محمد وإبراهيم ابنا مسلم بن عقيل علیهم السلام
تألیف: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
زبان: عربی
مشخصات ظاهری: 366 ص
موضوع: مسلم ابن عقیل - فرزندان
خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذي لا إله إلّا هو الملك الحقّالمبين، المدبّر بلا وزير، ولا خلق من عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبية، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمد خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثم علا ربّنا في السَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى.
فأنا أشهد بأنّك أنت الله، لا رافع لما وضعت، ولا
ص: 5
واضع لما رفعت، ولا معزّ لمن أذللت، ولا مذلّ لمن أعززت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت(1).
اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَاسَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك،َ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ، وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ
ص: 6
بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ(1).
اللّهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلّة، بقية الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة،وأعل - اللّهم - كلمتهم، وأفلج حجّتهم، واكشف البلاء واللأواء، وحنادس الأباطيل والعمى عنهم، وثبّت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك، واجعل لهم أياماً مشهودة، وأوقاتاً محمودة مسعودة، توشك فيها فرجهم، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل، فإنّك قلت - وقولك الحقّ - : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ
ص: 7
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾(1).والعن اللّهم أوّل ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد، وآخر تابع له على ذلك، اللّهم واهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك عيداً، واستهلّ به فرحاً ومرحاً، وخذ آخرهم كما أخذت أوّلهم، وأضعف اللّهم العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك، واهلك أشياعهم وقادتهم، وأبر حماتهم وجماعتهم(2).
وصلّ اللّهم على حبيبي ومالك رقي وسيّدي وإمامي الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضل ثقاة الله، المشغول ليلاً
ص: 8
ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمامالشهيد، الولي الرشيد، الوصي السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيب الوفي، الإمام الرضي، ذو النسب العلي، المنفق الملي، أبو عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام.
منبع الأئمة، شافع الأمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمن ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبي الشهيد زكريا (علیهما السلام) ، الحسين بن علي المرتضى (علیهما السلام) .
زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمة المهتدين، وبضعة كبد
ص: 9
سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، نور العترة الفاطمية، وسراج الأنساب العلوية، وشرف غرس الأحساب الرضوية، المقتولبأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العتر، وأجلّ الأسر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّم، مكرّم، موقّر، منظّف مطهّر..
أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبي (صلی الله علیه و آله) سرور، المنزّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) (1).
ص: 10
الذي حمله ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الذي اسمه مكتوبعلى سرادق عرش الجليل ((الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة))، الشافع في يوم الجزاء، سيدنا ومولانا سيّد الشهداء(1) (علیه السلام) .
الذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال:.. وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامّة معه، والحجّة البالغة عنده، وبعترته أثيب وأعاقب(2).
الذي قال فيه جدّه المبعوث رحمة للعالمين (صلی الله علیه و آله) : حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً(3).
ص: 11
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهو الصادق الأمين: إنّ حبّ علي قذف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً(1).
فمن أيّ المخلوقات كان أولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميات، ولم يحفظوا النبي (صلی الله علیه و آله) في ذراريه.
قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : .. أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم إجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، ﴿إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ .
ص: 12
فوالله لو أنّ النبي (صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم اليهم في الوصاية بنا لما إزدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا اليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا، وما بلغ بنا، إنّه عزيز ذو إنتقام(1).
ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الذي سكن في الخلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، ومن يتقلّب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يرى وما لا يرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابن قتيله، وثار الله وابن ثاره، ووتر الله الموتور في السماواتوالأرض(2)
حتّى ((يبعث الله قائماً
ص: 13
يفرج عنها الهمّ والكربات)).
قال الحسين (علیه السلام) : يا ولدي، يا علي، والله لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهدي(1).
فذلك قائم آل محمد (علیهم السلام) يخرج، فيقتل بدم الحسين (علیه السلام) بن علي . . وإذا قام - قائمنا - انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين(2).
وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله) فقال : لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي - جلّ جلاله - فقال : يا محمد، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعةفاخترتك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققت لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً، وجعلته وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى، وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين
ص: 14
من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين.
يا محمد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنته جنّتي، ولا أظللته تحت عرشي.
يا محمد، تحبّ أن تراهم؟
قلت : نعم يا ربّ.
فقال عزّ وجلّ : ارفع رأسك، فرفعترأسي، وإذا أنا بأنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، و((م ح م د)) بن الحسن القائم في وسطهم، كأنّه كوكب درّي .
قلت : يا ربّ، ومن هؤلاء؟
قال : هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من
ص: 15
أعدائي، وهو راحة لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللّات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنة الناس - يومئذٍ - بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري(1).وروى عبد الله بن سنان قال : دخلت على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمد (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت : يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.
فقال لي : أو في غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟!
فقلت : يا سيّدي، فما قولك في صومه؟
فقال لي : صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً،
ص: 16
وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرضمنهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلى الله عليه وآله مصرعهم، ولو كان في الدنيا - يومئذٍ - حيّاً لكان صلّى الله عليه وآله هو المعزّى بهم.
قال : وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..
ثم علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم إلى أن قال: ثم قل:
اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم، أو رضي بفعلهم لعناً كثيراً.
اللّهم وعجّل فرج آل محمد (صلی الله علیه و آله) ، واجعل
ص: 17
صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم منأيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..
اللّهم إنّ كثيراً من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللّذين أمرت بطاعتهما، والتمسّك بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيك، وخيرة عبادك، وحملة علمك، وورثة حكمتك ووحيك .
اللّهم فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيت رسولك.
ص: 18
اللّهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك، إنّك ذو نقمة من المجرمين .
اللّهم إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعن الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً(1).
والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیه السلام) الذين كشف لهم سيّد الشهداء(علیه السلام) ((الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل
ص: 19
منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة(1)))،
ووعدهم ربّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ يخاطب بذلك أصحاب الحسين(2) (علیه السلام) .
وصّل ياربّ صلاة خاصّة نامية زاكية طيبة دائماً على مولاي الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) :
سلام الله العلي العظيم وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وأئمّته المنتجبين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين،والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، ورحمة الله وبركاته.
أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة،
ص: 20
وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده، وقتلت على منهاج المجاهدين في سبيله، حتّى لقيت الله - عزّ وجلّ - وهو عنك راض.
وأشهد أنّك وفيت بعهد الله، وبذلت نفسك في نصرة حجّته وابن حجّته حتّى أتاك اليقين.
أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن الحسنوالحسين أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنت، فنعم عقبى الدار.
لعن الله من قتلك، ولعن الله من أمر بقتلك، ولعن الله من ظلمك، ولعن الله من افترى عليك، ولعن الله من جهل حقّك واستخفّ بحرمتك، ولعن الله من بايعك وغشّك، وخذلك وأسلمك، ومن ألّب عليك
ص: 21
ولم يعنك، الحمد لله الذي جعل النار مثواهم وبئس الورد المورود.
أشهد أنّك قد قتلت مظلوماً، وأنّ الله منجز لك ما وعدك... قتل الله أمّة قتلتك بالأيدي والألسن.
صلّى الله عليك أيّها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) ، صلّى الله على روحك وبدنك.أشهد أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله المبالغون في جهاد أعدائه ونصرة أوليائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره.
أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود حتّى بعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً،
ص: 22
ورفع ذكرك في العليين، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن، ولم تنكل، وأنّك قد مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيين، فجمع الله بينناوبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين.
اللّهم ارزقنا زيارة مولانا الغريب الحبيب ما أبقيتنا واحشرنا معه، وعرّف بيننا وبينه وبين رسولك وأوليائك في الجنان.
اللّهم صلّ على محمد وآل محمد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه والأئمة من ولده والبراءة من أعدائهم(1).
***
ص: 23
قد تناولنا في دراسات سابقة بعض المفاصل المهمّة في تاريخ حياة مولانا الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) من قبيل: ((قصّة شراء والدته))، و((قصّة التطيّر))، و((قصّة معقل))، و((قصّة اغتيال ابن زياد في بيت هاني بن عروة رضوان الله عليه))، و((كونه (علیه السلام) ثائراً أم سفيراً))، و((معركة القصر)) وحركته ((بين المسجد الأعظم ودار طوعة))، و((الحرب الأخيرة))، وحياة المولى ((عبد الله بن مسلم بن عقيل)).
وها نحن نحاول دراسة حياة الشهيدين الذبيحين المظلومين محمد وإبراهيم ابنا مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، لعلّ الله يوفقّناببركتهم لدراسة حياة بقية أولاد مسلم (علیهم السلام) إن شاء الله تعالى.
وبالرغم من شحّة النصوص والمتون التاريخية، فإنّنا حاولنا قراءة النصوص من
ص: 24
زوايا مختلفة ولحاظات شتّى لاستكشاف المواقف واستجلاء ما جرى عليهما.
فإن وفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلا فنستغفر الله ونسأله أن يعطينا أجر من أحسن عملاً، إنّه عفو جواد كريم، وهو نعم المولى ونعم النصير، والله من وراء القصد.
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
1/8/1433
ص: 25
اتّفقت المصادر على خروج المولى الغريب مسلم بن عقيل مع سيّد الشهداء (علیهم السلام) من المدينة المنوّرة، واتّفقت أيضاً أنّ سيّد الشهداء أرسل المولى الغريب (علیهما السلام) مبعوثاً من قبله إلى أهل الكوفة، وأنّ المولى الغريب (علیه السلام) تقدّم ركب الفتح بالشهادة إلى الكوفة، فكان من السبّاقين للشهادة بين يدي سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .
وقد انفصل عن الركب في مكة المكرمة، وخلّف أهله وعياله وأطفاله ليكملوا الرحلة برعاية راعي الكون والأمة، وحماية أبي الفضل العباس وبقية الخيرة من العترة (علیهم السلام) .
فساعد الله قلب بنت أمير المؤمنين رقية وأولاد مسلم (علیهم السلام) ، سيّما الأطفالمنهم، إذ عجّل عليه اليتم، وسارع إليهم الحزن، ووقع الفراق بينهم وبين أبيهم قبل يوم عاشوراء..
ص: 26
فوا أسفى إذ لم ينقل لنا التاريخ تفاصيل وداع الأب الحنون مع أولاده وعياله..
هل ترامى الأولاد على قدميه ويديه، وهو يحتضنهم ويمسح دموعهم؟
هل أجلس بنتيه في حجره قبل أن يرحل، فمسح على رأسيهما، وصنع بهما كما يصنع باليتامى، وقبّلهما قبلة حانية تزوّدهما بحنان الأب وعطفه طيلة حياتهما؟
كيف ودّع المولى الغريب (علیه السلام) من كان في الركب من بني هاشم نساءاً ورجالاً؟
هذا ما لم يحدّثنا عنه التاريخ حسب فحصنا، وللمؤمن أن يحشر نفسه بين أنصارسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويطلق لروحه العنان حتّى تسافر إلى تلك الرحاب، وتخترق الزمن فتستشفّ ما جرى هناك..
ص: 27
ثم إنّ التاريخ لم يحدّثنا أيضاً عمّا فعله هذان الغصنان العبقان من أغصان الشجرة الطالبية المباركة بالخصوص، وإنما سمعنا لفظاً عامّاً تحدّث عن أولاد مسلم، قالوا:
((لمّا سمع أولاد مسلم بشهادة أبيهم تنفّسوا الصعداء، وبكوا بكاءً شديداً، ورموا بعمائهم إلى الأرض، ونادوا: وا مسلماه وابن عقيلاه(1)...
بكى أشرف الكائنات وسيّد المرسلين ورسول ربّ العالمين محمد المصطفى (صلی الله علیه و آله) حينما ذكر شهادة مسلم (علیهالسلام) (2)،
وكان أمير
ص: 28
المؤمنين (علیه السلام)يبكي دائماً لبكاء النبي (صلی الله علیه و آله) ، وبكى سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) لخبر شهادة مسلم (علیه السلام) ، وبكى من كان معه حتّى سالت الدموع كلّ مسيل(1)..
أمّا أولاد مسلم (علیهم السلام) .. فقد بكوا وتنفّسوا الصعداء.. وانطلقت من صدورهم زفرة يعلم الله كم كانت حرارتها..
ص: 29
رموا بعمائمهم إلى الأرض.. مصيبة دعتهم إلى أن يحسر كلّ منهم عن رأسه.. كشفوا رؤوسهم.. تعبيراً عن الاستعداد للموت، وتعبيراً عن غاية الأسى والألم.. وتعبيراً عن الحزن كما فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) حين دفن صنوه الحسن المجتبى(علیه السلام) ..
مصيبة ما أعظمها وأكظّها وأفدحها وأقرحها وأعمقها وأشدّها.. فقد الأب لا يطاق إلا بالصبر النازل من معدن الصبر.. الأب مهما كان.. ومسلم (علیه السلام) أب لا كالآباء.. وأولاده لا كالأولاد.. يعرفون قدر الأب، ويعرفون قدر أبيهم مسلم (علیه السلام) .. وكلّما ازادت المعرفة ازاد الحزن والألم، واشتدّت الحسرة، وثارت الزفرة..
ثم ندبوه أشجى ندبة ((وا مسلماه!)) و((وابن عقيلاه!)).. وندبتهم تحكي مدى معرفتهم، وعظيم وجدهم.. وا مسلماه.. وابن عقيلاه..
ص: 30
ومقتضيات الموقف تلزم أنّهما شاركا باقي أولاد مسلم (علیهم السلام) بالندبة والمصاب،وربما غشي اليتم وجهيهما، وبانت عليهما آثاره أكثر من الكبار بحكم سنّهما، وبدا الحزن المبرّح فيهما في دموع تفجّرت من مآقيهما حارّة قارحة..
ولا أدري أفعلا مثل بقيّة الأولاد، فرميا عمائهما على الأرض؟ بأبي هما وأمّي..
لكنّهما لا شكّ وجدا هنا من يرحمهما، ويمسح دموعهما، ويصبّرهما ويعزيهما، لهفي لهما وهما يتلوّيان ويضطربان، والسيف يحزّ وريديهما.
ص: 31
ليلة العاشر، تلك الليلة العصيبة، ليلة الوداع، قام عبد الله وقام أولاد مسلم (علیهم السلام) فيمن قام للحديث بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) .
وبالرغم من أنّ التاريخ لم يحدّثنا حسب فحصنا عن موقفهما، بيد أنّهما كانا ضمن سرادق العزّ والكرامة، وكانا يسمعان ويريان ما يجري هناك، ويشهدان ما يشهد الآخرون في معسكر التوحيد، فهما إن لم يشاركا في مجلس سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أصحابه، فلا شكّ أنهما شاهدا مواقف كرائم الوحي والتنزيل، ورأيا التماع الدموع على تلك الوجوه النيّرات التي أشحبها السهر والترقّب، وهي تعيش ساعات الوداع، ولحظات الفراق.
فهما أدركا ليلة العاشر بكلّ تفاصيلها
ص: 32
وأحداثها، ووعياها، واكتويا بآلامها وأحزانها وأشجانها ولوعتها.
ص: 33
أدركهما الصباح المشؤوم، صباح اليوم العاشر من المحرم، فجرى عليهما ما جرى على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ونظرت أعينهما إلى مناظر يعجز البشر عن وصفها، ونحن لا نريد الدخول في التفاصيل، غير أنّنا نشير إشارة أسرع من عابرة إلى شيء يسير ممّا عاناه هذان الفتيان الطالبيان.
فهما قد شاهد مصارع الأهل والأحبّة، ونظرا إلى إخوتهم مضرّجين بالدماء، مقطّعين آراباً، وقد فتّت العطش كبديهما كباقي العيال، وأذبل الظمأ شفاههما، وأغار عينيهما في رأسهما، وعاشا لحظات الأمل وهما ينتظران أبا الفضل العباس (علیه السلام) ليغدو عليهم بالسقا، ولسع الجوع أحشاءهما، وملأ غبار الحرب رأيتيهما.
وربما تضرّجا بالدم.. أقول: ربما، فربما
ص: 34
ألقيا بأنفسهما على الشهداء من الأخوة والأحبّة في لحظة وداع أخيرة، وربما التهمت النيران التي اشتعلت في المخيم أطراف ثيابهما، وربما سقطا على الأرض وهما يفرّان مذعوران من لهيب النار المستعرة، وصهيل الخيل المغيرة، وقعقة السلاح المتناثر على رؤوسهم، وهم يتراكضون بين أطناب المخيم الذي التهمته النيران..
وبكلمة كانا شاهدين عاينا كلّ المصائب والفجائع يوم عاشوراء..
بيد أنّي لا أدري، هل شهدا مصائب السبي، أو أنّهما ابتعدا في تلك اللحظة عن ساحة المعركة، وأوغلا يركضان في البريّة حتّى ألقي القبض عليهما؟
ص: 35
لم يحدّثنا التاريخ أيضاً عن مصيبة عظيمة حلّت بالنسوة المفجوعات، والأرامل والثواكل من عيال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكم من طفل فرّ على وجهه في البيداء ولم يعد!
فمن ذا يعيش مشاعر أمّ ترملت قبل أيام، وشاهدت المصائب العظام، ثم هي الآن تسير في السبي بيد الأعداء الغلاظ الشداد، وهي تتلفّت ساعة بعد ساعة، لعلّها تجد ولديها وثمرة فؤادها يركضان وراء الركب، ويسرعان ليلحقا بالقافلة..
كيف ستخرج مولاتنا الصديقة الصغرى زينب (علیها السلام) من كربلاء، وهي تعدّ الأطفال وتناديهم بأسمائهم، فلا ترى لمحمد وإبراهيم شخصاً، ولا تسمع لهما صوتاً؟
أمّ فقدت أولادها، ولو كانا قد استشهدا
ص: 36
نصب عينها في كربلاء، فلعلّ القلب يسكن هائمه، فلا تنتظرهما، أمّا أن تفقدهما فلا تدري أين سلكا؟
أتتركهما في تلك البريّة المهولة المرعبة الجرداء القاحلة، فتفترسهما السباع، أو يقتلهما العطش، أو يقضي عليهما الجوع..
هل استقبلتهما الخيل بصدورها وداستهما بحوافرهما حتّى مزّقتهما تمزيقاً، وهشمتهما تهشيماً، فتناثرت أجسادهما شظايا، وصارت رذاذاً ولحماً امتزج بالرمال؟
هل وقعا أسيرين بيد شرير نحس، فقتلهما ودفنهما؟
هل هما سالمان فيعودان بعد أن تنتهي المحنة ويعود السبى؟
هل هما حيّين؟ ميّتين؟ جريحين؟ سالمين؟
لا شكّ أنّ قلب الأم سيسلك كلّ الدروب، ويذهب كلّ المذاهب والاحتمالات؟
ص: 37
مرّت سنة كاملة، والجرح لمّا يندمل، والدمع لمّا يرقأ، والعلويات لم ير فيهن ضاحكة ولا مبتسمة، وما امتشطت فيهن هاشمية، ولا اختضبت (1)، كان البكاء غذاءهم، والنحيب سلوتهم، وإقامة المأتم دأبهم، والحزن شعارهم ودثارهم، كلّ تبكي على الجميع، وتندب الحبيب والقريب، والابن والزوج والعمّ والأخ وابن الأخ، وأمّ محمد وإبراهيم تبكي أيضاً كباقي نساء آل أبي طالب..
لكنّ أم محمد وإبراهيم لا زالت تتسقّط الأخبار، لا زال قلبها في وجيب ونحيب،
ص: 38
فهي لم ترهما قتيلين.
وعادت النساء إلى كربلاء كلّ جلست على قبر فقيدها وباقي الأحبّة تنوح وتبكي، ولم تر أمّهما قبراً فتجلس عنده، ولم تر لهما شخصاً فتأنس بهما..
يا لله! بعد سنة كاملة مرّت بأيامها العجاف، وساعاتها الثقال، وبعد طول انتظار.. تسمع الأم خبر قتلهما!
سيّدتي هل استخبرتي الناعي عن تفاصيل ما جرى عليهما؟!
آجرك الله يا رسول الله ويا أمير المؤمنين ويا فاطمة سيّد نساء العالمين، وآجرك الله يا أبا محمد الحسن ويا سيّد الشهداء ويا مولانا الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) .. آجرك الله يا أبا طالب ويا عقيل (علیهما السلام) ..
آجرك الله يا كعبة الرزايا، يا شريكة سيّدالشهداء يا زينب الكبرى (علیهما السلام) ، وآجرك الله يا أم محمد وإبراهيم (علیهم السلام) ..
ص: 39
وردت الأخبار في نسبة هذين الفرعين من أبي طالب على قسمين:
يعدّ أقدم مصدر - حسب فحصنا - نسب هذين الشبلين إلى مسلم بن عقيل كتاب الأمالي للصدوق رحمه الله، وقد نقل نسبهما على لسانهما حينما خاطبا السجّان، فقال أحدهما بعد استدراجه بالأسئلة:
((فقال له الغلام الصغير: يا شيخ! أتعرف محمداً؟
قال: فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيي!
قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!
ص: 40
قال: أفتعرف علي بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف علياً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيي!
قال له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب))...
ونصّ على هذه النسبة الكاشفي (ت 910) في روضة الواعظين، ثم حبيب السير عن الروضة.
كما ذكرهما بهذه النسبة الطريحي في المنتخب عن أبي مخنف، وأبو مخنف أقدم من الشيخ الصدوق.
ذكر ابن سعد في الطبقات والبلاذري والطبري في التاريخ والخوارزمي وابن عديم، فاجعة تتّفق بكلّياتها مع ما حدث لولدي
ص: 41
مسلم بن عقيل (علیهما السلام) تماماً، غير أنّهم نسبوا الفرعين الزاهرين إلى عبد الله بن جعفر، إلا الطبري تردّد بين عبد الله بن جعفر وابن ابن جعفر.
ص: 42
يمكن معالجة الأخبار الواردة في القسم الأوّل والقسم الثاني بالمعالجات التالية:
لا يستبعد أبداً أن تكون الفاجعة متكرّرة، والحدث واقع مرّة مع أحفاد جعفر بن أبي طالب، ومرّة أخرى مع أحفاد عقيل بن أبي طالب، وذلك للشواهد التالية:
صرّح الكاشفي في روضة الشهداء، ولسان الملك سبهر في الناسخ، وصاحب حبيب السير باسم القاتل لأولاد مسلم، وهو الحارث بن عروة.
وصرّح ابن سعد باسم القاتل لأولاد ابن جعفر، وهو عبد الله بن قطبة الطائي، ثم
ص: 43
النبهاني.والاسمان مختلفان تمام الاختلاف، ويبعد حملهما على التصحيف، أو الاشتباه.
ورد في خبر ابن سعد أنّ الذي طلبهما، وجعل الجعل على من جاء بهما، إنما هو عمر بن سعد لعنه الله، قال:
((وقد كان عمر بن سعد أمر منادياً فنادى: من جاء برأس فله ألف درهم..)).
فيما صرّح الشيخ الصدوق والكاشفي وغيرهما أنّ الذي جعل الجعل على من جاء بابني مسلم، إنما هو ابن زياد نفسه.
خلاصة ما في خبر ابن سعد والطبري أنّ الغلامين لجئا إلى زوجة الطائي أو إلى الطائي نفسه، فأخذهما وذبحهما وجاء برأسيهما إلى
ص: 44
ابن زياد.وهذا يعني أنّ الحادثة حصلت أيام السبي ولم تدم طويلاً، ولم يسجنا، كما في خبر ابني مسلم.
يتحدّث خبر ابن سعد عن موقف ابن زياد بعد أن رأى الرأسين أمامه، فيقول: ((وجاء برؤوسهما إلى عبيد الله بن زياد، فلم يعطه شيئاً)).
وقال البلاذري والطبري: ((فهمّ ابن زياد بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت))..
وأخبر ابن عديم عن الأمر بضرب عنق القاتل، وهدم داره.
وخبر ابني مسلم يتحدّث عن قتل القاتل فقط، وبصورة معينة، وستسمع تفاصيلها عن قريب.
ص: 45
الشاهد الخامس: تعليق ابن زياد
قال ابن زياد كما في الطبقات: وددت أنّه كان جاءني بهما حيّين، فمننت بهما على أبي جعفر - يعني عبد الله بن جعفر -.
فقوله شاهد على أنّ الغلامين لم يكونا في سجنه، ولم يدخلا قبضته قبل ذلك، ولو كانا لفعل ما زعم أنّه ودّ أن يفعله.
قال ابن سعد: وبلغ ذلك عبد الله بن جعفر، فقال: وددت أنّه كان جاءني بهما، فأعطيته ألفي ألف..
استمرار المؤرّخ في متابعة الحدث وردود فعله حتّى عند ابن جعفر للتأكيد على وقوع الفاجعة وانتسابها إليه.
أمّا خبر الخوارزمي، فيبدو واضحاً أنّ
ص: 46
راويه قد جمع بين الخبرين، فلا يستند إليهفي ترجيح أحد الخبرين على الآخر.
***
على العموم فإنّ التأمّل في الخبرين يفيد أنّهما مصيبتان متعدّدتان، لكلّ مصيبة أشخاصها وظروفها وزمانها ومكانها المختلف عن المصيبة الأخرى.
ص: 47
إذا كانت المعالجة الأولى موفّقة، فقد ثبت خبر ابني مسلم، كما يثبت خبر ابني عبد الله بن جعفر.
أمّا على فرض عدم اكتفاء البعض بالشواهد المذكورة في المعالجة الأولى، يبقى السؤال قائماً، هل هما حفيدا جعفر أو حفيدا عقيل؟
وحينئذٍ يكون الترجيح لخبر ابني مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، قال الشيخ المظفر:
((أمّا الشهيدان بالعتيكيات من أرض المسيب... وأمرهما مشهور، ويختلف فيهما من ناحية الأولى هل هما من ولد عبد الله بن جعفر الطيار كما هو رأي الطبري المؤرّخ، أم هما من ولد مسلم بن عقيل كما هو قول الصدوق، وهو الأقوى والأشهر))(1).
ص: 48
وذلك للمرجّحات الآتية:
بناءاً على ما ذكرناه في منهجنا في التعامل مع التاريخ(1) فإنّ أخبار ابني مسلم رواها علماء الشيعة، ورجالهم، من قبيل الشيخ الصدوق وأبيه، وعلي بن إبراهيم وأبيه، وإبراهيم بن رجاء الجحدري(2)، ومحمد بن مسلم، وحمران بن أعين...
وقد ذكرنا هناك أنّ الخبر العامّي إذاتعارض مع الخبر المروي بطرقنا، يقدّم خبر علماء الشيعة ورواتهم رحمهم الله.
ص: 49
بناءاً على ما ذكرناه في منهجنا في التعامل مع التاريخ أيضاً، فإنّ خبر ابني مسلم بن عقيل (علیهما السلام) مشهور بين الشيعة دفع الله عنهم البلاء وزادهم الله عزّاً وعدداً، بل هو من المتّفق عليه بينهم، وربما لا تجد منهم من يعرف خبر ابني جعفر، ولعلّه يعيش ويموت ولا يسمع بخبرهما أبداً.
أجل، قد يكون المحقّق والباحث منهم الذي يحترف نبش بطون الكتب، والغور في أعماق التاريخ، يجد حفيدا جعفر في المصادر التي ذكرتهما، وربما يبقى المرتكز في ذهنه أنّهما ابنا مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، لأنّه قد سمع ذلك منذ الطفولة وحمل رواية ابنيمسلم (علیه السلام) كابراً عن كابر.
أمّا فاجعة ابني مسلم بن عقيل (علیهما السلام) فقد عرفها الشيعة كباراً وصغاراً.
والمشهور بين الشيعة مرجّح قوي يُستند
ص: 50
إليه، سيما إذا كان مستنداً إلى مصادر شيعية يعتمد عليها.
إنّ لابني مسلم (علیه السلام) مقاماً يزوره الناس، ويتقرّبون إلى الله بذكر مصيبتهما والبكاء والتفجّع عليهما، ويتوسّلون إلى الله بهما تحت قبّتيهما الصغيرتين، ويقضي الله حوائجهم بأسرع من لمح البصر.
بل يتوسّل بهما المؤمنون إلى الله أين ما كانوا وحيثما كانوا من أرض الله الواسعة، فيسعف الله حوائجهم، وينجح طلباتهم، وفي ذلك بيان وبرهان للمؤمنين.
الذين خرجوا من عائلة عبد الله بن جعفر إلى كربلاء، هم:
ص: 51
الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى (علیها السلام) ، زوجته.
وعون ومحمد ابناه، وقد فازا بالشهادة بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان عبد الله يفتخر بذلك(1).(وثق) وفي كتاب فرسان الهيجاء خرجت أيضاً
ص: 52
أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من الصدّيقة الصغرى زينب بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) ، مع زوجها القاسم بن محمد بن جعفر.
ولم يحدّثنا التاريخ عن غير هؤلاء من عائلة عبد الله بن جعفر خرج مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .
ويستفاد من التاريخ أنّ المولى الغريبمسلم بن عقيل (علیهما السلام) خرج بأهله أجمعين مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيكون انتساب هذين الفرعين الطيبين إلى مسلم (علیه السلام) أرجح من انتسابهما إلى عبد الله بن جعفر.
***
ويمكن أن يناقش هذا المرجّح بعدّة مناقشات:
إنّ التاريخ لم يحص لنا بالتفصيل أسماء الأطفال الذين كانوا في ركب الفتح الحسيني،
ص: 53
وإنما اضطر لذكر بعضهم بعد أن سجّلت لهم مواقف خاصّة في كربلاء، فربما كان حال هذين الغلامين من أولاد جعفر حال سائر الأطفال الذين خرجوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم ينصّ التاريخ على أسمائهم، إلابعد أن وقعت الفاجعة، تماماً كما هو حال ابني مسلم بن عقيل (علیهم السلام) .
ربما كان هذين الغلامين المغدورين أحفاد أو أسباط عبد الله بن جعفر كما هو مفاد أحد قولي الطبري، فربما كانا أبناء الأبناء أو أبناء أم كلثوم بنت عبد الله التي زوّجها خالها سيّد الشهداء (علیه السلام) أيام ملك معاوية من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر، كما روى الطبري وغيره، قال:
إنّ معاوية كتب إلى مروان وهو عامله على الحجاز يأمره أن يخطب أم كلثوم بنت عبد الله
ص: 54
بن جعفر لابنه يزيد، فأبى عبد الله بن جعفر، فأخبره بذلك.
فقال عبد الله: إنّ أمرها ليس إليّ، إنما هو إلى سيّدنا الحسين (علیه السلام) ، وهوخالها.
فأخبر الحسين بذلك، فقال: أستخير الله تعالى، اللّهم وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمد.
فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين (علیه السلام) ، وعنده من الجلّة، وقال: إنّ أمير المؤمنين أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ مع صلح ما بين هذين الحيّين مع قضاء دينه، واعلم أنّ من يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم!! والعجب كيف يستمهر يزيد، وهو كفؤ من لا كفؤ له!! وبوجهه يستسقى الغمام!!! فردّ خيراً يا أبا عبد الله.
فقال الحسين (علیه السلام) : الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على
ص: 55
خلقه.. إلى آخر كلامه.
ثم قال: يا مروان! قد قلت فسمعنا، أمّا قولك مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقية، يكون أربعمائة وثمانين درهماً.
وأمّا قولك مع قضاء دين أبيها، فمتى كن نساؤنا يقضين عنّا ديوننا.
وأمّا صلح ما بين هذين الحيّين، فإنّا قوم عاديناكم في الله ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري فلقد أعيا النسب، فكيف السبب.
وأمّا قولك العجب ليزيد كيف يستمهر، فقد استمهر من هو خير من يزيد ومن أب يزيد ومن جدّ يزيد.
وأمّا قولك إنّ يزيد كفؤ من لا كفؤ له، فمن كان كفؤه قبل اليوم، فهو كفؤه اليوم، مازادته إمارته في الكفاءة شيئاً.
وأمّا قولك بوجهه يستسقى الغمام، فإنما
ص: 56
كان ذلك بوجه رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
وأمّا قولك من يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا، فإنما يغبطنا به أهل الجهل، ويغبطه بنا أهل العقل.
ثم قال بعد كلام: فاشهدوا جميعاً أني قد زوّجت أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة، أو قال: أرضي بالعقيق، وإنّ غلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنى إن شاء الله.
قال: فتغيّر وجه مروان (1)..فربما كانا أولاد أولاد عبد الله بن جعفر.
***
ص: 57
وكيف كان! فإنّ إثبات أولاد أو أحفاد لعبد الله بن جعفر في كربلاء حلّت بهم تلك المصيبة الفاجعة لا ينفي ما حلّ بابني مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .
قال الشيخ عباس القمّي في كتاب منتهى الآمال: ثم هناك اثنان من أبناء مسلم برواية المناقب القديم: محمد وإبراهيم، وأمّهما من أبناء جعفر الطيار، وسيرد الحديث عن حبسهما واستشهادهما إن شاء الله(1).
يمكن أن يكون قول الشيخ القمّي معالجاً ثلاثاً يجمع بين الأخبار العامّية والأخبار الشيعية، بأن يكون هذان الشبلان أحفاد لعقيل (علیه السلام) وأسباط لجعفر (علیه السلام) ، أبوهم مسلم بن
ص: 58
عقيل (علیهما السلام) وأمّهم بنت جعفر الطيار، فنسبا مرّة إلى أبيهم، ومرّة إلى جدّهم لأمّهم.ولابد من افتراض شيء من السهو أو الخطأ أو التصحيف أو الزيادة، وما شاكل في نسبتهم إلى عبد الله بن جعفر.
ص: 59
اتّفقت المصادر بلا خلاف بينهم أنّهما كانا غلامين صغيرين، من دون تحديد لعمرهما، غير أنّ السيّد بحر العلوم قال في كتابه المقتل:
وأمّا ولداه الآخران: إبراهيم ومحمد الأصغر على ما أسماهما الصدوق، فكانا مع الحسين (علیه السلام) وأهل بيته يوم الطف، وعمر أحدهما سبع سنين وعمر الآخر ثمانية(1).
ص: 60
ألقي القبض على الفتيين مرّتين، مرّة انتهت بهم إلى سجن ابن زياد، والمرّة الأخرى انتهت بهما إلى الذبح ثم إلى الجنان:
يوجد خبران يتحدّثان عن إلقاء القبض الأوّل:
ما رواه الشيخ الصدوق والشيخ الطريحي عن أبي مخنف، قالا:
لمّا قتل الحسين بن علي (علیهما السلام) أسر من معسكره غلامان صغيران، فأتي بهما عبيد الله بن زياد، فدعا سجّاناً له..
قوله: ((لمّا قتل الحسين بن علي (علیهما السلام) أسر من معسكره غلامان صغيران)) يمكن أن
ص: 61
يتصوّر بعدّة تصوّرات:
أن يكونا قد أسرى فيمن أسر من أطفال سيّد الشهداء (علیه السلام) وعياله، وقد حكى ذلك لسان الملك في الناسخ عن صاحب العوالم، قال:
وفي العوالم: إنّه بعد قتل الحسين (علیه السلام) أسر ولدا مسلم مع من أسر من أهل البيت، فأخذهما ابن زياد وحبسهما(1).
وهذا التصوّر بعيد، لأنّ العيال والأطفال أسروا جميعاً في كبسة واحدة، وسبوا جميعاً في قافلة واحدة، وسرى بهم الأعداء من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام إلى كربلاء ثم إلى المدينة، ولم يتخلّف منهم أحد - حسب علمنا - إلا من حدّثنا التاريخ عنه من قبيل
ص: 62
رقية بنت سيّد الشهداء (علیهما السلام) ، والمحسن السقط ابن سيّد الشهداء (علیهما السلام) ، وهكذا.
قال الشيخ عبد الواحد المظفّر في كتابه سفير الحسين (علیه السلام) :
وقيل: أسرا في عسكر الحسين (علیه السلام) وسجنا، ثم فرّا، وهذا بعيد أيضاً، لأنّ الأسراء من صبيان بني هاشم لم يسجن منهم أحد حتّى رجعوا مع السبايا إلى المدينة.
أن يكونا قد دخلا الكوفة مع أبيهما، كما روى لسان الملك في الناسخ عن روضة الشهداء للكاشفي، فقال:
إنّه لمّا حبس ابن زياد هانى ء خرج مسلم من بيته، وجمع إليه شيعته، وأرسل أبناءه إلى بيت شريح القاضي ليكونا في حمايته..
لقد بقي ابنا مسلم في بيت شريح القاضي حتّى استشهد مسلم، فأبلغوا ابن زياد أنّ في
ص: 63
البلد أولاد مسلم بن عقيل وهما مختفيان، فأمر ابن زياد أن ينادي المنادي: أنّ من وجد في بيته أولاد مسلم فدمه هدر، وداره تهدم، وماله ينهب.
فلمّا سمع شريح بذلك جاء إليهما وبكى عندهما بكاءاً شديداً، فقالا له: ما يبكيك؟
فقال: اعلما أنّ مسلماً قد قتل، وأنّه قد ودّع هذه الدنيا الفانية، وسكن في الجنان العالية.
فلمّا سمعا ذلك منه بكيا بكاءاً عالياً وشقّا جيبهما وناديا: وا ابتاه وا غربتاه.
فقال شريح: لا تصرخا ولا ترفعا أصواتكما يا ابني أخي، ولا تسعيا في دماكما ولا في دمي، إنّ ابن زياد يطلبكما، وقد توعّد من يخفيكما وآلى أن لا يستقرّ حتّى يجدكما، فابتلعا غصّتهما وكسّرا الصرخات في أعماقهما، وخنقا عبراتهما خوفاً من ابن زياد.
ص: 64
فقال لهما شريح: إنّكما نور عيني ومهجة قلبي، وقد فكّرت في أمركما، فرأيت أن أرى لكما رجلاًأميناً يأخذكما إلى مدينة جدّكما، ويوصلكما إلى أهلكما، ثم إلتفت إلى ولده أسد وقال له: اخرج بهما هذه الليلة إلى خارج الكوفة، وانظر فإنّه بلغني أنّ قافلة تخرج اليوم نحو المدينة، فسلّمهما إلى رجل أمين يوصلهما إلى هناك، ودفع لكلّ واحد منهما خمسين ديناراً.
فلمّا جنّ الليل وعمّ الظلام خرج ابنه أسد بهما إلى خارج المدينة.
فلمّا خرجوا كانت القافلة قد انفصلت وتوغّلت في المسير، فنظر أسد فرأى شبحاً من بعيد، فالتفت إليهما وقال: أرى أنّ هذا الشبح البعيد هو سواد القافلة المنطلقة، فعجّلا بالمسير حتّى تصلا إليها، ثم أرسلهما وقفل راجعاً، فركض أولاد مسلم يتخبّطان في الصحراء يميناً وشمالاً، وهما لا يعرفان
ص: 65
الطريق، فتعبا ولم يدركا القافلة، وضيّعا الطريق، فمضيا حتّى وقعا على جماعة من أهل الكوفة، فعرفوهما فأخذوهما إلى ابن زياد، فأمر بهما فحبسا، ثم كتب إلى يزيد: إنّ ابني مسلم في الحبس فأمر فيهمابأمرك(1).
***
وهذا التصوّر أيضاً بعيد، وذلك:
إنّنا لم نسمع في التاريخ - حسب فحصنا - أنّ مسلماً (علیه السلام) خرج من المدينة مع أولاد له، وقد أتينا على أخبار خروجه من مكة في ((مسلم بن عقيل (علیهما السلام) - قصّة التطيّر وثائر أم سفير)).
لماذا يخرج مسلم بن عقيل (علیهما السلام) بولديه
ص: 66
البرعمين الصغيرين دون بقيّة أولاده؟وما هي الضرورة التي تدعوه لإخراجهما معه وبقيّة أهله وزوجته مع الركب الحسيني القادم؟
وما يصنع المولى الغريب (علیه السلام) معهما وهما صغيران، وهو مقدم على مهمّة صعبة ومجتمع خائن؟
لماذا يدفعهما إلى شريح القاضي بالخصوص، هذا الخائن العفن الذي يعرف المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) تاريخه، وقد ارتكب الخيانة والجناية التي غدر بها بهاني ومسلم (علیه السلام) قبل أيام حينما خرج إلى مذحج، وأخبرهم كذباً أنّ هانياً سالم في قصر ابن زياد.
وكان في الكوفة من رجال الحسين (علیه السلام) العظماء الذي يعرفهم المولى الغريب (علیه السلام) ، ويعلم علماً جازماً أنّهم يخرجون إلى
ص: 67
سيّد الشهداء (علیه السلام) ويلتحقون به.
خبر قدومهما إلى الكوفة تفرّد به الكاشفي في روضة الواعظين، وخبره يلتقي بخبر الشيخ الصدوق وخبر أبي مخنف في غير قدومهما إلى الكوفة مع أبيهما (علیهم السلام) .
ونحن نرجّح خبر الشيخ الصدوق على خبر الكاشفي.
قال الشيخ عبد الواحد المظفّر:
فقيل: أنهما مع أبيهما، فأخذا وسجنا، ثم فرّا من السجن، وهذا بعيد عن الصواب.
يمكن أن يقال: إنّ عبارة الراوي فيها اقتضاب واضح، واختصار يبدو أنّه قد عوّل فيه على معرفة السامع بتفاصيل أحداثكربلاء، وما جرى على آل الرسول بعد
ص: 68
شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من الهجوم على الخيام، وإحراقها على من فيها، والسلب والنهب والضرب، وفرار آل الله في البيداء مذعورين، ففرّ هذين الفتيين فيمن فرّ من أطفال، فأوغلا في الصحراء حتّى ابتعدا عن أرض المعركة ليأمنا الطلب، فوقع لهما ما وقع.
قال الشيخ عبد الواحد المظفّر:
((والأصوب أنهما فرّا دهشة وذعراً عند هجمة الخيل بعد قتل الحسين (علیه السلام) )).
بيد أنّه (علیه السلام) ينتهي بهما من كربلاء إلى العتيكات مباشرة دون أن يكونا قد ألقي القبض عليهما، وأودعا في السجن، فيقول:((فانتهى بهما الفرار إلى العتيكيات لقرب المسيب من أرض كربلاء)).
وهذا خلاف المروي والمشهور المتّفق عليه، ولعلّه اعتمد في ذلك على الأخبار العامّية التي ذكرت أولاد عبد الله بن جعفر،
ص: 69
أو أنّه من سهو قلمه الشريف، والله العالم.
وهو ما وقع لهما في بيت العجوز بعد نجاتهما من السجن، وسنأتي على ذكره عند الكلام عن شهادتهما، فلا نعيد.
ص: 70
في خبر الشيخ الصدوق:
((فأتي بهما عبيد الله بن زياد، فدعا سجّاناً له، فقال: خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيّب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما)).
***
أمر اللعين ابن الأمة الفاجرة أن يضيّق على هذين البرعمين الصغيرين، وليس لهما ذنب سوى أنّهما من عترة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله) ، وقد تضمّن كلامه الخبيث عدّة أوامر:
يشعر أمر الخبيث ب-((الأخذ)) طلب الصرامة والجدّية والحزم في تنفيذ الأوامر وعنف التعامل، وشدّة اللؤم، والإشعار بالأذى والترويع.
ص: 71
قال الخبيث: ((فمن طيب الطعام فلا تطعمهما)).
نفّذ السجّان هذا الأمر الجلفي الجافي بإطعامهما في كلّ يوم لكلّ واحد منهما قرص خبز شعير واحد، وخبز الشعير جاف يابس قوي صلب يطحن الأسنان قبل أن ينطحن، وهو لا يزيد على قرصين في اليوم والليلة، وهما طفلان صغيران!
قال اللعين: ((ومن البارد فلا تسقهما)).
بالفعل كان السجّان يدفع إليهما كوزين من الماء القراح الأجاج، لكلّ منهما كوز ليومه وليلته!
ص: 72
قال ابن الأمة الفاجرة: ((وضيّق عليهما سجنهما)).
عقّب أمره بالتضييق بعد أن حدّد له التعامل في الطعام والشراب، والتضييق لا يقتصر على التضييق المكاني، فهما في ضيق من حيث المكان بحكم كونهما في السجن، فربما أمكن أن يفهم من ((التضييق)) كلّ ما يكون فيه أذى وقساوة وتكبيل وتعذيب روحي وجسدي.
***
ويمكن تكوين صورة للسجن الذي سيطبق عليهما من خلال تلك الأوامر، فهو من حيث المكان والمعاملة ضيّق، ومن حيث الطعام خشن جشب، ومن حيث الشراب سراب، ومن حيث التعامل عنيف مروّع.
يعني أنّه لا يتوفّر على أيّ وسيلة من وسائل العيش في أدنى صوره القاسية.
ص: 73
ترسم لنا الأخبار صورتين للسجّان:
لم يصرّح خبر الشيخ الصدوق باسم السجّان، ولا بميوله، غير أنّه أبدى تعاطفاً مع الفتيين حينما أخبراه بنسبهما.
وربما يستفاد من إغفاله النظر في أمرهما، والسؤال عنهما مدّة سنة كاملة، وهو ينفّذ أوامر ابن زياد بحذافيرها، أنّه كان من عبيد ابن الأمة الفاجرة الذين ارتضوه لأنفسهم ربّاً من دون الله، بحيث لم يسمح لنفسه حتّى مراجعة النذل الساقط ابن زياد في أمرهما، وهو يرى أنوارهما والروائح الزكية التي يعبق به سجنهما، رغم التضييق! ويرى صبرهما وصومهما.
ص: 74
يرسم لنا لسان الملك في روايته عن الكاشفي صورة أخرى تختلف تماماً عن الصورة التي تستفاد من رواية الشيخ الصدوق، فهو يقول:
((أمّا السجّان، وكان يدعى "مشكور"، فإنّه كان من شيعة أهل البيت (علیهم السلام) ! فإنّه اغتمّ لما يسمع من حنينهم وأنينهم سبع أو ثمان سنين! فخدمهما وهيّأ لهما المكان المناسب، وقدّم لهما الطعام والشراب.
وبقي معهما على هذه الحال حتّى أتاهما ذات ليلة وقد جنّ الليل، وتلفّعت الآفاق بسربال الظلام، فقال لهما: اخرجا، فأخرجهما إلى طريق القادسية، ودفع إليهما خاتمه وقال لهما: فليكن هذا علامة عندكما، فاذا بلغتما القادسية اذهبا إلى أخي وادفعا إليه هذا الخاتم ليقوم على خدمتكما، ويسيّركما إلى المدينة.
ثم رجع مشكور وانطلق الغلامان، ولكنّهما
ص: 75
سرعان ما ضيّعا الطريق مرّة أخرى، فبقيا يطوفان حتّى أدركهما الصباح، وانبلج نور الفجر، فوجدا أنفسهما على مشارف الكوفة))..
هذه الصورة لا تنسجم مع سجّان يعتمد عليه ابن زياد الطاغي الذي لا يثق بأحد.
ويبدو أنّه يريد أن يقول كان محبّاً لأهل البيت (علیهم السلام) ، وليس ناصبياً ينصب لهم العداء، ويكنّ لهم الضغينة والبغضاء، وإلا فمن يبقى في تلك الفترة في خدمة ابن الأمة الفاجرة الدعي ابن الدعي ابن زياد، فهو ليس شيعة لأهل البيت (علیهم السلام) ، ولا ينطبق عليه الاسم بشكل من الأشكال، فلا يحسب عليهم، أو أنّه عبّر عنه ((شيعة أهل البيت (علیهم السلام) )) باعتبار عاقبته، كما ستسمع.
ثم إنّه يرسم صورة الرجل الخدوم الحنون، وأنّهما كانا في فسحة ورفاهية من العيش، حتّى فكّر في إطلاق سراحهما بعد سبع أو ثمان
ص: 76
سنين، ولا ندري لما تأخّر كلّ هذه الفترة! ولم لم يقترح عليه الفتيان حينما رأوا المعاملة الطيبة منه!
كيف كان! فإنّ الخبر يصرّح باسمه ((مشكور)).
ص: 77
يفيد خبر الشيخ الصدوق وأبي مخنف أنّهما مكثا في السجن سنة كاملة، قال الشيخ الصدوق: ((فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنة)).
وقال أبو مخنف كما في خبر الطريحي: ((فأخذهما السّجان ووضعهما في السّجن إلى أن صار لهما سنة كاملة حتّى ضاقت صدورهما)).
أمّا في خبر الكاشفي فقد تردّد بين السبع والثمان سنين، قال: ((فإنّه اغتمّ لما يسمع من حنينهم وأنينهم سبع أو ثمان سنين!)).
ويحتمل أن يكون تصحيفاً أو سهواً، كأن تكون سبع أو ثمان شهور، لأنّ أقلّ ما يقال فيه أنّ المختار كان قد خرج للانتقام، ولم يكن ابن زياد في الكوفة، بل في الدنيا ذلك اليوم.
ص: 78
***بقيا سنة كاملة، في وضع يرثى له، ويستحق أن تذوب له القلوب، وتذال له الدموع، فتيان صغيران، يقدّم لهما طعام لا يسمن ولا يغني من جوع، طعام لا يقيم الأود، ولا يسدّ الغرث، فكانا يصومان!
((وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح)).
حوّلا البلاء النازل عليهما إلى طاعة، طاعة تشدّ العزم، وتقوّي الصبر، وتزيد الصلابة، وتعين على الثبات، فكانا يصومان..
ص: 79
ويفطر كلّ واحد منهما على قرص، وشيء من الماء القراح!
طفل غريب مفجوع قد رأى من الظالمين مشاهد تندك لها السبع الشداد، رأى إخوته يذبحون ويقطّعون، ورأى أقاربه وأهله بين قتلوسبا، ورأى النار تلتهم الأخبية وتسري في ملاحف النساء، وذاق العطش والغربة والخوف والدماء والرمضاء.. ثم بعد هذا كلّه يسجن بيد الذبّاح، ويضيّق عليه في السجن!
مكان ضيّق، لا رحمة ولا رأفة ولا عطف ولا حنان، ولا أهل ولا عشيرة ولا أم ولا أب ولا إخوة ولا أقرباء..
سجن ضيّق، وطعام يكاد أن لا يكون، وشراب لا يكفي لأكثر من إفطار، وخوف وذعر في كلّ دخلة يدخلها السجّان، لا يدرون متى سيحتزّ الوحش الكاسر رؤوسهم..
ص: 80
طفلان غريبان أسيران، في سجن مظلم، بيد عدوّ غاشم، أكلهما السجن، وأنحفهما الجوع والعطش حتّى صارا كالخيال، فقال أحدهما للآخر: ((يوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا))..
ص: 81
قال الشيخ الصدوق:
فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرّب إليه بمحمد (صلی الله علیه و آله) لعلّه يوسّع علينا في طعامنا، ويزيد في شرابنا.
فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح، فقال له الغلام الصغير: يا شيخ! أتعرف محمداً؟
قال: فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيي!
قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!
قال: أفتعرف علي بن أبي طالب؟
ص: 82
قال: وكيف لا أعرف علياً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيي!
قال له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا.
***
يفيد النصّ إفادات عديدة، منها:
يبدو من قوله ((ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا))، أنّ آثار الجوع والعطش وضيق الحبس والصوم قد بانت عليهما، فأدركا أنّهما بين فكّي الموت الذي لابد منه، حيث تنبّها إلى فناء العمر واضمحلال البدن،
ص: 83
وكيف لا، وكلّ واحد منهما يقتات على قرص واحد في كلّ يوم! لمدّة سنة!
قد جفّ البدن، والتصق الجلد بالعظم، وكاد الدم أن يجمد في العروق اليابسة!
فكأنّهما أرادا أن يحرّكا قضيّتهما، فإمّا إعادة النظر في قضيّتهما، أو الموت المريح، أو الفوز بتحسين الوضع في السجن.
يبدو من النصّ أنّ غاية ما كان يتمنّاه الفتيان الهاشميان التوسعة بالطعام والزيادة في الشراب، ((فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرّب إليه بمحمد (صلی الله علیه و آله) لعلّه يوسّع علينا في طعامنا، ويزيد في شرابنا)).
فهما يريدان ما يقيم أودهما، وينجيهما من الموت البطيء جوعاً وعطشاً..
ص: 84
يبدو أنّ سجنهما لم يكن قريباً، أو أنّه كان في موضع لا يصل معه صوتهما إلى أحد، وأنّ السجّان لم يتفقّدهما إلا حين يأتيهما بالقرصين، ((فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح)).
فالسجّان لا يأتيهما إلا حينما يجنّ الليل، وإني أكاد أطمئن أنّ السجّان كان يغفل عنهما وينساهما في بعض الليالي، هذا أمر طبيعي ومتوقّع(1)!
الكوفة مشحونة بأعداء أهل البيت (علیهم السلام) ،
ص: 85
وهما أسيران في سجن دعي يتفجّر حقداً وغيضاً وضغينة وإحناً على أمير المؤمنين علي بن أبي طال (علیهما السلام) ، وقد قتل أباهما مسلم بن عقيل، وهذا السجّان سوط من سياط ابن الأمة الفاجرة، فكيف يعربان له عن هويتهما، وهو لم يسألهما منذ سنة!!
لم يسأل عن هويتهما، ولم يسألهما عن جرمها، وهما صغيران تفوح منهما رائحة العترة النبوية، وتشعّ منهما الأنوار الطالبية، وتحيطهما هالة القدس العلوية..
أطاع ابن البغي، ولم يراجع نفسه!
فجاء الفتى الهاشمي الذي ورث النباهة والعلم والمعرفة وسرت في دمه وأنارت وجوده، يسأله عن سؤال لا يستطيع أن يتنكّر له أبداً، وألقاه في مفترق طريق، فإمّا أن يقرّ بالكفر الصراح علانية، وإمّا أن يتشبث بكلمة تدخلهولو ظاهراً في دائرة من يسمّونهم ((المسلمين)).
ص: 86
((فقال له الغلام الصغير: يا شيخ! أتعرف محمداً؟)).
سؤال بديهي، كيف لا يعرف محمداً (صلی الله علیه و آله) ؟ إلا أنّه جاء ليقرّر أنّه في زمرة البشر الذين يعيشون في الكوفة، إذ لم يسأله ((يا شيخ، من نبيك؟))، لأنّ محمداً (صلی الله علیه و آله) يعرفه كلّ الناس، حتّى اليهود والنصارى والمشركين!
يريد أن يشعره بانتمائه، يقول له إنّك تعرف رجلاً بهذا الاسم؟!
فقال: فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيي!
فإذا كان نبيك، فعليك أن تطيعه، وتترك طاعة أولاد البغايا، عليك أن تتذكّر تعاليمه، ((من لم يرحم صغيرنا.. فليس منّا))، الرحمة،الرأفة، التواصل، العطف بين المسلمين.
وهو في نفس الوقت إعداد لهذا الشيخ ليتذكر جيداً وصيّة الله ووصيّة النبي بعترته وآله ((قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)).
ص: 87
وقد اعترف والحمد لله أنّه يعرف محمداً (صلی الله علیه و آله) وأقرّ أنّه نبيه، فهو إذن ممّن يزعم أنّه من المسلمين.
***
الآن وقد زعم أنّه من المسلمين، سأله عن جعفر بن أبي طالب، فهو من المشبّهين بالنبي (صلی الله علیه و آله) ، وله منزلة خاصّة عند النبي (صلی الله علیه و آله) ، وموقفه في المسلمين لا ينكره أحد منهم، يعرفه أهل الشرق والغرب، يعرفه أهل الشرق لأنّه كان رأسهم وقائدهم في إفريقيا، في أشدّ وقائعهموأيامهم ضراوة، ويعرفه أهل الغرب لما أبلى فيهم قبل شهادته..
هو الذي سرّ بقدومه النبي (صلی الله علیه و آله) ، حتّى قال: لا أدري بأيّهما أسرّ بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وهو الذي خلع عليه سيّد الكائنات
ص: 88
أوسمة الشرف والعزّة والمحبّة والتقدير، وشهد له بطهارته بتكريم وجهه من السجود لغير الله، وتنزهه من الخمر جاهلية وإسلاماً، وغيرها من الأوسمة الراقية التي تسمو به إلى مراتب لا ينالها إلا أمثاله..
وهو في نفس الوقت من أبناء أبي طالب (علیهم السلام) ، أخو أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وبه يمكن أن يستكشفوا مدى نصب هذا الشيخ!
فقال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!
اقترب أكثر وضيّق دائرة استكشاف الشيخ، فهو إذن يعرف جعفراً يقرّ بالفضل له..
بيد أنّ هذا لا يكشف تماماً عن موقفه، ولا يحكي مقدار نصبه، ولابد من التقدّم بسؤال يكاد يكون كلمة الفصل.
ص: 89
قال: أفتعرف علي بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف علياً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيي!
وبهذا الجواب انفتح الباب أمام الفتى، ولاحت بوادر الفرج، وحان الوقت لتستحصل النتيجة من كلّ تلك المقدّمات، فوعظه أوّلاً ثم كشف عن هويته بالكامل:قال له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب..
وفي رواية الشيخ الطريحي عن أبي مخنف:
((فما لك وما لنا لا ترحمنا لصغر سنّنا؟ أما ترعانا لأجل سيّدنا رسول الله؟)).
هذا النبي الذي أنت تزعم أنّك من أتباعه، وأنّك تدين الله بدينه، له عترة لا تنكرها، وقد أوصى بها على رؤوس الأشهاد، ونحن من أولئك!!
وقد أخّر الإصحار عن نسبته المباشرة مع
ص: 90
مسلم بن عقيل باعتبار أنّ ابن الأمة الفاجرة قد جاهر بعداوته له وقتله قتلة تشفّي وانتقام، فأثبت له الفتى أنّه من العترة النبوية، لتكون له حصناً وحرزاً مانعاً، ثم أخبره أنّه ابن مسلم بن عقيل.إنّ هذا الفتى الطالبي من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً، شيوخه خير شيوخ، وشبانهم خير شبان، وصغارهم خير من كبار غيرهم إلا من استثناهم الله..
فتى معذّب في قعر السجون سنة كاملة، أذبله الجوع، وأنحله الظمأ، وجار عليه السجّان، وهو بعيد عن الأهل والأوطان، غريب أسير بيد أهل الجور والظلم والطغيان والعدوان...
فتی صغیر أمسی و أصبح فی مضایق الحبوس و السجون و کربها و حدیدها یتداوله زبانیتها، فلا یدری أیّ حال یفعل به، و أیّ مثله یمثل به، فهو فی ضرّ من العیش، وضنک
ص: 91
من الحیاة، ینظر إلی نفسه حسرة، لا یستطیع لها ضراًّ و لا نفعاً.یتیم أمسی و أصبح قد استمرّ علیه القضاء.
و أحدق به البلاء، و فارق أوداّءه و أحباّءه و أخلاّءه، و أمسی مستضعفاً أسیراً فی أیدی الکفار و الأعداء، یتداولونه یمیناً و شمالاً قد حمل فی المطایر، و ثقل بالحدید، لا یری شیئاً من ضیاء الدنیا، ولا من روحها، ینظر إلی نفسه حسرة، لا یستطیع لها ضرّاً و لا نفعاً.
صغیر سجین أمسی و أصبح قد استمرّ علیه القضاء، وأحدق به البلاء و الکفّار والأعداء، ولا یدری متی تأخذه الرماح والسیوف والسهام، ویجدّل صریعاً، فتشربت الأرض من دمه (1)..
ص: 92
و هو فی هذه الحال، يستدرج الشيخ السجّان بهذه الطريقة الماهرة، والأسئلة الحاذقة، حتّى يقرّ له بالفضل، ويعترف بالظلم، ويرى نفسه في حرج لا ينجو منه إلا بالمجازفة، ولو كلّفته حياته!
((بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا)).
هنا بدأ الاحتجاج، وبدأ بالإفحام بعد أن أقرّ الشيخ، وكشف عن مكنوناته، وتبيّن أنّه ممّن يتوسّم فيه قبول الطلب.
وأوّل صعقة رجّ بها كيانه بعد أن أوقظ فيه بعض دفائن ضميره وقلبه وعقله، نبّهه إلى أنّه قد سجن عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، وهم أسارى بيده.
ثم قدّم له طلبه.. التوسعة في المطعم
ص: 93
والمشرب والسجن، ((نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا)).
يبدو من قوله ((نسألك)) ((فلا تطعمنا)).. أنّهما قد حاولا معه قبل ذلك، ورفض أن يوسّع عليهما، غير أنّهما قد حاججاه الليلة، في محاولة كأنّها المحاولة الأخيرة، فكشفا له عن هويتهما، فإمّا أن يضيّق عليهما ويقتلهما فيخلصان، وقد أقاما عليه الحجّة البالغة، وإمّا أن يرعوي ويتحرّك فيه عرق يسبب لهما النجاة من تلك المخمصة وذلك الضيق.
وغاية ما طلباه منه، شيء من الطعام وزيادة في الماء، وفسحة في السجن.
ص: 94
بعد أن أقاما عليه الحجّة، وهزّا كيانه، ونبشا مقابر قلبه ووجدانه بحثاً عن فطرته، ((فانكب الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أيّ طريق شئتما)).
انفعال عاطفي، وانتفاضة ضمير، ويقظة وجدان، وارتعاشة بقايا روح إنسانية، جعلته ينكبّ على أقدامهما بعد كلّ ذاك العذاب والجلفية والهمجية والغلظة والقسوة، ففداهما بنفسه، وجعل وجهه وقاء لوجهيهما!
لكنّه لم يفكّر ولم يتدبّر في فعله! غلامان صغيران غريبان في بلد غريب، وأهلهما بعيد، تفصلهما عن وطنهما آلاف الأميال،
ص: 95
وعشرات المدن والأرياف والمنازل، لا يعرفان طرق البلد، ولا مداخله ومخارجه، وموالجه ومساربه، ولا يعرفان أحداً، والبلد كلّه موصد مرصود، وجلاوزة السلطان وأعداء أهل البيت في كلّ مكان.. يتركهما هذا الشيخ الفادي لهم بروحه، ويقول لهما: ((فخذا أيّ طريق شئتما))!
أما فكّر هذا الشيخ بعواقب فعله، وأنّه ربما كشفهما لابن زياد ليقضي فيهما بأمره من جديد إمّا سجن عند آخر أو قتل سريع!
إلى أين يذهب هذان الغلامان الغريبان؟!
ثم إنّه لم يزل هذا الشيخ على التزامه بأمر ابن الأمة الفاجرة، فإنّ كلّ ما أراده منه الفتيان الهاشميان زيادة في الطعام والشراب، وهو لم يزوّدهما بأكثر ممّا كان يقوّتهما به كلّ ليلة، وهما عازمان على سفر مجهول، وطريق غير معلوم.
((فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين منشعير و
ص: 96
كوز من الماء القراح))!!
((ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا - يا حبيبي؟- الليل، واكمنا النهار حتّى يجعل الله - عزّ وجلّ - لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً)).
أيّ طريق وقفهما عليه؟ إلى أين وجّههما وتركهما لوحوش الإنس وسباع البرّية!
كيف كان! فإنّ ثمة فسحة من ضيق السجن قد حصلت، فخرجا..
ص: 97
((خرجا لم يدريا إلى أيّ جهة يمضيان))، سارا وشبح القتل والوقوع في فخّ الوحش الكاسر ابن الأمة الفاجرة، والعودة إلى ضيق السجن والأيام العجاف يلاحقهم، وأمل اللقاء بالأهل والعودة إلى الوطن والاستظلال بأفياء حماية بني هاشم يقودهم..
غلامان صغيران.. في برّية موحشة أو في غابات النخيل المظلمة تملأها الذئاب والوحوش الكاسرة من البهائم والبشر.. يمتطيان الليل ويغذان السير، وقد فعلا ما نصحهما به السجّان، فمشيا ليلاً وكمنا نهاراً، قال الشيخ الصدوق:
((قال لهما: سيرا - يا حبيبي؟- الليل، واكمنا النهار... ففعل الغلامان ذلك)).
ولا عجب من وصولهما إلى العتيكات
ص: 98
قريباً من المسيب، فهما لم يقطعا هذه المسافة في ليلة واحدة، كما زعم البعض فاستبعد ذلك، لأنّهما أطلقا ليلاً فمشيا، ثم كمنا نهاراً، ولا ندري كم مرّة فعلا ذلك، غير أنّ لفظ الخبر يفيد أنّهما لم يصلا إلى هناك منذ الليلة الأولى، إذ يقول: ((فلمّا جنّهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب))، وهو يفيد أنّ الليل قد جنّهما من جديد، وهو غير الليل الذي جنّهما من قبل فأطلقهما السجّان.
ووصول الماشي المغذ مشياً حثيثاً ربما تخلّله هرولة وركض بحكم الظروف المحيطة بالحركة، والخوف من ملاحقة الأعداء، إلى تلك المنطقة ممكن بأسرع من الليلتين، فكيف إذا كانت أكثر؟!
فمدّة المسير لم يحدّدها الخبر بالضبط، غير أنّ العبارة تفيد أنّهما استغرقا الليلة الأولى التي أطلقا فيها، وطويا نهار تلك الليلة في الكمين،وجنّهما الليل من جديد، هذا أقلّ ما
ص: 99
يمكن افتراضه، حسب رواية الشيخ الصدوق.
بل يفيد قوله: ((فلمّا جنّهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق))، أنّهما قد مشيا مقدار أمنا فيه الطلب القريب، وأحسّا أنّهما ابتعدا عن منطقة الخطر المباشر.
أضف إلى ذلك أنّ الأخبار لم تشر إلى موضع السجن، فربما كان خارجاً من مركز الكوفة بكثير، وكانت الكوفة يومها منتشرة، فإنّ قبر الشهيد باب الحسين (علیه السلام) رشيد الهجري يبعد كيلومترات كثيرة عن الكوفة، وقد دفن في دارته، وكانت تعدّ فيالكوفة.
فربما كان موضع السجن أيضاً خارج مركز الكوفة، لا يبعد كثيراً عن العتيكات.
ص: 100
روى الشيخ الصدوق، قال:
.. فلمّا جنّهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق.
فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبيّ، فقد شممت الروائح كلّها، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما.
فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.
قالت العجوز: يا حبيبيّ، إنّ لي ختنا فاسقاً، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما.
قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا
ص: 101
الطريق.
فقالت: سآتيكما بطعام، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا..
وفي خبر الطريحي عن أبي مخنف:
قال: فلمّا خرجا لم يدريا إلى أيّ جهة يمضيان، فلمّا جهجه الصّبح عليهما، دخلا بستاناً وصعدا على شجرة واكتنّا بها.
فلمّا طلعت الشّمس، وإذا بجارية قد رأتهما، فأقبلت إليهما وسألتهما عن حالهما وطيبت قلوبهما، وقالت لهما: سيرا معي إلى مولاتي فإنّها محبّة لكما.
فسارا معها، فسبقتهم الجارية فأعلمت مولاتها، فلمّا سمعت بهما، قامت حافية إليهما واستقبلتهما بالبشرى، وقالت لهما: ادخلا على رحب وسعة...
وفي خبر الكاشفي:
.. فالتفتا يميناً وشمالاً، فوجدا عيناً ونخلاً، فدخلا فيه، وتسلّقا على أغصان شجرة
ص: 102
ليستريحا هناك ساعة.
فجاءت أمة لتأخذ الماء من العين، فرأت صورة الغلامين منعكسة في الماء، فكلّمتهما ولاطفتهما ودعتهما إلى البيت، وأخبرتهما أنّ سيّدتها من محبّي آل محمد (علیهم السلام) ، وأنّها ستفرح بهما أشدّ الفرح، حتّى أقنعتهما وذهبت بهما إلى البيت.
فلمّا رأتهما سيّدتها فرحت بهما فرحاً شديداً، وأعتقت الأمة لوجه الله هدية على فعلها الخير، وأخذت الغلامين إلى موضع في الدار لا يدخله أحد فأخفتهما، وعرضت عليهما الطعام، وأوصت وصيفتها أن لا تخبر زوجها بما جرى، وأن يبقى الأمر سرّاً بينهم.
***
والأخبار الثلاثة متقاربة في المضمون، وكلّها تدلّ على فرح العجوز بهما، واحترامها لهما، وقيامها بخدمتهما، وأنّها كانت تتوجّس
ص: 103
عليهما من زوجها أو ختنها.
وربما لم يكن ثمّة فرق في القادم المتوقّع الذي كانت تخشاه العجوز، لأنّ الختن وإن كان بمعنى الصهر وأقرباء الزوجة من أب وأم وغيرهما إلا أنّه يرد أيضاً في اللغة بمعنى من نكح في قوم، والخُتونة أَيضاً: تَزَوُّجُ الرجل المرأَة(1)، فربما تطلق ويقصد بها الزوج أيضاً.
لقد شبعا ورويا بعد سنة أو أكثر، ونظرا إلى وجه باسم بعد أن اكفهرت الدنيا في أعينهم منذ أمد بعيد، وسمعا كلمة حانية، ولقيا معاملة طيبة، بعد طول جفاء وغلظة وعناء..
لقد شمّت هذه الطاهرة منهما عبق النبوة، وأريج الولاية، رغم بقائهما في السجن سنة، لا عهد لهما فيه بالماء، تلمّست بفطرتها النظيفة شفافية الروح الهاشمية، وطهر الأبدان
ص: 104
الطالبية، ورائحة الجنّة، الطهر يدرك الطهر بسهولة، وهذه هي رائحتهم شذى وعبير يفوح منهم في كلّ حال، غير أنّ أنوف أولاد البغايا لا تستروح إلا الحميم والغسلين، والقيح والصديد، فهم محرومون لموانعهم، أو منكرون لمكابرتهم..
ص: 105
النوم سلطان يحدّه القلق والسغب، والظمأ وفقدان الأمن، وهذان البرعمان الصغيران، قد اجتمعت عليهم كلّ العوامل التي تطرد النوم عن العين، وتذهب بالكرى، فهما مطاردان مطلوبان معرّضان في كلّ لحظة وآن، مهدّدان تطاردهما المنّية في الأزقة والشوارع والسكك في داخل المدينة وخارجها، يحتملان أن تشي بهما رمال الصحراء، وأشواك البرية، ونخيل المزارع المنتشرة على في كلّ مكان..
وقد أنحلهما السجن، وهدّ قواهما الجوع، وأودى بهما الظمأ، وفقدا حتّى جرعة الماء والرغيف الخشن الذي كانا ينتظرانه من يد السجّان من الليل إلى الليل..
وكانا من قبل يخشيان السجّان، والآن يمكن أن يكون كلّ فرد صغيراً كان أو
ص: 106
كبيراً سجّاناً يجرّهما إلى السجن أو القتل من جديد..
فلمّا قامت تلك المرأة على خدمتهما والاهتمام بهما، وأتتهما بالطعام فأكلا وشربا، وأنزلتهما في مكان لم يدخل إليه أحد من النّاس.
قال الطريحي: فلمّا دخلا، أنزلتهما في مكان لم يدخل إليه أحد من النّاس، وخدمتهما خدمة تليق بهما.
فشبعا ورويا وأمنا، وقد أخذ التعب منهما مأخذاً عظيماً بعد لوعة وحرمان امتدّ بهما ردحاً طويلاً من الزمن، فأخلدا إلى النوم برجاء أن يكونا قد أمنا.
قال الشيخ الصدوق:
((ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا، فلمّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي! إنّا نرجو أن نكون قد أمنّا ليلتنا هذه، فتعال حتّى أعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتك وتشمّ
ص: 107
رائحتي قبل أن يفرّق الموت بيننا.
ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما)).
في هذا النصّ إشارة واضحة إلى أنّهما كانا يعلمان أنّ شبح الموت لا زال يطاردهما، وأنّ مخالب المنيّة لا زالت مغروزة فيهما، وأنّ الاستراحة في بيت هذه العجوز إنما هي كصحوة المحتضر ليس إلا..
ص: 108
قال الشيخ الصدوق:
.. فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب قرعاً خفيفاً.
فقالت العجوز: من هذا؟
قال: أنا فلان.
قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت؟
قال: ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي، وتنشقّ مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي.
قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟
قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد، فنادى الأمير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء.
ص: 109
فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمد خصمك في يوم القيامة.
قال لها: ويحك إنّ الدنيا محرّص عليها.
فقالت: وما تصنع بالدنيا، وليس معها آخرة؟
قال: إني لأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شيئاًً، فقومي فإنّ الأمير يدعوك.
قالت: وما يصنع الأمير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البريّة؟
قال: إنما لي طلب، افتحي لي الباب حتّى أريح وأستريح، فإذا أصبحت بكّرت في أيّ الطريق آخذ في طلبهما.
ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب.
وقال الكاشفي والطريحي:
ثم إنّ ابن زياد نادى في شوارع الكوفة: أنّ من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل فله الجائزة
ص: 110
العظمى.
وكان زوج تلك المرأة في جملة من طلبهما، فلمّا جنّ الليل أقبل إلى داره وهو تعبان من كثرة الطلب، فقالت له زوجته الصالحة: أين كنت فإنّي أرى في وجهك آثار التعب؟
قال: قد نادى ابن زياد في أزقة الكوفة: أنّ من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل كان له عندي الجائزة العظمى، وقد خرجت في الطلب، فلم أجد لهما أثراً ولا خبراً.
فقالت له زوجته: يا ويلك، أما تخاف من الله؟ ما لك وأولاد الرسول؟ تسعى إلى الظالم بقتلهم فلا تغرّنك الدنيا.
قال: أطلب الجائزة من الأمير(1)، وما أنت وهذا الكلام قومي وأحضري لي الطعام فإنّي جائع، فقامت المرأة المسكينة فأحضرت له الطعام فأكل ونام.
ص: 111
***
اتّفقت المصادر على جملة من الأحداث التي رواها النصّ المذكور:
مضى هزيع من الليل والمرأة الصالحة وضيفها في أمان، فلمّا طرقها الخبيث أحسّت بالشرّ.
لم تألوا المرأة الصالحة جهداً في تقديم النصح للخبيث، وتذكيره بالآخرة، وتزهيده في الجائزة المزعومة، واستعطافه وتحذيره من مغبّة التورّط بدماء الأبرار من عترة النبي (صلی الله علیه و آله) .
حاولت المرأة الصالحة محاولات حثيثة في
ص: 112
مدّة قصيرة ترمي إلى إقناعه بالابتعاد عن هذه الورطة مطلقاً، ولامته على ما فرّط في يومه، وبذل من جهده في خدمة الظالمين لآل محمد (صلی الله علیه و آله) .
لم يرعوي الخبيث ولم يتأثّر بالنصح، وأجابها جواب من ختم الله على قلبه، وجعل على عينه غشاوة، بقساوة أشدّ من الصخر الأصمّ، وكان جوابه تافهاً رخيصاً هابطاً ينمّ عن نذالة وسقوط إلى مديات لا تتلائم مع التكوينة البشرية.
في نصّ الشيخ الصدوق: قابل الخبيث نصح المرأة الصالحة بجفاء وغلظة وحاول ثنيها عن موقفها في الدفاع عن آل محمد (صلی اللهعلیه و آله) ، فهدّدها بابن الأمة الفاجرة ابن زياد، وزعم أنّها
ص: 113
مطلوبة له لدفاعها عن طلبته، وظنّ أنّ تقوّله على ابن زياد سيرعب العجوز، وأنّها ستصدّق قوله، ((قال: إني لأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شيئاًً، فقومي فإنّ الأمير يدعوك)).
فكان جوابها محكماً قويّاً وكاشفاً عن كذبه، إذ قالت له: ((وما يصنع الأمير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البريّة؟)).
لا شكّ أنّ المرأة الصالحة إنما فتحت الباب رعاية للأدب والتزاماً بالطاعة، برجاء أن يدخل الخبيث فيريح ويستريح، ثم يبكّر صباحاً ويخرج من بيتها، فتبادر هي إلى تجهيز ضيفها، والقيام بالواجب حياله.ثم ما عساها أن تفعل - وإنما هي عجوز في البرّية - مع وغد كاسر ووحش هائج جائر، قد انفق يومه وشقّ مرارته في معصية الله
ص: 114
وملاحقة عترة النبي (صلی الله علیه و آله) .
أكانت تقوى على منعه من دخول الدار؟ وبعد أن دخل كادت مرارتها تنشق خوفاً وفرقاً على ضيفها، وهي تعلم أنّها لا تقوى على الدفع عنهما، ولا تستطيع مقاومة هذا الوحش المتنمّر، وهي ترجو أن يكونا في مأمن لأنّها جعلتهما في مكان لا يقصد، فما ترى من حيلة سوى التخفّي عليهما.
طلب من العجوز الصالحة طعاماً، وليتها دسّت إليه السمّ الزعاف فارتاحت وأراحت، ولكن من أين تأتي به وهي عجوز في البرّيّة؟وهو بعد لم يفعل شيئاً، وهي لم تعهد القتل من قبل، وترجو أن تنقضي تلك الليلة ويصبح الصباح، فيخرج وينجو الضيف في عافية.
ص: 115
صبيان صغيران حرما الرعاية والحنان، وابتليا بقساوة الطاغوت والسجّان، وهما الآن بين فكّي الموت وطائر المنيّة يرفرف فوق رأسيهما، فأدركتهما الرحمة الإلهية الواسعة، وشملتهما رعاية سادة الأكوان، فحضروا عندهما يسلّوهما ويعزّوهما ويخبروهما أنّهما سيستريحان بعد قليل من همّ الدنيا وغمّها، ويرحلان إلى آبائهما الطاهرين، ويحظيان بحنان فاطمة الزهراء (علیها السلام) ((أمّ المؤمنين))..
قال الكاشفي والطريحي، واللفظ للأوّل:
أمّا أبناء مسلم فقد استيقظ محمد - وكان الأكبر - من نومه، فقال لأخيه إبراهيم: يا أخي اجلس، فإنّ هلاكنا قد قرب!
فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟
قال: بينما أنا نائم وإذا بأبي واقف عندي
ص: 116
وإذا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) وسيدة الكونين (علیها السلام) وقوف، وهم يقولون لأبي: ما لك تركت أولادك بين الأعداء؟ فقال لهما أبي: وها هما بأثري قادمين.
فقال له أخوه: والله يا أخي فقد رأيت مثل ما رأيت، فتعانقا، وجعلا يبكيان.
ص: 117
قال الشيخ الصدوق:
فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف البيت، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتّى وقعت يده على جنب الغلام الصغير.
فقال له: من هذا؟
قال: أما أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟
فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنّا نحاذره.
قال لهما: من أنتما؟
قالا له: يا شيخ! إن نحن صدقناك فلنا الأمان؟
قال: نعم.
قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمّة الله وذمّة رسوله؟
ص: 118
قال: نعم.
قالا: ومحمد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين؟
قال: نعم.
قالا: والله على ما نقول وكيل وشهيد؟
قال: نعم.
قالا له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.
فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما.
فقام إلى الغلامين فشدّ أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكّتفين.
وقال الكاشفي:
أمّا أبناء مسلم فقد استيقظ محمد - وكان الأكبر - من نومه، فقال لأخيه إبراهيم: يا أخي اجلس، فإنّ هلاكنا قد قرب!
فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟
ص: 119
قال: بينما أنا نائم وإذا بأبي واقف عندي وإذا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) وسيدة الكونين (علیها السلام) وقوف، وهم يقولون لأبي: ما لك تركت أولادك بين الأعداء؟ فقال لهما أبي: وها هما بأثري قادمين.
فقال له أخوه: والله يا أخي فقد رأيت مثل ما رأيت، فتعانقا، وجعلا يبكيان.
فسمع الحارث بن عروة همهمة بكائهما وهو بين النائم واليقظان، فقال لزوجته: ماهذه الهمهمة؟ فلم تردّ عليه الجواب كأنها لم تسمع، فقعد وطلب مصباحاً، فتناوم أهل البيت كلّهم كأنّهم لم يسمعوا، ولم تعد المرأة تقوى على القيام، فقام واشعل المصباح وأراد فتح الباب، ومانعته فضربها وفتح الباب وإذا بهما يبكيان بصوت عال.
فقال لهما: من أنتما؟
فظنّاه من أهل البيت وهو شيعة لآل محمد (علیهم السلام) فقالا له: إنّنا يتيما مسلم بن عقيل.
ص: 120
فقال الحارث: إنّي أتعبت اليوم فرسي ونفسي في طلبكما وأنتما عندي وفي بيتي!
ثم إنّه لطمها لطمة أكبتهما على الأرض، وتهشم وجهيهما من شدّة الضربة، ثم إنّه كتفهما كتافاً وثيقاً، وخرج وأحكم عليهما قفل الباب.
فتوسّلت به زوجته وقبّلت يده ورجله ونصحته وخوفته الله ورسوله والآخرة، فلم يقبل منها وكانت كلماتها تمرّ في أذنيه كما يمرّ الماء من الغربال.
وقال الطريحي:
فبينما هو بين النّائم واليقظان، إذ سمع الهمهمة من داخل البيت، فقال لزوجته: ما هذه الهمهمة؟ فلا تردّ عليه الجواب كأنّها لا تسمع، فقعد وطلب مصباحاً، فتناوم أهل البيت كأنّهم لم يسمعوا، فقام وأشعل المصباح وأراد فتح الباب، فقالت له زوجته: ما تريد من فتح الباب؟ ومانعته، فقاتلها ومانعها
ص: 121
وفتح الباب، وإذا بأحد الولدين قد انتبه،فقال لأخيه: يا أخي، اجلس فإنّ هلاكنا قد قرب.
فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟
قال: بينما أنا نائم، وإذا بأبي واقف عندي، وإذا بالنّبي (صلی الله علیه و آله) وعليّ والحسن والحُسين وقوف وهم يقولون لأبي: ما لك تركت أولادك بين الكلاب والملاعين؟ فقال لهما أبي: وها هُما بأثري قادمين.
فلمّا سمع الملعون كلامهما، جاء إليهما وقال لهما: مَن أنتما؟
قالوا: من آل الرّسول.
[قال]: ومَن أبوكم؟
قالوا: مُسلم بن عقيل.
فقال الملعون: إنّي أتعبت اليوم فرسي ونفسي في طلبكما وأنتما عندي.
ثمّ إنّه لطم الأكبر منهما لطمة أكبّه على الأرض حتّى تهشّم وجهه وأسنانه من شدّة
ص: 122
الضّربة، وسال الدّم من وجهه وأسنانه، ثمّ إنّه كتّفهما كتافاً وثيقاً.
فلمّا نظرا إلى ما فعل به [بهم] اللعين، قالا: ما لك يا هذا تفعل بنا هذا الفعل، وامرأتك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت هكذا تفعل بنا؟ أما تخاف الله فينا؟ أما تراعي يتمنا وقربنا من رسول الله؟
فلم يعبأ اللعين بكلامهما ولا رحمهما ولا رقّ لهما، ثمّ دفعهما إلى خارج البيت، وبقيا مكتّفين إلى الفجر وهُما يتوادعان ويبكيان، لما جرى عليهما.
ص: 123
لقد كان في يد أبيهما سيف الصارم، وهو يعرف أهل تلك الديار وزيفهم وغدرهم، وقد شاهد ما جرى على عمّه أمير المؤمنين وابنعمّه الحسن المجتبى من خيانة هؤلاء الأوغاد، فكرّ عليهم رغم تأكيدهم الأمان له، وقال: لا حاجة إلى أمان الغدرة الفجرة.
أمّا هذان الفتيان فلا حول لهم ولا طول، كانا قد فرّا من السجن بجلدهما، وقد بلغ بهما فقدان الأمن والغربة مبلغاً عظيماً، حتّى وصلا دار تلك العجوز، فأمنا، فاستسلما للنوم بعد أن بذلا غاية المجهود في السجن وخارجه، فغيّبهما النوم ساعة عن محن الدهر التي انهالت عليهما، وسهامه الصوائب التي تناوشتهما من كلّ حدب وصوب، فناما نومة عميقة حتّى علا غطيطهما!
ص: 124
بيد أنّها كانت كصحوة المحتضر واستراحة المقاتل المرتث ريثما يشرب كأس الشهادة، فسرعان ما داهمهما هذا الوغد ((يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور)).ياله من وحش مرعب، وهائج رهيب، وياله من تافه حقير يستأسد على صبيين صغيرين بجثته الضخمة، وعيناه كأنهما أقداح دماء أو جمرتان متّقدتان في تلك الظلمة الحالكة..
يا له من فزع مروّع يمزّق أستار الصمت والهدوء الذي تسرّب متسلّلاً لبعض الوقت إلى حياة هذين البريئين..
الاستيقاظ المفاجئ يفزع كلّ نائم.. ويروّع كلّ آمن.. وقد استيقظا على يد خشنة، وحرّكتهما كفّ مارست الجريمة وعالجة السلاح والحديد، وهما نحيلان كأنهما الأشباح، لم يعهدا قبل يوم الطفّ سوى العزّ والدلال، وكانا ينعمان بأحضان الأمهات
ص: 125
الرواحم، وعطف الآباء الذين يغذون الوجود بالعطف والرعاية والحنان..هبّا من النوم مذعورين بيد أنّهما لملما بقايا الروح، واجتذبا أنفسهما من أعماق النوم، وبادراه بالبديهة الهاشمية، فجبهاه بالحجّة التي ينصاع لها من كان في وجوده أدنى معرفة وشمّة إنسانية وآثار الرحمة والعطف..
لقد مرّا في طرق وعرة، وقاسيا صنوف العذاب، وتعاملا مع الجفاة، فلم يكشفا له من البداية هويتهما، وإنما عالجا الموقف بعقل وروية، وتمالكا الموقف لعلّهما يصدّان هيجانه، ويهدئان من ثورانه، فأقبلا يستأمنان..
تقدما يواجهانه باللسان، ويحاصرانه بالبيان، ويقيدانه بالأعراف التي يعمل بها الناس في ذلك اليوم الشجاع منهم والجبان، واللئيم والكريم والأمين والخوّان، كانت الضيافة والأمان أدب يلتزمه الناس جميعاً،
ص: 126
ويأنفون عن الغدر في كثير من الأحيان..طبعاً هكذا كانوا كما يزعم التاريخ، بيد أنّهم تنكّروا لكلّ ما يزعمون حينما تصل النوبة إلى آل الله وآل رسوله!!
وكيف كان! فأيّ سلاح يمكن أن يسارع إلى حمله هذان الفتيان الصغيران سوى الاستئمان، وتأكيد الاستئمان، وجعل الله ورسوله كفيلين وكيلين..
كذب الخائن اللعين، وبادر إلى دفع الأمان منذ اللحظة الأولى، ولكنّهما لم يكتفيا بذلك، فراحا يؤكّدان ويتوثّقان، ويزجانه في حرب مع الله، ويقحمانه لمبارزة الله القويّ الجبار، ويجعلانه في مواجهة مباشرة مع رسوله..
وهل يخاف الله من يعبد الشيطان؟! لكنّهما حكما عليه بالقتل قبل أن يقتلهما، فإنّ من بارز الله بالمحاربة، فإنّه لا ينجو من عذابه، ولا يفلت من قبضته، استقوى عليهما بقوّته وبالسلطان، وتظاهرا عليه بالله وبرسوله
ص: 127
وبصالح المؤمنين..
ص: 128
لقد احتجّا عليه بأداب القرى، وواجب احترام الضيافة واليتم والقرابة من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكان جوابه أن لطمهما لطمة أردتهم إلى الأرض وهشمت وجهيهما!
أفي أيّ كفّ يلطم الرجس وجهه *** وما هي إلا فرع لطمة فاطم
وأوثق كتافهما، أيخاف الجبان من فرارهما وهما صغيران لا يعرفان الطريق ولا يهتديان في ظلمة تلك الليلة إلى سبيل ينجيهما من هذا الوغد الكاسر!
ص: 129
أيّ ليلة مرّت على عترة النبي (صلی الله علیه و آله) في بيت هذا الظالم من جند بني أمية؟
يا ربّ.. يا رسول الله.. يا فاطمة.. طفلان مكتوفان حتّى الصباح، يأنّان من الجراح ومن انتظار الذبح!
لم يتهيّأ لهما من يمسح دموعهما، ويتحسّس جراحهما ويطبّبها، يتمنى الإنسان أيّاً كان لهما في تلك الساعة العسيرة المكفهرة المتجهمة العابسة لمسة حانية أو حضناً حنوناً أو يداً رحيمة تمسح على رأسيهما، وتمرّ على وجهيهما الجريحين..
ألا رجل يفكّ عنهما كتافهما، ويطلق يديهما، ليمسحا الدماء السائلات الممزوجة بالدموع على عينيهما.
ألا مغيث يغيثهما ليعينهما على مصارعة الآلام، فإنّ من يصاب بجرح ويلمّ به الألم
ص: 130
يضع يديه على موضع الألم ويضمّ الجراح بهما..
ألا من راحم يرحم غربة هذين الفتيين الصغرين في تلك البريّة القاحلة المهولة الموحشة..
ألا من قلب عطوف يبدّد عنهما ما يساورهما من انتظار الذبح، ويخرجهما من معالجة ترقّب قطع الليل المظلمة الحالكة، وهي تتصرّم لينبلج فجر يوم دامي ليته لم ينبلج!
ألا من مواسي يصبّرهما ويواسيهما ويسليهما ويعزّيهما، ويمزج دموعه بدموعهما!
قضيا باقي تلك الليلة الأخيرة في عمرهما يتوادعان! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ص: 131
يبدو من التأمّل في النصوص أنّ سجنهما لم يكن في مركز الكوفة، وأنّ بيت العجوز كان في البرّية بعيداً عن المركز، غير أنّه لم يكن بعيداً عن شاطئ الفرات، وربما كان موضع قبرهما الآن هو موضع ذبحهما كما استقربه بعض المحقّقين الأفاضل، والله العالم.
ص: 132
لقد كان موقف المرأة العجوز المضيّفة موقفاً مشرّفاً نبيلاً منذ اللحظة الأولى التي حباها الله بكرامته، فاستقبلتهما استقبالاً حاراً، وأكرمتهما، وأشبعتهما بعد سغب، وأروتهما بعد ظمأ.
وحاولت جهدها أن تمنع الخبيث من دخول البيت خوفاً وفرقاً عليهما، فدافعته ومانعته وصدّته ولم تفتح له الباب إلا بعد أن وعظته وذكّرته الآخرة، وحذّرته أن يكون سيّد الكائنات محمد (صلی الله علیه و آله) خصيمه يوم القيامة.
ويبدو للمتأمّل في النصوص أنّها قدّمت للملعون الطعام والشراب ليعجّل إلى فراشه وينام، لأنّه كان متعباً قد انشقت مرارته في جوفه العفن على حدّ تعبيره.
فلمّا سمع الخبيث همهمتهما وقام هائجاًسألها عن الصوت فتناومت لعلّه يغفل عن ذلك
ص: 133
((ولم تعد المرأة تقوى على القيام)).
فلمّا دخل عليهما وأراد أن يبطش بهما ويضربهما ((توسّلت به زوجته وقبّلت يده ورجله ونصحته وخوفته الله ورسوله والآخرة، فلم يقبل منها، وكانت كلماتها تمرّ في أذنيه كما يمرّ الماء من الغربال)).
فلمّا أصبح الصباح قام اللعين وحمل سلاحه، وأخذهما وخرج إلى شاطى ء النهر ليضرب عنقيهما هناك، فخرجت من ورائه زوجته تبكي وتنوح وتتوسّل، وكلّما اقتربت من الحارث هدّدها بالسيف وأرجعها عنه حتّى وصل إلى شاطى ء النهر..
فلمّا همّ بقتلهما كانت المرأة ((قائمة تبكي وتتوسّل إليه وتقول: لماذا تقتل غلامين لم يرتكبا ذنباً، ما ضرّك أن تذهب بهما إلى ابن زياد فيحكم فيهما بحكمه؟
.. ثم حمل سيفه وقصدهما، فتعلّقت به زوجتهووعظته وذكّرته بالآخرة، وتوسّلت
ص: 134
إليه أن يرتدع عن هذا الفعل، فغضب منها وضربها بالسيف، فجرحها جراحة منكرة، فسارع إليه ابنها وأمسك بيده لئلا يتبعها بضربة ثانية تقضي عليها، وقال له: ما لك يا أبة؟ ارجع إلى نفسك، أراك لا تعرف نفسك، ولا تميز القريب من الغريب.
بيّض الله وجهها في الدنيا والآخرة، وجعل لها لسان صدق في الآخرين، وحشرها مع سيّدة نساء العالمين، لقد حفظت النبي في عترته الطيبين، ورعت ((المودّة في القربى))، فهنيئاً لها المقام المكين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، آمين ربّ العالمين.
ص: 135
قال الشيخ الصدوق:
.. فلمّا انفجر عمود الصبح، دعا غلاماً له أسود، يقال له: فليح، فقال: خذ هذين الغلامين، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب عنقيهما، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
فحمل الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) !
قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟
قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد
ص: 136
مولاك قتلنا.
فانكب الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمد (صلی الله علیه و آله) خصمي في القيامة.
ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات، وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني!
فقال: يا مولاي، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فإذا عصيت الله، فأنا منك برئ في الدنيا والآخرة.
فدعا ابنه، فقال: يا بني، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرّص عليها،فخذ هذين الغلامين إليك، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما، لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.
فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين،
ص: 137
فما مضى إلا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا شاب، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم!
فقال: يا حبيبيّ، فمن أنتما؟
قالا: من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، يريد والدك قتلنا.
فانكب الغلام على أقدامهما يقبّلهما، وهو يقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بني عصيتني!قال: لأن أطيع الله وأعصيك أحبّ إليّ من أن أعصي الله وأطيعك.
وقال الكاشفي:
.. فدعا غلامه وأعطاه السيف وقال له: اقتلهما.
فقال الغلام: إنّي أستحي من محمد المصطفى أن أقتل طفلين بريئين من أهل بيته، لا والله ما فعلت ذلك أبداً.
ص: 138
فقال الحارث: إذن أقتلك أولاً، ثم قصد الغلام، فعلم الغلام أنّ الرحمة نزعت من قلب الحارث، وأنّه مقتول لا محالة، فجعل يدافع عن نفسه، فتصارعا وأخذ كلّ منهم بتلابيب الآخر، حتّى سقط الحارث على الأرض، فأراد الغلام أن يضربه بالسيف، فوثب الحارث فأخذ السيف من يده، فمدّ الغلام يده إلى سيفه فأخرجه من غمده وضرب به الحارث، فراغ عنها وكان الحارث مقاتلاً ماهراً، ثم ضرب الغلام على يده فقطعها، فأمسك به الغلام بيده اليمنى لكي لا يضربه ضربة أخرى.
فبينا هم كذلك إذ وصلت زوجته وابنه، فسارعابنه واحتضن الغلام وقال لأبيه: ماذا تريد بهذا الغلام، فهو أخي وابن أمّي في الرضاعة، فلم يردّ عليه الحارث إلاّ بضربة سيف أردت الغلام قتيلاً.
ثم قال لابنه: عجّل واضرب عنق
ص: 139
الغلامين، فقال له ابنه: لا والله لا أتعرض لآل الرسول بسوء، ولا أمكنك من ذلك، وامرأته قائمة تبكي وتتوسّل إليه وتقول: لماذا تقتل غلامين لم يرتكبا ذنباً، ما ضرّك أن تذهب بهما إلى ابن زياد فيحكم فيهما بحكمه؟
فقال: إنّ شيعة هذين في البلد كثيرون! وأخاف أن أغلب عليهما فأحرم من عطاء الأمير.
ثم حمل سيفه وقصدهما، فتعلّقت به زوجته ووعظته وذكّرته بالآخرة، وتوسّلت إليه أن يرتدع عن هذا الفعل، فغضب الحارث منها وضربها بالسيف، فجرحها جراحة منكرة، فسارع إليه ابنها وأمسك بيده لئلا يتبعها بضربة ثانية تقضي عليها، وقال له: ما لك يا أبة؟ ارجع إلى نفسك، أراك لا تعرف نفسك، ولا تميز القريب من الغريب.
ص: 140
وكان الغضب قد أعمى الحارث، فرفع سيفه وأهوى به على ابنه فقتله..
يلاحظ أنّ مجريات الأحدث متوافقة في الغالب في المصادر، وربما اختلفت في التفاصيل وطريقة العرض وصياغة الحدث، وفي هذا المقطع تبدو عبارات الكاشفي وصياغته أكثر دقّة وأبلغ في سرد أحداث المصيبة، ويبدو أنّه ينقل الأحداث في موضع يكاد يكون واحداً أو متقارباً.
كما يروي لنا مواقف المرأة الصالحة والغلام والولد بما يناسب عظمة الحدث، وعمق المصيبة، ممّا يدفع التوّهم الذي قد يحصل من عرض رواي الشيخ الصدوق، إذ قد يبقى في سلوك الغلام ((فليح)) والولد وتعاملهما مع
ص: 141
أولاد مسلم بن عقيل ما يثير السؤال، بل ربما أثار العجب، فكيف يلقيان السلاح ويهربان ويرميان بأنفسهما في النهر فينجوان ويتركان الأولاد الأبرياء بيد الجلاد الهائج! ولم يعملا أيّ شيء يمكن أن يساعد في نجاتهما، كأن يحرّراهما من الكتاف أو يهربا بهما وهما طفلان صغيران ربما أمكن حملهما بسهولة لغلام قوي أو ولد شاب في عزّ الشباب، أو على الأقلّ يلقيان بالسيف في النهر ليجردا المجرم من السلاح ولو إلى حين.
وقد أعلن عن مدى احترامه وحبّه وتقديره لهما فانكب على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمد (صلی الله علیه و آله) خصمي في القيامة.
فكيف يرمي السيف من يده ناحية،ويطرح نفسه في الفرات، ويعبر إلى الجانب
ص: 142
الآخر، وهو يفدّيهما بنفسه؟!
فيما نجد المرأة الصالحة والولد والغلام في خبر الكاشفي يشتبكون مع المجرم، ويضحّون بأنفسهم من أجل إنقاذ عترة النبي (صلی الله علیه و آله) من الذبح.
دعا الوغد اللئيم غلامه أوّلاً، ثم دعا ولده ليباشرا القتل، ولم يبادر المجرم بنفسه منذ البداية إلى ذلك، والحال أنّه كان من قبل يبحث عنهم، وقد تعب وأتعب من أجل العثور عليهما، وهو الذي يبغي الجائزة من ابن الأمة الفاجرة.
ربما كان ذلك للّحاظات التالية:
ذكر الشيخ الصدوق أنّ هذا الخبيث كان
ص: 143
من جند ابن زياد، وكان اللعين يلهث في طلب الزلفى والتقرّب من أذناب القرود الأموية، فربما كان يرى في ذاته النجسة أنّه أكبر من أن يباشر بنفسه قتل غلامين، ويريد أن ينسب هذا الفعل إلى غلام ((مملوك)) أو شاب ((صغير))، ويأبى أن ينسب إليه وهو عسكري يعدّ نفسه في المحاربين الذين ينازلون الأقران.
يرتكب الإنسان الجريمة وهو يعلم أنّها جريمة، ويرى بشاعتها، وربما استنكف أن تنسب له وهو قد فعلها بنفسه، ولا صورة أوضح من بشاعة الجناية التي ارتكبها هذا الخبيث، وهو باعتباره مخلوق مزود بالإرادة والتمييز يستشعر قبح الفعل الذي يريد الإقدامعليه، ويعلم عواقبه وأنّه سيكون حديث الركبان على طول الزمان، ومثلاً لمن
ص: 144
يبتغي مثلاً للخسّة واللؤم والحقارة والدناءة وكلّ صفة مذمومة في أيّ مخلوق من مخلوقات الله.
طفلان صغيران، ضيفان مجاران، بريئان تسطع منهما أنوار العترة النبوية، ويفوح منهما شذى الجنان، وعبير ملائكة الرحمن، محاطان بهالات الهيبة والجلال والحسن والجمال، وهما الآن بيده أسيران أعزلان، لا يقويان على الدفاع عن أنفسهما، أجهدهما البلاء، وأنحلهما السجن والجوع والظما، وقد فتّ عضدهما الغربة والوحشة والوحدة والابتعاد عن الأهل والوطن، ولولا ما ألمّ بهما من مصاب ومباغتة لرأى هذا الوغد الكاسر منهما الشجاعة الهاشمية والصولات الحيدريةوالحملات المسلمية، والقوّة الطالبية، تماماً كما رأى في كربلاء من بطولات فتيان الهواشم رغم صغر السنّ.
وكان الخبيث الملعون يعلم أنّه بذبحهما
ص: 145
يدوس كلّ القيم ويتجاوز كلّ الأخلاقيات والآداب العرفية والشرعية، فمن ذا يقرّ له بقتل الضيف، وقتل الأبرياء، وقتل الأطفال، وقتل الأسير الأعزل الذي لا يضرّ ولا يلحق أذى، وقد عرضا عليه وعرضت عليه المرأة الصالحة أن يذهب بهما حيين إلى الدعي ابن الدعي، وعرضا عليه عروضاً أخرى كانت فيها خلاصهما من شفرته وتحقيقاً لما يرنو إليه، غير أنّه أبى..
وهذا العار والشنار لا يشكّ فيه ذو روح، فهو يعلم قبح فعلته، وأنّها ستكون عليه سبّة أبد الآبدين، فأراد أن تنسب لغيره، ويجني هوثمارها الدنيوية المزعومة، ويشفي غليله ويطفي السنة لهيب الغيظ والحقد والضغينة التي كانت تستعر في جوفه النتن.
وربما أراد أن يشرك معه غيره فيكون في عمله المقرف تسويغاً بمشاركة الآخرين.
ص: 146
ربما كان هذا الحقير يشعر بعقدة قد تبدو واضحة من خلال إصراره على تنفيذ أوامره، إذ أنّه يريد أن يكون آمراً مطاعاً ومتسلّطاً مرهوباً يتمنّى أن يكون له مقام ورتبة تفرض على الآخرين الاستماع إليه وإطاعة أوامره في تنفيذ مهام يفرضها عليهم.
ص: 147
قال الشيخ الصدوق:
قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري، وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطئ الفرات سلّ السيف من جفنه.
فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولاً اغرورقت أعينهما، وقالا له: يا شيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً.
فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟
فقال: ما لكما من رسول الله قرابة.
قالا له: يا شيخ، فائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره.
ص: 148
قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرّب إليه بدمكما.
قالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سنّنا؟
قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاًً.
قالا: يا شيخ! إن كان ولابد، فدعنا نصلّي ركعات.
قال: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.
فصلّى الغلامان أربع ركعات، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء، فناديا: يا حيّ يا حليم يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.
فقام إلى الأكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة.
وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه، وهو يقول: حتّى ألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا مختضب بدم أخي.فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك.
ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه،
ص: 149
وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنيهما في الماء، وهما يقطران دماً.
وقال الكاشفي:
ثم ركض إلى ابني مسلم كالذئب المتوحّش المجنون، فبكيا وتضرّعا إليه أن يكفّ عنهما فلم يلتفت إليهما، فقالا: إذن دعنا نصلّي ركعات، فقال: لا أدعكما تصلّيان، فكان كلّما أخذ بيد أحدهما ليقتله تعلّق به الآخر وقال: اقتلني قبله فلا طاقة لي على رؤية أخي مذبوحاً، فقتل محمد أوّلاً، ورمى برأسه على التراب، ورمى ببدنه في الماء، فهرول إبراهيم إلى رأس أخيه، فاحتضنه وضمّه إلى صدره وجعل يبكي بكاءاً عالياً، فأخذ الحارث الرأس من إبراهيم فقتله ورمى ببدنه في الماء.
***
ص: 150
اشتبك الخبيث مع المرأة الصالحة والغلام والولد، بعد ما وعظوه وذكّروه، فاستعصى عليهم وأبى أن يرجع إلى رشد، ولم يعتمد عقله، فبادره الفتيان بمواعظ بليغة وبدائل سديدة، ومحاججة صائبة رشيدة، يمكن تلخيصها كالتالي:
((فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولاً اغرورقت أعينهما))..
طفلان صغيران يبكيان، وعيون مغرورقة بالدموع، ووجوه بريئة، يمكن أن تلين الصخر الأصم وتستعطف الوحوش الكاسرة، غير أنّها لم تؤثر في هذا المخلوق الممسوخ، ولا تستجيش قلبه المتحجّر، بل الأشدّ قساوة من الحجر، فقد سبّح الحجر في يد النبي (صلی الله علیه و آله) وهؤلاء عترة النبي في يد هذا الجلف الجافي والفظّ الغليظ..
ص: 151
وقالا له: يا شيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً.
فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
أعاناها على صغرهما على التفكير واختيار الطريق الأقلّ خطراً، وأوحيا إليه أنّهما يرضيان بفعله، فإذا باعهما فإنّه سوف يرتكب الكبيرة العظمى بيد أنّهما يرضيان عنه، وجعلا خصومة النبي معه في حال ذبحهما فقط، أمّا لو باعهما وانتفع بثمنهما، فإنّهما أسقطا عنه الخصومة، لأنّهما طلبا منه ذلك! فجعلاه في حلّ من هذا الفعل الشنيع المروع.. أتباع عترة النبي في أسواق النخاسين؟!
ص: 152
ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً.
فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟
فقال: ما لكما من رسول الله قرابة.
لم تنفع فيه إثارة العاطفة، ولا تقديم البديل واستساغته رغم مرارته، والآن يكلّمانه ويعظانه ويذكّرانه الآخرة، والوقوف بين يدي الله ومخاصمة النبي سيّد الكائنات وأشرف المخلوقات محمد المصطفى حبيب الله..
إنّه شيخ قد تدلّى حتّى التراقي في القبر، وليس ثمة مسافة بعيدة بينه وبين الوقوف للمخاصمة، والموت يسري فيه ويلاحقه، ولا محيص من يوم خط بالقلم، فماذا سيكونجوابه بعد أيام إذا وقف للخصومة مع الحاكم يوم القيامة بأمر الله؟
ص: 153
إنّ القاضي هناك هو محمد وآل محمد، فإذا كان الحكم العدل هو الخصم، فأين سيكون المفرّ؟
ولكنّه لم يرعو وعاد ليفعل كما يفعل غيره من الطواغيت، بل ربما الكثير من البشر، إذ أطبقا عليه بالحجّة فلا محيص من قبولها، فتنصّل عنها بنفي قرابتهما واتصالهما بالنبي (صلی الله علیه و آله) ، تماماً كما فعل الخبيث ابن الخبيث محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فقال: يا حسين بن فاطمة؟!! أيّة حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟
قال الحسين (علیه السلام) : هذه الآية ﴿إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ذرية﴾ الآية.ثم قال: والله إنّ محمداً لمن آل إبراهيم وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد، من الرجل؟
فقيل: محمد بن أشعث بن قيس الكندي.
فرفع الحسين (علیه السلام) رأسه إلى السماء، فقال:
ص: 154
اللّهم أر محمد بن الأشعث ذلاً في هذا اليوم لا تعزّه بعد هذا اليوم أبداً، فعرض له عارض، فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلذعه، فمات بادي العورة(1)..
وقد فعل ذلك من قبل أرباب هؤلاء الأنذال منذ يوم السقيفة إلى يوم كربلاء، ولا زالوا يفعلون..
فهو إذن قبل منهم أنّه إن ذبحهما سيكونالنبي (صلی الله علیه و آله) خصيمه يوم القيامة، ولكنّه أراد أن ينكر ما لا ينكر، فتنكّر لهما وقال: ما لكما من رسول الله قرابة! ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُون ﴾.
ص: 155
قالا له: يا شيخ، فائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره.
قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرّب إليه بدمكما.
كانت المحاولات معه تفيد أن يطلقهما ولو ببيعهما، أمّا الآن فقد رضيا أن يدفعهما إلى ابن زياد!
وبهذا يمكنهما أن يكسبا الوقت ولو إلى حين، ويحقّقان له ما يزعم من قصد التقرّب إلى ابن الأمة الفاجرة، فربما أعادهما ابن زيادإلى السجن أو قايضهما مع بعض الهاشميين، بل حتّى لو أمر بقتلهما، فربما كان في المجلس من يكلّمه في أمرهما، ولو قتلا فإنّهما قد أدّيا ما عليهما من الدفاع عن أنفسهما على صغر سنّهما..
فأبى الخبيث بعد أن تمّت عليه الحجّة البالغة فلم تغنه النذر.
ص: 156
قالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سنّنا؟
قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاًً.
للصغير براءة تحكيها ملامحه، وترويها نظراته، وتصوّرها دموعه وبحّة صوته المتحشرج في صدره والسيف يبري جلده ويفري نحره رويداً رويداً..
لم يحارب هذان الصغيران، ولم يحملاسلاحاً ولم يقتلا أحداً، ولم يطلبا بجراح أو قصاص.. ولم يعهد لهما موقفاً سوى حضورهما في معسكر سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلماذا يذبحان، وبأيّ ذنب يقتلان هذه القتلة المروّعة؟
أوليس في صغر سنّهما رادع عن قتلهما، أفٍ له والله من شيخ سوء..
وهنا عاد مرّة أخرى يتنكّر للحقّ والحقيقة، كما أنكر انتسابهما للنبي (صلی الله علیه و آله) فنسب
ص: 157
الأمر إلى الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فقال لهما ((ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاًً)).. لعنه الله ولعن قلبه.
قالا: يا شيخ! إن كان ولابد، فدعنا نصلّيركعات.
قال: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.
فصلّى الغلامان أربع ركعات.
جرت عادة البشر، بل ربما سمعنا قصصاً كثيرة أنّ ذلك يجري في بعض الحيوانات والوحوش أيضاً، أنّ من يتوجّه للعبادة ويقف بين يدي جبّار السموات والأرض يحترمه الآخرون، ولا يتعرّضوا له بسوء، وقد طلبا منه بعد أن يئسا منه، وعرفا أن لابدّ من قتلهما، فقالا: دعنا نصلّي ركعات، فربما صلّيا وحرّكا فيه كامناً في أعماق فطرته، ووجّهاه إلى أنّهما مؤمنان وعبدان من عبيد
ص: 158
الله، وأنّ لهما سيّداً لا يفوته هارب، ولا يعجزه طلب، ولا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
ثم إنّهما تيقّنا الموت الذي لابد منه علىصغر سنّهما على يدي هذا الوغد الرخيص، فأرادا أن يتوجّها إلى الله ويختما دنياهما بلقاء الله الذي سيفتتحان به آخرتهما، ويفعلان ما فعل أبوهما قبل أن يقتل صبراً.
فاستهزأ الرجس الخبيث بهما وبالصلاة وبالربّ الذي صلّيا له، فقال لهما صلّيا إن نفعتكما الصلاة! و﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون ﴾.
ثم رفعا طرفيهما إلى السماء، فناديا: يا حيّ يا حليم يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.
صلّيا بالقرب منه، ورفعا طرفيهما إلى
ص: 159
السماء وناديا بصوت سمعه الله وأسمعه الخبيث، فحفظه ليكون عليه حجّة ووبالاً،فسيحكم لهما الله عمّا قريب..
لقد هدّداه بدعائهما وأسمعاه لو كان ينفعه فيه التهديد والنذر، ونبهاه إن كان يرى عقاب الله وأخذه قد تأخّر عنه قليلاً فلأنّه الحليم، ولكنّه الحيّ، وهو أحكم الحاكمين.
وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه، وهو يقول: حتّى ألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا مختضب بدم أخي.
فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك.
صورة مروّعة مهولة تندك لها الجبال الرواسي، وتذوب لها الصخور الصمّ الصياخيد، إنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ له
ص: 160
العرش(1)،
وهذا اليتيم من عترة النبي (صلیالله علیه و آله) غريب بعيد عن الأهل والوطن، بيد عدو غادر شرس، أوداجه تشخب دماً، وهو يرفرف كالطير المذبوح، تضطرب جثّته فوق الصعيد، يفحص بيديه ورجليه، يتقلّب جسمه فيعلو ويرتطم بالرمال، يسمع صوت حشرجة الروح وهي تخرج من البدن، ويفور الدم من الأوداج فيدخل في الرئة وهي تلتقط الأنفاس الأخيرة في شخير يمزق القلوب..
لا زال وجهه البرئ، ومحيّاه الوضاء المضمّخ بالدماء ترتعش أعضاؤه وتختلج عضلاته..
ص: 161
لا زالت عيناه شابحتان إلى السيف والسياف والأخ الذي ينتظر الذبح..
مشهد من الدماء والبدن الخضيب المرمل.. وهذا الأخ المفجوع الذي رأى السيف يحزّ وريد أخيه ويفري أوداجه وهو ينتظر الذبح، فيخضّب نفسه بدماء أخيه، ويرمّل جسمه، ويهوي على أخيه يودّعه وهو يضطرب، ويرتعش ارتعاشة الموت، فمن الطبيعي في كلّ موجود حيّ مدرك أن يهتزّ لهذا المشهد ويرتجف ويخاف، إلا هذا الوغد الكاسر، فإنّه استهزأ كما استهزأ من قبل، لئلا يستمر الفتى الطالبي المظلوم، فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك..
((فكان كلّما أخذ بيد أحدهما ليقتله تعلّق به الآخر وقال: اقتلني قبله فلا طاقة لي على رؤية أخي مذبوحاً))..
ص: 162
فقد الأخ يكسر الظهر، وتنحني له القامات الشامخة التي تنحني الجبال ولا تنحني، ويفتّ عضد الرجال، ويرخص الدموع العزيزة الغالية، ويبلغ بالأخ حدّاً يستعجل الموت، ويستحثّ شفرة الجلاد لتفري أوداجه، ويستهين بالدهر، ويستسهل الذبح! لئلا يرى أخاه ذبيحاً أمامه تفور دماؤه وتتقلّب جثته، وهو يفحص بيديه ورجليه في التراب.
فما أشدّ حبّ هذين الأخوين لبعضهما، وهما يسارعان إلى المنيّة، ويتسابقان إلى الذبح، ويتذوّقان حرارة السيف، لئلا يرى بعضهما البعض جثة مضرجة بالدم هامدة!
ص: 163
كان الغلامان بيد القاتل الخبيث منذ الليل حتّى الصباح، وقد نام جيفة نتنة حتّى الصباح، فكان عمله مع سبق الإصرار، إذ كان عنده متّسع من الوقت للتفكير والمراجعة، والاتعاظ بالمواعظ التي قدمتها المرأة الصالحة..
وقد وعظه الصغيران بمواعظ مؤثّرة، وسلكا معه كلّ سبيل لينقذاه من الورطة التي ورّط نفسه بها، فحرّكا فيه الوجدان والعاطفة، وأثارا فيه دفائن الفطرة والتدين والتفكير بالآخرة، ودعواه إلى ردّ الجميل وسألاه المودّة التي أوجبها الله لهما في القرآن، وقدّما له البديل ببيعهما والانتفاع بثمنهما، وهدّداه بالقوي الجبار الذي لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، واستجاشا فيه الحمية والأحاسيس والمشاعر..
ص: 164
ثم وقف له ابنه وغلامه بالمرصاد، وصدّته العجوز واشتبكت معه لعلّه ينصاع..
وهو مع كلّ ذلك يطمع في دراهم معدودة؟ فيقتلهما للجائزة المحدودة؟
لا يبدو أنّ الدراهم المعدودة تبلغ بمخلوق إلى هذا الحدّ، فلو كانت هي الهدف فقد كان في بيعهما غناً عن ذبحهما!
ولو كان مجرّد إرضاء الجرو الأموي السائب في قصر الخبال، لأغنى أخذهما أسيرين عن حمل رأسيهما، وقد اقترحا عليه ذلك؟
ونحن لا نريد الخوض مفصّلاً في الأسباب والعوامل التي تنتهي بالإنسان إلى هذا الحدّ من السقوط والطغيان، فلذلك مجال آخر يحتاج إلى تفصيل وتطويل لمعرفة أنّ النطفة القذرة، والركض في الأرحام العفنة من صديد الزناة، والمكث في الأصلاب المظلمة الموبوءة التي تقتات من الحرام وتستذوقه،
ص: 165
وتمجّ الحلال ولا تستريح إليه ولا تستسيغه.
وكذلك النشوء والترعرع في مزابل السقيفة، والسوم في دمنها، وتجرّع ثماد مستنقعاتها الغاطسة في أوحال الحسد والضغينة والحقد الدفين على كلّ طاهر نظيف.. وضخّ دماء العهر الأموي في القلوب الميّتة..
كلّ ذاك وغيره له أثره البالغ في الهبوط بالمخلوق إلى القاع اللزج الذي تتشبث به الخبائث ولا تريد الانفصال عنه.
ولهذا يمكن أن تكون الدوافع قد اجتمعت وتكثّرت وتراكمت في وجود القاتل الممسوخ، ويمكن إجمالها فيما يلي مضافاً إلى ما ذكرناه وإلى ما صرّح به هو من دوافع ظاهرية تعلّل بها عند العجوز والولد والغلام وعند ابن الأمة الفاجرة.
ص: 166
يبدو أنّ هذا الوغد الكاسر كان يتميّز حسداً وغيظاً ويتفجّر ضغينة وحقداً، ويريد أن يشفي دفائن قلبه المنكوس من النبي وذريّته وعترته، فهو يريد أن يتلذّذ بمشهد ذبحهما، ويقضي حاجة في نفسه، ويستوفي ديناً له عند الطيبين الأطهار من الأئمة الأبرار، ومن ذريّة آل أبي طالب وأولاد مسلم وعقيل.
يبدو أنّ هذا الحقير السافل كان يريد أن يتقرّب إلى ابن الأمة الفاجرة ويحظى بالزلفة لديه بما يفوق الجائزة الموعودة، فهو يريد أن يستحوذ على ما بعد الجائزة من مقام ربما درّ عليه أضعاف أضعاف مقدارها.
فإراد أن يترجم حسده وبغضه وحقده على آل الرسول، ويكشف عمّا في أعماقه
ص: 167
من عداوة وضغائن، فلو أنّه قادهما أسيرين إلى الجرو الأموي لكان متّهماً بالطمع بالجائزة، أمّا بعد أن ذبحهما بتلك الصورة المشجية، فإنّه قد أكّد لابن الأمة الفاجرة ولاءه المطلق، وعداوته المطلقة لذريّة العترة الطاهرة.
فهو لا يريد الجائزة المحدودة فقط، وإنما يريد إثبات الموقف وكشف التحوّل التام إلى سماد خنزيري وسخ للشجرة الملعونة في القرآن.
فبناءاً على ما ذكرناه في الدافع الأوّل ربما كان يريد أن يكون هو مطمئن لولائه لأعداء الله، ومثل هؤلاء القاذورات يشعورن بالانتماء إلى تلك الشجرة الملعونة، ويتمنّون التعلّق بها، ولو عضّتهم وخمشتهم القرود المتدلية منها.
ص: 168
***
أو أنّه كان يرجو مقاماً يؤهله ليكون آمراًناهياً في صفوف معسكرات السقيفة، ومزابل خيم ذوات الأعلام الأموية، وغيرها من الدوافع والدواعي الذاتية والدنيوية.
وربما يشهد لذلك جوابه لابن الأمة الفاجرة حينما قال له: أفلا جئتني بهما حيين، فكنت أضعف لك الجائزة، وأجعلها أربعة آلاف درهم؟
قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلاً إلا التقرّب إليك بدمهما.
ص: 169
ورد في الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال:
إنّ الله تعالى أنزل كتاباً على نبي من الأنبياء، وفيه: إنّه يكون خلق من خلقي يلحسون الدنيا بالدين، يلبسون مسوك الضأن على قلوب كقلوب الذئاب، أعمالهم أشدّ مرارة من الصبر، وألسنتهم أحلى من العسل، وأعمالهم الباطنة أنتن من الجيف، أفبي يغترون؟ أم إيّاي يخادعون؟ فبعزّتي حلفت لأبعثن عليهم فتنة تطأ في خطامها حتّى تبلغ أطراف الأرض تترك الحليم حيراناً، يضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ألبسهم شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض.
أنتقم من أعدائي بأعدائي، ثم أعذّبهم جميعاً ولا أبالي.
ص: 170
وروي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: كان أبي (علیه السلام) يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن الربّ تبارك وتعالى:
دعوة الإمام المقسط، ودعوة المظلوم يقول الله عز وجل: لأنتقمن لك ولو بعد حين، ودعوة الولد الصالح لوالديه، ودعوة الوالد الصالح لولده، ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فيقول: ولك مثله(1).
وقد اشتهر أنّ الظالم جند انتقم به وأنتقم منه.
لقد ((رفعا طرفيهما إلى السماء، فناديا: يا حيّ يا حليم يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحقّ)).
ما أعظمه من دعاء، خاطبا فيه ((أحكم الحاكمين)) إشارة إلى أن الذي حكم لهما إنما هو الله، وليس ابن زياد، لأنّ الله وحده
ص: 171
أحكم الحاكمين، هو حاكم فوق كلّ حاكم، وبيده الخلق والحكم، وكان الانتقام بمن كان يرجو عنده الزلفى بعمله أنكى وأشدّ على المجرم.
ربما استبعد البعض كما حكي لي عن بعض الفضلاء رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) موقف ابن الأمة الفاجرة، لطغيانه وتجبّره وعدم تورّعه من إراقة الدماء وسوابقه مع أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وفرحه وشماتته بقتلهم كباراً وصغاراً، وهذه كربلاء قريبة العهد بيوم أولاد مسلم، وقد قتلوا فيها الأطفال والرضع، فما حدا باللعين حتّى يأمر بقتل قاتلهما؟
ويمكن أن يجاب على ذلك بعدّة دوافع يمكن تصويرها في المقام مع الموافقة الكاملة لماذكر من خصال الجرو الأموي الذليل وابن الأمة
ص: 172
الفاجرة ابن زياد، فإنّه لا شكّ لا يتورّع عن هذا الفعل القبيح، وهو من دواعي السرور والفرح لما عرفناه فيه من شماتة ودناءة وبطش وحقد على أهل البيت (علیهم السلام) .
ذكرنا قبل قليل أنّ الفتيين دعيا ((أحكم الحاكمين)) ليحكم بينهما وبين من قتلهما، فاستجاب الله دعاءهما.
فالدافع بناءاً على هذا التصوّر يكون خارجاً عن إرادة ابن زياد، وإنما هو أمر انقاد فيه ابن زياد لمن بيده نواصي العباد.
وربما يشهد لذلك ما أجراه الله على لسانه، فقال: ((فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم؟)).
ربما كان هذا الدافع أو الداعي تابعاً للدافع
ص: 173
الأوّل ومتمّماً له، غير أنّنا أفردناه للأهمية وتأكيد التنويه إليه.
لقد كان القاتل المجرم يرنو إلى ما يخاله زلفى وقربة من الجرو الأموي، وأنّه سينال منه الجائزة وعنده المنزلة، فجعل الله قتله وإذلاله والنكاية به في نفس ما كان يسعى إليه، فجعل حتفه في تدبيره، وخيبته في أمله، وذلّته في من كان يرجو المنزلة عنده، فأخذ من حيث يرجو.
كما فعل مع من رضّ هيكل التوحيد وأجرى الخيل على جسم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والحال كان الدعي ابن الدعي هو الذي أمرهم بذلك.
ربما كان هذا الدافع من أقرب الدوافع إلى التصوّر إذا أردنا تفسيراً ظاهرياً ينسجم مع واقع حال الجرو المعتوه والبطاش الطاغي
ص: 174
ابن زياد، وخلاصة القول فيه:
إنّ الجرو الأموي متكبّر جبّار عنيد، وطبيعة الطاغوت المتكبّر والسلطان المتجبّر لا تطيق أن يمدّ أحد يده إلى ما يعدّ من دائرة سلطانه، ويتميّز غيظاً إذا شاهد من يتسلّق على عيدان سريره، ولا يتمالك إذا رأى من يقحم أنفه في إنائه، أو يدخل قدمه في حذائه، ويرى في ذلك تجاوزاً على سلطانه وتخطّياً لحدوده، ومنافسة له في صلاحياته.
فهو يأمر بالقتل ويمارس القتل ويفعل كلّ فاحشة ظاهرة وباطنة، ولكنّه يريد أن يفعل هو أو يأمر هو لا أن يتقمّص أحد قميصهويدّعي مقامه.
فربما كان يأمر بقتلهما، أو يباشر قتلهما بيده الأثيمة، ولا يتأثّم من ذلك أبداً، أمّا أن يفعل الآخرون ذلك أيّاً كانوا، فهو لا يحتمّل ذلك.
فهو إنما غضب منه لأنّه تعدّى على سلطانه، واتّخذ قراراً كان ينبغي له أن يأتمر فيه بأمره،
ص: 175
فانتفض ليؤدّبه أمام الملأ لئلا يطمع الآخرون فيتصرّفوا كما يحلو لهم، وإن كان التصرّف وفق مراداته وتحقيقاً لمنوياته.
ويشهد لذلك قول ابن زياد حينما أمر بقتل القاتل كما في خبر الكاشفي: ((عليك بالحارث، فإنّه قتل طفلي مسلم ولم ينتظر فيهما حكمي)).
ويشهد لذلك أيضاً قول ابن الأمة الفاجرةمخاطباً القاتل:
.. إنّي قد كتبت إلى يزيد أن يحكم فيهما بحكمه، وقلت له: إن أردت أبعث بهما إليك حيّين، فلو كتب إليّ أن ابعثهما إليّ حيّين فماذا أنا صانع؟ لم لم تأتيني بهما حتّى أحكم فيهما بحكمي؟
ربما يقال إنّ فظاعة الخطب، وعظم الجريمة، وضخامة الحدث، وعمق المصيبة
ص: 176
وفداحتها، وظروف المشهد ّمن قبيل كونهما لم يكونا في حرب، وقد ألقى القبض عليهما وهما في ضيافته، وتقديمهما البدائل له وإقامة الحجج عليه، وبراءة الطفلين، وتوسّل العجوز، ومواقف الابن والغلام، كلّها كانت فظيعة غاية الفظاعة، ومثيرة غاية الإثارة،بحيث هزّت القزم الأموي، ومن هنا يقف الإنسان على عظيم الجرم المرتكب، وبشاعة الجناية بحيث أثّرت في الطاغي الذي يمارس هذه الجرائم بنفسه.
وربما يشهد لذلك قوله: الويل لك، أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا، قال: فما عرفت لهما حقّ الضيافة؟ قال: لا.
وقوله: قال لي: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله، قال: فأيّ شيء قلت لهما، قال: قلت: ما لكما من رسول الله قرابة.
قال: ويلك، فأيّ شيء قالا لك أيضاً؟ قال: قالا: يا شيخ، ارحم صغر سنّنا، قال:
ص: 177
فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاًً.
يلاحظ أنّ الخبيث الرجس ابن زياد قدعلّق على كلام القاتل في مقاطع من كلامه، وسأله عن موقفه، واستنكر عليه، كاعتراضه على عدم رعاية حقّ الضيافة وقسوته، وأنّه لم يرحم صغر سنّهما، فقال له: فما رحمتهما؟
إلا أنّه لم يعلّق على تنكّره لانتسابهما إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ((قال لي: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله، قال: فأيّ شيء قلت لهما؟ قال: قلت: ما لكما من رسول الله قرابة، قال: ويلك، فأيّ شيء قالا لك أيضاً؟)).
ربما ارتكس الحاكم المتسلّط على رقاب الناس في الرذيلة من قرنه حتّى أخمص
ص: 178
قدميه، وقد ينغمس في الجريمة حتّى تغمره الظلمات، ويمارس كلّ فنون الكفر والشركوالقتل والإبادة والدمار، ورغم ذلك قد يتظاهر في مواقف يراها مناسبة لطمس آثار الخسة والنذالة المتجذّرة فيه، فيخدع بها الناس ويزوّر التاريخ تماماً کما فعل ابن مرجانة حیث جعل الجُعل و أعطی الجوائز لمن یأتیه برأسی هذین الفتیین ثم أمر بقتل من قتلها، وهل یعنی تعیین الجائزة لمن یأتی بالرأس إلّا الأمر بالقتل؟
وربما شهد كلّ واحد من أولاد آدم من ذلك صور عديدة على صفحات التاريخ أو عاينها بنفسه من طواغيت عصره.
فكم من سلطان جبّار عنيد قتل إماماً وصلّى على جنازته، أو قتله وراح يبكي عليه، كما فعل الملك الأول والثاني وأتباعهما مع الصدّيقة سيّدة النساء، وفعل غيرهما مع باقي الأئمة الأطهار.
ص: 179
وربما أمر الطاغي بقتل رجل ثم أخذ القاتل وقتله أو نكّل به وأدانه على رؤوس الأشهاد.
کما فعل داود بن علی حینما قتل المعلّی بن خنیس (رحمة الله) فدخل علیه الإمام الصادق (علیه السلام) مغضباً وهدّده فتنصّل داود بن علی وقال: ما أنا قتلته؟
قال: فمن قتلته؟
قال: السیرافی، وکان صاحب شرطته.
قال: أقدنا منه.
قال: قد أقدمتک.
قال: فلمّا أخذ السیرافی، وقدّم لیقتل جعل یقول: یا معشر المسلمین! یأمرونی بقتل الناس، فأقتلهم لهم، ثم یقتلونی، فقتل السیرافی.
ثم إنّ الإمام (علیه السلام) دعا علی داود بن علی فبعث الله إلیه ملکاً فضربه بمزربة فی رأسه
ص: 180
فانشقّت منها مثانته و هلک. (1)
فربما كان ابن الأمة الفاجرة يريد للتاريخ أن يسجّل له هذا الموقف، فيخدع به الناس ذلك اليوم وفي كلّ يوم.
ص: 181
في رواية الصدوق:
قال: فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له.
قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه.
ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
وفي رواية الكاشفي:
كان لابن زياد نديم يقال له ((مقاتل))، وكان يتشيّع(1)، وكان ابن زياد عالماً بحبّه لأهل البيت إلاّ أنّه كان يتغافل عنه لملاحة
ص: 182
كلامه، وجميل عباراته، وحسن معاشرته، فقال له ابن زياد: يا مقاتل عليك بالحارث، فإنّه قتل طفلي مسلم ولم ينتظر فيهما حكمي، فخذه واقتله بأيّ قتلة شئت، في نفس الموضع الذي قتلهما فيه ثم ارم بجثته في الماء.
ففرح مقاتل أيما فرح وقال: والله لو أنّ ابن زياد أعطاني سلطانه لما فرحت به كفرحي بقتل هذا الخبيث.
ثم إنّه أخذه فأوثقه كتافاً، ونزع عمامته من رأسه، وأخذ يجرّه في أسواق الكوفة، ويحدّث الناس بما فعله الخبيث، وهو يحمل رأسي ابني مسلم يعرضهما على الناس ويتظلّم لهما، فكان الناس ينظرون ويسمعون ويبكون ويلعنون الحارث.
فلمّا وصلوا إلى شاطى ء الماء وجدوا غلاماً مقطعاً، وشاباً مقتولاً، وإمرأة مطروحة مجروحة،فتعجّبوا من خبث الحارث، فالتفت الحارث إلى مقاتل فقال له: أطلقني أذهب
ص: 183
إلى موضع من الأرض أختفي فيه وأنا أعطيك عشرة آلاف دينار ولا أنسى يدك عندي.
فقال له مقاتل: لو أعطيتني الدنيا بحذافيرها ما أطلقتك وأنا أطلب من الله الجنّة عوضاً عن قتلك.
فلمّا نظر مقاتل إلى موضع قتل الأطفال بكى، وجعل يتمرّغ بدمائهم، ثم أمر غلامه فقال: اقطع يديه، فقطعها، ثم قال: اقطع رجليه، فقطعها، ثم أمر ففقئت عيناه، وقطعت أذناه، ثم أمر فشقّوا بطنه وحشوها بأعضائه التي قطعوها، وأثقلوه بالحجارة ورموا به في الماء، فلم يقبله الماء، ودفعه إلى الشاطى ء، ففعلوا ذلك ثلاثة والماء لا يقبله، فأثقلوهبالحديد والحجارة وألقوه في البئر، وألقوا عليه الشوك والحشيش والتراب، فلم تقبله الأرض، فأمر فأحرقوه، وذروا رماده في الريح.
ص: 184
صرّح في خبر الشيخ الصدوق أنّ ابن زياد طلب من القاتل أن يحمل إليه رأس القاتل بعد قتله، وأنّه نصب في الكوفة على قناة، فكان غرضاً للحجارة واللعن.
أمّا خبر الكاشفي فلم يتحدّث عن الرأس، فلا يبعد الجمع بينهما، بأن يقال: إنهم قتلوه وقطّعوه وأحرقوه، ولكنّهم عزلوا رأسه فحملوه إلى الكوفة، تماماً كما حمل الخبيث رأس الفتيين إلى الكوفة.
فالتفت الحارث إلى مقاتل فقال له: أطلقنيأذهب إلى موضع من الأرض أختفي فيه وأنا أعطيك عشرة آلاف دينار ولا أنسى يدك عندي.
فقال له مقاتل: لو أعطيتني الدنيا
ص: 185
بحذافيرها ما أطلقتك وأنا أطلب من الله الجنّة عوضاً عن قتلك.
كان الخبيث يطمع في ألفي درهم جائزة من ابن زياد على ذبح الفتيين الغريبين، وهو الآن يعرض عشرة آلاف دينار لينجو من الذبح!
عرض عليه الشهيدان الغريبان أن يبيعهما في السوق وينتفع بأثمانهما ولا يكن جدّهما خصمه يوم القيامة، فأبى ورجّح رضا ابن الأمة الفاجرة.
والآن يرفض قاتله إطلاقه ويريد الجنّة عوضاً ((وأنا أطلب من الله الجنّة عوضاً عنقتله)).
اتّفقت الروايات على نقل صورة تؤكّد فورية استجابة دعاء المظلومين، ففي رواية الشيخ الصدوق، قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا
ص: 186
تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه.
تجد إشارة واضحة تفيد أنّ الأمر صدر بتعجيل قتل الجاني والتوصية بالحذر من اختلاط دمه القذر بدماء المظلومين الزاكية، وهذا يعني حصول الانتقام قبل أن جفاف دمائهم.
وكذا تفيد الصورة التي يرسمها خبر الكاشفي حيث جاؤوا بالجاني ولا زالت العجوز والغلام والابن الشاب على حالهم.
كما اتّفقت الأخبار على أنّ الانتقام حصل في نفس الموضع الذي شهد الجريمة.
سبحان الله المنتقم الجبّار! الذي لا يفوته هارب، فالتشهد الأرض التي شهدت مأساة الفتيين راحة الانتقام، ولتسكن جراحات العجوز وجثث الضحايا ودماء المظلومين، ولتهدء الأشجار والأحراش والرمال التي
ص: 187
انتفضت واقشعرت من عمل الجلف الجافي ربيب السقيفة.
كان الخبيث يجهد لاهثاً لينال شيئاً من حطام الدنيا مادّياً كان أو معنوياً، وسعى إلى ذلك من خلال التقرّب إلى عبيد الدنيا الذين يقتاتون فضلات قرود الشجرة الملعونة من أمثال ابن الأمة الفاجرة.فحرمه الله كلّ ما لهث من أجله، فعذّب في الدنيا، وأذاقه الله حرّ الحديد خاسئاً ذليلاً، وفضحه في الدنيا، وجعله مرماة لأحجار الصبيان، ولعن الكبار والصغار حيّاً وميتاً.
ص: 188
لم يصرّح خبر الصدوق باسم قاتل الخبيث، واكتفى بنسبته إلى الشام، وصرّح في خبر الكاشفي باسمه، ودعاه ((مقاتلاً)).
وكيف كان فقد قيّض الله لهذين المظلومين من ينتقم لهما ويفتخر بذلك، وجعل قتله على يد أعوان ابن زياد الذي كان يريد أن يتقرّب إليه.
اللّهم عجّل فرج ولي أمرك المنتقم بالحقّ من أعدائك أجمعين، واجعلنا ممّن ينتقم بهم لآل نبيّك من قتلتهم الملعونين.
ص: 189
ص: 190
روى الملا الدربندي في أسرار الشهادة عنكتاب مفتاح النجاة والنجاح خبراً مفاده أنّ ولدي مسلم قتلا معه في الكوفة.
وقد ناقشنا فيما مضى من البحث خبر دخولهما الكوفة مع أبيهما، وإنما أفردنا خبر صاحب مفتاح النجاة العامّي هنا باعتبار اختلافه مع رواية الكاشفي، فالكاشفي ينقل خبر دخولهما إلى الكوفة، ولكنّه يتّحد في بقية الخبر مع الشيخ الصدوق والطريحي الذي يروي عن أبي مخنف في باقي الأحداث، فليس فيهم من يقول: أنّهما قتلا معه.
وهذا يعني أنّ الأخبار كلّها متّفقة
ص: 191
((بالإجماع المركّب)) على نفي خبر صاحب المفتاح.
هذا مضافاً لما ستسمعه في كلامه من مخالفات للمشهور والمتّفق في غير شهادة الفتيين.قال الملا الدربندي في الأسرار:
فإن قلت: ما تقول فيما ذكره صاحب كتاب مفتاح النجاة والنجاح من العامّة في باب شهادة مسلم، وذلك حيث قال: فلمّا أصبح ابن زياد لعنه الله تعالى جمع الناس في المسجد، وقرأ عليهم منشور إيالته، وهدّدهم وحذّرهم عن مخالفة يزيد لعنه الله، وفرّق جماعة مسلم بن عقيل بقوّة التدبير عن قليل، واختفى مسلم، وبذل عبيد الله لعنه الله السعي في طلبه حتّى ظفر به فقتله مع ابنيه محمد وإبراهيم لثلاث خلون من ذي الحجّة سنة ستّين للهجرة، وفي ذلك اليوم خرج الحسين (علیه السلام) من مكة إلى الكوفة.
ص: 192
قلت: إنّ ظاهر كلامه يعطي أنّ مسلم بن عقيل قد فاز بدرجة الشهادة بدون وقوعالمحاربة والمقاتلة بينه وبين جنود ابن زياد لعنه الله تعالى، كما أنّه يعطي أنّ شهادة مسلم قد وقعت في وقت شهادة ابنيه محمد وإبراهيم، وأنت خبير بأنّ الأمر الأوّل على خلاف الروايات المتظافرة، بل الضرورة أيضاً، وهكذا الثاني، ومن أعجب ما وقع من ذلك في كتابه أنّه لم يذكر ولدي مسلم اللذين فازا بالشهادة في كربلاء(1).
ص: 193
ص: 194
مسلم بن عقيل» لعلي بن الحسن البوري البحراني، فوجدت فيه تفاصيل ربما تجيب عن كثير من التساؤلات وتعالج بعض الأحداث، فأحببت أن أورده كما هو كرواية أخرى لمقتل هذين البرعمين الطالبيين.
قال علي بن الحسن البوري البحراني:
روى محمد بن إبراهيم عن أبي يوسف عن أبي مخنف قال:
لما قتل الحسين (علیه السلام) وأقبلت الملاعين وحزب الشيطان إلى مخيّم الحسين لينهبوا رحاله ويسبون نساءه وحريمه وعياله، واشتغل الناس بالنهب وسلب حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) خرج من عند النساءالطاهر والمطهر(1)
ولدا مسلم بن عقيل (علیه السلام) من
ص: 196
الخوف هاربين على وجهيهما، وكان الأكبر منهما له ثمان سنين، وهما لا يدريان أين يتوجّهان في أرض الله تعالى، فقال الصغير: أين نأخذ، وليس لنا في هذه الأرض معرفة، ونحن غريبان وليس معنا زاد ولا ماء، ولا نعرف أحداً من الناس.
فقال الكبير: نسير على وجوهنا ونتوكّل على الحيّ الذي لا يموت، وأنشد (علیه السلام) يقول:
على اسم الله إلهي قصدنا ومسيرنا
غريبين مطرودين بأمر عدانا
وكان حسين السبط والله مثلنا
فمات حسين كهفنا ورجاناوقد كان كالأب الشفيق يحوطنا
فأزمع عنا راحلاً وقلانا
قضى عطشاً والماء في النهر جارياً
وحز كريم السبط منه عيانا
فوا حزننا أين الفرار من العدى
إلى الله نشكو يتمنا وبلانا
ص: 197
قال: فبينا هما سائران، إذ عرض لهما عبد لابن زياد فقال لهما: من أنتما؟ ومن أين جئتما؟ وإلى أين تريدان؟
فقالا له: نحن غلامان غريبان شريدان من ولد مسلم بن عقيل.
فقال لهما: أيّها الإلامان ما طلب الأمير غيركما.
ثم إنّه أخذ بأيديهما حتّى دخل بهما على ابن زياد، فلم يسلّما عليه بالإمارة، بل سلّما عليه بتسليم العامّة، فغضب ابن زياد.وفي نقل آخر: أنّهما أسرا من عسكر الحسين (علیه السلام) فأتي بهما إلى عبيد الله بن زياد، فقال لهما ابن زياد: من أنتما يا غلامان؟
فقالا: ولنا الأمان؟ قال: نعم.
فأعطاهما الأمان، فقالا: يا هذا نحن غلامان يتيمان كريمان من ولد مسلم بن عقيل.
فقال لهما ابن زياد: ما أنتما بكريمين، بل
ص: 198
أنتما...(1)!
فقال الأكبر منهما، وكان عمره ثمان سنين: كذبت يا عدوّ الله، بل النجس الرجس الذي قتل ولد رسول الله وهو يعلم أنّه ابنبنت نبيه وحبيب حبيب الله، وبكى وقال:
قتلت حسيناً ثم تحسب أنّه
تخلى بريء فابشر بسوء عقاب
وكاثرته بالجيش ثم تركته
وحيداً فريداً بعد قتل صحاب
وصيّرت ماء الشطّ تشربه العدى
وإنّ حسيناً لم يذق لشراب
سبيت عينل ابن النبي محمد
وسيّرتهم من فوق كور ركاب
فابشر بخزي الله والنار في غد
إذا جئت عرياناً ليوم حساب
ص: 199
قال: فغضب ابن زياد ودعا بسجّان له، وقال: تعلم نعمتي عليك سابغة، ونفسي لك صافية، فقال: بلى يا أمير، قال: خذ هذين الغلامين وانطلق بهما إلى السجن، وقيّدهما بالقيود في أرجلهما والأغلال في أعناقهما،ومن طيّب الطعام فلا تطعمهما، ومن بارد الماء فلا تسقيهما، واجعلهما في أضيق موضع.
قال: فمضى بهما، ففعل بهما ما أمره به، وكان يطعمهما خبز الشعير وجريش الملح، وهما يبكيان ليلاً ونهاراً، ويتضرّعان إلى الله تعالى، إلى أن صار لهما سنة كاملة في السجن، فضاقت صدورهما، وانتحلت أبدانهما وتغيّرت ألوانهما.
وذهب السجّان يوماً إلى وليمة دعي إليها، فأبطأ على الغلامين، فأقبل إليهما ليطعمهما ويسقيهما كعادته سابقاً، ومعه قرصان من خبز الشعير وكوز من ماء، فلمّا دنى من الباب ليفتحه سمع بكاءهما وأنينهما وحنينهما
ص: 200
من قلب مفجوع، وجسم موجوع، وخاطر مكسور، وفؤاد محسور، وهما يقولان: وامحمداه! وا أبا القاسماه! وا علياه! وا جعفراه! وا مسلماه! وا عقيلاه! وا حمزتاه! وا حسناه! وا حسيناه! وا إماماه! بماذا أصيب به الأرامل واليتامى؟ وماذا لقينا بعدكم وبعد مغيبكم؟
قال: فاقشعرّ قلب السجّان، ورقّ لهما وجرت دموعه على خدّيه رحمة لهما، وبكى لبكائهما، وهملت عيناه بالدموع، وفكّر في نفسه، وقال: إنّ لهذين الغلامين شأناً من الشأن، وإنّه قد أخنت عليهما صروف الزمان، حتّى جعلتهم في هذا المكان، وأظنّ أنّ هذين الغلامين من أبناء الملوك والسادات، ومن نسل المرضيين والقادات، فبكى وقال:
أظنّكم من نسل قوم تسوّدوا
على الخلق قد أخنت عليهم صروفها
ص: 201
وإنّ لكم شأناً عظيماً وقصّة
وفي خاطري أنتم عياناً حروفهاأظنّكما نسل الكرام الذي لهم
على قتلهم ذي الشمس كان كسوفها
فياليت شعري كيف عذري في غد
وعند إلهي يوم كان مخوفها
أيا ربّ إني لست أعلم من هما
فإنّ إليك الخلق مدّت كفوفها
قال: فقال الصغير للكبير: يا أخي يوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا في هذا السجن فلم لا نخبر السجّان بخبرنا ونعرّفه بحالنا، ليخفف عنّا بعض الذي نحن فيه من البلاء، والعذاب، فإنّ القلوب بيد الله تعالى يقلّبها كيف يشاء، فقال أخوه: افعل يا أخي ما شئت.
فلمّا جاء السجّان قال إليه أحد الغلامين، وتزفّر وحنّ وجعل ينشد ويقول:
ص: 202
أيا سجّان ما ترعى اليتامىأناخ عليهم خطب جليل
فأمسوا في يدي رجس غشوم
أسارى ليس يكفلهم كفيل
أبونا مسلم والعمّ يدعى
علي جدّنا وحقاً(1)
عقيل
وربّ العرش ما تخشاه فينا
بغل في اليدين فلا تميل
وتطعمنا الشعير كذا وملحاً
وماء شربنا ماء قليل
إلى كم ذا تعذّبنا بجوع
وقيد جسمنا منه نحيل
أترضى أن نكون لهم عبيداً
وإنّ الله يغضب والرسول
نحذّرك العذاب بيوم حشر
وناراً قعرها قعر طويل
ص: 203
وفي نقل آخر: إنّ الصغير قال للكبير: بسم الله يا أخي، ثم إنّهما صبرا إلى الليل، فلمّا جنّ الليل أتى السجّان إليهما بعشائهما، قرصين من شعير وكوز من ماء، فقام إليه الصغير وتعلّق به، فقال: يا شيخ! أحببنا أن نعرّفك قرابتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
فلمّا سمع السجّان كلام الصبي فرح فرحاً شديداً وقال: نعم أخبراني بقرابتكما من رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
فقالا: يا شيخ! أتعرف محمد المصطفى؟
فقال: كيف لا أعرفه وهو نبيي وشفيعي يوم القيامة؟
فقالا: يا شيخ! أتعرف علي بن أبي طالب (علیه السلام) ؟
فقال: كيف لا أعرفه وهو إمامي وابن عمّ نبيي؟
فقالا: يا شيخ! أتعرف مسلم بن عقيل(علیه السلام) ؟
ص: 204
فقال: كيف لا أعرفه وهو ابن عمّ رسول الله؟
فقالا: نحن غلامان طريدان شريدان من أولاد مسلم بن عقيل انهزمنا من عسكر الشهيد المظلوم الغريب أبي عبد الله الحسين، وقد كان لنا كالأب الشفيق، وكان عند الطعام يجلسنا بين يديه يؤثرنا على نفسه، فلمّا فجعنا فيه الزمان، ورأيناه قد قتل هو وأصحابه وإخوته وبنوه، ونهبوا رحله، وسبيت نساؤه، انهزمنا من بين يدي القوم على وجوهنا.
فهملت عيناه بالدموع على الحسين (علیه السلام) وحزناً على ما حلّ بهما، وجعل أحدهما ينشد ويقول:
لقد كان سبط المصطفى بعد والديكمثل أبينا قبل أن يترحّلا
فأصبح مقتولاً على الترب ثاوياً
قطيع كريم في التراب مجدّلاً
ص: 205
ويؤثرنا منه على النفس رحمة
لأنا يتامى لم نعاين لنا ولا
فأفجعنا فيه الزمان وخاننا
فبعد حسين ما نرى متكفّلا
وبعد حسين الطهر وا طول حزننا
فإنّ على الأيتام قد نزل البلا
فقالا له: قد وقعنا في يد عبد لهذا الطاغي فأدخلنا عليه، فأمرك بنا، وفعلت ما أمرك به هذا اللعين، فعذّبنتا العذاب الأليم سنة كاملة، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الماء فلا تسقنا، وقد ضيّقت علينا سجننا، فانتحلت أبداننا، وأطلت إهانتنا، فما لك وما لنا، ألا ترحم صغر سنّنا؟ أم تراعينالأجل قرابتنا من رسول الله، فهل عندك من معروف تفعله معنا، وأنت بريء ممّا خوّلتنا به، فوالله لقد انتحلت أبداننا وأجسامنا، وقد ضاقت أنفاسنا من السجن وطول المكث فيه، ليكون الله لك وليّاً ومحمد (صلی الله علیه و آله) مكافياً
ص: 206
وأمير المؤمنين (علیه السلام) مرافقاً ومراعياً.
قال: فلمّا سمع السجّان كلامهما بكى بكاءاً شديداً، وانكب على أقدامهما يقبّلهما ويقبّل رأسيهما، وهو يقول: نفسي لنفسكما الفدا، وروحي لروحكما الوقا، يا عترة محمد المصطفى.
ثم قال: وا سوأتاه غداً من رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا نصب الميزان لفصل القضاء من ذنبي وجرمي وما أتيت به علىنفسي، وما حملته على ظهري، وما أراد ابن زياد إلا أن يكون محمد خصمي يوم القيامة، يوم تبلى السرائر، وتحصى الجرائر، وتبدو الضمائر، ولا يقبل فيه عذر لعاذر، اللّهم إنّك تعلم أني لا أعرفهما ولا أدري من هما حتّى أعلاماني بأنفسهم، أيّها الغلامان اجعلاني في حلّ من قبل أن أرى عملي وأؤخذ بجرمي.
فقالا: يا سجّان ليس عليك ذنب، وإنما هو على الطاغي الباغي عبيد الله بن زياد عدوّ
ص: 207
الله وعدوّ رسوله جعلك الله في حلّ من قبلنا، ولا نؤاخذك بما فعلت بنا.
قال: فبكى السجّان رحمة لهما، وفكّ الأغلال من أعناقهما، والقيد من أيديهما، وصار يتندم على فعله ويقول:
ندمت فهل يجدي التأسّف في غدفما العذر عند الله في يوم ألقاه
فياليتين قد كنت أعلم من هما
فلا واحد يوماً تغلّ يداه
فوا حرّ قلبي لليتيمين هكذا
جرى لهما فالكلّ طال بلاه
فيكفيكما في الدهر قتل أبيكما
كذا اليتم كسراً لليتيم كفاه
فيا ربّ عفواً منك إني نادم
فإن لم تعف عنه طال عناه
فإني أبكيت اليتيم وهنته
وأنت رحيم لليتيم بكاه
ص: 208
ألا لعن الله ابن سعد وابنه
كذا ابن زياد ذا عديم هداه
قال: فأغلق السجّان عليهما الباب حتّى جنّ الليل، فأتى إليهما وفتح الباب وأطلق سبيلهما، وأطلق أهل السجن لأجلهما، وقاللولدي مسلم (علیه السلام) : امضيا وخذا أيّ طريق شئتما سيرا بالليل واكتنا بالنهار، وجدّوا في أرض الله، وأنا أنجو بنفسي، وهذه آخر ليلة يراني فيها ابن زياد.
ونقل أنّه لم ينهزم، ولكن قصد منزله واستسلم لأمر الله وقضاه.
قال: فخرج الغلامان يسيران وليس لهما طاقة على المسير حتّى مضى الثلث الأوّل من الليل، وما يدريان أين هما من أرض الله، وإذا هم بقرية على شاطئ الفارت، فقال الصغير للكبير: يا أخي لو دخلت بنا هذه القرية، لعلّنا نصادف فيها أحداً من أهل الخير يأوينا ليلتنا هذه، فلقد أضرّ بنا السهر
ص: 209
وكلّت أقدامنا من المشي.
فقال له: نعم، يا أخي، فدخلا القرية واختفيا خوفاً من ابن زياد، فما وجدا أحداًيأويهما تلك الليلة، فخرجا من القرية على وجهيهما خائفين مرعوبين، فضجا إلى الله بالبكاء وفزعا إليه، وجعل أحدهما يتزفّر ويتحسّر على ما أصابهما، والآخر جعل ينشد ويقول:
إلهي إليك المشتكى والمعول
بهذا جرى الحال منتهاه وأول
غريبين لم ننظر رحيماً ليتمنا
فما ذنبنا من غير جرم نقتّل
إلهي فأدركنا بروح معجل
وإلا توفانا هنا يا مؤمل
فإنّ فضاء الأرض ضاقت برحبها
علينا فأمسنا بها نترحّل
فررنا من الأعداء خوفاً من السبا
فصرنا بسجن حول عام نغلل
ص: 210
خرجنا لننجي النفس من هلكاتهافصرنا حيارى أين نمضي ونرحل
قال: فبينما هما سائران وإذا هما بعجوز على شاطئ الفرات وبيدها سبحة، وهي تقول: سبحان الله عدد قطر المطر وورق الشجر وكيل البحار، سبحانك يا عزيز يا جبار، لا تحرمني النظر من وجه نبيك المختار وأهل بيته الأطهار.
فلمّا سمعا كلامها اطمأن خاطرهما وسكن روعهما، فقال الكبير: إنّ النساء أقرب رقة من الرجال، فلو أتنيا هذه العجوز، فإن سألتنا عن حالنا أخبرناها بقصّتنا، وإن لم تسألنا شكونا إليها ما لقينا من الحدثان وطوارق الزمان وقلّة الزاد والمحنة بين العباد، وبعد الأهل والطن وشدّة البلاء والمحن.
ثم دنا منها وهي تسبّح الله وتهلله، فسلّما عليها، فردّت عليهما السلام، وأنكرت حالهما، وقالت: أيّها الغلامان من أين جئتما؟
ص: 211
وأظنّكما غريبين، وليس معكما زاد، وقد اكفهرّ الليل، وإني لم أر وجهاً أحسن من وجهيكما، وليس معكما صديق ولا رفيق، وأنتما طفلان صغيران، فكيف وقعتما في هذا المكان، وقد أنكرت شأنكما غير أنّ أبدانكما أبدان الملوك، ولباسكما لباس الفقراء!
فقالا لها:يا هذه إن أنكرت أمرنا، فممّا حلّ بنا، فهل تعرفينا؟
فقالت: لا، والله، لا أعرفكما.
فقالا: يا أمة الله، نحن غلامان طريدان شريدان غريبان من أولاد مسلم بن عقيل هربنا من عسكر الشهيد المظلوم أبي عبد الله الحسين، وقد كان لنا كالأب الشفيق، وأشفق من الوالدة على ولدها، وكان يطعمنا أطيب الأطعمة، ويلبسنا أجود الثياب، وعلّمنا القرآن وغيره، فلمّا قتل هربنا على وجوهنا، ولم ندر أين نذهب.فقالت العجوز: مرحباً بكما يا حبيبيّ،
ص: 212
وقامت إليهما واحتضنتهما وقبّلتهما وسكّنت روعهما، وبكت رحمة لهما، وجعلت تنشد وتقول:
إليّ أحبّاي اقبلا بكرامة
إليّ فقد والله زادت سعادتي
ألا فادخلا بالأمن والرحب والهنا
ببيتي إكراماً لربّ الشفاعة
محمد المبعوث من آل هاشم
وحيدر الساقي بيوم القيامة
ألا لعن الله الذي أيتموكما
صغيرين في الدنيا بغير جناية
ألا لعن الله الذي أتعبوكما
يتامى حيارى في الفيافي بوحشة
أيا مسلم قم فانظر ابنيك في عنا
شقاء وضرّ متعبين بغربةلقد كنت أحيى من فتاة حيية
وأشجع من ليث الشرى في المغارة
ص: 213
حبيبك مقتول ونسلك ضائع
بلا كافل بين الملا وا مصيبتي
فوا حرّ قلبي لليتيمين في الفلا
بلا ماء ولا زاد بليل وظلمة
وليس لهم من راحم فيصونهم
سوى الله في برّ يكونوا وبلدة
ألا ليت روحي سيّديّ لكما الفدا
لما نال كلا منكما من أذية
ثم قالت لهما: ادخلا داري على رحب وسعة، فلمّا دخلا دارها قدّمت لهما ما تيسّر من الطعام، فأكلا منه حسب كفايتهما، ثم بعد ذلك أدخلتهما في مكان لم يدخل فيه أحد من أهل بيتها، وخدمتهما خدمة تليق بهما.وفي نقل آخر: إنّه لمّا أرسلهما السجّان من الحبس بالليل سارا جميع الليل هاربين على وجهيهما، فلمّا أصبح الصباح عليهما، رأيا هناك بستاناً، فدخلا فيه، وصعدا على شجرة كبيرة، واكتنا بها، فلمّا أضاء الصبح عليهما،
ص: 214
وطلعت الشمس، وإذا بجارية في البستان تدور، فرأتهما على الشجرة، فأتت إليهما وقالت: من أنتما؟ ومن أبوكما؟
فلمّا سمعا بذكر أبيهما بكيا بكاءاً شديداً، فأحست بشيء من أمرهما، فقالت: أظنّكما من أولاد مسلم بن عقيل!
فلمّا سمعا بذلك ضربا وجهيهما وحثيا التراب على رأسيهما حتّى غشي عليهما، فلمّا أفاقا قالا لها: يا جارية! أنت من الأصدقاء أم من الأعداء؟
فقالت: وحقّ جدّكما إني من محبّيكما،ولو علمت أنّكما من أولاد مسلم بن عقيل لخلّصتكما ممّا أنتما فيه من الخوف، ومولاتي محبّة لكما بالقلب واللسان.
قال: فعند ذلك قالا: نحن من أولاد مسلم بن عقيل.
فقالت لهما: انزلا، فنزلا من الشجرة، وسارا مع الجارية إلى مولاتها.
ص: 215
قال: فسبقتهما الجارية، فأعلمت مولاتها بذلك، فلمّا سمعت بذلك الخبر رفعت المقنعة من على رأسها وأعطتها الجارية بشارة لها، وقامت حافية القدمين حتّى وصلت إليهما، واستقبلتهما بأحسن لقاء وإكرام، وقالت لهما: ادخلا على رحب وسعة، وأنزلتهما في مكان لم يدخل إليه أحد، وباتوا تلك الليلة.
فلمّا أصبح الصباح شاع الخبر بأنّ مشكور السجّان خلّص أولاد مسلم بن عقيل منالسجن، فلمّا سمع بان زياد لعنه الله بذلك بعث إليه، فأحضره إلى مجلسه، وقال له: ما بالك خلّصت الولدين ابني مسلم بن عقيل اللذين أمرتك بسجنهما؟
فقال: للتقرّب إلى الله تعالى ورسوله وأهل بيت نبيّه.
فقال له: ويلك، ألم تخف من عذابي؟
فقال: عذابك يفنى وعذاب الله يبقى.
فغضب ابن زياد، وأمر بجلده خمسمائة.
ص: 216
فلمّا جعلوه على النطع، قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
فلمّا ضرب أوّل سوط، قال: اللّهم ارزقني الشهادة على يد أشرّ خلق الله.
فلمّا ضرب الثاني، قال: اللّهم احشرني في زمرة محمد وآل محمد.
ولمّا ضرب الثالث، قال: اللّهم أدخلنيالجنّة بغير حساب.
ثم سكت ولم يتكلّم حتّى ضرب خمسمائة سوط، فغشي عليه، وجعل يعالج سكرات الموت، ثم فتح عينيه وقال: اسقوني شربة من ماء، فقال ابن زياد: لا تسقوه، إلا بضرب السياط.
قال: فلم يبق في بدنه حركة، فحملوه وأدخلوه في بعض حجر القصر، فلمّا وضع فتح عينيه وقال: إني قد سقيت من الكوثر، ثم فارقت روحه الدنيا.
قال: ثم إنّ ابن زياد أمر منادياً ينادي في
ص: 217
شوارع الكوفة: ألا من أتى بولدي مسلم بن عقيل فله أربعة آلاف دينار وقضاء ثلاث حوائج.
وكانا الغلامان جلوسهما في بيت من بيوت الظلمة لآل رسول الله (صلی الله علیهو آله) ، فأقاما عند العجوز باقي ليلتهما حتّى أصبح الصباح، وبقيا يومهما ذلك فصنعت لهما العجوز طعاماً، وأتت به إليهما وسلّمت لهما كوزاً فيه ماء بارد، فأكلا وصلّيا، فقال الكبير للصغير: قم بنا حتّى ننام، فإني أظنّ أنّ هذه الليلة هي آخر ليلة من ليالي الدنيا، وإنّ هلاكنا قد قرب.
فقال: وما أدراك يا أخي؟
فقال: بينما أنا البارحة بين النوم واليقظة، وإذا بأبي قد أتى إلينا، وضمّنا إلى صدره، وإذا برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، وهم يقولون لأبي: ما لك قد أتيت وتركت أولادك بين
ص: 218
الكلاب والخنازير؟ فقال أبي: يا رسول الله، ها هما بأثري قادمين.
فتزفّرا وبكيا بكاءاً شديداً، وجعل كلّواحد منهما يودّع صاحبه وداع الفراق، وجعل الأكبر يتزفّر ويبكي ويقول:
أخي إنّ أسباب الفارق لقد دنت
وأعمارنا حقّاً تقضّت ومرّت
فنفسي تناجيني بأني ميت
فوا حزني ممّا جرى بل وحسرتي
تعال بنا كلّ يودّع صاحباً
لصاحبه قبل الممات وفرقة
أخي يا أخي إنّ الرحيل إلى أب
لخير لنا ما بين آل أمية
وإن حياة مثل هذي دنية
فلا حلت الدنيا علينا ومرّت
أبعد حسين السبط يهني شرابنا
وقد ذاق كأس الموت من بعد غصّة
ص: 219
فلو أنّ مولانا الحسين بقي لنا
لما نالنا من محنة وأذيةولكن مولانا أبيد بغيلة
على عطش والماء يجري بسرعة
وحزّوا وريديه وداروا برأسه
وسيقت ذراريه بضرب وذلّة
أيا ليتنا متنا وكنّا بقربه
ولم نك في هذا المكان بغربة
فهذا الذي قد جاءنا بعد قتله
فلا خير في الدنيا عقيب الأحبّة
قال: فلمّا سمعت العجوز كلامهما تزفّرت وانتحبت باكية، وانكبت على أقدامهما تقبّلهما وعيناها تهملان دموعاً، ولم تستطع لردّ كلامهما رجوعاً، وقالت: نفسي لنفسكما الفدا، وروحي لروحكما الوقا، وخرجت من عندهما، ومضت إلى دارها لتنام.
فلم تغمض عينها، فجلست في صحن دارها، وقد أخذها القلق خوفاً على
ص: 220
الغلامين، فتزفّرت وتحسّرت، وقد اشتعل قلبها بالأحزان ناراً، وجعلت تقول:
أيا ربّ فاحفظ للغلامين رحمة
لنور عيوني الذي منه أبصر
أيا ربّ قلبي قد تعلّق فيهما
وحبّهما بين الجوانح مضمر
فلا صبر لي يا ربّ عند فراقهم
فإنّ فؤادي فيهما متطيّر
أيا خالقي تنجيهما من معاند
وكلّ عدوّ قاهر متجبّر
صغيرين وا حزني غريبين ها هما
يتيمين مكسورين والله يجبر
أيا ربّ فاجعلني ومالي فداهما
إذا لهما خطب دهى أو مقدّر
فانّك تمحي ما تشاء لما تشا
وتثبت ما ترضاه إذ أنت أبصر
فإن يهلكا أو يقتلا بمنظري
تقطّع نفسي حسرة حين أنظر
ص: 221
وإن يسلما حزت الرضا من محمد
ونلت المنى من خالقي حين أحشر
قال: وكان ولدها من أعوان اللعين ابن زياد! ومن جملة الطلبين لولدي مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فبينما هي في تحسّر وتزفّر وبكاء ونحيب، أقبل ولدها كثير بن الأسود شاكاً في سلاحه، ومعه غلامه، فقرع الباب.
فلمّا سمعت أمّه قرع الباب اضطربت جوارحها، وجزعت جزعاً شديداً، وقالت: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم، فقرع الباب، فقالت: ما شاء كان، فقرع الباب ثالثة، فقالت: استغثت بالله.
ثم قامت العجوز، وهي ترتعد خوفاً على الغلامين، ولم تدجر ما يكون من أمرهما، ثم قالت: من بالباب؟فقال: كثير!
فقالت له: ما حاجتك هذه الليلة، قد اعتكر الظلام؟
ص: 222
فقال لها: افتحي الباب لا أمّ لك، فقد أتعبت نفسي وغلامي وفرسي في طلب الغلامين اللذين أطلقهما السجّان، وقد قتله الأمير عبيد الله بن زياد لأجلهما، ولا تعبت منذ خلقني الله مثل تعبي هذه الليلة، ولا أدركت لهما خبراً، ولا وقفت لهما على أثر، وقد بذل ابن زياد لمن يأتيه بهما أربعة آلاف دينار وقضاء ثلاث حوائج، وأنا أرجو أن تكون فيهم ولاية!
فقالت له: ويحك، إنّ هذا الطريق لم يسلكه غيرهما، فامض من ساعتك.
فقال: أريد أن أريح نفسي وفرسي وغلامي، فإذا كان آخر الليل خرجت فيطلبهما، وأنا على فرسي، وهما يمشيان على أقدامهما.
فما قدرت إلا أن تفتح له الباب، ففتحته، فدخل عدوّ الله وعدوّ رسوله، وحلّ سلاحه، وحطّ عن فرسه سرجها، ودهل داره،
ص: 223
واستلقى على قفاه، وقال لزوجته: هاتي ما عندك.
فأتته بطعام وشراب، فأكل حتّى شبع، فقالت له: نم في صحن الدار واسترح حتّى تعرف الوقت الذي تخرج فيه.
ثم أتت إليه أمّه، وقالت له: يا بني من هذان الغلامان اللذان بذل ابن زياد هذه الأموال في طلبهما؟
فقال: الطاهر والمطهّر، ولدا مسلم بن عقيل.
فقالت: يا بني أتعبت نفسك في طلبهما؟فقال: نعم، أنا وغيري.
فقالت: ما تصنع بهما إذا ظفرت بهما، وهما عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟
فقال: أضرب أعناقهما، وأمضي برأسيهما إلى عبيد الله بن زياد، فإذا رضي عنّي فلا أبالي، وآخذ الجائزة.
فقالت: يا بني تبيع حظّك من محمد (صلی الله علیه و آله) في
ص: 224
الآخرة برضى ابن زياد؟!
فقال: إذا رضي عنّي فلا أبالي!
فقالت: بئس ما صنعت، ولا رضي الله عنك.
فقال مستهزءاً: يا أمّاه وما تشيرين به عليّ؟
فقالت له أمّه: أشير عليك أن تتقي الله ربّك، وتذكر معادك إلى ربّك، وخففالصحيفة بين يديك، قد علمت أنّ الخلائق يحشرون ويقفون بين يدي الله عزّ وجلّ، فينتصف الله من الظالم للمظلوم، وتنشر الدواوين، فأيّما أحبّ إليك أن تكون من أمّة محمد (صلی الله علیه و آله) وتدخل في شفاعته، أو رضا للعين عبيد الله بن زياد، وخيّر نفسك بين العذاب الشديد وبين العيش الرغيد في جوار محمد (صلی الله علیه و آله) ، يا بني احذر عقوبة الله تعالى، فإنّ الظالم لا يسود، ثم قالت:
ص: 225
أما تخشى إلهك في المآب
إذا ما جئت قصداً للحساب
وإنّ محمداً ليكون خصماً
لقاتل نسله يوم العقاب
وتجتمع الخصوم إلى حسيم
فيأخذ ظالماً من أيّ بابوتصلى في القيامة حرّ نار
وتلقى في مهانات العذاب
فخيّر نفسك الشوما بنار
وجنات فكن فطن الجواب
قال: فتفكّر الجلف في نفسه، وقال: والله لولا وقع عندك خبر منهما وعندك علم بهما ما تكلّمت بهذا الكلام، فهل رأيتيهما؟
فقالت: لا، بل سمعت اليوم رجلاً يقول على شاطئ الفرات: غلامان صغيران لم تجر عليهما أحكام الرجال، فلعلّهما الذي تطلبهما.
قال: فسكت ونام وبقيت العجوز قلقة، لا تغتر من البكاء والنحيب.
ص: 226
قال: فبينما هو في النوم واليقظة، إذ سمع همهمة الولدين من داخل البيت، وقد صرخ أحدهما صرخة عالية، وزفر زفرة شديدة، وقال:ماذا لقينا من الجهد والتعب والأذى والنصب.
فوقع الصوت في أذن الملعون، فنتبه، وقال لزوجته: ما هذه الهمهمة.
فلم تردّ عليه جواباً، كأنّها لم تسمع.
فقال لها: ويلك، قومي وائتيني بالسراج.
فقالت له: ما تصنع بالسراج في هذا الوقت؟
فقال: قد سمعت أمراً قد رابني.
فقالت له: انطفأ السراج.
فقال: ائتيني بالنار، وإلا ضربت عنقك.
فقالت: هذه الساعة لا أقدر على النار.
فزعق بأهل بيته، فتناوموا كأنّهم لم يسمعوا.
فعند ذلك قام اللعين وعمد إلى مقدحة
ص: 227
عنده، فضربها، وأخرج منها ناراً، وأشعل السراج، وجعل يطوف بالمنزل بيتاً بعد بيت حتّى أتى إلى البيت الذي فيه الغلامان، فدخلفتبعته العجوز وقالت: عندي امرأة غريبة ومانعته من الدخول، فضربها ودفعها على صدرها، ودخل عليهما، فوجدهما نائمين متوسداً كلّ منهما عضد الآخر، والنور يسطع من وجهيهما، فرآهما كالقمرين الزاهرين، فرفسهما برجله، فانتبها فزعين مرعوبين، وهما يقولان: من هذا الذي أيقظنا من نومنا، وأفزعنا من مضجعنا، لا آمنه الله يوم الفزع الأكبر، وأذاقه الله في الدنيا حرّ الحديد عاجلاً غير بعيد، وعذّبه الله العذاب الشديد.
فقال لهما الملعون: ما أكثر كلامكما، تدعوان عليّ وأنتما في منزلي؟
فقالا: يا ملعون، نحن في منزلك وأنت تعلم أنّ الضيف له حقّ على ربّ البيت فاجعل قرانا منك السلامة.
ص: 228
وفي نقل آخر: إنّ الملعون لمّا دخل عليهماالبيت انتبه الولد الأكبر، فلمّا أحس بدخوله، قال لأخيه: اجلس فإنّ هلاكنا قد قرب، فقال: يا أخي ومكا أدراك؟فقصّ عليه الرؤيا التي تقدّم ذكرها.
فقال اللعين: من أنتما؟ ومن أبوكما؟
فقالا: نحن ولدا مسلم بن عقيل، قد طفنا هذه القرية، فلم نجد أحداً يأوينا غير هذه العجوز، فجزاها الله عنّا خير الجزاء.
قال: فضحك فرحاً مستبشراً بظفره بهما، وقال: والله لقد حصلت الجائزة من ابن زياد، ثم إنّه جعل ينشد ويقول:
لقد نلت ما أرجو ما أنا آمل
من ابن زياد فالعطايا تحصل
سأمضي إليه بعد حين مبادراً
برأسيكما والخير ما كنت أفعل
ولست أبالي ما بي الله فاعل
إذا حزت في الدنيا لما كنت آمل
ص: 229
ولو كنت أعطى ضعف مالي أربعاً
فرأسيكما بالسيف لابد أعزل
فقال الملعون: إني أتعبت نفسي وفرسي في طلبكما وأنتما في داري!
ثم إنّه لطم الأكبر منهما لطمة أكبته على الأرض حتّى تهشّم وجهه، وتكسّرت أسنانه من شدّة الضربة، وسال الدم من وجهه وأسنانه.
ثم إنّ اللعين كتفه كتافاً وثيقاً، وجاء إلى الآخر ولطمه حتّى خرّ على وجهه، وهو ينادي: وا أبتاه.
ثم كتفه كتافاً وثيقاً، فضجّا بالبكاء والنحيب، وقالا: وا أبتاه وا مسلماه! وا حسناه! وا حسيناه! ويلك أما ترحم اليتيمين المنقطعين الغريبين الضائعين، بالأمس فقدنا أبانا، ومن بعده فقدنا الحسين، فتركنا لوجه الله تعالى، أما ترحمنا لصغر سنّنا ويتمنا وقرابتنامن
ص: 230
رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟
قال: ثم قالا له: يا هذا ما لك تفعل بنا هذا الفعل، وأمّك قد أضافتنا وأكرمتنا، وأنت تضربنا وتوثق أيدينا بالقيد، أما تخاف الله فينا؟ أما تراعي يتمنا وصغرنا وقرابتنا من رسول الله.
فلم يعبأ الملعون بكلامهما، ولا رحمهما، ولا رقّ لهما، ثم إنّه دفعهما إلى خارج البيت وبقيا مكتّفين إلى الفجر، وهما يتوادعان ويبكيان لما جرى عليهما من البلاء.
فقال اللعين: والله لأذبحنّكما وأمضي برأسيكما إلى ابن زياد.
فقالا له: وكم جائزتك منه؟
قال: أربعة آلاف دينار وقضاء ثلاث حوائج، وأظنّ أنّ فيها ولاية.فقالا له: يا ملعون، فلماذا تأخذ الجائزة وتقتلنا، فخذها ونحن أحياء؟
فقال: ما لي إلى ذلك من سبيل، ولابد من
ص: 231
قتلكما!
فقالا: يا ملعون، ما أجفاك وأقسى قلبك!
ثم قالا: نحن غلامان حاسبان كاتبان، ادخل بنا بعض الأسواق، وناد من يشتري هذين الغلامين، فبعنا وانتفع بأثماننا.
فقال: ما لي إلى ذلك من سبيل.
فقالا له: إذاً فارحم الضعيفين الغريبين الطريدين الشريدين، أولاد المقتولين المظلومين، فأعرض عنهما.
فباتا ليلتهما وهما يناديان: وا محمداه! وا علياه! وا حسناه! وا حسيناه! وا أبتاه وا مسلماه! عزّ عليكم لو رأيتم ما نزل بنا بعد مغيبكم عنّا.وباتت العجوز تلوذ بهما وتقول: يا حبيبيّ من القتل هربتما وفيه وقعتما، وهي تبكي بكاء الثكلى، وتلطم رأسها، وتقول: ما عذري غداً عند جدّكما ليتني تركتكما ذهبتما في أرض الله حيث شئتما، ولم أدخلكما منزلي، وا
ص: 232
حرّ قلبي عليكما، وا حزني لأجلكما، ثم قالت:
فيا ليتني قد كنت حين قدمتما
تركتكما في الأرض أين ذهبتما
أحباي من قتل اللعين هربتما
فوا حزني فيه يقيناً وقعتما
فما العذر لي يوم اللقى لمحمد
إذا كنتما من أجل فعلي ذبحتما
أيا ولدي رعت اليتيمين روعة
بها تستحقّ النار نار جهنماأيا ولدي إني بداري رحمة
كفلتهما فأرعى جنابي ودعهما
أيا ولدي خالفت ربك فيهما
فتب عاجلاً واصفح لأجلي عنهما
ألم تر للعينين بالدمع يهميا
وقلبهما قد فرّ والعقل منهما
أظنّ الشقى قد حلّ فيك فقد أرى
فؤادك لم يرحم يتيماً متيّما
ص: 233
وتلطم خدّاً للصغير بوجهه
وتوثق كفّاً للضعيف مؤلما
بني لقد قطعت أنياط مهجتي
بفعلك في الأيتام فارحم لترحما
قال الناقل: هذا، والملعون لم يلن قلبه وكان أقسى من الصخر لم يعبأ بكلامهما، ولم يرحم بكاءهما وغربتهما.
فلمّا أصبح الصباح أخرجهما من داره،وقصد بهما جانب النهر وزوجته وابنه وعبده وأمّه خلفه تحذّره وتخوّفه من عذاب الله وسخطه وتقسم عليه، فلم يفد لأنّ الشيطان قد استحوذ عليه، والغضب من الله قد دنى إليه وزوجته تلاطفه في الكلام وابنه يقول له: احذر الملك العلام شديد الانتقام، وعبده يقول له: اقتلني دونهما ودعهما، فيا ليت نفسي فداهما، فم يصغ إلى كلامهم وعذلهم ولم يلتفت إليهم حتّى وصل بهما إلى جانب النهر.
ص: 234
وفي نقل آخر: دعا بابنه زهير، فقال له: يا بني ألست قد ربيتك حتّى أدركت وبلغت مبالغ الرجال، فقال: بلى، فقال له: خذ هذا السيف وانطلق بهذين الغلامين إلى شاطئ الفرات واضرب أعناقهما وائتني برأسيهما حتّى آتيك هذه الساعة بأربعة آلاف دينار من ابنزياد.
قال: فمضى زهير بالغلامين وساقهما حتّى صارا في الطريق، فقال الصغير للكبير: ألا ترى يا أخي إلى هذا الغلام لقد كان يشبه عبد الله بن عقيل في الحسن والقدّ، وإنّا نخشى على شبابه وحسنه أن يكون من أهل النار وأن يكون خصمه يوم القيامة جدّنا أحمد المختار، فقال لهما: يا حبيبيّ من أنتما؟ ومن جدّكما الذي يكون خصمي يوم القيامة، فقالا لاه: أما تعرفنا؟ فقال: لا، فقالا: نحن غلامان غريبان طريدان من أولاد مسلم بن
ص: 235
عقيل ابن عمّ رسول الله فصرنا ضيفين والدك، فأرسلك لقتلنا بغير ذنب، فقال الغلام: معاذ الله أن ألقى الله بدمكما، وأن يكون خصمي يوم القيامة جدّكما رسول الله في يوم لا يغني والد عن ولده شيئاً إنّ وعد اللهحقّ، ثم ألقى السيف من يده وعيناه تهملان دموعاً رحمة ورقّة للغلامين، ثم أنشأ يقول:
لطاعة ربّ الناس أولى وأحسن
وأعصيك إذ أغضبت ربّي وأعلن
أتفرح أنت اليوم لست بخائف
بقتلهما بغياً وإني سأحزن
وتعلم في ذا الفعل أنك في غد
ستجزى به يوم المعاد وتمحن
أيا أبتا راقب إلهك فيهما
غريبين مظلومين إن كنت تركن
أبي فلوجه الله ربّك دعهما
لئلا تحوز العار حقّاً وتلعن
ص: 236
أبي لا تجي يوم المعاد مطالب
بدمّهما فالمخلص اليوم أهون
قال: ثم إنّه أقبل إلى أبيه وقال: اتق الله كأنك تراه وإن لم تره فإنّه يراك، وهو بالمنظرالأعلى مالك وعترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
فقال له اللعين: عصيتني وأنا أكابد الدهور، وأجمع لك المال من الحلال والحرام؟
فقال له: عصيتك في طاعة الله فإنّ ذلك خير من أن أطيعك وأعصي ربّي.
قال: فصاح بغلامه، وقال: انطلق بهذين الغلامين واضرب أعناقهما وآتني برأسيهما، فانطلق العبد بهما حتّى صارا في الطريق، فقال الكبير: يا أخي ما أشبه هذا العبد بعبدنا صبيح!
فقال: يا غلام من أنتما؟
فقالا: نحن صبيّان غريبان من أولاد مسلم بن عقيل ابن عمّ الحسين، أنا الطاهر وأخي المطهّر وجدّنا رسول الله، هربنا من عسكر
ص: 237
الحسين الشهيد المظلوم المذبوح عطشاناًغريباً نازحاً عن الأهل والأوطان، وقد ترى ما نحن فيه، أمسينا ضيفين لأم مولاك فأرسلك لتقتلنا، ليبعث برأسينا إلى الطاغي الباغي عبيد الله بن زياد.
فقال العبد: والله لو عرفتكما ما روّعتكما، ولا أحبّ أن يكون محمد خصمي يوم القيامة، ثم إنّه رمى السيف من يده وأقبل يقبل أقدامهما، وهو يقول: أعادي مولاي الصغير ولا أعادي مولاي الكبير الذي هو على كلّ شيء قدير، وفي غد أكبّ على وجهي في نار جهنم، ما لي ولعترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ثم إنّه تزفّر وقال:
أعادي مولاي الصغير قبالا
واحذر مولاي الكبير قبالا
أخاف بأن أصلى غداً في جهنم
فيزداد وجهي ظلمة ونكالا
ص: 238
وأرجو بطوع الله وجهي سواده
يكون بياضاً نوره يتلالا
إذا ما قتلت السيّدين فإنّني
عصيت لربّي كان ذاك محالا
فإن شئت تقتلني فنفسي فداهما
فنفسي وروحي قد جعلت حلالا
ثم قال: أعوذ بالله من قتل السيّدين الطاهرين الغريبين بالأمس فقد جدكما، وقتل أبوكما بعده فقد الحسين كفيلكما، وبقيتما يتيمين بلا أب ولا كفيل ولا صاحب ولا خليل.
وا غوثاه تكون الرحمة في المماليك ولا تكون في الأحرار، وتستولي على أبناء السادات الأبرار، فتباً لها من دنياً رذيلة وأنصار الطيبين فيها قليلة.
فرمى بنفسه في الفرات وغاص في الماء وخرج من الجانب الآخر، فصاح به مولاه، وقال: عصيتني؟!
ص: 239
فقال: أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فلمّا عصيت الله عصيتك، أحبّ إليّ من أن أعصي الله وأطيعك.
فقال: عصاني الولد والعبد، والله ما يتولّى قتلكما غيري، وأخذ السيف وأتى إليهما.
فلمّا رآه الغلامان مقبلاً عليهما أيقنا بالموت، وآيسا من الحياة، ثم إنّه سلّ السيف من غمده، فلمّا همّ أن يضرب أحدهما جاءت إليه زوجته مسرعة، وجعلت تقبّل يديه ورجليه، وتتوسل به وتقول: اعف عن هذين الغلامين واطلب من الله تعالى ما تطلبه من أميرك، فإنّ الله يعطيك عوض ما تطلبه من ابن زياد أضعافاً مضاعفة.
فلم يعبأ بكلامهما، ولم يلتفت إليها، ودافعته عنهما، فصاح بها وأراد أن يضربها بالسيف، فتأخّرت خوفاً على نفسها،فصاحت بولدها وعبدها تعالا دافعا عن أولاد الرسول لتنالا الشفاعة يوم القيامة.
ص: 240
قال: فأتى إليه ابنه زهير وعبر إليه العبد، فلزماه ومانعاه ومسك العبد على يده، فهمّ أن يضرب العبد فلزم العبد على لحيته وجذبها إليه، فصاح صيحة هائلة، فضربه بالسيف على يده فبراها من الزند، فأراد أن يضربه ضربة أخرى ليقتله فقالت له زوجته: ويلك تقتل عبدي، فضربها بالسيف فجرحها جرحاً منكراً.
فلمّا رأى زهير فعله قال له: يا أبتاه! قدّم حلمك وأخّر غضبك وتفكّر فيما يصيبك من عواقب الدنيا وعذاب الآخرة.
فلم يعبأ الملعون بكلامه، ثم قال له: تأخّر عنّي وإلا ضربت عنقك، فقال: والله لا أدعك تقتلهما، فضرب ولده بالسيف فقتله، وانجدلصريعاً يخور في دمه.
فلمّا رأت زوجته ابنها ملقىً على الأرض متشحّطاً بدمه أخذت بالعويل والصياح، ونادت بالويل والثبور وعظائم الأمور.
ص: 241
فلمّا رأت أمّه ما فعل بزوجته وولده وعبده تقدّمت إليه وقالت: يا بني، إنّي أريد أن أكلّمك بكلمتين، فاسمع ذلك، فقال لها: وما هاتين الكلمتين؟
فقالت له: كم جائزتك من ابن زياد؟
فقال: أربعة آلاف دينار.
فقالت له: خذها حلالاً من مالي.
فقال: لا أقبل.
فقالت له: خذ عقدي الفلاني، فهو أكثر من جائزتك.
فقال: ما دون قتلهما شيء أبداً.
فقالت له: قتلك الله وأحرقك بالنار قريباًغير بعيد.
قال: فتقرّب اللعين إلى الولدين، فلمّا رأياه مقبلاً عليهما تباكيا ووقع كلّ منهما على الآخر يتودّعان ويتعلقان به، وهو يدفعهما، ولم يكلّمهما، وهو غضبان عليهما.
فقالا: يا ملعون، إن كنت لا تقبل شيئاً ممّا
ص: 242
عرضت عليك أمّك، فأمهلنا حتّى تمضي بنا إلى ابن زياد، فلعلّه أرأف منك، ولا تدعنا نطالبك بدمنا عند جدّنا رسول الله يوم القيامة، ويصنع بنا ما يريد.
قال: أخاف أن يلقاني أحد من الشيعة فيخلّصكما منّي، فلا أفعل ذلك، بل لابد من قتلكما وأمضي برأسيكما إلى ابن زياد.
فقالا له: ألا ترحم يتمنا وصغرنا؟!
فقال لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً، فقال له: دعنا نصلّي ركعتين.فقال: صلّيا إن نفعتكما الصلاة.
قال: فصلّيا أربع ركعات، فلمّا فرغا من الصلاة استقبلا القبلة، وقالا: اللّهم أذقه ما كان يريد يذيقنا، واحرمه لذّة العيش بعدنا، وسلّط عليه الظالم الفاجر ابن زياد حتّى لا يقبل منه عذراً ولا قولاً ولا فعلاً، واحكم بيننا وبينه بالحقّ، وأنت خير الحاكمين.
ثم بكيا وقالا: عزّ والله على أبينا أن يرانا
ص: 243
بين يديك وسيفك مشهور تريد قتلنا.
قال: فناداه الكبير وقال له: نشدتك بالله إذا غلبت عليك شقوتك فابدأ بي قبل أخي لئلا أراه مذبوحاً فيخرج قلبي ويزيد حزني وكربي.
ثم إنّهما تعانقا حتّى غشي عليهما، فلمّا أفاقا نظر كلّ واحد منهما إلى الآخر وقالا: يا هذا ما أشدّ بغضك لأهل البيت (علیهمالسلام) ، وهما يتوادعان، وكان كلّما قصد الملعون واحداً منهما قال له: اقتلني قبل أخي، فإني لا أحبّ أن أراه قتيلاً.
فبينما الصغير ساجد إذ ضرب عنقه ورمى برأسه في ناحية وبجسده في ناحية.
وقيل: إنّه ذبح الأكبر أوّلاً.
وفي نقل آخر: فجعل الكبير يتمرّغ في دم أخيه، وهو ينادي: وا أخاه، وا قلّة ناصراه، وا طول حزناه، وا حسرتاه، وا غربتاه، وا يتماه، هكذا ألقى الله عزّ وجلّ وأنا
ص: 244
متخضّب بدم أخي، ثم إنّه بكى بكاءاً شديداً، وجعل يقول:
حرّ قلبي عليك ملقىً قتيلاً
دماؤك سالت في التراب مسيلا
أخي ليت عيني لن تراك معفّراً
طريحاً ذبيحاً في التراب غسيلاأخي ليتني قد كنت قبلك ميتاً
ولم أر منك الرأس كان زميلا
فآهٍ على صنع الزمان بحالنا
وقد غال لي من في الزمان خليلا
وصرنا كمولانا الحسين بكربلا
ومثل أبينا يوم مات قتيلا
تقضى زمان حالنا فيه حالياً
فسار أبونا كوفة فاغيلا
ومن بعده كان الحسين يحوطنا
فأكرم بسبط المصطفى كفيلا
فأمسى على شاطي الفرات مجدّلاً
وأصحابه إلا علي عليلا
ص: 245
ومن بعده جارت على الآل عصبة
فأبدت على آل النبي ذحولا
فهذا أخي مقطوع رأس فليتنيفداه فلم أنظر إليه قتيلا
إلى الله نشكو عنده ما أصابنا
بيوم يراه الظالمون ثقيلا
قال: فقال له: قتلت أخي قتلك الله وخذلك ولا نصرك.
فقال له اللعين: لا عليك سألحقك بأخيك في هذه الساعة، ثم ضرب عنقه، فسقط إلى الأرض يفحص برجله ويده ويتمرّغ بدمه.
ثم إنّ اللعين أخذ رأسيهما ووضعهما في مخلاة، ورمى أبدانهما في الفرات، فمال جسد الكبير على جسد الصغير، واللعين ينظر إليهما، فاعتنقا وغاصا في الماء بقدرة الله تعالى.
قال: فصرخت أمّه وزوجته وجميع من حضر قتلهما صرخة واحدة، وصارت تلك
ص: 246
البقعة في رجّة عظيمة، وصيحة شديدة،وعلا البكاء والنحيب، وصار عندهم مأتماً، وندبتهما العجوز بصوت حزين، وأبدت الحنين والأنين، وقالت: وا حرّ قلبي على السيّدين الغريبين الفاضلين الزاكيين اليتيمين المخذولين، يا اليت شعري هل أحد يقيم عزاكما، ويقيم مأتماً لكما، وا حرّ قلبي على صغيري السن، وغريبي الوطن، وكثيري المحن، وأنشأت تقول:
شلّت يمينك يا كثير الألكع
وسكنت نيراناً بها تتدفع
يا قاسي القلب الشديد فؤاده
كيف الجوارح منك لا تتصدّع
لم لا رحمت بكا اليتيم ونوحه
وحنينه وقتاً غدا يتفجّع
كيف استطعت بأن قطعت كريمه
ما ذاب قلبك رحمة أو تجزع
ص: 247
عجباً خضبت جبينه بدمائه
ما فرّ لبّك فجعة يا ألكع
ولقد تركت الجسم وهو معفّر
متخضّب بدمائه متلفّع
وا حسرتاه على اليتيمين الغريبين
اللذين لحفظهم قد ضيّعوا
وا حسرتاه على الصغيرين الذبيحين
اللذين غدت لهم صمّ الصخور تصدّع
وا حسرتاه عليهما إذ يستغيثان الذي
لا يرعوي بالوعظ بل لا يسمع
قال: ثم إنّه ركب على ظهر جواده ومضى إلى ابن زياد بالرأسين وأمّه تقول: لا ردّك الله ولا رجعك يا قاتل ابني بنت المصطفى والمرتضى، وسلّط الله ابن زياد حيث لا يقبل منك قولاً ولا فعلاً ولا عذراً.
ثم إنّ اللعين دخل على ابن زياد ووضع المخلاة بين يديه، فقال له: ما في هذه المخلاة؟فقال: ما يسرّك، فيها رأسا ولدي مسلم
ص: 248
بن عقيل، فنفض الرأسين من المخلاة وكشف عن وجهيهما، فإذا هما كالقمرين المشرقين.
فلمّا نظر إليهما اللعين عبيد الله بن زياد، قال: يا ويلك لم قتلتهما، ولم لا أتيتني بهما حيّين حتّى أرى فيهما ما أرى؟
فقال: لطمع الجائزة، ثم أخبره بما عرضت عليه أمّه من المال الكثير، وبقتل ولده وجرح زوجته وعبده لما أرادوا أن يستنقذوهما منه.
فقال عبيد الله ابن زياد: الذي عرضت عليك أمّك خير لك من قتلهما، ولكنّك اتبعت في ذلك هواك، يا ويلك، أين وجدتهما؟
قال: في منزلي!
فقال ابن زياد: في منزلك؟ قال: نعم!قال: ومن أتى بهما إلى منزلك؟ قال: عجوز لنا أضافتهما من حين مضيا.
فقال له اللعين عبيد الله بن زياد: ويلك! أخذت بأيديهما وقتلتهما وهما ضيفان لك، أفلا عرفت لهما حقّ الضيافة؟ ألم تعلم أنّ
ص: 249
الضيف له حقّ على ربّ البيت، وقد [كان] قراهما منك السلامة.
فقال له ابن زياد: فهلا أتيت بهما حيّين؟
فقال: خشيت أن يأخذهما منّي أحد، ولا أقدر أن أوصلهما إليك.
فأمر ابن زياد أن يغسلوا الرأسين من الدم، فغسلوهما وأتوا بهما إليه، فتعجّب من حسنهما لمّا رآهما، وقال له: يا ويلك، لو أتيتني بهما حيّين لضاعفت لك الجائزة، فاعتذر بعذره الأوّل.
فقال له: والله، لقد أتيت بجناية عظيمةحيث قتلت ضيوفك، فلابد من قتلك يا ملعون، إذ هذا الفعل لم يفعله أحد قبلك.
قال: وتعجّب الحاضرون من حسنهما وجمالهما، وبكى اللعين عبيد الله بن زياد رحمة لهما على صغر سنّهما، والجرأة من هذا اللعين عليهما، وبكى كلّ من كان حاضراً عنده.
ص: 250
فقال له ابن زياد: ويلك، ألم ترحمهما لصغر سنّهما وتضرّعهما إليك؟
فقال: أحببت طاعتك والجائزة السنيّة منك، والمكان الرفيع دون أصحابي!
قال: ما قالا لك؟ قال: قالا لي: أما تحفظ قرابتنا من رسول الله؟ فقلت: ما لكما قرابة من رسول الله.
قال: فما قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: أما ترحم صغر سنّنا؟ فقلت لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمةشيئاً!
قال: فما قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: بعنا في السوق وانتفع بأثماننا، فقال: وما قلت لهما؟ فقال: قلت: إنّي أريد الجائزة من ابن زياد.
قال: فما قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي امض بنا إلى ابن زياد حيّين يفعل بنا ما يريد فلعلّه أرأف بنا منك لنا.
ص: 251
قال: ما قلت لهما؟ قال: قلت لهما: ما لي إلى ذلك من سبيل.
قال: فما قالا لك أيضاً؟
قال قلا لي: دعنا نصلّي ركعتين، فقلت لهما: صلّيا إن نفعتكما الصلاة!
فقال: ما قالا لك أيضاً بعد الصلاة؟
فقال: رفعا أيديهما بالدعاء وقالا: يا حيّ يا قيوم، يا عدل يا حكيم، احكم بيننا وبينهبالحقّ، وأنت خير الحاكمين، وسلّط الله عليك ابن زياد بأن لا يقبل لك قولاً ولا فعلاً ولا عذراً، يالله الفعال لما يريد.
ثم التفت ابن زياد إلى ندمائه وقال: ما نعطي كثير من الجائزة، لقد خاب رجاه وما أمّل.
ثم قال له: ويلك، إنّهما طلبا منك أن تأتي بهما حيّين فأبيت إلا قتلهما، يا لعين، والله، لو أتيت بهما حيّين لأعطيتك الجائزة، ولو أتيت بهما حيث طلبا المجيء إليّ لأحسنت إليهما
ص: 252
ورددتهما إلى المدينة سالمين إلى أهلهما.
قال: ونظر ابن زياد إلى جلسائه، وكان فيهم رجل محبّ لأهل البيت (علیهم السلام) وقيل: نادى من لكثير؟
فنهض إليه رجل فظّ غليظ القلب، فقال:أنا أيّها الأمير، فقال: خذ هذا اللعين، وانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، واضرب عنقه، ولا تدع دمه يختلط بدمهما، وخذ هذين الرأسين وارم بهما في الموضع الذي رمى فيه جسديهما، فإذا قتلته فاط العجوز ماله، وخذ أنت سلاحه وفرسه.
قال: فأخذه وسار به، وهو يقول: والله لو أعطاني ابن زياد جميع سلطنته ما قابلت هذه العطية.
فقال له: هذا جزاء من يتعرّض لآل الرسول، ثم إنّه أنشأ يقول:
ص: 253
هذا عطاء ما سواه عطاء
أبداً ولا ضاهاه قطّ جزاء
قتلي لهذا الرجس ألعن فاجر
ما مثله فعلت كذا الأعداء
يا ويك كيف قتلت ضيفاً لائذاًبفناء بيتك إنّ ذا لشقاء
قال: فجعل كلّما مرّ بقبيلة من القبائل أخرج الرأسين وأراهم إيّاهما، وهو يقول: ألا ترون إلى ما فعل هذا اللعين بهذين الطفلين الصغيرين، وحكى لهم بالقصّة، وما كان يريد أن يفعل بذلك اللعين، فيبكون رحمة لهما ويندبونهما شفقة عليهما، وينوحون حزناً لأجلهما.
ثم سار به إلى أن أتى به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فرأى هناك ولداً مقتولاً، وامرأة مجروحة، وعبداً مقطوعاً كفّه من الزند، ورأى تلك العجوز، وهي تدعو على ذلك اللعين الفاجر، ورأى تلك القرية في
ص: 254
صيحة عظيمة وبكاء ونحيب حزناً على ما نال هذين اليتيمين.
فلمّا رأى ذلك الأمر الشنيع، قال له:لعنك الله من شقي ملعون، هكذا أبشر بعذاب الله تعالى وخزيه ونكاله.
فسأل المرأة المجروحة وقال: من أنت؟ قالت: أنا زوجة هذا اللعين، وقد كنت مانعته عن قتل هذين الطفلين، فلم يقبل منّي قولاً، وقتل ولدي وجرحني، وقطع يد عبدي، فالحمد لله الذي لم يبلغه مراده.
ثم إنّها بكت بكاءاً شديداً، وقالت: الحمد لله الذي أمكن الله منه، ولم يبلغه مراده، ثم قالت له: لعنك الله يا قاتل عترة نبيّه، ولقد جوزيت بالقتل ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى، ثم جعلت تنشد وتقول:
بعداً وسحقاً يا كثير الأبتر
وصليت ناراً حرّها يتسعّر
ص: 255
لو قد أطعت الأم فزت برحمة
من ربّك الرحمن إذ ما تحشرلكن صغيت لطوع نفسك راجياً
أن سوف تلقى ما تريد وتبصر
فخسرت للدنيا وأخرى بعدها
وكذا الظلوم لما يؤمل يخسر
ولقد غللت يد اليتيم وهنته
ولطمته فتركته يتعفّر
هلا علمت ولا جزعت لقتل من
أضحى غريباً خائفاً يتحسّر
يا عين فابكي طاهراً ومطهّراً
من قد نماه طاهر ومطهّر
وابكي يتيمي مسلم بمدامع
تهمي على صحن الخدود وتقطر
يا مسلم قم فانظر الولدين ذا
متخضّب بدم وذا متعفّر
قال: ثم إنّ ذلك الرجل اشتغل بتعذيبه، فقلع عينيه، وقطع أذنيه ويديه ورجليه،
ص: 256
وتركه يتشحّط بدمه ثلاثة أيام!
فلمّا أرد قتله، وهمّ أن يعلوه بالسيف، قالت له: أمّه سألتك بالله العظيم ونبيّه الكريم، أن لا تخلط دمه بدم هذين الغلامين الطاهرين الطيبين سلالة الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولك عندي خمسمائة درهم.
فقال: والله لا آخذ درهماً ولا ديناراً، وأفعل ما تأمرين به، فقد أمر ابن زياد أن لا أخلط دم الأبرار بدم الفجار!
قال: ثم إنّه وكزه بذباب السيف في خاصرته، فمدّ عنقه فعاجله بالضربة، فبرى رأسه عن بدنه، فانجدل صريعاً يخور في دمه، وعجّل الله تعالى بروحه إلى النار وبئس القرار.
ثم إنّه رمى بالرأسين في الفرات، فخرجت الأبدان، وتركّبت على الرؤوس بإذن الله تعالى، وغاصا في الفرات.
ثم إنّ ذلك الرجل أتى برأس ذلك الملعون،
ص: 257
ونصبه على قناة، وجعل الصبيان يرجمونه بالحجارة، وبقي ذلك الملعون ملقىً على وجه الأرض ثلاثة أيام جزاء بما فعل بعترة الأطهار، وأولاد أخي حيدر الكرار.
ص: 258
قال علي بن إبراهيم بن الحسن البوري البحراني في مقتل أولاد مسلم بن عقيل:
وأمّا وفاتهما فقد اشتهر أنّهما ماتا يوم السادس والعشرين من شهر صفر والله أعلم بالخبر(1).
ص: 259
ص: 260
قال الميانجي في العيون العبرى:
وأمّا الغلامان الصغيران اللذان قتلا في الكوفة، فقد ذهب بعض أرباب المقاتل إلى أنهما كانا من ولد مسلم بن عقيل وأنهما بقيا سنة في السجن ثم قتلا نقلاً عن الصدوق في أماليه لكنّه ممّا لا يساعده الاعتبار(1).
والجواب عليه بكلّ خضوع واحترام:
أنّنا لا نعرف المقصود بالاعتبار الذي نحتاج إليه هنا ليساعدنا على قبول ما رواه الشيخ الصدوق وغيره من المؤرّخين، فإن كان المقصود فقدان الاعتبار لأصل الخبر،
ص: 261
فإنّ المصادر القديمة المعتبرة عند أهل التحقيق قد روت خبراً تضمّن ذبح طفلين منمعسكر سيّد الشهداء، فأصل وجود طفلين قتلهما لعين في مصادر الشيعة والمخالفين متّفق عليه، يبقى أن بعضهم نسبهما إلى جعفر والآخر إلى عقيل، وهذا أمر آخر متأخّر عن أصل تحقّق القضية.
وإن كان الاعتبار المطلوب في أن يكونا من أولاد مسلم بن عقيل، فقد أجبنا على ذلك مفصّلاً فيما مضى من البحث.
وإن كان المقصود الاعتبار السندي وما شاكل من الموازين الفنّية، فقد أجبنا عليه أيضاً فيما مضى من البحث، وتجد جوابه مفصّلاً في المدخل من كتابنا ((مسلم بن عقيل معركة القصر)) والمدخل من كتابنا ((مسلم بن عقيل بين المسجد الأعظم ودار طوعة)).
وإن کان المقصود بعدم الاعتبار المناقشة فی
ص: 262
أصل إمکان تحقّق مثل هذه الجریمة وقتل طفلین بهذه الصورة المروّعة، أو استبعاد ردود الفعل الصادرة من ابن زیاد –لعنة الله-، فقد أجبنا علیه أیضاً من خلال بیان الدوافع عند القاتل وعند ابن زیاد –لعنهما الله-، إضافة إلی صدور ما هو أبشع من ذلک فی کربلاء وقبلها منذ یوم هتکوا حرم الله وهجموا علی بیت الوحی أسقطوا جنین سیدة النساء (علیها السلام).
فلا عبرة بخذلان الاعتبار المزعوم وعدم مساعدته.
ص: 263
ص: 264
بين مزارع النخيل تسلك طريقاً ينتهي إلى بناء شامخ منيف يشعر القاصد إليه أنّه لا زال مكاناً نائياً بعيداً عن العيون، ومخبأ لا تكتشفه المراصد، وقعت فيه جريمة بشعة ومأساة فاضحة..
مكان مهول يشعر من يدخله كأنّه يتسلّل إليه ويدخله على حين غرّة، ويفاجأ حينما يرى فيه قبتان لا يراهما إلا حينما يقترب منهما..
قبّتان صغيرتان، توحي للناظر إليهما تلك الآهة التي تغفو تحتهما وتنتظر الانتقام يوم يقوم قائم آل محمد..
ص: 265
مكان يدهش الداخل إليه ويذهله، إذ أنّه يدخل بقعة تذكّره بمأساة جرت، وأطفالذبحت، وأجساد رمّلت، ووجوه غسلها النجيع، وأبدان لفّعتها الدماء والرمال، وكأنّه يسمع إلى اليوم صوت طفلين غريبين وهما يقولان: يا شيخ بعنا في السوق وانتفع بأثماننا، ويسمع حشرجتهما وهما يئنان تحت شفرة السيف، ويعلو شخيرهما بعد أن فصل رأسهما عن البدن، وهما يضطربان على الأرض، فيهتزّ كيانه، وكأنّه يراهما صرعين مضرّجين بالدماء..
يعجب الزائر أن يدخل تحت قبّتين تحكيان له ما جرى على عترة النبي في تلك البقعة، فهو ينتظر أن يغمره الهمّ والغمّ، ويغطّ في دوامة عارمة من الكرب والبلاء، وتجتذبه المحن والآلام.. فهي بقعة تذكّره بحدث لا يتمالك فيه الصبور، وينفلق لها قلب الغيور، ولا يصبر عليها ذو شعور، يتفتت لها الصخر
ص: 266
ألماً وحسرة، وتنهدّ لها الجبال حزناً وزفرة..أجل! ينبغي أن يكون الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، بيد أنّ الزائر يعيش في نفس الوقت حالة من الطمأنينة والوقار، ويداخله الهدوء، وتغشاه السكينة، وكأنّ ما تجرعه أولاد مسلم من همّ وغمّ وبلاء وكرب يجعله يصغّر الدنيا ويحقّر ما فيها، فلا يرى بعد زيارتهما رزءاً ولا مصيبة، ولا همّاً ولا غمّاً يدعوه للضجر، ويجرّه إلى اليأس، ويشعره بالألم، فكلّ رزء عنده إلى جنب رزء هذين الفتيين صغير، وكلّ همّ إذا قيس بهمّهما حقير، وكلّ غمّ وكرب لا يعدو أن يكون فرجاً إذا قارنه بما ذاقاه من غمّ وكرب، وكلّ ألم يقاسيه فهو لا يساوي لحظة واحدة شبحت فيها عيني الفتيين إلى سيف القاتل، ولا ضربة واحدة من ضرباته، وهو يريد أن يهشم عظام الرقبة ليفصل الرأس عن الجسد..
ص: 267
فكأنّ هذه القبّة تلمس قلب الزائر لمسة حانية، وتضفي عليه روعة الصبر، وهدوء السكينة، ومتانة الوقار..
إنّهما عترة النبي، وسلالة إبراهيم الخليل، وأحفاد أبي طالب وعقيل، وعترة أمير المؤمنين وسيّد الوصيين، وقد جبهتهما الدنيا بمصاب جلل، وخطب عظيم، ومصيبة فادحة قادحة قارحة كاظة تزلزل القلوب، وترتعد لها الفرائص، وتقشعر لها الجلود، فهو يتقلّب تحت قبّة تحكي له موقف من المواقف التي اهتزّ لها عرش الرحمن، إذ تحكي أحداث ترويع يتيمين غريبين ذبيحين..
فهو في مقام لا ينتابه فيه شكّ ولا ترديد ولا ارتياب أنّه من مواطن استجابة الدعاء..
وقد استجاب الله دعاء الكثيرين هناك، وقضى حوائج المحتاجين، وردّ القاصدين فرحين مسروين، وكم ذو عاهة ومرض
ص: 268
مزمن، وحاجة مستعصية، ومشكلة معظلة احتمى تحت تلك القبّتين، والتجأ إلى الله متوسّلاً بالذبيحين، فرجع إلى أهل مسروراً محبوراً يملأ الأمل أعطافه، وتطفح السعادة من جوانبه، وقد حقّق الله له مراده، وأعطاه سؤله الذي كان يتمنّاه، وأنجز له طلبته ومرامه..
قال الشيخ المظفر في كتابه السفير:
((ويظهر من جميع الروايات الواردة في هذه الفاجعة المحزنة أنهما رميا في الفرات بعد الذبح وغاصا في الفرات ولم يظهرا حتّى يدفنا.
وأمّا القبّتان المشيدتان اليوم في المسيب باسم ولدي مسلم لعلّهما شيّدا في موضع سجنهما، أو موضع ذبحهما على هذا الجدول الشارع إلى الفرات))..
ولا يبعد أن يكون قد دفن رأسيهما الشريفين في ذلك الموضع، لأنّ خبر الشيخ
ص: 269
الصدوق لا يحتوي ما تضمّنه خبر الكاشفي والطريحي، من رمي الرأسين في النهر، خصوصاً أنّ البدنين الطاهرين لم يكونا ظاهرين على الماء قبل أن ترمى الرؤوس، فالأولى والأحرى والأقوى أن تدفن لا أن ترمى في الماء حسب المتعارف وموافقة لآداب الإحترام والتقدير والتقديس للرأسين الشريفين.
ولا يمنع أن تكون الأبدان قد طفت على الماء لتشهد الانتقام العاجل من عدوّ الله ثم غمرتها المياه.
ويحتمل ولو بمستوى الاحتمال المجرّد عن كلّ دليل أن يكون هذا الموضع مكان اخراجهما من الماء، فتلقفتهما الأيدي ودفنوا في هذا الموضع.
وكيف كان، فإنّ هذا الموضع المشيد شاهد على المصيبة التي وقعت فيه، والفاجعة التي حلّت بعترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، أوأنّه مذكر بها،
ص: 270
والمؤمنون يزورونهما في تلك البقعة، ويتقرّبون ويتوسّلون بهما إلى الله ورسوله وآله، والشاهد الذي يعلو على الدليل، ويغلب كلّ برهان، ويرقى إلى حصول اليقين منه، هو ما أحرزه المؤمنون هناك من نتائج توسّلهم بهما إلى الله، فلا حاجة للخبر بعد العيان.
ص: 271
ص: 272
الله من دهر جفا أهل الإبا *** وشملهم صيّره أيدي سبا
فهل له عندهم من ترة *** إن وجد الفرصة فيهم وثبا
ألا ترى ابتلاءه أهل العبا *** ومن إليهم انتمى وانتسبا
أفدي يتيمي مسلم إذ أسرا *** ظلماً وفي سجن الدعي عذّبا
حتّى إذا ضاقا بما نالهما *** ذرعاً وأمر الله جلّ اقتربا
ص: 273
فخاطبا السجّان في أمرهما *** وبالنبي المصطفى تقرّبا
هناك خلّى عنهما فانطلقا *** لا يعرفان مسلكاً ومذهبا
سارا بليل وهما لم يدريا *** أين الطريق يطلبان مهربا
حتّى انجلى الظلام والصبح بدا *** بدوحة خوف العدى تحجّبا
تحجّباً عن الأنام والقضا *** إذا جرى على أمره لن يحجبا
هنالكم آوتهما ميمونة *** حبّ الوصيّ اتخذته مشربا
وأفردت بيتاً إليهما لكي *** لا يعلم الناس إليهما نبا
رأمت من الإشفاق أن تخفي على *** أعداهما الأمر لكي لا يعطبا
وحيث فرّا واطمأنا بالذي *** قد صنعته لم يخافا الطلبا
ص: 274
وقد غفت عيناهما من تعب *** فطالما خوفاً ومشياً تعبا
رأى هناك واحد أباهما *** قتيل كوفان وأصحاب العبا
قالوا تركت ابنيك بين معشر *** عليهم ربّ الورى قد غضبا
فقال ها هما على إثري فقد *** دنا الحمام منهما واقتربا
فجاء ربّ البيت والشيطان من *** خبث انطوائه به قد كعبا
مستخبراً من أنتما فانتسبا *** فازداد طغياناً وأبدى الغضبا
قد لطم الأكبر لطمة بها *** أكبّه على الثرى واحربا
فهشّم الأسنان والوجه وقد *** سالت دماه منهما فخضّبا
وشدّ كلاً بوثاق إذ هما *** لا يستطيعان دفاعاً وإبا
ص: 275
أفديهما مستسلمين للردى *** لم يرجوا سلامة بل عطبا
قالا له ارحمنا لصغر سنّنا *** وقربنا من النبي المجتبى
فقال لا أرى بقلبي رحمة *** إليكما ولا لطه نسبا
قالا له يا شيخ بعنا فأبى *** لله من دهر جفا أهل الإبا
قالا فخذنا لعبيد الله ما *** شاء بنا يصنع والطاغي أبا
فلم يجبهما لشيء بل طغى *** وجدّل الأ:بر في ماضي الشبا
فخرّ للأرض صريعاً بأبي *** يخور في دمائه مترّبا
فصاح من شجو أخوه نادباً *** ومن دما نحر أخيه اختضبا
كيما يراه الله في المعاد من *** دما أخيه جسمه مخضّبا
ص: 276
الله لم يرتدع اللعين عن *** طغيانه ياليت سيفه نبا
وسار بالرأسين في مخلاته *** لابن الدعي للعطا فعذبا
يا أهل كوفان قتلتم مسلماً *** ظلماً وما تركتم من أعقبا
هبوا على شيطانكم لما أبى *** انقياده صيّرتموه مذنبا
ما ذنب طفليه اليتيمين فلم *** قتلتم وخنتموا هل أذنبا
إليكم بني الهدى راثية *** لمن إليكم انتمى وانتسبا
صلّى عليكم الإله ما نجى *** ناج بكم ونال فيكم مطلبا
***
ص: 277
ما ذنب طفلين لمسلم والعدى *** زجتهما في السجن في وضع ردي
قد ضيقت في الشرب والأكل معا *** وعليهما بالسوط طوراً تعتدي
حتى إذا طال الزمان توضئا *** وتوجّها لله من قلب ندي
أن فرِّج الهم عنّا ربّنا *** إنا لمن آل النبي الأمجد
حتّى إذا ما هيّأ الله السبي *** ل فاخرجا والقلب لما يبرد
مضيا على وجل إلى تلك العجو *** ز وإنّها علمت بطيب المحتد
آوتهما فوراً ولكنّ ابنها *** قد أرهق الطفلين فهو المعتدي
ومضى إلى شاطي الفرات مجرِّداً *** سيفاً ولم يعبأ بكلّ تودُّد
ص: 278
يا شيخ إنّا من سلالة هاشمٍ *** لا تذبحنّ نقسم بحقّ محمد
فمضى يقطّع انحراً يا للهدى *** فغدى اللجين مزاجها بالعسجد
يا ويله لمّا رمى الأجساد في *** ماء الفرات فيا له من مشهد
ومضى برأسين إلى شر الطغاة *** فيا له من ظالم من حاقد
قال الشيخ حفظه الله في هامش كتابهمجمع المصائب:
أثبتّ هذه الأبيات اضطراراً لعدم وجود مقطوعة شعرية تحكي مأساة هذين الطفلين الشهيدين، ومن هنا أدعو الشعراء المحترفين إلى الاهتمام بمثل هذه الحوادث، وأن لا يقتصر اهتمامهم على الحوادث الشهيرة فقط.
ص: 279
فرّوا يتامى اثنين من خيمة المظلوم *** وامهم تحوم محيّره والقلب مهموم
طلعت تحن وتصيح يا زينب تعالي *** والله مصايب يا خلق تيّهت بالي
هاموا اولادي ابهالفضا ياذل حالي *** راحوا وخلّوني حزينه ابحال ميشوم
كثر المصايب يا خلايق تذهل الرّاي *** كلهم السّاعه اتذبّحوا يا خلق وِلْياي
ظنّيت هالطّفلين تبقى سلوه وياي *** بالبرّ تاهوا وبطلبهم محّد يقوم
والله مصايب بو علي فتّت افّادي *** قومي يزينب بالعَجل ننظر الوادي
من الخوف فرّوا للفضا وتاهوا اولادي *** يحرسكم الله ياضيا عيني من القوم
يا ليتكم ليّه بسلامتكم ترجعون *** ربّيتكم يا مهجة گليبي وتضيعون
ص: 280
يايْتَام مَدْري وين هالليله تنامون *** يطلَعْكم الله من الكوفه بلدة الشّوم
وانچان يَوْلادي وصلتوا للمدينه *** خبروا محمَّد بالّذي جاري علينا
وگولوا ترى زينب ترَكْناها حزينه *** وذيچ اليتامى بالهجير اتطيح وتگوم
هالبرّ الاقفَر لا نَزِل يوجد ولا بلاد *** خوفي عليكم يا ولادي من ابن زياد
ماظل أحد من عزوتي يطلب هالاولاد *** بس العليل ومدمعه بالخد مسجوم***
خفّف علينا القيد وارحمنا يسجّان *** احنا من اهل بيت النّبي وبينا الدّهر خان
مسلم ابونا والأهل كلهم سلاطين *** جدنا علي صاحب البيعه وخالنا حسين
وذيج العشيره صاح بيها صايح البين *** ظلّوا على حر الثّرى وضاعت النّسوان
ص: 281
واحنا انهزمنا وروّعتنا هجمة الخيل *** بالبرّ توّهنا وعلينا هوّد الليل
ولا درينا اشصار بالنّسوه والعليل *** يقولون جابوهم سبايا لارض كوفان
گلهم شعبتوني وفت گلبي حجيكم *** زغار اويتامى اشحال قلب امكم عليكم
من ايّام يا بعد الأهل مرّوا بسبيكم *** فوق المطايا وخالكم راسه على سنان
بعيني شفت حرّه على ظهر المطيّه *** ذوّبتقلبي تنوح نوح الرّاعبيّه
وكلمن نظرها قال هذي الخارجيّه *** نوبٍ تحن ونوبٍ تباري الرّضعان
و مرّت علَيْ ناقه بلا هودج ولا مهاد *** وحُرمه بظهَرها من النّواعي تفت لَكباد
تنادي شعبني فقد اخوتي وفقد الاولاد *** راحوا اولادي وخايفه غيلة العدوان
ويّا الحرم عاينت شاب مقيّدينه *** يبجي على اهله وبالسّلاسل باهضينه
ص: 282
وكلما يون يوحّش العالم ونينه *** جنّه مريض و من العلّه الجسد نحلان
قلّه على وَصْفَك هالمغلّل بالزّناجيل *** هذا البقيّه من عشيرتنا البهاليل
واللي تحن وتباري النّسوه والعليل *** هاي الوديعه مخدّرة فارس الفرسان
واللي وراها فوق ناقه تجر ونّه *** وتنعى على الأولاد هاي الضّايعه امنا
ياليتنا ابهالخبر لقشر ما سمعنا *** ويا ليت نمنا ويا العشيره ابفرد ميدان
اتوعَّ يَعقلي هجمَت علينا المنيّه *** ما يحصل النا ابهالزّمن نومه هنيّه
كلما طلعنا من بلا شفنا بلايا *** ياليتنا ويّا الأهل صِرنا ضحايا
وياليت ساقونا بيسر ويّا المطايا *** اهون علينا من الحبس ظهر المطيّه
ص: 283
ضعنا يخويه وابتلينا ابّلدة ارجاس *** ضيعه ويتاما وجوع وسط السّجن ياناس
لنّ الرّجس صابه ومنّه كسَّر أضراس *** ودماه فوق الصّدر خلاّها جريّه
وردّ ورفس لاخر وقَلْهُم حان اجلكم *** لشفي غليلي يا يتامى اليوم منكم
متعوب يولاد الخوارج في طلبكم *** قلّه ارحمنا يرحمك ربّ البريّه
لا أهل عِدْنا ولا أبو يثور بطلبنا *** صغار و يتامى وين ما رحنا انتشبنا
متراقب الله اكسب أجر وارحم تعبنا *** عندك ترا احنا ضيوف جينا ابهالعشيّه
ويّاك مَتْقول اشفَعَلْنا من جنايه *** ترفس أخيّي ومنّي تكسّر ثنايا
قلّه عليكم حامت طيور المنايا *** هالرّوس لابن زياد اودّيها هديّه
واحنى الكبير على الصغير بقلب صادي *** و احتضن خيّه والدّمع بالخد بادي
ص: 284
وصاروا بحاله تفتّت قلوب الأعادي *** وذاك الزغيِّر خوف يتلوّذ الخيّه
نطلب يغادي البَخَت منّك أربع خصال *** بلكت تجاوبنا على وحده يرجّال
قلّه اذكرهن قال لابن زياد وَدْنا *** وراقب الهادي وراقب الكرّار جدنا
ساعه ترى من الليل والله ما رقَدنا *** مانهتني بالزّاد بَسْ انقاسي اهوال
مَيْصير قال ابن الخنا قلّه ارحمنا *** احنا ضيوف وملتجين ارحم يتمنا
شبَقّى
علينا الدّهر ماتعاين هضمنا *** قلّه شلون ارحَمكم ومقصودي المال
قلّه ابذلنا ياعديم الفعل للسّوم *** تحصل أضعاف اللّي تأمّل من الميشوم
قلّه مهو لازم ذبحكم واصل اليوم *** قلّه دحِلْ قيدك نصلّي والدّمع سال
ص: 285
صلّوا يويلي والدّمع يجري من العيون *** واحنى على عضيده يون ونّة المطعون
ودّع أخيّه وخاطب الفاجر الملعون *** يقلّه قبل خيّي اذبحني يبن الانذال
قلّه اذبحني ريت يومي قبل يومه *** مقدر أشوفنه مغرّق من دمومه
و لن الزّغير ايصيح و ادموعه سجومه *** قبلك انا مقدر أشوفك فوق لرمال
و الرِّجس من شاف المسابق للمنيّه *** حز راس لَكبر و انجدل جدّام اخيّه
وظلّ يتمرّغ بالدّما سودا عليّه *** ولَصغر وقع فوقه وتخضّب بالدّما وقال
خلني على جثّة عزيز الرّوح ساعه *** بَتْخَضَّبْ بدمّه اتزود من وداعه
مارحم نحباته وفَتَح بالسّيف باعه *** حالاً قطع راسه شمَفْظَعْها من احوال
صرخت بلا شعور العجوز ولطمت الهام *** وخرّت عليهم معولة والدمع سجّام
ص: 286
تصيح الضّيافه هذا تاليها يالايتام *** ياخجلتي من المرتضى خوّاض الاهوال
ظنّيت يحبابي تفوزون بسلامه *** ما جنت اظن ابهاي و ارجع بالنّدامه
بلغوا سلامي الطّهر جدكم يا يتامى *** مقدر أواريكم ترى ما عندي رجال
ص: 287
ص: 288
مقتل أولاد مسلم بن عقيل: أبو مخنف لوط . طبع المطبعة الحيدرية في النجف(1)..
مقتل أولاد مسلم بن عقيل لعلي بن إبراهيم بن الحسن البوري البحراني، طبع انتشارات الشريف الرضي - قم.
غصنان داميان للسيّد جلال بن السيّد جمال أشرف الحسيني.
روى الشيخ الصدوق في الأمالي قال:
حدّثنا أبي (رحمه الله)، قال: حدّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري، عن علي بن جابر، قال:
حدّثني عثمان بن داود الهاشمي، عن محمد بن مسلم، عن حمران بن أعين، عن أبي محمد شيخ لأهل الكوفة، قال:
ص: 289
لمّا قتل الحسين بن علي (علیهما السلام) أسر من معسكره غلامان صغيران، فأتي بهماعبيد الله بن زياد، فدعا سجاناً له، فقال: خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما.
وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح.
فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرّب إليه بمحمد (صلی الله علیه و آله) لعلّه يوسّع علينا في طعامنا، ويزيد في شرابنا.
ص: 290
فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح، فقالله الغلام الصغير: يا شيخ! أتعرف محمداً؟
قال: فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيي!
قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!
قال: أفتعرف علي بن أبي طالب؟
قال: وكيف لا أعرف علياً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيي!
قال له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا.
فانكب الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول:
ص: 291
نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أيّ طريق شئتما.
فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح، ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا - يا حبيبي؟- الليل، واكمنا النهار حتّى يجعل الله - عزّ وجلّ - لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً.
ففعل الغلامان ذلك، فلمّا جنّهما الليل، انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا
ص: 292
الطريق.
فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبيّ، فقد شممت الروائح كلّها، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما.
فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.
قالت العجوز: يا حبيبيّ، إنّ لي ختنا فاسقاً، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما.
قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق.
فقالت: سآتيكما بطعام.
ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا، فلمّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي! إنّا نرجو أن نكون قد أمنّا ليلتنا هذه، فتعال حتّى أعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتك وتشمّرائحتي قبل أن يفرّق الموت بيننا.
ص: 293
ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما.
فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب قرعاً خفيفاً.
فقالت العجوز: من هذا؟
قال: أنا فلان.
قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت؟
قال: ويحك افتحي الباب قبل أن يطير عقلي، وتنشقّ مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي.
قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟
قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد، فنادى الأمير في معسكره:من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء.
ص: 294
فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمد خصمك في يوم القيامة.
قال لها: ويحك إنّ الدنيا محرّص عليها.
فقالت: وما تصنع بالدنيا، وليس معها آخرة؟
قال: إني لأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شيئاًً، فقومي فإنّ الأمير يدعوك.
قالت: وما يصنع الأمير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البريّة؟
قال: إنما لي طلب، افتحي لي الباب حتّى أريح وأستريح، فإذا أصبحت بكّرت في أيّ الطريق آخذ في طلبهما.ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب.
فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين
ص: 295
في جوف البيت، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتّى وقعت يده على جنب الغلام الصغير.
فقال له: من هذا؟
قال: أما أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟
فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنّا نحاذره.
قال لهما: من أنتما؟
قالا له: يا شيخ! إن نحن صدقناك فلنا الأمان؟قال: نعم.
قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمّة الله وذمّة رسوله؟
قال: نعم.
قالا: ومحمد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين؟
قال: نعم.
ص: 296
قالا: والله على ما نقول وكيل وشهيد؟
قال: نعم.
قالا له: يا شيخ! فنحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل.
فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما.
فقام إلى الغلامين فشدّ أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين.
فلمّا انفجر عمود الصبح، دعا غلاماً له أسود، يقال له: فليح، فقال: خذ هذين الغلامين، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب عنقيهما، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
فحمل الغلام السيف، ومشى أمام
ص: 297
الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) !
قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟
قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه،ويريد مولاك قتلنا.
فانكب الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمد (صلی الله علیه و آله) خصمي في القيامة.
ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات، وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني!
فقال: يا مولاي، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله، فإذا عصيت الله، فأنا منك برئ
ص: 298
في الدنيا والآخرة.
فدعا ابنه، فقال: يا بني، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرّص عليها، فخذ هذين الغلامين إليك، فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب عنقيهما وائتنيبرأسيهما، لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.
فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا شاب، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم!
فقال: يا حبيبيّ، فمن أنتما؟
قالا: من عترة نبيك محمد (صلی الله علیه و آله) ، يريد والدك قتلنا.
فانكب الغلام على أقدامهما يقبّلهما، وهو يقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بني عصيتني!
ص: 299
قال: لأن أطيع الله وأعصيك أحبّ إليّ من أن أعصي الله وأطيعك.
قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري، وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطئ الفرات سلّ السيف من جفنه.
فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولاً اغرورقت أعينهما، وقالا له: يا شيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً.
فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟
فقال: ما لكما من رسول الله قرابة.
قالا له: يا شيخ، فائت بنا إلى عبيد الله بن
ص: 300
زياد حتّى يحكم فينا بأمره.قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرّب إليه بدمكما.
قالا له: يا شيخ، أما ترحم صغر سنّنا؟
قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاًً.
قالا: يا شيخ! إن كان ولابد، فدعنا نصلّي ركعات.
قال: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة.
فصلّى الغلامان أربع ركعات، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء، فناديا: يا حيّ يا حليم يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.
فقام إلى الأكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة.
وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه، وهو يقول: حتّى ألقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنا مختضب بدم أخي.
فقال: لا عليك سوف ألحقك بأخيك.
ص: 301
ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنيهما في الماء، وهما يقطران دماً.
ومرّ حتّى أتى بهما عبيد الله بن زياد وهو قاعد على كرسي له، وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد، ثم قام ثم قعد، ثلاثّ.
ثم قال: الويل لك، أين ظفرت بهما؟
قال: أضافتهما عجوز لنا.
قال: فما عرفت لهما حقّ الضيافة؟
قال: لا.
قال: فأيّ شيء قالا لك؟
قال: قالا: يا شيخ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا، فلا ترد أن يكون محمد (صلی الله علیه و آله) خصمك في القيامة.
قال: فأيّ شيء قلت لهما؟
ص: 302
قال: قلت: لا، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم.
قال: فأيّ شيء قالا لك؟
قال: قالا: ائت بنا إلى عبيد الله بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره.
قال: فأيّ شيء قلت؟
قال: قلت: ليس إلى ذلك سبيل إلا التقرّب إليه بدمكما.
قال: أفلا جئتني بهما حيين، فكنت أضعف لك الجائزة، وأجعلها أربعة آلاف درهم؟
قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلاً إلا التقرّب إليك بدمهما.
قال: فأيّ شيء قالا لك أيضاً؟
قال: قال لي: يا شيخ، احفظ قرابتنا منرسول الله.
قال: فأيّ شيء قلت لهما.
قال: قلت: ما لكما من رسول الله قرابة.
ص: 303
قال: ويلك، فأيّ شيء قالا لك أيضاً؟
قال: قالا: يا شيخ، ارحم صغر سنّنا.
قال: فما رحمتهما؟
قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاًً.
قال: ويلك، فأيّ شيء قالا لك أيضاً؟
قال: قالا: دعنا نصلّي ركعات، فقلت: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة، فصلّى الغلامان أربع ركعات.
قال: فأيّ شيء قالا في آخر صلاتهما؟
قال: رفعا طرفيهما إلى السماء، وقالا: يا حيّ يا حليم، يا أحكم الحاكمين، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.قال عبيد الله بن زياد: فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟
قال: فانتدب له رجل من أهل الشام،
ص: 304
فقال: أنا له.
قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه.
ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
وصلّى الله على رسوله محمد وآله الطاهرين وسلّم كثيراً(1).
ص: 305
قال لسان الملك سبهر صاحب ناسخ التواريخ تحت عنوان: ذكر شهادة محمد وإبراهيم أبناء مسلم بن عقيل (علیهم السلام) :
لا يخفى أنّ قصّة شهادة محمد وإبراهيم ابنا مسلم بن عقيل لم أرها في كتب المتقدّمين إلاّ قليلاً، وقد أشار إليها ابن أعثم الكوفي
ص: 306
فقال: إنّه لما حبس ابن زياد هانى ء خرج مسلم من بيته، وجمع إليه شيعته، وأرسل أبناءه إلى بيت شريح القاضي ليكونا في حمايته، ولم يذكر اسمهما ولا قصّة شهادتهما.
وفي العوالم: إنّه بعد قتل الحسين (علیه السلام) أسر ولدا مسلم مع من أسر من أهل البيت، فأخذهما ابن زياد وحبسهما.وذكر في روضة الشهداء قصّة شهادتهما مفصّلة، وكذلك ذكرها مختصرة صاحب حبيب السير عن روضة الشهداء.
ص: 307
وأنا أنقل قصّتهما عن روضة الشهداء بتصرّف لأنّ أسلوبه أسلوب خطابي يناسب مجالس العزاء واستدرار الدموع وإثارة الزفرات، ولا ينسجم مع منهجية المؤرّخين والمحدّثين، فصاحب الروضة قد يستعمل بعض العبارات التي تردها العقول وتلوح للناظر أقرب إلى الفضول، وهو أسلوب منمّق يعتمد التلفيق والتأليف، ويليق بالقراء، وممدوح وجميل في محلّه، أمّا المؤرخ والمحدّث الذي ينقل الأحداث والوقائع المتداولة يداً بيد وصدر بصدر من دون زيادة ولا نقصان، إلاّ أن يعمل فيها بلاغته وأدبه الشخصي لإيضاح غامض، أو فصاحته وبيانه للتعبير عن واقع قد يحتاج إلى تهذيب.
لقد بقي ابنا مسلم في بيت شريح القاضي حتّى استشهد مسلم، فأبلغوا ابن زياد أنّ في البلد أولادمسلم بن عقيل وهما مختفيان،
ص: 308
فأمر ابن زياد أن ينادي المنادي: أنّ من وجد في بيته أولاد مسلم فدمه هدر وداره تهدم وماله ينهب.
فلمّا سمع شريح بذلك جاء إليهما وبكى عندهما بكاءاً شديداً، فقالا له: ما يبكيك؟
فقال: اعلما أنّ مسلماً قد قتل، وأنّه قد ودّع هذه الدنيا الفانية، وسكن في الجنان العالية.
فلمّا سمعا ذلك منه بكيا بكاءاً عالياً وشقّا جيبهما وناديا: وا ابتاه وا غربتاه.
فقال شريح: لا تصرخا ولا ترفعا أصواتكما يا ابني أخي، ولا تسعيا في دماكما ولا في دمي، إنّ ابن زياد يطلبكما، وقد توعّد من يخفيكما وآلى أن لا يستقرّ حتّى يجدكما، فابتلعا غصتهما وكسّرا الصرخات في أعماقهما، وخنقا عبراتهما خوفاً من ابن زياد.
فقال لهما شريح: إنّكما نور عيني ومهجة
ص: 309
قلبي، وقد فكّرت في أمركما، فرأيت أن أرىلكما رجلاً أميناً يأخذكما إلى مدينة جدّكما ويوصلكما إلى أهلكما، ثم إلتفت إلى ولده أسد وقال له: اخرج بهما هذه الليلة إلى خارج الكوفة، وانظر فإنّه بلغني أنّ قافلة تخرج اليوم نحو المدينة، فسلّمهما إلى رجل أمين يوصلهما إلى هناك، ودفع لكلّ واحد منهما خمسين ديناراً.
فلمّا جنّ الليل وعمّ الظلام خرج ابنه أسد بهما إلى خارج المدينة.
فلمّا خرجوا كانت القافلة قد انفصلت وتوغّلت في المسير، فنظر أسد فرأى شبحاً من بعيد، فالتفت إليهما وقال: أرى أنّ هذا الشبح البعيد هو سواد القافلة المنطلقة، فعجّلا بالمسير حتّى تصلا إليها، ثم أرسلهما وقفل راجعاً، فركض أولاد مسلم يتخبّطان في الصحراء يميناً وشمالاً، وهما لا يعرفان
ص: 310
الطريق، فتعبا ولم يدركا القافلة، وضيّعا الطريق، فمضيا حتّى وقعا على جماعة من أهل الكوفة، فعرفوهما فأخذوهما إلى ابن زياد، فأمر بهما فحبسا، ثم كتب إلى يزيد: إنّ ابني مسلم في الحبس فأمر فيهما بأمرك.
أمّا السجّان، وكان يدعى ((مشكور))، فإنّه كان من شيعة أهل البيت(1) (علیهم السلام) ! فإنّه اغتمّ لما يسمع من حنينهم وأنينهم سبع أو ثمان سنين! فخدمهما وهيأ لهما المكان المناسب، وقدّم لهما الطعام والشراب.
ص: 311
وبقي معهما على هذه الحال حتّى أتاهما ذات ليلة وقد جنّ الليل، وتلفّعت الآفاق بسربال الظلام، فقال لهما: اخرجا، فأخرجهما إلى طريق القادسية، ودفع إليهما خاتمه وقال لهما: فليكن هذا علامة عندكما، فاذا بلغتما القادسية اذهبا إلى أخي وادفعاإليه هذا الخاتم ليقوم على خدمتكما، ويسيّركما إلى المدينة.
ثم رجع مشكور وانطلق الغلامان، ولكنّهما سرعان ما ضيّعا الطريق مرّة أخرى، فبقيا يطوفان حتّى أدركهما الصباح، وانبلج نور الفجر، فوجدا أنفسهما على مشارف الكوفة، ولم يتقدّما شيئاًً في الطريق، فخافا خوفاً شديداً أن يقعا مرّة أخرى في يد ابن زياد، فالتفتا يميناً وشمالاً، فوجدا عيناً ونخلاً، فدخلا فيه، وتسلّقا على أغصان شجرة ليستريحا هناك ساعة.
فجاءت أمة لتأخذ الماء من العين، فرأت صورة الغلامين منعكسة في الماء، فكلّمتهما
ص: 312
ولاطفتهما ودعتهما إلى البيت، وأخبرتهما أنّ سيّدتها من محبّي آل محمد (علیهم السلام) ، وأنّها ستفرح بهما أشدّ الفرح، حتّى أقنعتهما وذهبت بهما إلى البيت.
فلمّا رأتهما سيّدتها فرحت بهما فرحاً شديداً، وأعتقت الأمة لوجه الله هدية على فعلها الخير، وأخذت الغلامين إلى موضع في الدار لا يدخله أحد فأخفتهما، وعرضت عليهما الطعام، وأوصتوصيفتها أن لا تخبر زوجها بما جرى، وأن يبقى الأمر سرّاً بينهم.
هذا ما كان من أمر أطفال مسلم، أمّا مشكور السجان، فقد طلبه ابن زياد وسأله عن الغلامين، فقال: أطلقتهما قربة إلى الله تعالى.
فقال ابن زياد: أما خفت منّي؟
قال: أنا لا أخاف إلاّ الله، يا بن زياد
ص: 313
بالأمس قتلت أبوهما، واليوم ماذا تريد بهما وهما طفلان صغيران؟
فغضب ابن زياد غضباً شديداً، فقال: الآن نأمر بك فتضرب عنقك.
فقال مشكور: لا أخسر رأساً ضحّيت به في سبيل المصطفى.
فأمر ابن زياد أن يجلد خمسمائة سوط، ثم يضرب عنقه، فلمّا ضربوه السوط الأوّل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فلمّا ضربوه الثاني قال: اللهم ثبتني وانزل عليّ الصبر، فلمّا ضربوه الثالث قال: اللهم زد حبّي لآل محمد وذرّية نبيك (صلی الله علیه و آله) ،فلمّا ضربوه الرابع والخامس قال: اللهم ألحقني بالمصطفى وآله وذرّيّته، ثم سكت حتّى جلدوه خمسمائة سوط وهو لا يقول شيئاً، فلمّا أتمّوا جلده، قال: اسقوني قليلاً من الماء.
فقال ابن زياد: اضربوا عنقه ولا تسقوه فليمت عطشاناً.
ص: 314
وكان عمرو بن الحارث حاضراً، فتشفّعإلى ابن زياد، فقبل منه ذلك وأطلقه له.
فأخذه إلى بيته، وجعل يعالجه، ففتح مشكور عينيه وقال: السلام عليكم! لقد ارتويت من ماء الكوثر، قال ذلك ثم سلّم روحه إلى بارئها.
أمّا أطفال مسلم، فقد قامت تلك المرأة ووصيفتها على خدمتهما والاهتمام بهما، وقدّمت لهما الطعام والماء، فأكلا وناما.
ثم إنّ ابن زياد نادى في شوارع الكوفة: أنّ من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل فله الجائزة العظمى.
وكان زوج تلك المرأة في جملة من طلبهما، فلمّا جنّ الليل أقبل إلى داره وهو تعبان من كثرة الطلب، فقالت له زوجته الصالحة: أين كنت فإنّي أرى في وجهك آثار التعب؟
ص: 315
قال: قد نادى ابن زياد في أزقة الكوفة: أنّ من جاءني بأولاد مسلم بن عقيل كان له عندي الجائزة العظمى، وقد خرجت في الطلب، فلم أجد لهما أثراً ولا خبراً.
فقالت له زوجته: يا ويلك، أما تخاف من الله؟ما لك وأولاد الرسول؟ تسعى إلى الظالم بقتلهم فلا تغرّنك الدنيا.
قال: أطلب الجائزة من الأمير، وما أنت وهذا الكلام قومي وأحضري لي الطعام فإنّي جائع، فقامت المرأة المسكينة فأحضرت له الطعام فأكل ونام.
أمّا أبناء مسلم فقد استيقظ محمد - وكان الأكبر - من نومه، فقال لأخيه إبراهيم: يا أخي اجلس، فإنّ هلاكنا قد قرب!
فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟
قال: بينما أنا نائم وإذا بأبي واقف عندي
ص: 316
وإذا بالنبي (صلی الله علیه و آله) وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) وسيدة الكونين (علیها السلام) وقوف، وهم يقولون لأبي: ما لك تركت أولادك بين الأعداء؟ فقال لهما أبي: وها هما بأثري قادمين.
فقال له أخوه: والله يا أخي فقد رأيت مثل ما رأيت، فتعانقا، وجعلا يبكيان.
فسمع الحارث بن عروة همهمة بكائهما وهوبين النائم واليقظان، فقال لزوجته: ماهذه الهمهمة؟ فلم تردّ عليه الجواب كأنها لم تسمع، فقعد وطلب مصباحاً، فتناوم أهل البيت كلّهم كأنّهم لم يسمعوا، ولم تعد المرأة تقوى على القيام، فقام واشعل المصباح وأراد فتح الباب، ومانعته فضربها وفتح الباب وإذا بهما يبكيان بصوت عال.
فقال لهما: من أنتما؟
فظنّاه من أهل البيت وهو شيعة لآل محمد (علیهم السلام) فقالا له: إنّنا يتيما مسلم بن عقيل.
فقال الحارث: إنّي أتعبت اليوم فرسي
ص: 317
ونفسي في طلبكما وأنتما عندي وفي بيتي!
ثم إنّه لطمها لطمة أكبتهما على الأرض، وتهشم وجهيهما من شدّة الضربة، ثم إنّه كتفهما كتافاً وثيقاً، وخرج وأحكم عليهما قفل الباب.
فتوسّلت به زوجته وقبّلت يده ورجله ونصحته وخوفته الله ورسوله والآخرة، فلم يقبل منها وكانت كلماتها تمرّ في أذنيه كما يمرّ الماء من الغربال.
فلمّا أصبح الله بالصباح قام الحارث وحملسلاحه، وأخذ أطفال مسلم وخرج إلى شاطى ء النهر ليضرب عنقهما هناك، وخرجت من ورائه زوجته تبكي وتنوح وتتوسّل، وكلّما اقتربت من الحارث هدّدها بالسيف وأرجعها عنه حتّى وصل إلى شاطى ء النهر، فدعا غلامه وأعطاه السيف وقال له: اقتلهما.
فقال الغلام: إنّي أستحي من محمد المصطفى
ص: 318
أن أقتل طفلين بريئين من أهل بيته، لا والله ما فعلت ذلك أبداً.
فقال الحارث: إذن أقتلك أولاً، ثم قصد الغلام، فعلم الغلام أنّ الرحمة نزعت من قلب الحارث، وأنّه مقتول لا محالة، فجعل يدافع عن نفسه، فتصارعا وأخذ كلّ منهم بتلابيب الآخر، حتّى سقط الحارث على الأرض، فأراد الغلام أن يضربه بالسيف، فوثب الحارث فأخذ السيف من يده، فمدّ الغلام يده إلى سيفه فأخرجه من غمده وضرب به الحارث، فراغ عنها وكان الحارث مقاتلاً ماهراً، ثم ضرب الغلام على يده فقطعها، فأمسك به الغلام بيده اليمنى لكي لا يضربه ضربة أخرى.
فبينا هم كذلك إذ وصلت زوجته وابنه، فسارعابنه واحتضن الغلام وقال لأبيه: ماذا تريد بهذا الغلام، فهو أخي وابن أمّي في الرضاعة، فلم يردّ عليه الحارث إلاّ بضربة
ص: 319
سيف أردت الغلام قتيلاً.
ثم قال لابنه: عجّل واضرب عنق الغلامين، فقال له ابنه: لا والله لا أتعرض لآل الرسول بسوء، ولا أمكنك من ذلك، وامرأته قائمة تبكي وتتوسّل إليه وتقول: لماذا تقتل غلامين لم يرتكبا ذنباً، ما ضرّك أن تذهب بهما إلى ابن زياد فيحكم فيهما بحكمه؟
فقال: إنّ شيعة هذين في البلد كثيرون! وأخاف أن أغلب عليهما فأحرم من عطاء الأمير.
ثم حمل سيفه وقصدهما، فتعلّقت به زوجته ووعظته وذكّرته بالآخرة، وتوسّلت إليه أن يرتدع عن هذا الفعل، فغضب الحارث منها وضربها بالسيف، فجرحها جراحة منكرة، فسارع إليه ابنها وأمسك بيده لئلا يتبعها بضربة ثانية تقضي عليها، وقال له: ما لك يا أبة؟ ارجع إلى نفسك، أراك لا تعرف نفسك،
ص: 320
ولا تميز القريب من الغريب.
وكان الغضب قد أعمى الحارث، فرفع سيفه وأهوى به على ابنه فقتله، ثم ركض إلى ابني مسلم كالذئب المتوحّش المجنون، فبكيا وتضرّعا إليه أن يكفّ عنهما فلم يلتفت إليهما، فقالا: إذن دعنا نصلّي ركعات، فقال: لا أدعكما تصلّيان، فكان كلّما أخذ بيد أحدهما ليقتله تعلّق به الآخر وقال: اقتلني قبله فلا طاقة لي على رؤية أخي مذبوحاً، فقتل محمد أوّلاً، ورمى برأسه على التراب، ورمى ببدنه في الماء، فهرول إبراهيم إلى رأس أخيه، فاحتضنه وضمّه إلى صدره وجعل يبكي بكاءاً عالياً، فأخذ الحارث الرأس من إبراهيم فقتله ورمى ببدنه في الماء.
فجعل الحارث رأسيهما في مخلاة وجاء إلى قصر الإمارة، فوضعها بين يدي ابن زياد.
ص: 321
فقال ابن زياد: ما هذا؟
قال: رؤوس أعدائك قطعتها وأتيتك بها لتعطينيالجائزة التي وعدت بها.
فقال ابن زياد: وأيّ عدوّ هذا؟
قال: أبناء مسلم بن عقيل.
فأمر ابن زياد فغسلوهما ووضعوهما في طبق، وجعلوهما أمامه، ثم قال لحارث: ويلك! أما خشيت الله فيهما وهما غلامان صغيران قتلتهما وجئت برأسيهما؟ والحال أنّي قد كتبت إلى يزيد أن يحكم فيهما بحكمه، وقلت له: أردت أن أبعث بهما إليك حيّين، فلو كتب إليّ أن ابعثهما إليّ حيّين فماذا أنا صانع، لم لم تأتيني بهما حتّى أحكم فيهما بحكمي؟
فقال الحارث: خشيت أن يغلبني الناس عليهما فيأخذونهما منّي فأحرم من جائزتك.
فقال ابن زياد: فلو كنت أرسلت إليّ بخبرهما سرّاً فأبعث إليك من تسلّمهما إليه.
ص: 322
فسكت الحارث وبقي مطرقاً برأسه إلى الأرض.
كان لابن زياد نديم يقال له ((مقاتل))، وكانيتشيّع(1)، وكان ابن زياد عالماً بحبّه لأهل البيت إلاّ أنّه كان يتغافل عنه لملاحة كلامه، وجميل عباراته، وحسن معاشرته، فقال له ابن زياد: يا مقاتل عليك بالحارث، فإنّه قتل طفلي مسلم ولم ينتظر فيهما حكمي، فخذه واقتله بأيّ قتلة شئت، في نفس الموضع الذي قتلهما فيه ثم ارم بجثته في الماء.
ففرح مقاتل أيما فرح وقال: والله لو أنّ ابن زياد أعطاني سلطانه لما فرحت به كفرحي بقتل هذا الخبيث.
ص: 323
ثم إنّه أخذه فأوثقه كتافاً، ونزع عمامته من رأسه، وأخذ يجرّه في أسواق الكوفة، ويحدّث الناس بما فعله الخبيث، وهو يحمل رأسي ابني مسلم يعرضهما على الناس ويتظلّم لهما، فكان الناس ينظرون ويسمعون ويبكون ويلعنون الحارث.
فلمّا وصلوا إلى شاطى ء الماء وجدوا غلاماً مقطعاً، وشاباً مقتولاً، وإمرأة مطروحة مجروحة، فتعجّبوا من خبث الحارث، فالتفت الحارث إلىمقاتل فقال له: أطلقني أذهب إلى موضع من الأرض أختفي فيه وأنا أعطيك عشرة آلاف دينار ولا أنسى يدك عندي.
فقال له مقاتل: لو أعطيتني الدنيا بحذافيرها ما أطلقتك وأنا أطلب من الله الجنّة عوضاً عن قتلك.
فلمّا نظر مقاتل إلى موضع قتل الأطفال بكى، وجعل يتمرّغ بدمائهم، ثم أمر غلامه
ص: 324
فقال: اقطع يديه، فقطعها، ثم قال: اقطع رجليه، فقطعها، ثم أمر ففقئت عيناه، وقطعت أذناه، ثم أمر فشقّوا بطنه وحشوها بأعضائه التي قطعوها، وأثقلوه بالحجارة ورموا به في الماء، فلم يقبله الماء، ودفعه إلى الشاطى ء، ففعلوا ذلك ثلاثة والماء لا يقبله، فأثقلوه بالحديد والحجارة وألقوه في البئر، وألقوا عليه الشوك والحشيش والتراب، فلم تقبله الأرض، فأمر فأحرقوه، وذروا رماده في الريح.
وأمّا رأسي ولدي مسلم، فقد رموا بهما إلى الماء، فخرجت أجسادهما من أعماق الماء، وجاءت حتّى اتصلت بها الرؤوس، وتقارب الجسدان حتّى تعانقاومضيا مع تيار الماء(1).
ص: 325
روى خواندامير في حبيب السير ما ترجمته:
وفي الكتاب المذكور أنّ ولدين صغيرين لمسلم بن عقيل يدعى أحدهما محمد والآخر إبراهيم اختفيا في الكوفة في بيت شريح القاضي، وبعد شهادة مسلم قتلا هما أيضاً بيد لعين من خدام ابن زياد يدعى الحارث بن عروة(1)...
ص: 326
قال الطريحي في المنتخب: روي عن أبي مخنف، قال:
لمّا قُتل الحُسين (علیه السلام) ، اُسر من عسكره غلامان صغيران، فاُتي بهما إلى عُبيد الله بن زياد لعنه الله، فدعا بسجّان له وقال له: خُذ هذين الغلامين واسجنهما، ومن طيب الطّعام فلا تطعمهما، ومن بارد الماء فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما.
قال: فأخذهما السّجان ووضعهما في السّجن إلى أن صار لهما سنة كاملة حتّى ضاقت صدورهما، فقال الصّغير للكبير: يا أخي، يوشك أن تُفنى أعمارنا وتُبلى أبداننا في هذا السّجن، أفلم تخبر السّجان بخبرنا ونتقرّب إليه بمُحمّد المُصطفى (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال: هكذا يكون.
فلمّا جنّهما الليل، أتى السّجان إليهما بقرصين من شعير وكوز من ماء، فقام إليه
ص: 327
الصّغير، فقال له: يا شيخ، أتعرف مُحمّد المُصطفى؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو نبيي وشفيعي يوم القيامة!
قال له: يا شيخ، أتعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو إمامي وابن عمّ نبيي!
قال له: يا شيخ، أتعرف مُسلم بن عقيل؟ قال: بلى أعرفه، وهو ابن عمّ رسول الله.
فقال له: يا شيخ، نحن من عترة مُسلم بن عقيل، نسألك من طيب الطّعام فلا تطعمنا، ومن بارد الماء فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا، فما لك وما لنا لا ترحمنا لصغر سنّنا؟ أما ترعانا لأجل سيّدنا رسول الله؟
فلمّا سمع السّجان كلامهما، بكى بكاءاً شديداً وانكبّ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء وروحي لروحكماالوقا! يا عترة مُحمّد المُصطفى، والله لا يكون مُحمّد خصمي في القيامة، هذا باب السّجن
ص: 328
مفتوح فخذوا أيّ طريق شئتما، يا حبيبيّ سيروا بالليل واكمنا بالنّهار.
قال: فلمّا خرجا لم يدريا إلى أيّ جهة يمضيان، فلمّا جهجه الصّبح عليهما، دخلا بستاناً وصعدا على شجرة واكتنّا بها.
فلمّا طلعت الشّمس، وإذا بجارية قد رأتهما، فأقبلت إليهما وسألتهما عن حالهما وطيب قلوبهما، وقالت لهما: سيرا معي إلى مولاتي فإنّها محبّة لكما.
فسارا معها، فسبقتهم الجارية فأعلمت مولاتها، فلمّا سمعت بهما، قامت حافية إليهما واستقبلتهما بالبشرى، وقالت لهما: ادخلا على رحب وسعة.
فلمّا دخلا، أنزلتهما في مكان لم يدخلإليه أحد من النّاس، وخدمتهما خدمة تليق بهما.
ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله نادى في شوارع الكوفة: أنّ مَن جاءني بأولاد مُسلم بن عقيل، فله الجائزة العظمى.
ص: 329
وكان زوج تلك المرأة من جملة من طلبهما، فلمّا جنّ الليل، أقبل اللعين إلى داره وهو تعبان من كثرة الطّلب، فقالت له زوجته الصّالحة: أين كُنت، فإنّي أرى في وجهك آثار التّعب؟
قال: إنّ ابن زياد قد نادى بأزقّة الكوفة: أنّ مَن جاءني بأولاد مُسلم بن عقيل، كان له عندي الجائزة العظيمة، وقد خرجت في الطّلب فلم أجد لهما أثراً ولا خبراً.
فقالت له زوجته: يا ويلك! أما تخاف من الله! ما لك وأولاد الرّسول تسعى إلى الظّالمبقتلهم، فلا تغرّنّك الدُنيا.
قال: أطلب الجائزة من الأمير.
قالت: تكون أقلّ النّاس وأحقرهم عنده إن سعيت بهذا الأمر!
فبينما هو بين النّائم واليقظان، إذ سمع الهمهمة من داخل البيت، فقال لزوجته: ما هذه الهمهمة؟ فلا تردّ عليه الجواب كأنّها لا
ص: 330
تسمع، فقعد وطلب مُصباحاً، فتناوم أهل البيت كأنّهم لم يسمعوا، فقام وأشعل المصباح وأراد فتح الباب، فقالت له زوجته: ما تريد من فتح الباب؟ ومانعته، فقاتلها ومانعها وفتح الباب، وإذا بأحد الولدين قد انتبه، فقال لأخيه: يا أخي، اجلس فإنّ هلاكنا قد قرب.
فقال له أخوه: وما رأيت يا أخي؟
قال: بينما أنا نائم، وإذا بأبي واقف عندي، وإذا بالنّبي (صلی الله علیه و آله) وعليّوالحسن والحُسين وقوف وهم يقولون لأبي: ما لك تركت أولادك بين الكلاب والملاعين؟ فقال لهما أبي: وها هُما بأثري قادمين.
فلمّا سمع الملعون كلامهما، جاء إليهما وقال لهما: مَن أنتما؟
قالوا: من آل الرّسول.
[قال]: ومَن أبوكم؟
قالوا: مُسلم بن عقيل.
ص: 331
فقال الملعون: إنّي أتعبت اليوم فرسي ونفسي في طلبكما وأنتما عندي.
ثمّ إنّه لطم الأكبر منهما لطمة أكبّه على الأرض حتّى تهشّم وجهه وأسنانه من شدّة الضّربة، وسال الدّم من وجهه وأسنانه، ثمّ إنّه كتّفهما كتافاً وثيقاً.
فلمّا نظرا إلى ما فعل به [بهم] اللعين، قالا: ما لك يا هذا تفعل بنا هذا الفعل،وامرأتك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت هكذا تفعل بنا؟ أما تخاف الله فينا؟ أما تراعي يتمنا وقربنا من رسول الله؟
فلم يعبأ اللعين بكلامهما ولا رحمهما ولا رقّ لهما، ثمّ دفعهما إلى خارج البيت، وبقيا مكتّفين إلى الفجر وهُما يتوادعان ويبكيان، لما جرى عليهما.
وأمّا الملعون، فلمّا أصبح الصّبح، أخرجهما من داره وقصد بهما جانب الفُرات ليقتلهما، وزوجته وولده وعبده خلفه، وهم يخوّفونه
ص: 332
الله تعالى ويلومونه على فعله، فلم يرتدع اللعين ولم يلتفت إليهم حتّى وصلوا إلى جانب الفُرات، فأشهر اللعين سيفه لقتلهما، فوقعت زوجته على يديه ورجليه تقبّلهما وتقول له: يا رجل، اعف عن هذين الولدين اليتيمين، واطلب من الله الذي تطلبه من أميرك عُبيدالله بن زياد، فإنّ الله يرزقك عوض ما تطلبه منه أضعافاً مضاعفة، فزعق الملعون عليها زعقة الغضب حتّى طار عقلها وذهل لبّها.
ثمّ قال للعبد: يا أسود، خُذ هذا السّيف واقتل هذين الغلامين، وائتني برأسيهما حتّى انطلق بهما إلى عُبيد الله بن زياد، وآخذ جائزتي منه ألفي درهماً وفرساً.
فلمّا همّ بقتلهما، قال له أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، يا أسود، ما لك وما لنا حتّى تقتلنا؟ امض عنّا حتّى لا نطالبك بدمنا عند
ص: 333
رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
فقال لهما الغلام [العبد]: يا حبيبيّ! مَن أنتما؟ فإنّ مولاي أمرني بقتلكما.
فقالوا: يا أسود، نحن من عترة نبيّك مُحمّد(صلی الله علیه و آله) ، نحن أولاد مُسلم بن عقيل، أضافتنا عجوزكم هذه الليلة ومولاك يريد قتلنا.
قال: فانكبّ العبد على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء وروحي لروحكما الوقاء يا عترة مُحمّد المُصطفى! والله لا يكون مُحمّد خصمي يوم القيامة.
ثمّ رمى السّيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفُرات، وعبر إلى الجانب الآخر.
فصاح به مولاه: عصيتني؟!
فقال: اطعتك ما دمت لا تعصي الله، فلمّا عصيت الله عصيتك، أحبّ إليّ من أن أعصي الله وأطيعك.
فقال اللعين: والله، ما يتولّى قتلكما أحد
ص: 334
غيري.
فأخذ السّيف وأتى إليهما وسلّ السّيفمن جفنه، فلمّا همّ بقتلهما، جاء إليه ولده وقال له: يا أبه، قدّم حلمك وأخّر غضبك، وتفكّر فيما يصيبك في القيامة.
قال: فضربه بالسّيف فقتله.
فلمّا رأت الحُرمة ولدها مقتولاً، أخذت بالصّياح والعويل.
قال: فتقدّم الملعون إلى الولدين، فلمّا رأياه تباكيا ووقع كلّ منهما على الآخر يودّعه ويعتنقه، والتفتا إليه وقالا له: يا شيخ، لا تدعنا نطالبك بدمائنا عند جدّنا يوم القيامة، خذنا حيّين إلى ابن زياد يصنع بنا ما يريد.
فقال: ليس إلى ذلك سبيل.
فقالا له: يا شيخ، بعنا في السّوق وانتفع بأثماننا ولا تقتلنا.
فقال: لابدّ من قتلكما.
قالا له: يا شيخ، ألا ترحم يتمنا وصغرنا؟
ص: 335
فقال لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرّحمة شيئاًً.
فقالا: يا شيخ، دعنا نصلّي كلّ منّا ركعتين.
قال: صلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصّلاة.
قال: فصلّيا أربع ركعات، فلمّا فرغا رفعا طرفيهما إلى السّماء وبكيا وقالا: يا عادل يا حكيم، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.
ثمّ قالا له: يا هذا، ما أشدّ بغضك لأهل البيت؟
فعندها عمد الملعون وضرب عنق الأكبر، فسقط إلى الأرض يخور في دمه، فصاح أخوه وجعل يتمرّغ بدم أخيه وهو ينادي: وا أخاه! وا قلّة ناصراه! وا غربتاه! هكذا ألقى الله وأنا متمرّغ بدم أخي.
فقال له الملعون: لا عليك سوف ألحقك بأخيك في هذه السّاعة.
ثمّ ضرب عنقه، ووضع رأسيهما في المخلاةورمى أبدانهما في الفُرات، وسار بالرّأسين إلى
ص: 336
عُبيد الله بن زياد، فلمّا مثل بين يديه، وضع المخلاة فقال له: ما في المخلاة يا هذا؟
قال: رؤوس أعدائك أولاد مُسلم بن عقيل.
فكشف عن وجهيهما، فإذا هُما كالأقمار المشرقة، فقال: لِمَ قتلتهما؟ قال: بطمع الفرس والسّلاح.
فقام ابن زياد ثمّ قعد ثلاثاً وقال: ويلك وأين ظفرت بهما؟!
قال: في داري، وقد أضافتهم عجوز لنا.
فقال ابن زياد: أفلا عرفت لهما حقّ الضّيافة وأتيت بهما حيّين إليّ؟
فقال: خشيت أن يأخذهما أحد منّي ولا أقدر على الوصول إليك.
فأمر ابن زياد أن يغسلوهما من الدّم، فلمّاغسلوهما واُتي بهما إليه ونظرهما، تعجّب من حسنهما وقال له: يا ويلك! لو أتيتني بهما حيّين، لضاعفت لك الجائزة.
ص: 337
فتعذّر بعذره الأوّل.
ثمّ قال له: يا ويلك! حين أردت قتلهما ما قالا لك؟
قال، قالا لي: يا شيخ، ألا تحفظ قرابتنا من رسول الله؟
قال: فما قُلت لهما؟
قال: قُلت لهما: ما لكما من رسول الله قرابة.
قال: فماذا قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: ألا ترحم صغر سنّنا؟
فقلت لهما: ما جعل الله لكما في قلبي من الرّحمة شيئاًً.قال: فما قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: امض إلى السّوق فبعنا وانتفع بأثماننا؟
فقلت لهما: لا بدّ من قتلكما.
قال: فماذا قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: ألا تمضي بنا إلى ابن زياد
ص: 338
يحكم فينا بأمره؟
فقلت لهما: ليس إلى ذلك من سبيل.
قال: فماذا قالا لك أيضاً؟
قال: قالا لي: دعنا نُصلي كلّ واحد منّا ركعتين؟
فقلت لهما: فصلّيا إن نفعتكما الصّلاة.
فصلّيا أربع ركعات، فلمّا فرغا من الصّلاة، رفعا طرفيهما إلى السّماء ودعيا وقالا: يا حي يا حكيم، أحكم بيننا وبينه بالحقّ.
ثمّ نظر ابن زياد إلى ندمائه وكان فيهممحبّ لأهل البيت، وقال له: خُذ هذا الملعون وسر به إلى موضع قتل فيه الغلامين، واضرب عنقه ولا تدع أن يختلط دمه بدمهما، وخُذ هذين الرّأسين وارمهما في موضع رمي به أبدانهما.
قال: فأخذه وسار به وهو يقول: والله، لو أعطاني ابن زياد جميع سلطنته، ما قابلت هذه العطية.
ص: 339
وكان كلّما مرّ بقبيلة، أراهم الرّأسين وحكى لهم بالقصّة، وما يريد يفعل بذلك اللعين.
ثمّ سار به إلى موضع قتل فيه الغلامان، فقتله بعد أن عذّبه بقطع عينيه وقطع أذنيه ويديه ورجليه ورمى بالرّأسين في الفُرات.
قال: فخرجت الأبدان وركبت الرّؤوس عليها بقدرة الله تعالى، ثمّ تحاضنا وغاصا فيالفُرات.
ثمّ إنّ ذلك الرّجل المحبّ أتى بالرّأس - رأس ذلك اللعين - فنصبه على قناة وجعل الصّبيان يرجمونه بالحجارة.
ألا لعنة الله على القوم الظّالمين ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾(1)..
ص: 340
وقد كان ابنا عبد الله بن جعفر، لجئا إلى امرأة عبد الله بن قطبة الطائي، ثم النبهاني، وكانا غلامين لم يبلغا، وقد كان عمر بن سعد أمر مناديا فنادى:
من جاء برأس فله ألف درهم، فجاء ابن قطبة إلى منزله، فقالت له امرأته: إنّ غلامين لجئا إلينا، فهل لك أن تشرف بهما، فتبعث بهما إلى أهلهما بالمدينة قال: نعم، أرنيهما.
فلمّا رآهما ذبحهما، وجاء برؤوسهما إلى عبيد الله بن زياد، فلم يعطه شيئاً، فقال عبيد الله: وددت أنّه كان جاءني بهما حيّين، فمننت بهما على أبي جعفر - يعني عبد الله بن جعفر -.
وبلغ ذلك عبد الله بن جعفر، فقال:وددت
ص: 341
أنّه كان جاءني بهما، فأعطيته ألفي ألف(1).
ولجأ ابنان لعبد الله بن جعفر إلى رجل من طي، فضرب أعناقهما وأتى ابن زياد برؤوسهما!!! فهم (ابن زياد) بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت(2).
فانطلق غلامان منهم لعبد الله بن جعفر - أو ابن ابن جعفر - فأتيا رجلاً من طي، فلجاءا إليه، فضرب أعناقهما، وجاء برؤوسهما حتّى وضعهما بين يدي ابن زياد،قال: فهمّ بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت(3).
ص: 342
وأخبرنا الشيخ الإمام سعد الأئمّة سعيد بن محمّد بن أبي بكر الفقيمي إذناً، أخبرنا مجد الأئمّة أبو الفضل محمّد بن عبد الله السرخشكي، أخبرنا أبو نصر محمّد بن يعقوب، أخبرنا أبو عبد الله طاهر بن محمّد الحدادي، أخبرنا أبو الفضل محمّد بن علي بن نعيم، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن الحسين بن علي، حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن يحيى الذهلي قال:
لمّا قتل الحسين (علیه السلام) بكربلا هرب غلامان من عسكر عبيد الله بن زياد، أحدهمايقال له ((إبراهيم))، والآخر يقال له ((محمّد)) من ولد جعفر الطيّار في الجنّة، فإذا هما بامرأة تستسقي، فنظرت إلى الغلامين وإلى حسنهما وجمالهما، فقالت لهما: من أنتما؟ ومن أين أنتما؟
فقالا: نحن من ولد جعفر الطيّار في الجنّة، هربنا من عسكر عبيد الله بن زياد.
ص: 343
فقالت المرأة: إنّ زوجي في عسكر عبيد الله بن زياد، ولولا أنّي أخشى أن يجيء الليلة لأضفتكما وأحسنت ضيافتكما.
فقالا لها: انطلقي بنا، فنرجو أن لا يأتي زوجك الليلة.
فانطلقت المرأة والغلامان حتّى انتهت بهما إلى منزلها، فأدخلتهما وأتتهما بطعام، فقالا: ما لنا في الطعام من حاجة، ائتنا بمصلّى نقضي نوافقنا؟؟؟؟، فأتتهما بمصلّى، فصلّياوانطلقا إلى مضجعهما.
فقال الأصغر للأكبر: يا بن أمّي! التزمني وانتشق من رائحتي، فإنّي أظنّ أنّ هذه الليلة آخر ليلة، فلا نمسي بعدها.
فاعتنق الغلامان وجعلا يبكيان، فبينما هما كذلك، إذ أقبل زوج المرأة فقرع الباب، فقالت المرأة: من هذا؟ فقال: افتحي الباب.
فقامت ففتحت الباب، فدخل زوجها ورمى سلاحه من يديه، وقلنسوته من
ص: 344
رأسه، وجلس مغتمّاً حزيناً، فقالت له امرأته: ما لي أراك مغتمّاً حزيناً؟
قال: فكيف لا أحزن، وإنّ غلامين قد هربا من عسكر عبيد الله، وقد جعل لمن جاء بهما عشرة آلاف درهم، وقد بعثني خلفهما فلم أقدر عليهما.
فقالت امرأته: اتّق الله يا هذا ولا تجعلخصمك محمّداً (صلی الله علیه و آله) .
فقال لها: اعزبي عنّي، فو الله لا أعرف لهما من رسول الله منزلة، فائتني بطعامي، فأتته بالمائدة ووضعتها بين يديه، فأهوى يأكل منها، فبينا هو يأكل إذ سمع هينمة الغلامين في جوف الليل، فقال: ما هذه الهينمة؟
قالت: لا أدري.
قال: ائتيني بالمصباح حتّى أنظر.
فأتته به، فدخل البيت فإذا هو بالغلامين، فعرفهما فوكزهما برجله وقال: قوما، من أنتما؟ ومن أين جئتما؟
ص: 345
قالا: نحن من ولد جعفر الطيّار في الجنّة، هربنا من عسكر ابن زياد.
فقال لهما: من الموت هربتما وفي الموت وقعتما.
فقالا له: يا شيخ! اتّق الله وارحم شبابنا،واحفظ قرابتنا من رسول الله.
فقال لهما: دعا هذا، فو الله لا أعرف لكما قرابة من رسول الله، فأقامهما وشدّ كتفيهما، ودعا بغلام له أسود، فقال له: دونك هذين الغلامين، فانطلق بهما إلى شطّ الفرات، واضرب أعناقهما، وأنت حرّ لوجه الله!!
فتناول الغلام السيف وانطلق بهما، فلمّا كان في بعض الطريق، قال له أحدهما: يا أسود! ما أشبه سوادك بسواد بلال خادم جدّنا رسول الله!
قال لهما: من أنتما من رسول الله؟
قالا: نحن من ولد جعفر الطيّار في الجنّة ابن عمّ رسول الله.
ص: 346
فألقى الأسود السيف من يده وألقى نفسه في الفرات، وكان مولاه اقتفى أثره، وقال: يامولاي! أردت أن تحرقني بالنار، فيكون خصمي محمّد (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة.
فقال له: عصيتني يا غلام؟
فقال الغلام: لأن أطيع الله وأعصيك أحبّ إليّ من أن أطيعك وأعصي الله!
فلمّا نظر إلى الغلام وحالته علم أنّه سيهرب، فدعا بابن له فقال: دونك الغلامين فاضرب أعناقهما ولك نصف الجائزة.
فتناول الشاب السيف وانطلق بهما، فقالا له: يا شاب! ماذا تقول لرسول الله غداً، بأيّ ذنب قتلتنا وبأيّ جرم؟
فقال: من أنتما؟
قالا: نحن من ولد جعفر الطيّار في الجنّة، ابن عمّ رسول الله.
فألقى الشاب نفسه في الماء، وقال: يا أبة! أردت أن تحرقني بالنار ويكون محمّد
ص: 347
خصمي! فاتّق الله يا أبة وخلّ عن الغلامين.
قال: يا بني! عصيتني؟
فقال: يا أبة! لأن أعصيك وأطيع الله أحبّ إليّ من أطيعك وأعصي الله.
فلمّا نظر الشيخ أنّ ابنه أبى ذلك كما أباه العبد، تناول السيف بيده وقال: والله لا يلي هذا أحد سواي.
ثمّ انطلق بالغلامين، فلمّا نظرا ذلك آيسا من الحياة، فقالا له: يا شيخ! اتّق الله فينا! فإن كان تحمّلك على قتلنا الحاجة فاحملنا إلى السوق ونقرّ لك بالعبوديّة، فبعنا واستوف ثمننا.
قال: لا تكثرا! فو الله لا أقتلكما للحاجة، ولكنّي أقتلكما بغضاً لأبيكما ولأهل بيت محمّد.
ثمّ هزّ السيف وضرب عنق الأكبر ورمىبدنه بالفرات، فقال الأصغر: سألتك بالله أن تتركني أتمرّغ بدم أخي ساعة، ثمّ افعل
ص: 348
ما بدا لك.
قال: وما ينفعك ذلك؟
قال: هكذا أحبّ.
فتمرّغ بدم أخيه إبراهيم ساعة، ثمّ قال له: قم! فلم يقم، فوضع السيف على قفاه وذبحه من القفا ورمى ببدنه إلى الفرات، وكان بدن الأوّل طافياً على وجه الفرات، فلمّا قذف الثاني أقبل بدن الأوّل راجعاً يشقّ الماء شقّاً حتّى اعتنق بدن أخيه والتزمه، ووسبا في الماء.
وسمع الشيخ صوتاً من بينهما في الماء منهما يقول: يا ربّنا! تعلم وترى ما فعل بنا هذا الظالم، فاستوف حقّنا منه يوم القيامة.
ثمّ أغمد سيفه وحمل الرأسين وركب فرسه حتّى أتى بهما عبيد الله بن زياد، فلمّا نظرعبيد الله إلى الرأسين، قبض على لحية الرجل وقال له: سألتك بالله ما قال لك الغلامان؟
قال: قالا لي: يا شيخ! اتّق الله وارحم
ص: 349
شبابنا.
فقال له: ويحك! لم لم ترحمهما؟
فقال له: لو رحمتهما ما قتلتهما.
فقال عبيد الله: لما كنت لم ترحمهما فإنّي لا أرحمك اليوم.
ثمّ دعا بغلام أسود له يسمّى نادراً، فقال: يا نادر! دونك هذا الشيخ، فانطلق به إلى الموضع الذي قتل الغلامين فيه، فاضرب عنقه، ولك سلبه، ولك عندي عشرة آلاف درهم التي أجزتها، وأنت حرّ.
فشدّ نادر كتفيه وانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين.
فقال الشيخ: يا نادر! لابدّ لك من قتلي؟قال: نعم.
قال: أفلا تقبل منّي ضعف ما أعطيت؟
قال: لا!
ثمّ ضرب عنقه ورمى بجيفته إلى الماء، فلم يقبله، ورمى به إلى الشطّ، فأمر عبيد الله
ص: 350
بحرقه فأُحرق.
فهذا وأمثاله من الآيات التي ظهرت بقتل الحسين (علیه السلام) ، ويجوز مثل هذا، وقد أخبر به الرسول (صلی الله علیه و آله) (1).
وانطلق ابنان لعبد الله بن جعفر، فلجآ إلى رجل من طيء فذبحهما وجاء برؤوسهما حتّى وضعهما بين يدي ابن زياد، فأمر بضربعنقه، وأمر بداره فهدمت(2).
أمّا الشهيدان بالعتيكيات من أرض المسيب، وشرحنا قصة قتلهما في كتابنا
ص: 351
الأمالي المنتخبة وكتابنا أعلام النهضة الحسينية وكتابنا المستدرك على مقاتل الطالبيين، وأمرهما مشهور، ويختلف فيهما من ناحية الأولى هل هما من ولد عبد الله بن جعفر الطيار كما هو رأي الطبري المؤرخ، أم هما من ولد مسلم بن عقيل كما هو قول الصدوق وهو الأقوى والأشهر.الثانية: في اسم القتيلين وأحدهما إبراهيم اتفاقاً والثاني هل هو عبد الرحمن أم محمد أم جعفر في ذلك أقوال.
وهذان الغلامان ذبحا على شطّ الفرات على الراجح من الأقوال.
ويظهر من جميع الروايات الواردة في هذه الفاجعة المحزنة أنهما رميا في الفرات بعد الذبح وغاصا في الفرات ولم يظهرا حتّى يدفنا.
وأمّا القبتان المشيدتان اليوم في المسيب باسم ولدي مسلم لعلّهما شيّدا في موضع
ص: 352
سجنهما أو موضع ذبحهما على هذا الجدول الشارع إلى الفرات، والذي باشر قتلهما رجل طائي من أجناد ابن زياد، وقصّة أخذهما مختلف فيهما
فقيل: أنهما مع أبيهما، فأخذا وسجنا، ثم فرّا من السجن، وهذا بعيد عن الصواب.وقيل: أسرا في عسكر الحسين (علیه السلام) وسجنا، ثم فرّا، وهذا بعيد أيضاً، لأنّ الأسراء من صبيان بني هاشم لم يسجن منم أحد حتّى رجعوا مع السبايا إلى المدينة.
والأصوب أنهما فرا دهشة وذعراً عند هجمة الخيل بعد قتل الحسين (علیه السلام) فانتهى بهما الفرار إلى العتيكيات لقرب المسيب من أرض كربلاء، فأضافتهما امرأة ذلك الشقي، وجرت الجريمة الفاضحة على يد زوجها الشقي الذي خسر دنياه وآخرته، ونال الخزي المؤبد والوبل الطويل...
ص: 353
وأمّا الغلامان الصغيران اللذان قتلا في الكوفة، فقد ذهب بعض أرباب المقاتل إلى أنهما كانا من ولد مسلم بن عقيل وأنهما بقياسنة في السجن ثم قتلا نقلاً عن الصدوق في أماليه لكنّه ممّا لا يساعده الاعتبار. (1)
506 - إبراهيم بن مسلم بن عقيل: وأخوه محمد الشهداء بالكوفة على ما هو المشهور، وقبرهما معروف قريب من كربلاء وتشرفت بحمد الله تعالى بزيارتها . (2)
ص: 354
وأمّا ولداه الآخران: إبراهيم ومحمد الأصغر على ما أسماهما الصدوق، فكانا مع الحسين (علیه السلام) وأهل بيته يوم الطف، وعمرأحدهما سبع سنين وعمر الآخر ثمانية. (1)
ابنا عبد الله عبد الله بن جعفر بن أبي طالب = إبراهيم ومحمد ابنا مسلم بن عقيل بن أبي طالب:
ذكرهما ابن سعد في الحسين (علیه السلام) /77، والبلاذري، جمل من أنساب الأشراف، 3/424، وابن عديم في بغية الطالب، 6/2636 - 2638، ذكرنا ترجمتهما في المجلد 14 (2)...
ص: 355
ص: 356
المقدمة
أمّا بعد: 24
خروجهما من المدينة26
خبر شهادة أبيهما28
ليلة العاشر 32
يوم عاشورا 34
مصيبة أمّهما36
خبر شهادتهما 38
ابنا مسلم أو ابنا جعفر 40
القسم الأوّل: ابنا مسلم بن عقيل 40
القسم الثاني: ابنا عبد الله بن جعفر 41
معالجة الأخبار: 43
ص: 357
المعالجة الأولى: تكرّر الفاجعة 43
الشاهد الأوّل: اختلاف اسم القاتل 43
الشاهد الثاني: اختلاف المطالب بهما 44
الشاهد الثالث: زمان وقوع المصيبة 44
الشاهد الرابع:اختلاف موقف ابن زياد 45
الشاهد الخامس: تعليق ابن زياد46
الشاهد السادس: تعليق ابن جعفر 46
خبر الخوارزمي:46
المعالجة الثانية: ترجيح خبر ابني مسلم 48
المرجّح الأوّل: المصادر الشيعية 49
المرجّح الثاني: الشهرة بين الشيعة 50
المرجّح الثالث: الواقع الخارجي 51
المرجّح الرابع: من حضر من أولاد جعفر في كربلاء 51
المناقشة الأولى53
المناقشة الثانية:54
المعالجة الثالثة: أبناء مسلم أسباط جعفر 58
ص: 358
عمرهما: 60
إلقاء القبض عليهما61
إلقاء القبض الأوّل: 61
الخبر الأوّل:61
التصوّر الأوّل: أسرا مع عيال الحسين (علیه السلام) 62
التصوّر الثاني: دخلا الكوفة مع أبيهما 63
أوّلاً: خروج مسلم (علیه السلام) من مكة 66
ثانياً: لماذا خرجا مسلم (علیه السلام) بهما؟ 66
ثالثاً: لماذا يدفعهما إلى شريح؟ 67
رابعاً: تفرّد الكاشفي68
التصوّر الثالث: اقتضاب الخبر 68
إلقاء القبض الثاني:70
السجن 71
الأمر الأوّل: الأخذ 71
الأمر الثاني: الحرمان من الطیب الطعام 72
الأمر الثالث: الحرمان من بارد الماء 72
الأمر الرابع: التضييق 73
السجّان 74
ص: 359
الصورة الأولى: 74
الصورة الثانية: 75
مدّة السجن 78
الحوار مع السجّان82
الإفادة الأولى: آثار السجن 83
الإفادة الثانية: غاية ما تمنّياه 84
الإفادة الثالثة: تفقدهما! 85
الإفادة الرابعة: التدرّج في التعريف 85
الإفادة الخامسة: بدء الاحتجاج 93
موقف الشيخ السجّان!95
مقدار مسيرهما98
لقاء العجوز 101
أمنا فناما 106
جاء المجرم الخبيث109
أوّلاً: 112
ثانياً: 112
ثالثاً: 112
رابعاً: 113
ص: 360
خامساً: 113
سادساً: 114
سابعاً: 115
رؤيا مشتركة:116
وقعا فيما يحذران118
الأمان! 124
جواب الرجس 129
ليلة الوداع 130
أين قتلا 132
موقف المرأة المضيفة133
موقف الغلام والولد136
ملاحظتان: 141
الملاحظة الأولى: تقديم خبر الكاشفي 141
الملاحظة الثانية: لماذا لم يباشر المجرم القتل بنفسه 143
اللحاظ الأوّل: باعتباره شخصيّاً143
اللحاظ الثاني: باعتبار العمل نفسه 144
اللحاظ الثالث: عقدة التأمّر 147
ص: 361
شهادتهما 148
أوّلاً: إثارة العاطفة 151
ثانياً: تقديم البديل 152
ثالثاً: العاطفة الدينية 153
رابعاً: البديل الآخر 156
خامساً: العاطفة مرّة أخرى 157
سادساً: الوازع الديني 158
سابعاً: التهديد بالجبار المنتقم 159
ثامناً: العاطفة من خلال المنظر الفجيع 160
تاسعاً: العاطفة والحميّة 162
دوافع القاتل164
الدافع الأوّل: 167
الدافع الثاني: 167
موقف ابن زياد170
دوافع موقف ابن زياد 172
الدافع الأوّل: استجابة الدعاء 173
الدافع الثاني: تخييب الجاني 173
الدافع الثالث: أخلاق الطاغوت 174
ص: 362
الدافع الرابع: ظروف المشهد 176
لفتة: 176
الدافع الخامس: الرياء والتظاهر 178
عاقبة القاتل182
رأس القاتل 185
عرضه المال 185
فورية استجابة الدعاء 186
الانتقام في نفس الموضع 187
فضيحة الدنيا 188
قاتل القاتل 189
خبر شاذ: قتلا مع أبيهما
خبر آخر عن أبي مخنف
تاريخ شهادتهما
ص: 363
قول بلا اعتبار
قبرهما
رثاؤهما
للشيخ علي ابن الحاج حسن الجشي في رثاء ابني مسلم (علیه السلام) : 273
للشيخ أبي عزيز الهنداوي حفظه الله: 278
للملا عطية الجمري:280
وقوعهما في قبضة السجّان 281
خطابهما لقاتلهما 283
قتل الشقي لهما 285
بعض المؤلفات في أولاد مسلم
مواد البحث
ولدا مسلم بن عقيل 289
رواية الشيخ الصدوق: 289
ص: 364
[السند] 289
[السجن] 290
[محاججة السجّان]291
[إطلاقهما من السجن] 292
[في استضافة العجوز] 292
[وصول الخبيث]294
[هجوم الخبيث عليهما] 295
[أمر الغلام والولد بذبحهما] 297
[ذبحهما!]300
[الرأسان عند ابن زياد] 302
[عقاب الخبيث في الدنيا] 304
رواية الكاشفي ولسان الملك سبهر: 306
حكم ابن زياد في ابني مسلم:
السجّان يطلق سراحهما: 311
قتل مشكور السجان: 313
أطفال مسلم في بيت الحارث: 315
وقوع أطفال مسلم بيد الحارث: 316
مقتل أطفال مسلم:
حمل الحارث الرؤوس إلى ابن زياد: 321
قتل الحارث بأمر ابن زياد: 323
ص: 365
رواية حبيب السير: 326
رواية الطريحي: 327
ولدا عبد الله بن جعفر 341
روى ابن سعد في الطبقات: 341
البلاذري: 342
الطبري: 342
الخوارزمي، المجلسي: 343
ابن عديم: 351
سفیر الحسین علیهما السلام للمظفر: 351
موسوعة الإمام الحسين عن العيون العبرى للميانجي: 47: 354
مستدركات علم رجال الحديث للنمازي: 354
المقتل للسیّد بحر العلوم: 355
موسوعة الإمام الحسين علیه السلام: 355
ص: 366