الجبر و الاختیار

اشارة

الجبر و الاختیار

محمد صادق روحانی

محقق: قاسم محمد مصری عاملی

ناشر : لسان الصدق - قم - ایران

سال نشر: 1426 ق یا 2005 م

موضوع: جبر و اختیار

زبان: عربی

کد کنگره: BP 219/6 /ر 9 ج 2

ص :1

اشارة

ص :2

الجبر و الاختیار

محمد صادق روحانی

محقق: قاسم محمد مصری عاملی

ص :3

ص :4

مقدمة التحقيق:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي هدانا لصراطه المستقيم، و رزقنا الاعتصام بحبله المتين، و الصلاة و السلام على من بُعث رحمة للعالمين، و آله الهداة الأطهار الميامين، لا سيما خاتمهم بقية اللّه في الأرضين. و بعد؛ فإني أرفع هذا العمل اليسير، و الجهد المتواضع، إلى ساحة قدس نور اللّه الأعظم، و مظهر الأتم، الذي نطقَ فكان تلوَ القرآن، و بَين فكان ربَّ البيان، فخشعت لنطقه الأصوات، و انحلَّت ببيانه المعضلات، و تبدَّدت ببرهانه الشبهات. حتى صار المذهب الحقُّ إليه يُنمى، و اتخذ له من اسمه اسما، فكان قوله فرقاناً بين الزيغ و العلم، و حكمه ميزاناً بين اليقين والوهم.

ص:5

كيف و هو سادس الأئمة الأطهار، و صادق آل النبي المختار، و أمين سرِّ الواحد القهار، أبو عبد اللّه جعفر بن محمد صلوات اللّه عليه ما تعاقب الليل و النهار. فيا (أيُّهَا العَزيزُ مَسَّنَا وَ أَهلَنَا الضُّرُّ وَ جِئنَا ببضَاعَة مُزجَاة فَأَوفِ لَنَا الكَيلَ وَ تَصَدَّق علَينا إِنَّ اللّهَ يَجزِي المُتَصَدِّقينَ) .

ص:6

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الطيف الخبير، الذي خلق فسوى و قدّر فهدى، حمداً دائما بدوام ملكه، و الشكر له على نعمائه و هدايته. . و الصلاة و السلام على من بُعث رحمة للعالمين، البشير النذير أبى القاسم محمد (صلی الله علیه و آله) ، و على آله الأطهار، مفاتيح الرحمة و المغفرة، و أبواب الهداية و السعادة، و سفن النجاة التى من تخلف عنها غرق و هوى. . خزان علم اللّه، و معادن حكمته، و أسرار غيبة. و بعد، فإن موضوع الجبر و الاختيار لما كان من المسائل المهمة و الدقيقة، الى حدّ جعلت أسُّ المسائل الاعتقادية بحسب تعبير بعضهم، عزمت على إخراج هذه الرسالة الجليلة الموسومة.

ص:7

(الجبر و الاختيار) لسماحة آية اللّه العظمى المجاهد السيد محمد صادق الحسيني الروحاني (دام ظله العالي) ، لما لهذا الموضوع من آثار علمية و عقائدية جليلة. . . و قد تاهت بذلك أفكار كثيرين من البشر عبر القرون و الأيام على مناهج شتى و مذاهب متشعبة، فمنهم: من استند الى عقله بعيداً عن النقل، و منهم: من فسَّر الآيات أو الروايات بحسب مرتكزاته و فهمه، و منهم: من قاس الأمور، و الكل انحرفوا بذلك عن سواء السبيل، سوى من ركن الى ركن وثيق، و لجأ الى كهف حصين، فاستنار بهدي اللّه و غرف من معين حجج اللّه في رد الشبهات و حل المعضلات مستمسكاً بقول الصادق الأمين (لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين) مقروناً بالقواعد العقلية: منطقية كانت أو أصولية أو فلسفية. فأخرجتها الى عالم الوجود مرة أخرى محققه و منقحة مع بعض التعليقات التي لا تخل بالاختصار الذي بُنيت عليه هذه

ص:8

الرسالة، مع اعتقادي أن هذا المطلب يحتاج الى المزيد من البيان و التوضيح حيث إن علماء الأصول في كتبهم و بحوثهم في (اتحاد الطلب و الارادة) بنقل الأقوال من الكتب الكلامية و بعض الردود عليها إلا أن الوقت لم يكن يتسع لذلك. فاكتفيت بتخريج المصادر التي حضرتني، و الإشارة الى البعض الآخر، مع التعرض المختصر لترجمة بعض المختصر لترجمة بعض أصحابها ليسهل على القاري الكريم الاطلاع عليها، و لما تصرف في المتن إلا بمقدار تصحيح بعض النقولات من مصادرها لأنها نقلت ابتداءً بالمعنى، أو الاخطاء المطبعية، أو إضافات توضيحية يسيرة، و في بعض الروايات لنفس الغاية. سائلاً المولى القدير أن يوفقنا للمزيد في خدمة الدين الحنيف و يجعل أعمالنا مقبولة، و يغفر زلاتنا إنه ولي ذلك، راجياً أن يجعل هذا العمل نافعاً لإخواننا المؤمنين. . شاكرا كل من له حق علي في هذه المسيرة. و الحمد للّه رب العالمين مكتب سماحة آية اللّه العظمى الروحانى

ص:9

بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين

ص:10

الجبر و الاختيار

اشارة

من المسائل المهمة مسألة " الجبر و الاختيار "، و هي من أقدم الابحاث العلمية، اشتغل بها المتفكرون و الفلاسفة، و الآراء فيها كثيرة سنذكر عمدتها.

و قد عرفت أن أشهر المتفكرين السابقين المتعرضين للمسألة هو " أرسطو " و قد تعرض للمسألة في كتاب " الاخلاق إلى نيقوماخوس ".

و أساس الآراء و العقائد " الجبر " (1)و " التفويض " (2)و " الامر بين الامرين " (3)، لان أفعال الإنسان دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور

ثلاثة:

ص:11


1- 1) و هو مذهب الاشاعرة كما صار معروفا.
2- 2) و هو مذهب المعتزلة بصورة عامة.
3- 3) و هو مذهب العدلية (الامامية) أعلى اللّه مقامهم لقول الإمام الصادق ( [1]لا جَبْرَ وَ لا تَفْوِيضَ وَ لَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، قَالَ قُلْتُ: وَ مَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَالَ مَثَلُ ذَلِكَ رَجُلٌ رَأَيْتَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَنَهَيْتَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَتَرَكْتَهُ فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَهُ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ) ، الكافي ج1 ص 160 باب الجبر و التقدير و الامر بين الامرين. و لما عن عيون اخبار الرضا ( [2]عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي قال: دخلت على علي ابن موسى الرضا بمرو، فقلت: له يا ابن رسول اللّه روي لنا عن الصادق جعفر ابن محمد أنه قال: «لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال: من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، و من زعم أن اللّه عز و جل فوض أمر الخلق و الرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، فالقائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، فقلت له يا ابن رسول اللّه: فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به و ترك ما نهوا عنه، فقلت له فهل لله عز و جل مشية و إرادة في ذلك، فقال أما الطاعات فإرادة اللّه و مشيته فيها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة عليها، و إرادته و مشيته في المعاصي النهي عنها و السخط لها و الخذلان عليها، قلت فلله عز و جل فيها القضاء؟ قال نعم ما من فعل يفعله العباد من خير و شر إلا و لله فيه قضاء قلت فما معنى هذا القضاء قال الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة. عن بحار الأنوار ج:5 ص 12. و [3]غيرهما من الاحاديث في الدالة على هذه المعاني كثيرة جدا.

ص:12

الأول: أن لا يكون لقدرته و ارادته دخل فيها.

الثاني: أن لا يكون المؤثر فيها سوى قدرته و ارادته.

الثالث: أن يكون حصول الفعل مستندا إليه نفسه و إلى اللّه تعالى. فالاول هو " الجبر " و الثانى " التفويض " و الثالث " الامر بين الامرين ".

ص:13

أقوال الجبريين

أما الجبريون فلهم مسالك شتى عمدتها مسلكان:

أحدهما: ما عن الجبريين على الاطلاق، منهم جهم بن صفوان (1)

و اتباعه، و هو أن أفعال العباد غير اختيارية لهم و هم

ص:14


1- 1) جهم بن صفوان الترمذي و قد عُرف أتباعه بالجهمية، و يكنى ابا محرز و قد نشأ في سمرقند بخراسان و قضى فترة من حياته في ترمذ و هو مذموم السيرة، و في سير أعلام النبلاء ج7ص311 قال: قد اطبق السلف على ذمِّه بسبب تغاليه في التنزيه و انكار صفات اللّه. و اخرج الخطيب البغدادي [1]في كتابه تاريخ بغداد ج3 ص165 [2] عن اسحاق بن ابراهيم الحنظلي يقول: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير يعني في البدعة و الكذب: جهم بن صفوان، و عمر بن صبيح، و مقاتل بن سلمان. و في الجزء13 منه ص373 ح24 عن الرحمن الحماني عن ابيه سمعت أبا حنيفة يقول جهم بن صفوان كافر. . الخ و قد قتل جهم في أواخر ملك بني امية، قتله سلم بن أحوز المازني لما ظهر منه. اللباب ج1ص317 [3] او حاسية تاريخ مدينة دمشق ج5 ص318 [4] هامش رقم1. و في ميزان الاعتدال ج1 ص426 رقم 1584 قال جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية. . ما علمته روى شيئا، لكنه زرع شرا عظيما و في سير اعلام النبلاء رقم 8 ج6 انه اس الضلالة و كان صاحب ذكاء و جدال. . الخ.

مقهورون في أفعالهم و ليس لإرادتهم دخل فيها و لا كسب. و لا فرق عندهم بين مشى زيد و حركة يد المرتعش، و لابين الصاعد إلى السطح و الساقط منه (1).

ص:15


1- 1) عن الفوائد لابن قيم ص 53 أن الجهم زعم: «بأن الجنة و النار تفنيان و أن الايمان هو المعرفة باللّه فقط و الكفر هو الجهل به، و أنه لا فِعلَ و لا عمل لأحد غير اللّه، و إنما تنسب الأعمال الى المخلوقين على المجاز» / و فى الفرق بين الفرق ص 28 [1]

الثاني: ما ذهب إليه جماعة منهم أبو الحسن الاشعري (1)و أتباعه و هم كثيرون، فانهم لما رأوا شناعة المذهب الأول فروا منه بما لا ينفعهم، و قالوا: ان أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه وحده و ليس لقدرتهم تأثير فيها، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة و اختيارا، فإذا لم يكن هناك صانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى ابداعا و احداثا و مكسوبا للعبد (2).

و قد اضطربت عباراتهم في تفسير حقيقة الكسب، حيث ذكروا لها وجوها:

ص:16


1- 1) أبو الحسن البصري سكن بغداد و توفي فيها حوالي سنة 324 كما في تاريخ بغداد ج11 ص346 و [1]ذكر عن ابي بكر بن الصيرفي أنه قال: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر اللّه تعالى الاشعري فجحرهم في اقماع السمسم، و على أي حال فهو عمدة مذهب الاشاعرة المعروف.
2- 2) شرح المواقف للجرجاني ج 8 ص 145-146، (تؤليف القاضي الإيجي)

أحسنها ما قاله القاضى أبو بكر الباقلانى (1)، و هو أن الإنسان، و ان كان فعله صادرا عنه بغير تأثير منه في صدوره، الا أن تلونه بلون حسن أو قبيح انما يكون بقدرته و اختياره. مثلا: ضرب اليتيم إذا صدر منه يكون المؤثر في أصل تحققه هو اللّه تعالى، الا أن قصد كونه للتربية فيكون حسنا أو الظلم فيكون قبيحا انما فوض إلى العبد، و هذا هو المعيار للثواب و العقاب (2).

ص:17


1- 1) هو ابو بكر محمد بن الطيب بن محمد الباقلاني القاضي، أصله من البصرة و عاش في بغداد استدعاه عضد الدولة الديلمي إلى بلاطه في شيراز، فمكث هناك مدّة ثمّ عاد إلى بغداد بعد وفاة عضد الدولة و يعد الباقلاني من أهم متكلمي المدرسة الاشعرية، كان معاصرا للشيخ المفيد و كان للمفيد معه مناظرات لطيفة و نافعة اوردها في كتابه مسألة في النص على علي ج2ص21 تحقيق محمد رضا انصاري، دار المفيد بيروت، و تجد ترجمة الباقلاني في تاريخ التراث العربي ج4 ص48. [1]
2- 2) هذا المعنى ذكره الباقلاني في كتاب الانصاف، كما نسبه اليه غير واحد من الاعلام، راجع ملحقات الاحقاق ج1 ص400 و ج2ص51 لآية اللّه المرعشي النجفي.

و لكن الظاهر أنه لا ينفعهم ذلك أيضا، إذا القصد بنفسه فعل من الأفعال، فعلى القول بالكسب لا بد و أن يكون ذلك أيضا صادرا عن إرادة اللّه تعالى و قدرته، فلا اختيار أصلا.

و لعله لذلك قال العلامة المجلسي: و المراد بكسبه اياه مقارنته لقدرته و ارادته، من غير أن يكون هناك تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلا له (1).

ص:18


1- 1) ذكره آية اللّه العظمى السيد الخوئي في المحاضرات [1]ثمّ قال و هذا مذهب الشيخ ابي الحسن البصري الاشعري، محاضرات في الأصول ج2 ص50(نظرية الاشاعرة مسألة الجبر و نقدها) .

و قالوا نسبة الفعل إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار ايجاده له.

و الالتزام بأحد هذين المذهبين مستلزم لإنكار التحسين و التقبيح العقليين

بالاضافة إلى أفعال العباد، لانهما انما يكونان على الأفعال الاختيارية.

أ لا ترى أن السيف إذا وقع آلة لقتل من يحسن قتله لا يحسِّنه العقلاء.

و على القول بالجبر السياف و السيف متساويان في القتل و كل منهما آلة لوقوعه، فالسياف أيضا لا يستحق التحسين.

كما ان القائلين بأحد هذين القولين " أي الجبر " وقعوا في

ص:19

اشكال تكليف العصاة، لانه ان لم تكن إرادته تعالى متعلقة بالفعل فلا يكون التكليف جديا، و ان كانت إرادته متعلقة به فكيف تتخلف عن المراد.

و في مقام الجواب عن هذه العويصة، التزموا بأن التكليف انما يكون طلبا، و هو غير الإرادة، و تخلف إرادته تعالى عن المراد غير ممكن، و أما طلبه فلا محذور في تخلفه عن المطلوب.

فمع فرض عدم تعلق إرادته تعالى بالصلاة مثلا يأمر بها، و به يوجد الطلب، و تخلفه عن المطلوب لا محذور فيه.

و لذلك التزموا بأن التكليف بما لا يطاق جائز و لا بأس به.

و بما ذكرناه ظهر أن توجيه المحقق الخراساني (1)-كلام الاشاعرة القائلين بالمغايرة بين الطلب و الارادة، بأن المراد من المغايرة مغايرة الانشائى من الطلب كما هو المنصرف إليه

ص:20


1- 1) كفاية الأصول ص66( [1]ثمّ انه يمكن مما حققناه ان يقع الصلح بين الطرفين) .

اطلاقه، و الحقيقي من الارادة كما هو المراد منه غالبا حين اطلاقها، فيكون النزاع لفظيا-توجيه في غير محله.

و حيث لا ريب ان اللّه تعالى يعاقب طائفة لاجل ترك الواجبات و فعل المحرمات، فلا مناص لهم من انكار التحسين و التقبيح العقليين بالاضافة إليه تعالى أيضا، و الا فبناء على القول بهما لا وجه لعقابه على الفعل غير الاختياري.

و يترتب على الالتزام بأنه يعاقب على الأمور غير الاختيارية سلب العدالة عنه، و لذا التزموا بأن له أن يعاقب أشرف الانبياء و يثيب أشقى الاشقياء، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

القول بالتفويض

و أما المفوضة (1)فحفظا لعدالة اللّه تعالى التزموا بأن أفعال

ص:21


1- 1) المفوضة صنف من الغلاة و قولهم الذي فارقوا فيه من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة و خلقهم و نفي القدم عنهم، و إضافة الخلق و الرزق مع ذلك اليهم، و دعواهم ان اللّه تبارك و تعالى تفرد بخلقهم خاصة و أنه فوض اليهم خلق العالم، بحار الأنوار ج25 ص345، [1] تصحيح الاعتقاد ص131، و في مجمع البحرين ج2 ص438( [2]فوض) المفوّضة قوم قالوا ان اللّه خلق محمدا و فوض اليه خلق الدنيا فهو الخلّاق لما فيها، و قيل فوض ذلك إلى علي، و في مشارق أنوار اليقين في اسرار امير المؤمنين: ان المفوضة عشرون فرقة ثمّ ذكر اصنافهم فمن اراد التوسعة فليراجع المشارق ص335.

العباد غير مربوطة به تعالى و تمام المؤثر فيها هو العبد (1).

ص:22


1- 1) و هذا يتنافى مع صريح الآية المباركة الحمد لله رب العالمين حيث أخبر سبحانه عن نفسه أنه الاله الخالق و في نفس الامر هو الرب المدبر لشئون الخلق و ارزاقهم. . و في ذلك ابطال ايضا لما ذهبت اليه اليهود من ان اللّه سبحانه خلق الخلق و استراح او اوكل الامر إلى كهنتهم. . ، و قد حكى اللّه سبحانه و تعالى عن بعض أقوالهم هذه كما في سورة المائدة آية 64. نعم ما ذكرنا لا يتنافى مع الاعتقاد بان يكون للانبياء أو الاوصياء القدرة على التصرف بمسائل كونية بمشيئته تعالى.

و لكن لازم هذا القول نفى السلطنة عنه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و المثال العرفي الذي يوضح هذا المذهب: انه إذا فرضنا أن المولى أعطى لعبده كأسأ من الخمر مع علمه بأنه يشربه و بعد ذلك خرج أمر

الشرب عن اختياره بحيث لو شاء أن لا يقع في الخارج لما تمكن منه، فالشرب إذا صدر منه باختياره لا يكون مستندا إلى المولى بوجه، فانه حين صدوره عنه يكون أجنبيا عنه بالمرة.

و أكثر القائلين بالتفويض-و هم المعتزلة-قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد.

ص:23

و بعضهم قال بعدم وجوب الفعل بل يصير أولى.

قال المحقق الطوسي: ذهب مشايخ المعتزلة و أبو الحسن البصري و امام الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد له قدرة قبل الفعل و ارادة بها تتم مؤثريته فيصدر منه الفعل، فيكون العبد مختارا إذا كان فعله بقدرته الصالحة للفعل و الترك تبعا لداعيه الذي هو إرادته. و الفعل يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكنا، و بالقياس إليها مع الإرادة يصير واجبا.

و قال محمود الملاحمي و غيره من المعتزلة: ان الفعل عند وجود القدرة و الارادة يصير أولى بالوجود، حذرا من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب، انتهى.

و لا يخفى ان للتفويض معنيين آخرين:

ص:24

أحدهما: رفع الحظر و المنع عن أفعال العباد و ان جميع أفعالهم مباحة.

قال الشيخ المفيد (1)في شرح الاعتقادات: و التفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال و الاباحة لهم ما شاءوا من الاعمال، و هذا قول الزنادقة و أصحاب الاباحات، انتهى.

ثانيهما: ايكال أمر الخلق و الرزق و تدبير العالم إلى بعض العباد، قال الامام علي ابن موسى الرضا: على ما في خبر رواه الصدوق باسناده عن يزيد بن عمير: و من زعم أن اللّه عز و جل فوض أمر الخلق و الرزق

إلى حججه فقد قال بالتفويض (2).

ص:25


1- 1) تصحيح اعتقاد الامامية ص47 ط دار المفيد بيروت، الطبعة الثانية.
2- 2) عيون أخبار الرضا ص 87، [1]الوسائل ج28 باب 10 [2] جملة مما يثبت به الكفر و الارتداد ص339 ح 34907 م أهل البيت.

معنى الامر بين الامرين

و أما " الامر بين الامرين " فهو أمر دقيق لا يعلمه الا العالم أو من علمه اياه العالم كما في خبر صالح بن سهل (1)، و سر اللّه كما في النبوي (2)و بمعناهما أخبار أخر.

ص:26


1- 1) الكافي ج1 ص159 [1] بابي الجبر و القدر ح10 عن أبي عبد اللّه قَالَ سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ وَ الْقَدَرِ فَقَالَ لا جَبْرَ وَ لا قَدَرَ وَ لَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيهَا الْحَقُّ الَّتِي بَيْنَهُمَا لا يَعْلَمُهَا إلا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاهُ الْعَالِمُ.
2- 2) كما في كتاب الوافي ج1 ص537، و [2]عن نهج البلاغة ح 287، ص526 و [3]في روضة الواعظين [4]في باب القضاء و القدر ص40، عن أمير المؤمنين أنه سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ: طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فلا تَسْلُكُوهُ وَ بَحْرٌ عَمِيقٌ فلا تَلِجُوهُ وَ سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفُوهُ. و في الكافي ج1 ص159 ح11 عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ [5]قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَجْبَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي فَقَالَ اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَفَوَّضَ اللَّهُ إِلَى الْعِبَادِ قَالَ فَقَالَ لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالْأَمْرِ وَ النَّهْيِ فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ قَالَ فَقَالَ نَعَمْ أَوْسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ و الْأَرْضِ.

و قد قال الفخر الرازي: حال هذه المسألة عجيبة، فان الناس كانوا فيها مختلفين أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع فيها إليه متعارض متدافع.

ثمّ ذكر جملة من أدلة الطرفين ثمّ قال: و أما الدلائل السمعية فالقرآن مملو مما يوهم الامرين و كذا الآثار، و ان من أمة من الامم لم تكن خالية من الفرقتين، و كذا الاوضاع و الحكايات متدافعة من الجانبين، حتى قيل ان

وضع النرد على الجبر و وضع الشطرنج على القدر (1). انتهى.

ص:27


1- 1) كما عن العلامة المجلسي في البحار، نقل نص كلامه بالكامل ج5 ص82.

و مثله في الاعتراف بالشك و الحيرة محيى الدين بن العربي في محكى الفتوحات.

و لعلمائنا في تحقيقه مسالك:

الأول: ما ذهب إليه الشيخ المفيد في شرحه على الاعتقادات و هو أن اللّه أقدر الخلق على أفعالهم و مكنهم من أعمالهم و حد لهم الحدود في ذلك و نهاهم عن القبائح بالزجر و التخويف و الوعد و الوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبرا لهم عليها، و لم يفوض الاعمال إليهم لمنعهم من أكثرها و وضع الحدود لهم فيها و أمرهم بحسنها و نهاهم عن قبيحها. ثمّ قال: فهذا هو الفصل بين الجبر و التفويض (1)، انتهى.

و هو حسن، و لكن لا يصح تنزيل الاخبار الكثيرة الواردة في بيان الامر بين الامرين التي ستمر عليك جملة منها على ذلك.

ص:28


1- 1) تصحيح اعتقادات الامامية ص 47(و الوسط بين هذين القولين) دار المفيد، بيروت.

الثاني: أن المراد به أن اللّه تعالى جعل عباده مختارين في الفعل و الترك مع قدرته على صرفهم عما يختارون و على جبرهم على فعل ما لا يفعلون.

و هذا أيضا حسن، الا أن الظاهر كون الامر بين الامرين أدق من ذلك كما سيمر عليك.

الثالث: أن المراد به أن الاسباب القربية للفعل بقدرة العبد و الاسباب البعيدة كالآلات و الادوات و الجوارح و الاعضاء و القوى بقدرة اللّه سبحانه، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين.

ص:29

و إليه يؤول ما نسب إلى المحقق العراقى في تقريرات بحثه، قال بعد كلام له: و معه يصح أن يقال لا جبر في البين، لكون أحد مبادئ الفعل هو اختيار الإنسان المنتهي إلى ذاته، و لا تفويض بملاحظة كون بقية مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى، و لا مانع من أن يكون ما ذكرناه هو المقصود

بقوله عليه السلام " لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين " (1).

و يرده أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد يحتاج إلى نفيه.

الرابع: أن التفويض المنفى هو تفويض الخلق و الرزق و تدبير العالم إلى بعض العباد.

و هذا أيضا غير مربوط بما تعرضت له النصوص الكثيرة المروية عنهم عليهم السلام.

ص:30


1- 1) راجع مقالات الأصول ج1 ص213( [1]بحث في الطلب و الارادة) بتصرف.

الخامس: أن المراد به أن فعل العبد واقع بمجموع القدرتين و الارادتين و التأثيرين من العبد و من الرب سبحانه، و العبد لا يستقل في ايجاد فعله و ليس قدرة العبد بحيث لا تأثير لها في فعله أصلا، و ستعرف ما فيه.

ص:31

السادس: ما ذكره المحدث الكاشانى (1)في الوافي، قال بعد كلام له: و لنذكر في بيانه ما ذكره بعض المحققين موافقا لما حققه المحقق الطوسى نصير الملة و الدين في بعض رسائله المعمولة في ذلك، قال: قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته و زمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده، و قد ثبت أن اللّه تعالى قادر على جميع الممكنات و لم يخرج شيء من

ص:32


1- 1) راجع كتاب الوافي ج1 ص537 باب الجبر و التقدر و الأمر بين الامرين، [1] إلا أنه قبل أن ينقل كلام المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي قسّم الاقوال إلى اربعة اقسام و قال: اثنان فاسدان و هما الجبر و التفويض، و اثنان دائران حول التحقيق و مرجعهما إلى الأمر بين الامرين، احدهما اقرب إلى الحق و النقول و أبعد عن الافهام و العقول و هو طريقة أهل الشهود العارفين بأسرار الاخبار، و الآخر بالعكس و هو طريقة أهل العقول و الانظار، و بيان الأول عسير لغموضه جداً، فلنطويها طياً و نكتفي بيان الثاني، و إن لم نرتضه لتضمنه اكثر ما يترتب على الجبر من المفاسد في بادئ النظر، و عند النظر القاصر، إلا أنه يخرج عقول الخواص من بعض أسباب الحيرة. ثمّ نقل كلام المحقق.

الاشياء عن مصلحته و عمله و قدرته و ايجاده و الا لم يصلح لمبدئية الكل.

إلى أن قال: فأعمالنا و أفعالنا كسائر الموجودات و أفاعيلها بقضائه و قدره، و هي واجبة الصدور منا بذلك و لكن بتوسط أسباب و علل من ادراكاتنا و ارادتنا و حركاتنا و سكناتنا و غير ذلك من الاسباب العالية الغائبة عن علمنا و تدبيرنا الخارجة عن قدرتنا و تأثيرنا.

إلى أن قال: و لما كان من جملة الاسباب ارادتنا و تفكرنا و تخيلنا فالفعل اختياري لنا، فان اللّه تعالى أعطانا القوة و الاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا مع احاطة علمه، فوجوبه لا ينافي امكانه و اضطراريته لا تدافع كونه اختياريا، كيف و انه ما وجب الا بالاختيار.

ثمّ أخذ في بيان عدم اختيارية الارادة إلى أن قال: فنحن اذاً في عين الاختيار مجبورون (1). فنحن إذا مجبورون على الاختيار.

ص:33


1- 1) و في حواشي الوافي للعلامة المجلسي و استاذه النائيني و غيرهما من الاعلام رحمهم اللّه نقلا عن كتاب الهدايا للميرزا محمد "مجذوب" التبريزي قال: قال المحقق الطوسي نصير الملة و الدين في بعض رسائله المعمول لتحقيق الامر بين الامرين: «العبد مختار في الفعل و الترك، إلا أن مشيئته ليست تحت قدرته كما قال اللّه تعالى (و ما تشاؤن إلا أن يشاء اللّه) فإذن نحن في مشيئتنا مضطرون و في عين الاختيار مجبورون. . .

و هو كما سيمر عليك ليس أمرا بين الامرين بل هو عين الجبر.

و للاصحاب تقاريب أخر له، و لكن بعضها يرجع إلى ما تقدم و بعضها يؤول إلى الجبر.

و الحق في تصويره أن يقال: ان الجبر المنفى هو قول الاشاعرة و الجبرية المتقدم، و التفويض المنفى هو قول المعتزلة أنه تعالى أوجد العباد و اقدرهم على أعمالهم و فوض إليهم الاختيار، فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيتهم و قدرتهم، و ليس لله تعالى في أعمالهم صنع.

ص:34

و أما الامر بين الامرين فهو أن الفعل انما يصدر عن اختيار العبد و قدرته، و له أن يفعل و أن لا يفعل، و مع ذلك حياته و قدرته و اختياره كلها متحققة بافاضة الباري تعالى، بحيث لو لم يفض إليه واحدا منها لزم منه عدم صدور الفعل و عدم تحققه.

و المثال العرفي-الذي يوضح ذلك-انه: إذا فرضنا أن العبد لا يتمكن من تحريك اليد الا مع ايصال القوة الكهربائية، فأوصل المولى القوة إليها آنا فآنا، فذهب العبد باختياره إلى قتل نفس و المولى يعلم بذلك، فالفعل بما أنه صادر من العبد باختياره فهو اختياري له، و بما أن المولى يعطى القوة للعبد آنا فآنا فالفعل مستند إليه، و كل من الاسنادين حقيقي بلا تكلف و عناية.

و هذا واقع " الامر بين الامرين " الذي تطابقت عليه الروايات الواردة عن المعصومين.

ص:35

و قد صرح بذلك المحقق النائيني (1).

و إليه يرجع ما أفاده المحقق الأصفهاني قال: ان العلة الفاعلية ذات المباشر بارادته و هي العلة القريبة و وجوده و قدرته علمه و ارادته لها دخل في فاعلية الفاعل، و معطى هذه الأمور هو الواجب تعالى، فهو الفاعل البعيد. فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض، و من قصر النظر على الثاني حكم بالجبر، و الناقد البصير ينبغى أن يكون ذا عينين (2)انتهى.

ص:36


1- 1) أجود التقريرات ج1 ص93. [1]
2- 2) بحوث في الأصول ج2 ص53(فائدة: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين امرين) ، و في نهاية الدراية ج1 ص205( [2]تنبيه و تنزيه)

كما أنه يمكن توجيه ما أفاده العلامة المجلسي (1)في جملة من كتبه بنحو يرجع إلى ذلك.

ص:37


1- 1) و مما أفاده في بحار الانوار ج5 ص18 [1] بعد ذكر الجبر و التفويض قال: و الواسطة بين هذين القولين أن اللّه اقدر الخلق على افعالهم، و مكنهم من اعمالهم و حدّ لهم الحدود في ذلك، و رسم لهم الرسوم، و نهاهم عن القبائح بالزجر و التخويف و الوعد و الوعيد فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبراً لهم عليها، و لم يفوض اليهم الاعمال لمنعهم من اكثرها، و وضع الحدود لهم فيها و امرهم بحسنها و ها هم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بالجبر و التفويض على ما بيناه. ثمّ بسط الكلام في ذلك بعد ذكر الروايات، راجع ايضا ص83 و84. . الخ

أدلة الجبريين لما ذهبوا إليه

اشارة

الوجه الأول:

و قد استدل للقول بالجبر بقسمين من الوجوه:

أحدهما من ناحية العوامل الطبيعية.

الثاني من ناحية ما وراء الطبيعة.

أما الأول: فقد استدل له بأن الفعل يصدر عن الإرادة و معلول لها، و الارادة اما أن تكون ارادية صادرة عن إرادة أخرى أو تكون غير ارادية، فان كانت ارادية كانت معلولة لإرادة أخرى، و ينتقل الكلام إلى تلك الإرادة التي تكون علة لهذه الإرادة، فلا بد و أن تنتهي إلى أمر غير ارادي و الا لزم التسلسل.

فان انتهت إلى أمر غير اختياري، أو التزمنا بأنها غير ارادية فلا

محالة يكون الفعل غير اختياري، و ذلك لان الجبر على العلة جبر على المعلول.

ص:38

و بعبارة أخرى: المعلول لأمر غير اختياري خارج عن تحت الاختيار، كما هو واضح.

جواب الحكماء و نقده

و قد أجيب عن ذلك بأجوبة:

أحدها: ما عن الحكماء، و هو أن وجوب الفعل و كونه ضروريا من ناحية إرادته لا ينافي الاختيار.

و بعبارة أخرى: ضرورية الفعل و وجوبه و عدم امكان تركه لا تنافى الاختيار، بل الفعل الاختياري هو الفعل الذي ان شاء فعل و ان شاء لم يفعل، و لا يلزم في صدق القضية الشرطية أن يكون طرفاه ممكنين، بل يمكن أن يكونا واجبين و يمكن أن يكونا ممتنعين.

فضرورية الفعل أو الترك لا تنافى الاختيار، و الا فلو كان وجوب الفعل موجبا لخروج الفعل عن الاختيار لزم أن لا يكون اللّه سبحانه فاعلا مختارا، إذ الصادر الأول منه تعالى لا بد أن

ص:39

يكون ذاته تعالى علة تامة لوجوده، إذ المفروض أنه ليس هناك شيء آخر غير ذاته، فصدور الصادر الأول يكون واجبا ضروريا و الا لزم تخلف المعلول عن علته التامة.

و فيه: ان وجوب الفعل من ناحية علته لا ينافي امكانه لكنه ينافي مع اختياريته، و أما وجوب الصادر الأول فسيأتي الكلام فيه.

جواب المحقق العراقي و نقده

الجواب الثاني: ما عن المحقق العراقي و حاصله (1):

إن الإرادة و الاختيار من قبيل العوارض اللازمة لوجود الإنسان غير المحتاجة إلى جعل آخر وراء جعل المعروض، كما هو الشأن في كل ما هو عارض لازم للماهية أو الوجود، كالحرارة للنار.

ص:40


1- 1) راجع مقالات الأصول ج1 ص213( [1]بحث في الطلب و الارادة) بتصرف.

فالانسان، و لو في بعض مراتب وجوده، مقهور بالاتصاف بصفة الاختيار، و يكفى في تحقق صفة الاختيار للانسان تعلق الارادة بوجود الإنسان.

و لا ريب في أن كل فعل صادر من الإنسان بارادة له مباد، كعلم بفائدته، و كشوق إليه و قدرة عليه.

و عليه فيكون الفعل الصادر عن الإنسان له نسبتان:

و هناك أجوبة أخر لا يهمّنا التعرض لها.

احداهما إليه باعتبار تعلق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقل، و الاخرى إلى اللّه تعالى باعتبار ايجاد سائر المبادئ، و حينئذ فليس الفعل مفوضا إليه بقول مطلق و لا مستندا إليه سبحانه كذلك ليكون العبد مقهورا عليه.

و فيه: أولا: ان ما هو؟ مجعول بجعل الإنسان على فرض تسليم كونه من لوازم وجود الانسان هو قوة الاختيار، و صيرورة تلك فعلية انما تكون تدريجية و تتجدد على النفس و تنعدم، فيبقى السؤال عن أن فعلية تلك القوة تحتاج إلى علة تامة، فيعود المحذور.

ص:41

و ثانيا: ان لازم هذا التقريب هو كون الاختيار نفسه غير اختياري، فيبقى إشكال أن الجبر على العلة جبر على المعلول.

ما هو الحق في نقد هذا الوجه

و الحق في الجواب عن هذا الوجه يبتني على بيان مقدمات:

تجرد النفس عن المادة

الاولى: ان كل انسان يجد في نفسه مشاهدة أن له وراء الاعضاء و أجزاء بدنه التي يشعر بها بالحسِّ أو بنحو من الاستدلال كالاعضاء الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة و الاعضاء الباطنة التي عرفها بالحسِّ و التجربة، معنى يحكي عنه ب " أنا "، و تارة يعبر عنه ب " الروح "، و أخرى ب " الذات "، و ثالثة ب " النفس ".

ص:42

و الدليل على كون تلك الحقيقة غير الاعضاء الظاهرة و الغرائز و الشئون الداخلية أمور:

1-ان بقية الاجزاء تكون غافلة عن أنفسها، مثلا: أعصاب اليد لا تتوجه إلى أنها أعصاب اليد و هكذا.

و هذه الحقيقة لا تغفل عن نفسها، بل تشعر بها و بسائر الاعضاء.

2-ان هذه تحدد الغرائز و تتبارز معها، و لا يعقل مبارزة الشيء مع نفسه.

3-انه لو كانت-هي: البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من خواصه الموجودة فيه، و هي جميعا مادية، و من أحكام المادة الانقسام، و التجزؤ، و التغيُّر التدريجي-لكانت مادية قابلة للانقسام و متغيرة، و ليست كذلك، فانا نجد من أنفسنا بعد المراجعة إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لانفسنا، و نذكر ما كنا نجده من هذه المشاهدة منذ أول شعورنا بأنفسنا، معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تغير و تعدد، كما نجد أبداننا و أجزاءها و الخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة في موادها و أشكالها و سائر أحوالها و صورها،

ص:43

و كذا نجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام و التجزي كما نجد البدن و أجزاءه و خواصه.

فليست تلك الحقيقة هو البدن و لا شيئا من أجزائه، و لا خاصة من خواصه.

و أنكر الماديون وجود هذه الحقيقة، و قالوا: ان الإنية التي نشاهد ليست إلا سلسلة الاعصاب التي تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي، و هو الجزء الدماغي على التوالى و في نهاية السرعة، غاية الامر على صفة الوحدة.

ففى ذلك الجزء الدماغي مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها و لا يدرك بطلان بعضها و قيام الآخر مقامه، و هذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها و نحكي عنها ب " أنا "، فالذي نرى أنه ثابت فهو في الحقيقة مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الادراكية و سرعة ورودها.

و ذكر بعضهم في تنظيره بقوله: كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب و يخرج من جانب بما يساويه و هو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا و هو بحسب الواقع لا واحد و لا ثابت، و كذا يجد صورة الإنسان أو الشجر أو غيرهما

ص:44

فيه واحدا ثابتا و ليس بواحد ثابت بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه.

و على هذا النحو وجود الثبات و الوحدة و الشخصية التي نرى في النفس، و الذى نرى أنه غير جميع أجزائنا صحيح لكنه لا يثبت أنه غير البدن و غير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالى و التوارد لا تغفل عنه، فان لازم الغفلة وقوف الاعصاب عن أفعالها، و هو الموت.

و أيضا قالوا: ان كل خاصة من الخواص البدنية وجدنا علتها المادية و لم نجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى نحكم بوجود حقيقة الإنيّة.

و قال المتأخرون منهم: ان المتحصل من التشريح و الفزيولوجيا ان الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة و الخلايا التي هي الاصول في حياة الإنسان، فالنفس أثر مخصوص لكل واحد منها أرواح متعددة، فالإنيّة المشهودة للانسان على صفة الوحدة مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على صفة الاجتماع، و لذا هذه الخواص الروحية

ص:45

تبطل بموت الخلايا و تفسد بفسادها، فلا معنى للروح المجردة الباقية بعد

فناء التركيب البدني.

هذه هي عمدة ما استدل بها الماديون على نفى أمر آخر وراء أعضاء البدن، و هناك وجوه أخر يظهر ما فيها مما نورده على هذه الوجود.

و يرد على الوجه الأول: انه إذا كان المفروض أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها، و ليس وراء تلك الأمور شيء آخر، و كون ما نرى من الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الادراكات الكثيرة.

فما الموجب لحصول هذا الواحد الذي لا يشاهد غيره، و من أين حصلت الوحدة؟ .

و ما ذكروه من الوحدة الاجتماعية غير مربوطة بالمقام، فان الواحد الاجتماعي هو الكثير في الواقع الواحد في الحس أو الخيال، لا في نفسه، و المدَّعى في المقام كون الادراكات الكثيرة في أنفسها هي شعور واحد عند أنفسها.

و ان قيل: ان المدرك في المقام هو الجزء الدماغي.

ص:46

توجه عليه: ان المفروض أن ليس للجزء الدماغي ادراك آخر وراء هذه الادراكات متعلقا بها كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية و انتزاعها منها صورا حسية.

و ان قيل: انه لا وحدة لها و انما يشتبه الامر على الحس أو القوة المدركة فتدرك الكثير واحدا.

أجبنا عنه: بأن الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بمقايسة ما عند الحس بما في الخارج من واقع هذه المشهودات.

و أما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعى.

مثلا: نشاهد الجرم العظيم من بعيد صغيرا كنقطة سوداء، فما عند الحس-و هي النقطة السوداء-لا اشتباه فيها، و انما الاشتباه يكون لو قايسنا ما عنده بما في في الخارج من واقع ذلك المشهود. و المفروض في المقام أن لا مقام آخر وراء الادراكات الكثيرة كي يحكم بالاشتباه و الغلط من مقايسة ما فيه بتلك الادراكات.

و يرد على الوجه الثاني: ان المثبتين لا يسندون بعض الافاعيل البدنية إلى البدن و بعضها إلى النفس، و الاول فيما علله ظاهرة، و الثانى فيما علله مجهولة كي يرد عليهم ما ذكر. بل يسندون جميع الافاعيل إلى البدن بلا واسطة و إلى تلك الحقيقة مع

ص:47

الواسطة، و انما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن اسناده إلى البدن، و هو علم الإنسان بنفسه و مشاهدته ذاته كما تقدم.

و يرد على الوجه الثالث مضافا إلى ما أوردناه على الوجه الأول: ان غاية ما يمكن أن يثبت بما ذكر من الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي: ان العلل الطبيعية لا تفي بوجود الروح، و لا تصلح أن يستنتج منها وجوده. و قديما قالوا " عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ".

فالمتحصل: ان وجود تلك الحقيقة المعبر عنها ب" أنا " غير قابل للانكار.

و تلك الحقيقة لها حكومة على سائر الاعضاء و الغرائز و لها أن تفشل ما يميل إليه سائر الاعضاء، و هي العاملة القوية الموجبة لحصول الاعتدال بين ما هو أساس الغرائز، و هو حس جلب النفع و دفع الضرر، مع التكاليف الاجتماعية و الدينية، و بالنتيجة تصير الأفعال موافقة للقوانين الخارجية.

ص:48

الشوق ليس علة للفعل الاختياري

الثانية: ان الموجب لصدور الفعل الاختياري هو أعمال هذه الحقيقة قدرتها في العمل لا الشوق، إذ نرى بالوجدان أنه بعد تحقق الشوق الاكيد المتعلق بالهدف و بنفس الفعل، يمكن لتلك الحقيقة المشار إليها آنفا أن تمنع عن الفعل و تمنع عن تحققه و توجب أن لا يوجد.

قال ارسطو: ان ما هو سبب صدور الفعل هو ذلك لا الشوق المشترك بين الإنسان و سائر الحيوانات.

و أيضا ربما يعارض ذلك مع الشوق و الرغبة و لا يعقل المبارزة الا مع التعدد.

و أيضا ان الشوق يتعلق بالمجال و الممتنع و لا يعقل تعلق الاختيار به.

نعم، لا ننكر أن العوامل الخارجية و الداخلية ربما تبلغ من الشدة إلى حد تغفل الحقيقة الإنية عن نفسها، مثلا: لو استمعت صوتا حسنا و غفلت عن نفسها، و في مثل ذلك لا محالة يصدر الفعل لكنه فعل غير اختياري و خارج عن تحت القدرة.

ص:49

و بالجملة: لا ريب في أن مجرد الشوق لا يوجب تحرك العضلات لما يرى بالوجدان أنه ربما يشتاق الإنسان إلى شيء و لا يتحقق المشتاق إليه الا بعد أعمال القدرة و حملة النفس. مثلا: لو وقف الإنسان على قنطرة و كان في أحد طرفيها بساتين فيها رياحين و اشتاق إلى الذهاب إليها كمال الاشتياق و كان في الطرف الآخر النار مشتعلة لو دنا منها لاحترق و كره الذهاب إليها كمال الكراهة، و مع ذلك لا يتحقق ما تعلق شوقه به، بل يرى نفسه بعد ذلك قادرا على الذهاب إلى كلا الطرفين.

فمن هذا يستكشف أن الشوق لا يكون علة للفعل، بل بينهما واسطة، و هو أعمال القدرة، حيث أن زمام البدن بيد النفس تقلبه حيث ما شاءت، فبعد تحقق الشوق لها أن تعمل قدرتها في الفعل فيفعل، و هذا معنى ما يقال " شئت ففعلت "، و لها أن لا تعمل فلا يتحقق الفعل.

و هذا الاعمال الذي يكون فعل النفس، يعبر عنه بالمشيئة و الاختيار، و حملة النفس و الارادة و الفعل يصدر عنه لاعن الشوق.

ص:50

قانون العلية العامة

الثالثة ان قانون العليَّة و المعلولية، بمعنى أن الموجود يحتاج إلى علة لاجل وجوده و وجوب تحقق المعلول عند تحقق العلة بتمام أجزائها و امتناع تحققه مع عدم جزء منها، و ان تم في الموجودات غير الأفعال الاختيارية الا أنه لا يتم في الاختيار، بحيث يكون الاختيار لازم التحقق عند تمامية علته و ان لا يعقل وجوده مع عدم العلة.

و بعبارة أخرى: احتياج كل ممكن حادث إلى علة لا ينفك عنها، ممنوع، لعدم البرهان عليه، بل البرهان على خلافه، فان الاختيار فعل النفس، و النفس توجده و لا تكون الأمور الخارجية و لا الغرائز الداخلية التي أساسها حب البقاء المنشعب منه حس جلب النفع و دفع الضرر، إذ ربما يكون جميع ذلك موجودة و النفس متوجهة إليها و مع ذلك لا يختار الفعل.

ص:51

و ما ذكره المحقق الأصفهاني (1)من أن دعوى عدم احتياج بعض الممكنات إلى العلة من الغرائب، إذ الممكن مساوق للمفتقر.

مندفع: بأنا لا ندّعي وجود الممكن بذاته و نلتزم بافتقاره إلى الموجد، الا أنا نقول: ان احتياج كل ممكن و لو كان فعلا

ص:52


1- 1) نهاية الدراية ج1 ص200 [1] قال: «و ثالثاً: أنّ الاختيار الّذي هو فعل نفساني إن كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النّفس من العلم و القدرة و الإرادة فيكون فعلاً قهريّاً لكون مباديه قهريّة لا اختياريّة، و إن كان ينفك عنها و أنّ تلك الصفات مرجحات فهي بضميمة النّفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة، و لا يوجد المعلول إلاّ بعلّته التامّة، و توهّم (الفرق بين الفعل الاختياري و غيره من حيث كفاية وجود المرجح في الأوّل دون الثاني) من الغرائب (فانّه لا فرق بين ممكن و ممكن في الحاجة إلى العلّة، و لا فرق بين معلول و معلول في الحاجة إلى العلّة التامّة، فان الإمكان مساوق للافتقار إلى العلّة، و المعلول إذا وجد له ما يكفي في وجود المعلول به كان علّة تامّة له و إذا لم يكن كافيا في وجوده فوجود المعلول به خلف فتدبّره فانّه حقيق به.

اختيارا إلى العلة التامة-أي ما لا ينفك عن وجوده الفعل يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

و مما يؤيد ما ذكرناه انه لا عين و لا أثر في الآيات و الروايات عن عليّة اللّه تعالى للموجودات، و احتياج الممكن إلى العلة، بل انما عبر فيها باحتياج الممكن إلى الموجد و الخالق و الصانع.

إذا عرفت هذه المقدمات، يظهر لك أن السبب لوجود الفعل الاختياري

ليس هو الشوق، حتى تكون شبهة الجبر شبهة لا يمكن دفعها، بل السبب هو أعمال النفس قدرتها في الفعل و أنها تامة في الأفعال الاختيارية بلا محرك آخر، فالجواب عنها واضح.

ايرادات هذا الجواب و نقدها

و ربما يورد على هذا الجواب بايرادات:

ص:53

أحدها أن الاختيار بهذا المعنى حادث أم واجب، فان كان واجبا لزم أن يصحبه من أول وجوده، و ان كان حادثا و لكل حادث محدث فوجود الاختيار يكون بايجاد الموجد.

و الموجد اما أن يكون هو أو غيره؟

فان كان هو بنفسه فان كان باختيار آخر لزم التسلسل، فلا بد و أن يكون وجود الاختيار بغير الاختيار، فيكون مجبورا على الاختيار من غيره.

و بما أن الجبر على العلة جبر على المعلول فالفعل يصدر جبرا.

و بعبارة أخرى: الاختيار لا يكون واجبا بالبداهة بل هو ممكن، و بما أن كل ممكن يحتاج في وجوده إلى العلة التامة فهو معلول لعلة و تلك العلة اختيارية أم غير اختيارية، فان كانت اختيارية و صادرة عن اختيار آخر ينقل الكلام إلى ذلك الاختيار، فلا بد و أن ينتهي إلى علة غير اختيارية و إلا لزم التسلسل.

فان انتهى إلى علة غير اختيارية أو من الأول التزمنا بذلك فيعود المحذور و يثبت الجبر، إذ القصر على العلة قصر على المعلول.

ص:54

و فيه: ان الجواب عن هذه الشبهة يتوقف على بيان مقدمتين:

الاولى: انه لا يعتبر في انصاف الفعل بكونه اختياريا سوى القدرة عليه و استناد الفعل إليها، و لا يعتبر سبق الاختيار و ان كان اختيارية الفعل الخارجي مساوقة لذلك. و لا يكفي مجرد القدرة، فلو كان الشخص قادرا على الذهاب إلى محل خاص و لكن لم يعمل قدرته في ذلك بل أجبر عليه و كان بتحريك الغير، لا يكون هذا الفعل اختياريا.

الثانية: ان كل ممكن بما أن الوجود و العدم بالاضافة إليه على حد سواء لا يعقل وجوده بنفسه، فلا محالة يحتاج إلى الموجد ليخرج به عن حد الاستواء، و غير الأفعال الاختيارية من الموجودات يحتاج إلى العلة التامة، و أما الأفعال الاختيارية فلا يتوقف صدورها عليها، بحيث يكون الموجد لها لا يكاد ينفك عنها كما عرفت.

و بعبارة أخرى: دعوى احتياج الأفعال الاختيارية إلى شيء يستحيل انفكاكها عنه، من الاشتباهات الناشئة عن التعبير باحتياج الممكن في وجوده إلى العلة.

ص:55

و بهذا البيان يندفع ما يقال: كيف يلتزم بوجود الصانع القديم و حدوث الممكنات، و لو كان اللّه تعالى علة لما أمكن التخلف و لزم القدم في جميع الممكنات.

إذا عرفت هاتين المقدمتين:

فاعلم: ان أعمال القدرة و الاختيار انما يكون فعلا قائما بالنفس، و هي موجدة له بنفسها و يكون هو اختياريا بلا احتياج إلى العلة التامة.

و النفس ليست علة تامة له حتى يستحيل انفكاكه عنها فيعود المحذور، بل النفس موجدة له، فتارة يوجد الداعي لها فتوجده، و أخرى لا ينقدح لها الداعي فلا توجده، فالفعل الخارجي اختياري للنفس بوساطة اختيارية فعل النفس لا بنفسه، لانه ليس من أفعالها و لكن لسلطنة النفس على البدن و كون العضلات منقادة للنفس في حركاتها و ليس لها مزاحم في سلطانها يكون الفعل الخارجي اختياريا للنفس.

و معنى كونه اختياريا لها صدوره مسبوقا بالاختيار.

و أما فعل النفس، و هو أعمال القدرة، فهو اختياري لها بنفسه بلا وساطة شيء آخر و بلا احتياج إلى سبق اختيار آخر.

ص:56

و هذا نظير العلم، حيث أن المعلوم ينكشف بوساطته و هو منكشف بنفسه، و لعل هذا هو المراد من الرواية الشريفة المتضمنة انه " خلق اللّه المشيئة بنفسها ثمّ خلق "الاشياء بالمشيئة " (1)، فلا وجه لتوجيهها بتوجيهات بعيدة كما عن بعض المحقين.

و ما ذكره المحقق الأصفهاني من أن إرادته تعالى التي هي أيضا من أفعاله، يستحيل أن تكون عين ذاته، لاستحالة كون الفعل عين فاعله، فلا محالة تكون قائمة بذاته. فان كانت قديمة بقدمه كان حال هذا القائل حال الاشعري الملتزم بقدم الصفات الزائدة على الذات و هو باطل بالضرورة.

و ان كانت حادثة كان محلها الواجب، إذ لا شيء آخر يقوم به، فيلزم كون الواجب محلا للحوادث، فيكون حال هذا القائل حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات (2).

ص:57


1- 1) أصول الكافي ج 1 ص 110 باب الارادة انها من صفات الفعل و سائر صفات الفعل. [1]
2- 2) نهاية الدراية ج1 ص200( [2]في اتحاد الطلب و الارادة) عند قوله: و رابعا، بتصرف.

مندفع بما ستعرف من أن إرادته تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات، و ليست أفعاله تعالى نظير أفعالنا، بل إرادته ليست الا خلقه و ارزاقه و غيرهما من أفعاله.

و عليه فدعوى عدم كون إرادته من سنخ الأفعال الصادرة عن الاختيار، حتى يكون موجودا قائما بنفسه أو بموجود آخر، فاسدة.

و على الجملة ليس قيامها به الا كقيام سائر الأفعال به، بل هي هي.

الثاني ما في مقالات المحقق العراقي من أن انعزال الإرادة (أي الشوق) عن التأثير و كون تمام المؤثر هو الاختيار (أي أعمال القدرة) خلاف الوجدان. كيف و يعتبر في العبادات أن تكون ارادة قربية، و لو انعزلت الإرادة عن التأثير فلا معنى لإرادية العبادة و لا لنشئها عن قصد القربة، و هو كما ترى (1).

أقول: ينبغى أن يعد صدور هذا الكلام من هذا المحقق النحرير من الغرائب، و ذلك لان المراد من ارادية الفعل صدوره

ص:58


1- 1) مقالات الأصول ج1 ص213( [1]بحث في الطلب و الارادة) .

عن الاختيار الذي يكون واسطة بين الشوق و الفعل، و معنى اعتبار الإرادة القربية في العبادة أنه حيث يكون الاختيار بدواعى مختلفة فيعتبر في العبادات أن يكون بداع القربة و يكون المحرك أمر المولى، و هذا لا ينافي ثبوت الواسطة بين الشوق و العمل.

الثالث ما في تقريرات بحثه، و حاصله: انا لا نتعقل شيئا في النفس يحدث بعد الإرادة، إذ للنفس قسمان من الفعل، الجانحي، و الجارحي، و الاول ينحصر في التصور و التصديق و نحوهما مما يكون من مبادئ الإرادة و لا يعقل تأخره عنها، و الثانى نفس الأفعال الخارجية.

و فيه: ان المدعى ثبوت فعل من ما يكون من قبيل القسم الأول أي الفعل الجانحى، و لكن دعوى عدم معقولية تأخره عن الشوق فاسدة، إذ لو أريد تأخر ما يكون متقدما عليه، فهو واضح البطلان و أما لو أريد به وجود فعل آخر-و هو حملة النفس الذي عرفت أن الوجدان يساعد على وجوده-فهو لا يكون متقدما كي يلزم منه تأخر ما هو متقدم.

ص:59

عدم استحالة الترجيح بلا مرجح

تذنيب: لا يخفى أنه بعد ما عرفت من عدم كون الشوق علة للفعل، فاعلم أنه الداعي و المرجح لوجود الاختيار غالبا، لان الاختيار في وجوده يحتاج إلى موجد و هو النفس و مرجح و هو الشوق غالبا، و الاحتياج إلى المرجح انما يكون لاجل الخروج عن اللغوية، و الا فيمكن ايجاد الفعل الاختياري بلا مرجح، لعدم استحالة الترجيح بلا مرجح.

توضيح ذلك: انه لا إشكال و لا كلام في استحالة الترجح بلا مرجح، بمعنى وجود الشيء بلا موجد، لان الممكن في وجوده محتاج إلى المؤثر و هو المرجح للوجود. و هذا من البداهة بمكان.

ص:60

و أما الترجيح بلا مرجح فقد وقع الخلاف في امكانه. فالتزم اكثر الفلاسفة و الحكماء بامتناعه.

و ذهب جماعة من المحققين إلى امكانه، و هو الاقوى عندي.

إذ محصل البرهان الذي ذكر للامتناع أن الترجيح بلا مرجح يرجع إلى الوجود بلا موجد، و حيث أنه محال فهذا أيضا محال.

توضيحه: أنه لو فرضنا تساوى الفعلين من جميع الجهات و كانت نسبة الإرادة اليهما متساوية فتعلق الإرادة الذي هو موجود من الموجودات بأحدهما دون الآخر يكون بلا مرجح

ص:61

و بلا موجد، فيلزم الوجود بلا موجد، و من البديهي امتناعه.

و فيه: انه بعد ما عرفت من أن الموجد للاختيار هو النفس لا يلزم الوجود بلا موجد من الترجيح بلا مرجح، إذ ليس لتعلق الإرادة بالفعل وجود آخر غير وجود الإرادة و الاختيار، بل للاختيار و تعلقه بالفعل وجود واحد، لكونه من الصفات التعلقية، و موجد هذا الوجود هو النفس.

فلا يلزم المحذور المذكور، اذ لها الخيار في ايجاد كل منهما، فلا يترتب على ايجاد أحدهما دون الآخر محذور عقلي.

فالاقوى بحسب البرهان امكان الترجيح بلا مرجح.

و يضاف إلى ذلك الوجدان، فراجعه في موارده ترى أن ما ادعيناه واضح لا سترة عليه. بداهة أن الهارب يختار أحد الطرفين مع عدم مرجح له بالخصوص.

و دعوى وجود المرجحات الخفية في أمثال هذا المورد. لا يمكن المساعدة عليها، فعهدة اثباتها على مدعيها. هذا كله في امكان الترجيح بلا مرجح.

و أما الكلام في قبحه، فالحق هو التفصيل.

ص:62

توضيح ذلك: أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، و منه ترجيح الفعل على الترك إذا كان مرجوحا، و أما إذا تساويا فان لم يكن ترجيح في نوع الفعل: بأن لم تترتب فائدة على الفعلين أصلا، يكون قبيحا أيضا، إذ مرجع ذلك إلى ايجاد الفعل بلا فائدة، و هو قبيح لكونه عبثا.

و أما إذا كان المرجح في النوع و لم يكن في واحد بالخصوص فلا بد من التفصيل بين التكوينيات و التشريعيات، و الالتزام بالقبح في الثانية دون الاولى، و ذلك لانه في التشريعيات إذا فرضنا قيام المصلحة بالجامع بين الفعلين أو بكل منهما و لم يكن لاحدهما ترجيح على الآخر، فحيث أن الأمر بالجامع أو أحدهما ممكن لا محذور فيه، كما هو المفروض. فالامر بأحدهما لا وجه له، لان المصلحة لا تختص به، فالتخصيص قبيح.

و أما في التكوينيات فحيث أن اختيار الجامع و ايجاده بلا خصوصية محال و ما يوجد لا محالة يكون مع احدى الخصوصيتين فلا يكون ترجيح أحدهما قبيحا، بداهة أن الجائع يختار أحد القرصين مع عدم مرجح لاحدهما، و لا يعد فعله

ص:63

قبيحا، بل قد يعد عدم الترجيح قبيحا، كما لو لم يختر أحدهما حتى مات من الجوع.

قانون الوراثة

و قد يستدل للجبر بقانون الوراثة و العادة:

و تقريب الأول: انه لا إشكال و لا ريب في أن الاوصاف الجسمية و الروحية للابوين لها تأثير تام في صفات الولد، و هي تكون سببا للفعل و مؤثرة فيه بلا كلام.

و لكنه يندفع: بأن قانون الوراثة لا ينكر و قد أشير إليه في كثير من الروايات، و لذلك حدد الشارع الاقدس للتزويج حدودا من الطرفين معللة بتأثير روحيات الابوين في الولد، الا أنه ليس تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف، و ذلك لما نرى بالوجدان أنه ربما يتولد من الابوين الخبيثين أولاد طيبون و بالعكس.

و أيضا لو كان تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف لكانت التربية لغوا.

أضف اليهما أنا نرى بالوجدان أنه قد يغير الآداب و الرسوم في زمان واحد في مجتمع، و هذا أقوى شاهد على أن الوراثة

ص:64

لا تقدر على اجبار الإنسان، مع أن القوانين المجعولة للاقوام و الملل تصلح شاهدة على ذلك.

الاعتياد

و تقريب الثاني: ان العادة من الغرائز الداخلية الارتكازية الموجبة بعد طى مراحلها الثلاث، لصيرورة الفعل غير اختياري، و قالوا: ان العادة طبيعة ثانوية، و ان العادة توجب كون الفعل غير ارادي.

و فيه: ان العادة لا تصلح مانعة عن تسلط الحقيقة الانية و نظارتها على الغرائز الداخلية و الاعضاء الظاهرية. و صيرورة الفعل غير اختياري فانها و ان كانت توجب عدم التوجه حين الاتيان بالفعل بخصوصياته و عدم تعلق الإرادة التفصيلية المستقلة بكل جزء من أجزائه، و لكنها لا تصير سببا لعدم التمكن من ترك الفعل، و ليس معنى اختيارية الفعل الا ذلك.

ص:65

الندامة و احساس المسئولية

و بعد ما عرفت من عدم تمامية ما استدل به على الجبر من حيث العوامل الطبيعية، يمكن أن يستدل للاختيار من تلك الناحية بوجوه:

منها: أنا نرى بالوجدان الفرق بين حركة يد المرتعش و حركة اليد الإرادية، فالاولى جبرية، و الثانية اختيارية، و لا برهان أصدق من الوجدان.

و منها انه لا إشكال في أن كل فرد من أفراد الإنسان يجد في نفسه حالة الندامة و في غيره آثارها مع التقصير في بعض الأفعال الموجب لتوجه ضرر إليه أو إلى غيره أو سلب نفع عنه، و لا يجدها مع عدم التقصير، كما لو وجد ذلك الفعل من غير اختيار، و ليس ذلك الا من جهة كون الأول اختياريا دون الثاني.

مثلا: إذا لم يقم لمن يلزم احترامه و انطبق عليه عنوان الهتك و الاهانة، فان كان ذلك عن تقصير تحصل الندامة، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا لم يتوجه إلى وروده، و هكذا في سائر الأفعال. و هذه آية قطعية على اختيارية بعض الأفعال.

ص:66

و منها ان الإنسان يحس بالمسئولية أمام القانون أعم من الالهى أو الحكومي، و لو لم يكن هناك اختيار لما كان لذلك وجه، لان العمل غير الاختياري لا يصح المؤاخذة عليه عقلا.

فان قيل: ان احساس المسئولية انما هو من جهة جعل الجزاء على العمل، و هو انما يكون من جهة تأثيره في تبديل العمل.

و بعبارة أوضح: ان جعل ذلك انما هو اضافة عامل داخلي آخر إلى العوامل الداخلية المؤثرة في الإرادة و الاختيار جبرا، فلا يكون ذلك آية كون الاختيار اختياريا.

قلنا: ان فرض تأثير هذا الجعل في تغيير مصير الإرادة فرض اختيارية الإرادة، إذ لو لا كونها اختيارية لم يكن يؤثر هذا الجعل في تغييرها.

الاستدلال للجبر بمبدئية اللّه سبحانه

القسم الثاني ما استدل به للجبر من ناحية ما وراء الطبيعة، و هو أمور:

ص:67

أحدها: أنه قد ثبت في محله أن اللّه تعالى خالق لجميع الموجودات و انه مبدأ الكل و لا مؤثر في الوجود الا هو، و من جملة الاشياء أفعالنا الاختيارية، فهي مخلوقة لله سبحانه ابداعا و احداثا، قال اللّه عز و جل ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (1)، و قال سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (2)و قال تعالى أَلا لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ (3)فكل ما يصدق عليه اسم شيء-و من ذلك الأفعال الاختيارية-فهو مخلوق لله تعالى منسوب إليه.

أقول: انه كما لا تنافى بين تأثير العلل و الاسباب الطبيعية في المعلولات و المسببات نظير تأثير النار في الحرارة و ما شاكل، و بين مبدئيته تعالى بعد كون زمام أمر العلل و الاسباب بيده سبحانه، و لذلك قد يسند القرآن الأفعال الطبيعية إلى فواعلها، و قد

ص:68


1- 1) الآية 102 من سورة الأنعام. [1]
2- 2) الآية 101 من سورة الأنعام. [2]
3- 3) الآية 54 من سورة الأعراف. [3]

يسند الجميع إلى اللّه سبحانه. كذلك لا تنافى بين كون الفعل الاختياري منسوبا إلى الإنسان و بين استناده إلى اللّه تعالى بعد كون أصل وجوده و حياته و قدرته حدوثا و بقاءً بافاضة من اللّه.

و لذلك نرى أنه قد جمع في كثير من الآيات بين الاثباتين جميعا، فنسب الفعل إلى فاعله و إلى اللّه سبحانه، كقوله تعالى: وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (1)، فنسب أعمال الناس إليهم و نسب خلق أنفسهم و أعمالهم إليه تعالى، و قوله عز و جل وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2)فنسب الرمي إلى رسول اللّه و نفاه عنه و نسبه إليه تعالى.

مع أن الآيات المشار إليها انما هي في غير الأفعال الاختيارية، بل فيما يجعل شريكا لله تعالى من الجن و الشمس و القمر و ما شاكل ذلك و تدل على أنها بأجمعها مخلوقة له.

ص:69


1- 1) الآية 96 من سورة الصافات. [1]
2- 2) الآية 17 من سورة الأنفال. [2]

أضف إلى ذلك أن غاية ما هناك دلالة الآيات على كون جميع الاشياء مخلوقة لله تعالى، و منها الأفعال الاختيارية، فيخصص عمومها بالآيات الكثيرة المتضمنة لنسبة الأفعال الاختيارية إلى العباد البالغة مائة آية، كقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (1)و قوله سبحانه: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (2)إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

بل لو تدبرنا في القرآن الكريم نجد أنه تعالى نسب في ما يقرب من ثلاثمائة آية العمل و الفعل إلى الإنسان، و عليه فلا شك في تخصيص الآية الشريفة بها.

ص:70


1- 1) الآية 38 من سورة المدثر [1]
2- 2) الآية 8 10 من سورة الشمس. [2]

الاستدلال للجبر بانتهاء الأفعال إلى إرادة اللّه تعالى

ثانيها: ان أفعال العباد اما أن تكون متعلقة لمشيئة اللّه و ارادته الازلية.

و أما أن لا تكون كذلك.

و على الأول يجب وجودها و إلا لزم تخلف المراد عن إرادته.

و على الثاني يمتنع وجودها، إذ بما أن أفعال العباد من الممكنات و كل ممكن لا بد و أن يوجد بارادته و إلا لزم التصرف في سلطان المولى، فيمتنع وجودها ان لم تكن إرادته تعالى متعلقة بها، فجميع أفعال العباد انما توجد بارادة اللّه فيجب وجودها و ليس للعبد اختيار في الفعل.

ص:71

توضيح كلام المحقق الخراساني

و أجاب عنه المحقق الخراسان في الكفاية (1)-بعد ما وجه تكليف العصاة بأن إرادته تعالى هو العلم بالصلاح، فان كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلى فنفس هذا العلم من دون حالة منتظرة علة للتكوين، و ان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض الاشخاص لا بحسب النظام التام فهو علة لاعلام ذلك الشخص بما هو صلاحه، و فيه المصلحة و المفسدة، و ما لا محيص عنه في الأفعال الاختيارية المتعلقة للتكاليف هو الثاني دون الأول.

نعم إذا توافقا لا بد من الاطاعة و الايمان، و ان تخالفا لا محيص عن اختيار الكفر و العصيان.

و أورد على نفسه: بأنه إذا كان الكفر و العصيان و الاطاعة و الايمان بارادة اللّه تعالى التكوينية التي لا تتخلف عن المراد، فلا

ص:72


1- 1) راجع كفاية الأصول ص67( [1]إشكال و دفع) .

يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا. بما حاصله بتوضيح منا:

ان إرادة اللّه تعالى لو كانت متعلقة بفعل العبد و ان لم يرد لكان ذلك مستلزما للجبر و عدم قدرة العبد و ارادته في الفعل لفرض وجوب صدوره، ففيما اراده العبد من باب الاتفاق يكونان، أي الفعل و الارادة معلولين لعلة واحدة و هي الإرادة الالهية. و أما ان كانت متعلقة بفعله بما له من المبادئ المصححة لاختياريته في حد ذاته من القدرة و الارادة و الشعور، فلا يستلزم ذلك الجبر، لفرض عدم تعلق الإرادة بالفعل و ان لم يرده العبد بل بما له من المبادئ الاختيارية أيضا، فلا مجال لدعوى الاختيارية لوجوب الصدور.

ثمّ أورد على نفسه أيضا: بأن ما ذكر يكفي في صحة التكليف و يخرج بذلك عن اللغوية. لا أنه يبقى السؤال عن وجه المؤاخذة و العقاب، لان اشكال وجوب الفعل بارادة الباري-الذي توهمه الاشعري-يندفع بما ذكر، كما أن اشكال وجوب الفعل بارادة الفاعل، مندفع بأن ذلك يؤكد اراديته، الا أن اشكال وجوب الإرادة نفسها التي هي من الممكنات المستندة إلى إرادة

ص:73

الباري الواجبة بالذات الموجبة لعدم اختيارية الفعل المعلول لها لان الجبر على العلة جبر على المعلول، يبقى بحاله. و معه لا يصح العقاب، لانه لا يصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار.

و أجاب عنه: بأن العقاب تابع للكفر و العصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن الشقاوة الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما.

و ليس مراده بذلك ما احتمله بعض من أن المثوبة و العقوبة من تبعات الأفعال و لوازم الاعمال و نتائج الملكات الفاضلة و آثار الملكات الرذيلة، و مثل هذه العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض على البدن، المؤيد ذلك بقوله تعالى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (1).

و قوله " انما هي أعمالكم ترد اليكم " (2). لا من جهة منافاة ذلك لظاهر الكتاب و السنة، فانه يمكن أن

ص:74


1- 1) الآية 147 من سورة الأعراف. [1]
2- 2) الحكايات للشيخ المفيد ص87، الناشر مؤتمر الشيخ المفيد، قم المقدسة.

يقال: ان المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لإفاضة الصورة المنافرة من اللّه تعالى، و نسبة التعذيب و الادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أن افاضة تلك الصورة المؤلمة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب.

بل من جهة أن الجواب لا يناسب مع مبنى الاشكال، و هو أنه كيف يؤاخذ على ما لا ينتهي بالآخرة إلى الاختيار، و لامع قوله بأنه عقاب على الكفر و العصيان الناشئين عن الاختيار.

بل الظاهر أن مراده أن العقاب انما هو من معاقب خارجي، غاية الامر يكفي في صحة المؤاخذة التي يكون استحقاقها بحكم العقل و العقلاء، هذا المقدار من الاختيار المصحح للتكليف، كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الموالى العرفية و مؤاخذة العبد إذا أمروه بشيء و خالفه، إذ لو كان الفعل بمجرد استناده إلى اللّه تعالى غير اختياري و غير صالح للمؤاخذة لما صحت مؤاخذة الموالى العرفية أيضا، و إذا كان الفعل في حد ذاته قابلا للمؤاخذة عليه لم يكن هناك فرق بين كون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة أو غيره.

غاية الامر يبقى سؤال، و هو أنه تعالى لم أوجد من سيوجد منه المهلكات، أو لم أوجد نفس مقدمات الاختيار

ص:75

الموجبة لأنواع العقوبات، و هل لا يكون ذلك منافيا لرحمة رب الارباب؟

و الظاهر أن قوله " اللازمة لخصوص ذاتهما " (1)الخ، اشارة إلى الجواب عن ذلك.

وجه ايجاد من سيوجد منه المهلكات

و حاصله كما أفاده بعض المحققين (2)يظهر بعد بيان مقدمات:

الأولى: ان لكل ماهية من الماهيات في حد ذاتها حدا معينا بحيث لو زيد عليه أو نقص عنه خرجت عن كونها تلك الماهية. مثلا: ماهية الشجر جوهر ممتد نام، و لو زيد عليه الحاسية صار حيوانا، و لو نقص عنه النمو صار جمادا.

ص:76


1- 1) كفاية الأصول ص68. [1]
2- 2) كما افاده صاحب الكفاية حسب الظاهر، نقله المصنف (مد ظله) ببيان آخر للتوضيح.

الثانية: ان لماهية الاشياء نحو وجود في العلم الازلي الربوبي بتبع العلم بالوجودات.

الثالثة: ان المجعول بالأصالة هو الوجود و الماهية مجعولة بالتبع و العرض، وجدانها لذاتها و ذاتياتها و لوازمها غير محتاج إلى جعل و تأثير، و لا يعقل الجعل بين الشيء و نفسه و لا بينه و بين لوازمه.

الرابعة: ان كل ممكن غير متوقف على ممتنع بالذات يجب وجوده، إذ لا نقص في طرف مبدأ المبادئ و لا في المعلول لفرض امكانه و لا في الوسائط و الاسباب لفرض عدم التوقف على الممتنع بالذات، و غيره يجرى فيه هذا البيان.

إذا عرفت هذه المقدمات:

يظهر لك أن تفاوت الماهيات في أنفسها و لوازمها بنفس ذواتها لا بجعل جاعل و تأثير مؤثر، فمنهم شقي و منهم سعد بنفس ذاته و ماهويته، حيث أن الماهيات كانت موجودة في العلم الازلي و طلبت بلسان حال استعدادها الدخول في دار الوجود، و كان معطي الوجود فياضا بذاته غنيا بنفسه فيجب عليه افاضة

ص:77

الوجود و يمتنع عليه الامساك عنه، و حيث ان الجود بمقدار قبول القابل و على طبق حال السائل كانت الافاضة عدلا و صوابا.

فالاعتراض ان كان بالقياس إلى الماهية فهو باطل بأن الشقي شقي في حد ذاته، و السعيد سعيد في حد ذاته.

و ان كان بالاضافة إلى الوجود.

فيدفعه أن افاضة الوجود على وفق قبول القابل عدلٌ و صواب.

و يمكن أن يقال: ان ما في النبوي الشريف مع قطع النظر عما ورد في تفسيره " الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه " (1)يكون اشارة إلى ذلك، و الاختصاص ببطن الام اما لانه أول النشآت الوجودية عند الجمهور، أو أن المراد بالبطن مكنون الماهية، و اطلاق الام على الماهية بلحاظ جهة قبولها كما أطلق الاب على اللّه تعالى في بعض الكتب السماوية بلحاظ جهة فاعليته.

ص:78


1- 1) التوحيد للصدوق ص 356 باب السعادة و الشقاوة، طبعة طهران، و البحار ج5 ص 9 [1]رواه عن تفسير علي بن ابراهيم. [2]

الموجب لاختيار اللّه تعالى العقاب

و يبقى السؤال عن أنه: ما الموجب لاختيار اللّه تعالى العقاب بعد استحالة التشفي في حقه؟

و يمكن الجواب عنه بوجهين:

احدهما: ما عن جماعة من الاساطين منهم الشيخ الرئيس (1)و المحقق الأصفهاني (2)و هو أن التعذيب من باب تصديق التخويف و الايفاء بالوعيد الواجبين في الحكمة الالهية، فان خلاف الميعاد مناف للحكمة و موجب لعدم ارتداع النفوس من التوعيد.

ص:79


1- 1) راجع شرح الاشارات ج 3 ص 328-329 [1] حيث قال في معرض الحديث القدر: «فلم العقاب؟» إلى ان قال: «فإن ذلك ايضا يكون حسناً لانه قد كان يجب يكون التخويف موجوداً في الأسباب التي تثبت فتنفع في الاكثر، و التصديق تأكيد للتخويف، فإذا عرض من اسباب القدر عارض واحد، مقتضي للتخويف و الاعتبار، فركب الخطأ و اتى بالجريمة وجب التصديق لاجل الغرض العام. . . الخ» . كما يمكن ان يستفاد ذلك من ص373-374 بعد الحديث عن كون النبي يجب أن يكون داعيا إلى التصديق بوجود خالق قدير خبير. .
2- 2) بحوث في الأصول ج2 ص58(تذييل و تكميل) ، و في نهاية الدراية ج1 ص209-210( [2]كيفية المثوبة و العقوبة) .

و فيه: ان وجهه حفظ النظام، و الحكيم يراعى المصلحة العامة الكلية، فكما لو لا تخويف من يرتدع حقيقة بالردع لما ارتدع و لم يبق نظام الكل محفوظا كذلك لو احتمل المجرم بما هو مجرم أنه لا يعذب، فعموم التخويف له دخل في حفظ النظام الذي لا أتم منه نظام.

ثانيهما: ان استحقاق العقاب انما هو بحكم العقل، من جهة أن العصيان و المخالفة خروج عن زى الرقية و رسم العبودية، و هو ظلم و الظالم يستحق العقاب.

هذا كله فيما يرجع إلى شرح مطالب الكفاية، و انما أطلنا الكلام في ذلك دفعا للشبهة المغروسة في أذهان الاكثر من أن المحقق الخراساني يصرح بالجبر.

و مع ذلك ففى كلامه مواقع للنظر يظهر عند بيان المختار في الجواب عن هذا الوجه.

ص:80

إرادة اللّه تعالى على قسمين

و حاصله يبتني على بيان أمور:

الأمر الأول: ان إرادة اللّه تعالى على قسمين التكوينية و التشريعية، و المراد بالاولى هو فعله تعالى و احداثه و خلقه كما نطقت بذلك النصوص الكثيرة.

لاحظ صحيح صفوان بن يحيى قلت لابي الحسن عليه السلام: أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللّه تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك، لانه لا يروي و لا يهمّ و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق، فارادة اللّه لا غير ذلك، يقوله له كن فيكون بلا لفظ و لا

ص:81

نطق بلسان و لا همّة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له (1). و نحوه غيره.

و المراد بالارادة التشريعية جعل الاحكام.

و بما ذكرناه يظهر أن ما أفاده المحقق الخراساني-تبعا للحكماء و الفلاسفة من تفسير إرادة اللّه تعالى بالعلم.

في غير محله، فان العلم عين ذاته تعالى و الارادة فعله و احداثه، و بينهما بون بعيد.

و أضعف من ذلك ما عن جماعة منهم، من ارجاع الإرادة في اللّه تعالى إلى العلم مفهوما.

مع أنه لو أغمض عما ذكرناه و سلم كونها عين ذاته، ما استدلوا به على تغاير العلم و القدرة و الحياة في اللّه سبحانه، و هذا يجرى في الإرادة أيضا.

و الوجدان أقوى شاهد على التغاير، فان

ص:82


1- 1) أصول الكافي ج1 ص 109 باب ان الإرادة من صفات الفعل. و [1]ورد في عدة مصادر اخرى منها الأمالي للطوسي المجلس8 ص205.

قولنا " اللّه عالم " و " اللّه مريد " ليسا من قبيل المترادفين نظير " زيد انسان " و " زيد بشر " بل الضرورة قاضية بأنه يفهم من كملة " اللّه عالم " شيء " و من كلمة " اللّه مريد " شيء آخر.

و أيضا قاضية بأن الاعتقاد بان اللّه تعالى عالم ليس اعتقادا بأنه مريد، و البرهان على كونه عالما لا يكون برهانا على أنه مريد.

نعم لو التزمنا بثبوت إرادة ذاتية فيه سبحانه وراء الارادة في مرتبة فعله، لا مصداق له فيه سوى علمه تعالى، و لكن لا دليل على ثبوتها.

إرادة اللّه من صفات الفعل

الامر الثاني ان إرادة اللّه تعالى من صفات الفعل لا من الصفات الذاتية، و ذلك لوجوه:

ص:83

الأول انطباق ما ذكرناه ضابطا لصفات الفعل من اتصافه بما يقابلها أيضا على إرادته، و يقال: ان اللّه تعالى مريد لوجود الإنسان و غير مريد لوجود العنقاء.

الثاني ان وجود الموجودات ليس كمالا له تعالى حتى تكون إرادة وجودها من الصفات الكمالية الذاتية.

الثالث تطابق الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام على ذلك.

لاحظ صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه قال: قلت لم يزل اللّه مريدا؟

قال: ان المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل اللّه عالما قادرا ثمّ أراد (1). و هذا الخبر صريح في أن إرادته ليست من الصفات الذاتية.

و صحيح محمد بن مسلم عنه: المشيئة محدثة (2). و نحوهما غيرهما.

ص:84


1- 1) أصول الكافي ج 1 ص 109. [1]
2- 2) أصول الكافي ج 1 ص 110.

أفعال العباد غير متعلقة لإرادة اللّه تعالى

الثالث ان إرادته تعالى لو كانت من الصفات الذاتية كالعلم و القدرة لكانت متعلقة بجميع الممكنات، و منها أفعالنا لان الصفات الذاتية المتحدة مع الذات متعلقة بالجميع، و الا فلو لم تكن متعلقة ببعض الممكنات لصح سلبها عنه تعالى بالاضافة إليه. و قد تقدم أن الصفات الذاتية لا يمكن سلبها عنه.

و لكن بعد ما عرفت من أنها من صفات الفعل، فاعلم أن متعلقها الأعيان الخارجية و أفعاله، و أما أفعال العباد فلا تكون متعلقة لإرادته تعالى و ان كان فيض الوجود و القدرة و سائر المبادئ من قبل اللّه تبارك و تعالى، بل موجد فعل العبد هو النفس بوساطة أعمال القدرة بلا دخل لإرادته فيه، فلا تكون أفعال العباد متعلقة لإرادته حتى يلزم الجبر.

و لأئمتنا الأطهار عليهم الصلاة و السلام كلمات في هذا الموضوع تشير إلى ما ذكرناه:

ص:85

منها: ما رواه المحقق المجلسي عن إمامنا الهادي: أنه سئل عن أفعال العباد أ هي مخلوقة لله؟ فقال: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها (1).

و منها: خبر صالح النيلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث: و لكن حين كفر كان في إرادة اللّه تعالى أن يكفر، و هم في إرادة اللّه و في علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير، قلت: أراد منهم ان يكفروا؟ قال عليه السلام: ليس هكذا أقول، و لكني أقول علم أنهم سيكفرون (2). و نحوهما غيرهما.

و على الجملة كون إرادة اللّه تعالى من الصفات الفعلية و عدم تعلقها بأفعال العباد الاختيارية، ينبغي أن يعد من الأمور المسلّمة.

ص:86


1- 1) بحار الأنوار ج5 ص20. [1]
2- 2) أصول الكافي ج 1 ص162، باب الاستطاعة. [2]

و ما عن المتكلمين من النزاع و الجدال في أن إرادته تعالى حادثة أم قديمة، يبتنى على أن يكون المراد من الإرادة هو الشوق.

و لكن بعد ما عرفت من أن الإرادة عبارة عن أعمال القدرة، فكل ما قيل في هذا المقام في غير محله، إذ على ذلك لا ريب في أنها حادثة مخلوقة له.

فان قلت: ان إرادته تعالى و ان لم تكن متعلقة بفعل العبد الا أن إرادة العبد بما أنها خارجة عن تحت قدرته فهي معلولة لإرادته تعالى و موجودة بإيجاده، فتكون إرادته علة لعلة الفعل، فتكون العلة واجبة الصدور و الا لزم تخلف مراده عن إرادته، فالفعل أيضا يكون واجب الصدور، لان الجبر على العلة جبر على المعلول.

توجه عليك ما تقدم مفصلا من أن الاختيار فعل النفس. و هي موجدة له و اختياري بنفس ذاته، فلا تكون إرادة العبد متعلقة لإرادة اللّه.

إذا تبينت لك هذه الأمور انكشف جليا دفع هذا الوجه، فان إرادة اللّه تعالى لا تكون متعلقة بأفعال العباد ليلزم وجودها و لا

ص:87

يلزم من وجودها من دون تعلق إرادته به التصرف في سلطان المولى، بعد كون المبادئ بأجمعها تحت اختياره و قدرته كما مر، فلا جبر.

الآيات التي استدل بها على تعلق إرادة اللّه تعالى بالأفعال

و قد يقال: ان في القرآن الكريم قد انتسبت الإرادة و مشقاتها في ثلاث و أربعين آية إلى اللّه تعالى، و على ذلك فهي متعلقة بأفعال العباد و ارادته لا تتخلف عن المراد، فيعود محذور الجبر.

و لكن يرد عليه أن تلك الآيات على طوائف:

الأولى: الآيات الدالة على عدم تخلف المراد عن إرادته.

ص:88

نظير قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1)، و قوله عز و جل: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2).

و هذه الطائفة لا تعين ما تتعلق به الإرادة، بل تدل على أنه ان تعلقت إرادته بشيء يتحقق ذلك الشيء. و هذا مما لا كلام فيه و لا نزاع حوله.

الثانية: الآيات المتضمنة لجعل إرادة الإنسان موردا لإرادة اللّه تعالى.

كقوله سبحان: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً* وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ

ص:89


1- 1) الآية 82 من سورة يس. [1]
2- 2) الآية 11 من سورة الفتح. [2]

سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً* كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (1).

و هذه الطائفة لا تدل على تعلق إرادة اللّه بالفعل الاختياري، بل تدل

على أن الإنسان مختار في كل ما يريد و لا يكون مجبورا فيه، غاية الامر ان اللّه تعالى يمد الفاعل المختار أيا ما أراد بإعطاء الوجود و القدرة و سائر مبادئ الفعل، فهذه الطائفة تدل على الاختيار دون الجبر.

الثالثة: ما يدل على أن اللّه تعالى لا يريد الظلم.

نظير قوله سبحانه: وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (2).

و عدم دلالة هذه على المدّعى واضح. نعم ان كان للوصف و اللقب مفهوم لكانت دالة على إرادة غير الظلم.

الرابعة: ما دل على تعلق إرادته باليسر.

ص:90


1- 1) الآيات من 18 إلى 22 من سورة الإسراء. [1]
2- 2) الآية 108 من سورة آل عمران. [2]

كقوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (1).

و هذه الطائفة دالة على تعلق الارادة التشريعية باليسر دون العسر، و قد مر أنها تتخلف عن المراد.

و أما الآية الكريمة: وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (2)التي توهم دلالتها على ذلك، بتقريب انها تدل على أن عدم إيمان قوم نوح عليه السلام انما كان من جهة إرادة اللّه تعالى المتعلقة بأفعالهم.

فيرد على الاستدلال بها: ان الغي ليس بمعنى الضلالة، بل من المحتمل إرادة البأس أو العقاب منه.

و على الأول تدل الآية على أن البأس الذي هو نتيجة أفعالهم الاختيارية مورد لإرادة اللّه تعالى، و ارادة النتيجة غير إرادة الفعل.

ص:91


1- 1) الآية 185 من سورة البقرة. [1]
2- 2) الآية 34 من سورة هود. [2]

و به يظهر ما فيه على الثاني، مع أنه لو كان بمعنى الضلالة يرد على الاستدلال بها ما سيأتي في الآيات التي نسب فيها الضلال إلى اللّه.

و أما الآية الشريفة: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (1).

فذيلها قرينة على أن جعل اللّه تعالى صدره ضيقا انما هو من جهة أن الكافر لم يؤمن باختياره، فيكون سبيل الآية الكريمة سبيل النصوص الكثيرة الدالة على ان العبد ربما يكون مخذولا و محروما من عناية اللّه تعالى بسبب ارتكابه بعض المعاصي، كما أنه ربما يكون موفقا بالحسنات و الخيرات بواسطة التزامه ببعض الخيرات و الحسنات فبعضها يكون معدا للآخر و يعطي القابلية لان يوفقه اللّه تعالى لمرضاته، و إذا ثبت ذلك في الضلالة ثبت في الهداية أيضا.

ص:92


1- 1) الآية 125 من سورة الأنعام. [1]

المشيئة الالهية و افعال العباد

و لا يخفى أن كثير من الآيات الكريمة تضمنت للمشيئة الإلهية.

و استدل بها تارة لكون أفعال العباد الاختيارية متعلقة لها، فلا بدَّ من وجودها لاتحاد الارادة و المشيئة، و أخرى للجبر، كقوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ (1)، و قوله سبحانه: قُلْ إِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (2)، و قوله عز و جل: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ (3)، و قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ إِنْ شاءَ اَللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ (4)، و قوله

ص:93


1- 1) الآية 30 من سورة الانسان. [1]
2- 2) الآية 27 من سورة الرعد. [2]
3- 3) الآية 284 من سورة البقرة. [3]
4- 4) الآية 27 من سورة الفتح. [4]

سبحانه: قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ صابِراً (1)، و قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ (2)، و قوله عز و جل: لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً (3)، و قوله تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ (4)إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة للمشيئة البالغة مائتي آية.

و لكن لا دلالة في شيء منها على ما استدل بها له.

أما الآية الأولى و ما بمضمونها، فلان صدرها متضمن لبيان أن القرآن يكون هاديا و ان الإنسان يكون متمكنا من الهداية إلى الحق بواسطته، و لكن الضالين لا يشاءون هذه الهداية بسوء اختيارهم. فهي بقرينته تدل على أن اللّه تعالى لو شاء أن يجبرهم على أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا كان له ذلك، و لكنه لم يشأ لان

ص:94


1- 1) الآية 69 من سورة الكهف. [1]
2- 2) الآية 49 من سورة يونس. [2]
3- 3) الآية 31 من سورة الرعد. [3]
4- 4) الآية 23 24 من سورة الكهف. [4]

دار الدنيا دار الاسباب و الاختيار، بل جعل ذلك تحت اختيارهم و مشيئتهم.

و يمكن أن يقال: ان المراد بها " ما تشاءون الاسلام الا أن يشاء اللّه أن يلطف لكم في الاستقامة "، لما في الكلام من معنى النعمة.

و أما الآية الثانية و ما بمضمونها نظير قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)، و قوله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (2)، و قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (3)إلى غير ذلك من الآيات، فهي تدل على أن الهداية الخاصة و كذا ما يقابلها مختصة بطائفة خاصة.

ص:95


1- 1) الآية 213 من سورة البقرة. [1]
2- 2) الآية 272 من سورة البقرة. [2]
3- 3) الآية 56 من سورة القصص. [3]

توضيحة: ان الهداية هي الارشاد و الدلالة، و الهدى ضد الضلال، الهداية من اللّه تعالى على قسمين عامة و خاصة.

و الاولى: قد تكون تكوينية، و قد تكون تشريعية.

و الهداية العامة التكوينية ما أعدها اللّه تعالى في طبيعة كل موجود، فهي تسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، الفارة تفر من الهرَّة و لا تفر من الشاة، و النمل يهتدي إلى تشكيل جمعية و حكومة، و الطفل يهتدي إلى ثدي امه. و هكذا، قال تعالى: قالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (1).

و الهداية التشريعية العامة هي افاضة العقل على الإنسان ثمّ ارسال الرسل و انزال الكتب.

و أما الهداية الخاصة، فهي عناية ربانية خصَّ اللّه بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته، فيهيئ له ما به يهتدى إلى

ص:96


1- 1) الآية 50 من سورة طه. [1]

كماله و يصل إلى مقصوده، و لو لا تسديده لوقع في الغي و الضلالة، و مع ذلك لا يكون مجبورا في ذلك.

و في امثال هذه الآية أشير إلى نكته لطيفة، و هي الرد على القائلين باله الخير و إله الشر، أي المجوس الملتزمين بأن وسائل الشر انما تكون متحققة بايجاد اله الشر، و ان اللّه تعالى لا يهيئ تلك الوسائل، و تدل على ان الأسباب كلها من اللّه تعالى.

و أما الآية الثالثة: و ما بمضمونها فإنما تدل على أن جميع الأفعال واقعة تحت المحاسبة، سواء أ كانت ظاهرة أم لا، غاية الامر لله تعالى أن يغفر لمن يشاء.

و أما الرابعة، و الخامسة: و ما بمضمونهما من الآيات فغاية ما تدل عليه أنه حيث يحتمل من يريد أن يعمل عملا أن يحدث ما يمنع عنه، فعليه أن يتوجه إلى اللّه تعالى و يسأله أن تكون الحوادث بنحو لا تمنعه عما يريد.

و أما السادسة: و ما بمضمونها فملخص القول فيها ان المراد بالنفع و الضرر ان كان هو الطبيعي منهما فعدم ارتباطها بالمقام ظاهر، و ان كان ما ينشأ عن عدم العمل بالوظائف فكونه منوطا

ص:97

بمشيئة اللّه تعالى انما هو من جهة كون جعل الوظيفة و بيانها على اللّه تعالى.

و بما ذكرناه في الآيات السابقة يظهر ما في السابعة و الثامنة.

الاستدلال للجبر بعلم اللّه تعالى

ثالثها ان الثابت في محله أن علمه تعالى متعلق بجميع الموجودات و لم يخرج شيء عن تحت علمه، و منها أفعالنا، فكل ما يصدر منا متعلق لعلمه فيجب وجوده و إلا لزم كون علمه تعالى جهلا.

و ان شئت قلت: انه لتعلق علمه بالفعل لا بد و أن يوجد الفعل جبرا، أو يتبدل علمه بالجهل، و حيث أن الثاني محال فيتعين الأول.

و يتضح الجواب عن ذلك ببيان أمور:

الأول ان علمه تعالى لا يكون متعلقا بأفعالنا فقط، بل هو متعلق بها و بمقدماتها، و إلا لزم كون علمه محدودا، و اتصافه بمقابل العلم، و هذا ينافي

كون العلم من الصفات الذاتية.

ص:98

و حيث ان من مقدمات الفعل الاختيارى الاختيار و الارادة، فيكون عالما بصدور الفعل عن الاختيار. و لو التزمنا بالجبر و لزوم صدور الفعل لزم انقلاب علمه جهلا، إذ المعلوم كون الفعل صادرا عن الاختيار، و الواقع صدوره جبرا.

الثاني أن علمه تعالى ليس علّة للفعل، كما أن علمنا بأنا سنفعل كذا لا يكون هذا العلم علة لذلك الفعل، فان حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه و لا ربط لذلك بصدور ذلك الفعل ليكون علة له.

و أيضا فلو كان علمه علّة لم يكن هناك حاجة إلى الإرادة، و قد قال اللّه تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1)و في غير ذلك من الآيات و الروايات جعلت الإرادة غير العلم، و قد تقدمت.

و قد عرفت أن تفسير جماعة إرادته تعالى بعلمه غلط و اشتباه مناف للاخبار و الآيات.

ص:99


1- 1) الآية 82 من سورة يس. [1]

فإن قيل: ما معنى تصريح كثير من الفلاسفة بأن علمه تعالى فعلى لا انفعالي، بعد كون ظاهره أن علمه ليس تابعا للمعلوم بل المعلوم تابع له؟

قلنا: ان مرادهم بذلك أن العلم:

تارة يطلق و يراد منه نفس الاضافة المتأخرة عن وجود الطرفين التي هي المضاف الحقيقي.

و أخرى يطلق و يراد منه مبدأ تلك الاضافة. و العلم بالمعنى الأول ليس من الصفات الذاتية له تعالى و إلا يلزم أن يكون لغير ذاته مدخلية في كمال ذاته، و هو مستلزم لمدخلية غيره في ذاته، و هو ضروري البطلان.

بل العلم بالمعنى الثاني، أي مبدأ تلك الاضافة الخاصة كمال له و عين ذاته، فعلمه بمعنى ما هو مبدأ العالمية.

أو المراد أن علمه بما أنه من الصفات الذاتية متحد مع ذاته، و حيث أن ذاته مبدأ لجميع الموجودات حتى أفعال العباد لان مبادئها من قبل اللّه تعالى، فكذلك علمه المتحد مع ذاته، فليس معنى فعليّة علمه كونه علة لجميع الموجودات. و حيث أن ذاته لا

ص:100

تكون علة لافعال العباد بل الموجد لها هو العبد، فكذلك علمه المتحد مع ذاته.

الثالث أن علمه تعالى كما يكون متعلقا بأفعال العباد كذلك يكون متعلقا بأفعاله، فلو كان علة لزم الالتزام بالجبر حتى في أفعاله سبحانه.

الاستدلال للجبر بسلطنة اللّه تعالى

رابعها: أن اثبات القدرة للعبد و اسناد الفعل إليه استقلالا أو مع اللّه و الالتزام بأنه الموجد يستلزم ثبوت الشريك له، فلا بد من الالتزام بالجبر حفظا لسلطنة اللّه و أنه المتصرف الوحيد.

و فيه: ان ذلك انما يلزم لو كان للعبد استقلال و وجود و قدرة بنفسه، و أما مع الالتزام بأنه محتاج في وجوده و قدرته و سائر مبادئ الفعل بل بالنظر الدقيق هو كسائر الموجودات عين

ص:101

الحاجة لا شيء محتاج، فلا يلزم من اسناد الفعل إلى العبد حقيقة عزل اللّه تعالى عن ملكه أو تصرف الغير في سلطانه، كيف هو و قدرته و جميع شئونه موجودة بايجاده.

و لنمثل لتقريب ذلك مثالا و ان كان دون ما نحن فيه بكثير، و هو: أن الغنى القادر القوى لو أعطى الضعيف و أغنى الفقير، و هو قادر في كل حين على سلبه و ابقائه، هل يتوهم أحد أن يعد الضعيف شريكا للقوي؟ كلا.

و بهذا الذي ذكرناه أخبر أمير المؤمنين عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها و يقعد و يفعل و يترك.

فقال له أمير المؤمنين: اسألك عن الاستطاعة تملكها من دون اللّه أو مع اللّه؟ فسكت عباية.

فقال له أمير المؤمنين: قل يا عباية. قال: و ما أقول؟

قال: ان قلت انك

ص:102

تملكها من دون اللّه قتلتك، و ان قلت تملكها مع اللّه

قلتك. قال: فما أقول؟

قال: تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك (1). الحديث

فانظر إلى هذا الحديث كيف كشف الغطاء و لم يدع على هذه الحقيقة من ستار.

ص:103


1- 1) نقله الامام أبو الحسن الثالث في رسالته إلى اهل الاهواز على ما رواها في البحار ج 5 ص 75. [1]

الاستدلال للجبر باسناد الاضلال إلى اللّه تعالى

خامسها: انه قد نسب الاضلال إلى اللّه تعال في كثير من الآيات، قال اللّه تعالى: فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَ يَهْدِي مَن يَشَاء (1)، و قال عز و جل: قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (2)و قال سبحانه: وَ مَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء (3)فتدل هذه الآيات على أنه تعالى خالق الضلال و الكفر في العبيد، فيصدهم عن الايمان و يحول بينهم و بينه.

و ربما قالوا: ان هذا هو حقيقة اللفظ بحسب اللغة، لان الاضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا، كما أن الاخراج و الادخال عبارتان عن جعل الشيء خارجا و داخلا.

ص:104


1- 1) الآية 4 من سورة إبراهيم. [1]
2- 2) الآية 27 من سورة الرعد. [2]
3- 3) الآية 125 من سورة الأنعام. [3]

و أورد العدلية على ذلك بوجوه:

الأول: انه لا يقال لمن صد الطريق أنه أضله بل يقال منعه، و انما يقال اضله إذا أغواه.

الثاني: ان اللّه تعالى وصف الشيطان و فرعون و أمثالهما بالاضلال، و معلوم أنهم ليسوا خالقين للضلال في قلب أحد، قال اللّه تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (1)، و قال: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدَى (2).

الثالث ان ذلك يضاد كثيرا من الآيات، كقوله: وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَن

يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى (3)و قوله سبحانه: فَمَا

ص:105


1- 1) الآية 15 من سورة القصص. [1]
2- 2) الآية 79 من سورة طه. [2]
3- 3) الآية 94 من سورة الإسراء. [3]

لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (1)، و قوله عز و جل: أَنَّى يُصْرَفُونَ (2)، إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: ان اللّه تعالى ذم ابليس و من سلك سبيله في الاضلال و الاغواء و أمر بالاستعاذة منهم.

قال سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (3)، و قال: وَ قُل ربِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين (4)، و قال: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد (5)، و قال سبحانه: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدَى (6)، فلو كان اللّه تعالى هو المضل الحقيقي فكيف ذمهم عليه.

ص:106


1- 1) الآية 49 من سورة المدثر. [1]
2- 2) الآية 69 من سورة غافر. [2]
3- 3) الآيات 1 و 4 من سورة الناس. [3]
4- 4) الآية 97 من سورة المؤمنون. [4]
5- 5) الآية 26 من سورة ص.
6- 6) الآية 79 من سورة طه. [5]

و أيضا لو وجبت الاستعاذة منه كما وجبت منهم، و لاستحق المذمة كما استحقوا، و لوجب أن يتخذوه عدوا كما وجب اتخاذ ابليس عدوا.

الخامس انه عز و جل في كثير من الآيات نسب الضلال إلى العصاة، كما في قوله تعالى: وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (1)،

ص:107


1- 1) الآية 26 من سورة البقرة. [1]

و قوله سبحانه:

كَذلِكَ يُضِلُّ اَللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (1).

فلو كان المراد بالضلال هو ما هم فيه لزم منه تحصيل الحاصل و هو محال:

و أيضا فأمثال هذه الآيات صريحة في أنه يفعل بهم الاضلال بعد فسقهم، فيكون مغايرا له.

السادس انه تعالى يذكر هذا الضلال جزاءً لهم على سوء فعلهم و عقوبة عليه، فلو كان المراد ما هم عليه لكان ذلك تهديدا لهم بشيء هم عليه مقبلون و به متلذذون.

ص:108


1- 1) الآية 34 من سورة غافر. [1]

و لذلك كله ذهب العدلية إلى أنه يجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل:

الأول-أن يحمل الاضلال على الاضلال عن الجنة.

الثاني-أن يحمل الاضلال على الهلاك و الابطال، كقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)، و قوله تعالى: وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (2).

الثالث-أن الضلال و الاضلال هو العقاب و التعذيب، كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَ سُعُر (3).

الرابع-أن يكون الاضلال هو التخلية و ترك المنع، فيقال أضل فلان ابنه إذا لم يتعاهده بالتأديب.

ص:109


1- 1) الآية 1 من سورة محمد. [1]
2- 2) الآية 10 من سورة السجدة. [2]
3- 3) الآية 47 من سورة القمر. [3]

و يؤيده ما عن العيون عن الامام الرضا في قوله تعالى " و تركهم في ظلمات لا يبصرون "، قال: ان اللّه تعالى لا يوصف بالترك كما

يوصف خلقه، لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر و الضلال منعهم المعاونة و اللطف و خلى بينهم و بين اختيارهم (1).

و قريب منه غيره.

الخامس-و هو أحسن الوجوه، انه إذا ضلَّ الإنسان باختياره عند حضور شيء من دون أن يكون ذلك علَّة لضلاله بل غايته كونه من مقدماته البعيدة و علله المعدة، يقال انه أضله.

قال اللّه تعالى في حق الاصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ (2)، أي ضلوا بهن،

ص:110


1- 2) الآية 36 من سورة إبراهيم.
2- 1) عيون أخبار الرضا ج1 ص123ح 16 باب 11 ما جاء عن الرضا من الاخبار في التوحيد/بحار الأنوار ج5 ص11 ح17 باب1 [1] نفي الظلم و الجور عنه تعالى.

و قال وَ لَا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْرًا*وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً (1)، أي ضل بهم كثير من الناس.

و الاضلال بهذا المعنى منسوب إلى اللّه تعالى نظرا إلى أن الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان لها مبادئ خارجة عن دائرة اختياره، كوجود الإنسان و حياته و إدراكه للفعل و شوقه إليه، و ملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه و قدرته على ايجاده، و تلك المبادئ موجدها هو موجد الإنسان نفسه، و قد ثبت في محله أن بقاء الاشياء و استمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن.

و على هذا فالكفر و الفسق إذا صدرا عن العبد باختياره بما أن مبادئهما من قبل اللّه تعالى فلذلك يصح أن ينسبا إليه تعالى.

و بذلك يظهر الجواب عما أورد على القرآن المجيد بأنه: قد يسند الفعل إلى العبد و اختياره، و قد يسند الأفعال إلى اللّه تعالى، و هذا تناقض واضح.

ص:111


1- 1) الآيتين 23 و 24 من سورة نوح.

كلام العارف الشيرازي في معنى الاضلال

و للعارف الصدر الشيرازي كلام في توجيه نسبة الاضلال إلى اللّه تعالى لا بأس بنقله ملخصاً، لاشتماله على مطالب دقيقة:

قال: ان اللّه تعالى متجل للخلق بجميع صفات كماله و أسمائه و مفيض على عباده و عوالمه بكل نعوت جماله و جلاله، فالاول ما تجلى في ذاته لذاته، فظهر من تجليه عالم أسمائه و صفاته، فهي أول حجب الاحدية، ثمّ تجلى بها على عالم الجبروت، فحصلت من تجليه أنوار عقلية و ملائكة مهيمنة قدسية، و هي سرادقات جبروتية ثمّ تجلى من خلق تلك الانوار على العالم الملكوت الاعلى و الاسفل ثمّ على أشباحها الغيبية و المثالية، ثمّ على عالم الطبيعة السماوية و الارضية.

و لكل من هذه العوالم و الحضرات منازل و طبقات متفاوتة، و كلما وقع النزول أكثر قلت هذه الانوار الاحدية بكثرة هذه الحجب الامكانية، و تراكمت النقائص و الشرور بمصادمات الاعدام. أو لا ترى أن كلا من الصفات السبعة الالهية التي هي

ص:112

أئمة سائر الصفات برية من النقصان و الامكان و الكثرة و الحدثان.

ثمّ إذا وقعت ظلالها في هذا العالم الادنى حجبتها الآفات و الشرور و لزمتها الاعدام و النقائص، فإذا ارتفعت عن عالم

ص:113

الاجسام زالت عنها تلك النقائص و الشرور و رجعت إلى اقليم الوحدة.

ثمّ زعم أن هذا هو معنى الامر بين الامرين من الجبر و القدر، و هو أن النقائص و القصورات اللازمة في هذا العالم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحق تارة و إلى الخلق، اخرى انما نشأت و لزمت من خصوصية هذا الموطن فعادت الينا لا إلى الصفة الالهية، و هو معنى قوله تعالى في

الحديث القدسي " أنت أولى بسيئاتك منى" (1)، و معنى قوله: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (2)أن الأفعال الصادرة منه بلا واسطة و كذا الصفات الالهية الثابتة له في مقام التوحيد قبل عالم الكثرة ليس فيها شائبة النقص و القبح حتى يرد فيها السؤال، لان عالم الالوهية كله نور و كمال.

ص:114


1- 1) الكافي ج1 ص50 باب المشيئة و الارادة [1]ح6، و باب الجبر و القدر و الامر بين الامرين ص 157 ح3، و ص 160 من نفس الباب ح 12 بسند ثالث.
2- 2) الآية 23 من سورة الأنبياء. [2]

ثمّ نقل عن بعض أصحاب القلوب، و الظاهر أنه ابن العربي، أنه ذكر تقريبا للطبائع و الافهام و تسهيلا لفهم التوحيد الافعالى على العقول فيما يضاف إلى الجمادات و الاعجام، فان الحجاب عن ادراك هذا التحقيق أمران:

احدهما اختيار الإنسان و الحيوان.

و ثانيهما ما ينسب إلى الجمادات و سائر الاجرام.

اما الأول: فان نسبة إرادة الإنسان إلى مشيئة اللّه تعالى كنسبة ادراك الحواس إلى ادراك العقل.

كما في قوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اَللّهُ (1)، و نسبة مصادر أفعالها من الابدان و الاعضاء كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو أمير الجوارح، كما دل عليه قوله تعالى: يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (2)و قوله: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّهُ بِأَيْدِيكُمْ (3)، و قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ

ص:115


1- 1) الآية 30 من سورة الإنسان. [1]
2- 2) الآية 10 من سورة الفتح. [2]
3- 3) الآية 14 من سورة التوبة. [3]

إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى (1).

و أما الثاني فقد انكشف لدى البصائر المستنيرة أن الشمس و القمر و الغيم و المطر و الارض و كل حيوان و جماد مسخرات بأمره تعالى و مقبوضات بقبض قدرته، كالقلم الذي هو مسخر للكاتب و علمه و ارادته و قدرته و قوته التي في عصبه و اصبعه، كما أن علمه و مشيئته واردتان من خزائن غيب الملكوت، و كتابة قلم اللاهوت على ترتيب و نظام و تقدم و تأخر من الاعلى فالاعلى إلى الادنى حتى انتهى أثر القدرة من احدى حاشيتي الوجود إلى الاخرى من القلم الاعلى إلى القصب الادنى.

و هذا مما يشاهده من انشرح صدره بنور اللّه و يسمع بسمعه المنور من يدرك و يفهم تسبيح الجمادات و تقديسها و شهادتها على أنفسها بالعجز و السخرية بلسان ذلق أنطقها اللّه به الذي أنطق كل شيء بلا حرف و صوت ما لا يسمعه، الذين هم عن السمع لمعزولون.

ص:116


1- 1) الآية 17 من سورة الأنفال. [1]

فقال بعض الناظرين من هذا المشكاة للكاغذ (1)و قد رآه اسودّ وجهه: لم تسوّد وجهك و تشوَّش بياضك بهذا السواد؟

فقال بلسان الحال: سلوا هذا المداد الذي ورد عليّ و غير هيئتي و جبلّتي.

فقال للمداد: لم فعلت ذلك؟

فقال: كنت مستقرا في قعر الدواة لا صعود لى بنفسى عن ذلك القعر فوردت على قصبة تسمى القلم فرقاني من مقعري، و لو لا نزوله ما كان لي صعود.

فقال للقلم: لم فعلت ذلك؟

فقال: كنت قصبا ثابتا في بعض البقاع لا حركة منى و لا سعى فورد على قهرمان سكين بيد قاطع فقطعني عن أصلى و مزق على ثيابي و شق رأسي ثمّ غمسني في سواد الحبر و مرارته.

فقال للسكين: لم فعلت؟

ص:117


1- 1) الكاغذ من الالفاظ الفارسية و معناها الورق.

فأشارت إلى اليد، فاعترض عليها فقالت: ما أنا الا لحم و دم و عظم حركني فارس يقال له القدرة فاسألها. فلما سألها عن ظلمها و تعديها على اليد أشارت إلى الإرادة.

فقال لها: ما الذي قواك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة؟

فقالت: لا تعجل لعل لنا عذرا و أنت تلوم، فانى ما انبعثت بنفسى و لكن بعثنى حكم حاكم و أمر جازم من حضرة القلب و هو رسول العلم على لسان العقل بالاشخاص للقدرة و الالتزام لها في الفعل، فانى مسكين مسخر تحت قهر العلم و العقل فلا أدرى بأى جرم سخرت لهما و ألزمت لهما الطاعة، و لكني أدرى أن تسخيري اياها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم.

فأقبل على العلم و العقل و القلب طالبا و معاتبا اياهم على سبب استنهاض الإرادة و انهاضها للقدرة.

فقال العقل: أما انا فسراج ما اشتعلت بنفسى و لكن اشعلت.

و قال القلب: اما أنا فلوح ما انبسطت و لكن بُسطت و ما انتشرت و لكن نشرني من بيده نشر الصحائف.

ص:118

و أما العلم فقال: انما انا نقش في منقوش و صورة في بياض لوح القلب لما أشرق العقل، و ما انحططت بنفسى فكم كان هذا اللوح قبلى خاليا فاسأل القلم عنى و اسأله عن هذا.

فرجع إلى القلم تارة أخرى بعد قطع هذه المنازل و البوادى و سير هذه المراحل و المقامات، فوقع في الحيرة حيث لم يعلم قلما الا من القصب و لا لوحا الا من العظم و الخشب و لا خطا الا بالحبر و لا سراجا الا من النار، و كان يسمع في هذا المنزل هذه الاسامي و لا يشاهد شيئا من مسماها.

فقال له العلم: زادك قليل و بضاعتك مزجاة و مركبك ضعيف، فالصواب لك أن تؤمن بهذه المسميات ايمانا بالغيب و تنصرف و تدع ما انت فيه.

فلما سمع السالك ذلك استشعر قصور نفسه فاشتغل قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآه بعين النقص، و لقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضيء و لو لم تمسه نار، لقوة استعداد كبريائيته في مادته، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نورا على نور.

ص:119

فقال له العلم: اغتنم الفرصة و افتح بصرك فلعلك تجد على هذه النار هدى.

ففتح بصره فرأى القلم الالهى كما سمع نعته من العلم أنه ليس من قصب و لا خشب و لا له رأس و ذنب، و هو يكتب على الدوام في صحائف قلوب الانام أصناف العلوم و الحقائق، و كان له في كل قلب رأس و لا رأس له، فقضى منه العجب فودع عند هذا العلم و شكره و قال: لقد طال مقامي عندك و أنا عازم على السفر إلى حضرة القلم.

فلما جاءه وقص عليه القصص و سأله ما بالك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الارادات إلى أشخاص القدرة و صرفها إلى المقدورات؟

فقال: لقد نسيت ما رأيت في عالم الملك و سمعته من جواب القلم عن سؤالك.

قال: لم أنس. فقال: جوابي مثل جوابه لتطابق عالمى الملك و الملكوت، أما سمعت أن اللّه تعال خلق آدم على صورته، فاسأل عن شأني الملقب ب " يمين الملك " فاني مقهور في قبضته مسخر،

ص:120

فلا فرق بين قلم الآدمي و الخلق الالهي في معنى التسخير انما الفرق في ظاهر الصورة و التصوير.

قال: و من يمين الملك؟

قال: أما سمعت قوله تعالى: وَ السَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (1)، هو الذي يرددها.

فسأل اليمين عن شأنه و تحريكه للقلم.

فقال: جوابي ما سمعت من اليمين الذي في عالم الشهادة و هو الحوالة إلى القدرة، فلما سار إلى عالم القدرة فرأى فيه من العجائب ما استحقر غيرها، فأقيل عند ذلك عليها فسألها عن تحريك اليمين.

فقالت: أنا صفة فاسأل القادر إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات.

و عند هذا كاد أن يزيغ و ينطق بالجرأة على السؤال، فثبت بالقول الثابت و نودى من سرادقات الحضرة لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ (2)، فغشيته الحضرة فخر صعقا، فلما أفاق قال:

ص:121


1- 1) الآية 67 من سورة الزمر. [1]
2- 2) الآية 23 من سورة الأنبياء. [2]

سبحانك ما أعظم شأنك تبت اليك و توكلت عليك و آمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك و لا أرجو سواك و لا أعوذ الا بعفوك من عقابك و برضاك من سخطك و بك منك؟

فأقول: اشرح لى صدري لأعرفك، و احلل عقدة الصمت من لساني لأثني عليك.

فعند هذا رجع السالك و اعتذر عن سؤاله و معاتبته.

فقال لليمين و القلم و العلم و الارادة و القدرة و ما بعدها: اقبلوا عذرى فانى غريبا كنت في بلادكم و لكل داخل دهشة فما كان انكاري عليكم الا عن قصوري و جهلي و الآن قد صح عندي عذركم و انكشف لى ان المتفرد بالملك و الملكوت و العزة و الجبروت هو الواحد القهار و الكل تحت تسخيره و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن.

فهذا هو الكلام في تفسير الاضلال (1). انتهى.

ص:122


1- 1) للعالم العارف صدر المتألهين الشيرازي، كما نقله عنه الوافي (المصدر السابق) .

الآيات التي استدل بها للجبر

سادسها جملة من الآيات الشريفة، و هي طوائف:

منها: ما تقدم من الآيات المتضمنة لإسناد الاضلال إلى اللّه تعالى و قد مر الجواب عنها.

و منها: الآيات المتضمنة لنسبة الهداية إلى اللّه سبحانه، و قد مر عند الاستدلال بها لتعلق إرادته تعالى و مشيئته بأفعال العباد الجواب عنها.

و ملخصه أن للهداية أنواعا:

أولها: الهداية العامة التكوينية، و هي الهداية إلى جلب المنافع و دفع المضار، باضافة المشاعر الظاهرة و المدارك الباطنة و القوة العاقلة، قال اللّه سبحانه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (1).

ص:123


1- 1) الآية 50 من سورة طه. [1]

ثانيها: نصب الدلائل العقلية الفارقة بين الحق و الباطل و الصلاح و الفساد، و إليه يشير قوله تعالى: وَ هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (1).

ثالثها: الهداية العامة التشريعية بارسال الرسل و انزال الكتب و إليه يشير قوله سبحانه: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (2)، و قوله عز و جل: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَ إِمَّا كَفُوراً (3).

رابعها: الهداية الخاصة التكوينية، و هي الهداية إلى طريق السير إلى حصار القدس و السلوك إلى مقامات الانس بانطماس آثار التعلقات البدنية و اندراس أكدار الجلابيب الجسمية و الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال و مطالعة أنوار الجمال، و هذا النوع عناية ربانية خص اللّه بها بعض عباده حسب ما يقتضيه حكمته.

ص:124


1- 1) الآية 10 من سورة بلد. [1]
2- 2) الآية 17 من سورة فصلت. [2]
3- 3) الآية 3 من سورة الإنسان. [3]

و إلى هذا النوع يشير كثير من الآيات، قال عز من قائل لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَ لَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (1)، إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (2)وَ اللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (3)، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء (4)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و منها: الآيات المتضمنة لنسبة أفعال العباد إلى اللّه تعالى، و قد تقدمت جملة منها.

و الجواب عنها: ما مر من أن فعل العبد وسط بين الجبر و التفويض و له حظ من كل منهما، لان القدرة و سائر المبادئ حين الفعل تفاض من اللّه تعالى و اعمال القدرة في أخرى، و كل من الاسنادين حقيقي، و الآيات الكريمة ناظرة إلى هذا المعنى.

ص:125


1- 1) الآية 272 من سورة البقرة. [1]
2- 2) الآية 144 من سورة الأنعام. [2]
3- 3) الآية 213 من سورة البقرة. [3]
4- 4) الآية 56 من سورة القصص. [4]

و منها: قوله عز من قائل: وَ لَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (1).

و فيه: ان اللام في قوله " لجهنم " ليست للعلة، بل للعاقبة و المآل و الصيرورة، كما في قول الشاعر " لدوا للموت و ابنوا للخراب ". فالآية الشريفة لا تدل على أن كثيرا من الانس و الجن خلقوا ليدخلوا السعير، بل تدل على أن عاقبة كثير من الطائفتين هو دخول جهنم و ذيلها يدل على أن هذه العاقبة التي في انتظارهم ليست بجبر من اللّه تعالى، بل من ناحية أنهم افشلوا وسائل ادراكاتهم بالمعاصى عن اختيار.

ص:126


1- 1) الآية 179 من سورة الأعراف. [1]

و بذلك يظهر الجواب عن الاستدلال له بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ*خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (1)فان هذه الآية واردة في الذين كفروا باختيارهم.

و لا يبعد أن يكون المراد بهم الكفار من كبراء مكة الذين عاندوا في أمر الدين و لم يألوا جهدا في ذلك، تدل خصوصا بقرينة تغيير السياق-حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إليهم أنفسهم-على أن فيهم حجابين: حجابا في أنفسهم، و حجابا من اللّه تعالى عقيب كفرهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين من ذاتهم و من اللّه تعالى.

ص:127


1- 1) الآيتين 6 و 7 [1] من سورة البقرة.

القول بالجبر مخالف للوجدان

فالمتحصل مما ذكرناه أن شيئا من البراهين التي أقيمت على الجبر لا يتم.

و أضف إلى ذلك أن القول به مخالف للحس و الوجدان، و ذلك لان كل انسان يجد و يدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الأفعال و يتمكن من أن يفعلها أو يتركها، و لا يفعلها الا و يرى أنه قادر على تركها.

و هذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد ما لم يعتريه شبهة من الخارج.

و قد أطبق العقلاء كافة على استحقاق فاعل القبيح للذم و فاعل الحسن للمدح، مع اطباقهم على أن الذم و المدح انما يتوجهان إلى المختار دون المضطر، فكون جملة من الأفعال اختيارية مما بنى عليه بناء العقلاء.

مع أنه يترتب على القول بالجبر عدة توال فاسدة، قد أشرنا إليها سابقا، و هي:

ص:128

انكار التحسين و التقبيح العقليين.

و سلب العدالة عن اللّه تعالى.

و ان التكليف بما لا يطاق لا محذور فيه.

و كل واحد من هذه التوالي كاف في الرد على الجبرية.

التحسين و التقبيح العقليان

و لا بأس بالإشارة الاجمالية إلى وجه فساد كل واحد منها و ان كان واضحا غير محتاج إلى بيان، فأقول:

أما الحسن و القبح العقليان فذهبت الاشاعرة-خلافا للمعتزلة و الامامية-إلى انكار الحسن و القبح العقليين، و أنه مع قطع النظر عن كون الأفعال ملائمة للطبع أو منافرة له تكون الأفعال متساوية لا تفاوت بينها في الحسن و القبح، سوى أن أفعال العباد قد تتصف بالحسن و القبح بعد تعلق الاحكام الشرعية بها باعتبار موافقتها للشرع و مخالفتها، بخلاف أفعاله تعالى فانها لا تتصف بهما من هذه الجهة أيضا، و لا مجال للعقل أن يحكم فيها بتحسين أو تقبيح.

ص:129

و قد استندوا في ذلك إلى أمرين:

الأول: ان الفعل عرض و الحسن و القبح العقليان من قسم العرض أيضا، و العرض لا يعرض عليه عرض و لا يتصف به، فالفعل لا يمكن اتصافه بالحسن و القبح العقليين.

و فيه: أولا النقض، بأن الالوان كالبياض و الحمرة و السواد أعراض، و الشدة، و الضعف، و الحسن، و القبح أيضا من الاعراض، و غير خفي أن الشدة و الضعف و الحسن و القبح تعرض على الالوان و تتصف الالوان بها، هذا اللون شديد و ذاك ضعيف، هذا حسن و ذلك قبيح، فكيف جاز هنا اتصاف العرض بالعرض.

و ثانيا بالحل، و هو أنه فرق بين العرض الوجودى و العرض الانتزاعي، و الذي وقع محل الكلام في عروضه على العرض انما هو القسم الأول كالالوان، و أما القسم الثاني كالحسن و القبح و الشدة و الضعف فليس لأحد دعوى عدم عروضها على الاعراض.

الثاني: و هو يختص بانكارهما بالاضافة إلى أفعاله تعالى، و هو أنه لو سلم الحسن و القبح العقليان في أفعال العباد أنا لا نسلمهما في أفعاله تعالى.

ص:130

ضرورة أنه ليس للعقل التحكم على اللّه تعالى، فيقول: هذا الفعل منه قبيح فيجب تركه، أو حسن فيجب فعله.

كيف و هو الفعال لما يشاء، و كل ما يفعل يكون تصرفا في ملكه، لا يسأل عما يفعل.

و فيه: ان هذا اشتباه نشأ من التعبير بأن العقل يحكم بالحسن و القبح، و قد حققنا في محله أن شأن القوة العاقلة حتى بالنسبة إلى أفعال العباد ليس هو التشريع و جعل الاحكام، بل هذا المقام من مختصات اللّه تعالى و سفرائه، بل شأنها الدرك، فالقوة العاقلة دراكة لا مشرعة.

و عليه فنقول في المقام: ان الحسن و القبح لا يكونان بتحكم من العقل، بل هما صفتان واقعيتان يدركهما العقل.

توضيح ذلك: أنه كما يكون لكل واحدة من الحواس الخمس ملائمات و منافرات-مثلا: السمع تلذه الاصوات الحسنة و تزعجه الاصوات القبيحة-كذلك تكون للعقل الذي به انسانية الإنسان و الا فهو كغيره من الحيوانات ملائمات و منافرات.

ص:131

ضرورة أن القوة العاقلة قوة درّاكة، فإذا لاحظت الأفعال فقد تراها ملائمة لها و ترى استحقاق فاعلها للمدح كالعدل فيقال انها حسنة، و قد تراها منافرة لها ترى استحقاق فاعلها للذم كالظلم فيقال انها قبيحة، و قد تراها خالية عن الجهتين فتختلف بالوجوه و الاعتبارات.

و ان شئت توضيح ذلك بالمثال العرفي: فانظر إلى رجل قد أحسن اليك غاية الاحسان ثمّ احتاج اليك بأهون شيء، فلا شبهة في أن العقل مع قطع النظر عن الشرع يدرك حسن قضاء حاجته و قبح مقابلته بالرد و الهوان، مع أن قضاء حاجته لا يلائم الشهوات و رده لا ينافرها، فليس ذلك الا لان للعقل ملائمات و منافرات مع قطع النظر عن كل شيء.

و بالجملة بما أن للعقل نورانية تنكشف لها الحقائق على ما هي عليه،

يحكم (أي يدرك) بقبح بعض الأفعال و حسن بعضها، فانكار الحسن و القبح العقليين مكابرة.

ص:132

عدالة اللّه تعالى

و أما عدله تعالى: فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجور و الحكيم الذي لا يظلم، و انه لا يكلف عباده ما لا يطيقون و لا يتعبدهم بما ليس لهم إليه سبيل، و لا يكلف نفسا الا وسعها، و لا يعذب أحدا على ما ليس من فعله، و لا يلومه على ما خلقه فيه.

و هو المنزه عن القبائح و المبرأ من الفواحش، و المتعالي عن فعل الظلم و العدوان، و لا يريد ظلما للعباد، و لا يظلم مثقال ذرة.

و أما من يخالفنا-و هم الاشاعرة-فقالوا: ان من اللّه جور الجائرين و فساد المعتدين، و انه صرف أكثر خلقه عن الايمان و الخير و أوقعهم في الكفر و الشرك، و ان من أنفذ و فعل ما شاء عذبه و من رد قضاءه و أنكر قدره و خالف مشيئته أثابه و نعمه، و أنه خلق أكثر خلقه للنار و لم يمكنهم من طاعته ثمّ أمرهم بها و هو عالم بأنهم لا يقدرون عليها و لا يجدون السبيل إليها، ثمّ استبطأهم لمّا لمْ يفعلوا ما لم يقدروا عليه لمَّا لمْ يوجدوا ما لم يمكنهم منه.

ص:133

و ان الحسن ما فعله و لو كان ذلك عقاب أشرف الانبياء، و القبيح ما تركه و لو كان ذلك ثواب أشقى الاشقياء.

و استدلوا لما قالوا بأنه ليس للعقل التحكم على اللّه تعالى، بل هو ساقط في هذا المقام.

و لكنك بعد ما عرفت من ثبوت الحسن و القبح العقليين فثبوت عدالته تعالى لا يحتاج إلى مزيد بيان، إذ العقل يدرك حسن العدل و ان تركه للقادر عليه قبيح.

و ان فعل القبيح ينافر الحكمة و الكمال فلا يكاد يصدر منه تعالى.

و بالجملة العقل يدرك أنه سبحانه لكماله و حكمته و قدرته و غناه صدور القبيح منه محال، و لا يفعل القبيح. لانه لو فعل القبيح و الظلم لكان:

اما جاهلا بالقبيح، أو عالما به عاجزا عن تركه، أو محتاجا إلى فعله، أو قادرا غير محتاج بل يفعله عبثا.

و على الأول يلزم كونه جاهلا، و على الثاني كونه عاجزا، و على الثالث كونه محتاجا، و على الرابع كونه سفيها.

و الكل عليه محال.

ص:134

التكليف بما لا يطاق

و أما التكليف بما لا يطاق، فالتزمت الاشاعرة بعدم قبحه و عدم قبح العقاب على مخالفته، خلافا للعدلية.

أما قبح العقاب على مخالفة التكليف بما لا يطاق فمما لا يمكن انكاره بعد الالتزام بالتحسين و التقبيح العقليين، لان العقاب حينئذ مصداق للظلم، و هو قبيح بلا ريب.

و أما التكليف بما لا يطاق، ففيه قولان للعدلية.

و قد استدل على استحاليته بوجوه: ليس المقام موردا لذكرها كلها و انما نشير إلى الوجوه المهمة منها:

الأول: ما عن المحقق النائيني، و هو أن الطلب التشريعي انما هو تحريك لعضلات العبد نحو المطلوب بارادته و اختياره و جعل الداعي له لأن يفعل، و من البديهي أنه لا يمكن جعل الداعي للفعل غير الارادي (1).

ص:135


1- 1) أجود التقريرات ج1 ص102( [1]الوجه الثاني) . و في الطبعة الجديدة ج1 ص154.

و فيه: ان الوضع ليس الا التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى و ابرازه، و في الامر-على ما حقق في محله-يكون المبرز باللفظ كون صدور المادة من المخاطب متعلقا لشوق المتكلم.

و على ذلك فحيث انه لا ريب في امكان تعلق شوق المولى بفعل غير اختياري للعبد، بل بفعل غير اختياري لنفسه إذا كان المولى من الموالى العرفية، و انه يمكن ابراز هذا الشوق باللفظ الذي هو واقع الامر فالايراد عليه واضح.

نعم حكم العقل بلزوم اطاعة المولى يتوقف على كونه مقدورا له.

الثاني: ما عن المحقق النائيني أيضا، و هو أن المطلوب على المذهب الحق لا بد و أن يكون حسنا بالحسن الفاعلي، و هو لا يتحقق في الفعل غير الارادي (1).

ص:136


1- 1) أجود التقريرات ج1 ص101( [1]الوجه الأول) . و في الطبعة الجديدة ج1 ص153.

و فيه: ان اعتبار الحسن الفاعلى في اتصاف الفعل بالوجوب، مما لم يقم عليه دليل، إذ الوجوب تابع للملاك، فان كان الملاك في الفعل و ان لم يكن متصفا بالحسن الفاعلي كان الوجوب متعلقا به كذلك.

بل يمكن دعوى اتفاقهم على عدم اعتباره، لانهم التزموا في التوصليات بأن الفعل يقع مصداقا للواجب و ان لم يؤت به بقصد التقرب إلى اللّه بل بالدواعي النفسانية. و غير خفي أن الفعل الصادر عن غير الداع القربي لا يكون متصفا بالحسن الفاعلي.

الثالث: ما ذكره بعض المحققين من أن البعث و الانبعاث متضائفان، و المتضائفان متكافئان في القوة و الفعلية، فإذا لم يمكن الانبعاث و لم يقدر العبد عليه لا يمكن البعث أيضا.

و فيه: ما حقق في محله في بيان حقيقة الامر من أنه ليس الامر الا ابراز كون المادة متعلقة لشوق المولى.

الرابع: ان ابراز المولى شوقه إلى الفعل لا بد و أن يكون بداع من الدواعي، و الا يكون لغوا و صدوره من الحكيم محالا، و فائدة ذلك ليست الا اتيان العبد به و تحصيل ملاكه و مصلحته، فإذا لم يكن مقدورا فلا يترتب على الابراز ثمرة فيكون لغوا.

ص:137

و الحق: أن هذا وجه قوي، الا أنه يختص بالتكليف بغير المقدور

مستقلا، و لا يجرى في التكليف بالجامع بين المقدور و غير المقدور، فانه يمكن فرض فائدة في ذلك المورد، و هو أنه لو صدر منه ذلك الفعل غير المقدور بغير اختياره لكان مجزيا عن الاتيان بالفرد المقدور و يسقط التكليف بذلك، كما انه يختص بالقدرة العقلية و لا يجرى في موارد عدم القدرة الشرعية، كعدم القدرة على الامر المهم في موارد التزاحم.

و لصاحب بن عبّاد (1)كلام في هذا المقام لا بأس بنقله:

قال في فصل له في هذا الباب: كيف بأمره بالايمان و قد منعه منه، و ينهاه عن الكفر و قد حمله عليه، و كيف يصرفهم عن

ص:138


1- 1) و قد نقل كلامه هذا في الرد على الجبرية العلامة الحلي في كتابه نهج الحق و كشف الصدق ص 107. و [1]الصاحب بن العبّاد من علماء و فقهاء الشيعة و من مشاهير الشعراء بحق أهل البيت و هو من علماء القرن الرابع للهجرة، توفي سنة 385 في الري، له في اهل البيت عدّة قصائد معروفة و مشهورة، و للاطلاع على حياته راجع ما جمعه من اقوال العلماء بحقه العلّامة الاميني في كتابه الغدير ج 4 من ص 40 إلى 81.

الايمان ثمّ يقول " أنى يصرفون " و يخلق فيهم الكفر ثمّ يقول " فأنى تؤفكون "، و أنشأ فيهم الكفر ثمّ يقول " لم تكفرون "، و خلق فيهم لبس الحق بالباطل ثمّ يقول " و لا تلبسوا الحق بالباطل "، و صدهم عن السبيل ثمّ يقول " لم تصدون عن سبيل اللّه "، و حال بينهم و بين الايمان ثمّ قال " و ما ذا عليهم لو آمنوا "، و ذهب بهم عن الرشد ثمّ قال " فأين تذهبون "، و أضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثمّ قال " فما لهم عن التذكرة معرضين ".

و غيرها من الآيات الدالة على أن التكليف بما لا يطاق لم يقع، قال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (1)، و قال: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)، و قال: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (3)و أي حرج و مشقة فوق التكليف بالمحال.

ص:139


1- 1) الآية 286 من سورة البقرة. [1]
2- 2) الآية 78 من سورة الحج. [2]
3- 3) الآية 157 من سورة الأعراف. [3]

فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه: ان القول بالجبر لا يساعده البرهان، بل يخالفه، و الوجدان يرده و ينافيه، و الآيات القرآنية المباركة، و النصوص الواردة عن المعصومين ترده، و يترتب عليه عدّة توالٍ فاسدة.

ص:140

الاستدلال للقول بالتفويض و نقده

الطائفة الثانية من المسلمين-و هم المعتزلة-حفظا لعدالة اللّه تعالى التزموا بأن أفعال العباد الاختيارية غير مربوطة به تعالى، بل تمام المؤثر هو الإنسان.

و قد مرَّ عند نقل الأقوال في المسألة، ان اكثر القائلين بالتفويض قالوا بوجوب الفعل بعد إرادة الإنسان، و ذهب جماعة منهم إلى عدم الوجوب.

و استدلوا له بعد الرد على الجبرية و البناء على أن الأفعال الاختيارية تصدر عن الإنسان باختياره.

بأن مبادئ الأفعال من نفس وجود الإنسان و حياته، و ادراكه للفعل، و شوقه إليه، و ملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه، و قدرته على ايجاده، و ان كان حدوثها من قبل اللّه عز و جل، الا أن بقاءها و استمرارها في الوجود لا يحتاج إلى المؤثر في كل آن.

و يكون مثل خالق الاشياء معها، مثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه و تبقى الكتابة نفسها، أو مثل البناء يقيم

ص:141

الجدار بصنعه ثمّ يستغني الجدار عن بانيه و يستمر وجوده و ان فني صانعه.

و عليه فلا يحتاج العبد في صدور الفعل منه-بعد افاضة الوجود و سائر المبادئ-إلى شيء، و هو المؤثر التام فيه.

و فيه: ان الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه إليه، لانه لا يخرج عن امكانه بالوجود، ففى كل آن من الآنات بما أنه ممكن و الافتقار من لوازم ذاته محتاج إلى المؤثر ليفيض إليه الوجود، و مفتقر إلى مدد مبدعه الأول في كل حين و الا لانعدم، بل بالنظر الدقى الحقيقي انه عين الحاجة لا شيء محتاج.

ص:142

فالانسان في كل حين-حتى حين الفعل-مفتقر إلى موجده ليفيض إليه الوجود و سائر المبادئ، و الا لما تمكن من ايجاد الفعل، و يكون مثله تعالى (و لله المثل الاعلى) كتأثير القوة الكهربائية في الضوء، فان الضوء لا يوجد الا حين تمده القوة بتيارها و يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين.

مع أن اللّه تعالى نفسه في مقام التشريع، و التشريع لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للتكليف المولوي فيما لا يملك المولى منه شيئا.

مع أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه، و قد قال سبحانه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ (1).

و قال: لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ (2).

و قال: لِلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَ مَا فِي الأَرْضِ (3).

ص:143


1- 1) الآية 5 من سورة الحديد. [1]
2- 2) الآية 1 من سورة التغابن. [2]
3- 3) الآية 284 من سورة البقرة. [3]

الامر بين الامرين

اشارة

إذا عرفت فساد قول هاتين الطائفتين-أي قول الجبرية، و المفوضة-و شناعة تينك المقالتين.

فاعلم أن الحق هو القول بالامر بين الامرين الذي هو الخير كله، و قد مر تقريبه و توضيحه بالمثال، ففعل العبد الاختياري وسط بين الجبر و التفويض، لانه بعد ما عرفت من نفى الجبر و التفويض بالبرهان العقلي.

فالافعال الاختيارية الصادرة عن العباد بما أنها تصدر منهم بالاختيار و ليس في صدورها منهم قهر و اجبار، فهم مختارون فيها، و الافعال تستند إليهم و هم الموجدون لها.

و بما أن فيض الوجود و القدرة و سائر المبادئ يكون بافاضة اللّه تعالى آنا فآنا بحيث لو انقطع الفيض لما تمكن العبد من ايجاد الفعل، فالفعل مستند إليه تعالى.

و كل من الاسنادين حقيقي، فالعلم ينادى بأعلى صوته موافقا لمذهب الحق انه: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الامرين.

ص:144

و الآيات القرآنية كما مر ناظرة إلى هذا المعنى، و ان اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة اللّه و سلطانه.

و ما حققناه و أوضحناه و أوضحنا المنزلة بين المنزلتين و وفينا دليلها، دقيقة غامضة تكون من أسرار العلوم الالهية و خلاصة الفلسفة الحقة، مأخوذة عن ارشادات أهل البيت عليهم السلام و علومهم، و هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا (1).

ص:145


1- 1) فقد اختصهم اللّه بدينه و ارتضاهم لعلمه. . و جعلهم مستودعا لمكنون سره و امناء على وحيه. . و جعلهم نورا للبلاد و عمدا للعباد، و حجته العظمى و أهل النجاة و الزلفى. . . هم السبيل الاقوم، الراغب عنهم مارق و المقصر عنهم زاهق، و اللازم لهم لاحق، هم نور اللّه في قلوب المؤمنين و البحار [1]السائغة للشاربين، أمنٌ لمن التجأ اليهم، و امان لمن تمسك بهم. . . الخ راجع البحار ج23 ص244 باب 13. [2]

بحث روائي

و إليك بعض ما ورد عنهم:

روى الصدوق بسند صحيح عن الامام الرضا قال: ذكر عنده الجبر و التفويض، فقال: أ لا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد الا كسرتموه؟

قلنا: ان رأيت ذلك.

فقال: ان اللّه عز و جل لم يطع باكراه و لم يعص بغلبة و لم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم و القادر على ما أقدرهم عليه.

فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه منها صادا و لا منها مانعا، و ان ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و ان لم يحل فعلوه، فليس هو الذي أدخلهم فيه.

ص:146

ثمّ قال: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه (1).

فانظر إلى هذا الحديث كيف أثبت الامر بين الامرين و نفى الطرفين بكلمتين موجزتين، حيث أنه نفى التفويض بقوله " و هو المالك، هو القادر "، و نفى الجبر بقوله " لما ملكهم و أقدرهم ".

توضيحه: انه قد عرفت أن المفوضة انما ذهبوا إلى ما قالوا من جهة توهم استغناء الممكن في بقائه عن المؤثر و ان حدوثه كاف في بقائه، فلزمهم من ذلك نفى سلطنة اللّه تعالى و قدرته و خروج الاشياء بالوجود عن ملكه، فقد نفى ذلك بقوله " هو المالك " كما صرح بذلك في الآيات القرآنية على ما تقدم.

و حاصل كلامه: ان اللّه جل شأنه قادر على كل شيء و مالك كل شيء حتى اختيار الإنسان، فلا معنى لقول المفوضة.

ص:147


1- 1) التوحيد ص 361 الحديث 7، باب نفى الجبر و التفويض، و عيون أخبار الرضا ج1 ص144 باب 11ح48. [1]

و الجبرية انما التزموا بما قالوا من جهة توهم عدم مالكية العبد و عدم قدرته، لتخيل احتياج كل ممكن إلى علة موجبة، أو تخيل كون علمه تعالى أو إرادته علة لصدور الفعل، أو منافاة القدرة لسلطنة اللّه تعالى، فقد نفى جميع ذلك بقوله عليه السلام " لما ملكهم " و " على ما أقدرهم ".

و حاصل كلامه: ان علمه تعالى و ارادته متعلقان بقدرة العبد و مالكيته، فالفعل يصدر عن القدرة، و حيث أنه هو المالك و القادر فلا تنافي قدرة العبد مع قدرته و سلطنته.

و روى الكليني في الكافي (1)عن أمير المؤمنين بسند فيه رفع، و رواه الصدوق في العيون بعدة طرق (2)، و العلامة في شرح التجريد، و غيرهم في سائر الكتب

ص:148


1- 1) أصول الكافي ج1 ص 155 ح 1، و في البحار ج5 ص 12. [1]
2- 2) عيون أخبار الرضا ج1 ص138 ح38. و [2]التوحيد ص 381. [3]

الحديثية (1)و الكلامية: انه لما انصرف أمير المؤمنين من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ثمّ قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام بقضاء من اللّه و قدر؟

فقال أمير المؤمنين: أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من اللّه و قدر.

فقال له الشيخ: عند اللّه احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟

فقال له: مه يا شيخ فو الله لكم الاجر في مسيركم و أنتم سائرون و في مقامكم و أنتم مقيمون و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ: كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين و لا إليه مضطرين و كان بالقضاء و القدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا؟

فقال له: و تظن أنه كان قضاء و قدرا لازما؟ ! !

ص:149


1- 1) مثل كنز العمال ج1 ص344 ح1560، و غيره.

انه لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الامر و النهى و الزجر من اللّه، و سقط معنى الوعد و الوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، و لا محمدة للمحسن، و لكان المذنب أولى بالاحسان من المحسن، و لكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة اخوان عبدة الاوثان، و خصماء الرحمن و حزب الشيطان، و قدرية هذه الامّة و مجوسها، ان اللّه تبارك و تعالى كلف تخييرا، و نهى تحذيرا، و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكرها، و لم يملك مفوضا، و لم يخلق السماوات و الارض و ما بينهما باطلا، و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، الحديث.

فانظر إلى هذه الرواية أيها الطالب للحقيقة كيف جمع فيها تحقيقات دقيقة و نفى الجبر و التفويض بالبرهان و ذكر التوالى الفاسدة المترتبة على الجبر، و ذلك أنه لما سأله الشيخ عن مسيرهم إلى الشام أ بقضاء من اللّه و قدر،

قال: أجل كل ما فعلتم كان بقضائه و قدره، فتوهم الشيخ من هذه الجملة الجبر، من جهة أنه صور القضاء و القدر

ص:150

و استنتج نتيجته، و هي: ان إرادة اللّه تعالى الازلية التي لا تتخلف عن المراد متعلقة بأفعال الإنسان، و كان لازم ذلك ارتفاع و الحسن و القبح، و لذلك لما سمع الشيخ منه كون المسير بقضاء و قدر قال و هو في حال اليأس: عند اللّه احتسب عنائي، أي فعلي هذا كان مسيرى من حيث تعلق إرادة اللّه تعالى غير اختياري لى فلم يبق لى الا العناء و التعب! ! .

فأوضح مراده و قال: و تظن انه كان قضاءً حتما و قدرا لازما لا دخل لاختيار العبد و ارادته، ليس كذلك بل العبد مختار في فعله.

فالقضاء و القدر عبارة عن الامر و الحكم، و التمكين من فعل الحسنة

و ترك المعصية كما صرح بذلك في رواية اخرى (1)في ذيل هذا الحديث.

ص:151


1- 1) البحار الجزء الخامس، ابواب العدل، باب 1 نفي الظلم و الجور عنه تعالى و إبطال الجبر و التفويض و اثبات الامر بين الامرين و اثبات الاختيار و الاستطاعة و فيه 112 حديثا و غيره من الابواب.

ثمّ أخذ بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبنى عليها، إلى أن قال: و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها، و الظاهر أن المراد به أنه لم يعص و الحال أن عاصيه مغلوب بالجبر و لم يطع و الحال ان طوعه مكروه للمطيع.

و أما قوله " و لكان المذنب أولى بالاحسان " الخ، فالظاهر أنه أشار بذلك إلى مطلب دقيق، و هو: أنه على مسلك الجبرية بما أن ذات المذنب اقتضت الاحسان في الدنيا باللذات فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذات في النشأتين و بما ان ذات المطيع اقتضت المشقة في الدنيا و ايلام المطيع، بالتكاليف الشاقة فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك.

ثمّ اشار إلى بعض المطالب الدقيقة لا تساعدنا الظروف لشرحها، ثمّ أبطل التفويض بقوله " لم يملك مفوضا ".

و في التوحيد عن الامامين الصادقين: ان اللّه عز و جل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذبهم عليها، و اللّه أعز من أن يريد أمرا فلا يكون.

قال: فسئلا هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟

ص:152

قالا: نعم أوسع مما بين السماء و الارض (1).

و فيه أيضا عن محمد بن عجلان قال: قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: فوض اللّه الامر إلى العباد؟ قال: أكرم من أن يفوض إليهم. قلت:

فأجبر اللّه العباد على أفعالهم؟ فقال: اللّه أعدل من يجبر عبدا على فعل ثمّ يعذبه عليه (2).

و فيه أيضا عن الامام الصادق قال رسول اللّه: من زعم أن اللّه يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه تعالى، و من زعم أن الخير و الشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه، و من زعم أن المعاصي بغيره قوة اللّه فقد كذب على اللّه (3).

ص:153


1- 1) التوحيد ص360 ح3/الكافي ج1 ص159 باب الجبر و القدر و الامر بين الامرين ح9. [1]
2- 2) التوحيد ص361 باب 59 ح6/بحار الأنوار ج5 ص 51 باب 1 ح83. [2]
3- 3) التوحيد ص359 باب 59 ح2.

و فيه أيضا عن مهزم قال أبو عبد اللّه: أخبرني عما اختلف فيه من خلقك من موالينا. قال: قلت في الجبر و التفويض.

قال: فاسألني. قلت: أجبر اللّه العباد على المعاصي؟

قال: اللّه اقهر لهم من ذلك.

قلت ففوض اليهم؟

قال: اللّه أقدر عليهم من ذلك.

قال: قلت فأي شيء هذا أصلحك اللّه؟

قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثمّ قال: لو أجبتك فيه لكفرت (1).

قوله " اللّه أقهر لهم من ذلك " معناه: ان اللّه أقوى من أن يقهر عباده ينحو يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، بل هو يريد وقوع

ص:154


1- 1) التوحيد باب 59 [1] نفي الجبر و التفويض ص363 ح11.

الفعل الاختياري من فاعله من مجرى اختياره، فيأتى به من غير أن يبطل إرادته.

و عن تحف العقول (1)كتب علي بن محمد إلى شيعته من أهل الاهواز

كتابا مفصلا و هو مشحون بالتحقيقات مشتمل على البرهان لاثبات الامر بين الامرين و لغيره من المطالب الدقيقة، و لا يساعد وضع الكتاب لنقله بتمامه، و انما نذكر بعض ما رواه عن آبائه:

قال: فانا نبدأ بقول الصادق: " لا جبر و لا تفويض و لكن منزلة بين المنزلتين " و هي صحة الخلقة و تخلية السرب و المهلة في الوقت و الزاد مثل الراحلة و السبب المهيج للفاعل

ص:155


1- 1) تحف العقول ص 460 رسالة في الرد على أهل الجبر و التفويض و اثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين/و نقلها في البحار الجزء الخامس ص 68 باب 2 آخر و هو من الباب الأول، و المقاطع المروية ضمن الرسالة عن الإمام الصادق نقلها غير واحد مفصلة في الكتب الحديثية كالبحار، و الوسائل، و التوحيد، و الخصال، و غيرهم.

على الفعل، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق جوامع الفضل.

ثمّ في آخر الرسالة فسر كلام الامام الصادق، ففسر صحة الخلقة بكمال الخلق للانسان بكمال الحواس و ثبات العقل و التمييز و اطلاق اللسان بالنطق، و فسر تخلية السرب بأنه الذي ليس عليه رقيب يمنعه العمل مما أمر اللّه تعالى به، و فسر المهلة في الوقت بالعمل الذي يمتنع به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت و ذلك من وقت تمييزه و بلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله، و فسر الزاد بالجدة و البلغة التي يستعين بها العبد على ما أمر اللّه تعالى به مثل الراحلة للحج، و فسر السبب المهيج بالنية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال و حاستها القلب.

و روى عن الامام الصادق أيضا انه سئل: هل أجبر اللّه العباد على المعاصي؟

ص:156

فقال الصادق هو أعدل من ذلك.

فقيل له: فهل فوض اليهم؟ فقال هو أعز و أقهر من ذلك.

و روي عنه أنه قال في القدر: على ثلاثة اوجه:

رجل يزعم أن الامر مفوض إليه! فقد وهن اللّه تعالى في سلطانه فهو هالك.

و رجل يزعم أن اللّه جل و عز اجبر العباد على المعاصي و كلفهم ما لا يطيقون! فقد ظلم اللّه تعالى في حكمه فهو هالك.

و رجل يزعم أن اللّه كلف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد اللّه و إذا أساء استغفر اللّه فهذا مسلم بالغ.

ص:157

و روى في أخريات الرسالة ما أخبر به أمير المؤمنين عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها و يقعد و يفعل و يترك، فقال له أمير المؤمنين: أسألك عن الاستطاعة تملكها من دون اللّه تعالى أو مع اللّه؟

فسكت عباية، فقال أمير المؤمنين: قل يا عباية.

قال: و ما أقول؟

قال: ان قلت انك تملكها من دون اللّه قتلتك.

و ان قلت تملكها مع اللّه قتلتك.

قال فما اقول؟ قال: تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك.

ص:158

فان يملكها اياك كان ذلك من عطائه و ان يسلبكها كان ذلك من بلائه، و هو المالك لما ملكك و القادر على ما أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون " لا حول و لا قوة الا بالله ".

قال عباية: و ما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا حول عن معاصي اللّه الا بعصمة اللّه، و لا قوة على طاعة اللّه الا بعون اللّه.

ثمّ روى روايات أخرى عن آبائه، ثمّ أخذ في بيان حقيقة المنزلة بين المنزلين و اثباتها، و الاحتجاج عليها حتى صيَّرها أظهر من الشمس.

على أن لكل واحد من الائمة الاثنى عشر الذين هم خزان علم اللّه و معادن حكمته كلمات وافيه في هذا الموضوع و مقالات موضحة للمنزلة بين المنزلتين، و لم يدعوا على هذه الحقيقة من ستار.

ص:159

دفع الشبهة عن الحديث القدسي

خاتمه في بيان أمور:

الأول ان في جملة من نصوص (1)المقام، فقد تمسك المعصومون بما ورد في الحديث القدسي من قول اللّه عز و جل " اني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني (2)"، و المقصود من هذا الامر دفع الشبهة التي ربما تورد على هذه الجملة.

و حاصلها ان نسبة الفعل في الطاعة و المعصية إلى اللّه تعالى و إلى العبد نسبة واحدة، و في الموردين منتسب إلى اللّه عز و جل

ص:160


1- 1) راجع أصول الكافي ج 1 باب الجبر و القدر حديث 12، و باب المشيئة و الارادة حديث 6، و التوحيد باب 59 حديث 10، و باب 55 حديث 13، و [1]غيرهما من كتب الاحاديث.
2- 2) الكافي ج1 ص152 باب المشيئة و الارادة ح6، و أيضا [2]ص157 ح3 و ص159 ح12، و في البحار ج5 ص4 ح3 و [3]غيرهما.

من جهة و إلى العبد من جهة أخرى، فما الوجه في الاولوية من الطرفين؟

و قد ذكر في دفعها وجوه:

الأول: ان اللّه تعالى جعل في قبال القوى النفسانية التي هي جنود الجهل، من الغضب و الطمع و غيرهما، قوى رحمانية، و عبّر عنها في النصوص بجنود العقل و الرحمن، لئلا يكون العبد مجبولا على اطاعة النفس و يكون مختارا في الطاعة و المعصية، و يكون متمكنا من المجاهدة و تقديم المرجحات الالهية.

فحينئذ إذا تعارضت القوى النفسانية مع القوى الرحمانية و قدم المرجح الالهى فالله عز و جل أولى بالفعل، و ان قدم المرجح النفساني و غلبت جنود الجهل فهو أولى بالفعل لمغلوبية الجهة الالهية، فالامر بين الامرين لا

ينافي الاولوية.

الثاني: انه قد ورد في النصوص الكثيرة أن بعض الحسنات يكون معدا للآخر و يعطي القابلية لان يوفقه اللّه تعالى لمرضاته، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان، و هذه الجملة تكون ناظرة إلى ذلك.

و محصل مفادها حينئذ: انه إن أطاع، فالله أولى

ص:161

به لانه الموفق، و إن عصى فالعبد أولى به لانه اتبع فيه هوى نفسه و شهواته.

الثالث: ان منشأ الاولوية هو أن اللّه تعالى انما أعطى نعمة الوجود و القدرة و الشعور و غيرها و أمر بصرفها في محلها، فان فعل ذلك فقد عمل بوظيفته و مع ذلك فالله هو ولى الاحسان الذي مكنه من ذلك، و ان لم يفعل ذلك و صرف النعمة في غير محلها فقد فعل بسوء اختياره، و هذا حسن.

و يؤيده تذييل هذه الجملة في بعض تلك النصوص بقوله تعالى " عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك (1)".

ص:162


1- 1) الكافي ج 1 ص 157 باب الجبر و القدر و الأمر بين الأمرين ح 3/ [1]البحار ج 5 ص 15 باب نفى الظلم و الجور عنه تعالى ح 20 و [2]غيرهما

حقيقة السعادة و الشقاوة

الثاني: انه قد مر أن المحقق الخراساني التزم بأن الكفر و العصيان تابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، و استشهد لذلك بخبرين:

احدهما: " السعيد سعيد في بطن أمه، و الشقي شقي في بطن أمه " (1).

و الثانى " الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة " (2)، قال و الذاتى لا يعلل (3).

ص:163


1- 1) تفسير القمي ص227 [1] رد الجبرية و القدرية. التوحيد 356 باب السعادة و الشقاء. الزهد للاهوازي من علماء القرن الثالث للهجرة. و غيرهم و عنهم البحار ج5 ص9و157. [2] الا ان نص الروايات السعيد من سعد في بطن امه و الشقي من شقي في بطن امه، و منه تقديم الشقي على السعيد.
2- 2) الكافي ج8 ص177 خطبة لامير المؤمنين ح197، [3] الفقيه ج4 ص380 ح5821.
3- 3) كفاية الأصول ص68. [4]

و فيه: ان السعادة و الشقاوة ليستا ذاتيتين، و ذلك لان السعادة عبارة عما يوجب دخول الجنة و الراحة الابدية و اللذات الدائمة، و الشقاوة عبارة عما يوجب دخول النار و العقوبات و الآلام.

و يتضح ذلك بعد بيان حقيقة السعادة و الشقاوة.

و هي: أن سعادة كل شيء هي بلوغه منتهى كماله و غاية فعليته بحسب نوعه، و هي الفعلية التامة من جميع ما لنوعه من الاستعداد.

و هذه هي المرتبة العليا من السعادة.

و يقابلها الشقاوة المطلقة، و هي عدم كمال عن موضوع قابل له، و ما بين أقصى الطرفين مراتب لا تحصى.

و حيث أن المرتبة العليا من السعادة قليلة جدا و هي في الإنسان أقل، بل من أول الدهر إلى آخره الإنسان الكامل بتمام معنى الكلمة البالغ غاية فعلية هذا النوع منحصر في فرد واحد، و هو أشرف الانبياء و المرسلين محمد صلى اللّه عليه و آله، فلا محالة سعادة كل انسان ممزوجة بالشقاوة، بمقدار نقص حظ الإنسان من السعادة له حظ من الشقاوة.

ص:164

إذا عرفت ذلك فاعلم: انهما تنتزعان عن الاطاعة التي توجب القرب إلى اللّه تعالى و صيرورة الإنسان كاملا، و العصيان الموجب للبعد، و لنقص حظ الإنسان من الكمال فلا معنى لكون الاطاعة ناشئة عن السعادة و العصيان ناشئا عن الشقاوة، فهما ليستا ذاتيتين.

لا يقال: ان منشأهما من الصفات النفسانية المعبر عنها في الاخبار بجنود العقل و جنود الجهل، من الذاتيات.

فانه يقال: ان اللّه سبحانه أعطى بحكمته الكاملة كل مكلف قوتين داعيتين إلى الخير و الشر، احداهما العقل، و الاخرى الجهل. و خلق صفات حسنة تقوى العقل في دعوته إلى الخير، و خلق ضدها من الرذائل تقوى الجهل في دعوته إلى الشر، فلا تخص الصفات الحسنة بطائفة و الرذيلة بطائفة أخرى حتى يقال: ان بعض الناس سعيد ذاتا و الآخر شقى كذلك باعتبار منشئهما.

و أما الرواية الاولى التي استدل بها على مختاره، فهي بظاهرها، و ان كانت دالة على ما اختاره، الا أنه لا بد من صرفها عن ظاهرها لوجهين:

الأول: ان الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام يفسر بعضها بعضا، كما ورد عنهم عليهم السلام، و هذه الرواية قد فسرت في الروايات

ص:165

الاخرى بأن المراد منها ان اللّه يعلم و هو في بطن أمه أنه يعمل أعمال الاشقياء أو السعداء.

لاحظ خبر ان ابى عمير (1)قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن معنى قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله " الشقى من شقى في بطن و السعيد من سعد في بطن أمه ". فقال: الشقى من علم اللّه و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الاشقياء، و السعيد من علم اللّه و هو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء، الحديث.

الثاني: أنه مع قطع النظر عن الروايات المفسرة لا محيص عن صرفها عن ظاهرها، لان من كان مطيعا فصار عاصيا أو كان عاصيا فصار مطيعا، هل يكون في بطن أمه شقيا أم سعيدا، فان كان سعيدا يلزم أن لا يكون الشقي في بطن أمه شقيا لانه حين عصيانه شقي، أولا يكون عصيانه ناشئا عن الشقاوة، و ان كان شقيا لزم أن لا يكون السعيد في بطن أمه سعيدا لانه حين اطاعته سعيد، أولا تكون اطاعته ناشئة عن السعادة الذاتية.

ص:166


1- 1) التوحيد باب 58 باب السعادة و الشقاوة حديث 3، ص356.

و أما الرواية الثانية فهي أجنبية عما اختاره بالمرة، و ذلك لان مفادها أنه كما أن معادن الذهب و الفضة مختلفة تنقسم إلى الجيد و الردئ كذلك الناس مختلفون باختلاف الغرائز و الاستعدادات و الصفات النفسانية، و ذلك لا يلزم سلب الاختيار، بل الاختيار في الجميع يكون موجودا و لا يكون أحد مجبورا على الاطاعة أو العصيان كما مر تحقيق ذلك.

و أين هذا من الالتزام بأن الاطاعة و العصيان ناشئتان عن السعادة و الشقاوة الذاتيتين.

اختلاف الناس في الصفات النفسانية

الثالث: لا يخفى أنا لا ندّعي تساوى جميع الافراد في المرجحات الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان و عدم مدخلية الصفات النفسانية، التي هي جنود العقل و جنود الجهل فيه، لان هذا مخالف للعيان و يرده الآيات الشريفة و الروايات المستفيضة.

بل ندّعي وجود الاختيار في الجميع و ان المطيع يطيع باختياره و العاصي يخالف التكليف باختياره، و الا فلو كان

ص:167

مجبورا على الفعل لا يكون بالنسبة إلى ذلك الفعل مطيعا و لا عاصيا و لا يستحق الثواب و لا العقاب عليه.

و بعبارة أخرى: لا بد من اشتراك جميع المكلفين في قدرتهم على الفعل و الترك حتى يصح التكليف و الثواب و العقاب، و أما زائدا على ذلك بحيث يلزم تساوى الجميع في الاستعدادات و الصفات النفسانية الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان فغير لازم، و لا محذور في اختلاف الناس فيها كاختلافهم في الجمال و أشباهه.

و تلك الاستعدادات و الصفات النفسانية قسمان: قسم يكون كسبيا اراديا يحصل من الاطاعة و العصيان. كما ورد في الروايات الكثيرة ان بعض الحسنات يكون معدا للآخر و يعطى القابلية لان يوفقه اللّه تعالى لمرضاته، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان. و قسم يحصل من أمور غير اختيارية، و على أي حال لا يوجب سلب القدرة.

البداء في التكوين

و لمناسبات غير خفية ينبغى لنا البحث في مسألتين:

ص:168

الاولى مسألة البداء في التكوين:

لا خلاف بين علمائنا في القول بالبداء، و ما عن المحقق الطوسى. في نقد المحصل في الرد على الفخر الرازي، من أن الامامية لا يقولون بالبداء، يتعين أن يكون مراده هو البداء الذي نسبه الفخر إلى الامامية، و هو أن يعتقد شيئا ثمّ يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده.

و به يندفع استغراب-جماعة من المحققين منهم السيد الداماد و العلامة المجلسي-هذا الجواب.

و كيف كان فيشهد له: من الكتاب قوله تعالى يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَ يُثْبِتُ وَ عِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (1)، و سيمر عليك معنى الآية الكريمة.

ص:169


1- 1) الآية 39 من سورة الرعد. [1]

و النصوص الكثيرة، لاحظ خبر زرارة عن أحدهما: ما عبد اللّه بشيء مثل البداء (1)، و خبر هشام بن سالم و حفص بن البخترى و غيرهما عن أبى عبد اللّه قال في هذه الآية " يمحو اللّه ما يشاء و يثبت " قال: فقال و هل يمحى الا ما كان ثابتا و هل يثبت الا ما لم يكن (2).

و خبر عبد اللّه بن سنان عنه عليه السلام: ما بد لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو له (3).

و خبر ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عنه: ما عظم اللّه عز و جل بمثل البداء.

و خبر الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا يقول: ما بعث اللّه نبيا قط الا بتحريم الخمر و ان يقر له بالبداء.

ص:170


1- 1) أصول الكافي ج 1 باب البداء حديث 1ص146. [1]
2- 2) أصول الكافي ج 1 باب البداء حديث 2ص146 [2]
3- 3) أصول الكافي ج 1 باب البداء حديث 9ص148 [3]

و خبر الجهنى قال: سمعت أبا عبد اللّه يقولون: لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام فيه (1). إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الواردة في ذلك.

انما الكلام في المراد من البداء، فان المخالفين نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه، قال الفخر الرازي عند تفسيره قوله تعالى " يمحو اللّه ما يشاء و يثبت ": قالت الرافضة البداء جائز على اللّه تعالى، و هو أن يعتقد شيئا ثمّ يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده (2)، انتهى.

كلمات علمائنا في معنى البداء

و لعلمائنا الابرار في تحقيق البداء معان:

ص:171


1- 1) الاحاديث الثلاثة الأخر: التوحيد باب البداء ص 333 و334 ح 2و6و7.
2- 2) التفسير الكبير للفخر الرازي ج13-14 [1] تفسير الآية.

احدها: ما عن السيد المرتضى (1)في جواب مسائل أهل الري، و هو أن المراد بالبداء النسخ نفسه، و ادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوى.

و قريب منه ما ذكره الشيخ في محكي العدّة (2)، الا أنه صرح بأن اطلاقه على النسخ على ضرب من التوسع و التجوز.

و وافقهما في ذلك الفيلسوف النحرير السيد السند محمد باقر الداماد في نبراس الضياء.

ص:172


1- 1) راجع رسائل المرتضى ج1 ص117.
2- 2) راجع عدّة الأصول للشيخ الطوسي ج2 ص485 من الطبعة الجديدة ( [1]فصل في ذكر حقيقة النسخ و بيان شرائطه و الفصل بينه و بين البداء) .

ثانيها: ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد قال: ليس البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة، و لكن يجب علينا أن نقر لله عز و جل بأن له البداء، و معناه أن له ان يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل كل شيء ثمّ يعدم ذلك الشيء، و يبدأ بخلق غيره و يأمره بأمره ثمّ ينهى عن مثله، أو ينهى عن شيء ثمّ يأمر بمثل ما نهى عنه (1).

ثالثها: ما ذكره بعض المحققين في شرحه على الكافي (2)و تبعه المحدث الكاشاني في الوافى (3)، و هو أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهى تلك الأمور، بل انما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا و جملة فجملة مع أسبابها و عللها على نهج مستمر و نظام

ص:173


1- 1) التوحيد ص335 باب 54 البداء. [1]
2- 2) راجع شرح اصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج4 ص245. [2]
3- 3) الوافي ج1 ص 507 باب البداء، و [3]عنهما البحار ج 4 ص128 باب 3 [4] البداء و النسخ، و ج54 ص364 باب 4 القلم و اللوح المحفوظ و الكتاب المبين و الامام المبين و أم الكتاب.

مستقر، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم، و ربما تأخر بعض الاسباب الا موجب لوقوع الحوادث على خلاف ما يوجبه بقية الاسباب لو لا ذلك السبب و لم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب، لو لا ذلك السبب و لم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب، ثمّ لما جاء أو انه و اطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأول، فينمحي عنها نقش الحكم السابق و يثبت الحكم الآخر.

و هذا هو السبب في البداء في امور العالم، فإذا اتصلت بتلك القوى نفس النبي أو الامام فرأى فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصره أو سمعه بأذن قلبه، و أما نسبة ذلك كله إلى اللّه تعالى فلان كل ما يجرى في العالم الملكوتى انما يجرى بارادة اللّه تعالى بل فعلهم بعينه فعل اللّه، فكل كتابة تكون في هذه الالواح فهو أيضا مكتوب لله تعالى بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأول، فيصح أن يصف اللّه نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار.

ص:174

رابعها: ما عن الفاضل المدقق الميرزا رفيعا (1)، و حاصله: أن الأمور كلها منتقشة في اللوح، و الفائض منه على الملائكة و النفوس العلوية و النفوس السفلية قد يكون الامر العام أو المطلق المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة، و يتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه، و هذه النفوس العلوية و ما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو و الاثبات، البداء عبارة عن هذا التغير في ذلك الكتاب.

خامسها: ما اختاره المحقق المجلسي (2)

ص:175


1- 1) و هو الميرزا رفيع الدين محمد بن حيدر الطباطبائي النائيني المشتهر ب الميرزا فيعا المتوفى 1080 تقريبا و المدفون باصفهان، و كان من مشاهير علماء عصره و المتبحرين في الحكمة و الكلام، تتلمذ على يد العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي، له عدّة مؤلفات منها شرح اصول الكافي، و [1]رسالة التشكيك و غيرهما، راجع الذريعة ج11 ص148 و ج13 ص96. و [2]أما نص كلامه في البداء راجع شرح اصول الكافي ج4 ص250. [3]
2- 2) بحار الأنوار ج4 ص128 باب البداء و النسخ. [4]

و حاصله: ان المعصومين عليهم السلام انما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون ان اللّه قد فرغ من الامر، و على النظام و بعض المعتزلة القائلين ان اللّه خلق الموجودات دفعة واحدة و التقدم انما يقع في ظهورها، و على بعض الفلاسفة القائلين بأن اللّه تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الأول، و على آخرين منهم قالوا ان اللّه سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة و انما ترتبها في الازمان فقط.

فنفوا عنه كل ذلك، و اثبتوا أن اللّه تعالى كل يوم في شأن من اعدام شيء و احداث آخر و إماتة شخص و احياء آخر إلى غير ذلك.

و هناك أقوال أخر لا يهمّنا التعرض لها.

ما هو الحق في معنى البداء

و حق القول في المقام يتوقف على بيان أمور:

ص:176

الأول: لا شك في أن ما يحدث في عالم الكون بأجمعه تحت قدرة اللّه و سلطانه، و ان وجود أي ممكن منوط بمشيئة اللّه تعالى. و هذا من البداهة بمكان.

الثاني: ان للاشياء بأجمعها تعينا علميا في علم اللّه الازلي، و يعبر عن هذا التعين العلمي تارة بتقدير اللّه و أخرى بقضائه، و لكن ليس العلم الالهى متعلقا بالموجودات خاصة بل يكون متعلقا بها بما لها من المبادئ و الخصوصيات.

و عليه فحيث أن الممكنات بأجمعها تحت قدرة اللّه و منوطة بتعلق المشيئة و الارادة بها، فيكون العلم بها منذ الأول غير مزاحم لقدرته عليها حين ايجادها، فمعنى قضاء اللّه و تقديره أن الاشياء بأجمعها متعينة في العلم الالهى الازلي على ما هو عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق الإرادة و الاختيار و المشيئة بها حسب ما تقتضيه المصالح و المفاسد المختلفة باختلاف الظروف.

الثالث: ان وجود كل موجود له نسبتان:

نسبة إلى علته التامة التي يستحيل عدمه معها.

ص:177

و نسبة إلى مقتضيه الذي يحتاج الشيء في وجوده معه إلى، شرط، و عدم مانع.

فمع وجود الشروط، و عدم الموانع يوجد، و مع وجود المانع أو فقد الشرط لا يكاد يتحقق.

و على هذا فمع تحقق المقتضى كان الظاهر ذلك الشيء ثمّ بعد ما وجد المانع ظهر منه خلاف ما كان يظهر من المقتضي، و إلى هذا يشير جملة من الاخبار:

روى العياشي عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر يقول: من الامور أمور محتومة لا محالة، و من الامور امور موقوفة عند اللّه يقدم ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة، فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته (1). و نحوه غيره.

ص:178


1- 1) تفسير العياشي ج2 ص217 [1] آية 13 من سورة الرعد ح 65.

الرابع: حيث عرفت أن العلم الالهي يتعلق بالاشياء على واقعها، لان انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة اللّه حسب ما تقتضيه المصالح و المفاسد كان العلم متعلقا به على هذه الحالة، و الا لم يكن العلم علما به على وجهه و انكشافا له على واقعه.

فيكون لله علمان: علم بالاشياء من جهة عللها التامة و هو العلم الذي لابداء فيه أصلا، و له علم بالاشياء من جهة مقتضياتها التي موقوفة التأثير على وجود الشروط و فقد الموانع. و هذا العلم يمكن أن يظهر خلاف ما كان ظاهرا منه بفقد شرط أو وجود مانع.

و إلى هذا المعنى يشير كثير من الاخبار المروية عن المعصومين، قال الامام الرضا لسليمان المروزي في حديث: ان عليا؟ كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه اللّه ملائكته و رسله فما علمه ملائكته و رسله فانه يكون و لا يكذب نفسه و لا ملائكته و رسله، و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا

ص:179

من خلقه يقدم منه ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو و يثبت ما يشاء (1).

و في الكافي عن ابى بصير عبد اللّه: ان لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء، و علم علمه ملائكته و رسله و أنبياءه فنحن نعلمه (2). و نحوهما غيرهما.

إذا تدبرت فيما ذكرناه يظهر لك أن البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو و الاثبات، و أما القضاء الحتمي المعبّر

عنه بأم الكتاب و العلم المخزون عند اللّه تعالى فيستحيل أن يقع فيه البداء.

ص:180


1- 1) التوحيد باب 66 [1] في ذكر مجلس الرضا مع سلمان المروزي متكلم خراسان. . . ، ص 444ح1.
2- 2) الكافي ج1 باب البداء ح 8 ص 147. [2]

ففى خبر عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه قال: ما بدا لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو له.

و في خبر الجهني عنه: ان اللّه لم يبدله من جهل.

و في خبر منصور بن حازم عنه قال: سألته هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه بالامس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه اللّه.

قلت: أ رأيت ما كان ما هو كائن إلى يوم القيامة أ ليس في علم اللّه؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق (1).

إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

و إلى ما ذكرناه نظر العلامة المجلسي قال: اعلم أن الآيات و الاخبار تدل على أن اللّه تعالى خلق لوحين أثبت فيهما

ص:181


1- 1) الكافي ج1 باب البداء [1]ح ص 148، ح9 و10 و11.

ما يحدث من الكائنات: أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغير فيه أصلا و هو مطابق لعلمه تعالى، و الآخر لوح المحو و الاثبات فيثبت فيه شيئا ثمّ يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولى الالباب.

مثلا: يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة، و معناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضى طوله أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون و يكتب مكانه الستون و إذا قطعها يكتب مكانه أربعون، و في اللوح المحفوظ أنه يصل و عمره ستون، كما أن الطبيب الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاح يكون ستين سنة فإذا شرب سما و مات أو قتله انسان فنقص من ذلك أو استعمل دواء قوى مزاجه فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب.

و التغيير الواقع في هذا اللوح مسمى بالبداء اما لانه مشبه به كما في سائر ما يطلق عليه، تعالى من الابتلاء و الاستهزاء

ص:182

و السخرية و أمثالها، أو لانه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبر بالاول ما اعلموا أولا (1)، انتهى

ص:183


1- 1) بحار الأنوار ج4 باب 3 [1] البداء و النسخ ص130.

تنبيهات

اشارة

و تمام الكلام في المقام بالتنبيه على أمور:

الأول: أن ما ذكرناه في معنى البداء المستفاد من الاخبار، هو الظاهر من الآية الكريمة المتقدمة يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَ يُثْبِتُ وَ عِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (1)، لان محو الشيء هو اذهاب رسمه و أثره، و قد قوبل في الآية الشريفة بالاثبات و هو اقرار الشيء في مستقره بحيث لا يضطرب، فالمحو هو ازالة الشيء بعد ثبوته برسمه.

و حيث أنه ذكر الآية بعد قوله تعالى " لكل أجل كتاب " و ذكر في ذيلها " و عنده أم الكتاب "، فالظاهر منها أن لكل وقت كتابا يخصه، فتخلف الكتب باختلاف الاوقات.

ص:184


1- 1) الآية 39 من سورة الرعد. [1]

و ان هذا الاختلاف ظهر من ناحية اختلاف التصرف الالهي بمشيئته حسب ما تقتضيه المصالح لا من جهة اختلافها في انفسها، و مع ذلك فعند اللّه أم الكتاب أي الاصل الذي ينشأ منه الشيء و يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الاوقات.

و بعبارة أوضح: ان لله سبحانه في كل وقت كتابا و قضاء، و انه يمحو ما يشاء من تلك الاقضية و يثبت ما يشاء، و مع ذلك عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء محتوم لا يتغير، و هو الاصل الذي يرجع إليه سائر الاقضية.

و بهذا البيان يظهر أن ما قيل في تفسير الآية الشريفة من الوجوه و الاقوال كلها في غير محلها، و لتمام الكلام محل آخر.

الثاني: ان البداء بالمعنى الذي يقول به الامامية هو الابداء و الاظهار حقيقة، و اطلاق لفظ " البداء " عليه مبني على التنزيل و المشاكلة.

الثالث: ان القول بالبداء اعتراف بأن لله تعالى السلطنة التامة على الممكنات و أنها بأجمعها تحت سلطانه و قدرته حدوثا

ص:185

و بقاء، و انه يوجب انقطاع العبد إلى اللّه و طلبه منه اجابة دعائه و كفاية مهماته.

و إلى هذا تشير الاخبار المتضمنة للاهتمام بشأن البداء، و عليه يحمل ما دل على أن الصدقة تزيد في العمر و كذلك صلة الرحم و ما شاكل.

الرابع: ان ما وقع في كلمات المعصومين من الانباء بالحوادث الآتية، انما هو على نحوين:

أحدهما: ما أخبر بوقوع الامر المستقبل على سبيل الجزم، فهو كاشف عن أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم.

و الآخر: ما أخبر به معلقا على أن لا تتعلق بخلافه المشيئة الالهية و لو مع قرينة منفصلة، فهو كاشف عن كون المخبر به مما جرى به القضاء الموقوف الذي هو مورد للبداء.

الكلام النفسي

الثانية: مسألة الكلام النفسي:

ص:186

قد اتفقت الاشاعرة على أن للكلام نوعا آخر غير النوع اللفظي المعروف المسمَّى عندهم بالكلام النفسي.

ثمّ اختلفوا:

فذهب جماعة منهم إلى أنه مدلول للكلام اللفظي و معناه.

و ذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ و ان دلالة اللفظ عليه من قبيل دلالة الفعل الاختياري على إرادة الفاعل.

و على ذلك بنوا القول بقدم القرآن، نظرا إلى أنه كلام اللّه الذي هو من

صفاته الذاتية القديمة بقدمه، و المعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام، الا أن الفاضل القوشجي نسب إلى بعضهم القول (1)بقدم جلد القرآن و غلافه أيضا.

و في مقابل هذه الطائفة، ذهب غيرها من طوائف المسلمين إلى حدوث القرآن، و ان كلامه اللفظي مخلوق له، و ليس هناك نوع آخر من الكلام.

ص:187


1- 1) شرح التجريد المقصد الثالث ص 354.

أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي

و قد استدل القائلون بثبوت الكلام النفسي على مدعاهم بوجوه:

الأول: ان الكلام اللفظي المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف اللّه تعالى به في الأزل و غير الازل و إلا لزم اتحاد القديم مع الحادث و هو محال، لأن صفات اللّه عز و جل عين ذاته.

و حيث ان اللّه تعالى وصف نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال سبحانه وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما (1)و كذلك وصفه بها المعصومون في الاخبار و الادعية، فلا مناص من البناء على ثبوت الكلام النفسي و ان اللّه تبارك و تعالى متصف به، و ذلك الكلام مجتمعة اجزاؤه وجودا.

و الجواب عن ذلك يبتني على بيان مقدمة:

و هي: ان صفاته تعالى على قسمين:

ص:188


1- 1) الآية 164 من سورة النساء. [1]

الصفات الذاتية، و الصفات الفعلية.

و الفارق بينهما أن صفات اللّه الذاتية هي التي، لا يمكن نفيها عنه، و يستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا كالعلم و القدرة، حيث أنه لا يمكن نفيهما عنه، و لسنا نصفه بالعجز و الجهل.

و صفاته الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في حال و بنقيضها في حال آخر كالخلق و الرزق، فيقال: ان اللّه تعالى خلق كذا و لم يخلق كذا، و رزق فلانا ولدا و لم يرزقه مالا.

و أيضا الصفات الذاتية لا تتعلق بها القدرة و لا الإرادة، لانهما تتعلقان بالممكنات دون غيرها.

و القسم الأول متحد مع ذاته سبحانه قديم بقدمه.

و أما القسم الثاني فهو من مخلوقاته و من آياته، و لا يكون متحدا مع ذاته و لا قديما بقدمه.

إذا عرفت هذه المقدمة يظهر لك جليا أن التكلم انما هو من الصفات الفعلية، لانطباق ما ذكر ضابطا لها عليه، فانه يصح أن يتصف اللّه تعالى بمقابله و يصح سلبه عنه، و يقال كلم اللّه موسى و لم

ص:189

يكلم فرعون، و تتعلق قدرته به لانه سبحانه كان قادرا على التكلم مع موسى و بتبع ذلك تتعلق إرادته به.

مع أنه يدل على كونه من صفات الفعل ما رواه الكليني باسناده عن ابى بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: لم يزل اللّه عز و جل ربنا، و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور، فلما أحدث الاشياء و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم و السمع على المسموع و البصر على المبصر و القدرة على المقدور. قال: فقال تعالى اللّه عن ذلك، ان الحركة صفة محدثة بالفعل. قال: قلت فلم يزل اللّه متكلما؟ قال: فقال ان الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان اللّه عز و جل و لا متكلم (1).

و على ذلك فلا يلزم من اتصاف اللّه تعالى بالكلام اللفظي اتحاد الحادث و القديم.

ص:190


1- 1) أصول الكافي ج1 باب صفات الذات ص 107ح1. [1]

الثاني: ما عن المحقق الدواني (1)، و هو أن ترتيب الكلمات و جعلها جملا مترتبة في الذهن هو الكلام النفسي، لانه معنى قائم بالنفس وجدانا غير العلم.

ص:191


1- 1) و هو العلامة جلال الدين محمد بن أسعد الدوّاني، و تجد نص كلامه حول الكلام النفسي في الحاشية [1]على الهيئات الشرح الجديد للتجريد [2]تحقيق الشيخ احمد العابد نشر دفتر تبليغات اسلامي ص77، في معرض رد المقدس الاردبيلي عليه قال المقدَّس الاردبيلي: و ظهر ضعف ما ذكره الدوّاني من ان له في تحقيق الكلام كلاما حيث قال: و لنا في هذا المقام كلام، يقتضي تمهيد مقدمة: ان صفة الكلام فينا عبارة عن قوة تأليف الكلام، و كلامنا عبارة عن الكلمات التي هي مؤلفة في الخيال، و بعد تمهيد هذه المقدمة نقول: صفة التكلم القائم بذات اللّه تعالى صفة هي مصدر تأليف الكلمات، و كلامه تعالى هي الكلمات التي هي مؤلفة له تعالى بذاته في علمه القديم بغير واسطة، و هذا الكلام الازلي خطاب متوجه إلى مخاطب مقدّر، و امتيازه عن العلم: فإن كلام غيره معلوم له تعالى، و ليس كلامه، كما ان كلام غيرنا معلوم لنا و ليس كلامنا، و هذا الذي ذكرناه ليس ما ذهب اليه الحكماء من كلامه تعالى علمه، و لاما ذهب اليه الحنابلة و من يحذو حذوهم مثل صاحب المواقف من ان كلامه الاصوات و الحروف، او ما يشمل الاصوات و الحروف و المعاني، و لاما هو المشهور عن الاشعري كما يظهر بالتأمل الصادق.

و فيه: ان هذا عين العلم التصورى، غاية الامر كون المتصور الكلمات. و بعبارة أخرى: هو الوجود الذهني الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة.

الثالث: ان انكشاف ثبوت المبدأ و المحمول للموضوع للنفس علم، و أما قرار النفس و حكمها بذلك فهو غير العلم، فهو الكلام النفسي و صفة من الصفات النفسانية.

و فيه: ان للعلم فردين، احدهما تصوري، و الآخر تصديقي، و ما ذكر ليس وراء العلم التصديقي شيئا.

الرابع: انه يطلق الكلام على الموجود منه في النفس، يقال: ان في نفسي كلاما لا أريد أن ابديه:

قال اللّه تعالى:

ص:192

وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (1).

و فيه: ان هذا لا يختص بالكلام، مثلا يقول المهندس ان في نفسي صورة بناء سأنقشها، و يقول الصائم ان في نفسي أن أصوم غدا، و هكذا، و الحال ان ذلك ليس وراء الوجود الذهني و التصور شيئا.

الخامس: انه يطلق المتكلم على اللّه تعالى، و هذه الهيئة-أي هيئة اسم الفاعل-وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا، و لذا لا يطلق النائم على من أوجد النوم في الغير بل على من اتصف به.

و حيث أن من الواضح أنه لا يتصف اللّه تعالى بالكلام اللفظي، لاستحالة اتصاف القديم بالحادث، فلا بد من الالتزام بالكلام القديم، و ليس هو الا الكلام النفسي.

و فيه: أولا: ان المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام، فانه كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج الهواء، و هو قائم بالهواء لا بالمتكلم، بل المبدأ في صيغة المتكلم هو التكلم و معناه ايجاد الكلام، فاطلاقه على اللّه تعالى و غيره بمعنى واحد.

ص:193


1- 1) الآية 13 من سورة الملك. [1]

و ثانيا: ان ما ذكر من أن هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا، فهو غلط بل هي وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات نحو قيام.

و أما خصوصية كونه قياما حلوليا أو ايجاديا أو غيرهما فهي تختلف باختلاف الموارد و لا تدخل تحت ضابط كلي، فالنائم لا يطلق على الموجد للنوم، لكن الضار و النافع يطلقان على موجد هذين المبدأين.

و عليه فلا مانع من صدق المتكلم على الموجد للكلام.

السادس: انه لا كلام في صحة الاوامر الامتحانية و تحققها عند عدم تعلق الإرادة الحقيقية بمتعلقاتها، و تلك الاوامر تدل على معنى قائم في النفس ليس بإرادة لانتفائها وجدانا و لا بغيرها من الصفات المعروفة من العلم و الترجي و ما شاكل، و ليس هو الا الطلب الذي هو الكلام النفسي في الانشائيات و يكون قائما بالنفس.

و فيه: ان الاوامر الامتحانية على قسمين:

أحدهما: ما يكون مقصود الامر هو صدور العمل و تحققه خارجا لاستكشاف قدرة المأمور على ذلك العمل لا لمصلحة فيه، و في ذلك لا محالة تتعلق إرادة الامر بنفس العمل لتوقف غرضه الباعث له على الآمر على تحقق العمل.

ص:194

ثانيهما: ما يكون المقصود استكشاف استعداد المأمور لطاعة الآمر و عدمه، و في مثل ذلك نلتزم بأنه ليس الامر سوى ابراز الاعتبار النفساني، و هو جعل المادة على عهدة المأمور، و ليس هناك إرادة و لا طلب.

فانقدح أنه لا برهان على وجود الكلام النفسي.

الدليل على عدم ثبوت الكلام النفسي

بل الوجدان يرده و ينفيه، و يظهر ذلك بعد بيان مقدمة، و هي:

انه لا ريب في أن للنفس صفات و كيفيات كالشوق، و الحب، و الكراهة، و ما شاكل، كما أنه لا كلام في أن لها أفعالا كالتأمل و التفكر و البناء و غيرها، و العلم على مسلك المتقدمين من الفلاسفة من الصفات و على مسلك المتأخرين منهم من أفعال النفس.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن دعوى وجود صفة في النفس غير الصفات المعلومة المعينة و تسمى بالكلام النفسي، مردودة.

ص:195

و النزاع ينقطع بالرجوع إلى ما في النفس و جعل الوجدان قاضيا و حاكما، حيث يرى الناظر المنصف أنه ليس في النفس صفة غير تلك الصفات.

و ان اردت أن يطمئن قلبك فراجع نفسك، ترى أن كل صفة و فعل توجد في النفس و يصدر منها عند إرادة التكلم تكون موجودة و صادرة منها عند إرادة الاكل مثلا بلا فرق بينهما أصلا، فكما أنه إذا أراد المتكلم أن يتكلم يتصوره و يتصور دواعيه ثمّ يحصل له التصديق بالفائدة فيحصل الميل ثمّ الجزم و العزم عليه فيعمل قدرته فيتكلم، كذلك عند إرادة الاكل جميع هذه موجودة بلا نقيصة، فوجود صفة أخرى في النفس عند إرادة التكلم و تكون مدلولة للكلام اللفظي مما لا يساعده الوجدان.

و ان شئت توضيح ذلك فاعلم: ان الجمل اما خبرية أو انشائية:

أما الجمل الخبرية فليس في مواردها، غير تسعة أمور:

1-مفردات الجملة،

2-معاني المفردات،

3-الهيئة التركيبية لها،

4-مدلول الهيئة التركيبية،

5-تصور المخبر مادة الجملة و هيئتها،

6-تصور مدلول الجملة،

7-مطابقة النسبة لما في الخارج

ص:196

أو عدم مطابقتها له،

8-علم المخبر بالمطابقة أو عدمها أو شكه فيها،

9-إرادة المتكلم لإيجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.

و اعترف المثبتون له بعدم كون شيء من هذه هو الكلام النفسي.

أما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية، و الفارق بينهما أنه ليس في مواردها خارج تطابقه أو لا تطابقه.

و عليه فالامور التي لا بد منها في الجملة الانشائية سبعة، و هي غير السابع و الثامن من الأمور المذكورة.

و قد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منهما.

فالمتحصل: مما ذكرناه: ان الكلام النفسي أمر خيالي لا برهان على وجوده، بل البرهان و الوجدان على خلافه، و الرويات المروية عن المعصومين عليهم السلام ترده.

و قد وقع الفراغ من هذه الرسالة

في اليوم الثامن من شهر صفر سنة 1390 ه

و الحمد لله أولا و آخرا.

ص:197

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.