقصود بالذنب العرفاني هو انشغال المحبَّ عن محبوبه ببعض ما لا علاقة له بمحبوبه. هكذا يقول بعض الأعلام من كبار علمائنا في بعض كلماتهم، وقد تعرَّض إلى هذا المعنى السيد الطباطبائي في الميزان في بعض الآيات، والطبرسي في مجمع البيان في بعض الموارد.

يقولون بأن علاقة الإمام علیه السّلام مع ربه علاقة فناء المحِبَّ في المحبوب، وذوبان العاشق في المعشوق، بحيث يكون الإمام علیه السّلام في ذكره وشكره وجميع شؤونه منصرفاً إلى الله عزَّ وجلَّ، ومتعلقاً بالله عزَّ وجلَّ.

وبما أن علاقة المعصوم بالله علاقة المحِبَّ بالمحبوب، وعلاقة فناء العاشق في المعشوق، فبمجرد أن ينشغل عن محبوبه ولو لِلَحظةٍ عابرة بأكل أو شرب أو بعمل مباح من المباحات أو بسفر أو بتنظيف أو بما أشبه ذلك، فإن ذلك يعد ذنباً بالنسبة لمقام الإمام أو النبي

وكما يُقال: «حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقربين»، وبما أن مقام المقرَّبين أعظم من مقام الأبرار، فكلما يُعَدُّ حسنةً عند الأبرار فهو سيئة عند المقربين فإن اختلاف المقام، من الله عزَّ وجلَّ موجبٌ التفاوت العناوين، فما يُعَدُّ حسناً في حق مقامٍ قد يُعَدُّ سيئاً في حق مقامٍ آخر.

إذاً الإمام يَعتبر هذا الانشغال لحظةً أو طرفةً في مباح من المباحات ذنباً وتقصيراً منه علیه السّلام ، فيبتهل ويتضرع ويبكي ويتوسل في سبيل أن لا يخدش هذا الانشغال عن المحبوب في مقامه الروحي

ص: 182


1- سورة طه، الأية 121.

ودرجات سموَّه وعلوَّه وقربه من خالقه تبارك وتعالى.

وهذا الوجه غير تام، لأن من خلقهم الله أنواراً، وجعلهم بعرشه محدقين قبل أن يخلق الخلائق، مسبحين ومهلّلين، فهل يُعقل في حقّهم الانشغال عن محبوبهم لحظة أو طرفة عينٍ، وهل يمكن تصور ذلك في مَن كان يقول: «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه»(1)، كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام.

فهل يُتَصوَّر مِمَّن لا يرى إلا الله أمامه أن ينشغل عنه لحظة أو ثانية، وهل من كان يقول في دعائه لربه: «متي غِبتَ حتى تحتاجَ إلى دليلِ يدلُّ عليك! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك »(2)، يحتمل في حقه أن ينشغل عن محبوبه، وعن مَن لم يغب عنه طرفة عين أبداً!

إذاً الأئمة في إطار علاقتهم مع الله لا يمارسون مباحاً من المباحات إلا طلباً لرضى الله عزّ وجلَّ، كما لا يمارسون واجباً ولا مستحباً إلا ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فكل أعمالهم في إطار التعلُّق بالله، وفي طلب وجه الله، فكيف تشغلهم مباحات عن الارتباط بالله له عزَّ وجلَّ!

النظر للوجود الجمعي:

والوجه الصحيح أن نقول في دعاء المعصوم لربه أنه ناظر للوجود الجمعي لا الوجود الشخصي، ومعنى هذا الكلام يتوقف على ذكر ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: في الربط الشَّرطي بين وجودهم ووجود الكون.

ص: 183


1- شرح أصول الكافي، ج3، ص83، واللمعة البيضاء، ص169.
2- الإقبال، ص349.

ذكرنا في بعض البحوث الماضية أن علاقة وجود الإمام بوجود الكون هي علاقة وجود الشرط بالمشروط، بمعنى أن المفيض هذا الكون هو الله تبارك وتعالى، ولكن إفاضته للكون ربطها بالوجود النوري محمد وآل محمد، وهو ما يُسمى ب-«الحقيقة المحمَّدية»، وما يسمى ب- «العرش»، «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ»(1).

فالوجود النوري لأهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، شرط في وجود الكون لا لحاجة من الله في ذلك، فهو قادر على إفاضة الكون من دون شرط ومن دون واسطة، ولكن تشريفاً لهم وتعظيماً لمقامهم، جعل وجودهم شرطاً في وجود الكون.

كما جعل الزواج شرطاً في وجود النسل والإنجاب مع أنه قادر على خلق البشر من دون واسطة الزواج، وكما جعل الدواء شرطاً في الشفاء مع أنه قادر على إشفاء المريض من دون واسطة.

فإن الله سبحانه وتعالى جعل وجود أهل البيت شرطاً في وجود الكون، أي شرطاً متمماً لقابلية القابل لا مصحَّحاً لفاعلية الفاعل، «بکم فتح الله، وبكم يختم، وبکم ینزّلُ الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه»(2) هذه هي المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: إحاطتهم بنفوس الخلائق:

نتيجة الربط الشرطي والتكويني بين وجودهم وبين وجود الأنفس، فهم محيطون إحاطة كلية بتمام أنفس الخلائق عموماً والمؤمنين خصوصاً.

فلولا وجودهم ما وُجِدَت أنفس الخلائق، وما وُجدت أنفس

ص: 184


1- سورة الفرقان، الآية 59.
2- مفاتیح الجنان، الزيارة الجامعة.

المؤمنين، «ذکر کم في الذاکرین، و أسماؤكم في الأسماء، وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس، وآثاركم في الآثار، وقبوركم في القبور»(1)، فهذه الفقرات إشارة إلى الربط الشرطي التكويني والإحاطة الكلية من قبل نفوسهم القدسية بتمام أنفس الخلائق وأنفس المؤمنين.

المقدمة الثالثة: شعورهم بآلام وذنوب المؤمنين:

نتيجة الارتباط التكويني، ونتيجة لهذه العلاقة، علاقة الإحاطة الكلِية من أنفسهم بأنفس المؤمنين، لذلك عندما يتكلّم الإمام، يتحدّث بلسان أنفس المؤمنين.

يتكلم لأن نفسه محيطة بالأنفس فيشعر بما يشعر به المؤمنون،

ويتألم بما يتألم به المؤمنون، بل بحكم عطفه ويمقتضی حنانه ورأفته على أمته يشعر بألم الذنب، ذنبِ المؤمن، أكثر مما يشعر به المؤمن.

فالإمام علیه السّلام يتألم لذنبك أكثر مما تتألم أنت لذنبك، والإمام يتحسَّر لمعصيتك أكثر مما تتحسر أنت لمعصيتك، ونتيجة لإحاطته الكلية بأنفس الخلائق يشعر بشعورك وأكثر، ويتألم بتألمُّك وأكثر، ويستغفر لاستغفارك وأكثر، وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(2).

فإن قوله تعالى: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ»، إشارة إلى الوجود الجمعي، والربط الشرطي، ولأنه من أنفسكم، «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»، يَرُقُّ لكم أكثر من رِقتِكم

ص: 185


1- مفاتیح الجنان، الزيارة الجامعة.
2- سورة التوبة، الآية 128.

لأنفسكم، ويستغفر لكم ويتضرع لكم إلى الله تعالى، أكثر مما تتضرعون إليه لانفسكم،

«بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».

إذاً فبالنظر للوجود الجمعي، نرى الإمام يبكي ويَرُقُّ ويتألم ويتضرع ويتوسل، لا بلحاظ الوجود الشخصي، وإنما بلحاظ الوجود الجمعي والإحاطة الكلية بأنفس المؤمنين من قِبَلِهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

هذا الوجه وإن لم يُذكر في كلمات الأعلام، لكنه أصح الوجوه وخير المحامل التي يمكن حمل الأدعية الواردة من قبل الأئمة عليها.

ونحن هذه الأيام في ظلال مناسبة شهادة أمير المؤمنين علیه السّلام نتذكر سيرته العطرة، فعليٌّ الذي كان يقف يوم صفين والسهام تنفذ إلى بدنه فلا يشعر بها من شدَّة ارتباطه بالله تعالى، وشدَّة تعلُّقه بالله تبارك وتعالى وعليٌ علیه السّلام هو الذي وجده کمیل بن زیاد مغشيَّا عليه، فحرکه فإذا هو كالخشبة اليابسة. وعلىٌ علیه السّلام بدعائه، وبمحرابه، وبمناجاته، وبقدسيَّته، لم يكن له مثيل بعد النبي.

في اقتداء الإمام السجاد بأمير المؤمنين في عباداته:

وهذا الإمام زین العابدین علیه السّلام يتأسى بعبادته، ويقول لابنه الإمام محمد الباقر علیه السّلام: ناولني صحيفة أعمال جدَّي أمير المؤمنين، فإذا أراه الصحيفة وقرأها بکی وقال: «من يقدِر على عبادتك يا أمير المؤمنين»(1)، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه.

وإلا فإنسان يأكل الخبز اليابس، يرشُّ عليه الملح والخل، كيف

ص: 186


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 75.

يمكنه أن يقوم بالحكم بين الناس، ويصلي في اليوم والليلة مئات الركعات ويُقاتل الأعداء، يجاهد الناكثين والقاسطين والمارقين.

إن الجمع بين هذه الأمور إعجاز، لا يتأتى لغير هذه الروح القُدسية، ولذلك هو علیه السّلام ينص على هذا الإعجاز بقوله «ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنیاه بطمريه، ومن طعامه بقرصية، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونا بورع واجتهادٍ وعفةٍ وسدادٍ»(1).

يقول: «لاتقدرون على ذلك»، لأن الأمر إعجاز. إن أمير المؤمنين علیه السّلام يحبُّنا، ويرقُّ علينا، وكيف لا يرُقُّ علينا وهو الواسطة بيننا وبين ربنا سبحانه وتعالى.

إن حب علي جُنَّةٌ من النار، فهو الحصانة التي تمنع هب النيران من أن تصل إلى أجسامنا، وحبُّ علي هو المنقذ وهو المنجي والملجأ، كما ورد عن الرسول «يا علي، أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة»(2)، وتقرأ في دعاء الندبة: «وشيعتك على منابر من نور مبيضَّة وجوههم حولي في الجنة، وهم جيراني، ولولا أنت يا عليُّ لم يُعرف المؤمنون بعدي»(3).

ص: 187


1- نهج البلاغة، ص416، کتاب رقم 45، إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
2- بحار الأنوار، ج 31، ص 336.
3- الإقبال، ص296.

ص: 188

رؤية الحق في الشخصية العلوية

«الحمد لله خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الإصباح، ذي الجلال والإكرام والفضل والإنعام

(والإحسان)، الذي بَعُدَ فلا يُرى وقَرُبَ فشَهِدَ النَّجوی، تبارك وتعالى».

في الربط بين الخلق والرزق:

الفقرة الأولى: «الحمد الله خالق الخلق باسط الرزق».

وهنا أمور لا بد من الالتفات إليها:

الأمر الأول: الوجه في تعقيب الخلق بالرزق

نلاحظ أن الإمام ذكر الخلق أولاً ثم ذكر الرزق «خالق

الخلق، باسط الرزق»، فما هو الوجه في تعقيب الخلق بالرزق؟

إن تعقیب الخلق بالرزق للإشارة إلى ما جعله الله تعالى على نفسه من حق كل مخلوق في الرزق، فقد ورد في الذكر الحكيم أن لكل مخلوق حقاً في الرزق، كما في قوله تعالى: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا»(1)، فالتعبير بلفظة «على» إشارة إلى الحق، يعني

ص: 189


1- سورة هود، الآية 6.

لا توجد دابة إلا ولها حق في أن تُرزق.

وكذلك في آيات أخرى كما في قوله تعالى: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ»(1) يعني حقٌ لكم.

ولا مانع من أن يقال إن الله تبارك وتعالى متفضلٌ على عبده

بالخلق والرزق بالعنوان الأولي، ولكن بالعنوان الثانوي حيث إنه تعالى جعل للعبد حقاً على نفسه في الرزق، فكان رزق العبد حقاً له على الله عزَّ وجلَّ، فيقبحِ منه تعالى أن لا يفي بما جعله حقاً على نفسه، كما في قوله تعالى: ««وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»(2)، فإنه ما دام قد جعل للمؤمنين حق النصر، فلا بُدَّ أن يفيَ بوعده، لأن خُلف وعده قبيح. إذاً للمخلوق حق في الرزق، ولذلك الفقرة الشريفة عقَّبت ذکر الخلق بذكر الرزق.

في معنى بسط الرزق:

وقد يُقال هنا: إن هذا مناقض لما ورد في القرآن الكريم، فقد ورد

في قوله تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ»(3)، وهذه الفقرة من الإمام علیه السّلام في الدعاء الشريف تقول: «باسط الرزق»، فكيف نوفّق بين الآية المباركة، وما ورد في الفقرة الشريفة؟

والجواب أن البسط في الدعاء هنا لا يُراد به ما أُريد به في الآية المباركة، فإن المراد بالبسط في الآية المباركة هو إعطاء جميع الخلق رزقهم على نحو التساوي من دون أن يحتاج أحد إلى الآخر، ومن دون

ص: 190


1- سورة الذاريات، الأية 22 - 23.
2- سورة الروم، الآية 27.
3- سورة الشورى، الآية 27.

أن يستند أحد إلى أحد، ولو أن الله تبارك وتعالى قسَّم الرزق على جميع العباد بالتساوي فاستغنى كل واحد عن الآخر واستقل كل واحد عن الآخر لحصل البغي والفساد نتيجة الاستغناء، «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، ًأَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»سورة العلق، الآية 6 - 7..

لكن الله سبحانه وتعالى وزَّع الرزق بنحو متفاوت، «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(1)، وهذه هي نظرية الاستخدام في علم الاجتماع أي استخدام كل طرف للآخر من أجل تحصيل الرزق، فالبسط المنفي في الآية هو التوزيع على نحو الاستغناء والاستقلال والتساوي.

أما المقصود بالبسط في الدعاء الشريف «باسط الرزق»، فيمكن أن يُتَصَوَّر له معنيان:

1- أن المراد بالبسط هو عدم العِوَض، وعدم المقابل، كما في قوله تبارك وتعالى:«وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(2)، فقوله تعالى: «بِغَيْرِ حِسَابٍ»، أي بغير عِوَض، وليس المقصود أن الرزق بدون حدود، وإلا فهو تبارك وتعالى يقول: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ»(3)، ويقول سبحانه: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(4)، و یقول: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(5).

ص: 191


1- سورة الزخرف، الآية 32.
2- سورة آل عمران، الآية 27.
3- سورة الرعد، الآية 8.
4- سورة القمر ، الآية 49.
5- سورة الحجر، الآية 21.

فلا يوجد شيء ليس له حدَّ وليس له تقدير، بل المراد هو أن الرزق بدون عوض، وبدون مقابل كما قال تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، «مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»(1)، فرزقه ليس من أجل مقابل بل يستحيل عقلاً أن يكون له مقابل.

لأنه لو رزقك مثلاً الثروة وأنت أردت أن تقابله بعوض، فعبدته عوضاً عن الثروة فإن نفس عبادتك رزق منه تبارك وتعالى، فكيف يكون ما هو منه عوضاً لما يصدر منه! لو أراد العبد أن يعوَّض عن رزقه بعبادة أو دعاء أو استغفار، فجميع ما يصدر من العبد هو رزق من الله عزَّ وجلّ، فكيف يكون رزقه عوضاً عن رزقه!

وبما أنه لا يوجد في ساحة الكون وجود إلا وهو رزق منه تبارك و تعالى، إذاً فليس لرزقه عوض وليس لرزقه مقابل، «وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(2)، يعني بدون مقابل، لذلك قال الإمام علیه السّلام في الدعاء: «باسط الرزق» يعني من دون عوض ومن دون مقابل.

2- أن المراد من بسط الرزق في الدعاء أن الله تبارك وتعالى جعل الثروات والمعادن الموجودة في الأرض لجميع الناس، كما ورد عن الرسول: «الناس شركاء في ثلاثٍ: الماء والنار والكلأ»(3)، ويقول الفقهاء: إن الماء والنار والكلا، ما هي إلا أمثلة.

وإلا فجميع معادن الأرض وجميع خيراتها من الأنفال التي هي للإمام، قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ

ص: 192


1- سورة الذاريات، الآية 56 - 58.
2- سورة آل عمران، الآية 27.
3- مستدرك الوسائل، ج17، ص114.

وَالرَّسُولِ»(1)، وقد أباح الأئمة هذه الأنفال للمؤمنين، فقد ورد عنهم: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به، ومن أحيا أرضاً مواتاً فهي له»(2).

إذن جميع ما في الأرض فهو للمسلمين، وجميع الثروات مباحة لجميع الناس بإذن الإمام علیه السّلام،«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(3)، فالمراد من بسط الرزق هو البسط التشريعي. المعنى الأول كان بسطاً تكوينياً بمعنى إعطاء الرزق بلا عوض.

والمعنى الثاني أن المراد بالبسط هوالبسط التشريعي يعني بحسب القانون السماوي ثروات الأرض للجميع، وطاقات الأرض ومعادن الأرض للجميع، «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(4).

الاقتصاد الإسلامي يُقرر أنه لو وُزّعت ثروات الأرض توزيعاً عادلاً، لما بقي فقير على وجه الأرض، ولاستحال أن يوجد الفقر، إذن لو كان توزیع ثروات الأرض على جميع من عليها سليماً لما بقيت ظاهرة الفقر، فوجود ظاهرة الفقر دليل إلنَّي(5) على الخلل في التوزيع.

لذلك نقرأ ما ورد عن أبي الحسن على علیه السّلام: «فما جاع فقير إلا بما مُتَّع به غني»(6)، يعني أن هذا الموجود عند الغني، هو في الواقع للفقير، باعتبار قانون التوزيع ونظراً للخلل في التوزيع صار الفقير جائعاً والغني متمتعاً، ولذلك نرى الآية المباركة، عندما تقول: «خُذ

ص: 193


1- سورة الأنفال، الآية 1.
2- مستدرك الوسائل، ج17، ص111، باب من أحيا أرضاً مواتاً فهي له.
3- سورة البقرة، الآية 29.
4- سورةالبقرة، الآية 29.
5- الدليل الإنّيَ هو دلالة المعلول على علته.
6- نهج البلاغة، ص533، قصار الحكم، الحكم رقم 328.

«مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»(1)، قد قدَّمت الطهارة على التزكية، لماذا؟

طبيعيٌ أن الصدقة تُزَكي النفس، وتربيتها على التضحية، والبذل والعطاء، وترفع عن النفس الشح والبخل، فهي تزكية للنفس. فما معنى التطهير؟

إن معنى التطهير أن أموالك شئت أم أبيتَ بعضها ليس لك، أنت تظن أنها لك، لكن بعضها ليس لك، وإنما وصلت لك نتيجة الخلل في توزيع الثروة، وإلا لو كان هناك توزيع سليمٌ للثروة، لما كانت هذه الأموال بيدك.

فأنت عندما تخرج هذا الزائد من الأموال وتسلّمه لصاحبه الواقعي، ألا وهو الفقير، فقد طهَّرت أموالك يعني أخرجت منها ما ليس لك وأبقيت فيها ما هو لك، «خُذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»، يعني تخرج الزائد والفضول إلى أصحابه، وهذه إشارة إلى بسط الرزق بسطاً شرعياً.

في الفرق بين الصفات الجلالية والجمالية:

الفقرة الثانية: «ذي الجلال والإكرام، والفضل والإنعام».

هذه الفقرة تشير إلى أن صفات الله تبارك وتعالى على قسمين:

1- صفات جلالية: وهي الصفات التي تنزّه الباري عن النقص،

مثل كونه ليس بجاهل، وليس بعاجز، وليس ببخیل.

2- صفات جمالية: ويُعبَّر عنها بالإكرام، وهي الصفات التي

ص: 194


1- سورة التوبة، الآية 103.

تصف مشارق الجمال، ومظاهر الكمال بالنسبة إليه تبارك وتعالى، كصفة العلم، والقدرة، والحياة.

وهذه الفقرة من الدعاء الشريف، «ذي الجلال والإكرام»، تُشير إلى كلا النوعين من صفاته جلَّ وعلا: الصفات الجلالية، والصفات الجمالية، ولقد جاءت هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة حيث قال، «الحمد لله خالق الخلق، باسط الرزق»، عقب ذلك علیه السّلام بقوله: «ذي

الجلال والإكرام».

لأنه قد يُتَوَهَّم أن بسطه للرزق تبارك وتعالى، لمغلوبية عليه، أي لكونه مقهوراً ومغلوباً غير مختار فيه ولأجل دفع هذا التوهُّم عقَّب علیه السّلام بوصفه جلَّ وعلا بأنه ذو الجلال، فكيف يُقهر أو يُغلب على بسط الرزق؟!

بل بَسَط الرزق تكرماً منه، وتفضلاً منه، وامتناناً منه، «ذي الجلال والإكرام»، ولذلك أيضاً عقَّبه بقوله علیه السّلام: «والفضل والإحسان»، يعني أن بسط الرزق لم يكن لقهر عليه، ولا لغلبة عليه، بل لفضل منه، وإنعام وإحسان وامتنان منه تبارك وتعالى.

في جامعيته تعالى لوصفي القرب والبعد معاً:

الفقرة الثالثة: «الذي بَعُدَ فلا يُرى، وقَرُبَ فشهِدَ النَّجوى».

ذكرنا في البحوث السابقة أن وجود الله تبارك وتعالى وجودٌ إطلاقيٌ، وجودٌ لا حدَّ له، وبما أنه وجود لا حدَّ له، فإنه يستحيل رؤيته، لأن الرؤية فرع المحدودية، إذ لا يمكن أن تنال شيئاً بحسك أو ببصرك إلا إذا كان محدوداً، وبما أنه وجود لا حدَّ له، فيستحيل رؤيته، «الذي بَعُدَ فلا یُری».

كما ذكرنا في البحوث السابقة أن اللامحدود محيط بالمحدود، وبما

ص: 195

أنه وجود لا محدود فهو محیط بسائر الموجودات الإمكانية المحدودة، فمقتضى إحاطته قربه منها، ومقتضی قربه منها أن يشهد مناجاتها ودعاءها، «وقَرُبَ فشهد النجوی».

فوجوده تبارك وتعالى جامع لوصفي البعد والقرب، «بعد فلا پری، وقرب فشهد النجوى»، ومعنى البعد هو البعد عن الحدّ، أي بَعُدَ عن أن يحُدَّه حدٌّ، أو أن يقيَّده قيد، لذلك لا يُرى.

فهو بعيد عن الحدَّ، وقريب من المحدود، بعيد عن الحد فلا يُرى، إذ ليس وجوده محدوداً بحد، وقريب من المحدود أي قريب من الموجود الإمكاني لأن الموجود الإمكاني محدود.

فهو سبحانه قريب منه قرب إحاطة، وقرب هيمنة، وقرب قیمومة، «وقرب فشهد

النجوی»، «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(1)، يعني قرب الإحاطة وقرب القيومية.

وإجابة الدعوة هي التي عبَّر عنها في الدعاء بقوله علیه السّلام: «فشهد النجوی»، فإن شهود النجوی مرتبة من مراتب إجابة الدعاء لأنه إفاضة لرحمة سابغة على الداعي وهذا ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(2)، لماذا قال اللطيف الخبير؟

لأن من لا تدركه الأبصار هو اللطيف، فإن اللطيف هو المستدقُّ في الرؤية بحيث لا يمكن رؤيته، ومن يدرك الأبصار هو الخبير تبارك وتعالى.

ص: 196


1- سورة البقرة، الآية 186.
2- سورة الأنعام، الآية 103.

في علاقة أمير المؤمنين بالله:

سئل أمير المؤمنين علیه السّلام: «هل رأيت ربك؟ فقال علیه السّلام: وكيف أعبد رباً لم أره، لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان»(1)، كما ورد في الآية المباركة، «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى»(2)، فإن قوله تعالى:«مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ»، يفيد أن الرؤية ليست بصرية، بل رؤيه قلبية.

ولقد رآه على علیه السّلام بقلبه، فقال: «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله، وبعده، وفوقه، وتحته، وفيه»(3)، ولقد عطر قلبَ علي وملا جوانح علي حبُّ الله تبارك وتعالى، ورؤية الله تبارك وتعالى، فمثّل الرؤية الإلهية، وتجسَّد الحبُّ الإلهي في جميع شئونه، وفي جميع حركاته وسكناته، فكان عليٌ الهياً في تمام نظراته وتصرفاته صلوات الله عليه.

فبالنسبة إلى زهده، يقول ابن عباس ليله دخلت عليه في ذي قار وهو يصلح نعله، فقال: يا ابن عباس، ما قيمة هذه النعل؟ قال: لا تساوي شيئاً، قال: «إنها أحب إلِيَّ من إمرتكم، إلا أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً»(4)، ما قيمة المنصب إذا لم يكن فيه مصلحة للناس! وما قيمة المنصب إذا لم يكن فيه إنصاف للناس! وكان علیه السّلام يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويقول: «لقد رقَّعت مدرعتي حتى استحيت من راقعها»(5).

وبالنسبة إلى بطولته وشجاعته، فلقد كان حب الله قد شغله عن

ص: 197


1- نهج البلاغة، ج 2، ص 99.
2- سورة النجم، الأية 11 - 18.
3- شرح أصول الكافي، ج3، ص83، واللمعة البيضاء، ص169.
4- نهج البلاغة، ص76، الخطبة رقم 33.
5- نهج البلاغة، ص227، خطبة رقم 160.

حب البقاء، وجعله يبذل طاقته وجهده ونفسه في سبيل الله عز وجل، «أَوَ تبيتُ على فراشي يا علي؟ قال: أَوَ تسلم يا رسول الله؟ قال: بلی، قال: الحمد لله الذي جعلَّ نفسي فداء لنفس رسول»، فسجد شکراً، وبات على فراش رسول الله.

فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل أني جعلت عمر أحدكم أطول من عمر الآخر، فأيكم يؤثر أخاه على نفسه فسكتا، فقال جلَّ وعلا: «انظرا إلى حبيبي علي بن أبي طالب، قد آثر رسول الله على نفسه، وبات في فراشه، انزلا واحفظاه، فنزلا عنده، وبات على فراش رسول الله»(1)، فنزل قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»(2).

وكان يزجُّ نفسه في الحرب بلا مبالاة، دفعاً عن رسول الله، «فإذا فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفيء حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه»(3)، يقول الشيخ الأزري في عليه السّلام يوم الخندق:

وإذا هُم بفارسٍ قَرَشيَّ *** ترجُف الأرضُ خِيفةً إذ يَطاها

قائلاً ما لها سواي كفيلٌ *** إنها ذِمَّةٌ عَلَيَّ وَفَاها

فانتضی مشرَفِیَّهُ فتلقی *** ساقَ عمر بضربةٍ فَبَراها

يا لها ضربةٌ حَوَت مكرماتٍ *** لم يَزِن ثِقلَ أجرِها ثَقلاها

هذه من علاه إحدى المعالي *** وعلى هذه فقس ما سواها(4)

ص: 198


1- بحار الأنوار، ج19، ص95.
2- سورة البقرة، الآية 207.
3- شرح نهج البلاغة، ج16، ص249.
4- الأزرية، ص54.

العزة منار العظمة

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَيسَ لَهُ مُنازعٌ يُعادِلُهُ، وَلا شَبيهٌ يُشاكِلُهُ، وَلا ظَهيرٌ يُعاضِدُهُ قَهَرَ بِعِزَّتِهِ الأعِزّاءَ، وَتَواضَعَ لِعَظَمَتِهِ العُظَماءُ، فَبَلَغَ بِقُدرَتِهِ ما يَشاءُ».

تتعرض كل فقرة من هذه الفقرات إلى صفة من صفاته تبارك

وتعالى.

الفقرة الأولى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَيسَ لَهُ مُنازعٌ يُعادِلُهُ».

ربما يُقال: ما هو الفرق بين هذه الفقرة والفقرات السابقة حيب قال في الفقرات السابقة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا مُضادَّ لَهُ في مُلکِهِ»، وهنا يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَيسَ لَهُ مُنازعٌ يُعادِلُهُ»، فأيُّ فرق بين العبارتين؟!

في الفرق بين المعادلة والمضادَّة:

الجواب: إن المنفي في هذه الفقرة هو وجود المعادلة بينما المنفي في الفقرة السابقة هو المضادَّة، فهناك قال: «ليس له مضادٌّ»، وهنا يقول: «ليس له منازعٌ يعادله»، وذكرنا أن النكتة في قوله علیه السّلام «لا مضادَّ»، هي أننا لو فرضنا وجود مضاد له سبحانه، فإن هذا المضاد لا

ص: 199

بدَّ أن يكون من ملكه، لأن جميع ما سواه سبحانه ملكٌ له، فإذا كان المضادُّ ملكاً له؛ فهل يُعقل أن يكون المملوك مضاداً لمالكه!

أما في قوله علیه السّلام: «ليس له منازع يعادله»، فالمنفي هو المعادلة، وهو ما بيَّنه الذكر الحكيم من نفي الآلهة المتعددين كما في قوله تعالى:

«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1)، أي لو فرضنا وجود آلهة متعددين كل إله يعادل الآخر في الوجود والقدرة والعلم وفي سائر الصفات.

فإن وجود آلهة متعددين يعني وجود ذوات مختلفة، واختلاف الذوات يوجب اختلاف الأفعال، وهذا حتى في التوائم فإنه يوجد بينها شيئٌ من الاختلاف، فإذا قلنا أن هناك آلهة متعددین؛ فهذا يعني وجود ذوات مختلفة، وبالتالي يترتب عليه اختلاف أفعالهم وتدبيراتهم.

ويلزم من اختلاف أفعالهم فساد الكون، لأن الكون ذو نظام واحد يتصل أوله بآخره، من أول ذرة إلى آخر ذرة منه، وأول جزء متصل بآخر جزء فكل الوجود محکوم بنظام واحد متصل بعضه ببعض، فلو فرضنا آلهة متعددين، أي ذوات مختلفة فهذا يعني فرض أفعال متعددة، واختلاف الأفعال موجب لاختلاف وفساد نظام الكون، وبما أن نظام الكون نظام صالح، فهذا دليل على عدم تعدد الالهة.

وهنا يطرح البعض سؤالاً:

ألا يمكن أن يوجد آلهة متَّفقون؟ لماذا لا يمكن القول بأن للكون آلهة عدة يجلسون على طاولة واحدة ويتَّفقون على إدارة الكون، فكلٌ يدبر جزءً منه، من دون أن يحصل اختلاف أو فساد في تدبير الكون وإدارته.

ص: 200


1- سورة الأنبياء، الآية 22.

ما المانع من ذلك؟

الجواب: لو فرضنا للكون آلهة متعددين كتبوا اتفاقاً أن لا يحصل بينهم اختلاف، وأن كل واحدٍ منهم يدير قسماً مرتبطاً به من الكون، فإنه إما أن يسري تدبير أحدهما لتدبير الآخر أو لا يسري.

فإذا قلنا بأن تدبير الأول يسرى لتدبير الثاني فهذا يقتضي الفساد، لأن اجتماع تدبير الأول والثاني على أمر واحد يلزم منه الفساد والاختلاف.

وإذا قلنا بأنه لا يسري، أي أن تدبير هذا يختص بالجزء الأيمن من الكون مثلاً، وتدبير الأخر يختص بالجانب الأيسر من الكون ولا يسري تدبير هذا التدبير ذاك، ولا الثاني بالأول أي أن كلاً منهما مستقلٌ عن الآخر، فلازم ذلك عدم تلاؤم التدبيرين وعدم اتصالهما، والمفروض أن المصلحة الوجودية تقتضي أن يكون الوجود على نظام واحد يتصل بعضه بالبعض الآخر، فلا يعقل إذاً تعدد الآلهة.

وهذا معنى «ليس له منازع عادله».

الفقرة الثانية: «ولا شبیه یشاکله».

ما هو الفرق بين هذه الفقرة وبين قوله علیه السّلام في الفقرات

السابقة: «ولا شبيه له في عظمته»؟

الفقرة الأولى تنفي الشبه في العظمة، أما الفقرة الثانية فإنها تنفي الشبه المطلق في كل شيئ، كما ورد في الذكر الحكيم: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(1)، أي لا يُعقل أن يكون له شبيه لأن له القدرة التامة التي لا يشوبها عجز، وله الحياة التامة التي لا يشوبها موت، وله العزة التامة

ص: 201


1- سورة الشورى، الآية 11.

التي لا يشوبها ذلة.

إذن هو ليس كمثله شيئ، لأن ما سواه من الأشياء مشوب بالموت والعجز والذلة والجهل والنقص.. وحيث أنه لا يشوبه شيئ من نقص أو جهل، والذي لا يشوبه نقص لا يمكن أن يكون أكثر من واحد، إذاً لا يوجد له شبيه فليس كمثله شيئ.

الفقرة الثالثة: «ولاظهيرٌ يعاضده».

أي لا يحتاج لأحد يعضده في إدارة الأشياء، وهو وجود الظهير.

فإن جعل الظهير ناشئ من عجز أو مغلوبية أو جهل، والله

سبحانه هو العالم والقاهر وله العزة والقوة جميعاً.

إطلاق عموم قدرته تعالى:

الفقرة الرابعة: «قهر بعزته الأعزاء وتواضع لعظمته العظماء».

قاهرية الخالق تختلف عن قاهرية المخلوق، فالنار مثلاً تحرق الجسم فتقهره أي أن قاهرية المخلوق للمخلوق الأخر هي في عالم التأثير والفعل، بينما قاهرية الله تعالى لمخلوقاته قاهرية ذاتية، وليس قاهرية في عالم التأثير والفعل.

بيان ذلك: إن النار تفعل الاحراق، فإذا قرَّبتَ منها جسماً تحصل المغالبة بين النار والجسم، لأنها تريد أن تؤثر الاحراق والجسم يريد التماسك ليحتفظ بقوته، وبما أن النار عنصر أقوى، فالغلبة والقهر في التأثير يكون لها على الجسم، فالغالبية بين المخلوقات في عالم التأثير والفعل.

بينما قاهرية الله لخلقه ليس لها ربط بعالم التأثير، فا لله أوجدني من أول الأمر وجوداً محدوداً، فأنا من أول الأمر مقهور له تبارك

ص: 202

وتعالى فهو قاهر لي في مرحلة سابقة على الفعل والتأثير لأنه أعطاني قدرة محددة وطاقة محددة وفعلا محدداً قبل أن تصل النوبة إلى عالم الفعل والتأثير. إذاً قاهرية الله المخلوقاته قاهرية الذات في أصل وجودها فضلاً عن عالم التأثير والفعل.

«قهر بعزته الاعزاء، وتواضع لعظمته العظماء، فبلغ بقدرته

ما يشاء».

وهذه الفقرة إشارة لأمرين متعلقين بالقدرة الإلهية وهما:

1- إطلاق القدرة.

2- عموم القدرة.

أولاً: اطلاق القدرة:

أي أنه سبحانه ليس لقدرته حد بخلاف المخلوق فإن قدرته محدودة فأنت مثلاً لو لم يكن عندك يدان لم تقدر على الأكل، ولو لم يكن عندك أسنان تقطع الطعام وبلعوم يبتلع؛ لم يكن لك مقدرة على الاكل، فقدرتك على الأكل محدودة بعدة شرائط.

أما قدرته سبحانه فلا حدَّ لها ولا شرط إذ لو كان لقدرته شرط لانعدمت بانعدام الشرط، وانعدام قدرته خُلف کونه تبارك وتعالى واجب الوجود وكون قدرته عين ذاته، ومن كانت قدرته عين ذاته واجبة الوجود فلا يُعقل انعدام قدرته بانعدام شرط أو بانعدام قید.

ثانياً: عموم القدرة:

يشير العلماء إلى أن القدرة الإلهية لا تتعلق بالمحالات لا لقصور في الفاعل بل لقصور في القابل. جاء رجل إلى الإمام الصادق علیه السّلام، فقال: هل الله قادر على أن يضع الدنيا في بيضة من دون أن تصغر

ص: 203

الدنيا أو تكبر البيضة؟!

فأجابه علیه السّلام بهذا المضمون إن هذا أمر محال ولا يقع لأنه قصور في القابل وليس قصوراً في الفاعل. قدرته تعمُّ كل شيء، أما اذا كان الشيء محال في حد ذاته فلا يمكن أن يقع. لو دخلت الدنيا في بيضة لَلزم أن تكون البيضة صغيرة وكبيرة في نفس الوقت، تحوي الدنيا ولا تحويها في نفس الوقت، وهذا من باب اجتماع النقيضين، واجتماع النقیضین محال.

نظير ما ذكره جدنا الحجة المقدس الشيخ فرج العمران في كتابه الأزهار الأرجية من أن شخصاً كتب للشيخ الإمام المقدس الشيخ عبدالله المعتوق له يسأله:

هل الله قادر على أن يعدم نفسه؟ إذا قلتَ لا يقدر لم يصر قادراً

على كل شيء، وإذا قلت قادر، لم يكن واجب الوجود!

فأجابه الشيخ: هذا زبد باطل عاطل، فإنه يستحيل أن يعدم نفسه، إذ لو كان إعدامه لنفسه أمراً ممكناً لانقلب من كونه واجب الوجود إلى كونه ممکن الوجود، إذاً قوله علیه السّلام: «فبلغ بقدرته ما يشاء» إشارة إلى إطلاق القدرة وعموم القدرة.

التوسل بالأولياء والاعتقاد بقدرته تعالى:

والسؤال المطروح: هل يتنافي التوسل بالاولياء مع الاعتقاد

بقدرته تعالى؟

والجواب أنه لا يتنافى مع عموم القدرة الإلهية، فقد ورد في الرواية أن رسول الله لما ماتت فاطمة بنت أسد الهاشمية أم الامام علي علیه السّلام جاء الرسول وحفر قبرها بيديه، ولما حفر القبر وسوَّاه اضطجع في القبر وقال: کي يقيها الله من ضغطة القبر، «الله الذي

ص: 204

يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين»(1).

هذه رواية يرويها أهل السنة أيضاً كالطبراني، فالنبي الله يتوسل بالانبياء

من قبله وهم موتی.

ولو كان التوسل بالموتى غير جائز أو شركاً أو منافياً لقدرته تبارك وتعالى، فكيف توسل النبي بالانبياء وهم موتی؟!

إن التوسل بالأولياء أمر مشروع وفي محلّه، وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»(2)، فالصلاة في المسجد وسيلة لأن صلاتك في المسجد أفضل من صلاتك في البيت، وصلاتك وراء العالم العادل وسيلة، فقد تكون سبباً لقبول صلاتك أكثر مما لو صليت منفرداً، وصلاتك في البيت الحرام وسيلة لأن صلاتك هناك أفضل من صلاتك في أي مكان آخر، وصلاتك في ليلة القدر وسيلة لأن ليلة القدر خير من ألف شهر.

فكما أن المكان - کالبيت الحرام - وسيلة، والزمان - كليلة القدر - وسيلة، فكذلك ذكر أسماء أهل البيت هو وسيلة، فأنت عندما تقول: «يا عليُّ اكفني» لا تقصد القدرة الاستقلالية لعلي عن الله جلَّ وعلا، فهذا كفر.

وإنما تعتقد أن لعلي قدرة مفاضة من الله تبارك وتعالى، فعلي يعيننا لا باستقلاله بل بالاستناد إلى الله سبحانه وتعالى،

ص: 205


1- المعجم الكبير للطبراني، ج24، ص352.
2- سورة المائدة، الآية 35.

كما أنك تستعين بالقلم للكتابة أو بالسيارة لقطع المسافات، فتقول: أيها القلم أعني على الكتابة، أو أيتها السيارة أعينيني على الوصول، فهل هذاشرك!

کلا، لأن القلم لا يعينك على الكتابة باستقلاليته، بل بواسطة مشيئة الله سبحانه، وكذا الأولياء يعينوننا لا باستقلاليتهم بل بواسطة إذن الله ومشيئته، وهذا لا يتنافى مع عموم قدرته تعالى.

ص: 206

مظاهر الحب الإلهي

«الذي يجيبني حين أناديه، ويستر عليَّ كلَّ عورةٍ وأنا أعصيه، ويُعظّمُ النعمة عليَّ فلا أُجازيه، فكم من موهبة هنيئةٍ قد أعطاني، وعظيمةٍ مخوفةٍ قد كفاني، وبهجةٍ مونقةٍ قد أعطاني، فأُثني عليه حامداً، وأذكره مسبحاً».

بالتأمل في هذه الفقرات الشريفة، قد يُطرح سؤال، وهو: لماذا

يكرر الإمام علي السّلام مظاهر العلاقة مع الله عزَّ و جلَّ؟

الجواب على ذلك:

إن الإمام أراد أن يشير إلى نوعين من تعامل الله تعالى مع خلقه:

النوع الأول: التعامل بالرحمة.

النوع الثاني: التعامل بالمحبة.

التعامل بالرحمة:

ومن أجل إيضاح معاملته تعالى لخلقه بالرحمة نتعرض لأمور ثلاثة:

أولاً: هناك فرق بين الرحمة والنقمة:

فاقتضاء الرحمة اقتضاء ربوبي، واقتضاء النقمة اقتضاء خلقي.

ص: 207

معنى ذلك: إن إفاضة الله للرحمة، لا يحتاج لسبب من العبد، فإنه مقتضی ربوبية الله تعالى ورحمته، بلا حاجة لمنشأ من العبد، فاقتضاء الرحمة اقتضاء ربوبي وليس اقتضاءً مربوبياً، فمنشأ الرحمة ذاته تبارك وتعالى، وليس من ذات العبد.

أما العذاب فلا يمكن أن يصدر من الله تعالى إلا بمنشأ من العبد نفسه، وهذا ما أشارت اليه الآية المباركة: «عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

لذلك نرى الإمام عليه السّلام في هذه الفقرات - كما ورد عنه- يركز على أن الرحمة لا تحتاج إلى منشأ بل هي شاملة للعبد، حيث قال:

«فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني،

وبهجة مونقة قد أراني».

كما يشير الدعاء إلى النعمة الحسية والنعمة النفسية:

النعمة الحسية: وهي ما أشار إليه بقوله: «فكم من موهبة

هنيئة قد أعطاني»، مثل الثروة و المال.

والنعمة النفسية: وهي ما أشار إليه في قوله: «بهجة مونقة»،

مثل انشراح الصدر وزوال الهموم والأحزان ونعمة الهداية.

ثانياً: الرحمة على قسمين: تفضُّلية واستحقاقية:

الرحمة التفضُّلية: وهي الرحمة العامة لجميع الموجودات بلا

استثناء.

الرحمة الاستحقاقية: ما يفيضه الله على العبد لكونه مستحقاً لها

ص: 208


1- سورة الأعراف، الآية 156.

وقد أشار إليها في قوله: «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ»(1).

وقوله: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا»(2)، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(3)،

«كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(4).

ثالثاً: الملازمة بين الطاعة والثواب، وعدم الملازمة بين المعصية

والعذاب والعقوبة، كما يظهر في الآيات القرآنية الشريفة.

نلاحظ ذلك في الآية الكريمة: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(5)، إن تغيير لحن السياق يوحي بعدم الملازمة بين الكفر والعذاب، نظير أن تقول لولدك مثلاً: إن تذاكر دروسك أعطك الجائزة، وإن لم تذاكر إن عذابي لشديد.

فلاحظ؛ لم يقل: إن لم تذاكر أُعاقبك. إن تغيير لحن السياق دلالة على عدم الملازمة. فهنا في الآية ملازمة بين الشكر والزيادة، وليس ثمة ملازمة بين النقمة والعذاب.

وهنا يشير الإمام عليه السّلام إلى عدم الملازمة حيث يقول: «ويستر عليَّ كلَّ عورةٍ وأنا أعصيه، ويُعظّم النعمة علي فلا أجازيه، لا أبالي بشكره وأكفر بنعمته، ومع ذلك فهو مصدر النعم الوافرة بالنسبة لي.

والحاصل من هذه الفقرات الثلاث يتبين لنا أن التكرار للتأكيد

على أن تعامله تعالى مع عباده هوٍ تعامل الرحمة.

ص: 209


1- سورة الأعراف، الآية 156.
2- سورة الطلاق، الآية 2.
3- سورة العنكبوت، الآية 69.
4- سورة الأنعام، الآية 54.
5- سورة إبراهيم، الآية 7.

إن الله تعالى يحب عباده مع إصرارهم على المعاصي والرذائل كما أن الأب يحب ولده وإن عصاه وطغى عليه، وبيان الأمر هنا يحتاج إلى توضيح أمور:.

أولا: الحب انجذاب وجداني غريزي بين الإنسان والكمال، فالإنسان

يحب ما يستكمل به نفسه ولا يحب ما ينقصه. ولنضرب أمثلة لذلك:

لماذا يحب الإنسان الغذاء؟

لا لأجل الغذاء، بل لأجل أن يستكمل بالغذاء، فإذا حصل على

الغذاء استكمل قوة بدنه.

ولماذا يحب الرجل المرأة؟

لا لخصوصية المرأة، بل لأنه يستكمل بها قواه الشهوية والعاطفية، فهو يحب شهوته وعاطفته، ويحب المرأة باعتبار أن المرأة مصدر لاستكمال شهوته.

ويحب المنصب والجاه لأنه استكمال لشأنه..

إذاً بالنتيجة هو يحب الكمال والاستكمال، ولكن بما أن الغذاء مصدر استكمال، والمرأة مصدر استكمال، والمنصب مصدر استكمال، فهو يحبُّ الغذاء والمرأة والمنصب، سواء كان ذلك الكمال كمالاً مادياً مثل كمال الجسم أو كمالاً حسياً مثل كمال الشهوات والملذات.

ثانياً: إن الحب يتفاوت شدة وضعفاً بحسب درجة الحاجة.

كلما احتاج الإنسان لشئ أكثر أحبه أكثر، فهو يتفاوت بحسب تفاوت درجات الحاجة، فلأن الإنسان مثلاً محتاجٌ للغذاء أكثر من حاجته للجنس، فهو يحب الغذاء أكثر من الجنس، ولأن الإنسان يحتاج

ص: 210

إلى إفراغ الشهوة الجنسية أكثر من حاجته إلى العلم والمعرفة، فهو يحب الجنس أكثر مما يحب العلم والمعرفة.

ثالثاً: إن الله تبارك وتعالى حقيق بأن يحبه الإنسان.

إن الدافع للحب إما الكمال، وإما الحاجة، وكلاهما متوافران في الله عزَّ وجلَّ، فإذا كنت تحبُّ الغذاء لأجل الكمال، وتحبُّ المرأة لأجل الكمال، فلا يوجد كمال أتم من كماله تبارك وتعالى.

وحيث أن مصدر هذا الكمال كله هو الله تعالى، فكيف لا يكون عين الكمال، ومحض الكمال تبارك وتعالى، ولكونه محض الكمال فهو أحق بالحب من أي مصدر آخر.

وإن كان مناط الحب هو الحاجة، فهل يحتاج الإنسان لشئ غير الله، فهو مصدر الحياة ومصدر العطاء، ولولا إفاضته لما استطاع الإنسان أن يوفر أي حاجة من الحاجات، فالله هو الحقيق بالحب

«وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ»(1).

رابعاً: إن الله تعالى يحب خلقه لأنه يحب ذاته، وبيان ذلك:

إن الحب هو اتجاه وجودي نحو الكمال، فالله يحب ذاته لأنها عين الكمال، وبما أن المخلوقات مظاهر لكماله وعظمته - الشمس، القمر، الإنسان، الكون - لذلك فإن الله تعالى يحب مخلوقاته، كمظاهر لكماله، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2).

وكلما كان المخلوق مظهراً أجلى لجماله، كان حبه تعالى له أكثر،

ص: 211


1- سورة البقرة، الآية 165.
2- سورة فصلت، الآية 53.

لقوله تعالى: «فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»(1)، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»(2).

أحب الخلق إليه تعالى:

لذلك كان حبه لمحمد وآل محمد علیهم السّلام أتم من حبه لغيرهم، لأنهم أجلى مظهرية لكماله وجماله، فإذا كان محمدٌ وآل محمد أفضل الخلق عنده وأحب الخلق إليه، فلا غروَ أن تقول في الدعاء:

«اللهم إني أسألك بأحب الخلق إليك».

وإذا كان محمد و آل محمد أحب الخلق إليه، فكيف نلام على حبهم وعلى مودتهم، وهم المظهر الأجلى للكمال والجمال الإلهي، والمخلوق الأشرف والأفضل لله تعالى.

فكيف لا نحبهم والقران ينادي بحبهم «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(3)،

وكيف لا نحب النبي الذي كان أمير المؤمنين عليه السّلام يصفه ويقول: «كان أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة و ألينهم عريكة و أكرمهم عشرة و من رآه بديهة هابه ومن خالطه فعرفه أحبه لم أرَ مثله قبله ولا بعده»(4).

وهناك رواية في البحار عن أنس يقول: جاء رجل من أهل البادية - وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي -

ص: 212


1- سورة آل عمران، الآية 31.
2- سورة المائدة، الآية 54.
3- سورة الشورى، الأية 23.
4- بحار الأنوار، ج16، ص231.

فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلما قضی صلاته، قال: أين السائل عن الساعة؟

قال: أنا يا رسول الله، قال: فما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له النبي: «المرء مع من أحب» قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشد من فرحهم بهذا(1).

قال تعالى: «فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»(2).

روى الثعلبي في تفسيره وغيره، عن رسول الله أنه قال: «من مات على حب آل محمد مات شهيداً، من مات على حب آل محمد مات تائباً، من مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، من مات على حب آل محمد كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من مات على حب آل محمد حفت به الملائكة، من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آیسٌ من رحمة الله»(3).

وورد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول الله: «من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أول نعمة، قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته»(4)، فحبهم علیهم السّلام

یُطيَّبُ المبدأ ویُطيَّبُ الخاتمةٍ.

حب علي هو زادك حين تغمض عينيك، ولكن المعاصي قد تمنع

ص: 213


1- بحار الأنوار، ج17، ص13.
2- سورة النساء، الآية 69.
3- بحار الأنوار، ج 23، ص 233، باب 13.
4- بحار الأنوار، ج27، ص145، باب 5.

حسن الخاتمة. إذا متَّ على حب علي فقد فزت بعلي عليه السّلام، ولكن حتى تموت على حب عليّ عليك أن لا تُصِرَّ على المعاصي والرذائل، فإن الإصرار على المعاصي والرذائل والاستخفاف بأمر الله تعالى ونهيه مانع من حسن الخاتمة.

«اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها،

وخير أيامنا يوم نلقاك»(1).

ومن أفضل مظاهر حبهم عليهم السّلام الصلاة عليهم، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السّلام: «من لم يقدر على ما يُكَفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمدٍ وآل محمد، فإنها تهدم الذنوب هدماً»(2).

وفي الحديث المروي في صحاح المسلمين، كما في الدر المنثور للسيوطي، عن طلحة، قال: أتى رجل النبي الله فقال: سمعت الله يقول:

«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»(3)، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قل «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد»(4).

صلوات الله وملائكته ورسله على محمد وآل محمد والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته.

ص: 214


1- البحار، ج94، ص277.
2- وسائل الشيعة، ج7، ص194، باب34.
3- سورة الأحزاب، الآية 56.
4- البحار، ج27، ص258، باب15.

فلسفة العذاب الأخروي..

«الحمد لله نكال الظالمين مدرك الهاربين».

المقصود بالنكال، هو الهلاك والمقصود بإدراك الهاربين هو الإدراك بالعقوبة وإيقاع العذاب الأخروي على من كان مستحقاً اللعذاب في الآخرة.

دوام العذاب الأخروي:

وهنا بعض الشبهات الفلسفية العقلية المتعلقة بوقوع العذاب

في الآخرة، وهذه الشبهات نتناولها في محورين:

المحور الأول: إذا كان العمل الذي فعله الإنسان من المعصية عملاً محدوداً - كما لو شرب خمراً أو كفر بالله أو أشرك بالله (70) سنة أو (50) سنة - فكيف يكون المحدود منشأ لعقابٍ لا محدود ودائم؟ قال تعالى: «وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ»(1).

فكيف يعقل أن يكون المحدود منشأ أو سبباً لعقاب لا حدَّ له ولا

أمد له؟

ص: 215


1- سورة البقرة، الآية 167.

المحور الثاني: إن من كان رؤفاً رحيماً فمقتضی رحمته أن لا يعذّب أحداً، إذ لا ينسجم مع رحمته تعالى إيقاع العذاب على الخلائق خصوصاً اذا كان العذاب دائماً وخالداً

وإذا كانت رحمته وسعت كل شئ، فلماذا لم تسع هذا الإنسان

الكافر؟

أليس هذا الكافر المخلد في النار شيئاً؟ فلماذا لم تشمله رحمته

تبارك وتعالى مع قوله: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

وللإجابة على هذه الأسئلة، لابد من التمعُّن والتدبر، وذلك

بعرض مطلبين:

نظرية تجسُّم الأعمال:

إن علماء العرفان يقولون بنظرية تجسُّم الأعمال، والمقصود بنظرية تجسُّم الأعمال على مسلك العرفاء غير المقصود بنظرية تجسُّم الأعمال على مسلك الفلاسفة.

فالإنسان اذا فعل معاصي 20 سنة مثلاً، كإدمان الخمر وعقوق الوالدين، فالفلاسفة يقولون: نفس شرب الخمر يتحول إلى عقاب، بمعنى أن المادة التي كانت في الدنيا متصورة بصورة شرب الخمر، تتصور في الآخرة بصورة الأغلال والسعير.

إذن عمله هو عقابه، كما في قوله تعالى:«إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

ص: 216


1- سورة الأعراف، الآية 156.
2- سورة الطور، الأية 16.

فنفس عقوق الوالدين يتحول إلى سعير، وكذلك الأمر بالنسبة

للثواب، فنفس شرب الخمر يتحول إلى طاقة من جهنم، أي أن نفس العمل يخلع الصورة الدنيوية ويلبس الصورة الأخروية وهي صورة کونه سلاسل وأغلال وسعيراً.

وكذلك الأمر بالنسبة للثواب، فالصلاة تتحول إلى نهر، وتتحول إلى قصر، أو إلى شجرة، وهكذا .. وهذه هي نظرية تجسم الأعمال عند الفلاسفة.

وأما عند العرفاء، فتجسم الأعمال يعني أن الذات الإنسانية بمقتضى حركتها الجوهرية - إما في سلك الطاعات أو في سلك المعاصي - تستحيل إلى حالة أخرى.

مثلاً، إنسان استمر في العمل بالعلم (30) سنة أو (40) سنة، فالحركة مع العلم ليست حركة زمانية وليست حركة مکانية، وإنما هي حركة جوهرية، فالروح تتحرك في صميمها وجوهرها مع العلم إلى أن تستحيل الذات إلى ذات أخرى، وهي ذات عين العلم نتيجة الحركة الجوهرية.

كذلك الإنسان الذي يقضي (20) سنة مع البخل، فإن نتيجة

ذلك أن تستحيل الذات إلى ذات هي البخل، وهذا الذي يصرف عمره مع الله دائماً على نور، «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ»(1).

فهو يومياً يكتسب نوراً، ويومياً يتصاعد مع تصاعد النور ويتكامل مع تكامل النور، فإن هذا الإنسان بعد (20) أو (30) سنة يستحيل إلى ذات هي نور، أي تستحيل ذاته إلى ذات نورية.

ص: 217


1- سورة الزمر، الأية 22.

لذلك ورد في بعض الأحاديث كما عن أحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه، أنهما كتبا لأبي الحسن الثالث علي الهادي علیه السّلام، عمن يأخذان معالم دینهما، فكتب إليهما: «فهمتُ ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسنَّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهم كافو كما إن شاء الله»(1).

الذي يقطع (40 أو 80) سنة مع أنوار أهل البيت علیه السّلام کالشيخ المقدس منصور البيات، وهو يومياً يكتسب من أنوار أهل البيت علیه السّلام.

ويعيش في هالة من النور تغمره ليلاً ونهاراً، فبعد (90) سنة

يستحيل إلى ذات هي نور.

وبالنتيجة فإن الذات في حركتها الجوهرية إذا تحركت مع الطاعة

أو مع المعصية تتحول مع مرور الزمن إلى ذات أخرى.

فالذات الشقية التي تنهمك في المعاصي (20) سنة أو (50) سنة إلى أن يفاجئها الموت - والعياذ بالله - تستحيل إلى ذات أخرى، إلى ذات كلبية أو قردية أو خنزيرية، كما يعبر عنه العرفاء، قال تعالى:

«وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ»(2).

ذواتهم تحولت إلى قردة وخنازير وكلاب وليس المقصود تحوُّل

النوع هنا، لأن تحول النوع إلى نوع آخر مستحيل.

بل المقصود به أن ذواتهم أصبحت ذواتاً كلبية من حيث الصفات أو خنزیرية من حيث الصفات أو قردية من حيث الصفات، وهذا ما يجعلهم فيالعقاب الدائم.

ص: 218


1- الوسائل، ج27، ص151، باب11.
2- سورة المائدة، الآية 60.

ونعود للسؤال الأساس، كيف صار الكفر الذي مدته (50) سنة

سبباً لعذاب لا نهاية له ولا أمد له؟!

والجواب إنه ليست السببية بين العمل وبين العذاب، وإنما السببية بين الذات والعذاب، فالعمل أحال ذاته إلى ذات نارية بالحركة الجوهرية، فمنشأ استمراره في العذاب والعقاب ملايين السنين ليس عمله، بل ذاته وبما أن ذاته ذات دائمة له لا تفارقه، فقد صار منشأ الدائم أمر دائم.

ومنشأ اللامحدود هو أمر لا محدود، ومنشأ الاستمرار أمر مستمر وهو الذات نفسها، فليس منشأ العذاب الخالد هو عمله، وإنما هو ذاته، وبما أن الذات دائمة وباقية معه، فهذه الذات الشقية التعيسة النارية أصبحت منشأ لعذاب لا حدَّ له ولا نهاية له فالسبب کالمسبب كلاهما أمر دائم ومستمر لا حدَّ له ولا نهاية له.

لذلك ورد عن أبي عَبدِ اللهِ الصادق علیه السّلام أنه قال:

إِنَّمَا خُلّدَ أَهلُ النَّارِ في النَّار لأَنَّ نِيَّاتِهِم كَانَت فِي الدُّنيَا أَن لَو خُلدُوا فِيهَا أَن يَعصُوا اللهَ أَبَداً، وَإنَّمَا خُلدَ أَهلُ الجَنَّةِ فِي الجَنّةِ لأَن نيَّاتهِم كَانَت فِي الدُّنيَا أَن لَو بَقوا فيهَا أَن يُطِيعُوا اللهَ أَبَداً، فَبِالنَّیَّاتِ خُلَّدَ هَؤُلاءِ وَ هَؤُلاء، ثُمَّ تَلا قَولَهُ تَعَالَى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(1)، قَالَ: عَلَى نِيَّتِهِ»(2).

إذ ليس المقصود في الرواية العقاب على النية، فالنية لا يُعاقَب عليها الإنسان، ولكن المقصود أن عزمه وتصميمه على الكفر إلى ما لانهاية دليل على استحالة ذاته، وأن ذاته أصبحت ذاتاً نارية، وأن

ص: 219


1- سورة الإسراء، الآية 84.
2- البحار، ج8، ص347، باب 26.

العزم على الطاعة إلى ما لا نهاية كاشف عن استحالة ذاته إلى ذات نوريَّة إلى ما لا نهاية.

معنى الرحمة الإلهية:

الرحمة هي الإفاضة على الوعاء المستعدّ، وتنقسم إلى قسمين:

الرحمة الرحمانية:

وهي إفاضته سبحانه للوجود على وعاء مستعدٍ للوجود وتسمى الرحمة العامة أو الرحمة الرحمانية، وهذا معنى قوله تعالى:

«وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

الرحمة الرحيمية:

وهي إفاضته للهداية على وعاءٍ مستعدٍ للهداية وتسمى الرحمة

الخاصة أو الرحمة الرحيمية.

فإفاضة الوجود على ما استعد للوجود المسماة الرحمة العامة،

أو الرحمة الرحمانية وهي منتزعة من نور «الرحمان».

وإفاضة الهداية على الوعاء المستعد للهداية المسماة الرحمة

الخاصة، أو الرحمة الرحيمية وهي منتزعة من «الرحيم».

وربما يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: كيف يمكن تصوُّر الرحمة العامة والرحمة الخاصة بالنسبة للكافر، وقد قال تعالى: «وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ»؟(2)

ص: 220


1- سورة الأعراف، الآية 156.
2- سورة البقرة، الآية 167.

وللإجابة عن هذا التساؤل، هناك ثلاثة أمور:

أولاً: إن الكافر لا تشمله الرحمة الخاصة، لأن الرحمة الخاصة «هی إفاضة الهداية على من هو مستعد للهداية، وهذا الكافر غير مستعد للهداية، لأن ذاته ذات نارية نتيجة الأعمال، فهو غير مستعدٍ للرحمة نتيجة استحالة ذاته إلى ذات نارية.

ثانياً: إن الرحمة العامة هي إفاضة الوجود على ما هو مستعد للوجود، وقد أفاض الله تعالى عليه العذاب الاستعداده له، والعذاب وجود، فقد شملته الرحمة العامة بالعذاب، لأن الرحمة العامة هي عبارة عن إفاضة الوجود على ما هو مستعدٍ للوجود.

مضافاً إلى أن العذاب إما منقطع أو دائم، والعذاب المنقطع مقابل استيفاء اللذة في الحرام، فالإنسان عندما يعذَّب عذاباً مؤقتاً ثم ينقل إلى الجنان، فعذابه رحمة له، لأن عذابه تطهير لذاته، وتنظيف لها من آثار الذنوب، وخلع للصورة النارية التي تلبَّست بها الذات نتيجة ممارستها للمعاصي وإصرارها على الرذائل.

إذاً عذابه ليس خارجاً عن الرحمة، فهو نظير الإنسان الذي يفعل المعصية ويؤدَّب بأن يُضرب (50) سوطاً، فهو عندما يُضرب فضربه رحمةٌ له، لأنه تطهير له، وإعادة له إلى حظيرة الإيمان.

وأما العذاب الدائم فهو عذابٌ للكافر ورحمةٌ لغيره، لأن عالم الأخرة كعالم الدنيا عالم حركيٌ يدور بين طرفين متضادين. ففي عالم الدنيا مثلاً، كيف يتحرك الإنسان نحو الإيمان؟ هل يصير الإنسان مؤمناً صالحاً دفعة واحدة؟

کلا إن الإيمان والصلاح كمال، والكمال يحتاج إلى حركة

والحركة نحو الكمال تتوقف على التضاد.

ص: 221

أي تضاد العقل والشهوة، فالعقل يدفع إلى الكمال، والشهوة تدفع إلى التراجع، ولولا وجود المضادة بين الشهوة وبين العقل لما حصلت الحركة، ولما نتج الكمال.

إن العقل يقود إلى الكمال، والوصول إلى الكمال فرع الحركة،

والحركة فرع وجود طرفين متجاذبین (العقل والشهوة).

فالحاصل إن الله سبحانه أعطى الإنسان عقلاً وشهوة کی يتحرك، وإذا تحرَّك وصل إلى الكمال بمحض إرادته.

فكما أن العالم الدنيوي يبتني نظامه على حركة الصراع، فإن مصلحة النظام الأخروي واستقراره يتوقف على الطرفين المتضادین طرف النعيم وطرف الجحيم، فعذاب الكافر دخيل في قرار النظام الأخروي فهو رحمة للمؤمنين، وبالنتيجة؛ الخلود والبقاء في الآخرة حركة بين طرفين متضادَّين ومتزاحمين؛ طرف النعيم وطرف العذاب،

«وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(1).

عذاب الكافرين رحمة للمؤمنين:

ثالثاً: إن عذاب الكافر المخلَّد في النار وان كان بالنسبة له عذاباً ولكنه بالنسبة للمؤمنين رحمة، لأن علاقة المؤمن مع ربه علاقة روحية بمعنى أن الإنسان في الجنة كلَّما استمر فيها انكشفت له صفات الله وأسماؤه.

وإلا فالإنسان كيف يلتذُّ بالجنة؟! هل لأنه يشرب الخمر، ويتزوَّج

ص: 222


1- سورة الأعراف، الأية 179.

الحور العِين ويخدمه الولدانُ؟! إن هذه ليست لذة حقيقة بل هي لذة مادية!

واللذة الحقيقية بجوار الله سبحانه وتعالى، وبالتعرف على الله وصفاته وأسمائه. كلما بقي في الجنة انكشفت له الأسماء والصفات، ونتيجة انكشاف الأسماء والصفات تزداد معرفته بالله تبارك وتعالى، وتحصل له لذة المعرفة.

إذن بما أن لذة الجنة متقوَّمة بانكشاف الصفات الإلهية، فكما أن

من صفاته تبارك وتعالى أنه رحیم، فمن صفاته أنه شديد العقاب.

وكما يحتاج المؤمن في علاقته مع ربه أن يتعرَّف على صفة

الرحمة، فإنه يحتاج أيضاً أن يتعرَّف على صفة شديد العقاب.

والطريق إلى معرفة سعة رحمته تعالى بخلقه؛ هذه الجنة الواسعة

والطريق إلى معرفة أنه شديد العقاب بخلقه هذه النار المستعرة التي وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد.

فصار عذاب الكافرين رحمة للمؤمنين، فإن عذابهم انکشاف لصفة من صفات الله تعالى وهي كونه شديد العقاب.

إذن نفس عذاب الكافرين مظهر لصفة إلهية وهي كونه شدید العقاب، فإذا ظهرت للمؤمنين هذه الصفة، حصلت لهم لذّة روحية تکاملية، نتيجة انکشاف صفاته وظهورها وتجلّيها لهم.

فلا مورد للاعتراض على العذاب الإلهي من هذه الجهات التي ذكرناها.

ص: 223

ص: 224

حجاب الله وصوارف الدعاء

«الحمد لله الذي لا يُهتَكُ حجابُه، ولا يُغلَقُ بابُه، ولا يُردُّ سائلُه، ولا يُخيَّبُ آملُه، والحمد لله الذي يُؤمنُ الخائفين، ويُنجَّي الصادقين، ويرفع المستضعفين، ويضع المستكبرين، ويُهلك ملوكا ويستخلف آخرين، والحمد لله قاصم الجبارين، مبير الظالمين، مُدرك الهاربين، تكال الظالمين، صريخ المستصرخين، مَوضع حاجات الطالبين، مُعتمد المؤمنين».

الفقرة الأولى: «الحمد لله الذي لا يهتك حجابه»:

هذه الفقرة الشريفة تتضمن ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: الإشارة إلى امتناع الدعاء أو صدور الدعاء.

إذا تأملنا في قوله تعالى: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)»(1)، عرفنا أن الناس على قسمين:

1- قسم تاب من ذنوبه وانفتح له باب الدعاء راغباً مقبلاً.

ص: 225


1- سورة الإسراء، الآية 45.

2- قسم جعل الله بينه وبين الدعاء حجاباً نتيجة إسرافه في الذنوب.

أي أن الله سبحانه وتعالى جعل بينه وبين الدعاء صارفاً نفسياً نتيجة إسرافه في الذنوب والمعاصي، فتُعرِضُ نفسه عن الدعاء والتوبة والإنابة.

وهذا الحاجب هو الصارف النفسي، ويضعه الله تعالى في قلب الشخص المتمادي في الذنوب والمعاصي، وذلك لأن قلب العبد ملك الله تبارك وتعالى، وخواطر العبد ملك لله، وخلجات العبد ملك لله، والله يتصرف فيما يملك كيف يشاء.

فقد يكون تصرُّفه تبارك وتعالى بالحيلولة،«أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(1)، فإن المرء قد يهوى شيئاً ويرغب في شيء، ولكن الله تعالى يضع في قلب المرء صارفاً عن هذا الشيء، وهذا هو مقتضى ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة: «عرفتُ الله سبحانه بفسخ العزائم»(2).

وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء ويصمم عليه، حتى إذا قارب الشيء انصرفت نفسه عنه. وهذا الصارف هو (الحجاب) وإذا وضعه الله لا يستطيع أحد رفعه «الحمد لله الذي لا يَهتك حجابه».

وهناك أناس وفقهم الله للدعاء، ورفع عنهم العوارض النفسية

والشواغل القلبية فانفتحوا على الدعاء، «ولا يُغلق بابه».

المعنى الثاني: الإشارة إلى تحكم مشيئة الله في قبول الدعاء أو

عدم قبوله.

ص: 226


1- سورة الأنفال، الآية 24.
2- نهج البلاغة، ص511، قصار الحكم، الحكمة رقم 250.

فإن الدعوات على قسمين:

1- قسم يعلم الله أن الصلاح في تحقيقها، فيفتح لها باب الإجابة .

2- قسم من الدعوات يعلم الله أن الصلاح في عدم تحقيقها،

فيضع حجاباً بينها وبين تحقيقها فلا تُجاب.

وهذا الحجاب الذي يضعه الله تعالى لا يمكن لأحد رفعه إلا بمشيئته تبارك وتعالى، «لا يُهتك حجابه، ولا يُغلق بابه»، أي أنه إذا لم يُرد إجابة الدعاء فلا يمكن لأحد إجابته، وإذا أراد إجابة الدعوة، فلا يمنع مشيئتَه أحد،«مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(1).

المولوية الحقيقية:

المعنى الثالث: الإشارة إلى اختلاف سنخ مولویته تبارك وتعالى عن المولويات الأخرى، فإن المولوية - كما ذكرنا سابقاً- على قسمين:

1- مولوية حقيقية.

2- مولوية اعتبارية.

فالمولوية الاعتبارية، كمولوية السلطان والأب والفقيه. إذ إن المجتمع يعتبر الأب مولى، والمجتمع يعتبر السلطان مولى، ولكن هذه المولوية اعتبارية ناشئة من وضع المجتمع واعتبار المجتمع.

وبما أنها مولويات اعتبارية، فلو أن الإنسان رفض هذه المولوية أو خالفها لَهَتَكَ حُرمة المولوية، لأنها مولوية نشأت عن الاعتبار، فخرق الإنسان للاعتبار ورفضه للاعتبار هتكٌ لحرمة المولوية.

ص: 227


1- سورة فاطر، الأية 2.

أما المولوية الذاتية (الحقيقية)، فهي مولوية ناشئة عن الخالقية،

«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»(1)؛

فمقتضی خلقه لكل شيء مولويته الذاتية على كل شيء.

فمولويته ليست بالاعتبار والاتفاق من المجتمع، وليست بالوضع، وإنما مولویته هي مقتضی خالقيته، ولو أن الإنسان أراد مليون مرة أن يرفع مولويتَه تبارك وتعالى لما استطاع أن ينتهكها، فالخرق والرفض وعدم القبول لا يخدش في مولويته ولا يهتك مولويته ولا يؤثر فيها شيء «لا يُهتك حجابه » لأن مولویته ذاتية.

ثم تعرَّض الإمام إلى إلى بعض صفات الله تبارك وتعالى:

1- صفة الرحمة، والتأكيد عليها، وقد تجلَّى ذلك في قوله:

«ولا يُرَدُّ سائلُه، ولا يُخَيَّبُ آملُه».

2- صفة الملك، كما في قوله: «ويَرفَعُ المُستَضعَفِين، ويُضَعُ

المُستُكُبرين، وَيُهلِكُ مُلُوكاً وَيَستَخلِفُ آخرَين».

3- صفة العدل، في قوله «والحمدُ للهِ قاصِم الجَبارين، مُبِيِر الظالمِيِن، مُدرِكِ الهاربِيِن، نكال الظالِميِن. ولقد قرن الإمام بين صفة الملك وبين صفة العدل، ومن المناسب أن نتحدث هنا عن مطالبَ جليلةٍ من علم الحكمة لمعرفة وجه القرن:

الفرق بين «المِلك»، و «المُلك»:

«المِلك» (بكسر الميم) منشأ ل«المُلك» (بالضم) الذي هو متأخر

ص: 228


1- سورة غافر، الآية 62.

رتبة عن المِلك (بالكسر)، ومن «المِلك» (بالكسر) يُنتزع وصف «المالك»، بينما من «المُلك» (بالضم) يُنتزع وصف «المَلِك».

والقرآن الكريم وصف الله تبارك وتعالى ب-«الَملِك»، فعبَّر عنه

ب- «المالك»، «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(1)، «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ»(2)، وهناك إشارة إلى «المُلك» في قوله:

«تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3)، فهناك «مِلك» و«مُلك»، وهناك «مالك»،

«مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»(4)، وهناك «مَلِك»، «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ»، «مَلِكِ النَّاسِ»(5).

فما هو الفرق بين «المِلك» و «المُلك» بحيث يكون الأول منشأ للثاني؟

«الملك»: هو عبارة عن قيام شيء بشيء بنوع من أنواع القيام،

ولتوضيح ذلك نأتي بهذا المثال.

أعضاء الإنسان قائمة بجسمه قيام الحلول؛ فيدي حالة في جسمي، وعيني حالة في جسمي، وأُذُني حالة في جسمي، فأعضائي قائمة في جسمي قيام الحلول، وهذا يعني أن أعضائي مِلك لي وأنا مالك لأعضائي أتصرَّفُ فيها بما أشاء، لأنها قائمة بجسمي قيام حلول.

بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى، جميع مخلوقاته قائمة به، قیام تعلُّق وقيام استمداد، تستمدُّ منه الوجود وتستمدُّ منه البقاء والعلم

ص: 229


1- سورة الفاتحة، الآية 4.
2- سورة آل عمران، الآية 26.
3- سورة الملك، الآية 1.
4- سورة الفاتحة، الآية 4.
5- سورة الناس، الآية 1 - 2.

والإحاطة و القدرة.

جميع مخلوقاته تعالى متدلية بوجوده تدلي التعلق والاستمداد، وبما أن مخلوقاته قائمة به قيام التعلُّق وقيام التدلّي، فمخلوقاته مِلكٌ له، وهو مالك لمخلوقاته «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ»(1).

أما «المُلك»، فهو عبارة عن السلطنة على التصرف؛ فيقال: هذا

مَلِك، أي له التصرف في أموال الناس وفي شؤون الناس وفي قضايا الناس.

والإنسان بما أنه يملك أعضاءه فله السلطنة على التصرف في أعضائه، فالمِلك صار منشأ للمُلك؛ فمقتضی مِلكيَّتي لأعضائي مُلكيتي لأعضائي؛ أي أن مقتضى المِلكيَّة المُلكيَّة.

وبما أنه تبارك وتعالى جميع مخلوقاته قائمة به قيام التدلّي وقيام التعلُّق، فمقتضی مِلكيتَّه مُلكيَّة و سلطنته على التصرف حدوثاً وبقاءً في سائر مخلوقاته سلطنةً تكوينية، وسلطنةً تشريعيةً.

كما أن الأب يستحق السلطنة شرعاً بمقتضى أُبُوَّتِه، والسلطان يستحق السلطنة بمقتضى قوَّتِه، والفقيه يستحق السلطنة بمقتضی فقاهته وعدالته، فإن الله هو الأحَقُّ بالسلطنة التشريعية التامة بمقتضی خالقيته وقيموميته وإحاطته بجميع الموجودات، وهذا ما يُعبَّر عنه بصفة المِلك والمُلك «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ»(2).

صحَّة وصف فعله تعالى بالعدل والظلم:

قد يقع سؤال: هل يصحُّ أن يصف الإنسان الله تعالى بالعدل

والظلم؟!

ص: 230


1- سورة آل عمران، الأية 26.
2- سورة آل عمران، الأية 26.

المخلوق يمكن أن يوصف بالعدل والظلم، لأن تصرُّف المخلوق محدود بإعطاء كل ذي حق حقه المعبر عنه بأن لا يُضِرَّ بغيره، بمقتضی الميثاق الاجتماعي والميثاق العقلائي بين أبناء المجتمع.

ومقتضاه أن التصرف الذي يملكه المخلوق لو جاء به فهو عدل، لأنه لا يلحق الأذى والضرر بالآخرين، والتصرف الذي لا يملکه المخلوق لو جاء به فهو ظلم، كما لو كان تصرُّفه يُلحق الضرر بالآخرين، فهل الله سبحانه وتعالى يمكن أن يوصف بذلك؟

قد يقال: لا يمكن أن يوصف الله بالظلم، لأن مِلك الله ملك مطلق، وبما أن الله له الملكية المطلقة فليس هناك تصرُّف يملكه وتصرُّف لا يملكه، فجميع التصرفات يملكها، وإذا كان له الملك المطلق فأي تصرُّف يحصل منه فهو تصرُّف المالك في مملوكه.

وتصرُّف الملك فيما تحت سلطانه لا يكون عدلاً تارةً وأخرى ظلماً، بل هو دائماً عدل، فلا يُتصوَّر أن يوصف تصرُّف الله تعالى بالظلم، فلو أدخل محمداً النار، وأدخل إبليس الجنة، فلا يُقال: هذا ظلم، لأنه من باب تصرُّف المالك في ملكه.

إذن فكيف يُقال بأن الظلم قبيح على الله تعالى؟ مع أنه لا يُعقل أن ينقسم فعل الله إلى عدل وظلم حتى يُقال بأن العدل حسن منه، والظلم قبيح منه! لأن فعله ملکه وتصرُّفه في ملکه دائماً عدل وليس ظلماً!

الجواب عن هذا السؤال يعتمد على ذكر مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: إن المجتمع العقلائي محتاج إلى النظام الفاعل.

أما أنه محتاج إلى النظام، فلان البشر محتاجون إلى ما يوفّق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية، ولولا وجود نظام وقانون يوفّق

ص: 231

بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية لاختل وجود المجتمع، باعتبار طغيان القوي على الضعيف ونهب القوي ثروات الضعيف.

ولا بد أن يكون هذا النظام فاعلاً، أي نظاماً مؤثراً في تدیُّن الناس والتزامهم وسيرهم عليه، ولا يمكن أن يكون هذا النظام فاعلاً إلا إذا كان هناك لائحة جزائية، بمعنى أن تكون هناك لائحة للعقوبات ولائحة للمثوبات، كأن يُشرَّع المقنن في النظام قانوناً - مثلاً- بأن من يقطع إشارة المرور، فعليه العقوبة والغرامة المالية المحدَّدة.

إذن لا يمكن أن يكون النظام فاعلاً مؤثراً في الناس ما لم تكن معه

لائحة جزائية تتضمَّن ذكر العقوبات وذكر المثوبات.

مصدر التشريع:

المقدمة الثانية: أن النظام يجب أن يكون صادراً من الله تعالى.

هذا النظام الفاعل المتضمن للائحة الجزائية يجب أن يكون صادراً من السماء؛ من الله تبارك وتعالى، لأن عدم إنزال الله تعالى للنظام؛ إما لجهله بحاجة البشر، أو لعجزه عن إيصال النظام، أو لبخله بالنظام، أو لاتكاله على العقل البشري في تشريع النظام.

أما الأول وهو فرض الجهل بالحاجة، فهو محال لأنه عالم بكل شيء.

وأما الثاني وهو فرض العجز عن إيصال النظام، فهو محال لأنه

قادر على كل شيء.

وأما الثالث وهو فرض البخل بالنظام، فهو خُلف جوده وكرمه.

وأما الرابع وهو انّكاله على العقل البشري في التشريع، فهذا خُلف علمه بأن العقل البشري محدود، والمحدود لا يقدر على تشريع نظام غير محدود؛ أي نظام صالح للإنسان في جميع طبقاته وجميع أزمنته

ص: 232

وجميع حضاراته ومجتمعاته.

بالنتيجة، يجب أن ينزل النظام المتضمَّن للائحة الجزاء من

عقوبات ومثوبات من الله تبارك وتعالى.

المقدمة الثالثة: تشريع الله سبحانه للثواب بالجنة والعقاب بالنار.

إن الله تبارك وتعالى سنَّ في هذا النظام إثابة المطيع بالجنة، وعقاب العاصي بالنار،

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1).

فالله سبحانه وتعالى وضع لائحة الجزاء للمثوبات والعقوبات،وبعد أن وضع الله سبحانه اللائحة؛ فهل يمكن أن يُلغي النظام في الآخرة فلا يعاقب ولا يثيب؟!

الصحيح أنه تبارك وتعالى أقرَّ النظام الجزائي المتضمَّن للمثوبات والعقوبات، لأن إلغاءه مستلزم للتناقض بين وعده و وعیده في الدنيا، وتخلُّفه عن وعده ووعيده في الآخرة، والتناقض لا يصدر منه تبارك وتعالى بمقتضی علمه وحكمته بعد أن ذكر وقرَّر ذلك في عالم الدنيا.

فالعالم الحكيم لا يصدر منه التناقض، وهذا معنى العدل والظلم المتصوران في فعل الله جلَّ وعلا؛ فمعنى عدل الله وظلمه هو أن الله تبارك وتعالى يمكن أن يُسقط العقاب عن بعض العصاة تفضلاً وامتناناً إذا كان العاصي أهلاً للثواب، «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى»(2).

ولكن ليس من الممكن إلغاء النظام الجزائي من أساسه بأن لا يُعاقب أحداً، ولا يُثيب أحداً؛ لأنه مستلزم للتناقض، ولا يصدر منه

ص: 233


1- سورة الزلزلة، الآية 7 - 8.
2- سورة الأنبياء، الآية 28.

سبحانه التناقض بمقتضی علمه وحكمته.

إذن معنى عدله هو التزامه بالنظام الجزائي.

ومعنى ظلمه هو عدم التزامه بالنظام الجزائي.

والسر في ذلك أن هناك فرقاً ما بين الكبرى والصغرى، أما الكبرى؛ فهي عبارة عن إدراك العقل الملازمة بين الظلم والقبح، وهذه من الملازمة الواقعية التي يدركها العقل كما يدرك الملازمة بين اجتماع النقيضين والاستحالة، وأما الصغرى وهي هل يتصور انقسام فعل الله تعالى للعدل والظلم؟ والجواب إمكان ذلك لوجهين:

أ- إن العدل وضع الشيء في موضعه والظلم ضده، وبما أن جميع أفعاله تعالى ومنها الثواب والعقاب والوعد والوعيد لها موضع معين وهو كونها في صراط المصالح الوجودية العامة لعالمي الدنيا والآخرة فتطابق الفعل الإلهي مع موضعه عدل وعدم التطابق ظلم، لذلك قلنا بأن عدم وضع النظام الجزئي ظلم لأنه موجب لعدم كون النظام التشريعي فاعلاً مؤثراً كما أن عدم التطابق بين الوعد في الدنيا والثواب في الآخرة ظلم لأنه تفويت للمصالح الوجودية المترتبة على التطابق فلو أنه أدخل محمداً النار، وأدخل إبليس الجنة؛ فهو لم يلتزم بالنظام الجزائي المتضمَّن لوعده و وعیده، وعدم التزامه بالنظام المتضمَّن لوعده و وعیده يعدُّ تناقضاً، والتناقض ظلم بمعنى عدم وضع الشيء في موضعه، لذلك يستحيل أن يصدر منه بمقتضی علمه وحكمته.

ب- إن العدل إعطاء كل ذي حق حقه والظلم ضده، وقد تكفل النظام التشريعي الصادر من السماء على ضوء المصالح الوجودية العامة لعالمي الدنيا والآخرة تحديد حق كل مخلوق بمقدار دخله في مصالح النظام التكويني، وبناءً على ذلك فإنه تعالى وإن كان يملك جميع الأفعال ملکاً تكوينياً إلا أنه لا ملازمة بين الملك التكوين والملك

ص: 234

الاعتباري فيتصور أن يكون فعله مطابقاً للحق الذي حدده هو بنفسه تبارك وتعالى للمخلوقين فيكون الفعل عدلاً وإلا فهوظلم.

وجوب العدل عليه تعالى:

إن علماء الكلام يقولون العدل واجب على الله، والظلم لا يجوز

من الله، فهل هذا التعبير صحيح؟!

قد يقال: لا يصحُّ من العقل البشري أن يقول: العدل واجب عليك يا إلهي، والظلم لا يجوز منك يا إلهي؛ لأن العقل البشري مملوك لله تعالى.

وهل يُعقل أن يَصدُر تکلیف مولوي من المملوك في حق المالك

بأن يفرض عليه تصرفاً معينا؟!

فما دام العقل البشري وخلجاته مملوكة لله تعالى، فهل يُعقل أن

يصدر من المملوك تشريع في حق المالك كما هو موجود الآن في بعض الكتابات مثل كتابات محمد نصر أبو زيد - المصري -.

إن المرجعية التامة للسماء، فهل يُعقل أن يكون للمملوك ولاية على المالك وإلا لزم الخُلف بأن يكون المالك مملوكاً والمملوك مالكاً وهذا خلف موقع كل منهما.

والجواب عن ذلك بوجهين:

1- إن معنى قبح الظلم عليه تعالى إدراك العقل لملازمة واقعية بين الظلم والقبح كإدراكه الملازمة بين تعدد الآلهة والفساد «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) وليس تكليفاً مولوياً صادراً من العقل.

ص: 235


1- سورة الأنبياء، الآية 22.

2- معنى أن العدل واجب عليه، والظلم قبيح منه تعالى، أنه هو الذي أوجب على نفسه لا أن العقل هو الذي يوجب، فإدراك العقل

له مرحلتان: مرحلة إدراك الملزوم ومرحلة إدراك اللازم.

فالعقل يدرك أن سنة الله تبارك وتعالى جرت على اختيار الفعل ذي المصلحة وترك الفعل ذي المفسدة، وأن الفعل ذا المصلحة عدل فيختاره الله، والفعل ذا المفسدة ظلم فلا يختاره الله.

أي لما أدرك العقل أن مقتضی علمه تبارك وتعالى وقدرته وحكمته أنه يختار الفعل ذا المصلحة (العدل) ولا يختار الفعل ذا المفسدة (الظلم)؛ أدرك أن ما يختاره الله تبارك وتعالى من العدل ذي المصلحة فهو واجب عليه، وما لا يختاره الله من الفعل ذي المفسدة وهو الظلم قبيح منه.

فمعنى هذا الوجوب التشريعي الصادر من العقل هو أنه لما

جرت سنة الله على ذلك حكم العقل به.

إذاً حكم العقل بأن العدل واجب والظلم قبيح ليس حكماً

استقلالياً، بل هو حكم منتزعٌ من جریان سنَّته تبارك وتعالى على اختيار العدل وعدم اختيار الظلم، فهو وجوبٌ لم ينشأ من العقل وإنما منشأه إيجاب الله تعالى على نفسه.

أقسام التوحيد:

الوصف الرابع: صفة التوحيد، وقد قسَّم العلماءُ التوحيدَ إلى

أربعة أقسام:

1- توحيد الذات.

2- توحيد الصفات.

3- توحيد الأفعال.

ص: 236

4- توحيد العبادة.

وكلُّ قسم من هذه الأقسام مترتب على القسم الذي يسبقه؛

فبما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته، وبما أنه واحد في صفاته، فهو واحد في أفعاله، وبما أنه واحد في أفعاله، فهو الأحق بالعبادة دون غيره، وهو الواحد في العبودية تبارك وتعالى.

وقد أشار الإمام علیه السّلام إلى توحيد الذات في قوله: «ولا شبيه

يشاكله».

وأشار إلى توحيد الصفات في قوله علیه السّلام: «ولا شبيه له في عظمته».

وأشار إلى توحيد الأفعال في قوله علیه السّلام: «الحمد لله الذي لا

مضاد له في ملكه، ولا منازع له في أمره».

وأشار إلى توحيد العبادة في قوله: «الحمد لله الذي من

خشیته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعُمَّارها».

إذ العبادة على قسمين:

1- عبادة تكوينية قهرية.

2- عبادة اختيارية.

فالعبادة التكوينية القهرية: وهي عبادة جميع المخلوقات.

أي أن جميع المخلوقات تعبد الله تعالى من حيث نشعر أو لا نشعر، قال تعالى:

«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1).

ص: 237


1- سورة الإسراء، الآية 44.

تسبيح جميع المخلوقات الله تعالى:

فقد ذكر الفلاسفة أن هناك مساوقة بين الخير والوجود؛ متى ما تحقق الوجود تحقق معه الخير، ومتى ما تحقق الخير تحقق معه الوجود، ومقتضى المساوقة بين الخير والوجود أنه متى ما تحقق الوجود تحقق معه الإدراك والشعور.

ليس هناك موجود إلا وعنده شعور وإدراك، حتى الصخرة

الصمَّاء والجبل الأشمّ والماء الذي يجري.

وكل موجود إنما يملك نصيباً من الشعور والإدراك بمقدار ما يملك من الوجود، لأن الوجود مصدر الخير والشعور، والإدراك خير؛ إذاً متى ما تحقق الوجود تحقق معه إدراك وشعور، فجميع المخلوقات تملك شعوراً وإدراكاً.

وبما أنها كذلك إذاً جميع المخلوقات حامدة لله تعالى ومسبَّحة له، وإدراكها لجمال الله من خلال إدراكها لجمالها هو حمدها لله تعالى، وإدراكها لجلال الله تعالى من خلال إدراكها لنقصها هو تسبيحها لله، «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».

وقال تعالى: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»(1)، وقال تعالى:«لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(2).

فهذه الفقرات الشريفة تشير إلى العبادة التكوينية القهرية، وأن

ص: 238


1- سورة الحشر، الأية 21.
2- سورة الحشر، الآية 21.

جميع الموجودات تُسبَّح الله وتحمده، «الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمَّارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها».

هذه عبادة تكوينية قهرية من سائر المخلوقات لله تبارك وتعالى،

وإنما انحصرت هذه العبادة التكوينية القهرية فيه تعالى لأنه الواحد في ذاته، الواحد في صفاته، الواحد في أفعاله؛ فمقتضی وحدته في الأقسام الثلاثة، وحدة العبادة فيه تبارك وتعالى.

وإذا كانت جميع المخلوقات تعبده عبادة تكوينية قهرية؛ فهو الأحقُّ بالعبادة الاختيارية الصادرة من الإنسان في هذا الكون، قال تعالى:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1).

الوصف الخامس: صفة الهداية، وذلك في قوله علیه السّلام: «الحمد لله

الذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله».

قال تعالى: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(2)، أي أنعم

على كل موجود بنعمتين مترتبتين، هما نعمة الخلق ونعمة الهداية.

خلق كل شيء وهداه للهدف من خلقه، والهدف من خلقه هو وصوله

إلى الكمال، وكمال كل شيء معرفته بربه سبحانه، فجميع المخلوقات خلَقَها وهداها لكمالها، أي لمعرفتها بربها ومعرفتها بخالقها.

إن معرفتنا نحن بني البشر بأن جميع المخلوقات تسير نحو الكمال، وتسير نحو المعرفة بالله تبارك وتعالى هي هداية الله لنا؛ «هدانا لهذا» أي هدانا لمعرفة أن جميع المخلوقات تسير نحو الكمال، نحو معرفتها بربها.

ص: 239


1- سورة الذاريات، الآية 56.
2- سورة طه، الآية 50.

فالأولى والأجدر بالإنسان الذي هو أشرف وأكرم الموجودات أن يسير نحو الكمال أيضاً نحو معرفته بالله تبارك وتعالى، «اللهم عرَّفني نفسك فإنك إن لم تُعرَّفني نفسَك لم أعرف نبيَّك»(1).

الوصف السادس: الغِنَى، في قوله علیه السّلام: «الحمد لله الذي يرزق ولا يُرزق، ويُطعِمُ ولا يُطعِمُ، ويُميتُ الأحياء ويحي الموتى وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير».

ذكرنا فيما مضى صفة الغني، وقلنا أن من كان وجوده لا حدَّ له، وقدرته لا حدَّ لها، وعلمه لا حدَّ له، وحياته لا حدَّ لها، فهو غني عن كل ما سواه؛ لذلك هو يخلق ولم يُخلق، ويرزق ولا يُرزق، ويُطعم ولا يُطعَم، ويُميت ويُحيي وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلَّ شيء قدير.

الصلاة على النبي والهدف منه:

ثم انتقل الإمام إلى الصلوات، «اللهم صلَّ على محمد عبدك ورسولك وأمينك وصفيك وخيَرَتِكَ مِن خلقك وحافظ سرك ومبلغ رسالاتك أفضل وأَحسَن وأَجَمل وأَكمل وأَزكى وأَنمی وأَطيبَ وأَطهَرَ وأَسنَی.. » ثم صلی الإمام على باقي الأئمة إلى أن وصل إلى الإمام المنتظر عجَّل الله فَرَجَه.

وهنا لا بدَّ أن نتعرض لأمرين:

1- في معنى الصلاة.

2- في الهدف من الصلاة وتكرارها وتأكيدها.

ص: 240


1- الكافي، ج 1، ص337.

أما ما معنى الصلاة، فقد ورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(1)، قال: الصلاة من الله عزّ وجلّ رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء»(2).

وعندما نقول: «اللهم صلّ على محمد وآل محمد» فإننا ندعو لهم، فالصلاة دعاء لأهل البيت بأن يرفع الله درجتهم ويهبهم سموَّ المنزلة وعلوَّ المقام.

أما الهدف من الصلاة عليهم وتكرارها والتأكيد عليها؛ فهو أمور:

الأول: أن نكون في مقام الشكر لأهل البيت، فهم وسائط الفيض التكويني والتشريعي، ولولا وجودهم لما خُلق الوجود، ولولا علومهم لما وصل إلينا النظام السماوي؛ فهم الوسائط في النظام التشريعي أيضاً.

ولولا تضحياتهم وصبرهم وجهودهم وطاقاتهم لما بقي الدين إلى

قيام الساعة، قال رسول الله: «إني مخلف فيكم الثقلين؛ کتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وقد أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفونَّى فيهما»(3).

وورد عنه: «في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي

ص: 241


1- سورة الأحزاب، الآية 56.
2- التفسير الصافي للفيض الكاشاني، ج4، ص201.
3- الكافي، ج2، ص415، صحیح مسلم، الحديث رقم4425، باب فضائل الصحابة، مسند أحمد، رقم الحدیث 18464، مسند الكوفيين.

عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجهال، وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم»(1).

إذاً مقتضی أنهم واسطة في الفيض التكويني والفيض التشريعي، ومقتضى تضحياتهم وجهودهم التي بها قام الدين وبقي المذهب؛ أن نكون في مقام الشكر لهم، وشكرنا لهم يتحقق بصلاتنا عليهم، فصلاتنا عليهم شكرٌ لهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الثاني: الامتثال لله تعالى حيث أمر بمودتهم، قال تعالى: قل لا

«قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(2).

إن صلاتنا عليهم هي نوعٌ من المودة، فلا بُدَّ لنا من أن نصلي عليهم حتى تكون صلاتنا عليهم امتثالاً لأمره تعالى، بل ورد في الأحاديث الشريفة عن الإمام الصادق علیهم السّلام: «من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليُكثر من الصلاة على محمد وآل محمد، فإنها تهدم الذنوب هدما»(3).

ولقد أجاد الشافعي حين قال:

يكفيكم من عظيم الفخر أنكم *** من لم يُصل عليكم لا صلاة له

الثالث: أن صلاتنا عليهم لون من ألوان الصلة النفسية بهم،

ومن كانت له صلة نفسية بعظيم من العظماء مع إطلاع العظيم على

ذلك فإنه يحظى بعناية ذلك العظيم ولطفه؛ فصلاتنا عليهم صلة بهم والصلة بهم مورد لتفضلهم علينا بشيء من شعاع هدايتهم وفيوضاتهم الروحية.

ص: 242


1- بحار الأنوار، ج23، ص31.
2- سورة الشورى، الآية 23.
3- وسائل الشيعة، ج7، ص194، باب34.

فلسفة دعاء الإمام (عج) لنفسه:

ثم وصل الإمام إلى الصلاة على الإمام المنتظر عجَّل الله فَرَجَه، فقال: «اللهم وصل على ولي أمرك القائم المؤمَّل، والعدل المنتظر، وحُفّهُ بملائكتك المقرَّبين وأيَّدهُ بروح القُدس یا ربَّ العالمين. اللهم اجعله الداعيَ إلى كتابك والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهم أعِزَّه وأعزِز به، وانصره وانتصر به، وأنُصرهُ نَصراً عَزِيزاً، وافتَح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لَدُنكَ سُلطاناً نصيراً...».

وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال؛ كيف يدعو الإمام المهدي

لنفسه؟! أليس الدعاء وارداً عن الإمام المنتظر نفسه؟! فكيف يثني الإمام - عجَّل الله تعالى فرجه على نفسه؟

للإجابة على هذا السؤال؛ هنا وجوه ثلاثة: الوجه الأول: إظهار النعم الإلهية:

الواقفية لما وقفوا على الإمام الكاظم جاؤوا إلى الإمام الرضا

عليه السّلام، ودخل عليه علي بن أبي حمزة وابن السراج و ابن المكاري.

فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟

قال: مضى.

قال: مضى موتاً؟

فقال: نعم.

فقال: إلى مَن عَهِدَ؟

قال: إليَّ.

ص: 243

قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من الله؟

قال: نعم.

قال ابن السراج وابن المكاري: قد والله أمكنك من نفسه.

قال: ويلك! وبما أمكنتُ؟! أ تُريدُ أن آتيَ بغداد وأقول الهارون: إني إمام مفترضٌ طاعتي؟!

والله ما ذاك عليَّ، وإنما قلتُ ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتُّتُ أمركم لئلا يصير سرُّكم في يد عدوَّكم.

قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يُظهره أحد من

آبائك، ولا يتكلَّم به!

قال: بلى والله، لقد تكلّم به خير آبائي رسول الله، لما أمره الله أن يُنذر عشيرته الأقربين؛ جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: «إني رسول الله إليكم»(1).

إذا كان الثناء على النفس إظهاراً لنعمة الله التي وهبها له، ومن أجل إثبات هذه النعم وتأكيدها؛ فلا مانع من ذلك فهذا من باب «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»(2).

الوجه الثاني: الدعاء بلحاظ الوجود الجمعي:

ذكرنا في شرح بعض فقرات هذا الدعاء الشريف أن هذا الدعاء وغيره من الأدعية يصدر عن أهل البيت بلحاظ الوجود الجمعي، لا بلحاظ الوجود الشخصي، فالإمام هنا يدعو بلسان أحبَّته المنتظرین

ص: 244


1- بحار الأنوار، ج8، ص270.
2- سورة الضحى، الأية 11.

الخروجه، يدعو بلسان عشَّاقه المؤمَّلين لطلعته.

يدعو بلسان الذين يقطعون الليل حسرة وشوقاً وتلهفاً لطلعته وانتظاره عجَّل الله فرجه، هذا دعاء بلسان أحبَّته، ودعاء بلسان عُشَّاقه الذين يُظهرون الشوق واللهفة والعِشق المقدَم الإمام الشريف من خلال هذه الفقرات المباركة.

العلاقة بين صفات الله تعالى وصفات الإمام:

الوجه الثالث: الإشارة إلى الملازمة بين العلاقة بالله تعالى

والعلاقة بالإمام.

يريد الإمام عليه السّلام أن يبيَّن لنا أنه لا يمكن التفكيك بين العلاقة القلبية مع الله تعالى والعلاقة القلبية مع الإمام أبداً. من المستحيل أن تحبَّ الله جلَّ وعلا، ولا تحبَّ الإمام.

من المستحيل أن تكون لك علاقة قلبية مع الله تعالى ولا تكون

لك علاقة قلبية مع الإمام. لماذا؟!

كما قال الشاعر:

وما حُبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبُ من سكن الديَار

من أحب شيئاً أحبَّ توابعه ومتعلقاته وما يرتبط به، ولا يمكن الأحد أن يقول: أنا أحبُّ فلاناً، ولكن أكره شكله، أو أنا أحبُّ فلاناً ولكن لا أحبُّ ما يرتبط به، فإن من أحبَّ شيئاً أحبَّ سائر لوازمه المعبَّرة عنه.

فهل يُعقل أن تحبَّ الله تبارك وتعالى لأجل جماله ولأجل جلاله، وأن لا تحبَّ مظاهر جماله ومظاهر جلاله ألا وهم أهل بيت النبوة؟! إذا كنَّا أحببناه تعالى لجماله وجلاله، فكيف تجلّى لنا جماله وجلاله؟!

ص: 245

إنما يتجلّى لنا جماله وجلاله جلّ وعلا من خلال جمال وجلال الإمام، وخلال صفات الإمام، وخلال فيوضات الإمام علیه السّلام، فلا يُعقل أن تحبَّ الجمال ولا تحبَّ مظاهر هذا الجمال.

إذاً عندما يُقرِنُ الإمام علیه السّلام في هذا الدعاء بين الحديث عن صفات الله تعالى وبين الحديث عن صفاته؛ فهو يُريد أن يؤكّد لنا أنه لا يمكن التفكيك بين العلاقة القلبية مع الله تعالى والعلاقة القلبية مع الإمام المنتظر عجّل الله فرجه.

المضمون التربوي والعقائدي والاجتماعي لدعاء الافتتاح:

وبنظرة شمولية للدعاء الشريف، فإنه تضمَّن الإشارة إلى جوانب ثلاثة:

1- الجانب العقائدي.

2- الجانب التربوي.

3- الجانب الاجتماعي.

أما الجانب العقائدي فهو الإشارة إلى الأصول الخمسة:

التوحيد: «الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً..».

العدل: «الحمد لله قاصم الجبارين، مدرك الهاربين، نکال الظالمين..».

النبوة: «اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك..».

الإمامة: «اللهم وصلّ على عليّ أمير المؤمنين..».

المعاد: «وَيُمِيتُ الأحياء، وَيُحيي المَوتى»، «وترزُقُنا بها

كرامة الدنيا والآخرة».

ص: 246

وأما الجانب التربوي فلقد أشار الدعاء إلى عدة خصال تربوية ضرورية لتربية روح المؤمن:

الخصلة الأولى: التربية على الشكر، وذلك في قوله علیه السّلام:

«الحمد لله خالق الخلق، باسط الرزق، ذي الجلال والإكرام..».

الخصلة الثانية: التربية على التوكل، كما في قوله علیه السّلام: «فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي، لعلمك بعاقبة الأمور».

الخصلة الثالثة: التربية على صفة التوبة والإنابة، وذلك في قوله: «الحمدُ للهِ على حلمه بعدَ علمه، والحمدُ للهِ على عفوه بعد قدرته، والحمدُ لله على طول أناته في غضبه، وهو قادرٌ على ما يريد».

الخصلة الرابعة: أهمية الدعاء، «الحمد لله الذي يجيبني حين

أناديه ويستر عليّ كل عورة وأنا أعصيه.

وأما الجانب الاجتماعي فقد أشار الدعاء إلى ثلاثة من الأمور

الاجتماعية:

الأمر الأول: تحسس الإنسان بمعاناة الآخرين، ومواساة الآخرين.

حيث أشار إلى ذلك في قوله: «اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي يُؤْمِنُ الْخائِفينَ، وَيُنَجِّى الصّالِحينَ، وَيَرْفَعُ الْمُسْتَضْعَفينَ، وَيَضَعُ الْمُسْتَكْبِرينَ،يُهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرينِ، وَالْحَمْدُ للهِ قاِصمِ الجَّبارينَ، مُبيرِ الظّالِمينَ، مُدْرِكِ الْهارِبينَ، نَكالِ الظّالِمينَ صَريخِ الْمُسْتَصْرِخينَ، مَوْضِعِ حاجاتِ الطّالِبينَ، مُعْتَمَدِ الْمُؤْمِنينَ».

الأمر الثاني: ترويض النفس على أن تكون أداة لتحقيق المجتمع

الأفضل.

ص: 247

كل إنسان يجب عليه أن يعوَّد نفسه على أن يكون أداة من أدوات إقامة الحضارة العادلة والمجتمع الأفضل على الأرض، يقول: «اللّهُمَّ إنّا نَرغَبُ إلَيكَ في دَولَةٍ كَريمَةٍ تُعِزُّ بِهَا الإِسلامَ وأهلَهُ وتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وأهلَهُ وتَجعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ إلى طاعَتِكَ وَالقادَةِ إلى سَبيلِكَ ، وتَرزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ».

نقاط الضعف في المجتمع:

الأمر الثالث: تحديد نقاط الضعف في المجتمع.

لا يمكن إصلاح المجتمع إلا بعد تحديد نقاط الضعف، ولا يمكن أن نسيربالمجتمع مسيرة رشيدة ومسيرة عادلة إلا إذا حددنا منشأ المرض وبيت الداء في المجتمع.

وهنا يحدد لنا الإمام منشأ المرض وبيت الداء كي ينطلق أبناء المجتمع انطلاقة رشيدة لإصلاح مجتمعهم، حيث يقول:

«اللّهُمَّ إنّا نَشكو إلَيكَ فَقدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيهِ وآلِهِ، وغَيبَةَ إمامِنا، وكَثرَةَ عَدُوِّنا، وشِدَّةَ الفِتَنِ بِنا، وتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَينا».

نقاط الضعف في المجتمع التي تعرَّض لها الإمام في الدعاء هي:

1- غياب القيادة الرشيدة.

2- قلة الطاقات المخلصة لبناء المجتمع.

3- الابتلاء بالخلافات والتيارات المتضادّة والفتن الداخلية.

فإذا أراد المجتمع أن يسير سيرة حضارية رشيدة بنَّاءة فعليه أن

يسدّ هذه الثغرات، وذلك عبر هذه الوسائل:

1- الإخلاص والطاعة والمواصلة مع القيادة الرشيدة.

2- التحام الصفوف ونبذ الخلافات الاجتماعية.

ص: 248

3- تنمية الطاقات والكفاءات المخلصة التي تُعنى بتنمية المجتمع وبنائه.

اللّهُمَّ إنّا نَشكو إلَيكَ فَقدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيهِ وآلِهِ ، وغَيبَةَ إمامِنا، وكَثرَةَ عَدُوِّنا، وشِدَّةَ الفِتَنِ بِنا، وتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَينا، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأعِنّا عَلى ذلِكَ بِفَتحٍ تُعَجِّلُهُ، وبِضُرٍّ تَكشِفُهُ، ونَصرٍ تُعِزُّهُ، وسُلطانِ حَقٍّ تُظهِرُهُ، ورَحمَةٍ مِنكَ تُجَلِّلُناها، وعافِيَةٍ تُلبِسُناها، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرّاحِمينَ».

والحمد لله رب العالمين

ص: 249

المحتویات

الصوره

ص: 250

الصوره

ص: 251

الصوره

ص: 252

الصوره

ص: 253

الصوره

ص: 254

الصوره

ص: 255

الصوره

ص: 256

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.