مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف: محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو، الملكُ الحقُّ المُبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خَلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غيرُ موصوف، والباقي بعد فناء الخَلْق، العظيمُ الربوبيّة، نورُ السماوات والأرَضِين وفاطرُهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرَضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السماواتِ العُلى، الرحمنُ على العرش استوى، له ما في السماواتِ وما في الأرض وما بينهما وما تحتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنت الله، لا رافعَ لِما وضعْتَ ولا واضعَ لما رفعت، ولا مُعزَّ ل-مَن أذلَلْتَ ولا مُذلّ ل-مَن أعزَزْت، ولا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطيَ لما منعت.(1)

اللّهُمَّ واجْعَلْ شرائفَ صلواتِك ونواميَ بركاتِك، على محمّدٍ عبدِك ورسولك، الخاتِمِ لِ-ما سَبَق والفاتِحِ لِ-ما انْغَلَق، وال-مُعلِنِ الحقَّ بالحقّ، والدافعِ جَيْشاتِ الأباطيل، والدامِغِ صَوْلاتِ الأضاليل، كما حُمِّلَ فاضطَلَع قائماً بأمرِك، مُسْتَوفِزاً في مرضاتِك، غيرَ ناكِلٍ عن قُدُم ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافِظاً لعَهْدك، ماضياً على نفاذِ أمرك، حتّى أورى قَبَسَ القابِس،

ص: 5


1- بحار الأنوار للمجلسي: 83 /332 الباب 45.

وأضاءَ الطريقَ للخابِط، وهدِيَتْ به القلوبُ بعد خَوْضاتِ الفتَنِ والآثام، وأقام بمُوضِحاتِ الأعلام ونَيِّراتِ الأحكام، فهو أمينُك ال-مأمون، وخازنُ علمك المخزون، وشهيدُك يوم الدِّين، وبعيثُك بالحقّ، ورسولُك إلى الخَلق .(1)

اللّهمّ وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِك على عترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبةِ الزاكيةالمباركة، وأَعْلِ اللّهمّ كلمتَهُم، وأفلِجْ حُجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَك على طاعتهم وولايتهم ونص-رتهم ومُوالاتهم، وأعِنْهم وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ -- وقولُك الحقّ -- : )وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَض-ى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْ-رِكُونَ بِي شَيْئاً( .(2)

والْعن اللّهمّ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهمّ وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 الخطبة 72.
2- مصباح المتهجِّد: 785.

فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِرْ حُماتهم وجماعتهم .(1)

وصلِّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رِقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارَك، والتابع لمرضاة الله، المتحقِّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العَليّ، المُنفِق المليّ، أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیهاالسلام..

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العُظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريّا علیه السلام ،الحسين بن عليّ المرتض-ى..

زَين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين صلی الله علیه وآله،نور العِترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط،

ص: 7


1- مصباح المتهجِّد: 785.

وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظَّمٌ مكرَّمٌ موقَّر، منظَّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النَّفْس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخَلق، وأحسن الخُلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ صلی الله علیه وآلهسرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المِحَن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى المُلك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب..(1)

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهُدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء علیه السلام..(2)

الّذي ذكره الله في اللوح الأخض-ر، فقال: «... وجعلتُ حسيناًخازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ..(3)

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.
3- كمال الدين: 2 /290 ح 1.

الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين صلی الله علیه وآله: «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً».(1)وقال رسول الله صلی الله علیه وآله -- وهو الصادق الأمين -- : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً».(2)

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العُتاة، وأبناءُ البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ صلی الله علیه وآله في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين علیه السلام: «أيّها الناس، أصبحنا مطرَّدين مشرَّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تُركٍ وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، )إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ( .(3). فوَالله لو أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» .(4)

ص: 9


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 /314.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار للمجلسي: 43 /281 الباب 12.
3- سورة ص: 7.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 147.

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبعُ والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خَلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن؛ لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((1))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».

قال الحسين علیه السلام: «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((2)).

فذلك قائم آل محمّد عجل الله تعالی فرجه الشریف يخرج، فيقتل بدم الحسين بن عليّ علیهما السلام.. «إذا قام قائمنا، انتقمَ لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((3)).

وقد بشّ-ر بذلك رسول ربّ العالمين صلی الله علیه و آله، فقال:

«لمّا أُسريَ بي إلى السماء، أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطّلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها، فجعلتُك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعتُ الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقتُ فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضتُ ولايتهم

ص: 10


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 151 الباب 18.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 376.

على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي ولا أظللتُه تحت عرشي.يا محمد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال عزوجّل: إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و(م ح م د) ابن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس يومئذٍ بهما أشدُّ من فتنة العِجل والسامري» ((1)).

وروى عبد الله بن سنان، قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ علیهما السلام في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممّ

ص: 11


1- ([1]) كمال الدين: 1 /252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 379 ح 185.

بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسينَ بن عليٍّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطِرْه من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كمُلاً، ولْيكُنْ إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلكاليوم تجلّت الهيجاءُ عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمةُ عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلی الله علیه و آلهمصرعهم، ولو كان في الدنيا يومئذٍ حيّاً لَكان صلی الله علیه و آله هو المُعزّى بهم».

قال: وبكى أبو عبد الله علیه السلام حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثمّ قل:

«اللّهمّ عذِّبِ الفَجَرة الّذين شاقّوا رسولَك، وحاربوا أولياءَك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخبَّ وأوضعَ معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.

اللّهم وعجِّلْ فرج آل محمّدصلی الله علیه و آله،واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المُضلّين والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتِحْ لهم رَوحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم مِن لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..

اللّهم إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة،

ص: 12

وعكفت على القادة الظلَمَة، وهجرت الكتاب والسُنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأَت الأحزاب، وحرّفَت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك وخيرةَ عبادك وحمَلَةَ علمك وورثة حكمتك ووحيك.

اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك، اللّهمّ وأَخرِبْ ديارهم، وافلُل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفُتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نُكراً، وخُذهم بالسنين والمَثُلات الّتي أهلكتَ بها أعداءَك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين.

اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيّك في الأرضهائمة، اللّهمّ فأعِن الحقَّ وأهلَه، واقمع الباطلَ وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا وُدّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين علیهم السلام، الّذين كشف لهم سيّد الشهداء علیه السلام «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنّة» ((2))، ووعَدَهم ربُّ العزّة

ص: 13


1- ([1]) مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 305 الباب 24.
2- ([2]) علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 1.

أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: )ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ( ((1))، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

ص: 14


1- ([3]) سورة الإسراء: 6.
2- ([4]) تأويل الآيات الظاهرة: 272.

المؤلّف والكتاب

اشاره

ترجم الشيخَ محمّد صالح البرغانيّ الكثيرُ من العلماء والرجاليّين ((1))، وقد اخترنا ترجمة السيّد حسن الأمين في (مستدركات أعيان الشيعة) ((2))، ولمن أراد الزيادة والمتابعة مراجعة مضانّ ترجمته، وقد ذكر السيّد الأمين في الهامش أنّه اختصر هذه المعلومات عمّا كتبه أحد أحفاد المترجم الأُستاذ عبد الحسين الصالحي، وهو الّذي حقّق كتاب جدّه المترجَم في الفقه وأخرجه باسم (موسوعة البرغانيّ في فقه الشيعة) في عدّة مجلّدات، وذكر موجزاً لتاريخ الأُسرة العلميّ بذكر أشهر رجالها، ملخِّصاً ذلك كلّه عمّا كتبه الأُستاذ الصالحي، وقد ذكرنا المقدّمة العامّة عن الأُسرة وأعرضنا عن ذكر رجالها؛ اختصاراً والتزاماً بما يخصّنا ونحتاجه من تعريف المؤلّف رحمه الله.

ص: 15


1- ([1]) أُنظُر: هديّة العارفين: 2 / 377، إيضاح المكنون: 1 / 304، و2 / 148، أعيان الشيعة: 9 / 369، ريحانة الأدب: 1 / 248، الذريعة: 3 / 41 الرقم 88، و20 / 380 الرقم 3522، و21 / 105 الرقم 4142، الكرام البررة: 2 / 660 الرقم 1199، الأعلام: 6 / 164، مُعجَم المؤلّفين: 10 / 86، مُعجَم المفسّ-رين: 2 / 538، تراث كربلاء: 281، تراجم الرجال: 2 / 727 الرقم 1345.
2- ([2]) مستدركات أعيان الشيعة للسيّد حسن الأمين: 2 /300 وما بعدها.

* * * * *

وُلد المؤلّف في 25 ذي القعدة سنة 1167 في مدينة برغان بإيران، وتُوفّي سنة 1271 ((1)) في كربلاء، ودُفِن في مقبرةٍ خاصّةٍ في الرواق الغربيّ من الروضة الحسينيّة جنب الشبّاك المحاذي للرأس.

هو ابن الشيخ محمّد الشهير ب- (ملائكة)، ابن الشيخ محمّد تقي، ابن الشيخ جعفر الطالقانيّ الموصوف ب- (فرشته)، ابن الشيخ محمّد كاظم الطالقاني.

آل البرغاني

هم من أقدم الأُسَر العلميّة وأشهرها، نبغ منهم العديد من العلماء والفضلاء في مختلف العلوم الإسلاميّة، ويقال أنّهم فرعٌ من آل بويه.

واشتهر هذا البيت -- في القرن العاشر وحتّى النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجريّ -- بآل الطالقاني، وقد زار أحدُ أفاضل أحفادهم الأُستاذ عبد الحسين الصالحيّ طالقان منذ عهدٍ قريب، فوجد على ألواح قبور رجال هذا البيت وعلمائهم منقوش: (... البويهيّ الطالقاني)، وقد هُدِم

ص: 16


1- ([1]) ثمّة اختلافٌ في بعض المعلومات الخاصّة، من قبيل تاريخ الوفاة وما شابه ذلك، أعرضنا عن الخوض فيها، ولمن أحبّ التدقيق والتحقيق مراجعة المضانّ.

قسمٌ من هذه القبور في قزوين وطالقان، ولا يزال بعضها وموقوفاتهم في طالقان وديلمان موجوداً، وعند أحفادهم بعض صكوك هذه الأوقاف.

وينتش-ر أفراد هذا البيت اليوم في كلٍّ مِن العراق وإيرانوأُوروبّا وأمريكا.

واشتهرت هذه الأُسرة بآل البرغانيّ في أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عش-ر الهجري، وأوّل مَن اشتُهر منهم بالبرغانيّ هو الشيخ محمّد المعروف بالملائكة، المتوفّى سنة 1200، بعد تسفيره إلى قرية برغان وفرض الإقامة الإجباريّة عليه فيها، ثمّ أصبح هذا الاسم عنواناً للأُسرة واشتُهروا به حين ذاعت أسماء الأشقّاء الثلاثة: الشيخ محمّد تقي والشيخ محمّد صالح والشيخ ملّا علي البرغانيّين في المحافل الأدبيّة العلميّة في العراق وإيران.

وفي عام 1263 عندما استُشهد الشيخ محمّد تقي البرغاني -- وهو أكبر الإخوة -- في المحراب أثناء أداء صلاة الصبح، اشتُهر هذا البيت بآل الشهيد وآل شهيدي، ثمّ تفرّعت هذه الأُسرة إلى الفروع الثلاثة: آل الصالحي انتساباً إلى المترجَم الشيخ محمّد صالح، وآل الشهيدي انتساباً إلى الشيخ محمّد تقي، وآل العلوي انتساباً إلى الأخ الثالث علي، واحتفظ بعضهم إلى جانب لقبه (الشهيدي) ب- (الشهيديّ الصالحي) و(الشهيديّ العلوي)، تفاخراً بعمّهم الشهيد.

وقد قال عنهم الشيخ آقا بزرگ في كتابه (طبقات أعلام الشيعة): «... وهذه الأُسرة من أشرف بيوت العلم، ومن السلاسل الذهبيّة ... الّتي ظهر فيها غير واحدٍ من أعاظم الفقهاء وأساطين الدين ... في العلم والزعامة

ص: 17

والورع والقداسة ...».

وقال الدكتور حسين علي محفوظ في كتابه (مجموعة تراجم العلماء) عن هذه الأُسرة: «آل البرغاني، من البيوت العلميّة العظيمةالقديمة في العراق وإيران، التي خدمت العلم والدين اثنى عش-ر جيلاً، وهم ينتسبون إلى آل بويه».

وقد أنجبت فروع هذا البيت الثلاثة -- آل صالحي، وآل الشهيدي، وآل العلوي -- في كربلاء وقزوين عدداً من العلماء، فصّلت تراجمهم كتب الرجال المطبوعة والمخطوطة.

وقد أحصى جمعاً من أعلام هذا البيت بقيّتهم الأُستاذ عبد الحسين الصالحي، وذكرهم في كتابه المسمّى (الشموس المضيئة)، وأشار إلى أكثر من خمسين منهم شيخُ (الذريعة) في كتابه (الظليلة).

دراسته

درس أوّلاً في برغان، ثمّ في قزوين، ثمّ في أصفهان، فكان من أساتذته في أصفهان كلٌّ من: الشيخ محمّد البيدآبادي، والشيخ عليّ النوري، والسيّد محمّد مهدي الأصفهاني.

ثمّ انتقل إلى كربلاء والنجف والكاظميّة، فكان من أساتذته فيها: الشيخ باقر البهبهاني، والسيّد حسين المعصومي، والسيّد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء)، والشيخ عبد الغنيّ القزويني،

ص: 18

والسيّد مهدي الشهرستاني، والسيّد عليّ الطباطبائي صاحب (الرياض)، والسيّد عبد الله شُبّر، والسيّد محمّد المجاهد، والنراقي.

إستقراره في كربلاء

تنقّل بين كربلاء والنجف وقمّ وخراسان وطهران، ثمّ نفاه فتح علي شاه من إيران إلى العراق، ومنه قصد الحجّ، فسكن الحجازسنين، ثمّ رجع إلى العراق فأقام في النجف، ثمّ رافق الشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء) إلى إيران، حيث تشفّع له الشيخ عند الشاه فوافق على بقائه في إيران على أن لا يسكن طهران، فأقام في قزوين. وعلى أثر أحداث سنة 1263 عاد إلى كربلاء واستقرّ فيها حتّى وفاته.

أولاده

ترك من الأولاد:

1- الشيخ محمّد، وُلد في كربلاء حدود سنة 1205، وتخرّج على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، والسيّد عليّ الطباطبائيّ الحائريّ صاحب (الرياض)، والسيّد محمّد المجاهد، وشريف العلماء، وقُتل في ساحات القتال في أوائل الحرب الإيرانيّة الروسيّة سنة 1240، ونُقل جثمانه إلى قزوين ودُفِن فيها.

وهو غير شقيقه وسميّه الشيخ محمّد الملقَّب بكاشف الأسرار، الآتي ذكره.

ص: 19

2- الشيخ عبد الوهّاب، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وقرأ أيضاً على السيّد محمّد المجاهد، وشريف العلماء، وصاحب (الجواهر). وحضر في الحكمة والفلسفة درس الملّا عليّ النوريّ المتوفّى سنة 1246، وبعد وفاته التحق بحوزة الملّا آقا الحكميّ القزويني، ويُعدّ من الطبقة الأُولى من تلامذته.

تُوفّي في 25 ذي الحجّة الحرام سنة 1294، ودُفن في المقبرة العائليّة قرب والده.له مؤلَّفات، منها:

1- (خصائص الأعلام في شرح شرائع الإسلام): في خمسة عش-رة جزءً ضخماً.

2- (مخازن الأُصول): في عشرين مجلّداً ضخماً، في علم أُصول الفقه.

3- ديوان شعر.

4- شرح على (العرشيّة)، لصدر المتألّهين الشيرازي.

هبط طهران في الأواخر، فكان من كبار المراجع، إلى أن تُوفّي فيها.

3- الشيخ حسن، تخرّج في العقليّات على: المولى عليّ النوري، والمولى ملّا آقا الحكميّ القزويني، وحض-ر في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وصاحب (الجواهر)، واختصّ بالشيخ مرتض-ى الأنصاريّ، ثمّ هاجر إلى الحجاز، وبعد مناظرةٍ بينه وبين بعض الشيوخ في المدينة فاجأه مَن ضربه على رأسه ليلاً فتُوفّي في اليوم الثاني، وذلك سنة 1281.

ص: 20

له مؤلَّفاتٌ في الفقه والأُصول، ومناسك الحجّ، وحاشية على رسائل ومكاسب أُستاذه في أربع مجلّداتٍ ضخمة.

4- الشيخ حسين، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه، وحضر في كربلاء على السيّد إبراهيم القزوينيّ صاحب (الضوابط)، وفي النجف على صاحب (الجواهر)، والشيخ مرتض-ى الأنصاري، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على ملّا آقا الحكميّ القزويني، ثمّ استقرّ في قزوين، وتصدّى للتدريس في المدرسة الصالحيّة.

له مؤلّفاتٌ في الفقه والأُصول، منها: (منهج الرشاد في شرحالإرشاد).

5- الشيخ رضا، تخرّج على: والده، وعمّه، وصاحب (الضوابط)، وصاحب (الجواهر)، والشيخ مرتضى الأنصاري.

من مؤلفاته: (مصباح الأُصول)، (رسالة في الرضاع)، (رسالة في النذر)، (روح النجاة في الكلام والإمامة).

تُوفّي بكربلاء سنة 1308.

6- الشيخ محمّد، الملقَّب بكاشف الأسرار. وُلد في قزوين سنة 1240، وتوفّي حدود سنة 1294.

تخرّج على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وهاجر إلى العراق فالتحق في كربلاء بحوزة السيّد إبراهيم صاحب (الضوابط)، وفي النجف بحوزة الشيخ محمّد حسن صاحب (الجواهر)، وغيرهم، وأخذ الحكمة والفلسفة من الملّا آقا الحكميّ القزويني.

ص: 21

له رسائل في الفلسفة، وتفسير آية الكرسي.

7- الشيخ موسى، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، والشيخ مرتض-ى الأنصاريّ في النجف، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على المولى ملّا آقا الحكميّ القزوينيّ، وتولّى التدريس في المدرسة الصالحيّة في قزوين.

من مؤلّفاته: (أسرار التنزيل في تفسير القرآن) في مجلّدين ضخمين.

تُوفّي سنة 1298.

8- الشيخ محمّد علي، تخرّج على: والده، وشقيقيه الميرزا عبد الوهّاب، والشيخ حسن، وتتلمذ في العقليّات على المولى ملّا آقا الحكميّ القزويني، وتولّى التدريس في المدرسة الصالحيّة بقزوين، وهو زميل السيّد جمال الدين الأسدآبادي المعروف بالأفغانيّ فيالمدرسة الصالحيّة، وكان بينهما علاقات وثيقة، ثمّ التحق بالأفغانيّ حينما كان في الهند.

من مؤلفاته: (أُصول الفقه) في مجلّدٍ واحد.

تُوفّي سنة 1315.

هؤلاء أولاد المترجَم الذكور، أمّا بناته فاشتهرت منهنّ:

زرّين تاج، المُكنّاة بأُمّ سلمة والشهيرة ب- (قرّة العين)، وهذه تحتاج إلى دراسةٍ مستقلّةٍ مستفيضةٍ لما كان من شأنها في حوادث البابيّة.. ويصفها الأُستاذ عبد الحسين الصالحيّ أحد أحفاد المترجَم بأنّها كانت عالمةً فاضلة، محدِّثةً فقهية، أديبةً كبيرة، حافظةً للقرآن عالمةً بتفسيره وتأويله،

ص: 22

متكلّمةً خطيبة ...

تزوّجها ابن عمّها الشيخ محمّد إمام الجمعة، ورُزقَت منه ثلاثة أولاد ذكور، كلّهم من العلماء، وهم: الشيخ إبراهيم، الشيخ إسماعيل، الشيخ إسحاق.

ويقول الأُستاذ الصالحيّ عن بقيّة بناته الأُخريات:

الحاجّة نرجس: فقيهةٌ محدّثة، حافظةٌ للقرآن، أديبةٌ شاعرة.

والحاجّة زهراء: محدّثة، حافظةٌ للقرآن، أدبيةٌ شاعرة، فقيهةٌ مفسّرة.

والحاجّة فاطمة: مفسّرةٌ محدّثة، حافظةٌ للقرآن، فقيهة، أديبةٌ كبيرة.

تلاميذه

قال صاحب (موسوعة طبقات الفقهاء) ((1)): كان فقيهاً إماميّاً، محدّثاً، مفسّراً، متكلّماً، من أكابر العلماء ...

وقد تلمّذ له وروى عنه جماعة، منهم: ولده الفقيه عبد الوهّاب (المتوفّى حدود 1295 ه-)، وأسد الله بن محمّد صادق البروجرديّ الحائري، وداوود ابن أسد الله بن عبد الله البروجردي، والسيّد عليّ بن إسماعيل الموسويّ القزويني (المتوفّى 1298 ه-).

ص: 23


1- ([1]) أنظر: موسوعة طبقات الفقهاء للسبحاني: 13 / 598 وما بعدها.

مؤلّفاته

وفي (طبقات الفقهاء): وصنّف جملةً من الكتب، منها:

(غنيمة المعاد في شرح الإرشاد) -- أي: إرشاد الأذهان في الفقه، للعلّامة الحلّي -- في أربعة عش-ر مجلّداً، (مسالك الرشاد في شرح الإرشاد) في ثلاثة مجلّدات، (فنّ الفقاهة)، (بدائع الأُصول)، (بحر العرفان ومعدن الإيمان في تفسير القرآن) في سبعة عشر مجلّداً، (مفتاح الجنان في حلّ رموز القرآن) في ثمانية مجلّدات، (مصباح الجَنان لإيضاح أسرار القرآن) في ثلاثة مجلّدات، (كنز الواعظين في أحوال الأئمّة الطاهرين) في أربعة مجلّدات، (الدرّة الثمينة في المواعظ)، (مفتاح البكاء في مصيبة خامس آل العباء) بالفارسيّة، (مخزن البكاء) -- مطبوع -- بالفارسيّة في مقتل سيّد الشهداء الحسين علیه السلام، (كنز المصائب) -- مطبوع -- بالفارسيّة في مصائب الخمسةعلیهم السلام، (كنز الباكين)-- بالفارسيّة -- في مصائب الأئمّة علیهم السلام في أربعة مجلّدات، (مخزن العقائد) في مجلّدين، (شرح الألفيّة في النحو لابن مالك)، (مسلك النجاة) -- بالفارسيّة --، و(مجمع الدُّرَر في اللطائف والحكايات).

وله مصنّفاتٌ أُخرى كثيرة، ذكرها صاحب (الذريعة)..

الكتاب

قال الآقا بزرگ الطهراني: «(مخزن البكاء): في المقتل، للحاج مولى محمّد

ص: 24

صالح البرغاني، أخي الشهيد الثالث المولى محمّد تقيّ ابن الآقا محمّد البرغانيّ القزويني، موجودٌ في خُزانة كتبه المؤلّف بكربلاء، ورأيتُ نسخةً منه بخطّ محمّد يوسف بن محمّد باقر، فرغ من كتابته 1261، وهو فارسيّ، مطبوعٌ في إيران 1285 بقطع كبير، وبعدها، مرتَّبٌ على مقدّمةٍ وأربعة عشر فصلاً، ثمّ أربعة عشر مجلساً وخاتمة» ((1)).

والكتاب يُعدّ مصدراً للكثير من المؤلّفين والعلماء الفرس ممّن تأخّر عنه، اعتماداً على المؤلّف، لما عُرِف به من سعة علمٍ وضبطٍ واختصاصٍ في التأليف في قيام سيّد الشهداء علیه السلام ومقتله.

وهو ينقل عن مصادره مصرِّحاً بها في الغالب، ونادراً ما يعلّق عليها، ويبدو أنّه ينقل من مثل المقتل لأبي مِخنَف (المتداول المشهور) من نسخةٍ متوفّرةٍ لديه غير ما هو مطبوعٌ متداول اليوم، وإن كان قريباً منها.

ص: 25


1- ([1]) الذريعة للآقا بزرگ الطهراني: 20 / 225 الرقم 2685.

ص: 26

مقدِّمة المؤلّف

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

أمّا بعد.. يقول العبد الخاطئ المذنب المحتاج إلى مغفرة ربّه الغني، محمّد صالح البراغاني: لمّا كان البكاء والإبكاء والحزن والتحزين على مصيبة سيّد الشهداء وخامس آل العباء أبي عبد الله الحسين علیه السلام أعظم الأعمال المندوبة وأشرف القُرُبات الشرعيّة بعد الفرائض، فإنّي -- أنا قليل البضاعة وكثير الإضاعة -- بعد الفراغ من (غنيمة المعاد) و(مسلك الراشدين) اشتغلتُ بتأليف (معدن البكاء)، ولمّا كان هذا الكتاب باللغة العربية لم ينفع عوامّ ((1)) العجم كثيراً، فأضفتُ على مجالسه قليلاً من المقدّمات

ص: 27


1- ([1]) تعبير «العوامّ» عن عموم الشيعة وضعفائهم فيه قساوةٌ ومجانبةٌ لأدب التخاطب بين أولياء الله وأحبّاء الرحمان، وقد استخدم الأئمّة علیهم السلام هذا المصطلح للتعبير عن المخالفين، وكذا كان دأب علماء الطائفة المُحقّة في العصور المتقدّمة.

والملحقات، وكتبتُه باللغة الفارسيّة، وسمّيتُه: (منبع البكاء).

ثمّ لاحظتُ أنّ المقصود إنّما هو البكاء والإبكاء، وتحصيل ذلك يتوقّف على ذِكر بعض الأحاديث الّتي تُهيّء المستمعين للبكاء والذاكرين على الإبكاء، فش-رعتُ في تأليف كتابي هذا المشتمل على الكثير من الأخبار المهيّجة المورِثة للبكاء في مأتم عزاء سيّدالشهداء علیه السلام.

ولمّا كان الاكتفاء في المقام بذكر أيّ خبرٍ أو أثرٍ يهيّج الحزن ويُثير العَبرة ويَستدرّ الدمعة، ما لم يترتّب عليه حُكماً من الأحكام الش-رعيّة، فإنّنا لم نتصدَّ في المقام للتدقيق في الأخبار وتصحيح المسألة، واقتصرنا على ذكر الأخبار واكتفينا بوجودها في الكتب المعتمَدة، وعمدنا في أغلب المواضع إلى ذِكر الكتب الّتي نقلنا عنها الخبر.

ولمّا كان هذا الكتاب خُزانةً لا تنزف للذاكرين، وجوهراً ثميناً للباكين، لهذا سمّيتُه:

(مخزن البكاء في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام)

وهو يشتمل على مقدّمة وأربعة عشر مجلساً وخاتمة.

أمّا المقدّمة، ففيها ثمان خطب:

ص: 28

الخُطَب

الخطبة الأُولى:

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعل محبّته في قلوب أوليائه، حتّی خلعوا أثواب البقاء وقرعوا أبواب اللقاء، وعرّفهم لذائذ قربه، حتّی تنافسوا في التقدّم إلى الحتوف وأصبحوا نهب الرماح والسيوف، والصلاة والسلام علی محمّدٍ وآله، خصوصاً علی ولده المظلوم الطريد، والمغموم الشهيد، جريح الكفَرَة، وطريح الفَجَرة، المحزوز الرأس من القفا، المُهمَل على الرمضاء، المندوب عليه في السماوات، البالغة فجيعتُه إلى الس-رادقات، المشقّقة عليه جيوب المخدّرات، المنشورة عليه شعور النائحات، الرامق بطرفه إلی بنيه وبناته، اللاحظ بعينه حين ذبحه إلی أخواته ونسائه، الناظرة إليه عين فاطمة وأبيه، الشاخص إليه طرف جدّه وأخيه، مقتول أولاد الزنا، سيّدنا أبي عبد الله.

ص: 29

فوا حسرتاه على تلك الأجسام المرمَّلة بالدماء، والأفواه اليابسة من الظماء! ووا لهفاه علی الأعضاء المقطَّعات، والنسوة المأسورات، والأيدي المغلولات، والأعناق المكبَّلات! فوا ويلاه عمّافعله الظالمون وارتكبه الجاهلون، )وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( ((1)).

أمّا بعد..

فيا سماء جرت هذا الأُمور على***مثل الحسين، فمُوري بعده موري

وأنتِ يا أرض سيري بعده قِطَعاً***ويا جبال علی وجه الثرى سيري

أين الرسول عن الشبل الحسين وقد***أمس-ی مزار قطعان اليعافيرِ؟

أين الرسول من الرأس الكريم علی***رأس السنان يخالي؟ بدر ديجورِ

أين الرسول وثغرٌ كان يرشفه***تدقّه بقضيبٍ كفّ مخمورِ؟

أين الرسول ومُهر السبط منقلَبٌ***يعدو بسرجٍ إلی الفسطاط مكسورِ؟

أين الرسول عن الأيتام تندبه***مثل النجوم علی النوق الحدابيرِ

خَطبٌ تزعزع منه الدين واضطربت***قواعدُ المجدِ في الأعراف والطُّورِ

ص: 30


1- ([1]) سورة الشعراء: 227.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الراحم علی الشهداء لبذل مهجتهم، وعلی الأرامل واليتامى بعَبرتهم، وعلی المسلوبين العرايا لضجّتهم، وعلی المهتوكي الخبايا لأنّتهم، فله الحمد علی أحسن قضائه في أوليائه، وله المجد علی أحسن قدره في أصفيائه.

والصلاة والسلام علی سيّدنا محمّدٍ وآله، خصوصاً علی مَن أزعجوه عن الأوطان، وضيّقوا عليه المكان، وقتلوه وأصحابه كالأضاحي، ونصبوا رأسه علی العوالي، وسبوا نساءَه كالإماء والذراري، وساروا بهنّ في القِفار والبراري، ونهبوا أمواله، وأيتموا أطفاله، وكسروا ظهره، ورضّضوا صدره، قتيلِ الأعداء، وأسيرِ المحنة والبلاء، مسلوب العمامة والرداء، المخضَّب الشيب من الدماء، المذبوح بسيف الجفاء من القفاء، الشهيد العطشان، المدفون بلا أكفان، المعفَّر الخدَّين، المقطوع الوَدَجين، سيّدِنا أبي عبد الله الحسين علیه السلام. لعنة الله علی قاتليه وظالميه والندّام ((1))، من أوّل الدهر إلی

ص: 31


1- ([1]) يقصد -- كما ترجمه المؤلّف نفسُه -- الّذين قتلوا سيّد الشهداء علیه السلام وندموا على فعلتهم.

يوم القيامة.

أمّا بعد..

قُمْ يا رسول الله وانظُر ما جری***في كربلا لبنيك من خُصَمائها

فلقد غدوا طعم الردى بيد العدی***قتلی وأسری في السبا كإمائها

هذا الحسين بها علی عفر الثری***في حلّةٍ حُمر نسج دمائها

مقطوعُ رأسٍ، هُشّمت أظلاعه***عريان من أثوابه بعرائها

حيكت له قمصان تُربٍ أغبرٍ***من مور أرياح الفلا وهوائها

هذا الّذي قد كنتَ تلثمُ نحرَه***أمس-ی نحيراً مِن حدود ضبائها

من بعد حِجرك يا رسول الله قد***أُلقي طريحاً في ثری رمضائها

هذا وجثّته الش-ريفة قد غدَت***للصافنات تجولُ في أعضائها

ونساؤه تُسبی الإماء وتقاد في***الأغلال من أُسرائها

يا قوم، ما ذنب الصغار لتُنزِلوا***بهمُ الصَّغار وتُعلِنوا بأذائها

ويلكم ما يُشفِ غِلّ صدوركم***قتلَ الموالي اليوم من كبرائها؟

ص: 32

الخطبة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعل حزبَه من الغالبين، وأولياءه من الفائزين، وشهداءه من الرابحين، وأصفياءه من المكرَّمين، وخلصاءه من الآمنين، والصلاة والسلام علی محمّدٍ وآله الغرّ الميامين، خصوصاً علی الّذي أُريق دمه في محبّته، واستُبيح حرمه في نص-رته، وعلی الوجوه المعفَّرة، والأيدي المقطوعة، والرؤوس المرفوعة، والأفواه اليابسة، والأبدان المرضَّضة، والصدور المحطَّمة، والأضلاع المنكس-رة، والأبدان السليبة العارية، والأجساد البالية، والأعضاء المقطَّعة، والدماء السائلة، والعيون الباكية، والبطون الجائعة، والشفاه الذابلة، ولعنة الله علی الظلمة الكفَرَة، والطُّغاة الحسدة، المنتهكين لحُرمة الرسول، المفتكين في ذرّيّة البتول، بغير ذنبٍ أذنبوه ولا جرمٍ اجترموه، اللّهمّ عذّبهم عذاباً أليماً والعنهم لعناً كثيراً.

أمّا بعد..

أُفٍّ

لعيني كيف تلتذّ الكری***وجفونهم لم تكتحلْ برُقادِ

أُفٍّ لقلبي بالزُّلال شرابه***وقلوبهم بلظى الهجيرِ صوادي

أُفٍّ لجسمي كيف يهناه الوطي***وجسومهم ما وُطّئَت بمهادِ

ص: 33

بأبي وأُمّي الهاشميّات الّتي***قد هُشّمت بالقيد والأصفادِ

يُس-ری بهنّ علی المطايا حُسّ-رٌ***شعثاً بغير وطاً علی الأعوادِ

ترنوا إلی رأس الحسين وتشتكي***ما نالها من معش-ر الأوغادِ

أأُخيّ، بعد العِزّ عَزّ نصيرُنا***فعزاؤنا يبدو مدى الآبادِ

أأُخيّ يا روحي وروح مس-رّتي***وقرين أقراحي محلّ وِدادي

قُم وانظُر الأولاد في ذُلّ السبا***والسبَّ للآباء والأجدادِ

هل نظرة يا واحدي أُطفي بها***ما أشتكيه من لظى الإبعاد

ص: 34

الخطبة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أعظم مصيبتنا بمصيبة مَن جعل في تربته الشفاء، وتحت قبّته إجابة الدعاء، وفي ذرّيّته الأئمّة النجباء، والصلاة والسلام علی زين مكّة ومنی، وفخر زمزم والصفا، محمّدٍ المصطفی وعلی آله النُّجَباء، خصوصاً علی شبله الكريم، وصاحب الرزء الجسيم، الّذي ناح عليه آدمُ في جنّة النعيم، ونوحُ في الطوفان العميم، وإبراهيمُ )فَقَالَ: إِنّي سَقِيم( ((1))، وإسماعيلُ بعد الذبح العظيم، فقال الله لهم: أجرُكم حزنُكم وبكاؤكم على الحسين أعظم من ذبح إسماعيل، وبكی عليه موسی الكليم، وعيسی الرحيم، وكان أمرُه أعجب من أصحاب الكهف والرقيم، الّذي نهبوا ماله، وأيتموا أطفاله، وأسّروا عياله، وداروا برأسه في البلاد بين العباد.

فآهٍ من رُزءٍ عظيم، ثمّ لم يُسمَع مثلها في الأقاليم، كيف لا؟! فإنّ الشيب خضيب، والخدّ تريب، والجسد سليب، والثغر مقروعٌ بالقضيب، والوَدَج مقطوع، والرأس مرفوع، والجسد موضوع، ومن الدفن ممنوع، والقلب ظمآن

ص: 35


1- ([1]) سورة الصافّات: 89.

والماء في الفرات ملآن، الّذي بكت لمصابه السماوات العُلی، وزُلزلت لفقده الأرضون السفلی، غريب الغرباء، الحسين المظلوم أبو عبد الله علیه السلام.

أمّا بعد..

أعَلى سنان سِنانُ يرفع رأسه***بين الملا؟ يا ليت فاطم حاضرةْ

ذبحَ الحسين، فأيُّ عيش يُصطفی***أم أيّ نفسٍ بعده متباشرةْ؟

والخيل أجروها عليه، فمزّقَتْ***منه بواطنه ورضّت ظاهره

لهفي لزينب واليتامی حولها***تبکي عليهم وهي ولهى ناشرةْ

تدعو بفاطمة البتول بصوتها***يا أُمّنا، يا ليت عينكِ ناظرةْ

لترَي حسيناً نورَ عينك ما لقی***من بعد فقدك مِن عُصاة غادرةْ

ذبحوه ذبح الشاة ظلماً ظامياً***تسدوا عليه صافنات الغابرةْ

سلبوا بناتك جهرةً يا أُمّنا***فوجوهها بين الأعادي سافرةْ

وبنات هندٍ في القصور أعزّةً***مخبيّةً تحت الخدور الساترةْ

وبنوك أسری في القفار أذلّةً***من غير ما سترٌ عليها، حاسرةْ

ويزيد في تخت الخلافة جالسٌ***وحسين في حرّ الشموس الساعرةْ

ص: 36

الخطبة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أبكانا بمصيبة مَن بكی عليه آدم في الجنّة، ونوحُ في السفينة، وإبراهيم إذ خرّ عن فرسه وشُجّ رأسُه في أرضٍ مارية، وإسماعيل حين لم يش-رب غنمُه من الفرات في جنبالمش-رعة، وموسی حين دخل الحسَكُ في رجليه وسال دمُه في الغاضريّة، وسليمان حين دارت بساطه في الأرض الشريفة، وعيسی حين سدّ الأسدُ في الكربلاء طريقه، ومحمّدٌ حين غاب عن أُمّ سَلَمة ورجع ويدُه من دم المظلوم مضمومة، وعليٌّ حين ذهب إلی صفّين غير مرّة، وفاطمة في كلّ يومٍ وليلة، والحسن حين مال لونه إلی الخضرة، وتذكّر حديث المعراج والقصرين في الجنّة، والحسين حين قال: «أنا قتيل العَبرة».

والصلاة والسلام علی سيّد الإنس والجانّ وعلی آله، خصوصاً علی سبطه العطشان، والأسير الحيران، قليل الأنصار والأعوان، كثير الأشجان والأحزان، السليب العريان، والذبيح الظمآن، الّذي نعشه العِيدان، وكافوره تراب حوافر الفرسان، وقبره قلوب أهل الإيمان، أبي عبد الله الحسين علیه السلام، المدفون بلا غُسلٍ ولا أكفان.

ص: 37

فآهٍ فآه علی النسوة المأسورات، والعلويّات البارزات، والخدود الملطّمات، والأيدي المغلولات، والأعناق المكبَّلات، والعيون الباكيات، ولعنة الله علی مقاتليهم ومعانديهم، من أوّل الدهر إلی يوم العرصات.

أمّا بعد..

لهفی علی ربّات خدرٍ أُبرزَت***بعد الستور لكلّ عبدٍ أكوَعِ

أسفي علی فتيان أحمد أصبحت***يُس-ری بهنّ لكلّ قَفرٍ بلقعِ

لهفي علی تلك الحرائر، والعدى***قهراً تجاز بهنّ فضل البُرقعِ

لم أنسَ لا واللهِ زينب إذ مشت***وهي الوَقور إليه مش-يَ المُس-رعِ

أأُخيّ،أعظم ما أُلاقيه من ال-***-بلوی فراقك، يا ابن أُمّي فاسمعِ

أأخيّ، ما لك من بناتك مُعرِضاً***والكلُّ منك بمنظرٍ وبمَسمعِ؟

أأُخيّ، هل لك رجعةٌ تحيي بها***أرواحنا؟ هيهات، ما مِن مرجعِ

أأُخيّ، لو قَبِل العِدی منّي الفدی***لفدتك منّا أنفسٌ لم تجزعِ

ص: 38

الخطبة السادسة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعلَنا من أُمّة أشرف الناس في الحَسَب والنسَب، وأعلاهم في الحِلم والأدب، وأعظمهم في المصيبة والتعب، وأجلّهم في العناء والنَّصَب، محمّدٍ أشرف المقرّبين ونُخبة المرسلين.

والصلاة والسلام عليه وآله المظلومين، خصوصاً علی سبطه الممنوع من الماء المَعين، الشهيد الطعين، مذبوح القفا، مقطَّع الأعضاء، مسلوب الرداء، محروق الخباء، شديد العناء، عظيم البلاء، قليل الرعاء ((1))، قتيل الظماء، منزوع الحذاء، المطروح علی الرمضاء، الّذي بكت عليه ملائكة الأرض والسماء في كلّ صباحٍ ومساء، سيّدنا الحسين المظلوم أبي عبد الله علیه السلام.

فوَا أسفاه ممّا جری علی البنين والبنات، وهم ما بين مَن تخمش وجهها بيديها، ومَن تنزع قرطها من أُذنيها، وبين من يستجير فلا يُجار، ويستغيث فلا يُغاث، ويستنصر فلا يُنصَر، ويستعين فلا يُعان، ولعنة الله علی ظالميهم

ص: 39


1- ([1]) يقصد -- كما ذكر في ترجمته للخطبة -- : قليل مَن رعى حقّه.

أجمعين، من أوّل الدهر إلی يوم الدين.

أمّا بعد..

بنفس-يَ مجروح الجوارح، آيساً***من النصر، خلوٌ ظهره من ظهيرها

بنفس-يَ محزوز الوريد معفَّراً***علی ظمأٍ من فوق حرّ صخورها

يتوقُ إلی ماء الفرات، ودونه***حدود شفارٍ أحدقت بشفيرها

قضی ظامياً، والماء يلمع طامياً***وغودر مقتولاً دُوَين غديرها

أيُقتَل خيرُ الخلق أُمّاً ووالداً***وأكرمُ خلق الله وابن نذيرها

ويُمنَع من ماء الفرات، ويغتدي***وحوشُ الفلا ريّانةً من غديرها

يديرها علی رأس السنان برأسه***سنانٌ، ألا شلّت يمين مديرها

ويؤتی بزين العابدين مكبَّلاً***أسيراً، ألا روحي الفدا لأسيرها

أيمش-ي يزيدٌ رافلاً في حريره***ويُمسي حسينٌ عارياً في حرورها؟

ودار بني صخر بن هندٍ أنيسةٌ***بنشد أغانيها وسكب خمورها

ودار عليٍّ والبتول وأحمد***وشبّرها مولی الوری وشُبيرها

معالمها تبكي على علمائها***وزائرها يبكي لفقد مزورها

ص: 40

الخطبة السابعة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أمرَنا بالسلام والصلاة علی أشرف الكائنات،ونهانا عن التفرّد بهما عليه من غير ضمّ الآل إليه، وحيث كنّا مأمورين فنحن المنقادون، قائلين: الصلاة والسلام عليك وآلِك، خصوصاً علی مَن مصصتَ لعابه كالسكرة، ومصّ لعابك في البين، فلذا خصصتَه بخطاب: «حسين منّي وأنا من حسين».

السلام علی عليّ بن الحسين، العليل المكروب الحزين، زين العابدين علیه السلام، وعلی عليّ بن الحسين الذبيح الطعين، وعلی عليّ بن الحسين المذبوح بالنشاب، الملقی علی يدَي الباب ((1)).

والسلام علی العبّاس والقاسم، وسائر المجاهدين، وعلی الأبدان الضعيفة ((2)) في عبادة الله، والدماء السائلة في سبيل الله، والدموع السائلة من خشية الله.

السلام علی زينب التقيّة، وعلی سكينة المسبيّة، وعلی فاطمة ورقيّة،

ص: 41


1- ([1]) يقصد: الأب.
2- ([2]) يقصد: الأبدان الّتي أنهكها وأتعبها أصحابها في عبادة الله.

وعلی البنات الهاشميّة، والسادات العلويّة.

السلام علی الأبدان السليبة، والأجسام التريبة، والخدود المعفَّرة، والجسوم المخضَّبة، والأعضاء المقطَّعة.

السلام علی جميع مَن سُفِك دمُه لوجه الله في أرض مارية، وعلی جميع مَن بكی أو حزن في هذه الرزيّة.

آهٍ! مِن مصيبةٍ أدمعت عيون الأنام، وأحرقت قلوب الخاصّ والعامّ، ولعنة الله علی الطُّغاة الفجَرة، من أوّل الدهر إلی قيام القيامة.

أمّا بعد..أُفٍّ

لعيني، كيف تلتذّ الكری***وجفونهم لم تكتحل برقادِ؟

أُفٍّ لقلبي بالزلال شرابه***وقلوبهم بلظى الهجير صوادي

أُفٍّ لجسمي، كيف يهنأه الوطی***وجسومهم ما وُطّئت بمهادِ؟

بأبي وأُمّي الهاشميّات الّتي***قد هُشّمت بالقيد والأصفادِ

يُسری بهنّ علی المطايا حُسّ-راً***شُعثاً بغير وطاً علی الأعوادِ

ترنوا إلی رأس الحسين وتشتكي***ما نالها من معش-ر الأوغادِ

قم وانظر الأولاد في ذُلّ السبا***والسبَّ للآباء والأجدادِ

هل نظرة يا واحدي أُطفي بها***ما أشتكيه من لظى الأبعادِ

ص: 42

الخطبة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعلَنا من أُمّة النور المبين، والكتاب المستبين، محمّدٍ صاحب الشريعة الغرّاء، والمحجّة البيضاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلی آله.

خصوصاً علی شبله صاحب المحَن الهائلات، والدموع الهاطلات، والعيون الساهرات، والشفاه الذابلات، والأكبادالظامئات، والنحور الداميات، والدماء الجاريات، والأبدان الباليات! والأجسام العاريات، الّذي زوّاره السهام النافذات، وعوّاده السيوف القاطعات، وطبيبه الرماح الثاقبات، ودواؤه الدماء السائلات، وأكفانه عثيرة الصافنات، وندّابه البنات الحاسرات، وشيّاعه الأرامل البارزات، وهو سليل خير البريّات وأشرف الموجودات، الّذي رضّضته الخيولُ العاديات، وصاحبِ المصيبة الّتي لم يُسمَع مثلها في القرون الخاليات والأيّام السالفات، سيّدنا الأمين، وإمامنا المبين، حسين بن أمير المؤمنين علیهما السلام، ولعنة الله علی مقاتليهم وظالميهم، أبد الآبدين.

أمّا بعد..

ص: 43

يا حاديَ الأضعان رفقاً بالأُولی***كانوا من العليا بدورَ سمائها

أوَ ما علمتَ بمن تحت ركابها***ناديك يا أولي الوری بشفائها

في الركب أولاد الرسول وفاطم ال-***-زهرا البتول الطهر ستّ نسائها

فيه الفواطم للخدود لواطمٌ***ثكلی، تنادي الغوث من ضرّائها

في الركب زينُ العابدين مكبَّلاً***ذو مقلةٍ عبری تسحّ بمائها

دَنِفٌ عليلٌ ذو غليلٍ، زاده***غلُّ اليدين كآبةً لعنائها

ص: 44

الفصل الأوّل: في ذِكر بعض الآيات، وبيان جملةٍ من القصص والحكايات

تأويل كهيعص

روى الطبرسيّ في كتاب (الاحتجاج)، عن سعد بن عبد الله القمّيّ الأشعريّ قال: بُليتُ بأشدّ النواصب منازعة، فقال لي يوماً -- بعدما ناظرتُه -- : تبّاً لك ولأصحابك! أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والأنصار بالطعن عليهم، وبالجحود لمحبّة النبيّ لهم، فالصدّيق هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام، ألا تعلمون أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله إنّما ذهب به ليلة الغار لأنّه خاف عليه كما خاف على نفسه، ولِما علم أنّه يكون الخليفة في أُمّته، وأراد أن يصون نفسه كما يصون خاصّة نفسه، كي لا يختلّ حال الدِّين من بعده ويكون الإسلام منتظماً؟ وقد أقام عليّاً على فراشه لِما كان في علمه أنّه لو قُتل لا يختلّ الإسلام بقتله، لأنّه يكون من الصحابة مَن يقوم مقامه، لا جرَم لم يبالِ من قتله!

ص: 45

قال سعد: إنّي قلتُ على ذلك أجوبة، لكنّها غير مُسكِتة.

ثمّ قال: معاشرَ الروافض، تقولون: أنّ (الأوّل والثاني) كانا ينافقان، وتستدلّون على ذلك بليلة العقبة. ثمّ قال لي: أخبِرْني عنإسلامهما، كان مِن طوعٍ ورغبة، أو كان عن إكراهٍ وإجبار؟

فاحترزتُ عن جواب ذلك، وقلت مع نفسي: إن كنتُ أجبتُه بأنّه كان عن إكراهٍ وإجبار، لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوّةٌ حتّى يكون إسلامهما بإكراهٍ وقهر، فرجعتُ عن هذا الخصم على حالٍ ينقطع كبدي، فأخذتُ طوماراً وكتبتُ بضعاً وأربعين مسألة من المسائل الغامضة الّتي لم يكن عندي جوابها، فقلت: أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمّد الحسن ابن عليّ علیهما السلام -- الّذي كان في قمّ -- أحمد بن إسحاق، فلمّا طلبتُه كان هو قد ذهب، فمشيتُ على أثره فأدركته، وقلت الحال معه.

فقال لي: جِئْ معي إلى سُرّ مَن رأى حتّى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن علي علیهما السلام.

فذهبتُ معه إلى سُرّ مَن رأى، ثمّ جئنا إلى باب دار مولانا علیه السلام،فاستأذنّا عليه فأذن لنا، فدخلنا الدار، وكان مع أحمد بن إسحاق جرابٌ قد ستره بكساءٍ طبري، وكان فيه مئةٌ وستّون صرّة من الذهب والورق، على كلّ واحدةٍ منها خاتَم صاحبها الّذي دفعها إليه، ولمّا دخلنا ووقع أعيننا على أبي محمّد الحسن العسكري علیه السلام كان وجهه كالقمر ليلة البدر، وقد رأينا على فخذه غلاماً يشبه المشتري في الحُسن والجمال، وكان على رأسه ذؤابتان،

ص: 46

وكان بين يديه رمّانٌ من الذهب قد حُلّي بالفصوص والجواهر الثمينة، قد أهداه واحدٌ من رؤساء البص-رة، وكان في يده قلمٌ يكتب به شيئاً على قرطاس، فكلّما أراد أن يكتب شيئاً أخذ الغلام يده فألقى الرمان حتّى يذهب الغلام إليه ويجئ به، فلمّا ترك يده يكتب ما شاء.

ثمّ فتح أحمد بن إسحاق الكساء، ووضع الجراب بين يدَي العسكريّ علیه السلام، فنظر العسكريّ إلى الغلام فقال: «فُضَّالخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك!».

فقال: «يا مولاي، أيجوز أن أمدّ يداً طاهرةً إلى هدايا نخسةٍ وأموالٍ رجسة؟!»، ثمّ قال: «يا ابن إسحاق، أخرِجْ ما في الجراب، ليميز بين الحلال والحرام!».

ثمّ أخرج صرّة، فقال الغلام: «هذا (لفلان ابن فلان) من محلّة (كذا) بقم، مشتملٌ على اثنين وسبعين ديناراً، فيها من ثمن حجرةٍ باعها، وكانت إرثاً عن أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عش-ر ديناراً، وفيه من أُجرة الحوانيت ثلاثة دنانير».

فقال مولانا علیه السلام:«صدقتَ يا بُنيّ، دُلّ الرجل على الحرام منها».

فقال الغلام: «في هذه العين دينار بسكّة الري، تاريخه في سنة (كذا)، قد ذهب نصفُ نقشه عنه، وثلاثة أقطاعٍ قراضة بالوزن (دانق ونصف) في هذه الصرّة، الحرام هذا القدر؛ فإنّ صاحب هذه الص-رّة في سنة (كذا) في شهر (كذا) كان له عند نسّاجٍ -- وهو من جُملة جيرانه -- مَنٌّ وربع، فأتى على ذلك زمانٌ كثير، فسرقه سارقٌ مِن عنده، فأخبره النسّاج بذلك، فما صدّقه وأخذ الغرامة بغزل أدقّ منه مبلغ منٍّ

ص: 47

ونصف، ثمّ أمر حتّى نُسج منه ثوب، وهذا الدينار والقراضة من ثمنه»، ثمّ حلّ عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر.

ثمّ أخرجتُ صرّةً أُخرى، فقال الغلام: «هذا (لفلان ابن فلان) من المحلّة (الفلانيّة) بقم، والعين فيها (خمسون ديناراً)، ولا ينبغي لنا أن نُدني أيدينا إليها». قال: «لمَ؟»، فقال: «مِن أجل أنّهذه الدنانير ثمن الحنطة، وكانت هذه الحنطة بينه وبين حرّاثٍ له، فأخذ نصيبه بكيلٍ كاملٍ وأعطى نصيبه بكيلٍ ناقص». فقال مولانا الحسن بن عليّ علیهما السلام: «صدقتَ يا بُنيّ!».

قال: «يا ابن إسحاق، إحملْ هذه الصرور، وبلِّغْ أصحابها وأوصِ بتبليغها إلى أصحابها، فإنّه لا حاجة بنا إليها».

ثمّ قال: «جِئْ إليّ بثوب تلك العجوز».

فقال أحمد بن إسحاق: كان ذلك في حقيبةٍ فنسيتُه. ثمّ مشى أحمد بن إسحاق ليجيء بذلك، فنظر إليّ مولانا أبو محمّد العسكري علیه السلام وقال: «ما جاء بك يا سعد؟»، فقلت: شوّقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.

قال: «المسائلُ الّتي أردتَ أن تسأل عنها؟»، قلت: على حالها يا مولاي.

قال: «فاسأَلْ قُرّةَ عيني -- وأومى إلى الغلام -- عمّا بدا لك».

فقلت: يا مولانا وابن مولانا، رُوي لنا أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين، حتّى أنّه بعث يوم الجمل رسولاً إلى عائشة وقال: «إنّكِ أدخلتِ الهلاك على الإسلام وأهله بالغشّ الّذي حصل منك، وأوردتِ أولادك في موضع الهلاك بالجهالة، فإن امتنعتِ وإلّا طلقتُك». فأخبِرْنا يا مولاي عن

ص: 48

معنى الطلاق الّذي فوّض حكمه رسولُ الله صلی الله علیه وآله إلى أمير المؤمنين علیه السلام

فقال: «إنّ الله (تقدّس اسمه) عظّم شأن نسا النبی صلی الله علیه وآله ،ءفخصّهنّ لشرف الأُمّهات، فقال رسول الله يا أبا الحسن، صلی الله علیه وآله : إنّ هذا شرفٌ باقٍ ما دُمنَ للهعلى طاعة، فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلِّقْها مِن الأزواج وأسقِطْها مِن شرف أُميّة المؤمنين».

ثمّ قلت: أخبِرْني عن الفاحشة المبيّنة الّتي إذا فعلَت المرأةُ ذلك يجوز لبعلها أن يُخرِجها من بيته في أيّام عُدّتها.

فقال علیه السلام: «تلك الفاحشة السُّحق وليست بالزنا؛ لأنّها إذا زنت يُقام عليها الحدّ، وليس لمَن أراد تزويجها أن يمتنع من العقد عليها لأجل الحدّ الّذي أُقيم عليها، وأمّا إذا ساحقت فيجب عليها الرجم، والرجم هو الخزي، ومَن أمر الله (تعالى) برجمها فقد أخزاها، ليس لأحدٍ أن يقربها».

ثمّ قلت: أخبِرْني -- يا ابن رسول الله -- عن قول الله (تعالى) لنبيّه موسى علیه السلام: )فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى( ((1))، فإنّ فقهاء الفريقين يزعمون أنّها كانت من إهاب الميتة!

فقال علیه السلام: «مَن قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوّته؛ لأنّه ما خلا الأمر فيها من خطبين: إمّا أن كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة، فإن كانت صلاة موسى جائزة فيها فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة وإن

ص: 49


1- ([1]) سورة طه: 12.

كانت مقدّسةً مطهّرة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب أنّ موسى لم يعرف الحلال والحرام ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه ممّا لم يجز، وهذا كفر ».

قلت: فأخبِرْني يا مولاي عن التأويل فيها.

قال: «إنّ موسى علیه السلام كان بالوادي المقدَّس، فقال: يا ربّ، إنّي أخلصتُ لك المحبّة منّي، وغسلتُ قلبي عمّن سواك.وكان شديد الحبّ لأهله، فقال الله (تبارك وتعالى): )فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ(، أي: انزع حبَّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصةً، وقلبك من المَيل إلى مَن سواي مغسولاً».

فقلت: أخبِرني عن تأويل )كهيعص( ((1)).

قال: «هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبدَه زكريّا، ثمّ قصَّها على محمّد صلی الله علیه وآله ،وذلك: أنّ زكريّا علیه السلام سأل ربّه أن يعلّمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سرى عنه همُّه وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين؟ع؟ خنقته العَبرة ووقعت عليه البُهرة ((2)).

فقال - ذات يوم -: إلهي، ما بالي إذا ذكرتُ أربعاً منهم تسلَّيتُ بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟! فأنبأه الله (تبارك وتعالى) عن قصّته فقال: )كهيعص(، فالكاف: اسم (كربلاء)، والهاء: (هلاك العترة)،

ص: 50


1- ([1]) سورة مريم: 1.
2- ([2]) البُهر -- بالضمّ -- : تتابع النفَس، يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعَدْو والمرض الشديد (مجمع البحرين: بَهَر).

والياء: (يزيد) وهو ظالم الحسين، والعَين: (عطشه)، والصاد: (صبره).

فلمّا سمع بذلك زكريّا علیه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيهنّ الناسَ من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه:

إلهي، أتفجع خير جميع خَلقك بوَلَده؟

إلهي، أتُنزل بلوى هذه الرزيّة بفَنائه؟

إلهي، أتُلبِس عليّاً وفاطمة ثوب هذه المصيبة؟

إلهي، تحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما؟

ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني وَلداً تُقرّ به عيني على الكِبر، فإذارزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بوَلَده.

فرزقه الله يحيى، وفجعه به، وكان حمل يحيى ستّة أشهر وحمل الحسين كذلك».

فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟ قال: «مصلحٌ أو مُفسِد؟»، فقلت: مصلح. قال: «هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسِد بعد أن لا يعلم أحدٌ ما يخطر ببال غيره مِن صلاحٍ أو فساد؟»، قلت: بلى، قال: «فهي العلّة، أيّدتُها لك ببرهانٍ يقبل ذلك عقلك»، قلت: نعم.

قال: «أخبِرْني عن الرسل الّذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتب وأيّدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأُمم، فأهدى إلى ثبت الاختيار، ومنهم موسى وعيسى، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما على المنافق بالاختيار أن يقع خيرتهما وهما يظنّان أنّه مؤمن؟»، قلت: لا، قال: «فهذا موسى كليم الله -- مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه -- اختار مِن أعيان قومه ووجوه عسكره

ص: 51

لميقات ربّه سبعين رجلاً ممّن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين. قال الله عزو جل:)وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا( -- الآية ((1))، فلمّا وجَدْنا اختيارَ مَن قد اصطفاه الله للنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد، عَلِمنا أنْ لا اختيار لمن لا يعلم ما تُخفي الصدور وما تُكنّ الضمائر وينصرف عنه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادواأهل الصلاح».

ثمّ قال مولانا علیه السلام: «يا سعد، مَن ادّعى: أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله -- وهو خصمك -- ذهب بمُختار هذه الأُمّة مع نفسه إلى الغار، فإنّه خاف عليه كما خاف على نفسه لِما علم أنّه الخليفة من بعده على أُمّته، لأنّه لم يكن من حُكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه، وإنّما أقام عليّاً على مبيته لأنّه علم أنّه إن قُتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل أبي بكر، لأنّه يكون لعليٍّ مَن يقوم مقامه في الأُمور.. لمَ لا تنقض عليه بقولك: أوَ لستم تقولون: أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله قال: (إنّ الخلافة من بعدي ثلاثون سنة)، وصيّرها موقوفةً على أعمار هؤلاء الأربعة: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي)، فإنّهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول الله؟ فإنّ خصمك لم يجد بُداً من قوله: بلى».

قلت له: فإذا كان الأمر كذلك، فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء أُمّته من بعده، فلمَ ذهب بخليفةٍ واحد -- وهو أبو بكر -- إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة؟ فعلى هذا الأساس يكون النبيّ صلی الله علیه وآله مستخفّاً بهم دون أبي بكر، فإنّه يجب عليه أن يفعل بهم ما فعل بأبي بكر، فلمّا لم

ص: 52


1- ([1]) سورة الأعراف: 155.

يفعل ذلك بهم يكون متهاوناً بحقوقهم وتاركاً للشفقة عليهم بعد أن كان يجب أن يفعل بهم جميعاً على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبي بكر..

«وأمّا ما قال لك الخصم بأنّهما أسلما طوعاً أو كرهاً، لمَ لمْ تقل: بل إنّهما أسلما طمعاً، وذلك أنّهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمّد صلی الله علیه وآله واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المقدّسة وملاحم قصّة محمّد صلی الله علیه وآله ويقولون لهما: يكون استيلاؤه على العربكاستيلاء (بخت نصر) على بني إسرائيل، إلّا أنّه يدّعي النبوّة ولا يكون من النبوّة في شيء. فلمّا ظهر أمرُ رسول الله فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، طمعاً أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية بلدٍ إذا انتظم أمره وحسن باله واستقامت ولايته، فلمّا أَيِسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة وتلثّما مثل مَن تلثّم منهم، فنفروا بدابّة رسول الله لتُسقِطه ويصير هالكاً بسقوطه بعد أن صعد العقبة فيمن صعد، فحفظ الله (تعالى) نبيَّه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئاً، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليّاً علیه السلام وبايعاه طمعاً أن تكون لكلّ واحدٍ منهما ولاية، فلمّا لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه، حتّى آل أمرُ كلّ واحدٍ منهما إلى ما يؤول أمر مَن ينكث العهود والمواثيق».

ثمّ قام مولانا الحسن بن عليّ علیهما السلام لصلاته، وقام القائم معه، فرجعتُ مِن عندهما وطلبتُ أحمد بن إسحاق، فاستقبلني باكياً، فقلت: ما أبطأك وما أبكاك؟ قال: قد فقدتُ الثوب الّذي سألني مولاي إحضاره، قلت: لا بأس عليك، فأخبِرْه!

ص: 53

فدخل عليه، وانصرف من عنده متبسماً وهو يصلّي على محمّدٍ وأهل بيته، فقلت: ما الخبر؟ فقال: وجدتُ الثوب مبسوطاً تحت قدمَي مولانا علیه السلام يصلّي عليه.

قال سعد: فحمدنا الله (جلّ ذِكره) على ذلك، وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا علیه السلام أيّاماً فلا نرى الغلام بين يديه، فلمّا كان يوم الوداع دخلتُ أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا، فانتصب أحمد ابن إسحاق بين يديه قائماً وقال: يا ابنرسول الله، قد دَنَت الرحلة واشتدّت المحنة، فنحن نسأل الله أن يصلّي على المصطفى جدّك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيّدة النساء أُمّك فاطمة الزهراء، وعلى سيّدَي شباب أهل الجنّة عمِّك وأبيك، وعلى الأئمّة من بعدهما آبائك، وأن يصلّي عليك وعلى وَلَدك، ونرغب إليه أن يُعلي كعبَك ويكبتَ عدوَّك، ولا جعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك.

قال: فلمّا قال هذه الكلمة استعبر مولانا علیه السلام حتّى استهملت دموعُه وتقاطرت عبراته، ثمّ قال: «يا ابن إسحاق، لا تكلف في دعائك شطَطاً، فإنّك مُلاقٍ الله في صدرك هذا». فخرّ أحمد مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: سألتُك بالله وبحرمة جدّك إلّا ما شرّفتَني بخرقةٍ أجعلها كفناً. فأدخَلَ مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً، فقال: «خُذْها، ولا تُنفِق على نفسك غيرها، فإنّك لن تُعدَم ما سألت، والله لا يضيع أجر المحسنين».

قال سعد: فلمّا صِرْنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا علیه السلام من حلوان

ص: 54

على ثلاثة فراسخ، حُمَّ أحمد بن إسحاق وثارت عليه علّةٌ صعبة أيس من حياته بها، فلمّا وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن إسحاق رجلاً من أهل بلده كان قاطناً بها، ثمّ قال: تفرّقوا عنّي هذه الليلة واتركوني وحدي! فانصرفنا عنه ورجع كلُّ واحدٍ إلى مرقده.

قال سعد: فلمّا حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة، ففتحتُ عيني فإذا أنار بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمّد وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاكم، وختم بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنامن غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه، فإنّه مِن أكرمكم محلّاً عند سيّدكم. ثمّ غاب عن أعيننا، فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والنحيب والعويل، حتّى قضينا حقّه وفرغنا من أمره رحمه الله((1)).

بين يحيى والإمام الحسين علیهما السلام

روى ابن شهرآشوب، عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين علیهما السلام قال: «خرجنا مع الحسين علیه السلام، فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه إلّا وذكر يحيى بن زكريّا، وقال يوماً: مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ((2))، فكان دمه يغلي حتّى بعث الله عليهم بخت نصر، فقتل عليه سبعين

ص: 55


1- ([1]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 268، كمال الدين للصدوق: 455.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 133 بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 2 / 132، أعلام الورى للطبرسي: 1 / 429، تفسير مجمع البيان للطبرسي: 6 / 405.

ألفاً حتّى سكن. يا ولدي يا علي، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث المهديَّ اللهُ، فيقتل على دمي من المنافقين الكفَرة الفسقة سبعين ألفاً» ((1)).

تأويل:وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ

روى الشيخ الكلينيّ في (الكافي)، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله علیهما السلام يذكران أنّه «لمّا كان يوم التورية قال جبرئيل لإبراهيم علیهما السلام:تروّه من الماء. فسُمّيَت التورية. ثم أتى منى فأباته بها، ثمّ غدا به إلى عرفات فضرب خباه بنمرة دون عرفة، فبنى مسجداً بأحجارٍ بيض، وكان يُعرَف أثر مسجد إبراهيم، حتّى أدخل في هذا المسجد الّذي بنمرة حيث يصلّي الإمام يوم عرفة، فصلّى بها الظهر والعصر، ثمّ عمد به إلى عرفات فقال: هذه عرفات، فاعرِفْ بها مناسكك، واعترِفْ بذنبك. فسُمّي عرفات، ثمّ أفاض إلى المزدلفة، فسُمّيَت المزدلفة لأنّه ازدلف إليها، ثمّ قام على المشعر الحرام فأمره الله أن يذبح ابنه، وقد رأى فيه شمائله وخلائقه وأنس ما كان إليه، فلمّا أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأُمّه: زوري البيت أنتِ. واحتبس الغلام، فقال: يا بُنيّ، هاتِ الحمار والسكّين حتى أُقرّب القربان». فقال أبان: فقلت لأبي بصير: ما أراد بالحمار والسكّين؟ قال: أراد أن يذبحه، ثمّ يحمله فيجهزه ويدفنه.

ص: 56


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134، تفسير القمّي: 1 / 88.

قال: «فجاء الغلام بالحمار والسكّين، فقال: يا أبتِ أين القربان؟ قال: ربّك يعلم أين هو يا بُنيّ، أنت واللهِ هو، إنّ الله قد أمرني بذبحك فانظُرْ ماذا ترى؟ قال: )يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(» ((1)). قال: «فلمّا عزم على الذبح قال: يا أبت خمّر وجهي وشُدّ وَثاقي، قال: يا بُنيّ، الوثاق مع الذبح؟! واللهِ لا أجمعهما عليك اليوم». قال أبو جعفر علیه السلام: «فطرح له قرطان الحمار، ثمّ أضجعه عليه، وأخذ المُديَة فوضعها على حَلقه».

قال: «فأقبل شيخٌ فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أُريد أن أذبحه، فقال: سبحان الله، غلامٌ لم يعصِ الله طرفة عينتذبحه؟ فقال: نعم، إنّ الله قد أمرني بذبحه، فقال: بل ربّك نهاك عن ذبحه، وإنّما أمرك بهذا الشيطانُ في منامك، قال: ويلك! الكلام الّذي سمعت هو الّذي بلغ بي ما ترى، لا والله لا أُكلّمُك. ثمّ عزم على الذبح، فقال الشيخ: يا إبراهيم، إنّك إمامٌ يُقتدى بك، فإن ذبحتَ وَلدك ذبَحَ الناس أولادهم، فمهلاً. فأبى أن يكلّمه».

قال أبو بصير: سمعتُ أبا جعفر علیه السلام يقول: «فأضجعه عند الجمرة الوُسطى، ثمّ أخذ المُديَة فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ثمّ انتحى عليه، فقلبها جبرئيل علیه السلام عن حلقه، فنظر إبراهيم فإذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم على خدّها وقلبها جبرئيل على قفاها، ففعل ذلك مِراراً، ثمّ نُوديَ مِن ميسرة مسجد الخِيف: يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا. واجتر الغلام من تحته، وتناول جبرئيل الكبش مِن قُلة ثبير فوضعه تحته، وخرج الشيخ الخبيث حتّى لحق بالعجوز حين نظرت إلى البيت

ص: 57


1- ([1]) سورة الصافّات: 102.

والبيت في وسط الوادي، فقال: ما شيخ رأيتُه بمنى! فنعت نعت إبراهيم، قالت: ذاك بعلي، قال: فما وصيف رأيتُه معه، ونعت نعته، قالت: ذاك ابني، قال: فإنّي رأيتُه أضجعه وأخذ المُديَة ليذبحه، قالت: كلّا، ما رأيت إبراهيم إلّا أرحم الناس، وكيف رأيتَه يذبح ابنه؟ قال: وربِّ السماء والأرض، وربِّ هذه البُنية لقد رأيتُه أضجعه وأخذ المدية ليذبحه، قالت: لمَ؟! قال: زعم أنّ ربّه أمره بذبحه، قالت: فحقّ له أن يطيع ربّه».

قال: «فلما قَضَت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء، فكأنّي أنظر إليها مُسرعةً في الوادي واضعةً يدها على رأسها وهي تقول: ربِّ لا تؤاخذني بما عملت بأُمّ إسماعيل». قال: «فلمّا جاءت سارة فأخبرت الخبر، قامت إلى ابنها تنظر،فإذا أثر السكّين خُدوشاً في حلقه، ففزعت واشتكت، وكان بدءُ مرضها الّذي هلكت فيه» ((1)) ...

فداء جزع إبراهيم علیه السلام

في كتاب (عيون أخبار الرضا علیه السلام)، عن الفضل بن شاذان قال: سمعتُ الرضا علیه السلام يقول: «لمّا أمر الله (تبارك وتعالى) إبراهيم علیه السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبشَ الّذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم علیه السلام أن يكون يذبح ابنه إسماعيل علیه السلام بيده وأنّه لم يُؤمَر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع قلب الوالد الّذي يذبح أعزّ وُلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب،

ص: 58


1- ([1]) الكافي للكليني: 4 / 207.

فأوحى الله عزوجل إليه: يا إبراهيم، مَن أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ مِن حبيبك محمّدصلی الله علیه و آله فأوحى الله عزوجل إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفس-ي، قال: فوَلَده أحبُّ إليك أو وَلدك؟ قال: بل وَلَده! قال: فذبْحُ وَلده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفةً تزعم أنّها مِن أُمّة محمّد صلی الله علیه وآله ستقتل الحسين علیه السلام ابنه من بعده ظلماً وعُدواناً كما يُذبَح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم علیه السلام لذلك وتوجّع قلبُه، وأقبل يبكي، فأوحىالله عزوجل إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحتَه بيدك بجزعك على الحسين علیه السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفعَ درجات أهل الثواب على المصائب. فذلك قول الله عزوجل: )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(» ((1)).

قال المؤلّف:

اختلفت الأخبار في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق، والأوّل أظهر. قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أنا ابن الذبيحَين»، يعني إسماعيل وعبد الله ((2)).

ص: 59


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 187 الباب 17.
2- ([2]) أُنظر: عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 189 الباب 18.

الذبيح الثاني: عبد الله أبو النبيّ صلی الله علیه وآله

قد عرفتَ قصّةَ ذبح إسماعيل، أمّا ذبح عبد الله: فقد روى المجلسيّ في (البحار) قال: لمّا قَدِم عبد المطّلب إلى مكّة وسوده أهل مكّة عليهم، كبر ذلك على عَدِيّ بن نوفل، إذ مال الناسُ إلى عبد المطّلب وكبر ذلك عليه، فلمّا كان بعض الأيام تناسبا وتقاولا ووقع الخصام، فقال عَديّ بن نوفل لعبد المطّلب: أمسِكْ عليك ما أعطيناك، ولا يغرّنّك ما خوّلناك، فإنّما أنت غلامٌ من غِلمان قومك، ليس لك ولدٌ ولا مساعد، فبمَ تستطيلُ علينا؟ ولقد كنتَ في يثرب وحيداً حتّى جاء بك عمُّك إلينا وقدم بك علينا، فصار لك كلام.فغضب عبد المطّلب لذلك وقال له: يا ويلك! تعيّرني بقلّة الولد؟ لله علَيّ عهدٌ وميثاق لازم لَئن رزقني اللهُ عشرة أولادٍ ذكوراً وزاد عليهم لأنحرنّ أحدَهم؛ إكراماً وإجلالاً لحقّه، وطلباً بثأري بالوفاء. اللّهمّ فكثِّرْ لي العيال، ولا تشمُت بي أحداً، إنّك أنت الفردُ الصمَد. ولا أعايُن بمثل قولك أبداً.

ثمّ مض-ى، وأخذ في خِطبة النساء والتزويج حرصاً على الأولاد، ثمّ تزوّج بستّ نساء، فرُزِق منهنّ عشرة أولاد ...

فأولاد عبد المطّلب: الحارث، وأبو لهب، والعبّاس، وضِرار، وحمزة، والمقوم، والحجل، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله.

فلمّا كملت لعبد المطّلب عشرة أولاد ذكوراً، ووُلِد له الحارث فصاروا

ص: 60

أحد عشر ولداً ذكراً، فذكر نذرَه الّذي نذر والعهدَ الّذي عاهد: لئن بلغَت أولادي أحدَ عشر ولداً ذكوراً لَأُقرّبنّ أحدهم لوجه الله (تعالى).

فجمع عبدُ المطّلب أولاده بين يديه، وصنع لهم طعاماً، وجمعهم حوله، واغتمّ لذلك غمّاً شديداً، ثمّ قال لهم: يا أولادي، إنّكم كنتم تعلمون أنّكم عندي بمنزلةٍ واحدة، وأنتم الحدَقة من العين والروح بين الجنبَين، ولو أنّ أحدكم أصابته شوكة لَساءني ذلك، ولكنّ حقّ الله أوجبُ من حقّكم، وقد عاهدتُه ونذرتُ له متى رزقني الله أحدَ عشر وَلداً ذكراً لأنحرنّ أحدَهم قرباناً، وقد أعطاني ما سألتُه، وبقي الآن ما عاهدتُه، وقد جمعتُكم لأشاوركم، فما أنتم قائلون؟

فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، وهم سكوتٌ لا يتكلّمون، فأوّل مَن تكلّم منهم عبدُ الله أبو رسول الله صلی الله علیه وآله ، وكان أصغر أولاده، فقال: يا أبت أنت الحاكمُ علينا، ونحن أولادك وفيطَوع يدك، وحقُّ الله أوجبُ مِن حقّنا وأمرُه أوجبُ من أمرنا، ونحن لك طائعون وصابرون على حُكم الله وحُكمك، وقد رضينا بأمر الله وأمرك، وصبرنا على حُكم الله وحكمك، ونعوذ بالله من مخالفتك.

وكان لعبد الله في ذلك اليوم إحدى عشر سنة، فلمّا سمع أبوه كلامَه بكى بكاءً شديداً حتّى بلّ لحيتَه من دموعه، ثمّ قال لهم: يا أولادي، ما الّذي تقولون؟ فقالوا له: سمعنا وأطعنا، فافعَلْ ما بدا لك ولو نحرتَنا عن آخرِنا، فكيف واحداً منّا! فشكرهم على مقالتهم، ثمّ قال لهم: يا بَنيّ، امضُوا

ص: 61

إلى أُمّهاتكم وأخبروهنّ بما قلتُ لكم، وقولوا لهنّ يغسلنكم ويكحلنكم ويطيبنكم، والبسوا أفخر ثيابكم، وودّعوا أُمّهاتكم وداع مَن لا يرجع أبداً.

فتفرّقوا إلى أُمّهاتهم، وأخبروهنّ بما قال لهم أبوهم، ففاضت لأجل ذلك العيون وترادفت الأحزان.

قال: ثمّ إنّ عبد المطّلب بات تلك الليلة مهموماً مغموماً، لم يطعم طعاماً ولم يشرب شراباً، ولم يُغمِض عيناً حتّى طلع الفجر، ثمّ لبس أفخر أثوابه، وتردّى برداء آدم؟ع؟، وتنعَّلَ بنعل شيث علیه السلام، وتختّم بخاتَم نوح علیه السلام، وأخذ بيده خنجراً ماضياً ليذبح به بعض أولاده، وخرج يناديهم مِن عند أُمّهاتهم واحداً واحداً، فأقبلوا إليه مُسرعين وقد تزيّنوا بأحسن الزينة، فلم يتأخّر غيرُ عبد الله، لأنّه كان أصغرهم، فسألهم عنه فقالوا: لا نعلمه منهم أحد، فخرج إليه بنفسه حتّى ورد منزل فاطمة زوجته، فأخذ بيده، فتعلّقَت به أُمّه، فجعل أبوه يجذبه منها وهي تجذبه منه، وهو يريد أباه، وهو يقول: يا أُمّاه اتركيني أمض-ي مع أبي ليفعل بي ما يُريد. فتركَته، وشقّت جيبَها وصرخت وقالت: لَفعلُك يا أبا الحارث فعلٌ لم يفعَلْه أحدٌغيرُك، فكيف تطيب نفسُك بذبح ولدك؟! وإن كان ولا بدّ مِن ذلك فخلِّ عبد الله؛ لأنّه طفلٌ صغير، وارحمه لأجل صِغَره ولأجل هذا النور الّذي في غُرّته. فلم يكترث بكلامها، ثمّ جذبه من يدها، فقامت عند ذلك تودّعه، فضمّته إلى صدرها، وقالت: حاشاك يا ربّ أن يطفأ نورُك، وقد قلَّتْ حيلتي فيك يا ولدي، وا حزنا عليك يا ولدي، ليتني قبل غَيبتك عنّي وقبل ذبحك

ص: 62

يا ولدي غُيّبتُ تحت الثرى، لئلّا أرى فيك ما أرى، ولكنّ ذلك بالرغم منّي لا بالرضا سَوقُك مِن عندي من غير اختياري. فلمّا سمع ذلك أبوه بكى بكاءً شديداً حتّى غُشي عليه وتغيّر لونه، فقال عبد الله لأُمّه: دعيني أمضي مع أبي، فإن اختارني ربّي كنتُ راضياً سامحاً ببذل روحي له، وإن كان غير ذلك عُدتُ إليكِ.

فأطلقَتْه أُمّه، فمش-ى وراء أبيه وجُملة أولاده إلى الكعبة، فارتفعت الأصوات من كلّ ناحية، وأقبلوا ينظرون ما يصنع عبد المطّلب بأولاده، وأقبلَت اليهود والكَهَنة وقالوا: لعلّه يذبح الّذي نخافه.

ثمّ عزم على القُرعة بينهم، وجاء بهم جميعاً للمنحر، وبيده خنجرٌ يلوح الموتُ مِن جوانبه، ثمّ نادى بأعلى صوته -- يُسمِع القريبَ والبعيد -- وقال: اللّهمّ ربَّ هذا البيت والحرم والحطيم وزمزم، وربَّ الملائكة الكرام، وربَّ جُملة الأنام، اكشِفْ عنّا بنورك الظلام، بحقّ ما جرى به القلم، اللّهمّ إنّك خلقتَ الخلقَ بقدرتك، وأمرتهم بعبادتك، لا مانع منك إلّا أنت، وإنّما يحتاج الضعيفُ إلى القويّ، والفقيرُ إلى الغني، يا ربّ وأنت تعلم أنّي نذرتُ نذراً وعاهدتُك عهداً على إنْ وهبتني عشرة أولاد ذكور لَأُقرّبنّ لوجهك الكريم واحداً منهم، وها أنا وهم بين يديك، فاختر منهم مَن أحببت، اللّهمّ كما قضيتَ وأمضيتَ فاجعله في الكبار ولا تجعله في الصغار؛ لأنّ الكبير أصبر علىالبلاء من الصغير، والصغير أَولى بالرحمة، اللّهمّ ربَّ البيت والأستار، والركنِ والأحجار، وساطح الأرض ومُجري البحار، ومرسل السحاب

ص: 63

والأمطار، اصرف البلاء عن الصغار.

ثمّ دعا بصاحب الجرائد فقدّها فقذفها، وكتب على كلّ واحدةٍ اسمَ وَلَد، وساق أولاد عبد المطّلب وقصد بهم الكعبة، فأخذَت أُمّهاتهم في الصراخ والنياح والشقّ للجيوب، كلُّ واحدةٍ تبكي على ولدها، وجميعُ الناس يبكون لبكائهم، وجعل عبدُ المطّلب يقوم مرّةً ويقعد أُخرى، وهو يدعو: يا ربِّ أسرعْ في قضائك.

فتطاولت الأعناق، وفاضت العَبَرات، واشتدّت الحسرات، فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب القداح قد خرج من الكعبة وهو قابضٌ على عبد الله أبي رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد جعل رداءَه في عُنقه وهو يجرّه، وقد زالت النَّضارة من وجهه واصفرّ لونُه وارتعدت فرائصه، وقال له: يا عبد المطّلب، هذا وَلَدك قد خرج عليه السهم، فإن شئتَ فاذبحه أو اتركه.

فلمّا سمع كلامه خرّ مغشيّاً عليه ووقع إلى الأرض، وخرج بقيّةُ أولاده من الكعبة وهم يبكون على أخيهم، وكان أشدَّهم عليه حزناً أبو طالب؛ لأنّه شقيقه من أُمّه وأبيه، وكان لا يصبر عنه ساعةً واحدة، وكان يُقبّل غُرّته وموضع النور من وجهه ويقول: يا أخي، ليتني لا أموت حتّى أرى وَلَدك الوارثَ لهذا النور الّذي فضّله اللهُ على الخلق أجمعين، الّذي يَغسلُ الأرض من الدنس، ويُزيل دولة الأوثان ويُبطل كهانة الكُهّان.

ثمّ لمّا أفاق عبد المطّلب سمع البكاء من الرجال والنساء من كلّ ناحية، فنظر وإذا فاطمة بنت عمرو أُمّ عبد الله وهي تحثو الترابعلى وجهها

ص: 64

وتضرب على صدرها، فلمّا نظر إليها عبدُ المطّلب لم يجِدْ صبراً، وقبض على يد وَلده وأراد أن يذبحه، فتعلّقت به ساداتُ قريش وبنو عبد مَناف، فصاح بهم صيحةً منكرة وقال: يا ويلكم! لستُم أشفق على وَلدي منّي، ولكن أُمض-ي حُكمَ ربّي. وأبو طالبٍ متعلّقٌ بأذيال عبد الله، وهو يبكي ويقول لأبيه: اُترك أخي واذبحني مكانه، فإنّي راضٍ أن أكون قُربانك لربّك، فقال عبد المطّلب: ما كنتُ بالّذي أتعرّض على ربّي وأُخالف حكمه، فهو الآمِر وأنا المأمور.

ثمّ اجتمع أكابر قومه وعشيرته وقالوا له: يا عبد المطّلب، عُدْ إلى صاحب القِداح مرّةً ثانية، فعس-ى أن يقع السهمُ في غيره ويقضي الله ما فيه الفرَج. فعاد ثانية، فعاد السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: قُضي الأمر وربِّ الكعبة.

ثمّ ساق ولده عبدَ الله إلى المنحر، والناس من ورائه صفوف، فلمّا وصل المنحر عَقَل رجليه، فعند ذلك ضربت أُمُّه وجهها ونشرت شعرها ومزّقت أثوابها، ثمّ أضجَعَه وهو ذاهلٌ لا يدري ما يصنع ممّا بقلبه من الحُزن، فلمّا رأته أُمّه أنّه لا محالة عازمٌ على ذبحه مضَت مُسرعةً إلى قومها، وهي قد اضطربت جوارحها لمّا رأت عبد المطّلب قد أضجع عبد الله وَلَده ليذبحه، وهو لا يسمع عذل عاذلٍ ولا قول قائل، وضجّت الملائكةُ بالتسبيح ونشرت أجنحتها، ونادى جبرئيل، وتضرّع إسرافيل، وهم يستغيثون إلى ربّهم، فقال الله: يا ملائكتي، إنّي بكلّ شيءٍ عليم، وقد ابتليتُ عبدي لأنظر

ص: 65

صبره على حُكمي.

فبينما عبد المطّلب كذلك إذ أتاه عشرة رجال عُراة حفاة، في أيديهم السيوف، وحالوا بينه وبين وَلَده، فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا له: لا ندَعك تذبح ابن أُختنا ولو قتلتنا عن آخرنا، ولقد كلّفتَ هذه المرأة ما لا تُطيق، ونحن أخواله من بني مخزوم. فلمّا رآهم قد حالوا بينه وبين ولده رفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ، قد منعوني أن أُمضِ-ي حكمك وأُوفي بعهدك، فاحكم بيني وبينهم بالحقّ وأنت خيرُ الحاكمين ((1)).

وفي رواية (العيون) أنّ عاتكة بنت عبد المطّلب اقترحت عليه أن يقرع بين الإبل وعبد الله حتّى يرضى الربّ، فقرّروا ذلك ((2)).

وفي رواية (البحار): وأقبل عبد المطّلب على ولده يقبّله، فقال عبد الله: يعزّ علَيّ يا أبتاه شقاءك من أجلي وحزنك علي.

ثم أمر عبد المطّلب أن يُخرَج كلّ ما معه من الإبل فأُحضِرَت، وأرسل إلى بني عمّه أن يأتوا بالإبل على قدر طاقتهم، وقال: إن أراد الله بي خيراً وقاني في ولدي، وإن كان غير ذلك فحكمه ماض. فجعل أهل مكّة يسوقون له كلّ ما معهم من الإبل، وأقبل عبد المطّلب على فاطمة أُمّ عبد الله، وقد أقرحت عيناها بالبكاء، فأخبرها بذلك ففرحت وقالت: أرجو من

ص: 66


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 15 / 76 وما بعدها.
2- ([2]) أُنظُر: عيون أخبار الرضا؟ع؟: 1 / 190 الباب 18.

ربّي أن يقبل منّي الفداء ويسامحني في ولدي.

وكانت ذات يَسارٍ ومالٍ كثير، وكانت أُمّها سرحانة زوجة عمرو المخزومي، وكانت كثيرة الأموال والذخائر، وكان لها جِمالٌ تسافر إلى العراق، وجِمالٌ تسافر إلى الشام، فقالت: علَيّ بمالي ومال أُمّي،ولو طلب منّي ربّي ألف ناقةٍ لقدّمتُها إليه وعلَيّ الزيادة. فشكرها عبد المطّلب وقال: أرجو أن يكون في مالي ما يُرضي ربّي ويفرّج كربي.

وأمّا الناس بمكّة ففي فرحٍ وسرور، وبات عبد المطّلب فرحاً مسروراً، ثمّ أقبل إلى الكعبة وطاف بها سبعاً، وهو يسأل الله (تعالى) أن يفرّج عنه، فلمّا طلع الصباح أمر رُعاة الإبل أن يُحضروها، فأحضروها، وأخذ عبد المطّلب ابنه فطيّبه وزيّنه وألبسه أفخر أثوابه، وأقبل به إلى الكعبة، وفي يده الحبل والسكّين، فلمّا رأته أُمّه فاطمة قالت: يا عبد المطّلب، ارمِ ما في يدك حتّى يطمئنّ قلبي، قال: إنّي قاصدٌ إلى ربّي أسأله أن يقبل منّي الفداء في وَلَدي، فإن نفدت أموالي وأموال قومي ركبتُ جوادي وخرجتُ إلى كسرى وقيصر وملوك الهند والصين مستطعماً على وجهي حتّى أُرضي ربّي، وأنا أرجو أن يفديه كما فدا أبي إسماعيل من الذبح.

وسار إلى الكعبة والناس حوله ينظرون، فقال لهم: يا معاشر مَن حضر، إيّاكم أن تعودوا إليّ في وَلَدي كما فعلتُم بالأمس وتحولوا بيني وبين ذبح ولدي.

ثمّ إنّه قدّم عشرةً من الإبل وأوقفها، وتعلّق بأستار الكعبة وقال: اللّهمّ

ص: 67

أمرك نافذ.

ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: لربّي القضاء. فزاد على الإبل عشرة، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال أشراف قريش: لو قدمتَ غيرك يا عبد المطّلب لكان خيراً، فإنّا نخش-ى أن يكون ربّك ساخطاً عليك، فقال لهم: إن كان الأمر كما زعمتُم فالمُس-يء أَولى بالاعتذار، ثمّ قال: اللّهمّ إن كاندعائي عنك قد حُجِب من كثرة الذنوب، فإنّك غفّار الذنوب كاشف الكروب، تكرّم علَيّ بفضلك وإحسانك. ثمّ زاد عشرة أُخرى من الإبل، ورمق بطرفه نحو السماء وقال: اللّهمّ أنت تعلم السرَّ وأخفى، وأنت بالمنظر الأعلى، اصرِفْ عنّا البلاء كما صرفتَه عن إبراهيم الّذي وفى. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطلب: إن هذا لَشيءٌ يُراد، ثمّ قال: لعلّ بعد العُسر يسراً. ثمّ أضاف إلى الثلاثين عَشرة أُخرى فقال:

يا ربّ هذا البيتِ والعبادِ***إنّ بُنيَّ أقربُ الأولادِ

وحبَّه في السمع والفؤادِ***وأُمَّه صارخةٌ تُنادي

فوقِّهِ مِن شفرة الحدادِ***فإنّه كالبدر في البلادِ

ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: كيف أبذل فيك يا وَلَدي الفداء وقد حكم فيك

ص: 68

الربُّ بما يشاء؟ ثم أضاف إلى الأربعين عشرةً أُخرى، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقالت أُمّه: يا عبد المطّلب، أُريد منك أن تتركني أسألُ الله في وَلدي، فعسى أن يرحمني ويرحم ضعفي وحالتي هذه. فقامت فاطمة وأضافت إلى الخمسين عشرةً أُخرى، وقالت: يا ربّ، رزقتَني وَلداً وقد حسدني عليه أكثرُ الناس وعاندني فيه، وقد رجوتُه أن يكون لي سنداً وعضداً، وأن يوسدني في لحدي، ويكون ذكري بعدي، فعارضني فيه أمرك، وأنت تعلم يا ربّ إنّه أحبّ أولادي إليّوأكرمهم لديّ، وإنّي يا ربّ فديتُه بهذه الفداء، فاقبلها ولا تشمت بي الأعداء. ثم أمرت صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: إنّ لكلّ شيءٍ دليلاً ونهاية، وهذا الأمر ليس لي ولا لكِ فيه حيلة، فلا تعودي إلى التعرّض في أمري. ثمّ أضاف إلى الستّين عشرةً أُخرى، فقال: اللّهمّ منك المنعُ ومنك العطاء، وأمرك نافذٌ كما تشاء، وقد تعرّضتُ عليك بجهلي وقبيح عملي، فلا تؤاخِذْني ولا تُخيّب أملي. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهمُ على عبد الله، فعند ذلك ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، فقال عبد المطّلب: ما بعد المنع إلّا العطاء، وما بعد الشدّة إلّا الرخاء، وأنت عالمُ السرّ وأخفى. ثمّ ضمّ إلى السبعين عشرةً أُخرى، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فأخذ عبد المطّلب الحبل والسكّين بيده، وهمّ الناسُ أن يمنعوه مثل المرّة الأُولى، فقال لهم: أقسمتُ بالله إن عارضني في وَلَدي

ص: 69

أحدٌ لَأضربنّ نفسي بهذا السكّين وأذبح نفس-ي، أُتركوني حتّى أُنفذ حكم ربّي، فأنا عبده، ووَلَدي عبده، يفعل بنا ما يشاء ويحكم ما يُريد. فأمسك الناس عنه، ثمّ أضاف إلى الثمانين عشرةً وجعل يقول: يا ربّ إليك المرجع، وأنت ترى وتسمع. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فوقع عبد المطّلب مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: وا غوثاه إليك يا ربّ. وجذب ابنه للذبح، وضجّت الناس بالبكاء والعويل رجالاً ونساءً.

فعند ذلك صاح عبد الله في وِثاقه وقال: يا أبت أما تستحيي من الله؟ كم تردّ أمره وتلحّ عليه؟! هلمّ إليّ فانحرني، فإنّي قد خجلتُ مِن تعرّضك إلى ربّك في حقّي، فإنّي صابرٌ على قضائه وحُكمه،وإن كنتَ يا أبتِ لا تقدرُ على ذلك من رقّة قلبك علَيّ يا أبتاه، فخُذ بيدي ورجلي واربطهما بعضهما إلى بعض، وغَطِّ وجهي لئلّا ترى عينُك عيني، واقبض ثيابك عن دمي لكيلا تتلطّخ بالدم فتكون إذا لبستَ أثوابك تذكّركَ الحزن علَيّ يا أبت، وأُوصيك يا أبتاه بأُمّي خيراً، فإنّي أعلم أنّها بعدي هالكة لا محالة مِن أجل حزنها علَيّ، فسكّنها وسكّن دمعتها، وإنّي أعلمُ أنّها لا تلتذّ بعدي بعيش، وأُوصيك بنفسك خيراً، فإن خفتَ ذلك فغمّض عينيك، فإنّك تجدني صابراً.

ثمّ قال عبد المطّلب: يعزّ علَيّ يا ولدي كلامك هذا. ثمّ بكى حتّى اخضلّت لحيته بالدموع، ثمّ قال: يا قوم، ما تقولون؟ كيف أتعرّض على

ص: 70

ربّي في قضائه؟ وإنّي أخاف أن ينتقم منّي! ثمّ قام ونهض إلى الكعبة، فطاف بها سبعاً، ودعا الله، ومرّغ وجهه وزاد في دعائه، وقال: يا ربّ امضِ أمرك، فإنّي راغبٌ في رضاك.

ثمّ زاد على الإبل عشرةً فصارت مئة، وقال: مَن أكثر قرع الباب يُوشَك أن يُفتَح له، ثمّ قال: ربّ ارحم تضرّعي وتوسّلي وكبري. ثمّ أمر صاحبَ القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على الإبل، فنزع الناس عبدَ الله من يد أبيه، وأقبلت الناس من كلّ مكانٍ يهنئونه بالخلاص، وأقبلت أُمّه وهي تعثر في أذيالها، فأخذت ولدها وقبّلته وضمّته إلى صدرها، ثمّ قالت: الحمد لله الّذي لم يبتلني بذبحك، ولم يشمت بي الأعداء وأهل العناد.

فبينما هم كذلك إذ سمعوا هاتفاً من داخل الكعبة وهو يقول: قد قبل الله منكم الفداء، وقد قرب خروجُ المصطفى. فقالت قريش: بخٍّ بخٍّ لك يا أبا الحارث، هتفَت بك وبابنك الهواتف.

وهمّ الناس بذبح الإبل، فقال عبد المطّلب: مهلاً! أُراجع ربّي مرّةًأُخرى، فإنّ هذه القِداح تُصيب وتُخطئ، وقد خرجَت على ولدي تسع مرّاتٍ متواليات وهذه مرّة واحدة، فلا أدري ما يكون من الثانية، أُتركوني أُعاود ربّي مرّةً واحدة، فقالوا له: افعلْ ما تريد.

ثمّ إنّه استقبل الكعبة وقال: اللّهمّ سامعُ الدعاء، وسابغ النعم، ومعدن الجود والكرم، فإن كنتَ يا مولاي مننتَ علَيّ بوَلَدي هِبةً منك، فأظهِرْ لنا برهانه مرّةً ثانية. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم

ص: 71

على الإبل.

فأخذت فاطمة ولدها وذهبت به إلى بيتها، وأتى إليه الناس مِن كلّ جانبٍ ومكانٍ سحيق وفجٍّ عميق، يهنّؤونها بمنّة الله عليها.

ثمّ أمر عبد المطّلب أن تُنحَر الإبل، فنُحرَت عن آخرها، وتناهبها الناس، وقال لهم: لا تمنعوا منها الوحوش والطير. وانصرف.

فجَرَت سُنّةٌ في الدية مئةٌ من الإبل إلى هذا الزمان ((1)).

ص: 72


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 15 / 86 وما بعدها.

الفصل الثاني: في قصّة أبي ذرّ، وبكاء السماء والأرض دماً، ومصيبة المظلوم

روى ابن أبي الحديد في سبب نفي عثمان أبا ذرّ إلى الشام، قال:

إنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مئة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشّر الكانزين بعذابٍ أليم. ويتلو قول الله (تعالى): )وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ((1)). فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذرّ نائلاً مولاه أن انتَهِ عمّا يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فوَ الله لئن أُرضي اللهَ بسخط عثمان أحبّ إليّ وخيرٌ لي مِن أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمانَ ذلك، وأحفظه فتصابر.

ص: 73


1- ([1]) سورة التوبة: 34.

وقال يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال له أبو ذرّ: يا ابن اليهوديَّين،أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي، إلحَقْ بالشام. فأخرجَه إليها، فكان أبو ذرّ يُنكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمئة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت هذه من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتُها، وإن كانت صلةً فلا حاجة لي فيها. وردّها عليه.

وبنى معاوية الخضراءَ بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهو الإسراف.

وكان أبو ذرّ (رحمه الله تعالى) يقول: واللهِ لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سُنّة نبيّه، والله إنّي لَأرى حقّاً يُطفَأ وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذَّباً، وأثَرةً بغير تُقىً وصالحاً مستأثَراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهريّ لمعاوية: إنّ أبا ذرّ لَمفسدٌ عليكم الشام، فتدارك أهلَه إن كانت لكم حاجة فيه ((1)).

وعن جلام بن جندل الغِفاريّ قال: كنتُ غلاماً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان، فجئتُ إليه يوماً أسأله عن حال عملي، إذ سمعتُ صارخاً على باب داره يقول: أتتكم القطار تحمل النار! اللّهمّ العن

ص: 74


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 54.

الآمرين بالمعروف التاركين له، اللّهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرّ معاوية وتغيّر لونه، وقال: يا جلام، أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللّهمّ لا. قال: من عذيري من جُندُب بن جُنادة يأتينا كلّ يومٍ فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثمّ قال: أدخِلُوه علَيّ. فجي ء بأبي ذرّ بين قومٍ يقودونه حتّى وقف بين يديه، فقال له معاوية:يا عدوَّ الله وعدوّ رسوله، تأتينا في كلّ يومٍ فتصنع ما تصنع، أما أنّي لو كنتُ قاتل رجلٍ من أصحاب محمّدٍ من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لَقتلتُك، ولكنّي أستأذنُ فيك. قال جلام: وكنتُ أُحبّ أن أرى أبا ذر؛ لأنه رجلٌ من قومي، فالتفتُّ إليه، فإذا رجلٌ أسمر، ضرب من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره جنأ، فأقبلَ على معاوية وقال: ما أنا بعدوٍّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتُما الإسلام وأبطنتُما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلی الله علیه و آله ودعا عليك مرّات، ألا تشبع؟ سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «إذا وَليَ الأُمّة الأعيَنُ الواسعُ البلعوم الّذي يأكل ولا يشبع، فلْتأخذ الأُمة حذرها منه». فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل! أخبرَني بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله ، وسمعتُه يقول -- وقد مررتُ به -- : «اللّهمّ العنْه، ولا تُشبِعْه إلّا بالتراب»، وسمعتُه صلی الله علیه و آله يقول: «أُست معاوية في النار»، فضحك معاوية وأمر بحبسه ((1)).

وروى الشيخ المفيد عن بعض أهل الشام: لمّا أخرج عثمان أبا ذرّ

ص: 75


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 257.

الغِفاريّ رحمه الله من المدينة إلى الشام، كان يقوم في كلّ يومٍ فيعظ الناسَ، ويأمرهم بالتمسّك بطاعة الله ويحذّرهم من ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته (عليه وعليهم السلام)، ويحضّهم على التمسّك بعترته، فكتب معاوية إلى عثمان: أمّا بعد، فإنّ أبا ذرّ يصبح إذاأصبح ويُمسي إذا أمسى وجماعة من الناس كثيرة عنده، فيقول كيت وكيت، فإن كان لك حاجة في الناس قبلي فأقدِمْ أبا ذر إليك؛ فإنّي أخاف أن يُفسِد الناس عليك، والسلام. فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، فأشخِصْ إليّ أبا ذر حين تنظر في كتابي هذا، والسلام. فبعث معاوية إلى أبي ذر فدعاه، وأقرأه كتاب عثمان، وقال له: النجا الساعة. فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدّها بكورها وأنساعها، فاجتمع إليه الناس فقالوا له: يا أبا ذر، رحمك الله، أين تريد؟ قال: أخرجوني إليكم غضباً علَيّ، وأخرجوني منكم إليهم الآن عبثاً بي، ولا يزال هذا الأمر فيما أرى شأنهم فيما بيني وبينهم حتّى يستريح برّ أو يستراح من فاجر. ومضى، وسمع الناس بمخرجه فاتّبعوه حتّى خرج من دمشق، فساروا معه حتّى انتهى إلى دِير مرّان فنزل، ونزل معه الناس، فاستقدم فصلّى بهم، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّي مُوصيكم بما ينفعكم، وتارك الخطب والتشقيق، احمدوا الله؟عز؟. قالوا: الحمد لله. قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. فأجابوه بمثل ما قال، فقال: أشهد أنّ البعث حقّ، وأنّ الجنّة حقّ، وأنّ النار حقّ، وأُقرُّ بما جاء من عند الله، فاشهدوا علَيّ بذلك. قالوا: نحن على ذلك مِن الشاهدين.

ص: 76

قال: ليبشَّر مَن مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته، ما لم يكن للمجرمين ظهيراً، ولا لأعمال الظلَمة مصلحاً، ولا لهم معيناً، أيّها الناس، اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضباً لله عزوجل إذا عُصيَ في الأرض، ولا ترضوا أئمّتكم بسخط الله، وإن أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم وازرؤوا عليهم، وإن عُذّبتم وحُرمتم وسُيّرتم؛ حتّى يرضى الله عزوجل، فإنّ الله أعلى وأجلّ، لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين، غفر الله لي ولكم، أستودعكم اللهوأقرأُ عليكم السلام ورحمة الله. فناداه الناس أن سلّم الله عليك ورحمك يا أبا ذر، يا صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ، ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك؟ ألا نمنعك؟ فقال لهم: ارجعوا، رحمكم الله، فإنّي أصبَرُ منكم على البلوى، وإيّاكم والفرقة والاختلاف ((1)). فمضى حتّى دخل المدينة.

وروى المجلسيّ عن أرباب السيرة المعتمدة أنّ أبا ذرّ دخل الشام أيّام عمر، وبقي هناك إلى أيّام عثمان، فلمّا بلغه ما فعله عثمان من قبائح الأعمال وضرْبَه عمّاراً، جعل يذمّ عثمان ويطعن عليه بلسانه على رؤوس الأشهاد، ويفضحه بقبيح أفعاله، وكان يذمّ معاوية ويفضحه ويؤنّبه على أعماله الشنيعة، ويرغّب الناس بولاية الحقّ وخليفة الصدق أمير المؤمنين؟ع؟، فمال الناس إلى التشيّع --- والمشهور أنّ شيعة الشام وجبل عامل اليوم من بركات أبي ذر --، فكتب معاوية إلى عثمان يُخبره بالحال،

ص: 77


1- ([1]) الأمالي للمفيد: 162.

وأنّه إن بقي أياماً فسيُفسِد عليه الشام ويحرفهم عن ولايته، فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل أبا ذر على نابٍ صعبة وقتَب، ثمّ ابعث معه مَن ينجش به نجشاً ((1)) عنيفاً، لا يدعه ينام الليل والنهار، حتّى لا يذكرنا بعدها.

فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب، ما على القتب إلّا مسح، ثمّ بعث معه مَن يسيّره سيراً عنيفاً، وكان أبو ذر رجلاً طوالاً نحيفاً، وقد أثّرت فيه الشيخوخة وغزاه الشيب في رأسه ومحاسنه، فما لبث إلّا قليلاً حتّى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح،وكان على هذا الحال من شدّة السير وأذى المركب والوجع والجهد حتّى دخل المدينة.

فلمّا دنى من عثمان نظر إليه اللعين وقال: لا أنعم الله بك عيناً يا جُندُب. فقال أبو ذر: أنا جُندُب، وسمّاني رسول الله : صلی الله علیه و آله عبد الله، فاخترتُ اسم رسول الله الّذي سمّاني رسول الله به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الّذي تزعم أنّا نقول أنّ يد الله مغلولة، وأنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء؟! فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لَأنفقتم مال الله على عباده، ولكنّي أشهدُ لَسمعتُ رسول الله يقول: صلی الله علیه و آله إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دخلاً، ثمّ يُريح الله العبادَ منهم ((2)).

وروى عليّ بن إبراهيم قال: دخل أبو ذر على عثمان، وكان عليلاً متوكّئاً

ص: 78


1- ([2]) النجش: الإسراع.
2- ([1]) عين الحياة للمجلسي: 11.

على عصاه، وبين يدَي عثمان مئة ألف درهم قد حُملت إليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسّمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال؟ فقال عثمان: مئة ألف درهم حُملت إليّ من بعض النواحي، أُريد أضمّ إليها مثلها، ثمّ أرى فيها رأيي. فقال أبو ذر: يا عثمان، أيّما أكثر، مئة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ فقال عثمان: بل مئة ألف درهم. قال: أما تذكر أنا وأنت وقد دخلنا على رسول الله صلی الله علیه و آله عشيّاً فرأيناه كئيباً حزيناً، فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السلام، فلمّا أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشراً، فقلنا له: بآبائنا وأُمّهاتنا، دخلنا إليك البارحة فرأيناك كئيباً حزيناً، ثمّ عُدنا إليك اليوم فرأيناك فرحاً مستبشراً!فقال: «نعم، كان قد بقيَ عندي مِن في ء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتُها، وخفتُ أن يُدركني الموت وهي عندي، وقد قسمتُها اليوم واسترحتُ منها». فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجلٍ أدّى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيئاً؟ فقال: لا، ولو اتّخذ لبنةً من ذهبٍ ولبنةً من فضّةٍ ما وجب عليه شي ء. فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا ابن اليهوديّة الكافرة، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين! قول الله أصدق من قولك حيث قال: )الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

ص: 79

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ( ((1)). فقال عثمان: يا أبا ذرّ، إنّك شيخٌ قد خَرِفتَ وذهب عقلك، ولو لا صحبتك لرسول الله لَقتلتُك. فقال: كذبتَ يا عثمان، أخبرَني حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: «لا يفتنونك يا أبا ذرّ ولا يقتلونك»، وأمّا عقلي فقد بقيَ منه ما أحفظه حديثاً سمعتُه من رسول الله صلی الله علیه و آله فيك وفي قومك. فقال: وما سمعتَ من رسول الله صلی الله علیه و آله فيّ وفي قومي؟! قال: سمعتُ يقول: «إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون [ثلاثين] رجلاً، صيّروا مال الله دولاً، وكتاب الله دغلاً، وعباده خولاً، والفاسقين حزباً، والصالحين حرباً». فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمّد، هل سمع أحدٌ منكم هذا مِن رسول الله؟ فقالوا: لا، ما سمعنا هذا منرسول الله. فقال عثمان: ادعُ عليّاً. فجاء أمير المؤمنين علیه السلام، فقال له عثمان: يا أبا الحسن، أُنظُر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب. فقال أمير المؤمنين: مَهْ يا عثمان، لا تقل كذّاب؛ فإنّي سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراءُ على ذي لهجةٍ (اللهجة: اللسان) أصدقُ مِن أبي ذرّ». فقال أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله : صدق أبو ذر، وقد سمعنا هذا من رسول الله صلی الله علیه و آله . فبكى أبو ذر عند ذلك، فقال: ويلكم، كلّكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال ظننتُم أنّي أكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله . ثمّ نظر إليهم فقال: مَن خيركم؟ فقالوا: من خيرنا؟ فقال: أنا. فقالوا: أنت تقول إنّك خيرنا؟! قال: نعم، خلّفتُ حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله في

ص: 80


1- ([1]) سورة التوبة:34 و35.

هذه الجُبّة وهو عنّي راض، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة، واللهُ سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

فقال عثمان: يا أبا ذر، أسألك بحقّ رسول الله صلی الله علیه و آله إلّا ما أخبرتَني عن شي ءٍ أسألك عنه. فقال أبو ذر: واللهِ لو لم تسألني بحقّ محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه و آله أيضاً لَأخبرتُك. فقال: أيُّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكّة حرم الله وحرم رسول الله، أعبد الله فيها حتّى يأتيني الموت. فقال: لا ولا كرامة لك. قال: المدينة حرم رسول الله صلی الله علیه و آله. قال: لا ولا كرامة لك. فسكت أبو ذر، فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال: الربذة الّتي كنتُ فيها على غير دين الإسلام. فقال عثمان: سِرْ إليها ... ((1)).وفي رواية المفيد: لمّا قدم أبو ذر على عثمان، قال: أخبِرْني أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: مهاجري. فقال: لستَ بمجاوري. قال: فألحقُ بحرم الله فأكون فيه. قال: لا. قال: فالكوفة أرضٌ بها أصحاب رسول الله؟ص؟. قال: لا. قال: فلستَ بمختارٍ غيرهنّ. فأمره بالمسير إلى الربذة، فقال: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لي: «إسمع وأطع، وانفذ حيث قادوك، ولو لعبدٍ حبشيّ مجدع» ((2)).

وفي روايةٍ أُخرى: قدم على عثمان، فلمّا دخل عليه قال له: لا قرب الله بعمرو عيناً. فقال أبو ذر: والله ما سمّاني أبواي عمروا، ولكن لا قرّب الله

ص: 81


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 51.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 710 المجلس 42، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 404.

مَن عصاه وخالف أمره وارتكب هواه. فقام إليه كعب الأحبار فقال له: ألا تتقي اللهَ يا شيخ؟ تجبه أمير المؤمنين!!! بهذا الكلام. فرفع أبو ذر عصاً كانت في يده فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا ابن اليهوديَّين، ما كلامك مع المسلمين؟ فوَالله ما خرجَت اليهوديّةُ من قلبك بعد. فقال عثمان: واللهِ لا جمعتني وإياك دار، قد خرفتَ وذهب عقلك، أخرِجُوه من بين يدَيّ حتّى تُركبوه قتب ناقته بغير وطاء، ثمّ انجوا به الناقة وتعتعوه حتّى تُوصلوه الربذة، فانزلوه بها من غير أنيسٍ حتّى يقضي الله فيه ما هو قاض. فأخرجوه متعتعاً ملهوزاً بالعصيّ، وتقدّم ألّا يشيّعه أحدٌ من الناس، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فبكى حتّى بلّ لحيته بدموعه، ثمّ قال: «أهكذا يُصنَع بصاحب رسول الله صلی الله علیه و آله إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).وفي رواية الكليني، قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة، شيّعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين علیهم السلام وعمّار بن ياسر رضی الله، فلمّا كان عند الوداع قال أمير المؤمنين؟ع؟: «يا أبا ذر، إنّك إنّما غضبت لله عزوجل، فارجُ مَن غضبتَ له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتَهم على دِينك، فأرحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء، وو اللهِ لو كانت السماوات والأرض على عبدٍ رتقاً ثمّ اتّقى الله عزوجل جعل له منها مخرجاً، فلا يُؤنسك إلّا الحقّ ولا يوحشك إلّا الباطل». ثمّ تكلّم عقيل فقال: يا أبا ذر، أنت تعلم أنّا نحبّك، ونحن نعلم أنّك تحبّنا، وأنت قد

ص: 82


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 397.

حفظتَ فينا ما ضيّع الناس إلّا القليل، فثوابك على الله عزوجل، ولذلك أخرجك المخرجون وسيّرك المسيّرون، فثوابك على الله عزوجل، فاتّقِ الله، واعلم أنّ استعفاءك البلاء من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع، وقُل: حسبيَ الله ونعم الوكيل. ثمّ تكلّم الحسن علیه السلام فقال: «يا عمّاه، إنّ القوم قد أتوا إليك ما قد ترى، وإنّ الله عزوجل بالمنظر الأعلى، فدعْ عنك ذِكر الدنيا بذكر فراقها، وشدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها، واصبِرْ حتّى تلقى نبيَّك صلی الله علیه و آله وهو عنك راضٍ إن شاء الله». ثمّ تكلّم الحسين علیه السلام فقال: «يا عمّاه، إنّ الله (تبارك وتعالى) قادرٌ أن يغيّر ما ترى، وهو كلّ يومٍ في شأن، إنّ القوم منعوك دنياهم ومنعتَهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم، فعليك بالصبر، فإنّ الخير في الصبر، والصبر من الكرم، ودع الجزع، فإنّ الجزع لا يُغنيك». ثمّ تكلّم عمار رضی الله عنه فقال: يا أبا ذر، أوحش اللهمَن أوحشك، وأخاف مَن أخافك، إنّه واللهِ ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلّا الركون إلى الدنيا والحبّ لها، ألا إنّما الطاعة مع الجماعة والمُلك لمن غلب عليه، وإنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ثمّ تكلّم أبو ذر رضی الله عنه فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بأبي وأُمّي هذه الوجوه، فإنّي إذا رأيتُكم ذكرتُ رسول الله صلی الله علیه و آله بكم، وما لي بالمدينة شجَن لأسكن غيركم، وإنّه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة، فزعم أنّه يخاف أن أُفسد على أخيه

ص: 83

الناس بالكوفة، وآلى بالله لَيسيّرني إلى بلدةٍ لا أرى فيها أنيساً ولا أسمع بها حسيساً، وإنّي واللهِ ما أُريد إلّا الله عزوجل صاحباً، وما لي مع الله وحشة، حسبيَ الله، لا إله إلا هو عليه توكّلتُ وهو ربّ العرش العظيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين ((1)).

وفي روايةٍ أُخرى: فلمّا بصر بهم أبو ذرّرحمه الله حنّ إليهم وبكى عليهم، وقال: بأبي وجوه إذا رأيتُها ذكرتُ بها رسول الله صلی الله علیه و آله وشملتني البركة برؤيتها. ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّي أُحبّهم، ولو قُطّعتُ إرباً إرباً في محبّتهم ما زلتُ عنها؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة، فارجعوا رحمكم الله، واللهُ أسألُ أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة. فودّعه القوم ورجعوا وهم يبكون على فراقه ((2)).وروى ابن أبي الحديد، عن ابن عبّاس قال: لمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان فنودي في الناس ألّا يكلّم أحدٌ أبا ذر ولا يشيّعه، وأمر مروانَ بن الحكم أن يخرج به، فخرج به، وتحاماه الناس إلّا عليّ بن أبي طالب؟ع؟ وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً

علیهما السلام وعمّاراً، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسن علیه السلام يكلّم أبا ذر، فقال له مروان: إيهاً يا حسن، ألا تعلم أنّ أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم

ص: 84


1- ([1]) الكافي: 8 / 206 ح 251.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 397.

فاعلم ذلك! فحمل عليٌّ علیه السلام على مروان، فضرب بالسوط بين أُذنَي راحلته وقال: «تنحَّ، لحاك الله إلى النار». فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر، فتلظّى على عليّ علیه السلام... ((1)).

فلمّا رجع القوم قالوا لأمير المؤمنين علیه السلام: إنّ عثمان غضب عليك. فقال: غضب الفرس على لجامه.

فجاء عليٌّ علیه السلام إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال عليٌّ علیه السلام: «أمّا رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددتُه، وأمّا أمرك فلم أصغّره». قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ؟ قال: «أوَ كلّما أمرتَ بأمر معصية أطعناك فيه؟!» ((2)).

فدار بينهما كلام خشن، فغضب الإمام علیه السلام وقام فخرج من المجلس، فأرسل عثمان جماعةً من الصحابة فأصلحوا بينهما((3)).

وروى البرقي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «رُئي أبو ذر يسقي حماراً بالربذة، فقال له بعض الناس: أوَ ما لك -- يا أبا ذرّ -- مَن يسقي لك هذا الحمار؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: ما مِن دابّةٍ إلّا وهي تسأل كلّ صباح: اللّهمّ ارزقني مليكاً صالحاً، يُشبعني من العلف، ويرويني من الماء، ولا يكلّفني فوق طاقتي. فأنا أُحبّ

ص: 85


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 253.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 254.
3- ([1]) أُنظر تفصيل الكلام في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 254.

أن أسقيه بنفسي» ((1)).

وروى الشيخ المفيد: لمّا أخرج عثمانُ أبا ذرّ إلى الربذة، وأقام مدّةً ثمّ أتى إلى المدينة، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك أخرجتني من أرضي إلى أرضٍ ليس بها زرع ولا ضرع إلّا شُوَيهات، وليس لي خادم إلّا محرّرة، ولا ظلٌّ يُظلّني إلّا ظلّ شجرة، فأعطِني خادماً وغُنَيماتٍ أعش فيها. فحوّل وجهه عنه، فتحوّل عنه إلى السماط الآخر فقال مثل ذلك، فقال له حبيب بن سلَمة: لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخادم وخمس مئة شاة. قال أبو ذر: أعطِ خادمك وألفك وشويهاتك مَن هو أحوج إلى ذلك منّي، فإنّي إنّما أسأل حقّي في كتاب الله. فجاء عليٌّ علیه السلام، فقال له عثمان: ألا تغني عنّا سفيهك هذا! قال: «أيّ سفيه؟!». قال: أبو ذر. قال عليٌّ علیه السلام: «ليس بسفيه، سمعتُ رسول الله؟ص؟ يقول: ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجةٍ من أبي ذرّ. أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون، إن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعضالذي يعدكم» ((2)).

وروى عليّ بن إبراهيم والشيخ الكلينيّ أنّه لمّا سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة فمات بها ابنه ذر، فوقف على قبره فقال: رحمك الله يا ذر، لقد كنتَ

ص: 86


1- ([2]) المحاسن للبرقي: 2 / 626.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 710 المجلس 42، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 404.

كريم الخُلُق بارّاً بالوالدين، وما علَيّ في موتك من غضاضة، وما بي إلى غير الله من حاجة، وقد شغلني الاهتمام لك عن الاغتمام بك، ولو لا هول المطّلع لأحببتُ أن أكون مكانك، فليت شعري ما قالوا لك وما قلتَ لهم؟ ثمّ رفع يده فقال: اللّهمّ إنّك فرضتَ لك عليه حقوقاً، وفرضتَ لي عليه حقوقاً، فإنّي قد وهبتُ له ما فرضتَ لي عليه من حقوقي، فهبْ له ما فرضتَ عليه من حقوقك، فإنّك أَولى بالحقّ وأكرم منّي.

وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها، فأصابها داء يُقال له: النقاز، فماتت كلّها، فأصاب أبا ذر وابنته الجوع، فماتت أهله، فقالت ابنته: أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيّامٍ لم نأكل شيئاً. فقال لي أبي: يا بنيّة، قومي بنا إلى الرمل نطلب القت -- وهو نبتٌ له حبّ --. فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئاً، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه، ورأيتُ عينه قد انقلبت، فبكيت وقلت له: يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟ فقال: يا بنتي، لا تخافي، فإنّي إذا متُّ جاءك من أهل العراق مَن يكفيكِ أمري، فإنّه أخبرَني حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله في غزوة تبوك فقال: «يا أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتُبعَث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك أقوامٌ من أهل العراق يتولّون غُسلك وتجهيزك ودفنك». فإذا أنامتُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثم اقعدي على طريق العراق، فإذا أقبل ركبٌ فقومي إليهم وقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد تُوفّي.

قال: فدخل إليه قومٌ من أهل الربذة، فقالوا: يا أبا ذر، ما تشتكي؟

ص: 87

قال: ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي. قالوا: فهل لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قالت ابنته: فلمّا عاين الموت سمعتُه يقول: مرحباً بحبيبٍ أتى على فاقة، لا أفلح مَن ندم، اللّهمّ خنقني خناقك، فوَحقّك إنّك لَتعلم أنّي أُحبّ لقاءك.

قالت ابنته: فلمّا مات مددتُ الكساء على وجهه، ثمّ قعدتُ على طريق العراق، فجاء نفر فقلتُ لهم: يا معشر المسلمين، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد تُوفّي. فنزلوا، ومشوا يبكون، فجاؤوا فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه. وكان فيهم الأشتر، فرُوي أنّه قال: دفنتُه في حُلّةٍ كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم ((1)).

روى أحمد بن أعثم الكوفي أنّ الّذين حضروا تجهيز أبي ذر جماعة، منهم: الأحنف بن قيس التميمي، وصعصعة بن صوحان العَبدي، وخارجة بن الصلت التميمي، وعبد الله بن مسلمة التميمي، وبلال ((2)) بن مالك المزني، وجرير بن عبد الله البَجَلي، والأسود بن يزيد بن قيس النخَعي، وعلقمة بن قيس بن يزيد النخعي، وتاسع القوم الأشتر، واسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي ((3)).

وروى الشيخ الكشّي [محمّد بن] علقمة بن الأسود النخعي، قال:

ص: 88


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 295.
2- ([2]) في المتن: (هلال).
3- ([3]) الفتوح لابن أعثم: 2 / 377.

خرجتُ في رهطٍ أُريد الحج، منهم مالك بن الحارث الأشتر وعبد الله بن الفضل التَّيمي ورفاعة بن شدّاد البجلي، حتّى قدمنا الربذة، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: عبادَ الله المسلمين، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد هلك غريباً، ليس لي أحدٌ يعينني عليه. قال: فنظر بعضنا إلى بعض، وحمدنا الله على ما ساق إلينا، واسترجعنا على عظيم المصيبة، ثمّ أقبلنا معها فجهّزناه، وتنافسنا في كفنه حتّى خرج من بيننا بالسواء، ثمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه، ثم قدّمنا مالكاً الأشتر فصلّى بنا عليه، ثمّ دفنّاه، فقام الأشتر على قبره ثمّ قال: اللّهمّ هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ، عبَدَك في العابدين وجاهد فيك المشركين، لم يُغيّر ولم يبدّل، لكنّه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه، حتّى جُفي ونُفي وحُرِم واحتُقِر، ثمّ مات وحيداً غريباً، اللّهمّ فاقصم مَن حرمه ونفاه مِن مهاجره وحرم رسولك صلی الله علیه و آله . قال: فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين. ثمّ قدّمت الشاة الّتي صنعت، فقالت: إنّها قد أقسم عليكم أن لا تبرحوا حتّى تتغدّوا. فتغدّينا وارتحلنا ((1)).

وروى عليّ بن إبراهيم والكلينيّ: قالت ابنته: فكنتُ أُصلّي بصلاته وأصوم بصيامه، فبينما أنا ذات ليلةٍ نائمة عند قبره إذ سمعتُه يتهجّد بالقرآن في نومي كما كان يتهجّد به في حياته، فقلت: يا أبت ما ذا فعل بك ربّك؟ فقال: يا بُنيّة، قدمتُ على ربٍّ كريم، فرضي عنّي ورضيتُ عنه، وأكرمني

ص: 89


1- ([1]) إختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 65 ح 118.

وحباني، فاعملي فلا تغترّي ((1)).

في كثيرٍ من كتب التاريخ ذكروا زوجة أبي ذر بدل ابنته ((2)).

قال المؤلّف:

حضر أبا ذر بعض المسلمين، فغسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه.. أما كان للسيّدة زينب الكبرى مَن يغيثها، ويغيث السيّدة السكينة وباقي نساء أهل البيت علیهم السلام، الّذين اجتمعوا على جسد أبي عبد الله الحسين المقطَّع إرباً إرباً -- في رواية المجلسيّ: أصابه أربعة آلاف جُراحةٍ من السهام، ومئةٌ وثمانون من السيف والسِّنان ((3)) -- فيجهّزه ويدفنه؟! وهم يتلون قول الله (تعالى): {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((4))، بل على العكس، بدل المودّة سلبوا قميصه العتيق الّذي كان يلبسه تحت ثيابه، وقطعوا إصبعه ليسلبوا خاتمه، وقعطوا يده ليسرقوا تكّة سراويله! {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ

ص: 90


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 430.
2- ([2]) الفتوح لابن أعثم: 2 / 377، عين الحياة للمجلسي: 19.
3- ([3]) عين الحياة للمجلسي: 527، معالي السبطَين للحائري: 2 / 32.
4- ([4]) سورة الشورى: 23.

مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ((1))، {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَىالظَّالِمِينَ} ((2)).

وروى ابن قولويه، عن رجلٍ من أهل بيت المقدس أنّه قال: واللهِ لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشيّة قتل الحسين بن عليّ علیه السلام. قلت: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً ولا صخراً إلّا ورأينا تحتها دماً عبيطاً يغلي، واحمرّت الحيطان كالعلق، ومطر ثلاثة أيّام دماً عبيطاً، وسمعنا منادياً يُنادي في جوف الليل يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعةَ جدّه يوم الحسابِ؟

معاذ الله! لا نلتم يقيناً***شفاعةَ أحمدٍ وأبي ترابِ

قتلتم خير مَن ركب المطايا***وخير الشِّيب طرّاً والشبابِ

وانكسفت الشمس ثلاثة أيّام، ثمّ تجلّت عنها، وانشبكت النجوم، فلمّا كان من غدٍ أرجفنا بقتله، فلم يأتِ علينا كثير شيءٍ حتّى نُعي إلينا الحسين علیه السلام ((3)).

ورُوي عن الزهريّ قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام، لم يبقَ في بيت المقدس حصاةٌ إلّا وُجد تحتها دمٌ عبيط ((4)).

ورُوي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال: «بكت الإنسُ والجنّ والطير والوحش

ص: 91


1- ([5]) سورة الشعراء: 227.
2- ([1]) سورة هود: 18.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 77 ح 2.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 77 ح 3.

على الحسين بن علي علیهما السلام حتّى ذرفت دموعها»((1)).

وروى ابن قولويه قال: خرج أمير المؤمنين علیه السلام فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله، وجاء الحسين علیه السلام حتّى قام بين يدَيه، فوضع يده على رأسه فقال: «يا بُنيّ، إنّ الله عبّر أقواماً بالقرآن فقال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ((2))، وأيم الله ليقتلنّك بعدي، ثمّ تبكيك السماء والأرض» ((3)).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام بكى لقتله السماء والأرض واحمرّتا» ((4)).

وفي روايةٍ أُخرى، عن عبد الله بن هلال قال: سمعتُ أبا عبد الله؟ع؟ يقول: «إنّ السماء بكت على الحسين بن عليّ ويحيى بن زكريّا، ولم تبكِ على أحدٍ غيرهما». قلت: وما بكاؤها؟ قال: «مكثَت أربعين يوماً تطلع كشمسٍ بحمرة وتغرب بحمرة». قلت: فذاك بكاؤها؟ قال: «نعم» ((5)).

ورُوي أيضاً عن امرأةٍ صالحة من أهل الكوفة قالت أنّها: أدركتُ

ص: 92


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 79 ح 1.
2- ([2]) سورة الدخان: 29.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 2.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 3.
5- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 4.

الحسين بن عليّ حين قُتِل، فمكثنا سنةً وتسعة أشهر والسماء مثل العلقة مثل الدم، ما تُرى الشمس ((1)).ورُوي أيضاً عن جماعةٍ من أهل الكوفة قالوا: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام أمطرت السماء تراباً أحمر ((2)).

ورُوي أيضاً عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وضعت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیهما السلام». قلت: أيُّ شيءٍ كان بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلت بثوبٍ وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((3)).

ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «كان الذي قتل الحسين ابن عليّ علیه السلام ولد زنا، والذي قتل يحيى بن زكريّا ولد زنا»، وقد قال: «احمرّت السماء حين قتل الحسين بن عليّ سَنة»، ثمّ قال: «بكت السماء والأرض على الحسين بن عليّ وعلى يحيى بن زكريّا، وحمرتها بكاؤها» ((4)).

وروى ابن شهرآشوب، عن نضرة الأزديّة: لمّا قُتل الحسين أمطرت السماء دماً، وحِبابنا وجِرارنا صارت مملوءةً دماً ((5)).

ص: 93


1- ([6]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 5.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 ح 11.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 ح 12.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 93 ح 21.
5- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف، الثِّقات لابن حِبّان: 5 / 487، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 227.

وقال قرطة ((1)) بن عبيد الله مطرت السماء يوماً نصف النهار على شملة بيضاء، فنظرتُ فإذا هو دم، وذهبَت الإبل إلى الوادي للشرب فإذا هو دم، وإذا هو اليوم الّذي قُتل فيه الحسين علیه السلام((2)).

وقال الصادق علیه السلام : «بكت السماء على الحسين أربعين يوماً بالدم» ((3)).

وعن أُمّ سليم قالت: لمّا قُتل الحسين علیه السلام مطرت السماء مطراً كالدمّ، احمرّت منه البيوت والحيطان ((4)).

وروى الثعلبيُّ وغيره: لم تُرَ هذه الحمرة في السماء إلّا بعد قتل الحسين (صلوات الله عليه) ((5)).

وعن (تاريخ النسوي)، عن الأسود بن قيس: لمّا قُتِل الحسين ارتفعت حمرة من قِبل المشرق وحمرة من قبل المغرب، فكادتا تلتقيان في كبد السماء ستّة أشهر ((6)).

ص: 94


1- ([5]) في المتن: (غرفة).
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف.
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32 بتحقيق السيّد علي أشرف، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 16، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 288.
5- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 -- عن: الإرشاد للمفيد: 236.
6- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 167 ح 1104، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 226.

وعن أبي قبيل: لمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلام كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار، حتّى ظننّا أنّها هي ((1)) (يعني القيامة).

وعن أُمّ حيّان قالت: يوم قتل الحسين أظلمت علينا ثلاثاً.. ولميقلب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دماً عبيطاً ((2)).

وروى الشيخ الطوسي، عن عمّار بن أبي عمّار قال: أمطرت السماء يوم قتل الحسين علیه السلام دماً عبيطاً ((3)).

قال المؤلّف:

في قزوين في قرية زر آباد شجرة (جنار) يجري منها دم عبيط كلّ سنة ليلة عاشوراء، وقد رأيتُها، وسمعتُ أنّ الدم يجري منها أحياناً نادرة يوم عاشوراء أيضاً.

ومررتُ في سفر الحجّ على (حماة)، فرأيتُ في بساتينها مسجداً يسمّى (مسجد الحسين علیه السلام)، ورأيتُ في صحن المسجد حائطاً نُصب فيه حجر منحرف، ورأيتُ وسط

ص: 95


1- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114 الرقم 2838، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 227، مقتل الحسين؟ع؟ للخوارزمي: 2 / 102.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216، الأمالي للطوسي: 330 المجلس 11.

الحجر دماً متجمّداً، فسألتُ الخادم عنه فقال: كلّ عامٍ يسيل من هذا الحجر دم عبيط ليلة عاشوراء، وإنّي أخدم في هذا المسجد منذ سبع أو ثمان سنوات وأنا أرى ذلك بعيني، وقد سمعتُ ذلك ممّن كان قبلي، وإنّي لَأسمع من هذا المكان تلاوة القرآن كراراً. فلمّا خرجتُ من المسجد سألتُ بعض أهل حماة فقالوا: إنّ هذا الأمر معروفٌمشهور.

وفي كتاب (المقتل) لأحد علماء الإثني عشريّة: عن ابن عبّاس قال: صلّينا مع رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يوم صلاة الصبح في مسجده الآن، فلمّا فرغنا من التعقيب التفت إلينا بوجهه الكريم كأنه البدر في ليلة تمامه، واستند على محرابه، وجعل يعظنا بالحديث الغريب ويشوّقنا إلى الجنّة ويحذّرنا من النيران، ونحن به مسرورون مغبوطون، وإذا به قد رفع رأسه وتهلّل وجهه، فنظرنا وإذا بالحسنين مقبلَين عليه، وكفّ يمين الحسن علیه السلام بيسار الحسين علیه السلام وهما يقولان: «مَن مثلنا وقد جعل الله جدَّنا أشرف أهل السماوات والأرض، وأبونا بعده خير أهل المشرق والمغرب، وأُمّنا سيّدةٌ على جميع نساء العالمين، وجدّتنا أُمّ المؤمنين، ونحن سيّدا شباب أهل الجنّة؟».

قال ابن عبّاس: وزاد سرورنا واستبشرنا بعد ذلك، وكلٌّ منّا يهنّئ صاحبه على الولاية لهم والبراءة من أعدائهم، فنظرنا نحو رسول الله صلی الله علیه و آله وإذا بدموعه تجري على خدّيه، فقلنا: سبحان الله! هذا وقت فرحٍ وسرور،

ص: 96

فكيف هذا البكاء من رسول الله صلی الله علیه وآله فأردنا أن نسأله، وإذا به قد ابتدأَنا يقول: «يعزّيني الله على ما تلقيان مِن بعدي -- يا وَلدَيّ -- من الإهانة والأذى»، ثمّ التفت إلينا وقال: «ويعزّي كلّ مَن أدرك منكم ما سيجري عليهما، وليصبر الله شيعتنا وشيعة أبيه وأُمّه الّذي سيأتي بعدنا ويسمعون ما سيلقيان»، وزاد بكاؤه، وإذا به قد دعاهما وحطّهما في حِجره، وأجلس الحسن علیه السلام على فخذه الأيمن والحسين علیه السلام على فخذه الأيسر، فقال: «بأبي أبوكما، وبأُمّي أُمّكما»، وقبّلالحسنَ علیه السلام في فمه الشريف وأطال الشمّ بعدها، وقبّل الحسينَ علیه السلام في نحره بعد أن شمّه طويلاً، فتساقطت دموعه وبكى، وبكينا لبكائه ولا علم لنا بذلك.

فما كان إلّا ساعةً وإذا بالحسين علیه السلام قد قام ومضى إلى أُمّه باكياً مغموماً، فلمّا دخل عليها ورأته باكياً قامت إليه تمسح دمعه بكُمّها، وأسكتته وهي تبكي لبكائه وتقول: «فداك أُمّك، ما يُبكيك؟!»، فاشتدّ بكاؤه علیه السلام ، وبكت فاطمة لبكائه وقالت: «يا قرّة عيني وثمرة فؤادي! ما الّذي يُبكيك؟ لا أبكى الله لك عيناً، ما بالك يا حشاشة قلبي؟!»، قال: «خيراً يا أُمّاه»، قالت: «بحقّي عليك وبحقّ جدّك وأبيك إلّا ما أخبرتني»، فقال لها: «يا أُمّاه، كأنّ جدّي ملّني من كثرة تردّدي إليه»، قالت: «فداك نفسي، لماذا؟»، قال: «يا أُمّاه، جئتُ أنا وأخي إلى جدّنا لنزوره، فأتيناه وهو في المسجد وأبي وأصحابه من حوله مجتمعون، فدعى الحسن وأجلسه على فخذه الأيمن، وأجلسني على فخذه الأيسر، ثمّ لم يرضَ بذلك حتّى قبّل الحسن في فمه بعد أن شمّه طويلاً، وأما أنا فأعرض

ص: 97

عن فمي وقبّلني في نحري، فلو أحبَّني ولم يبغضني لقبّلني مثل أخي! هل في فمي شيءٌ يكرهه يا أُمّاه؟ شُمّيه أنتِ». قالت الزهراء: «هيهات يا ولدي! واللهِ العظيم ما في قلبه مقدار حبّة خردل من بغضك»، فقال: «يا أُمّاه! كيف لا يكون ذلك وقد عمل هذا؟»، قالت: «واللهِ -- يا ولدي -- إنّي سمعتُه كثيراً يقول: حسين منّي وأنا منه، ألا ومَن آذى شعرةً من حسين فقد آذاني. أما تذكر يا ولدي لمّا تصارعتما بين يديه جعل يقول: إيهاً يا حسن! فقلتُ له: كيف يا أبتاه تُنهِض الكبير علىالصغير؟! فقال: يا بنتاه! هذا جبرئيل يُنهِض الحسين، وأنا أُنهض الحسن. وإنّه -- يا ولدي -- مرّ يوماً جدُّك على منزلي وأنت تبكي في المهد، فدخل أبي وقال لي: سكّتيه يا فاطمة، ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني؟ وكذلك الملائكة بكاؤه يؤذيهم! وقال مراراً: اللّهمّ إنّي أُحبّه وأحبّ مَن يحبّه. فكيف يا ولدي تلك؟ لكن سِرْ بنا إلى جدّك». فأخذَت بيد الحسين وهي تجرّ أذيالها وهما يبكيان، حتّى أتت إلى باب المسجد.

قال ابن عبّاس: فلمّا رأينا فاطمة مُقبلةً انصرف كلّ واحد منّا إلى زاويةٍ مِن زوايا المسجد، فما رأت غير الإمام والنبي صلی الله علیه و آله، فلمّا رآها النبيّ تنفّس الصعداء وبكى كمداً، فجرت دموعه على خدَّيه حتّى بلت كُمّيه، فقالت: «السلام عليك يا أبتاه»، فقال: «وعليكِ السلام يا فاطمة ورحمة الله وبركاته»، قالت له: «يا سيّدي، كيف تكسر خاطر الحسين؟ أما قلتَ أنّه ريحانتي الّتي أرتاح إليها؟! أما قلتَ: هو زين السماوات والأرض؟! أما قلتَ: أشمّ رائحة الجنّة من الحسين؟»، قال: «نعم يا بنتاه، هكذا قلت»، قالت: «أجل، كيف ما قبّلتَه كأخيه الحسن؟ وقد أتاني باكياً، فلم أزل أُسكته فلم يسكت، وأُسلّيه فلم يتسلّ،

ص: 98

وأُعزّيه فلم يتعزّ!»، قال: «يا بنتاه، هذا سرٌّ أخاف عليكِ إذا سمعتيه ينكدر عيشُك وينكسر قلبك»، قالت: «بحقّك يا أبتاه أن لا تخفيه علَيّ»، فبكى وقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون. يا بنتاه يا فاطمة! هذا أخي جبرئيل أخبرني عن الملِكِ الجليل أن لا بدّ للحسن أن يموت مسموماً، تسمّه زوجته بنت الأشعث بن القيس الكوفيّ (لعنه الله)، فشممتُه بموضع سمّه، والحسين يموت منحوراً بسيف الشمر بن ذي الجوشن الضبابيّالكوفي، فشممتُه بعد تقبيلي موضع نحره». فلمّا سمعَت ذلك بكت بكاءً عالياً، وبكينا لبكائها، ولطمت على وجهها، وحثت الترابَ على رأسها، ودارت حولها نساءُ المدينة من المهاجرين والأنصار، فعلى النحيب، وارتجّ المسجد بمن فيه حتّى خِلنا أنّ الجنّ تبكي معنا، فقالت: «يا أبتاه، بأيّ أرضٍ يصدر عليه هذا؟ في المدينة أم في غيرها؟»، قال: «في أرضٍ تُسمّى كربلاء»، فقالت: «يا أبتاه، صِفْ لي سبب قتله»، فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: «يا فاطمة، مصيبته أعظم من كلّ مصيبة، إعلَمي أنّه يدعوه أهل الكوفة في كتبهم أن أقبِلْ إلينا، فأنت الخليفة علينا مِن الله ورسوله، فإذا أتاهم كذّبوه، وقتلوه عطشاناً غريباً وحيداً، يناديهم: أما مِن نصيرٍ ينصرنا؟ أما مِن مجيرٍ يجيرنا؟ فلم يُجبْه أحد، فيُذبَح كما يُذبَح الكبش، وتُقتَل أنصاره وبنوه وبنو أخيه، وتُعلّى رؤوسهم على العوالي، وتُؤخَذ بناته ونساؤه سبايا حواسر، يُطاف بهنّ في الأمصار كأنهنّ مِن سبايا الكفّار»، فعندها نادت فاطمة: «وا حسيناه! وا مهجة قلباه! وا غريباه!»، فبكى كلُّ مَن كان حاضراً من الأنصار. قالت فاطمة: «أنا أكون أجهّزه وأكفّنه وأدفنه؟»، قال: «يكون ذلك في زمنٍ خالٍ منّي ومنكِ ومن أبيه ومن أخيه». قالت

ص: 99

فاطمة: «يا أبتاه، في أيّ شهرٍ يُقتل؟»، قال: «بشهرٍ يُسمّى المحرّم، في اليوم العاشر منه، وفيه تحرّم الكفرة السلاح، ومِن أُمّتي تقتل ولدي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة». قالت: «يا أبتاه! أجل، مَن يغسّله؟ ومَن يكفّنه؟ ومَن يصلّي عليه ويدفنه؟»، قال: «يا فاطمة، يبقى جسده على التراب تصهره الشمس، وهو في العراء ورأسه على القناة». فاعولتبعدها حزناً، وصاحت: «وا ولداه، وا حسرتاه!». فصاح الحسين علیه السلام: «يا جدّاه، رزئي عظيم، وخطبي جَسيم»، فبكى، وبكى جدّه وأبوه وأُمّه وأخوه ومَن حضر.

فبينا هم يتصارخون، وإذا بجبرئيل الأمين هبط من الربّ الجليل وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يُقرؤك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويقول لك: سكّتْ فاطمة الزهراء، فقد أبكت الملائكةَ في السماء، فوَعزّتي وجلالي، إنّي لَأخلُق لها شيعةً طاهرين مطهَّرين، يُنفِقون أموالهم على عزاء الحسين، ويُتعِبون أبدانهم وأرواحهم على زيارته، ويُقيمون عزاءه في مجالسهم، ويسكبون الدموع، ويقلّلون الهجوع، ليس لهم مِن ذلك رجوع، ويتناكحون ويتزاوجون ((1)) المطهَّرات، ويؤتون بكلّ طاهرٍ موال، ويأتون ((2)) إلى مشهده الشريف من كلّ مؤمنٍ لطيف، إلى أن يقوم القائم الحجّة ابن الحسن، فيأخذ بثاره وثار كلّ مظلوم إلى أن تقوم الساعة، ألا بشّرْ مَن زاره

ص: 100


1- ([1]) في (التظلّم): (ويتناسلون أطائب طاهرين مطهّرين).
2- ([2]) في المتن: (إمّا مجاورٌ له أو مال الرجوع إلی مشهده).

بعد مماته: كتب الله له بكلّ خطوةٍ يخطوها حجّةً مقبولة، ألا ومَن أنفق درهماً على عزائه وزيارته تاجرت له الملائكة إلى يوم القيامة فيما ينفقه، ويعطى بكلّ درهمٍ سبعين حسنة، وبنى الله له قصراً في الجنّة، ألا ومَن ذكر مصابه وبكا عليه حُفظَت دموعه في قوارير من زجاج، فإذا كان يوم القيامة فتلتهب نار جهنّم، فيقال له: يا وليّ الله! خُذْ هذه دموعك الّتي سفكتَها في دار الدنيا على مولاك الحسين علیه السلام وعُتقت من النار، فيضربون من تلك الدموع قطره على النار فتهرب النار عنه مسيرة خمسمئة عام.فعند ذلك توجّه النبي صلی الله علیه وآله، فقالت الزهراء: «فما تهلّلت يا أبتاه، فرحاً هذا أم حزناً؟»، فأخبرها النبيّ بقول جبرئيل، فسجدت لله شكراً.

فقال الحسين علیه السلام : «فما يكون جزاؤهم عندك يا جدّاه؟»، فقال له: «يا قرّة عيني، أشفعُ لهم عند الله لذنوبهم، وقد أعطاني الله الشفاعة في القيامة». فنظر الحسين إلى أبيه وقال له: «أنت -- يا أباه -- فما تجازيهم؟»، فقال: «أمّا أنا فأسقيهم من الحوض الكوثر». ثمّ نظر الحسين إلى أخيه الحسن علیه السلام فقال: «وأنت -- يا أخاه -- فماذا تجازيهم؟»، فقال الحسن: «يا أخي، أُحرّم على نفسي دخول الجنّة، لن أدخلها حتّى يكونوا معي، لا أدخل قبلهم». فعندها قالت الزهراء: «فوَعزّة ربّي وحقِّ أبي وبعلي، لَأقفنّ على باب الجنّة برأسٍ مكشوفٍ ودمعٍ مذروف، حتى يشفّعني إلهي فيهم، فلا أدخل الجنّة حتّى يدخلوا». فقال الحسين علیه السلام :«وحقّ جدّي وأبي أن لا أطلب من ربّي إلّا أن يجعل قصورهم حذاء

ص: 101

قصري في الجنّة» ((1)).

ص: 102


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 48 -- 52.

الفصل الثالث: في ذكر مرور الأنبياء والأوصياء بصحراء كربلاء، وذكر جملةٍ من القصص والأخبار

[آدم علیه السلام في كربلاء]

روى الشيخ الطريحيّ في (المنتخب) أنّ آدم علیه السلام لمّا هبط إلى الأرض لم يرَ حوّاء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء، فاعتلّ وأعاق وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الّذي قُتِل فيه الحسين علیه السلام حتّى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، هل حدث منّي ذنبٌ آخَر فعاقبتني به؟ فإنّي طفت جميع الأرض، ما أصابني سوءٌ مثل ما أصابني في هذه الأرض!»، فأوحى الله إليه: «يا آدم، ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتَل في هذه الأرض ولدك الحسين علیه السلام ظلماً، فسال دمك موافقةً لدمه». فقال آدم: «يا ربّ!

ص: 103

أيكون الحسين نبيّاً؟»، قال: «لا، ولكنّه سبط النبيّ محمّد». فقال: «ومَن القاتل له؟»، قال: «قاتله يزيد». فقال آدم: «فأيّشيءٍ أصنع يا جبرئيل؟»، فقال: «العَنْه يا آدم»، فلعنه أربع مرّات، ومشى خطواتٍ إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك ((1)).

[نوح علیه السلام وسفينته وكربلاء]

في كتاب (العوالم)، عن (الخرائج): أنس بن مالك، عن النبيّ صلی الله علیه وآله أنّه قال: «لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح علیه السلام ، أوحى إليه أن شقّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل، فأراه هيئة السفينة، ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة، إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمارٍ فأشرق بيده وأضاء كما يضي ء الكوكب الدُّرّيّ في أُفق السماء، فتحيّر نوح علیه السلام ، فأنطق الله ذلك المسمار بلسان طلقٍ ذلقٍ فقال: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله. فهبط جبرئيل علیه السلام ، فقال له: «ما هذا المسمار الّذي ما رأيتُ مثلَه؟»، فقال: «هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبدالله صلی الله علیه وآله، أسمِرْه على أوّلها على جانب السفينة الأيمن». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ ثانٍ فأشرق وأنار،

ص: 104


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 48، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 242، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 3 / 260.

فقال نوح علیه السلام: «وما هذا المسمار؟»، فقال: «هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فأسمِرْه على جانب السفينة الأيسر في أوّلها». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ ثالثٍ فزهر وأشرق وأنار، فقال [جبرئيل]:«هذا مسمار فاطمة علیها السلام، فأسمِرْه إلى جانب مسمار أبيها». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ رابعٍ فزهر وأنار، فقال: «هذا مسمار الحسن علیه السلام ، فأسمِرْه إلى جانب مسمار أبيه». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ خامسٍ فزهر وأنار وأظهر النداوة، فقال جبرئيل علیه السلام : «هذا مسمار الحسين علیه السلام ، فأسمِرْه إلى الجانب الأيسر من مسمار أبيه». فقال نوح علیه السلام «يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟!»، فقال: «هذا الدم»، فذكر قصّة الحسين علیه السلام وما تعمل الأُمّة به. لعن الله قاتله وظالمه وخاذله ((1)).

وفي كتاب (المنتخب) أنّ نوحاً علیه السلام لمّا ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا، فلمّا مرّت بكربلاء أخذته الأرض، وخاف نوحٌ الغرق، فدعا ربّه وقال: «إلهي، طفت جميع الدنيا وما أصابني فزعٌ مثل ما أصابني في هذه الأرض!»، فنزل جبرئيل وقال: «يا نوح، في هذا الموضع يُقتَل الحسين علیه السلام سبط محمّدٍ خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء». فقال: «ومَن القاتل له يا جبرئيل؟»، قال: «قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين». فلعنه نوحٌ أربع مرّات، فسارت السفينة حتّى بلغت الجودي واستقرّت عليه ((2)).

ص: 105


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 105، نوادر المعجزات للطبري: 64، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 230.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 48، تظلّم الزهراء؟عها؟ للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.

[إبراهيم علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ إبراهيم مرّ في أرض كربلاء وهو راكبٌ فرساً، فعثرت به وسقط إبراهيم علیه السلام وشُجّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار، وقال: «إلهي، أيّ شيءٍ حدث منّي؟»، فنزل إليه جبرئيل وقال: «يا إبراهيم، ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يُقتَل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء، فسال دمُك موافقةً لدمه». قال: «يا جبرئيل، ومَن يكون قاتله؟»، قال: «لعين أهل السماوات والأرض، والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه، فأوحى الله (تعالى) إلى القلم أنّك استحققتَ الثناء بهذا اللعن»، فرفع إبراهيم علیه السلام يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسانٍ فصيح، فقال إبراهيم لفرسه: «أيّ شيءٍ عرفتَ حتّى تؤمّن على دعائي؟»، فقال: يا إبراهيم، أنا أفتخر بركوبك علَيّ، فلمّا عثرت وسقطتَ عن ظهري عظمت خجلتي، وكان سبب ذلك من يزيد ((1)).

[إسماعيل علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ إسماعيل علیه السلام كانت أغنامه ترعى بشطّ الفرات، فأخبره الراعي أنّها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً، فسأل ربَّه عن

ص: 106


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.

سبب ذلك، فنزل جبرئيل علیه السلام وقال: «يا إسماعيل، سَلْ غنمَك فإنّها تُجيبك عن سبب ذلك». فقال: «لمَ لا تشربين منهذا الماء؟»، فقالت بلسانٍ فصيح: قد بلغَنا أنّ وَلدك الحسين علیه السلام سبط محمّدٍ يُقتَل عطشاناً، فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حُزناً عليه. فسألَها عن قاتله، فقالت: يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين. فقال إسماعيل: «اللّهمّ العَنْ قاتل الحسين» ((1)).

[موسى علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ موسى كان ذات يومٍ سائراً ومعه يوشع بن نون، فلمّا جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله وانقطع شراكه، ودخل الحسك في رجلَيه وسال دمه، فقال: «إلهي، أيّ شيءٍ حدَث منّي؟»، فأوحى الله إليه أن هنا يُقتَل الحسين، وهنا يُسفَك دمك موافقةً لدمه، فقال: «ربّ، ومَن يكون الحسين؟»، فقيل له: هو سبط محمّدٍ المصطفى، وابن عليّ المرتضى. فقال: «ومَن يكون قاتله؟»، فقيل: هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء. فرفع موسى يديه ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن يوشع بن نون على دعائه، ومضى لشأنه ((2)).

ص: 107


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 85، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 85، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

[سليمان علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ سليمان علیه السلام كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمرّ ذات يومٍ -- وهو سائرٌ -- في أرض كربلاء، فأدارتالريح بساطه ثلاث دوراتٍ حتّى خاف السقوط، فسكنت الريح ونزل البساط في أرض كربلاء، فقال سليمان للريح: «لمَ سكنتي؟!»، فقالت: إنّ هنا يُقتَل الحسين علیه السلام . فقال: «ومَن يكون الحسين؟»، قالت: هو سبط محمّدٍ المختار، وابن عليّ الكرّار. فقال: «ومَن قاتله؟»، قالت: لعين أهل السماوات والأرض، يزيد. فرفع سليمان يديه ولعنه ودعا عليه، وأمّن دعاءه الإنس والجنّ، فهبّت الريح وسار البساط ((1)).

[عيسى علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ عيسى علیه السلام كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون، فمرّوا بكربلاء، فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق، فتقدّم عيسى إلى الأسد وقال له: «لمَ جلستَ في هذا الطريق ولا تدعنا نمرّ فيه؟»، فقال الأسد بلسانٍ فصيح: إنّي لم أدَعْ لكم الطريق حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحسين. فقال عيسى: «ومَن

ص: 108


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 50، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 86، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

يكون الحسين؟»، قال: سبط محمّدٍ النبيّ الأُمّي، وابن عليّ الولي. قال: «ومَن قاتله؟»، قال: قاتله لعين الوحوش والذئاب والسباع أجمع، خصوصاً أيّام عاشوراء. فرفع عيسى علیه السلام يديه، ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحّى الأسد عن طريقهم ومشوا لشأنهم ((1)).

[النبيّ الخاتم صلی الله علیه و آله في كربلاء]

روى الشيخ المفيد عن أُمّ سلَمة أنّها قالت: خرج رسول الله صلی الله علیه وآله من عندنا ذات ليلة، فغاب عنّا طويلاً، ثمّ جاءنا وهو أشعثٌ أغبر، ويده مضمومة، فقلت له: يا رسول الله، مالي أراك أشعثاً مغبرّاً؟ فقال: «أُسريَ بي في هذا الوقت إلى موضعٍ من العراق، يُقال له: كربلاء، فأُريتُ فيه مصرع الحسين ابني وجماعةٍ من وُلدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم، فها هي في يدي»، وبسطها إليّ، فقال: «خُذيها واحتفظي بها». فأخذتُها، فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعتُه في قارورةٍ وسددتُ رأسها واحتفظتُ بها.

فلمّا خرج الحسين علیه السلام من مكّة متوجّهاً نحو العراق، كنتُ أُخرج تلك القارورة في كلّ يومٍ وليلة، فأشمّها وأنظر إليها، ثمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم -- وهو اليوم الّذي قُتل فيه الحسين علیه السلام -- أخرجتُها في

ص: 109


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 50، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 86، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

أوّل النهار وهي بحالها، ثمّ عُدتُ إليها آخر النهار فإذا هي دمٌ عبيط، فضججتُ في بيتي وبكيت، وكظمتُ غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيُسرعوا بالشماتة، فلم أزلْ حافظةً للوقت واليوم حتّى جاء الناعي ينعاه، فحقّق ما رأيت ((1)).

وفي كتاب (الخرائج) أنّه علیه السلام لمّا أراد العراق قالت له أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فقد سمعتُ رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: «يُقتَل ابني الحسين بأرض العراق»، وعندي تربةٌدفعها إليّ في قارورة. فقال: «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإن أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومصرعَ أصحابي»، ثمّ مسح بيده على وجهها، ففسح الله في بصرها حتّى أراها ذلك كلَّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورةٍ أُخرى، وقال علیه السلام: «فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت». فقالت أُمّ سلمة: فلمّا كان يوم عاشوراء نظرتُ إلى القارورتين بعد الظهر، فإذا هما قد فاضتا دماً. فصاحت. ولم يُقلَب في ذلك اليوم حجرٌ ولا مدر إلّا وُجِد تحته دمٌ عبيط ((2)).

وروى الشيخ المفيد، عن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «أصبحَت يوماً أُمّ سلَمة (رحمها الله) تبكي، فقيل لها: ممَّ بكاؤك؟ فقالت: لقد قُتِل ابني

ص: 110


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 133، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 239.
2- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 254.

الحسين علیه السلام الليلة؛ وذلك أنّني ما رأيتُ رسول الله؟ص؟ منذ قُبِض إلّا الليلة، فرأيتُه شاحباً كئيباً. قالت: فقلت: ما لي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ قال: ما زلتُ اللّيلة أحفر قبوراً للحسين وأصحابه علیهم السلام» ((1)).

وفي كتاب (المناقب)، عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ النبيَّ صلی الله علیه وآله -- فيما يرى النائم بنصف النهار قائل -- أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ما هذا؟! قال: «دم الحسين وأصحابه، فلم أزل ألتقطه منذ اليوم». فأحصينا ذلك اليوم، فوجدوه قُتِل في ذلك اليوم علیه السلام ((2)).وفي (الأمالي) للشيخ الطوسي، عن ابن عبّاس قال: بينا أنا راقدٌ في منزلي إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أُمّ سلَمة زوج النبيّ صلی الله علیه وآله، فخرجتُ يتوجّه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهلُ المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلتُ: يا أُمّ المؤمنين، ما لكِ تصرخين وتغوثين؟ فلم تُجبني، وأقبلَت على النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطّلب، أسعديني وابكين معي؛ فقد قُتِل والله سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، قد واللهِ قُتل سبط رسول الله وريحانته الحسين. فقلت: يا أُمّ المؤمنين، ومِن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيتُ رسول الله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً،

ص: 111


1- ([2]) الأمالي للمفيد: 319 المجلس 38 ح 6، الأمالي للطوسي: 90 المجلس 3.
2- ([3]) فضائل الصحابة لابن حنبل: 2 / 779، المُسنَد لابن حنبل: 1 / 238، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 228.

فسألتُه عن شأنه ذلك، فقال: «قُتِل ابني الحسين علیه السلام وأهل بيته اليوم، فدفنتهم، والساعة فرغتُ من دفنهم». قالت: فقمتُ حتّى دخلتُ البيت، وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرتُ فإذا بتربة الحسين الّتي أتى بها جبرئيل من كربلاء، فقال: «إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنُك»، وأعطانيها النبيّ فقال: «اجعل [اجعلي] هذه التربة في زجاجة -- أو قال: في قارورة --، ولْتكن عندكِ، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين». فرأيتُ القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور. قال: فأخذَت أُمّ سلَمة من ذلك الدمّ فلطّخَت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين علیه السلام ، فجاءت الركبان بخبره وأنّه قُتِل في ذلك اليوم.

قال عمرو بن ثابت: إنّي دخلتُ على أبي جعفر محمّد بن عليّ منزله، فسألتُه عن هذا الحديث وذكرتُ له رواية سعيد بن جُبَير هذاالحديث عن عبد الله بن عبّاس، فقال أبو جعفر علیه السلام ((1)): «حدّثنيه عمر بن أبي سلَمة عن أُمّه أُمّ سلَمة» ((2)).

وفي كتاب (العوالم) أنّ سَلمى المدنيّة قالت: دفع رسول الله صلی الله علیه و آله إلى أُمّ سلَمة قارورة فيها رملٌ من الطفّ، وقال لها: «إذا تحوّل هذا دماً عبيطاً فعند ذلك يُقتَل الحسين». قالت سلمى: فارتفعت واعيةٌ من حجرة أُمّ سلمة،

ص: 112


1- ([1]) في المتن: (فقال أبو جعفر الباقر علیه السلام : «هو حقّ»).
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 231، الأمالي للطوسي: 315 المجلس 11.

فكنتُ أوّل مَن أتاها، فقلت: ما دهاكِ يا أُمّ المؤمنين؟! قالت: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام والتراب على رأسه، فقلت: ما لك؟ فقال: «وثب الناس على ابني فقتلوه، وقد شهدتُه قتيلاً الساعة». فاقشعرّ جلدي، فوثبتُ إلى القارورة فوجدتُها تفور دماً. قالت سلمى: فرأيتُها موضوعةً بين يديها ((1)).

أمير المؤمنين علیه السلام في كربلاء

[الإمام الحسين علیه السلام يسقي عطاشى صفّين]

في (المنتخب): عبد الله بن قيس بن ورقة: كنتُ ممّن غزا مع أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في صفّين، وقد أخذ أبو أيّوبالأعور السلَميّ الماء وحرزه عن الناس، فشكى المسلمون العطش، فأرسل فوارس على كشفه

ص: 113


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 232، العوالم للبحراني: 17 / 508.

فانصرفوا خائبين، فضاق صدره، فقال له ولدُه الحسين علیه السلام : «أمضي إليه يا أبتاه؟»، فقال: «امضِ يا ولدي». فمضى مع فوارس، فهزم أبا أيّوب عن الماء وبنى خيمته وحطّ فوارسه، وأتى إلى إبيه وأخبره، فبكى عليّ علیه السلام ، فقيل له: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين، وهذا أوّل فتحٍ بوجه الحسين؟! قال: «صحيح يا قوم، ولكن سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء، حتّى تنفر فرسه وتحمحم وتقول: الظليمة الظليمة مِن أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها» ((1)).

اشارة

روى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ مع أمير المؤمنين علیه السلام في خروجه [في خرجته] إلى صفّين، فلمّا نزل بنِينوى -- وهو شطّ الفرات -- قال بأعلى صوته: «يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟»، قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال علیه السلام: «لو عرفتَه كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي». قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيتُه وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول: «أوه أوه، ما لي ولآلأبي سفيان! ما لي ولآل حربٍ حزب الشيطان وأولياء الكفر؟ صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الّذي تلقى منهم». ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأول، إلّا أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه فقال: «يا ابن عبّاس»، فقلت: ها أنا ذا، فقال: «ألا أُحدّثك بما رأيتُ في منامي آنفاً عند رقدتي؟»، فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير

ص: 114


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 266.

المؤمنين، قال: «رأيتُ كأنّي برجالٍ قد نزلوا من السماء، معهم أعلامٌ بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيتُ كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سخيلي وفرخي ومضغتي ومخّي قد غرق فيه، يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول، فإنّكم تُقتَلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة -- يا أبا عبد الله -- إليك مشتاقة. ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِرْ، فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربّ العالمين. ثمّ انتبهتُ هكذا. والّذي نفس عليٍّ بيده لقد حدّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم صلی الله علیه وآله أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كربٍ وبلاء، يُدفَن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وُلدي ووُلد فاطمة، وإنّها لَفي السماوات معروفة، تُذكَر: أرض كربٍ وبلاء، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس».

ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، اطلُبْ لي حولها بعر الظباء، فوَالله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران». قالابن عبّاس: فطلبتُها، فوجدتُها مجتمعة، فناديتُه: يا أمير المؤمنين، قد أصبتُها على الصفة الّتي وصفتَها لي! فقال علي علیه السلام: «صدق الله ورسوله»، ثمّ قام علیه السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها وقال: «هيَ هيَ بعينها، أتعلم -- يا ابن عبّاس -- ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمّها عيسى ابن مريم علیه السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون، فرأى هاهنا الظباء مجتمعةً وهي تبكي، فجلس عيسى علیه السلام وجلس الحواريّون معه، فبكى وبكى الحواريّون وهم لا يدرون لمَ جلس ولمَ بكى؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يُبكيك؟! قال: أتعلمون أيّ

ص: 115

أرضٍ هذه؟ قالوا: لا، قال: هذه أرضٌ يُقتَل فيها فرخ الرسول أحمد وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي، ويُلحَد فيها طينة أطيب من المسك، لأنّها طينة الفرخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول أنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، وزعمت أنّها آمنةً في هذه الأرض. ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها، وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه، فيكون له عزاءً وسلوة». قال: «فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كربٍ وبلاء»، ثمّ قال بأعلى صوته: «يا ربَّ عيسى ابن مريم، لا تبارِك في قتلته والمعين عليه والخاذل له».

ثمّ بكى بكاءً طويلاً، وبكينا معه، حتّى سقط لوجهه وغُشيَ عليه طويلاً، ثمّ أفاق، فأخذ البعر فصرَّه في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، إذا رأيتَها تنفجر دماً عبيطاًويسيل منها دمٌ عبيط، فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتِل بها ودُفِن». قال ابن عبّاس: فوَاللهِ لقد كنتُ أحفظها أشدّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزوجل علَيّ، وأنا لا أحلّها من طرف كُمّي، فبينما أنا نائمٌ في البيت إذ انتبهتُ فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كُمّي قد امتلأ دماً عبيطاً، فجلستُ وأنا باكٍ وقلت: قد قُتل واللهِ الحسين، والله ما كذبني عليٌّ قطّ في حديثٍ حدّثني، ولا أخبرني بشيءٍ قطّ أنّه يكون إلّا كان كذلك؛ لأنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يُخبره بأشياء لا يُخبِر بها غيره. ففزعتُ وخرجت، وذلك عند الفجر، فرأيتُ -- واللهِ -- المدينة كأنّها ضباب لا يستبين

ص: 116

منها أثر عين، ثمّ طلعت الشمس فرأيتُ كأنّها منكسفة، ورأيتُ كأنّ حيطان المدينة عليها دمٌ عبيط، فجلستُ وأنا باك، فقلت: قد قُتِل واللهِ الحسين. وسمعتُ صوتاً من ناحية البيت وهو يقول:

اصبروا آل الرسول***قُتِل الفرخُ النحول

نزل الروح الأمين***ببكاءٍ وعويل

ثمّ بكى بأعلى صوته وبكيت، فأثبتُّ عندي تلك الساعة، وكان شهر المحرم يوم عاشوراء لعشرٍ مضين منه، فوجدتُه قُتل -- يوم ورد علينا خبره وتاريخه -- كذلك، فحدّثتُ هذا الحديث أُولئك الّذين كانوا معه، فقالوا: واللهِ لقد سمعنا ما سمعتَ ونحن في المعركة، ولا ندري ما هو، فكنّا نرى أنّه الخضر علیه السلام ((1)).

وروى الشيخ الصدوق أيضاً في (الأمالي): هرثمة بن أبي مسلم قال: غزونا مع عليّ بن أبي طالب علیه السلام صفّين، فلمّا انصرفنا نزل كربلاء فصلّى بها الغداة، ثم رفع إليه من تربتها فشمّها، ثمّ قال:«واهاً لكِ أيّتها التربة، لَيُحشرنّ منكِ قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب».

فرجع هرثمة إلى زوجته -- وكانت شيعةً لعليّ علیه السلام ، فقال: ألا أُحدّثك عن وليّكِ أبي الحسن؟ نزل بكربلاء فصلّى، ثمّ رفع إليه من تربتها فقال: «واهاً لكِ أيّتها التربة، لَيُحشرنّ منكِ أقوامٌ يدخلون الجنّة بغير حساب». قالت: أيّها

ص: 117


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 597 المجلس 87 ح 5.

الرجل، فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلّا حقّاً.

فلمّا قدم الحسين علیه السلام ، قال هرثمة: كنتُ في البعث الّذين بعثهم عُبيد الله بن زياد، فلمّا رأيتُ المنزل والشجر ذكرتُ الحديث، فجلستُ على بعيري، ثمّ صرتُ إلى الحسين علیه السلام ، فسلّمتُ عليه فأخبرتُه بما سمعتُ مِن أبيه في ذلك المنزل الّذي نزل به الحسين علیه السلام ، فقال: «معنا أنت أم علينا؟»، فقلت: لا معك ولا عليك، خلّفتُ صبيةً أخاف عليهم عبيدَ الله بن زياد. قال: «فامضِ حيث لا ترى لنا مقتلاً ولا تسمع لنا صوتاً، فوَالّذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحدٌ فلا يعيننا إلّا كبّه الله لوجهه في جهنّم» ((1)).

وروى الحِميريّ في (قُرب الإسناد)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه قال: «مرّ عليٌّ بكربلاء في اثنين من أصحابه»، قال: «فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم ((2))، وهاهنا تهراق دماؤهم، طوبى لكِ من تربةٍ عليكِ تهراق دماء الأحبّة» ((3)).وروى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخب) قال: خرج أمير المؤمنين علیه السلام يسير بالناس، حتّى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين فتقدّم بين أيديهم، حتّى إذا صار بمصارع الشهداء قال: «قُبض فيها

ص: 118


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 136 المجلس 38 ح 6.
2- ([2]) في المتن: (وهذا ملتقی رجالهم).
3- ([3]) قُرب الإسناد للحِميري: 26 ح 87.

مئتا نبيّ ومئتا وصيّ ومئتا سبط شهداء بأتباعهم»، فطاف بها على بغلته خارجاً رِجلاه من الركاب، وأنشأ يقول: «مناخ ركابٍ ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن كان بعدهم» ((1)).

وروى الواقدي: لمّا مرّ عليٌّ علیه السلام بكربلاء في مسيره إلى صفّين وحاذى نِينوى -- قرية على الفرات --، وقف ونادى صاحب مطهرته: «أخبر أبا عبد الله، ما يقال لهذه الأرض؟»، فقال: كربلاء. فبكى حتّى بلّ الأرض من دموعه، ثمّ قال: «دخلتُ على رسول الله وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيك؟ فقال: كان عندي جبرئيل آنفاً، وأخبرَني أنّ ولدي الحسين يُقتل بشطّ الفرات بموضعٍ يُقال له كربلاء، ثمّ قبض جبرئيل قبضةً من تراب أشمّني إيّاها، فلم أملك عينَيّ أن فاضتا» ((2)).

إبن الحنفيّة والحسنان في صفّين

[توبة الزبرقان على يدَي الحسين علیه السلام]

في بعض الكتب المعتبرة أنّ الزبرقان بن بدر كان من جيش معاوية في صفّين، وكان موصوفاً بالشجاعة، وكان النبيّ صلی الله علیه وآله قد جعله على الصدقات، فخرج أيّام عمر بن الخطّاب إلى الشام في بعض المغازي، ثمّ استوطن هناك، وكان في صفّين فخرج يطلب مبارزاً، فاستأذن الحسينُ؟ع؟ أباه أمير المؤمنين علیه السلام ، فأذن له، فبكى إخوته وأشفقوا عليه.

فلمّا برز إليه الحسين علیه السلام قال الزبرقان: مَن أنت؟ فانتسب له قرّة عين البتول، قال الزبرقان: يا ابن رسول الله، لو طعنتَني بالرمح ومزّقتَ أحشائي

ص: 119


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 73، المنتخب للطريحي: 2 / 266، الخرائج للراوندي: 1 / 183، كامل الزيارات لابن قولويه: 270 ح 12.
2- ([2]) تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزي: 225، الصواعق المحرقة لابن حجر: 115، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 12.

لما نظرتُ إليك شزراً، كيف وقد رأيتُ النبيَّ صلی الله علیه وآله يلثم ثغرك غير مرّة! قال: «إذا كنتَ تعلم ذلك فلماذا اخترت معاوية علينا؟»، قال الزبرقان: لو سألتَ أمير المؤمنين يعفو عنّي ويغسل ذنوبي وجُرمي بسحائب رحمته وإحسانه ويمنّ عليّ بعفوه. فقبل منه الحسين علیه السلام ، فتشرّف الزبرقان بتقبيل ركاب المنصور المظفَّر، وقال: إنّي أوّل مَن غرّني زخارف الشيطان وطرد من رحمة الرحمان، أملي أن تشملني بلطف عنايتك. فعفا الإمام عن زلّات الزبرقان ((1)).

[بكاء النبيّ صلی الله علیه وآله في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام]

في كتاب (المنتخب)، عن اُمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ معي، فبينما هو راقدٌ على الفراش جاعلٌ رجله اليمنى على اليسرى وهو على قفاه، وإذا بالحسين علیه السلام -- وهو ابن ثلاث سنين وأشهر -- أتى إليه، فلمّا رآه صلی الله علیه وآله قال: «مرحباً بقرّة عيني، مرحباً بثمرة فؤادي». ولم يزل يمشي حتّى ركب

ص: 120


1- ([1]) في (المعيار والموازنة للاسكافي: 150): قالوا: ثمّ أقبل رجلٌ من أهل الشام يُقال له: الزبرقان به الحكم، وكان سيّد أهل الشام، فطلب البراز، فخرج إليه الحسن ابن عليّ بن أبي طالب، فقال له الزبرقان: مَن أنت؟ قال: «أنا الحسن بن عليّ». فقال له: انصرف يا بُنيّ، فوَالله لقد نظرتُ إلى رسول الله صلی الله علیه وآله مقبلاً من ناحية (قبا) يسير على ناقةٍ له، وإنّك يومئذٍ لقُدّامه، فما كنتُ لألقى رسول الله صلی الله علیه وآله بدمك. فانصرف الزبرقان.

على صدر جدّه، فأبطأ، فخشيتُ أنّ النبيّ تعب، فأحببتُ أُنحّيه عنه، فقال: «دَعيه يا اُمّ سلمة، متى أراد الانحدار ينحدر، واعلمي مَن آذى منه شعرةً فقد آذاني». قالت: فتركتُه ومضيت، فما رجعتُ إلّا ورسول الله يبكي، فعجبتُ من بعد الضحك والفرح، فقربتُ منه وقلت: يا سيّدي، ما يُبكيك؟ لا أبكى الله عينك! وهو ينظر لشيءٍ بيده ويبكي، قال: «ما تنظرين؟»، فنظرتُ وإذا بيده تربة، فقلت: ما هي؟ قال: «أتاني بها جبرائيل هذه الساعة، وقال لي: يا رسول الله، هذه طينةٌ من أرض كربلاء، وهي طينة ولدك الحسين وتربته التي يُدفَن فيها. فصيّريها عندكِ في قارورة، فإذا رأيتِها قد صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ولدي الحسين قد قُتل، وسيصير ذلك مِن بعدي وبعد أبيه وأُمّه وجدّته وأخيه».

قالت: فبكيت، وأخذتُها من يده وائتمرت بما أمرني، وإذا لها رائحة كأنّها المسك الأذفر، فما مضت الأيّام والسنون إلّا وقد سافر الحسين إلى أرض كربلاء، فحسّ قلبي بالشرّ، وصرتُ كلّ يومٍ اتجسّس القارورة، فبينما أنا كذلك وإذا بالقارورة انقلبت دماً عبيطاً، فعلمتُ أنّ الحسين قد قُتِل، فجعلتُ أنوح وأبكي يومي كلَّه إلى الليل، ولم اتهنَّ بطعامٍ ولا منام إلى طائفةٍ من الليل، فأخذني النعاس، وإذا أنا بالطيف برسول الله صلی الله علیه وآله مُقبل وعلى رأسه ولحيته دمٌ كثير، فجعلتُ انفضه بكمّي وأقول: نفسي لنفسك الفداء! متى أهملتَ نفسك هكذا يا رسول الله؟! مِن أين لك هذا التراب؟ قال: «هذه الساعة فرغتُ مِن دفن ولدي الحسين».

قالت أُمّ سلمة: فانتبهتُ مرعوبةً لم أملك على نفسي، فصحت: وا

ص: 121

حسيناه! وا ولداه! وا مهجة قلباه! حتّى علا نحيبي، فأقبلَت إليّنساء الهاشميّات وغيرهن، وقلنَ: ما الخبر يا أُمّ المؤمنين؟! فحكيتُ لهنّ بالقصّة، فعلا الصراخ وقام النياح، وصار كأنّه حين ممات رسول الله صلی الله علیه وآله، وسعين إلى قبره مشقوقة الجيب ومكشوفة الرأس، فصحنَ: يا رسول الله، قُتِل الحسين! فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو، فقد حسسنا كأنّ القبر يموجُ بصاحبه حتّى تحركت الأرضُ مِن تحتنا، فخشينا أنّها تسيخ بنا، فانحرفنا بين مشقوقة الجيب ومنشورة الشعر وباكية العين ((1)).

وروى ابن بابويه، عن أبي جعفرٍ علیه السلام ((2)) قال: «كان النبيُّ في بيت أُمّ سلَمة، فقال لها: لا يدخل علَيّ أحد. فجاء الحسين علیه السلام -- وهو طفل --، فما ملكَت معه شيئاً حتّى دخل على النبيّ صلی الله علیه وآله، فدخلَت أُمّ سلَمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبيّ صلی الله علیه وآله يبكي، وإذا في يده شي ء يقبّله، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: يا أُمّ سلَمة، إنّ هذا جبرئيل يُخبرني أنّ هذا مقتول، وهذه التربة الّتي يُقتَل عليها، فضعيه عندكِ، فإذا صارت دماً فقد قُتِل حبيبي. فقالت أُمّ سلَمة: يا رسول الله، سَلِ اللهَ أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى اللهُ عزوجل إليّ أنّ له درجة لا ينالها أحدٌ من المخلوقين، وأنّ له شيعة يشفعون فيُشفَّعون، وأنّ المهديّ من وُلده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته، هم والله الفائزون يوم القيامة» ((3)).

ص: 122


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 330 المجلس 5 الباب 3.
2- ([2]) في المتن: (عن الصادق علیه السلام).
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 139 المجلس 29 ح 3، وهو في بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 225 عن الصادق علیه السلام.

ص: 123

اشارة

في (المنتخب): وعن ابن عبّاسٍ قال: لمّا كنّا في حرب صفّين، إذ دعا عليٌّ ابنه محمّد ابن الحنفيّة وقال له: «يا بُنيّ، شد على عسكر معاوية». ففعل ما أمره أبوه، وحمل على ميمنة عسكر معاوية فكشفهم، ثمّ رجع إلى أبيه وقد جُرح، فقال له: يا أبي، العطش العطش! فسقاه جُرعةً من الماء، ثمّ صبّ الباقي بين درعه وجلده، فوَاللهِ لقد رأيتُ علق الدمّ يخرج من الدرع، ثمّ أمهله ساعة، ثمّ قال له: «يا بُنيّ، شد على الميسرة». فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم، ثمّ رجع وبه جُراحات وهو يقول: الماء الماء يا أبتاه! فسقاه جرعةً من الماء، وصبّ باقي الماء بين درعه وجلده، ثمّ قال له: «يا بُنيّ، شد على القلب». فحمل عليهم فكشفهم وقتل منهمفُرساناً، ثمّ رجع

ص: 124

إلى أبيه وهو يبكي وقد أثقلَته الجروح، فقام إليه أبوه وقبّل ما بين عينيه، وقال له: «فِداك أبوك، فقد سررتني واللهِ يا بُنيّ بجهادك هذا بين يدَي، فما يُبكيك، أفرحٌ أم جزع؟»، فقال: يا أبتي، كيف لا أبكي وقد عرّضتَني للموت ثلاث مرّات فسلّمني الله، وها أنا مجرح كما ترى؟ وكلّما رجعتُ إليك لتمهلني عن الحرب ساعة فما تمهلني، وهذان أخواي الحسن والحسين ما تأمرهما بشيءٍ من الحرب! فقام إليه أمير المؤمنين وقبّل وجهه، وقال له: «يا بُنيّ، أنت ابني، وهذان ابنا رسول الله، أفلا أصونهما من القتل؟»، فقال: بلى يا أبتاه، جعلني الله فداك وفداهما من كلّ سوء ((1)).

الفصل الرابع: في ذكر حديث لَعْيا وصلصائيل ودردائيل وفطر، وغيرها من الأخبار

[لعيا]

في كتاب (المنتخب)، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزهراء، وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه، فلمّا وقعت في طلقها، أوحى الله عزوجل إلى لعيا، وهي حوراء من الجنّة، وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيءٍ حسن نظروا إلى لعيا، قال: ولها سبعون ألف وصيفة، وسبعون ألف قصر، وسبعون ألف مقصورة، وسبعون ألف غرفة مكلَّلة بأنواع الجواهر والمرجان، وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة، إذا أشرفت على الجنّة نظرَت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها، فأوحى الله إليها أن اهبطي إلى دار الدنيا، إلى بنت حبيبي محمّد، فآنِسي لها، فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان أن

ص: 125


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 173.

زخرِف الجنّة وزيّنها؛ كرامةً لمولودٍ يُولَد في دار الدنيا، وأوحىالله إلى الملائكة أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتقديس والثناء على الله (تعالى)، وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن اهبطوا إلى الأرض في قنديلٍ من الملائكة. قال ابن عبّاس: والقنديل ألف ألف ملَك، فبينما هبطوا من سماءٍ إلى سماء، إذا في السماء الرابعة ملَكٌ يُقال له: صلصائيل، له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب، وهو شاخصٌ نحو العرش؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال: ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر، وما يسير في ظلمة الليل وضوء النهار؟ فعلم الله (تعالى) في نفسه، فأوحى الله إليه أن أقِمْ مكانك، لا تركع ولا تسجد؛ عقوبةً لك لِما فكّرت.

قال: فهبطت لعيا على فاطمة، وقالت لها: مرحباً بكِ يا بنت محمّد، كيف حالك؟ قالت علیها السلام لها: «بخير». ولحق فاطمة الحياء من لعيا، لم تدري ما تفرش لها، فبينما هي متفكّرة إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة فبسطَته في منزل فاطمة، فجلست عليه لعيا.

ثمّ إنّ فاطمة علیها السلام ولدت الحسين علیه السلام في وقت الفجر، فقبّلته لعيا، وقطعت سُرّته، ونشّفته بمنديل من مناديل الجنّة، وقبّلت عينَيه وتفلت في فيه، وقالت له: بارك الله فيك مِن مولودٍ وبارك في والدَيك. وهنّأت الملائكةُ جبرائيل، وهنّأ جبرائيل محمّداً سبعة أيّام بلياليها، فلمّا كان في اليوم السابع قال جبرائيل: يا محمّد، آتِنا بابنك هذا حتّى نراه. قال: فدخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة، فأخذ الحسينَ وهو ملفوفٌ بقطعة صوفٍ صفراء،

ص: 126

فأتى به إلى جبرائيل، فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه، وقال: بارك الله فيك مِن مولود وبارك في والديك، يا صريع كربلاء! ونظر إلى الحسين وبكى، وبكى النبيّ صلی الله علیه وآله، وبكتالملائكة، وقال جبرائيل: إقرأْ فاطمةَ ابنتك السلام، وقُل لها تُسمّيه الحسين، فقد سمّاه الله (جلّ إسمه)، وإنّما سُمّي الحُسين لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا جبرائيل، تهنّيني وتبكي؟!»، قال: نعم يا محمّد، آجرك الله في مولودك هذا. فقال صلی الله علیه وآله : «يا حبيبي جبرائيل، ومَن يقتله؟»، قال: شراذمة من أُمّتك، يرجون شفاعتك، لا أنالهم الله ذلك. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «خابت أُمّةٌ قتلَت ابن بنت نبيّها»، قال جبرائيل: خابت، ثمّ خابت من رحمة الله، وخاضت في عذاب الله.

ودخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة، فأقرأَها من الله السلام، وقال لها: «يا بُنيّة، سمّيه الحُسين، فقد سمّاه الله الحسين»، فقالت: «مِن مولاي السلام، وإليه يعود السلام، والسلام على جبرائيل». وهنّأها النبيّ وبكى، فقالت: «يا أبتاه، تهنّئني وتبكي؟!»، قال: «نعم يا بُنيّة، آجركِ الله في مولودك هذا». فشهقَت شهقةً وأخذت في البكاء، وساعدتها لعيا ووصائفها، وقالت: «يا أبتاه، مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي؟»، قال: «شراذمة من أُمّتي، يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله ذلك». قالت فاطمة: «خابت أُمّةٌ قتلَت ابنَ بنت نبيّها -- قالت لعيا: خابت، ثمّ خابت من رحمة الله، وخابت في عذابه -- يا أبتاه، اقرأ جبرائيل عنّي السلام، وقُلْ له: في أيّ موضعٍ يُقتَل؟»، قال: «في موضعٍ يُقال له: كربلاء، فإذا

ص: 127

نادى الحسين لم يُجِبْه أحدٌ منهم، فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا إنّه لن يُقتَل حتّى يخرج مِن صُلبه تسعة من الأئمّة -- ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلىآخرهم --، وهو الّذي يخرج آخر الزمان مع عيسى ابن مريم، فهؤلاء مصابيح الرحمان وعروة السلام، محبُّهم يدخل الجنّة، ومبغضهم يدخل النار».

قال: وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا، فبقيَ الملك صلصائيل، فقال: يا حبيبي، أقامَت القيامةُ على أهل الأرض؟ قال: لا، ولكن هبطنا إلى الأرض فهنَّئنا محمّداً بولده الحسين. قال: حبيبي جبرائيل، فاهبِطْ إلى الأرض، فقل له: يا محمّد، اشفع إلى ربّك في الرضا عنّي؛ فإنّك صاحب الشفاعة. قال: فقام النبيّ صلی الله علیه وآله ودعا بالحسين علیه السلام، فرفعه بكلتا يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيتَ على الملَك. فإذا النداء مِن قِبل العرش: «يا محمّد، قد فعلت، وقدرك كبيرٌ عظيم». قال ابن عبّاس: والّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة أنّه عتيق الحسين، ولعيا تفخر على الحور العين بأنّها قابلة الحسين ((1)).

ص: 128


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 146 المجلس 3.

[صلصائيل]

في كتاب (الغَيبة) ((1)): المفضَّل بن عمر، عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «كان ملَكٌ بين المؤمنين يُقال له: صلصائيل، بعثه الله في بعثٍ فأبطأ، فسلبه ريشه ودقّ جناحَيه وأسكنه في جزيرةٍ من جزائر البحر إلى ليلة وُلد الحسين علیه السلام ،فنزلت الملائكة واستأذنت الله في تهنئة جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله وتهنئة أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة علیه السلام ،فأذن الله لهم، فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماءٍ سماء، فمرّوا بصلصائيل وهو مُلقىً بالجزيرة، فلمّا نظروا إليه وقفوا فقال لهم: يا ملائكة ربّي، إلى أين تريدون، وفيمَ هبطتُم؟ فقالت له الملائكة: يا صلصائيل، قد وُلد في هذه الليلة أكرم مولودٍ وُلد في الدنيا بعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وأبيه عليّ وأُمّه فاطمة وأخيه الحسن، وهو الحسين، وقد استأذنّا الله في تهنئة حبيبه محمّد صلی الله علیه وآله لولده فأذن لنا. فقال صلصائيل: يا ملائكة الله، إنّي أسألكم بالله ربّنا وربّكم وبحبيبه محمّدٍ صلی الله علیه وآله وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب الله وتسألونه وأسأله أن يسأل الله بحقّ هذا المولود الّذي وهبه الله له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسر جناحي ويردّني إلى مقامي مع الملائكة المقرَّبين. فحملوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلی الله علیه وآله، فهنّئوه بابنه الحسين علیه السلام ، وقصّوا عليه قصّة الملَك، وسألوه مسألة الله والإقسام عليه بحقّ الحسين علیه السلام أن يغفر له خطيئته ويجبر كسر جناحه ويردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين، فقام رسول الله صلی الله علیه وآله فدخل على فاطمة علیه السلام فقال لها: ناوليني ابني الحسين.

ص: 129


1- ([2]) قال العلّامة المجلسي: في حديث المفضَّل بطوله الّذي يأتي بإسناده في كتاب الغَيبة عن الصادق علیه السلام ..

فأخرجَته إليه مقموطاً، يناغي جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، فخرج به إلى الملائكة، فحمله على بطن كفّه، فهلّلوا وكبّروا وحمدوا الله (تعالى) وأثنوا عليه، فتوجّه به إلى القبلة نحو السماء فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ ابنيَ الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته، وتجبر كسر جناحه، وتردّه إلىمقامه مع الملائكة المقرّبين. فتقبّل الله (تعالى) من النبيّ صلی الله علیه وآله ما أقسم به عليه، وغفر لصلصائيل خطيئته، وجبر كسر جناحه، وردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين» ((1)).

قال المؤلّف:

يحتمل أن يكون صلصائيل هذا ملَكٌ آخَر غير الّذي ذُكِر في حديث لعيا.

[دردائيل]

في كتاب (إكمال الدين)، عن مجاهد قال: قال ابن عبّاس: سمعتُ رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: «إنّ لله (تبارك وتعالى) ملَكاً يُقال له: دردائيل، كان له ستّة عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح هواء، والهواء كما بين السماء إلى الأرض، فجعل يوماً يقول في نفسه: أفَوق ربّنا (جلّ جلاله) شيء؟ فعَلِم الله (تبارك وتعالى) ما قال، فزاده أجنحةً مثلها فصار له اثنان وثلاثون ألف جناح، ثمّ أوحى الله عزوجل إليه أن طِرْ، فطار مقدار خمسين عاماً فلم ينل رأس قائمةٍ من قوام العرش، فلمّا علم الله عزوجل إتعابه أوحى إليه: أيّها الملَك، عُدْ إلى مكانك، فأنا عظيمٌ فوق كلّ عظيم،

ص: 130


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 259.

وليس فوقي شيء، ولا أُوصَف بمكان. فسلبه الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة.

فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام -- وكان مولده عشيّةالخميس ليلة الجمعة -- أوحى الله عزوجل إلى مالك خازن النار أن أخمِد النيران على أهلها لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّد، وأوحى إلى رضوان خازن الجنان أن زَخرِف الجنان وطيّبها لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله (تبارك وتعالى) إلى حور العين: تزينَّ وتزاورنَ لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله عزوجل إلى الملائكة أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتحميد والتمجيد والتكبير لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله (تبارك وتعالى) إلى جبرئيل علیه السلام أن اهبط إلى نبيّي محمّدٍ في ألف قبيل -- والقبيل ألف ألف من الملائكة -- على خيول بلق مسرَجةٍ ملجمة، عليها قباب الدرّ والياقوت، ومعهم ملائكةٌ يُقال لهم: الروحانيّون، بأيديهم أطباق من نور، أن هنّئوا محمّداً بمولود، وأخبِرْه يا جبرئيل أنّي قد سمّيتُه الحسين، وهنّئْه، وعزِّه وقل له: يا محمّد، يقتله شرار أُمّتك على شرار الدوابّ، فويلٌ للقاتل، وويلٌ للسائق، وويلٌ للقائد، قاتلُ الحسين أنا منه بريءٌ وهو منّي بريء؛ لأنه لا يأتي يوم القيامة أحدٌ إلّا وقاتل الحسين علیه السلام أعظم جرماً منه، قاتل الحسين يدخل النار يوم القيامة مع الّذين يزعمون أنّ مع الله إلهاً آخَر، والنار أشوق إلى قاتل الحسين ممّن أطاع الله إلى الجنّة».

قال: فبينا جبرئيل علیه السلام يهبط من السماء إلى الأرض إذ مرّ بدردائيل، فقال له دردائيل: يا جبرئيل، ما هذه الليلة في السماء؟ هل قامت القيامة على أهل الدنيا؟ قال: لا، ولكن وُلد لمحمّدٍ مولودٌ في دار الدنيا، وقد بعثني

ص: 131

الله عزوجل إليه لأُهنّئه بمولوده. فقال الملَك: يا جبرئيل، بالّذي خلقك وخلقني، إذا هبطتَ إلى محمّدٍ فأقرأه منّي السلام، وقل له:بحقّ هذا المولود عليك إلّا ما سألتَ ربَّك أن يرضى عنّي، فيردّ علَيّ أجنحتي ومقامي من صفوف الملائكة. فهبط جبرئيل علیه السلام على النبيّ صلی الله علیه وآله، فهنّأه كما أمره الله عزوجل، وعزّاه، فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «تقتله أُمّتي؟!»، فقال له: نعم يا محمّد. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «ما هؤلاء بأُمّتي، أنا بريءٌ منهم، واللهُ عزوجل بريءٌ منهم»، قال جبرئيل: وأنا بريءٌ منهم يا محمّد. فدخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة علیه السلام فهنّأَها وعزّاها، فبكت فاطمة علیه السلام وقالت: «يا ليتني لم ألِدْه، قاتل الحسين في النار»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «وأنا أشهدُ بذلك يا فاطمة، ولكنّه لا يُقتَل حتّى يكون منه إمام، يكون منه الأئمّة الهادية بعده»، ثمّ قال صلی الله علیه وآله: «والأئمّة بعدي: الهادي عليّ، والمهتدي الحسن، والناصر الحسين، والمنصور عليّ بن الحسين، والشافع محمّد بن عليّ، والنفاع جعفر ابن محمّد، والأمين موسى بن جعفر، والرضا عليّ بن موسى، والفعال محمّد بن عليّ، والمؤتمن عليّ بن محمّد، والعلام الحسن بن عليّ، ومَن يصلّي خلفه عيسى ابن مريم علیه السلام القائم علیه السلام »، فسكتَت فاطمه علیه السلام من البكاء.

ثمّ أخبر جبرئيل علیه السلام النبيَّ صلی الله علیه وآله بقصّة الملَك وما أُصيب به. قال ابن عبّاس: فأخذ النبيّ صلی الله علیه وآله الحسينَ علیه السلام وهو ملفوفٌ في خرق من صوف، فأشار به إلى السماء ثمّ قال: «اللّهمّ بحقّ هذا المولود عليك، لا بل بحقّك عليه وعلى جدّه محمّدٍ وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، إن كان للحسين بن عليّ ابن فاطمة عندك قدر فارضَ عن دردائيل، وردَّ عليه أجنحته ومقامه من صفوف

ص: 132

الملائكة». فاستجاب الله دعاءه وغفر للملَك، وردّ عليه أجنحته وردّه إلى صفوف الملائكة، فالملَك لا يُعرَف في الجنّة إلّا بأن يقال: هذا مولى الحسين ابن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

[فطرس]

روى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن إبراهيم بن شعيب الميثميّ قال: سمعتُ الصادق أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا وُلد أمر الله عزوجل جبرئيل أن يهبط في ألفٍ من الملائكة فيهنّي رسول الله صلی الله علیه وآله من الله ومن جبرئيل»، قال: «فهبط جبرئيل، فمرّ على جزيرةٍ في البحر فيها ملَكٌ يقال له: فطرس، كان من الحملَة بعثه الله عزوجل في شيءٍ فأبطأَ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة» ((2)).

وفي رواية أبي جعفر الطوسي في (مصباح الأنوار): أنّ الله (تعالى) كان خيّره من عذابه في الدنيا أو في الآخرة، فاختار عذاب الدنيا، وكان معلَّقاً بأشفار عينَيه في جزيرةٍ في البحر لا يمرّ به حيوان، وتحته دخان مُنتِن غير منقطع ((3)).

ص: 133


1- ([1]) كمال الدين للصدوق: 1 / 282 الباب 26 ح 36.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 8، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 بتحقيق السيّد علي أشرف، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 128.

«فعبَد الله (تبارك وتعالى) فيها سبعمئة عام حتّى وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام ، فقال الملَك لجبرئيل: يا جبرئيل، أين تريد؟ قال: إنّ الله عزوجل أنعمَ على محمّدٍ بنعمة، فبُعثتُ أهنّئه من الله ومنّي. فقال: يا جبرئيل، احملْني معك لعلّ محمّداً صلی الله علیه وآله يدعو لي». قال: «فحمله»، قال: «فلمّا دخل جبرئيل على النبيّ صلی الله علیه وآله هنّأَه من الله عزوجل ومنه، وأخبره بحال فطرس، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله : قُل له: تمسَّحْ بهذا المولود وعُد إلى مكانك». قال: «فتمسّح فطرس بالحسين بن عليّ علیه السلام وارتفع، فقال: يا رسول الله، أما إنّ أُمّتك ستقتله، وله علَيّ مكافأة أن لا يزوره زائرٌ إلّا أبلغتُه عنه، ولا يسلّمُ عليه مس-لمٌ إلّا أبلغتُ-ه سلام-ه، ولا يصلّ-ي عليه مُص-لٍّ إلّا أبلغتُ-ه صلاته. ثمّ ارتفع» ((1)).

ورُوي أنّه عرج إلى موضعه وهو يقول: مَن مثلي وأنا عتاقة الحسين بن عليّ وفاطمة وجدّه أحمد الحاشر؟ ((2))

وفي كتاب (بصائر الدرجات) مسنداً عن الأزهر البطيخي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال لها [له]: فطرس، فكسر الله جناحه، فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام بعث الله جبرئيل في سبعين ألف ملَكٍ إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يهنّئهم بولادته، فمرّ بفطرس، فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة.

ص: 134


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 8، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 243.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 96.

فقال له فطرس: احمِلْني معك، وسَل محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه وآله فدخل عليه وهنّأَه، فقال له: يا رسول الله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: أتفعل؟ قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : شأنك بالمهد فتمسَّح به وتمرّغ فيه. قال: فمضى فطرس فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ ورسول الله يدعو له». قال: «قال رسول الله: فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول حتّى لحق بجناحه الآخر، وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه» ((1)).

ورُوي أنّ فطرس كان من ملائكة السماء الثالثة على قبيلٍ من سبعين ألف ملَك، فأعاده الله إلى مكانه ببركة الإمام الحسين علیه السلام، فلمّا قُتِل الحسين علیه السلام علم بذلك فطرس، فقال: إلهي، لو أمرتَني ومَن معي أن نقاتل مع الحسين علیه السلام! فجاءه الخطاب: اهبِطْ مع سبعين ألف ملَكٍ الّذين معك، فالزموا قبره، وابكوا عنده كلّ صباحٍ ومساء، واهدوا ثواب بكائكم لمَن يبكي على مصيبته. فهبط فطرس ومَن معه إلى أرض كربلاء، وهم مشغولون بما أُمِروا به إلى يوم القيامة ((2)).

ص: 135


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 68 الباب 6 ح 7.
2- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 193.

[ما مِن ملَكٍ إلّا ونزل يعزّي النبيّ صلی الله علیه وآله ]

في (كامل الزيارات)، عن عبد الرحمان الغَنَويّ، [عن سليمان] قال: وهل بقيَ في السماوات ملَكٌ لم ينزل إلى رسول الله صلی الله علیه وآله يعزّيه بوَلده الحسين علیه السلام، ويُخبره بثواب الله إيّاه، ويحمل إليه تربته مصروعاً عليها مذبوحاً مقتولاً جريحاً طريحاً مخذولاً؟ فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اخذُل مَن خذله، واقتل من قتله، واذبح من ذبحه، ولا تمتّعه بما طلب».

قال عبد الرحمان: فوَالله لقد عوجل الملعون يزيد، ولم يتمتّع -- بعد قتله -- بما طلب. قال عبد الرحمان: ولقد أُخِذ مغافصة، بات سكران وأصبح ميّتاً متغيّراً كأنّه مطليٌّ بقار، أُخِذ على أسف، وما بقي أحدٌ ممّن تابعه على قتله أو كان في محاربته إلّا أصابه جنونٌ أو جذام أو برص، وصار ذلك وراثةً في نسلهم ((1)).

[ملَكٌ من ملائكة الصفيح الأعلى]

رُوي في (عوالم العلوم) أنّ ملَكاً من ملائكة الصفيح الأعلى اشتاق لرؤية النبيّ صلی الله علیه وآله ، واستأذن ربَّه بالنزول إلى الأرض لزيارته، وكان ذلك الملَك لم ينزل إلى الأرض أبداً منذ خُلقَت، فلمّا أراد النزول أوحى الله (تعالى) إليه يقول: «أيّها الملَك، أخبِرْ رسول الله أنّ رجلاً من أُمّته اسمه يزيد يقتل فرخه الطاهر

ص: 136


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 61 الباب 17 ح 6.

ابن الطاهرة نظيرة البتول مريم بنت عمران»، فقال الملَك: لقد نزلتُ إلى الأرض وأنا مسرورٌ برؤية نبيِّك محمّد صلی اللهعلیه وآله ، فكيف أُخبره بهذا الخبر الفظيع؟ وإنّني لَأستحيي منه أن أفجعه بقتل ولده، فليتني لم أنزلْ إلى الأرض. قال: فنُوديَ الملَك من فوق رأسه أن افعَلْ ما أُمرتَ به.

فدخل الملَك إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ونشر أجنحته بين يديه، وقال: يا رسول الله، اعلمْ أنّي قد استأذنتُ ربّي في النزول إلى الأرض شوقاً لرؤيتك وزيارتك، فليتَ ربّي كان حطّم أجنحتي ولم آتكَ بهذا الخبر، ولكن لابدّ مِن انفاذ أمر ربّي عزوجل: اعلمْ يا محمّد أنّ رجلاً من أُمّتك اسمه يزيد، زاده الله لعناً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، يقتل فرخك الطاهر ابن الطاهرة، ولن يتمتّع قاتلُه في الدنيا من بعده إلّا قليلاً، ويأخذه الله مقاصاً له على سوء عمله، ويكون مخلَّداً في النار.

فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله بكاءً شديداً، وقال: «أيّها الملَك، هل تفلح أُمّةٌ بقتل وَلدي وفرخ ابنتي؟»، فقال: لا يا محمّد، بل يرميهم الله باختلاف قلوبهم وألسنتهم في دار الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ أليم ((1)).

[ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى]

في (المنتخب): روى شرحبيل بن أبي عون أنّه قال: لمّا وُلد

ص: 137


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 599.

الحسين علیه السلام، هبط ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى ونزل إلى البحر الأعظم، ونادى في أقطار السماوات والأرض: يا عباد الله، البسوا ثوب الأحزان، واظهِروا التفجّع والأشجان؛ فإنّ فرخ محمّدٍ مذبوحٌ مظلومٌ مقهور.ثمّ جاء ذلك الملَك إلى النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: يا حبيب الله، يُقتَل على هذه الأرض قومٌ من أهل بيتك، تقتلهم فرقةٌ باغيةٌ من أُمّتك، ظالمة معتدية فاسقة، يقتلون فرخك الحسين ابن ابنتك الطاهرة، يقتلوه بأرض كربلاء، وهذه تربته. ثمّ ناوله قبضةً من أرض كربلاء، وقال له: يا محمّد، احفَظْ هذه التربةَ عندك حتّى تراها وقد تغيّرت واحمرّت وصارت كالدم، فاعلم أنّ ولدك الحسين قد قُتِل.

ثمّ إنّ ذلك الملَك حمَل من تربة الحسين علیه السلام على بعض أجنحته وصعد إلى السماء بها، فلم يبقَ ملَكٌ في السماء إلّا وشمّ تربة الحسين علیه السلام وتبرّك بها.

قال: ولمّا أخذ النبيّ صلی الله علیه وآله تربة الحسين علیه السلام، جعل يشمّها ويبكي وهو يقول: «قتل الله قاتلك يا حسين،وأصلاه في نار الجحيم..». ثمّ دفع تلك التربة من تربة الحسين إلى زوجته أُمّ سلمة ... ((1)).

وروى ابن قولويه أنّ الملك الّذي جاء إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وأخبره بقتل الحسين بن عليّ علیه السلام كان ملَك البحار، وذلك أنّ ملَكاً من ملائكة الفردوس

ص: 138


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 62 المجلس 4.

نزل على البحر فنشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحةً وقال: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن؛ فإنّ فرخَ رسول الله صلی الله علیه وآله مذبوح. ثمّ حمَل من تربته في أجنحته إلى السماوات، فلم يبقَ ملَكٌ فيها إلّا شمّها وصار عنده لها أثر، ولعنَ قتلته وأشياعهم وأتباعهم ((1)).

[ملَك المطر]

في (أمالي الطوسي)، عن أنس بن مالك أنّ ملَك المطر استأذن أن يأتي رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله لأُمّ سلَمة: «املِكي علينا الباب؛ لا يدخل علينا أحد!». فجاء الحسين علیه السلام ليدخل فمنعَته، فوثب حتّى دخل، فجعل يثب على منكبَي رسول الله صلی الله علیه وآله ويقعد عليهما، فقال له الملك: أتحبّه؟ قال: صلی الله علیه وآله «نعم». قال: فإنّ أُمّتك ستقتله، فإن شئتَ أريتُك المكانَ الّذي يُقتَل به. فمدّ يده فإذا طينة حمراء، فأخذَتها أُمّ سلَمة فصيّرتها إلى طرف خمارها ((2)).

[جبرائيل]

روى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي)، عن أبي بصير، عن أبي عبد

ص: 139


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 2.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 329 المجلس 11 ح 105.

الله علیه السلام، قال: سمعتُه يقول: «بينا الحسين عند رسول الله صلی الله علیه وآله إذ أتاه جبرئيل علیه السلام، فقال: يا محمّد، أتحبّه؟ قال: نعم. قال: أما إنّ أُمّتَك ستقتلُه. فحزن رسول الله صلی الله علیه وآله لذلك حزناً شديداً، فقال جبرئيل علیه السلام: أيسرّك أن أُريكَ التربة الّتي يُقتَل فيها؟ قال: نعم». قال: «فخسف جبرئيل علیه السلام ما بين مجلس رسول الله صلی الله علیه وآله إلى كربلاء حتّى التقت القطعتان هكذا -- وجمع بين السبّابتين --، فتناول بجناحَيه من التربة فناولها لرسول الله، صلی الله علیه وآله ثمّ دحاالأرض مِن طرف العين، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : طوبى لكِ مِن تربة، وطوبى لمَن يُقتَل فيك» ((1)).

[ميكائيل]

روى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي) أيضاً، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك أنّ عظيماً من عظماء الملائكة استأذن ربَّه عزوجل في زيارة النبيّ صلی الله علیه وآله ، فأذن له، فبينما هو عنده إذ دخل عليه الحسين علیه السلام، فقبّله النبيّ صلی الله علیه وآله وأجلسَه في حِجره، فقال له الملَك: أتحبّه؟ قال: «أجل، أشدَّ الحبّ، إنّه ابني». قال له: إنّ أُمّتك ستقتله، قال: «أُمّتي تقتل ابني هذا؟!»، قال: نعم، وإن شئتَ أريتُك من التربة الّتي يُقتَل عليها، قال: «نعم». فأراه تربةً حمراء طيّبة الريح، فقال: إذا صارت هذه التربة دماً عبيطاً فهو علامة قتل ابنك هذا.

ص: 140


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 314 المجلس 11 ح 85.

قال سالم بن أبي الجعد: أُخبرتُ أنّ الملَك كان ميكائيل علیه السلام((1)).

[جبرئيل علیه السلام]

في (المنتخب)، عن الصحابة الأخيار، قال: رأيتُ النبي صلی الله علیه وآله يمصّ لعاب الحسين كما يمصّ الرجل السكّرة، وهو يقول: «حُسين منّي وأنا من حُسين، أحبَّ الله مَن أحبّ حسيناً، وأبغض الله مَن أبغض حسيناً، حسين سبطٌ من الأسباط، لعنالله قاتله». فنزل جبرائيل وقال: يا محمّد، إنّ الله قتل بيحيى ابن زكريّا سبعين ألفاً من المنافقين، وسيقتل بابن ابنتك الحسين سبعين ألفاً من الكافرين وسبعين ألفاً من المُعتدين ((2)).

وفي (أمالي الطوسي)، عن زينب بنت جحش قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ عندي نائماً، فجاء الحسين علیه السلام، فجعلت أُعلّله مخافة أن يوقظ النبيّ صلی الله علیه وآله ، فغفلتُ عنه فدخل، واتبعتُه فوجدتُه وقد قعد على بطن النبيّ صلی الله علیه وآله ، فوضع زبيبته في سُرّة رسول الله صلی الله علیه وآله فجعل يبول عليه، فأردتُ

ص: 141


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 214 المجلس 11 ح 86.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 54 المجلس 3. وتتمّة الخبر في المصدر: وإنّ قاتل الحسين في تابوتٍ من نار , ويكون عليه نصفُ عذاب أهل الدنيا, وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار, وهو منكَّس على أُمّ رأسه في قعر جهنّم, وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار من شدّة نتنها, وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم، لا يفتر عنه, ويُسقى من حميم جهنّم.

أن آخذه عنه، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : «دَعي ابني -- يا زينب -- حتّى يفرغ من بوله»، فلمّا فرغ توضّأ النبيّ صلی الله علیه وآله وقام يصلّي، فلمّا سجد ارتحله الحسين علیه السلام، فلبث النبيّ صلی الله علیه وآله بحاله حتّى نزل، فلمّا قام عاد الحسين علیه السلام، فحمله حتّى فرغ من صلاته، فبسط النبيّ صلی الله علیه وآله يده وجعل يقول: «أرِني، أرني يا جبرئيل».

فقلت: يا رسول الله، لقد رأيتُك اليوم صنعتَ شيئاً ما رأيتُك صنعتَه قط! قال: «نعم، جاءني علیه السلام فعزّاني في ابني الحسين، وأخبرني أنّ أُمّتي تقتله، وأتاني بتربةٍ حمراء» ((1)).وفي كتاب (المنتخب)، عن أُمّ سلَمة زوجة النبيّ صلی الله علیه وآله قالت: دخل علَيّ رسول الله ذات يوم، ودخل في أثره الحسن والحسين علیهما السلام وجلسا إلى جانبَيه، فأخذ الحسن على ركبته اليُمنى والحسين على ركبته اليسرى، وجعل يُقبّل هذا تارةً وهذا أُخرى، وإذا بجبرائيل قد نزل وقال: يا رسول الله، إنّك لَتحبّ الحسن والحسين. فقال: «وكيف لا أُحبّهما، وهما ريحانتايَ من الدنيا وقُرّتا عيني؟». فقال جبرائيل: يا نبيّ الله، إنّ اللهَ قد حكم عليهما بأمرٍ فاصبِرْ له. فقال: «وما هو يا أخي؟». فقال: قد حكم على هذا الحسن أن يموت مسموماً، وعلى هذا الحسين أن يموت مذبوحاً، وإنّ لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، فإن شئتَ كانت دعوتك لولديك الحسن والحسين، فادعُ الله

ص: 142


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 316 المجلس 1 ح 88.

أن يسلّمهما من السمّ والقتل، وإن شئتَ كانت مصيبتهما ذخيرةً في شفاعتك للعصاة من أُمّتك يوم القيامة. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «يا أخي جبرائيل، أنا راضٍ بحكم ربّي، لا أُريد إلّا ما يُريده، وقد أحببتُ أن تكون دعوتي ذخيرةً لشفاعتي في العُصاة من أُمّتي، ويقضي الله في وَلدَيّ ما يشاء» ((1)).

وفي (كامل الزيارات)، عن الصادق علیه السلام: «لمّا أن هبط جبرئيل علیه السلام على رسول الله صلی الله علیه وآله بقتل الحسين علیه السلام، أخذ بيد عليّ فخلا به مليّاً من النهار، فغلبَتهما العَبرة، فلم يتفرّقا حتّى هبط عليهما جبرئيل علیه السلام -- أو قال: رسول ربّ العالمين -- فقال لهما: ربُّكما يُقرؤكما السلام ويقول: عزمتُ عليكما لما صبرتما». قال:«فصبرا» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن ابن عبّاسٍ قال: الملَك الّذي جاء إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يُخبره بقتل الحسين علیه السلام كان جبرئيل علیه السلام الروح الأمين، منشورَ الأجنحة باكياً صارخاً، قد حمل من تربة الحسين علیه السلام وهي تفوح كالمسك، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «وتُفلح أُمّتي تقتل فرخي -- أو قال: فرخ ابنتي --؟!»، فقال جبرئيل: يضربها الله بالاختلاف، فتختلف قلوبهم ((3)).

ص: 143


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 83 المجلس 5.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 55 الباب 16 ح 1.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 61 الباب 17 ح 7.

[الإخبار بشهادته علیه السلام]

وفي (كفاية الأثر)، عن ابن عبّاسٍ قال: دخلتُ على النبيّ صلی الله علیه وآله ، والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما ويقول: «اللّهمّ والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما». ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، كأنّي به وقد خضبت شيبته مِن دمه، يدعو فلا يُجاب ويُستنصَر فلا يُنصَر». قلت: مَن يفعل ذلك يا رسول الله؟! قال: «شِرار أُمّتي، ما لهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي» ((1)).

وفي كتاب (مثير الأحزان)، عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا اشتدّ برسول الله صلی الله علیه وآله مرضه الّذي مات فيه، وقد ضمّ الحسين علیه السلام إلى صدره، يسيل من عرقه عليه وهو يجود بنفسه ويقول: «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله فيه! اللّهمّ العنيزيد». ثمّ غُشي عليه طويلاً وأفاق، وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان ويقول: «أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدَي الله عزوجل» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «بينما رسول الله صلی الله علیه وآله في منزل فاطمة والحسين في حِجره، إذ بكى وخرّ ساجداً، ثمّ قال: يا فاطمة يا بنت محمّد، إنّ العليّ الأعلى تراءى لي في بيتكِ هذا في ساعتي هذه في أحسن صورة وأهيإ هيئة، فقال لي: يا محمّد، أتحبّ الحسين؟ قلت: يا ربّ، قرّة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عينَيّ. فقال لي: يا محمّد -- ووضع يده على رأس

ص: 144


1- ([3]) كفاية الأثر للخزّاز: 16.
2- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 22.

الحسين علیه السلام --، بورك مِن مولودٍ عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني، ونقمتي ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي ونكالي على مَن قتله وناصبه وناواه ونازعه، أما إنّه سيّد الشهداء مِن الأوّلين والآخِرين في الدنيا والآخرة، وسيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه وخير، فاقرأْه السلام وبشِّرْه بأنّه راية الهدى ومنار أوليائي وحفيظي وشهيدي على خلقي وخازن علمي وحجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين والثقلين الجنّ والإنس» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُني»، فما زال يُدنيه حتّىأجلسه على فخذه اليمنى، ثمّ أقبل الحسين علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُني»، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليسرى، ثمّ أقبلَت فاطمة علیها السلام، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُنيّة»، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا أخي»، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً مِن هؤلاء إلّا بكيت! أوَ ما فيهم مَن تُسرّ برؤيته؟ فقال صلی الله علیه وآله: «والّذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لَأكرم الخلق على الله عزوجل، وما على وجه الأرض نسَمة أحبّ إليّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فإنّه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر

ص: 145


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 6.

بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كلّ مسلم وإمام كلّ مؤمن وقائد كلّ تقيّ، وهو وصيّي وخليفتي على أهلي وأُمّتي في حياتي وبعد موتي، محبّه محبّي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أُمّتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإنّي بكيتُ حين أقبل لأنّي ذكرتُ غدر الأُمة به بعدي، حتّى إنّه لَيُزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثمّ لا يزال الأمر به حتّى يُضرَب على قرنه ضربةً تُخضب منها لحيته في أفضل الشهور، شهر رمضان الّذي أُنزِل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ مِن الهدى والفرقان. وأمّا ابنتي فاطمة، فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعةٌ منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي الّتي بين جنبَيّ، وهي الحوراء الإنسيّة، متى قامت في محرابها بينيدَي ربّها (جلّ جلاله) ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي، انظُروا إلى أَمَتي فاطمة سيّدة إمائي قائمةً بين يدَيّ، ترتعد فرائصها مِن خيفتي، وقد أقبلَت بقلبها على عبادتي، أُشهدُكم أنّي قد آمنتُ شيعتَها من النار. وإنّي لمّا رأيتُها ذكرتُ ما يُصنَع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغُصبَت حقّها، ومُنعَت إرثها، وكُسِر جنبها [و كُسرت جنبتها]، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمّداه، فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونةً مكروبةً باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لِفقد صوتي الّذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدتُ بالقرآن، ثمّ ترى نفسها ذليلةً بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله (تعالى ذكره) بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريمَ بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنّ الله اصطفاكِ وطهّركِ

ص: 146

واصطفاكِ على نساء العالمين، يا فاطمةُ اقنُتي لربّكِ واسجُدي واركعي مع الراكعين. ثمّ يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عزوجل إليها مريم بنت عمران تمرّضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا ربّ، إنّي قد سئمتُ الحياة وتبرمتُ بأهل الدنيا، فألحِقْني بأبي. فيُلحقها اللهُ عزوجل بي، فتكون أوّلَ مَن يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علَيّ محزونةً مكروبةً مغمومةً مغصوبةً مقتولة، فأقولُ عند ذلك: اللّهمّ العَنْ مَن ظلمها، وعاقِبْ مَن غصبها، وذلّل مَن أذلّها، وخلِّدْ في نارك مَن ضرب جنبها حتّى ألقت ولدها. فتقول الملائكة عند ذلك: آمين. وأمّا الحسن، فإنّه ابني ووَلدي، وبضعةٌ منّي، وقُرّةعيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحُجّة الله على الأُمة، أمره أمري وقوله قولي، مَن تبعه فإنّه منّي ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرتُ إليه تذكّرتُ ما يجري عليه من الذلّ بعدي، فلا يزال الأمر به حتّى يُقتَل بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبعُ الشداد لموته، ويبكيه كلُّ شيء، حتّى الطير في جوّ السماء والحيتان في جَوف الماء، فمَن بكاه لم تعمَ عينُه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبُه يوم تحزن القلوب، ومَن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام. وأمّا الحسين، فإنّه منّي، وهو ابني ووَلدي، وخيرُ الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين وكهف المستجيرين، وحُجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأُمة، أمره أمري وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيتُه تذكرتُ ما يُصنَع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحرمي وقربي فلا يُجار، فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي، وأُبشّره بالشهادة، فيرتحل عنها إلى أرض

ص: 147

مقتله وموضع مصرعه، أرضِ كربٍ وبلاء وقتلٍ وفناء، تنصره عصابةٌ من المسلمين، أُولئك مِن سادة شهداء أُمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُميَ بسهمٍ فخرّ عن فرسه صريعاً، ثمّ يُذبَح كما يُذبَح الكبش مظلوماً».

ثمّ بكى رسول الله صلی الله علیه وآله ، وبكى مَن حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قال صلی الله علیه وآله -- وهو يقول -- : «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهلُ بيتي بعدي». ثمّدخل منزله ((1)).

وروى ابن بابويه أيضاً، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: «بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله صلی الله علیه وآله ، إذ التفت إلينا فبكى، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي ممّا يُصنَع بكم بعدي. فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أبكي مِن ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن في الفخذ والسمّ الّذي يُسقى، وقتل الحسين». قال: «فبكى أهل البيت جميعاً، فقلت: يا رسول الله، ما خلقَنا ربُّنا إلّا للبلاء. قال: أبشِرْ يا عليّ، فإنّ الله عزوجل قد عهد إليّ أنّه لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «لمّا أُسريَ بالنبيّ صلی الله علیه وآله إلى السماء، قيل له: إنّ الله (تبارك وتعالى) يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك. قال: أُسلّم لأمرك يا ربّ، ولا قوّة لي على الصبر إلّا بك، فما هنّ؟ قيل له: أوّلهنّ الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك لأهل الحاجة. قال: قبلتُ يا ربّ ورضيتُ

ص: 148


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 112 المجلس 24 ح 2.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 134 المجلس 28 ح 2.

وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا الثانية فالتكذيب والخوف الشديد، وبذلك مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يُصيبك منهم من الأذى ومن أهل النفاق، والألم في الحرب والجراح. قال: قبلتُ يا ربّ ورضيتُ وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا الثالثة فما يلقى أهلبيتك من بعدك من القتل، أمّا أخوك عليّ فيلقى من أُمّتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد [والجهد] والظلم، وآخر ذلك القتل. فقال: يا ربّ قبلتُ ورضيت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا ابنتك فتُظلَم وتُحرَم ويُؤخَذ حقّها غصباً الّذي تجعله لها، وتُضرَب وهي حامل، ويُدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن، ثمّ يمسّها هوان وذلّ، ثمّ لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب. قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قبلتُ يا ربّ وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر [للصبر]. ويكون لها مِن أخيك ابنان، يُقتَل أحدهما غدراً، ويُسلَب ويُطعَن، تفعل به ذلك أُمّتك. قلت: يا ربّ قبلتُ وسلّمت، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ومنك التوفيق للصبر. وأمّا ابنها الآخَر فتدعوه أُمّتك للجهاد، ثمّ يقتلونه صبراً، ويقتلون وُلده ومَن معه من أهل بيته، ثمّ يسلبون حرمه، فيستعين بي وقد مضى القضاء منّي فيه بالشهادة له ولمَن معه، ويكون قتله حُجّةً على مَن بين قطريها، فيبكيه أهلُ السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه، وتبكيه ملائكةٌ لم يُدرِكوا نصرته، ثمّ أُخرِج مِن صلبه ذكراً، به أنصرك، وإنّ شبحه عندي تحت العرش -- وفي نُسخةٍ أُخرى: ثمّ أُخرج من صلبه ذكراً، أنتصر له به، وإنّ شبحه عندي تحت العرش --، يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط، يسير معه الرعب، يقتل حتّى يُشكّ فيه. قلت: إنّا لله. فقيل: ارفع رأسك. فنظرتُ إلى رجلٍ أحسن الناس صورةً وأطيبهم ريحاً، والنور يسطع من بين عينيه

ص: 149

ومن فوقه ومن تحته، فدعوتُه فأقبل إليّ، وعليه ثياب النور وسيماء كلّ خير، حتّى قبّل بين عينَيّ، ونظرتُ إلىالملائكة قد حفّوا به، لا يحصيهم إلّا الله عزوجل، فقلت: يا ربّ، لمن يغضب هذا؟ ولمن أعددتَ هؤلاء؟ وقد وعدتَني النصر فيهم، فأنا أنتظره منك، وهؤلاء أهلي وأهل بيتي، وقد أخبرتَني ممّا يلقون من بعدي، ولئن [ولو] شئتَ لأعطيتني النصر فيهم على مَن بغى عليهم، وقد سلّمتُ وقبلتُ ورضيت، ومنك التوفيق والرضا والعون على الصبر. فقيل لي: أمّا أخوك، فجزاؤه عندي جنّة المأوى نزلاً بصبره، أُفلح [أُفلج] حجّته على الخلائق يوم البعث، وأُوليه حوضك يسقي منه أولياءَكم ويمنع منه أعداءكم، وأجعل عليه جهنّم برداً وسلاماً، يُدخِلها ويُخرِج مَن كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من المودّة، وأجعل منزلتكم في درجةٍ واحدةٍ في الجنّة. وأمّا ابنك المخذول المقتول وابنك المغدور المقتول صبراً، فإنّهما ممّا أُزيّن بهما عرشي، ولهما من الكرامة سوى ذلك ممّا لا يخطر على قلب بشر لما أصابهما من البلاء، فعلَيّ فتوكّل، ولكلّ مَن أتى قبره من الخلق من الكرامة، لأنّ زوّاره زوّارك، وزوّارك زوّاري، وعلَيّ كرامة زوّاري [زائري]، وأنا أُعطيه ما سأل، وأجزيه جزاءً يغبطه مَن نظر إلى عظمتي إيّاه وما أعددتُ له من كرامتي. وأمّا ابنتك، فإنّي أُوقفها عند عرشي، فيقال لها: إنّ الله قد حكّمكِ في خلقه، فمن ظلمكِ وظلم وُلدكِ فاحكمي فيه بما أحببت، فإنّي أُجيز حكومتكِ فيهم. فتشهد العرصة، فإذا وقف مَن ظلمها أمرت به إلى النار، فيقول الظالم: وا حسرتاه على ما فرّطتُ في جنب الله، ويتمنّى الكرّة، ويعضّ الظالم على يديه ويقول: يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً، يا ويلتى، ليتني لم أتّخِذْ فلاناً خليلاً. وقال: حتّى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين، فبئس القرين. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتُم أنّكم في العذاب مشتركون. فيقول الظالم: أنت تحكم

ص: 150

بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، أو الحكم لغيرك؟ فيقال لهم: ألا لعنة الله على الظالمين، الّذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون. وأوّل مَن يحكم فيهم محسن بن علي علیه السلام وفي قاتله، ثمّ في قنفذ، فيؤتيان هو وصاحبه، فيُضربان بسياط من نار، لو وقع سوطٌ منها على البحار لغلت من مشرقها إلى مغربها، ولو وُضعت على جبال الدنيا لذابت حتّى تصير رماداً، فيُضرَبان بها، ثمّ يجثو أمير المؤمنين علیه السلام بين يدَي الله للخصومة مع الرابع، فيدخل الثلاثة في جُبّ فيُطبَق عليهم، لا يراهم أحدٌ ولا يرون أحداً، فيقول الّذين كانوا في ولايتهم: ربّنا أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس، نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين. قال الله عزوجل: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتُم أنّكم في العذاب مشتركون. فعند ذلك ينادون بالويل والثبور، ويأتيان الحوض فيسألان عن أمير المؤمنين علیه السلام، ومعهم حفظة، فيقولان: اعفُ عنّا، واسقِنا وتخلّصنا [خلّصنا]. فيقال لهم: فلمّا رأوه زلفةً سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدّعون بإمرة المؤمنين، ارجعوا ظماءً مظمئين إلى النار، فما شرابكم إلّا الحميم والغِسلين، وما تنفعكم شفاعة الشافعين» ((1)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الجدليّ قال: دخلتُ على أمير المؤمنين، والحسين علیه السلام إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين علیه السلام، ثمّ قال: «إنّ هذا يُقتَل، ولا ينصرهأحد». قال: قلت: يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّ تلك

ص: 151


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 332 الباب 108 ح 12.

لحياة سوء ((1)). قال: «إنّ ذلك لَكائن» ((2)).

وعن هانئ بن هانئ، عن عليّ علیه السلام قال: «لَيقتل الحسين قتلاً، وإنّي لَأعرف تربة الأرض الّتي يُقتَل عليها قريباً من النهرين» ((3)).

وعن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «قال عليٌّ علیه السلام للحسين علیه السلام : يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قدماً. فقال: جُعلتُ فداك، ما حالي؟ قال: علمتَ ما جهلوا، وسينتفع عالمٌ بما علم، يا بُنيّ اسمع وأبصِر من قبل أن يأتيك، فوَالّذي نفسي بيده لَيسفكنّ بنو أُميّة دمَك، ثمّ لا يزيلونك عن دينك ولا يُنسونك ذكر ربّك. فقال الحسين: والّذي نفسي بيده، حسبي، أقررتُ بما أنزل الله، وأُصدّق قول نبيّ الله، ولا أُكذّب قول أبي» ((4)).

وفي كتاب (كامل الزيارات)، عن الحارث الأعور قال: قال عليٌّ علیه السلام: «بأبي وأُمّيَ الحسين المقتول بظهر الكوفة، واللهِ كأنّي أنظر إلى الوحوش مادّةً أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتّى الصباح، فإذا كان ذلك فإيّاكم والجفاء» ((5)). يعني: لا تتركوا زيارته.

ص: 152


1- ([1]) ترجمها المؤلّف: إنّ الحياة تلك الأيام لَحياة سوء.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 1.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 3.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 2.
5- ([5]) كامل الزيارات: 79 الباب 26 ح 2.

وروى الشيخ المفيد، عن إسماعيل بن زياد ((1)) قال: إنّ عليّاً علیه السلام قال للبراء بن عازب يوماً: «يا براء، يُقتَل ابني الحسين علیه السلام وأنت حيٌّ لا تنصره». فلمّا قُتِل الحسين بن عليّ علیه السلام كان البراء بن عازب يقول: صدق واللهِ عليّ ابن أبي طالب؛ قُتِل الحسين ولم أنصره. ثمّ يُظهِر الحسرة على ذلك والندم ((2)).

وفي تفسير (فرات بن إبراهيم)،عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان الحسين علیه السلام مع أُمّه تحمله، فأخذه النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك اللهُ المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك. قالت فاطمة [الزهراء علیه السلام]: يا أبتِ أيّ شيءٍ تقول؟! قال: يا بنتاه، ذكرتُ [ذكرته] ما يصيب بعدي وبعدكِ من الأذى والظلم [و الغدر] والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادَون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم. قالت: يا أبت، وأنّى [وأيّ -- وأين] هذا الموضع الّذي تصف؟ قال: موضعٌ يُقال له: كربلاء، وهي دار كربٍ وبلاءٍ علينا وعلى الأُمّة، يخرج [عليهم] شرار أُمّتي، وإنّ أحدهم لو [ولو أنّ أحدهم -- لو أن] يشفع [شفع] له مَن في السماوات والأرضين ما شُفّعوا فيه، وهم المخلَّدون في النار. قالت: يا أبه، فيُقتَل؟! قال: نعم يا بنتاه، وما قُتِل قتلته أحدٌ كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة [والوحش] والنباتات والبحار والجبال، ولو يُؤذَن لها [ما بقي] على الأرض متنفَّس،

ص: 153


1- ([1]) في المتن: (عن البراء بن عازب).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 1 / 331.

ويأتيه قومٌ من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقّنا [لحقّنا] منهم، وليس على ظهر الأرض أحدٌ يلتفت إليه غيرهم، أُولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا علَيّ بسيماهم، وكلّ أهل دِينٍ [يطلبون أئمّتهم وهم] يطلبونا [و] لا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض، وبهم ينزل الغيث. فقالت فاطمة [الزهراء] علیها السلام: يا أبت، إنّا لله. وبكت، فقال لها: يا بنتاه، إنّ أهل الجِنان هم الشهداء في الدنيا، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون، وعداً عليه حقّاً [الحقّ]، فما عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، [و ما فيها] قتلة أهون من ميتته مَن كتب عليه القتل، خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتَل فسوف يموت، يا فاطمة بنت محمّد، أما تحبين أن تأمرين غداً [بأمرٍ] فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنُك من حملة العرش؟ أما ترضين [أن يكون] أبوك يأتونه [يأتيه] يسألونه الشفاعة؟ أما ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيمَ [الجنة و] النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرِج منها مَن يشاء ويترك من يشاء؟ أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء، ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعلكِ [و] قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله؟ فما ترين الله صانع بقاتل وَلدك وقاتليك إذا أفلحتِ [فلجت] حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه؟ أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون من أتاه بمنزلة منحجّ إلى بيت [الله الحرام] واعتمر، ولم يخلو [يخل] من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظَة تدعو له ما بقي، ولم يزل

ص: 154

في حفظ الله وأمنه حتّى يفارق الدنيا؟ قالت: يا أبتِ سلّمتُ ورضيتُ وتوكّلتُ على الله. فمسح على قلبها ومسح [على] عينيها، فقال: إنّي وبعلكِ وأنتِ وابناك في مكانٍ تقرّ عيناك ويفرح قلبك» ((1)).

ص: 155


1- ([1]) تفسير فرات: 171.

ص: 156

الفصل الخامس: في بيان مَن بكى أو أبكى أو تباكى

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن الباقر علیه السلام أنّه قال: «كان زين العابدين علیه السلام يقول: أيّما مؤمنٍ زرفت عيناه لقتل الحسين علیه السلام حتّى تسيل على خدّه بوّأه الله غرفاً في الجنّة يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله منزل صدق، وأيّما مؤمنٍ مسّه أذىً فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار».

ورُوي عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر».

ورُوي أيضاً عن آل الرسول علیهم السلام أنّهم قالوا: «مَن بكى أو أبكى فينا مئة ضمنّا له على الله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى خمسين فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى عشرة فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى واحداً

ص: 157

فله الجنّة، ومَن تباكى فله الجنّة» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: قال الرضا علیه السلام: «مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكِب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينُه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيا فيه أمرُنا لم يمت قلبُه يوم تموت القلوب» ((2)).

وفيه أيضاً، عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن آبائه علیه السلام ، قال: «قال أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام : أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلّا استعبر» ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: كنّا عنده فذكرنا الحسين (عليه السلام، وعلى قاتله لعنة الله)، فبكى أبو عبد الله علیه السلام وبكينا، قال: ثمّ رفع رأسه فقال: «قال الحسين علیه السلام: أنا قتيل العَبرة؛ لا يذكرني مؤمنٌ إلّا بكى» ((4)).

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «نظر أمير المؤمنين إلى الحسين، علیه السلام فقال: يا عَبرة كلّ مؤمن. فقال: أنا يا أبتاه؟! قال: نعم يا بُنيّ» ((5)).

ص: 158


1- ([1]) اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: 9 -- 10.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 73 المجلس 17 ح 4.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 7.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 6.
5- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 1.

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال الحسين علیه السلام : أنا قتيل العَبرة، قُتلتُ مكروباً، وحَقيقٌ علَيّ أن لايأتيني مكروبٌ قطّ إلّا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسروراً» ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن أبي عمارة المنشد قال: ما ذُكِر الحسين علیه السلام عند أبي عبد الله علیه السلام في يومٍ قطّ فرُئيَ أبو عبد الله علیه السلام متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان علیه السلام يقول: «الحسين علیه السلام عَبرة كلّ مؤمن» ((2)).

وفي (الخصال)، عن أمير المؤمنين علیه السلام : «إنّ الله (تبارك وتعالى) اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعةً ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منّا وإلينا» ((3)).

وقال علیه السلام : «كلّ عينٍ يوم القيامة باكية، وكلّ عينٍ يوم القيامة ساهرة، إلّا عينُ مَن اختصّه الله بكرامته وبكى على ما يُنتهَك من الحسين وآل محمّد علیهما السلام» ((4)).

وروى الشيخ المفيد في كتاب (المجالس)، عن الربيع بن المنذر، عن

ص: 159


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 7.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 2.
3- ([3]) الخصال للصدوق: 2 / 635.
4- ([4]) الخصال للصدوق: 2 / 625.

أبيه، عن الحسين بن عليّ علیه السلام قال: «ما مِن عبدٍ قطرت عيناه فينا قطرةً أو دمعت عيناه فينا دمعة، إلّا بوّأه الله بها في الجنّة حقباً». قال أحمد بن يحيى الأودي: فرأيتُ الحسين بن عليّ علیه السلام في المنام، فقلت: حدّثَني مخول بن إبراهيم عن الربيع بن المنذر عن أبيه عنك أنّك قلت: «ما مِن عبدٍ قطرت عيناه فينا قطرةً أو دمعت عيناه فينا دمعة، إلّا بوّأه الله بها فيالجنّة حقباً». قال: «نعم». قلت: سقط الإسناد بيني وبينك ((1)).

وروى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي)، عن أبان بن تغلب ((2))، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام قال: «نفَسُ المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهادٌ في سبيل الله». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «يجب أن يُكتَب هذا الحديث بالذهب» ((3)).

وفيه أيضاً، عن محمّد بن أبي عمارة الكوفيّ قال: سمعتُ جعفر بن محمّد علیهما السلام يقول: «مَن دمعت عينه دمعةً لدمٍ سُفِك لنا، أو حقٍّ لنا أُنقِصناه، أو عرضٍ انتُهِك لنا أو لأحدٍ من شيعتنا، بوّأه الله (تعالى) بها في الجنّة حُقباً» ((4)).

وفي (كامل الزيارة)، عن فُضَيل بن فضالة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال:

ص: 160


1- ([1]) الأمالي للمفيد: 340 المجلس 40 ح 6، الأمالي للطوسي: 116 المجلس 4 ح 35.
2- ([2]) في المتن: (ثعلب).
3- ([3]) الأمالي للطوسي: 115 المجلس 4 ح 32.
4- ([4]) الأمالي للطوسي: 194 المجلس 7 ح 32.

«مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه، حرّم اللهُ وجهه على النار» ((1)).

وفيه أيضاً، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لكلّ سرٍّ ((2))ثواب، إلّا الدمعة فينا» ((3)).

قال المؤلّف:

لعلّ المقصود أنّ إخفاء أيّ مصيبةٍ والصبر عليها يستوجب الثواب، إلّا البكاء على الحسين علیه السلام. أو المراد أنّ أيّ سرٍّ له ثوابٌ من حيث كونه سرّاً أكثر من العلانية، إلّا البكاء على الحسين علیه السلام فإنّ ثواب الإسرار بالبكاء عليه أقلّ أو مساوٍ للإعلان عنه، وربما كانت أفضليّة الإعلان في ذلك أنّ البكاء لا يحتمل الرياء، فيتأسّى الناس به ويتحزّنون بالنظر إليه.

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله علیه السلام -- في حديثٍ طويلٍ له -- : «ومَن ذُكِر الحسين علیه السلام عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثواب-ه على الله عزوجل ولم ي-رضَ له بدون

ص: 161


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 104 الباب 32 ح 10.
2- ([6]) في النسخة المطبوعة: (شيء) بدل (سرّ)، وما أثبتناه من (بحار الأنوار) عن (كامل الزيارات)، وكذا هي نسخة المؤلّف عن (الكامل)، لذا ترجمها: لكلّ بكاءٍ في السرّ.
3- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 33 ح 6.

الجنّة» ((1)).

وفيه أيضاً، عن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سمعتُه يقول: «إنّ البكاء والجزع مكروهٌ للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي علیه السلام ، فإنّه فيه مأجور» ((2)).

وروى الشيخ الطوسيّ في كتابه (الأمالي)، عن محمّد بن مسلمقال: سمعتُ أبا عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام يقول: «إنّ الحسين بن عليّ علیهما السلام عند ربّه عزوجل ينظر إلى موضع معسكره ومَن حلّه من الشهداء معه، وينظر إلى زوّاره، وهو أعرف بحالهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنزلتهم عند الله عزوجل من أحدكم بولده، وإنّه لَيرى مَن يبكيه فيستغفر له، ويسأل آباءه علیهم السلام أن يستغفروا له، ويقول: لو يعلم زائري ما أعدّ الله له لكان فرحه أكثر من جزعه. وإنّ زائره لَينقلب وما عليه من ذنب» ((3)).

وفي كتاب (المنتخب)، رُوي عن الصادق علیه السلام أنّه إذا هلّ هلال عاشور اشتدّ حزنُه وعظم بكاؤه على مصاب جدّه الحسين علیه السلام ، والناس يأتون إليه مِن كُلّ جانبٍ ومكانٍ يُعزّونه بالحسين، ويبكون وينوحون على مصاب الحسين علیه السلام ، فإذا فرغوا من البكاء يقول لهم: «أيّها الناس، اعلموا أنّ الحسين

ص: 162


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 100 الباب 32 ح 3.
2- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 100 الباب 32 ح 2.
3- ([1]) الأمالي للطوسي: 54 المجلس 2 ح 43.

حيٌّ عند ربّه يُرزَق من حيث يشاء، وهو علیه السلام دائماً ينظر إلى موضع عسكره ومصرعه ومَن حلّ فيه من الشهداء، وينظر إلى زوّاره والباكين عليه والمقيمين العزاء عليه، وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنازلهم في الجنّة، وإنّه لَيرى مَن يبكي عليه فيستغفر له، ويسأل جدّه وأباه وأُمّه وأخاه أن يستغفروا للباكين على مصابه والمقيمين عزاءه، ويقول: لو يعلم زائري والباكي علَيّ ما له من الأجر عند الله (تعالى)، لكان فرحه أكثر من جزعه، وأنّ زائري والباكي علَيّ لينقلب إلى أهله مسروراً، وما يقوممن مجلسه إلّا وما عليه ذنب، وصار كيوم ولدته أُمّه» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الله بن بكير قال: حججتُ مع أبي عبد الله علیه السلام -- في حديثٍ طويل --، فقلت: يا ابن رسول الله، لو نُبِش قبر الحسين بن عليّ علیه السلام ، هل كان يُصاب في قبره شيء؟ فقال: «يا ابن بكير، ما أعظم مسائلك! إنّ الحسين علیه السلام مع أبيه وأُمّه وأخيه في منزل رسول الله صلی الله علیه وآله، ومعه يُرزقون ويحبرون، وإنّه لَعن يمين العرش متعلّقٌ به، يقول: يا ربِّ أنجزْ لي ما وعدتني. وإنّه لَينظر إلى زوّاره، وإنّه أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده، وإنّه لَينظر إلى مَن يبكيه فيستغفر له، ويسأل أباه الاستغفار له، ويقول: أيّها الباكي، لو علمتَ ما أعدّ الله لك لَفرحتَ أكثر ممّا حزنت. وإنّه لَيستغفر له مِن كلّ ذنبٍ وخطيئة» ((2)).

وروى ابن قولويه أيضاً في كتاب (كامل الزيارة)، عن مسمع بن عبد

ص: 163


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 39 المجلس 2.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 103 الباب 32 ح 7.

الملك كردين البصريّ قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «يا مسمع، أنت مِن أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين علیه السلام »، قلت: لا؛ أنا رجلٌ مشهورٌ عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثيرٌ من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولستُ آمنهم أن يرفعوا حالي عند وُلد سليمان فيمثّلون بي. قال لي: «أفما تذكر ما صُنِع به؟»، قلت: نعم. قال: «فتجزع؟»،قلت: إي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علَيّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي. قال: «رحم الله دمعتك، أما إنّك مِن الّذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيّتهم ملَك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، ولَملَك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمةً لك من الأُمّ الشفيقة على ولدها». قال: ثمّ استعبر، واستعبرتُ معه، فقال: «الحمد لله الّذي فضلَنا على خلقه بالرحمة، وخصّنا أهل البيت بالرحمة. يا مسمع، إنّ الأرض والسماء لَتبكي منذ قتل أمير المؤمنين علیه السلام رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموعُ الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحدٌ رحمةً لنا ولما لقينا إلّا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خدّه فلو أنّ قطرةً من دموعه سقطت في جهنّم لَأطفأت حرّها حتّى لا يوجَد لها حرّ، وإنّ الموجع لنا قلبه لَيفرح يوم يرانا عند موته فرحةً لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر لَيفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتّى إنّه لَيذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه، يا مسمع، مَن شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً، ولم

ص: 164

يستقِ بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم، ويمرّ بأنهار الجنان يجري على رضراض الدرّ والياقوت، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء، يوجَد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضّة وألوان الجوهر، يفوح في وجهالشارب منه كلّ فائحة، حتّى يقول الشارب منه: يا ليتني تُركتُ هاهنا، لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنّك -- يا ابن كردين -- ممّن تُروى منه، وما من عينٍ بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر، وسقيت منه من أحبّنا، وإنّ الشارب منه لَيُعطى من اللذّة والطعم والشهوة له أكثر ممّا يعطاه مَن هو دونه في حبّنا، وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين علیه السلام ، وفي يده عصاً مِن عوسج، يحطم بها أعداءنا، فيقول الرجل منهم: إنّي أشهد الشهادتين، فيقول: انطلقْ إلى إمامك فلان فاسألْه أن يشفع لك، فيقول: تبرّأَ منّي إمامي الّذي تذكره، فيقول: ارجع إلى ورائك فقل للّذي كنت تتولّاه وتقدّمه على الخلق، فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإنّ خير الخلق مَن يشفع [حقيقٌ أن لا يردّ إذا شُفّع]، فيقول: إنّي أهلك عطشاً! فيقول له: زادك الله ظمأً، وزادك الله عطشاً». قلت: جُعلتُ فداك، وكيف يقدر على الدنوّ من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟ فقال: «وَرِعَ عن أشياء قبيحة، وكفّ عن شتمنا أهل البيت إذا ذُكِرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيرُه، وليس ذلك لحبّنا ولا لهوىً منه لنا، ولكنّ ذلك لشدّة اجتهاده في عبادته وتديّنه ولِما قد شغَل نفسَه به عن ذكر الناس، فأمّا قلبه فمنافق، ودينه النصب واتّباعه أهل

ص: 165

النصب وولاية الماضين وتقديمه لهما على كلّ أحد» ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن زرارة قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «يا زرارة، إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّالشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحُمرة، وإنّ الجبال تقطّعَت وانتثرت، وإنّ البحار تفجّرت، وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين علیه السلام ، وما اختضبَت منّا امرأةٌ ولا ادّهنَت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عَبرةٍ بعده، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتّى تملأ عيناه لحيته، وحتّى يبكي لبكائه رحمةً له مَن رآه، وإنّ الملائكة الّذين عند قبره لَيبكون، فيبكي لبكائهم كلُّ مَن في الهواء والسماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسُه علیه السلام فزفرت جهنّمُ زفرةً كادت الأرض تنشقّ لزفرتها، ولقد خرجت نفسُ عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنّم شهقةً لو لا أنّ الله حبسها بخزّانها لَأحرقت مَن على ظهر الأرض من فورها، ولو يُؤذَن لها ما بقيَ شيءٌ إلّا ابتلعته، ولكنّها مأمورة مصفودة، ولقد عتَت على الخُزّان غير مرّة، حتّى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت، وإنّها لَتبكيه وتندبه، وإنّها لَتتلظّى على قاتله، ولولا مَن على الأرض مِن حجج الله لَنقضت الأرض وأكفأت بما عليها، وما تكثر الزلازل إلّا عند اقتراب الساعة، وما مِن عينٍ أحبّ إلى الله ولا عَبرةٍ مِن عينٍ بكت ودمعت عليه، وما مِن باكٍ يبكيه إلّا وقد وصل فاطمةعلیها السلام وأسعدها عليه، ووصل رسول الله، وأدّى حقَّنا، وما مِن عبدٍ يُحشَر إلّا وعيناه باكية، إلّا الباكين على جدّي

ص: 166


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 101 الباب 32 ح 6.

الحسين علیه السلام ، فإنّه يُحشَر وعينه قريرة، والبشارة تلقّاه، والسرور بيّنٌ على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يُعرَضون وهم حُدّاث الحسين علیه السلام تحت العرش وفي ظلّ العرش، لا يخافون سوء يوم الحساب، يُقاللهم: ادخلوا الجنّة، فيأبون، ويختارون مجلسه وحديثه، وإنّ الحور لَترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلَّدين، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لِما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإنّ أعداءهم من بين مسحوبٍ بناصيته إلى النار ومِن قائلٍ: فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم، وإنّهم لَيرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنّ الملائكة لَتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خدّامهم على ما أُعطوا من الكرامة، فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه من الكرامة وقربهم من الحسين علیه السلام ، فيقولون: الحمد لله الّذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب، فيستوون عليها، وهم في الثناء على الله والحمد لله والصلاة على محمّدٍ وآله حتّى ينتهوا إلى منازلهم» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبي بصيرٍ قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام أُحدّثه، فدخل عليه ابنه، فقال له: «مرحباً»، وضمّه وقبّله، وقال: «حقّر الله مَن حقّركم، وانتقم ممّن وتركم، وخذل الله مَن خذلكم، ولعن الله مَن قتلكم، وكان الله لكم وليّاً وحافظاً وناصراً، فقد طال بكاء النساء وبكاء الأنبياء والصدّيقين والشهداء وملائكة السماء». ثمّ بكى، وقال: «يا أبا بصير، إذا نظرتُ إلى وُلد

ص: 167


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 81 الباب 26 ح 6.

الحسين أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم. يا أبا بصير، إنّ فاطمة علیها السلام لَتبكيه وتشهق، فتزفر جهنّمزفرةً لو لا أنّ الخَزَنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عُنق أو يشرد دخانها فيُحرِق أهل الأرض، فيحفظونها [فيكبحونها] ما دامت باكية، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتّى يسكن صوت فاطمة الزهراء، وإنّ البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض، وما منها قطرة إلّا بها ملَك موكّل، فإذا سمع الملَك صوتها أطفأ نارها بأجنحته، وحبس بعضها على بعض مخافةً على الدنيا وما فيها ومَن على الأرض، فلا تزال الملائكة مشفقين يبكونه لبكائها، ويدعون الله ويتضرّعون إليه ويتضرّع أهل العرش ومَن حوله، وترتفع أصواتٌ من الملائكة بالتقديس لله مخافةً على أهل الأرض، ولو أنّ صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لَصُعِق أهل الأرض وتقطّعت الجبال وزُلزِلت الأرض بأهلها». قلت: جُعلتُ فداك، إنّ هذا الأمر عظيم! قال: «غيره أعظم منه ما لم تسمعه»، ثمّ قال لي: «يا أبا بصير، أما تحبّ أن تكون فيمن يسعد فاطمة علیها السلام»، فبكيتُ حين قالها، فما قدرتُ على المنطق وما قدر على كلامي من البكاء، ثمّ قام إلى المصلّى يدعو، فخرجتُ مِن عنده على تلك الحال، فما انتفعتُ بطعامٍ وما جاءني النوم، وأصبحتُ صائماً وَجِلاً حتّى أتيتُه، فلمّا رأيتُه قد سكن سكنت، وحمدتُ الله حيث لم تنزل بي عقوبة ((1)).

ص: 168


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 82 الباب 26 ح 7.

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الملك بن مقرن، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا زرتم أبا عبد الله علیه السلام فالزموا الصمت إلّا مِن خير، وإنّ ملائكة الليل والنهار مِن الحَفَظةتحضر الملائكة الّذين بالحائر فتصافحهم، فلا يجيبونها مِن شدّة البكاء، فينتظرونهم حتّى تزول الشمس وحتّى ينور الفجر، ثمّ يكلّمونهم ويسألونهم عن أشياء مِن أمر السماء، فأمّا ما بين هذين الوقتين فإنّهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء، ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم، فإنّما شغلهم بكم إذا نطقتُم». قلت: جُعلتُ فداك، وما الّذي يسألونهم عنه؟ وأيّهم يسأل صاحبه، الحَفَظة أو أهل الحائر؟ قال: «أهل الحائر يسألون الحفَظة؛ لأنّ أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون، والحفظة تنزل وتصعد». قلت: فما ترى يسألونهم عنه؟ قال: «إنّهم يمرّون -- إذا عرجوا -- بإسماعيل صاحب الهواء، فربّما وافقوا النبيّ صلی الله علیه وآله وعنده فاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمّة مَن مضى منهم، فيسألونهم عن أشياء ومَن حضر منكم الحائر، ويقولون: بشّروهم بدعائكم، فتقول الحفَظَة: كيف نبشّرهم وهم لا يسمعون كلامنا؟! فيقولون لهم: باركوا عليهم وادعوا لهم عنّا، فهي البشارة منّا، فإذا انصرفوا فحفّوهم بأجنحتكم حتّى يحسّوا مكانكم، وإنّا نستودعهم الّذي لا تضيع ودائعه، ولو يعلمون ما في زيارته من الخير ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف، ولَباعوا أموالهم في إتيانه، وإنّ فاطمة علیها السلام إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبيّ وألف صدّيق وألف شهيد ومن الكروبيّين ألف ألف يُسعِدونها على البكاء، وإنّها لَتشهق شهقةً فلا يبقى في السماوات ملَكٌ إلّا بكى رحمةً لصوتها، وما تسكن حتّى يأتيها النبيّ صلی الله علیه وآله [أبوها]

ص: 169

فيقول: يا بُنيّة، قد أبكيتِ أهل السماوات وشغلتِهم عن التسبيح والتقديس، فكُفّي حتّى يُقدّسوا، فإنّ الله بالغ أمره.وإنّها لَتنظر إلى مَن حضر منكم فتسأل الله لهم من كلّ خير، ولا تزهدوا في إتيانه؛ فإنّ الخير في إتيانه أكثر من أن يُحصى» ((1)).

ورُوي عن جارود بن المنذر، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما امتشطَت فينا هاشميّةٌ ولا اختضبَت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الّذين قتلوا الحسين (صلوات الله عليه)» ((2)).

وفي حديثٍ آخَر، عن جعفر بن محمّدٍ الصادق علیهما السلام أنّه قال: «ما اكتحلَت هاشميّةٌ ولا اختضبَت، ولا رُئيَ في دار هاشميّ دخان خمس حجج، حتّى قُتِل عبيد الله بن زياد (لعنه الله)» ((3)).

وفي حديثٍ آخَر، عن فاطمة بنت عليّ: «ما تحنّأت امرأةٌ منّا ولا أجالت في عينها مِرْوداً ولا امتشطَت، حتّى بعث المختارُ رأسَ عُبيد الله بن زياد» ((4)).

وروى الصدوق في (الأمالي)، عن الريّان بن شبيب قال: دخلتُ على الرضا علیه السلام في أوّل يومٍ من المحرّم، فقال لي: «يا ابن شبيب، أصائمٌ أنت؟»، فقلت: لا، فقال: «إنّ هذا اليوم هو اليوم الّذي دعا فيه زكريّا علیه السلام

ربّه عزوجل، فقال: ربِّ هبْ لي من لدنك ذريّةً طيّبة، إنّك سميع الدعاء. فاستجاب الله له، وأمر

ص: 170


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 86 الباب 27 ح 16.
2- ([2]) رجال الكشّي: 127، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 344.
3- ([3]) ذَوب النضّار لابن نما الحلّي: 144، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.
4- ([4]) ذوب النضّار لابن نما الحلّي: 144، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.

الملائكة فنادت زكريّا وهو قائمٌ يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى، فمَن صام هذا اليوم ثمّ دعا الله؟عز؟استجاب الله له كما استجاب لزكريّا علیه السلام »، ثمّ قال: «يا ابن شبيب، إنّ المحرّم هو الشهر الّذي كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأُمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها صلی الله علیه وآله، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثِقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً. يا ابن شبيب، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فإنّه ذُبح كما يُذبَح الكبش، وقُتِل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قُتِل فهم، عند قبره شُعثٌ غبرٌ إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين. يا ابن شبيب، لقد حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام أنّه لمّا قُتِل الحسين جدّي علیه السلام مطرت السماء دماً وتراباً أحمر. يا ابن شبيب، إن بكيتَ على الحسين علیه السلام حتّى تصير دموعك على خدَّيك، غفر اللهُ لك كلَّ ذنبٍ أذنبتَه، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تلقى الله عزوجل ولا ذنب عليك، فزُر الحسين علیه السلام. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبيّ وآله صلی الله علیه وآله، فالعن قتَلَة الحسين. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون لك من الثواب مثل ما لمن استُشهِد مع الحسين علیه السلام ، فقل متى ما ذكرتَه: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزَنْ لحزننا وافرح

ص: 171

لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة» ((1)).

وفي كتاب (قُرب الإسناد)، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لفُضَيل: «تجلسون وتحدّثون؟»، قال: نعم، جُعلتُ فداك. قال: «إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرَنا يا فُضَيل، فرحم اللهُ مَن أحيا أمرنا. يا فُضَيل، مَن ذكرَنا أو ذُكِرنا عنده فخرج مِن عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» ((2)).

وعن جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «نفَس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّه جهادٌ في سبيل الله». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «يجب أن يُكتَب هذا الحديث بماء الذهب».

وعنه علیه السلام أنّه قال: «رحم الله شيعتَنا، إنّهم أُوذوا فينا ولم نود [نؤذَ] (1) فيهم، شيعتنا منّا، قد خُلِقوا مِن فاضل طينتنا وعُجِنوا بنور ولايتنا، رضوا بنا أئمّةً ورضينا بهم شيعة، يُصيبهم مصابنا ويُبكيهم ما أصابنا، ويُحزنهم حزننا ويسرّهم سرورنا، ونحن أيضاً نتألّم لتألّمهم، ونطّلع على أحوالهم، فهم معنا، لا يفارقونا ولا نفارقهم؛ لأنّ مرجع العبد إلى سيّده ومعوّله على مولاه، فهم يهجرون مَن عادانا، ويجهرون بمدح مَن والانا، ويباعدون مَن آذانا. اللّهمّ أحيي شيعتنا في دولتنا، وابقِهِم في مُلكنا، اللّهمّ ملكتنا، اللّهمّ إنّ شيعتنا منّا ومضافين إلينا، فمَن ذكر مصابنا وبكى لأجلنا

ص: 172


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 127 المجلس 27 ح 5.
2- ([2]) قرب الإسناد للحِميَري: 36 ح 117.

أو تباكى استحى الله أن يُعذّبه بالنار» ((1)).

وفي كتاب (المنتخب): وعن الباقر علیه السلام ((2)) أنّه قال: «رحم الله شيعتنا، لقد شاركونا بطول الحزن على مصاب جدّي الحسين علیه السلام » ((3)).

وفي كتاب (الأمالي) للصدوق: عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا علیه السلام: «إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستُحلَّت فيه دماؤنا، وهُتِك فيه حرمتنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمَت النيران في مضاربنا، وانتُهِب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله حرمة في أمرنا، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ((4))، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، وأورثتنا يا أرض كربٍ وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مِثل الحسين فلْيبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام». ثمّ قال علیه السلام: «كان أبي علیه السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الّذي قُتِل فيه الحسين علیه السلام » ((5)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن دعبل الخُزاعيّ قال: دخلتُ على سيّدي

ص: 173


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 2 / 262 المجلس 2.
2- ([2]) في المتن: (عن الصادق علیه السلام).
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 448 المجلس 10.
4- ([4]) في المتن: (عيوننا).
5- ([5]) الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2.

ومولاي عليّ بن موسى الرضا علیه السلام في مثل هذه الأيام، فرأيتُه جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه مِن حوله، فلمّا رآني مُقبِلاً قال لي: «مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه»، ثمّ إنّه وسّع لي وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: «يا دعبل، أُحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزنٍ كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرورٍ كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُميّة. يا دعبل، مَن بكى أو أبكى على مصابنا ولو كان واحداً أجره على الله. يا دعبل، مَن ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا مِن أعدائنا، حشره الله معنا في زُمرتنا. يادعبل، مَن بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتّة». ثمّ إنّه علیه السلام نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين علیه السلام ، ثمّ التفت إليّ وقال: «يا دعبل، ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمتَ حيّاً، فلا تقصِّر عن نصرتنا ما استطعت».

قال دعبل: فاستعبرتُ وسالت عبرتي، وأنشأتُ أقول:

أفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مجدَّلاً***وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

إذاً لَلطمتِ الخدَّ فاطمُ عنده***وأجريتِ دمعَ العين في الوَجَناتِ

أفاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ واندُبي***نجومَ سماواتٍ بأرض فَلاتِ

قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطَيبةٍ***وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتِ

قبورٌ ببطن النهر من جَنب كربلا***مُعرَّسُهم فيها بشطّ فراتِ

قبورٌ ببطن النهر من جَنب كربلا***مُعرَّسُهم فيها بشطّ فراتِ

تُوفّوا عُطاشى بالعَرى فليتني***تُوفّيتُ فيهم قبل حين وفاةِ

ص: 174

إلى الله أشكو لوعةً عند ذكرهم***سقتني بكأس الثكل والصعقاتِ

إذا فخروا يوماً أتوا بمحمّدٍ***وجبريل والقرآن والسوَراتِ

وعدّوا عليّاً ذا المناقبِ والعُلى***وفاطمةَ الزهراءِ خير بناتِ

وحمزةَ والعبّاس ذا الدِّين والتُّقى***وجعفرها الطيّار في الحُجُباتِ

أُولئك مشؤومون هنداً وحربها***سميّة من نوكى ومن قذرات ((1))

همُ منعوا الآباء مِن أخذ حقّهم***وهم تركوا الأبناء رهن شتاتِ

سأبكيهمُ ما حجّ للهِ راكبٌ***وما ناح قِمريٌّ على الشجراتِ

فيا عين إبكيهم وجودي بعبرةٍ***فقد آن للتسكاب والهملاتِ

بناتُ زيادٍ في القصور مصونةٌ***وآلُ رسول الله منهتكاتِ

وآلُ زيادٍ في الحصون منيعةٌ***وآل رسول الله في الفلَواتِ

ديار رسول الله أصبحن بلقعاً***وآل زيادٍ تسكن الحُجُراتِ

وآل رسول الله نُحفٌ جسومهم***وآل زيادٍ غلّظ القصراتِ

وآل رسول الله تُدمى نحورهم***وآل زيادٍ ربّة الحجلاتِ

ص: 175


1- ([1]) كانت أُمّ زياد وجدّة عُبيد الله بن زياد سوداء مُنتنة من ذوات الأعلام المشهورات بالزنا، وزعم معاوية أنّ أبا سفيان زنا بسُميّة فأولدها زياداً (من المتن). (أُنظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 192، مُروج الذهب للمسعودي: 3 / 6، رجال الكشّي: 50، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309).

وآل رسول الله تُسبى حريمهم***وآل زيادٍ آمِنُوا السرباتِ

إذا وُتروا مدّوا إلى واتريهمُ***أكفّاً عن الأوتار منقبضاتِ

سأبكيهمُ ما درّ في الأرض شارقٌ***ونادى منادي الخير للصلواتِ

وما طلعت شمسٌ وحان غروبها***وبالليل أبكيهم وبالغدوات ((1))

وفي كتاب (العيون)، عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ رحمه الله على عليّ بن موسى الرضا علیه السلام بمَرْو، فقال له: يا ابن رسول الله، إنّي قد قلتُ فيكَ قصيدة، وآليتُ على نفسي أن لا أُنشدها أحداً قبلك. فقال علیه السلام: «هاتها». فأنشدَه:

مدارسُ آياتٍ خلَت مِن تلاوةٍ***ومنزلُ وحي مقفر العرصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله:

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً***وأيديهمُ من فيئهم صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا علیه السلام ، وقال له: «صدقتَ يا خزاعي».

فلمّا بلغ إلى قوله:

إذا

وُتِروا مدّوا إلى واتريهمُ

أكفّاً عن الأوتار منقبضاتِ

جعل أبو الحسن علیه السلام يقلّب كفَّيه ويقول: «أجل والله، منقبضات».

فلمّا بلغ إلى قوله:

ص: 176


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 27 المجلس 2.

لقد خِفتُ في الدنيا وأيّام سعيها***وإنّي لَأرجو الأمنَ بعد وفاتي

قال الرضا علیه السلام: «آمنك اللهُ يومَ الفزع الأكبر».

فلمّا انتهى إلى قوله:

وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ***تضمّنها الرحمان في الغرفاتِ

قال له الرضا علیه السلام: «أفلا أُلحقُ لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟»، فقال: بلى يا ابن رسول الله. فقال علیه السلام :

«وقبرٌ بطوسٍ يا لها مِن مصيبةٍ***توقّدُ في الأحشاءِ بالحُرقاتِ

إلى الحشر حتّى يبعث اللهُ قائماً***يفرّجُ عنّا الهمَّ والكُرُباتِ»

فقال دعبل: يا ابن رسول الله، هذا القبر الّذي بطوس قبر مَن هو؟! فقال الرضا علیه السلام : «قبري، ولا تنقضي الأيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلَف شيعتي وزوّاري، ألا فمَن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له».

ثمّ نهض الرضا علیه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه، فدخل الدار، فلمّا كان بعد ساعةٍ خرج الخادمُ إليه بمئة دينار رضويّة، فقال له: يقول لك مولاي: «اجعلْها في نفقتك»، فقال دعبل: واللهِ ما لهذا جئت، ولا قلتُ هذه القصيدة طمعاً في شيءٍ يصل إليّ. ورَدّ الصرّة، وسأل ثوباً من ثياب الرضا علیه السلام ليتبرّك ويتشرّف به، فأنفذ إليه الرضا علیه السلام جُبّة خزّ مع الصرّة، وقال للخادم: «قُل له: خُذْ هذه الصرّة؛ فإنّك

ص: 177

ستحتاج إليها، ولا تراجعني فيها».

فأخذ دعبل الصرّة والجبّة، وانصرف وسار من مَرو في قافلة، فلمّا بلغ ميان قوهان وقع عليهم اللصوص، فأخذوا القافلة بأسرها وكتفوا أهلها، وكان دعبل فيمن كتف، وملك اللصوص القافلة وجعلوا يقسّمونها بينهم، فقال رجلٌ من القوم متمثّلاً بقول دعبل في قصيدته:

أرى

فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهمُ مِن فيئهم صفراتِ

فسمعه دعبل، فقال له: لمَن هذا البيت؟ فقال: لرجلٍ من خزاعة يُقال له: دعبل بن عليّ. قال: فأنا دعبل قائلُ هذه القصيدة الّتي منها هذا البيت. فوثب الرجل إلى رئيسهم، وكان يصلّي على رأس تلّ،وكان من الشيعة، فأخبره، فجاء بنفسه حتّى وقف على دعبل وقال له: أنت دعبل؟ فقال: نعم، فقال له: أنشِدْني القصيدة. فأنشدها، فحلّ كِتافه وكِتاف جميع أهل القافلة، وردّ إليهم جميعَ ما أخذ منهم لكرامة دعبل.

وسار دعبل حتّى وصل إلى قم، فسأله أهلُ قم أن يُنشدهم القصيدة، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة، فوصله الناس من المال والخلع بشيءٍ كثير، واتّصل بهم خبر الجُبّة، فسألوه أن يبيعها منهم بألف دينار، فامتنع من ذلك، فقالوا له: فبِعْنا شيئاً منها بألف دينار. فأبى عليهم.

وسار عن قم، فلمّا خرج من رستاق البلد لحق به قومٌ من أحداث

ص: 178

العرب، وأخذوا الجُبّة منه، فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردّ الجُبّة، فامتنع الأحداث مِن ذلك وعصوا المشايخ في أمرها، فقالوا لدعبل: لا سبيل لك إلى الجُبّة، فخذ ثمنها ألف دينار. فأبى عليهم، فلمّا يئس من ردّهم الجُبّة سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها، فأجابوه إلى ذلك وأعطوه بعضها، ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار.

وانصرف دعبل إلى وطنه، فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله، فباع المئة الدينار الّتي كان الرضا علیه السلام وصله بها، فباع من الشيعة كلّ دينارٍ بمئة درهم، فحصل في يده عشرة آلاف درهم، فذكر قول الرضا علیه السلام: «إنّك ستحتاج إلى الدنانير».

وكانت له جاريةٌ لها من قلبه محلّ، فرمدت عينُها رمداً عظيماً، فأدخل أهل الطبّ عليها، فنظروا إليها فقالوا: أمّا العَين اليمنى فليس لنا فيها حيلة وقد ذهبت، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد، ونرجو أن تسلم. فاغتمّ لذلك دعبل غمّاً شديداً، وجزع عليها جزعاً عظيماً،ثمّ إنّه ذكر ما كان معه من وصلة الجُبّة، فمسحها على عينَي الجارية وعصّبها بعصابةٍ منها مِن أوّل الليل، فأصبحت وعيناها أصحّ ما كانتا قبل ببركة أبي الحسن الرضا علیه السلام ((1)).

وفي كتاب (المنتخب): عليّ بن دعبل بن عليّ الخزاعيّ يقول: لمّا أن

ص: 179


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 263 الباب 66 ح 34.

حضرت أبي الوفاة، تغيّر لونُه وانعقد لسانه واسودّ وجهه، فكدت الرجوع مِن مذهبه، فرأيتُه بعد ثلاثة أيّام فيما يرى النائم وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء، فقلت له: يا أبتِ ما فعل اللهُ بك؟ فقال: يا بُنيّ، إنّ الّذي رأيتَه من اسوداد وجهي وانعقاد لساني كان من شربي الخمر في دار الدنيا، ولم أزلْ كذلك حتّى لقيتُ رسول الله صلیالله علیه وآله وعليه ثيابٌ بيض وقلنسوة بيضاء، فقال لي: «أنت دعبل؟»، قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فأنشِدْني قولَك في أولادي»، فأنشدتُه قولي:

لا أضحكَ اللهُ سنَّ الدهرِ إن ضحكَت***وآل أحمد مظلومون قد قُهِروا

مُشرَّدون نُفوا عن عُقر دارهمُ***كأنّهم قد جنوا ما ليس يُغتفَرُ

قال: فقال لي: «أحسنت»، وشفع فيّ، وأعطاني ثيابه، وها هي -- وأشار إلى ثياب بدنه ((1)).

وفي (المنتخب) أيضاً، عن الثقاة، عن أبي محمّد الكوفي، عن دعبل بن محمّد الخزاعيّ رحمه الله قال: لمّا انصرفتُ عن أبي الحسن الرضا علیه السلام بقصيدتي التائيّة، نزلتُ في الري، وإنّيفي ليلةٍ من الليالي وأنا أصيغ قصيدةً وقد ذهب من الليل شطره، فإذا طارق يطرق الباب، فقلت: مَن هذا؟ فقال: أخٌ لك. فبدرتُ إلى الباب ففتحتُه، فدخل شخصٌ اقشعرّ منه بدني وذهلَت منه نفسي، فجلس ناحيةً وقال لي: لا ترع، أنا أخوك من الجنّ، وُلدتُ في

ص: 180


1- ([2]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 266 ح 36.

اللّيلة الّتي وُلدتَ فيها ونشأتُ معك، وإنّي جئتُ أُحدّثك بما يسرّك ويقوّي نفسك وبصيرتك. قال: فرجعَت نفسي وسكن قلبي، فقال: يا دعبل، إنّي كنتُ مِن أشدّ خلق الله بُغضاً وعداوةً لعليّ بن أبي طالب، فخرجتُ في نفَرٍ من الجنّ المردة العُتاة، فمررنا بنفرٍ يريدون زيارة قبر الحسين علیه السلام ، قد جنّهم الليل، فهممنا بهم، وإذا ملائكة تزجرنا من السماء وملائكةٌ من الأرض تزجر عنهم هوامّها، فكأنّي كنتُ نائماً فانتبهتُ أو غافلاً فتيقّظت، وعلمتُ أنّ ذلك لعنايةٍ بهم من الله (تعالى) لمكان مَن قصدوا له وتشرّفوا بزيارته، فأحدثتُ توبةً وجدّدتُ نيّة، زرتُ مع القوم ووقفتُ بوقوفهم ودعوتُ بدعائهم، وحججتُ بحجّهم تلك السنة، وزرتُ قبر النبيّ صلی الله علیه وآله، ومررتُ برجلٍ حوله جماعة، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: هذا ابن رسول الله الصادق. قال: فدنوتُ منه وسلّمتُ عليه، فقال لي: «مرحباً بك يا أهل العراق، أتذكرُ ليلتك ببطن كربلاء وما رأيتَ من كرامة الله (تعالى) لأوليائنا؟ إنّ الله قد قبل توبتك وغفر خطيئتك». فقلت: الحمد لله الّذي مَنّ علَيّ بكم، ونوّر قلبي بنور هدايتكم، وجعلني من المعتصمين بحبل ولايتكم، فحدِّثْني يا ابن رسول الله بحديثٍ أنصرفُ به إلى أهلي وقومي. فقال: «نعم، حدّثني أبي محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: قال لي رسول الله: يا عليّ، الجنّة مُحرَّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا،وعلى الأوصياء حتّى تدخلها أنت، وعلى الأُمم حتّى تدخلها أُمّتي، حتّى يقرّوا بولايتك ويدينوا بإمامتك. يا عليّ، والّذي بعثني بالحقّ، لا يدخل الجنّة أحدٌ إلّا مَن أخذ منك بنسبٍ

ص: 181

أو سبب». ثمّ قال: خُذها يا دعبل، فلَن تسمع بمثلها مِن مثلي أبداً. ثمّ ابتلعته الأرض فلم أره ((1)).

وفي (المنتخب) رُوي أنّه لمّا أخبر النبيّ صلی الله علیه وآله ابنتَه فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة علیها السلام بكاءاً شديداً، وقالت: «يا أبي، متى يكون ذلك؟»، قال صلی الله علیه وآله: «في زمانٍ خالٍ منّي ومنكِ ومِن عليّ». فاشتدّ بكاؤها، وقالت: «يا أبة، فمَن يبكي عليه؟ ومَن يلتزم بإقامة العزاء له؟»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «يا فاطمة، إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنتِ للنساء وأنا أشفع للرجال، وكلّ مَن بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخَلْناه الجنّة. يا فاطمة، كلُّ عينٍ باكيةٌ يوم القيامة، إلّا عين بكت على مصاب الحسين، فإنّها ضاحكةٌ مستبشرة بنعيم الجنّة» ((2)).

وفي (المنتخب) أيضاً، رُوي أنّ فاطمة الزهراء علیها السلام ندبت ولدها الحسين من قبل أن تحمل به، ولقد ندبته بالغريب العطشان، البعيد عن الأوطان، الظامي اللهفان، المدفون بلا غُسلٍ ولا أكفان، ثمّ قالت لأبيها: «يا رسول الله، مَن يبكي على وَلديالحسين مِن بعدي؟»، فنزل جبرائيل من الربّ الجليل يقول: إنّ الله (تعالى) يُنشئُ له شيعةً تندبه جيلاً بعد جيل. فلمّا سمعَت

ص: 182


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 208 المجلس 3.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 29 المجلس 2.

كلام جبرائيل سكن بعضُ ما كان عندها من الوجل ((1)).

وفي كتاب (رياض الأبرار)، عن كتاب (النصوص): الكُمَيت بن أبي المستهلّ قال: دخلتُ على سيّدي أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام ، فقلت: يا ابن رسول الله، إنّي قد قلتُ فيكم أبياتاً، أفتأذنُ لي في إنشادها؟ فقال: «إنّها أيّام البيض!»، قلت: فهو فيكم خاصّة، قال: «هات»، فأنشأتُ أقول:

أضحكَني الدهرُ وأبكاني***والدهرُ ذو صرفٍ وألوانِ

لِتسعةٍ بالطفّ قد غودروا***صاروا جميعاً رهنَ أكفانِ

فبكى علیه السلام ، وبكى أبو عبد الله، وسمعتُ جاريةً تبكي من وراء الخباء، فلمّا بلغتُ إلى قولي:

وستّة لا يتجارى بهم***بنو عقيلٍ خير فتيانِ

ثمّ عليّ الخير مولاكم***ذكرهمُ هيّج أحزاني

فبكى، ثمّ قال علیه السلام: «ما مِن رجلٍ ذَكرَنا أو ذُكِرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة، إلّا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار».

فلمّا بلغتُ إلى قولي:

مَن كان مسروراً بما مسّكم***أو شامتاً يوماً من الآنِ

ص: 183


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 107 المجلس 6.

فقد ذللتُم بعد عزٍّ فما***أدفعُ ضيماً حين يغشاني

أخذ بيدي وقال: «اللّهمّ اغفِر للكميت ما تقدّمَ مِن ذنبه وما تأخّر».

فلمّا بلغتُ إلى قولي:

متى يقوم الحقّ فيكم، متى***يقوم مهديّكمُ الثاني؟

قال: «سريعاً إن شاء الله، سريعاً»، ثمّ قال: «يا أبا المستهل، إنّ قائمنا هو التاسع من وُلد الحسين، لأنّ الأئمّة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله اثنا عشر، وهو القائم». قلت: يا سيّدي، فمَن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: «أوّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين عليّ بن الحسين، وأنا، ثمّ بعدي هذا -- ووضع يده على كتف جعفر --»، قلت: فمَن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الّذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ويشفي صدور شيعتنا». قلت: فمتى يخرج يا ابن رسول الله؟ قال: «لقد سُئل رسول الله صلی الله علیه وآله عن ذلك، فقال: إنّما مَثله كمَثل الساعة، لا تأتيكم إلّا بغتة» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن أبي هارون المكفوف قال: دخلتُ على أبي عبد الله علیه السلام ، فقال لي: «أنشِدني»، فأنشدتُه، فقال: «لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره!». قال: فأنشدتُه:

أُمرُرْ على جَدَث الحسين***فقُل لأعظمه الزكيّةْ

ص: 184


1- ([1]) كفاية الأثر للخزّاز: 248، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 390.

قال: فلمّا بكى أمسكتُ أنا، فقال: «مر»، فمررت. قال: ثمّ قال: «زدني، زدني»، قال: فأنشدتُه:

يا مريمُ قومي فاندبي مولاكِ***وعلى الحسينِ فأسعِدي ببكاكِ

قال: فبكى، وتهايج النساء. قال: فلمّا أن سكتنَ قال لي: «يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين علیه السلام فأبكى عشرة فله الجنّة»، ثمّ جعل يُنقِص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد، فقال: «مَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة»، ثمّ قال: «مَن ذكره فبكى فله الجنّة!» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن أبي عمّار المنشد، عن أبي عبد الله، قال: قال لي: «يا أبا عمّار، أنشِدني في الحسين بن عليّ علیه السلام ». قال: فأنشدتُه فبكى، ثمّ أنشدتُه فبكى، قال: فوَاللهِ ما زلتُ أُنشدُه ويبكي، حتّى سمعتُ البكاء من الدار. قال: فقال لي: «يا أبا عمّار، مَن أنشد في الحسين بن عليّ علیه السلام فأبكى خمسين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة» ((2)).

وروى الشيخ الكشّي في (رجاله)، عن زيد الشحّام قال: كنّا عند أبي

ص: 185


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 105 الباب 33 ح 5.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 141 المجلس 29 ح 6.

عبد الله علیه السلام ونحن جماعة من الكوفيّين، فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله علیه السلام ، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: «يا جعفر!»، قال: لبّيك، جعلني الله فداك. قال: «بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين علیه السلام وتجيد»، فقال له: نعم، جعلني الله فداك. فقال: «قُل»، فأنشده علیه السلام ومَن حوله حتّى صارت له الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال: «يا جعفر، واللهِ لقد شهدَك ملائكةُ الله المقرَّبون هاهنا، يسمعون قولك في الحسين علیه السلام ، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله (تعالى) لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها وغفر الله لك»، فقال: «يا جعفر، ألا أُزيدك!»، قال: نعم يا سيّدي. قال: «ما مِن أحدٍ قال في الحسين علیه السلام شعراً فبكى وأبكى به، إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له» ((1)).

وعن بعض الثقاة، عن السيّد علي الحسيني قال: كنتُ مجاوراً في مشهد مولاي عليّ بن موسى الرضا علیه السلام مع جماعةٍ من المؤمنين، فلمّا كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجلٌ من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين علیه السلام ، فوردت روايةٌ عن الباقر علیه السلام أنّه قال: «مَن ذرفت عيناه على مصاب الحسين ولو مثل جناح البعوضة، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، وكان في المجلس معنا جاهلٌ مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه، فقال: ليس هذا بصحيح، والعقل لا يعتقده. وكثر البحث بيننا، وافترقنا عن ذلك المجلس وهو مصرٌّ على العناد في تكذيب الحديث، فنام ذلك الرجل تلك

ص: 186


1- ([1]) رجال الكشّي: 289 ح 508.

الليلة، فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت وحُشِر الناس في صعيد صفصف لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وقد نُصبَت الموازين وامتدّ الصراط ووُضع الحساب ونُشرت الكتب وأُسعرت النيران وزُخرفت الجنان، واشتدّ الحرّ عليه، وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً، وبقيَ يطلب الماء فلا يجده، فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوضٍ عظيم الطول والعرض. قال: قلتُ في نفسي: هذا هو الكوثر، فإذا فيه ماءٌ أبرد من الثلج وأحلى من العذب، وإذا عند الحوض رجلان وامرأة، أنوارهم تُشرِق على الخلائق، ومع ذلك لبسهم السواد وهم باكون محزونون، فقلت: مَن هؤلاء؟ فقيل لي: هذا محمّد المصطفى، وهذا الإمام عليّ المرتضى، وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء. فقلت: ما لي أراهم لابسين السواد وباكين ومحزونين؟! فقيل لي: أليس هذا يوم عاشوراء، يوم مقتل الحسين؟ فهم محزونون لأجل ذلك! قال: فدنوتُ إلى سيّدة النساء فاطمة وقلتُ لها: يا بنت رسول الله، إنّي عطشان! فنظرَت إليّ شزراً وقالت لي: «أنت الّذي تُنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين ومهجة قلبي وقرّة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً؟ لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء». قال الرجل: فانتبهتُ من نومي فزعاً مرعوباً، واستغفرتُ الله كثيراً، وندمتُ على ما كان منّي، وأتيت إلى أصحابي الّذين كنتُ معهم وخبّرتُ برؤياي، وتُبتُ إلى الله عزوجل ((1)).

ص: 187


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 293 ح 38.

وروى الشيخ الطوسي، عن معاوية بن وهب قال: كنتُ جالساًعند جعفر بن محمّد علیهما السلام، إذ جاء شيخٌ قد انحنى من الكبر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال له أبو عبد الله: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يا شيخ ادنُ منّي»، فدنا منه، فقبّل يده فبكى، فقال له أبو عبد الله علیه السلام : «وما يُبكيك يا شيخ؟»، قال له: يا ابن رسول الله، أنا مقيمٌ على رجاءٍ منكم منذ نحوٍ من مئة سنة، أقول هذه السنة وهذا الشهر وهذا اليوم، ولا أراه فيكم، فتلومني أن أبكي! قال: فبكى أبو عبد الله علیه السلام ، ثمّ قال: «يا شيخ، إن أُخّرَت منيّتك كنتَ معنا، وإن عُجّلَت كنت يوم القيامة مع ثِقل رسول الله صلی الله علیه وآله». فقال الشيخ: ما أُبالي ما فاتني بعد هذا يا ابن رسول الله. فقال له أبو عبد الله علیه السلام: «يا شيخ، إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتابَ الله المُنزَل، وعترتي أهل بيتي. تجيءُ وأنت معنا يوم القيامة».

قال: «يا شيخ، ما أحسبُك مِن أهل الكوفة»، قال: لا. قال: «فمِن أين أنت؟»، قال: مِن سوادها، جُعلتُ فداك. قال: «أين أنت من قبر جدّي المظلوم الحسين علیه السلام »، قال: إنّي لَقريبٌ منه. قال: «كيف إتيانك له؟»، قال: إنّي لَآتيه وأُكثِر. قال: «يا شيخ، ذاك دمٌ يطلب الله (تعالى) به، ما أُصيبَ وُلد فاطمة ولا يُصابون بمثل الحسين علیه السلام ، ولقد قُتِل علیه السلام في سبعة عشر مِن أهل بيته، نصحوا لله وصبروا في جنب الله، فجزاهم أحسن جزاء الصابرين، إنّه إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله صلی الله علیه وآله ومعه الحسين علیه السلام ويده على رأسه يقطر دماً، فيقول: يا ربّ، سَل

ص: 188

أُمّتي فيمَ قتلوا ولدي»، وقال علیه السلام: «كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين علیه السلام » ((1)).

ص: 189


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 161 المجلس 6 ح 20.

ص: 190

الفصل السادس: في ثواب زيارته علیه السلام وفضل كربلاء وغير ذلك

في كتاب (المنتخب): جابر الجُعفيّ يرويه عن أبي عبد الله، ثمّ قال: «يا جابر، كم بينكم وبين قبر الحسين علیه السلام »، قال: قلت: يوم وبعض آخر. قال: فقال لي: «أتزوره؟»، قال: قلت: نعم. قال: «ألا أُفرّحك؟ ألا أُبشّرك بثوابه؟»، قلت: بلى، جُعلتُ فداك! قال: «إنّ الرجل منكم لَيتهيّأُ لزيارته فتباشرُ به أهل السماء، فإذا خرج مِن باب منزله راكباً أو ماشياً وكّل الله عزوجل به أربعين ألفاً من الملائكة، يُصلّون عليه حتّى يوافي قبر الحسين علیه السلام ، وثواب كلّ قدَمٍ يرفعها كثواب المتشحّط بدمه في سبيل الله، فإذا سلّمتَ على القبر فاستلِمْه بيدك وقل: السلام عليك يا حُجّة الله في أرضه. ثمّ انهض إلى صلاتك، فإنّ الله (تعالى) يُصلّي عليك وملائكته حتّى تفرغ من صلاتك، ولك بكلّ ركعةٍ تركعها عنده ثواب مَن حجّ ألف حجّة واعتمر ألف عُمرة وأعتق ألف رقبة، وكمَن وقف في سبيل الله ألف مرّةً مع نبيّ

ص: 191

مرسَل، فإذا أنت قمتَ من عند القبر نادى منادٍ لو سمعتَ مقالته لأفنيتَ عمرك عند قبر الحسين علیه السلام ، وهو يقول: طوبى لك أيّها العبد، لقد غنمتَ وسلمت، قد غفر الله لك ما سلف، فاستأنِف العمل»، قال: «فإن مات من عامه أو من ليلته أو من يومه، لم يقبض روحه إلّا الله (تعالى)»، قال: «ويقوم معه الملائكة يُسبّحون ويُصلّون عليه حتّى يوافي منزله، فتقول الملائكة: ربّنا، عبدك وافى قبر وليّك، وقد وافى منزله، فأين نذهب؟ فيأتيهم النداءُ مِن قِبل السماء: يا ملائكتي، قِفوا بباب عبدي، فسبّحوني وقدّسوني وهلّلوني، واكتبوا ذلك في حسناته إلى يوم وفاته. فإذا تُوفّي ذلك العبد، شهدوا غسله وكفنه والصلاة عليه، ثمّ يقولون: ربّنا، وكّلتنا بباب عبدك وتُوفّي، فأين نذهب؟ فيأتيهم النداء: يا ملائكتي، قِفوا بقبر عبدي، فسبّحوني وقدّسوني وهلّلوني، واكتبوا ذلك في حسناته إلى يوم القيامة» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن عبد الله بن محمّد الصنعاني، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا دخل الحسين علیه السلام جذبه إليه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين علیه السلام: أمسِكْه. ثمّ يقع عليه فيقبّله ويبكي، يقول: يا أبتِ لمَ تبكي؟ فيقول: يا بُنيّ، أُقبّل موضع السيوف منك. قال: يا أبت، وأُقتَل؟! قال: إي والله، وأبوك وأخوك وأنت. قال: يا أبت، فمصارعنا شتّى؟ قال: نعم يا بُنيّ. قال: فمَن يزورنا من أُمّتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلّا الصدّيقون مِن أُمّتي» ((2)).وفي كتاب (البحار)، عن عروة بن الزبير قال: سمعتُ أبا ذرّ، وهو يومئذٍ

ص: 192


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 68 المجلس 4.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 4.

قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال له الناس: يا أبا ذر، أبشِرْ، فهذا قليلٌ في الله. فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتِل الحسين بن عليّ قتلاً -- أو قال: ذُبح ذبحاً --؟ واللهِ لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلاً منه، وإنّ الله سيسلّ سيفه على هذه الأُمّة لا يغمده أبداً، ويبعث ناقماً مِن ذرّيّته فينتقم من الناس، وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء مِن قتله لبكيتم واللهِ حتّى تزهق أنفسكم، وما مِن سماءٍ يمرّ به روح الحسين علیه السلام إلّا فزع له سبعون ألف ملَك، يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابةٍ تمرّ وترعد وتبرق إلّا لعنت قاتله، وما مِن يومٍ إلّا وتعرض روحه على رسول الله فيلتقيان ((1)).

وفي (البحار) أيضاً، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام: «إنّ أربعة آلاف ملَكٍ هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي علیه السلام ، فلم يُؤذَن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان وهبطوا وقد قُتِل الحسين علیه السلام ، فهم عند قبره شُعثٌ غُبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملَكٌ يقال له: منصور» ((2)).

ص: 193


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47 -- عن: كامل الزيارات لابن قولويه: 74.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 220 الباب 41 ح 2، الأمالي للصدوق: 638 المجلس 92 ح 7.

وفي (البحار)، عن الثُّماليّ قال: قلتُ لأبي جعفر علیه السلام : يا ابن رسول الله، ألستُم كلّكم قائمين بالحقّ؟ قال: «بلى». قلت: فلمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: «لمّا قُتِل جدّي الحسين ضجّت الملائكة إلى الله عزوجل بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك مِن خلقك؟! فأوحى الله (عزّ وجل) إليهم: قرّوا ملائكتي، فوَعزّتي وجلالي لَأنتقمنّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف الله عزوجل عن الأئمّة من وُلد الحسين علیه السلام للملائكة، فسُرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائمٌ يصلّي، فقال الله (عزّ وجل): بذلك القائم أنتقمُ منهم» ((1)).

وفي (البحار) أيضاً، عن كرّام قال: حلفتُ فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد، فدخلتُ على أبي عبد الله، قال: فقلت له: رجلٌ من شيعتكم جعل الله عليه أن لا يأكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد. قال: «فصُمْ إذاً يا كرام، ولا تصم العيدين ولا ثلاثة التشريق ولا إذا كنت مسافراً ولا مريضاً، فإنّ الحسين علیه السلام لمّا قُتِل عجّت السماوات والأرض ومَن عليهما والملائكة، فقالوا: يا ربّنا، ائذن لنا في هلاك الخلق حتّى نجدهم من جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك وقتلوا صفوتك. فأوحى الله إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، اسكنوا. ثمّ كشف حجاباً من الحُجُب فإذا خلفه محمّد واثنا عشر وصيّاً له علیه السلام ، ثمّ أخذ بيد فلان القائم من بينهم فقال: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، بهذا أنتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات» ((2)).

ص: 194


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221، علل الشرائع للصدوق: 1 / 154.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228، الكافي للكليني: 1 / 534.

وفي (البحار) أيضاً، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وكّل الله بالحسين بن عليّ سبعين ألف ملَك، يصلّون عليه كلّ يوم، شعثاً غبراً منذ يوم قُتِل إلى ما شاء الله»، يعني بذلك قيام القائم علیه السلام ((1)).

وفيه أيضاً، عن الثُّماليّ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الله وكّل بقبر الحسين أربعة آلاف ملَك، شعثٌ غبر، يبكونه من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، وإذا زالت الشمس هبط أربعة آلاف ملَك وصعد أربعة آلاف ملَك، فلم يزل يبكونه حتّى يطلع الفجر» ((2)).

وفيه أيضاً، عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «أربعة آلاف ملَكٍ شعثٌ غبرٌ يبكون الحسين إلى يوم القيامة، فلا يأتيه أحدٌ إلّا استقبلوه، ولا يمرض أحدٌ إلّا عادوه، ولا يموت أحدٌ إلّا شهدوه» ((3)).

وفيه أيضاً، عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سألتُه -- في طريق المدينة ونحن نريد مكّة -- فقلت: يا ابن رسول الله، ما لي أراك كئيباً حزيناً منكسراً؟ فقال: «لو تسمع ما أسمع لَشغلك عن مساءلتي». فقلت: وما الّذي تسمع؟! قال: «ابتهال الملائكة إلى الله (جلّ وعزّ) على قتلَة أمير المؤمنين وقتلة الحسين علیه السلام ، ونوح الجنّ، وبكاء الملائكة الّذين حوله وشدّة

ص: 195


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 222 ح 9.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 223 ح 15.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 223 ح 14.

جزعهم، فمَن يتهنّأ مع هذا بطعامٍ أو شرابٍ أو نوم؟» ((1)).

وفيه أيضاً، عن إسحاق بن عمّار قال: قلتُ لأبي عبد الله علیه السلام: إنّي كنتُ بالحيرة ليلة عرفة، وكنتُ أُصلّي، وثمّ نحوٌ من خمسين ألفاً من الناس جميلةٍ وجوههم طيّبةٍ أرواحهم وأقبلوا يصلّون بالليل أجمع، فلمّا طلع الفجر سجدت، ثمّ رفعتُ رأسي فلم أرَ منهم أحداً! فقال لي أبو عبد الله علیه السلام: «إنّه مرّ بالحسين بن عليّ خمسون ألف ملَكٍ وهو يُقتَل، فعرجوا إلى السماء، فأوحى الله إليهم: مررتُم بابن حبيبي وهو يُقتَل فلم تنصروه، فاهبطوا إلى الأرض فاسكنوا عند قبره شُعثاً غُبراً إلى أن تقوم الساعة» ((2)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وكّل الله بقبر الحسين علیه السلام سبعين ألف ملكاً [ملَك]، شُعثاً غُبراً يبكونه إلى يوم القيامة، يصلّون عنده الصلاة الواحدة مِن صلاتهم [مِن صلاة أحدهم] تعدل ألف صلاةٍ من صلاة الآدميّين، يكون ثواب صلاتهم وأجر ذلك لمن زار قبره» ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الله ((4)) بن حمّاد البصري، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «إنّ عندكم -- أو قال: في قُربكم -- لَفضيلة ما أُوتيَ أحدٌ مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كُنه معرفتها، ولا تُحافظون عليها ولا على القيام بها،

ص: 196


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 19.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 20.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 86 الباب 27 ح 14.
4- ([4]) في المتن: (عبد الرحمان).

وإنّ لها لَأهلاً خاصّة قد سُمّوا لها وأُعطوها بلا حولٍ منهمولا قوّة، إلّا ما كان مِن صنع الله لهم وسعادةٍ حباهم الله بها ورحمةٍ ورأفةٍ وتقدُّم!». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذا الّذي وصفتَ لنا ولم تسمِّه؟! قال: «زيارة جدّي الحسين بن عليّ علیه السلام ، فإنّه غريبٌ بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له مَن لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبر ابنه عند رجله في أرض فلاةٍ لا حميم قربه ولا قريب، ثمّ مُنع الحقّ وتوازر عليه أهل الردّة، حتّى قتلوه وضيّعوه وعرّضوه للسباع، ومنعوه شرب ماء الفرات الّذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله صلی الله علیه وآله ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حفرته، صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبُعد عن جدّه والمنزل الّذي لا يأتيه إلّا مَن امتحن الله قلبه للإيمان وعرّفه حقّنا». فقلت له: جُعلتُ فداك، قد كنتُ آتيه حتّى بُليتُ بالسلطان وفي حفظ أموالهم، وأنا عندهم مشهور، فتركتُ للتقيّة إتيانه، وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير. فقال: «هل تدري ما فضل مَن أتاه، وما له عندنا من جزيل الخير؟»، فقلت: لا. فقال: «أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء، وأمّا ما له عندنا فالترحُّم عليه كلّ صباحٍ ومساء، ولقد حدّثني أبي أنّه لم يخلُ مكانُه منذ قُتِل مِن مُصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش، وما من شيءٍ إلّا وهو يغبط زائره ويتمسّح به، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره علیه السلام ». ثمّ قال: «بلَغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة، وناساً [أُناساً] من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمِن بين قارئٍ يقرأ وقاصٍّ يقصّ ونادبٍ يندب وقائلٍ يقول المراثي»، فقلت: نعم، جُعلتُ فداك، قد

ص: 197

شهدتُ بعضَ ما تصف. فقال: «الحمد لله الّذي جعل في الناس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدونهم [يهدّدونهم] ويقبّحون ما يصنعون» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، مُسنداً عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام : زارنا رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد أهدت لنا أُمّ أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدّمنا منه فأكل، ثمّ قام إلى زاوية البيت فصلّى ركعات [ركعتان] [ركعتين]، فلمّا كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحدٌ منّا إجلالاً وإعظاماً له، فقام الحسين علیه السلام وقعد في حِجره فقال: يا أبت، لقد دخلتَ بيتنا فما سُررنا بشيءٍ كسرورنا بدخولك، ثمّ بكيتَ بكاءً غمّنا، فما أبكاك؟ فقال: يا بُنيّ، أتاني جبرئيل علیه السلام آنفاً، فأخبرني أنّكم قتلى وأنّ مصارعكم شتّى. فقال: يا أبت، فما لمَن زار قبورنا على تشتّتها؟ فقال: يا بُنيّ، أُولئك طوائفُ مِن أُمّتي، يزورونكم فيلتمسون بذلك البركة، وحَقيقٌ علَيّ أن آتيهم يوم القيامة حتّى أُخلّصَهم من أهوال الساعة ومِن ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنّة» ((2)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن سُليمان الأعمش أنّه قال: كنتُ نازلاً بالكوفة، وكان لي جار، وكنتُ آتي إليه وأجلس عنده، فأتيتُ ليلة الجمعة إليه، فقلت له: يا هذا، ما تقول في زيارة الحسين علیه السلام قال لي: هي بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ذي ضلالةٍ في النار. قال سليمان: فقمتُ مِن عنده

ص: 198


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 324 الباب 108 ح 1.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 58 الباب 16 ح 6.

وأنا ممتلئٌ عليه غيظاً، فقلتُ في نفسي: إذا كان وقت السحَر آتيه وأُحدّثه شيئاً من فضائل الحسين علیه السلام ، فإن أصرّ على العناد قتلتُه. قال سليمان: فلمّا كان وقت السحَر أتيتُه وقرعتُ عليه الباب ودعوتُه باسمه، فإذا بزوجته تقول: إنه قصد إلى زيارة الحسين مِن أوّل الليل.

قال سليمان: فسرتُ في أثره إلى زيارة الحسين علیه السلام ، فلمّا دخلتُ إلى القبر فإذا أنا بالشيخ ساجدٌ لله عزوجل، وهو يدعو ويبكي في سجوده، ويسأله التوبة والمغفرة، ثمّ رفع رأسه بعد زمانٍ طويلٍ فرآني قريباً منه، فقلت: يا شيخ، بالأمس كنتَ تقول: زيارة الحسين بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالة بالنار، واليوم أتيت تزوره؟! فقال: يا سليمان، لا تلُمني، فإنّي ما كنتُ أُثبتُ لأهل البيت إمامة حتّى كانت ليلتي تلك، فرأيتُ رؤيا هالتني وروّعتني. فقلت له: ما رأيتَ أيّها الشيخ؟ قال: رأيتُ رجُلاً جليل القدر، لا بالطويل الشاهق ولا بالقصير اللاصق، لا أقدر أن أصفه من عظم جلاله وجماله وبهائه وكماله، وهو مع أقوام يحفّون به حفيفاً ويزفّونه زفيفاً، وبين يديه فارس وعلى رأسه تاج، وللتاج أربعة أركان، وفي كلّ ركنٍ جوهرة تضيء من مسيرة ثلاثة أيّام، فقلتُ لبعض خدّامه: مَن هذا؟ فقال: هذا محمّد المصطفى. قلت: ومَن هذا الآخر؟ فقال: عليّ المرتضى، وصيّ رسول الله. ثمّ مددتُ نظري، فإذا أنا بناقةٍ من نور وعليها هودج من نور وفيه امرأتان، والناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: لِمَن هذه الناقة؟ فقال:

ص: 199

لخديجة الكبرى وفاطمة الزهراء. فقلت: ومَن هذا الغلام؟ فقال: هذا الحسن بن عليّ. فقلت: وإلى أين يريدون بأجمعهم؟ فقال: لزيارةالمقتول ظُلماً شهيد كربلاء الحسين بن عليّ المرتضى. ثمّ إنّي قصدتُ نحو الهودج الّذي فيه فاطمة الزهراء، وإذا أنا برقاع مكتوبة تتساقط من السماء، فسألتُ: ما هذه الرقاع؟ فقال: فيها أمان من النار لزوّار الحسين علیه السلام في ليلة الجمعة. فطلبتُ منه رقعة، فقال لي: إنّك تقول زيارته بدعة، فإنّك لا تنلها حتّى تزور الحسين وتعتقد فضله وشرفه. فانتبهتُ من نومي فزعاً مرعوباً، وقصدتُ مِن وقتي وساعتي إلى زيارة سيّدي الحسين علیه السلام ، وأنا تائبٌ إلى الله (تعالى)، فوَالله -- يا سليمان -- لا أُفارق قبر الحسين علیه السلام حتّى تُفارق روحي جسدي ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثُّماليّ قال: خرجتُ في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين علیه السلام مستخفياً من أهل الشام، حتّى انتهيتُ إلى كربلاء فاختفيتُ في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلتُ نحو القبر، فلمّا دنوتُ منه أقبل نحوي رجل، فقال لي: انصرِفْ مأجوراً؛ فإنّك لا تصل إليه، فرجعتُ فزعاً، حتّى إذا كاد يطلع الفجر أقبلتُ نحوه، حتّى إذا دنوتُ منه خرج إليّ الرجل فقال لي: يا هذا، إنّك لا تصل إليه. فقلت له: عافاك الله، ولمَ لا أصل إليه وقد أقبلتُ

ص: 200


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 189 المجلس 9.

من الكوفة أُريد زيارته؟! فلا تحل بيني وبينه، عافاك الله! وأنا أخاف إن أُصبِح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا. قال: فقال لي: اصبِرْ قليلاً، فإنّ موسى بن عمران علیه السلام سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن عليّ، فأذن له، فهبط من السماء في سبعين ألف ملَك، فهم بحضرته مِن أوّل الليل ينتظرون طلوعالفجر، ثمّ يعرجون إلى السماء. قال: فقلتُ له: فمَن أنت؟ عافاك الله! قال: أنا من الملائكة الّذين أُمِروا بحرس قبر الحسين علیه السلام والاستغفار لزوّاره. فانصرفتُ وقد كاد أن يطير عقلي لِما سمعتُ منه. قال: فأقبلتُ لمّا طلع الفجر نحوه، فلم يحل بيني وبينه أحد، فدنوتُ مِن القبر وسلّمتُ عليه ودعوتُ الله على قتلته، وصلّيتُ الصبح، وأقبلتُ مُسرعاً مخافة أهل الشام ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن يونس، عن الرضا علیه السلام قال: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام فقد حجّ واعتمر». قال: قلت: يُطرَح عنه حجّة الإسلام؟! قال: «لا، هي حجّة الضعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت الله الحرام، أما علمتَ أنّ البيت يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملَك، حتّى إذا أدركهم الليل صعدوا ونزلوا غيرهم فطافوا بالبيت حتّى الصباح، وإنّ الحسين علیه السلام لَأكرم على الله من البيت، وإنّه في وقت كلّ صلاةٍ لَينزل عليه سبعون ألف ملَك شُعثٌ غُبر، لا تقع عليهم النوبة إلى

ص: 201


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 111 الباب 38 ح 2.

يوم القيامة» ((1)).

وفيه أيضاً، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام

حتّى يموت، كان منتقص الدين منتقص الإيمان، وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة» ((2)).وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتّى يموت، فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنّة فهو من ضيفان أهل الجنّة» ((3)).

وفيه، عن منصور بن حازم قال: سمعناه يقول: «مَن أتى عليه حولٌ لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام ، أنقص [نقّص] الله من عمره حولاً، ولو قلت: إنّ أحدكم لَيموت قبل أجله بثلاثين سنة، لكنت صادقاً؛ وذلك لأنكم تتركون زيارة الحسين علیه السلام ، فلا تدَعوا زيارته؛ يمدّ الله في أعماركم ويزيد في أرزاقكم، وإذا تركتُم زيارته نقّص الله من أعماركم وأرزاقكم، فتنافسوا في زيارته، ولا تدَعوا ذلك، فإنّ الحسين شاهدٌ لكم في ذلك عند الله وعند رسوله وعند فاطمة وعند أمير المؤمنين» ((4)).

وفي (المنتخب)، روى محمّد بن إسماعيل، عن موسى بن القاسم الحضرميّ قال: ورد أبو عبد الله الصادق من المدينة إلى الكوفة في أوّل ولاية

ص: 202


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 159 الباب 65 ح 6.
2- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 193 الباب 78 ح 2.
3- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 193 الباب 78 ح 3.
4- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 151 الباب 61 ح 2.

أبي جعفر العبّاسي، فقال علیه السلام: «يا موسى، إذهَب إلى الطريق الأعظم فقِفْ هُنيئة، فإنّه سيأتيك رجلٌ من ناحية القادسيّة، فإذا دنا منك فقل له: هنا رجلٌ مِن وُلد رسول الله صلی الله علیه وآله يدعوك. فإنّه يُسرّ بذلك وسيجيء معك». قال موسى: فمضيتُ ووقفتُ على الطريق، وكان الحَرّ شديداً، فمددتُ بصري في الفلاة، فنظرتُ شيئاً مُقبِلاً من بعيد، فتأمّلتُه وإذاهو رجلٌ على بعير، فلمّا دنا مني قلتُ له: يا هذا، إنّ هنا رجلٌ مِن وُلد رسول الله صلی الله علیه وآله يدعوك، وقد وصف لي بجميع صفاتك. فزاد إعجابه وسُرّ بذلك، وقال: اذهَبْ بنا إليه. قال: فجاء الرجلُ حتّى أناخ بعيره على باب خيمة الصادق علیه السلام ، ودخل إليه وسلّم عليه وقبّل يديه ورجليه، فقال الصادق: «مِن أين أقبلت؟»، فقال: مِن أقصى بلاد اليمن. فقال له: «أنت من وضع كذا وكذا؟»، قال: نعم. قال: «فيما جئت؟»، قال: جئتُ لزيارة الحسين علیه السلام فقال له الصادق علیه السلام: «جئتَ مِن غير حجّةٍ ليس إلّا للزيارة؟»، قال: نعم، إلّا أن أُصلّي عند قبره ركعتين وأزوره وأسلّم عليه وأرجع إلى أهلي. فقال له الصادق علیه السلام: «وما ترَون من زيارته؟»، قال: إنّا نرى من زيارته البركة والشفاء والعافية في أنفسنا وأهالينا وأولادنا ومعائشنا وأموالنا وقضاء حوائجنا. فقال له الصادق علیه السلام : «أفلا تحبّ أن أزيدك مِن فضل زيارته يا أخا اليمن؟»، فقال: إي والله، زِدْني يا ابن رسول الله. فقال: «اعلمْ أنّ زيارة الحسين علیه السلام تعدل حجّةً مبرورةً مقبولةً زاكيةً مع رسول الله صلی الله علیه وآله». فتعجّب الرجل من ذلك، فقال الصادق علیه السلام: «لا

ص: 203

تعجَبْ يا أخا اليمن، بل تعدل حجّتين متقبّلَتين زاكيتين مع رسول الله صلی الله علیه وآله». فتعجّب الرجل من ذلك. قال: فلم يزل الصادق علیه السلام يزيده من فضل زيارته حتّى قال له: «تعدل ثلاثين حجّةً مبرورةً مقبولةً زاكيةً مع رسول الله صلی الله علیه وآله»، فقال الرجل: إذا كان هذا فضل زيارة الحسين علیه السلام ، فوَالله لا أُفارقه حتّى أموت. قال: ولم يزل الرجل لائذاًبقبر الحسين علیه السلام حتّى أتاه الموت ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان الحسين بن عليّ علیه السلام ذات يومٍ في حِجر النبيّ صلی الله علیه وآله يلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما أشدّ إعجابك بهذا الصبيّ! فقال لها: ويلكِ، وكيف لا أُحبّه ولا أُعجَب به وهو ثمرة فؤادي وقُرّة عيني؟ أما إنّ أُمّتي ستقتلُه، فمَن زاره بعد وفاته كتب الله له حجّةً من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّةً مِن حججك؟! قال: نعم، حجّتين من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّتين من حججك؟!! قال: نعم، وأربعة». قال: «فلم تزل تزاده [تراده] ويزيد ويضعّف، حتّى بلغ تسعين حجّةً من حجج رسول الله؟ص؟ بأعمارها» ((2)).

وفيه، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «لو يعلم الناس ما في زيارة قبر الحسين علیه السلام مِن الفضل لَماتوا شوقاً وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات».

ص: 204


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 225 المجلس 1.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 68 الباب 22ح 1.

قلت: وما فيه؟ قال: «مَن أتاه تشوّقاً كتب الله له ألف حجّةً متقبّلة وألف عمرةٍ مبرورة، وأجر ألف شهيدٍ من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقةٍ مقبولة، وثواب ألف نسَمةٍ أُريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته مِن كلّ آفةٍ أهونها الشيطان، ووُكّل به ملَكٌ كريمٌ يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرَته ملائكة الرحمة، يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له،ويُفسَح له في قبره مدّ بصره، ويُؤمنه الله مِن ضغطة القبر ومن مُنكرٍ ونكير أن يروّعانه [يروّعاه]، ويُفتَح له بابٌ إلى الجنّة، ويُعطى كتابه بيمينه، ويُعطى له يوم القيامة نوراً [نور]، يضي ء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي منادٍ: هذا مَن زار الحسين شوقاً إليه. فلا يبقى أحدٌ يوم القيامة إلّا تمنّى يومئذٍ أنّه كان مِن زوّار الحسين علیه السلام » ((1)).

وفيه أيضاً، عن عبد الله بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قلتُ له: ما لمَن أتى قبر الحسين بن عليّ علیه السلام زائراً عارفاً بحقّه غيرَ مُستنكفٍ ولا مستكبر؟ قال: «يُكتَب له ألف حجّةٍ مقبولة، وألف عُمرةٍ مبرورة، وإن كان شقيّاً كُتب سعيداً، ولم يزل يخوض في رحمة الله» ((2)).

وفيه أيضاً، عن حُذيفة بن منصور قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «كم

ص: 205


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 142 الباب 56 ح 3.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 145 الباب 57 ح 3.

حججت؟»، قلت: تسعة عشر. قال: فقال: «أما إنّك لو أتممتَ إحدى وعشرين حجّةً لَكنتَ كمن زار الحسين علیه السلام » ((1)).

وعن شهاب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سألني فقال: «يا شهاب، كم حججتَ مِن حجّة؟»، فقلت: تسعة عشر حجّة. فقال لي: «تمّمها عشرين حجّةً تُحسَب لك بزيارة الحسين؟علیه السلام » ((2)).

وفيه، عن الرضا علیه السلام يقول لأبي: «مَن زار الحسين بن عليّ علیه السلام عارفاً بحقّه، كان مِن محدّثي الله فوق عرشه»، ثمّ قرأ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ((3)) ((4)).

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: أين زوّار الحسين بن عليّ؟ فيقوم عُنقٌ من الناس لا يحصيهم إلّا الله (تعالى)، فيقول لهم: ما أردتم بزيارة قبر الحسين علیه السلام فيقولون: يا ربّ، أتيناه حُبّاً لرسول الله وحبّاً لعليّ وفاطمة، ورحمةً له ممّا ارتُكِب منه. فيقال لهم: هذا محمّدٌ وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فالحقوا بهم، فأنتم معهم في درجتهم، الحقوا بلواء رسول الله. فينطلقون إلى لواء رسول الله، فيكونون في ظِلّه، واللّواء في يد عليّ علیه السلام ، حتّى يدخلون [يدخلوا]

ص: 206


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 162 الباب 66 ح 4.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 162 الباب 66 ح 3.
3- ([2]) سورة القمر: 54 و55.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 141 الباب 54 ح 17.

الجنّة جميعاً، فيكونون أمام اللواء وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه» ((1)).

وفيه، عن الحسين بن محمّد القمّيّ قال: قال لي الرضا علیه السلام: «مَن زار قبر أبي ببغداد كان كمن زار رسول الله صلی الله علیه وآله وأمير المؤمنين، إلّا أنّ لرسول الله وأمير المؤمنين فضلهما». قال: ثمّ قال لي: «مَن زار قبر أبي عبد اللهبشطّ الفرات كان كمن زار الله فوق كرسيّه» ((2)).

وعن ابن سنان قال: قلتُ لأبي عبد الله علیه السلام: جُعلتُ فِداك، إنّ أباك كان يقول في الحجّ يُحسَب له بكلّ درهمٍ أنفقه ألف درهم، فما لمَن يُنفِق في المسير إلى أبيك الحسين علیه السلام فقال: «يا ابن سنان، يُحسَب له بالدرهم ألف وألف -- حتّى عدّ عشرة --، ويُرفَع له من الدرجات مثلها، ورضا الله خيرٌ له، ودعاء محمّدٍ صلی الله علیه وآله ودعاء أمير المؤمنين والأئمّة خيرٌ له» ((3)).

وفي (هِداية الأُمّة)، تأليف الشيخ الحرّ العامليّ: قال الصادق علیه السلام في زيارة الحسين علیه السلام: «إنّه لَيجلب الرزق على العبد فيخلف عليه ما أنفق، ويجعل له بكلّ درهمٍ أنفقه عشرة آلاف درهم» ((4)).

ورُوي: «وله بكلّ درهمٍ أنفقه عشرة آلاف مدينةٍ له في كتابٍ محفوظ» ((5)).

ص: 207


1- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 141 الباب 55 ح 1.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 148 الباب 59 ح 7.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 128باب 46 ح 4.
4- ([3]) هداية الأُمّة للحرّ العاملي: 5 / 483 ح 48.
5- ([4]) هداية الأُمّة للحرّ العاملي: 5 / 483 ح 49.

وفي (كامل الزيارة)، عن يسار، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن كان مُعسِراً فلم يتهيّأ له حجّة الإسلام، فلْيأتِ قبرَ الحسين علیه السلام ولْيعرّف عنده، فذلك يجزيه عن حجّة الإسلام، أما إنّي لا أقول يجزي ذلك عن حجّة الإسلام إلّا للمعسر، فأمّا الموسر إذا كان قد حجّ حجّة الإسلام فأراد أن يتنفّل بالحجّ أو العُمرة ومنعه من ذلك شغل دنياً أو عائقٌ فأتىقبر الحسين علیه السلام في يوم عرفة، أجزأه ذلك عن أداء الحجّ أو العمرة، وضاعف الله له ذلك أضعافاً مضاعفة». قال: قلت: كم تعدل حجّةً وكم تعدل عمرة؟ قال: «لا يُحصى ذلك». قال: قلت: مئة؟ قال: «ومَن يحصي ذلك!». قلت: ألف [ألفاً]؟ قال: «وأكثر». ثمّ قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ((1))، {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ((2)) ((3)).

وفي (تهذيب الأحكام)، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام يوم عرفة، كتب الله له ألف ألف حجّةٍ مع القائم علیه السلام ، وألف ألف عُمرةٍ مع رسول الله صلی الله علیه وآله، وعتْقَ ألف ألف نسمة، وحملان ألف ألف فرسٍ في سبيل الله، وسمّاه الله عزوجل: عبدي الصدّيق، آمن بوعدي. وقالت الملائكة: فلان صدّيق، زكّاه الله مِن فوق عرشه. وسُمّيَ في الأرض كرّوبيّاً» ((4)).

وفي (كامل الزيارة)، عن ابن أبي يعفور قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام

ص: 208


1- ([1]) سورة إبراهيم: 34.
2- ([2]) سورة البقرة: 115.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 173 الباب 70 ح 12.
4- ([4]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 49 الباب 16 ح 28.

يقول لرجلٍ من مواليه: «يا فلان، أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام »، قال: نعم، إنّي أزوره بين ثلاث سنين أو سنتين مرّة. فقال له -- وهو مصفرّ الوجه -- : «أما واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو زرتَه لكان أفضل لك ممّا أنت فيه». فقالله: جُعلتُ فداك، أكلّ هذا الفضل؟! فقال: «نعم والله، لو أنّي حدّثتُكم بفضل زيارته وبفضل قبره لَتركتم الحجّ رأساً وما حجّ منكم أحد. ويحك! أما تعلم أنّ الله اتّخذ [بفضل قبره] كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتّخذ مكّة حرماً؟». قال ابن أبي يعفور: فقلتُ له: قد فرض الله على الناس حجّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين علیه السلام فقال: «وإن كان كذلك، فإنّ هذا شيءٌ جعله الله هكذا، أما سمعتَ قول أبي أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول: إنّ باطن القدَم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكنّ الله فرض هذا على العباد؟ أوَ ما علمتَ أنّ الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكنّ الله صنع ذلك في غير الحرم؟» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبان بن تغلب قال: قال لي جعفر بن محمّد: «يا أبان، متى عهدك بقبر الحسين علیه السلام »، قلت: لا والله يا ابن رسول الله، ما لي به عهد منذ حين. فقال: «سبحان الله العظيم، وأنت من رؤساء الشيعة تترك زيارة الحسين علیه السلام لا تزوره! مَن زار الحسين علیه السلام كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنة، ومحا عنه بكلّ خطوةٍ سيّئة، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. يا أبان، لقد قُتِل الحسين علیه السلام فهبط على قبره سبعون ألف ملَك شُعثٌ غُبر، يبكون عليه وينوحون

ص: 209


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 266 الباب 88 ح 2.

عليه إلى يوم القيامة» ((1)).

وعن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الرجل إذا خرج مِن منزله يريد زيارة الحسين علیه السلامشيّعته سبعمئة ملَكٍ من فوق رأسه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى يُبلِغوه مأمنه، فإذا زار الحسين علیه السلام ناداه مناد: قد غُفِر لك، فاستأنف العمل. ثمّ يرجعون معه مشيّعين له إلى منزله، فإذا صاروا إلى منزله قالوا: نستودعك الله. فلا يزالون يزورونه إلى يوم مماته، ثمّ يزورون قبر الحسين علیه السلام في كلّ يوم، وثواب ذلك للرجل» ((2)).

وعن محمّد بن أحمد بن داوود بن عقبة قال: كان جارٌ لي يُعرَف بعليّ ابن محمّد، قال: كنتُ أزور الحسين علیه السلام في كلّ شهر، ثم علت سنّي وضعف جسمي فانقطعتُ عن الحسين علیه السلام مرّة، ثمّ إنّي خرجتُ في زيارتي إيّاه ماشياً فوصلتُ في أيّام، فسلّمتُ وصلّيتُ ركعتَي الزيارة، ونمت، فرأيتُ الحسين علیه السلام قد خرج من القبر وقال لي: «يا علي، لمَ جفوتني وكنتَ لي برّاً؟»، فقلت: يا سيّدي، ضعف جسمي وقصرت خطاي، ووقع لي أنّها آخِر سنّي، فأتيتُك في أيّام، وقد رُويَ عنك شيءٌ أُحبّ أن أسمعه منك. فقال علیه السلام : «قل»، فقلت: رُويَ عنك: «مَن زارني في حياته زُرتُه بعد وفاته». قال: «نعم، قلتُ ذلك، وإن وجدتُه في النار أخرجتُه» ((3)).

ص: 210


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 331 الباب 108 ح 8.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 190 الباب 77 ح 4.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 16 / 98 ح 19.

وفي (كامل الزيارة)، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله علیه السلام ،قال: سمعتُه يقول: «قبر الحسين بن عليّ علیه السلام عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً مكسّراً روضةٌ من رياض الجنّة، وفيه [ومنه] معراج الملائكة إلى السماء، وليس مِنملَكٍ مقرّبٍ ولا نبيّ مرسَلٍ إلّا وهو يسأل الله أن يزوره، ففوجٌ يهبط وفوجٌ يصعد» ((1)).

وعن عمر بن يزيد بيّاع السابريّ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ أرض الكعبة قالت: مَن مثلي وقد بنى الله بيته [بُنيَ بيتُ الله] على ظهري، ويأتيني الناس مِن كلّ فجّ عميق، وجُعلتُ حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها أن كفّي وقرّي، فوَعزّتي وجلالي ما فضل ما فُضّلتِ به فيما أُعطيَت به أرضُ كربلاء إلّا بمنزلة الإبرة غُرسَت [غُمِسَت] في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضّلتُكِ، ولولا ما تضمّنَته أرض كربلاء لَما خلقتُكِ ولا خلقتُ البيت الّذي افتخرتِ به، فقرّي واستقرّي وكوني دنيّاً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ لأرض كربلاء، وإلّا سختُ بكِ وهويتُ بكِ في نار جهنّم!» ((2)).

وعن ثابت، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «خلق الله (تبارك وتعالى) أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدَّسةً مباركة، ولا تزال كذلك حتّى يجعلها الله أفضل أرضٍ في الجنّة وأفضل منزلٍ ومسكن، يُسكِن الله فيه أولياءه في الجنّة» ((3)).

ص: 211


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 112 الباب 38 ح 3.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 3.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 4.

وعن أبي الجارود قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «اتّخذ اللهُ أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعةٍ وعشرين ألف عام، وأنّهإذا زلزل الله (تبارك وتعالى) الأرض وسيّرها رُفعَت كما هي بتربتها نورانيّةً صافية، فجُعلَت في أفضل روضةٍ من رياض الجنّة وأفضل مسكنٍ في الجنّة لا يسكنها إلّا النبيّون والمرسلون -- أو قال: أُولوا العزم من الرسل --، وإنّها لَتزهر بين رياض الجنّة كما يزهر الكوكب الدُّرّي بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنّة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدّسة الطيّبة المباركة الّتي تضمّنت سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة» ((1)).

وقال أبو جعفر علیه السلام : «الغاضريّة هي البقعة الّتي كلّم الله فيها موسى بن عمران علیه السلام ، وناجى نوحاً فيها، وهي أكرم أرض الله عليه، ولو لا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأنبياءه، فزوروا قبورنا بالغاضريّة» ((2)).

وقال أبو عبد الله علیه السلام : «الغاضريّة تربةٌ من بيت المقدس» ((3)).

وعن حمّاد بن أيّوب، عن أبي عبد الله، علیه السلام عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله:يُقبَر ابني بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، هي البقعة الّتي كانت فيها قبّة الإسلام الّتي نجّى الله عليها المؤمنين الّذين آمنوا مع نوح

ص: 212


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 5.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 6.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 7.

في الطوفان» ((1)).وعن يحيى، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «زُوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإنّ خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وإنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدّي الحسين علیه السلام ، وما مِن ليلةٍ تمضي إلّا وجبرائيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد يا يحيى أن لا تُفقَد من ذلك الموطن» ((2)).

وعن صفوان الجمّال قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الله (تبارك وتعالى) فضّل الأرضين والمياه بعضَها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت، فما من ماءٍ ولا أرض إلّا عوقبت لتركها التواضع لله، حتّى سلّط الله المشركين على الكعبة، وأرسل إلى زمزم ماءً مالحاً حتّى أفسد طعمه، وإنّ أرض كربلاء وماء الفرات أوّل أرضٍ وأوّل ماءٍ قدّس الله (تبارك وتعالى)، فبارك الله عليهما، فقال لها: تكلَّمي بما فضّلكِ الله (تعالى)، فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض. قالت: أنا أرض الله المقدَّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني، بل شكراً لله. فأكرمَها وزاد في تواضعها [وزادها لتواضعها]، وشكرها الله بالحسين علیه السلام وأصحابه». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «مَن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبّر وضعه الله (تعالى)» ((3)).

ص: 213


1- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 8.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 269 الباب 88 ح 10.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 271 الباب 88 ح 15.

وعن الأصبغ بن نباتة قال: لمّا ضُرب أمير المؤمنين علیه السلام الضربة الّتي كانت وفاته فيها، اجتمع إليه الناس ببابالقصر، وكانوا يريدون قتل ابن ملجم (لعنه الله)، قال: فخرج الحسين علیه السلام وقال: «معاشرَ الناس، إنّ أبي أوصاني أن أترك قاتله إلى يوم وفاته، قال: فإن كان له الوفاة، وإلّا نظر هو في حقّه. فانصرِفوا، رحمكم الله». قال: فانصرفَ الناس، ولم أنصرف.

قال: وخرج ثانية، وقال: «يا أصبغ، أما سمعتَ قولي عن قول أمير المؤمنين علیه السلام »، قلت: بلى، ولكنّي إذا رأيتُ حاله أحببتُ النظر إليه، فأسمعُ منه حديثاً، فاستأذِنْ لي، رحمك الله. فدخل، ولم يلبث أن خرج وقال: «ادخل»، فدخلت، فإذا أمير المؤمنين علیه السلام معصّبٌ بعصابةٍ صفراء، وقد علا صفرة في وجهه على تلك العصابة، فإذا هو يرفع فخذاً ويضع أُخرى مِن شدّة الضربة وكثرة السمّ، فقال لي: «يا أصبغ، أما سمعتَ قول الحسين علیه السلام عن قولي؟»، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنّي رأيتُك في حالة، فأحببتُ النظر إليك وأن أسمع منك حديثاً. فقال لي: «اقعد، فلا أراك تسمع منّي حديثاً بعد يومك هذا. اعلم -- يا أصبغ -- أنّي أتيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله عائداً كما جئتَ إليّ الساعة، فقال لي صلی الله علیه وآله: اخرُج يا أبا الحسن فنادِ بالناس: الصلاة جامعة، واصعد منبري، وقم دون مقامي بمرقاة، و قُل للناس: ألا مَن عقَّ والديه فلعنة الله عليه، ألا من أبِقَ من مواليه فلعنة الله عليه، ألا من ظلم أجيراً أُجرته فلعنة الله عليه. يا أصبغ، فقلتُ ما أمرني به حبيبي رسول الله؟ص؟، فقام مِن أقصى المسجد رجلٌ وقال: يا أبا الحسن، تكلّمتَ بثلاث كلماتٍ وأوجزتهنّ، فاشرحهنّ لنا. فلم أردد جواباً، حتّى أتيتُ رسول

ص: 214

الله صلی الله علیه وآله و قلتُ له ما قال الرجل».

فقال الأصبغ: فأخذ بيدي عليٌّ علیه السلام وقال: «يا أصبغ، ابسِطْ يدك»، فبسطتُ يدي، فتناول إصبعاً من أصابع يدي وقال: «يا أصبغ، كذا تناول رسول الله صلی الله علیه واله إصبعاً من أصابع يدي كما تناولتُ إصبعا من (أصابعك)، ثمّ قال: يا أبا الحسن، ألا وإنّي وأنت أبوا هذه الأُمة، فمن عقّنا فلعنة الله عليه، ألا وإنّي وأنت مولَيا هذه الأُمة، فعلى من أبق عنّا لعنة الله، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه الأُمة، فمن ظلمنا أُجرتنا فلعنة الله عليه». قال: «فقل: آمين»، فقلت: آمين.

ثمّ قال الأصبغ: ثمّ أُغميَ عليه علیه السلام ، ثمّ أفاق، قال لي: «أقاعداً أنت يا أصبغ؟»، فقلت: نعم يا مولاي، فقال: «أزيدك حديثاً آخر؟»، قلت: نعم يا مولاي، زادك الله مزيد خير. قال: «يا أصبغ، لقيني رسول الله صلی الله علیه وآله في بعض طرقات المدينة وأنا مغمومٌ قد بيّن الغمّ في وجهي، فقال: يا أبا الحسن، أراك مغموماً! ألا أُحدّثك بحديثٍ لا تغتمّ بعده أبداً؟ فقلت: نعم. قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله لي منبراً يعلو منابر النبيّين والشهداء، ثمّ يأمرني الله أن أصعد فوقه، ثمّ يأمرك الله تصعد فوقه دوني بمرقاة، ثمّ يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا على المنبر فلا يبقى أحدٌ من الأولين [و]الآخِرين إلّا يرانا، فينادي الملَك الّذي دونك بمرقاة: معاشرَ الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا رضوان خازن الجِنان، ألا إنّ الله بفضله وكرمه وجلاله أمرني أن أدفع مفاتيح الجنّة إلى محمّد صلی الله علیه وآله، وأنّ محمّداً قد أمرني أن أدفعها إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام . ثمّ بعد ذلك يقول الملَك الّذي تحت ذلك الملَك بمرقاة، فيقول منادياً

ص: 215

يسمع أهل الموقف: معاشرَ الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا مالك خازن النيران، ألا إنّ الله بفضله ومَنّه وكرمه قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلى محمّد صلی الله علیه وآله، وأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله قد أمرني أن أدفعها إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فاشهدوا لي عليه أنّه قد أخذ مفاتيح الجِنان والنيران. ثمّ قال: يا عليّ، فتأخذُ بحجزتي، وأهلُ بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك». قال: «وصفقتُ بكلتا يدَيّ وقلت: إلى الجنّة يا رسول الله؟ قال: إي وربّ الكعبة».

قال الأصبغ: فلم أسمع من مولاي علیه السلام دون هذين الحديثين، ثمّ توفّي علیه السلام ((1)).

وفي كتاب (الطُرَف)، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه علیهم السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: أمرني رسول الله صلی الله علیه وآله أن أخرج فأُنادي في الناس: ألا مَن ظلم أجيراً أجره فعليه

ص: 216


1- ([1]) الروضة لابن شاذان: 132 ح 116.

لعنة الله، ألا مَن توالى غير مواليه فعليه لعنة الله، ألا ومَن سبّ أبويه فعليه لعنة الله. قال عليّ بن أبي طالب علیه السلام: فخرجتُ فناديتُ في الناس كما أمرني النبيّ صلی الله علیه وآله، فقال لي عمر بن الخطّاب: هل لِما ناديتَ به من تفسير؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: فقام عمر وجماعته مِن أصحاب النبيّ صلی الله علیه وآله، فدخلوا عليه، فقال عمر:يا رسول الله، هل لِما نادى عليٌّ مِن تفسير؟ قال صلی الله علیه وآله: نعم، أمرتُه أن ينادي: ألا مَن ظلم أجيراً أجرَه فعليه لعنة الله، والله يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((1))، فمَن ظلَمَنا فعليه لعنة الله، وأمرتُه أن ينادي: مَن توالى غير مواليه فعليه لعنة الله، والله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ((2))، فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، ومَن توالى غير عليّ وذرّيّته؟عهم؟ فعليه لعنة الله، وأمرتُه أن ينادي: ومَن سبَّ أبويه فعليه لعنة الله، وإنّي أُشهِدُ الله وأُشهِدكم أنّي وعليّاً أبوا المؤمنين، فمَن سبّ أحدَنا فعليه لعنة الله. فلما خرجوا قال عمر: يا أصحاب محمّد، ما أكّد النبيّ لعليّ في الولاية ولا في غدير خُمّ ولا في غيره أشدّ مِن تأكيده في يومنا هذا» ((3)).

وفي كتاب (الطُرَف) أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله قال: «يا علي، ما أنت صانعٌ لو تأمّر القوم عليك مِن بعدي وتقدّموك، وبعثوا إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثمّ لُبّبتَ بثوبك، وتُقاد كما يُقاد الشارد من الإبل مرموماً مخذولاً محزوناً مهموماً؟ أبعد ذلك تصبر وتنقاد لهم أم لا؟».

قال: فلمّا سمعَت فاطمة ما قال رسول الله صلی الله علیه وآله صرخَت فاطمة وبكت، فبكى رسول الله صلی الله علیه وآلهلبكائها، وقال: «يا بُنيّة، لا تبكين ولا تؤذين جلساءك مِن الملائكة، هذا جبرئيل يبكي لبكائك، وميكائيل وصاحب صور الله إسرافيل، يا بُنيّة لا تبكين، فقد بكت السماوات والأرض لبكائك».

ص: 217


1- ([1]) سورة الشورى: 23.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 6.
3- ([3]) الطُرَف للسيّد ابن طاووس: 187.

فقال عليّ علیه السلام : «يا رسول الله، أنقاد للقوم وأصبر -- كما أمرتَني -- على ما أصابني، من غير بيعةٍ لهم، ما لم أصب أعواناً عليهم لم أُناظر القوم». فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اشهد».

فقال: «يا علي، ما أنت صانعٌ بالقرآن والعزائم والفرائض؟»، فقال: «يا رسول الله، أجمعُه، ثمّ آتيهم به، فإن قبلوه وإلّا أشهدتُ الله وأشهدتُك عليهم»، قال صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اشهد» ((1)).

ص: 218


1- الطرف لابن طاووس: 199.

الفصل السابع: في جملةٍ من مناقبه وفضائله علیه السلام

اشارة

رُوي في كتاب (المنتخب) أنّ النبيّ خرج من المدينة غازياً وأخذ معه عليّاً، وبقي الحسن والحسين علیهما السلام عند أُمّهما لأنّهما صغيران، فخرج الحسين علیه السلام ذات يومٍ مِن دار أُمّه يمشي في شوارع المدينة، وكان عمره يومئذ ثلاث سنين، فوقع بين نخيل وبساتين حول المدينة، فجعل يسير في جوانبها ويتفرّج في مضاربها، فمرّ عليه يهوديّ يُقال له: صالح بن رقعة اليهودي، فأخذه إلى بيته وأخفاه عن أُمّه، حتّى بلغ النهار إلى وقت العصر والحسين لم يتبيّن له أثر، فقاد قلب فاطمة بالهمّ والحزن على ولدها الحسين علیه السلام ، فصارت تخرج من دارها إلى باب مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله سبعين مرّة، فلم ترَ أحداً تبعثه في طلب الحسين علیه السلام

ثمّ أقبلَت إلى ولدها الحسن علیه السلام وقالت له: «يا مُهجة قلبي وقُرّة عيني، قُم فاطلب أخاك الحسين، فإنّ قلبي يحترق من فراقه». فقام الحسن وخرج من المدينة، وأتى إلى دورٍ حولهانخلٌ كثير، وجعل يُنادي: «يا حُسين بن عليّ، يا

ص: 219

قرّة عين النبي! أين أنت يا أخي؟». قال: فبينما الحسن يُنادي إذ بدا له غزالةً في تلك الساعة، فألهم الله الحسن أن يسأل الغزالة، فقال: «يا ظبية، هل رأيتِ أخي حُسيناً؟»، فأنطق الله الغزالة ببركات رسول الله، وقالت: يا حسن، يا نور عين المُصطفى وسرور قلب المُرتضى ويا مُهجة فؤاد الزهراء، اعلَمْ أنّ أخاك أخذه صالح اليهوديّ وأخفاه في بيته. فسار الحسن حتّى أتى دار اليهودي، فناداه فخرج صالح، فقال له الحسن: «إليّ الحسين من دارك وسلِّمْه إليّ، وإلّا أقول لأُمّي تدعو عليك في أوقات السحَر، وتسأل ربّها حتّى لا يبقى على وجه الأرض يهودي، ثمّ أقول لأبي يضرب بحسامه لجمعكم حتّى يُلحقكم بدار البوار، وأقول لجدّي يسأل الله (سبحانه) أن لا يدَع يهودياً إلّا وقد فارق روحه». فتحيّر صالحُ اليهوديّ من كلام الحسن، وقال له: يا صبي، مَن أُمّك؟ فقال: «أُمّي الزهراء بنت محمّد المُصطفى، قلادة الصفوة ودُرّة صَدَف العصمة، وعزّة جمال العالم والحكمة، وهي نقطة دائرة المناقب والمفاخر، ولمعةٌ من أنوار المحامد والمآثر، خمرة طينة وجودها من تفّاحةٍ من تفّاح الجنّة، وكتب الله في صحيفتها عتقَ عصاة الأُمّة، وهي أُمّ السادة النجباء، وسيّدة النساء، البتول العذراء، فاطمة الزهراء علیها السلام». فقال اليهودي: أمّا أُمّك فعرفتها، فمَن أبوك؟ فقال الحسن علیه السلام : «إنّ أبي أسد الله الغالب، عليّ بن أبي طالب، الضارب بالسيفَين، والطاعن بالرمحين، والمصلّي مع النبيّ في القبلتين، والمُفدي نفسه لسيّد الثقلين، أبو الحسن والحسين». فقال صالح: يا صبي، قد عرفتُ أباك، فمَن جدّك؟فقال: «جدّي [درّةٌ] من صف [صدف] الجليل، وثمرةٌ من شجرة إبراهيم الخليل،

ص: 220

الكوكب الدرّي، والنور المضيء من مصباح التبجيل المعلَّقة في عرش الجليل، سيّد الكونين، ورسول الثقلين، ونظام الدارَين، وفخر العالمين، ومُقتدى الحرمين، وإمام المشرقين والمغربين، وجدّ السبطين، أنا الحسن وأخي الحسين!».

قال: فلمّا فرغ الحسن من تعداد مناقبه، انجلى صداه الكفر عن قلب صالح، وهملت عيناه بالدموع، وجعل ينظر كالمتحيّر، متعجّباً من حُسن منطقه وصغر سنّه وجودة فهمه، ثمّ قال: يا ثمرة فؤاد المُصطفى، ويا نور عين المُرتضى، ويا سرور صدر الزهراء، يا حسن، أخبِرْني مِن قبل أن أُسلّم إليك أخاك عن أحكام دين الإسلام، حتّى أُذعن لك وأنقاد إلى الإسلام. ثمّ إنّ الحسن عرض عليه أحكام الإسلام، وعرّفه الحلال والحرام، فأسلم صالح وأحسن الإسلام على يد الإمام، وسلّمه أخاه الحسين، ثمّ نثر على رأسيهما طبقاً من الذهب والفضّة، وتصدّق به على الفقراء والمساكين ببركة الحسن والحسين علیهما السلام.

ثمّ إنّ الحسن أخذ بيد أخيه الحسين وأتيا إلى أُمّهما، فلمّا رأتهما اطمأنّ قلبها وزاد سرورها بولديها.

قال: فلمّا كان اليوم الثاني، أقبل صالح ومعه سبعون رجُلاً من رهطه وأقاربه، وقد دخلوا جميعهم في الإسلام على يد الإمام ابن الإمام أخى الإمام (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ثمّ تقدّم صالح إلى الباب -- باب الزهراء -- رافعاً صوته بالثناء للسادة الأُمناء، وجعل يمرّغ وجهه وشيبته على عتبة دار فاطمة، وهو يقول: يا بنت محمّدٍالمُصطفى، عملتُ سوءاً بابنكِ، وآذيتُ

ص: 221

ولدك، وأنا على فعلي نادم، فاصفحي عن ذنبي. فأرسلَت إليه فاطمة تقول: «يا صالح، أمّا أنا فقد غفرتُ عنك مِن حقّي ونصيبي، وصفحتُ عمّا سوّءتَني به، لكنّهما ابناي وابنا عليّ المُرتضى، فاعتذِرْ إليه ممّا آذيتَ ابنه».

ثمّ إنّ صالحاً انتظر عليّاً حتّى أتى من سفره، وعرض عليه حاله، واعترف عنده بما جرى له، وبكى بين يديه واعتذر ممّا أساء إليه، فقال له: «يا صالح، أمّا أنا فقد رضيتُ عنك، وصفحتُ عن ذنبك، لكنّ هؤلاء ابناي وريحانتا رسول الله صلی الله علیه وآله، فامضِ إليه واعتذرْ ممّا أسأتَ بولده».

قال: فأتى صالح إلى رسول الله صلی الله علیه و آله باكياً حزيناً، وقال: يا سيّد المُرسلين، أنت قد أُرسلتَ رحمةً للعالمين، وإنّي قد أسأتُ وأخطأت، وإنّي قد سرقتُ ولدك الحسين، وأدخلتُه داري وأخفيتُه عن أخيه وأُمّه، وقد سوّءتُهما في ذلك، وأنا الآن قد فارقتُ الكفر ودخلتُ في دين الإسلام. فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «أمّا أنا فقد رضيتُ عنك وصفحتُ عن جُرمِك، لكن يجب عليك أن تعتذر إلى الله وتستغفره ممّا أسأتَ به قُرّة عين الّسول ومهجة فؤاد البتول، حتّى يعفو الله عنك (سبحانه)».

قال: فلم يزل صالح يستغفر ربّه ويتوسّل إليه، ويتضرّع بين يديه في أسحار الليل وأوقات الصلوات، حتّى نزل جبرائيل إلى النبيّ بأحسن التبجيل، وهو يقول: يا محمّد، قد صفح الله عن جرم صالح حيث دخل في دين الإسلام على يد الإمام ابن الإمام (عليهم أفضل الصلوات

ص: 222

والسلام) ((1)).

وروى الشيخ المفيد في كتاب (الأمالي) ((2))، قال الرضا علیه السلام: «عري الحسن والحسين، وأدركهما العيد، فقالا لأُمّهما: قد زيّنوا صبيان المدينة إلّا نحن، فما لكِ لا تزيّنينا؟ فقالت: ثيابكما عند الخيّاط، فإذا أتاني زيّنتُكما. فلمّا كانت ليلة العيد أعادا القول على أُمّهما، فبكت ورحمتهما، فقالت لهما ما قالت في الأُولى، فردّا عليها، فلمّا أخذ الظلام قرع الباب قارع، فقالت فاطمة: مَن هذا؟ قال: يا بنت رسول الله، أنا الخيّاط جئتُ بالثياب. ففتحت الباب، فإذا رجلٌ ومعه مِن لباس العيد. قالت فاطمة: واللهِ لم أرَ رجلاً أهيب شيمةً منه. فناولها منديلاً مشدوداً، ثمّ انصرف، فدخلت فاطمة ففتحت المنديل، فإذا فيه قميصان ودرّاعتان وسروالان ورداءان وعمّامتان وخُفّان أسودان معقبان بحمرة، فأيقظتهما وألبستهما، ودخل رسول الله وهما مزيَّنان، فحملهما وقبّلهما، ثمّ قال: رأيتِ الخيّاط؟ قالت: نعم يا رسول الله، والّذي أنفذته من الثياب. قال: يا بُنيّة، ما هو خيّاط، إنّما هو رضوان خازن الجنّة. قالت فاطمة: فمن أخبرك يا رسول الله؟ قال: ما عرج حتّى جاءني وأخبرني بذلك» ((3)).

وفي كتاب (المنتخب) وغيره، عن بعض الثُّقاة الأخيار أنّ الحسن والحسين علیهما السلام دخلا يوم عيدٍ على حُجرة جدّهما رسول الله صلی الله علیه وآله، فقالا: «يا

ص: 223


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 163 المجلس 8.
2- ([2]) في (المناقب): (أبو عبد الله المفيد النَّيسابوريّ في أماليه).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 73/9

جدّاه، اليوم يوم العيد، وقد تزيّن أولاد العرب بألوان اللباس ولبسوا جديد الثياب، وليس لنا ثوبٌ جديد، وقد توجّهنا لجنابك لنأخذ عيديّتنا منك، ولا نريد سوى ثيابٍ نلبسها». فتأمّل النبيّ صلی الله علیه و آله إلى حالهما وبكى، ولم يكن عنده في البيت ثيابٌ تليق بهما، ولا رأى أن يمنعهما فيكسر خاطرهما، فتوجّه إلى الأحديّة وعرض الحال على الحضرة الصمديّة، وقال: «إلهي، اجبرْ قلبهما وقلب أُمّهما». فنزل جبرائيل من السماء تلك الحال، ومعه حلّتان بيضاوتان من حُلل الجنّة، فسُرّ النبي صلی الله علیه وآله، وقال لهما: «يا سيّدَي شباب أهل الجنّة، هاكما أثوابكما، خاطهما خيّاط القدرة على طولكما، أتتكما مخيّطةً من عالم الغيب». فلمّا رأيا الخُلَع بيضاً قالا: «يا جدّاه، كيف هذا وجميع صبيان العرب لابسون ألوان الثياب؟!». فأطرق النبيّ صلی الله علیه وآله ساعةً متفكّراً في أمرهما، فقال جبرائيل: يا محمّد، طِبْ نفساً وقُر عيناً، إنّ صابغ صبغة الله عزوجل يقضي لهما هذا الأمر، ويفرّح قلوبهما بأيّ لونٍ شاء، فأْمُر -- يا محمّد -- بإحضار الطشت والإبريق. فحضرا، فقال جبرائيل: يا رسول الله، أنا أصبّ الماء على هذه الخُلَع، وأنت تفركهما بيدك، فتصبغ بأيّ لونٍ شاءا. فوضع النبيّ حُلّة الحسن في الطشت، فأخذ جبرائيل يصبّ الماء، ثمّ أقبل النبيّ على الحسن وقال: «يا قُرّة عيني، بأيّ لونٍ تريد حُلّتك؟»، فقال: «أُريدها خضراء». ففركها النبيّ صلی الله علیه وآله بيده في ذلك الماء، فأخذت بقدرة الله لوناً أخضر فائقاً كالزبرجد الأخضر، فأخرجها النبيّ صلی الله علیه وآله وأعطاها للحسن فلبسها، ثمّ وضع حُلّة الحسين علیه السلام في الطشت، وأخذ جبرائيل يصبّ الماء، فالتفت النبيّ إلى نحو الحسين -- وكان

ص: 224

له من العمر خمس سنين -- وقال له: «يا قرّة عيني، أيّ لونٍ تريد حلّتك؟»، فقال الحسين علیه السلام : «يا جدّاه، أُريدها حمراء». ففركها النبيّ بيده في ذلك الماء، فصارت حمراء كالياقوت الأحمر، فلبسها الحسين، فسُرّ النبيّ صلی الله علیه وآله بذلك، وتوجّه الحسن والحسين إلى أُمّهما فرحَين مسرورَين، فبكى جبرائيل لمّا شاهد تلك الحال، فقال النبيّ صلی اله علیه وآله: «يا أخي، في مِثل هذا اليوم الّذي فرح فيه ولداي تبكي وتحزن؟! فبالله عليك إلّا ما أخبرتني!»، فقال جبرائيل: اعلَمْ -- يا رسول الله -- أنّ اختيار ابنَيك على اختلاف اللّون، فلا بدّ للحسن أن يسقوه السمّ ويخضرّ لون جسده من عظم السمّ، ولابدّ للحسين أن يقتلوه ويذبحوه ويُخضَّب بدنه من دمه. فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله وزاد حزنه لذلك ((1)).

وفي (المنتخب)، روى هِشام بن عروة، عن أُمّ سلمة أنّها قالت: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يُلبس ولده الحسين علیه السلام حُلّةً ليست من ثياب أهل الدنيا، وهو يُدخِل أزرار الحسين بعضها ببعض، فقلت له: يا رسول الله، ما هذه الحُلّة؟! فقال: «هذه هديّةٌ أهداها إليّ ربّي لأجل الحسين، وإنّ لحمتها من زغب جناح جبرائيل، وها أنا أُلبسه إيّاها وأُزيّنه بها، فإنّ اليوم يوم الزينة، وأنا أُحبّه» ((2)).

وفي كتاب (المنتخب) أنّ فاطمة علیها السلام جاءت إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وهي

ص: 225


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 121 المجلس 6.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 122 المجلس 6.

تبكي، فقال: «ما يُبكيكِ؟»، فقالت: «ضاع منّي الحسين فلا أجده». فقام النبيّ صلی الله علیه وآله، واغرورقت عيناه، وذهب ليطلبه، فلقيه يهوديّ فقال: يا محمّد، ما لَك تبكي؟ فقال: «ضاع ابني». فقال: لا تحزن، فإنّي رأيتُه على تلّ كذا نائماً. فقصده النبيّ صلی الله علیه وآله، واليهوديّ معه، فلمّا قرب من التلّ رأى ضبّاً بفمه غصن أخضر يروح به إلى الحسين، فلمّا رأى الضبّ النبيّ قال بلسانٍ فصيح: السلام عليك يا زين القيامة. وشهد له بشهادة الحقّ، ثمّ قال: لم أرَ أهل بيتٍ أكثر بركةً مِن أهل بيتك؛ لأنّ وَلدي ضاع منّي ثلاث سنين، فطفتُ العالم أطلبه فلم أجده، فببركة ولدك وجدّته الآن فأُكافيه. ثمّ قال ولد الضبّ: يا رسول الله، أخذَني السيل فادخلَني البحر، ثمّ ضربَت بيَ الأمواج إلى أن وقعتُ بجزيرة كذا، فلم أجدْ سبيلاً ومخرجاً منها، حتّى أهبّ الله ريحاً فأخذَتني وألقَتني في هذا الموضع عند أبي. فقال صلی الله علیه وآله: «مِن تلك الجزيرة إلى هاهنا ألف فرسخ». فأسلم اليهوديّ وقال: أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله ((1)).

وفي (المنتخب)، رُويَ عن سلمان الفارسي قال: اُهديَ إلى النبيّ صلی الله علیه وآله قطف من العنب في غير أوانه، فقال لي: «يا سلمان، آتِيني بولدي الحسن والحُسين؛ ليأكلا معي من هذا العنب». قال سلمان الفارسي: فذهبتُ أطرق عليهما منزل أُمّهما فلم أرهما، فأتيتُ منزل أُختهما أُمّ كلثوم فلم أرهما،

ص: 226


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 98 المجلس 5.

فجئتُ فخبّرت النبيّ بذلك، فاضطرب ووثب قائماً وهو يقول: «وا ولداه! وا قرّة عيناه! مَن يرشدني عليهما فله على اللهالجنّة». فنزل جبرائيل من السماء وقال: يا محمّد، على مَ هذا الانزعاج؟ فقال: «على ولديَّ الحسن والحسين، فإنّي خائفٌ عليهما من كيد اليهود». فقال جبرائيل: يا محمّد، بل خِفْ عليهما من كيد المنافقين؛ فإنّ كيدهم أشدّ من كيد اليهود، واعلم -- يا محمّد -- إنّ ابنيك الحسن والحسين نائمان في حديقة أبي الدحداح. فسار مِن وقته وساعته إلى الحديقة وأنا معه حتّى دخلنا الحديقة، وإذا هما نائمان وقد اعتنق أحدهما الآخر، وثعبانٌ في فيه طاقة ريحان يروح بها وجهيهما، فلمّا رأى الثعبانُ النبيَّ صلی الله علیه وآله ألق ما كان في فيه، وقال: السلام عليك يا رسول الله، لستُ أنا ثعباناً، ولكنّي ملَكٌ من ملائكة الله المكروبين، غفلتُ عن ذكر ربّي طرفة عين، فغضب علَيّ ربّي ومسخني ثعبان كما ترى، وطردني من السماء إلى الأرض، ولي منذ سنين كثيرة أقصد كريماً على الله فأسأله أن يشفع لي عند ربّي؛ عسى أن يرحمني ويعيدني ملَكاً كما كنتُ أوّلاً، إنّه على كلّ شيءٍ قدير. قال: فجثى النبي صلی الله علیه وآله يقبّلهما حتّى استيقظا، فجلسا على ركبتَي النبي صلی الله علیه وآله ، فقال لهما النبي صلی الله علیه وآله: «انظُرا يا ولدَيّ، هذا ملَكٌ من ملائكة الله المكروبين، قد غفل عن ذكر ربّه طرفة عينٍ فجعله اللهُ هكذا، وأنا مستشفعٌ إلى الله (تعالى) بكما، فاشفعا له». فوثب الحسنُ والحسين علیهما السلام فأسبغا الوضوء وصلّيا ركعتين، وقالا: «اَللّهمّ بحقّ جدّنا الجليل الحبيب محمّدٍ المصطفى، وبأبينا

ص: 227

عليّ المرتضى، وبأُمّنا فاطمة الزهراء، إلّا ما رددتَه إلى حالته الأُولى». قال: فما استتمّ دعاؤهما وإذا بجبرائيل قد نزل من السماء في رهطٍ من الملائكة، وبشّر ذلك برضى الله عليه وبردّهإلى سيرته الأُولى، ثمّ ارتفعوا به إلى السماء وهم يُسبّحون الله (تعالى)، ثمّ رجع جبرائيل علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه وآله وهو مُبتسمٌ وقال: يا رسول الله، إنّ ذلك الملَك يفتخر على ملائكة السبع السماوات، ويقول لهم: مَن مثلي وأنا في شفاعة السيّدَين السبطَين؟ ((1))

وفي بعض الكتب: كان النبي صلی الله علیه وآله جالساً في بيت فاطمة علیها السلام والحسن على فخذه الأيمن والحسين على فخذه الأيسر، فنزل جبرئيل معه عنقود عنبٍ من الجنّة وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يُقرئك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويأمرك أن تقسم هذا العنقود بين ولديك الحسن والحسين. فأخذه النبيّ صلی الله علیه وآله وقسمه بينهما، وجعل حصّة الحسن أكثر من حصّة الحسين، فنظر الحسين إلى جدّه وقال: «يا نبيّ الله، السلام عليك، حضرتني أبياتٌ من الشعر، تأذن لي بإنشاده؟»، قال النبي: «هاتها يا أبا عبد الله». فأنشد الحسين علیه السلام:

«ليس لي بعد إلهي***ملجأ إلّا إليك

أنت كنزي أنت ذخري***فاز مَن صلّى عليك

تجعل الأكثر للأك***بر والأمر إليك

ص: 228


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 255 المجلس 2.

تجعل العنقود شطرين***وسهمي في يديك

كلّنا أولاد بنتك***كلّنا تفّاحتيك

إنّما أهناك عيناك***فداوي مقلتيك

إن كحلت الفرد منها***هاجت الأُخري عليك

لا تعوّدني عقوقك***لا تحزنني عليك

لا تفضّله علَيّ***بالّذي أوحي إليك»

فقال الحسن علیه السلام: «يا رسول الله، أعطِه حصّتي». فأمر النبي بميزانٍ فوُزن العنقود نصفين متساويين، وقسّمه بينهما (صلوات الله عليهم أجمعين) ((1)).

وفي كتاب (مثير الأحزان) عن أخبار (تاريخ البلاذري)، حدّث محمّد ابن يزيد المبرد النحويّ في إسنادٍ ذكره، قال: انصرف النبي صلی الله علیه وآله إلى منزل فاطمة، فرآها قائمةً خلف بابها، فقال: «ما بال حبيبتي هاهنا؟»، فقالت: «ابناك خرجا غدوة، وقد غبي علَيّ خبرهما». فمضى رسول الله صلی الله علیه وآله يقفو آثارهما حتّى صار إلى كهف جبل، فوجدهما نائمين وحيّة مطوّقة عند رأسهما، فأخذ حَجرا وأهوى إليها، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، واللهِ ما نمتُ عند رأسهما إلّا حراسةً لهما. فدعا لهما بخير، ثمّ حمل الحسن على كتفه اليمنى والحسين على كتفه اليسرى، فنزل جبرئيل فأخذ الحسين وحمله، فكانا بعد ذلك يفتخران، فيقول الحسن: «حملَني خيرُ أهل الأرض»، ويقول

ص: 229


1- ([1]) لم نعثر عليه فيما توفّر لدينا من المصادر.

الحسين: «حملَني خيرُ أهل السماء» ((1)).

وفي كتاب (الخرائج)، عن المقداد بن الأسود أنّ النبي صلی اللهعلیه وآله خرج في طلب الحسن والحسين علیه السلام وقد خرجا من البيت، وأنا معه، فرأيتُ أفعى على الأرض، فلمّا أحسّت وطء النبي صلی الله علیه وآله قامت فنظرت، وكانت أعلى من النخلة وأضخم من البكر، متبصبصةً تخرج من أفواهها النار، فهالني ذلك، فلما رأت رسولَ الله صلی الله علیه وآله صارت كأنّها خيط، فالتفت إليّ رسولُ الله صلی الله علیه وآله فقال: «لا تدري ما تقول يا أخا كِندة!»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «تقول: الحمد لله الّذي لم يُمِتني حتّى جعلني حارساً لابنَي رسول الله». فجرت في الرمل، رمل الشعاب، فنظرتُ إلى شجرةٍ، وأنا أعرف ذلك الموضع ما رأيتُ فيه شجرةً قطّ قبل يومي ولا رأيتُها، ولقد أتيتها بعد ذلك اليوم أطلب الشجرة فلم أجِدْها، وكانت الشجرة أظلَّتهما بورق.

وجلس النبي صلی الله علیه وآله بينهما، فبدأ بالحسن فوضع رأسه على فخذه الأيمن، ثمّ بالحسين فوضع رأسه على فخذه الأيسر، ثمّ جعل يُرخي لسانه في فم الحسين، فانتبه الحسين فقال: «يا أبه»، ثمّ عاد في نومه، وانتبه الحسن فقال: «يا أبه»، وعاد في نومه، فقلت: كأنّ الحسين أكبر، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفةً مكتومة، سَلْ أُمّه عنه». فلمّا انتبها حملهما على منكبيه.

ص: 230


1- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 21.

ثمّ أتيتُ أنا فاطمةَ فوقفتُ بالباب، فأتت حمامة وقالت: يا أخا كِندة، فقلت: مَن أعلمكِ أنّي بالباب؟! قالت: أخبرَتني سيّدتي أنّ رجلاً بالباب مِن كِندة، مِن أطيبها إخباراً يسألني عن موضع قرّة عيني. فكبر ذلك عندي، فولّيتُها ظهري كما كنتُ أفعل حين أدخل على رسول الله في منزل أُمّ سلَمة، فقلت لفاطمة: ما منزلة الحسين؟ قالت: «إنّه لمّا ولدتُ الحسن أمرني أبي أن لا ألبس ثوباً أجدفيه اللذّة حتّى أفطمه، فأتاني أبي زائراً، فنظر إلى الحسن وهو يمصّ النوى، قال: فطمتيه؟ قلت: نعم، قال: إذا أحبّ عليٌّ الاشتمال فلا تمنعيه؛ فإنّي أرى في مَقدم وجهكِ ضوءاً ونوراً، وذلك أنّكِ ستلدين حُجّةً لهذا الخلق وحجّةً على ذا الخلق. فلمّا أن تمّ الشهر من حملي وجدتُ في بطني سُخنة، فقلتُ لأبي ذلك، فدعا بتورٍ من ماءٍ فتكلّم عليه وتفل فيه، وقال: اشربي، فشربت، فطرد الله عنّي ما كنتُ أجد، وصرتُ في الأربعين من الأيام فوجدتُ دبيباً في ظهري كدبيب النمل بين الجِلدة والثوب، فلم أزلْ على ذلك حتّى تمّ الشهر [الثاني] فوجدتُ الاضطراب والحركة، فوَالله لقد تحرّك في بطني وأنا بعيدةٌ عن المطعم والمشرب، فعصمني الله عنهما كأنّي شربتُ منا لبناً، حتّى تمّ الثلاثة و[أنا] أجد الخير والزيادة في منزلي، فلمّا صرتُ في الأربعة آنس الله به وحشتي، ولزمتُ المسجد لا أبرح منه إلّا لحاجةٍ تظهر لي، فكنتُ في الزيادة والخفّة في ظاهري وباطني حتّى أكملت الخمسة، فلمّا أن دخلتُ الستّة كنتُ لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح، وجعلت أسمعُ

ص: 231

إذا خلَوتُ بنفسي في مصلّاي التسبيحَ والتقديس [في بطني]، فلمّا مضى من الستّة تسع ((1)) ازددتُ قوّة، وكنتُ ضعيفة اللذات، فذكرتُ ذلك لأُمّ سلَمة، فشدّ اللهُ بها أزري، فلمّا زادت العشر ((2)) من الستّة وغلبتني عيني، أتاني آتٍ في منامي فمسح جناحه على ظهري، ففزعتُ وقمتُ وأسبغت الوضوء فصلّيتُ ركعتين، ثمّ غلبتني عيني فأتاني آتٍ فيمنامي وعليه ثيابٌ بيض، فجلس عند رأسي فنفخ في وجهي وفي قفاي، فقمتُ وأنا خائفة، فأسبغت الوضوء وأدّيت أربعاً، ثمّ غلبتني عيني فأتاني آتٍ في منامي فأقعدني ورقاني وعوّذني، فأصبحت، وكان يوم أُمّ سلَمة المباركة، فدخلتُ في ثوب حمامة، ثمّ أتيتُ أُمّ سلَمة، فنظر النبي صلی الله علیه وآله إلى وجهي، ورأيتُ أثر السرور في وجهه فذهب عنّي ما كنتُ أجد، وحكيتُ ذلك للنبي صلی الله علیه وآله، فقال: أبشري، أمّا الأوّل فخليلي عزرائيل الموكَّل بأرحام النساء يفتحها، وأمّا الثاني فخليلي ميكائيل الموكَّل بأرحام أهل بيتي نفخ فيك. فقلت: نعم». قالت: «ثمّ ضمّني إلى نفسه، فقال: أمّا الثالث فأخي جبرئيل يقيمه الله بولدك. فرجعتُ فأنزلتُه في تمام الستّة» ((3)) ((4)).

ص: 232


1- ([1]) ترجمها المؤلّف: (فلمّا مضت الشهر التاسع).
2- ([2]) ترجمها المؤلّف: (فلمّا مضى العاشر).
3- ([1]) الخرائج للراوندي: 2 / 841.
4- ([2]) بحار الأنوار: 43 / 271 ح 39. قال العلّامة المجلسي: ولا يخفى تنافي الأخبار الواردة في مدّة الحمل، وأخبار الستّة أكثر وأقوى.

قال المؤلف:

وإن كان في الحديث (سنة تسعون)!!! ((1)) ولكن مقتضى الجمع بين الأخبار أنّ الستّة بالتاء، فسقطت نقطةٌ بسهو النسّاخ، وتحمل كلمة التسع والعشر على الأيام والليالي ((2)).وروى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، عن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ الباقر، عن أبيه علیه السلام قال: «مرض النبي صلی الله علیه وآله المرضة الّتي عُوفيَ منها، فعادته فاطمة علیها السلام سيّدة النساء، ومعها الحسن والحسين، قد أخذَت الحسن بيدها اليمنى وأخذت الحسين بيدها اليسرى، وهما يمشيان وفاطمة بينهما حتّى دخلوا منزل عائشة، فقعد الحسن علیه السلام على جانب رسول الله الأيمن والحسينُ على جانب رسول الله الأيسر، فأقبلا يغمزان ما يليهما من بدن رسول الله صلی الله علیه وآله ، فما أفاق النبي صلی الله علیه وآله من نومه، فقالت فاطمة للحسن والحسين: حبيبَيّ، إنّ جدّكما قد غفا، فانصرِفا ساعتكما هذه ودعاه حتّى يفيق وترجعان إليه. فقالا: لسنا ببارحين في وقتنا هذا. فاضطجع الحسنُ على عضد النبيّ صلی الله علیه وآله الأيمن والحسين على عضده الأيسر فغفيا، وانتبها قبل أن ينتبه النبي صلی الله علیه وآله ، وقد كانت فاطمة علیها السلام لمّا ناما انصرفَت إلى منزلها، فقالا لعائشة: ما

ص: 233


1- ([3]) كذا.
2- ([4]) هذا كلّه وفق نسخة المؤلف (السنة)، أمّا الموجود في المطبوع: (الستّة).

فعلَت أُمُّنا؟ قالت: لمّا نمتما رجعَت إلى منزلها. فخرجا في ليلةٍ ظلماء مدلهمّةٍ ذات رعدٍ وبرق، وقد أرخت السماء عزاليها، فسطع لهما نور، فلم يزالا يمشيان في ذلك النور والحسن قابضٌ بيده اليمنى على يد الحسين اليسرى، وهما يتماشيان ويتحدّثان حتّى أتيا حديقة بني النجّار، فلمّا بلغا الحديقة حارا، فبقيا لا يعلمان أين يأخذان، فقال الحسن للحسين: إنّا قد حرنا وبقينا على حالتنا هذه، وما ندري أين نسلك، فلا عليك أن ننام في وقتنا هذا حتّى نُصبح. فقال لهالحسين علیه السلام: دونك يا أخي، فافعلْ ما ترى. فاضطجعا جميعاً، واعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه وناما، وانتبه النبي صلی الله علیه وآله من نومته الّتي نامها، فطلبهما في منزل فاطمة فلم يكونا فيه وافتقدهما، فقام علیه السلام قائماً على رجليه وهو يقول: إلهي وسيّدي ومولاي، هذان شبلاي خرجا من المخمصة والمجاعة، اللّهمّ أنت وكيلي عليهما. فسطع للنبيّ نور، فلم يزل يمضي في ذلك النور حتّى أتى حديقة بني النجّار، فإذا هما نائمان قد اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وقد تقشّعت السماء فوقهما كطبق، فهي تمطر كأشدّ مطرٍ ما رآه الناس قطّ، وقد منع الله عزوجل المطر منهما في البقعة الّتي هما فيها نائمان لا يمطر عليهما قطرة، وقد اكتنفتهما حيّةٌ لها شعرات كآجام القصب وجناحان، جناح قد غطّت به الحسن وجناح قد غطّت به الحسين، فلمّا أن بصر بهما النبيّ تنحنح، فانسابت الحيّة وهي تقول: اللّهمّ إنّي أُشهِدُك وأُشهِد ملائكتك أنّ هذين شبلا نبيّك، قد حفظتُهما عليه ودفعتُهما إليه سالمَين صحيحَين. فقال لها النبی صلی الله علیه وآله : أيّتها الحيّة، ممّن أنتِ؟ قالت: أنا رسول الجنّ إليك. قال: وأيّ الجنّ؟ قالت: جنّ نصيبين، نفرٌ مِن بني مليح، نسينا آيةً من كتاب الله عزوجل فبعثوني إليك لتعلّمنا ما نسينا من كتاب الله، فلمّا بلغتُ هذا الموضع سمعتُ منادياً ينادي: أيّتها الحيّة،

ص: 234

هذان شبلا رسول الله، فاحفظيهما من الآفات والعاهات، ومن طوارق الليل والنهار. فقد حفظتُهما وسلّمتُهما إليك سالمَين صحيحين. وأخذت الحيّة الآيةَ وانصرفَت، وأخذ النبي صلی الله علیه وآله الحسنَ فوضعه على عاتقه الأيمن، ووضع الحسينَ على عاتقه الأيسر، وخرج عليٌّ علیه السلامفلحق برسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال له بعض أصحابه: بأبي أنت وأُمّي، ادفَعْ إليّ أحد شبلَيك أُخفّف عنك، فقال: امضِ، فقد سمع الله كلامك وعرف مقامك. وتلقّاه آخَر فقال: بأبي أنت وأُمّي، ادفَعْ إليّ أحد شبليك أُخفّف عنك، فقال: امضِ، فقد سمع الله كلامك وعرف مقامك. فتلقّاه عليٌّ علیه السلام فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ادفَعْ لي أحد شبلَيّ وشبليك حتّى أُخفّف عنك. فالتفت النبي صلی الله علیه وآله إلى الحسن فقال: يا حسن، هل تمضي إلى كتف أبيك؟ فقال له: واللهِ يا جدّاه إنّ كتفك لَأحبُّ إليّ مِن كتف أبي. ثمّ التفت إلى الحسين علیه السلام فقال: يا حسين، هل تمضي إلى كتف أبيك؟ فقال له: واللهِ يا جدّاه إنّي لَأقول لك كما قال أخي الحسن، إنّ كتفك لَأحبّ إليّ مِن كتف أبي. فأقبل بهما إلى منزل فاطمة علیها السلام وقد ادّخرت لهما تميرات، فوضعتها بين أيديهما، فأكلا وشبعا وفرحا، فقال لهما النبي صلی الله علیه وآله : قوما الآن فاصطرعا. فقاما ليصطرعا، وقد خرجَت فاطمة في بعض حاجتها، فدخلت، فسمعت النبيّ وهو يقول: إيهٍ يا حسن شدّ على الحسين فاصرعه، فقالت له: يا أبت وا عجباه! أتشجّع هذا على هذا؟ أتشجّع الكبير على الصغير؟! فقال لها: يا بُنيّة، أما ترضين أن أقول أنا: يا حسن شدّ على الحسين فاصرعه، وهذا حبيبي جبرئيل يقول: يا حسين شدّ على الحسن فاصرعه؟» ((1)).

ص: 235


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 443 المجلس 68 ح 8.

وفي (بحار الأنوار)، عن ابن عبّاسٍ قال: بينما نحن عند رسول الله صلی الله علیه وآله إذ أقبلت فاطمة علیها السلام تبكي، فقاللها النبي صلی الله علیه وآله : «ما يُبكيكِ؟»، قالت: «يا رسول الله، إنّ الحسن والحسين خرجا، فوَاللهِ ما أدري أين سلكا»، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «لا تبكين [تبكي]، فداكِ أبوك، فإنّ الله عزوجل خلقهما وهو أرحم بهما. اللّهمّ إنْ كانا أخذا في بَرٍّ فاحفظهما، وإن كانا أخذا في بحرٍ فسلّمهما». فهبط جبرئيل علیه السلام فقال: يا أحمد، لا تغتمّ ولا تحزن، هما فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وأبوهما خيرٌ منهما، وهما في حظيرة بني النجّار نائمَين، وقد وكّل اللهُ بهما ملَكاً يحفظهما. قال ابن عبّاس: فقام رسول الله صلی الله علیه وآله وقمنا معه حتّى أتينا حظيرة بني النجّار، فإذا الحسن معانقٌ الحسين، وإذا الملَك قد غطّاهما بأحد جناحيه، فحمل النبيُّ صلی الله علیه وآله الحسن وأخذ الحسين الملك، والناس يرون أنّه حاملهما، فقال له أبو بكر وأبو أيّوب الأنصاريّ: يا رسول الله، ألا نخفّف عنك بأحد الصبيَّين؟ فقال: «دعاهما؛ فإنّهما فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وأبوهما خيرٌ منهما»، ثمّ قال: «واللهِ لَأُشرّفنّهما اليوم بما شرّفهما الله». فخطب فقال: «يا أيّها الناس، ألا أُخبركم بخير الناس جدّاً وجدّة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ جدّهما رسول الله، وجدّتهما خديجة بنت خُويلد. ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس أباً وأُمّاً؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ أبوهما عليّ بن أبي طالب، وأُمّهما فاطمة بنت محمّد. ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس عمّاً وعمّة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ عمّهما جعفر بن أبي طالب، وعمّتهما أُمّ هاني بنت أبي طالب.

ص: 236

ألا يا أيّها الناس، ألا أُخبركم بخير الناس خالاً وخالة؟»،قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ خالهما القاسم ابن رسول الله، وخالتهما زينب بنت رسول الله صلی الله علیه وآله . ألا إنّ أباهما في الجنّة، وأُمّهما في الجنّة، وجدّهما في الجنّة، وجدّتهما في الجنّة، وخالهما في الجنّة، وخالتهما في الجنّة، وعمّهما في الجنّة، وعمّتهما في الجنّة، وهما في الجنّة، ومَن أحبّهما في الجنّة، ومَن أحبّ مَن أحبّهما في الجنّة» ((1)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن عبد الله بن العبّاس قال: كُنّا مع رسول الله صلی الله علیه وآله وإذا بفاطمة الزهراء قد أقبلَت تبكي، فقال لها رسول الله صلی الله علیه وآله : «ما يُبكيكِ يا فاطمة؟»، فقالت: «يا أبه، إنّ الحسن والحسين قد غابا عنّي هذا اليوم، وقد طلبتُهما في بيوتك فلم أجدهما ولا أدري أين هما، وإنّ عليّاً راح إلى الدالية منذ خمسة أيّام يسقي بستاناً له». إذ أبو بكر قائمٌ بين يدي النبي صلی الله علیه وآله ، فقال صلی الله علیه وآله له: «يا أبا بكر، اطلبْ لي قرّة عيني»، ثمّ قال: «يا عمر، ويا سلمان، ويا أبا ذرّ، ويا فلان ويا فلان، قوموا فاطلبوا قرّة عيني». قال: فأحصينا على رسول الله صلی الله علیه وآله أنّه وجد سبعين رجُلاً في طلبهما، فغابوا ساعة ورجعوا ولم يصيبوهما، فاغتمّ النّبي صلی الله علیه وآله غمّاً شديداً، فوقف عند باب المسجد وقال: «اللّهمّ، بحقّ إبراهيم خليلك، وبحقّ آدم صفيّك، إن كان قرّتا عيني وثمرتا فؤادي أخذا برّاً أو بحراً، فاحفظهما وسلّمهما من كلّ سوءٍ يا أرحم الراحمين». فإذا بجبرائيل علیه السلام قد هبط من السماء وقال: يا رسول الله، لا تحزنْ ولا تغتمّ؛ فإنّ الحسن والحسين

ص: 237


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 303.

فاضلان في الدنيا والآخرة، وقد وكّل الله بهما ملَكاً يحفظهما إن ناما أو قعدا أو قاما، وهما في حضيرة بني النجّار. ففرح النبيُّ بذلك، وسار وجبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله والمسلمون من حوله، حتّى دخلوا حضيرة بني النجّار، وذلك الموكّل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما، وعلى كلّ واحدٍ منهما دراعةٌ من صوف، والمداد على شفتيهما، وإذا الحسن مُعانق الحسين وهما نائمان، فجثي النبي على ركبتيه، ولم يزل يقبّلهما حتّى استيقظا، فحمل النبي الحسين علیه السلام وحمل جبرائيل الحسن، وخرج النبي من الحضيرة وهو يقول: «معاشرَ الناس، اعلموا أنّ مَن أبغضهما فهو في النار، ومَن أحبّهما فهو في الجنّة، ومن كرمهما على الله (تعالى) سمّاهما في التوراة شُبّراً وشبيراً» ((1)).

وروى كتاب (المنتخب) أنّ أعرابياً أتى الرسولَ فقال له: يا رسول الله، لقد صدتُ خشفة غزالة، وأتيتُ بها إليك هديّةً لولديك الحسن والحسين. فقبلها النبيُّ ودعا له بالخير، فإذا الحسن واقفٌ عند جدّه، فرغب إليها، وأعطاها إيّاه، فمضى ساعة إلّا والحسين قد أقبل، فرأى الخشفة عند أخيه يلعب بها، فقال: «يا أخي، مِن أين لك هذه الخشفة؟»، فقال الحسن: «أعطانيها جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله ». فسار الحسين مُسرِعاً إلى جدّه، فقال: «يا جدّاه، أعطيتَ أخي خشفةً يلعب بها ولم تعطني مثلها!»، وجعل يكرّر القول على

ص: 238


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 263 المجلس 8.

جدّه وهو ساكت، لكنّه يسلّي خاطره ويلاطفه بشيءٍ من الكلام، حتّى أفضى من أمر الحسين إلى أن همّ يبكي، فبينما هو كذلك، إذ نحن بصياحٍ قد ارتفع عند باب المسجد، فنظرنا فإذا ظبية ومعها خشفها، ومن خلفها ذئبةٌ تسوقها إلى رسول الله وتضربها بأحد أطرافها حتّى أتت بها إلى النبي، ثمّ نطقت الغزالة بلسانٍ فصيحٍ وقالت: يا رسول الله، قد كانت لي خشفتان، إحداهما صادها الصيّاد وأتى بها إليك، وبقيَت لي هذه الأُخرى وأنا بها مسرورة، وإنّي كنتُ الآن أُرضعها، فسمعتُ قائلاً يقول: أسرعي، أسرعي يا غزالة بخشفك إلى النبي صلی الله علیه وآله وأوصليه سريعاً؛ لأنّ الحسين واقفٌ بين يدَي جدّه وقد همّ أن يبكي، والملائكةُ بأجمعهم قد رفعوا رؤوسهم من صوامع العبادة، ولو بكى الحسين لَبكت الملائكة المقرّبون لبكائه. وسمعتُ أيضاً قائلاً يقول: أسرعي يا غزالة قبل جريان الدموع على خدّ الحسين، فإن لم تفعلي سلّطتُ عليكِ هذه الذئبة تأكلك مع خشفك. فأتيتُ بخشفي إليك يا رسول الله، وقطعتُ مسافةً بعيدة، لكن طويت الأرض حتّى أتيتك سريعة، وأنا أحمد الله ربّي كيف جئتك قبل جريان دموع الحسين على خدّه. فارتفع التكبير والتهليل من الأصحاب، ودعا النبي صلی الله علیه وآله للغزالة بالخير والبركة، وأخذ الحسين الخشفة وأتى بها إلى أُمّه الزهراء علیها السلام، فسُرّت بذلك سروراً عظيماً ((1)).

ص: 239


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 123 المجلس 6.

وروى القطب الراوندي في كتاب (الخرائج)، عن مندل، عن هارون بن خارجة، عن الصادق علیه السلام، عن آبائه علیهم السلام، قال: «إنّ الحسين علیه السلام إذا أراد أن ينفذ غلمانهفي بعض أُموره قال لهم: لا تخرجوا يوم كذا واخرجوا يوم كذا؛ فإنّكم إن خالفتموني قُطع عليكم. فخالفوه مرّةً وخرجوا، فقتلهم اللصوص وأخذوا ما معهم، واتّصل الخبر بالحسين علیه السلام، فقال: لقد حذّرتُهم فلم يقبلوا منّي. ثمّ قام من ساعته ودخل على الوالي، فقال الوالي: يا أبا عبد الله، بلغني قتلُ غلمانك، فآجرك الله فيهم. فقال الحسين علیه السلام : فإنّي أدلّك على من قتلهم، فاشدُدْ يدك بهم. قال: أوَتعرفهم يا ابن رسول الله؟! قال: نعم، كما أعرفك، وهذا منهم -- وأشار بيده إلى رجلٍ واقفٍ بين يدَي الوالي --، فقال الرجل: ومِن أين قصدتَني بهذا، ومِن أين تعرف أنّي منهم؟ فقال له الحسين علیه السلام : إنْ أنا صدقتُك تصدقني؟ فقال الرجل: نعم والله لَأصدقنّك. فقال: خرجتَ ومعك فلان وفلان -- وذكرهم كلَّهم --، فمنهم أربعةٌ مِن مَوالي المدينة، والباقون من حبشان المدينة. فقال الوالي للرجل: وربِّ القبر والمنبر لَتصدقنّي أو لَأهرأنّ لحمك بالسياط! فقال الرجل: واللهِ ما كذب الحسينُ وقد صدق، وكأنّه ك--ان معن--ا. فجمعهم الوال-ي جميعاً، فأقرّوا جميعاً فضرب أعناقهم» ((1)).

[هروب الحمّى من الحسين علیه السلام]

وفي (رجال الكشّي)، عن حمران بن أعيَن أنّه قال: سمعتُ أبا عبد

ص: 240


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 246.

الله علیه السلام يحدّث عن آبائه علیه السلام أنّ رجلاً كان من شيعة أمير المؤمنين علیه السلام مريضاً شديد الحمّى، فعادهالحسين بن علي علیه السلام ، فلمّا دخل باب الدار طارت الحمّى عن الرجل، فقال له: قد رضيتُ بما أُوتيتم به حقّاً حقّاً، والحمّى تهرب منكم. فقال: «واللهِ ما خلق اللهُ شيئاً إلّا وقد أمره بالطاعة لنا يا كباسة». قال: فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول: لبيك، قال: «أليس أمير المؤمنين أمركِ ألّا تقربي إلّا عدوّاً، أو مُذنباً لكي تكون كفّارةً لذنوبه؟ فما بال هذا؟». وكان الرجل المريض عبد الله بن شدّاد بن الهاد الليثي ((1)).

[رجلٌ تحّرش بامرأةٍ في الطواف فلصقت يده، وخلّصه الحسين علیه السلام ]

وفي كتاب (التهذيب)، عن أيّوب بن أعين، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ امرأةً كانت تطوف وخلفها رجل، فأخرجت ذراعها، فقال بيده حتّى وضعها على ذراعها، فأثبت الله يده في ذراعها حتّى قطع الطواف، وأرسل إلى الأمير، واجتمع الناس، وأرسل إلى الفقهاء، فجعلوا يقولون: اقطع يده، فهو الّذي جنى الجناية! فقال: هاهنا أحدٌ مِن وُلد محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: نعم، الحسين بن علي علیه السلام

قدم اللّيلة. فأرسل إليه فدعاه، فقال: انظر ما لقيا ذان. فاستقبل القبلة ورفع يديه، فمكث طويلاً يدعو، ثمّ جاء إليها حتّى خلّص يده من يدها، فقال الأمير: ألا نعاقبه

ص: 241


1- ([1]) رجال الكشّي: 87 ح 141، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 23.

بما صنع؟ فقال: لا» ((1)).

[أمر الغلام الصغير فنطق بإذن الله]

وفي كتاب (المناقب)، عن صفوان بن مهران قال: سمعتُ الصادق علیه السلام يقول: «رجلان اختصما في زمن الحسين علیه السلام في امرأةٍ وولدها، فقال هذا لي وقال هذا لي، فمرّ بهما الحسين علیه السلام فقال لهما: في ماذا تمرجان؟ ((2)) قال أحدهما: إنّ الامرأة لي، فقال للمدّعي الأوّل: اقعد، فقعد، وكان الغلام رضيعاً، فقال الحسين: يا هذه اصدقي من قبل أن يهتك الله سترك! فقالت: هذا زوجي، والولد له ولا أعرف هذا. فقال علیه السلام: يا غلام ما تقول هذه؟ انطقْ بإذن الله (تعالى). فقال له: ما أنا لهذا ولا لهذا، وما أبي إلّا راعٍ لآل فلان. فأمر علیه السلام برجمها». قال جعفر علیه السلام : «فلم يسمع أحدٌ نطق ذلك الغلام بعدها» ((3)).

وفي كتاب (الخرائج)، عن يحيى ابن أُمّ الطويل قال: كنّا عند الحسين علیه السلام إذ دخل عليه شابٌّ يبكي، فقال له الحسين: «ما يُبكيك؟»، قال: إنّ والدتي تُوفّيَت في هذه الساعة، ولم توصِ ولها مال، وكانت قد

ص: 242


1- ([2]) تهذيب الأحكام للطوسي: 5 / 470 الباب 26، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 24.
2- ([1]) المرج: الخلط، ومرج الناس: اختلطوا، والمرج: الفتنة المشكلة، ومرج الأمير رعيّته: إذا تركهم يظلم بعضهم بعضاً.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 25.

أمرتني أن لا أُحدث في أمرها شيئاً حتّى أُعلمك خبرها. فقال الحسين علیه السلام : «قوموا بنا حتّى نصير إلى هذه الحرّة». فقمنا معه حتّى انتهينا إلى باب البيت الّذي فيه المرأة وهي مسجّاة، فأشرف على البيت، ودعا الله ليحييها حتّى تُوصي بما تحبّ منوصيّتها، فأحياها الله، وإذا المرأة جلست وهي تتشهّد، ثمّ نظرَت إلى الحسين علیه السلام فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومُرني بأمرك. فدخل وجلس على مخدّة، ثمّ قال لها: «وصّي، يرحمكِ الله». فقالت: يا ابن رسول الله، إنّ لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا، وقد جعلتُ ثُلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمتَ أنّه مِن مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك، فلا حقّ للمخالفين في أموال المؤمنين. ثمّ سألَته أن يُصلّي عليها وأن يتولّى أمرها، ثمّ صارت المرأة ميّتةً كما كانت ((1)).

[إرائة الأصبغ مخاطبة النبي

صلی الله علیه وآله لأبي دون]

وفي كتاب (المناقب)، عن الأصبغ بن نباتة قال: سألتُ الحسين علیه السلام فقلت: سيّدي، أسألك عن شي ءٍ أنا به موقن، وأنّه مِن سرّ الله، وأنت المسرور إليه ذلك السرّ. فقال: «يا أصبغ، أتريد أن ترى مخاطبة رسول الله لأبي دون يوم مسجد قبا؟»، قال: هذا الّذي أردت. قال: «قُم». فإذا أنا وهو

ص: 243


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 245 الباب 4 ح 1.

بالكوفة، فنظرتُ فإذا المسجد من قبل أن يرتدّ إليّ بصري، فتبسّم في وجهي، فقال: «يا أصبغ، إنّ سليمان بن داوود أُعطيَ الريح غدوّها شهرٌ ورواحها شهر، وأنا قد أُعطيت أكثر ممّا أُعطي سليمان»، فقلت: صدقتَ واللهِ يا ابن رسول الله. فقال: «نحن الّذين عندنا علم الكتاب وبيان ما فيه، وليس لأحدٍ مِنخلقه ما عندنا؛ لأنا أهل سرّ الله»، فتبسّم في وجهي ثمّ قال: «نحنُ آل الله، ووَرثة رسوله». فقلت: الحمد لله على ذلك. ثمّ قال لي: «ادخل»، فدخلت، فإذا أنا برسول الله صلی الله علیه وآله محتبٍ في المحراب بردائه، فنظرتُ فإذا أنا بأمير المؤمنين قابضٌ على تلابيب الأعسر، فرأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يعضّ على الأنامل وهو يقول: «بئس الخلَف خلّفتَني أنت وأصحابك، عليكم لعنة الله ولعنتي!» ((1)).

[كفّ جبرائيل في كفّه]

وفي (المناقب)، عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين -- قبل أن يتوجّه إلى العراق -- على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله (عزّ وجل) ((2)).

وعُنّف ابن عبّاسٍ على تركه الحسين، فقال: إنّ أصحاب الحسين لم

ص: 244


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 26.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.

ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ((1)).

وقال محمّد ابن الحنفيّة: وإنّ أصحابه عندنا لَمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ((2)).وفي (المنتخب)، عن طاووس اليماني أنّ الحسين بن عليّ كان إذا جلس في المكان المُظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره، وإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كثيراً ما يقبّل الحُسين علیه السلام بنحره وجبهته، وإنّ جبرائيل علیه السلام نزل يوماً إلى الأرض فوجد الزّهراء نائمةً والحسين في مهده يبكي على جاري عادة الأطفال مع أُمّهاتهم، فجلس جبرائيل عند الحسين وجعل يناغيه ويُسكته عن البكاء ويسلّيه، ولم يزل كذلك حتّى استيقظت فاطمة علیها السلام من منامها، فسمعَت إنساناً يُناغي الحسين، فالتفتت إليه ولم ترَ أحداً، فأعلمها أبوها رسول الله أنّ جبرائيل كان يُناغي الحُسين ((3)).

وفي (مسند السيّد البتول)، عن حذيفة قال: سمعتُ الحسين بن علي علیه السلام يقول: «والله لَيجتمعنّ على قتلي طغاة بني أُميّة، ويقدمهم عمر بن سعد»، وذلك في حياة النبي صلی الله علیه وآله ، فقلت له: أنبأك بهذا رسول الله؟ فقال: «لا». فقال: فأتيتُ النبيَّ فأخبرتُه، فقال: «علمي علمه، وعلمه علمي، لأنّا

ص: 245


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
2- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
3- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 198 المجلس 10.

نعلم بالكائن قبل كينونته» ((1)).

وعن راشد بن مزيد قال: شهدتُ الحسين بن علي علیه السلام وصَحبتُه من مكّة حتّى أتينا القطقطانة، ثمّ استأذنتُه في الرجوع فأذن لي، فرأيته وقد استقبله سبعٌ عقور، فكلّمه، فوقف له فقال: «ما حال الناس بالكوفة؟»، قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. قال: «ومَن خلّفتَ بها؟»، قال: ابن زياد، وقد قتل مسلم بن عقيل. قال: «وأينتريد؟»، قال: عدن. قال له: «أيّها السبع، هل عرفتَ ماء الكوفة؟»، قال: ما علمنا مِن علمك إلّا ما زوّدتَنا. ثمّ انصرف وهو يقول: «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ((2))، قال: «كرامة مِن وليٍّ وابن ولي» ((3)).

وعن الحارث بن وكيدة قال: كنتُ فيمن حمل رأس الحسين، فسمعتُه يقرأ سورة الكهف، فجعلتُ أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله، فقال لي: «يا ابن وكيدة، أما علمتَ أنّا معشر الأئمّة أحياءٌ عند ربّنا نُرزَق؟».

قال: فقلتُ في نفسي: أسرق رأسه، فنادى: «يا ابن وكيدة، ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييرهم رأسي، فذَرْهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ» ((4))» ((5)).

ص: 246


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 186 ح 14.
2- ([1]) سورة فُصّلت: 46.
3- ([2]) دلائل الإمامة للطبري: 183 ح 99.
4- ([3]) سورة غافر: 70 و71.
5- ([4]) دلائل الإمامة للطبري: 188 ح 108.

وعن المفضّل بن عمر قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لمّا مُنع الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابه الماء نادى فيهم: مَن كان ظمآن فليجيء. فأتاه أصحابه رجلاً رجلاً، فجعل إبهامه في راحة واحدهم، فلم يزل يشرب الرجل بعد الرجل حتّى ارتووا كلُّهم، فقال بعضهم لبعض: والله لقد شربتُ شراباً ما شربه أحدٌ من العالمين في دار الدنيا. فلمّا قاتلوا الحسين، وكان في اليوم الثالث عند المغرب، أقعد الحسين رجلاً رجلاً منهم فيسمّيهم بأسماء آبائهم، فيجيبه الرجل بعد الرجل فيقعدون حوله، ثمّ يدعو بالمائدة فيُطعمهم ويأكل معهم منطعام الجنّة ويسقيهم من شرابها».

ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «واللهِ لقد رآهم عدّةٌ من الكوفيّين، ولقد كرّر عليهم لو عقلوا».

قال: «ثمّ أرسلهم، فعاد كلُّ واحدٍ منهم إلى بلاده، ثمّ أتى جبل رضوى، فلا يبقى أحدٌ من المؤمنين إلّا أتاه، وهو على سريرٍ من نور، قد حفّ به إبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء، ومن ورائهم المؤمنون، ومن ورائهم الملائكة، ينظرون ما يقول الحسين (صلوات الله عليه)»، قال: «فهُم بهذه الحال إلى أن يقوم القائم علیه السلام، فإذا قام القائم وافوا فيما بينهم الحسين علیه السلام حتّى يأتي كربلاء، فلا يبقى أحدٌ سماويٌّ ولا أرضيّ من المؤمنين إلّا حفّ به، يزوره ويصافحه ويقعد معه على السرير. يا مفضّل، هذه والله الرفعةُ الّتي ليس فوقها شيءٌ ولا دونها شي ء، ولا وراءها لطالبٍ مطلب» ((1)).

ص: 247


1- ([1]) دلائل الإمامة للطبري: 189 ح 109.

قال المؤلّف:

الظاهر أنّ المراد باليوم الثالث: اليوم الثالث عشر من المحرّم، والمراد من زيارة الله والمصافحة والمجالسة: زيارة رسول الله، كما يُشعِر بذلك ما ورد في تفسير قوله (تعالى): «فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ» ((1))، أو كناية عن كمال القرب الحاصل للمولى بسبب اختياره الشهادةوسائر المصائب الأُخرى، والعلم عند الله.

وروى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن المفضّل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام أنّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام دخل يوماً إلى الحسن علیه السلام، فلمّا نظر إليه بكى، فقال له: «ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟»، قال: «أبكي لما يُصنَع بك». فقال له الحسن علیه السلام : «إنّ الّذي يُؤتى إليّ سُمٌّ يُدسّ إليّ فأُقتَل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم مِن أُمّة جدّنا محمّد صلی الله علیه وآله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أُميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلُّ شيء، حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» ((2)).

ص: 248


1- ([2]) سورة الزخرف: 55.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 115 المجلس 24 ح 3.

وعن بعض الكتب المعتبرة، عن هند بنت الجون قالت: نزل رسول الله صلی الله علیه وآله بخيمة خالتها أُمّ معبد، ومعه أصحابٌ له، فكان من أمره في الشاة ما قد عرفه الناس، فقال في الخيمة هو وأصحابه حتّى أبرد، وكان يومٌ قائظٌ شديدٌ حرّه، فلمّا قام من رقدته دعا بماءٍ فغسل يديه فأنقاهما، ثمّ مضمض فاه، ومجه على عوسجةٍ كانت إلى جنب خيمة خالتها ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وذراعيه، ثمّ مسح برأسه ورجليه، وقال: «لهذه العوسجة شأن». ثمّ فعل مَن كان معه من أصحابه مثل ذلك، ثمّ قام فصلّى ركعتين، فعجبتُ وفتيات الحيّ من ذلك، وما كان عهدنا ولارأينا مصلّياً قبله.

فلمّا كان من الغد أصبحنا وقد علت العوسجة حتّى صارت كأعظم دوحة عادية وأبهى، وخضد الله شوكها، وساخت عروقها، وكثرت أفنانها، واخضرّ ساقها وورقها، ثمّ أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمرٍ كأعظم ما يكون من الكمأة في لون الورس المسحوق ورائحة العنبر وطعم الشهد، واللهِ ما أكل منها جائعٌ إلّا شبع، ولا ظمآن إلّا روي، ولا سقيم إلّا برأ، ولا ذو حاجةٍ وفاقةٍ إلّا استغنى، ولا أكل من ورقها بعيرٌ ولا ناقة ولا شاة إلّا سمنت ودرّ لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ يوم نزل، وأخصبت بلادنا وأمرعت، فكنّا نسمّي تلك الشجرة: المباركة، وكان ينتابنا من حولنا من أهل البوادي يستظلّون بها، ويتزوّدون من ورقها في الأسفار، ويحملون معهم في الأرض

ص: 249

القفار، فيقوم لهم مقام الطعام والشراب.

فلم تزل كذلك وعلى ذلك أصبحنا ذات يومٍ وقد تساقط ثمارها واصفرّ ورقها، فأحزننا ذلك وفرقنا له، فما كان إلّا قليل حتّى جاء نعي رسول الله، فإذا هو قد قُبض ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تُثمر ثمراً دون ذلك في العظم والطعم والرائحة، فأقامت على ذلك ثلاثين سنة.

فلمّا كانت ذات يوم أصبحنا وإذا بها قد تشوّكت من أوّلها إلى آخرها، فذهبت نضارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلّا يسيراً حتّى وافى مقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فما أثمرت بعد ذلك لا قليلاً ولا كثيراً، وانقطع ثمرها، ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي مرضانا بها ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت على ذلك بُرهة طويلة.ثمّ أصبحنا ذات يومٍ فإذا بها قد انبعثت من ساقها دماً عبيطاً جارياً، وورقها ذابلة تقطر دماً كماء اللحم، فقلنا أن قد حدث عظيمة، فبتنا ليلتنا فزعين مهمومين نتوقّع الداهية، فلمّا أظلم الليل علينا سمعنا بكاءً وعويلاً من تحتها وجلَبَةً شديدة ورجّة، وسمعنا صوت باكيةٍ تقول:

أيا ابن النبيّ ويا ابن الوصي***ويا مَن بقيّة ساداتنا الأكرمينا

ثمّ كثرت الرنّات والأصوات، فلم نفهم كثيراً ممّا كانوا يقولون، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين علیه السلام، ويبست الشجرة وجفّت، فكسرتها الرياح والأمطار بعد ذلك، فذهبت واندرس أثرها.

ص: 250

قال عبد الله بن محمّد الأنصاري: فلقيتُ دعبل بن عليّ الخزاعي بمدينة الرسول، فحدّثتُه بهذا الحديث فلم يُنكره، وقال: حدّثني أبي، عن جدّي، عن أُمّه سعيدة بنت مالك الخزاعيّة أنّها أدركَت تلك الشجرة، فأكلَت من ثمرها على عهد عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، وأنّها سمعت تلك الليلة نوح الجنّ، فحفظت من جنّيّةٍ منهن:

يا ابن الشهيد ويا شهيداً عمّه***خير العمومة جعفر الطيّارُ

عجباً لمصقولٍ أصابك حدّه***في الوجه منك وقد علاه غبارُ

[قال دعبل: فقلتُ في قصيدتي:

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزارُ***واعصِ الحمارَ، فمن نهاك حمارُ

لمَ لا أزورك يا حسين لك الفدا***قومي ومَن عطفت عليه نزارُ

ولكَ المودّة في قلوب ذوي النهى***وعلى عدوّك مقتةٌ ودمارُ

يا ابن الشهيد ويا شهيداً عمّه***خير العمومة جعفر الطيّار] ((1))

في كتاب (المناقب): عمرو بن دينار قال: دخل الحسين على أُسامة بن زيدٍ وهو مريض، وهو يقول: وا غمّاه! فقال له الحسين علیه السلام: «وما غمّك يا أخي؟»، قال: دَيني، وهو ستّون ألف درهم. فقال الحسين: «هو علَيّ»، قال إنّي أخشى أن أموت، فقال الحسين: «لن تموت حتّى أقضيها عنك». قال:

ص: 251


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 233 ح 1.

فقضاها قبل موته، وكان علیه السلام يقول: «شرّ خصال الملوك: الجُبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء» ((1)).

و في كتاب (أُنس المجلس) أنّ الفرزدق أتى الحسين علیه السلام لمّا أخرجه مروان من المدينة، فأعطاه علیه السلام أربعمئة دينار، فقيل له: إنّه شاعرٌ فاسقٌ مشهر! فقال علیه السلام : «إنّ خير مالك ما وقيتَ به عرضك» ((2)).

شعيب بن عبد الرحمان الخزاعيّ ((3)) قال: وُجد على ظهر الحسين بن عليٍّ يوم الطفّ أثر، فسألوا زين العابدين عن ذلك، فقال:«هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين» ((4)).

في (المناقب) أيضاً: إنّ عبد الرحمان السلَمي علّم ولد الحسين الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حُلّة، وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك، قال: «وأين يقع هذا من عطائه؟»، يعني تعليمه.

وأنشد الحسين علیه السلام:

«إذا جادت الدنيا عليك فجُدْ بها***على الناس طُرّاً قبل أن تتفلّتِ

ص: 252


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 67، الأمالي لأبي علي القالي: 1 / 201، المجالسة وجواهر العلم للدينوري: 1 / 336.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 67، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 130 الرقم 433، ربيع الأبرار للزمخشري: 1 / 459.
3- ([4]) في المتن: (عبد الرحمان الخزاعي).
4- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69.

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلَت***ولا البخل يُبقيها إذا ما تولّتِ» ((1))

وفي (المناقب): قدم أعرابيُّ المدينة، فسأل عن أكرم الناس بها فدُلَّ على الحسين علیه السلام ، فدخل المسجد فوجده مصلّياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخب الآن مَن رجاك ومَن***حرّك مِن دون بابك الحلقةْ

أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ***أبوك قد كان قاتلُ الفسقةْ

لو لا الّذي كان من أوائلكم***كانت علينا الجحيم منطبقةْ

قال: فسلّم الحسين علیه السلام وقال: «يا قنبر، هل بقي شيءٌ مِن مال الحجاز؟»، قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فقال: «هاتها،قد جاء مَن هو أحقّ بها منّا». ثمّ نزع بُردَيه ولفّ الدنانير فيهما، وأخرج يده من شِقّ الباب حياءً من الأعرابي، وأنشأ:

«خُذها، فإنّي إليك معتذرٌ***واعلم بأنّي عليك ذو شفقةْ

لو كان في سيرنا الغداة عصاً***أمست سمانا عليك مندفقةْ

لكنّ ريب الزمان ذو غِيَرٍ***والكفّ منّي قليلة النفقةْ»

قال: فأخذها الأعرابيّ وبكى، فقال له: «لعلّك استقللت ما أعطيناك!»، قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟!

وهو المرويّ عن الحسن بن علي علیهما السلام ((2)).

ص: 253


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 68.

في (البحار)، عن (جامع الأخبار) في أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتابٍ له في مقتل آل الرسول أنّ أعرابيّاً جاء إلى الحسين بن علي علیه السلام، فقال: يا ابن رسول الله، قد ضمنتُ ديةً كاملةً وعجزتُ عن أدائه، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيتُ أكرم من أهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال الحسين: «يا أخا العرب، أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبتَ عن واحدةٍ أعطيتُك ثُلث المال، وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتُك ثُلثَي المال، وإن أجبتَ عن الكلّ أعطيتُك الكلّ». فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله، أمثلك يسأل عن مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين علیه السلام : «بلى، سمعتُ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: المعروف بقدرالمعرفة». فقال الأعرابي: سَلْ عمّا بدا لك، فإن أجبتُ وإلّا تعلّمتُ منك، ولا قوّة إلّا بالله. فقال الحسين علیه السلام : «أيّ الأعمال أفضل؟»، فقال الأعرابي: الإيمان بالله. فقال الحسين علیه السلام : «فما النجاة من المهلكة؟»، فقال الأعرابي: الثقة بالله. فقال الحسين علیه السلام: «فما يزين الرجل؟»، فقال الأعرابي: علمٌ معه حلم. فقال: «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال: مالٌ معه مروءة. فقال: «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال: فقرٌ معه صبر. فقال الحسين علیه السلام : «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال الأعرابي: فصاعقةٌ تنزل من السماء وتُحرقه، فإنّه أهلٌ لذلك. فضحك الحسين علیه السلام ورمى بصرّةٍ إليه فيه ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مائتا درهم، وقال: «يا أعرابي، أعطِ الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك». فأخذ الأعرابي وقال: «اللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 254

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» ((1)) ((2)).

وروى في كتاب (المنتخب) أنّ الحسين علیه السلام كان جالساً بمسجد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، وذلك بعد وفاة أخيه الحسن علیه السلام ، وكان عبد الله بن الزبير جالساً في ناحية المسجد وعُتبة بن أبي سفيان في ناحيةٍ أُخرى، فجاء أعرابي على ناقةٍ حمراء فعلقها بباب المسجد ودخل، فوقف على عُتبة بن أبي سفيان وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له الأعرابي: اعلم إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي عمداً، وطُولبنا بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فرفع رأسه إلى غلامه وقال: ادفع إليه مئة درهم. فقام الأعرابيمغضباً وانتهره وقال: ما أُريد إلّا الدية تماماً! ثمّ تركه، وأتى عبد الله بن الزبير وقال له: إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي، وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فقال لغلامه: ادفع إليه مئتي درهم. فقام الأعرابي مغضباً وقال: ما أُريد إلّا الدية تماماً! ثمّ تركه، وأتى إلى الحسين فسلّم عليه، وقال له: يا ابن رسول الله، إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي، وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فقال له: «يا أعرابي، نحن قومٌ لا نعطي المعروف إلّا قدر المعرفة». فقال له: سَلْ ما تريد يا ابن رسول الله. فقال له الحسين علیه السلام : «ما النجاة من الهلكة؟»، قال: التوكّل على الله عزوجل. فقال له: «ما أروع الهمّة؟»، قال: الثقة بالله. فقال له: «وما يتحصّن

ص: 255


1- ([1]) سورة الأنعام: 124.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 196 ح 11، جامع الأخبار: 137.

به العبد؟»، قال: محبّتكم أهل البيت. فقال: «ما أزين ما يتزيّن به الرجل؟»، قال: عِلمٌ وعملٌ يزيّنه حلم. فقال له: «فإن أخطأ ذلك كلَّه؟»، قال: فعقلٌ يزيّنه تقاء. فقال له: «فإن أخطأ ذلك كلّه؟»، قال: سخاءٌ يزيّنه حُسن خُلُق. فقال له: «فإن أخطأ ذلك؟»، قال: شجاعةٌ يزيّنها ترك عجب. قال: «فإن أخطأ ذلك؟»، قال: واللهِ -- يا ابن رسول الله -- إن أخطأ هذه الخصال فالموت له خيرٌ من الحياة. فأمر الحسين له بعشرة آلاف درهم، وقال له: «هذه لقضاء دَينك، وعشرة آلاف درهم أُخرى تلمّ بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق بها على عيالك». فأنشأ الأعرابي يقول:

طربتُ وما هاج لي مغبقُ***ولا بي مقامٌ ولا معشقُ

ولكن طربتُ لآل الرسول***فلذّ ليَ الشعرُ والمنطقُ

همُ الأكرمون همُ الأنجبون***نجوم السماء بهم تُشرِقُ

سبقتَ الأنام إلى المكرمات***وأنت الجوادُ فلا تُلحَقُ

أبوك الّذي ساد بالمكرمات***فقصّر عن سبقه السُّبّقُ

بكم فتح الله باب الرشاد***وباب العثار بكم تُغلَقُ ((1))

وفي (أمالي المفيد)، ذكر ابن طلحة أنّ أعرابيّاً قطع القِفار إلى الحسن ليكلّمه في عويص العربيّة، فأشار بعضُ مَن حضر أن يبدأ بالحسين، فسلّم وقال: جئتُك من الهرقل والجعلل والأثيم وألهمهم، ثمّ قال:

ص: 256


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 202 الباب 2.

هفا قلبي إلى الهيفِ***وقد ودّع شرحيه

وقد كان البقاء غضّاً***بجراري ذيليه

علالات ولذّات***فيا سقيا لعصريه

فلمّا علم الشيب***من الرأس نطاقيه

وأمس-ى قد عناني من-***-ه تجديد خضابيه

تسلّيتُ عن اللهو***وألقيتُ قناعيه

فلو يعلم ذو رأيٍ***أصيلٍ فيه رأييه

لألفى غيره منه***له في كر عصريه

فارتجل الحسين علیه السلام:

«فما رسمٌ سجا فيه***محا آية رسميه

سفود درج الذيلين***في نوعا قناعيه

ومود جرصف تترى***على تلبيد نوعيه

ودلاج من المزن***دنا نوء سماكيه

إلى مثعنجر الودق***بجرد من خلاليه

وقد أحمد برقاه***فلا ذم لبرقيه

وقد جلّل رعداه***فلا ذمّ لرعديه

نجيح الرعد شجاج***إذا أرخى نطاقيه

ص: 257

فأضحى دارساً قفراً***لبينونة أهليه»

فقال الأعرابي: ما رأيتُ أعربَ منه كلاماً ولا أذرب منه لساناً. فقال الحسن في أخيه:

غلاماً كرّم الرحمان***بالتطهير جدَّيه

كساه القمر القمقام***من نور سنائيه

ولو عدّد طماح***نفجنا عن عداديه

وقد أرضيت من شعري***وقومت عروضيه

فقال الأعرابي: بأبي أنتما وأُمّي، بارك الله فيكما، فلقد انصرفتُ وأنا مُحبٍّ لكما راضٍ عنكما ((1)).

[مفاخرته مع أبيه علیهما السلام]

وفي كتاب (منتخب آثار أمير المؤمنين علیه السلام ) أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان جالساً ذات يوم وعنده الإمام عليّ بن أبي طالب، إذ دخل الحسين علیه السلام ، فأخذه النبي صلی الله علیه وآله وجعله في حِجره، وقبّل بين عينيه وقبّل شفتيه، وكان للحسين ستّ سنين، فقال علي علیه السلام : «يا رسول الله، أتحبّ وَلدي الحسين؟»، قال صلی الله علیه وآله: «وكيف لا أُحبّه وهو عضوٌ من أعضائي؟». فقال علیه السلام : «يا رسول الله، أيّنا أحبّ إليك، أنا أم حسين؟»، فقال الحسين: «يا أبت! مَن كان أعلى شرفاً كان أحبّ إلى النبيّ وأقرب إليه منزلة». قال علي علیه السلام : «أتفاخرني يا حسين؟»، قال: «نعم يا أبتاه، إن شئت».

فقال علي علیه السلام: «أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى».. حتّى عدّ مِن مناقبه نيفاً وسبعين منقبة ((2))، ثمّ سكت، فقال النبي صلی الله علیه واله

ص: 258


1- ([1]) الصراط المستقيم لابن يونس العاملي: 2 / 172.
2- ([2]) في (الفضائل لابن شاذان: 83): فقال له الإمام علي علیه السلام : «يا حسين، أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى، أنا خازن علم الله ومختاره من خلقه، أنا قائد السابقين إلى الجنّة، أنا قاضي الدَّين عن رسول الله صلی الله علیه وآله، أنا الّذي عمّه سيّدٌ في الجنّة، أنا الّذي أخوه جعفر الطيّار في الجنّة عند الملائكة، أنا قاضي الرسول، أنا آخذٌ له باليمين، أنا حامل سورة التنزيل إلى أهل مكّة بأمر الله (تعالى)، أنا الّذي اختارني الله (تعالى) من خلقه، أنا حبل الله المتين الّذي أمر الله (تعالى) خلقَه أن يعتصموا به في قوله تعالى: «واعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جميعاً»، أنا نجم الله الزاهر، أنا الّذي تزوره ملائكة السماوات، أنا الناطق، أنا حُجّة الله (تعالى) على خلقه، أنا يد الله القويّة، أنا وجه الله (تعالى) في السماوات، أنا جنب الله الظاهر، أنا الّذي قال الله (سبحانه وتعالى) فيَّ وفي حقّي: «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون»، أنا عروة الله الوثقى الّتي لا انفصام لها، والله سميعٌ عليم، أنا باب الله الّذي يُؤتى منه، أنا علم الله على الصراط، أنا بيت الله، مَن دخله كان آمناً، فمَن تمسّكَ بولايتي ومحبّتي أَمِن من النار، أنا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أنا قاتل الكافرين، أنا أبو اليتامى، أنا كهف الأرامل، أنا «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ» عن ولايتي يوم القيامة، قوله (تعالى): «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»، أنا نعمة الله (تعالى) الّتي أنعم اللهُ بها على خلقه، أنا الّذي قال الله (تعالى) فيَّ وفي حقّي: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً»، فمَن أحبّني كان مسلماً مؤمناً كامل الدِّين، أنا الّذي بيَ اهتديتُم، أنا الّذي قال الله (تبارك وتعالى) فيَّ وفي عدوّي: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون»، أي: عن ولايتي يوم القيامة، أنا النبأ العظيم الّذي أكمل اللهُ (تعالى) به الدين يوم غدير خُمٍّ وخيبر، أنا الّذي قال رسول الله صلی الله علیه وآله فيَّ: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»، أنا صلاة المؤمن، أنا حيَّ على الصلاة، أنا حيَّ على الفلاح، أنا حيَّ على [خير] العمل، أنا الّذي نزل على أعدائي: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقِعٍ* لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع»، بمعنى: مَن أنكر ولايتي، وهو النعمان بن الحارث اليهوديّ (لعنه الله تعالى)، أنا داعي الأنام إلى الحوض، فهل داعي المؤمنين غيري؟ أنا أبو الأئمّة الطاهرين من وُلدي، أنا ميزان القسط ليوم القيامة، أنا يعسوب الدين، أنا قائدُ المؤمنين إلى الخيرات والغفران إلى ربّي، أنا الّذي أصحاب يوم القيامة مِن أوليائي المبرّأون من أعدائي، وعند الموت لا يخافون ولا يحزنون، وفي قبورهم لا يُعذَّبون، وهم الشهداء والصدّيقون، وعند ربّهم يفرحون، أنا الّذي شيعتي متوثّقون أن لا يوادّوا مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أنا الّذي شيعتي يدخلون الجنّة بغير حساب، أنا الّذي عندي ديوان الشيعة بأسمائهم، أنا عَون المؤمنين وشفيعٌ لهم عند ربّ العالَمين، أنا الضارب بالسيفين، أنا الطاعن بالرمحين، أنا قاتل الكافرين يوم بدرٍ وحُنَين، أنا مُردي الكُماة يوم أُحُد، أنا ضارب ابن عبد ودّ (لعنه الله تعالى) يوم الأحزاب، أنا قاتل عمرٍو ومرحب، أنا قاتل فرسان خيبر، أنا الّذي قال فيَّ الأمين جبرئيل علیه السلام : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي، أنا صاحب فتح مكّة، أنا كاسر اللّات والعزّى، أنا الهادم هُبَل الأعلى ومَناة الثالثة الأُخرى، أنا علَوتُ على كتف النبيّ صلی الله علیه وآله وكسرتُ الأصنام، أنا الّذي كسرتُ يغوث ويعوق ونسراً، أنا الّذي قاتلتُ الكافرين في سبيل الله، أنا الّذي تصدّق بالخاتَم، أنا الّذي نمتُ على فراش النبيّ؟ص؟ ووقيتُه بنفسي من المشركين، أنا الّذي يخافُ الجنَّ مِن بأسي، أنا الّذي به يُعبَد الله، أنا ترجمان الله، أنا علم الله، أنا عَيبة علم رسول الله صلی الله علیه وآله، أنا قاتل أهل الجمل وصفّين بعد رسول الله، أنا قسيمُ الجنّة والنار».

ص: 259

للحسين: «أسمعتَ يا أبا عبد الله، هو عُشر عشير معشار ما قاله من فضائله، ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك وأعلى».

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي فضَّلَنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين»، ثمّ قال: «أمّا ما ذكرتَ يا أمير المؤمنين وأنت فيه صادقٌ

ص: 260

أمين». فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أُذكُر أنت يا ولدي فضائلك».

فقال الحسين: «أنا الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي محمّد المصطفى سيّد بني آدم أجمعين، لا رَيب فيه. يا علي، أُمّي أفضل مِن أُمّك عند الله وعند الناس أجمعين، وجدّي خيرٌ مِن جدّك للحسين: «أسمعتَ يا أبا عبد الله، هو عُشر عشير معشار ما قاله من فضائله، ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك وأعلى».

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي فضَّلَنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين»، ثمّ قال: «أمّا ما ذكرتَ يا أمير المؤمنين وأنت فيه صادقٌ أمين». فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أُذكُر أنت يا ولدي فضائلك».

فقال الحسين: «أنا الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي محمّد المصطفى سيّد بني آدم أجمعين، لا رَيب فيه. يا علي، أُمّي أفضل مِن أُمّك عند الله وعند الناس أجمعين، وجدّي خيرٌ مِن جدّكوأفضل عند الله وعند الناس أجمعين، وأنا في المهد ناغاني جبرائيل، وتلقّاني إسرافيل، يا علي، أنت عند الله أفضل منّي، وأنا أفخرُ منك بالآباء والأُمّهات والأجداد».

ثمّ إنّه علیه السلام اعتنق أباه يُقبّله، وعليٌّ أيضاً يقبّله ويقول: «زادك الله شرفاً وتعظيماً وفخراً وعلماً وحلماً، ولعن الله ظالميك يا أبا عبد الله» ((1)).

* * * * *

في كتاب (المنتخب)، روى جمعٌ من الصحابة قالوا: دخل النبيّ دار فاطمة فقال: «يا فاطمة، إنّ أباكِ اليوم ضيفكِ»، فقالت: «يا أبة، إنّ الحسن والحسين يطالباني بشيءٍ من الزاد، فلم أجد لهما شيئاً يقتاتان به». ثمّ إنّ النبيّ دخل وجلس مع عليّ والحسن والحسين وفاطمة علیهم السلام:وفاطمة مُتحيّرة ما تدري كيف تصنع، ثمّ إنّ النبي نظر إلى السماء ساعة، وإذا بجبرائيل قد نزل وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويقول لك: قُل لعليّ وفاطمة والحسن والحسين: أيّ شيءٍ يشتهون مِن فواكه الجنّة؟ فقال النبي: «يا عليّ ويا فاطمة ويا حسن ويا حسين، إنّ ربّ العزّة

ص: 261


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلامللقزويني: 15 -- عن كتاب: منتخب آثار أمير المؤمنين علیه السلام.

عَلِم أنّكم جياع، فأيّ شيءٍ تشتهون من فواكه الجنّة؟». فأمسَكوا عن الكلام ولم يردّوا جواباً حياءً من النبي صلی الله علیه وآله، فقال الحسين علیه السلام: «عن إذنك يا أباه يا أمير المؤمنين، وعن إذنكِ يا أُمّاه يا سيّدة نساء العالمين، وعن إذنك يا أخاه الحسن الزكي، أختار لكم شيئاً من فواكه الجنّة؟»،فقالوا جميعاً علیهم السلام: «قُل يا حسين ما شئت، فقد رضينا بما تختاره لنا»، فقال: «يا رسول الله، قُل لجبرائيل إنّا نشتهي رُطَباً جنيّاً»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «قد علم الله ذلك»، ثمّ قال: «يا فاطمة، قومي ادخلي البيت وأحضِري إلينا ما فيه». فدخلَت، فرأت فيه طبقاً من البلّور مُغطّىً بمنديل من السُّندس الأخضر، وفيه رُطب جنيّ في غير أوانه، فقال النبي: «أنّى لكِ هذا؟!»، قالت: «هو مِن عند الله، إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب» -- كما قالت بنت عمران --، فقام النبيّ وتناوله منها وقدّمه بين أيديهم، ثمّ قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، ثمّ أخذ رطبةً فوضعها في فم الحسين، فقال: «هنيئاً مريئاً يا حسين»، ثمّ أخذ رطبةً فوضعها في فم الحسن، وقال: «هنيئاً مريئاً يا حسن»، ثمّ أخذ رطبةً ثالثةً فوضعها في فم فاطمة الزهراء، وقال: «هنيئاً مريئاً لكِ يا فاطمة الزهراء»، ثمّ أخذ رطبةً رابعةً فوضعها في فم عليّ، وقال: «هنيئاً مريئاً لك يا عليّ»، ثمّ ناول عليّاً رطبةً أُخرى والنبي يقول له: «هنيئاً لك يا عليّ»، ثمّ وثب النبي قائماً ثمّ جلس، ثمّ أكلوا جميعاً من ذلك الرطب، فلمّا اكتفوا وشبعوا ارتفعت المائدةُ إلى السماء بإذن الله (تعالى)، فقالت فاطمة: «يا أبة، لقد رأيتُ اليوم منك عجباً!»، فقال: «يا فاطمة، أمّا الرطبة الأُولى الّتي وضعتُها في فم الحسين وقلتُ له: هنيئاً يا حسين،

ص: 262

فإنّي سمعتُ ميكائيل وإسرافيل يقولان: هنيئاً لك يا حسين، فقلتُ أيضاً موافقاً لهما بالقول: هنيئاً لك يا حسين، ثمّ أخذتُ الثانية فوضعتُها في فم الحسن، فسمعتُ جبرائيل وميكائيل يقولان: هنيئاً لك يا حسن، فقلتُ أنا موافقاً لهما في القول، ثمّ أخذتُ الثالثة فوضعتُها في فمكِ يا فاطمة، فسمعتُالحور العين مسرورين مشرفين علينا من الجنان، وهنّ يقلنَ: هنيئاً لكِ يا فاطمة، فقلتُ موافقاً لهنّ بالقول، ولمّا أخذتُ الرابعة فوضعتُها في فم عليّ، سمعتُ النداء من الحقّ (سبحانه وتعالى) يقول: هنيئاً مريئاً لك يا عليّ، فقلتُ موافقاً لقول الله عزوجل، ثمّ ناولتُ عليّاً رطبةً أُخرى، ثمّ أُخرى، وأنا أسمع صوت الحقّ (سبحانه وتعالى) يقول: هنيئاً مريئاً لك يا عليّ، ثمّ قمتُ إجلالاً لربّ العزّة (جلّ جلاله)، فسمعتُه يقول: يا محمّد، وعزّتي وجلالي، لو ناولتَ عليّاً من هذه الساعة إلى يوم القيامة رُطبةً رُطبة، لقلتُ له هنيئاً مريئاً بغير انقطاع» ((1)).

* * * * *

في كتاب (المنتخب)، عن أُمّ سلَمة أنّ الحسن والحسين دخلا على رسول الله صلی الله علیه وآله، وكان عنده جبرائيل علیه السلام ، فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي، فجعل جبرائيل يُومي بيده نحو السماء كالمُتناوِل شيئاً، فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة، فناولهما الجميع، فتهلّلت وجوهُهما فرحاً وسعيا إلى جدّهما، فقبّلهما وقال لهما: «إذهبا إلى منزلكما، وابدؤوا

ص: 263


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 21 المجلس 1.

بأبيكما»، ففعلا كما أمرهما جدّهما، ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النبي إليهم، فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا، ولم يزالوا يأكلون من ذلك السفرجل والتفّاح والرمّان وهو يرجع كما كان أوّلاً، حتّى قُبض النبيّ ضلی الله علیه وآله، ولم يلحقه التغيير والنقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة علیها السلام.قال الحسين علیه السلام: «فلمّا تُوفّيت أُمّي فاطمة فقدنا الرمّان وبقي التفّاح والسفرجل أيّام حياة أبي، فلمّا استُشهد أبي عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقدنا السفرجل وبقي التفّاح علَيّ إلى وقت مُنعتُ فيه شرب الماء، فكنتُ أشمّها إذا عطشتُ فيسكن لهيب عطشي، فلمّا دنا أجلي رأيتُها قد تغيّرَت فأيقنتُ بالفناء».

قال عليّ بن الحسين: «سمعتُ أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة، فلمّا قضى نحبه وُجِد ريح التفّاح في مصرعه، فالتمستُ التفّاحة فلم أجد لها أثراً، فبقي ريحُها بعد مقتله علیه السلام ، ولقد زرتُ قبره فشممتُ منه رائحة التفّاح تفوح من قبره (صلوات الله عليه)، فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصالحين الزائرين قبر الحسين فيلتمس ذلك في أوقات السَّحَر، فإنّه يجد رائحة التفّاح عند قبر الحسين إن كان مُخلِصاً موالياً صادقاً» ((1)).

قال المؤلّف:

لقد اتّفق لي مِراراً أنّي شممتُ رائحة التفّاح مِن قبره المبارك في ذلك الوقت.

ص: 264


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 1 / 157 المجلس 8.

[وقوفه علیه السلام على قبر جدّته خديجة علیها السلام]

في كتاب (عيون المجالس) أنّه ساير أنسَ بن مالك، فأتى قبر خديجة فبكى، ثمّ قال: «اذهبْ عنّي». قال أنس: فاستخفيتُ عنه،فلمّا طال وقوفه في الصلاة سمعتُه قائلاً:

«يا ربّ يا ربّ أنت مولاه***فارحم عُبيداً إليك ملجاهُ

يا ذا المعالي عليك معتمدي***طوبى لمن كنتَ أنت مولاهُ

ص: 265

طوبى لمن كان خائفاً أرقاً***يشكو إلى ذي الجلال بلواهُ

وما به علّةٌ ولا سقم***أكثر من حبّه لمولاهُ

إذا اشتكى بثّه وغصّته***أجابه الله ثمّ لبّاهُ

إذا ابتلي بالظلام مبتهلاً***أكرمه اللهُ ثمّ أدناهُ»

فنودي:

«لبّيك لبّيك أنت في كنفي***وكلّ ما قلتَ قد علمناهُ

صوتك تشتاقه ملائكتي***فحسبك الصوتُ قد سمعناهُ

دُعاك عندي يجولُ في حُجُبٍ***فحسبك الستر قد سفرناهُ

لو هبّت الريحُ في جوانبه***خرّ صريعاً لما تغشّاهُ

سلني بلا رغبةٍ ولا رهبٍ***ولا حسابٍ، إنّي أنا اللهُ» ((1))

وفي (روضة الواعظين) أنّ فاطمة أتت بابنيها الحسن والحسين إلى رسول اللهصلی الله علیه وآله، قالت: «هذان ابناك، فورِّثْهما شيئاً»، قال: «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له جرأتي وجودي» ((2)).

ص: 266


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 77 -- عن: عيون المجالس.
2- ([1]) روضة الواعظين للفتّال النيسابوري: 1 / 156، كشف الغُمّة للأربلي: 1 / 516، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 88.

[أجاب دعوة المساكين]

روى الشهرستاني في كتاب (المناقب) أنه علیه السلام مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً ((1)) لهم على كساء، فسلّم عليهم، فدعوهإلى طعامهم، فجلس معهم وقال: «لو لا أنّه صدقة لَأكلتُ معكم»، ثمّ قال: «قوموا إلى منزلي»، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم ((2)).

أعتق غلاماً ليهوديٍّ كان يواكل كلباً طلباً للسرور

في الكتاب المذكور أيضاً، رُوي عن الحسين بن علي علیه السلام أنّه قال: «صحّ عندي قول النبيّ: أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه. فإنّي رأيتُ غلاماً يؤاكل كلباً، فقلتُ له في ذلك، فقال: يا ابن رسول الله، إنّي مغمومٌ أطلب سروراً بسروره؛ لأنّ صاحبي يهودي أُريد أُفارقه». فأتى الحسين علیه السلام إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له، فقال اليهودي: الغلام فِدىً لخُطاك، وهذا البستان له، ورددتُ عليك المال. فقال علیه السلام : «وأنا قد وهبتُ لك المال»، فقال: قبلتُ المال ووهبتُه للغلام. فقال الحسين: «أعتقتُ الغلام ووهبتُه له جميعاً». فقالت امرأته: قد أسلمت، ووهبتُ زوجي مهري. فقال اليهودي: وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار ((3)).

ص: 267


1- ([2]) ترجمها المؤلّف: (لحم البعير).
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 70، الجوهرة في النسب للبري: 39.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 97.

* * * * *

في كتاب (مناقب آل أبي طالب): وروى الحسن البصري، قال: كان الحسين سيّداً زاهداً ورعاً صالحاً ناصحاً حسن الخلق، فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى بستانٍ له، وكان في ذلك البستان غلامٌ له يقال له: صافي، فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل خبزاً،فنظر الحسين إليه وجلس مستتراً ببعض النخل، فكان الغلام يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه، فتعجّب الحسين علیه السلام من فعل الغلام، فلمّا فرغ من الأكل قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اغفِرْ لي ولسيّدي، وبارك له كما باركتَ على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقام الحسين علیه السلام وقال: «يا صافي»، فقام الغلام فزعاً، فقال: يا سيّدي وسيّد المؤمنين إلى يوم القيامة، إنّي ما رأيتُك، فاعفُ عنّي. فقال الحسين علیه السلام : «اجعلني في حِلٍّ يا صافي؛ لأنّي دخلتُ بستانك بغير إذنك». فقال صافي: يا سيّدي، بفضلك وكرمك وسؤددك تقول هذا.

فقال الحسين علیه السلام : «إنّي رأيتُك ترمي بنصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه، فما معنى ذلك؟»، فقال الغلام: إنّ [هذا] الكلب ينظر إليّ حين أكلي، فإنّي أستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، وأنا عبدك وهذا كلبك نأكل من رزقك معاً.

فبكى الحسين علیه السلام وقال: «إن كان كذلك فأنت عتيق لله، ووهبتُ لك ألفَي دينار بطيبةٍ من قلبي»، فقال الغلام: إن أعتقتني لله فإنّي أُريد القيام

ص: 268

ببستانك. فقال الحسين: «إنّ الكريم إذا تكلّم بالكلام ينبغي له أن يصدقه بالفعل، وأنا قلت حين دخلت البستان: اجعلني في حِلٍّ فإنّي دخلتُ بستانك بغير إذنك، فصدقتُ قولي، ووهبتُ البستان لك بما فيه، غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافاً لك، وأكرِمْهم لأجلي، أكرمَك اللهُ يوم القيامة وبارك لك في حُسن خُلقك وأدبك». فقال الغلام:إن كنتَ أوهبت لي بستانك، فإنّي قد سبلته لأصحابك وشيعتك ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية العقول): سأل رجلٌ الحسينَ علیه السلام حاجة، فقال (صلوات الله عليه): «يا هذا، سؤالك إيّاي يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر علَيّ، ويدي تعجز عن نيلك ممّا أنت أهله، والكثير في ذات الله قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلتَ الميسور دفعتَ عنّي مؤونة الاحتيال لك والاهتمام لِما أتكلّف من واجب حقّك».

فقال الرجل: يا ابن رسول الله، أقبلُ [اليسير]، وأشكر العطيّة، وأعذرُ على المنع. فدعا الحسين علیه السلام بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها، ثمّ قال: «هاتِ الفاضل من الثلاثمئة ألف»، فأحضر خمسين ألفاً من الدراهم، فقال: «ما فعلت الخمسمئة دينار؟»، قال: هي عندي. قال:

ص: 269


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 104، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 153.

«أحضِرْها»، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، فقال: «هاتِ مَن يحمل معك هذا المال»، فأتاه بالحمّالين، فدفع الحسين إليهم رداءه لكراء حملهم حتّى حملوه معه، فقال مولىً له: واللهِ لم يبقَ عندنا درهمٌ واحد. قال: «لكنّي أرجو أن يكون لي بفعلي هذا عند الله أجرٌ عظيم» ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية الطلّاب)، عن (الفضائل) للخوارزمي: قيل: خرجالحسن علیه السلام في سفرٍ فأضلّ طريقه ليلاً، فمرّ براعي غنم، فنزل عنده وألطفه وبات عنده، فلمّا أصبح دلّه على الطريق، فقال له الحسن علیه السلام: «إنّي ماضٍ إلى ضيعتي، ثمّ أعود إلى المدينة»، ووقّت له وقتاً، قال: «تأتيني فيه»، فلمّا جاء الوقت شُغِل الحسن بشيءٍ من أُموره عن قدوم المدينة، فجاء الراعي، وكان عبداً لرجلٍ من أهل المدينة، فصار إلى أبي عبد الله الحسين علیه السلام وهو يظنّه الحسن، فقال: يا مولاي، أنا العبد الّذي بتَّ عندي ليلة كذا، وأمرتَني أن أصير إليك في هذا الوقت. وأراه علامات عرف الحسين علیه السلام أنّه كان الحسن علیه السلام ، فقال الحسين علیه السلام : «لمَن أنت؟»، فقال: لفلان، قال: «كم غنمك؟»، قال: ثلاثمئة. فأرسل علیه السلام إلى الرجل فرغّبه حتى باعه الغنم والعبد، فأعتقه، ووهب له الغنم مكافأةً عمّا صنع بأخيه، وقال: «إنّ الّذي

ص: 270


1- ([2]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 102، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 153.

بات عندك أخي، وقد كافيتُك بفعلك به» ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية الطلّاب): خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ((2)) حجّاجاً، ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمرّوا بعجوزٍ في خِباءٍ لها، فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم. فأناخوا بها، وليس لها إلّا شُوَيهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك، وقالوا لها: هل مِن طعام؟ قالت: لا، إلّا هذه الشاة، فليذبحنّهاأحدُكم حتّى أُهيّئ لكم شيئاً تأكلون. فقام إليها أحدُهم فذبحها وكشطها، ثمّ هيّأت لهم طعاماً فأكلوا، ثمّ أقاموا حتّى أبردوا، فلمّا ارتحلوا قالوا لها: نحن نفرٌ من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمّي بنا؛ فإنّا صانعون إليكِ خيراً. ثمّ ارتحلوا، وأقبل زوجُها وأخبرته عن القوم والشاة، فغضب الرجل وقال: ويحكِ! تذبحين شاتي لأقوامٍ لا تعرفينهم، ثمّ تقولين نفرٌ من قريش. ثمّ بعد مدّةٍ ألجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير إليها ويبيعانه ويعيشان منه، فمرّت العجوز في بعض سكك المدينة، فإذا الحسن علیه السلام على باب داره جالس، فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث

ص: 271


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 104، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 153.
2- ([2]) ذكر المؤلّف الإمامين الحسن والحسين علیهما السلام فقط.

غلامه فردّها، فقال لها: «يا أمة الله، تعرفيني؟»، قالت: لا، قال: «أنا ضيفكِ يوم كذا»، فقالت العجوز: بأبي أنتَ وأُمّي. فأمر الحسن علیه السلام فاشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى أخيه الحسين علیه السلام ، فقال: «بكم وصلكِ أخي الحسن؟»، فقالت: بألف شاة وألف دينار. فأمر لها بمثل ذلك، ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر علیه السلام ، فقال: بكم وصلكِ الحسن والحسين علیهما السلام فقالت: بألفَي دينار وألفَي شاة. فأمر لها عبد الله بألفَي شاةٍ وألفي دينار، وقال: لو بدأتِ بي لَأتعبتُهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بذلك ((1)).

* * * * *في بعض الكتب المعتبرة: كان في الموصل طبيبٌ مروانيّ يخدم معاوية، وكان يقول أيّام خلافة الإمام الحسين علیه السلام: إمامنا يزيد بن معاوية. وكان له جارٌ من شيعة أهل البيت علیهم السلام يقول: إمامنا الحسين بن علي علیهما السلام.

فقال له الشيعيّ يوماً: لا تقل بإمامة يزيد؛ فإنّه فاسقٌ فاجرٌ ظالمٌ عاصي، وأبوه معاوية وجدّه أبو سفيان ظَلَمةٌ أشقياء، وقُلْ بإمامة الحسين ابن علي؛ فإنّه مُتّصفٌ بجميع الخصال الحميدة، وأقلّ ما يُقال في صفاته أنّه أوقف ماله على الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويزيد ليس كذلك.

ص: 272


1- ([1]) كشف الغمّة للأربلي: 1 / 559، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 384، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 150، إحياء العلوم للغزالي: 3 / 249.

لم يقبل منه الطبيب علانية، ولكنّه أضمر في نفسه أن يختبر كلام الشيعي، فإن كان صادقاً في قوله تشيّع.

ثم إنّ الطبيب كانت له جارةٌ أرملةٌ عندها طفلٌ يتيم، فمرضت، فأرسلَت ولدها إلى الطبيب ليعالجها، فقال الطبيب للغلام: ينفع لعلاج أُمّك كبد الفرس. فقال اليتيم: مِن أين آتيك بكبد الفرس؟! فقال الطبيب: صِرْ الى الحسين بن عليّ واطلُبْ منه ذلك. وكان الطبيب يريد أن يختبر كرم الإمام وخُلقه ورحمته.

فذهب اليتيم إلى الإمام علیه السلام وشكى له حال أُمّه وما وصف لها الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ فذُبحَت وأخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فأخذها اليتيم وانصرف إلى الطبيب، فقال: ما كان لون الفرس؟ قال: اللون الكذائي الّذي طلبتَه، قال: لا ينفع كبد الفرس بهذا اللون، أحضِرْ كبد فرسٍ بلون كذا. فذهب اليتيم إلى الإمام مرّةً ثانيةً وحكى له قول الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ أُخرى فذُبحَت واستخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فتعلّل له الطبيب وطلب لوناً آخَر، حتّى فعل ذلك خمس مرّات، وفي كلّ مرّةٍ يذبح الإمام فرساً باللون المطلوبويدفع له كبدها.

فلمّا شاهد الطبيبُ حُسنَ خُلق الإمام وكرمه ورحمته، قام وتوجّه إلى باب الإمام الحسين علیه السلام ، وطلب المُلازمين للإمام أن يأخذوه إلى حظيرة الأفراس، فأخذوه، فرأى خمسة أفراسٍ مذبوحة، فسألهم: لمَ ذُبحَت؟ قالوا:

ص: 273

ذُبحَت من أجل يتيم وصف الطبيب كبدَها لأُمّه.

فخرج الطبيب وجلس على باب دار الإمام علیه السلام، فلمّا خرج الإمامُ وقع على قدمَيه المباركتين يقبّلهما ويعتذر إليه، وصار من شيعته المخلصين، فسأله الإمام عن سبب إيمانه وإخلاصه، فأخبره بحال اليتيم وأُمّه، وأنّه كان يختبر رحمة الإمام وكرمه وسخائه.

فقال له: «قُم معي حتّى أُريك ما هو أعظم من ذلك!». فرفع الإمام علیه السلام يديه بالدعاء وقال: «اللّهمّ أَحيي هذه الأفراس الّتي ذبحتُها في رضاك ورضا أوليائك، بحقّ منزلتنا عندك وبحقّ جدّي محمّد صلی الله علیه وآله المصطفى وأبي عليٍّ المرتضى وأُمّي فاطمة الزهراء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير». فما أتمّ الإمامُ دعاءه حتّى أحيى اللهُ الأفراس، فقامت على قوائمها ((1)).

[بينه وبين أخيه ابن الحنفيّة!]

حدّث الصوليّ عن الصادق علیه السلام في خبرٍ أنّه جرى بينه وبين محمّد ابن الحنفيّة كلام، فكتب ابنُ الحنفيّة إلى الحسين: أمّا بعديا أخي، فإنّ أبي وأباك عليّ، لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأُمّك فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، ولو كان ملءُ الأرض ذهباً ملك أُمّي ما وفَت بأُمّك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليّ حتّى تترضّاني، فإنّك أحقُّ بالفضل منّي، والسلام عليكم ورحمة

ص: 274


1- ([1]) تحفة المجالس: 188 المقصد 5 المعجزة 2.

الله وبركاته. ففعل الحسين علیه السلام ذلك، فلم يجرِ بعد ذلك بينهما شيء ((1)).

[مشيه إلى بيت الله الحرام]

في كتاب (المناقب)، عن عبد الله بن عُبيد أبو عُمَير ((2)): لقد حجّ الحسين بن علي خمساً وعشرين حجّةً ماشياً، وإنّ النجائب تُقاد معه ((3)).

وروى الشيخ المفيد عن طريق المخالفين، أنّ الحسن والحسين كانا يمشيان إلى الحجّ، فلم يمرّا براكبٍ إلّا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم، فقال سعد بن أبي وقّاص للحسن: يا أبا محمّد، إنّ المشيَ قد ثقل على جماعةٍ ممّن معك من الناس، إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا، فلمَ ما ركبتما؟ فقال الحسن: «لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشيَ إلى بيت الله الحرام علىأقدامنا، ولكنّا نتنكّب عن الطريق»، فأخذا جانباً من الناس ((4)).

ص: 275


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 70، شعب الإيمان للبيهقي: 6 / 316، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 54 / 333.
2- ([2]) في المتن: (ابن أبي عُمَير).
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 77، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي: 4 / 541 الرقم 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 115، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 180.
4- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 129، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 99، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 111 ح 1046.

* * * * *

في كتاب (الدلائل) تصنيف عبد الله بن جعفر الحِميَري، عن الصادق أبي عبد الله علیه السلام قال: «خرج الحسين بن عليّ إلى مكّة سنةً ماشياً، فورمت قدماه، فقال له بعضُ مواليه: لو ركبتَ ليسكن عنك هذا الورم، فقال: كلّا، إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسودٌ ومعه دهن، فاشتره منه ولا تُماسكه. فقال له مولاه: بأبي أنت وأُمّي، ما قُدّامنا منزلٌ فيه أحدٌ يبيع هذا الدواء! فقال: بلى، أمامك دون المنزل. فسار ميلاً فإذا هو بالأسود، فقال الحسين لمولاه: دونك الرجل، فخُذ منه الدهن. فأخذ منه الدهن وأعطاه الثمن، فقال له الغلام: لمَن أردتَ هذا الدهن؟ فقال: للحسين بن علي علیه السلام ، فقال: انطلِقْ به إليه. فصار الأسود نحوه، فقال: يا ابن رسول الله، إنّي مولاك، لا آخذُ له ثمناً، ولكن ادعُ اللهَ أن يرزقني ولداً ذكراً سويّاً يحبّكم أهل البيت، فإنّي خلّفتُ امرأتي تمخض. فقال: انطلِقْ إلى منزلك، فإنّ الله قد وهب لك ولداً ذكراً سويّاً، فولدَت غلاماً سويّاً. ثمّ رجع الأسود إلى الحسين، ودعا له بالخير بولادة الغلام له، وإنّ الحسين علیه السلام قد مسح رجلَيه فما قام من موضعه حتّى زال ذلك الورم» ((1)).

[نزاعه مع والي المدينة]

في (المناقب) أنّه كان بين الحسين وبين الوليد بن عُقبة منازعةٌ في

ص: 276


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 185 ح 13 -- عن: كتاب النجوم من كتاب الدلائل لعبد الله بن جعفر الحِميَري.

ضَيعة، فتناول الحسين علیه السلام عمامة الوليد عن رأسه وشدّها في عنقه، وهو يومئذٍ والٍ على المدينة، فقال مروان: باللهِ ما رأيتُ كاليوم جرأة رجلٍ على أميره! فقال الوليد: واللهِ ما قلتَ هذا غضباً لي، ولكنّك حسدتني على حِلمي عنه، وإنّما كانت الضيعة له، فقال الحسين: «الضيعة لك يا وليد»، وقام ((1)).

[حسين سبطٌ من الأسباط]

رُوي في (المنتخب) أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله خرج مع أصحابه إلى طعامٍ دُعوا له، فتقدّم رسول الله أمام القوم والحسين مع غلمانٍ يلعب، فأراد رسول الله أن يأخذه، فطفق يفرّ هاهنا مرّةً وهاهنا مرّة، فجعل رسول الله أيضاً يضاحكه حتّى أخذه، قال: فوضع إحدى يديه تحت فاه والأُخرى تحت ذِقنه، فوضع فاه على فيه فقبّله، وقال: «حُسين منّي وأنا من حُسين، أحبَّ الله مَن أحبّ حُسيناً، حُسينٌ سبطٌ من الأسباط» ((2)).

ص: 277


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 74، السيرة لابن هشام: 1 / 87، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 63 / 210.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 108 المجلس 6.

[مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين]

في (المنتخب) أيضاً: كان الحسن والحسين يأتيان رسول الله وهو في الصلاة فيثبان عليه، فإذا نُهيا عن ذلك أشار بيده: دعوهما، فإذا قضى الصلاة ضمّهما وقال: «مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين» ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): رُوي عن أُمّ أيمن (رضي الله عنها) قالت: مضيتُ ذات يومٍ إلى منزل ستّي ومولاتي فاطمة الزهراء علیها السلام لأزورها في منزلها، وكان يوماً حارّاً من أيّام الصيف، فأتيتُ إلى باب دارها، وإذا أنا بالباب مُغلَق، فنظرتُ مِن سقوف الباب وإذا بفاطمة الزهراء علیها السلام نائمةٌ عند الرحى، ورأيتُ الرحى تطحن البُرّ وهي تدور من غير يدٍ تديرها، والمهد أيضاً إلى جانبها والحسين علیه السلام نائمٌ فيه، والمهد يهتزّ ولم أرَ مَن يهزّه، ورأيت كفّاً يُسبّح لله (تعالى) قريباً من كفّ فاطمة الزهراء. قالت أُمّ أيمن: فتعجّبتُ من ذلك، فتركتُها ومضيت إلى سيّدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلّمتُ عليه وقلت له: يا رسول الله، إنّي رأيت عَجَباً ما رأيتُ مثله أبداً! فقال لي: «ما رأيتِ يا أُمّ أيمن؟»، فقلت: إنّي قصدتُ منزل ستّي فاطمة الزهراء، فلقيتُ البابَ مُغلَقاً، وإذا بالرحى تطحن البُرّ وهي تدور من غير يدٍ تُديرها، ورأيتُ مهد الحسين علیه السلام يهتزّ من غير يدٍ تهزّه، ورأيتُ كفّاً يُسبّح لله (تعالى) قريباً من كفّ فاطمة ولم

ص: 278


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6.

أرَ شخصه، فتعجّبتُ من ذلك يا سيّدي. فقال: «يا أُمّ أيمن،اعلمي أنّ فاطمة الزهراء صائمة، وهي متعبةٌ جائعة، والزمان قيّض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان مَن لا ينام، فوكّل اللهُ ملَكاً يطحن عنها قوت عيالها، وأرسل الله ملَكاً آخر يهزّ مهد ولدها الحسين لئلا يُزعجها من نومها، ووكّل الله ملَكاً آخَر يُسبّح لله عزوجل قريباً من كفّ فاطمة، يكون ثواب تسبيحه لها؛ لأنّ فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزوجل، فإذا نامت جعل اللهُ ثواب تسبيح ذلك الملَك لفاطمة». فقلت: يا رسول الله، أخبِرني مَن يكون الطحّان؟ ومَن الذي يهزّ مهد الحسين ويناغيه؟ ومَن يُسبّح؟ فتبسّم النبيّ صلی الله علیه وآله ضاحكاً وقال: «أمّا الطحّان فجبرائيل، وأمّا الّذي يهزّ مهد الحسين فهو ميكائيل، وأمّا الملَك المُسبِّح فهو إسرافيل» ((1)).

[جبرئيل يُلهيه حتّى تستيقظ أُمّه]

في (المناقب) أنّ جبرئيل نزل يوماً فوجد الزهراء نائمة والحسين قلقاً على عادة الأطفال مع أُمّهاتهم، فقعد جبرئيل يُلهيه عن البكاء حتّى استيقظَت، فأعلمها رسول الله صلی الله علیه وآله بذلك ((2)).

* * * * *

في (المنتخب): افتخر إسرافيل على جبرائيل، فقال: إنّي مِن حَملَة

ص: 279


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 240 المجلس 1.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 96.

العرش، وصاحب الصُّور والنفخة، وأنا أقربُ الملائكة إلىحضرة الجلال. فقال جبرائيل: أنا خيرٌ منك. قال: لماذا؟ قال: أنا أمين الله على وحيه، وصاحب الكسوف والخسوف والزلازل والرسائل. فاختصما إلى الله (تعالى)، فأوحى إليهما أن «اسكُتا، فوَعزّتي وجلالي لقد خلقتُ مَن هو خيرٌ منكما، انظُرا إلى ساق العرش». فنظروا وإذا على ساق العرش: لا إله إلّا الله، محمّدٌ رسول الله، عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين خير خلق الله. فقال جبرائيل: بحقّهم عليك إلّا ما جعلتَني خادماً لهم. فقال: «لك ذلك». فافتخر جبرائيل على الملائكة أجمع لمّا صار خادماً لهم، فقال: مَن مثلي وأنا خادم آل محمّد؟ فانكسرت الملائكة أن يفاخروه ((1)).

* * * * *

في (نصوص المعجزات) مُسنَداً عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر علیهما السلام قال: «خرج الحسن والحسين حتّى أتيا نخل العجوة للخلاء، فهويا إلى مكان، وولّى كلُّ واحدٍ منهما بظهره إلى صاحبه، فرمى الله بينهما بجدارٍ يستر أحدهما عن صاحبه، فلما قضيا حاجتهما ذهب الجدار وارتفع عن موضعه، وصار في الموضع عينُ ماءٍ وجنّتان، فتوضئا وقضيا ما أرادا، ثمّ انطلقا حتّى صارا في بعض الطريق عرض لهما رجلٌ فظٌّ غليظ، فقال لهما: ما خفتما عدوّكما، مِن أين جئتما؟ فقالا إنّهما جاءا من الخلاء، فهمّ بهما، فسمعوا صوتاً يقول: يا شيطان، أتريد أن تناوي

ص: 280


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 285 المجلس 3.

ابنَي محمّد؟ وقد علمتَ بالأمس ما فعلت، وناويتَ أُمّهما، وأحدثتَ في دين الله وسلكتَ عن الطريق. وأغلظ له الحسينأيضاً، فهوى بيده ليضرب به وجه الحسين فأيبسها الله من منكبه، فأهوى باليسرى ففعل الله به مثل ذلك، فقال: أسألكما بحقّ أبيكما وجدّكما لما دعوتما الله أن يطلقني. فقال الحسين: اللّهمّ أطلِقْه، واجعل له في هذا عِبرة، واجعل ذلك عليه حُجّة. فأطلق اللهُ يده، فانطلق قدّامهما حتّى أتيا عليّاً، وأقبل عليه بالخصومة، فقال: أين دسستهما؟ وكان هذا بعد يوم السقيفة بقليل، فقال علي علیه السلام : ما خرجا إلّا للخلاء. وجذب رجلٌ منهم عليّاً حتّى شقّ رداءه، فقال الحسين للرجل: لا أخرجك الله من الدنيا حتّى تُبتلى بالدياثة في أهلك ووُلدك. وقد كان الرجل قاد ابنته إلى رجلٍ من العراق، فلمّا خرجا إلى منزلهما قال الحسين للحسن: سمعتُ جدّي يقول: إنّما مثلكما مثل يونس، إذ أخرجه الله من بطن الحوت وألقاه بظهر الأرض، وأنبت عليه شجرةً من يقطين، وأخرج له عيناً من تحتها، فكان يأكل من اليقطين ويشرب من ماء العين. وسمعتُ جدّي يقول: أمّا العين فلكم، وأمّا اليقطين فأنتم عنه أغنياء، وقد قال الله في يونس: «وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ» ((1)). ولسنا نحتاج إلى اليقطين، ولكن علم الله حاجتنا إلى العين فأخرجها لنا، وسنُرسَل إلى أكثر من ذلك فيكفرون ويتمتّعون إلى حين. فقال الحسن: قد سمعتُ هذا» ((2)).

ص: 281


1- ([1]) سورة الصافّات: 147 و148.
2- ([2]) الخرائج للراوندي: 2 / 845، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 274، الثاقب في المناقب لابن حمزة: 329 الفصل 4.

* * * * *

[إخباره مروان بسقوط ردائه..]

في كتاب (المناقب): عن الكلبي ((1)) أنّه قال مروان للحسين: لولا فخركم بفاطمة بمَ كنتم تفخرون علينا؟ فوثب الحسينُ فقبض على حلقه فعَصَره، ولوى عمامته في عنقه حتّى غُشي عليه، ثمّ تركه، ثمّ تكلّم وقال في آخر كلامه: «واللهِ ما بين جابرسا وجابلقا رجلٌ ممّن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان، وعلامة قولي فيك أنّك إذا غضبتَ سقط رداؤك عن منكبك». قال: فوَاللهِ ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه ((2)).

[جوابه لابن العاص]

في (المناقب)، عن (محاسن) البرقي: قال عمرو بن العاص للحسين علیه السلام : يا ابن علي، ما بالُ أولادنا أكثر من أولادكم؟ فقال علیه السلام:

«بغاث الطير أكثرها فراخاً***وأُمّ الصقر مقلاةٌ نَزورُ»

فقال: ما بالُ الشيب إلى شواربنا أسرع منه في شواربكم؟ فقال علیه السلام :

ص: 282


1- ([1]) في المتن: (محمّد بن السائب).
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 23، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 24.

«إنّ نساءكم نساء بخرة، فإذا دنا أحدُكم من امرأته نكهت في وجهه فيشيب منه شاربه». فقال: ما بالُ لحاكم أوفرمن لحانا؟ فقال؟ع؟: ««وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدَاً» ((1))». فقال معاوية: بحقّي عليك إلّا سكتّ، فإنّه ابن عليّ بن أبي طالب. فقال:

«إنْ عادت العقربُ عُدنا لها***وكانت النعلُ لها حاضرةْ

قد علم العقربُ واستيقنَتْ***أنْ لا لها دُنياً ولا آخرة» ((2))

* * * * *

في (المنتخب): عن أبي سلَمَة قال: حججتُ مع عمر بن الخطّاب، فلمّا صرنا بالأبطح فإذا بأعرابي قد أقبل علينا، فقال: يا عمر، إنّي خرجتُ من منزلي وأنا حاجٌّ مُحرِم، فأصبتُ بيض النعام، فاجتنيتُ وشويت وأكلت، فما يجب علَيّ؟ قال: ما يحضرني في ذلك شيء، فاجلس لعلّ الله يُفرّج عنك ببعض أصحاب محمّد صلی الله علیه وآله. فإذا بأمير المؤمنين علیه السلام قد أقبل والحسين يتلوه، فقال عمر: يا أعرابي، هذا عليّ بن أبي طالب، فدونك ومسألتك. فقام الأعرابي فسأله، فقال عليّ علیه السلام: «يا أعرابي، سَلْ هذا الغلام عندك» (يعني: الحسين علیه السلام)، فقال الأعرابي: إنّما يُحيلني كلُّ واحدٍ منكم على الآخَر. فأشار الناس إليه: ويحك! هذا ابن رسول الله فاسأله. فقال الأعرابي: يا ابن رسول

ص: 283


1- ([1]) سورة الأعراف: 58.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 72.

الله، إنّي خرجتُ مِن بيتي حاجّاً مُحرِماً. وقصّ عليه القصّة، فقال الحسين علیه السلام : «ألك إبل؟»، قال: نعم. قال: «خُذ بعددالبَيض الّذي أصبتَ نوقاً فاضربها بالفحولة، فما فضلت فاهدها إلى بيت الله الحرام». فقال عمر: يا حسين، النوق يزلقن! فقال الحسين: «يا عمر، إنّ البيض يمرقن»، فقال: صدقتَ وبررت. فقام عليّ علیه السلام وضمّه إلى صدره، وقال: ««ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((1))» ((2)).

[خِطبة الإمام علیه السلام بنت عثمان، وخِطبة يزيد (لعنه الله) بنت ابن جعفر]

في (المناقب): عن عبد الملك بن عُمير والحاكم والعبّاس قالوا: خطب الحسن ((3)) عائشة بنت عثمان، فقال مروان: أُزوّجها عبد الله بن الزبير.

ثمّ إنّ معاوية كتب إلى مروان -- وهو عامله على الحجاز -- يأمره أن يخطب أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد، فأبى عبد الله بن جعفر، فأخبره بذلك، فقال عبد الله: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين، وهو خالها. فأُخبر الحسين بذلك، فقال: «أستخير الله (تعالى)، اللّهمّ

ص: 284


1- ([1]) سورة آل عمران: 34.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 43 المجلس 3.
3- ([3]) في المتن: (الحسين علیه السلام).

وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد».

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين علیه السلام ، وعنده من الجلّة، وقال: إنّ أمير المؤمنين أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلح مابين هذين الحيّين، مع قضاء دَينه، واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ مَن لا كفؤ له، وبوجهه يُستسقى الغمام، فردّ خيراً يا أبا عبد الله.

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدِينه، واصطفانا على خلقه»، إلى آخر كلامه.. ثمّ قال: «يا مروان، قد قلتَ فسمعنا، أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلَعمري لو أردنا ذلك ما عدَونا سُنّة رسول الله في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقية، يكون أربعمئة وثمانين درهماً. وأمّا قولك: مع قضاء دَين أبيها، فمتى كُنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟ وأمّا صلح ما بين هذين الحيّين، فإنّا قومٌ عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلَعمري فلقد أعيا النسب، فكيف السبب! وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر، فقد استمهر مَن هو خيرٌ من يزيد ومن أب يزيد ومن جدّ يزيد. وأمّا قولك: إنّ يزيد كفؤ مَن لا كفؤ له، فمَن كان كفؤه قبل اليوم فهو كفؤه اليوم، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً. وأمّا قولك: بوجهه يُستسقى الغمام، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلی الله علیه وآله. وأمّا قولك: مَن يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهلُ الجهل، ويغبطه بنا أهلُ العقل». ثمّ قال بعد كلام: «فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجتُ أُمّ

ص: 285

كلثوم بنت عبد الله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمئة وثمانين درهماً، وقد نحلتُها ضَيعتي بالمدينة -- أو قال: أرضي بالعقيق --، وإنّ غُلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنىً إن شاء الله».

قال: فتغيّر وجه مروان وقال: أغدراً يا بني هاشم؟ تأبون إلّاالعداوة. فذكّره الحسين علیه السلام خطبة الحسن عائشة وفعله، ثمّ قال: «فأين موضع الغدر يا مروان؟».

فقال مروان:

أردنا صهركم لنجدّ وُدّاً***قد اخلقه به حدثُ الزمانِ

فلمّا جئتكم فجبهتموني***وبُحتم بالضمير من الشنانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم:

أماط اللهُ منهم كلَّ رجسٍ***وطهّرهم بذلك في المثاني

فما لهمُ سواهم من نظيرٍ***ولا كفؤٌ هناك ولا مُداني

أيجعل كلّ جبارٍ عنيدٍ***إلى الأخيار من أهل الجنانِ؟

ثم إنّه كان الحسين علیه السلام تزوّج ((1)) بعائشة بنت عثمان ((2)).

ص: 286


1- ([1]) لم نجدها في أزواج سيّد الشهداء الحسين علیه السلام.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 226.

[توبة فاحشة ونجاتها بسبب مأتم الحسين علیه السلام ]

في (المنتخب) أنّ امرأةً ذات فحش كانت معهودةً بالمدينة، ولها جار، وكان مواظباً على مأتم الحسين علیه السلام ، وكان عنده ذات يومٍ رجالٌ ينشدون ويبكون على الحسين علیه السلام ، وأمر لهم باصطناع طعام، فدخلت المرأة الفاحشة تريد ناراً، وإذا بالنار قد انطفت من غفلتهم عنها، فعالجتها تلك الفاحشة بالنفخ ساعةً طويلةحتّى اتسخت يداها وذرفت عيناها، فلمّا اتّقدَت أخذَت منها ومضت لقضاء مآربها، فلمّا صار الظهر -- وكان الوقت صيفاً -- فوقدت، وكان لها عادةً بالقيلولة ساعة، وإذا هي ترى طَيفاً، كأنّ القيامة قامت، وإذا بزبانية جهنّم يسحبونها بسلاسل من نار وهم يقولون: يا زانية، غضب الله عليكِ وأمرنا نُلقيك في قعر جهنّم. وهي تستغيث وتستجير فلا تُجار، قالت: واللهِ لقد صرتُ على شفير جهنّم، وإذا برجلٍ أقبل يصيح بهم: خلُّوها. قالوا: يا ابن رسول الله، وما سببه؟ قال: «نعم، دخلَت على قومٍ يعملون عزائي، وقد أوقدَت لهم ناراً يعملون بها طعاماً». فقالوا: كرامةً لك يا ابن الشافع والساقي. قالت: فقلت: مَن أنت الّذي مَنّ اللهُ علَيّ بك؟ قال: «أنا الحسين بن عليّ». فانتبهتُ وأنا مذهولة، ومضيتُ إلى المجلس قبل أن يتفرّقون، فحكيتُ لهم فتعجّبوا، وقام البكاء والعويل، وتبتُ على أيديهم من فعل القبيح ((1)).

ص: 287


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 240 المجلس 10.

ص: 288

الفصل الثامن: في ذكر حديث كعب وبشار، ورؤيا هند، وغيرها من الأخبار المُورثة للبكاء

[قصّة عليّ بن محمّد شفيع]

قال عليّ بن محمّد شفيع في مقدّمة كتاب (محترق القلوب): كنتُ في أوائل شبابي حينما بلغتُ سنّ الثانية والعشرين من العمر مرضتُ مرضاً شديداً مدّةً طويلة، حتّى تخلّى عنّي الأطباء ويئس منّي الأقرباء، فدُهشتُ وفزعت لذلك، وأُغمي علَيّ، فرأيتُ وأنا في حال الإغماء أميرَ المؤمنين وفاطمة الزهراء علیهما السلام شرّفوني، فسألتُ أمير المؤمنين علیه السلام عدّة مسائل وفزتُ بنيل الأجوبة، ثمّ قال لي أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّا جئنا لشفائك».

وكان من جملة ما سألتُه سؤالاً عن واقعة كربلاء، فبادرت السيّدة

ص: 289

فاطمة الزهراء فأجابتني بالفارسيّة وقالت: «أقِمْ مأتم ولدي الحسين؛ فإنّ في كلّ دمعةٍ تدرّ أو تستدرّها يغفر الله لسبعينظهراً من آبائك».

قال مؤلّف الكتاب المذكور: لَعمري لقد شمّرتُ عن ساعد الجدّ منذ أن سمعتُ هذه الكلمات، فعزمتُ على تأليف كتابي هذا المشتمل على بعض صور الظلم والجَور الصادر من هذه الأُمّة المشؤومة في حقّ الحسين الشهيد والذرّيّة المظلومة، وجمعتُ الناس كلّ عامٍ جماعةً بعد جماعة، ونقلت لهم تلك الوقائع المؤلمة، فسالت دموعهم على خدودهم المنوّرة.

[خبر كعب الأحبار]

في (المنتخب): عن كعب الأحبار حين أسلم في أيّام خلافة عمر بن الخطاب، وجعل الناس يسألونه عن الملاحم الّتي تظهر في آخر الزمان، فصار كعب يخبرهم بأنواع الأخبار والملاحم والفتن الّتي تظهر في العالم، ثمّ قال: وأعظمها فتنةً وأشدّها مصيبةً لا تُنسى إلى أبد الآبدين، مصيبة الحسين علیه السلام ، وهي الفساد الّذي ذكره الله (تعالى) في كتابه المجيد حيث قال: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ» ((1)). وإنّما فُتح الفساد بقتل هابيل بن آدم، وخُتم بقتل الحسين علیه السلام ، أوَ لا تعلمون أنّه تُفتح يوم قتله أبواب السماوات، ويؤذن للسماء بالبكاء فتبكي دماً؟ فرأيتم

ص: 290


1- ([1]) سورة الروم: 41.

الحمرة في السماء قد ارتفعت فاعلموا أنّ السماء تبكي حُسيناً.

فقيل: يا كعب، لِمَ لا تفعل السماء كذلك ولا تبكي دماً لقتل الأنبياء ممّن كان أفضل من الحسين؟ فقال: ويحكم! إنّ قتل الحسين أمرٌ عظيم، وإنّه ابن سيّد المرسلين، وإنّه يُقتَل علانيةً مبارزةً ظُلماًوعدواناً، ولا تُحفظ فيه وصيّة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، وهو مزاج مائه وبضعةٌ من لحمه، يُذبَح بعرصة كربلاء، فوَالّذي نفس كعبٍ بيده لَتبكينّه زمرةٌ من الملائكة في السماوات السبع، لا يقطعون بكاءهم عليه إلى آخر الدهر، وإنّ البقعة الّتي يُدفَن فيها خير البقاع، وما من نبيٍّ إلّا ويأتي إليها ويزورها ويبكي على مصابه، ولكربلاء في كلّ يومٍ زيارةٌ من الملائكة والجنّ والإنس، فإذا كانت ليلة الجمعة ينزل إليها تسعون ألف ملَك، يبكون على الحسين ويذكرون فضله، وإنّه يُسمّى في السماء حسيناً المذبوح، وفي الأرض أبا عبد الله المقتول -- وفي (البحار): الفرخ الأزهر المظلوم --، وإنّه يوم قتله تنكسف الشمس بالنهار، ومن الليل ينخسف القمر، وتدوم الظُلمة على الناس ثلاثة أيّام، وتمطر السماء دماً، وتدكدك الجبال وتغطمط البحار، ولو لا بقيّةٌ من ذرّيّته وطائفةٌ من شيعته الّذين يطلبون بدمه ويأخذون بثاره لَصبّ اللهُ عليهم ناراً من السماء أحرقت الأرضَ ومَن عليها.

ثمّ قال كعب: يا قوم، كأنّكم تتعجّبون بما أُحدّثكم فيه مِن أمر الحسين علیه السلام ، وإنّ الله (تعالى) لم يترك شيئاً كان أو يكون من أوّل الدهر إلى آخِره إلّا وقد فسّره لموسى علیه السلام ، وما نسمة خُلقت إلّا وقد رُفعت إلى آدم علیه السلام

ص: 291

في عالم الذرّ وعُرضت عليه، ولقد عُرضت عليه هذه الأُمّة، ونظر إليها وإلى اختلافها وتكالبها على هذه الدنيا الدنيّة، فقال آدم: «يا ربّ، ما لهذه الأُمّة الزكيّة وبلاء الدنيا وهم أفضل الأُمم؟!»، فقال له: «يا آدم، إنّهم اختلفوا فاختلفت قلوبُهم، وسيُظهِرون الفساد في الأرض كفساد قابيل حين قتل هابيل، وإنّهم يقتلون فرخ حبيبي محمّدٍ المصطفى». ثمّ مثّل لآدم علیهالسلام مقتل الحسين ومصرعه، ووثوب أُمّة جدّه عليه، فنظر إليهم فرآهم مسودّةً وجوههم، فقال: «يا ربّ، أبسط عليهم الانتقام كما قتلوا فرخ نبيك الكريم (عليه أفضل الصلاة)» ((1)).

وفي كتاب (الأمالي) للصدوق: عن سالم بن أبي جعدة قال: سمعتُ كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً مِن وُلد محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه وآله يُقتَل، ولا يجفّ عَرَق دوابّ أصحابه حتّى يدخلوا الجنّة فيُعانقوا الحور العين. فمرّ بنا الحسن علیه السلام ، فقلنا: هو هذا؟ قال: لا. فمرّ بنا الحسين علیه السلام ، فقلنا: هو هذا؟ قال: نعم ((2)).

[البومة]

في (كامل الزيارة): عن الحسين بن علي بن صاعد البربري -- قيّماً لقبر الرضا علیه السلام -- قال: حدّثني أبي، قال: دخلتُ على الرضا علیه السلام ، فقال لي: «ترى

ص: 292


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 54 المجلس 3.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 140 المجلس 29 ح 4.

هذه البوم، ما يقول الناس؟»، قال: قلت: جُعلتُ فداك، جئنا نسألك. فقال: «هذه البومة كانت على عهد جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله تأوي المنازل والقصور والدور، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير وتقع أمامهم، فيُرمى إليها بالطعام وتُسقى وترجع إلى مكانها، فلمّا قُتل الحسين علیه السلام خرجَت مِن العمران إلى الخراب والجبال والبراري، وقالت: بئس الأُمّة أنتم؛ قتلتم ابنَ بنت نبيّكم، ولا آمنكم علىنفسي» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر: «فلا تزال نهارها صائمةً حزينةً حتّى يجنّها الليل، فإذا جَنّها الليل فلا تزال ترنّ [ترثِ] على الحسين علیه السلام حتّى تُصبِح» ((2)).

[مَن شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله]

في (كامل الزيارة): عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيتُه قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتلَ الحسين علیه السلام ، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين علیه السلام ولعن قاتله إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنّما أعتق مئة ألف نسَمَة، وحشره الله (تعالى) يوم القيامة ثَلِج الفؤاد» ((3)).

ص: 293


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 99 الباب 31 ح 2.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 99 الباب 31 ح 1.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34 ح 1، الكافي: 6 / 391 ح 6، الأمالي للصدوق: 142 المجلس 29 ح 7، جامع الأخبار: 177.

[النبي صلی الله علیه وآله يحبّ صبيّاً لأنّه يحبّ الحسين علیه السلام]

في كتاب (البصائر) أنّ رسول الله كان يوماً مع جماعةٍ من أصحابه مارّاً في بعض الطريق، وإذا هم بصبيانٍ يلعبون في ذلك الطريق، فجلس النبي صلی الله علیه وآله عند صبيٍّ منهم وجعليُقبّل ما بين عينيه ويلاطفه، ثمّ أقعده على حِجره، وكان يُكثر تقبيله، فسُئل عن علّة ذلك، فقال صلی الله علیه وآله: «إنّي رأيتُ هذا الصبيّ يوماً يلعب مع الحسين، ورأيتُه يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه، فأنا أُحبّه لحبّه لولدي الحسين، ولقد أخبرني جبرئيل أنّه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء» ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): روى بشّار بن عبد الله، قال: دخلتُ على مولاي الصادق علیه السلام، وهو يومئذٍ مُقيمٌ بالكوفة، فرأيتُ قدّامه طبقاً فيه رُطب وهو يأكل منه، فقال لي: «يا بشّار، ادنُ فكُلْ معي من هذا الرطب». فقلت: هنّاك الله به وجعلني فداك. فقال لي: «لِمَ لا تأكُل؟»، فقلت: إنّي في همٍّ عظيمٍ مِن شيءٍ رأيتُه الآن في طريقي هذا، قد أوجع قلبي وأهاج حزني. فقال لي: «بحقّي عليك إلّا ما أخبرتَني بما رأيت»، فقلت: يا مولاي، رأيتُ ظالماً يضرب امرأةً

ص: 294


1- ([1]) تظلّم الزهراء للقزويني: 111. قال: روى الفاضل في (البصائر)..، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 242 ح 36.

ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي: المُستغاث بالله وبرسول الله. ولم يغثها أحدٌ من الناس. فقال: «ولِمَ فُعِل بها ذلك؟»، فقلت: سمعتُ من الناس يقولون: إنّها عثرت بحجرٍ وهي تمشي، فقالت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء. فسمعها هذا الجلواز فصنع بها ما سمعت. قال: فقطع الصادق علیه السلام أكلَه وتظاهر حزنه، ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته، وقال لي: «نغّصتَ علَيّ يا بشّار، قُم بنا إلى مسجد سهيل؛ لندعوا الله عزوجل ونسألهخلاص هذه المرأة». قال: ووجّه بعضَ أصحابه إلى باب السلطان وقال له: «لا تبرحْ حتّى تأتيني بالخبر الصحيح، فإن حدث في المرأة حَدَثٌ سِرْ إلينا حيث كُنّا». فسرنا إلى مسجد السهلة، وصلّى كلٌّ منّا ركعتين لله عزوجل، ثمّ رفع الصادق علیه السلام يديه بالدعاء وابتهل إلى الله (تعالى) بالثناء، ثمّ خرّ ساجداً لله ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال: «الحمد لله، قُم يا بشّار، أُطلقَت المرأة». فبينما نحن على الطريق إذ أتانا الرجل الّذي وجّهه الصادق إلى باب السلطان، فقال له: «ما الخبر؟»، فقال: أُطلقت المرأة، فقال: «كيف كان إطلاقها؟»، قال: كنتُ واقفاً عند باب السلطان إذ خرج الحاجب، فدعا المرأةَ وقال لها: ما الّذي تكلّمتِ به؟ قالت: عثرتُ بحَجرٍ فقلت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء، ففُعِل بي ما ترون. قال: فناولها مئتي درهم وقال: خُذي هذا المال واجعلى السلطان في حِلّ. فأبَتْ أن تأخذها، وانصرفت إلى منزلها. فقال الصادق علیه السلام: «أبت أن تأخذها وهي واللهِ محتاجةٌ إليها». ثمّ إنّه علیه السلام أخرج من جيبه صرّة فيها سبعة دنانير لم يكن عنده غيرها، وقال لي: «إذهب أنت يا بشّار إلى منزلها، واقرأها عنّي

ص: 295

السلام، وادفع إليها هذه الدنانير». فقال: فمضيتُ إليها وأقرأتُها منه السلام، فقالت: باللهِ عليك، أقرأَني مولاي الصادق السلام؟ فقلت: إي والله. فخرّت ساجدةً لله ساعة، ورفعت رأسها وقالت: أقرأني مولاي السلام؟ فقلت: نعم. فسجدت لله شكراً، حتّى فعلَت ذلك ثلاث مرّات، فقلت لها: يا أَمة الله، خُذي ما أرسلَه إليكِ سيّدي، وأبشري بالجنّة. فأخذَت واستبشرت، وشكرته على ذلك، وقالت: يا بشّار، اسألْه أن يستوهب أَمة الله من الله (تعالى). قال: فرجعتُ إليه وحدّثته بما جرى، فجعل يبكي ويقول: «غفر الله لها»((1)).

[أسلم يهوديٌّ لمّا رأى من محبّة النبي صلی الله علیه وآله للحسين علیه السلام]

عن الليث بن سعد أنّ النبي صلی الله علیه وآله كان يصلّي يوماً في فئةٍ والحسين صغيرٌ بالقرب منه، وكان النبيّ إذا سجد جاء الحسين فركب ظهره، ثمّ حرّك رجليه وقال: حل حل، وإذا أراد رسول الله أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد على ظهره وقال: حل حل ((2))، فلم يزل يفعل ذلك حتّى فرغ النبيّ من صلاته، فقال يهودي: يا محمّد، إنّكم لَتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن! فقال النبي: «أما لو كنتم تؤمنون بالله وبرسوله لَرحمتم

ص: 296


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 44 المجلس 3.
2- ([2]) كلمة يقولها العربيّ يسوق بها الإبل (من المتن).

الصبيان»، قال: فإني أُؤمن بالله وبرسوله. فأسلم لما رأى كرمه من عظم قدره ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): رُوي عن عبد الله بن عمر قال: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يخطب على المنبر إذ أقبل الحسين مِن عند أُمّه وهو طفلٌ صغير، فوطأ الحسين علیه السلام على ذيل ثوبه فكبى وسقط على وجهه، فبكى، فنزل النبيّ إليه وضمّه إلى صدرهوسكّته من البكاء، وقال: «قاتل الله الشيطان! إنّ الولد لَفتنة، والّذي نفسي بيده لمّا كبى ابني هذا رأيتُ كأنّ فؤادي قد وهى منّي»؛ لأنّه صلی الله علیه وآله كان رحيم القلب سريع الدمعة، كما قال (تعالى): «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» ((2)) ((3)).

* * * * *

في (المنتخب): عن أبي السعادات قال: خرج النبيّ صلی الله علیه وآله من بيت عائشة، فمرّ على باب دار ابنته فاطمة الزهراء علیها السلام، فسمع الحسين يبكي، فقال لها: «يا فاطمة سكّتيه، ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني؟» ((4)). أخذه إليه

ص: 297


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 86، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 87 ح 1013.
2- ([1]) سورة الأحزاب: 43.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 85 المجلس 5.
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 84، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 116 الرقم 2847، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 171.

ومسح الدموع عن عينيه، وقبّله وضمّه إليه (صلوات الله وسلامه عليه) ((1)).

قال المؤلّف:

فكيف ولو رآه مُلقىً على الرمضاء مذبوحاً من القفا، مرمَّلاً بالدماء، يتلظّى من الظماء، والشمر جاثٍ على صدره، وأولغ السيف في نحره، وهو يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار؟!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ((2)).

* * * * *روى ابن شهرآشوب عن طريق المخالفين أنّه سمع رسولُ الله صلی الله علیه وآله بكاء الحسن والحسين وهو على المنبر، فقام فزعاً، ثمّ قال: أيّها الناس، ما الولد إلّا فتنة، لقد قمتُ إليهما وما معي عقلي ((3)).

وروى عن طريقهم أيضاً: كان رسول الله يخطب على المنبر، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله

ص: 298


1- ([4]) المنتخب للطريحي: 1 / 85 المجلس 5.
2- ([5]) المنتخب: 1 / 85 المجلس 5.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 55، المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي: 7 / 513 الرقم 12.

من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثمّ قال: «أولادنا أكبادنا يمشون على الأرض» ((1)).

[حوريّة سيّد الشهداء]

في (تفسير فرات) مسنداً عن حُذَيفة في حديث ليلة المعراج، قال صلی الله علیه وآله: «أخذ جبرئيل علیه السلام بيدي فأدخلني الجنّة وأنا مسرور، فإذا أنا بشجرةٍ من نورٍ مكلَّلَةً بالنور، في أصلها ملكان يطويان الحُليّ والحُلل إلى يوم القيامة، ثمّ تقدمَت أمامي فإذا أنا بتفّاحٍ لم أرَ تفّاحاً هو أعظم منه، فأخذتُ واحدةً ففلقتُها، فخرجَت علَيّ منها حُوراً كأنّ أجفانها مقاديم أجنحة النسور، فقلت: لمن أنتِ؟ فبكت وقالت: لابنك المقتول ظُلماً، الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. ثمّ تقدمَت أمامي،فإذا أنا برطبٍ ألين من الزبد وأحلى من العسل، فأخذتُ رطبةً فأكلتُها وأنا أشتهيها، فتحوّلَت الرطبة نطفةً في صُلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملَت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيّة، فإذا أنا اشتقتُ إلى رائحة الجنّة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة علیها السلام» ((2)).

ص: 299


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 55 (جمع المؤلّف خبرين في لفظٍ واحد).
2- ([1]) تفسير فرات الكوفي: 75 ح 49، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 459.

[قصر سيّد الشهداء في الجنّة]

في كتاب (العوالم): رُوي أنّ الحسن علیه السلام لمّا دنت وفاتُه ونفدت أيامه وجرى السمُّ في بدنه، تغيّر لونه واخضرّ، فقال له الحسين علیه السلام «ما لي أرى لونك [مائلاً] إلى الخضرة؟»، فبكى الحسن وقال: «يا أخي، لقد صحّ حديثُ جدّي فيّ وفيك»، ثمّ اعتنقه طويلاً وبكيا كثيراً.

فسُئل عن ذلك، فقال: «أخبرني جدّي قال: لمّا دخلتُ ليلة المعراج روضات الجنان، ومررتُ على منازل أهل الإيمان، رأيتُ قصرَين عاليَين متجاورَين على صفةٍ واحدة، [إلّا أنّ] أحدهما من الزبرجد الأخضر، والآخر من الياقوت الأحمر، فقلت: يا جبرئيل، لمَن هذان القصران؟ فقال: أحدهما للحسن علیه السلام ، والآخَر للحسين علیه السلام . فقلت: يا جبرئيل، فلمَ لم يكونا على لونٍ واحد؟ فسكت ولم يردّ جواباً، فقلت: لمَ لا تتكلّم؟ قال علیه السلام : حياءً منك. فقلتُ له: سألتُك باللهِ إلّا ما أخبرتَني، فقال: أمّا خُضرة قصر الحسن علیه السلام فإنّه يموت بالسمّ ويخضرّ لونُه عند موته، وأمّا حمرة قصر الحسين علیه السلام فإنّه يُقتَل ويحمرّ وجهه بالدم».فعند ذلك بكيا، وضجّ الحاضرون بالبكاء والنحيب ((1)).

ص: 300


1- ([1]) العوالم للبحراني: 17 / 121 الباب 4 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 145 ح 13.

[لمّا قُتِل الحسين كتب دمه على الأرض]

قال السيّد نعمة الله في كتاب (زهر الربيع): وجدنا في نهر تُستَر صخرةً صغيرةً صفراء أخرجها الحفّارون من تحت الأرض، وعليها مكتوبٌ بخطٍّ مِن لونها: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلّا الله، محمّدٌ رسول الله، عليٌّ وليّ الله، لمّا قُتِل الحسين بن عليّ بن أبي طالب بكربلاء كتب دمُه على أرضٍ حصباء: وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ مُنقلَبٍ ينقلبون) ((1)).

[فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه]

ذكر بهاء الدين في (الكشكول) أنّ أباه حسين بن عبد الصمد الحارثي وجد في مسجد الكوفة فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه:

أنا درٌّ من السما نثروني***يوم تزويج والد السبطينِ

كنتُ أصفى من اللُّجَين بياضاً***صبغتني دماء نحر الحسينِ ((2))

[فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ عندالنبيّ صلی الله علیه وآله وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن

ص: 301


1- ([2]) زهر الربيع لنعمة الله الجزائري: 12.
2- ([3]) زهر الربيع لنعمة الله الجزائري: 12.

علي، وهو تارةً يُقبّل هذا وتارة يقبّل هذا، إذ هبط جبرئيل بوحيٍ مِن ربّ العالمين، فلمّا سرى عنه قال: «أتاني جبرئيل من ربّي، فقال: يا محمّد، إنّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول: لستُ أجمعهما، فافدِ أحدَهما بصاحبه». فنظر النبيّ إلى إبراهيم فبكى وقال: «إنّ إبراهيم أُمّه أَمة، ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأُمّ الحسين فاطمة، وأبوه عليّ ابن عمّي لحمي ودمي، ومتى مات حزنَت ابنتي وحزن ابن عمّي وحزنتُ أنا عليه، وأنا أُؤثر حزني على حزنهما يا جبرئيل، يقبض إبراهيم، فديتُه بالحسين». قال: فقُبِض بعد ثلاث، فكان النبيّ إذا رأى الحسين مُقبِلاً قبّله وضمّه إلى صدره ورشف ثناياه، وقال: «فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم» ((1)).

[جواب ابن عمر لعراقيٍّ سأله عن دم البعوض]

في (أمالي) الصدوق: عن ابن أبي نعيم قال: شهدتُ ابن عمر، وأتاه رجلٌ فسأله عن دم البعوضة، فقال: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا! يسألني عن دم البعوضة وقد قتلوا ابن رسول الله! وسمعتُ رسول الله يقول: «إنّ-هما ريحانتَ--يّ من الدني--ا»، يعني: الحسن والحسين علیهما السلام ((2)).

ص: 302


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 121، تاريخ بغداد: 2 / 200، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 52 / 324.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 143 المجلس 29 ح 12.

[محبّيه ومحبّي محبّيه في الجنّة]

في (الأمالي) أيضاً: عن حُذَيفة بن اليمان قال: رأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله آخِذاً بيد الحسين بن علي علیه السلام وهو يقول: «يا أيّها الناس، هذا الحسين بن عليٍّ فاعرفوه، فوَالّذي نفسي بيده إنّه لَفي الجنّة، ومحبّيه في الجنّة، ومحبّي محبّيه في الجنّة» ((1)).

[محبّه لم تلفح وجهه النار]

في (كامل الزيارة): عن أبي ذرّ الغِفاريّ قال: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّل الحسن والحسين علیهما السلام وهو يقول: «مَن أحبّ الحسن والحسين علیهما السلام وذريّتهما مُخلِصاً، لم تلفح النارُ وجهه ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج، إلّا أن يكون ذنبه ذنباً يُخرجه من الإيمان» ((2)).

* * * * *

في كتاب (قُرب الإسناد)، مسنداً عن الحسن أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أُتي بالحسين بن عليّ علیه السلام فوُضع في حِجره، فبال عليه، فأخذ فقال: لا تزرموا ابني. ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه ((3)).

ص: 303


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 596 المجلس 87 ح 4.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 51 الباب 14 ح 4.
3- ([3]) معاني الأخبار للصدوق: 211 ح 1.

* * * * *

في كتاب (الملهوف): عن أُمّ الفضل زوجة العبّاس [في حديث]:جئتُ بالحسين يوماً إلى النبي صلی الله علیه وآله فوضعتُه في حِجره، فبينما هو يقبّله فبال، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبي صلی الله علیه وآله ، فقرصتُه فبكى، فقال النبي صلی الله علیه وآله -- كالمغضب -- : مهلاً يا أُمّ الفضل! فهذا ثوبي يُغسَل، وقد أوجعتِ ابني. قالت: فتركتُه في حِجره وقمتُ لآتيه بماء، فجئتُ فوجدته صلی الله علیه وآله يبكي، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله؟! فقال صلی الله علیه وآله: إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل وَلَدي هذا، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ((1)).

[سنّة التكبير في الصلاة ببركة الحسين علیه السلام]

روى الشيخ الطوسيّ عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان في الصلاة، وإلى جانبه الحسين بن علي علیه السلام، فكبّر رسول الله صلی الله علیه وآله فلم يحر الحسين بالتكبير، ثمّ كبّر رسول الله صلی الله علیه وآله فلم يحر الحسين علیه السلام التكبير، ولم يزل رسول الله صلی الله علیه وآله يكبّر ويعالج الحسين علیه السلام التكبير فلم يحر، حتّى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين علیه السلام التكبير في السابعة»، فقال أبو عبد الله علیه السلام: «فصارت سُنّة» ((2)).

ص: 304


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 14.
2- ([2]) تهذيب الأحكام للطوسي: 2 / 67 ح 243، علل الشرائع للصدوق: 2 / 331 الباب 30 ح 1، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94.

[أتركب ظهراً حمله رسول الله]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: قال أبو رافع: كنتُ أُلاعب الحسين علیه السلام وهو صبيّ بالمداحي ((1))، فإذا أصابَت مدحاتي مدحاته قلت: احملني، فيقول: أتركب ظهراً حمَلَه رسول الله صلی الله علیه وآله فأتركه، فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت: لا أحملك كما لم تحملني، فيقول: أما ترضى أن تحمل بدناً حمله رسول الله؟ فأحمله ((2)).

[تكلّم ببعض فضائلهم فدُهش الرجل ووله]

في (المناقب): عبد العزيز بن كثير أنّ قوماً أتوا إلى الحسين وقالوا: حدِّثنا بفضائلكم، قال: «لا تطيقون، وانحازوا عنّي لأُشير إلى بعضكم، فإن أطاق سأُحدّثكم»، فتباعَدوا عنه، فكان يتكلّمُ مع أحدهم حتّى دُهش ووله وجعل يهيم ولا يُجيب أحداً، وانصرفوا عنه ((3)).

ص: 305


1- ([1]) في (مناقب آل أبي طالب): المدحاة: لعب الأحجار في الحفيرات.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 87، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 154، بشارة المصطفى: 221.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 25.

[استسقاؤه لأهل الكوفة]

في (عيون المعجزات)، مسنداً عن الصادق علیه السلام، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام قال: «جاء أهل الكوفة إلى عليّ علیه السلام فشكوا إليه إمساك المطر، وقالوا له: استسقِ لنا. فقالللحسين علیه السلام: قم واستسق. فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي، وقال: اللّهمّ مُعطي الخيرات، ومُنزِل البركات، أرسل السماء علينا مِدراراً، واسقنا غيثاً مغزاراً واسعاً غدقاً مجلّلاً سحّاً سفوحاً ثِجاجاً، تُنفّس به الضعف من عبادك، وتُحيي به الميت من بلادك، آمين ربّ العالمين. فما فرغ علیه السلام من دعائه حتّى غاث الله غيثاً نعته علیه السلام، وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال: تركتُ الأودية والآكام يموج بعضهم في بعض» ((1)).

* * * * *

عن ابن عباس قال: عطش المُسلمون في مدينة الرسول في بعض السنين عطشاً شديداً، حتّى أنّهم عادوا لا يجدون الماء في المدينة، فجاءت فاطمة الزهراء بولديها الحسن والحسين علیهما السلام إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقالت: «يا أبتي، إنّ ابني الحسن والحسين صغيران لا يتحمّلان العطش». فدعا النبي صلی الله علیه وآله بالحسن فأعطاه لسانه حتّى رُوي، ثمّ دعا بالحسين فأعطاه أيضاً لسانه فمصّه حتّى رُوي، فلمّا رويا وضعهما على ركبتيه وجعل يُقبّل هذا مرّةً وهذا أُخرى، ثمّ يلثم هذا لثمةً وهذا لثمة، ثمّ يضع لسانه الشريف في أفواههما،

ص: 306


1- ([1]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 64.

وهو معهما في غبطة ونعمة، فبينما هم كذلك إذ هبط الأمين جبرائيل بالتحية من الربّ الجليل إلى النبي صلی الله علیه وآله، فقال: يا محمّد، ربّك يقرؤك السلام ويقول: «إنّ هذا ولدك الحسن يموت مسموماً مظلوماً، وهذا ولدك الحسين يموت عطشاناً مذبوحاً». فقال: «يا أخي جبرائيل، مَن يفعل ذلك بهما؟»، قال:قومٌ مِن بني أُميّة يزعمون أنّهم من أُمّتك، يقتلون أبناء صفوتك، ويشرّدون ذرّيّتك. فقال: «يا جبرائيل، هل تفلح أُمّةٌ تفعل هذا بذرّيّتي؟»، قال: لا والله، بل يبليهم الله في الدنيا بمَن يقتل أولادهم ويسفك دماءهم ويستحيي نساءهم، ولهم في الآخرة عذابٌ أليم، طعامهم الزقّوم وشرابهم الصديد، ولهم في درك الجحيم عذابٌ مكيد، ويُقال لجهنّم: هل امتلأتِ؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثمّ قال جبرائيل علیه السلام: يا محمّد، إنّ الله عزوجل حمد نفسه عند هلاك الظالمين، حيث قال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)). قال: فجعل النبيّ صلی الله علیه وآله تارةً ينظر إلى الحسن وتارةً ينظر إلى الحسين، وعيناه تهملان من الدموع، ويقول: «لعن الله قاتلكما، ولعن الله مَن غصبكما حقّكما من الأوّلين والآخرين» ((2)).

* * * * *

في (بصائر الدرجات): عن صالح بن ميثم الأسديّ قال: دخلتُ أنا

ص: 307


1- ([1]) سورة الأنعام: 45.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 187 المجلس 9.

وعباية بن ربعي على امرأةٍ في بني والبة قد احترق وجهها من السجود، فقال لها عباية: يا حبّابة، هذا ابن أخيكِ. قالت: وأيّ أخٍ؟ قال: صالح بن ميثم. قالت: ابن أخي واللهِ حقّاً، يا ابن أخي، ألا أُحدّثك حديثاً سمعتُه من الحسين بن علي علیه السلام قال: قلت: بلى يا عمّة. قالت: كنتُ زوّارة الحسين ابن علي علیه السلام، قالت: فحدث بين عينَيّ وَضَح، فشقّ ذلك علَيّ واحتبستُ عليه أيّاماً، فسألعنّي: «ما فعلَت حبّابة الوالبيّة؟»، فقالوا: إنّها حدث [بها حدثٌ] بين عينيها. فقال لأصحابه: «قوموا إليها». فجاء مع أصحابه حتّى دخل علَيّ وأنا في مسجدي هذا، فقال: «يا حبّابة، ما أبطأ بكِ علَيّ؟»، قلت: يا ابن رسول الله، ما ذاك الّذي منعني إن لم أكن اضطررتُ إلى المجي ء إليك اضطراراً، لكن حدث هذا بي. قال: [قالت:] فكشفَت القناع، فتفل عليه الحسين بن علي علیه السلام، فقال: «يا حبّابة، أحدِثي لله شكراً؛ فإنّ الله قد درأه عنكِ». قالت: فخررتُ ساجدة، قالت: فقال: «يا حبّابة، ارفعي رأسكِ وانظُري في مرآتك». قالت: فرفعتُ رأسي فلم أحسّ منه شيئاً. قال: فحمدَت الله ((1)).

* * * * *

في كتاب (الخرائج): عن جابر الجُعفي، عن زين العابدين علیه السلام قال: «أقبل أعرابيٌّ إلى المدينة ليختبر الحسين علیه السلام لِما ذُكر له من دلائله، فلمّا صار بقرب

ص: 308


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 270 الباب 2 ح 6.

المدينة خضخض ودخل المدينة، فدخل على الحسين وهو جُنُب، فقال له أبو عبد الله الحسين علیه السلام: أما تستحيي يا أعرابي أن تدخل إلى إمامك وأنت جُنب؟ وقال: أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم. فقال الأعرابي: يا مولاي، قد بلغتُ حاجتي ممّا جئتُ فيه. فخرج مِن عنده فاغتسل ورجع إليه، فسأله عمّا كان في قلبه» ((1)).

[تأويل رؤيا هند]

في كتاب (المناقب): عن ابن عبّاس: سألَت هند عائشة أن تسأل النبيّ تعبير رؤيا، فقال صلی الله علیه وآله: «قولي لها فلْتقصص رؤياها»، فقالت: رأيتُ كأنّ الشمس قد طلعت مِن فوقي، والقمر قد خرج من مخرجي، وكأنّ كوكباً قد خرج من القمر أسود، فشدّ على شمسٍ خرجت من الشمس أصغر من الشمس، فابتلعها فاسودّ الأُفق لابتلاعها، ثمّ رأيتُ كواكب بدت من السماء وكواكب مسودّة في الأرض، إلّا أنّ المسودّة أحاطت بأُفق الأرض مِن كلّ مكان. فاكتحلت عين رسول الله بدموعه، ثم قال: «هي هند! أُخرجي يا عدوّة الله -- مرّتين --، فقد جدّدتِ علَيّ أحزاني، ونعيتِ إليّ أحبابي». فلمّا خرجَت قال: «اللّهمّ العنها والعن نسلها». فسُئل عن تعبيرها، فقال: «أمّا الشمس الّتي طلعت عليها فعليّ بن أبي طالب، والكوكب الّذي خرج من القمر أسود فهو معاوية، مفتونٌ فاسقٌ جاحدٌ لله، وتلك الظلمة الّتي زعمَت ورأت كوكباً

ص: 309


1- ([2]) الخرائج للراوندي: 1 / 246 ح 2.

يخرج من القمر أسود فشدّ على شمسٍ خرجَت من الشمس أصغر من الشمس فابتلعتها فاسودّت فذلك ابني الحسين، يقتله ابن معاوية فتسودّ الشمس ويظلمّ الأُفق، وأمّا الكواكب المسودّة في الأرض أحاطت الأرض مِن كلّ مكانٍ فتلك بنو أُميّة» ((1)).

وفي (المنتخب): قالت هند: إنّي رأيتُ في نومي شمساً مُشرِقةً على الدنيا كلِّها، فوُلد من تلك الشمس قمر، فأشرق نورُه على الدنيا كلّها، ثمّ وُلد ذلك القمر نجمان زاهران، قد أزهر من نورهماالمشرق والمغرب، فبينما أنا كذلك إذ بدت سحابةٌ سوداء مُظلِمة كأنّها الليل المُظلِم، فوُلد من تلك السحابة السوداء حيّةٌ رقطاء، فدبّت الحيّة إلى النجمين فابتلعتهما، فجعلوا الناس يبكون ويتأسّفون على ذينك النجمين.

قال: فجاءت عائشة إلى النبي صلی الله علیه وآله وقصّت الرؤيا عليه، فلمّا سمع النبي صلی الله علیه وآله كلامها تغيّر لونه واستعبر وبكى، فقال: «يا عائشة، أمّا الشمس المُشرقة فأنا، وأمّا القمر فهي فاطمة ابنتي، وأمّا النجمان فهما الحسن والحسين؟عهما؟، وأمّا السحابة السوداء فهي معاوية، وأمّا الحيّة الرقطاء فهي يزيد ابن معاوية» ((2)).

* * * * *

في كتاب (البحار)، مسنداً عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله علیه السلام

ص: 310


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 87.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 221 المجلس 1.

قال: «بينا رسول الله صلی الله علیه وآله في منزل فاطمة والحسين في حِجره، إذ بكى وخرّ ساجداً، ثمّ قال: يا فاطمة يا بنت محمّد، إنّ العليّ الأعلى تراءى لي في بيتكِ هذا ساعتي هذه في أحسن صورةٍ وأهيإ هيئة، وقال لي: يا محمّد، أتحبّ الحسين؟ فقلت: نعم؛ قرّة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عيني. فقال لي: يا محمّد -- ووضع يده على رأس الحسين --، بُورك مِن مولودٍ عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني، ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي ونكالي على مَن قتله وناصبه وناواه ونازعه، أما إنّه سيّد الشهداء من الأولين والآخِرين في الدنيا والآخرة، وسيّد شباب أهل الجنّة منالخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه وخير، فاقرأْه السلام، وبشِّرْه بأنّه راية الهدى ومنار أوليائي وحفيظي وشهيدي على خلقي وخازن علمي وحُجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين والثقلين الجنّ والإنس» ((1)).

* * * * *

في كتاب (البحار)، مسنداً عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه علیهم السلام قال: «قال النبيّ صلی الله علیه وآله: ليلة أُسري بي إلى السماء فبلغتُ السماء الخامسة، نظرتُ إلى صورة عليّ بن أبي طالب، فقلت: حبيبي جبرئيل، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل: يا محمّد، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة علي، فقالوا: ربّنا، إنّ بني آدم في دنياهم يتمتّعون غدوةً وعشيّةً بالنظر إلى عليّ بن أبي طالب، حبيبِ حبيبك محمّد صلی الله علیه وآله وخليفته ووصيّه وأمينه، فمتّعْنا بصورته قدر ما

ص: 311


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 238 ح 29، كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 1.

تمتّع أهل الدنيا به. فصوّرَ لهم صورته من نور قدسه عزوجل، فعليٌّ علیه السلام بين أيديهم ليلاً ونهاراً، يزورونه وينظرون إليه غدوةً وعشيّة».

قال: فأخبرني الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «فلمّا ضربه اللعين ابنُ ملجم على رأسه، صارت تلك الضربة في صورته الّتي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوةً وعشيّة، يلعنون قاتله ابن ملجم، فلمّا قُتل الحسين ابن عليّ (صلوات الله عليه) هبطت الملائكة وحملته حتّىأوقفته مع صورة عليٍّ في السماء الخامسة، فكلّما هبطت الملائكةُ من السماوات من علا وصعدت ملائكة السماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة علي علیه السلام والنظر إليه وإلى الحسين بن عليّ متشحّطاً بدمه، لعنوا يزيد وابن زياد وقاتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه) إلى يوم القيامة».

قال الأعمش: قال لي الصادق علیه السلام : «هذا مِن مكنون العلم ومخزونه، لا تُخرِجه إلّا إلى أهله» ((1)).

* * * * *

في (المناقب) لابن شهرآشوب و(أمالي) المفيد: النيشابوري أنّ زرّ النائحة رأت فاطمة علیه السلام فيما يرى النائم أنّها وقعت على قبر الحسين تبكي، وأمرتها أن تُنشد:

أيّها العينان فيضا***واستهلّا لا تغيضا

ص: 312


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 24 -- عن: المحتضر لابن فهد الحلّي: 146.

وابكيا بالطفّ مَيْتاً***ترك الصدر رضيضا

لم أُمرّضه قتيلاً***لا ولا كان مريضا ((1))

[جام البلّور الأحمر]

في (المناقب) بسند المخالفين، عن ابن عبّاسٍ وغيره: كنّا جلوساًمع النبيّ إذ هبط عليه جبرئيل ومعه جامٌ من البلّور الأحمر مملوءاً مسكاً وعنبراً، فقال له: السلام عليك، الله يقرأ عليك السلام ويحيّيك بهذه التحيّة، ويأمرك أن تُحيّي بها عليّاً وولَديه. فلمّا صارت في كفّ النبيّ هلّلَت ثلاثاً وكبّرت ثلاثاً، ثمّ قالت بلسانٍ ذَرِب: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} ((2)). فاشتمّها النبي صلی الله علیه وآله، ثمّ حيّا بها عليّاً، فلمّا صارت في كفّ عليّ قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيِم. إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُه} -- الآية ((3)). فاشتمّها علي، وحيّا بها الحسن، فلمّا صارت في كفّ الحسن قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} -- الآية ((4)). فاشتمّها الحسن، وحيّا بها الحسين، فلمّا صارت في كفّ الحسين

ص: 313


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 59.
2- ([1]) سورة طه: 1 و2.
3- ([2]) سورة المائدة: 55.
4- ([3]) سورة النبأ: 1 و2.

قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((1)). ثمّ رُدّت إلى النبي، فقالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ((2))، فلم أدرِ على السماء صعدَت أم في الأرض نزلت بقدرة الله (تعالى) ((3)).

[نزول ملَكٍ على صفة الطير على يدَي الحسنين]

في (المناقب) عن طرق المخالفين أنّ ملَكاً نزل من السماء على صفة الطير فقعد على يد النبي، فسلّم عليه بالنبوّة، وعلى يد عليٍّ فسلّم عليه بالوصيّة، وعلى يد الحسن والحسين فسلّم عليهما بالخلافة، فقال رسول الله: «لمَ لمْ تقعد على يد فلان؟»، فقال: أنا لا أقعد في أرضٍ عُصي عليها الله، فكيف أقعد على يدٍ عصت الله؟ ((4))

* * * * *

في (حلية الأولياء) و(مسند أحمد) وغيرها من كتب العامّة: قال النبيّ -- في خبر -- : «أما رأيت العارض الّذي عرض لي؟»، قلت: بلى. قال: «ذاك ملَكٌ

ص: 314


1- ([4]) سورة الشورى: 23.
2- ([5]) سورة النور: 35.
3- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 75، الأمالي للطوسي: 256 ح 738.
4- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 77.

لم يهبط إلى الأرض قبل الساعة، فاستأذن الله (تعالى) أن يسلّم علَيّ، ويبشّرني أنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وأنّ فاطمة سيّده نساء أهل الجنّة» ((1)).

* * * * *

إبن بابويه وغيره وكتب المخالفين: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إذا كان يوم القيامة زُيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة، ثمّ يؤتى بمنبرين من نور طولهما مئة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخَر عن يسار العرش، ثمّ يُؤتى بالحسن والحسين علیهما السلام، فيقوم الحسن على أحدهماوالحسين على الآخر، يزيّن الربُّ (تبارك وتعالى) بهما عرشه كما يزيّن المرأةَ قرطاها» ((2)).

* * * * *

في (كشف الغُمّة) عن كتب المخالفين: كانت لآل رسول الله صلی الله علیه وآله قطيفةٌ ((3)) يجلس عليها جبرئيل، لا يجلس عليها غيره، وإذا خرج طُويَت، وكان إذا عرج انتفض فيسقط من زغب ريشه، فيقوم فيتبعه ويجعله في

ص: 315


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 84، المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي: 7 / 512 الرقم 3، المستدرك للحاكم: 3 / 381، كتاب ابن حبّان: 15 / 413.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 112 المجلس 24 ح 1، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 157، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 87، معاني الأخبار للصدوق: 206.
3- ([2]) القطيفة: الدثار المخمّل، والجمع: قطائف.

تمائم ((1)) الحسن والحسين ((2)).

* * * * *

روى ابن شهرآشوب، عن ابن مسعود ((3)) قال: حمل رسولُ الله الحسن والحسين على ظهره، الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى، ثمّ مشى وقال: «نِعمَ المطيّ مطيّكما، ونِعم الراكبان أنتما، وأبوكما خيرٌ منكما» ((4)).* * * * *

في (كشف الغُمّة): عن جابر بن عبد الله رضی الله قال: دخلتُ على النبي صلی الله علیه وآله وهو يمشي على أربع والحسن والحسين على ظهره، ويقول: «نِعمَ الجمل جملكما، ونِعم الجملان أنتما» ((5)).

ص: 316


1- ([3]) التميمة: خرزاتٌ كانت العرب تعلّقها على أولادهم يتّقون بها العين، وهي أيضاً عوذةٌ تعلَّق على الإنسان، ومنه شعر أبي الأسود الدؤلي في عليّ بن الحسين علیهما السلام: وإنّ غلاماً بين كسرى وهاشمٍ لَأكرمُ مَن نِيطت عليه التمائمُ
2- ([4]) كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 549.
3- ([5]) في المتن: (عن جابر).
4- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 63، شواهد التنزيل للحَسَكاني: 1 / 455.
5- ([1]) كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 526، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 62، المعجَم الكبير للطبراني: 3 / 52 الرقم 2661، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 13 / 216.

* * * * *

في (المناقب): عن عمر بن الخطّاب قال: رأيتُ الحسن والحسين على عاتقَي رسول الله صلی الله علیه وآله، فقلت: نِعمَ الفرس لكما. فقال رسول الله: «ونِعمَ الفارسان هما» ((1)).

قال المؤلّف:

ذكرتُ في الفصل السابع حديث (المنتخَب) ونزول اللباس للحسنين، وأنّ الحسن اختار اللون الأخضر والحسين اختار اللون الأحمر، ثمّ عثرتُ على حديثٍ آخَر ستسمعه بعد قليل، ولكنّي لم أجرء أن أُورده؛ لأنّي لم أجد تتمّته في الكتب المعتبرة، فلمّا وقفتُ على حديث ابن شهرآشوب في (المناقب) و(كشف الغُمّة) شجّعنيأن أذكر الحديث الذي سأذكره فيما يلي:

في بعض الكتب، عن بعض الثقات الأخيار أنّ الحسن والحسين علیهما السلام دخلا يوم عيدٍ على حجرة جدّهما رسول الله صلی الله علیه وآله، فقالا: «يا جدّاه! اليوم يوم العيد، وقد تزيّن أولاد العرب بألوان اللباس ولبسوا جديد الثياب، وليس لنا ثوبٌ

ص: 317


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 63، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 162، الكامل لابن عدي: 2 / 362.

جديد، وقد توجَّهنا لجنابك لنأخذ عيديّتنا منك، ولا نريد سوى ثيابٍ نلبسها». فتأمّل النبيّ صلی الله علیه وآله إلى حالهما وبكى، ولم يكن عنده في البيت ثيابٌ تليق بهما، ولا رأى أن يمنعهما فيكسر خاطرهما، فتوجّه إلى الأحديّة وعرض الحال على الحضرة الصمديّة، وقال: «إلهي، اجبر قلبهما وقلب أُمّهما».

فنزل جبرئيل من السماء تلك الحال، ومعه حُلّتان بيضاوتان من حُلل الجنّة، فسُرّ النبيّ صلی الله علیه وآله وقال لهما: «يا سيّدَي شباب أهل الجنّة، هاكما أثوابكما، خاطهما خيّاطُ القدرة على طولكما، أتتكما مخيطةً مِن عالم الغيب».

فلمّا رأيا الخُلَع بيضاً قالا: «يا جدّاه، كيف هذا وجميع الصبيان العرب لابسون ألوان الثياب؟». فأطرق النبي صلی الله علیه وآله ساعةً متفكّراً في أمرهما، فقال جبرئيل: يا محمّد، طبْ نفساً وقرّ عيناً، إنّ صابغ صبغة الله عزوجل يقضي لهما هذا الأمر ويفرّح قلوبهما بأيّ لونٍ شاء، فأْمُرْ يا محمّد بإحضار الطشت والإبريق. فحضرا، فقال جبرئيل: يا رسول الله، أنا أصبّ الماء على هذه الخلع، وأنت تفركهما بيدك، فتصبغ بأيّ لونٍ شاءا. فوضع النبيّ حُلّة الحسن في الطشت، فأخذ جبرئيل يصبّ الماء، ثمّ أقبل النبيّ على الحسن وقال: «يا قُرّة عيني، بأيّ لونٍ تريد حلّتك؟»، فقال: «أُريدها خضراء». ففركها النبي صلی الله علیه وآله بيده في ذلكالماء، فأخذت بقدرة الله لوناً أخضر فائقاً كالزبرجد الأخضر، فأخرجها النبي صلی الله علیه وآله وأعطاها للحسن، فلبسها، ثمّ وضع حُلّة الحسين علیه السلام في الطشت، وأخذ جبرئيل يصبّ الماء، فالتفت (النبيّ) إلى نحو الحسين -- وكان له من العمر خمس سنين -- وقال له: «يا قرّة عيني، أيّ لونٍ

ص: 318

تريد حُلّتك؟»، فقال الحسين علیه السلام: «يا جدّاه، أُريدها حمراء». ففركها النبيّ بيده في ذلك الماء، فصارت حمراء كالياقوت الأحمر، فلبسها الحسين، فسُرّ النبي صلی الله علیه وآله بذلك، وتوجّه الحسن والحسين إلى أُمّهما فرحين مسرورين.. ((1)).

أمّا ذيل الحديث، فقد ذكر صاحب الكتاب المذكور، قال بلفظ المشهور أنّهما قالا: «يا جدّ، أطفال العرب عندهم نياقٌ يركبونها، ونحن نريد نياق نركبها»، فقال لهما: «يا ريحانتَيّ، أكون لكما جَمَل». ثمّ حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخَر على عاتقه الأيسر، قالا: «إنّ للجمل زِمام!»، فأعطى النبي صلی الله علیه وآله إحدى ظفيرتيه للحسن والأُخرى للحسين، وقال: «هذا الزمام». قالا: «إنّ الجمَل أطفال العرب يقول: عف عف!»، فالتفت النبي صلی الله علیه وآله إلى الحسن فقال: «العفو العفو»، والتفت إلى الحسين فقال: «العفو العفو»، فهبط جبرئيل وقال: يا محمّد، لو فعلتَ ذلك مرّةً أُخرى لانطفأَت النار.

ولمّا كان باطن قوله (تعالى) في سورة الشمس: {نَاقَةَ اللَّهِ} مؤوّل بالإمام -- كما سيأتي في أواخر الكتاب فيالتذنيب الأوّل --، فلا يبعد صدور مثل هذه الحركات من فخر الكائنات لبيان عظمتهما وشرفهما، سيّما إذا لاحظنا أنّ مولانا جعفر الصادق علیه السلام قال -- كما في (بحار

ص: 319


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 222، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 45.

العلوم) -- : إنّي ابن الباقر، وهو إمام الحقّ، وهو ابن العابد الإمام بالصدق، وهو ابن الحسين بضعة نبيّ الثقلين، ابن عليّ وأخي الحسن، وهو الّذي ركب على عُنق رسول الله صلی الله علیه وآله يوم العيد، وقال لرسولنا: قُل يا جدّي: عف عف! وهو صوت الإبل، وقال رسولنا صلی الله علیه وآله: عف عف لرضائه. وهما الشهيدان الإمامان الفاضلان العادلان، ابنا سيّد الأُمّة من الجنّ والناس والملَك، وهو إمام الحقّ بالصدق من غير واسطةٍ بينه وبين رسولنا صلی الله علیه وآله ، فإذا كنتُ مِن نسبٍ كذا فما هو قلته إلّا وهو حقٌّ وصدقٌ من الله ورسوله، وما اخترعتُه مِن فؤادي.. إلى آخر ما قال.

ففي هذا الحديث يصرّح أنّ الإمام الحسين علیه السلام ركب على عُنق النبيّ صلی الله علیه وآله يوم العيد، وقال لرسولنا: قُل يا جدّي: عف عف! وهو صوت الإبل،وقال رسولنا صلی الله علیه وآله: عف عف لرضائه..

[تسبيح الرمّان والعنب]

في (تفسير الثعلبي): عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «مرض النبي صلی الله علیه وآله ، فأتاه جبرئيل بطبقٍ فيه رمّان وعنب، فأكل النبي منه فسبّح، ثمّ

ص: 320

دخل عليه الحسن والحسين، فتناولا منه فسبّح الرمّان والعنب، ثمّ دخل علي، فتناول منه فسبّح أيضاً، ثمّ دخل رجلٌ من أصحابه، فأكل فلم يُسبّح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبيٌّ أو وصيٌّ أو ولد نبي ((1)).

* * * * *

عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ جالساً بين يدَي رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ وبين يديه عليّ بن أبي طالب علیه السلام وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، إذ هبط عليه جبرئيل وبيده تفّاحة، فحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله ، وحيّا بها النبيّ عليّاً، فتحيّا بها علي علیه السلام وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي وحيّا بها الحسن علیها السلام، فقبلها وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي وحيّا بها الحسين، فتحيّا بها الحسين وقبلها وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله وحيّا بها فاطمة، فقبلتها وردّتها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، وتحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله ثانيةً وحيّابها عليّاً علیه السلام، فتحيّا بها علي علیه السلام ثانية، فلمّا همّ أن يردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله سقطت التفاحة من أطراف أنامله فانفلقت بنصفين، فسطع منها نورٌ حتّى بلغ سماء الدنيا، وإذا عليه سطران مكتوبان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه تحيّةٌ من الله عزوجل إلى محمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين سبطَي رسول الله صلی الله علیه وآله ، وأمانٌ لمحبّيهم يوم القيامة من النار ((2)).

ص: 321


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 73، تفسير الثعلبي: 6 / 103، الخرائج للراوندي: 1 / 48 ح 65.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 596 المجلس 87 ح 3، مئة منقبةٍ لابن شاذان: 26 م 8.

[جواب الحسنين على مسألةٍ عجز عنها ابن الزبير وابن عثمان]

روى ابن شهرآشوب قال: استفتى أعرابيٌّ عبدَ الله بن الزبير وعمر بن عثمان، فتواكلا، فقال: اتّقيا الله، فإنّي أتيتكما مسترشداً، أمواكلة في الدِّين! فأشارا عليه بالحسن والحسين، فأفتياه، فأنشأ أبياتاً، منها:

جعل الله حرّ وجهيكما***نعلين سبتاً يطؤهما الحسنانِ ((1))

[علّما شيخاً كيف يُحسِن الوضوء]

وروى أيضاً أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخٍ يتوضّأ ولا يُحسِن، فأخذا بالتنازع، يقول كلّ واحدٍ منهما: أنت لا تُحسِن الوضوء!فقالا: «أيّها الشيخ، كُن حَكَماً بيننا، يتوضّأُ كلّ واحدٍ منّا سويّة»، ثمّ قالا: «أيُّنا يُحسِن؟»، قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكنّ هذا الشيخ الجاهل هو الّذي لم يكن يُحسِن، وقد تعلّم الآن منكما وتاب على يدَيكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما ((2)).

[ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن]

وروى أيضاً عن الباقر علیه السلام قال: «ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن؛

ص: 322


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 99.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101.

إعظاماً له، ولا تكلّم محمّدُ بن الحنفيّة بين يدَي الحسين؛ إعظاماً له» ((1)).

* * * * *

إبن شاذان بإسناده عن زاذان، عن سلمان قال: أتيتُ النبي صلی الله علیه وآله فسلّمتُ عليه، ثمّ دخلتُ على فاطمة علیها السلام فسلّمتُ عليها، فقالت: «يا أبا عبد الله، هذان الحسن والحسين جائعان يبكيان، خُذ بأيديهما فاخرج بهما إلى جدّهما». فأخذتُ بأيديهما وحملتُهما حتّى أتيت بهما إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فقال: «ما لكما يا حبيباي؟»، قالا: «نشتهي طعاماً يا رسول الله»، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «اللّهمّ أطعِمْهما» -- ثلاثاً --. قال: فنظرتُ فإذا سفرجلة في يد رسول الله صلی الله علیه وآله شبيهة بقلة من قلال هجر، أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد، ففركها صلی الله علیه وآلهبإبهامه فصيّرها نصفين، ثمّ دفع نصفها إلى الحسن وإلى الحسين نصفها، فجعلتُ أنظر إلى النصفين في أيديهما وأنا أشتهيها، فقال لي: «يا سلمان، أتشتهيها؟»، فقلت: نعم يا رسول الله. قال: «يا سلمان، هذا طعامٌ من الجنّة، لا يأكله أحدٌ حتّى ينجو من النار والحساب، وإنّك لَعلى خير» ((2)).

* * * * *

روى عبد الحميد بن ميكائيل، عن يوسف بن منصور، بإسناده عن

ص: 323


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101.
2- ([1]) مئة منقبةٍ لابن شاذان: 161 م 87.

عائشة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله جائعاً لا يقدر على ما يأكل، فقال لي: «هاتي رداي»، فقلت: أين تريد؟ قال: «إلى فاطمة ابنتي، فأنظرُ إلى الحسن والحسين فيذهب بعض ما بي من الجوع». فخرج حتّى دخل على فاطمة علیها السلام، فقال: «يا فاطمة أين ابناي؟»، فقالت: «يا رسول الله، خرجا من الجوع وهما يبكيان». فخرج النبي صلی الله علیه وآله في طلبهما، فرأى أبا الدرداء، فقال: «يا عويمر، هل رأيت ابنَيّ؟»، قال: نعم يا رسول الله، هما نائمان في ظلّ حائط بني جدعان. فانطلق النبي، فضمّهما وهما يبكيان وهو يمسح الدموع عنهما، فقال له أبو الدرداء: دعني أحملهما، فقال: «يا أبا الدرداء، دعني أمسح الدموع عنهما، فوَالّذي بعثني بالحق نبيّاً لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في أُمّتي إلى يوم القيامة». ثمّ حملهما وهما يبكيان وهو يبكي، فجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا محمّد، ربّ العزّة (جلّ جلاله) يقرئك السلام ويقول: «ما هذا الجزع؟»،فقال النبي صلی الله علیه وآله : «يا جبرئيل، ما أبكي جزعاً، بل أبكي من ذلّ الدنيا». فقال جبرئيل: إنّ الله (تعالى) يقول: «أيسرّك أن أُحوّل لك أُحُداً ذهباً ولا ينقص لك ممّا عندي شي ء؟»، قال: «لا»، قال: لمَ؟ قال: «لأنّ الله (تعالى) لم يحبّ الدنيا، ولو أحبّها لَما جعل للكافر أكملها». فقال جبرئيل علیه السلام: يا محمّد، ادعُ بالجفنة المنكوسة الّتي في ناحية البيت. قال: فدعا بها، فلمّا حُملت فإذا فيها ثريد ولحمٌ كثير، فقال: كُلْ يا محمّد، وأطعِم ابنيك وأهل بيتك. قال: فأكلوا فشبعوا، قال: ثمّ أرسل بها إليّ، فأكلوا وشبعوا وهو على حالها، قال: ما رأيتُ جفنةً أعظم بركةً منها، فرفعت عنهم، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «والّذي بعثَني بالحقّ،

ص: 324

لو سكتُّ لَتداولها فقراء أُمّتي إلى يوم القيامة» ((1)).

[إمساك ابن عبّاس الركاب لهما]

في حديث مدرك بن أبي زياد، قلت لابن عبّاس وقد أمسك للحسن والحسين بالركاب وسوّى عليهما: أنت أسنُّ منهما، تمسك لهما بالركاب! فقال: يا لُكَع، وما تدري مَن هذان؟ هذان ابنا رسول الله، أوَليس ممّا أنعم الله به علَيّ أن أُمسِك لهما وأُسوّي عليهما؟ ((2))

[إستجار مذنبٌ بهما فأطلقه النبي صلی الله علیه وآله]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: عن محمّد بن علي علیه السلام أنّه قال: «أذنب رجلٌ ذنباً في حياة رسول الله، فتغيَّب، حتّى وجد الحسن والحسين في طريقٍ خالٍ فأخذهما، فاحتملهما على عاتقَيه وأتى بهما النبي، فقال: يا رسول الله، إنّي مستجيرٌ بالله وبهما! فضحك رسول الله حتّى ردّ يده إلى فمه، ثمّ قال للرجل: اذهب وأنت طليق، وقال للحسن والحسين: قد شفّعتُكما فيه أي فتيان. فأنزل الله (تعالى): {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ

ص: 325


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 309.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 13 / 239.

تَوَّابًا رَحِيمًا}» ((1)) ((2)).

* * * * *

وفي (التحفة): عن الأربعين، رُوي أنّ أمير المؤمنين كان جالساً في البيت، وأجلس الإمام الحسن على فخذه الأيمن والإمام الحسين على فخذه الأيسر، وكان عمر أحدهما أربع سنين والآخر أقلّ من ذلك، فالتفت أمير المؤمنين إلى الحسين فقال له: «يا بُني، قل: واحد»، فقال: «واحد»، فقال: «قل: إثنان»، قال: «أستحي أن أقول باللسان الّذي قلتُ واحد: اثنان! فالاثنان شرك، والشرك كفر، والكفر خالدٌ في النار، والتوحيد مقام المؤمنين الموحّدين، ومحلّ أهل الإيمان الجنّة خالدين فيها». فلمّا سمعه أمير المؤمنين أُعجب به إعجاباً شديداً وقبّل وجهه، ثمّ قال الإمام الحسين علیه السلام: «يا أبة أتحبّنا؟»، قال: «نعم يا بُني»، قال:«يا أبتاه، حبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حبّ الله وحبّ الأولاد». فتعجّب أمير المؤمنين من كلامه، فوضعه على الأرض، وتوجّه إلى النبي صلی الله علیه وآله فروى له ما قاله الحسين علیه السلام، فقبّل النبيُّ وجه الحسين علیه السلام وقال: «حبّكم مِن حبّ الله ((3)) وفي طوله» ((4)) ((5)).

ص: 326


1- ([1]) سورة النساء: 64.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 100، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 117 ح 1061.
3- ([1]) عبارة المؤلّف هي: (وقال: «حبّكم صوريّ، وحبّ الله معنوي»).
4- ([2]) تحفة المجالس: 190 المقصد 5 المعجزة 5.
5- ([3]) روى الميرزا النوريّ في (المستدرك: 15 / 215) مجموعة الشهيد: قيل: لمّا كان العبّاس وزينب ولدَيّ علي علیهم السلام صغيرين، قال علي علیه السلام للعباس: «قُل: واحد»، فقال: واحد، فقال: «قل: اثنان»، قال: أستحي أن أقول باللّسان الّذي قلتُ واحد: اثنان. فقبّل عليٌّ علیه السلام عينَيه، ثمّ التفت إلى زينب -- وكانت على يساره والعبّاس عن يمينه --، فقالت: يا أبتاه أتحبّنا؟ قال: «نعم يا بني، أولادنا أكبادنا»، فقالت: يا أبتاه، حُبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حبّ الله وحبّ الأولاد، وإن كان لابدّ لنا فالشفقة لنا والحبّ لله خالصاً. فازداد عليٌّ علیه السلام بهما حبّاً. وقيل: بل القائل الحسين علیه السلام.

[أعرابيٌّ ضلّ بعيره فدلّه عليه]

أيضاً عن عبد الله بن عبّاس قال: كنتُ جالساً عند الحسين علیه السلام، فجاءه أعرابي وقال: ضلّ بعيري وليس لي غيره، وأنت ابن رسول الله، أرشِدْني إليه. فقال: «إذهب إلى موضع كذا، فإنّه فيه، وفي مقابله أسد». فذهب إلى ذلك الموضع فوجده كما قال علیه السلام ((1)).

* * * * *

قال الحسن البصري: كان يُجالسنا شيخٌ نصيب منه ريحالقطران، فسألناه عن ذلك، فقال: إنّي كنتُ فيمن منع الحسين بن عليٍّ عن الماء، فرأيتُ في منامي كأنّ الناس قد حُشروا، فعطشتُ عطشاً شديداً، فطلبت الماء، فإذا النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام على الحوض،

ص: 327


1- ([4]) إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 591 ح 85، تحفة المجالس: 190 المقصد 5 المعجزة 6.

فاستسقيتُ من رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال: «اسقوه»، فلم يسقني أحد، فقال ثانياً، فلم يسقني أحد، فقال ثالثاً، فقيل: يا رسول الله، إنّه ممّن منع الحسين من الماء! فقال: «اسقوه قطراناً». فأصبحتُ أبول القطران، ولا آكلُ طعاماً إلّا وجدتُ منه رائحة القطران، ولا أذوق شراباً إلّا صار في فمي قطراناً ((1)).

قال الحسن: فصرفتُه واعتذرتُ منه أن يجالسنا بعد ذلك، فما مرّ زمانٌ حتّى مات.

[رُفع إلى السماء لتزوره الملائكة]

في كتاب (مرآة الجنان): رُوي أنّ فاطمة؟عها؟ أقبلت إلى أبيها رسول اللَّه صلی الله علیه وآله باكيةً في المسجد وهي تقول: «يا أبة، وضعتُ الحسين علیه السلام في مهده وأخذتُ في طحن الحَبّ ساعة، فافتقدتُه ولم أجده في مهده». فهبط الأمين جبرائيل وقال: يا رسول اللَّه، أبلغ فاطمة السلام وقل لها: فلتقرّ عينها، فإنّ الحسين علیه السلام لم يُصبْه شي ء، وهو من المقرَّبين. فقال رسول اللَّه صلی الله علیه وآله: «وأين الحسين علیه السلام»، قال جبرائيل: لمّا هبطتُ وهبط معي جماعةٌ من الملائكة لنهنّئك بولادة الحسين، وعرجوا إلى السماء، افتخروا على سائر الملائكة بأنّهم قدزاروا الحسين، فقالت الملائكة: يا ربّنا، ائذن لنا في زيارة

ص: 328


1- ([1]) مقتل الحسین علیه السلام للخوارزمي: 2 / 103.

الحسين علیه السلام. فأمرني اللَّه (تعالى) أن أرفع الحسين علیه السلام إلى السماء لتزوره الملائكة، فرفعتُه، وزارته الملائكة وابتهجب بذلك، والآن رددتُه وهو في مهده في مئة ألفٍ من الروح والراحة والنور والسرور. فلمّا سمعَت فاطمة ذلك ابتهجت وسُرّت غاية السرور، فرجعت من ساعتها إلى البيت فوجدته نائماً في المهد كأنّه البدر ليلة تمامه وكماله، فاحتضنته وقبّلَته، وشكرت الله (تعالى) وقالت: «{الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» ((1)) ((2)).

[إستشار الحسينَ في الزواج فخالفه]

رُوي أنّ رجلاً صار إلى الحسين علیه السلام، فقال: جئتُك أستشيرك في تزويجي فلانة. فقال: «لا أُحبّ ذلك». وكانت كثيرة المال، وكان الرجل أيضاً مُكثِراً، فخالف الحسين فتزوّج بها، فلم يلبث الرجل حتّى افتقر، فقال له الحسين علیه السلام: «قد أشرتُ إليك، فخلِّ سبيلها؛ فإنّ الله يعوّضك خيراً منها»، ثمّ قال: «وعليك بفلانة فتزوّجْها». فما مضت سنة حتّى كثر مالُه، وولدت له ذكراً

ص: 329


1- ([1]) سورة فاطر: 34.
2- ([2]) تحفة المجالس: 203 المقصد الخامس، معالي السبطين للحائري: 1 / 83 الفصل 1 المجلس 2.

وأُنثى، ورأى منها ما أحبّ ((1)).

[سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في يده]

عن زيد بن أرقمٍ قال: سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في كفّ رسول الله صلی الله علیه وآله ، فوضعها في يد الحسن بن عليٍّ علیه السلام فسبّحن كما سبّحنَ في كفّه، ثمّ وضعها في كفّ الحسين علیه السلام فسبّحن في كفّه، وكلّ مَن حضر من الصحابة أخذ الحصيّات ولم يسبّحن في أيديهم، فسُئل علیه السلام عن ذلك، فقال: «الحصى لا يسبّحنَ إلّا في كفّ نبيٍّ أو وصيّ نبي» ((2)).

[قصّة أحد ملوك بني مروان نذر أن يقتل زوّار الحسين]

في (تحفة المجالس) أيضاً أنّ أحد ملوك بني مروان نذر إن رزقه الله ولداً يقتل زوّار الحسين أينما ثَقِفهم، فشاء الله أن يرزقه ولداً، ولكنّ الأجل لم يمهله ليفي بنذره، فأوصى إلى ولده بذلك، فلمّا كبر ولده بلّغوه بالوصيّة، فعزم على قتل كلّ مَن يزور الحسين علیه السلام أينما وجده.

وفي ذات ليلةٍ رأى في الرؤيا كأنّ القيامة قامت، وكانت مجاميع من الملائكة الغِلاظ الشِّداد يأخذون جماعةً يجرّونهم جرّاً عنيفاً إلى جهنّم،

ص: 330


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 248، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 182.
2- ([2]) إثبات الهداة للحرّ العاملي: 4 / 24 ح 20.

ويعرضونهم واحداً واحداً على النبي صلی الله علیه وآلهفيذكرون ذنوبهم بالتفصيل، فيأمر بهم النبي صلی الله علیه وآله إلى جهنّم.

ثمّ جاؤوا برجلٍ إلى النبي صلی الله علیه وآله فذكروا قبائحه وذنوبه، فكانت ذنوبُه تفوق ذنوب العاصين جميعاً، ولم تبقَ معصيةٌ إلّا ارتكبها ولا نهيٌ إلّا خالفه، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «إنّ صحيفته سوداء، ولم يترك ذنباً إلّا اقترفه ولا سيّئةً إلّا أتى بها، فهو من الهالكين، لولا أنّ له حالاً لا تعلمونه أنتم حرّمه الله بها على النار». قالوا: يا رسول الله، وما هو حاله الّذي لا نعلمه نحن؟! قال: «مرّ هذا الرجل بأرض كربلاء، فأصاب جسمه شيئاً من غبارها، وقد حرّم الله النار على جسمٍ أصابه غبار تراب كربلاء». قالت الملائكة: يا رسول الله، إنّه مذنبٌ عظيم الذنب، ندخله في عينٍ فنغسل عنه غبار كربلاء ثمّ نُلقيه في جهنّم! قال النبي صلی الله علیه وآله: «إذا غسلتم عنه غبار كربلاء، فإنّه نظر إلى قبر ولدي الحسين علیه السلام، والنظرة لا تُغسَل ولا تُمحى من عينه، فكيف تلقونه في جهنّم؟ وكيف تحرقه النار؟». فخلّت ملائكة العذاب عنه، واستقبلته ملائكة الرحمة فأدخلوه الجنّة بغير حساب.

فاستيقظ ابن السلطان فَزِعاً مرعوباً من نومه، فعزم على التوبة، وقصد كربلاء زائراً، وصار يُرغّب الناس في زيارة سيّد الشهداء علیه السلام، ويخدم زوّار الحسين علیه السلام خدمةً عظيمة ويرعاهم رعايةً حميمة، وبقيَ كذلك ما دام

ص: 331

حيّاً ((1)).* * * * *

في الكتاب المذكور أيضاً: إذا قامت القيامة وجمع الله الخلائق في المحشر، أُعطيَ لكلٍّ كتابه بيده، إن كان فيه الحسنات فرح واستبشر، وإن كان فيه السيّئات خجل منه فندم على ما صنع، فيأتيه النداء من بين يديه ومن خلفه: «يا ملائكة العذاب، خُذوه إلى نار جهنّم». فيبقى متحيّراً بينهم لا يستطيع كلاماً ولا يردّ جواباً، فإذا النداء من قِبل الله (تعالى): «قِفوا يا ملائكتي بهذا العبد؛ فإنّ له عندي أمانة». يأمر الله العزيز الغفّار أن «اعطوا الأمانة لهذا العبد الحيران المذنب، فأنا أشتري منه هذه الدرّة بأغلى ثمنٍ دون قيمة».

قال: فيقول الله (تعالى) للملائكة: «اجمعوا كلّ الأنبياء والأوصياء حتّى يقوّموا هذه الدرّة بأحسن قيمةٍ وأغلى ثمن». قال: فعند ذلك تجمع الملائكة الأنبياء والأوصياء، فيأتي النداء من قِبل الله (تعالى): «يا ملائكتي، اعطوا هذه الدرّة لآدم الصفيّ يقوّمها لعبدي المذنب»، فيقدِم آدم علیه السلام ويأخذ الدرّة ويقول: «إلهي وسيّدي، أنت الكريم الغفّار ذو الجلال والإكرام، قيمة هذه الدرّة أن تكفيه وتُنجيه من نار جهنّم وعرصاتِ الموقف وأهواله»، فيقول الله (جلّ جلاله): «يا آدم، قليل ما قوّمتها، يا ملائكتي أعطوها لنوح النبيّ يقوّمها»، فيحضر لها نوح علیه السلام فيقول: «إلهي يا كريم يا غفّار، قيمتها أن تكفي صاحبها شرّ

ص: 332


1- ([1]) تحفة المجالس: 210 المقصد 5 خاتمة المطلب الأوّل.

الحساب والعقاب، وعطش القيامة وتبعاتها، وتنجيه من جميع أحوالها»، فيأتيه الجواب من قِبل الله (تعالى): «يا نوح، قليل ما قوّمتها به»، فيأمر الله (تعالى) بإحضار خليله إبراهيم علیهالسلامأن يقوّم الدرّة، قال: فيقول إبراهيم علیه السلام: «إلهي وسيّدي، أنت القادر الكريم الرحيم، قيمتها أن تسهّل على صاحبها أهوال القيامة، وتجعله في ظلّ عرشك، وتُسكنه في جِنانك، وتعطيه من كرمك».

قال: فلم يبقَ نبيٌّ ولا وصيٌّ ولا ملَكٌ مقرَّب إلّا وقوّمها، فيقول الله (تعالى): «قليل ما قوّمتموها به، وما هذه قيمتها»، إلى أن ينتهي النبيّون إلى خاتم الأنبياء وسيّد أهل السماوات والأرض محمدٍ صلی الله علیه وآله سيّد الأنبياء والمرسلين، فيأتيه النداء من قِبل الله (تعالى): «يا محمّد، أنت قوّم هذه الدرّة لهذا العبد العاصي بثمنٍ غالٍ أغلى ما يكون، فأنا أشتريها بها منه»، فعندها يقول رسول الله صلی الله علیه وآله : «يا ربّ، أسألك وأنت العالم بنطقي، ثمّ هذه الدرّة الّتي أمرتَني أن أقوّمها لهذا العبد العاصي من أين أتته؟ ومن أين حصلَت له؟ وفي أيّ كسبٍ رزقتَه إيّاها؟»، فيقول الله (تعالى): «يا حبيبي يا محمّد، اعلمْ أنّ هذا العبد العاصي قد مرّ على جماعةٍ وهم جالسون يذكرون مصاب الحسين علیه السلام ، ويبكون ويندبون عليه، وينوحون على ما أصابه من القتل والضرب والنهب والسلب والأسر وصلب الرؤوس في أسنّة الرماح، وشهرة نسائه في كلّ بلدةٍ ومكان، وبكى على تقييد ولده وقُرّة عينه عليّ بن الحسين السجّاد زين العابدين، فبكى حتّى خرج من عينه الدموع، وأمرتُ ملائكتي أن ينتفوا دموعه من خدّيه كلّما جرت قطرة، فصوّرتها بقوّتي وقدرتي هذه الدرّة، وأمرتُ الملائكة أن يحفظوها، وجعلتُها ذخراً له وسبباً لنجاته في

ص: 333

هذا اليوم، فقوّمها يا حبيبي يا رسول الله صلی الله علیه وآله ».فلمّا تمّ الكلام من العزيز العلّام خرّ النبي صلی الله علیه وآله ساجداً وقال: «يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدين، ويا غافر المذنبين، أنت أكرم الأكرمين، ورحمتك سبقَت غضبَك على المذنبين، إذا كان هذا العبد العاصي حصل هذه الدرّة الّتي لا نظير لها في دار الدنيا، وقد وجدتَ عند هذا العاصي بسبب بكائه على ولدي الحسين بن علي بن أبي طالب وابن بنتي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وأنت قد تشفقّتَ عليه بها، وأنت تريد أن تشتريها منه بأغلى ثمن، فيتباهى بالحسين بن علي، فأرسلْ له بأن يحضر في هذا المكان، ودَعْه هو يقوّمها لهذا العبد العاصي كما هو حصّلها بسببه، كذلك هو يقوّمها له وهو يعرف ثمنها غاية المعرفة».

فعند ذلك يأتي النداء من قِبل الله (تعالى): «يا ملائكتي، أحضِروا لي عبدي وحبيبي وقرّة عين نبيّي أبا عبد الله الحسين، ليقوّم هذه الدرّة لهذا العبد العاصي، حتّى أغفر له وأُدخله جنّتي عِوض ما حزن وبكى على مصابه وجرت دموعه لأجله، فصوّرتُ دموعه هذه الدرّة من فضلي، وجعلتُها سبباً لنجاته من النار، فقوّمْها يا أبا عبد الله، فإنّه من أهل النار، وكان قد عمل عمل أهل النار مدّة حياته».

فلمّا سمع الحسين علیه السلام هذا الكلام، نظر إلى العبد وهو واقفٌ بين يدَي الملائكة الغِلاظ الشداد، وينظر إلى الدرّة وصنعها، فيقول لذلك العبد: «لا تخفْ ولا تحزنْ ولا تجزع، وأبشِر -- وهو خجلان --، فأْتوني بها ملائكةَ الله»، وإذا هي صرّةٌ من الحرير أخضر من سندس الجنّة معقودة، فيحلّ عقدها، فيراها

ص: 334

درّةً في غاية الصفاء ونهاية الضياء، لم يوجَد مثلها في خزائنالملوك والسلاطين، ولا ملكها أحدٌ من المخلوقين، فيتعجّب كلُّ مَن يراها. فيأتيه النداء من قِبل الله (تعالى): «بِعْها على عبدي بأغلى ثمن، فأنا أشتريها منك، فإنّك حصّلتها في دار الدنيا من دموع عينك وبكائك على الحسين الشهيد العطشان، نور عين رسول الله وابن وليّه ووصيّه وناصره، وسرور فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وتأمّلتَ في ذلك المجلس، وبكيتَ وحزنت، وخرجَت من عيونك الدموع، فإنّي أمرتُ الملائكة أن يحفظوها بقوارير الجنّة، ولا يضيّعوا منها شيئاً حتّى أُجازيك بها يوم القيامة، فأنا الربّ الكريم الغفّار، كرامةً لابن الرسول الأوّاب، وابن ساقي يوم الحساب عليّ بن أبي طالب».

فعند ذلك يأمر الله الحسين علیه السلام فيقول له: «قوّم هذه الدرّة لهذا العبد الزائر والباكي عليك بثمنٍ غال»، فيقول الحسين علیه السلام: «يا ربّ، قيمة هذه الدرّة أن تُنجي صاحبَها من جميع الأهوال، والعبور على الصراط، وتدفع عنه كلّ عذابٍ وحسابٍ وعطش، وقيمتها أن تسقيه من حوض الكوثر شربةً لا ظمأ بعدها، وتدخله الجنّة، وتجعل قصره مجاوراً لقصري ولمن أنفق ماله وأتعب نفسه وزار قبري وأحبّني وأقام عزائي وذكري وذكر قتلي ومصيبتي». فيأتي الجواب من الله (تعالى): «يا حسين، إنّي قبلتُ ما ذكرت، وأعطيتُك ما تريد، فافعل ما شئت، فأنت الشافع وابن الشافع له ولمن تريد». والحمد لله ربّ العالمين ((1)).

ص: 335


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 67، تحفة المجالس: 216 المقصد 5 المطلب 2.

* * * * *

في الكتاب المذكور: كان في بغداد رجلٌ ثريّ فاسق فاجر خمّار، أتلف عمره في الأعمال القبيحة وارتكاب الذنوب، فلمّا حضرته الوفاة أوصى أن يجهَّز بعد الموت ويغسَّل ويكفَّن ويصلّى عليه، ثمّ يُنقَل جثمانُه إلى النجف ليدفَن في جوار أمير المؤمنين علیه السلام؛ لعلّ الله يهبه لأمير المؤمنين ويغفر ببركته ذنوبه ويعفو عنه ويشمله برحمته. أوصى وصيّته ثم سلّم روحه إلى بارئها، فبادر أقرباؤه وأرحامه القريبين منه إلى تنفيذ وصيّته، فجهّزوه وعزموا على حمل جنازته إلى النجف الأشرف.

في تلك الليلة رأى بعض خدّام حرم أمير المؤمنين علیه السلام في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام جالساً في ضريحه، ثمّ دعا جميع الخدّام وقال لهم: «غداً صباحاً يأتي جماعةٌ بجنازة رجلٍ فاسق، فامنعوهم من دفنه في النجف؛ فإنّ ذنوبه بعدد الرمل والحصى وأوراق الشجر وقطرات المطر».

قال الإمام علیه السلام ذلك ثمّ اختفى، فلمّا أصبح الصباح حضر جميعُ الخدم، فحدّث بعضهم البعض ما رأى في عالم الرؤيا، فتبيّن أنّهم جميعاً رأوا نفس الرؤيا، فحملوا جميعاً العصيّ والحجارة وخرجوا إلى سور البلد ينتظرون الجنازة، فمضت مدّةً طويلةً ولم تأتِ الجنازة، فتعجّبوا من تخلّفها، وكانوا يفكّرون في سبب التأخير وعدم تحقّق الرؤيا.

وكان من قضاء الله وقدره أن تاهت الجماعة القادمة مع الجنازة وضلّت الطريق في ظلمة الليل البهيم، فلم يشعروا إلّا أنّهم في صحراء كربلاء، فباتوا

ص: 336

هناك حتّى أصبح الصباح، توجّهوا إلى النجف الأشرف، فلمّا جنّ الليل رأى خدّام الروضة العلويّة المقدّسة أمير المؤمنين فيالرؤيا مرّةً ثانية، فدعاهم جميعاً وقال لهم: «إذا أصبح الصباح اخرجوا لاستقبال الجنازة الّتي منعتكم البارحة من دفنها عندي، فأكرموها واحترموها، واتركوها مدّةً في الروضة عند الضريح، ثمّ ادفنوها في أفضل مكان».

فتعجّبوا من سماع هذا الكلام من الإمام، وكيف نهاهم البارحة عن دفنها عنده وهو اليوم يأمر بإكرامها ودفنها في أفضل مكان؟! وعرضوا ذلك على الإمام علیه السلام وسألوه عن سبب ذلك، فقال: «تاه المشيّعون البارحة، فمرّوا بكربلاء، فأصاب الجنازةَ من غبار كربلاء، فغفر الله له جميع ذنوبه وعفا عنه، وشملَه برحمته الواسعة ببركة تربة كربلاء، إكراماً لولدي الحسين علیه السلام».

فلمّا أصبح الصباح خرج الخدّام جميعاً خارج المدينة، فاستقبلوا الجنازة وحملوها معزّزةً مكرّمةً محترمة، حتّى دخلوا بها إلى الروضة المقدّسة، ثمّ دفنوها في أفضل مكان، وحدّثوا المشيّعين بما جرى وما رأوا جميعاً ((1)).

ص: 337


1- ([1]) تحفة المجالس: 218 المقصد 5 المطلب 3.

ص: 338

الفصل التاسع: في بيان حديث المفضّل

روى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب (منتخب البصائر)، عن المفضّل بن عمر ((1)) قال: سألتُ سيّدي أبا عبد الله الصادق علیه السلام، قال: «حاش لله أن يوقّت له وقت [وقتاً] أو توقّت شيعتنا». قال: قلت: يا مولاي، ولمَ ذلك؟ قال: «لأنه هو الساعة الّتي قال الله (تعالى) فيها: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا»، وقوله: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» ((2))، وقوله: «عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» ((3)

ص: 339


1- ([1]) للحديث المرويّ في (المختصر) و(البحار) والمتن عن (المختصر) تتمّة في (الهداية الكبرى)، لذا نقلنا النصّ من (الهداية) باعتبار أنّه عنون الباب به، فربّما لم تتوفر نسخة (الهداية) عنده، ولما في التتمة من ثمرات وفوائد عظيمة.
2- ([2]) سورة الأعراف: 187.
3- ([3]) سورة لقمان: 34.

ولم يقل أحدٌ دونه، وقوله: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ»((1))، وقوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» ((2))، وقوله: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا» ((3)).. «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» ((4))».

قلت: يا مولاي، ما معنى «يُمَارُون»؟ قال: «يقولون: متى وُلد؟ ومَن رآه؟ وأين هو؟ وأين يكون؟ ومتى يظهر؟ كلّ ذلك استعجالاً لأمر الله وشكّاً في قضائه وقدرته، أُولئك الّذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وإنّ للكافرين لشَرّ مآب».

قال المفضّل: يا مولاي، فلا يُوقَّت له وقت؟! قال: «يا مفضّل، لا توقّتْ؛ فمَن وقَّتَ لمهديّنا وقتاً فقد شارك الله في علمه، وادّعى أنّه يُظهره على أمره، وما لله سرٌّ إلّا وقد وقع إلى هذا الخلق المنكوس الضالّ عن الله الراغب عن أولياء الله، وما لله خُزانةٌ هي أحصن سرّاً عندهم أكبر من جهلهم به، وإنّما ألقي قوله إليهم لتكون لله الحجة عليهم».

قال المفضّل: يا سيّدي، فكيف بدو ظهور المهديّ (إليه التسليم)؟ قال:

ص: 340


1- ([1]) سورة محمّد صلی الله علیه وآله: 18.
2- ([2]) سورة القمر: 1.
3- ([3]) سورة الأحزاب: 63.
4- ([4]) سورة الشورى: 18.

«يا مفضّل، يظهر في سنةٍ يكشف لستر أمره، ويعلو ذكره، ويُنادى باسمه وكنيته ونسبه، ويكثر ذلك في أفواه المحقّين والمبطلين والموافقين والمخالفين، لتلزمهم الحجّة لمعرفتهم به على أنّنا نصصنا ودللنا عليه ونسبناه وسمّيناهوكنّيناه، سميّ جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وكنيته، لئلّا يقول الناس: ما عرفنا اسمه ولا كناه ولا نسبه! والله لَيحقن الإفصاح به وباسمه وكنيته على ألسنتهم، حتّى يكون كتسمية بعضهم لبعض، كلّ ذلك للزوم الحجّة عليهم، ثمّ يُظهر الله كما وعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله في قوله (عزّ من قائل): «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((1))».

قال المفضّل: قلت: وما تأويل قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»؟ قال: «هو قول الله (تعالى): «قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ» ((2))، كما قال الله؟عز؟: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» ((3)).. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» ((4))».

قال المفضّل: فقلت: يا سيّدي، والدين الّذي أتى به آدمُ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد هو الإسلام؟ قال: «نعم يا مفضّل، هو الإسلام لا غير».

ص: 341


1- ([1]) سورة التوبة: 33.
2- ([2]) سورة البقرة: 193.
3- ([3]) سورة آل عمران: 19.
4- ([4]) سورة آل عمران: 85.

قلت: فنجده في كتاب الله؟ قال: «نعم، مِن أوّله إلى آخره، وهذه الآية منه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»، وقوله عزوجل: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» ((1))، وفي قصّة إبراهيم وإسماعيل: «وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةًمُسْلِمَةً لَكَ» ((2))، وقوله في قصّة فرعون: «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ((3))، وفي قصّة سليمان وبلقيس قالت: «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((4))، وقول عيسى للحواريّين: «مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ((5))، وقوله (تعالى): «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ((6))، وقوله في قصّة لوط: «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ((7))، ولوط قبل إبراهيم، وقوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا» وإلى

ص: 342


1- ([5]) سورة الحج: 78.
2- ([1]) سورة البقرة: 128.
3- ([2]) سورة يونس: 90.
4- ([3]) سورة النمل: 44.
5- ([4]) سورة آل عمران: 52.
6- ([5]) سورة آل عمران: 83.
7- ([6]) سورة الذاريات: 36.

قوله: «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ((1))، وقوله: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ» إلى قوله: «إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ((2))».

قال المفضّل: يا مولاي، كم الملل؟ قال: «يا مفضّل، الملل أربعة، وهي الشرائع». قال المفضّل: يا سيّدي، المجوس لمَ سُمّوا مجوساً؟ قال: «لأنهم تمجّسوا في السريانية، وادّعوا على آدموابنه شيث هبة الله أنّه أطلق لهم نكاح الأُمّهات والأخوات والعمّات والخالات والبنات والمحرّمات من النساء، وأنّه أمرهم أن يصلّوا للشمس حيث وقفت من السماء، ولم يجعلوا لصلاتهم وقتاً، و إنّما هو افتراءٌ على الله الكذب وعلى آدم وشيث». قال المفضّل: يا سيّدي، فلمَ سُمّوا قوم موسى اليهود؟ قال: «لقول الله عنهم: «هُدْنَا إِلَيْكَ» ((3))، أي: أهديتنا إليك». قال: والنصارى لمَ سُمّوا نصارى؟ قال: «لقول عيسى: يا بني إسرائيل، «مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ» ((4))، فتسمّوا نصارى لنصرة دين الله». قال المفضّل: ولمَ سمّوا الصابئون؟ قال: «لأنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والملل والشرائع، وقالوا: كلّ ما جاء به هؤلاء باطل! وجحدوا توحيد الله، ونبوّةَ الأنبياء والرسل والأوصياء، فهم بلا شريعةٍ ولا كتابٍ ولا رسول،

ص: 343


1- ([7]) سورة البقرة: 136.
2- ([8]) سورة البقرة: 133.
3- ([1]) سورة الأعراف: 156.
4- ([2]) سورة آل عمران: 52.

وهم معطّلة العالَم».

قال المفضّل: يا سيّدي، ففي أيّ بقعةٍ يظهر المهدي؟ قال الصادق علیه السلام: «لا تراه عينٌ بوقت ظهوره، ولا رأته كلّ عين، فمَن قال لكم غير هذا فكذّبوه!».

قال المفضّل: يا سيّدي، وفي أيّ وقتٍ ولادته؟ قال: «بلى، وبل والله لا يُرى من ساعة ولادته إلى ساعة وفاة أبيه، سنتين وسبعة أشهر، أوّلها وقت الفجر من ليلة يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلت من شهر شعبان، لثمان ليالٍ خلت من شهر ربيع الأول، من سنة ستّين ومئتين، ثمّ يُرى بالمدينة الّتي تُبنى بشاطئالدجلة، بناها المتكبّر الجبّار المسمّى باسم جعفر العيار، المتلقّب المتوكّل، وهو المتأكّل (لعنه الله)، يدعو [يدعى] مدينة سامرّا ستّة سنين، يرى شخصه المؤمن المحقّ ولا يرى شخصه المشكّ [الشاكّ] المرتاب، وينفذ فيها أمره ونهيه، ويغيب عنها، ويظهر بالقصر بصاريا بجانب حرم مدينة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، فيلقاه هناك المؤمن بالقصر، وبعده لا تراه كلّ عين».

قال المفضّل: يا سيّدي، فمَن يخاطبه؟ ولمن يخاطب؟ قال الصادق محمّد بن نصير: «في يوم غيبته بصاريا، ثمّ يظهر بمكّة، والله يا مفضّل كأنّي أنظر إليه وهو داخلٌ مكّة، وعليه بُردة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وعلى رأسه عمامة صفراء، وفي رجله نعل رسول الله المخصوفة، وفي يده هراوة يسوق بين يديه عنوزاً عجافاً، حتّى يقبل بها نحو البيت، وليس أحد يوقّته، ويظهر وهو شابّ غرنوق».

فقال له المفضّل: يا سيّدي، يعود شابّاً ويظهر في شيعته؟! قال: «سبحان الله، وهل يغرب عليك؟ يظهر كيف شاء وبأيّ صورةٍ إذا جاءه الأمر من الله

ص: 344

(جلّ ذكره)».

قال المفضّل: يا سيّدي، فيمن يظهر وكيف يظهر؟ قال: «يا مفضّل، يظهر وحده، ويأتي البيت وحده، فإذا نامت العيون ووسق الليل نزل جبرائيل وميكائيل والملائكة صفوفاً، فيقول له جبريل: يا سيّدي، قولك مقبول، وأمرك جائز. ويمسح يده على وجهه ويقول: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَاالْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» ((1)). ثمّ يقف بين الركن والمقام، ويصرخ صرخةً ويقول: معاشرَ نقبائي وأهلَ خاصّتي ومَن ذخرهم الله لظهوري على وجه الأرض، ائتوني طائعين. فتورد صيحته عليهم وهم في محاريبهم وعلى فُرشهم، وهم في شرق الأرض وغربها، فيسمعوا صيحةً واحدةً في أُذن رجلٍ واحد، فيجيؤوا نحوه، ولا يمضي لهم إلّا كلمح البصر حتّى يكونوا بين يديه بين الركن والمقام، فيأمر الله النورَ أن يصير عموداً من الأرض إلى السماء، فيستضي ء به كلَّ مؤمنٍ على وجه الأرض، ويدخل عليه نوره في بيته فتفرح نفوسُ المؤمنين بذلك النور، وهم لا يعلمون بظهور قائمنا القائم علیه السلام، ثمّ تصبح نقباؤه بين يديه، وهم ثلاثمئة وثلاثة عشر نفراً بعدد أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله بيوم بدر».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، والاثنان وسبعون رجلاً أصحاب أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام يظهرون معهم؟ قال: «يظهر معهم الحسين بن علي باثني عشر ألف صدّيقٍ من شيعته، وعليه عمامةٌ سوداء».

ص: 345


1- ([1]) سورة الزمر: 74.

فقال المفضّل: يا سيّدي، فنقباء القائم (إليه التسليم) بايعوه قبل قيامه؟ قال: «يا مفضّل، كلّ بيعةٍ قبل ظهور القائم فهي كفرٌ ونفاقٌ وخديعة، لعن الله المبايع لها، بل -- يا مفضّل -- يسند القائم ظهره إلى كعبة البيت الحرام، ويمدّ يده المباركة فتُرى بيضاء من غير سوء، فيقول: هذه يد الله، وعن الله، وبأمر الله. ثمّ يتلو هذه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُاللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا» ((1)). وأوّل مَن يقبّل يده جبريل علیه السلام، ثمّ يبايعه وتبايعه الملائكة ونقباء الحقّ، ثمّ النجباء، ويصبح الناس بمكّة فيقولون: مَن هذا الّذي بجانب الكعبة؟ وما هذا الخلق الّذي معه؟ وما هذه الآية الّتي رأيناها بهذه الليلة ولم نرَ مثلها؟! فيقول بعضهم لبعض: انظروا هل تعرفون أحداً ممّن معه؟ فيقولون: لا نعرف منهم إلّا أربعةً من أهل مكّة وأربعةً من أهل المدينة، وهم فلانٌ وفلان، يعدّونهم بأسمائهم، ويكون ذلك اليوم أوّل طلوع الشمس بيضاء نقيّة، فإذا طلعَت وابيضّت صاح صائحٌ بالخلائق من عين الشمس بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ يسمعه مَن في السماوات والأرض: يا معاشر الخلائق، هذا مهديُّ آل محمّد -- ويسمّيه باسم جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، ويكنّيه بكنيته، وينسبه إلى أبيه الحسن الحادي عشر -- فاتّبعوه تهتدوا، ولا تخالفوه فتضلّوا. فأوّل مَن يلبّي نداءه الملائكة، ثمّ الجنّ، ثمّ النقباء، ويقولون: سمعنا وأطعنا. ولم يبقَ ذو أُذُنٍ إلّا سمع ذلك النداء، وتُقبِل الخلقُ من البدو والحضَر والبرّ والبحر، يحدّث بعضُهم بعضاً، ويفهّم بعضهم بعضاً ما سمعوه في نهارهم بذلك

ص: 346


1- ([1]) سورة الفتح: 10.

اليوم، فإذا زالت الشمس للغروب صرخ صارخٌ من مغاربها: يا معاشر الخلائق، لقد ظهر ربُّكم من الوادي اليابس من أرض فلسطين -- وهو عثمان بن عنبسة الأمويّ مِن وُلد يزيد بن معاوية (لعنهم الله) --، فاتّبعوه تهتدوا، ولا تخالفوه فتضلّوا. فتردّ عليه الجنّ والنقباء قوله ويكذّبونه، ويقولون: سمعنا وعصينا. ولا يبقى ذو شكٍّ ولا مرتابٌ ولا منافق ولاكافر الأصل في النداء الثاني، ويُسنِد القائم ظهره إلى الكعبة ويقول: معاشرَ الخلائق، ألا مَن أراد أن ينظر إلى إبراهيم وإسماعيل فها أنا إبراهيم، ومَن أراد أن ينظر إلى موسى ويوشع فها أنا موسى، ومَن أراد أن ينظر إلى عيسى وشمعون فها أنا عيسى، ومن أراد أن ينظر إلى محمّد صلی الله علیه وآله وأمير المؤمنين آليا فها أنا محمّد، ومَن أراد أن ينظر إلى الأئمّة مِن وُلد الحسين فها أنا هم واحداً بعد واحد، فها أنا هم، فلْينظر إليّ ويسألني، فإنّي نبيٌّ بما نُبّؤوا به وما لم يُنبَّؤوا، ألا مَن كان يقرأ الصحف والكتب فلْيسمع إليّ. ثمّ يبتدء بالصحف الّتي أنزلها الله على آدم وشيث فيقرأها، فتقول أُمّة آدم: هذه والله الصحف حقّاً، ولقد قرأ ما لم نكن نعلمه منها وما أُخفيَ عنّا، وما كان أُسقِط وبُدّل وحُرّف. ويقرأ صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور، فتقول أُمّتهم: هذه والله كما نزلَت، والتوراة الجامعة والزبور التامّ والإنجيل الكامل، وإنّها أضعاف ما قرأنا. ثمّ يتلو القرآن، فيقول المسلمون: هذا والله القرآن حقّاً الّذي أنزله الله على محمّد، فما أُسقِط ولا بُدّل ولا حُرّف، ولعن الله مَن أسقطه وبدّله وحرّفه. ثمّ تظهر الدابّة بين الركن والمقام، فتُكتَب في وجه المؤمن: مؤمن، وفي وجه الكافر: كافر، ثمّ يُقبِل على القائم رجلٌ وجهه إلى قفاه وقفاه إلى صدره، ويقف بين يديه فيقول: أنا وأخي بشير أمرني ملَكٌ من الملائكة أن ألحق بك وأُبشّرك بهلاك السفيانيّ بالبيداء. فيقول له القائم: بيّن قصّتك وقصّةَ أخيك نذير.

ص: 347

فيقول الرجل: كنتُ وأخي نذير في جيش السفيانيّ، فخرّبنا الدنيا من دمشق إلى الزوراء وتركناهم حمماً، وخرّبنا الكوفة، وخرّبنا المدينة وروثت أبغالُنا في مسجد رسول الله،وخرجنا منها نريد مكّة، وعددنا ثلاثمئة ألف رجلٍ نريد مكّة والمدينة وخراب البيت العتيق وقتل أهله، فلمّا صرنا بالبيداء عرسنا بها، فصاح صائح: يا بيداء بيدي بالقوم الكافرين! فانفجرَت الأرضُ وابتلعت ذلك الجيش، فوَاللهِ ما بقيَ على الأرض عِقال ناقة ولا سواه غيري وأخي نذير، فإذا بملَكٍ قد ضرب وجوهنا إلى وراء كما ترانا، وقال لأخي: ويلك يا نذير، أنذر الملعونَ بدمشق بظهور مهديّ آل محمّد، وإنّ الله قد أهلك جيشه بالبيداء، وقال لي: يا بشير، الحقْ بالمهديّ بمكّة فبشّره بهلاك السفيانيّ وتُبْ على يده، فإنّه يقبل توبتك. فيمرّ القائم يده على وجهه فيردّه سويّاً كما كان، ويبايعه ويسير معه».

قال المفضّل: يا سيّدي، وتظهر الملائكة والجنّ للناس؟ قال: «إي والله يا مفضّل، ويخالطونهم كما يكون الرجل مع جماعته وأهله».

قلت: يا سيّدي، ويسيرون معه؟ قال: «إي والله، ولَينزلنّ أرض الهجرة ما بين الكوفة والنجف، وعدد أصحابه ستّة وأربعون ألفاً من الملائكة وستّة آلاف من الجنّ، بهم ينصره الله ويفتح على يده».

قال المفضّل: يا سيّدي، فما يصنع بأهل مكّة؟ قال: «يدعوهم بالحكم والموعظة الحسنة فيطيعونه، ويستخلف فيهم من أهل بيته، ويخرج يريد المدينة». قال المفضّل: يا سيّدي، فما يصنع بالبيت؟ قال: «ينقضه، ولا يدَع منه إلّا القواعد الّتي هي أوّل بيتٍ وُضع للناس ببكّة في عهد آدم، والّذي رفعه إبراهيم

ص: 348

وإسماعيل، وإنّ الّذي بنا بعدهم لا بناه نبيٌّ ولا وصي، ثمّ يبنيه كما يشاء، ويغيّر آثار الظلَمة بمكّة والمدينة والعراقوسائر الأقاليم، ولَيهدمنّ مسجد الكوفة ويبنيه على بنائه الأوّل، وليهدمنّ القصر العتيق، ملعونٌ مَن بناه».

قال المفضّل: يا سيّدي، يُقيم بمكّة؟ قال: «لا، بل يستخلف فيها رجلاً من أهله، فإذا سار منها وثبوا عليه وقتلوه، فيرجع إليهم فيأتوا مهطعين مقنّعي رؤوسهم، يبكون ويتضرّعون ويقولون: يا مهديّ آل محمّدٍ التوبة. فيعظهم وينذرهم ويحذّرهم، ثم يستخلف فيهم خليفةً ويسير عنهم، فيثبون عليه بعده ويقتلونه، فيرجع إليهم فيخرجون إليه مجززين النواصي، ويضجّون ويبكون ويقولون: يا مهديّ آل محمّد، غلبَت علينا شِقوتنا، فاقبل منّا توبتنا يا أهل بيت الرحمة. فيعظهم ويحذّرهم، ويستخلف فيهم خليفة، ويسير فيثبون عليه بعده ويقتلونه، فيرد إليهم أنصاره من الجنّ والنقباء، فيقول: ارجعوا إليهم، لا تبقوا منهم أحداً إلّا مَن وسم وجهه بالإيمان، فلو لا رحمة الله وسعت كلَّ شي ء -- وأنا تلك الرحمة -- لَرجعتُ إليهم معكم، فقد قطعوا الإعذار والإنذار بين الله وبيني وبينهم. فيرجعون إليهم، فوَالله لا يُسلم من المئة منهم واحد، واللهِ ولا من الألف واحد».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، فأين يكون دار المهديّ ومجمع المؤمنين؟ قال: «يكون مُلكه بالكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله مقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلوته الذكوات البيض من الغريَّين».

قال المفضّل: وتكون المؤمنون بالكوفة؟ قال: «إي والله يا مفضّل، لا يبقى مؤمنٌ إلّا كان فيها وجرى إليها، ولَيبلغنّ مربط مجال فرسٍ ألف درهم والله، ومربط

ص: 349

شاةٍ ألف درهم والله، ولَيودّنّ كثيرٌ من الناس أنّهميشترون شبراً من أرض السبيع بواحد ذهب، والسبيع: خطّة من خطط همدان، ولَتصيرنّ الكوفة أربعة وخمسين ميلاً، ولَتخافنّ قصورها كربلا، ولتصيرنّ كربلا معقلاً ومقاماً تعكف فيه الملائكة والمنون، ولَيكوننّ شأنٌ عظيم، ويكون فيها البركات ما لو وقف فيها مؤمنٌ ودعا ربّه بدعوةٍ واحدةٍ لَأعطاه مثل مُلك الدنيا ألف مرّة». ثمّ تنفّس أبو عبد الله وقال: «يا مفضّل، إنّ بقاع الأرض تفاخرَت، ففخرت كعبةُ البيت الحرام على البقعة بكربلاء، فأوحى الله: اسكتي يا كعبة البيت الحرام، فلا تفخري عليها؛ فإنّها البقعة المباركة الّتي نُوديَ موسى منها من الشجرة، وإنّها الربوة الّتي أوت إليها مريم والمسيح، وإنّها الدالية الّتي غُسّل فيها رأس الحسين، وفيها غسلت مريم لعيسى واغتسلت من ولادتها، وإنّها آخر بقعةٍ يخرج الرسول منها في وقت غَيبته، ولَيكوننّ لشيعتنا فيها حياةٌ لظهور قائمنا».

قال المفضّل: يا سيّدي، إلى أين يسير المهدي؟ قال: «إلى مدينة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، فإذا وردها كان له فيها مقامٌ عجيب، يظهر سرور المؤمنين وحزن الكافرين». قال المفضّل: يا سيّدي، ما هو ذلك؟ قال: «يردُ قبر جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا معاشر الخلائق، هذا قبر جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله فيقولون: نعم يا مهديّ آل محمّد. فيقول: مَن معه في القبر؟ فيقولون: ضجيعاه وصاحباه أبو بكرٍ وعمر. فيقول -- وهو أعلم بهم مِن الخلق جميعاً -- : ومَن أبو بكرٍ وعمر؟ وكيف دُفنا من دون كلّ الخلق مع جدّي رسول الله؟ فعسى المدفون غيرهما! فيقولون: يا مهديّ آل محمّد، ما هاهنا غيرهما، وإنّما دُفنا لأنّهما خليفتاه وأبوا زوجتيه. فيقول للخلق بعد ثلاثة أيّام: أخرجوهما. فيخرجاغضَّين طريَّين، لم تتغير خلقتهما، ولم تشحب

ص: 350

ألوانهما، فيقول: هل فيكم رجلٌ يعرفهما؟ فيقولون: نعرفهما بالصفة ونشبّههم، لأن ليس هنا غيرهم. فيقول: هل فيكم أحدٌ يقول غير هذا ويشكّ فيهما؟ فيقولون: لا. فيؤخّر إخراجهما ثلاثة أيّام، ثم ينتشر الخبر في الناس، فيفتتن مَن والاهما بذلك الحديث، ويجتمع الناس، ويحضر المهديّ ويكشف الجدار عن القبرين، ويقول للنقباء: ابحثوا عنهما وانبشوهما. فيبحثون بأيديهم إلى أن يصلوا إليهما، فيُخرجاهما»، قال: «كهيئتهما في الدنيا، فتكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحةٍ يابسةٍ ناخرة، ويُصلبان عليها، فتحيى الشجرة وتنبع وتورِق ويطول فرعها، فيقول المرتابون من أهل شيعتهما: هذا والله الشرف العظيم الباذخ حقّاً، ولقد فزنا بمحبّتهما، ويخسر مَن أخفى في نفسه مقياس حَبّة من محبّتهما. فيحضرونهما ويرونهما، ويفتتنون بهما، وينادي منادي المهدي: كلّ مَن أحبّ صاحبَي رسول الله صلی الله علیه وآله وضجيعيه فلْينفرد. فيجتاز الخلق حزبين: مُوالٍ لهما، ومتبرّئٌ منهما، فيعرض المهديّ عليهم البراءة منهما، فيقولون: يا مهديّ آل محمّد، نحن لا نتبرّأ منهما ولم نعلم أنّ لهما عند الله وعندك هذه المنزلة، وهذا الّذي قد بدا لنا من فضلهما نتبرّأ الساعة منهما، وقد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت من طراوتهما وغضاضتهما وحياة هذه الشجرة بهما؟ بلى والله نتبرّأ منك لنبشك لهما وصلبك إيّاهما. فيأمر ريحاً سوداء فتهبّ عليهم، فتجعلهم كأعجازٍ نخل خاوية، ثمّ يأمر بإنزالهما فينزلان إليه، فيحييان، ويأمر الخلائق بالاجتماع، ثمّ يقصّ عليهم قصص أفعالهما في كل كورٍ ودور، حتّى يقصّعليهم قتل هابيل بن آدم، وجمع النار لإبراهيم، وطرح يوسف في الجُبّ، وحبس يونس ببطن الحوت، وقتل يحيى، وصلب عيسى، وحرق جرجيس ودانيال، وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير

ص: 351

المؤمنين، وسُمّ الحسن، وضرب الصدّيقة فاطمة بسوط قُنفذ، ورفسه في بطنها وإسقاطها مُحسناً، وقتل الحسين، وذبح أطفاله وبني عمّه وأنصاره، وسبي ذراري رسول الله صلی الله علیه وآله ، وإهراق دماء آل الرسول، ودم كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، ونكاح كلّ فرجٍ حرام، وأكل كلّ سُحتٍ وفاحشة وإثم وظلم وجور من عهد آدم إلى وقت قائمنا، كلّه يعدّه عليهم ويلزمهم إيّاه، فيعترفان به، ثمّ يأمر بهما فيقتصّ منهما في ذلك الوقت بمظالم مَن حضر، ثمّ يصلبهما على الشجرة، ويأمر ناراً تخرج من الأرض تحرقهما، ثمّ يأمر ريحاً تنسفهما في اليمّ نسفاً».

قال المفضّل: يا سيّدي، وذلك هو آخر عذابهم؟! قال: «هيهات يا مفضّل، واللهِ لَيردان، ويحضر السيّد محمّد الأكبر رسول الله، والصدّيق الأعظم أمير المؤمنين، وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة إمامٌ بعد إمام، وكلّ مَن محض الإيمان محضاً ومحض الكفر محضاً، وليقتصنّ منهم بجميع المظالم، حتّى إنّهما لَيقتلان كلّ يومٍ ألف قتلة، ويَرِدان إلى ما شاء الله من عذابهما، ثمّ يسير المهديّ إلى الكوفة، وينزل ما بينها وبين النجف، وعدد أصحابه في ذلك اليوم ستّة وأربعون ألفاً من الملائكة وستّة آلاف من الجنّ، والنقباء ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً».قال المفضّل: يا سيّدي، كيف تكون دار الفاسقين الزوراء ((1)) في ذلك

ص: 352


1- ([1]) قال المؤلّف: فسّر غيرُ واحدٍ الزوراءَ ببغداد، ولكن ورد في روضة (الكافي) عن معاوية بن وهب قال: تمثّل أبو عبد الله؟ع؟ ببيت شعر لابن أبي عقب: «ويُنحَر بالزوراء منهم لدى الضحى ثمانون ألفاً مثل ما تُنحر البدن» [و روى غيره: البزل]. ثمّ قال لي: «تعرف الزوراء؟»، قال: قلت: جُعلت فداك، يقولون: إنّها بغداد. قال: «لا»، ثمّ قال علیه السلام : «دخلتَ الريّ؟»، قلت: نعم، قال: «أتيت سوق الدوابّ؟»، قلت: نعم، قال: «رأيتَ الجبل الأسود عن يمين الطريق؟ تلك الزوراء، يُقتَل فيها ثمانون ألفاً، منهم ثمانون رجلاً من وُلد فلان، كلّهم يصلح للخلافة»، قلت: ومَن يقتلهم جُعلت فداك؟ قال: «يقتلهم أولاد العجم» (الكافي: 8 / 177 ح 198). وفي (غيبة) النعماني في حديث كعب: ثمّ يظهر بعد غَيبته مع طلوع النجم الأحمر وخراب الزوراء، وهي الري، وخسف المزورة، وهي بغداد، وخروج السفياني، وحرب وُلد العبّاس مع فتيان أرمينية وآذربيجان، تلك حربٌ يُقتَل فيها أُلوفٌ وأُلوف، كلٌّ يقبض على سيفٍ محلّى، تخفق عليه راياتٌ سود، تلك حربٌ يشوبها الموت الأحمر والطاعون الأغبر (الغيبة للنعماني: 147 ح 4). فلا يبعد -- بناءاً على ما ورد في مضمون هذين الحديث -- أن يكون المراد بالزواء الري (من المتن).

اليوم والوقت؟ قال: «في لعنة الله وسخطه وبطشه تحرقهم الفتن، وتتركهم حِمماً، الويل لها ولمن بها كلّ الويل من الرايات الصفر ومن رايات الغرب ومن كلب الجزيرة ومن الراية التي تسير إليها من كلّ قريبٍ وبعيد، والله لَينزلنّ فيها من صنوف العذاب ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت بمثله، ولا يكون طوفان أهلها إلّا السيف، الويل عند ذلك كلّ الويل لمَن اتّخذها مسكناً، فإنّ المقيم بها لشقائه، والخارج منها يرحمه الله. واللهِ يا مفضّل لَيتنافس أمرها في الدنيا -- يعني الكوفة -- حتّى يُقال: إنّها هي الدنيا، وإنّ دورها وقصورها هي الجنّة،وإنّ نساءها هي الحور العين، وإنّ ولدانها الولدان، ولَيظنّ الناس أنّ الله لم يقسّم رزق العباد إلّا بها، ولَتظهر بغداد الزور والافتراء على الله ورسوله، والحكم بغير كتاب وشهادة الزور وشرب الخمر

ص: 353

وركوب الفسق والفجور وأكل السحت وسفك الدماء ما لم يكن في الدنيا إلّا دونه، ثم يخربها الله بتلك الفتن والرايات، حتّى لَيمرّ عليها المارّ فيقول: هاهنا كانت الزوراء».

قال المفضّل: ثمّ ماذا يا سيّدي؟ قال: «ثمّ يخرج الحسني الفتى الصبيح من نحو الديلم، يصيح بصوتٍ فصيح: يا آل أحمد، أجيبوا الملهوف والمنادي من حول الضريح. فتجيبه كنوز الله بالطاقات، كنوزاً وأيّ كنوز، ليست من فضّةٍ ولا من ذهب، بل هي رجالٌ كزبر الحديد، كأنّي أنظر إليهم على البراذين الشهب في أيديهم الحِراب، يتعاوون شوقاً للحرب كما تتعاوى الذئاب، أميرهم رجلٌ من تميم يقال له: شعيب بن صالح، فيقبل الحسنيّ إليهم، وجهه كدارة البدر يريع الناس جمالاً، أنيقاً، فيعفي على أثر الظلمة، فيأخذ بسيفه الكبير والصغير والعظيم والرضيع، ثمّ يسير بتلك الرايات كلّها حتّى يرد الكوفة، وقد صفا أكثر الأرض، فيجعلها معقلاً، ويتّصل به وبأصحابه خبر المهدي علیه السلام، فيقولون: يا ابن رسول الله، مَن هذا الّذي نزل بساحتنا؟ فيقول: اخرجوا بنا إليه حتّى ننظره مَن هو وما يريد. واللهِ ويعلم أنّه المهدي، وأنّه يعرفه، وأنّه لم يرد بذلك الأمر إلّا له، فيخرج الحسني في أمرٍ عظيم، بين يديه أربعة آلاف رجل، وفي أعناقهم المصاحف وعلى ظهورهم المسوح الشعر، يقال لهم: الزيديّة، فيقبل الحسني حتّى ينزل بالقرب من المهدي، ثمّ يقول الرجل لأصحابه: اسألوا عن هذاالرجل مَن هو وما يريد؟ فيخرج بعض أصحاب الحسني إلى عسكر المهدي، ويقول: يا أيّها العسكر الجميل، مَن أنتم؟ حيّاكم الله، ومَن صاحبكم هذا؟ وما تريدون؟ فيقول له أصحاب المهدي: هذا وليّ الله مهديّ آل محمّد، ونحن أنصاره من الملائكة والإنس والجنّ. فيقول أصحاب الحسني: يا سيّدنا،

ص: 354

ما تسمع ما يقول هؤلاء في صاحبهم؟ فيقول الحسني: خلّوا بيني وبين القوم، فأنا هل أتيت على هذا حتّى أنظر وينظروا. فيخرج الحسني من عسكره، ويخرج المهدي علیه السلام، ويقفان بين العسكرين، فيقول له الحسني: إن كنتَ مهديّ آل محمّدٍ فأين هراوة جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله وخاتمه وبردته ودرعه الفاضل وعمامته السحاب وفرسه البرقوع وناقته العضباء وبغلته الدلدل وحماره اليعفور ونجيبه البراق وتاجه السني والمصحف الّذي جمعه أمير المؤمنين علیه السلام بغير تبديلٍ ولا تغيير؟». قال المفضّل: يا سيّدي، فهذا كلّه في السفط؟ قال: «يا مفضّل، وتركات جميع النبيّين، حتّى عصاة آدم، وآلة نوح، وتركة هود وصالح، ومجمع إبراهيم، وصاع يوسف، ومكائيل شعيب وميراثه، وعصا موسى، وتابوت الّذي فيه بقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، ودرع داوود وعصاته، وخاتم سليمان وتاجه، وإنجيل عيسى، وميراث النبيّين والمرسلين، في ذلك السفط، فيقول الحسني: هذا بعض ما قد رأيت، وأنا أسألك أن تغرس هراوة جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله في هذا الحجر الصفا، وتسأل الله أن ينبتها فيها. وهو لا يريد بذلك إلّا أن يُري أصحابه فضل المهدي (إليه التسليم) حتّى يطيعوهويبايعوه، فيأخذ المهدي الهراوة بيده ويغرسها في الحجر، فتنبت فيه، وتعلو وتفرغ [تفرع] وتورق حتّى تظلّ عسكر المهدي والحسني، فيقول الحسني: الله أكبر، مُدّ يدَك يا ابن رسول الله حتّى أُبايعك. فيمدّ يده فيبايعه، ويبايعه سائر عسكر الحسني، إلّا الأربعة آلاف أصحاب المصاحف والمسوح الشعر المعروفين بالزيديّة، فيقولون: ما هذا إلّا سحرٌ عظيم! فتختلط العسكران، ويُقبِل المهدي على الطائفة المنحرفة فيعظهم ويدعيهم [يدعوهم] ثلاثة أيّام، فلم يزدادوا إلّا طغياناً وكفراً، فيأمر بقتلهم، كأنّي أنظر إليهم وقد ذُبحوا على مصاحفهم وتمرّغوا

ص: 355

بدمائهم، فيُقبِل بعض أصحاب المهديّ لأخذ تلك المصاحف، فيقول لهم المهدي: دعوها، تكن عليهم حسرةً كما بدّلوها وغيّروها ولم يعملوا بما فيها».

قال المفضّل: ثمّ ماذا يا سيّدي؟ قال: «ثمّ تثور رجاله إلى سرايا السفياني بدمشق، فيأخذونه ويذبحونه على الصخرة، ثمّ يظهر الحسين علیه السلام في اثني عشر ألف صدّيق واثنين وسبعين رجاله بكربلاء، فيا لك عندها من كَرّةٍ زهراء ورجعة بيضاء، ثمّ يخرج الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين (إليه التسليم)، وتُنصَب له القبّة على النجف وتقام أركانها، ركنٌ بهجر وركن بصنعاء اليمن وركن بطَيبة، وهي مدينة النبي صلی الله علیه وآله ، فكأنّي أنظرُ إليها ومصابيحها تشرق بالسماء والأرض أضوى من الشمس والقمر، فعندها تُبلى السرائر، و«تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» ((1)) -- إلى آخر الآية، ثمّ يظهر الصدّيقالأكبر الأجلّ السيّد محمّد صلی الله علیه وآله في أنصاره إليه ومَن آمن به وصدّق واستُشهد معه، ويحضر مكذّبوه والشاكّون فيه أنّه ساحرٌ وكاهنٌ ومجنون ومعلّم وشاعر وناعق عن هذا ومَن حاربه وقاتله؛ حتّى يقتصّ منهم بالحقّ ويجاوزوا [يجازوا] بأفعالهم من وقت رسول الله صلی الله علیه وآله إلى ظهور المهدي مع إمامٍ إمامٍ ووقتٍ وقت، ويحقّ تأويل هذه الآية: «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ» ((2))»، قال: «ضلالٌ ووبال، لعنهما الله، فينبشا ويحييا».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، فرسول الله أين يكون؟ وأمير المؤمنين؟ قال: «إنّ رسول الله وأمير المؤمنين لابدّ أن يطئا الأرض، واللهِ حتّى يورثاها، إي والله

ص: 356


1- ([1]) سورة الحجّ: 2.
2- ([1]) سورة القصص: 6.

ما في الظلمات ولا في قعر البحار حتّى لا يبقى موضع قدمٍ إلّا وطئاه وأقاما فيه الدين الواصب، واللهِ فكأنّي أنظر إلينا -- يا مفضّل -- معاشر الأئمّة ونحن بين يدَي جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله نشكوا إليه ما نزل بنا من الأُمّة بعده، وما نالنا من التكذيب والردّ علينا وسبّنا ولعننا وتخويفنا بالقتل، وقصد طواغيتهم الولاة لأُمورهم إيّانا من دون الأُمّة، وترحيلنا عن حرمه إلى ديار ملكهم، وقتلهم إيّانا بالحبس وبالسمّ وبالكيد العظيم، فيبكي رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا بَنيّ، ما نزل بكم إلّا ما نزل بجدّكم قبلكم، ولو علمَت طواغيتهم وولاتهم أنّ الحق والهدى والإيمان والوصيّة والإمامة في غيركم لَطلبوه. ثمّ تبتدئ فاطمة علیها السلام بشكوى ما نالهامن أبي بكرٍ وعمر من أخذ فدك منها، ومشيها إليهم في مجمع الأنصار والمهاجرين، وخطابها إلى أبي بكر في أمر فدك وما ردّ عليها من قوله: إنّ الأنبياء لا وارث لهم، واحتجاجها عليه بقول الله عزوجل بقصّة زكريا ويحيى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» ((1))، وقوله بقصّة داوود وسليمان: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ» ((2))، وقول عمر لها: هاتي صحيفتكِ الّتي ذكرتِ أنّ أباكِ كتبها لك على فدك. وإخراجها الصحيفة، وأخذ عمر إيّاها منها ونشره لها على رؤوس الأشهاد من قريش والمهاجرين والأنصار وسائر العرب، وتفله فيها وعركه لها وتمزيقه إيّاها، وبكاءها ورجوعها إلى قبر أبيها صلی الله علیه وآله باكيةً تمشي على رمضاء وقد أقلقتها، واستغاثتها بأبيها وتمثّلها بقول رقيّة بنت صفيّة:

ص: 357


1- ([1]) سورة مريم: 5 و6.
2- ([2]) سورة النمل: 16.

قد كان بعدك أنباء وهينمة***لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطبُ

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختلّ أهلك واختلّت بها الريبُ

أبدى رجالٌ لنا ما في صدورهم***لمّا نأيتَ وحالت دونك الحجبُ

لكلّ قومٍ لهم قربى ومنزلةٌ***عند الإله عن الأدنين مقتربُ

يا ليت بعدك كان الموتُ حلّ بنا***أملوا أُناس ففازوا بالّذي طلبوا

يا ليت بعدك كان الموتُ حلّ بنا***أملوا أُناس ففازوا بالّذي طلبوا

وتقصّ عليه قصّة أبي بكر، وإنفاذ خالد بن الوليد وقنفذ وعمر جميعاً لإخراج أمير المؤمنين علیه السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة، واشتغال أمير المؤمنين، وضمّ أزواج رسول الله وتعزيتهن، وجمع القرآن وتأليفه، وإنجاز عداته، وهي ثمانون ألف درهم باع فيها تالده وطارفه وقضاها عنه، وقول عمر له: اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون من البيعة لأمر أبي بكر، فما لك أن تخرج عمّا اجتمعنا عليه، فإن لم تفعل قتلناك! وقول فضّة جارية فاطمة علیه السلام: إنّ أمير المؤمنين عنكم مشغول، والحقّ له لو أنصفتموه واتّقيتم الله ورسوله. وسبّ عمر لها، وجمع الحطب الجزل على النار لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفضّة، وإضرامهم النار على الباب، وخروج فاطمة علیها السلام وخطابها لهم من وراء الباب، وقولها: ويحك يا عمر، ما هذه الجرأة على الله ورسوله؟! تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه، وتطفئ نور الله، والله متمّ نوره. وانتهاره لها، وقوله: كفّي يا فاطمة، فلو أنّ محمّداً حاضر والملائكة تأتيه بالأمر والنهي والوحي من الله، وما علَيّ إلّا كأحد المسلمين، فاختاري إن شئتِ خروجه إلى بيعة أبي بكر، وإلّا أُحرقكم بالنار جميعاً. وقولها له: يا شقيّ عَدِي، هذا رسول الله لم يبل له جبين في قبره ولا مسّ

ص: 358

الثرى أكفانه. ثمّ قالت وهي باكية: اللّهمّ إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك، وارتدادَ أُمّته، ومنعهم إيّانا حقّنا الّذي جعلتَه لنا في كتابك المنزل على نبيّك بلسانه. وانتهار عمر لها وخالد بن الوليد، وقولهم: دعي عنكِ يا فاطمة حماقة النساء، فكم يجمع الله لكم النبوّة والرسالة [الخلافة]. وأخذ النار في خشب الباب، وأدخل قنفذ (لعنه الله) يده يروم فتح الباب، وضرب عمر لها بسوط أبي بكر على عضدها حتّى صار كالدملج الأسود المحترق، وأنينها من ذلك وبكاها، وركل عمر الباب برجله حتّى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستّة أشهر وإسقاطها، وصرختها عند رجوع الباب، وهجوم عمر وقنفذ وخالد، وصفقة عمر على خدّها حتّى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر، وهي تجهر بالبكاء تقول: يا أبتاه يا رسول الله، ابنتك فاطمة تُضرَب ويُقتَل جنين في بطنها وتصفق يا أبتاه، ويسقف خدّ لما لها كنت تصونه من ضيم الهوان يصلإليه من فوق الخمار، وضربها بيدها على الخمار لتكشفه، ورفعها ناصيتها إلى السماء تدعو إلى الله، وخروج أمير المؤمنين من داخل البيت محمرّ العينين دائر الحدقتين حاسراً، حتّى ألقى ملاءته عليها وضمّها لصدره، وقال: يا ابنة رسول الله، قد علمتِ أنّ الله بعث أباكِ رحمةً للعالمين، فالله الله أن تكشفي أو ترفعي ناصيتكِ، فوَاللهِ يا فاطمة لئن فعلتِ ذلك لا يُبقي الله على الأرض مَن يشهد أنّ محمّداً رسول الله، ولا موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا نوح [نوحاً] ولا آدم، ولا دابّةً تمشي على وجه الأرض ولا طائراً يطير في السماء إلّا هلك. ثمّ قال إلى ابن الخطّاب: لك الويل كلَّ الويل بالكيل من يومك هذا وما بعده وما يليه، اخرُجْ قبل أن أُخرِج سيفي ذا الفقار فأفني غابر الأُمّة. فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمان ابن أبي بكر وصاروا مِن خارج الدار، فصاح أمير المؤمنين بفضّة: إليكِ

ص: 359

مولاتك، فأقبِلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة، وردّه [ردّ] الباب فسقطت [فأسقطت] محسناً عليه قتيلاً. وعرفت أمير المؤمنين (إليه التسليم)، فقال لها: يا فضّة، لقد عرفه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وعرفني، وعرف فاطمة، وعرف الحسن، وعرف الحسين اليوم بهذا الفعل، ونحن في نور الأظلّة أنوارٌ عن يمين العرش، فوارِيه بقعر البيت، فإنّه لاحقٌ بجدّه رسول الله صلی الله علیه وآله. وتشكو حمل أمير المؤمنين لها في سواد الليل، والحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم إلى دور المهاجرين والأنصار، يذكّره بالله ورسوله وعهده الّذي بايعوا الله ورسوله عليه في أربع مواطن في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله ، وتسليمهم عليه بإمرة المؤمنين جميعهم، فكلٌّ يعِدُه النصرة ليومه المقبل، فلمّا أصبح قعد جمعُهم عنده. ثمّ يشكو إليه أمير المؤمنين المحَن السبعة الّتي امتُحن بها بعده، ونقضَ المهاجرين والأنصار قولهم لمّا تنازعت قريش في الإمامة والخلافة، قد منع لصاحب هذا الأمر حقّه، فإذا مُنع فنحن أَولى به من قريش الّذين قتلوا رسول الله صلی الله علیه وآله وكبسوه في فراشه حتّى خرج منهم هارباً إلى الغار إلى المدينة، فآويناه ونصرناه وهاجرنا إليه، فقالت الأنصار، حتّى قال من الحزبين: منّا أميرٌ ومنكم أمير. فأقام عمر أربعين شاهداً قسّامةً شهدوا على رسول الله زوراً وبهتاناً أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: الأئمّة من قريش،فأطيعوهم ما أطاعوا الله، فإن عصوا فالحوهم لحيَ هذا القضيب. ورميَ القضيب من يده، فكانت أوّل قسّامة زورٍ شهدت في الإسلام على رسول الله صلی الله علیه وآله ، وإن رقبوا الأمر إلى أبي بكر وجاؤوا يدعوني إلى بيعته، فامتنعتُ إذ لا ناصر لي، وقد علم الله ورسوله أن لو نصرني سبعةٌ من سائر المسلمين لما وسعني القعود، فوثبوا علَيّ وفعلوا بابنتك يا رسول الله ما شكيتُه إليك، وأنت أعلم به، ثمّ جاؤوا بي فأخرجوني من داري مُكرَهاً، وثلبوني، وكان مِن

ص: 360

قصّتي فيهم مثل قصّة هارون مع بني إسرائيل، وقولي كقوله لموسى: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ((1))، وقوله: «يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» ((2))، فصبرتُ محتسباً راضياً، وكانت الحجّة عليهم في خلافي ونقض عهدي الّذي عاهدتَهم عليه يا رسول الله، واحتملتُ ما لم يحتمل وصيٌّ من نبيٍّ من سائر الأنبياء والأوصياء في الأُمم، حتّى قتلوني بضربة عبد الرحمان بن ملجم، وكان الله الرقيب عليهم في نقضهم بيعتي، وخروج طلحة والزبير بعائشة إلى مكّة يظهران الحجّ والعُمرة، وسَيرهم بها ناقضين لبيعتي إلى البصرة، وخروجي إليهم وتخويفي إيّاهم بما جئتُ به يا رسول الله من كتاب الله، ومقامهم على حربي وقتالي، وصبري عليهم وإعذاري وإنذاري، وهم يأبون إلّا السيف، فحاكمتُهم إلى الله بعد أن ألزمتُهم الحجّة، فنصرني اللهُ عليهم بعد أن قتل أكابر المهاجرين والأنصار والتابعين بالإحسان، وهرقت دماء عشرين ألف [ألفاً] من المسلمين، وقطعت سبعون كفّاً على زمام الجمَل من سبعين رئيساً، كلّما قُطعَت كفٌّ قبض عليه آخر، ثمّ لقيت من ابن هند معاوية بن صخر أدهى وأمرّ ممّا لقيتُ في غزواتك يا رسول الله بعدك من أصحاب الجمل، على أنّ حرب الجمل كان أشنع الحرب الّتي لقيتُها وأهولها وأعظمها، فسرتُ من دار هجرتي الكوفة إلى حرب معاوية، ومعيسبعمئة من أنصارك يا رسول الله وأربعة من دونه في ديوانك، ولها

ص: 361


1- ([1]) سورة الأعراف: 150.
2- ([2]) سورة طه: 94.

ستّين [ستّون] ألف رجلٍ من أهل العراقَين الكوفة والبصرة وأخلاط الناس، فكان بعون الله وعلمك يا رسول الله جهادي بهم وصبري عليهم، حتّى إذا وهنوا وتنازعوا وتفاشلوا مكر بأصحابي ابن هند وشانئك الأبتر عمرو، ورفع المصاحف على الأسنّة، ونادى: يا إخواننا من الإسلام، ندعوكم إلى كتاب الله وإلى الحكومة، ونصون دماءنا ودماءكم. وأصغى أهلُ الشبهات والشكوك والظنون ومَن في قلبه مرضٌ مِن أصحابي إلى ذلك، وقالوا بأجمعهم: لا يحلّ لنا قتال مَن دعانا إلى كتاب الله. وقلتُ لهم ما قد علمته، وأنت يا رسول الله علّمتَني إياه مِن علم الله أنّ القوم لم يرفعوا المصاحف إلّا عند رهبهم وظهورنا عليهم، فأبى المنافقون من أصحابي إلّا الكفّ عنهم وترك قتالهم، فوعظتُهم وحرّضتُهم وحفظتهم، وبيّنت لهم أمرهم وأنّها حيلة عليهم، فرموا أسلحتهم، واجتمعوا أصحاب معاوية في زهاء عشرين ألفاً، وقالوا لي كلمة رجلٍ واحد: دعْنا نُحاكِم القوم إلى كتاب الله. فقلت لهم: على أنّني أحكم به منكم ومن معاوية. فقال معاوية: لا يحكم عليٌّ ولا أحكم به، فإنّه لا يرضى ولا أرضى، ولا يسلّم إليّ ولا أُسلّم إليه. فقلت إلى ابني الحسن: الصر لا شككت في نفسي، وفضلت ابني علَي، فقالوا لي: ابنك أنت وأنت ابنك، فقلت: عبد الله بن العبّاس، فقالوا: لا يحكم بيننا مضريّ! واختاروا علَيّ وليَ الاختيار عليهم، وتحكّموا وأنا الحاكم، وقالوا: إن لم ترضَ نحكّم مَن نشاء أخذنا الّذي فيه عيناك. ثمّ اختاروا أن يحكّموا، يكتبوا إلى عبد الله بن قيس الأشعري، وهو منعزلٌ عنّا، فسيّروه وقدّموه، وتركوا معاوية قد حكّم عمراً، ورضوا هم بعبد الله بن قيس الأشعري، وحكموا بما أرادوا، ووصفوا عبد الله بن قيس بالفضل، والجبلة عباء عن مكر عمرو ما كانت إّلا مواطأةً وخدعةً أظهرها عمرو [و] عبد الله، فزعموا أنّ عبد الله عزلني، وأنّ عمراً أثبت

ص: 362

معاوية وألزموني عند قعود جمعهم عنّي واجتماعهم وأهل الشام، وإن كتبت بيني وبين معاوية إلى أجلٍ معلوم، وانكفأت معصياً غير مطاع إلى الكوفة، أظهر لعني معاوية على منابر الشام وسائر أعماله، ولُعنتُ أنا وابناك يا رسول الله، الحسن والحسين، وعبد الله بن العبّاس وعمّاربن ياسر ومالك الأشتر شهد أيام بني أُميّة كلّهم على المنابر وفي جوامع الصلاة ومساجدها وفي الأسواق وعلى الطرق والمسالك جهراً لا سرّاً، وخرج علَيّ المارقون من أصحابي المطالبون لي بالتحكيم يوم المصاحف، فقالوا: قد غيّرتَ وكفرت، وبدّلتَ وخالفتَ الله في تركنا ورأينا وإجابتك لنا، إلى أن حكمنا عليك الرجال. فكان لي ولهم بحروراء موقف دفعتُ لهم فيه عن قتالهم، وأنظرتهم حولاً كاملاً، ثمّ خرجتُ بعد انقضاء الهدنة أُريد معاوية بمن أطاعني من المسلمين، فخرج أصحابي المارقون علَيّ بالنهروان، فلقوا رجلاً من صلحاء المسلمين وعبّادهم ومَن قاتل معي يوم الجمل وصفّين، يقال له: عبد الله ابن خبّاب، وذبحوه وزوجته وطفلاً له على دم خنزير، وقالوا: ما ذبحنا هؤلاء وهذا الخنزير إلّا واحد، وهذا فعلنا بعليٍّ وسائر أصحابه، حتّى يُقرّ أنّه قد كفر وغيّر وبدّل، ثمّ يتوب ونقبل توبته. فعدلتُ إليهم وخاطبتُهم بالنهروان، فاحتجّوا علَيّ واحتججتُ عليهم، فكان احتجاجهم باطلاً وكان احتجاجي حقّاً».

قال الحسين بن حمدان: ويعيد أمير المؤمنين احتجاجهم عليه واحتجاجه عليهم على رسول الله صلی الله علیه وآله، فلم أعده، لأنّ شرحه قد تقدّم.

ورجع الحديث إلى قول الصادق علیه السلام للمفضّل، قال: «يقول أمير المؤمنين علیه السلام: والله يا رسول الله ما رضوا بتكذيبي ونقض بيعتي والخلاف علَيّ وقتالي واستحلال دمي ولعني قروا، فإنّي أمرت الأُمّة بما أمرتَني به من تربيع الأظافير،

ص: 363

ونهيتهم عن تدويرها، فذكروا أنّي إنّما ربعتها لأنّي أتسلّق على مشارب أزواجك يا رسول الله فآتي منهنّ الفاحشة، وكنتُ أبيع الخمر بعهدك وبعدك، وكنت أغل الفي ء في جميع غزواتك وأستبدّ به دونك ودون المسلمين، ولم يبقوا عضيهةً ولا شبهةً ولا فاحشةً إلّا نسبوها إلي، وزعموا أنّي لو استحقّيتُ الخلافة لَما قدّمت علَيّ في حياتك أبا بكرٍ فيالصلاة، ولقد علمتَ يا رسول الله أنّ عائشة أمرت بلالاً -- وأنت في وعك مرضك --، وقد نادى بلال في الصلاة، فأسرعَت كاذبةً عليك يا رسول الله فقالت: إنّ رسول الله يأمرك أن تقدّم أبا بكر، فراجع بذلك بلال، وكلٌّ يقول له مثل قولها، فرجع بلال إلى المسجد فقال: إنّ مُخبراً أخبرني عن رسول الله صلی الله علیه وآله أنّه أمر بتقديمك يا أبا بكر في الصلاة. ورجعت عائشة من الباب نكرت، وقلت لها يا رسول الله: ويلكِ يا حُميراء! ما الّذي جنيت؟ أمرتِ عنّي بتقديم أبيك في الصلاة! فقالت: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. فقمتَ ويدك اليمنى علَيّ واليسرى على الفضل بن العبّاس، معجِّلاً لا تستقرّ قدماك على الأرض، حتّى دخلتَ المسجد ولحقت أبا بكرٍ قد قام مقامك في الصلاة، فأخرجتَه وصلّيتَ بالناس، فوالله لقد تكلّم المنافقون بفضل أبي بكر حتّى تقدم للصلاة بعهدك يا رسول الله، فاحتججتُ عليهم لمّا أظهروا ذلك بعد وفاتك، فلم أدَعْ لهم فيها اعتلالاً ولا مذهباً ولا حجّة ينقلون بها، وثنيت وقلت: إن زعمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله من تقديم أبي بكر في الصلاة لأنّه أفضل الأُمّة عنده، فلما خرجه عن فضل ندبه إليه، وإن زعمتُم أنّ رسول الله أمر بذلك وهو مثقل عن النهضة، فلما وجد الحقّ فسارع فلم يسعه القعود؟ فالحجّة عليك في إسقاط أبي بكر! وإن زعمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أوقفه عن يمينه دون الصفوف، فقد كان رسول الله صلی الله علیه وآله وأبو بكر إمام المسلمين في تلك الصلاة، فهذا لا يكون، وإن

ص: 364

زعمتُم أنّه أوقفه عن شماله، فقد كان أبو بكر إمام رسول الله، لأنّ الإمام إذا صلّى برجلٍ واحدٍ فمقامه عن يمينه لا عنشماله، وإن زعمتم أنّه أوقفه بينه وبين الصفّ الأول، فقد كان رسول الله إمام أبي بكر، وأبو بكر إمام المسلمين، وهذا الأمر لا يكون، ولا يقوم رجلٌ واحدٌ في الصلاة إلّا إمام الصلاة، وإن زعمتم أنّه أقامه في الصف الأول، فما فضله على جميع الصف الأول؟ وإن زعمتم أنّ رسول الله أقامه في الصف الأول مسمعاً فيه التكبير في الصلاة، لأنه كان في حال ضيقه من العلّة لا يسمع سائر مَن في المسجد، فقد كفّرتم أبا بكر وحبطتم عمله؛ لأنّ الله عزوجل يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ» ((1)). والله ما ذاك يا رسول الله إلّا أنّني لم أجد ناصراً من المسلمين على نصرة دين الله، ولقد دعوتُهم كما أخبرتكم الموفّقة فاطمة أنّني حملتُها وذريتها إلى دور المهاجرين والأنصار، أُذكّرهم بأيام الله وما أخذته عليهم يا رسول الله بأمر الله من العهد والميثاق لي في أربعة مواطن، وتسليمهم علَيّ بإمرة المؤمنين بعهدك، فيعدوني النصرة ليلاً ويقعدون عنّي نهاراً، حتّى إذا جاءني ثقات أصحابك باكين استنهضوني ويقولون على أنّهم أنصاري على إظهار دين الله، امتحنتهم بحلق رؤوسهم وإشهار سيوفهم على عواتقهم ومسيرهم إلى باب داري، فتأخّر جمعهم عنّي، فما صحّ لي منهم إلّا ثلاث نفر، وآخر لم يتمّ حلق رأسه ولا أشهر سيفه، وهم والله أحبابك وأنجابك وأصحابك، وهم: سلمان والمقداد وأبو ذرّ وعمّار الّذي لم يتمّ حلق رأسه ولا أشهر سيفه، ولَأُخرجتُ

ص: 365


1- ([1]) سورة الحُجُرات: 2.

مكرهاً إلى سقيفة بني ساعدة أُقاد إليها كما تُقاد صعبة الإبل، فلم أر لي ولا ناصراً إلّا الزبير بن العوّام، فإنّه شهر سيفه في أوساطهم وعضّ على نواجذه، وقال: والله لا غمدتُه أو تقطَّع يدي، أما ترضون أن غصبتم عليّاً حقّه ونقضتم عهده وعهد الله ومبايعتكم له، حتّى جئتم به يبايعكم؟! فوثب عمر وخالد وتمام أربعين رجلاً، كلّاً يجتهد في أخذ السيف من يده، وطرحوه إلى الأرض صريعاً، وأخذوا السيف من يده، فلمّا انتهوا بي إلى عتيق وردتُ على موردٍ لم يسعني معه السكوت بعد أن كظمتُ غيظي وحفظتُ نفسي وربطتُ جأشي، وقلت للناس جميعاً: إنّما أنا فريضة فرضها الله طاعتي ورسوله صلی الله علیه وآله على الأُمّة، فإذا نقضوا عهد الله ورسوله وخالفَتني الأُمّة لم يكن علَيّ أن أدعوهم إلى طاعتي ثانية وما لي فيهم ناصرٌ ولا معين. وصبرتُ كما أدّبني الله بما أدّبك يا رسول الله في قوله (جلّ مِن قائل): «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» -- الآية ((1))، وقوله: «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ» ((2))، وحقّ يا رسول الله تأويل هذه الآية الّتي أنزلها في الأُمة من بعدك في قوله (عزّ من قائل): «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ((3))».

قال المفضّل: يا سيّدي فما تأويل هذه الآية: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ

ص: 366


1- ([1]) سورة الأحقاف: 35.
2- ([2]) سورة النحل: 127.
3- ([3]) سورة آل عمران: 144.

عَلَى أَعْقَابِكُمْ»؟ فإنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّ الله لا يعلم بموت عبدٍ ولا بقتل، وبعضهم يقول: أفإن مات محمّدٌ أو قُتل بما يموت به العالم على ثبت. قال الصادق علیه السلام: «لو ردّوا ما لا يعلمونه إلينا ولم يفتروا فيه الكذب ولم يتأوّلوه من عند أنفسهم، لَبيّنّا لهم الحقّ فيه. يا مفضّل، إنّ الله عالمٌ لا بعلم، وإنّما تأويل الآية: إن مات أو قُتِل بما يموت به العالم، فإنّهما ميتتان لا ثالثة لهما، الموت بلا قتل والقتل بالسيف، وبما يُقتَل به من سائر الأشياء، أما ترى أنّ الأُمّة ارتدّت ونقضت وغيّرت وبدّلت بين موت رسول الله صلی الله علیه وآله وقتل أمير المؤمنين علیه السلام، ثمّ جرى الآخرون كما جرى الأولون؟».

قال الحسين بن حمدان: وقصّ أمير المؤمنين على رسول الله قصصاً طويلة، لم أعدها لئلّا يطول شرح الكتاب.

وعاد الحديث إلى الحسن علیه السلام.

روى المفضّل عن الصادق، قال: «ويقوم الحسن إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا جدّاه، كنتُ مع أمير المؤمنين بالكوفة في دار هجرته، حتّى استُشهد بضربة عبد الرحمان بن ملجم، فوصّاني بما وصيتَه به يا جدّاه، وبلغ معاوية قتل أبي، فأنفذ الدعيَّ عُبيد الله بن زياد إلى الكوفة في مئةٍ وخمسين ألف مقاتل، وأمره بالقبض علَيّ وعلى أخي الحسين وسائر إخوتي وأهل بيتي وشيعتي وموالينا، وأن يأخذ علينا جميعاً البيعة لمعاوية، فمن تأبّى منّا ضرب عنقه ويُسيّر إلى معاوية رأسه، فلمّا علمتُ ذلك من فعل معاوية خرجتُ من داري ودخلت جامع الصلاة، ورقيت المنبر، واجتمع الناس حتّى لم يبقَ موضع قدمٍ في المسجد، وتكاتفوا حتّى ركب

ص: 367

بعضهم بعضاً، فحمدتُ الله وأثنيت عليه، وقلت: معاشرَ الناس، عفَت الديار ومُحيَت الآثار، وقلّ الاصطبار فلا إقرار على همزات الشياطين والخائنين الساعة، وضحت البراهين وتفصّلت الآيات، وبانت المشكلات، ولقد كنّا نتوقّع إتمام هذه الآية بتأويلها: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ» -- إلى آخر الآية، فقد مات والله جدّي رسولُ الله وأبي علیهما السلام، وصاح الوسواس الخنّاس، ودخل الشكُّ في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتهم السنّة، فيا لها من فتنةٍ صمّاء بكماء عمياء، لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف واليها، ظهرت ظلمة النفاق، وسيرت آيات أهل الشقاق، وتكاملت جيوش أهل العراق المراق بين الشام والعراق، هلمّوا رحمكم الله إلى الإصباح والنور الوضّاح والعالم الجحجاح، إلى النور الذي لا يطفى، والحقّ الذي لا يخفى، يا أيّها الناس تيقّظوا من رقدة الغفلة، ومن برهة الوسنة، وتكاثف الظلمة، ومن نقصان الهمّة، فوَالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة، لئن قام لي منكم عُصبة بقلوبٍ صافية ونيّاتٍ مخلصة لا يكون فيها شوب ولا نفاق ولا نيّة فراق، لَجاهدنا بالسيف قدماً قدماً، ولأصفن من السيف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها، فتكلّموا رحمكم الله. فكأنّما أُلجموا بلجام الصمت، ابن الصرد وبنو الجارود ثلاثة وعمرو بن الحمِق الخزاعي وحجر بن عدي الكندي والطرمّاح بن عطارد السعدي وهاني بن عروة السدوسي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وشدّاد بن عباد الكاهلي ومحمّد بن عطارد الباهلي وتمام العشرين من همدان، فقالوا لي: يا ابن رسول الله، ما نملك غير أنفسنا وسيوفنا، وها نحن بين يديك لأمرك طائعين، وعن رأيك صادرين، مُرنابما شئت. فنظرتُ يمنةً ويسرة، فلم أرَ أحداً غيرهم، فقلت لهم: لي أُسوةٌ بجدّي

ص: 368

رسول الله صلی الله علیه وآله حين عبد الله سرّاً وهو يومئذٍ في تسعة وثلاثين رجلاً، فلمّا أكمل الله له أربعين صاروا في عدة، فأظهر أمر الله، فلو كان معي عدتهم جاهدتُ في الله حقّ جهاده. ثمّ رفعتُ رأسي نحو السماء وقلت: اللّهمّ إنّي قد دعوتُ وأنذرت وصوبت ونبهت، فكانوا عن إجابة الداعي غافلين، وعن نصرته قاعدين، وعن طاعته مقصّرين، ولأعدائه ناصرين، اللّهمّ فأنزِلْ عليهم رجزك وبأسك الّذي لا يُرَدّ عن القوم الظالمين. ونزلتُ عن المنبر، وأمرت أوليائي وأهل بيتي فشدّوا رواحلكم، وخرجتُ من الكوفة راحلاً إلى المدينة، هذا يا جدّاه بعد أن دعوتُ سائر الأُمّة وخاطبتُهم بعد قتل أمير المؤمنين إلى ما دعاهم إليه هو وخاطبهم بعدك يا رسول الله، جارياً على سنّتك ومنهاجك وسنن أمير المؤمنين ومنهاجه في الموعظة الحسنة والترفّق والخطاب الجميل والتخويف بالله والتحذير من سخطه وعذابه والترغيب في رحمته ورضوانه وصفحه وغفرانه لمن وفى بما عاهد عليه الله، ورغّبتهم في نصرة الدين وموافقة الحقّ والوقوف بين أمر الله ونهيه، فرأيتُ أنفُسَهم مريضةً وقلوبَهم نائبةً فاسدة، قد غلب الران عليها، فجاؤوني يقولون: إنّ معاوية قد سيّر سراياه إلى نحو الأنبار والكوفة، وشنّت غاراتُه على المسلمين، وقتل منهم مَن لم يقاتله وقتل النساء والأطفال. فأعلمتُهم أنّه لا وفاء لهم ولا نصر فيهم، وأنّهم قد أسرّوا الدعوة وأخلدوا الرفاهة وأحبّوا الدنيا وتناسوا الآخرة، فقالوا: معاذ الله يا ابن رسول الله أن نكون كما ذكرت، فادعُ لنا اللهبالسداد والرشاد. فأنفذتُ معهم رجالاً وجيوشاً، وعرفتهم أنّهم يجيبون إلى معاوية وينقضون عهدي وبيعتي، ويبيعوني بالخطر اليسير، ويقبلون منهم الرشى والتقليدات، فزعموا أنّهم لا يفعلون، فما مضى منهم أحدٌ إلّا فعل ما أخبرتُهم به من أخذ رشى معاوية وتقليده، ونفذ إليه عادياً فأقضى

ص: 369

مخالفاً، فلما كثرت غارات معاوية في أطراف العراق فجاؤوني فعاهدوني عهداً مجدّداً وبيعةً مجدّدة، وسرتُ معهم من الكوفة إلى المدائن بشاطئ الدجلة، فدسّ معاوية إلى زيد بن سنان أخي جرير بن عبد الله مالاً ورشاه إيّاه على قتلي، فخرج إليّ ليلاً وأنا في فسطاطٍ لي أٌصلّي، والناس نيام، فرماني بحربةٍ فأثبتها بجسَدي، فنبهت العسكر، ورأوا الحربة تهتزّ في أعضائي، وأمرت بطلب زيدٍ (لعنه الله) فخرج إلى الشام هارباً إلى معاوية، فرجعتُ جريحاً وخرجتُ عند قعود الأُمّة عنّي إلى المدينة إلى حرمك يا جدّاه، فلقيتُ من معاوية وسائر بني أُميّة وعراتهم، فأسأل الله أن لا يضيع لي أجره ولا يحرمني ثوابه، ثمّ دسّ معاوية إلى جعدة ابنة محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي (لعنهم الله) فبذل لها مئة ألف درهم، وضمن لها إقطاع عشر قُرىً، وأنفذ إليها سُمّاً سمّتني به فمتّ.

ثمّ يقوم الحسين علیه السلام مخضَّباً بدمائه، فيقبل في اثني عشر ألف صدّيقٍ كلّهم شهداء وقُتلوا في سبيل الله من ذرّيّة رسول الله صلی الله علیه وآله ومن شيعتهم ومواليهم وأنصارهم، وكلّهم مضرَّجون بدمائهم، فإذا رآه رسول الله صلی الله علیه وآله فبكت أهل السماوات والأرض ومَن عليها، ويقف أمير المؤمنين والحسن عن يمينه وفاطمة عن شماله، ويُقبل الحسين ويضمّه رسول الله إلى صدره ويقول: ياحسين، فديتُك، قرّت عيناك وعيناي فيك. وعن يمين الحسين حمزة بن عبد المطّلب، وعن شماله جعفر بن أبي طالب، وأمامه أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، ويأتي محسن مخضّباً بدمه تحمله خديجة ابنة خويلد وفاطمة ابنة أسد -- وهما جدّتاه -- وجمانة عمّته ابنة أبي طالب وأسماء ابنة عميس صارخات، وأيديهن على خدودهنّ ونواصيهنّ منتشرة والملائكة تسترهن بأجنحتها، وأُمّه فاطمة تصيح وتقول: «هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ

ص: 370

تُوعَدُونَ» ((1))، وجبرائيل يصيح ويقول: مظلوم، فانتصر. فيأخذ رسول الله صلی الله علیه وآله محسن [محسناً] على يده ويرفعه إلى السماء وهو يقول: إلهي، صبرنا في الدنيا احتساباً، وهذا اليوم «تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا» ((2))».

قال: ثمّ بكى الصادق وقال: «يا مفضّل، لو قلت عيناً بكت ما في الدموع من ثواب، وإنّما نرجو إن بكينا الدماء أن ثاب به». فبكى المفضّل طويلاً، ثمّ قال: يا ابن رسول الله، إنّ يومكم في القصاص لَأعظم من يوم محنتكم. فقال له الصادق: «ولا كيوم محنتنا بكربلا، وإن كان كيوم السقيفة وإحراق الباب على أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم وفضّة وقتل محسن بالرفسة لَأعظم وأمرّ؛ لأنه أصل يوم الفراش».

قال المفضّل: يا مولاي، أسأل؟ قال: «اسألْ». قال: يا مولاي، «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ». قال: «يا مفضّل، تقولالعامّة: إنّها في كل ّ جنينٍ من أولاد الناس يُقتَل مظلوماً». قال المفضّل: نعم يا مولاي، هكذا يقول أكثرهم. قال: «ويلهم! من أين لهم هذه الآية؟ هي لنا خاصّة في الكتاب، وهي محسن علیه السلام، لأنّه منّا، وقال الله (تعالى): «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((3))، وإنّما هي من أسماء المودّة، فمِن أين إلى كلّ جنينٍ من أولاد الناس؟

ص: 371


1- ([1]) سورة الأنبياء: 103.
2- ([2]) سورة آل عمران: 30.
3- ([1]) سورة الشورى: 23.

وهل في المودّة والقربى غيرنا يا مفضّل؟». قال: صدقتَ يا مولاي، ثمّ ماذا؟ قال: «فتضربُ سيّدةُ نساء العالمين فاطمة يدها إلى ناصيتها وتقول: اللّهمّ أنجِزْ وعدك وموعدك فيمن ظلمني وضربني وجرّعني ثكل أولادي. ثمّ تلبّيها ملائكة السماء السبع وحملة العرش وسكّان الهواء ومَن في الدنيا وبين أطباق الثرى، صائحين صارخين بصيحتها وصراخها إلى الله، فلا يبقى أحدٌ ممّن قاتلنا ولا أحبّ قتالنا وظلمنا ورضي بغضبنا وبهضمنا ومنعنا حقّنا الّذي جعله الله لنا إلّا قُتِل في ذلك اليوم، كلّ واحدٍ ألف قتلة، ويذوق في كلّ قتلةٍ من العذاب ما ذاقه من ألم القتل سائر مَن قُتل من أهل الدنيا، مِن دون من قُتل في سبيل الله فإنّه لا يذوق الموت، وهو كما قال الله عزوجل: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»» ((1)).

قال المفضّل: يا سيّدي، فإنّ مَن يستبشرون [من] شيعتكم مَن لا يُقرّ بالرجعة، وأنّكم لا تكرّون بعد الموت ولا يكرّ أعداؤكم حتّى تقتصّوا منهم بالحقّ! فقال: «ويلهم! ما سمعوا قول جدّنا رسولالله صلی الله علیه وآله وجميع الأئمة علیهم السلام ونحن نقول: مَن لم يُثبِت إمامتنا ويحلّ متعتنا ويقول [يقل] برجعتنا فليس منّا؟ وما سمعوا قول الله (تعالى): «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ((2))؟». قال المفضّل: يا مولاي، ما العذابُ الأدنى وما العذاب

ص: 372


1- ([2]) سورة آل عمران: 169 و170.
2- ([1]) سورة السجدة: 21.

الأكبر؟ قال علیه السلام: «العذاب الأدنى: عذاب الرجعة، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة، الّذي يبدَّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار».

قال المفضّل: يا مولاي، فإمامتكم ثابتةٌ عند شيعتكم، ونحن نعلم أنّكم اختيار الله في قوله: «نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ» ((1))، وقوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» ((2))، وقوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((3)). قال: «يا مفضّل، فأين نحن من هذه الآية؟»، قال: «يا مفضّل قول الله (تعالى): «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ((4))، وقوله: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» ((5))، وقول إبراهيم: «رَبِّ ... اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ» ((6))، وقد علمنا أنّ رسول الله؟ص؟ وأميرالمؤمنين علیه السلام ما عبدا صنماً ولا وثناً ولا أشركا بالله طرفة عين، وقوله: «إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا

ص: 373


1- ([2]) سورة الأنعام: 83.
2- ([3]) سورة الأنعام: 124.
3- ([4]) سورة آل عمران: 33 و34.
4- ([5]) سورة آل عمران: 68.
5- ([6]) سورة الحجّ: 78.
6- ([7]) سورة إبراهيم: 35.

يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ((1))، والعهد هو الإمامة».

قال المفضّل: يا مولاي، لا تمتحنّي ولا تختبرني ولا تبتليني، فمِن علمكم علمت، ومن فضل الله عليكم أخذت. قال: «صدقتَ يا مفضّل، لولا اعترافك بنعمة الله عليك في ذلك لما كنت باب الهدى، فأين -- يا مفضّل -- الآيات من القرآن فيه أنّ الكافر ظالم؟»، قال: نعم يا مولاي، قوله: «الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ((2))، وقوله: الكافرون «هُمُ الفاسِقُوُنَ»، ومَن كفر وفسق وظلم لا يجعله الله للناس إماماً. قال: «أحسنت يا مفضّل، فمِن أين قلت برجعتنا ومقصّرة شيعتنا إنّ معنى الرجعة أن يردّ الله إلينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي؟ ويحهم! متى سلبنا المُلك حتّى يرد إلينا؟». قال المفضّل: لا والله يا مولاي، ما سُلبتُموه ولا سلبوه؛ لأنه مُلك النبوّة والرسالة والوصيّة والإمامة.

قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، لو تدبر القرآنَ شيعتُنا لما شكّوا في فضلنا، أما سمعوا قول الله (جلّ مِن قائل): «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ((3))؟ فأخذ إبراهيمُ أربعة أطيارٍفذبحها وقطّعها، وأخلط [خلط] لحومها

ص: 374


1- ([1]) سورة البقرة: 124.
2- ([2]) سورة البقرة: 254.
3- ([3]) سورة البقرة: 260.

وريشها حتّى صارت قبضةً واحدة، ثمّ قسّمها أربعة أجزاء، وجعلها على أربعة أجبال، ودعاها فأجابته، وأقرّت وأيقنت بوحدانيّة وبرسالة إبراهيم بصورها الأولية. ومثل قوله في كتابه العزيز: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ((1))، وقوله في طوائف من بني إسرائيل: الّذين خرجوا من ديارهم هاربين حذر الموت إلى البراري والمغاور، فحظروا على أنفسهم حظائر، وقالوا: قد حرزنا أنفسنا من الموت، وهم زهاء ثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل، فقال لهم الله موتوا، فماتوا كهيئة نفسٍ واحدة وصاروا رفاتاً، فمرّ عليهم حزقيل ابن العجوز، فتأمّل أمرهم وناجى ربَّه في أمرهم، وقصّ عليه قصّتهم، وقال: إلهي وسيّدي، قد أريتَهم قدرتك أنّك أمتّهم وجعلتهم رفاتاً، فأرهم قدرتك وأن تحييهم حتّى أدعوهم إليك، ووفّقهم للإيمان بك وتصديقي. فأوحى الله إليه: يا حزقيل، هذا يومٌ شريفٌ عظيم القدر، وقد آليتُ به أن لا يسألني مؤمن حاجةً إلّا قضيتُها له، وهو يوم نوروز، فخُذ الماء ورشّه عليهم، فإنّهم يحيون بإذني. فرشّ عليهم الماء، فأحياهم الله بأسرهم، فأقبلوا إلى حزقيل مؤمنين باللهمصدّقين، وهم الّذين قال الله فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ

ص: 375


1- ([1]) سورة البقرة: 259.

الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» ((1))، وقوله في قصّة عيسى: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» ((2)). هذا يا مفضّل ما أقمنا به الشاهد من كتاب الله لشيعتنا ممّا يعرفونه في الكتاب ولا يجهلونه، ولئلّا يقولوا: ألا إنّ الله لا يُحيي الموتى في الدنيا ويردّهم إلينا، ولزمهم الحجّة مِن الله إذا أعطى أنبياءه ورسله الصالحين من عباده، فنحن بفضله علينا أَولى، فأعطانا ما أُعطوا ويزاد عليه. وما سمعوا -- ويحهم -- قول الله (تعالى): «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا»؟» ((3)).

قال المفضّل: يا مولاي، فما تأويل: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا»؟ قال: «والله الرجعة الأُولى، ويوم القيامة العظمى يا مفضّل. وما سمعوا قوله (تعالى): «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» -- الآية ((4))، والله يا مفضّل إنّ تأويل هذه الآية فينا، إنّ فرعون وهامان وجنودهما هم أبو بكر

ص: 376


1- ([1]) سورة البقرة: 243.
2- ([2]) سورة آل عمران: 49.
3- ([3]) سورة الإسراء: 5 و6.
4- ([4]) سورة القصص: 5.

وعمر وشيعتهم».

قال المفضّل: يا مولاي، فالمتعة حلالٌ مطلق، والشاهد بها قوله (تعالى) في النساء المزوّجات بالولادة والشهود: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا» ((1))، أي: مشهوداً، والمعروف هو المستشهد بالولاء والشهود، وإنّما احتاج إلى الوليّ والشهود في النكاح، ليثبت النسل ويصحّ النسب ويستحقّ الميراث، وقوله: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا» ((2))، وجعل الطلاق لا للرجال في المتعة للنساء المزوّجات، لعلّة النساء على غير جائز إلّا بشاهدين عادلين ذوي عدلٍ من المسلمين، وقال في سائر الشهادات على الدماء والفروج والأموال والأملاك: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ» ((3))، وبيّن الطلاق (عزّ ذكره) فقال (تعالى): «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّ-هَ رَبَّكُمْ» ((4))، ولو كانت المطلقة تبين

ص: 377


1- ([1]) سورة البقرة: 235.
2- ([2]) سورة النساء: 4.
3- ([3]) سورة البقرة: 282.
4- ([4]) سورة الطلاق: 1.

بثلاث تطليقات يجمعها كلمة واحدة وأكثر منها وأقل، كما قال الله (تعالى): «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّ-هَ رَبَّكُمْ» إلى قوله: «وَتِلْكَحُدُودُ اللَّ-هِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّ-هِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّ-هَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّ-هِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّ-هِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»، وقوله عزوجل: « لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّ-هَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا» هو نكر يقع بين الزوج والزوجة، فتطلق التطليقة الأُولى بشهادة ذوي عدل، وحرر وقت التطليق وهو آخر القروء، والقروء هو الحيض، والطلاق يجب عند آخر النطفة تنزل بيضاء بعد الحمرة والصفرة أول التطليقة الثانية والثالثة، وما يُحدث الله بينهما عطفاً، وذلك ما كرهاه، وقوله: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّ-هُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّ-هِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّ-هُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ((1))، هذا يقوله تعالى أنّ المبعولة [للبعولة] مراجعة النساء من تطليقة إلى تطليقة إن أرادوا إصلاحاً، وللنساء مراجعة للرجال في مثل ذلك، ثم بيّن (تبارك وتعالى) فقال: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» ((2)) في الثالثة، فإن

ص: 378


1- ([1]) سورة البقرة: 228.
2- ([2]) سورة البقرة: 229.

طلق الثالثة وبانت فهو قوله: «فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» ((1))، ثم يكون كسائر الخطاب، والمتعة التي حلّلها الله في كتابه وأطلقها الرسول عن الله لسائر المسلمينفهي قوله: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّ-هِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّ-هَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» ((2))، والفرق بين المزوجة والممتعة أنّ للمزوجة صداقاً وللممتعة أجرة، فتمتع سائر المسلمين في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله في الحج وغيره وأيام أبي بكر وأربع سنين من أيام عمر، حتّى دخل على أُخته عفراء فوجد في حجرها طفلاً تُرضعه من ثديها، فقال: يا أُختي، ما هذا؟! فقالت له: ابني من أحشائي. ولم تكن متبعّلة، فقال لها: من أين ذلك؟ فقالت: تمتّعت. فكشفَت عن ثديها فنظر إلى درة اللبن في في الطفل فاغتضب، فكشف عن ثديها وأرعد وأربد لونه، وأخذ الطفل على يده مغضباً وخرج ومشى حتى أتى المسجد، فرقي المنبر وقال: نادوا في الناس، في غير وقت الصلاة، فعلم المسلمون أنّ ذلك لأمرٍ يريده عمر، فحضروا، فقال: معاشر الناس من المهاجرين والأنصار وأولاد قحطان، مَن منكم يحبّ أن يرى المحرمات من

ص: 379


1- ([3]) سورة البقرة: 230.
2- ([1]) سورة النساء: 24.

النساء كهذا الطفل قد خرج من بطن أُمّه وسقته لبنها، وهي غير متبعّلة؟ فقال بعض القوم: ما يحبّ هذا يا أمير المؤمنين. فقال: ألستم تعلمون أنّ أُختي عفراء من حنتمة أُمّي وأبي الخطّاب أنها غير متبعّلة؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فإنّي دخلتُ الساعة فوجدتُ هذا الطفل في حجرها، فناشدتها: مِن أين لكِ هذا؟ قالت: ابني من أحشائي، ورأيتُ درّ اللبن من ثديها، فقلت: من أين لكِ هذا؟فقالت: تمتعت! فاعلموا معاشرَ الناس أنّ هذه المتعة كانت حلالاً في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وبعده، وقد رأيتُ تحريمها، فمن أتاها ضربت جنبيه بالسوط. ولم يكن في القوم منكر لقوله ولا رادّ عليه، ولا قائل: أيّ رسولٍ بعد رسول الله، وأيّ كتابٍ بعد كتاب الله عزوجل ولا يقبل خلافك على الله ورسوله وكتابه، بل سلّموا ورضوا.

قال المفضّل: يا مولاي، فما شرائطها؟ قال: «يا مفضّل، سبعون شرطاً، مَن خالف منها شرطاً واحداً أظلم نفسه». قال: فقلت: يا سيّدي، فأعرض عليك ما علمتُه منكم فيها؟ قال الصادق علیه السلام: «قل يا مفضّل، على أنك قد علمت الفرق بين المزوّجة والممتعة بها ممّا تلوتُه عليك». قال: «المزوّجة لها صداقٌ ونحلة، والمتمتّعة أُجرة، فهذا فرق بينهما». قال المفضل: نعم يا مولاي، قد علمتُ ذلك. فقال: «قل يا مفضّل»، قال: يا مولاي، قد أمرتمونا لا نتمتّع بباغيةٍ ولا مشهورة بالفساد، ولا مجنونة أن تدعو المتعة إلى الفاحشة، فإن أجابت قد حرم الاستمتاع بها، تُسأل أفارغة هي أم مشغولة ببعل أم بحمل أم بعدّة، فإن شغلت بواحدة من هذه الثلاثة فلا تحل، وإن حلّت فتقول لها: متّعيني

ص: 380

نفسكِ على كتاب الله وسنّة نبيّه نكاحاً غير مسافح أجلاً معلوماً بأُجرةٍ معلومة، وهي ساعة أو يوم أو يومان أو شهر أو سنة أو ما دون ذلك أو ما أكثر، والأجرة ما تراضيا عليه من حلقة خاتم أو شسع نعال أو شق ثمرة [تمرة] أو إلى ما فوق ذلك من الدراهم والدنانير أو غرض [عرض] ترضى به، فإن وهبت حلّت له كالصداق الموهوب من النساء المزوّجات الّتي قال الله فيهن: «فَإِنطِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا» ((1)).

رجع الحديث إلى تمام الخطبة بالقول: على أن لا ترثني [ترثيني] ولا أرثك، وعلى أنّ الماء مائي أضعه حيث شئت، وعليكِ الاستبراء أربعون يوماً أو محيض أو أجد ما كان من عدد الأيام، فإذا قالت: نعم، أعدت القول ثانية، وعقد النكاح به، فإنما أحببت وهي أحبت الاستزادة في الأجل، وفيه ما رويناه عنكم قولكم: لَإخراجنا فرج [فرجاً] من حرام إلى حرام حلال أحبّ إلينا من تركه على الحرام، ومن قولكم: إذا كانت تعقل قولها فعليها ما تولّت من الأخيار [الإخبار] عن نفسها، ولا جناح عليك. وقول أمير المؤمنين: لعن الله ابن الخطّاب، فلولاه ما زنا إلّا شقي أو شقية؛ لأنه كان يكون للمسلمين غنىً في عمل المتعة عن الزنى. وروينا عنكم أنكم قلتم: أنّ الفرق بين الزوجة والممتَّع بها أنّ للمتمتع أن يعتزل عن المتعة، وليس للمزوج أن يعزل عن الزوجة، إنّ الله قال: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ

ص: 381


1- ([1]) سورة النساء: 4.

الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّ-هَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّ-هُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» ((1))، إنّ في كتاب الله لَكفارة عنكم أنّ من عزل نطفةً من رحم مزوجة فدية النطفة عشر دنانير كفارة، وإنّ في شرط المتعة أنّ المال يضعه حيث يشاء من المتمتَّع بها، فإن وُضعت في الرحم فخُلق منه ولدٌ كان لاحقاً بأبيه.

قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، حدثني أبي عن أبيهعن جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله قال: إنّ الله أخذ الميثاق على ماء أوليائه المؤمنون [المؤمنين] لا يعلق منه فرج من متعة، وأنه أحد محن المؤمن الّذي تبين إيمانه من كفره إذا علق منه فرج من متعة. و قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ولد المتعة حرام، وإنّ الأحرى للمؤمن لا يضيع النطفة في فرج المتعة».

قال المفضل: يا مولاي، فإنّ عبد الله بن الزبير سبّ عبد الله بن العبّاس سبّاً كان فيه قوله: أما ترون رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ويفتي في المتعة، ويقول: إنها حلال! فسمعه عبد الله بن العبّاس، قال لقائده: قف بي على الجماعة الّتي فيها عبد الله بن الزبير. فأوقفه وقال له: يا ابن الزبير، سل أسماء بنت أبي بكر، فإنّها تُنبئك أنّ أباك عوسجة الأسدي استمتع بها ببردتين يمانيتين، فحملت بك، فأنت أوّل مولودٍ في الإسلام من المتعة، وقد قال النبي صلی الله علیه وآله: لا ولد المتعة حرام. فقال

ص: 382


1- ([2]) سورة البقرة: 204 و205.

الصادق علیه السلام: «والله يا مفضّل لقد صدق عبد الله بن العبّاس في قوله لعبد الله بن الزبير».

قال المفضل: قد روى بعض شيعتكم أنكم قلتم: إنّ حدود المتعة أشهر من راية البيطار، وأنكم قلتم لأهل المدينة: هبوا لنا التمتع بالمدينة. قال الصادق: «يا مفضّل، إنما قلنا: هبوا لنا التمتع بالمدينة، وتمتعوا حيث شئتم من الأرض لا خوفاً عليكم من شيعة ابن الخطّاب أن يضربوا جنوبهم بالسياط، فحرزناها باستيائها بها منهم بالمدينة».

قال المفضل: وروت شيعتكم عنكم أنّ محمّد بن سنان الأسدي تمتع بامرأة، فلما تمطاها وجد في أحشائها تركلاً، فرفع نفسه عنهاوقام قلقاً ودخل على جدك علي بن الحسين علیه السلام وقال له: يا مولاي، تمتّعت بامرأةٍ وكان من قصّتي وقصّتها كيت وكيت، قلت: ما هذا التركل؟ فجعلَت رجلها بصدري وقالت لي: قم، فما أنت بأديب ولا بعالم، أما سمعتَ قول الله (تعالى): «لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» ((1))؟ قال الصادق علیه السلام: «هذا سرف من شيعتنا علينا، ومن يكذب علينا فليس منّا، والله ما أرسل رسوله إلّا بالحقّ ولا جاء إلّا بالصدق، ولا يحكي إلّا عن الله ومن عند الله وبكتاب الله، فلا تتّبعوا أهواءكم ولا ترخصوا لأنفسكم فيحرم عليكم ما أحلّ لكم، والله يا مفضّل ما هو إلّا دين الحقّ، وما شرائط المتعة إلّا ما قدّمتُ ذِكره لك، فذر الغاوين وازجر نفسك عن هواها».

ص: 383


1- ([1]) سورة المائدة: 101.

قال المفضل: ثمّ ماذا يا مولاي؟ قال: «ثمّ يقوم زين العابدين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر علیهما السلام فيشكوان إلى جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله ما نالهما من بني أُميّة وما رُوّعا به من القتل، ثمّ أقوم أنا فأشكو إلى جدّي رسول الله ما جرى علَيّ من طاغية الأُمّة الملقَّب بالمنصور، حيث أفضت الخلافة إليه، فإنّه عرضني على الموت والقتل، ولقد دخلتُ عليه وقد رحلني عن المدينة إلى دار ملكه بالكوفة مغسّلاً مكفناً مراراً، فأراه من قدرته ما ردعه عنّي ومنعه من قتلي». قال: «ثمّ يقوم ابني موسى يشكو إلى جدّه رسول الله ما لقيه من الضليل هارون الرشيد وتسييره من المدينة إلى طريق البصرة متجنباً طريق الكوفة؛ لأنه قال: أهل الكوفة شيعة آل محمّد وأهل البصرة أعداؤهم، وقد صدق (لعنه الله). وحدّثنيالباقر عن أبيه عليّ ابن الحسين، يرفعه إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله قال: طينة أُمّتي من مدينتي، وطينة شيعتنا من الكوفة، وطينة أعدائنا من البصرة. ويقصّ فعله وحبسه إياه في دار السنديّ بن شاهك صاحب شرطته بالزوراء، وما يعرض عليه من القتل، وقد تقدم ذكره، وما فعل الرشيد به إلى أن مات».

و رجع الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم عليّ بن موسى علیه السلام فيشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ما نزل به، وتسيير المأمون إياه من المدينة إلى طوس بخراسان من طريق البصرة من الأهواز، ويقصّ عليه قصّته إلى أن قتله بالسم، وقد تقدّم ذكره وما فعل به».

وعاد الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم محمّد بن علي بن موسى علیه السلام ويشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ما نزل به من المأمون، إلى أن قتله بالغلمان»، كما

ص: 384

جاء ذكره.

وعاد الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم عليّ بن محمّد فيشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله تسيير جعفر المتوكّل إياه، وابنه الحسن من المدينة إلى مدينةٍ بناها على الدجلة، تُدعى بسامرا، وما جرى عليه منه إلى أن قتل المتوكل ومات عليّ بن محمّد»، قال: «ويقوم الحسن بن عليّ الحادي عشر من الأئمة علیهم السلام ويشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وما لقيه من المعتز، وهو الزبير بن جعفر المتوكل، ومن أحمد بن فتيان، وهو المعتمد، إلى أنمات الحسن. ويقوم الخامس بعد السابع، وهو المهدي، يشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وكنيته: محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، وعليه قميص رسول الله بدم رسول الله يوم كُسر رباعيّته، والملائكة تحفّه حتى يقف بين يدَي جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله فيقول له: يا جدّاه، نصصتَ علَيّ ودللت، ونسبتني وسميتني، فجحدتني الأُمة أُمّة، الكفر وتمارت فيَّ وقالوا: ما وُلد ولا كان، وأين هو ومتى كان وأين يكون؟ وقد مات وهلك، ولم يعقّب أبوه! واستعجلوا ما أخّره الله إلى هذا الوقت المعلوم، فصبرتُ محتسباً، وقد أذن الله لي يا جدّاه فيما أمر. فيقول رسول الله؟ صلی الله علیه وآله: «الْحَمْدُ لِلَّ-هِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» ((1))، ويقول: قد جاء نصر الله والفتح، وحقّ قوله (تعالى): «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

ص: 385


1- ([1]) سورة الزمر: 74.

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((1))، ويقرأ: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّ-هُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» ((2))»، فقال الصادق علیه السلام: «إنّ الله (تعالى) «عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَ-ٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُالْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» ((3))، وكذلك يا مفضّل لما أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم، عرضوا تلك الذرية على جدّنا رسول الله وعلينا إمام بعد إمام إلى مهديّنا الثاني عشر من أمير المؤمنين، سميّ جدّه وكنيّه محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى ابني، وعرض علينا أعمالهم، فرأينا لهم ذنوباً وخطايا، فبكى جدنا رسول الله صلی الله علیه وآله وبكينا رحمةً لشيعتنا أن يدعو لنا بنا ولهم ذنوب مشهورة بين الخلائق إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: اللّهمّ اغفر ذنوب شيعة أخي وأولاده الأوصياء منه، وما تقدّم منها وما تأخر ليوم القيامة، ولا تفضحني بين النبيّين والمرسلين في شيعتنا، فحمله الله إياها وغفرها جميعاً، وهذا تأويل: «إنّا فَتَحْنا لَكَ» الآية».

قال المفضّل: فبكيت بكاءً طويلاً، وقلت: يا سيّدي، هذا بفضل الله

ص: 386


1- ([2]) سورة التوبة: 33.
2- ([3]) سورة الفتح: 1 و2.
3- ([1]) سورة البقرة: 31 -- 33.

وفضلكم. قال الصادق علیه السلام: «هذا بفضل الله علينا فيكم يا مفضّل، وهل علمت مَن شيعتنا؟»، قال المفضّل: مَن تقول؟ فقال: «والله ما هم إلّا أنت وأمثالك، ولا تحدّث بهذا الحديث أصحاب الرخص من شيعتنا، فيتكلّموا على هذا الفضل ويتركوا العمل به، فلا يغني عنهم من الله شيئاً؛ لأننا كما قال الله (تعالى): «لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْخَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»» ((1)).

قال المفضّل: يا مولاي، بقي لي «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((2))، ما كان رسول الله يظهر على الدين كلّه؟ قال: «يا مفضّل، ظهر عليه علماً ولم يظهر علمه عليه، ولو كان ظهر عليه ما كانت مجوسيّة ولا يهوديّة ولا جاهليّة ولا عبدة الأصنام والأوثان ولا صابئة ولا نصرانية ولا فرقة ولا خلافة ولا شكّ ولا شرك ولا أُولوا العزّة ولا عبد الشمس والقمر والنجوم ولا النار ولا الحجارة، وإنّما قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» في هذا اليوم، وهذا المهدي، وهذه الرجعة، وقوله: «قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ» ((3))».

قال المفضّل: ثمّ ماذا؟ قال الصادق علیه السلام: «يقول رسول الله صلی الله علیه وآله لأمير المؤمنين: فديتك يا أبا الحسن، أنت ضربتهم بسيف الله عن هذا الدين، فاضربهم الآن عليه عوداً. ويسير في هذه الدنيا يسير جبالها وأقدار أرضها ويطأها قدماً قدماً،

ص: 387


1- ([1]) سورة الأنبياء: 28.
2- ([2]) سورة التوبة: 33.
3- ([3]) سورة البقرة: 193.

حتّى يصفّي الأرض من القوم الظالمين، ويقول للمهدي: سر بالملائكة وخلصاء الجنّ والإنس ونقبائك المختارين ومَن سمع وأطاع الله لنا، فاحمل خيلك في الهواء، فإنها تركض كما تركض على الأرض، واحملها على وجه الماء في البحار والأمصار، فإنها تركض بحوافرها عليه فلا يبلّ لها حافر، وإنها تسير مع الطير وتسبق كلّ شيء، فخذ بثأرك وثأرناواقتصّ بمظالمنا منهم، وأظهِرْ حقّنا وأزهق الباطل، فإنّها دولة لا ليل فيه ولا ظلمة ولا قتام، ومن تضعه أهل الجنّة في الجنّة يقول لفاطمة والحسن والحسين وسائر الأئمة: فينا انظروا إلى ما فضّلكم الله به وجعل لكم عقبى الدار، فأكثروا من شكره واشفعوا لشيعتكم، فإنكم لا تزالون ترون هذه الأرض في هذه الرجعة منكرة مقشعرة إلى أن لا يبقى عليها شاكّ ولا مرتاب ولا مشرك ولا رادّ ولا مخالف ولا متكبّر ولا جاحد إلّا طاهر مطهّر، ويقعد الملك والشرائع، ويصير الدين لله واصباً، فإذا صفت جرت أنهارها بالماء واللبن والعسل والخمر بغير بلاء ولا غائلة، وتفتح أبواب السماء بالبرّ وتمطر السماء خيرها، وتُخرج الأرض كنوزها وتعظم البرة حتّى تصير حمل بعير، ويجتمع الإنسان والسبع والطير والحيّة وسائر من يدبّ في بقعةٍ واحدة، فلا يوحش بعضهم بعضاً، بل يؤنسه ونحادثه، ويشرب الذئب والشاة من موردٍ واحد، ويصدران كما يصدر الرجلان المتواخيان في الله من وردهم، وتخرج الفتاة العاتق والعجوز العاقر وعلى رأسها مكيال من دقيق أو بُرّ أو سويق، وتبلغ حيث شاءت من الأرض ولا يمسّها نصبٌ ولا لغوب، وترتفع الأمراض والأسقام، ويستغني المؤمن عن قصّ شعره وتقليم أظافره وغسل أثوابه، وعن حمام وحجّام وعن طبٍّ وطبيب، ويُفصح عن كلّ ذي نطقٍ من البشر والدوابّ والطير والهوامّ والدبيب، وتُفقد جميع اللغات ولم يبقَ إلّا اللغة العربيّة بإفصاح لسانٍ واحد، ولا يخرج المؤمن من الدنيا

ص: 388

حتّى يرى من صلبه ألف ولدٍ ذكرٍ مؤمن موحّدٍ تقي».

قال المفضّل: يا مولاي، فماذا يصنع أمير المؤمنين بدواً؟ قال: «يصنع والله ما قاله بخطبته: وأيام لا تكون الدنيا إلى شابغرنوق، ولأقفنّ في كلّ موقفٍ كان لي وعلَي، ولأتركنّ ظالمي وناصبي شقيّ تَيم وعَديّ للمهديّ من وُلدي، حتّى يتولّى نبشهما وعذابهما وإحراقهما ونسفهما في اليمّ نسفاً، ولأركضنّ برجلي في رحبة جامع الكوفة، فأُخرج منها اثني عشر ألف صدّيقٍ من شيعتي مكتوبٌ على تلك البيض أسماؤهم وأنسابهم وقبائلهم وعشائرهم، ولأسيرنّ من دار هجرتي الكوفة حتّى أُفني العالم قدماً قدماً بسيفي ذي الفقار، حتّى آتي جبل الديلم فأصعده، وأستهلّ طريقه وأقطع خبره، ولآتينّ بلقاء الهند وبيضاء الصين الّتي كلتا جواريها حور العين، ولآتينّ مصر وأعقد على نيلها جسراً، ولأنصبنّ على مجراها منبراً، ولأخطبنّ عليه خطبة طوبى لمن عرفني فيها ولم يشكّ فيّ، والويل والعويل والنار والثبور لمن جهل أو تجاهل أو نسي أو تناسى أو أنكر أو تناكر، ولآتينّ جابلقا وجابرصا، ولأنصبنّ رحى الحرب وأطحن بها العالم طحن الرحى لباب البر، ولآتينّ كوراً، ولأسبكنّ الخلق فيها سبك خالص التبر وحرق اللجين، ولألقطنهم على وجه الأرض وشواهق الجبال وبطون الأودية والمغارات وأطباق الثرى التقاط الديك سمين الحب من يابسه وعجفه، ولأقتلنّ الروم والصقالب والقبط والحبش والعراق والكرد والأرمن والقلف والهمج والغلف والأعابد والبزغز والزغزغ والقردة والخنازير وعبدة الطاغوت، فهم الشراة والناصبة والمرجية والبتريّة والجهميّة والمقصّرة والمرتفعة».

قال المفضّل: قلت للصادق علیه السلام: يا مولاي، مَن المقصّرة والمرتفعة؟ قال: «يا مفضّل، المقصّرة: هم الّذين هداهم الله إلى فضل علمنا وأفضى إليهم سرّنا،

ص: 389

فشكّوا فينا وأنكروا فضلنا، وقالوا: لم يكن الله ليعطيهم سلطانه ومعرفته! وأما المرتفعة: هم الّذين يرتفعون بمحبّتنا وولايتنا أهل البيت، وأظهروه بغير حقيقة، وليس هم منّا ولا نحن منهم ولا أئمتهم، أُولئك يُعذَّبون بعذاب الأُمم الطاغية حتّى لا يبقى نوعٌ من العذاب إلّا وعُذبوا به».

قال المفضّل: يا مولاي، أليس قد روينا عنكم أنّكم قلتم: الغالي نردّه إلينا والتالي نُلحقه بنا؟ قال: «يا مفضّل، ظننتَ أنّ التالي هم المقصّرة؟»، قال: كذا ظننتُ يا سيّدي. قال: «كلّا، التالي هم من خيار شيعتنا القائلين بفضلنا المستمسكين بحبل الله وحبلنا، الّذين يزدادون بفضلنا علماً، وإذا ورد على أحدهم خبرٌ قبله وعمل به ولم يشكّ فيه، فإن لم يُطقه ردّه إلينا ولم يَردّ علينا، فذلك هو التالي! وأما الغالي فليس، فقد اتّخذنا أرباباً من دون الله، وإنّما اقتدى بقولنا إذ جعلونا عبيداً مربوبين مرزوقين، فقولوا بفضلنا ما شئتم فلن تُدركوه».

قال المفضّل: يا مولاي، إنّ الغالي من ذكر أنكم أرباباً [أرباب] عند الشيعة من دون الله؟ قال: «ويحك يا مفضّل! ما قال أحدٌ فينا إلّا عبد الله بن سبأ وأصحابه العشرة الّذين حرقهم أمير المؤمنين في النار بالكوفة، وموضع إحراقهم يُعرف بصحراء الأُخدود، وكذا عذّبهم أمير المؤمنين بعذاب الله، وهو النار عاجلاً، وهي لهم آجلاً. ويحك يا مفضّل! إنّ الغالي في محبّتنا نردّه إلينا ويثبت ويستجيب ولا يرجع، والمقصّرة تدعوه إلى الإلحاق بنا والإقرار بما فضّلنا الله به، فلا يثبت ولا يستجيب ولا يلحق بنا؛ لأنهم لمّا رأونا نفعل أفعال النبيّين قبلنا ممّا ذكرهم الله في كتابه وقصّ قصصهم وما فرض إليهم من قدرته وسلطانه، حتّى خلقوا وأحيوا

ص: 390

ورزقوا وأبرؤوا الأكمه والأبرص ونبّؤوا الناس بما يأكلون ويشربون ويدّخرون في بيوتهم ويعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة بإذن الله، وسلّموا إلى النبيّين أفعالهم وما وصفهم الله، وأقرّوا لهم بذلك وجحدوا بغياً علينا وحسداً لنا على ما جعله الله لنا وفينا وما أعطاه الله لسائر النبيّين والمرسلين والصالحين وازدادنا من فضله ما لم يعطهم إيّاه، وقالوا: ما أُعطي النبيّون هذه القدرة الّتي أظهرها إنّما صدّقناها وأنزل بها لأنّ الله أنزلها بكتابه، ولو علموا -- ويحهم -- أنّ الله ما أعطاه من فضله شيئاً إلّا أنزله بسائر كتبه وصفنا به، ولكنّ أعداؤنا لا يعلموه، وإذا سمعوا فضلنا أنكروه وصدّوا عنه واستكبروا، وهم لا يشكّون في آدم علیه السلام لمّا رأوا [رأى] أسماءنا مكتوبة على سرادق العرش، قال: إلهي وسيّدي، خلقتَ خلقاً قبلي، وهو أحبّ إليك منّي. قال الله: يا آدم، نعم، لولا هؤلاء الأسماء المكتوبة على سرادق العرش ما خلقتُ سماءً مبنيّةً ولا أرضاً مدحيّةً ولا ملكاً مقرّب [مقرباً] ولا نبيّاً مرسَلاً، ولا خلقتُك يا آدم. قال: إلهي، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك يا آدم، فاستبشر وأكثر من حمد الله وشكره. وقال: بحقّهم يا ربّ اغفر خطيئتي. فكنّا واللهِ الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فاجتباه وتاب عليه وهداه، وإنّهم لَيروون أنّ الله خلقنا نوراً واحداً قبل أن يخلق خلقاً ودنياً وآخرةً وجنّةً وناراً بأربعة آلاف عام، نُسبّح الله ونقدّسه ونهلّله ونكبّره».

قال المفضّل: يا سيّدي، هل بذلك شاهدٌ من كتاب الله؟ قال: «نعم، هو قوله (تعالى): «لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» إلى قوله: «وَقَالُوا اتَّخَذَ

ص: 391

الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ((1)). ويحك يا مفضّل! ألستم تعلمون أنّ مَن في السماوات هم الملائكة، ومَن في الأرض هم الجانّ والبشر وكلّ ذي حركة؟ فمَن الّذين فيهم ومَن عنده الّذين قد خرجوا من جملة الملائكة؟». قال المفضّل: مَن تقول يا مولاي؟ قال: «يا مفضّل، و«مَن» نحن الّذين كنّا عنده ولا كون قبلنا، ولا حدوث سماءٍ ولا أرضٍ ولا ملكٍ ولا نبيٍّ ولا رسول». قال المفضّل: فبكيت وقلت: يا ابن رسول الله، هذا واللهِ الحقّ المبين، وهل نجد في كلامكم والأخبار المرويّة عنكم شاهداً بما وجدتني [أوجدتني] في كتاب الله؟ قال: «نعم، في خطبة أمير المؤمنين علیه السلام يوم ضرب سلمان بالمدينة وخروجه إلى الجبانة وخروج أمير المؤمنين (إليه التسليم) إليه، وقوله: اسأل يا سلسل سبيلك، لا تجهل، اسألني يا سلمان أُنبئك البيان أوضحك البرهان. فقال سلمان: يا أمير المؤمنين، أودعني الحياة وأهلي [أهلني] الخطوة [الحظوة]، إنّ للرشاد [الرشاد] إذا بلغ نزح بغزيته، وهذا اليوم مواضي ختم المقادير. ثمّ تنفّس أمير المؤمنين صعداً وقال: الحمد لله مدهّر الدهور وقاضي الأُمور ومالك يوم النشور، الّذي كنّا بكينونيته قبل الحلول في التمكين، وقبل مواقع صفات التمكين في التكوين كائنين غير مكونين، ناسبين غير متناسبين، أزليين لا موجودين ولا محدودين منه بدونا وإليه نعود، لأنّ الدهر فينا قسمت حدوده، ولنا أخذت عهوده،

ص: 392


1- ([1]) سورة الأنبياء: 19 -- 29.

وإلينا ترد شهوده، فإذا استدارت ألوف الأدوار وتطاول الليل والنهار وقامت العلامة الوفرة والسامة والقامة الأسمر الأضخم والعالم غير معلم والخبير أيضاً يعلم، قد ساقتهم الفسقات واستوغلت بهم الحيرات ولبتهم الضلالات وتشتتت بهم الطرقات، فلا يجير مناص إلّا إلى حرم الله، سيؤخذ لنا بالقصاص من عرف غيبتنا ثمّ شهدنا، نحن أشبه بمشابيهنا والأعلون، موالينا كالصخرة من الجبال المتهابة، نحن القدرة ونحن الجانب ونحن العروة الوثقى، محمّد العرش عرش الله على الخلائق، ونحن الكرسي، وأُصول العلم، ألا لعن الله السالف والتالف وفسقة الجزيرة ومن أواها ينبوعاً، أنا باب المقام وحُجّة الخصام ودابّة الأرض وفصل القضا وصاحب العصا وسدرة المنتهى وسفينة النجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها ضلّ وهوى، ألم يقيم [يقم] الدعائم في تخوم أقطار الأكناف، ولا من أغمد فساطيط أصحاب الأعلى كواهل أنوارنا، نحن العمل ومحبتنا الثواب وولايتنا فصل الخطاب، ونحن حجبة الحجاب، فإذا استدار الفلك قلتم: بأيّ وادٍ سلَك؟ قلتم: مات أو هلك، أو في أيّ وادٍ سلك؟ فنادى إلى الله تتّخذ الروم النجاة ومنجدة، لأنّ المطيع هو السامع، والسامع العامل، والعامل هو العالم، والعالم هو الساتر، والساتر هو الكاتم، والمولى هو الحاسد، فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، من طرفي الحبل المتين إلى قرار ذات المعين، إلى سبطة التمكين، إلى وراء بيضاء الصين، إلى مصارع مطارح قبور الطالقانيّين، إلى قرن ياسر وأصحاب سنين الأعلين العالمين الأعظمين، إلى كتمة أسرار طواسين، إلى البيداء الغبرة الّتي حدّها الثرى الّتي قواعدها جوانبها إلى ثرى الأرض السابعة السفلى، كذاالخالق لما يشاء، سبحانه وتعالى عمّا يُشركون».

ص: 393

قال المفضّل: إنّ هذا الكلام عظيم يا سيّدي، تحار فيه العقول، فثبّتني ثبّتك الله، وعرّفني ما معنى قول أمير المؤمنين الّذي كنّا بكينونيته في التمكين؟ قال الصادق: «نعم يا مفضّل، الّذي كنّا بكينونيته في القدم والأزل: هو المكوّن ونحن المكان، وهو المُنشئ ونحن الشيء، وهو الخالق ونحن المخلوقون، و هو الربّ ونحن المربوبون، وهو المعنى ونحن أسماؤه المعاني، وهو المحتجِب ونحن حجبه قبل الحلول في التمكين، ممكنين لا نحول ولا نزول، وقبل مواضع صفات تمكين التكوين، قبل أن نوصف بالبشرية والصور والأجسام والأشخاص، ممكن مكون كائنين لا مكونين كائنين عنده أنواراً لا مكونين أجسام، وصور ناسلين لا متناسلين محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف إلى آدم، والحسن والحسين من أمير المؤمنين وفاطمة من محمّد، وعليّ من الحسين ومحمّد من عليّ وجعفر من محمّد وموسى من جعفر وعليّ من موسى ومحمّد من عليّ وعليّ من محمّد والحسن من عليّ ومحمّد من الحسن، بهذا النسب لا متناسلين ذوات أجسام ولا صور ولا مثال، إلّا أنوار نسمع الله ربّنا ونطيع، يسبّح نفسه فنسبّحه ويهلّلها فنهلّله ويكبّرها فنكبّره ويقدّسها فنقدّسه ويمجّدها فنمجّده في ستّة أكوان منها ما شاء من المدة، وقوله: أزليّين لا موجودين: وكنا أزليين قبل الخلق لا موجودين أجساماً ولا صوراً».

قال المفضّل: يا سيّدي، ومتى هذه الأكوان؟ قال: «يا مفضّل، أمّا الكون الأول نوراني لا غير ونحن فيه، والكون الثاني جوهري لا غير ونحن فيه، والكون الثالث هوائي لا غيرونحن فيه، والكون الرابع مائي لا غير ونحن فيه، والكون

ص: 394

الخامس ناري لا غير ونحن فيه، والكون السادس ترابي لا غير، فأظلّة ودُور ثمّ سماء مبنية وأرض مدحية فيها الجان الذي خلقه الله من مارج من نار إلى أن خلق الله آدم من التراب».

قال المفضّل: يا سيّدي، فهل كان في هذه الأكوان خلقاً [خلق] منها في كلّ كون؟ قال: «نعم يا مفضّل».

قال المفضّل: يا سيّدي، فهل نجد الخلق الّذي كان فيها ونعرفهم؟ قال: «نعم، ما من كونٍ إلّا وفيه نوري وجوهري وهوائي ومائي وناري وترابي، يا مفضّل، تحب أن أقرب عليك وأُريك أنّ فيك من هذه الستّة أكوان؟ اعلم أنّه خلقك وخلق هذه البشر وكلّ ذي حركةٍ من لحم ودم»، قال: يا سيّدي، أين ذلك؟ قال: «يا مفضّل، الّذي من الكون النوراني نور في ناظريك، وناظرك بمقدار حبّة عدس، ثمّ ترى بها ما دركاه من السماء والهوام والأرض ومَن عليها، وفيك من الكون الجوهري يُحسن ويعقل وينظر، وهو ملك الجسد، وفيك من الكون الهوائي الهواء الذي منه نفسك وحركاتك وأنفاسك المتردّدة في جسدك، وفيك من الكون المائي رطوبة ريقك ودموع عينيك وما يخرج من نفسك والسبيلين اللذين هما منك، وفيك من الكون الناري النار الّتي في تراكيب جسدك، وهو المنضج المنفذ مأكلك ومشاربك وما يرد إلى معدتك، وهو الذي إذا حكت بعض ببعض كدت أن تقدح ناراً، وبتلك الحرارة تمت حركاتك، ولو لا الحرارة لكنت جماداً، وفيك من الكون الترابي عظمك ولحمك ودمك وجلدك وعروقك ومفاصلك وعصبك وتمام كمية جسمك». قال المفضّل: يا مولاي، إنّي لَأحسب أنّ شيعتك لو غلَت كلّ الغلوّ فيكمتهتدي إلى

ص: 395

وصف يسير ممّا فضلكم الله به من هذا العلم الجليل.

قال الصادق علیه السلام: «ما لَك يا مفضّل لا تسأل عن تفصيل الأكوان الستّة؟»، قلت: يا مولاي، بهرني والله عظيم ما سمعتُه من السؤال. قال الصادق: «نحن كنّا في الكون النوراني لا غير، وفي الجوهري لا غير، وفي الهوائي خلق وهم جيل من الملائكة، أما سمعتَ قول جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: لا يوقعنّ أحدكم بوله من عالي جبل ولا من سطح بيت ولا من رأس رابية ولا في ماء؛ فإن للهواء سكاناً وللماء سكاناً؟».

قال المفضّل: نعم يا مولاي، ممّا خلق أهل الماء؟ قال: «خلقهم بصورٍ وأجسام نطقوا بثلاث وعشرين لغة، وقامت فيهم النذر والرسل والأمر والنهي، وصارت فيهم ولادات ونسل، وكونهم الذي يقول: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ((1))».

قال المفضّل: نعم يا مولاي، فالجانّ؟ قال الصادق علیه السلام: «لمّا خلق الله السماوات والأرض أسكن خلق الماء في البحار والأنهار والينابيع ومناقع الماء حيث كانت من الأرض، وأسكن الجانّ الّذي خلقه من مارج من نار، فقامت فيهم النذر والرسل ونطقوا بأربعة وعشرين لغة، وأمر إبليس بالسجود لآدم، والسجود هو الطاعة لا الصلاة، فأبى واستكبر وقال: لا أسجد لبشر؛ خلقتني من نارٍ وخلقته من طين. فافتخر على آدم وعصى الله وقاس -- ويله -- النار بالنور، وظنّ أنّ النار أفضل، ولو علم أنّ النور الّذي في آدم -- وهو الروح الّتينفخها الله فيه -- كان أفضل من النار الّتي خلق منها إبليس لفسد قياسه».

ص: 396


1- ([1]) سورة هود: 7.

قال المفضّل: يا مولاي، أوَليس يقال: إنّ إبليس من الملائكة؟ قال: «بلى يا مفضّل، هو من الملائكة، لا الروحانية ولا النورانية، ولا سكّان السماوات، ومعنى ملائكة هو اسم واحد فيصرف، فهو ملك ومالك ومملوك، هذا كلّه اسمٌ واحد، وكان أملاك الأرض، أما سمعتَ قول الله (تعالى):«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» ((1))، وقوله (تعالى): «وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ» ((2))، وقال: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ» ((3))، وقوله: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا» ((4))».

قال المفضّل: نعم يا سيّدي، علمتُ وفهمت، فكيف كانت الأظلّة؟ قال: «أما سمعتَ قول الله (تعالى): «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا» ((5))؟ يا مفضّل، إنّ الله (سبحانه وتعالى) أوّل ما خلق النورَ الظلّي»، قلت: وممّا خلقه؟

ص: 397


1- ([1]) سورة الكهف: 50.
2- ([2]) سورة الحجر: 27.
3- ([3]) سورة الرحمان: 33.
4- ([4]) سورة الجنّ: 1 و2.
5- ([5]) سورة الفرقان: 45 و46.

قال: «خلقه من مشيئته، ثمّ قسّمه أظلّة، ألم تسمع قول الله (تعالى): «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا»؟ خلقه قبل أن يخلق سماءً وأرضاً وعرشاً وماءً، ثمّ قسّمه أظلّة، فنظرت الأظلّة بعضها إلى بعض، فرأت نفسها فعرفت أنهم كوّنوا بعد أن لم يكونوا، وأُلهموا من المعرفة هذا المقدار، ولم يلهموا معرفة شيءٍ سواه من الخير والشر، ثمّ إنّ الله أدّبهم»، قال: كيف أدّبهم؟ قال: «سبّح نفسه فسبّحوه، وحمد نفسه فحمدوه، ولولا ذلك لم يكن أحدٌ يعرفه ولا يدري كيف يُثني عليه ويشكره، فلم تزل الأظلّة تحمده وتهلّله، فمكثوا على ذلك سبعة آلاف سنة، فنشكر الله ذلك لهم، فخلق من تسبيحهم السماء السابعة، ثمّ خلق الأظلّة أشباحاً، وجعلها لباساً للأظلّة، وخلق من تسبيح نفسه الحجاب الأعلى»، ثمّ تلا: ««وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» ((1))، الوحي يعني الأظلّة، أو من وراء حجاب يعني الأشباح الّتي خُلقت من تسبيح الأظلّة، ثم خلق لهم الجنّة السابعة والسماء السابعة، وهي أعلى الجنان، ثمّ خلق آدم الأول، وأخذ عليه الميثاق وعلى ذريّته، فقال لهم: مَن ربّكم؟ قالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتَنا، فقال للحجاب الّذي خلقه من تسبيح نفسه: أنبئهم بأسمائهم ومِن أيّ شيءٍ خُلقوا، فأنبأهم الحجاب في ذلك، فكان الحجاب الأول يعلّمهم، فمن هناك وجبت الحُجّة على الخلق. ثمّ إنّ الله خلق على مثال ذلك سبعة آدم، وخلق لكلّ آدمٍ سماءً وجنّة،

ص: 398


1- ([1]) سورة الشورى: 51.

فجعل الأول مَن أجاب لأخذ الميثاق الأول، ثمّ الثاني واحداً بعد واحدٍ يفضل الأول في الأول، وخلق النور الثاني أفضل من الثالث، وخلق الأظلّة من إرادته على ما شاء، ثمّ أدّبهم على مثال الأول، وخلق لهم السماء الثانية والجنّة الثانية، وقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء ... قالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتَنا، فقال للحجاب الثاني: أنبئهم بأسمائهم ومِن أيّ شيءٍ خُلقوا، وأخذ من أهل السماء الثانية الميثاق للحجاب الثاني»، ثمّ قرأ: ««وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» ((1))، وهو الحجاب الأول»، ثمّ تلا: ««وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» ((2))، ثمّ خلق النور الثالث على مثال ما خلق النور الأول والثاني من الأظلّة والأشباح، والسماء والجنّة، وخلق الحجاب الثالث ورأسه كما رأس الحجاب الثاني، وأخذ ميثاقهم له، وأنبأهم كما أنبأ أهل السماء الثانية، فأجابوا على ما أجابوا، وكذلك بقيّة الأنوار والسماوات، وأضعفهم السابع، وإنّ ذلك أنّه أقلّهم نوراً وأرقّهم إيماناً ويقيناً. و خلق السماوات كلّها من سبعة أنوار، وجعل كلّ نورٍ متقدّم أفضل من صاحبه لسابقته في الإجابة، وذلك مقدار ذلك خمسين ألف سنة، وخلق في كلّ سماءٍ جنّةً وعيناً، وإنما احتملت كلّ سماءٍ أهلها وصارت قطباً لهم لأنّ الله خلقها من أعمالهم، والعيون السبعة الّتي في الجنان فإنها خُلقت من علوم أهلها، ثمّ خلق سبعة أيام، لكلّ سماءٍ يوماً، ثمّ خلق للأرواح أبداناً من نور».

وممّا أتى في الحديث الصحيح عن رسول الله أنه كان جالساً في محرابه

ص: 399


1- ([1]) سورة البقرة: 63.
2- ([2]) سورة البقرة: 189.

ووجهه كدارة البدر في وقت الاكتمال وكانت محدقة، من حوله الأنصار والمهاجرين ومَن آمن في نبوّته، فقام زيد بن حارثة وسعد بن مالك وقالا: يا رسول الله، سمعناك بالأمس تأتي بذكر الحسين بن علي وأبيه أمير المؤمنين، فقال صلی الله علیه وآله: «فسوف يظهر من قبائل ولدي الحسين ونسله إمامٌ يقال له: الإمام محمّد بن الحسن بن علي، وسوف تظهر قبيلة من نسله لا يحصى عددهم، وفي أيديهم السيوف المضريّة والخوَد الداوودية والثياب العدنانية، وهم يقيمون في نصرة ولدي الحسين، كأنهم معنا، وكأني أنظر إليهم يقدمون في سلك الكوفة بشعارهم مكلّلة، ويأخذون بثارات الحسين بن علي وأبيه أمير المؤمنين».

و يرجع الحديث إلى الصادق علیه السلام أنه قال: «يا مفضّل، فقد قال جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله وذكرهم رجلاً رجلاً في خطبته، وكأني واعيها وناظرها يا مفضّل: حديثنا أهل البيت صعبٌ مستصعب غريب مستغرب، لا يحمله إلّا ملَكٌ مقرّب أو نبيٌّ مرسل أو عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه في العلم والإيمان. فقام إليه الأصبغ بن نباته فقال: فرّج عن شيعتك يا أمير المؤمنين بعلم هذا الصعب المستصعب الغريب المستغرب، قال: نعم يا أصبغ، إنّ الصعب هو المؤاساة، والمستصعب هو المساواة. قال الأصبغ: يا أمير المؤمنين، كيف المواساة والمساواة؟ قال: تواسي أخاك المؤمن من كلّ شيءٍ رزقك الله إيّاه، ولا تحرمه، ولا تمتحنه في دينه، فإذا امتحنته فوجدته حقيقي الإيمان مخلص التوحيد لزمتك مساواته، وهو أن تساويه في كلّ ما تملكه صغيراً كان أوكبيراً، تالداً أو طارفاً، وحتّى والله في الإبرة، فهذا والله هو المساواة والمواساة.

وقال أمير المؤمنين في خطبته المبرهنة: إنّ حديثنا أهل البيت صعبٌ

ص: 400

مستصعَب غريبٌ مستغرب، لا يحمله إلّا ملَكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل ولا عبدٌ امتحن قلبه بالإيمان، إلّا ما شاء الله وشئنا. فقام إليه إبراهيم بن الحسن الأزديّ فقال: يا أمير المؤمنين، بالّذي فضّلك الله بما فضّل به رسول الله صلی الله علیه وآله على العالمين، إنّ حُرمة أوليائك تحرزنا من أعدائك أن يسمعوا ما لا يستحقّوا علمه منك. قال أمير المؤمنين: يا إبراهيم، قد بلّغ الرسول وأقام البرهان والدليل ولزمه الحجّة، وبقت [بقيت] المجازاة، فاسئل يا إبراهيم. فقال: يا أمير المؤمنين، مَن هو الملك المقرّب والنبيّ المرسل والعبد الّذي امتحن الله قلبه للإيمان؟ لمَ لا يحملونه؟ قال: يا إبراهيم، أمّا الملَك المقرّب الّذي لم يحمل حديثنا كان من المؤمنين، يقال له: صلصائيل، نظر إلى بعض ما فضّلنا الله به ولم يطق حمله وشكّ فيه، فأهبطه الله من جواره ودقّ جناحه وأسكنه في جزائر البحر، وهو عند الناس أنه سهى وغفل عن تسبيحه فعاقبه الله في هذه العقوبة إلى الليلة التي وُلد فيها الحسين ابني، فإنّ الملائكة استأذنت الله في تهنئة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وتهنئة أُمّه فاطمة، فأذن الله لهم، فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماءٍ إلى سماء، فمرّ منهم ملك وفوج من الملائكة بصلصائيل وهو مُلقىً في الجزيرة، فلما نظر إليهم وهو باكٍ حزين مستقيل الله فوقفوا ينظرون إليه، فقال لهم: يا ملائكة، إلى ما تريدون وفيما أهبطتم به؟ فقال لهالملك: يا صلصائيل، يُولَد في هذه الليلة أكرم مولد [مولود] في الدنيا بعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وعلى أبيه علي وعلى أُمّه فاطمة وأخيه الحسن، وقد استأذنّا الله في تهنئة جدّه محمّدٍ به فأذن لنا، فقال صلصائيل: يا ملائكة الله ربّي وربّكم، وأسئلكم به وبحبيبه محمّدٍ وبهذا المولود الكريم تأخذوني معكم إلى حبيب الله، وتسألونه وأسأله بحقّ هذا المولود الّذي أوهبه [وهب] الله له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسري ويردّني إلى

ص: 401

مقامي مع الملائكة المقرّبين. فحملوه وأتوا إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وهنّئوه بابنه الحسين، وقصّوا عليه قصّة الملك صلصائيل، وسألوه بجاه الله والإقسام عليه بحقّ الحسين أن يغفر خطيئته ويجبر كسر جناحه ويردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرّبين، فقام رسول الله صلی الله علیه وآله ودخل على فاطمة علیها السلام فقال لها: يا موافقة [موفّقة]، ائتيني بابني الحسين. فأخرجَته إلى جدّه مقمّطاً يناغي، إلى أن أتت جدّه رسول الله، فأخذه وخرج به إلى الملائكة يحمله على بطن كفّه، وهلّلوا وكبّروا وحمدوا الله وأثنوا عليه في تهنئة رسول الله صلی الله علیه وآله ، فتوجّه به إلى القبلة ورفعه نحو السماء وقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا ابني الحسين عليك أن تغفر لصلصائيل الملك خطيئته، وتجبر كسر جناحه، وتردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرّبين. فهبط جبرائيل علیه السلام فقال: يا رسول الله، ربّك يُقرئك السلام ويقول لك: قد غفرتُ خطيئته وجبرتُ كسر جناحه، وردّيته إلى مقامه مع الملائكة، واجعلته [جعلته] مولى الحسين بن علي ابن فاطمة ابنتك يا محمّد، كرامةً لك وإلى الملائكة علیهم السلام، فاجبرت [فجبرت] كسر جناحه. فرجعت الملائكة وصلصائيلمعها إلى مقامه، فهو يُعرف بصلصائيل مولى الحسين بن علي علیه السلام. والنبيّ المرسَل فهو يونس بن متّى، فكان من قصّته أنه تنبأ بنبوته بأن ولائنا معقود بتوحيد الله (جلّ ذكره)، ولا يقبل الله من موحّدٍ توحيده إلّا بولايتنا ولا ينعقد إلّا بتوحيد الله (جلّ ذكره)، فشكّ فينا ولم يقرّ بأن ذلك شك يلحقه سخطٌ من الله (جلّ ذكره)، فكان كما قال الله (تعالى): «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ»» ((1)).

ص: 402


1- ([1]) سورة الأنبياء: 87.

قال المفضّل: يا سيّدي، وكان يونس في توبته يظنّ أنّ الله لا يقدر عليه؟! فقال: «يا مفضّل، إنما ظنّ أن لا يقدر عليه بشكّه فيما فضّلنا الله به، فسخط عليه وعاقبه، فكان من قصته ما قصّه الله في كتابه للعبد الّذي امتحن الله قلبه للإيمان».

قال المفضّل للصادق: يا سيّدي، إنّي أسألك أن تسأل الله أن يثبّتني وسائر شيعتك المخلصين لكم على ما فضّلكم الله به، ولا يجعلنا به شاكّين ولا مرتابين. قال الصادق: «يا مفضّل، قد فعلت، ولو لا دعاؤنا ما ثبتم».

قال المفضّل: يا مولاي، إنّي أُحبّ أن تفيدني شاهداً من كتاب الله عزوجل على ما فرضه الله لكم من سلطانه وقدرته. قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، القرآن وسائر الكتب تنطق به لو كنتم تعلمون، فإنّي أُبيّن لكم ما هو في حقّنا في كتابه، وقوله: «فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» ((1))، «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَاوَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ

ص: 403


1- ([2]) سورة الحِجر: 57 و58.

مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ((1)). وإنّما هذا قول الرسول المفوَّض إليه، وهو المفوِّض إلينا ذلك العلم، لقول الله (تبارك وتعالى)، نحن نفعل منه بما يأمرنا بفعله، وهذا القول إشارة منّا إليه، وسنراه بينه وبين عباده ولا ملائكة بأكرم عنده منّا ولا أوثق».

قال المفضّل: يا سيّدي، مثل هذا في القرآن كثير! قال: «نعم يا مفضّل، ما كان في القرآن: أنزلنا، وإنّا جعلنا، وإنّا أرسلنا، وإنّا أوحينا، فهو قول الأنبياء والرسل المخوّلين في بسائط ملكوت السماء وتخوم الأرض، فهم نحن، ولا خلق الله شيء [شيئاً] بأكرم منّا عنده، وقد شرحتُه لك يا مفضّل هذا، فاشكر الله واحمده ولا تنسى [تنسَ] فضله، إنّ فضله كان عليك كبيراً، وما كان في كتابه العزيز: أنا وإيّاي، وخلقت، ورزقت، وأمتُّ، وأحييتُ، وأبديتُ، وأنشأتُ، وسوّيتُ، وأطعمتُ،وأرسلت، فهي من نطق ذاته إلينا يا مفضّل، ومثل هذا كثير، ولقد آتيناك من لدنّا ذكراً» ((2)).

ص: 404


1- ([1]) سورة الذاريات: 33 -- 51.
2- ([1]) أُنظر: الهداية الكبرى للحضيني: 392، مختصر بصائر الدرجات للحلّي: 433، بحار الأنوار للمجلسي: 1 / 53 الباب 28.

الفصل العاشر: في بدو نوره وبعض الآيات النازلة في ولادته علیه السلام وغير ذلك

في (العوالم)، عن كتاب (المحتضر) للحسن بن سليمان: من كتاب السيّد حسن بن كبش، ممّا أخذه من المقتضب، مسنداً عن سلمان الفارسيّ رحمه الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا سلمان، خلقني الله من صفوة نوره، فدعاني فأطعتُه، وخلق من نوري عليّاً، فدعاه (إلى طاعته) فأطاعه، وخلق من نوري ونور عليٍّ فاطمة، فدعاها فأطاعته، وخلق منّي ومن عليٍّ و(من) فاطمة الحسن والحسين، فدعاهما فأطاعاه، فسمّانا الله عزوجل بخمسة أسماء من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمّد، والله العلي وهذا علي، والله فاطر وهذه فاطمة، ولله الإحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين علیه السلام، ثمّ خلق [منّا و] من نور الحسين علیه السلام تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله [عزّ وجلّ] سماءً مبنيّةً أو أرضاً مدحيّة أو

ص: 405

هواءً أو ماءً أو ملكاً، أو بشراً، وكنّا بعلمه أنواراً نسبّحهونسمع له ونطيع» ((1)).

وعن (كنز الفوائد)، عن ابن مسعود [في حديث]: قال النبي صلی الله علیه وآله: «يا ابن مسعود، إنّ الله خلقني وخلق عليّاً والحسن والحسين من نور قدسه، فلمّا أراد أن يُنشئ الصنعة فتق نوري وخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجلُّ من السماوات والأرض، وفتق نور عليٍّ وخلق منه العرش والكرسي، وعليٌّ والله أجلّ من العرش والكرسي، وفتق نور الحسن وخلق منه الحور العين والملائكة، والحسن والله أجلّ من الحور العين والملائكة، وفتق نور الحسين وخلق منه اللوح والقلم، والحسين والله أجلّ من اللوح والقلم» ((2)).

وعن كتاب (المختصر) أيضاً، عن كتاب (نهج التحقيق)، مسنداً عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: قال: «إنّ الله (تعالى) خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا». فقيل له: يا ابن رسول الله، عُدّهم بأسمائهم، فمَن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال: «محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وتسعة من ولد الحسين، وتاسعهم قائمهم»، ثمّ عدّهم بأسمائهم، ثمّ قال: «نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله صلی الله علیه وآله » ((3)).

ص: 406


1- ([1]) العوالم للبحراني: 5 / 17 ح 1، مقتضب الأثر للجوهري: 6.
2- ([2]) تأويل الآيات الظاهرة للاسترآبادي: 592، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 73 ح 24.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 5 / 25 ح 7، المحتضر لابن فهد الحلي: 129.

وروى صاحب (الدرّ الثمين) في تفسير قوله (تعالى): «فَتَلَقَّىآدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ» ((1))، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة علیهم السلام، فلقّنه جبرئيل: قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين، ومنك الإحسان. فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي. قال جبرئيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصائب. فقال: يا أخي، وما هي؟ قال: يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: «وا عطشاه، وا قلّة ناصراه»، حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجبه أحدٌ إلّا بالسيوف وشرب الحتوف، فيُذبَح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحلَه أعداؤه، وتُشهَر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان. فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى ((2)).

روى صاحب (زهرة الكمال)، قال: لمّا أُخرج آدم علیه السلام من الجنّة، انحدر ببلدةٍ من بلاد الهند تُسمّى سرانديب، وبقيَ يبكي على مصيبته مدّةً طويلة، حتّى نُقل أنّه ظهرت لمحاكيه ولم يبقَ لها لحمٌ بفيه، فمنّ عليه الملك الجليل بإرسال جبرائيل، فكشف له عن بصره حتّى أراه ساق العرش، فرأى أنواراً

ص: 407


1- ([1]) سورة البقرة: 37.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 44.

ساطعةً كالنجوم اللامعة، فتلاها، وإذا هي: مُحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من وُلده علیهم السلام، حصناً مَن دخله كان آمناً. فقال: يا أخي جبرائيل، هل خلق الله خلقاً أكرم منّي؟ قال:نعم. قال: متى خُلقوا؟ قال: قبل خلق السماوات والأرضين وقبلك بألفَي عام، ولولاهم ما خلقك الله (تعالى)، وهم من وُلدك. فقال: اللّهمّ يا مَن شرّفت هذا الوالد على الولد، اغفر لي خطيئتي. فغفر له ((1)).

وفي (تحفة المجالس): لمّا خلق الله آدم خلق حوّاء من ضلعه الأيسر لتكون له أُنساً، فخرجا يمشيان في الجنّة، فرأيا صورتهما في أوراق أشجار الجنّة، فتبخترا في الجنّة، وقال أحدهما للآخر: ما خلق الله خلقاً هو أحسن منّا! فأوحى الله إلى جبرئيل: «ائتِ بعبدَيّ الفردوس الأعلى»، فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى قصرٍ عظيمٍ من ياقوتةٍ حمراء، جدرانه من زمرّدٍ أخضر، سقفه من لؤلؤ، فرشه من زمرّد، منقوش بأنواع الجوهر والذهب، وباب القصر موصود، قالا: يا جبرئيل، مَن داخل هذا القصر؟ ما سِرّه؟ قال جبرئيل: لا أعلم، ولكنّي أعلم أنّ نجماً يظهر كلّ ثلاثين ألف سنة، وقد رأيتُه ثلاثين ألف مرّة، وأنا لا أدري ماذا في هذا القصر ولا زال بابه موصود. فتوجّه آدم إلى الله قاضي الحاجات وقال: إلهي، علّمني مَن في هذا القصر؟! فجاء النداء: افتح لهم باب القصر. ففتح جبرئيل، فدخلا في

ص: 408


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 139 المجلس 7.

القصر، فرأوا جاريةً على عرشٍ من ياقوتةٍ حمراء، وهي من الجمال والجلال والكمال بحيث لا تقوى العينُ الباصرة النظر إليها، وعلى رأسها تاجٌ من نور أخضر، وعلى صدرها عِقدٌ من زبرجدٍ أخضر، وفي أُذنيها قرطين من الدرّ والؤلؤ تشعّ نوراً، وحول العرش كواكب منيرة ومئة ألف حوريّة كأنّها البدور الساطعة واقفة أيديهنّ على صدورهن برسم التعظيم والاحترام، لا يلتفتن يميناً ولا شمالاً حشمةً وحياءاً، فلمّا نظر آدم وحوّاء سجدا وقالا: لا يسوغ لناالوقوف بين يدَي هذه الجارية.

رُوي أنّ أول سجدةٍ سجدها آدميّ كانت سجدة آدم وحوّاء في القصر.

قال جبرئيل: يا آدم! أتعرف مَن هذه الجارية؟ قال: لا، قال: هذه بنت أفضل العالمين النبيّ الخاتم، الّذي خلقك الله وخلق كلّ المخلوقات من أجله، وهو المخاطَب ب-- : «لولاك لما خلقتُ الأفلاك». قال آدم: فما هذا التاج على رأسها؟ قال جبرئيل: يا آدم، هذا شبح ذات محمّدٍ أبيها. قال: فما هذا العِقد من الذهب والزبرجد في عنقها؟ قال: هذا زوجها وقرينها. قال: فما هذان القرطان المشعّان؟ قال: ولداها العزيزان الحسن والحسين. قال آدم: فمَن هم هؤلاء؟ قال: هم من وُلدك، لو لم يكونوا لما كنتَ ولا كانت حوّاء ولا كان مُلكٌ ولا ملكوت ولا عرش ولا كرسي ولا ملائكة في السماوات السبع والأرضين، لولاهم لما خلق الله الخلق، تعلّم أسماءهم فإنّها تنفعك. قال آدم: يا جبرئيل، فما هي أسماؤهم؟ قال: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. فكرّر آدم الأسماء وحفظها في قلبه، ثمّ قال: يا جبرئيل، بقيَ شيء؟ قال

ص: 409

جبرئيل: وما هو؟ قال: القرطان، أحدهما أخضر والآخر أحمر، فما سرّ ذلك؟

فبكى جبرئيل وقال: اعلم يا آدم إنّ في ذريتك جمعٌ من أهل الكفر والنفاق والحسد والضلال، يجتمعون على قتل هذين المظلومين، يقتلون أحدهما بالسمّ الزُّعاف، والآخر بسيف الجَور والجفاء، فيخضرّ الأول ويُضرّج الآخر بدمه. فبكى آدم وحوّاء بكاءاً شديداً، وارتفع نحيبهما -- قيل: وكان ذلك أوّل بكاءٍ للبشر --، وبكى لبكائهما ملائكة السماوات السبع والجنان الثمان ورضوان والحور العين،وبقي آدم وحوّاء ذلك اليوم في عزاء، وأمر الله عزوجل صفوف الملائكة أن تذهب لتعزّي آدم وحوّاء وتسلّيهما وتشاركهما في العزاء، وتنسيهما المصيبة لينعما في نعيم الجنّة.

أمّا إبليس اللعين المطرود بسبب تمرّده وعصيانه لأمر السجود لآدم، فإنّه كان يتربّص بآدم ويبليه ويغرّه، فجاء إلى الحيّة والطاووس، وكانت الأُولى على باب الجنّة الأُولى والثاني على باب الجنّة الثانية، فخادعهما حتّى دخل الجنّة، ودنى من حوّاء فرغّبها في الأكل من الشجرة الممنوعة، وقال: إنّها شجرةٌ تحمل أنواع الثمار اللذيذة اللطيفة، ولا تحمل شجرةٌ في الجنّة مثل ثمارها طعماً. فقالت حوّاء: سمعتُ من آدم أنّنا مُنعنا من الأكل من هذه الشجرة. فقال: لم ينهكما الله عن هذه الشجرة، وإنّي لَصادق، ولو ذقتِ من ثمارها لعلمتِ صدقي. فدلّس على حوّاء حتّى أكلَت منها، ثمّ اختفى، فلمّا جاء آدم قصّت عليه القصّة، فأكل منها آدم، فسقط عنه تاج الكرامة، وأصابه مغَصٌ في أحشائه وألمٌ شديدٌ في بطنه، ونُزع عنه لباس السندس

ص: 410

والاستبرق، ونُزع عن حوّاء لباس الكرامة، وتعرايا، وتعرض لهما الملائكة، فاستحى آدم واضطرب وهو يسمع من كلّ ناحيةٍ خطاب: فعصى آدم ربّه فغوي! فبكى، وكان هذا البكاء الثاني لآدم، فوضع يديه على عورتيه ولم يجد ساتراً، فنظر إلى أوراق أشجار الجنّة فوجدها عريضةً تستر عورته، فلمّا اقترب منها ليأخذ من أوراقها كانت الأشجار تبتعد منه وتتمنّع عليه وتتطاول حتّى لا يأخذ من أوراقها، فاقترب من شجرة التين، فرحمته وأشفقَت عليه بعد أن رأت فيه آثار الحياء والتذلّل بعد أن كان في تلك العظمة والجلالة، فتدلّت عليه بأغصانها، فأخذ منها أربعة أوراق -- وقيل: ورقتين --،فوضع إحداهما من أمامه والأُخرى من خلفه، ودعا لشجرة التين وانصرف، فاستجاب الله لدعائه، لأنّ الله يجيب دعوة النادمين على المعاصي، فخاطب الله شجرة التين وقال: «لمَ مكّنتي آدم من أوراقك وقد امتنعَت عنه جميع أشجار الجنّة؟»، فقالت: يا مالك ويا ملك يا معبودي، رأيتُك تُعزّ آدم وتكرمه وتعظّم حرمته، ثمّ رأيتُه في الذلّة والاستكانة، فرحمتُه ومكّنتُه من أوراقي لرعاية حرمتك فيه، فإن كنتُ قد أخطأتُ فاغفر لي وارحمني. فجاء الخطاب من ربّ الأرباب: «أيّتها الشجرة، غفرتُ لكِ ذنبك بفضلي، لأنّكِ عظّمتي حرمتي فيه، وجعلتُ ثمرتكِ حلوة، وحرّمتُكِ على النار».

ثمّ إنّ آدم بعد أن ستر عورته أركبوه على الحيّة، وأركبوا حوّاء على الطاووس، اللّذَين تسبّبا في إغوائهما، وأُخرجا من الجنّة، فأُهبط آدم على جبل سرنديب في الهند، وأُهبطت حوّاء أطراف الحجاز قريباً من اليمن،

ص: 411

وكانت المسافة بينهما مقدار خمسين ألفاً وسبعمئة فرسخ.

فلمّا نزل آدم على السرنديب تفرّغ للبكاء والنياحة مدّة مئتَي سنة -- وبروايةٍ أصحّ: أربعين سنة --، وكان البكاء غذاؤه وشرابه، لا يهدأ ليلاً ونهاراً، وقد أظلمت الدنيا في عينيه، فأثّر فيه الجوع والعطش والسهر والهموم والغموم حتّى ضعف ونحف جسمه، فضجّ الملائكة في السماوات السبع والأرضين إلى الله، وتضرّعوا إليه وتوسّلوا وقالوا: إلهنا وسيّدنا، إنّك ستّارٌ غفّارٌ رحيمٌ كريم، إنّك خلقتَ آدم لغرضٍ ما، فاغفر لنا إن تجرأنا وبادرنا بهذا القول، فإنّ طمعنا في كرمك ورحمتك ومغفرتك.

فلمّا قال الملائكة ذلك تداركته رحمة الله، فصدر الخطاب إلىجبرئيل: أدركْ آدم. فهبط جبرئيل في الحال على جبل سرنديب، فوجد آدم بين الموت والحياة في الرمق الأخير، لا يقوى على حركة، وقد ذاب لحمه وأظلمت عينيه، وقد جرى نهران من دموعه وتخدّد وجهُه من كثرة البكاء وتشقّق جلده حتّى بان عظمه، فقال جبرئيل: يا آدم. فعرف آدمُ صوت جبرئيل، ولكنّه لم يردّ حياءاً، فناداه جبرئيل مرّةً أُخرى شفقةً ورحمة: يا آدم، أتذكر تلك الأسماء المقدّسة الّتي علّمتُك إيّاها في جنّة الفردوس؟ فقال آدم: يا جبرئيل، وهل يذكر أحدٌ شيئاً وهو في هذا الحال؟ فعلّمه جبرئيل الأسماء ثانية، فقال آدم: إلهي، ارحم ذلّي ومسكنتي، واغفر ذنبي وخطيئتي بحقّ محمّدٍ وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين. ثمّ بكى حتّى أُغمي عليه،

ص: 412

«فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ((1)).

فما أتمّ آدم الكلمات حتّى جاء الخطاب إلى جبرئيل: «بشّر آدم أنّي قبلتُ توبته وغفرتُ له»، فبشّره جبرئيل أنّ الله قبل توبته ببركة الأسماء الّتي ذكرتَها وتشفّعت بها، فسجد آدم سجدةً طويلة حتّى بان بياض الصبح، وأحسّ أنّ أعضاءه وقوّته عادت إليه، فسجد مرّةً أُخرى، فلمّا رفع رأسه سأل جبرئيل: كانت الدنيا مظلمة، فكيف صارت مضيئة؟ قال جبرئيل: اسودّت الدنيا واظلمّت الآفاق من معصيتك، فلمّا قُبلَت توبتُك عاد الضياء إلى الدنيا، فجُعل لبني آدم ركعتين قربةً إلى الله مكان السجدتين اللتين سجدهما آدم علیه السلام.ثم إنّ جبرئيل جاء بآدم إلى عرفات ودفع إليه حوّاء، وإنّما سُمّيت عرفة عرفة لأنّ آدم وحوّاء تعارفا هناك ((2)) ((3)).

ص: 413


1- ([1]) سورة البقرة: 37.
2- ([1]) تحفة المجالس: 175 المقصد 3.
3- ([2]) في (كشف الغُمّة للأربلي: 1 / 456) و(بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 52) وغيرهما: وروى ابن خالويه في كتاب الآل، قال: حدّثني أبو عبد الله الحنبلي، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن قضاعة، قال: حدّثنا أبو معاذ عبدان بن محمّد، قال: حدّثني مولاي أبو محمّد الحسن بن علي، عن أبيه عليّ بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه عليّ بن أبي طالب دعلیهم السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لمّا خلق الله آدم وحوّا تبخترا في الجنّة، فقال آدم لحوّا: ما خلق الله خلقاً هو أحسن منّا. فأوحى الله إلى جبرئيل: ائتِ بعبدَيّ الفردوس الأعلى. فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جاريةٍ على درنوكٍ من درانيك الجنّة وعلى رأسها تاجٌ من نور، وفي أُذنيها قرطان من نور، قد أشرقت الجنان من نور وجهها، فقال آدم: حبيبي جبرئيل، مَن هذه الجارية الّتي قد أشرقت الجنان من حُسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمّد، نبيٍّ من وُلدك يكونُ في آخر الزمان. قال: فما هذا التاج الّذي على رأسها؟ قال: بعلها عليّ بن أبي طالب علیه السلام. قال: فما القرطان اللّذان في أُذنيها؟ قال: ولداها الحسن والحسين. قال آدم: حبيبي، أُخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تُخلَق بأربعة آلاف سنة.

وفي بعض الكتب أنّ الله رحم آدم علیه السلام بعد ارتكابه خلاف الأُولى لثلاث خصال: الأولى: الحياء، والثانية، البكاء، والثالثة: الدعاء.

أمّا حياؤه: فإنّه بعد أن هبط على سرنديب لم يرفع رأسه ثلاثمئة سنة حياءاً، ولم تكن خطيئته أكثر من مخالفته الأُولى.

أمّا بكاؤه: فقد رُوي في (عيون أخبار الرضا علیه السلام): خرجمن عينه اليمنى مثل الدجلة، والعين الأُخرى مثل الفرات ((1)) ((2))..

ورُوي أنّه بكى مئتَي سنةٍ حتّى صار على خدَّيه مثل النهرين العجاجين العظيمين من الدموع، وكانت طيور السماء تشرب من دموعه،

ص: 414


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام: 1 / 243.
2- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 19.

ويقول بعضها لبعض: أيّ ماء عذبٍ هذا، لم نشرب مثله قطّ! فكان آدم يظنّ أنّ الطيور تعرّض به، ويقول: بلغ بي الأمر أن تستهزأ الطيور من دموعي، فجاءه الخطاب من ربّ الأرباب: يا آدم، صدقَت الطيور، إنّي لم أخلق جوهراً أنفس من دموع المحتاجين المتوسّلين ((1)).

أمّا دعاؤه: فقد جاءه جبرئيل وقال: يا آدم، إذا أردتَ التوبة فتوسّل بأسماء الخمسة أصحاب الكساء. فلقّنه جبرئيل: قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحق علي، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين، ومنك الإحسان، أسألك أن تغفر لي. فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي! قال جبرئيل: يا صفيّ الله، ولدك هذا يُصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصايب، يُقتَل عطشاناً غريباً فريداً ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: «وا عطشاه، وا قلّة ناصراه»، حتّى يحول العطشُ بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحدٌ إلّا بالسيوف وشرب الحتوف، فيُذبَح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحلَه أعداؤه، وتُشهر رؤوسهم هو وأنصارهفي البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان. فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى ((2)).

ص: 415


1- ([3]) روضة الشهداء: 19.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 44.

وروى في (تحفة المجالس) ((1))، قال سلمان: مررتُ يوماً ببيت سيّدة النساء فاطمة الزهراء، فسمعتُها تأنّ وتشكو الجوع وشدّة التعب من الطحن بالرحى، فانكسر قلبي وبكيتُ حتّى جرت دموعي، فاستأذنتها للدخول، فقالت فضّة: يا سلمان، إنّ سيّدة النساء ابنة رسول الله من وراء الباب، عليها اليسير من الثياب. فأخذتُ عباءتي فرميتُ بها داخل الباب، فدخلت، فإذا أنا بفاطمة جالسة، قدّامها رحىً تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دمٌ سائل، والحسين في ناحية الدار يبكي، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضّة. فقالت: «أوصاني رسول الله صلی الله علیه وآله أن تكون

ص: 416


1- ([2]) في (الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 530 ح 6): رُوي أنّ سلمان قال: كانت فاطمة علیها السلام جالسة قدّامها رحىً تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دمٌ سائل، والحسين في ناحية الدار يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضّة. فقالت: «أوصاني رسول الله صلی الله علیه وآله أن تكون الخدمة لها يوماً، فكان أمس يوم خدمتها». قال سلمان: قلت: إنّي مولى عتاقة، إمّا أنا أطحن الشعير أو أُسكت الحسين لكِ. فقالت: «أنا بتسكينه أرفق، وأنت تطحن الشعير». فطحنتُ شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول الله صلی الله علیه وآله، فلمّا فرغتُ قلت لعلي: ما رأيت؟ فبكى وخرج، ثمّ عاد فتبسّم، فسأله عن ذلك رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: «دخلتُ على فاطمة وهي مستلقية لقفاها والحسين نائمٌ على صدرها، وقُدّامها رحىً تدور من غير يد». فتبسّم رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «يا علي، أما علمتَ أنّ لله ملائكةً سيّارةً في الأرض، يخدمون محمّداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة؟».

الخدمة لها يوماً ولي يوماً، فكان أمس يوم خدمتها، واليوميوم خدمتي».

فحانت منّي التفاتة، فإذا أنا بالحسين في ناحيةٍ من الدار يتضوّر ويبكي، فقلت: يا سيّدة نساء العالمين، فاختاري إحدى الخصلتين: إمّا أن أطحن لك الشعير، أو أُسكت لكِ الحسين. قالت: يا أبا عبد الله، أنا أُسكته؛ فإنّي أرفق، وأنت تطحن الشعير.

قال: فجلستُ حتّى طحنتُ جزءً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيتُ حتّى صلّيتُ مع رسول الله، فلمّا فرغتُ من الصلاة أتيتُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وقلت: أنت هاهنا وفاطمة قد دبرت كفاها من طحن الشعير؟! فقام وإنّ دموعه لَتحدر على لحيته، وإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله لَينظر إليه حتّى خرج من باب المسجد، فلم يمكث إلّا قليلاً فإذا هو قد رجع يتبسّم من غير أن تستبين أسنانه، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا حبيبي، خرجتَ وأنت باكٍ ورجعت وأنت ضاحك!»، قال: «نعم، بأبي أنت وأُمّي، دخلتُ الدار وإذا فاطمة نائمة مستلقية لقفاها، والحسين نائم في المهد والمهد يتحرّك، وقدّامها الرحى تدور من غير يد، وسمعتُ هاتفاً يقول:

إنّ في الجنّة نهراً من لبن***لعليٍّ وحسينٍ وحسن»

فتبسم رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ قال: «يا علي، أُبشّرك أنّ هذا النهر لك ولشيعتك»، ثمّ قال: «علمتَ مَن كان يهزّ المهد؟»، قال: «الله ورسوله أعلم»، قال صلی الله علیه وآله: «إنّ الّذي يهزّ المهد جبرئيل، والّذي يطحن بالرحى ملائكة خلقهم الله يخدمون محمّداً وآل محمّدٍ إلى أن تقوم الساعة» ((1)).

ص: 417


1- ([1]) تحفة المجالس: 174 المقصد3 المعجزة 14.

وروى ابن بابويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام: «إنّجبرئيل علیه السلام نزل على محمّدٍ صلی الله علیه وآله وما وُلد الحسين بعد، فقال له: يولد لك غلامٌ تقتله أُمّتك من بعدك. فقال: يا جبرئيل، لا حاجة لي فيه. فخاطبه ثلاثاً، ثمّ دعا عليّاً فقال له: إنّ جبرئيل علیه السلام يخبرني عن الله عزوجل أنه يولد لك غلامٌ تقتله أُمّتك من بعدك. فقال: لا حاجة لي فيه يا رسول الله. فخاطب عليّاً علیه السلام ثلاثاً، ثمّ قال: إنّه يكون فيه وفي وُلده الإمامة والوراثة والخزانة. فأرسل إلى فاطمة علیها السلام أنّ الله يُبشّركِ بغلامٍ تقتله أُمّتي من بعدي. فقالت فاطمة: ليس لي حاجة فيه يا أبه. فخاطبها ثلاثاً، ثمّ أرسل إليها: لابدّ أن يكون فيه الإمامة والوراثة والخزانة. فقالت له: رضيتُ عن الله عزوجل، فعلقت وحملت بالحسين، فحملت ستّة أشهر ثمّ وضعَته، ولم يعش مولودٌ قطّ لستّة أشهر غير الحسين بن علي وعيسى ابن مريم علیه السلام، فكفلته أُمّ سلَمة، وكان رسول الله يأتيه في كلّ يومٍ فيضع لسانه في فم الحسين علیه السلام فيمصّه حتى يروى، فأنبت الله (تعالى) لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله ، ولم يرضع من فاطمة علیها السلام ولا من غيرها لبناً قطّ، فلمّا أنزل الله (تبارك وتعالى) فيه: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» ((1))، فلو قال: أصلح لي ذرّيتي، كانوا كلّهم أئمّة، لكن خص هكذا» ((2)).

ص: 418


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 205 الباب 156 ح 3.

روى عليّ بن إبراهيم في قوله: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا» ((1))، قال: الإحسان رسول الله صلی الله علیه وآله ، وقوله: «بِوَالِدَيْهِ» إنّما عنى الحسن والحسين علیها السلام ((2)).

قال المؤلّف:

إنّما عبّر عن الإمامين علیهما السلام بالوالدين؛ لأنّ الإمام كالوالد للرعيّة في الشفقة عليهم ووجوب طاعتهم له، وكون حياتهم بالعلم والإيمان بسببه، فقوله: «إِحْسَاناً» نُصب على العلّة، أي: وصّينا كلّ إنسانٍ بإكرام الإمامين للرسول ولانتسابهما إليه ((3)).

وروى علي بن إبراهيم، عن سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لمّا حملت فاطمة بالحسين، جاء جبرئيل علیه السلام إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أُمّتك من بعدك. فلما حملت فاطمة بالحسين كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه»، ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته لأنها علمت أنّه سيُقتَل!». قال: «وفيه نزلت هذه الآية: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ

ص: 419


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) تفسير القمّي: 2 / 397.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 247.

وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» ((1))» ((2)).

وفي (أمالي الصدوق) مسنداً عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وأقبل جيران أُمّ أيمن إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: يا رسول الله، إنّ أُمّ أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتّى أصبحَت». قال: «فبعث رسول الله صلی الله علیه وآله إلى أُمّ أيمن، فجاءته، فقال لها: يا أُمّ أيمن، لا أبكى الله عينَيك، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّكِ لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينك، ما الّذي أبكاكِ؟ قالت: يا رسول الله، رأيتُ رؤياً عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي الليل أجمع. فقال لها رسول الله صلی الله علیه وآله: فقصّيها على رسول الله، فإنّ الله ورسوله أعلم. فقالت: تعظم علَيّ أن أتكلّم بها. فقال لها: إنّ الرؤيا ليست على ما تُرى، فقصّيها على رسول الله. قالت: رأيتُ في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك ملقىً في بيتي. فقال لها رسول الله: نامت عينك يا أُمّ أيمن، تلد فاطمةُ الحسين، فتربّينه وتلينه، فيكون بعض أعضائي في بيتك. فلمّا ولدت فاطمة الحسين علیه السلام فكان يوم السابع أمر رسول الله صلی الله علیه وآله فحلق رأسه وتصدّق بوزن شعره فضّة وعقّ عنه، ثمّ هيّأته أُمّ أيمن ولفّته في بُرد رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ أقبلَت به إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال صلی الله علیه وآله: مرحباً بالحامل والمحمول، يا أُمّ أيمن هذا تأويل رؤياك» ((3)).

وفي (أمالي الطوسي)، عن الإمام الرضا علیه السلام، عن عليّبن الحسين علیه السلام

ص: 420


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 55 الباب 26 ح 2.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 82 المجلس 19 ح 1.

قال: «حدثَتني أسماءُ بنت عميس الخثعمية، قالت: قبلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله بالحسن والحسين علیهما السلام، قالت: فلمّا ولدَت الحسنَ علیه السلام جاء النبيّ صلی الله علیه وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني. قالت: فدفعتُه إليه في خِرقةٍ صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ أن لا تلفّوا المولود في خرقةٍ صفراء؟ ودعا بخرقةٍ بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعلي علیه السلام: بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنتُ لأسبقك باسمه يا رسول الله. قال: وأنا ما كنتُ لأسبق ربّي عزوجل. قال: فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزوجل يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون. قال النبي صلی الله علیه وآله : يا جبرئيل، وما اسمُ ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر. قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن. قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدَت فاطمةُ الحسين علیهما السلام نفستُها به، فجاءني النبي صلی الله علیه وآله فقال: هلمّي ابني يا أسماء. فدفعتُه إليه في خرقةٍ بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن علیه السلام، قالت: وبكى رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث، اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك. قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبي صلی الله علیه وآله فقال: هلمّي ابني. فأتيتُه به، ففعل به كما فعل بالحسن علیه السلام، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رجلاً، وحلق رأسه، وتصدّق بوزنالشعر ورقاً، وخلق رأسه بالخلوق، وقال: إنّ الدم من فعل الجاهلية. قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيز علَيّ. ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأُمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأول، فما هو؟! فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئةٌ باغيةٌ كافرةٌ من بني أُميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجلٌ يثلم الدين ويكفر

ص: 421

بالله العظيم. ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما، والعن من يبغضهما مل ء السماء والأرض» ((1)).

وفي بعض الأخبار: سمّى وُلده حسناً وحسيناً ومحسناً المسقط شهيداً من بطن أُمّه، سُمّوا باسم وُلد هارون: شُبّر وشبير ومشبّر، لأنّ عليّاً علیه السلام بمنزلة هارون ((2)).

وفي كتاب (عيون المعجزات) روى أنّ فاطمة علیها السلام ولدت الحسن والحسين من فخذها الأيسر، ورُوي أنّ مريم علیها السلام ولدت المسيح علیه السلام من فخذها الأيمن ((3)).

وفيه أيضاً رُوي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قام إلى الحسين وأخذه، فكان يسبّح ويهلّل ويمجّد ((4)).

وفي (الأمالي) للصدوق، عن صفيّة بنت عبد المطّلب قالت: لمّا سقط الحسين علیه السلام من بطن أُمّه فدفعتُه إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فوضع النبيُّ لسانه في فيه [فمه] وأقبل الحسين علىلسان رسول الله يمصّه، قالت: وما كنتُ أحسب رسول الله يغذوه إلّا لبناً أو عسلاً، قالت: فبال الحسين عليه، فقبّل النبيّ

ص: 422


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 367 المجلس 13 ح 32.
2- ([2]) أُنظُر: المسترشد للطبري: 448.
3- ([3]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 59.
4- ([4]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 64.

بين عينيه، ثمّ دفعه إليّ وهو يبكي ويقول: لعن الله قوماً هم قاتلوك يا بُني، يقولها ثلاثاً. قالت فقلت فداك أبي وأمي ومن يقتله قال بقية الفئة الباغية من بني أمية لعنهم الله((1)).

وفي كتاب (المناقب)، برة ابنة أُميّة الخزاعي قالت: لمّا حملَت فاطمة بالحسن خرج النبي صلی الله علیه وآله في بعض وجوهه، فقال لها: «إنكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا تُرضعيه حتّى أصير إليكِ». قالت: فدخلتُ على فاطمة حين ولدت الحسن وله ثلاثٌ ما أرضعَته، فقلت لها: أعطنيه حتّى أُرضعه، فقالت: «كلّا». ثمّ أدركتها رقّة الأُمّهات، فأرضعَته، فلمّا جاء النبي صلی الله علیه وآله قال لها: «ماذا صنعتِ؟»، قالت: «أدركني عليه رقّة الأُمّهات فأرضعتُه»، فقال: «أبى الله عزوجل إلّا ما أراد». فلمّا حملَت بالحسين قال لها: «يا فاطمة، إنكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا تُرضعيه حتّى أجي ء إليكِ ولو أقمتُ شهراً!»، قالت: «أفعلُ ذلك». وخرج رسول الله صلی الله علیه وآله في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين علیه السلام، فما أرضعَته حتّى جاء رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال لها: «ماذا صنعتِ؟»، قالت: «ما أرضعتُه». فأخذه، فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمصّ، حتّى قال النبي صلی الله علیه وآله : «إيهاً حسين، إيهاً حسين»، ثمّ قال: «أبى الله إلّا ما يُريد، هيَ فيك وفي وُلدك»، يعني الإمامة. ولمّا مُنع الماء من الحسين علیهالسلام أخذ سهماً وعدّ فوق خيام النساء تسع خطوات، فحفر الموضع

ص: 423


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 136 المجلس 28 ح 5.

فنبع ماء طيّب، فشربوا وملؤوا قِربهم ((1)) ((2)).

وفي (المناقب) أيضاً، عن أبي الفضل أنّه اعتلّت فاطمة لمّا ولدت الحسين وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مُرضعاً فلم يجد، فكان يأتيه فيُلقمه إبهامه فيمصّها، ويجعل الله له في إبهام رسول الله رزقاً يغذوه. ويُقال: بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فيه فيغرّه كما يغرّ الطير فرخه، فيجعل الله له في ذلك رزقاً، ففعل ذلك أربعين يوماً وليلة، فنبت لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله ((3)).

وفي (الكافي) بسنده عن الصادق علیه السلام [في حديث]: «لم يرضع الحسين من فاطمة علیها السلام ولا من أُنثى، كان يُؤتى به النبي فيضع إبهامه في فيه، فيمصّ منها ما يكفيها اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين علیه السلام من لحم رسول الله ودمه، ولم يولد لستّة أشهر إلّا عيسى ابن مريم علیه السلام والحسين بن علي علیهما السلام» ((4)).

في (الملهوف): كان مولد الحسين علیه السلام لخمس ليالٍ خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وقيل: اليوم الثالث منه، وقيل: في أواخر شهر ربيع

ص: 424


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 22.
2- ([2]) الخبر عامّي ولا ينتهي إلى معصوم، وما كانت سيّدة النساء علیها السلام لتعصي سيّد الأنبياء صلی الله علیه و آله، فما ورد في الخبر ممّا يوافق عصمة الطاهرة البتول ويُخبر عن منقبةٍ للسبطين سيّدَي شباب أهل الجنّة قبلناه.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 21.
4- ([4]) الكافي: 1 / 465، كامل الزيارات لابن قولويه: 57 الباب 16 ح 4.

الأول سنة ثلاثٍ من الهجرة، وروي غير ذلك ((1)).

وقال المجلسي: الأشهَر بين الشيعة أنّه وُلد في المدينة يوم الخميس الثالث من شعبان سنة أربع للهجرة ((2)).

وفي (الملهوف): قالت أُمّ الفضل زوجة العبّاس: رأيتُ في منامي قبل مولده كأنّ قطعةً من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله قُطعَت فوُضعَت في حِجري، ففسّرت ذلك على رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال: «[يا أُمّ الفضل، رأيتِ خيراً،] إن صدَقَت رؤياك فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليكِ لتُرضعيه». قالت: فجرى الأمر على ذلك، فجئتُ به يوماً إليه فوضعتُه في حِجره، فبينما هو يقبّله فبال، فقطرت من بوله قطرةً على ثوب النبي صلی الله علیه وآله ، فقرصتُه فبكى، فقال النبي صلی الله علیه وآله كالمغضب: «مهلاً يا أُمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسَل، وقد أوجعتِ ابني!». قالت: فتركتُه في حِجره وقمتُ لآتيه بماء، فجئتُ فوجدتُه صلی الله علیه وآله يبكي، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله؟ فقال صلی الله علیه وآله : «إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل ولدي هذا، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» ((3)).

وروى ابن بابويه أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أُتي بالحسين بن علي علیه السلام فوُضع في حِجره، فبال عليه، فأخذ فقال: «لا تزرموا ابني». ثمّ دعا بماءٍ فصبّه

ص: 425


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 13.
2- ([2]) أُنظُر: جلاء العيون: 476 الباب 5 الفصل 1، بحار الأنوار: 98 / 101.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 14.

عليه ((1)).

وروى في (الملهوف) قال: فلمّا أتت على الحسين علیه السلام من مولده سنة كاملة، هبط على رسول الله صلی الله علیه وآله اثنا عشر ملَكاً، أحدهم على صورة الأسد، والثاني على صورة الثور، والثالث على صورة التنّين، والرابع على صورة وُلد آدم، والثمانية الباقون على صور شتّى، محمرّةً وجوههم باكيةً عيونهم، قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون: يا محمّد صلی الله علیه وآله ، سينزل بولدك الحسين ابن فاطمة علیه السلام ما نزل بهابيل من قابيل، وسيُعطى مثل أجر هابيل، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل. ولم يبقَ في السماوات ملَكٌ مقرّب إلّا ونزل إلى النبي صلی الله علیه وآله ، كلٌّ يقرئه السلام ويعزّيه في الحسين علیه السلام، ويُخبره بثواب ما يُعطى، ويعرض عليه تربته، والنبي صلی الله علیه وآله يقول: «اللّهمّ اخذل مَن خذله، واقتل مَن قتله، ولا تمتّعه بما طلبه».

قال: فلمّا أتى على الحسين علیه السلام من مولده سنتان، خرج النبي صلی الله علیه وآله

في سفرٍ له، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسئل عن ذلك، فقال: «هذا جبرئيل علیه السلام يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها: كربلاء، يُقتل عليها ولدي الحسين ابن فاطمة علیه السلام». فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله؟! فقال صلی الله علیه وآله : «رجلٌ اسمه يزيد (لعنه الله)، وكأنّي أنظر إلى مصرعه ومدفنه». ثمّ رجع من سفره ذلك مغموماً، فصعد المنبر فخطب ووعظ، والحسن

ص: 426


1- ([1]) معاني الأخبار للصدوق: 211 ح 1.

والحسين علیهماالسلام بين يديه، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن علیه السلام ويده اليسرى على رأس الحسين علیه السلام، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذريّتي وأُرومتي ومَن أُخلّفهما في أُمّتي، وقد أخبرني جبرئيل علیه السلام أنّ ولدي هذا مقتول مخذول، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله». قال: فضجّ الناس في المسجد بالبكاء والنحيب، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أتبكونه ولا تنصرونه؟!».

ثمّ رجع صلی الله علیه وآله وهو متغيّر اللون محمرّ الوجه، فخطب خطبةً أُخرى موجزة وعيناه تهملان دموعاً، ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّي قد خلّفتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي وأُرومتي ومزاج مائي وثمرة فؤادي ومهجتي، لن يفترقا حتّى يَرِدا علَيّ الحوض، ألا وإنّي أنتظرهما، وإنّي لا أسألكم في ذلك إلّا ما أمرني ربّي، أمرني أن أسألكم المودّة في القربى، فانظروا ألا تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم، ألا وإنّه سترد علَيّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأُمّة: الأُولى رايةٌ سوداء مظلمة، وقد فزعت له الملائكة، فتقف علَيّ، فأقول: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أُمّتك يا أحمد، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم عن جديد الأرض. فأُولّي عنهم وجهي، فيصدرون ظماءً عطاشا، مسودّةً وجوههم. ثمّ ترد علَيّ رايةٌ أُخرى أشدّ سواداً من

ص: 427

الأُولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر، كتاب ربّي وعترتي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فخالفنا، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم كلّ ممزّق، فأقول: إليكم عنّي. فيصدرون ظماءً عطاشا مسودّاً وجوههم. ثمّ ترد علَيّ رايةٌ أُخرى، تلمع وجوههم نوراً، فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أُمّة محمّد صلی الله علیه وآله ، ونحن بقيّة أهل الحقّ، حملنا كتاب ربّنا، فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد صلی الله علیه وآله ، فنصرناهم من كلّ ما نصرنا منه أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد صلی الله علیه وآله ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتُم. ثمّ أسقيهم من حوضي، فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين».

قال: وكان الناس يتعاودون ذكر قتل الحسين علیه السلام ويستعظمونه ويرتقبون قدومه ((1)).

وفي (البحار) و(المنتخب)، عن ابن مسعودٍ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله في مسجده، إذ دخل علينا فتيةٌ من قريش ومعهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فتغيّر لون رسول الله، فقلنا له: يا رسول الله، ما شأنك؟ فقال: «إنّا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّي ذكرتُ ما يلقى أهل بيتي من أُمّتي من بعدي من قتلٍ وضربٍ وشتمٍ وسبٍّ وتطريدٍ وتشريد، وإنّ أهل بيتي سيُشرّدون ويُطردون ويُقتلون، وإنّ أوّل رأسٍ يُحمَل على رمحٍ في الإسلام رأس ولدي الحسين، أخبرني بذلك أخيجبرائيل عن الربّ الجليل». وكان الحسين حاضراً

ص: 428


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 15.

عند جدّه في ذلك الوقت، فقال: «يا جدّاه، فمَن يقتلني من اُمّتك؟»، فقال: «يقتلك شرار الناس»، وأشار النبي صلی الله علیه وآله إلى عمر بن سعد (لعنه الله)، فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحُسين علیه السلام((1))

وفي (البحار) مسنداً عن ابن نباتة قال: بينا أمير المؤمنين علیه السلام يخطب الناس وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن شيءٍ مضى ولا عن شيءٍ يكون إلّا نبّأتكم به»، فقام إليه سعد بن أبي وقّاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟ فقال له: «أما والله لقد سألتني عن مسألةٍ حدّثني خليلي رسول الله صلی الله علیه وآله أنّك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك من شعرةٍ إلّا وفي أصلها شيطانٌ جالس، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل الحسين ابني»، وعمر بن سعد يومئذٍ يدرج بين يديه ((2)).

وروى المفيد في (الإرشاد) وغيره: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال في خطبته: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن فئةٍ تضلّ مئة وتهدي مئة إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة». فقام إليه رجلٌ فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟ فقام أمير المؤمنين علیه السلام وقال: «والله لقد حدّثني خليلي رسول الله صلیالله علیه وآله بما سألتَ عنه، وإنّ

ص: 429


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 326 المجلس 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 146 الباب 124 ح 6، الأمالي للصدوق: 133.

على كلّ طاقة شعرٍ في رأسك ملَكاً يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزّك، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به، ولولا أنّ الّذي سألتَ عنه يعسر برهانه لَأخبرتك به، ولكنّ آية ذلك ما نبّأتُ به عن لعنتك وسخلك الملعون» ((1)).

وفي (المنتخب) قال: وكان له ولدٌ صغير في ذلك الوقت، فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحسين ما كان، نمى الصبيّ وتجبّر وتولّى قتل الحسين علیه السلام. وقيل: إنّ ذلك الصبيّ كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي، وهو الّذي طعن الحسين برمحه فخرج السنان من ظهره، فسقط الحسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه: «أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ» ((2)).

وفي (البحار): عبد الله بن شُريك العامريّ قال: كنتُ أسمع أصحاب عليٍّ إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين. وذلك قبل أن يُقتَل بزمانٍ طويل ((3)).

وفي (البحار) أيضاً: سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد

ص: 430


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 1 / 330، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 261، إعلام الورى للطبرسي: 175، خصائص الائمّة: 62، شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد: 2 / 286، كشف اليقين: 75، نهج الحقّ: 241، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 258.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19، الإرشاد للمفيد: 2 / 131، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 9.

للحسين علیه السلام: يا أبا عبد الله، إنّ قبلنا ناساً سفهاءيزعمون أنّي أقتلك! فقال له الحسين: «إنّهم ليسوا سفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه يقرّ عيني أن لا تأكل بُرّ العراق بعدي إلّا قليلاً» ((1)).

وفي (البحار) أيضاً مسنداً: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ موسى بن عمران علیه السلام سأل ربّه عزوجل فقال: يا رب، إنّ أخي هارون مات، فاغفر له. فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى، لو سألتني في الأولين والآخرين لَأجبتك، ما خلا قاتل الحسين بن عليّ، فإنّي أنتقم له من قاتله» ((2)).

وفي (المنتخب) أنّ موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلاً، وقد كسته الصفرة واعترى بدنه الضعف وحكم بفرائصه الرجف، وقد اقشعرّ جسمه وغارت عيناه ونحف؛ لأنّه كان إذا دعاه ربّه للمُناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله (تعالى)، فعرفه إسرائيلي وهو ممّن آمن به، فقال له: يا نبيّ الله، أذنبتُ ذنباً عظيماً، فاسألْ ربّك أن يعفو عنّي. فأنعم، وسار، فلمّا ناجى ربّه قال له: «يا ربّ العالمين، أسألك وأنت العالم قبل نطقي به»، فقال (تعالى): «يا موسى، ما تسألني أُعطيك، وما تريد أُبلّغك». قال: «ربّي، إنّ فلاناً عبدك إسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو»، قال: «يا موسى، أعفو عمّن استغفرني، إلّا قاتل

ص: 431


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 20، الإرشاد للمفيد: 2 / 131، كشف الغمّة للإربلي: 2 / 9.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 300 ح 4، عيون أخبار الرضا علیه السلام: 2 / 47 ح 179، اللهوف لابن طاووس: 140.

الحسين». قال موسى: «يا ربّ، مَن الحسين؟»، قال له:«الّذي مرّ ذكره عليك بجانب الطور». قال: «ربّ، ومَن يقتله؟»، قال: «يقتله أُمّة جدّه الباغية الطاغية في أرض كربلاء، وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل وتقول في صهيلها: الظليمة الظليمة، من أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها. فيبقى مُلقىً على الرمال من غير غُسلٍ ولا كفن، ويُنهَب رحله وتُسبى نساؤه في البلدان، ويُقتل ناصروه وتُشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح. يا موسى، صغيرهم يميته العطش، وكبيرهم جلده منكمش، يستغيثون ولا ناصر، ويستجيرون ولا خافر». قال: فبكى موسى وقال: «يا ربّ، ما لقاتليه من العذاب؟»، قال: «يا موسى، عذابٌ يستغيث منه أهل النار بالنار، لا تنالهم رحمتي ولا شفاعة جدّه، ولو لم تكن كرامةٌ له لخسفت بهم الأرض». قال موسى: «برئتُ إليك اللّهمّ منهم وممّن رضيَ بفعالهم». فقال (سبحانه): «يا موسى، كتبتُ رحمةً لتابعيه من عبادي، واعلم أنّه مَن بكى عليه وأبكى أو تباكى، حرّمتُ جسده على النار» ((1)).

ص: 432


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 284 المجلس 3.

الفصل الحادي عشر: في بيان صوم عاشوراء، وعلّة عدم منع القاتلين وعدم مسخ الأعداء وغير ذلك

في (الكافي)، عن أبان، عن عبد الملك قال: سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن صوم تاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرّم، فقال: «تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين علیه السلام وأصحابه (رضي الله عنهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيلُ أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابَه (رضي الله عنهم)، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين علیه السلام ناصرٌ ولا يمدّه أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب»، ثمّ قال: «وأمّا يوم عاشوراء فيومٌ أُصيب فيه الحسين علیه السلام صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى حوله عُراة، أفصومٌ يكون في ذلك اليوم؟! كلّا وربِّ البيت الحرام، ما هو يوم صوم، وما هو إلّا يوم حزنٍ ومصيبةٍ دخلَت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع

ص: 433

المؤمنين، ويوم فرحٍ وسرورٍ لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام، غضب الله عليهم وعلى ذريّاتهم، وذلك يومٌ بكت عليه جميعُ بقاع الأرض خلا بقعة الشام، فمن صامه أو تبرّك به حشره الله مع آل زياد ممسوخ القلب مسخوط عليه، ومن ادّخر إلى منزله ذخيرةً أعقبه الله (تعالى) نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه، وانتزع البركة عنه وعن أهل بيته ووُلده، وشاركه الشيطان في جميع ذلك» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق) بإسناده عن جبلّة المكيّة قالت: سمعتُ الميثم التمّار (قدّس الله روحه) يقول: والله لَتقتلنّ هذه الأُمّة ابنَ نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضين منه، ولَيتّخذنّ أعداءُ الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن، قد سبق في علم الله (تعالى ذكره)، أعلمُ ذلك بعهدٍ عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلُّ شيء، حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار والطير في جو السماء، وتبكي عليه الشمسُ والقمر والنجوم والسماء والأرض ومؤمنو الإنس والجنّ وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً. ثمّ قال: وجبت لعنة الله على قتلة الحسين علیه السلام كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخَر، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس. قالت جبلّة، فقلت له: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناسُ ذلك اليوم الّذي يُقتَل فيه الحسين بن علي علیه السلام يوم بركة؟! فبكى ميثم (رضوان الله

ص: 434


1- ([1]) الكافي للكليني: 4 / 147 ح 7.

عليه)، ثمّ قال: سيزعمون بحديثٍ يضعونه أنّه اليوم الّذي تاب الله فيه على آدم علیه السلام، وإنّما تاب الله على آدم علیه السلامفي ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي قبل الله فيه توبة داوود، وإنّما قبل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي استوت فيه سفينة نوحٍ على الجودي، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأول. ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلمي أنّ الحسين بن عليٍّ سيّدُ الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلّة، إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دمٌ عبيط فاعلمي أنّ سيّدكِ الحسين قد قُتِل. قالت جبلة: فخرجتُ ذات يومٍ فرأيتُ الشمس على الحيطان كأنّه الملاحف المعصفرة، فصحتُ حينئذٍ وبكيت وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن علي علیهما السلام ((1)).

وفيه أيضاً، عن ابن فضّال، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا قال: «مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء، قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عزوجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت بنا في الجنان عينُه، ومَن سمّى يوم عاشوراء يوم بركةٍ وادّخر فيه لمنزله

ص: 435


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 126 المجلس 27 ح 1.

شيئاً، لم يبارَك له فيما ادّخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعُبيد الله بن زياد وعمر ابن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار» ((1)).وروى الشيخ الطوسي في (المصباح)، عن عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیه السلام في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك! فقال لي: «أوَفي غفلةٍ أنت؟ أما علمتَ أنّ الحسين بن عليٍّ أُصيب في مثل هذا اليوم؟». فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صومٍ كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاءُ عن آل رسول الله وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلی الله علیه وآله مصرعهم، ولو كان في الدنيا يومئذٍ حيّاً لَكان صلی الله علیه وآله هو المعزّى بهم». قال: وبكى أبو عبد الله علیه السلام حتّى اخضلّت لحيتُه بدموعه، ثمّ قال: «إنّ الله (جلّ ذكره) لمّا خلق النور خلقه يوم الجمعة في تقديره في أوّل يومٍ من شهر رمضان، وخلق الظلمة في يوم الأربعاء يوم عاشوراء في مثل ذلك -- يعني يوم العاشر من شهر المحرّم -- في تقديره، وجعل لكلٍّ منهما شرعةً ومنهاجاً» ((2))..

وفي (علل الشرائع) بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قلت

ص: 436


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 126 المجلس 27 ح 4.
2- ([1]) مصباح المتهجّد للطوسي: 2 / 782.

لأبي عبد الله جعفر بن محمّدٍ الصادق علیه السلام: يا ابن رسول الله، كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبةٍ وغمّ وجزع وبكاءدون اليوم الّذي قُبض فيه رسول الله صلی الله علیه وآله ، واليوم الّذي ماتت فيه فاطمة علیه السلام، واليوم الّذي قُتل فيه أمير المؤمنين علیه السلام، واليوم الّذي قُتل فيه الحسن علیه السلام بالسمّ؟ فقال: «إنّ يوم الحسين علیه السلام أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أنّ أصحاب الكساء الّذي كانوا أكرم الخلق على الله (تعالى) كانوا خمسة، فلمّا مضى عنهم النبي صلی الله علیه وآله بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، فكان فيهم للناس عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضت فاطمة علیه السلام كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين للناس عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضى منهم أمير المؤمنين علیه السلام كان للناس في الحسن والحسين عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضى الحسن علیه السلام كان للناس في الحسين علیه السلام عزاءٌ وسلوة، فلمّا قُتل الحسين علیه السلام لم يكن بقيَ من أهل الكساء أحدٌ للناس فيه بعده عزاءٌ وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم مصيبة». قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلتُ له: يا ابن رسول الله، فلمَ لم يكن للناس في عليّ بن الحسين عزاءٌ وسلوةٌ مثل ما كان لهم في آبائه علیه السلام فقال: «بلى، إنّ عليّ بن الحسين كان سيّدَ العابدين وإماماً وحُجّةً على الخلق بعد آبائه الماضين، ولكنّه لم يلقَ رسول الله صلی الله علیه وآله ولم يسمع منه، وكان علمه وراثةً عن أبيه عن جدّه عن النبي صلی الله علیه وآله ، وكان أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام قد شاهدهم الناس مع رسول الله صلی الله علیه وآله في أحوالٍ في آنٍ يتوالى، فكانوا متى نظروا إلى أحدٍ منهم تذكّروا حاله مع رسول الله صلی الله علیه وآله وقول رسول الله له وفيه، فلمّا مضوا فقَدَ الناسُ

ص: 437

مشاهدة الأكرمين على الله عزوجل، ولم يكن في أحدٍ منهم فقْدُ جميعهم إلّا في فقد الحسين علیه السلام، لأنه مضى آخرهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».

قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله، فكيف سمّت العامّةُ يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى علیه السلام ثمّ قال: «لمّا قُتل الحسين علیه السلام تقرّب الناس بالشام إلى يزيد، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليه الجوائز من الأموال، فكان ممّا وضعوا له أمر هذا اليوم وأنّه يوم بركة، ليعدل الناسُ فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرك والاستعداد فيه، حكَمَ الله ما بيننا وبينهم». قال: ثمّ قال علیه السلام: «يا ابن عم، وإنّ ذلك لَأقلّ ضرراً على الإسلام وأهله وضعه قومٌ انتحلوا مودّتنا وزعموا أنهم يدينون بموالاتنا ويقولون بإمامتنا، زعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل وأنّه شُبّه للناس أمره كعيسى ابن مريم، فلا لائمة إذن على بني أُميّة ولا عتب على زعمهم. يا ابن عم، مَن زعم أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل فقد كذّب رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وكذّب من بعده الأئمة علیهم السلام في إخبارهم بقتله، ومَن كذّبهم فهو كافرٌ بالله العظيم ودمُه مباحٌ لكلّ مَن سمع ذلك منه». قال عبد الله ابن الفضل: فقلت له: يا ابن رسول الله، فما تقول في قومٍ من شيعتك يقولون به؟ فقال علیه السلام: «ما هؤلاء من شيعتي، وإنّي بريءٌ منهم، كذا وكذا وكذا وكذا، إبطال القرآن والجنّة والنار».

قال: فقلت: فقول الله (تعالى): «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي

ص: 438

السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» ((1))، قال: «إنّ أُولئك مُسخوا ثلاثة أيّامٍ ثمّ ماتوا، ولم يتناسلوا، وإنّ القردة اليوم مثل أُولئك، وكذلك الخنازير وسائر المسوخ، ما وُجد منها اليوم من شيءٍ فهو مثله، لا يحلّ أن يؤكل لحمه»، ثمّ قال؟ع؟: «لعن الله الغُلاة والمفوّضة؛ فإنّهم صغّروا عصيان الله وكفروا به وأشركوا وضلّوا وأضلّوا فراراً من إقامة الفرائض وأداء الحقوق» ((2)).

وروى ابن بابويه، عن أبي الصلت الهرويّ قال: قلتُ للرضا علیه السلام: يا ابن رسول الله، إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبي صلی الله علیه وآله لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: «كذبوا (لعنهم الله)، إنّ الّذي لا يسهو هو الله الّذي لا إله إلّا هو». قال: قلت: يا ابن رسول الله، وفيهم قوماً يزعمون أنّ الحسين بن علي علیه السلام لم يُقتَل، وأنّه أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشامي، وأنّه رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى ابن مريم علیه السلام، ويحتجّون بهذه الآية: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ((3))، فقال: «كذبوا، عليهم غضب الله ولعنته، وكفروا بتكذيبهم لنبيّ الله صلی الله علیه وآله في إخباره بأنّ الحسين بن علي علیه السلام سيُقتَل. واللهِ لقد قُتل الحسين علیه السلام وقُتل مَن كان خيراً من الحسين: أمير المؤمنين، والحسن ابن علي علیه السلام، وما منّا إلّا مقتول، وإنّي والله لَمقتولٌ بالسمّ باغتيال مَن يغتالني،

ص: 439


1- ([1]) سورة البقرة: 65.
2- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 225 الباب 62 ح 1.
3- ([3]) سورة النساء: 141.

أعرفُ ذلك بعهدٍ معهودٍ إليّ من رسول الله صلی الله علیه وآله ، أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين عزوجل. وأما قول الله عزوجل: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فإنّه يقول: لن يجعل الله لكافرٍ على مؤمنٍ حُجّة، ولقد أخبر الله عزوجل عن كفّارٍ قتلوا النبيّين بغير الحقّ، ومع قتلهم إيّاهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه علیهم السلام سبيلاً من طريق الحجّة» ((1)).

وفي كتاب (الاحتجاج)، عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: كنتُ عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه مع جماعةٍ منهم عليّ بن عيسى القصري، فقام إليه رجلٌ فقال له: أُريد أن أسألك عن شيء. فقال له: سَلْ عمّا بدا لك. فقال الرجل: أخبِرْني عن الحسين بن علي علیه السلام أهو وليّ الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله (لعنه الله) أهو عدوّ لله؟ قال: نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلّط اللهُ عزوجل عدوَّه على وليّه؟ فقال أبو القاسم (قدّس الله روحه): إفهَمْ عنّي ما أقول لك، اعلم أنّ الله (تعالى) لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنّه (جلّت عظمتُه) يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ولو بعث إليهم رسُلاً من غير صنفهم وصوّرهم لَنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلمّا جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم بشرٌ مثلنا، لا نقبل منكم حتّى تأتونا بشيءٍ نعجز من أن نأتي بمثله،

ص: 440


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 203 ح 5.

فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عزوجل لهم المعجزات الّتي يعجز الخلق عنها، فمنهم مَن جاءبالطوفان بعد الإعذار والإنذار، فغرق جميعُ مَن طغى وتمرّد، ومنهم مَن أُلقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم مَن أخرج من الحجر الصلب الناقةَ وأجرى من ضرعها لبناً، ومنهم من فلق له البحر وفجّر له من العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم مَن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، ومنهم من انشقّ له القمر وكلّمَته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك، فلمّا أتوا بمثل ذلك وعجز الخلقُ عن أُممهم مِن أن يأتوا بمثله كان من تقدير الله (جلّ جلاله) ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حالٍ غالبين وأُخرى مغلوبين، وفي حالٍ قاهرين وأُخرى مقهورين، ولو جعلهم الله في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتّخذهم الناسُ آلهةً من دون الله عزوجل،ولمّا عرف فضل صبّرهم على البلاء والمحن والاختبار، ولكنّه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبّرين، وليعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبّرهم فيعبدوه ويطيعوا رسُلَه، وتكون حُجّة الله ثابتةً على مَن تجاوز الحدّ فيهم وادّعى لهم الربوبيّة، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل، وليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بيّنة. قال محمّد بن

ص: 441

إبراهيم بن إسحاق رحمه الله: فعُدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله في الغد وأنا أقول في نفسي: أتُراه ذكر لنا ما ذكر يوم أمس مِن عند نفسه؟ فابتدأني وقال: يا محمّد بن إبراهيم، لئن أخرّ من السماء فتختطفني الطير أو تهوي بيَ الريح فيمكانٍ سحيق أحبُّ إليّ مِن أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموعٌ من الحجّة (صلوات الله عليه وسلامه) ((1)).

وروى في (الخصال) بإسناده عن عمارة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «إنّ أيّوب علیه السلام ابتُلي من غير ذنب، وإنّ الأنبياء لا يُذنبون، لأنهم معصومون مطهّرون، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً»، وقال علیه السلام: «إنّ أيّوب علیه السلام مع جميع ما ابتُلي به لم ينتن له رائحةٌ ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دمٍ ولا قيح، ولا استقذره أحدٌ رآه، ولا استوحش منه أحدٌ شاهده، ولا يدود شيءٌ من جسده، وهكذا يصنع الله عزوجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنّما اجتنبه الناسُ لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربّه (تعالى ذكره) من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلی الله علیه وآله : أعظمُ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل. وإنّما ابتلاه الله عزوجل بالبلاء العظيم الّذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له الربوبيّة إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من الله (تعالى

ص: 442


1- ([1]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 471، علل الشرائع للصدوق: 1 / 241.

ذكره) على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره، ولا مريضاً لمرضه، وليعلموا أنّه يُسقِم مَن يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأيّسببٍ شاء، ويجعل ذلك عِبرةً لمن يشاء وشقاوةً لمن يشاء وسعادةً لمن يشاء، وهو في جميع ذلك عدلٌ في قضائه وحكيمٌ في أفعاله، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، ولا قوّة لهم إلّا به» ((1)).

وروى ابن بابويه والحِمْيَري، عن عليّ بن رئاب قال: سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزوجل: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» ((2))، أرأيتَ ما أصاب عليّاً وأهلَ بيته هو بما كسبَت أيديهم، وهم أهل بيت طهارةٍ معصومون؟! فقال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يتوب إلى الله عزوجل ويستغفره في كلّ يومٍ وليلةٍ مئة مرّةٍ من غير ذنب! إنّ الله عزوجل يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب» ((3)).

وروى الصفّار، عن ضريس، قال: قال: سمعتُ أبا جعفر علیه السلام يقول وأُناسٌ من أصحابه حوله: «إنّي أعجب من قومٍ يتولّوننا ويجعلوننا أئمةً ويصفون بأنّ طاعتنا عليهم مفترضةٌ كطاعة الله، ثمّ يكسرون حُجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقّنا ويعيبون ذلك علينا مَن أعطاه الله برهان حقّ

ص: 443


1- ([1]) الخصال للصدوق: 2 / 399 ح 108.
2- ([2]) سورة الشورى: 30.
3- ([3]) معاني الأخبار للصدوق: 383 ح 15، الكافي للكليني: 2 / 450، تفسير القمّي: 2 / 277.

معرفتنا والتسليم لأمرنا، أترون أنّ الله (تبارك وتعالى) افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهمممّا فيه قِوام دينهم؟». فقال له حِمران: جُعلتُ فداك يا أبا جعفر، رأيت ما كان من أمر قيام عليّ بن أبي طالب علیه السلام والحسن والحسين علیهما السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله وما أُصيبوا به مِن قِبل [قتل] الطواغيت إيّاهم والظفر بهم، حتّى قُتلوا وغُلبوا! فقال أبو جعفر علیه السلام: «يا حِمران، إنّ الله (تبارك وتعالى) قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه، فتقدّم [فبتقدّم] على [علمٍ من] رسول الله إليهم في ذلك قام عليٌّ والحسن والحسين علیهم السلام، ويعلم [بعلمٍ] صمت مَن صمت منّا، ولو أنّهم -- يا حمران -- حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله وإظهار الطواغيت عليهم سألوا اللهَ دفعَ ذلك عنهم وألحّوا فيه في إزالة مُلك الطواغيت، إذاً لَأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثمّ كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب مُلكهم أسرعَ مِن سلكٍ منظوم انقطع فتبدّد، وما كان الّذي أصابهم من ذلك -- يا حمران -- لذنبٍ اقترفوه ولا لعقوبة معصيةٍ خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامةٍ من الله أراد أن يبلغها [يبلغوها]، فلا تذهبنّ فيهم المذاهب بك» ((1)).

وفي روضة (الكافي) مسنداً عن الصادق علیه السلام: «ثلاثةٌ هم شِرار الخلق ابتُلي بهم خيار الخلق: أبو سفيان أحدهم، قاتلَ رسول الله صلی الله علیه وآله وعاداه، ومعاوية قاتلَ عليّاً علیه السلام وعاداه، ويزيد بن معاوية (لعنه الله) قاتلَ الحسين بن علي علیه السلام وعاداه

ص: 444


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 124 الباب 5 ح 3، الكافي للكليني: 1 / 261.

حتّى قتله» ((1)).وفيه أيضاً، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الأشعث بن قيس شَرِك في دم أمير المؤمنين علیه السلام، وابنتَه جُعدة سمّت الحسن علیه السلام، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين علیه السلام» ((2)).

وفي (إرشاد) الديلمي، عن حمزة الثُّمالي، عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «لمّا أراد أمير المؤمنين أن يسير إلى الخوارج بالنهروان، واستفزّ أهلَ الكوفة وأمرهم أن يعسكروا بالميدان، فتخلّف عنهم شبَث بنُ ربعيّ والأشعث بن قيس الكندي وجرير بن عبد الله البجَلي وعمرو بن حريث، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أتأذن لنا أن نقضيَ حوائجنا ونصنع ما نريد، ثمّ نلحق بك؟ فقال لهم: فعلتموها، سوءةً لكم من مشايخ، والله ما لكم تتخلّفون عنها حاجة، ولكنكم تتّخذون سفرةً وتخرجون إلى النزهة، فتأمرون وتجلسون وتنظرون في منظرٍ تتنحّون عن الجادّة، وتبسط سفرتكم بين أيديكم فتأكلون من طعامكم، ويمر ضبٌّ فتأمرون غلمانكم فيصطادونه لكم ويأتونكم به، فتخلعوني وتبايعون الضبّ وتجعلونه إمامكم دوني، واعلموا أنّي سمعتُ أخي رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليخلو كلُّ قومٍ بمَن كانوا يأتمّون به في الحياة الدنيا. فمَن أقبح وجوهاً منكم وأنتم تحيلون أخا رسول الله صلی الله علیه وآله وابن عمّه وصهره، وتنقضون ميثاقه الّذي أخذه الله ورسوله عليكم، وتُحشرون يوم القيامة وإمامكم الضبّ؟ وهو قول الله عزوجل: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ

ص: 445


1- ([2]) الكافي للكليني: 8 / 234 ح 311.
2- ([1]) الكافي للكليني: 8 / 167 ح 187.

بِإِمَامِهِمْ» ((1)). فقالوا: والله يا أمير المؤمنين ما نريد إلّا أننقضي حوائجنا ونلحق بك. فولّى عنهم وهو يقول: عليكم الدمار والبوار، واللهِ ما يكون إلّا ما قلتُ لكم، وما قلتُ إلّا حقّاً. ومضى أمير المؤمنين علیه السلام ، حتّى إذا صار بالمدائن خرج إلى الخورنق، وهيّئوا طعاماً في سفره وبسطوها في الموضع، وجلسوا يأكلون ويشربون الخمر، فمرّ بهم ضبّ، فأمروا غلمانهم فاصطادوه وأتوهم به، فخلعوا أميرَ المؤمنين وبايعوه، وبسط لهم الضبّ يده، فقالوا: أنت واللهِ إمامُنا، ما بيعتنا لك ولعليّ بن أبي طالبٍ إلّا واحدة، وإنّك لَأحبّ إلينا منه. فكان كما قال أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان القوم كما قال الله (تعالى): «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» ((2)). ثمّ لحقوا به، فقال لهم لمّا وردوا عليه: فعلتم يا أعداءَ الله وأعداء رسوله وأعداء أمير المؤمنين ما أخبرتُكم به؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ما فعلناه. فقال: والله لَيبعثنكم الله مع إمامكم. قالوا: قد أفلحنا يا أمير المؤمنين، إذاً بعثنا الله معك. فقال: كيف تكونوا [تكونون] معي وقد خلعتموني وبايعتم الضبّ؟ والله لكأني أنظر إليكم يوم القيامة والضبّ يسوقكم إلى النار. فحلفوا له بالله إنّا ما فعلنا ولا خلعناك ولا بايعنا الضب. فلما رأوه يكذّبهم ولا يقبل منهم أقرّوا له، وقالوا: اغفرْ لنا ذنوبنا. قال: والله لا غفرتُ لكم ذنوبكم، وقد اخترتم مسخاً مسخه الله وجعله آيةً للعالمين، وكذّبتم رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد حدّثَني بحديثكم عن جبرائيل عن الله (سبحانه)، فبُعداً لكم وسحقاً. ثمّ قال: لئن كان مع رسول الله صلی الله علیه وآله منافقون، فإنّ معي منافقون [منافقين]، وأنتم هم! أما والله يا شبث بن

ص: 446


1- ([2]) سورة الإسراء: 71.
2- ([1]) سورة الكهف: 50.

ربعي وأنت يا عمرو بن حريث ومحمّد ابنك وأنت يا أشعث بن قيس لَتقتلنّ ابني الحسين علیه السلام، هكذا حدّثني حبيبي رسول الله صلی الله علیه وآله، فالويل لمن رسول الله خصمه وفاطمة بنت محمّد. فلمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلامكان شبث بن ربعي وعمرو بن حريث ومحمّد بن الأشعث فيمن سار إليه من الكوفة وقاتلوه بكربلاء حتّى قتلوه» ((1)).

وفي (المناقب)، رُوي أنّ الحسين علیه السلام دعا: «اللّهم إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمَنا وغصبَنا حقّنا، إنّك سميعٌ قريب». فقال محمّد ابن الأشعث: وأيّ قرابةٍ بينك وبين محمّد؟ فقرأ الحسين علیه السلام: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ((2))، ثمّ قال: «اللّهمّ أرني فيه في هذا اليوم ذُلّاً عاجلاً». فبرز ابن الأشعث للحاجة، فلسعته عقرب على ذَكَره فسقط وهو يستغيث ويتقلّب على حدثه ((3)).

ص: 447


1- ([1]) إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 275.
2- ([2]) سورة آل عمران: 33.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 352.

ص: 448

الفصل الثاني عشر: في بيان مسخ الأعداء ونسب بني أميّة وغير ذلك

في (العوالم)، عن السيّد المرتضى رضی الله عنه، عن خبرٍ روى النعماني في كتاب التسلّي، عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «إذا احتضر الكافر حضره رسول الله صلی الله علیه وآله وعليٌّ (صلوات الله عليه) وجبرئيل وملَك الموت، فيدنو إليه علي علیه السلام فيقول: يا رسول الله، إنّ هذا كان يُبغضنا أهل البيت فأبغِضْه، فيقول رسول الله صلی الله علیه وآله: يا جبرئيل، إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فابغضه، فيقول جبرئيل لملك الموت: إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيته فابغضه وأعنِفْ به. فيدنو منه ملَك الموت فيقول: يا عبد الله، أخذتَ فكاك رقبتك؟ أخذتَ أمان براءتك؟ تمسّكتَ بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا؟ فيقول: وما هي؟! فيقول: ولاية عليّ ابن أبي طالب. فيقول: ما أعرفها ولا أعتقد بها. فيقول له جبرئيل: يا عدوّ الله، وما كنتَ تعتقد؟ فيقول له جبرئيل: أبشِرْ يا عدوّ الله بسخط الله وعذابه في النار، أمّا ما كنتَ ترجو فقد فاتك، وأمّا الّذي كنتَ تخاف قد نزل بك. ثمّ يسلّ نفسَه سلّاً عنيفاً،

ص: 449

ثمّ يُوكِل بروحه مئة شيطان كلّهم يُبصق في وجهه ويتأذّى بريحه، فإذا وُضع في قبره فُتح له بابٌ من أبواب النار، يدخل إليه من فوح ريحها ولهبها، ثمّ إنّه يُؤتى بروحه إلى جبال برهوت، ثمّ إنّه يصير في المركبات بعد أن يجري في كلّ سنخٍ مسخوط عليه، حتّى يقوم قائمنا أهل البيت، فيبعثه الله فيضرب عنقه، وذلك قوله: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» ((1))، والله لقد أُتيَ بعمر بن سعدٍ بعدما قُتل، وإنّه لَفي صورة قرد، في عنقه سلسلة، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه، والله لا يذهب الأيام حتى يمسخ عدوّنا مسخاً ظاهراً، حتّى أنّ الرجل منهم لَيُمسَخ في حياته قرداً أو خنزيراً، ومن ورائهم عذابٌ غليظٌ، ومن ورائهم جهنّم وساءت مصيراً» ((2)).

وفي (الكافي)، عن الصادق علیه السلام: «كان معاوية صاحب السلسلة الّتي قال الله (تعالى): «فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» ((3))، وكان فرعونَ هذه الأُمّة» ((4)).

ص: 450


1- ([1]) سورة غافر: 11.
2- ([2]) العوالم للبحراني: 17 / 623. قال البحراني: هذا خبرٌ غريب، ولم ينكره السيّد في الجواب، وأجاب بما حاصله: إنّا ننكر تعلّق الروح بجسدٍ آخر، ولا ننكر تغيّر جسمه إلى صورةٍ أُخرى. وأقول: يمكن حمله على التغيير في الجسد المثالي أو أجزاء جسده الأصليّ إلى الصور القبيحة، وسيأتي بعض القول في ذلك إن شاء الله في كتاب المعاد.
3- ([3]) سورة الحاقّة: 33.
4- ([4]) الكافي للكليني: 2 / 243 ح 1.

وفي (البصائر)، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال:«كنتُ خلف أبي وهو على بغلته، فنفرَت بغلتُه، فإذا رجل شيخ في عنقه سلسلة ورجلٌ يتبعه، فقال: يا عليّ بن الحسين، اسقني اسقني. فقال الرجل: لا تُسقِه، لا سقاه الله»، قال: «وكان الشيخ معاوية» ((1)).

وفيه أيضاً، عن عليّ بن المغيرة قال: نزل أبو جعفر علیه السلام بوادي ضجنان، فقال ثلاث مرّات: «لا غفر الله لك»، ثمّ قال لأصحابه: «أتدرون لمَ قلتُ ما قلت؟»، قالوا: لمَ قلت؟ جعلنا الله فداك! قال: «مرّ معاوية يجرّ سلسلة، قد أدلى لسانه، يسألني أن أستغفر له، وإنّه يُقال: هذا وادي ضجنان من أودية جهنّم» ((2)).

في تفسير عليّ بن إبراهيم، في سورة الحاقّة في تفسير قوله: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ»، قال: نزلَت في معاوية، «فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ»، يعني الموت، «مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ»، يعني ماله الّذي جمعه، «هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ»، أي: حُجّته، فيقال: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ»، أي: أسكنوه، «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ» ((3))، قال: معنى السلسلة السبعين ذراعاً في

ص: 451


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفار: 285 الباب 7 ح 1، الاختصاص للمفيد: 275.
2- ([2]) بصائر الدرجات للصفار: 285 الباب 7 ح 3.
3- ([3]) سورة الحاقّة: 25 -- 32.

الباطن، هم الجبابرة السبعون ((1)).

وفيه أيضاً، عن الصادق علیه السلام: «لو أنّ حلقة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعاً وُضعَت على الدنيا، لَذابت الدنيا من حرّها» ((2)).وفي (عقاب الأعمال) مسنداً عن عبد الله بن كثير الأرجاني ((3)) قال: صحبتُ أبا عبد الله علیه السلام في طريق مكّة من المدينة، فنزل منزلاً يقال له: عسفان، ثمّ مررنا بجبلٍ أسود على يسار الطريق وحش، فقلت: يا ابن رسول الله، ما أوحش هذا الجبل، ما رأيتُ في الطريق جبلاً مثله! فقال: «يا ابن كثير، أتدري أيّ جبلٍ هذا؟ هذا جبلٌ يقال له: الكمد، وهو على وادي [وادٍ] من أودية جهنّم، فيه قتلَةُ الحسين علیه السلام ، استودعهم الله، يجري من تحته مياه جهنّم من الغسلين والصديد والحميم، وما يخرج من طينة خَبال، وما يخرج من الهاوية، وما يخرج من العسير، وما مررتُ بهذا الجبل في مسيري فوقفتُ إلّا رأيتُهما يستغيثان ويتضرّعان، وإنّي لَأنظر إلى قتلة أبي فأقول لهما: إنّما فعلوه لما استمالوا، لم ترحمونا إذ وُلّيتم، وقتلتمونا وحرمتمونا، ووثبتم على حقّنا واستبددتم بالأمر دوننا، فلا يرحم الله من يرحمكما، ذوقا وبال ما صنعتما، وما الله بظلّامٍ للعبيد» ((4)).

ص: 452


1- ([4]) تفسير القمّي: 2 / 384.
2- ([5]) تفسير القمّي: 2 / 81.
3- ([1]) في المتن: (عبد الله بن بكير).
4- ([2]) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق: 218، المحتضر: 125، الاختصاص: 343، كامل الزيارات: 326 الباب 108 ح 2.

وفي (المنتخب): لمّا جمع ابن زياد (لعنه الله تعالى) قومه لحرب الحُسين علیه السلام ، كانوا سبعين ألف فارس، فقال ابن زياد: أيّها الناس، مَن منكم يتولّى قتل الحُسين وله ولاية أيّ بلدٍ شاء؟ فلم يجبه أحدٌ منهم، فاستدعى بعمر بن سعد (لعنه الله) وقال له: أُريد أن تتولّى حرب الحسين بنفسك. فقال له: أعفني من ذلك. فقال ابن زياد: قد أعفيتُك يا عمر، فاردُدْ علينا عهدنا الّذي كتبناه إليك بولاية الريّ.فقال عمر: أمهلني اللّيلة. فقال له: قد أمهلتُك. فانصرف عمر بن سعد إلى منزله، وجعل يستشير قومه وإخوانه ومَن يثق به من إخوانه، فلم يشر عليه أحدٌ بذلك، وكان عند عمر بن سعد رجلٌ من أهل الخير يُقال له: كامل، وكان صديقاً لأبيه من قبله، فقال له: يا عمر، ما لي أراك بهيئةٍ وحركة؟ فما الّذي أنت عازمٌ عليه؟! وكان كامل كاسمه ذا رأيٍ وعقلٍ ودينٍ كامل، فقال له ابن سعد (لعنه الله): إنّي قد وُلّيت أمر هذا الجيش في حرب الحسين، وإنّما قتله عندي وأهل بيته كآكلة آكلٍ أو كشربة ماء، وإذا قتلتُه خرجتُ إلى مُلك الري. فقال له كامل: أُفٍّ لك يا عمر بن سعد! تريد تقتل الحسين ابن بنت رسول الله؟! أُفٍّ لك ولدينك يا عمر! أسفهت الحقّ وضللت الهُدى؟ أما تعلم إلى حرب مَن تخرج ولِمَن تُقاتل؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، واللهِ لو أُعطيتُ الدنيا وما فيها على قتل رجلٍ واحدٍ من أُمّة مُحمّدٍ لَما فعلت، فكيف تُريد قتل الحسين ابن بنت رسول الله؟! وما الّذي تقول غداً لرسول الله إذا وردتَ عليه وقد قتلتَ وَلده وقرّة عينه وثمرة فؤاده، ابنَ سيّدة نساء العالمين

ص: 453

وابنَ سيّد الوصيّين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وإنّه في زماننا بمنزلة جدّه في زمانه، وطاعته فرضٌ علينا كطاعته، وإنّه باب الجنّة والنار؟ فاختر لنفسك ما أنت مختار، وإنّي أشهد بالله إنْ حاربتَه أو قتلتَه أو أعنت عليه أو على قتله، لا تلبث في الدنيا بعده إلّا قليلاً. فقال له عمر بن سعد: فبالموت تخوّفني؟! وإنّي إذا فرغتُ من قتله أكون أميراً على سبعين ألف فارس، وأتولّى مُلك الري.

فقال له كامل: إنّي أُحدّثك بحديثٍ صحيح، أرجو لك فيه النجاة إن وُفّقت لقبوله، اعلم إنّي سافرتُ مع أبيك سعد إلى الشام،فانقطعَت بي مطيّتي عن أصحابي وتهتُ وعطشت، فلاح لي دير راهب، فملتُ إليه ونزلت عن فرسي وأتيت إلى باب الدير لأشرب ماء، فأشرف علَيّ راهبٌ من ذلك الدير وقال: ما تريد؟ فقلت له: إنّي عطشان. فقال لي: أنت من أُمّة هذا النبيّ الّذي يقتل بعضُهم بعضاً على حُبّ الدنيا مكالَبة، ويتنافسون فيها على حطامها؟ فقلت له: أنا من الأُمّة المرحومة، أُمّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله. فقال: إنّكم أشرّ أُمّة، فالويل لكم يوم القيامة وقد عدوتم إلى عترة نبيّكم، تسبون نساءه وتنهبون أمواله! فقلت له: يا راهب، نحن نفعل ذلك؟ قال: نعم، وإنّكم إذا فعلتم ذلك عجّت السماوات والأرضون والبحارُ والجبال والبراري والقفار والوحوش والأطيار باللعنة على قاتله، ثمّ لا يلبث قاتلُه في الدنيا إلّا قليلاً، ثمّ يظهر رجلٌ يطلب بثأره، فلا يدع أحداً أُشرك في دمه إلّا قتله وعجّل الله بروحه إلى النار. ثمّ قال الراهب: إنّي لا أرى لك قرابةً من قاتل

ص: 454

هذا ابن الطيّب، والله إنّي لو أدركتُ أيّامه لَوقيتُه في نفسي من حرّ السيوف. فقلت: يا راهب، إنّي أُعيذ نفسي أن أكون ممّن يُقاتل ابن بنت رسول الله. فقال: إن لم تكن أنت فرجلٌ قريبٌ منك، وإنّ قاتله عليه نصفُ عذاب أهل النار، وإنّ عذابه أشدّ عذاباً من عذاب فرعون وهامان. ثمّ ردّ الباب في وجهي ودخل يعبد الله (تعالى)، وأبى أن يسقيني الماء.

قال كامل: فركبتُ فرسي ولحقت أصحابي، فقال لي أبوك سعد: ما أبطأك عنّا يا كامل؟ فحدّثتُه بما سمعتُه من الراهب، فقال لي: صدقت. ثمّ إنّ سعداً أخبرني أنّه نزل بدير هذا الراهب مرّةً من قبل، فأخبره أنّه هو الرجل ابن بنت رسول الله، فخاف أبوك سعدٌ من ذلك وخشيَ أن تكون أنت قاتله، فأبعدك عنه وأقصاك، فاحذرْ ياعمر أن تخرج عليه؛ يكون عليك نصف عذاب أهل النار. قال: فبلغ الخبر إلى ابن زياد، فاستدعى بكامل وقطع لسانه، فعاش يوم أو بعض يوم ومات (رحمه الله تعالى) ((1)).

وفي (المنتخب): رُوي أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام لقيَ عمر بن سعد يوماً، فقال له: «كيف تكون إذا قمتَ مقاماً تتخيّر فيه بين الجنّة والنار، فتختار لنفسك النار؟»، فقال له: معاذ الله، أيكون ذلك؟! فقال له علیه السلام : «سيكون ذلك بلا شك» ((2)).

ص: 455


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 274 المجلس 3.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 275 / 2 المجلس 3.

وروي في (المناقب): وكان قد كتب لعمر منشوراً بالري، فجعل يقول:

فوالله ما أدري، وإنّي لَواقفٌ***أُفكّر في أمري على خطرَينِ

أأترك ملك الري، والريُّ مُنيتي***أم ارجعُ مذموماً بقتل حسينِ

ففي قتله النار الّتي ليس دونها***حجابٌ، ومُلك الريّ قُرّة عيني ((1))

وفي (العيون) مسنداً عن الرضا علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام، قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ قاتل الحسين بن علي علیه السلام في تابوتٍ من نار، عليه نصفُ عذاب أهل الدنيا، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكّس فيالنار حتّى يقع في قعر جهنّم، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى ربّهم من شدّة نتنه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم مع جميع مَن شايع على قتله، كلّما نضجَت جلودُهم بدّل الله عزوجل عليهم الجلود، حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة، ويُسقَون من حميم جهنّم، فالويل لهم من عذاب الله (تعالى) في النار» ((2)).

وفي (الكافي) مسنداً عن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «اتّخِذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم؛ فإنّها تلعن قتلَةَ الحسين بن علي ، علیه السلام ولعن الله قاتله» ((3)).

وفيه أيضاً، عن داوود بن فرقد قال: كنتُ جالساً في بيت أبي عبد

ص: 456


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331، الفتوح لابن أعثم: 5 / 85.
2- ([1]) عيون أخبار الرضا؟ع؟ للصدوق: 2 / 47 الباب 31 ح 178.
3- ([2]) الكافي للكليني: 6 / 547 ح 13.

الله علیه السلام ، فنظرتُ إلى حمامٍ راعبي يقرقر طويلاً، فنظر إليّ أبو عبد الله علیه السلام فقال: «يا داوود، تدري ما يقول هذا الطير؟»، قلت: لا والله، جُعلتُ فداك. قال: «يدعو على قتلَة الحسين علیه السلام ، فاتّخذوا في منازلكم» ((1)).

وفي (البحار): إنّ ميسون بنت بجدل الكلبيّة أمكنت عبد أبيها عن نفسها، فحملت يزيد (لعنه الله)، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبيّ بقوله:

فإن يكن الزمانُ أتى علينا***بقتل الترك والموت الوحي

فقد قتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ***بأرض الطفّ أولادَ النبي

أراد بالدعيّ: عبيدَ الله بن زياد (لعنه الله)، فإنّ أباه زياد ابن سميّة، كانت أُمّه سميّة مشهورة بالزنا، ووُلد على فراش أبي عُبيد عبد بني علاج من ثقيف، فادّعى معاوية أنّ أبا سفيان زنى بأُمّ زياد فأولدها زياداً وإنّه أخوه، فصار اسمه الدعيّ، وكانت عائشة تسمّيه: زياد ابن أبيه؛ لأنّه ليس له أبٌ معروف. ومراده بعبد كلب: يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي.

وأمّا عمر بن سعد (لعنه الله) فقد نسبوا أباه سعداً إلى غير أبيه، وإنّه من رجلٍ من بني عذرة، كان خدناً لأُمّه، ويشهد بذلك قول معاوية (لعنه الله) حين قال سعدٌ لمعاوية: أنا أحقّ بهذا الأمر منك، فقال له معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة. وضرط له ((2)).

ص: 457


1- ([3]) الكافي للكليني: 6 / 547 ح 10.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309.

وفي (المنتخب): أمّا يزيد (عليه اللعنة) فإنّه كان جبّاراً عنيداً، خبيث الولادة: «وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلّا نَكِداً» ((1)). وقد مرّ قول الحُسين علیه السلام فيه وفي أبيه أنّهما شُركاء الشيطان.

وأمّا عُبيد الله بن زياد، أُمّه: مرجانة، وأبوه: زياد دعيّ لأبي سفيان، وكان يُسمّى بين الناس: زياد بن أبيه؛ لأنّه لا يُعرف له أب، وكانت أُمّه سوداء نتنة الرائحة يُقال لها: سميّة، وكانت عاهرة ذات علم تُعرف به، وقد وطأها أبو سفيان وهو سكران، فعلقت منه بزياد على فراش بعلها، فدعاها أبو سفيان سرّاً، فلمّا آل الأمر إلى معاوية قرّبه إليه وأدناه ورفع منزلته، وعلاه واستخلفه في بلاد الأهواز، وأمّره على ثلاثمئة ألف فارس، وأمره بحرب الحسن علیه السلام ، ولم يزل يحاربه زماناً طويلاً حتّى دسّ إليه سمّاً فقتله، فماتمسموماً (رحمة الله عليه).

ولمّا آل الأمر إلى يزيد بن معاوية (لعنه الله تعالى)، جعل عُبيد الله بن زياد أميراً على الكوفة، وأمره بقتل الحسين علیه السلام ، فجهّز العساكر والجنود، وحالوا بينه وبين ماء الفرات، حتّى أنّهم قتلوه عطشاناً مظلوماً، وذبحوا أطفاله وسبوا عياله، ففعل ابن زياد (لعنه الله) أضعاف ما فعل يزيد (عليه اللعنة)، «وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلّا نَكِداً». وأمّا هند بنت عتبة، عتبة (عليه اللعنة) قتله حمزة عمّ رسول الله، وكان عتبة أميراً في زمن الجاهليّة، وهو

ص: 458


1- ([2]) سورة الأعراف: 58.

الّذي حارب النبي في وقعة أُحد حرباً عظيماً، حتّى إنّه انكسر عسكر النبي صلی الله علیه وآله وشاع الخبر إلى المدينة بقتل النبي، ورفع الصراخ بالمدينة أنّه قُتل النبي، فانخشعت القلوب وبكت العيون وحزن الأقرباء، وبكت السماء، وفرح الأعداء، وكانت هند -- جدّة يزيد -- واقفة تضرب بالدفّ من شدّة فرحتها بقتل النّبي صلی الله علیه وآله، «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» ((1)).

وكان عُتبة (لعنه الله تعالى)، وهو الّذي رمى النبيّ بحجرٍ فكسر رباعيّته، وشقّ شفتيه، وشجّ رأسه الشريف، فوثب حمزةُ عمّ النبيّ فقتل عُتبة، فجاءت هند بنت عتبة لوحشي بهبةٍ على أن يقتل لها رسول الله، أو أن يقتل عليّاً أو حمزة، فقال لها وحشي: أمّا رسول الله فلا سبيل لي عليه؛ لأنّ أصحابه حافّين مِن حوله، وأمّا عليّ بن أبي طالب فإنّه إذا حارب فهو أحذرُ من الذئب وأروغ من الثعلب، ولا طاقة لي به، وأمّا حمزة فإنّي أقدر عليه؛ لأنّه إذا حارب وهاجفي الحرب، لم يعُد يُبصِر ما بين يديه وما خلفه. قال: فلمّا هاج حمزة في الحرب، كَمِن وحشيُّ وضربه على أُمّ رأسه فقتله، فخرّ صريعاً إلى الأرض، فجاءت هند بنت عتبة (عليهما اللعنة) ووقفت على جسد حمزة، وجذعت أُذنيه وأنفه، وشقّت بطنه، وقطعت أصابعه ونظمتها بخيطٍ وجعلتها قلادةً في عُنقها، ثمّ أخرجت كبد حمزة وأخذت منه قطعةً بأسنانها ومضغَتها؛ حنقاً منها عليه، وأرادت بلعها فلم تقدر على

ص: 459


1- ([1]) سورة التوبة: 32.

بلعها، فقذفتها، لأنّ الله (تعالى) صان كبد حمزة أن يحلّ في معدةٍ تُحرَق بالنار، فهل سمعتم أو رأيتم امرأةً أكلت كبد إنسانٍ غير هند (لعنها الله تعالى) ((1))؟!

وفي (إحقاق الحقّ)، عن طريق المخالفين، هشام بن محمّد بن السايب الكلبي في كتاب (المثالب)، فقال: كان معاوية لأربعة: لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، ولمسافر بن عمر، ولأبي سفيان، ولرجلٍ آخَر سمّاه، قال: وكانت هند أُمّه من المعلّمات، وكان أحبّ الرجال إليه السودان، وكانت إذا ولدت أسود قتلَته، وأمّا حمامة فهي بعض جدّات معاوية، كان لها راية بذي المجاز، يعني من ذي الغايات في الزنا، وادّعى معاوية أُخوّة زياد، وكان له مدّعٍ يُقال له: أبو عبيد عبد بني علاج من ثقيف، فأقدم معاوية على تكذيب ذلك، مع أنّ الرجل زياد أُولد على فراشه، وادّعى معاويةُ أنّ أبا سفيان زنا بوالدة زياد وهي عند زوجها المذكور، وأنّ زياداً من أبي سفيان ((2)).

وعن إسماعيل بن عليّ السمعانيّ ((3)) الحنفي، أنّ مسافر بنعمرو بن أُميّة بن عبد شمس كان ذا جمالٍ وسخاءٍ، عشق هنداً، وجامعها سفاحاً،

ص: 460


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 213 / 1 المجلس 10.
2- ([2]) إحقاق الحقّ للتُّستري: 263.
3- ([3]) في المتن: (سمان).

فاشتهر ذلك في قريش، وحملَت هند، فلمّا ظهر السفّاح هرب مسافر من أبيها عُتبة إلى الحيرة، وكان فيها سلطان العرب عمرو بن هند، وطلب عتبة (أبو هند) أبا سفيان، ووعده بمالٍ كثير، وزوّجه ابنته هند، فوضعَت بعد ثلاثة أشهر معاوية، ثمّ ورد أبو سفيان على عمرو بن هند أمير العرب، فسأله مسافر عن حال هند، فقال: إنّي تزوّجتُها، فمرض ومات ((1)).

وقال الزمخشريّ في كتاب (ربيع الأبرار): كان معاوية يُعزى إلى أربعة: إلى مسافر بن أبي عمرو، وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب، وإلى الصباح مغنٍّ كان لعمارة بن الوليد، قال: وقد كان أبو سفيان دميماً قصيراً، وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان شابّاً وسيماً، فدعته هندُ إلى نفسها فغشيَها.

وقالوا: إنّ عُتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً، وقالوا: إنّها كرهَت أن تدَعْه في منزلها، فخرجت إلى أجيادٍ فوضعَته هناك، وفي هذا المعنى يقول حسّان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله قبل عام الفتح:

لمَن الصبيّ بجانب البطحا***في الترب ملقىً غير ذي مهدِ

نجلت به بيضاء آنسة***من عبد شمسٍ صلتة الخدّ ((2))نجلت به بيضاء آنسة من عبد شمسٍ صلتة الخدّ ((3))

وذكر الزمخشريّ في كتاب (ربيع الأبرار) قال: كانت النابغة أُمّ عمرو بن

ص: 461


1- ([1]) نهج الحقّ للحلّي: 312.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 336.
3- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 336.

العاص أَمةً لرجلٍ من عنزة، فسُبيَت، فاشتراها عبد الله بن جدعان التَّيميّ بمكّة، فكانت بغيّاً، ثمّ أعتقها، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطّلب وأُميّة ابن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة المخزومي وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل السهمي في طُهرٍ واحد، فولدت عمراً، فادّعاه كلّهم، فحكمت أُمّه فيه فقالت: هو من العاص بن وائل، وذاك لأنّ العاص بن وائل كان يُنفق عليها كثيراً. قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب في عمرو بن العاص:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدت***لنا فيك منه بيّنات الشمائلِ ((1))

وقال القطب الشيرازي في (نزهة القلوب): أولاد الزنا نجب، لأنّ الرجل يزني بشهوته ونشاطه فيخرج الولد كاملاً، وما يكون من الحلال فمِن تصنُّع الرجل إلى المرأة، ولهذا كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان من دُهاة الناس. ثمّ ساق الكلام في بيان نسبهما على ما سيأتي من كتاب (ربيع الأبرار)، ثمّ زاد على ذلك وقال: ومنهم زياد ابن أبيه، وفيه يقول الشاعر:

ألا أبلغْ معاوية بن حربٍ***مغلغلةً من الرجل اليماني

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ***وترضى أن يكون أبوك زانِ؟ ((2))

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ***وترضى أن يكون أبوك زانِ؟ ((3))

وقال السيّد نور الله التُّستريّ في كتاب (إحقاق الحقّ): أنّ بنو أُميّة

ص: 462


1- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 283.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 33 / 199.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 33 / 199.

ليسوا من قريش، فكان لعبد شمس بن عبد مناف عبدٌ رومي، يُقال به: أُميّة، فنُسِب إلى عبد شمس، وقيل: أُميّة بن عبد شمس، ونسبت عامّةُ النسّابين الغير العارفين بحقايق الأنساب بني أُميّة إلى قريش، وأصلهم من الروم، وذلك أنّ العرب كان مِن سيرتهم أن يُلحَق الرجل بنسبه عبدُه، وكان ذلك جازاً عندهم، وقد وُجد ذلك من وجوه كريمة في العرب، ولما ذكرناه لمّا افتخر معاوية في بعض كتاباته إلى علي علیه السلام بالصحبة والقرشيّة، كتب علیه السلام في جوابه ما هذه صورته: «لكن ليس المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللحيق» ((1)).

وفي (الصافي) في تفسير سورة الروم: قُرئ في الشواذ: (غَلبَت) بالفتح، و(سيُغلَبون) بالضمّ، وعليه بناء ما في كتاب الاستغاثة لابن ميثم، قال: لقد روينا من طريق علماء أهل البيت في أسرارهم وعلومهم الّتي خرجت منهم إلى علماء شيعتهم أنّ قوماً يُنسَبون إلى قريش، وليسوا من قريش بحقيقة النسب، وهذا ممّا لا يعرفه إلّا معدن النبوّة وورثة علم الرسالة، وذلك مثل بني أُميّة، ذكروا أنّهم ليسوا من قريش، وأنّ أصلهم من الروم، وفيهم تأويل هذه الآية: «ألم * غُلِبَتِ الرُّوُمُ»، معناه أنّهم غُلبوا على المُلك، وسيغلبهم على ذلك بنو العبّاس ((2)).

ص: 463


1- ([2]) إحقاق الحقّ للتستري: 249.
2- ([1]) تفسير الصافي: 4 / 127.

وفي (أمالي) الشيخ الطوسيّ، مسنداً عن الحسين بن أبي فاختة قال: كنتُ أنا وأبو سَلَمة السرّاج ويونس بن يعقوب والفُضَيل بن يسار عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجالس هؤلاء القوم، فأذكركم في نفسي، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «يا حسين، إذا حضرتَ مجالسهم فقل: اللّهمّ أرِنا الرخاء والسرور. فإنّك تأتي على ما تريد». قال: فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنّي أذكر الحسين بن علي علیهما السلام، فأيّ شيءٍ أقول إذا ذكرتُه؟ فقال: «قل: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله. تكرّرها ثلاثاً». ثمّ أقبل علينا وقال: «إنّ أبا عبد الله الحسين علیه السلام لمّا قُتِل بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّبُ في الجنّة والنار، وما يُرى وما لا يُرى، إلّا ثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه!»، فقلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة أشياء الّتي لم تبكِ عليه؟ فقال: «البصرة، ودمشق، وآل الحكَم بن أبي العاص» ((1)).

ص: 464


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 54 المجلس 2 ح 42.

الفصل الثالث عشر: في كتاب عمر إلى معاوية وغير ذلك

في كتاب (البحار)، عن (دلائل الإمامة)، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا قُتِل الحسين بن عليّ (صلوات الله عليهما) وورد نعيُه إلى المدينة، وورد الأخبار بجزّ رأسه وحمله إلى يزيد بن معاوية، وقتلِ ثمانية عشر من أهل بيته وثلاثٍ وخمسين رجلاً من شيعته، وقتلِ عليٍّ ابنه بين يديه وهو طفلٌ بنشّابة، وسبي ذراريه، أُقيمَت المآتم عند أزواج النبيّ صلی الله علیه وآله في منزل أُمّ سلمة (رضي الله عنها) وفي دور المهاجرين والأنصار، قال: فخرج عبد الله بن عمر بن الخطّاب صارخاً من داره لاطماً وجهه شاقّاً جيبه، يقول: يا معشر بني هاشم وقريش والمهاجرين والأنصار! يُستحلّ هذا من رسول الله صلی الله علیه وآله في أهله وذريّته وأنتم أحياء تُرزقون؟! لا قرار دون يزيد.

وخرج من المدينة تحت ليله، لا يرد مدينةً إلّا صرخ فيها واستنفر أهلَها على يزيد، وأخباره يُكتَب بها إلى يزيد، فلم يمرّ بملإٍ من الناس إلّا لعنه وسمع كلامه، وقالوا: هذا عبد الله بن عمر ابن خليفة رسول الله صلی الله علیه وآله وهو يُنكِر

ص: 465

فعل يزيد بأهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله ويستنفر الناس على يزيد، وإنّ مَن لم يُجبْه لا دين له ولا إسلام. واضطرب الشام بمن فيه، وورد دمشق، وأتى باب اللعين يزيد في خلقٍ من الناس يتلونه، فدخل آذِنُ يزيد إليه فأخبره بوروده ويده على أُمّ رأسه والناس يهرعون إليه قُدّامه ووراءه، فقال يزيد: فورةٌ مِن فورات أبي محمّد، وعن قليلٍ يفيق منها. فأذن له وحده!

فدخل صارخاً يقول: لا أدخل يا أمير المؤمنين! وقد فعلتَ بأهل بيت محمّدٍ صلی الله علیه وآله ما لو تمكنَتِ التركُ والروم ما استحلّوا ما استحللت، ولا فعلوا ما فعلت، قم عن هذا البساط حتّى يختار المسلمون مَن هو أحقُّ به منك.

فرحّب به يزيد، وتطاول له وضمّه إليه، وقال له: يا أبا محمّد، اسكُنْ من فورتك واعقل، وانظر بعينك واسمع بأُذنك، ما تقول في أبيك عمر بن الخطّاب؟ أكان هادياً مهديّاً خليفة رسول الله صلی الله علیه وآله وناصره ومصاهره بأُختك حفصة، والّذي قال: لا يُعبَد الله سرّاً؟! فقال عبد الله: هو كما وصفت، فأيّ شيءٍ تقول فيه؟

قال: أبوك قلّد أبي أمر الشام، أم أبي قلّد أباك خلافة رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: أبي قلّد أباك الشام.

قال: يا أبا محمّد، أفترضى به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه؟ قال: بل أرضى. قال: أفترضى بأبيك؟ قال: نعم!

فضرب يزيد بيده على يد عبد الله بن عمر وقال له: قُم -- يا أبا محمّد -- حتّى تقرأ. فقام معه حتّى ورد خزانةً من خزائنه فدخلها، ودعا بصندوقٍ

ص: 466

ففتحه، واستخرج منه تابوتاً مقفَلاً مختوماً، فاستخرج منه طوماراً لطيفاً في خرقة حرير سوداء، فأخذ الطومار بيده ونشره، ثمّقال: يا أبا محمّد، هذا خطّ أبيك؟ قال: إي والله. فأخذه من يده فقبّلَه، فقال له: اقرأ! فقرأه ابنُ عمر، فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. إنّ الّذي أكرهَنا بالسيف على الإقرار به فأقررنا، والصدورُ وَغِرة، والأنفُس واجفة، والنيّات والبصائر شائكةٌ ممّا كانت عليه من جَحْدنا ما دعانا إليه وأطعناه فيه رفعاً لسيوفه عنّا، وتكاثره بالحيّ علينا من اليمن، وتعاضد مَن سمع به ممّن ترك دينه وما كان عليه آباؤه في قريش، فبهُبَلٍ أُقسم والأصنامِ والأوثان واللّات والعُزّى، ما جحدها عمر مذ عبدها! ولا عبد للكعبة ربّاً! ولا صدّق لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله قولاً، ولا ألقى السلام إلّا للحيلة عليه وإيقاع البطش به! فإنّه قد أتانا بسحرٍ عظيم، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداوود وسليمان وابن أُمّه عيسى، ولقد أتانا بكلّ ما أتَوا به من السحر، وزاد عليهم ما لو أنّهم شهدوه لَأقرّوا له بأنّه سيّد السحرة.

فخُذ يا ابن أبي سفيان سُنّة قومك واتّباع ملّتك، والوفاء بما كان عليه سلفك مِن جحد هذه البُنية، الّتي يقولون إنّ لها ربّاً أمرهم بإتيانها والسعي حولها وجعلها لهم قبلة، فأقرّوا بالصلاة والحجّ الّذي جعلوه ركناً، وزعموا أنّه لله اختلقوا، فكان ممّن أعان محمّداً منهم هذا الفارسيّ الطمطاني [خ ل: الطمطماني] روزبه، وقالوا: إنّه أُوحيَ إليه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي

ص: 467

بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ» ((1))، وقولهم: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ» ((2))، وجعلوا صلاتهم للحجارة، فما الّذي أنكره علينا لو لا سحره من عبادتنا للأصنام والأوثان واللّات والعزّى، وهي من الحجارة والخشب والنحاس والفضّة والذهب؟! لا -- واللات والعزّى -- ما وجدنا سبباً للخروج عمّا عندنا، وإن سحروا وموّهوا، فانظر بعينٍ مُبصرة، واسمع بأُذُنٍ واعية، وتأمّل بقلبك وعقلك ما هم فيه، واشكر اللات والعزّى واستخلاف السيّد الرشيد عتيق بن عبد العزّى على أُمّة محمّدٍ وتحكّمه في أموالهم ودمائهم وشريعتهم وأنفسهم وحلالهم وحرامهم، وجبايات الحقوق الّتي زعموا أنّهم يجبونها لربّهم ليقيموا بها أنصارهم وأعوانهم، فعاش شديداً رشيداً، يخضع جهراً ويشتدّ سرّاً، ولا يجد حيلةً غير معاشرة القوم.

ولقد وثبتُ وثبةً على شهاب بني هاشم الثاقب، وقرنها الزاهر، وعلَمها الناصر، وعدّتها وعددها، المسمّى بحيدرة، المصاهر لمحمّدٍ على المرأة الّتي جعلوها سيّدة نساء العالمين، يسمّونها: فاطمة، حتّى أتيتُ دار عليٍّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وابنتيهما زينب وأُمّ كلثوم، والأَمة المدعوّة بفضّة، ومعي خالد بن وليد وقنفذ مولى أبي بكر ومَن صحب من خواصّنا،

ص: 468


1- ([1]) سورة آل عمران: 96.
2- ([1]) سورة البقرة: 144.

فقرعتُ الباب عليهم قرعاً شديداً، فأجابتني الأَمة، فقلتُ لها: قولي لعلي: دع الأباطيل ولا تلج نفسك إلى طمع الخلافة، فليس الأمر لك، الأمر لمَن اختاره المسلمون واجتمعوا عليه.

وربِّ اللات والعزّى لو كان الأمر والرأي لأبي بكرٍ لفشل عنالوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة ((1))، لكنّي أبديتُ لها صفحتي، وأظهرتُ لها بصري، وقلتُ للحيّين نزار وقحطان بعد أن قلتُ لهم: ليس الخلافة إلّا في قريش، فأطيعوهم ما أطاعوا الله، وإنّما قلتُ ذلك لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء الّتي سفكها في غزوات محمّدٍ وقضاء ديونه، وهي ثمانون ألف درهم، وإنجاز عِداته، وجمع القرآن، فقضاها على تليده وطارفه، وقول المهاجرين والأنصار لمّا قلت: إنّ الإمامة في قريش، قالوا: هو الأصلع البطين، أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب، الّذي أخذ رسول الله صلی الله علیه وآله البيعة له على أهل ملّته، وسلّمنا له بإمرة المؤمنين في أربعة مواطن، فإن كنتم نسيتموها معشرَ قريش فما نسيناها، وليست البيعة

ص: 469


1- ([1]) يعني النبيّ محمّد صلی الله علیه وآله، وكان المشركون يقولون للنبيّ صلی الله علیه وآله: ابن أبي كبشة، شبّهوه بأبي كبشة، رجلٌ من خزاعة، خالف قريشاً في عبادة الأصنام، أو هي كنية وهب بن عبد مناف جدّه صلی الله علیه وآله من قِبل أُمّه، لأنّه كان نزع إليه في الشبَه، أو كنية زوج حليمة السعديّة، أو كنية عمّ ولدها، والعلم عند الله -- من المتن (القاموس للفيروزآبادي: 2 / 285).

ولا الإمامة والخلافة والوصيّة إلّا حقّاً مفروضاً وأمراً صحيحاً، لا تبرّعاً ولا ادّعاءً. فكذّبناهم، وأقمتُ أربعين رجلاً شهدوا على محمّدٍ أنّ الإمامة بالاختيار، فعند ذلك قال الأنصار: نحن أحقّ من قريش؛ لأنا آوينا ونصرنا، وهاجر الناس إلينا، فإذا كان دفع مَن كان الأمر له فليس هذا الأمر لكم دوننا. وقال قوم: منّا أميرٌ ومنكم أمير. قلنا لهم: قد شهدوا أربعون رجلاً أنّ الأئمّة من قريش. فقبل قومٌ وأنكر آخرون، وتنازعوا، فقلت -- والجمع يسمعون -- : ألا أكبرناسنّاً وأكثرنا ليناً. قالوا: فمن تقول؟ قلت: أبو بكر، الّذي قدّمه رسول الله صلی الله علیه وآله في الصلاة، وجلس معه في العريش يوم بدر يشاوره ويأخذ برأيه، وكان صاحبه في الغار، وزوج ابنته عائشة الّتي سمّاها: أُمّ المؤمنين. فأقبل بنو هاشم يتميّزون غيظاً، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور، وقال: لا يبايَع إلّا علي، أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا. فقلت: يا زبير، صرختك سكَنٌ من بني هاشم، أُمّك صفيّة بنت عبد المطّلب. فقال: ذلك واللهِ الشرف الباذخ والفخر الفاخر، يا ابن حنتمة ويا ابن صهاك! اسكُتْ لا أُمّ لك. فقال قولاً، فوثب أربعون رجلاً ممّن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير، فوَاللهِ ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتّى وسّدناه الأرض، ولم نرَ له علينا ناصراً.

فوثبتُ إلى أبي بكرٍ فصافحتُه وعاقدتُه البيعة، وتلاني عثمان بن عفّان، وسائر مَن حضر غير الزبير، وقلنا له: بايعْ أو نقتلك! ثمّ كففتُ عنه الناس، فقلت له: أمهلوه، فما غضب إلّا نخوةً لبني هاشم. وأخذتُ أبا بكرٍ

ص: 470

بيده فأقمتُه، وهو يرتعد، قد اختلط عقله، فأزعجتُه إلى منبر محمّدٍ إزعاجاً، فقال لي: يا أبا حفص، أخاف وثبة عليّ. فقلتُ له: إنّ عليّاً عنك مشغول. وأعانني على ذلك أبو عبيدة بن الجرّاح، كان يمدّه بيده إلى المنبر وأنا أُزعجه من ورائه كالتيس إلى شفار الجاذر، متهوناً، فقام عليه مدهوشاً، فقلت له: اخطب! فأغلق عليه، وتثبت فدُهش، وتلجلج وغمض، فعضضتُ على كفّي غيظاً، وقلت له: قل ما سنح لك. فلم يأتِ خيراً ولا معروفاً، فأردتُ أن أحطّه عن المنبر وأقوم مقامه، فكرهتُ تكذيب الناس لي بما قلتُ فيه، وقد سألني الجمهور منهم: كيف قلتَ من فضله ما قلت؟ ما الّذي سمعتَهمن رسول الله صلی الله علیه وآله في أبي بكر؟ فقلت لهم: قد قلت: سمعتُ من فضله على لسان رسول الله ما لو وددت [خ ل: لَوددت] أنّي شعرةً في صدره، ولي حكاية، فقلت: قل وإلّا فانزل. فتبيّنها واللهِ في وجهي، وعلم أنّه لو نزل لرقيتُ وقلتُ ما لا يهتدي إلى قوله، فقال بصوتٍ ضعيفٍ عليل: وليتُكم ولستُ بخيركم وعليٌّ فيكم، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني -- وما أراد به سواي --، فإذا زللت فقوّموني، لا أقع في شعوركم وأبشاركم، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل، فأخذتُ بيده -- وأعين الناس ترمقه -- وغمزتُ يده غمزاً، ثمّ أجلستُه، وقدّمت الناس إلى بيعته وصحبته لأُرهبه، وكلّ مَن ينكر بيعته ويقول: ما فعل عليّ بن أبي طالب؟ فأقول: خلعها من عنقه وجعلها طاعة المسلمين، قلة خلافٍ عليهم في اختيارهم، فصار جليس بيته. فبايعوا وهم كارهون.

ص: 471

فلمّا فشَت بيعتُه علمنا أنّ عليّاً يحمل فاطمة والحسن والحسين إلى دور المهاجرين والأنصار يذكّرهم بيعته علينا في أربعة مواطن ويستنفرهم، فيَعِدونه النصرة ليلاً ويقعدون عنه نهاراً، فأتيتُ داره مستيشراً لإخراجه منها، فقالت الأَمة فضّة -- وقد قلت لها: قولي لعليٍّ يخرج إلى بيعة أبي بكر، فقد اجتمع عليه المسلمون، فقالت -- : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام مشغول. فقلت: خلّي عنكِ هذا وقولي له يخرج، وإلّا دخلنا عليه وأخرجناه كرهاً. فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت: «أيّها الضالّون المكذّبون! ماذا تقولون؟ وأيّ شيءٍ تريدون؟»، فقلت: يا فاطمة! فقالت فاطمة: «ما تشاء يا عمر؟!»، فقلت: ما بالُ ابنُ عمّكِ قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت لي: «طغيانك -- يا شقيّ -- أخرجني، وألزمك الحجّة وكلَّ ضالٍّ غوي». فقلت: دعي عنكِ الأباطيلوأساطير النساء، وقولي لعليٍّ يخرج. فقالت: «لا حُبٌّ ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفاً». فقلت: إن لم يخرج جئتُ بالحطب الجزل وأضرمتُها ناراً على أهل هذا البيت، وأُحرق من فيه، أو يُقاد عليٌّ إلى البيعة. وأخذتُ سوط قنفذ فضربت، وقلت لخالد ابن الوليد: أنت ورجالنا هلمّوا في جمع الحطب، فقلت: إنّي مضرمها. فقالت: «يا عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ أمير المؤمنين»، فضربَت فاطمةُ يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرُمتُه فتصعّب علَيّ، فضربتُ كفَّيها بالسوط فألّمها، فسمعتُ لها زفيراً وبكاءً، فكدتُ أن ألين وأنقلب عن الباب، فذكرتُ أحقاد عليٍّ وولوعه في دماء صناديد العرب، وكيدَ محمّدٍ وسحره، فركلتُ الباب،

ص: 472

وقد ألصقَت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها وقد صرخت صرخةً حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها، وقالت: «يا أبتاه، يا رسول الله، هكذا كان يُفعَل بحبيبتك وابنتك، آه! يا فضّةُ إليكِ فخذيني، فقد واللهِ قُتِل ما في أحشائي من حمل»، وسمعتها تمخض وهي مستندةً إلى الجدار، فدفعتُ الباب ودخلت، فأقبلَت إليّ بوجهٍ أغشى بصري، فصفقتُ صفقةً على خدَّيها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطُها وتناثرت إلى الأرض، وخرج عليّ، فلمّا أحسستُ به أسرعتُ إلى خارج الدار، وقلت لخالد وقنفذ ومَن معهما: نجوتُ من أمرٍ عظيم! وفي روايةٍ أُخرى: قد جنيتُ جنايةً عظيمةً لا آمن على نفسي، وهذا عليٌّ قد برز من البيت، وما لي ولكم جميعاً به طاقة.

فخرج عليّ، وقد ضربَت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العظيم ما نزل بها، فأسبل عليٌّ عليها مُلاءتها، وقال لها: «يا بنت رسول الله، إنّ الله بعث أباكِ رحمةً للعالمين،وايمُ الله لئن كشفتِ عن ناصيتِك سائلةً إلى ربّكِ ليُهلِك هذا الخلق لَأجابك، حتّى لا يُبقي على الأرض منهم بشراً، لأنكِ وأباكِ أعظم عند الله من نوح علیه السلام الّذي غرق من أجله بالطوفان جميعُ مَن على وجه الأرض وتحت السماء إلّا من كان في السفينة، وأهلك قومَ هودٍ بتكذيبهم له، وأهلك عاداً بريحٍ صرصر، وأنتِ وأبوكِ أعظم قدراً من هود، وعذّب ثمود -- وهي اثنا عشر ألفاً -- بعقر الناقة والفصيل، فكوني يا سيّدة النساء رحمةً على هذا الخلق المنكوس، ولا تكوني عذاباً». واشتدّ بها المخاض، ودخلَت البيت، فأسقطت سقطاً سمّاه علي: محسناً.

ص: 473

وجمعتُ جمعاً كثيراً، لا مكاثرةً لعليّ، ولكن ليُشَدّ بهم قلبي، وجئتُ -- وهو محاصَرٌ -- فاستخرجتُه من داره مُكرَهاً مغصوباً، وسقْتُه إلى البيعة سوقاً، وإنّي لَأعلم علماً يقيناً لا شكّ فيه لو اجتهدتُ أنا وجميعُ مَن على الأرض جميعاً على قهره ما قهرناه، ولكن لهناتٍ كانت في نفسه أعلمها ولا أقولها.

فلمّا انتهيتُ إلى سقيفة بني ساعدة، قام أبو بكرٍ ومَن بحضرته يستهزؤون بعلي، فقال علي: «يا عمر، أتحبّ أن أُعجّل لك ما أخرته سواءً عنك؟»، فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فسمعَني -- واللهِ -- خالد بن الوليد، فأسرع إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: ما لي ولعمر؟ ثلاثاً، والناس يسمعون، ولمّا دخل السقيفة صبا أبو بكرٍ إليه، فقلت له: قد بايعتَ يا أبا الحسن! فانصرف، فأشهدُ ما بايعه ولا مدّ يده إليه، وكرهتُ أن أطالبه بالبيعة فيعجّل لي ما أخّره عنّي، وودّ أبو بكرٍ أنّه لم يرَ عليّاً في ذلك المكان؛ جزعاً وخوفاً منه.

ورجع عليٌّ من السقيفة، وسألنا عنه فقالوا: مضى إلى قبرمحمّد، فجلس إليه، فقمتُ أنا وأبو بكرٍ إليه، وجئنا نسعى وأبو بكر يقول: ويلك يا عمر، ما الّذي صنعتَ بفاطمة؟ هذا واللهِ الخسران المبين. فقلت: إنّ أعظم ما عليك أنّه ما بايعَنا، ولا أثق أن تتثاقل المسلمون عنه. فقال: فما تصنع؟ فقلت: تُظهِر أنّه قد بايعك عند قبر محمّد. فأتيناه، وقد جعل القبر قبلة، مسنِداً كفّه على تربته، وحوله سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار وحُذيفة بن

ص: 474

اليمان، فجلسنا بإزائه، وأوعزتُ إلى أبي بكرٍ أن يضع يده على مثل ما وضع عليٌّ يده ويقرّبها من يده، ففعل ذلك، وأخذتُ بيد أبي بكر لأمسحها على يده وأقول: قد بايع، فقبض عليٌّ يده، فقمت أنا وأبو بكر مولّياً، وأنا أقول: جزى الله عليّاً خيراً، فإنّه لم يمنعك البيعة لمّا حضرتَ قبر رسول الله صلی الله علیه وآله. فوثب من دون الجماعة أبو ذرّ جُندُب بن جنادة الغِفاريّ، وهو يصيح ويقول: والله -- يا عدوّ الله -- ما بايع عليٌّ عتيقاً. ولم يزل كلّما لقينا قوماً وأقبلنا على قومٍ نخبرهم ببيعته وأبو ذرّ يكذّبنا، واللهِ ما بايعَنا في خلافة أبي بكرٍ ولا في خلافتي، ولا يبايع لمن بعدي، ولا بايع من أصحابه اثنا عشر رجلاً، لا لأبي بكرٍ ولا لي، فمن فعل -- يا معاوية -- فعلي واستشار أحقاده السالفة غيري؟!

وأمّا أنت وأبوك أبو سفيان وأخوك عُتبة، فأعرفُ ما كان منكم في تكذيب محمّدٍ صلی الله علیه وآله وكيده، وإدارة الدوائر بمكّة، وطلبته في جبل حرّى لقتله، وتألّف الأحزاب وجمعهم عليه، وركوب أبيك الجمل وقد قاد الأحزاب، وقول محمّد: «لعن الله الراكب والقائد والسائق»، وكان أبوك الراكب، وأخوك عتبة القائد، وأنت السائق. ولم أنسَ أُمَّك هنداً وقد بذلت لوحشيّ ما بذلت، حتّى تكمن لحمزة الّذي دعَوه أسد الرحمان في أرضه، وطعنه بالحربة، ففلقفؤاده وشقّ عنه، وأخذ كبده فحمله إلى أُمّك، فزعم محمّدٌ بسحره أنّه لمّا أدخلَته فاها لتأكله صار جلموداً فلفظته مِن فيها، فسمّاها محمّدٌ وأصحابه: آكلة الأكباد، وقولها في شعرها لاعتداء محمّدٍ ومقاتليه:

ص: 475

نحن بنات طارق***نمشي على النمارق

كالدرّ في المخانق***والمسك في المفارق

إن يُقبلوا نعانق***أو يُدبروا نفارق

فراق غير وامق

ونسوتها في الثياب الصفر المرئية، مبديات وجوههنّ ومعاصمهنّ ورؤوسهنّ، يحرصن على قتال محمّد. إنّكم لم تُسلموا طوعاً، وإنّما أسلمتم كرهاً يوم فتح مكّة، فجعلكم طلقاء، وجعل أخي زيداً وعقيلاً أخا عليّ بن أبي طالب والعبّاس عمّهم مثلهم، وكان من أبيك في نفسه، فقال: واللهِ -- يا ابن أبي كبشة -- لَأملأنّها عليك خيلاً ورجلاً، وأحول بينك وبين هذه الأعداء. فقال محمّد -- ويؤذن للناس أنّه علم ما في نفسه -- : «أو يكفي الله شرّك يا أبا سفيان!»، وهو يري الناس أن لا يعلوها أحدٌ غيري، وعليٌّ ومَن يليه من أهل بيته، فبطل سحره وخاب سعيه، وعلاها أبو بكر، وعلوتها بعده، وأرجو أن تكونوا معاشر بني أُميّة عيدان أطنابها، فمِن ذلك قد وليتُك وقلّدتُك إباحة مُلكها، وعرفتك فيها، وخالفت قوله فيكم، وما أُبالي من تأليف شعره ونثره أنّه قال: يوحى إليّ منزّلٌ من ربّي، في قوله: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ» ((1))، فزعم أنّها أنتم يا بني أُميّة،فبيّن عداوته حيث

ص: 476


1- ([1]) سورة الإسراء: 60.

ملك، كما لم يزل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس، وأنا -- مع تذكيري إيّاك يا معاوية وشرحي لك ما قد شرحتُه -- ناصحٌ لك ومشفِقٌ عليك من ضيق عطنك وحرج صدرك وقلّة حلمك، أن تعجل فيما وصّيتُك به ومكّنتُك منه من شريعة محمّد صلی الله علیه وآله وأُمّته أن تُبدي لهم مطالبته بطعنٍ أو شماتةٍ بموت، أو ردّاً عليه فيما أتى به أو استصغاراً لما أتى به، فتكون من الهالكين، فتخفض ما رفعتُ وتهدمَ ما بنيت، واحذر كلّ الحذر حيث دخلتَ على محمّدٍ مسجده ومنبره، وصدِّقْ محمّداً في كلّ ما أتى به، وأورده ظاهراً، وأظهِر التحرّز والواقعة في رعيّتك، وأوسعهم حلماً، وأعمّهم بروائح العطايا، وعليك بإقامة الحدود فيهم، وتضعيف الجناية منهم لسبباً [خ ل: لسبب] محمّدٍ من مالك ورزقك، ولا تُرهم أنّك تدع لله حقّاً، ولا تنقض فرضاً، ولا تغيّر لمحمّدٍ سُنّة، فتفسد علينا الأُمّة، بل خذهم من مأمنهم، واقتلهم بأيديهم، وأبِدْهم بسيوفهم، وتطاولهم ولا تناجزهم، ولِنْ لهم ولا تبخس عليهم، وافسح لهم في مجلسك، وشرّفهم في مقعدك، وتوصّل إلى قتلهم برئيسهم، وأظهِر البِشر والبشاشة، بل اكظم غيظك واعفُ عنهم يحبّوك ويطيعوك، فما آمَنُ علينا وعليك ثورة عليٍّ وشبليه الحسن والحسين، فإن أمكنك في عدّةٍ من الأُمّة فبادر، ولا تقنع بصغار الأُمور، واقصد بعظيمها، واحفظ وصيّتي إليك وعهدي، وأخفِهِ ولا تُبدِه، وامتثل أمري ونهيي، وانهض بطاعتي، وإيّاك والخلاف علَيّ، واسلك طريق أسلافك، واطلب بثارك، واقتصّ آثارهم، فقد أخرجتُ إليك بسرّي وجهري، وشفّعتُ هذا بقولي:

ص: 477

معاويَ إنّ القوم جلّت أُمورُهم***بدعوة من عمّ البرية بالوتري

صبوت إلى دينٍ لهم، فأرابني***فأبعِدْ بدينٍ قد قصمت به ظهري

وإن أنسَ لا أنس الوليد وشيبةً***وعُتبة والعاص السريع لدى بدرِ

وتحت شِغاف القلب لدغٌ لفقدهم***أبو حكَمٍ، أعني الضئيل من الفقري

أُولئك فاطلب -- يا معاويَ -- ثارهم***بنصل سيوف الهند والأسل السمري

وصِلْ برجال الشام في معشر همُ***الأسد والباقون في أكم الوعري

توسّل إلى التخليط في الملّة الّتي***أتانا به الماضي المسموه بالسحري

وطالب بأحقادٍ مضت لك، مُظهراً***لعلّة دينٍ عمَّ كلَّ بني النضرِ

فلستَ تنال الثار إلّا بدينهم***فتقتل بسيف القوم جيد بني عمري

لهذا لقد ولّيتُك الشام راجياً***وأنت جديرٌ أن تؤول إلى صخري

قال: فلمّا قرأ عبد الله بن عمر هذا العهد، قام إلى يزيد فقبّل رأسه، وقال: الحمد لله -- يا أمير المؤمنين! -- على قتلك الشاري ابن الشاري، واللهِ ما أخرج أبي إليّ بما أخرج إلى أبيك، واللهِ لا رآني أحدٌ من رهط محمّدٍ بحيث يحبّ ويرضى. فأحسن جائزته وبرّه، وردّه مكرّماً، فخرج عبد الله بن عمر من عنده ضاحكاً، فقال له الناس: ما قال لك؟ قال: قولاً صادقاً، لَوددتُ أنّي كنتُ مشاركه فيه. وسار راجعاً إلى المدينة، وكان جوابه لمَن يلقاه هذا

ص: 478

الجواب ((1)).

ويروى أنّه أخرج يزيد (لعنه الله) إلى عبد الله بن عمر كتاباً فيه عهد عثمان بن عفّان، فيه أغلظ من هذا وأدهى وأعظم من العهد الّذي كتبه عمر لمعاوية، فلمّا قرأ عبد الله العهد الآخَر قام فقبّل رأس يزيد (لعنهما الله)، وقال: الحمد لله على قتلك الشاري ابن الشاري، واعلم أنّ والدي عمر أخرج إليّ مِن سرّه بمثل هذا الّذي أخرجه إلى أبيك معاوية، ولا أرى أحداً من رهط محمّدٍ وأهله وشيعته بعد يومي هذا إلّا غير منطوٍ لهم على خيرٍ أبداً. فقال يزيد: أفيه شرح الخفا يا ابن عمر؟ ((2))

وروى البلاذريّ قال: لمّا قُتِل الحسين علیه السلام، كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فقد عظمَت الرزيّة، وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم، ولا يوم كيوم الحسين. فكتب إليه يزيد: أمّا بعد يا أحمق، فإنّنا جئنا إلى بيوتٍ منجّدةٍ، وفُرُشٍ ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أوّل مَن سنّ هذا وابتزّ واستأثر بالحقّ على أهله ((3)).

وعن عبد الله بن عمر قال: كنتُ عند رسول الله صلی الله علیه وآله فسمعتُه يقول:

ص: 479


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 287 ح 151.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 299 ح 151.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 328.

«يدخل عليكم رجلٌ يستنّ بغير سنّتي»، فما أتمّ النبيُّ صلیالله علیه وآله كلامه حتّى دخل معاوية فجلس معنا، فقام النبيّ صلی الله علیه وآله فخطب، فأخذ معاوية بيد ابنه وقام فخرج ولم يستمع الخطبة، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله : «لعن الله القائد والمقود» ((1))، يعني بالأوّل معاوية، وبالثاني ابنه يزيد، إذ كان معاوية يقود ابنه.

ص: 480


1- ([1]) في (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 15 / 175) وغيره: ممّا ورد من ذلك في السُّنّة ورواه ثقات الأُمّة قول رسول الله صلی الله علیه وآله فيه وقد رآه -- أي: أبا سفيان -- مقبلاً على حمارٍ ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه: «لعن الله الراكب والقائد والسائق»..

الفصل الرابع عشر: في ذكر حديث زيد النسّاج

روى الشيخ الطريحي في كتاب (المنتخب)، عن زيد النسّاج قال: كان لي جارٌ، وهو شيخٌ كبيرٌ عليه آثار النُّسك والصلاح، وكان يدخل إلى بيته ويعتزل عن الناس ولا يخرج إلّا يوم الجمعة.

قال زيد النسّاج: فمضيتُ يوم الجمعة إلى زيارة زين العابدين صلی الله علیه وآله ، فدخلت إلى مشهده، وإذا أنا بالشيخ الّذي هو جاري قد أخذ من البئر ماءً وهو يريد أن يغتسل الجمعة والزيارة، فلمّا نزع ثيابه، وإذا في ظهره ضربة عظيمة فتْحَتُها أكثر من شبر، وهي تسيل قيحاً ودماً، فاشمأزّ قلبي منها، فحانت منه التفاتةً فرآني، فخَجِل، فقال لي: أنت زيد النسّاج؟ فقلت: نعم. فقال لي: يا بُنيّ، عاونّي على غُسلي. فقلت: لا والله لا أُعاونك حتّى تُخبرني بقصّة هذه الضربة الّتي بين كتفَيك، ومن كفّ مَن خرجت، وأيّ شيءٍ كان سببها؟ فقال لي: يا زيد، أُخبرك بها بشرط أن لا تحدّث بها أحداً من الناس إلّا بعد موتي. فقلت: لك ذلك. فقال: عاونّي على غسلي، فإذا لبستُ أطماري حدّثتُك بقصّتي. قال زيد: فساعدته، فاغتسل ولبس

ص: 481

ثيابه، وجلس في الشمس وجلستُ إلى جانبه، وقلت له: حدِّثْني.

فقال لي: اعلمْ إنّا كنّا عشرة أنفُسٍ قد تواخينا على الباطلوتوافقنا على قطع الطريق وارتكاب الآثام، وكانت بيننا نوبة نديرها في كلّ ليلةٍ على واحدٍ منّا، ليصنع لنا طعاماً نفيساً وخمراً عتيقاً وغير ذلك، فلمّا كانت الليلة التّاسعة وكنّا قد تعشّينا عند واحدٍ من أصحابنا وشربنا الخمر، ثمّ تفرّقنا وجئتُ إلى منزلي وهدوتُ ونمت، أيقظَتْني زوجتي وقالت لي: إنّ الليلة الآتية نوبتها عليك، ولا في البيت عندنا حبّة من الحنطة. قال: فانتبهتُ وقد طار السُّكر من رأسي، وقلت: كيف أعمل؟ وما الحيلة؟ وإلى أين أتوجّه؟ فقالت لي زوجتي: الليلة ليلة الجمعة، ولا يخلو مشهد مولانا عليّ بن أبي طالب من زوّارٍ يأتون إليه يزورونه، فقم وامضِ وأكمِنْ على الطريق، فلابدّ أن ترى أحداً فتأخذ ثيابه فتبيعها وتشتري شيئاً من الطعام، لتتمّ مروّتك عند أصحابك وتكافيهم على صنيعهم.

قال: فقمت، وأخذتُ سيفي وجحفتي ومضيتُ مبادراً، وكمَنْتُ في الخندق الّذي في ظهر الكوفة، وكانت ليلةً مُظلمةً ذات رعدٍ وبرق، فأبرقَتْ برقة فإذا أنا بشخصين مقبلَين من ناحية الكوفة، فلمّا قربا منّي برقَتْ برقة أُخرى فإذا هُما امرأتان، فقلت في نفسي: في مثل هذه الساعة تأتي امرأتان! ففرحت، ووثبتُ إليهما وقلت لهما: اطرحا ثيابكما سريعاً. ففزعتا منّي، ونزعتا ثيابهما، فحسست عليهما حُليّاً، فقلت لهما: وانزعا الحُليّ الّتي عليكما سريعاً. فطرحتاه، فأبرقت السماءُ برقةً أُخرى فإذا إحداهما عجوزٌ، والأُخرى شابّة من أحسن النساء وجهاً، كأنّها ظبية قنّاص أو درّة غوّاص،

ص: 482

فوسوس لي الشيطان على أن أفعل بها القبيح، وقلت في نفسي: مثل هذه الشابّة الّتي لا يوجد مثلها حصلت عندي في هذا الموضع وأُخلّيها؟ فراودتُها عن نفسها، فقالت العجوز: يا هذا، أنت في حِلٍّ ممّا أخذتَه منّا مِن الثياب والحُليّ، فخلِّنا نمضي إلى أهلنا، فواللهِ أنّها بنت يتيمةٍ من أُمّها وأبيها، وأنا خالتها، وفي هذه الليلة القابلة تُزَفّإلى بعلها، وإنّها قالت لي: يا خالة، إنّ الليلة القابلة أُزفّ إلى ابن عمّي، وأنا والله راغبةٌ في زيارة سيّدي عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وإنّي إذا مضيتُ إلى بعلي رُبّما لا يأذن لي بزيارته. فلمّا كانت هذه الليلة الجمعة خرجتُ بها لأزوّرها مولاها وسيّدها أمير المؤمنين، فبالله عليك لا تهتك سترها ولا تفضِ ختمها ولا تفضحها بين قومها. فقلتُ لها: إليكِ عنّي. وضربتُها وجعلت أدور حول الصبيّة وهي تلوذ بالعجوز، وهي عريانة ما عليها غير السروال، وهي في تلك الحال تعقد تكّتها وتوثّقها عقداً، فدفعتُ العجوز عن الجارية وصرعتُها إلى الأرض، وجلستُ على صدرها ومسكت يديها بيدٍ واحدة، وجعلت أحلّ عقد التكّة باليد الأُخرى، وهي تضطرب تحتي كالسمكة في يد الصيّاد، وهي تقول: المستغاث بك يا الله! المستغاث بك يا عليّ بن أبي طالب، خلِّصْني من يد هذا الظالم!

قال: فواللهِ ما استتمّ كلامُها إلّا وأحسّ حافر فرسٍ خلفي، فقلتُ في نفسي: هذا فارسٌ واحدٌ وأنا أقوى منه. وكانت لي قوّةٌ زائدة، وكنت لا أهاب الرجال قليلاً أو كثيراً، فلمّا دنى منّي فإذا عليه ثيابٌ بيضٌ وتحته فرسٌ أشهب تفوح منه رائحة المسك، فقال لي: يا ويلك، خلِّ المرأة! فقلت له: اذهب لشأنك، فأنت نجوتَ بنفسك وتريد تنجي غيرك. قال: فغضب

ص: 483

من قولي، ونفحني بذبال سيفه بشيءٍ قليل، فوقعتُ مغشيّاً علَيّ لا أدري أنا في الأرض أو في غيرها، وانعقد لساني وذهبَت قوّتي، لكنّي أسمع الصوت وأعي الكلام، فقال لهما: قوما البسا ثيابكما، وخُذا حُليّكما وانصرفا لشأنكما. فقالت العجوز: فمَن أنت، يرحمك الله وقد مَنّ الله علينا بك؟ وإنّي أُريد أن توصلنا إلى زيارة سيّدنا عليّ بن أبي طالب. قال: فتبسّم في وجوههما وقال لهما: أنا عليّ بن أبي طالب، ارجعا إلى أهلكما فقد قبلتُ زيارتكما. قال: فقامتالعجوز والصبيّة، وقبّلا يديه ورجلَيه، وانصرفا في سرورٍ وعافية.

قال الرجل: فأفقتُ من غشوتي، وانطلق لساني، فقلت له: يا سيّدي، أنا تائبٌ إلى الله على يدك، وإنّي لا عُدتُ أدخل معصيةً أبداً. فقال: إنْ تبتَ تاب الله عليك. فقلت له: تبت، واللهُ على ما أقول شهيد. ثمّ قلت له: يا سيّدي، إن تركتني في هذه الضربة هلكتُ بلا شكّ. قال: فرجع إليّ، وأخذ بيده قبضةً من تراب، ثمّ وضعها على الضربة ومسح بيده الشريفة عليها، فالتحمت بقدرة الله تعالى.

قال زيد النسّاج: فقلت له: كيف التحمَت وهذا حالها؟! فقال لي: والله إنّها كانت ضربةً مهولةً أعظم ممّا تراه الآن، ولكنّها بقيَت موعظةً لمن يسمع ويرى. ولا شكّ أنّ عليّاً والأئمّة علیهم السلام أحياءٌ عند ربّهم يُرزَقون ((1)).

ص: 484


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 400 المجلس 8.

محتويات الكتاب

الديباجة 5

المؤلّف والكتاب.. 15

آل البرغاني 16

دراسته. 18

إستقراره في كربلاء. 19

أولاده 19

تلاميذه 23

مؤلّفاته. 24

الكتاب.. 24

[مقدِّمة المؤلّف] 27

[الخُطَب] 29

[الخطبة] الأُولى.. 29

الخطبة الثانية. 31

الخطبة الثالثة. 33

الخطبة الرابعة. 35

الخطبة الخامسة. 37

ص: 485

الخطبة السادسة. 39

الخطبة السابعة. 41

الخطبة الثامنة. 43

الفصل الأوّل: في ذِكر بعض الآيات، وبيان جملةٍ من القصص والحكايات 45

[تأويل )كهيعص(] 45

[بين يحيى والإمام الحسين علیهما السلام] 55

[تأويل: )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(] 56

[فداء جزع إبراهيم علیه السلام] 58

[الذبيح الثاني: عبد الله أبو النبيّ صلی الله علیه وآله ] 60

الفصل الثاني: في قصّة أبي ذرّ، وبكاء السماء والأرض دماً، ومصيبة المظلوم 73

الفصل الثالث: في ذكر مرور الأنبياء والأوصياء بصحراء كربلاء، وذكر جملةٍ من القصص والأخبار 103

[آدم علیه السلام في كربلاء] 103

[نوح علیه السلام وسفينته وكربلاء] 104

[إبراهيم علیه السلام في كربلاء] 106

[إسماعيل علیه السلام في كربلاء] 106

[موسى علیه السلام في كربلاء] 107

[سليمان علیه السلام في كربلاء] 108

[عيسى علیه السلام في كربلاء] 108

[النبيّ الخاتم صلی الله علیه وآله في كربلاء] 109

ص: 486

[أمير المؤمنين علیه السلام في كربلاء] 113

[الإمام الحسين علیه السلام يسقي عطاشى صفّين] 118

[إبن الحنفيّة والحسنان في صفّين] 119

[توبة الزبرقان على يدَي الحسين علیه السلام ] 120

[بكاء النبيّ صلی الله علیه وآله في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام] 121

الفصل الرابع: في ذكر حديث لَعْيا وصلصائيل ودردائيل وفطر، وغيرها من الأخبار 125

[لعيا] 125

[صلصائيل] 129

[دردائيل] 130

[فطرس] 133

[ما مِن ملَكٍ إلّا ونزل يعزّي النبيّ صلی الله علیه وآله] 136

[ملَكٌ من ملائكة الصفيح الأعلى] 136

[ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى] 137

[ملَك المطر] 139

[جبرائيل] 139

[ميكائيل] 140

[جبرئيل علیه السلام ] 141

[الإخبار بشهادته علیه السلام ] 144

الفصل الخامس: في بيان مَن بكى أو أبكى أو تباكى. 157

ص: 487

الفصل السادس: في ثواب زيارته علیه السلام وفضل كربلاء وغير ذلك 191

الفصل السابع: في جملةٍ من مناقبه وفضائله علیه السلام 219

[هروب الحمّى من الحسين علیه السلام ] 240

[رجلٌ تحّرش بامرأةٍ في الطواف فلصقت يده، وخلّصه الحسين علیه السلام] 241

[أمر الغلام الصغير فنطق بإذن الله] 242

[إرائة الأصبغ مخاطبة النبي صلی الله علیه وآله لأبي دون] 243

[كفّ جبرائيل في كفّه] 244

[وقوفه علیه السلام على قبر جدّته خديجة علیها السلام] 258

[مفاخرته مع أبيه علیهما السلام] 260

[أجاب دعوة المساكين] 267

أعتق غلاماً ليهوديٍّ كان يواكل كلباً طلباً للسرور. 267

[بينه وبين أخيه ابن الحنفيّة!] 274

[مشيه إلى بيت الله الحرام] 275

[نزاعه مع والي المدينة] 276

[حسين سبطٌ من الأسباط] 277

[مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين] 278

[جبرئيل يُلهيه حتّى تستيقظ أُمّه] 279

[إخباره مروان بسقوط ردائه..] 282

[جوابه لابن العاص] 282

[خِطبة الإمام علیه السلام بنت عثمان، وخِطبة يزيد (لعنه الله) بنت ابن جعفر] 284

[توبة فاحشة ونجاتها بسبب مأتم الحسين علیه السلام ] 287

ص: 488

الفصل الثامن: في ذكر حديث كعب وبشار، ورؤيا هند، وغيرها من الأخبار المُورثة للبكاء 289

[قصّة عليّ بن محمّد شفيع] 289

[خبر كعب الأحبار] 290

[البومة] 292

[مَن شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله] 293

[النبي؟ص؟ يحبّ صبيّاً لأنّه يحبّ الحسين علیه السلام] 294

[أسلم يهوديٌّ لمّا رأى من محبّة النبي صلی الله علیه وآله للحسين علیه السلام ] 296

[حوريّة سيّد الشهداء] 299

[قصر سيّد الشهداء في الجنّة] 300

[لمّا قُتِل الحسين كتب دمه على الأرض] 301

[فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه] 301

[فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم] 301

[جواب ابن عمر لعراقيٍّ سأله عن دم البعوض] 302

[محبّيه ومحبّي محبّيه في الجنّة] 303

[محبّه لم تلفح وجهه النار] 303

[سنّة التكبير في الصلاة ببركة الحسين علیه السلام ] 304

[أتركب ظهراً حمله رسول الله صلی الله علیه وآله] 305

[تكلّم ببعض فضائلهم فدُهش الرجل ووله] 305

[استسقاؤه لأهل الكوفة] 306

[تأويل رؤيا هند] 309

ص: 489

[جام البلّور الأحمر] 313

[نزول ملَكٍ على صفة الطير على يدَي الحسنين] 314

[تسبيح الرمّان والعنب] 320

[جواب الحسنين على مسألةٍ عجز عنها ابن الزبير وابن عثمان] 322

[علّما شيخاً كيف يُحسِن الوضوء] 322

[ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن] 322

[إمساك ابن عبّاس الركاب لهما] 325

[إستجار مذنبٌ بهما فأطلقه النبي صلی الله علیه وآله] 325

[أعرابيٌّ ضلّ بعيره فدلّه عليه] 327

[رُفع إلى السماء لتزوره الملائكة] 328

[إستشار الحسينَ في الزواج فخالفه] 329

[سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في يده] 330

[قصّة أحد ملوك بني مروان نذر أن يقتل زوّار الحسين] 330

الفصل التاسع: في بيان حديث المفضّل. 339

الفصل العاشر: في بدو نوره وبعض الآيات النازلة في ولادته علیه السلام وغير ذلك 405

الفصل الحادي عشر: في بيان صوم عاشوراء، وعلّة عدم منع القاتلين وعدم مسخ الأعداء وغير ذلك 433

الفصل الثاني عشر: في بيان مسخ الأعداء ونسب بني أميّة وغير ذلك. 449

الفصل الثالث عشر: في كتاب عمر إلى معاوية وغير ذلك. 465

الفصل الرابع عشر: في ذكر حديث زيد النسّاج. 481

ص: 490

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف: محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

المجلس الأوّل: في بيان خروج سيّد الشهداء من المدينة المنوّرة ونزوله في مكّة المكرّمة

روى الشيخ المفيد: لمّا مات الحسن بن علي علیه السلام، تحرّكَت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين علیه السلامفي خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإنْ مات معاوية نظر في ذلك ((1)).

وروى ابن بابَوَيه عن الإمام زين العابدين علیه السلام قال: «لمّا حضرَت معاويةَ الوفاة، دعا ابنه يزيد (لعنه الله) فأجلسَه بين يديه، فقال له: يا بُنيّ، إنّي قد ذلّلتُ لك الرقاب الصعاب، ووطّدتُ لك البلاد، وجعلتُ المُلك وما فيه لك

ص: 5


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.

طُعمة، وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفَرٍ يخالفون عليك بجُهدهم، وهم: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بنالزبير، والحسين بن علي، فأمّا عبد الله بن عمر فهو معك، فالزمه ولا تدَعْه، وأمّا عبد الله بن الزبير فقطِّعْه إنْ ظفَرْت به إرباً إرباً، فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته، ويواربك مواربة الثعلب للكلب، وأمّا الحسين علیه السلام فقد عرفتَ حظَّه من رسول الله صلی الله علیه واله، وهو من لحم رسول الله ودمه، وقد علمتَ لا محالة أنّ أهل العراق سيُخرجونه إليهم ثمّ يخذلونه ويضيّعونه، فإن ظفرتَ به فاعرف حقَّه ومنزلته من رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك فإنّ لنا به خلطةً ورحماً، وإيّاك أن تناله بسوءٍ ويرى منك مكروهاً» ((1)).

قال المؤلف: كان غرض معاوية من هذه النصائح حفظ مُلكه وسلطانه، لأنّه يعلم أنّ قتل الحسين علیه السلام سيُطيح بعرشه فلا يستقيم له سلطان، وينحرف الناسُ عنه جميعاً.

وفي (الإرشاد): فلمّا مات معاوية، وذلك للنصف من رجب سنة ستّين من الهجرة، كتب يزيد إلى الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان -- وكان على المدينة من قِبَل معاوية -- أن يأخذ الحسين علیه السلام بالبيعة له، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك ((2)).

وفي (الملهوف): فإن أبى عليك فاضربْ عُنقه وابعث إليّ برأسه ((3)).

ص: 6


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 151 المجلس 30 ح 1.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 22.

وفي رواية محمّد بن أبي طالب: فلمّا ورد الكتاب على الوليد وقرأه، عظم ذلك عليه، ثمّ قال: لا والله، لا يراني الله بقتل ابن نبيّهولو جعل يزيدُ لي الدنيا بما فيها ((1)).

وفي (الملهوف): فأحضر الوليد مروان، واستشاره في أمر الحسين علیه السلام، فقال: إنّه لا يقبل، ولو كنتُ مكانك لَضربتُ عنقه. فقال الوليد: ليتني لم أكُ شيئاً مذكوراً ((2)).

وفي (الإرشاد): فأنفذ الوليدُ إلى الحسين علیه السلامفي الليل فاستدعاه، فعرف الحسين الّذي أراد، فدعا جماعة (ثلاثين) ((3)) من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: «إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولستُ آمَنُ أن يكلّفني فيه أمراً لا أُجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلتُ إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منّي».

فصار الحسين علیه السلام إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليدُ إليه معاوية، فاسترجع الحسين علیه السلام ، ثمّ قرأ كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال له الحسين: «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أُبايعه جهراً فيعرف الناس ذلك». فقال الوليد له: أجل. فقال

ص: 7


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمد بن أبي طالب: 2 / 154.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 22.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 22.

الحسين علیه السلام: «فتصبح وترى رأيك في ذلك». فقال له الوليد: انصرفْ على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان: واللهِ لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يُبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلكالحسين

علیه السلاموقال: «أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبتَ واللهِ وأثمت!» ((1)).

وفي (اللهوف): فقال الحسين علیه السلام: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدنُ الرسالة، ومختلَف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر قاتلُ النفس المحرّمة مُعلِنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع بمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة» ((2)).

وفي (المناقب): فقام مروان وجرّد سيفه وقال: مُر سيّافك أن يضرب عنقه قبل أن يخرج من الدار، ودمُه في عنقي. وارتفعت الصيحة، فهجم تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وقد انتضوا خناجرهم، فخرج الحسين معهم ((3)).

وفي (الإرشاد): فقال مروان للوليد: عصيتَني، لا والله لا يمكّنك مثلها من

ص: 8


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 23.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 142.

نفسه أبداً. فقال له الوليد: الويح لغيرك يا مروان، إنّك اخترت لي الّتي فيها هلاك ديني، واللهِ ما أُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه مِن مال الدنيا ومُلكها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً أنْ قال: لا أُبايع؟ واللهِ إنّي لأظنّ أن امرءاً يُحاسَب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعت. يقول هذا وهو غير الحامد لهفي رأيه ((1)).

وأصبح الحسين علیه السلام ، فخرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبد الله، إنّي لك ناصح، فأطعني ترشد. فقال الحسين علیه السلام: «وما ذاك؟ قل حتّى أسمع». فقال مروان: إنّي آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنّه خيرٌ لك في دينك ودنياك. فقال الحسين علیه السلام: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله؟ص؟ يقول: الخلافة محرَّمةٌ على آل أبي سفيان». وطال الحديث بينه وبين مروان، حتّى انصرف مروان وهو غضبان ((2)).

وروى أحد إخوان الإمام علیه السلام قال: لمّا امتنع أخي الحسين علیه السلام عن البيعة ليزيد بالمدينة، دخلتُ عليه فوجدتُه خالياً، فقلت له: جُعلتُ فداك يا أبا عبد الله، حدّثَني أخوك أبو محمّدٍ الحسن عن أبيه علیه السلام .. ثمّ سبقني

ص: 9


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 34.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 24.

الدمعة وعلا شهيقي، فضمَّني إليه وقال: «حدّثَك أنّي مقتول؟»، فقلت: حوشيت يا ابن رسول الله. فقال: «سألتُك بحقّ أبيك، بقتلي خبّرك؟»، فقلت: نعم، فلولا ناولتَ وبايعت. فقال: «حدثَني أبي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، فتظنّ أنّك علمتَ ما لم أعلمه؟ وأنّه لا أُعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولتلقيَنّ فاطمةُ أباها شاكيةً ما لقيَت ذريّتُها مِن أُمّته، ولا يدخل الجنّةَ أحدٌآذاها في ذريّتها» ((1)).

وروى محمّد بن أبي طالب قال: خرج الحسين علیه السلام من منزله ذات ليلة، وأقبل إلى قبر جدّه صلی الله علیه وآله، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخُك وابن فرختك، وسبطك الّذي خلفتَني في أُمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني، وضيّعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك».

قال: ثمّ قام فصفّ قدميه، فلم يزل راكعاً ساجداً.

قال: وأرسل الوليد إلى منزل الحسين علیه السلام لينظر أخرَجَ من المدينة أم لا، فلم يُصِبْه في منزله، فقال: الحمد لله الّذي خرج ولم يبتلني اللهُ بدمه.

قال: ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح.

قال: فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً، وصلّى ركعات، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: «اللّهمّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أُحبّ المعروف وأُنكِر المنكر، وأنا

ص: 10


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 26.

أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ [هذا] القبر ومَن فيه، إلّا اخترتَ لي ما هو لك رضىً ولرسولك رضى». قال: ثمّ جعل يبكي عند القبر، حتّى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله صلی الله علیه وآله قد أقبل في كتيبةٍ من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه، حتّى ضمّ الحسينَ إلى صدره وقبّل بين عينيه، وقال: «حبيبي يا حسين،كأنّي أراك عن قريبٍ مرمَّلاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلاء، بين عصابةٍ من أُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قَدِموا علَيّ، وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنان لَدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة».

قال: فجعل الحسين علیه السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول: «يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا، فخُذْني إليك وأدخِلْني معك في قبرك». فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «لابدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزَق الشهادة، وما قد كتب اللهُ لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشَرون يوم القيامة في زُمرةٍ واحدةٍ حتّى تدخلوا الجنّة».

قال: فانتبه الحسين علیه السلام من نومه فزعاً مرعوباً، فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرقٍ ولا مغربٍ قومٌ أشدّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا أكثر باكٍ ولا باكيةً منهم ((1)).

ص: 11


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 154.

وتهيّأ الحسين علیه السلام للخروج من المدينة، ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه فودّعها.

وفي بعض الكتب: فوقف على القبر وقال: «السلام عليكِ يا أُمّاه، هذا حسينك جاء يودّعك، وهذه آخر زيارته لكِ». فإذا النداء من القبر: «وعليك السلام يا مظلوم الأُمّ، ويا شهيد الأُمّ،ويا غريب الأُمّ». فخنقَته العَبرة وبكى، حتّى لم يعد يُطِق الكلام ((1)).

وفي رواية محمّد بن أبي طالب: ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه علیها السلام فودّعها، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن علیه السلام ففعل كذلك، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح.

فأقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة وقال: يا أخي، أنت أحبُّ الخلق إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ والله أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق، وليس أحدٌ أحقّ بها منك؛ لأنك مزاج مائي و نفسي وروحي وبصري، وكبير أهل بيتي، ومَن وجبَت طاعته في عنقي، لأنّ الله (تبارك وتعالى) قد شرّفك علَيّ وجعلك من سادات أهل الجنّة، وأُريد أن أُشير عليك، فاقبل منّي.

فقال الحسين علیه السلام: «يا أخي، قل ما بدا لك».

ص: 12


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 201، مهيّج الأحزان لليزدي: 49 ذكر خروج الحسين علیه السلام من المدينة إلى مكّة -- بترجمة: السيّد علي أشرف، وانظر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 329.

فقال: أُشير عليك أن تتنحّى عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وتبعث رسلك إلى الناس تدعوهم إلى بيعتك، فإن بايعك الناس حمَدْت الله على ذلك وقمت فيهم بما كان رسول الله صلی الله علیه واله يقوم به فيهم، حتّى يتوفّاك الله وهو عنك راض، والمؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك وأخيك، وإن اجتمع الناس على غيرك حمدتَ الله على ذلك وسكتّ ولزمت منزلك، فإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار أو تأتي جماعةً من الناس، فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفةٌ عليك، فتُقتَل بينهم.

فقال الحسين علیه السلام: «فإلى أين أذهب؟».قال: تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنّت بك الدار [فذاك]، وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وجزتَ من بلدٍ إلى بلد، حتّى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

قال: فقال الحسين علیه السلام: «يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لَ-ما بايعتُ يزيد بن معاوية» ((1)).

فقطع محمّد ابن الحنفيّة الكلام وبكى، فبكى [معه] الحسين علیه السلام ساعة، ثمّ قال: «يا أخي، جزاك الله خيراً، فقد نصحتَ وأشرت بالصواب، وأنا

ص: 13


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 156.

عازمٌ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ممّن أمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فما عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، لا تُخفِ عنّي شيئاً من أُمورهم» ((1)).

ثمّ دعا الحسين علیه السلام بدواةٍ وبياض، وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمّد رضی الله عنه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ مِن عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشِراً ولابطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؟ص؟، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمّدٍ صلی الله علیه واله وأبي عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومَن ردّ علَيّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ [و يحكم بيني وبينهم] وهو خير الحاكمين، وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب» ((2)). ثمّ طوى الحسين الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه محمّد ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام قال: «لمّا همّ الحسين علیه السلام بالشخوص عن المدينة، أقبلَت نساء بني عبد المطّلب فاجتمعن للنياحة، حتّى

ص: 14


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 160.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 161.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 329.

مشى فيهنّ الحسين علیه السلام، فقال: أُنشدكنّ الله أن تُبدين هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله. فقالت له نساء بني عبد المطّلب: فلِمَن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلی الله علیه واله وعليٌّ وفاطمة ورقيّة وزينب وأُمّ كلثوم، فننشدك الله -- جعلنا اللهُ فداك من الموت -- يا حبيب الأبرار من أهل القبور. وأقبلَت بعضُ عمّاته تبكي وتقول: أشهد يا حسين، لقد سمعتُ الجنّ ناحت بنوحك وهم يقولون:

فإنّ قتيل الطفّ مِن آل هاشمٍ***أذلّ رقاباً من قريش فذلّتِ

حبيب رسول الله لم يكُ فاحشاً***أبانت مصيبتك الأُنوف وجلّتِ

وقلن أيضاً:

أبكي حسيناً سيّداً***ولقتله شاب الشعر

ولقتله زُلزلتمُ***ولقتله انكسف القمر

واحمرّت آفاق السما***ءِ من العشيّة والسحَر

وتغبّرت شمس البلاد***بهم وأظلمت الكُوَر

ذاك ابن فاطمة المصا***بُ به الخلائق والبشر

أورثتنا ذُلّاً به***جدع الأُنوف مع الغرر»

((1))

وفي (بحار الأنوار): لمّا عزم على الخروج من المدينة، أتته أُمُّ سلَمة رضی الله عنها فقالت: يا بُنيّ، لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعتُ جدّك يقول:

ص: 15


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 96 الباب 29 ح 9.

«يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق في أرضٍ يُقال لها: كربلاء». فقال لها: «يا أُمّاه، وأنا واللهِ أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وليس لي من هذا بُدّ، وإنّي والله لَأعرف اليوم الّذي أُقتَل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة الّتي أُدفَن فيها، وإنّي أعرف مَن يُقتَل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي». ثمّ أشار علیه السلام إلى جهة كربلاء فانخفضَت الأرض، حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أُمّ سلَمة بكاءً شديداً، وسلّمت أمره إلى الله، فقال لها: «يا أُمّاه، قد شاء الله عزوجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراًولا معيناً».

وفي روايةٍ أُخرى: قالت أُمّ سلَمة: وعندي تربةٌ دفعها إليّ جدّك في قارورة. فقال: «والله إنّي مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً». ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورةٍ وأعطاها إيّاها، وقال: «اجعليها مع قارورة جدّي، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت» ((1)).

ورُوي عن الإمام زين العابدين علیه السلام أنّه قال: «وحمل أخواته على المحامل، وابنته، وابن أخيه القاسم بن الحسن بن علي علیه السلام، ثمّ سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته، منهم: أبو بكر بن عليّ، ومحمّد بن عليّ، وعثمان بن عليّ،

ص: 16


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 331.

والعبّاس بن عليّ، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، وعليّ بن الحسين الأكبر، وعليّ بن الحسين الأصغر علیهم السلام» ((1)).

وروى أبو مِخنف، عن عمّار، عن سكينة بنت الحسين علیه السلام قالت: لمّا خرجنا من المدينة، ما كان أحدٌ أشدّ خوفاً منّا أهل البيت ((2)).

وروى الشيخ المفيد قال: فسار الحسين علیه السلام إلى مكّة وهو يقرأ: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِالظَّالِمِينَ» ((3))، ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبتَ الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير؛ لئلّا يلحقك الطلب. فقال: «لا والله، لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» ((4)).

وذكر شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «لمّا سار أبو عبد الله علیه السلام من المدينة، لقيَه أفواجٌ من الملائكة المسوّمة والمردفة، في أيديهم الحِراب، على نُجبٍ من نجب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ الله سبحانه أمدّ جدّك صلی الله علیه وآله بنا في مواطن كثيرة، وإنّ الله أمدّك بنا. فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أُستشهَد فيها، وهي كربلاء، فإذا وردتها فأْتوني. فقالوا: يا حجّة الله، مُرنا نسمع ونطع، فهل تخشى من عدوٍّ يلقاك فنكون

ص: 17


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 313.
2- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 321، مقتل أبي مخنف (المشهور): 15.
3- ([1]) سورة القصص: 21.
4- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

معك؟ فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولا يلقوني بكريهةٍ أو أصل إلى بقعتي.

و أتته أفواج مسلمي الجنّ، فقالوا: يا سيّدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بأمرك وما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لَكفيناك ذلك. فجزاهم الحسين خيراً، وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» ((1))، وقال سبحانه: «لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىمَضَاجِعِهِمْ» ((2))؟ وإذا أقمتُ بمكاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يُختبَرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء، وقد اختارها الله (تعالى) [لي] يوم دحا الأرض، وجعلها معقلاً لشيعتنا، وتكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء الّذي في آخره أُقتَل، ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي، ويُسار برأسي إلى يزيد (لعنه الله).

فقالت الجنّ: نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه لو لا أنّ أمرك طاعةٌ وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال لهم علیه السلام : نحن والله أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بينة» ((3)).

ص: 18


1- ([3]) سورة النساء: 78.
2- ([1]) سورة آل عمران: 154.
3- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 232 -- عن كتاب مولد النبي صلی الله علیه وآله ومولد الأوصياء (صلوات الله عليهم) للمفيد، اللهوف لابن طاووس: 66.

وروى الشيخ المفيد: لمّا دخل الحسين مكّة، كان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاثٍ مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ: «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ» ((1))، ثمّ نزلها، وأقبل أهلها يختلفون إليه ومَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة، فهو قائمٌ يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسينَ علیه السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابنالزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين علیه السلام في البلد، وأنّ الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ.

و بلغ أهلَ الكوفة هلاك معاوية، فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين علیه السلام وامتناعه من بيعته، وما كان من ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكّة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرَد، فذكروا هلاك معاوية، فحمدوا الله عليه.

فقال سليمان: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسينا قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فأعلِمُوه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه. قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه.

ص: 19


1- ([3]) سورة القصص: 22.

قال: فكتبوا:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي علیه السلام من سليمان بن صُرَد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ؛ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجمع معه في جمعة، ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله.

ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَين حتّى قَدِما على الحسين علیه السلام بمكّة لعشرٍ مضين من شهر رمضان.

ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد

ص: 20

السلولي إلى الحسين علیه السلام ، ومعهم نحوٌ من مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.

ثمّ لبثوا يومين آخرين، وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليٍّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام.

وكتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمّد بن عمرو التيمي: أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فاقدِمْ على جندٍ لك مجنَّد، والسلام ((1)).

قال المؤلف: آه! وا غمّاه يا أبا عبد الله! إنّ أكثر هؤلاءالأشخاص الّذين كاتبوا الإمام علیه السلام حاربوه في كربلاء، كاتبوه أوّلاً، حتّى إذا أخرجوه من أرضه ودياره عدَوْ عليه قبل أن يصل إلى ديارهم، فسلّوا سيوفهم في وجهه، وشرعوا الرماح في نحره، وخرجوا الى قتاله.

وكان عمرو بن الحجّاج وعروة بن قيس وشبث بن ربعيّ الّذين كتبوا

ص: 21


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

له: فقد أخضرت الجنات وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فأقبِلْ على جندٍ لك مجنّدة.. كانوا من أُمراء عسكر ابن سعد، كان عمرو بن الحجّاج على ميمنة عسكر عمر بن سعد ((1))، وكان عروة بن قيس على الخيّالة ((2))، وكان يزيد ابن الحارث على ألفَي فارس، وكان شبث بن ربعيّ على الرجّالة ((3))، وكان عمرو بن الحجّاج على المشرعة في أربعة آلاف، منع الحسينَ وأصحابه عن الماء ((4))، وهو الّذي نقض الشرط بين ابن سعد والإمام الحسين علیه السلام في القتال مبارزة، فصاح المعلون بالناس: يا حمقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز منكم إليهم أحدٌ إلّا قتلوه على قلّتهم، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم. فقال له عمر بن سعد (لعنه الله): الرأي ما رأيت، فأرسِلْ في الناس مَن يعزم عليهم أن لا يبارزهمرجلٌ منهم. وقال: لو خرجتم إليهم وحداناً لَأتوا عليكم مبارزة ((5)).

ودنا هذا اللعين عمرو بن الحجّاج من أصحاب الحسين علیه السلام ، فقال: يا

ص: 22


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
5- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.

أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام. فقال الحسين علیه السلام: «يا ابن الحجّاج، أعلَيّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُّم عليه؟ واللهِ لتعلمنّ أيّنا المارق من الدين ومَن هو أَولى بصلي النار» ((1)).

وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ اللعين هذا هو الّذي كان في أربعة آلاف رجلٍ على الشريعة، فحمل عليهم الإمام الحسين وأقحم الفرس على الفرات، فلما أولغ الفرس برأسه ليشرب قال علیه السلام: «أنت عطشان، وأنا عطشان، واللهِ لا ذُقتُ الماء حتّى تشرب»، فلمّا سمع الفرس كلام الحسين علیه السلام شال رأسه ولم يشرب، فقال الحسين علیه السلام: «فأنا أشرب»، فمدّ الحسين علیه السلام يده فغرف من الماء، فقال ملعون: يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكت حرمك؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم فكشفهم ((2)).

وما أقوى قول الشاعر الّذي يقول بلسان حال زينب علیها السلام: أخي، كان خماري على رأسي ما دامت عمامتك على رأسك، فلمّا سلبواعمامتك سُلب منّي خماري.

وعمرو بن الحجّاج اللعين هذا هو الّذي نادى: يا حسين، هذا الماء يلغ فيه الكلاب، ويشرب منه خنازير السواد والذئاب، وما تذوق منه -- واللهِ --

ص: 23


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم! ((1))

قال صاحب (التِّبر المذاب) -- وهو من المخالفين -- : وكان سماع مثل هذا أشدّ عليه من منع الماء ((2)).

وعمرو بن الحجّاج اللعين هذا جاء إلى الإمام المظلوم لمّا سقط عن ظهر فرسه يخور في دمه، فأقبل إليه ونزل عن فرسه ليقطع رأسه الشريف، فلمّا دنا منه ونظر إلى عينيه ولّى مدبراً، ورجع راجعاً وركب فرسه وعاد، فقال له شمر بن ذي الجوشن: رجعتَ عمّا عزمت؟ قال اللعين: نظرتُ إلى عينيه، فإنّهما عينا رسول الله، وما أحببتُ أن ألقى الله بدمه!!! ((3))

وخرجَت زينب بنت علي علیه السلام وقرطاها يجولان بين أُذنيها، وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ولحيته المشؤومة، وهو يصرف وجهه عنها ((4)).

أمّا ابن هاني فكان من آخِر الرسل الّذين حملوا كتباً للحسين منقِبل

ص: 24


1- ([1]) أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 182.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب، للخافي الشافعي: 140 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- ([3]) وسيلة الدارين للزنجاني: 326، معالي السبطين للحائري: 2 / 42.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.

الكوفيّين، لمّا جاؤوا به إلى المختار قال له المختار: لعنك الله، ألم تكن رسولاً حملتَ الكتب للحسين بمكّة مع قيس بن مسهر الصيداوي، فلمَ تنكّرتَ له في كربلاء وأنكرت كلّ شيء؟ قال ابن هاني: غرّني الشيطان أيّها الأمير!

وکان الأحمر بن نشط واقفاً على رأس المختار، فقال له: يا أحمر، وهبتك ثواب الثأر منه. ففرح أحمد فرحاً شديداً، واستعجل حتّى عثر وسقط، فضحك الأمير ومَن حوله، فنهض الأحمر وجرّد سيفه وقطّعه إرباً ((1)).

أمّا يزيد بن الحارث، فإنّه لمّا جيء به إلى المختار قال له: الحمد لله الّذي أمكنني منك يا عدوّ الله. فقال يزيد: ماذا فعلتُ حتّى تحمد الله أن مكّنك منّي؟ قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، يا معلون، كتبتَ للإمام الحسين أن أقدِمْ، قد اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار، فلمّا أجاب تنكّرتَ وأنكرت، وخرجتَ إلى حربه في ألفين فارسٍ فقاتلته حتّى قُتِل، فهل تعرف جنايةً أعظم ممّا فعلت؟!

ثمّ سأله المختار: أين مغفرك الّذي كنت تلبسه وترتجز بأراجيزك الفارغة؟ فأنكره الملعون، فأمر المختار أن يشدّ بالك-مّاشة، فشُدّ بها، حتّى أقرّ واعترف، فأمر الأمير أن تؤجَّج نارٌ حاميةٌ ويُطرح فيها المغفر حتّى احمرّ، ثمّ نُزعَت عنه ملابسه، ورفع أطراف المغفر بالك-مّاشة، وطوّق بها عنقه وألصقه

ص: 25


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 160.

بجلده، فجعل يصرخ ويصيح ويركض ويتمرّغ بالأرض، والمغفر يزداد التصاقاً به، حتّى نزع جلدَه وتناثر لحمُه.

ثمّ أمر بابنه -- وكان غايةً في الحسن والجمال -- فطعنه في خاصرته، ولطّخ يديده بدمه.

ثمّ أحضروا ثمانيةً من الّذين ضربوا الإمام الحسين علیه السلام بالسيوف وطعنوه بالرماح، فقال المختار: لمَ خرجتم إلى كربلاء أيّها الأدعياء؟ قالوا: خرجنا مُكرَهين مجبورين! قال: لمَ لا فررتم في تلك الصحراء المفتوحة؟ قالوا: كانت الطرق مضبوطة، فخشينا أن نُقتَل إذا هربنا. قال المختار: كتبتم إلى الحسين علیه السلام تدعوه للقدوم إلى العراق، ثمّ خذلتموه وتركتم نصرته وقاتلتموه! فسكتوا، فقال: إنّكم لم تُؤمِنوا بالله ورسوله واليوم الآخِر. فأمر بسكك الحديد فأحميت في النار حتّى احمرّت، وقطّعوهم بها ((1)).

ثمّ أحضروا أحمد بن أبي شعران بين يدَي المختار، فقال له: يا ابن الفاعلة، كتبتَ إلى الإمام الحسين علیه السلام ، ثمّ لم تفِ ونكثتَ ولم تنصره، ولم تكتفِ بذلك حتّى خرجتَ لحربه وقاتلته؟ فأمر فأُلقي في كورة الآجُر.

أمّا شبث بن ربعيّ، لمّا توسّط العبّاس علیه السلام الميدان وقف وقال: يا عمر ابن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه، وبقيَ فريداً مع أولاده وهم عطاشا، قد أحرق الظمأ

ص: 26


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 183.

قلوبهم، فاسقوه شربةً من الماء. فخرج شبث بن ربعيّ (لعنه الله) فجاء نحو العبّاس وقال: يا ابن أبي تراب، قل لأخيك: لو كانكلّ وجه الأرض ماءً وهو تحت أيدينا، ما أسقيناكم منه قطرةً إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد ((1)).

وشبث هذا اللعين دنا من الإمام الغريب المظلوم وهو يمدّ يمنياً ويقبض شمالاً، مرمَّلاً بدمائه، وبيده سيفٌ ليجتزّ رأسه، فرمقه علیه السلام بطَرْفه، فرمى السيف من يده وولّى هارباً، وهو ينادي: معاذ الله يا حُسين أن ألقى أباك بدمك ((2)).

أجل، كانت هذه السهام والرماح والسيوف والعصيّ والمقالع والحجارة الثمارَ اليانعة الّتي أتحفتم بها الغريب المظلوم، وهذا هو الجند الّذي أخبرتم عنه: (جندٌ لك مجنّدة)!!

از آب هم مضايقه كردند كوفيان

خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

في كتاب (عوالم العلوم)، عن كتاب (النوادر) لعليّ بن أسباط، عن بعض أصحابه رواه، قال: إنّ أبا جعفر علیه السلام قال: «كان أبي مبطوناً يوم قُتِل أبوه علیه السلام ، وكان في الخيمة، وكنتُ أرى موالينا كيف يختلفون معه، يتبعونه بالماء، يشدّ على الميمنة مرّةً وعلى الميسرة مرّةً وعلى القلب مرّة، ولقد قتلوه قتلةً نهى رسول الله صلی الله علیه وآله أن يُقتَل بها الكلاب، ولقد قُتِل بالسيف والسنان وبالحجارة وبالخشب

ص: 27


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 312.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 82.

وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((1)).أعتذر إليكم أيّها الشيعة الكرام، فقد أفلت زمام القلم من يدي، فاضطررتُ -- لسوء الحظّ -- إلى تحرير بعض ما ارتكبه هؤلاء الملاعين الّذين كتبوا للإمام وخذلوه، فأوجعتُ قلوبكم.

أجل، كان هؤلاء يكاتبون الإمام المظلوم من الكوفة، وهو علیه السلام مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب، كما في (الملهوف) ((2)).

ثمّ كتب الإمام علیه السلام جواب آخر الكتب الواصلة إليه:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى الملإ من المسلمين والمؤمنين.

أمّا بعد، فإن هانئاً وسعيداً قَدِما علَيّ بكتبكم، وكانا آخرَ مَن قدم علَيّ مِن رسلكم، وقد فهمتُ كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم أنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ.

وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي مِن أهل بيتي، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمَت به رسلُكم وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلَعمري ما الإمام إلّا الحاكم

ص: 28


1- ([3]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 30.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 35.

بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله. والسلام» ((1)).

ص: 29


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 38، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 173.

ص: 30

المجلس الثاني: في بيان إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبيان شهادته علیه السلام

لمّا اجتمعَت الرسلُ والكتب عند الإمام الحسين علیه السلام ، دعا الإمامُ ابنَ عمّه مسلم بن عقيل، وكان مميَّزاً عن غيره بالتدبير والصلاح والعقل والشجاعة، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعُمارة بن عبد السلولي ((1)) وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ((2)).

فأقبل مسلم حتّى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله، وودّع

ص: 31


1- ([1]) في المتن: (وعمارة بن عبد الله)، وهو كذلك في (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب: 10 / 145.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 39.

مَن أحبّ مِن أهله، ثم استأجر دليلَين من قيس، فأقبلا به يتنكّبان الطريق، فضلّا، وأصابهم عطشٌ شديد فعجزا عن السير، فأومئا لهإلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن، ومات الدليلان عطشاً.

فكتب مسلم بن عقيل رحمه الله من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر: أمّا بعد، فإنّني أقبلتُ من المدينة مع دليلين لي، فجارا عن الطريق فضلّا، واشتدّ علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننجُ إلّا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكانٍ يُدعى: المضيق، من بطن الخبت، وقد تطيّرتُ مِن وجهي هذا، فإن رأيتَ أعفيتَني منه وبعثتَ غيري، والسلام.

فكتب إليه الحسين بن علي علیهما السلام: أمّا بعد، فقد خشيتُ أن لا يكون حملَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الّذي وجّهتُك له إلّا الجبن، فامضِ لوجهك الّذي وجّهتُك له، والسلام.

فلمّا قرأ مسلم الكتاب قال: أمّا هذا فلستُ أتخوّفه على نفسي.

فأقبل حتّى مرّ بماءٍ لطيء، فنزل به، ثمّ ارتحل منه، فإذا رجلٌ يرمي الصيد، فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم: نقتل عدوَّنا إن شاء الله.

ثمّ أقبل حتّى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عُبيد، وأقبلَت

ص: 32

الشيعة تختلف إليه، فكلّما اجتمع إليه منهم جماعةٌ قرأ عليهم كتاب الحسين بن علي علیه السلام ، وهم يبكون ((1)).

فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري ((2))، فحمد الله وأثنى عليه،وذكر النبيّ صلی الله علیه وآله فصلّى عليه، وأقبل على مسلم علیه السلام وقال: إنّي لستُ أعلم ما في قلوب الناس، ولكن أُخبرك بما في نفسي، إذا دعوتموني أجبتكم، وأضرب بسيفي عدوَّكم حتّى ألقى الله عزوجل . ثمّ جلس.

وقام حبيب بن مظاهر رحمه الله وقال له: يرحمك الله، قد قضيتَ ما عليك، وأنا والله على مثل ذلك.

وجعل أهل الكوفة يدخلون عليه عشرةً بعد عشرة، وعشرين بعد عشرين، وأقلّ وأكثر، حتّى بايعه ((3)) -- برواية الشيخ المفيد -- ثمانية عشر ألفاً ((4))، وفي رواية أبي مخنف: ثمانون ألف رجل ((5)).

قال المفيد: فكتب مسلم رحمه الله إلى الحسين علیه السلام يُخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم.

ص: 33


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 39، روضة الواعظين للفتّال: 173.
2- ([2]) في المتن: (عبّاس بن حبيب الشاكريّ)، وفي المقتل المشهور: (عابس البكري).
3- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مِخنَف (المشهور): 20.
4- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 41، روضة الواعظين للفتّال: 173.
5- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 21.

وجعلَت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رضی الله عنه، حتّى عُلم مكانه، فبلغ النعمان بن بشير ذلك، وكان والياً على الكوفة من قِبل معاوية فأقرّه يزيد عليها، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها يهلك الرجال، وتُسفَك الدماء، وتُغتصَب الأموال، إنّي لا أُقاتل مَن لا يقاتلني، ولا آتي على مَن لم يأتِ علَيّ، ولا أُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره لَأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكمناصر، أما إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرميّ حليف بني أُميّة، فقال: إنّه لا يصلح ما ترى إلّا الغشم، إنّ هذا الّذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: [لئن] أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ مِن أن أكون من الأعزّين في معصية الله. ثمّ نزل.

وخرج عبد الله بن مسلم، فكتب إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، فبايعَته الشيعةُ للحسين بن عليّ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً، ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ أو هو يتضعّف.

ص: 34

ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة بنحوٍ من كتابه، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثل ذلك.

فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد وجّه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان بن بشير ضعفٌ وقولٌ سيّء، فمن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك حيّاً، أما كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: نعم. قال: فأخرجَ سرجون عهدَ عُبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَين إلى عُبيد الله بن زياد. فقال له يزيد: أفعل، ابعث بعهد عبيد الله إليه.

ثمّ دعا مسلمَ بن عمرو الباهليّ، وكتب إلى عبيد الله بن زياد معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِن أهل الكوفة يخبروني أنّ ابن عقيلبها يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة، حتّى تُثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام.

وسلّم إليه عهده على الكوفة، فسار مسلم بن عمرو حتّى قدم على عبيد الله بالبصرة، فأوصل إليه العهد والكتاب، فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته، والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد ((1)).

ص: 35


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 41، روضة الواعظين للفتّال: 173.

وكان الحسين علیه السلام قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العبديّ.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون فيكم موضعي وحسَبي منكم؟ فقالوا: بخٍّ بخ، أنت واللهِ فقَرة الظهر ورأس الفخر، حلَلْتَ في الشرف وسطاً، وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: إنّا واللهِ نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي، فقل حتّى نسمع.

فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعَت أركانُ الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات، والّذي أراد اجتهد واللهِ ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىًمنهم، مع قصر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لَجهادُه على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّة، وإمام قومٍ وجبَت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة، فلا تعشُوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة

ص: 36

الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلی الله علیه واله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه اللهُ الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها، وادّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمت، ومن يهرب لم يفت، فأحسنوا -- رحمكم الله -- ردّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: أبا خالد، نحن نبلُ كنانتك وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوت بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى والله شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك والله بأسيافنا، ونقيك بأبداننا إذا شئت، فافعل.

وتكلّمَت بنو سعيد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا، وبقيَ عزّنا فينا، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، لا نرضى إن غضبت، ولا نوطن إن ظعنت، والأمر إليك،فادعنا نجبك، وأْمُرنا نطعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين علیه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، وفهمتُ ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من

ص: 37

طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لا يُخلي الأرضَ قطّ من عاملٍ عليها بخير، أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ، سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها وكظّها، وقد ذلّلت لك بني سعد، وغسلت درن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استهمل برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين علیه السلام الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنك الله يوم الخوف، أعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين علیه السلام ، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله بن زياد، وكانت بحرية بنت المنذر زوجةً لعبيد الله بن زياد، فأخذ عبيد الله بن زياد الرسول فصلبه، ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف تلك الليلة، فلمّا أصبحاستناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((1)).

ص: 38


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 38 وما بعدها.

فلمّا أشرف على الكوفة نزل، حتّى أمسى ليلاً، فظنّ أهلُها أنّه الحسين علیه السلام ، ودخلها ممّا يلي النجف، فقالت امرأة: اَلله أكبر، ابن رسول الله وربِّ الكعبة. فتصايح الناس، قالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذنَب دابّته، وظنُّهم أنّه الحسين ((1)).

وروى المفيد قال: وأقبل ابن زيادٍ إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته، حتّى دخل الكوفة وعليه عمامةٌ سوداء وهو متلثّم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين علیه السلام إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين رأوا عبيد الله أنّه الحسين علیه السلام ، فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمتَ خير مقدم. فرأى مِن تباشرهم بالحسين ما ساءه، فقال مسلم ابن عمرو لمّا أكثروا: تأخّروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد ((2)). فلمّا عرفوا أنّه ابن زيادٍ تفرّقوا عنه ((3)).

فسار حتّى وافى القصر، فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى حامّته، فناداه بعض مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع إليه النعمان وهو يظنّه الحسين، فقال: أُنشدك الله إلّا تنحّيت، واللهِ ما أنا مسلّمٌإليك أمانتي، وما

ص: 39


1- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 30.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.
3- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 45.

لي في قتالك من أرب. فجعل لا يكلّمه، ثمّ إنّه دنا، وتدلّى النعمان من شُرفٍ فجعل يكلّمه، فقال: افتح، لا فتحت، فقد طال ليلك. وسمعها إنسانٌ خلفه، فنكص إلى القوم الّذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين، فقال: أي قوم، ابنُ مرجانة والّذي لا إله غيره. ففتح له النعمان، ودخل، وضربوا الباب في وجوه الناس، فانفضّوا ((1)).

وأصبح، فنادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ولّاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاءِ محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على مَن ترك أمري وخالف عهدي، فلْيُبقِ امرؤٌ على نفسه، الصدق ينبي عنك لا الوعيد.

ثمّ نزل، وأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إلى العرفاء ومَن فيكم من طلبة يزيد وأهل الريب الّذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن يجيء بهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغ علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلالٌ لنا دمه وماله، وأيّما عريفٍ وُجد في عرافته من بغية يزيد أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيَت تلك العرافة من العطاء.

ص: 40


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.

ولمّا سمع مسلم بن عقيل رحمه الله بمجيء عبيد الله بن زياد الكوفة ومقالته الّتي قالها وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار، حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستّرٍ واستخفاءٍ من عبيد الله، وتواصوا بالكتمان ((1))، وبايعوه، حتّى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل، فعزم على الخروج، فقال هاني: لا تعجل ((2)).

وكان شريك بن الأعور الهمدانيّ جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد، فمرض، فنزل في دار هاني بن عروة أيّاماً، ثمّ قال لمسلم: إنّ عبيد الله يعودني، وإنّي مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك فاقتله، وعلامتك أن أقول: اسقوني ماءً ((3)).

فلمّا جاء ابن زيادٍ لعيادة شريك، همّ مسلم بالخروج، فتعلّقَت به امرأةٌ قالت: ناشدتك الله إن قتلتَ ابن زيادٍ في دارنا. وبكت في وجهه، فرمى السيف وجلس، قال هانئ: يا ويلها، قتلتني وقتلَت نفسها، والّذي فررتُ منه وقعتُ فيه.. كما في رواية ابن نما ((4)).

فلمّا طال سؤاله وتأخّر مسلم، ورأى شريك أنّ أحداً لا يخرج، فخشيَ

ص: 41


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 180.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 234.
4- ([4]) مثير الأحزان لابن نما: 32.

أن يفوته، فأخذ يقول:

ما

الانتظار لسلمى أن يحيّيها

كأس المنيّة بالتعجيل إسقوهافتوهّم ابن زيادٍ وخرج ((1)).

فدعا ابن زياد مولىً له يُقال له: معقل، فقال: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلِمْهم أنّك منهم، فإنّك لو قد أعطيتَها إيّاهم لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أخبارهم، ثم اغدُ عليهم ورُحْ حتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسديّ في المسجد الأعظم وهو يصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس إلى جنبه حتّى فرغ من صلاته، ثمّ قال: يا عبد الله، إنّي امرؤٌ من أهل الشام، أنعم الله علَيّ بحبّ أهل هذا البيت وحبّ مَن أحبّهم. وتباكى له، وقال: معي ثلاثة آلاف درهمٍ أردتُ بها لقاء رجلٍ منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله، فكنتُ أُريد لقاءه، فلم أجد أحداً يدلّني عليه ولا أعرف مكانه، فإنّي لَجالسٌ في المسجد الآن إذ سمعتُ نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجلٌ له علمٌ بأهل هذا البيت، وإنّي أتيتك لتقبض

ص: 42


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 234.

منّي هذا المال وتُدخلَني على صاحبك، فإنّما أنا أخٌ من إخوانك وثقةٌ عليك، وإن شئتَ أخذتَ بيعتي له قبل لقائه.

فقال له مسلم بن عوسجة رحمه الله : أحمد الله على لقائك إيّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الّذي تحبّ، ولينصر الله بك أهل بيت نبيّه علیه السلام ، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. فقال له معقل: لا يكون إلّا خيراً،خُذ البيعة علَيّ. فأخذ بيعته، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة لَيناصحنّ ولَيكتمنّ، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثمّ قال له: اختلف إليّ أياماً في منزلي، فأنا طالبٌ لك الإذن على صاحبك. فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن فأُذن له، فأخذ مسلم بن عقيل رضی الله عنه بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائديّ فقبض المال منه، وهو الّذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضاً ويشتري لهم السلاح، وكان بصيراً ومِن فرسان العرب ووجوه الشيعة.

و أقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، وهو أول داخلٍ وآخر خارج، حتّى فهم ما احتاج إليه ابن زياد مِن أمرهم، وكان يخبره به وقتاً فوقتاً ((1)).

و خاف هانئ بن عروة عبيدَ الله بن زياد على نفسه، فانقطع من حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زيادٍ لجلسائه: ما لي لا أرى هانئاً؟ فقالوا: هو شاكٍ. فقال: لو علمتُ بمرضه لعُدته. ودعا محمّدَ بن الأشعث

ص: 43


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 45.

وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة، وهي أُمّ يحيى بن هانئ، فقال لهم: ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنّه يشتكي. قال: قد بلغني أنّه قد برأ، وهو يجلس على باب داره، فالقوه، ومُروه ألّا يدع ما عليه مِن حقّنا، فإنّي لا أُحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة، وهو جالسٌ على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الأمير؟ فإنّه قد ذكرك، وقال: لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدتُه.فقال لهم: الشكوى تمنعني. فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشيّةٍ على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبتَ معنا. فدعا بثيابه فلبسها، ثمّ دعا ببغلته فركبها، حتّى إذا دنا من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الّذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي، إنّي واللهِ لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ قال: أي عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شيءٍ بعث إليه عبيد الله ((1)).

فجاء هانئ حتّى دخل على ابن زيادٍ ومعه القوم، فلمّا طلع قال ابن زياد: أتتك بحائن ((2)) رجلاه. فلمّا دنا من ابن زيادٍ -- وعنده شُرَيح

ص: 44


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 47.
2- ([2]) في المتن: (بخائن).

القاضي -- التفت نحوه فقال: إيهٍ يا هانئ بن عروة، ما هذه الأُمور الّتي تربّص في دارك ليزيد؟ جئتَ بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى علَيّ؟ فقال: ما فعلت. قال: بلى قد فعلت. فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلّا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زيادٍ معقلاً ذلك اللعين، فجاء حتّى وقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم. وعلم هانئ عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنّه قد أتاه بأخبارهم، فقال: اسمع منّي وصدِّقْ مقالتي، فواللهِ لا كذبت، والله ما دعوتُه إلى منزلي ولا علمتُ بشيءٍ من أمره، حتّى جاءني يسألني النزول، فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذِمام، فضيّفتُه وآويتُه، وقد كان من أمره ماكان بلغك، فإن شئتَ أن أُعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً ألّا أبغيك سوءاً ولا غائلة، ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإن شئتَ أعطيتُك رهينةً تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره. فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به. قال: لا والله، لا آتيك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله؟! قال: والله لَتأتينِّ به. قال: لا والله، لا آتيك به ((1)).

فلمّا كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهليّ فقال: أصلح الله الأمير، خلِّني وإيّاه حتّى أُكلّمَه. فقام فخلا به ناحيةً من ابن زياد، وهما منه

ص: 45


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 48.

بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، فقال له مسلم: يا هانئ، إنّي أُنشدك اللهَ أن تقتل نفسك وأن تُدخِل البلاء على عشيرتك، فوَاللهِ إنّي لَأنفَسُ بك عن القتل، إنّ هذا الرجل ابن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فإنّه ليس عليك بذلك مخزاةٌ ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان. فقال هانئ: واللهِ إنّ علَيّ في ذلك لَلخزي [الخزي] والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان؟! والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصرٌ لم أدفعه حتّى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه أبداً.

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي. فأُدنيَ منه، فقال: والله لَتأتيني به أو لأضربنّ عنقك. فقال هانئ: إذن والله تكثر البارقة حول دارك! فقال ابن زياد: وا لهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني؟ وهو يظنّأنّ عشيرته سيمنعونه، ثمّ قال: أدنوه منّي. فأُدني، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب وجهه وأنفه وجبينه وخدَّه حتّى كسر أنفه وسيّل الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب ((1)).. فضربه هانئ بسيفٍ كان عنده فقطع أطماره، وجرحه جرحاً منكراً، فاعترضه معقل (لعنه الله) فقطع وجهه بالسيف، فجعل هانئ يضرب بهم يميناً وشمالاً، حتّى قتل

ص: 46


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 50، تاريخ الطبري: 5 / 365.

من القوم رجالاً ((1)).

وفي رواية أبي مِخنَف: قتل منهم اثني عشر رجلاً ((2)).

وفي (المنتخب): قال هاني: والله، لو كانت رجلي على طفلٍ من أطفال أهل البيت ما رفعتُها حتّى تُقطع ((3)).

وفي رواية المفيد: وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه، فقال عبيد الله: أحروريٌّ سائر اليوم؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه. فجرّوه، فألقوه في بيتٍ من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرساً. ففُعِل ذلك به.

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أرُسُل غدرٍ سائر اليوم؟ أمرتَنا أن نجيئك بالرجل، حتّى إذا جئناك به هشّمتَ وجهه وسيّلتَ دماءَه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله. فقال له عبيد الله: وإنّك لَهاهنا؟ فأمربه فلُهِز وتُعتِع، ثمّ أُجلس ناحية، فقال محمّد بن الأشعث: قد رضينا بما رآه الأمير، لنا كان أو علينا، إنّما الأمير مؤدِّب.

وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانئاً قد قُتِل، فأقبل في مِذحج حتّى أحاط

ص: 47


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9.
2- ([3]) في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 29): (وقتل منهم خمسةً وعشرين ملعوناً).
3- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 29.

بالقصر، ومعه جمعٌ عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعةً ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتِل، فأعظَموا ذلك. فقيل لعبيد الله بن زياد: هذه مذحج بالباب. فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثمّ اخرج وأعلِمْهم أنّه حيٌّ لم يُقتَل. فدخل، فنظر شريح إليه، فقال هانئ لمّا رأى شريحاً: يا لله، يا لَلمسلمين، أهلَكَت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل البصر؟ والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر، فقال: إنّي لَأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل علَيّ عشرة نفرٍ أنقذوني. فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني بالدخول إليه، فأتيتُه فنظرتُ إليه، فأمرني أن ألقاكم وأن أُعلِمكم أنّه حيّ، وأنّ الّذي بلغكم من قتله باطل. فقال عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أما إذ لم يُقتَل فالحمد لله. ثمّ انصرفوا.

وخرج عُبيد الله بن زياد، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فقال: أمّا بعد، أيّها الناس، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحربوا، إنّ أخاك مَن صدَقَك، وقد أعذر من أنذر. ثمّ ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قِبل باب التمّارين، يشتدّون ويقولون: قد جاء ابن عقيل، قد جاء ابن عقيل! فدخل عُبيد الله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه.قال عبد الله بن حازم: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما

ص: 48

فعل هانئ، فلمّا حُبس وضُرب ركبتُ فرسي، فكنتُ أوّلَ أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوةٌ لمراد مجتمعاتٍ ينادين: يا عَبرتاه، يا ثكلاه، فدخلتُ على مسلم بن عقيل فأخبرتُه، فأمرني أن أُنادي في أصحابه، وقد ملأ بهم الدور حوله، وكانوا فيها أربعة آلاف رجل، فناديت: يا منصور أمِتْ! فتنادى أهل الكوفة، واجتمعوا عليه، فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلّا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يتوثّبون حتّى المساء، فضاق بعُبيد الله أمره، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر، وليس معه في القصر إلّا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته وخاصّته، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قِبل الباب الّذي يلي دار الروميّين، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم، وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم، ويفترون على عُبيد الله وعلى أبيه.

ودعا ابن زياد كثير بن شهاب، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل، ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمانٍ لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع الذهلي وشبث بن ربعيّ التميمي وحجّار بن أبجر العجليّ وشمر ابن ذي الجوشن العامريّ، وحبس باقي وجوه الناس عنده؛ استيحاشاً

ص: 49

إليهم، لقلّة عدد مَن معه من الناس.

فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن ابن عقيل، وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة، فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمان بن شريح الشبامي، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة مَن أتاه تأخّر عن مكانه، وجعل محمّد بن الأشعث وكثير بن شهاب والقعقاع بن شور الذهليّ وشبث بن ربعيّ يردّون الناس عن اللحوق بمسلم ويخوّفونهم السلطان، حتّى اجتمع إليهم عددٌ كثيرٌ من قومهم وغيرهم، فصاروا إلى ابن زياد من قِبل دار الروميّين، ودخل القوم معهم، فقال له كثير بن شهاب: أصلح الله الأمير، معك في القصر ناسٌ كثيرٌ من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم. فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعي لواءً فأخرجه.

وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم، ثمّ أشرفوا على الناس، فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل العصيان الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم، وتكلم كثير حتّى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلَت، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريّتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهدَ بالغائب،

ص: 50

حتّى لا تبقى له بقيّةٌ من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنَت أيديها. وتكلّم الأشراف بنحوٍ من ذلك.فلمّا سمع الناس مقالهم أخذوا يتفرّقون، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرّقون، حتّى أمسى ابن عقيلٍ وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وما معه إلّا أُولئك النفر خرج من المسجد متوجّهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق، ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ.

فمضى على وجهه متلدّداً في أزقّة الكوفة، لا يدري أين يذهب، حتّى خرج إلى دُور بني جبلّة من كِندة، فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأةٍ يُقال لها: طوعة، أُمّ ولد، كانت للأشعث بن قيس فأعتقها، فتزوّجها أسيد الحضرميّ فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس، فأُمّه قائمةٌ تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيلٍ فردّت عليه، فقال لها: يا أَمة الله، اسقيني ماءً. فسقَته، وجلس، وأدخلت الإناء، ثمّ خرجَت فقالت: يا عبد الله، ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فسكت، ثمّ أعادت مثل ذلك، فسكت، ثمّ قالت له في الثالثة: سبحان الله! يا عبد الله، قم -- عافاك الله -- إلى أهلك، فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أُحلّه لك. فقام وقال: يا أَمة الله،

ص: 51

ما لي في هذا المصر منزلٌ ولا عشيرة، فهل لكِ في أجرٍ ومعروف، لعلّي مكافئك بعد اليوم. فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني. قالت: أنت مسلم؟! قال: نعم. قالت: ادخل. فدخل بيتاً في دارها غير البيت الّذي تكون فيه، وفرشَت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.ولم يكن بأسرع أن جاء ابنها، فرآها تُكثِر الدخول في البيت والخروج منه، فقال لها: واللهِ إنّه لَيريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه، إنّ لكِ لَشأناً. قالت: يا بُنيّ، الهُ عن هذا. قال: والله لَتخبرينني. قالت: أقبِلْ على شأنك ولا تسألني عن شيء. فألحّ عليها، فقالت: يا بُنيّ، لا تخبرنّ أحداً من الناس بشيءٍ ممّا أُخبرك به. قال: نعم. فأخذَت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت ((1)).

فلمّا أصبح الصباح إذا بالمرأة قد جاءت إلى مسلم بماءٍ ليتوضّأ، وقالت له: يا مولاي، ما رأيتُك رقدتَ في هذه الليلة. فقال لها: اعلمي أنّي رقدتُ رقدة، فرأيتُ في منامي عمّي أمير المؤمنين وهو يقول: «الوحاء الوحاء، العجل العجل»، وما أظنّ إلّا أنّه آخر أيّامي من الدنيا ((2)).

ص: 52


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 50، إعلام الورى للطبرسي: 227.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9.

ولمّا تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل، خرج ابن زيادٍ فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قُبيل العتمة، وأمر فنودي: ألا برئت الذمّةُ من رجلٍ من الشرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد. فلم يكن إلّا ساعةً حتّى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه، وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله، وصلّى بالناس، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم منالخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة الله من رجلٍ وجدناه في داره، ومَن جاء به فله ديته.

اتّقوا الله عبادَ الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.

يا حُصَين بن نمير، ثكلتك أُمّك إن ضاع باب سكّةٍ من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتُك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبِ-حْ غداً فاستبرأ الدور وجُس خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل.

وكان الحصين بن نمير على شرطه، وهو من بني تميم ((1)).

فلمّا أصبح جلس مجلسه، وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمّد بن الأشعث، فقال: مرحباً بمن لا يستغشّ ولا يُتّهَم. ثمّ أقعده إلى جنبه.

ص: 53


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 56.

وأصبح ابن تلك العجوز، فغدا إلى عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أُمّه، فأقبل عبد الرحمان حتّى أتى أباه -- وهو عند ابن زياد -- فسارّه ((1)).

ثمّ إنّ ابن زيادٍ دعا بمحمّد بن الأشعث الكنديّ، وضمّ إليه ألف فارس وخمسمئة راجل، وأمرهم بالانطلاق إلى مسلم، فسار ابن الأشعث حتّى وصل الدار، ولمّا سمعَت المرأة صهيل الخيل وقعقعة اللجم أقبلَت إلى مسلم وأخبرته بذلك، فلبس درعه وشدّ وسطه وجعل يدير عينيه، فقالت المرأة: ما لي أراك تهيّأت للموت؟ فقال: ما طلبه القوم غيري، وأنا أخاف أن يهجموا علَيّ في الدار ولا يكون ليفسحةٌ ولا مجال. ثمّ إنّه عمد إلى الباب وخرج إلى القوم، فقاتلهم قتالاً عظيماً ((2)).

وفي رواية (المناقب): قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً ((3)).

وفي رواية أبي مخنف: قاتلهم قتالاً شديداً، وقتل منهم مئةً وثمانين ((4)) فارساً، وانهزم الباقون ((5)).

ص: 54


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 57.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 319.
4- ([3]) في المتن: (مئة وخمسين).
5- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 33.

قال عمرو بن دينار: لقد كان من قوّته -- يعني مسلماً -- إنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، إلى أن قُتل بالكوفة ((1)).

وفي (المنتخب): فلمّا نظر ابن الأشعث إلى ذلك، أنفذ إلى ابن زيادٍ يستمدّه بالخيل والرجال، فأنفذ إليه ابن زياد يقول: ثكلتك أُمّك، رجلٌ واحدٌ يقتل منكم هذه المقتلة العظيمة، فكيف لو أرسلتك إلى مَن هو أشدّ منه قوّةً وبأساً؟! يعني الحسين، فبعث إليه الجواب: عساك أرسلتني إلى بقّالٍ من بقاقيل الكوفة أو إلى جرمقانٍ من جرامقة الكوفة، وإنّما أرسلتني إلى سيفٍ من أسياف محمّد بن عبد الله. فلمّا بلغ ذلك ابن زياد أمدّه بالعسكر الكثير، فلمّا رأى مسلم ذلك رجع إلى الدار، وتهيّأ وحمل عليهم، حتّى قتل كثيراً منهم، وصار جلده كالقنفذ من كثرة النبل، فبعث [ابن الأشعث] (1) إلى ابن زيادٍ يستمدّه بالجند والرجال، فأرسل إليه بذلك، وقال لهم: يا ويلكم! أعطوه الأمان، وإلّاأفناكم عن آخِركم. فنادوه بالأمان ((2))، ثمّ حملوا عليه.

وفي رواية المفيد: ثمّ عادوا إليه، فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبكر ابن حمران الأحمريّ، فضرب فم مسلم فشقّ شفته العليا، وأسرع السيف في السفلى، ونصلت له ثنيّتاه، وضربه مسلم في رأسه ضربةً منكرة، وثنّاه

ص: 55


1- ([5]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 214، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 354.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

بأُخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمّ يلقونها عليه من فوق البيت، فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مُصلِتاً بسيفه في السكّة، فقال له محمّد بن الأشعث: لك الأمان، لا تقتل نفسك. وهو يقاتلهم ويقول:

أقسمتُ

لا أُقتَل إلّا حرّا***إنّي رأيتُ الموت شيئاً نُكرا

ويجعل البارد سخناً مُرّا***ردّ شعاع الشمس فاستقرّا

كلّ امرئٍ يوماً مُلاقٍ شرّا***أخاف أن أُكذَب أو أُغَرّا

فقال له محمّد بن الأشعث: إنك لا تُكذَب ولا تغرّ، فلا تجزع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضائريك. وكان قد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فانبهر وأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان، فقال: آمِنٌ أنا؟ قال: نعم. فقال للقوم الّذين معه: لي الأمان؟ فقال القوم له: نعم ((1)).

وقال ابن طاووس: فقال مسلم: وأيّ أمانٍ للغدَرة الفجَرة؟ ثمّ أقبليقاتلهم ويرتجز، وتكاثروا عليه بعد أن أُثخن بالجراح، فطعنه رجلٌ مِن خلفه فخرّ إلى الأرض ((2)).

ص: 56


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 58.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 54.

وفي (المنتخب): فقال لهم: لا أمان لكم يا أعداء الله وأعداء رسوله. ثمّ حمل عليهم فقاتلهم، ثمّ إنّهم احتالوا عليه وحفروا له حفرةً عميقةً في وسط الطريق، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب، ثمّ انطردوا بين يديه فوقع بتلك الحفرة، وأحاطوا به، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه، حتّى بقيت أضراسه تلعب في فمه، فأوثقوه وأخذوه ((1)) أسيراً.

وأُتيَ ببغلةٍ فحُمِل عليها، فاجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه، فكأنّه عند ذلك أيس من نفسه ودمعت عيناه، ثمّ قال: هذا أوّل الغدر. قال له محمّد ابن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس. فقال: وما هو إلّا الرجاء، أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى، فقال له عُبيد الله بن العبّاس السلَميّ: إنّ مَن يطلب مثل الّذي تطلب إذا نزل به مثل الّذي نزل بك لم يبكِ. قال: إنّي واللهِ ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي، وإن كنتُ لم أُحبّ لها طرفة عينٍ تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي للحسين علیه السلام وآل الحسين.

ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إنّي أراك واللهِ ستعجز عن أماني، فهل عندك خيرٌ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسيناً، فإنّي لا أراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مُقبِلاً، أو هو خارجٌ غداً

ص: 57


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

وأهل بيته، ويقول له: إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أنّه يُمسي حتّى يُقتَل، وهو يقول: ارجع، فداك أبي وأُمّي بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك الّذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وليس لمكذوبٍ رأي. فقال ابن الأشعث: واللهِ لأفعلنّ، ولأُعلِمَنّ ابن زيادٍ أنّي قد آمنتُك.

وأقبل ابن الأشعث بابن عقيلٍ إلى باب القصر، فاستأذن فأُذِن له، فدخل على ابن زيادٍ فأخبره خبرَ ابن عقيل وضربَ بكرٍ إيّاه وما كان من أمانه له، فقال له عبيد الله: وما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه! إنّما أرسلناك لتأتينا به. فسكت ابن الأشعث، وانتُهي بابن عقيل إلى باب القصر وقد اشتدّ به العطش ((1)).

وفي (المنتخب): وكان له يومان ما شرب الماء ((2)).

وفي رواية المفيد: وكان على باب القصر ناسٌ جلوسٌ ينتظرون الإذن، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب، فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها؟ لا والله لا تذوق منها قطرةً أبداً، حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل: ويلك! مَن أنت؟ قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وأطاعه إذ خالفتَه،

ص: 58


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 59.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

أنا مسلم بن عمرو الباهليّ. فقال له ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أَولى بالحميم والخلودفي نار جهنّم منّي ((1)).

قال المؤلّف: لمّا وصلتُ إلى هذا المقام، اشتعلَت الآهاتُ في صدري، وجرى دمعي على محاسني، وتلكّأ قلمي، وانعطف يحرّر حديثاً يقدح سماعه في قلوب الشيعة الشرر ويحرقها بالجمر، ويُجري الدموع على محاسن المخلصين، كما جرّبت ذلك مراراً.

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن هلال بن نافع قال: إنّي كنتُ واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد (لعنه الله)، إذ صرخ صارخٌ: أبشِرْ أيّها الأمير، فهذا شمر قتل الحسين علیه السلام. قال: فخرجتُ بين الصفَّين، فوقفتُ عليه وإنّه علیه السلام لَيجود بنفسه، فوَاللهِ ما رأيتُ قطّ قتيلاً مضمَّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نورُ وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول: واللهِ لا تذوق الماء حتّى تَرِد الحامية فتشرب من حميمها. فسمعتُه يقول: «يا ويلك! أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها، بل أرد على جدّي رسول الله؟ص؟، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأشرب من ماء غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي». قال: فغضبوا بأجمعهم، حتّى كأنّ الله لم يجعل في

ص: 59


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.

قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزّوا رأسه وإنّه لَيكلّمهم، فتعجّبتُ مِن قلّة رحمتهم، وقلت: والله لا أُجامعكم على أمرٍ أبداً ((1)).

رُوي عن الباقر علیه السلام قال: «لقد قُتِل بالسيف والسنان،وبالحجارة وبالخشب وبالعصا» ((2)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

وفي (الأمالي) للصدوق، عن ابن عبّاسٍ قال: قال عليٌّ علیه السلام لرسول الله صلی الله علیه وآله: «يا رسول الله، إنّك لَتحبّ عقيلاً!». قال: «إي والله، إنّي لَأُحبّه حبَّين: حبّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالبٍ له، وإنّ ولده لَمقتولٌ في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون»، ثمّ بكى رسول الله صلی الله علیه وآله حتّى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: «إلى الله أشكو ما تلقى عترتي مِن بعدي» ((3)).

أجل، روى المفيد قال: ثمّ جلس فتساند إلى حائط.

وبعث عمرو بن حريث غلاماً له، فجاءه بقُلّةٍ عليها منديلٌ وقدح، فصبّ فيه ماءً، فقال له: اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً مِن فيه

ص: 60


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 128.
2- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9.
3- ([2]) الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 3.

فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرّةً ومرّتين، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربتُه.

وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ((1))، فقال له القوم: سلِّمْ على الأمير. فقال: السلام على مَناتّبع الهُدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى. فضحك ابن زياد، فقال له بعض الحجبة: أما ترى الأمير يضحك في وجهك؟ فلِمَ لا تسلّم عليه بالإمارة؟ فقال مسلم: والله ما لي أميرٌ غير الحسين بن عليّ علیه السلام ، وإنّما يُسلِّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه الموت ((2)). فقال له ابن زياد: لَعمري لَتُقتلنّ. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدَعْني أُوصي إلى بعض قومي. قال: افعل.

فنظر مسلم إلى جلسائه، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نُجح حاجتي، وهي سرّ. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عُبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه، فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ((3))، فقال له: أوّل وصيّتي: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً

ص: 61


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.

رسول الله، وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته، وثانياً: تأخذ درعي تبيعه، وتقضي عنّي سبعمئة درهم استقرضتُها منذ دخلت إلى مصركم هذا، [و]ثالثاً: أن تكتب إلى سيّدي الحسين يرجع، ولا يأتي إلى بلدكم فيصيبه ما أصابني، فقد بلغني أنّه توجّه بأهله وأولاده إلى الكوفة ((1))، فإذا قُتلتُ فاستوهب جثّتي من ابن زيادٍ فوارها ((2)).

وفي (المنتخب): فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة،فكلّنا نشهدها، وأمّا ما ذكرتَ من بيع الدرع وقضاء الدَّين، فذلك إلينا، إن شئنا قضيناه وإن شئنا لم نقضِ، وأمّا ما ذكرت من أمر الحسين، فلابدّ أن يقدم علينا ونُذيقه الموت غصّةً بعد غصّة. ثمّ إنّ ابن زياد سمع بذلك، فقال: قبّحك الله من مستودَعٍ سرّاً، وحيث أنّك أفشيتَ سرّه فلا يخرج إلى حرب الحسين غيرك ((3)).

وروى المفيد: قال ابن زياد: أمّا مالك فهو لك ((4)) ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأما جثته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها، وأما حسينٌ فإن هو لم يردنا لم نرده.

ص: 62


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 62.
3- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
4- ([2]) في المتن: (أمّا الدرع فمالُه يفعل به ما يشاء).

ثمّ قال ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وهم جميع، فشتتَّ بينهم وفرّقت كلمتهم، وحملتَ بعضهم على بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك ((1)) قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناه لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب. فقال له ابن زياد -- مفترياً على المولى -- : وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لمْ تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! أما واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلتَ بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي وأَولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها ويسفك الدم الحرام على الغصب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونهولم يرك الله له أهلاً. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكَماً بيننا وبينكم.

فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. قال له مسلم: أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقُبح الُمثلة وخبث السيرة ولؤم الغلَبة.

ص: 63


1- ([3]) في المتن: (عبد بني علاج من ثقيف).

فأقبل ابن زيادٍ يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً علیهم السلام، وأخذ مسلم لا يكلّمه ((1)).

ثمّ أمر بمسلم أن يُصعَد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكساً على رأسه، فعند ذلك بكى مسلم على فراق الحسين علیه السلام ، وقال:

جزى الله عنّا قومنا شرَّ ما جزى***شِرار الموالي، بل أعقّ وأظلمُ

همُ منعونا حقَّنا، وتظاهروا***علينا، ورامونا نذلّ ونرغمُ

وغاروا علينا يسفكون دماءنا***فحسبهمُ اللهُ العظيمُ المعظَّمُ

ونحن بنو المختار، لا شيء مثلنا***نبيٌّ صدوقٌ مكرمٌ ومكرّمُ ((2))

فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسَه بالسيف؟ فدُعي بكر بن حمران الأحمريّ، فقال له: اصعد، فلْتكن أنت الّذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي علىرسوله، ويقول: اللّهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وخذلونا ((3)).

وفي خبرٍ أنّه توجّه نحو المدينة ((4)) وقال: السلام عليك يا ابن رسول

ص: 64


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 61.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 63.
4- ([2]) في (روضة الشهداء): (نحو مكّة).

الله، هل تعلم بما جرى على ابن عمّك؟ ((1)) فإنّه سيجري عليك مثله ((2))!

وبرواية أبي مخنف: نادى عمر بن سعد: يا ويلكم، ألقوه في المهالك ((3)).

فتقدّم بكر بن حمران مسرعاً وقال: سآخذ ثاري منك. ثمّ ضربه ضربةً لم تُغنِ شيئاً، فضربه الثانية فقتله، ورمى بجثّته المطهّرة إلى الأرض ((4))، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، رأيتُ ساعة قتلته رجلاً أسود سيّء الوجه حذائي، عاضّاً علىإصبعه، أو قال: على شفته، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزعه قطّ. فقال ابن زياد (لعنه الله): لعلّك دُهشت ((5)).

ص: 65


1- ([3]) روضة الشهداء: 229، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 77.
2- ([4]) في (روضة الشهداء): (إلّا أنّي لا أخشاهم في طريق الحقّ).
3- ([5]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 78.
4- ([6]) في (تاريخ الطبريّ: 5 / 378) وغيره: قال أبو مخنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قال: نزل الأحمريّ بكير بن حمران الّذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيتُه لأقتله قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا. فقلت له: ادنُ منّي، الحمد لله الّذي أقادني منك. فضربتُه ضربةً لم تُغنِ شيئاً، فقال: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاءً من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت؟ قال: ثمّ ضربتُه الثانية، فقتلته.
5- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 58، الفتوح لابن أعثم: 5 / 103.

وفي بعض الأخبار: لمّا أراد الشقيّ (لعنه الله) أن يهوي على عنقه بالسيف، يبست يده واستولى عليه الذهول، فسارعوا إلى ابن زيادٍ بالخبر، فاستدعاه وبعث رجلاً آخر، فتراءت له صورة المصطفى صلی الله علیه وآله وهو واقف، فصعق ومات، فأرسل بعده رجلاً شاميّاً فقتله ((1)).

فلمّا قُتل مسلم علیه السلام وانتقل إلى رياض الجِنان، أمر ابنُ زيادٍ بهانئ في الحال فقال: أخرِجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. فأُخرج هانئ حتّى انتُهي به إلى مكانٍ من السوق كان يُباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: وا مِذحجاه ولا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه، يا مذحجاه، وأين مذحج؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره، جذب يده فنزعها من الكِتاف، ثمّ قال: أما من عصاً أو سكّينٍ أو حجَرٍ أو عظمٍ يحاجز به رجلٌ عن نفسه؟! ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً، ثمّ قيل له: امدد عنقك. فقال: ما أنا بها سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي! فضربه مولىً لعُبيد الله تركيّ، يُقال له: رشيد، بالسيف فلم يصنع شيئاً، فقال هانئ: إلى الله المعاد، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه أُخرى فقتله ((2)).

ثمّ كتب ابن زيادٍ إلى يزيد كتاباً شرح فيه ما جرى له مع مسلم وهاني، وأرسل برأسيهما مع الكتاب، فلمّا قرأ يزيد الكتاب فرحفرحاً شديداً، وأمر

ص: 66


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 230.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 64.

أن تُصلَب الرؤوس على باب دمشق ((1))، وكتب إلى ابن زيادٍ كتابَ شُكره وأثنى عليه، وقال: إنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة، واكتب إليّ فيما يحدث من خبرٍ إن شاء الله ((2)).

وكان خروج مسلم بن عقيل بالكوفة -- في رواية المفيد -- يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستّين، وقتله يوم الأربعاء لتسعٍ خلَون منه يوم عرفة ((3)).

ص: 67


1- ([1]) الفتوح لابن أعثم: 5 / 108.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 66.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 66.

ص: 68

المجلس الثالث: في بيان شهادة ولدَي مسلم بن عقيل علیهم السلام

روى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، عن أبي محمّد شيخ لأهل الكوفة قال:

لمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلام ، أُسر من معسكره غلامان صغيران، فأُتي بهما عُبيد الله بن زياد، فدعا سجّاناً له فقال: خُذْ هذين الغلامين إليك، فمِن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما.

وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أتيا بقرصين من شعيرٍ وكوز من ماء القراح، فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلِمْه مكاننا وتقرَّب إليه بمحمّد صلی الله علیه وآله، لعلّه

ص: 69

يوسع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا.

فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعيرٍ وكوزٍ من ماء القراح، فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّداً؟ قال:فكيف لا أعرف محمّداً، وهو نبيّي. قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء. قال: أفتعرف عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: وكيف لا أعرف عليّاً، وهو ابن عمّ نبيّي وأخو نبيّي. قال له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه واله، ونحن من وُلد مسلم بن عقيل بن أبي طالب بيدك أُسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقتَ علينا سجننا. فانكبّ الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخُذا أيّ طريقٍ شئتما.

فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعيرٍ وكوزٍ من ماء القراح، ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا يا حبيبَيّ الليلَ واكمِنا النهار، حتّى يجعل الله عزوجل لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً. ففعل الغلامان ذلك، فلمّا جنّهما الليل انتهيا إلى عجوزٍ على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان حَدِثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا، أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت لهما: فمَن أنتما يا حبيبَيّ؟ فقد شممت الروائح كلّها، فما شممتُ رائحةً أطيب من رائحتكما! فقالا لها: يا

ص: 70

عجوز، نحن من عترة نبيّكِ محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل. قالت العجوز: يا حبيبَيّ، إنّ لي ختناً فاسقاً قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوّفُ أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما. قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت: سآتيكما بطعام. ثمّ أتتهما بطعامٍ فأكلا وشربا، ولمّا وَلِجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنّا نرجو أن نكون قد أمنّاليلتنا هذه، فتعالَ حتّى أُعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتك وتشمّ رائحتي قبل أن يفرّق الموت بيننا. ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما.

فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب قرعاً خفيفاً، فقالت العجوز: مَن هذا؟ قال: أنا فلان. قالت: ما الّذي أطرقك هذه الساعة وليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحكِ! افتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشقّ مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي. قالت: ويحك، ما الّذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله ابن زياد، فنادى الأمير في معسكره: مَن جاء برأس واحدٍ منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسهما فله ألفا درهم. فقد أتعبتُ وتعبت ولم يصل في يدي شيء. فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمّدٌ خصمك في القيامة! قال: ويحكِ، إنّ الدنيا محرص عليها. فقالت: وما تصنع بالدنيا وليس معها آخرة؟ قال: إنّي لَأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شيء، فقومي، فإنّ الأمير يدعوكِ. قالت: ما يصنع الأمير بي؟ وإنّما أنا

ص: 71

عجوزٌ في هذه البريّة. قال: إنّما لي الطلب، افتحي لي الباب حتّى أريح وأستريح، فإذا أصبحتُ فكّرتُ في أيّ الطريق آخذ في طلبهما.

ففتحَت له الباب، وأتته بطعامٍ وشراب، فأكل وشرب، فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتّى وقعَت يدُه على جنب الغلام الصغير، فقال له: مَن هذا؟ قال: أمّا أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنّا نحاذره. قال لهما: مَن أنتما؟ قالا له: يا شيخ، إنْ نحن صدقناك فلَنا الأمان؟ قال: نعم. قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمّة الله وذمّة رسول الله؟ قال: نعم. قالا:ومحمّد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين! قال: نعم. قالا: واللهُ على ما نقول وكيلٌ وشهيد! قال: نعم. قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عُبيد الله بن زياد من القتل. فقال لهما: من الموت هربتما وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الّذي أظفرني بكما ((1)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه لطم الأكبر منهما لطمةً أكبّه على الأرض حتّى تهشّم وجهه وأسنانه من شدّة الضربة، وسال الدم من وجهه وأسنانه، ثمّ إنّه كتّفهما كتافاً وثيقاً، فلمّا نظرا إلى ما فعل به [خ ل: بهم] اللعين قالا: ما

ص: 72


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 83 المجلس 19.

لك يا هذا تفعل بنا هذا الفعل، وامرأتك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت هكذا تفعل بنا؟ أما تخاف الله فينا؟ أما تراعي يُتمنا وقربنا من رسول الله؟ فلم يعبأ اللعين بكلامهما، ولا رحمهما ولا رقّ لهما، ثمّ دفعهما إلى خارج البيت، وبقيا مكتّفين إلى الفجر، وهما يتوادعان ويبكيان لما جرى عليهما ((1)).

وفي رواية الصدوق: فلمّا انفجر عمود الصبح، دعا غلاماً له أسود يُقال له: فليح، فقال: خُذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب أعناقهما وائتني برؤوسهما؛ لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفَي درهم. فحمل الغلام السيف فمضى بهما ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلّا غير بعيدٍ حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله صلی الله علیه وآله. قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمَن أنتما؟!قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد (لعنه الله) من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا. فانكبّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبيّ الله المصطفى، واللهِ لا يكون محمّدٌ صلی الله علیه و آله خصمي في القيامة. ثمّ عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام، عصيتني. فقال: يا مولاي، إنّما أطعتُك ما دمتَ لا تعصي الله، فإذا عصيتَ

ص: 73


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 374 المجلس 7.

الله فأنا منك بريءٌ في الدنيا والآخرة.

فدعا ابنه فقال: يا بُنيّ، إنّما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها، فخُذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب أعناقهما وائتني برؤوسهما؛ لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفَي درهم. فأخذ الغلام السيف ومشى أمام الغلامين، فما مضى [خ ل: فما مضيا] إلّا غير بعيدٍ حتّى قال أحد الغلامين: يا شابّ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنّم. فقال: يا حبيبَيّ، فمن أنتما؟! قالا: من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، يريد والدك قتلنا. فانكبّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ويقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بُنيّ، عصيتني. قال: لئن أطيع اللهَ وأعصيك أحبّ إليّ مِن أن أعصي الله وأطيعك.

قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحدٌ غيري! وأخذ السيف و مشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطئ الفرات سلّ السيف من جِفنه، فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولاً اغرورقت أعينهما، وقالا له: ياشيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمّدٌ خصمك في القيامة غداً. فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برؤوسكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفَين. فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: ما لكما من رسول الله قرابة! قالا له: يا شيخ، فائتِ بنا إلى عبيد الله بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره. قال: ما بي إلى ذلك سبيل، إلّا التقرّب إليه بدمكما. قالا

ص: 74

له: يا شيخ، أما ترحم صِغَر سنّنا؟ قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً. قالا: يا شيخ، إن كان ولا بدّ، فدَعْنا نصلّي ركعات. قال: فصلِّيا ما شئتما، إن نفعتكما الصلاة! فصلّى الغلامان أربع ركعات، ثمّ رفعا طرْفَيهما إلى السماء فناديا: يا حيّ يا حكيم، يا أحكم الحاكمين، احكُم بيننا وبينه بالحقّ. فقام إلى الأكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة، وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه وهو يقول: حتّى ألقى رسول الله صلی الله علیه وآله وأنا مختضبٌ بدم أخي ((1)).

وفي (المنتخب): فصاح أخوه، وجعل يتمرّغ بدم أخيه وهو ينادي: وا أخاه، وا قلّة ناصراه، وا غربتاه! ((2))

وفي رواية الصدوق: فقال: لا عليك، سوف أُلحِقك بأخيك. ثمّ قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنهما في الماء وهما يقطران دماً ((3)).قال المؤلّف: انظروا أيّها الشيعة! أهذا هو أجر الرسالة ومودّة ذوي القربى الّتي أوجبها الله (تعالى) في كتابه، أن تظلِم هذه الأُمّة المتعوسة البائسة أهلَ بيته، ويقتلونهم ويضطهدونهم؟! ولا يكتفون بذلك، فيجعلون رأس

ص: 75


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 85 المجلس 19.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 375 المجلس 7.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 87 المجلس 19.

هذين الفتيين في المخلاة! آهٍ من جفاء الظالمين الجائرين!

خطر ببالي حديثاً مؤلماً يحترق له القلب، رواه في (التبر المذاب) عن الواقديّ قال: لمّا حمل الشمر رأس الحسين علیه السلام جعله في مخلاة، وذهب به إلى منزله، فوضعه على التراب، وجعل عليه أُجانة، فخرجت امرأته ليلاً فرأت نوراً ساطعاً عند الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الأُجانة فسمعَت أنيناً تحتها، فجاءت إلى شمر (لعنه الله) وقالت: رأيتُ كذا وكذا، فأيّ شيءٍ تحت الأجانة؟ قال: رأس خارجيّ قتلتُه، وأُريد أذهب به إلى يزيد ليعطيني عليه مالاً كثيراً. قالت: ومَن يكون؟ قال: الحسين بن علي علیهما السلام. فصاحت وخرّت مغشيّة، فلمّا أفاقت قالت: يا شرّ المجوس، أما خفتَ من إله الأرض والسماء؟!

ثمّ خرجَت من عنده باكية، ورفعت الرأس وقبّلته، ووضعته في حجرها، ودعت نساء يساعدنها بالبكاء عليه، وقالت: لعن الله قاتلك.

فلمّا جنّ الليل غلبها النوم، فرأت كأنّ الحائط قد انشقّ بنصفين، وغشي البيت نور، وجاءت سحابة، فإذا فيها امرأتان، فأخذتا الرأس وبكتا، فسألت عنهما، فقيل: إنّهما خديجة وفاطمة. ثمّ رأت رجالاً وفي وسطهم إنسانٌ وجهه كالقمر ليلة تمّه، فسألت عنه، فقيل: محمّد صلی الله علیه وآله، وعن يمينه حمزة وجعفر وأصحابه، فبكوا وقبّلوا الرأس. ثمّ جاءت خديجة وفاطمة إلى امرأة الشمر وقالتا لها: تمنّي ما شئتِ، فإنّ لكِ عندنا منّة ويداً بما فعلت، فإن أردتِ أنتكوني من رفقائنا في الجنّة فأصلحي أمرك، فإنّا منتظروك.

ص: 76

وانتبهت من النوم ورأس الحسين علیه السلام في حِجرها.

وجاء الشمر (لعنه الله) لطلب الرأس فلم تدفعه إليه، وقالت له: يا عدوّ الله، طلِّقني، فإنّك يهودي، والله لا أكون معك أبداً. فطلّقها، فقالت: والله لا أدفع إليك هذا الرأس أو تقتلني. فضربها ضربةً كانت منيّتها فيها، وعجّل الله بروحها إلى الجنّة ((1)).

ترسم جزاي قاتل او چون رقم زنند***يك باره بر جريده رحمت قلم زنند

ثمّ إنّ القاتل الملعون مرّ حتّى أتى بهما عبيد الله بن زياد، وهو قاعدٌ على كرسيٍّ له وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلمّا نظر إليهما قام ثمّ قعد ثلاثاً، ثمّ قال: الويل لك، أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوزٌ لنا. قال: فما عرفتَ حقّ الضيافة؟ قال: لا. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك؟ قال: قالا: يا شيخ، اذهب بنا إلى السوق فبِعْنا فانتفع بأثماننا، فلا ترد أن يكون محمّد صلی الله علیه وآله خصمك في القيامة. قال: فأيّ شيءٍ قلتَ لهما؟ قال: قلت: لا، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ ألفَي درهم. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك؟ قال: قالا: ائتِ بنا إلى عبيد الله بن زيادٍ حتّى يحكم فينا بأمره. قال: فأيّ شيءٍ قلت؟ قال: قلت: ليس إلى

ص: 77


1- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 222 -- تحقيق: السيّد علي أشرف.

ذلك سبيل، إلّا التقرّب إليه بدمكما. قال: أفلا جئتني بهما حيَّين،فكنتُ أُضاعف لك الجائزة وأجعلها أربعة آلاف درهم! قال: ما رأيتُ إلى ذلك سبيلاً، إلّا التقرب إليك بدمهما. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قال: قالا: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله. قال: فأيّ شيءٍ قلتَ لهما؟ قال: قلت: ما لكما من رسول الله من قرابة. قال: ويلك! فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قالا: يا شيخ، ارحم صغر سنّنا. قال: فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً. قال: ويلك! فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قال: قالا: دعنا نصلّي ركعات، فقلت: فصلّيا ما شئتما إن نفعَتكما الصلاة، فصلّى الغلامان أربع ركعات. قال: فأيّ شيءٍ قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفَيهما إلى السماء وقالا: يا حيّ يا حكيم، يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا وبينه بالحقّ. قال عبيد الله بن زياد: فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم! مَن للفاسق؟ قال: فانتدب له رجلٌ من أهل الشام فقال: أنا له ((1)).

وفي (المنتخب): ثمّ نظر ابن زيادٍ إلى ندمائه، وكان فيهم محبٌّ لأهل البيت، وقال له: خُذ هذا الملعون وسِرْ به إلى موضعٍ قُتِل فيه الغلامين، واضرب عنقه، ولا تدع أن يختلط دمُه بدمهما، وخُذ هذين الرأسين وارمهما في موضعٍ رُمي به أبدانما.

ص: 78


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 87 المجلس 19.

قال: فأخذه وسار به وهو يقول: والله لو أعطاني ابن زيادٍ جميع سلطنته، ما قبلتُ هذه العطيّة. وكان كلّما مرّ بقبيلةٍ أراهم الرأسين وحكى لهم بالقصّة، وما يريد يفعل بذلك اللعين، ثمّ سار به إلى موضع قُتل فيه الغلامان، فقتله بعد أن عذّبه بقطع عينيه وقطع أُذنيه ويديه ورجليه، ورمى بالرأسين في الفرات.

قال: فخرجت الأبدان، ورُكّبَت الرؤوس عليها بقدرة الله(تعالى)، ثمّ تحاضنا وغاصا في الفرات.

ثمّ إنّ ذلك الرجل المحبّ أتى بالرأس -- رأس ذلك اللعين -- فنصبه على قناة، وجعل الصبيان يرجمونه بالحجارة. ألا لعنة الله على القوم الظالمين «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)) ((2)).

ص: 79


1- ([1]) سورة الشعراء: 227.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 376 المجلس 7.

ص: 80

المجلس الرابع: في بيان توجّه الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق

روى الشيخ المفيد قال: وكان توجُّه الحسين علیه السلام من مكّة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة، وهو يوم التروية، بعد مقامه بمكّة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليالٍ خلون من ذي الحجّة، سنة ستّين، وكان قد اجتمع إليه مدّة مقامه بمكّة نفرٌ من أهل الحجاز ونفرٌ من أهل البصرة، انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين علیه السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ مِن إحرامه وجعلها عمرة، لأنه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقبَض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد بن معاوية ((1)).

ص: 81


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 67.

وذلك لأنّ يزيد (لعنه الله) -- كما في (المنتخب) -- أنفذ عمر بنسعد بن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين علیه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه (لعنه الله) دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حالٍ اتّفق، فلمّا علم الحسين بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرةً مفردة ((1)).

قال المؤلّف: التأمّل في هذا الأمر يُعَدّ مِن جملة المصائب الّتي نزلت بقلب المولى وشيعته، وذلك لأنّ الناس يتوجّهون من أقاصي البلدان ويتحمّلون الصعاب ويقطعون الجبال والسهول والوديان ليشهدوا مكّة وعرَفة والمشعر ومنى أيّام التروية وعرفة والعيد وأيّام التشريق، فإذا دخلوا الحرم أمِنوا، وكلُّ مَن في الحرم آمِنٌ حتّى لو كان من طيور الجوّ، بَيد أنّ مَن خُلقَت مِن أجله مكّة والحرم لا يأمن على نفسه من جَور الجائرين وغدر الظالمين، فلا يُتِمّ حجّه، ويخرج يوم التروية ليلة عرفة مِن مكّة، ويتوجّه إلى العراق دامع العين باكياً!

يا أُمّةً باءَت بقتل هُداتها***أفمن على قَتل الهُداة هداكِ؟!

بئس الجزاءُ لأحمدٍ في آله***وبنيه يوم الطفّ كان جزاكِ

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن أبي محمّد الواقديّ

ص: 82


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 424.

وزرارة بن خلج: لقينا الحسين بن عليٍّ علیه السلام قبل أن يخرج إلى العراق، فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معهوسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء ففُتحَت أبواب السماء، ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله عزوجل، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجَل لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا ولدي علي علیه السلام » ((1)).

وروى الشيخ حسين بن عصفور عن كتاب (الثاقب في المناقب)، عن جابر بن عبد الله رضی الله عنه قال: لمّا عزم الحسين بن عليّ علیها السلام على الخروج إلى العراق أتيتُه فقلت له: أنت ولد رسول الله صلی الله علیه وآله وأحد سبطَيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً. فقال لي: «يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإنّي أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وأخي الحسن بذلك الآن؟»، ثمّ نظرتُ فإذا السماء قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعليٌّ والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها، حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبتُ فزِعاً مذعوراً، فقال لي رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا جابر، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين: لا تكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتك مسلّماً ولا تكن معترضاً؟ أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله. فضرب برجله الأرض فانشقَّت، وظهر بحرٌ فانفلق، ثمّ ضرب فانشقّت، هكذا حتّى

ص: 83


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 62.

انشقّت سبع أرضين وانفلقت سبعة أبحر، فرأيتُ مِن تحت ذلككلّه النار، فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً، ثمّ قال صلی الله علیه وآله: «ارفع رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها، ثمّ صعد رسول الله صلی الله علیهو آله ومَن معه إلى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيّ الحقني»، فلحقه الحسين علیه السلام ، وصعدوا حتّى رأيتُهم دخلوا الجنّة من أعلاها، ثمّ نظر إليّ من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي هاهنا، فسلِّم له أمره ولا تشكّ؛ لتكون مؤمناً». قال جابر: فعميَت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

وقال السيّد ابن طاووس: ورُوي أنّه علیه السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: «الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تتقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله صلی الله علیه وآله لحمته، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. مَن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على

ص: 84


1- ([1]) الثاقب في المناقب لابن حمزة: 322 الباب 6 ح 1.

لقاء الله نفسه، فلْيرحل معنا، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

وروى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب)، أنّ محمّد ابن الحنفيّة لمّا بلغه الخبر أنّ أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً حتّى سُمع، وكفّ دموعه في الطشت مثل المطر ((2)).

وفي (الصواعق المحرقة): لمّا بلغ محمّد ابن الحنفيّة مسيره، وكان يتوضّأ وبين يديه طشت، بكى حتّى ملأه من دموعه ((3)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ نادى: واحسيناه، وا خليفة الماضين وثمال الباقين ((4)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين علیه السلام ((5)).

وفي (الملهوف): سار محمّد ابن الحنفيّة إلى الحسين علیه السلام في الليلة الّتي

ص: 85


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 60.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.
3- ([3]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 42، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 217، تاريخ الطبري: 5 / 394.
4- ([4]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 42.
5- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.

أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خِفتُ أن يكون حالُك كحال من مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم،فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت». فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك ((1)).

وفي (المنتخب): فقال الحسين: «واللهِ -- يا أخي -- لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني»، ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت» ((2)).

وفي (الملهوف): فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين علیه السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتُك؟ قال: «بلى». قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: «أتاني رسول الله صلی الله علیه وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً». فقال له ابن الحنفيّة: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: «قد قال لي:

ص: 86


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 63.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.

إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

وفي (المنتخب): فقال: «يا أخي، إنّ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله أتاني بعدما فارقتُك وأنا نائم، فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال: يا حسين، يا قُرّة عيني، اخرج إلى العراق، فإنّ الله عزوجل قد شاء أن يراك قتيلاًمخضَّباً بدمائك». فبكى ابن الحنفيّة بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت ماضٍ إلى القتل؟! فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله عزوجل قد شاء أن يراهم سبايا مهتّكات، يُسَقن في أسر الذلّ، وهنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً». فبكى ابن الحنفيّة بكاءً شديداً، وجعل يقول: أودعتك الله يا حسين، في وداعة الله يا حسين ((2)).

وفي (المناقب): عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمُّوا إلى بيعة الله عزوجل ((3)).

وروى في (الملهوف) قال: وجاءه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن زبير، فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه». قال: فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه.

ص: 87


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 64.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.

ثمّ جاء عبد الله بن عمر، فأشار إليه بصلح أهل الضلال وحذّره من القتل والقتال! فقال له: «يا أبا عبد الرحمان، أما علمتَ أنّ مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً؟ فلم يعجّل الله عليهم، بل أمهلهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ ذي انتقام! اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدعَنّ نصرتي!»((1)).

وروى صاحب (المناقب) قال: عُنّف ابنُ عبّاسٍ ((2)) على تركه الحسين، فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم.

وقال محمّد ابن الحنفيّة: وإنّ أصحابه عندنا لَ-مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ((3)).

ورُوي عن الباقر علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام لمّا توجّه إلى العراق، دعا بقرطاسٍ وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((4)).

ص: 88


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 31.
2- ([2]) في المتن: (ابن مسعود).
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
4- ([4]) مثير الأحزان لابن نما: 39، دلائل الإمامة للطبري: 77.

ورُوي عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبدُ الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدَعه وتأتي العراق؟! فقال: يا ابن الزبير، لئن أُدفَن بشاطئ الفرات أحبُّ إليّ مِن أن أُدفَن بفناء الكعبة» ((1)).

قال الإمام علیه السلام ذلك على سبيل الإعجاز، معرِّضاً به، ومُخبِراً له أنّه يُقتَل في مكّة وتُستحلّ به حرمة الكعبة، وهو لم يفهم كلام الإمام أو كان يتجاهله، وكان كما أخبر به الإمام علیه السلام ،وهدم الحجّاجُ الكعبة عليه ((2)).

وقال الشيخ المفيد: فرُوي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال: حججتُ بأُمّي في سنة ستّين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلتُ الحرم إذ لقيتُ الحسين ابن عليّ علیه السلام خارجاً من مكّة معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن عليّ. فأتيتُه فسلّمتُ عليه، وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ، بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟ فقال: «لو لم أعجل لأُخذت»، ثمّ قال لي: «مَن أنت؟»، قلت: امرؤٌ مِن العرب. فلا والله ما فتّشني عن أكثر من ذلك، ثمّ قال لي: «أخبِرْني عن الناس خلفك»، فقلت: الخبيرَ سألت، قلوبُ الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال: «صدقت، لله الأمر، وكلّ

ص: 89


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 ح 6.
2- ([1]) أُنظُر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20 / 117.

يومٍ ربُّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته»، فقلت له: أجل، بلّغك الله ما تحبّ، وكفاك ما تحذر. وسألتُه عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها، وحرّك راحلته وقال: «السلام عليك»، ثمّ افترقنا.

وكان الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا خرج من مكّة اعترضه يحيى بن سعيد ابن العاص ومعه جماعةٌ أرسلهم عمرو بن سعيد ((1)) إليه، فقالوا له: انصرف، إلى أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى،وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً ((2))، فتركوه، وصاحوا على أثره: ألا تتّقي الله (تعالى)، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة؟ فقال الحسين علیه السلام : ««لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ»» -- الآية ((3))، وسار (صلوات الله عليه) ((4)).

وفي كتاب (العوالم)، عن راوي حديثه قال: حججت، فتركتُ أصحابي وانطلقت أتعسّف الطريق وحدي، فبينما أنا أسير إذ رفعتُ طرفي إلى أخبيةٍ

ص: 90


1- ([2]) في المتن: (عمر سعيد).
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 67.
3- ([2]) سورة يونس: 41.
4- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 228.

وفساطيط، فانطلقت نحوها حتّى أتيت أدناها، فقلت: لمَن هذه الأبنية؟ فقالوا: للحسين علیه السلام . قلت: ابن عليٍّ وابن فاطمة علیهما السلام قالوا: نعم. قلت: في أيّها هو؟ قالوا: فى ذلك الفسطاط. فانطلقتُ نحوه، فإذا الحسين علیه السلام مُتّكٍ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه، فسلّمتُ فردّ علَيّ، فقلت: يا ابن رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء الّتي ليس فيها ريف ولا منعة؟! قال: «إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ولم يدَعوا لله محرّماً إلّا انتهكوه بعث الله إليهم مَن يقتلهم، حتّى يكونوا أذلّ من قوم الأَمة» ((1)).

وروى ابن نما قال: إنّ الطرمّاح بن حكم قال: لقيتُ حسيناً وقدامترت لأهلي ميرة، فقلت: أُذكّرك في نفسك، لا يغرنّك أهل الكوفة، فواللهِ لئن دخلتَها لَتقتلنّ، وإنّي لَأخاف أن لا تصل إليها، فإن كنتَ مجمعاً على الحرب فانزل أجأ، فإنّه جبلٌ منيع، واللهِ ما نالنا فيه ذلٌّ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم. فقال: «إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أُخلِفَهم، فإن يدفع الله عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادةٌ إن شاء الله». ثمّ حملتُ الميرة إلى أهلي وأوصيتُهم بأُمورهم، وخرجت

ص: 91


1- ([4]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 218، وفيه: (و في كتاب تاريخ: عن الرياشي، بإسناده عن راوي حديثه قال: حججتُ ...).

أُريد الحسين، فلقيَني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله، فرجعت ((1)).

وروى السيّد ابن طاووس قال: ثمّ سار حتّى مرّ بالتنعيم، فلقيَ هناك عِيراً تحمل هديّةً قد بعث بها بحير بن ريسان الحِميريّ عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية، فأخذ علیه السلام الهديّة؛ لأنّ حكم أُمور المسلمين إليه، وقال لأصحاب الجمال: «مَن أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفّيناه كِراه وأحسنّا معه صحبته، ومَن يحبّ أن يفارقنا أعطينا كِراه بقدر ما قطع من الطريق». فمضى معه قومٌ وامتنع آخَرون ((2)).

قال المؤلّف: يظهر من الأخبار أنّ الإمام علیه السلام مرّ بالمدينة عند خروجه من مكّة متوجّهاً إلى العراق.

وطبق بعض الأخبار: لمّا دخل المدينة أتى قبر رسول الله صلی الله علیه وآله والتزمه، وبكى بكاءً شديداً، فهوّمَت عيناه بالنوم،فرأى جدَّه رسول الله صلی الله علیه وآله وهو يقول: «يا ولدي، العجل العجل، الوحا الوحا، فبادِرْ إلينا، فنحن مشتاقون إليك». فانتبه الحسين علیه السلام قلقاً مشوّقاً إلى جدّه صلی الله علیه وآله.

فدخل إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة وأخبره بما في نفسه، وقال له: «يا أخي، أُريد الرحيل إلى العراق، فإنّي قلقٌ على ابن عمّي مسلم». فقال له محمّد ابن الحنفيّة: ناشدتُك الله يا أخي أن لا تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وغدروا

ص: 92


1- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 39.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 69.

بأخيك، فأقِمْ عند حرم جدّك، وإلّا فارجع إلى حرم الله، فإن لك فيه أعواناً كثيرة. فقال له: «لابدّ من المسير إلى العراق». فقال له أخوه: إنّه لَيفجعني ذلك. ثمّ بكى وقال: واللهِ -- يا أخي -- لا أقدر أقبض قائم بسيفي، ولا كعب رمحي، ثمّ لا فرحتُ بعدك أبداً. ثمّ ودّعه وقال: أستودعك الله (تعالى) من شهيدٍ مظلوم ((1)). فودّعه الإمام الحسين علیه السلام ، وسار متوجّهاً إلى العراق، حتّى نزل ذات عرق ((2)).

وروى المفيد قال: وألحقَه عبدُ الله بن جعفر رضی الله عنه بابنَيه: عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه: أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّهتَ له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طفئ نور الأرض، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام.

و صار عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد، فسأله أن يكتبللحسين أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في

ص: 93


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 39.
2- ([2]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 41.

الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا محدّثٌ أحداً حتّى ألقى ربّي (جلّ وعزّ)». فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنَيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة.

وتوجّه الحسين علیه السلام نحو العراق، مغذاً لا يلوي على شيء، حتّى نزل ذات عرق ((1)).

وفي رواية الشيخ الصدوق: وسمع عبد الله بن عمر بخروجه، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: «العراق». قال: مهلاً! ارجع إلى حرم جدّك. فأبى الحسين علیه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبد الله، اكشف لي عن الموضع الّذي كان رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّله منك. فكشف الحسين علیه السلام عن سُرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودعك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتولٌ في وجهك هذا ((2)).

قال المؤلّف: لمّا بلغتُ في التأليف إلى هذا المقام، فكّرتُ فيسبب تقبيل النبيّ صلی الله علیه وآله سُرّة أبي عبد الله، فثارت زفرتي وسالت عبرتي، وبادر قلمي إلى تحرير جراحات الإمام المظلوم على سبيل الإجمال وشيءٍ من

ص: 94


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 68.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 153 المجلس 30.

التفصيل.

أمّا الإجمال: قال المحقّق المجلسيّ: وفي روايةٍ أنّه أصابه أربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئةً وثمانون من السيوف والسنان ((1))، وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ ((2)).

أمّا التفصيل: فقد روى في (البحار): لمّا اشتدّ العطش بالحسين علیه السلام ، ناداه رجلٌ فقال له: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيّات؟ واللهِ لا تذوقه أو تموت عطشاً ((3)).

وكانت جراح اللسان أشدّ على الإمام من جراحات السيوف والسنان!

ثمّ رماه رجلٌ من القوم يُكنّى أبا الحتوف الجُعفيّ بسهمٍ فوقع السهم في جبهته، فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه ولحيته، فقال علیه السلام: «اللّهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً».

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلّا بعَجَه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحيةٍ وهو يتّقيها بنحرهوصدره،

ص: 95


1- ([1]) عين الحياة للمجلسي: 527، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 347.
2- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 320.
3- ([3]) جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 389، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 78.

ويقول: «يا أُمّة السوء، بئسما خلّفتُم محمّداً في عترته» ((1)).

فوقف علیه السلام يستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقفٌ إذ أتاه حجَرٌ فوقع في جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شُعَب، فوقع السهم على قلبه، فقال الحسين علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله»، ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبيٍّ غيره» ((2)).

قال المؤلّف: ربّما كان السهم قد أصاب سُرّته الشريفة الّتي كان يقبّلها النبيّ صلی الله علیه وآله دائماً وطلب عبد الله بن عمر تقبيل ذلك الموضع، بقرينة أنّ هذا السهم كان أشدّ الجراحات وأمضّها، ويشهد لهذا المقال رواية المجلسيّ في (البحار) إذ قال: ثمّ أخذ السهم فأخرجه من قفاه، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأَت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة، وما عُرفَت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين علیه السلام بدمه إلى السماء، ثمّ وضع يده ثانياً، فلمّا امتلأَت لطّخ بها رأسه ولحيته، وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوبٌ بدمي، وأقول: يا رسول الله، قتلني فلانٌ وفلان» ((3)).

ص: 96


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

قال المؤلّف: أردتُ أن أُعاود الحديث إلى حيث كنت، ولكنّي رأيت حديثاً يُبكي عيون الشيعة ويترك في قلوب المخلصين جرحين، الجرح الأول: ضربة مالك بن النسر، والجرح الثاني: كلام الإمام المظلوم مع أُخته السيّدة المظلومة زينب.

والحديث المروّع الّذي يُحرق القلوب هو أنّه علیه السلام لمّا ضعف عن القتال فوقف، فكلّما أتاه رجلٌ وانتهى إليه انصرف عنه، حتى جاءه رجلٌ من كندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام وضربه بالسيف على رأسه، وعليه برنسٌ فامتلأ دماً، فقال له الحسين علیه السلام : «لا أكلتَ بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين»، ثمّ ألقى البرنس ((1))، ودعا بخرقةٍ فشدّ بها رأسه، واستدعا قلنسوةً أُخرى فلبسها واعتمّ عليها ((2)).

فنادى في تلك الحالة: «يا زينب، يا أُمّ كلثوم، يا سكينة، يا رقيّة، يا فاطمة! عليكنّ منّي السلام». فأقبلت زينب فقالت: يا أخي، أيقنتَ بالقتل؟ فقال علیه السلام: «كيف لا أيقن وليس لي معينٌ ولا نصير؟». فقالت: يا أخي، رُدّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «هيهات، لو تركت ما ألقيت نفسي في المهلكة، وكأنّكم غير بعيدٍ كالعبيد يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب». فلمّا سمعَت زينب بذلك بكت، وجرى الدمع من عينيه وعينيها، ونادت: وا وحدتاه، وا

ص: 97


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) روضة الواعظين للفتّال: 162، الإرشاد للمفيد: 2 / 110.

قلّة ناصراه، وا سوء منقلباه، وا شؤم صباحاه! فشقّت ثوبها، ونشرت شعرها، ولطمت على وجهها، فقال علیه السلام لها: «مهلاًيا بنت المرتضى، إنّ البكاء طويل».

فأراد علیه السلام أن يخرج من الخيمة، فلصقت به زينب وقالت: مهلاً يا أخي، توقَّفْ حتّى أزود من نظري وداع لا تلاقٍ بعده.

فمهلاً

أخي قبل الممات هنيئةً***لتبرد منّي لوعةٌ وغليلُ

فجعلَت تقبّل يديه ورجليه، وأحَطْن به سائر النسوان يقبّلن يده ورجله ((1)).

فقال لأُخته: «آتيني بثوبٍ عتيقٍ لا يرغب فيه أحدٌ من القوم؛ أجعله تحت ثيابي، لئلّا أُجرَّد منه بعد قتلي». قال: فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، ثمّ أُوتي بثوب، فخرّقه ومزّقه من أطرافه، وجعله تحت ثيابه، وكان له سروالٌ جديد، فخرقه أيضاً لئلّا يُسلَب منه ((2)).

آه، ووايلاه!

فلما قُتِل، عمد إليه رجلٌ فسلبهما منه، وتركه عرياناً [بالعراء] مجرّداً على الرمضاء، فشُلّت يداه في الحال ((3)).

ص: 98


1- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 345، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 65.
2- ([2]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 67.
3- ([3]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 67.

قال المؤلّف: خطر ببالي في هذا المقام لمّا قتل أمير المؤمنين علیه السلام عمْراً، أقبل نحو رسول الله صلی الله علیه وآله ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلّا سلبتَه -- يا عليّ -- درعه؟ فما لأحدٍ درعٌ مثلها! فقال: «إنّي استحيَيْتُ أن أكشف عن سوأة ابنعمّي» ((1)). فلمّا نُعيَ إلى أُخته فقالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟ فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يعد يومه على يد كفءٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه. ثمّ أنشأَت تقول:

لو

كان قاتل عمروٍ غير قاتله***لكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتل عمروٍ لا يُعاب به***مَن كان يدعى قديماً بيضة البلَدِ ((2))

أيّها الشيعة الكرام، مع أنّ عمْراً كان كافراً، لم يسلبه الإمام درعه ولم يتركه عارياً، وقد تُرِك سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة عارياً، مُلق-ىً على الرمضاء تصهره حرارة الشمس.

وكان درع عمرو غالياً ثميناً، وكان لباس سيّد الشهداء عتيقاً لا يطمع فيه أحد، لبسه تحت ثيابه لئلّا يُجرّد، غير أنّ الأنذال الأراذل سلبوه وجرّدوا حتّى ثوبه العتيق!

وامتنعت أُخت عمرو عن البكاء؛ لأنّ قاتله كفؤٌ كريم، فيكف تُمنَع السيّدة زينب عن البكاء وقاتل أخيها المظلوم الغريب أرذل الناس

ص: 99


1- ([1]) كشف الغمّة للإربلي: 1 / 205، الإرشاد للمفيد: 1 / 104.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 1 / 107.

وأنذلهم؟!

وذكرتُ في المقام حديثاً مفجِعاً رأيتُه في (البحار): لمّا قُتل حمزة عمّ النبيّ صلی الله علیه وآله في أُحُد، كان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرسٍ وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى مَن يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الّذي قد صار لحماً. وأبو سفيان يقول: ذُقْ عقق.فقال أبو سفيان: صدقت، إنّما كانت منّي زلّة، اكتُمها علَيّ ((1)).

آه، وا ويلاه! مِن نذالة ابن زياد وخبثه، حيث كتب إلى عمر بن سعد: فإن قتلتَ حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه: لو قد قتلتُه لَفعلته هذا به ((2)). فانتدب الشقيّ الخبيث عشرة، وأمرهم أن يُجرُوا الخيلَ على البدن المطهَّر لسيّد العرب، فطحنوا ضلوعه بحوافر الخيل ((3)).

وكان من أفجع المصائب تسلّط الأراذل والخبثاء على أعزّة الدهر والشرفاء، حتّى قال الإمام المظلوم في رجزه يوم عاشوراء:

ص: 100


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97، إعلام الورى للطبرسي: 83.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 390.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 368، الإرشاد للمفيد: 2 / 113، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 59.

يا لَقومٍ مِن أُناسٍ رُذّلٍ***جمّعوا الجمع لأهل الحرمين ((1))

ما الّذي جرى على السيّدة زينب وهي ترى كلّ هذه المصائب؟! آهٍ يا قلب زينب! أتبكي لبدن أخيها العريان؟ أم لنذالة قاتله؟ أم لعظامه المهشَّمة؟ أم لكبده المفتَّت؟ أم لهمومٍ وغمومٍ وغصصه المتتالية؟ أم لجراحاته الأربعة آلاف ومئة وثمانين من ضرب السيوف وطعن الرماح وإصابة السهام؟

اي زاده زياد نكرد است هيچ كس***نمرود اين عمل كه تو شدّاد كرده اي

ترسم تو را دمي كه به محشر درآورند***از آتش تو دود به محشر برآورند

* * * * *

أعود إلى حديثي السابق، فقد روى السيّد ابن طاووس: ثمّ سار حتّى بلغ ذات عرق، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها، فقال: خلّفتُ القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة. فقال: «صدق أخو بني أسد، إنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» ((2)).

ص: 101


1- ([4]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 25، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 69.

وروى محمّد بن أبي طالب قال: واتّصل الخبر بالوليد بن عُتبة أمير المدينة بأنّ الحسين علیه السلام توجّه إلى العراق، فكتب إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، وهو ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، فاحذر -- يا ابن زياد -- أن تأتي إليه بسوءٍ فتهيّج على نفسك [وقومك] أمراً في مدّة الدنيا لا يسدّه شيء، ولا تنساه الخاصّة والعامّة أبداً ما دامت الدنيا. قال: فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا بلغ عُبيدَ الله بن زياد إقبال الحسين علیه السلام من مكّة إلى الكوفة، بعث ال-حُصَين بن نُ-مَير صاحب شرطه حتّى نزل القادسيّة، ونظم الخيل ما بين القادسيّة إلى خفان وما بينالقادسية إلى القطقطانة ((2)).

وفي رواية: بعث الحرّ بن يزيد الرياحيّ في ألف فارس ((3)).

وفي (الملهوف): قال الراوي: ثمّ سار حتّى نزل الثعلبيّة وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد، ثمّ استيقظ فقال: «قد رأيتُ هاتفاً يقول: أنتم تُسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة»، فقال له ابنه عليّ: يا أبه، أفلَسْنا على الحقّ؟ فقال: «بلى يا بُنيّ، والله الّذي إليه مرجع العباد»، فقال: يا أبه، إذن لا نبالي بالموت.

ص: 102


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 234.
2- ([1]) الإرشاد: 2 / 69.
3- ([2]) أُنظُر: الإرشاد للمفيد: 78، إعلام الورى للطبرسي: 232.

فقال الحسين علیه السلام: «جزاك الله يا بُنيّ خير ما جزى ولداً عن والد».

ثمّ بات علیه السلام في الموضع المذكور، فلمّا أصبح إذا برجلٍ من الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزديّ قد أتاه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، ما الّذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله فقال الحسين علیه السلام : «ويحك يا أبا هرّة! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وايمُ الله لَتقتلني الفئةُ الباغية، ولَيُلبسنّهم الله ذُلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيُسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ مِن قوم سبإٍ إذ ملكتهم امرأةٌ فحكمت في أموالهم ودمائهم» ((1)).

قال أبو مخنف: قدم إليه في الثعلبيّة رجلٌ نصرانيٌّ ومعه والدته، وقال: السلام عليك يا أبا عبد الله. فردّ عليه السلام، فقال: يا مولاي،أنا رجلٌ نصرانيٌّ قد أحببتُ أن أُجاهد بين يديك، أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين وليّ الله. وأسلما هو ووالدته، ولازما الإمام علیه السلام ((2)).

قال المؤلّف: الظاهر أنّ هذا الشخص هو وهب بن عبد الله، واللهُ يهدي لنوره مَن يشاء.

ص: 103


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 70.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 148، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 67.

وروى الصدوق قال: فلمّا نزلوا ثعلبيّة ورد عليه رجلٌ يقال له: بشر بن غالب، فقال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، أخبِرْني عن قول الله عزوجل: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» ((1)). قال: «إمامٌ دعا إلى هدىً فأجابوه إليه، وإمامٌ دعا إلى ضلالةٍ فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النار، وهو قوله؟عز؟: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ((2))» ((3)).

ورُوي أنّه سأله عن أهل الكوفة، فقال: خلّفتُ القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة. فقال: «إنّ الله يفعل ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد» ((4)).

وروى الكلينيّ، عن الحكم بن عتيبة قال: لقيَ رجلٌ الحسين بن علي علیه السلام بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين علیه السلام: «مِن أيّ البلاد أنت؟»، قال: من أهلالكوفة. قال: «أما واللهِ -- يا أخا أهل الكوفة -- لو لقيتُك بالمدينة لَأريتُك أثر جبرئيل علیه السلام مِن دارنا ونزوله بالوحي على جدّي، يا أخا أهل الكوفة، أفمُستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون!» ((5)).

ص: 104


1- ([2]) سورة الإسراء: 71.
2- ([3]) سورة الشورى: 7.
3- ([4]) الأمالي للصدوق: 153.
4- ([5]) أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 69، مثير الأحزان لابن نما: 42، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 367.
5- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 398 ح 2.

وفي رواية الصدوق: ثمّ سار حتّى نزل العذيب، فقال فيها قائلة الظهيرة، ثمّ انتبه من نومه باكياً، فقال له ابنه: ما يُبكيك يا أبت؟ فقال: «يا بُنيّ، إنّها ساعةٌ لا تكذب الرؤيا فيها، وإنّه عرضَ لي في منامي عارضٌ فقال: تُسرعون السير والمنايا تسير بكم إلى الجنّة».

ثمّ سار حتّى نزل الرهيمة، فورد عليه رجلٌ من أهل الكوفة يُكنّى أبا هرم، فقال: يا ابن النبيّ، ما الّذي أخرجك من المدينة؟ فقال: «ويحك يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله لَيقتلنّي، ثمّ لَيُلبسنّهم الله ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلطنّ عليهم مَن يذلّهم».

قال: وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر وأنّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيميّة، فأرسل إليه الحرَّ بن يزيد في ألف فارس. قال الحرّ: فلمّا خرجتُ من منزلي متوجّهاً نحو الحسين علیه السلام ، نُوديت ثلاثاً: يا حرّ، أبشِرْ بالجنّة. فالتفتُّ فلم أرَ أحداً، فقلت: ثكلت الحرّ أُمُّه؛ يخرج إلى قتال ابن رسول الله صلی الله علیه وآله ويُبشَّر بالجنّة! ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا بلغ الحسين علیه السلام الحاجر من بطنالرمّة، بعث قيس ابن مسهر الصيداويّ، ويقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ((2)) إلى أهل الكوفة ((3)).

ص: 105


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 153.
2- ([1]) في المتن: (يقطين).
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70.

وفي (الملهوف): وكتب الحسين علیه السلام كتاباً إلى سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ((1)) ورفاعة بن شدّاد وجماعةٍ من الشيعة بالكوفة ((2)).

وفي (الإرشاد): قبل أن يبلغ خبر مسلم بن عقيل إلى الحسين علیه السلام ((3)).

فكتب إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم، فإنّي أحمدُ إليكم اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيلٍ جاءني يُخبِر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ الله أن يُحسِن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا، فإنّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله».

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يُقتَل بسبعٍ وعشرين ليلة، وكتب إليه أهل الكوفة أنّ لك هاهنا مئة ألف سيف، فلا تتأخّر! فأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين علیه السلام ،حتّى إذا انتهىإلى القادسيّة أخذه ال-حُصين بن نمير ((4)).

ص: 106


1- ([3]) في المتن: (نجية).
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 75.
3- ([5]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70، وعبارة الشيخ المفيد: و لم يكن علیه السلام عَلِم بخبر مسلم ابن عقيل (رحمة الله عليهما).
4- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70.

وفي (الملهوف): فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ليفتّشه، فأخرج قيسُ الكتابة ومزّقه، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيد الله بن زياد، فلمّا مَثُل بين يديه قال له: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام وابنه. قال: فلماذا خرقتَ الكتاب؟ قال: لئلّا تعلم ما فيه. قال: وممّن الكتاب وإلى مَن؟ قال: من الحسين علیه السلام إلى جماعةٍ من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم. فغضب ابن زيادٍ وقال: والله لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن عليّ وأباه وأخاه، وإلّا قطّعتُك إرباً إرباً. فقال قيس: أمّا القوم فلا أُخبرك بأسمائهم، وأمّا لعن الحسين علیه السلام وأبيه وأخيه فأفعل. فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله، وأكثر من الترحّم على عليٍّ والحسن والحسين علیهم السلام، ثمّ لعن عبيد الله بن زيادٍ وأباه ولعن عتاة بني أُميّة عن آخرهم ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم ((2)).. وقد خلّفتُه بموضع كذا ((3)) فأجيبوه ((4)).

ص: 107


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 75.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
3- ([4]) في المتن: (في الحاجز).
4- ([5]) اللهوف: 77.

وفي (الإرشاد): ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، وصلّى ((1)) على عليّ بن أبي طالب ((2)).

وفي (الملهوف): فأُخبِر ابن زيادٍ بذلك، فأمر بإلقائه من أعالي القصر ((3)).

وفي (الإرشاد): رُوي أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق، فجاء رجلٌ يقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي، فذبحه، فقيل له في ذلك وعيب عليه، فقال: أردتُ أن أُريحه ((4)).

وفي (الملهوف): فبلغ الحسين علیه السلام موته، فاستعبر بالبكاء، ثمّ قال: «اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، إنّك على كلّ شيءٍ قدير» ((5)).

وفي رواية المفيد: ثمّ أقبل الحسين علیه السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماءٍ من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدَويّ وهو نازلٌ به، فلمّا رأى الحسين علیه السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول

ص: 108


1- ([1]) في الإرشاد: (و استغفر لعليّ بن أبي طالب علیه السلام وصلّى عليه).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 77.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
5- ([5]) اللهوف لابن طاووس: 77.

الله، ما أقدمك؟ واحتمله وأنزله، فقال له الحسين علیه السلام :«كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليّ أهل العراقيدعونني إلى أنفسهم». فقال له عبد الله بن مطيع: أُذكّرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تُنتهَك، أُنشدك الله في حرمة قريش، أُنشدك الله في حرمة العرب، فواللهِ لئن طلبتَ ما في أيدي بني أُميّة لَيقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً، والله إنّها لَحرمة الإسلام تُنتهَك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأتِ الكوفة، ولا تُعرّض نفسك لبني أُميّة. فأبى الحسين علیه السلام إلّا أن يمضي [لأنّه مأمورٌ من الله].

وكان عبيد الله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يدَعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج، وأقبل الحسين علیه السلام بشيءٍ ((1))، حتّى لقيَ الأعراب فسألهم، فقالوا: لا والله ما ندري، غير أنّا لا نستطيع أن نلج أو نخرج. فسار تلقاء وجهه علیه السلام.

وحدّث جماعةٌ من فزارة ومن بجيلة قالوا: كنّا مع زهير بن القَين البجليّ حين أقبلنا من مكّة، فكنّا نساير الحسين علیه السلام ،فلم يكن شيءٌ أبغض إلينا مِن أن ننازله في منزل، فإذا سار الحسين علیه السلام ونزل منزلاً لم نجد بُدّاً من أن ننازله، فنزل الحسين علیه السلام في جانبٍ ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوسٌ نتغذّى من طعامٍ لنا إذ أقبل رسول الحسين علیه السلام حتّى سلّم، ثمّ دخل فقال:

ص: 109


1- ([1]) في الإرشاد: (و أقبل الحسين علیه السلام لا يشعر بشيء)!!!

يا زهير بن القَين، إنّ أبا عبد الله الحسين بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلُّ إنسانٍ منّا ما في يده، حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير ((1)).

وفي (اللهوف): فقالت له زوجتُه -- وهي ديلم بنت عمرو -- :سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله صلی الله علیه وآله ثمّ لا تأتيه؟ فلو أتيتَه فسمعتَ من كلامه. فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحوّل إلى الحسين علیه السلام ،وقال لامرأته: أنتِ طالق؛ فإنّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين علیه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته، وقالت: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين علیه السلام .فقال لأصحابه: مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد منّي به ((2)).

وفي (الإرشاد): إنّي سأُحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسيّ؟رضی الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمّدٍ فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله.

ص: 110


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 72.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 72.

قالوا: ثمّ والله ما زال في القوم مع الحسين علیه السلام حتى قُتل ((1)).

وفي (المناقب): ولمّا نزل علیه السلام الخزيميّة أقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلَت إليه أُخته زينب فقالت: يا أخي، ألا أُخبرك بشيءٍ سمعتُه البارحة؟ فقال الحسين علیه السلام :«وما ذاك؟»، فقالت: خرجتُ في بعض الليل لقضاء حاجة، فسمعتُ هاتفاً يهتفوهو يقول:

ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ***ومَن يبكي على الشهداء بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا***بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

فقال لها الحسين علیه السلام :«يا أُختاه، كلّ الّذي قُضي فهو كائن» ((2)).

و عن راشد بن مزيد قال: شهدتُ الحسين بن علي علیه السلام وصحبته من مكّة حتى أتينا القطقطانة، ثمّ استأذنتُه في الرجوع فأذن لي، فرأيتُه وقد استقبله سبُعٌ عقور، فكلّمه، فوقف له فقال: «ما حال الناس بالكوفة؟»، قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. قال: «ومَن خلّفتَ بها؟»، قال: ابن زياد، وقد قتل مسلم بن عقيل ((3)).

وفي (المنتخب) أنّه لمّا وصل الحسين علیه السلام في مسيره إلى الكوفة إلى

ص: 111


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 73.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 372، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 324.
3- ([2]) دلائل الإمامة للطبري: 182 ح 99.

منزلٍ اسمه سوق جلس علیه السلام ناحيةً عن الناس، وإذا برجلٍ قد قدم من الكوفة، فسأله الحسين علیه السلام وقال: «ما الخبر؟»، فقال: يا سيّدي، ما خرجتُ من الكوفة حتّى رأيتُ هانياً ومسلماً بن عقيل مقتولَين، وبُعث برأسيهما إلى يزيد. فقال الحسين علیه السلام :«إنّا لله وإنّا إليه راجعون». وسار الرجل، ولم يعلم به أحدٌ من أصحابه.

قال: وكان لمسلم بنتٌ عمرها إحدى عشرة سنة مع الحسين علیهالسلام ،فلمّا قام الحسين من مجلسه جاء إلى الخيمة، فعزّز البنت وقرّبها من منزله، فحسّت البنت بالشرّ؛ لأنّه علیه السلام كان قد مسح على رأسها وناصيتها كما يُفعَل بالأيتام، فقالت: يا عمّ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك! أظنّ أنّه قد استُشهد والدي. فلم يتمالك الحسين علیه السلام من البكاء، وقال: «يا ابنتي، أنا أبوكِ وبناتي أخواتك». فصاحت ونادت بالويل، فسمع أولاد مسلم ذلك الكلام، وتنفّسوا الصُّعداء، وبكوا بكاءً شديداً، ورموا بعمائمهم إلى الأرض.

قال: لمّا تأمّل الحُسين علیه السلام هذا الحال وقتل مسلم، وأنّ أهل الكوفة هم الّذين أعانوا على قتل أمير المؤمنين علیه السلام ونهب الحسن وضربه بالخنجر على فخذه، فبكى بكاءً شديداً حتّى اخضلّت لحيته بالدموع ((1)).

ص: 112


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 364 المجلس 7.

وفي رواية: فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما ترون؟ فقد قُتِل مسلم!»، فقالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا، أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين علیه السلام وقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء». فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير، فقال له أصحابه: إنّك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة لَكان الناس إليك أسرع. فسكت ((1)).

وفي (الإرشاد): فسار حتّى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر عبد اللهبن يقطر، فأخرج إلى الناس ((2)) كتاباً فقرأه عليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلَنا شيعتنا، فمَن أحبّ منكم الانصراف فلْينصرف غير حَرِجٍ ليس عليه ذمام» ((3)).

وفي روايةٍ أُخرى قال: «فمن كان منكم يصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح، وإلّا فلْينصرف من موضعه هذا، فليس عليه من ذمامي شيء». فسكتوا جميعاً، وجعلوا يتفرّقون لأغراض الدنيا يميناً وشمالاً، حتّى لم يبقَ عنده إلّا أهل بيته ومواليه ((4)) الذين ثبتوا معه اعتقاداً ويقيناً.

ص: 113


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 75.
2- ([1]) في المتن: (فجمع أصحابه وقال: ...).
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 75.
4- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 66، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 157.

وقال السيّد ابن طاووس: ثمّ إنّ الحسين علیه السلام سار -- بعد أن سمع خبر مسلم علیه السلام -- قاصداً لما دعاه الله إليه، فلقيَه الفرزدق الشاعر، فسلّم عليه وقال: يا ابن رسول الله علیه السلام كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال: فاستعبر الحسين علیه السلام باكياً، ثمّ قال: «رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقيَ ما علينا»، ثمّ أنشأ يقول:

«فإن تكن الدنيا تُعدّ نفيسةً***فإنّ ثواب الله أعلى وأنبَلُ

وإن تكن الأبدانُ للموت أُنشئَت***فقَتْلُ امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ

وإن تكن الأرزاقُ قِسماً مقدَّراً***فقلّة حرص المرء في السعي أجملُ

وإن تكن الأموالُ للترك جمعُها***فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخل؟» ((1))

وفي (الإرشاد): ثمّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة، فنزل عليها، فلقيَه شيخٌ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين علیه السلام :«الكوفة». فقال الشيخ: أُنشدك الله لمّا انصرفت، فواللهِ ما تقدم إلّا على الأسنة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال الّتي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل! فقال له: «يا عبد الله، ليس يخفى علَيّ الرأي، ولكنّ الله (تعالى) لا يُغلَب على أمره»، ثمّ قال علیه السلام :«واللهِ لا

ص: 114


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 74.

يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة مِن جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم».

ثمّ سار علیه السلام من بطن العقبة حتّى نزل شراف [خ ل: شرافاً]، فلمّا كان في السحَر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ سار منها حتّى انتصف النهار، فبينا هو يسير إذ كبّر رجلٌ من أصحابه، فقال له الحسين علیه السلام :«اَلله أكبر، لمَ كبّرتَ؟»، قال: رأيتُ النخل. فقال له جماعةٌ من أصحابه: واللهِ إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلةً قط! فقال الحسين علیه السلام :«فما ترونه؟»،قالوا: نراه -- واللهِ -- آذانَ الخيل. قال: «أنا والله أرى ذلك»، ثمّ قال؟ علیه السلام :«ما لنا ملجأٌ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجهٍ واحد؟»، فقلنا: بلى، هذا ذو حسمى إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقتَ إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار، ومِلْنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعَت علينا هوادي الخيل، فتبينّاها وعدلنا، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا، كأنّ أسنّتهم اليعاسيب وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي حسمى فسبقناهم إليه، وأمر الحسين علیه السلام بأبنيته فضُربَت.

وجاء القوم زهاء ألف فارسٍ مع الحرّ بن يزيد التميميّ، حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين علیه السلام في حَرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين علیه السلام لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً». ففعلوا، وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلَت عنه وسقوا

ص: 115

آخَر، حتّى سقوها كلّها.

فقال عليّ بن الطعّان المحاربي: كنتُ مع الحرّ يومئذ، فجئت في آخِر مَن جاء من أصحابه، فلمّا رأى الحسينُ علیه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: «أنِخ الراوية»، والراوية عندي السقاء، ثمّ قال: «يا ابن أخي، أنِخ الجمل»، فأنختُه، فقال: «اشربْ»، فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين علیه السلام : «اخنث السقاء»، أي: اعطفه، فلم أدرِ كيف أفعل، فقام فخنثه،فشربتُ وسقيت فرسي ((1)).

قال المؤلّف: لمّا بلغتُ إلى هذا المقام، ذكرت حديثاً مُشجِياً أحرق قلبي وأجرى دمعي، رُوي في (بحار الأنوار)، قال: جاء إليه شمر وسنان بن أنس، والحسين علیه السلام بآخر رمَقٍ يلوك لسانه من العطش ويطلب الماء، فرفسه شمر (لعنه الله) برِجله، وقال: يا ابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟ فاصبر حتّى تأخذ الماء من يده. ثمّ قال لسنان: اجتزّ رأسه قفاءً. فقال سنان: واللهِ لا أفعل فيكون جدُّه محمّدٌ صلی الله علیه وآله خصمي. فغضب شمر (لعنه الله)، وجلس على صدر الحسين، وقبض على لحيته وهمّ بقتله ((2)).

وفي (المنتخب): فقال الحسين علیه السلام : «إذا كان لابدّ من قتلي، فاسقني شربةً

ص: 116


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 76.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

من الماء». فقال له: هيهات، واللهِ لا ذُقتَ قطرةً واحدةً من الماء حتّى تذوق الموت غُصّةً بعد غصّة. فقال له: «ويلك! اكشف لي عن وجهك وبطنك». فكشف له، فإذا هو أبقعٌ أبرص، له صورةٌ تشبه الكلاب والخنازير، فقال الحسين علیه السلام : «صدق جدّي فيما قال»، فقال: وما قال جدّك؟ قال: «يقول لأبي: يا عليّ، يقتل ولدَك هذا رجلٌ أبقع أبرص، أشبه الخلق بالكلاب والخنازير». فغضب الشمر من ذلك ((1)).

وفي (التبر المذاب): فقال: إذا كان جدّك أخبرك بذلك، فلَأقتلنّكأشدّ قتلة. ثمّ جعل يحزّ مذبح الحسين علیه السلام بسيفه، فلم يقطع شيئاً، فقال الحسين علیه السلام : «يا ويلك، أتظنّ أن يقطع سيفُك موضعاً طالما قبّلها رسول الله صلی الله علیه وآله» ((2))

وروى أبو مخنف: فقال له (لعنه الله): يشبّهني جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله بالكلاب؟ واللهِ لَأذبحنّك من القفا. ثم أكبّه على وجهه ((3)).

عُدْ أيّها القلم إلى ما كنتَ تحرّره مِن قبل، فقد أبكيتَ الشيعة وأجريتَ دموعها وارتفعت آهاتها إلى السماء.

ص: 117


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451.
2- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- ([2]) مقتل الحسين؟ علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 146.

ورُوي عن الإمام زين العابدين علیه السلام : «فأمرَ الحسينُ علیه السلام ابنه فأذّن وأقام، وقام الحسين علیه السلام فصلّى بالفريقين جميعاً، فلمّا سلّم وثب الحرّ بن يزيد فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال الحسين علیه السلام : وعليك السلام، مَن أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا الحرّ بن يزيد. فقال: يا حرّ، أعلينا أم لنا؟ فقال الحرّ: والله يا ابن رسول الله لقد بُعثتُ لقتالك، وأعوذ بالله أن أُحشَر من قبري وناصيتي مشدودةٌ إلى رِجلي ويدي مغلولةٌ إلى عنقي وأُكَبّ على حرّ وجهي في النار، يا ابن رسول الله، أين تذهب؟ ارجع إلى حرم جدّك، فإنّك مقتول! فقال الحسين علیه السلام ؟

سأمضي، فما بالموت عارٌ على الفتى***إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما»

الأبيات ((1))..

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد)، قال: فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين علیه السلام ،حتى حضرت صلاة الظهر، وأمر الحسين علیه السلام الحجّاج بن مسرور أن يؤذّن، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين علیه السلام في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبُكم وقَدِمَت علَيّ رسُلكم أنْ: أَقدِم علينا، فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهين انصرفتُ عنكم

ص: 118


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 154.

إلى المكان الّذي جئتُ منه إليكم». فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمة.

فقال للمؤذّن: «أقِمْ»، فأقام الصلاة، فقال للحرّ: «أتريد أن تصلّي بأصحابك؟»، قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين ابن عليّ علیه السلام ، ثمّ دخل، فاجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الّذي كان فيه، فدخل خيمةً قد ضُربَت له، واجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجلٍ منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين بن عليّ علیه السلام أنيتهيؤوا للرحيل، ففعلوا، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقام الحسين علیه السلام

،فصلّى بالقوم، ثمّ سلّم، وانصرف إليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه،ثمّ قال: «أمّا بعد، أيّها الناس، فإنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّدٍ وأَولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، و إن أبيتُم إلّا كراهيةً لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمَت به علَيّ رسلكم، انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل الّتي تذكر. فقال الحسين علیه السلام لبعض أصحابه: «يا عقبة بن سمعان، أخرِجْ الخُرجَين اللذَين فيهما كتبهم إليّ»، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه، فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أُمِرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نُقدِمك الكوفة على عُبيد الله. فقال له الحسين؟ علیه السلام :«الموت أدنى إليك

ص: 119

من ذلك!»، ثمّ قال لأصحابه: «قوموا فاركبوا»، فركبوا، وانتظر حتّى ركب نساؤهم، فقال لأصحابه: «انصرفوا»، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين علیه السلام للحرّ: «ثكلتك أُمّك، ما تريد؟»، فقال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها، ما تركتُ ذكر أُمّه بالثكل، كائناً مَن كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدَر عليه. فقال له الحسين علیه السلام :«فما تريد؟»، قال: أُريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد. قال: «إذن واللهِ لا أتبعك». قال: إذن واللهِ لا أدَعُك. فترادّاالقول ثلاث مرّات، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك، إنّما أُمرتُ ألّا أُفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيتَ فخُذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى الأمير وتكتب إلى يزيد أو إلى عبيد الله، فلعلّ الله إلى ذلك أن يأتي بأمرٍ يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيءٍ من أمرك، فخذ هاهنا.

فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة، فسار الحسين علیه السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره، وهو يقول له: يا حسين، إنّي أُذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلنّ. فقال له الحسين علیه السلام :«أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلی الله علیه وآله، فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال:

سأمضي، فما بالموت عارٌ على الفتى***إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

ص: 120

وآسى الرجال الصالحين بنفسه***وفارق مثبوراً وباعد مجرما

فإن عشتُ لم أندم، وإن متُّ لم أُلَم***كفى بك ذلّاً أن تعيش وتُرغما»

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحيةً والحسين علیه السلام في ناحيةٍ أُخرى ((1)).

ثمّ أقبل الحسين علیه السلام على أصحابه وقال: «هل فيكمأحدٌ يعرف الطريق على غير الجادّة؟» فقال الطرمّاح: نعم يا ابن رسول الله، أنا أخبر الطريق. فقال الحسين علیه السلام :«سِرْ بين أيدينا». فسار الطرمّاح، واتّبعه الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابُه، وجعل الطرمّاح يرتجز بأبياتٍ فيها مدحٌ لسيّد الشهداء علیه السلام ودعوة لنصرته، حتّى وصل عذيب الهجانات ((2)).

وروى أبو مخنف قال: وسار حتّى وصل عذيب الهجانات، وإذا بأربع نفرٍ قد أقبلوا من ناحية الكوفة، وإذا هم: نافع بن هلال المراديّ، وعمرو الصيداويّ، وسعيد بن أبي ذرّ الغِفاريّ، وعبيد الله المِذحجيّ، فأقبلوا إلى الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر الطرمّاح أخذ بزمام ناقة الحسين علیه السلام وأنشأ يرتجز بأبياتٍ يمدح فيها الحسين علیه السلام . قال: فأقبل عليهم الحرّ، فقال له الحسين علیه السلام : «ألم تكن قد عاهدتَني أن لا تتعرّض لأحدٍ من أصحابي؟ فإن كنتَ على ما بيني وبينك، وإلّا نازلتُك في ميدان الحرب». فكفّ عنهم الحرّ.

ص: 121


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 78.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 248.

ثمّ إنّ الحسين علیه السلام استقبلهم، وقال: «أخبِروني، ما وراؤكم بالكوفة؟»، فقالوا: يا ابن رسول الله، أمّا أشراف الناس فقد طمت رؤوسهم بالمال، وأمّا سائر الناس فقلوبهم معك وأسيافهم عليك. فقال: «هل لكم علمٌ برسولي قيس بن مسهر؟»، قالوا: أخذه الحصين بن نمير (لعنه الله)، وبعثه مكتوباً إلى ابن زياد (لعنه الله)، فقتله. فلمّا سمع الحسين علیه السلام ذلك تغرغرت عيناه بالدموع، ثمّ تلى قوله (تعالى): «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّنيَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((1))، ثمّ قال: «اللّهمّ اجعل الجنّة لنا ولهم، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك، يا أرحم الراحمين» ((2)).

فأقبل الطرمّاح إلى الحسین علیه السلام ، وأخذ بزمام ناقته وقال له: يا ابن رسول الله، لو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الّذين تراهم لَكفوك، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة من الناس ما لم أُعاين مثلهم قطّ في جمعٍ أكثر منهم، فسألتُ عنهم فقيل: إنّهم جُمعوا ليعرضوا أو يمضوا إلى حرب الحسين علیه السلام، فإن قدرتَ أن لا تقدِم إليهم فافعل ((3)).

قال الراوي: ثمّ سار الحسين علیه السلام

والحرّ يسايره، حتّى أتوا إلى قصر بني مقاتل، وإذا بفسطاطٍ مضروب، فقال الحسين علیه السلام : «لمن هذا الفسطاط؟»،

ص: 122


1- ([1]) سورة الأحزاب: 23.
2- ([2]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 45.
3- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 163، تاريخ الطبري: 4 / 306.

فقيل: لرجلٍ يقطع الطريق، اسمه: عُبيد الله ال-جُعفي. فأرسل إليه، فلمّا حضر بين يديه قال له: «يا هذا، هل لك من توبةٍ تمحّص عنك الذنوب؟»، قال: وما هي يا ابن رسول اللهصلی الله علیه وآله قال: «تنصرنا أهل البيت»، فقال: ما خرجتُ من الكوفة إلّا مخافة أن أُقاتلك بين يدَي ابن زياد (لعنه الله)، ولكن خذ فرسي هذه، فإنّي ما طلبتُ عليها إلّا لحقت، وما هربتُ إلّا نجوت، وسيفي هذا القاطع ورمحي، واعفُ عنّي. فقال له علیه السلام : «إذا بخلتَ علينا بنفسك فلا حاجة لنا بمالك»، ثمّ تلا قوله (تعالى):«وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ((1)) ((2)).

وفي رواية الصدوق: ثمّ قال علیه السلام : «ولكن فرّ، فلا لنا ولا علينا؛ فإنّه مَن سمع واعيتنا أهل البيت ثمّ لم يجبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنّم» ((3)).

وروى أبو مخنف قال: وندم عبيدالله الجعفيّ على قعوده عن نصرة الحسين علیه السلام ، وجعل يضرب يده على الأُخرى ويقول: ما فعلتُ بنفسي! وأنشأ يقول:

فيا لك حسرةً ما دمتُ حيّاً***مردّد بين صدري والتراقي

حسينٌ حيث يطلب نصر مثلي***على أهل العداوة والشقاقِ

ص: 123


1- ([1]) سورة الكهف: 51.
2- ([2]) المقتل لأبي مخنف (المشهور): 47.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 155.

مع ابن المصطفى، روحي فداه***فويلي يوم توديع الفراقِ

فلو أنّي أُواسيه بنف-سي***لَنلتُ الفوز في يوم التلاقي

لقد فاز الّذي نصروا حسيناً***وخاب الآخَرون ذوو النفاقِ ((1))

وفي كتاب (بحار الأنوار): عن عمرو بن قيس المشرقيّ قال: دخلتُ على الحسين (صلوات الله عليه) أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أبا عبد الله، هذا الّذي أرى خضابٌ أو شعرك؟ فقال: «خضاب، والشيب إلينا بنيهاشم يعجل». ثمّ أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي؟»، فقلت: إنّي رجلٌ كبير السنّ كثير الدَّين كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أُضيّع أمانتي. وقال له ابن عمّي مثل ذلك. قال لنا: «فانطلِقا، فلا تسمعا لي واعيةً ولا ترَيا لي سواداً؛ فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجِبْنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزوجل أن يكبّه على منخريه في النار» ((2)).

وفي (الإرشاد): ولمّا كان في آخر الليل، أمر فتيانه بالاستقاء من الماء، ثمّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: سِرْنا معه ساعة، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فأقبل إليه

ص: 124


1- ([4]) متقل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 47، الفتوح لابن أعثم: 5 / 132.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 84 ح 12، ثواب الأعمال للصدوق: 259.

ابنه عليّ بن الحسين علیه السلام على فرسٍ فقال: «ممَّ حمدتَ الله واسترجعت؟»، فقال: «يا بُنيّ، إنّي خفقت خفقةً فعنّ لي فارسٌ على فرسٍ وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تصير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسَنا نُعيَت إلينا». فقال له: «يا أبت لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ؟»، قال: «بلى، والّذي إليه مرجع العباد». قال: «فإنّنا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين»، فقال له الحسين علیه السلام : «جزاك الله مِن ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة): عن شهاب بن عبد ربّه، عن أبيعبد الله أنّه قال: «لمّا صعد الحسين بن عليّ علیه السلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلّا مقتولاً. قالوا: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: رؤيا رأيتها في المنام. قالوا: وما هي؟ قال: رأيت كلاباً تنهشني، أشدُّها علَيّ كلبٌ أبقع» ((2)).

وعن أبي عبد الله الصادق أيضاً، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن عليّ علیه السلام ، قال: «قال: والّذي نفس حسينٍ بيده، لا ينتهي بني أُميّة ملكُهم حتّى يقتلوني، وهم قاتلي، فلو قد قتلوني لم يصلوا جميعاً أبداً، ولم يأخذوا عطاءً في سبيل الله جميعاً أبداً، إنّ أوّل قتيل هذه الأُمّة أنا وأهل بيتي. والّذي نفس حسينٍ بيده، لا تقوم الساعة وعلى الأرض هاشميٌّ ((3))

ص: 125


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 82.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 14.
3- ([2]) ترجم المؤلّف هذه العبارة بقوله: وسيبقى بنو هاشم في عناءٍ ومشقّة حتّى يظهر القائم علیه السلام .

يطرق» ((1)).

وروى الشيخ المفيد، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «خرجنا مع الحسين علیه السلام ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا وقتْلَه، وقال يوما: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا علیه السلام أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل» ((2)).

وفي رواية: «يُهدى رأسي إلى ابن زنا» ((3)).

كاش آن زمان سرادق گردون نگون شدي!***اين خيمة بلند ستون بي ستون شدي!

وروى السيّد ابن طاووس قال: فتياسر الحسين علیه السلام حتّى وصل إلى عذيب الهجانات، فورد كتاب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) إلى الحرّ يلومه في أمر الحسين علیه السلام ، ويأمره بالتضييق عليه، فعرض له الحرّ وأصحابه ومنعوه من السير، فقال له الحسين علیه السلام: «ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟»، فقال له الحرّ: بلى، ولكنّ كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق، وقد جعل علَيّ عيناً يطالبني بذلك.

ص: 126


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 74 الباب 23 ح 13.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 132.
3- ([5]) جلاء العيون للمجلسي: 640.

فقام الحسين علیه السلام خطيباً في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر جدَّه فصلّى عليه، ثمّ قال: «إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد تَرَون، وإنّ الدنيا قد تغيّرَت وتنكّرت وأدبر معروفها، واستمرت حذاء، ولم تبقَ منها إلّا صبابةٌ كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادةً والحياة مع الظالمين إلّا بَرَماً».

فقام زهير بن القَين وقال: قد سمعنا -- هداك الله يا ابن رسول الله -- مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقيةً وكنّا فيها مخلَّدين، لَآثرنا النهوض معك على الإقامة.

وقام هلال بن نافع البَجَليّ فقال: واللهِ ما كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وقام بُرير بن خُضَيرٍ فقال: واللهِ يا ابن رسول الله لقد مَنّ اللهُبك علينا أن نقاتل بين يديك وتُقطَّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة ((1)).

فجزّاهم الحسين علیه السلام خيراً ((2)).

وفي (الإرشاد): فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحرّ بن

ص: 127


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 78.
2- ([2]) أُنظُر: جلاء العيون: 643.

يزيد فيردّه وأصحابَه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه ((1)).

وفي (المناقب): فقال له زهير: فسِرْ بنا حتّى ننزل بكربلاء، فإنّها على شاطئ الفرات، فنكون هنالك، فإن قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم. قال: فدمعَت عينا الحسين علیه السلام ، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». ونزل الحسين في موضعه ذلك، ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس، ودعا الحسين بدواةٍ وبيضاء وكتب إلى أشراف الكوفة ((2)).

قال: فجمع الحسين علیه السلام وُلده وإخوته وأهل بيته، ثمّ نظر إليهم فبكى ساعة، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدَّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخُذْ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين» ((3)).

وفي (الإرشاد): حتّى انتهوا إلى نِ-ينوى، المكان الّذي نزل بهالحسين علیه السلام ، فإذا راكبٌ على نجيبٍ له عليه السلاح متنكّب قوساً مُقبِل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد

ص: 128


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 82 / 2.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 381 / 44.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 383 / 44.

الله بن زياد، فإذا فيه: أمّا بعد، فجِعْجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلّا بالعراء في غير حِصنٍ وعلى غير ماء، فقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرني أن أُجعجع بكم في المكان الّذي يأتي كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقني حتّى أُنفذ أمره.

فنظر يزيد بن المهاجر الكناني -- وكان مع الحسين علیه السلام -- إلى رسول ابن زياد فعرفه، فقال له يزيد: ثكلَتك أُمّك، ماذا جئتَ فيه؟ قال: أطعتُ إمامي، ووفيتُ ببيعتي. فقال له ابن المهاجر: بل عصيتَ ربّك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله (عزّ من قائل): «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ» ((1))، فإمامك منهم.

وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماءٍ ولا قرية، فقال له الحسين علیه السلام: «دَعْنا -- ويحَك! -- ننزل في هذه القرية أو هذه»، يعني نينوى والغاضريّة، أو هذه يعني شفنة. قال: لا والله ما أستطيع ذلك؛ هذا رجلٌ قد بعث إليّ عيناً علَيّ. فقال زهيربن القَين: إنّي والله ما أراه يكون بعد الّذي

ص: 129


1- ([1]) سورة القصص: 41.

ترون إلّا أشدّ ممّا ترون يا ابن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم، فلعمري لَيأتينا بعدهم ما لا قِبَل لنا به. فقال الحسين علیه السلام: «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال» ((1)).

وفي (المنتخب): فساروا جميعاً إلى أن انتهوا [إلى] (1) أرض كربلاء، إذ وقف الجواد الّذي تحت الحسين ولم ينبعث من تحته، وكلّما حثّه على المسير لم ينبعث خطوةً واحدة، فنزل عنه وركب غيره فلم ينبعث خطوةً واحدة ((2)).

وروى ابو مخنف قال: فلم ينبعث خطوةً واحدة، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتّى ركب سبعة أفراس وهنّ على هذا الحال، فلمّا رأى ذلك قال: «يا قوم، ما اسم هذه الأرض؟»، قالوا: أرض الغاضريّة. قال: «فهل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: تُسمّى نينوا. قال: «أهَل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: شاطئ الفرات. قال: «أهَل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: تُسمّى كربلاء. فعند ذلك تنفّس الصعداء وقال: «أرض كربٍ وبلاء»، ثمّ قال: «انزلوا؛ هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفَك دماؤنا، هاهنا واللهِ تُهتَك حريمنا، هاهنا والله تُقتَل رجالنا، هاهنا والله تُذبَح أطفالنا، هاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعَدني جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا خُلف لقوله». ثمّ نزل عن فرسه ((3)).

ص: 130


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 83.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 428 المجلس 9.
3- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 49، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 256.

وفي (المناقب): فرحل من موضعه حتّى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.

ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».

ثمّ قال: «أهذه كربلاء؟»، فقالوا: نعم يا ابن رسول الله. فقال: «هذا موضع كربٍ وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا».

قال: فنزل القوم، وأقبل الحرّ حتّى نزل حذاء الحسين علیه السلام في ألف فارس ((1)).

وروى بعض الثقات قال: إنّ أُمّ كلثوم قالت للحسين علیهما السلام: أخي، ما لي أرى باديةً مهولة، وأشعر أنّ رعباً عظيماً دخل قلبي؟ فقال: «اعلموا أنّي كنتُ مع أبي أمير المؤمنين علیه السلام يوم صفّين، فلمّا بلغنا كربلاء نزل أبي فوضع رأسه على رِجل أخي الحسن فنام ساعة، وقمت أنا إلى جانبه، فانتبه من نومه وهو يبكي بكاءً شديداً، فسأله أخي الحسن عن سبب بكائه، فقال: رأيتُ رؤيا، كأنّ هذه الصحراء بحراً من دم، ورأيت الحسين وقع فيه وهو يفحص بيديه ورجليه ولا يغيثه أحد. ثمّ التفت إليّ وقال: يا أبا عبد الله، كيف تكون إذا وقعَت هاهنا الواقعة؟

ص: 131


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 383، وانظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 329.

فقلت: أصبر» ((1)).

وفي (قرب الإسناد): عن الباقر علیه السلام قال: «مرّ عليٌّ بكربلاء في اثنين من أصحابه»، قال: «فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، وهاهنا تُهراق دماؤهم، طوبى لكِ من تربةٍ عليكِ تهراق دماء الأحبّة» ((2)).

وفي (المنتخب): عن الصادق أنّه قال: «لمّا خرج أمير المؤمنين إلى حرب صفّين، فلم يزل سائراً حتّى إذا كان قريباً من كربلاء على مسيرة ميلٍ أو ميلين تقدّم يسير أمام الناس، حتّى إذا صار بمصارع الشهداء (رضوان الله عليهم) قال: أيّها الناس، اعلموا أنّه قُبض في هذه الأرض مئتا نبيّ ومئتا سبطٍ من أولاد الأنبياء، كلّهم شهداء، وأتباعهم معهم استشهدوا معهم. ثمّ إنّه علیه السلام طاف على بغلته في تلك البقعة، ومع ذلك خارجٌ رجليه من الركاب وهو يقول: هنا واللهِ مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم بالفضل مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن كان بعدهم. ثمّ نزل علیه السلام وجعل يبكي» ((3)).

ولا تنسَ خبر ابن عبّاسٍ في المسير إلى صفّين، وخبر هرثمة المارّ آنفاً.

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه نزل عن فرسه، وجلس بعد ذلك يُصلحسيفه وهو يقول:

ص: 132


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 259.
2- ([2]) قرب الإسناد للحِمْيري: 26 ح 87، كامل الزيارات: 269 ح 11.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 266 المجلس 3.

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ***كم لك بالإشراق والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ***والدهر لا يقنع بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي***ومنتهى الأمر إلى الجليلِ

ولم يزل يكرّر هذه الأبيات حتّى سمعت أُخته زينب، فوثبت تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه، وقالت له: يا أخي وقرّة عيني، ليت الموت أعدمَني الحياة، يا خليفة الماضين وثمال الباقين، هذا كلامُ مَن أيقن بالموت، وا ثكلاه! اليوم مات جدّي محمّدٌ المصطفى، وأبي عليٌّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وأخي الحسن الرضيّ ((1)).

وفي (الملهوف): فسمعَت زينب بنت فاطمة علیها السلام ذلك، فقالت: يا أخي، هذا كلام مَن أيقن بالقتل! فقال علیه السلام: «نعم يا أُختاه». فقالت زينب: وا ثكلاه، ينعى الحسين علیه السلام إليّ نفْسَه. قال: وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب، وجعلَت أُمّ كلثوم تنادي: وا محمّداه، وا عليّاه، وا أُمّاه، وا أخاه، وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله. قال: فعزّاها الحسين علیه السلام وقال لها: «يا أُختاه، تعزَّي بعزاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البريّة يهلكون»، ثمّ قال: «يا أُختاه يا أُمّ كلثوم، وأنتِ يا زينب، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، انظرن إذا أنا قُتلتُ فلا تشققنَ علَيّ جَيباً، ولا

ص: 133


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 428 المجلس 9.

تخمِشْن علَيّ وجهاً، ولا تقُلن هجراً» ((1)).

وفي (المنتخب): قال لها: «يا أُختاه، لا يذهب بحلمك الشيطان، تعزَّي بعزاء الله، فإنّ أهل السماء والأرض يموتون، وكلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه، أبي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولكلّ مسلمٍ برسول الله أُسوة». فقالت: يا أخي، تُقتَل وأنا أنظر إليك؟ فردّت غصّته وتغرغرت عيناه بالدموع، فقالت: يا أخي، ردّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «لو تُرك القطا لغفا ونام». قالت: واللهِ -- يا أخي -- لا فرحتُ بعدك أبداً. ثمّ إنّها لطمَت وجهها، وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيّةً عليها، ثمّ قام الحسين إليها وقال لها: «يا أُختاه، بحقّي عليكِ إذا أنا قُتلتُ فلا تشقّي علَيّ جيباً، ولا تخمشي وجهاً، ولا تدْعِين بالويل والثبور». ثمّ حملها حتّى أدخلَها الخيمة ((2)).

ص: 134


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 81.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 428.

المجلس الخامس: في بيان ما بعد النزول في كربلاء إلى يوم عاشوراء

عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «كتب الحسينُ بن علي علیه السلام إلى محمّد بن علی علیه السلام من كربلاء: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ علیه السلام إلى محمّد بن علي ومن قِبله من بني هاشم، أمّا بعد، فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل، والسلام» ((1)).

وفي (المناقب): ثم كتب -- الحرّ بن يزيد -- إلى ابن زيادٍ يخبره بنزول الحسين بكربلاء.

و كتب ابن زيادٍ (لعنه الله) إلى الحسين (صلوات الله عليه): أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير أو أُلحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى

ص: 135


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 15.

حكمي وحكم يزيد بن معاوية، والسلام.فلمّا ورد كتابه على الحسين علیه السلام وقرأه، رماه من يده، ثمّ قال: «لا أفلح قومٌ اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق». فقال له الرسول: جواب الكتاب أبا عبد الله! فقال: «ما له عندي جواب؛ لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب». فرجع الرسول إليه فخبّره بذلك، فغضب عدوُّ الله من ذلك أشدّ الغضب ((1)).

وروى محمّد بن أبي طالب قال: ثمّ جمع ابن زيادٍ الناس في جامع الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا يزيد.. -- وجعل يمدح اللعين بما ليس فيه --، وقد زادكم في أرزاقكم مئةً مئة، وأمرني أن أُوفّرها عليكم، وأُخرجَكم إلى حرب عدوّه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوا. ثمّ نزل عن المنبر، ووفر للناس العطاء، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين علیه السلام ((2)).

وفي رواية أبي مخنف: ثمّ إنّ ابن زياد (لعنه الله) نادى: مَن يأتيني برأس الحسين علیه السلام وله مُلك الريّ عشر سنين؟ فقام إليه عمر بن سعد (لعنه الله) وقال: أنا أيّها الأمير. فقال له: امضِ، وخُذ بكظمه، وامنعه من شرب الماء.

ص: 136


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 383، وانظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331.
2- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 259.

فقال له: أيّها الأمير، أمهِلْني شهراً. فقال: لا أفعل. فقال: عشرة أيّام. فقال: لا أفعل. فنهض من وقته ودخل منزله.

فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا له: يا ابن سعد، تخرج إلى حرب الحسين علیه السلام وأبوك سادس الإسلاموصاحب بيعة الرضوان؟ فقال: لست أرجع عن ذلك. وجعل يفكّر في ولاية الريّ وقتلِ الحسين علیه السلام ، فاختار حرب الحسين علیه السلام ، وأنشأ يقول:

فوَالله ما أدري، وإنّي لَحائرٌ***أُفكّر في أمري على خطرَينِ

أأترك مُلك الريّ، والريّ منيتي؟***أم ارجع مأثوماً بقتل حُسينِ

حسين ابن عمّي، والحوادث جَمّةٌ***لعمري ولي في الريّ قُرّة عينِ

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي***ولو كنتُ فيها أظلَمُ الثقلينِ

ألا إنّما الدنيا بخيرٍ معجّلٍ***وما عاقلٌ باع الوجود بدَينِ

يقولون: إنّ الله خالق جنّةٍ***ونارٍ وتعذيبٍ وغلّ يدينِ

فإن صدقوا فيما يقولون، إنّني***أتوبُ إلى الرحمان من سنتينِ

وإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمةٍ***ومُلكٍ عقيمٍ دائم الحجلين ((1))

وفي كتاب (التبر المذاب): قال محمّد بن سيرين: وقد ظهرَت كرامات عليّ بن أبي طالب علیهما السلام في عمر بن سعد، فإنّه لقيه يوماً وهو شابّ، فقال

ص: 137


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 50.

له: «كيف بك إذا قمتَ غداً مقاماً تُخيَّر فيه بين الجنّة والنار، فتختار النار؟» ((1)).وفي (المنتخب): فقال له ابن سعد: معاذ الله، أيكون ذلك؟! فقال له علیه السلام : «سيكون ذلك بلا شكّ» ((2)).

وفي (البحار) و(المنتخب): عن ابن مسعودٍ قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله في مسجده، إذ دخل علينا فتيةٌ من قريش ومعهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فتغيّر لون رسول الله، فقلنا له: يا رسول الله، ما شأنك؟ فقال: «إنّا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّي ذكرتُ ما يلقى أهل بيتي من أُمّتي من بعدي، مِن قتلٍ وضربٍ وشتمٍ وسبٍّ وتطريدٍ وتشريد، وإنّ أهل بيتي سيُشرّدون ويُطردون ويُقتلون، وإنّ أوّل رأسٍ يُحمَل على رمحٍ في الإسلام رأس ولدي الحسين، أخبرني بذلك أخي جبرائيل عن الربّ الجليل». وكان الحسين حاضراً عند جدّه في ذلك الوقت، فقال: «يا جدّاه، فمَن يقتلني من أُمّتك؟»، فقال: «يقتلك شِرار الناس»، وأشار النبيّ صلی الله علیه وآله إلى عمر بن سعد (لعنه الله)، فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين علیه السلام ((3))

ص: 138


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 139 -- بتحقيق السيّد علي أشرف، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 223، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 195، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 242.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 276 المجلس 3.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 326 المجلس 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19.

وفي (البحار): عن أصبغ بن نباتة قال: بينا أمير المؤمنين علیه السلام يخطب الناس وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فواللهِ لا تسألوني عن شيءٍ مضى ولا عن شيءٍ يكون إلّا نبّأتكم به»، فقام إليه سعد بن أبي وقّاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟ فقال له: «أما والله لقد سألتَنيعن مسألةٍ حدّثَني خليلي رسول الله صلی اللخه علیه وآله أنّك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك مِن شعرةٍ إلّا وفي أصلها شيطانٌ جالس، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل الحسين ابني»، وعمر بن سعد يومئذٍ يدرج بين يديه ((1)).

عبد الله بن شريك العامريّ قال: كنتُ أسمع أصحاب عليٍّ إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين علیه السلام ((2)).

قال المؤلّف: خطر ببالي حديثاً آخَر يخصّ خولّي بن يزيد الأصبحيّ، رواه المفيد في (الإرشاد):

خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فقال في خطبته: «سلوني قبل أن تفقدوني، فواللهِ لا تسألوني عن فئةٍ تُضِلّ مئةً وتهدي مئةً إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة». فقام إليه رجلٌ فقال: أخبِرْني كم في رأسي

ص: 139


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 256 ح 5، الأمالي للصدوق: 133 ح 1، كامل الزيارات لابن قولويه: 74 ح 12.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 16، الإرشاد للمفيد: 2 / 131.

ولحيتي من طاقة شعر؟ فقام أمير المؤمنين علیه السلام وقال: «واللهِ لقد حدّثَني خليلي رسول الله صلی الله علیه وآله بما سألتَ عنه، وإنّ على كلّ طاقةِ شعرٍ في رأسك ملَكاً يلعنك، وعلى كلّ طاقة شعرٍ في لحيتك شيطاناً يستفزّك، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما خبّرتُك به، ولو لا أنّ الّذي سألتَ عنه يعسر برهانه لَأخبرتك به» ((1)). قال:وكان له ولدٌ صغيرٌ في ذلك الوقت، فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحسين ما كان، نمى الصبيُّ وتجبّر، وتولّى قتل الحسين علیه السلام ، وقيل: إن ذلك الصبيّ كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحيّ، وهو الّذي طعن الحسين برمحه فخرج السنان من ظهره ((2)) -- انتهى كلام صاحب (المنتخب).

ولو شئتَ التعرّف على هذا الملعون أكثر فاعلم ((3)) أنّ هذا الشقيّ كان من أصحاب الألوية في معسكر الأشقياء ((4))، وقتل في كربلاء جماعةً من أصحاب الإمام علیه السلام وأهل بيته، ومنهم: عثمان بن أمير المؤمنين، وكان عمره أحد عشر سنة، فرماه بسهمٍ في جبهته، وأجهز عليه لعينٌ آخَر فاحتزّ

ص: 140


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 1 / 330، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 261، إعلام الورى للطبرسي: 174، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 258 ح 7.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
3- ([2]) في مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 53: و كان خولّى بن يزيد من أقسى الناس قلباً على الحسين علیه السلام.
4- ([3]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 63، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 66.

رأسه ((1))، وقتل جعفر بن عليّ -- وعثمان وجعفر إخوة العبّاس لأُمّه -- فرماه بسهمٍ في شقيقته فصرعه ((2)).

ولمّا صُرع الإمام المظلوم ووقع على الأرض، يلوك لسانه من شدّة العطش، وقد أخذ منه نزف الدم والجرحات مأخذاً، ولم يجسر أحدٌ على النزول إليه، فبادر إليه هذا اللعين خولّى بن يزيد ليجتزّرأسه، فرمقه بعينيه فارتعدت فرائصه منه، فلم يجسر عليه وولّى عنه ((3)).

وفي (التبر المذاب): فقال له شمر: فتّ الله في عضدك، ما لَك ترعد؟ فقال: والله لا حاجة لي في قتل ابن بنت رسول الله! فقال الشمر: كلحَت هذه اللحية، لأنها نبتت على غير رجل ((4)).

وهذا اللعين هو وسنان وشمر جاؤوا برأس الحسين علیه السلام إلى ابن سعد وهم يتفاخرون، فقال هذا اللعين: أنا رميتُه بسهم فأرديتُه صريعاً على الأرض، وقال سنان: أنا ضربتُه بالسيف على رأسه، وقال شمر (لعنهم الله):

ص: 141


1- ([4]) أُنظُر: الأمالي للشجري: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 294، الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
2- ([5]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لبحر العلوم: 317، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 54، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38.
3- ([1]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 463، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 342.
4- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161.

أنا حززتُ نحره وقطعت رأسه ((1)).

وهذا الملعون هو الّذي حمل الرأس المقدّس من كربلاء إلى الكوفة على السنان، ونزل به في بيته على فرسخ من الكوفة، ووضع الرأس المقدّس في التنّور، ثمّ حمله في صباح اليوم التالي هديّةً لابن زياد ((2)).

ترسم جزاي قاتل او چون رقم زنند***يك باره بر جريده رحمت قلم زنند

ترسم كزين گناه شفيعان روز حشر***دارند شرم كز گنه خلق دم زنند

قال أبو مخنف: كان أوّل رايةٍ سارت إلى حرب الحسين علیه السلام راية عمر بن سعد (لعنه الله)، ودعا من بعده بعروة بن قيس (لعنه الله)، وضمّ إليه ألفَي فارسٍ وأمره بالمسير، ودعا من بعده سنان بن أنسٍ النخعيّ (لعنه الله)، وعقد له رايةً على أربعة آلاف فارس، ودعا من بعده بالشمر بن ذي الجوشن الضبابي (لعنه الله)، وعقد له رايةً على أربعة آلاف فارس، وعقد رايةً سادسةً إلى خولّى بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، وضمّ إليه ثلاثة آلاف فارس وسار إلى حرب

ص: 142


1- ([3]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 463، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 342.
2- ([4]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 361، مثير الأحزان لابن نما: 45.

الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً سابعةً وسلّمها إلى القشعم (لعنه الله)، وضمّ إليه ثلاثة آلاف فارس وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً ثامنةً وسلّمها إلى الحصين بن نمير، وضمّ إليه ثمانية آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً تاسعةً وسلّمها إلى أبي قدار الباهلي (لعنه الله)، وضمّ إليه تسعة آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً عاشرةً وسلّمها إلى عامر بن صريمة التميمي، وضمّ إليه ستّة آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ((1)).

وعن محمّد بن أبي طالب: ثمّ أرسل إلى شبث بن ربعيّ أن أقبِلْ إلينا، فإنّا نريد أن نوجّه بك إلى حرب الحسين. فتمارض شبث وأراد أن يعفيه ابن زياد، فأرسل إليه: أمّا بعد، فإنّ رسولي خبّرني بتمارضك، وأخاف أن تكون من الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا:آمنّا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون! إن كنتَ في طاعتنا فأقبِلْ إلينا مسرعاً. فأقبل إليه شبث بعد العشاء، لئلّا ينظر الملعون إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلّة، فلمّا دخل رحّب به وقرّب مجلسه، وقال: أُحبّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه. فقال: أفعل أيّها الأمير ((2)).

وكان اللعين ممّن كتب إلى الإمام الحسين علیه السلام : اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار.

ص: 143


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 177، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 80.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.

أجل، خرج ليعطي الإمام الغريب النبال والسهام عوض الثمار اليانعة، ويمنع سيّد شباب أهل الجنّة من الماء المباح للكلاب والخنازير!

از آب هم مضايقه كردند كوفيان***خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

زآن تشنگان هنوز به عيوق مي رسد***فرياد العطش ز بيابان كربلا

والحمد لله، فإنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء وغيرهم قد نال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة..

فقد رُوي أنّه جيء بالقشعم إلى المختار وكان على ألفَي فارس، فأمر المختار أن تُقطَع يداه، وعُلّق وضرب العصا حتّى مات، ثمّ أحرق جيفته.

ثمّ جيء بوردان غلام عبيد الله بن زياد، وكان على الرجّالة فيكربلاء، فقال له الأمير: لعنك الله، أين مولاك وإمامك الدعيّ ابن مرجانة؟ فقال وردان: سيأتي قريباً فيقتلك. قال المختار:

سأقتلك عاجلاً. ثمّ أمر به فعُلّق، ومُزّق بدنه بسكك الحديد وكمّاشات الحدّادين، حتّى هلك وعجّل به إلى نار جهنّم.

ثمّ جيء بأبي نصر الشيبانيّ، وقد ألقوا في عنقه حبلاً، وكان على رجّالة شيبان، فسلّم فلم يجبه أحد، فقال إبراهيم بن مالك: ويلك يا شقيّ! لمَ رميتَ خيمة الإمام الحسين بالسهام؟ قال: كنتُ مأموراً. فقال له المختار:

ص: 144

أيّها الدعيّ، لمَ شتمتَ الحسين علیه السلام قال: كان ذلك عن جهلٍ وعدم علم. فأمر المختار بشير بن عبد الله أن يأخذه ويمزّقه تمزيقاً، فأخذه بشير ونفّذ فيه الأمر ((1)).

ثمّ جيء بأبي السلاسل، وكان على رجّالة ابن زياد، فأمر فقُطّعت أقدامه بالفأس، واحتفلوا في الليل فأرسلوه إلى جهنّم ((2)).

ثمّ أرسل المختار زائدةَ بن قدامة إلى دريد ((3)) مولى عمر بن سعد، وأمر أن يقطّعه إرباً، ويهدم داره ويُلقي أهله في البئر ويُعمي البئر، ويأخذ أمواله. قال زائدة: سمعاً وطاعة. فصار إليه، وقتله شرّ قتلةٍ ونفّذ ما أمره به الأمير ((4)).

رُوي عن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام أنّ اليوم الّذيقتل فيه المختار دريد ((5)) بلغ عدد المقتولين في الكوفة ثمانين ألفاً ((6)).

أجل، لقد أرسل اللعين ابن زياد العسكر إثر العسكر، حتّى بلغوا بناءً في المشهور ثلاثين ألفاً ((7)).

ص: 145


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 179.
2- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 188.
3- ([3]) في المتن: (وريد).
4- ([4]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 199.
5- ([1]) في المتن: (وريد).
6- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 199.
7- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 368 و45 / 4، اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72.

وعن محمّد بن إسماعيل -- إمام أهل السنّة -- : أربعين ألفاً.

ونُقل عن السيّد ابن طاووس: مئة ألف، وألفين من الخوارج، وثمانية آلاف من يحملون المؤن ويعملون في الإمداد، يجدّدون نعل الخيل ويبرون السهام ويشحذون السيوف.

ويؤيّد ذلك ما رواه أبو مخنف، عن أبي خليق، وكان مشرفاً على عسكر ابن زياد المنكوس، إذ سأله المختار عن عدد عسكر ابن زياد، فقال: كانوا أوّلاً اثنان وعشرون ألفاً، ثمّ تبعهم ستّة آلاف، وانتهوا إلى مئة واثنين وعشرين ألفاً.

قال المختار: كان هؤلاء كلّهم في كربلاء؟! قال أبو خليق: باشر اثنان وعشرون ألفاً القتال ورموا الإمام بالسهام وطعنوه بالرماح، وستّة آلاف كانوا على الفرات من ثلاث جوانب، وكان باقي العسكر أرتالاً تتعاقب من الكوفة إلى كربلاء دون انقطاع، فتكاملوا في كربلاء وقد قُضيَ الأمر.

ذكرنا سابقاً أنّ خيل العسكر الملعون نظمت من القطقطانيّة إلى القادسيّة!قال المختار: بيّن لنا أصناف العسكر من الخيّالة والرجّالة وغيرها. قال أبو خليق: كان اثنان وعشرون ألفاً من عساكر قصر الإمارة، ضُبطَت أسماؤهم في الديوان وهم يتقاضون العطاء، وعليهم قشعم وشمر وشبث بن

ص: 146

ربعيّ ويزيد بن ركاب وأبناء الأشعث وأبو الأشرس والي خراسان ويزيد بن أبحر وحصين بن نمير وسنان بن أنس وقيس بن الضحّاك وسعد بن عبد بن عمر وأبو محنوق ودريد ((1)) مولى عمر بن سعد، وكان المتفرّجون والغوغاء والخدم وحملة الأرزاق زهاء ثمانية آلاف، ومن باقي أصناف أهل الكوفة مثل النجّارين والحدّادين والخبّازين وغيرهم وزعماء شاكر وكندة وخزيمة وبني زهرة وآل زفير وبني حرب وسوق الليل وسوق الشاعة وصرح نمرود وسوق البراتين..

قال المختار: كم كان فيهم من النواحي؟ قال: إثنان وثلاثون ألفاً من البوادي والأعراب من عبّادة وربيعة وسكون وحِميَر وكِندة ودارم وغطعون ومِذحج ويربوع وخزاعة وكلب والنبط، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف، ومن أهل الشام ثلاثون ألفاً، ومن الخوارج ألفان، وعشرة آلاف من خُزيمة والموصل وتكريت وعسقلان والشامات، وألفان من كردان ((2)).

قال المختار: كم عدد الأُمراء فيهم؟ قال: سبعون أميراً، أمير العسكر عمر ابن سعد، وابنه حفص وزيره، وعلى الساقة أبو الحنوق، وكان أبو الأسرش صاحب لواء، وعينه مجويه، وعلىالمساحي أبو أيّوب الغنوي، نقيب العسكر شمر بن ذي الجوشن، وكان على أربعة آلاف فارس، ويزيد بن

ص: 147


1- ([1]) في المتن: (وريد).
2- ([2]) ربما قصد (الأكراد).

ركاب على ألفَي راجل، وكان شبث على أربعة آلاف فارس، وعروة بن قيس على ألفَي راجل، والحرّ بن يزيد على ألف فارس، وعامر بن الطُّفَيل على ألفَي راجل [أربعة آلاف فارس]، وقرّة بن قيس على ألفَي فارس، وابن أبي جويريّة على ألفي فارس، وحكيم بن الطفيل على أربعة آلاف فارس، حمل ابن مالك على ألفي فارس، وسنان بن أنس كاتب العسكر، وأنا المشرف وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد الحادي، وخولّي بن يزيد حامل لواء الرجّالة، وخولّي رفع الرأس المقدّس على الرمح، وحِجر الأحجار ورافع بن مالك والنعمان بن ثابت على الفرات، وابن حوبش على الرماة، وعمر بن صبيع الصيداوي على المقاليع ورماة الأحجار، ومحمّد بن الأشعث أمير الأُمراء، وخليفة بن سعد وأخوه قيس على ألفين من الرجّالة، ومنقذ بن مرّة وزيد بن الرقّاد رسولا الفتح ((1)).

وفي بعض النسخ لأبي مخنف: نزلوا على الحسين علیه السلام، وهم سبعون ألف فارسٍ وراجل، كلّهم من أهل الكوفة، ومعهم السيوف الهنديّة والرماح الخطيّة والحِراب المجليّة ((2)).

بل في رواية ابن شهرآشوب: أحاط بالحسين علیه السلام مئةٌ وأربعةٌ وثمانون ألف رجل، وكانوا يرمونه بالنبال. سنأتي على ذكر ذلك في قتاله علیه السلام .

ص: 148


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 231.
2- ([2]) أسرارالشهادة للدربندي: 2 / 178.

قال محمّد بن أبي طالب: ثمّ كتب إليه ابن زياد: إنّي لم أجعل لك علّةً في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا أُصبح ولا أُمسي إلّا وخبرك عندي غدوةً وعشيّة. وكان ابن زيادٍ يستحثّ عمر بن سعد على قتال الحسين علیه السلام ، والتأمت العساكر عند عمر بن سعد لستّة أيّامٍ مضين من المحرّم ((1)).

وفي (الملهوف): فضيّقوا على الحسين علیه السلام حتّى نال منه العطش ومِن أصحابه، فقام علیه السلام واتّ-كأ على قائم سيفه، ونادى بأعلى صوته فقال علیه السلام :«أُنشدكم الله، هل تعرفونني؟»، قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسبطه. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أبي عليُّ بن أبي طالب علیه السلام »، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أُمّي فاطمةُ الزهراء بنتُ محمّدٍ المصطفى صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجةُ بنت خُويلد أوّلُ نساء هذه الأُمّة إسلاماً؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ حمزة سيّد الشهداء عمُّ أبي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جعفراً الطيّار في الجنّة عمّي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله صلی الله علیه وآله أنا مقلّده؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله صلی الله علیه وآله أنا لابسه؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً علیه السلام كان أوّلَ

ص: 149


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.

القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنة؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فبمَ تستحلّون دمي، وأبي صلی الله علیه وآله الذائد عن الحوض، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلَّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمع بناته وأُخته زينب كلامه، بكين وندبن ولطمن وارتفعت أصواتهنّ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه، وقال لهما: «سكّتاهنّ، فلَعمري لَيكثرنّ بكاؤهن» ((1)).

قال المؤلّف: الله يا قلب زينب المكلوم وباقي النسوة، يرَين كلّ هذه المصائب ولا يطلقن حسرةً من أكبادهنّ ولا يرفعن صوتاً ولا يندبن بالعويل، خوفاً من شماتة الأعداء وإثارة غيرة سيّد الشهداء، فيكتمن الآهة في صدورهنّ المكبوتة المزدحة بالآلام والغصص والمصائب المتوالية، ولو افلتت منهنّ زفرةً بسبب هجوم المصائب فارتفعت لهنّ عولةً وطفحت قلوبهنّ بصرخةٍ وتطاير الشرر من أكبادهنّ حسرة، فإنّها تكون سبباً لغصّةٍ جديدة، فإنّ الإمام الغيور لا يرضى أن يسمع الأعداءُ أصوات نسائه، ولا يرضى أن يضبطهنّ وقد هجمَت عليهنّ المصائب من كلّ حدب وصوب، ولكنّهنّ بعد أن سمعن رسالة الإمام الّتي حملها زبدة الناس أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، عضضن على الأكباد، وصرن كالطيور كسيرة الأجنحة،

ص: 150


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 86.

يكتمن الصراخ ويتأوّهن بصمت، ويخفين الأنين ويجلسن جلسةالحزين.

وفي (المنتخب) أنّ الحسين لمّا رأى وحدته وفقْدَ عترته وأنصاره، تقدّم على فرسه نحو القوم حتّى واجههم، وقال: «أيّها الناس، انسبوني وانظروا مَن أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي؟ ألستُ أنا ابن نبيّكم محمّد؟ أما كان موصِياً فيكم لي ولأخي؟ أما أنا سيّد شباب أهل الجنّة؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حُرمتي؟»، فقالوا: ما نعرف شيئاً ممّا تقول. فقال: «إنّ فيكم مَن لو سألتموه عنّي لَأخبركم إنّه سمع ذلك من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي الحسن، سَلُوا زيد بن ثابت والبُراء بن عازب وأنس ابن مالك، فإنّهم يخبرونكم أنّهم سمعوا من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي، فإن كنتم تشكّون إنّي لستُ ابن بنت نبيّكم، فواللهِ ما تعمّدتُ الكذب وقد عرفتُ أنّ الله (تعالى) يمقت على الكذب أهلَه ويعذّب مَن استعمله، فواللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري، ثمّ أنا ابن إمامكم خاصّةً دون غيري، خبّروني هل تطلبوني بقتلٍ قتلتُه منكم، أو بقصاصٍ من جراحة، أو بمالٍ استملكته منكم، أم على سُنّةٍ غيّرتها، أم على شريعة فرض بذاتها؟». قال: فسكتوا، ولم يقبلوا هذا القول منه ((1)).

وقال محمّد بن أبي طالب: وأقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين علیه السلام ، فقال: يا ابن رسول الله، هاهنا حيٌّ من بني أسد بالقرب منّا، أفتأذن لي

ص: 151


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 182 المجلس 9.

بالمصير إليهم [الليلة] فأدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم الأذى عنك. قال: «قد أذنتُ لك». فخرج حبيب إليهم في جَوف الليل مستنكِراً مستعجلاً حتّى أتى إليهم، فعرفوه أنّه من بني أسد، فقالوا: ما حاجتك يا ابن عمّنا؟ فقال: إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنّه في عصابةٍ من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يُسلموه بيد أعدائه، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة، فإنّي أُقسم بالله لا يُقتَل أحدٌ منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلّا كان رفيقاً لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله في علّيّين.

قال: فوثب إليه رجلٌ من بني أسد يقال له: عبد الله بن بشر، فقال: أنا أوّل مَن يجيب إلى هذه الدعوة. ثمّ جعل يرتجز [و يقول]:

قد علم القومُ إذا تواكلوا***وأحجم الفرسان أو تثاقلوا

أنّي شجاعٌ بطلٌ مقاتلُ***كأنّني ليث عرينٍ باسلُ

ثمّ تنادى رجال الحيّ حتى التأم منهم تسعون رجلاً، فأقبلوا يريدون الحسين علیه السلام ، وخرج رجلٌ في ذلك الوقت من الحيّ يُقال له: [فلان] ابن عمرو، حتّى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال، فدعا ابنُ سعدٍ برجلٍ من أصحابه يقال له: الأزرق الشامي، وهو الّذي قتله وبنيه قاسم بن

ص: 152

الحسن علیه السلام واحداً بعد واحد، فضمّ إليه أربعمئة فارس ووجّه [به] نحو حيّ بني أسد، فبينا أُولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين علیه السلام في جوف الليل إذ استقبلَتهم خيلُ ابنسعدٍ على شاطئ الفرات، وبينهم وبين عسكر الحسين النهر، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شديداً، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق: ويلك! ما لَك وما لنا؟ انصرف عنّا ودَعْنا يشقى بنا غيرك. فأبى الأزرق أن يرجع، وعلمَت بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم، فانهزموا راجعين إلى حَيّهم، ثمّ إنّهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيتهم، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين علیه السلام فخبّره بذلك، فقال علیه السلام : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله».

ورجعت خيل ابن سعدٍ حتى نزلوا على شاطئ الفرات، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وأضرّ العطش بالحسين وأصحابه، فأخذ الحسين علیه السلام فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا في الأرض تسع عشرة خطوةً نحو القبلة، ثمّ حفر هناك، فنبعت له عينٌ من الماء العذب، فشرب الحسين علیه السلام وشرب الناس بأجمعهم وملؤوا أسقيتهم، ثمّ غارت العين فلم يُرَ لها أثر.

وبلغ ذلك ابن زياد، فأرسل إلى عمر بن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء، فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم، ولا تدَعْهم يذوقوا الماء، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيّ عثمان. فعندها ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية

ص: 153

التضييق ((1)).وفي (الإرشاد): وبعث [عمر بن سعد] إلى الحسين علیه السلام عروة بن قيس الأحمسيّ فقال له: ائتِه فسلْه: ما الّذي جاء بك؟ وماذا تريد؟

وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين علیه السلام ، فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض ذلك على الرؤساء الّذين كاتبوه، فكلّهم أبى ذلك وكرهه، فقام إليه كثير بن عبد الله الشعبيّ -- وكان فارساً شجاعاً لا يردّ وجهه شيء -- فقال: أنا أذهب إليه، وواللهِ لئن شئت لَأفتكنّ به. فقال له عمر: ما أُريد أن تفتك به، ولكن ائته فسلْه: ما الّذي جاء بك؟

فأقبل كثير إليه، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائديّ قال للحسين علیه السلام: أصلحك الله يا أبا عبد الله، قد جاءك شرُّ أهل الأرض وأجرؤهم على دمٍ وأفتكهم. وقام إليه فقال له: ضع سيفك. قال: لا، ولا كرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتُم منّي بلّغتكم ما أُرسلتُ به إليكم، وإن أبيتم انصرفتُ عنكم. قال: فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبِرْني بما جئتَ به وأنا أُبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنّك فاجر. فاستبّا، وانصرف إلى عمر بن سعدٍ فأخبره الخبر ((2)).

قال أبو مخنف: فأنفذ برجُلٍ آخَر من خزيمة، وقال له: امضِ إلى

ص: 154


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 84.

الحسين علیه السلام وقل له: ما الّذي جاء بك إلينا وأقدمَك علينا؟ فأقبل حتّى وقف بإزاء الحسين علیه السلام فنادى، فقال الحسين علیه السلام: «أتعرفون هذا الرجل؟»، فقالوا: هذا رجلٌ فيه الخير، إلّا أنّه شهد هذا الموضع. فقال: «سلوه ما يريد»، فقال:أُريد الدخول على الحسين علیه السلام . فقال له زهير رحمه الله: ألقِ سلاحك وادخل. فقال: حبّاً وكرامة. ثمّ ألقى سلاحه ودخل عليه، فقبّل يديه ورجليه، وقال: يا مولاي، ما الّذي جاء بك إلينا وأقدمك علينا؟ فقال علیه السلام: «كتبكم». فقال: الّذين كاتبوك هم اليوم من خواصّ ابن زياد (لعنه الله). فقال له: «ارجعْ إلى صاحبك وأخبِرْه بذلك». فقال: يا مولاي، مَن الّذي يختار النار على الجنّة؟ فواللهِ ما أُفارقك حتّى ألقى حمامي بين يديك! فقال له الحسين علیه السلام: «واصلك الله كما واصلتَنا بنفسك». ثمّ أقام عند الحسين علیه السلام حتّى قُتل رحمه الله ((1)).

وفي (الإرشاد): فدعا عمر قرّةَ بن قيس الحنظليّ، فقال له: ويحك يا قُرّة! القِ حسيناً فسَلْه ما جاء به وماذا يريد؟ فأتاه قرّة، فلمّا رآه الحسين علیه السلام مقبلاً قال: «أتعرفون هذا؟»، قال له حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجلٌ من حنظلة تميم، وهو ابن أُختنا، وقد كنتُ أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد. فجاء حتّى سلّم على الحسين علیه السلام وأبلغه

ص: 155


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 52، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 182.

رسالة عمر بن سعدٍ إليه، فقال له الحسين: «كتب إليّ أهلُ مِصركم هذا أن أقدم، فأمّا إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم». ثمّ قال حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرّة! أين ترجع؟ إلى القوم الظالمين؟ انصر هذا الرجل الّذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة. فقال له قرّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي. قال: فانصرف إلى عمر بن سعدٍ فأخبره الخبر، فقال عمر: أرجو أن يعافيني اللهمن حربه وقتاله.

وكتب إلى عبيد الله بن زياد: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد: فإنّي حين نزلتُ بالحسين بعثتُ إليه رسلي فسألتُه عمّا أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتَتْني رسلهم يسألونني القدوم، ففعلت، فأمّا إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرفٌ عنهم.

قال حسّان بن قائد العبسي: وكنتُ عند عبيد الله حين أتاه هذا الكتاب، فلمّا قرأه قال:

الآن إذ علقَت مخالبُنا به***يرجو النجاة، ولات حين مناصِ

وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا فعل هو ذلك رأيْنا رأيَنا، والسلام.

فلمّا ورد الجواب على عمر بن سعد قال: قد خشيتُ أن لا يقبل ابن زيادٍ العافية.

ص: 156

وورد كتاب ابن زيادٍ في الأثر إلى عمر بن سعد أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرةً كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيّام.

ونادى عبد الله بن حُصَين الأزديّ -- وكان عداده في بجيلة -- بأعلى صوته: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء؟ واللهِ لا تذوقون منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً. فقال الحسين علیهالسلام : «اللّهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً».

قال حميد بن مسلم: واللهِ لعُدته بعد ذلك في مرضه، فواللهِ الّذي لا إله غيره لقد رأيتُه يشرب الماء حتّى يبغر ثمّ يقيئه ويصيح: العطش، العطش! ثمّ يعود فيشرب الماء حتّى يبغر ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشاً، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ نفْسه ((1))، وسقط في سقر.

وفي (التبر المذاب): ونادى عمرو بن الحجّاج (لعنه الله): يا حسين، هذا الماء يلغ فيه الكلاب، ويشرب منه خنازير السواد والذئاب، وما تذوق منه -- واللهِ -- قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم ((2)).

ص: 157


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 85.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 140 -- بتحقيق السيّد علي أشرف، أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 182.

قال المؤلّف: كان سماع مثل هذا الكلام أشدّ على معدن الكمالات من منع الماء، سيّما من عمرو بن الحجّاج الّذي كتب للإمام المظلوم: اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار وطمت الآبار.. فلمّا جاء استقبلوه بالسيوف والرماح والنبال، وكانت هذه هي الثمار اليانعة الّتي أُعدَّت هديّةً لابن رسول الله وقِرىً لضيافته، وقد قال النبيّ صلی الله علیه وآله: «أكرموا الضيف ولو كان كافراً» ((1))، وقد منعوه الماء وهو -- باعتراف عمرو -- مباحٌ للكلاب والخنازير والذئاب.

از آب هم مضايقه كردند كوفيان***خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

وبدل كلمات الترحيب الّتي تُدخِل السرور على قلب الضيف،رموه بكلماتٍ تثير الغصّة وتعكّر الصفو، ولَنِعم ما قال الشاعر:

جراحات السِّنان لها التيامٌ***ولا يلتام ما جرح اللسانُ

آن چه زخم زبان كند با مرد***زخم شمشير جان ستان نكند

أجل، إنّ مصيبة الحسين علیه السلام أعظم المصائب المصيبات ((2)).

وقال محمّد بن أبي طالب: ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية التضييق،

ص: 158


1- ([3]) جامع الأخبار: 84.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 269 الباب 32 أنّ مصيبته (صلوات الله عليه) كان أعظم المصائب ...

ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيديّ فضمّ إليه خيلاً عظيمة، وأمره أن ينزل على الشريعة الّتي [هي] حذاء عسكر الحسين.

فنزلوا على الشريعة، فلمّا اشتدّ العطش بالحسين دعا بأخيه العبّاس ابن عليّ، فضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معه عشرين قِربة، فأقبلوا في جوف الليل حتّى دنوا من الفرات، فقال عمرو بن الحجّاج: مَن أنتم؟ فقال رجلٌ من أصحاب الحسين علیه السلام

يُقال له: هلال بن نافع الجمليّ: أنا ابن عمٍّ لك، من أصحاب الحسين، جئتُ أشرب من هذا الماء الّذي منعتمونا إيّاه. فقال عمرو: اشرب هنيئاً. فقال هلال: ويحك! كيف تأمرني أن أشرب والحسين بن عليّ ومَن معه يموتون عطشاً؟! فقال عمرو: صدقت، ولكن أُمِرنا بأمرٍ لابدّ أن ننتهي إليه. فصاح هلال بأصحابه، فدخلوا الفرات، وصاح عمرو بالناس، فاقتتلوا على الماء قتالاً شديداً، فكان قومٌ يقاتلون وقومٌ يملؤون [القِرَب] حتّى ملؤوها، [قُتِل من أصحابعمرو بن الحجّاج جماعة] ولم يُقتَل من أصحاب الحسين أحد، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم، فشرب الحسين ومَن كان معه، ولهذا سُمّيَ العبّاس علیه السلام السقّاء.

ثمّ أرسل الحسين علیه السلام إلى عمر بن سعد (لعنه الله): «إنّي أُريد أن أُكلّمك، فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك». فخرج إليه ابن سعدٍ في عشرين، وخرج إليه الحسين في مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين علیه السلام أصحابه فتنحّوا عنه، فبق-يَ معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، وأمر عمر

ص: 159

ابن سعد أصحابه فتنحّوا عنه، وبق-يَ معه ابنه حفص وغلامٌ له.

فقال له الحسين علیه السلام: «ويلك يا ابن سعد! أما تتّقي اللهَ الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن مَن علمت؟ ذَرْ هؤلاء القوم وكُن معي؛ فإنّه أقرب لك إلى الله (تعالى)». فقال عمر بن سعد: أخاف أن تُهدَم داري. فقال الحسين علیه السلام : «أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أن تؤخَذ ضيعتي. فقال الحسين علیه السلام: «إني أخلف عليك البغيبغة» ((1))، وهي عينٌ عظيمةٌ بالحجاز، وكان معاوية أعطاه في ثمنها ألف ألف دينار من الذهب فلم يبعه ((2)). فقال: لي عيالي وأخاف عليهم. ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين علیه السلام وهو يقول: «ما لَك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوَاللهِ إنّي لا أرجو أن تأكل من بُرّ العراق إلّا يسيراً». فقال ابن النحس سعد:في الشعير كفايةٌ عن البُرّ. مستهزءاً بذلك القول.

ثمّ رجع ابن سعدٍ إلى معسكره ((3)).

وفي (المنتخب): فجاء بُرير بن خُضير الهمْدانيّ الزاهد العابد، وقال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي أن أدخل إلى خيمة هذا الفاسق عمر بن سعد

ص: 160


1- ([1]) في المتن: (البقيعة)، وفي (المنتخب): (البغية)، وفي التسلية: (أنا أخلف عليك خيراً منها مِن مالي بالحجاز).
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 233.
3- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 263.

فأعِظه، فلعلّه يرجع عن غيّه. فقال الحسين علیه السلام : «افعل ما أحببت». فأقبل بُرَير حتّى دخل على عمر بن سعد، فجلس معه ولم يُسلّم عليه، فغضب ابن سعدٍ وقال له: يا أخا همْدان، ما الّذي منعك من السلام علَيّ؟ ألستُ مُسلماً أعرف الله ورسوله؟! فقال له بُرير: لو كنتَ مسلماً تعرف الله ورسوله ما خرجتَ إلى عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله تريد قتلهم وسبيهم، وبعد، فهذا ماء الفرات يلوح بصفائه يتلألأ، تشربه الكلاب والخنازير، وهذا الحسين علیه السلام ابن فاطمة الزهراء ونساؤه وعياله وأطفاله يموتون عطشاً، قد حُلتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وتزعم أنّك تعرف الله ورسوله؟! قال: فأطرق ابن سعدٍ رأسه إلى الأرض ساعة، ثمّ قال: واللهِ يا برير، إنّي لَأعلم علماً يقيناً أنّ كلّ مَن قاتلهم وغصب حقّهم مُخلَّدٌ في النار لا محالة، ولكن يا بُرير، أتشير علَيّ أن أترك ولاية الريّ فتصير لغيري؟ واللهِ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبداً.

قال: فرجع بُرير إلى الحسين علیه السلام وقال له: إنّ عمر بن سعد قد رضيَ بقتلك بولاية الري. فقال الحسين علیه السلام : «لايأكل من بُرّها إلّا قليلاً، ويُذبَح على فراشه». وكان الأمر كما قال الحسين علیه السلام ((1)).

وفي (أخبار الدول) أنّ الإمام الحسين علیه السلام خيّرهم بين ثلاث ((2)).

ص: 161


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 233 المجلس 1.
2- ([2]) قال المؤلّف: فقال الحسين علیه السلام: اختاروا واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدَعُوني فألحقُ بالثغور، وإما أن أذهب إلى يزيد، أو أرد إلى المدينة (تاريخ الطبريّ: 5 / 413، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 202). ومن العجيب أن يروي المؤلّف مثل هذا الزيف، ثمّ لا يروي ما ذكره الطبريّ بعد ذلك مباشرة: قال أبو مِخنَف: فأمّا عبد الرحمان بن جُندب، فحدّثني عن عُقبة بن سمعان قال: صحبتُ حسيناً، فخرجتُ معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِل، وليس من مخاطبته الناس كلمةً بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكرٍ إلى يوم مقتله إلّا وقد سمعتُها، ألا واللهِ ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: «دَعوني، فلأذهب في هذه الأرض العريضة، حتّى ننظر ما يصير أمر الناس».

وفي (الإرشاد): ثمّ رجع عمر بن سعدٍ إلى مكانه، وكتب إلى عبيد الله ابن زياد: أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأُمّة، هذا حسينٌ قد أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الّذي أتى منه، أو أن يسير إلى ثغرٍ من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتيَ أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضىً وللأُمّة صلاح.

فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب ناصحٍ مشفقٍ علىقومه.

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك

ص: 162

وإلى جنبك؟ واللهِ لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك لَيكوننّ أَولى بالقوّة، ولَتكوننّ أَولى بالضعف والعجز، فلا تُعطِه هذه المنزلة، فإنّها مِن الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبتَ فأنت أَولى بالعقوبة، وإن عفوتَ كان ذلك لك.

قال له ابن زياد: نِعمَ ما رأيت، الرأي رأيك، اخرُجْ بهذا الكتاب إلى عمر ابن سعد، فلْيعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فلْيبعث بهم إليّ سلماً، وإن هم أبَوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطِعْ، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش، واضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

وكتب إلى عمر بن سعد: أنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لِتطاوله ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا لتكون له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسينٌ وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبَوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم، فإنّهم لذلك مستحقّون، وإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، وليس أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه لو قتلتُه لفعلتُ هذا به، فإن أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن

ص: 163

وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام ((1)).

وفي (التبر المذاب): وكتب في أسفل الكتاب:

الآن إذ علقت مخالبنا به***يبغي النجاة، ولات حين مناصِ ((2))

فلمّا وصل شمر إلى عمر بن سعد قرأ الكتاب وقال: لا قرّب الله دارك، ولا أدنى مزارك، وقبّح الله ما جئتَ به ((3))، واللهِ إنّي لَأظنُّك أنّك نهيتَه أن يقبل ما كتبتُ به إليه، وأفسدتَ علينا أمرنا قد كنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إنّ نفس أبيه لَبَين جنبيه. فقال له شمر: أخبِرْني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوَّه؟ وإلّا فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر. قال: لا، لا والله ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك، فدونك، فكن أنت على الرجّالة ((4)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ بعث [ابنُ سعدٍ الكتاب] إلى الحسين علیه السلام فأخبر الخبر، فقال: «واللهِ لا وضعتُ يدي في يد ابن مرجانة أبداً، وهل هو إلّا الموت والقدوم على ربٍّ كريم؟ والله لقد أخبرني بذلك جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله» ((5)).

وفي (الإرشاد): ونهض عمر بن سعد إلى الحسين عشيّة الخميس لتسعٍ

ص: 164


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 87.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 142.
3- ([3]) أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 143.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
5- ([5]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 143.

مضين من المحرّم ((1)).وفي (التبر المذاب): إنّ شمر اللعين أخذ من ابن زياد أماناً للعبّاس وعبد الله وجعفر، وأُمّهم أُمّ البنين الكلابيّة، وكان شمر كلابيّاً ((2)).

وذكر ابن جرير: أنّ جرير بن عبد الله ((3)) كانت أُمّ البنين عمّته، فأخذ لهم أماناً من ابن زياد، فسارع شمر وجاء به إلى أصحاب الإمام الغريب ((4)).

وفي (الملهوف): وأقبل شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) فنادى: أين بنو أُختي -- وعادة العرب يسمّون رجال قبيلة المرأة أخوالاً وأبناءها بني أُخت -- عبدُ الله وجعفر والعبّاس وعثمان؟ فقال الحسين علیه السلام : «أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم»، فقالوا له: ما شأنك؟ فقال: يا بني أُختي، أنتم آمِنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين علیه السلام ، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. قال: فناداه العبّاس بن عليّ علیه السلام : تبَّت يداك ولعن ما جئتَ به من أمانك يا عدوّ الله، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين ابن فاطمة علیه السلام وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! قال: فرجع الشمر

ص: 165


1- ([6]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
2- ([1]) أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 144.
3- ([2]) في المتن: (روى جرير بن عبد الله).
4- ([3]) أُنظُر: تاريخ الطبري: 4 / 314، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 142.

(لعنه الله) إلى عسكره مغضباً ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وأبشري. فركب الناس، ثمّ زحف نحوهم بعد العصر، وحسين علیه السلام جالسٌ أمام بيته محتبٍ بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعَت أُخته الصيحة، فدنت من أخيها فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين علیه السلام رأسه، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله الساعة في المنام، فقال لي: إنّك تروح إلينا»، فلطمَت أُختُه وجهها ونادت بالويل، فقال لها: «ليس لكِ الويل يا أُخيّة، اسكتي رحمكِ الله».

وقال له العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه): يا أخي أتاك القوم! فنهض، ثمّ قال: «يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم».

فأتاهم العبّاس في نحوٍ من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه، أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وقالوا: القِه فأعلمه، ثمّ القنا بما يقول لك. فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين علیه السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم

ص: 166


1- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 88.

ويكفّونهم عن قتال الحسين.

فجاء العبّاس إلى الحسين علیه السلام فأخبره بما قال القوم، فقال: «ارجعْ إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابهوالدعاء والاستغفار». فمضى العباس إلى القوم ((1))، فقبل ابن سعد.

وفي (المنتخب): فقال ابن سعدٍ للشمر: ما تقول؟ فقال: أمّا أنا فلو كنتُ الأمير لم أُنظِره ((2)).

وفي (الملهوف): فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: والله لو أنّهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لَأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد صلی الله علیه وآله فأجابوهم إلى ذلك ((3)).

وفي (الإرشاد): ورجع [العبّاس] مِن عندهم ومعه رسولٌ مِن قِبل عمر ابن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عُبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم. وانصرف ((4)).

وفي (الملهوف): وجلس الحسين علیه السلام فرقد، ثمّ استيقظ فقال: «يا أُختاه، إنّي رأيت الساعة جدّي محمّداً صلی الله علیه وآله وأبي عليّاً وأُمّي فاطمة وأخي الحسن، وهم

ص: 167


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 429 المجلس 9.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 89.
4- ([4]) الإرشاد: 2 / 91.

يقولون: يا حسين، إنّك رائحٌ إلينا عن قريب». فلطمَت زينب وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين علیه السلام: «مهلاً، لا تشمتي القوم بنا!» ((1)).

ص: 168


1- ([5]) اللهوف لابن طاووس: 90.

المجلس السادس: في بيان أحداث ليلة عاشوراء الأليمة إلى وقت وقوع القتال

اشاره

لا أقمرَت ليلةٌ صارت صبيحتها***بدور آل رسول الله في خسفِ

لا أشرقت شمسُ يومٍ صار في نحده***شموس آل رسول الله في كسفِ

روى ابن قولويه، عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا دخل الحسين علیه السلام جذبه إليه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين علیه السلام: أمسِكْه. ثمّ يقع عليه فيقبّله ويبكي، يقول: يا أبتِ لمَ تبكي؟ فيقول: يا بُنيّ، أُقبّل موضع السيوف منك. قال: يا أبتِ وأُقتَل؟ قال: إي والله، وأبوك وأخوك وأنت. قال: يا أبتِ فمصارعنا شتّى؟ قال: نعم يا بُنيّ. قال: فمَن يزورنا من أُمّتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلّا الصدّيقون مِن أُمّتي» ((1)).

ص: 169


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 4.

وروى ابن نما، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: لمّا اشتدّ برسول الله صلی الله علیه وآله مرضه الّذي مات فيه، وقد ضمّ الحسين علیه السلام إلى صدره يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول: «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله فيه، اللّهمّ العن يزيد». ثمّ غُشي عليه طويلاً وأفاق، وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان ويقول: «أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدَي الله عزوجل» ((1)).

وعن ابن عبّاسٍ قال: دخلتُ على النبيّ صلی الله علیه وآله والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما، ويقول: «اللّهمّ والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما»، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، كأنّي به وقد خُضبَت شيبتُه من دمه، يدعو فلا يُجاب، ويَستنصر فلا يُنصر». قلت: فمن يفعل ذلك يا رسول الله؟! قال: «شرار أُمّتي، ما لَهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي» ((2)).

وقال الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): فجمع الحسين علیه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام: «فدنوتُ منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقهّتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي،

ص: 170


1- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 22.
2- ([2]) كفاية الأثر للخزّاز: 16، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 285 ح 107.

ولا أهلَ بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لَأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غشيَكم فاتّخذوه جملاً» ((1)).

وفي (الملهوف): «ولْيأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يريدون غيري».

فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بذلك القول العبّاسُ بن عليّ علیه السلام ، ثمّ تابعوه.

ثمّ نظر إلى بني عقيلٍ فقال: «حسبُكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنتُ لكم» ((2)).

وفي (الإرشاد): قالوا: سبحان الله! فما يقول الناس؟ يقولون: إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهمٍ ولم نطعن معهم برمحٍ ولم نضرب معهم بسيفٍ ولا ندري ما صنعوا؟! لا واللهِ ما نفعل ذلك، ولكن تفديك [خ ل: نفديك] أنفسنا وأموالنا وأهلونا [خ ل: أهلينا] ونقاتل معك، حتّى نَرِد موردك، فقبّح الله العيش بعدك ((3)).

ص: 171


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 91.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 91.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 92.

وفي (الملهوف): ثمّ قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك، وقد أحاط بك هذا العدوّ؟ لا والله، لا يراني الله أبداًوأنا أفعل ذلك، حتّى أكسر في صدورهم رمحي وأُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمته بيدي، ولو لم يكن لي سلاحٌ أُقاتلهم به لَقذفتُهم بالحجارة، ولم أفارقك أو أموت معك ((1)).

وفي (الإرشاد): فقال: أنخلّي عنك؟ ولما نعذر إلى الله (سبحانه) في أداء حقّك؟ أما والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاحٌ أُقاتلهم به لَقذفتُهم بالحجارة، واللهِ لا نخلّيك حتّى يعلم الله أن قد حفظنا غَيبة رسول الله صلی الله علیه وآله فيك، والله لو علمتُ أنّي أُقتَل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أُذرّى، يُفعَل ذلك بي سبعين مرّةً، ما فارقتُك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثمّ هي الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً؟ ((2)).

وفي (الملهوف): وقام سعيد بن عبد الله الحنفيّ فقال: لا والله يا ابن رسول الله، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلی الله علیه وآله، ولو علمتُ أنّي أُقتَل فيك ثمّ أحيا ثمّ أُخرَج حيّاً ثمّ أُذرّى، يُفعَل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتُك حتّى ألقى حِمامي دونك، وكيف لا أفعل

ص: 172


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 91.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 92.

ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ثمّ أنال الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً؟

ثمّ قام زهير بن القَين وقال: واللهِ يا ابن رسول الله لَوددتُ أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة، وأنّ الله (تعالى) قد دفع القتل عنك وعنهؤلاء الفتية من إخوانك ووُلدك وأهل بيتك ((1)).

وفي روايةٍ أُخرى قال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً، أترك ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو؟! لا أراني الله ذلك اليوم ((2)).

وفي (الملهوف): وتكلّم جماعةٌ من أصحابه بنحو ذلك، وقالوا: أنفُسُنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا.

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرميّ في تلك الحال: قد أُسر ابنك بثغر الريّ. فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبّ أن يُؤسَر وأنا أبقى بعده. فسمع الحسين علیه السلام قوله، فقال: «رحمك الله، أنت في حِلٍّ مِن بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك»، فقال: أكلَتني السباع حيّاً إن فارقتك. وفي روايةٍ قال: وأخذلك مع قلّة الأعوان؟! لا يكون هذا أبداً ((3)). قال: «فاعطِ ابنك هذه

ص: 173


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 92.
2- ([2]) المزار الكبير لابن المشهدي: 493، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 576، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 71.
3- ([3]) المزار الكبير لابن المشهدي: 493، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 576، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 70.

الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه»، فأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار ((1)).

وقال المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب): فعدل الحسين إلى كربلاء، وهو في مقدار ألف فارسٍ من أهل بيته وأصحابه ونحو مئةراجل ((2)).

وعن كتاب (نور العيون): عن سكينة بنت الحسين علیهما السلام: أنّها كانت ليلةً مُقمِرةً كنت جالسةً في الفسطاط، فإذا سمعتُ صوت البكاء عن خلف الفسطاط، فسكتُّ خوفاً من اطّلاع الأخوات وسائر النسوة، فخرجتُ وقلبي لا يشهد بالخير، وكنتُ أمشي وأضرب قدمي على ذيلي وأسقط، وأقوم، فرأيتُ أبي جالساً وأصحابه حوله، فسمعتُ أبي يقول لهم: أنتم جئتم معي لعلمكم بأنّي أذهب إلى جماعةٍ بايعوني قلباً ولساناً، والآن تجدونهم قد استحوذ عليهم الشيطان ونسوا الله، والآن لم يكن لهم مقصدٌ سوى قتلي وقتل مَن يجاهد بين يدَيّ، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخاف أن لا تعلموا ذلك، أو تعملوا ولا تتفرّقوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت علیهم السلام، فكلّ مَن يكره نصرتنا فلْيذهب في هذه الليلة الساترة، ومَن نصرنا بنفسه فيكون معنا في الدرجات العالية من الجِنان، فقد أخبرني

ص: 174


1- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 93.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 74 ح 4 -- عن: المروج.

جدّي: أنّ ولدي الحسين علیه السلام يُقتَل بطف كربلا غريباً وحيداً عطشاناً، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم، ومَن نصرنا بلسانه فإنّه في حزبنا في القيامة. قالت سكينة: والله ما أتمّ كلامه إلّا وتفرّق القوم من نحو عشرة وعشرين، فلم يبقَ معه إلّا ما ينقص عن الثمانين ويزيد عن السبعين، فنظرتُ إلى أبي فوجدتُه قد نكّس رأسه في حزنٍ وكرب، فلمّا رأيت ذلك فخنقتني العَبرة، فرددتها ولزمت السكوت، وتوجّهت إلى السماء وقلت: اللّهمّ إنّهمخذلونا فاخذلهم، ولا تجب دعائهم، ولا تجعل لهم في الأرض مسكناً، وسلّط عليهم الفقر، ولا تنلهم شفاعة جدّي.

فرجعتُ إلى الفسطاط، وتنهمل دموعي، فنظرَت عمّتي أُمُّ كلثوم إليّ، فقالت: ما لكِ؟ فقصصتُ القصّة لها، فلمّا سمعَت ذلك فنادت: وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا قلّة ناصراه! ولا أدري كيف لنا المخلص من أيدي الأعادي، وليت الأعادي يرضون أن يقتلونا بدلاً عن أخي. فاجتمعت النساء من بكائها، فبكين، وسمع أبي بكائهنّ، فخرج من الفسطاط باكياً، فدخل على فسطاطهنّ، فقال: ما هذا البكاء؟ فقربت عمّتي وقالت: يا أخي، رُدَّنا إلى حرم جدّنا. فقال: كيف لي ذلك مع كثرة الأعادي؟ فقالت: أجل، ذكّرهم محلّ جدّك وأبيك وجدّتك وأخيك. فقال: ذكّرتُهم فلم يدّكروا، ووعظتهم فلم يتّعظوا ولم يسمعوا قولي، وليس لهم رأيٌ سوى قتلي، ولابدّ أن تروني على الثرى جديلاً، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوى، وذلك أخبر به جدّكم، ولا خُلف لوعده، وأسلمكم على مَن لو

ص: 175

هتك الستر لم يستره أحد ((1)).

وعن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام: «لمّا أحاط العسكر بسيّد الشهداء قال علیه السلام لعسكره: أنتم من بيعتي في حِلّ، فالحقوا بعشائركم ومواليكم. وقال لأهل بيته: قد جعلتكم في حِلٍّ من مفارقتي، فإنّكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم، فإنّ الله عزوجل يعينني ولا يخليني من [حُسن] نظره، كعادته فيأسلافنا الطيّبين. فأمّا عسكره ففارقوه، وأمّا أهله [و] الأدنون من أقربائه فأبوا، وقالوا: لا نفارقك، ويحلّ بنا ما يحلّ بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك. فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتُم أنفسكم على ما وطّنتُ نفسي عليه، فاعلموا أنّ الله إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده [لصبرهم] باحتمال المكاره، وأنّ الله وإن كان خصّني مع مَن مضى مِن أهلي الّذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل معها علَيّ احتمال الكريهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات الله (تعالى)، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومُرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيّ مَن شقيَ فيها» ((2)).

وفي كتاب (الخرائج): عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «قال الحسين علیه السلام لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال لي: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك

ص: 176


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 222، معالي السبطين للحائري: 1 / 338.
2- ([1]) تفسير الإمام العسكري علیه السلام : 218 ح 1، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 29.

تُستشهَد بها ويستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك، لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ((1))، يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم، فأبشِروا، فوَاللهِ لئن قتلونا فإنّا نَرِدُ على نبيّنا» ((2)).وفي (الخرائج) أيضاً: عن الثُّماليّ قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام : «كنتُ مع أبي في الليلة الّتي قُتِل في صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتّخِذوه جُنّة، فإنّ القوم إنّما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حِلٍّ وسعة. فقالوا: والله لا يكون هذا أبداً. فقال: إنّكم تُقتَلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل. قالوا: الحمد لله الّذي شرّفَنا بالقتل معك. ثمّ دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا. فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان. فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة» ((3)).

وفي (عِلل الشرائع): عن عمارة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قلت له: أخبِرْني عن أصحاب الحسين وإقدامهم على الموت. فقال: «إنّهم كُشف لهم الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدِم على القتل ليبادر إلى

ص: 177


1- ([2]) سورة إبراهيم: 69.
2- ([3]) الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 848، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 80 ح 6.
3- ([1]) الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 847، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 298 ح 3.

حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنّة» ((1)).

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام: «ثمّ إنّ الحسين علیه السلام أمر بحفيرةٍ فحُفرَت حول عسكره شبه الخندق، وأمر فحُشيَت حطباً، وأرسل عليّاً ابنه علیه السلام في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجلٍ شديد..ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاشربوا من الماء، يكن آخر زادكم، وتوضّؤوا واغتسلوا، واغسلوا ثيابكم لتكون أكفانكم» ((2)).

وفي (الملهوف): وبات الحسين علیه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دَويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكعٍ وساجدٍ وقائمٍ وقاعد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ((3)).

وروى الشيخ المفيد عن الإمام زين العابدين

علیه السلام قال: «إنّي لَجالسٌ في تلك العشيّة الّتي قُتل أبي في صبيحتها، وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خِباءٍ له، وعنده جُوين مولى أبي ذرّ الغِفاريّ، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ***كم لك بالإشراق والأصيلِ

مِن صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ***والدهرُ لا يقنع بالبديلِ

ص: 178


1- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 229، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 156 في حديثٍ طويل.
3- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 94.

وإنّما الأمر إلى الجليل***وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العَبرة، فرددتُها ولزمت السكوت، وعلمت أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي، فإنّها سمعَت ما سمعَت وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لَحاسرة حتّى انتهت إليه، فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أُمّيفاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي.

فنظر إليها الحسين علیه السلام فقال لها: يا أُخيّة، لا يذهبنّ حلمك الشيطان. وترقرقَت عيناه بالدموع، وقال: لو تُرك القطاة لَنام. فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي. ثمّ لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقّته، وخرّت مغشيّاً عليها، فقام إليها الحسين علیه السلام فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: يا أُختاه، اتّقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجه الله الّذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فردٌ وحده، أبي خيرٌ منّي، وأُمّي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولكلّ مسلمٍ برسول الله صلی الله علیه وآله أُسوة. فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أُخيّة، إنّي أقسمتُ فأبِرّي قسَمي، لا تشقّي علَيّ جيباً، ولا تخمشي علَيّ وجهاً، ولا تدْعي علَيّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت. ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي» ((1)).

ص: 179


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 93.

قال المؤلّف: نقلتُ فيما مضى حديثاً قريباً من هذا الحديث، ومقتضى الخبرَين أنّ الحدَث وقع مرّتين: إحداهما في اليوم الثاني من المحرّم كما يظهر ممّا رواه السيّد ابن طاووس ((1)) وغيره، والأُخرى ليلة عاشوراء.

وفي (الإرشاد): ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجهٍ واحدٍ والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم، إلّا الوجه الّذي يأتيهم منه عدوّهم، ورجع علیه السلام إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلّونويدعون ويستغفرون.

قال الضحّاك بن عبد الله: ومرّ بنا خيلٌ لابن سعدٍ يحرسنا، وإنّ حسيناً لَيقرأ: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» ((2))، فسمعها من تلك الخيل رجلٌ يقال له: عبد الله ابن سمير، وكان مضحاكاً، وكان شجاعاً بطلاً فارساً فاتكاً شريفاً، فقال: نحن وربِّ الكعبة الطيّبون، ميّزنا منكم. فقال له بُرير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله من الطيّبين؟ فقال له: مَن أنت؟ ويلك! قال: أنا برير بن

ص: 180


1- ([2]) أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 81، مثير الأحزان لابن نما: 49.
2- ([1]) سورة آل عمران: 178 و179.

خضير. فتسابّا ((1)).

قال المؤلّف: انظروا كيف أعمى الله بصيرة هؤلاء حتّى حسبوا أنفسهم طيّبيين، وهم من الشجرة الملعونة، وخاطبوا بهذا الخطاب أصحاب سيّد شباب أهل الجنّة، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» ((2)).

وقال صاحب (المناقب): فلمّا كان وقت السحَر خفق الحسين برأسه خفقة، ثمّ استيقظ فقال: «أتعلمون ما رأيتُ في منامي الساعة؟»، فقالوا: وما الّذي رأيتَ يا ابن رسول الله؟ فقال: «رأيتُ كأنّ كلاباً قد شدّت علَيّ لتنهشني، وفيها كلبٌ أبقع رأيتُه أشدّها علَيّ، وأظنّ أنّ الّذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص منبين هؤلاء القوم، ثمّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله ومعه جماعة من أصحابه، وهو يقول لي: يا بُنيّ، أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فلْيكن إفطارك عندي الليلة، عجِّلْ ولا تؤخّر، فهذا ملَكٌ قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورةٍ خضراء. فهذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا، لا شكّ في ذلك» ((3)).

وفي (الملهوف): فلمّا كان الغداة أمر الحسين علیه السلام بفسطاطٍ فضُرب، فأمر بجفنةٍ فيها مسك كثير وجعل عندها نورة، ثمّ دخل ليطلي، فرُوي أنّ بُرير

ص: 181


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 94.
2- ([3]) سورة النور: 40.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 3 -- عن: مناقب آل أبي طالب.

ابن خُضير الهمْدانيّ وعبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاريّ وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده، فجعل بُرير يضاحك عبد الرحمان، فقال له عبد الرحمان: يا برير، أتضحك؟ ما هذه ساعة ضحكٍ ولا باطل. فقال برير: لقد علم قومي أنّني ما أحببتُ الباطل كهلاً ولا شابّاً، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوَاللهِ ما هو إلّا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعةً ثمّ نعانق الحور العين ((1)).

وقال الشيخ المفيد (عليه الرحمة): عن عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام أنّه قال: «لمّا صبحت الخيل الحسين، رفع يديه وقال: اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدّة، كم مِن همٍّ يضعف فيهالفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلتُه بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمّن سواك، ففرّجتَه وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة» ((2)).

وفي (كامل الزيارة): عن الحلبيّ قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الحسين علیه السلام صلّى بأصحابه الغداة، ثمّ التفت إليهم فقال: إنّ الله قد أذن في قتلكم، فعليكم بالصبر» ((3)).

ص: 182


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 95.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 96.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 8.

وفي روايةٍ أُخرى قال علیه السلام : «أشهد أنّه قد أذن في قتلكم، فاتّقوا الله واصبروا» ((1)).

وفي (الملهوف): فبعث الحسين علیه السلام برير بن خضير فوعظهم ((2)).

وفي (بحار الأنوار): فقال: يا قوم، اتّقوا الله، فإنّ ثِقل محمّدٍ قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريّته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الّذي تريدون أن تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد، فيرى رأيه فيهم.

فقال لهم بُرير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الّذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم الّتي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! يا ويلكم! أدَعوتم أهل بيت نبيّكموزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئس ما خلفتم نبيّكم في ذريّته، ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم. فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول.

فقال بُرير: الحمد لله الّذي زادني فيكم بصيرة. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك مِن فعال هؤلاء القوم، اللّهمّ ألقِ بأسهم بينهم، حتّى يلقوك وأنت عليهم

ص: 183


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 7.
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 58.

غضبان. فجعل القوم يرمونه بالسهام ((1)).

وفي (العوالم): فرجع بُرير إلى ورائه.

وتقدّم الحسين علیه السلام حتّى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل، ونظر إلى ابن سعدٍ واقفاً في صناديد الكوفة، فقال: «الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال، متصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته، والشقيّ مَن فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا؛ فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعم الربُّ ربّنا، وبئس العبد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد صلی الله علیه وآله، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِ-ما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قومٌ كفروا بعد إيمانهم، فبُعداً للقوم الظالمين».فقال عمر: ويلكم! كلّموه، فإنّه ابن أبيه، واللهِ لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لَما انقطع ولما حصر، فكلِّموه.

فتقدم شمر (لعنه الله) فقال: يا حسين، ما هذا الّذي تقول؟ أفهِمْنا حتّى نفهم.

فقال: «أقول: اتّقوا الله ربَّكم ولا تقتلوني، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك

ص: 184


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 5.

حرمتي، فإنّي ابنُ بنت نبيّكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم صلی الله علیه وآله: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».. إلى آخر ما سيأتي برواية المفيد ((1)).

وروى صاحب (المناقب) بإسناده عن عبد الله بن الحسن قال: لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين بن عليّ علیه السلام ، ورتّبهم مراتبهم وأقام الرايات في مواضعها، وعبّأ أصحاب الميمنة والميسرة، فقال لأصحاب القلب: اثبتوا.

وأحاطوا بالحسين من كلّ جانبٍ حتّى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج علیه السلام حتّى أتى الناس، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا، حتّى قال لهم: «ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي؟ وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئَت بطونكم من الحرام وطُبع على قلوبكم، ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟». فتلاومأصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا: أنصِتوا له ((2)).

قال المؤلّف: هل تملك عبرتك أيّها الشيعي، وهل تكتم زفرةً ملتهبةً تثور من كبدك المحترق على إمامك؟! أرأيت كيف ضاق الأمر بأشرف الخلق،

ص: 185


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 249.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 8 -- عن: مناقب آل أبي طالب.

حتّى صار يطلب من هؤلاء الأرجاس الأراذل أن ينصتوا له لحظةً ليعظهم، وهم يرفعون أصواتهم ويكثروا لغطهم وصياحهم لئلّا يسمعوا موعظته؟! يا لَلحسرة أن يبتلي شريف قوم بالأراذل والأوباش والخبثاء، إنّها لَمصيبةٌ من أشدّ المصائب وعدوان من أعظم العدوان!

وفي (اللهوف): فركب الحسين علیه السلام ناقته، وقيل: فرسه، فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمّدٍ صلی الله علیه وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثمّ قال: «تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترَحاً، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سلَلتُم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل، أفشوهٌ فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم؟ فهلّا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرامي [الرأي] لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيَرة الدُّبى، وتداعيتم إليها كتهافُت الفراش، فسحقاً لكم يا عبيد الأُمّة، وشُذّاذ الأحزاب، ونبَذَة الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن، أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله،غدرٌ فيكم قديمٌ وشجَت إليه أُصولكم، وتأزّرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجاً للناظر وأكلةً للغاصب، ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت وأُنوفٌ حميّةٌ ونفوسٌ أبيّة، مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر». ثمّ أوصل

ص: 186

كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي:

«فإنْ نَهزِم فهزّامون قِدماً***وإنْ نُغلَب فغيرُ مُغلَّبينا

وما إن طبّنا جُبنٌ، ولكن***منايانا ودولة آخَرينا

إذا ما الموت رفع عن أُناسٍ***كلاكله أناخ بآخَرينا

فأفنى ذلكم سرواة [سروات] قومي***كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خَلدَ الملوكُ إذاً خلدنا***ولو بقيَ الكرامُ إذاً بقينا

فقل للشامتين بنا: أفيقوا***سيلقى الشامتون كما لقينا

ثمّ أيمُ الله لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يُركَب الفرس، حتّى تدور بكم دَور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّي توكّلتُ على الله ربّي وربّكم، ما من دابّةٍ إلّا هو آخذٌ بناصيتها، إنّ ربّي علىصراطٍ مستقيم. اللّهمّ احبِسْ عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيفٍ فيسومهم كأساً مصبَّرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا، عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير». ثمّ نزل علیه السلام ((1)).

ثمّ قال: «يا عمر، أنت تقتلني وتزعم أنّ الدعيّ ابن الدعيّ يولّيك الريّ وجرجان، واللهِ لا تتهنّأ بذلك أبداً، عهدٌ معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنياً ولا آخرة، ولَكأنّي برأسك على قصبةٍ قد نُصبَت بالكوفة، يتراماه

ص: 187


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 96.

الصبيان بالحجارة ويتّخذونه غرضاً بينهم».

فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه، ثمّ صرف وجهه عنه ونادى بأصحابه: ما تنتظرون؟ احملوا عليه بأجمعكم ((1)).

قال المؤلّف: الحمد لله! لم يصل الملعون ابن سعد إلى بغيته بدعاء الإمام المظلوم علیه السلام عليه، فخسر الدنيا والآخرة، فقد جاؤوا بالملعون الغدّار إلى المختار مكتوف اليدَين مشجوج الرأس، فقال له المختار: أيّها الشيخ الزاهد! أين صارت ولاية الريّ؟! أتذكر حينما قال لك الإمام في كربلاء: إنّك لا تأكل من بُرّ العراق، قلت مستهزءاً: في الشعير كفاية؟! فالحمد لله إنّك لم تأكل من بُرّ العراق! أيّها الدعيّ، لم تبقَ لك دنياً ولا آخرة، خرجتَ إلى حرب الحسين وقد لبست للحرب بزّتها، ونشرت مرسوم ولاية الريّ على رأسك، والآن صرت زاهداً!! أما فكّرت في أمرك؟! عدَوت على قرّة عينالمصطفى وابن عليّ المرتضى وثمرة فؤاد فاطمة الزهراء، فمنعت عنه الماء وقتلته ظامياً.

فأمر فنُصب لعين النشأتين، وقال له: أيّها الشقيّ! أولستَ أنت الّذي وضعت السهم في كبد القوس وناديت: اشهدوا لي عند أمير المؤمنين يزيد وعند الأمير الجليل عُبيد الله بن زياد أنّي أوّل مَن رمى الحسين علیه السلام ثمّ

ص: 188


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 278.

وضع المختار سهماً في كبد القوس وقال: أيّها الناس، اشهدوا لي في القيامة بين يدي الله ورسوله أنّي أوّل مَن رمى عمر بن سعد. ثمّ رماه رميةً عنيفةً في عينه الوقحة حتّى خرجت من قفاه، فجعل اللعين يصرخ كأنّه حمارٌ ينهق، ثمّ قال: أبعِدوه عنّي واقتلوه خارجاً؛ فإنّه نجسٌ مشؤوم. فأُخرِج الخبيث وقُتل، فلمّا جاؤوا برأسه إلى المختار تلا قوله (تعالى): «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)).

ثمّ جيء له بولده الأكبر حفص، فقال له: أتعرف لمَن هذا الرأس؟ فلمّا نظر إليه صرخ صرخةً ووقع مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال له المختار: يا ابن الأُخت، هل بكيتَ يوم قُتل الإمام الحسين؟ع؟ بأمر أبيك؟ قال: لا. قال: صدقت، ولو قلتَ غير هذا لَكنت كاذباً، لقد كنت ذلك اليوم تحرّض أباك على القتال وتقول له: لا يستبدل العاقل النقد بالنسيئة، ابن زياد يعطيك نقداً. إنّك ملعونٌ كأبيك، فلا ينبغي لك أن تتركه وحيداً في جهنّم.

ثمّ أمر فقُتل، ووُضع رأسه إلى جنب رأس أبيه، فتعفّنت جثّة ابن سعد فوراً وتدوّدَت، حتّى خرج أهل أربعين بيت من حولها من شدّةجيفتها، فأخبروا المختار بذلك، فأمر أن تحرق، وأمر برأسه فحُمل على قصبة، وجعل الصبيان يرمونها بالأحجار ((2)).

ص: 189


1- ([1]) سورة الأنعام: 45.
2- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 225.

ورُوي أنّ الل----عي------ن مُ------س-----خ ب---ص----ورة ك------ل-----ب ((1))، وج------ع--ل يدور ((2)) في ولاية الريّ ((3)).

أجل، لقد نصح الإمام المظلوم ذلك الملعون المطرود في خطبته وغير خطبته، فلم ينتفع، ولم يتّعظ قلبه الأشدّ قساوةً من الصمّ الصياخيد، فتهيّأ الإمام السعيد علیه السلام للقتال مع عدّةٍ قليلةٍ من أنصاره وأهل بيته.

ص: 190


1- ([2]) في (بحار الأنوار: 45 / 312) في حديثٍ عن الصادق علیه السلام : «واللهِ لقد أُتيَ بعمر بن سعدٍ بعدما قُتِل، وإنّه لَفي صورة قردٍ في عنقه سلسلة، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه، والله لا يذهب الأيّام حتى يمسخ عدوّنا مسخاً ظاهراً، حتّى إنّ الرجل منهم لَيُمسَخ في حياته قرداً أو خنزيراً، ومن ورائهم عذابٌ غليظ، ومن ورائهم جهنّم وساءت مصيراً». قال المجلسيّ: بيان: هذا خبرٌ غريب، ولم يُنكره السيّد في الجواب، وأجاب بما حاصله أنّا ننكر تعلّق الروح بجسدٍ آخَر، ولا ننكر تغيّر جسمه إلى صورةٍ أُخرى. وأقول: يمكن حمله على التغيير في الجسد المثاليّ أو أجزاء جسده الأصليّ إلى الصور القبيحة، وقد مرّ بعض القول في ذلك.
2- ([3]) في (أنساب النواصب) للخادم الاسترباديّ ما ترجمته: وفي بعض الروايات أنّ ابن سعدٍ الشقيّ الملعون مُسخ بصورة كلبٍ سائب، يدور في الريّ يطلب الماء فلم يبلغه أبداً، حتّى يُسقى من حميم جهنّم.
3- ([4]) أنساب النواصب: 451.

عدد أصحاب الإمام الحسين علیه السلام

رُوي عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام : أنّهم كانوا خمسةً وأربعين فارساً ومئة راجل ((1)).

وفي (المناقب): وكان جميع أصحاب الحسين اثنين وثمانين رجلاً، منهم الفرسان اثنان وثلاثون فارساً، ولم يكن لهم من السلاح إلّا السيف والرمح ((2)).

تعبئة العسكرَين

في (الإرشاد): وأصبح الحسين بن علي علیه السلام ، فعبّأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، فجعل زُهير بن القَين في ميمنة أصحابه، وحبيبَ بنَ مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطبٍ وقصبٍ كان من وراء البيوت أن يُترك في خندقٍ كان قد حفر هناك وأن يحرق بالنار؛ مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم.. فعبّأ أصحابه، وخرج فيمن معه

ص: 191


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 100.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 333.

من الناس نحو الحسين علیه السلام ، وكان على ميمنته عمرو بن الحجّاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعيّ، وأعطى الراية دُرَيداًمولاه ((1)).

ورُوي أنّ من أصحاب الألوية: خولّي، وحرملة، وأبو أيّوب الغَنَويّ كان على المساحي، ومحمّد بن الأشعث على الرماة، وعمرو بن صبيح كان على أصحاب المقاليع ورماة الحجارة.

وفي بعض الروايات غير المشهورة أنّ مجموع عسكر الشقاء كان مئةً واثنان وعشرون ألفاً، خرجوا لحرب الحسين متعاقبين ثمانون ألف فارس، واثنان وأربعون راجل، واثنان وعشرون من أفراد قصر الإمارة، وثمانية آلاف من المتفرّجين والمعاندين والخدم وأصحاب الصنعة، من قبيل النجّار والحدّاد والحذّاء والقدّاح والخبّاز، وعرفاء الكوفة من الشاكريّة وكِندة وخزيمة ومسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الناقة وسوق البرنين، ومن القبائل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومعطون وجشم ومذحج ويربوع وخزاعة والنبط، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف، ومن الشام ثلاثون ألفاً، ومن الخوارج ألفين، وألفاً من الموصل وتكريت وساباط، وألفاً من الأكراد ((2)).

ص: 192


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 95.
2- ([2]) أُنظُر: مصارع الشهداء: 103 و104، تذكرة الشهداء للكاشاني: 132 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

قال المؤلّف: لو تنظر بعين البصيرة ترى من جهةٍ مئةً واثنين وعشرين الفاً بكامل العدّة، كلّهم جاء لحرب سيّد شباب أهل الجنّة وسفكِ دمه المقدّس، وفي الجهة الأُخرى قرّة عين فاطمة الزهراء يقف بإزاء هذا السيل الممتدّ في إثنين وثلاثين وأربعين راجل، يستغيث فلا يُغاث، ويستنصر فلا يُنصَر، بل لا يَنصت إلى كلامهأحد، ألا يتقطع قلبك أسىً وتجري دموعك دماً ويزفر صدرك شرراً وجمراً؟ يا رسول الله!

اين

شاه كم سپاه كه با خيل اشك [و] آه***خرگه از اين جهان زده بيرون حسين تو است

* * * * *

أجل، قال في (الإرشاد): وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين علیه السلام ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الّذي كان أُلقيَ فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن (عليه اللعنة) بأعلى صوته: يا حسين، أتعجّلتَ النار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين علیه السلام: «مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، فقال له: نعم. فقال له: «يا ابن راعية المعزى، أنت أَولى بها صليّاً».

ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهمٍ فمنعه الحسين علیه السلام من ذلك، فقال له: دعني حتّى أرميه، فإنّه الفاسق من عظماء الجبّارين، وقد أمكن

ص: 193

الله منه. فقال له الحسين علیه السلام :«لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم» ((1)).

ثمّ دعا الحسين علیه السلام براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، وجُلّهم يسمعون، فقال: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم علَيّ،وحتّى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصَف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي اللهُ الّذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»، ثمّ حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يُسمَع متكلّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قال: «أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به مِن عند ربّه؟ أوَليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحقّ، واللهِ ما تعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإنّ فيكم مَن لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيدٍ الخدريّ، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلی الله علیه وآله لي ولأخي، أما في هذا

ص: 194


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 96 / 2.

حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما تقول. فقال له حبيب بن مظاهر: واللهِ إنّي لَأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين علیه السلام : «فإن كنتم في شكٍّ من هذا،أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوَاللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟».

فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى: «يا شبث بن ربعيّ، يا حَجّار بن أبجر، يا قيس ابن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جُندٍ لك مجنّد؟».

فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لم يرُوك إلّا ما تحبّ. فقال له الحسين: «لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»، ثمّ نادى: «يا عباد الله، إنّي عُذتُ بربّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب».

ثمّ إنّه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه ((1))، وأعرضوا عن سماع مواعظ سيّد البطحاء، وجعلوا يرمون قبلة

ص: 195


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 96 وما بعدها.

العالمين بالسهام، فجرحوا بذلك قلوب شيعته.

روى قاضي زاده كره رودي أنّه جيء بشبث بن ربعيّ إلى المختار، فقال له: أتعرفني يا ملعون؟ قال: نعم أعرفك، أنت المختار بن أبي عُبيدة الثقفي. قال: لمَ خرجتَ إلى كربلاء وفعلتَ الّذي فعلت، وكتبتَ إلى الإمام علیه السلام : قد أينعت الثمار واخضرّت الجنان، ثمّ لم تفِ بعهدك؟ قال: كنتُ مأموراً، عملتُ ما أُمرتُ به.فأمر المختار فسُمّر بأربعة مسامير، وأمر فغرز في عينيه مسمارين آخَرين خرجا من قفاه ونبتا في الأرض، وكان اللعين لا زال حيّاً، فأمر المختار أن تُقطع يداه ورجلاه، ثمّ أُحرق ((1))، والحمد لله.

* * * * *

أجل، روى أبو مخنف قال: فخرج إليهم زهير بن القين رحمه الله ونادى بأعلى صوته: أيّها الناس، إنّ حقّ المسلم على المسلم النصيحة، ونحن وأنتم على دينٍ واحد، وقد ابتلانا الله بذريّة نبيّهصلی الله علیه وآله لينظر ما نحن وأنتم صانعون، وأنا أدعوكم إلى نصرته وخذلان الطغاة.

فلمّا سمعوا كلام زهيرٍ رحمه الله قالوا: لن نبرح حتّى نقتل صاحبكم ومن يتابعه، أو يبايع ليزيد (لعنه الله).

فقال لهم زهير رحمه الله: عبادَ الله، إنّ الدنيا دار فناءٍ وزوال، متصرّفةٌ بأهلها من حالٍ إلى حال، فالمغرور مَن اغترّ بها وركن إليها، وإنّ الحسين علیه السلام أحقُّ

ص: 196


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 160.

بالنصرة والمودّة من ابن سميّة، فإن أنتم لم تنصروه فلا تقاتلوه، وخلّوا بينه وبين يزيد (لعنه الله)، لعلّه يرضى منه بدون قتله.

قال: فرماه الشمر (لعنه الله) سهماً، وقال له: امسكْ عنّا، فقد أبرمتَنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير رحمه الله: يا ابن البوّال على عقبيه! إنّما أنت بهيمة، فأبشِرْ بالنار، والعذاب الأليم.

فقال له الشمر: إنّي قاتلُك وقاتل صاحبك.فقال له زهير رحمه الله: يا ويلك! أتخوّفني بالقتل مع الحسين علیه السلام ، وهو أحبّ إليّ من الحياة معكم؟

ثمّ أقبل على أصحابه وقال: معاشرَ المهاجرين والأنصار، لا يغرنّكم كلام هذا الكلب الملعون وأشباهه، فإنّه لا ينال شفاعة محمّدٍ صلی الله علیه وآله قطّ، إنّ قوماً قتلوا ذريّته وقتلوا من نصرهم فإنّهم في جهنّم خالدون أبداً.

قال: فجاء رجلٌ من أصحاب الحسين علیه السلام إلى زهير رحمه الله وقال له: إنّ الحسين علیه السلام يقول لك: «أقبِلْ، فلَعمري لقد نصحت وتكلّمت». فرجع زهير رحمه الله ((1)).

وفي رواية الصدوق: وأقبل رجلٌ من عسكر عمر بن سعدٍ على فرسٍ له، يُقال له: ابن أبي جويريّة المُزني، فلمّا نظر إلى النار تتّقد صفق بيده ونادى: يا حسين وأصحاب الحسين، أبشِروا بالنار، فقد تعجّلتُموها في

ص: 197


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 55.

الدنيا. فقال الحسين علیه السلام: «مَن الرجل؟»، فقيل: ابن أبي جويريّة المزني. فقال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ أذِقْه عذاب النار في الدنيا». فنفر به فرسُه فألقاه في تلك النار، فاحترق.

ثمّ برز من عسكر عمر بن سعدٍ رجلٌ آخَر، يقال له: تميم بن ال-حُصين الفزاريّ، فنادى: يا حسين ويا أصحاب الحسين، أما ترون إلى ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات [الحيتان]؟ واللهِ لا ذقتم منه قطرةً حتّى تذوقوا الموت جزعاً. فقال الحسين علیه السلام : «مَن الرجل؟»، فقيل: تميم بن حُصين. فقال الحسين علیه السلام: «هذا وأبوه من أهل النار. اللّهمّ اقتل هذا عطشاً في هذااليوم». قال: فخنقه العطش حتّى سقط عن فرسه، فوطئته الخيل بسنابكها، فمات.

ثمّ أقبل آخَر مِن عسكر عمر بن سعد، يقال له: محمّد بن أشعث بن قيس الكنديّ، فقال: يا حسين ابن فاطمة، أيّة حرمةٍ لك من رسول الله ليست لغيرك؟ قال الحسين علیه السلام : «هذه الآية: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيّةً» -- الآية ((1))»، ثمّ قال: «واللهِ إنّ محمّداً لمِن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمّد. مَن الرجل؟»، فقيل: محمّد بن أشعث بن قيس الكنديّ. فرفع الحسين علیه السلام رأسه إلى السماء فقال: «اللّهمّ

ص: 198


1- ([1]) سورة آل عمران: 33.

أرِ محمّدَ بن الأشعث ذُلّاً في هذا اليوم، لا تُعزّه بعد هذا اليوم أبداً». فعرض له عارض، فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلذعه، فمات باديَ العورة.

فبلغ العطش من الحسين علیه السلام وأصحابه، فدخل عليه رجلٌ من شيعته يقال له: يزيد بن الحصين الهمدانيّ، فقال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي فأخرج إليهم فأُكلّمهم؟ فأذن له، فخرج إليهم فقال: يا معشر الناس، إنّ الله عزوجل بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حِيل بينه وبين ابنه. فقالوا: يا يزيد، فقد أكثرتَ الكلام فاكفُف، فوَاللهِ لَيعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله! فقال الحسين: «اقعد يا يزيد».ثمّ وثب الحسين علیه السلام متوكّئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته فقال: «أُنشدكم الله، هل تعرفوني؟»، قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أُمّي فاطمةُ بنت محمّد؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أبي عليُّ بن أبي طالب؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجةُ بنت خُويلد أوّل نساء هذه الأُمّة إسلاماً»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ سيّد الشهداء حمزةُ عمّ أبي»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف

ص: 199

رسول الله وأنا متقلّده؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنة؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فبمَ تستحلّون دمي، وأبي الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدّي يوم القيامة؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً!

فأخذ الحسين علیه السلام بطرف لحيته -- وهو يومئذٍ ابنُ سبعٍ وخمسين سنة -- ثمّ قال: «اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا: عُزَيرٌ ابن الله، واشتدّ غضب الله على النصارى حينقالوا: المسيح ابن الله، واشتدّ غضب الله على المجوس حين عبدوا النار من دون الله، واشتدّ غضب الله على قومٍ قتلوا نبيّهم، واشتدّ غضب الله على هذه العصابة الّذين يريدون قتل ابن نبيّهم» ((1)).

وفي (التبر المذاب): قال الواقديّ وهشام بن محمّد: لمّا رآهم الحسين علیه السلام مصرّين على قتله، أخذ المصحف ونشره ونادى: «بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله؟ص؟. يا قوم، بمَ تستحلّون دمي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم؟ ألم يبلغكم قول جدّي فيّ وفي أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ إن لم تصدقوني فاسألوا جابراً وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدريّ، واللهِ ما تعمّدتُ كذباً منذ

ص: 200


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 157 وما بعدها.

علمتُ أنّ الله (تعالى) يمقت أهله، واللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم».

فقال الشمر (لعنه الله تعالى): الساعة تَرِد الهاوية.

فقال الحسين علیه السلام : «الله أكبر! أخبرني جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله كأنّ كلباً ولغ في دماء أهل بيتي، وما أخالك إلّا إيّاك».

فقال الشمر (لعنه الله تعالى): أنا أعبد الله على حرفٍ إن كنت أدري ما تقول ((1)).

وفي (المنتخب): لمّا التقى العسكران وامتاز الرجال منالفرسان، واشتدّ الجدال بين العسكرين إلى أن علا النهار، فاشتدّ العطش بالحسين وأصحابه، فدعا بأخيه العباس وقال له: «اجمع أهل بيتك واحفر بئراً». ففعلوا ذلك فطمّوها، ثمّ حفروا أُخرى فطمّوها، فتزايد العطش عليهم ((2)).

ألا لعنة الله على الظالمين.

ص: 201


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 152، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 227.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 430 المجلس 9.

ص: 202

المجلس السابع: في ذكر مبارزات أصحاب الإمام وأهل بيته

ومنهم: القاسم بن الحسن علیه السلام

إعلم أنّ ذكر واقعة كربلاء الأليمة ليست خاصّةً بالكتاب والسُّنّة في هذه الأُمّة، بل هي مذكورةٌ في كتب الأنبياء السابقين أيضاً..

منها ما نُقل عن كتابٍ شعيا: ستأتي عصابةٌ إلى صحراء قاحلة، لا ماء فيها ولا كلاء، فتفنى الأُسرة، وتبكي السماء والأرض والنجوم، وينوح الملكوت، ويظلمّ العالَم، وتُسحَق الأجساد اللطيفة المقدّسة، وتصهر الشمسُ النساء، ويلصق لسان الرضيع بلهاته من العطش، ويضحى الفتيان القتلى مرمَّلين، ويُؤسَر الأطفال، كأنّ وجوههم البدور الطالعة، فتقّشر وجوههم من حرارة الشمس، فيطوفون بهم في الشوارع والأزقّة، ليتصدّق عليهم الناس بالخبز والماء، وتبكي النساء على صدورهنّ، إذ يدرّ فيها اللبن

ص: 203

بعد أن يُذبَح رضعانهنّ، فابكوا أيّها الخلائق على الأغصان المقطوعة..ونُقل عن زبور داوود علیه السلام: مِن أجل غصب الزعامة يُيتِمون أولاد النبيّ الخاتم، ويأسرون نساءه، ويزعجونهم ويخرجونهم من ديارهم، ويبتلونهم بالغربة، فيستنصر أولادُه عند هجوم الأعداء عليهم فلا يُنصَرون.

ونُقل عن كتاب نحمان [نجمان] الممتحن، يعني الإمام الحسين الّذي يُبتلى أثناء الزفاف ويُذبح بخنجر الجفاء من القفا على ساحل النهر، يعني الفرات، وتحرق خيامه الملوّنة الّتي يسكنها ذريّة ذلك النبيّ صلی الله علیه وآله.

وستّة من الفتيان -- يعني ستّة من أولاد أمير المؤمنين علیه السلام ، وفي قولٍ: الإمام الحسين وأولاده عليّ الأكبر وعليّ الأصغر، والقاسم وعبد الله وأبو بكر أبناء الإمام الحسن علیه السلام ، وفي قولٍ: ولدا السيّدة زينب علیها السلام عبد الله وأبو بكر -- يواجهون الصعاب تلو الصعاب، ويتحمّلون أنواع المضايقات والمآسي والمرارات، حتّى يستأصلوا جميعاً، ويبقى ذوو القربى المعزّزون بلا حفاظ ولا حماة.

أمّا كيفيّة الإخبار بالإيحاء إلى الطفل: فحُكي أنّ رجلاً صالحاً من علماء اليهود من بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، وكانت له زوجةٌ صالحةٌ يقال لها: راحيل، وكانت عقيماً لا تلد، وكانت تتوسّل إلى الله وتتضرّع أن يرزقها ولداً، حتّى رقّ لها قلب زوجها، فدعيا الله فاستجاب الله لهما ورزقهما ولداً بعد ستّة أشهر، فلمّا وضعته سجد، ثمّ رفع رأسه وأخذ يخبر بأخبار غريبة ويتكلّم بكلماتٍ عجيبة، من قبيل أنّ هذه السماء الّتي

ص: 204

ترونها إن هي إلّا حجابٌ واحدٌ من تسعمئة وخمسين حجاباً فوقها، وإنّ فيها كيت وكيت وكذا وكذا، فوضع الأب يده على فمهوصاح فيه: يا نحمان، اسكتْ ولا تتكلّم.

فانقطع كلامه اثنى عشر سنة، فاضطربت الأُمّ، والتفت الزوج لاضطرابها، وقال: إنّكِ تريدينه يتكلّم، ولكنّه يتكلّم بما يستوحش منه الناس ويخافونه! فألحّت عليه أن يدعو الله له ليتكلّم، فدعا الله فتكلّم الصبيّ، فقال له الأب: قل ما تشاء، ولكن تكلّم كلاماً مُجمَلاً مبهَماً لا يعرفه الناس. فأخبر نحمان عن خمسة موارد من الوحي، وكان أكثرها يشير إلى قدوم خاتم الأنبياء وبعض المصائب الّتي ستجري على سيّد الشهداء، ومن جملة ما أشار إليه من مصائبه علیه السلام قال: شبتا شيعا ومشيتاقا ومعقا عيقار عصا مترصا وناصا وحلسا ويسا قفيصا متعسّر فاعل بدسا دسفا كصرفا بتردنا نتبيصا لهوبا صبوعا نصبيعا تسرفا وميدمعا بديعا بشوعا نستعشعا.

يعني: ستّة فتيان منهم يلقون شدّةً ومصاعب، الشدّة فوق الشدّة والعسر بعد العسر، ويبتلون بألوان العذاب وأنواع الضيق، هم والمتمسّكون بهم، ويُذبَحون من القفا بخنجر الجفاء إلى جنب نهرٍ في الصحراء، وتهدم خيمة الزفاف، وتحرق الخيام الّتي يسكنها الأولاد والذريّة، وينكشف القوم الّذين كانوا في العزّ والجلال.

لا يخفى أنّ المراد بالستّة المذكورين آنفاً، والمراد بالمتمسّكين أنصاره علیه السلام ، والمراد بالذبح من القفا الإشارة إلى ذبحه علیه السلام ، والزفاف عرس

ص: 205

القاسم، والنهر الفرات، والصحراء كربلاء، والخيم المحروقة إشارة إلى حرق خيامه علیه السلام ، والانكشاف إشارة إلى الأسر والسبي.

وروى الشيخ الطوسيّ بإسناده عن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «للشهيد سبع خصالٍ من الله: أوّل قطرةٍ من دمهمغفورٌ له كلّ ذنب. والثانية: يقع رأسه في حِجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما. والثالثة: يُكسى من كسوة الجنّة. والرابعة: يبتدره خَزَنة الجنّة بكل ريحٍ طيّبة أيّهم يأخذه معه. والخامسة: أن يرى منزلته. والسادسة: يُقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت. والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لَراحةٌ لكلّ نبيّ وشهيد» ((1)).

وعن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «بينما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام يخطب الناس ويحضهم على الجهاد، إذ قام إليه شابٌّ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرني عن فضل الغزاة في سبيل الله.

فقال عليّ علیه السلام : كنتُ رديف رسول الله صلی الله علیه وآله على ناقته العضباء ونحن قافلون من غزوة ذات السلاسل، فسألتُه عمّا سألتَني عنه، فقال: إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءةً من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله (تعالى) بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سلخها، ويوكّل الله عزوجل بهم بكلّ رجلٍ منهم أربعين ألف ملَكٍ يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنةً إلّا ضُعّفَت له،

ص: 206


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 121 ح 3.

ويُكتَب له كلّ يوم عبادة ألف رجلٍ يعبدون الله ألف سنة، كلّ سنةٍ ثلاث مئةٍ وستّون يوماً، واليوم مثل عمر الدنيا، وإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأُشرعت الأسنّة وفوقت السهام وتقدّم الرجل إلى الرجل، حفّتهم الملائكة بأجنحتهم، ويدعون الله لهم بالنصر والتثبيت، فينادي منادي الجنّة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنةٍ أوضربةٍ لم يصل إلى الأرض حتّى يبعث الله عزوجل زوجته من الحور العين فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض تقول له: مرحباً بالروح الطيّبة الّتي أُخرجَت من البدن الطيّب، أبشِرْ؛ فإنّ لك ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعَت ولا خطر على قلب بشر. ويقول الله عزوجل: أنا خليفته في أهله، ومَن أرضاهم فقد أرضاني، ومَن أسخطهم فقد أسخطني. ويجعل الله روحه في حواصل طيرٍ خُضر تسرح في الجنّة حيث تشاء، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفةً من غرف الفردوس ما بين صنعاء والشام، يملأ نورها ما بين الخافقين، في كلّ غرفةٍ سبعون باباً، على كلّ بابٍ سبعون مصراعاً من ذهب، على كلّ بابٍ ستور مسبلة، في كلّ غرفةٍ سبعون خيمة، في كلّ خيمةٍ سبعون سريراً من ذهب، قوائمها الدرّ والزبرجد، موصولة بقضبان من زمرّد، على كلّ سريرٍ أربعون فرشاً غلظ، كلّ فراش أربعون ذراعاً، على كلّ فراشٍ زوجةٌ من الحور العين عُرباً أتراباً.

فقال الشابّ: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن العربة.

قال: هي الغنجة الرضيّة المرضيّة الشهيّة، لها سبعون ألف وصيف وسبعون

ص: 207

ألف وصيفة، صفر الحُليّ، بيض الوجوه، عليهم تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكوبة والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج مِن قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة، فوَالّذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم لِما يرون من بهائهم، حتّى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرته، حتّى إنّ الجارين يختصمان أيّهما أقرب، فيقعدون معه ومع إبراهيم على مائدة الخُلد، فينظرونإلى الله (تعالى) في كلّ بكرةٍ وعشيّة» ((1)).

قال المؤلّف: يعني ينظر إلى رحمة الله ورضاه، أو ينظر إلى النبيّ وآله كلّ بكرةٍ وعشيّة.

ولمّا كان للشهادة هذا الفضل العظيم، بادر أنصار الحسين إلى الشهادة، وقد خُيّر الإمامُ المظلوم بين الشهادة والسلامة من دون أن ينقص من أجره شيء، فاختار الشهادة.

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن مولانا الصادق علیه السلام أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين علیه السلام وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أنزل الله (تعالى) النصر حتّى رفرف على رأس الحسين علیه السلام ، ثمّ خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله» ((2)).

ص: 208


1- ([1]) صحيفة الرضا علیه السلام: 91، بحار الأنوار للمجلسي: 97 / 12 ح 27.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 101.

فتقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين علیه السلام بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَن رمى. وأقبلَت السهام من القوم كأنّها القطر، فقال علیه السلام لأصحابه: «قوموا -- رحمكم الله -- إلى الموت الّذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهام رسُلُ القوم إليكم».

فاقتتلوا ساعةً من النهار حملةً وحملة، حتّى قُتل من أصحاب الحسين علیه السلام جماعة.

قال: فعندها ضرب الحسين علیه السلام بيده إلى لحيته وجعل يقول: «اشتدّ غضب الله (تعالى) على اليهود إذ جعلوا له ولداً،واشتدّ غضب الله على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ((1))، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قومٍ اتّفقَت كلمتُهم على قتل ابن بنت نبيّهم، أما واللهِ لا أُجيبهم إلى شيءٍ ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضَّبٌ بدمي» ((2)).

ثمّ صاح علیه السلام : «أما مِن مغيثٍ يغيثنا لوجه الله؟ أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟» ((3)).

وعن أبي مِخنف: وجعل ينادي: «وا محمّداه، وا أبا القاسماه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عبّاساه!»، ثمّ نادى: «يا قوم، أما مِن

ص: 209


1- ([1]) يعني: الأب والابن وروح القدس -- منه رحمه الله.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 100.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 102.

مُجيرٍ يجيرنا؟ أما من معينٍ يعيننا؟ أما من طالب الجنّة ينصرنا؟ أما من خائفٍ من عذاب الله فيذبّ عنّا؟»، فبكى بكاءً شديداً وهو يقول:

«أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخراً حين أفخرُ

وفاطمةٌ أُمّي، وجدّي محمّدٌ***وعمّي هو الطيّار في الخُلد جعفرُ

بنا ظهر الإسلام بعد خموده***ونحن سراج الله في الأرض نزهرُ

وشيعتنا في الخلق أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ» ((1))وشيعتنا في

الخلق أكرم شيعةٍ

ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ» ((2))

قال أبو مخنف رحمه الله: فوقع كلامه علیه السلام في مسامع قلب الحرّ ((3)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ نادى الحسين علیه السلام: «يا أهل الكوفة، ويا شبث بن ربعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ؟» فقالوا: ما ندري ما تقول.

وكان الحرّ بن يزيد الرياحيّ من ساداتهم، فقال له: بلى واللهِ لقد كاتبناك، ونحن الّذين أقدمناك، فأبعد اللهُ الباطل وأهله، واللهِ لا أختار الدنيا على الآخرة ((4)).

وفي (الإرشاد): فلمّا رأى الحرُّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين علیه السلام ، قال لعمر بن سعد: أي عمر، أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال:

ص: 210


1- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 314.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 314.
3- ([2]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 74.
4- ([3]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب: 151.

إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي! قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إليّ لَفعلت، ولكنّ أميرك قد أبى.

فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجلٌ من قومه يُقال له: قرّة بن قيس، فقال له: يا قرّة، هل سقيتَ فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة: فظننتُ واللهِ أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لمأسقِه، وأنا منطلقٌ فأسقيه. فاعتزل ذلك المكان الّذي كان فيه، فواللهِ لو أنّه أطلعني على الّذي يريد لَخرجتُ معه إلى الحسين بن عليّ علیهما السلام ((1)).

قال المؤلف: عذرٌ أقبح من الذنب، ومَن لم يجعل اللهُ له نوراً فما له من نور.

وقال أبو مخنف: فأقبل الحرّ على ابن عمٍّ له يُقال: قرّة بن قيس، وقال له: يا ابن عمّ، ألا ترى إلى الحسين علیه السلام يستجير فلا يُجار، ويستغيث فلا يُغاث؟ فهل لك أن نذهب إليه ونقاتل بين يديه ونفديه بأرواحنا؟ فلعلّنا نفوز بالشهادة ونكون في زمرته يوم القيامة! فقال له: لا حاجة لي في ذلك.

وأقبل على ولده وقال له: يا بُنيّ، لا صبر لي على النار، ولا على غضب الجبّار، ولا أن يكون غداً خصمي أحمد المختار، يا بُنيّ، أما ترى الحسين علیه السلام يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار؟ يا بُنيّ، سِرْ بنا إليه

ص: 211


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.

نقاتل بين يديه، فلعلّنا نفوز بالشهادة ونكون من أهل السعادة ((1)). فقال له ولده: لستُ مخالفك يا أباه فيما تأمرني به ((2)).

وفي (الإرشاد): فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يُجبْه، وأخذه مثل الأفكل، وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إنّ أمرك لَمريب، واللهِ ما رأيتُ منك في موقفٍ قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: مَن أشجعأهل الكوفة؟ ما عدَوتُك، فما هذا الّذي أرى منك؟! فقال له الحرّ: إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوَاللهِ لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وحرقت ((3)).

وفي (الملهوف): ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين علیه السلام ، ويده على رأسه وهو يقول: اللّهمّ إليك أنبتُ فتُب علَيّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك ((4)).

قال أبو مخنف: فجعل الحرّ يقبّل الأرض بين يدَي الحسين، فقال له: «ارفع رأسك يا شيخ»، فرفعه رأسه ((5)).

ص: 212


1- ([2]) متقل الحسين علیه السلام لأبي مِخنَف (المشهور): 75.
2- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 315.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.
4- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 102.
5- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 216، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 74.

وروى المفيد: فقال للحسين علیه السلام: جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الّذي حبستُك عن الرجوع وسايرتُك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، واللهِ لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبتُ منك الّذي ركبت، وإنّي تائبٌ إلى الله (تعالى) ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين علیه السلام: «نعم، يتوبُ الله عليك، فانزل». قال: فأنا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً، أُقاتلهم على فرسي ساعةً وإلى النزول ما يصير آخِر أمري ((1)).

وروى ابن نما: أنّه قال للحسين علیه السلام: لمّا وجّهني عُبيدالله إليك، خرجتُ من القصر فنُوديت مِن خلفي: أبشِرْ يا حرّ بخير. فالتفتُّ فلم أرَ أحداً، فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين علیه السلام وما أحدّث نفسي باتّباعك. فقال علیه السلام : «لقد أصبتَ أجراً وخيراً» ((2)).

وحُكي أنّ الحرّ قال للإمام الحسين علیه السلام : يا ابن رسول الله، رأيتُ أبي في المنام فقال لي: أين تذهب هذه الأيام؟ فقلت: أذهب لأقطع الطريق على الحسين. فصاح بي أبي وقال: وا ويلاه، ما أنت يا ولدي وابن رسول الله؟

ص: 213


1- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.
2- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 59.

إن شئتَ أن تدخل جهنّم فاخرج لحربه، وإن شئتَ أن تنجو من الخلود في نار جهنّم فانصره وجاهد أعداءه ((1)).

قال أبو مخنف: ثمّ إنّ الحرّ أقبل على ولده وقال: يا بُنيّ، احملْ على أعداء الله وأعداء رسوله. فحمل الغلام، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم أربعةً وعشرين رجلاً، ثمّ قُتل رحمه الله.

فلمّا نظر إليه أبوه فرح فرحاً شديداً، وقال: الحمد لله الّذي استشهد ولدي بين يدَي الحسين علیه السلام .

قال: يا مولاي، بحقّ جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله لمّا أذنت لي بالبراز إلى هؤلاء القوم، فقد كنتُ أوّلَ مَن خرج عليك، أُحبّ أن أُقتَل بين يديك. فقال له الحسين علیه السلام : «ابرز، وقل: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم». فبرز نحو القوم، وجال وصال، وأشهر نفسه بين الفريقين ((2)).وفي (الإرشاد): ثمّ قال: يا أهل الكوفة، لأُمّكم الهبَل والعبَر، أدعوتم هذا العبد الصالح، حتّى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنّكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به مِن كلّ جانبٍ لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله

ص: 214


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 278.
2- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 316 / 2، أُنظُر: المقتل لأبي مخنف (المشهور): 76.

عن ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟! فهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلّفتم محمّداً في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمإ الأكبر ((1)).

وفي (التبر المذاب): وإذا لم تنصروه ولم تفوا له بما حلفتم عليه، فدَعُوه يمضي حيث شاء مِن بلاد الله، أما أنتم بالله مؤمنون، وبنبوّة جدّه صلی الله علیه وآله مصدّقون، وبالمعاد موقنون؟! ((2))

وفي (الإرشاد): فحمل عليه رجالٌ يرمون بالنبل، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين علیه السلام.

ونادى عمر بن سعد: يا دريد، أدنِ رايتك. فأدناها، ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثمّ رمى وقال: اشهدوا أنّي أوّل مَن رمى. ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ((3)).

وفي (الأمالي) للصدوق: قال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي فأُقاتل عنك؟ فأذن له، فبرز وهو يقول:

أضرب في أعناقكم بالسيفِ***عن خير مَن حلّ بلادَ الخيفِ

فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً ((4)).

ص: 215


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 100.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 160.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 101.
4- ([1]) الأمالي للصدوق: 159.

قال أبو مخنف: وقال: يا أعداء الله (تعالى) وأعداء رسوله! كتبتم إلى الحسين علیه السلام وزعمتم أنّكم لَتنصرونه، فلمّا جاءكم وثبتم عليه لتقتلوه، وغررتم به، لا أنالكم الله شفاعة جدّه يوم القيامة. ثمّ حمل على القوم وأنشأ يقول:

أميري إمامٌ، غادرٌ وابنُ غادرٍ***إذا كنت قاتلت الحسين ابن فاطمةْ

ونف-سي على خذلانه واعتزاله***وبيعة هذا الناكث العهد لازمةْ

فوا حسرتا ألّا أكون نصرتُه***ألا كلّ نفسٍ لا تسدّد لائمةْ

أهمّ مراراً أن أسير بحجفلٍ***إلى فئةٍ زاغت عن الحقّ ظالمةْ

فكفّوا، وإلّا زرتكم بكتائبٍ***أشدّ عليكم من زحوف الديالمةْ

سقى الله أرواح الّذين توازروا***على نصره سقياً من الغيث دائمةْ

وقفتُ على أجسادهم وطلولهم***وكان الحشا ينقدّ والعين ساجمةْ

لَعمري، لقد كانوا مصاليت في الوغى***سراعاً إلى الهيجا أُسوداً ضراغمةْ

ثمّ حمل على القوم، وجدّل أبطالاً، ورجع إلى مقامه، وأنشأ يقول:

هو الموت، فاصنع -- ويكَ -- ما أنت صانعُ***وأنت بكأس الموت لا شكّ جارعُ

وحامِ عن ابن المصطفى وحريمه***لعلّك تلقى حصد ما أنت زارعُ

لقد خاب قومٌ خالفوا اللهَ ربّهم***يريدون هدم الدين، والدينُ شارعُ

يريدون عمداً قتل آل محمّدٍ***وجدُّهمُ يوم القيامة شافعُ

ثمّ حمل على القوم وقال: يا أهل الكوفة، دعوتموه وزعمتم أنّكم تنصروه، فأحطتم به من كلّ جانبٍ ومكان على أنكم تقتلوه ظلماً وعدوانا، ومنعتموه

ص: 216

من التوجّه في بلاد الله العريضة، فأصبح في أيديكم أسيراً، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ومنعتم أولاده من شرب الماء الّذي تشرب منه اليهود والنصارى والكلاب والخنازير، بئس ما صنعتم وخلّفتم محمّداً صلی الله علیه وآله في ذريّته، ما لكم؟! لا سقاكم الله يوم الظمإ الأكبر! ألا تتوبوا وترجعوا عمّا أنتم عليه؟ وأنشأ يقول:

أغشاكمُ ضرباً بحدّ السيفِ***ضربَ غلامٍ لم يخف من حيفِ

أنصرُ مَن حَلّ بأرض الخيف***نسل عليّ الطهر مقري الضيفِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم خمسين رجلاً. قال عمر بن سعد: يا ويلكم! ارشقوه بالنبل والسهام. ففعلوا ذلك، وجعلوا يرشقون حتّى جعلوه كالقنفذ ((1)).ورُوي أنّ الحرّ لمّا لحق بالحسين علیه السلام ، قال رجلٌ من بني تميم يُقال له: يزيد بن سفيان: أما واللهِ لو لقيتُ الحرّ حين خرج لَأتبعتُه السنان. فبينا هو يقاتل، وإنّ فرسه لمضروب على أُذُنيه وحاجبه، وإنّ الدماء لَتسيل، إذ قال ال-حُصين بن نُمير: يا يزيد، هذا الحرّ الّذي كنتَ تتمنّاه، فهل لك به؟ قال: نعم. وخرج إليه، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارساً وراجلاً ((2)).

ص: 217


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 218، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 76 -- عن: أبي مخنف.
2- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 10، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 319.

ورُوي أنّه التفت إلى الإمام الحسين علیه السلام وقال: أرضيتَ عنّي يا ابن رسول الله؟ فقال الحسين علیه السلام : «نعم، وأنت حرٌّ كما سمّتكَ أُمُّك». فجعل الحرّ يقاتل الأشرار، ويدفع عن ابن النبيّ المختار ((1)).

وفي (الإرشاد): فحمل شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) على أهل الميسرة، فثبتوا له فطاعنوه، وحمل على الحسين وأصحابه من كلّ جانب، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديداً، فأخذت خيلهم تحمل، وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً، فلا تحمل على جانبٍ من خيل الكوفة إلّا كشفته، فلمّا رأى ذلك عروة بن قيس -- وهو على خيل أهل الكوفة -- بعث إلى عمر ابن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعثْ إليهم الرجال والرماة. فبعث عليهم بالرماة، فعقر بالحرّ بن يزيد فرسه، فنزل عنه وجعل يقول:

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبدٍ هزبرِويضربهم بسيفه، وتكاثروا عليه، فاشترك في قتله أيّوب بن مسرح ورجلٌ آخَر من فرسان أهل الكوفة ((2)).

ورُوي أنّه طُعن برمحٍ في صدره فشقّ صدره، فنادى: أدركني يا ابن

ص: 218


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 279.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 104.

رسول الله! ((1))

وفي رواية الصدوق: فأتاه الحسين علیه السلام ودمه يشخب، فقال: «بخٍ بخٍ يا حرّ، أنت حرٌّ كما سُمّيتَ في الدنيا والآخرة»، ثمّ أنشأ الحسين يقول:

«لَنِعم الحُرّ حرّ بني رياحِ***ونعم الحرّ عند مختلَفِ الرماحِ

ونعم الحرّ إذ نادى حسيناً***فجاد بنفسه عند الصباحِ»

((2))

وفي بعض الكتب أضاف بعد البيتين المذكورين:

«ونِعم الحرّ في رهج المنايا***إذ الأبطال تخفق بالصفاحِ

فيا ربِّ أضفه في الجنانِ***وزوّجه مع الحور المِلاحِ

لقد فاز الّذي نصروا حسيناً***وباتوا بالهداية والفلاحِ»

((3))وفي (الملهوف): فحُمِل إلى الحسين علیه السلام ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: «أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، حرّاً في الدنيا والآخرة» ((4)).

ثمّ برز بعد الحرّ أخوه مصعب، فاستأذن سيّدَ الشهداء علیه السلام ، ثمّ حمل على أهل الكوفة حملةً ثقيلةً وقاتل قتالاً شديداً، حتّى قُتل.

وكان للحرّ غلام، فلمّا رأى مولاه الحرّ وأخاه مصعب مجدّلَين، ثارت

ص: 219


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 280.
2- ([3]) الأمالي للصدوق: 160، روضة الواعظين: 1 / 186.
3- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 78، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 321.
4- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 104.

حميّته وصار كالمارد، فحمل على جيش ابن سعدٍ يميناً وشمالاً يقتل منهم من أصابه بسيفه، حتّى وصل إلى الحسين علیه السلام ، فاعتذر إليه وقال: يا ابن رسول الله، إنّي أعتذر إليك أن قتلتَ القوم قبل استئذانك، فإنّي ما تمالكتُ نفسي مذ رأيتُ مقتل هؤلاء الأحرار، والآن فأْذَن لي حتّى أُقاتل المعاندين وأنال الشهادة بين يديك. فدعا له الحسين علیه السلام بخير، فركب فرسه، واقتحم الميدان يقاتل، فقتل جماعةً من الفرسان، ثمّ قُتِل والتحق بمولاه في الرفيق الأعلى ((1)).

وفي (الإرشاد): فبرز يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وبرز إليه عبد الله ابن عمير، فقال له يسار: مَن أنت؟ فانتسب له، فقال: لست أعرفك، ليخرج إليّ زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر. فقال له عبدالله بن عمير: يا ابن الفاعلة، وبك رغبةٌ عن مبارزة أحدٍ من الناس؟! ثمّ شدّ عليه فضربه بسيفه حتّى برد، فإنّه لَمشتغلٌ بضربه إذ شدّ عليه سالم مولى عبيد الله بن زياد، فصاحوا به: قد رهقك العبد! فلم يشعر حتّى غشيه، فبدره ضربةً اتّقاها ابن عمير بكفّه اليسرى فأطارت أصابع كفّه، ثمّ شدّ عليه فضربه حتّى قتله، وأقبل -- وقد قتلهما جميعاً -- وهو يرتجز ويقول:

ص: 220


1- ([2]) ناسخ التواريخ لسپهر: 2 / 384 -- ترجمة: السيّد علي أشرف، روضة الشهداء للكاشفي: 281.

إن تنكروني فأنا ابنُ كلبِ***إنّي امرؤٌ ذو مرةٍ وعضبِ

ولست بالخوّار عند النكبِ

وحمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحاب الحسين علیه السلام فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا من الحسين علیه السلام جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقدِم خيلُهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين علیه السلام بالنبل، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهم آخرين.

وجاء رجلٌ من بني تميم يُقال له: عبد الله بن حوزة، فأقدم على عسكر الحسين علیه السلام ، فناداه القوم: إلى أين؟ ثكلتك أُمّك! فقال: إنّي أقدِمُ على ربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مُطاع. فقال الحسين علیه السلام لأصحابه: «مَن هذا؟»، قيل: هذا ابن حوزة. قال: «اللّهمّ حُزه إلى النار»، فاضطربت به فرسه في جدولٍ فوقع، وتعلّقت رجله اليسرى بالركاب وارتفعت اليمنى، فشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت، وعدا به فرسُه يضرب برأسه كلّ حجَرٍ وكلّ شجر، حتّى مات وعجّل الله بروحه إلى النار((1)).

وفي (البحار): وكان كلّ مَن أراد الخروج ودّع الحسين علیه السلام وقال: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه: «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ويقرأ علیه السلام: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((2)).

ص: 221


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 101.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.

ثمّ برز بُرَير بن خُضَير الهمدانيّ بعد الحرّ، وكان من عباد الله الصالحين، فبرز وهو يقول:

أنا بُريرٌ وأبي خضير***ليثٌ يروع الأُسدَ عند الزئر

يعرف فينا الخيرَ أهلُ الخير***أضربكم ولا أرى من ضير

كذاك فعل الخير من بُرير

وجعل يحمل على القوم وهو يقول: اقتربوا منّي يا قتَلَة المؤمنين، اقتربوا منّي يا قتَلَة أولاد البدريّين، اقتربوا منّي يا قتَلَة أولاد رسول ربّ العالمين وذريّته الباقين! وكان برير أقرأ أهل زمانه، فلم يزل يقاتل حتّى قتل ثلاثين رجلاً، فبرز إليه رجلٌ يقال له: يزيد بن معقل، فقال لبرير: أشهدُ أنّك مِن المضلّين. فقال له برير: هلمّ فلْندعُ اللهَ أن يلعن الكاذبَ منّا، وأن يقتل المُحقُّ منّا المبطل. فتصاولا، فضرب يزيد لبرير ضربةً خفيفةً لم يعمل شيئاً، وضربه برير ضربةً قدّت المِغفر ووصلت إلى دماغه فسقط قتيلاً. قال: فحمل رجلٌ من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمه الله، وكان يُقال لقاتله: بحير ابنأوس الضبّي، فجال في ميدان الحرب وجعل يقول:

سلي تُخبَري عنّي وأنتِ ذميمةٌ***غداة حسينٌ والرماح شوارعُ

ألم آتِ أقصى ما كرهتُ ولم يحل***غداة الوغى والروع ما أنا صانعُ

معي مزني لم تخنه كعوبه***وأبيض مشحوذ الغرارين قاطعُ

فجردته في عصبةٍ ليس دينهم***كديني، وإنّي بعد ذاك لَقانعُ

ص: 222

وقد صبروا للطعن والضرب حسّراً***وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافعُ

فأبلِغْ عُبيدَ الله إذ ما لقيتُه***بأنّي مطيعٌ للخليفة سامعُ

قتلتُ بُريراً، ثمّ جلت لهمّةٍ***غداة الوغى لمّا دعا مَن يقارعُ

قال: ثمّ ذُكر له بعد ذلك أنّ بُريراً كان من عباد الله الصالحين، وجاءه ابنُ عمٍّ له وقال: ويحك يا بحير! قتلتَ بُرير بن خُضير، فبأيّ وجهٍ تلقى ربَّك غداً؟ قال: فندم الشقيّ، وأنشأ يقول:

فلو شاء ربّي ما شهدتُ قتالَهم***ولا جعل النعماء عند ابن جائرِ

لقد كان ذا عاراً علَيّ وسُبّةً***يعير بها الأبناء عند المعاشرِ

فيا ليت أنّي كنتُ في الرحم حيضةً***ويوم حسينٍ كنتُ ضمن المقابرِ

فيا سوأتا، ماذا أقول لخالقي***وما حُجّتي يوم الحساب القماطرِ؟

فيا سوأتا، ماذا أقول لخالقي***وما حُجّتي يوم الحساب القماطرِ؟

ثمّ برز من بعده وهب بن عبد الله بن حبّاب الكلبيّ، وقد كانت معه أُمّه يومئذ، فقالت: قُمْ يا بُنيّ فانصر ابنَ بنت رسول الله. فقال: أفعل يا أُمّاه ولا أُقصّر ((1)).

وفي بعض المقاتل: أنّه ذهب يستأذن أُمّه، فقال: لو أذنتِ لي أن أذهب إلى هذه الحرّة، فإنّها ابتلَت بطريقتنا، وهي جديدة عهدٍ بالعرس، ولم تذُقْ طعماً لحياةٍ معنا، فأُسلّيها وأُطيّب خاطرها. فقالت له أُمّه: اذهبْ، ولكن

ص: 223


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 15.

احذر أن تصدّك عن قصدك وتحرمك من حظّك، فتُحرَم من الخلود في النعيم المقيم. فقال لها: اطمئنّي يا أُمّاه، ليس في قلبي شيءٌ سوى الحبّ والوفاء لابن خاتم الأنبياء.

فأقبل الى زوجته وتحدّث لها عن غربة ابن فاطمة، وقال لها: أترضين أن أفديه بنفسي ليكون جدُّه محمّد صلی الله علیه وآله شفيعنا غداً يوم القيامة، ونُرضي أُمَّه فاطمة وأباه عليّاً علیهما السلام فتحسّرت زوجته وقالت: ليتَ لي ألف نفسٍ أفدي بها الحسين علیه السلام ، ولو كان القتال مباحاً للنساء لَقاتلتُ معك وفديتُه بنفسي، ولكن قم معي لنقف بين يديه، فإنّي أُريد أن تشرط لي أَمامه أن لا تدخل الجنّة غداً يوم القيامة حتّى تُدخِلني معك. فقام إلى الإمام علیه السلام وتعاهدا عنده.

ثمّ التفتت إلى الإمام علیه السلام وقالت: يا ابن رسول اللّه صلی الله علیه وآله، اجعلْني في حرمك وسلّمني إلى أهل بيتك،لأنال شرف خدمتهم، وأن أكون أَمَةً لهم، ويصيبني ما يصيبهم، وأكون في حمايتهم وعصمتهم فلا يتعرّض لي الأجانب، وأكون في صيانة عفافهم مصونة الجانب. فبكى الإمام الحسين علیه السلام وقال لها: «ادخُلي في حرمي»، فدخلَت مع حرمه.

واستأذن وهب فأذن له، فخرج على فرسه متدرّعاً بلامته، حاملاً رمحاً خطيّةً في يده اليمنى ودرعاً مكيّةً على عاتقه الأيسر، وهو يرتجز:

ص: 224

أميري حسينٌ ونِعم الأمير***له لمعةٌ كالسراج المنير ((1))

وفي (البحار): فبرز وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابنُ الكلبِ***سوف تَرَوني وتَرَون ضربي

وحملَتي وصولتي في الحربِ***أُدركُ ثأري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكربَ أمام الكربِ***ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثمّ حمل، فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة، فرجع إلى أُمّه وامرأتِه فوقف عليهما، فقال: يا أُمّاه، أرضيتِ؟ فقالت: ما رضيتُ أو تُقتَل بين يدَي الحسين علیه السلام. فقالت امرأته: باللهِ لا تفجعْني في نفسك. فقالت: أُمّه، يا بُنيّ، لا تقبل قولها وارجع فقاتِل بين يدَي ابن رسول الله، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدَي الله. فرجع قائلاً:

إنّي زعيمٌ لكِ أُمَّ وهبِ***بالطعن فيهم تارةً والضربِ

ضربَ غلامٍ مؤمنٍ بالربّ***حتّى يُذيق القومَ مُرَّ الحربِ

إنّي امرؤٌ ذو مِرّةٍ وعصبِ***ولستُ بالخوّار عند النكبِ

حسبي إلهي مِن عليمٍ حسبي

فلم يزل يقاتل، فأخذَت امرأتُه عموداً وأقبلَت نحوه وهي تقول: فداك

ص: 225


1- ([1]) تذكرة الشهداء للكاشاني: 179 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، روضة الشهداء للكاشفي: 289.

أبي وأُمّي، قاتِلْ دون الطيّبين حرمِ رسول الله. فأقبَلَ كي يردّها إلى النساء، فأخذَت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك. فقال الحسين: «جُزيتم مِن أهل بيتي ((1)) خيراً، ارجعي إلى النساء، رحمكِ الله»، فانصرفَت، وجعل يُقاتل حتى قُتِل رضوان الله علیه((2)).

وفي رواية: إنّ أُمّه كانت تشجّعه وتنادي بصوتٍ عالي: فداك أبي وأُمّي، قاتِلْ دون الطيّبين حرمِ رسول الله، وانصر الحسين حتّى تموت وتكون في الجنّة من الخالدين. فنظر إليها الحسين علیه السلام فبكى، وقال: «جُزيتم من ذريّة النبيّ خيراً، قضيتم ما عليكم من نصرتهم، وأدّيتِ حقّ أهل بيت رسول الله، أبشري أيّتها الصالحة أنتِ وابنك في أعلى درجات الجنّة مع النبيّالمصطفى».

ثمّ قاتل وهب قتال الأبطال، فضاق العسكر بقتاله، فنادى عمر بن سعد: احملوا عليه حملة رجلٍ واحد! فتكاثروا عليه وأحاطوا به من كلّ مكان، وهو يقاتلهم، حتّى قتل الكثير من أبطالهم وشجعانهم.

وفي رواية أبي مخنف: وقعَت به سبعون ضربةً وطعنةً ونبلة، وجعلوه وجواده كالقنفذ من كثرة النبل والسهام، فانجدل صريعاً يخور في دمه ((3)).

ورُوي أنّه جعل يقاتل حتّى أُخِذ أسيراً، فأُتي به إلى عمر بن سعد

ص: 226


1- ([1]) في المتن: (بيت).
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 16.
3- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 326.

(لعنه الله)، فقال: ما أشدّ صولتك؟! ثمّ أمر بضرب عنقه، فضُرب، ورُمي برأسه إلى عسكر الحسين علیه السلام ، فأخذت أُمُّه الرأس فقبّلَته ووضعَته في حِجرها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه وتقول: الحمد لله الّذي بيّض وجهي بشهادتك يا ولدي بين يدَي أبي عبد الله الحسين علیه السلام. وبكت بكاءً شديداً، ثمّ قالت: يا أُمّة السوء! أشهد أنّ اليهود في بيَعها والنصارى في كنائسها خيرٌ منكم.

ثمّ رمَت برأس ولدها نحو القوم فأصابت به رجلاً فقتلته، ثمّ شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين، فقال لها الحسين علیه السلام : «ارجعي يا أُمّ وهب، أنتِ وابنك مع رسول اللهصلی الله علیه وآله، فإنّ الجهاد مرفوعٌ عن النساء». فرجعَت وهي تقول: إلهي، لا تقطع رجائي. فقال لها الحسين علیه السلام : «لا يقطع الله رجاءَكِ يا أُمّ وهب» ((1)).وفي (البحار): قال: فذهبَت امرأته تمسح الدم عن وجهه، فبصُر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمودٍ كان معه فشدخها وقتلها، وهي أوّل امرأةٍ قُتلَت في عسكر الحسين.

ورأيتُ حديثاً أنّ وهب هذا كان نصرانيّاً فأسلم هو وأُمّه على يدَي الحسين ((2)).

ص: 227


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 326، معالي السبطين للحائري: 1 / 385، وانظُر: تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 287.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 17.

وفي (البحار): ثمّ برز من بعده عمرو بن خالد الأزديّ وهو يقول:

إليكِ يا نفسُ إلى الرحمانِ***فأبشري بالروح والريحانِ

اليوم تُجزَين على الإحسانِ***قد كان منكِ غابر الزمانِ

ما خُطّ في اللوح لدى الديّانِ***لا تجرعي، فكلّ حيٍّ فاني

والصبر أحظى لكِ بالأماني***يا معشر الأزد بني قحطانِ

ثمّ قاتل حتّى قُتِل ((1))، ونال السعادة بالشهادة.

وفي (المناقب): ثمّ تقدّم ابنُه خالد بن عمرو وهو يرتجز ويقول:

صبراً على الموت بني قحطانِ***كي ما تكونوا في رضى الرحمانِ

ذي المجد والعزّة والبرهانِ***وذي العُلى والطَّول والإحسانِ

يا أبتا، قد صرت في الجنانِ***في قصر ربٍّ حسن البنيانِ

ثمّ تقدّم، فلم يزل يقاتل حتّى قُتِل ((2)) وفاز بالشهادة.

وقال محمّد بن أبي طالب: ثمّ برز من بعده سعد بن حنظلة التميميّ وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّةْ***صبراً عليها لدخول الجنّةْ

وحور عينٍ ناعماتٍ هُنّه***لمَن يريد الفوز لا بالظنّةْ

يا نفسُ للراحة فاجهدنّه***وفي طلاب الخير فارغبنّه

ص: 228


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 340.

ثمّ حمل وقاتل قتالاً شديداً، ثمّ قُتِل رضوان الله علیه.

وخرج من بعده عُمير بن عبد الله المِذحجيّ وهو يرتجز ويقول:

قد علمَت سعد وحيّ مِذحج***أنّي لدى الهيجاء ليث محرج

أعلو بسيفي هامة المدجّج***وأترك القرن لدى التعرّج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

ولم يزل يقاتل حتّى قتله مسلم الضبابيّ وعبد الله البجَلي ((1)).

وفي (الإرشاد): وبرز نافع بن هلال وهو يقول:

أنا ابنُ هلال البجَلي***أنا على دين علي

فبرز إليه مزاحم بن حريث فقال له: أنا على دين عثمان. فقال له نافع: أنت على دين الشيطان! وحمل عليه فقتله.

فصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى! أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهممنكم أحد، فإنّهم قليلٌ وقلّ ما يبقون، واللهِ لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأيُ ما رأيت. فأرسل في الناس مَن يعزم عليهم ألّا يبارز رجلٌ منكم رجلاً منهم ((2)).

ص: 229


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 288.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 102.

وقال: لو خرجتم إليهم وحداناً لَأتوا عليكم مبارزة.

ودنا عمرو بن الحجّاج من أصحاب الحسين علیه السلام فقال: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام. فقال الحسين علیه السلام : «يا ابن الحجّاج، أعلَيّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُّم عليه؟! والله لَتعلمنّ أيّنا المارق من الدين ومَن هو أَولى بصلي النار» ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين علیه السلام من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة ((2)).

قال المؤلّف: كان هذا الملعون عمرو بن الحجاج ممّن كتب إلى الإمام المظلوم: اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، أقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة ((3)).

أجل، كانت سهامكم ورماحكم وسيوفكم ثماراً يانعة، وكان الصحارى المخضرّة ما سفكتم من دم المظلوم الغريب على تلك الصحراء، فلمّا قارب الإمام بلدكم خرجتم لاستقباله، وكان أوّل قِراكم للضيف العزيز أن منعتموه الماء، وقتلتموه وأصحابهالمظلومين ظمأى عطشانين، أفكان هذا أجر الرسالة الّتي أُمرتم بها من مودّة قربى النبيّ وآله؟ بئس الأُمة كنتم، لعنة الله

ص: 230


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 103، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
3- ([4]) أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 36، مثير الأحزان لابن نما: 25.

عليكم وعلى مَن رضي بفعالكم.

أجل، في (المناقب): ثمّ برز من بعد عمير بن عبد الله مسلم بن عوسجة ((1))، وكان من زعماء عسكر سيّد الشهداء علیه السلام، وكان شجاعاً شريفاً زعيماً من مشاهير الدهر، وأصحابِ أمير المؤمنين علیه السلام ، جاهد بين يديه، وأبدى بطولةً ورجولةً في الدفاع عنه علیه السلام.

قيل: إنّ أمير المؤمنين كان يدعوه: «أخي»، وقد قرأ القرآن على الإمام عدّة مرات.

قال شبث بن ربعي: لَرُبّ موقفٍ له في المسلمين كريم، لقد رأيتُه يوم آذربيجان قتل ستّةً من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين.

برز يقاتل وهو يرتجز ويقول:

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد***من فرع قومٍ من ذرى بني أسد

فمن بغانا حائدٌ عن الرشد***وكافرٌ بدين جبّارٍ صمد

ثمّ تقدّم يطلب مبارزاً، فجعل القوم يتقدّمون لحربه، وهو يلحقهم بالجحيم واحداً بعد واحد، حتّى قتل منهم خمسين، فتكاثروا عليه وهو يقاتل، فقتل منهم ستّةً قبل أن يسقط الى الأرض من كثرة الجراحات وبه

ص: 231


1- ([1]) في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 341 ذكر شهادة مسلم بن عوسجة بعد شهادة عبد الله المِذحجيّ.

رمَق، فنادى: أدركني يا ابن رسول اللّه ((1)).

وفي (اللهوف): فمشى إليه الحسين علیه السلام -- وبه رمق -- ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين علیه السلام : «رحمك الله يا مسلم، «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((2))». ودنا منه حبيب وقال: عزّ علَيّ مصرعُك يا مسلم، أبشِرْ بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله. ثمّ قال له حبيب: لو لا أنّني أعلم أنّي في الأثر لَأحببتُ أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك. فقال له مسلم: فإنّي أُوصيك بهذا -- وأشار إلى الحسين علیه السلام --، فقاتِلْ دونه حتّى تموت. فقال له حبيب: لَأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله علیه ((3)) وحلّقت روحه إلى ديار الخلد.

وروى محمّد بن أبي طالب قال: قال: فصاحت جاريةٌ له: يا سيّداه، يا ابن عوسجتاه.

فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين: قتلنا مسلم بن عوسجة. فقال شبث بن ربعيّ لبعض من حوله: ثكلتكم أُمّهاتكم، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّون عزّكم، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة؟ أما والّذي أسلمت له، لَرُبّ موقفٍ له في المسلمين كريم، لقد رأيتُه يوم

ص: 232


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 296.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 106.

آذربيجان قتل ستّةً من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين((1)).

وفي (البحار): فدعا عمر بن سعد بال-حُصين بن نمير في خمسمئةٍ من الرماة، فاقتبلوا حتّى دنوا من الحسين وأصحابه، فرشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وقاتلوهم حتّى انتصف النهار، واشتدّ القتال، ولم يقدروا أن يأتوهم إلّا من جانبٍ واحد؛ لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوّضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون فيشدّون على الرجل يعرض وينهب، فيرمونه عن قريبٍ فيصرعونه فيقتلونه.

فقال ابن سعد: أحرقوها بالنار! فأضرموا فيها، فقال الحسين علیه السلام : «دعوهم يحرقوها؛ فإنّهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم»، فكان كما قال علیه السلام.

وقيل: أتاه شبث بن ربعيّ وقال: أفزعنا النساء، ثكلتك أُمّك. فاستحيا، وأخذوا لا يقاتلونهم إلّا من وجهٍ واحد ((2)).

وقال أبو مخنف: وحمل شمر (لعنه الله) حتى طعن فسطاط النساء، وقال: علَيّ بالنار حتّى أُحرق بيوت الظالمين. فحمل أصحاب الحسين علیه السلام وقالوا: يا ويلك يا شمر! تحرق حرم رسول الله صلی الله علیه وآله قال: نعم.

ص: 233


1- ([1]) تسلية الجالس لابن أبي طالب: 2 / 289، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 20.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 20، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 290.

فرفع الحسين علیه السلام طرفه إلى السماء وقال: «اللّهمّ لايعجزك شمر أن تحرق جسده في النار يوم القيامة». فغضب شمر وقال: ويلكم! احملوا عليهم حملة رجلٍ واحدٍ حتّى تبيدوهم عن آخرهم. فحملوا عليهم، فتفرّقوا عن أيمانهم وعن شمائلهم، وجعلوا يرشقونهم بالنبل والسهام، حتّى صاروا بين طريحٍ وجريحٍ وذبيح ((1)).

وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه، فحمل عليهم زهير بن القَين رحمه الله في عشرة رجالٍ من أصحاب الحسين فكشفهم عن البيوت، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن فقتل من القوم وردّ الباقين إلى مواضعهم ((2)).

وفي (البحار): وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابيّ من أصحاب شمر، فلم يزل يُقتَل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلّتهم، ويُقتَل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم ((3)).

وفي (الإرشاد): واشتدّ القتال والتحم، وكثر القتل والجراح في أصحاب

ص: 234


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 330، وانظُر: جُمل أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 402.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 105.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، إلى أن زالت الشمس ((1)).

وفي (البحار): فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداويّ قال للحسين علیه السلام : يا أبا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوامنك، ولا والله لا تُقتَل حتى أُقتَل دونك، وأُحبّ أن ألقى الله ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة. فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: «ذكرتَ الصلاة، جعلك الله من المصلّين، نعم هذا أوّل وقتها»، ثمّ قال: «سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي» ((2)).

قال أبو مخنف: فأذّن الحسين علیه السلام بنفسه، فلمّا فرغ من الأذان نادى: «يا ويلك يا عمر بن سعد! أنسيتَ شرايع الإسلام؟ ألا تقف عن الحرب حتّى نصلّي وتصلّون، ونعود إلى الحرب؟»، فلم يُجبْه، فنادى الحسين علیه السلام: «استحوذ عليه الشيطان».

فنادى ال-حُصين بن نُمير (لعنه الله): يا حسين، صلِّ ما بدا لك، فإنّ الله لا يقبل صلاتك. فقال له حبيب بن مظاهر -- وكان واقفاً بين يدَي الحسين علیه السلام -- : ثكلَتك أُمّك وعدموك قومُك، وكيف لا تُقبَل صلاة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وتُقبل صلاتك يا ابن الخمّارة!

فغضب الحصين حين ذكر أُمّه، وبرز نحوه، وعند ذلك يقول:

دونك ضرب السيف يا حبيبُ***وافاك ليثٌ بطلٌ مُجيبُ

ص: 235


1- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 105.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

في كفّه مهنَّدٌ قضيبُ***كأنّه من لمعه حليبُ

ثمّ نادى: يا حبيب، ابرز إلى ميدان الحرب.

قال: فسلّم حبيب على الحسين علیه السلام وودّعه، وقال: واللهِ يا مولاي إنّي أرجو أن لا تنقضي صلاتك إلّا وأنا أُصلّي في الجنّة،وأقرأ جدّك وأباك وأُمّك وأخاك عنك السلام ((1)).

وفي بعض الأخبار: إنّ حبيب كان شيخاً كبيراً، صحب النبيّ صلی الله علیه وآله وسمع منه أحاديث كثيرة، وصحب أمير المؤمنين علیه السلام ولازمه، وكان حافظاً للقرآن، وكان لا ينام بعد صلاة العتمة حتّى الفجر يتلو القرآن، فلمّا طلب الإذن من الإمام الحسين علیه السلام قال له: «يا حبيب، إنّك الذكرى من جدّي، وإنّي آنس بك، وأنت شيخٌ كبيرٌ أجهد السنّ». فبكى حبيب وقال: يا ابن رسول الله، أُريد أن يبيضّ وجهي عند جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله، ويرضى عنّي أبوك، وتراني أُمّك فيمن نصرك، وأُريد أن أُحشَر يوم القيامة في المستشهدين بين يديك. فلمّا رأى منه الإمام هذا الإصرار أذن له وهو في أشدّ الحزن والحسرة عليه ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ برز (رضوان الله عليه) وهو يقول:

أنا حبيبٌ وأبي مظاهر***وفارس الهيجاء ليث قسور

ص: 236


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 331، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 65، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 70.
2- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 304.

وفي يميني صارمٌ مذكّر***وأنتم ذو عددٍ وأكثر

ونحن منكم في الحروب أصبر***أيضاً وفي كلّ الأُمور أقدر

واللهُ أعلى حُجّةً وأظهر***وفيكمُ نار الجحيم تسعر

ثمّ حمل على الحصين (لعنه الله) وضايقه في مجاله، وضربه على أُمّ رأسه، وقطع خيشوم جواده، وأرداه إلى الأرض، وهمّ أنيأخذ رأسه، فحمل عليه أصحابه واستنقذوه من يده ((1)).

وفي (المناقب): وقاتل قتالاً شديداً وهو يرتجز ((2)).

وعن محمّد بن أبي طالب: قتل اثنين وستّين رجلاً ((3)).

وفي (المناقب): ثمّ حمل عليه رجلٌ من بني تميم فطعنه، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير (لعنه الله) على رأسه بالسيف، فوقع ((4)) إلى الأرض ثانية.

قيل: نادى: يا ابن رسول الله أدركني! فركب الإمام الحسين علیه السلام فرسه

ص: 237


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 66.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26، وانظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 346.
3- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 346.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26.

فأدركه وبه رمَق، ففتح عينه ونظر إلى وجه الحسين علیه السلام نظرةً وقال: يا ابن رسول الله، هل عندك وصيّة إلى جدّك وأبيك أُبلّغها عنك؟ ثمّ قال: لله الحمد والمنّة أن خُضّبَت شيبتي بدمي. فبكى الإمام وقال: «يا حبيب، أبشِرْ بالجنّة، وإنّا على الأثر». فرحل حبيب بالبشارة إلى دار السرور، وسلّم روحه إلى بارئها ((1)).

قال محمّد بن أبي طالب: احتزّ رأسه الحصين بن نمير، وعلّقرأسه في عنق فرسه ((2)).

وفي (المناقب): نزل إليه التميمي الّذي طعنه، فاجتزّ رأسه.. فقال الحسين علیه السلام : «عند الله أحتسب نفسي وحُماة أصحابي» ((3)).

و قيل: بل قتله رجلٌ يُقال له: بديل بن صريم، وأخذ رأسه فعلّقه في عنق فرسه، فلمّا دخل مكّة ((4)) رآه ابن حبيب، وهو غلامٌ غير مراهق،

ص: 238


1- ([5]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 305.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26.
4- ([3]) كذا في المتن و(البحار) و(العوالم) و(الدمعة الساكبة) للبهبهانيّ و(الأسرار) للدربنديّ، ولعلّه تصحيف، فقد ورد بلفظ (الكوفة) في (مقتل الحسين علیه السلام ) للخوارزمي: 2 / 19، وبتفصيل انتقام القاسم بن حبيب من حامل رأس أبيه أيّام مصعب بن الزبير في: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 403، أنساب الأشراف: 3 / 195، تاريخ الطبري: 5 / 440، نفَس المهموم للقمّي: 271، الكامل لابن الأثير: 3 / 291، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 183.

فوثب إليه فقتله، وأخذ رأسه ((1)) ودفنه في مكّة!!!

قيل: إنّ في مكّة موضعٌ يُعرف بمزار رأس حبيب ((2)).

في (المنتخب): رُوي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يوماً مع جماعةٍ من أصحابه مارّاً في بعض الطرق، وإذا هُم بصبيانٍ يلعبون في ذلك الطريق، فجلس النبيّ عند صبيٍّ منهم وجعل يُقبّل مابين عينيه ويلاطفه، ثمّ أقعده في حِجره، وهو مع ذلك يُكثِر تقبيله، فقال له بعض الأصحاب: يا رسول الله، ما نعرف هذا الصبيّ الّذي قد شرّفتَه بتقبيلك وجلوسك عنده وأجلسته في حجرك، ولا نعلم ابن مَن هو! فقال النبيّ: «يا أصحابي، لا تلوموني؛ فإنّي رأيتُ هذا الصبيّ يوماً يلعب مع الحسين، ورأيتُه يرفع التراب من تحت أقدامه ويمسح به وجهه وعينيه مع صغر سِنّه، فأنا من ذلك اليوم بقيت أُحبّ هذا الصبيّ، حيث إنّه يحبّ ولدي الحسين، فأجبتُه لحبّ الحسين، وفي يوم القيامة أكون شفيعاً له ولأبيه ولأُمّه كرامةً له، ولقد أخبرني جبرائيل أنّه يكون هذا الصبيّ من أهل الخير والصلاح، ويكون من أنصار الحسين

ص: 239


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 270.
2- ([5]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 305.

في وقعة كربلاء، فلأجل هذا أحببته وأكرمته كرامةً للحسين علیه السلام » ((1)).

حُكي عن بعض الثقات أنّ هذا الصبيّ كان حبيب بن مظاهر الأسديّ المدفون في رواقٍ مستقلّ.

قال أبو مخنف: فلمّا قُتِل حبيب بان الانكسار في وجه الحسين علیه السلام ، فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((2)).

فقام زهير بن القين وقال: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، ما هذا الانكسار الّذي أراه منك؟ ألسنا على الحقّ؟ قال: «بلى وإلهِ الخلق، إنّي أعلم علماً يقيناً أنّي وإيّاكم على الحقّ والهدى الّذي يرضى به الله ورسوله». قال: فما بالك لا تريد لنا القتل حتّى نصير إلى الجنّة ونعيمها يا مولاي، وإلىربٍّ غفورٍ رحيم، أتأذن لي بالبراز إليهم؟ قال: «ابرز، شكر الله لك فعالك ورفع مقامك».

فبرز زهير بن القين، وأنشأ يقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ***وفي يميني مرهف الحدَّينِ

أذبّ بالسيف عن الحسينِ***ابنِ عليّ الطاهر الجدَّينِ

أضربكم ضرب غلامٍ زينِ***اليوم يق-ضي الدَّينَ أهلُ الدَّينِ

ونشتفى من قتل أهل الشَّينِ***بأبيضٍ وأسمرٍ ودينِ

ص: 240


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 196 المجلس 10.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 333.

ثمّ حمل على القوم، فقتل منهم [أربعةً و] عشرين رجلاً، وخشيَ أن تفوته الصلاة، فرجع وقال: يا مولاي، إنّي خشيتُ أن تفوتني الصلاة معك، فصلِّ بنا ((1)).

وفي (البحار): فقال الإمام الحسين علیه السلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: «تقدّما أمامي حتّى أُصلّي الظهر»، فتقدّما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

ورُوي أنّ سعيد بن عبد الله الحنفيّ تقدّم أمام الحسين، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلّما أخذ الحسين علیه السلام يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عادٍ وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردتُ بذلك نصرة ذريّة نبيّك. ثمّ مات رضوان الله علیه، فوُجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوفوطعن الرماح.

وقيل: صلّى الحسين علیه السلام وأصحابه فرادى بالإيماء ((2)).

قال أبو مخنف: فصلّى مولانا أبو عبد الله الحسين علیه السلام بأصحابه صلاة الظهر، فلمّا فرغ عن الصلاة حرّضهم على القتال، وقال: «يا كرام، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتّصلَت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله صلی الله علیه وآله والشهداء

ص: 241


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 334.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

الّذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيّه، وذبّوا عن حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وحرم ذريّته».

ثمّ صاح بنسائه: «اُخرجن»، فخرجن منشرات الشعور، مهتّكات الجيوب، يبكين ويقلن: يا معاشر المسلمين، ويا عصبة الموحّدين، اَلله الله في ذريّة نبيّكم، غاروا عليهم، وحاموا عنهم. ثمّ صاح الحسين علیه السلام : «يا أُمّة التنزيل، ويا حفظة القرآن، حاموا عن هؤلاء الحريم، ولا تفشلوا عنهم». فلمّا سمعوا كلام الحسين علیه السلام بكوا بكاءً شديداً، ثمّ قالوا: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، نفوسنا دون نفسك الفداء، ودماؤنا دون دمك الوقاء، واللهِ لا يصل إليك واليهنّ سوءٌ وفينا عِرقٌ يضرب.

فقال الإمام علیه السلام : «جزاكم الله عنّا خيراً، وأبشروا بالجنّة، والقدومِ على جدّي محمّدٍ المصطفى، وأبي عليّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وأخي الحسن علیه السلام ، وجعفر الطيّار، والشهداء الّذين قُتلوا مع جدّي رسول اللهصلی الله علیه وآله وأبي عليّ المرتضى علیه السلام ، وكلّهم مشتاقون إليكم».

فلمّا سمع زهير هذا من الإمام علیه السلام ، برز إلى القوم وهو ينشد هذه الأبيات:

أقدِمْ حسيناً هادياً مهديّا***اليوم تلقى جدَّك النبيّا

مع الحسن والمرت-ضى عليّا***وذا الجناحين الفتى الكميّا

والله قد صيّرني وليّا***سبحانه لا زال وحدانيّا

ص: 242

في حبكم أُقاتل الدعيّا ((1))

ثمّ حمل على الأشقياء، فقتل منهم تسعة عشر رجلاً ((2)) وعجّل بهم إلى جهنّم والنيران.

وفي (البحار): برز زهير وهو يرتجز ويقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ***أذودكم بالسيف عن حُسينِ

إنّ حسيناً أحدُ السبطينِ***من عترة البرّ التقيّ الزينِ

ذاك رسول الله غير المين***أضربكم ولا أرى من شَينِ

يا ليت نفسي قُسمَت قسمينِ ((3))

وقال محمّد بن أبي طالب: فقاتل حتّى قَتل مئةً وعشرين رجلاً، فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبيّ ومهاجر بن أوس التميميّ فقتلاه،فقال الحسين علیه السلام حين صُرع زهير: «لا يبعدك الله يا زهير، ولعن قاتلك لعْنَ الّذين مُسخوا قردةً وخنازير» ((4)).

وفي (البحار): بعد شهادة سعيد بن عبد الله، ثمّ خرج عبد الرحمان بن عبد الله اليزني وهو يقول:

ص: 243


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 335، وانظُر: ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 71.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 160.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 295.

أنا ابن عبد الله من آل يزَنْ***ديني على دين حسينٍ وحسنْ

أضربكم ضرب فتىً من اليمنْ***أرجو بذاك الفوز عند المؤتمنْ

ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل ((1)).

وفي (اللهوف): فخرج عمرو بن قرطة الأنصاريّ، فاستأذن الحسينَ علیه السلام فأذن له ((2)).

وفي (المناقب): برز وهو يرتجز:

قد علمَت كتيبةُ الأنصارِ***أنّي سأحمي حوزة الذمارِ

ضرب غلامٍ غير نكس شاري***دون حسينٍ مهجتي وداري ((3))

وفي (الملهوف): فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سدادٍ وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين علیه السلام سهمٌإلّا اتّقاه بيده، ولا سيفٌ إلّا تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين علیه السلام سوءٌ حتّى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين علیه السلام وقال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، أوَفيت؟ فقال: «نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأْ رسول الله عنّي السلام، وأعلِمْه أنّي في الأثر». فقاتلَ

ص: 244


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 107.
3- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 350، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

حتّى قُتل رضوان الله علیه.

ثمّ برز جون مولى أبي ذرّ، وكان عبداً أسود، فقال له الحسين علیه السلام: «أنت في إذنٍ منّي، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتلِ بطريقنا». فقال: يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحس قِصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! واللهِ إنّ ريحي لمنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس علَيّ بالجنّة، فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي، لا والله لا أُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ((1)).

ثمّ برز للقتال وهو ينشد ويقول:

كيف يرى الكفّار ضرب الأسودِ***بالسيف، ضرباً عن بني محمّدِ

أذبّ عنهم باللسان واليدِ***أرجو به الجنّة يوم الموردِ

ثمّ قاتل حتّى قُتل، فوقف عليه الحسين علیه السلام وقال: «اللّهمّ بيّضْ وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمّدٍ وآل محمّد».

ورُوي عن الباقر علیه السلام ، عن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى، فوجدواجوناً بعد عشرة أيّام يفوح منه رائحة المسك رضوان الله علیه ((2)).

ثمّ برز عمرو بن خالد الصيداويّ، فقال للحسين علیه السلام: يا أبا عبد الله،

ص: 245


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 107، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

جُعلتُ فداك، قد هممتُ أن ألحق بأصحابك، وكرهتُ أن أتخلّف فأراك وحيداً بين أهلك قتيلاً. فقال له الحسين علیه السلام : «تقدّم، فإنّا لاحقون بك عن ساعة». فتقدّم فقاتل حتّى قُتل رضوان الله علیه ((1)).

وجاء حنظلة بن أسعد الشاميّ فوقف بين يدَي الحسين علیه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي -- وهي نصيحة مؤمن آل فرعون -- : يا قوم، إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والّذين من بعدهم، وما الله يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم، يا قوم، لا تقتلوا حسيناً، فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب مَن افترى ((2)).

وفي (المناقب): فقال له الحسين: «يا ابن سعد، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتَهم إليه من الحقّ، ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟»، قال: صدقت، جُعلتُ فداك، أفلا نروح إلى ربّنا فنلحق بإخواننا؟ فقال له: «رُحْ إلى ما هو خيرٌ لك من الدنياوما فيها، وإلى مُلكٍ لا يبلى». فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك، وجمع بيننا وبينك في جنّته. قال: «آمين،

ص: 246


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 109.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 109، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

آمين» ((1)).

وفي (اللهوف): فتقدّم فقاتل قتال الأبطال، وصبر على احتمال الأهوال، حتّى قُتل رضوان الله علیه ((2)).

وتقدّم سُويد بن عمرو بن أبي المطاع، وكان شريفاً كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتّى سقط بين القتلى وقد أُثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون: قُتل الحسين علیه السلام ، فتحامل، وأخرج من خُفّه سكّيناً وجعل يقاتلهم بها حتّى قُتل رضوان الله علیه((3)).

وفي (المناقب): فخرج يحيى بن سُليم المازنيّ وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل.

ثمّ خرج من بعده قُرّة بن أبي قُرّة الغِفاريّ وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل.

وخرج من بعده مالك بن أنس المالكيّ ((4))، وهو يرتجز ويقول:

قد علمَت مالكها والدودان***والخندفيّون وقيس عيلان

ص: 247


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 23.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 110.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 111.
4- ([4]) كذا في المتن و(البحار)، وفي (مناقب آل أبي طالب): (الكاهليّ).

بأنّ قومي آفة الأقران***لدى الوغى وسادة الفرسان

مباشرو الموت بطعنٍ آن***لسنا نرى العجز عن الطعان

آل عليّ شيعة الرحمان***آل زيادٍ شيعة الشيطان

ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((1)).

وقال ابن نما: اسمه أنس بن حارث الكاهليّ ((2)).

و في (المناقب): ثمّ خرج من بعده عمرو بن مطاع الجُعفي وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((3)).

وفي (البحار): ثمّ خرج الحجّاج بن مسروق، وهو مؤذّن الحسين علیه السلام ، ويقول:

أَقدِم حسين هادياً مهديّا***اَليوم تلقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندا عليّا***ذاك الّذي نعرفه وصيّا

والحسن الخير الرضي الوليّا***وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

ص: 248


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 342، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 24.
2- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 63، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 343، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.

ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((1)).

قال أبو مخنف: وبرز هلال بن نافع ((2)) البجَليّ، وكان قد ربّاهأمير المؤمنين علیه السلام ، وكان من الفرسان المعروفة والشجعان الموصوفة، ورامياً بالنبل، وكان يكتب اسمه واسم أبيه في النبلة ويرمي بها من كبد قوسه، فلم تخطُ عدوّه، فجعل في كبد قوسه نبلة، وأنشأ يرتجز ... ثمّ حمل على القوم ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم رجالاً وجدّل أبطالاً ((3)).

وفي (البحار): فلم يزل يرميهم حتّى فُنيَت سهامه، ثمّ ضرب يده إلى سيفه فاستلّه وجعل يقول:

أنا الغلام اليمنيّ البجَلي***ديني على دين حسينٍ وعلي

إنْ أُقتَل اليوم فهذا أملي***فذاك رأيي وأُلاقي عملي

فقتل ثلاثة عشر رجلاً، فكسروا عضديه وأُخِذ أسيراً، فقام إليه (الدعيّ) شمر فضرب عنقه ((4)).

ص: 249


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
2- ([5]) اختُلف في اسمه: (هلال بن نافع) أو (نافع بن هلال)، والثاني هو المشهور، ومنهم مَن قال بالتعدّد.
3- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 341، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 108.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27.

ثمّ برز إبراهيم بن الحصين وارتجز.. ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم سبعين رجلاً وقُتِل ((1)).

وبرز المعلّا بن المعلّا، وكان معروفاً بالشدّة والبأس والصعوبة والمراس، وأنشأ يقول:

أنا المعلّا وأنا ابن البجَلي***ديني على دين الحسين بن علي

أضربكم بصارمٍ لم يفللِ***واللهُ ربّي حافظي من زللِ

وناصري، ثمّ مزكّي عملي***يوم معادي، وبه توكّلي

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قَتل من القوم أربعةً وعشرين رجلاً، ثمّ أخذوه أسيراً وأوقفوه بين يدَي ابن سعد (لعنه الله)، فقال: لله درّك من رجل، ما أشدّ نصرتك لصاحبك. ثمّ ضرب عنقه ((2)).

وبرز الطرمّاح بن عَديّ، وقاتل قتالاً شديداً ثمّ قُتل ((3)).

ثمّ برز المعلّى بن حنظلة الغفاري، وجعل يقاتل حتّى انكسر رمحه في يده، فانتضى سيفه، وجعل يضاربهم حتّى كَلّ ساعدُه، وقتل منهم مقتلةً عظيمة، فكبا به جواده فرماه على وجهه إلى الأرض، فداروا به من كلّ

ص: 250


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342، وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 350: (فقتل منهم أربعةً وثمانين رجلاً).
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342 -- عن: أبي مِخنف.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342.

جانبٍ ومكان، وقتلوه ضرباً وطعنا ((1))، رحمة الله عليه ورضوانه.

وبرز جابر بن عروة الغفاريّ، وكان شيخاً كبيراً قد شهد مع رسول الله صلی الله علیه وآله يوم بدرٍ وحُنين، وجعل يشدّ وسطه بالعمامة، ودعا بعصابةٍ حمراء فعصّب بها حاجبيه ورفعها عن عينيه، والحسين علیه السلام ينظر إليه وهو يقول: «شكر الله لك فعالك يا شيخ».

ثمّ حمل على القوم وهو يقول:

قد علمَت حقّاً بنو غفارِ***وخندفٍ ثمّ بنو نزارِ

ينصرنا لأحمد المختارِ***يا قوم حاموا عن بني الأطهارِ

الطيّبين السادة الأبرارِ***صلّى عليهم خالق الأشجارِ

ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم ستّين رجلاً، ثمّ استُشهد بين يدَي الإمام ((2)).

وبرز من بعده مالك بن داوود وهو ينشد ويقول:

إليكم من بطل ضرغامِ***ضرب فتىً يحمي عن الإمامِ

يرجو ثواب الملِك العلّامِ***سبحانه مقدّر الأعوامِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم خمسة عشر

ص: 251


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 343، مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 73 وفيه: (قتل ثمانين فارساً).

رجلاً، ثمّ قُتل ((1)).

وفي (البحار)، عن محمّد بن أبي طالب: ثمّ خرج شابٌّ قُتل أبوه في المعركة، وكانت أُمّه معه، فقالت له أُمّه: اخرج يا بُنيّ وقاتل بين يدَي ابن رسول الله. فخرج، فقال الحسين: «هذا شابٌّ قُتل أبوه، ولعلّ أُمّه تكره خروجه»، فقال الشابّ: أُمّي أمرتني بذلك! فبرز وهو يقول:

أميري حسينٌ ونعم الأمير***سرورُ فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمةٌ والداه***فهل تعلمون له من نظير؟

له طلعةٌ مثل شمس الضحى***له غُرّةٌ مثل بدرٍ منير

وقاتل حتى قُتل وجُزّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين علیه السلام ، فحملَت أُمّه رأسه وقالت: أحسنت يا بُنيّ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني. ثمّ رمت برأس ابنها رجلاً فقتلَته، وأخذت عمود خيمته وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفةْ***خاويةٌ باليةٌ نحيفةْ

أضربكم بضربةٍ عنيفةْ***دون بني فاطمة الشريفةْ

وضربت رجلين فقتلتهما، فأمر الحسين علیه السلام بصرفها، ودعا لها ((2)).

ثم برز جُنادة بن الحرث الأنصاريّ وهو يقول:

ص: 252


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 343، مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 74.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، تسلیة المجالس لابن أبي طالب: 2 / 297.

أضِقِ الخناق من ابن هندٍ وارمه***من عامه بفوارس الأنصارِ

ومهاجرين مخضِّبين رماحهم***تحت العجاجة من دم الكفّارِ

خضبت على عهد النبيّ محمّدٍ***فاليوم تُخضَب من دم الفجّارِ

واليوم تُخضب من دماء أراذلٍ***رفضوا القران لنصرة الأشرارِ

طلبوا بثأرهمُ ببدرٍ إذ أتوا***بالمرهفات وبالقنا الخطّارِ

والله ربّي لا أزال مضارباً***في الفاسقين بمرهفٍ بتّارِ ((1))

ثمّ خرج عبد الرحمان بن عروة فقال:

قد علمَت حقّاً بنو غفارِ***وخندفٍ بعد بني نزارِ

لنضر بنّ معشر الفجّارِ***بكلّ عضبٍ ذكر بتّارِ

يا قوم ذودوا عن بني الأخيارِ***بالمشرفيّ والقنا الخطّارِ

ثمّ قاتل حتى قُتل ((2)).

ص: 253


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 347، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 28، وفي (البحار) وغيره الأبيات لعمرو بن جُنادة، أمّا جُنادة نفسه فقد ارتجز بقوله -- كما في (مناقب آل أبي طالب) و(البحار) وغيرهما: أنا جنادٌ وأنا ابن الحارث***لستُ بخوّارٍ ولا بناكث عن بيعتي حتّى يرثني وارث***اليوم شلوي في الصعيد ماكث
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 28.

و جاء عابس بن أبي شبيب الشاكريّ معه شوذب مولى شاكر، وقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما أصنع؟ أُقاتل حتّى أُقتَل! قال: ذاك الظنّ بك، فتقدّمْ بين يدَي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرَك، فإنّ هذا يومٌ ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما نقدر عليه، فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب.

فتقدّم فسلّم على الحسين علیه السلام ، وقال: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزّ علَيّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيءٍ أعزّعلَيّ مِن نفسي ودمي لَفعلت، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك. ثمّ مضى بالسيف نحوهم.

قال ربيع بن تميم: فلمّا رأيتُه مُقبلاً عرفتُه، وقد كنتُ شاهدتُه في المغازي، وكان أشجع الناس، فقلت: أيّها الناس، هذا أسد الأُسود، هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجنّ إليه أحدٌ منكم! فأخذ ينادي: ألا رجل، ألا رجل؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة مِن كلّ جانب. فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثمّ شدّ على الناس، فوَاللهِ لقد رأيت يطرد أكثر من مئتين من الناس ((1)).

قال الربيع: كان بيني وبين عابس صداقة، قلت: يا عابس، أما تتحاذر

ص: 254


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 345.

تخوض بحر الحرب مكشوف الرأس؟ فقال عابس ما مضمونه: ما أصاب المحبّ في طريق حبيبه سهل ((1)).

ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب، فقُتل، فرأيت رأسه في أيدي رجالٍ ذوي عدّة، هذا يقول: أنا قتلتُه، والآخَر يقول كذلك، فقال عمر بن سعد: لا تختصموا، هذا لم يقتله إنسانٌ واحد. حتّى فرّق بينهم بهذا القول ((2)).

ثمّ جاءه عبد الله وعبد الرحمان الغفاريّان، فقالا: يا أبا عبد الله، السلام عليك، إنّه جئنا لنُقتَل بين يديك وندفع عنك. فقال: «مرحباً بكما، ادنُوا منّي»، فدنوَا منه وهما يبكيان، فقال: «يا ابنَي أخي،ما يُبكيكما؟ فوَاللهِ إنّي لَأرجو أن تكونا بعد ساعةٍ قريرَي العين». فقالا: جعلنا الله فداك، واللهِ ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك. فقال: «جزاكما الله -- يا ابنَي أخي -- بوجدكما من ذلك ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتّقين». ثمّ استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول الله. فقال: «وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته». فقاتَلا حتّى قُتلا ((3)).

ص: 255


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 307، وفيه ضمّن هذا المعنى في أبياتٍ من الشعر على لسان عابس رضوان الله علیه.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29.

قال: ثمّ خرج غلامٌ تركيٌّ كان للحسين علیه السلام ، وكان قارئاً للقرآن ((1)).

ورُوي أنّه لمّا استأذن من الإمام علیه السلام قال له علیه السلام: «إنّي قد وهبتُك لوَلَدي زين العابدين علیه السلام ، فاطلب الرخصة منه».

فجاء الى الإمام السجاد علیه السلام فقال: إنّي استأذنتُ أباك للبراز، فقال: إنّ أمري بيدك، فلو أذنتَ لي سيّدي حتى أُضحّي بنفسي دون أبيك. فقال له الإمام السجّاد علیه السلام : «إنّي قد أعتقتُك، ولك أن تختار ما تحبّ».

فجاء الغلام الى الإمام الهمام علیه السلام فحكى له ما جرى، ثمّ استأذن فأذن له، فجاء الى خيمة النساء وقال: يا سيّدات الخدر والعزّة والكرامة، خدمتكم مدّةً من الزمان، فأرجو أن تعذروني، وتجعلوني في حِلٍّ من كلّ تقصيرٍ بدا منّي، وأن لا تنسوني في القيامة.فلمّا سمع النساء قوله ارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فودّعهم، وخرج الى الميدان وهو يرتجز، فأمر الإمام السجّاد علیه السلام فرفعوا له طرف الخيمة لينظر إلى غلامه كيف يقاتل ((2)).

وفي (المناقب): فجعل يقاتل ويرتجز ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي***والجوّ من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي***ينشقّ قلب الحاسد المبجّلِ

ص: 256


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30.
2- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 308.

فقتل جماعة، ثمّ سقط صريعاً، فجاءه الحسين علیه السلام فبكى، ووضع خدّه على خدّه، ففتح عينه فرأى الحسين علیه السلام ، فتبسّم، ثمّ صار إلى ربّه ((1)).

ثمّ رماهم يزيد بن زياد بن الشعثاء بثمانية أسهم، ما أخطأ منها بخمسة أسهم، وكان كلّما رمى قال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ سدِّدْ رميته، واجعل ثوابه الجنّة». فحملوا عليه فقتلوه ((2)).

قيل: إنّ المختار قال لأبي عمارة: لمَ تتغافل عن قاتل ابن الشعثاء؟ وهو طارق بن أبي زبالة، فقال أبو عمارة: أيّها الأمير، إنّ طارق أخو زوجتي، وأنا عازمٌ على أخذه، غير أنّ امرأتي تخفيه عنّي وتتوسّل بي أن أتركه. قال الأمير: لابدّ مِن إحضاره! فأحضره أبو عمارة، فجعل يتوسّل بالأمير ويطلب العفو، فقال المختار: لا تحزن، سأُطلقك الساعة. ثمّ قال لبشير الجلّاد: قطّعه أمامي آراباً.ففعل بشير، وعجّل الله له العقوبة في الدنيا ((3)).

و قال ابن نما: حدّث مهران مولى بني كاهل، قال: شهدتُ كربلاء مع الحسين علیه السلام ، فرأيتُ رجلاً يقاتل قتالاً شديداً، لا يحمل على قومٍ إلّا كشفهم، ثمّ يرجع إلى الحسين علیه السلام ويرتجز ويقول:

أبشِرْ هديت الرشد تلقى أحمدا***في جنّة الفردوس تعلو صعدا

ص: 257


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 348.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30.
3- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 171.

فقلت: مَن هذا؟! فقالوا: أبو عمرو النهشلي، وقيل: الخثعمي، فاعترضه عامر بن نهشل أحد بني اللات من ثعلبة فقتله واجتزّ رأسه، وكان أبو عمرو هذا متهجّداً كثير الصلاة.

وخرج يزيد بن مهاجر فقتل خمسةً من أصحاب عمر بالنشّاب، وصار مع الحسين علیه السلام وهو يقول:

أنا يزيدٌ وأبي المهاجر***كأنّني ليثٌ بغيل خادر

يا ربّ إنّي للحسين ناصر***ولابن سعدٍ تاركٌ وهاجر ((1))

وفي (البحار): وتقدّم سيف بن أبي الحارث بن سريع ومالك بن عبد الله بن سريع الجابريّان --- بطنٌ من همدان، يقال لهم: بنو جابر -- أمام الحسين علیه السلام ، ثمّ التقيا فقالا: عليك السلام يا ابن رسول الله. فقال: «عليكما السلام». ثمّ قاتلا حتّى قُتلا ((2)).

ورُوي أنّه خرج من كبد الصحراء رجلٌ كالبرق اللامع والبدر الساطع، مدجَّجٌ بالسلاح، ممتطياً صهوة الجواد، فجال في الميدان يميناً وشمالاً، فلمّا فرغ من المطاردة والجولان في الميدان نادى: أنا هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص، ابن عمّ عمر بن سعد. ثمّ استقبل الإمام الحسين علیه السلام وقال: السلام

ص: 258


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30، مثير الأحزان لابن نما: 57، 61.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 31.

عليك يا ابن رسول الله، إن كان هوى ابن عمّي عمر بن سعد في حربك، فإنّي جئتُ لأفديك بروحي، وأطلب الإذن للقتال، لأُقتَل بين يديك وأُحشَر في المستشهدين في سبيلك. فدعا له الإمام، وأذن له.

فاستقبل ميدان الحرب والطعن والضرب، وقال: لا أُريد من هذا الجيش غير ابن عمّي عمر بن سعد. فلمّا سمع الملعون أخذَته رعدة وارتعشت أوصاله الخبيثة خوفاً وفرقاً؛ لأنّه كان يعرف شجاعة هاشم، فالتفت إلى معسكره وقال: يا فرسان الكوفة والشام، إنّ هذا الفارس ابن عمّي، وليس من المصلحة أن أخرج إلى مبارزته، فمَن منكم يبرز إليه ويأتيني برأسه؟ فتقدّم سمعان ((1)) بن مقاتل -- وهو أمير حلب، وكان مغروراً بشجاعته، وقد أقبل في زهاء ألف فارسٍ لمعاضدة ابن زياد -- فقال: أنا له.

فبرز الملعون حتّى وقف أمام هاشم وقال: يا عظيم العرب، أيّ حمقٍ هذا؟! تترك مال الدنيا وجاهها، وتلقي نفسك إلى التهلكة!! قال هاشم: يا لكع، يا ساف، أيّ إنصافٍ هذا أن تترك النعيم المقيم وتستبدله بزخارف الدينا الزائلة وبهرجها الفاني، وتجرّد سيفك للفاسق الفاجر يزيد على ابن رسول الله؟! وهل يفعل ذلك مَن يؤمنبالله واليوم الآخر؟

فأراد سمعان أن يفوه بكلامٍ آخر، فصرخ هاشم ولكز فرسه وحمل عليه، فاستقبله سمعان برمحٍ سدّده إلى صدره، فراغ عنها هاشم، ثمّ ضربه

ص: 259


1- ([1]) في المتن: (شمعان) في المواضع كلّها، وما أثبتناه من (روضة الشهداء).

بالسيف ضربةً قدّته حتّى بلغت ظهر الفرس، فارتفع التكبير في معسكر الإمام الحسين علیه السلام ، فحمل النعمان (أخو سمعان) بالألف فارس الّذين كانوا تحت إمرة سمعان على هاشم، فألقى نفسه في لهوات الحرب، وهجم عليهم يضربهم يميناً وشمالاً ويرمي رؤوسهم على الأرض كأوراق الخريف المتساقطة.

فلمّا رأى الإمام الحسين علیه السلام هاشماً يقاتل ألف فارس، انتدب إليه أخاه الفضل بن عليّ في تسعة نفر مدداً وردءاً لهاشم، فلمّا رأى ابن سعد الخبيث خروج العشرة لنجدة هاشم، انتدب ألفاً وأمرهم أن يقطعوا عليهم ويمنعوهم لئلّا يقتربوا من هاشم ويدفعوا عنه، فاعترض الألف أُولئك العشرة، ووقع بينهم قتالٌ عظيم، واشتعلت نار الحرب واستعر أوارها وارتفع قتامها، والفضل بن عليّ يجول في الميدان يحصد الرؤوس ويرمي الجثث على الأرض، وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، حتّى رموا فرسه بسهمٍ وعقروا به، واحتوشوه وأصحابه التسعة، وتكاثروا عليهم حتّى قتلوهم أجمعين، وبادروا إلى هاشم وأحاطوا به مع مَن سبقهم، والنعمان بن مقاتل يصرخ فيهم: عجّلوا الانتقام، وخذوا منه ثار أخي!

بينا هم كذلك إذ بادر هاشم إلى النعمان، وتناوله من ظهره واختطفه من فوق سرج فرسه وضرب به الأرض ضربةً فتهشّمت عظامه، وعجّل بروحه إلى جهنّم.

ثمّ تقدّم هاشم إلى حامل اللواء، فضربه بالسيف ضربةً على أُمّرأسه

ص: 260

فسقط عن فرسه يخور بدمه، فلمّا رأى القوم فعل هاشم تنادوا: الحذر الحذر! وعزموا على الفرار، فجاءهم المدد الألف فارس الّذين أرسلهم عمر ابن سعد، فتكاثروا على الضيغم الهصور وأحاطوا بالبطل الغيور، فأثخنوه جراحاً، فضعف عن القتال وغلبه العطش، فخرّ إلى الأرض وقال: يا ابن رسول الله، الحمد لله الّذي رزقني الشهادة في سبيلك. ثمّ حلّقَت روحُه إلى رياض الرضوان ولحق بمنزلته في الجِنان ((1)).

ثمّ قال محمّد بن أبي طالب وغيره: وكان يأتي الحسين علیه السلام الرجل بعد الرجل فيقول: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه الحسين ويقول: «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ثمّ يقرأ: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ» ((2))، حتّى قُتلوا عن آخرهم ((3)).

لله كم بدرِ سعدٍ في التراب ثوى***وأنجمٍ في عراض الطفّ قد أفلوا

وكم وجوهٍ لقد أبلى محاسنها***حرُّ الظما وهجير الشمس والذبلُ

وكم رؤوسٍ على الأرماح قد رفعَت***ومن بخيع دمائها شيبها عطلُ

وفي (البحار): ولمّا قُتل أصحاب الحسين ولم يبقَ إلّا أهل بيته،وهم وُلد عليٍّ ووُلد جعفر ووُلد عقيل ووُلد الحسن ووُلده علیه السلام ، اجتمعوا يودّع

ص: 261


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 300.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.
3- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 31.

بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فأوّل مَن برز من أهل بيته عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأُمّه رقيّة بنت أمير المؤمنين علیه السلام ((1)).

قال أبو مخنف: فوقف بإزاء الحسين علیه السلام ، ثمّ قال: يا سيّدي، ائذن لي بالبراز. فقال علیه السلام : «كفاك وكفى أهلك من القتل والثكل». فقال عبد الله: يا عمّ، بأيّ وجهٍ ألقى الله (سبحانه) ورسوله، وقد أسلمت سيّدي ومولاي للقتال؟! واللهِ ما كان ذلك أبداً ((2)). ثمّ برز يقاتل.

وفي (البحار): برز وهو يرتجز ويقول:

اليوم ألقى مسلماً، وهو أبي***وفتيةً بادوا على دين النبي

ليسوا بقومٍ عُرفوا بالكذبِ***لكن خيارٌ وكرام النسبِ

مِن هاشم السادات أهل الحسبِ ((3))

ثمّ حمل على الأشقياء.

وقال محمّد بن أبي طالب: فقاتل حتّى قتل ثمانيةً وتسعين رجلاً في ثلاث حملات ((4)).

ص: 262


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 248 -- عن أبي مخنف.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 351.
4- ([4]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 302، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.

وفي (الإرشاد): ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو ابن صبيح عبدَ الله بن مسلم بن عقيل رحمه الله بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخَر برمحه فطعنه في قلبه فقتله ((1)).

فلمّا نظر الحسين إلى ذلك أقبل إليه وكشفهم عنه وحمله على جواده، وأقبل به إلى الخيمة فطرحه فيها، ثمّ رجع إلى أصحابه وقال: «يا قوم، احملوا بارك الله فيكم وبادروا إلى الجنّة، ودار الأمان خيرٌ من دار الهوان» ((2)).

وفي (البحار): برز بعد عبد الله محمّدُ بن مسلم بن عقيل، أُمّه أُمّ ولد، قتله -- فيما رويناه عن أبي جعفر محمّد الباقر علیه السلام -- أبو جرهم الأزديّ ((3)) ولقيط بن إياس الجُهنيّ ((4)).

وقال محمّد بن أبي طالب وغيره: ثمّ خرج من بعده جعفر بن عقيل، وهو يرتجز ويقول:

أنا الغلام الأبطحيّ الطالبي***من معشرٍ في هاشمٍ وغالبِ

ونحن حقّاً سادة الذوائبِ***هذا حسينٌ أطيبُ الأطايبِ

ص: 263


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 107.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 349 -- عن: أبي مِخنف.
3- ([3]) في المتن: (الأسدي).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.

من عترة البرّ التقيّ العاقبِ ((1))قال أبو مخنف: وهو يقول:

يا معشر الكهول والشبّانِ***أضربكم بالسف والسِّنانِ

أُرضي بذاك خالقَ الإنسانِ***ثمّ رسول الملِكِ الديّانِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قَتل منهم خمسةً وأربعين رجلاً، ثمّ قتله بِشر بن سوط الهمداني، وقيل: عروة بن عبد الله الخثعمي ((2)).

فعند ذلك جعل الحسين ينظر يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً، فبكى بكاءً شديداً، وجعل ينادي: «وا محمّداه، وا أبا القاسماه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عبّاساه!»، ثمّ نادى: «يا قوم! أما مِن مُجيرٍ يجيرنا، أما من معينٍ يعيننا، أما من طالب الجنة ينصرنا، أما من خائفٍ من عذاب الله فيذبّ عنّا؟»، فبكى بكاءً شديداً وهو يقول:

أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخَراً حين أفخرُ

وفاطمةٌ أُمّي، وجدّي محمّدٌ***وعمّي هو الطيّار في الخلد

جعفرُ بنا ظهر الإسلام بعد خموده***ونحن سراج الله في الأرض نزهرُ

وشيعتنا في الخلق أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسَرُ ((3))

ص: 264


1- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 349 -- عن: أبي مخنف.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 350 -- عن: أبي مخنف.

وفي (البحار): ثمّ خرج من بعده أخوه عبد الرحمان بن عقيل،وهو يقول:

أبي عقيلٌ، فاعرفوا مكاني***من هاشمٍ وهاشم إخواني

كهول صدقٍ سادة الأقرانِ***هذا حسينٌ شامخ البنيان

وسيّد الشيب مع الشبّانِ

فقتل سبعة عشر فارساً، ثمّ قتله عثمان بن خالد الجُهني ((1)).

وقيل: إنّ أبا عمرو جاء إلى المختار أيّام ولايته، ونادى: البشارة البشارة، جاؤوا بابن خالد قاتل عبد الرحمان بن عقيل. فقال المختار: من أين جاؤوا به؟ قال: أخذه شعر بن شعر من طريق البصرة. وكان راكباً على فرس عبد الرحمان، فلمّا جاؤوا بالفرس ضجّ الناس ولعنوه، فأمر الأمير أن يُشَدّ بين عمودين ويُضرَب، فبينا هم كذلك إذ دخل أبو عمرو وهو آخذٌ بيد غلامٍ كأنّ وجهه البدر في ليلة تمامه وكماله، له وفرة، وهما يبكيان، فسأله المختار: مَن يكون هذا الغلام؟ قال أبو عمرو: هذا ابن عبد الرحمان بن عقيل!

فلمّا سمع المختار ذلك قام من مكانه فوراً، ومشى إلى الغلام فضمّه إليه، وبكى بكاءً شديداً، ثمّ أجلسه إلى جنبه، وقال: ما تفعل في الكوفة يا نور عيني؟ قال: أيّها الأمير، اسمي القاسم، دخلتُ الكوفة منذ ثلاثة أيّام.

ص: 265


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.

قال المختار: أتيتها وحدك أم كان معك أحدٌ غيرك؟ قال: جئت مع أُمّي وثلاثٍ من أخواتي! لقد قتلوا والدي، فلمّا أرسل يزيد مسلمبن عقبة إلى المدينة فاستباحها ثلاثة أيّام وقَتل في مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله خلقاً كثيراً، حتّى بلغَت الدماء منبر النبيّ صلی الله علیه وآله وضريحه المقدّس، وهدم أشقياءُ بني أُميّة بيوتنا وأغلقوا علينا أبواب الرزق والمعاش، فمات الكثير منّا من الجوع والفقر، فحاصرنا الفقر والقلق، وصرنا نقضي أوقاتنا بمشقّةٍ وعُسر، حتّى صرنا في تلك الديار بمنزلة اليهود، بل كان اليهود عند أصحاب معاوية وآل مروان أفضل حالاً منّا، وسمعنا أنّ الله وفّقك لطلب ثار الإمام الحسين وصرتَ أمير العراقيين، فخرجنا إلى العراق لعلّ الله يفرّج عنّا ونأمن من جور الأعداء وأذاهم، فسمعتُ اليوم أنّهم جاؤوا بقاتل أبي، فجئت لأقتصّ منه. فقال المختار: يا نور عيني وعيني العالمين، هذا قاتل أبيك بين يديك، افعلْ به ما تشاء.

ثمّ أمر أن يُعطى القاسم سكّيناً، فأخذها القاسم، وطعن بها صدر اللعين طعنةً مزّق صدره حتّى بلغ سُرّته، ثمّ أمر المختار فخلعوا على القاسم خلعةً من رأسه حتّى قدمَيه، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار ذهب، وأرسل ألفَي دينار ذهبٍ إلى أُمّه وأخواته، وأعطاه إبراهيم ألفَي درهم، وأكرمه الأشراف كلٌّ حسب قدره، وحدّدوا له داراً، ونقلوا أهل بيت عبد الرحمان إلى تلك

ص: 266

الدار، وكانوا يأتونهم برزقهم بكرةً وعشيّاً ((1)).

وجيء بعبد الله الأسديّ وعروة بن كامل إلى المختار، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

وقتل عبدَ الله بن عقيل بن أبي طالب عثمانُ بن خالد بن أشيمالجهني وبشرُ بن حوط القابضي، وعبد الله الأكبر بن عقيل قتله عثمان بن خالد الجهني ورجلٌ من همدان، ومحمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب قتله لقيط بن ياسر الجهني ((3)).

وذكر محمّد بن عليّ بن حمزة ((4)) أنّه قتل في هذا اليوم جعفر بن محمّد بن عقيل وعليّ بن عقيل ((5)).

ثمّ وصلت النوبة إلى أولاد عبد الله بن جعفر الطيّار، وأُمّهم -- كما صرّح به بعض الثقات -- السيّدة زينب علیها السلام ((6)).

ص: 267


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 196.
2- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 163.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.
4- ([2]) في المتن: (أبي حمزة).
5- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.
6- ([4]) كامل البهائي للطبري: 647 الباب 28 الفصل 6، وانظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 60، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 150، روضة الشهداء للكاشفي: 315.

في (البحار): وخرج من بعده محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو يقول:

نشكو إلى الله من العدوانِ***قتال قومٍ في الردى عميانِ

قد تركوا معالم القرآنِ***ومحكمَ التنزيل والتبيانِ

وأظهروا الكفر مع الطغيانِ

ثمّ قاتل حتّى قتل عشرة أنفُس، ثمّ قتله عامر بن نهشل التميمي.

ثمّ خرج من بعده عون بن عبد الله بن جعفر، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابن جعفر***شهيد صدقٍ في الجنان أزهر

يطير فيها بجناحٍ أخضر***كفى بهذا شرفاً في المحشر

ثمّ قاتل حتّى قَتل من القوم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً، ثمّ قتله عبد الله بن بطّة الطائي ((1)).

وقال أبو الفرج: أنّ عبيد الله بن عبد الله بن جعفر قُتل مع الحسين علیه السلام بالطفّ ((2)).

ثمّ تقدّم أولاد الإمام الحسن علیه السلام:

روى أبو مخنف، عن حميد بن مسلم: أنّ الحسين علیه السلام بعد قتل أصحابه جعل ينادي: «وا غُربتاه، وا قلّة ناصراه! أما مِن معينٍ يعيننا؟ أما من ناصرٍ

ص: 268


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.
2- ([2]) مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 61، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.

ينصرنا؟ أما من ذابٍّ يذبّ عنّا؟». فخرج إليه غلامان كأنّهما قمران: أحمد، والآخَر القاسم بن الحسن علیه السلام ، وهما يقولان: لبّيك لبّيك، مُرنا بأمرك، صلّى الله عليك. فقال لهما: «حاميا عن حرم جدّكما رسول الله صلی الله علیه وآله» ((1)).

ثمّ برز القاسم بن الحسن علیهما السلام.

وفي (البحار): وهو غلامٌ صغيرٌ لم يبلغ الحلُم، فلمّا نظر الحسين إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غُشي عليهما، ثمّ استأذن الحسينَ علیه السلام في المبارزة، فأبى الحسين أن يأذن له، فلم يزل الغلام يقبّل يدَيه ورجليه ((2)).وروى الشيخ الطريحيّ في كتابه (المنتخَب): جاء القاسم بن الحسن وقال: يا عمّ، الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفرة. فقال له الحسين: «يا ابن الأخ، أنت من أخي علامة، وأُريد أن تبقى لأتسلّى بك»، ولم يُعطِه إجازةً للبراز، فجلس مهموماً مغموماً باكي العين حزين القلب، وأجاز الحسين إخوته للبراز ولم يجزه، فجلس القاسم متألّماً، ووضع رأسه على رجلَيه، وذكر أنّ أباه قد ربط له عوذةً في كتفه الأيمن وقال له: «إذا أصابك أل-مٌ وهمّ، فعليك بحلّ العوذة وقراءتها وفهم معناها، واعمل بكلّ ما تراه مكتوباً فيها»، فقال القاسم لنفسه: مضى سنينٌ علَيّ ولم يُصبني من مثل هذا الألم. فحلّ العوذة وفضّها، ونظر إلى كتابتها، وإذا فيها: «يا ولدي قاسم، أُوصيك: إنّك إذا رأيتَ عمَّك

ص: 269


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 379 -- عن: أبي مخنف.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.

الحسين علیه السلام في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء، فلا تترك البراز والجهاد لأعداء رسول الله، ولا تبخل عليه بروحك، وكلّما نهاك عن البراز عاودْه ليأذن لك في البراز، لتحضى في السعادة الأبديّة».

فقام القاسم من ساعته، وأتى إلى الحسين علیه السلام وعرض ما كتب الحسن على عمّه الحسين، فلمّا قرأ الحسين العوذة بكى بكاءً شديداً، ونادى بالويل والثبور، وتنفّس الصُّعَداء، وقال: «يا ابن الأخ، هذه الوصيّة لك من أبيك، وعندي وصيّةٌ أُخرى منه لك، ولابدّ من إنفاذها». فمسك الحسين علیه السلام على يد القاسم وأدخله الخيمة، وطلب عوناً وعبّاساً، وقال لأُمّ القاسم: «ليس للقاسم ثيابٌ جُدُد؟»، قالت: لا. فقال لأُخته زينب: «ايتيني بالصندوق»، فأتَتْه به ووُضع بين يديه، ففتحه وأخرج منه قباء الحسن وألبسه القاسم، ولفّ على رأسه عمامة الحسن, ومسك بيدابنته الّتي كانت مُسمّاةً للقاسم فعقد له عليها، وأفرد له خيمة، وأخذ بيد البنت ووضعها بيد القاسم وخرج عنهما، فعاد القاسم ينظر إلى ابنة عمّه ويبكي، إلى أن سمع الأعداء يقولون: هل من مبارز؟ فرمى بيد زوجته وأراد الخروج، وهي تقول له: ما يخطر ببالك، وما الّذي تريد أن تفعله؟ قال لها: أُريد ملاقاة الأعداء، فإنّهم يطلبون البراز، وإنّي أُريد ملاقاتهم. فلزمَتْه ابنةُ عمّه، فقال لها: خلّي ذيلي، فإنّ عرسنا أخّرناه إلى الآخرة. فصاحت وناحت، وأنّت من قلبٍ حزين، ودموعها جاريةٌ على خدّيها وهي تقول: يا قاسم، أنت تقول: عرسنا أخّرناه إلى الآخرة، وفي القيامة بأيّ شيءٍ أعرفك، وفي أيّ

ص: 270

مكانٍ أراك؟ فمسك القاسم يده وضربها على ردنه وقطعها، وقال: يا بنت العمّ، اعرفيني بهذه الرُّدن المقطوعة. قال: فانفجع أهل البيت بالبكاء لفعل القاسم، وبكوا بكاءً شديداً، ونادوا بالويل والثبور.

فلمّا رأى الحسين أنّ القاسم يريد البراز، قال له: «يا ولدي، أتمشي برجلك إلى الموت؟»، قال: وكيف -- يا عمّ -- وأنت بين الأعداء وحيداً فريداً، لم تجد محامياً ولا صديقاً؟! روحي لروحك الفداء، ونفسي لنفسك الوقاء! ثمّ إنّ الحُسين

علیه السلام شقّ أزياق القاسم، وقطع عمامته نصفين ثمّ أدلاها على وجهه، ثمّ ألبسه ثيابه بصورة الكفن، وشدّ سيفه بوسط القاسم، وأرسله إلى المعركة.

ثمّ إنّ القاسم قدم إلى عمر بن سعد وقال: يا عمر، أما تخاف الله؟ أما تراقب الله يا أعمى القلب؟! أما تراعي رسول الله صلی اله علیه وآله فقال عمر بن سعد: أما كفاكم التجبّر؟ أما تطيعون يزيد؟ فقال القاسم: لا جزاك الله خيراً، تدّعي الإسلام وآل رسول الله عطاشى ظماء، قد اسودّت الدنيا بأعينهم.

فوقف هنيهة، فما رأى أحداً يقدم إليه، فرجع إلى الخيمة، فسمعصوت ابنة عمّه تبكي، فقال لها: ها أنا جئتك. فنهضَت قائمةً على قدميها وقالت: مرحباً بالعزيز، الحمد لله الّذي أراني وجهك قبل الموت. فنزل القاسم في الخيمة، وقال: يا بنت العمّ، ما لي اصطبارٌ أن أجلس معكِ والكفّار يطلبون البراز. فودّعها وخرج، وركب جواده وحماه في حومة الميدان، ثمّ طلب المبارزة، فجاء إليه رجلٌ يُعدّ بألف فارس، فقتله القاسم، وكان له أربعة

ص: 271

أولادٍ مقتولين، فضرب القاسم فرسه بسوطٍ وعاد يقتل بالفرسان، إلى أن ضعفت قوّته، فهمّ بالرجوع إلى الخيمة، وإذا بالأزرق الشاميّ قد قطع عليه الطريق وعارضه، فضربه القاسم على أُمّ رأسه فقتله، وسار القاسم إلى الحسين وقال: يا عمّاه، العطش العطش! أدركني بشربةٍ من الماء. فصبّره الحسين، وأعطاه خاتمه وقال: «حطّه في فمك ومصّه».

قال القاسم: فلمّا وضعتُه في فمي، كأنّه عين ماء، فارتويتُ وانقلبتُ إلى الميدان ((1)).

وفي (البحار): فخرج ودموعه تسيل على خدَّيه، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابن الحسن***سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن

هذا حسينٌ كالأسير المرتهن***بين أُناسٍ لا سُقوا صوب المزن ((2))

وفي (المناقب): قال:

إنّي أنا القاسمُ من نسل علي***نحن وبيتِ الله أَولي بالنبي

من شمر ذي الجوشن أو ابن الدعي ((3))

وفي رواية الصدوق:

لاتجزعي نفس-ي، فكلٌّ فانِ***اليوم تلقين ذُري الجِنانِ((4))

ص: 272


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 365 المجلس 7.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 354.
4- ([2]) الأمالي للصدوق: 163، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 321.

وفي (البحار): وكان وجهه كفلقة القمر، فقاتل قتالاً شديداً حتّى قَتل على صغره خمسةً وثلاثين ((1)) رجلاً ((2)).

وفي رواية أبي مِخنف: قتل ستّين رجلاً ((3)).

وفي خبرٍ أنّ القاسم جعل همّته على حامل اللواء في معسكر الكفر والشقاء، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كلّ الجهات ((4)).

قال حميد بن مسلم: كنتُ في عسكر ابن سعد، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميصٌ وإزارٌ ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنّه كان اليسرى، فقال عمرو بن سعد الأزديّ: واللهِ لَأشدّنّ عليه. فقلت: سبحان الله! وما تريد بذلك؟ والله لو ضربني ما بسطتُ إليه يدي، يكفيه هؤلاء الّذين تراهم قد احتوشوه. قال: والله لَأفعلنّ. فشدّ عليه، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه ((5)).

وفي روايةٍ أُخرى: رماه الأشقياء بأحجار الجفاء، وهم ينادون:اقتلوا ابن الخارجيّ هذا! ثمّ إنّ سعيد بن عمرو شقّ بطنه، ويحيى بن وهب طعنه

ص: 273


1- ([3]) في المتن: (ثلاثين رجلاً).
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
3- ([5]) ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 77 -- عن: أبي مخنف.
4- ([6]) روضة الشهداء للكاشفي: 328، المنتخب للطريحي: 2 / 374 المجلس 7.
5- ([7]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.

بالرمح ((1)).

وفي (المنتخب): فضربه شيبة بن سعد الشاميّ بالرمح على ظهره فأخرجه من صدره، فوقع القاسم يخور بدمه، ونادى: يا عمّ أدركني! ((2))

قال ((3)): فجاء الحسين كالصقر المنقضّ، فتخلّل الصفوف، وشدّ شدّة الليث الحرب، فضرب عمْراً قاتله بالسيف، فاتّقاه بيده فأطنّها من المرفق، فصاح، ثمّ تنحّى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمْراً من الحسين، فاستقبلَته بصدورها وجرحته بحوافرها ووطأته ((4)) (يعني وطأت ابن الأمير المظلوم ابن الإمام علیهما السلام).

وجهد الأشقياء أن يستنقذوا قاتل القاسم من يد الإمام فلم يقدروا حتّى قتله، كما في (المنتخَب) ((5)).

قال المؤلّف:

لما بلغتُ هذا الموضع، ارتفعَت آهاتي وجرت دموعي من آماقي؛ إذ خطر ببالي تلك اللحظة الّتي وقع فيها المظلوم على الصعيد، يستغيث فلا يُغاث،

ص: 274


1- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 315.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 366 المجلس 7.
3- ([3]) في المتن: (قال حميد).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
5- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 366 المجلس 7.

ويستنصر فلا يُنصَر، فضجّت الملائكة إلى الله (تعالى) وقالت: يا ربّ، يُفعَل هذا بالحسين صفيِّك وابن نبيّك؟! قال: فأقام الله لهم ظلّ القائم علیه السلام وقال: بهذا أنتقم له من ظالميه! ((1))

اللّهمّ عجّلْ فرَجَه، وسهِّلْ مخرجه، بجاه محمّدٍ وآل محمّد.

أجل، بعد أن انتقم الإمام المظلوم للقاسم فقتل قاتله، جاء إلى القاسم، فرأى ذلك الفتى الغريب قد هشّمَت عوادي الأعادي بدنه الشريف، فصار في حالٍ لا يمكن أن يوصَف:

قد

أوطؤوه الصافنات، فصدره ال-***-مضمار للأصدار والأبرادِ

محطوم جسمٍ، هشّمت أضلاعه***وكسير ظهرٍ من خيول زيادِ

قال حميد بن مسلم: فانجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برجله ((2)).

قال أبو مخنف: فقال الحسين: «يعزّ واللهِ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك، أو يعينك فلا يُغني عنك، بُعداً لقومٍ قتلوك ((3))، صوتٌ واللهِ كثر

ص: 275


1- ([1]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 465 ح 3، الأمالي للطوسي: 418، دلائل الإمامة للطبري: 239، علل الشرائع للصدوق: 1 / 160، اللهوف لابن طاووس: 127، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 ح 3.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.

واتره وقلّ ناصره»، ثمّ احتمله ((1)).قال حميد بن مسلم: فكأنّي أنظر إلى رجلَي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي: ما يصنع؟ فجاء حتّى ألقاه بين القتلى من أهل بيته ((2)).

وفي (المنتخب): وحمل القاسمَ إلى الخيمة فوضعه فيها، ففتح القاسم عينه فرأى الحسين قد احتضنه وهو يبكي ويقول: «يا ولدي، لعن الله قاتليك، يعزّ والله على عمّك أن تدعوه وأنت مقتول، يا بُنيّ، قتلوك الكفّار، كأنّهم ما عرفوا مَن جدّك وأبوك». ثمّ إنّ الحسين علیه السلام بكى بكاءً شديداً، وجعلت ابنة عمّه تبكي، وجميع مَن كان منهم لطموا الخدود وشقّوا الجيوب ونادوا بالويل والثبور ((3)).

قال حميد: ثمّ قال: «اَللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُغادِرْ منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» ((4)).

ص: 276


1- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 170، الإرشاد للمفيد: 2 / 106، إعلام الورى للطبرسي: 246، مثير الأحزان لابن نما: 19.
2- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 170، الإرشاد للمفيد: 2 / 106، إعلام الورى للطبرسي: 246، مثير الأحزان لابن نما: 19.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 366 المجلس 7.
4- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.

قال المؤلّف:

تفيد الرواية السابقة أنّ القاسم لم يبلغ الحلُم، وأنّ الإمام المظلوم حمله إلى الخيمة وصدره على صدره ورجلاه تخطّان الأرض، ولا يمكن تصوّر هذه الحالة إلّا أن يقال أنّ ظهر الإمام قد انحنى من شدّة المصيبة وأضحى كالوتَد من الغمّ والهمّ والحزن، وهو حالٌ يدركه تماماً مَن ابتُلي بفقد شابٍّ عزيز، سيّما إذا كان غريباً يتيماًمظلوماً، وديعةً وذكرى من أخيه الحبيب الحنون، وهو عرّيسٌ قد انقلب عرسه إلى يأسٍ وحرمان، ونداءٍ بالويل والثبور، وارتفعت فيه آهات الأُمّهات وندبة النساء. وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

قال أبو مخنف: ثمّ برز أحمد بن الحسن أخو القاسم، وله من العمر ستّة عشر سنة، وهو يقول:

إنّي أنا نجل الإمام ابن علي***نحن وبيتِ الله أولاد النبي

أضربكم بالسيف حتّى يلتوي***أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

ضرب غلامٍ هاشميٍّ علوي***حتّى تولّوا عن قتال ابن علي ((1))

ص: 277


1- ([1]) في المتن: إنّي أنا نجل الإمام ابن عليّ***نحن وبيتِ الله أَولي بالنبي أضربكم بالسيف حتّي يلتوي***أطعنكم عن دين جدّي وأبي واللهِ لايحكم فينا ابن الدعي

قال: ثمّ حمل على القوم، فقاتل حتّى قتل منهم ثمانين رجلاً أو يزيدون، ثمّ رجع إلى الحسين علیه السلام وقد غارت عيناه في أُمّ رأسه، وهو ينادي: يا عمّاه! هل من شربةٍ أتقوّى بها على أعداء الله وأعداء رسوله؟ فقال له: «يا ابن أخي، اصبِرْ قليلاً، تلقى جدّك محمّداً المصطفى يسقيك شربةً لا ظمأ بعدها». فرجع الغلام وهو يقول:

إصبِرْ قليلاً، فالمُنى بعد العطش***فإنّ روحي بالجهاد تنكمش

لا أرهب الموت إذا الموت دهش***ولم أكن عند اللقا ذات رعش

ثمّ حمل على القوم فقتل منهم جماعة، وأنشأ يقول:

إليكم من بني المختار ضرباً***يشيب لوقعه رأس الرضيعِ

نبيد معاشر الفجّار جمعاً***بكلّ مهنّدٍ عضبٍ قطيعِ

ثمّ حمل على القوم فقتل منهم جماعة، وألحقه الله بأخيه إلى الجنّة ((1)).

ثمّ خرج عبد الله بن الحسن الّذي ذكرناه أوّلاً، وهو الأصحّ أنّه برز بعد القاسم، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا بن حيدرةْ***ضرغام آجامٍ وليث قسورةْ

أكيلكم بالسيف كيل السندرةْ***على الأعادي مثل ريح صرصرةْ

ص: 278


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 383، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 77 -- عن: أبي مخنف، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 318، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 369.

فقتل أربعة عشر رجلاً، ثمّ قتله هانئ بن ثبيت ((1)) الحضرميّ (لعنه الله) ((2)).

وكان أبو جعفر الباقر علیه السلام يذكر أنّ حرملة بن كاهل الأسديّ قتله ((3)).

ثمّ برز أبو بكر ابن الإمام الحسن علیهما السلام فقتل جماعة، ثمّضربه عبد الله ابن عقبة الغنَويّ فقتله، وقيل: قتله عقبة الغنوي ((4)).

إخوة الإمام الحسين علیهم السلام

في (البحار): ثمّ تقدمَت إخوة الحسين عازمين على أن يموتوا دونه، فأوّل مَن خرج منهم أبو بكر بن عليّ، واسمه: عُبيد الله، وأُمّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي التميميّة، فتقدم وهو يرتجز:

شيخي عليٌّ ذو الفخار الأطولِ***من هاشم الصدق الكريم المفضلِ

هذا حسين ابن النبيّ المرسَلِ***عنه نحامي بالحسام المصقلِ

تفديه نفسي من أخٍ مبجَّلِ

ص: 279


1- ([2]) في المتن: (شيث).
2- ([3]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 279، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 305.
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36 -- عن: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج.
4- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.

فلم يزل يقاتل حتّى قتله زحر بن بدر ((1)) النخعيّ، وقيل: عبيد الله ((2)) ابن عقبة الغنوي ((3)).

قيل: إنّ أمرأتين جاءتا إلى المختار ومعهما عبد الله بن منشار! قد أوثقتاه كتافاً، وقالتا: هذا عبد الله بن منشار قاتل أبي بكر بن عليّ، وطلب منّا تزويده بملابس وعباءة نسائيّة ليرتديها ويهرب من الكوفة، فنيّمناه، ثمّ هجمنا عليه سويّةً فأوثقناه كتافاً وقدناه إليك. فأمر المختار أن يُدفَع لكلّ واحدةٍ منهنّ نصف أموال عبد الله، وردّهن إلىأقاربهنّ.

ثمّ التفت المختار إليه وقال: يا ابن منشار، أتذكرني؟! إنّي أنا المختار الّذي قيّدني ابن زياد، فجئتَني وبصقتَ في وجهي! فجعل عبد الله يتوسّل توسّل العاجز الذليل، فقال الأمير: واللهِ لَأصلبنّك عرياناً، تصهرك الشمس حتّى تموت. ثم أمر فنفّذوا فيه الأمر وقتلوه بهذا العذاب، والحمد لله ((4)).

ثمّ برز من بعده أخوه عمر بن عليّ وهو يقول:

أضربكم ولا أرى فيكم زحر***ذاك الشقيّ بالنبيّ قد كفر

يا زحر يا زحر تدان من عمر***لعلّك اليوم تبوأ من سقر

ص: 280


1- ([2]) في المتن: (زجر بن بحر النخعي).
2- ([3]) في المتن: (عبد الله).
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.
4- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 168.

شرّ مكانٍ في حريقٍ وسعر***لأنك الجاحد يا شرّ البشر

ثمّ حمل على زحر قاتل أخيه فقتله، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً وهو يقول:

خلّوا عداه الله خلواً عن عمر***خلّوا عن الليث العبوس المكفهر

يضربكم بسيفه ولا يفر***وليس فيها كالجبان المنجحر ((1))

وفي (الإرشاد): فلمّا رأى العبّاس بن علي (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله، قال لإخوته من أُمّه -- وهم: عبد الله، وجعفر،وعثمان -- : يا بني أُمّي، تقدَّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا وُلد لكم ((2)).

وفي (البحار): ثمّ برز من بعده أخوه عثمان بن عليّ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، ورُوي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «إنّما سمّيتُه باسم أخي عثمان بن مظعون»، وأُمّه أُمّ البنين بنت حزام بن خالد من بني كلاب، وهو يقول:

إني أنا عثمان ذو المفاخر***شيخي عليٌّ ذو الفعال الظاهر

وإبن عمٍّ للنبيّ الطاهر***أخي حسينٌ خيرة الأخاير

وسيّد الكبار والأصاغر***بعد الرسول والوصيّ الناصر

ص: 281


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 37.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 109.

فرماه خولّي بن يزيد الأصبحيّ على جبينه فسقط عن فرسه، وجزّ رأسه رجلٌ من بني أبان بن حازم ((1)).

ثمّ برز من بعده أخوه جعفر بن علي، وهو ابن تسع عشرة سنة، وأُمّه أُمّ البنين أيضاً، وهو يقول:

إنّي أنا جعفر ذو المعالي***إبنُ عليّ الخير ذو النوالِ

حسبي بعمّي شرفاً وخالي***أحمي حسيناً ذي الندى المفضالِ

ثمّ قاتل، فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه ((2)).ثمّ برز أخوه عبد الله بن عليّ، وهو ابن خمس عشرة سنة ((3))، فقال العبّاس بن عليّ لأخيه من أبيه وأُمّه عبد الله بن عليّ: تقدَّمْ بين يدي حتّى أراك وأحتسبك، فإنّه لا وُلد لك. فتقدّم بين يديه وهو يقول:

أنا ابن ذي النجدة والإفضالِ***ذاك عليُّ الخير ذو الفعالِ

سيف رسول الله ذو النكالِ***في كلّ قومٍ ظاهر الأهوالِ

وشدّ عليه هانئ بن ثبيت ((4)) الحضرميّ فقتله ((5)).

ص: 282


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 37.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38.
3- ([1]) في البحار: (وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة).
4- ([2]) في المتن: (شيث).
5- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38 بتصرّفٍ يسير.

وتقدّم محمّد [الأصغر] بن عليّ بن أبي طالب، فقاتل حتّى قتله رجلٌ من تميم من بني أبان بن دارم.

وقيل: قُتل يومئذٍ إبراهيم بن عليّ بن أبي طالب.

وقيل: قُتل عبيد الله بن عليّ مع الحسين يوم الطفّ ((1)).

والظاهر أنّ عُبيد الله هذا هو نفسه أبو بكر بن عليّ المذكور آنِفاً، إذ أنّ أبا بكرٍ اسمه عُبيد الله أيضاً!!!

ويظهر من كلام صاحب الأمر (في زيارة الناحية) أنّ خمسةً من إخوة الإمام قُتلوا في الطفّ، وهم: العبّاس، وجعفر، وعثمان، ومحمّد، وعبد الله ((2)) (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 283


1- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 39.
2- ([5]) أُنظُر: الإقبال لابن طاووس: 574، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 66.

ص: 284

المجلس الثامن: في ذكر شهادة العبّاس وعليّ الأكبر وعليّ الأصغر

اشارة

روى أبو حمزة الثماليّ، قال: نظر عليُّ بن الحسين سيّد العابدين إلى عُبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فاستعبر، ثمّ قال: «ما مِن يومٍ أشدّ على رسول الله صلی الله علیه وآله مِن يوم أُحُد؛ قُتِل فيه عمُّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة؛ قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب»، ثمّ قال علیه السلام: «ولا يوم كيوم الحسين؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجلٍ يزعمون أنّهم مِن هذه الأُمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله عزوجل بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً»، ثمّ قال علیه السلام : «رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعَت يداه، فأبدل الله عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب علیه السلام ، وإنّ للعباس عند الله عزوجل منزلةً يغبطه

ص: 285

بها جميع الشهداء يوم القيامة» ((1)).

وفي البحار: كان العبّاس بن عليّ يُكنّى: أبا الفضل، وأُمّه أُمّ البنين بنت حزام الكلابيّة أيضاً، وهو أكبر وُلدها، وكان رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهَّم ورجلاه يخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم، وكان لواء الحسين علیه السلام معه ((2)).

وفي (المنتخَب): أنّ العبّاس بن عليّ علیه السلام كان حامل لواء أخيه الحسين علیه السلام ، فلمّا رأى جميع عسكر الحسين علیه السلام قُتلوا وإخوانه وبنو عمّه، بكى وأنّ إلى لقاء ربّه اشتاق وحنّ، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين علیه السلام وقال: يا أخي، هل رخصة؟ فبكى الحسين علیه السلام بكاءً شديداً حتّى ابتلّت لحيتُه المباركة بالدموع، ثمّ قال: «يا أخي، كنتَ العلامةَ من عسكري ومجمع عددنا، فإذا أنت غدوتَ يؤولُ جمعُنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب». فقال العبّاس: فداك روح أخيك يا سيّدي، قد ضاق صدري من حياة الدنيا، وأُريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين. فقال الحسين علیه السلام: «إذا غدوتَ إلى الجهاد، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء». فلمّا أجاز الحسين علیه السلام أخاه العبّاس للبراز، برز كالجبل العظيم وقلبه كالطّود الجسيم؛ لأنّه كان فارساً هماماً وبطلاً ضرغاماً، وكان جسوراً على الطعن والضرب في

ص: 286


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 298 ح 4، الأمالي للصدوق: 463 المجلس 70 ح 10.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 39.

ميدان الكفاح والحرب، فلمّا توسّط الميدان وقف وقال: يا عمربن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه، وبقيَ فريداً مع أولاده وهم عُطاشى قد أحرق الظمأُ قلوبهم، فاسقوه شربةً من الماء؛ لأنّ أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك، وهو مع ذلك يقول لكم: دعوني أخرج إلى أطراف الروم والهند، وأُخلّي لكم الحجاز والعراق، والشرط لكم إنّ غداً في القيامة لا أُخاصمكم عند الله حتّى يفعل الله بكم ما يريد.

فلمّا أوصل العبّاس إليهم الكلام عن أخيه، فمنهم مَن سكت ولم يرد جواباً، ومنهم من جلس يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعيّ (لعنهما الله)، فجاء نحو العبّاس وقال: يا ابن أبي تراب، قُل لأخيك: لو كان كلّ وجه الأرض ماءً وهو تحت أيدينا، ما أسقيناكم منه قطرةً، إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد. فتبسّم العبّاس، ومضى إلى أخيه الحسين وعرض عليه ما قالوا، فطأطأ رأسه إلى الأرض وبكى حتّى بلّ أزياقه، فسمع الحسين علیه السلام الأطفال ينادون: العطش، فلمّا سمع العبّاس ذلك رمق بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيّدي، أُريد اعتدّ بعدّتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربةً من الماء.

فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه ((1)) وتوجّه نحو الفرات.

قال أبو مِخنف: فأنشأ يرتجز ويقول:

ص: 287


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 305 المجلس 4.

أُقاتل اليوم بقلبٍ مهتدِ***أذبّ عن سبط النبيّ أحمدِ

أضربكم بالصارم المهنَّدِ***حتّى تحيدوا عن قتال سيّدي

إنّي أنا العبّاس ذو التودّدِ***نسل عليّ الطاهر المؤيَّدِ ((1))

ثمّ حمل على القوم، فمنعه الموكَّلون بالفرات من أخذ الماء.

ورُوي أنّ رجلاً من بني دارم قال: ويلكم! حُولوا بينه وبين الفرات ولا تُمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ أظمِئْه». فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك» ((2)).

وفي (المنتخَب): وكان قد جعل عمر بن سعد (لعنه الله تعالى) أربعة آلاف خارجيّ موكَّلين على الماء، لا يدَعون أحداً من أصحاب الحسين يشربون منه، فلمّا رأوا العبّاس قاصداً إلى الفرات أحاطوا به من كلّ جانبٍ ومكان، فقال لهم: يا قوم، أنتم كفرةٌ أم مُسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم أو في دينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء، والكلاب والخنازير يشربون منه، والحسين مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش؟ أما تذكرون

ص: 288


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 508 / 2، المقتل لأبي مخنف (المشهور): 57.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 109 / 2.

عطش القيامة؟! فلمّا سمعوا كلام العباس وقف خمسمئة رجلٍ ورموه بالنبل والسهام، فحمل عليهم ((1)).

وفي (البحار): وجعل يقول:لا

أرهبُ الموتَ إذا الموت رقا***حتّى أُواري في المصاليت لُقى

نف-سي لنفس المصطفى الطهروِقا***إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى ((2))

قيل: فقتل من القوم أربعمئة كافر، وفرّق الباقين يميناً وشمالاً وكشفهم عن المشرعة، وأقحم فرسه الفرات وملأ كفّه ماءً، فتذكّر عطش الإمام المظلوم وأهل بيته، فرمى الماء.

وفي (المنتخَب): فرمى الماء من يده وقال: واللهِ لا أشربه وأخي الحسين علیه السلام وعياله وأطفاله عُطاشى، لا كان ذلك أبداً ((3)).

ثمّ أنشأ يقول:

يا نفسُ هوني، فالحسين معطش***وبنوه والحرم المطهّر أجمعُ

واللهِ لم أشرب من الماءِ قطرةً***وأخي حسينٌ في العراق مضيَّعُ ((4))

ص: 289


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 306 المجلس 4.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
4- ([3]) مهيّج الأحزان لليزدي: 402، تذكرة الشهداء للكاشاني: 319 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وهمز فرسه، وأراد أن يُوصل الماء إلى الخيمة ((1)).

قال أبو مخنف: خرج وهو يرتجز ويقول:

يا نفسُ من بعد الحسين هوني***فبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين شاربُ المنون***وتشربين بارد المعينِ؟!

هيهات! ما هذا فعال ديني***ولا فعال صادق اليقينِ ((2))

ثمّ صعد من المشرعة، فأخذه النبل من كلّ مكانٍ حتّى صارت درعُه كالقنفذ ((3)).

وفي (المنتخَب): فاجتمع عليه القوم، فحمل عليهم فتفرّقوا عنه، وصار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق، فحاربهم محاربةً عظيمة، فصادفه نوفل الأزرق وضربه على يده اليمنى فبراها ((4)).

وفي (البحار): فأخذ السيف بشماله وحمل وهو يرتجز:

ص: 290


1- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
2- ([1]) في المتن: (أمينِ).
3- ([2]) مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 57، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 508.
4- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.

واللهِ إن قطعتُمُ يميني***إنّي أُحامي أبداً عن دِيني

وعن إمامٍ صادق اليقينِ***نجلِ النبيّ الطاهر الأمينِ ((1))

ورُوي أنّه قتل بيدٍ واحدةٍ مئةَ رجُل.

وفي (البحار): فقاتل حتّى ضعف، فكمن له الحكم بن الطفيل الطائيّ من وراء نخلةٍ فضربه على شماله ((2)).

وفي (المنتخب): فبرا كتفه الأيسر من الزند ((3)).وفي (البحار): فقال:

يا نفسُ لا تخشَي من الكفّارِ***وأبشِري برحمة الجبّارِ

مع النبيّ السيّد المختارِ***قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلِهم يا ربّ حرَّ النارِ ((4))

وفي (المنتخب): فحمل القربة بأسنانه ((5)).

ورُوي أنّه أخذ السيف بفيه، وحمل عليهم ويداه ينضحان دماً ((6)).

ص: 291


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
3- ([6]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
5- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
6- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 57.

فقاتل حتّى ضعف عن القتال، وغايته إيصال الماء إلى الخيمة والنساء والأطفال، فحملوا عليه جميعاً، وجاء سهمٌ فأصاب القربة فأُريق ماؤها ((1)).

وفي (البحار): ثمّ جاءه سهمٌ آخَر فأصاب صدره ((2)).

وقال أبو مخنف: فضربه رجلٌ منهم بعمودٍ من حديد ففلق هامته، وخرّ صريعاً إلى الأرض يخور بدمه، وهو ينادي: يا أبا عبد الله، عليك منّي السلام ((3)).

وروي أنّه نادى: يا أخا، أدرِكْ أخاك ((4)).

فلمّا رأى الحسين أخاه وقد انصرع، صرخ: «وا أخاه، واعبّاساه، مهجة قلباه! يعزّ واللهِ علَيّ فراقك» ((5))، وبكى بكاءً شديداً.

وفي (البحار): فقال الحسين علیه السلام : «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي» ((6)).

كسروا بقتلك ظهر سبطِ محمّدٍ***وبكسره انكسرت قوى الإسلامِ

قطعوا بقطع يدَيك أيدي السبط وان-***-قطعت به أيدي النبيّ السامي

ص: 292


1- ([4]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 335.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42، المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
3- ([6]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 59.
4- ([7]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 335.
5- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
6- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.

وفي (المنتخب): فبكى الإمام المظلوم حتّى أُغمي عليه ((1)).

قال أبو مخنف: وحمله على ظهر جواده، وأقبل به إلى الخيمة وطرحه، وبكى عليه بكاءً شديداً، حتّى بكى جميع مَن كان حاضراَ، وقال (صلوات الله عليه): «جزاك الله من أخٍ خيراً، لقد جاهدتَ في الله حقّ جهاده» ((2)).

قال المؤلّف:

دلّ خبر أبي مخنف على أنّ الإمام الحسين علیه السلام نقل أبا الفضل العبّاس إلى الخيمة، وظاهر رواية (البحار) ((3)) وغيره أنّه لم ينقله.

بل إنّ ظاهر بعض الأخبار تفيد أنّ كثرة الجراحات في بدنالمظلوم جعلَته أشلاء بحيث لا يمكن نقله، فقد رُوي عن محمّد بن أنس أنّه قال: كنتُ عند الإمام الحسين حين ارتفع صوت العبّاس مستغيثاً: يا أخي، أدرِكْ أخاك! فلمّا سمع الإمام صوت أخيه الحنون بكى، فلمّا رأيتُ بكاء الحسين وسمعتُ صوت العبّاس سارعتُ إلى الموضع، فرأيت العبّاس مرمَّلاً بالدماء مقطَّع الأعضاء، قد حلّقت روحه المقدّسة إلى جنان الخلد، فألقيتُ نفسي على بدنه المضرّج بالدماء، وارتفع منّي العويل واشتدّ البكاء، فبينا أنا كذلك إذ رأيتُ جماعةً من الفرسان والرجّالة أحاطوا بالبدن المقدّس الغارق بالدم،

ص: 293


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
2- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 59.
3- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 41، الإرشاد للمفيد: 2 / 110، وغيرهما.

وحملوا عليه بالرماح حملةً واحدةً حتّى قطّعوا لحم أعضائه إرباً إرباً ((1)).

وفي (البحار): فلمّا رآه الحسين؟ع؟ صريعاً على شاطئ الفرات، بكى وأنشأ يقول:

تعدَّيتُمُ يا شرّ قومٍ ببغيكم***وخالفتُمُ دين النبيّ محمّدِ

أما كان خير الرسل أوصاكمُ بنا***أما نحن من نجل النبيّ المسدّدِ؟

أما كانت الزهراء أُمّي دونكم***أما كان مِن خير البريّة أحمدِ؟

لُعنتم وأُخزيتم بما قد جنيتُمُ***فسوف تلاقوا حرّ نارٍ توقَّدِ ((2))

وعن القاسم بن أصبغ بن نُباتة قال: رأيتُ رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنتُ أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ماكِدتُ أعرفك! قال: إنّي قتلتُ شابّاً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمتُ ليلةً منذ قتلتُه إلّا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنّم فيدفعني فيها، فأصيح، فما يبقى أحدٌ في الحيّ إلّا سمع صياحي. قال: والمقتول العبّاس بن عليّ ((3)).

وفي كتاب (التبر المذاب): وحكى هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعيّ قال: لمّا أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، إذا بفارسٍ أحسن

ص: 294


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 336.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 41.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 306، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 86.

الناس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأس غلامٍ أمرد كأنّه القمر ليلة تمامه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس مَن هذا؟ فقال: هذا رأس العبّاس بن علي. قلت: ومَن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسديّ. قال: فلبثتُ أيّاماً وإذا بحرملة ووجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت له: لقد رأيتُك يوم حملتَ الرأس وما في العرب أنضر وجهاً منك، وما أرى اليوم لا أقبح ولا أسود وجهاً منك! فبكى وقال: واللهِ منذ حملتُ الرأس وإلى اليوم ما تمرّ علَيّ ليلةً إلّا واثنان يأخذان بضبعي، ثمّ ينتهيان بي إلى نارٍ تأجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى ((1)).

عن الإمام جعفر الصادق: «كانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى (العبّاس وجعفر وعثمان وعبد الله) تخرج إلى البقيع، فتندب بنيها أشجى ندبةٍ وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك، فلا يزاليسمع ندبتها ويبكي» ((2)).

قال المؤلّف:

كان تأثير شهادة العبّاس على الإمام الحسين أعظم من شهادة جميع الأنصار، وذلك أنّ الإمام تذكّر حنانه ومحبّته وفداءه، من قبيل:

ص: 295


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 218، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 281.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 59.

تقديم أبي الفضل إخوانه من أُمّه الواحد تلو الآخَر أمامه إلى ميدان الحرب، ثمّ إنّه بقيَ حتّى صكّ سمعَه استغاثةُ الصبية والنساء وصراخهنّ، وهنّ ينادين: العطش العطش، فحمل قربته متعجّلاً وأقدم إلى الميدان مُسرِعاً، والعطش قد أحرق كبده حتّى صار كصالية الغضا، فرفع كفّاً من الماء ليشرب فتذكّر عطش الحسين وأهل بيته، فرمى الماء، وجدّ وبذل غاية المجهود ليوصل الماء إلى تلك الخيام ليروي غليل الصبية والأيتام، حتّى قُطعَت يداه، فأخذ القربة بأسنانه وساق فرسه ودافع العدوّ لِيوصل الماء إلى تلك الأكباد الحرّى.

فكانت هذه الصور تطوف في خاطر الإمام، فيبكي ويندب أخاه، وقد اشتدّ به الوجد على أخيه حتّى أُغمي عليه من شدّة الألم، وقد زادت شهادة العبّاس من وحدة الإمام الغريب وراكمت عليه الهموم والغموم، حتّى صاح: «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي».

ويشهد لذلك -- أي: لقول الإمام هذه الكلمة عند شهادة العبّاس دون غيره -- ما رواه الشيخ المفيد (عليه الرحمة) في كتاب (الإرشاد)، وهي أقرب الروايات في بيان الواقع وإظهار السداد، قال:

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى فيأهله، قال لإخوته من أُمّه -- وهم: عبد الله، وجعفر، وعثمان -- : يا بَني أُمّي، تقدَّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا وُلد لكم.

فتقدّم عبدُ الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانئ بن ثُبيت

ص: 296

الحضرميّ ضربتين، فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن علي رحمه الله، فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خولّي بن يزيد الأصبحيّ عثمانَ بن عليّ رضی الله عنه، وقد قام مقام إخوته، فرماه بسهمٍ فصرعه، وشدّ عليه رجلٌ من بني دارم فاحتزّ رأسه.

وحملَت الجماعة على الحسين علیه السلام فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة ((1)) يريد الفرات، وبين يدَيه العبّاس أخوه، فاعترضَته خيلُ ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: ويلكم، حُولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام: «اللّهمّ أظمِئْه». فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى به، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك».

ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتِل رضوان الله علیه، وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفيّ وحكيم بن الطفيل السنبسيّ، بعد أن أُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً ((2)).

ص: 297


1- ([1]) المسنّاة: ترابٌ عالٍ يحجز بين النهر والأرض الزراعيّة (تاج العروس: 10 / 185 مادّة سنى).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 109.

قال المؤلّف:

يفيد هذا الحديث أنّ الإمام المظلوم قصد الفرات، ولم يكن معه سوى أخيه العبّاس يقاتل أمامه ويذبّ عنه ويقيه ويفدي الإمام العطشان بنفسه، بعد أن قضى كلُّ مَن معه حتّى المولى الأمير عليّ الأكبر، كما نصّت على ذلك روايةٌ أُخرى، ولذلك كان العبّاس قد شاهد كلّ ما جرى على الإمام من مصائب، إلّا مصيبة الطفل الرضيع، فهو شريكه في كلّ الهموم والغموم إلى تلك الساعة، وقد شاهد العبّاس وحدة المظلوم وغربته وبقاءَه وحيداً فريداً بين أُولئك الأوغاد الأدعياء، إذ لم يبقَ أحدٌ من المضحّين غيره، وكان هذا سبباً ومنشأً للكثير من الغموم والهموم والاهتمام بالنسبة للإمام ولأبي الفضل العبّاس، وكان العبّاس آخِر مَن بقي مع الإمام الغريب، مع كلّ ما فيه من محبّةٍ وإخاءٍ ووفاءٍ وتضحية، وكان ظهر إمام الناس مسنداً وقويّاً بزبدة الناس، فلمّا استشهد انكسر ظهر الإمام عالي المقام، فقال تلك القولة العظيمة، وبكى بكاءً شديداً حتّى أُغميَ عليه من شدّة المصيبة والألم.

ولَنعم ما قال الشاعر:

أحقّ الناس أن تبكي عليه***فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخوه وابنُ والده عليٍّ***أبو الفضل المضرَّج بالدماءِ

ص: 298

ومَن واساه، لا يثنيه شيءٌ***وجاد له على الظماء بماءِ ((1))

حُكي أنّه لمّا جاؤوا بحجر الأحجار إلى المختار قال: الشكر للهالّذي بلّغني أُمنيتي فيه، فإنّ هذا الملعون وأباه ورافع بن النعمان وثابت كانوا حرّاساً على الفرات في أربعة آلاف فارس، منعوا العبّاس منه وقطعوا يديه. ثمّ أمر الأمير أن تُقطَع مفاصله، وصبّوا في حلقه رطلاً من السرب، وكانوا يصبّون زيت النفط المغليّ على جروحه حتّى هلك (لعنه الله).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب -- بعد ذِكر شهادة القاسم بن الحسن والعبّاس -- قال: ثمّ برز قاسم بن الحسين وهو يرتجز ويقول:

إن تُنكروني فأنا ابن حيدره***ضرغام آجامٍ وليث قسوره

على الأعادي مثل ريحٍ صرصره***أكيلكم بالسيف كيل السندره ((2))

وقال بعضهم: وفيه غرابة ((3)).

قال المؤلّف:

ينبغي تحرير كلّ ما ورد في ذكر مصائب الإمام العالي المقام، ليطّلع عليها الشيعة الكرام ويعرفوا ما جرى على إمامهم العطشان في تلك الصحراء القاحلة المقفرة، وما تحمّله قلبُه المقدّس من مصائب، فيتيقّنوا أنّ مصيبته

ص: 299


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 118.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 359، بحار الأنور: 45 / 42.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.

أعظم المصائب على الإطلاق ((1)).

وقد عزمتُ -- أنا الأقلّ -- أن أبيّن مصيبة شبيه النبيّ عليّ الأكبر، وأكشف عن مدى الجراحات الّتي أصابت قلب الإمام العالي المقام جراء مصيبة ابن وليّ الله، دعاني التدقيق إلى ذكر بعضالأحاديث المُشجية لقلوب الشيعة قبل الدخول في ذكر مصيبته المُحرقة للقلوب.

وعن عليّ بن عيسى صاحب (كشف الغمّة)، عن أُمّ سلَمة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ عندي، وقد حمى الوطيس، وقد دخل إلى بيتي، وفرشتُ له حصيراً، إذ انطرح متّكِئاً، فجاء الحسين علیه السلام فدخل وهو مُلقىً على ظهره، فقال: «هنا يا حسين»، فوقع على صدره، وجعل يلاعبه وهو يسيح على بطنه.

قالت أُمّ سلَمة: فنظرتُ من شقّ الباب، وهو على صدره يلاعبه، فقلت: لا حول ولا قوّة إلّا بالله! يوم صدر المصطفى ويوم وجه الثرى، إنّ هذا لَعجب.

قالت: ثمّ غبتُ عنه ساعة، وعُدت إلى الباب فرأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله وهو مغموم، وقد غمض عينيه عنه، وفي وجهه نوعٌ من العبوس، فقلت: لا شكّ إنّ الحسين علیه السلام قد شطّ على النبيّ صلی الله علیه وآله لصبوته، فدخلتُ عليه، وفي يده شيءٌ ينظر إليه وهو يبكي، فقلت: بأبي وأُمّي، جُعلتُ فداك يا رسول

ص: 300


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 269 الباب 32 ح 1.

الله،مالي أراك باكياً حزيناً؟ ما الخبر؟ قال: «إنّ جبرئيل علیه السلام نزل علَيّ في هذه الساعة، وأخبرني أنّ ولدي هذا سيُقتَل».

فقلت: وكيف؟ وأين؟ قال: «بعد أبيه وأُمّه، في أرضٍ تُسمّى: كربلا، وإن اخترتِ أن أُريكِ من ترابها قبضة»، فغاب عنّي، وجاءني بهذه القبضة وقال: «هذا من تربته»، قال: «خذيها واحفظيها عندكِ في تلك الزجاجة، وانظري إليها، فاذا رايتها قد صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ولدي الحسين علیه السلام في تلك الساعة قد قُتِل».قالت أُمّ سلَمة: ففعلتُ ما أمرني، وعلّقتُها في جانب البيت، حتّى قُبض النبيّ صلی الله علیه وآله وجرى ما جرى، فلمّا خرج الحسين علیه السلام من المدينة إلى العراق أتيته لأُودّعه، فقال: «يا أُمّ سلَمة، توصي في الزجاجة». فبقيتُ أترقّبها وأنظر فيها اليوم المرّتين والثلاث.

فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم قرب الزوال أخذَتني سِنةٌ من النوم، فنمتُ هنيئة، فرأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في منامي، وإذا هو أشعث أغبر وعلى كريمته الغبار والتراب، فقلت: بأبي وأُمّي، ما لي أراك يا رسول الله مغبرّاً أشعث؟! ما هذا الغبار والتراب الّذي أراه على كريمتك ووجهك؟ فقال لي: «يا أُمّ سلَمة، لم أزل هذه الليلة أحفر قبر ولدي الحسين علیه السلام وقبور أصحابه، وهذا أوان فراغي من تجهيز ولدي الحسين علیه السلام وأصحابه، قُتلوا بكربلاء».

فانتبهتُ فزعةً مرعوبة، وقمت فنظرت إلى القارورة، وإذا بها دماً عبيطاً، فعلمتُ أنّ الحسين علیه السلام قد قُتِل. قالت: واللهِ ما كذبني الوحي ولا كذبني

ص: 301

رسول الله صلی الله علیه وآله. قالت: فجعلتُ أصيح: وا إبناه، وا قرّة عيناه، وا حبيباه، وا حسيناه، وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله! قالت: حتّى اجتمع الناس عندي، فقالوا: ما الخبر؟ فاعلمتُهم، فجعلوا ينادون: وا سيّداه، وا مظلوماه! والله ما كذبت، فأُرّخ ذلك اليوم فكان يوم قتل الحسين علیه السلام .

قالت: فلما كان السحر سمع أهل المدينة نوح الجنّ على الحسين علیه السلام ، وجاءت منهم جنّيّةٌ تقول:

ألا يا عينُ فانهملي بجهدي***فمَن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقودُهُمُ المنايا***إلى متكبّرٍ في الملك وغدِ

فأجابتها جنّيّةٌ أُخرى:

مسح النبيُّ جبينه***وله بريقٌ في الخدود

أبواه من أعلى قريش***وجدّه خير الجدود

زحفوا عليه بالقنا***شرّ البريّة والوفود

قتلوه ظلماً، ويلهم!***سكنوا به نار الخلود

فلما سمع أهل المدينة ذلك حثوا التراب على رؤوسهم، ونادوا: وا حسيناه، وا ابن بنت نبيّاه! ومضوا إلى قبر رسول اللهصلی الله علیه وآله يعزّونه بولده الحسين علیه السلام ، ثمّ إنّهم أقاموا عزاه ثلاثة أيّام.

قالت أُمّ سلَمة: فلمّا كان الليل طار رقادي وكثر سهادي، وأنا متفكّرةٌ في أمر الحسين علیه السلام ، فبينما أنا كذلك وإذا بقائلٍ يقول:

ص: 302

إنّ الرماح الواردين صدورها***دون الحسين تقاتل التنزيلا

فكأنّما بك يا ابن بنت محمّدٍ***قتلوا جهاراً عامدين رسولا ((1))

وفي (كامل الزيارة): عن عبد الله بن حمّاد البصريّ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «إنّ عندكم -- أو قال: في قربكم -- لَفضيلةٌ ما أُوتي أحدٌ مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كُنهمعرفتها، ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها، وإنّ لها لَأهلاً خاصّة قد سُمّوا لها وأُعطوها بلا حولٍ منهم ولا قوّة، إلّا ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم بها ورحمة ورأفة وتقدُّم». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذا الّذي وصفتَ ولم تسمِّه؟ قال: «زيارة جدّي الحسين علیه السلام ، فإنّه غريبٌ بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبر ابنه عند رجلَيه في أرض فلاةٍ ولا حميم قُربه ولا قريب، ثمّ مُنع الحقّ، وتوازر عليه أهل الردّة حتّى قتلوه وضيّعوه، وعرضوه للسباع ومنعوه شرب ماء الفرات الّذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله صلی الله علیه وآله ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حفرته صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه والمنزل الّذي لا يأتيه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان وعرفه حقّنا».

فقلت له: جُعلتُ فداك، قد كنتُ آتيه، حتّى بُليتُ بالسلطان وفي حفظ أموالهم، وأنا عندهم مشهور، فتركت للتقيّة إتيانه، وأنا أعرف ما في

ص: 303


1- ([1]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 192.

إتيانه من الخير.

فقال: «هل تدري ما فضل مَن أتاه وما له عندنا من جزيل الخير؟»، فقلت: لا. فقال: «أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء، وأمّا ما له عندنا فالترحّم عليه كلّ صباحٍ ومساء، ولقد حدّثَني أبي أنّه لم يخلُ مكانه منذ قُتِل مِن مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش، وما مِن شيءٍ إلّا وهو يغبط زائره ويتمسّح به، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره».ثمّ قال: «بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئٍ يقرأ وقاصّ يقصّ ونادبٍ يندب وقائلٍ يقول المراثي»، فقلت له: نعم، جُعلتُ فداك، قد شهدتُ بعض ما تصف. فقال: «الحمد لله الّذي جعل في الناس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا أو غيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما يصنعون» ((1)).

وفي كتاب (الإرشاد): لمّا ارتحل الإمام الحسين من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: سِرْنا معه ساعة، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين علیه السلام على فرسٍ فقال:

ص: 304


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 74 ح 21، كامل الزيارات لابن قولويه: 324 الباب 108 ح 1.

ممَّ حمدتَ الله واسترجعت؟ فقال: «يا بُنيّ، إنّي خفقتُ خفقة، فعَنَّ لي فارسٌ على فرسٍ وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تصير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيَت إلينا». فقال له: يا أبت، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ؟ قال: «بلى، والّذي إليه مرجع العباد». قال: فإنّنا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين. فقال له الحسين علیه السلام : «جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده» ((1)).قال الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب): رُوي أنّه لمّا قُتل العبّاس، تدافعت الرجال على أصحاب الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر ذلك نادى: «يا قوم، أما مِن مجيرٍ يُجيرنا؟ أما مِن مغيثٍ يغيثنا؟ أما من طالب حقٍّ فينصرنا؟ أما من خائفٍ من النار فيذّب عنّا؟ أما من أحدٍ يأتينا بشربةٍ من الماء لهذا الطفل؛ فإنّه لا يطيق الظمأ؟»، فقام إليه ولده الأكبر ((2)).

وفي (البحار): وهو يومئذٍ ابن ثماني عشرة سنة، ويقال: ابن خمسٍ وعشرين سنة ((3)).

وفي (اللهوف): وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ((4)).

ص: 305


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 82، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 379، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 180.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 359.
4- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 112.

وفي (البحار): كان أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسول الله، وكانوا إذا اشتاقوا إلى النبيّ نظروا إلى وجهه ((1)).

ولم یُعقّب، وکان يُكنّى: أبا الحسن، وأُمّه: ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي.

ورُوي أنّ معاوية قال: مَن أحقّ الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت. قال: لا، أَولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن عليّ؛ جدُّه رسول الله، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أُميّة!!! وزهو ثقيف ((2)).

وكان أمير المؤمنين يحبّه حبّاً شديداً ويمدحه، وأنشأ شعراً فيمدحه.

وفي (الملهوف): فاستأذن أباه في القتال ((3)).

ورُوي أنّ النساء والحرم لمّا علموا وسمعن استئذان عليّ الأكبر، دُرنَ حوله كالحلقة، أُمّه وأخواته وعمّاته، وقلن له: ارحم غربتنا ولا تعجّل بالخروج إلى الميدان، فإنّنا لا طاقة لنا على فراقك.

فلمّا ألحّ المولى الأمير عليّ الأكبر على أبيه في طلب الإذن، أذن له الإمام المظلوم ((4)).

ص: 306


1- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 55.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 112.
4- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 336.

وفي (الملهوف): فأذن له، ثمّ نظر إليه نظر آيسٍ منه، وأرخى علیه السلام عينه وبكى ((1)).

وفي (البحار): ورفع الحسين سبّابته نحو السماء وقال: «اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه، اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقْهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدَوا علينا يقاتلوننا».

ثمّ صاح الحسين بعمر بن سعد: «ما لَك؟ قطع الله رحمك، ولا بارك الله لك في أمرك، وسلّط عليك مَن يذبحك بعدي على فراشك كما قطعتَ رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلی الله علیه وآله»، ثمّ رفع الحسين علیه السلام صوته وتلا: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَعَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((2)).

ثمّ حمل عليّ بن الحسين على القوم وهو يقول:

أنا عليّ بن الحسين بن علي***مِن عُصبةٍ جدّ أبيهم النبي

و اللهِ لا يحكم فينا ابن الدعي***أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي***ضربَ غلامٍ هاشميٍّ علوي

ص: 307


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 112.
2- ([1]) سورة آل عمران: 33 و34.

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الناس من كثرة مَن قتل منهم ((1)).

قال حميد بن مسلم: ما رأيتُ أشبه منه برسول الله ((2))، وقد حمل على القوم حملاتٍ عديدة في الميمنة والميسرة، وعجّل بروح الكثير من الأشرار إلى جهنّم وبئس القرار، حتّى ضجّ القوم من كثرة ما قتل منهم، كما في (البحار).

ورُوي أنّه قتل على عطشه مئةً وعشرين رجلاً، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة، فقال: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماء سبيلٍ أتقوّى بها على الأعداء؟ فبكى الحسين علیه السلام (لهف قلبي على قلب الإمام، وقد ازداد غمّاً على غمومه في هذا الموقف) وقال: «يا بُنيّ، يعزّ على محمّدٍ وعلى عليّ بن أبي طالب وعلَيّ أن تدعوهم فلايجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك» ((3)).

وعن حميد بن مسلم: فقال: يا أباه، أثقلني الحديد، وأخنقني العطش. فبكى الحسين علیه السلام وقال: «وا غوثاه! يا بُنيّ اصبر قليلاً، يسقيك جدّك شربةً لا ظمأ بعدها» ((4)).

ص: 308


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.
2- ([3]) لم نعثر عليه فيما توفّر لدينا من مصادر، وما قيمة شهادة هذا الوغد الدنيّ بعد شهادة سيّد شباب أهل الجنّة؟!
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
4- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 329.

وفي (البحار): «يا بُنيّ، هاتِ لسانك»، فأخذ بلسانه فمصّه، ودفع إليه خاتمه وقال: «أمسِكْه في فيك، وارجع إلى قتال عدوّك، فإنّي أرجو أنّك لا تُمسي حتّى يسقيك جدُّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً» ((1)).

وفي رواية: «فعُدْ، بارك الله فيك» ((2)).

فداءً لعينك الدامعة وقلبك المكلوم وآهاتك الملتهبة يا حسين يا مظلوم، وأنت تتجرّع كلّ هذه الغصص والأحزان والمصائب، وتفتّت كبدك وتحرق قلبك، لتكون شفيعاً لذنوب الشيعة.

اي تشنه لب غريب بي غسل وكفن***سر داده به راه عاصيان بر دشمن

اي كاش نمي شدي تو آن روز شهيد***ما را همه مي بود به دوزخ مسكن

وفي (الملهوف): فبكى الحسين علیه السلام وقال: «وا غوثاه يا بُنيّ، قاتِلْ قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدَّك محمّداً صلی الله علیه وآله فيسقيك بكأسه الأَوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً». فرجعإلى موقف النزال، وقاتل أعظم القتال ((3)).

وفي (البحار): فرجع إلى القتال وهو يقول:

ص: 309


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
2- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 369.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 113.

الحرب قد بانت لها الحقائق***وظهرت من بعدها مصادق

واللهِ ربِّ العرش لا نفارق***جموعَكم أو تغمد البوارق

فلم يزل حتّى قتل (ثمانين، وكان مجموع قتلاه) تمام المئتين ((1)).

وفي الإرشاد: فشدّ على الناس وهو يقول:

أنا عليّ بن الحسين بن علي***نحن وبيتِ الله أَولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي***أضرب بالسيف أُحامي

عن أبي ضرب غلام هاشمي قرشي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتّقون قتله، فبصُرَ به مُرّة بن منقذ العبديّ، فقال: علَيّ آثام العرب إنْ مرّ بي يفعل مثل ذلك إنْ لم أُثكِلْه أباه. فمرّ يشدّ على الناس كما مرّ في الأوّل، فاعترضه مُرّة بن منقذ فطعنه، فصُرع ((2)).

وفي (البحار): رُمي بسهمٍ فوقع في حلقه فخرقه، وأقبل يتقلّبفي دمه ((3)).

ثمّ ضربه منقذ بن مرّة العبديّ على مفرق رأسه ضربةً صرعَته، وضربه

ص: 310


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 360.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 106.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 116.

الناس بأسيافهم، ثمّ اعتنق فرسه، فصار طريق الفرس من بين ((1)) عسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً ((2)).

قال حميد بن مسلم: فخرّ عن ظهر جواده إلى الأرض، ثمّ استوى جالساً وهو ينادي: يا أباه! عليك منّي السلام ((3))، هذا جدّي محمّدُ المصطفى، وهذا جدّي عليُّ المرتضى، وهذه جدّتي فاطمةُ الزهراء، وهذه جدّتي خديجة، وهم إليك مشتاقون ((4)).

وفي (البحار): فلمّا بلغَت الروح التراقي قال رافعاً صوته: يا أبتاه! هذا جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله قد سقاني بكأسه الأَوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: العجل العجل؛ فإنّ لك كأساً مذخورةً حتّى تشربها الساعة ((5)).

وفي (المنتخب): لمّا قُتل عليّ بن الحسين في طفّ كربلاء، أقبل عليه

ص: 311


1- ([2]) في (البحار): (فاحتمله الفرس إلى)، وعبارة المؤلّف أجمل وأكثر دقّةً ممّا ورد في المصادر التاريخيّة؛ إذ أنّ المولى الأمير كان يقاتل الأعداء، ومن الطبيعيّ أن يحتمله الفرس ليردّه إلى الخيمة فيمرّ بعسكر الأعداء، ولا ضرورة لاعتبار الفرس قد ضلّ الطريق وحمله إلى الأعداء، كيف والفرس العادي المدرَّب لا يفعل ذلك بصاحبه، فكيف بفرسٍ من أفراس النبيّ؟!
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.
3- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 370.
4- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 444، أسرار الشهادة للدربندي: 370.
5- ([6]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

الحسين وعليه جبّة خزٍّ دكناء وعمامة موردة وقد أرخى لها غرّتين ((1)).

فأقبل الحسين وفرّق القوم عنه، وصاح بأعلى صوته، فتصارخن النساء، فقال لهنّ الحسين: «اسكتن؛ فإنّ البكاء أمامكنّ».

فأخذ رأس ولده ووضعه في حِجره، وجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «قتلوك يا بُنيّ!» ((2)).

وفي (الملهوف): فجاء الحسين علیه السلام حتّى وقف عليه، ووضع خدّه على خدّه، وقال: «قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول» ((3)).

وفي (الإرشاد): وانهملَت عيناه بالدموع، ثمّ قال: «على الدنيا بعدك العفاء» ((4)).

قال أبو مخنف: ثمّ قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، ثمّ قال: «يا ولدي، أمّا أنت فقد استرحتَ مِن همّ الدنيا وغمّها وشدائدها، وصرتَ إلى رَوحٍ وريحان، وقد بقيَ أبوك (لهما وغمّهما)، وما أسرع اللحوق بك» ((5)).

ص: 312


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 438 المجلس 9.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 432 المجلس 9.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 114.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 106.
5- ([5]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 328.

لله قلبك يا أبا عبد الله! لله قلبك المغموم، وآهاتك الملتهبة،ودموعك الساكبة أيّها المظلوم، أيّ مصائبك أذكر لشيعتك؟ أُقسم بالله العظيم لو تصوّر الشيعة هذه الحالة، إذ الإمام المظلوم يضع رأس ولده المفضوخ وهو في ربيعه الثامن عشر في حِجره، وهو أشبه الناس برسول الله صلی الله علیه وآله، ويمسح الدم والتراب عنه، ويضع وجهه المنوَّر على وجه ولده المضرّج بالدماء، وهو يقول: «قتلوك يا بُنيّ!»، فلو كان قلب الشيعيّ من حجرٍ لَتفجّر دمعاً من سماع هذا الخبر، ولو لم تنهمل عيناك بالدموع من سماع هذا الخبر فإنّك لا تستطيع أن تحبس دموعك وأنت تسمع ما سأتلوه عليك من الخبر المفجِع الّذي رواه في (بحار الأنوار)، عن حميد بن مسلم قال:

فكأنّي أنظر إلى امرأةٍ خرجَت مسرعة، كأنّها الشمس الطالعة، تنادي بالويل والثبور، وتقول: يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه! فسألتُ عنها، فقيل: هي زينب بنت عليّ علیه السلام. وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط ((1)).

ورُوي عن عمارة بن واقد أنّه قال: رأيتُ إمرأةً خرجَت من فسطاط الحسين علیه السلام ، كأنّها البدر الطالع، وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، وا قلّة ناصراه، وا غريباه، وا مهجة قلباه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، ليتني وُسّدتُ الثرى. وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين علیه السلام فأخذ بيدها،

ص: 313


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

وستر وجهها بعبائه، وألقى عباءته عليها، فردّها الى الفسطاط ((1)).وأقبل علیه السلام بفتيانه وقال: «احملوا أخاكم»، فحملوه من مصرعه، فجاؤوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أَمامه ((2)).

روى الشيخ المفيد رحمه الله، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: لمّا استُشهد عليّ بن الحسين علیهما السلام، رجع الحسين علیه السلام الى الخيمة باكي العين آيِساً من الحياة، فلمّا دنا من خيم النساء خرجَت اليه سكينة علیها السلام وقالت: يا أبة، ما لي أراك تنعى نفسك وتدير طرفك؟ أين أخي عليّ؟ فبكى الحسين علیه السلام وقال: «بُنيّة، قتلوه اللئام!». فلمّا سمعَت قتل أخيها صاحت بحرقة قلبها، وقالت: وا أخاه، وا مهجة قلباه، وا عليّاه! وأرادت أن تخرج من الخباء، فأخذها الحسين علیه السلام وقال: «يا بنتاه، اتّقي اللّهَ واستعملي الصبر». قالت: أبتاه، كيف تصبر مَن قُتِل أخوها وشُرّد أبوها؟ فقال الحسين علیه السلام: «إنّا للّه وإنّا اليه راجعون» ((3)).

حُكي أنّه جيء بالحكم بن الغنَويّ أيّام ولاية المختار، فأحضروه بين

ص: 314


1- ([2]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 90، تذكرة الشهداء للكاشاني: 267، أمواج البكاء: 117 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 370، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 328، تذكرة الشهداء للكاشاني: 268، معالي السبطين للحائري: 378.

يدَي الأمير الناصع النسب والمقدار، فقال: ويلك يا ابن الزنا! أنت الّذي رميتَ عليّ الأكبر بسهمٍ فقتلتَه؟ فأنكر، فأمر به فطُرح أرضاً وشقّت خاصرته وأُخرج كبده وألقم منه، وقطّعوا يديه ورجليهوأحرقوه وهو حيّ.

ثمّ جاؤوا بناعم ((1)) بن مُرّة العبديّ إلى المختار، فبصق في وجهه وقال: أيّها الدعيّ، لمَ قتلتَ عليّ الأكبر؟ فقال: لم أقتله، وإنّما قتله أخي منقذ! قال الأمير: كأنّي لا أعلم أنّك وأخاك اختلفتما حتّى جرحك أخوك، ودخلتما على ابن زيادٍ تتنازعان كلٌّ يزعم أنّه قتله! ثمّ أمر فقطّعت قدماه وسُلخَت فروة رأسه، ثمّ أمر فقطّعت يداه ورجلاه وهو يصرخ، ثمّ طُعن في جنبه، واستخرج كبده وأحرقه بالنار وهو حيّ.

ثمّ جيء بمنقذ بن مرّة العبديّ، فأمر المختار أن تقرع طبول البشرى، وجعل الحضّار يلعنونه، ثمّ قال الأمير: ويلك يا ملعون! أنت الّذي قتلتَ ابن النبيّ وافتخرت بذلك؟! لماذا قتلتَ عليّ الأكبر؟ وأين عنك ابن زياد الرجس النجس؟ يا ملعون! كيف كنت تسبّ أهل البيت وتؤذيهم بالكلام وتضحك وتستهزئ؟ فقال منقذ: أيّها الأمير، لم أكن وحدي، بل كان معي ألف فارس! قال المختار: صدقت، لعنك الله، لو لم يكن معك ألف فارسٍ لما أستطعتَ قتله. ثمّ أمر فطُرح على الأرض، وأجرى الخيل عليه تسحقه بحوافرها وتدوسه بسنابكها، وطُعن بالرماح وضرب بالسيوف حتّى قطعوه

ص: 315


1- ([1]) في نسخة: (عمر).

إرباً إرباً.

وفي رواية: كان ذلك مع ابن منقذ ((1)).

شهادة عبد الله بن مسلم بن عقيل

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو بن صبيح عبدَ الله بن مسلم بن عقيل رحمه الله بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخَر برمحه فطعنه في قلبه فقتله ((2)).

حُكي أنّه جيء بزياد بن قادر قاتل عبد الله بن مسلم إلى المختار، فقال له: يا ملعون، بأيّ قتلةٍ قتلتَ عبد الله؟ أخبِرْني كي أقتلك مثلها! قال: رميتُه بسهم في عينه فخرج من قفاه، وخرّ صريعاً، فلمّا حززتُ رأسه عرفت أنّه عبد الله بن مسلم. فأمر به فصُلب، ورُمي بسهمٍ في عينه حتّى خرج من قفاه، ثمّ نصبه للسهام غرضاً، فرُمي أكثر من ألف سهم، ثمّ أُحرق

ص: 316


1- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 188، 190، 199.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 107، إعلام الورى للطبرسي: 241، مثير الأحزان لابن نما: 67، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

بالنار، والحمد لله ((1)).

* * * * *

ثمّ خرج غلامٌ (وبيده عمود) من تلك الأبنية، وفي أُذنيه درّتان، وهو مذعور، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان، فحمل عليه هانئ بن ثبيت ((2)) (لعنه الله) فقتله، فصارت شهربانو تنظر إليه ولاتتكلّم كالمدهوشة ((3)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

* * * * *

ثمّ التفت الحسين عن يمينه فلم يرَ أحداً من الرجال، والتفت عن يساره فلم ير أحداً ((4)).

رُوي أنّ الإمام نادى لإتمام الحجّة: «هل من راحمٍ يرحم آل الرسول المختار؟ هل من ناصرٍ ينصر الذريّة الأطهار؟ هل من مُجيرٍ لأبناء البتول؟ هل من ذابٍّ يذبّ

ص: 317


1- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 200.
2- ([3]) في المتن: (بعيث).
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45.

عن حرم الرسول؟ ((1)) هل من موحّدٍ يخاف الله فينا، هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا؟»، فارتفعَت أصوات النساء بالعويل ((2)).

وفي (البحار): فخرج عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام ، وكان مريضاً لا يقدر أن يُقِلّ سيفه، وأُمّ كلثوم تنادي خلفه: يا بُنيّ ارجع! فقال: «يا عمّتاه، ذريني أُقاتل بين يدَي ابن رسول الله». فقال الحسين علیه السلام : «يا أُمّ كلثوم، خُذيه لئلّا تبقى الأرض خاليةٌ من نسل آل محمّد صلی الله علیه وآله».

ولمّا فُجع الحسين بأهل بيته ووُلده، ولم يبقَ غيره وغير النساءوالذراري، نادى: «هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتنا؟». وارتفعَت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم علیه السلام إلى باب الخيمة ((3)).

وفي (الملهوف): فتقدّم إلى الخيمة وقال لزينب: «ناوليني ولدي الصغير حتّى أُودّعه» ((4)).

وفي (الإرشاد): فأُتيَ بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل، فأجلسه في

ص: 318


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 388.
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 116.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 46.
4- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 115.

حِجره ((1)).

قال أبو مخنف: وكان له من العمر ستّة أشهر ((2)).

وفي (البحار): فجعل يقبّله وهو يقول: «ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمّد المصطفى خصمهم» ((3)).

ورُوي أنّ السيّدة زينب قالت له: إنّ هذا الطفل له ثلاثة أيّام ما شرب الماء، فاطلب له شربةً من الماء. فأخذ الطفل وتوجّه نحو القوم، وقال: «يا قوم، قد قتلتُم أخي وأولادي وأنصاري، وقد نقضتم بيعتي، فاتركوني حتّى أرجع الى حرم جدّي، فاسقوني شربةً من الماء، فما بقيَ غيرُ النساء وهذا الطفل، وليس يهم مَن يقاتلكم، ويلكم! اسقوا هذا الرضيع، أما ترونه كيف يتلظّىعطشاً من غير ذنبٍ أتاه اليكم؟» ((4)).

وفي (الملهوف): فبينا هو يكلّمهم، فرماه حرملة بن الكاهل الأسديّ (لعنه الله تعالى) بسهمٍ فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب: «خُذيه». (ثمّ استخرج السهم من نحره)، ثمّ تلقّى الدم بكفَّيه، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: «هوّنَ علَيّ ما نزل بي أنّه بعين الله».

ص: 319


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 108.
2- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 83.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 46.
4- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 499، مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 83.

قال الباقر علیه السلام : «فلم يسقط من ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض» ((1)).

ثمّ تلقّى الدم بكفَّيه مرّةً ثانية، ورفع طرفه إلى السماء وقال: «صبراً على البلاء»، ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّك ترى ما يُصنَع بنا، وما نتحمّله من بلاءٍ في هذه الدنيا، اللّهمّ فاجعله ذخيرةً لنا في آخرتنا» ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أُشهدك على هؤلاء القوم، فإنّهم نذروا أن لا يتركوا أحداً من ذريّة نبيّك» ((3)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

وفي (المنتخب): فجعل أبوه الحسين علیه السلام يلقي الدم من نحره ويرمي به إلى السماء، فلا يسقط منه قطرة، وهو مع ذلك يبديالشكاية إلى الله (تعالى) ويبكي ويقول: «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيّ، ما أجرأهم على انتهاك حُرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا» ((4)).

وفي (البحار): ثمّ قال: «لا يكون أهون عليك من فصيل، اللّهمّ إنْ كنتَ

ص: 320


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 117.
2- ([3]) مهيج الأحزان لليزدي: 500.
3- ([4]) المقتل لأبي مخنف (المشهور): 83.
4- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 38 المجلس 2.

حبستَ عنّا النصر، فاجعل ذلك لِما هو خيرٌ لنا» ((1)).

وفي (الإرشاد): فتلقّى الحسين علیه السلام دمه، فلمّا ملأ كفّه صبّه في الأرض، ثمّ قال: «ربِّ إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لِما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله ((2)).

وفي (التبر المذاب): فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا، فقتلونا». فنُودي من الهوا: دَعْه يا حسين؛ فإنّ له مرضعاً في الجنّة ((3)).

قال حميد بن مسلم: كنتُ في معسكر ابن زياد، فرأيتُ الطفل مذبوحاً على يدَي سيّد الشهداء علیه السلام ، ورأيتُ إمرأةً خرجَت من خيمة النساء غطّى نورها شعاع الشمس، تجرّ أذيالها، تقوم مرّةً وتقع أُخرى، وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، وا مهجة قلباه! فجاءت حتّى ألقت بنفسها على الطفل، وخرج معها من الخيمة عدّةٌ منالبنات حتّى ألقين بأنفسهنّ على الطفل، وكان الحسين علیه السلام يكلّم القوم، فلمّا سمع أصواتهنّ رجع الى تلك السيّدة فوعظها وصبّرها وسلّاها وأرجعها الى الخيمة، فسألتُ عنها، فقيل لي: هذه

ص: 321


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 108.
3- ([4]) تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 144، نفَس المهموم للقمّي: 350.

أُمّ كلثوم، وسألتُ عن البنات معها، فقيل: فاطمة وسكينة ورقيّة ((1)).

ونزل عن فرسه، وحفر للصبيّ بجفن سيفه، ورمّله بدمه ودفنه ((2)).

قال المؤلّف: قوله مخاطباً ربّ العزّة والكبرياء: «لا يكون أهون عليك من فصيل»، إشارة إلى أنّه ناقة الله وابنه فصيلها، وقد أوصى رسول الله أن يحسنوا إلى الناقة ولا يمنعوها الماء، تماماً كما فعل النبيّ صالح حينما أوصى أُمّته، قال الله (تعالى) في سورة الشمس: «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا» ((3))، فكذلك كذّبت هذه الأُمّة نبيّها وجفَت ناقة الله الأوّل ((4))، وقد قال النبيّ في قاتله: «أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود» ((5)).

وناقة الله الثاني: الإمام الحسن علیه السلام ، قتلوه بالسم جفاءً.

وناقة الله الثالث: الإمام الحسين علیه السلام ، رموه بالسهام وضربوه بالسيوف حتّى صُرع إلى الأرض، والحال أنّ هذه الناقة لمتضرّهم أيّ ضرر، بل على

ص: 322


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 402 _ عن: مهيّج الأحزان لليزدي.
2- ([2]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 26.
3- ([3]) سورة الشمس: 13 و14.
4- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 72 الباب 30 ح 6.
5- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 190 الباب 126 ح 1.

العكس كان فيها لهم أعظم المنافع للدين والدنيا، وسنذكر كلاماً في ذلك أكثر تفصيلاً فيما يلي من تذنيبات.

أمّا وجه دفن سيّد الشهداء (ناقة الله) لابنه عليّ الأصغر (فصيل الناقة) دون سائر الشهداء، فربّما كان سببه أنّ هذا الطفل المظلوم لم يملك حولاً ولا قوّةً ولا طولاً للدفاع عن نفسه بأيّ نوعٍ من أنواع الدفاع حتّى لو كان باللسان، بخلاف سائر الشهداء، فإنّهم دافعوا عن أنفسهم في الجملة ولو باللسان، فردّوا كلام الظالمين الركيك بكلامٍ قويّ رصين غليظ، ولا شكّ أنّ مَن كان حاله كحال هذا الطفل لا يدفع عن نفسه ضرّاً ولا يجلب لنفسه نفعاً، فيقع عليه مثل هذا الظلم يكون محلّاً للشفقة والعطف والرحمة أكثر، كما يكون ظالمه محلّاً لسخط الله القويّ القهّار وغضبه وانتقامه أكثر.

فالظالمون قد استحقّوا النقمة والعذاب لِما فعلوه بعليّ الأصغر، بحيث لو كان هذا الظلم قد وقع في الأُمم السابقة لَأخذهم الغضب الإلهيّ القهّار فوراً، ولَنزل عليهم العذاب عاجلاً، بيد أنّ هذه الأُمّة مرحومةٌ بسبب تحمّل النبيّ وأوصيائه للمشاقّ والمكاره باختيارهم، لذا لم ينزل العذاب الفوري.

بيد أنّ غضب القهر الإلهيّ كاد يتفجّر على أُولئك الظالمين الّذي ارتكبوا الجناية في حقّ هذا الصغير الرضيع، بحيث لو كانوا قد ارتكبوا أيّ جريمةٍ أُخرى في حقّه لَنزل عليهم العذاب بغتة، والإمام المظلوم يعلم أنّ أُولئك الظلَمة المجرمين سيُجرون الخيل فيما بعد على سائر أجساد الشهداء الطاهرة، وهذا الفعل وإن كان شنيعاً في حقّ الجميع، بيد أنّه كان أعظم

ص: 323

شناعةً في حقّ هذا الطفل الرضيع الّذي لا يطيق الدفاع عن نفسه بأيّ نوعٍ من أنواع الدفاع، وهو محلٌّ للعطف والرحمة في جميع الأديان وعند جميع البشر، ولمّا كان الإمام مظهراً لرحمة الله الواسعة على العالمين، ترحّم على هذه الأُمّة المتعوسة فدفن بدن رضيعه المرمّل بالدماء، لئلّا يرتكب الجناة هذه الجريمة فلا يمهلهم الغضب الإلهيّ ويسحتهم فوراً بعذابٍ سحيق.

أمّا سحق بدن الإمام بالخيل فإنّه أشدّ وأعظم من الجميع، بَيد أنّ الغضب والسخط يقابله اللطف والرحمة عند الإمام، والقاعدة المطّردة تتلخّص في قوله: «يا مَن سبقت رحمتُه غضبَه» ((1)).

وخلاصة الكلام: إنّ ظلم هذا الطفل الرضيع أفضع من ظلم سائر الشهداء الآخَرين، ومنشأٌ لتفجّر بحار غضب القهر الإلهيّ، فلو أنّهم ارتكبوا الجناية وأجرَوا الخيل على الأبدان المقدّسة فطحنوا عظام الرضيع وهشّموا أضلاعه وفرموا لحمه بسنابك الخيل، وهو طفلٌ لا يطيق الدفع عن نفسه لا باليد ولا باللسان، وهو يختلف عن سائر الشهداء الّذين دافعوا عن أنفسهم باللسان فصدّوا هجوم القوم، بل دافعوا عن أنفسهم بالسيف والسنان وعجّلوا بأرواح الكثيرين إلى جهنّم.

فربّما كان هذا سبباً في تعجيل العقوبة لهم وشمولهم باشتعال نار القهر

ص: 324


1- ([1]) المزار للمفيد: 161 دعاء يوم عرفة، المزار لابن المشهدي: 454، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 108، بحار الأنوار: 91 / 239.

الجبّاريّ القهّاريّ، لأنّ تحقّق هذه الظليمة في هذا الطفل الرضيع سبط النبيّ أعظم مِن تحقّقها في أُولئك المظلومين الّذين يستطيعونالدفاع عن أنفسهم في الجملة ولو بالكلام، وقد خصّ سيّد الشهداء هذه المصيبة بالذكر من بين المصائب العِظام الأُخرى في وصيّته حين قال:

«شيعتي، ما إن شربتُم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندنوبي

وأنا السبط الّذي مِن***غير جُرمٍ قتلوني

وبجرد الخيل بعد ال-***-قتل عمداً سحقوني»

ثمّ إنّه اقتصر في مقام ذكر الظليمة وما ارتكبه الأعداء الظلَمة في حقّه وحقّ أنصاره وأهل بيته على ذِكر ظليمة الطفل الرضيع عليّ الأصغر بالخصوص، فقال:

«ليتكم في يوم عا***شورا جميعاً تنظروني

كيف أستسقي لطفلي***فأبَوا أن يرحموني

وسقَوه سهمَ بغيٍ***عِوَض الماء المعينِ

يا لَرزءٍ ومصابٍ***هدّ أركان الحجونِ

ويلهم قد جرحوا قل-***-ب رسول الثقلينِ

فالعنوهم ما استطعتم***شيعتي في كلّ حينِ» ((1))

ص: 325


1- ([1]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 375.

ويُحتمَل أن تكون علّة دفن عليّ الأصغر من دون سائر الشهداء أنّ الإمام كان عالماً أنّ أبدان الشهداء ستبقى بلا دفنٍ عدّة أيّام، وقدبقيَ بعضهم عشرة أيّامٍ على الصعيد قبل أن يُدفَن ((1))، وانكشاف الأبدان المقدّسة لعيون الناظرين سيّما بدن هذا الرضيع البريء يكون مدعاةً للسخط والقهر الإلهيّ أكثر ممّا لو كانت محجوبةً عنها أعين النظّار، لهذا دفن الإمام بدن الرضيع المضرّج بالدماء لئلّا يكون عرضةً لأعين الناظرين.

ويحتمل أن يكون سبب دفنه أنّ الإمام كان يعلم أنّ رؤوس الشهداء ستُفصَل عن أبدانهم وتُرفَع على الرماح يُطاف بها في البلدان، فإذا رفعوا رأس هذا الطفل الرضيع (ستّة أشهر) من بلدٍ إلى بلدٍ وشاهده الفجّار والأخيار والعبيد والأحرار من أُمّة النبيّ المختار وسائر فرق الكفّار، وهم جميعاً يرون رأس رضيعٍ بريءٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ولا يمكنه القتال، وهو محصَّنٌ بالعصمة والطفولة والبراءة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى الحنق والغيظ عند الناظر، ويؤدّي إلى زيادة فضائح هذه الأُمّة والارتداد وتشدّد الكفّار بالعناد، واشتداد غضب الله القهّار الجبّار على ما فعله الأنذال الفجّار، فشملهم الإمام الحسين علیه السلام برحمته الواسعة، فدفن الياقوتة الحمراء، ولم يترك ذلك البدن المضرَّج بالدماء عرضةً لفعلة أُولئك الأجلاف الحقراء.

ص: 326


1- ([1]) أُنظُر: مثير الأحزان لابن نما: 1 / 105، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 23.

ويُحتمَل أن يكون سبب دفنه أنّ بدنه لطيف وجثّته صغيرة، وهو طفلٌ صغير، فإذا تردّد القوم في ساحة المعركة وهبّت الرياح وهاج العسكر، وأجروا على الأبدان الطاهرة الخيل، فإنّ بدنه المقدّس سرعان ما يتناثر ويُمحى أثره، فدفنه الإمام المظلوم حفاظاً عليه.ويُحتمَل أن يكون سبب دفنه شفقة الإمام على أُمّه الرباب وشقيقته سكينة وباقي النساء، وكان الإمام يحبّهما حبّاً شديداً، وقد ذكرنا فيما مضى أنّ الإمام حينما جاء بالطفل خرجت النسوة من الخيمة ومعهنّ الرباب وسكينة، وألقين بأنفسهنّ عليه وبكين بكاءً شديداً وارتفع منهنّ العويل، فأشفق الإمام عليهنّ ورحمهنّ، فدفنه لئلّا يبقى بين أيديهن فيُهلِكن أنفسهنّ في مصابه والبكاء عليه، سيّما إذا عرفنا أنّ محبّة الأُمّ لطفلها الرضيع ورقّتها عليه تكون أشدّ من سائر أولادها، وكلّما كان عجز الولد أكثر يشتدّ حبّ والديه وإخوته وأخواته له ويتأثّرون بما يصيبه من ظلمٍ أكثر، ويشهد لذلك سؤال الإمام زين العابدين علیه السلام من المنهال عن حرملة بن كاهل قاتل الطفل الرضيع دون غيره من قتَلَة الشهداء ودعاؤه عليه.

روى الشيخ الطوسيّ، عن المنهال بن عمرو قال: دخلتُ على عليّ بن الحسين منصرفي من مكّة، فقال لي: «يا منهال، ما صنع حرملة بن كاهل الأسديّ؟»، فقلت: تركتُه حيّاً بالكوفة. قال: فرفع يديه جميعاً ثمّ قال علیه السلام : «اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذِقْه حرّ النار».

قال المنهال: فقدمتُ الكوفة، وقد ظهر المختار بن أبي عُبيدة الثقفيّ،

ص: 327

وكان لي صديقاً، فكنتُ في منزلي أيّاماً حتّى انقطع الناس عنّي، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجاً من داره، فقال: يا منهال، لم تأتِنا في ولايتنا هذه، ولم تهنّئنا بها، ولم تشركنا فيها! فأعلمتُه أنّي كنتُ بمكّة، وأنّي قد جئتك الآن. وسايرته ونحن نتحدّث، حتّى أتى الكناس فوقف وقوفاً كأنّه ينظر شيئاً، وقد كان أُخبر بمكان حرملة بن كاهل فوجّه في طلبه، فلم يلبث أن جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدّون، حتّى قالوا:أيّها الأمير البشارة! قد أُخذ حرملة بن كاهل. فما لبثنا أن جيء به، فلمّا نظر إليه المختار قال لحرملة: الحمد لله الّذي مكّنني منك. ثمّ قال: الجزّار، الجزّار! فأُتيَ بجزّار، فقال له: اقطع يديه. فقُطِعتا، ثمّ قال له: اقطع رجلَيه. فقُطعتا، ثمّ قال: النار، النار! فأُتيَ بنارٍ وقصب فأُلقي عليه، فاشتعل فيه النار، فقلت: سبحان الله! فقال لي: يا منهال، إنّ التسبيح لَ-حَسن، ففيمَ سبّحت؟ فقلت: أيّها الأمير، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ بن الحسين علیه السلام ، فقال لي: «يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ؟»، فقلت: تركتُه حيّاً بالكوفة. فرفع يديه جميعاً فقال: «اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد، اللّهمّ أذقه حرّ النار». فقال لي المختار: أسمعت عليّ بن الحسين علیه السلام يقول هذا؟ فقلت: [و]اللهِ لقد سمعتُه يقول هذا. قال: فنزل عن دابّته، وصلّى ركعتين فأطال السجود، ثمّ قام فركب، وقد احترق حرملة، وركبتُ معه وسرنا، فحاذيتُ داري، فقلت: أيّها الأمير، إنْ رأيتَ أن تشرّفني وتكرمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي. فقال: يا منهال، تُعلمني أنّ عليّ بن الحسين دعا بأربع دعواتٍ

ص: 328

فأجابه الله على يدَيّ، ثمّ تأمرني أن آكل؟! هذا يوم صومٍ شكراً لله عزوجل على ما فعلتُه بتوفيقه ((1)).

* * * * *

لمّا كان ذِكر مصيبة الطفل الرضيع أشدّ المصائب وأكثرها حرقةً وغمّاً وإثارةً للزفرة الملتهبة، وقد رويَت بنحوٍ آخَر، فلا بأسبذكرها هنا حسب الرواية الأُخرى، لتجري دموع الشيعة كقطرات المطر المدرار.

قال الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب):

رُويَ أنّه لمّا قُتل العبّاس تدافعَت الرجال على أصحاب الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر ذلك نادى: «يا قوم، أما مِن مجيرٍ يجيرنا؟ أما مِن مغيثٍ يغيثنا؟ أما مِن طالب حقٍّ فينصرنا؟ أما من خائفٍ من النار فيذبّ عنّا؟ أما من أحدٍ يأتينا بشربةٍ من الماء لهذا الطفل؛ فإنّه لا يطيق الظمأ؟».

فقام إليه ولده الأكبر -- وكان له من العمر سبعة عشر سنة -- فقال: أنا آتيك بالماء يا سيّدي. فقال: امضِ، بارك الله فيك.

قال: فأخذ الركوة بيده، ثمّ اقتحم الشريعة وملأ الركوة، وأقبل بها نحو أبيه، فقال: يا أبة، الماء لِمَن طلب، اسقِ أخي، وإن بقيَ شيءٌ فصُبّه علَيّ، فإنّي والله عطشان. فبكى الحسين ((2)).

ص: 329


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 238 ح 15، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 332 الباب 49 ح 1.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.

حُكي أنّهم جاؤوا بهاني بن بعيث ((1)) إلى المختار، فقال له: يا لعين، ألستَ الّذي رمى طفلاً رضيعاً حمله الإمام الحسين وهو يستسقي الماء له، فرميتَه بسهمٍ فذبحتَه من الأُذن إلى الأُذن؟ فقال: لا والله.

ثمّ أمر المختار الجلّاد فضربه بمسمارٍ في أُذنه حتّى خرج من الأُذن الأُخرى، ثمّ قُطعت يداه وهو حيٌّ فنزف، حتّى أُقحم في جهنّم وبئس المصير، ولله الحمد ((2)).

ص: 330


1- ([2]) يذكر المؤلّف حسب المتابعة (هاني بن ثُبيت) باسم (هاني بن بعيث).
2- ([3]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 239.

المجلس التاسع: في بيان جهاد سيّد الشهداء (روحي فداه) وقتل عبد الله بن الحسين وعبد الله بن الحسن

اشارة

في كتاب (التهذيب): عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام: «يخرج القائم علیه السلام يوم السبت يوم عاشوراء، اليوم الّذي قُتِل فيه الحسين» ((1)).

وعن جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله كثيراً ما يتفل يوم عاشوراء في أفواه أطفال المراضع من وُلد فاطمة علیها السلام من ريقه، ويقول: لا تُطعِموهم شيئاً إلى الليل. وكانوا يروون من ريق رسول الله صلیالله علیه وآله». قال: «وكانت الوحش

ص: 331


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 4 / 333 ح 112، الخرائج والجرائح للراوندي: 3 / 1159، كمال الدين للصدوق: 2 / 653.

تصوم يوم عاشوراء على عهد داوود علیه السلام » ((1)).

و في حديث مناجاة موسى علیه السلام وقد قال: يا ربّ، لمَ فضّلتَ أُمّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله على سائر الأُمم؟ فقال الله (تعالى): «فضّلتُهم لعشر خصال». قال موسى: وما تلك الخصال الّتي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها؟ قال الله (تعالى): «الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد، والجمعة، والجماعة، والقرآن، والعلم، والعاشوراء». قال موسى: يا ربّ، وما العاشوراء؟ قال: «البكاء والتباكي على سبط محمّدٍ صلی الله علیه وآله والمرثيّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى. يا موسى، ما مِن عبدٍ من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى وتعزّى على ولد المصطفى، إلّا وكانت له الجنّة ثابتاً فيها، وما مِن عبدٍ أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً وغير ذلك درهماً أو ديناراً، إلّا وباركتُ له في دار الدنيا الدرهم بسبعين، وكان معافاً في الجنّة، وغفرتُ له ذنوبه. وعزّتي وجلالي، ما مِن رجلٍ أو امرأةٍ سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدة، إلّا وكتبتُ له أجر مئة شهيد» ((2)).

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام: «إذا كان يوم العاشر من المُحرّم تنزل الملائكة من السماء، ومع كلّ ملَكٍ منهم قارورةٌ من البلّور الأبيض، ويدورون في كلّ بيتٍ ومجلس؛ يبكون فيه على الحسين علیه السلام ، فيجمعون دموعهم في تلك

ص: 332


1- ([1]) تهذيب الأحكام: 4 / 333 ح 113.
2- ([2]) مجمع البحرين للطريحي: 3 / 405.

القوارير، فإذا كان يوم القيامة فتلتهب نار جهنّم، فيضربون من تلك الدموع على النار فتهرب النار عن الباكي على الحسين مسيرة ستّين ((1)) ألف فرسخ» ((2)).

ونقل الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب) قال: إنّ الحسين علیه السلام لمّا كان في موقف كربلاء، أتَتْه أفواجٌ من الجنّ الطيّارة وقالوا له: نحن أنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتَنا بقتل عدوٍّ لكم لَفعلنا. فجزّاهم خيراً، وقال لهم: «إنّي لا أُخالف قول جدّي رسول الله حيث أمرني بالقدوم عليه عاجلاً، وإنّي الآن قد رقدت ساعةً فرأيتُ جدّي رسول الله قد ضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال لي: يا حسين، إنّ الله عزوجل شاء أن يراك مقتولاً ملطَّخاً بدمائك مخضّباً شيبتك بدمائك مذبوحاً من قفاك، وقد شاء الله أن يرى حرمك سبايا على أقتاب المطايا. وإنّي واللهِ سأصبر، حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين» ((3)).

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن الشيخ المفيد، بإسناده إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّدٍ الصادق علیه السلام قال: «لمّا سار أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام من مكّة ليدخل المدينة، لقيه أفواجٌ من الملائكة المسوّمين والمردفين، في أيديهم الحِراب، على نُ-جَبٍ من نُ-جَب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حُجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ الله عزوجل أمدّ جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله بنا في مواطن كثيرة، وإنّ الله أمدّك بنا. فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أُستَشهد

ص: 333


1- ([1]) في المتن: (ستّمئة ألف).
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 449 المجلس 10.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.

فيها، وهي كربلاء، فإذا وردتُها فأْتوني. فقالوا: يا حجّة الله، إنّ الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فهل تخشى مِن عدوٍّ يلقاك فنكون معك؟ فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولا يلقوني بكريهةٍ أو أصل إلى بقعتي.

وأتَتْه أفواجٌ من مؤمني الجنّ فقالوا له: يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتَنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لَكفيناك ذلك. فجزّاهم خيراً وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزَل على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله في قوله: «قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ» ((1))، فإذا أقمتُ في مكاني فبما يُمتحَن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبَرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله (تعالى) يوم دحى الأرض وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا، تقبل أعمالهم وصلواتهم ويجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة، ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء -- وفي غير هذه الرواية: يوم الجمعة -- الّذي في آخره أُقتَل ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخواني وأهل بيتي، ويُسار رأسي إلى يزيد بن معاوية (لعنهما الله). فقالت الجنّ: نحن واللهِ -- يا حبيب الله وابن حبيبه -- لو لا أنّ أمرك طاعة وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك لخالفناك، وقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال لهم علیه السلام: ونحن واللهِ أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حَيّ عن بيّنة» ((2)).

ص: 334


1- ([1]) سورة آل عمران: 154.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 66، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 330.

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن مولانا الصادق علیه السلام أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين؟ع؟ وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أنزل الله (تعالى) النصر حتّى رفرف على رأس الحسين علیهالسلام ، ثمّ خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله» ((1)).

وروى الشيخ الصدوق، عن أبي جعفرٍ الثاني، عن آبائه علیهم السلام، قال: «قال عليّ بن الحسين علیه السلام: لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب، نظر إليه مَن كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرَت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين علیه السلام وبعض مَن معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا، لا يُبالي بالموت! فقال لهم الحسين علیه السلام : صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرةٌ تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجنٍ إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلّا كمَن ينتقل من قصرٍ إلى سجنٍ وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلی الله علیه وآله: أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. ما كذبت ولا كذبت» ((2)).

فداءً لصدق كلامك، وهموم قلبك وآهاتك الملتهبة، وعيونك الدامعة، يا حسين يا مظلوم!

ص: 335


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 101، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 12.
2- ([2]) معاني الأخبار للصدوق: 288، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 2.

وعن الحسين بن خارجة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: كنّا عنده فذكرنا الحسين بن عليّ (عليه السلام، وعلى قاتله لعنة الله)، فبكى أبو عبد الله علیه السلام وبكينا. قال: ثمّ رفع رأسه فقال:«قال الحسين بن علي علیه السلام: أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلّا بكى» ((1)).

أيّها الإخوة المؤمنون، لا تظنّوا أنّ البكاء على الإمام المظلوم خاصٌّ بكم، فقد بكى الملائكة المقرّبون على مصيبته دائماً وأقاموا مأتمه، وقد أقام آدم مأتمه في الجنّة.

وروى ابن قولويه عن الصادق علیه السلام قال: «قال عليٌّ للحسين: يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قدماً. فقال: جُعلتُ فداك، ما حالي؟ قال: علمتَ ما جهلوا، وسينتفع عالمٌ بما علم، يا بُنيّ اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك، فوَالّذي نفسي بيده لَيسفكنّ بنو أُميّة دمك، ثمّ لا يريدونك عن دينك ولا ينسونك ذكر ربّك. فقال الحسين علیه السلام: والّذي نفسي بيده حسبي، وأقررتُ بما أنزل الله وأُصدّق نبيّ الله ولا أُكذّب قول أبي» ((2)).

وفي زيارة الناحية المقدّسة: «وأُقيمت لك المآتم في أعلى علّيّين، ولطمَت عليك الحور العين» ((3)).

ص: 336


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 3 و6، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 279 الباب 34.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 241.
3- ([3]) المزار لابن المشهدي: 506.

وفي الزيارة المخصوصة في الأوّل من رجب والنصف من شعبان: «أشهد لقد اقشعرَّت لدمائكم أظلّة العرش مع أظلّة الخلائق، وسكّان الجنان والبرّ والبحر» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر: قال الراوي: فقلت: وأيّ شيءٍ الظلال؟ فقالعلیه السلام : «ألم ترَ إلى ظِلّك في الشمس؟ شيئاً وليس بشيء!» ((2)).

يفيد هذا الحديث أنّ هذه المصيبة قد أثّرت في المجرّدات أيضاً، وكلّما كان اللطافة أكثر كان التأثير أشدّ.

وفي زيارة رجب دلالةٌ على أنّ أهل الجنّة قد أقاموا العزاء له أيضاً، وكيف لا يكون كذلك وقد رُوي أنّ الجنّة والحور العين خُلقَتا من نور الحسين علیه السلام المقدّس ((3))، فكيف ترتوي الحور وتفرح والحسين يحترق كبده من الظمأ وينادي: وا عطشاه؟ وكيف يتنعّمنَ على أسرّة السرور ويبتنَ من فوق الحشايا والحسين مرميٌّ على الصعيد مجرّداً؟

رُوي عن رسول الله صلی الله علیه وآله في حديث المعراج أنّه قال: «ثمّ تقدمت أمامه فإذا أنا بتفّاح، فأخذتُ تفّاحةً ففلقتُها، فخرجَت منها حوراء كأنّ مقاديم النسور

ص: 337


1- ([4]) إقبال الأعمال لابن طاووس: 712، المصباح للكفعمي: 491، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 336 الباب 26 ح 1.
2- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 436 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 64 ح 16.
3- ([2]) أُنظُر: الفضائل: 128، بحار الأنوار للمجلسي: 54 / 192.

أشفار عينيها، فقلت: لمَن أنتِ؟ فبكت، ثمّ قالت: لابنك الحسين» ((1)).

در بارگاه قدس كه جاي ملال نيست***سرهاي قدسيان همه بر زانوي غم است

جن ملك بر آدميان نوحه مي كنند***گويا عزاي أشرف أولاد آدم است

أجل، بكت كلّ الأشياء من المجرّدات والماديّات والأرضين والسماوات والقلم واللوح والعرش والكرسيّ والجنّة والنار والحور والولدان، وغيرها من سائر الموجودات على مظلومية سيّد الشهداء، بل قال البعض: إنّ كلّ بكاءٍ على حقٍّ يرجع في الحقيقة إلى البكاء على الحسين المظلوم، وكلّ حجرٍ يتدحرج من جبلٍ أو طفل يبكي أو طير يصدح أو اصفرار يصيب شجرةً أو تصدّع في جدار أو احمرار في السماء أو موج في بحر أو غبار في صحراء أو رعد في السماء إنّما هو حزنٌ على الحسين المظلوم ونياحةٌ على مصيبته، ومطر السحاب دموعٌ مسكوبةٌ على الحسين المظلوم، لأنّ الموجودات جميعاً من بركات وجوده المقدّس، وهي طرّاً انعكاسٌ عن شعاعه، وإنّما تنزل الرحمة بواسطته وهو وسيلة الفيض، فكلّ ما يصيبه إنّما يصيب العالم، وانكساف الشمس ينشأ من انكساف الشعاع، وصفاؤها ينشأ من صفاء الشعاع، ولذلك قالوا: بُنيَ الوجود على الاسم الأعظم، فإذا حرك حرك جميع

ص: 338


1- ([3]) كشف الغمّة للإربلي: 1 / 459، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 298.

العالم، وهم مظاهر الأسماء الحسنى ((1))، وفي الحديث: ليس لله آيةٌ أعظم منهم ((2)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

فما آيةٌ لله أكبر منهمُ***فهم آيةٌ من دونها كلّ آيةِ

و ما نعمةٌ إلّا وهم أولياؤها***فهم نعمةٌ منها أتت كلُّ نعمةِ

لهم خلق الله العوالم كلَّها***وحكمهمُ فيها بها من خليفةِ

سرى سرّهم في الكائنات جميعها***فمن سرّهم لم يخلُ مثقال ذرّةِ

فمثَلهم مثل الشمس، ومثل شيعتهم مثل الشعاع، ومثل عدوّهم مثل الظلّ والشعاع من الشمس.

وقيل: الشيعة اشتقاقٌ من الشعاع ((3)).

والظلّ ليس من الشمس، لكنّه لا وجود له بدون الشمس، فقوام الظلّ بالشمس، وجميع ذرّات الوجود من النور والظلمة والحسن والقبيح والسعيد والشقيّ لا ينعم بخلعة الوجود إلّا بهم وبسببهم، فطينة كلّ الأشياء توجد إمّا من طينتهم أو بسبب طينتهم، ولولاهم لا وجود للأشياء، وهم الاسم الّذي وردت الإشارة إليه في الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك باسمك الّذي

ص: 339


1- ([1]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 143 ح 4.
2- ([2]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 207 ح 3، بصائر الدرجات للصفار: 76 ح 3.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 25 / 23.

اشرقَت به السماوات والأرضون» ((1)).

ورُوي أنّ رجلاً سأل الإمام: قد يكون الإنسان في إحيان كثيرة مهموماً مغموماً حزيناً، من دون أن يعرف لذلك سبباً! فقال: لأنّ قلب إمام الزمان يكون مهموماً في ذلك الوقت.

فيلزم أن تفنى كلّ ذرّات الوجود، وتنهدم السماوات والأرضين، وتتناثر الكواكب والنجوم، ويفسد الكون كلّه عند شهادة الإمام المظلوم، وهي إنّما بقيَت لمكان وجود الإمام زين العابدين علیه السلام.

أجل، انقلاب حالة سيّد الشهداء وحالة الإمام زين العابدين في حين شهادة الإمام المظلوم سبّب انقلاباً في الكون، وانكسفت الشمس واظلمّ الهواء حتّى بدت الكواكب ((2))، والحال أنّ القاعدة فيانكساف الشمس أنّه يكون في الثامن والعشرين من الشهر.

وكذا هاجت الب--حار وتزلزلَت الجبال ((3))، ومطرت السماء دماً ورماداً ((4))، واظلمّ الهواء وهبّت ريحٌ سوداء، وانقلب الكون حسيراً، حتّى

ص: 340


1- ([2]) أُنظُر: إقبال الأعمال لابن طاووس: 481، المصباح للكفعمي: 550.
2- ([3]) أُنظُر: السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 227، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 102، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216 ح 39، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 206 الباب 40 ح 13.
4- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 202 الباب 40 ح 4.

ظنّ الناس أنّ الساعة آتيةٌ والقيامة قد قامت، ومات الكثيرون من شدّة الخوف ((1)).

نعم، لمّا كانوا هم الأصل بعد الذات المقدّسة الّتي هي مبدأ الموجودات، وكلّ شيءٍ في الوجود فرعٌ لهم، فإذا تزلزل الأصل لابدّ أن يتزلزل الفرع، لذا فقد بكت كلّ ذرات الوجود لمصائبه، حتّى خيل العدوّ بكت عند وداع العائلة، وهي تحوم في المصرع حتّى جرت دموعها على حوافرها ((2))، بل إنّ الأعداء الأشقياء -- وهم أضلّ من الأنعام -- بكوا حين وقوع الشهادة والغارة على الحرم ((3))، وبكاؤهم ناشيءٌ من تلك الطينة الطيّبة الّتي كانت أصلاً في خلق جميع المخلوقات، ومنها هؤلاء الّذين ركبت هيئتهم في الظاهر على شكل الإنسان، وقد خلقهم الله ليكونوا أُنساً لشيعتهم في الدنيا.تبيّن أن ذرّات الكون جميعاً بكت على سيّد الشهداء والمظلومين وناحت عليه، كلٌّ بحسبه وبالشكل المناسب له.

ولَنعم ما قيل:

ص: 341


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 57، روضة الشهداء للكاشفي: 353.
2- ([4]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 457 المجلس 10.
3- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.

گر چشم روزگار بر او فاش مي گريست***خون مي گذشت از سر ايوان كربلا

وقد فصّل بعض العرفاء هذا المعنى في أبيات، فقال:

كلّ انكسارٍ خضوع به***وكل صوتٍ فهو نوح الهوا

ما في الوجود معجمٌ لم يكن***إلّا عرته حيرةٌ في استوا

فطبّق الدنيا مصابٌ حوى***لما سيأتي أبداً أو أتى

فكلّ رطبٍ ينتهي ذابلاً***وذي قوى يعتريه النوى

أما ترى النخلة في قبة***ذات انفطارٍ وانشقاق فشى؟

ما سعفة فيها انتهت أخبرت***إلّا لها حزن إمامي شوى

أما ترى الأثل وأهدى به***عند الرياح ذا حنين علا

أما ترى الآفاق مغبرّة***والشمس حمراء بكرةً أو مسا

أما سمعتَ الرعد يبكي له***البرّ والسحب بقطرٍ همى

أما ترى النحل له رقة***في طيرانه شديد البكا؟

فكلّ بقعةٍ بها قبره***وكربلا كلّ مكانٍ تُرى

وكلّ يومٍ يومه دائماً***تقصّ شرب الماء على مَن رعى

السيف يفري نحره باكياً***والرمح ينعى قائماً وانثنى

تبكيه جرد جاريات على***جثمانه وإن تدق القرى

والله ما رأيت شيئاً أبداً***في الكون إلّا ببكاءٍ تلا

ص: 342

ويشهد لهذا المعنى خطبة الإمام زين العابدين على مشارف المدينة بعد رجوعه من الشام، قال فيها: «أيّها الناس، فأيّ رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون» ((1)).

وبيان هذا المطلب إجمالاً بأن يقال: إنّ الإمام المظلوم مظهر الخشوع والخضوع، وكلّ خضوع وخشوع في ذرّات الوجود إنّما هو من فاضل طينته وفيض وجوده، بل هو مظهر جميع الخصال الحميدة، وأيّ خصلةٍ حسنةٍ إنّما هي من فاضل طينته وفيض وجوده، بواسطةٍ أو بأكثر من واسطة.

فكلّ شيءٍ في الوجود من سماوات وأرضين ومن فيها وسكّان البحار والجمادات والحيوانات كلّها تبكي المظلوم، وبكاؤها على نوعين: معنوي وصوري.

أمّا البكاء المعنوي، فإنّ كلّ موجود من الممكنات ذات الهيئة والصورة فإنّه في يبكي على الإمام المظلوم في حالته الوجدانيّة الأوليّة وضميره العميق، حتّى المنافقين والشياطين وعلّيّين وسجّين، وهي على أشكال، فبعضهم يرى في نفسه ضعفاً نسبةً إلى موضوعٍ ما أو شعوراً بالحاجة أو

ص: 343


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 148.

ميلاً إلى شيءٍ ما أو خوفاً من شيءٍ ما أو أملاً ورجاءً بشيءٍ ما أو غمّاً من فوت شيءٍ ما أو توقّعاً لأمر محبوب يحصل في المستقبل أو محذوراً يتوقّاه أو يخشاه في المستقبل، هذا وغيره من الأُمور ممّا هو نحوه كلّه يعدّ بكاءً معنويّاً أو تباكياً باعتبار جمود عين طبيعته وعدم إمكان جريان الدموع السائلة في ذلك.

أمّا البكاء الصوري، وهو جريان الدموع من العيون، فإنّ المحبّ يبكي والمبغض يبكي، بيد أنّ المبغض لا يبكي إلّا أن يغفل عن بغضه ولو إلى حين، فإنّه إذا كان ملتفتاً إلى بغضه وحقده يستحيل عليه البكاء، لأنّ قلبه يكون مقفلاً لا يمكنه استقبال الخير بحال.

أمّا في حال غفلته عن شقاقه المبعد له عن رحمة الله فإنّه إذا تذكّر ما ورد على الإمام المظلوم وأهل بيته وأنصاره سيبكي، وقد بكى الكثيرون على هذا النحو، من قبيل خولي الأصبحي (لعنه الله) الّذي سلب الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى وأخذ ما كان على العيال والأطفال وجرّ النطع من تحت السيّد السجّاد، وهو يبكي فقالت له السيّدة زينب: لعنك الله، هتكتنا وأنت مع ذلك تبكي؟! قال: أبكي ((1)) ممّا جرى عليكم أهل

ص: 344


1- ([1]) لا يبعد أن يكون بكاء رؤوس العسكر وكبراء القوم والمباشرين في ارتكاب الجنايات من قبيل عمر بن سعد وخولي وأمثالهم بكاء فرح وشماتة، وليس بكاء رقّةٍ ورحمة، وما صدر عنهم من أقوالٍ تحمل على الشماتة والاستهزاء، من قبيل قوله: أبكي ممّا جرى عليكم أهل البيت.

البيت ((1)).

وبالجملة، فإنّ كلّ شيءٍ يبكي على الإمام المظلوم، إلّا إذا كانمن المنافقين وهو ملتفتٌ إلى عداوته ومصرٌّ على بغضه وحقده، فإنّه والحال هذه يكون مطروداً من رحمة الله الّتي وسعَت كلّ شيء وبعيد عن الخير كلّ الخير.

قال بعض العرفاء: والحاصل أنّ كلّ شيءٍ يبكي على الحسين علیه السلام ، تبكيه الرياح بهفيفها، والنار بتلهّبها، والماء بجريانه وأمواجه وجوده، والشمس والقمر والنجوم بتغيّراتها من حمرةٍ وصفرةٍ وكسوفٍ وخسوف، والجبال بارتفاعها وانهدادها، والجدران بتفطّرها وانهدامها، والنبات بتغيّره واصفراره ويبسه، والآفاق بتكرّرها واغبرارها وحمرتها وصفرتها، وتبكيه التجارة بخسارتها وكسادها، والعيون بتكدّرها، والمعادن بفسادها، والأسعار بغلائها، والأشجار بموتها وبقلّة ثمرها وبسقوط ورقها وبيبس أغصانها واصفرار ورقها.

أما سمعتَ بكاء الأواني حين تنكسر من الچيني والخزف؟ أما سمعت الطيور تصدح في أعشاشها واضطراب الأشجار وحفيفها وأمواج البحار وبكاء الأطفال الصغار؟ أما سمعت بكاء الأسفار بسبب انعدام الأمن في

ص: 345


1- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.

الصحاري والقفار؟ أما سمعت الليل يبكي بظلمته على الإمام المظلوم والنهار بضيائه؟ أما رأيت انفطار الأحجار وتساقطها وجزر البحار وقلّة الأمطار وغلاء الأسعار وفساد الأفكار واختلاف الأنظار وقصر الأعمار؟

آه، ثمّ آه، ثمّ آه، ما أذكره لك إنّما هو على سبيل الإجمال، يدركه من جعل له لقلبه عينان فذكّره بآيات الكتاب تذكيراً مجملاً بصريحالبيان، فقال: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَ-كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» ((1))، وقد قال الإمام في ذيل هذه الآية في زيارة الجامعة الصغيرة المذكورة في آخر (مصباح) الشيخ: «يسبّح الله بأسمائه جميع خلقه» ((2)).

وهذا يعني أنّ كلّ شيءٍ يسبّح الله بالبكاء على سيّد الشهداء (عليه أفضل الصلاة والسلام) -- انتهى كلام ذلك العارف.

وبالجملة، فإنّ جميع العالم يبكي في مصيبة الإمام المظلوم، وقد ظهر بكاء الكثير من الأجسام بنحوٍ شوهد ورأته العيون، مثل بكاء السماء ((3)) والأرض دماً، وجريان الدم من أغصان الأشجار ((4))، وجريان الدم من

ص: 346


1- ([1]) سورة الإسراء: 44.
2- ([2]) مصباح المتهجّد: 289.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 202 الباب 40 ح 4.
4- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 233 الباب 42 ح 1.

شجرةٍ في رودبار قزوين في قرية زرآباد، وقد رأيتُها أنا بنفسي والدم يجري منها ليلة عاشوراء، وهي شجرةٌ معمّرةٌ قديمة تقع بالقرب من قبر أحد أولاد الأئمة، يحكى أنّها كانت أيّام شهادة المولى سيّد الشهداء وتناقل الناس سماعاً أنّ أحد تلك الطيور الّتي وقع في دم سيّد الشهداء بعد شهادته فمرّغت نفسها بالدم ثمّ انطلقت إلى الأصقاع لتخبر عن شهادته في الآفاق حطّ على هذه الشجرة، ومنذ عاشوراء تلك السنة تجري الدماء من تلك الشجرة بمقدار الدم السائح من ذبح طير، وتجري في كلّ سنة من عدّة أغصان، ثمّ تجفّ تلك الأغصان وتيبس، وفي السنة الّتي حضرت عندها جرت الدماءمن ساقها القريب من القبر الشريف، ويحضر في كلّ عام آلاف المعزّين وتحدث ضجّة ويقام العزاء بما لا يسع المقام لتقريره ((1)).

وقد مررت في طريقٍ إلى حجّ بيت الله الحرام بمدينة حلَب، وكان ثَمّة مسجدٌ بين البساتين يسمّى مسجد الحسين، فلمّا دخلتُ المسجد رأيتُ في صحن المسجد ستارةً منسدلةً على حجَرٍ منصوب على الحائط، مقعّر بمقدارٍ تدخل فيه الرقبة، وفي وسطه أثرين بمقدار الشريانيين الأصليَّين، في الرقبة دمٌ منجمد.

سألتُ خادم المسجد عن الصخرة والدم، قال: حينما حملوا رأس سيّد الشهداء إلى الشام مرّوا بهذا المنزل ووضعوه على هذا الحجر، فأثّر في الحجر

ص: 347


1- ([1]) توجد في مكتبتنا عدّة كتب موثّقة بالصور عن هذه الشجرة.

وصارت فيها هذه الحفرة، وصار أثر هذين الشريانين من موضع أثر أوداج الرأس المقدّس، ولَطالما سمعتُ من هذا الصحن صوت قراءة القرآن دائماً، فإذا كان ليلة عاشوراء ومرّ الوقت إلى بعد منتصف الليل يظهر نورٌ من وسط الصحن هذا، ثمّ يمرّ حتّى يدخل وسط الحفرة في هذه الصخرة، ويخرج من موضع أثر الشريانين دمٌ لا يقترب منه أحد، فيجمد ويجفّ، وإنّي أخدم في هذا المسجد منذ سبع أو ثمان سنين، وأرى ذلك الدم في سحَر كلّ عاشوراء، وقد رآه مَن كان قبلي من الخدّام في هذا المسجد.

فلمّا خرجتُ من المسجد وتوسّطتُ سوق حماة سألتُ بعض الكسبة في البلد عن ذلك، فقالوا: إنّ هذا أمرٌ معروفٌ مشهور.

وحُكي أنّ جبلاً في بعض بلاد الروم فيه صورة أسدٍ منحوت من الصخر، وفي كلّ سنةٍ في يوم عاشوراء يسيل من عينَي الأسدعينان من الدم تبقى تسيل حتّى الليل، فيجتمع سكّان المنطقة ويقيمون المأتم والعزاء على أهل البيت ((1)).

وحُكي أيضاً أنّ القوم لمّا أرادوا أن يدخلوا الموصل، أرسلوا إلى عامله أن يهيّئ لهم الزاد والعلوفة، وأن يزيّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يهيّؤا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها ويسيرون من غير أن يدخلوا فيها، فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ

ص: 348


1- ([1]) أُنظُر: رياض الشهادة: 2 / 232 المجلس 12.

منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دمٍ من الرأس المكرّم، فصارت تشعّ، ويغلي منها الدم كلّ سنةٍ في يوم عاشوراء، وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف ويقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قُبّةً سمّوها مشهد النقطة ((1)).

وروى ابن قولويه عن رجلٍ من أهل بيت المقدس أنّه قال: واللهِ لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشية قتل الحسين بن عليّ. قلت: وكيف ذلك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً وصخراً إلّا ورأينا تحتها دماً يغلي، واحمرّت الحيطان كالعلق، ومطرنا ثلاثة أيّام دماً عبيطاً، وسمعنا منادياً ينادي في جوف الليل يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

معاذ الله، لا نلتم يقيناً***شفاعة أحمد وأبي ترابِ

قتلتم خير من ركب المطايا***وخير الشيب طرّاً والشبابِ

وانكسفت الشمس ثلاثاً ثمّ تجلّت عنها، وانشبكت النجوم، فلمّا كان من الغد أُرجفنا بقتله، فلم يأتِ علينا كثير شيءٍ حتّى نُعي إلينا

ص: 349


1- ([2]) نفَس المهموم للقمّي: 425، روضة الشهداء للكاشفي: 386.

الحسين ((1)).

وروى ابن شهرآشوب: عن نصرة الأزديّة قالت: لمّا قُتل الحسين علیه السلام أمطرت السماء دماً، وحبابنا وجرارنا صارت مملوةً دماً ((2)).

وعن أبي عبد الله الصادق: «إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم» ((3)).

وعن أُمّ سليم ((4)) قالت: لمّا قُتل الحسين مطرت السماء مطراً كالدم، احمرّت منه البيوت والحيطان ((5)).

وعن الثعلبيّ أخبرنا أنّ حمرة أطراف السماء لم تكن قبل قتل الحسين ((6)).

ص: 350


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 204 الباب 40 ح 6، كامل الزيارات لابن قولويه: 77 الباب 24 ح 2.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، إعلام الورى للطبرسي: 220، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 215 ح 38.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 206 ح 13، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 ح 6، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32.
4- ([4]) في المتن: (أُمّ سلَمة).
5- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 215.
6- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 217 ح 40.

وعن أبي قبيل: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام كسفت الشمس كسفةً بدت الكواكب نصف النهار، حتّى ظننّا أنّها هي ((1)). يعني الساعة وقيام القيامة.

عن أُمّ حيّان قالت: يوم قُتل الحسين أظلمت علينا ثلاثاً، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلّا احترق، ولم يُقلَب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دماً عبيطاً ((2)).

وروى ابن قولويه عن امرأةٍ صالحةٍ من أهل الكوفة أنّها أدركت الحسين ابن عليّ حين قُتل (صلوات الله عليه)، قالت: فمكثنا سنةً وتسعة أشهر والسماء مثل العلقة مثل الدم، ما تُرى الشمس ((3)).

أيضاً عن جماعةٍ من أهل الكوفة: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام أمطرت السماء تراباً أحمر ((4)).

ص: 351


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216 ح 39.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216، نقلها المؤلّف بتصرّف.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 89 الباب 28 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 210 ح 19.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 الباب 28 ح 11، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 211 ح 25.

ورُوي أيضاً عن عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وُضعَت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیه السلام ». قلت: أيّ شيءٍ بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلت بالثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((1)).وعن الإمام الصادق، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وضعت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیه السلام ». قلت: أيّ شيءٍ بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلتَ بالثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((2)).

وعن الحارث الأعور قال: قال عليّ علیه السلام: «بأبي وأُمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، واللهِ كأنّي أنظر إلى الوحش مادّةً أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتّى الصباح، فإذا كان كذلك فإيّاكم والجفاء!» ((3)).

والخلاصة: إنّ الأخبار الدالّة على بكاء الأشياء على الإمام المظلوم كثيرة، فكيف يملك دمعه ويتمنّع عن البكاء عليه، ولمَ لا يتأسّى بالأنبياء

ص: 352


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 الباب 28 ح 12، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 211 ح 26.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 93 الباب 28 ح 21، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 213 ح 31.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 79 الباب 26 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 205 الباب 40 ح 9.

والأولياء؟ فهذا الصفيّ آدم كان يبكي على الإمام المظلوم بكاء الثكلى ((1))، والنبيّ نوح بكى وجرت دموعه كحبّات المطر المنهمر ((2)).

لمّا نظر إبراهيم إلى ملكوت السماوات رأى خمسة أنوار مقدّسة تحيط بالعرش الإلهيّ الأعظم، فسأل عن أسماء تلك الأنوار، فقيل:محمّد بن عبد الله وأوصياؤه وابنته. فقال: يا ربّ، ما لي إذا نظرتُ إلى هذه الأنوار سُررتُ وسُري عنّي، وإذا نظرت إلى النور الخامس منها يداخلني الهمّ والغمّ ويكون قلبي مهموماً مغموماً؟ قال: يا إبراهيم، إنك لا تعلم أيّ ظلمٍ سيظلمون به صاحب هذا النور المقدّس. فلمّا سمع طرفاً من مصائبه حزن حزناً شديداً واغتمّ وتنغّص عيشه ((3)).

وعن الصادق في قول الله عزوجل: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ((4))، قال: «حسب فرأى ما يحلّ بالحسين علیه السلام ، فقال: إنّي سقيمٌ؛ لما يحلّ بالحسين» ((5)).

ص: 353


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 245 ح 44.
2- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 230، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 79.
3- ([1]) أمواج البكاء: 20.
4- ([2]) سورة الصافّات: 88 و89.
5- ([3]) الكافي للكليني: 1 / 465 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 220 الباب 28 ح 12.

ولمّا سأل زكريّا عن تأويل «كهيعص» ((1))، قيل: الكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة الطاهرة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيهنّ الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه: إلهي، أتفجع خير جميع خلقك بولده؟ إلهي، أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي، أتلبس عليّاً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما؟ ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني به كما تفجع محمّداًحبيبك بولده. فرزقه الله يحيى وفجعه به، حيث كان يحيى يقول للملك الزاني كلّما مرّ عليه: أيّها الملك، إنّ هذا العمل الّذي ترتكبه حرامٌ لا يحلّ لك. فسكر يوماً وطلبت منه المرأة الزانية أن يحمل لها رأس يحيى المظلوم في طشت، فأمر به فذُبح وحُمل إليه رأسه في طشت، فجعل يتكلّم ويقول: اتّقِ الله واترك هذا العمل، فإنّه لا يحلّ لك. فلمّا قتلوه وجرى دمه على الأرض جعل دمه يغلي.

ورُوي أنّ قطرةً من دمه سقطت على الأرض فصارت تغلي، وكلّما أهالوا عليها التراب لم تهدأ، فلا زالوا يهيلون التراب عليها وهي تظهر من تحت

ص: 354


1- ([4]) سورة مريم: 1.

التراب وتغلي حتّى صار تلّاً عظيماً، حتّى قتل بخت نصّر سبعين ألفاً من بني إسرائيل على ذلك التلّ حتّى سكن الدم ((1)).

ولمّا كذّبوا إسماعيل صادق الوعد وسلخوا فروة رأسه، غضب الله عليهم له، فوجّه إليه سطاطائيل ملك العذاب فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل ملك العذاب، وجّهني ربُّ العزّة إليك لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئت. فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك يا سطاطائيل. فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال إسماعيل: يا ربّ، إنّك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّدٍ بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خلقك بما تفعل أُمّته بالحسين بن عليّ علیه السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين أن تكرّه إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممّن فعل ذلك بي ما فعل كما تكرّالحسين. فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين بن عليّ ((2)).

وفي الحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران لمّا التقى الخضر فسلّم عليه وأجاب، وتعجّب وهو بأرضٍ ليس بها سلام، فقال: مَن أنت؟ قال: موسى.

ص: 355


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 223، و14 / 181.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 237.

فقال: ابن عمران الّذي كلمه الله؟ قال: نعم. قال: فما جاء بك؟ قال: أتيتك على أن تعلّمني. قال: إنّي وُكّلت بأمرٍ لا تطيقه. فحدّثه عن آل محمّدٍ وعن بلائهم وعمّا يصيبهم، حتّى اشتدّ بكاؤهما، وذكر له فضل محمّدٍ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، وما أُعطوا وما ابتُلوا به، فجعل يقول: يا ليتني من أُمّة محمّد ((1)).

ورُوي أنّه لمّا تشاجر موسى والخضر علیهما السلام في قضيّة السفينة والغلام والجدار ورجع موسى إلى قومه، سأله أخوه هارون عمّا استعمله [استعلمه] من الخضر علیه السلام في السفينة وشاهده من عجائب البحر، قال: بينما أنا والخضر على شاطئ البحر إذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمى بها نحو المشرق، ثمّ أخذ ثانيةً ورمى بها نحو المغرب، ثمّ أخذ ثالثةً ورمى بها نحو السماء، ثمّ أخذ رابعةً ورمى بها نحو الأرض، ثمّ أخذ خامسةً وألقاها في البحر، فبُهت الخضر وأنا. قال موسى: فسألت الخضر عن ذلك فلم يجب، وإذا نحن بصيّاد يصطاد فنظر إلينا وقال:ما لي أراكما في فكرٍ وتعجّب؟ فقلنا في أمر الطائر. فقال: أنا رجلٌ صيّاد وقد علمت إشارته، وأنتما نبيّان لا تعلمان؟! قلنا: ما نعلم إلّا ما علمنا الله عزوجل. قال: هذا طائر في البحر يُسمّى مسلم، لأنّه إذا صاح يقول في صياحه: مسلم، وأشار بذلك إلى أنّه يأتي في آخر الزمان نبيٌّ يكون علم أهل المشرق والمغرب وأهل

ص: 356


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 13 / 301 ح 21، تفسير العيّاشي: 2 / 329 ح 41.

السماء والأرض عند علمه مثل هذه القطرة الملقاة في البحر، ويرث علمه ابنُ عمّه ووصيّه. فسكن ما كنّا فيه من المشاجرة، واستقلّ كلّ واحدٍ منّا علمه بعد أن كنّا به معجبين ومشينا، ثمّ غاب الصيّاد عنّا، فعلمنا أنه ملَكٌ بعثه الله عزوجل إلينا يعرّفنا بنقصنا حيث ادّعينا الكمال ((1)).

وعن وهب بن منبه قال: إنّ موسى علیه السلام نظر ليلة الخطاب إلى كلّ شجرةٍ في الطور وكلّ حجرٍ ونباتٍ تنطق بذكر محمّد واثني عشر وصيّاً له مِن بعده، فقال موسى: إلهي، لا أرى شيئاً خلقتَه إلّا وهو ناطقٌ بذكر محمّدٍ وأوصيائه الاثني عشر، فما منزلة هؤلاء عندك؟ قال: يا ابن عمران، إنّي خلقتُهم قبل خلق الأنوار، وجعلتهم في خزانة قدسي يرتعون في رياض مشيّتي ويتنسّمون من روح جبروتي ويشاهدون أقطار ملكوتي، حتّى إذا شئت مشيّتي أنفذت قضائي وقدري، يا ابن عمران، إنّي سبقتُ بهم استباقي حتّى أُزخرف بهم جناني، يا ابن عمران، تمسّك بذكرهم، فإنّهم خزنة علمي وعَيبة حكمتي ومعدن نوري. قال حسين بن علوان: فذكرت ذلك لجعفر بن محمّد علیه السلام فقال: «حقٌّ ذلك»((2)).

يا ربّ! أين سرحت أيّها القلم؟ أين كنت وأين وصلت؟ والعذر أيّها الشيعة أنّي إذا ذكرتُ فضائل محمّدٍ وآل محمّد لا أتمالك، وإذا ذكرت

ص: 357


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 26 / 213 ح 12، المحتضر للحلّي: 100.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 51 / 149 ح 25.

مصائبهم تشبّ في قلبي نيران المصاب، فأُواسي أنبياء الله في هذا العزاء، وقد اشتهرت قصّة بكاء عيسى وحوارييه في كربلاء ((1)).

ولمّا دفعَت مريم ابنها عيسى الى الرجل الصبّاغ فأعطاه الكرابيس والخيوط ليصبغها -- وكان عيسى طفلاً --، جعلها كلّها في إناءٍ واحدٍ وصبغها جميعاً بلون السواد، ولم يكن اختياره لهذا اللون إلّا حزناً على مصيبة سيّد الشهداء الحسين علیه السلام ، لأنّ عيسى وإن كان صغيراً إلّا أنّه كان في المهد نبيّاً، فلا يتصوّر في حقّه أنّه يفعل فعلاً عبثيّاً ((2)).

وربّما ترنّم محتشم بهذه الحكاية فنظمها في شعره:

يك باره جامه در خم گردون به نيل***زد چون اين خبر به عيس-ى گردون نشين رسيد

* * * * *

أمّا بكاء نبيّنا الأكرم وأمير المؤمنين وسائر الأئمة الميامين فيمصيبة سيّد الشهداء وحزنهم عليه، فرواياتها خارجةٌ عن حدّ الإحصاء.

وأمّا بكاء فاطمة الزهراء في مصيبة الإمام المظلوم، فلسان القلم أبكم يعجز عن بيانه، بل يستحيل تصوّر الإحاطة ببيانه في الكتب والدفاتر.

ص: 358


1- ([2]) أُنظُر: الأمالي للصدوق: 598، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 253، كمال الدين للصدوق: 532، الخرائج للراوندي: 3 / 1143.
2- ([3]) مهيّج الأحزان لليزدي: 475.

فنقتصر في المقام على ذكر حديث أبي بصير عن الصادق: «إنّ فاطمة لَتبكيه، وتشهق فتزفر جهنّم زفرةً لو لا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك، مخافة أن يخرج منها عُنقٌ أو يشرد دخانها فيحرق أهل الأرض، فيكبحونها ما دامت باكية، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتّى يسكن صوت فاطمة، وإنّ البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض، وما منها قطرة إلّا بها ملَكٌ موكّل، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نارها بأجنحته وحبس بعضها على بعض مخافةً على الدنيا ومَن فيها ومَن على الأرض، فلا تزال الملائكة مشفقين، يبكون لبكائها ويدعون الله ويتضرّعون إليه، ويتضرّع أهل العرش ومَن حوله، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض، ولو أنّ صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لَصعق أهل الأرض وتقلّعت الجبال وزلزلت الأرض بأهلها».

قلت: جُعلت فداك، إنّ هذا الأمر عظيم! قال: «غيره أعظم منه ما لم تسمعه»، ثمّ قال: «يا أبا بصير، أما تحبّ أن تكون فيمن يسعد فاطمة؟»، فبكيت حين قالها، فما قدرت على المنطق وما قدرت على كلامي من البكاء، ثمّ قام إلى المصلّى يدعو، وخرجت من عنده على تلك الحال، فما انتفعت بطعامٍ وما جاءني النوم،وأصبحت صائماً وجلاً، حتّى أتيتُه، فلمّا رأيته قد سكن سكنتُ وحمدت الله حيث لم تنزل بي عقوبة ((1)).

ص: 359


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 82 الباب 26 ح 7، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 208 الباب 40 ح 14.

أمّا بكاء المظلوم نفسه على مظلوميّته، وذكر كيفيته وعدد مرّاته، فهو خارجٌ عن قدرة البشر ((1))، بَيد أنّنا نقتصر في المقام على بيان حديثٍ منقول عن سلمان الفارسي أنّه مرّ في أزقّة المدينة فرأى الأطفال يلعبون، والحسين علیه السلام جالس جانباً على التراب جلسة الحزين، وهو يبكي بكاءً شديداً ودموعه تتحدّر كأنّها المزن. قال سلمان: فجئت حتّى وقفتُ عنده وقلت له: جعلت فداك يا سيّدي وابن سيّدي، ممّ بكاؤك؟ وأنت تجلس هذه الجلسة على التراب، فهل تعرّض لك هؤلاءالصبيان بسوء؟ فلمّا سمع الحسين علیه السلام منّي هذا الكلام رفع رأسه ونظر إليّ بعينٍ حزينةٍ وأشار إليّ بيده أن دَعْ هذا السؤال ولا تسألني يا سلمان، فإنّه يشقّ على قلبي أن أتكلّم بهذا. قال سلمان: فقلت: يا سيّدي، أما سمعت جدّك رسول اللَّه صلی الله علیه وآله يقول: «سلمان منّا أهل البيت»؟ فلماذا لا تحدّثني بما في قلبك يا سيّدي ومولاي؟

فلما سمع منّي هذا الكلام بكى، وقال: يا سلمان، إنّ اللَّه عزوجل أوحى إلى جبرئيل علیه السلام أن يخبر جدّي بما سيجري علَيّ في كربلاء، وقال: إنّ أهل الكوفة سيذبحوني بخنجر الجفاء، ويفرّقون بين رأسي وبدني، ويقتلون أطفالي وأولادي،ويتركون أبدانهم بلاغُسلٍ ولا كفنٍ على الرمضاء،

ص: 360


1- ([2]) أُنظُر: كتاب أمواج البكاء في مواضع بكاء سيّد الشهداء، للبسطامي -- ترجمة: السيّد علي أشرف.

ويحملون ولدي عليّ زين العابدين مع البقيّة من عيالي على النياق الهزيلة بلاء وطاء سبايا، يطوفون بهم من بلدٍ الى بلد، ويسكنونهم في خرابة، ويعرضون أطفالي حتّى يطمع الطامع فيهم فيستوهبهم للخدمة، يا سلمان كلّما تذكرت ذلك شقّ على قلبي ذلك.

قال سلمان: فقلت: يا سيّدي المظلوم، جُعلت فداك، لمَ لا تطلب من جدّك وأبيك أن يدعوَا اللَّه ليدفع عنك هذا البلاء؟ فقال: يا سلمان، أنا رضيتُ بهذه المصيبة العظمى، لأكون شفيعاً لأُمّة جدّي يوم الجزاء.

فقلت: ويكون ذلك في زمانٍ يكون فيه جدّك وأبوك؟ فبكى الحسين علیه السلام وقال: يا سلمان، يكون ذلك في زمانٍ خالٍ من جدّي وأبي وأُمّي وأخي. قلت: جُعلت فداك يا سيّدي ومولاي، فمن يقيم عليكم العزاء ومن يبكي عليكم؟! فقال: يا سلمان، سيهيّئ اللَّه لنا شيعة رجالاً ونساءً، يبكون علينا ويبذلون أموالهم وأرواحهم في إقامة مأتمنا وزيارة قبورنا.

فقلت: يا سيّدي، أيّ سرٍّ في ذلك؟ يقتلكم بعض الناس ويقطعون رؤوسكم ويرفعونها على الرماح ويسبون عيالكم ويُنزلون بكم ألوان الظلم والجور، ويبكي عليكم آخرون ويبذلون أموالهم وأرواحهم فيكم! فقال: يا سلمان، إنّ الذين يبكون علينا قومٌ خلقهم اللَّه من طينتنا، ولذلك أحبّونا وبذلوا أموالهم وأرواحهم فينا، وهم يبكون علينا، يقصدون زيارة قبورنا من البعيد والقريب، ونأتيهم نحن في أوّل ليلةٍ من ليالي القبر فنزورهم وندفع عنهم أهوال تلك الليلة ونؤنسهم، واذا ماتوا تقيم أُمّنا فاطمة العزاء عليهم

ص: 361

إلى يوم القيامة، فتشفع لهم وتُدخلهم الجنّة ((1)).

فيا مؤمناً في زعمه متشيّعاً***ولا مؤمن إلّا الّذي قد تشيّعا

أتفرح في يومٍ به ذبح العدى***إمامك؟ فاعفر عفر خدّيك لاكعا

ويألف في عاشور جنبك مضجعاً***وترب الفلا أضحى لمولاك مضجعا؟

أتضحك منك الثغر من بعد أن***عدا به ثغر مولاك الحسين مقرّعا؟

أينهب فيه رحل آل محمّدٍ***وبيتك فيه لايزال موسّعا؟

فيا ليت سمعي صمّ عن ذكر قتله***ويا ليت لم يخلق لي الله مسمعا

سأبكي دماً بعد الدموع لفقده***وإن لم يكن يترك لي الحزن مدمعا

وفي كتاب (الخصائص)!! عن الصادق: «كان أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة وألفان من مكّة وألفان من الطلقاء، ولم يُرَ فيهم قدريّ ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نسمع ((2)) خبر الحسين» ((3)).

وقال أبو ذرّ الغِفاري: إنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله، لَبكيتم واللهِ حتّى

ص: 362


1- ([1]) أمواج البكاء للبسطامي: 55.
2- ([2]) في (الخصال): (نأكل خبز الخمير).
3- ([3]) الخصال للصدوق: 2 / 639 ح 15.

تزهق أنفسكم ((1)).

واعلم أنّ الشيخ الطريحيّ روى في كتاب (المنتخب) قال: ثمّ إنّ الحسين علیه السلام نظر إلى اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته صرعى، فالتفت إلى الخيمة ونادى: «يا سكينة، يا فاطمة، يا زينب، يا أُمّ كلثوم، عليكنّ منّي السلام» ((2)).

وسكينة الّتي ذكرها ابنتُه من الرباب، واسم سكينة: أمينة، وإنّما غلب عليها سكينة، وهي أُخت عليّ الأصغر ((3))، وأُمّه الرباب بنت إمرئ القيس، وهي الّتي يقول فيها أبو عبد الله الحسين:

لَعمرك إنّني لَأُحبّ داراً***تكون بها سكينةُ والربابُ

أُحبّهما وأبذل جُلّ مالي***وليس لعاتبٍ عندي عتابُ ((4))

فلمّا أحسّت سكينة أنّ أباها يودّعهم، فنادته سكينة: يا أبة، استسلمت للموت؟ فقال: «كيف لا يستسلم مَن لا ناصر له ولا معين؟». فقالت: يا أبة، رُدّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «هيهات، لو تُرك القطا ((5)) لنام».

ص: 363


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 11، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 440 المجلس 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47.
3- ([3]) في (البحار) و(مقاتل الطالبيّين) واللفظ لهما: (عبد الله بن الحسين).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47 -- عن: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63.
5- ([5]) القطا: اسم طائرٍ يضع بيضه في الصحراء القاحلة الجرداء، ولا يأوي إلى الأشجار والجبال، يحمل الماء من أماكن بعيدة، يحتفظ به في حوصلته حتّى يوصله إلى فراخه، فإذا قرب من فراخه صاح: قطا قطا، لهذا سُمّي طائر القطا، يطلبه الصيّادون بشدّة، فيبقى هذا الطائر من الليل إلى الصباح في قلقٍ وانزعاج خوفاً من الصيّاد. وقد شبّه الإمام علیه السلام بكلامه هذا الموقف، إذ ترك أولاده وعياله في الصحراء القاحلة الجرداء وهو يطلب لهم الماء من مكانٍ بعيد، والصيّادون يترقّبونه فيمنعونه من النوم طيلة الليل. والعرب تضرب بذلك مثلاً لمَن وقع في أمرٍ مكروهٍ مضطرّاً له، من غير أن يكون هو قد أراده، وكذا كان حال الإمام (من المتن).

فتصارخن النساء، فسكّتهنّ الحسين ((1)).

ثمّ وثب على قدميه ببردة رسول الله والتحف بها، وأفرغ عليه درعه الفاضل وتقلّد سيفه، واستوى على متن جواده وهو غائصٌ في الحديد، فأقبل على أُمّ كلثوم وقال لها: «أُوصيكِ يا أُخيّه بنفسكِ خيراً، وإنّي بارزٌ إلى هؤلاء القوم». فأقبلَت سكينة وهي صارخة، وكان يحبّها حبّاً شديداً، فضمّها إلى صدره ومسح دموعها بكُمّه، وقال:

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي***منكِ البكاء إذا الحمامُ دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً***ما دام منّي الروحُ في جثماني

فإذا قُتلتُ، فأنتِ أَولى بالّذي***تأتينه يا خيرةَ النسوانِ

ص: 364


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 440 المجلس 9.

ثمّ قال لأُخته: «آتيني بثوبٍ عتيقٍ لا يرغب فيه أحدٌ من القوم؛ أجعله تحت ثيابي، لئلّا أُجرّد منه بعد قتلي» ((1)).

وزاد في (المناقب): «فإنّي مقتولٌ مسلوب» ((2)). فارتفعَت أصوات النساء بالبكاء والنحيب ((3)).فقال لهنّ الحسين علیه السلام : «مهلاً، فإنّ البكاء أمامكنّ» ((4)).

فأتوه بتبّانٍ فأبى أن يلبسه، وقال: «هذا لباس أهل الذلّة» ((5)).

وفي (المناقب): قال: «هذا لباس أهل الذمّة». ثمّ أتوه بشيءٍ أوسع منه دون السراويل وفوق التبّان، فلبسه ((6)).

وفي (المنتخب): ثمّ أُوتي بثوبٍ فخرّقه ومزّقه من أطرافه، وجعله تحت ثيابه، وكان له سروالٌ جديدٌ فخرّقه أيضاً؛ لئلّا يُسلَب منه ((7)).

ص: 365


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 438 المجلس 9.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 361.
3- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
4- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 337.
5- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 408، اللهوف لابن طاووس: 121.
6- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 361، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 117 الرقم 2850، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 221، إعلام الورى: 1 / 468، تاريخ الطبري: 4 / 345.
7- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله! هؤلاء شيعتك لا يمكنهم أن يتصوّروا هذا الموقف ولا يتحمّلون ذلك، فماذا جرى على أخواتك وبناتك ونسائك المفجوعات، وهنّ ينظرن إليك وأنت في هذه الحالة؟

افسانه اي كه كس نتواند شنيدنش

يا رب بر اهل بيت چه آمد زديدنش؟

والأعظم من هذه المصيبة ما رواه الشيخ الطريحي فقال: فلمّا قُتل، عمد إليه رجلٌ فسلبهما منه، وتركه عرياناً بالعراء مجرّداً علىالرمضاء، فشُلّت يداه في الحال، وحلّ به العذاب والنكال ((1)).

والأعظم حينما نظرت السيّدة زينب إلى بدنه العريان، فتذكّرت أنّ الإمام المظلوم طلب ثوباً عتيقاً فلبسه تحت ثيابه لئلّا يُسلَب، ومع ذلك فإنّ الأراذل سلبوه وتركوا بدنه المقدّس عرياناً.

وربّما تذكرت في تلك اللحظة مواقف أبيها الحنون مع أعدائه المشركين، وهو يقول لقنبر: «يا قنبر، لا تعرِّ فرائسي» ((2))!

ومنها: أنّه حينما برز لقتال عمرو بن عبد ودّ، ضربه عمرو على رأسه فشجّ رأسه، فقال أمير المؤمنين: «ضربني ضربةً ظننتُ أنّ السماء انطبقَت على

ص: 366


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 332 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 73.

الأرض؛ لثقل سيفه»، ثمّ ضربه الإمام ضربةً وجلس على صدره ليحتزّ رأسه، فتجاسر اللعين على الإمام وسبّه، فمكث الإمام قليلاً حتّى سكن غضبه، ثمّ احتزّ رأسه خالصاً محض الإخلاص لله (تعالى) ((1)).

وفي (كنز الفوائد): قال عمرو بن ودّ: يا عليّ، قد جلستَ منّي مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حِليتي. فقال له أمير المؤمنين علیه السلام: «هي أهون علَيّ مِن ذلك» ((2)).

فلمّا قتل عليُّ بن أبي طالب علیه السلام عَمْراً، أقبل نحو رسول الله صلی اله علیه وآله ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بنالخطّاب: هلّا سلبتَه يا عليّ درعه، فإنّه ليس تكون للعرب درعٌ مثلها. فقال أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّي استحيتُ أن أكشف عن سوأة ابن عمّي» ((3)).

وجاءت أُخت عمرو ورأته في سلبه، فلم تحزن، وقالت: إنّما قتله كريم ((4)).

ص: 367


1- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 323 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 51.
2- ([4]) كنز الفوائد: 1 / 298.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 1 / 104، إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 245، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 205، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 204.
4- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 118، بحار الأنور: 41 / 73.

ورُوي أنّه لمّا قتل عليّ بن أبي طالب علیه السلام عمرو بن عبد ودّ، نُعي إلى أُخته، فقالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟! فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يعد يومه على يد كفءٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يد كفءٍ كريم قومه، ما سمعتُ أفخر من هذا يا بني عامر. ثمّ أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله***لَكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتل عمروٍ لا يُعاب به***مَن كان يدعى قديماً بيضة البلدِ ((1))

ثمّ قالت: واللهِ لا ثأرت قريش بأخي ما حنت النيب ((2)).

آهٍ لقلب السيّدة زينب المفجوع، وآهاتها الحرّى! ما الّذي جرى عليها وهي تتصوّر موقف أبيها حيدر الكرار مع أعدائه الكفّار، ومافعله هؤلاء الأنذال الأشرار مع بدن زبدة الأخيار وحبيب النبيّ المختار، إذ سلبوا الثياب العتيقة الّتي فزرها ولبسها تحت ثيابه لئلّا يجرّد، فجرّدوه منها!!

والحال أنّ أمير المؤمنين ترك درع عمرو عليه، وهو درعٌ لم يكن عند أحدٍ من العرب مثله، فضلاً عن ثيابه! ولمّا جاءت أُخت عمرو ورأت ثيابه عليه

ص: 368


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 1 / 107، إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 245، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 206، بحار الأنوار للمجلسي: 2 / 260.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 1 / 109، كشف الغمّة للإربلي: 1 / 207، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 261.

كان ذلك سلوةً لها وعزاء، فمنعت نفسها من البكاء والنياحة، لأنّها رأت أخاها مقتولاً بيد كفؤٍ كريم.

فيا ساعد الله قلب السيّدة زينب، كيف كانت تسلّي نفسها وتعزّي قلبها وتكفّ دمعها وتمتنع عن البكاء وهي ترى أخاها شنف العرش وقد قتله شرّيرٌ نذلٌ هابطٌ حقيرٌ ذليلٌ أبرصٌ يشبه الكلب والخنزير؟ ((1))

وترى مثل هذا الجاني النذل الخبيث الحقير الذليل الّذي سلب ثوبه العتيق المفزر وتركه مجرّداً!

وقد ضرب الإمام عَمْراً على فخذه ثمّ احتزّ رأسه، وقد قُتل الإمام المظلوم بأربعة آلاف جراحةٍ من السهامٍ ومئةٍ وثمانين جراحة بين ضربة سيف وطعنة رمح! ثمّ احتُزّ رأسه من القفا!! ((2))

قُتل عمرو ولم يُمنَع الماء، ولم يكن جائعاً ولا ظمئاناً، ولم يُقتل اثنان وسبعون من أولاده وإخوانه وأهل بيته وأنصاره، ولم يُترك حرمه ونساؤه وعياله بين الأعداء! وقد ابتُلي الإمام المظلوم بكلّ تلكالمصائب والمحَن!

فكيف تملك السيّدة المخدّرة زينب الكبرى عَبرتها، وتمنع نفسها عن النياحة والبكاء والعويل؟

ص: 369


1- ([1]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 84.
2- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 452.

وكيف يملك الشيعة عبراتهم ويمنعون أنفسهم عن البكاء، وهم يرون هذه المصائب؟ وبأيّ شيءٍ يعزّي الشيعي نفسه ويسلّي قلبه؟ ألا يسمع بآذان قلبه أنين فاطمة الزهراء ونياحتها على فلذة كبدها، الّتي تضجّ لها ملائكة السماوات وتستعدّ الملائكة الموكّلة بالبحار وتتميّز جهنم غيضاً وغضباً على قتلة الإمام المظلوم، فتكبحها زبانيتها؟ كما مرّ بينانه في خبر أبي بصير.

أجل، كلّما يخطر على القلب أنّ الإمام المظلوم لبس تحت ثيابه ثوباً مفزراً لئلّا يُجرّد، ثمّ سلبه أُولئك الأراذل الأنذال ذلك الثوب وتركوا بدنه المقطّع الأعضاء ملقىً على الرمضاء مجرّداً تصهره الشمس، كان حريّاً بك أن تجزع وتهلع وتفزع، وتجري دموعك وتطلق زفرتك.

ولَنعم ما قال الشاعر:

مَن مُخبر الزهراء أنّ حسينها***بين الورى عارٍ على تلعائها

ورؤوس أبناها على سمر القنا***وبناتها تُهدى إلى شاماتها

يا فاطم الزهراء، قومي واندبي***أسراكِ في أشراك ذُلّ عدائها

ثمّ ودّع الإمام المظلوم أهله وأولاده وداع مفارقٍ لا يعود ((1))،فارتفع صرخات: الفراق الفراق، الوداع الوداع، فزلزلت الصحراء وأحدثت ضجّة ولوعة لا يمكن وصفها.

ص: 370


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 10.

ثمّ دعا الإمامَ السجّاد زين العابدين، ودفع إليه أسرار الإمامة والخلافة، واستخلفه على الوصاية والإمامة من بعده.

ولمّا صار إلى العراق استودع أُمَّ سلَمة رضی الله عنها الكتب والوصيّة، فلمّا رجع عليّ بن الحسين علیه السلام دفعَتها إليه ((1)).

وقال الإمام الباقر -- في حديث -- : «ثمّ إنّ حسيناً حضره الّذي حضره، فدعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين علیه السلام ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّةً ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين علیه السلام مبطوناً، لا يرون إلّا أنّه لما به، فدفعَت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين، ثمّ صار واللهِ ذلك الكتاب إلينا» ((2)).

ثمّ إنّ الإمام المظلوم عزم على الشهادة، فتقدّم إلى الميدان مشتاقاً إلى لقاء ربّه.

رُوي أنّ المخدّرات تراكضن، فأحطنَ به وترامَين على أيدي الفرس ورجليه، فتمسّكن بها وهنّ يبكين ويبدين النياحة.

سرگشته بانوان حرم گرد شاه دين***چون دختران نعش به پيرامُن جدي

فأحطن بالإمام كأنّهنّ بنات النعش، وارتفعت أصواتهنّ بالبكاء والعويل، فجعل غريب كربلاء ينظر يميناً وشمالاً في حالةٍ لا يطيق النظر إليها

ص: 371


1- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 304 ح 3.
2- ([2]) الكافي للكليني: 1 / 291 ح 6.

الأعداء، ثمّ بكى الغريب ساعة، ثمّ أمرهم بالصبر، ووعدهم بالثواب والأجر، وأمرهم بلبس أُزُرهم، وقال لهم: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله (تعالى) حافظكم وحاميكم، فأنتم وديعتي عنده، وهو خليفتي عليكم وهو نِعم الوكيل» ((1)).

ولسان حال الإمام المظلوم يخاطب أُخته السيّدة زينب:

لا تلطمي يا بنتَ فاطم ((2)) خدّك من***قتلي وقد غمرت أعضاك أشجانُ

ولا تشقي علَيّ الجيب صارخةً***فالشقّ كشف ونشر الشعر خذلانُ

لكن إذ انصعت في الرمضاء منجدلاً***وانحطّ من شامخ المعروف بنياني

حنّي حنين حمام الأيك نادبةً***واستمطري الدمع حيث السحب إيمانُ

وإن تفرّقَت الأيتامُ فانتدبي***لجمعها، فالجزا في البعث غفرانُ

فإن يشقّ عليها سَير قائدها***فاسترفقيه وإن غارتك احسانُ

واستسقِ من خصمكِ الماء إن شكَت عطشاً***فربّما رقّ، إنّ الشطّ ملآنُ

هذا عليٌّ أبوها إن دعت باب***والمؤمنون لها في الله إخوانُ

ثمّ إنّ الإمام المظلوم تقدّم إلى الميدان بآهاتٍ ملتهبةٍ ودموعٍ ساكبةٍ وشوقٍ للقاء الله، وخاطب القوم لإتمام الحجّة عليهم، فقال --كما في رواية

ص: 372


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 344.
2- ([2]) في المتن: (الزهراء).

(المناقب) -- :

«يا أهل الكوفة! قبحاً لكم وترَحاً، وبؤساً لكم وتعساً، حين استصرختمونا ولهين فأتيناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتم لأعدائكم من غير عدلٍ أفشوه فيكم ولا ذنبٍ كان منّا إليكم، فهلّا لكم الويلات، إذ كرهتمونا تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصد، لكنّكم أسرعتم إلى بيعتنا كسرع الدبا، وتهافتُّم إليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها سفهاً وضلة وفتكاً لطواغيت الأُمّة وبقيّة الأحزاب ونبذة الكتاب، ثمّ أنتم تتخاذلون عنّا وتقتلوننا، ألا لعنة الله على الظالمين» ((1)).

ورُوي أنّه قال: «يا قوم، أما تخافون الله الّذي يميت ويُحيي، ويُذهب بالليل مظلماً ويأتي بالنهار مبصراً؟ فإن كنتم تؤمنون بالله وبرسوله، وهو جدّي، ولا تنكرون المعاد، فلا تظلموني ولا تجورون علَيّ! أوَلستُ سبط المصطفى محمّد؟ أوَلستُ ابن أسد الله؟ أوَليست أُمّي سيّدة النساء وأفضلهنّ، وهي مريم هذه الأُمّة؟ أوَ لم يقبّلني نبيّكم مراراً ويحملني على عاتقه كراراً ويجعل خدّه على خدّي؟ أوَ لم يطلب لي الغزالة من الصحراء؟ ألم يقل النبيّ مراراً: حسين مني وأنا من حسين؟ وقال: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة؟ أوَلستُ ابن فاطمة بنت نبيّكم الّتي قال فيها: فاطمة بضعة منّي، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله؟ أما تحزن أُمّي فاطمة إذارأتني بهذا الحال؟ أوَليست هذه عمامة رسول الله على رأسي؟

ص: 373


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 362، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 83.

أليست هذا مغفره علَيّ؟ أليس هذا سيف أسد الله بيدي؟ أوَليس هذا درع حمزة سيّد الشهداء على عاتقي؟ فارجعوا إلى أنفسكم وحاسبوها، بماذا ستجيبون غداً يوم القيامة جدّي وأبي وأُمّي إذا أوقفوكم للخصومة؟ لقد قتلتم أصحابي وإخوتي وأبناء إخوتي وأبنائي وأهل بيتي وأنصاري، وأنتم تريدون الآن قتلي! فإن كان ذلك للتسلّط والولاية، فلا تسدّوا علَيّ الطريق، ودعوني آخذ عيالي وأطفالي وأذهب إلى الحبشة أو الترك، واسقوا هؤلاء النسوة والأطفال الأبرياء وهم ذريّة نبيّكم قليلاً من الماء؛ ليطفي نار أكبادهم».

فارتفعت من عسكر ابن سعد الصيحة، وارتفع البكاء والعويل، حتّى كادت العساكر تنقضّ على أُمرائها، فانبرى الأشقياء منهم -- أمثال شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي -- فنادوا: يا ابن أبي تراب، لا تطيل على نفسك المقام، انزل على حكم ابن زياد وبايع يزيد، وإلّا فإنّك ستموت عطشاً! فقال الإمام: «هيهات، إنّي لا أُبايع فاسقاً» ((1)).

رُوي عن الإمام زين العابدين أنّه قال: «فرجع أبي إلى الخيمة وهو يبكي، فخرجَت إليه السيّدة زينب وهي تجرّ أذيالها، والحسرة والحزن يلفع كيانها، فقالت له: هذا كلام مَن أيقن بالقتل! فقال لها: أي أُخيّة، كيف لايوقن بالقتل مَن لا معين له ولا مجير؟! ثمّ اختنق أبي بعبرته، فرأته السيّدة زينبودموعه تسيل، فنادت: وا ثكلاه! ينعى الحسين نفسه! وا محمّداه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا حسناه، وا حسيناه!».

ص: 374


1- ([1]) أُنظُر: رياض الشهادة: 2 / 243 المجلس 12، روضة الشهداء للكاشفي: 345.

وفي (بحار الأنوار): ثمّ قام الحسين علیه السلام وركب فرسه، وتقدّم إلى القتال:

«كفر القوم وقدماً رغبوا***عن ثواب الله ربّ الثقلين

قتلوا القومُ عليّاً وابنَه***حسنَ الخير كريم الأبوين

حنَقاً منهم، وقالوا أجمعوا:***احشروا الناس إلى حرب الحسين

يا لَقومٍ من أُناسٍ رُذّلٍ***جمع الجمع لأهل الحرمين

ثمّ ساروا وتواصوا كلّهم***باجتياحي لرضاء الملحدين

لم يخافوا اللهَ في سفك دمي***لعُبيد الله نسل الكافرين

وابن سعدٍ قد رماني عنوةً***بجنود كوكوف الهاطلين

لا لش-يءٍ كان منّي قبل ذا***غير فخري بضياء النيّرين

بعليّ الخير من بعد النبي***والنبيّ القرشيّ الوالدين

خيرة الله من الخلق أبي***ثمّ أُمّي، فأنا ابنُ الخيّرَين

فضّة قد خلُصَت من ذهبٍ***فأنا الفضّة وابن الذهبَين

فضّة قد خلُصَت من ذهبٍ***فأنا الفضّة وابن الذهبَين

مَن له جدٌّ كجدّي في الورى***أو كشيخي، فأنا ابن العلمَين

فاطم الزهراء أُمّي وأبي***قاصم الكفر ببدرٍ وحُنين

عبَدَ اللهَ غلاماً يافعاً***وقريش يعبدون الوثنين

يعبدون اللّات والعُزّى معاً***وعليٌّ كان صلّى القبلتين

فأبي شمسٌ وأُمّي قمرٌ***فأنا الكوكب وابن القمرَين

وله في يوم أُحدٍ وقعة***شفت الغلّ بفضّ العسكرين

ثمّ في الأحزاب والفتح معاً***كان فيها حتف أهل الفيلقين

ص: 375

في سبيل الله ماذا صنعَت***أُمّة السوء معاً بالعترتين

عترة البرّ النبيّ المصطفى***وعليّ الورد يوم الجحفلين» ((1))

وقد وردت الأبيات في بعض كتب المقاتل بزياداتٍ ذكرها في (معدن البكاء) ((2)).

وفي (البحار): ثمّ وقف علیه السلام قبالة القوم وسيفه مصلتٌ في يده آيساً من الحياة عازماً على الموت، وهو يقول:

«أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخراً حين أفخرُ

وجدّي رسول الله أكرم مَن م-ضى***ونحن سراج الله في الخلق نزهرُ

و فاطم أُمّي من سلالة أحمدٍ***وعمّي يُدعى ذا الجناحين جعفرُ

وفينا كتاب الله أُنزل صادقاً***وفينا الهدى والوحي بالخير يُذكَرُ

ونحن أمان الله للناس كلّهم***نسر بهذا في الأنام ونجهرُ

ونحن ولاة الحوض، نسقي ولاتنا***بكأس رسول الله ما ليس يُنكَرُ

وشيعتنا في الناس أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ ((3))

فطوبي لعبدٍ زارنا بعد موتنا***بجنة عدنٍ صفوها لا يكدّرُ» ((4))

ص: 376


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301.
2- ([2]) أُنظُر: معدن البكاء لمحمّد صالح القزويني: 215 (مصوّرة).
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 48.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301.

وفي (المنتخب) أنّ الحسين لمّا رأى وحدته وفقد عترته وأنصاره، تقدّم على فرسه نحو القوم حتّى واجههم، وقال: «أيّها النّاس، انسبوني وانظروا مَن أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي؟ ألستُ أنا ابن نبيّكم محمّد؟ أما كان موصياً فيكم لي ولأخي؟ أما أنا سيّد شباب أهل الجنّة؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حُرمتي؟». فقالوا: ما نعرف شيئاً ممّا تقول. فقال: «إنّ فيكم مَن لو سألتموه عنّي لَأخبركم إنّه سمع ذلك من جدّيرسول الله فيّ وفي أخي الحسن، سلوا زيد بن ثابت والبراء بن عازب وأنس ابن مالك، فإنّهم يخبرونكم أنّهم سمعوا من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي، فإن كنتم تشكّون إنّي لست ابن بنت نبيّكم، فوَاللهِ ما تعمّدتُ الكذب وقد عرفتُ أنّ الله (تعالى) يمقت على الكذب أهله ويعذّب مَن استعمله، فوَاللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري، ثمّ أنا ابن إمامكم خاصّة دون غيري، خبّروني هلى تطلبوني بقتل قتلته منكم، أو بقصاص من جراحة، أو بمالٍ استملكته منكم، أم على سنّةٍ غيّرتها، أم على شريعة فرض بدّلتها؟» ((1)).

وفي رواية أبي مخنف: «أم على شريعةٍ غيّرتها؟ أم على حقٍّ تركته؟ أم على بيعةٍ نكثتها؟»، فقالوا له: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما فعله بأشياخنا يوم بدرٍ وحُنين. فلمّا سمع كلامهم حمل عليهم، فقتل منهم خمسمئة فارس ((2)).

ص: 377


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 182 المجلس 9.
2- ([2]) أُنظُر: ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 80، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 85.

وفي (المنتخب): ثمّ إنّ الحسين علیه السلام أقبل على عمر بن سعد، وقال له: «أُخيّرك في ثلاث خصال»، قال: وما هي؟ قال: «تتركني حتّى أرجع إلى المدينة إلى حرم جدّي رسول الله»، قال: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: «اسقوني شربةً من الماء، فقد نشفت كبدي من الظمأ»، فقال: ولا إلى الثانية سبيل. قال: «وإن كان لابدّ من قتلي، فلْيبرز إليّ رجلٌ بعد رجل»، فقال: ذلك لك ((1)).لله مظلوميّتك ووحدتك وغربتك يا أبا عبد الله! كيف يمكن للشيعيّ أن يحبس دمعه وهو يسمع أنّ الإمام المظلوم يلحّ على ابن سعد اللعين أن يبرز إليه رجلٌ بعد رجل، ليقاتلهم على كثرتهم، فيقبل الجلف الصلف ثمّ لا يفي له بذلك، ويأمر العسكر كلّه بالهجوم عليه حملة رجلٍ واحد ((2))، لعنة الله عليه في الدارين.

وفي (البحار): ثمّ إنّ الإمام المظلوم أنشأ هذه الأبيات، وهي من إنشائه وليس لأحدٍ مثلها:

«فإن تكن الدنيا تُعَدّ نفيسةً***فإنّ ثواب الله أعلى وأنبلُ

وإن تكن الأبدان للموت أُنشأت***فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ

ص: 378


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50، المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدَّراً***فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن تكن الأموال للترك جمعها***فما بال متروكٍ به المرء يبخلُ»

ثمّ إنّه دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَن دنا منه من عيون الرجال حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة ((1)).

وفي (الملهوف): فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمة، وهو في ذلك يقول:

«اَلقتل أَولى من ركوب العارِ

والعارُ

أَولى من دخول النارِ»

((2))«اَلقتل أَولى من ركوب العارِ

والعارُ

أَولى من دخول النارِ»

((3))

قال محمّد بن أبي طالب:

ولم يزل يقاتل حتّى قتل ألف رجلٍ وتسعمئة رجلٍ وخمسين رجلاً، سوى المجروحين ((4)).

وفي (البحار): ثمّ حمل علیه السلام على الميمنة، وقال: «الموتُ خيرٌ من ركوب العار».

ثمّ على الميسرة وهو يقول:

ص: 379


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.
4- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 318، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.

«أنا الحسين بن علي***آليتُ أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي***أمض-ي على دين النبي» ((1))

ورُوي أنّه كان يحمل على القوم ويصرخ فيهم صرخات حيدر الكرّار، فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة، وقلب القلب على الجناحين، يدخل في أوساطهم ويخرج من أعراضهم، ويروي الأرض من دمائهم، فيتساقطون كأوراق الشجر في الخريف من طعنات رمحه وبعجات سيفه، حتّى قتل منهم أربعمئة بين فارسٍ وراجل ((2)).

قال السيّد ابن طاووس: قال بعض الرواة: فوَاللهِ ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإنكانت الرجال لَتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فينكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيه الذئب، ولقد كان يحمل فيهم ولقد تكملوا ثلاثين ألفاً، فيُهزَمون بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ((3)).

عن حميد بن مسلم قال: واللهِ لقد رأيتُ شيبه مخضوبةً بالدم، ودرعه

ص: 380


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49.
2- ([4]) أُنظُر: جلاء العيون: 685.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 188، إعلام الورى للطبرسي: 249، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.

بان عليه بنياناً، وليس يُرى للناظرين، وهو إذا شدّ عليهم انكشفوا من بين يديه انكشاف الغنم إذا شدّ عليها الذئب ((1)).

قال الشاعر:

فشدّ عليهم وهو نجل الأسد***يا لها شدّة خافت بكلّ منافقِ

فبعض محبّيه يشبّه حاله***بوصف، وعندي الوصف غير مطابقِ

إذا شاء يفني كان عزريل خادماً***له صادراً من أمره بالمخافقِ

ولمّا دعا الأرواح لبّت مطيعةً***وتحريكهم عنه بحكم الوثائقِ

ورُوي أنّ المولى حمل على الأشرار يضرب فيهم يميناً وشمالاً وفي كلّ جهة، حتّى أفنى خلقاً كثيراً منهم وعجّل بهم إلى جهنّم وسقر، فلمّا نظر الشمر (لعنه الله) إلى ذلك قال لعمر بن سعد: أيّها الأمير، واللهِ لو برز إلى الحسين أهل الأرض لَأفناهم عن آخرهم((2))، ما رأيتُ رجلاً يُقتَل بنوه وإخوته وأصحابه أربط جأشاً من الحسين، ولا شكّ في ذلك، فإنّه ضلعٌ من أضلاع النبوّة ((3)).

فقال ابن سعد: فماذا نفعل؟ قال الشمر (لعنه الله): فالرأي أن نفترق عليه ثلاث فرق, فرقةٌ تهجم على خيامه وعياله، وفرقةٌ بالسيوف والرماح،

ص: 381


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 13 المجلس 13.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 450.
3- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360.

وفرقةٌ بالنبل تحيط به من كلّ جانب.

فعدل اللعين النحس عن شرطه ورضيَ قول الشمر، فأمر فرقةً بالهجوم على خيام الحسين وحرمه، ثمّ أمر الباقين أن يفترقوا فرقتين، فرقة بالسيوف والرماح وفرقة بالنبال والأحجار، فحملوا على الإمام المظلوم من كلّ جانب، وملؤوا الأرض عليه خيلاً ورجالاً، لهفي على ذلك الجسم المتعب الخضيب! ((1))

ثمّ إنّ الإمام المظلوم حمل عليهم بكبده المفتّت من الظمأ وشفاهه الذابلات من العطش.

وفي (المنتخب): وجعل الحسين يحمل تارةً على الميمنة وأُخرى على الميسرة، حتّى قتل -- على ما نُقل -- ما يزيد على عشرة آلاف فارس، ولا يبين فيهم لكثرتهم، حتّى أثخنوه بالجراح ((2)).

وفي رواية ابن شهرآشوب: فقال عمر بن سعد لقومه: الويل لكم! أتدرون مَن تبارزون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب،فاحمِلوا عليه من كلّ جانب ((3)). فحملوا عليه مئة وثمانون وأربعة!! فأحاطوا بالفريد الوحيد، ورموه بالسهام، وحالوا بينه وبين رحله، وتوجّهوا إلى

ص: 382


1- ([3]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 360 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 الفصل 9.

الخيام ((1)).

وفي (الملهوف): فحالوا بينه وبين رحله، فصاح: «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دِينٌ وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون!». قال: فناداه شمر (لعنه الله): ما تقول يا ابن فاطمة؟ فقال: «إنّي أقول: أُقاتلكم وتقاتلونني، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً». فقال شمر (لعنه الله): لك ذلك يا ابن فاطمة ((2)).

وفي (البحار): ثمّ صاح شمر: إليكم عن حرم الرجل، فاقصدوه في نفسه، فلَعمري لهو كفوٌ كريم ((3)).

فداءً لغَيرتك يا سيّدي المظلوم! ما استطعتَ النظر إلى الأعداء يحوطون بعيالك ونسائك وبناتك وأخواتك، ليتك تنظر إليهنّ وأُختك زينب وباقي أخواتك وبناتك ونسائك يندبن ويصرخن بين القتلىوالشهداء حواسر،

ص: 383


1- ([2]) في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 الفصل 9: (فحملوا بالطعن مئةٌ وثمانون، وأربعة آلاف بالسهام)، وفي الأسرار للدربندي: 14 / 3 المجلس 13 -- عن: مناقب آل أبي طالب: (فحملوا بالطعن مئةٌ وثمانون وأربعة آلاف، فرموه بالسهام، فحالوا بينه وبين رحله).
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 120، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

وقد أحاطت بهنّ الأعداء والفرسان، وهنّ ينحن ويندبن حتّى بكى لبكائهنّ الأعداء!! وبكت الخيل حتّى جرت دموعها على حوافرها، ثمّ إنّ الأشقياء أجبروهنّ على ترك الأجساد الطاهرة، وجرّوا سكينة وفرّقوا بينها وبين بدنك المقدّس بالقسوة والعنف، وأركبوهنّ على النياق.

ولَنِعم ما قيل على لسان الحوراء زينب تخاطب أخاها: أخي، كان خماري على رأسي ما دامت عمامتك على رأسك، فمذ سلبوك عمامتك سلبوا منّي خماري!

أجل، لم يُطِق الإمام المظلوم أن يرى أحداً يقترب من خيامه وعياله أو يسيء إليهنّ ما دام على قيد الحياة وكان به رمق، وقد مرّ بنا أنّه خطب القوم قبل يوم عاشوراء وقد اشتدّ به العطش، فذكر حسَبَه ونسَبه، وقال في آخر خطبته: «فبمَ تستحلّون دمي؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمعن بناتُه وأُخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن، وارتفعت أصواتهنّ، فجاشت غيرة المولى الغيور، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه وقال لهما: «سكّتاهنّ، فلَعمري لَيكثرنّ بكاؤهنّ» ((1)).

وكذا فعل الإمام الغيور حينما مدّ يده فغرف من الماء، فقال فارس: يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمك؟! فنفض الماء من يده،

ص: 384


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 87.

وحمل على القوم فكشفهم عن الخيمة ((1)).

أجل، هكذا كانت الحقيقة، إذ كانت الملاحف والمقانع والأُزر على رؤوس الأهل والعيال ما دامت العمامة على رأس سيّد الشهداء وكان به رمق، فلمّا سُلبَت عمامة الإمام المظلوم سُلبَت الحوراء ملحفتها وخمارها!!

أجل، قصده القوم وهو في ذلك يطلب شربةً من ماء، فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتّى أحالوه عنه ((2)).

وفي روايةٍ أنّ الإمام العطشان رجع إلى عياله وأطفاله، فسمع صوت ابنته سكينة مرتفعاً بالبكاء، فقال لها:

«لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً***ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قُتلتُ فأنتِ أَولى بالّذي***تبكينه، يا خِيرةَ النسوانِ»

ثمّ اجتمع عليه نساؤه وعياله وبناته، وأحطنَ به وجعلن يبكين ويندبن وحدته وغربته، فعزّاهنّ وسلّاهنّ، ثمّ اتّجه إلى ميدان القتال ((3)).

وفي (نور الأئ-مّة) أنّه لمّا أراد أن يحمل عليهم، فإذا علا غبارٌ ظهر منه شخصٌ مهيبٌ على مركبٍ عجيب، وسلّم على الإمام علیه السلام وعلى جدّه وأبيه وأُمّه، فرد عليه السلام وقال: «مَن أنت وتسلّم في هذه الحالة على المظلوم

ص: 385


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
3- ([3]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 348.

الغريب؟!»، فقال: يا ابن رسول الله، أنا زعفر الزاهد سلطان الجنّ، وعسكري في هذه البادية، ولقد أعطى أبوك حين غزا مع الجنّ في بئر العلم السلطنة لأبي، وبعد وفاته قد انتقلَت إليّ، فأْذَنْ لنا أن نحارب مع أعدائك هؤلاء. قال علیه السلام : «لا، فإنّكم ترونهم ولا يرونكم». قال: فنحن نتصوّر بصورهم، إن قُتلنا كنّا شهداء في سبيلك. فقال: «جزاك الله خيراً يا زعفر، فإنّي قد سئمت من الدنيا، ورأيتُ في الطيف أنّي ألقى الله في هذا اليوم شهيداً مجدّلاً، فارجع ولا تتعرّض لهؤلاء القوم»، فرجع.

ثمّ توجّه إلى المحاربة، فطلب منهم المبارزة، فخرج تميم بن قحطبة -- وهو من أُمراء الشام -- وقال: يا ابن عليّ، إلى متى الخصومة؟ فقد قُتل أولادك وأقرباؤك ومواليك، فأنت بعد تضرب بالسيف مع عشرين ألفاً! فقال علیه السلام : «أنا جئتُ إلى محاربتكم أم أنتم جئتم إلى محاربتي؟ أنا منعت الطريق عنكم أم أنتم منعتموه عنّي؟ وقد قتلتم إخواني وأولادي، وليس بيني وبينكم إلّا السيف، فلا تكثر المقال، فتقدّمْ إليّ حتّى أرى ما عندك». فصاح صيحة، وسَلّ السيف وضرب عنقه، فتبعّد خمسين ذراعاً.

فخاف العسكر من ضربه علیه السلام ، فصاح يزيد الأبطحيّ عليهم: إنّكم عجزتم عن رجلٍ واحدٍ وتفرّون؟ ثمّ جاء بين يدَي الإمام علیه السلام ، وكان مشهوراً بالشجاعة، فلمّا رآه عسكر عمر بن سعد في قِباله أظهروا البشارة والسرور، لكن خاف أهل البيت منه حين رأوه تجاهه، فصاح علیه السلام عليه: «ألا تعرفني، فتجئني في قبالي كمَن لا خوف له؟»، فلم يجبه، وسَلّ السيف، فسبقه علیه السلام

ص: 386

وضرب على وسطه بالسيف فقدّه نصفين ((1)).

كتاب فاطمة العليلة

لمّا كانت مصيبة إمام العالمين يوم عاشوراء أعظم مصائب الثقلين إلى يوم الدين، فلابدّ من وصول كتاب فاطمة الصغرى إلى سيّد الشهداء في هذا الوقت الحرج، فتزيد في لهيب النيران في قلب الإمام وقلوب أهل بيته، وتُبقي جمرتها في قلوب الشيعة تلسعها إلى يوم القيامة.

وكانت هذه الغصّة الأليمة كالتالي:

عن بعض كتب المقتل: وكان له بنتٌ تسمّى بفاطمة، وكانت حين خروجه من المدينة مريضة، جعلها عند أُمّ سلَمة، وكانت كلّ يومٍ تجيء خلف الباب لعلّها تجد مَن كان له اطّلاعٌ بحال والدها.

لمّا طال زمان الفراق ولم يصل الخبر من والدها، اشتغلَت بالبكاء وتراكمت عليها الأحزان، وكتبت كتاباً لوالدها تبيّن فيها حالها، فلمّا فرغت من كتابتها واشتغلت بالنوح والبكاء لفرقة والدها وغيره، فإذا أعرابيّ سمع بكاءها فتأثّر من بكائها، فبكى ساعة، ثمّ علم أنّ الباكية بنت الإمام وبكاؤها لفراقه علیه السلام ، فنادى بصوتٍ عال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة

ص: 387


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 346 -- عن: نور الأئمّة، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 13 المجلس 13.

ومعدن الرسالة، أنا رجلٌ من البادية، أُريد الرواح إلى كربلاء،فهل لكم حاجة؟

فلمّا سمعته فاطمة جاءت خلف الباب، وردّت جواب سلامه، وقالت: يا أعرابيّ، أنا بنت الحسين علیه السلام ، فإنّه لمّا عزم إلى كربلاء كنت مريضة، فسلّمني إلى جدّتي أُمّ سلمة زوجة رسول الله صلی الله علیه وآله، فالآن لم تبقَ لي طاقةٌ من هجرانه، وكتبت كتابةً وأُريد مَن يوصلها إليه.

فأخذها الأعرابيّ منها، ففي يوم عاشوراء وقت المحاربة بلغ إلى كربلاء وسلّمها إليه علیه السلام ، فلمّا فتحها واطّلع على مضمونها، بكى بكاءً شديداً، ثمّ جاء عند أهل البيت وقرأها لهنّ، فبكين بكاءً شديداً.

و لم يظهر حال الأعرابيّ أنّه كان ملكاً أو بشراً، وصار شهيداً أم لا ((1)).

ولا يبعد أن يكون ملَكاً من ملائكة الرحمان أوصل كتابها إلى الإمام في ذلك الوقت العصيب، ليهيّج قلوب الشيعة ويزيد في لوعتهم، ويكون سبباً في زيادة تعظيم الإمام.

أجل، حمل الإمام الهمام على أُولئك الكفرة اللئام، فقلب أوّلهم على آخرهم، فانكشفوا بين يديه يدقّ بعضهم بعضاً ((2)).

ص: 388


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 12 المجلس 13.
2- ([2]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 357 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

روى ابن شهرآشوب قال: إنّ الحسين حمل على الأعور السلَميّ وعمرو ابن الحجاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجلٍ على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات ((1)).ورُوي أنّه كادت أن تطلع روحه من شدّة العطش، وكذا كان حال الفرس، فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب.. ((2)).

وفي (المناقب): فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب، قال علیه السلام : «أنت عطشانٌ وأنا عطشان، واللهِ لا أذوق الماء حتّى تشرب!». فلمّا سمع الفرس كلام الحسين شال رأسه ولم يشرب، كأنّه فهم الكلام ((3))، فقال الحسين: «اشربْ، فأنا أشرب»، فمدّ الحسين يده فغرف من الماء ((4)).

وفي (البحار): إنّ رجلاً من كلب رماه بسهمٍ فشكّ شدقه، فقال

ص: 389


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
2- ([1]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 357.
3- ([2]) بل قد فهم الكلام على التحقيق، ولا أدري لمَ لا يُقال: (لأنّه فهم الكلام)، أو (وقد فهم الكلام)، أو أيّ عبارةٍ أُخرى تؤكّد على تحقّق الفهم، أمّا الّذي لم يفهم كلام سيّد الشهداء الحسين علیه السلام فهو شمر وأصحابه الّذي يقول: ما ندري ما تقول يا ابن فاطمة، أفهِمْنا حتّى نفهم!!
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

الحسين علیه السلام: «لا أرواك الله». فعطش الرجل حتّى ألقى نفسه في الفرات وشرب حتّى مات ((1)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، كيف يلذّ شيعتك الماء بعد سماعهم هذا الحديث؟!

في (كامل الزيارة): عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلّما شربه رأيتُه قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتلالحسين؟ع؟، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين علیه السلام ولعن قاتله، إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنّما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله (تعالى) يوم القيامة ثلج الفؤاد» ((2)).

فداءً لقدرك ومنزلتك يا مظلوم كربلاء، كلّ هذا الأجر والثواب من ربّ الأرباب لمن ذكرك عند شرب الماء ولعن قاتلك! فلا يسوغ للشيعيّ أن يشرب الماء ولا يذكر الشفاه الذابلات في عرصات كربلاء، ولا يحترق بنيران

ص: 390


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 300، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 39 الفصل 3، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 107.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34 ح 1، الكافي للكليني: 6 / 391 ح 6، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 170، جامع الأخبار: 177، الأمالي للصدوق: 142، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 303 ح 16.

الغموم والهموم، ولا يُجري دموعه كما فعل الصادق.

بل بقطع النظر عن ملاحظة الثواب، يتحتّم على زمرة أُولي الألباب أن يلهبوا أكبادهم بنيران الحزن على شفاه أبي عبد الله الذابلات من العطش، ويشبّوا قلوبهم بلهب نار السهم المشؤوم الّذي أصاب حنكه الشريف لمّا أراد شرب الماء، فيتصاعد من قلوبهم وأكبادهم الدخان والبخار، فيجتمع في رؤوسهم ويجري دمعاً من آماقهم وعيونهم، تأسّياً بالإمام الشهيد المظلوم وولده الصادق، بل تأسّياً بجميع الأنبياء والأوصياء والأولياء.

أعتذر إليكم أيّها الشيعة، فإنّي لمّا بلغت في تأليفي إلى هذا المقام ثارت زفرتي وجرت عبرتي، وصرت كأنّي مسلوب الإرادة فتوقّفت عن الاستمرار في حديثي، والآن أعود إلى حيث كنت من حديثٍ يقطع حبائل الصبر ويسلب سكون المحبّ.

إصابة فخذه بسهم

أيّها الشيعي! لو أنّ قلبك من حجرٍ لما أطقت سماع ما سأذكره لك، ولا أستطع معه صبراً، إذ يقول الحقّ (تعالى) في القرآن المجيد: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا

يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا

ص: 391

يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ((1)).

ثمّ إنّ الحسين علیه السلام لمّا همّ ليشرب، رماه الحُصَين بن نُمير (لعنه الله) بسهم، فوقع في فخذه، فنزع السهم وتلقّى الدم بيده، ورمى به نحو السماء وقال: «يا ربّ، إليك المشتكى في قومٍ أراقوا دمي، ومنعوني شرب الماء». ثمّ إنّه علیه السلام هَمّ ليشرب ثانياً، فنادى عمر بن سعد (لعنه الله): لئن شرب الحسين

علیه السلام من الماء ليفنيكم عن آخركم ((2)).

وفي (المناقب): فمدّ الحسين يده فغرف من الماء، فقال فارس -- لعين -- : يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمتك؟ -- وبالرغم من شدّة عطشه وجراحاته ونزف السهم الّذي أصابه، غير أنّه مظهر غيرة ربّ الأرباب -- فنفض الماء من يده، وحمل على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة ((3)).

قيل: إنّه حين خرج من الماء ووصل إلى الخيمة قتل أربعمئةرجلٍ من أُولئك الأوغاد ((4)).

ص: 392


1- ([1]) سورة البقرة: 74.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 344، روضة الشهداء للكاشفي: 349.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
4- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 18 المجلس 13 -- عن: كتاب رياض الشهادة للقزويني.

نُقل أنّ الإمام لمّا ودّع عياله وأراد التوجّه نحو الميدان، ودّع إحدى بناته، وكان لها من العمر ثلاث سنين، فقبّلها وضمّها إلى صدره، فصاحت البنت من شدّة العطش: يا أبتاه، العطش العطش! فقال: «اصبري يا بُنيّة حتّى آتيكِ بالماء». ثمّ توجّه إلى الميدان، فلمّا نادى هذا اللعين، وترك سيّد الشهداء الماء وقصد الخيمة مسرعاً، فسمعت هذه الطفلة بعودة أبيها، فبادرت لاستقباله وقالت: يا أبتاه، لعلك أتيتني بالماء! فبكى الإمام بكاءً شديداً، وقال: «واللهِ يعزّ علَيّ تلهّفك». ثمّ جعل إصبعه المبارك في فمها، وسلّاها ومسح على رأسها ووجهها، فلمّا عزم على الخروج من الخيمة تعلّقت به وأخذت بأذياله، فقال لها: «يا نور عيني، سأطلب لكِ من هؤلاء القوم قليلاً من الماء».

فلمّا توجّه نحو الميدان، نادى سيّد الساجدين علیه السلام : «يا أبة، توقَّفْ حتّى أُودّعك».

فخرج النساء من سرادق العصمة، وطُفن به كالفراشات إذا طافت حول الشمعة، فسلّاهنّ الحسين علیه السلام وصبّرهن، وذكّرهنّ بثواب اللّه وبما أعدّ اللّه لهنّ من الأجر، فارتفعت صرخات: الوداع الوداع، الفراق الفراق، من النساء، وهنّ يودّعنَ وليّهنّ ويعلمن أنّهنّ سيبقين بعده بلا حامٍ ولا نصير.

ص: 393

ثمّ إنّه ذهب باكي العين إلى ولده المريض زين العابدين علیهالسلام ، فضمّه وقبّله، وسلّمه ودائع الإمامة وأوصاه.

ثمّ رجع الى النساء وقد اجتمعن حوله بأكبادٍ محترقة وقلوبٍ منكسرة وعيونٍ عبرى، يعلوهنّ الاضطراب بما لا يمكن أن يتصوّره مخلوق، ولا يحرّره أيّ قلم، ولا يبيّنه أيّ لسان، فأمرهنّ بالصبر والسكون، وأمرهنّ أن يلبسن ثياباً استعداداً للأسر، وقال لهم: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللّه حافظكم وحاميكم، وسيُنجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم الى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم اللّه عن هذه البليّة أنواع النعم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص من قدركم، فلا تخمشن علَيّ وجهاً، ولا تشققن علَيّ جيباً، ولا تدعين بالويل والثبور، ولا أمنعكنّ عن البكاء، فإنّكنّ من بعدي غريبات ثكالى» ((1)).

ثم إنّه علیه السلام حمل عليهم كالليث المغضب، وتوجّه الى الفرات مرّةً ثانية لشدّة ما به من العطش، فركب المسنّاة، فاعترضته خيل ابن سعد، فحمل على الميمنة والميسرة، وقتل منهم مقتلةً عظيمة ((2)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

لهفي عليه وقد أحاط به العدى***والبيض تبرق والخيول صواهلُ

ص: 394


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي ترجمة السيّد علي أشرف: 358 المجلس 10.
2- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 359.

ويقول وهو يجود بينهمُ وقد***فقد النصير وثمّ تمّ الخاذلُ

هل مسعدٌ، هل ماجدٌ، هل ناصرٌ***هل ذائدٌ، هل فارسٌ، هل راجلُ

هل راغبٌ، هل راهبٌ، هل هاربٌ ((1))***هل ناصحٌ، هل راشدٌ، هل عاقلُ

يأتي إلينا ناصراً ومحامياً***فيرى لنا حقّاً نفاه الباطلُ؟

ثمّ إنّه لمّا وصل إلى الفرات ملأ ركوةً ليشرب، فرماه رجلٌ من بني دارم يُقال له: زرعة بن شريك بسهمٍ فأصابه في حنكه، فسقطت الركوة من يده من شدّة الإصابة ((2)).

ورُوي أنّه انتزع السهم، وبسط يديه تحت حنكه حتّى امتلأت راحتاه بالدم، ثمّ رمى به نحو السماء ((3)).

ص: 395


1- ([1]) يعني: هارباً من عذاب الله، كما ترجمها المؤلّف.
2- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3، عوالم العلوم: 17 / 615، أنساب الأشراف: 3 / 201، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للحافي: 157، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 301.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3، تاريخ الطبري: 4 / 343، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 223، مثير الأحزان لابن نما: 53، ذخائر العقبى للطبري: 144، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 430، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 331، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للخافي: 157، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 301.

نُقل أنّ هذا الملعون كان يصيح من الحرّ في بطنه والبرد في ظهره، وبين يديه المراوح والثلج وخلفه الكانون، وهو يقول: اسقوني، أهلكني العطش! فيؤتى بعسٍّ عظيمٍ فيه السويق والماء واللبن، لو شربه خمسة لَكفاهم، فيشربه ويعود فيقول: اسقوني، أهلكني العطش! فانقدّ بطنه ((1)) وهلك، وفي وديان جهنّم سلك.أمّا المولى الغريب فقد شدّ جرحه بخرقة، ورجع إلى الميدان ((2)).

و عن (أخبار الدول): فاشتدّ العطش بالحسين علیه السلام ، فمنعوه من الماء، ثمّ حصل له شربة ماء، فلمّا أهوى بأن يشرب رماه حُصَين بن نُمير (لعنه الله) بسهمٍ من حنكه، فصار الماء دماً، فرفع يده إلى السماء فقال: «اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذَرْ على الأرض منهم أحداً» ((3)).

وفي (بحار الأنوار): وجعل الحسين علیه السلام يطلب الماء، وشمر يقول له: واللهِ لا ترده أو ترد النار. فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيتان، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً. فقال الحسين علیه السلام «اللّهمّ أمِتْه

ص: 396


1- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 91، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 310، الصواعق المحرقة لابن حجر: 118، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3.
2- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 19 المجلس 13 -- عن: أخبار الدول.

عطشاً». قال: واللهِ لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماءً! فيُؤتى بماءٍ فيشرب حتّى يخرج مِن فيه، ثمّ يقول: اسقوني، قتلني العطش! فلم يزل كذلك حتّى هلك ((1))، وفي سقر الجحيم سلك.

ونُقل أنّه جيء بعبد الله بن الحصين إلى المختار، فقال له: يا عدوّ الله، أنت الذي كنت تقول للإمام الحسين: لا تذوق من الماء قطرةً حتّى تبايع وتنزل على حكمنا؟ لم تكن ذلك اليوم تفكّر في مثل هذا الموقف؟! فأطرق عبد الله برأسه إلى الأرض وهو ساكت، فأمر فوضعوا صنارتين (كلابتين)، إحداهما في فكّه الأعلىوالأُخرى في حنكه، وقطعوا رأسه النتن بهذه الطريقة، وعجّلوا به إلى جهنّم وبئس المصير، والحمد لله ربّ العالمين.

وجيء بطلحة بن الركاب، فقال له المختار: أيّها الدعيّ، مَن أنت حتّى تحول بين الإمام الحسين وبين الماء؟ لمَ منعته من الماء؟! فسكت الخبيث، فأمر المختار فسُملت عيناه، وأُلقي على المزابل حتّى هلك.

ثمّ جيء بخمسة نفر، وهم: هارون بن عبّاد، ووردان بن أحمد الساباطي، وخالد بن نوفل، وشعيب بن غزوان، والحرث بن سهل، فقال المختار: أوَلستم السقّائين في كربلاء، كنتم تحملون القِرَب وتسقون عسكر الأعداء، وترشّون الماء على الأرض لئلّا يُثار الغبار ويلتصق بالأبدان خيول أصحابكم، ثمّ منعتموه عن أهل البيت؟ فأمر فصبّوا الزيت المغليّ في حلق

ص: 397


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 86.

الحرث ووردان، وقطعوا أيدي وأرجل الثلاثة الآخرون، وضرب كلّ واحدٍ منهم ألف سوطٍ حتّى هلك وفي وديان جهنّم سلك.

ثمّ جيء بأبي الميمون حجر بن الأحجار، وكان من القتَلة الملاعين، وكان من الحرس على الفرات، فلمّا رآه المختار شكر الله كثيراً، وأمر فضُربَت طبول البشارة، ثمّ قال: يا ويلك، يا شقيّ الأشقياء ودعيّ الأدعياء، لمَ خرجتَ إلى كربلاء، وأنزلت بآل البيت الكرام كلّ ذاك البلاء، وهتكت حرمة رسول الله؟ فتردّد الكلام بينهم، فقال المختار: أما تخاف منّي؟ قال حجر: أنت أمير، لا خير في وجهك، وشرّك يقدم خيرك ... فقال الأمير: سأُخيفك خوفاً تعرفني به وتعلم مَن أنا! قال حجر: نحن فعلنا ما أردنا، فافعل أنت ما تريد! فأمر المختار فوضعوا قدراً فيه ماءٌ على النار فغلى حتّى ذهب ثُلثه، ثمّ قال: اسمك حجر، والحجر صلبٌ صلد، أُريد أن تلينصلابتك. ثمّ أمر به فوُضع في القدر حتّى طُبخ ((1)).

ثمّ جيء بزيد بن يسار، وكان قد سبّ سيّد شباب أهل الجنّة، فأمر المختار فشكّ بصنّارة (كلّاب) في حنكه، وعلّق منها في وسط الكوفة، وبقي هكذا حتّى أكل الغراب عينيه.

ثمّ جيء بنعمان بن ثابت، فقال المختار: أنت الّذي كنتَ على ماء الفرات حارساً؟ فسكت اللعين، فأمر أن يُضرَب رأسه بالهراوات الضخمة،

ص: 398


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 161 و173 و175.

وتُكسر رجليه بالفأس، حتّى هلك وفي جهنّم سلك.

ثمّ جيء برافع بن مالك، وكان على كتيبةٍ على الفرات، وكان ممّن حال بين عسكر الحسين وبين الماء، فأمر المختار فعلّق بكلّابين (صنّارتين) شكّت في عاتقه، وضُرب ألف سوط، فطلب ماءً، فأُذيب رطلٌ من الرصاص وصُبّ في حلقه، فهلك وفي جهنّم سلك ((1)).

وجيء بعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكان على الفرات، وكان أوّل مَن ضرب سيّد الشهداء بسيف، فلعنه الأمير ولعنه مَن كان حاضراً، ثمّ أمر المختار فدُقّت يداه بالفأس من الساعد، ثمّ قُطعت، ثمّ أُحرق.

ثمّ جيء بسيف وأبي بكر وشاكر، فقال المختار: ما لكم قتلتم الإمام الحسين؟ فقالوا: كان قد خرج على إمام زمانه يزيد، فاستحقّ ذلك!!! فأمر المختار فدُفنوا ثلاثتهم أحياءً.

وقد حضرني في المقام حكايةٌ تثير الزفرة وتُجري العَبرة،وتسلب الإنسان راحته ودعته ووقاره، فقد حُكي أنّ شابّاً من الأنصار يقول:

رأيت في سوق الكوفة رجلاً يقرف الناظر إليه ويتقزّز، فحاولتُ الابتعاد منه، فتبعني مسرعاً واستجدى منّي، وقال: إنّي جائعٌ فأطعِمْني. فقلت له: لا أُطعمك حتّى تخبرني خبرك. فأطرق برأسه ومشى معي، وقال:

سأُخبرك قبل أن تسألني، أنا إسحاق بن حنوة، كنتُ في عسكر ابن

ص: 399


1- ([2]) أُنظُر: كتاب سرور المؤمنين: 189 -- 190.

زيادٍ اللعين، فخرجتُ إلى كربلاء مع عمر بن سعد، فوكّلني بالماء، فجهدت جُهدي لمنع الحسين وأصحابه عن الماء يوم تاسوعاء وعاشوراء حتّى لا يذوقوا منه قطرة.

فسمعت في الليل الحسين يكلّم أخاه العبّاس ويقول: «يا أخي، إذا انقضى الليل وجاء النهار وبلغ الوقت الظهر، فإنّ العيال والأطفال سيموتون عطشاً». فلمّا سمع العبّاس كلام أخيه جرت دموعه أنهاراً، وقال: لا تحزن يا أخي ولا تغتمّ، فلو كان بيني وبين الفرات بحراً من نارٍ فإنّي سأقتحمه، لعلّي أحمل شيئاً من الماء إليهم.

فلمّا سمعتُ كلامهما خشيتُ أن نُغلَب، فقصدت عمر بن سعد أستمدّه، فأمر أربعة آلافٍ فجعلهم على الماء زيادةً على مَن كان، ليحفظوا الماء ويمنعوهم أشدّ المنع.

فلمّا انقضت ليلة العاشر وطلعت الشمس، رأيتُ العبّاس كأنّه حيدر الكرّار، يحمل سيفه البتّار ويحصد رؤوس عسكر الأشرار، حتّى أقحم فرسه الفرات، ثمّ نزل إلى الماء وملأ القربة وركب فرسه، فحرّضتُ عليه الأربعة آلاف لنمنعه من إيصال الماء، فهجمنا عليه حملة رجلٍ واحد، حتّى قُطعَت يده اليمنى، فجعل يقاتلبالأُخرى، ويتعجّل المسير نحو الخيام، فحرّضتُ العسكر، حتّى قُطعَت يده اليسرى، فأخذ القربة بأسنانه وانحدر نحو المخيّم يروم إيصال الماء إلى العطاشى، فوضعت سهماً في كبد قوسي ورميتُ به الطائر الكسير الجناحين، فأصاب السهم القربة فأُريق ماؤها، فوقف معدن

ص: 400

الأميل آيساً، وأخرج رجليه من الركاب، واستغاث بأخيه، فلمّا سمع الإمام الحسين صوته فعجّل الإمام إليه، فرآه بتلك الحالة، وعزم على حمله، فحملنا عليه لنمنعه.

ولم يقترب بعد أبي الفضل أحدٌ من الماء، حتّى حمل سلطان المظلومين وسيّد الشهداء بنفسه، فتفرّق القوم بين يديه كالجراد المنتشر، وهو يشدّ عليه كالليث الغضبان، فوصل إلى الفرات وأقحم فرسه الماء، فوقف العسكر ينظر إليه، فرأيتُه وسمعتُه بأُذني وهو يخاطب فرسه ويقول: «أنت عطشان وأنا عطشان، فواللهِ لا أشرب حتّى تشرب». فذكرتُ أنّ قوله (تعالى): «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» ((1)) نزلَت في أبيه، فقلتُ في نفسي: حقّاً إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد، كيف يؤثر على نفسه ويأبى أن يشرب.

ثمّ رأيتُ الفرس يرفع رأسه ويأبى أن يشرب حتّى يشرب الإمام، فلمّا رأى الإمام أنّ الفرس لا يشرب حتّى يشرب هو، مدّ يده إلى الماء واغترف منه غرفةً بكفّه ليشرب، فكّرتُ في حيلةٍ أمنعه من شرب الماء، فرفعتُ صوتي منادياً: يا حسين، أتشرب الماء وقد هجم القوم على الخيام؟ فتصايح العسكر بما قلت، فلمّا سمع معدنالغيرة نداء القوم رمى الماء من كفّه وقصد الخيام، فوجدها سالمة، فصفقنا وتصافقنا بأكفّنا متصافحين،

ص: 401


1- ([1]) سورة الحشر: 9.

وضحكنا ضحكاً عالياً، ونحن ننادي: يا حسين! هل شربت الماء؟!

قال الشابّ الأنصاريّ: لمّا سمعتُ من المعلون هذه الحكاية، قلت له: سأدخل الدار وآتيك بالطعام. فدخلتُ الدار وحملتُ سيفي لأضرب عنقه، فقال اللعين: أهكذا تفعل مع الضيف؟ فقلت: أيّها الكافر الضالّ، ألم يكن الحسين ضيفاً عندكم في كربلاء، فجرّدتم عليه سيوفكم، وقطعتم رأسه باثني عشرة ضربة، فقتلتموه جائعاً عطشاناً؟!

ثمّ ضربتُه ضربةً كانت فيها منيّته، ثمّ أحرقتُ جسده النتن، وتمنّيت أن يكون عملي هذا ذخراً ليغفر به ربّي الكريم ويرحمني.

ورُوي عن ابن عُيينة قال: أدركتُ من قتلَة الحسين رجُلَين، أمّا أحدهما فإنّه طال ذَكَره حتّى كان يلفّه، وفي روايةٍ: كان يحمله على عاتقه، وأمّا الآخر فإنّه كان يستقبل الراوية فيشربها إلى آخرها ولا يُروى، وذلك أنّه نظر إلى الحسين وقد أهوى إلى فيه بماءٍ وهو يشرب، فرماه بسهم، فقال الحسين علیه السلام: «لا أرواك الله من الماء في دنياك ولا في آخرتك» ((1)).

ورُوي أنّه لمّا آيَسَ من الماء، وأنّه لا يذوق الماء إلاّ أن يشرب الماء الطهور من يد جدّه وأبيه، قال:

ص: 402


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 300، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 38 الفصل 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 119 الرقم 285، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 234.

«شيعتي مهما شربتم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندبوني» ((1))

عن كتاب (فتوحات القدس) ما مضمونه: إنّ الحسين علیه السلام لمّا اشتدّ به العطش، جاءه رجلٌ سياح ومعه آنيةٌ من الخشب مملوءةٌ من الماء، فناوله إيّاها، فأخذها الحسين علیه السلام من يده وصبّه على الأرض، وقال: «أيّها السياح، أتزعم أنّا لا نقدر على الماء؟ انظر». فلمّا نظر رأى أنهاراً جارية، فملأ الحسين علیه السلام آنيته من الحصى وناوله إيّاها، فإذا الحصى قد انقلبت بالجواهر الفريدة ((2)).

وفي (البحار): ثمّ رماه رجلٌ من القوم يُكنّى أبا الحتوف الجُعفيّ بسهم، فوقع السهم في جبهته، فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه ولحيته، فقال علیه السلام: «اللّهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذَرْ على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً».

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلّا بعَجَه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحيةٍ وهو يتّقيها بنحره وصدره، ويقول: «يا أُمّة السوء، بئسما خلفتم محمّداً في عترته، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إيّاي، وأيمُ الله إنّي

ص: 403


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 344، أنساب النواصب: 435.

لَأرجو أن يكرمني ربّي بالشهادة بهوانكم، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون».

قال: فصاح به الحُصَين بن مالك السكونيّ فقال: يا ابن فاطمة، وبماذا ينتقم لك منّا؟ قال: «يلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثمّ يصبّ عليكم العذاب الأليم». ثمّ لم يزل يقاتل حتّى أصابته جراحاتٌ عظيمة ((1)).

ورُوي أنّه أصابته ألف وتسعمئة جراحة ((2))، وفي رواية العلّامة المجلسي: أُصيب بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئة وثمانين جراحة بين طعنة رمح وضربة سيف ((3)).

ورُوي أنّه كانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ، ورُوي أنّها كانت كلّها في مقدمه ((4)).

وفي (البحار): فوقف علیه السلام يستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقفٌ إذ أتاه حجرٌ فوقع في جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره، وفي بعض الروايات: على قلبه، فقال الحسين علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله»، ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً

ص: 404


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
3- ([3]) أُنظُر: عين الحياة للمجلسي: 527.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.

ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره»، ثمّ أخذ السهمفأخرجه من قفاه، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأَت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة، وما عُرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين علیه السلام بدمه إلى السماء، ثمّ وضع يده ثانياً، فلمّا امتلأَت لطّخ بها رأسه ولحيته، وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوبٌ بدمي، وأقول: يا رسول الله، قتلني فلانٌ وفلان» ((1)).

وفي كتاب (الملهوف): فأتاه سهمٌ مسمومٌ له ثلاث شعب فوقع على قلبه، فقال علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله صلی الله علیه وآله»، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، أنت تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيره»، ثمّ أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنّه ميزاب ((2)).

فيا

ليت ذاك النحر كان بمنحري***ويا ليت هذا السهم كان بمهجتي

ومقتضى الجمع بين الخبرَين أنّ هذا السهم المثلّث المسموم الّذي أصاب قلب سيّد الشهداء غير السهم المثلّث المسموم الّذي أصاب صدره الشريف، وإذا كان ولابدّ أن يكون سهماً واحداً فالظاهر أنّ رواية السيّد ابن

ص: 405


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 120، مثير الأحزان لابن نما: 73، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

طاووس هي الأقرب للواقع.

ويشهد لذلك ما رواه الشيخ الصدوق في حديث، قال: وسمع عبدالله ابن عمر بخروجه، فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: «العراق». قال: مهلاً، ارجع إلى حرم جدّك. فأبى الحسين علیه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبد الله، اكشِفْ لي عن الموضع الّذي كان رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّله منك. فكشف الحسين علیه السلام عن سُرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودعك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتولٌ في وجهك هذا ((1)).

قال المؤلّف: تقبيل النبيّ لهذا الموضع من بدنه الشريف دائماً يشهد بأنّ هذا هو الموضع الّذي أصابه السهم المثلّث المسموم، فأخرجه سيّد الشهداء من قفاه، فجرى الدم كالميزاب.

ثمّ قال السيّد ابن طاووس: فضعف عن القتال ووقف، فكلّما أتاه رجلٌ انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه، حتّى جاءه رجلٌ من كِندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف، فقطع البرنس ((2)) ووصل السيف إلى رأسه، فامتلأ البرنس

ص: 406


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 153، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 313.
2- ([2]) البُرْنُس: كلّ ثوبٍ رأسه منه مُلْتَزِقٌ به، دُرَّاعَةً كان أَو مِمْطَراً أَو جُبَّة، والبُرْنُس قَلَنْسُوَةٌ طويلة، وكان النُّسّاكُ يلبسونها في صدر الإسلام (لسان العرب: مادّة برنس).

دماً ((1)).

وروى المجلسيّ قال: جاءه رجلٌ من كِندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام، وضربه بالسيف على رأسه، وعليه بُرنسٌ فامتلأ دماً، فقال له الحسين علیه السلام : «لا أكلتَبها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين» ((2)).

ثمّ إنّ الكندي أخذ البرنس وجاء به إلى الكوفة بعد الواقعة.

وفي المنتخب: فأقبل الكندي بالبرنس إلى منزله، فقال لزوجته: هذا برنس الحسين، فاغسليه من الدم. فبكت وقالت له: ويلك! قتلتَ الحسين وسلبت برنسه؟! واللهِ لا صبحتُك أبداً. فوثب إليها ليلطمها، فانحرفت عن اللطمة فأصابت يده الباب الّتي في الدار، فدخل مسمارٌ في يده، فعملت عليه حتّى قُطعَت من وقته ((3)).

وفي (البحار): فلمّا قدم بعد الوقعة على امرأته، فجعل يغسل الدم عنه، فقالت له امرأته: أتدخل بيتي بسلب ابن رسول الله؟ اخرج عنّي، حشى الله قبرك ناراً. فلم يزل بعد ذلك فقيراً بأسوء حال، ويبست يداه، وكانتا في الشتاء ينضحان دماً وفي الصيف تصيران يابستين كأنّهما

ص: 407


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 121، مثير الأحزان لابن نما: 73.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

عودان ((1)).

ثمّ ألقى الإمام المظلوم العمامة على الأرض، ورُوي أنّه جاء الى الخيام بعد أن أخذ البرنس منه، ودعا بخرقةٍ فجىء بها اليه، فشدّ بها جراح رأسه بيده الكريمة، واستدعى بقلنسوةٍ فلبسها، واعتمّ عليها بعمامة، ونادى: «يا زينب، يا أُمّ كلثوم، يا رقيّة، يا فاطمة، عليكنّ منّي السلام».

فتقدّمت أُخته زينب علیها السلام فقالت: يا أخي، أيقنتَ بالقتل؟ فقال علیه السلام : «كيف لا أُيقن وليس لي معينٌ ولا نصير؟».فقالت زينب علیها السلام: يا أخي، رُدّنا الى حرم جدّنا. فقال علیه السلام : «هيهات هيهات، وكأنّي بكم غير بعيدٍ كالعبيد، يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب».

فلمّا سمعت مخدّرة أمير المؤمنين علیه السلام هذا الكلام جرت دموعها ونادت: وا وحدتاه، وا قلّة ناصراه، وا شؤم صباحاه! ثمّ أهوت على جيبها فشقَّته، والى شعرها فنشرته، ولطمت وجهها، فلمّا نظر إليها الحسين علیه السلام وهي بتلك الحالة قال: «مهلاً يا بنت المرتضى، إنّ البكاء طويل».

ثمّ قام الحسين علیه السلام يخرج من الخيمة، فألقت زينب علیها السلام بنفسها عليه وتعلّقت به، وهي تقول: مهلاً يا أخي، توقّف حتى أتزوّد من نظري إليك، فهذا وداعٌ لا تلاقٍ بعده.

فمهلاً

أخي قبل الممات هنيئةً***لتبرد منّي لوعةٌ وغليلُ

ص: 408


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

فجعلَت تقبّل يديه ورجليه، واجتمعت حول المتعَب الجريح والعطشان الحريب كلُّ النساء، هذه تقبّل يده، وأُخرى تقبّل رجله، وأُخرى تشمّه، وهنّ يندبن بالويل والثبور، فدعا الحسين علیه السلام بثوبٍ يلبسه تحت ثيابه ...

ثمّ خرج الحسين علیه السلام من الخيمة متوجّهاً إلى الميدان ((1)).

وفي (المناقب): ولمّا ضعف علیه السلام نادى شمر: ما وقوفكم، وما تنتظرون بالرجل؟ قد أثخنته الجراح والسهام، احملوا عليه، ثكلتكم أُمّهاتكم. فحملوا عليه من كلّ جانب، فرماه الحُصَين بن تميمفي فيه، وأبو أيّوب الغنَويّ بسهمٍ في حلقه، وضربه زرعة بن شريك التميميّ على كتفه، وكان قد طعنه سنان بن أنس النخعيّ في صدره، وطعنه صالح بن وهب المُزنيّ على خاصرته، فوقع علیه السلام إلى الأرض على خدّه الأيمن ((2)).

بلند مرتبه شاهي ز صدر زين افتاد***اگر غلط نكنم عرش بر زمين افتاد

أهوى، فكبرت الصفوف برغمه***وبرغم كلّ مكّبرٍ ومهلّلِ

عجباً من السبع الطرائق كيف لم***تنشقّ، والأرضين لم تتزلزلِ

ص: 409


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 365 -- بترجمة السيّد علي أشرف.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366، الإرشاد للمفيد: 2 / 114، روضة الواعظين للفتّال: 189، الفتوح لابن أعثم: 5 / 118، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 486، تاريخ الطبري: 4 / 347.

أسفاً عليه، وللكواكب كيف لم***تنقضّ، و الأفلاك لم تتعطّلِ؟ ((1))

وفي (البحار): ثمّ استوى جالساً، ونزع السهم من حلقه ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ قام علیه السلام ((3)).

وفي (المناقب): وأخذ دمه بكفَّيه وصبّه على رأسه مراراً ((4)).

وفي (البحار): ثمّ دنا عمر بن سعد من الحسين ((5)).قال حميد بن مسلم: وخرجَت زينب بنت عليّ علیه السلام وقرطاها يجولان بين أُذنيها ((6)).

قال السيّد ابن طاووس: وخرجت زينب من باب الفسطاط، وهي تنادي: وا أخاه، وا سيّداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقَت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل ((7)).

ص: 410


1- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 366.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
3- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 124.
4- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366 الفصل 9.
5- ([6]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366 الفصل 9.
6- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
7- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 124.

وفي (البحار): وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ((1)) ولحيته، وهو يصرف وجهه عنها ((2)).

ويظهر من بكاء هذا الملعون سرّ الحديث المكنون الّذي يشير إلى بكاء المحبّين والأخيار والمعاندين والأشرار على مصيبة إمامالأبرار، بل بكاه كلّ الأشياء والأنهار والأشجار والجمادات والمجرّدات والجنّة والنار ((3)).

ص: 411


1- ([3]) في (الإرشاد للمفيد: 2 / 112): (وخرجَت أُخته زينب إلى باب الفسطاط، فنادت عمر بن سعد بن أبي وقّاص: ويحك يا عمر! أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فلم يُجِبْها عمر بشيء، فنادت: ويحكم، أما فيكم مسلم؟ فلم يُجبها أحدٌ بشيء). كان خروج السيّدة المخدّرة إلى باب الفسطاط، وليس من باب الفسطاط، وليس فيه جريان دموع الخبيث الرجس عمر بن سعد، وعلى فرض أنّه قد جرت دموعه على خدَّيه فليس ذاك لحزنه على أبي عبد الله أو غيرةً على السيّدة الصدّيقة الصغرى، ولا يمكن أن نتصوّره إلّا أن تكون دموع فرحٍ وشماتةٍ بقتل سيّد الشهداء وإبراز عرض النبيّ وعقيلة الهاشميّين ومخدّرة أمير المؤمنين وأُخت الحسن والحسين بين الأعداء، إذ (برزَت تخاطب شامتاً ملعوناً)، على تفصيلٍ لا يسعه هذا الهامش، وإن كان الوجه الّذي سيذكره المؤلّف وجيهٌ من حيث أنّه يفسّر بكاء هذا اللعين بالبكاء التكوينيّ.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
3- ([1]) في (كامل الزيارت لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 3): حدّثني محمّد بن جعفر القرشيّ الرزّاز، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن عليّ بن عثمان، عن عبد الجبّار النهاوندي، عن أبي سعيد، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة ويونس بن ظبيان وأبي سلَمة السرّاج والمفضّل بن عمر، كلّهم قالوا: سمعنا أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ أبا عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ ومَن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنار، وما خلق ربُّنا وما يُرى وما لا يُرى».

فأنت أيّها الشيعيّ لا تقصّر في إبراز محبّتك، وأنت تعتقد أنّك فاضل طينة الإمام، والحال أنّ عمر بن سعد اللعين القاسي القلب الجلف الجافي جرت دموعه على وجهه النحس ولحيته المشؤومة، فكيف ترى حالة تلك المظلومة وهي تنادي: وا أخاه، وا سيّداه! وأنت تحبس دمعتك وتتمالك نفسك ولا تثير زفرتك؟!

وفي (الإرشاد): فلم يجبها عمر بشيء، فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يُجبها أحدٌ بشيء ((1)).

وإعراضهم عنها بحيث لم يجبها أحدٌ مصيبةٌ ما أعظمها من مصيبة، وحرقةٌ ما أشدّها من حرقة!

وفي (الملهوف) قال: وصاح شمر بأصحابه: ما تنتظرون بالرجل؟ قال: وحملوا عليه من كلّ جانب، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، وضرب الحسين علیه السلام زرعة فصرعه، وضربه آخَر على عاتقه المقدّس

ص: 412


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 112.

بالسيف ضربةً كبا علیه السلام بها لوجهه ((1)).

شُلّت يدك أيّها اللعين الجاني، ضربتَ الإمام هذه الضربة ولم تضربها في قلوبنا معاشر الشيعة.

معاشر الشيعة! أُريد أن أكتب بقيّة التأليف وأنا أُمانع دموعي وزفراتي أن لا تمنع قلمي من الكتابة وذِكر ما فعله سنان بقدوة العالم، والّذي دعاني للاستمرار أنّي نصحت نفسي ووعظتها أنّ في ذكر هذه المصائب رضى صاحب الشريعة، فتمالكت بنحو ما دمع عيني، وسكنت بمقدارٍ يسمح لقلمي تحرير المصيبة.

كان الإمام المظلوم قد أعيا، وجعل ينوء ويكبّ، فطعنه سنان بن أنس النخعيّ في ترقوته، ثمّ انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره، ثمّ رماه سنان أيضاً بسهمٍ فوقع في نحره، فسقط علیه السلام ، وجلس قاعداً، فنزع السهم من نحره، وقرن كفَّيه جميعاً، فكلّما امتلأتا من دمائه خضّب بهما رأسه ولحيته، وهو يقول: «هكذا ألقى الله مخضَّباً بدمي، مغصوباً علَيّ حقّي» ((2)).

الأمان الأمان يا معاشر الشيعة! شُلّت يد سنان الخؤون الجبان، الّذي أورد هذه الجراحات على بدن إمام الإنس والجانّ، ونور عينَي نبيّ آخِر الزمان، وسرور قلب أمير المؤمنين وفلذة كبد سيّدة النسوان، لقد أحرق

ص: 413


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 125.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 125.

قلوب الشيعة والمؤمنين إلى يوم الوقوف بين يدَي الربّ الديّان.

رُوي عن أبي مخنف أنّ سِنان الغدّار حينما جيء به إلى المختار، قال له: لعنك الله يا أشقى الأشقياء ويا ابن الزوانيالأدعياء، قتلتَ ابن رسول الله ورُحت تفتخر بذلك؟!

ثمّ أمر فجيء بولده -- وكان من قبل قد شارك في إلقاء القبض على (كثير) -- وطلب كثير، فلمّا وقف بين يدَي الأمير قال: تعرف هذا الولد؟ قال: الحمد لله، رأيتُه في القَيد والأصفاد. قال الأمير: أهديتك ثواب قطع رأسه المشؤوم عند أقدام أبيه. فجرّد كثير خنجره، وطرح اللعين عند رجلَي سنان وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بمحبّة الحسين. ثمّ ذبحه، فتنفّس سنان الصعداء وبكى، فقال له الأمير: احترق قلبك يا ابن الزانية؟!

وكان الأُمراء جميعاً قد جرّدوا سيوفهم ليقتلوه الخبيث، وارتفعت الضجّة، فسأل المختار عن ذلك، فقال الحجّاب: جاء أهل الكوفة يطلبون من الأمير أن يوكل قتل سنان إليهم، لينالوا ثواب قتله.

فأمر الأمير أن يُدفَع إلى أهل الكوفة، فأخذوه وقطّعوه إرباً إرباً، ثمّ أحرقوه وذرّوا رماده، والحمد لله ربّ العالمين ((1)).

وفي خبرٍ عن أبي مخنف: وخرّ صريعاً مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق من

ص: 414


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 213 -- 215.

غشوته وثب ليقوم علیه السلام للقتال، فلم يقدر ((1)).

وعن كتاب (أخبار الدول وآثار الأول)، وهو أنّه قد بقي سيّد الشهداء (روحي له الفداء) زماناً، كلّما انتهى إليه رجلٌ منهم انصرف عنه ولم يتولَّ قتله، فحمل صبيّاً صغيراً من أولاده اسمه عبد الله، وقبّله، فأخذه رجلٌ من بني أسد فذبحه، فتلقّى الحسين علیهالسلام دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال: «يا ربّ، إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعَلْه لنا خيراً، وانتقم من الظالمين» ((2)).

وفي (الملهوف): فلبثوا هنيئةً، ثمّ عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبد الله ابن الحسن بن عليّ علیه السلام -- وهو غلامٌ لم يراهق -- من عند النساء، يشتدّ حتّى وقف إلى جنب الحسين ((3)).

ورُوي أنّه لحقَته زينب بنت عليّ علیه السلام لتحبسه، فقال الحسين علیه السلام : «احبسيه يا أُختي»، فأبى وامتنع امتناعاً شديداً ((4)).

وفي (الملهوف): فقال: لا واللهِ لا أُفارق عمّي ((5)).

ص: 415


1- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 350.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 617 -- عن: أخبار الدول.
3- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 122، الإرشاد للمفيد: 2 / 110.
4- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 110، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
5- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 122.

معاشرَ الشيعة!

إنّ مَن يحضره الموت ويكون في حال سكراته قبل الممات، يطلب أهله وأقرباءه وأصدقاءه ومحبّيه ليحضروا عنده، ويدعو بناته وأخواته ونساءه ليحوطوا به، إلّا الإمام المظلوم، فإنّه كان يأمرهم بالابتعاد عنه والبقاء في الخيام، بما فيها من آلامٍ وهمومٍ وغمومٍ وتعرّضٍ للسبي والسلب والنيران؛ لئلّا يُقتَل الأطفال وتتعرّض النساء لعيون الأعداء الأنذال.

فداءً لكلّ مصيبةٍ من مصائبك يا أبا عبد الله!

فأهوى بحر بن كعب، وقيل: حرملة بن كاهل إلى الحسين علیه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟فضربه بالسيف، فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد، فإذا هي معلّقة، فنادى الغلام: يا أُمّاه! ((1)) وقيل: فنادى: يا عمّاه! ((2))

ربّما كان نداؤه: (يا أُمّاه) أقوى، بلحاظ عادة الأطفال وشدّة أُنسهم وتعلّقهم بأُمّهاتهم، ويقوى نداؤه: (يا عمّاه)، بلحاظ شدّة محبّة الإمام وشفقته وحنوّه على الأيتام مطقاً، وعلى أيتام أخيه الإمام الحسن بالخصوص، ويشهد لذلك أنّ الإمام أُغميَ عليه حينما تقدّم القاسم

ص: 416


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 122، الإرشاد للمفيد: 2 / 110، إعلام الورى للطبرسي: 249، مثير الأحزان لابن نما: 73، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 73.

ليستأذنه للقتال، واعتبار أنّ أولاد الإمام الحسن وديعة عند سيّد شباب أهل الجنان، سيّما إذا لاحظنا أنّ هذا الغلام كان في الخيام بين النساء والعيال، ولكنّه خرج إلى عمّه لشدّة محبّته، ولم يلتفت إليهنّ، وإنّما كان يقصد عمّه على الخصوص.

وفي رواية: كان عبد الله بن الحسن الزكيّ واقفاً بإزار الخيمة، وهو يسمع وداع عمّه الحسين، فخرج في أثره وهو يبكي ويقول: واللهِ لا أُفارق عمّي ((1)).

ولا يبعد أن يكون الغلام قد نادى: يا عمّاه، ويا أُمّاه ((2)).

ورُوي أنّه نادى: يا أُمّاه. فخرجت أُمّه من الخيام حافيةً حاسرة، وهي تنادي: وا ولداه، ويا نور عياناه ((3)).فأخذه الحسين وضمّه إلى صدره ((4))، وفي (الملهوف): فأخذه الحسين علیه السلام فضمّه إليه، وقال: «يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله يُلحقك بآبائك الصالحين». فرماه حرملة بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حِجر عمّه الحسين ((5)).

ص: 417


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([4]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 354.
3- ([5]) مهيّج الأحزان لليزدي: 367.
4- ([1]) تاريخ الطبري: 5 / 450، نفَس المهموم للقمّي: 359.
5- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 122، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 54.

وفي (المنتخب): فصاحت زينب: وا ابن أخاه، ليت الموت أعدمني الحياة، ليت السماء أطبقَت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ رفع الحسين علیه السلام يده وقال: «اللّهمّ إن متّعتَهم إلى حين، ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا» ((2)).

حُكي عن أبي خليق أنّه قال للمختار: لمّا أحاطوا بالإمام وحاصروه، أصابوه باثني عشر ألف جراحة، وكانت جراحاته كلّها في مقدّمه، وكانت جراحاته العظيمة اثنين وسبعين جرحاً، وقد أصابه أبو الحنوق بسهمٍ في جبهته، ووضربه عبد الله بن الحُصين بسيفٍ على رأسه، ورماه شبث بن ربيع!! بسهمٍ مثلّثٍ مسمومٍ في صدره، رماه أبو أيّوب الغنوي بسهمٍ في حلقه، وضربه زرعة بن شريك على يده، ورماه الحُصين بن نمير السكوني بسهمٍ في فمه،وطعنه سنان بن أنس برمحٍ في ظهره فكبا لوجهه، وأصابه حريم بن الأحجار بسهمٍ في فمه، وضربه مالك على رأسه فخضّب عمامته بالدم، وطعنه صالح بن وهب برمحٍ في خاصرته، وضربه إسحاق بن الأشعث بالسيف على يده اليسرى، وأصابه أبو الأشرس بسهمٍ في ساعده،

ص: 418


1- ([3]) المنتتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 11، مثير الأحزان لابن نما: 56.

وصكّ عامر بن الطفيل!!! وجهه بحجر.

فلمّا سمع المختار وسائر الأُمراء والأعوان هذا الكلام، ارتفع منهم العويل والضجيج والبكاء ((1)).

وقد ذكرنا فيما مضى عن العلّامة المجلسي أنّ بدن الإمام أُصيب بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئةٍ وثمانين من ضرب السيوف وطعن الرماح ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن حمل على فسطاط الحسين فطعنه بالرمح، ثمّ قال: علَيّ بالنار أُحرقه على مَن فيه. فقال له الحسين علیه السلام: «يا ابن ذي الجوشن، أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي؟ أحرقك الله بالنار». وجاء شبث فوبّخه، فاستحيا ((3)) وانصرف ((4)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، كم تجرّعتَ من جراحات اللسان وجراحات السنان؟!وفي (المنتخب): إنّ خولّى بن يزيد الأصبحي طعن الحسين برمحه،

ص: 419


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 234.
2- ([2]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 347.
3- ([3]) ترجمها المؤلّف: (فتأثّر)، والحقّ أنّ مثل هؤلاء المخلوقات لا يعرفون الحياء، وليس هو من شيَمهم، وفي تعبير المؤرّخين بالاستحياء عن شمر وأمثاله تسامحٌ مخلٌّ وغفلة.
4- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 123، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 54.

فخرج السنان من ظهره ((1))، وبقي أثرها في قلوب الشيعة إلى يوم القيامة.

وقال أبو مخنف: وبقي الحسين مكبوباً على الأرض ملطّخاً بدمه ثلاث ساعاتٍ من النهار، رامقاً بطرفه إلى السماء، وهو يقول: «صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين» ((2)).

وضجّت الملائكة إلى اللّه عزوجل بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟! فأوحى اللّه عزوجل إليهم: «قرّوا ملائكتي، فوَ عزّتي وجلالي، لَأنتقمنّ منهم ولو بعد حين». ثمّ كشف اللّه عزوجل عن الأئ-مّة من وُلد الحسين علیه السلام للملائكة، فسُرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائمٌ يصلّي، فقال اللّه عزوجل: «بذلك القائم أنتقم منهم» ((3)).

اللّهمّ عجِّلْ فرجه، لينتقم للمظلوم من أُولئك الكفرة، يشفي غليل قلوب المؤمنين.

أجل، بينا كان الإمام المظلوم في تلك الحال، مرمَّلاً بالدماء،يناجي ربّه

ص: 420


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 355، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 82 -- عن: أبي مخنف، ناسخ التواريخ لسپهر: 1 / 455 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
3- ([3]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 160 الباب 129، دلائل الإمامة للطبري: 239، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 الباب 41 ح 3.

ويستغيث به، وقد أمن أن لا بداء وآيَسَ من الحياة ومن الماء، إذ نزل اليه رجلٌ من الرجّالة ليحتزّ رأسه، فنظر إليه الإمام من بعيدٍ وقال له: «ارجع، فلستَ قاتلي، فلا تبتلِ بي فتكون من أصحاب الجحيم». فبكى الرجل وقال: يا ابن رسول اللّه، أنت في هذه الحالة وتخاف أن ندخل بسببك إلى جهنّم؟! فهزّ السيف الّذي كان في يده لقتل الحسين علیه السلام ، ثمّ توجّه نحو عمر ابن سعد، فقال له عمر: هل قتلتَ الحسين؟ فقال: بل جئتُ لأقتلك! وحمل على عمر ليقتله، فاحتوشه القوم، فالتفت إلى الإمام وقال: إشهد يا مولاي أنّي أُقتَل في حبّك. فقال له الإمام: «أبشِرْ، فإنّا نشفع لك». ثمّ إنّهم قتلوه ((1)).

فغضب عمر بن سعد (لعنه الله)، ثمّ قال لرجلٍ عن يمينه: انزلْ -- ويحك -- إلى الحسين فأرِحْه ((2)).

وفي (المنتخب): وبادر إليه خولّى بن يزيد ليجتز رأسه، فرمقه بعينيه، فارتعدت فرائصه منه فلم يجسر عليه وولّى عنه ((3)).

وفي التبر المذاب: فقال له شمر: فتّ الله في عضدك، ما لَك ترعد؟

ص: 421


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 351، تذكرة الشهداء للكاشاني: 393 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

فقال: والله لا حاجة لي في قتل ابن بنت رسول الله ((1)). فقال الشمر: كلحت هذه اللحية، لأنّها نبتت على غير رجل ((2)).

وفي (المنتخَب): ثمّ ابتدر إليه أربعون فارساً، كلٌّ يريد قطع رأسه، وعمر ابن سعد (لعنه الله) يقول: عجِّلوا عليه، عجّلوا عليه ((3)).

فنزل عمرو بن الحجّاج عن فرسه وأقبل نحو الحسين علیه السلام ، فنظر علیه السلام إليه، فارتعد وركب فرسه وولّى.

فقال له شمر: ثكلَتك أُمّك، لمَ رجعتَ عن قتله؟ فقال: يا ويلك، إنّه فتح عينيه في وجهي، فأشبهتا عينَي رسول اللّه صلی الله علیه وآله، ولا أُريد أن أبتلي بدمه ((4)).

قال حميد بن مسلم: وخرجَت زينب بنت عليّ علیها السلام، وقرطاها يجولان بين أُذنيها، وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد اللّه وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ولحيته ((5)).

ص: 422


1- ([1]) عذّبه الله عذاباً يستغيث منه أهل النار، إن كان يعرف لابن بنت رسول الله حرمة وأنّه لا حاجة له بقتله، فلماذا قاتله وحمل رأسه إلى ابن الأَمة الفاجرة؟!
2- ([2]) حياة الإمام الحسين؟ع؟ من كتاب التبر المذاب للخافي: 161.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
4- ([4]) مهيج الأحزان لليزدي: 369.
5- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، مهيّج الأحزان لليزدي: 370، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 22.

ولا يبعد أن تكون السيّد المخدّرة قد خرجَت وتكلّمَت مع ابن سعدٍ مرّتين، فالمصيبة مصيبة الحسين، فكيف تطيق تلك المخدّرة البقاء في الخيمة؟!وفي (المنتخَب): فدنا إليه شِبث بن ربعيّ وبيده سيفٌ ليجتز رأسه، فرمقه علیه السلام بطرفه، فرمى السيف من يده وولّى هارباً، وهو ينادي: معاذ الله يا حسين أن ألقى أباك بدمك ((1)).

فأقبل إليه رجلٌ قبيح الخلقة كوسج اللحية أبرص اللون، يُقال له: سنان ((2)).

قال أبو مخنف: فقال سنان لشبث: لمَ ما قتلتَه؟ ثكلتك أُمّك! قال شبث: يا سنان، إنّه قد فتح عينيه في وجهي، فشبّهتُهما بعينَي رسول الله.

ثمّ دنا منه سنان، ففتح عينيه في وجهه، فارتعدَت يده وسقط السيف منها وولّى هارباً ((3)).

وفي (المنتخب): ولّى هارباً وهو يقول: ما لَك يا عمر بن سعد؟ غضب اللهُ عليك، أردتَ أن يكون مُحمّدٌ خصمي! ((4))

ص: 423


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
3- ([3]) ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83 -- عن: أبي مخنف.
4- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

فأقبل إليه الشمر (لعنه الله)، وقال: يا سنان، ثكلتك أُمّك، ما أرجعك عن قتله؟ فقال: يا ويلك، إنّه فتح في وجهي عينيه، فذكرتُ شجاعة أبيه، فذهلت عن قتله. فقال الشمر: يا ويلك، إنّك لَجبانٌ في الحرب، هلمّ إليّ بالسيف، فوَاللهِ ما أحدٌ أحقّ منّي بدم الحسين ((1)). ثمّ نزل عن ظهر جواده.

وفي (المنتخب): فنادى ابن سعد: مَن يأتيني برأسه وله ما يتهنّىبه؟ فقال الشمر: أنا أيها الأمير. فقال: أسرع، ولك الجائزة العظمى. فأقبل إلى الحسين، وقد كان غُشيَ عليه ((2)).

وفي (البحار): جاء إليه شمر وسنان بن أنس، والحسين علیه السلام بآخر رمَقٍ يلوك لسانه من العطش ويطلب الماء، فرفسه شمر (لعنه الله) برجله، وقال: يا ابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟ فاصبِرْ حتّى تأخذ الماء من يده. ثمّ قال لسنان: اجتزّ رأسه قفاءً. فقال سنان: واللهِ لا أفعل فيكون جدّه محمّد صلی الله علیه وآله خصمي. فغضب شمر (لعنه الله)، وجلس على صدر الحسين، وقبض على لحيته، وهَمّ بقتله، فضحك الحسين ((3)).

ص: 424


1- ([5]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 88 -- 93، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83 -- عن: أبي مخنف.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

وفي (المنتخب): فحسّ به علیه السلام وقال: «يا ويلك، مَن أنت؟ فقد ارتقيتَ مرتقىً عظيماً!»، فقال هو: الشمر. فقال له: «ويلك! مَن أنا؟!»، فقال: أنت الحسين بن عليّ وابن فاطمة الزهراء، وجدّك محمّد المصطفى. فقال الحسين: «ويلك! إذا عرفتَ هذا حسَبي ونسَبي، فلِمَ تقتلني؟!»، فقال الشمر: إنْ لم أقتلك فمَن يأخذ الجائزة من يزيد؟ فقال علیه السلام : «أيّما أحبّ إليك، الجائزة من يزيد أو شفاعة جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله»، فقال اللعين: دانقٌ من الجائزة أحَبُّ إليّ منك ومن جدّك ((1)).

ورُوي أنّ الإمام المظلوم خاطب الشمر لإتمام الحجّة عليه، فقالالحسين علیه السلام: «يا شمر، أتعلم أيّ يومٍ هذا وأيّ ساعةٍ هذه؟»، قال: اليوم الجمعة يوم عاشوراء، والساعة الّتي يصلّي الناس فيها ويخطب الائمّة على المنابر خطبة الجمعة. فقال علیه السلام: «هذه الساعة يخطب فيها أئ-مّة الجمعة على المنابر باسم جدّي، ويصلّون ويثنون عليه، وأنت ترتكب هذا الظلم والإثم؟ يا شمر، إنّ رسول الله كان يضع وجهه على صدري، وأنت تجلس عليه؟ وكان يقبّلني في نحري، وأنت تضربه بالسيف؟ واعلم أنّ روح زكريّا عن يميني، وروح يحيى عن شمالي» ((2)).

وكان سيّد شباب أهل الجنّة في تلك الحالة يلوك لسانه من العطش ((3)).

ص: 425


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 352، تذكرة الشهداء للكاشاني: 396.
3- ([2]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

فشدّد الإمام في إتمام الحجّة على اللعين. قال أبو مخنف: فقال له: «إذا كان لابدّ من قتلي فاسقني شربةً من الماء»، فقال: هيهات هيهات! واللهِ ما تذوق الماء أو تذوق الموت غصّةً بعد غصة، وجُرعةً بعد جرعة. فقال له: «ويلك! اكشِفْ لي عن وجهك وبطنك»، فكشف له، فإذا هو أبقعٌ أبرص، له صورةٌ تشبه الكلاب والخنازير، فقال الحسين: «صدق جدّي فيما قال»، فقال: وما قال جدّك؟ قال: «يقول لأبي: يا عليّ، يقتل ولدَك هذا رجلٌ أبقعٌ أبرص، أشبه الخلق بالكلاب والخنازير»، فغضب الشمر من ذلك ((1)).

وفي (التبر المذاب): فقال: إذا كان جدّك أخبرك بذلك، فلأقتلنّك أشدّقتلة!

ثمّ جعل يحزّ مذبح الحسين بسيفه، فلم يقطع شيئاً، فقال الحسين: «يا ويلك! أتظنّ أن يقطع سيفك موضعاً طالما قبّله رسول الله؟» ((2)).

قال أبو مخنف: فغضب الشمر من ذلك، وقال: تشبّهني بالكلاب والخنازير؟ فو الله لَأذبحنّك من قفاك. ثمّ قلبه على وجهه وجعل يقطع أوداجه ((3)).

ورُوي أنّه كان يناجي ربّه ويقول: «إلهي وسيّدي، وفيتُ بعهدي»، فنودي: أبشِرْ، فسأُشفّعك في المذنبين حتّى ترضى. فقال: «الآن طاب لي

ص: 426


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 161.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.

الموت» ((1)).

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه.. ثمّ إنّ شمر الدعيّ (لعنه الله) جعل حدّ السيف على رقبة الإمام المظلوم من القفا.

لله مظلوميّتك يا أبا عبد الله، الّتي جعلت جدّك يتفضّل ويقول: «مَن تباكى في مصيبتك وجبَت له الجنّة» ((2)).

ص: 427


1- ([3]) تذكرة الشهداء للكاشاني: 398، رياض الشهادة: 2 / 262 المجلس 12.
2- ([4]) في (كامل الزيارات لابن قولويه: 105 الباب 33 ح 2): عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «يا أبا عمارة، أنشِدْني في الحسين علیه السلام ». قال: فأنشدتُه، فبكى، ثمّ أنشدتُه، فبكى، ثمّ أنشدتُه، فبكى. قال: فوَاللهِ ما زلتُ أُنشده ويبكي حتّى سمعتُ البكاء من الدار، فقال لي: «يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة». وفيه أيضاً: 105 الباب 33 ح 4: عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن أنشد في الحسين علیه السلام بيت شعرٍ فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنّة»، فلم يزل حتّى قال: «من أنشد في الحسين بيتاً فبكى» وأظنه قال: «أو تباكى فله الجنّة». وفي (بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 288): قال ابن طاووس: رُوي عن آل الرسول علیه السلام أنّهم قالوا: «مَن بكى وأبكى فينا مئةً فله الجنّة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنّة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنّة، ومن تباكى فله الجنّة».

كيف يطيق المحبّ أن يتصوّر الشمر في غضبه وحقده يقلب الإمام المظلوم، ويضع حدّ سيفه المشؤوم على رقبة الإمام من القفا، ثمّ لا يسيل دمعه؟ ولو كان قلبه كالحجارة لَانشقّ لهذا المنظر وتفجّرت من عينيه الدموع!

وكيف لا يبكي المحبّ وقد بكى الأعداء؟ وينبغي أن يكون قلب الشيعيّ أرقّ من الزهور والأوراد إذا بضّعها المشرط، فتجري دموعه لا إراديّاً، فإن لم تجرِ دموعك فاعلم أنّك مبتلىً بقساوة القلب، وسببه خوضك في ما لا يعنيك ولا يهمّك ولا ينفعك، فاحفظ لسانك عن غير ذكر الله والأُمور الّتي تهمّك وتعنيك، وامسح على رؤوس الأيتام، فإنّها تعالج قساوة القلب ((1))، فإذا مسحت على رأس اليتيم تذكّر أيتام الإمام الحسين وحزنهم وغربتهم، فإنّ الدمع سينهمر فوراًمن عينيك، وستعرف معنى الحديث الّذي ذكرناه في علاج قساوة القلب بالمسح على رؤوس الأيتام ((2)).

ص: 428


1- ([1]) مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 188: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «مَن أنكر منكم قساوة قلبه، فلْيُدنِ يتيماً فيلاطفه ولْيمسح رأسه، يلين قلبه بإذن الله عزوجل، فإنّ لليتيم حقّاً».
2- ([1]) أُنظُر للمزيد في بحث قساوة القلب وعلاجه: المنتقى من دار السلام، للسيّد علي أشرف، الجزء الثاني.

عودٌ إلى الحديث السابق

أين كنت أيّها القلم وأين سرحت؟ فارجع إلى ما كنت فيه، إذ أكبّ الشمر الدعيّ بدن أبي عبد الله (روحي وأرواح العالمين له الفداء) على وجهه، وجعل حدّ سيفه على قفاه.

كاش آن زمان سرادق گردون نگون شدي***وين خرگه بلند ستون بي ستون شدي

كاش آن زمان كه اين حركت كرد آسمان***سيماب وار روي زمين بي سكون شدي

كاش آن زمان كه كشتي آل نبي شكست***عالم تمام غرقة درياي خون شدي

كاش آن زمان درآمدي از كوه تا به كوه***سيل سيه كه روي زمين قيره گون شدي

كاش آن زمان كه پيكر او شد درون خاك***جان جهانيان همه از تن برون شدي

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه!

قال أبو مخنف: ثمّ جعل يضرب بسيفه مذبح خامس أصحاب الكساء وقرّة عين محمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى وفلذة كبد فاطمة الزهراء الحسين سيّد الشهداء، وهو يقول:

ص: 429

أقتلك اليوم ونف-سي تعلما***علماً يقيناً ليس فيه مزعما

أنّ أباك مذ نشا مكرَّما***بعد النبيّ المصطفي المعظّما

وخير من لبّى معاً وأكرما***أقتلك اليوم وسوف أندما

أصلى بقتلك في غدٍ جهنّما ((1))

وكلّما قطع منه عضواً نادى: «وا محمّداه، وا جدّاه، وا أبا القاسماه، وا عليّاه، وا أبتاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عقيلاه، وا عبّاساه، وا قتيلاه، وا غربتاه، وا قلّة ناصراه! أأُقتَل مظلوماً وجدّي محمّد المصطفى؟ أأُقتَل عطشاناً وأبي عليٌّ المرتضى؟ أأُقتَل مسلوباً وأُمّي فاطمة الزهراء؟ أأُذبَح غريباً وجدّتي خديجة الكبرى؟» ((2)).وفي (المناقب): فضربه بسيفه اثنتي عشرة ضربة، ثمّ جزّ رأسه ((3)).

وفي (التبر المذاب): احتزّ رأس الحسين، ورفعه -- كالشمس -- فوق رمحٍ طويل، وهو يقول: واللهِ إنّي قد أبنت رأسك وأعلم أنّك ابن بنت رسول الله وخير الناس جدّاً وأباً وأُمّاً وخالاً وعمّاً ((4)).

ص: 430


1- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
2- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 451، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.
4- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 162، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 102، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

روى البلاذريّ أنّ رأس الحسين كان أوّل رأسٍ رُفع على السنان ((1)).

وفي (المنتخب): فلمّا احتز الملعون رأسه شاله في قناة، فكبّر وكبّر العسكر معه ((2)).

آه، واويلاه!

ويكبّرون بأن قُتلت، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا

وفي خبر أبي مخنف: وكبّر العسكر ثلاث تكبيرات، وتزلزلت الأرض، وأظلم الشرق والغرب ((3)).

روى البيهقي قال: لمّا قُتل الحسين بن علي علیهما السلام كسفتالشمس كسفةً بدت الكواكب نصف النهار ((4)).

قال أبو مخنف: وقطر ((5)) السماء دماً، ونادى منادٍ من السماء: قُتل والله

ص: 431


1- ([3]) في (تاريخ الطبري: 4 / 297): عن زرّ بن حبيش قال: أوّل رأسٍ رُفع على خشبةٍ رأس الحسين علیه السلام. وانظر: كشف الغمّة: 2 / 55، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / خ 483، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 83.
2- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
3- ([5]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 93.
4- ([1]) السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337.
5- ([2]) في المتن: (وقطرت سبع قطراتٍ دمٌ من السماء).

الإمام ابن الإمام أخو الإمام، قُتل والله الهمام ابن الهمام، الحسين بن عليّ ابن أبي طالب علیه السلام ((1)).

وفي (البحار): لما قتلوا الحسين بن علي علیه السلام أمر الله عزوجل ملكاً ينادي: أيّتها الأُمّة الظالمة القاتلة عترة نبيّها، لا وفّقكم الله لصومٍ ولا فطر. وفي حديثٍ آخَر لفطرٍ ولا أضحى ((2)).

قال أبو عبد الله الصادق: «لا جَرَم والله، ما وُفّقوا ولا يوفّقون أبداً، حتّى يقوم ثائر الحسين» ((3)).

وفي (البحار): إنّ الملَك الّذي جاء إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وأخبره بقتل الحسين بن عليّ كان ملك البحار، وذلك أنّ ملَكاً من ملائكة الفردوس نزل على البحر ونشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحةً وقال: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ الرسول مذبوح! ثمّ حمل من تربته في أجنحته إلى السماوات، فلم يلقَ ملَكاً فيها إلّا شمّها وصار عنده لها أثر، ولعَنَ قتَلَته وأشياعهموأتباعهم ((4)).

ص: 432


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 79 المجلس 15، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 218، الكافي للكليني: 4 / 169، علل الشرائع للصدوق: 2 / 76.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 217، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 62.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 ح 5، كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 3.

وفي (الملهوف): فارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرةٌ شديدةٌ سوداء مظلمة، فيها ريحٌ حمراء لا تُرى فيها عينٌ ولا أثر، حتّى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم ((1)).

ورُوي أنّ ريحاً عاصفاً هبّ في تلك الساعة، مات لهولها خلقٌ كثير.

وفي (بحار الأنوار): عن الصادق: «لمّا قُتل الحسين علیه السلام سمع أهلُنا قائلاً بالمدينة يقول: اليوم نزل البلاء على هذه الأُمّة، فلا يرون فرحاً حتّى يقوم قائمكم، فيشفي صدوركم ويقتل عدوّكم، وينال بالوتر أوتاراً. ففزعوا منه وقالوا: إنّ لهذا القول لحادثٍ قد حدث ما نعرفه. فأتاهم بعد ذلك خبر الحسين وقتله، فحسبوا ذلك فإذا هي تلك الليلة الّتي تكلّم فيها المتكلّم». فقلت له: جُعلت فداك، إلى متى أنتم ونحن في هذا القتل والخوف والشدّة؟ فقال: «حتّى مات سبعون فرخاً، أخو أب، ويدخل وقت السبعين، فإذا دخل وقت السبعين أقبلَت الآيات تترى كأنها نظام، فمَن أدرك ذلك قرّت عينه، إنّ الحسين لمّا قُتل أتاهم آتٍ وهم في المعسكر، فصرخ فزبر، فقال لهم: وكيف لا أصرخ ورسول الله قائمٌ ينظر إلى الأرض مرّةً وينظر إلى حربكم مرّة، وأنا أخاف أن يدعو الله على أهل الأرض فأهلك فيهم؟ فقال بعضهم لبعض: هذا إنسانٌ مجنون. فقال التوّابون: تالله ماصنعنا بأنفسنا؟ قتلنا لابن سميّة سيّد شباب أهل الجنّة. فخرجوا على عُبيد الله بن زياد، فكان مِن أمرهم الّذي كان». قال: قلت له: جُعلت فداك، مَن هذا الصارخ؟ قال: «ما نراه إلّا

ص: 433


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 127.

جبرئيل، أما إنّه لو أذن له فيهم لَصاح بهم صيحةً يخطف منها أرواحهم مِن أبدانهم إلى النار، ولكن أمهل لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذابٌ أليم» ((1)).

قال السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف): روى هلال بن نافع قال: إنّي كنتُ واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد (لعنه الله)، إذ صرخ صارخ: أبشِرْ أيّها الأمير، فهذا شمر قَتَل الحسين علیه السلام . قال: فخرجتُ بين الصفَّين، فوقفتُ عليه وإنّه علیه السلام لَيجود بنفسه، فوَاللهِ ما رأيتُ قطّ قتيلاً مضمَّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول: واللهِ لا تذوق الماء حتّى تَرِد الحامية فتشرب من حميمها. فسمعتُه يقول: «يا ويلك! أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها، بل أردُ على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسِن، وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي». قال: فغضبوا بأجمعهم، حتّى كأنّ الله لم يجعل في قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزّوا رأسه وإنّه لَيكلّمهم، فتعجّبتُ من قلّة رحمتهم وقلت: واللهِ لا أُجامعكم على أمرٍأبداً ((2)).

وقال الإمام الباقر: «ولقد قتلوه قتلةً نهى رسول الله صلی الله علیه وآله أن يُقتَل بها الكلاب،

ص: 434


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 172 ح 21، كامل الزيارات لابن قولويه: 336 الباب 108 ح 14.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 128.

لقد قُتِل بالسيف والسنان وبالحجارة وبالخشب وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((1)).

حُكي أنّه لمّا جاؤوا بليث بن عنان الشاكريّ وسعد بن عبد الله الحنفي!!! وعمر بن مذر إلى المختار، قال لهم: أوَلستم أنتم الّذي ضربتم بدن الإمام الحسين بالسياط؟ فقالوا: لا والله. فأشار إلى الجلّادين فعلّقوهم، وضربوا كلّ واحدٍ منهم ألف سوط، ثمّ جعلوهم غرضاً للسهام حتّى تمزّقت أجسادهم واضمحلّت، ثمّ جمعوا لهم القصب فأشعلوه ناراً وأحرقوهم ((2)).

ثمّ جيء بشافع بن عبد الله، وكان على ألفَي فارس، فلمّا رآه المختار فرح فرحاً شديداً، وقال: لعنك الله أيّها الأحول يا ابن الفاعلة، الحمد لله الّذي مكّنني منك، لمَ خرجتَ إلى كربلاء؟ فسكت، فقال له: لمَ لا تردّ يا ابن الزانية؟ قال: وبماذا أردّ؟ لقد خرجتُ مُكرَهاً! قال: خرجتَ مكرهاً، فلمَ ضربتَ الإمام المظلوم بالسيف؟ فأمر به فأُدني منه، وكان في يده عصا، فضربه على وجهه وفمه حتّى هشمهما، وأمر به فعُلّق وخلع كتفه.

وجيء بسعد بن عُبادة!!! وعثمان بن أُميّة إلى المختار، فقال لهما: لمَ قتلتما ابن رسول الله أيّها الدعيّان؟ قالا: لم نقتله نحن، وإنّماقتله شمر وسنان! فقال لهما: شهدتُما مقتله وشاركتما في قتله، وأعنتما وشايعتما

ص: 435


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91.
2- ([3]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 171.

وبايعتما على قتله، ثمّ تقولان: لم نقتله؟ فأمر بهما فشُرّحت لحومهما بالسفود وهُشّمت عظامهما، فطلبا الماء، فأُغليَ لهما زيت النفط وصُبّ في حلقهما، ثمّ أُحرقا.

وجيء بالحارث بن بشير، فقال له المختار: أوَلستَ الّذي شتمت الإمام الحسين؟ فأنكر ذلك، فأمر به فشقّوا فمه ومزّقوه.

ونُقل أنّ المختار سأل من أبي خليق عن الأشخاص الّذي رموا الإمام بالحجارة، فقال: إسحاق بن حويط، والأخنس بن مرثد، وحكم وعامر ابنا الطفيل، وبكر بن عامر، وعمر بن صبيع، وسالم بن حسبة، ومنقذ وناعم ابنا مرّة، ويزيد بن الحارث، وهاني بن ثبيت، وسعد بن حجر الأحجار، ويزيد النهشلي، ووريد (دريد) مولى عمر بن سعد ((1)).

* * * * *

قال الإمام الصادق: «إنّه مرّ بالحسين بن عليّ خمسون ألف ملَكٍ وهو يُقتَل، فعرجوا إلى السماء، فأوحى الله إليهم: مررتم بابن حبيبي وهو يُقتَل فلم تنصروه؟ فاهبِطوا إلى الأرض فاسكنوا عند قبره شعثاً غبراً إلى أن تقوم الساعة» ((2)).

وفي (بحار الأنوار): قال أبو ذرّ، وهو يومئذٍ قد أخرجه عثمان إلى الربذة،

ص: 436


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 191 وما بعدها.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 20، كامل الزيارات لابن قولويه: 115 الباب 93 ح 6.

فقال له الناس: يا أبا ذرّ، أبشِرْ، فهذا قليلٌ في الله. فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتل الحسين بن عليّ قتلاً -- أو قال: ذُبح ذبحاً --؟ واللهِ لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلاً منه، وإنّ الله سيسلّ سيفه على هذه الأُمّة لا يغمده أبداً، ويبعث ناقماً من ذرّيّته فينتقم من الناس، وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لَبكيتم واللهِ حتى تزهق أنفسكم، وما من سماءٍ يمرّ به روح الحسين علیه السلام إلّا فزع له سبعون ألف ملَك، يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابةٍ تمرّ وترعد وتبرق إلّا لعنت قاتله، وما من يومٍ إلّا وتعرض روحه على رسول الله فيلتقيان ((1)).

وفي (بحار الأنوار): عن الإمام جعفر الصادق: «إنّ الحسين علیه السلام لمّا قُتل عجّت السماوات والأرض ومَن عليهما والملائكة، فقالوا: يا ربّنا، ائذن لنا في هلاك الخلق حتّى نجدهم من جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك وقتلوا صفوتك. فأوحى الله إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي اسكنوا. ثمّ كشف حجاباً من الحجُب، فإذا خلفه محمّدٌ واثنا عشر وصيّاً له علیه السلام ، ثمّ أخذ بيد فلان القائم من بينهم، فقال: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، بهذا أنتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات» ((2)).

ص: 437


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47، كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 11.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 23، الكافي للكليني: 1 / 534.

وفي رواية: إنّ الله (تبارك وتعالى) قال للملائكة: إنّي قتلتُ بدم يحيى ابن زكريّا سبعين ألفاً، وإنّي أقتل بدم الحسين ابن فاطمة سبعين ألفاً وسبعين ألفاً ((1)) مِن بني أُميّة على يد القائم المهديّ، ولهم في القيامة عذابٌ أليم.

قال الإمام الصادق: «إنّ الحسين لمّا وُلد أمر الله جبرئيل أن يهبط في سبعين ألف ((2)) من الملائكة فيهنّيء رسول الله، فهبط جبرئيل، فمرّ على جزيرةٍ في البحر فيها ملَكٌ يُقال له: (فطرس)، فكان من الحمَلَة» ((3)).

وفي (البصائر): إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال له: فطرس، فكسر الله جناحه ((4))، وألقاه في جزيرةٍ من جزائر البحر.

وفي رواية الشيخ الطوسي: إنّ الله (تعالى) خيّره من عذابه في الدنيا أو الآخرة، فاختار عذاب الدنيا، وكان معلَّقاً بأشفار عينَيه في جزيرةٍ في البحر لا يمرّ به حيوان، وتحته دخانٌ مُنتنٌ غير منقطع ((5)).

ص: 438


1- ([1]) أُنظُر: شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 168 ح 1112، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 429.
2- ([2]) في (البصائر): «سبعين ألفاً»، وفي غيره: «في ألف».
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 137، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 243.
4- ([4]) بصائر الدرجات للصفار: 68 ح 7.
5- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 الفصل 6، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 244.

فعبد الله سبعمئة عام ((1))، وهو في ذلك العذاب.

وقيل: إنّ جبرئيل نظر إلى ملَكٍ يبكي بكاءً شديداً، فدنا منه فعرفه أنّه فطرس، وكان من ملائكة السماء الثالثة، وكان على قبيلٍ من سبعين ألف من الملائكة، فسأله جبرئيل عن حاله، فحكى له قصّته ((2)).

وفي (بصائر الدرجات): فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة. فقال له فطرس: احملْني معك، وسَلْ محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه واله فدخل عليه وهنّأه، فقال له: يا رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: «أتفعل؟»، قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «شأنك بالمهد فتمسَّحْ به وتمرّغْ فيه». قال: فمضى فطرس فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ، ورسول الله يدعو له. قال: قال رسول الله: «فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول، حتّى لحق بجناحه الآخَر، وعرج مع جبرئيل إلى

ص: 439


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 201 المجلس 28 ح 215.
2- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 193.

السماء وصار إلى موضعه» ((1)).وفي رواية: فقال: يارسول الله، أما إنّ أُمّتك ستقتله، وله علَيّ مكافأة، لا يزوره زائرٌ إلّا بلّغتُه عنه، ولا يسلّم مسلِّمٌ إلّا أبلغتُه سلامه، ولا يصلّي عليه مصلٍّ إلا أبلغتُه صلاته. ثمّ ارتفع ((2)).

وفي رواية: لمّا قُتل الإمام الحسين قال فطرس: يا ربّ، لو أذنتَ لي حتّى أهبط وأُقاتل أعداءه مع أصحابي. فجاء الخطاب: إذا فاتك ذلك فاهبط في السبعين ألف ملَكٍ من قبيلك الّذي معك، ولازِمْ قبره، وابكوه كلّ صباحٍ ومساء، واجعلوا ثواب بكائكم للباكين عليه. فهبط فطرس والملائكة الّذين معه، فهم في كربلاء يفعلون ما أُمروا به إلى يوم القيامة ((3)).

وفي (بحار الأنوار): عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده علیه السلام قال: «قال النبيّ صلی الله علیه وآله : ليلة أُسري بي إلى السماء فبلغتُ السماء الخامسة، نظرت إلى صورة عليّ بن أبي طالب، فقلت: حبيبي جبرئيل، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل:

ص: 440


1- ([3]) بصائر الدرجات للصفار: 68 ح 7.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 201 المجلس 28 ح 215، روضة الواعظين للفتّال: 155، كامل الزيارات لابن قولويه: 141 باب 21 ح 165، الثاقب في المناقب: 339 ح 284.
3- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 193.

يا محمّد، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة عليّ، فقالوا: ربَّنا، إنّ بني آدم في دنياهم يتمتّعون غدوةً وعشيّةً بالنظر إلى عليّ بن أبي طالب حبيب حبيبك محمّد؟ص؟ وخليفته ووصيّه وأمينه، فمتِّعْنا بصورته قدر ما تمتّع أهل الدنيا به. فصوّر لهم صورته من نور قدسه عزوجل، فعليٌّعلیه السلام بين أيديهم ليلاً ونهاراً، يزورونه وينظرون إليه غدوةً وعشيّة».

قال: فأخبرني الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «فلمّا ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه صارت تلك الضربة في صورته الّتي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوةً وعشيّة، يلعنون قاتله ابن ملجم، فلمّا قُتل الحسين ابن عليّ (صلوات الله عليه) هبطت الملائكة وحملَته حتّى أوقفته مع صورة عليّ في السماء الخامسة، فكلّما هبطت الملائكة من السماوات من عُلا وصعدت ملائكة السماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة عليّ علیه السلام والنظر إليه وإلى الحسين بن عليّ متشحّطاً بدمه، لعنوا يزيد وابن زياد وقاتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه) إلى يوم القيامة».

قال الأعمش: قال لي الصادق علیه السلام: «هذا من مكنون العلم ومخزونه، لا تُخرجه إلّا إلى أهله» ((1)).

ص: 441


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 24.

الاختلاف في المباشر للقتل

إختلفوا في تشخيص القاتل المباشر، ففي رواية الصدوق: سنان ((1))، وفي رواية (المناقب): خولّى بن يزيد الأصبحي ((2))،والمشهور: الشمر((3)).

ص: 442


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 163، مثير الأحزان لابن نما: 57، ذخائر العقبى للطبري: 146، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 194، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 117 الرقم 2852، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 393، الثقات لابن حبّان: 2 / 390، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 249، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، الجوهرة في النسب للبرّي: 44، المنتخَب من ذيل المذيّل للطبري: 25، تاريخ الطبري: 4 / 358، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 91، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 265، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 842، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، نظم درر السمطين للزرندي: 216، الإكمال في أسماء الرجال للتبريزي: 44، جواهر المطالب لابن الدمشقي: 2 / 270.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 367 الفصل 9، الإرشاد للمفيد: 2 / 114، روضة الواعظين للفتّال: 189، الفتوح لابن أعثم: 5 / 118، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 468، تاريخ الطبري: 4 / 347.
3- ([1]) أُنظُر المصادر الّتي ذكرت سنان (عليه اللعنة)، وأضف إلى ذلك: معارج الوصول للزرندي: 95، الإرشاد للمفيد: 2 / 112، الإصابة لابن حجر: 6 / 276، تاريخ مدينة دمشق: 23 / 190، صبح الأعشى: 13 / 234، روضة الواعظين للفتّال: 189، تاج المواليد للطبرسي: 31، عمدة الطالب لابن عنبة: 192، عمدة القاري للعيني: 16 / 240، تاريخ خليفة بن خياط: 179، جلاء العيون للمجلسي: 689، المنتخب للطريحي: 2 / 452، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83، وأكثر كتب الشيعة على ذلك، وهو المشهور عندهم، وهو الوارد في زيارة الناحية المقدّسة.

وقال بعضهم: الأظهر أنّ الثلاثة (لعنهم الله) اشتركوا في قتله ((1)).

وممّا يؤيّده كلام أبي مخنف: إنّ سنان بن أنس وخولّى بن يزيد الأصبحيّ والشمر بن ذي الجوشن (لعنهم الله) أقبلوا ومعهم رأس الحسين، ومضوا به إلى عمر بن سعد (لعنه الله) وهم يتحدّثون، فخولّى يقول: أنا ضربتُه بسهمٍ فأرديتُه عن جواده إلى الإرض، وسنان يقول: أنا ضربتُه بالسيف ففلقتُ هامته، والشمر يقول: أناأبنت رأسه عن بدنه ((2)).

فداءً لغربتك ومظلوميّتك ونحرك المنحور وكبدك الظمآن!

رُوي أنّ جبرئيل هبط على النبيّ وهو يقبّل الحسين -- وكان له من العمر أربع سنوات -- في نحره ويضمّه إلى صدره، فقال جبرئيل: أتحّبه يا رسول الله؟ فقال النبي: «وكيف لا أُحبّه وهو قرّة عيني؟!». وكان في عنق الحسين تعويذ قد أثّر في عنقه فصار خطّاً، وكان جبرئيل يطيل النظر إلى الأثر ويهزّ رأسه، فسأله النبيّ عن ذلك، فبكى جبرئيل بكاءً شديداً، وقال: يا رسول الله، سيُذبح ابنك هذا في كربلاء، ويمرّ الخنجر من فوق هذا الأثر، فيُغسّل

ص: 443


1- ([2]) جلاء العيون للمجلسي: 690، جلاء العيون لشبّر: 2 / 255 الفصل 14.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 72 المجلس 14.

جسمه ويرمّل بالدماء، وتحزن له قلوب أهل بيته. فبكى النبيّ بكاءً عالياً.

ورُوي عن الإمام جعفر الصادق أنّ القيامة إذا قامت يؤتى برجلٍ في المحشر، فتكون صحيفته خاليةً من الحسنات، فيؤمر به إلى جهنّم، فيسلك إليها يائساً، فيأتي النداء من ربّ الأرباب: «إلى أين يا عبدي؟»، فيقول: إلى جهنّم، لأنّي مستحقٌّ للعذاب. فيقول: «إنّ لك عندنا أمانة»، فيأمر، فيأتون بدُرّةٍ يضىء شعاعها عرصات القيامة، فيقول: يا ربّ، ما كان لي درّةٌ كهذه! فيأتي النداء: «إنّها قطرة الدمع الّتي ذرفتَها في مصيبة الحسين بن عليّ علیهما السلام، أخذناها منك وأودعناها في أصداف رحمتنا، تربو لتنفعك يوم حسرتك وحاجتك وافتقارك، ونحن نشتريها منك، فخُذها الى الأنبياء يقيّمونها». فيأخذها إلى آدم صفيّ الله ويقول له: يا أبانا، ثمّن لنا هذه الدرّة؟ فيقول: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى نوح النبي.فيأخذها، فيقول نوح: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى إبراهيم الخليل يثمّنها لك. فيقول إبراهيم: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى إسماعيل. فيأخذها إلى الأنبياء فيتداولونها يداً بيد، حتّى تصل إلى خاتم الأنبياء، فيقول: «خُذها إلى عليٍّ أمير المؤمنين علیه السلام»، فيقول أمير المؤمنين عليّ علیه السلام: «خُذها إلى ولدي الحسين علیه السلام »، فإذا وصل إلى الحسين تحنّن عليه، وأتى به إلى عرش الرحمان وقال: «إلهي، قيمتها أن تهب لي هذا العبد وأباه وأُمّه وتحشرهم معي»، فيأتي النداء: «إنّا وهبناه وأباه وأُمّه لك، وجعناهم جيرانك في

ص: 444

الجنّة» ((1)).

إحذروا معاشر الشيعة أن تستبعدوا ذلك وتغفلوا عن فضل الله على أهل بيت الرسالة، فتحرموا أنفسكم من الفيوضات الربّانيّة.

ورُوي عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتل الحسين علیه السلام ، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد» ((2)).

فإذا كان ذِكر الحسين ولعن قتله عند شرب الماء يجرّ كلّ هذاالثواب، فلماذا تستبعد أن يكون هذا الأجر والثواب من الربّ الرحيم الكريم لقطرة الدمع الجارية عند ذكر مصيبته؟

ألا تعلم أنّ البكاء على الإمام المظلوم يُدخِل السرور على خاتم الأنبياء؟ فلا شك أنّ الإمام الحسين أحبّ إلى النبيّ من عمّه حمزة، وكان يسعد بالبكاء على عمّه ويحزن أن لا يُبكى عليه، أما سمعتَ ما حدث في معركة أُحُد إذ رجع الأنصار والمهاجرون يبكون شهداءهم، فمرّ على دار حمزة،

ص: 445


1- ([1]) أُنظُر: تظلّم الزهراء للقزويني: 68، تذكرة الشهداء للكاشاني: 74.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 303 ح 16، الكافي للكليني: 6 / 391، كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34.

فقال: «أمّا حمزة فلا بواكي له هاهنا»، يعني أنّ حمزة غريبٌ في هذا البلد، فمن يشفق على غربته ويبكي له؟ فلمّا سمع الأنصار ذلك وعلموا أنّ حزن النبيّ على غربة حمزة، ذهبوا إلى نسائهم وأمروهنّ أن يخرجن إلى دار حمزة يبكينه، ثمّ يرجعن إلى بيوتهنّ فيبكين شهدائهنّ، فخرج النساء إلى دار حمزة، وبقين يندبنه ويبكين عليه حتّى منتصف الليل، فلمّا سمع النبيّ أصواتهنّ سأل عن ذلك، فقيل: نساء الأنصار يبكين عمّك حمزة، فقال النبي: «رضيَ الله عنهنّ وعن أولادهنّ» ((1)).

معاشرَ الشيعة! إذا كان هذا كلام النبيّ في مصيبة عمّه حمزة، فماذا سيكون كلامه في الباكين على مصيبة ابنه الحسين المظلوم، الّذي لا يُقاس بمظلوميّته مظلوميّة حمزة؟ «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ».

ص: 446


1- ([1]) أُنظُر: مسكّن الفؤاد: 107، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 89.

محتويات الكتاب

المجلس الأوّل: في بيان خروج سيّد الشهداء من المدينة المنوّرة ونزوله في مكّة المكرّمة 5

المجلس الثاني: في بيان إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبيان شهادته علیه السلام 31

المجلس الثالث: في بيان شهادة ولدَي مسلم بن عقيل علیهم السلام 69

المجلس الرابع: في بيان توجّه الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق. 81

المجلس الخامس: في بيان ما بعد النزول في كربلاء إلى يوم عاشوراء. 135

المجلس السادس: في بيان أحداث ليلة عاشوراء الأليمة إلى وقت وقوع القتال 169

[عدد أصحاب الإمام الحسين علیه السلام] 191

[تعبئة العسكرَين] 191

المجلس السابع: في ذكر مبارزات أصحاب الإمام وأهل بيته 203

ومنهم: القاسم بن الحسن علیه السلام. 203

إخوة الإمام الحسين علیهم السلام 279

ص: 447

المجلس الثامن: في ذكر شهادة العبّاس وعليّ الأكبر وعليّ الأصغر. 285

[شهادة عبد الله بن مسلم بن عقيل] 316

المجلس التاسع: في بيان جهاد سيّد الشهداء (روحي فداه) وقتل عبد الله ابن الحسين وعبد الله بن الحسن 331

كتاب فاطمة العليلة. 387

[إصابة فخذه بسهم] 391

[عودٌ إلى الحديث السابق] 429

[الاختلاف في المباشر للقتل] 442

ص: 448

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء

في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف:

محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

المجلس العاشر: في بيان ما وقع بعد الداهية العظمى والمصيبة الكبرى إلى أن خرج الأسرى من كربلاء

اشارة

رُوي أنّ الأُمّة جاءت إلى النبيّ وطلبت منه أن يحدّد لهم خدمةً يقدّمونها إليه مقابل ما تحمّله في أداء الرسالة إليهم، فأنزل الجليل قوله (تعالى): «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1)) ((2)).

ورُوي أنّه لمّا نزلَت هذه الآية على رسول الله صلی الله علیه و آله: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، قام رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: «أيّها الناس، إنّ الله (تبارك وتعالى) قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مُؤدّوه؟». قال: فلم يُجِبْه أحدٌ منهم،

ص: 5


1- سورة الشورى: 23.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 23 / 229 الباب 13.

فانصرف، فلمّا كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك، ثمّ قام فيهمفقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلّم أحد، فقال: «يا أيّها الناس، إنّه ليس مِن ذهبٍ ولا فضّةٍ ولا مطعمٍ ولا مشرب»، قالوا: فألقِه إذاً. قال: «إنّ الله (تبارك وتعالى) أنزل علَيّ: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»». فقالوا: أمّا هذه فنعم. فقال أبو عبد الله: «فوَاللهِ ما وفى بها إلّا سبعة نفر» ((1)).

إي والله، لم يفِ إلّا جماعةٌ قليلة، وأيّ ظلم وجَورٍ صدر من هذه الأُمّة الّتي لا تستحي في حقّ وصيّه عليّ المرتضى وابنته المظلومة فاطمة الزهراء، وفلذة كبده الحسن المجتبى، ونور عينه سيّد الشهداء علیهم السلام.

وعدَوا على الإمام المظلوم بعد أن ذبحوه فسلبوه. قال في (الملهوف): ثمّ أقبلوا على سلب الحسين، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي فلبسه، فصار أبرص وامتعط شعره.

ورُوي أنّه وُجد في قميصه مئةً وبضع عشرة ما بين رميةٍ وطعنة سهم وضربة ((2)).

وأخذ سراويله بحر بن كعب التَّيميّ (لعنه الله تعالى)، فرُوي أنّه صار زَمِناً مُقعداً من رجليه.

وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرميّ، وقيل: جابر بن

ص: 6


1- قرب الإسناد للحِميري: 78 ح 254 و255، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 321.
2- اللهوف لابن طاووس: 129.

يزيد الأودي (لعنهما الله)، فاعتمّ بها فصار معتوهاً.

وأخذ نعلَيه الأسود بن خالد (لعنه الله).وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبيّ، وقطع إصبعه علیه السلام مع الخاتَم ((1)).

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه! مِن فعل هذا اللعين الأبتر، فلمّا أخذه المختار الوفيّ فأمر فقُطّعَت يديه بالساطور قطعةً قطعةً إلى عاتقه، ودقّوا رجليه بالفأس (الطبر) حتّى هلك، وأخذوا ابنه فقطّعوا يديه ورجليه، وتركوه يتشحّط بدمه حتّى التحق بجهنّم.

وأخذوا أموال بجدل النحس، ودُفعَت إلى بيت المال، وأمر أن تهدم داره ((2)).

وفي (اللهوف): وأخذ قطيفةً له علیه السلام كانت من خزّ قيس بن الأشعث.

وأخذ درعه البتراء عمرُ بن سعد، فلما قُتِل عمر وهبها المختار لأبي عمرة قاتله.

وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأوديّ، وقيل: رجلٌ من بني تميم يُقال له: أسود بن حنظلة، وفي رواية ابن أبي سعد أنّه أخذ سيفه الفلافس النهشلي، وهذا السيف المنهوب المشهور ليس بذي الفقار، فإنّ ذلك كان

ص: 7


1- اللهوف لابن طاووس: 129.
2- أُنظُر: سرور المؤمنين: 165. في (اللهوف: 129): وهذا أخذه المختار، فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك.

مذخوراً ومصوناً مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة ((1)).

وحُكي أنّه جيء بمالك بن هشيم وحمل بن مالك إلى المختار، فقال لهما: أين الحسين بن عليّ يا أعداء الله؟! قالا: لقد خرجنا إلىحربه مكرَهين! فقال المختار: لعنكم الله! متى أكرهكما ابن الأمة الفاجرة ابن زياد على الخروج لقتال الحسين علیه السلام إنّكما خرجتما طلباً للذهب والفضّة ولهو الدنيا، فأخذتما المال وبغيتما المتعة وتحقيق الآمال، فنلتما ما أردتما، فلمَ لم ترحماه وتسقيانه جرعةً من الماء؟!

ثمّ التفت المختار إلى مالك فقال: يا ابن الفاعلة، أوَلستَ أنت الّذي سلبتَ قلنسوة الإمام؟ فأنكر ذلك، فقال: بلى، أنت الّذي سلبتها.

ثمّ قال: يا خليفة! فوثب عبد الله بن كامل ووقف بين يدَي المختار، فقال له المختار: يا خليفة، إنّ بينك وبين الله ذنوباً كثيرة! فقال ابن كامل: فما الذي تأمرني به؟! فقال المختار: أكرمتك بمالك، وجعلت حمل بن مالك من نصيب هشيم! فانحنيا تعظيماً له، وأخذا اللعينين وقتلاهما شرّ قتلة، والحمد لله ((2)).

ولمّا جاؤوا بقرار بن ماسك إلى المختار قال: لعنك الله، لمَ ضربتَ الإمام الحسين بالسيف وسلبت درعه؟ فسكت اللعين، فقال المختار: يا خليفة،

ص: 8


1- اللهوف لابن طاووس: 130.
2- أُنظُر: سرور المؤمنين: 162.

أهديتُ ثواب هذا لك، فلا تقصِّر في خدمته! فأخذه عبد الله فشقّ خاصرته أوّلاً، ثمّ أمر الغلمان فقطعوا يديه ورجليه، وألحقه بجهنّم.

ونُقل أنّ المختار سأل أبا خليق عن أوّل مَن سلب ثياب الإمام علیه

السلام ، فقال أبو خليق: زياد بن عبدوس الشاكريّ. وكان زعيم الشاكريّة قد قبض على زياد بن عبدوس وجاء به إلى الأمير،فسأل الأمير أبا خليق: مَن هذا؟ قال: هذا زياد بن عبدوس. فأمر المختار فقُطعت يداه بالساطور، وكان في يد هشيم سيفاً يريد اختباره، فضربه على ظهره ضربةً قطعَته نصيفين كما يقطع القثّاء (الخيار) الرطب.

ولمّا جاؤوا بحنظلة بن الأسود إلى المختار قال: لعنك الله يا حنظلة، ما فعلتَ بسيف الإمام الحسين؟ ولمَ قتلتَه؟ ثمّ أمر فسمّر بدنه بالمسامير، وقيل: قطّعوه إرباً إرباً.

وجاؤوا بابن يسار إلى المختار، فقال: يا ابن يسار، ما فعلت بجوشن (مغفر) الإمام علیه السلام ثمّ أمر فصُلب وجُلد ألف جلدة، ثمّ قطعت يداه وأُحرق حيّاً ((1)).

أجل، في (التبر المذاب): وسلبوه جميع ما كان عليه، حتّى سراويله ((2)

ص: 9


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 239 و240 و215.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب: 162، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 228.

وتركوه عرياناً مكبوباً على وجهه مرمَّلاً بالدماء.

ولكن بمقتضى رواية الجمّال الّتي سنذكرها فيما يلي، يلزم أن يكون بدن الإمام عليه سروالاً، ويمكن أن يكون قد كساه الله القادر الممتحِن سروالاً ليُظهر الكامن من الجمّال الخبيث صاحب هذا العمل الشنيع ((1)).ولا تتوهّم أنّ بقاء بدن الإمام المظلوم عرياناً يلزم منه كشف عورتي!!! سيّد الأنام، والطبع ينفر من سماع هذا الكلام، لما يُستشمّ منه من تعريضٍ بمنصب الإمام.

والجواب: إنّ بقاء بدن الإمام عرياناً لبيان كمال شقاوة أُولئك اللئام، وإبداء غاية العداوة والحقد والضغينة على أهل البيت الكرام، الّذين شهد القرآن بطهارتهم وعظمتهم في آية التطهير.

وبقاء بدن الإمام بتلك الصورة لا يلزم منه كشف العورتين؛ إذ يُحتمَل أن يكون الإمام مكبوباً على قفاه بعد الذبح! من دون أن تبدو العورة! للناظرين، وذلك لأنّه كان مغطّىً بالدم والتراب، سيّما إذا كنت لا زلت تتذكّر أنّنا قلنا أنّ بدنه المنوّر كان مقطّعاً إرباً، وفيه أربعة آلاف جراحة من السهام ومئة وثمانين طعنة رمح وضربة سيف، وسنذكر عن قريبٍ أنّ عشرةً

ص: 10


1- سلب سراويل الإمام (صلوات الله عليه) لا يلزم أن يكون قد ترك ريحانة النبيّ عرياناً كما يصوّره المؤلف رحمه الله فإنّ الإمام كان قد تسرول بأكثر من سروال كما هو واضح من الأخبار.

جالوا بأفراسهم على البدن المقدّس وسحقوه بسنابكها، فلماذا يُستبعَد إذن أن تكون الدماء والرمال وما أثارتها الخيل بحوافرها من أشواك قد التصقت بالبدن الشريف وغطّته بحيث لا تنكشف العورة؟ سيّما وأنّنا رأينا ولاحظنا بالتجربة أنّ الدم إذا برد تخثّر وصار طبقةً متراكمةً عازلة.

نعتذر عن تحرير مثل هذه الكلمات، وإنّما أقدمنا على ذلك لأنّنا قدّرنا أنّ أقلام المحبّين لا تجرؤ على التعرّض لمثل هذه الأُمور، ووجه عذري أنّ هذا ما جرى، وقد وقع بالفعل، فاجترأتُ على ذلك في مقام دفع الشبهات وبيان مصيبة المظلوم الّتي هي أعظم المصائب.

تأمّل -- أيّها الشيعي! -- بدن إمام الكائنات، قطيع الرأس، مكبوبٌ على وجهه، سحقَته الخيل بسنابكها، ثمّ تصوّر أُخته الحوراء زينبتبحث عن بدن روح العالم بين القتلى، والإنسان إنّما يُعرَف برأسه ولباسه، وقد سُلب البدن المقدّس من كليهما، لذا بقيَت الحوراء زينب مدهوشةً متحيّرةً بين القتلى، حتّى عرفَته من خلال شدّة أُنسها وتعلّقها به، أو من خلال كثرة الجراحات وتميّزه عن باقي الأبدان، إذ كان مكبوباً على وجهه!

فماذا جرى لها لمّا رأت عزيز أُمّها فاطمة بتلك الحالة؟ لأيّ واحدةٍ من تلك المصائب تضجّ وتبكي، وتنوح وتعول، وتشقّ جيبها وتصكّ جبينها، وتلطم صدرها وتخمش وجهها؟! لرأسه المقطوع من القفا، أم لبدنه العريان، أم لمفاصله المهشّمة بحوافر الخيل، أم للأربعة آلاف ومئة وثمانين جراحة بالسهام والسيوف والرماح، أم لقتله بيد الأراذل والأنذال والسفلة واللئام،

ص: 11

أم لقطع بجدل بن سليم خنصره ليأخذ الخاتم، أم لقطع الجمّال كلتا يديه، أم لرفع رأسه المقدّس على الرمح وهو أوّل رأسٍ رُفع على الرمح في الإسلام! أم تخمش صدرها لأنّ أخاها قُتل عطشاناً جائعاً؟ أم تصكّ رأسها لأنّ الأجانب قد أحاطوا بتلك المخدرة؟ أم على العليل إمام العابدين الّذي تراه ينظر إلى القتلى فيجود بنفسه، فتأخذه وتحتضنه وتواسيه وتسلّيه؟ أم تُجري دموعها على بدن عليّ الأكبر المقطّع آراباً، أم تشقّ جيبها على كفَّي أبي الفضل القطيعان؟ أم تعول على نحر عليّ الأصغر المنحور؟ أم ترتعد فرائصها وترتجف أعضاؤها لسلب العلويّات ونهبهنّ ((1)) وهنّ بين الأجانب والأعداء؟ أم تخفي لوعتها وتتجرّع غصّتها لئلّا يفزع الأطفالالمحيطين بها وهم في تلك الغصص المتتالية والأهوال اللامتناهية؟ أم تخنق عبرتها وتمسح دمعتها لئلّا يفزع من معها وتزداد لوعتهم واضطرابهم؟ أم تكبت فزعها ولوعتها لتنشغل بجمع الأطفال والبنات المتناثرة في الصحراء فراراً وخوفاً من الأعداء؟

آه، وا ويلاه!

افسانه اي كه كس نتواند شنيدنش

يا رب بر اهل بيت چه آمد ز ديدنش

ص: 12


1- تعبير المؤلّف فيه قساوةٌ ربّما تُستساغ بالتركيب الفارسي (أقول: ربّما!)، ولهذا أعرضنا عن ترجمته بالحرف واستبدلناه بتعبير السلب والنهب.

وقد ذكرنا فيما سبق قصّة أُخت عمرو بن ودّ حينما رأت جثّة أخيها، فلو تذكّرت ما سردناه لَما تمالكتَ دمعك ولا امتنعت عن تمزيق ثياب صبرك.

أجل، بعد أن قُتل المظلوم وسُلب، قال السيّد ابن طاووس في (الملهوف): وجاءت جاريةٌ من ناحية خيَم الحسين علیه السلام ، فقال لها رجل: يا أَمة الله، إنّ سيّدكِ قُتل! قالت الجارية: فأسرعتُ إلى سيّدتي وأنا أصيح، فقمن في وجهي وصِحْن ((1)).

وفي (المنتخب) أنّه لمّا قُتل الحسين علیه السلام جعل جواده يصهل ويحمحم، ويتخطّى القتلى في المعركة واحداً بعد واحد، فنظر إليه عمر بن سعد، فصاح بالرجال: خذوه وآتوني به. وكان من جياد خيل رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: فتراكضَت الفرسان إليه، فجعل يرفس برجليه ويمانع عن نفسه ويكدم بفمه، حتّى قتل جماعةً من الناس ونكّس فرساناً عن خيولهم، ولم يقدروا عليه ((2)).وقيل: قتل أربعين رجلاً ((3)).

فصاح ابن سعد: ويلكم! تباعدوا عنه ودعوه لننظر ما يصنع. فتباعدوا عنه، فلمّا أمن الطلب، جعل يتخطّى القتلى ويطلب الحسين علیه السلام ، حتّى إذا

ص: 13


1- اللهوف لابن طاووس: 131.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45، جلاء العيون: 690.

وصل إليه جعل يشمّ رائحته ويقبّله بفمه ويمرّغ ناصيته عليه، وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثكلى، حتّى أُعجب كلّ مَن حضر ((1)).

قال أبو مخنف: فنفر فرسه، وهو يحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها ((2)). فتعجّب الناس من حركاته أشدّ العجب.

وقد أخبر جبرئيل آدم من قبل بما سيقوله هذا الفرس في همهمته ((3)).

قال عبد الله بن قيس، قال: كنتُ مع عليٍّ علیه السلام في صفّين، وقد أخذ أبو الأعور السلَميّ الماء على المسلمين، ولم يقدر أحدٌ عليه، فبعث إليه الحسينَ علیه السلام فكشفه عن الماء، وانهزم أبو الأعور، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فبكى، وسئل: ممّ بكاؤك يا أمير المؤمنين؟ وهذا أوّل الفتح، وهذا ابنك الحسين! قال: «ذكرتُ أنّه سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء، حتّى ينفر فرسه، ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها، وهم يقرؤونالقرآن الّذي جاء به إليهم» ((4)).

ص: 14


1- المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 266، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 96.
3- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 308 (الخطاب لموسى علیه السلام ).
4- الإمام الحسين وأصحابه للقزويني: 1 / 346، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 94، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 364.

قال أبو مخنف: فلمّا أمن الجواد من الطلب أتى إلى جثّة الحسين علیه السلام، وجعل يمرّغ ناصيته بدمه، ويبكي بكاء الثكلى، وثار يطلب الخيمة، فلمّا سمعَت زينب بنت عليّ علیه السلام صهيله أقبلَت على سكينة وقالت لها: قد جاء أبوكِ بالماء. فخرجت سكينة فرحةً بذكر أبيها، فرأت الجواد عارياً، والسرج خالياً من راكبه وينعى صاحبه، فهتكت خمارها، ونادت: وا أبتاه، وا حسيناه، وا قتيلاه، وا محمّداه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا غربتاه، وا بُعد سفراه، وا طول كربتاه! هذا الحسين بالعرى، مسلوب العمامة والرداء، قد أُخذ منه الخاتم والحذا، بأبي مَن رأسه بأرضٍ وجثّته بأُخرى، بأبي مَن رأسه إلى الشام يُهدى، بأبي مَن أصبحَت حرمه مهتوكةً بين الأعداء. ثمّ وضعَت يدها على ناصية الفرس ((1)) وأنشأت شعراً.

فلمّا سمعَت السيّدة زينب المظلومة خرجَت من الخيمة وصرخت وبكت بكاءً شديداً، وأنشأت شعراً توجّع لها قلوب ملائكة السماء ((2)).

ورُوي أنّها قالت: يا محمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينٌ مرمَّلٌ بالدماء، مقطَّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزةسيّد الشهداء، هذا حسينٌ

ص: 15


1- في الأسرار: (وضعَت يدها على رأسها).
2- أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 94، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 126 المجلس 16.

بالعراء، تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد الأدعياء (البغايا)، وا حزناه، وا كرباه! اليوم مات جدّي رسول الله، يا أصحاب محمّداه! هذا ذرّيّة المصطفى يُساقون سوق السبايا ((1)).

قال أبو مخنف: فلمّا سمعنَ باقي الحريم خرجن، فنظرن إلى الفرس عارياً، والسرج خالياً فجعلن يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، وينادين: وا محمّداه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا حمزتاه، وا جعفراه، وا عبّاساه، وا أخاه، وا سيّداه! اليوم فُقد محمّدٌ المصطفى، اليوم فُقد عليٌّ المرتضى، اليوم فُقدت فاطمة الزهراء، اليوم فُقدت خديجة الكبرى، اليوم فُقد الحسن والحسين علیهما السلام ((2)).

و في (البحار): وضعَت أُمّ كلثوم يدها على رأسها، ونادت: وا محمّداه، وا جدّاه، وا نبيّاه، وا أبا القاسماه، وا عليّاه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا حسناه! هذا حسينٌ بالعراء، صريعٌ بكربلا، مجزوز الرأس من القفاء، مسلوب العمامة والرداء. ثمّ غُشي عليها ((3)).

ص: 16


1- مثير الأحزان لابن نما: 41، نفَس المهموم للقمّي: 376.
2- أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 149، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 127 المجلس 16.
3- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 127 المجلس 16 -- عن: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 60، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 304.

ثمّ إنّ الفرس اشتدّ به الحزن على الإمام المظلوم، فجعل يصهل ويضرب رأسه بالأرض عند الخيمة، حتّى انقطع نفَسُه وحلّقتروحه، كما في (المناقب) ((1)).

قال عبد الله بن قيس: فنظرت إلى الجواد وقد رجع من الخيمة، وقصد الفرات ورمى بنفسه فيه. وذكر أنه يظهر عند صاحب الزمان عجل الله تعالی شریف ((2)).

وفي (البحار): فأقبل أعداء الله (لعنهم الله) حتّى أحدقوا بالخيمة، ومعهم شمر، فقال: ادخلوا فاسلبوا بزّتهنّ. فدخل القوم (لعنهم الله) فأخذوا ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرطٍ كان في أُذُن أُمّ كلثوم أُخت الحسين علیه السلام فأخذوه وخرموا أُذنها، حتّى كانت المرأة لَتنازع ثوبها على ظهرها حتّى تُغلَب عليه ((3)).. ثمّ مال الناس على الورس والحُليّ والحُلل والإبل فانتهبوها ((4)).

نُقل أنّ من جملة الأشخاص الّذين نهبوا الحُليّ والحلل: الفرار بن ماسك، وعمرو بن خالد، وعبد الله البجَلي، وعبد الله بن قيس الخولاني، وقد جيء بهم إلى المختار، فأمر أن تُضرب طبول الفرح والبشارة، ثمّ قال:

ص: 17


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 70 / 45 عن مناقب آل أبي طالب.
2- المقتل لأبي مخنف (المشهور): 96.
3- مقتل الحسين للخوارزمي: 37 / 2، بحار الأنوار للمجلسي: 60 / 45.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 60 / 45.

لعنكم الله يا قتلَة الصالحين، نهبتم الحُليّ والحُلل من معسكر الحسين علیه السلام ، وقسّمتموها بينكم في يومٍ كان أنحس الأيام! ثمّ أمر بهم فأُخذوا إلى السوق وأُحرقوا ((1)).

وقيل: أمر فضُربت أعناقهم، والحمد لله.ونُقل أنّ المختار سأل أبا خليق عمّن نهب خيام الإمام ومَن أضرم النار فيها، فقال: كان في مقدمهم الشمر ويزيد بن الحارث ومهاجر بن أوس وآخرون لا أذكر أسماءهم، ثمّ أمر شمر فأُركبَت الحرم على الإبل، وكان معه ألف رجل.

قال أبو مخنف: فلمّا ارتفع ضجيج حرم الحسين علیه السلام وكثر بكاؤهم، صاح عمر بن سعد (لعنه الله): اكبسوا عليهم الخيم -- يا ويلكم! -- واضرموها بالنار. وقال رجل: لا حاجة لنا في سلبهم، احرقوا الخيم ومَن فيها بالنار. فقال مَن كان يهوى الرسول صلی الله علیه وآله: يا ويلكم، ما كفاكم ما فعلتم بالحسين وبأهل بيته وأنصاره حتّى تحرقوا النساء والأطفال من آل رسول الله صلی الله علیه وآله لقد زعمتم على أن لا يخسف الله بنا الأرض؟ ثمّ قال عمر بن سعد: انهبوا الخيم.

قالت زينب بنت عليّ بن أبي طالب: كنتُ في ذلك الوقت واقفةً في جانب الخيمة، إذ دخل علَيّ رجلٌ أزرق العين، وهو خولي بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، فأخذ جميع ما كان فيها، ونظر إلى زين العابدين وهو

ص: 18


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 163.

مطروحٌ على نطعٍ من الأديم، وذلك أنّه كان مريضاً، فجذب النطع من تحته ورمى به الأرض، والتفت إليّ فأخذ قناعي من رأسي، ونظر إلى قرطين كانا في أُذني فجعل يعالجهما حتّى نزعهما بعد خرم، وهو مع ذلك يبكي.

فقلت له: لعنك الله، تسلبني وأنت تبكي؟! قال: نعم، أبكي لما أراه يحلّ بكم. فقلت له: قطع الله يديك ورجليك، وأحرقك الله بنار الدنيا قبل الآخرة، لا تسلبني ولا تبكِ. قال: أخاف أن يأخذها غيري.

قال أبو مخنف: والله ما مضت إلّا أيّام قلائل وظهر المختار بنأبي عُبيدة الثقفي بأرض الكوفة يطالب بدم الحسين علیه السلام والأخذ بثأره، فوقع بخولي بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، وهو ذلك الرجل.

قال أبو مخنف: وأقبلوا على عليّ بن الحسين علیه السلام ليقتلوه، فقال بعضهم لبعض: يا قوم، هذا صبيٌّ صغير السنّ لم يبلغ الحلم، فلا يحلّ لكم قتله. وجعل بعضهم يمنع بعضاً عن قتله.

قال: فلمّا أُوقف بين يديه قال: ما صنعتَ بيوم كربلاء؟ قال: ما صنعتُ شيئاً غير أنّي أخذتُ من تحت زين العابدين نطعاً كان نائماً عليه، وسلبت زينب قناعها، وأخذت القرطين كانا في أُذنيها. فقال له: يا عدوّ الله، وأيّ شيءٍ يكون أعظم من هذا؟ وأيّ شيءٍ سمعتها تقول؟ قال: قالت: قطع الله يديك ورجليك، وأحرقك بنار الدنيا قبل نار الآخرة. فقال المختار:

ص: 19

واللهِ لَأُجيبنّ دعوتها.. ثمّ أمر بقطع يديه ورجليه وإحراقه بالنار ((1)).

وفي (المنتخب): فإنّه أقبل إليه الشمر مع جماعةٍ وأرادوا قتله، فقيل له: صبيٌّ عليلٌ لا يحلّ قتله. ثمّ أقبل عليهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فضجّ النساء في وجهه بالبكاء والنحيب حتّى ذهل اللعين وارتعدت فرائصه، وقال لهم: لا تقربوا هذا الصبيّ. ووكّل بعليّ بن الحسين وعياله مَن حضر، وقال لهم: احفظوا واحذروا أن يخرج منهم أحد ((2)).وعن (أخبار الدول): وهَمّ شمر بقتل عليّ بن الحسين علیه السلام وهو مريض، فخرجت إليه زينب بنت عليّ بن أبي طالب فوقعت عليه، وقالت: واللهِ لا يُقتَل حتّى أُقتَل. فكفّ عنه ((3)).

عن عبد الله، عن أُمّه فاطمة بنت الحسين علیه السلام قالت: دخلَت الغانمة [العامّة] علينا الفسطاط، وأنا جاريةٌ صغيرةٌ وفي رجلي خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدوّ الله؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله. فقلت: لا

ص: 20


1- أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 129 المجلس 16، وانظر: وسيلة النجاة: 187، مقتل الحسين ومصرع أهل بيته: 106.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.
3- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 131 المجلس 16، أخبار الدول: 108، نفَس المهموم: 379، نور الأبصار للشبلنجي: 378.

تسلبني. قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه.

قالت: وانتهبوا ما في الأبنية، حتّى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا ((1)).

وفي رواية (المناقب) ومحمّد بن أبي طالب: فأخذوا ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرطٍ كان في أُذن أُمّ كلثوم أُخت الحسين علیه السلام فأخذوه وخرموا أُذنها، حتّى كانت المرأة لَتنازَع ثوبها على ظهرها حتّى تُغلَب عليه ((2)).

وفي رواية الأخنس بن زيد اللعين أنّه خرم أُذُن صفيّة بنت الحسين وسلب قرطها، وجرّ النطع من تحت سيّد العابدين وكبّه على وجهه ((3)).وفي (المنتخب) أنّ فاطمة الصغرى قالت: كنتُ واقفةً بباب الخيمة وأنا أنظر أبي وأصحابه مجرّدين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أُفكّر ما يصدر علينا بعد أبي من بني أُميّة، أيقتلوننا أو يأسروننا؟ وإذا برجلٍ على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، وهنّ يلذن بعضهنّ

ص: 21


1- الأمالي للصدوق: 164 المجلس 31 ح 2.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 60، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 324.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 321، قال الخبيث -- في خبرٍ طويل -- : وجررتُ نطعاً من تحت عليّ بن الحسين، وهو عليل، حتّى كببتُه على وجهه، وخرمت أُذُنَي صفيّة بنت الحسين لقرطين كانا في أُذنيها..

في بعض، وقد أخذ ما عليهنّ من أخمرةٍ وأسورة، وهنّ يصحن: وا جدّاه، وا أبتاه، وا عليّاه، وا قلّة ناصراه، وا حُسيناه! أما من مُجيرٍ يجيرنا؟ أما من ذائدٍ يذود عنّا؟ قالت: فطار فؤادي وارتعدت فرائصي، وجعلت أجيل طرفي يميناً وشمالاً على عمّتي أُمّ كلثوم؛ خشيةً منه أن يأتيني، فبينما أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني، فقلت: ما لي إلّا إلى البَرّ. ففررتُ منهزمةً وأنا أظنّ أنّي اسلم منه، وإذا به قد تبعني، فذهلت خشيةً منه، وإذا بكعب الرمح بين كتفي، فسقطتُ لوجهي، فخرم أُذني وأخذ قرطي وأخذ مقنعتي من رأسي، وترك الدماء تسيل على خدّي، ورأسي تصهره الشمس، وولّى راجعاً إلى الخيم وأنا مغشيٌّ علَيّ، وإذا بعمّتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي، ما أعلم ما صدر على البنات وأخيكِ العليل. فقمت وقلت: يا عمّتاه، هل مِن خرقةٍ أستر بها رأسي عن أعين النظّارة؟ فقالت: يا بنتاه، وعمّتك مثلك. وإذا برأسها مكشوف، ومتنها قد اسودّ من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلّا وهي قد نُهبَت وما فيها، وأخي عليّ بن الحسين مكبوبٌ على وجهه، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكيعلينا ((1)).

ونُقل أنّ المختار أمر فأُحضر هشيم بن الأسود بن مالك الكنديّ، فقال له: يا لعين، لمَ ضربتَ زينب على عاتقها بالسوط؟! فأنكر اللعين، فأمر به

ص: 22


1- المنتخب للطريحي: 1 / 184 المجلس 9.

فجُرّد من ثيابه وصُلب، وضُرب ألف سوط، فطلب الماء فلم يعطوه، ثمّ أمر به فضُرب بمسمارٍ في عاتقه حتّى خرج من صدره، وألحقه بجهنّم.

ثمّ جيء ب- (ثبل)، فقال له المختار: إنّي أُحبّك حبّاً أعرفه أنا! فقال له: إن كنت صادقاً فأطلِقْني. فقال المختار: أُحبّك حبّاً يدعوني لأن أقرض لحمك بالمقاريض وأنا أنظر إليك، جزاءً على فعلتك إذ ضربتَ أُمّ كلثوم بالسياط وسلبت مقنعتها من رأسها. فأُلقي فوراً على الأرض، وفعلوا ما أمر المختار به.

ثمّ جيء بقيس بن ظفر وظفر بن ملجم، فقال لقيس: أنت الّذي ضربت أَمَةً للحسين على يدها بالسوط فكسرتها؟ فأنكر اللعين وقال: لا والله، لا علم لي بما تقول. فقال المختار: بلى والله، إنّك لَعالمٌ بما أقول.

ثمّ التفت إلى ظفر وقال: أنت الّذي كنت تزعم أنّك متشيّع، فلمّا خرجتَ إلى كربلاء كنت تنادي: اقتلوا هذا الخارجي؟! فأقسم ظفر أيماناً مغلّظةً أنّه خرج إلى كربلاء ولكنّه لم يقل شيئاً ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح، فقال له المختار: إذن إنّك تقرّ بالارتداد والكفر.

ثمّ أمر فصُلب، وضُرب بالسياط حتّى هلك والتحق بجهنّم، وأمربالثاني فضُربت عنقه.

ثمّ جيء بأسمع، فقال له المختار: يا ابن الزانية، أنت الّذي سلبتَ الملحفة من رأس زينب؟! فأنكر اللعين، فأمر المختار أن يُسلَخ جلده وهو حيّ.

ص: 23

ثمّ جيء بزعيم محلّة بني زهرة، فأمر أن تُضرب طبول (نقارة) الفرح، ثمّ قال له: يا ابن الفاعلة، أنت الّذي سلبت من أُمّ كلثوم قرطها وأنت تبكي وتقول: إن لم أسلبها سلبها غيري؟ فقال: لا والله. فقال الأمير: بلى والله، أنت الّذي فعلت ذلك. ثمّ أمر فقُطّعت أصابع يديه، وثُقبت أعقابه، وصُلب منها منكوسها، وضُرب بالعصيّ حتّى تناثر لحمه، فطلب الماء فلم يعطوه، ثمّ قتلوه.

وجيء بالحارث بن نوفل إلى المختار، فقال له: ألستَ أنت الّذي كنت تضرب زينباً بالسوط؟ فأمر فصُلب وضُرب ألف سوط، فجعل يستغيث بالمختار، فقال المختار: لا رحمني الله إن رحمتكم. فأمر فضُرب ألف سوطٍ أُخرى، وهو لا زال حيّاً، فطلب ماءً، فأمر أن يُصَبّ في حلقه نفطاً مغليّاً، ثمّ أجّجوا ناراً وأحرقوه بها.

ثمّ جيء بيزيد بن مطرع، فقال له المختار: يا ابن الزنا، أنت الّذي كنت تضرب النساء بكعب الرمح وتخرجهنّ من الخيمة؟! فقال: يا أمير، أنت تكذب علَيّ! فقال المختار: سترى صدقي من كذبي. فأمر به فقُطع لسانه، ثمّ قُطّع إرباً إرباً.

ثمّ جيء ببكر بن عامر، فقال له الأمير: يا ملعون، أنت الّذي كنت تركّض النساء على الرمضاء حافيات، وقد اضطررتهنّ إلى خلع أحذيتهنّ ونعالهن؟! فأنكر اللعين ذلك، فأمر به فطُرح على الأرض، ودُقّ بالعصيّ الضخمة من رأسه حتّى قدميه حتّى هلك.

ص: 24

ثمّ جيء بأبي جرجم، فقال المختار: لمَ أحرقتَ الخيام وضربت أهل البيت بالسياط، وقتلت محمّد بن مسلم بن عقيل؟ فأنكر اللعين، فأمر فأُحميَت له كمّاشة، فأقرّ واعتذر، وطلب جرعةً من الماء وقال: اسقني لعلّي أبقى حيّاً ولا أموت من العطش. فأمر فقطعت يداه، وصُبّ في حلقه رطلاً من الرصاص الذائب.

ثمّ جيء بأسد بن مالك إلى المختار، فقال: أنت الّذي سلبت خمار سكينة؟! فقال: لا أيّها الأمير. فقال: بلى والله، أنت الّذي فعلت ذلك. ثمّ أمر فقُطّت أنامله، وعُلّق على كلّابين وضُرب بالسياط حتّى هلك.

ثمّ أُتي بعمران إلى المختار، فقال: أنت الّذي كنت تضرب أهل البيت بالسياط، وأنت الّذي أخذت القرط من أُذُن أُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى؟ هل كنت من محارم آل الرسول حتّى تفعل ذلك؟ ثمّ أمر فسمّلَت عيناه، وكُسرت يداه بالفأس (الطبر)، ثمّ صبّوا عليه النفط وأحرقوه.

وجيء بابن نوفل إلى المختار، وكان هذا اللعين قد ضرب فضّة جارية فاطمة الزهراء بالسوط، فقال الأمير: يا ابن الزنا، لمَ ضربتَ فضّة وكسرت يدها؟ ثم أمر فعُلّق على كلّابين وضُرب ألف سوط، وقُطعت يداه بالفاس (الساطور)، فطلب ماءً فصبّوا في فمه رصاصاً ذائباً، فهلك وعجّل به إلى جهنّم وبئس المصير ((1)).

ص: 25


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 192.

وجيء بعبد الله بن معاذ إلى المختار، وكان اللعين قد سلب فاطمة قرطها، ففرح الأمير وقال له: أيّها اللعين، كنتَ تسلب بنت خير البشر قرطها وتبكي وتقول: أخشى أن لا أسلبها ويسلبها غيري! لَأفعلنّ اليوم بك فعلاً تبكي بكاءً يضحك الدهر منك. ثمّ أمرفثقبوا كعبيه، وعُلّق على كلّابين، ثمّ قُطّعت أنامله، وضُرب حتّى تناثر لحم بدنه، فطعش فصبّوا في حلقه رصاصاً ذائباً فهلك.

روى الشيخ المفيد في (الإرشاد)، عن حميد بن مسلم قال: فوَاللهِ لقد كنتُ أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها، حتّى تُغلَب عليه فيذهب به منها، ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين علیه السلام وهو منبسطٌ على فراش، وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة، فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟ فقلت: سبحان الله، أيُقتَل الصبيان؟ إنّما هو صبيّ، وإنّه لما به. فلم أزل حتّى رددتُهم عنه.

وجاء عمر بن سعد، فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرّضوا لهذا الغلام المريض. وسألَته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتسترن به، فقال: مَن أخذ من متاعهنّ شيئاً فلْيردّه عليهنّ. فوَاللهِ ما ردّ أحدٌ منهم شيئاً، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء وعليّ بن الحسين جماعةً ممّن كانوا معه، وقال: احفظوهم

ص: 26

لئلّا يخرج منهم أحد، ولا تسيئنّ إليهم. ثمّ عاد إلى مضربه ((1)).

وروى السيّد ابن طاووس، عن حميد بن مسلم قال: رأيتُ امرأةً من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين علیه السلام وفسطاطهنّ وهم يسلبونهن، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل، أتُسلَب بنات رسول الله صلی الله علیهوآله لا حكم إلّا لله، يا لثارات رسول الله صلی الله علیه وآله. فأخذها زوجها وردّها إلى رحله ((2)).

أجل، لم تحرّك رجالهم الغيرة، وإذا تحرّكت غيرة النساء منعهنّ أشباه الرجال، وتغافلوا عن الفضل والإحسان الّذي أسداه جدّ آل النبيّ وأبوهم وأُمّهم وإخوتهم للغرباء والأيتام والأسراء، ألم تكن أُمّهم فاطمة هي الّتي أعطت خبز الشعير الّذي خبزته من كدّ يدها يوم غزلت الصوف لليهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير، ثم دفعته للمسكين في اليوم الأوّل، ولليتيم في اليوم الثاني، وللأسير في اليوم الثالث، وافطرت هي وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفضّة على الماء القراح؟! ((3))

ص: 27


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 112.
2- اللهوف لابن طاووس: 132.
3- أُنظُر: الأمالي للصدوق: 257، بحار الأنوار للمجلسي: 35 / 237 الباب 6 نزول «هَلْ أَتى».

وكان أهل بيت هؤلاء الأطهار -- يوم صرخت من أجلهم هذه المرأة -- مساكين أيتام أسراء، وزيادة على ذلك إذ كانوا غرباء عطاشى جياع مفجوعين بين الأعداء الأنذال مصّاصي الدماء، محاصرين مسلوبين منهوبين، ينظرون إلى رأس أبيهم على الرمح، ويشاهدون بدن أبيهم وأبدان سائر أقربائهم وأنصارهم مطرّحين على الرمضاء مجزّرين كالأضاحي، وقد تسلّط عليهم أراذل الخلق وشرارهم، وهم أشراف العالم ونجباء الخلق، وقد أوصى بهم النبيّ المختار وجعل أجر رسالته المودّة في ذوي قرباه، فهل يجوز لهم أن يعاملوهم بكلّ هذا الظلم والقسوة والغلظة والجفاء؟! وإذا انبرت امرأةٌ للدفاع فأطلقت صرخةً في الذبّ عنهم أن تُمنَع؟!

فمَن مبلغٌ بنت النبيّ بناتها***عرايا!!! كأسر الروم منكشفاتِ

أفاطمُ قومي من ستورك واجمعي***يتاماكِ في ذلّ السبى وشتاتِ

روى الكلينيّ في (الكافي)، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام عسل وتين من همدان وحلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها، وهو يقسّمها للناس قدحاً قدحاً، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى، وإنّما ألعقتُهم هذا برعاية الآباء ((1)).

ص: 28


1- الكافي للكليني: 1 / 406 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 27 / 247 ح 7.

وقصّة حمله الماء والطحين والتمر واللحم للأرامل والأيتام وإسجاره التنّور ليخبز للأيتام معروفةٌ مشهورة ((1)).

حُكي أنّه كان في الموصل طبيبٌ مروانيٌّ يخدم معاوية، وكان يقول أيّام خلافة الإمام الحسين علیه السلام : إمامنا يزيد بن معاوية. وكان له جارٌ من شيعة أهل البيت علیهم السلام يقول: إمامنا الحسين بن علي علیهما السلام.

فقال له الشيعيّ يوماً: لا تقل بإمامة يزيد؛ فإنّه فاسقٌ فاجرٌ ظالمٌ عاصي، وأبوه معاوية وجدّه أبو سفيان ظلَمة أشقياء، وقُل بإمامة الحسين ابن عليّ؛ فإنّه متّصفٌ بجميع الخصال الحميدة، وأقلّ ما يُقال في صفاته أنّه أوقف ماله على الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويزيد ليس كذلك.لم يقبل منه الطبيب علانية، ولكنّه أضمر في نفسه أن يختبر كلام الشيعي، فإن كان صادقاً في قوله تشيّع.

ثمّ إنّ الطبيب كانت له جارةٌ أرملةٌ عندها طفلٌ يتيم، فمرضَت، فأرسلَت ولدها إلى الطبيب ليعالجها، فقال الطبيب للغلام: ينفع لعلاج أُمّك كبد الفرس! فقال اليتيم: مِن أين آتيك بكبد الفرس؟ فقال الطبيب: صِرْ إلى الحسين بن عليّ واطلب منه ذلك.

وكان الطبيب يريد أن يختبر كرم الإمام وخُلُقه ورحمته، فذهب اليتيم إلى الإمام علیه السلام وشكى له حال أُمّه وما وصف لها الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ

ص: 29


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 421.

فذُبحَت، وأخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فأخذها اليتيم وانصرف إلى الطبيب، فقال: ما كان لون الفرس؟ قال: اللون الكذائيّ الّذي طلبتَه. قال: لا ينفع كبد الفرس بهذا اللون، أحضر كبد فرس بلون كذا. فذهب اليتيم إلى الإمام مرّةً ثانية، وحكى له قول الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ أُخرى فذُبحَت، واستخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فتعلّل له الطبيب وطلب لوناً آخَر، حتّى فعل ذلك خمس مرّات، وفي كلّ مرّةٍ يذبح الإمام فرساً باللون المطلوب ويدفع له كبدها.

فلمّا شاهد الطبيب حُسن خلق الإمام وكرمه ورحمته، قام وتوجّه إلى باب الإمام الحسين علیه السلام، وطلب الملازمين للإمام أن يأخذوه إلى حظيرة الأفراس، فأخذوه، فرأى خمسة أفراسٍ مذبوحة، فسألهم: لمَ ذُبحَت؟ قالوا: ذُبحَت من أجل يتيمٍ وصف الطبيب كبدها لأُمّه.

فخرج الطبيب وجلس على باب دار الإمام علیه السلام ، فلمّا خرج الإمام وقع على قدمَيه المباركتين يقبّلهما ويعتذر إليه، وصارمن شيعته المخلصين، فسأله الإمام عن سبب إيمانه وإخلاصه، فأخبره بحال اليتيم وأُمّه، وأنّه كان يختبر رحمة الإمام وكرمه وسخائه، فقال له: «قُم معي حتّى أُريك ما هو أعظم من ذلك»!

فرفع الإمام علیه السلام يديه بالدعاء وقال: «اللّهمّ أحيي هذه الأفراس الّتي ذبحتُها في رضاك ورضى أوليائك، بحقّ منزلتنا عندك وبحقّ جدّي محمّد صلی الله علیه وآله المصطفى وأبي عليّ المرتضى وأُمّي فاطمة الزهراء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير».

ص: 30

فما أتمّ الإمام دعاءه حتّى أحيى الله الأفراس، فقامت على قوائمها ((1)).

كذا كان في رحمته وشفقته على الأيتام، وقد جزته هذه الأُمّة المتعوسة بما جرّت على أيتامه وأُسرائه والغرباء من بعده، فخلّفَت في قلوب شيعته نيران لا تنطفئ إلى قيام الساعة.

أجل، روى السيّد ابن طاووس قال: ثمّ أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلّة ((2)).

ولمّا جيء بعبد الله بن قيس الحنفيّ إلى المختار، قال له: يا عبد الله، لَأُعذّبنّك عذاباً لم تسمع به أُذناك قطّ، يا ابن الزانية، أوَلستَ أنت الّذي ذهبت إلى كربلاء وأضرمت الخيام بالنار؟ فأمر فسلخوا رأسه ووجهه، فهلك وفي وديان جهنّم سلك.

وجيء بخالد بن هلال إلى المختار، فقال: يا نحس يا لئيم، لمَضرمت خيام الحسين بالنار؟ فأنكر ذلك، فأمر فعُرّي، وأُضرمت فيه النار فهلك.

وجيء بعبد الله بن أسد إلى المختار، فقال له: يا أسد، أيّ عداوةٍ كانت لك مع آل محمّدٍ حتّى قتلتَ الحسين؟ فقال: أجبروني على ذلك! قال: لمَ

ص: 31


1- تحفة المجالس: 188 المقصد 5 المعجزة 2، ذكرها المؤلّف فيما مضى في الفصل السابع في فضائله ومناقبه علیه السلام.
2- اللهوف لابن طاووس: 132.

أضرمت النار في الخيام، ولم تكن مجبراً على ذلك؟! فأمر به فذُبح كما يذبح الكبش.

وكان ابن زياد اللعين كتب كتاباً جاء فيه: فإن قتلتَ حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه لو قد قتلتُه لَفعلتُ هذا به ((1)).

وروى ابن طاووس في (الملهوف): ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين علیه السلام فيوطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حرية [حوية] الّذي سلب الحسين علیه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسي، وعمر بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خثيمة الجعفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهاني بن شبث الحضرمي، وأسيد بن مالك (لعنهم الله تعالى)، فداسوا الحسين علیه السلام بحوافر خيلهم حتّى رضّوا صدره وظهره.قال الراوي: وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد، فقال أُسيد ابن مالك أحد العشرة (عليهم لعائن الله):

ص: 32


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 88، إعلام الورى للطبرسي: 236، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 182، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331 الفصل 9، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 390.

نحن رضضنا الصدر بعد الظهرِ***بكلّ يعبوبٍ شديد الأسرِ

فقال ابن زياد: مَن أنتم؟ قالوا: نحن الّذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى طحنا حناجر صدره! قال: فأمر لهم بجائزةٍ يسيرة.

قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاء العشرة، فوجدناهم جميعاً أولاد زناء، وهؤلاء أخذهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا ((1))، فجمعوا أشلاءهم وأحرقوها.

قال المؤلّف:

إنّ الخبيث النحس ابن سعد لم يكتفِ بما أمره اللعين ابن زياد من وطيء جسد سيّد الشهداء بالخيل، إذ أمر عشرةً من أولاد الزنا بالقيام بذلك، ثمّ عزم على أن يُجري خيل عسكر الشقاء كلّها على ذلك البدن المقدّس، حتّى لا يُبقي أثراً منه على أثر، غافلاً من أنّ الحقّ (تعالى) سيمنعهم عن إطفاء نوره وسيدفع ذلك الشرّ العظيم بأسدٍ يسخّره لذلك.

وقد حُكي عن فاطمة بنت سيّد الشهداء أنّها قالت: بينا نحن في محنة الأسر حواسر مسلوبين، إذ سمعنا المنادي ينادي: يا خيل الله اركبي واسحقي جسم الحسين بالسنابك والحوافر، حتّى لا يبقى له عينٌ ولا أثر! فلمّا سمعتُ ذلك لم أُطِق الجلوس في مكاني ولم يقرّ لي قرار، فقمت أنا وعمّتي، وكنتُ أنا أُريد الابتعاد عن ذلك المكانلئلّا أنظر إلى ما سيجري، أمّا عمّتي فقد

ص: 33


1- اللهوف لابن طاووس: 134، مثير الأحزان لابن نما: 78،

توجّهَت مذهولةً إلى المصرع لعلّها تستطيع منع الملاعين عن تنفيذ الأمر، فسارعَت حتّى انتهت إلى الجسد المقدّس.

للهِ قلبك المجروح وكبدك المحترق أيّها الصدّيقة المكرّمة! تبّاً لقلبٍ لا يقطّعه الأسى من سماع هذا الخبر، وعمىً لعينٍ لا يجري دمعها، وكيف لا تجري العيون دموعها وهي تسمع أنّ السيّدة زينب تقف عند جسد الإمام الغريب مذهولةً تنظر يميناً وشمالاً، وهي تصفق يداً بيد تريد منع العسكر من إجراء الخيل كلّ الخيل على جسد أخيها؟!

رُوي في (المنتخب) أنّه لمّا قُتل الحسين وأراد القوم وطأه بالخيل، قالت فضّة لزينب: يا سيّدتي، إنّ سفينه صاحب رسول الله كان بمركب، فضربته الريح فتكسّر، فسبّح فقذفه البحر إلى جزيرة، وإذا هو بأسد، فدنا منه فخشي سفينه أن يأكله، فقال له: يا أبا حارث، أنا مولىً لرسول الله. فهمهم بين يديه مشيراً له برأسه، ومشى قدّامه حتّى أوقفه على طريق، فركبه ونجا سالماً، وأرى أسداً خلف مخيّمنا، فدعيني أذهب إليه وأُخبره بما هم صانعون غداً بسيّدي الحسين. فقالت: شأنكِ. قالت فضّة: فمضيتُ إليه حتّى قربت منه وقلت: يا أسد، أتدري ما يريدون صنعه غداة غدٍ بنو أُميّة بأبي عبد الله؟ يريدون يوطؤون الخيل ظهره. قال: نعم. فقام الأسد، ولم يزل يمشي وأنا خلفه حتّى وقف على جثّة الحسين علیه السلام ،فوضع يديه عليه، وجعل يمرّغ وجهه بدم الحسين ويبكي إلى الصباح، فلمّا أصبح بنو أُميّة، أقبلَت الخيل يقدمهم ابن الأخنس (لعنه الله تعالى)، فلمّا نظروه صاح بهم ابن سعد:

ص: 34

إنّها لَفتنة، لا تثيروها. فرجعوا (عليهم لعائن الله تعالى) ((1)).

وقد روى السيّد نعمة الله في كتاب (رياض الأبرار)، عن كتاب (المناقب) قصّة الأسد بالنحو الآتي، وهو أقرب للاعتبار:

إنّ النبيّ كان له عبدٌ أسود في سفر، فكان كلّ مَن أعيى ألقى بعض متاعه حتّى حمل شيئاً كثيراً، فمرّ به النبيّ فقال: «أنت سفينة». وهذا العبد سافر بعد النبيّ في البحر، فانكسرت السفينة بأهلها، فخرج هذا العبد إلى جزيرةٍ من جزائر البحر وحده، فمشى ساعةً فلقي أسداً، فقال له: أنا سفينة عبد رسول الله. فأقبل نحوه الأسد وأشار إليه: اركب على ظهري، فركب على ظهره، فأسرع في المشي حتّى أتى به البلدة القريبة، فرآه الناس على ظهر الأسد، فنزل ورجع الأسد ((2)).

فلمّا قُتل الحسين علیه السلام أمر عمر بن سعد (لعنه الله) أن تطأ الخيل غداً، فسمعت جارية الحسين علیه السلام فحكت لزينب أُخته، فقالت: ما الحيلة؟ قالت زينب: إنّ سفينة عبد رسول الله صلی الله علیه وآله نجّاه الأسد على ظهره لمّا قال له: أنا عبد رسول الله، وسمعتُ أنّ في هذه الجزيرة أسداً، فأمضي إليه فقولي له: إنّ عسكر ابن سعدٍ (لعنهم الله) يريدون غداً أن يطؤوا بخيولهم ابن

ص: 35


1- المنتخب للطريحي: 2 / 322، الكافي: 1 / 465 باب مولد الحسين بن علي علیهما السلام، وبحار الأنوار للمجلسي: 45 / 169 الباب 39.
2- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 155 المجلس 17.

رسول الله، فهل أنت تاركهم؟

فلمّا مضت إليه الجارية فقالت ما قالته زينب إلى قولهما: فهلأنت تاركهم؟ أشار برأسه: لا.

فلمّا كان الغد أقبل الأسد يأزّ أزّاً، والعسكر واقف، فظنّ ابن سعدٍ أنّه جاء يأكل من لحوم الموتى، فقال: دعوه نرى ما يصنع. فأقبل يدور القتلى، حتّى وقف على جسد الحسين علیه السلام فوضع يده على صدره، وجعل يمرّغ خدّه بدمه فيبكي، فلم يجسر أحدٌ أن يقربه، فقال ابن سعد: فتنة، فلا تهيّجوها. فانصرفوا عنه ((1)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

أصدرٌحوى وحيَ الإله وعلمَه***تحطّمه في عَدْوها الضمّر الجردُ

وجسمٌ له الأفلاك والأرض كُوّنت***يظلّ ثلاثاً ما بها ضمّها لحدُ

ورأسٌ ترى في الأرض مجير فاطم***أعصراً تنوء به في البيد خطية بلدُ

أجل، أيّ جَورٍ لم يأتِ به هؤلاء الكفّار؟ وأيّ ظلمٍ وعدوانٍ كان في الإمكان أن يفعلوه ولم يفعلوه هؤلاء الظلَمة؟ وأيّ شيءٍ عدوه ولم يفعلوه؟ فلأنّهم عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه، وإلّا فإنّهم لم يقصّروا في كلّ ما استطاعوا أن يفعلوه من جنايةٍ وجرمٍ ونكايةٍ وأذى.

ص: 36


1- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 147 المجلس 17.

ولو سلّمنا لزعمهم، فإنّ الرجال قاتلوهم، فما ذنب الأطفال والصغار والنساء والبنات والعيال، حتّى يسلبوهم وينهبوهم ويحرقوا خيامهم؟! ثمّ لم يكتفوا بذلك، بل أركبوهنّ على أقتاب الجمال مكبَّلينبالأغلال!

يا ليت صمّ صماخي قبل أن قرعت***أُذني بسبي نساء الهاشميّاتِ

مكشّفات على الأقتاب عارية***مصفودة بجسوم عمهرياتِ

وفي زيارة صاحب الأمر المعروفة بزيارة الناحية المقدّسة: «وسُبيَ أهلُك كالعبيد، وصُفّدوا بالحديد فوق أقتاب المطيّات».

(آه، آه!) «تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولةٌ إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق» ((1)).

جمعي

که پاس محملشان داشت جبرئيل

گشتند

بي عماري محمل شترسوار

أجل، بعد أن نهبوا الخيام وسلبوا النساء والعيال، وأضرموا الخيام بالنيران، أسر الأشقياء النساء والأطفال وبنات سيّد الشهداء وأخواته، وساقوهنّ بذُلّ الأسر إلى الكوفة، فجعلن يتترسن بالأكفّ والأيدي عن السياط، ويبكين بدمعٍ هطولٍ وقد بُحّت أصواتهنّ وكُسّرت عبرتهنّ في صدورهن.

ص: 37


1- بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 241.

وفي (الملهوف): ثمّ أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّباتٍ حافياتٍ باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلّة، وقلن: بحقّ الله إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين((1)).

وفي (المنتخب): وجاؤوا بالنساء قصداً وعناداً وعبّروهم على مصارع آل الرسول ((2)).

وفي (الملهوف): فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صِحنَ وضربن وجوههنّ ((3)).

هم بانگ نوحه غلغله در شش جهت فكند

هم گريه بر ملايک هفت آسمان فتاد

شد وحشتي که شور قيامت به گرد رفت

چون چشم اهل بيت بر آن کشتگان فتاد

ماذا جرى على بناته وأخواته لمّا نظروا إلى آبائهم وإخوانهم مطرحين بتلك الحالة؟ وقد رُوي أنّ أمير المؤمنين عليّاً أخذ فيمن أخذ صفيّة بنت حيي، فدعا بلالاً فدفعها إليه، وقال له: «لا تضعها إلّا في يدَي رسول الله صلی الله علیه وآله، حتّى يرى فيها رأيه». فأخرجها بلال، ومرّ بها إلى رسول الله صلی الله علیه وآله على القتلى

ص: 38


1- اللهوف لابن طاووس: 132.
2- المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6، تظلّم الزهراء للقزويني: 272.
3- اللهوف لابن طاووس: 132.

وقد كادت تذهب روحها، فقال صلی الله علیه وآله: «أنُزعَت منك الرحمة يا بلال؟!»، ثمّ اصطفاها لنفسه، ثمّ أعتقها وتزوّجها ((1)).وفي معركة أُحُد لمّا استُشهد حمزة، وانتهت فاطمة وصفيّة إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ونظرتا إليه، قال صلی الله علیه وآله لعليّ: «أمّا عمّتي فاحبسها عنّي، وأمّا فاطمة فدَعْها» ((2)).

يا رسول الله، كنتَ أنت حاضراً عند حمزة، وكان عليٌّ أمير المؤمنين وسائر الصحابة، فألقيتَ رداءك على جسده وغطّيتَ ما بدا من رأسه ورجليه بأوراق النبات والحشيش، وصلّيتَ عليه بنفسك وكبّرت عليه سبعين تكبيرة، ثمّ لم ترضَ أن تحضر عنده أُختُه صفيّة، بل عاتبت بلال من أجل صفيّة بنت حي بن أخطب.

ليتك كنت حاضراً عند ابنتك الحوراء زينب لمّا حضرت عند جسد أخيها المقطّع إرباً إرباً، وهو قرّة عين الرسول وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد أُصيب بدنه المقدّس بأربعة آلاف نبلة ومئة وثمانين طعنة رمح وضربة سيف، وهُشّمَت عظام ظهره وصدره بسنابك الخيل، وجالوا برأسه على رأس السنان، وقطعوا يديه من أجل تكّة السروال، وسلبوا ما عليه حتّى الثوب العتيق، وسفت عليه الريح وعلاه التراب ورُمّل بالدماء.

ص: 39


1- بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 21.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 95 / 20، إعلام الورى للطبرسي: 82.

معاشرَ المسلمين، لقد نهى النبيّ عن المُثلة حتّى بالكلب العقور ((1))، والمراد بالمُثلة قطع الأطراف وأن يُشوّه بدنه ((2)).

لقد اعتذر أبو سفيان مع كلّ ما فيه من شقاوةٍ في معركة أُحُد، إذكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى مَن يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الّذي قد صار لحماً. وأبو سفيان يقول: ذُق عقق، فقال أبو سفيان: صدقت، إنّما كانت منّي زلّة، اكتمها علَيّ ((3)).

وقال لأمير المؤمنين: إنّه قد كانت في قتلاكم مُثلة، واللهِ ما أمرتُ ولا نهيت ((4)). يقول ذلك معتذراً عن المثلة في حمزة.

وممّا كتبه الرجس الخبيث ابن زياد إلى عمر بن سعد: وإن أبى فامنعه من شرب الماء الفرات، فقد حرّمتُه عليه وحللتُه على الكلاب والخنازير!!! ((5))

ص: 40


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 246، وسائل الشيعة للحر العاملي: 29 / 128.
2- في (لسان العرب: 11 / 615): مثّلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوّهت به، ومثلت بالقتيل إذا جدعتَ أنفه وأُذُنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97، اعلام الورى للطبرسي: 1 / 181.
5- أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 185 -- عن: أبي مخنف.

وكتب إليه يأمر بالتمثيل به، وأن يوطئ الخيل صدره وظهرها ((1)).

ففعلوا ما كتبه إليهم تماماً، حيث قتلوا الإمام المظلوم عطشاناً، وأوطؤوا الخيل صدره وظهره، وقطعوا إصبعه ليسلبوه خاتمه، بل قطعوا يديه المباركتين من أجل تكّة سرواله.

فكيف نظرت السيّدة زينب إلى بدنه وهو في هذه الحال، وماذا جرى عليها وهي تشاهده كذلك؟

معاشرَ الشيعة، إنّ عمرو بن عبد ودّ كان كافراً، وكان عليه درعٌلم يكن في العرب أفضل منها، فلمّا أراد الإمام أمير المؤمنين قتله سأله أن لا يكشف عورته ولا يسلبه سلبه، فقال له الإمام: «ذاك أهون علَيّ»، وأعرضَ عن سلبه ولم يأخذ درعه، فقال له عمر بن الخطّاب: هلّا سلبته يا عليّ درعه، فما لأحدٍ درع مثلها! فقال: «إنّي استحييتُ أن أكشف عن سوأة ابن عمّي» ((2)).

ولمّا جاءت أُخت عمرو ورأته في سلبه فلم تحزن، وقالت: إنّما قتله كريم ((3)).

ص: 41


1- أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 330 الفصل 9، روضة الواعظين للفتّال: 182، الإرشاد للمفيد: 2 / 88، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 453.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 331 الفصل 14 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 69 رقم 196، كشف الغمّة للإربلي: 1 / 205.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 332 الفصل 4 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 73.

ولمّا نُعي إلى خنساء قالت: مَن الّذي اجترى عليه؟! قالوا: عليّ. قالت: قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يد كريم قومه، ما سمعتُ أفخر من هذا يا بني عامر. ثمّ أنشأت:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله***لكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتله مَن لا يُعاب به***مَن كان بدعاً قديماً بيضة البلدِ ((1))لله مصائب الحوراء زينب! لأيّ مصيبةٍ تبكي؟ تبكي لبدن أخيها الّذي تركوه عرياناً، أو تبكي لبدنه الّذي تراه مكبوباً على وجهه وقد جرت عليه الخيل الأعوجيّة؟معاشرَ الشيعة والمحبّين، مَن ذا يخبرني عن الحوراء زينب؟! كيف عرفَت أخيها حين جالت ببصرها بين الشهداء والقتلى، تبحث عن أخيها وعزيزها؟ فالشخص يُعرَف إمّا بصوته أو برأسه ووجهه أو بثيابه وملابسه، وكان الإمام المظلوم قطيع الرأس منخمد الأنفاس مسلوب الثياب مقطّع الأعضاء، وقد كبّه الشمر الدعيّ على وجهه ليحزّ رأسه من القفا!

فلعلّها عرفَته من حيث أنّها كانت تحدّق في القتلى تبحث عن جسد أخيها حتّى وقفَت عليه، باعتبار أنّ جراحاته كانت أكثر الأبدان جراحاً، وكان مكبوباً على وجهه بفعل الشمر الخبيث الّذي ذبحه من القفا، ونتيجةً

ص: 42


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 243 الفصل 31 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 1 / 69.

لشدّة تعلّقها وأُنسها بسيّد الشهداء وقربها منه فهي تعرف بدنه معرفةً تامّة.

أو أنّها عرفَته من أثر الجراب على ظهره، ممّا كان ينقل إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين، كما هو المأثور عن الإمام سيّد الساجدين ((1)).

فلمّا عرفته صرخت: هذا الحسين؟!!

[نادت فأحرقَت القلوب بشجوها***فكأنّها ترمي غضىً مِن فيها]

أجل، إنّ حرارة قتل الحسين في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً إلى يوم القيامة ((2)).وفي بعض الروايات أنّهنّ اجتمعنَ عند الجسد الّذي هزّ جبرئيل مهده وربّاه النبيّ على صدره، وتركه الأعداء عارياً على الصعيد، وجلعن يخضّبن شعورهنّ ووجوههنّ من دمه، وهنّ يندبن: وا حسيناه، وا مظلوماه، وا قتيلاه ((3)).

وفي (الملهوف): قال الراوي: فوَاللهِ لا أنسى زينب بنت عليّ تندب الحسين علیه السلام وتنادي بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ كئيب: يا محمّداه! صلّى عليك

ص: 43


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69 الفصل 4، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 190.
2- في (مستدرك الوسائل للنوري: 10 / 318): قال رسول الله: «إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبداً».
3- مهيّج الأحزان لليزدي: 575.

ملائكة السماء، هذا الحسين مرمّلٌ بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّدٍ المصطفى، وإلى عليٍّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء، يا محمّداه! هذا حسينٌ بالعراء، تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، وا حزناه، وا كرباه، اليوم مات جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، يا أصحاب محمّداه! هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سوق السبايا. وفي رواية: يا محمّداه! بناتك سبايا، وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسينٌ مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء ((1)).

ورُوي أنّ السيّدة المخدّرة وجّهت كلامها لجدّها فقالت:

هذا الّذي قد كنتَ تلثم نحره***أمسى نحيراً من حدود ضبائها

من بعد حجرك يا رسول الله قد***أُلقي طريحاً في ثرى رمضائها ((2))من بعد حجرك يا رسول الله قد

أُلقي طريحاً في ثرى رمضائها ((3))

ثمّ رمَت بطرفها نحو الحسين، وهي باكيةٌ مفجوعة، يلتهب صدرها بنيران الحزن والأسى ((4)).

وفي (الملهوف): قالت: بأبي مَن أضحى عسكره في يوم الإثنين نهباً، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العُرى، بأبي مَن لا غائبٌ فيُرتَجى ولا جريحٌ

ص: 44


1- اللهوف لابن طاووس: 133، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 58.
2- لا يبعد أن يكون الشعر لسان حال، والله العالم.
3- لا يبعد أن يكون الشعر لسان حال، والله العالم.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 576.

فيُداوى، بأبي مَن نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء، بأبي مَن جدّه محمّدٌ المصطفى، بأبي مَن جدّه رسول إله السماء، بأبي مَن هو سبط نبيّ الهدى، بأبي محمّد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي عليّ المرتضى علیه السلام، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء، بأبي مَن رُدّت له الشمس وصلّى.

قال الراوي: فأبكت واللهِ كلَّ عدوّ وصديق ((1)).

وفي (المنتخب): فما زالت تقول هذا القول حتّى أبكت كلّ صديقٍ وعدوّ، حتّى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها ((2)).

فلمّا رأت أُمّ كلثوم أخاها الحسين علیه السلام وهو مطروحٌ على وجه الأرض، تسفوا عليه الرياح وهو مكبوبٌ مسلوب، وقعَت من أعلى البعير إلى الأرض، وحضنت أخاها الحسين، وهي تقول ببكاءٍوعويل: يا رسول الله، انظُر إلى جسد ولدك ملقىً على الأرض بغير غُسل، كفنُه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريده، وهؤلاء أهل بيته يُساقون أُسارى في سبي الّذي ما لهم محامٍ يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار. فلمّا أحسّوا بها عنّفوها وأركبوها وساروا بها، باكيةً لا ترقى لها

ص: 45


1- اللهوف لابن طاووس: 133، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 59.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 457 المجلس 10.

دمعةٌ ولا تبطل لها حسرة ((1)).

وفي (الملهوف): ثمّ إنّ سكينة اعتنقَت جسد أبيها الحسين ((2)).

ماذا جرى على السيّدة مدلّلة أبيها حينما رأت أباها مطروحاً على الرمضاء مقطّع الأعضاء؟!

ولَنِعْم ما قاله الشاعر على لسانها:

أبي يا أبي، يا خير ذُخرٍ فقدتُه***فيا ضيعتي، مَن ذا لضيمي أؤمِّلُ

أبي يا أبي، ماکان أسرع فرقتي***لديك، فمَن لي بعدك اليوم يکفلُ

ومَن لليتامي بعد بُعدك سيّدي***ومَن للأيامي کافلٌ متکفّلُ؟

أيا جدّتا، قومي من القبر وانظري***حبيبك متلول الجبين مرمَّلُ

عريّاً على عاري العرا متعفِّراً***قتيلاً خضيباً بالدماء مغسَّلُ

وساروا بنا يا جدّتا وحواسراً***وأوجهنا بعد التخفّر تبذلُ

سبايا على الأقتاب تبدوا ... ((3))أجل، لقد بكت المظلومة وناحت عند جسد أبيها، حتّى بكى لبكائها ملائكة السماء.

ص: 46


1- المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6.
2- اللهوف لابن طاووس: 133.
3- حذفنا عجز البيت لأنّه قاسٍ غير مؤدّبٍ لا يحتمله غيور، والعجب كيف يستطيع شاعرٌ التجرّؤ واستخدام هذه العبارات!

وفي (الملهوف): فاجتمعت عدّةٌ من الأعراب حتّى جرّوها عنه ((1)).

وفي روايةٍ أنّ المظلومة بكت حتّى أُغمي عليها، فسمعَته يقول:

«شيعتي ما إن شربتم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتُم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندبوني ((2))

فأنا السبطُ الّذي مِن***غير جُرمٍ قتلوني

وبجُرد الخيل بعد ال-***-قتلِ عمداً سحقوني

ليتكم في يوم عاشو***را جميعاً تنظروني

كيف أستسقي لطفلي***فأبوا أن يرحموني

فسقَوه سهمَ بغيٍ***عِوَض الماء المعينِ

يا لَرزءٍ ومصابٍ***هدّ أركان الحجونِ

ويلهم! قد جرّحوا قل-***-بَ رسول الثقلينِ

فالعنوهم ما استطعتم***شيعتي في كلّ حِينِ ((3))فالعنوهم ما استطعتم شيعتي في

كلّ حِينِ ((4))

وهذه الأبيات تفيد أنّ مصيبة الطفل الرضيع البريء جرحت فؤاد الإمام أكثر من سائر المصائب الأُخرى، حيث ذكر الإمام للشيعة ولده الرضيع من بين سائر الشهداء، وذكر نحره الدامي بالسهم والدرّة المرمّلة.

ص: 47


1- اللهوف لابن طاووس: 134.
2- المصباح للكفعمي: 741.
3- مهيّج الأحزان لليزدي: 578.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 578.

أجل، هذه أعظم المصائب على إمام العالمين..

أمّا أعظم المصائب على المخدّرة أُخت إمام الثقلين الحوراء زينب المظلومة، فهي دخولها أرض المصرع لتوديع الأجساد المبضّعة، وكانت ندبتها ونياحتها وبكاؤها شجيّاً حزيناً كئيباً مقرّحاً للقلوب مفتّتاً للأكباد محرقاً للأفئدة، بحيث بكى لبكائها -- وهي تودّع جسد أخيها -- خيولُ الأعداء حتّى جرت دموعها على حوافرها، حتّى لَكأن القيامة قامت، فناحت وأعولت كلُّ ذرّات التكوين وبكى ملائكة السماوات والأرضين.

بينا هي كذلك إذ التفتت إلى سيّد الساجدين وزين العابدين، فرأته يجود بنفسه، فعضّت على الجراح وحبست عَبرتها وتمالكت صبرها، وتوجّهت نحو الإمام.

رُوي عن زائدة قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام : «بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام أحياناً»، فقلت: إنّ ذلك لَكما بلغك. فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك ولك مكانٌ عند سلطانك الّذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأُمّة مِن حقّنا؟»،فقلت: واللهِ ما أُريد بذلك إلّا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط مَن سخط ولا يكبر في صدري مكروهٌ ينالني بسببه. فقال: «واللهِ إنّ ذلك لَكذلك»، فقلت: واللهِ إنّ ذلك لَكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.

فقال: «أبشِرْ، ثمّ أبشِرْ، ثمّ أبشِرْ! فلَأُخبرنّك بخبرٍ كان عندي في النخب [البحر] المخزون:

ص: 48

فإنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا وقُتل أبي علیه السلام وقُتل مَن كان معه مِن وُلده وإخوته وسائر أهله، وحُملَت حرمُه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيّنَت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت عليّ علیه السلام ، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي ووُلد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم، مرمَّلين بالعراء مسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحدٌ ولا يقربهم بشَر، كأنّهم أهل بيتٍ من الديلم والخزر؟

فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوَاللهِ إن ذلك لَعهدٌ من رسول الله صلی الله علیه وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله الميثاق [ميثاق] أُناسٍ مِن هذه الأُمّة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأُمّة وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام، ولَيجتهدنّ أئ-مّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علوّاً.فقلت: وما هذا العهد؟ وما هذا الخبر؟

فقالت: نعم، حدّثَتني أُمّ أيمن أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله زار منزل فاطمة علیه السلام في يومٍ من الأيّام، فعملَت له حريرة، وأتاه عليٌّ علیه السلام بطبَقٍ فيه تمر، ثمّ قالت أُمّ أيمن: فأتيتُهم بعسّ فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله صلی الله علیه وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام من تلك الحريرة، وشرب رسول الله صلی الله علیه وآله وشربوا من ذلك اللبن، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثمّ غسل رسول الله صلی الله علیه وآله يده وعليٌّ يصبّ عليه الماء، فلما فرغ من غسل

ص: 49

يده مسح وجهه، ثمّ نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثمّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً، ثمّ إنّه وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبُه وجرت دموعه، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر، فحزنَت فاطمة وعليٌّ والحسن والحسين علیهم السلام، وحزنتُ معهم لِما رأينا من رسول الله صلی الله علیه وآله، وهِبْناه أن نسأله، حتّى إذا طال ذلك قال له عليٌّ وقالت له فاطمة: ما يُبكيك يا رسول الله؟ لا أبكى الله عينيك، فقد أقرح قلوبُنا ما نرى من حالك. فقال: يا أخي، سُررتُ بكم» -- وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا: فقال: «يا حبيبي، إنّي سُررت بكم سروراً ما سُررتُ مثله قطّ --، وإنّي لَأنظر إليكم وأحمدُ الله على نعمته علَيّ فيكم، إذ هبط علَيّ جبرئيل علیه السلام فقال: يا محمّد، إنّ الله (تبارك وتعالى) اطّلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيكوابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنّأك العطيّة بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة، لا يفرّق بينك وبينهم، يُحبَون كما تحب ويُعطَون كما تعطى حتّى ترضى وفوق الرضى، على بلوىً كثيرةٍ تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أُناسٍ ينتحلون ملّتك ويزعمون أنّهم من أُمّتك، براءٌ من الله ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتّى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرةٌ من الله لهم ولك فيهم، فاحمد الله عزوجل على خيرته وارضَ بقضائه. فحمدتُ الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.

ثمّ قال لي جبرئيل: يا محمّد، إنّ أخاك مضطهَدٌ بعدك مغلوبٌ على أُمّتك، متعوبٌ من أعدائك، ثمّ مقتولٌ بعدك، يقتله أشرّ الخلق والخليقة وأشقى البريّة، يكون نظير عاقر الناقة، ببلدٍ تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة وُلده،

ص: 50

وفيه -- على كلّ حالٍ -- يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإنّ سبطك هذا -- وأومأ بيده إلى الحسين علیه السلام -- مقتولٌ في عصابةٍ من ذرّيّتك وأهل بيتك وأخيار من أُمّتك بضفّة الفرات، بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريّتك، في اليوم الّذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يُقتل فيها سبطك وأهله، وإنّها من بطحاء الجنّة، فإذا كان ذلك اليوم الّذي يُقتَل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعَت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها؛ غضباً لك يا محمّد ولذرّيّتك، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك، ولَشرّ ما تكافى به في ذرّيتك وعترتك، ولا يبقىشيءٌ من ذلك إلّا استأذن الله عزوجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الّذين هم حُجّة الله على خلقه بعدك، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن فيهنّ: إنّي أنا الله الملِك القادر، الّذي لا يفوته هاربٌ ولا يُعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزّتي وجلالي، لَأُعذّبنّ مَن وتر رسولي وصفيّي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته [أهله] عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين. فعند ذلك يضجّ كلّ شيءٍ في السماوات والأرضين بلعن مَن ظلم عترتك واستحلّ حرمتك، فإذا برزَت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزوجل قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكةٌ من السماء السابعة، معهم آنيةٌ من الياقوت والزمرّد مملوّة من ماء الحياة، وحُللٌ من حلل الجنّة، وطِيبٌ من طيب الجنّة، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل وحنّطوها بذلك الطيب، وصلّت الملائكة صفّاً صفّاً عليهم، ثمّ يبعث الله قوماً من أُمّتك لا يعرفهم الكفّار، لم يُشركوا في تلك الدماء

ص: 51

بقولٍ ولا فعلٍ ولا نيّة، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء، يكون علَماً لأهل الحقّ وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفّه ملائكةٌ من كلّ سماء مئة ألف ملَكٍ في كلّ يومٍ وليلة، ويصلّون عليه ويطوفون عليه ويسبّحون الله عنده ويستغفرون الله لمن زاره ويكتبون أسماء مَن يأتيه زائراً من أُمّتك متقرّباً إلى الله (تعالى)، وإليك بذلك وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نورٌتغشى منه الأبصار، يُدلّ عليهم ويُعرفون به، وكأنّي بك يا محمّد بيني وبين ميكائيل، وعليٌّ أمامنا، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم، ونحن نلتقط مَن ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتّى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمّد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك لا يريد به غير الله عزوجل، وسيجتهد أُناسٌ ممّن حقّت عليهم اللعنة من الله والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل الله (تبارك وتعالى) لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثمّ قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب: فلمّا ضرب ابن ملجم (لعنه الله) أبي علیه السلام ورأيتُ عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبت، حدّثَتني أُمّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك. فقال: يا بُنيّة، الحديث كما حدّثتك أُمّ أيمن، وكأنّي بكِ وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلّاء خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً، فوَالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما لله على ظهر الأرض يومئذٍ وليٌّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول الله صلی الله علیه وآله حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس (لعنه الله)

ص: 52

في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، إلّا مَن اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتّىتستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم ولا ينجو منهم ناج. ولقد صدق عليهم إبليس -- وهو كذوبٌ -- أنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنبٌ غير الكبائر».

قال زائدة: ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام بعد أن حدّثني بهذا الحديث: «خُذْه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لَكان قليلاً» ((1)).

تنبيهات

الأوّل:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن طريق أهل البيت علیهم السلام أنّه لمّا استُشهد الحسين بقي في كربلاء صريعاً ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائرٍ أبيضٍ قد أتى ومسح بدمه، وجاء والدم يقطر منه، فرأى صوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار، وكلٌّ منهم يذكر الحبّ والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدم: يا ويلكم، أتشتغلون بالملاهي وذكر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ مُلقىً على الرمضاء ظامٍ مذبوحٌ ودمعه

ص: 53


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 260 الباب 88، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 179.

مسفوح؟! فعادت الطيور كلٌّ منها قاصدة كربلاء، فرأوا سيدنا الحسين علیه السلام مُلقىً في الأرض، جثّةً بلا رأسٍ ولا غُسلٍ ولا كفن، قد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض قد هشّمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوغار، قدأضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من إزهاره، فلمّا رأته الطيور تصايحن وأعلنّ بالكباء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كلّ واحدٍ منهم إلى ناحيةٍ يُعلِم أهلها عن قتل أبي عبد الله الحسين علیه السلام.

فمن القضاء والقدَر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيّدنا رسول الله صلی الله علیه وآله يُعلن بالنداء: ألا قُتل الحسين بكربلاء! ألا ذُبح الحسين بكربلاء! فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون، فلمّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير، ولم يعلموا ما الخبر حتّى انقضت مدّةٌ من الزمن وجاء خبر مقتل الحسين علیه السلام ، علموا أنّ ذلك الطير كان يُخبر رسول الله بقتل ابن فاطمة البتول وقرّة عين الرسول.

وقد نُقل أنّه في ذلك اليوم الّذي جاء فيه الطير إلى المدينة، أنّه كان في المدينة رجلٌ يهوديّ، وله بنتٌ عمياء زَمِنةٌ طرشاء مشلولة، والجذام قد أحاط ببدنها، فجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه، ووقع على شجرةٍ يبكي طول ليلته، وكان اليهوديّ قد أخرج ابنته تلك المريضة إلى خارج المدينة إلى بستان، وتركها في البستان الّذي جاء الطير ووقع فيه، فمن القضاء والقدر

ص: 54

أنّ تلك الليلة عرض لليهودي عارض فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان الّتي فيها ابنته المعلولة، والبنت لمّا نظرت أباها لم يأتها تلك الليلة لم يأتها نومٌ لوحدتها، لأنّ أباها كان يحدّثها ويسلّيها حتّى تنام، فسمعَت عند السحَر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلّب على وجه الأرض إلى أنصارت تحت الشجرة الّتي عليها الطير، فصارت كلّما حنّ ذلك الطير تجاوبه من قلبٍ محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع من الطير قطرة من الدم، فوقعت على عينها ففُتحَت، ثمّ قطرة أُخرى على عينها الأُخرى فبرئت، ثمّ قطرة على يديها فعوفيت، ثمّ على رجليها فبرئت، وعادت كلّما قطرت قطرة من الدم تلطّخ بها جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين علیه السلام .

فلمّا أصبح الصباح أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتاً تدور ولم يعلم أنّها ابنته، فسألها أنّه كان لي في البستان بنت عليلة لم تقدر أن تتحرّك، فقالت ابنته: واللهِ أنا ابنتك. فلمّا سمع كلامها وقع مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير، فرآه واكراً على الشجرة يئنّ من قلبٍ حزين محترق ممّا فُعل بالحسين علیه السلام، فقال له اليهودي: بالّذي خلقك أيّها الطير أن تكلّمني بقدرة الله (تعالى). فنطق الطير مستعبِراً، ثمّ قال: اعلمْ أنّي كنتُ واكراً على بعض الأشجار مع جملةٍ من الطيور قبالة الظهر، وإذا بطيرٍ ساقطٍ علينا وهو يقول: أيّها الطيور، تأكلون وتتنعّمون والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ على الرمضاء طريحاً ظامياً، والنحر دامٍ ورأسه

ص: 55

مقطوعٌ على الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا حفاة عرايا؟ فلمّا سمعن بذلك تطايرن إلى كربلاء، فرأيناه في ذلك الوادي طريحاً، الغسل من دمه والكفن الرمل السافي عليه، فوقعنا كلّنا ننوح عليه ونتمرّغ بدمه الشريف، وكان كلٌّ منّا طار إلى ناحية، فوقعتُ أنا في هذا المكان. فلمّا سمع اليهوديّ ذلك، تعجّب وقال: لو لم يكُن الحسينذا قدرٍ رفيع عند الله، ما كان دمه شفاءً من كلّ داء. ثمّ أسلم اليهوديّ، وأسلمَت البنت، وأسلم خمسمئة من قومه ((1)).

وروى صاحب (المناقب)، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ جاء غرابٌ فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ، ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن عليّ علیه السلام ، وهي الصغرى، فرفعَت رأسها فنظرت إليه، فبكت بكاءً شديداً، وأنشأت تقول:

نعب الغراب فقلت مَن

تنعاه؟

ويلك يا غراب

قال: الإمام، فقلت: مَن؟

قال:

الموفّق للصواب

إنّ الحسين بكربلا

بين

الأسنّة والضراب

فابكي الحسين بعبرةٍ

ترجي

الإله مع الثواب

قلت: الحسين؟ فقال لي:

حقّاً لقد

سكن التراب

ثمّ استقلّ به الجناح

ص: 56


1- المنتخب للطريحي: 1 / 105 المجلس 6.

فلم يطق

ردّ الجواب

فبكيتُ ممّا حلّ بي

بعد

الدعاء المستجاب»

قال محمّد بن علي: فنعَته لأهل المدينة، فقالوا: قد جاءتنا بسحرعبد المطّلب. فما كان بأسرع أن جاءهم الخبر بقتل الحسين بن علي علیه السلام((1)).

الثاني:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا استُشهد سيّدي ومولاي الحسين علیه السلام وحجّ الناس من قابل، دخلتُ على عليّ بن الحسين فقلت له: يا مولاي، قد قرب الحجّ، فماذا تأمرني؟ فقال: «امضِ على نيّتك وحج». فحججت، فبينما أنا أطوف بالكعبة وإذا أنا برجلٍ مقطوع اليدين ووجهه كقِطَع الليل المُظلم، وهو مُتعلّقٌ بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ ربّ هذا البيت الحرام اغفر لي، وما احسبك تفعل ولو تشفّعتُ في سكّان سماواتك وأراضيك وجميع ما خلقت؛ لعِظَم جرمي!

قال سعيد بن المسيّب: فشُغلتُ وشغل الناس عن الطواف، حتّى حفّ به الناس واجتمعنا عليه، فقلنا: يا ويلك! لو كنت إبليس ما كان ينبغي لك أن تيأس من رحمة الله، فمَن أنت وما ذنبك؟! فبكى، وقال: يا قوم، أنا أعرَفُ بنفسي وذنبي وما جنيت. فقلنا له: تذكره لنا؟

فقال: أنا كنت جمّالاً لأبي عبد الله الحسين علیه السلام لمّا خرج من المدينة إلى

ص: 57


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 171 -- عن: مناقب آل أبي طالب (القديم).

العراق، وكنت أراه إذا أراد الوضوء للصلاة يضع سراويله عندي، فأرى تكّته تُغشي الأبصار بحسن إشرافها، وكنت أتمنّاها تكون لي.

إلى أن صرنا بكربلاء وقُتل الحُسين علیه السلام وهي معه،فدفنتُ نفسي في مكانٍ من الأرض، فلمّا جنّ الليل خرجتُ من مكاني، فرأيت في تلك المعركة نوراً لا ظلمة ونهاراً لا ليلاً، والقتلى مُطرّحين على وجه الأرض، فذكرت لحيني وشقاني التكّة، فقلت: والله لَأطلبنّ الحسين، وأرجو أن تكون التكّة في سرواله فآخذها.

ولم أزل أنظر في وجوه القتلى حتّى أتيتُ إلى الحسين، فوجدتُه مكبوباً على وجهه وهو جثّةٌ بلا رأس ونوره مشرق، مرمَّلٌ بدمائه والرياح سافيةٌ عليه، فقلت: هذا والله الحسين. فنظرت إلى سرواله كما كنت أراها، فدنوت منه وضربت بيدي إلى التكّة لِآخذها، فإذا هو قد عقدها عقداً كثيرة، فلم أزل أحلّها حتّى حللت عقدةً منها، فمدّ يده اليمنى وقبض على التكّة، فلم أقدر على أخذ يده عنها ولا أصل إليها، فدعتني النفس الملعونة إلى أن أطلب شيئاً أقطع به يده، فوجدت قطعة سيفٍ مطروح فأخذتها، واتكيت على يده ولم أزل أحزّها حتّى فصلتُها عن زنده، ثمّ نحيتها عن التكّة ومددت يدي لأحلّها، فمدّ يده اليسرى فقبض عليها، فلم أقدر على أخذها، فأخذت قطعة السيف ولم أزل أحزّها حتّى فصلتها عن التكّة، ومددت يدي إلى التكّة لآخذها، فإذا الأرض ترجف والسماء تهتزّ، وإذا بجلبةٍ عظيمةٍ وبكاءٍ ونداء، وقائل يقول: وا أبتاه، وا مقتولاه، وا ذبيحاه،

ص: 58

وا حسيناه، وا غريباه! يا بُني، قتلوك وما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك!

فلمّا رأيت ذلك، صُعقت ورميت نفسي بين القتلى، وإذا بثلاثة نفر وامرأةٍ وحولهم خلائق وقوف، وقد امتلئت الأرض بصور الناس وأجنحة الملائكة، إذ بواحدٍ منهم يقول: يا أبتاه يا حسين، فداؤك جدّك وأبوك وأُمّك وأخوك! وإذا بالحسين قد جلس ورأسه على بدنه، وهو يقول: «لبّيك يا جدّاه يا رسول الله، ويا أبتاه يا أمير المؤمنين،ويا أُمّاه يا فاطمة الزهراء، ويا أخاه المقتول بالسمّ، عليكم منّي السلام». ثمّ إنّه بكى وقال: «يا جدّاه، قتلوا والله رجالنا! يا جدّاه، سلبوا والله نساءنا! يا جدّاه، نهبوا والله رحالنا! يا جدّاه، ذبحوا والله أطفالنا! يا جدّاه، يعزّ والله عليك أن ترى رحالنا، وما فعل الكفّار بنا!». وإذا هم جلسوا يبكون على ما أصابه، وفاطمة تقول: «يا أباه يا رسول الله، أما ترى ما فعلَت أُمّتك بولدي؟! أتأذن لي أن آخذ من دم شيبه وأخضب به ناصيتي، وألقى الله؟عز؟ وأنا مختضبة بدم ولدي الحسين؟»، فقال لها: «خُذي، وأنا آخذ يا فاطمة». فرأيتهم يأخذون من دم شيبه وتمسح به فاطمة ناصيتها، والنبيّ وعليّ والحسن يمسحون به نحورهم وصدورهم وأبدانهم إلى المرافق، وسمعت رسول الله يقول: «فديتك يا حُسين! يعزّ واللهِ علَيّ أن أراك مقطوع الرأس، مرمّل الجبينين، دامي النحر، مكبوباً على قفاك، قد كساك الذاري من الرمول، وأنت طريحٌ مقتولٌ مقطوع الكفّين، يا بُني! مَن قطع يدك اليُمنى وثنّى باليسرى؟»، فقال: «يا جدّاه، كان معي جمّالٌ من المدينة، وكان يراني إذا وضعت سراويلي للوضوء فيتمنّى أن تكون تكّتي له، فما منعني أن أدفعها إليه إلا لعلمي أنّه صاحب

ص: 59

هذا الفعل، فلمّا قُتلت خرج يطلبني بين القتلى، فقد وجدني جثّةً بلا رأس، فتفقّد سراويلي فرأى التكّة وقد عقدتُها عقداً كثيرة، فضرب بيده إلى التكّة فخلّ عقدةً منها، فمددت يدي اليمنى فقبضت على التكّة، فطلب المعركة فوجد قطعة سيفٍ مكسور فقطع يميني، ثمّ حلّ عقدةً أُخرى، فقبضت على التكّة بيدي اليسرى كي لا يحلّها فتكشف عورتي، فحزّ يدي اليسرى، فلمّا أراد حلّ التكّة حسّ بك، فرمى نفسه بينالقتلى».

فلمّا سمع النبيّ كلام الحسين بكى بكاءً شديداً، وأتى إليّ بين القتلى إلى أن وقف نحوي، فقال: «ما لي وما لك يا جمّال؟ تقطع يدين طالما قبّلهما جبرائيل وملائكة الله أجمعين، وتباركَت بهما أهل السماوات والأرضين؟ أما كفاكك ما صنع به الملاعين من الذلّ والهوان؟ هتكوا نساءه من بعد الخدور وانسدال الستور! سوّد الله وجهك يا جمّال في الدنيا والآخرة، وقطع الله يديك ورجليك، وجعلك في حزب مَن سفك دماءنا وتجرّأ على الله». فما استتمّ دعاءَه صلی الله علیه وآله حتّى شُلّت يداي، وحسست بوجهي كأنّه أُلبس قطعاً من الليل مُظلماً، وبقيت على هذه الحالة، فجئت إلى هذا البيت أستشفع، وأنا اعلم أنّه لا يغفر لي أبداً.

فلم يبقَ في مكّة أحدٌ إلّا وسمع حديثه، وتقرّب إلى الله (تعالى) بلعنه، وكلٌّ يقول: حسبك ما جنيت يا لعين، «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)).

ص: 60


1- المنتخب للطريحي: 1 / 90 المجلس 5.
الثالث:

حُكي عن رجلٍ أسديّ قال: كنت زارعاً على نهر العلقميّ بعد ارتحال عسكر بني أُميّة، فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلّا بعضها.

منها: أنّه إذا هبّت الريح تمرّ علَيّ نفحاتٌ كنفحات المسك والعنبر، وإذا سكنَت أرى ما تنزل من السماء إلى الأرض ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها، وأنا مفردٌ مع عيالي، ولا أرى أحداًأسأله عن ذلك.

وعند غروب الشمس يُقبل أسدٌ من القبلة، فأُولّي عنه إلى منزلي، فإذا أصبح الصباح وطلعَت الشمس وذهبَت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهباً، فقلت في نفسي: إنّ هؤلاء خوارج قد خرجوا على عُبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم، وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى، فوَاللهِ هذه الليلة لَأبدأ من المساهرة لِأُبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا؟

فلمّا صار غروب الشمس وإذا به أقبل، فحقّقتُه وإذا هو هائل المنظر، فارتعدتُ منه، وخطر ببالي إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني، وأنا أُحاكي بهذا فمثلتُه وهو يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسدٍ كأنّه الشمس إذا طلعَت، فبرك عليه، فقلت: يأكل منه؟ وإذا به يمرّغ وجهه عليه، وهو يهمهم ويدمدم، فقلت: الله أكبر، ما هذا إلّا أُعجوبة! فجعلت أحرسه حتّى اعتكر الظلام، وإذا بشموع مُعلّقة ملأت الأرض، وإذا ببكاءٍ ونحيبٍ ولطمٍ مفجع، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض، ففهمت من ناعٍ

ص: 61

فيهم يقول: وا حسيناه، وا إماماه! فاقشعرّ جلدي، فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله: مَن تكون؟ فقال: إنّا نساء من الجنّ. فقلت: وما شأنكنّ؟ فقلن: في كلّ يومٍ وليلةٍ هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان. فقلت: هذا الحسين الذي يجلس عنده الأسد؟ قلن: نعم، أتعرف هذا الأسد؟ قلت: لا. قلن: هذا أبوه عليّ بن أبي طالب. فرجعت ودموعي تجري على خدّي ((1)).

الرابع:

ورُوي عن أبي مخنف أنّه قال: قال الطرمّاح بن عدي: كنتُ في واقعة كربلاء، وقد وقع فيّ ضرباتٌ وطعناتٌ فأثخنَتني بالجراح، فلو حلفتُ لَحلفت صادقاً أنّي كنتُ نائماً إذ رأيت عشرة فوارس قد أقبلوا وعليهم ثيابٌ بيضٌ تفوح منهم رائحة المسك، فقلت في نفسي: يكون هذا عُبيد الله بن زياد قد أقبل لطمّ جسد الحسين علیه السلام ، فرأيتهم حتّى نزلوا على القتلى، ثمّ إنّ رجلاً منهم تقدّم إلى جسد الحسين علیه السلام فجلس قريباً منه، ومدّ يده إلى نحو الكوفة، وإذا برأس الحسين علیه السلام أقبل من نحو الكوفة، فركّبه على الجسد فعاد كما كان بإذن الله (تعالى)، وإذا هو رسول الله صلی الله علیه وآله، ثمّ قال: «يا ولدي، قتلوك؟ أتراهم ما عرفوك؟ ومن شرب الماء منعوك؟»، ثمّ التفت إلى مَن كان معه

ص: 62


1- المنتخب للطريحي: 2 / 322 المجلس 5.

وقال: «يا أبي آدم، ويا أبي نوح، ويا أبي إبراهيم، ويا أخي موسى، ويا عيسى! أترون ما صنعَت أُمّتي بولدي من بعدي؟ لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» ((1)).

الخامس:

في كتاب (المنتخب): حُكي عن رجلٍ كوفيّ حدّاد، قال: لمّا خرج العسكر من الكوفة لحرب الحسين بن عليّ علیه السلام، جمعتُ حديداً عندي وأخذت آلتي وسِرتُ معهم، فلمّا وصلوا وطنبوا خيمهم بنيت خيمة، وصرت أعمل أوتاداً للخيم وسككاً ومرابط للخيل وأسنّةًللرماح، وما اعوجّ من سنان أو خنجر أو سيف كنت بكلّ ذلك بصيراً، فصار رزقي كثيراً وشاع ذكري بينهم، حتّى أتى الحسين مع عسكره، فارتحلنا إلى كربلاء وخيّمنا على شاطئ العلقمي، وقام القتال فيما بينهم، وحموا الماء عليه وقتلوه وأنصاره وبنيه، وكان مدّة إقامتنا وارتحالنا تسعة عشر يوماً، فرجعت غنيّاً إلى منزلي والسبايا معنا، فعُرضَت على عُبيد الله فأمر أن يشهّروهم إلى يزيد إلى الشام، فلبثتُ في منزلي أيّاماً قلائل، وإذا أنا ذات ليلةٍ راقد على فراشي، فرأيت طيفاً: كأنّ القيامة قامت، والناس يموجون على الأرض كالجراد إذ فقدَت دليلها، وكلّهم دالعٌ لسانه على صدره من شدّة الظمأ، وأنا أعتقد أنّ فيهم أعظم منّي عطشاً؛ لأنّه كَلَّ سمعي وبصري من شدّته، هذا غير حرارة

ص: 63


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 157، تظلّم الزهراء للقزويني: 227.

الشمس تغلي منها دماغي، والأرض تغلي كأنّها القير إذ أُشعل تحته نار، فخِلتُ أنّ رجلَيّ قد تقلّعت قدماها، فوَاللهِ العظيم لو أنّي خُيّرت بين عطشي وتقطيع لحمي حتّى يسيل دمي لأشربه، لَرأيت شربه خيراً من عطشي، فبينما أنا في العذاب الأليم والبلاء العميم إذ أنا برجلٍ قد عمّ الموقف نوره وابتهج الكون بسروره راكبٌ على فرس، وهو ذو شيبة، قد حفّت به أُلوفٌ من كلّ نبيٍّ ووصيٍّ وصدّيقٍ وشهيدٍ وصالح، فمرّ كأنّه ريحٌ أو سيران فلك، فمرّت ساعةٌ وإذا أنا بفارسٍ على جوادٍ أغرّ، له وجهٌ كتمام القمر، تحت ركابه أُلوف، إن أمر ائتمروا وإن زجر انزجروا، فاقشعرّت الأجسام من لفتاته وارتعدت الفرائص من خطواته، فتأسّفت عن الأوّل ما سألتُ عنه خِيفةً من هذا، وإذا به قد قام في ركابه وأشار إلى أصحابه، وسمعتُ قوله: «خذوه!»، وإذا بأحدهم قابضٌ بعضدي كلُبّة حديدٍ خارجةٍ من النار، فمضى بي إليه، فخِلتُ كتفي اليمنى قد انقلعَت، فسألتُه الخفّةفزادني ثقلاً، فقلت له: سألتُك بمَن أمّرك علَيّ، مَن تكون؟ قال: ملَكٌ من ملائكة الجبّار. قلت: ومَن هذا؟! قال: عليّ الكرّار. قلت: والّذي قبله؟ قال: محمّد المُختار. قلت: والّذين حوله؟ قال: النبيّون والصدّيقون والشهداء والصالحون والمؤمنون. قلت: أنا ما فعلتُ حتّى أمرك علَيّ؟ قال: إليه يرجع الأمر، وحالك حال هؤلاء. فحقّقتُ النظر وإذا بعمر بن سعد أمير العسكر وقومٍ لم أعرفهم، وإذا بعنقه سلسلةٌ من حديد، والنار خارجةٌ من عينيه وأُذنيه، فأيقنتُ بالهلاك، وباقي القوم منهم مغلَّلٌ ومنهم مقيَّدٌ ومنهم مقهورٌ بعضده

ص: 64

مثلي، فبينما نحن نسير وإذا برسول الله الّذي وصفه الملك جالسٌ على كرسيّ عالٍ يزهو، أظنّه من اللؤلؤ، ورجُلَين ذي شيبتين بهيّتين عن يمينه، فسألتُ الملك عن الرجلين، فقال: آدم ونوح ((1)). وإذا برسول الله يقول: «ما صنعتَ يا عليّ؟»، قال: «ما تركتُ أحداً من قاتلي الحسين إلّا وأيتُ به». فحمدتُ الله (تعالى) بأنّي لم أكن منهم، ورُدّ إليّ عقلي، وإذا برسول الله يقول: «قدّموهم!»، فقدَّموهم إليه، وجعل يسألهم ويبكي، ويبكي كلُّ مَن في الموقف لبكائه؛ لأنّه يقول للرجل: «ما صنعتَ بطفّ كربلاء بولدي الحسين؟»، فيجيب: يا رسول الله، أنا حميتُ الماء عليه. وهذا يقول: أنا قتلتُه. وهذا يقول: أنا سلبتُه. وهذا يقول: أنا وطأت صدره بفرسي. ومنهم يقول: أنا ضربتُ ولده العليل. فصاح رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «وا ولداه، وا قلّة ناصراه، وا حُسيناه، وا عليّاه! هكذا صدر عليكم بعدي أهل بيتي؟ انظر ياأبي يا آدم، انظر يا أخي يا نوح، كيف أخلفوني في ذرّيّتي»، فبكوا حتّى ارتجّ المحشر، فأمر بهم زبانية جهنّم يجرّونهم أوّلاً فأوّلاً إلى النار، وإذا بهم قد أتوا برجل، فسأله صلی الله علیه وآله، قال: ما صنعت شيئاً. قال: «أما أنت نجّار؟»، قال: صدقتَ يا سيّدي، لكنّي ما عملت شيئاً إلّا عموداً لخيمة الحُصين بن نمير؛ لأنّه انكسر من ريحٍ عاصف، فوصلتُه. فبكى صلی الله علیه وآله وقال: «كثّرتَ السواد على ولدي، خُذوه

ص: 65


1- في المتن: (نوح وإبراهيم).

للنار». وصاحوا: لا حكم إلّا لله ولرسوله ووصيّه. قال الحدّاد: فأيقنتُ بالهلاك، فأمر بي فقدّموني، فاستخبرني فأخبرته، فأمر بي إلى النار، فلمّا سحبوني إلّا وانتبهت، وحكيتُ لكلّ مَن لقيته. وقد يبس لسانه ومات نصفه، وتبرّأ كلّ مَن يحبّه، ومات فقيراً، لا رحمه الله (تعالى)، «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)).

قال المؤلّف:

الّذين أعانوا عسكر المخالفين بأيّ نوعٍ من أنواع الإعانة، ولو بالتفرّج وتكثير السواد، نالوا جزاءهم في هذه الدنيا قبل الآخرة، منهم المغيرة بن الحارث، إذ جاؤوا به إلى المختار، فقال المختار: إنّي أعرف هذا الرجل، أوَلستَ المغيرة بن الحارث الّذي يصنع الرماح والسيوف؟ قال: بلى أيّها الأمير، أعطني الأمان أيّها الأمير، وإنّي لَتائبٌ من عملي القبيح أيّها الأمير! فقال المختار: لَأُعطينّك أماناً وتوبةً لا تقوى بعدها على أن تفعل مثل هذا الفعل في الدنيا أبداً. ثمّ أمر فضربوا يديه ورجليه بالمسامير، وسمّروه إلى الأرض تسميراً، وأضرموا فيه النار فاحترق.ثمّ أمر بالحرفيّين الّذين خرجوا مع العسكر، فبُقرَت بطونهم في بيوتهم وعلّقوهم، ثمّ أمر بكلّ مَن أعطى آجر دابّته أو دفع زاداً أو راحلةً، فصنع شبكةً من قضبان الحديد فشبّكوهم فيها، وصبّوا عليهم الجصّ، وأمر بزهاء

ص: 66


1- المنتخب للطريحي: 1 / 190 المجلس 9.

ألفين شخص ممّن خرج للتفرّج في كربلاء، فأذابوا الرصاص وصبّوه في حلوقهم.

ولمّا جاؤوا بقادر بن عبد العزّى الكندي، قال له المختار: ما أشدّ شوقي لك أيّها الملعون، أوَلستَ أنت الّذي طرت بخبر فتح عمر بن سعد إلى الكوفة، وأخذت على ذلك ألف دينار؟ فسكت قادر ولم يردّ جواباً، فقال المختار: لمَ لا تردّ أيّها الملعون؟! فقال: وماذا أردّ وأنت صادقٌ أيّها الأمير؟! قال المختار: أين تلك الدنانير؟ رُدّها علَيّ لأُخلي سبيلك. فقال: لقد جمعتُ دنانير غيرها أدفعها لك مع تلك الدنانير. فقال المختار: حسناً. فخرج قادر وجاء بما جمعه من مال، فقال الأمير: زيّنوه، وأحملوا معه المشاعر، وطوفوا به في الليل في الكوفة ليخبر أهل الكوفة بفتحنا وظفرنا بقتلة الإمام الحسين.

السادس:

قال السيّد ابن طاووس: روى ابن رياح قال: رأيتُ رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين علیه السلام ، فسُئل عن ذهاب بصره، فقال: كنتُ شهدت قتله عاشر عشرة، غير أنّي لم أضرب ولم أرمِ، فلمّا قُتل علیه السلام رجعت إلى منزلي وصلّيت العشاء الأخيرة ونمت، فأتاني آتٍ في منامي فقال: أجِبْ رسول الله صلی الله علیه وآله، فإنّه يدعوك! فقلت: ما لي وله؟ فأخذ بتلبيبي وجرّني إليه، فإذا النبيّ صلی الله علیه وآله جالسٌ في صحراء، حاسر عن ذراعيه آخذبحربة، وملكٌ قائمٌ بين يديه وفي يده سيفٌ من نار، فقتل أصحابي التسعة، فكلّما ضرب ضربةً

ص: 67

التهبت أنفسهم ناراً، فدنوت منه وجثوت بين يديه، وقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يردّ علَيّ، ومكث طويلاً، ثمّ رفع رأسه وقال: «يا عدوّ الله، انتهكتَ حرمتي، وقتلت عترتي، ولم ترعَ حقّي، وفعلت ما فعلت»، فقلت: واللهِ يا رسول الله ما ضربتُ بسيفٍ ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم. قال: «صدقت، ولكنّك كثّرت السواد، ادنُ منّي»، فدنوتُ منه، فإذا طستٌ مملوٌّ دماً، فقال لي: «هذا دم ولدي الحسين علیه السلام »، فكحّلني من ذلك الدم، فانتبهتُ حتّى الساعة لا أُبصر شيئاً ((1)).

السابع:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن أبي الحُصين رضی الله عنه قال: رأيتُ شيخاً مكفوف البصر، فسألتُه عن السبب، فقال: إنّي مِن أهل الكوفة، وقد رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام وبين يدَيه طشتٌ فيه دمٌ عظيمٌ من دم الحسين علیه السلام ، وأهل الكوفة كلّهم يُعرَضون عليه فيلطّخهم بالدم، دم الحسين علیه السلام ، حتّى انتهيتُ إليه وعُرضتُ عليه، فقلت: يا رسول الله، ما ضربتُ بسيفٍ ولا رميت بسهمٍ ولا كثّرت السواد عليه. فقال لي: «صدقت، ألستَ مِن أهل الكوفة؟»، فقلت: بلى. قال: «فلِمَ لا نصرتَ ولدي؟ ول-مَ لا أجبتَ دعوته؟ ولكنّك هويت قتلة الحسين، وكنتَ من حزب ابن زياد». ثمّ إنّ النبيّ

ص: 68


1- اللهوف لابن طاووس: 136.

أومى إليّ بإصبعه فأصبحتُ أعمى، فوَاللهِ ما يسرّني أن يكون لي حُمر النعيم، ووددتُ أن أكون شهيداً بين يدي الحسين ((1)).

الثامن:

حُكي أنّ من الشيعة المحبّين كان أبوه ممّن يُقيم العزاء على سيّد الشهداء وينظم الشعر في الرثاء، نقل في كتابٍ له أنّه قال: كنتُ في إبان شبابي قبل البلوغ مواظباً على حضور مجالس العزاء لاستماع مصائب سيّد الشهداء، وكنت ملتزماً بإقامة المأتم، فرأيتُ ليلةً في ما يرى النائم أنّي مررتُ ببستانٍ غايةٍ في النظافة والجمال، تظلّله أغصان الأشجار الوارفة بأنواعها، وتتدلّى منها ألوان الثمار الطاهرة، وأنا أسير في تلك البستان فرحاً مسروراً محبوراً في غفلةٍ عن مكان البستان وصاحبها، إذ لم أعرف أين كانت؟ ولا لمن كانت؟ فجأةً رأيتُ إمرأةً وضيئةً وفي يدها ملابس مخضّبة بالدم، وهي تغسلها وتتنفّس الصعداء، كأنّها تنفّس عن النيران المشتعلة في كبدها، وهي تنظر إلى السماء ودموعها تنهمر كأنّها المطر على وجهها، فسمعتُها تستغيث إلى الله بقلبٍ حزينٍ وتشكو إليه، فرأيتُ الماء تحوّل كأنّه دمٌ عبيطٌ يجري في تلك الأنهار، فقلت في نفسي: ماذا لو رأتك هذه المرأة وأنت في هذه البستان، خصوصاً إذا كانت هي صاحبة البستان؟!

ص: 69


1- المنتخب للطريحي: 2 / 314 المجلس 5.

فاختفيت وراء شجرة، فسمعتها تقول: لمَ لا تسمّيتَ لهم يا ولدي؟ عساهم ما عرفوك، ومن الماء منعوك، فلذلك قتلوك! فلمّاأتمّت كلامها سمعتُ صوتاً أجابها فقال: يا أُمّاه، أأترك سنّة جدّي رسول الله والأنبياء من قبله؟

قال: فنظرت، فرأيتُه واقفاً في الجانب الشرقيّ من البستان، وعليه جبّة خزّ، والدماء متجمّدة على حلقه ونحره، ولحيته مخضّبة بالدم، وهو يقول: قلت لهم: إنّ جدّي محمّد المصطفى، وأبي عليّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وجدّتي خديجة الكبرى، وأخي الحسن المجتبى، فلم يسمعوا منّي ولم يراجعوا أنفسهم، ولم يعرفوا قدري وتنكّروا لمقامي ومنزلتي، وأبوا إلّا أن يقتلوني، وهشّموا بسنابك خيلهم عظامي.

فلمّا سمعتُ منه هذا الكلام قفّ شعري وفزعت، وقلت في نفسي: ليتني كنت أعرف هذه المرأة وهذا الشابّ المظلوم! فقصدتُ المرأة المظلومة، لأنّها كانت أقرب إليّ، فسلّمتُ عليها فردّت علَيّ السلام، فقلت: أُقسم عليكِ بالله، مَن أنتِ؟ ومَن هذا الشاب المظلوم؟ فبكت وقالت: أنا ابنة سيّد هذه الأُمّة فاطمة الزهراء، وهذا الشابّ ابني الحسين، الّذي قتله أشقياء هذه الأُمّة، استفردوا به مِن بعدنا فقتلوه بطفّ كربلاء مسلوب العمامة والرداء منزوع الخاتم والحذاء. ثمّ رفعَت صوتها بالبكاء، فخرجَت من بين الأشجار نساءٌ كثير كأنّها البدور الساطعة، وأحطن بالسيّدة فاطمة الزهراء، يلطمن الخدود وينشرن الشعور ويشققن الجيوب، وينادين بالويل والثبور وينُحْن

ص: 70

ويندبن ويبكين، فعلى الضجيج وارتفعت الصيحات.

فسارعتُ إلى سيّدتي فاطمة الزهراء وقلت: يا سيّدتي، مَن هؤلاء النسوة الباكيات النادبات وللشعور ناشرات؟ فقالت: هؤلاء أهل بيت الحسين، أُمّ كلثوم وسكينة ورقيّة والرباب وشاه زنان، يبكين الحسين ويندبنه.فبكيت وقلت: يا سيّدتي، إنّ أبي كان يرثي ولدكِ الحسين، وقد مات، فما هو حاله الآن؟ قالت: إنّ قصره محاذي لقصرنا. فأنشدتُها بعض شعره، وقلت: يا سيّدتي أنا أُحبّ أن أرثيكم، ولكن لا أقدر على ذلك. فلقّنَتني هذه الأبيات وقالت: قل:

بنت

النبيّ رسولِ الله فاطمةٌ

بکت، ألا وا حسيناه آه وا ولدي

ربّيتُه

وهجرت الغمض ساهرةً

فراح عنّي وخلّ النار في کبدي

لم

أدرِ شمراً بحدّ السيف يذبحه

بارض الطفوف علی

الرمضاء في کمدي

حسين ضاقت عليك الأرض أجمعها

وجئتَ إلی کربلاء للذبح يا سندي

يا

ليتني کان شمر الرجس يذبحني

ص: 71

ويترك السبط حيّاً ذاك مقتصدي

ص: 72

المجلس الحادي عشر : في خروج أهل البيت من كربلاء وورودهم مع الرؤوس إلى الكوفة

اشارة

في (الملهوف): ثمّ إنّ عمر بن سعدٍ بعث برأس الحسين علیه السلام في ذلك اليوم -- وهو يوم عاشوراء -- مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عُبيد الله بن زياد ((1))، ثمّ أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه فقُطعت ((2))، ورُوي أنّه أمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظفت ((3)).

إقتسم القبائل الرؤوس ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد الله وإلى يزيد، فجاءت كِندة إلى ابن زياد بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن

ص: 73


1- اللهوف لابن طاووس: 142.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- اللهوف لابن طاووس: 142، الإرشاد للمفيد: 2 / 113.

الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت بنو تميم بتسعة عشر ((1)) رأساً، وجاءت بنو أسدبتسعة رؤوس، وجاء سائر الجيش بتسعة رؤوس ((2))، فذلك سبعون رأساً كما في (الإرشاد) ((3))، وفي (البحار): رُوي أنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً ((4)).

بنفسی رؤوس ساميات علی القنا***کمثل بدورٍ وافقتها سعودها

مخضّبة بالدم منها جباهها***فيا طالما لله طالَ سجودُها

روى أبو حنيفة الدينوري: إنّ عمر بن سعد لمّا دفع الرأس المقدّس إلى الرجس خولي فعجّل اللعين به إلى ابن زياد الخبيث، فأقبل به ليلاً فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى به منزله، وكان على فرسخٍ من الكوفة، وكانت زوجته محبّةً لأهل البيت ومن أنصارهم وشيعتهم، فخاف الخبيث النجس من المرأة الصالحة أن تطّلع على خبره فتنغّص عليه عيشه، فلمّا جاء سألَته: أين كنتَ منذ أيّام؟! فقال الطاغي: كنتُ أُحارب رجلاً خرج على

ص: 74


1- في المتن: (بتسعة رؤوس).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 370 الفصل 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
4- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 331، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.

يزيد. فسكتت الحرّة، وجاءته بالطعام فأكل الخبيث ونام.

فلمّا قامت الصالحة لصلاة الليل كعادتها كلّ ليلة، رأت نوراً زاهراً ساطعاً من المطبخ، فحقّقت النظر فإذا بالنور يسطع من التنّور، فتعجّبت وقالت: سبحان الله! إنّي لمَ أُسجّر التنّور، فمن أين يسطع هذا النور؟ فحقّقت النظر أكثر فرأت أنّ النور يصعد كالعمودنحو السماء، فزاد عجبها منه.

بينا هي كذلك إذ رأت أربعة نسوةٍ نزلن من السماء وتوجّهن نحو التنّور، فتقدّمت إحداهنّ فمدّت يدها إلى التنّور وأخرجَت منه رأساً، فقبّلَته وضمّته إلى صدرها، وارتفع أنينها وبكاؤها وهي تقول: «يا شهيد الأُمّ، يا مظلوم الأُمّ، حكم الله بيني وبين قاتليك يوم القيامة، ولَينتقمنّ الله لي منهم، أو لا أبرح متعلّقةً بقائم العرش»، وبكت معها باقي النسوة، ثمّ أرجعن الرأس إلى التنّور وغبن.

فتوجّهَت المرأة الصالحة إلى التنّور، وأخرجَت الرأس المقدّس وأطالت النظر إليه، فعرفته؛ لأنّها كانت قد رأت الإمام الحسين كثيراً، فصرخت صرخةً عظيمة، ووقعت على الأرض مُغمىً عليها، فسمعت هاتفاً وهي في تلك الحالة يخاطبها: قومي، لا نؤاخذكِ بذنب بعلك. فسألت المرأة الصالحة من الهاتف: مَن تكون تلك النساء الأربعة؟ فجاءها الجواب: المرأة الّتي أخرجت الرأس من التنّور وضمّته إلى صدرها وبكت بكاءً شديداً أشدّ من بكاء الأُخريات هي أُمّه فاطمة الزهراء، والأُخرى أُمّه خديجة الكبرى،

ص: 75

والثالثة مريم أُمّ عيسى، والرابعة آسية امرأة فرعون.

فلمّا أفاقت المرأة الصالحة نظرت حولها فلم ترَ أحداً، فأخذت الرأس المقدّس وقبّلته، وغسلته بالمسك وماء الورد، ومسحته بالغالية والكافور، ووضعته في مكانٍ طاهرٍ نظيف، وذهبت إلى خولي الخبيث فأوقظته من نومه وقالت له: يا ملعون! لمَن هذا الرأس الّذي جئتَ به وأخفيتَه في التنّور؟ أوَليس هذا رأس ابن رسول الله؟ قم، فإنّ السماوات والأرضين تضجّ إلى الله وتنوح، وهذه أفواج الملائكة تزوره وتبكي عنده وتنوح وتعرج، واللهِ لا يجمعني وإيّاك سقفٌ واحدٌ أبداً. فلبست حجابها وخرجت، فناداها الخبيث: إلى أينتخرجين وتتركي أولادي أيتاماً؟ فقالت المرأة المؤمنة: يا ملعون، أنت أيتمتَ أبناء محمّدٍ المصطفى ولم تُبالي، فليتيم أولادك. ثمّ خرجَت ولم يُعرَف لها خبر ((1)).

معاشرَ الشيعة، بأيّ ذنبٍ فعلوا كلّ هذا مع السيّد المولى؟ سوى أنّه كان سبط النبيّ الأطهر، وقرّة عين المرتضى حيدر، وابن فاطمة الزهراء، وآمِراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ذبحوه وقطعوا رأسه ورفعوه على السنان، ثمّ أنزلوه من السنان في التنّور على الرماد!

روى في (التبر المذاب) عن الواقديّ خبراً يذوب له قلب المحبّ وتجري له دموعه ويسلبه استقراره ويقضّ عليه مضجعه.

ص: 76


1- تحفة المجالس: 196 معجزة 28.

قال الواقدي: لمّا حمل الشمر رأس الحسين، جعله في مِخلاة، وذهب إلى منزله فوضعه على التراب، وجعل عليه أُجانة، فخرجَت امرأته ليلاً، فرأت نوراً ساطعاً عند الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الأُجانة، فسمعَت أنيناً تحتها، فجاءت إلى شمرٍ (لعنه الله) وقالت: رأيتُ كذا وكذا، فأيّ شيءٍ تحت الأُجانة؟ قال: رأس خارجيّ قتلتُه، وأُريد أذهب به إلى يزيد ليعطيني عليه مالاً كثيراً. قالت: ومَن يكون؟ قال: الحسين بن عليّ! فصاحَت وخرّت مغشيّة، فلمّا أفاقت قالت: يا شرّ المجوس، أما خفتَ مِن إله الأرض والسماء؟ ثمّ خرجَت من عنده باكية، ورفعت الرأس وقبّلته، ووضعته في حجرها، ودعت نساءً يساعدنها بالبكاء عليه، وقالت: لعن الله قاتلك.

فلمّا جنّ الليل غلبها النوم، فرأت كأنّ الحائط قد انشقّ بنصفين، وغشيَ البيت نور، وجاءت سحابة، فإذا فيها امرأتان، فأخذتا الرأسوبكتا، فسألَت عنهما، فقيل: إنّهما خديجة وفاطمة. ثمّ رأت رجالاً وفي وسطهم إنسانٌ كالقمر ليلة تمّه، فسألت عنه، فقيل: محمّد صلی الله علیه وآله، وعن يمينه حمزة وجعفر وأصحابه، فبكوا وقبّلوا الرأس، ثمّ جاءت خديجة وفاطمة إلى امرأة الشمر وقالتا لها: تمنّي ما شئتِ، فإنّ لكِ عندنا منّةً ويداً بما فعلتِ، فإن أردتِ أن تكوني من رفقائنا في الجنّة فأصلحي أمركِ، فإنّا منتظروك. وانتبهت من النوم ورأس الحسين في حِجرها.

وجاء الشمر (لعنه الله) لطلب الرأس فلم تدفعه إليه، وقالت له: يا عدوّ

ص: 77

الله، طلّقني، فإنّك يهوديّ، واللهِ لا أكون معك أبداً. فطلّقها، فقالت: واللهِ لا أدفع إليك هذا الرأس أو تقتلني. فضربها ضربةً كانت منيّتها فيها، وعجّل الله بروحها إلى الجنّة ((1)).

أمّا ابن سعدٍ الخبيث، فقد روى الشيخ المفيد قال: وأقام ابن سعد يومه ذلك وغده إلى الزوال -- زوال اليوم الحادي عشر --، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم، وترك الحسين وأصحابه منبوذين بالعراء ((2)).

ولمّا رحل ابن سعد، خرج قومٌ من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضريّة إلى الحسين وأصحابه (رحمة الله عليهم)، فصلّوا عليهم ودفنوا الحسين علیه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين عند رجلَيه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الّذينصُرعوا حوله ممّا يلي رجلَي الحسين علیه السلام ، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّ علیه السلام في موضعه الّذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن ((3)).

قال ابن شهرآشوب: وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً، ويرون طيوراً بيضاً ((4)).

ص: 78


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 222.
2- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 326، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 369 الفصل 9.

ورُوي عن الإمام الرضا أنّ الإمام زين العابدين جاء متخفّياً وصلّى على أبيه ودفنه ورجع ((1)).

وإنّما لم يدفن الخبيثُ ابن سعد أبدانَ الشهداء المطهّرة، لأنّهم كانوا يسمّونهم خوارج، وقد ذكرنا فيما مضى أنّ بعض أُولئك الكفّار كانوا يرمون القاسم بن الحسن بالأحجار وينادون: اقتلوا ابن الخارجي! فكيف يسمع الشيعي هذا الكلام ثمّ يحبس دمعه؟ ولَنعم ما قالت النائحة الجنّيّة:

ياعين جودي بالدموع فإنّما***يبكي الحزين بحرقةٍ وتوجّعِ

ياعين ألهاكِ الرقاد بطيبةٍ***من ذكر آل محمّدٍ وتوجّعِ

باتت ثلاثاً بالصعيد جسومهم***بين الوحوش وكلّهم في مصرعِ ((2))

ورُوي أنّ هاتفاً سُمع بالبصرة ينشد ليلاً:

إنّ الرماح الواردات صدورها***نحو الحسين تقاتل التنزيلا

ويهلّلون بأن قُتلت، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا

فكأنّما قتلوا أباك محمّداً****صلّى عليه الله أو جبريلا ((3))

أجل، كان هذا الظلم والجَور والعدوان أجر الرسالة الّتي أمر الله بها هذه

ص: 79


1- أُنظُر: إثباة الوصية: 207، بحار الأنوار للمجلسي: 169 / 45، تظلّم الزهراء: 275.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 95 الباب 29 ح 5.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 235 / 45.

الأُمّة المتعوسة، إذ قال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1)).

أجل، لقد قطعوا الرؤوس المقدّسة، وقسّموها على القبائل، وحملوا السبايا من آل محمّدٍ قاصدين الكوفة، وقد مرّوا بهنّ على مصارع الشهداء.

قال ابن طاووس في (الملهوف): ثمّ رحل بمن تخلّف من عيال الحسين علیه السلام ، وحمل نساءه (صلوات الله عليه) على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم في أشد المصائب والهموم ((2)).

وفي (البحار): جعلوا في عنق الإمام السجّاد الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه، وقد نهكته العلّة ((3)).

معاشر الشيعة، لله حال تلك النساء والبنات المخدّرات اللواتيعشن دائماً معزّزاتٍ مكرّمات، وفي حجب الخدر والعفاف مستورات، والآن أُخرجن حاسرات، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والأجانب، وقد خرجن من المدينة إلى كربلاء في المحامل مستورات، في عزّ الأهل والحُماة محميّات، والآن على أقتاب الأبل مكشوفات، وكان سيّد الشهداء وسائر شباب أهل البيت يراقبوهنّ ويداروهن، في الطريق عند كلّ نزولٍ ورحيلٍ وفي أثناء

ص: 80


1- سورة الشورى: 23.
2- اللهوف لابن طاووس: 143.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 165.

الطريق يشدّون المحامل بأيديهم الكريمة، ويتابعوهنّ طول المسير ويدفعون عنهنّ الأذى والوعثاء، والآن ركّبوهنّ على جمال لا موطئه ولا مرحولة، ويسوقهنّ الأعداء بغلظةٍ وشدّةٍ يزجرون النساء والأطفال، فماذا تفعل السيّدة فخر المخدرات زينب الحوراء مع وصيّة أخيها لها بالنسوة والأطفال؟ سوى أن يقال عن لسان حالها:

يا هادي الأضعان رفقاً بالأُلى****كانوا من العليا بدور مهائها ((1))

أوَما علمتَ بمن تحثّ ركابها***يا ديك يا أولى الورى بشقائها

في الركب أولاد الرسول وفاطم ال***زهرا البتول الطهر ستّ نسائها

فيه الفواطم للخدود لواطمٌ***ثكلى، تنادي الغوث من ضرّائها

في الركب زين العابدين مكبّلاً***ذو غلّةٍ عبرى تسحّ بمائها

دنفٌ عليلٌ ذو غليل زاده***غلّ اليدين كآبة لعيائها

حضرني -- وقد وصلتُ في الكلام إلى هذا المقام -- ما حدث أيّام الأمير الوفيّ القويّ المختار، حيث جاؤوا بسهيل بن عريف الخزاعي إليه، فقال: يا سهيل، أوَلستَ أنت الّذي كنت تغمز الإبل بالقضيب لتنفر، فيقع أهل البيت من ظهرها على الأرض؟ فأنكر اللعين، فقال الأمير: لو أحرقتَ لي في قسمك مئة مصحفٍ لما صدّقتك. ثمّ أمر فقُطعت أصابيع يديه ورجليه،

ص: 81


1- يقال للكواكب: مَها (انظر: لسان العرب: مادّة مهو).

ورُمي به تحت الشمس حتّى هلك وفي وديان جهنّم سلك.

[عودةٌ إلى الحديث]

أمر ابن زيادٍ في يوم ورود آل محمّد الكوفة أن لا يخرج أحدٌ من أهل الكوفة مع السلاح، وأمر بعشرة آلاف فارسٍ أن يأخذوا السكك والأسواق والطرق والشوارع، خوفاً من الناس أن تحرّكهم الحميّة والغيرة على أهل البيت إذا رأوهم في تلك الحالة ((1)).

وفي (الملهوف): فلمّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن ((2)).

ورُوي: فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون ((3)).

وفي (الملهوف): فأشرفت امرأةٌ من الكوفيّات فقالت: مِن أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمّد صلی الله علیه وآله فنزلَت المرأة من سطحها، فجمعت لهنّ ملاءً وأُزُراً ومقانع وأعطتهنّ فتغطّين ((4)).فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «تنوحون وتبكون من أجلنا؟ فمَن ذا الّذي قتلنا؟!» ((5)).

ص: 82


1- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 28 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- اللهوف لابن طاووس: 144.
3- اللهوف لابن طاووس: 146، تظلّم الزهراء للقزويني: 293.
4- اللهوف لابن طاووس: 144.
5- اللهوف لابن طاووس: 146.

وروى أبو مخنف، عن بعض الثقاة من أهل العلم قال: كنتُ في الكوفة سنة قُتل الحسين علیه السلام فرأيت نساء أهل الكوفة وهنّ مشقّقات الجيوب ناشرات الشعور لاطمات الخدود، فأقبلتُ إلى شيخٍ كبيرٍ فقلت له: ما هذا البكاء والنحيب؟! فقال: من أجل رأس الحسين علیه السلام.

فبينما أنا كذلك وإذا بالعسكر قد أقبل، والسبايا معهم، فرأيتُ جاريةً حسناء جسيمةً على بعيرٍ بغير غطاءٍ ولا وطاء، فسئلتُ عنها فقيل لي: هذه أُمّ كلثوم. فدنوتُ منها فقلت لها: حدّثيني بما جرى عليكم. فقالت: مَن أنت يا شيخ؟ فقلت لها: أنا رجلٌ من أهل البصرة. فقالت: يا شيخ، اعلمْ أنّي كنتُ في الخيمة إذ سمعتُ صهيل الفرس، فخرجتُ فرأيت الفرس عارياً والسرج خالياً من راكبه، فصرخت وصرخَت النساء معي، فسمعتُ هاتفاً أسمع صوته ولا أرى شخصه وهو يقول:

واللهِ ما جئتُكم حتّى بصرتُ به***بالطفّ منعفر الخدَّين منحورا

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهمُ****مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

وقد ركضت ركابي كي أُصادفه***من قبل يلثم وسط الجنّة الحورا

دنى إلى أجلٍ والله قدّره***وكان أمرٌ قضاه الله مقدورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به****والله يعلم أنّي لم أقل زورا

فقلت له: بحقّ معبودك مَن أنت؟ فقال: أنا ملكٌ من ملوك الجنّ، جئتُ أنا وقومي أنصر الحسين علیه السلام، فوجدناه قد قُتل. ثمّ قال: وا أسفاه

ص: 83

عليك يا أبا عبد الله! ثلاث مرّات ((1)).

وعن أبي مخنف أيضاً، قال سهل بن حبيب الشهرزوري ((2)): كنتُ قد أقبلتُ في تلك السنة أُريد الحجّ إلى بيت الله الحرام، فدخلتُ الكوفة، فوجدت الأسواق معطَّلةً والدكاكين مغلقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً حلقاً حلقاً، منهم مَن يبكي سرّاً ومنهم مَن يضحك جهراً، فتقدّمتُ إلى شيخٍ منهم وقلت له: يا شيخ، ما نزل بكم؟! أراكم مجتمعين كتائب، ألكم عيدٌ لست أعرفه للمسلمين؟ فأخذ بيدي وعدل بي ناحيةً عن الناس، وقال: يا سيّدي ((3))، ما لنا عيد. ثمّ بكى بحرقةٍ ونحيب، فقلت: أخبِرْني يرحمك الله. قال: بسبب عسكرين، أحدهما منصورٌ والآخر مهزومٌ مقهور. فقلت: لمن هذان العسكران؟ فقال: عسكر ابن زيادٍ وهو ظافرٌ منصور، وعسكر الحسين بن عليّ وهو مهزومٌ مكسور. ثمّ قال: وا حرقتاه أن يدخل علينا رأس الحسين.

فما استتمّ كلامه إذ سمعتُ البوقات تضرب، والرايات تخفق قد أقبلَت، فمددتُ طرفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة، فلمّاانقضى دخوله سمعتُ صيحةً عالية، وإذا برأس الحسين علیه السلام قد أقبل على رمحٍ طويل،

ص: 84


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 100.
2- في المتن: (قال سعيد).
3- في المتن: (يا حبيبي).

وقد لاحت شواربه والنور يخرج ساطعاً من فيه حتّى يلحق بعنان السماء، فخنقَتني العَبرة لمّا رأيته.

وأقبلَت مِن بعده أُمّ كلثوم (عليها وعلى آبائها السلام)، وعليها بُرقع خزّ أدكن، وهي تنادي: يا أهل الكوفة، نحن والله سبايا الحسين، غضّوا أبصاركم عن النظر إلينا، معاشرَ الناس، أما تستحون من الله ورسوله تنظرون إلى حريم نبيّكم رسول الله صلی الله علیه وآله وحريم عليّ المرتضى وفاطمة الزهراء علیهما السلام قال: فغضّوا الناس أبصارهم من النظر إليهم.

قال سهل بن حبيب ((1)): فوقفوا بباب بني خزيمة ساعةً من النهار، والرأس على قناةٍ طويلة، فتلا سورة الكهف، إلى أن بلغ في قرائته إلى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2)). قال سهل: واللهِ إنّ قراءته أعجب الأشياء، ثمّ بكيت وقلت: إنّ هذا أمرٌ فظيع. ثمّ غُشيَ علَيّ، فلم أفق من غشوتي إلى أن ختم السورة ((3)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن مسلم الجصّاص قال: دعاني ابن زيادٍ لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أُجصّص الأبواب وإذا بالزعقات قد ارتفعَت من جنبات الكوفة، فأقبلتُ على خادمٍ -- وكان يعمل معنا -- فقلت:

ص: 85


1- في المتن: (سهل بن المسيّب).
2- سورة الكهف: 9.
3- مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 122 الرقم 165.

ما لي أرى الكوفة تضجّ؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجيّ خرج على يزيد ابن معاوية. فقلت: مَن هذا الخارجي؟ قال: الحسين بن عليّ.

قال: فتركتُ الخادم حتّى خرجت، ولطمتُ وجهي حتّى خشيت على عينَيّ أن تذهبا، وغسلتُ يدي من الجصّ، وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس، فبينما أنا واقفٌ والناس يتوقعّون وصول السبايا والرؤوس، إذ قد أقبلَت نحو أربعين شقّةً تُحمَل على أربعين جملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة، وإذا بعليّ بن الحسين على بعيرٍ بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:

«يا أُمّةَ السوء، لا سقياً لربعكمُ***يا أُمّةً لم تراعي جدَّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا***يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟

تسیّرونا علی الأقتاب عاریةً***کأنّنا لم نشيّد فیکم دیناً

بني أُمیّة، ما هذا الوقوف لنا؟***تلك المصائب لا تبلون ((1))داعینا

تصفّقون علینا ((2))کفّکم فرحاً****وأنتمُ في فِجاج الأرض تسبونا

ألیس جدّي رسول الله؟ ویْلکمُ***أهدی البریّة من سبل المضلّینا

ألیس جدّي رسول الله؟ ویْلکمُ***أهدی البریّة من سبل المضلّینا

یا وقعةَ الطفّ قد أورثتِني حزَناً***والله يهتك أستار المسيئینا»

ص: 86


1- في المتن: «لا تکبّون»، وفي (البحار) و(العوالم) و(الدمعة الساكبة) و(نفَس المهموم): «لا تلبّون»، وفي (الأسرار): «لم تصنعوا».
2- في المتن: «عليكم».

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الّذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أُمّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام. وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض. قال: كلّ ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.

ثمّ إنّ أُمّ كلثوم أطلعَت رأسها من المحمل وقالت لهم: صَهْ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّةٍ قد ارتفعَت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يَقدِمهم رأس الحسين علیه السلام ، وهو رأسٌ زهريٌ قمري، أشبه الخلق برسول الله صلی الله علیه وآله، ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والرمح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها، فنطحَت جبينها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقةٍ وجعلت تقول:

يا هلالاً لمّا استتمّ كمالا***غاله خسفُه فأبدا غروبا

ما توهّمتُ يا شقيق فؤادي***كان هذا مقدّراً مكتوبا

يا أخي، فاطم الصغيرة كلِّمْها***فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي، قلبك الشفيق علينا****ما لَه قد قس-ى وصار صليبا؟

يا أخي، لو ترى عليّاً لدى الأسر***مع اليتم لا يطيق وجوبا

ص: 87

مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب ناداك***بذلٍّ يغيض دمعاً سكوبا

يا أخي، ضمّه إليك وقرِّبْه***وسكّن فؤاده المرعوبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي***بأبيه ولا يراه مجيبا ((1))

يا محبّ أحمد المختار وشيعة عليّ الكرار، لو تصوّرت هذه الحالة: الرأس مرفوعٌ على السنان، وأُخته المظلومة تنظر إليه، وتنوح عليه بتلك الأبيات وتبكي عليه بدمعٍ هطولٍ منهمر، فإن لم يرقّ قلبك -- والعياذ بالله -- لِما سمعتَه من شعرها الحزين ولم تجرِ دمعتك، فاستمع بكلّ مشاعرك وحواسّك وأنت في غاية الخشوع والأدب إلى ما قاله بعض الشعراء العرب بلسان الحال عن أُخته المظلومة:

أخي یا أخي، أيّ المصائب أشتکي***فراقك أم هتکي وذلّي وغربتي

أم الثوب مسلوباً، أم الجسم عارياً***أم النحر منحوراً ببيض صقيلةِ

أم الظهر مرضوضاً، أم الشيب قانياً***أم الرأس مرفوعاً كبدر الدجيّةِ

أم الرحل منهوباً، أم المهر ناعياً***أم الوجه مكبوباً بحرّ الظهيرةِ

أم الضائعات الفاقدات حواسراً***كمثل الإما يُشهَرن في كلّ بلدةِ؟

أخي يا أخي، قُلْ للئام: ترفّقوا***بسلب حريمي، وارحموا حال غربتي

أخي،ليت هذا النحر كان بمنحري***ويا ليت هذا السهم كان بمهجتي

ص: 88


1- المنتخب للطريحي: 2 / 463 المجلس 10، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 114.

أخي يا أخي، ما كان أطيب عيشنا***وأطيب أيّاماً تقضّت بطيبةِ

أخي،بلّغ المختار طه سلامنا***وقل: أُمّ كلثومٍ بكربٍ ومحنةِ

أخي،بلّغ الكرّار عنّي تحيّةً***وقل: زينبٌ أضحت تُساق بذلّةِ

[خطبة السيّدة الحوراء]

في (الملهوف) لابن طاووس: قال بشير بن خزيم الأسديّ: ونظرتُ إلى زينب بنت عليٍّ يومئذ، ولم أرَ خَفِرةً واللهِ أنطق منها، كأنّها تُفرع من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثمّ قالت:

الحمد لله، والصلاة على أبي محمّدٍ وآله الطيّبين الأخيار.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلكم كمَثل الّتي نقضَت غزلها مِن بعد قوّةٍ أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصلف والنطف والصدر الشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنةٍ أو كفضّةٍ على ملحودة، ألا ساء ما قدّمَت لكم أنفسُكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً؛ فلقدذهبتُم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل

ص: 89

سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجّتكم ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضبٍ من الله، وضُربَت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم، وأيّ كريمةٍ له أبرزتم، وأيّ دمٍ له سفكتم، وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء [وفي بعضها: خرقاء شوهاء]، كطلاع الأرض أو ملء السماء. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولَعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تُنصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربكم لَبالمرصاد ((1)).

وفي رواية القطب الراوندي: ثمّ أنشأَت تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ماذا صنعتم وأنتم آخر الأُمم

بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي؟***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

إنّي لَأخشى عليكم أن يحلّ بكم***مثل العذاب الّذي أودى على إرَمِ

ثم ولّت عنهم.

ص: 90


1- اللهوف لابن طاووس: 144.

قال حذيم ((1)): فرأيتُ الناس حيارى، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، فالتفتّ إلى شيخٍ إلى جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته بالبكاء ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول: بأبي وأُمّي، كهولهم خير الكهول، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسلٌ كريم، وفضلهم فضلٌ عظيم. ثمّ أنشد شعراً:

كهولهم خير الكهول، ونسلهم***إذا عُدّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى

وفي (الاحتجاج): فقال عليّ بن الحسين: «يا عمّة اسكتي؛ ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنتِ -- بحمد الله -- عالِمةٌ غير مُعلَّمة، فَهِمَةٌ غير مُفهَّمة، إنّ البكاء والحنين ((2)) لا يردّان مَن قد أباده الدهر»، فسكتت ((3)).

وفي رواية أبي مخنف: إنّ السيّدة المخدّرة أطرقت برأسها إلى الأرض، وجلعت تبكي بكاءً شديداً، ثمّ أنشأت الأبيات المذكورة: (ماذا تقولون..) ((4)).

وفي (الملهوف): خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء، فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأُومن به

ص: 91


1- في المتن: (بشير بن حريم الأسدي).
2- في المتن: (الحزن).
3- الاحتجاج للطبرسي: 2 / 305، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 164.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي المخنف (المشهور): 101.

وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلی الله علیه وآله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذحلٍ ولا ترات. اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلتَ عليه مِن أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، المسلوبِ حقّه المقتولِ من غير ذنب -- كما قُتل ولده بالأمس -- في بيتٍ من بيوت الله، فيه معشرٌ مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم، ما دفعَت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضتَه إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم ولا عذل عاذل، هديتَه اللّهمّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك، حتّى قبضتَه إليك زاهداً في الدنيا غير حريصٍ عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته، فهديته إلى صراطٍ مستقيم.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء! فإنّا أهل بيتٍ ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عَيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته، وحُجّتُه على الأرض في بلاده لعباده، أكرمَنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّدٍ صلی الله علیه وآله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد تركٍ وكابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقدٍ متقدّم، قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما

ص: 92

أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا منالمصائب الجليلة والرزايا العظيمة «فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((1))، «إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ((2))، «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ((3)).

تبّاً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذابٍ ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّةٍ يد طاغتنا منكم، وأية نفسٍ نزعت إلى قتالنا، أم بأيّة رجلٍ مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟ واللهِ قست قلوبكم وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم وخُتم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوةً فأنتم لا تهتدون، فتبّاً لكم يا أهل الكوفة، أيّ تراتٍ لرسول الله صلی الله علیه وآله قبلكم، ودخولٍ [خ ل: ذحولٍ] له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار؟ فافتخر بذلك مفتخرٌ وقال:

ص: 93


1- سورة الحديد: 22.
2- سورة الحجّ: 70.
3- سورة الحديد: 23.

نحن قتلنا عليّاً وبني علي***بسيوفٍ هنديّةٍ ورماح

وسبينا نساءهم سبي تركٍ***ونطحناهم فأيّ نطاح

بفيك أيّها القائل الكثكث والأثلب افتخرتَ بقتل قومٍ زكّاهم اللهوطهّرهم الله وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقعَ كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئٍ ما كسب وما قدّمَت يداه. أحسدتمونا -- ويلاً لكم -- على ما فضّلَنا الله؟

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساجٍ ما يواري الدعامصا؟

«ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ((1))، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» ((2)).

قال: فارتفعَت الأصوات بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبكِ يا ابنة الطيّبين، فقد أحرقتِ قلوبنا وأنضجتِ نحورنا وأضرمتِ أجوافنا. فسكتَت.

قال: وخطبَت أُمّ كلثوم ((3)) بنت عليّ علیه السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها، رافعةً صوتها بالبكاء، فقالت:

يا أهل الكوفة، سوأةً لكم، ما لَكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟ فتبّاً لكم وسحقاً، ويلكم!

ص: 94


1- سورة الحديد: 21.
2- سورة النور: 40.
3- في المتن: (زينب).

أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم، وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم، وأيّ دماءٍ سفكتموها، وأيّ كريمةٍ أصبتموها، وأيّ صبيّةٍ سلبتموها، وأيّ أموالٍ انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالاتٍ بعد النبيّ صلی الله علیه وآله، ونُزعَت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قتلتم أخي صبراً، فويلٌ لأُمّكم***ستُجزَون ناراً حرّها يتوقدُ

سفكتم دماءً حرّم الله سفكها***وحرّمها القرآن ثمّ محمّدُ

ألا فابشروا بالنار، إنّكمُ غداً***لَفي سقَرٍ حقّاً يقيناً تخلّدوا

وإنّي لَأبكي في حياتي على أخي***على خير مَن بعد النبيّ سيولدُ

بدمعٍ غريزٍ مستهلٍّ مكفكفٍ***على الخدّ منّي دائماً ليس يجمدُ

فضجّ الناس بالبكاء والنوح، ونشر النساء شعورهنّ ووضعنَ التراب على رؤوسهنّ، وخمشن وجوههنّ وضربن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم، فلم يُرَ باكيةً وباكٍ أكثر من ذلك اليوم.

ثمّ إنّ زين العابدين علیه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ صلی الله علیه وآله ثمّ صلّى عليه، ثمّ قال:

«أيّها الناس! مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، أنا ابن مَن انتُهكت حرمته وسُلبت نعمته وانتهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحلٍ ولا ترات، أنا

ص: 95

ابن مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً ...» ((1)).أيّها الإخوة المؤمنون، لقد أشار الإمام زين العابدين في هاتين الفقرتين إلى قضيّةٍ تثير الزفرة وتسيل لها الدموع من العيون.

قال ابن الأثير في (النهاية): أنّه نُهي عن قتل شيءٍ من الدوابّ صبراً، وهو أن يمسَك شيءٌ من ذوات الأرواح حيّاً ثمّ يُرمى به حتّى يموت ((2))، ويقصد ب- (يُرمى به) أن يضرب السهام والعصا والحجارة حتّى يموت.

وقد فعلوا كلّ ما نهى عنه النبيّ أن يُفعَل مع الحيوان، حيث أُصيب الإمام المظلوم بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام ومئةٍ وثمانين جراحةٍ من طعن الرماح وضرب السيوف.

وقال الإمام محمّد الباقر: «ولقد قُتِل بالسيف والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((3)).

فالإمام زين العابدين يقول في هاتين الفقرتين: أنا ابن مَن قُتل قتلاً نهى عنه النبيّ أن يُفعَل بالحيوان، أنا ابن من قُتل صبراً! وكفى بهذا القتل فخراً لما فيه من درجاتٍ عاليةٍ خاصّة بالإمام المظلوم.

أيّها الناس، فأُنشدكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه،

ص: 96


1- اللهوف لابن طاووس: 146 وما بعدها.
2- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 3 / 8.
3- عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 30.

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه، فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم، وسوأةً لرأيكم، بأيّة عينٍ تنظرون إلى رسول الله صلی الله علیه وآله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي،فلستم من أُمّتي؟

قال الراوي:

فارتفعَت الأصوات من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون! فقال علیه السلام : «رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله أُسوةً حسنة»، فقالوا بأجمعهم: نحن كلّنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمُرْنا بأمرك، يرحمك الله، فإنّا حربٌ لحربك وسلمٌ لسلمك، لَنأخذنّ يزيد (لعنه الله) ونبرأ ممّن ظلمك وظلمنا. فقال علیه السلام: «هيهات هيهات أيّها الغدَرة المكَرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟ كلّا وربِّ الراقصات، فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلی الله علیه وآله بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنسى ثكل رسول الله؟صلی الله علیه وآله وثكل أبي وبني أبي، ووَجْدُه بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغُصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا»، ثمّ قال:

«لا غرو إن قُتل الحسين، فشيخه***قد كان خيراً من حسين وأكرم

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالّذي***أُصيب حسينٌ، كان ذلك أعظم

قتيلٌ بشطّ النهر، روحي فداؤه***جزاء الّذي أرداه نار جهنّم»

ص: 97

ثمّ قال: «رضينا منكم رأساً برأس، فلا يومٌ لنا ولا يومٌعلينا» ((1)).

وفي (المنتخب): وعن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّه كان يقول وهو في أسر بني أُميّة: «أيّها الناس، إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكرٌ فهو غيّ، وكلّ كلامٍ ليس فيه ذكرٌ فهو هباء، ألا وإنّ الله (تعالى) أكرم أقواماً بآبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله (تعالى): «وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً» ((2)) (1)، فأكرمهما، ونحن واللهِ عترة الرسول صلی الله علیه وآله، فأكرِمونا لأجل رسول الله؛ لأنّ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله كان يقول فوق منبره: احفظوني في عترتي وأهل بيتي، فمَن حفظني حفظه الله، ومَن آذاني فعليه لعنة الله. ونحن واللهِ أهل بيتٍ أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونحن والله أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة، وزوي عنّا الدنيا ولذّاتها ولم يمتّعنا بلذّاتها» ((3)).

قال المؤلّف: لو تأمّل الإنسان في خطب النساء الأسرى وعبارات السيّدات المسبيّات والإمام العليل سيّد الساجدين، مع أنّهم في السبي وقد رأوا كلّ تلك المصائب والرؤوس مرفوعةٌ أمامهم على رؤوس الرماح وتظافر المتفرّجين وهنّ حواسر بين الأعداء، وهذا يكشف عن علوّ مقامهم ورتبهم وكمالهم وقربهم من الله، العجب العجب من أهل الكوفة وصلافتهم كيف ينظرون إلى هذه المشاهد ولا ينتقمون من أعداء أهل البيت ويسفكون

ص: 98


1- اللهوف لابن طاووس: 157 وما بعدها.
2- سورة الكهف: 82.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 232 المجلس 1.

دماءهم؟!

يا لَلرجال، مخدّرات محمّدٍ***تُسبى وتُهتك ما لهنّ ودود

تلهي وتضرب بالسياط جراءة***وتسبّ آباء لها وجدود

أضوؤهن كالبدور ظواهر***تحت الحجاب شعاعها موقود

أصبحن من بعد الحجاب سوافراً***في السفر يعلو نورهنّ كنود

يشهرن في الأمصار ما بين الورى***يسوقها رجسٌ هناك عنيد

في (الإرشاد) للمفيد: جلس ابن زيادٍ للناس في قصر الإمارة، وأذن للناس إذناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس ((1)) المقدّس، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

قال بعض الثقات: لمّا اقتربَت الرؤوس من مقصورة ابن زياد، اقتربتُ من الرأس المقدّس لسيّد الشهداء وحقّقت النظر، فرأيتُ شفتيه تتحرّكان، فدنوتُ منه وأنصتُّ اليه، فسمعتُه يقرأ: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ» ((2)) ((3)).

وفي (الأمالي) للصدوق: فوضع بين يديه في طستٍ من ذهب ((4)).

ص: 99


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
2- سورة إبراهيم: 42.
3- أُنظُر: روضة الشهداء للواعظي: 365.
4- الأمالي للصدوق: 165 المجلس 31 ح 3.

وفي (الإرشاد) للمفيد: وجعل ينظر إليه (وهو مرمَّلٌ بالدماء)ويتبسّم، وفي يده قضيبٌ يضرب به ثناياه ((1)) -- آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه! شُلّت يداه ولعنه الله -- ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله. فقال رجلٌ من القوم: مَهْ! فإنّي رأيتُ رسول الله يلثم حيث تضع قضيبك. فقال: يومٌ بيوم بدر ((2)). أي: كما قتل أبوه كبراء بني أُميّة الكفّار، فإنّه انتقم من أولاده، فجاهر بالكفر الّذي كان يُبطنه.

ورُوي أنّ أنس بن مالك قال: شهدتُ عُبيد الله بن زياد وهو ينكت بقضيبٍ على أسنان الحسين، ويقول: إنّه كان حسن الثغر. فقلت: أمَ والله لَأسوأنّك، لقد رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يُقبّل موضع قضيبك من فيه.

وعن سعد بن معاذ وعمر بن سهل أنّهما حضرا عبيد الله يضرب بقضيبه أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه ((3))..

قال أبو القاسم بن محمّد: ما رأيتُ منظراً قطّ أفظع من إلقاء رأس الحسين علیه السلام بين يديه وهو ينكته ((4)).

وفي (الإرشاد): وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلی الله علیه وآله،

ص: 100


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
2- الأمالي للصدوق: 165.
3- مثير الأحزان لابن نما: 91.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 167.

وهو شيخٌ كبير، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره لقد رأيتُ شفتَي رسول الله صلی الله علیه وآله عليهما ما لا أُحصيه كثرةً تقبّلهما. ثمّانتحب باكياً ((1))، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟ والله لولا أنّك شيخٌ قد خرفت وذهب عقلك لَضربتُ عنقك. فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله ((2)).

وفي رواية (التبر المذاب): فنهض وهو يقول: أيّها الناس، أنتم العبيد بعد اليوم؛ قتلتم ابن فاطمة، وأمّرتم ابن مرجانة! واللهِ لَيقتلنّ خياركم، وليستعبدنّ شراركم ((3))، فبُعداً لمن يرضى الذلّ والعار ((4)).

ثمّ قال: يا ابن زياد لَأُحدّثنّك حديثاً هو أغلظ عليك من هذا! رأيتُ رسول الله أقعَدَ حسناً على فخذه اليمنى والحسينَ على اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخهما وقال: «اللّهمّ إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين»، فكيف

ص: 101


1- أبكى الله عينَيه، ما يصنع هذا الشيخ في مجلس ابن الأَمة الفاجرة، وقد قتل ريحانة النبيّ وسيّد شباب أهل الجنّة وسبى ذرّيّته وعياله؟!!
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
3- أُسد الغابة لابن الأثير: 1 / 499.
4- أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 207، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 190، تاريخ الطبري: 5 / 456، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 81.

كانت وديعة رسول الله عندك يا ابن زياد؟! ((1))

معاشرَ الشيعة، لمّا بلغتُ فيما أكتب إلى هذا المقام وما فعله الدعيّ الخبيث من تجاسرٍ على رأس الإمام، طفقت أُفكّر في حِلم المظلوم وصبره على هذا الإجرام، ونحن نعتقد أنّه يسمع ويرى، يتلو القرآن، وهو في الإحساس أعظم من أرواح الشيعة المخلوقةمن فاضل طينته علیه السلام ، وقد أعطاه الله من القدرة ما جعل جميع المخلوقات مطيعةً له خاضعةً لأمره، فبينا أنا كذلك إذ لاح لناظري حديث هشام بن محمّد المذكور في (التبر المذاب)، فجرت دموعي وثارت زفرتي، واضطربتُ وفقدت راحتي، وعقلت حينها معنى قولهم: «تخلّقوا بأخلاق الله» ((2))، والحديث هو:

قال هشام بن محمّد: لمّا وُضع الرأس بين يدَي ابن زياد (لعنه الله)، قالت له كاهنة: قم وضع قدمك على فم عدوّك!!! فقام ووضع قدمه على فيه!!!!! ثمّ قال لزيد بن أرقم: كيف ترى؟ فقال: واللهِ لقد رأيت رسول الله صلی الله علیه وآله واضعاً فاه حيث وضعت قدمك! ((3))

ص: 102


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 169، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231، مثير الأحزان لابن نما: 72، الصواعق المحرقة لابن حجر: 300، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 170.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 58 / 129.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 170، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231.

فتحمُّل مثل هذا الأذى لا يكون إلّا من منشأ الولاية المطلقة ومنع الأسرار الإلهيّة، ولا يتحمّلها سوى ذلك لا ملَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسَل ولا مؤمنٌ ممتحَن، حتّى أُولي العزم من الرسل، فهذا كليم الله دعا على قارون بمجرّد أن افترى عليه وقذفه بفرية الزنا، رغم أنّ الله قد فضح قارون على رؤوس الأشهاد ودافع عن موسى وبراءته، بَيد أنّ موسى غضب، فتوسّل به قارون سبعين مرّة فلم يجب، حتّى خُسفَت به وبداره الأرض، وكانت الأرض فقط مأمورة بإطاعته، بينما نرى سيّد الشهداء المظلوم لم يدعُ مع كلّ ما تحمّله من أذى وتجاسر عليه، والحال أنّ الله قد جعل كلّ الأشياء طوع إرادته ومؤتمرةً بأمره.

وكذا المخدّرة المظلومة، كلّما ازداد الأذى والتجاسر عليها كانتمنشأً لظهور كمالاتها وشقاوة أعدائها أكثر، وكانت منشأً لحرقة قلوب الشيعة وجريان دموعهم الموجبة للجنان أكثر.

أيّها الشيعي، إن لم يرقّ قلبك ولم تجرِ دموعك لسماع الخبر الذكور، فاجتنب فضول الكلام ولا تخض فيما لا يعنيك، لتستعدّ لسماع ما سأذكره لك عن (التبر المذاب)، فلو كان قلبك أشدّ قساوةً من الحجر لرقّ ولان وانكسر وجرى دمعك وانهمر، وهو حديثٌ يصدّع الفؤاد:

قال عبد الله بن عمرو الورّاق في كتاب (المقتل): إنّه لمّا حضر الرأس

ص: 103

بين يدَي ابن زياد، أمر حجّاماً فقال: قوِّرْه. فقوَّرَه، وأخرج لغاديده ((1)) ونخاعه وما حوله من اللحم ((2)).

قال أبو مخنف: إنّ عمر بن الحارث المخزوميّ قوّره، فيبست يداه، وورمت عليه، وانتفخت، وقيل: وقعت فيها الآكلة، فتقطّعت يداه.

وأمر الخبيث الشرير ابن زياد أن يُحشى الرأس مسكاً وكافوراً وصبراً وعنبراً، ففُعل به ذلك ((3)).

وفي (التبر المذاب): فقام عمرو بن حريث المخزوميّ فقال لابن زياد: أيّها الأمير، قد بلغتَ حاجتك من هذا الرأس، فهَبْ لي ما ألقيت منه. فقال: ما تصنع به؟ قال: أُواريه! فقال: خُذه. فجمعه في مطرف خزّ، وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه، وكفّنه ودفنه عنده في داره ((4)).وفي (التبر المذاب): وكان في المجلس عند ابن زيادٍ قيسُ بن عباد ((5))، فقال له ابن زياد: ما تقول فيّ وفي حسين؟! فقال: يأتي يوم القيامة جدُّه

ص: 104


1- اللغاديد: ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 173، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.
3- مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 103 الرقم 150.
4- حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للخافي: 174، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.
5- في المتن: (عبادة).

وأبوه وأُمّه فيشفعون فيه، ويأتي جدّك وأبوك وأُمّك فيشقون فيك. فغضب ابن زيادٍ وأقامه من المجلس ((1)).

ورُوي أنّ ابن زياد بعد أن ضرب ثنايا الحسين بالقضيب، حمل الرأس على يديه وجعل ينظر إليه، فارتعدَت يداه فوضع الرأس على فخذه، فقطرت قطرةٌ من الدم من نحره الشريف على ثوبه، فخرقه وخرق فخذه حتّى خرجَت من الجهة الأُخرى وغابت في الأرض، وصار في فخذه جرحاً منكراً، كلّما عالجه لم يبرء حتّى صارت نتناً عفناً تُزكم عفونته الأُنوف، فلم يزل يحمل المسك معه ليغطّي تلك العفونة ويخفّف النتن، حتّى هلك، فلمّا قتله إبراهيم بن مالك الأشتر في ظلمة الليل لم يعرفه، فقال: قتلت رجلاً كانت تفوح منه رائحة المسك. فلمّا فتّشوه وجدوه ابن زياد ((2)).

كقطر

الماء في الأصداف درٌّ

وفي بطن الأفاعي صار سُمّا

فما يفيض من عالم الإمام نورٌ للمؤمنين ونارٌ على الكافرين، وشفاءٌ للمسلمين وعذابٌ على الظالمين، فإذا أفاض دمُه المباركعلى القابل المستعدّ صار سبباً للشفاء، كما سمعتَ في قصّة بنت اليهوديّ فيما مضى،

ص: 105


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 170، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231.
2- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 40 -- بترجمة: السيّد علي أشرف -- عن: روضة الأحباب، روضة الشهداء للكاشفي: 365.

وإذا أصاب ابن زيادٍ أمرضه وجرحه، كما سمعتَ الآن.

وكذا هي تربته، إذا تناولها شيعته صارت لهم شفاءً من كلّ مرض، وإذا تناولها العدوّ مستهزءاً أمرضَتْه، كما حدث لموسى بن عيسى من أقرباء هارون الّذي استعمل التربة بقصد الاستهزاء، فخرجت أحشاؤه جميعاً وهلك وفي جهنّم سلك.

وكذا هو اسمه المبارك، إذا سمعه الشيعيّ ثارت زفرته وجرت دمعته، وإذا سمعه العدوّ اشمأز قلبه ونبش حقده وجرى السبّ والشتم على لسانه، وقد ذكرنا فيما سبق حديث المفضّل كم سيكون الإمام عند الظهور نعمةً للمؤمنين ونقمةً وعذاباً على المعاندين، وقد قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً» ((1)).

في (الكافي)، مسنداً عن المفضّل بن عمر قال: سألتُ أبا عبد الله؟ع؟ عن قول الله (تعالى): «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَ-ذَا أَوْ بَدِّلْهُ» ((2))، قال: «قالوا: أو بدِّلْ عليّاً» ((3))، يعني أنّ المنافقين قالوا: بدّلِ القرآن وائتنا بقرآنٍ ليس فيه ما لا

ص: 106


1- سورة الإسراء: 82.
2- سورة يونس: 15.
3- الكافي للكليني: 1 / 419 ح 37.

نرضاه من ولاية أمير المؤمنين، أو بأن يجعل مكان آيةٍ متضمّنةٍله آيةً أُخرى، فقال الله (تعالى) لرسوله: «قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي»، أي: بالتبديل مِن قِبل نفسي «عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ((1)) ((2)).

وفي (الكافي) في حديثٍ طويلٍ عن جابر فيه خطبة لأمير المؤمنين يصف فيها انحراف أبي بكر عن أمير المؤمنين: «فأنا الذِّكر الّذي عنه ضلّ، والسبيلُ الّذي عنه مال، والإيمان الّذي به كفر، والقرآن الّذي إيّاه هجر، والدين الّذي به كذّب، والصراط الّذي عنه نكب» ((3)).

وفي (تفسير فرات)، عن الإمام أبي جعفر الباقر؟ع؟ في قول الله: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» ((4))، قال: «ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني: نحن هم ولد الولد، والقرآن العظيم: عليّ بن أبي طالب» ((5)).

ففسّر الإمام القرآن العظيم بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فظهر من ذلك أنّهم علیهم السلام شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، وعذابٌ ونقمةٌ على الظالمين.

ص: 107


1- سورة يونس: 15.
2- أُنظُر: شرح الكافي للمازندراني: 7 / 67.
3- الكافي للكليني: 8 / 28.
4- سورة الحِجر: 87.
5- تفسير فرات الكوفي: 231 ح 310.

أعتذر عن تغيير سياق الكلام بعد أن ذكرتُ ما تجاسر به ابنُ مرجانة على رأس الإمام المبين والقرآن الناطق الّذي يسمع ويرى والآلِ الكرام في المجلس العام، فهاجت روحي وثار قلبي، وكيف لا وقد فعل ابن الزانية كلّ تلك الأفاعيل مع الرأس المقدّس وتجاسر فيثنايا كلامه مع الآل.

[دخول أهل البيت إلى المجلس العام]

أمّا كيفيّة دخول أهل بيت النبيّ الكرام وآل سيّد الأنام إلى المجلس العام، الّذي دعا إليه الدعيّ ابن الأَمة الفاجرة، فقد قال فيه الشاعر:

مَن مُخبِر الزهراء أنّ بناتها***يُشهَرن بين طغاتها وبغاتها

يا فاطم الزهراء قومي واندبي***أسراكِ في أشراك

ذلّ عداتها ((1))

معاشرَ الشيعة، أُقسم على الله بحقّ فخر بني آدم أن لا يذلّ أيّ عزيز، ولا يبتلِ أيّ شريف قومٍ بأراذل قومه وسفلتهم.

ماذا جرى على الرأس المقدّس لسيّد الشهداء -- وهو سميعٌ بصيرٌ عليمٌ -- حينما دخلوا به المجلس، ويشاهد أهل بيته في المجلس وهو غاصٌّ بالخاصّ والعامّ، وقد وُضع الرأس المقدّس بين يدَي الخبيث الرجس؟ وماذا جرى على السيّد السجّاد حينما دخل المجلس ونظر إلى رأس أبيه

ص: 108


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 431.

بين يدَي الدعيّ وهو يتغذى؟ ((1))

وماذا جرى لزينب وأُمّ كلثوم وبنات الإمام وزوجاته الثكالى المفجوعات الباكيات النادبات، وهنّ المحجوبات المخدّرات، والآنيدخلن المجلس العام حاسراتٍ سبيّات؟

وماذا سيجري على الشيعة والمحبّين في هذه الأزمان حينما يسمعون مصائب أهل البيت ويتصوّرون ذلك ويعيشونه كأنّه مشاهدة حضور من خلال ما أنقله لهم من أخبار؟!

قال أبو مخنف: أُدخل الإمام زين العابدين إلى المجلس مريضاً عليلاً، والجامعة في عنقه ويديه والدماء تسيل من بدنه، (تصوّر أيّها الشيعي هذا المشهد!) فقال عليّ بن الحسين السجّاد: «سوف نقف وتقفون، ونسأل وتُسألون، فأيّ جوابٍ تردّون على جدّنا محمّدٍ وهو خصمكم يوم القيامة؟» ((2)).

وفي (الإرشاد): فدخلَت زينب أُخت الحسين في جملتهم متنكّرة، وعليها أرذل ثيابها، فمضَت حتى جلست ناحيةً من القصر، وحفّت بها إماؤها ((3)).

آه، وا ويلاه! يحتمل أن يكون الأشقياء قد سلبوا ثيابها، فهي ليس لها

ص: 109


1- أُنظُر: أمالي الصدوق: 229 ح 242، اللهوف لابن طاووس: 202، بحار الأنوار: 45 / 119، الأمالي للطوسي: 242.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 164، نور العين للاسفراييني: 58.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

إلّا ثوبٌ واحدٌ عتيق لبسَته.

وفي (المنتخب): وهي تتخفّى بين النساء وتستر وجهها بكُمّها، لأنّ قناعها أُخذ منها ((1)).

وفي (الإرشاد): فقال ابن زياد: مَن هذه الّتي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها؟ فلم تُجِبْه زينب، فأعاد ثانيةً وثالثةً يسأل عنها، فقالله بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله ((2)).

قال أبو مخنف: فالتفت إليها وقال لها: يا زينب، بحقّ جدِّكِ كلّميني! فقالت: ما تريد يا عدوّ الله وعدوّ رسوله؟ لقد فضحتَنا ((3)) بين الأنام ((4)).

وفي (الإرشاد): فأقبل عليها ابن زيادٍ وقال لها: الحمد لله الّذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد لله الّذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلی الله علیه وآله، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، وإنّما يُفتضَح الفاسق ويُكذَّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله ((5)).

ص: 110


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.
3- في المقتل: (هتكتنا بين البرّ والفاجر).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 105، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 259 المجلس 23.
5- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

وفي (الملهوف): فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنع الله بأخيكِ وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتخاصَم، فانظر لمن يكون الفلج ((1)) يومئذ، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة. فغضب ابن زياد، وكأنّه همّ ((2)) بها ليقتلها، وقيل: أمر بقتلها ((3)).

وفي (الإرشاد): فغضب ابن زيادٍ واستشاط، فقال عمرو بنحريث: أيّها الأمير، إنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخَذ بشيءٍ من منطقها ولا تُذمّ على خطابها. فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله نفسي من طاغيتكِ والعصاة من أهل بيتك. فزقت ((4)) زينب علیها السلام وبكت، وقالت له: لَعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبَدْت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال ابن زياد: هذه سجاعة، ولَعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت: ما للمرأة والسجاعة؟ إنّ لي عن السجاعة لَشغلاً، ولكنّ صدري نفث بما قلت ((5)).

ص: 111


1- في المتن: (الفتح).
2- اللهوف لابن طاووس: 160.
3- أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 366.
4- أي: صاحت.
5- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

وفي (المنتخب): فغار عليّ بن الحسين على عمّته، فقال لابن زياد: إلى كم تهتك عمّتي بين مَن يعرفها ومَن لا يعرفها؟ قطع الله يديك ورجليك ((1)).

وفي (الإرشاد): وعرض عليه عليّ بن الحسين علیه السلام، فقال له: مَن أنت؟ فقال: «أنا عليّ بن الحسين». فقال: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال له عليّ علیه السلام: «قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً، قتله الناس». فقال له ابن زياد: بل الله قتله! فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: ««اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» ((2))». فغضب ابن زياد، وقال: وبك جرأةٌ لجوابي، وفيك بقيّةٌ للردّ علَيّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقَت به زينب عمّته وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا. واعتنقَته وقالت: واللهِ لا أُفارقه، فإنقتلته فاقتلني معه ((3)).

قال أبو مخنف: قال لبعض حجّابه: خُذْ هذا الغلام واضرب عنقه. فجذبه الحاجب، وتعلّقَت به زينب فغلبها الحاجب، وصاحت: وا ثكلاه، وا أخاه! تفجعنا يا ابن زياد مرّةً أُخرى؟ ((4))

ص: 112


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- سورة الزمر: 42.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 116.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 105، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 259 المجلس 23.

وفي (الإرشاد): فنظر ابن زيادٍ إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عجباً للرحم، والله إنّي لَأظنّها ودّت أنّي قتلتُها معه، دعوه، فإنّي أراه لما به ((1)).

وفي (الملهوف): فقال عليٌّ علیه السلام لعمّته: «اسكتي يا عمّة حتّى أُكلّمه»، ثمّ أقبل علیه السلام فقال: «أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادةٌ وكرامتنا الشهادة» ((2)).

وفي (بحار الأنوار): فقال له عليّ: «إن كان بينك وبين هؤلاء النساء رحم فأرسِلْ معهنّ مَن يؤدّيهن»، فقال: تؤدّيهن أنت. وكأنّه استحيا، وصرف الله عزوجل عن عليّ بن الحسين القتل ((3)).

قال أبو مخنف: ثمّ أقبل على النساء وقال: أيّكنّ أُمّ كلثوم؟ فلم تكلّمه، فنادى ثانيةً فلم تكلّمه، فقال: بحقّ جدّكِ رسول الله إلّا ما كلمتِني ((4)). فقالت: أنا يا عدوّ الله، وأيّ شيءٍ تريد؟ فقال الكذّاب المفتري -- قطع الله لسانه -- : لقد کذبتم وکذب جدُّکم، وفضحکم اللهومکّنني منکم ((5)).

ص: 113


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 117.
2- اللهوف لابن طاووس: 162.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 167.
4- في المتن: (أسألكِ بالله وبحقّ جدِّكِ رسول الله كلّميني).
5- يعني أنّ قلتلكم دليل كذبك إمامتكم -- هكذا --، قال اللعين وهو لا يعلم أنّ الشهادة للإمام سعادة (من المتن).

فقالت: يا عدوّ الله يا ابن الدعيّ، إنّما يُفتضَح الفاسق الكذّاب المنافق، وأنت واللهِ أَولى بالكذب والفجور والنفاق، فأبشِرْ بالنار، فضحك ابن الأَمة الفاجرة. فقال: إن صرتُ إلى النار فقد شفيتُ قلبي منكم. قالت له: يا ابن الدعيّ، لقد رويت الأرض من دم أهل البيت. فقال الملعون: أبيتِ إلّا الشجاعة، لقد أشبهتِ أباكِ، ولولا أنت امرأة لَضربتُ عنقك! ((1))

أجل، لم يقصّر ابن الأَمة الفاجرة في أيّ شيءٍ أمكنه أن يفعله في تجاسره وتعدّيه على أهل البيت الأطهار، وما لم يفعله لم يكن في وسعه وطاقته، أو كان خوفاً من الناس، أو خوفاً من تعجيل العقوبة من ربّ الناس.

قال في (المنتخب): قال مَن حضر مجلس ابن زياد: رأيتُ ناراً قد خرجَت من القصر كادت تحرقه، فقام ابن زيادٍ عن سريره هارباً، ودخل بعض بيوته ((2)).

ص: 114


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 104، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 258 المجلس 23 بأدنى تفاوت.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10، وتتمّة الكلام فيه: (كلّ ذلك ولم يرتدع اللعين عن غيّه وشقاوته. ثمّ التفت إلى السبي، فرأى زينب وهي تتخفّى بين النساء وتستر وجهها بكُمّها ...). ويبدو أنّ المؤلّف استفاد من الخبر بخلاف ما استفاد منه الطريحيّ؟رحهما؟، فإنّ المؤلّف وظّف الخبر كرادعٍ عن ارتكاب أكثر ممّا ارتكب، فيما أكّد الشيخ الطريحيّ من خلال تتمّة الخبر أنّه لم يرتدع عن غيّه واستمرّ في العدوان على آل الله.

أمّا مذمّة الناس على المغضوب عليه فقد خرجَت عن حدّ الإحصاء والحصر، حتّى أنّ أُمّه -- كما في (الطبقات) لابن سعد -- قالت له: يا خبيث، قتلتَ ابن رسول الله؟ واللهِ لا ترى الجنّة أبداً ((1)).

أجل، إنّ مَن ظلم هذا الإمام العظيم لابدّ أن يكون مخلَّداً في أسفل دركات الجحيم، ولا ينجو من المؤمنين بل حتّى الأنبياء إلّا مَن توسّل به.

قال الشاعر:

بأسمائهم أحيا الرمیمَ ابنُ مریمٍ***وأُبرئ فیهم أکمهٌ غیرُ مرّةِ

وآیات موسی التسع منهم صُدورُها***فلولاهمُ لم یأتِ منه بآیةِ

وهم جلعوا داوود فیها خلیفةً***عن الله، بل عنهم بحکم النیابةِ

وحكمهمُ جارٍ علی الرسْلِ كلِّهم***كأنّ جميع الرسل من بعض أُمّةِ

فسَلْ آدماً والرسْلَ مِن بعد آدمٍ***عن السرّ في إرسالهم للخليفةِ

وما عنهمُ استغنى رسولٌ بما أتي***بل الرسْلُ فیهم أیّدَت حین عدّتي

ويؤيّد مضامين هذا الشعر ما ورد في كتاب (الكنز) للكراجكي،عن فرج بن أبي شيبة قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول وقد تلا هذه الآية: ««وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْ-مَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ

ص: 115


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / خ 501، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 15، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 265، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من كتاب التبر المذاب للخافي: 173.

مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ»، يعني رسول الله صلی الله علیه واله، « وَلَتَنصُرُنَّهُ» ((1))، يعني وصيّه أمير المؤمنينعلیه السلام ، ولم يبعثِ اللهُ نبيّاً ولا رسولاً إلّا وأخذ عليه الميثاق لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله بالنبوّة ولعليٍّ بالإمامة» ((2)).

وفيه أيضاً في حديثٍ عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: «لمّا كان عند الانبعاث للنطق شكّ أيّوب في مُلكي، فقال: هذا خطبٌ جليلٌ وأمرٌ جسيم! قال الله عزوجل: يا أيّوب، أتشكّ في صورةٍ أقمتُه أنا؟ إنّي ابتليتُ آدم بالبلاء، فوهبتُه له وصفحتُ عنه بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين، وأنت تقول: خطبٌ جليلٌ وأمرٌ جسيم؟ فوَعزّتي، لَأُذيقنّك من عذابي أو تتوب إليّ بالطاعة لأمير المؤمنين. ثمّ أدركَته السعادة بي». يعني أنّه تاب وأذعن بالطاعة لأمير المؤمنين (عليه السلام وعلى ذريّته الطيّبين) ((3)).

وفي (بصائر الدرجات)، بسندٍ صحيحٍ عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال: «ولاية عليٍّ مكتوبٌ في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله نبيّاً إلّا بنبوّة محمّدٍ وولاية وصيّه عليّ» ((4)).وبسندٍ موثّقٍ عن أبي بصيرٍ قال: سمعتُ أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول:

ص: 116


1- سورة آل عمران: 81.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 352.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 26 / 293.
4- بصائر الدرجات للصفار: 1 / 72 الباب 8 ح 1.

«ما مِن نبيٍّ نُبّئ ولا مِن رسولٍ أُرسل إلّا بولايتنا وبفضلنا عمّن سوانا» ((1)).

وفي (الاختصاص): ابن سنان، عن المفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «... فمن أراد الله أن يطهّر قلبه من الجنّ والإنس عرّفه ولايتنا، ومَن أراد أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا». ثمّ قال: «يا مفضّل، واللهِ ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلّا بولاية عليّ علیه السلام، وما كلّم الله موسى تكليماً إلّا بولاية عليّ علیه السلام، ولا أقام الله عيسى ابن مريم آيةً للعالمين إلّا بالخضوع لعليّ علیه السلام». ثمّ قال: «أجمِل الأمر، ما استأهل خلقٌ من الله النظر إليه إلّا بالعبوديّة لنا» ((2)).

والخلاصة أنّهم قالوا: «نزّهونا عن الربوبيّة، وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا» ((3)).

وروى الشيخ الصدوق عن الصادق علیه السلام يقول: «أتىيهوديٌّ النبيّ صلی الله علیه وآله، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يا يهودي، ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أَم

ص: 117


1- بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 74 الباب 9 ح 2.
2- الاختصاص للمفيد: 250.
3- الرسائل الأحمديّة: 361. وفي (تفسير الإمام العسكريّ علیه السلام : 50): «قال أمير المؤمنينعلیه السلام : لا تتجاوزوا بنا العبوديّة، ثمّ قولوا ما شئتم، ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى، فإنّي بريءٌ من الغالين». وفي (بصائر الدرجات للصفّار: 236 ح 5) عن الصادق علیه السلام في حديث: «اجعلونا مخلوقين، وقولوا بنا [خ ل: فينا] ما شئتم، فلن تبلغوا!».

موسى بن عمران النبيّ الّذي كلّمه الله وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟ فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: إنّه يُكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إنّ آدمعلیه السلام لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمد لمّا غفرت لي، فغفرها الله له، وإنّ نوحاً لمّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا أنجيتني من الغرق، فنجّاه الله عنه، وإنّ إبراهيم علیه السلام لمّا أُلقيَ في النار قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا أنجيتَني منها، فجعلها اللهُ عليه برداً وسلاماً، وإنّ موسى علیه السلاملمّا ألقى عصاه وأوجس في نفسه خِيفةً قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا آمنتني، فقال الله جل جلاله: لا تخف، إنّك أنت الأَعلى. يا يهوديّ، إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوّة، يا يهوديّ، ومِن ذرّيّتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى ابن مريم لنصرته، فقدّمه وصلى خلفه» ((1)).

وقد ذكرنا فيما مضى حديث (بصائر الدرجات) مسنداً عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال له: فطرس، فكسر الله جناحه، فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام بعث اللهجبرئيل في سبعين ألف ملَكٍ إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يهنّئهم بولادته، فمرّ بفطرس، فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة. فقال له فطرس: احملني معك، وسَلْ محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب

ص: 118


1- الأمالي للصدوق: 218 المجلس 93 ح 4.

جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه و آله فدخل عليه وهنّأه، فقال له: يا رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: أتفعل؟ قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: شأنك بالمهد فتمسَّحْ به وتمرّغ فيه. قال: فمضى فطرس، فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ ورسول الله يدعو له». قال: «قال رسول الله: فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول حتّى لحق بجناحه الآخَر، وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه» ((1)).

يُحتمل أن يكون جريان الدم إشارةً إلى دم الإمام المظلوم وشهادته.

وفي (تفسير فرات) مسنداً عن رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ الله (تبارك وتعالى) عرض ولاية عليّ بن أبي طالبعلیه السلام

على أهل السماوات وأهل الأرض فقبلوها، ما خلا يونس بن متّى، فعاقبه الله وحبسه في بطن الحوت لِإنكارهولاية أمير المؤمنين [عليّ بن أبي طالب علیه السلام] حتّى قبلها» ((2)).

وخطب أمير المؤمنين فقال في خطبته: «فلولا أنّه كان من المقرّين -- أي: مقرّاً بولاية أمير المؤمنين -- لَلبث في بطنه إلى يوم يُبعَثون» ((3)).

وفي كتاب (المناقب)، عن الثماليّ قال: دخل عبد الله بن عمر على

ص: 119


1- بصائر الدرجات للصفار: 1 / 68 الباب 6 ح 7.
2- تفسير فرات الكوفي: 264 ح 359.
3- تتمّة الحديث السابق، تفسير فرات الكوفي: 265 ح 359.

زين العابدين علیه السلام وقال: يا ابن الحسين، أنت الّذي تقول: «إنّ يونس بن متّى إنّما لقيَ من الحوت ما لقي لأنّه عُرضَت عليه ولاية جدّي فتوقّف عندها»؟ قال: «بلى، ثكلتك أُمّك». قال: فأرني آية ذلك إن كنتَ من الصادقين. فأمر بشدّ عينيه بعصابةٍ وعيني بعصابة، ثمّ أمر بعد ساعةٍ بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدي، دمي في رقبتك، اَلله الله في نفسي. فقال: «هيه، وأُريه إن كنت من الصادقين»، ثمّ قال: «يا أيّها الحوت!»، قال فأطلعَ الحوتُ رأسَه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبّيك لبّيك يا وليّ الله. فقال: «مَن أنت؟»، قال: أنا حوت يونس يا سيّدي. قال: «أنبِئْنا بالخبر»، قال: يا سيّدي، إن الله (تعالى) لم يبعَثْ نبيّاً من آدم إلى أن صار جدّك محمّدٌ إلّا وقد عُرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمَن قبلها من الأنبياء سلم وتخلّص، ومَن توقّف عنها وتمنّع مِن حملها لقيَ مالقيَ آدم علیه السلام من المعصية، وما لقي نوح علیه السلام من الغرق، وما لقي إبراهيم علیه السلام من النار، وما لقي يوسف علیه السلام من الجُبّ، وما لقي أيّوب علیه السلام من البلاء، وما لقي داوود علیه السلام من الخطيئة، إلى أن بعث الله يونس علیه السلام، فأوحى الله أن: يا يونس، تولَّ أمير المؤمنين عليّاً والأئ-مّة الراشدين من صلبه، في كلامٍ له، قال: فكيف أتولّى مَن لم أره ولم أعرفه؟ وذهب مغتاظاً، فأوحى الله (تعالى) إليّ أن التقمي يونس، ولا توهِني له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً، يطوف معي البحار في ظلماتٍ ثلاث، ينادي: أنّه لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، قد قبلتُ ولاية عليّ بن أبي طالب والأئ-مّة الراشدين

ص: 120

مِن وُلده. فلمّا أن آمن بولايتكم أمرني ربّي فقذفتُه على ساحل البحر. فقال زين العابدين علیه السلام: «ارجعْ أيّها الحوت إلى وكرك»، واستوى الماء ((1)).

[إلى السجن]

أعتذر اليكم معاشر الشيعة، أين كنت، وإلى أين سرحت؟ لقد أثارني جفاء ابن زياد مع هؤلاء المقرّبين من الملِك المعبود، فآلمني تجاسر الناس الفاسقين وأميرهم على الإمام زين العابدين، فسلّيتُ نفسي وعزّيتُها بذكر بعض مقاماته علیه السلام، وكيف يهدء الروع وتسكن العبرة وتخمد الزفرة وأنا أذكر ما رواه الصدوق؟ قال: ثمّأمر بعليّ بن الحسين علیه السلام فغُلّ وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنتُ معهم، فما مررنا بزقاقٍ إلّا وجدناه ملاءً رجالاً ونساءً يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجنٍ وطُبق عليهم ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ أمر ابن زيادٍ بعليّ بن الحسين؟ع؟ وأهله فحُملوا إلى دارٍ إلى جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّ علیه السلام : لا يدخلنّ عربيّةٌ إلّا أُمّ ولدٍ أو مملوكة؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا ((3)).

ص: 121


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 34 الفصل 2 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسي: 14 / 401.
2- الأمالي للصدوق: 165 المجلس 31 ح 3.
3- اللهوف لابن طاووس: 163.

ثمّ إنّ اللعين بعد أن تجاسر في المجلس العامّ على الرأس المقدّس لسيّد الشهداء، وضرب بالقضيب عينه وأنفه ولسانه، وأمر الحجّام فقوّره وامتثل ما أمرته الكاهنة.

قال أبو مخنف: ثمّ دعا بخولي الأصبحي (لعنه الله) وقال له: خُذ هذا الرأس حتّى أسألك عنه. فأخذه وانطلق إلى منزله، وكان له زوجتان، إحداهما مضريّة والأُخرى تغلبيّة ((1))، فدخل به على المضريّة، فقالت له: ما هذا الرأس؟ فقال: رأس الحسين علیه السلام . فقالت له: ارجعْ به. ثمّ أخذَت عموداً وأوجعَته ضرباً، وقالت: واللهِ ما أنا لك زوجة، وما أنت لي ببعل. فانصرف عنها، ومضى إلى التغلبيّة، فقالت له: ما هذا الرأس؟ فقال لها اللعين: هذا رأس خارجيّ خرج بأرض العراق، فقتله ابن زياد (لعنه الله). فقالت له: ما اسمه؟ فأبى أن يُعلِمها، ثمّ تركه عندها وبات ليلته.قالت امرأته: سمعتُ الرأس يقرأ إلى طلوع الفجر، فكان آخر قرائته: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2)). ثمّ سمعتُ حوله دويّاً كدويّ الرعد، فعلمتُ أنّه تسبيح الملائكة ((3)).

رُوي أنّ المختار أرسل عبد الله بن كامل إلى خولّي، فلمّا دخل عليه

ص: 122


1- في المتن: (ثعلبيّة) في المواضع كلّها.
2- سورة الشعراء: 227.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 105، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 52.

البيت أشارت إليه امرأته المؤمنة بيدها أنّه في السرداب فدلّت عليه، فلمّا نظر إليه عبد الله قال له: أيّها الدعيّ الكافر، أين الرمح الّذي حملت عليه رأس الحسين وطفت به في السكك والأزقّة والأسواق؟ فدلّهم عليه اللعين، فحملوه معه، فلمّا نظر إليه الناس تذكّروا سيّد الشهداء وبكوا عليه، ثمّ أخذوه إلى المختار، فأمر أن تقطّع يديه إلى كتفيه في دفعات، ثمّ أمر فقُلعَت عيناه وقطّعت رجلاه وقطع رأسه، وأُحرق بنار العقوبة (لعنة الله عليه) ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا أصبح عُبيد الله بن زياد، بعث برأس الحسين علیه السلام فدِيرَ به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها.

فرُوي عن زيد بن أرقم أنّه قال: مُرّ به علَيّ وهو على رمحٍ وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعتُه يقرأ: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2))، فقَفَّ واللهِ شعري، وناديت: رأسُك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب ((3)).ورُوي عن الشعبي أنّه صلب رأس الحسين علیه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ

ص: 123


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 193.
2- سورة الكهف: 9.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 117.

هُدًى» ((1))، فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً.

و في أثرٍ أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجر سُمع منه: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2)) ((3)).

ورُوي عن سلَمة بن كهيل قال: رأيتُ رأس الحسين؟ع؟ على القنا وهو يقرأ: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ((4)) ((5)).

وفي (مسند السيّدة البتول)، عن الحارث بن وكيدة قال: كنتُ فيمن حمل رأس الحسين علیه السلام، فسمعتُه يقرأ سورة الكهف، فجعلتُ أشكّ في نفسي، وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله، فقال لي علیه السلام: «يا ابن وكيدة! أما علمتَ أنّا معشر الأئ-مّة أحياءٌ عند ربّنا نُرزَق؟». فقلت في نفسي: أسترق رأسه. فقال: «يا ابن وكيدة، ليس لك إلى ذلك سبيل، إنّ سفكهم دمي أعظمُ عند الله من تسييرهم رأسي، فذَرْهم فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحَبون» ((6)).

ص: 124


1- سورة الكهف: 13.
2- سورة الشعراء: 227.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 304.
4- سورة البقرة: 137.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 22 / 117، الوافي بالوفيات: 15 / 201.
6- دلائل الإمامة للطبري: 188، نوادر المعجزات: 110، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 378، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 53، تظلّم الزهراء للقزويني: 27.

وقيل: إنّ هاتفاً كان يقرأ هذه الأبيات فوق الرأس المقدّس:

رأس ابن بنت محمّدٍ ووصيّه***للناظرين على قناةٍ يُرفَعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ***لا مُنكِرٍ منهم ولا متفجّعُ

كلحت بمنظرك العيون عمايةً***واصمّ رزؤك كلَّ أُذنٍ تسمعُ

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرىً***وأنمتَ عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضةٌ إلا تمنّت أنّها***لك حفرةٌ، ولخطّ ((1)) قبرك مضجعُ ((2))معاشرَ الشيعة، عجبي من أهل الكوفة، كيف سكتوا ولم يأخذوا اللعين المعاند ابن زياد ويقتلوه ويعجّلوا به إلى جهنّم وبئس المصير؟ وهم يرَون ما رواه صاحب (التبر المذاب)، قال: ثمّ إنّ ابن زيادٍ نصب الرؤوس بالكوفة على الخشب زيادةً على سبعين رأساً، وهي أوّل رؤوسٍ نُصبَت في

ص: 125


1- في المتن: (لحظّ).
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 435 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، وفي (اللهوف لابن طاووس: 163): (ويحقّ لي أن أتمثّل هنا بأبياتٍ لبعض ذوي العقول، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول ...)، وكذا عبارة ابن نما في (مثير الأحزان: 58): (ولقد أحسن نائح هذه المرثيّة في فادح هذه الرزيّة)، وفي (مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 398 الفصل 9) نسبها لدعبل، وفي (المنتخب للطريحي: 2 / 483) قال: (ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق، وإذا بهاتفٍ يقول: ...)، وأضاف إليها بيتين.

الإسلام ((1)).

آهٍ من ضعفاء الشيعة الّذين تحترق قلوبهم وتجري دموعهم، ولكنّ إيمانهم لم يبلغ بهم حدّاً يسخون بأرواحهم، فإنّ ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، ومراتب العبادة والقساوة تختلف، ولك مرتبة من الطرفين، أفرادها الّذين ظهرت منهم ما يقتضيه المقام من علاماتٍ وآثار، كشفَت عن منازلهم في تلك الرتب والمقامات من أعلاها في طرف الإيمان الإمام سيّد الشهداء، وفي طرف الخذلان في أسفل الدرجات من يزيد العنيد والشمر الخبيث وعمر ابن سعد الّذي خسر الدنيا والآخرة، ففي (المنتخب): لمّا فرغ عمر بن سعد من حرب الحسين وأُدخلَت الرؤوس والأُسارى إلى عُبيد الله بن زياد (لعنه الله تعالى)، جاء عمر بن سعد (لعنه الله) ودخل على عُبيد الله بن زياد يريد منه أن يمكّنه من مُلك الريّ، فقال له ابن زياد: آتِني بكتابي الّذي كتبتُه لك في معنى قتل الحسين وملك الري. فقال له عمر بن سعد: واللهِ إنّه قد ضاع منّي، ولا أعلم أين هو. فقال له ابن زياد: لابدّ أن تجئني به في هذا اليوم، وإن لم تأتِني به فليس لك عندي جائزة أبداً؛ لأنّي كنتُ أراك مستحياً معتذراً في أيّام الحرب من عجائز قريش، ألستَ أنت القائل:

فواللهِ ما أدري وإنّي لَصادقٌ***أُفكّر في أمري على خطَرَينِ

ص: 126


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 173، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي***أم ارجعُ مأثوماً بقتل حسينِ؟

وهذا كلام معتذرٍ مستحٍ متردّدٍ في رأيه. فقال عمر بن سعد: واللهِ -- يا أمير -- لقد نصحتُك في حرب الحسين نصيحةً صادقة، لو ندبني إليها أبي سعد لَما كنتُ أدّيتُ حقّه كما أدّيتُ حقّك في حرب الحسين. فقال له عُبيد الله بن زياد: كذبتَ يا لُكَع. فقال عثمان بن زياد -- أخو عبيد الله بن زياد --: لَوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزمةٌ إلى يوم القيامة، وأنّ حُسيناً لم يُقتَل أبداً. فقال عمر بن سعد: فوَاللهِ -- يا ابن زياد -- ما رجع أحدٌ من قتلة الحسين بشرّ ممّا رجعتُ به أنا. فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: لأنّي عصيتُ الله وأطعت عبيد الله، وخذلت الحسين ابن رسول الله ونصرت أعداء الله، وبعد ذلك إنّي قطعت رحمي ووصلت خصمي، وخالفت ربّي، فيا عظم ذنبي ويا طول كربي في الدنيا والآخرة. ثمّ نهض من مجلسه مغضباً مغموماً، وهو يقول: و«ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» ((1)) ((2)).

قال المؤلّف: هذا أثر كلام الإمام، إذ قال لابن سعد اللئيم الملعون: «إنّي لَأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلّا يسيراً»، فأجابه اللعين مستهزئاً: في الشعير كفاية عن البُرّ! ((3))

ص: 127


1- سورة الحجّ: 11.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 323.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 389.

[خطبة ابن زياد وشهادة عبد الله بن عفيف الأزدي]

ثمّ إنّ ابن زيادٍ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال في بعض كلامه: الحمد لله الّذي أظهر الحقّ وأهلَه، ونصر أميرالمؤمنين وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب.

فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتّى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزديّ، وكان من خيار الشيعة وزهّادها، وكانت عينه اليسرى ذهبَت في يوم الجمل والأُخرى في يوم صفّين، وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلّي فيه إلى الليل، فقال: يا ابن مرجانة، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك ومَن استعملك وأبوه، يا عدوّ الله! أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين؟!

قال: فغضب ابن زياد، ثمّ قال: مَن هذا المتكلّم؟ فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ الله، تقتل الذرّيّة الطاهرة الّتي قد أذهَبَ اللهُ عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دِين الإسلام! وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّدٍ رسول ربّ العالمين؟

قال: فازداد غضب ابن زيادٍ حتّى انتفخَت أوداجُه، وقال: علَيّ به. فبادر إليه الجلاوزة من كلّ ناحيةٍ ليأخذوه، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمّه فخلّصوه من أيدي الجلاوزة، وأخرجوه من باب المسجد، وانطلقوا به إلى منزله، فقال ابن زياد: اذهبوا إلى هذا الأعمى.. فأْتوني به ((1)).

ص: 128


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 119، اللهوف لابن طاووس: 164.

فانطلقوا إليه، فلمّا بلغ ذلك الأزد اجتمعوا، وقيل: اجتمع سبعمئة منهم ((1))، واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم، قال: بلغ ذلكابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى قُتل بينهم جماعةٌ من العرب، ووصل أصحاب ابن زياد -- لكثرتهم -- إلى دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنتُه: أتاك القوم من حيث تحذر! فقال: لا عليكِ، ناوليني سيفي. فناولَته إيّاه ((2)).

وفي رواية: فقال لها: يا بُنيّة، ناوليني سيفي، وقولي: خلفك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك ((3)). فجعل يذبّ عن نفسه ويقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر***عفيف شيخي وابن أُمّ عامر

كم دارعٍ من جمعكم وحاسر***وبطلٍ جدّلتُه مغادر

قال: وجعلَت ابنتُه تقول: يا أبتِ ليتني كنتُ رجلاً، أُخاصم بين يديك

ص: 129


1- الإرشاد للمفيد: 244، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 121، حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 172، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233، أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 210، تاريخ الطبري: 5 / 459.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 119، اللهوف لابن طاووس: 164.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 106.

اليوم هؤلاء الفجَرة قاتلي العترة البررة.

قال: وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهة وهو يذبّ عن نفسه، فلم يقدر عليه أحد، وكلّما جاؤوا من جهةٍ قالت: يا أبه، قد جاؤوك من جهة كذا ((1))، حتّى قتل -- في رواية أبي مخنف -- ثمانيةً وعشرين ((2)) رجلاً، وهو يقول:

والله لو يكشف لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري ((3))

وفي (الملهوف): حتّى تكاثروا عليه وأحاطوا به، فقالت بنته: وا ذُلّاه! يُحاط بأبي وليس له ناصرٌ يستعين به. فجعل يدير سيفه ويقول شعراً:

أُقسمُ لو يُفسَحُ لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري

قال الراوي: فما زالوا به حتّى أخذوه، ثمّ حُمل فأُدخل على ابن زياد، فلمّا رآه قال: الحمد لله الّذي أخزاك. فقال له عبد الله بن عفيف: يا عدوّ الله، وبما ذا أخزاني الله؟

واللهِ لو فُرّج لي عن بصري***ضاق عليك موردي ومصدري

ص: 130


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120، اللهوف لابن طاووس: 166.
2- في (مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 106): (فقتل خمسين فارساً)، وفي (أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 270 المجلس 24 -- عن: أبي مخنف): (فقتل ثلاثةً وعشرين رجلاً وخمسين فارساً).
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120، اللهوف لابن طاووس: 168.

فقال ابن زياد: يا عدوّ الله، ما تقول في عثمان بن عفّان؟ فقال: يا عبد بني علاج ((1))، يا ابن مرجانة -- وشتَمَه --، ما أنت وعثمان بن عفّان؟ أساء أو أحسن وأصلح أم أفسد، والله (تبارك وتعالى) وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ، ولكن سَلْني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه. فقال ابن زياد: والله لا سألتُك عن شيءٍ أوتذوق الموت غُصّةً بعد غُصّة. فقال عبد الله بن عفيف: الحمد لله ربّ العالمين، أما إنّي قد كنتُ أسأل الله ربّي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أُمّك، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدَي ألعن خلقه وأبغضهم إليه، فلمّا كفّ بصري يئست عن الشهادة، والآن فالحمد لله الّذي رزقنيها ((2)).

قال أبو مخنف: وأنشأ يقول:

صحوتُ وودّعت الصبا والغوانيا***وقلتُ لأصحابي: أجيبوا المناديا

وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى***وقتل العدى: لبّيك لبّيك داعيا

ص: 131


1- قال المؤلّف: عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فإنّ أباه زياد ابن سميّة، كانت أُمّه سميّة مشهورة بالزنا، ووُلد على فراش أبي عُبيد عبد بني علاج من ثقيف، فادّعى معاوية أنّ أبا سفيان زنا بأُمّ زيادٍ فأولدها زياداً وأنّه أخوه، فصار اسمه: الدعيّ، وكانت عائشة تسمّيه: زياد ابن أبيه؛ لأنه ليس له أبٌ معروف (من المتن). بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309.
2- اللهوف لابن طاووس: 168، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120.

وقوموا له إذ شدّ للحرب أُزره***فكلّ امرئٍ يُجزى بما كان ساعيا

وقودوا إلى الأعداء كلّ مضمرٍ***لحوقٍ وقودوا السابحات النواجيا

وسيروا إلى الأعداء بالبيض والقنا***وهزّوا حراباً نحوهم والعواليا

وحنّوا لخير الخلق جدّاً ووالداً***حسينٍ لأهل الأرض لا زال هاديا

ألا ابكوا حسيناً معدن الجود والتُّقى***وكان لتضعيف المثوبة راجيا

ألا ابكوا حسيناً كلّما ذرّ شارقٌ***وعند غسوق الليل فابكوا إمامياألا

ابكوا حسيناً كلّما ذرّ شارقٌ***وعند غسوق الليل فابكوا إماميا

ويبكى حسيناً كل حافٍ وناعلٍ***ومن راكب في الأرض أو كان ماشيا

لحى الله قوماً كاتبوه لعذرهم***وما فيهمُ مَن كان للدين حاميا

ولا مَن وفى بالعهد إذ حميَ الوغى***ولا زاجراً عنه المضلّين ناهيا

ولا قائلاً: لا تقتلوه فتخسروا***ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا

ولم يكُ إلّا ناكثاً أو معانداً***وذا فجرةٍ يأتي إليه وعاديا

وأضحى حسينٌ للرماح دريّةً***فغودر مسلوباً على الطفّ ثاويا

قتيلاً،كأن لم يعرف الناسُ أصلَه***جزى الله قوماً قاتلوه المخازيا

فيا ليتني إذ ذاك كنتُ لحقتُه***وضاربتُ عنه الفاسقين مفاديا

ودافعت عنه ما استطعت مجاهداً***وأغمدت سيفي فيهمُ وسنانيا

ولكنّ عذري واضحٌ غير مختفٍ***وكان قعودي ظلّةً من ضلاليا

ويا ليتني غودرت فيمن أجابه***وكنت له في موضع القتل فاديا

ص: 132

ويا ليتني جاهدت عنه بأُسرتي***وأهلي وخِلّاني جميعاً وماليا

تزلزلَت الآفاق مِن عظم فقده***وأضحى له الحصن المحصّن خاوياتزلزلَت

الآفاق مِن عظم فقده

وأضحى له الحصن

المحصّن خاويا

وقد زالت الأطواد من عظم قتله***وأضحى له سامي الشناخيب هاويا

وقد كسفت شمس الضحى لمصابه***وأضحت له الآفاق جهراً بواكيا

فيا أُمّةً ضلّت عن الحقّ والهدى***أنيبوا، فإنّ الله في الحكم عاليا

وتوبوا إلى التوّاب من سوء فعلكم***وإن لم تتوبوا تدركون المخازيا

وكونوا ضراباً بالسيوف وبالقنا***تفوزوا كما فاز الّذي كان ساعيا

وإخواننا كانوا إذا الليل جنّهم***تلوا طوله القرآن ثمّ المثانيا

أصابهمُ أهلُ الشقاوة والغوى***فحتّى متى لا يبعث الجيش عاديا؟

عليهم سلام الله ما هبّت الصبا***وما لاح نجمٌ أو تحدّر هاديا

قال: ثمّ قطع عليه ابن زيادٍ شِعره، وأمر بضرب عنقه، فضُرب عنقه وصُلب ((1)).

[جندب بن عبد الله الأزدي]

قال ابن نما: ثمّ دعا بجندب بن عبد الله الأزدي، وكان شيخاً،فقال: يا

ص: 133


1- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 271 المجلس 24، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 106 وما بعدها.

عدوّ الله، ألستَ صاحب أبي تراب؟ قال: بلى، لا أعتذر منه. قال: ما أراني إلّا متقرّباً إلى الله بدمك. قال: إذن لا يقرّبك الله منه، بل يباعدك. قال: شيخٌ قد ذهب عقله. وخلّى سبيله ((1)).

ص: 134


1- مثير الأحزان لابن نما: 94، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 121.

المجلس الثاني عشر : في كتاب ابن زياد ليزيد ووالي المدينة ووقائع طريق الشام

اشارة

کأنّي بالبتول الطهر واقفةً***في الحشر تشکو إلى الرحمان باریها

تأتي وقد ضمخت ثوب الحسین دماً***فیض النحورالحواري، ویل مجریها

تدعو:ألا أين مسمومي؟ ویا أسفي***علی ذبیحی، وأسري من ذراريها

تقول:وا حزَني، بل آه وا حسَني***هذا حسین قتيلٌ في فیافیها

هذا حسیني رضيض الجسم منجدلاً***تسفي علی جسمه العاري سوافیها

آهٍ علی جثثٍ بالطفّ قد قطعت***رؤوسها، وهجير الصیف یصليها

آهٍ علی جثثٍ فيها القنا لعبَت***وأرکضَت ماضياتٌ في تراقیها

یا فیتةٌ ذُبحَت في کربلا وثوَت***علی الوجوه عرايا في صحاريها

ص: 135

بنتم،

فبانَ لکم سلوان فاطمةٍ***ولاعِجُ الوجد بالوجدان یُشجيها ((1))

روى السيّد ابن طاووس قال: وكتب عُبيد الله بن زيادٍ إلى يزيد بن معاوية يُخبره بقتل الحسين علیه السلام وخبر أهل بيته، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة بمثل ذلك ((2)).

وفي (الإرشاد): تقدّم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلَميّ فقال: انطلِقْ حتّى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة، فبشّره بقتل الحسين. فقال عبد الملك: فركبتُ راحلتي وسِرتُ نحو المدينة، فلقيني رجلٌ من قريش فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير تسمعه. فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قُتل واللهِ الحسين. ولمّا دخلتُ على عمرو بن سعيد قال: ما وراؤك؟ فقلت: ما سَرَّ الأمير، قُتل الحسين بن عليّ. فقال: اخرج فنادِ بقتله. فناديت، فلم أسمع واللهِ واعيةً قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ علیه السلام حين سمعوا النداء بقتله، فدخلت على عمرو بن سعيد، فلمّا رآني تبسّم إليّ ضاحكاً، ثمّ أنشأ متمثّلاً بقول عمرو بن معديكرب:

عجّت نساء بني زيادٍ عجّةً***كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ

ثمّ قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان! ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس

ص: 136


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 459 المجلس 13.
2- اللهوف لابن طاووس: 169.

قتلَ الحسين بن عليّ علیه السلام، ودعا ليزيد بن معاوية، ونزل ((1)).

وفي (المناقب): قال في خطبته: إنّها لدمةٌ بلدمة، وصدمةٌ بصدمة، كم خطبةٍ بعد خطبة، وموعظةٍ بعد موعظة، حكمةٌ بالغةٌ فما تُغنِ النذر، واللهِ لَوددتُ أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلّا أن ندفعه عن أنفسنا؟

فقام عبد الله بن السائب فقال: لو كانت فاطمة حيّةً فرأت رأس الحسين لَبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد وقال: نحن أحقّ بفاطمة منك، أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، وابنها ابننا، لو كانت فاطمة حيّةً لَبكت عينها وحرّت كبدها وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه ((2)).

قال المؤلّف: أيّها النحس الشقي، كلامك هذا يعني تسويغ قتل جميع الأنبياء والأوصياء الّذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

وفي (الإرشاد): ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب علیه السلام فنعى إليه ابنَيه، فاسترجع، فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين بن عليّ. فخذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ واللهِ لو شهدتُه لَأحببتُ أن لا أُفارقه

ص: 137


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 123.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 122.

حتّى أُقتَل معه، واللهِ إنّه لَممّا يسخي بنفسي عنهما ويعزّيني عنالمصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيَين له صابرَين معه. ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزَّ علَيّ مصرعُ الحسين، إن لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولدَيّ.

وخرجَت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين علیه السلام حاسرة، ومعها أخواتها: أُمّ هانئ وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب (رحمة الله عليهنّ)، تبكي قتلاها بالطفّ وهي تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فلمّا كان الليل من ذلك اليوم الّذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين بن عليّ؟ع؟ بالمدينة، سمع أهل المدينة في جوف الليل منادياً ينادي، يسمعون صوته ولا يرون شخصه:

أيّها القاتلون جهلاً حسيناً***أبشِروا بالعذاب والتنكيلِ

كلّ أهل السماءِ يدعو عليكم***من نبيٍّ وملأكٍ وقبيلِ

قد لُعنتم على لسان ابن داوود***وموسى وصاحب الإنجيلِ ((1))

ص: 138


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 123.

وذكر ابن سعد، عن أُمّ سلَمة لمّا بلغها قتل الحسين علیه السلام، قالت: أوَ قد فعلوها؟! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم وقبورهم ناراً. ثمّ بكت حتّى غُشي عليها ((1)).

وفي (الملهوف): وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لمّا وصله كتاب عبيد الله ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين علیه السلام ورؤوس مَن قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله ((2)).

وفي (الإرشاد): ولمّا فرغ القوم من التطواف به بالكوفة ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زيادٍ إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية، عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعةٍ من أهل الكوفة ((3)).

وفي (التبر المذاب): أنّ ابن زياد (عليه اللعنة والعذاب) رفع زيادةً على

ص: 139


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 189، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 496، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 240، نفَس المهموم للقمّي: 419، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 48، جواهر العِقدين للسمهودي: 2 / 334، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 238.
2- اللهوف لابن طاووس: 171.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 118.

سبعين رأساً على الرماح ((1)).

وفي (الفصول المهمّة): وكان معهم عليّ بن الحسين علیهالسلام، وقد جعل ابن زياد الغلّ في يديه وفي عنقه ((2)).

وفي (التبر المذاب): عن عبد الملك بن هشام النحويّ البصريّ قال: لمّا أنفذ ابن زياد (لعنه الله) رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية (لعنه الله) مع الأُسارى موثّقين في الحبال مع نساءٍ وصبيانٍ وصبيّاتٍ من بنات رسول الله صلی الله علیه وآله على أقتاب الجمال مكشّفات الوجوه والرؤوس!!! ((3))

وعن (أخبار الدول): أنّهم حملوا آل الرسول إلى الشام سبايا، تقشعرّ من مشاهدتهم القلوب وترتعد الفرائص.

وفي (الإرشاد): ثمّ إن عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين علیه السلام أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغلٍّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن ((4)).

وفي (المنتخب): وخولي وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجّاج، وضمّ

ص: 140


1- أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 173.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 831 -- بتحقيق: سامي الغريري.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 237.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 119.

إليهم ألف فارس، وزوّدهم وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى دمشق عند يزيد، وأمر أن يشهروهم في كلّ بلدةٍ يدخلونها ((1)).

قال أبو مخنف: وكان الإمام زين العابدين مقيَّداً بقيودٍ عديدة، على بعيرٍ من غير وطاء، وهو في أوّل السبايا، وفخذاه ينضحان دماً((2)).

وروى أبو مخنف، عن سهل بن المسيَّب: فلمّا رأيتُ ذلك جمعت رأيي إلى السير معهم، فجهّزت، وحملت معي ألف دينارٍ وألف درهم، وسِرتُ مع القوم، فلمّا نزلوا القادسيّة أنشأت أُمُّ كلثوم تقول بقلبٍ حزين:

ماتت رجالي وأفنى الدهرُ ساداتي***وزادني حسراتٍ بعد لوعاتي

صال اللّئام علينا بعد ما علموا***أنّا بنات نبيٍّ للهداياتِ ((3))

ويحملونا على الأقتاب عاريةً***کأنّنا بينهم بعض الغنيماتِ

يعزّ عليك رسولَ الله ما صنعوا***بأهل بيتك يا خير البريّاتِ

کفاکمُ برسول الله، ويلکمُ!***هداکمُ من سلوكٍ

في الضلالاتِ ((4))

وفي رواية عبد الملك بن هشام: وكانوا كلّما نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس

ص: 141


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 100.
3- في (المقتل) المشهور: (بالهدايات)، وفي (الأسرار) و(الدمعة): (بالهدى يأتي).
4- مقتل الحسينعلیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 110، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 292 المجلس 27، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 93.

من صندوقٍ أعدّوه له، فوضعوه على رمح، وحرسوه إلى حينالرحيل، ثمّ يعيدوه إلى الصندوق ويرحلوا ((1)).

وفي (المنتخب): فساروا وأخذوا على أوّل منزلٍ نزلوا، وكان المنزل خراباً، فوضعوا الرأس بين أيديهم والسبايا قريباً منه ((2)).

وفي (البحار): فجعلوا يشربون، ويتبجّحون بالرأس فيما بينهم ((3)).

وفي (المنتخب): وإذا بكفٍّ خارجٍ من الحائط وقلمٍ يكتب بدمٍ هكذا:

أترجوا أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

فلاواللهِ ليس لهم شفيعٌ***وهم يوم القيامة في العذابِ

ففزعوا من ذلك وارتاعوا ((4)).

وفي (البحار): فهربوا وتركوا الرأس، ثمّ رجعوا ((5)).

وفي (المنتخب): ففزعوا من ذلك وارتاعوا، ورحلوا من ذلك المنزل، وإذا بهاتفٍ يسمعونه ولا يرونه وهو يقول:

ص: 142


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 237.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 466.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 125.
4- المنتخب للطريحي: 2 / 467.
5- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305.

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لکم:***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ماکان هذا جزائي إذ نصحتُ لکم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي ((1))

قال أبو مخنف: وساروا بالسبايا والرؤوس إلى شرقي الجصّاصة، وعبروا تكريت، وكتبوا إلى عامله أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس خارجي. فلمّا قرأ الكتاب أمر بأعلامٍ فنُشرت والبوقات فضُربت والمدينة فزُيّنت، وجاء الناس من كلّ جانبٍ ومكان، ثمّ خرج الوالي فتلقّاهم، وكان كلّ مَن سألهم قالوا: هذا رأس خارجيّ خرج على يزيد فقتله ابن زياد.

فقال لهم رجلٌ نصراني: يا قوم، إنّي كنتُ بالكوفة وقد قدم هذا الرأس، وليس هو رأس خارجي، بل هو رأس الحسين! فلمّا سمعوا ذلك ضربوا النواقيس إعظاماً له، وقالوا: إنّا برئنا من قومٍ قتلوا ابن بنت نبيّهم. فبلغهم ذلك فلم يدخلوها.

ثمّ دخلوا من تكريت، وأخذوا على طريق البرّ، ثمّ على الأعمى، ثمّ على دِير عروة، ثمّ على صليتا، ثمّ على وادي النخلة فنزلوا فيها وباتوا، فسمعوا نساء الجنّ يندبن الحسين وينحن ويبكين ويلطمن، وينشدن:

نساء الجنّ أسعِدنَ***نساء الهاشميّاتِ

بنات المصطى أحمد***يبكين شجيّاتِ

ص: 143


1- المنتخب للطريحي: 2 / 467.

يولون ويندبن***بدور الفاطميّاتِ

ويلبسن ثياب السود***لبساً للمصيباتِ

ويلطمن خدوداً كال-***-دنانير نقيّاتِويبكين ويندبن ((1))

مصاب الأحمديّاتِ ((2))

وفي (المنتخب): لمّا أتوا على وادي النخلة سمعوا بكاء الجنّ وهنّ يلطمن الخدود على وجوههنّ ويقلن:

مسح النبيّ جبينه***فله بريقٌ في الخدود

أبواه من عليا قريشٍ***جدّه خير الجدود

وأُخرى تقول:

إلا يا عين جودي فوق خدّي***فمن يبكي على الشهداء بعدي؟

على رهطٍ تقودهمُ المنايا***إلى متكبّرٍ في الملك عبدِ ((3))

قال أبو مخنف: ثمّ دخلوا من وادي النخلة وأخذوا إلى لبنا ((4))، وفي مقابلها بلد يُقال له: المرصاد ((5))، وكانت بلداً عامراً بالناس، فلمّا وصلَت

ص: 144


1- في المتن: (ويندبن حسيناً، عظمت تلك الرزيّات).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 181.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 467 المجلس 10.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 181: (لينا).
5- في (المنتخب للطريحي: 2 / 467) بعد منزل وادي النخلة وقبل منزل بعلبك: (فلمّا وصلوا إلى بلدةٍ يُقال لها: مرشاد، خرج المشايخ والمخدّرات والشبّان يتفرّجون على السبي والرؤوس، وهم مع ذلك يصلّون على محمّدٍ وآله ويلعنون أعداءهم، وهم من العجائب).

الرؤوس والسبايا خرجَت الكهول والشبّان والمخدّرات ينظرون إلى رأس الحسين علیه السلام، ويصلّون على جدّه وأبيه ويلعنون مَن قتله، وهم يقولون: يا قتَلَة أولاد الأنبياء، اخرجوا من بلدنا!فأخذوا عن وادي لبنا على (الكحيل) ((1)) وأتوا جُهَينة، وأنفذوا إلى عاملها ((2)) أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس الحسين علیه السلام . واسم عاملها خالد بن نشيط ((3))، فلمّا قرأ الكتاب أمر بالأعلام فنُشرت والمدينة فزُيّنت، وتداعت الناس من كلّ جانبٍ ومكان، وخرج الوالي إلى زهاء ثلاثة أميالٍ فتلقّاهم، فقال بعض القوم: ما الخبر؟ فقالوا: رأس خارجيّ خرج بأرض العراق، قتله عُبيد الله بن زياد وبعث برأسه إلى يزيد. فقال رجلٌ منهم: يا قوم، هذا رأس الحسين علیه السلام . فلمّا تحقّقوا ذلك اجتمعوا أربعين ألف ((4)) فارسٍ من الأوس والخزرج، وتحالفوا أن يقتلوا خالد بن نشيط وخولي بن يزيد ويأخذوا منه رأس الحسين علیه السلام ويدفنوه عندهم، ليكون فخراً لهم إلى يوم

ص: 145


1- في المقتل المشهور: (مجيلة).
2- في المقتل المشهور: (عامل الموصل).
3- في المقتل المشهور: 187: ذكر خالد بن نشيط أميراً لحمص.
4- في المتن: (ألف فارس).

القيامة، فجاؤوا القوم وقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمان، وضلال بعد هدى، وشكّ بعد يقين؟ ((1))

قال أبو مخنف: سمعتُ ممّن قال: قد اجتمع ذلك اليوم أكثر من ثلاثين ألفاً، فلمّا سمعوا ذلك لم يدخلوها، وأخذوا على تلّ أعفر، ثمّ على جبل سنجار، فوصلوا إلى نصيبين، فنزلوا وشهروا الرأس والسبايا، فلمّا رأت زينب ذلك بكت بكاءً شديداً، وأنشأت تقول:

أتشهرونا في البريّة عنوةً***ووالدنا أوحى إليه جليلُ؟

كفرتم بربّ العرش ((2)) ثمّ نبيّه ***كأن لم يجئكم ((3)) في الزمان رسولُ

لَحاكم ((4)) إلهُ العرش يا شرَّ أُمّةٍ***لكم في لظى يوم المعاد عويلُ ((5))

نُقل أنّهم جاؤوا بعبد الله بن عقبة إلى المختار، فقال له: يا ملعون، صنعت كلّ ما أردت، وما لم تفعله لم تقدر عليه، لمَ رفعتَ رأس الحسين علیه السلام على القناة في طريق الشام، وضربت السيّدة المخدّرة زينب بالسياط؟

ص: 146


1- ما ذكره المؤلّف هنا من وقائع ذُكرت في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف)، ومَن روى عنه في حمص وشبيه لها في الموصل.
2- في المتن: (بدين الله).
3- في المتن: (يبعثكم).
4- في المتن: (الحاكم).
5- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183.

فأنكر عبد الله وقال: إنّك لَكاذب، ما فعلتُ ذلك أبداً! فقال المختار: يا ملعون، أأنا كاذب؟! سأضطرّك للإقرار والاعتراف. ثمّ أمر فأُحميَت له كلّابتين، فشدّوا بها صدره فقلعوا ثديَيه، فأقرّ، وأُغمي عليه، فلمّا أفاق قطّعوه إرباً إرباً حتّى هلك وفي جهنّم سلك.

قال أبو مخنف: وجعلوا يسيرون إلى عين الوردة، وعبروا الفرات، وأتوا إلى قريب دعوات ((1))، وكتبوا إلى عاملها أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس الحسين علیه السلام . فلمّا قرأ الكتاب أمر بضرب البوقات، وخرج يتلقّاهم، فشهروا الرأس ودخلوا من باب الأربعين ((2)).

ثمّ ساروا إلى حلب، فلمّا سمع أهلها خرجوا يتفرّجون علىالرؤوس والسبايا، وزيّنوا البلد وضربوا الطبول، وشهروا بحرم آل محمّدٍ في المدينة.

ثمّ نصبوا رأس الحسين علیه السلام في الرحبة من زوال الشمس إلى العصر ((3))، فأهل الدين والعقلاء كانوا يبكون ويصلّون عليه وعلى جدّه وأبيه، والجلهة والملعونون كانوا ينادون تحت الرأس: هذا رأس خارجي، خرج على يزيد بن معاوية في العراق ((4)).

ص: 147


1- في المتن: (دوغان) في المواضع كلّها، ويحتمل أن يكون تصحيفاً.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183.
3- في (المقتل المشهور: 183) ذكر هذه الوقائع في منزل دعوات السابق.
4- في (المقتل المشهور): (وأهلها طائفةٌ يبكون وطائفةٌ يضحكون).

قال أبو مخنف: وتلك الرحبة الّتي نصب فيها رأس الحسين علیه السلام لا يجتاز فيها أحدٌ إلا وتُقضى حاجته إلى يوم القيامة ((1)).

قال: وباتوا تلك الليلة في حلب ((2)) ثملين من الخمور إلى الصباح، فلمّا ارتحلوا من الغدات بكى عليّ بن الحسين السجّاد علیه السلام، وأنشأ يقول:

«ليت شعري، هل عاقلٌ في الدياجي***بات من فجعة الزمان يناجي

أنا نجل الإمام ((3))،ما بال حقّي***ضائع بين عصبةٍ أعلاجِ؟ ((4))

نكروا حقّنا وفاؤوا علينا***يقتلونا بخدعةٍ واحتجاجِ»

ثمّ ساروا إلى مَديَن، وهي مدينةٌ عامرةٌ بالناس كثيرة البركات، فغلقوا الأبواب في وجوههم، وركبوا السور، وجعلوا يلعنونهم ويرمونهم بالأحجار، وقالوا: يا قتَلَة الحسين، لا دخلتم مدينتنا ((5)).

ص: 148


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 65، وفيهما: (وتقضى حاجته)، ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 68 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 293 المجلس 27 -- كلاهما عن: أبي مخنف، وفيهما: (إلّا وتقضى حاجته).
2- في المقتل المشهور وغيره ممّن روى عنه ذكر ذلك في منزل دعوات.
3- في المتن: (النبيّ).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 184.
5- في (المقتل لأبي مخنف المشهور: 184)، في وقائع الدخول إلى قنسرين: (ويقولون: يا فجَرة، يا قتَلَة أولاد الأنبياء، واللهِ لا دخلتم بلدنا ولو قُتلنا عن آخرنا).

فبكت أُمّ كلثوم، وأنشأت تقول:

کم تنصبون لنا الأقتاب عاريةً***كأنّنا من بنات الروم في البلدِ

أليس جدّي رسول الله؟ ويلَکمُ!***همُ الّذي دلّکم قصداً إلى الرشدِ

يا أُمّة السوء، لا سقياً لربعکمُ إلّا***عذاباً، كما أخنى على لبدِ ((1)) ((2))

وأتوا معرّة النعمان، واستقبلوهم وفتحوا الأبواب (وذبحوا الذبائح) وقدّموا لهم الأكل والشرب، وبقوا بقيّة يومهم.

ورحلوا منها ونزلوا شيزر، وكان فيها شيخٌ كبير، فقال: يا قوم، هذا رأس الحسين علیه السلام. فتحالفوا أن لا يجوزوا في بلدهم ((3))، فقال المشايخ للشبّان: يا قوم، إنّ الله كره الفتنة، وقد مرّ هذا الرأس في جميع البلدان ولم يعارضه أحد، فدعوه يجوز في بلدكم. فقال الشبّان: واللهِ لا كان ذلك أبداً! ثمّ عمدوا على القنطرة فقعوها، فخرجوا عليهم شاكين في السلاح، فقال لهم خولي: إليكم عنّا. فحملواعليه وعلى أصحابه فقاتلوهم قتالاً شديداً، فقُتل من أصحاب خولي ستّةٌ وسبعون رجلاً، ومن أهل شيزر سبعون رجلاً ((4)).

ص: 149


1- في المتن: (کما أخنا على الکبدي)، وفي (الأسرار): (كما أحيى على البلدِ).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 184.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 185، إلى هنا في (المقتل) لمنزل شيزر، وما يأتي ممّا ذكره المؤلّف فهو في (المقتل) لمنزل سيبور.
4- في (المقتل): (فقُتل من أصحاب خولي ستمئة فارس، وقُتل من الشبّان خمس فوارس)، والكلام في (المقتل) في سيبور.

فقالت أُمّ كلثوم: ما يُقال لهذه المدينة؟ قالوا: شيزر ((1)). فقالت: أعذب الله شرابهم، وأرخص الله أسعارهم، ورفع أيدي الظلَمة عنهم.

قال أبو مخنف: فلو أنّ الدنيا مملوءةً ظلماً وجوراً لَما نالهم إلّا قسطاً وعدلاً ((2)).

فأنشأ عليّ بن الحسين زين العابدين يقول:

«ساد العلوج،فما ترضى بذا العربُ ((3))***وصار يقدم رأس الأُمّة الذنَبُ

يا لَلرجال، وما يأتي الزمان به***من العجيب الّذي ما مثله عجبُ

آل الرسول على الأقتاب عاريةً***وآل مروان تسري تحتهم نجبُ» ((4))

فلمّا عاينوا ذلك منهم لم يدخلوها، وساروا إلى كفر طاب، وكان حصناً صغيراً فغلقوا عليهم بابه، فتقدّم إليهم خولي فقال: ألستُم في طاعتنا؟ فاسقونا الماء! فقالوا: واللهِ لو قُتلنا عن آخرنا ما سقيناکم الماء وأنتم قد منعتم الحسين وأصحابه من شرب الماء وقد قتلتموهعطشاناً ((5)).

ص: 150


1- في (المقتل): (سيبور).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 186 وما بعدها.
3- في المتن: (ساد العلوج على السادات ذي الحسبِ).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 186، في سيبور.
5- في (المقتل): (والله لا نسقيكم قطرةً واحدةً وأنتم منعتم الحسين علیه السلام وأصحابه الماء!).

ثمّ ساروا حتّى وصلوا حماة، فغلقوا الأبواب في وجوههم، وركبوا السور وقالوا: واللهِ لا تدخلون بلدنا ولو قُتلنا عن آخرنا ((1)). فلمّا سمعوا ذلك ارتحلوا.

وساروا إلى قمتين ((2))! وكتبوا إلى صاحبها أنّ معنا رأس الحسين علیه السلام، وكان أميرها أخا صالح بن نشيط ((3))! فلمّا قرأ الكتاب أمر بأعلامٍ فنُشرت والمدينة فزُيّنت، وتداعى الناس من كلّ جانبٍ ومكان، وخرج فتلقّاهم على مسير ثلاثة أميال، وشهروا الرأس، وساروا حتّى أتوا حمص، فدخلوا الباب فازدحمت الناس بالباب، فساروا ليدخلوا المدينة من الباب الشرقي فأغلوا الباب في وجوههم، وقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمانٍ وضلالٌ بعد هدى؟ أيجوز في مدينتنا رأس ابن بنت نبيّنا؟ واللهِ لا كان ذلك أبداً ((4)).

ص: 151


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 187.
2- لم أعثر على المنزل في المقتل المطبوع، ولا في ما فحصنا من الكتب الّتي تروي عنه.
3- في (المقتل): (خالد بن النشيط)، وقد ذكره المؤلّف قبل قليلٍ في غير هذا المنزل.
4- في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 188): (حتّى أتوا حمص، فدخلوا الباب فازدحمت الناس بالباب، فرموهم بالحجارة حتّى قُتل ستّةٌ وعشرون فارساً، واغلقوا الباب في وجوههم، فقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمانٍ وضلالٌ بعد هدى؟ فخرجوا ووقفوا عند كنيسة ...).

فلمّا رأوا ذلك توجّهوا نحو باب تدمر فدخلوا البلد منها، وأدخلواالرؤوس والسبايا المكرمين إلى المدينة، تتقدّمهم الأعلام، فوقفوا عند كنيسة جرجيس ((1))، وهي دارٌ لخالد بن النشيط ((2))، والجهّال والبغاة يصفّقون ويرکضون ويقولون: هذا رأس خارجيّ خرج على الخليفة يزيد بن معاوية! ((3))

ثمّ ارتحلوا إلى سوق الطعام! ثمّ إلى حرسه! فلمّا سمع أهل حرسه تحالفوا أن يقتلوا خولي وشمر ويأخذوا منهم الرأس المقدّس، فسمع الأشقياء ففزعوا، وساروا إلى بحيرة، ثمّ إلى كيزر!

وكتبوا إلى والي بعلبك أنّ معنا رأس الحسين علیه السلام، فلمّا قرأ الوالي كتابهم أمر بالجوار أن يضربن الدفوف، ونُشرت الأعلام وضُربت البوقات، وأخذوا الخلوق والسكر والسويق، وباتوا ثملين، وخرجوا يتلقّونهم على مسير ستّة أميال، فقالت أُمّ كلثوم: ما يُقال لهذه البلد؟ قالوا: بعلبك. فقالت: أباد الله خضراءهم، ولا أعذب الله شرابهم، ولا رفع الله أيدي الظلَمة عنهم.

ص: 152


1- في (المقتل): (قسّيس).
2- مقتل الحسين علیه السلاملأبي مخنف (المشهور): 188.
3- في (المقتل): (ووقفوا عند كنيسة قسّيس، وهي دارٌ لخالد بن النشيط، فتحالفوا أن يقتلوا خولي ويأخذوا منه الرأس، ليكون فخراً لهم إلى يوم القيامة).

قال أبو مخنف: فلو أنّ الدنيا مملوءة عدلاً وقسطاً لَما نالهم إلّا ظلمٌ وجور ((1)).

وباتوا تلك الليلة ثَمِلين، فأنشأ زين العابدين علیه السلام يقول:

«هو الزمان، فما تفنى عجائبُهُ***عن الكرام ولا تهدأ مصائبُهُ

فليت شعري إلى كم ذا تجاذبنا***صروفُه،وإلى كم ذا نجاذبُهُ

يسيّرونا على الأقتاب عاريةً***وسائق العيس يحمي عنه غاربُهُ

كأنّنا من سبايا الروم بينهمُ***أو كلّما قاله المختار كاذبُهُ

كفرتُمُ برسول الله، ويلكمُ***يا أُمّة السوء، قد ضاقت مذاهبُهُ» ((2))

فلمّا جنّ الليل دفعوا الرأس إلى جانب الصومعة ((3)).

وفي (المنتخب): ونصبوا الرمح الّذي فيه الرأس إلى جانب صومعة راهب، فسمعوا هاتفاً يقول:

والله ما جئتكم حتّى بصرتُ به***بالطفّ منعفر الخدَّين منحورا

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهُمُ***مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به***اَلله أعلم أنّي لم أقل زورا

فقالت أُمّ كلثوم: مَن أنت؟ يرحمك الله. قال: أنا ملكٌ من الجنّ، أتيتُ

ص: 153


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 188 -- 189.
2- في (المقتل): (لا حلّت مذاهبُهُ).
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 189.

أنا وقومي لننصر الحسين فصادفناه وقد قُتل.

فلمّا سمعوا بذلك رعبت قلوبُهم، وقالوا: إنّنا علمنا أنّنا من أهل النار بلا شكّ.فلمّا جنّ الليل أشرف الراهب من صومعته، ونظر إلى الرأس وقد سطع منه نور وقد أخذ في عِنان السماء، ونظر إلى بابٍ قد فُتح من السماء والملائكة ينزلون، وهم ينادون: يا أبا عبد الله، عليك السلام. فجزع الراهب من ذلك، فلمّا أصبحوا وهمّوا بالرحيل أشرف الراهب عليهم وقال: ما الّذي معكم؟ قالوا: رأس الحسين بن عليّ. فقال: ومَن أُمّه؟ قالوا: فاطمة بنت محمّد. فجعل الراهب يصفق بكلتا يدَيه وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، صدقَت الأحبار فيما قالت. فقالوا: وما الّذي قالت الأحبار؟ قال: يقولون: إذا قُتل إلى الرجل مطرت السماء دماً، وذلك لا يكون إلّا لنبيّ أو ولد وصيّ. ثمّ قال: وا عجباه من أُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها وابن وصيّه! ثمّ أنّه أقبل على صاحب الرأس الّذي يلي أمره وقال له: أرني الرأس لِأنظر إليه. فقال: ما أنا بالّذي أكشفه إلّا بين يدَي الأمير يزيد؛ لِأحظى عنده بالجائزة، وهي بدرة عشرة آلاف ((1)) درهم. فقال الراهب: أنا أُعطيك ذلك. فقال: أحضِرْه. فأحضر له ما قال، ثمّ أخذ الرأس، وكشف عنه وتركه في حِجْره فبدت ثناياه، فانكبّ عليها الراهب وجعل يقبّلها

ص: 154


1- في المتن: (اثنا عشر ألف)

ويبكي ويقول: يعزّ علَيّ يا أبا عبد الله ألّا أكون ((1)) أوّل قتيلٍ بين يديك، ولكن إذا كان من الغد فاشهَدْ لي عند جدّك أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله. ثمّ ردّ الرأس بعد أن أسلم وأحسن إسلامه، فسار القوم، ثمّ جلسوا يقتسمون الدراهم فإذا هي خزفٌ مكتوبٌ عليها: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»((2)).

ص: 155


1- في المطبوع: (لأكون).
2- المنتخب للطريحي: 2 / 468 المجلس 10.

ص: 156

تنبيهات

الأوّل:

في (بحار الأنوار)، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف بالموسم إذا رأيت رجلاً يدعو وهو يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، وأنا أعلم أنّك لا تغفر! قال: فارتعدتُ لذلك، ودنوت منه وقلت: يا هذا، أنت في حرم الله وحرم رسوله، وهذا أيّامٌ حُرُمٌ في شهرٍ عظيم، فلمَ تيأس من المغفرة؟! قال: يا هذا، ذنبي عظيم! قلت: أعظم من جبل تُهامة؟ قال: نعم. قلت: يوازن الجبال الرواسي؟ قال: نعم، فإن شئتَ أخبرتُك. قلت أخبرني. قال: اخرج بنا عن الحرم. فخرجنا منه.

فقال لي: أنا أحد مَن كان في العسكر الميشوم -- عسكر عمر بن سعد -- حين قُتل الحسين، وكنتُ أحد الأربعين الّذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة، فلمّا حملناه على طريق الشام نزلنا على دِيرٍ للنصارى، وكان الرأس معنا مركوزاً على رمحٍ ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكفٍّ في حائط الدير تكتب:

أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

ص: 157

قال: فجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، وأهوى بعضنا إلى الكفّ ليأخذها فغابت، ثمّ عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكفّ قد عادتتكتب:

فلا واللهِ ليس لهم شفيعٌ***وهم يوم القيامة في العذابِ

فقام أصحابنا إليها فغابت، ثمّ عادوا إلى الطعام، فعادت تكتب:

وقد قتلوا الحسين بحكم جَورٍ***وخالف حكمُهم حكمَ الكتابِ

فامتنعت وما هنأني أكله.

ثمّ أشرف علينا راهبٌ من الدير، فرأى نوراً ساطعاً من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكراً، فقال الراهب للحرّاس: مِن أين جئتم؟ قالوا: من العراق، حاربْنا الحسين. فقال الراهب: ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن ابن عمّ نبيّكم؟! قالوا: نعم. قال: تبّاً لكم، واللهِ لو كان لعيسى ابن مريم ابنٌ لَحملناه على أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم: عندي عشرة آلاف دراهم ورثتُها من آبائي، يأخذها منّي ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددتُه إليه. فأخبروا عمر بن سعد بذلك، فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه إلى وقت الرحيل. فجاؤوا إلى الراهب فقالوا: هاتِ المال حتّى نعطيك الرأس. فأدلى إليهم جرابين، في كلّ جرابٍ خمسة آلاف درهم، فدعا عمر بالناقد والوزّان فانتقدها ووزنها ودفعها إلى خازنٍ له، وأمر أن يُعطى الرأس، فأخذ الراهب الرأس، فغسله ونظّفه وحشاه بمسكٍ وكافورٍ كان عنده، ثمّ جعله في حريرةٍ ووضعه في حِجْره، ولم

ص: 158

يزل ينوح ويبكي حتّى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس، واللهِ لا أملك إلّا نفسي، فإذا كان غداً فاشهَدْ لي عند جدّك محمّدٍ أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أسلمتُ على يدَيك وأنا مولاك. وقال لهم: إنّي أحتاج أن أُكلّم رئيسكم بكلمةٍ وأُعطيهالرأس. فدنا عمر بن سعد، فقال: سألتُك بالله وبحقّ محمّدٍ أن لا تعود إلى ما كنتَ تفعله بهذا الرأس، ولا تخرج بهذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل. فأعطاه الرأس، ونزل من الدير يلحق ببعض الجبال يعبد الله، ومضى عمر بن سعد، ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأوّل.

فلمّا دنا من دمشق قال لأصحابه: انزلوا. وطلب من الجارية الجرابين، فأُحضرت بين يديه، فنظر إلى خاتمه، ثمّ أمر أن يُفتَح، فإذا الدنانير قد تحوّلَت خزفيّة، فنظروا في سكّتها فإذا على جانبها مكتوب: «لاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ» ((1))، وعلى الجانب الآخَر مكتوب: «سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2))، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، خسرتُ الدنيا والآخرة. ثمّ قال لغلمانه: اطرحوها في النهر. فطُرحَت، ورحل إلى دمشق من الغد، وأُدخل الرأس إلى يزيد ...

ص: 159


1- سورة إبراهيم: 42.
2- سورة الشعراء: 227.

وأمر فأدخل الرأس القبّة الّتي بإزاء القبّة الّتي يشرب فيها، ووكّلنا بالرأس، وكلّ ذلك كان في قلبي، فلم يحملني النوم في تلك القبّة، فلمّا دخل الليل وكّلنا أيضاً بالرأس، فلمّا مضى وهنٌ من الليل سمعتُ دويّاً من السماء، فإذا منادٍ ينادي: يا آدم اهبط. فهبط أبو البشر ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعتُ منادياً ينادي: يا إبراهيم اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت منادياً ينادي: يا موسى اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت منادياً ينادي: يا عيسى اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت دويّاً عظيماًومنادٍ ينادي: يا محمّد اهبط. فهبط ومعه خلقٌ كثيرٌ من الملائكة، فأحدق الملائكة بالقبّة، ثمّ إنّ النبيّ دخل القبّة وأخذ الرأس منها.

وفي روايةٍ أنّ محمّداً قعد تحت الرأس، فانحنى الرمح ووقع الرأس في حِجْر رسول الله، فأخذه وجاء به إلى آدم، فقال: «يا أبي آدم، ما ترى ما فعلَت أُمّتي بولدي من بعدي؟». فاقشعرّ لذلك جلدي، ثمّ قام جبرئيل فقال: يا محمّد، أنا صاحب الزلازل، فأْمُرني لِأُزلزل بهم الأرض وأصيح بهم صيحةً واحدةً يهلكون فيها. فقال: «لا». قال: يا محمّد، دعني وهؤلاء الأربعين الموكَّلين بالرأس. قال: «فدونك»، فجعل ينفخ بواحدٍ واحد، فدنا منّي فقال: تسمع وترى؟ فقال النبيّ: «دعوه، دعوه؛ لا يغفر الله له»، فتركَني، وأخذوا الرأس وولّوا، فافتُقد الرأس من تلك الليلة فما عُرف له خبر.

ولحق عمر بن سعد الريَّ فما لحق بسلطانه، ومحق الله عمره فأهلك في

ص: 160

الطريق.

فقال سليمان الأعمش: قلت للرجل: تنحَّ عنّي؛ لا تُحرقني بنارك. وولّيتُ ولا أدري بعد ذلك ما خبره ((1)).

وفي (بحار الأنوار): وفي كتاب ابن بطّة أنّهم وجدوا هذه الأبيات: (أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً) مكتوبةً على كنيسة، فسألوا أهلها: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يبعث نبيّكم بثلاثمئة عام ((2)).

ص: 161


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 184 الباب 39 ح 31.
2- في (بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3): (وفي كتاب ابن بطّة أنّهم وجدوا ذلك مكتوباً في كنيسة)، بعد أن ذكرا أبيات: أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً ... وفي (البحار: 45 / 305، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 124، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 243، روضة الواعظين للفتّال: 193، الأمالي للصدوق: 193 المجلس 27 ح 203، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 106): وقال أنس بن مالك: احتفر رجلٌ من أهل نجران حفيرة، فوجد فيها لوحٌ من ذهبٍ فيه مكتوبٌ هذا البيت، وبعده: فقد قدموا عليه بحكم جَورٍ فخالف حكمُهم حكمَ الكتابِ ستلقى يا يزيدُ غداً عذاباً من الرحمان، يا لَك من عذابِ فسألناهم: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يُبعث نبيُّكم بثلاثمئة عام.

وفي (أخبار الدول): فساروا إلى أن وصلوا إلى ديرٍ في الطريق، فنزلوا ليقيلوا به، فوجدوا أيضاً مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

فسألوا الراهب عن المكتوب ومَن كتبه، فقال: إنّه مكتوبٌ هاهنا مِن قبل أن يُبعث نبيُّكم بخمسمئة عام ((1)).

وعن أنس بن مالك: احتفر رجلٌ من أهل نجران حفيرة، فوجد فيها لوحٌ من ذهبٍ فيه مكتوبٌ هذا البيت وبعده:

فقد قدموا عليه بحكم جَورٍ***فخالف حكمهم حكمَ الكتابِ

ستلقى يا يزيد غداً عذاباً***من الرحمان، يا لَك من عذابِ

فسألناهم: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يُبعَث نبيّكم بثلاثمئة عام ((2)).

ص: 162


1- تاريخ الخميس للديار بكري: 2 / 333، حياة الحيوان للدميري: 1 / 87، نفَس المهموم للقمّي: 422.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 54 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305.
الثاني:

في (بحار الأنوار)، عن (الخصائص): لمّا جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلاً يُقال له: قنسرين، اطلع راهبٌ من صومعته إلى الرأس، فرأى نوراً ساطعاً يخرج مِن فِيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهمٍ وأخذ الرأس وأدخله صومعته، فسمع صوتاً ولم يرَ شخصاً، قال: طوبى لك، وطوبى لمن عرف حرمته. فرفع الراهب رأسه وقال: يا ربّ، بحقّ عيسى تأمر هذا الرأس بالتكلّم معي. فتكلّم الرأس وقال: «يا راهب، أيّ شيءٍ تريد؟»، قال: مَن أنت؟ قال: «أنا ابن محمّدٍ المصطفى، وأنا ابن عليٍّ المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراء، أنا المقتول بكربلاء، أنا المظلوم، أنا العطشان»، وسكت. فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتّى تقول: أنا شفيعك يوم القيامة، فتكلّم الرأس وقال: «ارجعْ إلى دِين جدّي محمّد»، فقال الراهب: أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فقبل له الشفاعة. فلمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة ((1)).

ص: 163


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 49 الفصل 3 -- عن: الخصائص للنطنزي، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 303.
الثالث:

في (البحار)، عن كتاب (المناقب) القديم: رُوي أنّه لمّا حُمل رأسه إلى الشام، جَنَّ عليهم الليل فنزلوا عند رجلٍ من اليهود، فلمّا شربوا وسكروا قالوا: عندنا رأس الحسين علیه السلام. فقال: أروه لي. فأروه، وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء، فتعجّب منه اليهودي، فاستودعه منهم، وقال للرأس: اشفَعْ لي عند جدّك. فأنطق الله الرأس فقال: «إنّما شفاعتي للمحمّديّين، ولستَ بمحمّديّ!». فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد علیه السلام. ثمّ قال: يا لهفاه؛ حيث لم أجد جدّك محمّداً صلی الله علیه وآله فأُسلم على يدَيه، يا لهفاه؛ حيث لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأُقاتل بين يديك، فلو أسلمتُ الآن أتشفعُ لي يوم القيامة؟ فأنطق الله الرأس فقال بلسانٍ فصيح: «إنْ أسلمتَ فأنا لك شفيع»، قاله ثلاث مرّاتٍ وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه.

قال صاحب (البحار): ولعلّ هذا اليهوديّ كان راهب قنسرين؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين علیه السلام ، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري الجرجاني في مرثيّة الحسين علیه السلام ((1)).

ص: 164


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 172.

قال المؤلّف: لا يبعد أبداً التعدّد.

الرابع:

في بعض الكتب المعتبرة: كان رجلٌ يهوديٌّ يُقال له: يحيى الحراني، وكان يعيش على تلٍّ يُشرف على مدينة حران، فلمّا ساروا بأهل البيت من دير الراهب النصراني الى حران سمع أنّ جماعةً من النساء والأطفال والأسرى من الصغار والكبار معهم عددٌ كبيرٌ من الرؤوس المرفوعة على الرماح ستدخل حران.

فخرج يحيى من منزله ونزل من التلّ، ووقف على قارعة الطريق ينتظر قدوم الأسرى، فلاحت له بيارق عساكر ابن زياد، فنظر فرأى رؤوساً مرفوعةً على أطراف الأسنّة، وأهل البيت يُساقون خلفها كأنّهم أسرى الكفّار، فوقع نظره على رأس ابن المصطفى، فسطع نورُه في عينه، فحقّق النظر واذا بشفتَي الحسين تتمتمان، فاقترب منه وأنصت له، فسمعه يقول: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ». ففزع يحيى ودُهش لُبّه من هذه الآية العظمى، وارتعدت فرائصه لما سمع منه.

فسارع إلى رجلٍ من العسكر ساهماً واجماً وقال له: لمن هذا الرأس؟ فقال: رأس الحسين بن عليّ المرتضى. قال: ومَن أُمّه؟ قال: فاطمة بنت محمّدٍ المصطفى. قال: ومَن هؤلاء الأسرى؟ قال: أهل بيت الحسين علیه السلام.

فبكى يحيى بكاءً شديداً، وقال: الحمد للّه الّذي عرّفَني الحقّ ودلّني

ص: 165

على الصراط المستقيم، فعلمتُ أنّ أيّ صراطٍ سوى صراطمحمّدٍ ضلالٌ مبين، ومَن سلك غير صراطه فهو في جهنّم من المخلدين، وهذا ظلمٌ وجورٌ وحزنٌ وألمٌ وبلاءٌ لا يحلّ إلاّ في أهل بيت النبيّين، وهذه الرزيّة العظمى برهانٌ على أحقّيّة هؤلاء المظلومين. فأعلن إسلامه ونطق بالشهادتين.

فعزم على أن يقدّم لأهل البيت ما عنده من الطعام وممّا رزقه اللّه، فمنعه العسكر وتوعّدوه وهدّدوه بسلطان يزيد وسطوته، غير أنّ يحيى هام في حبّ الحسين علیه السلام، وصار حاله كحال أيّ محبٍّ لا يعبأ بالنفع والضرر، فشهر سيفه وقاتلهم قتالاً شديداً، حتّى قُتل ونال سعادة الشهادة، فدفنوه في باب حران، وعُرف بعد ذلك بيحيى الشهيد، والدعاء عنده مستجاب ((1)).

الخامس:

في بعض كتب المقاتل: وساروا مُجدّين إلى أن وصلوا إلى بلدٍ يُقال له: عسقلان، وأمير ذلك البلد يعقوب العسقلاني، وكان في حرب الحسين علیه السلام، فلمّا وصل العسكر مع الرأس والنساء إليه أمر أن يزيّنوا ذلك البلد، وأمر أصحاب اللهو والزهو أن يفرحوا ويلعبوا، ويضربوا الطنبور والعود، وجلسوا في القصور باللهو وشرب الخمور.

ص: 166


1- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 73 -- ترجمة: السيّد علي أشرف -- عن: روضة الأحباب، روضة الشهداء للكاشفي: 367.

فلمّا دخلوا وأدخلوا الرأس والنساء، كان رجلٌ تاجرٌ اسمه زرير الخزاعي، وكان واقفاً، فلمّا رأى الناس على ذلك سأل من بعضهم:إنّ هذا الفرح والسرور ما سببه؟ وما سبب تزيين الأسواق؟ فقالوا: كأنّك غريب! قال: نعم. قالوا: كان في العراق رجلٌ مع جماعةٍ وهم يخالفون يزيد وما بايعوه، فبعث إليهم عسكراً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم ونساؤهم. فسأل زرير: يا هذا، أهؤلاء كانوا مسلمين أم كفرة؟ فقيل له: إنّهم كانوا سادات أهل الإسلام. فقال: ما كان سبب خروجهم على يزيد؟ قيل له: إنّ كبيرهم كان يقول: أنا ابن رسول الله، وأنا بالخلافة أحقّ.

سأل عن كبيرهم ومَن كان أبوه ومَن كان أُمّه؟ قيل: أمّا اسمه الحسين، وأخوه الحسن، وأُمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وأبوه أمير المؤمنين.

فلمّا سمع زرير ذلك اسودّت الدنيا في عينيه وضاقت الأرض عليه، فجاء قريباً من السبايا، فنظر إلى عليّ بن الحسين، وبكي بكاءً شديداً وأنَّ أَنّةً عظيمة، فقال زين العابدين علیه السلام: «ما لي أراك تبكي يا هذا، وجميع أهل البلد في فرحٍ وسرور؟»، فقال: يا مولاي، أنا رجلٌ غريب، قد وقعت في هذا البلد، وسألت أهل البلد عن فرحهم وسرورهم، فقالوا: باغٍ تباغى على يزيد، فقتله وبعث برأسه ونسائه إلى الشام، فسألت عن اسمه، قالوا: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، وجدّه محمّد المصطفى، فقلت: تبّاً لكم، فمَن كان أحقّ منه بالخلافة؟ فقال علیه السلام: «جزاك الله يا زرير خيراً، فقد أرى فيك المعرفة ولنا المحبّة».

ص: 167

قال: فقلت: يا سيّدي، هل لك حاجة؟ لأنّي لك بشرط الخدمة. قال علیه السلام: «قل للذي هو حامل رأس الحسين علیه السلامأن يتقدّم على النساء؛ لتشتغل النظّارة بالرأس عن النظر إلى النساء».قال: فمضيت من وقتي، وأعطيت حامل الرأس خمسين مثقالاً من الذهب والفضّة حتّى اعتزل وتقدّم به، فاستراحت النساء من مدّ النظر إليهنّ، وعاد الناس يتفرّجون على الرؤوس.

فأتيتُ إلى الإمام وقلت: سيّدي، بماذا تأمرني بعد ذلك؟ قال علیه السلام : «إن كان في رحلك ثيابٌ زائدةٌ ايتني بها». قال: فمضيت وأتيت لكلّ واحدةٍ من النساء بثوب، وأتيت لزين العابدين بعمامة.

فعند ذلك قام الصياح والزعقات في السوق، فتأمّلت ذلك وإذا هو الشمر اللعين، فأخذتني الحميّة، فجئتُ إليه وشتمتُه، ومسكتُ بلجام فرسه وقلت له: لعنك الله يا شمر، رأس مَن هذا وضعتَه على الرمح؟ وهؤلاء السبايا الّذين سبيتهم أولاد مَن حتّى أركبتهم الجمال بغير وطاء؟ قطع الله يديك ورجليك، وأعمى قلبك وعينيك. فغضب اللعين، وصاح بأصحابه: اضربوه! فضربوه، واجتمع عليه الناس بالحجارة حتّى أثخنوه، ووقع مغشيّاً عليه، فظنّوا أنّه قد قُتل ومات، وتركوه ملقىً على قفاه لا يتحرّك.

فلمّا كان الليل ومضى نصفه قام زرير مرّةً يحبو ومرّةً يتمرغل على ظهره وبطنه من كثرة الجراح، حتّى وصل إلى مسجدٍ هناك يسمّى بمشهد سليمان النبي، فإذا هو بأُناسٍ رؤوسهم مكشوفة، وأزياقهم مشقّقة، وأعينهم باكية،

ص: 168

وقلوبهم محترقة، فقال زرير: ما لكم باكون والناس في هذا البلد فرحون مسرورون؟! فقالوا: أيّها القادم علينا، إن كنتَ منّا فاجلس وشاركنا في المصيبة. وإذا هم يبكون على الحسين وأهل بيته، فحكى زرير قصته، وأراهم الطعن في بدنه، فاشتغلوا بالبكاء، وزادت مصيبتهم وعزاؤهم على أهل بيت الرسول صلی الله علیهوآله ((1)).

ثمّ جمع زرير ماله فدفعه، فاشتروا به السلاح والأفراس، وبايعه مئةٌ ورجلين ((2))، وخرج يوم الجمعة فقتلوا الخطيب وأخذا العامل ((3)).

ألا لعنة الله على الظالمين.

السادس:

في كتاب (البحار)، عن الشعبي: رأيتُ رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، ولا أراك تغفر لي! فسألتُه عن ذنبه، فقال: كنتُ من الوكلاء على رأس الحسين، وكان معي خمسون رجلاً، فرأيت غمامةً بيضاء من نورٍ وقد نزلت من السماء إلى الخيمة، وجمعاً كثيراً أحاطوا بها، فإذا فيهم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ثمّ نزلَت أُخرى وفيها النبيّ صلی الله علیه وآله

ص: 169


1- الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 76.
2- في (روضة الشهداء): (مئة وعشرة).
3- روضة الشهداء للكاشفي: 375.

وجبرائيل وميكائيل وملَك الموت، فبكى النبيّ وبكوا معه جميعاً، فدنا ملَك الموت وقبض تسعاً وأربعين، فوثب علَيّ، فوثبت على رجلي وقلت: يا رسول الله، الأمان الأمان! فوَاللهِ ما شايعتُ في قتله ولا رضيت. فقال: «ويحك! وأنت تنظر إلى ما يكون؟»، فقلت: نعم. فقال: «يا ملَك الموت، خلِّ عن قبض روحه، فإنّه لابدّ أن يموت يوماً»، فتركني، وخرجت إلى هذا الموضع تائباً على ما كانمنّي ((1)).

السابع:

في كتاب (البحار)، عن ابن لهيعة قال: كنتُ أطوف بالبيت، فإذا أنا برجلٍ يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، وما أراك فاعلاً! فقلت له: يا عبد الله، اتقِ الله ولا تقل مثل هذا؛ فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرتَ الله غفرها لك، فإنّه غفورٌ رحيم! قال: فقال لي: تعالَ حتّى أُخبرك بقصّتي. فأتيته، فقال: اعلم أنّنا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسين إلى الشام، وكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في التابوت، وشربنا الخمر حول التابوت، فشرب أصحابي ليلةً حتّى سكروا، ولم أشرب معهم، فلمّا جَنّ الليل سمعتُ رعداً ورأيت برقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحَت ونزل آدم

ص: 170


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 303، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 48 الفصل 3، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 100.

ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ونبيّنا محمّد صلی اله علیه وآله، ومعهم جبرئيل وخلقٌ من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت فأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه وقبّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلُّهم، وبكى النبيّ صلی اله علیه وآله على رأس الحسين، فعزّاه الأنبياء، فقال له جبرئيل: يا محمّد، إنّ الله (تعالى) أمرني أن أُطيعك في أُمّتك، فإن أمرتَني زلزلت بهم الأرض وجعلت عاليها سافلها، كما فعلتُ بقوم لوط. فقال النبي صلی اله علیه وآله : «لا يا جبرئيل، فإنّ لهم معي موقفاً بين يدَي الله يوم القيامة». قال: ثمّ صلّواعليه، ثمّ أتى قومٌ من الملائكة وقالوا: إنّ الله (تبارك وتعالى) أمرنا بقتل الخمسين. فقال لهم النبيّ: «شأنكم بهم». فجعلوا يضربون بالحربات، ثمّ قصدني واحدٌ منهم بحربته ليضربني، فقلت: الأمان الأمان يا رسول الله! فقال: «اذهب، فلا غفر الله لك». فلمّا أصبحتُ رأيتُ أصحابي كلّهم جاثمين رماداً ((1)).

ص: 171


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 125، اللهوف لابن طاووس: 172.

ص: 172

المجلس الثالث عشر : في ورود الرؤوس والسبايا إلى الشام، وجملة من الكرامات والأحداث الواقعة في الشام

اشارة

إعلَمْ أنّ أُميّة جدّ بني أُميّة كان غلاماً لعبد شمس بن عبد مناف، كما صرّح بذلك علماء النسب، وكان عبد شمس يلوط به!! ثمّ أعتقه، ونُسب إليه بالتبنّي، فقيل له: أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ((1)).

واعلم أنّ سلسلة أُميّة تنشعب إلى ثلاث شُعب، منها عثمان بن عفّان ابن أبي العاص بن أُميّة، ومنها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر ابن حرب بن أبي العاص بن أُميّة، ومنها هشام بن عبد الملك بن مروان

ص: 173


1- أُنظُر: إلزام النواصب: 179، بحار الأنوار للمجلسي: 31 / 544 من دون الإشارة إلى اللواط.

ابن الحكَم بن أبي العاص بن أُميّة ((1)).

والمراد من الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن في قوله(تعالى): «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً» ((2))، هم بنو أُميّة ((3)).

وفسّرها بعض العرفاء الظاهريّين بالظاهر، فقال: «فَما يَزِيدُهُم» هو يزيد ابن معاوية (لعنهما الله) ((4)).

وكذا قالوا في قوله (تعالى): «وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً» ((5)).

اللّهمّ العن بني أُميّة قاطبة.

* * * * *

قال أبو مخنف: فلمّا خرجوا من صومعة الراهب، قال سهل: فهتف هاتفٌ يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ

ص: 174


1- أُنظُر: رسائل المقريزي: 79، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 3 / 270.
2- سورة الإسراء: 60.
3- أُنظُر: الاحتجاج للطبرسي: 1 / 276، تفسير العيّاشي: 2 / 297، تفسير القمّي: 2 / 21، بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 165، شرح النهج لابن أبي الحديد: 9 / 219.
4- أُنظُر: تفسير المعين: 2 / 719، تفسير لاهيجي: 2 / 718.
5- سورة الإسراء: 82.

وقد غضبوا الإله وخالفوه***ولم يخشوه ((1)) في يوم المآبِ؟

ألا لعن الإله بني زيادٍ***وأسكنهم جهنّمَ فيالعذابِ ((2))وفي (المنتخب): ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق، وإذ بهاتفٍ يقول:

رأسُ ابن بنت محمّدٍ ووصيّه***يا لَلرجال على قناةٍ يُرفَعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمشهدٍ***لا جازعٌ فيهم ولا متوجّعُ

كحلت بمنظرك العيون عماءها***وأصمّ رزؤك كلَّ أُذنٍ تسمعُ

ما روضةٌ إلّا تمنّت أنّها***لك تربةٌ ولخطّ جنبك مضجعُ

مُنعوا زلال الماء آلُ محمّدٍ***وغدت ذئاب البرّ فيه تكرعُ

عينٌ علاها الكحل فيه تفرقعت***ويدٌ تصافح في البريّة تُقطعُ ((3))

ورُوي عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر قال: «سألتُ أبي عليَّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال: حملني على بعيرٍ يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين علیه السلام على علم، ونسوتنا خلفي على بغالٍ فأكف [واكفة]، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعَت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح، حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائحٌ: يا أهل الشام، هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!» ((4)).

ص: 175


1- في المتن: (يرجوه).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 192.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 469 المجلس 10.
4- إقبال الأعمال لابن طاووس: 583، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 154.

هذه الحالات المفجعة والكلمات المفجعة كانت جزاءً لوصيّة الحقّ (تعالى)، الّتي قال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِيالْقُرْبَى» ((1)).

وفي (الملهوف): وسار القوم برأس الحسين ونسائه والأسرى من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنَت أُمّ كلثوم من شمر -- وكان من جملتهم -- فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتكِ؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في دربٍ قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها؛ فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل، بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النظّار على تلك الصفة، حتّى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي ((2)).

وروى صاحب (المناقب) بإسناده عن زيد، عن آبائه أنّ سهل بن سعدٍ قال: خرجتُ إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينةٍ مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساءٌ يلعبن بالدفوف والطبول ((3)).

وفي (المنتخب): فدخلتُ الشام فرأيت الأبواب مفتّحة والدكاكين

ص: 176


1- سورة الشورى: 23.
2- اللهوف لابن طاووس: 174.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127.

مغلَقة، والخيل مسرَجة، والأعلام منشورة والرايات مشهورة، والناس أفواجاً امتلأَت منهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينةٍ يفرحون ويضحكون، فقلت لبعضهم: أظنّ حدث لكم عيدٌ لا نعرفه! قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافّةً فرحين مسرورين؟! فقالوا:أغريبٌ أنت أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فُتح لأمير المفسدين فتحٌ عظيم. قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجيٌّ فقتله، والمنّة لله وله الحمد. قلت: ومَن هذا الخارجي؟ قالوا: الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قلت: الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله؟!! قالوا: نعم. قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإنّ هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيّكم، وما كفاكم قتله حتّى سمّيتموه خارجيّاً؟! فقالوا: يا هذا، أمسِكْ عن هذا الكلام واحفظ نفسك؛ فإنّه ما مِن أحدٍ يذكر الحسين بخيرٍ إلّا ضُربَت عنقه. فسكتُّ عنهم باكياً حزيناً ((1)).

وفي رواية (المناقب): فرأيتُ قوماً يتحدّثون، فقلت: يا قوم، لكم بالشام عيدٌ لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ، نراك أعرابيّاً. فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيتُ محمّداً صلی الله علیه وآله. قالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها؟ قلت: ولمَ ذاك؟ قالوا: هذا رأس الحسين علیه السلام عترة محمّد صلی الله علیه وآله يُهدى من أرض العراق. فقلت: وا عجباه! يُهدى رأس الحسين

ص: 177


1- المنتخب للطريحي: 2 / 282 المجلس 3.

والناس يفرحون؟ قلت: مِن أيّ بابٍ يدخل؟ فأشاروا إلى بابٍ يُقال له: باب ساعات، قال: فبينا أنا كذلك حتّى رأيتُ الرايات يتلو بعضها بعضاً ((1)).

وفي (المنتخب): فرأيت باباً عظيماً قد دخلَت فيه الأعلام والطبول، فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب. فوقفت هناك، وكلّماتقدّموا بالرأس كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم ((2)).

وفي (المناقب): فإذا نحن بفارسٍ بيده لواءٌ منزوع السنان، عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله صلی الله علیه وآله ((3)).

وفي (المنتخب): وإذا برأس الحسين والنور يسطع مِن فِيه كنور رسول الله صلی اله علیه وآله , فلطمتُ على وجهي وقطعت أطماري وعلا بكائي ونحيبي، وقلت: وا حزناه للأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا أكفان! وا حزناه على الخدّ التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله! ليت عينيك ترى رأس الحسين في دمشق يُطاف به في الأسواق، وبناتك مشهوراتٍ على النياق مشقّقات الذيول والأرياق، ينظر إليهم شرار الفسّاق، أين عليّ بن أبي طالب يراكم على هذا الحال؟ ثمّ بكيتُ وبكى لبكائي كلّ مَن سمع منهم

ص: 178


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 282 المجلس 3.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.

صوتي، وأكثرهم لا يلتفتون بي؛ لكثرتهم وشدّة فرحهم واشتغالهم بسرورهم وارتفاع أصواتهم، وإذا بنسوةٍ على الأقتاب بغير وطاءٍ ولا ستر، وقائلة منهنّ تقول: وا محمّداه، وا عليّاه، وا حسناه! لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء، يا رسول الله، بناتك أُسارى كأنّهنّ بعض أُسارى اليهود والنصارى -- وهي تنوح بصوتٍ شجيٍّ يُقرح القلوب على الرضيع الصغير، وعلى الشيخ الكبير المذبوح من القفا ومهتوك الخبا، العريان بلا رداء --، وا حزناه لما نالنا أهل البيت! فعند الله نحتسب مصيبتنا ((1)).وفي (المناقب): فإذا أنا من ورائه رأيتُ نسوةً على جمالٍ بغير وطاء، فدنوتُ من أُولاهم فقلت: يا جارية، مَن أنتِ؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألكِ حاجةً إليّ، فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّكِ وسمعتُ حديثه. قالت: يا سعد، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله صلی اله علیه وآله. قال سهل: فدنوتُ من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، فدفعتُ إليه ما وعدتُه ((2)).

وفي (التبر المذاب): فقلت لها: هل لكِ من حاجةٍ أُخرى؟! قالت: نعم،

ص: 179


1- المنتخب للطريحي: 2 / 283 المجلس 3.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.

ادفع إلينا شيئاً من الثياب نستر به أبداننا!!! ((1)) فدفعتُ إليها عمامتي، ودفعتُ إلى كلّ واحدٍ منهنّ قطعةً من ثيابي ((2)).

وفي (المنتخب): قال: فتعلّقتُ بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصوت: السلام عليكم يا آل بيت محمّدٍ ورحمة الله وبركاته. وقد عرفتُ أنّها أُمّ كلثوم بنت عليّ علیه السلام، فقالت: مَن أنت أيّهاالرجل الّذي لم يسلّم علينا أحدٌ غيرك منذ قُتل أخي وسيّدي الحسين علیهالسلام فقلت: يا سيّدتي، أنا رجلٌ من شهرزور، اسمي سهل، رأيت جدّكِ محمّداً المصطفى صلی اله علیه وآله. قالت: يا سهل، ألا ترى ما قد صُنع بنا؟ أما والله لو عشنا في زمانٍ لم يُر محمّدٌ ما صنع بنا أهله بعض هذا، قُتل والله أخي وسيّدي الحسين، وسُبينا كما تُسبى العبيد والإماء، وحُملنا على الأقتاب بغير وطاءٍ ولا سترٍ كما ترى. فقلت: يا سيّدتي، يعزّ والله على جدّكِ وأبيكِ وأُمّكِ وأخيكِ سبط نبيّ الهدى. فقالت: يا

ص: 180


1- ورد خبر سهل في: مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 60، وتسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 379، وبحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127، وعوالم العلوم للبحراني: 7 / 427، والمنتخب للطريحي: 2 / 282، ولم نسمع فيها كلاماً يشبه هذا الكلام، وهو كلامٌ غريبٌ مُقرفٌ تقشعرّ منه الجلود وترتعش له القلوب ويقفّ له الشعر، سيّما إذا لاحظنا أنّه يدّعي -- حسب هذا النصّ -- توزيع ثيابه على كلّ واحدةٍ من بنات الوحي وحرم الله، فكم كانت ثيابه؟! والخبر عامّيٌّ شاذٌّ لا يُعتدّ به، والله العالم.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 207.

سهل، اشفع لنا عند صاحب المحمل أن يتقدّم بالرؤوس؛ ليشتغل النظّارة عنّا بها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا. فقلت: حُبّاً وكرامة. ثمّ تقدّمتُ إليه وسألتُه بالله وبالغت معه، فانتهرني ولم يفعل.

قال سهل: وكان معي رفيقٌ نصرانيٌّ يريد بيت المقدس، وهو متقلّدٌ سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره، فسمع رأس الحسين وهو يقرأ القرآن ويقول: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...» ((1))، فقد أدركَته السعادة، فقال: أشهدُ أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. ثمّ انقضى سيفه وشدّ به على القوم وهو يبكي، وجعل يضرب فيهم فقتل منهم جماعةً كثيرة، ثمّ تكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله، فقالت أُمّ كلثوم: ما هذه الصيحة؟ فحكيتُ لها الحكاية، فقالت: وا عجباه! النصارى يحتشمون لدين الإسلام، وأُمّة محمّدٍ الّذين يزعمون أنّهم على دين محمّدٍ يقتلون أولاده ويسبون حريمه، ولكنّ العاقبة للمتقين: «وَمَاظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ((2)) ((3)).

وفي (المنتخب): فلمّا وردوا إلى دمشق جاء البريد إلى يزيد، وهو معصَّب الرأس ويداه ورجلاه في طشتٍ من ماءٍ حار، بين يديه طبيبٌ

ص: 181


1- سورة إبراهيم: 42.
2- سورة البقرة: 57.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 283 المجلس 3.

يعالجه، وعنده جماعةٌ من بني أُميّة يحادثونه، فحين رآه قال له: أقرّ عينك بورود رأس الحسين. فنظره شزراً وقال: لا أقرّ الله عينك. ثمّ قال للطبيب: أسرع واعمل ما تريد أن تعمل. فخرج الطبيب عنه وقد أصلح جميع ما أراد أن يصلحه، ثمّ إنّه أخذ كتاباً بعثه إليه ابن زياد وقرأه، فلمّا انتهى إلى آخره عضّ على أنامله حتّى كاد أن يقطعها ((1))، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ودفعه إلى مَن كان حاضراً، فلمّا قرؤوه قال بعضهم لبعض: هذا ما كسبَت أيديكم ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ أمر بمئةٍ وعشرين راية، وأمرهم أن يستقبلوا رأس الحسين صلی اله علیه وآله .

قال سهل: فأقبلَت الرايات، ومن تحتها التكبير والتهليل، وإذا بهاتفٍ يُنشد ويقول:

ص: 182


1- هذه الأخبار لا تصمد أمام النقد؛ إذ فيها ما يفيد ندم يزيد إشارة، وهذا ما لم يمكن أن يكون، ولا دليل عليه من كلمات أهل البيت وأولياء الدم المقدّس الّذي سكن في الخلد، وأيّ ندمٍ لقردٍ متعلّقٍ بالشجرة الملعونة في القرآن؟ ولو ثبت ندمه فلماذا اللعن والانتقام، ولماذا التشهير وإقامة المجلس ووقوع كلّ تلك الجنايات والمصائب في مجلسه؟! إلّا أن يُفهَم ندمه أن لا يكون هو المباشر لقتل سليل الأنبياء وسيّد شباب أهل الجنّة، أو يكون عضّه لأنامله من شدّة الفرح والشماتة.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 469 المجلس 10.

جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمّدٍ***مترمّلاً بدمائه ترميلا

لايوم أعظم حسرةً من يومه***وأراه رهناً للمنون ((1)) قتيلا

فكأنّما ((2)) بك يا ابن بنت محمّدٍ***قتلوا جهاراً عامدين رسولا

ويكبّرون بأن قُتلتَ، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا ((3))

إنّ الرماح الصادمات صدورها***صدر الحسين أصابت التنزيلا

قال سهل: ودخل الناس من باب الخيزران، فدخلتُ في جملتهم، وإذا قد أقبل تسعةٌ وتسعون بيرقاً ((4))، وإذا السبايا على المطايا بغير وطاء، ورأس الحسين بيد خولي ((5))، وهو يقول: أنا صاحب المجد الأصيل، أنا صاحب السيف الصقيل، أنا قتلت أعداءنا أجمعين، وأتيت برؤوسهم إلى يزيد أمير المؤمنين ((6)).

فقالت له أُمّ كلثوم: كذبتَ يا لعين ابن اللعين، ألا لعنة الله على القوم

ص: 183


1- في المتن: (في التراب).
2- في المتن: (وكأنّهم).
3- مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 193.
4- في (المقتل): (وإذا قد أقبل ثمانية عشر رأساً).
5- في (المقتل) المطبوع: (شمر).
6- في (المقتل) المطبوع: (أنا صاحب الرمح الطويل، أنا قاتل ذي الدين الأصيل، أنا قتلت ابن سيّد الوصيّين، وأتيت برأسه إلى أمير المؤمنين!).

الظالمين، يا ويلك! أتفتخر بقتل مَن ناغاه في المهد جبرئيل، وحمله ميكائيل ((1))، ومَن اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش ربّ العالمين، ومَن ختم الله بجدّه المرسلين، وقمع بأبيه المشركين؟ فمن أين مثل جدّي محمّدٍ المصطفى صلی الله علیه وآله، وأبي عليّ المرتضى علیه السلام ، وأُمّي فاطمة الزهراء علیه السلام فأقبل عليها خولي وقال: لَعمري بأنّكِ من بيت الشجاعة ((2)).

وأقبل من بعد رأس الحسين علیه السلام رأس الحرّ بن يزيد الرياحي، يحمله شمر بن ذي الجوشن، وقد وضع في أُذنه رقعةً كتب فيها قصيدة من إنشائه، ذمّ فيها بني أُميّة وابن زياد، وكان قد نظمها حينما انحاز إلى نصرة الإمام المظلوم، وكان في الرقعة أيضاً أسماء المستشهدين بين يدَي الإمام، وإنّما وضع الرقعة في أُذن الحرّ ليقرأها يزيد وأعوانه فيزدادوا غيضاً وحنقاً.

ثمّ جاؤوا برأس العبّاس يحمله قشعم الجعفي، ثمّ رأس عليّ الأكبر ((3)) يحمله سنان بن أنس النخعي، ومن ورائهم سبايا آل البيت يتقدّمهم الإمام زين العابدين علیه السلام ، وأقبلَت جاريةٌ على بعيرٍ مهزولٍ بغير غطاءٍ ولا وطاء،

ص: 184


1- في (المقتل) المطبوع: (وناغاه في المهد جبرئيل وميكائيل).
2- في (المقتل) المطبوع: (تأبين الشجاعة، وأنتِ بنت الشجاعة).
3- في (المقتل) المطبوع: (وأقبل من بعده رأس العبّاس علیه السلام يحمله قشعم الجُعفي، وأقبل من بعده رأس عون علیه السلام يحمله سنان بن أنس، وأقبلت الرؤوس على أثرهم ...).

على وجهها برقع خزّ أدكن، وهي تنادي: وا أبتاه، وا محمّداه،وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا عبّاساه، وا حمزتاه، وا عقيلاه، وا جعفراه، وا بُعد سفراه، وا سوء صباحاه!

قال سهل: فأقبلتُ إليها، فصاحت بي فوقعتُ مغشيّاً علَيّ، فلمّا أفقتُ دنوت منها وقلت لها: سيّدتي، لمَ تصيحين علَيّ؟ فقالت: أما تستحي من الله ورسوله أن تنظر إلى حرم رسول الله؟ فقلت: يا مولاتي، والله ما نظرتُ إليكم بريبة. فقالت: مَن أنت؟ فقلت: أنا سهل بن سعيد الشهرزوي، وأنا من مواليكم ومحبّيكم.

ثمّ أقبلتُ على عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام[وقلت له: مولاي، أنا من شيعتكم، ويا ليتني كنت معكم وكنت أوّل المستشهدين بين يديكم]. وقلت له: مولاي، هل لك من حاجة؟ فقال لي: «هل عندك من الدراهم شيء؟»، فقلت: ألف دينارٍ وألف ورقة. فقال: خذ منها شيئاً وادفعه إلى حامل الرأس، وأْمُره أن يُبعده عن النساء؛ حتّى تشتغل الناس بالنظر إليه عن النساء. ففعلت ذلك، ورجعتُ إليه وقلت له: يا مولاي، فعلتُ الّذي أمرتَني به. فقال لي: «حشرك الله معنا يوم القيامة».

ثمّ إنّ عليّ بن الحسين أنشأ يقول:

«أُقاد ذليلاً في دمشق، كأنّني***من الزنج عبدٌ غاب عنه نصيرُ

وجدّي رسول الله في كلّ مشهدٍ***وشيخي أميرُ المؤمنين أميرُ

فيا ليت أُمّي لم تلدني، ولم أكن***يزيد يراني في البلاد أسيرُ»

ص: 185

قال سهل: ورأيتُ روشناً عالياً فيه خمسة نسوة، ومعهنّ عجوزٌ محدودبة الظهر [لها زهاء ثمانون عاماً]، فلمّا صارت بأزاء الحسينعلیه السلام وثبَت العجوز وأخذَت حجراً وضربَت به رأس الحسين علیه السلام ((1))، فلمّا رأى عليّ بن الحسين ذلك دعا عليها ((2)) وقال: «اللّهمّ عجِّلْ بهلاكها وهلاك مَن معها». فما استتمّ دعاءه حتّى سقط الروشن، فسقطن بأجمعهنّ فهلكن، وهلك تحته خلقٌ كثير ((3)).

بأبي الرؤوس العاليات على القنا***مثل النجوم تضيئ في الأقطارِ

بدمائها،والريح في شيباتها***لعبَت بها عن يمنةٍ ويسارِ ((4))

روى الصدوق قال: فلمّا دخَلنا دمشق، أُدخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشَّفات الوجوه، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء، فمَن أنتم؟ فقالت سكينة ابنة الحسين: نحن سبايا آل محمّد. فأُقيموا على درج المسجد حيث يُقام السبايا ((5)).

وفي (الملهوف): وجاء شيخٌ ودنا من نساء الحسين علیه السلام وعياله، وهم في

ص: 186


1- في (المقتل) المطبوع: (ثنايا الحسين علیه السلام).
2- في (المقتل) المطبوع: (فلمّا رأيتُ ذلك قلت: اللّهمّ ...).
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 194 وما بعدها.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 467 المجلس 13 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
5- الأمالي للصدوق: 166 المجلس 31 ح 3.

ذلك الموضع، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم وأهلككم، وأراح البلاد عن رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: «يا شيخ، هل قرأتَ القرآن؟»، قال: نعم. قال:«فهل عرفتَ هذه الآية: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1))؟»، قال الشيخ: نعم، قد قرأتُ ذلك. فقال عليّ علیه السلام له: «فنحن القربى، [يا شيخ، فهل قرأتَ في بني إسرائيل: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ» ((2))؟»، فقال الشيخ: قد قرأت. فقال عليّ بن الحسين: «فنحن القربى]، يا شيخ، فهل قرأتَ هذه الآية: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» ((3))؟»، قال: نعم. فقال له عليّ علیه السلام :«فنحن القربى، يا شيخ، فهل قرأتَ هذه الآية: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ((4))؟»، قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك. فقال عليّ علیه السلام: «فنحن أهل البيت الّذين خصّصنا الله بآية الطهارة يا شيخ». فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: بالله إنّكم هم؟! فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : «تالله إنّا لَنحن هم مِن غير شكّ، وحقِّ جدّنا رسول

ص: 187


1- سورة الشورى: 23.
2- سورة الإسراء: 26.
3- سورة الأنفال: 41.
4- سورة الأحزاب: 33.

الله صلی الله علیه وآله إنّا لَنحن هم». فبكى الشيخ، ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّا نبرأ إليك مِن عدوّ آل محمّدٍ صلی الله علیه وآله من جنّ وإنس، ثمّ قال: هل لي من توبة؟ فقال له: «نعم، إن تبتَ تاب الله عليك، وأنت معنا»، فقال: أنا تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتل ((1)).وروى القطب الراوندي، عن المنهال بن عمرو قال: أنا واللهِ رأيتُ رأس الحسين علیه السلام حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجلٌ يقرأ الكهف حتّى بلغ قوله: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2))، فأنطق الله الرأس بلسانٍ ذربٍ ذلقٍ فقال: «أعجبُ من أصحاب الكهف قتلي وحملي!» ((3)).

إي والله، قصّتك أعجب من كلّ عجيب.

قال أبو مخنف: وأقبلوا بالرأس إلى يزيد بن معاوية، وأوقفوه ساعةً إلى باب الساعات، وأوقفوه هناك ثلاث ساعاتٍ من النهار ((4))، ولذلك سُمّي هذا الباب بباب الساعات.

وفي (البحار): فلمّا انتهوا إلى باب يزيد رفع مخفر بن ثعلبة صوته فقال:

ص: 188


1- اللهوف لابن طاووس: 176.
2- سورة الكهف: 9.
3- الخرائج للراوندي: 2 / 577 ح 1.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 197.

هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين بالفجرة اللئام!! فأجاب عليّ بن الحسين: «ما ولدت أُمّ مخفر أشرّ وألأم». وزاد في (المناقب): «ولكن قبّح الله ابن مرجانة» ((1)).

يعني به ابن زيادٍ الملعون.

وربّما كان سماع الإمام المظلوم هذه الكلمات المشؤومة من هذا الظلوم ذكّرته بابن زياد العاتي الغاشم، الّذي ارتكب بطغيانه وعتوّه ما جرّأ هذا الجرو النذل على هذه المقالة.

وقد جاؤوا بمخفر اللعين هذا إلى المختار، فلمّا نظر إليه قال له:لعنك الله يا ابن الزانية. ثمّ أمر فصُبّ على رأسه النفط وأُحرق، فطهّر الدنيا من وجوده النحس.

وجيء بإسحاق الحضرميّ إلى المختار، فقال له: لعنك الله، أنت الّذي فعلتَ ما فعلت في كربلاء، ثمّ أخذت أهل البيت إلى الشام مع مخفر بن ثعلبة، ولم تكن تفكّر في مثل هذا اليوم؟! فأمر فصُلب، وخُلعت كتفاه، وسُلخ جلده وهو حيّ.

ثمّ جاؤوا بهاني بن أبي حيّة، وكان ممّن سار بأهل البيت إلى الشام، فأمر فسُلخ جلد وجهه، وقطعوا يديه ورجليه، فهلك وفي جهنّم سلك.

ص: 189


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 130.

وهؤلاء الملاعين نالوا عقابهم في الدنيا، ولم يهنؤوا بالدنيا، ولكنّهم أحرقوا قلوب الشيعة وأشعلوا في الدنيا ناراً لم تخمد، لعنة الله عليهم أجمعين.

في (المنتخب): ثمّ أتوا إلى باب الساعات، فوقفوا هناك ثلاث ساعاتٍ يطلبون الإذن من يزيد، فبينما هم كذلك إذ خرج مروان بن الحكم، فلمّا نظر إلى رأس الحسين علیه السلام صار ينظر إلى أعطافه جذلاً طرباً، ثمّ خرج أخوه عبد الرحمان، فلمّا نظر إلى الرأس بكى، ثمّ قال: أمّا أنتم فقد حُجبتم عن جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، واللهِ لا جامعتكم على أمرٍ أبداً. قال: بالعزيز علَيّ يا أبا عبد الله ما نزل بك. ثمّ أنشأ يقول:

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى***وبنت رسول الله ليس لها نسلُ

إمامٌ غريب الطف، أدنى برأسه***من ابن زيادٍ وهو في العالم الرذلُ ((1))إمامٌ غريب الطف، أدنى برأسه من ابن زيادٍ وهو في العالم الرذلُ ((2))

قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام :«لمّا وفَدنا على يزيد بن معاوية (لعنه الله)، أتونا بحبالٍ وربطونا مثل الأغنام، وكان الحبل بعنقي وعنق أُمّ كلثوم وبكتف زينب وسكينة والبنات، وساقونا، وكلّما قصرنا عن المشي ضربونا، حتّى أوقفونا بين يدَي يزيد، وهو على سرير مملكته» ((3)).

قال ابن نما: وكان يزيد جالساً على السرير، وعلى رأسه تاجٌ مكلَّلٌ بالدرّ

ص: 190


1- المنتخب للطريحي: 2 / 470 المجلس 10.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 470 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.

والياقوت، وحوله كثيرٌ من مشايخ قريش ((1)).

وفي (التبر المذاب): فناداه الإمام زين العابدين علیه السلام: «يا يزيد، ما ظنُّك برسول الله صلی الله علیه وآله لو رآنا على هذا الحال، موثوقين بالحبال، عرايا على أقتاب الجمال بغير غطاءٍ ولا وطاء؟». فلم يبقَ في القوم إلّا مَن بكى ((2)).

وفي (المنتخب): فبكى يزيد ((3))، وأمر بالحبال فقُطّعت من أعناقنا وأكتافنا ((4)).

قال ابن نما: وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بناتُ رسول الله سبايا؟! فبكى الناس، وبكى أهل داره حتّى علَت الأصوات.

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : «ما ظنّك برسول الله لورآني في غِلّ؟». فقال لمَن حوله: حلّوه ((5)).

وفي (الإرشاد): ثمّ قال يزيد (لعنه الله) لعليّ بن الحسين: يا ابن حسين، أبوك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعَني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال عليّ بن الحسين: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي

ص: 191


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 180، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 236، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 488.
3- كذب اللعين وراوغ، إنْ صحّ أنّه بكى، لعنة الله ورسله وملائكته عليه!
4- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.
5- مثير الأحزان لابن نما: 99.

أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ((1)). فقال يزيد لابنه خالد: اردُدْ عليه. فلم يدرِ خالد ما يردّ عليه، فقال له يزيد: قل «مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» ((2)) ((3)).

وفي (المناقب): فقال عليّ بن الحسين: «يا ابن معاوية وهند وصخر، لم تزَلِ النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تُولَد، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب في يوم بدرٍ وأُحُد والأحزاب في يده راية رسول الله صلی الله علیه وآله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار»، ثمّ جعل عليّ بن الحسين علیه السلام يقول:

«ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ»

ثمّ قال عليّ بن الحسين: «ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذاصنعتَ وما الّذي ارتكبتَ مِن أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربتَ في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس أبي الحسين ابن فاطمة وعليّ منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشِر بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناس ليوم القيامة» ((4)).

ص: 192


1- سورة الحديد: 22.
2- سورة الشورى: 30.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 120.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 135.

ثمّ دعا الدعيّ العنيد بالنساء والصبيان فأُجلسوا بين يديه، فرأى هيئةً قبيحة، فقال: قبّح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابةٌ ورَحِمٌ ما فعل هذا بكم، ولا بعث بكم على هذا ((1)).

وفي (المنتخب): إنّ الحريم لمّا أُدخلن إلى يزيد بن معاوية، كان ينظر إليهنّ ويسأل عن كلّ واحدةٍ بعينها، وهنّ مربَّطاتٍ بحبلٍ طويل، وكانت بينهنّ امرأةٌ تستر وجهها بزندها، لأنّها لم تكن عندها خرقة تستر وجهها، فقال: مَن هذه؟ قالوا: سكينة بنت الحسين. فقال: أنتِ سكينة؟ فبكت واختفت بعبرتها حتّى كادت تطلع روحها، فقال لها: وما يبكيكِ؟ قالت: كيف لا تبكي مَن ليس لها ستراً تستر وجهها ورأسها عنك وعن جلسائك؟ فبكى اللعين، ثمّ قال: لعن الله عُبيد الله بن زياد، ما أقوى قلبه على آل الرسول ((2)).

قال المؤلّف: رأيتُ يزيد الخبيث في عالم الرؤيا، فسألتُ اللعين عن الخبيث الّذي قرأ هذا البيت في مجلسه:

إملَأْ رکابي ذهباً وفضّة***إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا

فقال: هوسنان.

ثمّ سألتُه عن المذكور في التاريخ مِن ستر السيّدة سكينة بإحدى يديها

ص: 193


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 136.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.

وجهها وربط يدها الثانية بالحبل، فبكى اللعين وقال: لا تسأل عن حال السيّدة سكينة، فإنّها أحرقَت قلبي!!! ثمّ بكى اللعين بكاءً شديداً، وبكيت أنا، واستيقظت من نومي.

أجل، فإنّ مصيبة الحسين أعظم المصائب، وهذه المصيبة أعظم من جميع مصائب العالم، فقد بكى في مصائبهم العدوّ والصديق في جميع العوالم.

ثمّ التفت اللعين إلى سكينة وقال: يا سكينة، أبوكِ الّذي كفر حقّي وقطع رحمي ونازعني في مُلكي. فبكت سكينة وقالت: لا تفرح بقتل أبي، فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله، ودعاه إليه فأجابه وسعد بذلك، وإنّ لك يا يزيد بين يدَي الله مقاماً يسألك عنه، فاستعدّ للمسألة جواباً، وأنّى لك الجواب. قال لها: اسكتي يا سكينة، فما كان لأبيك عندي حقّ.

[فلمّا رأى حضّار مجلس الدعيّ اللعين، فصاحت بنت النبيّ محمّد المصطفى ببلاغته وعذوبة منطقها].

قال: فوثب رجلٌ من لخم وقال: يا أمير، هَبْ لي هذه الجارية من الغنيمة، فتكون خادمةً عندي. فانضمّت إلى عمّتها أُمّ كلثوم وقالت: يا عمّتاه، أترين نسل رسول الله يكونون مماليكاً للأدعياء؟! فقالت أُمّ كلثوم لذلك الرجل: اسكت يا لُكَع الرجال، قطع الله لسانك وأعمى عينيك وأيبس يديك، وجعل النار مثواك، إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمةً لأولاد الأدعياء. قال: فواللهِ ما استتمّ كلامها حتّى أجاب الله دعاءها في ذلك الرجل، فقالت: الحمد لله الّذي عجّل لك العقوبة فيالدنيا قبل الآخرة،

ص: 194

فهذا جزاء مَن يتعرّض بحرم رسول الله ((1)).

قال أبو مخنف: فنظر اللعين يزيد إلى أُمّ كلثوم وقال: كيف رأيتِ أن مكّنني الله منكم؟ ((2)) فقالت أُمّ كلثوم: يا ابن ((3)) الطليق! ((4)) أعرِضْ عن هذا، رضّ الله فاك، يا ويلك يا ملعون، هذه إماؤك ونساؤك وراء الستور عليهنّ الخدور، وبنات رسول الله على الأقتاب بغير وطاء، ينظر إليهن البرّ والفاجر ويتصدّق عليهنّ اليهود والنصارى؟! فنظر إليها شزراً، وكان في المجلس عُبيد الله بن عمرو بن العاص، فلمّا تبيّن الغضب في وجه يزيد علم أنّه عزم على قتلها، فقام من مكانه وقبّل رأس ذاك الخبيث اللعين وقال: إنّ الّذي کلمتك ليس بشيءٍ تأخذ به. فسکن غضبه ((5)).

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد) قال: قالت فاطمة بنت الحسين: ولمّا جلسنا بين يدَي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجلٌ من أهل الشام أحمر فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ لي هذه الجارية. يعنيني، وكنتُ جاريةً وضيئة، فأرعدت

ص: 195


1- المنتخب للطريحي: 2 / 472 المجلس 10.
2- في (المقتل) المطبوع: (يا أُمّ كلثوم، كيف رأيتِ صنع الله بكم؟).
3- في (المقتل) المطبوع: (يا ابن الطلقاء).
4- تقصد بالطليق: أبا سفيان، إذ شفع له العبّاس عمّ النبيّ يوم فتح مكّة، فأطلقه النبيّ صلی الله علیه وآله إكراماً لعمّه (من المتن).
5- ناسخ التواريخ، حياة السيّدة زينب لسپهر: 2 / 379، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 208.

وظننتُ أنّ ذلك جائزٌ لهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب، وكانتتعلم أنّ ذلك لا يكون. وفي رواية السيّد: قلت: أُوتمتُ وأُستخدَم؟! فقالت عمّتي للشامي: كذبتَ والله، ولؤمت والله، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئتُ أن أفعل لَفعلت. قالت: كلّا والله، ما جعل الله لك ذلك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديتَ أنت وأبوك وجدّك، إن كنتَ مسلماً! قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت له: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر لسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت، وعاد الشامي فقال: هَبْ لي هذه الجارية. فقال له يزيد: اعزُب، وهب اللهُ لك حتفاً قاضياً ((1)).

وفي رواية السيّد رحمه الله: فقال الشامي: مَن هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت عليّ بن أبي طالب. فقال الشامي: الحسين ابن فاطمة وعليّ بن أبي طالب؟ قال: نعم. فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته؟ واللهِ ما توهّمتُ إلّا أنّهم سبي الروم. فقال يزيد: واللهِ لَأُلحقنّك بهم. ثمّ أمر به فضُرب عنقه ((2)).

فمَن مُبلغ الکرّار ذا البأس والتُّقى***بأنّ بنيه بعد عزٍّ تذلّلوا

ص: 196


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 121، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 136.
2- اللهوف لابن طاووس: 187، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.

وآل يزيدٍ في المقاصير والخبا***تُناط عليهنّ الستور وتُسدَلُ

وأنّ بني الزهراء بنتِ محمّدٍ***وجوهُهُمُ للناس تبدو وتُبذَلُأما

غَيرةٌ؟! هذي بنات محمّدٍ***يُلاحظهنّ الناسُ والأعبد الرذّلُ ((1))

قال أبو مخنف بعد أن أُدخلت السبايا إلى مجلس يزيد الكافر وأُحضر رأس سيّد الشهداء في المجلس: فجعل مروان بن الحكم يهزّ أعطافه، وهو ينشد ويقول:

يا حبّذا بردك في اليدينِ***ولونك الأحمر في الخدَّينِ

كأنّما حُفّ بوردتينِ***شفيتُ نف-سي من دمِ الحسينِ ((2))

أُنظروا معاشرَ الشيعة كيف يتفوّه هذا الفاسق الحاقد -- فظّ الله فاه وقطع لسانه -- بهذه الكلمات في حقّ سيّد الكائنات وإمام المخلوقات، فيجدّد بذلك على قلوب المؤمنين الأحزان والكربات.

قال سهل: فدخلتُ مع مَن دخل لأنظر ما يصنع يزيد بهم ((3)) وبالرأس المقدّس، فأمر الخبيث أن يُغسل الرأس وتمشّط محاسنه.. كما في (أخبار الدول)، وكأنّ الخبيث اللعين أراد أن يمتثل -- شامتاً -- وصيّة الله (تعالى) في

ص: 197


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 475 المجلس: 13 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- في (المقتل) المطبوع:(شفيتُ قلبي من دم الحسينِ أخذتُ ثاري وقضيتُ دَيني)
3- مقتل الحسين ل علیه السلام أبي مخنف (المشهور): 198.

قربى النبيّ فيؤدّي أجر الرسالة: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1))، فأحرق قلوب العالمين، وأجرى دموع الشيعة والمحبّين، فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله الحسين علیهالسلام.

قال سهل: فأمر بحطّ الرأس عن الرمح، وأن يوضَع في طشتٍ من ذهب، ويُغطّى بمنديلٍ ديبقيّ ((2))، ويُدخَل به عليه ((3)).

وفي رواية المفيد قال: ولمّا وُضعَت الرؤوس بين يدَي يزيد، وفيها رأس الحسين علیه السلام ، قال يزيد:

نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ***علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم، وكان جالساً مع يزيد:

لهامٌ بأدنى الطف أدنى قرابةً***من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل

أُميّة أمسى نسلها عدد الحصى***وبنت رسول الله ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت ((4)).

فداءً لرأسك المقدّس أيّها المظلوم، ماذا جرى عليك وأنت تسمع وترى

ص: 198


1- سورة الشورى: 23.
2- الديبقيّ من ثياب مصر.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 198، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 93، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 343 المجلس 31.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 119.

وتنظر ما يفعل هذا الخبيث؟ وماذا جرى على أهلك وعيالك من ظلم هذا الجبّار العنيد؟!

وفي (الملهوف): ثمّ وضع رأس الحسين علیه السلام بين يديه،وأجلس النساء خلفه لئلّا ينظرون إليه، فرآه عليّ بن الحسين علیه السلام ، فلم يأكل بعد ذلك أبداً، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقَّته، ثمّ نادت بصوتٍ حزينٍ يُفزع القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومنى، يا ابن فاطمة الزهراء سيّدةِ النساء، يا ابن بنت المصطفى!

قال الراوي: فأبكت واللهِ كلَّ مَن كان في المجلس، ويزيد (عليه لعائن الله) ساكت ((1)).

وفي (الفصول المهمّة): فجعلت فاطمة وسكينة تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يستره عنهما، فلمّا رأينه صرخن وأعلنّ بالبكاء ((2))، فضجّ المجلس بالبكاء والعويل.

وفي رواية المفيد: ثمّ جعلَت إمرأةٌ من بني هاشم في دار يزيد تندب على الحسين علیه السلام وتنادي: وا حبيباه، يا سيّد أهل بيتاه، يا ابن محمّداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل أولاد الأدعياء. فأبكت كلَّ مَن سمعها ((3)).

ص: 199


1- اللهوف لابن طاووس: 178.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 836 -- بتحقيق: سامي الغريري.
3- اللهوف لابن طاووس: 179، الكبريت الأحمر للبيرجندي: 253، ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 87 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، من دون النسبة للمفيد.

لعن الله الجلف الصلف الّذي لم يستحِ من الله ولا من رسوله، إذ أحضر رأس المظلوم أمام عيون أخواته وبناته في المجلس.

ورُوي أنّه لمّا نظر نساء أهل البيت إلى الرأس الشريف صرخن وبكين عالياً، وقالت سكينة: يا يزيد، أيسرّك هذا؟! ((1))وفي (المناقب): [ثمّ نظر يزيد الخبيث الرأس المقدّس] وهو يقول: كيف رأيتَ يا حسين ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ دعا يزيد (عليه اللعنة) بقضيب خيزران، فجعل ينكت به ثنايا الحسين علیه السلام ((3)).

في بعض النسخ: (ينكت) ((4)) بالتاء، وفي بعضها: بالثاء (ينكث) ((5))، وإذا كان الثاء المثلّثة فمعناه أنّه كان يبدي حنقه وغيضه (عليه لعائن الله) بكسر الثنايا المقدّسة.

ولم يكتفِ بهذا الفعل الشنيع، وإنّما طفق ينبش حقده الدفين، ويُبدي

ص: 200


1- أُنظُر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 836 -- بتحقيق: سامي الغريري.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.
3- اللهوف لابن طاووس: 179.
4- أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 179، مثیر الأحزان لابن نما: 100، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 132.
5- أُنظُر: المنتخب: 2 / 470، الفتوح: 5 / 129، المنتظم: 5 / 432.

ما تجذّر فيه من ضغائن آبائه. ففي (المناقب) أنّه قال: يومٌ بيوم بدر ((1)). إذ قتل أبوه حيدرُ الكرّار أجدادَ يزيد الغدّار ومشايخه الأشرار، وعجّل بهم إلى دار البوار وبئس القرار.

شُلّت يد الخبيث اللعين الّذي جرح قلوب الشيعة، وآذى تلك الثنايا المنوّرة بقضيب الخيزران.

وفي (المنتخب): وكان بيده قضيب خيزران، فجعل ينكث ثناياه، ويفرّق بين شفتيه ((2))، ولم يستحِ منه وهو يتلو القرآن الكريم.

وفي رواية: قال الخبيث الرجس لمّا نظر إلى ثنايا أبي عبد الله:رحمك الله يا حسين، لقد كنتَ حسن المضحك ((3)).

فأقبل عليه أبو برزة الأسلميّ وقال: ويحك يا يزيد! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين علیه السلام ابن فاطمة علیها السلام أشهد لقد رأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن علیه السلام ويقول: «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، فقتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً». فغضب يزيد، وأمر بإخراجه فأُخرج سحباً ((4)).

وفي (المنتخب): فسكت يزيد، وإذا بغرابٍ ينعق ويصيح في أعلى

ص: 201


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 375 الفصل 9.
2- المنتخب للطريحي: 1 / 187 المجلس 9 باب3.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 470.
4- اللهوف لابن طاووس: 179، بحار الأنوار للمجلسي: 133 / 45.

القصر، فأنشأ اللعين يقول [شعراً أعلن فيه نفاقه وكفره وفسقه]:

يا غراب البَين ماشئتَ فقُل***إنّما تندب أمراً قد فُعِل

کلُّ مُلكٍ ونعيمٍ زائلٌ***وبنات الدهر يلعبن دوَل ((1))

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا***جزع الخزرج مع وقع الأسَل

[ولا يُتوهّم أنّ هذا البيت بالخصوص من إنشاء يزيد اللعين، وذلك لأنّهم صرّحوا أنّه لابن الزبعرى، ويشهد له قوله: (جزع الخزرج)، والخزرج لم يقاتلوا مع الحسين علیه السلام ، وكان الأنسب أن يقول: (جزع بني هاشم مِن وقع الأسل)، ويكفي في كفرالطاغي العنيد إنشاده هذا البيت في هذا الموضع، سيّما إذا لاحظنا البيت الذي يليه:]

لَأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشَل

[قصد بذلك الخبيث أنّه كما انتقم الكفّار في معركة أُحُد لقتلاهم في بدر فقتلوا من أصحاب النبيّ الكثير، فكذلك انتقم هو مِن عليّ بن أبي طالب لقتله مشايخه الكفّار بقتله ولده سيّد الشهداء علیه السلام].

قد قتلنا القوم من ساداتهم***وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

وأخذنا من عليٍّ ثارنا ((2))***وقتلنا الفارس الندب البطل

لستُ من خِندف إن لم انتقم***من بني أحمد ما کان فعل

ص: 202


1- في (المنتخب) المطبوع: (يلعبن بكل).
2- في المتن: (الثار من ابن علي).

لعبَت هاشمُ بالمُلك، فلا***خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل ((1))

إستمعوا إلى هذا الحقير الأحقر من الكلب العقور كيف أعلن كفره!

قال أبو مخنف: وأنشد اللعين أيضاً هذه الأبيات:

إن يکن أحمد قِدماً مرسَلاً***فلمَ القتلُ عليه قد دخل؟

وبقينا نحن في دولتنا***وکذا الأيّام والدهر الدول

أيّها الملعون الغويّ، إنّ شهادة النبيّ وأولاده دليلٌ على فلاحهم وسعادتهم، وتسلّطك دليل نكبتك وشقائك.وروى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله (تعالى): «وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ» ((2))، بعد ذكره لقوله: (لستُ من خندف) هذا البيت:

وكذاك الشيخ أوصاني به***فاتّبعتُ الشيخ فيما قد سأل ((3))

يُحتمَل أن يريد بالشيخ أباه الطاغي العنيد معاوية، الّذي أمره بقتل الإمام الحسين علیه السلام ، ويُحتمل أن يريد به عمر بن الخطّاب الّذي كتب إلى معاوية كتاباً طويلاً وأمره بقتل الإمام واستئصاله، وقد عرض يزيد تلك الرسالة على عبد الله بن عمر، فخرج من عنده وهو يمدحه ويثني عليه

ص: 203


1- المنتخب للطريحي: 2 / 470.
2- سورة الحجّ: 60.
3- في (تفسير القمّي: 2 / 86) بعد أن روى أبيات (ليت أشياخي ببدرٍ..)، قال: (وقال الشاعر في مثل ذلك: ...)، ثمّ نقل البيت الّذي رواه المؤلّف عنه.

لقتله الإمام السعيد، وقد أتيتُ على ذِكر تلك الرسالة في المجلس الأوّل من هذا الكتاب.

أجل، هل تلد الحيّة إلّا الحيّة؟ اللّهمّ العن أوّل ظالمٍ ظلم حقّ محمّدٍ وآل محمّد، وآخر تابعٍ له على ذلك.

وفي (التبر المذاب): قال الزهري: لمّا جاءت الرؤوس، كان يزيد (لعنه الله) على منطرة جيرون، فأنشد يقول:

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقَت***تلك الشموس على رُبى جيرونِ

نعب الغراب،فقلت: صح أو لا تصح***فلقد قضيتُ من النبيّ ديونيقال مجاهد: فوَاللهِ لم يبقَ أحدٌ في الدنيا إلّا سبّه ولعنه ((1)).

قال المؤلّف: إنّ كفر الخبيث اللئيم أوضح من أن يتعرّض أحدٌ لبيانه، بل لقد كان الملعون أعرف بكمالات الإمام الصوريّة والمعنويّة من كثيرٍ من أهل زمانه، ومع ذلك صدر منه ما صدر.

رُوي أنّ يزيداً ((2)) كان جالساً، وكان في مجلسه شاعران من شيعة أمير

ص: 204


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 179، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 235.
2- في (تشييد المطاعن للكهنوي: 16 / 266): ذكر الشيخ البهائيّ في كشكوله: رُوي أنّ معاوية كان جالساً، وعنده ابنه يزيد وعمرو بن العاص، فعرضت عليه جائزة، فقال معاوية: لو كان عندي غيركما لَأهديتُ به إلى بيت المال، فالآن أيّكما يُنشد بشعرٍ حسنٍ فله هذه الهديّة؟ فقالا: أنشِدْ أوّلاً. فقال معاوية: خير البريّة بعد أحمد حيدرٌ***فالناس أرضٌ والوصيّ سماءُ ثمّ قال ابنه يزيد: ومليحةٌ شهدَت لها ضرّاؤها والحُسن ما شهدَت به الضرّاءُ ثمّ قال عمرو بن العاص: واللهِ، قد شهد العدوُّ بفضله والفضل ما شهدَت به الأعداء

المؤمنين علیه السلام ، فقال يزيد: مَن منكما يُنشد بيتاً في مدح عليٍّ على البداهة؟ فقالا: أنشد أوّلاً. فقال اللعين على البداهة -- بحكم قولهم: (والفضلُ ما شهدَت به الأعداءُ):

خيرُ البريّة بعد أحمد حيدرٌ***فالناس أرضٌ والوصيّ سماءُ

فقال أحد الشاعرَين:

ومناقبٌ شَهِد العدوُّ بفضلها***والفضلُ ما تشهد به الأعداءُ

فقال الشاعر الآخر:

کمليحةٍ شهدَت لها ضرّاتُها***والحُسن ما شهدَت به الضرّاءُ

وفي (البحار): ثمّ أقبل على أهل مجلسه فقال: إنّ هذا كان يفخر علَيّ ويقول: أبي خيرٌ من أب يزيد، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه، وأنا خيرٌ منه، فهذا الّذي قتله، فأمّا قوله بأنّ أبي خيرٌ من أب يزيد، فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، وأمّا قوله بأنّ أُمّي خيرٌ من أُمّ يزيد، فلَعمري لقد صدق، إنّ فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من أُمّي، وأمّا

ص: 205

قوله جدّي خيرٌ من جدّه، فليس لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخِر يقول بأنّه خيرٌ من محمّد، وأمّا قوله بأنّه خيرٌ منّي، فلعلّه لم يقرأ هذه الآية: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ» ((1)) ((2)).

قال المؤلّف: تصوّر الجاهل النحس أنّ سلطنة الدنيا منشأٌ لخير الآخرة، ولم يُدرك أنّ الدنيا مبغوضةٌ عند الحقّ (تعالى)، فإذا أقبلَت على أحدٍ لا يعني أنّه ينال درجةً عاليةً في الآخرة، ولو كان الأمر كما توهّمه هذا الملعون لَكان فرعون والنمرود من السعداء، اللّهمّ العنه لعن عادٍ وثمود.

[خطبة السيّدة فخر المخدّرات زينب]

لمّا شاهدَت فخر المخدّرات السيّدة زينب ما يجري، وقد تحمّلَت أعباءً ثقيلةً وعانت من آلام أعظم المصائب، ورأت أنّ الخبيث الملعون ما زال متمادياً في طغيانه وغيّه، لا يكفّ عن هذيانه وأكاذيبه وعدوانه بلسانه، وهو يفرق شفتَي أبي عبد الله بالخيزران، بل ويكسر ثناياه بالقضيب، فثارت غَيرتها الحيدريّة وهي بنت أسد الله، فكمدت الأسى والحزن والألم في قلبها، ومزّقت أثواب الصبر بعد أن كثرت فيها جراحات اللسان وسنان أفعال اللعين الجبان.

ص: 206


1- سورة آل عمران: 26.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 131.

في (الملهوف): فقامت زينب بنت عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقالت:

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين.

صدق الله سبحانه كذلك يقول: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون» ((1)).

أظننتَ يا يزيد حيث أخذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسراء، أنّ بنا هواناً عليه وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لِعظم خطرك عنده؟ فشمختَ بأنفك، ونظرت في عِطفك جذلان مسروراً، حيث رأيتَ الدنيا لك مستوثقة، والأُمورَ متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيتَ قول الله (تعالى): «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ» ((2)).

أمِنَ العدلِ يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإماءك وسوقُك بنات رسول الله صلی الله علیه وآله سبايا، قد هتكتَ ستورهنّ، وأبديتوجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء مِن بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا مِن حُماتهنّ حمي؟ وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمُه من دماء الشهداء؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنئان، والإحن والأضغان؟

ص: 207


1- سورة الروم: 10.
2- سورة آل عمران: 178.

ثمّ تقول غير متأثّمٍ ولا مستعظِم:

لَأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ثمّ قالوا: يا يزيد لا تُشَل

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذريّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فلَتَرِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شُللت وبكُمت، ولم تكن قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلت!

اللّهُمّ خُذْ لنا بحقّنا، وانتقِمْ مِن ظالمنا، وأحلِلْ غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حُماتنا.

فوَاللهِ ما فريتَ إلّا جلدك، ولا حززتَ إلّا لحمك، ولَتردنّ على رسول الله صلی الله علیه وآله بما تحمّلتَ مِن سفك دماء ذريّته وانتهكتَ من حُرمته في عترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم، «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ((1))، وحسبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ صلی الله علیه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلمُ مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً» ((2))، وأيّكم «شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً» ((3)).

ص: 208


1- سورة آل عمران: 169.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة مريم: 75.

ولئن جرَّتْ علَيّ الدواهي مخاطبتَك، إنّي لَأستصغرُ قدرك، وأستعظمُتقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عَبرى، والصدور حَرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لِقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف مِن دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها أُمّهات الفراعل، ولئن اتّخذتَنا مغنماً لَتجدنا وشيكاً مَغرماً، حين لا تجدُ إلّا ما قدّمَت يداك، «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ» ((1))، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل.

فكِدْ كيدك، واسعَ سعيك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكرنا، ولا تُميتُ وحيَنا، ولا تُدرك أمَدَنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟

فالحمد لله ربّ العالمين، الّذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخِرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجِب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود، وحسبنا الله ونِعْم الوكيل.

فقال يزيد (لعنه الله):

يا صيحةً تُحمَد من صوائح***ما أهون النوح على النوائح

ثمّ استشار أهل الشام فيما يصنع بهم، فقالوا: لا تتّخذنّ من كلب سوءٍ جرواً. فقال له النعمان بن بشير: أُنظر ما كان الرسول يصنع بهم، فاصنعه

ص: 209


1- سورة فصّلَت: 46.

بهم ((1)).

وفي (المنتخب): قالت له زينب بنت عليّ: يا يزيد، أما تخاف الله (سبحانه) مِن قتل الحسين؟ وما كفاك حتّى تستحثّ حرم رسول الله من العراق إلى الشام؟ وما كفاك انتهاك حرمتهنّ حتّى تسوقنا إليككما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاءٍ من بلدٍ إلى بلد؟

فقال لها يزيد (لعنه الله): إنّ أخاكِ الحسين قال: «أنا خيرٌ من يزيد، وأبي خيرٌ من أبيه، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه»، فقد صدق في بعضٍ وألحن في بعض، أمّا جدّه فرسول الله فهو خير البريّة، وأمّا أنّ أُمّه خيرٌ من أُمّي وأباه خيرٌ من أبي، كيف ذلك وقد حاكم أبوه أبي؟ ثمّ قرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ((2)).

فقالت: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ» ((3))، ثمّ قالت: يا يزيد، ما قتَلَ الحسينَ غيرُك، لولاك لكان ابن مرجانة أقلّ وأذلّ، أما خشيتَ من الله بقتله؟ وقد قال رسول الله فيه وفي أخيه الحسن والحسين سيّدا شباب

ص: 210


1- اللهوف لابن طاووس: 181 وما بعدها.
2- سورة آل عمران: 26.
3- سورة آل عمران: 169 و170.

أهل الجنّة، فإن قلت: لا، فقد كذبت، وإن قلت: نعم، فقد خصمت نفسك.

فقال يزيد: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» ((1))، وبقي خجلاناً ((2)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه التفت [الدعيّ يزيد] إلى القوم وقال: كيف صنعتم بهم؟ فقالوا: جاءنا بثمانية عشر من أهل بيته وسبعين رجلاً من شيعته وأنصاره، فسألناهم النزول على حكم الأمير يزيد فأبَوا، فغدونا عليهم من شرق الأرض وغربها، وأحطنا بهم من كلّ ناحية،حتّى أخذَت السيوف مأخذها مِن هام القوم، فلاذوا بنا كما يلوذ الحمام من الصقر، فما كان إلّا ساعةً حتّى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجرّدةً وثيابهم مرمّلةً وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، وزوّارهم العقبان والرخم. فأطرق يزيد برأسه وقال: كنتُ أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين!!! ((3))

قال أبو مخنف: ودخل عليه شمر وهو يقول:

إملَأْ رکابي فضّةً أم ذهبا***إنّي قتلتُ السيّد المهذّبا!

ص: 211


1- سورة آل عمران: 34.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 479 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 471 المجلس 10.

قتلتُ خير الناس أُمّاً وأبا****وخيرَهم جدّاً وأعلى نسبا ((1))

وأشرف الخلق جميعاً حسبا***سيّد أهل الحرمَين منسبا ((2))

طعنتُه بالرمح حتّى انقلبا***ضربتُه بالسيف ضرباً عجبا ((3))

فنظر إليه شزراً، وقال له: إذا علمتَ أنّه خير الناس أُمّاً وأباً فلمَ قتلتَه؟ املأَ اللهُ ركابك ناراً وحطباً! قال: أطلبُ منك الجائزة ((4)).فقال له: لا جائزة لك عندي ((5)). ثمّ أمر بضرب عنقه، فشفع فيه أحد الحاضرين في المجلس، فأطلقه.

قال أبو مخنف بعد نقل كلام مَن قصّ ليزيد (لعنه الله) قضايا يوم الطفّ وأخبره بها من خبر سهل، قال: فسمعَته هندُ بنت عبد الله ((6)) بن

ص: 212


1- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (وأكرم الناس جميعاً حسبا).
2- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة):سيّد أهل الحرمَين والورى ومَن على الخلق معاً منتصبا
3- في المتن: (حتّى مخبا).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 201، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 95.
5- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (فلكزه يزيد بذبال سيفه، وقال له: لا جائزة لك عندي. فولّى هارباً).
6- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (فسمعَته بنت عبد الله زوجة يزيد، وكان مشغوفاً بها).

عامر ((1))، فدعَت برداءٍ فتردّت به، ووقفت من وراء الستر، وقالت ليزيد: هل معك أحد؟ قال: أجل. فأمر مَن كان عنده بالانصراف، وقال: ادخلي. فدخلَت.

الأمان الأمان يا شيعة من جفاء الزمان، يُخلى المجلس لدخول هند زوجة يزيد، ويُعقَد المجلس العام لتدخل زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة وسكينة وسائر عقائل النبوّة ومخدّرات الوحي والقرآن؟!

اين

انتقام گر نفتادي به روز حشر

با

اين عمل معاملة خلق چون شدي

قال: فنظرَت إلى رأس الحسين علیه السلام ، فصرخت وقالت: ما هذا الّذي معك؟ فقال (لعنه الله): رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب. فبكت وقالت: يعزّ والله على فاطمة أن ترى رأس ولدها بينيدَيك، وإنّك يا يزيد فعلتَ فعلاً استوجبت به اللعن من الله ورسوله، واللهِ ما أنا لك بزوجةٍ ولا أنت لي ببعل. فقال لها: ما أنتِ وفاطمة؟ فقالت: بأبيها وبنيها هدانا الله وألبسَنا هذا القميص، ويلك يا يزيد! بأيّ وجهٍ تلقى الله ورسوله؟ فقال لها: يا هند، دعي هذا الكلام، فما اخترتُ قتله. فخرجَت باكية ((2)).

ص: 213


1- في المتن: (جعفر)، ويبدو أنّه تصحيفٌ أو سهو؛ لأنّه سيذكر بعد قليل: (عامر).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 200، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 95.

قال المؤلّف: أيّها النذل الهابط، أما كان لك أن تُلقي ثوباً على رأس زينب على الأقلّ، كما فعلتَ مع ابنة عبد الله بن عامر؟

قال المجلسي (عليه الرحمة): وخرجَت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد، وكانت قبل ذلك تحت الحسين علیه السلام ، حتّى شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلسٍ عام، فقالت: يا يزيد، أرأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوبٌ على فناء بابي؟! فوثب إليها يزيد فغطّاها، وقال: نعم، فأعولي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زيادٍ (لعنه الله) فقتله، قتله الله ((1)).

قال المؤلّف: إن لم تكن راضياً بقتل الإمام المظلوم الشهيد، فما هذه الأفعال المُقرفة والقساوة والصلف والطغيان في تعاملك مع الرأس المقدّس؟!

معاشرَ الشيعة، مَن أراد منكم أن يذوب في غصّة الاكتئاب والحزن على ما فعله هذا الخبيث اللعين، فلْيستمع إلى ما رواه في (التبر المذاب)، قال:فأمر بوضعه [وضع الرأس المقدّس] على طبقٍ من ذهب، ثمّ دعا بالشراب فشرب، ثمّ صبّ جرعةً منه على الرأس!!! ((2)) وقال: كيف رأيتَ

ص: 214


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 143.
2- هذا الكلام شاذٌّ مثيرٌ للقرف والغرابة، والأخبار المرويّة في هذا الباب لا تتضمّن هذا المعنى، وحاشا لمعدن الطهر والّذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً أن يُلوَّث بما ذكره الخافي وقبله ابن الجوزيّ ثمّ المؤلّف، فربّما كان إضافةً من الرواة، أو كان فيه تصحيفٌ أو سقط، كأن يكون: (صبّه إلى جانب الرأس)، وكيف كان فالخبر عامّيٌّ تقشعرّ له الجلود، فلا يُعتدّ به، والله العالم.

يا حسين؟ أتزعم أنّ أباك ساقٍ على الحوض، فإذا مررتُ عليه يومئذٍ فلا يسقني؟ وتقول أنّ جدّك حرّم آنية الذهب والفضّة على الأُمّة؟ ها رأسك على الذهب! ويفخر أبوك بأنّه قتل الأقران يوم بدر؟ هذا بذاك.

ثم أنشد ارتجالاً يقول:

هلالٌ بدا وهلالٌ أفَلْ***كذلك تجري صروفُ الدوَلْ

لئن ساءنا أنّ جيشاً مض-ى***لقد سرّنا أنّ جيشاً قفَلْ

لست من خندف إن لم***أنتقم من بني أحمد ما كان فعَلْ

قال صاحب كتاب (التبر المذاب): قال أهل العلم: صبّ الجرعة من الخمر على رأس الحسين علیه السلام ، واستهزاءً بأنّ عليّاً ساقٍ على الحوض، وأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله حرّم الذهب والفضّة، وشِعره في الانتقام من بني أحمد واتراً عن شيوخه الكفَرةالمقتولين يوم بدر، إن صحّ عنه ذلك فهو كافر، لأنّه ما فعل ذلك إلّا وهو منكرٌ لِما جاء به النبيّ صلی الله علیه وآله وصحّ عنه من قوله في عليّ وأهل بيته علیهم السلام وبغضاً لهم، والمنكر لما جاء به النبيّ صلی الله علیه وآله وعدم التصديق به كافر ((1)).

ص: 215


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 208.

ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزيّ قوله: ليس العجب من قتال ابن زيادٍ الحسين علیه السلام ، وتسليط عمر بن سعد على قتله والشمر، وحمل الرؤوس إليه، وإنّما العجب صبّ الخمر على رأس الحسين علیه السلام !!! [وضربه] بالقضيب ثناياه، وأمر ابن زياد بحمل آل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله سبايا على أقتاب الجمال، وعزمه على دفع فاطمة بنت الحسين علیه السلام للرجل الّذي طلبها منه، وإنشاده: (ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا) ((1)).

أفيجوز أن يُفعَل هذا بالخوارج؟ أليس بإجماع المسلمين أنّ قتلى المسلمين يُكفَّنون ويُصلّى عليهم ويُدفنون؟ ((2))

وقول يزيد لفاطمة بنت الحسين؟ع؟: لي أن أسبيكم. لمّا طلبها الرجل، وهذا قولٌ لا يقنع لقائله وفاعله باللعنة.

ولو لم يكن في قلبها أحقادٌ جاهليّةٌ وأضغانٌ بدريّةٌ لاحترم الرأس لمّا وصل إليه، ولم يضربه بالقضيب، ولا صبّ عليه جرعة الخمر!!! ولَكفّنه ودفنه، وأحسن إلى آل رسول الله صلی الله علیه وآله

والدليل على صحّة ذلك أنّه استدعى ابن زياد، وشكره علىفعله، وأعطاه أموالاً جزيلةً وتُحفاً كثيرةً من بيت مال المسلمين، وقرّب مجلسه ورفع منزلته، وأدخله على نسائه، وجعله نديمه، وسكر ليلةً فقال للمغنّي:

ص: 216


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
2- الردّ على المتعصّب العنيد: 52.

غنِّ. ثمّ أنشد بديهياً:

إسقِني شربةً تروّي فؤادي***ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانة عندي***ولتسديد مغنمي وجهادي

قاتلَ الخارجيّ، أعني حسيناً***ومبيدَ الأعداءِ والأضدادِ ((1))

وله أيضاً:

معشرَ الندمان قوموا***واسمعوا صوت الأغاني

واشربوا كأس مدامٍ***واتركوا ذكر المعاني

أشغلتني نغمة العي-***-دانِ عن صوت الأذانِ

وتعوّضتُ عن الحو***رِ خموراً في الدنانِ ((2))

وممّا يدلّ على كفر الدعيّ اللعين ما رواه في كتاب (بحار الأنوار) عن الرضا علیه السلام قال: «لمّا حُمل رأس الحسين إلى الشام، أمر يزيد (لعنه الله) فوُضع، ونُصب عليه مائدة،فأقبل هو وأصحابُه يأكلون ويشربون الفقاع، فلمّا فرغوا أمر بالرأس فوُضع في طستٍ تحت سريره، وبسط عليه رقعة الشطرنج، وجلس يزيد (لعنه الله) يلعب بالشطرنج ويذكر الحسين وأباه وجدّه (صلوات الله عليهم) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع فشربه ثلاث مرّات، ثمّ صبّ

ص: 217


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 261، حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 230 -- 232.

فضلته ممّا يلي الطست من الأرض، فمَن كان من شيعتنا فلْيتورّع عن شرب الفقاع واللعب بالشطرنج، ومَن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فلْيذكر الحسين علیه السلام ولْيلعن يزيد وآل زياد، يمحو الله عزوجل بذلك ذنوبه ولو كانت كعدد النجوم».

وعن الهرويّ قال: سمعتُ الرضا علیه السلام يقول: «أوّل مَن اتُّخذ له الفقاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية (لعنة الله عليه)، فأُحضر وهو على المائدة، وقد نصبها على رأس الحسين بن عليّ علیه السلام ، فجعل يشربه ويسقي أصحابه ويقول: اشربوا، فهذا شرابٌ مبارك، من بركته أنّا أوّل تناولناه ورأس عدوّنا بين أيدينا ومائدتنا منصوبةٌ عليه ونحن نأكل، ونفوسنا ساكنة وقلوبنا مطمئنّة. فمَن كان مِن شيعتنا فلْيتورّع عن شرب الفقاع؛ فإنّه شراب أعدائنا» ((1)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، أيتجاسر هذا الوغد الهابط كلّ هذا التجاسر في محضر رأسك الشريف، وأنت تسمع وترى وتعلم؟! فيشرب بمحضرك الشراب، ويصبّ على رأسك المقدس ((2)) ... ويتفوّه بتلك المزخرفات والسفاسف وغير ذلك من قبائحالأقوال والأفعال؟!

ص: 218


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 176 ح 23 و24.
2- لم أجرؤ على كتابتها، وإنّي لا يمكن المصير إلى هذا القول أبداً، سيّما ونحن نعتقد ما يعتقده المؤلّف مِن أنّ الرأس المقدّس كان يسمع ويرى ويعلم، فلا يمكن أن يكون ذلك أبداً، وقد مرّ الحديث عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه صبّه ممّا يلي الطست، والخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطان» بنصّ القرآن الكريم، وقد طهّر الله الحسين وأذهب عنه الرجس!

[جاريةٌ في بيت يزيد]

ومن جملة مَن لم يُطق النظر إلى ما فعله هذا الوغد الحقير جاريةٌ من جواري يزيد اللعين، إذ رأته ينكت بالخيزران على ثنايا أبي عبد الله ويقول:

يا حُسنه يلمع في لونينِ***يلمع في طشتٍ من اللُّجَينِ

كأنّما حُفّ بوردتينِ***كيف رأيتَ الضرب

يا حسينِ؟ ((1))

فلمّا سمعَت الجارية هذه الأبيات ورأت ما يفعله اللعين، قال أبو مخنف: قال الراوي: وخرجَت جاريةٌ من قصر يزيد، فرأته ينكت ثنايا الإمام، فقالت: قطع الله يديك ورجليك، أتنكت ثنايا طالما قبّلهما رسول الله صلی الله علیه وآله قال لها: قطع الله رأسكِ، ما هذاالكلام؟! فقالت له: اعلمْ يا يزيد كنتُ بين النائمة واليقظانة إذ نظرتُ إلى بابٍ من السماء قد انفتح، وإذا بسُلّمٍ من نور قد نزل من السماء إلى الأرض، وإذا بغلامين أمردين عليهما ثيابٌ خضرٌ وهما ينزلان على ذلك السُّلَّم، وقد بُسط لهما في ذلك الحال بساطٌ

ص: 219


1- في (الدمعة الساكبة: 5 / 96) وغيره: وفي بعض نسخ كتاب أبي مخنف ذكر هذه الأبيات، وهي قوله (لعنه الله): يا حُسنه يلمع باليدينِ يلمع في طشتٍ من اللُّجَينِ كأنّما حُفّ بوردتينِ كيف رأيت الضرب يا حسينِ؟ شفيتُ قلبي من دمِ الحسينِ أخذتُ ثاري وقضيتُ دَيني يا ليت مَن شاهد في الحُنين يرون فعلي اليوم بالحسينِ

من زبرجد الجنّة، وقد أخذ نور ذلك البساط من المشرق إلى المغرب، وإذا برجلٍ رفيع القامة مدوّر الهامة قد أقبل يسعى، حتّى جلس في وسط ذلك البساط، ونادى: «يا أبي آدم اهبط»، فهبط رجلٌ دُرّيّ اللون طويل، ثمّ نادى: «يا أبي سام اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أبي إبراهيم اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أبي إسماعيل اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أخي موسى اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أخي عيسى اهبط»، فهبط، ثمّ رأيتُ امرأةً واقفةً قد نشرت شعرها وهي تنادي: «يا أُمّي حواء اهبطي، يا أُمّي خديجة اهبطي، يا أُمّي هاجر اهبطي، ويا أُختي سارة اهبطي، ويا أُختي مريم اهبطي». وإذا هاتف من الجوّ يقول: هذه فاطمة الزهراء ابنة محمّدٍ المصطفى زوجة عليّ المرتضى أُمّ سيّد الشهداء المقتول بكربلاء. ثم إنّها نادت: «يا أبتاه! ألا ترى ما صنعَت أُمّتك بولدك الحسين علیه السلام ». فبكى رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «ألا ترى ما فعلَت الطغاة بولدي يا أبي آدم؟ لا أنالهم الله شفاعتي». فبكى آدم علیه السلام ، وبكى كلُّ مَن كان حاضراً حتّى بكت الملائكة لبكائهم، ثمّ إنّي رأيتُ رجالاً حول الرأس وقائلاً يقول: خذوا صاحب الدار واحرقوه بالنار. فخرجتَ أنت يا يزيد من الدار، وأنت تقول: النار النار، أين المفرّ من النار؟ فأقبل عليها وقال: ياويلكِ! ما هذا الكلام؟ أردتِ أن تُخجليني بين أهل مملكتي والرعيّة

ص: 220

والعامّة! فأمر بضرب عنقها ((1)).

[الجاثليق ورأس الجالوت]

وممّن لم يُطِق ما فعله اللعين يزيد أيضاً، رأس الجالوت والجاثليق.

قال أبومخنف بعد نقل نكث اللّعين ثنايا الحسين علیه السلام وشِعره المتقدّم المشوم بقوله: كيف رأيتَ الضرب يا حسين؟ وكان قد حضر عنده رأس الجالوت، وكان مقدَّماً عنده، فلمّا رأى وسمع ما سمع قال له: أتأذن لي أن أسألك؟ قال: سَلْ عمّا شئت. قال: سألتك بالله إلّا ما أخبرتني لمَن هذا الرأس؟ قال: هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّه فاطمة بنت محمّد المصطفى. قال: فيما استوجب القتل وهو ابن بنت نبيّكم؟! قال: إنّ أهل العراق دعوه وكتبوا إليه، وأرادوا أن يُجلسوه خليفة، فقتله عاملي عُبيد الله بن زياد وبعث إليّ برأسه. فقال له رأس الجالوت: مَن يكون أحقّ بالخلافة منه وهو ابن بنت نبيّكم؟ ما أعجب أمركم! اعلمْ يا يزيد إنّ بيني وبين داود علیه السلام نيف وثلاثون أباً، واليهود يعظّموني ويأخذون التراب من تحت أقدامي ويمسحون به وجوههم، ولايريدون التزويج إلّا بي، وأنتم بالأمس كان نبيّكم خلف ظهوركم، واليوم شددتم على ولده فقتلتموه؟! واللهِ أنتم شرّ أُمّة. فقال له يزيد (لعنه الله): يا ويلك! لولا بلغني عن رسول

ص: 221


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 206.

الله أنّه قال: مَن آذى معاهداً كنتُ خصمه يوم القيامة، لَقتلتك. فقال رأس الجالوت: يا يزيد، هذا عليك لا لك، يكون النبيّ صلی الله علیه وآله خصم مَن قتل معاهداً ولا يكون خصم مَن قتل ولده؟! ثمّ قال: يا أباعبد الله، اشهد عليه عند جدّك صلی الله علیه وآله أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ جدّك محمّداً رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال له يزيد: قد خرجتَ مِن دينك ودخلتَ في دِين الإسلام، فقد برئنا من ذمّتك. ثمّ أمر بضرب عنقه رحمه الله علیه ((1)).

فبينما هو كذلك إذ دخل عليه جاثليق النصارى، وفي يده عكازٌ يتوكّأ عليه، وكان شيخاً كبيراً، وعليه ثيابٌ سود، وعلى رأسه برنس، فنظر إلى رأس الحسين علیه السلام بين يدَي يزيد (لعنه الله)، فقال: يا يزيد، هذا رأس مَن؟ قال: رأسُ خارجيّ خرج علينا بأرض العراق. فقال: وما اسمه؟ فقال: الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قال: ومَن أُمّه؟ قال: فاطمة الزهراء بنت محمّدٍ المصطفى. فقال له الجاثليق: فيما استوجب القتل؟ قال: لأنّ أهل العراق دعوه وكتبوا إليه، وأرادوا أن يُجلسوه خليفة، فقتله عاملي عُبيد الله ابن زياد وبعث إليّ برأسه. فقال له الجاثليق: يا يزيد، ارفعه مِن بين يديك وإلّا أهلكك الله (تعالى)، ولقد كنتُ الساعة في البقعة إذ سمعت رجفةً شديدة، فنظرت في السماء وإذا أنا برجلٍ أحسن من الشمس وقد نزل من

ص: 222


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 268، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 202 وما بعدها.

السماء، ومعه رجالٌ كثيرة، فقلت لبعضهم: مَن هذا الرجل؟ فقال لي: هذا محمّد المصطفى صلی الله علیه وآله، وهؤلاء الملائكةحوله يعزّونه بولده الحسين علیه السلام . ارفعه من بين يديك! فقال له: يا ويلك! جئتَ تخبرني بأحلامك الكاذبة؟ والله لَأضربنّ بطنك وظهرك. ثمّ قال: خذوه. ثمّ أخذوه فجعلوا يسحبونه حتّى أوقفوه بين يديه، وجعلوا يضربونه بالسياط، فلمّا ألّمه الضرب نادى: يا أبا عبد الله، اشهَدْ لي عند رسول الله صلی الله علیه وآله أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ جدّك محمّداً صلی الله علیه وآله عبده ورسوله، وأنّ أباك عليّاً علیه السلام أميرُ المؤمنين. فغضب يزيد (لعنه الله) من كلامه وقال: أوجعوه ضرباً. فجعلوا يضربونه حتّى رضّوا جسده، فقال له: يا يزيد، إن شئت اضرب، وإن شئت لا تضرب، فهذا رسول الله صلی الله علیه وآله واقفٌ بإزائي وفي يده قميصٌ من نورٍ وتاجٌ من الذهب، وهو يقول: «ليس بيني وبينك أن تلبس هذا القميص وأتوّجك بهذا التاج إلّا خروج روحك من الدنيا، ثمّ أنت رفيقي هذا في الجنان العُلى، لأجل محبّتك لأهل بيتي علیهم السلام». فلم يلبث إلّا ساعةً حتّى فارقَت روحه الدنيا رحمه الله علیه ((1)).

ص: 223


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصورة): 268، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 204 وما بعدها.

[عبد الوهّاب النصراني]

وفي (المنتخب): رُوي في بعض الأخبار عن ثقات الأخيار أنّ نصرانيّاً أتى رسولاً من ملِك الروم إلى يزيد (لعنه الله)، وقد حضر في مجلسه الّذي أتى إليه فيه برأس الحسين علیه السلام ، فلمّا رأىالنصرانيّ رأس الحسين علیه السلام بكى وصاح وناح حتّى ابتلّت لحيته بالدموع، ثمّ قال:

اعلم يا يزيد أنّي دخلتُ المدينة تاجراً في أيّام حياة النبيّ صلی الله علیه وآله، وقد أردتُ أن آتيه بهديّة، فسألت رجلاً من أصحابه: أيّ شيءٍ أحبّ إليه من الهدايا؟ فقال: الطيب أحبّ إليه من كلّ شيء.

قال: فحملتُ من المسك فأرتين وقدراً من العنبر الأشهب وجئت به إليه، وهو يومئذٍ في بيت زوجته أُمّ سلَمة، فلمّا ساعدت جماله ازداد لعيني من لقائه نوراً ساطعاً وزادني منه سرور، وقد تعلّق قلبي بمحبّته، فسلّمت عليه ووضعت العطر بين يديه، فقال: «ما هذا؟»، قلت: هديّة محقّرة أتيت بها إلى حضرتك. فقال: «ما اسمك؟»، فقلت: اسمي عبد الشمس. فقال لي: «بدل اسمك، فأنا سمّيتُك عبد الوهّاب، إن قبلتَ منّي الإسلام قبلتُ منك الهديّة». قال: فنظرتُه وتأمّلتُه فعلمت أنّه نبيّ، أخبرَنا عنه عيسى علیه السلام ، فاعتقدت ذلك وأسلمت على يده في تلك الساعة.

ورجعت إلى الروم وأنا أُخفي الإسلام، ولي مدّةٌ من السنين وأنا مسلمٌ مع خمسٍ من البنين وأربع من البنات، وأنا اليوم وزير ملك الروم، وليس

ص: 224

لأحدٍ من النصارى اطّلاعٌ على حالنا.

واعلم يا يزيد أنّ ذات يومٍ كنتُ في حضرة النبيّ صلی الله علیه وآله وهو في بيت أُمّ سلَمة، رأيتُ هذا العزيز الّذي رأسه بين يديك مهيناً حقيراً قد دخل على جدّه صلی الله علیه وآله من باب الحجرة، والنبيّ صلی الله علیه وآله فاتحٌ باعه ليتناوله، وهو يقول: «مرحباً بك يا حبيبي»، حتّى أنّه تناوله وأجلسه في حِجره، وجعل يقبّل شفتيهويرشف ثناياه، وهو يقول: «بَعُد عن الرحمة مَن قتلك وأعان على قتلك يا حسين»، والنبيّ صلی الله علیه وآله مع ذلك يبكي، فلمّا كان اليوم الثاني كنت مع النبيّ صلی الله علیه وآله في مسجده إذ أتاه الحسين علیه السلام مع أخيه الحسن علیه السلام وقال: «يا جدّاه، قد تصارعت مع أخي الحسن علیه السلام، ولم يغلب أحدنا الآخَر، وإنّما أُريد أن نعلم أيّنا أشدّ قوّةً من الآخر»، فقال لهما النبيّ صلی الله علیه وآله: «يا حبيبَيّ يا مهجتَيّ، إنّ التصارع لايليق لكما، لكن اذهبا فتكاتبا، فمَن كان خطّه أحسن كذلك تكون قوّته أكثر». قال: فمضيا، وكتب كلُّ واحدٍ منهما سطراً وأتيا إلى أحدهما النبيّ صلی الله علیه وآله فأعطياه اللّوح ليقضي بينهما، فنظر النبيّ صلی الله علیه وآله إليهما ساعة، ولم يرد كسر خاطرهما، فقال: «يا حبيبَيّ، إنّي نبيٌّ أُمّيّ لا أعرف الخطّ!! اذهبا إلى أبيكما علیه السلام ليحكم بينكما وينظر أيّكما أحسن خطّاً». قال: فمضيا إليه، وقام النبيّ صلی الله علیه وآله أيضاً معهما، ودخلوا جميعاً إلى منزل فاطمة علیها السلام، فما كان إلّا ساعة وإذا النبيّ صلی الله علیه وآله مُقبلٌ وسلمان الفارسيّ معه، وكان بيني وبين سلمان صداقة ومودّة، فسألتُه: كيف حكَمَ لهما أبوهما علیه السلام، وخطّ أيّهما أحسن؟ قال سلمان رضی الله عنه: إنّ النبيّ صلی الله علیه وآله لم يُجبهما

ص: 225

بشيء؛ لأنّه تأمّل أمرهما وقال: «لو قلتُ خطّ الحسن علیه السلام أحسن كان يغتمّ الحسين علیه السلام، ولو قلت خطّ الحسين علیه السلام أحسن كان يغتمّ الحسن علیه السلام»، فوجّههما إلى أبيهما علیه السلام. فقلت: يا سلمان، بحقّ الصداقة الّتي بيني وبينك وبحقّ دين الإسلام إلّا ما أخبرتَني كيف حكم أبوهما علیه السلام بينهما؟ فقال: لمّا أتيا إلى أبيهما علیه السلام وتأمّل حالهما، رقّ لهماولم يرد أن يكسر قلب أحدهما، قال لهما: «امضيا إلى أُمّكما علیها السلام فهي تحكم بينكما»، فأتيا إلى أُمّهما علیها السلام وعرضا عليها ما كتبا في اللّوح، وقالا: «يا أُمّاه، إنّ جدّنا صلی الله علیه وآله أمرنا أن نكاتب، فكلّ مَن كان خطّه أحسن تكون قوّته أكثر، فكاتبنا وجئنا إليه، فوجّهَنا إلى أبينا علیه السلام فلم يحكم بيننا، ووجّهَنا أبي علیه السلام عندكِ»، فتفكّرت فاطمة علیها السلام بأنّ جدّهما صلی الله علیه وآله وأباهما علیه السلام ما أرادا كسر خاطرهما، أنا ماذا أصنع؟ وكيف أحكم بينهما؟ فقالت لهما: «يا قرّة عينَيّ، أن أقطع قلادتي على رأسيكما، فأيّكما يلتقط من لؤلؤها أكثر كان خطّه أحسن وقوّته أكثر». قال: وكان في قلادتها سبع لؤلؤات، ثمّ إنّها قامت فقطعَت قلادتها على رأسهما، فالتقط الحسن علیه السلام ثلاث لؤلؤاتٍ والتقط الحسين علیه السلام ثلاث لؤلؤات، وبقيَت الأُخرى، فأراد كلٌّ منهما تناولها، فأمر الله (تعالى) جبرئيل بنزوله إلى الأرض وأن يضرب بجناحه تلك اللّؤلؤة ويقدّها نصفَين بالسويّة، ليأخذ كلٌّ منهما نصفها، لئلّا يغتمّ قلب أحدهما، فنزل جبرئيل لطرفة عينٍ وقدّ اللّؤلؤة نصفين، فأخذ كلٌّ منهما نصفاً.

ص: 226

فانظر يا يزيد كيف أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله لم يُرد أن يُدخِل على أحدهما ألم ترجيح الكتابة، ولم يُرد كسر قلبهما، وكذلك أمير المؤمنين وفاطمة علیهما السلام، وكذلك ربّ العزّة لم يُرد كسر قلب أحدهما، بل أمر من قسم اللّؤلؤة بينهما ليجبر قلبهما، وأنت هكذا تفعل بابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله أُفٍّ لك ولدينك يا يزيد.

ثمّ إنّ النصرانيّ نهض إلى رأس الحسين علیه السلام واحتضنه، وجعل يقبّله وهو يبكي ويقول: يا حسين، اشهَدْ لي عند ربّك وعندجدّك محمّدٍ المصطفى وأبيك عليّ المرتضى وعند أُمّك فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين) ((1)).

قال المؤلّف: انظروا إلى هذا الخبيث كم بلغ به الشقاء، إذ يسمع كلّ هذه القصص ولا يرعوي، فهذا رسول ملك الروم -- في رواية (الملهوف) -- تكلّم بكلماتٍ لو سمعها الصخر الأصمّ لَذاب وتأثّر، لكنّها لم تؤثّر في قلب معدن الشرور وثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة المذكورة في القرآن، بل زادت قلبه الأقسى من الحجر مرضاً.

[رسول ملِك الروم]

وفي (الملهوف): رُوي عن زين العابدين علیه السلام قال: «لمّا أُتي برأس الحسين علیه السلام إلى يزيد، كان يتّخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين علیه السلام ويضعه

ص: 227


1- المنتخب للطريحي: 1 / 63 المجلس 4.

بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يومٍ في مجلسه رسولُ ملِك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس مَن؟ فقال له يزيد: ما لَك ولهذا الرأس؟ فقال: إنّي إذا رجعتُ إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيءٍ رأيتُه، فأحببتُ أن أُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى يشاركك في الفرح والسرور. فقال يزيد (عليه اللعنة): هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. فقال الرومي: ومَن أُمّه؟ فقال: فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله» ((1)).وفي (المنتخب): قال النصراني: أما تراني إذا حقّقتُ النظر إليه يقشعرّ جسمي، وأسمعه يقرأ آياتٍ من كتابك ((2)).

وفي (الملهوف): فقال النصراني: أُفٍّ لك ولدينك، لي دِينٌ أحسن مِن دينكم؛ إنّ أبي من حوافد داوود علیه السلام ، وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظّموني ويأخذون من تراب قدمي تبرّكاً بأنّي من حوافد داوود علیه السلام ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، وما بينه وبين نبيّكم إلّا أُمٌّ واحدة! فأيّ دِينٍ دينكم؟! ثمّ قال ليزيد: هل سمعتَ حديث كنيسة الحافر؟ فقال له: قل حتّى أسمع. فقال: بين عمان والصين بحرٌ مسيره سنة، ليس فيها عمرانٌ إلّا بلدة واحدة في وسط الماء، طوله ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يُحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود

ص: 228


1- اللهوف لابن طاووس: 190.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 341 المجلس 6.

والعنبر، وهي في أيدي النصارى، لا مُلك لأحدٍ من الملوك فيها سواهم، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، وأعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حُقّة ذهبٍ معلَّقة، فيها حافرٌ يقولون: إنّ هذا حافر حمارٍ كان يركبه عيسى علیه السلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة بالديباج، يقصدها في كلّ عامٍ عالَمٌ من النصارى ويطوفون حولها ويقبّلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله (تعالى) عندها، هذا شأنهم ورأيهم بحافر حمارٍ يزعمون أنّه حافر حمارٍ كان يركبه عيسى علیه السلام نبيّهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم؟! فلا بارك الله (تعالى) فيكم ولا في دِينكم. فقال يزيد (لعنه الله): اقتلوا هذا النصرانيّ لئلّا يفضحني فيبلاده. فلمّا أحسّ النصرانيّ بذلك قال له: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: اعلم أنّي رأيتُ البارحة نبيَّكم في المنام يقول: «يا نصرانيّ، أنت مِن أهل الجنّة»، فتعجّبتُ من كلامه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه وآله. ثمّ وثب إلى رأس الحسين علیه السلام فضمّه إلى صدره وجعل يُقبّله ويبكي، حتّى قُتل ((1)).

قال المؤلّف: يعجز اللسان عن بيان ما جرى على الرأس المقدّس وأهل البيت في مجلس الخبيث اللعين من أفعالٍ وأقوالٍ وأحوال، سيّما ما اقترفه الخبيث الغدّار اللئيم بنفسه من عدوانٍ ضدّ إمام الزمان زين العابدين

ص: 229


1- اللهوف لابن طاووس: 190.

السجّاد، منها:

• ما رواه في (بحار الأنوار)، عن الصادق علیه السلام : «لمّا أُدخل رأس الحسين بن عليّ علیه السلام على يزيد (لعنه الله) وأُدخل عليه عليّ بن الحسين علیه السلام وبنات أمير المؤمنين (عليه وعليهنّ السلام)، كان عليّ بن الحسين علیه السلام مقيَّداً مغلولاً، فقال يزيد (لعنه الله): يا عليّ بن الحسين، الحمد لله الّذي قتل أباك. فقال عليّ بن الحسين: لعنة الله على مَن قتل أبي». قال: «فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه، فقال عليّ بن الحسين: فإذا قتلتَني فبنات رسول الله مَن يردّهم إلى منازلهم وليس لهم مَحرمٌ غيري؟ فقال: أنت تردّهم إلى منازلهم. ثمّ دعا بمبرد، فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده، ثمّ قال له: ياعليّ بن الحسين، أتدري ما الّذي أُريد بذلك؟ قال: بلى، تريد أن لا يكون لأحدٍ علَيّ مِنّةٌ غيرك. فقال يزيد: هذا واللهِ ما أردت. ثمّ قال يزيد: يا عليّ ابن الحسين، «مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» ((1)). فقال عليّ بن الحسين: كلّا، ما هذه فينا نزلَت، إنّما نزلَت فينا: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((2))، فنحن الّذين لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا منها» ((3)).

قال المؤلّف: لم يتنبّه ذاك الشقيّ الظلوم إلى أيّ شيءٍ من سماع تلك

ص: 230


1- سورة الشورى: 30.
2- سورة الحديد: 22.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 168 -- عن: تفسير القمّي.

الأجوبة الشافية الوافية، ولم يقلع عن ضلالته وعناده وغوايته.

• قال أبو مخنف: التفت يزيد إلى عليّ بن الحسين علیه السلام وقال له: يا غلام، أنت الّذي أراد أبوك أن يكون خليفة، والحمد لله الّذي سفك دمه وأمكنني منه وأراح المؤمنين منه ((1)). فقال: «يا يزيد، مَن كان أحقّ بالخلافة، أنت أَم هو وابن بنت نبيّكم؟ يا يزيد، ما سمعتَ كلام الله إذ يقول: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((2)) -- الآية؟». فغضب يزيد من ذلك، لأنّه كان يلبس الثياب الفاخرة وينظر في أعطافه، فلذلك قرأ عليّ بن الحسين علیه السلام: «إِنَّاللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ((3))، فغضب يزيد وقال: يا غلام، تعرّضتَ بنا؟ فأمر برجلٍ بين يديه وقال له: خُذ هذا واضرب عنقه. فعند ذلك بكى عليّ بن الحسين علیهما السلام وأنشأ يقول:

«أُناديك يا جدّاه يا خير مرسلٍ***حبيبك مقتولٌ ونسلك ضايع

أُقاد ذليلاً في دمشق مكبَّلاً***وما لي مِن بين الخلائق شافع

لقد حكموا فينا علوجُ أُميّةٍ***فقد ظهروا فينا عظيم البدايع»

وجعلن عمّاته وأخواته يبكين ويندبن، فنادت أُمّ كلثوم: يا يزيد، لقد

ص: 231


1- في (المقتل) المطبوع: (... الّذي أمكنني منه وجعلكم أسرى بين يدَيّ، يراكم القريب والبعيد والحرّ والعبد، ما لكم من ناصرٍ ولا كفيل).
2- سورة الحديد: 22.
3- سورة لقمان: 18.

رويت الأرض من دم أهل البيت، أتريد أن لا تترك من نسل رسول الله صلی الله علیه وآله على وجه الأرض أحداً؟

قال: فبكى جلساؤه، وقالوا: دع هذا الصبيّ؛ فإنّه لا يحلّ قتله. فأمر بتركه.

ثمّ أقبل عليّ بن الحسين علیهما السلام على يزيد وقال: «سألتُك بالله، إن كان بينك وهؤلاء النساء قرابةٌ فابعث معهنّ مَن تثق به حتّى يبلغهنّ المدينة»، فانتهب الناس وضجّوا بالبكاء والعويل، فخشيَ يزيد (لعنه الله) الفتنة، وقال: يا غلام، لا يبلغهنّ غيرك. ثمّ أقبل على جلسائه وقال: أشيروا علَيّ إمّا بقتله أو بتركه. فقالوا: إنّه صبيٌّ لم يبلغ مبالغ الرجال، فلا يحلّ لك قتله.

فعند ذلك أمر رجلاً درب اللّسان قويّ الجنان مبالغاً في الخطابأن يصعد المنبر ولا يترك شيئاً من المساوي إلّا يجعلها في عليٍّ والحسين علیهما السلام، ففعل ذلك، فأقبلَت سكينة بنت الحسين علیها السلام وقالت: يا ويلك! ما أقلّ حياءك، وأيّ مساوي كانت في أبي وجدّي؟ فقال لها يزيد: ألا تسكتين يا بنت الخارجيّ؟ فقالت: يا ويلك، أيّما أحقّ بالخلافة، أنت أَم أبي؟ وأبوه عليّ بن أبي طالب علیه السلام وأُمّه فاطمة الزهراء جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

ص: 232


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 278، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 210.

• وفي (المناقب): ورُوي أنّه قال لزينب: تكلّمي. فقالت: هو المتكلّم. فأنشد السجّاد:

«لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم***وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

والله يعلم أنّا لا نحبكم***ولا نلومكم أن لا تحبونا»

فقال: صدقتَ يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرَين، والحمد لله الّذي قتلهما وسفك دماءهما. فقال علیه السلام : «لم تزلِ النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي مِن قبل أن تولد» ((1)).

قال المدائني: لمّا انتسب السجّاد إلى النبي صلی الله علیه وآله، قال يزيد لجلوازه: أدخِله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه. فدخل بهإلى البستان، وجعل يحفر والسجّاد يصلّي، فلمّا هَمّ بقتله ضربَته يدٌ من الهواء فخرّ لوجهه وشهق ودُهش، فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقيّة، فانقلب إلى أبيه وقصّ عليه، فأمر بدفن الجلواز في الحفرة، وإطلاقِه ((2)).

وقد عزم اللعين يزيد عدّة مرّاتٍ على قتل الإمام العليل السجّاد علیه السلام ليقطع نسل رسول الله صلی الله علیه وآله، ولكنّه لم يقدر، رغم أنّه فعل كلّ ما في وسعه من أجل ذلك.

ص: 233


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الفتوح لابن أعثم: 5 / 131، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 62.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.

وفي (الملهوف): ثمّ أمر بهم إلى منزلٍ لا يكنّهم من حرٍّ ولا برد، فأقاموا به حتّى تقشّرت وجوههم، وكانوا مدّة إقامتهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسين علیه السلام ((1)).

وفي (البصائر): عن الإمام الصادق: «لمّا أتى بعليّ بن الحسين علیه السلام يزيدُ بن معاوية (عليهما لعائن الله) ومَن معه، جعلوه في بيت، فقال بعضهم: إنّما جعلَنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا. فراطن الحرس فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن تقع عليهم البيت، وإنّما يُخرجون غداً فيُقتَلون. قال عليّ بن الحسين علیه السلام: لم يكن فينا أحدٌ يُحسن الرطانة غيري. والرطانة عند أهل المدينة: الروميّة» ((2)).

وفي (المناقب): وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد ((3)).وكان الخبيث يزيد يبحث عن حجّةٍ ليقتل بها الإمام زين العابدين علیه السلام.

وفي (دعوات) الراوندي: رُوي أنّه لمّا حُمل عليّ بن الحسين علیه السلام إلى يزيد (لعنه الله)، همّ بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يكلّمه ليستنطقه بكلمةٍ يوجب بها قتله، وعليٌّ علیه السلام يجيبه حسب ما يكلّمه، وفي يده سبحةٌ صغيرةٌ يديرها بأصابعه وهو يتكلّم، فقال له يزيد: أُكلّمك وأنت تجيبني

ص: 234


1- اللهوف لابن طاووس: 188.
2- بصائر الدرجات للصفّار: 338 الباب 12 ح 1.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.

وتدير أصابعك بسبحةٍ في يدك، فكيف يجوز ذلك؟ فقال: «حدّثَني أبي، عن جدّي، أنّه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلّم حتّى يأخذ سبحةً بين يديه فيقول: اللّهمّ إنّي أصبحتُ أُسبّحك وأُمجّدك وأحمدك وأُهلّلك بعدد ما أدير به سبحتي. ويأخذ السبحة ويديرها وهو يتكلّم بما يريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح، وذكر أنّ ذلك محتسَبٌ له، وهو حِرزٌ إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا أوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه، فهي محسوبةٌ له من الوقت إلى الوقت، ففعلتُ هذا اقتداءً بجدّي». فقال له يزيد: لستُ أُكلّم أحداً منكم إلّا ويجيبني بما يعوذ به. وعفا عنه ووصله، وأمر بإطلاقه ((1)).

وفي (الملهوف) قال: وخرج زين العابدين علیه السلام يوماً يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو فقال له: كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟ قال: «أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربي، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينامعشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أمسينا فيه يا منهال».

ولله درّ مهيار حيث قال شعراً:

يعظّمون له أعواد منبره***وتحت أرجلهم أولاده وُضعوا

بأيّ حكمٍ بنوه يتبعونكمُ***وفخركم أنّكم صحبٌ له تبعُ؟

((2))

ص: 235


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 200، الدعوات للراوندي: 61.
2- اللهوف لابن طاووس: 193.

معاشرَ الشيعة، تصوّروا ما جرى على الأسرى في الشام، فإنّ قلوبكم ستحترق، وعيونكم ستنهمر دموعها، وسيتنغّص عيشكم، وتحرّمون اللذائذ على أنفسكم، فكيف يهنأ أحدكم بعيشٍ أو يخلد إلى نومٍ على فراشٍ وثير وسبايا آل الرسول يبكون وينوحون في الخربة ولا يفترون؟! سيّما إذا سمعتَ الخبر الّذي سأرويه عن شهادة بنت الحسين علیه السلام الصغيرة في خربة الشام.

[شهادة بنت الحسين علیه السلام في خربة الشام]

في (المنتخب): رُوي أنّه لمّا قدم آل الله وآل رسوله على يزيد في الشام أفرد لهم داراً، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وإنّه كان لمولانا الحسين علیه السلام بنتاً عمرها ثلاث سنوات، ومن يوم استُشهد الحسين ما بقيَت تراه، فعظُم ذلك عليها واستوحشت لأبيها، وكانت كلّما طلبَته يقولون لها: غداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إلى أن كانت ليلة من الليالي رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجعوها وقالوا: لما هذا البكاء والعويل؟فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما هجعوها، ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود وحثوا على رؤوسهم التراب ونشروا الشعور، وقام الصياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين

ص: 236

الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهَت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها؛ لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مُغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا لها: رأس أبيكِ.

(أيّها الشيعي! إن كنتَ ترى نفسك مخلوقاً من فاضل طينة الإمام الحسين، فعلامة ذلك أنّك لا تتمالك نفسك وأنت تسمع هذه المصيبة، ولابدّ أن تجري دموعُك على خدّك، فإن اعرتك قساوة القلب فلابدّ لك أن تحزن على الأقلّ وتتباكى، لتستوجب الجنّة بذلك.

ولا تنسَ أنّ الرأس المقدّس يسمع ويرى ويحسّ بما يجري حوله، أما سمعتَه بأُذنَي قلبك وهو يتلو القرآن ويكلّم ابن وكيد وزيد بن أرقم وغيرهم؟ فهو الآن يرى ابنته وما يجري عليها، فضجّ مع من ضجّ في الخربة وابكِ معهم، فإنّك تسمع ما تقوله هذه البنت الصغيرة وأنت فاضل طينتهم).

فرفعَته من الطشت حاضنةً له, وهي تقول: يا أباه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريدك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقيَ بعدك نرجوه؟ ياأبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشرات؟ يا أبتاه! مِن بعدك واخيبتنا، يا أبتاه! مِن بعدك واغربتنا، يا أبتاه! ليتني كنت

ص: 237

الفدى، يا أبتاه! ليتني كنت قبل هذا اليوم عميا، يا أبتاه! ليتني وُسّدتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

ثمّ إنّها وضعَت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقَت روحُها الدنيا.

فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء، وكلّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلاّ باكٍ وباكية ((1)).

فداءً لمظلوميّتك وغربة أهل بيتك يا أبا عبد الله، ماذا جرى على أُولئك المفجوعين عند غسل تلك الصغيرة وتكفينها ودفنها؟!

اين

انتقام گر نفتادي به روز محشر

با

اين عمل معامله خلق چون شدي

في (البحار): قال صاحب (المناقب): وذكر أبو مخنف وغيره أنّ يزيد (لعنه الله) أمر بأن يُصلَب الرأس على باب داره، وأمر بأهل بيت الحسين علیه السلام أن يدخلوا داره، فلمّا دخلَت النسوة دار يزيد لم يبقَ من آل معاوية ولا أبي سفيان أحدٌ إلّا استقبلهنّ بالبكاءوالصراخ والنياحة على الحسين علیه السلام، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحُليّ، وأقمن المأتم عليه ثلاثة أيّام.

ص: 238


1- المنتخب للطريحي: 1 / 136 المجلس 7 الباب 2.

(الله! ماذا جرى على السيّدة زينب وأُمّ كلثوم حينما رأين نساء آل أبي سفيان عليهنّ الحُليّ والحلل، وهنّ عليهنّ الثياب القديمة؟ كيف تغيّرت أحوالهنّ وألوانهنّ من الحياء!! فمَن مِن شيعة الكرّار يطيق الصبر على هذا ويمتلك نفسه ويحبس دموعه؟ ولو كان قلبه من حجر، إذ أنّ من الحجارة لما يشقّق فيخرج منه الماء).

وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد -- وكانت قبل ذلك تحت الحسين علیه السلام -- حتى شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبَت إلى يزيد وهو في مجلسٍ عام، فقالت: يا يزيد، أرأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوبٌ على فناء بابي؟! فوثب إليها يزيد فغطّاها، وقال: نعم، فأعوِلي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد (لعنه الله) فقتله، قتله الله. ثمّ إنّ يزيد (لعنه الله) أنزلهم في داره الخاصّة، فما كان يتغدّى ولا يتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسين ((1)).

غير أنّ اللعين لم تخمد نيران الحقد والضغينة والحسد في قلبه، فكان بين الحين والآخر يلسع الإمام المظلوم كالعقرب المسموم، فأخذه يوماً معه إلى المسجد -- كما في (بحار الأنوار) --، ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد

ص: 239


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 142. لقد قدّم المؤلّف وأخّر في الخبر، فذكر دخول هند في أوّله، ونقلناه وفق ترتيب المصدر.

المنبر فيذمّ الحسين وأباه (صلوات الله عليهما)، فصعد وبالغ في ذمّ أمير المؤمنين والحسين الشهيد (صلوات الله عليهما) والمدح لمعاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين علیه السلام: «ويلك أيّها الخاطب! اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأْ مقعدك من النار» ((1)).

وقال أبو مخنف: فقال له الخاطب: واللهِ لقد أخطأتُ فيما تكلّمتُ به، وأنا أعلم أنّ بكم فتح الله وبكم ختم الله (تعالى)، وإنّما أمرني يزيد أن أتكلّم بهذا الكلام ((2)).

[خطبة الإمام السجاد علیه السلام]

وفي (المناقب): ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلماتٍ لله فيهن رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثواب». قال: فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له فلْيصعد المنبر، فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال: إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما قدر ما يُحسن هذا؟ فقال: إنّه مِن أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً. قال: فلم يزالوا به حتّى أذن له ((3)).

ص: 240


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.
2- معدن البكاء للمؤلّف: 272.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.

قال أبو مخنف: فقال الناس للخاطب: ما يضرّك ان تدع هذا الغلام يصعد المنبر، فإنّه إذا نظر إلى كثرة النّاس لم يتكلّم بشيء.فنزل الخاطب وقال له: اصعد ((1)).

وفي (المناقب): فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، ثمّ قال:

«أيّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأُمّة، ومنّا مهديّ هذه الأُمّة ((2)).

ص: 241


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 272.
2- لم تُذكر هذه العبارة في (البحار)، وذكرها المؤلّف في كتابه (معدن البكاء (مصوّرة): 272)، وكتب في الهامش تعليقاً قال فيه: الظّاهر أنّ في الخبر سقطاً، وهو: «منّا مهديّ هذه الأُمّة»، كما يرشد إليه ما رُوي عن ابن المغازليّ في كتاب (مناقب آل أبي طالب) بإسناده يرفعه إلى أبي أيّوب الأنصاريّ عن رسول الله صلی الله علیه وآله في حديثٍ طويلٍ أنّه قال لفاطمة علیها السلام: «يا فاطمة، إنّا أهل بيتٍ أُعطينا سبع خصال، لم يُعطَها أحدٌ من الأوّلين والآخِرين قبلنا»، أو قال: «الأنبياء علیهم السلام، ولايدركها أحدٌ من الآخِرين غيرنا: نبيّنا صلی الله علیه وآله أفضل الأنبياء علیهم السلام، وهو أبوكِ، ووصيّنا علیه السلام أفضل الأوصياء، وهو بعلكِ علیه السلام ، وشهيدنا خير الشهداء، وهو حمزة عمّكِ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث يشاء، وهو جعفر ابن عمّكِ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة، وهو ابناكِعلیهما السلام، ومنّا -- والّذي نفسي بيده -- مهديّ هذه الأُمّة».

مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسَبي ونسَبي. أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرامإلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، (أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى)، أنا ابن محمّدٍ المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلّا الله، أنا ابن من ضرب بين يدَي رسول الله بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدرٍ وحُنين ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيّين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكّائين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأوّل من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين وأوّل السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي الله على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله ووليّ أمر الله وبستان حكمة الله وعيبة علمه، سمحٌ سخيٌّ بهيٌّ بهلولٌ زكيٌّ أبطحيٌّ

ص: 242

رضيٌّ مقدامٌ همامٌ صابرٌ صوّامٌ مهذَّبٌ قوّام، قاطع الأصلاب ومفرّق الأحزاب، أربطهم عناناً وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمةً وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكّيٌّ مدنيّ خيفيّ عقبيّ بدريّ أُحُديّ شجريّ مهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرَين، وأبوالسبطَين الحسن والحسين، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب»، ثمّ قال: «أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء» ((1)).

وفي (كتاب الأحمر): «أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى» ((2)).

وفي (المنتخب): «أنا ابن الّذي افترض الله ولايته فقال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا»، ألا إنّ الاقتراف مودّتنا أهل البيت» ((3)).

ص: 243


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 138 -- عن: مناقب آل أبي طالب.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 120 -- عن: كتاب الأحمر للأوزاعي.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 481 المجلس 10.

وفي (كتاب الأحمر): «أيّها الناس، إنّ الله (تعالى) وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ حسن، حيث جعل راية الهدى والعدل والتُّقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا، فضّلنا أهل البيت بستّ خصال، فضّلنا بالعلم والحِلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلة في قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤتِ أحداً من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب» ((1)).وفي (المناقب): فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد (لعنه الله) أن يكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام، فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر الله أكبر، قال عليّ: «لا شيء أكبر من الله»، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، قال عليّ بن الحسين: «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي»، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: «محمّدٌ هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته؟» ((2)).

وفي (كتاب الأحمر): ثمّ قال: «معاشرَ الناس، هل فيكم مَن أبوه وجدّه رسول الله صلی الله علیه وآله»، فعَلَت الأصوات بالبكاء.

فقام إليه رجلٌ من شيعته يُقال له ((3)): مكحول، صاحب رسول

ص: 244


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 120 -- عن: كتاب الأحمر للأوزاعي.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 139 -- عن: مناقب آل أبي طالب.
3- في (البحار): (يُقال له: المنهال بن عمرو الطائيّ، وفي روايةٍ: مكحول، صاحب رسول الله).

الله صلی الله علیه وآله، فقال له: كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟ فقال: «ويحك! كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمسى آل محمّدٍ مقهورين مخذولين، فإلى الله نشكو كثرة عدوّنا وتفرّق ذات بيننا وتظاهر الأعداء علينا» ((1)).وفي (البحار): قال: وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة، وتقدّم يزيد فصلّى صلاة الظهر، وكان في مجلس يزيد هذا حبرٌ من أحبار اليهود، فقال: مَن هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟ قال: هو عليّ بن الحسين. قال: فمن الحسين؟ قال: ابن عليّ بن أبي طالب. قال: فمن أُمّه؟ قال: أُمّه فاطمة بنت محمّد. فقال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة؟! بئسما خلفتموه في ذريّته، واللهِ لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لَظنّنا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا، وأنتم إنّما فارقكم نبيُّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقتلتموه! سوءةً لكم مِن أُمّة. فأمر به يزيد (لعنه الله) فوُجئ في حلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم

ص: 245


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 121، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 175، الفتوح لابن أعثم: 5 / 133، تفسير فرات: 149 ح 187، تفسير القمّي: 2 / 134.

فاقتلوني، أو فذروني، فإنّي أجد في التوراة أنّ مَن قتل ذرّيّة نبيٍّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم ((1)).

وقال أبو مخنف: وقام إلى عليّ بن الحسين علیهما السلام رجلٌ يُقال له: منهال ابن عمرو، فقال: كيف أصبحتَ يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله فقال له: «كيف يصبح مَن قُتل أبوه بالأمس وأهلُ بيته، وهو يتوقّع الموت في يومه وليلته؟ فإلى الله أشكو ما أصبحنا وأمسينا فيه»، ثمّ قال: «أصبحَت العربُ تفتخر على العجم بأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله منها، وأصبحَت قريش تفتخر على العرب بأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله منها، ونحن أهل بيته مظلومون مقهورون». فعَلَت الأصوات بالبكاء والنحيب،فخشيَ يزيد (لعنه الله) الفتنة، فقال للخاطب: لمَ أذنتَ له بالكلام؟ إنّما أردتَ زوال ملكي! قال الرجل: والله ما ظننتُ أنّه يتكلّم بهذا الكلام. قال يزيد: يا ويلك، هذه العصى من تلك العصبة، وهذه الورقة من تلك الشجرة، وهل تلد الحيّة إلّا الحيّة؟ أما علمتَ أنّه مِن أهل بيت النبوّة؟ فقال الخاطب: يا يزيد، إذا علمتَ أنّه مِن أهل بيت النبوّة لمَ قتلتَ أباه علیه السلام وأهل بيته؟ ثمّ قال: أبدلَنا الله (تعالى) بك بمن هو خيرٌ لنا منك، وأبدلك الله (تعالى) بمن هو شرٌّ لك منّا. فغضب يزيد (لعنه الله) من قوله، فضرب عنقه.

فقال أهل الشام من تلك الرقدة واستيقظوا منها، وعُطّلَت الأسواق، وجعلوا يقولون: هذا رأس ابن بنت نبيّنا صلی الله علیه وآله ، ماعلمنا بذلك، إنّما قال: هذا

ص: 246


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 139.

رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق. فبلغ ذلك الخبر إلى يزيد، فاستعمل لهم الأجزاء من القرآن وفرّقها في المساجد، وكانوا إذا صلّوا وفرغوا من الصلاة وُضعت الأجزاء بين أيديهم في مجالسهم حتّى يشتغلوا بها عن ذكر الحسين علیه السلام، والناس ما لهم حديثٌ إلّا حديث الحسين علیه السلام، يقول الرجل لصاحبه: يا فلان، أما ترى إلى ما فُعل بابن بنت نبيّنا محمّد صلی الله علیه وآله

فبلغ ذلك يزيد، وعرف أنّ أهل الشام لا يشغلهم عن ذِكر الحسين علیه السلام شاغل، فنادى الناس أن يحضروا إلى الجامع، فحضروا من كلّ جانبٍ ومكان، فلمّا تكامل الناس قام فيهم خطيباً، ثمّ قال: تقولون يا أهل الشام أنا قتلت الحسين بن عليّ بن أبي طالب؟ واللهِ ما قتلتُه ولا أمرتُ بقتله، وإنّما قتله عاملي عُبيد الله بن زياد. ثمّ قال: واللهِ لَأقتلنّ مَن قتله.

ثمّ دعا بالّذين تولّوا حرب الحسين علیه السلام فأُوقفوا بين يديه،فالتفت إلى شبث بن ربعيّ (لعنه الله) وقال: ويلك، أأنت قتلتَ الحسين أم أنا أمرتك بقتله؟ قال شبث: والله ما قتلتُه، بل قتله قيس بن الربيع. فالتفت يزيد إلى قيس وقال: يا ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ قال: لا. قال: فمن قتله؟ قال: قتله الشمر بن ذي الجوشن. فالتفت إلى الشمر وقال: يا ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ فقال: لعن الله مَن قتله. قال: فمن قتله؟ قال: سنان بن أنس النخعي. قال: فأقبل يزيد عليه وقال له: ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ قال: لعن الله مَن قتله. فعند ذلك غضب يزيد غضباً شديداً من قولهم، وقال لهم: يا ويلكم، يُحيل

ص: 247

بعضُكم على بعض. قال قيس بن الربيع: يا أمير المؤمنين، أقول لك مَن قتله ولي الأمان من القتل؟ قال: نعم، ولك الأمان. قال: والله ما قتله إلّا الّذي عقد الرايات وفرّق الأموال ووضع العطايا وسيّر الجيوش بعد جيش. فقال: يا ويلك، مَن هو؟ قال: واللهِ ما قتل الحسين غيرك يا يزيد!

قال: فغضب يزيد من قوله، وقام ودخل قصره، ووضع الرأس في طشتٍ غطّاه بمنديلٍ ديبقيّ، ووضعه في حجره، ودخل إلى بيتٍ مظلم، وجعل يلطم على أُمّ راسه، وقال: ما لي وما للحسين بن عليّ بن أبي طالب؟ ((1)).

[رؤيا هند]

وفي كتاب (المنتخب): ونُقل عن هند زوجة يزيد قالت: كنتُ أخذتُ مضجعي، فرأيتُ باباً من السماء قد فُتحَت، والملائكة ينزلون كتائب كتائب إلى رأس الحسين وهم يقولون: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا ابن رسول الله. فبينما أنا كذلك إذ نظرت إلى سحابةٍ قد نزلَت من السماء وفيها رجالٌ كثيرون، وفيهم رجلٌ دُرّيّ اللون قمريّ الوجه، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يقبّلهما وهو يقول: «يا ولدي، قتلوك؟

ص: 248


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 274، وانظر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 216 وما بعدها.

أتراهم ما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك؟ يا ولدي، أنا جدّك رسول الله، وهذا أبوك عليّ المرتضى، وهذا أخوك الحسن، وهذا عمّك جعفر، وهذا عقيل، وهذان حمزة والعبّاس»، ثمّ جعل يعدّد أهل بيته واحداً بعد واحد.

قالت هند: فانتبهتُ من نومي فزعةً مرعوبة، وإذا بنورٍ قد انتشر على رأس الحسين، فجعلتُ أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيتٍ مظلمٍ وقد دار وجهه إلى الحائط، وهو يقول: ما لي وللحسين؟ وقد وقعت عليه الهمومات، فقصصتُ عليه المنام وهو منكّس الرأس.

فلمّا أصبح استدعى بحرم رسول الله، فقال لهنّ: أيّما أحبّ إليكنّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنيّة؟ قالوا: نحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين. قال: افعلوا ما بدا لكم. ثمّ أُخليَت لهنّ الحُجَر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشميّةٌ ولا قرشيّةٌ إلّا ولبست السواد على الحسين وندبوه سبعة أيّام ((1)).

[رؤيا سكينة]

وفي (المنتخب): إنّ سكينة بنت الحسين قالت: يا يزيد، رأيتُ البارحة رؤيا إن سمعتَها منّي قصصتُها عليك. فقال يزيد: هاتي ما رأيتِ. قالت: بينما أنا ساهرةٌ وقد كللت من البكاء بعد أن صلّيتُ ودعوت الله بدعوات،

ص: 249


1- المنتخب للطريحي: 2 / 482 المجلس 10.

رقدَت عيني، رأيتُ أبواب السماء قد تفتّحَت، وإذا أنا بنورٍ ساطعٍ من السماء إلى الأرض، وإذا أنا بوصائف من وصائف الجنّة، وإذا أنا بروضةٍ خضراء، وفي تلك الروضة قصر، وإذا أنا بخمس مشايخ يدخلون إلى ذلك القصر، وعندهم وصيف، فقلت: يا وصيف، أخبرني لمن هذا القصر؟ فقال: هذا لأبيك الحسين، أعطاه الله ثواباً لصبره. فقلت: ومَن هؤلاء المشايخ؟ فقال: أمّا الأوّل فآدم أبو البشر، وأمّا الثاني فنوح نبيّ الله، وأمّا الثالث فإبراهيم خليل الرحمان، وأمّا الرابع فموسى كليم الله. فقلت: ومَن الخامس الّذي أراه قابضاً على لحيته باكياً حزيناً مِن بينهم؟ فقال لي: يا سكينة، أما تعرفينه؟ فقلت: لا. فقال: هذا جدّكِ رسول الله. فقلت له: إلى أين يريدون؟ فقال: إلى أبيكِ الحسين. فقلت: والله لَألحقنّ جدّي وأُخبرنّه بما جرى علينا. فسبقني ولم ألحقه.

فبينما أنا متفكّرةٌ وإذا بجدّي عليّ بن أبي طالب، وبيده سيفه وهو واقف، فناديتُه: يا جدّاه! قُتل والله ابنُك من بعدك. فبكى، وضمّني إلى صدره وقال: «يا بُنيّة صبراً، وبالله المستعان». ثم إنّه مضى ولم أعلم إلى أين، فبقيت متعجّبةٌ كيف لم أعلم به، فبينما أنا كذلك إذا ببابٍ قد فُتح من السماء، وإذا بالملائكة يصعدون وينزلون على رأس أبي.وفي نقلٍ آخَر أنّ سكينة قالت: ثمّ أقبلتُ على رجلٍ دُرّي اللون قمريّ الوجه حزين القلب، فقلت للوصيف: مَن هذا؟ قال: جدّكِ رسول الله. فدنوتُ منه وقلت له: يا جدّاه، قُتلَت واللهِ رجالنا، وسُفكت والله دماؤنا،

ص: 250

وهُتكت والله حريمنا، وحُملنا على الأقتاب بغير وطاءٍ نُساق إلى يزيد. فأخذني إليه وضمّني إلى صدره، ثمّ أقبل على آدم ونوح وإبراهيم وموسى، ثمّ قال لهم: «ما ترون إلى ما صنعَت أُمّتي بولدي من بعدي؟». ثمّ قال الوصيف: يا سكينة، اخفضي صوتكِ؛ فقد أبكيتِ رسول الله.

ثمّ أخذ الوصيف بيدي وأدخلَني القصر، وإذا بخمس نسوةٍ قد عظّم الله خلقتهنّ وزاد في نورهنّ، وبينهنّ امرأةٌ عظيمة الخلقة، ناشرة شعرها وعليها ثيابٌ سود وبيدها قميصٌ مضمَّخٌ بالدم، وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها، فقلت للوصيف: مَن هؤلاء النسوان اللواتي قد عظّم الله خلقتهن؟ فقال: يا سكينة، هذه حوّاء، وهذه مريم ابنة عِمران، وهذه خديجة بنت خُويلد، وهذه هاجر، وهذه سارة، وهذه الّتي بيدها القميص المضمَّخ بالدم وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها هي جدّتكِ فاطمة الزهراء. فدنوتُ منها وقلت لها: يا جدّتاه، قُتل واللهِ أبي، وأُوتمت على صِغَر سنّي ((1)).

وفي رواية: فوقفتُ بين يديها أبكي وأقول: يا أُمّتاه، جحدوا واللهِ حقّنا، يا أُمّتاه، بدّدوا والله شملنا، يا أُمّتاه، استباحوا والله حريمنا، ياأُمّتاه، قتلوا والله الحسين أبانا. فقالت لي: «كُفّي صوتكِ يا سكينة، فقد قطّعتِ نياط قلبي،

ص: 251


1- المنتخب للطريحي: 2 / 480 المجلس 10.

هذا قميص أبيكِ الحسين علیه السلام لا يفارقني حتّى ألقى الله» ((1)).

وفي رواية: فضمَّتني إلى صدرها وبكت بكاءً شديداً، وبكين النسوة كلّهنّ، وقلن لها: يا فاطمة، يحكم الله بينكِ وبين يزيد يوم فصل القضاء.

ثمّ إنّ يزيد تركها ولم يعبأ بقولها ((2)).

وفي نقلٍ آخر: فلمّا سمع يزيد ذلك لطم على وجهه وبكى، وقال: ما لي ولقتل الحسين؟ ((3))

وفي كتاب (النسب): عن يحيى بن الحسن: قال يزيد لعليّ بن الحسين علیه السلام: وا عجباً لأبيك سمّى عليّاً وعليّاً. فقال علیه السلام: «إنّ أبي أحبّ أباه، فسمّى باسمه مراراً» ((4)).

وفي (تاريخ الطبري) و(البلاذري) أنّ يزيد بن معاوية قال لعليّ بن الحسين: أتصارع هذا؟ يعني خالداً ابنه. قال: «وما تصنع بمصارعتي إيّاه؟ أعطني سكّيناً ثمّ أُقاتله». فقال يزيد: شنشنةٌ أعرفها من أخزم

هذا من العصا عصيّةْ***هل تلد الحيّة إلّا الحيّةْ؟

ص: 252


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 141، اللهوف لابن طاووس: 189.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 481 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 480 المجلس 10.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 130 -- عن: كتاب النسب.

وفي (كتاب الأحمر): قال: أشهد أنّك ابن عليّ بن أبي طالب ((1)).

وفي (الملهوف): ودعا يزيد (عليه لعائن الله) يوماً بعليّ بن الحسين علیه السلام وعمرو بن الحسين علیه السلام ، وكان عمرو صغيراً، يقال: إنّ عمره إحدى عشرة سنة، فقال له: أتصارع هذا؟ يعني ابنه خالداً. فقال له عمرو: لا، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً، ثمّ أُقاتله. فقال يزيد (لعنه الله):

شنشنةٌ أعرفها من أخزم***هل تلد الحيّة إلّا الحيّةْ؟

وقال لعليّ بن الحسين علیه السلام: اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهنّ. فقال له: «الأُولى: أن تُريَني وجه سيّدي ومولاي وأبي الحسين علیه السلام ، فأتزوّد منه [وأنظر إليه وأُودّعه]، والثانية: أن تردّ علينا ما أُخذ منّا، والثالثة: إن كنتَ عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة مَن يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ صلی الله علیه وآله»، فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً، وأمّا قتلك فقد عفوتُ عنك، وأمّا النساء فما يردّهنّ غيرك إلى المدينة، وأمّا ما أُخذ منكم فأنا أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال علیه السلام: «أمّا مالك فلا نريده وهو موفّر عليك، وإنّما طلبتُ

ص: 253


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 131، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 39، تاريخ الطبري: 4 / 353، وفي النسخة المطبوعة من الطبري: (ودعا عمرو بن الحسن بن عليّ وهو غلامٌ صغير، فقال لعمرو بن الحسن ...)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 69 / 177، ترجمة الإمام الحسين علیه السلام من طبقات ابن سعد: 84، أنساب الأشراف للبلاذري: 1 / 420.

ما أُخذ منّا لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد صلی اللهعلیه وآله ومقنعتها وقلادتها وقميصها». فأمر بردّ ذلك، وزاد فيه من عنده مئتَي دينار، فأخذها زين العابدين علیه السلام وفرّقها في الفقراء. ثمّ أمر بردّ الأُسارى وسبايا الحسين علیه السلام إلى أوطانهنّ بمدينة الرسول صلی الله علیه وآله

فأمّا رأس الحسين علیه السلام فرُوي أنّه أُعيد فدُفن بكربلاء مع جسده الشريف علیه السلام ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه ((1)).

قال المؤلّف: إنّما كانت تصدر هذه التصرّفات من يزيد رعايةً لمصالح سلطانه كمواقف سياسيّة، وإلّا فهو راضٍ بقتل سيّد الشهداء، يُبدي الفرح والسرور ويتبادل كأس الخمر فرحاً مع ابن زياد، وقد استدعاه وشكره على فعله وأعطاه أموالاً جزيلةً وتُحفاً كثيرةً من بيت مال المسلمين، وقرّب مجلسه ورفع منزلته وأدخله على نسائه، وجعله نديمه وسكر معه ((2)).

وفي (التبر المذاب): حكم ثلاث سنين.

أوّل سنةٍ: أمر بقتل الحسين علیه السلام لعبيد الله بن زياد (لعنه الله)، وأمره بتجهيز رأسه وحريمه إليه سبايا إلى دمشق، وشرب على رأسه الخمر، ونكت ثناياه بالقضيب، ولم يرعَ له حرمة.

وثاني سنةٍ: سبى المدينة الشريفة النبويّة، وأباحها ثلاثة أيّام ... وسبى

ص: 254


1- اللهوف لابن طاووس: 194.
2- أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 231.

أهلها ونهبها في وقعة الحرّة، وسببه ما رواه الواقديّ وابن إسحاق وهشام بن محمد أنّ جماعةً من أجلّاء أهل المدينة وفدوا على يزيد (لعنه الله) سنة اثنتين وستّين بعد مقتل الحسين علیه السلام ، فرآه يشرب الخمر ويلعب بالطنابير، فلمّا عادوا إلى المدينة أظهروا سبّه ولعنه، وخلعوه وطردوا عامله عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، وقالوا: قدمنا من عند رجلٍ لا دِين له، يسكر ويدَع الصلاة، وبايعوا عبد الله بن حنظلة بن الغيل، وكان ابن حنظلة يقول: يا قوم، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، رجلٌ ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمور، ويقتل أولاد الأنبياء، واللهِ لو لم يكن عندي أحدٌ من الناس لَأبليتُ الله فيه بلاءً حسناً. فبلغ ذلك يزيد، فبعث بمسلم بن عقبة المرّي في جيشٍ كثيفٍ من أهل الشام، فقتل حنطلة والأشراف، وأقام بالمدينة ثلاثة أيّام ينهب المال ويهتك الحرم ((1)).

وذكر المدائني في كتاب (وقعة الحَرّة)، عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا مَن لم يُعرف من حرٍّ وعبدٍ وإمراةٍ فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى بلغ قبر رسول الله صلی الله علیه وآله وامتلأت الروضة الشريفة والمسجد منه ((2)).

ص: 255


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حجرة الرسول صلی الله علیه وآله ومنبره، والسيف يعمل فيهم ((1)).وكانت وقعة الحرّة ثلاث وستّين في ذي الحجّة ((2)).

وذكر المدائني، عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدَت ألفُ امرأةٍ بعد الحرّة من غير زوج، وقال غيره: عشرة آلاف ((3)).

قال الشعبي: وكلّ ذلك برضى يزيد لإرساله الجيش ((4))، وهو دليل الرضى بالفعل، وقد قال عليّ بن أبي طالب علیه السلام: «الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كلّ داخلٍ إثمان: إثم الرضى، وإثم العمل» ((5)).

وفي السنة الثالثة: جهّز جيشاً إلى مكة -- شرفها الله (تعالى) --، حاصرها وهتك حرمتها ... وكان أمير الجيش مسلم بن عقبة، فمات في أثناء الطريق، فاستخلف على الجيش الحُصين بن النمير السكوني، فضرب الكعبة بالمناجنيق وهدمها وحرقها ((6))، وإلى الآن أثر الحريق على حجارتها، وكان

ص: 256


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
5- نهج البلاغة: 449 ح 154.
6- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.

بينها وبين موت يزيد ثلاثة أشهر، ما أمهله، بل أخذه أخذ القرى وهي ظالمة ((1)).

وكان في مدّة حكمه مشغولاً بالغناء والخمرة والنساء والصبيان واللهو واللعب.

وعن محمّد النحويّ أنّه ذكر في (تاريخه) أنّ عبد الرحمان بنبرثن ظلمه عُبيد الله بن زياد، فرحل إلى يزيد بن معاوية يتظلّم إليه، فأقام على بابه حولاً لا يصل إليه، فانصرف راجعاً، قال: فضربتُ مضربي في بعض وادي الشام، فإذا أنا بكلبٍ في طوق ذهب، فدخل المضرب، فإذا رجل على دابّةٍ يركض، فقال لي: هل أحسست كلباً؟ قلت: نعم، قد دخل الخباء. فدخل وأخذه، ثمّ قال: هل عندك ماء؟ فأعطيتُه إناءً فيه ماء، فسقى الكلب، ثمّ غسله سبع غسلات، ثمّ شرب الفضلة، ثمّ قال: ما تصنع هاهنا؟ قلت: ظلمني هذا الفاجر عُبيد الله بن زياد ظلامة، فخرجت إلى هذا الفاسق يزيد أتظلّم إليه، فأقمت على بابه حولاً لا أصل إليه، وها أنذا راجعاً. فقال: هل لك أن تكتب إليه كتاباً، فإنّه لي صديق. فكتب لي كتاباً، فقدمتُ على ابن زياد فدفعت الكتاب إليه، فجعل يقرأه وهو يتبسّم مرّةً ويتغيّر أُخرى، ثمّ قال: أتدري مَن كتب لك الكتاب؟ ذلك أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، أمّا أنّه قد عرّفني أنّك سبّبتَه وسببتَني، وأمرني بردّ ظلامتك، وقد

ص: 257


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 225 وما بعدها.

فعلت ((1)).

وخلاصة القول في كفر هذين الشقيَّين وفسقهما أنّه من الوضوح ما لا يحتاج معه إلى بيان، وهما في مرتبةٍ من العناد والشقاء والغيّ والطغيان ما لا يمكن تصوّر ندمهما على أفعالهم القبيحة، ألا تتصوّر عظيم ما صدر منهما وشنيع ما بدر عنهما؟!

في كتاب (التبر المذاب): قال ابن سيرين: لمّا قُتل الحسين علیه السلام اظلمّت الدنيا ثلاثة أيّام، ثمّ ظهرت هذه الحمرة في الأُفق((2)).

وقال ابن الجوزي: حدّثنا غير واحدٍ عن هلال بن ذكوان قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام مكثنا شهرين كأنّما لُطّخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر إلى غروب الشمس ((3)).

وقال السدّي: ولمّا قُتل الحسين علیه السلام بكت السماء، وبكاؤها حمرتها ((4)).

ص: 258


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 275، وانظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 296، تاريخ الإسلام للذهبي: 6 / 125.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 15.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.
4- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 210، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.

وقال ابن سعد في (الطبقات): ما رُفع حجرٌ إلّا وُجد تحته دمٌ عبيط، ولقد مطرت السماء دماً بقي أثره في الثياب مدّةً حتّى تقطّعت ((1)).

وذكر ابن سعد في (الطبقات): إنّ هذه الحمرة الّتي في السماء لم تُرَ قبل أن يُقتَل الحسين علیه السلام ((2)).

و قال أبو الفرح ابن الجوزيّ في كتاب (التبصرة): لمّا كان الغضبان يحمرّ وجهه عند الغضب فيُستدلّ بذلك على غضبه وأنّهأمارة السخط، فالحقّ (سبحانه) ليس بجسم، فأظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسين علیه السلام بحمرة الأُفق، وذلك دليلٌ على عظم الجناية ((3)).

قال المؤلّف: لا يخفى أنّ هؤلاء الّذين يتكلّمون مثل هذا الكلام هم من أهل السنّة!

ص: 259


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، الطبقات الكبرى لابن سعد: خ 1 / 505، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246، وفي هامش النسخة المخطوطة الأصل: (وفي صواعق ابن حجر أنّه مطر كالدم على البيوت والجُدُر بخراسان والشام والكوفة، وأنّه لمّا جيء برأس الحسين علیه السلام إلى دار ابن زياد سالت حيطانها دماً).
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 245.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.

وذكر أبو الفرج أيضاً في هذا الكتاب: إنّه لمّا أُسر العبّاس بن عبد المطّلب يوم بدر، سمع رسولُ الله صلی الله علیه وآله أنينه، فلم ينم تلك الليلة، فكيف لو سمع أنين الحسين علیه السلام

قال: ولمّا أسلم وحشيّ قاتل حمزة قال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «غيِّبْ وجهك عنّي؛ فإنّي لا أُحبّ مَن قتل الأحبّة» ((1)).

قال: إذا كان هذا حال النبيّ صلی الله علیه وآله وفعله مع وحشيّ والإسلام يجبّ ما قبله ويهدمه، فكيف يقدر الرسول علیه السلام أن يرى من ذبح الحسين علیه السلام وأمر بقتله وحمل بأهله على أقتاب الجمال بغير غطاءٍ ولا وطاء؟! ((2))

وقال إبراهيم النخعي: واللهِ لو كنتُ فيمن قاتل الحسين، وأتتني المغفرة من ربّي وأدخلني الجنّة، لَاستحييتُ أن أمرّ على رسول الله صلی الله علیه وآله فينظر وجهي ((3)).

ص: 260


1- ألا لعنة الله على مَن لا يحبّه حبيب الله الّذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يُوحى.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 245، تهذيب الكمال للمزّي: 25 / 154 -- عن: الترمذي، الإصابة لابن حجر: 2 / 71.

المجلس الرابع عشر : في رجوع أهل البيت من الشام وورودهم إلى مدينة سيّد الأنام

اشارة

روى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخب) قال: فلمّا كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد وعرض عليهم المقام، فأبَين وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل وزيّنها، وأمر بالأنطاع من الإبرسيم وصبّ عليها الأموال، وقال: يا أُمّ كلثوم، خذوا هذا المال عِوَض ما أصابكم. فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً؟! واللهِ لا كان ذلك أبداً ((1)).

وفي (الإرشاد) للمفيد: ثمّ ندب يزيدُ النعمانَ بن بشير وقال له: تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوان إلى المدينة.

ص: 261


1- المنتخب للطريحي: 2 / 483 المجلس 10.

ولمّا أراد أن يجهّزهم دعا عليّ بن الحسين علیه السلام فاستخلاه، ثمّ قال له: لعن الله ابن مرجانة، أَمَ واللهِ لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلةً أبداً إلّا أعطيتُه إيّاها، ولَدفعت الحتف عنه بكلّما استطعت، ولكنّ الله قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنّه كلّ حاجةٍ تكون لك.

وتقدّم بكسوته وكسوة أهله، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسانٌ من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجةٍ لم يحتشم.

فسار معهم في جملة النعمان، ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصّاه يزيد ((1)).

وقال السيّد ابن طاووس: ولمّا رجع نساء الحسين علیه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء. فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ رحمه الله وجماعةً من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله صلی الله علیه وآله قد وردوا لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، فوافوا في وقتٍ واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاماً ((2)).

ص: 262


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 122.
2- اللهوف لابن طاووس: 196.

ورُوي أنّه خرجَت زينب حتّى جاءت عند القبر، فأهوَت إلى جيبها فشقَّته، ونادت بصوتٍ حزينٍ يقرح القلوب: وا أخاه، وا حسيناه، وا حبيب رسول اللّه، يا ابن مكّة ومنى، يا فاطمة الزهراء، يا عليّ المرتضى!وأمّا أُمّ كلثوم، فقد نشرت شعرها، ولطمت خدَّيها، ونادت برفيع صوتها: اَليوم مات جدّي محمّدٌ المصطفى، اليوم مات أبي عليٌّ المرتضى، اليوم حلّ الثكل بالزهراء.

وباقي النساء لاطمات نادبات ناعيات، قائلات: وا محمّداه!

فلمّا رأت سكينة ما حلّ بالنساء، رفعت صوتها تنادي: وا محمّداه، وا جدّاه! ((1)) ...

هنا ذُبح الحسينُ بسيف شمرٍ***هنا قد ترّبوا منه الجبينا

هنا العبّاس في يومٍ عبوسٍ****حيال الماء قد أمسى رهينا

هنا ذبحوا الرضيع بسهم حقدٍ***فما رحموا صغار المرضعينا

هنا علّوا رؤوس بني عليٍّ***وروس بني عقيل العاقلينا ((2))

نُقل عن الملّا أحمد الأردبيليّ أنّه قال: رأيتُ كتاباً في إحدى خزائن الملوك فيه هذا الحديث مكتوباً بماء الذهب:

قال يحيى البرمكي: خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ إلى كربلاء

ص: 263


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 523 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 522.

لزيارة قبر سيّد الشهداء، فنزلنا في التاسع عشر من شهر صفر على مشارف كربلاء على بُعد منزلٍ واحدٍ منها، وكانت معي زوجتي خديجة، فأقمنا خيمةً لخديجة، وكنت أنا وجابر جلوساً نتحدّث أنّنا سندخل كربلاء غداً ونزور سيّدنا ومولانا أبا عبد اللهالحسين ونقيم العزاء عنده، بينا نحن كذلك إذ سمعتُ صوت زوجتي خديجة، فقمت من مكاني وتوجّهت إلى الخيمة، فلمّا وصلت الخيمة رأيت خديجة وهي تبكي بكاءً شديداً، فتقدّمت فرأيتها قد نشرت شعرها وهي تلطم على وجهها ورأسها وتصبّ دمعها كأنّه المطر المنهمر، فقلت لها: ماذا أرى يا خديجة؟ ماذا دهاكِ؟ وممّا بكاؤكِ؟ قالت خديجة: أُجلس، سأُحدّثك بما جرى. فجلست.

فقالت: رأيت الآن فاطمة الزهراء في الرؤيا، وقد لبسَت الثياب السود، ونشرَت شعرها، وحفّت بها أربعةُ آلاف حوريّة، فجاءت حتّى دخلَت كربلاء، فلمّا رأت قبر ولدها الحسين وقعت تنوح وتئنّ وتندب، وهي تقول بزفرةٍ وعويل: «يا نور عينَي الأُمّ، ويا ثمرة قلب الأُمّ، ويا شهيد الأُمّ، ويا غريباً بلا معين، ويا عطشان، يا فريد، فداءً لنحرك المنحور ظلماً وعدواناً، لم ترحمك هذه الأُمّة الغدّارة، ولم ترعَ فيك جدَّك محمّداً المصطفى، ولا أباك عليّاً المرتضى، ولم يرعوا أنين أُمّك فاطمة الزهراء، ولم يخافوا عذاب يوم الجزاء، فقتلوك يا ولدي وقتلوا إخوتك وأبناء إخوتك وأبناءك ظمايا مفتّتي الأكباد، واجتزّوا رأسك وذبحوك كما يُذبَح الكبش، يا ولدي وفلذة كبدي! مَن عزّى أطفالك الصغار من بعدك وواساهم؟ وماذا جرى على أخواتك؟

ص: 264

ولدي، عزيزي! كيف أنظر إلى بدنك المقطَّع إرباً إرباً مرمَّلاً بالدماء؟».

يا يحيى، بعد أن بكت وأعولت، دعت كبيرة الحوريّات، واسمها: طيبة، وقالت: يا طيبة، إذهبي إلى قبر أبي محمّدٍ المصطفى وأخبريه أنّ فاطمة حضرت عند قبر ولدها الحسين، وتريد أن تقيم المأتم غداً في يوم الأربعين، وهي تنتظر حضورك. وقالت لحوريّةٍ أُخرى:إذهبي إلى النجف الأشرف وأخبري أبا الحسين عليّ بن أبي طالب.

فلمّا مضت الحوريّة إلى النجف عادت فاطمة ورمت بنفسها على قبر الحسين، وجعلت تبكي وتنوح، فبينا أنا كذلك وإذا برجلٍ أبيض اللحية وهو في غاية الحزن يُقبل مسرعاً نحونا، ومن ورائه رجلٌ آخر واضعاً يديه على رأسه، وجاء بعده شابٌّ عليه ثياب خضر، فاجتمعوا معاً، فسألتُ حوريّةً: مَن هؤلاء الرجال؟ فقالت الحوريّة: الرجل الّذي يأتي متقدّماً على الجميع هو محمّدٌ المصطفى، والّذي بعده عليّ بن أبي طالب، والشابّ هو الحسن المجتبى. فتقدّم النبيّ إلى فاطمة، فلم تلتفت إليه لشدّة بكائها، فالتفت النبيّ إلى عليّ وقال: «إذهب إلى فاطمة وقُل لها فلْترفع رأسها»، فالتفت الإمام عليّ إلى الحسن فقال له: «يا نور عيني، اذهب إلى أُمّك وقل لها ترفع رأسها من على القبر ولا تبكي وتنوح هكذا»، فأقبل الإمام الحسن إليها وقال: «السلام عليكِ يا أُمّاه، أنا قرّة عينكِ الحسن، يا أُمّاه! أنا ابنك الّذي تقطّع كبدي ثلاثمئة وسبعين قطعة، أُمّاه ارفعي رأسكِ من على قبر أخي»، فرفعَت فاطمة الزهراء رأسها من على القبر، وكان بيدها قارورةٌ

ص: 265

مملوءةٌ ماءً، وقالت: «يا بُنيّ، بنفسي كبدك المقطّع ونحر أخيك المنحور ظلماً»، ثمّ دفعَت إليه القارورة وقالت: «يا بُنيّ، احتفِظ بهذه القارورة، فقد جمعتُ فيها دموع الباكين على أخيك الحسين علیه السلام ».

ثمّ التفت النبيّ إلى ملَكٍ وقال: «إذهب وأحضِر أرواح الرجال والنساء من أُمّتي»، فما مضت إلّا ساعةٌ وإذا بالأنبياء قد حضروا في هالةٍ من نورٍ وضياء، وجاء آخَرون في هوادج، فسألتُ الحوريّة: مَن هؤلاء؟ فقالت: هؤلاء المقبلون في المقدّمة أرواح الأنبياء،والّذين من بعدهم أرواح رجال الأُمّة، والّذين في الهوادج أرواح نساء الأُمّة، جاؤوا هذا اليوم ليقيموا العزاء على الحسين ويسعدوا فاطمة.

ثمّ إنّ النساء نزلن من الهوادج، وأقبلن حتّى وقفن بين يدَي فاطمة وسلّمن عليها، وأحطن القبر واشتغلن بالنياحة والعزاء ((1)).

وفي كتاب (بشارة المصطفى)، مسنداً عن الأعمش، عن عطيّة العوفيّ قال: خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ زائرَين قبر الحسين علیه السلام ، فلمّا وردنا كربلاء دنى جابر من شاطى الفرات فاغتسل، ثمّ ائتزر بإزارٍ وارتدى بآخر [إنّ جابر يعلم أنّ زيارة الإمام المظلوم أفضل من زيارة الكعبة بأضعاف مضاعفة]، ثمّ فتح صرّةً فيها سعدٌ فنثرها على بدنه.

ص: 266


1- مفتاح الجنّة للمقدّس الزنجاني: 218 المجلس 43.

وفي (مصباح الزائر): ثمّ مشى حافياً حتّى وقف عند رأس الحسين ((1)).

مشى في غاية الخضوع والخشوع والتوجّه، لم يلتفت إلى غير الله، وقد وضع نصب عينيه ما ورد في الحديث: «مَن زار الحسين كمن زار الله» ((2))، ورطّب لسانه بذكر الله (تعالى).

وفي (بشارة المصطفى): ثمّ لم يخطُ خطوةً إلّا ذكر الله، حتّى إذا دنى من القبر..

وفي (مصباح الزائر): حتّى وقف عند رأس الحسين علیه السلام، وكبّر ثلاثاً، ثمّ خرّ مغشيّاً عليه.

وفي (بشارة المصطفى): قال: ألمِسْنيه. فألمستُه، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء فأفاق، وقال: يا حسين! ثلاثاً، ثمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه. ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك؟ فأشهد أنّك ابن النبيّين، وابنُ سيّد الوصيّين، وابن حليف التقوى وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، وما لَك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين، ورُبّيت في حِجر المتّقين، ورضعت من ثدي

ص: 267


1- مصباح الزائر: 286، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 329.
2- کامل الزیارات: 147 الباب التاسع والخمسون أنّ مَن زار الحسين؟ع؟ كان كمن زار الله في عرشه وكُتب في أعلى علّيّين.

الإيمان، وفُطمت بالإسلام؟ فطِبت حيّاً وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبةٍ لفراقك، ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيتَ على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا علیه السلام. ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّها الأرواح الّتي حلّت بفناء قبر الحسين علیه السلام وأناخت برحله، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين، والّذي بعث محمّداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطيّة: فقلت لجابر: كيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم وأُرملت الأزواج؟! فقال لي: يا عطيّة، سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: «مَن أحبّ قوماً حُشر معهم، ومَن أحبّ عمل قومٍ أُشرك في عملهم»، والّذي بعث محمّداً بالحقّ، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين علیه السلام وأصحابه، خذوني نحو أبيات كوفان.فلمّا صِرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطيّة، هل أُوصيك؟ وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبّ محبّ آل محمّدٍ على ما أحبّهم، وأبغضهم ببغض آل محمّدٍ ما أبغضهم وإن كان صوّاماً قوّاماً، وارفق بمحبّ آل محمّد، فإنّه إن تزلّ قدمٌ بكثرة ذنوبهم تثبت أُخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم

ص: 268

يعود إلى الجنّة ومبغضهم يعود إلى النار ((1)).

قال المؤلّف: نرجو من الله الكريم الرؤوف الرحيم أن يحيينا على محبّة أهل البيت، ويميتنا على محبّة أهل البيت، وأن لا يفرّق بيننا وبينهم في الدنيا والآخرة طرفة عينٍ أبداً، وأن يوفّقنا وجيمع المحبّين لإقامة العزاء والبكاء، وأن لا يقسّي قلوبنا ولا يرقأ دموعنا في عزائهم دائماً وأبداً، وأن يجعل عقلنا ناعياً على الدوام، حتّى لا نغفل عن مصائبهم ولا نغفل عن النياحة والعويل الّتي أقامتها النساء المفجوعات عند الرجوع من الشامات على قبر سيّد الأنام الّتي أحرقت قلوب العالمين إلى قيام يوم الدين.

قال السيّد ابن طاووس: وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاماً ((2)).

ثم ودّعوا تلك المشاهد والقبور المنوّرة، وكان وداعاً لا يوصف ولا يمكن أن يحرّره بيان.

وفي روايةٍ أنّ فاطمة بنت الحسين احتضنت قبر أبيها وبكت حتّى أُغميَ عليها ((3)).

ص: 269


1- بشارة المصطفى للطبري: 2 / 74.
2- اللهوف لابن طاووس: 196.
3- في (الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 163): (ثمّ أمر عليّ بن الحسين بشدّ رحاله فشدّوها، فصاحت سكينة بالنساء لتوديع قبر أبيها، فدُرن حوله، فحضنَت القبر الشريف وبكت بكاءً شديداً وحنّت وأنّت ...).

ثمّ إنّ المفجوعات والثكلى آيسن من البقاء هناك، فقطعن النظر بالحسرات والآهات، وتوجّهن إلى مدينة الرسول، فما نزلوا منزلاً في الطريق وارتحلوا إلّا بعد أن يسقوا ترابه من دموعهم، وأحرقوا ما ثمّة بزفراتهم وآهاتهم، حتّى نزلوا على مشارف المدينة.

وفي (الملهوف): ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة.

قال بشير بن جذلم: فلمّا قربنا منها نزل عليّ بن الحسين علیه السلام فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: «يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيءٍ منه؟»، فقال: بلى يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّي لَشاعر. فقال علیه السلام: «ادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله علیه السلام ». قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مُقام لكم بها***قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجٌ***والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين علیه السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أُعرّفكم مكانه. قال: فما بقيَت في المدينة مخدّرةٌ ولا محجّبةٌ إلا برزن من خدورهنّ مكشوفةً شعورهنّ مخمشةً وجوههنّ ضارباتٍ خدودهنّيدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً

ص: 270

أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعتُ جاريةً تنوح على الحسين علیه السلام فتقول:

نعى سيّدي ناعٍ نعاه فأوجعا ((1))***وأمرضَني ناعٍ نعاه فأفجعا

فعينَيّ جودا بالدموع وأسكبا***وجودا بدمعٍ بعد دمعكما معا

على مَن دهى عرش الجليل فزعزعا***فأصبح هذا المجد والدين أجدعا

على ابن نبيّ الله وابن وصيّه***وإن كان عنّا شاحط ((2)) الدار أشسعا

ثمّ قالت: أيّها الناعي، جدّدتَ حزننا بأبي عبد الله علیه السلام ، وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل، فمَن أنت رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن جذلم، وجّهَني مولاي عليّ بن الحسين علیه السلام ، وهو نازلٌ في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله علیه السلام ونسائه. قال: فتركوني مكاني وبادروني، فضربتُ فرسي حتّى رجعت إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب الناس حتّى قربت من باب الفسطاط، وكان عليّ بن الحسين علیه السلام داخلاً، فخرج ومعه خرقةٌ يمسح بها دموعه، وخلفه خادمٌ معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العَبرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كلّ ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّةً شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا،

ص: 271


1- في المتن: (فأفجعا).
2- في المتن: (شاخص).

فسكتت فورتهم، فقال:

«الحمد لله ربّ العالمين، [الرحمن الرحيم]، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الّذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقَرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأُمور وفجائع الدهور، وألمِ الفجائع ومضاضة اللواذع ((1))، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله -- وله الحمد -- ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين علیه السلام وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل ((2)) السنان، وهذه الرزية الّتي ليس ((3)) مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله؟ أَم أيّ فؤادٍ لا يحزن من أجله؟ أَم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار، والملائكةُ المقرّبون وأهل السماوات أجمعون. يا أيّها الناس، أيّ قلبٍ لا ينصدع لقتله؟ أَم أيّ فؤادٍ لا يحنّ إليه؟ أَم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة الّتي ثُلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرَّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تركٍ وكابل، مِن غير جرمٍ اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام

ص: 272


1- في المتن: (ومضافية اللّوارع).
2- في المتن: (العالي).
3- في المتن: (لا).

ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلّا اختلاق.

واللهِ لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لَما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون مِن مصيبةٍ ماأعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا، فإنّه عزيزٌ ذو انتقام».

فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان -- وكان زَمِناً -- فاعتذر إليه بما عنده من زمانة رجلَيه، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن فيه، وشكر له، وترحّم على أبيه ((1)).

قال أبو مخنف: فلمّا أشرفوا على المدينة، وكان يوم الجمعة والخاطب يخطب، فتجدّدت الأحزان والمصائب، وشققن الجيوب ولطمن الخدود ونشرن الشعور، فانقلبت المدينة بأهلها، وحلّ فيهم الرجف والزلازل لكثرة النوح والعويل من المهاجرين والأنصار، ولقد كان ذلك اليوم أشدّ من يوم مات فيه رسول الله صلی الله علیه وآله.

قال: وإنّ الوليد بن عُتبة كان على المنبر يخطب، فسمع الصياح، فقال: ما الخبر؟ قيل له: هذا صايح الهاشميّات. فتحادرت دموعه على خدَّيه، ثمّ نزل عن المنبر ((2)).

ص: 273


1- اللهوف لابن طاووس: 197 وما بعدها.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284، وسيلة النجاة: 241.

وفي (المنتخب): وأمّا أُمّ كلثوم فحين توجّهَت إلى المدينة جعلت تبكي وتقول بحزنٍ وبكاءٍ وثبور:

مدينةَ جدّنا لا تقبلينا***فبالحاسرات والأحزان جئنا

ألا فاخبر رسول الله عنّا***بأنّا قد فُجعنا في أخينا ((1))

[وأنّ رجالنا في الطفّ صرعی***بلا روسٍ، وقد ذبحوا البنینا] ((2))[وأنّ رجالنا في الطفّ صرعی بلا روسٍ، وقد ذبحوا البنینا] ((3))

وأخبِرْ جدَّنا أنّا أُسرنا***وبعد الأسر يا جدّا سُبينا

ورهطك يا رسول الله أضحوا***عرايا بالطفوف مسلَّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا***جنابك يا رسول الله فينا

فلو نظرَت عيونُك للأُسارى***على أقتاب جمالٍ تحملينا

رسول الله، بعد الصَّون صارت***عيونُ الناس ناظرةً إلينا

وكنتَ تحوطنا، حتّى تولّت***عيونك صارت الأعدا علينا

أفاطمُ لو نظرتِ إلى السبايا***بناتك في البلاد مشتّتينا

أفاطمُ لو نظرتِ إلى الحيارى***ولو أبصرتِ زين العابدينا

أفاطمُ لا لقيتِ من عداكِ***ولا قيراط ممّا قد لقينا

فلو دامت حياتك لم تزالي***إلى يوم القيامة تندبينا

ص: 274


1- في المتن: (أبينا).
2- لم يذكره المؤلّف.
3- لم يذكره المؤلّف.

وعرّجْ بالبقيع وقِف ونادي:***أين حبيب ربّ العالمينا؟

وقل: يا عمّ يا الحسن الزكيّ**عيال أخيك أضحوا ضائعينا

أيا عمّاه، إنّ أخاك أضحى***بعيداً عنك بالرمضا رهينا

بلا رأسٍ تنوح عليه جهراً***طيور الوحوش الموحّشينا

ولو عاينتَ يا مولاي ساقوا***حريماً لا يجدن لهم معينا

على متن النياق بلا وطاءٍ***وشاهدت العيال مكشَّفينا

مدينة جدّنا لا تقبلينا***فبالحسراتِ والأحزان جئنا

خرجنا منكِ بالأهلين جمعاً***رجعنا لا رجال ولا بنينا

وكنّا بالخروج بجمع شملٍ***رجعنا حاسرين مسلَّبينا

وكنّا في أمان الله جهراً***رجعنا بالقطيعة خائفينا

ومولانا الحسين بنا أنيسٌ**رجعنا والحسين به رهينا

فنحن الضايعات بلا كفيلٍ***ونحن النايحات على أخينا

ونحن السائرات على المطايا***نُشال على الجمال المبغضينا

ونحن بنات يس وطه***ونحن الباكيات على أبينا

ونحن الطاهرات بلا خفاءٍ***ونحن المخلصون المصطفونا

ونحن الصابرات على البلايا***ونحن الصادقون الناصحونا

ألا يا جدّنا قتلوا حسيناً***ولم يرعوا جناب الله فينا

ص: 275

ألا يا جدّنا بلغَت عدانا***مُناها، واشتفى الأعداءُ فينا

لقد هتكوا النساء وحمّلوها***على الأقتاب قهراً أجمعينا

وزينب أخرجوها من خباها***وفاطم والهاً تبدي الأخينا

سكينة تشتكي من حرّ وجدٍ***تنادي: الغوث ربَّ العالمينا

وزين العابدين بقيد ذُلٍّ***وراموا قتله أهل الخؤونا

فبعدهمُ عن الدنيا ترابٌ***فكأس الموت فبها قد سقينا

وهذا قصّتي مع شرح حالي***ألا يا سامعون أبكوا علينا ((1))

قال أبو مخنف: ودخلوا المدينة بالنوح والبكاء والصياح، وعمدوا إلى مسجد رسول الله ((2)).

وفي (المنتخب): أمّا زينب فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: يا جدّاه، إنّي ناعيةٌ إليك أخي الحسين. وهي مع ذلك لا تجفّ لها عَبرةٌ ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى عليّ بن الحسين تجدّد حزنها وزاد وجْدها ((3)).

قال أبو مخنف: فأخذَت أُمّ كلثوم بعضادة الباب، باب رسول الله صلی الله علیه وآله، وقالت: السلام عليك يا جدّاه، إنّي ناعيةٌ إليك بولدك الحسين علیه السلام.

ص: 276


1- المنتخب للطريحي: 2 / 484 المجلس 10.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 93.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 486 المجلس 10.

وجعلت تمرّغ خدّيها على المنبر، والناس يعزّونها، وهي لا ترقى لها عَبرةٌ ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى عليّ بن الحسين علیهما السلام تجدّدت أحزانها ((1)).

وفي بعض كتب المقتل: وخرجت أُمّ سلَمة من الحجرة الطاهرة، وفي إحدى يديها قارورةٌ وقد صارت التربة فيها دماً، وقد أخذت بالأُخرى يد فاطمة العليلة بنت الحسين، فلمّا رأى أهل البيت أُمّ المؤمنين والتربة المنقلبة بالدم تضاعف بكاؤهم، فتعانقوا مع أُمّ المؤمنين، وسألوا عن حال فاطمة العليلة، فعزّتهم أُمّ سلمة وأمرتهمبالصبر ((2)).

[لقاء محمّد ابن الحنفيّة]

في بعض كتب المقاتل أنّه لمّا سمع محمّد ابن الحنفيّة برجوع أهل البيت المفجوعين ونزولهم على مشارف المدينة، ركب جواده حتّى خرج من المدينة، فلم يرَ إلّا أعلاماً سوداً، فقال: ما هذه الأعلام السود؟ واللهِ قتل الحسينَ بنو أُميّة. فصاح صيحةً عظيمة، وخرّ عن جواده إلى الأرض مغشيّاً عليه، فركض الخادم إلى زين العابدين وقال: يا مولاي، أدرِكْ عمّك قبل أن تفارق روحه الدنيا. فخرج الإمام وبيده خرقةً سوداء يمسح بها

ص: 277


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، روضة الشهداء للكاشفي: 392.

دموعه، إلى أن أتى إلى عمّه، فأخذ رأسه ووضعه في حِجره، فلمّا أفاق قال: يا ابن أخي، أين أخي؟ أين قرّة عيني؟ أين نور بصري؟ أين ثمرة فؤادي؟ أين أبوك؟ أين خليفة أبي؟ أين أخي الحسين؟ فقال علي: «يا عمّاه، أتيتك يتيماً» ((1)).

قال أبو مخنف: ثمّ أقبل عليّ بن الحسين علیهما السلام على عمّه محمّد ابن الحنفيّة، وأخبره بما جرى عليهم وكيفيّة قتل أبيه وابن عمّه وأهل بيته وما صنع يزيد، وحدّثه بالحديث من أوّله إلى آخرة، فبكى محمّد ابن الحنفيّة بكاءً شديداً حتّى غُشي عليه، فلمّا أفاق من غشوته قال: يعزّ علَيّ يا أبا عبد الله يا أخي، كيف طلبتَ ناصراً فلم تُنصَر، ومعيناً فلم تعن؟ ثمّ نهض ودخل داره، ولم يخرج إلّا بعدثلاثة أيّام، فلمّا كان في يوم الرابع خرج للناس وهو شاكٍ في سلاحه، واشتمل ببردته واستوى على جواده، وقصد ناحية الجبل، فلم يظهر للناس إلّا عند ظهور المختار ((2)).

[خروج أُمّ لقمان]

وسمعَت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب صراخ زينب وأُمّ كلثوم وباقي النساء، فخرجت تنعي الحسين علیه السلام وهي حاسرة، معها أخواتها أُمّ

ص: 278


1- الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 164.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285.

هاني وأسماء ورملة وزينب، وأنشأت تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ماذا فعلتم وأنتم آخِر الأُممِ

بأهل بيتي وأصحابي ومكرمتي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ

فأقاموا مأتماً عظيماً ثلاثة أيّامٍ بلياليهنّ مع حرم رسول الله ((1)).

[مأتم الرباب]

وفي (الفصول المهمّة): وكان من جملة مَن كان معهم أُمّ سكينة بنت الحسين علیه السلام ، وهي الرباب ابنة امرء القيس، فلمّاوصلت إلى المدينة معهم وأقامت قليلاً خطبها الأشراف من قريش، فقالت: ماكنتُ لأتّخذ حمواً بعد رسول الله صلی الله علیه وآله. وبعده بقيَت سنةً لم يُظلّها سقف بيتٍ إلى أن ماتت (رضي الله تعالى عنها) ((2)).

[مأتم الهاشميّات]

في خبر زرارة، عن الصادق علیه السلام: «ما اختضبَت منّا امرأةٌ ولا

ص: 279


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 224.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839.

ادّهنَت ولا اكتحلت ولا رجّلَت حتّى أتانا رأس عُبيد الله بن زياد، وما زلنا في عَبرةٍ بعده» ((1)).

ورُوي عنه علیه السلام قال: «ما اكتحلَت هاشميّةٌ ولا اختضبَت ولا رُئي في دار هاشميّ دخان خمس حِجج، حتّى قُتل عُبيد الله بن زياد» ((2)).

وعن ابن سعدٍ في (الطبقات) أنّ أُمّ سلَمة زوج النبيّ صلی الله علیه وآله لمّا بلغها قتل الحسين علیه السلام قالت: أو قد فعلوها؟ ملأ الله قلوبهم وبيوتهم وقبورهم ناراً. ثمّ بكت حتّى غُشي عليها ((3)).

وعن الصادق علیه السلام: «وكانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى [يعني العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان]تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبةٍ وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي» ((4)).

للهِ مظلوميّتك يا أبا عبد الله الحسين، ويا أبا الفضل العبّاس.

ذكرتُ حينما بلغت إلى هذا الموضع ما رواه الشيخ المفيد بعد أن ذكر حثّ أبي الفضل العبّاس إخوانه على الجهاد والقتال بين يدَي إمامهم، فتقدّموا ونالوا الشهادة والسعادة، قال: وحملَت الجماعةُ على الحسين علیه السلام

ص: 280


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 81 الباب 26 ح 6، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 207.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: خ 1 / 496.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.

فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة يريد الفرات، وبين يديه العبّاس أخوه [وذلك أنّ العبّاس هو حامل اللواء، ولابدّ أن يتقدّم حامل اللواء في المعركة]، فاعترضَته خيل ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام: «اللّهمّ أظمِئْه»، فغضب الدارمي، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك»، ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رضوان الله عليه)، وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفيّ وحكيم بن الطُّفيل السنبسيّ، بعد أن أُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً ((1)).

وقد أتينا على ذكر ذلك مفصَّلاً فيما مضى، ولكنّ الغرض هوالبكاء والإبكاء، إذ كانت أُمّ أبي الفضل العبّاس تندب في البقيع فيبكي لندبتها أهل المدينة، فأردنا أن يشاركها الشيعة في ندبتها وبكائها، لئلّا يخجلوا غداً يوم القيامة إذا وقفوا بين يدَي النبيّ المختار والإمام حيدر الكرّار، بل يفتخروا بدموعهم في عرصات القيامة.

ص: 281


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 109.

[ما جرى على الرأس المقدّس]

وتذكّرتُ ما رواه صاحب (المناقب): وذكر الإمام أبو العلاء الحافظ بإسناده عن مشايخه، أنّ يزيد بن معاوية حين قدم عليه رأس الحسين علیه السلام بعث إلى المدينة، فأقدم عليه عدّةٌ من موالي بني هاشم، وضمّ إليهم عدّةً من موالي أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومَن بقي من أهله معهم، وجهّزهم بكلّ شيء، ولم يدَع لهم حاجةً بالمدينة إلّا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين علیه السلام إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددتُ أنّه لم يبعث به إليّ. ثمّ أمر عمرو به فدُفن بالبقيع عند قبر أُمّه فاطمة ((1)).

ويؤيّد ذلك ما رُوي في (التبر المذاب): قال الواقدي: ولمّا وصل الرأس والسبايا إلى المدينة الشريفة، لم يبقَ بالمدينة أحد، وخرجوا يضجّون بالبكاء، وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب كاشفةً شعرها تصيح: وا حسيناه، وا إخوتاه، وا أهلاه، وا محمّداه! ثمّ قالت:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم:***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم؟

الأبيات ((2))..

ص: 282


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145 -- عن: صاحب المناقب.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 240، المنتظم: 5 / 342.

وما يحرق الفؤاد أكثر ويثير الزفرة أشدّ ما رُوي في (بحار الأنوار) عن (تاريخ) البلاذريّ، أنّه لمّا وافى رأس الحسين المدينة سُمعَت الواعية من كلّ جانب، فقال مروان بن الحكم:

ضربت دوسر فيهم ضربةً***أثبتت أوتاد مُلكٍ فاستقر

ثمّ أخذ ينكت وجهه بقضيبٍ ويقول:

يا حبّذا بردك في اليدين***ولونك الأحمر في الخدَّين

كأنّه بات بمجسدين***شفيتُ منك النفس يا حسين ((1))

لعنك الله ولعن يزيد وعُبيد الله الطاغي، إذ تتشفّون بقتل سيّد شباب الجنّة، وما الّذي فعله حتّى ينكت الثلاثة ثناياه بالقضيب، ويشمتون به وبما نزل به من مصائب، ويطوفون به في الكوفة والشام والمدينة، ويسلخون رأسه المقدّس كما صرّح به بعض العلماء؟ ((2))

ص: 283


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 124.
2- في كتاب (جواهر الكلام للجواهري: 20 / 93): (ويمكن أن يكون هذا المكان -- يعني مسجد الحنّانة -- موضع دفن الرأس الشريف بعد سلخه، فإنّهم (لعنهم الله تعالى) نقلوه بعد أن سلخوه). ويؤيّد تحقّق هذه المصيبة العظمى أحاديث النبيّ إسماعيل صادق الوعد الّذي سُلخَت فروة رأسه فصبر، ليواسي سيّد الشهداء علیه السلام. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، ولعنة الله على بني أُميّة قاطبة ومَن مكّنهم من رقاب المسلمين.

وقال السيّد ابن طاووس في (اللهوف): وقد وردت أخبارٌ كثيرةٌ في أنّه مدفونٌ عند قبر أمير المؤمنين ((1)).

ودلّت بعض الأخبار أنّ رأسه علیه السلام صُلب بدمشق ثلاثة أيّام، ومكث في خزائن بني أُميّة حتّى ولي سليمان بن عبد الملك، فطلب فجيء به وهو عظيمٌ أبيض، فجعله في سفطٍ وطيّبه وجعل عليه ثوباً، ودفنه في مقابر المسلمين بعد ما صلّى عليه، فلمّا وليَ عمر بن عبد العزيز بعث إلى المكان يطلب منه الرأس، فأُخبر بخبره، فسأل عن الموضع الّذي دُفن فيه، فنبشه وأخذه، والله أعلم ما صنع به. فالظاهر من دينه!!! أنّه بعث إلى كربلاء فدفن مع جسده ((2)).

وعن منصور بن جمهور أنّه دخل خزانة يزيد بن معاوية لمّا فُتحت، وجد به جؤنةً حمراء، فقال لغلامه سليم: احتفظ بهذه الجؤنة، فإنّها كنزٌ من كنوز بني أُميّة. فلمّا فتحها إذا فيها رأس الحسين علیه السلام ، وهو مخضوبٌ بالسواد، فقال لغلامه: ائتني بثوب. فأتاه به، فلفّه ثمّ دفنه بدمشق عند باب الفراديس عند البرج الثالث ممّا يلي المشرق.

وحدّث جماعةٌ من أهل مصر أنّ مشهد الرأس عندهم يسمّونه: مشهد

ص: 284


1- أُنظُر: فرحة الغريّ لابن طاووس: 57 و97، كامل الزيارات لابن قولويه: 37 الباب 9 ح 10، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145.

الكريم، عليه من الذهب شيءٌ كثير، يقصدونه في المواسم ويزورونه ويزعمون أنّه مدفونٌ هناك.

والّذي عليه المعوَّل من الأقوال أنّه أُعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودُفن معه ((1)).

[مع النعمان بن بشير]

لمّا وصل أهل البيت إلى المدينة واستقرّوا في بيوتهم يقيمون العزاء ويبكون ويندبون، فبلغهم أنّ النعمان بن بشير عازمٌ على الرجوع إلى أهله ودياره.

قال في (أخبار الدول): فقالت فاطمة لأُختها زينب بنت عليّ: لقد أحسن هذا الرجل -- يعني النعمان -- إلينا، فهل لكِ أن تصليه بشيء؟ ((2))

وفي (الفصول المهمّة): فقالت: واللهِ ما معنا ما نصله به إلّا ما كان من هذه الحُليّ. فقالت: فافعلي. فأخرجَت له سوارين ودملجين، وبعثتا بهما إليه ((3)).

وفي رواية: أعطوه المال والثياب، وقلن: خُذ هذا المال والثياب، ولو كنّا

ص: 285


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 144.
2- أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.

نملك أضعاف ذلك لَرفدناك به ((1)).وفي (الفصول المهمّة): فردّهما [النعمان] وقال: لو كان الّذي صنعتُه رغبةً للدنيا لَكان في هذا مقنعٌ بزيادةٍ كثيرة، ولكنّي واللهِ ما فعلتُه إلّا لله (تعالى) ولقرابتكم من رسول الله ((2)).

قال المؤلّف: ماذا جرى على أُولئك المفجوعين الملوّعين لمّا دخلوا دار الرسول ووجدوها مقفرة الطلول، خاليةً من سكانها، حاكيةً أحزانها، وقد غشيها القدر النازل وساورها الخطب الهائل، وبكت أبوابها وجدرانها لفقدها أُناساً كانت تأنس بهم في الخلوات وتسمع تهجّدهم في الصلوات..

ولله درّ مَن قال:

مررتُ على دار النبيّ محمّدٍ***فألقيتها قد أقفرت عرصاتها

وأمست خلاءً من تلاوة قارئٍ***وعُطّل منها صومها وصلاتها

وکانت ملاذاً للأنام وجُنّةً***من الخطب، يغني المنفقين صلاتها

فأفنت من السادات من آل هاشمٍ***ولم يجتمع بعد الحسين شتاتها

فعيني لقتل السبط عبرى ولوعتي***على فقدهم ما تنق-ضي زفراتُها

ص: 286


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، وانظر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 226.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.

فيا کبدي، کم تصبرين على الأذى؟***أما آن تفنى إذاً حسراتها؟ ((1))فيا کبدي، کم تصبرين على الأذى؟

أما آن تفنى إذاً حسراتها؟ ((2))

اللّهمّ عجّل فرج مولانا صاحب الزمان، بمحمّدٍ وآله.

[حزن الإمام السجّاد]

أمّا الإمام السجّاد علیه السلام ، فلم تنقطع له عَبرةٌ ولم تهدأ له زفرة، ففي (المنتخب): حُكي عن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّه منذ وفاة أبيه الحسين ما أكل لحم الرؤوس؛ حزناً على رأس أبيه، وكان عمره يومئذٍ أحد عشر سنة، ولم يزل يبكي على مصاب أبيه أربعين سنة، وهو مع ذلك صائمٌ نهاره قائمٌ ليله، فإذا أُحضر الطعام لإفطاره قال: «وا كرباه لكربك يا أباه! وا أسفاه لقتلك يا أباه!»، ثمّ يبكي طويلاً وهو يقول: «قُتل ابن بنت رسول الله جائعاً، قُتل ابن بنت رسول الله عطشاناً، وأنا آكل الزاد وأشرب الماء، لا هنّاني الأكل والشرب، يعزّ عليك يا أبي، ليتني لم أرَ مصرعك»، ولم يزل يبكي حتّى تبلّ الدموع وجهه ولحيته ويُغشى عليه، فإذا أفاق أكل قليلاً وحمد الله كثيراً، وقام إلى عبادة ربّه وأصبح صائماً، ولم يزل هكذا حتّى مات ((3)).

وفي (البحار): إنّه بكى حتّى خيف على عينيه، و كان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك، فقال: «وكيف لا أبكي

ص: 287


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 531.
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 531.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 308 المجلس 4.

وقد مُنع أبي من الماء الّذي كان مطلقاً للسباعوالوحوش؟» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة): أشرف مولىً لعليّ بن الحسين؟ع؟ وهو في سقيفةٍ له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فرفع رأسه إليه وقال: «ويلك -- أو: ثكلتك أُمّك --، واللهِ لقد شكا يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتّى قال: يا أسفى على يوسف، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يُذبحون حولي» ((2)).

وفي كتاب (الملهوف): وحدّث مولىً له أنّه برز يوماً إلى الصحراء، قال: فتبعتُه، فوجدته قد سجد على حجارةٍ خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرّةٍ يقول: «لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً، لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً»، ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيّدي، أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ؟! فقال لي: «ويحك! إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ، له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ وذهب بصره من البكاء، وابنه حيٌّ في دار الدنيا، وأنا رأيتُ أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟» ((3)).

ص: 288


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 108.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 107 الباب 35 ح 2.
3- اللهوف لابن طاووس: 209، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 149.

اللّهمّ العن ظالمهيم وخاذليهم، وعذّبهم عذاباً أليماً.

قال المؤلّف: أي والله، كيف ينقضي حزن الإمام ولا زال أُولئكالأشرار يؤذونه ويُنزلون به ما ينزلون من عظائم الأُمور بعد قتل أبيه سيّد الشهداء؟

ففي (الكافي)، عن الإمام الباقر علیه السلام: «إنّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحجّ، فبعث إلى رجلٍ من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقرّ لي أنّك عبدٌ لي، إن شئتَ بعتُك ((1)) وإن شئتَ استرقيتك؟ فقال له الرجل: واللهِ يا يزيد ما أنت بأكرم منّي في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهليّة والإسلام، وما أنت بأفضل منّي في الدِّين ولا بخير منّي، فكيف أقرّ لك بما سألت؟! فقال له يزيد: إن لم تقرّ لي واللهِ قتلتك. فقال له الرجل: ليس قتلك إيّاي بأعظم من قتلك الحسين بن علي علیه السلام ابن رسول الله صلی الله علیه وآله. فأمر به فقُتل. ثمّ أرسل إلى عليّ بن الحسين علیه السلام فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: أرأيتَ إن لم أقرّ لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد (لعنه الله): بلى. فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: قد أقررتُ لك بما سألت، أنا عبدٌ مكرَه، فإن شئت فأمسِكْ وإن شئت فبعْ. فقال له يزيد (لعنه الله): أَولى لك، حقنت دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك» ((2)).

وما أحسن ما قال في (الفصول المهمّة)، قال: حكى الشّيخ نصر الله

ص: 289


1- في المتن: (قتلتك).
2- الكافي للكليني: 8 / 235 ح 313.

-- وكان من الثقات -- قال: رأيتُ في المنام عليّ بن أبي طالبعلیه السلام ، فقلت: يا أمير المؤمنين، تقولون يوم فتح مكّة: مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمّ على ولدك الحسين علیه السلام في يوم كربلاء منهم ما يتمّ؟ فقال لي: «أما سمعتَ أبيات ابن الصيفيّ (التميمي) في هذا المعنى؟»، فقلت: لا. قال: «اذهب إليه واسمعها منه». فاستيقظت من نومي متفكّراً، ثمّ إنّي ذهبت إلى دار ابن الصيفي الملقّب بشهاب الدين، فطرقت عليه الباب فخرج، فقصصت عليه الرؤيا، (فشهق) وأجهش بالبكاء، وحلف بالله (تعالى) إن كان سمعها منّي أحد، وإن أكن نظمتُها إلّا في ليلتي هذه، ثمّ أنشدني:

ملكنا، فكان العفو منّا سجيّةً***فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ

وحلّلتمُ قتل الأُسارى، وطالما***غدونا على الأسرى نعّف ونصفحُ

وحسبُكمُ هذا التفاوت بيننا***وكلُّ إناءٍ بالّذي فيه ينضحُ ((1))

قال المؤلّف: لقد اشتدّ ظلم الكفرة الجائرين على سادات العالمين، بل على الشيعة أجمعين، حتّى لا يكاد القلم يقوى على تحريره وبيانه، بحيث لم يجرؤ الشيعة على لعن ظالمي آل محمّدٍ ولو تلويحاً.

وفي كتاب (المنتخب): روى بشّار بن عبد الله قال: دخلتُ على مولاي الصادق علیه السلام وهو يومئذٍ مُقيمٌ بالكوفة، فرأيت قدّامه طبقاً فيه رطب وهو يأكل منه، فقال لي: «يا بشّار، ادنُ فكُلْ معي من هذا الرطب»، فقلت: هنّاك

ص: 290


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 842، وفَيات الأعيان: 2 / 364.

الله به وجعلني فداك. فقال لي: «لِمَ لا تأكُل؟»، فقلت: إنّي فيهمٍّ عظيمٍ من شيءٍ رأيتُه الآن في طريقي هذا، قد أوجع قلبي وأهاج حزني. فقال لي: «بحقّي عليك إلاّ ما أخبرتَني بما رأيت»، فقلت: يا مولاي، رأيتُ ظالماً يضرب امرأةً ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي: المُستغاث بالله وبرسول الله. ولم يغثها أحدٌ من الناس. فقال: «ولِمَ فُعل بها ذلك؟»، فقلت: سمعتُ من الناس يقولون: إنّها عثرت بحجرٍ وهي تمشي، فقالت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء. فسمعها هذا الجلواز فصنع بها ما سمعت. قال: فقطع الصادق علیه السلام أكله وتظاهر حزنه، ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته، وقال لي: «نغّصتَ علَيّ يا بشّار، قُم بنا إلى مسجد سهيل؛ لندعوا الله عزوجل ونسأله خلاص هذه المرأة». قال: ووجّه بعض أصحابه إلى باب السلطان وقال له: «لا تبرحْ حتّى تأتيني بالخبر الصحيح، فإن حدث في المرأة حدَثٌ سِرْ إلينا حيث كُنّا». فسرنا إلى مسجد السهلة، وصلّى كلٌّ منّا ركعتين لله عزوجل، ثمّ رفع الصادق علیه السلام يديه بالدعاء وابتهل إلى الله (تعالى) بالثناء، ثمّ خرّ ساجداً لله ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال: «الحمد لله، قُم يا بشّار، أُطلقَت المرأة». فبينما نحن على الطريق إذ أتانا الرجل الّذي وجّهه الصادق إلى باب السلطان، فقال له: «ما الخبر؟»، فقال: أُطلقَت المرأة. فقال: «كيف كان إطلاقها؟»، قال: كنتُ واقفاً عند باب السلطان، إذ خرج الحاجب فدعا المرأة وقال لها: ما الّذي تكلّمتِ به؟ قالت: عثرتُ بحجرٍ فقلت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء، ففُعل بي ما ترون. قال: فناولها مئتي درهمٍ وقال: خُذي هذا المال، واجعلي السلطان في

ص: 291

حِلّ. فأبَتْ أن تأخذها، وانصرفَت إلى منزلها، فقال الصادق علیه السلام: «أبت أن تأخذها وهي والله محتاجةٌ إليها». ثمّ إنّه علیه السلام أخرج من جيبه صُرّةً فيها سبعة دنانير لم يكن عندهغيرها، وقال لي: «اذهب أنت يا بشّار إلى منزلها، واقرأها عنّي السلام، وادفع إليها هذه الدنانير». فقال: فمضيت إليها، وأقرأتها منه السلام، فقالت: باللهِ عليك، أقرأَني مولاي الصادق السلام؟! فقلت: أي والله. فخرّت ساجدةً لله ساعة، ورفعَت رأسها وقالت: أقرأَني مولاي السلام؟ فقلت: نعم. فسجدت لله شكراً، حتّى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقلت لها: يا أَمة الله، خُذي ما أرسله إليكِ سيّدي، وأبشِري بالجنّة. فأخذَت، واستبشرت، وشكرته على ذلك، وقالت: يا بشّار، اسأله أن يستوهب أَمة الله من الله (تعالى). قال: فرجعتُ إليه وحدّثتُه بما جرى، فجعل يبكي ويقول: «غفر الله لها» ((1)).

ص: 292


1- المنتخب للطريحي: 1 / 44 المجلس 3 الباب 1.

تنبيهات

الأوّل:

من محاسن أخلاق الإمام سيّد الساجدين أنّه كانت له ناقةٌ قد حجّ عليها اثنتين وعشرين حجّة، ما قرعها بمقرعةٍ قطّ ((1)).

وفي (بصائر الدرجات): عن الإمام الصادق علیه السلام: «لمّا كان الليلة الّتي وُعدها عليّ بن الحسين، قال لمحمّد: يا بُنيّ، أبغي وضوءاً. قال: فقمتُ فجئت بوضوء، قال: لا ينبغي هذه؛ فإنّ فيه شيئاً ميتاً. قال: فخرجتُ فجئت بالمصباح، فإذا فيه فأرة ميتة، فجئته بوضوءٍ غيره، قال: فقال: يا بُنيّ، هذه الليلة الّتي وُعدتها. فأوصى بناقته أن يُحضر لها عصام، ويقام لها علف، فجعلت فيه، فلم نلبث أن خرجت حتّى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتاها فقال: مَهْ، الآن قومي، بارك الله فيكِ. فسارت ودخلت موضعها، فلم نلبث أن خرجَت حتّى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأُتي محمّد بن عليّ فقيل له: إنّ الناقة قد خرجت فلم تفعل. قال: دعوها؛ فإنّها مودعة. فلم تلبث إلّا ثلاثة حتّى نفقت، وإن كان لَيخرج عليها إلى مكّة فيتعلّق السوط بالرحل، فما يقرعها قرعةً

ص: 293


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 147.

حتّى يدخل المدينة» ((1)).

وفي كتاب (البحار): وتلكّأت عليه ناقته بين جبال رضوى، فأناخها، ثمّ أراها السوط والقضيب، ثمّ قال: «لَتنطلقنّ أو لَأفعلنّ؟»، فانطلقت وما تلكّأَت بعدها ((2)).

وفي (البحار) أيضاً، مسنداً عن يونس بن يعقوب، عن الصادق علیه السلام قال: «قال عليّ بن الحسين علیه السلام لابنه محمّد علیه السلام حين حضرَته الوفاة: إنّني قد حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجّة، فلم أقرعها بسوطٍ قرعة، فإذا نفقَت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: ما مِن بعيرٍ يُوقَف عليه موقف عرفة سبع حِججٍ إلّا جعله الله من نَعَم الجنّة، وبارك في نسله. فلما نفقَت حفر لها أبو جعفر علیه السلام ودفنها» ((3)).

وقد تذكّرتُ في هذا المقام حديثاً يثير الزفرة ويستدرّ العَبرة، فقد رُوي في بعض الكتب أنّ رسول الله كان يخطب ويعظ الناس ويحثّهم على الصدقة، فجاء أعرابيٌّ ومعه ناقة، فقال: يا رسول الله، أُريد أن أتصدّق بهذه الناقة في سبيل الله. فدعا له النبيّ، وأمر أن تُقيَّم الناقة، فدفع ثمنها وأخذها، ثمّ إنّه خرج عليها مرّةً إلى الجهاد، فلمّا رجع عقلها ودخل البيت، ثمّ خرج في الليل

ص: 294


1- بصائر الدرجات للصفّار: 483 الباب 9 ح 11.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 44 ح 42.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 70 ح 46.

وإذا بالناقة تنادي: السلام عليك يا زين القيامة. فردّ عليها النبيّالسلام بأحسن ردّ، وقالت له يوماً: يا رسول الله، كنتُ أنا ناقةً عند رجلٍ كافر، فخرجتُ ليلةً أرعى في الصحراء، فأحاطت بي الوحوش المفترسة وأرادت أن تهجم علَيّ، فقال ذئب: لا تؤذوا هذه الناقة، فإنّها ستكون مركباً لزين القيامة وأفضل الخلائق محمّدٍ المصطفى. ثمّ قالت: يا رسول الله، عندي إليك حاجتين، الأُولى: أن أكون مركبك يوم القيامة كما كنت لك في الدنيا، والأُخرى: لا أُريد أن أبقى بعدك فيركبني غيرك. فدعا النبيّ، وأمّنَت السيّدة فاطمة الزهراء على دعائه، فلمّا مضى النبيّ وانتقل إلى الرفيق الأعلى، امتنعت الناقة عن الأكل والشرب، وكانت فاطمة الزهراء تتعهّدها، فجاءتها يوماً، فلمّا رأتها الناقة مقبلةً قالت: السلام عليكِ يا بنت زين القيامة، لا ينبغي لي أن آكل أو أشرب؛ فقد رحل أبوكِ وحان لي أن أرحل، فهل عندكِ من كلامٍ أُوصله له؟ فدنت منها الزهراء، فرأتها دامعة العين، فاحتضنتها وبكت، فماتت الناقة بين يدَي الزهراء ((1)).

لمّا ذكرتُ رأفة الأُمّ فاطمة الزهراء ورأفة ابنها الإمام السجّاد بالناقتين، تذكّرتُ ناقة صالح، المعجزة الإلهيّة الّتي جاء بها إلى قومه، وأوصاهم أن لا يمسّوها بسوءٍ ولا يتعرضوا لشربها، فقال الله (تعالى): «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا *

ص: 295


1- أُنظُر: تحفة المجالس: 27 المعجزة 36.

إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا» ((1)).معاشرَ الشيعة، لا تغفلوا عن حديث النبيّ إذ قال: «يقع في أُمّتي كلُّ ما وقع في الأُمم السابقة، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة» ((2)).

وقد رُوي عن رسول الله أنّه قال لعليّ بن أبي طالب علیه السلام: «مَن أشقى الأوّلين؟»، قال: «عاقر الناقة»، قال: «صدقت، فمن أشقى الآخرين؟»، قال: «قلت: لا أعلم يا رسول الله»، قال: «الّذي يضربك على هذه»، وأشار إلى يافوخه ((3)).

وتذكّروا ما رُوي في (الكنز) و(تأويل الآيات الظاهرة)، عن الفضل بن العبّاس، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنّه قال: ««وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» ((4))، الشمس: أمير المؤمنين؟ع؟، وضحاها: قيام القائمد علیه السلام ، «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا» ((5)): الحسن والحسين؟عهما؟، «وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا» ((6)): هو قيام

ص: 296


1- سورة الشمس: 11 -- 15.
2- أُنظُر: تفسير الإمام العسكري علیه السلام: 482، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 203، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 77، تفسير العيّاشي: 1 / 303، عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 201.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 11 / 376.
4- سورة الشمس: 1.
5- سورة الشمس: 2.
6- سورة الشمس: 3.

القائم علیه السلام ، «وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا» ((1)): حبتر ودلام، غشيا عليه الحقّ، وأمّا قوله: «وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا» ((2))، قال: هو محمّد صلی الله علیه وآله، هو السماء الّذي يسمو إليه الخلق في العلم، وقوله: «وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا» ((3))، قال: الأرضالشيعة، «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا» ((4))، قال: هو المؤمن المستور وهو على الحقّ، وقوله: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» ((5))، قال: معرفة الحقّ من الباطل، «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا» ((6))، قال: قد أفلحت نفسٌ زكّاها الله عزوجل، «وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» ((7))، وقوله: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا» ((8))، قال: ثمود رهطٌ من الشيعة، فإنّ الله (سبحانه) يقول: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ» ((9))، فهو السيف إذا قام القائم علیه السلام ، وقوله (تعالى): «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ»، هو

ص: 297


1- سورة الشمس: 4.
2- سورة الشمس: 5.
3- سورة الشمس: 6.
4- سورة الشمس: 7.
5- سورة الشمس: 8.
6- سورة الشمس: 9.
7- سورة الشمس: 10.
8- سورة الشمس: 11.
9- سورة فُصّلت: 17.

النبي صلی الله علیه وآله، «نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا» ((1))، قال: الناقة الإمام الّذي فهّمهم عن الله، وسقياها: أي عنده مستقى العلم، «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا» ((2))، قال: في الرجعة، «وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا» ((3))، قال: لا يخاف من مثلها إذا رجع» ((4)).

إذا فهمت هذا الحديث تعرف أنّ المراد برسول الله في الباطنهو النبي صلی الله علیه وآله، وناقة الله هو الإمام، وقد أوصى النبيّ برعاية حقّ الإمام، وأن لا يُمنَع من الماء، وأن لا يُعقَر ولا يُقتَل، فخالفت الأُمّة وضربوا ناقة الله الأوّل على رأسه، وسمّوا ناقة الله الثاني، وقتلوا ناقة الله الثالث ظمآناً ومنعوا عنه الماء، ولهذا ذكر الإمام فصيل ناقة صالح لمّا قتلوا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر) عطشاناً، ورموه بسهمٍ فذبحه من الوريد إلى الوريد.

وفيما فعلَته الصدّيقة فاطمة الزهراء من العطف والرأفة مع ناقة النبيّ واحتضانها، وما فعله الإمام السجّاد مع ناقته والوصيّة بها، وعدم صبر الناقتين بعد رحيل النبيّ والإمام، نكاتٌ عديدةٌ لا تخفى على أُولي الألباب والأفئدة.

ص: 298


1- سورة الشمس: 13.
2- سورة الشمس: 14.
3- سورة الشمس: 15.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 72.

معاشرَ الشيعة، تحتضن فاطمة الزهراء رأس الناقة برأفةٍ وعطفٍ في وقت الاحتضار، وتقتل هذه الأُمّة ولدها الحسين، وتجعله غرضاً لأربعة آلاف سهمٍ ومئةٍ وثمانين طعنة رمحٍ وضربة سيف!

ويدفن الإمام الباقر ناقة السجّاد تنفيذاً لوصيّة أبيه، ويترك الأجلاف الجفاة بدن عزيز الزهراء على الرمضاء بلا دفن!

يا لها من مصيبةٍ تحرق القلوب وتفتّت الأكباد!

الثاني:

روى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، مسنداً عن الزهريّ قال: كنتُ عند عليّ بن الحسين علیه السلام ، فجاءه رجلٌ من أصحابه، فقال له عليّ ابن الحسين علیه السلام: «ما خبرك أيّها الرجل؟»، فقال الرجل: خبري يا ابن رسول الله أنّي أصبحتوعلَيّ أربعمئة دينار دَينٍ لا قضاء عندي لها، ولي عيالٌ ثقالٌ ليس لي ما أعود عليهم به. قال: فبكى عليّ بن الحسين علیه السلام بكاءً شديداً، فقلت له: ما يبكيك يا ابن رسول الله؟ فقال: «وهل يعدّ البكاء إلّا للمصائب والمحن الكبار؟»، قالوا: كذلك يا ابن رسول الله. قال: «فأيّة محنةٍ ومصيبةٍ أعظم على حرٍّ مؤمنٍ من أن يرى بأخيه المؤمن خلّةً فلا يمكنه سدّها، ويشاهده على فاقةٍ فلا يطيق رفعها؟».

قال: فتفرّقوا عن مجلسهم ذلك، فقال بعض المخالفين وهو يطعن على عليّ بن الحسين: عجباً لهؤلاء، يدّعون مرّةً أنّ السماء والأرض وكلّ شيءٍ

ص: 299

يطيعهم، وأنّ الله لا يردّهم عن شيءٍ من طلباتهم، ثمّ يعترفون أُخرى بالعجز عن إصلاح خواصّ إخوانهم. فاتّصل ذلك بالرجل صاحب القصّة، فجاء إلى عليّ بن الحسين علیه السلام فقال له: يا ابن رسول الله، بلغني عن فلانٍ كذا وكذا، وكان ذلك أغلظ علَيّ من محنتي.

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «فقد أذن الله في فرجك، يا فلانة احملي سحوري وفطوري»، فحملَت قرصتين، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام للرجل: «خُذهما، فليس عندنا غيرهما، فإنّ الله يكشف عنك بهما وينيلك خيراً واسعاً منهما».

فأخذهما الرجل، ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما، يتفكّر في ثقل دينه وسوء حال عياله، ويوسوس إليه الشيطان: أين مواقع هاتين من حاجتك؟ فمرّ بسمّاكٍ قد بارت عليه سمكته قد أراحت، فقال له: سمكتك هذه بائرةٌ عليك، وإحدى قرصتَيّ هاتين بائرةٌ علَيّ،فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة وتأخذ قرصتي هذه البائرة؟ فقال: نعم. فأعطاه السمكة وأخذ القرصة، ثمّ مرّ برجلٍ معه ملحٌ قليلٌ مزهودٌ فيه، فقال له: هل لك أن تعطيني ملحك هذا المزهود فيه بقرصتي هذه المزهود فيها؟ قال: نعم. ففعل، فجاء الرجل بالسمكة والملح، فقال: أُصلح هذا بهذا.

فلمّا شقّ بطن السمكة وجد فيه لؤلؤتين فاخرتين، فحمد الله عليهما.

فبينما هو في سروره ذلك إذ قُرع بابه، فخرج ينظر مَن بالباب، فإذا صاحب السمكة وصاحب الملح قد جاءا، يقول كلّ واحدٍ منهما له: يا عبد الله، جهدنا أن نأكل نحن أو أحدٌ من عيالنا هذا القرص، فلم تعمل فيه

ص: 300

أسناننا، وما نظنّك إلّا وقد تناهيت في سوء الحال ومرنت على الشقاء، قد رددنا إليك هذا الخبز وطيّبنا لك ما أخذتَه منّا. فأخذ القرصتين منهما.

فلمّا استقرّ بعد انصرافهما عنه قُرع بابه، فإذا رسول عليّ بن الحسين علیه السلام فدخل، فقال: إنّه يقول لك: «إنّ الله قد أتاك بالفرج، فاردد إلينا طعامنا، فإنّه لا يأكله غيرنا».

وباع الرجل اللؤلؤتين بمالٍ عظيم، قضى منه دَينه، وحسنت بعد ذلك حاله، فقال بعض المخالفين: ما أشدّ هذا التفاوت، بينا عليّ بن الحسين علیه السلام لا يقدر أن يسدّ منه فاقةً إذ أغناه هذا الغناء العظيم، كيف يكون هذا؟ وكيف يعجز عن سدّ الفاقة مَن يقدر على هذا الغناء العظيم؟ فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «هكذا قالت قريش للنبيّ صلی الله علیه وآله: كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكّة ويرجع إليهافي ليلةٍ واحدةٍ مَن لا يقدر أن يبلغ من مكّة إلى المدينة إلّا في اثني عشر يوماً. وذلك حين هاجر منها». ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «جهلوا واللهِ أمر الله وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تُنال إلّا بالتسليم لله (جلّ ثناؤه)، وترك الاقتراح عليه، والرضى بما يدبّرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله؟عز؟ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلّا ما يريده لهم» ((1)).

ص: 301


1- الأمالي للصدوق: 453 المجلس 99 ح 3.

وصلّى الله على محمّدٍ وآله، وحسبنا الله ونعم الوکيل.

الثالث:

في كتاب (المنتخب) أنّ رجلاً مؤمناً من أكابر بلاد بلخ كان يحجّ بيت الله الحرام ويزور قبر النبيّ في أكثر الأعوام، وكان يأتي عليَّ بن الحسين فيزوره، ويحمل إليه الهدايا والتحف، ويأخذ مصالح دينه منه، ثمّ يرجع إلى بلاده.

فقالت له زوجته: أراك تهدي تحفاً كثيرة، ولا أراه يجازيك عنها بشيء! فقال: إنّ الرجل الّذي نهدي إليه هدايانا هو ملك الدنيا والآخرة، وجميع ما في أيدي الناس تحت مُلكه؛ لأنّه خليفة الله في أرضه وحجّته على عباده، وهو ابن رسول الله، وهو إمامنا ومولانا ومقتدانا. فلمّا سمعت ذلك منه أمسكَت عن ملامته.

قال: ثمّ إنّ الرجل تهيّأ للحجّ مرّةً أُخرى في السنة القابلة، وقصدعليّ ابن الحسين، فاستأذن له فدخل، فسلّم عليه وقبّل يديه، ووجد بين يديه طعاماً، فقرّبه إليه وأمره بالأكل معه، فأكل الرجل حسب كفايته، ثمّ استدعى بطشتٍ وإبريقٍ فيه ماء، فقام الرجل فأخذ الإبريق وصبّ الماء على يدَي الإمام، فقال الإمام: «يا شيخ، أنت ضيفنا، فكيف تصبّ على يدَي الماء؟»، فقال: إنّي أُحبّ ذلك. فقام الإمام علیه السلام: «حيث أنّك أحببت ذلك، فوالله لَأُريك ما تحبّ وترضى به وتقرّ به عيناك». فصبّ الرجل الماء

ص: 302

على يديه حتّى امتلأَت ثلث الطشت، فقال الإمام للرجل: «ما هذا؟»، قال: ماء. فقال الإمام: «بل هو ياقوتٌ أحمر». فنظر الرجل إليه، فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر بإذن الله (تعالى). ثمّ قال الإمام علیه السلام: «يا رجل، صبّ الماء أيضاً»، فصبّ الماء على يدَي الإمام مرّةً أُخرى حتّى امتلأ ثُلثَي الطشت، فقال له: «ما هذا؟»، قال: هذا ماء. فقال الإمام: «بل هذا زمرّدٌ أخضر». فنظر الرجل إليه، فإذا هو زمرّدٌ أخضر. ثمّ قال الإمام أيضاً: «صبّ الماء يا رجل»، فصبّ الماء على يدَي الإمام حتّى امتلأ الطشت، فقال للرجل: «ما هذا؟»، فقال: ماء. قال: «بل هذا دُرٌّ أبيض». فنظر الرجل إليه، فإذا هو درٌّ أبيضٌ بإذن الله (تعالى)، وصار الطشت ملآناً من ثلاثة ألوان: درّ، وياقوت، وزمرّد.

فتعجّب الرجل غاية العجب، وانكبّ على يدَي الإمام يقبّلهما، فقال له: «يا شيخ، لم يكن عندنا شيءٌ نكافيك على هداياك إلينا، فخُذ هذه الجواهر، فإنّها عوض هديّتك، واعتذر لنا عند زوجتك؛ لأنّها عتبت علينا». فأطرق الرجل رأسه خجلاً، وقال: يا سيّدي، مَن أنبأك بكلام زوجتي؟ فلا شكّ أنّك من بيت النبوّة.

ثمّ إنّ الرجل ودّع الإمام، وأخذ الجواهر وسار بها إلى زوجته،وحدّثها بالقصّة، قالت: ومَن أعلمه بما قلت؟ فقال: ألم أقل لكِ إنّه مِن بيت العلم والآيات الباهرات؟ فسجدَت لله شكراً، وأقسمَت على بعلها بالله العظيم أن يحملها معه إلى زيارته والنظر إلى طلعته، فلمّا تجهّز بعلها للحجّ في السنة

ص: 303

القابلة أخذها معه، فمرضت المرأة في الطريق وماتت قريباً من مدينة الرسول، فجاء الرجل إلى الإمام باكياً حزيناً، وأخبره بموت زوجته، وأنّها كانت قاصدةً إلى زيارته وزيارة جدّه رسول الله، فقام الإمام وصلّى ركعتين، ودعا الله (سبحانه) بدعواتٍ لم تُحجَب، ثمّ التفت إلى الرجل فقال له: «قم وارجع إلى زوجتك، فإنّ الله عزوجل قد أحياها بقدرته وحكمته، وهو «يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»».

فقام الرجل مسرعاً وهو فرحٌ بين مصدّق ومكذّب، فدخل إلى خيمته فرأى زوجته جالسةً في الخيمة على حال الصحة، فزاد سروره واعتقد ضميره، وقال لها: كيف أحياكِ الله (تعالى)؟ فقالت: واللهِ لقد جاءني ملَك الموت وقبض روحي، وهمّ أن يصعد بها، وإذا برجلٍ صفته كذا وكذا، وجعلَت تعدّد أوصافه الشريفة، وبعلها يقول لها: نعم صدقتي، هذه صفة سيّدي ومولاي عليّ بن الحسين علیهما السلام، قالت: فلمّا رآه ملَك الموت مُقبلاً، انكبّ على قدميه يقبّلهما ويقول: السلام عليك يا حجّة الله في أرضه، السلام عليك يا زين العابدين. فردّ عليه السلام، وقال له: «يا ملَك الموت، أعِدْ روح هذه المرأة إلى جسدها؛ فإنّها قاصدةٌ إلينا، وإنّي قد سألت ربّي أن يبقيها ثلاثين سنةً أُخرى، ويحييها حياةً طيّبة؛ لقدومها إلينا زائرةً لنا، فإنّ للزائر علينا حقّاً واجباً». فقال له الملك: سمعاً وطاعةً لك يا وليّ الله. ثمّ أعاد روحي إلى جسدي، وأنا أنظر إلى ملك الموت قبّل يده

ص: 304

الشريفة وخرج عنّي.

فأخذ الرجل بيد زوجته، وأتى بها إلى مجلس الإمام وهو بين أصحابه، وانكبّت على ركبتيه تقبّلهما وهي تقول: هذا والله سيّدي ومولاي، هذا الّذي أحياني الله ببركة دعائه. ولم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام بقيّة أعمارهما بعيشةٍ طيّبةٍ في البلدة الطيّبة، إلى أن ماتا (رحمة الله عليهما) ((1)).

هل كان يليق بمثل هذا الإمام العظيم أن يُكبَّل بالأصفاد، وتوضع الجامعة في عنقه، وتسبى أخواته وعمّاته على أقتاب الإبل بلا غطاءٍ ولا وطاء، يُطاف بهم من بلدٍ إلى بلد؟!

الرابع:

روى ابن الجوزي في كتاب (تذكرة الخواصّ) قال: كان ببلخ رجلٌ من العلويّين، وله زوجةٌ وبنات، فتُوفّي أبوهنّ.

قالت المرأة: فخرجت بالبنات إلى سمرقند خوفاً من شماتة الأعداء، واتّفق وصولي في شدّة البرد، فأدخلت البنات مسجداً ومضيت لأحتال في القوت، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ، فسألت عنه فقالوا: هذا شيخ البلد. فشرحت له حالي، فقال: أقيمي عندي البيّنة عندكِ أنّك علويّة. ولم

ص: 305


1- المنتخب للطريحي: 2 / 342 المجلس 6 الباب 1.

يلتفت إليّ، فيئست منه وعُدت إلى المسجد، فرأيت في طريقي شيخاً جالساً على دكّةٍ وحوله جماعة، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: ضامن البلد، وهو مجوسي. فقلت: عسى أن يكون على يده فرَجي. فحدّثتُهبحديثي وما جرى لي مع شيخ البلد، وأنّ بناتى في المسجد ما لهم شيءٌ يقوتون به. فصاح بخادمٍ له فخرج، فقال له: قل لسيّدتك تلبس ثيابها. فدخل، وخرجت امرأته ومعها جواري [جوار]، فقال لها: اذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلاني واحملي بناتها إلى الدار. فجاءت معي وحملَت البنات، وقد أفرد لنا بيتاً في داره، وأدخلَنا الحمّام، وكسانا ثياباً فاخرة، وجاءنا بألوان الأطعمة، وبتنا بأطيب ليلة.

فلمّا كان نصف الليلة رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنّ القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمّدٍ صلی الله علیه وآله،وإذا بقصرٍ من الزمرّد الأخضر، فقال: لمن هذا القصر؟ فقيل: لرجلٍ مسلمٍ موحّد. فتقدّم إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، تعرض عنّي وأنا رجلٌ مسلم؟! فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «أقم البيّنة عندي أنّك مسلم». فتحيّر الرجل، فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «نسيتَ ما قلتَ للعلويّة؟ وهذا القصر للشيخ الّذي هي في داره». فانتبه الرجل وهو يلطم ويبكي، وبثّ غلمانه في البلد، وخرج بنفسه يدور على العلويّة، فأُخبر أنّها في دار المجوسيّ، فجاء إليه فقال: أين العلويّة؟ فقال: عندي. فقال: أُريدها. فقال: ما لك إلى هذا سبيل. قال: هذه ألف دينارٍ خذها وسلمهنّ إليّ. قال: لا والله، ولا مئة ألف دينار. فلمّا

ص: 306

ألحّ عليه قال له: المنام الّذي رأيتَه أنت رأيتُه أيضاً أنا، والقصر الّذي رأيتَه لي خُلق وأنت تدلّ علَيّ بإسلامك، واللهِ ما نمت ولا أحد في داري إلّا وأسلمنا كلّنا على يد العلويّة، وعادت بركاتها علينا،ورأيت رسول الله صلی الله علیه وآله وقال لي: «القصر لك ولأهلك بما فعلت مع العلويّة» ((1)).

الخامس:

في (المناقب): وفي حديث أبي حمزة الثمالي أنّه دخل عبد الله بن عمر على زين العابدين وقال: يا ابن الحسين علیه السلام، أنت الّذي تقول: «إنّ يونس ابن متّى إنّما لقي من الحوت ما لقي لأنّه عُرضَت عليه ولاية جدّي فتوقّف عندها»؟ قال: «بلى، ثكلتك أُمّك». قال: فأرني آية ذلك إن كنتَ من الصادقين. فأمر بشدّ عينيه بعصابةٍ وعيني بعصابة، ثمّ أمر بعد ساعةٍ بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدي، دمي في رقبتك، اَلله الله في نفسي. فقال: «هيه، وأريه إن كنتُ من الصادقين»، ثمّ قال: «يا أيّتها الحوت»، قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبّيك لبّيك يا وليّ الله. فقال: «مَن أنت؟»، قال: أنا حوت يونس يا سيّدي. قال: «أنبئنا بالخبر»، قال: يا سيّدي، إنّ الله (تعالى) لم يبعث نبيّاً من آدم إلى أن صار جدّك محمّدٌ إلّا وقد عُرض عليه

ص: 307


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 330، بحار الأنوار للمجلسي: 93 / 230.

ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلّص، ومن توقّف عنها وتتعتع في حملها لقي ما لقي آدم من المعصية، وما لقي نوحٌ من الغرق، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجُبّ، وما لقي أيّوب من البلاء، وما لقي داوود من الخطيئة، إلى أنبعث الله يونس، فأوحى الله إليه أن يا يونس تولَّ أمير المؤمنين عليّاً والأئمة الراشدين من صلبه، في كلامٍ له، قال: فكيف أتولّى مَن لم أره ولم أعرفه؟ وذهب مغتاظاً، فأوحى الله (تعالى) إليّ أن التقم يونس ولا توهن له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً يطوف معي البحار في ظلماتٍ مئات، ينادي أنّه لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، قد قبلتُ ولاية عليّ بن أبي طالب والأئمة الراشدين من وُلده، فلمّا آمن بولايتكم أمرني ربّي فقذفتُه على ساحل البحر. فقال زين العابدين: «ارجع أيّها الحوت إلى وكرك»، واستوى الماء ((1)).

وفي (المناقب) أيضاً: جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «بينا عليّ ابن الحسين علیه السلام مع أصحابه إذ أقبل ظبيٌ من الصحراء حتّى قام حذاه، وتبغم وحمحم، فقال بعض القوم: ما شأن هذا يا ابن رسول الله؟ فقال: إنّ هذه الظبية تزعم أنّ فلاناً القرشي أخذ خشفاً لها، وأنّها لم ترضعه من أمس. فبعث عليّ بن الحسين إلى الرجل أن أرسل إليّ الخشف، فبعث به، فلمّا رأته حمحمت وأرضعته، ثمّ كلّمها عليّ بن الحسين بكلامٍ مثل كلامها، فحمحمت، ثمّ انصرفت، واتبعها

ص: 308


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 34.

الخشف، فقالوا له: يا ابن رسول الله، ماذا قلتَ لها؟ قال: قلت لها: قد وهبتك خشفك، فدعت لكم وجزتكم خيراً» ((1)).معاشرَ الشيعة، الويل لأُولئك الأوغاد الّذي لم يرحموا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر)، فسقوه سهم بغيٍ بدل الماء المعين، وفجعوا أُمّه به.

وفي (البحار): عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إنّ أبي خرج إلى ماله، ومعنا ناسٌ من مواليه وغيرهم، فوُضعَت المائدة ليتغذّى، وجاء ظبيٌ وكان منه قريباً، فقال له: يا ظبي، أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ، هلمّ إلى هذا الغذاء. فجاء الظبي حتّى أكل معهم ما شاء الله أن يأكل، ثمّ تنحّى الظبي، فقال بعض غلمانه: ردّه علينا. فقال لهم: لا تخفروا ذمّتي. قالوا: لا. فقال له: يا ظبي، أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ، هلمّ إلى هذا الغذاء وأنت آمِنٌ في ذمّتي. فجاء الظبي حتى قام على المائدة، فأكل معهم، فوضع رجلٌ من جلسائه يده على ظهره، فنفر الظبي، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: أخفرتَ ذمّتي، لا كلّمتك كلمةً أبداً» ((2)).

وفي كتاب (الخرائج) أنّ النبي صلی الله علیه وآله كان يمشي في الصحراء، فناداه منادٍ: يا رسول الله. فإذا هي ظبيةٌ موثقة، قال: «ما حاجتكِ؟»، قالت: هذا

ص: 309


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 38 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الهداية الكبرى: 216، الاختصاص للمفيد: 299، الخرائج للراوندي: 1 / 26 ح 5، دلائل الإمامة للطبري: 206، بصائر الدرجات للصفار: 370 الباب 15 ح 10.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 43.

الأعرابيّ صادني، ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتّى أذهب وأُرضعهما فأرجع. قال: «وتفعلين؟»، قالت: نعم، فإن لم أفعل عذّبني الله عذاب العشّار. فأطلقها، فذهبت فأرضعت خشفيها،ثمّ رجعت فأوثقها، فأتاه الأعرابي فأخبره النبيّ صلی الله علیه وآله بحالها، فأطلقها، فعدت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله ((1)).

معاشرَ الشيعة، يا لَشقاوة أهل الكوفة والشام الّذين لم يرحموا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر)، وسقوه سهم بغيٍ بدل الماء المعين، ولم يرحموا أُمّه المفجوعة، ولم يخشوا من دعائها وتضرّعها، فذبحوه من الوريد إلى الوريد، وأحرقوا قلبها الملوّع، وتركوا فيه جمرة المصاب في قلوب المحبّين إلى يوم الحساب.

وأذكر هنا حديثاً يرمي بشررٍ فيصيب قلب الخاصّ والعام:

رُوي عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الباقر علیه السلام قال: «كان عليّ بن الحسين جالساً مع جماعةٍ إذ أقبلَت ظبيةٌ من الصحراء حتّى وقفت قدّامه، فهمهمت وضربت بيدها الأرض، فقال بعضهم: يا ابن رسول الله، ما شأن هذه الظبية قد أتتك مستأنسة؟ قال: تذكر أنّ ابناً ليزيد طلب عن أبيه خشفاً، فأمر بعض الصيّادين أن يصيد له خشفاً، فصاد بالأمس خشف هذه الظبية، ولم تكن قد أرضعَته، فإنّها تسأل أن يحمله إليها لترضعه وتردّه عليه. فأرسل عليّ بن

ص: 310


1- الخرائج للراوندي: 1 / 37 ح 41.

الحسين علیه السلام إلى الصيّاد فأحضره، فقال: إنّ هذه الظبية تزعم أنّك أخذت خشفاً لها، وأنك لم تسقه لبناً منذ أخذته، وقد سألَتني أن أسألك أن تتصدّق به عليها. فقال: يا ابن رسول الله، لست أستجرئ على هذا. قال: إنّي أسألك أن تأتي به إليها لترضعه، وتردّه عليك. ففعل الصيّاد، فلما رأتههمهمت ودموعها تجري، فقال عليّ ابن الحسين صلی الله علیه وآله للصيّاد: بحقّي عليك إلّا وهبتَه لها. فوهبه لها، وانطلقت مع الخشف، وقال: أشهد أنّك من أهل بيت الرحمة، وأنّ بني أُميّة من أهل بيت اللعنة ((1))» ((2)).

السادس:

رُوي عن بهلول قال: بينا أنا ذات يومٍ في بعض شوارع البصرة، وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا بصبيّ ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبيٌّ يتحسّر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه، فقلت: أي بنيّ، ما يبكيك؟ أشتري لك ما تلعب به! فرفع بصره إليّ وقال: «يا قليل العقل، ما للّعب خُلقنا!». فقلت: فلمَ إذاً خلقنا؟! قال: «للعلم والعبادة». قلت: من أين لك ذاك، بارك الله فيك؟ قال: «مِن قوله (تعالى): «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ» ((3))». قلت: يا بُنيّ، أراك حكيماً،

ص: 311


1- في المتن: (بيت الفتنة).
2- الخرائج للراوندي: 1 / 259 ح 4، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 30 ح 21.
3- سورة المؤمنون: 115.

فعِظْني وأوجز. فأنشأ يقول:

«أرى الدنيا تَجَهَّر بانطلاقِ***مشمّرةً على قدمٍ وساقِ

فلا الدنيا بباقيةٍ لحيٍّ***ولا الحيّ على الدنيا بباقِ

كأنّ الموت والحدَثان فيها***إلى نفس الفتى فرسا سباقِ

كأنّ الموت والحدَثان فيها***إلى نفس الفتى فرسا سباقِ

فيا مغرور بالدنيا رُويداً***ومنها خُذ لنفسك بالوثاقِ»

ثمّ رمق السماء بعينيه ودموعه تتحدّر على خدَّيه، وأنشأ يقول:

«يا

مَن إليه المبتهل

يا

من عليه المتّكَل

يا مَن

إذا ما آملٌ

يرجوه

لم يخطُ الأمل»

قال: فلمّا أتمّ كلامه خرّ مغشيّاً عليه، فرفعتُ رأسه إلى حِجري، ونفضت التراب عن وجهه، فلمّا أفاق قلت له: أي بنيّ، ما نزل بك وأنت صبيٌّ صغير لم يكتب عليك ذنب؟! قال: «إليك عنّي يا بهلول، إنّي رأيتُ والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا يتّقد إلّا بالصغار، وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب جهنّم». قلت له: أي بنيّ، أراك حكيماً، فعِظْني. فأنشأ يقول:

«غفلتُ وحادي الموت في أثري يحدو***وإن لم أُرِحْ يوماً فلابدّ أن أغدو

أُنعِّمُ جسمي باللِّباس ولينه***وليس لجسمي من لباس البِلا بُدُّ

كأنّي به قد مُدّ في برزخ البَلا***ومن فوقه رَدْمٌ ومن تحته لحدُ

وقد ذهبَتْ منّي المحاسنُ وانمحتْ***ولم يبقَ فوق العظم لحمٌ ولا جِلْدُ

أرى العمر قد ولَّى ولمْ أُدْرِك المُنى***وليس معي زادٌ وفي سفري بُعْدُ

وقد كنتُ جاهرت المهيمنَ عاصياً***وأُحدِثُ أحداثاً وليس لها وُدُّ

ص: 312

وأرخيت دون الناس سِتْراً من الحيا***وما خِفت من سرّي غداً عنده يَبدو

بلى،خِفْتُه، لكن وَثِقْتُ بحلمِه***وأنْ ليس يعفو غيرُه، فَلَه الحمدُ

فلولم يكن شيءٌ سوى الموت والبلا***ولم يكُ من ربّي وعيدٌ ولا وعدُ

لكان لنا في الموت شُغلٌ، وفي البلا***عن اللّهو، لكن زال عن رأينا الرشدُ

عس-ى غافر الزلّات يغفر زلَّتي***فقديغفرُ المولى إذا أذنبَ العبدُ

أناعبد سوءٍ خُنْت مولاي عهده***كذلك عبد السوء ليس له عهدُ

فكيف إذا حرّقتَ بالنار جثّتي***ونارُك لا يقوى لها الحَجَر الصلْدُ

أنا الفرد عند الموت والفرد في البلا***وأُبعثُ فرداً، فارحم الفردَ يا فردُ»

قال بهلول: فلمّا فرغ من كلامه وقعتُ مغشيّاً علَيّ، وانصرف الصبيّ، فلمّا أفقت ونظرت إلى الصبيان فلم أره معهم، فقلت لهم: مَن يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفتَه؟ قلت: لا. قالوا: ذلك من أولاد الحسين بن عليّ ابن أبي طالب رضی الله عنهم. قال: فقلت: قد عجبتُ من أن تكون هذه الثمرة إلّا من تلك الشجرة ((1)).

السابع:

عن (جامع الأخبار): رُوي أنّ رجلاً فاسقاً كان في بني إسرائيل، وعجزت أهل بلدته من فسقه وفجوره، فتضرّعوا إلى الله (تعالى)، فأوحى

ص: 313


1- شرح إحقاق الحقّ: 29 / 65 -- عن: روض الرياحين.

إلى موسى أن أخرج الشابّ الفاسق عن بلدهم، لئلّا تقع النار عليهم بسببه، فجاء موسى علیه السلام فأخرجه من القرية إلى القرى، فأوحى الله (تعالى) إلى موسى أن يُخرجه منها، فأخرجه موسى.

فخرج الشابّ إلى مغارةٍ ليس فيها خلقٌ ولا طيرٌ ولا زرعٌ ولا وحش، فمرض الشابّ في تلك المغارة، وليس عنده معينٌ يعينه، فوقع على التراب ووضع وجهه عليها، وقال: يا ربّ، لو كانت والدتي عند رأسي لَرحمتني، وبكَت على ذُلّي وغربتي، ولو كان والدي حاضراً لغسّلني وكفّني وواراني، ولو كانت زوجتي وأولادي عندي لَبكوا علَيّ وقالوا: اللّهمّ اغفر لوالدنا الغريب الضعيف العاصي المطرود من بلدٍ إلى بلدٍ ومن قريةٍ إلى مغارة، ثمّ خرج من الدنيا آيساً من كلّ الأشياء، اللهمّ يا ربّ إذا قطعت بي وفرّقت بيني وبين والدي ووالدتي وزوجتي وأولادي، فلا تقطعني يا ربّ.

فأرسل الله إليه حوراء على صفة أُمّه، وحوراء على صفة زوجته، وغلماناً على صفة أولاده، وملكاً على صفة أبيه، فبكوا عليه وجلسوا عنده، فقال الشابّ: هذا والدي ووالدتي حضروا عندي. فطاب قلبه، وصار إلى ربّه.

فأوحى الله إلى موسى: يا موسى، إنّه قد مات وليٌّ من أوليائي في موضع كذا، فاذهب إليه فغسِّلْه وكفّنه وصلِّ عليه وادفنه. فسارموسى علیه السلام إلى ذلك الموضع، فرأى ذلك الشابّ الّذي أخرجه من المدينة ومن القرية بعينه فعرفه، ثمّ رأى الحور العين يبكين عليه، فقال: يا ربّ، أليس هو ذلك

ص: 314

الشابّ الّذي أمرتَني باخراجه من المدينة والقرية؟! فقال الله: يا موسى، هو ذلك الشابّ، إنّي رحمتُه وتجاوزت عنه بأنينه في مرضه، بفرقته عن وطنه وعن ولده ووالدته ووالده وزوجته، واعترافه بذنبه، وطلبه العفو منّي والمغفرة، فأرسلتُ إليه الحوراء على صفة أُمّه، وحوراء على صفة زوجته، وغلماناً على صفة أولاده، وملكاً على صفة والده، وعفوت عنه وغفرت له لغربته وذلّه، واعلم إنّه يا موسى إذا مات الغريب بكت عليه ملائكة السماء وأهل الأرض رحمةً له ولغربته، فكيف لا أرحمه وهو غريبٌ وأنا أرحم الراحمين؟ ((1))

معاشر الشيعة، ويل أهل الكوفة والشام وابن زياد ويزيد الجفاة القساة، الّذين لم يرحموا المظلوم المغموم الّذي اختار بنفسه ورجا مِن ربّه أن يخلع عليه خلعة الذبيح، لينجي الأُمّة من النيران وينقذ الظالمين من الشقاء والحرمان، ويكشف للعالمين قساوة أُولئك الأجلاف الكافرين واستحقاقهم لدرجات الجحيم.

الثامن:

من الندب المرويّة عن الإمام السجّاد علیه السلام ما روى الزهري: «يا نفس، حتّامَ إلى الحياة سكونك، وإلى الدنيا وعمارتها ركونك؟ أما اعتبرتِ بمن

ص: 315


1- شجرة طوبى للحائري: 2 / 446 -- عن: مفتاح البكاء، عن: جامع الأخبار.

مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألافك، ومن فجعت به من إخوانك؟

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها***محاسنهم فيها بوالٍ دواثرُ

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم***وساقتهم نحو المنايا المقادرُ

وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لها***وضمتهم تحت التراب الحفائر» ((1))

التاسع:

في (البحار): عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي، قال كلّ واحدٍ منهما: كنتُ أسيح في البادية مع القافلة، فعرضَت لي حاجة، فتنحّيت عن القافلة، فإذا أنا بصبيّ يمشي، فقلت: سبحان الله! بادية بيداء وصبيٌّ يمشي؟! فدنوت منه وسلّمت عليه، فردّ علَيّ السلام، فقلت له: إلى أين؟ قال: «أُريد بيت ربّي». فقلت: حبيبي، إنّك صغيرٌ ليس عليك فرضٌ ولا سُنّة. فقال: «يا شيخ، ما رأيتَ مَن هو أصغر سنّاً منّي مات؟». فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: «زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي». فقلت: ما أرى شيئاً من الطعام معك! فقال: «يا شيخ، هل يُستحسَن أن يدعوك إنسانٌ إلى دعوةٍ فتحمل من بيتك الطعام؟»، قلت: لا. قال: «الّذي دعاني إلى بيته هو

ص: 316


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 82، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 65، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 41 / 404.

يطعمني ويسقيني». فقلت: ارفع رجلك حتّى تُدرك. فقال: «علَيّ الجهاد، وعليه الإبلاغ، أما سمعتَ قوله (تعالى): «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»؟ ((1))». قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل شابٌّ حسن الوجه عليه ثيابٌ بيض حسنة، فعانق الصبيّ وسلّم عليه، فأقبلت على الشابّ وقلت له: أسألك بالّذي حسّن خلقك، مَن هذا الصبيّ؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب! فتركت الشابّ وأقبلت على الصبيّ، وقلت: أسألك بآبائك، مَن هذا الشابّ؟ فقال: «أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر، يأتينا كلّ يومٍ فيسلّم علينا». فقلت: أسألك بحقّ آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: «بل أجوز بزاد، وزادي فيها أربعة أشياء». قلت: وما هي؟ قال: «أرى الدنيا كلّها بحذافيرها مملكة الله، وأرى الخلق كلّهم عبيد الله وإماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذاً في كلّ أرض الله». فقلت: نِعم الزاد زادك يا زين العابدين، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة فكيف مفاوز الدنيا ((2)).

ص: 317


1- سورة العنكبوت: 69.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 38 / 46.
العاشر:

في كتاب (مسكّن الفؤاد): عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميراً على جيشٍ في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان، ودعوت الناس للغزاة، ورغّبتهم في الجهاد، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثمتفرّق الناس، وركبت فرسي وسرت إلى منزلي، فإذا أنا بامرأةٍ من أحسن الناس وجهاً تنادي: يا أبا قدامة. فمضيت ولم أُجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون! فوقفت، فجاءت ودفعت إليّ رقعةً وخرقةً مشدودة، وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة، وإذا فيها مكتوب: أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغّبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما فيّ، وهما ضفيرتاي، وأرسلتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك، لعلّ الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله، فيغفر لي.

فلمّا كان صبيحة القتال، فإذا بغلامٍ بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً، فتقدّمت إليه وقلت: يا غلام، أنت فتىً غرّ راجل، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا. فقال: أتأمرني بالرجوع وقد قال الله (تعالى): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ»؟ ((1)) وقرأ الآية إلى آخرها.

ص: 318


1- سورة الأنفال: 15.

قال: فحملته على هجينٍ كان معي، فقال: يا أبا قدامة، أقرضني ثلاثة أسهم. فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلحّ علَيّ حتّى قلت: بشرط إن مَنّ الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك. قال: نعم. فأعطيتُه ثلاثة أسهم، فوضع سهماً في قوسه فرمى به فقتل روميّاً، ثمّ رمى بالآخر فقتل روميّاً، ثمّ رمى بالآخر، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودّع. فجاءه سهمٌ فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه، فتقدّمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة، إذا دخلت المدينة فآتِ والدتي وسلّم خُرجي إليها،وأخبرها، فهي الّتي أعطتك شعرها لتقيّد به فرسك، فسلّم عليها، فهي العام الأوّل أُصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي. ثمّ مات، فحفرت له ودفنته.

فلمّا هممت بالانصراف عن قبره قذفَته الأرض فألقَته على ظهرها، فقال أصحابه: غلامٌ غرّ، ولعلّه خرج بغير إذن أُمّه. فقلت: إنّ الأرض لَتقبل مَن هو شرٌّ من هذا. فقمت وصلّيت ركعتين، ودعوت الله، وسمعت صوتاً يقول: يا أبا قدامة، اترك وليّ الله. فما برحت حتّى نزلت عليه طيورٌ فأكلته.

فلمّا أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلمّا قرعت الباب خرجت أُخته إليّ، فلمّا رأتني عادت إلى أُمّها وقالت: يا أُمّاه، هذا أبو قدامة وليس معه أخي، وقد أُصبنا في العام الأوّل بأبي، وفي هذا العام بأخي. فخرجت أُمّه فقالت: أمعزّياً أم مهنّئاً؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان ابني مات فعزّني، وإن كان استُشهد فهنّئني. فقلت: لا، بل قد مات شهيداً.

ص: 319

فقالت له: العلامة، فهل رأيتَها؟ فقلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت الطيور فأكلت لحمه، وتركت عظامه فدفنتُها. فقالت: الحمد لله. فسلّمتُ إليها الخرج، ففتحَته وأخرجَت منه مسحاً وغلّاً من حديد، قالت: إنّه كان إذا جنّه الليل لبس هذا المسح، وغلّ نفسه بالغلّ، وناجى مولاه وقال في مناجاته: إلهي، احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله (سبحانه) دعاءه ((1)).ورُوي أنّ موسى لمّا توجّه إلى مناجاة ربّه اعترضه رجلٌ من عباد الله الصالحين، فقال له: يا موسى، أبلغ ربّك أنّي أُحبّه، وأنا مطيعٌ له. فلمّا فرغ موسى من المناجاة نودي: يا موسى، ألا تبلّغني رسالة عبدي؟ فقال: يا إلهي، أنت العالم بما قال عبدك. فقال ذو الجلال: يا موسى، وأنا أيضاً أُحبّه. فازداد ذلك الرجل في يقين موسى أنّه عبدٌ صالح.

فلمّا رجع موسى من مناجاة ربّه جعل يتفقّد ذلك الرجل في مكانه، فإذا بالأسد قد افترسه، فتعجّب موسى وحزن عليه، وقال: يا إلهي، رجلٌ صالحٌ تحبّه ويحبّك تسلّط عليه كلباً من كلابك يفترسه؟! فأتاه النداء: نعم يا موسى، هكذا أفعل بأحبّائي وأوليائي، ابتليتهم في دار الهوان، وأُسكنهم

ص: 320


1- مسكّن الفؤاد للعاملي: 135 الباب 2 الفصل 6 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، صفة الصفوة: 4 / 201.

عندي غرفات الجنان ((1)).

ورُوي أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله فوقف بين يديه، فقال: يا رسول الله، إنّي أُحبّ الله. فقال له: «استعدّ للبلاء». فقال: يا رسول الله، وإنّي أُحبّك. فقال: «استعدّ للفقر». فقال: وإنّي أُحبّ عليّ بن أبي طالب. فقال: «استعدّ للأعداء» ((2)).

الحادي عشر:

رُوي أنّ الله (تعالى) قال لموسى علیه السلام: هل عملتَ لي عملاً قطّ؟ قال: صلّيتُ لك وصمت وتصدّقت وذكرت لك. قال الله(تبارك وتعالى): أمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جُنّة، والصدقة ظلّ، والذكر نور، فأيّ عملٍ عملت لي؟ قال موسى علیه السلام: دُلّني على العمل الّذي هو لك ((3)). فقال: يا موسى، هل أشبعت جائعاً، أو سقيت عطشاناً، أو كسوت عرياناً، أو أكرمت عالماً، أو نصرت مظلوماً، هذه الأعمال لي.

ص: 321


1- تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 357.
2- تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 357.
3- الدعوات للراوندي: 28 ح 50، جامع الأخبار: 128، تتمّة الخبر فيها: (قال: يا موسى، هل واليتَ لي وليّاً؟ وهل عاديت لي عدوّاً قطّ؟ فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله).
الثاني عشر:

رُوي أنّ البارى عزوجل قال لعزرائيل: هل رحمتَ أحداً؟ وهل هبت من أحد؟ فقال: يا ربّ، أنت أعلم.

فقال (سبحانه وتعالى): صدقتَ يا عزرائيل، ولكن أُحبّ أن تقول ذلك.

فقال عزرائيل: إنّي يا ربّ رحمت طفلاً يرتضع ثدي أُمّه، وكان هو وأُمّه في مركبٍ في البحر، فغرق المركب، فأمرتَني أن أقبض روح أُمّه فقبضتُها، وبقي الولد في البحر طايفاً على صدر أُمّه، فرحمته، وإنّي يا ربّ خفت من رجلٍ أمرتَني أن أقبض روحه، وكان ذا سلطانٍ ومملكة وغلمان كثيرة، وهو جالسٌ على سريره في نهاية العافية، فلمّا أردتُ قبض روحه دخلني خوفٌ ورعب.

فقال الباري (سبحانه): يا عزرائيل، الّذي رحمته هو الّذي خفت منه ((1)).

الثالث عشر:

في كتاب (بحار الأنوار): عن سالم بن سلَمة، عن أبي عبد الله

ص: 322


1- منهاج البراعة للخوئي: 6 / 104.

الصادق علیه السلام قال: «كان عليّ بن الحسين مع أصحابه في طريق مكّة، فمرّ به ثعلبٌ وهم يتغدّون، فقال لهم عليّ بن الحسين: هل لكم أن تعطوني موثقاً من الله لا تهيجون هذا الثعلب؟ ودَعوه حتّى يجيئني! فحلفوا له، فقال: يا ثعلب تعال». قال: «فجاء الثعلب حتّى أهلّ بين يديه، فطرح عليه عرقاً، فولّى به يأكله، قال علیه السلام: هل لكم تعطوني موثقاً؟ ودعوه أيضاً فيجيء. فأعطوه، فكلح رجلٌ منهم في وجهه، فخرج يعدو، فقال عليّ بن الحسين: أيّكم الّذي أخفر ذمّتي؟ فقال الرجل: أنا يا ابن رسول الله، كلحت في وجهه ولم أدرِ، فأستغفر الله. فسكت» ((1)).

الرابع عشر:

في (بحار الأنوار): عن حمران بن أعين قال: كان أبو محمّد عليّ بن الحسين علیه السلام قاعداً في جماعةٍ من أصحابه، إذ جاءته ظبيةٌ فبصبصت وضربت بيديها، فقال أبو محمّد: «أتدرون ما تقول الظبية؟»، قالوا: لا. قال: «تزعم أنّ فلان بن فلان رجلاً من قريش اصطاد خشفاً لها في هذا اليوم، وإنّما جاءت إليّ تسألني أن أسأله أن يضع الخشف بين يديها فترضعه»، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام لأصحابه: «قوموا بنا إليه»،فقاموا بأجمعهم، فأتوه فخرج إليهم، قال: فداك أبي وأُمّي، ما حاجتك؟ فقال: «أسألك بحقّي عليك إلّا أخرجتَ إليّ هذه الخشف الّتي اصطدتها اليوم»، فأخرجَها، فوضعها بين يدي أُمّها

ص: 323


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 24 ح 7.

فأرضعتها، ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «أسألك يا فلان لمّا وهبتَ لي هذه الخشف»، قال: قد فعلت. قال: فأرسل الخشف مع الظبية، فمضت الظبية، فبصبصت وحرّكت ذنَبها، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «أتدرون ما تقول الظبية؟»، قالوا: لا. قال: «إنّها تقول: ردّ الله عليكم كلَّ غائبٍ لكم، وغفر لعليّ بن الحسين كما ردّ علَيّ ولدي» ((1)).

ص: 324


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 26.

خاتمة: في ما تحمّله بعض السادة والشيعة من الجَور والظلم من أعداء آل محمّد

[زيد الشهيد]

عن الثُّماليّ قال: كنتُ أزور عليّ بن الحسين في كلّ سنةٍ مرّةً في وقت الحجّ، فأتيتُه سنةً من ذاك، وإذا على فخذيه صبيّ، فقعدتُ إليه، وجاء الصبيّ فوقع على عتبة الباب فانشجّ، فوثب إليه عليّ بن الحسين علیه السلام مهرولاً، فجعل ينشّف دمه بثوبه ويقول له: «يا بُنيّ، أُعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكناسة».

قلت: بأبي أنت وأُمّي، أيّ كناسة؟! قال: «كناسة الكوفة». قلت: جُعلتُ فداك، ويكون ذلك؟! قال: «إي والّذي بعث محمّداً بالحقّ، إنْ عشتَ بعدي لَترينّ هذا الغلام في ناحيةٍ من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً في الكناسة، ثمّ ينزل فيُحرق ويدقّ ويذرى في البرّ».

ص: 325

قلت: جُعلتُ فداك، وما اسم هذا الغلام؟ قال: «هذا ابني زيد».

ثمّ دمعَت عيناه، ثمّ قال: «ألا أُحدّثك بحدث ابني هذا؟ بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب بي النوم من بعض حالاتي، فرأيتُكأنّي في الجنّة، وكأنّ رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين قد زوّجوني جاريةً من حور العين، فواقعتُها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى، وولّيتُ وهاتفٌ بي يهتف: ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد. فاستيقظتُ فأصبت جنابة، فقمت فتطهّرت للصلاة وصلّيت صلاة الفجر، فدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجلٌ يطلبك. فخرجت، فإذا أنا برجلٍ معه جاريةٌ ملفوفٌ كُمّها، على يده مخمرةٌ بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أردتُ عليّ بن الحسين علیه السلام. قلت: أنا عليّ بن الحسين. فقال: أنا رسول المختار ابن أبي عُبيد الثقفيّ، يُقرئك السلام ويقول: وقعَت هذه الجارية في ناحيتنا، فاشتريتها بستّمئة دينار، وهذه ستّمئة دينارٍ فاستعن بها على دهرك. ودفع إليّ كتاباً. فأدخلتُ الرجل والجارية، وكتبتُ له جواب كتابه، وتثبّت الرجل، ثمّ قلت للجارية: ما اسمكِ؟ قالت: حوراء. فهيّؤوها لي، وبتُّ بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام، فسمّيتُه زيداً، وهو هذا، سترى ما قلت لك».

قال أبو حمزة: فوَاللهِ ما لبثتُ إلّا برهةً حتّى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيتُه فسلّمت عليه، ثمّ قلت: جُعلتُ فداك، ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان فسلّمت عليه، وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال، فلمّا جلست عنده قال: يا أبا حمزة، تقوم حتّى نزور قبر

ص: 326

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قلت: نعم، جُعلت فداك.

ثمّ ساق أبو حمزة الحديث حتّى قال: أتينا الذكوات البيض، فقال: هذا قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام. ثمّ رجعنا،فكان مِن أمره ما كان، فوَاللهِ لقد رأيتُه مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً، قد أُحرق ودُقّ في الهواوين وذُرّي في العريض من أسفل العاقول ((1)).

وفي (المنتخب): روى فضلة عن بعض الأخبارين قال: سألتُ خالد ابن فضله عن فضل زيد بن زين العابدين علیه السلام، فقال: أيّ رجلٍ كان. فقلت: وما علمت عن فضله؟ قال: كان يبكي من خشية الله (تعالى) حتّى تختلط دموعه بدمه طول ليله، حتّى اعتقد كثيرٌ من الناس فيه الإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك منه لخروجه بالسيف يدعو بالرضى من آل محمّد علیهم السلام، فظنّوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها، لمعرفته باستحقاق من قبله، وكان سبب خروجه الطلب بدم جدّه الحسين علیه السلام.

وأنّه دخل يوماً على هِشام بن عبد الملك، وقد كان جمع له هشام بني أُميّة، وأمرهم أن يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن زيدٌ من الوصول إلى قربه، فوقف زيد مقابله وقال له: يا هشام، ليس أحدٌ من عباد الله فوق أن يوصى بتقوى الله في عباده، وأنا أُوصيك بتقوى الله، فاتّقِه.

ص: 327


1- فرحة الغريّ لابن طاووس: 116، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 183 ح 48.

فقال هشام: يا زيد، أنت المؤهّل نفسك للخلافة، وأنت الراجي لها؟! وما أنت وذاك، لا أُمّ لك، وإنّما أنت ابن أَمة!

فقال له زيد: إنّي لا أعلم أحداً أعظم عند الله من نبيّ بعثه، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غايةٍ لم يبعث الله إسماعيل نبيّاً وهو ابنأَمة، فالنبوّة أعظم أم الخلافة؟ وبعد، فما يقصر في رجلٍ جدّه رسول الله وهو ابن عليّ ابن أبي طالب أن يكون ابن أَمة؟

قال: فنهض هشام مغضباً، ودعا قهرمانه وقال: واللهِ لَآتينّ هذا بعسكرٍ يضيق به الفضاء.

وخرج زيد وهو يقول: لم يكره قومٌ قطّ حرّ السيوف إلّا ذلّوا.

ثمّ إنّه توجّه إلى الكوفة، فاجتمع عليه أهلها وبايعوه على الحرب معه، فنقضوا ببيعته وسلّموه لعدوّه، فقُتل (رحمة الله عليه) وصُلب في موضعٍ يُقال له: الكناس، وبقي مصلوباً بينهم أربع سنوات، لا يُنكر أحدٌ منهم بيدٍ ولا لسان، وقد عشعشت الفاختاة في جوفه، وقد خانوا به أهل الكوفة ونقضوا بيعته كما خانوا آباءه وأجداده من قبل، ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

قال: فلمّا بلغ قتله إلى الصادق علیه السلام حزن عليه حزناً عظيماً، وجعل يئنّ مِن وَجْده عليه، وفرّق من ماله صدقةً عنه وعمّن أُصيب معه من أصحابه، لكلّ بيتٍ منهم ألف دينار.

وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر صفر سنة عشرين ومئة

ص: 328

من الهجرة ((1)).

وروى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، مسنداً عن حمزة بن حمران قال: دخلتُ إلى الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام، فقال لي: «يا حمزة، مِن أين أقبلت؟»، قلت: من الكوفة.

قال: فبكى علیه السلام حتّى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا ابنرسول الله، ما لَك أكثرتَ البكاء؟! فقال: «ذكرتُ عمّي زيداً وما صُنع به، فبكيت». فقلت له: وما الّذي ذكرت منه؟ فقال: «ذكرت مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه وقال له: أبشِرْ يا أبتاه؛ فإنّك ترد على رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام. قال: أجل يا بُنيّ. ثمّ دعا بحدّادٍ فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقيةٍ تجري عند بستان زائدة، فحُفر له فيها ودُفن وأُجري عليه الماء، وكان معهم غلامٌ سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف بن عمر، فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأُحرق بالنار وذُرّي في الرياح، فلعن الله قاتله وخاذله، وإلى الله (جلّ اسمه) أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيّه بعد موته، وبه نستعين على عدوّنا، وهو خير مستعان» ((2)).

وفي (المنتخب): وقُتل زيد بن عليّ بن الحسين علیه السلام على يد نصر بن

ص: 329


1- المنتخب للطريحي: 2 / 388 المجلس 8 الباب 1.
2- الأمالي للصدوق: 392 المجلس 62 ح 3.

خُزيمة الأسدي، وصلبه يوسف بن عمر بالكناسة (اسم موضعٍ الكوفة) عرياناً، فكسى من بطنه جلدةً سترت عورته، وبقي مصلوباً أربع سنوات، وكان لا يقدر أحدٌ أن يندب عليه، وألقوا امرأة زيد بن عليّ على المزبلة، بعدما دُقّت بالضرب حتّى ماتت ((1)).

[غلامٌ من وُلد الحسن علیه السلام]

وروى ابن بابويه أنّه لمّا بنى المنصور الأبنية ببغداد، جعل يطلب العلويّة طلباً شديداً، ويجعل مَن ظفر به منهم في الأسطوانات المجوّفة المبنيّة من الجصّ والآجر.

فظفر ذات يومٍ بغلامٍ متّهَمٍ حسن الوجه عليه شعرٌ أسود من وُلد الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فسلّمه إلى البنّاء الّذي كان يبني له، وأمره أن يجعله في جوف أُسطوانةٍ ويبني عليه، ووكّل عليه من ثقاته مَن يراعي ذلك حتّى يجعله في جوف أُسطوانةٍ بمشهده، فجعله البنّاء في جوف أُسطوانة، فدخلَته رقّةٌ عليه ورحمةٌ له، فترك في الأُسطوانة فُرجةً يدخل منها الروح، فقال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فإنّي سأُخرجك من جوف هذه الأُسطوانة إذا جنّ الليل.

ص: 330


1- المنتخب للطريحي: 1 / 7 المجلس 1 الباب 1.

فلمّا جنّ الليل جاء البنّاء في ظلمةٍ فأخرج ذلك العلويّ من جوف تلك الأُسطوانة، وقال له: اتّقِ الله في دمي ودم الفعَلَة الّذين معي، وغيّب شخصك، فإنّي إنّما أخرجتُك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الأُسطوانة لأنّي خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدّك رسول الله صلی الله علیه واله يوم القيامة خصمي بين يدَي الله عزوجل. ثم أخذ شعره بآلات الجصّاصين كما أمكن، وقال: غيّب شخصك وانجُ بنفسك، ولا ترجع إلى أُمّك.

فقال الغلام: فإن كان هذا هكذا فعرّفْ أُمّي أنّي قد نجوت وهربت، لتطيب نفسها ويقلّ جزعها وبكاؤها، وإن لم يكن لعودي إليها وجه.

فهرب الغلام، ولا يُدرى أين قصد من وجه أرض الله (تعالى)، ولا إلى أي بلدٍ وقع، قال ذلك البنّاء: وقد كان الغلام عرّفني مكان أُمّهوأعطاني العلامة، فانتهيتُ إليها في الموضع الّذي دلّني عليه، فسمعت دويّاً كدويّ النحل من البكاء، فعلمتُ أنّها أُمّه، فدنوت منها وعرّفتها خبر ابنها، وأعطيتها شعره، وانصرفت ((1)).

ألا لعنة الله على الظالمين، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون. اللّهمّ العن أوّل ظالمٍ ظلم حقّ محمّدٍ وآل محمّد، وآخر تابعٍ له على ذلك، اللّهمّ العن العصابة الّتي جاهدَت الحسين علیه السلام، وشايعت وبايعت وتابعت على قتله، اللّهمّ العنهم جميعاً.

ص: 331


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام: 1 / 111 الباب 9 ح 2.

[الحسين شهيد فخّ]

واعلم أنّ دعبل قد أشار في قصيدته إلى قبورٍ في فخّ ((1))، وفخّ -- بفتح الفاء وتشديد الخاء المنقوطة -- موضعٌ على فرسخٍ من مكّة المكرّمة، على طريق المدينة، وجدّة فيها قبور الشهداء الصالحين، وحولها سور.

ومجمل قصّة فخّ الحسين: هو الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن ابن الحسن بن عليّ علیه السلام ، وأُمّه زينب بنت بنت عبد الله بن الحسن، وخرج في أيّام موسى الهادي بن محمّد المهديّ بن أبي جعفر المنصور، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة تسع وستّين ومئة ((2)) ((3)).وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب (مقاتل الطالبيّين): كان سبب خروج الحسين أنّ الهادي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي، فاستخلف عليها رجلاً من وُلد عمر بن الخطّاب يُعرف بعبد العزيز، فحمل على الطالبيّين وأساء إليهم، وطالبهم بالعرض كلّ يومٍ في المقصورة، ووافى أوائل الحاجّ، وقدم من الشيعة نحوٌ من سبعين رجلاً، ولقوا حسيناً وغيره، فبلغ ذلك العمري، وأغلظ أمر العرض وألجأهم إلى الخروج، فجمع الحسين

ص: 332


1- في (بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 257): قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطيبةٍ وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتي
2- في المتن: (مئة وستّين).
3- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 161.

يحيى وسليمان وإدريس بني عبد الله بن الحسن وعبد الله بن الحسن الأفطس وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن المثلّث وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن المثنّى وعبد الله بن جعفر الصادق علیه السلام ، ووجّهوا إلى فتيانٍ من فتيانهم ومواليهم فاجتمعوا ستّةً وعشرين رجلاً من وُلد علي علیه السلام وعشرةً من الحاجّ وجماعةً من الموالي.

فلمّا أذّن المؤذّن الصبح دخلوا المسجد ونادوا: أجد أجد، وصعد الأفطس المنارة وجبر المؤذّن على قول: حيّ على خير العمل، فلمّا سمعه العمري أحسّ بالشرّ ودُهش، ومضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتّى نجا، وصلّى الحسين بالناس الصبح، ولم يتخلّف عنه أحدٌ من الطالبيّين إلّا الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن وموسى بن جعفر علیه السلام.

فخطب بعد الصلاة وقال بعد الحمد والثناء: أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله، أدعوكم إلى سُنّة رسول الله صلی الله علیه وآله. أيّها الناس، أتطلبون آثار رسول الله فيالحجر والعود تمسحون بذلك، وتضيّعون بضعةً منه؟

قالوا: فأقبل حمّاد البربري -- وكان مسلحةً للسلطان بالمدينة -- في السلاح، ومعه أصحابه حتّى وافوا باب المسجد، فقصده يحيى بن عبد الله وفي يده السيف، فأراد حمّاد أن ينزل فبدره يحيى فضربه على جبينه، وعليه البيضة والمغفر والقلنسوة، فقطع ذلك كلّه وأطار قحف رأسه، وسقط عن دابّته، وحمل على أصحابه فتفرّقوا وانهزموا، وحجّ في تلك السنة مبارك

ص: 333

التركي، فبدأ بالمدينة، فبلغه خبر الحسين، فبعث إليه من الليل: أنّي والله ما أُحبّ أن تبتلى بي ولا أُبتلى بك، فابعث الليلة إليّ نفراً من أصحابك ولو عشرةً يبيتون عسكري، حتّى أنهزم وأعتل بالبيات. ففعل ذلك الحسين، ووجّه عشرةً من أصحابه فجعجعوا بمبارك، وصبحوا في نواحي عسكره، فهرب وذهب إلى مكّة ((1)).

وروى الشيخ الكلينيّ أنّه لمّا خرج الحسين بن عليّ المقتول بفخّ واحتوى على المدينة، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة، فأتاه فقال له: «يا ابن عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابن عمّك عمَّك أبا عبد الله، فيخرج منّي ما لا أُريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد». فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً، فإن أردتَه دخلتَ فيه، وإن كرهتَه لم أحملك عليه، والله المستعان. ثمّ ودّعه، فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودّعه: «يا ابن عمّ، إنّك مقتول، فأجدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق، يُظهرون إيماناً ويسترون شركاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أحتسبكم عند الله منعصبة». ثمّ خرج الحسين، وكان من أمره ما كان، قُتلوا كلّهم كما قال علیه السلام ((2)).

وقال صاحب (مقاتل الطالبيّين): وحجّ في تلك السنة العبّاس بن محمّد وسليمان بن أبي جعفر وموسى بن عيسى، فصار مبارك معهم، واعتلّ

ص: 334


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 161، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 372 وما بعدها.
2- الكافي للكليني: 1 / 366 ح 18.

عليهم بالبيات، وخرج الحسين قاصداً إلى مكّة، ومعه مَن تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمئة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلمّا صاروا بفخّ تلقّتهم الجيوش، فعرض العبّاس على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشدّ الإباء، وكانت قادة الجيوش العبّاس وموسى وجعفر ومحمّد ابنا سليمان ومبارك التركي والحسن الحاجب وحسين بن يقطين، فالتقوا يوم التروية وقت الصلاة الصبح.

فكان أوّل مَن بدأهم موسى، فحملوا عليه، فاستطرد لهم شيئاً حتّى انحدروا في الوادي، وحمل عليهم محمّد بن سليمان مِن خلفهم، فطحنهم طحنةً واحدةً حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين، وجعلت المسوّدة تصيح بالحسين: يا حسين، لك الأمان! فيقول: لا أمان أُريد. ويحمل عليهم حتّى قُتل، وقُتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمّد نشّابةٌ في عينه، فتركها وجعل يقاتل أشدّ القتال حتّى أمنوه، ثمّ قتلوه ((1))، وقُتل ذلك اليوم أكثر السادة الحسنيّة.

ورُوي عن الإمام محمّد التقيّ الجواد علیه السلام قال: «لم يكنلنا بعد الطفّ مصرعٌ أعظم من فخّ» ((2)).

ص: 335


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 164، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 165.

وجاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعبّاس، وعندهما جماعةٌ من وُلد الحسن والحسين، فلم يسألا أحداً منهم إلّا موسى بن جعفر علیه السلام ، فقالا: هذا رأس حسين. قال: «نعم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله». فلم يجيبوه بشيء، وحُملت الأسرى إلى الهادي، فأمر بقتلهم، ومات في ذلك اليوم ((1)).

ورُوي عن جماعةٍ أنّ محمّد بن سليمان لمّا حضرته الوفاة جعلوا يلقّنونه الشهادة، وهو يقول:

ألا ليت أُمّي لم تلدني، ولم أكن***لقيتُ حسيناً يوم فخٍّ ولا الحسن

فجعل يردّدها حتّى مات ((2)).

ورُوي في كتاب (المقاتل): سُمع على مياه غطفان كلّها ليلة قُتل الحسين صاحب فخّ ((3)) نوح الجنّ.

وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ علیه السلام قال: «مرّ النبيّ صلی الله علیه وآله بفخّ، فنزل، فصلّى ركعة، فلمّا صلّى الثانية بكى وهو في الصلاة، فلمّا رأى الناس النبيّ صلی الله علیه وآله يبكي بكوا، فلمّا انصرف قال: ما يُبكيكم؟! قالوا: لمّا رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله. قال: نزل علَيّ جبرئيل لمّاصليتُ الركعة الأُولى، فقال لي: يا محمّد، إنّ رجلاً من

ص: 336


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 164، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 165، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 169، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 385.

وُلدك يُقتَل في هذا المكان، وأجر الشهيد معه أجر شهيدَين» ((1)).

ورُوي أيضاً عن الصادق علیه السلام أنّه صلّى في فخّ ركعتين، وقال: «يُقتل هاهنا رجلٌ من أهل بيتي، في عصابةٍ تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنّة» ((2)).

[ميثم التمّار]

وروى الشيخ المفيد أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأةٍ من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين علیه السلام منها وأعتقه، وقال له: «ما اسمك؟»، قال: سالم. قال: «أخبرني رسول الله صلی الله علیه وآله أنّ اسمك الّذي سمّاك به أبواك في العجم: مِيثم»، قال: صدق الله ورسوله وصدقتَ يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّه لَاسمي. قال: «فارجع

ص: 337


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 170.
2- في (بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 170): عن النضر بن قرواش قال: أكريتُ جعفرَ ابن محمّد؟ع؟ من المدينة، فلمّا رحلنا من بطن مر قال لي: «يا نضر، إذا انتهيت إلى فخّ فأعلِمْني». قلت: أوَلستَ تعرفه؟ قال: «بلى، ولكن أخشى أن تغلبني عيني». فلمّا انتهينا إلى فخّ دنوتُ من المحمل، فإذا هو نائم، فتنحنحتُ فلم ينتبه، فحرّكتُ المحمل فجلس، فقلت: قد بلغت. فقال: «حلّ محملي»، ثمّ قال: «صِلِ القطار»، فوصلتُه، ثمّ تنحّيتُ به عن الجادّة، فأنخت بعيره، فقال: «ناولني الإداوة والركوة»، فتوضّأ وصلّى، ثمّ ركب، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، رأيتك قد صنعت شيئاً، أفهو من مناسك الحجّ؟ قال: «لا، ولكن يُقتَل هاهنا رجلٌ من أهل بيتي، في عصابةٍ تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنّة».

إلى اسمك الّذي سمّاك به رسول الله صلی الله علیه وآله، ودَعْ سالماً». فرجع إلى مِيثم، واكتنى بأبي سالم ((1)).

وقد كان أطلعه عليٌّ علیه السلام على علمٍ كثيرٍ وأسرارٍ خفيّةٍ من أسرار الوصيّة، فكان ميثم يحدّث ببعض ذلك، فيشكّ فيه قومٌ من أهل الكوفة، وينسبون عليّاً علیه السلام إلى المخرقة والإيهام والتدليس، حتّى قال له يوماً بمحضرٍ من خلقٍ كثيرٍ من أصحابه وفيهم الشاكّ والمخلص: «إنّك تؤخَذ بعدي فتُصلَب، وتُطعَن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فيخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتُصلَب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة، وامضِ حتّى أُريك النخلة الّتي تُصلَب على جذعها»، فأراه إيّاها، فكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها، ويقول: بوركتِ من نخلة، لكِ خلقتُ ولي غُذّيتِ. ولم يزل يتعاهدها حتّى قُطعَت، وحتّى عرف الموضع الّذي يُصلَب عليها بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إنّي مجاورك، فأحسِن جواري. فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد.

وحجّ في السنة الّتي قُتل فيها، فدخل على أُمّ سلمة رضی الله عنها، فقالت: مَن أنت؟ قال: أنا ميثم. قالت: واللهِ لربّما سمعتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يوصي بك عليّاً

ص: 338


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 323.

في جوف الليل. فسألها عن الحسين، قالت: هو في حائطٍ له.قال: أخبريه أنّي قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله ((1)).

فدعَت [أُمُّ سلَمة] بطيبٍ فطيّبَت لحيته، فقال لها: أما إنّها ستُخضَب بدم. قالت: مَن أنبأك هذا؟ قال أنبأني سيّدي. [فبكت أُمّ سلمة] وقالت: إنّه ليس بسيّدك وحدك، هو سيّدي وسيّد المسلمين أجمعين. ثمّ ودّعته.

فقدم الكوفة، فأُخذ وأُدخل على عُبيد الله بن زياد، وقيل له: هذا كان مِن آثر الناس عند أبي تراب. قال: ويحكم، هذا الأعجمي؟! قالوا: نعم. فقال له عبيد الله: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد. قال: قد بلغني اختصاص أبي ترابٍ لك. قال: قد كان بعض ذلك، فما تريد؟ قال: وإنّه لَيقال: إنّه قد أخبرك بما سيلقاك. قال: نعم، إنّه أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، وأنا أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة. قال: لَأُخالفنّه. قال: ويحك! كيف تخالفه؟ إنّما أخبر عن رسول الله صلی الله علیه وآله، وأخبر رسول الله صلی الله علیه وآله عن جبرئيل، وأخبر جبرئيل عن الله، فكيف تخالف هؤلاء؟ أما والله لقد عرفتُ الموضع الّذي أُصلَب فيه أين هو من الكوفة، وإنّي لَأوّل خلق الله أُلجَم في الإسلام بلجامٍ كما يُلجَم الخيل.

فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عُبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار

ص: 339


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 323.

-- وهما في حبس ابن زياد -- : إنّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين علیه السلام ، فتقتل هذا الجبّار الّذي نحن في سجنه ((1)).فلمّا دعا عُبيد الله بالمختار ليقتله، طلع بريدٌ بكتاب يزيد إلى عُبيد الله يأمره بتخلية سبيله، فخلّاه، وأمر بميثم أن يُصلَب، فأُخرج، فقال له رجلٌ لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة: لها خلقتُ ولي غُذّيت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول: إنّي مجاورك. فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره ((2)).

فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم ومخازي بني أُميّة وهو مصلوبٌ على الخشبة، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه. فأُلجم، فكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام، فلمّا كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دماً ((3))، فلمّا كان يوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً ((4)).

وفي (روضة الواعظين) وغيره: رُوي عن أبي الحسن الرضا، عن أبيه،

ص: 340


1- بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 344.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 345.
4- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

عن آبائه (صلوات الله عليهم)، قال: «أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين علیه السلام ، فقيل له: إنّه نائم. فنادى بأعلى صوته: انتبه أيّها النائم، فوَاللهِ لَتُخضبنّ لحيتك من رأسك. فانتبه أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال: أدخلوا ميثماً. فقال: أيّها النائم، والله لَتخضبنّ لحيتك من رأسك. فقال: صدقت،وأنت واللهِ لَيقطّعنّ يداك ورجلاك ولسانك، ولَتقطعنّ النخلة الّتي في الكناسة، فتشقّ أربع قطع، فتصلب أنت على ربعها، وحِجْر بن عَديّ على ربعها، ومحمّد بن أكتم على ربعها، وخالد بن مسعود على ربعها.

قال ميثم: فشككت في نفسي، وقلت: إنّ عليّاً لَيخبرنا بالغيب! فقلت له: أوَ كائنٌ ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إي وربّ الكعبة، كذا عهده إليّ النبيّ صلی الله علیه وآله. قال: فقلت: لمَ يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لَيأخذنّك العُتلّ الزنيم ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد. قال: وكان يخرج إلى الجبّانة وأنا معه، فيمرّ بالنخلة، فيقول لي: يا ميثم، إنّ لك ولها شأناً من الشأن.

قال: فلمّا ولي عُبيد الله بن زياد الكوفة ودخلها، تعلّق علمه بالنخلة الّتي بالكناسة، فتخرق فتطيّر من ذلك، فأمر بقطعها، فاشتراها رجلٌ من النجّارين، فشقّها أربع قطع. قال ميثم: فقلت لصالح ابني: فخذ مسماراً من حديدٍ فانقش عليه اسمي واسم أبي، ودقّه في بعض تلك الأجذاع.

قال: فلمّا مضى بعد ذلك أيّام أتوني قومٌ من أهل السوق، فقالوا: يا ميثم، انهض معنا إلى الأمير نشتكي إليه عامل السوق، فنسأله أن يعزله عنّا ويولّي علينا غيره. قال: وكنت خطيب القوم، فنصت لي وأعجبه منطقي، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، تعرف هذا المتكلّم؟ قال: ومَن هو؟ قال: ميثم التمّار

ص: 341

الكذّاب مولى الكذّاب عليّ بن أبي طالب. قال: فاستوى جالساً، فقال لي: ما تقول؟ فقلت: كذب، أصلح الله الأمير، بل أنا الصادق مولى الصادق عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنينحقّاً. فقال لي: لَتبرأنّ من عليّ ولَتذكرنّ مساويه، وتتولّى عثمان وتذكر محاسنه، أو لَأقطّعنّ يديك ورجليك ولَأصلبنّك. فبكيت، فقال لي: بكيت من القول دون الفعل! فقلت: واللهِ ما بكيت من القول ولا من الفعل، ولكنّي بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم أخبرني سيّدي ومولاي. فقال لي: وما قال لك؟ قال: فقلت: أتيتُه الباب، فقيل لي: إنّه نائم. فناديت: انتبه أيّها النائم، فوَاللهِ لَتخضبنّ لحيتك من رأسك. فقال: صدقت، وأنت واللهِ لَيقطعنّ يداك ورجلاك ولسانك، ولَتصلبنّ. فقلت: ومَن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: يأخذك العُتلّ الزنيم ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد. قال: فامتلأ غيظاً، ثمّ قال لي: والله لَأُقطعنّ يديك ورجليك، ولَأدعنّ لسانك حتّى أكذبك وأكذب مولاك.

فأمر به فقُطعَت يداه ورجلاه، ثمّ أُخرج، وأمر به أن يُصلب، فنادى بأعلى صوته: أيّها الناس، مَن أراد أن يسمع الحديث المكنون عن عليّ بن أبي طالب. قال: فاجتمع الناس، وأقبل يحدّثهم بالعجائب. قال: وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله، فقال: ما هذه الجماعة؟ قال: ميثم التمّار يحدّث الناس عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. قال: فانصرف مسرعاً، فقال: أصلح الله الأمير، بادر فابعث إلى هذا مَن يقطع لسانه، فإنّي لستُ آمن أن يتغيّر قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك. فالتفت إلى حرسيّ فوق رأسه فقال: اذهب فاقطع لسانه.قال: فأتاه الحرسيّ وقال له: يا ميثم. قال: ما تشاء؟ قال: أخرِجْ لسانك، فقد أمرني الأمير بقطعه. قال ميثم: ألا زعم ابن الأَمة الفاجرة أنّه يكذبني ويكذب مولاي؟ هاك لساني! قال: فقطع لسانه،

ص: 342

وتشحّط ساعةً في دمه، ثمّ مات، وأمر به فصُلب.

قال صالح: فمضيت بعد ذلك بأيّام، فإذا هو قد صُلب على الربع الّذي كتبت ودققت فيه المسمار» ((1)).

ورُوي أنّه اجتمع سبعةٌ من التمّارين فحملوه ليلاً، والحرّاس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بينهم وبينهم، حتّى انتهوا به إلى بعض ماء في مراد فدفنوه فيه، فأصبح، وبعث الخيل فلم يجد شيئاً ((2)).

قال المؤلّف: اجتمع التمّارون وحملتهم الغَيرة على ميثم لمجرّد أنّهم يشاركونه في المهنة، والحال أنّ ثمّة مَن يدّعي الإسلام وقد ترك بدن ريحانة النبي مبضَّعاً إرباً إرباً على الصعيد بكربلاء، فلو لم تحرّكهم الغيرة والحميّة وهم ليسوا مسلمين لَكان عليهم أن يدفنوه كما دفنوا جيَفَهم، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

ورُوي أنّ ميثم لقي ابن عبّاس في بيته، فسلّم عليه، فقال: يا ابن عبّاس، سَلْني ما شئتَ من تفسير القرآن، فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين وعلّمَني تأويله. فقال: يا جارية، هاتي الدواة والقرطاس. فأقبل يكتب، فقال: يا ابن عبّاس، كيف بك إذا رأيتني مصلوباً تاسع تسعة،

ص: 343


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 131، روضة الواعظين للفتّال: 2 / 288.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 129 ح 12، اختيار معرفة الرجال: 1 / 295 ح 138.

أقصرهم خشبة وأقربهم بالمطهرة؟ فقال ابن عبّاس: فتكهّن أيضاً. وخرق الكتاب، فقال: احتفظْ بما سمعتَ منّي، فإن يكُ ما أقوللك حقّاً أمسكتَه، وإن يكُ باطلاً خرقته. فقدم الكوفة ((1))، فكان ما قال.

ورُوي أنّه كان ميثم التمّار يمرّ بعريف عُبيد الله بن زياد، فيقول له: يا فلان، كأنّي بك وقد دعاك دعيّ بني أُميّة وابن دعيّها يطلبني منك، فتقول: هو بمكّة، فيقول: ما أدري ما تقول، ولابدّ لك أن تأتي به، فتخرج إلى القادسيّة فتقيم بها أيّاماً، فإذا قدمتُ إليك ذهبتَ بي إليه حتّى يقتلني، وأُصلَب على باب دار عمرو بن حريث ... ((2)).

ثمّ خرج ميثم إلى مكّة، فأرسل الطاغوت عبيد الله بن زياد (لعنه الله) عريف ميثم يطلبه منه، فأخبره أنّه بمكّة، فقال: لئن لم تأتِني به لَأقتلنّك. فأجّله أجلاً.

وخرج العريف إلى القادسيّة ينظر ميثم، فلمّا قدم ميثم أخذ بيده فأتى به إلى ابن زياد (لعنه الله)، فلمّا أدخله عليه ((3))، فقيل: هذا كان من آثر الناس عند عليّ. قال: ويحكم! هذا الأعجمي؟! قيل له: نعم. قال له عبيد

ص: 344


1- تظلّم الزهراء للقزويني: 507.
2- الهداية الكبرى للخصيبي: 133، الخرائج للراوندي: 1 / 229.
3- الهداية الكبرى للخصيبي: 133.

الله: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلَمة. قال: إنّك على عجمتك لَتبلغ الّذي تريد، ما أخبرك صاحبك أنّي فاعلٌ بك؟ ((1)) فجرى بينهما كلام، وأمر بميثم أن يُصلَب..

فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. قال عمرو: قد كان والله يقول: إنّي مجاورك. فلمّا صُلب أمرجاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه..

فلمّا كان يوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمُه وأنفه دماً ((2)).

وفي (البحار): عن أبي خالد التمّار قال: كنتُ مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريحٌ وهو في سفينةٍ من سُفن الرمان، قال: فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدّوا برأس سفينتكم، إنّ هذا ريحٌ عاصف، مات معاوية الساعة! قال: فلمّا كانت الجمعة المقبلة قدم بريدٌ من الشام، فلقيتُه فاستخبرتُه، فقلت له: يا عبد الله، ما الخبر؟ قال: الناس على أحسن حال، تُوفّي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد. قال: قلت: أيّ يومٍ توفُي؟ قال: يوم

ص: 345


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 324.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

الجمعة ((1)).

وروى في (رجال الكشّي) قال: مرّ ميثم التمّار على فرسٍ له، فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسديّ عند مجلس بني أسد، فتحدّثا حتّى اختلفت أعناقُ فرسَيهما، ثمّ قال حبيب: لَكأنّي بشيخٍ أصلع ضخم البطن يبيع البطّيخ عند دار الرزق قد صُلب في حُبّ أهل بيت نبيّه صلی الله علیه وآله، ويُبقَر بطنه على الخشبة. فقال ميثم: وإنّي لَأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه ويُقتَل،ويُجال برأسه بالكوفة. ثمّ افترقا.

فقال أهل المجلس: ما رأينا أحداً أكذب من هذين. قال: فلم يفترق أهل المجلس حتّى أقبل رُشَيد الهجريّ فطلبهما، فسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا: افترقا، وسمعناهما يقولان كذا وكذا. فقال رشيد: رحم الله ميثماً، نسي: ويُزاد في عطاء الّذي يجيء بالرأس مئة درهم. ثمّ أدبر. فقال القوم: هذا واللهِ أكذبهم.

فقال القوم: واللهِ ما ذهبَت الأيّام والليالي حتّى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث، وجيء برأس حبيب بن مظاهر وقد قُتل مع الحسين، ورأينا كلَّ ما قالوا.

وكان حبيب من السبعين الرجال الّذين نصروا الحسين علیه السلام ، ولقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوفَ بوجوههم، وهم يُعرض

ص: 346


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 128 ح 10، اختيار معرفة الرجال: 1 / 293 ح 135.

عليهم الأمان والأموال فيأبون، فيقولون: لا عذر لنا عند رسول الله إن قُتل الحسين ومنّا عينٌ تطرف. حتّى قُتلوا حوله.

ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسديّ، فقال له يزيد بن حُصَين الهمدانيّ ((1)) -- وكان يُقال له: سيّد القرّاء -- : يا أخي، ليس هذه بساعة ضحك. قال: فأيّ موضعٍ أحقّ مِن هذا بالسرور؟ واللهِ ما هو إلّا أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين ((2)).

[رشيد الهجري]

اشارة

وفي (روضة الواعظين): رُوي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام خرج يوماً إلى بستان البري -- موضعٌ في ظهر الكوفة -- ومعه أصحابه، فجلس تحت نخلة، ثمّ أمر بنخلةٍ فلُقطَت، فأُنزل منها رطبٌ فوُضع بين أيديهم، فقال رشيد الهجري: يا أمير المؤمنين، ما أطيب هذا الرطب! فقال: «يا رشيد، أما إنّك تُصلب على جذعها».

قال رشيد: فكنت أختلف إليها طرفَي النهار أسقيها، ومضى أمير المؤمنين علیه السلام. قال رشيد: فجئتها يوماً وقد قُطع سعفها، قلت: اقترب أجلي! ثمّ جئت يوماً فجاء العريف فقال: أجِبْ الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر

ص: 347


1- في المتن: (بُرَير الهمداني).
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 92 ح 33، اختيار معرفة الرجال: 1 / 292 ح 133.

إذا بخشبٍ ملقى، ثمّ جئت يوماً آخر فإذا النصف الآخَر قد جُعل زرنوقاً يستقى الماء عليه، فقلت: ما كذبني خليلي. فأتاني العريف فقال: أجب الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى، وإذا فيه الزرنوق، فجئت حتّى ضربت الزرنوق برجلي، ثمّ قلت: لك غُذّيت ولي أُنبتّ.

ثمّ أُدخلت على عُبيد الله بن زياد، فقال: هاتِ من كذب صاحبك. قلت: واللهِ ما أنا بكذّاب، ولقد أخبرني أنّك تقطع يدي ورجلي ولساني. فقال: إذاً نكذبه، اقطع يده ورجله وأخرجوه.

فلمّا حُمل إلى أهله أقبل يحدّث الناس بالعظائم، وهو يقول: سلوني، فإنّ للقوم عندي طلبةٌ لم يقضوها. فدخل رجلٌ على ابن زياد فقال له: ما صنعت؟ قطعت يدَه ورجله وهو يحدّث الناس بالعظائم! قال: فأرسل إليه، فردّوه وقد انتهى إلى بابه، فردّوه، فأمر بقطعلسانه ويديه ورجليه، وأمر بصلبه ((1)).

[خبر بنت رشيد]

في (أمالي) الشيخ الطوسيّ: عن أبي حسّان العجليّ قال: لقيتُ أَمة الله بنت راشد الهجريّ، فقلت لها: أخبريني بما سمعتِ من أبيك. قالت: سمعتُه يقول:

ص: 348


1- روضة الواعظين للفتّال: 2 / 287.

قال لي حبيبي أمير المؤمنين علیه السلام: «يا راشد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني أُميّة، فقطع يديك ورجليك ولسانك؟». فقلت: يا أمير المؤمنين، أيكون آخر ذلك إلى الجنّة؟ قال: «نعم يا راشد، وأنت معي في الدنيا والآخرة».

قالت: فوَاللهِ ما ذهبَت الأيّام حتى أرسل إليه الدعيّ عبيد الله بن زياد، فدعاه إلى البراءة منه، فقال له ابن زياد: فبأيّ ميتةٍ قال لك صاحبُك تموت؟ قال: خبّرني خليلي (صلوات الله عليه) أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرّأ، فتقدّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني. فقال: واللهِ لَأكذبنّ صاحبك، قدِّموه واقطعوا يده ورجله واتركوا لسانه. فقطعوه، ثمّ حملوه إلى منزلنا.

فقلت له: يا أبتِ جُعلتُ فداك، هل تجد لما أصابك ألماً؟ قال: لا والله يا بُنيّة، إلّا كالزحام بين الناس.

ثمّ دخل عليه جيرانه ومعارفه يتوجّعون له، فقال: آتوني بصحيفةٍ ودواةٍ أذكر لكم ما يكون ممّا أعلمنيه مولاي أمير المؤمنين علیه السلام. فأتوه بصحيفةٍ ودواة، فجعل يذكر ويُملي عليهم أخبار الملاحم والكائنات، ويُسندها إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، فبلغذلك ابن زياد، فأرسل إليه الحجّام حتّى قطع لسانه، فمات من ليلته تلك.

وكان أمير المؤمنين علیه السلام يسمّيه: راشد المبتلى، وكان قد ألقى إليه علم

ص: 349

البلايا والمنايا، فكان يلقى الرجل ويقول له: يا فلان بن فلان، تموت ميتة كذا، وأنت يا فلان تُقتَل قتلة كذا، فيكون الأمر كما قاله راشد رحمه الله ((1)).

وعن زياد بن النضر الحارثي قال: كنتُ عند زيادٍ إذ أُتي برشيد الهجري، فقال له زياد: ما قال لك صاحبك -- يعني عليّاً علیه السلام -- إنّا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني. فقال زياد: أمَ والله لَأكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلمّا أراد أن يخرج قال زياد: واللهِ ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال صاحبُه، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه. فقال رشيد: هيهات، قد بقي لي عندكم شيءٌ أخبرني به أمير المؤمنين علیه السلام. قال زياد: اقطعوا لسانه. فقال رشيد: الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين علیه السلام.

وهذا حديثٌ قد نقله المؤالف والمخالف ((2)).

[مزرع بن عبد الله]

وفي (الإرشاد) للمفيد: عن أبي العالية قال: حدّثني مزرع بن عبد الله قال: سمعتُ أمير المؤمنين علیه السلام يقول: «أمَ واللهِ لَيقبلنجيشٌ، حتّى إذا كان بالبيداء خُسف بهم». فقلت له: إنّك لَتحدّثني بالغيب! قال: احفظ ما أقول

ص: 350


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 121 الباب 122 ح 1، الأمالي للطوسي: 165 المجلس 6ح 276.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

لك، واللهِ لَيكوننّ ما خبّرني به أمير المؤمنين علیه السلام ، ولَيؤخذن رجلٌ فلَيُقتلنّ ولَيُصلبنّ بين شرفتين من شُرف هذا المسجد. قلت: إنّك لَتحدّثني بالغيب! قال: حدّثني الثقة المأمون عليّ بن أبي طالب علیه السلام.

قال أبو العالية: فما أتت علينا جمعةٌ حتّى أُخذ مزرع فقُتل وصُلب بين الشرفتين، قال: وقد كان حدّثني بثالثةٍ فنسيتُها ((1)).

[الكميل بن زياد النخعي]

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد) أيضاً، عن جرير، عن المغيرة قال: لمّا ولي الحجّاج طلب كميل بن زياد، فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخٌ كبيرٌ قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطيّاتهم. فخرج، فدفع بيده إلى الحجّاج.

فلمّا رآه قال له: لقد كنتُ أُحبّ أن أجد عليك سبيلاً. فقال له كميل: لا تصرف علَيّ أنيابك ولا تهدم علَيّ، فواللهِ ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار، فاقضِ ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وبعد القتل الحساب، ولقد خبّرني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنّك قاتلي. قال: فقال له الحجّاج: الحجّة عليك إذن. فقال كميل: ذاك إن كان القضاء إليك. قال:

ص: 351


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 326.

بلى، قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفّان، اضربوا عنقه. فضُربت عنقُه ((1)).

وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون

ورُوي في (الإرشاد) أيضاً أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أُحبّ أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب، فأتقرّب إلى الله بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه.

فبعث في طلبه فأُتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو همدان؟ قال: نعم. قال مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: اَلله مولاي، وأمير المؤمنين عليٌّ وليّ نعمتي. قال: ابرأْ من دِينه. قال: فإذا برئتُ من دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه؟ فقال: إنّي قاتلك، فاختر أيَّ قتلةٍ أحبّ إليك. قال: قد صيّرتُ ذلك إليك. قال: ولمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلّا قتلتُك مثلها، ولقد خبّرني أمير المؤمنين علیه السلام أنّ منيّتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حقّ. قال: فأمر به فذُبح ((2)).

وفي (البحار) أنّ قنبراً مولى أمير المؤمنين علیه السلام دخل على الحجّاج بن يوسف، فقال له: ما الّذي كنتَ تلي من عليّ بن أبي طالب؟ فقال: كنتُ

ص: 352


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 327.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 328.

أُوضّيه. فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ *فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)). فقال الحجّاج: أظنُّه كان يتأوّلها علينا. قال: نعم. فقال: ما أنت صانعٌ إذا ضربتُ علاوتك؟ قال: إذن أسعد وتشقى. فأمر به ((2)).

[سعيد بن جُبير]

وفي (حياة الحيوان): قال عون بن أبي شدّاد العبدي: بلغني أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي لمّا ذُكر له سعيد بن جُبير (رحمة اللَّه تعالى عليه) بعد قتل عبد الرحمان بن الأشعث، أرسل إليه قائداً من أهل الشأم من خاصّة أصحابه، فبينما هم يطلبون إذا هم براهبٍ في صومعةٍ له، فسألوه عنه، فقال الراهب: صِفُوه لي. فوصفوه له، فدلّهم عليه، فانطلقوا، فوجدوه ساجداً يناجي ربّه (تعالى) بأعلى صوته، فدنوا منه وسلّموا عليه، فرفع رأسه، فأتمّ بقيّة صلاته، ثمّ ردّ عليهم السلام، فقالوا له: إنّ الحجّاج أرسل إليك فأجِبْه. فقال: ولابدّ من الإجابة؟ فقالوا: لابدّ. فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله.

ص: 353


1- سورة الأنعام: 44 و45.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 135، اختيار معرفة الرجال: 1 / 290 ح 130.

ثمّ قام يمشي معهم حتّى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان، أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإنّ اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجِّلوا الدخول قبل المساء. ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضی الله عنه أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلّا تريد الهرب منّا؟ قال: لا، ولكنّي لا أدخل منزلمشركٍ أبداً. فقالوا: إن لا ندعك فإنّ السباع تقتلك. قال سعيد: فإنّ معي ربّي يصرفها عنّي، ويجعلها حرّاساً حولي تحرسني من كلّ سوء، إن شاء اللَّه (تعالى). قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكنّي عبدٌ من عباد اللَّه خاطىءٌ مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنّك لا تبرح. فحلف لهم.

فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القِسيّ لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنّه كره الدخول علَيّ في الصومعة. فدخلوا، وأوتروا القِسيّ، فإذا هم بلبوةٍ قد أقبلَت، فلمّا دنت من سعيد بن جُبيرٍ تحكّكت به وتمسّحت به، ثمّ ربضت قريباً منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلمّا رأى الراهب ذلك دخلَت في قلبه هيبة، فلمّا أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دِينه وسنن نبيّه صلی الله علیه وآله، فقرّر له سعيد ذلك كلّه، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.

وأقبل القوم على سعيدٍ يعتذرون إليه ويقبّلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطأه بالليل يصلّون عليه، ويقولون: يا سعيد، حلّفنا الحجّاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتّى نُشخصك إليه، فمُرنا بما

ص: 354

شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم، فإنّي لائذٌ بخالقي، ولا رادّ لقضاء ربّي.

فساروا حتّى وصلوا إلى واسط، فلمّا انتهوا إليها قال لهم سعيد رضی الله عنه: يا معشر القوم، قد تحرّمت بكم وصحبتكم، ولستُ أشكّ أنّ أجلي قد قرب وحضر، وأنّ المدّة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبّة الموت، وأستعدّ لمنكرٍ ونكير، وأذكر عذاب القبر وما يُحثى علَيّ من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الّذي تريدون. فقال بعضهم: لا نريد أثراً بعد عين. وقالبعضهم: إنّكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علَيّ، أدفعه إليكم إن شاء اللَّه (تعالى). فنظروا إلى سعيد وقد دمعَت عيناه واغبرّ لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك ولم نُرسَل لك، الويل لنا، كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنّه القاضي الأكبر، والعادلُ الّذي لا يجوز. فلمّا فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك باللَّه يا سعيد إلّا ما زوّدتنا من دعائك وكلامك، فإنّا لن نلقي مثلك أبداً. فدعا لهم سعيد رضی الله عنه، ثمّ خلّوا سبيله.

فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت ليله كلّه، وهم مختفون الليل كلّه، فلمّا انشقّ عمود الصبح جاءهم سعيد بن جُبير رضی الله عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم وربِّ الكعبة. فنزلوا إليه، فبكى وبكوا معه طويلاً، ثمّ ذهبوا به إلى الحجّاج، فدخل عليه المتلمّس

ص: 355

فسلّم عليه، وبشّره بقدوم سعيد بن جبير.

فلمّا مَثُل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جُبير. فقال: بل أنت شقيّ بن كسير. قال سعيد: بل أُمّي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجّاج: شقيت أنت وشقيَت أُمُّك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرُك. قال الحجّاج: لَأُبدلنّك بالدنيا ناراً تلظّى. قال: لو علمتُ أنّ بيدك لاتّخذتُك إلهاً. قال: فما قولك في محمّد صلی الله علیه وآله قال: نبيّ الرحمة. قال: فما قولك في عليّ، أفي الجنّة هو أَم النار؟ قال: لو دخلتُهما وعرفتُ أهلهما عرفتُ مَن فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لستُ عليهم بوكيل. قال: فأيّهم أعجب إليك؟ قال:أرضاهم لخالقه. قال: فأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الّذي يعلم سرّهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوقٌ خُلق من الطين، والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستوِ القلوب.

قال: ثمّ إنّ الحجّاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت وغير ذلك من الجواهر، فوُضعَت بين يدَي سعيد، فقال سعيد رضی الله عنه: إن كنتَ جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلّا ففزعةٌ واحدةٌ تذهل كلّ مرضعةٍ عما أرضعت، لا خير في شيءٍ جُمع للدنيا إلّا ما طاب وزكا.

ثمّ دعا الحجّاج بآلات اللهو، فضُربت بين يدَي سعيد، فبكى سعيد، فقال الحجّاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زُحزح عن الجنّة وأُدخل النار.

ص: 356

فقال: يا سعيد، أيّ قتلةٍ تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجّاج، فوَاللَّهِ لا تقتلني قتلةً إلّا قتلك اللَّه مثلها في الآخرة. قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من اللَّه فنعم، وأمّا منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه.

فلما أُخرج من الباب ضحك، فأُخبر الحجّاج بذلك، فأمر بردّه، فقال: ما أضحكك وقد بلغني أنّ لك أربعين سنةً لم تضحك؟! قال: ضحكت عجباً من جرأتك على اللَّه، ومن حِلم اللَّه عليك. فأمر بالنطع فبُسط بين يديه، وقال: اقتلوه. فقال سعيد: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ((1))، ثمّ قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِوالأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ((2)). قال: وجّهوه لغير القبلة. فقال سعيد: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله» ((3)). فقال: كبّوه لوجهه. فقال: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» ((4)). فقال الحجّاج: اذبحوه! فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ قال: اللّهم لا تسلّطه على أحدٍ يقتله بعدي. فذُبح على النطع (رحمة اللَّه تعالى عليه)، فكان رأسه

ص: 357


1- سورة الأنبياء: 35.
2- سورة الأنعام: 79.
3- سورة البقرة: 115.
4- سورة طه: 55.

يقول بعد قطعه: لا إله إلّا اللَّه، مراراً، وذلك في شعبان سنة خمسٍ وتسعين.

وكان عمر سعيد تسعاً وأربعين سنة، وعاش الحجّاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلَّط على قتل أحدٍ بعده ((1)).

وفي بعض الكتب أنّ سعيد بن جبير آخر من قتله الحجّاج ((2)).

وكان سعيد يأتمّ بعليّ بن الحسين، وكان أمير المؤمنين عليّ علیه السلام يُثني عليه، وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر ((3)).

ورُوي أنّه لمّا أُدخل عليه قال له الحجّاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: بل شقيّ بن كسير. قال: أُمّي سمّتني سعيداً. قال: شقيتَ أنت وأُمُّك. قال: الغيب يعلمه غيرُك. قال له الحجّاج: أما واللهلَأُبدلنّك من دنياك ناراً تلظّى. قال سعيد: لو علمتُ أنّ ذلك إليك ما اتّخذتُ إلهاً غيرك.

ثمّ قال له الحجّاج: ما تقول في رسول الله صلی الله علیه وآله قال: نبيٌّ مصطفى، خيرُ الباقين وخير الماضين. قال: فما تقول في أبي بكرٍ الصدّيق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعزّ به الدين وجمع به بعد الفرقة. قال: وما تقول في عمر بن الخطّاب؟ قال: فاروق الله وخيرته من خلقه، أحبّ الله أن يعزّ الدين بأحد الرجلين، فكان أحقّهما بالخيرة والفضيلة. قال: فما تقول في عثمان؟ قال:

ص: 358


1- حياة الحيوان للدميري: 2 / 426.
2- أُنظُر: رياض الأبرار: 2 / 63، مجمع البحرين: 2 / 287.
3- روضة الواعظين للفتّال: 290.

مجهّز جيش العُسرة، والمشتري بيتاً في الجنّة، والمقتول ظلماً. قال: فما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال: أوّلهم إسلاماً، تزوّج بنت رسول الله صلی الله علیه وآله الّتي هي أحبّ بناته. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله صلی الله علیه وآله. قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله صلی الله علیه وآله إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم، فمسرورٌ ومثبور، لستُ عليهم بوكيل. قال: فما تقول في عبد الملك ابن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله. قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بثّ في علمك. قال: إذن أسوؤك ولا أسرّك. قال: بث. قال: نعم، ظهر منك جَورٌ في حدّ الله وجرأةٌ على معاصيه بقتلك أولياء الله. قال: واللهِ لَأقطّعنّك قطعاً، ولَأُفرقنّ أعضاءك عضواً عضواً. قال: إذن تُفسد علَيّ دنياي وأُفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك. قال: الويل لك من الله. قال: الويل لمن زُحزح عن الجنّة وأُدخل النار. قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه. قال سعيد: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أستحفظكها حتّى ألقاك يوم القيامة.ولمّا ذهبوا به ليُقتَل تبسّم، فقال له الحجّاج: ممَّ ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عزوجل. فقال الحجّاج: أضجِعوه للذبح. فأُضجع، فقال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ». فقال الحجّاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. فقرأ سعيد: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله». فقال: كبّوه على وجهه.

ص: 359

فقرأ سعيد: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى». فذُبح من قفاه ((1)).

قال المؤلّف: ما أشبه شهادة سعيد بشهادة سيّد الشهداء علیه السلام، إذ ذبحه الشمر اللعين من القفا.

وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.

[في بعض أحوال الحجّاج (لعنه الله)]

ورُوي عن الشافعيّ أنّه قال: عاش الحجّاج بعد قتل سعيد أربعين يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً ((2))، وقيل: ثلاثة أيّام ((3))، ولم يفرغ من قتله حتّى خولط في عقله ((4))، وكان يُغمى عليه ثمّ يفيق ((5))، وكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدوّ الله، فيمَ قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جُبير، ما لي ولسعيد بن جبير!((6))

ص: 360


1- المنتظم لابن الجوزي: 7 / 8، الفتوح لابن أعثم: 7 / 106، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 61.
2- أُنظُر: البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 177، المنتظم لابن الجوزي: 7 / 9.
3- أُنظُر: المنتظم لابن الجوزي: 7 / 9.
4- أُنظُر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 63، أنساب الأشراف للبلاذري: 7 / 364.
5- أُنظُر: تاريخ الإسلام للذهبي: 6 / 369.
6- تاريخ الطبري: 5 / 262.

وذُكر أنّ الحجّاج في مدّة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جُبير آخذاً بمجامع ثوبه، ويقول له: يا عدوّ اللَّه، فيمَ قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ((1))

وقيل: وقعت الآكلة في بطنه، فأخذ الطبيب لحماً وجعله في خيطٍ وأرسله في حلقه، ثمّ استخرجه وقد لصق الدودُ به، فعلم أنّه ليس بناج ((2)).

وفي (مجمع البحرين) عند ذكر الجبّارين الّذين قصدوا الكوفة بسوءٍ فأهلكهم الله، قال: ومنهم الحجّاج، تولّدت في بطنه الحيّات، واحترق دُبره حتّى هلك ((3)).

قال المسعودي: وُلد الحجّاج بن يوسف مشوَّهاً لا دبر له، فثُقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثديَ أُمّه أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إنّ الشيطان تصوّر لهم في صورة الحارث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابنٌ وُلد ليوسف من القارعة، وكان اسمها، وقد أبى أن يقبل ثدي أُمّه أو غيرها. فقال: اذبحوا جَدْياً أسود وأولِغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به

ص: 361


1- موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 372، البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 115، تاريخ الطبري: 5 / 263.
2- المنتظم لابن الجوزي: 7 / 3.
3- مجمع البحرين للطريحي: 3 / 240.

كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تَيساً أسود وأولغوه دمه، ثمّ اذبحوا له أسود سالخاً فأولغوه دمه واطلو به وجهه، فإنّهيقبل الثدي في اليوم الرابع. قال: ففعلوا به ذلك، فكان بعدُ لا يصبر عن سفك الدماء ((1)).

ونقل البعض أنّ الحجّاج كان مخنّثاً، وكان يأخذ الخنفساء ويجعلها على مقعدته لتعضّ ذلك الموضع فتسكن بعض علّته.

و من قصته أنّه كان يوماً يصلّي على سجّادة، فجاءت خنفساء تدبّ إليه، فقال: نحّوا هذه عنّي، فإنها وذحة الشيطان ((2)).

وكان في عشرين سنةً مدّة ولايته سفّاكاً لدماء الطالبيّين، وفتّاكاً للسادة العلويّين، ساعياً سيّد الساجدين إلى عبد الملك بن مروان، هتّاكاً للنساء الهاشميّات وبنات الفاطميّات.

ذُكر في كتب السيَر اتّفاقاً منهم على أنّه بلغ مِن قتله صبراً سوى مَن قتله في الحرب مئة ألفٍ وعشرين ألفاً، فلمّا مات قيل: كان في محبسه ثمانون ألفاً، خمسة آلافٍ من الرجال الزهّاد وخير كلّ وادٍ وبلاد، وثلاثون ألفاً من النساء المحرّمات وقانتات السادات، يريد أن يقتلهم عن آخِرهم فلم يتيسّر له ((3)).

ص: 362


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 125.
2- مجمع البحرين للطريحي: 2 / 423.
3- تظلّم الزهراء للقزويني: 531، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.

ونقل في (نوادر الصالحين) أنّه وُجد في سجنه مئة ألفٍ وأربعة آلاف رجل وعشرون ألف امرأة، منها أربعة آلاف نسوة عرات، وكان محبس الرجال والنسوة واحداً، وكان حائط محوطاً لا سقف له، فإذا عمد المسجونون إلى الجدران يستظلّون بها من حرّ الشمس رمتهم الحرس بالحجارة والأثلب، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطاً بالملح والرماد، وكان لا يلبث الرجل في سجنه حتّى يسودّويصير كأنّه زنجي، حتّى إنّ غلاماً حُبس فيه فجاءت إليه أُمّه بعد أيّامٍ تتعرّف خبره، فلمّا تقدّم إليها أنكرته وقالت: ليس هذا ابني، هذا بعض الزنوج. فقال: لا والله يا أُمّاه، أنتِ فلانة، وإنّي فلان. فلمّا عرفته شهقت شهقةً كانت فيها نفسها ((1)).

ونقل أنّه جاء يوماً مسجداً، فضجّ أهل السجن ضجّةً شديدة، فاستخبر، فقيل: أهل السجن يضجّون من حرّ الرمضاء. فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلِّمون ((2)).

ونقل إنّه لمّا نصب الحجّاج المنجنيق لرمي الكعبة، جاءت صاعقةٌ حرقت المنجنيق، فتقاعد أصحابه عن الرمي، فقال الحجّاج: لا عليكم من ذلك، فإنّ هذه كناء القربان دلّت على أنّ فعلكم متقبّل ((3)).

ص: 363


1- تظلّم الزهراء للقزويني: 531، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.
2- تظلّم الزهراء للقزويني: 532.
3- تظلّم الزهراء للقزويني: 532، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.

وفي (المنتخب): عن الشعبيّ الحافظ لكتاب الله (تعالى) أنّه قال: استدعاني الحجّاج بن يوسف في يوم عيد الضحيّة، فقال لي: أيّها الشيخ، أيّ يومٍ هذا؟ فقلت: هذا يوم الضحيّة. قال: بمَ يتقرّب الناس في مثل هذا اليوم؟ فقلت: بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والتقوى. فقال: اعلم أنّي قد عزمتُ أن أُضحّي برجلٍ حسينيّ.

قال الشعبي: فبينما هو يخاطبني إذ سمعت من خلفي صوتاً لسلسلةٍ وحديد، فخشيت أن ألتفت فيستخفنّي، وإذا قد مثل بين يديه رجلٌ علوي، وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد، فقال له الحجّاج: ألست فلان ابن فلان العلويّ؟ قال: نعم، أنا ذلك الرجل.فقال له: أنت القائل: إنّ الحسن والحسين من ذريّة رسول الله؟ قال: ما قلت ولا أقول، ولكن أقول: إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج. قال: وكان متّكئاً على مسندةٍ فاستوى جالساً، وقد اشتدّ غيظه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته، فدعا ببردةٍ غيرها فلبسها، ثمّ قال للرجل: يا ويلك، إن تأتيني بدليلٍ من القرآن يدلّ أنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه، وإلّا قتلتك في هذا الحين أشرّ قتلة، وإن أتيتني بما يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البردة الّتي بيدي وخلّيتُ سبيلك.

قال: وكنتُ حافظاً كتاب الله (تعالى) كلّه وأعرف وعده ووعيده وناسخه ومنسوخه، فلم تخطر على بالي آيةً تدلّ على ذلك، فحزنتُ وقلتُ

ص: 364

في نفسي: يعزّ والله علَيّ ذهاب هذا الرجل العلوي. قال: فابتدأ الرجل يقرأ الآية، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال: لعلّك تريد أن تحتجّ علَيّ بآية المباهلة، وهي قوله (تعالى): «قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ» ((1)). فقال العلوي: هي والله حجّةٌ مؤكّدةٌ معتمدة، ولكنّي آتيك بغيرها. ثمّ ابتدأ يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، «وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى» ((2))، وسكت، فقال له الحجّاج: فلمَ لاقلت: «وعيسى»؟ أنسيتَ عيسى؟ فقال: نعم، صدقتَ يا حجّاج، فبأيّ شيءٍ دخل عيسى في صلب نوح علیه السلام وليس له أب؟ فقال له الحجّاج: إنّه دخل في صلب نوحٍ من حيث أُمّه. فقال العلوي: وكذلك الحسن والحسين، دخلا صلب رسول الله بأُمّهما فاطمة الزهراء! قال: فبقيَ الحجّاج كأنّما أُلقِم حجراً.

فقال له الحجّاج: ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلوي: يا حجّاج، لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة النبيّ في حقّهما، لأنّه قال في حقّهما: «ولداي هذان إمامان فاضلان، إن قاما وإن قعدا، تميل عليهما الأعداء، فيسفكون دمهما ويسبون حرمهما»، ولقد شهد النبيّ لهما بالإمامة

ص: 365


1- سورة آل عمران: 61.
2- سورة الأنعام: 84 و85.

أيضاً، حيث قال: «ابني هذا -- يعني الحسين -- إمامٌ ابن إمامٍ أخو إمامٍ أبو أئمّةٍ تسعة». فقال الحجّاج: وكم عمر الحسين في دار الدنيا؟ فقال: ستٌّ وخمسون سنة. فقال له: وفي أيّ يوم قُتل؟ قال: يوم العاشر في شهر محرّم بين الظهر والعصر. فقال له: ومَن قتله؟ فقال: يا حجّاج، لقد جنّد الجنودَ ابنُ زيادٍ بأمر اللعين يزيد، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حُماته وأنصاره وأطفاله وبقيَ فريداً، فبينما هو يستغيث فلا يُغاث ويستجير فلا يُجار، يطلب جرعةً من الماء ليطفيء بها حرّ الظمأ، فبينما هو واقفٌ يستغيث إلى ربّه جاءه سنان فطعنه بسنانه، ورماه خولي بسهمٍ ميشومٍ فوقع في لبّته، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه، فجاءه الشمر (لعنه الله) فاجتزّ رأسه بحسامه، ورفعه فوق قناته، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي، وأخذ سيفه قيس النهشلي، وأخذ بغلته حارث الكندي، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي، وأحاط القوم بخيامه، وعاثوا في باقي أثاثه، وأسبوا حريمه ونساءه.فقال الحجّاج: هكذا جرى عليهم يا علويّ، واللهِ لو لم تأتيني بهذا الدليل من القرآن بصحّة إمامتهما لَأخذت الّذي فيه عيناك، ولقد نجّاك الله (تعالى) ممّا عزمتُ عليه من قتلك، ولكن خُذ هذه البردة، لا بارك الله لك فيها. فأخذها العلويّ وهو يقول: هذا من عطاء الله وفضله، لا من عطائك يا حجّاج.

ثمّ إنّ العلويّ بكى وجعل يقول:

ص: 366

صلّى الإلهُ ومَن يحفّ بعرشه***والطيّبون على النبيّ الناصح

وعلى قرابته الّذين تهضّموا ((1))***بالنائبات وكلّ خطبٍ فادح ((2))

طلبوا الحقوق،فأُبعدوا عن دارهم***وعوى عليهم كلّ كلبٍ نابح ((3))

فعذاب ربّي دائماً متداولاً***يغدوا على أعدائهم متصابح

وحُكي أنّ الحجّاج بن يوسف كان جالساً في قبّة الخضراء، وعنده وجوه العراق، إذ أتى صبيٌّ من الخوارج في عمر عشر سنين له ذوابةٌ طويلة، فدخل ولم يسلّم، بل نظر إلى القبّة يميناً وشمالاً وقرأ آية: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» ((4)). وكان الحجّاج متّكأً فاستوى جالساً، وقال: يا غلام، إنّي لَأُريك عقلاً وذهناً،أفحفظتَ القرآن؟ قال: أوَ خفت على القرآن حتّى أحفظه؟ قال: أفجمعت القرآن؟ قال: أوَ كان متفرّقاً حتّى أجمعه؟ قال: أفأحكمت القرآن؟ قال: أوَ ليس الله أنزله حكماً؟ قال الحجّاج: إذاً استظهرت القرآن؟ قال: معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري. قال له: ويلك، فماذا أقول؟ قال: الويل لك، قد أوعيت القرآن في صدرك؟ فقال

ص: 367


1- في المطبوع من (المنتخب): (نهضوا).
2- في المتن: (قادح).
3- المنتخب للطريحي: 2 / 477 المجلس 10 الباب 3.
4- سورة الشعراء: 128 -- 130.

الحجّاج: فاقرأني شيئاً من القرآن. فاستفتح الغلام وقال: أعوذ بالله منك ومن الشيطان الرجيم، إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً. قال: ويلك، إنّه: يدخلون. قال الغلام: قد كانوا يدخلون، فأمّا اليوم قد صاروا يخرجون. قال: ولمَ ذلك؟ قال: بسوء فعلك بهم. قال: ويلك، هل عرفت المخاطب لك؟ قال: نعم، شيطان الثقيف الحجّاج. قال: ويلك، مَن أبوك؟ قال: الّذي زرعني. قال: فمن أُمّك؟ قال: الّتي ولدتني. قال: وأين وُلدت؟ قال: في بعض الفلات. قال: أين نشأت؟ قال: في بعض البراري. قال: ويلك، مجنونٌ أنت فنعالجك؟ قال: لو كنت مجنوناً لماوصلت إليك وما وقفت بين يديك كأنّي فيمن يرجو فضلك ويخاف عقابك.

قال الحجّاج: فما تقول في أمير المؤمنين؟ قال: رحم الله أبا الحسن. قال: إنّما أعني عبد الملك بن مروان. قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله. قال: ويلك، بما يستحقّ اللّعنة؟ قال: والله ما أنكر حقّه، غير أنّه أخطأ خطيئةً ملئت السماوات والأرض. قال: وما هي؟ قال: استعماله إيّاك على رعيّه، تستبيح أموالهم وتستحلّ دماءَهم.

فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: ما تشيرون في أمر هذا الغلام؟ قالوا: سفك دمه، فقد خلع الطاعة وفارق الجماعة. فقال الغلام: جلساء أخيك خيرٌ من جلسائك. قال: أخي محمّد بن يوسف.قال: الفاسق ما أعنيه، إنّما أعني أخاك فرعون، إنّه قال لجلسائه: ماذا تأمرون في موسى؟

ص: 368

قالوا: أرجه وأخاه. وهؤلاء أمروك بقتلي، إذاً والله أقوم عليك الحجّة غداً بين يدَي الله (تعالى) ملك الجبّارين ومذلّ المستكبرين.

قال الحجّاج: يا غلام، قيّد ألفاظك وتقرّ لسانك، فإنّي أخاف عليك بادرة الأمر، فقد أمرت لك بأربعة آلاف درهمٍ تستعين بها. فقال الغلام: لا حاجة لي في هذا، بيّض الله وجهك وأعلى كعبَيك. فقال الحجّاج لجلسائه: أتعلمون ما أراد؟ قالوا: الأمير أعلم! قال: أمّا قوله: بيّض الله وجهك، فأراد بها الغمّة والبرص، وأعلى كعبَيك: أراد بها التعليق والصلب. ثمّ التفت إلى الغلام وقال: ما تقول فيما قلت؟ قال: لك الله من منافقٍ ما أفهمك.

فقال الحجّاج: يا حرسيّ، اضرب عنقه. قال رجلٌ من القوم يُقال له: الرقاشي: هَبْهُ لي، أصلح الله الأمير. قال: هو لك، لا بارك الله لك فيه. فقال الغلام: لا أدري أيّكما أحمق، الواهب أجلاً قد حضر أم المستوهب أجلاً لم يحضر. قال الرقاشي: استنقذتك من القتل، فكافيتني بهذا الكلام! فقال الغلام: هنيئاً لي الشهادة إن أدركَتني السعادة، يا عجباً من بلاد الفنك، وأرجع إلى أهلي صغراً بلا شيء، القتل أحبّ إليّ. قال الحجّاج: قد أمرنا لك بمئة ألف درهم، وقد عفونا عنك بحداثة سنّك وصفاء ذهنك، وإيّاك والجرأة على أرباب الأمر بعد هذه، فتقع بمن لا يعفو عنك، ولئن رأيتك في شيءٍ من عملي لَأضربنّ عنقك. فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، لا يجمع الله بيني وبينك أو يلقي السامريّ وموسى.

ص: 369

ثمّ خرج، وانتظره الخدّام على أثره، فقال لهم: دعوه، فما رأيتُأشجع منه قلباً ولا أفصح لساناً، فلا والله ما وجدت مثله، وعسى أن لا يجد مثلي ((1)).

وحُكي أنّ الحجّاج (لعنه الله) كان في الصيد، وابتعد عن العسكر فعطش، فصعد على تلٍّ فرأى أعرابيّاً قد جلس هناك، ويأخذ الدوابّ عن حرفته والجمال يرتعون حوله، فلمّا رأت الجمال الحجّاج فرّوا منه، فرفع الأعرابيّ رأسه يغيض، قال: مَن هذا الخارج من البادية مع الثياب المضيئة؟ فإنّ عليه لعنة الله. وسكت الحجّاج ولم يقل شيئاً، ثمّ قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال الأعرابيّ: لا سلام عليك ولا رحمة الله ولا بركاته. فقال الحجّاج: اسقني. فقال: انزل واشرب ساغراً ذليلاً واله، إنّي لستُ خادماً لأحد.

فنزل الحجّاج عن المركوب فشرب، ثمّ يركب فقال: يا أعرابيّ، مَن خير الخلق؟ قال: محمّدٌ رسول الله، برغم أنفك. فقال الحجّاج: ما تقول في حقّ عليّ بن أبي طالب. قال: لا يتحمّل القم اسمه من كرمه وعظمته، فإنّه أخ الرسول ووصيّه على عمى عينك.

ثمّ سأل الحجّاج: ما تقول في حقّ عبد الملك بن مروان؟ فسكت الأعرابيّ ولم يقل شيئاً، فقال الحجّاج: قل جوابي. فقال: بئس الرجل هو. فقال الحجّاج: لمَ؟ فقال: لأنّه برز منه خطأٌ قد ملأ المشرق والمغرب. فقال

ص: 370


1- معدن البكاء للمؤلف (مصورة): 337.

الحجّاج: ما هذا الخطأ؟ قال: فإنّه جعل هذا الفاسق الفاجر الحجّاج الظالم أميراً على المسلمين. فسكت الحجّاج ولم يقل شيئاً.

فإذا طار طيراً وصوّت صوتاً فتوجّه الأعرابيّ وجهه إلى الحجّاج فقال: يخبرني هذا الطير أنّه يصل عسكر أنت أميرهم. وكانافي هذا الكلام إذ وصل العسكر، وسلّموا على الحجّاج، فتغيّر وجه الأعرابيّ لمّا رأى ذلك، فأمر الحجّاج بمن يحفظ جماله، وأخذه معه إلى منزله في الغد، أمر الحجّاج بالمائدة وجمع الناس، ثمّ أمر بإحضار الأعرابيّ، فلمّا دخل قال: السلام علَيّ ورحمة الله وبركاته. فقال الحجّاج: لا أقول في الجواب كما قلت، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، أتأكل الطعام؟ فقال: إنّ الطعام لك، فإن أذنت لي فآكل. فقال: أنت مأذون.

فجلس الأعرابيّ ومدّ يده وقال: بسم الله، إن شاء الله أن يكون ما يتوجّه بعد الطعام خيراً. فضحك الحجّاج، فقال للحاضرين: أتعرفون ما وصل من هذا الرجل علَيّ في الأمس؟ فقال الأعرابيّ: أصلح الله الأمير، لا تُفشِ السرّ الّذي مضى بيني وبينك. فقال الحجّاج: اختر إمّا أن تقيم معي فأجعلك خاصّتي، أو أُرسلك إلى عبد الملك وأُخبره باقلته. فقال الأعرابيّ: إنّ هنا شقّاً ثالثاً. فقال: ما هو؟ قال: أن تخلّيني حتّى أذهب إلى بلادي مع سلامة، حتّى لا تريني ولا أراك. فضحك الحجّاج، فأمر له بألف دينارٍ

ص: 371

وأرسله إلى قبيلته ((1)).

وعن (فرحة الغريّ): روى هشام الكلبيّ، عن أبيه قال: أدركتُ بني أود وهم يعلّمون أبناءهم وحرمهم سبّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وفيهم رجلٌ من رهط عبد الله بن إدريس بن هاني، فدخل على الحجّاج بن يوسف يوماً فكلّمه بكلام، فأغلظه الحجّاج في الجواب، فقال له: لا تقل هذا أيّها الأمير، فلا لقريش ولا لثقيف منقبةٌيعتدّون بها إلّا ونحن نعتدّ مثلها. قال له: وما منّا قبلكم؟ قال: ما ينقص عثمان ولا يذكر بسوءٍ في نادينا قطّ. قال: هذه منقبة. قال: وما رأي بنا خارجيّ قطّ. قال: ومنقبة. قال: وما شهد منّا مع أبي تراب مشاهدة الأرجل واحدٌ فأسقطه ذلك عندنا وأخمله، فما له عندنا قدرٌ ولا قيمة. قال: ومنقبة. قال: وما أراد منّا رجلٌ قطّ أن يتزوّج امرأةً إلّا سأل عنها: هل تحبّ أبا تراب فتذكره بخير؟ فإن قيل: إنّها تفعل ذلك، اجتنبها فلم يتزوّجها. قال: ومنقبة. قال: وما وُلد فينا ذكرٌ فسُمّي عليّاً ولا حسناً ولا حسيناً، ولا ولدت فينا جاريةٌ فسُميّت فاطمة. قال: ومنقبة. قال: ونذرت امرأةٌ منّا حين أقبل الحسين إلى العراق أن قتله الله أن تنحر عشر جزر، فلمّا أقبل وفت بنذرها. قال: ودعا رجلٌ منّا إلى البراءة من عليّ ولعنه فقال: نعم، وأزيدكم حسناً وحسيناً. قال: ومنقبة. قال: وما بالكوفة ملّاحة إلّا ملاحة بني أود. فضحك الحجّاج.

ص: 372


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 339.

قال هشام الكلبيّ: قال لي أبي: فسلبهم الله ملاحتهم. إلى آخر الحكاية ((1)).

[حكاية محمّد بن يوسف أخو الحجّاج]

وعن وهب بن منيّة قال: كان محمّد بن يوسف أخو الحجّاج بن يوسف من أشدّ الناس بغضاً لأمير المؤمنين وأعظمهم وقيعةً فيه، وكان أميراً على اليمن من قِبل عبد الملك بن مروان، وكان لا يرني منبراً خطيباً على عهده ولا يبتدئ أحدٌ في مجلسه كلاماً إلّا جعل مفتاح قوله سبّ عليّ علیه السلام.قال وهب: رسوله قد طرق بابي ليلاً، فقال: أجب الأمير. فقلت: لماذا دعاني؟ فقال: لا أعلم. فأوجست منه خيفة، قلت: فلمَ يدعوني في الليل إلّا لبلاء! فقلت: أمهِلني حتّى أُوصي أهلي. قال: لا سبيل إلى ذلك. فانطلقت معه، حتّى دخلت على محمّد بن يوسف، فإذا هو جالسٌ في فرشه، قال لمّا رآني: ما لَك يا وهب؟ لمَ لا تدخل علينا؟ فاعتذرت إليه بالكبر والضعف، قال: إنّك قد علمتَ ما صنع أبو تراب بالخلفاء الثلاثة، قتل عثمان بن عفّان، وفعل يوم البصرة مع أُمّ المؤمنين ومع أهل الشام بصفّين، فأنا آمرك أن تقوم به في الناس إذا امتلأت بهم في داري في كلّ

ص: 373


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 329، فرحة الغري: 22، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 119.

يومٍ مقاماً، يهدى إليك مثلك ومن العلماء وذوي الرأي من الوقيعة فيه بسيّء القول ومنكره، وربّما تشحذ به نيّات الناس في منقصته وبغضه، وتبعتهم على سبّه والبراءة منه ولفته، حتّى أُعطيتك جميع ما تريد من العطايا والصلة، وأن تكون مع ذلك أوّل داخلٍ علَيّ وآخر خارجٍ من داري. فقلت: أيّها الأمير، ما لا أفعل ذلك أبداً، لأنّ الرسول صلی الله علیه وآله قال: وقولوا في موتاكم خيراً، ونهى عن سبّ الأموات، وأمر بحبّ عليّ علیه السلام ، فقال: «مَن أحبّ عليّاً علیه السلام أحبّه الله، ومن أبغض عليّاً أبغضه الله، ومن سبّ عليّاً سبّه الله، ومن أهانه أهانه الله يوم القيامة وعذّبه عذاباً أليماً». فلمّا سمع ذلك منّي غضب واحمرّ عيناه، وقال: أظنّك ترابيّاً. قلت: أجل، من التراب خُلقتُ وإلى التراب أعود. قال: ودع ذلك، والله لم تفعل ما أمرتك به في غدٍ على رغم أنفك. قلت: لا أفعل ذلك وإن قطّعني إرباً إرباً. ثمّ حبسني عنده، فلمّا أصبحني أقبل على الحرسة وقال: أخبروا عليه الناس. فانطلق الحرسة، وجاؤوا بالناس والملأ امتلأت داره، قال: دونكم والخبيث.قال: فوقفت أمامه، ودعا بالسيّاط، وأمرني بما كان قد أمرني به، فأجبت بمثل ما كنتُ أُجبته، قال: اضرباه، فضرباني حتّى أعيوا، وقد أُغميَ علَيّ، وحُملت إلى الحبس والدم يتفجّر من الضرب، وأمر بكبشٍ فذُبح، وألفي علَيّ إهانةً يريد سبقني بذلك، فلمّا كان من الغد دعاني بملأ من الناس وقال: أيّها المشرك، تدارك نفسك وابرأ من أبي تراب. فأجبته بالقول الأوّل، فصنع ما صنع بالأمس، ثمّ دعاني في اليوم الثالث، فجائني رجلان

ص: 374

فأقاماني، فلم أستطع قياماً، فأخذوا بعضدي واسكاني، ودعا بالسوط وأمرني بالبراءة من عليّ

علیه السلام وولده علیهم السلام، وقال: لا عطر بعد عروس، هذا اليوم الثالث، فإن برأت من أبي تراب وإلّا داويناك بالسيف غذا. فرضيت بالموت، وقلت: أيّها الأمير، تأمرني بسبّ مَن قال فيه رسول الله صلی الله علیه وآله: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»! فقام وقعد، فقال: كذبت وكذب مَن حدّثك هذا، اضربوهه بالسياط قبل السيف، لأنّ في السيف راحة. فضُربت حتّى أُغمي علَيّ، وحُملت وأنا لا أشعر إلى حبسه على أن يقتلني في غدٍ بالسيف، فقضيت، فرأيت في المنام أمير المؤمنين علیه السلام ومعه الحسن والحسين علیهما السلام، فأردت أن أشكو إليهم ما من الضرب والبلاء، فلم أقدر من الضعف، فبكيت إليه، فقال: لا بأس عليك ولا ضرر بعدها. ثمّ دنى منّي ومسح يده علَيّ من فرقي إلى قدمي، وقال علیه السلام: يهلك عدوّ الله عن قريب، ويجزيه الله حيّاً وميّتاً.

قال: فاستيقظت وأنا لم أحسّ شيئاً، كأنّني لم ألق رمداً قطّ، ولم أشعر إلّا ماء، وقد هجم الشرط في الحبس وجاؤوني يحملوني إلى محمّد بن يوسف (لعنه الله)، فقلت: إليكم عنّي. وقمت معهم أمشيعلى قدميّ، فجعلوا يتعجّبون منّي، فدخلت عليه وإذا به داء الخناق، ويتناول الجدار برأسه فيغمى عليه، ثمّ يفيق وهو يقول: يا أمير المؤمنين، ما لي ولك! وعلى صوته، فلمّا نظرني أعرض عنّي، وقال: اطلقا عنه ويحكما، ليمضي حيث يشاء. فانطلقاني، فقد أمرني أمير المؤمنين.

ص: 375

قال: فما لبث غير ثلاثو وهلك، فلمّا جهّزوه وحفروا قبره وأقبلوا به ليدفنوه، أبصروا في قبره ثعباناً أسود، حتّى امتدّ في وسط القبر بطوله، فأرادوا قتله أو طرده فلم يستطيعوا ذلك، فتركوه، وحفروا قبراً آخر، فأبصروا فيه الثعبان كما كان في القبر الأوّل، فحفروا ستّة قبور، وكان الحال في ذلك واحداً، فدفنوه في القبر السادس وهم فزعون أن ينزل القبر منهم أحد، فرأوا الثعبان قد التقمه ودخل في أكفانه، فهالوا عليه التراب وانصرفوا ((1)).

[مدّة مُلك بني أُميّة]

وفي (المنتخب): أنّه كانت الدولة لبني أُميّة ألف شهر، وكانوا لا يزالون يأمرون الخطباء بسبّ عليّ بن أبي طالب على رؤوس المنابر، (حتّى أنّ خطيباً من خطبائهم بمصر لنسي اللعنة في الخطبة، فلمّا ذكرها قضاها في الطريق، فبُني في ذلك الموضع مسجدٌ وسمّوه مسجد الذكر، ويتبرّكون به) ((2)).

فأوّل مَن تأمّر منهم معاوية (عليه اللعنة)، ومدّة خلافته عشرونسنة، ثمّ تخلّف من بعده ولده يزيد (عليه اللعنة) ثلاثة سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً، ثمّ تخلّف من بعده معاوية بن يزيد شهراً واحداً وأحد عشر يوماً،

ص: 376


1- المناقب للعلوي: 133.
2- التعجّب من أغلاط العامة: 118، الغارات: 2 / 843، فرحة الغري: 25.

وترك الخلافة خوفاً من عذاب الله، واعترف بظلم آبائه وعرّف الناس ذلك وهو قائمٌ على المنبر، حتّى أنّ أُمّه لامته على ذلك، فقالت له: ليتك كنت حيضةً ولم تكن بشراً، أتعزل نفسك عن منصب آبائك؟! فقال لها: يا أُمّاه، وأنا والله وددتُ أن أكون حيضة، ولا أطأ موطئاً لست له بأهل، ولا ألقى الله عزوجل بظلم آل محمّد.

ثمّ تخلّف من بعده عبد الملك بن مروان (عليه اللعنة) إحدى وعشرين سنة وشهراً، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك بن مروان (عليه اللعنة) إحدى وعشرين سنة وشهراً، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك تسع سنين وثمانية أشهر ويوماً واحداً، ثمّ تخلّف من بعده أخوه هشام ابن عبد الملك تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيّام، ثمّ تخلّف مروان الحمار خمس سنين وشهراً وثلاثة عشر يوماً، فملك بنو أُميّة ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، يكون المجموع ألف شهر، وهم مع ذلك يسبّون عليّاً علیه السلام. ثمّ تخلّف عمر بن عبد العزيز، وأبطل السبّ عن عليّ ((1)).

[حكاية قتل ستّين علويّاً]

وفي (العيون) مسنداً عن عبد الله البزّاز النيسابوريّ، وكان مسنّاً، قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطاليّ الطوسيّ معاملة،فرحلت إليه في

ص: 377


1- المنتخب للطريحي: 2 / 389 المجلس 8 الباب 1.

بعض الأيّام، فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعلَيّ ثياب السفر لم أُغيّرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلمّا دخلت عليه رأيته في بيتٍ يجري فيه الماء، فسلّمت عليه وجلست، فأُتي بطستٍ وإبريقٍ وغسل يديه، ثمّ أمرني فغسلت يدي، فأُحضرَت المائدة، وذهب عنّي أنّي صايم وأنّي في شهر رمضان، ثمّ ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لَك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير، هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا علّة توجب الإفطار، ولعلّ الأمير عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار. فقال: ما علّة توجب الإفطار، وإنّي لَصحيح البدن.

ثمّ دمعَت عيناه وبكة، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيّها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض اللّيل أن أجب أمير المؤمنين، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة توقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادمٌ واقف، فلمّا قمت بين يديه رافع راسه فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال. فأطرق، ثمّ أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتّى عاد الرسول إليّ وقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت في نفسي: إنّا لله، أخاف على نفسي أن يكون قد عزم على قتلي، وإنّه لمّا رآني استحيى منّي. فعدت إلى بمن يديه، فرفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد. فتبسّم ضاحكاً، ثمّ أذن لي في الانصراف، فلمّا دخلت لم ألبث أن عاد إليّ الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين. فحضرت بين يديه وهو على حاله، فرفع

ص: 378

رأسه إليّ فقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين. فضحك، ثمّ قال: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك هذا الخادم. فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيتٍ بابه مغلق ففتحه، فإذا فيه بئرٌ في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيتٍ منها، فإذا فيهم عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول وشبّان مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء. وكانوا كلّهم علويّة من وُلد عليّ وفاطمة، فجعل يُخرج إليّ واحداً بعد واحدٍ فأضرب عنقه، حتّى أتيت على آخرهم، ثمّ رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثمّ فتح باب بيتٍ آخَر فإذا فيه عشرون نفساً من العلويّة من وُلد عليّ وفاطمة مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء. فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر، حتّى أتيت على آخرهم، ثمّ فتح باب البيت الثالث، فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون، عليهم الشعور والذوائب، فقال: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً. فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمى به في تلك البئر، حتّى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخٌ منهم عليه شعر، فقال: تبّاً لك يا ميشوم، أيّ عذرٍ لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله وقد قتلت من أولاده ستّين نفساً قد ولدهم عليّ وفاطمة علیهما السلام فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً وهدّدني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به

ص: 379

في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستّين نفساً من وُلدرسول الله، فما ينفعني صومي ولا صلاتي، وأنا لأشكّ أنّي مخلّدٌ في النار ((1)).

[في بعض أحوال المتوكّل العبّاسي (لعنه الله)]

رُوي أنّ المتوكّل من خلفاء بني العبّاس كان تحت ملكه (بسُرّ مَن رأى)، فاستدعى الإمام عليّ الهادي إلى مجلسه، وأعرض عليه جميع عساكره وحجّابه ونوّابه وأرباب دولته؛ ليرهبه بهم، وأمر كلّ فارسٍ مِن جنده أن يملأ مخلاة فرسه تراباً ويطرحه في مكانٍ واحد، فصار كالجبل العظيم، وسمّاه: (تلّ المخالي)، وهو حتّى الآن موجودٌ بسرّ من رأى.

قال: ثمّ إنّ المتوكّل أخذ بيد الإمام عليّ الهادي علیه السلام وصعد معه إلى الجبل، وقال له: ما أصعدتُك معي إلى هنا إلّا لترى خيولي وعسكري وقومي وجندي. وكان قد ألبس عسكره الدروع المجلية واعتلوا بالرماح الخطّيّة وتقلّدوا بالسيوف الهنديّة، وأمرهم أن يعرضوا على الإمام الهادي بأحسن زينةٍ وأتمّ عدّةٍ وأعظم هيبة، وهو مع ذلك جالسٌ مع الإمام علیه السلام ، فقال له الإمام علیه السلام: «يا خليفة الزمان، أتحبّ أن أعرض عليك عسكري كما عرضتَ علَيّ عسكرك؟»، فقال المتوكّل: ومِن أين لك عسكرٌ مثل عسكري؟! فإن كان لك عسكرٌ فأرينه! فقال له: «انظر يميناً»، فنظر، فرأى الملائكة بعدد

ص: 380


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 109 الباب 9 ح 1.

الرمل والنمل، وهم محيطون بالدنيا بصور مختلفة، وبأيديهمحِرابٌ من نار، لا يحصي عددهم إلّا الله (تعالى)، فغشي الخليفة من شدّة رعبٍ دخله منهم، فلمّا أفاق من غشيته قال له الإمام: «يا خليفة الزمان، إنّا نحن لا نشاجركم على زينة الدنيا وزخارفها، وإنّا نحن مشغولون عنكم بأُمور الآخرة» ((1)).

وقد هلك هذا اللعين وفي جهنّم سلك بدعاء، كما روى السيّد ابن طاووس وغيره: كان المتوكّل يحظي الفتح بن خاقان عنده، وقرّبه منه دون الناس جميعاً ودون ولده وأهله، أراد أن يبيّن موضعه عندهم، فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم والوزراء والأُمراء والقوّاد وسائر العساكر ووجوه الناس أن يزيّنوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم، ويخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يركب أحدٌ إلّا هو والفتح بن خاقان خاصّة بسُرّ مَن رأى، ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رجالة، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، وأخرجوا في جملتها الأشراف أبا الحسن عليّ بن محمّد؟ع؟، وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحمة.

قال زرافة: فأقبلتُ إليه وقلت له: يا سيّدي، يعزّ واللهِ علَيّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلّفته من المشقّة. وأخذتُ بيده، فتوكّأ علَيّ وقال: «يا زرافة، ما ناقة صالح عند الله بأكرم منّي»، أو قال: «بأعظم قدراً منّي»، أو قال: «في هذا العالم مِن قُلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود، لمّا عُقرت الناقة صاح

ص: 381


1- المنتخب للطريحي: 2 / 241 المجلس 1 الباب 3.

الفصيل الى الله (تعالى)».

فلمّا انصرفتُ إلى داري، ولولدي مؤدّبٌ يتشيّع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك،وتجارينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكّل والفتح ومشي الأشراف وذوي الاقتدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدتُه من أبي الحسن عليّ بن محمّد علیه السلام وما سمعتُه عن قوله: «ما ناقة صالح عندي بأعظم قدراً منّي»، وكان المؤدّب يأكل معي، فرفع يده وقال: باللهِ إنّك سمعتَ هذا اللفظ منه؟! فقلت له: واللهِ سمعتُه يقول. فقال لي: اعلم أنّ المتوكّل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيّام ويهلك، فانظر في أمرك، وأحرز ما تريد إحرازه، وتأهّب لأمرك كي لا يفجأكم هلاك هذا الرجل، فتهلك أموالكم بحادثةٍ تحدث أو سببٍ يجري. فقلت له: مِن أين لك؟! فقال: أما قرأتَ القرآن في قصّة صالح علیه السلام والناقة، وقوله (تعالى): «تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ((1))؟ ولا يجوز أن يبطل قول الإمام.

قال زرافة: فوَاللهِ ما جاء اليوم الثالث حتّى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكّل، فقتلوه وقطّعوه والفتح بن الخاقان جميعاً قطعاً، حتّى لم يُعرَف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته، فلقيت

ص: 382


1- سورة هود: 65.

الإمام أبا الحسن علیه السلام بعد ذلك وعرّفتُه ما جرى مع المؤدّب وما قاله، فقال: «صدق» ((1)).

روى الشيخ الطوسي عن أبي الفضل: إنّ المنتصر سمع أباهيشتم فاطمة علیها السلام، فسأل رجلاً من الناس عن ذلك، فقال له: قد وجب عليه القتل، إلّا أنه مَن قتل أباه لم يطل له عمر. قال: ما أُبالي إذا أطعتُ الله بقتله أن لا يطول لي عمر. فقتله، وعاش بعده سبعة أشهر ((2)).

وفي (المنتخب): إنّ المتوكّل قتل يعقوب بن السكّيت -- الأديب --، وسبب قتله أنّه كان مُعلّماً للمُعين والمؤيّد ابنَي المتوكّل، إذ أقبل فقال له: يا يعقوب، أهُما أحبّ إليك أم الحسن والحسين؟ فقال: واللهِ إنّ قنبراً غلام عليٍّ خيرٌ منهما ومن أبيهما. فقال المتوكّل: سلّوا لسانه من قفاه. فسلّوه، فمات رحمه الله علیه.

ومثله دعبل الخُزاعي.

وانتهت بالمُتوكّل العداوة لأهل البيت علیهم السلام, إلى أن أمر بهجو عليّ وفاطمة وأولادها علیهم السلام, فهجاهم ابن المُعتزّ وابن الجهم وابن سكرة وآل أبي حفصة ونحوهم (لعنهم الله جميعاً).

ص: 383


1- مهج الدعوات لابن طاووس: 266، الهداية الكبرى للخصيبي: 321، عيون المعجزات للطبري: 133.
2- الأمالي للطوسي: 328، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 478.

وصار من أمر المتوكّل إلى أن أمر بهدم البناء على قبر الحسين علیه السلام, وإحراق مقابر قريش، وفي ذلك أنشد حيث قال:

قام الخليفة من بني العبّاسِ***بخلاف أمر إلهه في الناسِ

ضاها بهتك حريم آل محمّدٍ***سفهاً فعال أُميّة الأرجاسِ

واللهِ ما فعلت أُميّة فيهم***معشار ما فعلوا بنو العبّاسِ

ما قتلهم عندي بأعظم مأتماً***من حرقهم من بعد في الأرماسِ ((1))

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي مسنداً عن القاسم بن أحمد بنمعمّر الأسديّ الكوفي، وكان له علمٌ بالسيرة وأيّام الناس، قال: بلغ المتوكّلَ جعفر ابن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده وضمّ إليه كتفاً من الجند كثيراً؛ ليشعب قبر الحسين علیه السلام ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره.

فخرج القائد إلى الطفّ، وعمل بما أُمر، وذلك في سنة سبعٍ وثلاثين ومئتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لو قُتِلنا عن آخِرنا لما أمسك مَن بقي منّا عن زيارته. ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة، مُظهِراً أنّ مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى

ص: 384


1- المنتخب للطريحي: 1 / 9 المجلس 1 الباب 1.

المصر.

فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، وأنّه قد كثر جمعهم كذلك، وصار لهم سوقٌ كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثيرٍ من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمّة ممّن زار قبر الحسين، ونبش القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب علیهم السلام والشيعة رضی الله عنهم، فقُتل ولم يتمّ له ما قدّر.

ورُوي أيضاً عن عبد الله بن دانية الطوري قال: حججتُ سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، فلمّا صدرت من الحجّ صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام على حال خيفةٍ من السلطان، وزرته، ثمّ توجّهت إلى زيارة الحسين علیه السلام ، فإذا هو قد حُرثَت أرضه ومخر فيها الماء، وأرسلت الثيران العواملفي الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم، حتّى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتُضرَب بالعصيّ الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها، ولا تطأ القبر بوجهٍ ولا سبب، فما أمكنني الزيارة، فتوجّهتُ إلى بغداد وأنا أقول في ذلك:

تاللهِ إن كانت أُميّةُ قد أتت***قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقدأتاك بنو أبيه بمثلها***هذا لَعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا***في قتله، فتتبّعوه رميما

ص: 385

فلمّا قدمت بغداد سمعت الهائعة، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكّل. فعجّبتُ لذلك، وقلت: إلهي، ليلةً بليلة! ((1))

وعن محمّد بن جعفر بن محمّد بن فرج الرخجي قال: حدّثني أبي، عن عمّه عمر بن فرج قال: أنفذني المتوكّل في تخريب قبر الحسين علیه السلام ، فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرّ بها على القبور، فمرّت عليها كلّها، فلمّا بلغت قبر الحسين علیه السلام لم تمرّ عليه.

قال عمّي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي، فما زلت أضربها حتّى تكسّرت العصا في يدي، فوَاللهِ ما جازت على قبره ولا تخطّته.

قال لنا محمّد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمّد صلی الله علیه وآله، فأنا أبرأ إلى الله منه، وكان جدّي أخوه محمّد بن فرج شديد المودّة لهم، فأنا أتولّاه لذلك ((2)).وفي (أمالي) الطوسي: عن إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكّل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين علیه السلام ، وكتب معي إلى جعفر بن محمّد بن عمّار القاضي: أُعلمك أنّي قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأتَ كتابي فقف على الأمر حتّى تعرف فعَل أو لم يفعل.

قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمّد بن عمّار ما كتب به إليه، ففعلتُ

ص: 386


1- الأمالي للطوسي: 328 المجلس 11 ح 656 و657.
2- الأمالي للطوسي: 325 المجلس 11 ح 652.

ما أمرني به جعفر بن محمّد بن عمّار، ثمّ أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به، فلم أرَ شيئاً ولم أجد شيئاً. فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت، وما رأيت. فكتب إلى السلطان: إنّ إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرتُه فمخره بالماء وكربه بالبقر.

قال أبو علي العماري: فحدّثني إبراهيم الديزج، وسألتُه عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصّة غلماني فقط، وإنّي نبشت فوجدت باريةً جديدةً وعليها بدن الحسين بن عليّ، ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها، وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه، فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعَت عنه، فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلّظة لئن ذكر أحدٌ هذا لَأقتلنّه ((1)).

وفيه أيضاً مسنداً عن أبي عبد الله الباقطاني قال: ضمّني عبيدالله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري، وكان قائداً من قوّاد السلطان، أكتب له، وكان بدنه كلّه أبيض شديد البياض، حتّى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنّه القير، وكان يتفقّأ مع ذلك مدّةً منتنة.

قال: فلمّا آنس بي سألتُه عن سواد وجهه، فأبى أن يخبرني، ثمّ إنّه

ص: 387


1- الأمالي للطوسي: 326 المجلس 11 ح 653.

مرض مرضه الّذي مات فيه، فقعدت فسألته، فرأيته كأنّه يحبّ أن يكتم عليه، فضمنت له الكتمان، فحدّثني، قال: وجّهَني المتوكّل أنا والديزج لنبش قبر الحسين علیه السلام وإجراء الماء عليه، فلمّا عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام، فقال: «لا تخرج مع الديزج، ولا تفعل ما أُمرتم به في قبر الحسين». فلمّا أصبحنا جاؤوا يستحثّونني في المسير، فسرت معهم حتّى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به المتوكّل، فرأيت النبيّ صلی الله علیه وآله في المنام، فقال: «ألم آمرك ألّا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم؟ فلم تقبل حتّى فعلتَ ما فعلوا!»، ثمّ لطمني وتفل في وجهي، فصار وجهي مسودّاً كما ترى، وجسمي على حالته الأُولى ((1)).

وفيه أيضاً مسنداً عن أبي برزة الفضل بن محمّد بن عبد الحميد قال: دخلت على إبراهيم الديزج -- وكنت جاره -- أعوده في مرضه الّذي مات فيه، فوجدتُه بحال سوء، وإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله، وكانت بيني وبينه خلطة وأُنس يوجب الثقة بي والانبساط إليّ، فكاتمني حاله، وأشار لي إلى الطبيب،فشعر الطبيب بإشارته، ولم يعرف مِن حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج، وخلا الموضع، فسألتُه عن حاله، فقال: أُخبرك واللهِ -- وأستغفر الله -- أنّ المتوكّل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين علیه السلام ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت

ص: 388


1- الأمالي للطوسي: 326 المجلس 11 ح 654.

الناحية مساءً، معنا الفعلة والروزكاريّون معهم المساحي والمرور، فتقدّمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لِما نالني من تعب السفر ونمت، فذهب بي النوم، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبّهونني، فقمت وأنا ذَعِر، فقلت للغلمان: ما شأنكم؟! قالوا: أعجب شأن! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إنّ بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر، وهم يرموننا مع ذلك بالنشّاب. فقمت معهم لأتبيّن الأمر، فوجدتُه كما وصفوا، وكان ذلك في أوّل الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم. فرموا، فعادت سهامنا إلينا، فما سقط سهمٌ منها إلّا في صاحبه الّذي رمى به فقتله، فاستوحشت لذلك وجزعت، وأخذَتني الحمّى والقشعريرة، ورحلت عن القبر لوقتي، ووطّنت نفسي على أن يقتلني المتوكّل، لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدّم إليّ به.

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيت ما تحذر من المتوكّل، قد قُتل بارحة الأُولى، وأعان عليه في قتله المنتصر. فقال لي: قد سمعت بذلك، وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء. قال أبو برزة: كان هذا في أوّل النهار، فما أمسى الديزج حتّى مات ((1)).وفي بعض الكتب أنّ الحراث حرث سبع عشرة مرّة، والقبر يرجع على حاله، فلما نظر الحراث إلى ذلك آمن بالله، وحلّ القبر، فأخبر المتوكّل فأمر

ص: 389


1- الأمالي للطوسي: 327 المجلس 11 ح 655.

بقتله ((1)).

وفي (المنتخب): ورُوي أنّ المتوكّل من خلفاء بني العبّاس، كان كثير العداوة شديد البغض لأهل بيت الرسول، وهو الّذي أمر الحارثين بحرث قبر الحسين علیه السلام ، وأن يجروا عليه الماء من نهر العلقمي، بحيث لا يبقى له أثرٌ ولا أحد يقف له على خبر، وتوعّد الناس بالقتل لِمَن زار قبره، وجعل رصداً من أجناده، وأوصاهم: كلّ مَن وجدتموه يريد زيارة الحسين فاقتلوه. يريد بذلك إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرّيّة رسول الله.

فبلغ الخبر إلى رجلٍ من أهل الخير يُقال له: زيد المجنون، ولكنّه ذو عقلٍ شديدٍ ورأي رشيد، وإنّما لُقّب بالمجنون لأنّه أفحم كلّ لبيب، وقطع حجّة كلّ أديب، وكان لا يعبأ من الجواب ولا يملّ من الخطاب، فسمع بخراب قبر الحسين وحرث مكانه، فعظم ذلك عليه واشتدّ حزنه وتجدّد مصابه بسيّده الحسين علیه السلام ، وكان يومئذٍ بمصر، فلمّا غلب عليه الوجد والغرام لحرث قبر الإمام علیه السلام ، خرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه شاكياً وجده إلى ربّه، وبقي حزيناً كئيباً حتّى بلغ الكوفة.

وكان البهلول يومئذٍ بالكوفة، فلقيه زيد المجنون وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له البهلول: مِن أين لك معرفتي ولم ترني قطّ؟فقال زيد: يا

ص: 390


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 61 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 401.

هذا، اعلم أنّ قلوب المؤمنين جنودٌ مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

فقال له البهلول: يا زيد، ما الّذي أخرجك من بلادك بغير دابّةٍ ولا مركب؟! فقال: والله ما خرجت إلّا من شدّة وجدي وحزني، وقد بلغني أنّ هذا اللعين أمر بحرث قبر الحسين علیه السلام وخراب بنيانه وقتل زوّاره، فهذا الّذي أخرجني من موطني ونغّص عيشي، وأجرى دموعي وأقلّ هجوعي. فقال البهلول: وأنا والله كذلك. فقال له: قم بنا نمضي إلى كربلاء؛ لنشاهد قبور أولاد عليٍّ المُرتضى.

قال: فأخذ كلٌّ بيد صاحبه حتّى وصلا إلى قبر الحسين، وإذا هو على حاله لم يتغيّر، وقد هدموا بنيانه، وكلّما أجروا عليه الماء غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبّار، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين علیه السلام ، وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء ترتفع أرضه بإذن الله (تعالى)، فتعجّب زيد المجنون ممّا شاهده، وقال: انظر يا بهلول، «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» ((1)).

قال: ولم يزل المتوكّل يأمر بحرث قبر الحسين مدّة عشرين سنة، والقبر على حاله لم يتغيّر ولا تعلوه قطرةٌ من الماء، فلمّا نظر الحارث إلى ذلك قال:

ص: 391


1- سورة التوبة: 32.

آمنتُ بالله، وبمُحمّدٍ رسول الله، واللهِ لَأهربنّ على وجهي وأهيمُفي البراري، ولا أحرث قبر الحسين ابن بنت رسول الله، وإنّ لي مدّة عشرين سنةً أنظر آيات الله وأُشاهد براهين آل بيت رسول الله، ولا أتّعظ ولا أعتبر!

ثمّ إنّه حل الثيران وطرح الفدان، وأقبل يمشي نحو زيد المجنون، وقال له: مِن أين أقبلت يا شيخ؟ قال: من مصر. فقال له: ولأيّ شيءٍ جئت إلى هنا؟ وإنّي أخشى عليك من القتل. فبكى زيدٌ وقال: والله قد بلغني حرث قبر الحسين علیه السلام ، فأحزنني ذلك وهيّج حزني ووجدي. فانكبّ الحارث على أقدام زيد يقبّلهما، وهو يقول: فداك أبي وأُمّي! فواللهِ يا شيخ مِن حين ما أقبلتَ إليّ أقبلَت إليّ الرحمة واستنار قلبي بنور الله، وإنّي آمنتُ بالله ورسوله، وإنّ لي مدّة عشرين سنةً وأنا أحرث هذه الأرض، وكلّما أجريت الماء إلى قبر الحسين غار وحار واستدار ولم تصل إلى قبر الحسين منه قطرة، وكأنّي كنت في سُكر وأفقت الآن ببركة قدومك إليّ.

فبكى زيد، وتمثّل بهذه الأبيات:

تاللهِ إن كانت أُميّة قد أتت***قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله***هذا لَعمرك قبره مهدوما

أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا***في قتله، فتتبّعوه رميما

فبكى الحارث وقال: يا زيد، قد أيقظتَني من رقدتي، وأرشدتني من غفلتي، وها أنا الآن ماضٍ إلى المتوكّل بسُرّ مَن رأى أُعرّفه بصورة الحال، إن

ص: 392

شاء أن يقتلني وإن شاء يتركني. فقال له زيد: وأنا أيضاً أسير معك إليه، وأُساعدك على ذلك.قال: فلمّا دخل الحارث إلى المتوكّل وأخبره بما شاهد من برهان قبر الحسين علیه السلام ، استشاط غيظاً وازداد بغضاً لأهل بيت رسول الله، وأمر بقتل الحارث، وأمر أن يُشدّ حبلٌ في رجليه ويُسحَب على وجهه في الأسواق، ثمّ يُصلب في مجتمع الناس؛ ليكون عبرةً لِمَن اعتبر، ولا يبقى أحدٌ يذكر أهل البيت بخيرٍ أبداً.

أمّا زيد المجنون، فإنّه ازداد حزنه واشتدّ عزاؤه وطال بكاؤه، وصبر حتّى أنزلوه من الصلب وألقوه على مزبلةٍ هناك، فجاء إليه زيد، فاحتمله إلى دجلة، وغسّله وكفّنه وصلّى عليه ودفنه، وبقيَ ثلاثة أيّامٍ لا يفارق قبره، وهو يتلو كتاب الله عنده.

فبينما هو ذات يومٍ جالس، إذ سمع صراخاً عالياً ونوحاً شجيّاً وبكاءً عظيماً، ونساءً بكثرةٍ منشرات الشعور مشقّقات الجيوب مسودات الوجوه، ورجالاً بكثرةٍ يندبون بالويل والثبور، والناس كافّةً في اضطرابٍ شديد، وإذا بجنازةٍ محمولةٍ على أعناق الرجال، وقد نُشرت لها الأعلام والرايات، والناس من حولها أفواجاً قد انسدّت الطرق من الرجال والنساء. قال زيد: فظننت أنّ المتوكّل قد مات، فتقدّمت إلى رجلٍ منهم وقلت له: مَن يكون هذا الميّت؟ فقال: هذه جنازة جارية المتوكّل، وهي جاريةٌ سوداء حبشيّة، وكان اسمها ريحانة، وكان يحبّها حبّاً شديداً. ثمّ إنّهم عملوا لها شأناً عظيماً،

ص: 393

ودفنوها في قبرٍ جديد، وفرشوا فيه الورد والرياحين والمسك والعنبر، وبنوا عليها قبّةً عالية، فلمّا نظر زيد إلى ذلك، إزدادت أشجانه وتصاعدت نيرانه، وجعل يلطم وجهه ويمزّق أطماره، وحثى التراب على رأسه وهو يقول: وا ويلاه، وا أسفاه عليك يا حسين! أتُقتَل بالطفّ غريباً وحيداً ظمآناً شهيداً، وتُسبى نساؤك وبناتك وعيالك، وتُذبح أطفالك، ولم يبكِ عليك أحدٌ من الناس، وتُدفن بغيرغسلٍ ولا كفن، ويُحرث بعد ذلك قبرك؛ ليطفؤوا نورك، وأنت ابن عليّ المُرتضى، وابن فاطمة الزهراء، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جاريةٍ سوداء، ولم يكن الحزن والبكا لابن مُحمّدٍ المصطفى؟!

قال: ولم يزل يبكي وينوح حتّى غشي عليه، والناس كافّةً ينظرون إليه، فمنهم مَن رقّ له، ومنهم من جثى عليه، فلمّا أفاق من غشوته أنشأ يقول:

أيُحرث بالطفّ قبر الحسين***ويُعمَر قبر بني الزانيةْ؟!

لعلّ الزمان بهم قد يعود***ويأتي بدولتهم ثانيةْ

ألا لعن اللهُ أهل الفساد***ومَن يأمن الدنية الفانيةْ

قال: ثمّ إنّ زيداً كتب هذه الأبيات في ورقة، وسلّمها لبعض حجّاب المتوكّل، قال: فلمّا قرأها اشتدّ غيظه، وأمر بإحضاره فأُحضر، وجرى بينهما من الوعظ والتوبيخ ما أغاظه، حتّى أمر بقتله، فلمّا مثل بين يديه سأله عن أبي تراب: مَن هو؟ استحقاراً له، فقال: واللهِ إنّك عارفٌ به وبفضله

ص: 394

وشرفه وحسبه ونسبه، فواللهِ ما يجحد فضلَه إلّا كلّ كافرٍ مرتابٍ، ولا يبغضه إلّا كلّ منافقٍ كذّاب. وشرع يعدّد فضله ومناقبه، حتّى ذكر منها ما أغاظ المتوكّل، فأمر بحبسه فحُبس، فلمّا أسدل الظلام وهجع، جاء إلى المتوكّل هاتفٌ ورفسه برجله، وقال له: قُم وأخرج زيداً، وإلّا أهلكك الله عاجلاً. فقام هو بنفسه وأخرج زيداً من حبسه، وخلع عليه خلعةً سنيّة، وقال له: اطلب ما تريد. قال: أُريد عمارة قبر الحسين، وأن لا يتعرّض أحدٌ بزوّاره. فأمر له بذلك،فخرج من عنده فرحاً مسروراً، وجعل يدور في البلدان وهو يقول: مَن أراد زيارة قبر الحسين فله الأمان طول الأزمان ((1)).

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي: يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنتُ عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجلٌ من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين علیه السلام ، وأمر أن تُقطَع السدرة الّتي فيه فقُطعَت.

قال: فرفع جرير يديه فقال: اَلله أكبر، جاءنا فيه حديثٌ عن رسول الله صلی الله علیه واله أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتّى الآن، لأنّ القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين علیه السلام حتّى لا يقف الناس على قبره ((2)).

ص: 395


1- المنتخب للطريحي: 2 / 331 المجلس 2 الباب 3.
2- الأمالي للطوسي: 325 المجلس 11 ح 651.

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي: عن أحمد بن ميثم بن أبي نعيم قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، أملاه علَيّ في منزله، قال: خرجتُ أيّام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة من منزلي، فلقيني أبو بكر بن عيّاش، فقال لي: امضِ بنا يا يحيى إلى هذا. فلم أدرِ مَن يعني، وكنتُ أُجلّ أبا بكرٍ عن مراجعة، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلمّا صِرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم التفت إليّ فقال لي: يا ابن الحماني، إنّما جررتك معي وجشّمتك معي أن تمشي خلفي لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية. قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟ قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى. فسكتُّ عنه، ومضى وأنا أتبعه، حتّى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصُر به الحاجب وتبيّنه، وكان الناسينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذٍ قميصٌ وإزار وهو محلول الإزار.

قال: فدخل على حمار، وناداني: تعالَ يا ابن الحماني. فمنعني الحاجب، فزجره أبو بكر، وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟ فتركني، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعدٌ في صدر الإيوان على سريره، وبجنبي السرير رجالٌ متسلّحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلمّا أن رآه موسى رحّب به وقرّبه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلمّا استقرّ أبو بكرٍ على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف، فناداني: تعالَ ويحك! فصرتُ إليه ونعلي في رجلي، وعلَيّ قميصٌ

ص: 396

وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجلٌ تكلّمنا فيه؟ قال: لا، ولكنّي جئتُ به شاهداً عليك. قال: في ماذا؟ قال: إنّي رأيتُك وما صنعتَ بهذا القبر. قال: أيّ قبر؟ قال: قبر الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله.

وكان موسى قد وجّه إليه مَن كربه وكرب جميع أرض الحائر، وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتّى كاد أن ينقد، ثمّ قال: وما أنت وذا؟ قال: اسمع حتّى أُخبرك، اعلم أنّي رأيتُ في منامي كأنّي خرجتُ إلى قومي بني غاضرة، فلمّا صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله برجلٍ كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عنّي، فمضيت لوجهي، فلمّا صرت إلى شاهي ضللت الطريق، فرأيت هناك عجوزاً، فقالت لي: أين تريد أيّها الشيخ؟ قلت: أُريد الغاضريّة. قالت لي: تبطن هذا الوادي، فإنّك إذا أتيت آخره اتّضح لك الطريق.فمضيتُ ففعلت ذلك، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخٍ كبيرٍ جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيّها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعدّ من السنين؟ فقال: ما أحفظ ما مضى من سنّي وعمري، ولكن أبعد ذكري أنّي رأيت الحسين بن علي علیهما السلام ومَن كان معه من أهله ومَن تبعه يُمنَعون الماء الّذي تراه، ولا يُمنع الكلاب ولا الوحوش شربه. فاستفظعت ذلك، وقلت له: ويحك! أنت رأيت هذا؟! قال: إي والّذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أيّها الشيخ وعاينته، وإنّك وأصحابك هم

ص: 397

الّذين يعينون على ما قد رأينا ممّا أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم. فقلت: ويحك، وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت: ما أجرى إليه؟ قال: أيكرب قبر ابن النبي صلی الله علیه وآله وتحرث أرضه؟ قلت: وأين القبر؟ قال: ها هو ذا أنت واقفٌ في أرضه، فأمّا القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه.

قال أبو بكر بن عيّاش: وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قطّ ولا أتيته في طول عمري، فقلت: مَن لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتّى وقف بي على حَيرٍ له بابٌ وآذن، وإذا جماعةٌ كثيرةٌ على الباب، فقلت للآذن: أُريد الدخول على ابن رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت. قلت: ولمَ؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمّد رسول الله، ومعهما جبرئيل وميكائيل في رعيلٍ من الملائكة كثير.

قال أبو بكر بن عيّاش: فانتبهت، وقد دخلني روعٌ شديدٌ وحزنٌ وكآبة، ومضت بي الأيّام حتّى كدت أن أنسى المنام، ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدَينٍ كان لي على رجلٍ منهم، فخرجتُ وأنا لا أذكر الحديث، حتّى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقينيعشرةٌ من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث، ورعبت من خشيتي لهم، فقالوا لي: ألقِ ما معك وانجُ بنفسك. وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم، أنا أبو بكر بن عيّاش، وإنّما خرجتُ في طلب دَينٍ لي، واللهِ والله لا تقطعوني عن طلب دَيني وتضرّوا بي في نفقتي، فإنّي شديد الإضاقة. فنادى رجلٌ منهم: مولاي وربِّ الكعبة، لا

ص: 398

يعرض له. ثمّ قال لبعض فتيانهم: كن معه حتّى تصير به إلى الطريق الأيمن.

قال أبو بكر: فجعلت أتذكّر ما رأيتُه في المنام، وأتعجّب من تأويل الخنازير، حتّى صرت إلى نينوى، فرأيتُ -- واللهِ الّذي لا إله إلّا هو -- الشيخَ الّذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة كما رأيتُه في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا، فقلت: لا إله إلّا الله، ما كان هذا إلّا وحياً. ثمّ سألته كمسألتي إيّاه في المنام، فأجابني، ثمّ قال لي: امضِ بنا. فمضيت، فوقفت معه على الموضع وهو مكروب، فلم يفتني شيءٌ في منامي إلّا الآذن والحير، فإنّي لم أر حيراً ولم أر آذِناً.

فاتّقِ الله أيّها الرجل، فإنّي قد آليتُ على نفسي ألّا أدع إذاعة هذا الحديث، ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه، فإنّ موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمّد وجبرئيل وميكائيل علیهم السلام لَحقيقٌ بأن يُرغَب في إتيانه وزيارته، فإنّ أبا حُصين حدّثني أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «مَن رآني في المنام فإيّاي رأى، فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي».

فقال له موسى: إنّما أمسكتُ عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة الّتي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تتحدّث بهذا لَأضربنّ عنقك وعنق هذا الّذي جئتَ به شاهداً علَيّ.فقال أبو بكر: إذن يمنعني اللهُ وإيّاه منك، فإنّي إنّما أردتُ الله بما كلّمتك به.

فقال له: أتراجعني يا عاصي؟ وشتمه، فقال له: اسكت، أخزاك الله

ص: 399

وقطع لسانك. فأرعد موسى على سريره، ثمّ قال: خذوه. فأُخذ الشيخ عن السرير، وأُخذت أنا، فوَاللهِ لقد مرّ بنا من السحب والجرّ والضرب ما ظننتُ أنّنا لا نكثر الأحياء أبداً، وكان أشدّ ما مرّ بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما بني كذا وكذا، بالزاني لا يكنّى، وأبو بكر يقول له: أمسِك، قطع الله لسانك وانتقم منك، اللّهمّ إيّاك أردنا، ولولد وليّك غضبنا، وعليك توكّلنا.

فصيّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلّا قليلاً، فالتفت إليّ أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال: يا حماني، قد قضينا لله حقّاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله. فما لبثنا إلّا مقدار غداءةٍ ونومةٍ حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سردابٍ له يشبه الدور سعةً وكبراً، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً، وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً، ثمّ يقول: اللّهمّ إنّ هذا فيك فلا تنسَه. فلمّا دخلنا على موسى وإذا هو على سريرٍ له، فحين بصر بنا قال: لا حيّا الله ولا قرّب من جاهلٍ أحمقٍ يتعرّض لما يكره، ويلك يا دعيّ، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟ فقال له أبو بكر: قد سمعت كلامك، والله حسبك. فقال له: اخرج، قبّحك الله، واللهِ لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذُكر عنك لَأضربنّ عنقك.ثمّ التفت إليّ وقال: يا كلب، وشتمني، وقال: إيّاك ثمّ إيّاك أن تُظهِر

ص: 400

هذا، فإنّه إنّما خُيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه، اخرجا، عليكما لعنة الله وغضبه. فخرجنا، وقد يئسنا من الحياة، فلمّا وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ وقال: احفظ هذا الحديث وأثبِتْه عندك، ولا تحدّثنّ هؤلاء الرعاع، ولكن حدِّثْ به أهل العقول والدين ((1)).

وعن أبي موسى بن عبد العزيز قال: لقيني يوحنّا بن سراقيون النصراني المتطبّب في شارع أبي أحمد، فاستوقفني وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، مَن هذا الّذي يزور قبره قومٌ منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ مَن هو؟ مِن أصحاب نبيّكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟! فقال: له عندي حديثٌ طريف. فقلت: حدِّثْني به.

فقال: وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيديّ في الليل، فصرتُ إليه، فقال لي: تعال معي. فمضى وأنا معه حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل متّكئاً على وسادة، وإذا بين يديه طستٌ فيها حشو جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادمٍ كان من خاصّة موسى، فقال له: ويحك، ما خبره؟ فقال له: أُخبرك أنّه كان من ساعةٍ جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصحّ الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين بن علي علیه السلام. قال يوحنّا: هذا الّذي سألتك

ص: 401


1- الأمالي للطوسي: 321 المجلس 11 ح 650.

عنه.

فقال موسى: إنّ الرافضة لَتغلو فيه، حتّى إنّهم فيما عرفت يجعلون تربته دواءً يتداوون به. فقال له رجلٌ من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّةٌ غليظة، فتعالجت لها بكلّ علاج فما نفعني، حتّى وصف لي كاتبي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتُها فنفعني الله بها وزال عنّي ما كنت أجده. قال: فبقي عندك منها شيء؟ قال: نعم. فوجّه فجاؤوه منها بقطعة، فناولها موسى بن عيسى، فأخذها موسى فاستدخلها دبره، استهزاءً بمن تداوى بها واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الّذي هذه تربته -- يعني الحسين علیه السلام --، فما هو إلّا أن استدخلها دبره حتّى صاح: النار النار! الطست الطست! فجئناه بالطست، فأخرج فيها ما ترى، فانصرف الندماء، وصار المجلس مأتماً.

فأقبل علَيّ سابور فقال: انظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة، فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطست، فنظرت إلى أمرٍ عظيم، فقلت: ما لأحدٍ في هذا صنع، إلّا أن يكون لعيسى الّذي كان يحيي الموتى. فقال لي سابور: صدقت، ولكن كن هاهنا في الدار إلى أن يتبيّن ما يكون من أمره. فبتّ عندهم، وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات وقت السحر.

قال محمّد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنّا يزور قبر

ص: 402

الحسين علیه السلام وهو على دينه، ثمّ أسلم بعد هذا وحسنإسلامه ((1)).

وفي (أمالي) الطوسي: عن محمّد الأزدي قال: صلّيتُ في جامع المدينة، وإلى جانبي رجلان على أحدهما ثياب السفر، فقال أحدهما لصاحبه: يا فلان، أما علمتَ أنّ طين قبر الحسين علیه السلام شفاءٌ من كلّ داء؟ وذلك أنّه كان بي وجع الجوف، فتعالجت بكلّ دواءٍ فلم أجد فيه عافية، وخفت على نفسي وأيست منها، وكانت عندنا امرأةٌ من أهل الكوفة عجوزٌ كبيرة، فدخلَت علَيّ وأنا في أشدّ ما بي من العلّة، فقالت لي: يا سالم، ما أرى علّتك كلّ يومٍ إلا زائدة. فقلت لها: نعم. قالت: فهل لك أن أُعالجك فتبرأ بإذن الله عزوجل. فقلت لها: ما أنا إلى شيءٍ أحوج منّي إلى هذا. فسقتني ماءً في قدح، فسكتت عنّي العلّة وبرئت حتّى كأن لم تكن بي علّةٌ قطّ.

فلمّا كان بعد أشهر دخلَت علَيّ العجوز، فقلت لها: باللهِ عليكِ يا سلمة -- وكان اسمها سلمة --، بماذا داويتني؟ فقالت: بواحدةٍ ممّا في هذه السبحة -- من سبحةٍ كانت في يدها --. فقلت: وما هذه السبحة؟ فقالت: إنّها من طين قبر الحسين علیه السلام. فقلت لها: يا رافضيّة، داويتني بطين قبر الحسين؟ فخرجَت من عندي مغضبة، ورجعت والله علّتي كأشدّ ما كانت، وأنا أُقاسي منها الجهد والبلاء، وقد والله خشيت على نفسي، ثمّ أذّن المؤذّن

ص: 403


1- الأمالي للطوسي: 320 المجلس 11 ح 649.

فقاما يصلّيان، وغابا عنّي ((1)).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب: أخذ المسترشد من مال الحائروكربلاء، وقال: إنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة. وأنفق على العسكر، فلمّا خرج قُتل هو وابنه الراشد ((2)).

وعن الأعمش قال: أحدث رجلٌ على قبر الحسين علیه السلام ، فأصابه وأهل بيته جنونٌ وجذامٌ وبرص، وهم يتوارثون الجذام ((3)).

ص: 404


1- الأمالي للطوسي: 319 مج11 ح 648.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، تحقيق السيّد علي أشرف: 496 / 5 الفصل 15، بحار الأنوار للمجلسي: 401 / 45 الباب 50 ح 11.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 61 / 10 الفصل 3، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 244 / 14، المعجم الكبير للطبراني: 120 / 3 رقم2860.

تنبيهات

الأوّل:

في كتاب (التبر المذاب)، ومصنّفه من العامّة، عن كتاب (العقايق): لمّا اشتدّ المرض بسيّدة نساء العالمين، والّذي نزل إلى منزلها الملائكة المقرّبين، الزهرة البتول، سلالة الرسول بنت خاتم الأنبياء، زوجة عليّ المرتضى (صلوات الله عليهم أجمعين)، دخل عليها عليّ علیه السلام وعندها ولداها قرّة عين الرسول وثمرة فؤاد الإمام المأمول، وكان تحت رأسها مخدّة من جلد كبش، وفراشها من وبر جملٍ محشوّة بالحلفا، وليس عندها شراب، لسانها لا يفتر عن ذِكر ربّ العالمين، فقالت له: يا ابن عمّي وفَرَج همّي وغمّي، يا مخلوقاً من طينة أبي، ويا باب مدينة علم النبيّ، ويا زوجي في الدنيا والآخرة، يا صاحب السلالة الطاهرة، أُوصيك من بعدي بحفظ هذين الولدين، هما قرّة عيني، وكانا قرّة عين الرسول، وكفاهما ما لقياه من فراق جدّهما، وقد أردف ذلك فراق أُمّهما، ولا تمنعهما من زيارة قبري، فإنّ قلبي معهما، واعلم أنّك لا تحتاج إلى وصيّة، وأنّي راضيةٌ عنك، فهل أنت راضٍ عنّي؟ خدمتك جهدي وطاقتي، وأعنتك على دنياك مقدار قوّتي، وطحنت الشعير

ص: 405

بالنهار، واستقيت بالقربة بالليل، وبعد ذلك فإنّي أعترف بالتقصير في حقّك، فسامحني يا ابن عمّي، فإنّ أمامنا عقبةٌ لايقطعها إلّا المخفّون.

فبكى علي علیه السلام وقال: يا بنت المصطفى، يا سيّدة النساء، روحي لروحكِ الفداء، يا بنت البشير النذير، ومَن أرسله رحمةً للعالمين.

فلمّا عرفَت الرضى من المرتضى قالت: إذا فرغت من أمري ووضعتني في قبري فخُذ تلك القارورة وذلك الحقّ، وضعهما في لحدي. ثمّ دعت بهما فأُحضرا بين يديها، فقال لها: يا سيّدة النساء، ما الّذي في هذه القارورة؟ هل هو من ماء زمزم؟ فقالت: إنّي سمعت أبي صلی الله علیه وآله يقول: إنّ الدمعة تطفي غضب الربّ، وإنّ القبر لا يكون روضةً من رياض الجنّة إلّا أن يكون العبد قد بكى من خيفة الله (تعالى)، وقد علم العزيز الجبّار أنّي بكيت خوفاً بهذه الّدموع الّتي في القارورة في الأسحار خيفةً من الله (تعالى) وخوفاً من النار، وقد جعلتُ هذه الدموع ذخيرةً في قبري أجدها يوم حشري.

فبكى عليٌّ علیه السلام ، فجعلَت تأخذ من دموعه وتمسح به وجهها وتقول: لو بكى محزونٌ في أُمّةٍ لرحم الله (تعالى) تلك الأُمّة، وإنّك يا ابن عمّي لمحزونٌ لفراقي، ودمعة المحزون إذا وقعت على أُمّةٍ خصّها الله بالرحمة، فكيف إذا وقعت على أُمّةٍ وقد وضعتها على وجهي طمعاً في الرحمة، فإنّي أمة الله وبنت رسول الله. فأخذت في البكاء، فبكى الحسن والحسين علیهما السلام.

ثمّ فتحت الحقّ، وإذا فيه حريرة خضراء، وفي الحريرة ورقة بيضاء، فيها أسطر مكتوبة والنور يلمع منها، فقال: ما هذا يا بنت خديجة الكبرى؟

ص: 406

قالت: سفينة النجاة، ويا ابن عمّ رسول الله، هذا الحقّ وديعةمَن جاء بالحقّ، وذلك أنّه لمّا زوّجني بك أخبرني أنّ عقد ملاكي كان تحت شجرة طوبى، وجاء النثار من شجرة المنتهى، وكان موقعه في جنان الرضى، وكان النثار حللاً من الدرّ على الحور العين، فهي عندهم ذخيرة في مقاصيرهم إلى أن يبعث المؤمنين من قبورهم.

(قال المؤلّف: أعتذر إليكم معاشر الشيعة، إنّ درّاً من هذا النثار وجد في زمان والد الشيخ البهائي. قال بهاء الدين في (الكشكول): إنّ أباه حسين بن عبد الصمد الحارثيّ وجد في مسجد الكوفة فصّ عقيقٍ ((1)) مكتوب عليه:

أنا درٌّ من السما نثروني***يوم تزويج والد السبطين

كنتُ أصفى من اللُّجين بياضاً***صبغَتني دماء نحر الحسين ((2))

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله).

فلمّا كانت تلك الليلة الّتي رفعت فيها إليك، لم يكن عندي غير قميصين، أحدهما جديد والآخر مرقّع، فبينما على سجادتي على حسب عادتي إذ طرق الباب سائل، وله وسائل، فقال: يا أهل بيت النبوّة ومعدن الخير والفتوة، قد جرت العادة في الناس بقصد بيوت الأعراس، لأنّها لا تخلو

ص: 407


1- في المتن: (درّاً أحمر عليه خطّ لا يشبه خطّ الآدميّين).
2- زهر الربيع للجزائري: 26.

من طعامٍ لمن حضر من الخاصّ والعام، وإن كان عندكم قميصٌ خلق فإنّي به جدير، لأنّي رجلٌ فقير، يا أهل بيت أحمد، فقيركم عاري الجسد. فعمدت إلى القميص الجديد فدفعته إليه طلباً للمزيد، فلمّا أصحبت عندك بالقميص الخلق دخل رسول الله صلی الله علیهوآله وسلّم، ونور وجهه قد أشرق، فقال: يا بنيّة، أليس قد كان قميص جديد من أجود الخام، لمَ لا تلبسيه بين يدَي الإمام؟ قلت: ألستَ القائل: أو تصدقت فأبقيت، وأخبرته الخبر، فقال سيّد البشر: نِعم ما فعلتِ، ولو لبست الجديد لأجل بعلك وتصدّقت بالعتيق حصل بالحالين التوفيق، الأوّل من جانب الفقير الثاني من صايم الهجير. فقلت: إنّ علياً قد رضي. قال: صدقت، ولقد حظى.

ثمّ قلت: يا رسول الله، بك اهتدينا واقتدينا، إنّك لمّا تزوّجت بأُمّي خديجة الكبرى وأنفقت جميع ما أعطتك في طاعة المولى، حتّى أفضت بك الحال أن وقف ببابك بعض السؤّال فأعطيته قميصك والتحفت بالحصير، وأنت بالجنّة مخصوصٌ وليس لك شبهٌ ولا نظير، حتّى نزل عليك: «وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً» ((1)). فبكى النبي؟ص صلی الله علیه وآله، ثمّ ضمّني إليه، فنزل جبرئيل علیه السلام وقال: إنّ الله يقرئك السلام، ويقول: إقرأ فاطمة السلام، وقل لها تطلب منّي ما شاءت ولو طلبت ما في الخضراء والغبراء،

ص: 408


1- سورة الإسراء: 29.

وبشّرها أنّني أُحبّها. فقال: يا بنيّة، ربّك يسلّم عليكِ ويقول لك: اطلبي ما شئت. فقلت: يا رسول الله، قد شغلني لذّة خدمته عن مسألته، لا حاجة لي غير النظر إلى وجهه الكريم في دار السلام. فقال: يا بنيّة، ارفعي يدَيكِ. فرفعتُ يدي، ورفع يداه حتّى بان بياض إبطيه، ثمّ قال: اللّهمّ اغفر لأُمّتي. وأنا أقول: آمين، فجاء جبرئيل برسالةٍ من الجليل: قد غفرتُ لعصاة أمّتك ممّن في قلبه محبّة فاطمةومحبّة أبيها وبعلها وولديها (صلّى الله عليهم وسلّم). أُريد بهذا سجلّاً، فأمر الله (تعالى) جبرئيل أن يأخذ سندسةً خضراء وسندسةً بيضاء، وكان الكاتب هو: كتب ربّكم على نفسه الرحمة، وشهد جبرئيل وميكائيل وشهد رسول الله صلی الله علیه واله، وقال: يا بنيّة يكون هذا الكتاب في الحقّ، فإذا كان يوم موتك فعليك بالوصيّة أن يوضع في لحدك، فإذا قام الناس في القيامة وانقطع المذنبون وسحبتهم الزبانية إلى النار، فسلّمي الوديعة إليّ حتّى أطلب ما أنعم الله به علَيّ وعليك، فأنت وأبوكِ رحمةً للعالمين ((1)).

الثاني:

ورُوي فيه أيضاً: إنّ النبي صلی الله علیه وآله أمر أُسامة أن يدعو أبا بكر وعمر، ثمّ دعا بفاطمة علیها السلام وقال: يا بنيّة، هذا وقت حملك إلى بعلك عليّ الوليّ المخلوق

ص: 409


1- التبر المذاب للخافي (مصوّرة): 126 وما بعدها.

من طينة النبي. قالت: الأمر لله ولرسوله. قال: فأحضري جهازك يا بتول. فدخلتُ البيت باكية، وأخرجت رحا لطيفة وقطعة من وطيفة وجلد شاة وحصراً من الخوص، ومخدّة من جلد محشوّة ليفاً وإزاراً مرقعاً، وقصعة خشب ونعلاً وسواكاً، وقالت: يا رسول الله، هذا جميع ما تملك فاطمة. فقال صلی الله علیه وآله: احملوا جهاز اليتيمة الطهر البتول ابنة خاتم النبيّين، نِعم القرينة تسير إلى نِعم القرين. ثمّ نظر إلى الصحابة بطرفه، وحمله الرحا على كتفه، وحمل أبو بكر الحصير، وحمل عمر المخدّة، وحمل أُسامة القصعة،ولبست فاطمة النعل والإزار، وأخذت السواك بيدها، وقال جبرئيل: وأنا أفرش أجنحتي قدّامكم إلى بيتها. وسبق أُسامة إلى بيت علي علیه السلام ، قال: وافتكرت فيما معنا، فبكيت، فسمع النبي صلی الله علیه وآله فقال: ما يبكيك؟ قلت: بكيت لفقر فاطمة. فقال: يا أُسامة، هذا لمن يموت كثير ((1)).

الثالث:

نقل أنّ ملكاً صالحاً في خراسان كان على عهد رسول الله، وكان عنده ولدٌ واحد، فلمّا مرض ودنت منه الوفاة أوصى لولده وقال: سأدفع لك عشرة بدرات، في كلّ بدرةٍ ألف دينار، تحملها إلى النبيّ إذا أنا متّ. ودفع إليه بدرةً أُخرى فيها ألف دينار، وقال: تعطيها لمن يدلّك على رسول الله.

ص: 410


1- التبر المذاب للخافي (مصوّرة): 128 -- 129.

فلمّا مات الملك وفرغ الولد من مراسيم العزاء، حمل البدرات على بعيرٍ فاره، وانطلق مسرعاً حتّى وصل المدينة، وكان يوم عيد الفطر، فنزل في بستانٍ على مشارف المدينة، فاستراح ساعةً وغسل يديه ووجهه، ثمّ ركب بعيره وخرج لعلّه يصادف مَن يسأله عن النبيّ، فما ابتعد كثيراً عن ذلك البستان حتّى مرّ بثلاثة نفر، شيخين وشابّ، فسألهم عن النبيّ وقال: مَن دلّني على النبيّ أعطيتُه هذه البدرة. وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود ومِن أعداء رسول الله صلی الله علیه وآله، فلمّا سمعوا بالبدرة قالوا فيما بينهم: لابدّ أن يكون حمل البعير من هذه البدرات أيضاً، فاتّفقوا على قتله، فقالواله: أيّها الشابّ، إنّ اليوم يوم عيد الفطر، وقد خرج النبيّ إلى الصحراء ليصلّي هناك، فانزل هنا، فإذا رجع النبيّ من الصلاة مرّ مِن هنا، فاخرج معه إلى المدينة.

فنزل الشابّ عندهم، وكان متعباً من وعثاء السفر فنام، فبادر اليهود الثلاثة إلى حمل البعير ففتحوه، وأخذوا البدرات، وخافوا أن يطالبهم بها أو يخبر عنهم إن استيقظ من نومه، فدبّروا قتله لئلّا يفضحهم، فبادر إليه أحدهم وحمل عليه بسيفٍ بتّارٍ فقطع رأسه، فلمّا نظر البعير إلى صاحبه وما جرى عليه جعل يرغو ويحنّ ويلطّخ وجهه وجبينه بدم صاحبه ويصرخ ويضجّ، وفرّ مولولاً إلى الصحراء، فمرّ وهو في تلك الحالة مضمّخاً بالدماء وهو يرغو رغاءً عالياً في الموضع الّذي كان فيه رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد فرغ النبيّ من صلاته وعزم على الرجوع، فسمعوا رغاء البعير، فالتفتوا إليه فرأوه

ص: 411

والدماء تصبغ رأسه وجوانبه، فدنا البعير من النبيّ وطأطأ رأسه على قدمَي النبي صلی الله علیه وآله، وضرب برأسه الأرض وهو يستغيث بالنبي لينصر صاحبه، فقال النبي: لهذا البعير حكاية، وهو يتظلّم. فقام معه ليستجلي الأمر، وتبعه أصحابه، حتّى وصلوا إلى المكان الّذي قُتل فيه صاحبه ابن الملك، فوجدوا الشابّ مقتولاً، وثلاثةً من اليهود مشغولين بعدّ ما في البدرات، فالتفت النبي إلى أمير المؤمنين عليّ وقال: أرأيت يا عليّ ما فعل هؤلاء بصاحب هذا البعير مِن ظلم؟

ثمّ أمر فجيء له بالثلاثة، فسألهم عن قاتل الشابّ فلم يجدوا بُدّاً من الإقرار، فقالوا: يا رسول الله، بيّتنا هذا الشابّ، وسرق منّا هذه الأموال عنوة، فطلبناه، فلمّا أصبناه هنا أبى أن يردّ علينا أموالنا،فقاتلنا فدفعناه عن أنفسنا فقتلناه.

فأطرق النبيّ صلی الله علیه وآله، فهبط الأمين جبرئيل وقال: يا رسول الله، الله يقرئك السلام ويقول: سَل البعير، فإنّه سيخبرك ويبيّن الحقّ لأصحابك. فسأله النبيّ وقال: انطق بإذن الله، وأخبرنا بما جرى على هذا الشابّ المقتول. فنطق البعير بإذن الله وقال: يا رسول الله، هذا الشابّ هو ابن ملك خراسان. وقصّ عليه القصّة.

فرفع النبيّ عمامته وحسر عن رأسه وقال: إلهي، أسألك بالسماوات العُلى والأرضون السفلى، وبعرشك الأعظم وبالكرسيّ واللوح والقلم والشمس والقمر والجنّة والنار، أحيِ هذا الشابّ المقتول حتّى يخبر ما جرى

ص: 412

عليه. فسمع هاتفاً من السماء يقول: يا محمّد، الأمر عظيم والشفعاء قليل، فاستشفع فازدد من الشفعاء. فرفع النبيّ يده إلى السماء وقال: إلهي، أُقسم عليك بحقّ آدم ونوح وجدّي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وزكريّا وصالح وشعيب وهود ويونس وإدريس وشيث وموسى وعيسى وداوود وسليمان ودانيال وعزير وهارون أن تحيي هذا الشابّ حتّى يظهر أمره. فأوحى الله إليه: يا محمّد، لا أجيبك حتّى تضمّ إلى هؤلاء اسمك وأسماء آلك الطيّبين. فرفع النبيّ يديه إلى خالق الأشياء ومحيي الأموات، وقال لخواصّ أصحابه: أمّنوا على دعائي، ثمّ قال: يا ربّ العالمين، أُقسم عليك بجاه الأنبياء العظام والملائكة الكرام، وبحقّ محمّدٍ وأنت المحمود، وبحقّ عليّ وأنت الأعلى، وبحقّ فاطمة وأنت فاطر السماوات والأرض، وبحقّ الحسن وأنت المحسن، وبحقّ الحسين يا ذا الإحسان، تفضّل علينا وأحي لنا هذا الشاب حتّى ينتقم من قاتله.

فما أتمّ النبيّ دعاءه وذكر اسم الخامس من أصحاب الكساء حتّىأحيى الله ذلك الشابّ، ففتح عينيه، فسجد النبيّ، فلمّا قام من سجوده قال: أيّها الشابّ، أخبرنا بقصّتك، ومَن أنت ومن أين جئت وماذا جرى عليك؟ فعرّف الشاب نفسه، وقصّ قصّته، فأخذ النبيّ المال منه، ودعاه للإسلام، واشترط عليه أن يعفو عن قاتليه، ويدفع إليهم المال الّذي وعدهم، فأبى اليهود، فأمر النبيّ بقتلهم، فقتلوهم.

ورجع النبيّ إلى المدينة ومعه الشاب، وأخذ الأموال ففرّقها في فقراء

ص: 413

المدينة ومساكينها، وبقي الشابّ في المدينة ريثما تعلّم دينه، ثمّ عاد إلى بلده فوصلها بعد سنة، فرفعوه على العرش وصار ملكاً هناك ((1)).

قال المؤلّف: ما أشبه هذه القصّة بقصّة فرس الإمام الحسين حينما لطّخ نفسه بدم الحسين وأسرع إلى الخيام محمحماً يصهل: الظليمة الظليمة، من أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها. فأعلم سكّان سرادق العزّ الغرباء بشهادته، ليت كان النبيّ المختار وحيدر الكرار في تلك الساعة لينتقموا من قتلة سيّد الشهداء المظلوم كما انتقموا لابن ملك خراسان.

الرابع:

روي أنّ النبيّ كان جالساً في المسجد فدخل عليه الحسن والحسين، وقد هبّت ريحٌ مغبرة شديدة فاغبرّ شعريهما، فلمّا رأى النبيّ الغبار على مفرقيهما وشعرهما اغتمّ غمّاً شديداً، فقام إلىحجرة فاطمة الزهراء علیها السلام وقال لفاطمة: آتيني بماءٍ اغسل شعر قرّتَي عيني، فإنّي لا أُطيق النظر إلى شعرهما مغبرّان. فأحضرت فاطمة الزهراء ماءً وطشتاً.

فبينا هم كذلك إذ هبط الأمين جبرئيل وقال: يا رسول الله، ربّك يقرؤك السلام ويقول: كما أنّك لا تطيق أن ترى شعر ولديك مغبرّاً، فكذلك أنا، ولكن يليق بهما أن تغسلهما ماء الدنيا. ثمّ قال جبرئيل: يا رسول الله، إنّ

ص: 414


1- أُنظُر: تحفة المجالس: 11 المعجزة 10.

الله أمرني أن آتيهما بماء السلسبيل. فقال النبي صلی الله علیه وآله: امضِ لما أُمرت به.

فعرج جبرئيل، ثمّ هبط من ساعته ومعه طشتٌ وإبريقٌ فيه من ماء السلسبيل، فدعا النبيّ صلی الله علیه وآله الحسن علیه السلام، فرفع عماته وفرق شعره، فدفع نصفه إلى فاطمة وأخذ النصف الآخر بيده، وجعل جبرئيل يصبّ الماء وفاطمة الزهراء تغسل حتّى فرغَت، ثمّ التفت إلى الحسين فقال: إليّ يا حسين، فرفع عمامته وجمع شعره بيده، ولم يشرك معه فاطمة، وقال: يا أخي يا جبرئيل صبّ. فصبّ جبرئيل ماء السلسبيل، وغسل النبي صلی الله علیه وآله شعر المظلوم، فنظر النبي صلی الله علیه وآله إلى جبرئيل فرآه ينظر إلى شعر الحسين وهو يبكي، فقال: يا أخي يا جبرئيل، غسلنا شعر الحسن فسررت، وغسلنا شعر الحسين فحزنت وبكيت! فقال: يا رسول الله، غسلت رأس الحسين فذكرت أمراً هو من السرّ المكنون وهو واقع حتماً. فقال النبي صلی الله علیه وآله: لقد حزنت لحزنك يا جبرئيل، فلو أخبرتني.

فقال: يا رسول الله، ذكرت ما سيجري على رأسه وشعره وفرقه، يا رسول الله، إنّ هذا الشعر الّذي أبى الله ورسولهوجبرئيل أمين وحي الله أن يروه مغبرّاً، وأبى الله أن يغسل بماء الدنيا، سيأتي اليوم الّذي سيحتزّ بسيف الجفاء والضغينة ويُرفع على السنان، ويخضب هذا الشعر من دم نحره

ص: 415

ويفيض عليه الدم من فوق الرمح ويرمل بالتراب والغبار ((1)).

ولنعم ما قال محتشم:

پس بر سنان کنند سري را که جبرئيل

شويد غبار وگيسويش از آب سلسبيل

الخامس:

في كتاب (بشارة المصطفى) بحذف الإسناد، قال: دخل رسول الله صلی الله علیه وآله على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فرحاً مسروراً مستبشراً، فسلّم عليه فرد عليه السلام، فقال علي علیه السلام: يا رسول الله، ما رأيتك أقبلت علَيّ مثل هذا اليوم! فقال: حبيبي وقرّة عيني، أتيتك أُبشّرك، إعلم أنّ هذه الساعة نزل علَيّ جبرئيل الأمين وقال: الحقّ (جلّ جلاله) يقرئك السلام ويقول لك: بشّر عليّاً علیه السلام أنّ شيعته الطائع والعاصي منهم من أهل الجنّة.

فلمّا سمع مقالته خرّ لله ساجداً، فلمّا رفع رأسه رفع يديه إلى السماء ثمّ قال: اشهدوا الله علَيّ أنّي قد وهبتُ لشيعتي نصف حسناتي. فقالت فاطمة الزهراء: يا ربّ، اشهد علَيّ بأنّي قد وهبت لشيعة عليّ بن أبي طالب نصف حسناتي. قال الحسن علیه السلام:يا ربّ، اشهد علَيّ أنّي قد وهبت لشيعة علي ابن أبي طالب نصف حسناتي. قال الحسين علیه السلام: يا ربّ، اشهد أنّي قد

ص: 416


1- بحر المصائب وكنز الغرائب للتبريزي (مصوّرة): 1 / 134 الفصل التاسع.

وهبت لشيعة عليّ بن أبي طالب نصف حسناتي. فقال النبي صلی الله علیه وآله: ما أنتم بأكرم منّي، اشهد علَيّ يا ربّ أنّي قد وهبتُ لشيعة عليّ بن أبي طالب علیه السلام نصف حسناتي. فهبط الأمين جبرئيل علیه السلام وقال: يا محمّد، إنّ الله (تعالى) يقول: ما أنتم أكرم منّي، إنّي قد غفرت لشيعة عليّ بن أبي طالب علیه السلام ومحبّيه ذنوبهم جميعاً، ولو كانت مثل زبد البحر ورمل البر وورق الشجر ((1)).

* * * * *

ختمنا هذا الكتاب (مخزن البكاء) بهذه البشارة العظمى والعطيّة الكبرى، والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

«فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ((2)).

التاريخ به إتمامٌ لتأليفه، شهر شوّال المکرم، سنة 1256، کتبه المذنب الحقير الفقير المحتاج الى عفو ربّه الباري، قد بلغ المقابلة مع نسخة الفصل من البداية الى النهاية أبو القاسم بن أسد الله، مع دقّة النظر في سطوره وکلماته بقدر البشريّة.

الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا.

ص: 417


1- غاية المرام للبحراني: 6 / 89 ح 48، الأربعين للماحوزي: 107.
2- سورة التوبة: 111.

ص: 418

محتويات الكتاب

المجلس العاشر: في بيان ما وقع بعد الداهية العظمى والمصيبة الكبرى إلى أن خرج الأسرى من كربلاء 5

تنبيهات.. 53

الأوّل: 53

الثاني: 57

الثالث: 61

الرابع: 62

الخامس: 63

السادس: 67

السابع: 68

الثامن: 69

المجلس الحادي عشر: في خروج أهل البيت من كربلاء وورودهم مع الرؤوس إلى الكوفة 73

[عودةٌ إلى الحديث] 82

[خطبة السيّدة الحوراء] 89

[دخول أهل البيت إلى المجلس العام] 108

[إلى السجن] 121

ص: 419

[خطبة ابن زياد وشهادة عبد الله بن عفيف الأزدي] 128

[جندب بن عبد الله الأزدي] 133

المجلس الثاني عشر: في كتاب ابن زياد ليزيد ووالي المدينة ووقائع طريق الشام 135

تنبيهات.. 157

الأوّل: 157

الثاني: 163

الثالث: 164

الرابع: 165

الخامس: 166

السادس: 169

السابع: 170

المجلس الثالث عشر: في ورود الرؤوس والسبايا إلى الشام، وجملة من الكرامات والأحداث الواقعة في الشام 173

[خطبة السيّدة فخر المخدّرات زينب] 206

[جاريةٌ في بيت يزيد] 219

[الجاثليق ورأس الجالوت] 221

[عبد الوهّاب النصراني] 224

[رسول ملِك الروم] 227

[شهادة بنت الحسين علیه السلام في خربة الشام] 236

[خطبة الإمام السجاد علیه السلام] 240

ص: 420

[رؤيا هند] 248

[رؤيا سكينة] 249

المجلس الرابع عشر: في رجوع أهل البيت من الشام وورودهم إلى مدينة سيّد الأنام 261

[لقاء محمّد ابن الحنفيّة] 277

[خروج أُمّ لقمان] 278

[مأتم الرباب] 279

[مأتم الهاشميّات] 279

[ما جرى على الرأس المقدّس] 282

[مع النعمان بن بشير] 285

[حزن الإمام السجّاد] 287

تنبيهات.. 293

الأوّل: 293

الثاني: 299

الثالث: 302

الرابع: 305

الخامس: 307

السادس: 311

السابع: 313

الثامن: 315

التاسع: 316

ص: 421

العاشر: 318

الحادي عشر: 321

الثاني عشر: 322

الثالث عشر: 322

الرابع عشر: 323

خاتمة: في ما تحمّله بعض السادة والشيعة من الجَور والظلم من أعداء آل محمّد 325

[زيد الشهيد] 325

[غلامٌ من وُلد الحسن علیه السلام] 330

[الحسين شهيد فخّ] 332

[ميثم التمّار] 337

[رشيد الهجري] 347

[خبر بنت رشيد] 348

[مزرع بن عبد الله] 350

[الكميل بن زياد النخعي] 351

[قنبر مولى أمير المؤمنين علیه السلام] 352

[سعيد بن جُبير] 353

[في بعض أحوال الحجّاج (لعنه الله)] 360

[حكاية محمّد بن يوسف أخو الحجّاج] 373

[مدّة مُلك بني أُميّة] 376

[حكاية قتل ستّين علويّاً] 377

ص: 422

[في بعض أحوال المتوكّل العبّاسي (لعنه الله)] 380

تنبيهات.. 405

الأوّل: 405

الثاني: 409

الثالث: 410

الرابع: 414

الخامس: 416

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.