بسم الله الرحمن الرحیم

الطبعه الأولی

1425 ه - 2005 م

العنوان : الإیضاح فی شرح المفصل

المؤلف : ابن الحاجب

المحقق : أ . د . إبراهیم محمد عبد الله

عدد الصفحات الجزء الأول : 724

عدد الصفحات الجزء الثانی : 704

قیاس الصفحه : 17 . 5 * 25

موافقه الطباعه : 77946 تاریخ 4 / 8 / 2004

عدد النسخ : 1000 نسخه

جمیع الحقوق محفوظه للدار

یمنع طبع هذا الکتاب أو جزء منه بکل طرق الطبع والتصویر والنقل والترجمه والتسجیل المرئی والمسموع والحاسوبی وغیرها من الحقوق إلا بإذن خطی من الناشر .

دار سعد الدین

للطباعه والنشر والتوزیع

دمشق - عین الکرش - جاده کرجیه حداد

ص ب 3143 تلیفاکس : 2319694

ص: 2

الإیضاح فی شرح المفصل

لابن الحاجب أبی عمر وعثمان بن أبی بکر بن یونس الدونی

570 ه - 646 ه

تحقیق

الأستاذ الدکتور

إبراهیم محمد عبد الله

أستاذ النحو والصرف فی جامعه دمشق

الجزء الثانی

دار سعد الدین

للطباعه والنشر والتوزیع

ص: 3

الجزء الثانی

بسم اللّه الرّحمن الرحیم

ص: 4

ص: 6

ضرب » کما تقول : «مررت برجل یضرب» وصله وشرطا وحالا کما یقع «یضرب» (1) ، وقد أعرب المضارع (2) فجعل للماضی (3) حظّ من الحرکات التی هی آله الإعراب ، وبنی علی الفتح لأنّه أخفّ ، وشبهه به من حیث إنّه یقع موقعه کما ذکرنا (4) .

قوله : «فالسکون عند الإعلال» .

یعنی إذا کان آخره یاء أو واوا مفتوحا ما قبلها ، فإنّها تنقلب ألفا ، والألف لا تکون إلّا ساکنه .

قوله : «ولحوق بعض الضمائر» .

یعنی لحوق الضمیر المتّصل المرفوع المتحرّک ، وإذا وجدت هذه الشرائط وجب سکونه ، فإن فقد واحد منها رجع إلی أصله فی الفتح ، فمثال فقدان کونه متحرّکا قولک : «ضربا» ، ومثال فقدان کونه مرفوعا قولک : «ضربنی» ، ومثال فقدان کونه متّصلا قولک : «ما ضرب إلّا أنا» ، والضّمّ مع واو الضمیر ظاهر .

قوله : «ومن أصناف الفعل المضارع» إلی آخره .

قال الشیخ : ذکر المضارع ولم یضف الحال (5) والاستقبال من جهه أنّ لفظهما واحد ، فبوّب له وحدّه بما به کان کذلک ، وهو حروف المضارعه ولم یتعرّض فی الحدّ للمدلول لذلک .

«وذلک قولک للمخاطب أو للغائبه : تفعل» .

یرید مجرّدا عن الضمیر المتّصل ، وإلّا فهو فی الغائبین (6) بالتاء أیضا ، کقولک : «المرأتان تخرجان» .

«وللغائب یفعل» ، یرید مثل ذلک ، وإلّا ورد علیه یفعلان ویفعلون أیضا ، فإنّه للغائب ، وهو بالیاء ، فلا یمکن حمله علی العموم لذلک ، فإن قصد تحقیق ذلک قیل : التاء للمخاطب مطلقا وللغائبه والغائبتین ، والیاء للغائب مطلقا (7) ، وأمّا الهمزه والنّون فأمرهما ظاهر ، فالهمزه للمتکلّم مفردا مطلقا ، والنّون للمتکلّم غیر مفرد مطلقا .

ص: 8

«وتسمّی الزّوائد الأربع» .

هذا اصطلاح النحویّین .

«ویشترک فیه الحاضر والمستقبل» .

هذا هو المذهب المشهور ، ومنهم من زعم أنّه ظاهر فی الحال (1) مجاز فی الاستقبال ، ومنهم من عکس ، والصحیح أنّه مشترک (2) ، لأنّه یطلق علیهما إطلاقا واحدا ، کإطلاق المشترک ، فوجب القول به کسائر المشترکات .

قوله : «واللّام فی قولک : « إنّ زیدا لیفعل» مخلّصه للحال » .

هذا مذهب الکوفیّین (3) ، جعله ههنا قوله ، وإن کان یخالفه ، وقد صرّح بذلک فی قوله فی الحرف :

«ویجوز عندنا « إنّ زیدا لسوف یقوم» (4) » ، قال اللّه تعالی : وَلَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی (5) ، ولسوف أخرج حیا (6) ، ولا یجیزه الکوفیّون ، وإنّما قال به ههنا لیقوی أمر المضارعه ، وذلک أنّ اسم الجنس نحو : رجل یقع علی آحاد متعدّده علی البدل والمضارع کذلک ، ثمّ یتمیّز الاسم لکلّ واحد من آحاده إذا قصد إلیه بحرف التعریف علی البدل أیضا ، وکذلک المضارع یتمیّز (7) لکلّ واحد من مدلولیه بحرف علی البدل فتقوی المشابهه وإذا لم تذکر الّلام فلا یصحّ أن یقال : إنّه یتمیّز بحرف لکلّ واحد من مدلولاته ، لأنّه لا یتمیّز إلّا بحرف الاستقبال لأحد مدلولیه دون الآخر ، فلأجل ذلک اغتفر جعل الّلام للحال ، ولا یصحّ أن یقال : هو یتمیّز بقرینه تنضمّ إلیه فی (8) نحو : الآن والساعه ، فیکون للمدلول الآخر بذلک ، ویستغنی عن کون الّلام للحال لأنّ المشابهه إنّما وقعت فی شیاعه وتخصیصه

ص: 9

بالحرف ، لا فی تعیین أحد مدلولیه بقرینه من خارج (1) .

علی أنّ المضارع موضوع لکلّ واحد من مدلولیه وهما مختلفان دالا علیه کوضع المشترکات ، ورجل موضوع لواحد من مدلولاته الذی هو فی المعنی حقیقه واحده ، لا اختلاف فیه (2) ، ودخول اللّام فی الرّجل یجعله دالا علی ما لم یدلّ علیه قبل ذلک ، وهو الرجل المعیّن ، ودخول حرف الاستقبال لیس کذلک ، وإنّما هو فی التحقیق قرینه یتّضح بها مدلوله فی قصد المتکلّم من غیر زیاده ، إلّا أنّ التشبیه بینهما فی أمر جامع لهما ، هو أنّهما جمیعا موضوعان لمتعدّد علی البدل ، ثم یصیر کلّ (3) واحد منهما لمتعیّن بحرف یدخل علیه بعد أن کان شائعا ، فهذا هو الوجه الذی تشابها فیه ، وإلّا فهما مختلفان فی الشّیاع من وجه وفی التخصیص من وجه علی ما تبیّن ، ولّما أشبه المضارع الاسم هذا الشّبه المذکور جعل له فی الإعراب حظّ ، فأعرب بالرّفع والنّصب والجزم مکان الجرّ علی ما ذکر .

قال : «وهذا (4) إذا کان فاعله ضمیر اثنین أو جماعه أو مخاطب مؤنث» .

الإشاره إلی المضارع إذا کان فاعله ضمیر اثنین أو جماعه أو مخاطب مؤنّث ، «لحقته» یعنی المضارع «معه» یعنی الضمیر فی حال الرفع ، «نون مکسوره بعد الألف» التی هی ضمیر الاثنین ، ولم یعیّنها لذلک للعلم بها ، «مفتوحه بعد أختیها» یعنی الواو التی هی للجمع والیاء التی هی ضمیر المخاطب المؤنّث [فی نحو : تضربین] (5) .

وقوله : «إذا کان فاعله ضمیر اثنین» یعنی مخاطبین أو غائبین ، لأنّ الاثنین إذا کانا متکلّمین فهو مضارع وفاعله ضمیر اثنین ، ولا یلحقه شیء ممّا ذکر ، کقولک : «نحن نفعل» ، وکذلک قوله : «أو جماعه» ، إلّا أنّه یستثنی من الجماعه جماعه المؤنّث ، لأنّه لیس کذلک ، وإنّما ترکه غیر مستثنی لأنّه سیذکر بعد ذلک أنّه مبنیّ ، ثمّ مثّل بقولک : هما یفعلان ، وأنتما تفعلان ، وهم یفعلون ، وأنتم تفعلون ، وأنت تفعلین ، فعلم أنّه لم یقصد إلّا الغائب والمخاطب .

وقوله : «وجعل فی حال النّصب کغیر المتحرّک» .

ص: 10

یعنی المجزوم ، وإنّما اختار هذا اللّفظ لینبّه علی أنّه شبّه حذفها (1) بحذف الحرکه فی الجزم ، لأنّ الجزم بحذف الحرکه ، وهی التی کانت للرّفع والنّصب ، ولّما کان ثبوت النون علامه للرفع جعل حذفها للجزم تشبیها لها بالحرکه ، ولّما حذفت بالجزم لم یبق للنّصب شیء یخصّه فحمل النّصب علی الجزم ، وکان فی قوله : «کغیر المتحرّک» تنبیه علی التشبیه بالحرکات وحذفها وعلی تعذّر علامه للنّصب حتّی حمل علی الجزم .

وإنّما أعرب ما لحقه / ضمیر الاثنین والجماعه بالنّون تشبیها له بالتثنیه والجمع (2) فی 185 أالأسماء ، لأنّه مثله فی اللّفظ ، فأجری مجراه ، ولم یمکن أن تجعل حروف العلّه إعرابا لأنّها ضمائر ، فلو جعلت إعرابا والإعراب یختلف لأدّی إلی اختلاف الاسم الواحد وهو علی حاله فی المعنی ، وذلک غیر مستقیم ، فوجب أن یلحق ما به یکون الإعراب ، فألحق [الفعل] (3) الحرف المشبّه بحروف (4) العلّه ، وهو النّون ، وجعل الإعراب به مثبتا ومحذوفا کما جعل إعراب المتحرّک منه علی ما تقدّم فی قوله : «کغیر المتحرّک» .

وإنّما أعرب المخاطب المؤنّث بالحرف لشبهه بهما من حیث ألحق آخره (5) حرف علّه ، هی ضمیر ، فأجری مجری «یفعلون» (6) ، ویمکن أن یقال : إنّما أعرب هذا القسم [من الفعل] (7) بالحرف لتعذّر الحرکه ، [یعنی أمثله الخمسه] (8) ، لأنّها لو جعلت علی ما قبل الضمیر لتعذّر من غیر وجه ، لأنّ الفاعل مع الفعل کالجزء منه ، فلا یلیق بالإعراب أن یکون قبله ، ولأن الحرکه قبل الألف لا یمکن اختلافها ، وقبل الواو لا یمکن مع السّکون ، وقبل الیاء کذلک ، ولا یمکن أن تکون الحرکه علی الضمائر أنفسها ، لأنّها أسماء ، فکیف تعرب بإعراب الفعل ، ولأنّها مبنیّه ، فکیف یصحّ إعرابها ، ولأنّ منها ما لا یقبل الحرکه ألبتّه ، وهو الألف ، ومنها ما تستثقل ، وهو الواو والیاء .

ص: 11

قوله : «لأنّها» [أی : نون جماعه المؤنّث ، قوله] (1) : «منها» أی : من الضمائر ، وإنّما بنیت [الأفعال المضارعه] (2) مع النون المؤکّده لما ذکرناه من تعذّر الإعراب فی نحو : یفعلن .

قوله : «ذکر وجوه إعراب المضارع» إلی آخره .

قال الشیخ : لأنّ الفعل تختلف صیغته لاختلاف معانیه ، فکان مستغنیا عن الإعراب ، بخلاف الأسماء ، فإنّها تعتورها معان مختلفه وهی علی صیغتها ، وإنّما أعربت لشبه لفظی علی ما تقدّم ، وأعرب بالرفع والنصب والجزم مکان الجرّ ، وإنّما لم ینجرّ لما تقدّم ، ودخل الرفع والنصب وإن کان مدلوله فی الاسم الفاعلیّه والمفعولیّه ، وهما متعذّران فی الفعل ، ألا تری أنّ الفعل لا یقع فاعلا ولا مفعولا ، وإنّما صحّ دخولهما دون الجرّ لمشابهه عاملهما لعاملهما فی الاسم ، ألا تری أنّ عامل الرفع فی الفعل (3) عامل معنویّ نظیر عامل المبتدأ [والخبر] (4) ، والعامل للنصب فی الفعل أصله «أن» ، وعند قوم لا یکون إلّا «أن» (5) ، و «أن» الناصبه للفعل توافق أنّ الناصبه للاسم لفظا ومعنی ، فلمّا اشترکا فی عوامل الرّفع والنّصب شرّک بینهما فیه ، ولّما تعذّر عامل الجرّ من کلّ وجه تعذّر الجرّ ، وعوّض [فی الفعل] (6) عنه الجزم ، وجعل العامل (7) فیه أمرا مخصوصا به دون الاسم .

وقوله : «بل هو فیه» ، «هو» ضمیر الفعل ، و «فیه» ضمیر الإعراب و «من الاسم المشبّه به بمنزله الألف والنون» یعنی الفعل ، «من الألفین» یعنی الاسم ، «فی منع الصّرف» یعنی الإعراب .

قوله : «وما ارتفع به الفعل / وانتصب وانجزم غیر ما استوجب به الإعراب» .

ص: 13

یعنی أنّ العامل غیر المقتضی کما کان ذلک فی الأسماء ، وإن اختلف المقتضی [للإعراب فی الاسم والفعل] (1) فی نفسه ، ثمّ ذکر العامل لکلّ واحد مرتّبا ، فابتدأ بعامل الرفع (2) فقال : «هو فی الارتفاع بعامل معنویّ» ، ثمّ قرّر ذلک المعنی بأنّه صحّه وقوعه بحیث یصحّ وقوع الأسماء ثمّه ، ثمّ أورد اعتراضا ، وهو قولک : «یضرب الزیدان» وشبهه ، وأجاب عنه ، ثمّ أورد فی الفصل بعد ذلک اعتراضا أشکل منه ، وهو الأفعال الواقعه خبرا فی «کاد» وأخواتها ، وأجاب عنه بأنّ الأصل أن تکون أسماء وإنّما عدل عن الأسماء إلی الأفعال لغرض ، والغرض الذی أراده أنّ هذه الأفعال لمّا کانت لمقاربه حصول الّشیء والأخذ فیه جعل ذلک الشّیء بلفظ الحال لیکون ذلک (3) تقویه للمعنی المراد ، کما أنّ «عسی» لمّا کانت للرّجاء ، وهو مستقبل ، جعل المرجوّ معها (4) داخلا علیه «أن» تقویه لذلک المعنی ، ثمّ قوّی أنّ ذلک الأصل بما ورد (5) فی الشعر من قوله : (6)

. . . وما کدت آئبا

. . .

ص: 14

لها علی الفعل ، ولا «ما» لأنّ الفعل منصوب ، وهی لا تنصب ظاهره ، فکیف تنصب مضمره ، ولا جائز أن تکون «کی» ، أمّا عند من لیست عنده مصدریّه فظاهر ، وأمّا من قال : هی مصدریّه فلأنّ تقدیرها ههنا یؤدّی إلی تغییر المعنی فی (1) حتّی ، وإلی التکریر مع اللّام ، وذلک قولک :

«سرت حتّی تطلع الشمس» ، فلو قدّرت ههنا کی لفسد المعنی ، لأنّه لیس موضع تعلیل ، وبعد اللّام یؤدّی إلی تقدیر حرف بمعناه مع إمکان غیره .

والأولی أن یقال : ثبت إظهارهم لأن مع اللّام ، فدلّ علی أنّها هی المضمره فیها وفی غیرها ، لأنّه یرد علی القول بکراهه إضمار «کی» لئلّا یؤدّی إلی اجتماع حرفین بمعنی واحد أنّهم فعلوا ذلک مظهرا فی قولک : جئت لکی تکرمنی ، وإذا لم یکرهوه مظهرا فکیف یکرهونه مقدّرا ، فکان ما ذکرناه ثانیا أولی .

وأمّا الواو والفاء [فی جواب الأشیاء السّتّه] (2) فلأنّهما حرفا عطف تعذّر حملهما علی وجه العطف ههنا إلّا بتأویل جعل (3) الأوّل اسما ، وإذا جعل اسما فلا یعطف علیه الفعل إلّا بتأویل الاسم ، ثمّ یقال ما تقدّم ، وبیان تعذّر العطف أنّک إذا قلت : أکرمنی فأکرمک کان الثانی مخالفا للأوّل ، ألّا تری أنّ الأوّل أمر والثانی إخبار ، وکیف یستقیم أن یکون الخبر معطوفا علی الأمر ، فوجب تقدیر الأوّل بمعنی لیکن منک إکرام ، وإذا قدّر الأوّل إکراما وعطف «فأکرمک» علیه وجب تقدیره بالاسم ، ولا یقدّر الفعل اسما إلّا بما تقدّم ، فیتعیّن تقدیر أن .

وأمّا «أو» فإمّا أن تقدّر عاطفه فالکلام فیها کالکلام فی الواو والفاء ، وإمّا أن تقدّر بمعنی إلی فالکلام فیها کالکلام فی الّلام وحتّی ، وإمّا أن تقدّر بمعنی إلّا منقطعه ، و «إلّا» المنقطعه لا یقع بعدها إلّا الاسم ، فیجب حرف المصدر علی ما ذکر ، وذکر الواو ولم یذکر شرطها ، وهی مثل الفاء فی أنّها لا یثبت النصب بعدها إلّا إذا وقعت بعد أحد الأشیاء الستّه کالفاء ، إلّا أنّها تفارقها فی أنّ معناها الجمعیّه ومعنی الفاء السّببیّه .

قوله : «ولقولک : « ما تأنینا فتحدّثنا» معنیان » إلی آخره .

ص: 16

قال الشیخ : أحدهما (1) جار علی قیاس أخواته / ، وهو الذی ابتدأ به علی أن یکون الأوّل سببا للثانی ، وانتفی السّبب فینتفی المسبّب ، وهو معنی قوله : «فکیف تحدّثنا» .

والآخر : أن تقصد إلی أنّ الفعل الثانی لم یحصل عقیب الأوّل ، فکأنّه نفی وقوعهما بصفه أن یکون الثانی عقیب الأوّل ، کما تقول : «ما جاءنی زید وعمرو» أی : ما جاآ بصفه الاجتماع ، فیجوز أن یکون أحدهما جاء (2) ، فکذلک ههنا یجوز أن یکون الإتیان وقع دون الحدیث ، إذ لم ینف إلّا معاقبه الثانی للأوّل ، فکأنّه نفی الأوّل بصفه معاقبه الثانی له ، لا أنّه (3) نفی کلّ واحد منهما کما ذکر فی مسأله الواو ، ولذلک قرّر سیبویه المسأله بتقدیر الإتیان علی سبیل الکثره وانتفاء الحدیث (4) ، لیوضّح أنّ النّفی لم یرد إلّا علی ما ذکره ، ولم یرد سیبویه أنّ مدلول الکلام ذلک فی کلّ موضع ، وإنّما أراد به التمثیل لبعض صوره لیحقّق المعنی المذکور ، وقد جاء فی الحدیث عنه علیه السّلام : «لا یموت لأحد ثلاثه من الولد فتمسّه النار إلّا تحلّه القسم» (5) ، فهذا علی الوجه الثانی ، لأنّ المقصود من النّفی نفی المسّ عقیب الموت المذکور ، کما أنّ المقصود نفی الحدیث عقیب الإتیان ، ولا یستقیم علی الوجه الأوّل ، إذ لا یقدّر موت الولد سببا للمسّ حتّی ینتفی لانتفائه ، بل الأمر بالعکس ، [یعنی أنّ موت الولد سبب لدخول الجنّه] (6) ، ولا یستقیم أن یحمل علی تفسیر سیبویه بالکثره ، إذ لیس المقصود أنّ موت (7) ثلاثه من الولد لکلّ واحد واقع (8) کثیرا ، ولکن لا یحصل بعده مسّ ، وإنّما المقصود أنّ مسّ النّار لا یکون مع موت ثلاثه من الولد کما أنّ المقصود ثمّه أنّ الحدیث لا یکون بعد الإتیان .

واتّفق أنّ من صور المسأله أن یقع الأوّل کثیرا ، ولا یقع الثانی ، فمثّلها سیبویه لتتّضح ویتبیّن الفصل بینه وبین المعنی الأوّل ، لأنّه یخالفه فی ذلک ، لا علی أنّ ذلک ملازم له لما تبیّن فی المعنی .

قوله : «ویمتنع إظهار أن مع هذه الأحرف» .

ص: 17

یعنی الخمسه المتقدّمه إلّا الّلام [التی لکی] (1) وحدها ، فإنّ الإظهار جاء معها جائزا مع غیر لا ، [کقولک : «جئتک لتکرمنی» و «لأن تکرمنی»] (2) ولازما مع لا ، [کقوله تعالی : لِئَلَّا یَعْلَمَ أَهْلُ الْکِتابِ (3)] (4) ، فصارت علی ثلاثه أقسام ، قسم یجوز فیه الإظهار ، وقسم لا یجوز فیه الإظهار ، وقسم یجب فیه الإظهار ، فالجائز فیه الإظهار لام کی بغیر لا ، والواجب فیه الإظهار لام کی مع لا ، والذی لا یجوز فیه الإظهار البواقی .

وإنّما أوجبوا (5) الإظهار فی مثل / «لئلّا» کراهه دخول حرف الجرّ علی حرف النّفی ، ولا یلزم صحّه دخوله علی الحرف فی مثل : لما ولأن ، لأنّ ذلک مع ما بعده فی تأویل الاسم فکأنّه لم یدخل إلّا علی اسم ، وجاز مع الّلام لیحصل الفرق بینها وبین لام الجحود إذا قصد من أوّل الأمر .

ووجب فی البواقی الإضمار لأنّ أمرها ظاهر ، وهی کثیره فی الاستعمال ، فحذفت (6) تخفیفا ، وممّا یجوز فیه إظهار «أن» حروف العطف ، إذا عطف بها فعل علی اسم ، مثل «یعجبنی خروجک وتقوم وأن تقوم» إلّا أنّه لم یذکرها لأنّه لم یذکر حروف العطف الصریحه فی العطف ههنا ، وسیذکرها فی بعض الفصول التی تأتی مخلوطه مع هذه الواو والفاء .

قال صاحب الکتاب : «ولیس بحتم أن تنصب الفعل المضارع فی هذه المواضع ، بل للعدول به إلی غیر ذلک من معنی وجهه من الإعراب مساغ» .

قال الشیخ : یعنی بالمواضع ما بعد حتّی وأو والواو والفاء دون الّلام ، لأنّ الّلام لا یکون بعدها إلّا المنصوب ، ولذلک لم یذکرها فی تفصیل المواضع ، وقد وقع فی بعض النّسخ «من معنی وجهه» بإضافه «معنی» إلی «وجهه» (7) ووقع فی بعضها «من معنی وجهه» بتنوین معنی وعطف «جهه» علیه ، والصوره فی الخطّ واحده ، والوجهان متقاربان » .

ص: 18

وقد تمسّک الکوفیون بأنّ الأفعال موضوع إعرابها لمعان کوضع إعراب الأسماء بمثل ما أشار به ههنا فی أنّ المعنی مختلف باختلاف الإعراب ، ونحن لا ننکر أنّک إذا رفعت الفعل کان ثمّه معنی یخالفه إذا نصبته ، وکذلک إذا جزمته ، إلّا أنّا نقول : هذه المعانی هی معانی ما ینضمّ إلی الأفعال ، ألا تری أنّک إذا قلت : «أن تکرمنی» فمعناه إثبات الإکرام ، وإذا قلت : «لن تکرمنی» فمعناه نفی الإکرام فی المستقبل ، وإذا قلت : «لم تکرمنی» فمعناه نفی الإکرام فی الماضی ، فهذه المعانی لیست بمعان معتوره علی الفعل حتّی (1) یجعل لها دلاله فی الفعل کما فعل فی معانی الاسم (2) ، وإنّما هی معان لما ینضمّ إلی الفعل .

فإن قلت : ما ذکرته من معانی الأسماء هی أیضا لما ینضمّ إلیها ، ألا تری أنّک إذا قلت :

«قام (3) زید» کان المعنی نسبه القیام إلی زید ، وإذا قلت : «ضربت زیدا» / کان معناه وقوع الضّرب علی زید ، وکذلک الجرّ ، وقد جعلت للأسماء بهذا الاعتبار معان ، فلتکن للأفعال کذلک .

قلت : لیس المعانی فی الأسماء کوزانها فی الأفعال ، ألا تری أنّها لو لم تعرب لأدّی إلی التباسها فی مثل قولک : «ما أحسن زیدا» وشبهه ، وذلک محقّق ما ادّعی من المعانی ، ولیس کذلک الأفعال ، فإنّها لو لم تعرب لکان ما انضمّ إلیها ممّا ذکرناه ینبئ عن المعانی ، فقد وضح لک أنّ المعانی تعتور علی الأسماء أنفسها ، وإن کانت تتقوّم بما ینضمّ إلیها ، وأنّ المعانی فی الأفعال لمجرّد ما ینضمّ إلیها دون أن تعتور علیها ، فهذا معنی قوله (4) : «للعدول به إلی غیر ذلک من معنی وجهه من الإعراب مساغ» .

ثمّ ابتدأ به (5) واحدا واحدا ، وبیّن الجهه التی یکون عندها منصوبا ، والجهه التی یکون بها مرفوعا فقال : «فله بعد حتّی حالتان» إلی آخر الکلام ، ثمّ قوله (6) فی تمثیله فی النصب (7) : «کأنّک قلت : کی أدخلها» یوهم أنّ (8) «حتّی» لا تنصب إلّا بهذا المعنی ، ولیس الأمر کذلک ، بل تنصب بهذا المعنی وبغیره ، وهو أن تکون لمجرّد الغایه من غیر تعلیل ، کقولک : «أسیر حتّی تغیب الشمس» ، ولیس ههنا تعلیل .

ص: 19

وقوله : «أو کان متقضّیا» یرید ما بعد حتّی ، ویوهم أنّه فی هذا الوجه لا بدّ أن یکون متقضیّا وأنّ التعبیر عن (1) التّقضّی ، ولیس الأمر کذلک فیهما ، لأنّ قولک : «کنت سرت أمس حتّی أدخل المدینه» لا یلزم منه تقضّی الدخول ولا الإخبار عنه (2) بالتّقضّی لو قدّر متقضّیا ، لأنّ المعنی الإخبار (3) بوقوع الفعل قبلها ، ویکون متعلّق «حتّی» کان حینئذ مترقّبا ، فأنت مخبر بالسّیر وبدخول کان مترقّبا عند السّیر مقصود فی التقدیر لا فی الوقوع ، ثمّ هذا الدخول المترقّب قد یقع بعد ذلک فی الوجود وقد لا یقع ، ولا یتغیّر ذلک المعنی ولا التعبیر عنه عمّا کان علیه ، فلذلک تقول بعد وقوع الدّخول أو تقدیره (4) : «کنت سرت أمس حتّی أدخل البلد» ، فتجد المعنی فی هذا الإخبار علی (5) کلا التقدیرین واحدا ، لأنّه لا تعرّض له فی إثبات وقوع الدّخول ولا نفیه ، وإنّما هو مخبر عن دخول کان مترقّبا ، ولا یختلف بوقوع (6) الدّخول بعد ذلک ولا بانتفائه ، فهذان المعنیان / هما موضع النصب .

«وترفع إذا کان الدّخول یوجد فی الحال» .

یعنی أنّ الرّفع یجب إذا قصد (7) التعبیر عن وقوع الدّخول حالا ، فقد تکون الحال محقّقه ، وقد تکون مقدّره کما تقدّم فی الاستقبال فی کلامه ، فمثال الحال تحقیقا أن تکون قد سرت وأنت داخل ، فتقول : «سرت حتّی أدخل البلد» ، معبّرا (8) عن الدّخول الحاصل تحقیقا ، ومثال الحال تقدیرا أن یکون السّیر والدّخول قد وقعا جمیعا ، وقصدت إلی التعبیر عن الدّخول الواقع فی الوجود ، إلّا أنّک قصدت حکایه الحال وقت وجوده ، فتقول : «سرت أمس حتّی أدخل المدینه» ، فتکون مخبرا عن سیر حصل عنه دخول فی الوجود حاکیا للحال .

وبهذا تبیّن لک أنّ قوله فی النصب : «أو کان متقضّیا» غیر مستقیم ، لأنّه إذا کان متقضیّا وقصدت التعبیر عنه وجب الرفع علی ما ظهر لک من وجه الرفع الثانی .

ص: 20

وما بعد «حتّی» فی وجهی الرفع (1) مخبر به حصولا واجب أن یکون مسبّبا عمّا قبلها ، ولم یذکر السّببیّه فیها ، وهو لازم ، وذکره فی الناصبه ، وهو غیر لازم ، وإنّما التزموا السّببیّه ههنا لّما کان الکلام جملتین ، فکأنّهم قصدوا إلی قوّه الرّبط بینهما بمعنی السّببیّه ههنا(2) ، وفی الأوّل لم یلتزموها للرّبط الحاصل بالجزئیّه ، وذلک أنّ «حتی» فی الوجه الأوّل جارّ ومجرور ، فهو جزء ممّا قبله ، وفی الوجه الثانی جمله مستقلّه ، ولیس جزءا ممّا قبلها ، فلا یلزم من التزام السّببیّه فی الجملتین لیقوی الرّبط التزام السببیّه فیما الرّبط مقوّی فیه بالجزئیّه ، وإنّما نصبوا فی موضع النّصب المذکور لأنّه أمکن فیه تقدیر الناصب ، ألا تری أنّ الفعل مستقبل وأنّ تقدیر «أن» فیه متحقّق لأنّها للاستقبال ، فصحّ تقدیرها بخلاف موضع الرّفع ، فإنّه للحال ، وتقدیر «أن» مع الحال متناقض ، لأنّها للاستقبال ، فلا تجامع الحال ، فلذلک جاء النّصب فی مواضع الاستقبال ، وفات فی مواضع الحال .

ومثّل صاحب الکتاب فی النصب بما یتحقّق فیه الاستقبال ، کدخول الجنّه (3) ، وفی الرّفع بما یتحقّق فیه الحال ، کانتفاء الرّجاء عند المرض (4) ، فإنّه لو قدّر مستقبلا فسد المعنی من جهه أنّ (5) انتفاء الرّجاء المقصود بذکره خطر المرض / ولا یحصل ذلک حتی یکون انتقاء الرّجاء حاصلا ، وإذا کان حاصلا وجب الرّفع ، وکذلک «شربت الإبل حتّی یجیء البعیر یجرّ بطنه» ولو قدّر منصوبا لم یستقم ، لأنّ الغرض بذکر جرّ البعیر بطنه زیاده الارتواء ولا یحصل ذلک إلّا أن یکون حاصلا ، فلذلک (6) وجب الرّفع .

ومثّل بالآیه (7) فی الرّفع والنّصب ، فأمّا النصب فعلی أنّ الإخبار بالزّلزال وبقول الرسول کان (8) مترقّبا عند الزّلزال ، ولیس فیه إخبار بوقوع قول الرسول ، وإن کان الوقوع قد ثبت بأمر آخر (9) ، وأمّا قراءه الرّفع فعلی أنّ الإخبار بالزّلزال وبالقول الحاصل فی الوجود علی

ص: 21

حکایه الحال مسبّبا عن الزّلزال (1) .

ثمّ قال : «کان سیری حتی أدخلها بالنصب ، لیس إلّا» .

هذا إذا جعلت «کان» ناقصه ، وإلیه أشار ، وإنّما کان ذلک من جهه أنّها تحتاج إلی خبر ، ولیس معه (2) ما یصلح خبرا إلّا قولک : «حتی أدخلها» ولا یصحّ أن یکون خبرا إلّا أن یکون فی تقدیر الجارّ والمجرور ، وإذا کان کذلک وجب النصب ، فتعیّن لذلک ، ولو رفعت لم یکن ل «کان» خبر ، لأنّ «حتی أدخلها» [بالرّفع] (3) حینئذ جمله مستقلّه بالإخبار بها لا تصلح أن تکون خبرا ل «کان» لفقدان الضمیر العائد ، ولفصل «حتّی» بین الاسم وما وقع خبرا عنها .

«فإن زدت أمس وعلّقته بکان» ، یعنی جعلته خبرا ، «أو قلت : سیرا متعبا» ، وجعلته أیضا خبرا ، «أو أردت کان التامّه جاز (4) الوجهان (5)» لأنّک لم تضطرّ ههنا إلی خبر حتی یجب النصب ، فلذلک جاز الوجهان .

«وتقول : أسرت حتّی تدخلها ، بالنصب» .

لیس إلّا (6) ، لأنّ الرّفع فاسد ، ألا تری أنّه لا بدّ أن یکون مسبّبا عن الأوّل محقّقا ، وکیف یستقیم أن یکون المسبّب محقّقا ثابتا والسّبب مشکوک فیه مسؤول عن وقوعه ؟ فلذلک لم یجز إلّا النّصب .

وتقول : «أیّهم سار حتی یدخلها بالنصب والرّفع» لأنّ السّیر ههنا متحقّق ، وإنّما المسؤول عنه صاحبه ، ویجوز أن یتحقّق مسبّب السّیر والسّیر ویجهل صاحبه فیسأل عنه ، فلذلک جاز الرّفع هنا دون التی قبلها .

ص: 22

قوله : «وقرئ قوله تعالی : تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ یُسْلِمُونَ (1) بالنصب (2)» .

النّصب علی إضمار «أن» (3) ظاهر (4) ، والرّفع علی الاشتراک بین «یُسْلِمُونَ» و «تُقاتِلُونَهُمْ» علی معنی التشریک بینهما فی عامل واحد ، حتّی کأنّک عطفت جزءا علی جزء (5) .

«أو علی الابتداء» .

یعنی بقوله : «أو علی الابتداء» علی الاستئناف بجمله معربه إعراب نفسها غیر مشرّک بینها وبین ما قبلها فی عامل واحد ، ومثّلها بقوله (6) : «أو هم / یسلمون» ، لیظهر الفرق بین هذا التقدیر والتقدیر الذی قبله ، إذ الجمله الاسمیّه لا تکون معطوفه علی جمله فعلیّه باعتبار التشریک ، ولکن باعتبار الاستقلال ، ومثال التقدیر الأوّل فی غیر الجمله الفعلیّه قولک : «إنّ زیدا قائم وعمرا منطلق» ، عطفت عمرا علی زید علی التشریک معه فی عامل واحد ، ولم تجعله مستقلا ، ومثال التقدیر الثانی قولک : «إنّ زیدا قائم وعمر منطلق» ، عطفت «وعمرو منطلق» علی أنّه جمله مستقلّه ، لا باعتبار تشریک فی عامل .

وقوله : «هو قاتلی أو أفتدی منه» [أی : إلی أن أفتدی منه] (7) ، «وإن شئت ابتدأته» علی معنی «أنا أفتدی» ، ولم یذکر للرّفع إلّا تقدیرا واحدا ، وهو الثانی ، لأنّ تقدیر الأوّل متعذّر ، لأنّه عطف باعتبار تشریک فی إعراب ، ولیس ههنا قبل «أو أفتدی» ما یصلح أن یکون «أفتدی» مشترکا معه فی الإعراب ، لأنّ الفعل لا مشارکه بینه وبین الأسماء فی العوامل ، فلم یبق إلّا التقدیر الثانی ، وهو الاستئناف ، ومثّلها بأنا أیضا لیتّضح ، واستشهد بقول امرئ القیس (8) :

ص: 23

فقلت له لا تبک عینک إنّما

نحاول ملکا أو نموت فنعذرا

وقال (1) : فی الرّفع وجهان ، وهذان الوجهان فی الرّفع مثلهما (2) فی قوله (3) : «أو هم یسلمون» سواء ، لتقدّم فعل مضارع مرفوع یجوز التشریک معه ولصحّه استئنافه ، فاستقام تقدیر الوجهین .

«ویجوز فی قوله تعالی : وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَکْتُمُوا الْحَقَّ (4) أن یکون « تکتموا» منصوبا ومجزوما » ، وهما ظاهران ، أمّا النّصب فعلی الجمعیّه علی ما تقدّم ، وأمّا الجزم فعلی الاشتراک بین الفعلین فی الجزم ، ولا یستقیم أن یقال : هو عطف جمله علی جمله مشترکه ولا منقطعه عنها ، أمّا التشریک فغیر مستقیم ، لأنّ الرافع للفاعل (5) الأوّل غیر الرافع للفاعل (6) الثانی ، فکیف یستقیم التشریک والعامل متعدّد مختلف ؟ ولا یستقیم أن تکون منقطعه ، لأنّه لا وجه للجزم حینئذ ، فلم یبق إلّا العطف المذکور ، ثمّ مثّل بالبیت (7) الذی یتعذّر (8) فیه تقدیر الجمعیّه لیتّضح به وجه العطف جزما .

قوله : «وتقول : زرنی وأزورک بالنصب» علی معنی الجمعیّه ، ولذلک فسّره بقوله : «یعنی لتجتمع الزیارتان» ، وقد وقع فی المفصل «لتجتمع» بالنصب ، وهو غلط لأنّ المعنی / علی أنّه یفسّر مدلول «زرنی وأزورک» ولا یستقیم تفسیرها مع النصب لأمرین (9) :

أحدهما : أنّها مستقلّه (10) ، ولا تکون جمله إلّا مع الجزم لا مع النصب .

ص: 24

والآخر : أنّ معنی قولک : «زرنی وأزورک» (1) لتجتمع الزیارتان ، ولیس معناه لتجتمع الزیارتان (2) ، فصحّ أن یکون الأوّل تفسیرا دون الثانی ، وأیضا فإنّ النّصب مفسد للمعنی من جهه أخری ، وهو أنّه یصیر تعلیلا للأوّل وهو هو ، فکأنّه علّل الشیء بنفسه ، فکأنّه قال : لتجتمع الزیارتان ، لتجتمع الزیارتان ، فکان مثل قولک : «ضربته لأضربه» وهو فاسد .

ومثّل النّصب بما لا یستقیم معه سواه (3) ، لأنّ الجزم والرّفع فی البیت (4) غیر مستقیم ، أمّا الجزم فقد ذکره ، وأمّا الرّفع فیدلّ علی الاستئناف ، والغرض الاجتماع بدلیل قوله (5) :

. . . إنّ

لصوت أن ینادی داعیان

ولا ینهض هذا المعنی إلّا بالنّصب .

ثمّ قال : «وبالرّفع» یعنی فی المثال (6) لا فی البیت ، لأنّ الرّفع یضعف معناه ، ثمّ مثّل الرّفع بما لا یستقیم معه سواه ، وهو قوله : «دعنی ولا أعود» لتعذّر النّصب والجزم علی العطف ، أمّا النصب فیفسد المعنی لأنّه یصیر المعنی لیجتمع ترکک لی وترکی لما تنهانی عنه ، وقد علم أنّ طلبه لترکه إنّما هو فی الحال بقرینه ألمه (7) بتأدیبه ، فیفوت مقصود طالب الأدب ، والغرض من هذا الکرم لمن أدّب حصول مقصود مؤدّبه ولا یحصل مقصوده إلّا بترک العود فی المستقبل ، ولا یستقیم الجزم ، لأنّه إن جزم عطفا کان فاسدا علی ما یذکر بعده ، وإن جزم بلا علی أنّها للنّهی ، وتکون جمله نهییّه معطوفه علی جمله أمریّه ، وهی قولک : دعنی ، فکأنّه قال : دعنی ، ثمّ شرع فی جمله أخری

ص: 25

ناهیا لنفسه عن العود ، کان فاسدا أیضا من جهه المعنی لأنّه لا ینهض الموجب لترک التأدیب إلّا بالخبر عن نفی العود ، لا بنهی نفسه عن العود ، ولذلک لم یکن بین النّهی وبین العود تناقض ، [لأنّه ربّ إنسان ینهی نفسه عن شیء ویعود فیه] (1) ألا تری أنّک تقول : أنا أنهی نفسی عن کذا فی کلّ وقت ، ثمّ أفعله ، ولو قلت : أنا لا أفعل کذا ثمّ أفعله کان تناقضا ، والغرض نفی وقوع العود فی المستقبل ، وهذا لا یحصل إلّا بالخبر .

وقوله : «وإن أردت الأمر أدخلت الّلام» .

یرید أنّه لا یستقیم الجمع (2) بینه وبین «زرنی» فی الإعراب ، لأنّ / «زرنی» لا إعراب لها عند البصریّین (3) ، و «أزرک» معرب ، فکیف یشرّک بین شیئین فی الإعراب ، وهو منتف عن الأصل ، هذا تناقض .

فإن قیل : اجعله مشترکا علی الموضع ، کما تقول : جاءنی هذا وزید ، وتشرّک بین الاثنین فی الإعراب ، وإن کان الإعراب منتفیا عن الأوّل فهو غیر مستقیم لأمرین (4) :

أحدهما : أنّ من قال : «زرنی» معرب فهو معرب لفظا لا تقدیرا .

والآخر : هو أنّ التّشریک باعتبار الموضع إنّما یکون فیما ثبت له ذلک الإعراب فی الأصل ومنعه مانع عارض کما فی الأسماء .

وأمّا فعل الأمر [بغیر الّلام] (5) فلا إعراب له ألبتّه [علی المذهب الصحیح] (6) لا أصلا ولا فرعا ، فلا یستقیم تقدیر الإعراب فیه ، واستشهد بقول کعب الغنوی (7) ، وذکر النّصب بالواو فی هذا البیت ،

ص: 26

وإن لم یکن فی الحقیقه ممّا هو فیه ، لأنّ الکلام فی واو الجمع ، وهذه لیست واو الجمع ، وإنّما هی واو العطف لمشارکتها لها فی اللّفظ والمعنی الأصلیّ ، ولا یستقیم أن تکون هنا واو الجمع ، لأنّ تلک إنّما تنصب بعد الأشیاء الستّه علی معنی الجمعیّه ، ولیس ههنا منها سوی النّفی ، ولو قدّر الجمع بها بین المنفیّ وبین ما بعدها لکان فاسدا ، لأنّ قوله : «لیس نافعی ویغضب» إذا جعلتها ناصبه بعد هذا النفی کان المعنی نفی النّفع ونفی الغضب ، فیفسد المعنی ، إذ الغرض أنّ الذی یغضب منه صاحبه لا یقوله ، وهذا عکسه ، وکذلک إذا جعلته فی سیاق «وما أنا للشّیء» أدّی إلی ذلک أیضا وفساد آخر ، وهو تأخیر ما ذکر منفیّا ، وهو قوله : «بقؤول» وشرطه التّقدیم علی واو الجمع ، فلم یبق إلّا أن تکون واو العطف ، وتکون عاطفه ل «یغضب» (1) علی قوله : للشیء ، وإذا عطف الفعل علی الاسم وجب تقدیره بتأویل الاسم ، ولا یقدّر إلّا بأن علی ما تقدّم ، فیکون المعنی : وما أنا للشّیء ولغضب صاحبی بقؤول ، ویحتاج فی استقامه المعنی إلی تقدیر مضاف محذوف ، أی : لقول شیء ، ولقول یوجب غضب صاحبی (2) لأنّ الغضب یقال فیه : مقول ، والتقدیر : ولغضب (3) صاحبی بقؤول ، فحذف المضاف لمّا کان معلوما / ، والرّفع أظهر من وجهین :

أحدهما : أنّ عطف الفعل علی اسم غیر مصدر ضعیف .

والآخر : أنّه لا تقدیر یلزم فیه ، بخلاف النّصب ، لأنّه جمله معطوفه علی «لیس نافعی» ، فهی داخله فی حکم الصّله ، ولذلک احتیج فیها إلی ضمیر یرجع إلی الذی ، [وهو الهاء فی منه] (4) ووصلها بجملتین إحداهما منتفیه والأخری مثبته ، ولا بعد فی ذلک .

ثمّ مثّل الرّفع بما یتعذّر فیه النصب ، وهو قوله تعالی : وَنُقِرُّ (5) ، وإن کانت أیضا عاطفه بعد ما یتوهّم العطف فیها ، وهو قوله : «لنبیّن» ، لأنّه لو جعل معطوفا علیه ضعف المعنی ، إذ الّلام فی «لنبیّن» للتّعلیل عمّا (6) تقدّم وهو قوله تعالی : فَإِنَّا خَلَقْناکُمْ إلی قوله : لِنُبَیِّنَ ، فالمتقدّم سبب

ص: 27

للتبیین ، فلو جعل «ونقرّ» معطوفا علیه لکان داخلا مع التّبیین فی مسبّبه (1) فَإِنَّا خَلَقْناکُمْ ، ولیس ما ذکر من قوله : فَإِنَّا خَلَقْناکُمْ إلی آخره سببا فی الإقرار فی الأرحام ما یشاء ، فضعف النصب .

ثمّ انتقل إلی ذکر الفاء الناصبه فی جواب الأشیاء الستّه ، فقال : «ما تأتینا فتحدّثنا» ، النصب واضح علی المعنیین المتقدّمین ، ویجوز الرّفع علی الوجهین اللّذین ذکرهما .

أحدهما : أن یکون عطفا للحدیث علی الإتیان مشرّکا بینه وبینه فی النّفی مرفوعا بما ارتفع کما تقدّم مثله ، ومثّله بقوله تعالی : وَلا یُؤْذَنُ لَهُمْ فَیَعْتَذِرُونَ (26) (2) ، لأنّ الظّاهر فیه ذلک ، إذ المعنی علی نفی الإذن ونفی العذر بظاهر قوله [تعالی] (3) : لا تَعْتَذِرُوا الْیَوْمَ (4) ، ولأنّه نفی الإذن لهم ، والظّاهر نفی الإذن فی الاعتذار ، فلا یقوی إثبات العذر منهم بعد ذلک ، لأنّه فی المعنی مخالفه ، ویجوز أن یکون مستأنفا ، فیکون المعنی أنّهم یعتذرون ، ویکون ذلک فی موقف آخر ، لأنّ المواقف متعدّده ، ویدلّ علیه قوله تعالی : ثُمَّ لَمْ تَکُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا (5) وأمثال ذلک ، ولکنّه ضعیف ، والأولی أن یحمل (6) علی التّشریک (7) فی هذا الموضع لسیاقه (8) بعد قوله تعالی :

یُؤْذَنُ لَهُمْ ، وإن ثبت أنهم یعتذرون فی موقف آخر .

والثانی : أن تکون جمله (9) مستأنفه بنفسها ، فرفعها علی غیر التشریک ، والجمله الأولی منفیّه والثانیه مثبته ، ویکون المعنی علی خلاف ما تقدّم ، لأنّ فیما تقدّم نفی الإتیان والحدیث ، وفی هذا نفی الإتیان وأثبت الحدیث ، ثمّ مثّله بما لا یستقیم معه إلّا الاستقلال / بنفسه (10) والإثبات حتّی

ص: 28

یثبت کون الجمله الأولی نفیا والثانیه مثبته ، وإن خالف التّمثیل فی المعنی ، وهو قوله : ( ما تأتینا فأنت تجهل أمرنا ، ) إذ لا یشکّ من قیل له ذلک أنّ قوله : «فأنت تجهل أمرنا» مثبت بخلاف ما تقدّم ، فإنّه محتمل ، فمثّل الاحتمالین بما لا یحتمل سواه لیوضّحه ، ثمّ مثّل بقول العنبری (1) :

غیر أنّا لم تأتنا بیقین

فنرجّی ونکثر التّأمیلا

فی الرّفع أیضا ، وهو أیضا لا یحتمل إلّا الرّفع ، لأنّ المعنی علی أنّ الآتی لم یأت بیقین ، فنحن نرجو خلاف ما أتی به لانتفاء الیقین عمّا أتی به ، ولا یستقیم علی ذلک إلّا الرّفع ، لأنّه لو جزم لدخل مع الإتیان فی النفی ، فیفسد (2) المعنی ، إذ المعنی إثبات الرّجاء (3) ، ولو نصب لنصب علی الجمعیّه ، ویجب أن یکون أیضا منفیّا معه .

فإن قلت : لم لا یستقیم النصب علی المعنی الثانی للفاء ، وهو أنّ هذا لا یکون عقیب هذا ، لأنّ معناهما أنّهما لا یجتمعان ؟

قلت : یفسد المعنی أیضا ، لأنّ ذلک المعنی علی أنّ الأوّل لا یکون عقیبه الثانی ، حتّی کأنّه وصف له ، وأنت لو قدّرت نفی الثانی علی تقدیر حصول الأوّل فسد المعنی فیهما جمیعا ، إذ المعنی نفی الأوّل وإثبات الثانی ، وهذا عکسه .

ثمّ مثّل بقوله (4) :

ألم تسأل الرّبع القواء فینطق

فی الرّفع ، وظاهره أیضا الرّفع ، لأنّه أراد أنّ النّطق حاصل لها علی سبیل التّجوّز لما هی علیه من أحوالها ، ولم یقصد أن یدخل النّفی إلّا علی السّؤال ، وعلی ذلک یکون الرّفع ، وإن کان النّصب والجزم غیر ممتنعین . ولذلک قال سیبویه : « لم یجعل الأوّل سببا للآخر ، ولکنّه جعله

ص: 29

ینطق علی کلّ حال » (1) ، وقوله : «لم یجعل الأوّل سببا للآخر» ینفی النّصب ، وقوله : «جعله ممّا ینطق علی کلّ حال» ینفی الجزم ، لأنّه قصد إلی الاستئناف .

وقوله (2) : «ودّ لو تأتیه فتحدّثه» ، یجوز النصب علی جواب التّمنّی .

ویجوز الرّفع علی وجهین : أحدهما : الاشتراک ، والآخر : الاستئناف .

قال (3) : «وقال ابن أحمر : البیت (4)» .

بالرّفع والنّصب ، أمّا النّصب فظاهر عطفا علی «لیلقحها» ، وتکون الجمله واحده ، وهذا وإن لم تکن الفاء فیه فاء الجواب ، ولکنّها فاء العطف ، فوجه مجیئه بها کوجه مجیئه بواو العطف فی واو الجمع .

قال الشیخ (5) : أخبر أنّ هذا / المذموم یعالج العاقر لیلقحها للنّتاج (6) ، فأخبر عن حال من یصفه بقلّه العقل أنّه بهذه الصّفه (7) ، فالتعلیل باللّقاح والنّتاج إنّما هو فی حقّ المهجوّ ، لأنّه أخبر أنّه (8) یفعل هذا لهذا الغرض فالجمله واحده ، وإذا رفع فسد المعنی ظاهرا ، إذ لیس للرفع إلّا وجهان : إمّا العطف وإمّا الاستئناف ، فإذا عطف علی «یعالج» صار مخبرا بالعلاج والنّتاج ، فیصیر أسوأ حالا من المعالج ، وإذا کان قد ذمّ معالجا یقصد إلی اللّقاح فذمّ من یخبر بالنّتاج تحقیقا عن هذه المعالجه أولی ، وکذلک الاستئناف یوجب أن یکون مخبرا به ، فیفسد المعنی ، وکان النصب هو الوجه ، ووجه الرّفع أن یحمل علی قصد الهزء والتهکّم بهذا المعالج ، وهو باب مستعمل یقصد المتکلّم فیه إلی ضدّ ما هو موضوع له بالأصاله ، فتقول لمن أظهر فعل من لیس

ص: 30

بعاقل : ما هذا إلّا فعل العقلاء ، وعلی ذلک حمل بعضهم قوله تعالی : إِنَّکَ لَأَنْتَ الْحَلِیمُ الرَّشِیدُ (1) [أی : السّفیه الغویّ] (2) ، و الْعَزِیزُ الْکَرِیمُ (3) ، [أی : الذلیل اللّئیم] (4) وشبهه ، فیستقیم المعنی بهذا التقدیر دون غیره .

وقوله : «أرید أن تأتینی ثمّ تحدّثنی» (5) .

فأتی ب «ثمّ» ، ولم یسق هذه الفصول إلّا لبیان وجوه غیر النّصب فی حتّی وواو الجمع وفاء الجواب وأو ، ولکنّه لمّا جرّ ذکر الواو والفاء ذکر الواو والفاء (6) اللّتین للعطف جرّ ذکر الواو والفاء اللّتین للعطف (7) ذکر ثمّ ، لأنّها مثلهما ، فإذا نصبت فبالعطف علی ما قبلها ، وإن رفعت فعلی الاستئناف کما ذکر فی واو العطف وفاء العطف علی ما تقدّم .

وقوله : «وخیّر الخلیل فی شعر عروه العذریّ» (8) .

فإن نصبت (9) فعلی العطف علی «أراها» ، وإن رفعت (10) فعلی الاستئناف کما تقدّم .

«وممّا جاء منقطعا قول أبی اللّحّام التغلبیّ» (11) .

ص: 31

لأنّ العطف علی «یجور» غیر مستقیم ، إذ غرضه أن ینفی الجور ویثبت القصد (1) ، لیحصل المدح ، وإذا شرّک بینه وبین الجور دخل فی النفی ، فیصیر نافیا للجور ونافیا للعدل ، ولا یحصل مدح ، بل یتناقض ، فوجب أن یحمل علی أنّه مستأنف لیکون مثبتا ، فیکون الجور منفیّا والقصد مثبتا ، فیحصل المقصود ویرتفع التّناقض (2) .

ومثّل / بقوله : «علیه أن لا یجور ، وینبغی له کذا (3)» کنایه عمّا یناقض الجور ، فلا یستقیم أن یکون مشرّکا بینه وبین «یجور» ، لئلّا یفسد المعنی ویحصل التّناقض ، وإذا جعل مستأنفا حصل الجور منتفیا وضدّه مثبتا ، فیستقیم المعنی ویزول التّناقض .

وذکر فی هذا الفصل الفاء والواو جمیعا مع ثمّ ، وإن کان تقدّم ذکرهما لیؤنس بأنّ ذکر ثمّ کان لأجلهما ، وقدّم «ثمّ» لأنّ الفصل لأجلها لا لأجلهما ، واللّه أعلم .

ص: 32

فیه ؟ لأنّا نقول : عمل کلّ واحد منهما من جهه ، ولیس عملهما من جهه واحده ، والممتنع أن یکون من جهه واحده ، کما فی قولک : «یوم القتال حسن» فإنّه لا یستقیم أن یکون العامل فی یوم القتال ، لأنّه معمول لیوم من الوجه الذی یعمل فیه لو قدّر بخلاف ما نحن فیه ، فإنّ الفعل یعمل فی اسم الشرط باعتبار تعلّقه ، / واسم الشّرط یعمل فی الفعل باعتبار تضمّنه حرف الشّرط ، فالوجه الذی عمل الفعل به غیر الوجه الذی عمل الاسم فیه به ، فثبت أنّ العامل فی اسم الشرط الفعل الواقع بعده إذا کان متعلّقا له ، فإن وقع الفعل الذی بعده غیر واقع علیه کان الشرط مبتدأ وما بعده خبره ، وإن دخل علی اسم الشرط حرف جرّ أو اسم مضاف کان فی موضع خفض ، ویکون الاسم الذی قبله معمول الفعل إن کان واقعا علیه ، أو مبتدأ إن کان غیر (1) واقع علیه (2) ، کقولک : «بمن تمرر أمرر» و «غلام من تضرب أضربه» و «غلام من یخرج أخرج معه» .

قال : «ویجزم ب « إن» مضمره » ، إلی آخره .

قال الشیخ : لأنّ هذه الأشیاء الخمسه (3) متضمّنه معنی الطّلب ، والطّلب لا یکون إلّا لغرض ، فقد تضمّنت فی المعنی أنّها سبب لمسبّب ، فإذا ذکر المسبّب علم أنّها هی السّبب ، وهذا معنی الشرط والجزاء ، فلذلک قال الخلیل : «إنّ هذه الأوائل کلّها فیها معنی إن» (4) نظرا إلی المعنی المذکور ، وهذا بخلاف الخبر (5) ، فإنّ الخبر لا یلزم أن یکون لغرض آخر خارج عنه بخلاف الطّلب ، فإنّه لا یکون إلّا لغرض خارج عنه ، وإلّا کان عبثا ، ومن ثمّه لم یقل : «أکرمنی زید فأکرمه» ، ولذلک امتنع الجزم بعد النّفی ، فلم یقل : «ما تأتینا تجهل أمرنا» (6) ، لا للتعلیل الذی ذکره فی الفصل الذی یأتی .

قوله : «وما فیه معنی الأمر والنهی» .

کذلک لأنّ الجزم إنّما کان لتضمّنها معنی الطّلب ، فلا فرق بین أن یکون بصیغه الأمر أو بغیرها لحصول المعنی المتضمّن .

ص: 34

قوله : «وحقّ المضمر أن یکون من جنس المظهر» .

یعنی أنّ الشرط المقدّر إنّما یکون من جنس الفعل المصرّح به فی الإثبات والنفی ، والغرض مسأله «لا (1) تدن من الأسد یأکلک» ، فإنّا (2) إذا قدّرنا فعل الشّرط من جنس المظهر وجب أن یکون نفیا ، فیکون التقدیر : إنّک إن لا تدن منه یأکلک ، لأنّ الأوّل نفی ، وإذا قدّر کذلک فسد المعنی ، إذ انتفاء الدّنوّ لیس سببا للأکل فی العاده .

قال صاحب الکتاب : «ولذلک امتنع الإضمار فی النفی ، فلم یقل : ما تأتینا تحدّثنا» .

وهذا الکلام غیر مستقیم ، فإنّه لم یمتنع الإضمار فی النفی لما ذکره من تعذّر تقدیر النفی فی المسأله التی فرضها / من قولک : «ما تأتینا تحدّثنا» ، فإنّه لو کان کذلک لجاز «ما تأتینا تجهل أمرنا» لصحّه تقدیر النّفی ، ولکان (3) الجواب بعد النّهی ممتنعا لامتناع «لا تدن من الأسد یأکلک» لتعذّر تقدیر النفی فی هذه المسأله ، ولیس امتناع التقدیر فی مسأله (4) یفسد المعنی فیها بذلک التقدیر بالذی (5) یمنع أصل الباب مع استقامه المعنی فیجب التعلیل بما ذکرنا (6) آنفا من فوات معنی الطلب من النّفی ، لأنّه خبر محض ، فکان کالإثبات ، وقد تقدّم الکلام علی النصب بالفاء عقیبه وإجرائه (7) مجری الطلب .

وقد أجاز الکسائیّ «لا تدن من الأسد یأکلک» (8) وشبهه ، وحجّته أنّه یقدّر الإثبات نظرا إلی قوّه المعنی ، فجعل القرینه المعنویّه حاکمه علی القرینه اللّفظیّه ، فجوّز الجزم علی معنی أنّ الدّنوّ سبب له لا نفیه ، وإذا ثبت ذلک فی لغه (9) العرب فلا بعد فیه .

«وإن لم تقصد الجزاء» .

ص: 35

یعنی بعد هذه الأشیاء الخمسه ، لأنّ وزانها فی المجزوم وزان المنصوب بعد «حتّی» وأخواته ، فکان جائزا أن یعدل به إلی جهه أخری من الإعراب ، وتلک الجهه الرّفع علی الصفه إن کان قبله ما یصلح وصفا له ، أو علی الحال إن کان کذلک ، أو علی الاستئناف ، وقد تقدّر الثلاثه ، وقد یقدّر اثنان منها ، ومثّل بقوله تعالی : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا (5) یَرِثُنِی (1) ، فهذا یجوز فیه الجزم علی الجواب ، والرّفع علی الصفه أو الاستئناف (2) ، وبقوله تعالی : ذَرْهُمْ فِی خَوْضِهِمْ یَلْعَبُونَ (3) ، وهذا ظاهر فی الحال ، لأنّ المعنی : ذرهم علی هذه الحاله التی هم علیها ، ولا یبعد أن یکون استئنافا إخبارا بلعبهم علی جهه الاستئناف ، ومثّل فی القطع بقوله : «لا تذهب به تغلب علیه» ، وهو ما لا یجوز فیه إلّا الرّفع ، لأنّ الجزم لا یستقیم ، إذ یصیر المعنی : فإنّک إن لا تذهب به تغلب علیه ، وهو عکس المعنی ، فیصیر مثل «لا تدن من الأسد یأکلک» . والرّفع علی الحال غیر مستقیم ، إذ یصیر المعنی : لا تذهب به فی حال کونک مغلوبا علیه ، والغرض الإخبار بالغلبه بعد الذهاب لا النّهی عن الذّهاب فی حال الغلبه ، فإن قلت : اجعله حالا مقدّره فهو أیضا ضعیف من جهه أنّ الغرض الإخبار بأنّک تغلب علیه إذا ذهبت به ، وإذا / جعلته حالا کان نهیا عن الذهاب فی حال کونک مقدّرا غلبتک ، وهما معنیان مختلفان .

وقوله : «قم یدعوک» .

أیضا الوجه فیه الرّفع علی القطع ، لأنّ المراد بذکر «یدعوک» تعلیل الأمر بالقیام ، فلا یحسن جعله مجزوما لئلّا ینعکس المعنی ، إذ یصیر القیام سببا للدّعاء ، وهو عکس المعنی ، ولا یسقیم أن یکون حالا لئلّا یفوت معنی التعلیل المذکور ، فتعیّن القطع لیحصل المعنی المراد ، ومنه بیت الکتاب (4) :

ص: 36

. . . أرسوا نزاولها

. . .

والکلام فیه کالکلام فی «قم یدعوک» ، إذ الغرض تعلیل الأمر بالإرساء بالمزاوله (1) للخمر ، فلا یحسن جزمه ولا جعله حالا کما تقدّم .

وقوله : «ذره یقول ذاک ، ومره یحفرها»

یجوز فیه الأمران (2) ، والحال أظهر فی «ذره یقول ذاک» ، إذ المعنی : ذره علی هذه الحال ، والقطع أظهر فی «مره یحفرها» لأنّ المعنی لا یقوی إذا کان التقدیر : مره حافرا لها إلّا علی تأویل التقدیر ، والجزم فی هذین المثالین ظاهر ، وقول الأخطل (3) :

کرّوا إلی حرّتیکم تعمرونهما

کما تکرّ إلی أوطانها البقر

یجوز فیه الجزم علی أن یکون الکرّ سببا للعماره ، ویجوز [الرّفع علی] (4) القطع علی أن یکون مخبرا (5) به مستأنفا بعد الأمر بالکرّ ، وعلی أن یکون حالا مقدّره کما فی «مره یحفرها» ، وقوله تعالی : فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِیقاً فِی الْبَحْرِ یَبَساً لا تَخافُ دَرَکاً (6) یجوز أن یکون مجزوما علی الجواب ، وعلی أن تکون لا ناهیه (7) ، ویجوز أن یکون مرفوعا علی الحال من الضمیر فی «اضرب» ، أو علی الاستئناف .

قوله : «وتقول : إن تأتنی تسألنی أعطک» .

لأنّ الفعل المتوسّط لم یدخل علیه جازم ولا ناصب ، إذ لیس شرطا ولا جزاء ، بل واقع موقع

ص: 37

الحال ، فیجب رفعه ، فإن کان الفعل صالحا بدله ممّا قبله أو صالحا أن یبدل منه ما بعده صحّ جزم الجمیع ، فمثال الأوّل ما ذکره من قوله (1) :

متی تأتنا تلمم . . .

. . .

فلولا أنّ الإلمام نوع من الإتیان لم یصحّ (2) إبداله منه ولم (3) یجز الجزم ، ومثال الثانی قولک : «إن تأتنی أحسن إلیک أعطک دینارا» ، فلولا أنّ إعطاء الدّینار نوع من الإحسان لم یصحّ الجزم فیهما .

قوله : «وتقول : إن تأتنی آتک فأحدّثک بالجزم» إلی آخره .

ذکر فی هذا الفصل ما وقع بعد حروف العطف (4) مجزوما علی العطف / ومقطوعا جریا علی ما ذکره فی المنصوب ، حیث ذکر بعد تلک الأفعال المنصوبه حروف العطف ، فکذلک فعل ههنا ، فیحوز هنا ما جاز ثمّه (5) ، فإن جزمت فی هذه المسأله فعلی العطف ، وإن قطعت فعلی الاستئناف ، وإذا استأنفت الجمله کان لک فی تقدیرها وجهان :

أحدهما : أن تجعلها مشترکا بینها وبین الإتیان فی المسبّبیّه کما فی معنی المجزوم ، إلّا أنّک أتیت بأحد المسبّبین بالفعل الصریح فجزمته ، وأتیت فی الثانی بما مقصودک به الجمله المستقلّه لا العطف علی مجرّد الفعل ، فکان مثل قولک : «إن تأتنی أکرمک وما أسیء إلیک» .

والثانی : أن تجعله مقطوعا عن المسبّبیّه ، وإنّما أتیت به مخبرا (6) بوقوعه بعد الإتیان علی معنی التّعقیب ، لا علی معنی أنّه مسبّب ، فهذان وجهان مستقیمان ، فأجرهما فیما أتی مثله .

ص: 38

قال : «وکذلک الواو وثمّ» .

یعنی فی جواز الجزم والرّفع ، ثمّ مثّل بقوله تعالی : مَنْ یُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِیَ لَهُ وَیَذَرُهُمْ (1) ، وقریء جزما ورفعا (2) ، فالجزم عطف علی موضع «فلا هادی له» ، ویصحّ العطف علی الموضع إذا قصد کما یصحّ علی اللّفظ ، فیکون التّشریک بینهما فی المسبّبیّه ، ومن قرأ «وَیَذَرُهُمْ» بالرّفع کان علی وجهین :

أحدهما : أن یقصد إلی عطف الجمله بما هی جمله ، لا باعتبار عطف مجرّد الفعل علی موضع الجزم المتقدّم ، فعلی ذلک یکونان أیضا مشرّکین فی المسبّبیّه ، ویجوز أن یکون إخبارا بوقوع (3) ذلک لا علی تشریک بینه وبین ما قبله ، کما ذکر فی الفاء (4) .

قوله : «وسأل سیبویه الخلیل عن قوله تعالی : فَأَصَّدَّقَ وَأَکُنْ (5)» ، فأجابه بمثل ما سأله عنه (6) ، وقصد إلی تنبیهه بمثله علی أنّ موضع الأوّل جزم ، فعطف الثانی علی الموضع ، کما فی قوله تعالی : فَلا هادِیَ لَهُ وَیَذَرُهُمْ فِی طُغْیانِهِمْ وهذا شائع (7) فصیح ، ثمّ مثّله (8) بما هو أبعد منه فی التقدیر ، وهو قوله (9) :

بدا لی أنّی لست مدرک ما مضی

ولا سابق شیئا إذا کان جائیا

ص: 39

والفرق بینهما هو أنّ الأوّل محقّق فیه موضع الجزم ، لأنّک لو جعلت موضع «فأصّدّق» فعلا لکان مجزوما ، والثانی غیر محقّق فیه موضع الجرّ وهو قوله : «لست مدرک ما مضی» / إلّا بتأویل بعید ، وهو تقدیر المعدوم موجودا ، [کالباء المقدّره فی «لست بمدرک»] (1) ، فلذلک کان الأوّل فصیحا والثانی ضعیفا .

ص: 40

«فإنّکم» فحذفت الفاء مردود بأنّ ذلک ضعیف (1) ، وبأنّه لا یکون إلّا فی ضروره الشعر ، [ کقوله (2) :

من یفعل الحسنات اللّه یشکرها

لا یذهب العرف بین اللّه والنّاس ] (3)

ص: 42

بقّیته علی حاله ، وإن کان ما بعدها ساکنا زدت همزه الوصل [إلّا فی «خذ» و «کل» و «مرّ»] (1) لئلّا تبتدئ بالسّاکن مضمومه إن کان بعد السّاکن ضمّ [لازم] (2) مکسوره فیما عداه .

ثمّ أورد اعتراضا وهو الفعل المضارع من الرّباعیّ بالهمزه ، ومضمونه أنّه إذا حذف حرف المضارعه وبعده ساکن وجب الإتیان بهمزه الوصل ، وهذا کذلک وهمزته همزه قطع ، وأجاب عن ذلک بما معناه أنّ هذه الهمزه فی التّقدیر ثابته ، لأنّ حروف المضارعه هی حروف الماضی بدلیل دحرج یدحرج وجمیع الأفعال ، فوجب أن یکون الأصل یؤکرم ، وإنّما حذفت لعارض ، وهو وجود حرف المضارعه ، فإذا قصد إلی / بناء الصّیغه وجب حذف حرف المضارعه ، فیزول المانع لإثبات الهمزه ، فیجب ردّها لزوال مانعها ووجود سببها ، وإذا وجب ردّها کان حکمها حکم الدّال فی «دحرج» ، فیستغنی عن اجتلاب همزه وصل ، فهذا معنی قوله : «والأصل فی تکرم تؤکرم» ، فعلی ذلک خرج «أکرم» .

قوله : «وأمّا ما لیس للفاعل المخاطب» (3)

یعنی إذا قصدت الأمر لغیر الفاعل المخاطب فإنّک لا تأمر بهذه الصّیغه لما تقدّم من وجوب اختصاصها بالفاعل المخاطب ، فإذا قصدت إلی أمر من لیس بفاعل ولا مخاطب ، أو إلی فاعل ولیس بمخاطب ، أو مخاطب ولیس بفاعل زدت لام الأمر داخله علی المضارع وهو علی صیغته ، کقولک فی الأوّل : «لیضرب زید» و «لأضرب أنا» وفی الثانی «لیضرب زید» ، و «لأضرب أنا» ، وفی الثالث : «لتضرب أنت» .

«وقد جاء قلیلا أن (4) یؤمر الفاعل المخاطب بالّلام (5)» .

وسرّ الامتناع ما ذکرناه من طلب الاختصار ، وحصولها (6) بهذه الصیغه للفاعل المخاطب وجوازها لانتفاء اللّبس ، لأنّهم امتنعوا من إجراء صیغه الأمر للغائب والمتکلّم خوف اللّبس ، ولم یمتنعوا من أمر الفاعل المخاطب بالّلام لأنّه لا لبس ، لأنّ صیغه الفعل المضارع تشعر بخصوصیّتها

ص: 44

بمن هی له ، بخلاف ما لو أجری صیغه الأمر علی الغائب ، فإنّه کان یتحقّق اللّبس .

قوله : «وهو مبنیّ علی الوقف»

یرید صیغه الأمر التی ذکرها فی الفصل الأوّل ، وبه استغنی عن أن یذکر حال آخرها علی ما بیّنّاه ، إلّا أنّه لا یکفیه (1) إلّا أن یبیّن أنّه یجری مجری المجزوم مطلقا ، ألا تری أنّ قولک : اضربا واضربوا واضربی واغز وارم واخش لیس مبنیّا علی السّکون ، فوجب الاحتیاج إلی التّبیین علی ما تقدّم .

«وقال الکوفیون : هو مجزوم باللّام مقدّره (2)» .

قال : وهذا خلف من القول (3) ، لأنّ حرف المضارعه هو (4) علّه الإعراب ، فإذا انتفی فیجب انتفاء الإعراب ، کما أنّ الاسم إذا انتفی سبب إعرابه وجب انتفاؤه ، فهذا أجدر ، فإن زعموا أنّ حرف المضارعه مقدّر (5) فلیس بمستقیم لأنّ حرف المضارعه من جمله صیغه الکلمه ، کالمیم فی اسم الفاعل فلا یستقیم تقدیر المیم ، کذلک / تقدیر حرف المضارعه ، واللّه أعلم .

ص: 45

قوله : «وغیر المتعدّی ما تخصّص بالفاعل» (1) .

قد تقدّم فی بیان غیر المتعدّی ما هو واضح من قوله ، لأنّ تخصیصه بفاعله إنّما هو أثر ما ذکرناه ، فکان التّبیین به أولی .

ثمّ قال : «وللتّعدیه أسباب ثلاثه» .

یعنی أنّ ثمّه ألفاظا تزاد علی الفعل ، فیصیر بها فی المعنی متوقّفا عقلیّته علی أمر لم یکن قبل ذلک ، لا أنّه لا یکون التّعدّی إلّا به ، لأنّ الفعل یکون بأصل (2) معناه متعدّیا من غیر شیء من هذه الزّیادات ، ولیس یعنی أیضا أنّ هذه الألفاظ باعتبار لفظها توجب أن یکون الفعل متعدّیا ، بل لا بدّ من اعتبار معنی التّصییر بها ، لأنّ ألفاظها تکون للتّصییر (3) وغیره ، فالتی للتّصییر هی التی تکون للتّعدیه ، ألا تری أنّک تقول : «أکبّ زید» / ولا یوجب ذلک تعدیه ، و «موّت المال» ولا یکون ذلک تعدیه ، و «نجّرت بالقدوم» ولا توجب الباء تعدیه ، وإنّما (4) إذا کان معناها التّصییر کانت للتّعدیه ، ألا تری أنّک إذا قلت فی «ذهب زید» : «أذهبت زیدا» صار متعدّیا بالهمزه بعد أن لم یکن ، لأنّها أفادت التّصییر مع بقاء المعنی (5) الأوّل فی أصله ، والتّصییر لا یعقل إلّا بمتعلّق هو مصیّر ، فمهما وجد معنی التّصییر اقتضی ذلک ، ویبقی الفعل علی ما کان علیه قبل ذلک ، فلذلک إذا ألحق غیر المتعدّی حرف التّصییر صار متعدّیا إلی واحد ، والمتعدّی إلی واحد یصیر متعدّیا إلی اثنین ، والمتعدّی إلی اثنین یصیر متعدّیا إلی ثلاثه .

وقوله : «غضّبت علیه الضّیعه» .

فی المتّعدّی بحرف الجرّ غیر مستقیم ، إذ معنی التّصییر فیه به مفقود ، ألا تری أنّک تقول :

«غضّبت الضیعه» ، و «غضّبته الضیعه» ، و «غضّبت علیه الضّیعه» ، فلا تجد «علی» أفادت تصییرا ، فبطل أن یکون من قبیل ما نحن فیه ، نعم یصحّ أن یقال فی کلّ جارّ ومجرور : إنّ الفعل متعدّ إلیه لا باعتبار هذا التّعدّی الذی (6) نحن فیه ، کما تقول : یتعدّی إلی الظّرف وغیره ، ولسنا نعنی هذا التعدّی ، فکان ذکر «علی» للتّعدّی فی هذا المکان غیر مستقیم .

ص: 47

قال : «والأفعال المتعدّیه إلی ثلاثه علی ثلاثه أضرب» .

الأوّل منقول بالهمزه ، وهو فعلان بالاتّفاق أعلمت وأریت کما ذکر ، وبقیّه أفعال القلوب مختلف فیها ، فالصّحیح أنّها لا تجری هذا المجری (1) ، فإنّ التعدّی بإلحاق الهمزه لیس بقیاس فیما کان متعدّیا إلی واحد (2) ، فکیف فی المتعدّی إلی اثنین ، ولا سیّما إذا کان بابه ألفاظا محصوره ، وغایه ما مع القائل بذلک إلحاقه بأعلمت وأریت ، ولیس بالجیّد ، فإنّ الإلحاق فی اللّغه إنّما یکون بعد علم القاعده بالاستقراء فیما کثر [استعماله ، وهذا ممّا قلّ استعماله] (3) .

قوله : «وضرب متعدّ إلی مفعول واحد ، وقد أجری مجری أعلمت لموافقته له فی معناه ، فعدّی تعدیته» .

هذا الضّرب متعدّ فی الحقیقه إلی واحد ، لأنّه فعل لا تتوقّف عقلیّته إلّا علی متعلّق واحد ، فوجب أن یکون من ذلک .

فإن زعم زاعم أنّ الثانی والثالث بالنسبه إلی «أنبأت وأخبرت» کالثّانی والثالث بالنّسبه إلی أعلمت ، لأنّک تجد تعلّق القبیلین بهما تعلّقا واحدا ، فتلک شبهه ، ووجه التّبیین / فی ذلک أنّ الإعلام منقول عن «علمت» ، و «علمت» الدّاخل علی النّسب یتعلّق باثنین ، فإذا عدّی بالهمزه صار متعدّیا إلی ثلاثه ، فوجب أن یکون متعلّقا بثلاثه ، وأمّا المفعولان فی باب أنبأت وأخبرت فهما نفس النّبأ والخبر والحدیث ، وهو نفس الفعل ، وإنّما ذکر لبیان نوع ذلک الحدیث والخبر ، ألا تری أنّک إذا قلت : «رجع القهقری» فإنّما ینتصب علی المصدر ، لأنّه رجوع وإن (4) کان لنوع ، فکذلک (5) ههنا المفعول الثانی والثالث حدیث وخبر ، وإن کان لنوع مخصوص ، بخلاف قولک :

أعلمت ، فإنّهما من متعلّقاته (6) لا من هذه الجهه ، والسّرّ فیه أنّ الإعلام یتعلّق بمصیّر وبحدیث هو

ص: 48

مرکّب من جزأین ، [أی : صیّر عالما بالإعلام] (1) ، والجمیع من متعلّقاته ، ولیس شیء منها نوعا له ، فهو من متعلّق العلم لا نفس العلم ولا نوعه ، وأمّا الإنباء والإخبار فیتعلّق بالمخبر ، ولا یتعلّق بالخبر هذا التعلّق لأنّه نفس الخبر ، فإذا ذکر نوعه کان فی المعنی مصدرا لبیان النّوع .

یبقی أن یقال : کیف صحّ أن یقع ما لیس بفعل فی المعنی مصدرا ، وهو المفعول الثانی والثالث .

والجواب عن ذلک أنّه لم یکن مصدرا باعتبار کونه زیدا وقائما ، ولکن باعتبار کونه حدیثا مخصوصا ، فالوجه الذی صحّ الإخبار به عن الحدیث إذا قلت : «حدّثنی زید عمرو منطلق» هو الذی صحّح وقوعه مصدرا ، ومثل ذلک «قلت : زید منطلق» إذا قلنا : إنّ «قال» غیر متعدّ ، فالحدیث الواقع بعد القول بهذا الاعتبار کالمفعول الثانی والثالث فی باب أنبات وأخبرت .

فإن قیل : فإذا کان عندکم بمثابه ما یقع بعد القول ، والقول یختار فیما بعده الحکایه ، ولیس ما (2) نحن فیه کذلک ، فدلّ علی المخالفه .

فالجواب : أنّ القول أکثر ما یؤتی به لحکایه ما تقدّم ذکره ، فجاءت الحکایه فیه علی حسب القصد به (3) ، بخلاف «أنبّات» و «أخبرت» ، فإنّه لیس بهذه المثابه .

فإن قلت : فقد یکون القول لا علی جهه الحکایه ، کقولک عن نفسک : «قلت : زید منطلق» .

فالجواب : أنّ هذا وإن قدّر قلیل ، فأجری مجری أصل الباب ، بخلاف ما نحن فیه .

وقوله : «وقد أجری مجری « أعلمته» «- 3» » یرید فی الصوره لمّا کان المفعول الثانی / والثالث بالنّظر إلی مفردیهما لا یتحقّق معنی المصدریّه فیهما فی الظّاهر ، فأجری مجری مفعولی أعلمت فی التسمیه (4) لموافقتهما له فی الصّوره والتّقدیر بوجه .

فإن قیل : فما المانع أن یکون «أنبأ» کأعلم ، فتکون متعلّقاته کمتعلّقات «أعلم» ، فتکون مفعولات علی الحقیقه .

فالجواب : أنّ الإعلام هو تصییر غیرک عالما ، ومتعلّق العلم لیس علما ، وإنّما هو معلوم

ص: 49

متعلّق للعلم کتعلّق الضرب بالمضروب ، ثمّ یحصل فی النّفس حدیث عن المعلوم ، وهی حقیقه أخری غیر المعلوم ، وإن وافقته فی نسبه شیء إلی شیء ، فلیس (1) نسبه شیء إلی شیء من متعلّق الحدیث ، بل هی نفس الحدیث ، بخلاف ما ذکرناه من المعلوم ، فإنّه متعلّق للعلم ، فدلّ ذلک علی أنّ الحدیث مع «حدّثت» والخبر مع «أخبرت» لیس بمتعلّق للفعل ، بل هو هو ، وأنّ المعلومات مع «علمت» لیست بالعلم ، وإنّما هی متعلّق للعلم ، فثبت الفرق بین «أعلمت» و «حدّثت» .

«وضرب متعدّ إلی مفعولین وإلی الظّرف المتّسع فیه» .

هذا الضّرب إذا جعل فیه الظّرف مفعولا فهو علی سبیل المجاز لا التحقیق ، مثله فی قولک :

«ضرب یوم الجمعه» ، ولا یتحقّق الاتّساع فی مثل ذلک إلّا إذا بنی للمفعول ، أو أضمر من غیر «فی» ، وإلّا فلا حاجه إلی إخراجه عن أصله مع استقامته من غیر ضروره ولا استحسان .

«ومن النحویّین من أبی الاتّساع فی الظروف (2) فی الأفعال ذات المفعولین (3)» .

وسببه أنّ جعل الظّرف متّسعا فیه إنّما هو علی التشبیه بالمفعول به ، وإنّما یحسن ذلک فیما کثر ، والمتعدّی إلی ثلاثه لم یکثر کثره المتعدّی إلی اثنین وإلی واحد ، فلذلک کره بعضهم الاتّساع فیه مع المفعولین ، وأمّا المتعدّی إلی ثلاثه فالأکثر علی أنّه لا یتسع فیه (4) ، إذ لیس فی الأفعال ما یتعدّی إلی أربعه فیشبّه هذا به ، وجوّز (5) ابن خروف ، وهو مذهب الأخفش (6) .

ثمّ قال : «والمتعدّی وغیر المتعدّی سیّان فی نصب ما عدا المفعول به من المفاعیل الأربعه» .

یعنی المفعول المطلق والمفعول فیه والمفعول له والمفعول معه ، لأنّ هذه / کلّها نسبه المتعدّی وغیر المتعدّی (7) إلیها واحد ، فکما انتصبت بالمتعدّی تنتصب بغیر المتعدّی ، وکذلک ما یلحق بالمفعول من الحال والتمییز وغیره ، حکم المتعدّی وغیر المتعدّی فی نصبه سواء .

ص: 50

قال : «والمفاعیل سواء فی صحّه بنائه لها (1)» .

یرید أنّه یصحّ أن یسند الفعل الذی حذف فاعله باعتبار قیامه / به إلی أیّ المفاعیل شئت ، إلّا ما استثناه ، وهو المفعول الثانی فی باب «علمت» والثالث فی باب «أعلمت» والمفعول له والمفعول معه ، فأمّا الأوّل والثانی فإنّما امتنع أن یسند إلیه الفعل لأنّه مسند فی المعنی ، لأنّ قولک : «علمت زیدا قائما» مسند فیه قائم إلی زید ، فلو ذهبت تسند «علمت» إلی قائم وهی جمله واحده لجعلت قائما مسندا (2) ومسندا (3) إلیه فکرهوه لذلک مع الاستغناء عنه ، لأنّه إذا ذکر أحدهما فلا بدّ من ذکر الآخر ، وإذا لم یکن بدّ من ذکر الآخر فالتزموا الإسناد إلیه حتّی لا یلزمهم ما ذکر ، والمفعول الثالث فی باب «أعلمت» کذلک .

وأمّا المفعول له فإنّما لم یبن لما لم یسمّ فاعله لأحد أمرین :

أحدهما : أنّه فی المعنی کأنّه جواب لسائل سأل عن العلّه ، فلو ذهبت تقیمه مقام الفاعل لذهب هذا المعنی منه .

والثانی : أنّه مقدّر بالّلام ، وهی فیه غالبا ، والّلام لها معنی غیر ذلک ، فلو ذهبت تقیمه هذا المقام لم یعلم أنّه من هذا القبیل ، فترک لذلک .

وأمّا المفعول معه فامتنع (4) لأمرین (5) أیضا :

أحدهما : أنّ حرف العطف یستدعی متقدّما ، فلو حذفته لذهب ما یستدعیه .

والآخر : أنّ إقامته هذا المقام تخرجه عن حقیقته ، لأنّ معنی کونه مفعولا معه أنّه مشترک بینه وبین فاعل فی الفعل ، فإذا حذفت الفاعل ذهبت المشارکه ، فزال کونه مفعولا معه ، فلم یستقم لذلک .

قوله : «وإذا کان للفعل غیر مفعول فبنی لواحد (6)» إلی آخره .

یرید أنّه لا یقام (7) مقام الفاعل إلّا واحد ، ویبقی ما کان علی ما کان ، فلذلک تقول : « أعلم

ص: 52

زید عمرا خیر النّاس » برفع زید ونصب ما عداه ، لأنّه لم تدع ضروره إلّا لمسند (1) إلیه ، والمسند إلیه لا یکون إلّا واحدا ، فوجب أن یبقی ما عداه علی حاله .

ثمّ قال : «وللمفعول به المتعدّی إلیه بغیر حرف من الفضل علی سائر ما بنی له» إلی آخره .

یرید أنّ المفعول به الصّریح إذا وجد مع بقیّه المفاعیل لا یقام مقام الفاعل سواه ، هذا مذهب البصریّین ، والکوفیّون یختارونه ولا یوجبونه (2) ، والسّرّ فی وجوبه أنّه إذا حذف الفاعل فالأولی أن یقام مقامه ما کان أقرب إلی الفعل ، ولیس فی المفاعیل ما هو أقرب إلی الفعل من المفعول / به ، لأنّه من معقولیّته ، کما أنّ الفاعل من معقولیّته ، فإذا حذف أحدهما وجب إقامه الآخر مقامه ، ولا یرد علی ذلک إلّا المفعول المطلق ، فإنّه أقرب إلی الفعل حیث کان وأصلا إلیه بغیر واسطه ، والجواب عنه أنّه لیس فیه دلاله زائده ، بل هو فی المعنی نفس الفعل ، والغرض إقامه شیء یسند إلیه ، فلو أقمته أسندت الشیء إلی نفسه ، فکان ممتنعا من حیث المعنی ، بخلاف ما ذکرناه .

فإن قیل : فقولک : «ضرب ضرب شدید» وأمثاله هو الذی یستقیم إقامته مقام الفاعل ، وفیه معنی زائد علی معنی الفعل ، [وهو الصفه] (3) ، فلم لم یکن أولی .

فالجواب عنه من وجهین :

أحدهما : أنّه لم یخرج عن کونه کأنّک نسبت الشیء إلی نفسه لأنّ الضّرب الشّدید ضرب ، فکان غیره أولی إذا وجد .

والآخر : هو أنّک لم تسند إلّا (4) إلی ضرب خاصّ ، ولذلک یحکم علی «شدید» بأنّه صفه ، وإنّما تکون الصّفه بعد تتمّه الاسم ، فصار قولک : «ضرب ضرب» و «ضرب ضرب شدید» فی أنّ الإسناد إلی ضرب فیهما سواء .

فإن قیل : فالمفعول به المتعدّی إلیه بحرف هو فی المعنی مقتضی الفعل ، فلم کان المفعول به بغیر حرف أولی ، وقد قلت : إنّ الأولویّه فیه علی بقیّه المفاعیل لأجل الاقتضاء ، والفعل یقتضیهما جمیعا اقتضاء واحدا ؟

ص: 53

فالجواب : أنّ العرب لّما عدّت الفعل إلی أحدهما بنفسه وإلی الآخر بواسطه صار (1) فی الصّوره کأنّه أقوی منه باعتبار اقتضاء (2) الفعل ، فجعلوه أولی لذلک .

فإن قلت : فهب أنّ المفعول بغیر حرف أولی منه ، فلم لا یکون المفعول بحرف مقدّما علی بقیّه المفاعیل التزاما لأنّه من مقتضی الفعل ولیست تلک من مقتضیاته ؟

فالجواب : أنّه لمّا کان متعدّی إلیه بحرف جرّ (3) أجروه مجری أمثاله ، ممّا یتعدّی الفعل إلیه بحرف جرّ ، لیکون الباب کلّه علی حال واحده ، فأجروا قولهم : «استغفرت اللّه من الذّنب» أعنی :

«من الذنب» مجری قولهم : «استغفرت اللّه فی الدّار» أعنی «فی الدار» ، وإن کان «من الذّنب» من مقتضیاته ، ولیس «فی الدار» مثله فی اقتضاء الفعل لمّا شارکه فی باب الجارّ والمجرور ، فجعلوا (4) الحکم فی الکلّ (5) سواء ، وإن کان الذی من مقتضیاته أولی (6) ، ولکن علی سبیل الالتزام .

قوله : «وأمّا سائر / المفاعیل فمستویه الأقدام» إلی آخره .

یعنی أنّها سواء فی صحّه بناء الفعل لکلّ واحد منها ، ومثّل ب «استخفّ بزید» إلی آخره وبیّنه .

ثمّ قال : «ولک (7) فی المفعولین المتغایرین أن تسند (8) إلی أیّهما شئت» .

هذا الإطلاق یوهم أنّه یجوز مطلقا ، وشرطه أن لا یقع لبس ، فلو قلت : «أعطیت العبد الجاریه» لم تقم (9) مقام الفاعل إلّا الأوّل ، لأنّک لو أقمت کلّ واحد [منهما] (10) لوقع اللّبس ، فلا تعرف الآخذ من المأخوذ ، وکذلک لو لم تبن للمفعول به (11) وقلت : «أعطیت العبد الجاریه» لکان

ص: 54

تقدیم الآخذ معتبرا خوف اللّبس ، وکذلک إذا قلت : «أعلمت زیدا عمرا قائما» ، فإنّه (1) لا یجوز تقدیم المفعول الثانی علی الأوّل إلّا عند انتفاء اللّبس ، فلو قلت : «أعلمت عمرا زیدا قائما» وزید هو المعلم لم یجز ، لئلّا (2) یلبس ، وکذلک إذا بنیته لما لم یسمّ فاعله لم تقم مقام الفاعل إلّا الأوّل لئلّا یلبس ، إلّا أنّک إذا أقمت الأوّل فی البابین مقام الفاعل جاز التقدیم والتأخیر لانتفاء اللّبس ، ألا تری أنّک إذا قلت : «أعطی العبد الجاریه» أو «أعطی الجاریه العبد» کان اللّبس منتفیا ، بخلاف حاله فی المنصوب ، فإنّک لو قدّمت وقع اللّبس ، ألا تری أنّک إذا قلت : «أعطیت العبد الجاریه» فمفهوم أنّ العبد هو الآخذ ، ولو ذهبت تقول : «أعطیت الجاریه العبد» فتقدّم وأنت تقصد المعنی الأوّل وقع اللّبس ، إذ لا إعراب (3) مخصوص فی أحدهما یمیّزه ، وکذلک باب «أعلمت» عند تسمیه الفاعل ، وعند حذفه حکمه ما ذکرناه من لزوم التقدیم للمفعول الأوّل عند تسمیه الفاعل خوف اللّبس ، ومن وجوب إقامه المفعول الأوّل مقام الفاعل عند حذفه ، فإذا قامت قرینه تبیّن المراد فیهما جاز التقدیم فیهما جمیعا عند تسمیه الفاعل ، وجاز إقامه أیّهما شئت مقام الفاعل عند حذف الفاعل ، ومثاله : قولک : «أعطیت زیدا درهما» فجائز أن تقول : «أعطیت درهما زیدا» لأنّه لا (4) یلبس ، إذ معلوم أنّ زیدا هو الآخذ ، وجائز أن تقول : «أعطی درهم زیدا (5)» ، إذ لا إلباس (6) ، وکذلک إذا قلت : «أعلمت زیدا کتابه (7) مستعارا» فیجوز أن تقدّم إذ لا لبس فی أنّ زیدا هو المعلم / لاستحاله إعلام الکتاب ، وجائز أن تقول : «أعلم زیدا الکتاب مستعارا» لانتفاء اللّبس ، إلّا أنّ إقامه المفعول الأوّل إذا (8) انتفی اللّبس أحسن ، لأنّه فاعل (9) فی المعنی ، فکان أقرب إلی إقامته مقام الفاعل ، وکذلک المفعول الأوّل فی باب «أعلمت» لأنّه فی المعنی عالم ، فکان مثل زید فی الإعطاء .

ص: 55

یرید أنّ فعل القول إذا کان مستقبلا للمخاطب مستفهما عنه جری مجری «ظنّ» علی اللّغه الفصیحه ، وسرّه ما تقدّم من أنّ القول إنّما حکیت الجمله بعده لمّا کان أکثر ما یطلق علی حکایه ما قیل لفظا ومعنی ، فلمّا کان ههنا (1) واقعا موقع ما لا یصحّ أن یکون حکایه أعمل عمل الظّنّ (2) ، وقول [بعض] (3) النحویّین : إنّه بمعنی الظّنّ تسامح (4) ، وإلّا فقد یقال : «ما تقول (5) فی هذه المسأله» و «متی تقول زیدا منطلقا» بمعنی ما تعتقد / أو ما تعلم أو ما تظنّ ، ولو کان بمعنی الظّنّ لم یصحّ الاستفهام بها عمّا یعلم ، ولا الجواب بما یکون معلوما ، ونحن نعلم خلافه .

«وبنو سلیم یجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت (6)» .

یعنی فی عمله لمّا رأوه متعلّقا بجزأین کتعلّق العلم والحسبان أجروه مجراه (7) فی نصب متعلّقه إذا ذکر ، فالحقّ إذن أنّ القول علی حاله فی المعنی الأصلیّ ، وإنّما حسن إجراؤه فیما ذکرناه لّما کان موافقا لأفعال القلوب فی المتعلّق ، وقد تقدّم الفرق بینهما من جهه أنّ متعلّق القول لیس کمتعلّق الحسبان ، لأنّ متعلّق الحسبان مفعول به محقّق بمنزله المفعولین فی «أعطیت زیدا درهما» ، ومتعلّق القول هو القول فی المعنی ، وإنّما یکون فیه خصوصیّه لذکر (8) خاصّته ، [وهو تعیین القول بکونه زیدا منطلقا] (9) ، فیتوهّم أنّه متعلّق له ، ولیس کذلک ، کما توهّم أنّ المفعولین الثانی والثالث فی «أنبات» وأخواتها متعلّق لها کتعلّق «أعلمت» ، ولیس کذلک ، فإذن ضعف نصب المفعولین فی باب «قلت» وقوی نصب المفعولین فی باب «أنبأت» ، وقوی النّصب فی الاستفهام المذکور لّما کان الأمر المقوّی للحکایه مفقودا .

ثمّ قال : «ولها (10) ما خلا حسبت وخلت وزعمت معان أخر لا تتجاوز علیها مفعولا واحدا» .

ص: 57

لأنّ تعدّیها إلی مفعولین إنّما کان بالنّظر إلی اقتضائها الجزأین ، فإذا کانت قد وضعت لمعنی آخر لا یقتضی إلّا أمرا واحدا وجب أن لا تتعدّی إلّا إلی واحد ، لأنّ التّعدّی أمر معنویّ ، فثبت تعدّد متعلّقه وإفراده علی حسب المعنی ، وکذلک «ظننت» إذا أردت بها التّهمه ، لأنّ الاتّهام إنّما یقتضی متّهما ، وکذلک «علمت» إذا قصدت بها علم الشّیء فی نفسه إنّما تقتضی واحدا ، وفسّرها بعرفته ، لأنّ وضع «عرفته» لذلک خاصّه ، وبهذا یتبیّن أنّ تفسیر الجمیع بالمعرفه أوّلا غیر سدید .

قوله : «ورأیته بمعنی أبصرته» .

لأنّ الإبصار إنّما یقتضی واحدا ، و «وجدت الضالّه» : أصبتها فی نفسها .

«وکذلک « أریت الشیء» بمعنی بصّرته أو عرّفته » .

قوله : «أو عرّفته» فیه نظر إذ لم یثبت «رأیت الشیء فی نفسه» بمعنی عرفته ، وإنّما ثبت «رأیته» بمعنی «علمته علی صفه» (1) وبمعنی أبصرته بعینی (2) ، فاستعمال «أریت» علی معنی «عرّفت» علی خلاف ذلک ، ولا یستقیم الاستدلال بقوله تعالی : وَأَرِنا مَناسِکَنا (3) فإنّه غیر واضح فی «عرّفنا» لظهوره فی بصّرنا (4)

قوله : «و « أتقول إنّ زیدا منطلق» أی : أتفوّه بذلک » .

یوهم أنّ المعنی فی الکسر غیر المعنی فی الفتح ، والتّحقیق أنّ المعنی واحد فی الموضعین ، وکذلک إذا قلت : «أتقول زید منطلق» و «أتقول زیدا منطلقا» فی أنّ المعنی واحد ، وهو السّؤال عمّا قام به من القول الذی هو مختصّ بهذه النّسبه ، ووجه النّصب کوجه نصب مفعولی «أعلمت» (5)

ص: 58

کما تقدّم ، ووجه الرّفع ما تقدّم من قصد حکایه الجمله .

وإنّما لم یذکر أنّ «زعمت» لها وجهان أیضا مثل غیرها مع أنّهم یقولون : زعمت بمعنی کفلت (1) ، وهو لفظ «زعمت» المتعدّیه إلی المفعولین لأنّه قصد إلی استعمال هذه الألفاظ مع بقائها أفعالا من أفعال القلوب (2) .

فإن قیل : و «رأیت» إذا کانت من رؤیه العین فهی بمعنی «أبصرت» ولیست من أفعال القلوب .

فالجواب : أنّها وإن کانت للإبصار فمعناها أیضا علم بالحاسّه ، فلم تخرج عن معنی العلم ، وکذلک إذا ورد «وجدت الضّالّه» بمعنی أصبتها ، فإنّ «وجدت» مثله ثمّه ، إلّا أنّه ثمّه بمعنی «أصبتها علی صفه» ، وههنا «أصبتها فی نفسها» ، فکانت مثلها ، ولیس کذلک «زعمت» بمعنی کفلت مع «زعمت» التی من هذا الباب .

قوله : «ومن خصائصها أنّ الاقتصار علی أحد المفعولین» إلی آخره . وإنّما اختصّت [أفعال القلوب] (3) بامتناع (4) الاقتصار علی أحد مفعولیها لأنّهما فی المعنی مبتدأ وخبر ، فکما لا یصحّ قطع المبتدأ عن الخبر ولا الخبر عن المبتدأ فکذلک (5) مفعولاها (6) ، بخلاف باب «کسوت» ، فإنّه لا ربط بین مفعولیها ، فلذلک جاز ذکر أحدهما دون الآخر بخلاف هذا الباب [أی باب أفعال القلوب] (7) .

قال : «فأمّا المفعولان معا فلا علیک أن تسکت عنهما فی البابین» .

یعنی هذا وباب «کسوت» ، وقد اختلف النّاس فی جواز قطعها عن المفعولین من غیر أن یقترن بها زیاده فائده ، فمنعه بعضهم نظرا إلی أنّه لا یخلو أحد من علم أو حسبان (8) ، فلو قیل : علمت وحسبت

ص: 59

لم تکن فیه فائده ، فیکون امتناعه لامتناع فائدته ، وهو وجه قویّ فی ذلک ، أو لأنّ هذه الأفعال قد تلقّیت بما یتلقّی به القسم ، فکما لا بدّ للقسم من جواب ، فکذلک لا بدّ لهذه الأفعال من مفعولین (1) .

واستدلّ الآخرون بقولهم : «من یسمع یخل» (2) ، [أی : یخل المسموع حقّا] (3) ، فقد ذکر الفعل مقطوعا عن المفعولین وعن الزّیاده (4) .

وأجیب بأنّ هذا / مثل قد علم معناه ، فکانت الزیاده معلومه ، إذ المفعولان (5) محذوفان مقدّران (6) ، لأنّ المعنی : من یسمع یخل المسموع صحیحا ، إذ معنی «من یسمع» من یرکن إلی الاستماع ، أو لأنّ هذا مثل والمثل غیر مقیس علیه (7) .

وقد اعترض بقولهم : «ظننت ذاک» ، وهو اقتصار علی أحد المفعولین ، وأجیب عنه بأنّه إشاره إلی الظّنّ المدلول علیه ب «ظننت» (8) والمفعولان محذوفان ، لأنّ ذلک إنّما یقال بعد تقدّم ذکر ما یصحّ أن یکونا مفعولین ، کقول قائل : «ظننت زیدا قائما» فتقول (9) : «ظننت ذاک» أی ظننت ذاک الظّنّ ، أی ظنّا مثله ، وإذا أشیر إلی ظنّ مخصوص بمتعلّق مخصوص وجب أن یکون مفعولاه (10) فی المعنی مثلهما ، فیحذف للعلم به (11) ، ومن ثمّه وهم بعضهم فی أنّ ذاک إشاره إلی المفعولین جمیعا ، وجوّز مثل ذلک لّما کان عباره عن المفعولین ، کما جوّز «أنبأته ذاک» و «قلت له ذاک» ، وهو فی موضع الجمله ، فکذلک ههنا ، وهذا غلط ، فإنّ مفعولی «أنبأت» وأخواته وما یقع بعد القول لیس من مقتضیات

ص: 60

الإنباء والقول ، وإنّما هو النّبأ والقول بعینه ، ولکنّه علی وجه من التخصیص ألا تری أنّ قولک : «زید منطلق» نوع مخصوص من النبأ وقولک : «زید منطلق» نوع مخصوص من القول ، فوضح أنّه مصدر محقّق ، وإنّما وقعت صوره هی صوره الجمله ، لأنّ النوع المخصوص منه لا یکون إلّا کذلک ، فجاءت الجمله من ضروره الخصوص ، فإذا عدل عن الخصوصیّه جاء المصدر فیه (1) مفردا ، فتقول :

«أنبأته الإنباء» و «أنبأته ذلک» تعنی الإنباء ، ولیس مفعولا ظننت وحسبت کذلک ، فإنّه من متعلّقه ، ووضعه أن یتعلّق بالشیء علی صفه ، فإذا علّقته ههنا بالحدیث بجملته احتجت إلی صفه یکون الحدیث علیها وإلّا خالفت وضعه ، ولا یستقیم أن یقال : إنّه لّما تضمّن الصّفه والذّات جمیعا أغنی عن ذکرهما مفصّلین ، فإنّک أوقعت الظّنّ علی الجمله بلفظ واحد علی أنّه الأوّل ، وذلک یوجب ذکر الصّفه ، ولو ذکرت الجمله مفصّله وأنت تعنی بها الحدیث وأنّه مظنون بکماله لوجب (2) أن تذکر صفه أخری یکون علیها الحدیث ، / فهذا أجدر ، فوضح بذاک أنّ ذاک فی «ظننت ذاک» لا یستقیم جعله مفعولا بالحدیث (3) ولا غیره ، ووجب جعله مصدرا .

«وتقول : ظننت به ، إذا جعلته مکان ظنّک» .

فیکون المفعولان أیضا محذوفین (4) ، ویکون «به» فضله کالظرف لبیان موضع الظنّ (5) ، لا علی أنّه أحد المفعولین ، کما تقول : «ظننت فی الدار» ، إلّا أنّ الفرق بینهما أنّ الدار ظرف محقّق لوقوع الظّنّ فیه (6) ، والمجرور ههنا ظرف مقدّر لمحلّ ما تعلّق به الظّنّ ، وکذلک لو صرّحت بالمفعولین مع مثل ذلک کان مستقیما ، کقولک : «ظننت بزید وجهه حسنا» ، ف «وجهه حسنا» هما المفعولان ، و «بزید» إنّما ذکر لیبیّن به محلّ ما تعلّق به الظّنّ ، وهو مع حذف المفعولین أحسن لقیامه بالفائده ، ومع المفعولین تقلّ فائدته ، لأنّ المفعولین یحصل منهما ذلک ، [کقولک : «ظننت وجه زید حسنا»] (7) ، وقول من قال : إنّه مفعول بدلیل قولهم : «ظننت به خیرا» لا یستقیم ، لما تقدّم من أنّه خلاف وضعه ، ووجهه أنّه مصدر أیضا ، أی : ظنّ خیر ، کما تقول : ظننت سوءا ، وظننت ظنّ سوء بمعنی

ص: 61

واحد ، والذی یدلّک علی ذلک أیضا أنّک لو جمعت بین ذلک وبین المفعولین لکان مستقیما ، کقولک : «ظننت بزید خیرا ودّه باقیا» ، فذکرت المفعولین کما (1) فی قوله تعالی : یَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَیْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِیَّهِ (2) ، فقوله : «غیر الحقّ» و «ظنّ الجاهلیّه» مصدران أحدهما للتشبیه والآخر توکید لغیر مضمون الجمله (3) ، [لأنّ «تظنّون باللّه» یحتمل أن یکون حقّا وغیر حقّ ، فلمّا قال : «غیر الحقّ» تبیّن ، وتقدیر الکلام : تظنّون باللّه غیر الحقّ ظنّا کظنّ الجاهلیّه ، فالظّنّ الثانی للتشبیه ، والظّنّ الأوّل توکید لغیر الحقّ الذی هو غیر مضمون الجمله] (4) ، والمفعولان محذوفان ، أی : إخلاف وعده حاصلا ، فهذا ممّا یبیّن به أنّ «به» (5) فی قولک : «ظننت به» لیس مفعولا لظننت .

«فإن جعلت الباء زائده بمنزلتها فی « ألقی بیده» لم یجز السکوت علیه » .

جعل الباء زائده فی مثل ذلک یتوقّف علی السماع ، ولم یثبت «ظننت بزید قائما» وإذا کان کذلک فلا معنی لقوله : «فإن جعلت الباء مزیده» فإنّه یوهم صحّه ذلک ، ولیس بصحیح .

قال : «ومن خصائصها (6) أنّها إذا تقدّمت أعملت» .

أمّا إذا تقدّمت فالوجه الإعمال ، وهو الثابت کثیرا ، وقد نقل جواز الإلغاء (7) ، ولا بعد فیه ، لأنّ المعنی فی صحّه الإلغاء قائم تقدّمت أو تأخّرت وهو أنّ متعلّقها له إعراب مستقلّ قبل دخولها / ، فجعل بعد دخولها علی أصله وجعلت هی تفید معناها خاصّه ، وهذا حاصل تقدّمت أو تأخّرت .

وإنّما کثر إعمالها متقدّمه لأنّ المقتضی إذا تقدّم کان أقوی منه إذا تأخّرت بدلیل قولهم : «لزید ضربت» ، وامتناع «ضربت لزید» ، وإذا کان کذلک فلا بعد فی التزام النصب عند التقدیم أو (8) القوّه ، وإذا توسّطت أو تأخّرت حصل بعض الضّعف ، فیقوی الرّجوع إلی أصل مفعولیها کما

ص: 62

تقدّم فحصل من ذلک أنّها إذا تقدّمت قوی الإعمال أو التزم علی قول (1) ، وإذا توسّطت کان الإلغاء أقوی منه إذا تقدّمت ، وإذا تأخّرت کان الإلغاء أقوی منه إذا توسّطت .

«ویلغی المصدر إلغاء الفعل» .

لأنّ الفعل مراد ، فیجوز إعماله وإلغاؤه ، إذ الجمیع سواء .

«ولا یکون الإلغاء فی (2) سائر الأفعال» .

یعنی فی بقیّه الأفعال [المتعدّیه إلی المفعولین غیر أفعال القلوب] (3) ، من جهه أنّ متعلّقاتها غیر مرتبطه بأنفسها حتّی تبقی علی حالها ، ألا تری أنّ قولک : «أعطیت زیدا درهما» لو ألغیته لم یستقم أن ینتظم زید مع الدرهم کلاما (4) ، إذ لا ربط (5) بینهما قبل ذلک ولا بعده بخلاف ما نحن فیه .

«ومنها أنّها تعلّق» .

والفرق بین التّعلیق والإلغاء أنّ الإلغاء عباره عن قطعها (6) عن العمل مع جواز الإعمال ببقائها علی أصلها ، والتعلیق قطعها عن العمل لمانع منع من إعمالها ، وذلک عند دخول حرف الابتداء والاستفهام والنّفی ، لأنّک لو أعملتها لجعلت ما بعد لام الابتداء وحرف الاستفهام والنفی معمولا لما قبله ، فیخرج عن أن یکون له صدر الکلام ، وهو موضوع فی صدر الکلام ، فلا یعمل ما قبله فیما بعده ، فوجب الإلغاء (7) لذلک .

وموضعه موضع نصب باعتبار المعنی ، لأنّه متعلّق الظّنّ ، إلّا أنّه جمله مستقلّه ، وکونه متعلّقا للظنّ باعتبار (8) المعنی لا یخرجه عن أن یکون (9) له صدر الکلام ، ألا تری أنّک إذا قلت : « زید ما

ص: 63

ضربته » أو «زید هل ضربته» لم یخرج بوقوعه خبرا للمبتدأ عن أن یکون له صدر الکلام ، لأنّه وقع فی جملته فی صدر الکلام ، فقد وفّر علیه ما یقتضیه ، فکذلک ههنا ، وإذا دخل علی هذه الجمله کان فی المعنی المسند إلیه هو المفعول الأوّل ، والمسند هو المفعول الثانی .

وقد اختلف / فی «علمت هل قام زید (1)» فجوّزه قوم ، ومنعه قوم مع اتّفاقهم علی «علمت أزید عندک أم عمرو» ، فأمّا من أجازه فإنّه نظر إلی صوره الجمله ، وهی حاصله فی الموضعین مثلها فی «أزید قائم أم عمرو» ، والذی منع زعم أنّ (2) مضمون الاستفهام لا یصحّ أن یکون متعلّقا للعلم إلّا بتأویل (3) ، وهو أن یکون ما یقال فی جوابه - والذی یقال (4) فی جواب الاستفهام مع أم أحد الشیئین - منسوبا إلیه ذلک الحکم ، فیحصل تعلّق العلم بشیء علی صفه ، فإذا قلت : «علمت أزید عندک أم عمرو» (5) فمعناه : علمت أحدهما معیّنا علی صفه ، وهو کونه عندک ، لأنّ ذلک هو (6) الذی یقال فی جوابه ، وأمّا إذا قال : «هل زید قائم» فلیس جواب هذا نسبه قیام إلی زید أو نفیه حتی یصحّ أن یقال : إنّ العلم إذا دخل علیه تعلّق بذلک حسب ما تعلّق مع أم ، وإنّما جوابه نعم أو لا ، فهو غیر متعیّن ، فکیف یصحّ تعلّق العلم بمثل ذلک ؟

ویجاب [عن ذلک] (7) بأنّ معنی «نعم» «نعم (8) زید قائم» ، ومعنی «لا» «ما زید قائم» ، ولولا ذلک لم یستقم أن یکون «نعم» أو «لا» کلاما ، فحصل المقصود من محکوم علیه ومحکوم به فی الجواب ، وهو المصحّح للتعلیق .

ومثل الهمزه وأم «علمت أیّ الرجلین جاءک» وما أشبهه (9) ممّا معناه طلب التّعیین ، فهو فی الجواز (10) سواء .

ص: 64

قوله : «ولا یکون التعلیق فی غیرها» .

لیس بمستقیم علی ظاهره ، فإنّ «عرفت» و «علمت» الذی بمعنی «عرفت» یعلّق أیضا ، وکذلک ما أشبهها من أفعال القلوب یعلّق أیضا مع الاستفهام ، نعم التّعلیق مخصوص بأفعال القلوب دون سائر الأفعال (1) ، وسببه مع النّفی وحرف الابتداء (2) ما تقدّم من أنّها جمله مستقلّه دخل علیها ما یصدّ عن (3) عمل الأوّل فیها ، فاستقام ذکرها مقطوعه عن إعمال الفعل فیها ، ولیس لمتعلّق من متعلّقات الأفعال هذا المعنی حتی یستقیم تعلیقها ، کما أنّه لم یستقم إلغاؤها لفوات ذلک المعنی ، وسببه مع الاستفهام فی المتعدّیه إلی مفعولین ما ذکرناه ، وفی المتعدّیه (4) إلی واحد أنّ المقصود : علمت جواب ذلک ، وهذا إنّما یستقیم مع العلم دون غیره ، فلذلک لم تعلّق إلّا أفعال القلوب .

«ومنها أنّک تجمع فیها بین ضمیری الفاعل والمفعول ، فتقول : علمتنی منطلقا» .

وسببه أنّهم إنّما کرهوا ذلک فی غیرها ، وإن کان هو الأصل (5) لما ثبت / من أنّ غیرها قلّ أن یکون فی الوجود فاعله ومفعوله لشیء واحد ، فلمّا کان کذلک کرهوا أن یأتوا بالضّمیرین لهما ، فیسبق إلی الوهم أنّهما مختلفان قضاء بالأکثر ، فیقع اللّبس ، فعدلوا إلی لفظ النفس [بالضمیر لها] (6) لیکون إیذانا باتّحادهما لما فیه من زیاده لفظ لیس فی المضمر .

وأمّا أفعال القلوب فإنّها کثیرا ما یقع فاعلها ومفعولها لشیء واحد ، بل هو الأکثر ، لأنّ علم الإنسان وظنّه بأمور نفسه أکثر وقوعا من غیره ، وإذا کان کذلک فقد زال ذلک المعنی المقتضی لتغییر الأصل ، فبقیت علی أصلها ، وحمل علیها قولهم : عدمتنی وفقدتنی (7) ، لأنّهما ضدّ «وجدت» ،

ص: 65

و «وجدت» (1) منها (2) ، فحملت علی ضدّها (3) ، ولا بعد فی أن یحمل الشیء علی ضدّه ، واللّه أعلم .

ص: 66

أمّا «ما دام» فلکثرتها ، وأمّا الأخر فلأنّها لم تستعمل إلّا کذلک ، واستغنی (1) عن البواقی بما بیّنه من المعنی ، وهو قوله : «وما کان نحوهنّ من الفعل ، مما لا یستغنی عن الخبر (2)» ، یرید ما وضع لما ذکرناه من تقریر الشیء علی صفه ، فهذا معنی قوله : «ممّا لا یستغنی عن الخبر» .

قوله (3) : «وممّا یجوز أن یلحق بهنّ آض وعاد وغدا وراح» .

لأنّ أحد وجهی استعمالها لتقریر الشیء علی صفه ، فوجب عند ذلک أن تکون منها لمشارکتها لها فی المعنی الذی کانت ناقصه به .

قال : «وقد جاء « جاء» بمعنی صار فی قولهم (4) : ما جاءت حاجتک (5) » .

[أی : ما صارت هی حاجتک] (6) ، وهل یقتصر فی ذلک علی هذا المحلّ أو یعدّی إلی غیره ؟ فیه نظر ، والأولی أن یعدّی ، لأنّهم یقولون : «جاء البرّ قفیزین وصاعین» (7) ، علی أنّه قد قیل : إنّ قفیزین حال ، وهو ضعیف (8) ، لأنّهم لم یقصدوا الإخبار عن البرّ بالمجیء فی نفسه ، وإنّما قصدوا حصوله علی هذه الصفه ، فوجب أن یکون ممّا نحن فیه ، [أی : بمعنی صار] (9) ، وإذا ثبت ذلک صحّ استعماله فی غیر الموضع المذکور .

وأما قولهم : «حتّی (10) قعدت کأنّها حربه» .

ص: 68

[أی : صارت] (1) ، فالظّاهر أنّه مخصوص بمحلّه ، فإنّه لم یعرف فی غیره ، إذ لا یقال : «قعد کاتبا» علی نحو «صار کاتبا» (2) ، ولکن لا یبعد أن یقال : «قعد زید کأنّه سلطان» علی نحو ما نحن فیه ، [أی : بمعنی صار] (3) من إراده ثبوته علی هذه الصفه ، فیکون مخصوصا بمثل ذلک .

قال : «وحال الاسم والخبر مثلها (4) فی باب الابتداء» ، إلی آخره .

قوله : «مثلها» ضمیر الحال المضافه إلی الاسم والخبر جمیعا ، وإذا کان کذلک کان حال الاسم کحال المبتدأ ، وحال الخبر کحال الخبر فی مراده ، لأنّه أضاف الحال إلیهما ، وأخبر عنها بإضافه المثل إلی المبتدأ والخبر ، ثمّ خصّص المثلیّه التی أرادها بکون الاسم معرفه والخبر / نکره ، ولیس ینبغی أن تجعل المثلیّه فی ذلک خاصّه ، بل المثلیّه فیه وفی غیره من أحکام المبتدأ والخبر ، إلّا أن تکون «کان» مانعه منه ، فیتماثل البابان (5) فی أنّه یجوز أن یقع المبتدأ معرفه ونکره بشرطه ، ویکون الخبر مفردا وجمله بالتّقاسیم والشّروط التی مضت ، وما (6) خصّص به حکم من الأحکام المذکوره .

قوله : « ونحو قول القطامیّ (7) :

قفی قبل التفرّق یا ضباعا

ولا یک موقف منک الوداعا

وما أنشده بعده «من القلب الذی یشجّع علیه أمن الإلباس» (8) ، یرید أنّ القیاس علی خلاف ما جاؤوا به فی الشّعر ، وهو رفع المعرفه ونصب النکره ، فخالفوا فی ذلک للضروره لّما کان غیر ملبس .

ص: 69

وقوله (1) :

فإنّک لا تبالی بعد حول

أظبی کان أمّک أم حمار

وجه کونه من هذا الباب أنّ الاستفهام الواقع بعده «ظبی» یقدّر بالفعل ، فتقدیره : أکان ظبی أمّک ، لأنّ تقدیر الاستفهام بالفعل أولی ، فإذا قدّر الفعل فیجب أن یکون علی حسب المفسّر ، والمفسّر «کان» فوجب أن یکون التقدیر : أکان ظبی أمّک ، وهو عین ما قصد فی الأبیات الأخر ، فهذا وجه تقدیر کون اسم «کان» ههنا نکره وخبرها معرفه .

وقد ظنّ بعض الناس أنّ موضع الاستشهاد (2) أنّ الضمیر فی «کان» ضمیر «ظبی» ، وضمیر النکره نکره (3) ، وقد أخبر عنه بالمعرفه ، فکان من هذا الباب لذلک (4) ، وهذا غیر مستقیم ، فإنّک لو قلت : «جاءنی رجل وکان راکبا» لکان مستقیما ، ولم یعدّ الاسم خارجا عن القیاس لکونه ضمیر نکره ، [یعنی : الضمیر فی «کان» فی قولک : «جاءنی رجل وکان راکبا» معرفه ، وإن کان ضمیر «رجل» وهو نکره] (5) .

فإن قیل : لیست هذه من قبیل ما نحن فیه ، فإنّ الذی نحن فیه أن یکون الاسم نکره والخبر معرفه ، وما مثّلت (6) به نکرتان ، لأنّ ضمیر النکره (7) نکره (8) ، و «راکبا» نکره .

ص: 70

فالجواب : أنّه کما یمتنع أن یکون اسم «کان» نکره وخبرها معرفه فیمتنع (1) أن یکون اسمها نکره من غیر مصحّح ، ولو لم یکن الضمیر معرفه لما صحّ ، بدلیل امتناع «کان رجل قائما» ، ثمّ لو قدّر ضارب معهود بینک وبین مخاطبک لصحّ أن تقول : «جاءنی الیوم رجل» واتّفق أن کان ذلک الضارب ، وهذه (2) عین ما أنکر ، ولیست مثل قولک : «کان رجل الضارب» ، هذا ما لا یشکّ فیه ، والنحویّون وإن اختلفوا فی أنّ ضمیر النکره معرفه (3) فلم یختلفوا فی صحّه وقوعها محلّ المعرفه ، وإنّما الخلاف فی أنّ المعرفه / راجعه إلی ما یتعیّن مدلوله وجودا أو علی أیّ وجه کان (4) ، ولذلک یقال بالإجماع : «ضربت رجلا وهو راکب» ، ولولا أنّ الضمیر فی حکم المعرفه لم یصحّ وقوعه مبتدأ .

وقد أورد علی التقدیر الأوّل (5) أنّ الدّاخل علیه همزه الاستفهام المعادله لأم یجب أن یکون الواقع بعد أم معادلا له ، وإذا جعل الواقع بعد الهمزه «کان» المقدّره لم یکن الواقع بعد «أم» المعادله (6) کذلک ، ألا تری أنّک لو قلت : «أضربت زیدا أم عمرا» لم یستقم حتی تقول : «أزیدا ضربت أم عمرا» ، لأنّ الغرض بدخول الهمزه وأم المعادله بین شیئین نسبتهما باعتبار ما جعل لهما عند المتکلّم علی حال واحده ، فقصد ذکر أحدهما بعد الهمزه ، والآخر بعد أم لذلک الغرض ، وإذا کان کذلک فقد أوقعت بعد الهمزه ههنا «کان» المقدّره وأوقعت بعد أم لفظ حمار ، فلم تعادل بین الأمرین اللّذین جیء بالهمزه وأم لهما ، والجواب من وجهین :

أحدهما : أنّه لّما کانت «کان» المقدّره واجبا حذفها لّما وقع [کان] (6) مفسّرا لها کان حکمها لذلک حکم العدم (7) ، فقد وقع بعد همزه الاستفهام ما قصد به المعادله بینه وبین ما بعد أم ، وهو حمار ، فهذا وجه یسوّغ ذلک .

والآخر : أنّ «کان» المقدّره لّما لم تکن مقصوده کان تقدیرها ووجودها کالعدم ، فلم یذکر بعد

ص: 71

الهمزه مقصودا إلّا ظبی ، وهو المعادل .

والأولی بعد ذلک أن یقال : إنّ «ظبی» (1) مبتدأ ، و «کان أمّک» خبر له ، و «حمار» عطف علی ظبی ، وصحّ الابتداء بالنکره لّما کانت بعد الهمزه المعادله لأم ، کما صحّ «أرجل فی الدار أم امرأه» ، إلّا أنّه یخرج البیت عن مقصود التمثیل لما تقدّم أوّلا من إبطال کون الضمیر نکره .

ولو قال قائل : إنّ «کان» ههنا لا ضمیر فیها ، وإنّ أصل الکلام : أظبیا کان أمّک أم حمارا ، ف «ظبیا» هو الخبر فی الأصل ، و «حمارا» معطوف علیه ، فلمّا قصد إلی القلب قلب مع بقاء کلّ شیء فی موضعه ، والمعنی علی ما کان علیه .

فإن قیل : فهذا یؤدّی إلی جواز تقدیم اسم کان علیها ، لأنّه (2) لمّا رفع «ظبیا» علی تقدیرکم جعله اسما ل «کان» (3) ، وهو مقدّم .

فالجواب : أنّه لم یقصد إلی جعله اسما تحقیقا ، وإنّما قصد إلی جعله اسما صوره ، ألا تری أنّه فی المعنی خبر علی ما / کان علیه لو کان منصوبا ، فیکون ذلک هو الذی سوّغ بقاءه مقدّما ، وهذا لا بعد فیه إلّا حذف التاء من «کانت» ، فإنّه إذا بقی الأمر علی ما کان علیه فی الأصل ، فالأصل : أظبیا کانت أمّک ، وقد حذفت التاء ، وحذف التاء مشعر بجعل الضمیر فیها مستترا علی أنّه اسمها (4) ، فیبطل هذا ذلک (5) التقدیر .

وجوابه أن یقال : هذا کلّه من قبیل الشّذوذ ، وحذف التاء أیضا من قبیل الشذوذ ، إلّا أنّه شذوذ یلزم منه شذوذ ثان ، ویمکن أن یقوّی ذلک بأن یقال : لّما جعل الظّبی فی الصوره مخبرا عنه صار «کان» کأنّه فی الصوره راجع إلیه ، وصار «أمّک» کأنّه فی الصوره غیر الاسم ، فشبّه بما فیه ضمیر المذکّر وبما لم یقع منسوبا إلی مؤنّث ، ومثل ذلک یفصله (6) عن قولهم : «کان هند قائمه» ، فإنّه یناسب حذف التاء المذکوره .

ص: 72

ضمیرا ، ومنها أنّه لا یکون إلّا للحدیث ، ومنها أنّه لا یکون إلّا مبهما ومنها أنه لا یکون خبرها إلّا جمله ، ومنها أنّه / لا یکون فیه ضمیر یعود (1) علی اسمها .

«وقوله عزّ وجلّ : لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ (2) یتوجّه علی الأربعه» .

فإذا کانت ناقصه کان «قلب» اسمها و «له» خبرها ، وإن کانت تامّه (3) کان «قلب» فاعلها ، و «له» متعلّق بها ، وإن کانت زائده کان «له قلب» مبتدأ وخبرا ، والمعنی : لمن له قلب ، وإذا (4) کانت لضمیر الشّأن کان فیها ضمیر الحدیث ، هو اسمها ، و «له قلب» مبتدأ وخبر فی موضع خبرها ، فقد تحقّق توجّهها علی الأوجه الأربعه .

« وقیل فی قوله : (5)

بتیهاء قفر . . . البیت

إنّ «کان» فیه بمعنی صار » لتعذّر (6) حملها علی أحد الوجوه (7) الأربعه ، فالتّامّه والزّائده والتی فیها ضمیر الشّأن امتناعها واضح .

أمّا التامّه فلأنّه یجب أن یکون «فراخا» حالا ، فیلزم أن یکون البیض فی حال کونه فراخا ، وهو فاسد ، وأمّا الزائده فتفسد من حیث اللّفظ ومن حیث المعنی ، أمّا اللّفظ فلنصب «فراخا» .

وأمّا المعنی فللإخبار عن البیض بأنّه فراخ ، وأمّا التی فیها ضمیر الشّأن فللأمرین بعینهما ، والنّاقصه

ص: 74

إنّما لم تستقم لأنّه یؤدّی إلی عکس المعنی ، لأنّها تشعر ههنا بأنّ الفراخ سابقه علی البیض ، لأنّ المعنی یصیر : کان البیض فراخا ، وهو عکسه ، لأنّ المعنی (1) : کان الفراخ بیضا ، فلمّا کان مؤدّیا إلی عکس المعنی تعذّر حمله علی ذلک ، فحمل علی «صار» ، والمعنی علیه .

لأنّه لا یستقیم أن یراد (1) اعتبار الوقت لأنّهم علی هذه الصّفه فی هذا الوقت وغیره ، ولیس المقصود أنّهم فی الضّحی علی هذه الصفه ، إذ لیس للتخصیص وجه ، وإنّما المعنی : ثمّ صاروا .

لأنّ «إلّا» لا یستقیم أن تکون للإخراج ، فلا تکون «إلّا» للتفریغ ، [لأنّ «إلّا» لا تجیء إلّا للإخراج أو التفریغ ، وههنا لا یصلح أن تکون للإخراج ، فتکون للتّفریغ] (1) ، وإذا کان کذلک فشرط التّفریغ أن یکون فی مثل ذلک بعد نفی ، ولا نفی ههنا لما ثبت من أنّ «ما زال» للإثبات ، ثمّ لو سلّم أنّها تکون بعد الإثبات لوجب أن یکون المخرج منفیّا ، وإذا کان منفیّا بإلّا لکونه بعد الإثبات تناقض مع «ما زال» ، لأنّ «ما زال» لإثباته ، و «إلّا» یکون لنفیه ، فیصیر مثبتا منفیّا فی حال واحده ، وهو محال .

« وخطّئ ذو الرّمّه بقوله (2) :

حراجیج ما تنفکّ إلّا مناخه » .

لما ذکرناه من الوجهین ، [سواء کان المقدّم منفیّا أو مثبتا ، لأنّ الاستثناء من النّفی إثبات ، ومن الإثبات نفی ، ویلزم التناقض] (3) ، وقد قیل : إنّ قوله : «علی الخسف» هو خبر «ما تنفکّ» ، کأنّه قال : ما تنفکّ مهانه ، ثمّ استثنی «إلّا مناخه» بعد أن کمل اسمها وخبرها علی أنّه حال مستثنی من أحوال عامّه مقدّره ، أی : ما تنفکّ علی الخسف فی حال من الأحوال إلّا فی حال الإناخه (4) ، فإنّه تحصل لها راحه ، فیکون المراد بالإناخه إناخه البعیر ، وهو جعله بارکا ، فإنّه حینئذ تحصل (5) له راحه ، ویکون المعنیّ بمناخه (6) فی وجه الإفساد ، [أیّ : الذی یلزم التّناقض منه] (7) ، أی :

مقصوره علی الخسف أی : الذّلّ لا تفارقه حتّی یحصل بها الغرض ، [أی : بالإناخه ، غرض الشّاعر ، وهو قوله : « أو نرمی بها بلدا قفرا] (8) ، إلّا أنّ التقدیر المصحّح ضعیف من وجهین :

ص: 78

أحدهما : أنّه استثناء مفرّغ ، والاستثناء المفرّغ قلّ أن یأتی فی المثبت ، وإنّما یأتی فی النّفی .

والآخر : أنّ الاستثناء المفرّغ إنّما یکون المستثنی منه مقدّرا قبله ، وهذا إنّما یقدّر المستثنی منه بعده ، لأنّه مستثنی من الأحوال للضمیر المستقرّ فی قوله : «علی الخسف» ، لأنّ التقدیر : ما تنفکّ مهانه فی جمیع الأحوال إلّا فی حال الإناخه ، فکان المستثنی منه مقدّرا بعده ، وذلک لم یعهد فی الاستثناء المفرّغ .

قوله : «وتجیء محذوفا منها / حرف النّفی» .

وذلک مع القسم ، لأنّه قد علم أنّه مراد ، کما تقول : «واللّه یقوم زید» ، وذلک جار فی حرف النّفی فی هذه الأفعال وفی غیرها علی ما یأتی فی القسم .

قال : «وما دام توقیت للفعل» .

قال الشیخ : إن أراد بقوله : «للفعل» دام نفسها أو خبرها فلیس ذلک بمستقیم ، إذ لیست توقیتا لنفسها ولا خبرها ، وإن أراد بقوله : «للفعل» الذی یصحبها فلم یبیّن لها خصوصیّه وهو (1) مقصوده (2) ، إذ ذلک معنی لفظه «ما» فی کلّ موضع ، إذا کانت للظّرفیّه ، کقولک : «أجلس ما جلست» و «أکتب (3) ما کتبت» وشبه ذلک ، والغرض تبیین معناها المتمیّزه به (4) باعتبار حاجتها إلی الخبر ، لا تبیین معنی لفظه «ما» التی للظّرفیّه ، فإنّ ذلک یعمّ ما الظرفیّه (5) أینما وقعت .

والأولی أن یقال : «وما دام» توقیت لأمر بمدّه ثبوت خبرها لاسمها ، فقوله : «توقیت لأمر» یعنی به ما یصحبها من فعل أو مشبّه به ، وقوله : «بمّده ثبوت خبرها لاسمها» ممّا تتمیّز به «ما دام» دون غیرها ممّا یکون ظرفا ، فإنّ ذلک توقیت لأمر بمدّه ثبوت ذلک الفعل الواقع معها لفاعله .

وإذا قلت : «أجلس ما دمت قائما» فقولک : «ما دمت قائما» توقیت للجلوس بمدّه ثبوت القیام منسوبا إلی المخاطب ، فهذا هو المعنی الذی تتمیّز به عن سائر الأفعال التی تصحبها «ما»

ص: 79

الظرفیّه ، فکان التّعرّض (1) لبیانه أهمّ من التّعرض لبیان الأمر العامّ الذی لا خصوصیّه لها فیه .

ثمّ بیّن کونها ظرفیّه بتشبیهها بالمصادر التی وقعت ظرفا إیذانا بأنّها المصدریّه استعملت ظرفا .

قال : «ولذلک کان مفتقرا إلی أن یشفع بکلام ، لأنّه ظرف لا بدّ له ممّا یقع فیه» .

وهذا واضح ، لأنّ المفعول فیه ما فعل فیه فعل مذکور ، وإذا کان ذلک مفعولا فیه وجب أن یکون معه فعل مذکور أو شبهه ممّا یکون الظرف به فضله ، إذ الظرف لا یکون أحد جزأی الجمله ، ومن ثمّ لم یکن بدّ من کلام یشفع به حتّی تستقیم ظرفیّته .

الأفعال (1) ، وقد تقدّم فی حدّ الاسم ما یرشد إلی فعلیّتها ودخولها تحت حدّ الفعل ، وعلّه (2) تجرّدها عن الدّلاله علی الزمان الماضی ، وسیأتی فی المشترک بیان إعلالها علی هذه الزّنه .

معنی النفی حاصل لم یرجع الإثبات الذی دخل علیه نفیا ، فکیف / یزول معنی النفی وباعتباره قد حصل المعنی مثبتا ؟ فالوجه ما علیه العامّه ، ولذلک لم یعرف مثل ذلک واقعا فی کلامهم .

وأمّا «لیس» فقد زعم بعضهم أنّه یتقدّم خبرها علیها مثل «کان» واستدلّ علی ذلک بقوله تعالی : أَلا یَوْمَ یَأْتِیهِمْ لَیْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ (1) ، و «یوم یأتیهم» معمول ل «مصروفا» ، وإذا تقدّم المعمول دلّ علی جواز تقدّم العامل ، لأنّه فرع تقدّمه ، وإلی ذلک ذهب الزمخشری (2) ، [وهو مذهب البصریّین] (3) ، فإنّه قال : «وقد خولف فی « لیس» فجعل من الضّرب الأوّل » ، یعنی من الذی لا یجوز تقدیم خبرها علیها ، ثمّ قال : «والأوّل هو الصحیح» ، یعنی بالأوّل دخولها فیما یتقدّم الخبر علیها ، لأنّه قال : «وما عداها یتقدّم خبرها علی اسمها وعلیها» ، ولم یتقدّم إلّا حکم ما أوّله «ما» ، فقد دخلت «لیس» فی قوله (4) : «وما عداها» ، فإذا قال بعد ذلک : «والأوّل هو الصّحیح» فهو حکم علی هذا القول بالصّحه ، وهو تقدیم خبرها علیها .

وقد منع قوم تقدیم خبرها علیها ، وعلّته أنّه لم یثبت مصرّحا تقدیمه ، ولأنّها فعل غیر متصرّف معناه نفی ، فکان کالحرف فی (5) امتناع تقدیم ما فی حیّزه علیه .

قال : «وفصّل سیبویه فی تقدیم الظّرف وتأخیره بین اللّغو منه والمستقرّ» إلی آخره .

یرید بالمستقرّ ما کان خبرا محتاجا إلیه ، وجعله مستقرّا لأنّه یتعلّق بالاستقرار فالاستقرار فیه ، فهو مستقرّ فیه ، ثمّ حذف «فیه» اختصارا ، ویرید بقوله : «لغوا» ما کان فضله ، وسمّاه لغوا (6) لأنّک لو حذفته لکان الکلام مستغنیا عنه لا حاجه به إلیه .

ووجه استحسانه لذلک أنّه محتاج إلیه ، فکان فی تقدیمه إشعار من أوّل وهله (7) بأنّه خبر لا فضله ، وفی تأخیره إیذان بأنّه لغو لا خبر ، فلمّا أفاد هذه الإفاده بتقدیمه وتأخیره حسن ذلک فیه علی حسب المعنیین .

ص: 82

ومثّل المستقرّ بقوله : «ما کان فیها أحد خیر منک (1) » واللّغو بقوله : «ما کان أحد خیرا منک فیها» (2) ، ثمّ قال - یعنی سیبویه - : «وأهل الجفاء یقرؤون : ولم یکن کفوا له أحد (3)» ، وهذا الکلام غیر سدید ، فإنه إن کان اعتراضا صحیحا فلا یندفع بأنّ أهل الجفاء یقرؤون خلافه ، لأنّ أهل الإجماع یقرؤونه علی خلاف ذلک ، والمعتمد علیه لا علی ما نقل آحادا إن (4) صحّ النقل فیه ، وإن لم یکن اعتراضا لازما فیجاب بما یدفعه ، ویبیّن به أنّه غیر لازم .

وأولی ما یقال فیه بعد تسلیم القاعده الأولی ، [وهی تقدیم غیر الفضله وتأخیر الفضله] (5) أنّه عرض ههنا مانع / یمنع من حکم القاعده المتقدّمه ، وهو الاهتمام بتناسب الفواصل ، لأنّه لو أخّر لتغیّرت الفواصل ، وأمرها أهمّ من تأخیر اللّغو ، فوجب لأجل صحّه الفواصل تقدیمه ، وإن کان لغوا ، فإن ورد أنّه یمکن أن یقدّم علی ما یصحّح الفواصل (6) لا علیهما جمیعا فیحتاج إلی جواب فی تقدیمه علیهما جمیعا ، وإذا کان أصله التأخیر ، وإنّما قدّم لتصحیح الفواصل ، فما وجب لأمر یقدّر (7) بقدره ، فکان (8) تقدیمه علی الاسم یغنی عن تقدیمه علیهما جمیعا ، ولعلّ سیبویه إنّما قصد إلی الإجابه عن هذا (9) الاعتراض خاصّه ، والذی (10) یدّلّ علیه أنّه مقدّم أیضا علی ما ذکر أنّها قراءه أهل الجفاء ، فکأنّ أمر الفواصل ظاهر فی علّه تقدیمه علی «أحد» ، ولو قدّر أنّه قصد ذلک فالجواب أیضا غیر سدید لما تقدّم [من القراءه العامّه] (11) .

والجواب السّدید أن یقال : إنّما قدّم علیهما جمیعا لأنّه لّما وجب تقدیمه علی أحد کره الفصل بین الجزأین اللّذین هما مسند ومسند إلیه ، فقدّم علیهما جمیعا لذلک ، فهذا أولی ممّا ذکره من قراءه أهل الجفاء ، فإنّ قراءه أهل الجفاء لا تنفع فی دفع اعتراض وقع علی قراءه أهل الإجماع .

ص: 83

ذلک موجودا استغنی به (1) عن ذکر الجمله محقّقه ، ألا تری أنّ معنی قولک : «ظننت أن یقوم زید» ظننت زیدا یقوم ، ومعنی قولک : «عسی أن یقوم زید» : عسی زید أن یقوم ، فلمّا کان بمعناه استغنی عن الأصل لذلک .

قال : «ومنها کاد» .

وهی موضوعه لمقاربه الخبر علی سبیل حصول القرب لا علی رجائه ، وهو خبر محض بقرب خبرها ، فلذلک جاءت متصرّفه تصرّف الأفعال .

«وخبرها مشروط فیه أن یکون فعلا مضارعا» .

تنبیها علی أنّه المقصود بالقرب ودلاله علی معنی الحال علی وجه (2) تأکید القرب ، فقال (3) :

«کاد زید یخرج» لذلک .

«وقد شبّه عسی بکاد (4)» .

لمّا کانت کاد وعسی مشترکتین فی أصل معنی المقاربه ، وإن اختلفتا (5) فی وجوه المقاربه حملت کلّ واحده منهما علی صاحبتها تشبیها بها ومشارکتها (6) لها فی أصل معناها ، کما قالوا : «لا أبا لزید» (7) لمشارکته للمضاف فی أصل معناه ، فدخلت لذلک «أن» فی کاد وحذفت من عسی .

قال : «وللعرب فی عسی ثلاثه مذاهب» .

ثمّ ذکر أحد المذهبین الأوّلین ، ودخولها علی المضمر باعتبار المذهب الأوّل فی احتیاجها إلی اسم وخبر ، فإن قصد إلی استعمالها بالنسبه إلی المضمر والظّاهر جمیعا فهی أربعه ، عسیت (8) ، و «عسانی أن أفعل» ، وهذان وجهان فی المضمر باعتبار الوجه الأوّل للظّاهر ، والوجهان الآخران : «عسی زید أن یفعل» و «عسی أن یفعل زید» ، وإن قصد إلی استعمالها بالنسبه إلی المضمر فهو وجهان :

ص: 85

أحدهما : عسیت ، إلی آخرها ، والآخر : عساک ، إلی آخرها ، ویسقط الوجهان الأوّلان لأنّ أحدهما هو الذی / وقع هذا المضمر موقعه ، والآخر لا یستقیم أن یکون مضمرا ، لأنّه «أن» والفعل لفظا ، فلا یستقیم تغییره ، والظّاهر أنّه قصد استعمالها مع المضمر خاصّه باعتبار الوجهین الأوّلین ، فجعل فی الوجه الأوّل وجهین : عسیت وعسانی إلی آخرهما علی ما ذکر فی المضمرات ، وجعل فی الثانی وجها واحدا باعتبار فاعل الفعل الواقع بعد أن ، ولیس ذلک من أحکام عسی ، وإنّما ذلک قیاس إضمار الأسماء ، فلم یکن لذکره مع «عسی» وجه .

وأمّا «کاد» فلم یأت إلّا علی نحو واحد ، وهو قیاس الأفعال فی الظّاهر والمضمر ، وقد ضمّ بعضهم فاءها مع المضمر [کقولک : «کدت»] (1) ، کأنّه جعلها من الواو ، ولیس بالقویّ ، والفصل بین «عسی» و «کاد» واضح من قوله ، وقد تقدّم ما یرشد إلیه .

قال : «وقوله تعالی : إِذا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَراها (2)» .

قال الشیخ : اختلف النّاس فی «کاد» فقال بعضهم : هی فی الإثبات نفی ، وفی النفی إثبات (3) ، وتمسّکوا فی الإثبات بأنّک إذا قلت : «کاد زید یخرج» ، فالخروج غیر حاصل ، فهذا معنی کونها نفیا فی الإثبات ، وتمسّکوا فی النّفی بمثل قوله تعالی : وَما کادُوا یَفْعَلُونَ (4) ، ومعلوم أنّهم فعلوا ، وبقوله (5) :

إذا غیّر النّأی المحبّین لم یکد

رسیس الهوی من حبّ میّه یبرح

علی ما سیأتی ، وهذا معنی الإثبات فی النّفی ، وهذا مذهب فاسد ، فإنّ قوله : «کاد زید یخرج» معناه إثبات مقاربه الخروج ، وهذا معنی مثبت ، وأخذ النفی للخروج لیس من موضوعه ، وإنّما هو من قضیّه عقلیّه ، وهو أنّ الشّیء إذا کان محکوما علیه بقرب الوجود علم أنّه غیر

ص: 86

موجود ، وأمّا مدلول «کاد» فمثبت ، وهو قرب الخروج ، ولو صحّ أن یقال فی مثل ذلک : إنّه نفی لصحّ أن یقال فی قولک (1) : «قرب خروج زید» : إنّه موضوع للنّفی ، وهذا غیر مستقیم معلوم فساده ، وأمّا الکلام علی النفی فسیأتی علی (2) الفریق الآخر .

والمذهب الثانی أنّه فی الإثبات إثبات وفی النفی نفی (3) ، والمذهب الثالث أنّه فی الإثبات إثبات وفی النفی (4) للماضی إثبات وفی المستقبل علی قیاس الأفعال (5) ، وتمسّک هؤلاء فی النفی فی الماضی بقوله تعالی : وَما کادُوا یَفْعَلُونَ (6) ، وقد فعلوا ، ولم یستمرّ لهم أن یقولوا مثله فی النّفی علی المستقبل لما رأوه من قوله تعالی : : إِذا / أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَراها (7) ، والمعنی فیه نفی مقاربه الرّؤیه ، فلو قالوا بإثبات الرّؤیه لفسد المعنی ، وما ذکروه فی نفی الماضی فغیر مستقیم ، لأنّا نعلم من قیاس لغتهم أنّ المثبت إذا دخل علیه النّفی انتفی ، فإذا قلت : «قرب خروج زید» کان معناه إثبات قرب الخروج ، فإذا قلت : ما قرب خروج زید کان معناه نفی قرب الخروج ، هذا معلوم من لغتهم ، فیجب ردّ قوله تعالی : وَما کادُوا یَفْعَلُونَ إلیه ، فیکون المعنی : وما قاربوا الفعل قبل أن یفعلوا لما دلّ علیه سیاق الآیه من تعنّتهم واستفسارهم فیما لا یحتاج فیه إلی التفسیر ، ولا یؤخذ وقوع الذّبح من قوله تعالی : وَما کادُوا یَفْعَلُونَ ، وإنّما یؤخذ من قوله تعالی (8) : فَذَبَحُوها .

هذا هو الوجه الذی ینبغی حمل الآیه علیه وما کان مثلها ، جریا علی القاعده المعلومه من کلامهم ، وقد وافقوا فی دخول النفی علی المستقبل أنّه یکون معناه نفی القرب علی قیاس الأفعال ، ولا فرق فی قیاس لغه العرب فی دخول النّفی علی الماضی أو علی المستقبل ، فثبت بذلک (9) أنّ

ص: 87

المذهب الصحیح جری «کاد» مجری الأفعال فی الإثبات والنفی ، فإذا قیل : «کاد زید یفعل» فمعناه إثبات قرب ذلک الفعل ، وإذا قیل : «ما کاد زید یفعل» کان نفی قرب ذلک الفعل ، فصار فی «کاد» ثلاثه مذاهب ، المذهب الحقّ جریه علی قیاس الأفعال ، والمذهب الثانی مخالفته للأفعال فی الإثبات والنّفی جمیعا ، والمذهب الثالث : مخالفته فی النفی للماضی وجریه علی قیاس الأفعال فی غیر ذلک ، وبیت ذی الرّمّه الذی هو (1) :

إذا غیّر الهجر المحبّین لم یکد

رسیس الهوی من حبّ میّه یبرح

علی نفی مقاربه الزّوال ، وهو أبلغ من نفی الزّوال ، کقوله تعالی : إِذا أَخْرَجَ یَدَهُ سواء علی ما ذکر .

والتمسّک به فی أنّ معناه الإثبات ضعیف ، ومستنده ما رواه بعض الرّواه من أنّ ذا الرّمّه لّما أنشد هذا البیت قیل له : أقررت بزوال الحبّ ، وذلک إنّما أخذوه من قوله / تعالی : لَمْ یَکَدْ یَراها ، فلولا أنّ معناها فی النّفی إثبات لم یکن لأخذهم علیه معنی ، والصّواب ما قدّمناه ، وهذا غیر مرویّ عمّن یؤبه به (2) بوجه صحیح (3) ، ثمّ ولو قدّر روایته بوجه صحیح فهو عمّن یری هذا المذهب الفاسد ، والرّدّ علیهم کالرّدّ علی من یراه الأوّل (4) .

«ومنها أوشک یستعمل استعمال عسی فی مذهبیها» .

[یعنی ناقصه ، کما تقول : «عسی زید أن یقوم» ، وتامّه کما تقول : «أوشک أن یقوم زید»] (5) .

«واستعمال کاد» ولم یرد أنّها بمعنی عسی وبمعنی (6) کاد ، لأنّ «أوشک» لیس فیه معنی رجاء ولا إنشاء ، وإنّما معناها معنی «کاد» فی إثبات قرب الحصول ، وإنّما استعملت لفظا استعمال البابین لمشارکتها لهما فی أصل الباب ، فأجریت مجراهما جمیعا فی الاستعمال ، والقیاس استعمالها

ص: 88

استعمال «کاد» لموافقتها لها فی المعنی [لوجود المقاربه] (1) .

ومنها «جعل» وأخواتها (2) ، وهذه معناها دنوّ خبرها علی معنی الأخذ فیه والشّروع ، فهی مخالفه لعسی لانتفاء (3) معنی الإنشاء والرّجاء ، ومخالفه لکاد لحصول الشّروع فیما أخبرت به معها ، ولیس فی «کاد» شروع ، والجمیع (4) من باب واحد باعتبار أصل المقاربه ، ولم تستعمل هذه الأفعال إلّا بالفعل المضارع مجرّدا عن أن ، لأنّ خبرها محقّق فی الحال أکثر من الخبر فی «کاد» وإذا کان استعمال «کاد» بفعل الحال فهذه أجدر ، ومن ثمّ لم یجز الإتیان بأن علی حال بخلاف «کاد» ، لأنّه فی «کاد» یصحّ تقدیره مستقبلا علی وجه ، فصحّ دخول «أن» لذلک (5) ، وههنا لا وجه لتقدیره مستقبلا لکونه مشروعا فیه ، فقد تحقّق فیه معنی الحال ، فلم یکن لدخول «أن» وجه ، واللّه أعلم .

ص: 89

«ادخل السّوق» وإن لم یکن بینک وبین مخاطبک سوق معهود فی الوجود ، وهذا التّعریف بالّلام نحو (1) التّعریف الذی ذکرناه فی باب أسامه ، وإن اختلفت جهات التعریف ، وإذا کان کذلک ثبت فیه إبهام باعتبار الوجود ، فالوجه الذی حکم بتعریفه غیر الوجه الذی حکم بإبهامه ، ووزانه فی الإبهام والتعریف قولک : «قتل فلانا أسامه» ، فإنّ أسامه (2) ههنا وإن کان معرفه باعتبار الذّهن ، إلّا أنّه نکره باعتبار الوجود ، ولهذا المعنی ظنّ بعض النحویّین أنّه موضوع للجنس بکماله ، یعنی المعرّف بالّلام (3) ، کما ظنّ بعضهم أنّ أسامه موضوع للجنس بکماله ، وهذا (4) خطأ محض فی البابین جمیعا (5) ، ألا تری أنّک إذا قلت : «نعم الرّجل» لم ترد جمیع الرّجال ، هذا مقطوع به فی قصد المتکلّم ، ولذلک وجب أن یکون المفسّر له مطابقا ، ووجب إذا قصد التثنیه أن یثنّی ، ولو کان علی ما زعموا لوجب أن یطابق بجمیع الجنس وأن لا یثنّی وأن لا یجمع ، لأنّ أسماء الأجناس لا تثنّی ولا تجمع إذا قصد بها الجنس .

فإن زعموا أنّ المخصوص بالمدح مرفوع علی الابتداء فی الأصل ، و «نعم الرجل» خبره ، والجمله إذا وقعت خبرا فلا بدّ / من (6) ضمیر یعود علیه ، أو ما یقوم مقامه ، وما (7) لم یقدّر هذا الفاعل اسم جنس لم یصحّ لعدم الضمیر أو ما یقوم مقامه .

فالجواب : أنّ هذه الشّبهه لا تعارض الأمور القطعیّه ، وما ذکرناه مقطوع به ، وأیضا فما ذکرتموه إنّما هو أحد احتمالین فی الإعراب ، فإن تعذّر أحدهما تعیّن الآخر (8) ، وما ذکرناه متعیّن ، [وهو أن یکون زید مبتدأ ، والجمله قبله خبرا] (9) ، وأیضا فإنّا متّفقون علی صحّه «نعم رجلا زید» ، وزید یحتمل أن یکون مبتدأ کما زعمتم ، وخبره «نعم» ، ولا یصحّ أن یقال : الضمیر عائد علی

ص: 91

زید ، لأنّه یجب أن لا یکون عائدا علی متقدّم (1) ، وإلّا ورد «نعم رجلین الزّیدان» و «نعم رجالا الزیدون» وأیضا فإنّه کان یفوت الإبهام الذی هو مقصود فی غرض هذا الباب .

فإن زعموا أنّ الأصل کان کذلک ، فلمّا (2) نقل إلی معنی الإنشاء جعل الضمیر مبهما ، ثمّ فسّر ، فلا بعد أن یقال فیما نحن فیه کذلک ، [بأن تکون الألف والّلام للعهد فی «نعم الرّجل» ثمّ لّما أرید الإنشاء صار للجنس] (3) فإنّا لا ننکر أن یکون الأصل کذلک ثمّ غیّر ، وإنّما الکلام فی مدلوله فی حال استعماله للإنشاء ، والتحقیق فی جواب شبهتهم أمران :

أحدهما : أنّ الأصل أن یکون الرّجل لزید المذکور مضمرا عائدا علیه فاستعمل تاره مضمرا وتاره مظهرا ، وحصل الإبهام بتأخیر المفسّر عنه .

والآخر : أنّهم لّما قصدوا إلی مقصود (4) معهود فی الذّهن کان کاسم الجنس الذی له شمول فی المعنی ، فکما یصحّ أن یقوم اسم الجنس مقام الضمیر صحّ أن یقام الاسم باعتبار المعقول فی الذّهن مقام الضمیر ، لأنّه مندرج تحته ما یقدّر من آحاده فی المعنی ، فإن قصدوا بقولهم : اسم جنس هذا المعنی فهو مستقیم ، وإن قصدوا تحقیق وضعه للجمله علی التفصیل فهو مردود بما (5) تقدّم .

والکلام فی المضاف إلی ما فیه الألف والّلام وفی المضمر کذلک ، وقد ألحق بعضهم الموصول کمن وما فی صحّه وقوعه فاعلا لهذه الأفعال بما فیه الألف والّلام (6) ، وحمل علیه قوله تعالی : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (7) ونظائره ، ولا بعد فی ذلک ، ویجوز أن یکون الفاعل فی مثل ذلک مضمرا ، وتکون «ما»

ص: 92

هی التمییز موصوفه باشتروا / ، و «أن تکفروا» المخصوص [بالذّمّ] (1) علی القولین ، ولا بعد فی الآخر .

ومنها (2) أنّه لا بدّ من أن یکون بعد الفعل والفاعل اسم مرفوع ، هو المخصوص بالمدح أو الذّمّ ، لأنّ وضعها علی الإبهام أوّلا ، ثمّ التّفسیر ، فوجب لذلک ذکر المخصوص ، لأنّه التّفسیر للمبهم أوّلا ، فلو قطع عنه لکان خروجا بها عن موضوعها ، وهو غیر مستقیم ، وفائده الإبهام ثمّ التفسیر أنّ الشیء إذا أبهم ثمّ فسّر کان أوقع فی النفس لما جبل اللّه تعالی النفوس علیه من التّشوّق إلی معرفه ما قصد إبهامه ، ولأنّه إذا ذکر کذلک کان مذکورا مرّتین ، والمذکور مرّتین أبلغ من المذکور مرّه واحده .

قال : «وقد یجمع بین الفاعل الظّاهر وبین الممیّز تأکیدا (3)» .

لأنّه قد یستغنی عنه ، فلذلک کان تأکیدا ، ولا بعد فی الإتیان بالتمییز ، وإن کان فی الکلام ما یدلّ علیه ، کقوله تعالی : ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً (4) ویمکن أن یقال : إنّ التمییز فی مثل ذلک بعید ، لأنّه مشبّه بقولک : «عندی قمح قمحا» ، لأنّ قولک : «نعم الرّجل رجلا» کذلک ، بخلاف قوله تعالی : ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً ، فإنّ ذراعا ههنا تمییز لما لیست فیه دلاله علی ذراع ، وإنّما أخذت من دلیل من خارج ، بخلاف قولک : «نعم الرّجل رجلا» ، ومن أجل ذلک منعه بعضهم (5) ، وجعل قوله : «زادا» فی البیت (6) مفعولا ب «تزوّد» ، کأنّه قال : تزوّد زادا مثل زاد أبیک فنعم الزّاد زاد أبیک ، ولکنّه قدّم وأخّر .

ص: 93

وقوله تعالی : فَنِعِمَّا هِیَ (1) أوردها لإشکالها ، وإلّا فهی مندرجه فی عموم ما ذکره ، وتبیینها ما (2) ذکره (3) ، وهو أنّ الفاعل مضمر ، و «ما» ممیّز ، و «هی» المخصوص بالمدح ، وأمّا قوله تعالی : إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا یَعِظُکُمْ بِهِ (4) فهذه یحتمل أن تکون مثلها ، إلّا أنّ «ما» تکون موصوفه ، فکان التقدیر : إنّ اللّه نعم الشیء شیئا یعظکم به ، فتکون «ما» تمییزا ، و «یعظکم به» صفه له ، ویحتمل أن تکون «ما» موصوله فاعلا علی قول من جوّز ذلک فی مثل بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ (5) ، فیجری فیه القولان الجاریان فی مثل بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ ، إلّا أنّ المخصوص فی «بئس ما اشتروا به» مذکور ، / وهو أَنْ یَکْفُرُوا ، والمخصوص ههنا محذوف للعلم به ، وتقدیره : إنّ اللّه نعمّا یعظکم به ذلک ، وهو أداء الأمانه ، والحکم بالعدل .

«وفی ارتفاع المخصوص بالمدح مذهبان : أحدهما : أن یکون مبتدأ خبره ما تقدّم من الجمله» .

وقد تقدّم الکلام علی ذلک ، وبیان أنّه الحامل لمن زعم أنّه اسم جنس ، وإیضاح ذلک .

«والثانی (6) : أن یکون خبر مبتدأ» .

کأنّه لّما تقدّم ذکر الفاعل مبهما قدّر سؤال عنه وأجیب بقوله : هو زید ، ثمّ استعمل علی هذا النحو فی هذا المعنی المقصود فصارت فی حکم جمله واحده لعروض هذا المعنی المقصود فیها ، وهذا الثانی أولی من وجهین : لفظا ومعنی ، أمّا اللّفظ فلأنّ المبتدأ إذا کان خبره فعلا فالوجه أن لا یتقدّم علیه ، وفی جعل ذلک کذلک خروج عن هذه القاعده ، وهو بعید .

والآخر (7) : أنّه إذا وقع خبر المبتدأ جمله فلا بدّ من ضمیر ، ولا ضمیر ، وما توهّموه من أنّ الرّجل للجنس قد تقدّم فساده ، ولو جوّز لکان وقوع الجنس موقع الضمیر شاذّا قلیلا أیضا .

ومن حیث المعنی هو أنّ الإبهام یناسب التفسیر ، وإذا جعل زید خبر مبتدأ کان التفسیر فیه

ص: 94

محقّقا ، وهو المفهوم منه ، وإذا جعل مبتدأ لم یکن ذلک محقّقا ، فظهر أنّ الوجه هو الثانی .

وأمّا ما یلزم من أنّ فیه حذفا للمبتدأ فذلک کثیر شائع لا (1) شذوذ فیه ولا بعد ، فلم یقابله أمر ممّا تقدّم .

«وقد یحذف المخصوص إذا کان معلوما ، کقوله تعالی : نِعْمَ الْعَبْدُ (2)» أی : نعم العبد هو ، وهو ضمیر أیّوب ، وهو علی هذا الوجه الثانی خبر مبتدأ محذوف ، أی : هو هو ، وکذلک کلّ (3) ما أتی من نحو قوله تعالی : نِعِمَّا یَعِظُکُمْ بِهِ (4) ، ولیس ذلک من قبیل (5) «أنا أنا» و «شعری شعری» ، وإنّما ذلک من نحو : «زید أخوک» وأشباهه ، ألا تری أنّ الضمیر الأوّل فی قولک : هوهو یعود علی العبد الموضوع مبهما ، و «هو» الثانی المخصوص بالمدح یعود علی «أیّوب» ، فکأنّک قلت :

العبد المذکور أیّوب ، فظهر أنّه من نحو (6) قولک : «زید أخوک» وشبهه ، وهذا واضح .

قال : «ویؤنّث الفعل ویثنّی الاسمان ویجمعان» .

إنّما ذکر ذلک لیعلم / أنّ هذا الفعل یجوز فیه ما یجوز فی الأفعال من إلحاق العلامه فی المؤنّث وامتیازه بجواز (7) حذفها ، وإن کان مؤنّثا حقیقیّا بخلاف غیره من الفعل ، لأنّه غیر متصرّف ، فأشبه الحروف فجری مجراها فی ترک إلحاق العلامه ، وکلّ ذلک سائغ .

وأمّا ما ذکره للتّثنیه والجمع فلرفع ابهام عمّن یظنّ أنّه اسم جنس فیتوهّم أنّه لا یثنّی ولا یجمع ، أو عمّن یظنّ أنّه لّما کان الإنشاء فی المدح یلزم فاعله طریقه واحده کما فی «حبّذا» ، وکما فی الضّمیر فیه (8) نفسه .

وقوله : «هذه الدّار نعمت البلد» .

فألحقوا العلامه بنعم وإن کان الفاعل البلد ، لأنّه قد علم أنّه قصد إلی تفسیرها بالدّار ، إذ

ص: 95

التقدیر : نعمت البلد هی ، فلمّا کان کذلک جاز إلحاق العلامه ، وشبّهه (1) بقوله : «من کانت أمّک» فی کونه أنّث الضمیر فی «کانت» مع کونه لمذکّر ، وهو «من» لمّا کان فی المعنی هو الأمّ ، فالتّأنیث فی «کانت» وإن کان الفاعل مذکّرا لّما کان لمؤنّث مذکور فی المعنی ، کالتّأنیث فی «نعمت» وإن کان لمذکّر لّما کان لمؤنّث مذکور فی المعنی ، وکذلک البیت فی قوله (2) :

. . .

نعمت زورق البلد

أنّث وإن کان الفاعل مذکّرا لمّا کانت لمؤنّث مذکور فی المعنی ، وهو قوله : «أو حرّه عیطل» .

قال : «ومن حقّ المخصوص أن یجانس الفاعل» .

لأنّه فی المعنی تفسیر ، وإذا کان تفسیرا له وجبت مطابقته له ، وهذا یوضح لک الرّدّ علی من قال : إنّه للجنس ، ثمّ أورد اعتراضا علی ذلک وهو قوله تعالی : ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِینَ کَذَّبُوا (3) الآیه ، وذلک أنّ الفاعل ههنا مضمر مفسّر بمثل ، فیکون (4) التقدیر : ساء المثل ، وقد ذکر القوم ، ولیس هو مطابقا للمثل فی المعنی .

وأجاب عنه بأنّه علی حذف مضاف تقدیره : ساء مثلا مثل القوم ، فعلی ذلک یکون مطابقا ، وکذلک أورد قوله تعالی : بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا (5) وتقدیر الاعتراض مثل الأوّل سواء .

وأجاب عنه بأمرین :

ص: 96

أحدهما : مثل ما تقدّم ، وهو أن یکون علی حذف مضاف ، کأنّه قال : بئس مثل القوم مثل الذین کذّبوا .

والآخر : أن یکون «الذین کذّبوا» صفه للقوم ، ویکون المخصوص محذوفا / أی : بئس مثل القوم المکذّبین هو ، و «هو» ضمیر المثل المتقدّم قبل «بئس» وهو قوله تعالی : مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْراهَ کما تقول : «زید بئس الرّجل» ، أی : بئس الرّجل هو ، وبهذین التأویلین یکون المخصوص مطابقا ، فیستقیم المعنی به (1) .

قال : «وحبّذا ممّا یناسب هذا الباب» .

لأنّه إنشاء للمدح ، فهو من الباب فی التّحقیق ، وإنّما ذکرت علی حده لما خصّت به من أحکام لفظیّه ، وهو أنّ فاعلها لا یکون إلّا لفظ «ذا» بخلاف «نعم» و «بئس» ، فإنّ فاعلهما علی ما تقدّم ، وإنّما خصّوا «ذا» لأنّه من الأسماء المبهمه ، والغرض الإبهام ، فکان مناسبا للمعنی المقصود ، واختصّت دون أخواتها لأنّها اللّفظ السابق ، لأنّه مذکّر مفرد ، والمذکّر المفرد هو السّابق ، وما عداه فرع علیه علی ما تقدّم فی ذکر علل منع الصّرف ، وعدل عن ضمّ الفعل وإن کان جائزا فی الأصل علی قول وواجبا علی قول (2) ، لأنّه لّما نقل إلی معنی الإنشاء جعل علی صیغه مخصوصه تنبیها علی قصد النقل عمّا کان علیه فیه .

ومنها (3) أنّ تمییزها غیر واجب ذکره ، بل یجوز أن تقول : «حبّذا زید» و «حبّذا رجلا زید» ، ومنها أنّ المخصوص إذا لم یکن مفردا مذکّرا کان غیر مطابق للفاعل فی اللّفظ ، کقولک : «حبّذا الزّیدان» ، فلذلک جعلت علی حده .

وأصلها حبب من مثل قوله (4) :

فقلت اقتلوها عنکم بمزاجها

وحبّ بها مقتوله حین تقتل

ص: 97

فیجوز أن یکون من حبّ الذی أصله حبب ، وهو الظّاهر (1) ، لموافقته له فی اللّفظ ، ویجوز أن یکون من حبّ الذی أصله حبب ثمّ غیّر وهذا أبعد (2) لما فیه من التّغییر من غیر حاجه .

قال : «وهذا الاسم فی مثل إبهام الضمیر فی نعم» .

یعنی أنّه مبهم غیر مراد به معیّن ، مثل إبهام الضمیر فی «نعم» .

قال : «ومن ثمّ فسّر بما فسّر به» .

یعنی أنّه ممیّز بنکره تبیّن جنسه کما میّز الضمیر فی «نعم» بذلک ، فتقول : «حبّذا رجلا زید» کما تقول : «نعم رجلا زید» .

ثمّ قال : «إلّا (3) أنّ الظّاهر فضّل علی المضمر بأن استغنوا معه عن المفسّر فقیل : حبّذا زید ، ولم یقولوا : نعم زید» .

یعنی بالظّاهر لفظ ذا فی قولک : «حبّذا» بخلاف «نعم» إذا کان الفاعل مضمرا ، فإنّه لیس / فی اللّفظ ما یشعر بالفاعل ، فلمّا کان الفاعل لفظا یختصّ به استغنی عن المفسّر ، ولّما لم یکن فی «نعم» لفظ مختصّ [بالفاعل] (4) احتیج إلی المفسّر .

ثمّ قال : «ولأنّه کان لا ینفصل المخصوص عن الفاعل فی « نعم» وینفصل فی «حبّذا» » .

هذا وجه آخر فی وجوب ذکر التّمییز فی «نعم» وجواز حذفه فی «حبّذا» یعنی أنّه لو لم یفعل ذلک لالتبس الفاعل بالمخصوص فی نعم ، بخلاف حبّذا ، یرید أنّه کان یلتبس فی کثیر من المواضع لا فی کلّ المواضع ، وبیان موضع الالتباس أنّک لو قلت : «نعم السّلطان» وأنت ترید : نعم رجلا السّلطان لم یعرف هل (5) السّلطان فاعل أو مخصوص والفاعل مضمر ؟ وفی التصریح بقولک (6) : «نعم رجلا السّلطان» ما یتعیّن به الفاعل من المخصوص ، فهذا وشبهه مواضع (7) اللّبس بخلاف «حبّذا» ، فإنّه معلوم أنّ فاعله ذا ، فإذا ذکر بعده الاسم المخصوص تعیّن لذلک ، ولم یلتبس بالفاعل أبدا .

ص: 98

وأمّا «ما أولاه» فشذوذه أنّه استعمل من الرّباعیّ بالهمزه من قولک : أولیته خیرا وأعطیته کذا ، ولا یقال فی هذا المعنی : ولی ولا عطی ، ولذلک قال (1) : «للمعروف» لیبیّن أنّه من قولک :

«أولیته المعروف» ، لا من قولک : ولی ، لأنّ ذاک بمعنی آخر (2) .

واستغنی فی «أعطی» بما یفهم من قولهم (3) : ما أعطاه ، لأنّ المعنی علی الإعطاء ، وبما تقدّم فی مثله فی أفعل التفضیل من قوله : «أعطاهم للدّینار والدّرهم» ، وذلک إنّما یکون من الإعطاء .

قال : «وذکر سیبویه أنّهم لا یقولون : ما أقیله استغناء عنه ب « ما أشدّ (4) قائلته» (5) » .

ووجه ذلک أنّه کثر وقوع هذا المعنی والتعبیر عنه ب «ما أکثر قائلته» ، فلو کان «ما أقیله» جاریا فی کلامهم علی القیاس فی هذا الباب لکان واقعا فی لغتهم ، ولّما لم یقع فی لغتهم دلّ علی أنّه مستثنی عندهم ، فهذه طریق سیبویه فی استثناء «ما أقیله» من الباب ، وهذا جار فی کلّ ما یأتی مثله .

ثمّ قال : «ومعنی « ما أکرم زیدا» شیء جعله کریما » ، إلی آخره .

یرید أنّ ذلک أصله قبل نقله إلی التّعجّب ، وإلا فلیس معناه بعد النقل ذلک ، وهو الذی أراد بقوله بعد ذلک : «إلّا أنّ هذا النقل من کلّ فعل خلا ما استثنی منه مختصّ (6) بباب التّعجّب» یرید أنّ ذلک وإن کان أصله لتصحیح الإعراب فهو بمعنی التّعجّب ، ثمّ شبّهه فی أصله بقولهم : «أمر أقعده عن الخروج» (7) ، لأنّه من باب «شرّ أهرّ ذا ناب» (8) ، [یعنی : ما أقعده إلّا أمر ، وما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ] (9) ، والمصحّح للابتداء بالنکره هنا کونه فی معنی کلام هو فیه فاعل ، ولذلک احتاج أن یشبّهه بأمر فی قولهم : «أمر أقعده عن الخروج» لیصحّ الابتداء بالنکره .

وکان الأولی أن یذکر بقیّه المذاهب فی الإعراب فی «ما أکرم زیدا» ههنا ویستغنی عن الفصل

ص: 100

الذی بعد ذلک ، لأنّه فی الحقیقه تتمّه له ، وما ذکره ههنا أحد المذاهب الثّلاثه ، وهو مذهب سیبویه ، لأنّه (1) یجعل «ما» مبتدأ ، وما بعده جمله فی موضع الخبر ، / وهو عین ما ذکره ههنا ، ثمّ أعاد ذلک فی الفصل الذی یلیه ، وذکر معه المذهبین الآخرین (2) ، ولیس لفصله معنی .

فإن زعم زاعم أنّه تکلّم هنا فی المعنی وثمّه فی الإعراب فلیس بمستقیم لأنّ المقصود إنّما هو الإعراب ، والمعنی الأصلیّ أمر تقدیریّ ، والإعراب مبنیّ علیه ، فهو المقصود .

والآخر (3) : أنّه قد ذکر بعده «أفعل به» واستوفی عند ذکره الأصل والإعراب جمیعا ، والکلام علی الجمیع سواء .

قال : «إلّا أنّ هذا النّقل من کلّ فعل خلا ما استثنی منه» .

یرید ب «ما استثنی منه» ما تقدّم ذکره فی أفعل التّفضیل علی ذلک التفصیل .

«وأمّا قولهم : « أکرم بزید» ، فقیل : أصله : «أکرم زید» » .

علی التفصیل الذی ذکره (4) ، ولا یکون علی ذلک فیه ضمیر ، لأنّ فاعله مذکور بعده .

قال : «وفی هذا ضرب من التّعسّف» (5) .

لما فیه من مخالفه القیاس فی وجوه متعدّده .

منها : استعمال الهمزه لصیروره الشّیء ذا کذا فی «أکرم» (6) ، [ وحقّه أن یتعدّی الفعل إلی

ص: 101

مفعول واحد ، لا إلی مفعولین ] (1) .

ومنها : نقل الفعل عن صیغه الخبر إلی صیغه الأمر .

ومنها : زیاده الباء علی الفاعل ، وکلّ ذلک خروج عن القیاس .

ثمّ ذکر وجهین لیس فیهما ما فی ذلک ، وإنّما فیهما استعمال الهمزه للتّعدّی أو للتّصییر ، وتقریر ذلک أن یقال : إنّه أمر فی الأصل من «أکرمته» أی جعلته کریما ، والباء مزیده علی المفعول ، وفیه علی هذا ضمیر ، فاستعمل الهمزه للتّعدّی ، وهو کثیر ، واستعمل الباء زائده علی المفعول ، وهو کثیر ، واستعمل صیغه الأمر للأمر وهو القیاس ، ثمّ نقل إلی معنی التعجّب ، کما نقل (2) علی التقدیر الأوّل ، فلم یلزم فیه ذلک التعسّف الذی فی التقدیر الأوّل ، وإنّما یلزم فیه الإضمار الذی لا یتغیّر ، ولیس بمستبعد ، ألا تری أنّ مثل هذه الصیغه فی باب (3) الإنشاء للمدح قد جری الضمیر فیها هذا المجری ، فلم یغیّر عن لفظ الوحده فی قولک : «نعم رجلا» و «نعم رجلین» و «نعم رجالا» ، فکذلک ههنا ، وقد أجاب (4) بقوله إنّه «جری مجری المثل ، فلم یغیّر عن لفظ الوحده» .

والوجه الثانی (5) : أن تجعل الهمزه لما جعلت له فی الوجه / الأوّل ، وهو علی الأمر أیضا ، کأنّ أصله : أکرم ، أی : صیّر ذا کرم ، ثمّ عدّی بالباء فصار الفاعل فیه مصیّرا غیره صائرا ذا کرم ، کما تقول : قمت ، فتکون أنت القائم ، ثمّ تقول : قمت بزید ، فتأتی بالباء للتعدّی ، فیصیر الداخله هی علیه هو الفاعل لذلک الفعل قبل دخولها ، فصار معنی : «أکرم بزید» فی الأصل علی هذا التأویل صیّر زیدا صائرا ذا کرم ، فأفاد (6) التّصییر فیه مجیء الباء للتعدّی ، لأنّ هذا المعنی مستفاد من باء التّعدّی ، وأمّا کونه صائرا ذا کذا فمستفاد من الصیغه التی هی «أکرم» .

قال : «واختلفوا فی « ما» ، فهی عند سیبویه » ، إلی آخره .

ص: 102

یرید فی الأصل ، فقال سیبویه : إنّها بمعنی شیء (1) مبتدأ ما بعده خبره ، کما تقدّم فی أوّل الفصل الذی قبله ، وهو الوجه ، إذ لا یلزم فیه ما یلزم (2) فی غیره ، [وهو حذف الخبر] (3) ، وقال الأخفش : هی موصوله ، وصلتها (4) ما بعدها ، وفیه تعسّف ، لأنّه یحتاج فیه إلی تقدیر خبر محذوف ، ونحن نقطع باستقلاله کلاما من غیر نظر إلی محذوف .

وقال قوم : إنّها استفهام مبتدأ ، وما بعده خبره (5) ، کأنّ الأصل : أیّ (6) شیء حسّن زیدا ، ولیس بالجیّد ، لأنّ صیغ الاستفهام لم یثبت فیها نقل إلی إنشاء آخر ، بخلاف صیغ الأخبار ، فإنّها تنقل إلی الإنشاآت کثیرا ، فثبت أنّ الوجه ما صار إلیه سیبویه .

قال : «ولا یتصرّف فی الجمله التعجّبیّه» إلی آخره .

لأنّها جرت کالمثل ، والأمثال لا تغیّر ، أو لأنّها بمجموعها تدلّ علی إنشاء التعجّب ، فلزمت طریقه واحده کما لزمت نعم وبئس طریقه واحده للإنشاء (7) .

قال : «وقد أجاز الجرمیّ وغیره الفصل» (8) .

نظرا إلی ما ورد من قولهم : «ما أحسن بالرّجل أن یصدق» (9) ووجهه أنّ الظّروف اتّسع فیها فجری فیها ما لم یجر فی غیرها .

قال : «ویقال : « ما کان أحسن (10) زیدا» للدّلاله علی المضیّ » .

کأنّهم لّما قصدوا إلی التعجّب ممّا (11) مضی أتوا بالفعل الدّالّ علی الزّمان الماضی مع فعل

ص: 103

التّعجّب مشعرا بذلک ، ولک أن تقول : «ما أحسن ما کان / زید» ، ولک أن تجمع بینهما فتقول : «ما کان أحسن ما کان (1) زید» ، والأولی هی الصیغه الأولی ، إذ لا حاجه إلی التکریر ، والإتیان بها مع الفعل الذی جیء به للمعنی المتعجّب منه هو القیاس ، لأنّه هو المقصود بالمضیّ .

«وقد حکی : « ما أصبح أبردها» ، و «ما أمسی أدفأها» (2) » .

وإدخال «أصبح وأمسی» ههنا فی الدّلاله علی الوقت الذی حصل فیه المتعجّب منه کإدخال «کان» فی الدّلاله علی وقت (3) المتعجّب منه ، وإن اختلفت جهات الأزمان .

قوله : «والضّمیر للغداه» .

إنّما یعنی فی : «ما أصبح أبردها» ، وإلّا فهو فی قوله : «ما أمسی أدفأها» [لا یکون] (4) للعشیّه ، وإنّما استغنی بتنبیهه علی ضمیر الغداه لأنّه یعلم أنّ قوله : «ما أمسی أدفأها» یکون [الضمیر فیها] (5) للعشیّه .

ص: 104

لم یجیء إلّا علی بنیه واحده (1) ، وهو یفعل .

قال : «وأمّا فعل یفعل فلیس بأصل» .

کأنّهم قصدوا إلی مخالفه عین الماضی للمضارع ، ولذلک فعل یفعل هو القیاس ، والکسر لم یجیء لمضارعه إلّا فی ألفاظ محصوره [کحسب یحسب ، ونعم ینعم ، ویئس ییئس ، ویبس ییبس] (2) ، وهی (3) فی الصحیح لا تزید علی خمسه (4) ، ویجوز فیها الوجهان ، وفی معتلّ الفاء أکثر من ذلک .

وأمّا مجیء مضارع فعل علی وفق عین الماضی فکأنّهم کرهوا مشارکته لعین المتعدّی فی الماضی والمستقبل فخصّوه بالضّمّه لذلک .

«ومن ثمّ لم یجیء إلّا مشروطا» .

یعنی لم یجیء مضارع فعل المفتوح العین مفتوحا عینه إلّا أن تکون عین الفعل أو لامه أحد حروف الحلق لما بینها وبین الفتح من المناسبه ، فکأنّهم أرادوا مجیئها مناسبه لحرکتها ، واعتدّوا بالّلام ، وإن کانت بعدها لما یلزم من انتقال إلی علوّ ، ولم یعتدّوا بحرف الحلق إذا کان فاء لأنّه لا یلزم منه الانتقال إلی علوّ ، کما منعوا فی اللّغه الفصیحه الإماله بالغین الواقعه فی نابغ (5) ، ولم یمنعوا بالغین الواقعه فی غلاب نظرا إلی ذلک .

ثمّ قال : «إلّا ما شذّ من نحو : أبی یأبی ورکن یرکن» .

فکأنّهم لّما علموا أنّهم إذا فتحوا انقلبت الیاء ألفا ، والألف من حروف الحلق ، فصار للفتح وجه فی مثل ذلک ، وإن کان علی خلاف القیاس من حیث إنّ فیه دورا (6) ، وذلک أنّ الفتح لا یکون إلّا بحرف الحلق ، فیتوقّف الفتح علی حرف الحلق ، ویتوقّف کونه حرف حلق علی الفتح ، وأمّا «رکن یرکن» فقد جعله شاذّا ، وقد نقل أنّه یقال : رکن یرکن کنصر ینصر (7) ، ورکن یرکن کعلم

ص: 106

یعلم (1) ، فالأولی علی ذلک أن یقال : هو من تداخل اللّغتین (2) ، لأنّه أقرب من مخالفه القیاس ، ولذلک حکم علی فضل یفضل / أنّه من تداخل اللغتین (3) ، ومعنی تداخل الّلغتین أن یثبت للماضی جهتان بناآن ، وللمضارع لکلّ واحد منهما بناء واحد ، ثمّ یتکلّم العربیّ بأحد بناءی الماضی مع بناء المضارع الذی لیس له ، فیتوهّم أنّه جار علیه ، ولیس کذلک ، ومثاله ما ذکره فی فضل یفضل ، لأنّ العرب تقول : فضل بالفتح ، وفضل بالکسر ، ومضارع فضل (4) بالفتح (5) یفضل بالضّمّ ، ومضارع فضل بالکسر یفضل بالفتح (6) ، فإذا سمع بعد ذلک فضل یفضل علم أنّه من تداخل اللغتین .

وهذا الفعل معناه من الفضله ، لا من قولک : فضلته إذا غلبته فی الفضل ، لأنّ ذلک لیس فی ماضیه إلّا الفتح ، ولیس فی مضارعه إلّا الضّمّ ، لأنّه من باب فاعلنی ففعلته أفعله (7) .

قال : «وللمزید فیه خمسه وعشرون بناء» .

یعنی : وللثّلاثیّ المزید فیه ، لأنّ الرّباعیّ سیأتی بعد ذلک ، وإنّما کلامه فی الثّلاثیّ .

«والزّیاده (8) إما (9) أن تکون من جنس حروف الکلمه أو من غیر جنسها» .

وللإلحاق وغیر الإلحاق ، وقد تقدّم بیان ذلک کلّه فی الأسماء ، [ثم ذکر الموازن للرّباعیّ علی سبیل الإلحاق] (10) .

ص: 107

لسهولته (1) ، والتحقیق ما بدأنا به ، لأنّه جار فی الأسماء والأفعال ، وما ذکره مقیّد (2) بالأفعال دون الأسماء ، لأنّ الأسماء لا یمکن معرفه الملحق فیها من غیره بمصدر (3) ، إذ لیس لها مصادر .

والثالث : غیر موازن نحو : انطلق واقتدر ، إلی آخره ، فهذه غیر موازنه للرّباعیّ بوجه (4) ، ولیس «استخرج» موازنا ل «احرنجم» ، لأنّا لم نعن بالموازنه صوره حرکات وسکنات ، وإنّما عنینا به (5) وقوع الفاء والعین والّلام فی الفرع موقعها فی الأصل الملحق به والزیاده ، وإن کان ثمّه زیاده لغیر الإلحاق فلا بدّ من مماثله فی الملحق .

و «استخرج» بالنّسبه إلی «احرنجم» علی خلاف ما ذکرناه فی الأصلیّه والزّیاده جمیعا ، أمّا الأصلیّه فهو أنّ الخاء وهی فاء وقعت موقع النّون الزائده فی الأصل ، ولیس ذلک فی مثل الملحق ، وأمّا باعتبار الزائد فهو أنّ النّون واقعه فی الأصل بعد الفاء والعین ، ولیس فی الفرع نون فی موضعها ولا فی غیره .

ولا فی باب رمی : یرمو ، وإنّما أتوا بذلک کلّه مکسورا أو مفتوحا فی باب وعد خاصّه ، لأجل حرف الحلق ، کقولهم فی (1) : «وضع» : یضع ، وإنّما لم یبنوا یفعل من باب وعد استثقالا له ، ولم یبنوا یفعل من باب باع ورمی لما یؤدّی من انقلاب الیاء التی هی عین ولام واوا لانضمام ما قبلها ، فتختلف حروف الکلمه ، ولأنّه یؤدّی إلی إبدال الأخفّ بالأثقل مع الغنیه عنه بالبناء الآخر الذی هو أصل أیضا ، فلمّا کان کذلک لم یستعملوه (2) أیضا فی هذا الباب إلّا ما کان من جنس کلامهم .

قال : «وعن الکسائیّ أنّه استثنی أیضا ما فیه أحد حروف الحلق وأنّه یقال فیه : أفعله بالفتح» .

یعنی أن تکون عینه أو لامه أحد حروف الحلق دون الفاء ، وإنّما أبهم لأنّه قد تقدّم ما یشعر بذلک ، واستثناء الکسائیّ غیر مستقیم لا فی النّقل ولا فی المعنی (3) ، أمّا فی النّقل فقد نقل الثّقات : فاخرنی ففخرته أفخره (4) ، وهو عین ما خالف فیه ، وأمّا فی المعنی فإنّ ما فیه أحد حروف الحلق لم یلزم فی قیاس کلامهم الفتح دون الضّمّ حتّی یکون الضّمّ مخرجا له عن قیاس لغتهم ، بل استعمل فیه الضّمّ والفتح جمیعا ، ألا تراهم یقولون : دخل یدخل ونحت ینحت ، وهو مماثل لباب فعل الذی لیس فیه حرف حلق فی کونهم یقولون : یفعل ویفعل بالضّمّ والکسر ، فإذا استعملوا الضّمّ فإنّما استعملوا أحد البناءین (5) اللّذین هما قیاسه ، فکذلک إذا استعملوا یفعل ممّا فیه حرف حلق فإنّما استعملوا أحد الأبنیه التی هی قیاسه ، فوضح من حیث المعنی أنّه لیس کباب وعد ورمی فی امتناع یفعل فیه .

قوله : «قال سییبویه : ولیس فی کلّ شیء یکون هذا ألا تراهم لا یقولون (6) : نازعنی فنزعته ، استغنی عنه بغلبته» .

وما ذکره سیبویه فی ذلک لا یخرجه عن أن یکون / قیاسا ، کما أنّه لم یخرج باب التعجّب عن القیاس لامتناعهم فی : «ما أقیله» ، وإنّما قام دلیل خاصّ فی هذا الموضع (7) ، والدّلیل الخاصّ هو أنّه کثر استعمالهم هذا المعنی ، ولم یرد عنهم فیه مثل ذلک ، وإنّما ورد فی موضعه : غلبته ،

ص: 110

فدلّ ذلک علی أنّه فی هذا الموضع الخاصّ مطّرح ، وتقریر دلیله أن یقال : لو کان ذلک جائزا لورد ، ولم یرد ، فدلّ علی أنّه غیر جائز .

قال : «و « فعل» یکثر فیه الأعراض من العلل (1) » ، إلی آخره .

لمّا لم یمکن حصره لانتشار معانیه ذکر الکثره ، [وحصر] (2) فی العلل والأحزان وأضدادها ، ثمّ مثّل لکلّ واحد من الأقسام ، وقد یکون «فعل» لغیر ذلک کعلم وسمع ورکن وأشباه ذلک .

وقوله : «یکثر فیه الأعراض من العلل والأحزان» .

تنبیه علی أنّ هذه المعانی تکون فیه کثیرا ، لا علی معنی أنّه یکون فیها أکثر منه (3) فی (4) غیرها ، فإنّ «فعل» فی غیر ذلک أکثر منه فی ذلک ، ولکنّ العلل والأحزان فیه أکثر منها فی غیره ، فلذلک قال : «یکثر (5) فیه» ، ولم یقل : یکثر [فعل] (6) فیها ، وهو تنبیه دقیق .

«وفعل للخصال التی تکون فی الأشیاء» .

قال : ولذلک لم یأت متعدّیا ، لأنّ الخصال التی وضع لها لم یأت شیء منها متعلّقا ، فلذلک کان غیر متعدّ ، کحسن وقبح .

بالمطاوع ، وقد یتکلّم بالمطاوع وإن لم یکن معه ما هو مطاوع کقولک : انکسر الإناء ، ولا یلزم ذکر ما هو مطاوع له معه ، وإنّما یلزم / ما ذکرناه ، وهو أن یکون له فعل متعدّ المطاوع أثره .

ثمّ لّما تکلّم علی تفعلل باعتبار مطاوعته لفعلل صار الفعل (1) فی الظّاهر لتفعلل ، فکمّله باعتباره ، فقال : «وبناء مقتضیا» ، یعنی تفعلل کتسهوک وترهوک ، أمّا تسهوک فقد نقل سهوکته فتسهوک ، أی : أهلکته فهلک (2) ، فهو جار علی المطاوعه ، وأمّا «ترهوک» فعلی ما ذکر من کونه مقتضیا غیر جار علی مطاوع له ، یقال : ترهوک فی مشیه إذا ماج (3) .

وإنّما فصله من ذلک لأنّه مخالف له من وجه آخر ، وذلک أنّ المعانی الأول کلّها یمکن أن یتمرّن علیها لتحصل بعد أن لم تکن ، لأنّ الإنسان قد یمرّن نفسه علی الحلم والمروءه والصّبر حتّی یحصل ذلک ، ولا یمکن ذلک فی مثل : تقیّس وتنزّر ، فإنّه إذا لم یکن من هذه القبیله لا یکون منها أبدا ، وإنّما أدخل فیه لأنّ الغرض استعمال ذلک لیحصل عند النّاس اعتقاد ذلک ، فلمّا کان الغرض من الأمرین حصول ذلک معتقدا أجراهما مجری واحدا ، فقد ظهر الفرق بینهما .

قال : «وبمعنی استفعل» .

الظّاهر أنّه أراد «بمعنی استفعل» أصل معنی استفعل ، وأصل معناه طلب ذلک الفعل ، کقولک : استعلم واستعطی ، أی : طلب / العلم والعطاء ، ثمّ مثّل بتکبّر وتعظّم وتعجّل الشیء وتیقّنه ، کأنّه طلب الکبر من نفسه والعظمه ، کقولهم فی استفعل : استخرجته أی : لم أزل أطلب خروجه من نفسی حتّی خرج ، وأمّا تعجّل فظاهر ، وتیقّنه کتکبّر ، کأنّه طلب التّیقّن (1) من نفسه حتی حصل ، فلذلک یطلق «تیقّن» فی موضع «علم» ، و «تقصّاه» ، و «تبیّنه» مثل «تیقّنه» ، لأنّ الطّلب من نفسه (2) ، ویجوز أن یکون تقصّاه واستقصاه بمعنی طلب غایته وأقصاه من غیره أیضا ، فیکون علی الأصل فی معنی استفعل من غیر تأویل .

«وللعمل بعد العمل فی مهله» ، نحو تجرّعه ، أی : شربه جرعه بعد جرعه ، وتحسّاه أی :

حسوه بعد حسوه (3) ، وتعرّقه أی : أخذ ما علیه (4) من اللّحم شیئا بعد شیء (5) ، وتفوّقه إذا (6) :

شربه فواقا بعد فواق (7) ، ومنه تفهّم وتبصّر وتسمّع ، کأنّه حصل له فهمه شیئا بعد شیء .

«وبمعنی اتّخاذ الشیء ، نحو : تدیّرت المکان» أی : اتّخذته دارا ، و «توسّدت التّراب» أی :

ص: 113

اتخذته وساده ، «ومنه تبنّاه» أی : اتّخذه ابنا ، وإنّما فصله (1) لأنّ اتّخاذه ابنا لا یصیّره علی الحقیقه موجودا فیه ذلک المعنی الحسّیّ ، کأنّه قصد إلی الفصل بین الأمور الحسّیّه والأمور المعنویّه .

«وبمعنی التّجنّب» .

وهو فی هذا البناء کمعنی همزه السّلب فی قولک : أعجمت الکتاب ، أی : أزلت عجمته ، کذلک ههنا معنی (2) تحوّب أی : أزال الحوب (3) عن نفسه .

الفاعل والمفعول اللّذان کانا (1) فی فاعل فاعلا لتفاعل ، وسرّه ما ذکرناه من أنّ وضع الأوّل علی معنی نسبته إلی فاعل مع تعلّقه بغیره فی أنّه فعل مثل ذلک ، ووضع الثانی نسبته إلی المشترکین (2) فیه من غیر قصد إلی تعلّق له ، فلذلک جاء الأوّل زائدا علی الثانی بمفعول أبدا ، فهذا معنی قوله : «ولا یخلو من أن یکون من فاعل» ، إلی آخره .

قوله : «ویجیء لیریک الفاعل أنّه فی حال لیس فیها» ، إلی آخره .

وهذا معنی ثان لتفاعل ، وهو کثیر ، وحاصله راجع إلی الإخبار عن فاعله بأنّه علی [حال] (3) المعنی المشتقّ منه تفاعل ، وهو فی الحقیقه علی غیرها ، فإذا قلت : تجاهل زید فمعناه أنّه علی حال الجهل فی الصّوره ولیس علیها فی الحقیقه (4) .

ووقع لفظ الکتاب : «ویجیء لیریک الفاعل» بالرّفع فی الفاعل ، وفی بعض النّسخ «لیریک الفاعل» بالنّصب ، وکلاهما ضعیف ، أمّا الرّفع فلأنّه یلزم منه أن یکون اللّفظ جاء لیری الفاعل أنّه علی تلک الصّفه ، وقد یکون اللّفظ جاء لیری (5) غیر الفاعل أنّ الفاعل علی (6) حال لیس فیها ، کقولک للمخاطب : / تعامیت وتجاهلت ، فإنّه لا یصلح ههنا أن یقال : جیء باللّفظ لیری الفاعل أنّه (7) فی حال لیس فیها ، فإنّ الفاعل ههنا قد یکون غیر قاصد إلی إراده ذلک ، بل قاصد إلی أن لا یطّلع علیه أحد .

وأمّا النّصب فضعیف [أیضا ، لأنّه یصیر المعنی : ویجیء لفظ تفاعل لیعلم اللّفظ أنّ الفاعل علی حال لیس فیها ، وهو مجاز بعید ، مع ذلک ، فإنّه] (8) علی خلاف ما یعبّر به عن معانی الألفاظ هو وغیره .

ص: 115

والوجه أن یکون «ولیس فیها» بالواو لیکون من کلام المخبر بمعناه لا صفه لحال ، فیلزم دخولها فی حکم إراده الفاعل ، فیجیء التّناقض ، ویکون المعنی حینئذ : ویجیء بمعنی (1) إراءه (2) الفاعل أنّه فی حال ، ثمّ قال المفسّر [أی : المخبر] (3) : «ولیس فیها» ، أی : وتلک الحال فی الحقیقه منتفیه عنه (4) ، لأنّ الفاعل (5) یری أنّه فی حال منتفیه ، فیستقم المعنی ، لأنّه لا ینفکّ معناه عن أنّ الفاعل أری من نفسه ذلک ، وأنّه فی الحقیقه لیس کذلک ، وإنّما جاء الخلل من مجیء «لیس» فیها صفه لحال ، فإذا جعلت بالواو خرجت عن ذلک فاستقام .

قال : «وبمنزله فعلت» ، إلی آخره .

لأنّ المعنی أنّ ذلک حصل لفاعله ، کقولک : قام وقعد ، ولا یلزم أن یکون للصیغه (6) التی بمعنی فعلت وهی علی غیر صیغه فعلت .

«ومطاوع فاعلت (7)» ، إلی آخره .

وقد تقدّم معنی المطاوعه فی فصل تفعلل لفعلل (8) ، وهذا مثله لفاعل فلا حاجه إلی إعادته .

یعنی التّعریض للاسم المشتقّ هو منه ، کقولک : أقتلته إذا عرّضته للقتل (1) ، وأبعته إذا عرّضته للبیع ، وهو قلیل ، «ومنه أقبرته» یعنی : ومن أفعل الذی للتّعریض ، وإنّما / نوّعه لأنّ الأوّل تعریض لفعل منسوب إلیه یتعلّق بالفعل (2) من بیع وقتل ، والثّانی تعریض لما لیس کذلک ، ألا تری أنّ جعله ذا قبر لیس مثل جعله [الشیء] (3) معرّضا للبیع والقتل ، لأنّ القبر (4) لیس فعلا له یتعلّق بالمفعول ، فأراد أن یبیّن أنّ البابین سواء فی أنّه تعریض للشیء سواء کان ذلک الشیء فعلا لفاعل أفعل (5) علی الصفه المذکوره أو غیر ذلک .

ثمّ قال : «أو لصیروره الشّیء ذا کذا» .

أی لصیرورته منسوبا إلیه المعنی المشتقّ هو منه علی وجه مّا ، کأغدّ البعیر ، أی : صار ذا غدّه (6) ، وأجرب ، أی : صار ذا جرب (7) ، وکان ینبغی أن یفصل بین «أغدّ» و «أجرب» و «أنحز» (8) و «أحال» (9) ، لأنّ «أغدّ» معناه أنّه صار منسوبا إلیه ما اشتقّ منه علی جهه قیامه به ، وهذا علی جهه قیامه بماله (10) .

«ومنه ألام» یعنی أفعل الصّیروره ، وإنّما فصله لأنّه مخصوص بما کان الفاعل آتیا بذلک الشیء المشتقّ هو منه ، إذ معنی ألام : أتی بما یلام علیه (11) ، فهو مشارک له فیما ذکرناه ، إلّا أنّ الفاعل ههنا آت به ، ولیس الأوّل کذلک ، وکان ینبغی أن یفصل بین «ألام» و «أراب» (12) وبین أصرم النّخل وأجدّ ، لأنّ هذا لیس مثله فی أنّه آت بذلک المعنی وبین الأوّل أیضا لأنّه لیس مثله فی أنّ

ص: 117

المعنی قد حصل ، وإنّما المعنی قارب وقت حصوله ، فنزّلت مقاربته له منزله حصوله ، ألا تری أنّک تقول : أصرم النّخل (1) ، وأجدّ الزّرع (2) ، وهو لم یصرم ولم یجدّ (3) ، بخلاف ما تقدّم ، فإنّه علی معنی حصول ذلک الشیء ودخوله فی الوجود .

«ومنه» یعنی أفعل للصیروره «أبشر وأفطر» ، أی : صار ذا فطر وذا بشری (4) ، وإنّما فصله لأنّه مطاوع ، فأفطر وأبشر مطاوع فعّل ، قالوا : بشّرته فأبشر ، وفطّرته فأفطر ، وأقشع مطاوع قشع ، یقال :

قشع الرّیح السّحاب فأقشع وانقشع (5) ، وأمّا «ألبّ» (6) فلیس لدخوله مع ما توسّطه معنی ، لانّ «ألبّ بالمکان» بمعنی أقام به ، ولیس مطاوعا لشیء ، وأظنّه أکبّ فصحّف (7) ، لأنّه یقال : کببته فأکبّ / وانکبّ (8) ، کما یقال : قشعت الرّیح السّحاب فأقشع وانقشع ، فیستقیم حینئذ .

ثمّ قال : «ولوجود الشّیء علی صفه» .

معناه لوجود مفعول الفعل علی الصّفه المشتقّ الفعل منها ، کقولک : أحمدت الرجل ، أی :

وجدته موصوفا بالحمد ، ومنه ما ذکره فی الحکایه (9) .

«وللسّلب» ، یعنی ولسلب المعنی المشتقّ أفعل منه عمّن تعلّق به الفعل ، کقولک : أعجمت الکتاب ، أی : أزلت عجمته (10) ، وأشکیته أی : أزلت شکایته ، وقد یجیء ذلک سلبا عمّن نسب إلیه الفعل ، وذلک إذا لم یکن الفعل متعدّیا ، کقولهم : أقسط ، أی : أزال عنه القسط ، وهو

ص: 118

الجور ، ولذلک کان معنی أقسط عدل ، وقسط : جار (1) ، فهو من هذا الباب ، فکان ینبغی أن یقول : ومنه أقسط .

«ویجیء بمعنی فعلت» .

وهو واضح ، فإنّه ممثّل (2) بما جاء فیه فعل .

یعنی أنّ فعّل یؤاخی أفعل فی کونه بمعنی فعل ، کقولک : زلته وزیّلته ، ومزته ومیّزته ، وهما بمعنی واحد کما کان قلت وأقلت بمعنی واحد .

قال : «ومجیئه للتکثیر هو الغالب علیه» .

یعنی أنّ ذلک هو أصله والأکثر فی استعمالهم إیّاه (1) ، فکان الأولی تقدیمه ، ولکنّه قدّم غیره لمؤاخاته لأفعل ، وقد جاء عقیبه ، وشرطه التکثیر فی الفعل أو فی الفاعل أو فی المفعول ، فمثال الأوّل / : جوّل وطوّف ومثال الثانی : موّتت الإبل ، ومثال الثالث : غلّقت الأبواب ، فإن فقد ذلک لم یسغ (2) استعماله ، فلذلک کان قولک : موّتت الشاه خطأ ، لانتفاء جمیع ذلک ، لأنّ هذا الفعل لا یستقیم تکثیره بالنّسبه إلی الشّاه ، ولا یستقیم تکثیرها وهی واحده ، ولیس ثمّه مفعول ، فیکون التکثیر له ، فلذلک قال فی هذه المسأله : «ولا یقال للواحد» بخلاف قولک : قطّعت الثّوب ، فإنّ ذلک سائغ ، وإن کان الفاعل واحدا ، فظاهر کلامه یوهم أنّ هذا البناء لا یقال للواحد ، ولکنّه أطلقه لتقدّم قوله : «وهو یجوّل ویطوّف» ، أی : یکثر الجولان والطّواف ، فعلم أنّ التکثیر قد یکون فی الفعل نفسه ، وقد یکون فی الفاعل ، فقوله : «ولا یقال للواحد» لم یرد به إلّا ما لم یستقم فیه تکثیر الفعل ، وإنّما یکون التکثیر فی الواحد هو المصّحّح .

«ویجیء مجیء فعلت» .

یعنی أنّه یأتی بمعنی نسبه فعل إلی فاعل لا غیر ، کما یأتی فعل ، کقولک : سافرت بمعنی نسبه السّفر إلی مسافر ، ولیس ثمّه فعل ثلاثیّ من لفظ سافرت بمعناه فیمثّل به (1) ، کما فی شغلته وأشغلته ، ومزته ومیّزته ، ولذلک یجیء فیه بعض اللّبس علی القاصر [فی الفهم] (2) .

«وبمعنی أفعلت کقولک (3) : عافاک اللّه» .

یعنی / بمعنی أفعلت فی التّعدیه ، لأنّ معنی «أجلست زیدا» (4) صیّرته (5) ذا جلوس ، ومعنی «عافاک اللّه» أی : صیّرک ذا عافیه ، فشبّهه به فی ذلک ، وخصّ أفعل وإن کان فعل قد یأتی لذلک لکثره أفعل فیه ، ولو کان لعافاک فعل ثلاثیّ من معناه لازم ، وعافاک معدّ له لاتّضح أمر التّعدیه فیه ، مثل : بعد وباعدته ، وکان تمثیله بباعدته أولی لأنّه حینئذ مثل جلس وأجلسته ، ولکنّه جاء ملبسا لأنّه موضوع فی أصله لما ذکرناه ، ولا یقال : عفا زید ، بمعنی قامت به عافیه (6) ، وعافیته بمعنی صیّرته قائمه به العافیه ، کما فی بعد وباعدته ، ولکنّه واضح بما ذکرناه ، وکذلک «طارقت النّعل» أی : صیّرتها ذات (7) طراق ، وتقریره علی نحو ما قرّر فی «عافاک اللّه» ، وإشکاله کإشکاله .

«وبمعنی فعّلت» .

یعنی للتکثیر ، لأنّه هو باب فعّلت الکثیر ، وهو واضح فی ضاعفت وناعمت ، لأنّ فی معناه ضعّفت ونعّمت ، فیتّضح الأمر فی مثل ذلک کما تقدّم .

قد تقدّم معنی المطاوعه ، فلا حاجه إلی إعادته ، (1) وقد اختصّ بناء انفعل بها ، ولکنّه فی الأکثر یکون المطاوع علی فعل ، کقولک : کسرته فانکسر ، وقد جاء مطاوعا لغیره قلیلا (2) .

«ولا یقع إلّا حیث یکون علاج وتأثیر» .

یعنی أنّهم خصّوا هذا البناء بالمعانی الواضحه للحسّ دون المعانی المجرّده عنه مختصّه بالعلم خاصّه دونه ، کأنّهم لّما خصّوه بالمطاوعه التزموا أن تکون جلیّه واضحه ، فلذلک لا یقال : علمته فانعلم ولا عرفته فانعرف ، وکذلک ما کان مثله ، ولذلک کان قولهم : انعدم لیس بجیّد (3) .

«وقالوا : قلته فانقال» ، لأنّ المقول معالج بتحریک اللّسان والشّفتین وإخراج الصّوت ، وکلّ ذلک من باب المحسوس للمخاطب والمخاطب ، فإن أطلق «قلته فانقال» علی إراده المعنی المفهوم من القول ، وذلک لیس فیه ما اشترط من غیر أن یقصد إلی ألفاظ محقّقه أو مقدّره کان فی الامتناع نظیر «انعدم» .

ذبیحه ، وکذلک اطّبخ واشتوی ، وفصل بینهما لأنّ لهذا مطاوعا (1) فی المعنی کقولهم : وزنت له فاتّزن ، وکلت له فاکتال ، یقال : کال البائع ، واکتال المشتری ، أی : أخذه مکیلا ، وأخذه موزونا (2) ، کما فصل قوله : أبشر وأفطر وأقشع عمّا قبله لذلک (3) ، لینبّه علی أنّ (4) منه ما هو مطاوع ومنه ما هو غیر ذلک .

«وبمنزله فعل کقولک : خطف واختطف» .

ولیس یعنی فعل بفتح العین ، وإنّما أراد فعل الذی لا زیاده فیه ، ولذلک یقال : فعل علی ثلاثه أضرب بفتح العین وکسرها وضمّها ، وهو واضح لأنّه جاء افتعل فیما جاء فیه فعل علی ما تقدّم من أنّه (5) أوضح ممّا یأتی بمعنی فعل ، ولیس منه فعل .

«وللزّیاده علی معناه» .

یعنی علی معنی فعل ، کأنّه من باب التّکثیر فی ذلک الفعل ، کما جاء فعّل للتکثیر .

«قال سیبویه : أمّا کسبت فإنّه یقول : أصبت (6) وأمّا اکتسبت فهو التّصرّف والطّلب (7)» ، یرید أنّ معنی کسبت حصول الکسب علی أیّ وجه کان ، ومعنی «اکتسبت» تکثیر لمعنی أصل الکسب ، ومن ذلک قوله تعالی : لَها ما کَسَبَتْ وَعَلَیْها مَا اکْتَسَبَتْ (8) ، وفیه تنبیه علی لطف اللّه تعالی بخلقه ورحمته لهم ، فأثبت لهم ثواب الفعل علی (9) أیّ صفه کان ، ولم یثبت علیهم عقاب (10) الفعل إلّا علی وجه مبالغه واعتمال فیه .

ومعناه نسبه الفعل إلی فاعله لإرادته تحصیل الفعل المشتقّ هو منه ، کما ذکر فی الأمثله .

ثمّ قال : «ومرّ مستعجلا» ، کالاعتراض علی الباب ، وبیّن أنّ معناه أنّه طالب ذلک / من نفسه ، فصار جاریا علی قیاس الباب بهذا التّأویل .

«ومنه استخرجته» .

یعنی استفعل الذی هو لطلب (1) الفعل ، وإنّما فصله لأنّه یستعمل بمعنی أخرجته ، لأنّ الطّالب للشّیء قد یحصّله فیصیر بمثابه الفعل المتعدّی ، فلمّا أطلق «استخرجته» علی الطّالب المحصّل للخروج صار بمعنی أخرجته ، إلّا أنّ فی «استخرجته» معنی الطّلب ، فنبّه علی أنّه منه ، وإن وافق «أخرجته» فی معنی الحصول .

«وللتّحوّل» عن معناه ، یعنی ولنسبه الفعل إلی فاعل لإثبات صفات الأمر المشتقّ هو منه بعد أن لم یکن کذلک ، کقولهم : «استتیست الشّاه» ، أی : صارت صفاتها کصفات التّیس ، و «استنوق الجمل» أی : صارت صفته صفه النّاقه ، وکذلک «استنسر البغاث» (2) ، أی : صارت صفته صفه النّسر .

«وللإصابه علی صفه» .

وقد تقدّم ذلک فی باب أفعل ، ومنه قولهم : استعظمته (3) ، أی : وجدته کذلک ، کما تقول :

أحمدته ، أی : وجدته محمودا .

«وبمنزله فعل» کقولهم (4) : قرّ واستقرّ ، وهو واضح .

العشب ، وکذلک اخشوشن واحلولی ، وبذلک فسّره الخلیل (1) علی ما ذکر (2) .

ص: 126

ص: 128

قال صاحب الکتاب : «الحرف ما دلّ علی معنی فی غیره» إلی آخره

قال الشیخ : معنی قولهم : «فی غیره» أی أنّ المعنی الذی دلّ علیه الحرف یتعلّق (1) بمتعلّق (2) لا بدّ من ذکره من حیث الوضع (3) ، بخلاف الاسم والفعل ، لأنّهما یدلّان علی المعنی من غیر أن یتوقّف معناهما علی متعلّق من حیث الوضع ، وبیان ذلک أنّ «من» فی قولک : «سرت من البصره» معناه (4) أنّ ابتداء سیری من البصره ، فلم یکن بدّ من ذکر المتعلّق الذی هو البصره ، بخلاف ما لو قلت : «ابتداء سیری حسن» ، فإنّه یصحّ من غیر أن یذکر متعلّقه ، فهذا معنی قولهم : فی نفسه فی الاسم والفعل [وفی غیره فی الحرف ، ولذلک لم یقع مخبرا عنه ولا به ، بخلاف الاسم والفعل] (5) .

وقد أورد (6) علی قول النحویین : الحرف لا یخبر عنه ولا یخبر (7) به أنّه قد أخبر عنه بقولکم :

لا یخبر عنه ، فإنّه خبر (8) عنه ، وهذا بعینه یورد علی الفعل إذا قیل : لا یخبر عنه ویخبر به ، فإنّ ذلک خبر عنه .

وجوابه أنّ المحکوم بکونه لا یخبر به ولا یخبر عنه إنّما هو ألفاظ الحروف باعتبار معانیها المستعمله هی فیها ، وأمّا قوله : «الحرف» فلیس من ذلک ، وکذلک قولهم : «من» حرف جرّ (9) ،

ص: 129

فإنّه أخبر عن الحرف ، ولولا أنّه خبر عن الحرف لم یصدق قولنا : حرف جرّ ، ولکن لیس ذلک المعنیّ / بقولهم ، فإنّ هذا لم یخبر عنه باعتبار لفظه ومعناه المستعمل هو فیه ، وإنّما أخبر عنه باعتبار لفظه ، وهو بهذا المعنی اسم ، ألا تری أنّک تقول : «من» مبتدأ ، وحرف [جرّ] (1) خبر مبتدأ (2) [محذوف] (3) ، ولا یقع مبتدأ إلّا الأسماء .

فإن قیل : کیف یصحّ أن یکون اسما وقد أخبر عنه بأنّه حرف وهل هذا إلّا تناقض ؟

فالجواب أنّ الوجه الذی کان به اسما غیر الوجه الذی أخبر عنه بأنّه حرف ، ألا تری أنّک تقول فی «من» وشبهها : هذه الکلمه حرف (4) ، ولا یشکّ ذو عقل أنّ قولک هذه اسم ، ومع ذلک فقد أخبرت عنه بأنّه حرف ، لأنّ لفظ الکلمه صالح إطلاقه علی الاسم والفعل والحرف جمیعا ، فإذا قلت : هذه الکلمه حرف وأنت تعنی «من» أو غیرها کان ذلک صحیحا ، فکذلک إذا قلت :

«من» (5) حرف (6) ، لأنّک لم تقصد إلّا إلی (7) نفس اللّفظ باعتبار کونه کلمه ، وهذا بعینه یجاب به عن الفعل ، فإنّهم لم یعنوا بقولهم : لا یخبر عنه إلّا فی حال استعمالهم له علی حسب وضعه فی معناه فی مثل قولک : ضرب زید ، فأمّا إذا قلت : الفعل یخبر به فلیس هو المراد ، لأنّک لم تستعمل لفظ ما هو فعل بمعناه ، وإنّما (8) استعملت اسمه ، کما (9) استعملت اسم الحرف فی قولک :

الحرف (10) ، وکذلک إذا قلت : «ضرب» فعل ماض ، فإنّک وإن استعملت اللّفظ لم تستعمله باعتبار معناه الموضوع هو له ، ألا تری أنّک لا تعنی بقولک : «ضرب» إلّا نفس اللّفظ ، ولم

ص: 130

تستعمله باعتبار معناه الموضوع هو له ، وإنّما قصدت إلی حکایه اللّفظه (1) الواقعه فی کلام غیر ذلک ، فهذا هو الوجه فی صحّه قولهم : الحرف لا یخبر به ولا یخبر عنه ، والفعل لا یخبر عنه .

قال : «ومن ثمّ لم ینفکّ من اسم أو فعل یصحبه» .

یعنی : ولکونه موضوعا لمعنی فی غیره محتاجا إلیه فی الاستعمال وجب أن یذکر معه غیره ، ووجب أن یکون فعلا أو اسما لئلا یؤدّی إلی تسلسل ، فلم یکن بدّ من فعل أو اسم یصحبه .

قال : «إلّا فی مواضع مخصوصه حذف فیها الفعل واقتصر علی الحرف ، فجری مجری النّائب» .

قوله : «إلّا فی مواضع» لیس بسدید ، لأنّه یوهم صحّه استعمال الحرف فی بعض المواضع من غیر متعلّق ، ولیس بصحیح ، فإنّ المحذوف إذا کان مرادا فهو فی حکم الموجود ، ألا تری أنّه لا بدّ لکلّ فاعل من رافع ، ولا یصحّ أن یقال : إلّا فی بعض المواضع ، وإن کان الرّافع قد یکون / محذوفا ، وکذلک النّاصب وغیره ممّا یجوز فیه الحذف وهو محتاج إلیه .

فإن قیل : یصحّ جعله استثناء منقطعا تبیینا لجواز حذف المتعلّق ، قیل : لیست هذه عباره الاستثناء المنقطع ، فإنّ الاستثناء المنقطع بمثابه لکنّ (2) ، ولا یقع بعده إلّا الاسم أو ما فی معناه ، فلو قال : إلّا أنّه یکون کذا وکذا کان مستقیما ، وأمّا مثل هذه العباره فلا تحمل إلّا (3) علی الاستثناء المفرّغ (4) ، کأنّه قال : لم ینفکّ فی کلّ موضع إلّا فی مواضع مخصوصه .

وقوله : «حذف فیها الفعل واقتصر علی الحرف» لیس بسدید أیضا ، لأنّه یوهم أنّ الحذف إنّما یکون فی الفعل دون الاسم ، لأنّه وقع إثباتا بعد النّفی ، ولأنّه فی محلّ التّعلیم ، فإذا ذکر حکما وخصّصه بقسم أشعر ذلک أنّ غیره لیس مثله ، وقد یحذف الاسم أیضا ، فلا معنی لخصوصیّه ذکر الفعل ، وبیانه أنّه إذا قیل : أزید قائم (5) ؟ فقلت (6) : نعم کان المحذوف الاسم ، کما أنّه إذا قال : أقام

ص: 131

زید ؟ فقلت : نعم کان المحذوف (1) الفعل ، وکذلک «بلی» (2) فی قولک : «أما زید قائم» و «أما قام زید» ، فقد تبیّن أنّ الفعل والاسم سیّان فی صحّه حذفهما مع الحرف ، إلّا أنّ بعض ما مثّله یختصّ بالفعل لتعذّر معناه فی الاسم ، مثل قوله : «یا زید» و «کأن قد» (3) .

ص: 132

وضعه من غیر إعلال ، وإلّا وجب أن یقول : اللّام حرف وفعل فی قولک : ل عمرا [أمرا] (1) من قولک : ولی یلی ، وهذا بعینه یجاب به إذا قیل : إنّ «علی» یکون حرفا وفعلا ، ولم یذکرها إلّا اسما وحرفا ، فکان / یجب أن یجعلها قسما برأسه ، فیقال : إنّها لا تکون فعلا إلّا بإعلال ، ألا تری أنّک تقول : عند تصحیحها لانتفاء موجب الإعلال : علوت وعلون ، فترجع إلی لفظ آخر غیر ذلک ، ولذلک لم یذکرها مستعمله فعلا [من حیث هو هو] (2) .

فإن قیل : فاستعمالها اسما کاستعمال إلی التی هی النّعمه اسما (3) ، وقد ذکرتم أنّه (4) ترک ذکرها لمّا کانت إنّما تکون کذلک بالإعلال ، فلم لم یقولوا فی «علی» إذا کانت اسما : إنّها لا تکون کذلک إلّا بالإعلال فتترکوا ذکرها مستعمله اسما ؟

فالجواب : أنّ «علی» الاسمیّه لیست کإلی التی هی النّعمه ، لأنّ إلی بمعنی النّعمه اسم متمکّن ، وألفه منقلبه عن یاء قطعا (5) ، فلم تصر کذلک إلّا بالإعلال ، وأمّا «علی» الاسمیّه فمبنیّه غیر متمکّنه ، والمبینّات بالأصاله لا یقدّر لألفاتها أصول ، بل هی کألفات الحروف ، فلذلک حکم باستعمالها حرفا واسما ، لأنّها (6) کذلک فی أصل وضعها حرفا واسما من غیر إعلال .

فإن قیل : فقد ذکر «خلا» وأخواته حرفا وفعلا ، و «خلا» الفعل تقول فیه : خلا یخلو وخلوت ، فلا یصیر کذلک إلّا بالإعلال ، فهو مثل «علی» فی الفعلیّه ، فلم ذکره فی الفعلیّه ولم یذکر «علی» ؟

فالجواب : أنّ «خلا» وأخواتها التی ذکرها فی الفعلیّه لیست «خلا» التی تقول فیها : خلوت ، وإنّما هی «خلا» الواقعه فی الاستثناء ، وتلک (7) غیر متصرّفه بمثابه «علی» فی الأسماء ، وألفات الأفعال التی لا تصرّف لها یلجیء إلی تغییرها کألفات غیر المتمکّن من الأسماء فهذا وجه ذکرها فی الفعلیّه دون ذکر «علی» .

ص: 134

ووجه استدلاله (1) أنّه قد جاء قوله تعالی : إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً (2) ، وقد جاء «یغفر لکم من ذنوبکم» (3) ، فإن لم تحمل علی الزیاده تناقض ، ولیس بمستقیم ، لأنّه یثبت أصلا فی العربیّه بما لیس بثبت (4) ، لکونه محتملا غیر ما ذکره ، وذلک أنّ قوله تعالی : یَغْفِرْ لَکُمْ مِنْ ذُنُوبِکُمْ إنّما ورد فی قوم نوح ، ویجوز أن یکون قوم نوح إنّما یغفر لهم البعض ، و «یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً» إنّما ورد فی هذه الأمّه ، فصحّ حمل تلک علی التّبعیض وزال وهم التّناقض ، ثمّ ولو سلّم أنّ الآیتین لإحدی الأمّتین لجاز أن یکون «یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً» لبعضهم ، و یَغْفِرْ لَکُمْ مِنْ ذُنُوبِکُمْ لبعضهم ، فیصحّ أن تحمل [«من»] (5) علی التّبعیض ، ویزول وهم التّناقض ، وإذا ثبت ذلک سقط الاستدلال ، فإذن الوجه ما ذکره سیبویه ، ومن استقری کلام العرب أدنی استقراء علم انتفاء صحّه «مات من رجل» و «ضرب من رجل» وشبهه .

فإن قیل : فقد ثبت قولهم : «قد کان من مطر» (6) ، ومعناه : کان مطر فقد أجیب عن ذلک بأن قیل : هو علی الحکایه ، کأنّ قائلا قال : هل کان من مطر ؟ فأجیب بقوله : قد کان من مطر ، وأسدّ من ذلک أنّه علی معنی التبعیض کقولک : أخذت من الدّراهم ، کأنّک قلت : قد کان شیء من مطر ، ولا بعد فی مثل ذلک ، فحذف الموصوف وأقیمت الصفه مقامه ، کقوله تعالی : وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِیلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ (7) .

والکلام [فیها] (1) فی الانتهاء کالکلام فی «من» فی الابتداء . /

« وقد تکون (2) بمعنی المصاحبه ، [ کقوله (3) تعالی : وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ (4) .

أی مع أموالکم ، کقوله تعالی : مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللَّهِ (5) ، أی مع اللّه ] (6) ، وقد جاءت «إلی» وما بعدها داخل فی الحکم فیما قبلها ، وجاءت وما بعدها غیر داخل فی الحکم فیما قبلها (7) ، فمنهم من حکم بالاشتراک ، ومنهم (8) من حکم بظهور الدّخول ، ومنهم من حکم بظهور انتفاء الدّخول ، وعلیه النحویّون (9) ، ووجوب دخول المرافق والکعبین فی الغسل لیس من ظاهر الآیه (10) ، وإنّما حمل علی ذلک من السّنّه ، فلم یصر إلیه إلّا بدلیل .

قال (1) : لمّا کان وضعها لهذا الغرض وجب أن لا یکون بعدها إلّا ذلک . وإلّا انتفی الغرض المقصود ، وإذا کانت عاطفه فأمرها کذلک فیما کان آخر جزء دون ملاقیه ، کأنّ أصلها أن تکون جارّه ، وإنّما استعملت عاطفه لّما اشترکت مع الواو فی المعنی لثبوت الحکم فی الأمرین ، فاستعملت علی خلاف أصلها فی أظهر معنییها لّما أشبهته وهو الواو ، فلذلک تقول : «أکلت السّمکه حتّی رأسها» خفضا ونصبا ، ولا تقول : «نمت البارحه حتّی الصّباح» بالنصب لما ذکرناه (2) .

قوله : «ومن حقّها أن یدخل ما بعدها فیما قبلها» .

بخلاف «إلی» علی الأظهر عند النّحویّین (3) .

قال : «ولا تدخل علی المضمر (4) ، فتقول : حتّاه کما تقول : إلیه» .

لأنّهم لو قالوا : حتّاه لأثبتوا مع المضمر ألفا فیما غیّرت ألف أمثاله إلی الیاء ، کقولک : علیه وإلیه ولدیه ، وذلک کلّ ألف آخر حرف أو اسم غیر متمکّن اتّصل به مضمر ، ولو قلبوها یاء لغیّروا ألفا ، وتغییرها علی خلاف قیاس أصل کلامهم من غیر حاجه لاستغنائهم عنها ب «إلی» ، وهذا ظاهر فی التّعلیل فیمن قال : إنّ «إلی» ک «حتّی» ، ودون هذا القول فیمن (5) قال بالاشتراک ، ودون القول بالاشتراک فیمن (6) قال بمخالفتها (7) فی الظّهور ، إلّا أنّه یصحّ استعمالها بمعناها علی کلّ حال ، فاستغنی عنها لمّا أدّی أمرها إلی ما ذکرناه .

قوله : «وتکون عاطفه ومبتدأ ما بعدها الکلام (8)» إلی آخره .

وسیأتی ذکر العاطفه فی حروف العطف / و «مبتدأ ما بعدها» .

یعنی واقعا بعدها الجمل المستقلّه ، ولیس یعنی خصوصیّه المبتدأ .

ص: 138

قال : «ویجوز فی مسأله السّمکه الوجوه الثلاثه» .

وخصّ مسأله السّمکه دون «البارحه» (1) لما ذکرناه آنفا من أنّ العاطفه لا تکون إلّا مع آخر جزء لا مع ما یلاقیه ، فلذلک أضرب عنها ، ووجه وقوعها ابتدائیّه علی أن یکون الخبر محذوفا ، کأنّه قال : حتّی رأسها مأکول ، وقد أباه بعض البصریّین ، ولیس بالجیّد (2) لقوّه الدّلاله علی خصوصیّه الخبر المحذوف کما فی سائر الأخبار المحذوفه ، فلا وجه لمنعه ، والأولی ما اختاره [المصنّف] (3) .

کان فیه معنی الاستقرار (1) ومعنی الاستعلاء (2) فهو صالح لکلّ واحد منهما ، فلذلک حمل صاحب الکتاب (3) قوله تعالی : فِی جُذُوعِ النَّخْلِ علی بابها فی الظّرفیّه (4) ، ولم یعتدّ بقول من قال : إنّها بمعنی «علی» [یعنی جعل المجاز راجحا علی الاشتراک] (5) ، وقد تبیّن وجه القولین [جمیعا] (6) .

کان مصدرا لم تکن الباء مزیده ، وبیان ذلک أنّا إذا جعلناها زائده وجعلنا المفتون مصدرا صار التقدیر : أیّکم الفتنه ، ولیس بسدید ، فثبت أنّه لا یستقیم تقدیر (1) الباء زائده مع کون المفتون مصدرا ، وکذلک لا یستقیم أن تکون الباء غیر مزیده ، والمفتون غیر مصدر ، إذ یصیر المعنی :

فَسَتُبْصِرُ وَیُبْصِرُونَ (2)فی د : «قلت» .(3) (4) بأیّکم صاحب الفتنه ، والأولی جعلها غیر زائده ، والمفتون مصدر علی ما تقدّم فی المصادر ، فیکون المعنی : «فستبصر ویبصرون» بأیّکم الفتنه (5) جوابا لقولهم : إنّه لمجنون ، أی : بأیّکم الجنون ، ویضعف جعلها غیر زائده علی معنی فی (6) ، والمفتون صاحب الفتنه ، إذ یصیر المعنی : بأیّکم صاحب الفتنه ، والخطاب له ولهم (5) ، ولا یستقیم أن یقال لجماعه واحده :

«بأیّکم زید» ، فلا بدّ من التّعدّد فی الفرقتین .

فإن قیل (6) : فهذا بعینه یقال إذا جعل المفتون بمعنی الفتنه أیضا .

فالجواب : أنّه لیس مثله ، ألا تری أنّه یصحّ أن یقال للاثنین : بأیّهما الفتنه ، ولا یصحّ أن یقال : بأیّهما صاحب الفتنه علی بقاء الباء غیر زائده ، وسببه أنّ الفتنه معنی یصحّ قیامه بکلّ واحد منهما ، فصحّ الاستفهام عن محلّه بقولک : بأیّهما الفتنه ، وصاحب الفتنه لیس بمستقیم (7) أن یجعل محلا لنفسه حتّی یقال : بأیّ الرّجلین صاحب الفتنه ، فظهر الفرق بین المسألتین ، وقوله (8) :

. . .

سود المحاجر لا یقرأن بالسّور

ص: 141

الکلام فیه کالکلام فی قوله تعالی : وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ .

«وفی المرفوع فی قوله تعالی : کَفی بِاللَّهِ شَهِیداً (1)» .

وهذا نادر ، وهو فی «کفی» کثیر (2) ، وقد زیدت فی مفعول «کفی» کثیرا أیضا ، کقولک :

«کفی به فضلا علمه» ، ومنه (3) :

وکفی بنا فضلا علی من غیرنا

حبّ النّبیّ محمّد إیّانا

وقد جاءت الباء للتّعدیه ، کقولک ، «قمت بزید» ، وجاءت بمعنی «فی» کقولک (4) : «ظننت بزید» ، وقد قیل : إنّها فی قولهم : «بعت هذا بهذا» للمقابله (5) ، [یعنی : قابلت هذا بذا] (6) .

بمعنی الواو فی القسم للتّعجّب ، کقوله (1) :

للّه یبقی علی الأیّام ذو حید

بمشمخرّ به الظّیّان والّاس

أمّا قول البصریّین فیلزمهم جواز : «ربّ رجل» کما جاز «ربّه رجلا» إذ لا فرق بینهما علی ما تقرّر ، وأمّا قول الکوفیّین فیلزمهم أن یجیزوا ربّه وربّهما وحدها ، ولا حاجه إلی هذا التمییز ، فإنّه مضمر (1) لمتقدّم الذّکر ، ویلزمهم أیضا جواز «ربّ الرّجل» من طریق الأولی لأنّ المضمر أعرف ، فإذا جاز هذا (2) معه جاز مع المعرّف بالألف واللّام (3) ، والأولی ما قاله البصریّون ، ویجاب عن ذلک الإشکال بأنّه (4) وإن کان مضمرا یرمی به من غیر قصد فلا بدّ من أن یتقدّم ما یرشد إلی المفسّر له ، ألا تری أنّک لو قلت : «جاءنی زید» فقیل : «نعم رجلا» کان کلاما مستقیما ، وإن حکم بأنّ الضّمیر الذی فی «نعم» غیر مقصود [به] (5) قصد زید ، بل مبهم (6) من غیر قصد إلی مذکور ، ومع ذلک (7) فقد أرشد / المذکور (8) المتقدّم (9) إلی حذف المخصوص الذی هو تفسیر له فی المعنی ، وکذلک إذا قلت : «ربّه رجلا» کان الضمیر فیه کالضّمیر فی «نعم» بعد تقدّم الذّکر ، وکان المذکور المتقدّم یرشد إلی تخصیص فی المعنی کما أرشد إلی المخصوص (10) بالمدح فی قولک : «نعم رجلا» ، وتقریره (11) أن یقول قائل : «هل من رجل کریم» فیقال : «ربّه رجلا» ، فالمراد برجل ههنا «رجلا کریما» ، وأرشد إلیه ما تقدّم ذکره ، ولا یلزم من إرشاده إلی مثل ذلک أن یکون الضمیر فی «ربّه» له علی ما تقرّر فی «نعم رجلا» بعد تقدّم ذکر زید .

«ومنها» یعنی : ومن خصائصها «أنّ الفعل الذی تسلّطه (12) علی الاسم یجب تأخّره عنها وأنّه یجیء محذوفا فی الأکثر» إلی آخره .

ص: 144

أمّا وجوب تأخّره فلأنّها لإنشاء التقلیل ، وکلّ ما وضع للإنشاء فموضعه صدر الکلام ، فلذلک وجب لها صدر الکلام ، فوجب تأخّر (1) الفعل ، وأمّا حذفه فلأنّ المعنی فیه معلوم ، وما کان هذا وضعه من الأفعال فی مواضع معلومه کان محذوفا کما فی قولک : «زید فی الدّار» ، وقیل (2) : إنّما حذف متعلّقها لأنّها لا تقع إلّا جوابا (3) ، فکان متعلّقها معلوما فاستغنی عنه بقرینه ما تقدّم کما استغنی عن متعلّق بسم اللّه بقرائن الحال ، ولعلّ المصنّف أشار إلی ذلک بقوله : «کما حذف مع الباء فی بسم اللّه» ، ولذلک لّما قدّره ملفوظا به قدّره ب «لقیت» ، فدلّ ذلک علی أنّ غرضه تشبیهه ببسم اللّه ، قال الأعشی (4) :

ربّ رفد هرقته ذلک الیو

م وأسری من معشر أقیال

فحکم علی أنّ «هرقته» لیس بمتعلّق لربّ لبقاء المجرور بغیر صفه ، وهو غیر مستقیم ، فوجب جعله صفه ، وإذا وجب جعله صفه لم یبق المتعلّق إلّا محذوفا .

قوله : «ومنها أنّ فعلها یجب أن یکون ماضیا» ، وإنّما کان کذلک لأنّها لتقلیل ما ثبت ، فلذلک لم یستقم أن یکون (5) الفعل إلّا ماضیا ، ولا یرد علی ذلک مثل قولهم : «ربّ رجل یسافر غدا» ، فإنّ ذلک لیس هو الفعل المتعلّق ، وکذلک قوله تعالی : رُبَما یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا (6) ، فإنّه لیس الفعل المتعلّق (7) .

قوله : «ولا یجوز سألقی أو لألقینّ» .

أمّا «لألقینّ» فظاهر لتعذّر کونها صفه ، وأمّا «سألقی» فلا بعد فیه ، ویکون صفه ، وإنّما

ص: 145

الذی منعه هو أن تجعله أن یکون متعلّقا .

قوله : «وتکفّ ب « ما» فتدخل حینئذ علی الاسم والفعل » / .

یعنی فتکون داخله علی الجمل خاصّه ، لأنّهم لّما قصدوا إلی تقلیل النّسب المفهومه من الجمل أتوا بصوره الجمله مفیده معناها وأدخلوا «ربّ» مکفوفه بما إیذانا بذلک ، فإذا قلت : «ربّما قام زید» فإنّما قلّلت النّسبه المفهومه من قولک : «قام زید» ، واستشهد بقول أبی دواد (1) :

ربّما الجامل المؤبّل فیهم

وعناجیج بینهنّ المهار

ومعنی البیت یقول : إنّ هؤلاء ذوو إبل کثیره ، وخیل متوالده ولیسوا فقراء ولیست «ربّ» فی هذا الموضع وما أشبهه من قوله تعالی : رُبَما یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا (2) ، ومن قوله (3) :

ربّ رفد هرقته . . .

. . .

لتحقیق التّقلیل ، ولکنّها لتحقیق الشّیء خاصّه ، کأنّهم نقلوها من معنی التقلیل إلی التحقیق کما نقلوا «قد» (4) إذا دخلت علی المضارع من معنی التقلیل إلی التحقیق دونه ، کقوله تعالی : قَدْ یَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَیْهِ (5) [وقوله : قَدْ یَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ وَالْقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ (6)] (7) ، فهذا کذلک .

«وفیها لغات» ، ولیس فیه شیء .

ص: 146

قال : «و « واو» القسم أبدلت (1) عن الباء الإلصاقیّه » .

قال الشیخ : شرط إبدالها حذف الفعل ، ولذلک قیل : هی عوض من الفعل ، بخلاف الباء ، فإنّ الفعل محذوف معها حذفا من غیر عوض ، ومن ثمّ جاز «أقسمت باللّه» ، ولم یجز : «أقسمت واللّه» (2) ، ومن ثمّ أجاب من منع العطف علی عاملین [مختلفین] (3) فی قوله تعالی : وَاللَّیْلِ إِذا یَغْشی (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّی (2) (4) لّما اعترض علیه بأنّه قد عطف بالواو التی هی فی قوله تعالی :

وَالنَّهارِ - وهی (5) واو العطف علی عاملین [مختلفین] (6) أحدهما (7) الفعل المحذوف (8) ، والآخر الواو التی هی حرف جرّ خافضه اللّیل بأنّ هذه الواو جعلت بدلا من الفعل وهی حرف جرّ ، فصارت عامله للعملین جمیعا ، فأجریت مجری عامل واحد عمل عملین (9) ، وذلک جائز بالاتّفاق ، کقولک : «ضرب زید عمرا وخالد بکرا» ، وهذا وإن کان ظاهره حسنا فإنّه منقوض (10) بمثل قوله تعالی : وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) (11) ، فإنّه قد عطف علی عاملین (12) [مختلفین] (13) من غیر أن یکون أحدهما عوضا عن العامل الآخر ، وهو قوله : فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) (14) ،

ص: 147

وکذلک وَاللَّیْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) (1) .

«ثمّ التّاء مبدله عن الواو فی « تاللّه» خاصّه » .

وهی عوض مثل الواو ، وإنّما حکم / بأنّ الباء أصل لأنّها هی الثابته للإلصاق فی غیر هذا الباب ، ولم توجد التّاء والواو إلّا فی هذا الباب ، ولأنّها هی المصرّح بها مع الفعل ، ولأنّها أعمّ ، ولّما کثر تصرّفهم فی القسم وخفّفوا بحذف الفعل قصدوا إلی أن وضعوا حرفا یشعر به وبحرف الجرّ جمیعا ، وهو الواو ، وخصّوه بالمظهر لأنّ القسم بالمضمر قلیل ، وعلّه ذلک الکثره ، فخصّوه بما کثر فیه ، وهو المظهر ، ثمّ لّما کثر القسم باللّه خاصّه قصدوا إلی تخفیف أکثر من ذلک فعوّضوا عن الواو التی هی حرف علّه حرفا صحیحا وهو التاء ، وما رواه الأخفش من قولهم : «تربّ الکعبه» شاذّ (2) .

قوله : «وقولهم : م (3) اللّه قیل : أصله من» .

قال الشیخ : اختلف الناس فقال بعضهم : هی «من» من قولهم : «من ربّی لأفعلنّ کذا» (4) ، فحذفت النون تخفیفا ، لأنّه محلّ تخفیف ، وخصّ الحذف عند دخولها علی اللّه ملتزما لما فیه من الاستثقال لو بقّیت من التحریک (5) لالتقاء السّاکنین ، وإنّما جاز ضمّها لأنّها منقوله عن «من» فی قولهم : «من ربّی» ، وتلک یجوز ضمّ میمها (6) ، وإنّما جاز ضمّ میمها إیذانا بأنّها القسمیّه لا التی للتّبیین وغیرها ، ولم یأت (7) الفتح لأنّه یوهم بالاستفهامیّه والشّرطیّه .

ومنهم من قال : أصله أیمن فحذفت یاؤها ونونها تخفیفا (8) ، فبقی م اللّه ، ثمّ أجازوا الکسر

ص: 148

لأنّه أخفّ ، واستدلّ علی ذلک بجواز الضّمّ (1) .

ومنهم من قال : هو حرف برأسه مبدل من الواو فی قولک : واللّه ، إلّا أنّه خصّ باسم اللّه کما خصّ التاء بذلک (2) ، وکلّ ذلک محتمل ، إلّا أنّه یلزم من قال : إنّها حرف برأسه أنّ یعدّها فی حروف الجرّ کما عدّ الواو والتاء ، فیقول : وتاء القسم ومیمه (3) .

الذی بحیال یمینه ، وقد تکون اسما بمعنی جانب ، کقولهم : «جلست من عن یمینه» ، والکلام فی اسمیتها وبنائها کالکلام فی «علی» .

[ وقوله (1) :

فإن یک من جنّ لأبرح طارقا

وإن یک إنسا ما کها الإنس تفعل ] (2)

فتصویبه إیّاه هو الذی حسّن عنده إسقاطه ، وکونه عند البصریّین حرف جرّ حسّن عنده ذکره فی التفصیل (1) / .

کثیر فی کلامهم أولی من حمله علی النّادر ، ولذلک قال (1) : «وتضمر قلیلا» ، وذلک هو إضمار «ربّ» فی مثل قولهم (2) :

وقاتم الأعماق خاوی المخترق

أی : وربّ قاتم الأعماق ، علی أنّه قد اختلف هل الخافض ربّ مضمره (3) أو الواو النائبه عنها کنیابه الواو عن الباء فی قولک : واللّه (4) ، وقوّی ذلک بأنّها یؤتی بها أوّل الکلام ، ولو کانت «ربّ» مضمره بعدها لکانت عاطفه ، ولو کانت عاطفه لاستدعت معطوفا علیه ، ووقوعها فی أوّل الکلام یدفع کونها عاطفه ، فثبت أنّها بمعنی ربّ ، وهذا هو الذی (5) أشار إلیه المصنّف فی قوله :

«وواو ربّ» (6) ، ما أدری إن ذکر المصنّف هذا (7) ولم یرد ههنا بإضمار «ربّ» إضمارها بعد الواو لما (8) ثبت من أنّ مذهبه أنّ الواو هی الخافضه لعدّه إیّاها فی حروف الخفض ، وإنّما أراد إضمارها فی مثل قولهم (9) :

ص: 154

بل بلد ملء الفجاج قتمه

فهذا الذی قصد إلیه ، ولذلک جعله قلیلا .

وقول رؤبه : «خیر» شاذّ لا یعمل علیه (1) ، واللّام فی مثل قولهم : «لاه أبوک» حذفت لکثرته فی کلامهم وجریه مجری المثل ، ولذلک لم یقتصروا علی إضمار لام الجرّ / وحدها بل حذفوا معها لام التعریف وهی مراده أیضا ، لأنّ الأصل «للّه أبوک» ، فاللّام الأولی المکسوره هی لام الجرّ ، واللّام الثانیه السّاکنه هی لام التعریف ، واللّام الثالثه المفتوحه هی أوّل الاسم الدّاخل علیه حرف التعریف ، وهل هی عین والفاء محذوفه ، أو هی فاء (2) ؟

اختلف فیه (3) ، ولیس هذا موضع ذکره ، فحذفت لام الجرّ ولام التعریف ، وبقی الاسم مجرّدا عنهما مقصودا فیه معناهما لما ذکرناه من جریه مجری المثل وکثره وقوعه فی الکلام .

ص: 155

ومنهم من یجعل «ما» مزیده ، وهو ضعیف (1) ، ولم یسمع إعمال هذه الحروف مع «ما» إلّا فی قول الشاعر (2) :

قالت ألا لیتما هذا الحمام لنا

إلی حمامتنا ونصفه فقد

وقول صاحب الکتاب (3) : «إلّا أنّ الإعمال فی لیتما ولعلّما وکأنّما أکثر منه فی إنّما وأنّما ولکنّما» شیء اختاره من طریق قیاسیّ ، وکان الأولی أن یقول موضع قوله : «أکثر» : «أولی» ، لأنّ هذا لم یأت عنهم فیه نصب ، ووجه القیاس أنّه ثبت النّصب بعد «لیتما» فیحمل علیها لعلّما وکأنّما ، لأنّها قویّه فی تغییر معنی (4) الابتداء ، وحملت علیها أختاها فی ذلک (5) ، وأمّا «إنّما» و «أنّما» (6) و «لکنّما» وإن کانت من أصل الباب إلّا أنّها لم تغیّر معنی الجمله فیما کانت له ، فلم تقو قوّه البواقی .

فکذلک المفتوحه مع جملتها ، ولذلک وقعت فاعله ومفعوله ومضافا إلیها وغیر ذلک ممّا یقع فیه المفردات .

قال : «ولا تصدّر بها الجمله کما تصدّر بأختها» .

لأحد الأمرین :

أحدهما : أنّها (1) لو (2) صدّرت بها لوقعت مبتدأه ، والمبتدأ معرّض لدخول «إنّ» [المکسوره] (3) ، فیؤدّی إلی اجتماعهما ، ومثله مستکره ، ففرّوا من تصدیرها حتّی لا یؤدّی إلی اجتماع ما یستکرهون اجتماعه .

والثانی : أنّ «أنّ» قد تکون بمعنی «لعلّ» من قولهم : «ائت السّوق أنّک تشتری لحما» (4) ، وفی قوله تعالی : أَنَّها إِذا جاءَتْ لا یُؤْمِنُونَ (5) ، وتلک (6) لها صدر الکلام ، فقصدوا إلی أن تکون هذه مخالفه لتلک فی الموضع لیعلم من أوّل الأمر الفصل بینهما ، فإذا قدّمت علم أنّها بمعنی لعلّ ، وإذا أخّرت علم أنّها المصدریّه ، ولم یعکسوا لأنّه یؤدّی (7) إلی أن تقع التی بمعنی لعلّ متأخّره ، وتلک لا یستقیم تأخیرها کما لا یستقیم تأخیر لعلّ ، وهذه إذا أخّروها فإنّما أخّروا ما یسوغ تأخیره ، وإنّما التزموا فیه أحد الجائزین لغرض ، فکان وزانه وزان تقدیم الاستفهام إذا وقع خبرا فی مثل قولهم : «متی القتال» سواء .

قال الشیخ : التمییز بما ذکره أولی (1) من التمییز بما ذکره غیره ، قال الفارسیّ : / کلّ ما صحّ فیه وقوع الاسم والفعل ف «إنّ» فیه مکسوره ، وما لم یقع فیه إلّا أحدهما ف «إنّ» فیه مفتوحه (2) ، وأمّا صاحب الجمل (3) فعدّد مواضع المکسوره (4) تعدیدا ثمّ قال : والمفتوحه فیما سوی ذلک (5) ، وما ذکره هذا (6) أولی ممّا ذکره الفارسیّ ، لأنّه ذکر المعنی الذی من أجله (7) امتنع فی المکسوره الفتح وفی المفتوحه الکسر ، فذکر الحکم بعلّته وذلک أنّ «إنّ» المکسوره وضعها تأکید للجمله مع بقائها علی استقلالها ، فوجب أن لا تقع إلّا فی موضع الجمله (8) المستقلّه ، والمفتوحه تصیر الجمله معها بتأویل مصدر ، والمصدر مفرد ، فوجب أن لا تقع إلّا فی موضع المفرد ، وهذا مستقیم واضح التعلیل ، وما ذکره الفارسیّ لیس فیه ما یشعر بمثل ذلک ، ولأنّه لا ینتقض ما ذکره [المصنّف] (9) لأنه مبنیّ علی أمر محقّق وما ذکره أبو علیّ منتقض .

أمّا بیان أنّ هذا لا ینتقض أنّه قد علم أنّ وضع إنّ المکسوره لما ذکرناه ، فعلم أنّها لا تقع إلّا فی موضع الجمل ، وعلم أنّ وضع المفتوحه مع ما بعدها (10) فی تأویل المفرد ، فوجب أن لا تقع إلّا فی موضع المفرد .

وأمّا بیان انتقاض ما ذکره أبو علیّ ففی نحو قولک : «من یکرمنی فإنّی أکرمه» ، [ أی :

فإکرامی حاصل له ] (11) ، فهذا موضع یصحّ فیه وقوع الاسم والفعل جمیعا ، ولم یتعیّن الکسر

ص: 159

فیه ، بل جائز فیه الفتح والکسر علی تأویلین یرجعان إلی الضّابط الأوّل [للمصنّف] (1) ، وإذا رجع إلی ضابط أبی علیّ وجب الکسر ، لأنّه موضع یقع فیه الاسم والفعل ، ألا تری أنّک تقول : «من یکرمنی فأکرمه» (2) ، و «من یکرمنی فزید یکرمه» ، فقد وقع بعد فاء الجزاء الاسم والفعل ، ولم یتعیّن الکسر .

فإن زعم زاعم أنّک إذا قلت : «من یکرمنی فأکرمه» فتأویله : فأنا أکرمه ، فلم یصحّ أن یقع بعد الفاء [الجزائیه] (3) إلّا الاسم فهو فاسد من وجهین :

أحدهما : أنّک تقول : «من یکرمنی فلیکرم زیدا» ، ولا یمکن تقدیر الاسم فی مثل ذلک .

والآخر : أنّا لو سلّمنا ذلک لکان حاصله أنّه موضع یتعیّن الاسم (4) دون الفعل ، فیتعیّن الفتح ، وهو غیر متعیّن ، فصار منتقضا (5) علی کلّ تقدیر سواء کان موضعا للفعل أو موضعا للاسم أو موضعا لهما .

فإنّ زعم زاعم / أنّ الکسر بتأویل معنی یصحّ فیه الأمران ، [یعنی الاسم والفعل] (6) ، والفتح بتأویل أمر لا یصحّ فیه إلّا أحدهما ، [أعنی الاسم] (7) ، فقدّر فی کلّ موضع أمرا خاصّا به ، أبطل ذلک بقولک : «زید إنّ أباه أبوک» ، ولو قدّر ههنا باعتبار أمره الخاصّ لم یقدّر إلّا الاسم ، فدلّ علی أنّ تقدیر الخاصّ لا اعتداد به ، ولذلک کسر فی قولک : «إنّ أباک (8) أبو زید» ، وکذلک قوله (9) :

وکنت أری زیدا کما قیل سیّدا

إذا إنّه عبد القفا واللّهازم

ص: 160

یجوز فیه (1) الفتح والکسر ، والموضع موضع لا یقع فیه إلّا الاسم .

ومثّل بما یقرّر (2) ضابطه المذکور ، فأتی بتمثیل الکسر فی مواضع الجمل والفتح فی مواضع الإفراد ، ثمّ أورد ما هو کالاعتراض علی القاعده المذکوره ، وهو الفتح بعد «لولا» وبعد «لو» ، وقرّر أنّ الفتح بعد «لولا» (3) إنّما کان لأنّه موضع لا یذکر خبر المبتدأ ، فإذا لم تقع «أنّ» وما عملت فیه إلّا فی موضع المبتدأ خاصّه ، فوجب الفتح لوقوعه موقع المفرد ، ولو کسرت لم یکن مستقیما ، لأنّه یؤدّی إلی ذکر الخبر مع کونه قد اطّرح ذکره فی الاستعمال ، ولیس هذا الموقع (4) کموقعها بعد «إذا» ، لأنّ خبر مبتدأ «إذا» جائز ذکره وحذفه ، فإن کسرت کانت الجمله هی الأصلیّه ، ولم یقدّر حذف ودخلت «إنّ» علیها بکمالها ، وإن فتحت لم تقع إلّا فی موضع المبتدأ خاصّه ، وقدّر الخبر محذوفا ، فجاز الکسر علی تأویل إثبات الخبر بعد «إذا» وذلک سائغ ، ولو کسرت بعد «لولا» لکان فیه إثبات الخبر للاسم بعد «لو» و «لولا» ، وهو مطّرح فی استعمالهم .

ولم یرد بقوله : «کلّ ما (5) کان مظنّه للجمله وقعت فیه المکسوره» .

إلّا وقوع المکسوره فی موضع الجمله المقدّره (6) بکمالها علی استقلالها بفائدتها ، وهی هنا لم تقع موقع (7) الجمله بکمالها لما تقدّم من أنّه یؤدّی إلی ذکر خبر الاسم الواقع بعد «لولا» ، وهو باطل ، فوجب أن لا یصحّ وقوعها إلّا موقع الاسم المفرد ، لیتوفّر علی «لولا» ما تقتضیه من وجوب حذف خبر (8) الاسم الواقع بعدها .

وأجاب عن الفتح فی «أنّ» الواقعه بعد «لو» فی قولک : «لو أنّک منطلق لانطلقت» ، / وهو موضع ظاهره وقوع الجمله ، ألا تری أنّ «لو» فی قولک : «لو قام زید لقمت» لا یقع بعدها إلّا

ص: 161

الجمله ، بأن قال : «التقدیر (1) : « لو وقع أنّک منطلق (2) ، أی : لو وقع انطلاقک» ، فلم تقع «أنّ» موضع الجمله ، وإنّما وقعت موضع (3) الفاعل ، کما فی قوله تعالی : لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِکُونَ (4) ، فوجب الفتح ولم یجز الکسر ، لأنّه کان یؤدّی إلی تحقیق الجمله الاسمیّه بعد حرف الشرط ، وهو فاسد ، ألا تری أنّک لو قلت : «لو زید قائم لقمت» لم یجز ، لأنّ هذه الجمله (5) اسمیّه ، ولا مساغ فیها (6) لتقدیر الفعل ، وإنّما جاز «لو زید قام لقمت» علی أن یکون زید فاعلا لفعل مقدّر دلّ علیه ما بعده ، فکأنّک قلت : «لو قام زید» ، وإذا وقعت «أنّ» وجب تقدیرها بالاسم المفرد المحذوف فعله فلم تقع إلّا فی موضع المفرد ، فلذلک وجب الفتح .

وقوله فی التّمثیل : «لأنّ تقدیر « لو أنّک منطلق لانطلقت» أی (7) : «لو» وقع (8) أنّک منطلق » خطا ، ولعله فی أصل (9) التّصنیف : «لو أنّک تنطلق» ، لأنّ من شرط «لو» إذا وقع «أنّ» بعدها أن یکون الخبر فعلا إذا أمکن (10) ، لیکون فی الصوره عوضا من الفعل المحذوف بعدها ، کقوله تعالی : وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا (11) و وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ (12) و وَلَوْ أَنَّا کَتَبْنا عَلَیْهِمْ (13) ،

ص: 162

[ وقوله (1) :

ولو أنّ ما أبقیت منّی معلّق

بعود ثمام ما تأوّد عودها

وقوله (2) :

لو أنّ حیّا مدرک الفلاح

أدرکه ملاعب الرّماح ] (3)

فقوله فی التمثیل : «لأنّ تقدیره : لو أنّک منطلق» وإیقاعه (4) الاسم خبرا عن «أنّ» الواقعه بعد «لو» مخالفه لهذه القاعده ، وقد صرّح بذلک عند ذکر حرف الشّرط فقال : «ولذلک وجب فی « أنّ» الواقعه بعد «لو» أن یکون خبرها فعلا کقولک : لو أنّ زیدا جاءنی لأکرمته ، ولو قلت : «لو أنّ زیدا حاضری لأکرمته» لم یجز » (5) .

وقوله ههنا : «لو أنّک منطلق» مثل «لو أنّ زیدا حاضری» ، وقد صرّح بأنّه ممتنع ، علی أنّه قد أطلق أیضا ثمّه ما یجب تقییده ، وهو قوله : «وجب فی « أنّ» الواقعه بعد «لو» أن یکون خبرها فعلا » ، وهذا لیس علی إطلاقه إلّا إذا لم یتعذّر الفعل باعتبار المعنی المقصود ، ألا تری إلی قوله تعالی : وَلَوْ أَنَّ ما فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَهٍ أَقْلامٌ (6) ، و «أقلام» خبر عن «أنّ» المفتوحه الواقعه بعد «لو» بلا خلاف / لّما لم یمکن أن یقع موضعه فعل بمعناه .

ثمّ أورد إلغاء (7) «أنّ» (8) الواقعه بعد «ظننت» وأخواتها اعتراضا علی فتح «أنّ» فی موضع

ص: 163

الجمله (1) ، وتقریر (2) الاعتراض أنّ «أنّ زیدا قائم» بعد قولک : «ظننت أنّ زیدا قائم» فی معنی الجمله علی استقلالها بفائدتها ، ألا تری أنّها سدّت مسدّ المفعولین ، ولولا ذلک لم تسدّ مسدّهما لوضعها متعلّقه بمسند ومسند إلیه ، فأجاب عن (3) ذلک بما لیس بمذهب الجماعه ، وإنّما هو مذهب بعض النحویّین (4) ، وإنّما اختاره لّما استصعب السؤال وظنّ أنّه لا یندفع إلّا بارتکابه ، ولعمری إنّ دفعه بارتکابه واضح ، لأنّه إذا جعل المفتوحه إنّما وقعت فی موضع المفعول الأوّل خاصّه ، والثّانی مقدّر لم تقع إلّا فی موضع المفرد ، فوجب الفتح کما وجب فی «لولا» و «لو» ، ویلزمه علی ذلک أمور :

أحدها : وجوب الرّفع فیهما إذا أسقطت «أنّ» وذکر الخبر ، لأنّه عنده موضع الجمله .

والآخر : یجب علیه أن یکسر «أنّ» إذا لم یقصد إلی حذف الخبر .

والآخر : أنّه یجب علیه جواز ذکر المفعول الثانی ، لأنّ حذف المفعول الثانی أقلّ أموره أن یکون غیر واجب إن لم یقل : ذکره واجب .

فالأولی أن یجاب عن (5) مذهب الجماعه الذین (6) لا محذوف عندهم ، فیقال : لیس الموضع موضع جمله ، وإنّما هو موضع المفرد ، ألا تری أنّه منصوب ب «ظننت» والجمل (7) المستقلّه لا تعمل فیها الأفعال ، والمفعول فضله ، فکیف یکون جمله وهو فضله ، فإذن لم تقع «أنّ» موضع جمله ، وإنّما وقعت موضع (8) مفرد ، فإن زعم زاعم أنّه کان الکلام محتاجا (9) إلی مفعول ثان ، وهو بعد دخول «أنّ» غیر محتاج .

ص: 164

فالجواب : أنّ ذلک الاحتیاج إنّما کان من جهه أنّ الظّنّ إنّما وضع لیتعلّق بالشّیء علی صفه ، فاحتیج إلی ذکر اثنین (1) لهذا الغرض ، فلمّا دخلت «أنّ» ولزم فیها أن یکون لها اسم وخبر حصل المقصود معها (2) من متعلّق الظّنّ ، فلم یحتج إلی مفعول ثان ، وسدّ ذلک مسدّ المفعولین فاستقام الجواب علی مذهب الجماعه ، وانتفی الاعتراض اللّازم علی / ارتکاب (3) المذهب الأوّل ، فظهر أنّ المذهب هو مذهب الجماعه .

قال : «ومن المواضع ما یحتمل المفرد والجمله» ، إلی آخره .

قال الشیخ : علی حسب ما قصد [المصنّف] (4) ، ثمّ مثّل بمسأله «الإیضاح» للفارسیّ ، وهی «أوّل ما أقول أنی أحمد اللّه» (5) ، وذکر فیها تأویل الفتح والکسر مثل ما ذکره الفارسیّ .

فأمّا وجه الفتح فمستقیم واضح (6) ، وأمّا ما ذکره من وجه الکسر فباطل غیر (7) مستقیم ، وذلک أنّهم جعلوا الخبر محذوفا ، والکسر محکیّا بعد القول ، کأنّه قال : أوّل ما أقول : إنّی أحمد اللّه ثابت أو موجود ، وإذا جعل الکسر محکیا متعلّقا ل «أقول» کان عین (8) المقول ، وکذلک کلّ ما یحکی بعد القول ، ألا تری إلی قولک : «أعجبنی قول زید : إنّ عمرا منطلق» ، فالذی أعجبک هو نفس القول الذی هو : إنّ عمرا منطلق (9) ، وکذلک کلّ ما یحکی بعد القول ، وإذا وجب أن یکون القول هو فی المعنی متعلّقه کان التقدیر : أوّل إنّی أحمد اللّه ، وإذا کان التقدیر : أوّل إنّی أحمد اللّه کان المبتدأ «أوّل» ، وأوّل من باب أفعل التفضیل ، ولا یضاف أفعل التفضیل (10) إلّا إلی شیء هو بعضه علی حسب معناه ، فیجب أن

ص: 165

یکون الإخبار بقولک : ثابت أو موجود إنّما (1) وقع (2) عن «أوّل إنّی أحمد اللّه» و «أوّل إنّی أحمد اللّه» باعتبار الحروف الهمزه وباعتبار الکلمات «إنّی» ، فیکون الإخبار بموجود فی المعنی عن الهمزه أو «إنّی» ، وهو فاسد ، إذ لم یقصد ذلک ولم یرد ، ولو أرید لم یکن له معنی ، فبطل تأویل الکسر علی ذلک (3) .

وللکسر وجه مستقیم غیر ما ذکراه (4) ، وهو أن یکون القول عامّا فی الحمد وغیره (5) ، فیکون «أوّل» مضافا إلی أقوال متعدّه ، منها : «إنّی أحمد اللّه» ، ومنها غیره ، ثمّ أخبر بما هو أوّلها ، وهو قولک : إنّی أحمد اللّه ، وحکاه بأنّه قول ، وبعض الأقوال قول کما تقول : أوّل الأقوال التی تکلّمت بها الیوم «زید منطلق» ، ولا حاجه إلی خبر محذوف ، بل یکون قولک : «إنّی أحمد اللّه» هو الخبر ، ووجب أن یکون جمله لأنّک أخبرت به عمّا معناه جمله ، لأنّه قول ، لأنّ أوّل الأقوال قول ، کما لو قلت «قولی زید قائم» ، فثبت / أنّ تأویل الکسر الصّحیح هو هذا التأویل ، وأنّ ما ذکراه لم (6) یصدر عن فطانه ، بل صدر عن ذهول ، فکان خطا لما ذکرناه .

ومن المواضع المحتمله أیضا ما ذکره ، وهو مثل ما أنشده من الفتح والکسر بعد «إذا» (7) ، فإذا فتحت فإنّما قصدت إلی وقوع «أنّ» واسمها وخبرها فی موضع المبتدأ خاصّه ، فیکون الموضع موضع (8) مفرد ، لأنّک لم تقصد إلّا إلیه ، ولذلک وجب تقدیر حذف الخبر لتکمل (9) الجمله ، وإذا کسرت فإنّما قصدت إلی إدخال «إنّ» علی المبتدأ والخبر علی استقلالهما بفائدتهما ، فلم تقع «إنّ» إلّا فی موضع الجمله ، ولذلک لم یحتج إلی تقریر محذوف ، لأنّ الجمله حاصله بکمالها لوقوع «إنّ» المکسوره ، وقد تقدّم ذلک .

ص: 166

قال : «وتکسرها بعد حتّی التی یبتدأ بعدها الکلام» ، إلی آخره .

قال الشیخ : إنّما کسرت بعد حتّی الابتدائیّه لأنّه موضع الجمله (1) ، فإذا قصد إلیها بکمالها وجب الکسر ، وإن قصد إلی المبتدأ خاصّه فی الموضع الذی یصحّ قصده وجب الفتح (2) ، ووجب تقدیر الخبر عند من جوّز حذفه (3) ، مثاله قولک : «عرفت أمور زید حتّی أنّ أکله باللّیل» إن قصدت إلی کونها جمله مستقلّه کسرت ، وإن قصدت إلی کونها فی معنی المفرد فتحت وقدّرت الخبر محذوفا ، کأنک قلت : حتی کون أکله باللیل معروف ، کقولک : «أکلت السمکه حتّی رأسها» [بالرفع ، أی : حتّی رأسها] (4) مأکول .

قال : «وإن کانت العاطفه أو الجارّه فتحت» (5) .

وهذا لا إشکال فیه ، لأنّ العاطفه للاسم المفرد والجارّه لا یقع بعدهما (6) إلّا المفرد ، فلا یصحّ بعدهما (7) إلّا «أنّ» المفتوحه کما تقدّم .

قال : «ولکون المکسوره للابتداء (8) لم تجامع لامه إلّا إیّاها» ، إلی آخره .

قال الشیخ : یعنی أنّ لام الابتداء لم تدخل إلّا مع «إنّ» [المکسوره] (9) من بین (10) سائر هذه الحروف لکونها للابتداء ، فلم تکن بینهما مخالفه تمنع من اجتماعهما ، ألا تری أنّ معنی قولک :

«لزید منطلق» مثله فی (11) «إنّ زیدا منطلق» ، فصحّ أن تکونا (12) فی جمله واحده ، إذ لا منافاه /

ص: 167

بینهما ، بخلاف غیرها من أخواتها ، لما بین اللّام وأخوات «إنّ» من المنافاه (1) ، ألا تری أنّ قولک :

«لزید منطلق» مناف لقولک : «لعلّ زیدا منطلق» ، فتعذّر حصولهما فی جمله (2) واحده لأدائه إلی المنافاه ثمّ أورد اعتراضا بقوله (3) :

. . .

ولکنّنی من حبّها لعمید

فقد دخلت الّلام مع غیر «إنّ» ، وأجاب عن ذلک ، ولا بدّ من تقدیر المنافاه بین الّلام وبین «لکنّ» لیثبت الامتناع حتّی یصحّ التأویل ، ولیس المنافاه بینهما فی الظّهور کالمنافاه التی فی «لعلّ» و «لیت» ، ووجه المنافاه هو أنّ وضع «لکنّ» للمخالفه بین ما بعدها وما قبلها ، فهی لا تأتی إلّا متوسّطه بین کلامین متغایرین ، واللّام منقطع ما بعدها عّما قبلها [سواء کان بین کلامین متغایرین أو لم یکن] (4) ، فجاءت المنافاه لذلک ، إذ لا یمکن اجتماع حرفین أحدهما یقتضی الاتّصال والآخر یقتضی الانفصال ، لأنّهما یؤدّیان إلی کون الشیء متّصلا غیر متّصل ومنفصلا غیر منفصل ، وذلک باطل وإذا تقرّرت المنافاه وورد ظاهر وجب تأویله إذا أمکن وتأویله ما ذکره من أن یقدّر الأصل «ولکن إنّنی» ، فنقلت حرکه الهمزه إلی النّون من «لکن» ، فحذفت علی ما یقتضیه قیاس النّقل ، فبقی «ولکن نّنی» فاجتمعت النّونات فحذفت الأولی تخفیفا ، ثمّ مثّله فی النّقل والتّخفیف بقوله تعالی : لکِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّی (5) ، وهو بالاتّفاق أصله «لکن أنا» ، فنقلت حرکه الهمزه إلی النّون من لکن [وحذفت الهمزه] (6) فبقی «لکن نا» ، ثمّ أدعمت النّون الأولی فی الثانیه فبقی «لکنّا» ، ولذلک وجب الوقف بالألف بلا خلاف کما یوقف علی «أنا» [بالألف] (7) ، وهو فی مثل ذلک أولی لذهاب الهمزه فیه ، ولذلک وصله ابن عامر بالألف فقرأ «لکنّا هو اللّه ربّی» (8) ، وإعراب «هو» مبتدأ و «اللّه» بدل منه أو عطف بیان ، و «ربّی» خبر المبتدأ ، والجمله خبر عن «أنا» فی قولک : «لکنّا» ، والضمیر العائد علیه هو

ص: 168

الضمیر فی «ربّی» ، لأنّ المبتدأ للمتکلّم فوجب أن یکون الضمیر للمتکلّم أیضا .

ثمّ أخذ یبیّن مواضع دخول هذه الّلام مع «إنّ» ، فقال :

«ولها إذا جامعتها ثلاثه مداخل» .

قال الشیخ : الضّمیر فی / قوله : «ولها» للّلام ، وفی (1) «جامعتها» ضمیر «إنّ» ، لأنّه خبر عن قوله : «ثلاثه مداخل» ، وثلاثه المداخل إنّما هی اللّام ، فوجب أن یکون الضمیر فی «لها» للّام ، وإلا فسد المعنی ، وأصل هذه اللّام أن تدخل علی المبتدأ ، ولکنّهم لّما أدخلوا «إنّ» کرهوا أن یجمعوا بینهما لاتفّاقهما فی المعنی ، ففصلوا بینهما فی اللّفظ ، فإذا فصلوا بین «إنّ» وبین الاسم دخلت علیه لزوال المانع ، وإن لم یفصل بینهما وبینه دخلت علی الخبر أو علی ما یتعلّق بالخبر بشرط تقدّمه علی الخبر ، فمثال الأوّل قولک : «إنّ فی الدّار لزیدا» ، ومثال الثانی : «إنّ زیدا لقائم» ، ومثال الثّالث : «إنّ زیدا لطعامک آکل» ، وما أنشده من قوله (2) :

إنّ امرأ خصّنی عمدا مودّته

علی التّنائی لعندی غیر مکفور

ولو قیل : «آکل لطعامک» (3) أو «غیر مکفور لعندی» لم یجز لما ذکرناه من أنّ الأصل دخولها علی المبتدأ ، وإنّما وجب الفصل بینهما لانتفاء ما ذکرناه من اجتماع حرفین لمعنی (4) واحد ، وما وجب لضروره تقّدر بقدرها .

فإذا (5) قلت : «إنّ زیدا لآکل (6) [طعامک] (7)» فقد حصل الفصل بینها وبین «آکل» ، وهو أحد جزأی جملتها ، فلا وجه لتأخیره إلی الفضله [وهو طعامک] (8) مع زوال مانع الدّخول ، فلذلک امتنع تأخیرها إلی ما ذکرناه .

ص: 169

وقد ظنّ بعضهم أنّ لها مدخلا غیر ذلک ، وهو الضمیر الذی یکون فصلا بین الاسم والخبر (1) ، کقولک : «إنّ زیدا لهو الظّریف» ، وقوله تعالی : إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) (2) ، وهذا لا یخلو إمّا أن یکون علی لغه من یجعله (3) مبتدأ أو یجعله فصلا (4) ، فإن کان علی الأوّل فهی (5) لام الابتداء ، [وحینئذ دخلت الّلام علی الخبر] (6) ، وإن کان علی الثّانی فلم تدخل إلّا علی أمر یتعلّق بالخبر فی المعنی ، لأنّه دخل لیفصل بین کونه خبرا وبین کونه نعتا ، إلّا أنّ تمثیله فی متعلّق الخبر بمعمولاته یشعر بأنّه لم یقصد سواه ، وکذلک قوله : «إذا تقدّمه» ، فإنّ هذا لا یکون إلّا متقدّما علی الخبر ، فلذلک اعترض علیه بهذا المدخل الزّائد ، وإذا حمل (7) متعلّق الخبر علی عمومه (8) دخل هذا المدخل فیه ، ولا یضرّ قوله (9) : «إذا تقدّمه» ، لأنّ من المتعلّقات ما یتأخّر فیمتنع دخول الّلام [علیه ، کقولک : «إنّ زیدا آکل لطعامک»] (10) .

قال : «وتقول : علمت أنّ / زیدا قائم ، فإذا جئت بالّلام کسرت وعلّقت الفعل» ، إلی آخره .

قال الشیخ : فالفتح علی ما تقدّم من تأویله وتأویل غیره ، فإذا جئت بالّلام وجب الکسر (11) علی کلّ تأویل ، أمّا علی تأویله (12) فلأنّه لا یمکن تقدیر مفعول آخر لبطلان أن تکون الّلام مع المفرد ، وعلی تأویل الجماعه ظاهر ، وهو أنّه لمّا جاءت الّلام علم أنّه لا عمل ل «علمت» فیما دخلت فیه ، فصارت جمله علی حیالها مستقلّه ، وإذا دخلت «أنّ» علی (13) الجمل المستقلّه وهی علی

ص: 170

استقلالها وجب الکسر ، ولذلک لم تقع الّلام مع «أنّ» المفتوحه لتناقض معناهما .

قال : «وممّا یحکی من جراءه الحجّاج علی اللّه أنّ لسانه سبق فی مقطع وَالْعادِیاتِ (1)جاءت هکذا والصواب : «لأنه» .(2) إلی فتحه (3) إنّ» .

ویقع فی بعض النّسخ «إلی فتحه أنّ» ، ولیس بجیّد ، لأنّ «إنّ» فی التلاوه مکسوره ، فلا وجه لإضافه فتحه إلیها علی سبیل الإثبات ، فالوجه إذن أن یقال : «إلی فتحه إنّ» فیضاف الفتح (4) إلیه ، لأنّه هو النّاطق ، وتثبت «إنّ» علی حالها مکسوره ، والحکم علی الحجّاج بأنّه أسقط الّلام تعمّدا لا یثبت ، لأنّه یجوز أن یکون أسقط الّلام غلطا کما فتح «إنّ» أوّل الأمر غلطا ، وقد أثبت [المصنّف] (5) أنّه فتحها غلطا وسهوا بقوله : «أنّ لسانه سبق» ، وهذا معنی الغلط ، ثمّ حکم علیه بإسقاط الّلام تعمّدا ، وهذا أمر یؤدّی إلی الکفر ، فلا معنی لإثباته من غیر ثبت (6) ، فإنّ ذلک لا یفعله مسلم (7) .

ص: 171

وفیه وجه آخر لیس بضعیف ، وهو أن یقدّر مبتدأ مستقلا بنفسه من غیر تشریک بینه وبین ما قبله ، مثل قولک : «قام زید وعمر منطلق» ، رفع «عمر» بالابتداء علی حکم الاستقلال ، کذلک إذا قلت : «إنّ زیدا قائم وعمر» ، فیجعل «عمر» مرفوعا علی الاستقلال وخبره محذوف دلّ علیه ما قبله .

قال : «و « لکنّ» تشایع «إنّ» فی ذلک دون سائر أخواتها » ، إلی آخره .

قال الشیخ : وإنّما شایعتها لکونها لم تغیّر معنی الجمله التی بعدها کما لا تغیّره «إنّ» ، فإنّ قلت :

کیف ثبتت مخالفتها ل «إنّ» باعتبار الّلام (1) وثبتت مشایعتها لها باعتبار العطف علی المحلّ قلت : أمّا مخالفتها لها باعتبار الّلام فقد ذکر بأمر واضح ، وأمّا مشایعتها لها باعتبار العطف فلأنّ العطف لم یکن متعلّقا بأمر تقدّمها حتّی تحصل المخالفه بینها وبین «إنّ» بذلک کما حصلت فی الّلام لذلک ، وإنّما العطف باعتبار ما بعدها ، وما بعدها لا یتغیّر حکمه ومعناه بدخولها کما لا یتغّیر ب «إنّ» ، فلمّا تشایعا فی المعنی الذی من أجله صحّ العطف فی «إنّ» صحّ العطف فیها أیضا لموافقتها فی ذلک .

وأمّا سائر أخواتها فمخالفه لها فی المعنی الذی من أجله صحّ العطف لمخالفه المعنی بدخولها ما کان علیه قبل دخولها ، ألا تری أنّ قولک : «لیت زیدا قائم» لیس بمعنی «زید قائم» ، فلذلک تعذّر العطف / علیها ، إذ لا یمکن تقدیرها کالعدم کما أمکن تقدیر «إنّ» ، فظهر الفرق بین البابین فی المعنی الذی لأجله صحّ العطف .

قال : « وقد أجری الزّجّاج الصفه مجری المعطوف وحمل (2) علیه قوله تعالی : قُلْ إِنَّ رَبِّی یَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُیُوبِ (48) (3) .

یعنی أنّه جعل ارتفاع «علّام الغیوب» علی أن یکون صفه ل «ربّی» المنصوب ب «إنّ» باعتبار (4) التأویلین المذکورین أوّلا ، [ أحدهما أن یعتبر «إنّ» مع اسمها فی محلّ الرّفع ، والثانی : أن یجعل

ص: 173

اسم «إنّ» فی محلّ الرّفع ] (1) ، وهذا الذی صار إلیه الزّجّاج لیس بشیء ، فإنّه یمکن حمل الآیه علی غیر ما ذکره ، وهو أن یکون «علّام الغیوب» خبرا بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدلا من الضمیر فی «یقذف» ، أو فاعلا ل «یقذف» علی أن لا ضمیر فیه ، واستغنی عن العائد لظاهر موافق للأوّل فی المعنی ، مثله فی قوله تعالی : «إنّا لا نضیع أجر المصلحین» (2) ، [فإنّ «إنّا» مع ما فی حیّزه خبر للّذین ، وحذف الرّاجع ، تقدیره ( أجرهم ) ، فوضع الظّاهر وهو «المصلحین» مقام المضمر وهو «هم» فی «أجرهم»] (3) ، وإذا احتمل غیر ما ذکره احتمالا ظاهرا فحمله علی وجه لم یثبت إلّا بتقدیر (4) لیس بمستقیم ، لأنّ الأصول لا تثبت إلّا بثبت (5) ، فثبت أنّ قول الزّجّاج لیس بشیء .

المعنی إلّا ذلک أنّه (1) لو عطف قبل مضیّ الجمله فقیل : «إنّ زیدا وعمر ذاهبان» لأدّی إلی أن یعمل عاملان مختلفان فی معمول واحد ، وذلک أنّ زیدا منصوب ب «إنّ» ، وخبره لا یکون إلّا معمولا لإنّ ، لأنّه (2) لا بدّ لها من مرفوع هو خبر ، وارتفاع عمر إنّما هو بتقدیر عطفه علی المحلّ الذی هو الابتداء علی تقدیر الخلوّ من «إنّ» أو جعلها مع معمولها کالمبتدأ المجرّد ، وخبره یجب أن یکون مرفوعا بمثل ما ارتفع به ، فإذا قیل : «قائمان» وجعل / خبرا لهما أدّی إلی أن یکون معمولا ل «إنّ» معمولا للابتداء ، وهو باطل ، ولا یمکن تقدیر عملین فیه حتّی یقال : إنّه مرفوع رفعین ، رفع ب إنّ ورفع بالابتداء للقطع بأنّ اسما واحدا لا یکون فیه رفعان ، ولأنّه لا علامه إلّا الألف ، والألف لا تکون إلّا رفعا واحدا ، فهذا ظاهر فی ثبوت مذهب البصریّین وبطلان ما سواه .

ولیس قول من قال (3) : «إنّ زیدا وعمرو قائم» من قبیل الممنوع ، لأنّ «قائم» إمّا أن یقدّر خبرا عن عمرو ، فیکون خبر زید متقدّما تحقیقا فلم یعطف إلّا بعد مضیّ الجمله ، وإمّا أن یجعل «قائم» خبرا عن الاسم الأوّل ، وخبر الثانی محذوف ، فیکون علی التقدیم والتأخیر ، کأنّک قلت : «إنّ زیدا قائم وعمر» ، فلم یعطف إلّا بعد مضیّ الجمله تقدیرا ، بخلاف «إنّ زیدا وعمر قائمان» ، فإنّ ذلک غیر ممکن تقدیره فیه ، وسرّه زوال المعنی الذی ذکرناه فی الإفساد فی مثل هذه المسائل ، لأنّ الإفساد إنّما جاء من جهه تشریکهما جمیعا فی خبر واحد ، فأمّا إذا جعل لکلّ واحد خبر فقد انتفی المعنی الذی کان من أجله الامتناع .

قال : «وزعم سیبویه أنّ ناسا من العرب یغلطون» (4) ، إلی آخره .

فجعله (5) من باب الغلط لأنّه علی خلاف القیاس واستعمال الفصحاء وبیّن (6) وجه الوهم لهم فی ذلک ومثّله بقوله (7) :

ص: 175

بدا لی أنّی لست مدرک ما مضی

ولا سابق شیئا إذا کان جائیا

وهو فی الحقیقه عکسه ، لأنّ هؤلاء قدّروا الثّابت محذوفا (1) ، والقائل : «ولا سابق شیئا» قدّر المحذوف ثابتا ، لأنّ قبله «بدا لی أنّی لست مدرک ما مضی» ، فتوهّم أنّ الباء ثابته لکون الموضع موضعا یصحّ دخولها فیه ، فتوهّم ثباتها فقال : «ولا سابق» ، وجمع بینهما من جهه أنّ الجمیع اشترکوا (2) فی أنّهم توهمّوا شیئا ، والأمر علی خلافه وإن اختلف (3) تفصیل المتوهّم .

قال : «وأمّا قوله تعالی : وَالصَّابِئُونَ (4) فعلی التقدیم والتأخیر» .

یحتمل أمرین :

أحدهما : أن یرید أنّ الخبر المذکور بعد قوله : والصبون (5) خبر عن «الذین آمنوا» مقدّرا تقدیمه ، و وَالصَّابِئُونَ لم یعطف إلّا بعد تمام الجمله تقدیرا (6) ، وهو أحد الوجهین اللّذین تقدّما فی قولک : «إنّ زیدا / قائم وعمر» .

والآخر : أن یکون قوله : «فعلی التقدیم» (7) أی : فعلی تقدیر الخبر مقدّما علی «الصَّابِئُونَ» ، وتقدیر «الصَّابِئُونَ» مؤخّرا عنه ، ویکون العطف إنّما ورد بعد مضیّ جمله مقدّمه علی المعطوف (8) ،

ص: 176

ویصحّ التعبیر بالتقدیم والتأخیر عن ذلک ، لأنّ الکلام فی أنّ العطف إنّما یکون بعد مضیّ الجمله ، فإذا قدّر مضیّها بتأویل تقدیم خبر محذوف ، وتأخیر المعطوف عنه صحّ أن یقال : علی التقدیم والتأخیر ، وإذا صحّ التعبیر عن ذلک بمثل هذه العباره فهو أولی من أوجه (1) :

أحدها : أنّ هذا لیس فیه إلّا الحذف ، وذلک الوجه (2) فیه الحذف وتغییر الموضع ، ومخالفه أمر أولی من (3) مخالفه أمرین .

وثانیها : أنّ قوله (4) بعد ذلک : «کأنّه ابتدأ ، و « الصَّابِئُونَ» بعد ما مضی الخبر » تفسیر لذلک (5) ، فإنّه لا یکون مبتدئا (6) بعد مضیّ الخبر إلّا والخبر مراد .

وثالثها : هو أنّ مذهب سیبویه فی قولک : «زید وعمر قائم» أنّ الخبر للثانی ، وخبر الأوّل محذوف (7) ، وهذا مثله ، واستدلّ علی ذلک بقوله (8) :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندک راض والرّأی مختلف

ووجه الاستدلال أنّه لو کان خبرا عن «نحن» لوجب أن یقال : راضون ، ولّما قال : راض دلّ علی أنّه خبر لأنت ، وهذا مثله .

« وأنشدوا (9) :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاه ما بقینا فی شقاق » .

وهذا (10) مماثل لما نحن فیه من جهه أنّه یوهم أنّه عطف علی موضع «أنّ» قبل تمام الجمله

ص: 177

کما فی قوله تعالی : «وَالصَّابِئُونَ» ، والتقدیر فیه کالتقدیر فیما تقدّم ، وهو أن یقدّر خبر محذوف تتمّ الجمله باعتباره ، وقوله : «وأنتم بغاه» بعد مضیّ الجمله ، أو «بغاه» الذی بعد «أنتم» خبر عن «أنّ» مقدّر تقدیمه ، فلم یعطف إلّا بعد تمام الجمله علی کلّ تقدیر کما تقدّم ، سواء ، وفی (1) إیراد هذا البیت دلیل علی أنّ (2) «أنّ» المفتوحه إذا وقعت فی الموضع الذی کان یصلح لجمله یجوز فیها من العطف ما یجوز فی المکسوره (3) ، ألا تری أنّ «أنّ» ههنا مفتوحه ، وقد تقدّم من قوله : (4) إنّ العطف علی المحلّ إنّما یکون فی «إنّ» المکسوره ، فأمّا نحو «أعجبنی أنّ زیدا قائم وعمر» فهذا لا یجیزه أحد علی العطف علی المحلّ / ، ویجوز أن یکون إیراد البیت لیس للعطف علی الموضع ، ولکن للدّلاله علی حذف الخبر من أوّل (5) استغناء عنه بثان ، أو علی تقدیر (6) تقدیم خبر جاء فی اللّفظ مؤخّرا علی التأویلین المتقدّمین ، ویکون إعراب قوله : «وأنتم» فی البیت لیس علی العطف علی الموضع (7) ولکن مبتدأ مستقلّ بجملته ، والعطف لم یقع إلّا باعتبار (8) الجمل لا باعتبار تشریک فی عامل کما فی قولک : «لیت زیدا قائم وعمرو منطلق» ، وقد ذکر فی تفسیره سرّا فی تأخیر الخبر عن الأوّل وترک ذکره أوّلا فی مثل ذلک بأن قال ما معناه أنّک إذا قلت : «إنّ زیدا مشنوء وعمرو» توهّم أنّ لزید مزّیه فی الإخبار عنه بالشّناءه علی عمرو ولثبوت الحکم له أوّلا ، وما یثبت فی التفسیر (9) أوّلا أقوی ممّا یثبت ثانیا ، ولّما کان غرض المتکلّم التسویه بینهما ترک ذکر الخبر أوّلا لیأتی الحکم (10) بالشّناءه عنهما دفعه واحده حتّی لا یکون لأحدهما مزیّه علی الآخر فی ذلک الحکم ، وهو معنی حسن . (11)

وقد تقدّم علّه ذلک ، لأنّا قد بیّنّا أنّ «أنّ» فی کلامهم لا تکون أوّلا لعلّتین : (1)

إحداهما (2) : أنّه یؤدّی إلی مجامعتها لأختها ، ولا بدّ من الفصل ، وإذا جاء الفصل صحّ أن یقال :

«إنّ عندنا أنّ زیدا فی الدّار» ، وقول النحویّین : لا تصدّر الجمله بأنّ المفتوحه لیس علی ظاهره ، وإنّما یعنون إذا وقعت فی الموضع الذی تتعرّض فیه لإدخال «إنّ» المکسوره علیها ، أو فی الموضع الذی تدخل فیه «لعلّ» علی الوجهین المتقدّمین فی علّه ذلک ، فمن ذلک قولهم «لولا أنّ زیدا» ، فهذا أوّل الجمله ، والخبر مقدّر بعد ذلک ، ولکنّه جاز لأنّه موضع لا تقع فیه «إنّ» المکسوره ولا «لعلّ» ، کذلک قولهم (3) :

. . .

إذا أنّه عبد القفا واللّهازم

و «أنّه عبد القفا» مقدّر بالمبتدأ ، والخبر مقدّر بعد ذلک ، ولذلک أوّله بقوله (4) : «فإذا العبودیّه حاصله» (5) ، وهذا یقدح فی تعلیل من علّل بأنّها إنّما امتنع تصدیرها لأدائها إلی إدخال «إنّ» علیها (6) ، إذ لو کان ذلک صحیحا لم یجز وقوعها متقدّمه مفتوحه بعد «إذا» ، لأنّه یؤدّی إلی إدخال «إنّ» علیها ، ألا تری أنّ «إنّ» المکسوره یصحّ وقوعها أیضا بعد «إذا» ، فلو کان / هذا التعلیل صحیحا لامتنع وقوعها مصدّره بها الجمله بعد «إذا» لما یؤدّی إلی دخول «إنّ» [المکسوره] (7) علیها کما قالوه (8) فی التصدیر بها فی قولک : «أنّ زیدا منطلق عندی» ، وأنّه امتنع (9) لما یؤدّی إلیه من إدخال «إنّ» [المکسوره] (10) علیها ، فإذن التعلیل المستقیم هو إراده الفرق بینها وبین «أنّ» التی بمعنی «لعلّ» ، لأنّه أمر محقّق فی جمیع مواقعها ومطّرد غیر منتقض ، والتعلیل بذلک إنّما هو لأمر یؤدّی إلی مستکره لا لأمر محقّق ، وهو مع ذلک منتقض علی ما تقرّر .

ص: 179

«أن» المفتوحه المخفّفه کیفما وقعت ولم یقدّروه فی «إن» المکسوره ألبتّه لأمرین :

أحدهما : أنّهم وجدوها داخله علی الفعل الذی لا یدخل علی المبتدأ والخبر ، فلو لم یقدّر الضمیر لخرجت عن حقیقه وضعها ، بخلاف «إن» المکسوره ، فإنّها لا تدخل إذا دخلت علی فعل إلّا وهو من الأفعال الداخله / علی المبتدأ والخبر ، فکان فی ذلک توفیه لما تقتضیه ، وهذا التعلیل مستقیم علی مذهب البصریّین ، فلذلک لم یجیزوا «إن قام لزید» (1) .

والوجه الثانی : أنّهم وجدوا «إن» المکسوره عامله وهی مخفّفه فی الفصیح من الکلام ، قال اللّه تعالی : وَإِنَّ کُلًّا لَمَّا لَیُوَفِّیَنَّهُمْ رَبُّکَ أَعْمالَهُمْ (2) فجاء منصوبا فی قراءه کلّ من خفّف (3) ، ولم تجیء «أن» المخفّفه المفتوحه عامله فی ملفوظ بعدها إلّا ما ذکرناه من الضروره ، وهی أولی فی العمل بعد التخفیف من المکسوره بدلیل جواز العطف علی المکسوره بالرّفع ، وتقدیر وجودها کالعدم ، فإذا جاء الإعمال فیها (4) مع ذلک فإعمال المفتوحه أجدر ، فلذلک قدّروا معها ضمیر الشّأن ، والذی یدلّک علی ذلک وأنّ (5) العرب تقصده قول الشّاعر (6) :

فی فتیه کسیوف الهند قد علموا

أن هالک کلّ من یحفی وینتعل

ص: 181

فلولا أنّ الضمیر مقدّر لم یستقم تقدیم الخبر ههنا ، فالذی سوّغ التقدیم کونها جمله واقعه خبرا ، وقال سیبویه (1) : «لم یحذفوا» یعنی فی أن المفتوحه المخفّفه ، «لأنّ یکون الحذف یدخله فی حروف الابتداء بمنزله إنّ (2) ، ولکنّهم حذفوا» یعنی النون من المفتوحه «کما حذفوا الإضمار» یعنی ضمیر الشّأن الذی هو اسمها ، «وجعلوه (3) علما لحذف الإضمار» یعنی حذف النون ، ففهم من ذلک أنّ اسمها لا بدّ من تقدیره مضمرا ، وقال أیضا (4) : «لا تخفّفها فی الکلام أبدا وبعدها الأسماء إلّا وأنت ترید الثقیله مضمرا فیها اسم (5) معلوم (6)» ، وقال أیضا فی هذا الباب (7) : «والدّلیل علی أنّهم إنّما یخفّفون علی إضمار الهاء أنّک تستقبح « قد عرفت أن یقول ذاک» ، حتی تقول : «أن لا یقول ذاک (8)» ، أو تدخل السّین (9) أوقد » ، وهذا کلّه تصریح بوجوب الإضمار علی ما ذکرنا .

فإن زعم زاعم أنّ التقدیم إنّما جاز لبطلان عمل «أن» فصار مبتدأ وخبرا ، والمبتدأ والخبر یسوغ فیه التقدیم ، فهو باطل بامتناع «إن منطلق لزید» ، فدلّ ذلک علی أنّهم یعتبرون بعد تخفیفها فی امتناع تقدیم الخبر ما یعتبرونه مع التشدید .

قال : «ویقع بعدهما الاسم والفعل» .

قال الشیخ : [والفعل الذی یقع بعد المکسوره یجب أن یکون من الأفعال الدّاخله علی المبتدأ والخبر] (10) ، وإنّما کان کذلک لما ذکرناه من أنّ أصل وضعها (11) أن تدخل علی المبتدأ والخبر / فی المعنی ، وقد تبیّن أنّه لا یقدّر فیها ضمیر شأن یکون اسما لها بدلیل وَإِنَّ کُلًّا (12) ، فاعتبر فی الفعل

ص: 182

الذی بعدها أن یکون کذلک لیوفّر علیها ما تقتضیه من الجمله الاسمیّه .

«وجوّز الکوفیّون غیره» .

وقد وقع ذلک فی کلامهم نادرا علی ما أنشده من قوله (1) :

شلّت یمینک إن قتلت لمسلما

حلّت علیک عقوبه المتعمّد

ولیس بالجیّد لأنّه مخالف للقیاس واستعمال الفصحاء ، أمّا مخالفته لاستعمال الفصحاء فلأنّه لم یوجد فی القرآن ولا فی کلام فصیح .

ووجه مذهب الکوفیین إذا صحّ (2) التّمسّک بما رووه تقدیر الضمیر فی مثل ذلک ، أو تنزیل الجمله الخبریّه الفعلیّه مجری الاسمیّه ، کما أجروا «إنّما قام زید» مجری «إنّما زید قائم» وکما أجروا «علمت ما قام زید» مجری «علمت ما زید قائما» ، فلا بعد فی مثل ذلک [فقولنا : «إنّما قام زید» حصر الأوّل فی الثانی و «إنّما زید قائم» حصر الثانی فی الأوّل] (3) .

قال : «وتلزم المکسوره الّلام فی خبرها» .

سواء أعملت أو لم تعمل ، لأنّه لو لم یدخلوا الّلام لالتبست بالنافیه مع الجملتین جمیعا ، ألا تری أنّک لو قلت : «إن زید منطلق» و «إن قام زید» جاز أن یکون المعنی : ما زید منطلق وما قام زید ، وجاز أن تکون المخفّفه ، فیکون المعنی : زید منطلق وقام زید ، وإذا جئت بالّلام تمیّزت المخفّفه ، وسمّیت هذه الّلام الفارقه لذلک (4) .

قال : «والمفتوحه یعوّض (5) عمّا ذهب منها أحد الأحرف الأربعه حرف النّفی وقد وسوف والسّین» .

ص: 183

وأراد أنّها تعوّض مع الفعل ، ولکنّه استغنی عنه ، لأنّ «قد» و «سوف» و «السّین» لا تدخل إلّا علی الأفعال ، فعلم أنّ التّعویض فیه ، ولّما أدخل حرف النّفی معها اغتفر (1) أمره ، وکان الأولی أن یبیّن ذلک ، ثمّ أخذ یمثّل فلم یمثّل علی ترتیب مستقیم لا علی ما قدّمه من (2) أوّل الفصل ولا علی ترتیب آخر ، وذلک أنّ الذی رتّبه هو تقدیم تخفیفهما وإبطال العمل فیهما ، ثمّ إعمالهما ، ثمّ وقوع الاسم والفعل بعدهما ، وتمثیله أوّلا مستقیم فی المکسوره ملغاه ثمّ معمله ، ثمّ مثّل بعد ذلک بالمفتوحه المعمله ، وکان الأولی تقدیمه المفتوحه الملغاه لأنّها الوجه ، وإعمالها شاذّ ، فترک تمثیله ههنا بالکلّیّه ثمّ ذکره فی آخر الفصل ، ثمّ مثّل بدخول المکسوره علی الفعل ، وهو مستقیم لو کان قدّم بتمثیل المفتوحه / ملغاه ، ثمّ مثّل بمذهب الکوفیّین فی دخولها علی الفعل غیر الدّاخل علی المبتدأ والخبر ، ثمّ مثّل بما ذکرنا أنّه ینبغی تقدیمه ، وهو بأن المفتوحه الملغاه (3) ، فقال : «وتقول : علمت أن زید منطلق ، والتقدیر : أنّه زید منطلق ، قال اللّه تعالی : وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ (4)» .

وکان ینبغی أنّ یمثّل بالمفتوحه الدّاخله علی الفعل علی حسب ترتیبه ، وقد تقدّم الکلام علی جمیع ذلک ، وأنشد (5) :

فی فتیه کسیوف الهند قد علموا

أن هالک کلّ من یحفی وینتعل

والتقدیر : أنّه هالک علی ما تقدّم .

ثمّ مثّل بدخول «أن» المفتوحه علی الفعل فقال : «وتقول (6) : علمت أن لا یخرج زید وأن قد خرج وأن سیخرج وأن سوف یخرج» .

والتقدیر عندنا أنّه فی الجمیع لما تقدّم ذکره ، والتزموا تعویض هذه الحروف تنبیها علی أنّها لیست «أن» الناصبه للفعل من أوّل الأمر ، ولم یمکنهم التّعویض بها مع حرف النّفی لتعذّر

ص: 184

اجتماعها معها [لعدم الملاءمه بینهما] (1) ، فاستغنوا بحرف النّفی لّما کان زیاده مضادّا لها ، ألا تری أنّه لا یصحّ أنّ تجمع بینه وبین السّین وأختها ولا بینه وبین قد ، لأنّ تلک حروف إثبات فلا یصحّ جمعها مع حروف (2) النّفی .

قال : «والفعل الذی یدخل علی المفتوحه مشدّده أو مخفّفه یجب أن یشاکلها فی التّحقیق» ، إلی آخره .

قال الشیخ : کأنّهم قصدوا إلی المشاکله بین «أن» والفعل الذی یدخل علیها ، وذلک لأنّهم لو أدخلوا علیها غیر أفعال التّحقیق لکان معها کالمضادّ ، ألا تری أنّک لو قلت : «أتمنّی أنّک تقوم» لکان «أنّک» دالا علی ثبوت ما فی حیّزه وتحقیقه ، و «أتمنّی» دالّ علی توقعّه والشّیء الواحد لا یکون متوقّعا حاصلا ، فلذلک لم یدخلوا علیها إلّا هذه الأفعال ، وما قاربها ، فلمّا ثبت امتناع دخول أفعال الرّجاء والطّمع علی المشدّده فی کلا وجهیها التزموا أن لا یدخلوا أفعال التّحقیق إلّا علی المشدّده لتحصل المشاکله بینهما کما حصلت فی غیرهما .

قال : «وما فیه (3) وجهان» .

یعنی : وما له جهتان شبّه بکلّ واحد منهما ، فأدخل علیهما (4) جمیعا کظننت لانتفاء ما ذکرناه بالنّسبه إلیهما ، فإذا أدخلته علی المشدّده / أو المخفّفه فلأنّک قصدت ثبوته ، والأشیاء تثبت بالظّنّ بخلاف تمنّیها والطّمع فیها ، وإذا أدخلته علی «أن» النّاصبه للفعل استقام أیضا ، لأنّه بمعنی المصدر ، فیصحّ أن یقع مظنونا ، وقد علم بذلک مواضع «أن» الناصبه ومواضع «أنّ» المثقّله والمخفّفه منها ، وذلک أنّ لفظ «أن» إمّا أن یذکر بفعل قبلها مسلّطا علیها أو لا ، فإن کان بفعل مسلّط علیها فلا یخلو إمّا أن یکون فعل تحقیق أو [فعل] (5) ظنّ أو غیرهما ، والأوّل یتعیّن للمشدّده والمخفّفه منها ، والثّانی یجوز فیه الأمران (6) ، والثالث یتعیّن للناصبه (7) ، وإن لم یکن قبلها فعل مسلّط علیها فلا یخلو إمّا أن تکون مصدّرا بها الجمله

ص: 185

أولا ، فإنّ صدّر بها الجمله تعیّنت النّاصبه للفعل ، مثل قوله تعالی : وَأَنْ تَصُومُوا خَیْرٌ لَکُمْ (1) ، وإن لم یصدّر بها جازتا جمیعا ، کقولک : «حسن أن تقوم» و «حسن أنّک تقوم» وبهذا الضابط تعلم موضع (2) تعیین «أن» الناصبه وتعیین غیرها وموضع تجویز الأمرین منشئا کنت أو سامعا .

قال : «وتخرج المکسوره إلی معنی أجل» .

هذا قول کثیر من النّحویّین (3) وقد ردّه بعضهم (4) ، وحمل البیت الذی هو (5) :

بکر العواذل . . .

. . .

علی أنّه أراد «إنّ» المؤکّده (6) ، وأدخلها علی اسمها وحذف الخبر للعلم به ، یعنی أنّ الأمر کذلک ، ولیس ببعید عن الصّواب ، بل هو الظّاهر ، والذی یجعلها بمعنی نعم یجعل هذه الهاء هاء السّکت کأنّه قال : إنّ ، وألحق هاء السّکت بها للوقف ، وما ورد فی (7) کلام ابن الزّبیر (8) جوابا

ص: 186

للقائل (1) له : «لعن اللّه ناقه حملتنی إلیک» (2) : «إنّ وراکبها» (3) لیس له وجه إلّا معنی نعم ، ولولا ذلک لکان القول بأنّها الناصبه فی البیت متعیّنا ، وإذا ثبت فی غیره احتمل البیت الوجهین ، إلّا أنّ حمله علی الناصبه أولی ، لأنّه الأکثر ، فإن عورض بحذف الخبر فحذف الخبر سائغ کثیر (4) عند قیام القرینه أکثر من استعمال «إنّ» بمعنی نعم ، فکان أولی لذلک .

قال : «وتخرج المفتوحه إلی معنی لعلّ ، کقولک : ائت السّوق أنّک تشتری لحما» (5) .

أی : لعلّک ، ومنه قوله تعالی : وَما یُشْعِرُکُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا یُؤْمِنُونَ (6) فی قراءه من قرأ / بالفتح (7) ، لأنّها لو جعلت متّصله بما قبلها لتغیّر المعنی إلی خلافه ، وصار عذرا لهم ، والآیه سیقت ردّا علیهم فی قوله تعالی : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آیَهٌ لَیُؤْمِنُنَّ بِها ، فقیل : «وما یشعرکم أنّها إذا جاءت لا یؤمنون» ردّا علیهم فی المعنی ، کما جاء هذا المعنی فی غیر موضع ، ویدلّ علیه ما بعد ذلک من قوله تعالی : کَما لَمْ یُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّهٍ وَنَذَرُهُمْ فِی طُغْیانِهِمْ یَعْمَهُونَ (8) ، فهذا یعلمک أنّ الکلام جاء ردّا علیهم لا تصدیقا لهم (9) ، فإذا حمل «أنّها» علی الاتّصال ، ب «یشعرکم» علی أنّه (10) فاعل ل «یشعرکم» صار المعنی توبیخ من یزعم أنّهم لا یؤمنون ، وهو عکس المعنی المتقدّم ، لأنّه فی المعنی تحقیق لما قصدوه ، وقد علم أنّه ردّ علیهم ، فکیف یردّ علیهم قولهم بتحقیقه ؟

وقد حمله بعضهم علی أن تکون «لا» زائده (11) ، فیستقیم المعنی ، لأنّه یصیر توبیخا لمن یزعم

ص: 187

أنّهم یؤمنون ، وفیه ردّ لقولهم ، ویجوز أنّها علی ظاهرها لغیر «لعلّ» علی معنی التعلیل لتوبیخهم علی ذلک ، وجوابا لسؤال مقدّر ، کأنّه قیل (1) : لم وبّخوا علی ذلک ؟ فقیل : لأنّها إذا جاءت لا یؤمنون .

قال : «وتخفّف فیبطل عملها» ، إلی آخره .

قال الشیخ : إذا خفّفت جاز إعمالها وإلغاؤها (1) ، إلّا أنّ الإلغاء أکثر ، وهذا ممّا یدلّک علی أنّها لیست مرکّبه ، لأنّها لو کانت مرکّبه لکان حکمها حکم «أن» المفتوحه ، و «أن» المفتوحه لا تعمل إلّا فی المضمر (2) علی ما تقرّر ، وهذه إنّما تعمل فی الظاهر ، وأمّا قوله (3) :

ویوما توافینا بوجه مقسّم

کأن ظبیه تعطو إلی وارق السّلم

فإنّما جاء الخفض فیه علی أن تکون «أن» زائده ، وأمّا النّصب والرّفع فعلی أن تکون مخفّفه من الثقیله ، فإذن لیس الخفض إلّا بتأویل الجرّ بالکاف و «أن» حرف زائد کما تزاد بعد لّما فی قوله تعالی : وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا (4) وشبهه ، إلّا أنّ زیادتها مع الکاف قلیل / .

علی معنی : لیت زیدا کان قائما ، وما ذکروه لا دلیل علیه إلّا ما توهّموه (1) من قوله (2) :

یا لیت أیّام الصّبا رواجعا

وهذا محتمل أن یوجّه علی ما ثبت من لغتهم ، فلا ینبغی أن یحمل علی وجه لم یثبت مع احتماله ما ثبت عنهم ، والوجه أن یحمل علی أنّ خبر «لیت» محذوف و «رواجعا» حال من الضمیر المقدّر (3) فیه ، فیکون التقدیر : یا لیت أیّام الصّبا لنا رواجعا ، ف «رواجعا» حال من الضمیر المرفوع المستتر فی «لنا» (4) الرّاجع إلی أیّام ، مثل قولک : «زید فی الدّار قائما» ، وهذا سائغ فی لغتهم ثابت ، فحمله علیه أولی من حمله علی ما لم یثبت فی لغتهم مثله ، وکذلک الکلام (5) علیه وعلی الکسائیّ واحد ، وإن کان ما ذکره الکسائیّ قد ثبت أیضا مثله فی إضمار «کان» إلّا أنّه (6) قلیل لیس بقیاس ، وهذا کثیر جار علی طریق القیاس فیما دلّ علیه القرینه ، فکان المصیر إلیه أولی .

لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ (1) ترجّ للعباد ، هذا أورده اعتراضا ، لأنّ الکلام وارد علی غیر الحکایه ، والتّوقّع من الباری تعالی مستحیل ، لأنّه إنّما یکون فیما جهلت عاقبته ، / فهو مستحیل فی حقّ العالم بالمعلومات کلّها ، فأجاب عن ذلک بأنّه [وارد] (2) علی طریق ردّ معناه إلی المخاطب ، کأنّ التّوقّع ممّن تعلّق به ، وهم المخاطبون ، ومثله قوله تعالی : وَأَرْسَلْناهُ إِلی مِائَهِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ (47) (3) فی أنّه شکّ ممّن یقدّر رائیا لهم ، أی : لو رآهم راء لکانت هذه حاله ، وکذلک قوله تعالی : فَهِیَ کَالْحِجارَهِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَهً (4) وأمثاله ، ومنهم من یزعم أنّ «لعلّ» معناها فی مثل ذلک التّعلیل (5) ، وهو یقف علیه (6) فی مثل لَعَلَّ السَّاعَهَ قَرِیبٌ (7) ، ومنهم من یزعم أنّها فی حقّ اللّه لتحقیق ما تعلّقت به (8) ، ویقف علیه (9) فی قوله تعالی : لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی (10) ، فإنّه لم (11) یتذکّر ولم یخش ، ولو کان لتحقیقه لوجب حصوله .

وأجیب عن ذلک بأنّه قد تذکّر بقوله : آمنت [فی حال الفرق] (12) ، وهو غیر مستقیم ، لأنّه لم

ص: 192

یرسل إلیه لذلک التّذکّر ، وإنّما أرسل إلیه للتّذکّر النّافع .

قال : «وقد لمح فیها معنی التّمنّی من قرأ « فأطّلع» » (1) .

وذلک لأنّها لّما (2) کثرت فی الاستعمال لتوقّع المرجوّ ، وتوقّع المرجوّ ملازم لمعنی التّمنّی أجریت مجری التّمنّی ، فأجیب کما یجاب التّمنّی .

«وقد أجاز الأخفش « لعلّ أنّ زیدا قائم» » .

ولیس بالجیّد (3) ، إذ لیس معه إلّا مجرّد القیاس ، واللّغه لا تثبت قیاسا ، فإن زعم أنّها مثلها فلیجز «لکنّ أنّ زیدا قائم» ، ولا مجیز له ، وقد جاء فی الشعر (4) :

لعلّک یوما أن تلمّ ملمّه

علیک من الّلائی یدعنک أجدعا

لمّا رآها للتّوقّع کعسی ، وکان استعمال «عسی» بأن والفعل استعملها کذلک ، فقال :

«لعلّک یوما أن تلمّ» ، ولیس بالقویّ لمخالفته القیاس (5) واستعمال الفصحاء ، ووجهه ما ذکرناه .

ص: 193

ذلک ، فإنّا علی قطع نعلم الفرق بین قول القائل : «قام زید وخرج عمر» وبین قوله : «قام زید ثمّ خرج عمر» ، ولو کان الأمر علی ما ذکره لوجب أن یکون الجمیع سواء ، أو نقول بامتناع «ثمّ» لأنّه لا حاجه إلیهما ، وبهذا (1) یتبیّن أنّ معنی الواو علی ما ذکرناه من تقدیر حصول الأمرین ، ألا تری أنّ «ثمّ» (2) أفادتک التّراخی فیهما ، فالذی فهمت فیه التّراخی مع «ثمّ» هو الذی یقدّر فیه الحصول مع الواو ، وإنّما أشکل مع الواو لّما (3) کان ذلک یحصل لو أسقطت ، ولیس ذلک بمخرج للواو (4) عما ذکرناه .

وقوله : «وبین الفعلین فی إسنادهما إلی زید» .

لیس بالجیّد لأنّه ههنا فی تبیین معنی العاطف ، ولیس العاطف / ههنا بالمصیّر الفعلین لزید ، وإنّما صیّرهما لزید نسبه الأوّل إلی ظاهره والثانی إلی مضمره دون حرف العطف ، ألا تری أنّک إذا قلت : «إن یکرمنی زید یکرم أخی» ، فقد أسندت الفعلین إلی زید ، ولیس ثمّه عطف ، وإنّما جاء التّشریک فی الفاعل ممّا ذکرناه ، فثبت أنّ العطف فی «زید یقوم ویقعد» لیس علی معنی ما ذکره ، وإنّما هو علی أحد أمرین :

إمّا أن یراد التّشریک بین الثانی والأوّل فی عامل الأوّل ، وإن کان معنویا ، فیکون بمثابه قولک : «لن یقوم زید ویخرج» فی العامل اللّفظیّ ، لأنّ حکم التّشریک فی العامل المعنویّ کحکمه فی العامل اللّفظیّ .

وإمّا أن یکون الغرض عطف الجمله علی الجمله من غیر قصد إلی تشریک فی المفردات ، فیکون بمثابه قولک : «قام زید وخرج عمر» علی ما تقدّم .

قال : «فالواو للجمع المطلق من غیر أن یکون المبدوء به داخلا فی الحکم قبل الآخر» ، إلی آخره .

قال الشیخ : حروف العطف علی ثلاثه أقسام کما ذکر ، قسم یشرّک بین المتبوع والتّابع فی الحکم ، وهی الواو وثمّ وحتّی ، وقسم یثبت الحکم به لأحدهما (5) من غیر تعیین ، وقسم یثبت الحکم به لأحدهما بعینه .

ص: 195

فالأوّل قد ذکر ، والثانی : «أو» و «إمّا» و «أم» ، والثالث : «لا» و «بل» و «لکن» ، ثمّ کلّ واحد من الأقسام تفترق آحاده بمعان یختصّ کلّ واحد منها بمعنی .

فالواو للجمع المطلق بینهما من غیر تعرّض لتقدیم ولا تأخیر ولا معیّه لا علی سبیل الظّهور ولا علی سبیل الاشتراک ، بل هی أجنبیّه عن ذلک ، وإنّما المعبّر عنه فی الوجود لا یخرج عن ذلک [أی : المجموع] (1) ، فإنّک إذا قلت : «قام زید وعمر» فجائز أن یکون قیامهما معا ، وجائز أن یکون [قیام] (2) زید قبل [قیام] (3) عمرو ، وجائز أن یکون العکس ، ووزان الواو فی ذلک وزان رجل فی أنّ مدلوله فی قولک : «جاءنی رجل» یجوز أن یکون عالما ، ویجوز أن یکون جاهلا ، ولیس لرجل دلاله علی کلّ واحد منهما ، فکما أنّ رجلا لا دلاله له علی ذلک فکذلک الواو لا دلاله لها علی واحد ممّا ذکرناه ، ویقع الغلط / کثیرا فی الفرق بین ما یحتمله المدلول فی الوجود وبین ما یحتمله اللّفظ من حیث الوضع ، فلیتنبّه لذلک .

واستدلّ صاحب الکتاب (4) علی فساد قول من قال بالمعیّه (5) بقولهم : «جاءنی زید الیوم وعمر أمس» وعلی فساد قول من قال بأنّ الأوّل قبل الثانی أو بالعکس بقولهم : «اختصم بکر وخالد» من جهه أنّ «اختصم» لا یعقل إلّا بفاعلین فی وقت واحد ، فلو ذهبت تجعلها للتّرتیب لأدّی إلی أن لا یکون لها فاعلان فی وقت واحد ، بل فاعل واحد ، وذلک محال ، وکذلک قوله (6) :

«سیّان قعودک وقیامک» ، لأنّک لو ذهبت تجعلها للتّرتیب لفسد المعنی ، لأنّه یؤدّی إلی الإخبار عن الواحد بالمساواه ، وهو محال .

قال : « وقول سیبویه : ولم تجعل للرّجل منزله یکون (7) بها أولی من الحمار ، کأنّک قلت :

ص: 196

مررت بهما » (1) .

یعنی إذا قلت : «مررت بزید وحمار» ، ولم یرد بنفی المنزله إلّا باعتبار نسبه المرور إلیه ، وإلّا فلا یشکّ ذو أرب أنّ تقدیم زید علی الحمار لمنزلته وشرفه ، وذلک جار فی کلامهم کثیرا ، لأنّهم یقدّمون الأشرف ، ولکن لیس للغرض الذی نحن فیه ، ولم یقصد سیبویه إلّا ما نحن فیه (2) من أنّ التقدیم لا یوجب له مزیّه علی الحمار بالنّسبه إلی المرور .

وأمّا الفاء فمعناها أنّ الثانی عقیب الأوّل من غیر مهله ، کقولک : «جاء زید فعمر» ، فقد فارقت الواو (3) لما فیها من الترتیب ، والتّعقیب فیها علی حسب ما یعدّ فی العاده تعقیبا ، لا علی سبیل المضایقه ، فربّ شیئین یعدّ الثانی عقیب الأوّل فی العاده ، وإن کان بینهما أزمان کثیره ، کقوله تعالی : ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَهَ عَلَقَهً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَهَ مُضْغَهً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَهَ عِظاماً فَکَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً (4) .

و «ثمّ» معناها الترتیب إلّا أنّ بینهما مهله ، فقد فارقت الواو بالترتیب ، وفارقت الفاء بالمهله ، وقول سیبویه فی قولهم : «مررت برجل ثمّ امرأه» : «فالمرور ههنا مروران» (5) ، لأنّه لّما دلّت «ثمّ» علی المهله وجب الحکم بانقطاع / المرور بالرجل قبل المرور بالمرأه ، فیکون المرور بالمرأه مرورا ثانیا ، وأورد (6) الآیتین (7) اعتراضا علی القول فی معنی الفاء و «ثمّ» ، أمّا الفاء فهی فی ظاهر الآیه تدلّ علی أنّ الثانی قبل الأوّل ، وهو عکس ما تقدّم ، وأمّا «ثمّ» فی الآیه فکذلک ، وأجاب عن الفاء بقوله :

«محمول علی أنّه لما أهلکها حکم بأنّ (8) البأس جاءها» ، فکأنّه قال : أهلکناها ، فحکم عقیب

ص: 197

الإهلاک بأنّ البأس جاءها ، وهو ظاهر فی الجواب ، ویجوز أن یکون المراد ب «أهلکناها» حکمنا بإهلاکها فجاءها بأسنا عقیب الحکم علیها ، ومعنی «الحکم علیها» إراده وقوعه بهم .

وأجاب عن «ثمّ» بأنّ المراد بقوله : «ثمّ اهتدی» (1) ثمّ دام ذلک ، لأنّ الغفران متوقّف علی العاقبه ، وهو ظاهر فی الجواب ، ویجوز أن یکون المراد بقوله : «ثمّ اهتدی» إلی سلوک سبل الاستقامه فیما یقع له من الوقائع بعد ذلک .

قال : «وحتّی» .

معناها الغایه والانتهاء وأنّ ما قبلها تقضّی شیئا فشیئا إلی أن بلغ إلیه ، فلذلک وجب أن یکون جزءا من المعطوف علیه ، وهی محموله عندهم علی الجارّه ، فلذلک لم یأت فیها ما یلاقی آخر جزء [منه] (2) ، کقولک : «نمت البارحه حتّی الصّباح» ، وجاء ذلک فی الجارّه ، وجعلوا للأصل علی الفرع مزیّه (3) ، وبمعناها المذکور تفارق أخواتها الثلاث [وهی الواو والفاء وثمّ] (4) .

و «أو» و «إمّا» و «أم» الثلاثه لإثبات الحکم لأحد المذکورین من غیر (5) تعیین ، وهو فی «أو» و «إمّا» ظاهر ، ألا تری أنّک إذا قلت : «جاءنی زید أو عمر» فأنت مثبت المجیء لواحد منهما لا بعینه ، ولا یلزم أن یکون المتکلّم شاکّا ، بل قد یبهم ذلک علی السّامع ، وقد یکون المتکلّم شاکّا .

وأمّا تحقیقه فی «أم» فإنّک إذا قلت : «أزید عندک أم عمر» فأنت عالم بأنّ أحدهما عنده ، ولکنّک لا تعلمه بعینه ، فقد تضمّن کلامک إثبات الحکم لواحد منهما من غیر تعیین ، وإنّما لم تقع «أم» (6) فی الأمر (7) لأنّ وضعها للاستفهام ، فضادّت الأمر لذلک ، لأنّ الجمله الواحده لا تکون أمرا استفهاما ، وإنّما وقعت / فی الخبر إذا کانت خبریّه ، لأنّها مقدّره بجملتین مخبر بالأولی (8) أوّلا ،

ص: 198

ثمّ ورد (1) الشّکّ بعد ذلک ، فجیء بالجمله الاستفهامیّه ، ولذلک تقول فی إعراب قولک : «أم شاء» (2) : خبر مبتدأ ، وتقدیره : أم هی (3) شاء ، فهذا معنی قوله (4) : «والمنقطعه تقع فی الخبر أیضا» ، وإلّا فالتحقیق أنّ «أم» لا تقع فی الخبر أصلا لملازمتها الاستفهام .

ثمّ مثّل بالمنقطعه خاصّه ووقوعها فی الاستفهام والخبر جمیعا علی ما فسّره ، فقال : «تقول فی الاستفهام : أزید عندک أم عندک عمر» ، فکرّر «عندک» (5) لتحقّق أنّها المنقطعه ، لأنّ المتصله لا تکون کذلک ، بل یلزم أن یقع المشکوک فیه [أحدهما] (6) بعد الهمزه ، والآخر بعد «أم» ، إن کانت القضیّه فی أحد جزأی الجمله (7) ، کقولک : «أزید عندک أم عمرو» و «أقائم زید أم قاعد» ، ولو قلت : «أزید عندک أم فی الدّار» ، أو «أعندک زید أم عمر» لم یکن مستقیما ، فإن کان الشّکّ فی جملتین ولم یشترکا فی أحد الجزأین وجب ذکرهما جمیعا کلّ واحده منهما فی الموضع الذی کان موضع المفرد ، کقولک : «أقام زید أم قعد عمر» ، ولذلک لا تتمیّز هذه عن «أم» المنقطعه إلّا بالقصد لاحتمال الأمرین جمیعا فی جمیع مواضعها .

وأمّا «أم» المنقطعه فوضعها علی أن تأتی کالإضراب عن الجمله المتقدّمه استفهامیّه کانت أو خبریّه ، وقد مثّلهما جمیعا .

قال : «والفصل بین « أو» و «أم» کقولک : أزید عندک أم عمر » ، إلی آخره .

قال الشیخ : قد تقدّم أنّ وضع «أم» للعلم بأحد الأمرین [لا علی التّعیین] (8) ، وأمّا «أو» فلیست کذلک ، فإذا علم الفرق بینهما فأنت مع «أم» عالم بأنّ أحدهما عنده مستفهم عن التّعیین ، ومع «أو» مستفهم عن واحد منهما علی حسب ما کان فی الخبر ، فإذا قلت : «أزید عندک أو عمر» فمعناه هل واحد

ص: 199

منهما (1) عندک ، ومن ثمّ کان جوابه ب «نعم» أو «لا» مستقیما ، ولم یکن ذلک مستقیما فی «أم» لأنّ السّؤال عن التّعیین ، ولا إشکال فی الفرق بینهما فی مثل هذه المسائل وإنّما / الإشکال فی استعمالهما علی غیر ذلک ، وهو أنّهم استعملوا الهمزه و «أم» فی معنی التّسویه من غیر استفهام ، کقولک : «سواء علیّ أقمت أم قعدت» ، واستعملوا الجملتین والثانیه معطوفه بأو فی معنی الحال ، کقولک : «أنا أضرب زیدا قام أو قعد» ، فمثل ذلک یلتبس فیه موضع «أم» بموضع «أو» ، وأورد سیبویه قوله (2) :

ما أبالی أنبّ بالحزن تیس

أم لحانی بظهر غیب لئیم

علی أنّه مخصوص (3) بأم ، وأورد قوله (4) :

ولست أبالی بعد موت مطرّف

حتوف المنایا أکثرت أو أقلّت

علی أنّه من مواضع «أو» ، والفرق بینهما أنّ قوله : «أنبّ بالحزن تیس» وقع مفعولا ل «أبالی» ، فوجب أن یکون من مواضع «أم» إذ لا معنی للحال فیه ، وإنّما المراد ههنا المبالی به ، وأیضا فإنّه لا ضمیر فی «أنبّ» فیکون لصاحب (5) الحال ، فیکون حالا .

وأمّا قوله : «حتوف المنایا» فقد ذکر مفعول «أبالی» وهو قوله : «حتوف المنایا» ، فلم یبق إلّا الحال ، وفی کلّ واحد من الفعلین ضمیر صاحبه ، وأورد (6) قوله (7) :

إذا ما انتهی علمی تناهیت عنده

أطال فأملی أو تناهی فأقصرا

ص: 200

علی أنّه من مواضع «أو» ، وقد ظهر الأمر فیه بما (1) تقدّم ، فهذه هی المواضع التی یلتبس فیها موضع «أم» بموضع «أو» .

وکثیرا ما یقع فیها المتأخرون فی کلامهم وأشعارهم ، فلا یفرقون بینهما ، وشرط استعمال «أم» فی هذه المواضع أیضا أن یسبقها الهمزه ، وشرط استعمال «أو» أن لا یسبقها همزه علی نحو ما تقدّم فی الأمثله .

قال : «ویقال فی « أو» و «إمّا» : إنّهما للشّکّ » .

وإنّما قال : «ویقال» تنبیها علی أنّ ذلک لیس بلازم ، إذ قد یکون المتکلّم غیر شاکّ ، بل یکون مبهما ، وأمّا فی الأمر فیقال : للتّخییر والإباحه ، علی أنّ وضعها ما تقدّم من إثبات الحکم لأحد الأمرین ، إلّا أنّه إن حصلت قرینه یفهم معها أنّ الآمر غیر حاجز فی الآخر (2) ، مثل قوله (3) : «جالس الحسن أو ابن سیرین ، وتعّلم إمّا الفقه وإمّا النّحو» سمی إباحه ، وإلا سمّی تخییرا ، وهو لأحد الأمرین فی الموضعین ، أمّا فی التّخییر فلا إشکال ، وأمّا فی الإباحه فإنّک إذا قلت : «تعلّم الفقه / أو النّحو» فتعلم المأمور أحدهما ، فإنّه ممتثل لا محاله ، وإنّما أخذت نفی الحجز عن الآخر من أمر خارج عن ذلک .

وقد استشکل بعضهم وقوع «أو» فی النّهی فی مثل قوله تعالی : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ کَفُوراً (4) ، وههنا لو انتهی عن أحدهما لم یمتثل ، ولا یعدّ ممتثلا إلّا بالانتهاء عنهما جمیعا ، ومن ثمّ حملها بعضهم علی أنّها بمعنی الواو (5) ، وقال : التقدیر : آثما وکفورا ، والأولی أن تبقی علی بابها ، وإنّما جاء التّعمیم فیهما من أمر وراء ذلک ، وهو النّهی الذی فیه معنی النّفی ، لأنّ المعنی قبل وجود النّهی : تطیع آثما أو کفورا ، أی : واحدا منهما ، فإذا جاء النّهی ورد علی ما کان

ص: 201

ثابتا فی المعنی (1) ، فیصیر المعنی ولا تطع واحدا منهما ، فیجیء التّعمیم فیهما من جهه النّهی الدّاخل ، وهی علی بابها فیما ذکرناه ، لأنّه لا یحصل الانتهاء عن أحدهما حتی ینتهی عنهما ، بخلاف الإثبات ، فإنّه قد یفعل أحدهما دون الآخر ، فهذا معنی دقیق یعلم به أنّ «أو» فی الآیه علی بابها وأنّ التّعمیم لم یجیء منها ، وإنّما جاء من جهه المضموم إلیها علی ما ذکرناه .

قال : «وبین « أو» و «إمّا» من الفصل » إلی آخره .

قال الشیخ : أمّا الفصل بین «أم» وأختیها فواضح فی الاستفهام وغیره ، وأمّا الفصل بین «أو» و «إمّا» فلیس إلّا باعتبار أمر لفظیّ ، وهو أنّه یشترط فی «إمّا» أن تکون متقدّمه قبل المعطوف علیه «إمّا» أخری ، کقولک : «جاءنی إمّا زید وإمّا عمر» وقد بیّن إفاده التقدیم ، وهذا التقدیم واجب فی «إمّا» وجائز فی «أو» بشرط أن یکون المتقدّم (2) «إمّا» أیضا ، کقولک : «جاءنی إمّا زید أو عمر» [ثمّ ذکر مذهب أبی علیّ فقال] (3) : «ولم یعدّ الشیخ أبو علیّ الفارسیّ « إمّا» فی حروف العطف لدخول العاطف علیها ووقوعها قبل المعطوف علیه » (4) .

وکلا الأمرین مخیّل (5) لما صار إلیه (6) ، أمّا الأوّل فلما ثبت من أنّهم لا یجمعون بین حرفی عطف ، وأمّا الثانی فلما ثبت من أنّ حرف (7) العطف شرطه التّوسّط (8) بین المعطوف والمعطوف علیه .

والجواب : / أنّا نقول : لا نسلّم أوّلا أنّ الواو فی «وإمّا» حرف عطف دخل علی «إمّا» ، بل قولنا :

«وإمّا» هو حرف العطف ، ولا بعد فی أن تکون صوره الحرف مستقلّه حرفا فی موضع وبعض حرف فی

ص: 202

موضع ، ثمّ ولو سلّم ذلک فلا بعد فی أنّ ذلک (1) یکون دخل علی (2) «إمّا» لغرض الجمع بینه وبین «إمّا» المتقدّمه ، وتکون «إمّا» نفسها لغرض الجمع بین ما بعدها وبین ما بعد (3) «إمّا» المتقدّمه ، وهذا هو الصحیح ، والذی یحقّقه أنّهم یقولون : «جاءنی إمّا زید أو عمر» ، فیوقعون «أو» فی موقع قولهم : «وإمّا» فلولا أنّها حرف عطف لم یقع حرف العطف بمعناها من کلّ وجه ، و «أو» عطف بالاتّفاق ، ویحقّق ما قدّمنا أنّهم لّما أوقعوا «أو» موقع قولهم : «وإمّا» استغنوا عن الواو قبلها (4) لما ذکرناه من أنّ الغرض بالواو فی «وإمّا» عطفها علی «إمّا» (5) أختها ، فلمّا انتفی ما جیء بها لأجله حذفوها .

وأمّا وقوعها قبل المعطوف علیه فنقول : لیست المتقدّمه حرف عطف باتّفاق ، فلا معنی لقول القائل : إنّ حرف العطف متقدّم ، وإنّما قدّم حرف مشعر بالشّکّ فیما یأتی بعده ، وقصد أن یکون علی لفظ ما بعده لما فیه من معنی الشّکّ (6) ، فثبت أنّ الأولی للشّکّ المحض من غیر عطف ، والثانیه لهما جمیعا .

و «لا وبل ولکن» .

ثلاثتها یحصل معها ثبوت الحکم لواحد بعینه ، ثمّ تفترق بعد ذلک ، ف «لا» (7) تفارقهما فی أنّ الحکم للأوّل دون الثانی ، کقولک : «جاءنی زید لا عمر» .

وأمّا الفرق بین «بل» و «لکن» وإن اتّفقا فی أنّ الحکم للثانی فهو أنّ «لکن» وضعها علی مخالفه ما بعدها لما قبلها ، والکلام ههنا فی عطف المفرد بها ، ولا یستقیم تقدیره إلّا مثبتا لامتناع تقدیر النّفی فی المفرد ، وإذا وجب أن یکون مثبتا وجب أن یکون ما قبلها نفیا کقولک : «ما جاءنی زید لکن عمر» ، ولو قلت «جاءنی زید لکن عمر» لم یجز لما ذکرناه .

وأمّا «بل» فللإضراب مطلقا موجبا (8) کان الأوّل أو منفیّا ، / فإذا قلت : «جاءنی زید بل عمر» فقد

ص: 203

أضربت عن نسبه المجیء إلی زید وأثبتّه لعمر ، فهو إذن من باب الغلط ، فلا یقع مثله فی القرآن ولا فی کلام فصیح ، وأمّا إذا قلت : «ما جاءنی زید بل عمر» فیجوز أن یکون من باب الغلط (1) ، فیکون «عمر» غیر جاء ، کأنّک قلت : «ما جاءنی عمر» ، ویجوز أن تکون مثبتا لعمر المجیء ، فلا یکون غلطا .

ص: 204

«ومن أصناف الحرف حروف النّفی وهی : ما ولا ولم ولما ولن وإن» .

قال الشیخ : ف «ما» لنفی الحال کقولک : «ما زید منطلقا» أو «منطلق» علی اللّغتین ، والدّلیل علی أنّها لنفی (1) الحال (2) أنّ المفهوم من قولک : «ما زید قائما» نفی القیام فی الزّمن الذی أخبرت به ، فإن زعم زاعم أنّ ذلک من قبیل الإخبار عن الشّیء کما فی قولک : «زید قائم» فلیس بمستقیم ، لأنّه لو کان کذلک لکانت لمجرّد النفی ، ولو کانت لمجرّد النفی لجاز أن تقول : «إن تکرمنی ما أکرمک» و «أرید أن ما تقوم» کما جاز ذلک فی «لا» فی مثل قولک : «إن تکرمنی لا أکرمک» و «أرید أن لا تقوم» ، ولّما لم یجز ذلک دلّ علی أنّ فیها زیاده تمنع ، ولیس إلّا ما ذکرناه ، ووجب (3) الحکم به ، وامتنع «إن تکرمنی ما أکرمک» (4) .

لّما کانت «ما» (5) للحال کرهوا أن یدخلوا علیها حرف الاستقبال کما امتنع فی الإثبات «إن یکرمنی قد أکرمتک» .

ولا بعد فی استعمالها للماضی والمستقبل عند قیام القرائن ، قال اللّه تعالی حکایه (6) عن الکفّار : وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِینَ (7) و وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِینَ (8) ، وفی الماضی حکایه (9) قولهم :