ارشاد العقول الی مباحث الاصول

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

المجلد 1

اشارة

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:2

ص:3

المدخل

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة: 122

ص:4

كلمة المحاضر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، و ردعت عظمتُه العقولَ فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته.

و الصلاة و السلام على من بعثه بالنور المضي، و البرهان الجلي، محمّد نبي الرحمة، و على آله الذين هم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا، و إن صَمتوا لم يُسبقوا.

أمّا بعد، فإنّ من مفاخر الشيعة الإمامية هو فتح باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية منذ رحيل الصادع بالحق) صلى الله عليه و آله و سلم (إلى يومنا هذا، و الاجتهاد هو الذي يضفي على الشريعة، غضاضة و طراوة و لا يناله إلاّ ذو حظ عظيم.

إنّ الخوض في عباب هذا الفن رهن علوم جمّة، من أهمها: علم الأُصول الذي هو: العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل.

و ممن وفّقه اللّه لدراسة هذا العلم، دراسة معمّقة الشيخ الفاضل المحقّق الثبت محمد حسين الحاج العاملي) حفظه اللّه (فحرّر ما ألقيناه من محاضرات على فضلاء الحوزة العلمية ببيان سهل و أُسلوب جزل بعيداً عن الإطناب و الاقتضاب، و ها هو الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ يقدّمه لطلاب هذا العلم،

ص:5

و قد لاحظته فرأيته وافياً بالمطلوب جامعاً لنكات البحث.

فأسأل اللّه سبحانه أن يوفّقه لصالح العلم و العمل، و أن يجعله ذخراً للإسلام و المسلمين.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 1 شعبان المعظم 1422 ه

ص:6

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المؤلف

الحمد للّه الذي خضع له كلّ شيء، و قام به كلّ شيء، و الصلاة و السلام على الداعي إلى الحقّ و الشاهد على الخلق الذي بلّغ رسالات ربّه محمّد خاتم رسله و أفضل سفرائه، و على آله الذين هم أساس الدين و عماد اليقين.

أمّا بعد، فقد أسعفني الحظ في سالف الزمان و قمت بنشر ما استفدته من شيخي العلاّمة الحجّة الفقيه آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني) مد ظلّه (و قد كان لما نشرته من المباحث العقلية لعلم الأُصول صدى واسع في الأوساط العلمية، و لم يخطر ببالي نشر ما استفدته من أُستاذي الكبير في مجال المباحث اللفظية، و لكن لما شجّعني غير واحد من الأعزّاء على نشر ما بقي من المباحث لتكتمل الدورة الأُصولية، شمّرت عن ساعد الجد و قمت بتبييض المباحث المذكورة في قوالب واضحة غير مخلّة بالمراد، و لا مطنبة في البيان، سائلاً المولى عزّ و جلّ أن يطيل عمر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه الذي كان و لم يزل يربي جيلاً بعد جيل بعلمه و فكره و قلمه و بيانه.

كما أسأله سبحانه أن يجعل ما بذلته من الجهود في إخراج الجزءين الأخيرين

ص:7

كتاباً نافعاً ينتفع به روّاد العلم و طلاّب الفضيلة.

محمد حسين الحاج العاملي جبل عامل جزين 15 شعبان المعظم 1422 ه يوم ميلاد الإمام القائم عجل اللّه تعالى فرجه

ص:8

مقدمة و فيها أُمور:

اشارة

1. موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها و...

2. الوضع و فيه جهات من البحث 3. الحقيقة و المجاز 4. استعمال اللفظ في اللفظ و أقسامه 5. وضع الألفاظ للمعاني الواقعية 6. وضع المركبات 7. علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز 8. تعارض الأحوال 9. في الحقيقة الشرعية 10. ألفاظ العبادات و المعاملات أسام للصحيح أو للأعم 11. الاشتراك اللفظي 12. استعمال المشترك في أكثر من معنى 13. المشتق و انّه حقيقة في المتلبس أو الأعم 14. مسائل في المشتق

ص:9

ص:10

الأمر الأوّل في موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها

اشارة

بحث المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل عن الموضوعات التالية:

1. تعريف موضوع العلم.

2. ما هي النسبة بين موضوع العلم و موضوع المسألة؟ 3. لزوم وجود موضوع لكلّ علم.

4. تمايز العلوم.

5. ما هو موضوع علم الأُصول؟ 6. ما هو تعريف علم الأُصول؟ 7. ما هو الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد و المسائل الفقهية؟ فهنا جهات من البحث:

الجهة الأُولى: تعريف موضوع العلم
اشارة

قالوا: إنّ موضوع كلّ علم بأنّه» ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية «، المهم هو التعرف على أمرين:

1. العرض في المنطق و الفلسفة.

ص:11

2. الذاتي و أقسامه.

أمّا الأوّل فانّ العرض في الفلسفة يقابل الجوهر، فالماهية إذا وجدت وجدت لا في موضوع فهو جوهر كالإنسان، و إذا وجدت في موضوع فهو عرض كالسواد.

هذا هو العرض حسب الاصطلاح الفلسفي.

و أمّا العرض في الاصطلاح المنطقي فهو أوسع من سابقه، و هو يطلق على الخارج عن ذات الشيء، المحمول على الشيء لاتّحاده معه في الخارج، و على هذا فالناطق عرض بالنسبة إلى الحيوان لخروجه عن حقيقته و صحّة حمله عليه لوحدتهما في الخارج في مورد الإنسان، و المراد من العرض هنا هو المصطلح المنطقي لا الفلسفي، و ربّما صار الخلط بين الاصطلاحين منشأً للاشتباه.

أمّا الثاني أي الذاتي فيطلق و يراد منه أحد المعاني الثلاثة:

1. الذاتي في باب الايساغوجي) الكلّيات الخمس (، و المراد منه ما كان جنساً أو فصلاً أو نوعاً للشيء، و بعبارة أُخرى: ما يكون مقوّماً للموضوع و من ذاتيّاته، و يقابله العرضيّ، و هو ينقسم بدوره إلى عرض عام و خاص كما هو مفصّل في المنطق.

2. الذاتي في باب البرهان، و هو عبارة عن الخارج عن ذات الشيء، المحمول على الشيء من دون حاجة في الانتزاع أو في الحمل إلى وجود حيثية تقييدية في جانب الموضوع، و هذا كما في قولنا: الإنسان ممكن، فانّ الإمكان ليس مقوّماً للإنسان، إذ ليس هو نوعه أو جنسه أو فصله، و مع ذلك ينتزع منه أو يحمل عليه بلا حاجة إلى حيثية تقييدية على نحو يكون وضع الإنسان ملازماً لوضع الإمكان.

ص:12

و ربّما يمثّل بحمل الموجود على الوجود، و الأبيض على البياض، و ربّما يطلق عليه المحمول بالصميمة، و يقابله ما يسمّى المحمول بالضميمة كحمل الأبيض على الاسم، فلا يوصف بكونه أبيض إلاّ بعد ضمّ البياض إليه و عروضه عليه.

3. الذاتي في باب الحمل و العُروض، و يقابله الغريب، و هو المراد من قولهم موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فمحمولات المسائل أعراض ذاتية لموضوع العلم.

و قد اختلفت كلمتهم في تفسير العرض الذاتي في المقام، فذهب المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق السبزواري في تعاليقه على الأسفار(1) بأنّ المعيار في كون العرض ذاتياً أو غريباً هو أن يكون العرض من قبيل الوصف بحال الشيء لا الوصف بحال متعلّق الشيء.

و بعبارة أُخرى: العرض الذاتي ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض.

توضيحه: انّ الواسطة تطلق على عدّة معان:

1. الواسطة في الثبوت، و هي ما تكون علّة لعروض المحمول على الموضوع كالنار الموقدة تحت القِدْر التي تكون علّة لعروض الحرارة على الماء في قولنا: الماء حار.

2. الواسطة في الإثبات، و هي ما تكون علّة لحصول اليقين بثبوت المحمول للموضوع، كقولنا: العالم متغيّر و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فالتغيّر سبب لحصول اليقين بحدوث العالم. و بذلك يطلق على الحد الأوسط، الواسطة في الإثبات.

3. الواسطة في العروض، و هي المصحِّحة للنسبة بحيث لولاها لما صحّت

ص:13


1- - الأسفار: 1/32.

النسبة، كما في قولنا: جرى الميزاب، فانّ الجاري حقيقة هو الماء لكن علاقة المجاورة أو الحالية و المحلّية تُصحح نسبة الجريان إلى الميزاب لكن ادّعاءً و مجازاً.

إذا وقفت على ذلك فنقول: إنّ الميزان في عدّ العرض ذاتياً أو غريباً هو كون الوصف بحال الموصوف، أو بحال المتعلّق، و هذا هو المقياس لذاتية العرض و غرابته سواء كان عارضاً بلا واسطة، أو بواسطة مساو، أو بواسطة أخصّ أو أعمّ. فوجود الواسطة و عدمها و نسبتها مع ذي الواسطة ليس مطروحاً في المقام، و إنّما المطروح كون النسبة حقيقية أو مجازية، و على ذلك تكون الأمثلة التالية من العرض الذاتي.

أ: إذا عرض للموضوع بواسطة مباينة، كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار.

ب: إذا عرض للموضوع بواسطة أعمّ كالمشي العارض للإنسان بواسطة الحيوان الأعمّ من الموضوع.

ج: إذا عرض للموضوع بواسطة أخصّ، كالضحك العارض للحيوان بواسطة الإنسان.

فكلّ ذلك يعدّ من العرض الذاتي دون العرض الغريب. فأخصّية الواسطة أو أعمّيتها أو تباينها لا يضرّ بكون المحمول عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى موضوع العلم إذا كان الوصف حقيقياً لا مجازياً.

تفسير الذاتي عند القدماء

إنّ القدماء من علماء المنطق) الذين هم الأساس لتعريف موضوع العلم

ص:14

بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية (ذهبوا إلى أنّه يشترط في مقدّمات البرهان أُمور أربعة:

الأوّل: أن تكون النسبة ضرورية الصدق بما لها من الجهة، و إن كانت ممكنة، بمعنى أنّه إذا صدق أحد النقيضين كالإيجاب، يكون النقيض الآخر أي السلب ممتنعاً، فقولنا: الإنسان كاتب بالإمكان، ضروري الصدق أي ممتنع خلافها، بمعنى انّ قولنا:» ليس الإنسان كاتباً بالإمكان العام «محكوم بالامتناع.

الثاني: أن تكون دائمة الصدق بحسب الأزمان، فقولنا: الإنسان كاتب بالإمكان العام، قضية صادقة في عامّة الأزمان.

الثالث: أن تكون كلّية الصدق بحسب الأحوال، فالإنسان في كلّ أحواله كاتب بالإمكان، سواء أ كان قائماً أم قاعداً.

الرابع: أن يكون المحمول ذاتياً للموضوع، و قد عرّفوا المحمول الذاتي بما يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ المحمول، مثلاً انّ الفطوسة من العرض الذاتي بالنسبة للأنف، لأنّا إذا أردنا أن نعرف الفطوسة نعرفها بقولنا:» الأنف الأفطس «.

و نظير ذلك إذا قلنا: الإنسان متعجّب، و العدد زوج أو فرد، حيث إنّ الإنسان مأخوذ في تعريف المتعجّب، فانّه الإنسان الذي تعرضه الدهشة و الاستغراب، كما انّ العدد مأخوذ في تعريف الزوج، إذ هو العدد المنقسم إلى متساويين.

فلو كان هناك معروض و عارض فلا يكون الثاني عرضاً ذاتياً إلاّ إذا كان المعروض مأخوذاً في حدّه و تعريفه.

و من ذلك يعلم أنّ تقسيم الموجود إلى الواجب و الممكن، و الممكن إلى

ص:15

الجوهر و العرض، و الجوهر إلى العقل و النفس و الهيولى و الصورة و الجسم، و العرض إلى الكم و الكيف... كلّها أعراض ذاتية بالنسبة إلى الموجود، لأنّه مأخوذ في حدّ كلّ واحد من هذه المحمولات.

هذا هو الغالب و لكن يكفي كون الموضوع أو أحد مقوّماته واقعاً في حدّ المحمول فتعمّ الأقسام التالية:

1. أن يؤخذ موضوع المعروض في حدّ العارض.

2. أن يؤخذ جنس المعروض في حدّ العارض.

3. أن يؤخذ موضوع جنس المعروض في حدّ العارض.

و قد ذكر الشيخ الرئيس لكلّ واحد مثالاً من العلوم الطبيعية، و بما أنّ الأمثلة التي ذكرها لا تخلو من تعقيد نذكر لها مثالاً من العلوم الاعتبارية، مثال الأوّل:» الفاعل مرفوع «فانّ الفاعل لا يؤخذ في تعريف المرفوع، و لكن موضوع الفاعل، أعني: الكلمة مأخوذة في حدّ المرفوع فيقال: المرفوع هو الكلمة المرفوعة.

و مثال الثاني:» الفعل الماضي مبني «فانّ الفعل لا يؤخذ في تعريف المبني، و لكن جنس الفعل، أعني:

الكلمة مأخوذة في حدّ المبني، فيقال: الكلمة مبنيّة.

و مثال الثالث:» المفعول المطلق منصوب «فانّ المفعول المطلق لا يؤخذ في حدّ المنصوب و لا جنسه، أي المفعول بما هو هو و لكن معروض المفعولية و هو الكلمة مأخوذة في حدّ المنصوب.

و هناك قسم آخر فاجعله رابع الأقسام و هو أن يؤخذ المحمول في حدّ الموضوع كما في قولنا:

» الواجب موجود «فالمحمول مأخوذ في حدّ الواجب الذي هو الموضوع، فانّ الواجب عبارة عن الموجود الذي يمتنع عليه العدم.

ص:16

و قد أشار إلى هذا التفسير للعرض الذاتي الشيخ الرئيس بقوله: بأنّ من المحمولات ما لا يكون مأخوذاً في حدّ الموضوع، و لا الموضوع أو ما يقوّمه مأخوذاً في حدّه، فليس بذاتي، بل هو عرض مطلق غير داخل في صناعة البرهان مثل البياض للققنس(1).(2)

هذا هو العرض الذاتي عند القدماء، و قد رتّبوا على ذلك لزوم مساواة العرض الذاتي لمعروضه، و بالتالي مساواة محمولات المسائل لموضوع العلم و ذلك:

إنّ حصول اليقين بالنسبة الموجودة في القضية فرع أن يكون المحمول مساوياً للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع، و يرفع برفعه، مع قطع النظر عمّا عداه، إذ لو رفع مع وضع الموضوع أو وضع مع رفعه لم يحصل اليقين، و هذا هو الموجب لكون المحمول الذاتي مساوياً لموضوعه.

مثلاً إذا كان المحمول أخصّ من الموضوع، كما إذا قلنا: كلّ حيوان متعجب، لم يفد اليقين، إذ لا يلازم وضع الموضوع وضع المحمول لكونه أعمّ.

فإن قلت: هذا إنّما يتمّ إذا كان المحمول أخص من الموضوع، و أمّا إذا كان المحمول أعمّ من الموضوع فوضع الموضوع يكفي في وضع المحمول كقولنا: كلّ إنسان ماش، و هذا المقدار يكفي في حصول اليقين و إن لم يستلزم رفع الموضوع رفع المحمول.

قلت: إنّ ما أخذ موضوعاً ليس بموضوع، فانّ القيد في جانب الموضوع أمر لغو، لأنّ الموضوع للمشي هو الحيوان لا الحيوان الناطق) الإنسان (إذ كونه ناطقاً كالحجر في جنب الإنسان، و لذلك قالوا بأنّه يشترط أن يكون المحمول مساوياً

ص:17


1- - الققنس: طائر جميل الصوت و اللفظ رومي.
2- - الفن الخامس من المنطق في برهان الشفاء: 127.

للموضوع لا أعمّ و لا أخصّ.

فإن قلت: إنّ المحمول في كثير من المسائل في الفلسفة الإلهية غير مساو للموضوع كما إذا قلت:

الموجود إمّا واجب أو ممكن، فإنّ كلّ واحد من الواجب و الممكن ليس مساوياً للوجود.

قلت: إنّ المحمول عبارة عن الجملة المردّدة و هي بأجمعها مساو للموجود.

فإن قلت: إنّ كلّ واحد من الواجب و الممكن ذات محمول خاص، فنقول واجب الوجود بالذات بسيط من جميع الجهات.

أو نقول: كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود.

فالمحمول في كلّ واحد غير مساو للموجود.

قلت: إنّ الموضوع للبساطة ليس هو مطلق الوجود حتى لا تساوي البساطةُ مطلقَ الوجود، كما أنّ الموضوع في القضية الثانية ليس مطلق الوجود، بل الموضوع في الأوّل هو الموجود الواجب، و هو يساوي البساطة، و في الثاني الموجود الممكن، و هو يساوي التركب العقلي، و إلى ما ذكرنا يشير الأُستاذ الطباطبائي بقوله:

» إنّ كلاًّ منهما) الواجب و الممكن (ذاتيّ لحصة خاصّة من الأعم المذكور، لأنّ المأخوذ في حدّ كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.(1)

توضيحه أنا إذا قلنا: واجب الوجود بسيط، فالموضوع ليس مطلق الوجود الأعم، بل الحصة الخاصة التوأمة للواجب، و تكون البساطة من أعراضه الذاتية لمساواتها له، نعم إذا قلنا) الموجود إمّا واجب أو ممكن (، فالموضوع هو مطلق الوجود الأعم، ليصحّ تقسيمه إلى القسمين.

ص:18


1- - تعليقة الطباطبائي على الجزء الأوّل لكتاب الأسفار: 30 31.

و بذلك يتبيّن أنّ مساواة العوارض مع موضوع العلم، شرط في المحمولات الأوّلية، كقولنا: الموجود إمّا واجب أو ممكن، و أمّا المحمولات الثانوية كالبساطة و التركّب فلا تشترط المساواة مع موضوع العلم، بل تكفي مساواتها، مع موضوعها، أي الموجود المتحصص بالوجوب، أو الإمكان، و هكذا سائر الموارد، لكفاية هذا المقدار في حصول اليقين بالنسبة.

هذا إجمال ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعاليقه على الأسفار، و نهاية الحكمة.

غير أنّ هنا نكتة: و هي أنّ ما ذكره من أنّ شرط كون القضايا يقينية هو أن يجتمع فيها شروط أربعة:

كون النسبة ضرورية أوّلاً، و دائمة الصدق ثانياً، و كلّية الصدق ثالثاً، و كون المحمول من العوارض الذاتية للموضوع رابعاً، إنّما يختص بالعلوم الحقيقية و لا يعم العلوم الاعتبارية، لأنّ الاعتباريات قائمة بلحاظ المعتبر، و تتغير بتغيير الاعتبار، و لا يلزم أن تكون ضرورية الصدق و دائمية و كلية.

و بذلك يتضح انّ الأُمور الاعتبارية لا يقام عليها البرهان العقلي بالشكل الذي يقام في العلوم الحقيقية، فانّ الموضوع فيها ليس من علل وجود المحمول حقيقة إلاّ بالاعتبار و المواضعة، و تدوم العلية ما دام الاعتبار قائماً فإذا زال، زالت العلية.

كما أنّه لا يعتبر كون المحمول عرضاً ذاتياً) الشرط الرابع (لأنّ العلوم الاعتبارية تدون لتحقيق غرض اجتماعي كالعلوم الأدبية، فانّ الملاك في كون شيء من مسائل تلك العلوم كونه واقعاً في دائرة الغرض المطلوب من ذلك العلم سواء أ كان العروض بلا واسطة أو معها، و سواء أ كانت الواسطة مساوية أو أعمّ أو

ص:19

أخصّ أو مباينة، و سواء عدّ عرضاً ذاتياً أو غريباً، فانّ اشتراط واحد من هذه الأُمور من قبيل لزوم ما لا يلزم، بل انّ استعمال الذاتي و الغريب في مسائل تلك العلوم من باب التشابه، و إلاّ فلا عرض حقيقة فضلاً عن كونه ذاتياً أو غريباً.

الجهة الثانية: نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم
جواب المحقق الخراساني عن إشكال في تعريف موضوع العلم
اشارة

قال المحقّق الخراساني: إنّ موضوع كلّ علم هو نفس موضوعات مسائله و ما يتّحد معها خارجاً و إن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلي و مصاديقه، و الطبيعي و أفراده.

أقول: كأنّه) قدس سره (بصدد الجواب عن الإشكال المذكور في المقام، و هو أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يعرض موضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة مساو، فإذا كان هذا هو معنى العرض الذاتي فهو منقوض بمسائل العلوم قاطبة فانّ موضوعات المسائل أخصّ من موضوع العلم من دون فرق بين العلوم الحقيقية و الاعتبارية.

أمّا الأُولى كقولك: كلّ ممكن فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود، فمحمول المسألة أعني التركيب عارض لموضوعها أعني) كلّ ممكن (، و هو أخصّ من الموجود المطلق، الذي هو موضوع العلم في الالهيات بالمعنى الأعمّ.

و أمّا الثانية كقولك: كلّ فاعل مرفوع فالرفع من عوارض الفاعل و هو أخصّ من موضوع علم النحو أعني الكلمة و الكلام.

هذا و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ نسبة الموضوعين إنّما هي نسبة الافراد إلى الطبيعي، و المصاديق إلى الكلي، و التغاير المفهومي لا يضر بعد اتحادهما في الوجود.

ص:20

يلاحظ عليه بأمرين:
الأوّل: انّه إنّما يصحّ إذا لم يكن للخصوصية الموجودة في موضوع المسألة مدخلية في عروض المحمول.

فيكون محمول المسألة عارضاً على موضوع العلم، دون ما إذا كان له مدخلية كما في المقام فانّ للإمكان مدخلية في عروض التركب، كما أنّ للفاعلية مثل هذا الشرط، و نظيره قولنا:» زوايا المثلث مساوية لزاويتين قائمتين «فانّ للمثلّثية مدخلية في التساوي، و عندئذ لا يمكن أن يعد محمول المسألة من عوارض موضوع العلم بحجّة أنّ التغاير مفهومي لا مصداقي.

الثاني: انّ الإشكال إنّما يرد على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض لموضوع العلم بلا واسطة أو بواسطة أمر مساو،

لا على من فسّر العرض الذاتي بما يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض كما عليه المحقّق الخراساني تبعاً للحكيم السبزواري، فوجود الواسطة لا تضر ما لم تكن واسطة في العروض، كما هو كذلك في المقام، فانّ الكم المتصل يتصف حقيقة بالمساواة إذا كان متّحداً مع المثلث، كما أنّ الجسم الطبيعي، يتصف بالحرارة و البرودة إذا كان متّحداً مع النار و الماء و غير ذلك.

هذا و قد أورد السيّد الأُستاذ) قدس سره (على المحقّق الخراساني بانتقاضه بعلمي الهيئة و الجغرافية فانّ النسبة بين الموضوعين فيهما إلى موضوعات مسائلهما نسبة الجزء إلى الكل.(1)

يلاحظ عليه: بعدم انتقاض الضابطة فيهما، و ذلك لأنّ الموضوع في علم الهيئة ليس هو ذوات الكواكب حتى يكون البحث عن كوكب خاص بحثاً في جزء الموضوع، بل الموضوع هو أوضاع الكواكب و طبائعها، و هو أمر كلي، و أوضاع كوكب خاص يكون فرداً من هذا الكلي، و يؤيّد ذلك انّه عرّف علم الهيئة بقولهم

ص:21


1- - تهذيب الأُصول: 1/7.

هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية و السفلية و أشكالها و أوضاعها و مقاديرها و أبعادها، و موضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة.(1)

و هكذا الحال في علم الجغرافية فانّ موضوعه أحوال القارّات و البحار المختلفة، فالبحث عن كلّ واحد من هذه القارّات بحثاً عن مصاديق هذا الفرد الكلي لا عن أجزائه.

و يؤيد ذلك أنّه عُرِّف علم الجغرافية بقولهم: علم يتعرّف به على أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الرّبْع المسكون من كرة الأرض و عروض البلدان الواقعة فيها و أطوالها و عدد مدنها و جبالها و براريها و بحارها و أنهارها، إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور.(2)

هذا كلّه على مبنى المحقّق الخراساني، و أمّا على مذهب القدماء فالتساوي بين محمول المسألة و موضوع العلم متحقّق لما عرفت أنّ العرض الذاتي عبارة عمّا يكون الموضوع مأخوذاً في حدّ العرض، كما في قولنا: الموجود إمّا واجب أو ممكن، فالموجود مأخوذ في حدّ الواجب كما هو مأخوذ في حدّ الممكن، و هكذا إذا أخذنا الواجب أو الممكن موضوعاً و بحثنا عن عوارضها و قلنا الواجب بسيط و الممكن مركب، فقد أخذ الموجود في حدّ البسيط كما أخذ في حدّ المركب، لأنّ البسيط من جميع الجهات هو الموجود الواجب، كما أنّ المركّب من ماهية و وجود هو الموجود الممكن، و هكذا.

و مهما تنزلنا و بحثنا عن محمول المحمول فلم يزل موضوع العلم سارياً في حدِّ المحمولات و عند ذلك يتبين معنى التساوي، و هو تساوي المحمول مع

ص:22


1- - أبجد العلوم: 2/576.
2- - أبجد العلوم: 2132/212 و لفظة جغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض و ربّما يقال جغراويا.

الموجود المتحصص، كتساوي البسيط مع الموجود الواجب) لا مطلق الوجود (و تساوي التركب من ماهية و وجود مع الموجود المركب لا مطلق الموجود.

و إلى ما ذكرنا يشير العلاّمة الطباطبائي في كلامه السابق، أعني: انّ كلاًّ منهما) الواجب و الممكن ( ذاتي لحصة خاصّة من الأعم المذكور، لأنّ المأخوذ في حد كلّ منهما هو الحصة الخاصة به.

إجابة المحقق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال: إنّ الموضوع لعلم النحو ليس هو الكلمة من حيث لا بشرط، بل الكلمة من حيث لحوق الإعراب و البناء، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل، لأنّ الموضوع في قولنا:» كلّ فاعل مرفوع «هو الكلمة من حيث لحوق الإعراب و البناء لها، و المفروض أنّها من هذه الحيثية تكون موضوعاً لعلم النحو، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل، لأنّ كلاًّ من موضوع العلم مع موضوعات المسائل ملحوظ بشرط شيء و هو قيد الحيثية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ القيد المأخوذ في ناحية موضوع العلم غير القيد المأخوذ في ناحية موضوع المسائل، فالمأخوذ في الأوّل هو القابلية للحوق الإعراب و البناء، و أين هو من قيد الفاعلية و المفعولية المأخوذة في ناحية موضوع المسألة و ادّعاء الوحدة بينها أمر عجيب؟! نعم ما ذكرناه و حقّقناه إنّما هو جار في العلوم الحقيقية، و أمّا الالتزام به في العلوم الاعتبارية فهو التزام بما لا يجب الالتزام به كما ذكرنا ذلك أيضاً عند البحث في المقام الأوّل.

ص:23


1- - فوائد الأُصول للكاظمي: 241/23، بتلخيص.
الجهة الثالثة: في لزوم وجود موضوع لكلّ علم

هل يجب أن يكون لكلّ علم موضوع خاص يبحث عن عوارضه الذاتية أو لا؟ فيه أقوال:

1. لزوم وجود الموضوع، و هو الظاهر من القدماء من تعريفهم موضوع العلم.

2. عدم لزوم وجود الموضوع لكلّ علم، و ذلك لأنّ كلّ علم عبارة عن عدّة مسائل متشتتة يجمعها اشتراكها في حصول غرض واحد، و لا يحتاج وراء ذلك إلى وجود موضوع يبحث عن أعراضه الذاتية.

قال المحقّق الأصفهاني: إنّ العلم عبارة عن مركب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها غرض واحد.(1)

3. القول بالتفصيل بين العلوم الحقيقية و الاعتبارية بلزوم وجود الموضوع في الأُولى دون الثانية، و هو خيرة العلاّمة الطباطبائي.(2)

استدلّ للقول الأوّل بقاعدة» الواحد لا يصدر إلاّ من واحد «ببيان أنّ الغرض الواحد المترتب على مجموع المسائل يتوقف على وجود جامع بينها و إلاّ يلزم صدور الواحد عن الكثير.

يلاحظ عليه: أنّ القاعدة على فرض صحّتها مختصة بالواحد البسيط الذي ليس فيه رائحة التركيب، كالعقل الأوّل، بناء على أنّه إنيُّ الوجود، فهو لا يصدر إلاّ عن الواحد، و ذلك لأنّه يجب أن يكون بين العلة و المعلول رابطة بها يصدر المعلول عن العلة، و إلاّ فلو صدر من دون وجود صلة بينهما يلزم أن يصدر كلّ

ص:24


1- - نهاية الدراية: 1/7.
2- - لاحظ الأسفار، قسم التعليقة: 311/30.

شيء عن كلّ شيء، فعلى ذلك فلو صدر المعلول الواحد من اثنين يجب أن يجتمع فيه حيثيتان مختلفتان تصحح كلّ واحدة صدوره عن العلة، فعندئذ ما فرضناه واحداً عاد كثيراً، و هو خلف.

و لذلك قالوا: الواحد مع فرض كونه واحداً من جميع الجهات لا يمكن أن يصدر تارة من علّة و أُخرى من علة أُخرى. و هذا كما ترى يخصص برهان القاعدة و موردها بالبسيط من جميع الجهات و ليس له مصداق في جانب العلة إلاّ اللّه سبحانه و لا في جانب المعلول إلاّ العقل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القاعدة لا تجدي نفعاً في المقام، لأنّ الغرض المترتّب على المسائل ليس غرضاً واحداً شخصيّاً بسيطاً حتى يتوقف صدوره على تصوير جامع بين المسائل الكثيرة، بل هو غرض واحد نوعيّ يتكثّر بتكثّر المسائل، فالغرض المترتب على مسألة حجّية خبر الواحد غير الغرض المترتب على مسألة دلالة الأمر على الوجوب و عدمه، و الغرض المترتب على أبواب النواسخ، غير الغرض المترتب على باب الفاعل و المفاعيل، و مثل هذا لا يلزم أن يصدر من الواحد، بل قد يصدر من الكثير لأنّه أيضاً كثير.

هذا كلّه حول القول الأوّل.

و أمّا القول الثاني، فبيانه أنّ المحمول في العلوم عرض ذاتي لموضوع العلم فالموضوع من علل وجوده، فكيف يمكن أن يكون هناك عرض بلا موضوع سواء أ كان العرض عرضاً فلسفياً أم منطقياً.

و بعبارة أُخرى: قد عرفت أنّ العرض الذاتي ما يؤخذ موضوعه في حدّه و هو الضابط في تمييزه، فإذا فرض للمحمول محمول، و لمحموله محمول، وجب أن يؤخذ الموضوع الأوّل في حدّ الجميع حتى ينتهي إلى آخر محمول مفروض، فوجود

ص:25

الموضوع من صميم كون العرض ذاتياً.(1)

و أمّا القول الثالث، فبرهانه هو أنّ العلوم الاعتبارية تدوّن للحصول على غرض واحد اعتباري، و ليس حصول ذلك الغرض رهن وجود موضوع شامل لعامة موضوعات مسائله، فالمقوم للعلم الاعتباري ترتّب غرض واحد على مسائل متسانخة سواء كان الكل داخلاً تحت عنوان واحد أو لا، بل يكفي اشتراك عدّة من المسائل في الحصول على غرض واحد، و هذا القول هو المتعيّن من بين الأقوال.

الجهة الرابعة: في تمايز العلوم
اشارة

لا شكّ في وجود التمايز بين العلوم إنّما الكلام في تعيين المميز بينها، و هناك أقوال:

1. تمايز العلوم بتمايز الأغراض، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

2. تمايز العلوم بتمايز الموضوعات و هو المشهور.

3. تمايز العلوم بالجهة الجامعة بين مسائلها المنتزعة من المحمولات.

4. تمايز العلوم و اختلاف بعضها بذاتها و جوهرها، و هو خيرة سيدنا الأُستاذ.

فلنتناول كلّ واحد من هذه الأقوال بالبحث و التحليل.

دليل القول الأوّل

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض و قال: إنّ تمايز العلوم، إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات و لا

ص:26


1- - الأسفار، قسم التعليقة: 1/31.

المحمولات، و إلاّ كان كلّ باب، بل كلّ مسألة من كلّ علم، علماً على حدة، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدّد، كما لا تكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد(1)) إذا كان الغرض متعدّداً (.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه إذا كان بين العلمين تمايز في مرتبة الذات كتمايز علم النفس و علم النبات، حيث إنّ الموضوع في الأوّل غيره في الثاني، فلا تصل النوبة إلى التمييز بالغرض الذي هو أمر متأخّر عن جوهر المسألة: موضوعها و محمولها.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ ظاهراً لا واقعاً في العلوم التي تتّحد موضوعاً و تختلف في المسائل، كعلمي الصرف و النحو، حيث إنّ الصرف يبحث عن عوارض الكلمة و الكلام من حيث الصحّة و الاعتلال، و النحو يبحث عن عوارضهما من حيث الإعراب و البناء، فعند ذلك يتصوّر انّ المائز بين العلمين هو تعدّد الغرض و هو معرفة الصحيح و المعتل، و المعرب و المبني، و لكنّ هناك نكتة مغفول عنها و هي أنّ تغاير الغرضين رهن أمر جوهري أضفى للعلمين صبغة التعدّد، و هو عبارة عن اختلاف مسائل العلمين جوهراً، فالعلمان متميّزان في مرتبة متقدّمة على الغرض، و الدليل على أنّ الجهة الجامعة لمسائل علم الصرف غير الجهة الجامعة لمسائل علم النحو، فكلّ يجمعها جهة جامعة متغايرة فالأولى اسناد الميز إلى تلك الجهة الجامعة لا إلى الغرض العائد منها.

و ثالثاً: أنّ المراد من الغرض إمّا غرض تدويني أو غرض تعليمي، و كلاهما متأخران عن العلم، فلا بدّ أن يكون للعلم ميز جوهري قبل هذين الغرضين.

ص:27


1- - كفاية الأُصول: 1/5.
دليل القول الثاني

ذهب المشهور إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، و هو صحيح في الجملة، لأنّ موضوع كلّ علم داخل تحت نوع خاص، كعلمي الحساب و الهندسة، فانّ الموضوع في الأوّل من مقولة الكم المنفصل، و يبحث فيه عن أحوال الأعداد، و الموضوع في الثاني من مقولة الكم المتصل، و يبحث فيه عن أحكام الخطوط و السطوح و الأجسام التعليمية، و مع هذا المائز الذاتي لا تصل النوبة إلى المائز بالعرض.

و لكن ليس جميع العلوم كذلك، فانّ العلوم ربّما تتحد موضوعاً و تتعدد وصفاً و تأليفاً حسب الجهات الملحوظة، فانّ البدن الإنساني موضوع لكلّ من علم الطب و التشريح، و وظائف الأعضاء، فبما أنّه يبحث عنه من جهة عروض الصحّة و السقم عليه يكون موضوعاً لعلم الطب، و بما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على أعضائه و أجزائه، فهو موضوع لعلم التشريح، و بما انّه يبحث فيه لغاية التعرّف على وظيفة كلّ عضو، فهو موضوع لعلم وظائف الأعضاء، فالعلوم متعددة و الموضوع واحد، فالميز هنا بالمحمولات لا بالموضوعات.

فإن قلت: التمايز في هذا النوع من العلوم أيضاً بالموضوعات، و ذلك لأنّ تمايز العلوم بالموضوعات و تمايز الموضوعات بالحيثيات، فإذا انضمت الحيثية إلى موضوع العلم يتميز عن العلم الآخر لاختلاف حيثيته معه.

قلت: إنّ هذه الحيثيات ليست إلاّ أُموراً منتزعة من المحمولات المختلفة في هذه العلوم الثلاثة فما هو المحمول في علم الطب غير المحمول في علم التشريح، و المحمول فيهما غير المحمول في علم وظائف الأعضاء، و إذا لاحظها الخبير، يرى بينها اختلافاً ذاتياً، و ينتزع من كلّ واحد حيثية خاصة يوصف بها الموضوع في كلّ علم، و يتخيل انّ تمايز العلوم، بالموضوعات و تمايز الموضوعات بالحيثيات، غافلاً

ص:28

عن أنّ هذه الحيثية منتزعة من محمولات العلوم، متأخرة عنها. و على ذلك فنسبة الميز إلى المحمولات في أمثال هذه الموارد، أولى من نسبته إلى الحيثيات.

دليل القول الثالث

إنّ لمسائل كلّ علم جهة و خصوصية لا توجد في مسائل سائر العلوم، و تكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل و بسببها يحصل الميز بين مسائل هذا العلم و مسائل سائر العلوم، مثلاً: الجهة الجامعة لمسائل علم النحو هي البحث عن كيفية آخر الكلمة من المرفوعية و المنصوبية و المجرورية، فهي خصوصية ذاتية ثابتة في جميع مسائله، و بهذه الجهة تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في العلوم التي تتحد موضوعاً و تختلف محمولاً، كما في علمي النحو و الصرف أو العلوم الثلاثة الطب و التشريح و وظائف الأعضاء، فانّ المائز هو الجهة الجامعة بين مسائل العلمين أو مسائل العلوم الثلاثة، و أمّا إذا كان العلمان مختلفين موضوعاً فالتميز بالموضوع مقدّم رتبة و زماناً على الميز بالجهة الجامعة، فانّ أوّل ما يقع في الذهن في هذه الموارد هو الموضوع ثمّ المحمول ثمّ الجهة الجامعة بين مسائلها.

دليل القول الرابع

ذهب السيّد الأُستاذ) قدس سره (إلى أنّ تمايز العلوم بذواتها، و قال: إنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتتة التي يناسب بعضها بعضاً، فهذه السنخية موجودة في جوهر تلك القضايا و حقيقتها، ففي مثله تمايز العلوم و اختلاف بعضها يكون بذاتها، فقضايا كلّ علم مختلفة و متميزة بذاتها عن قضايا علم آخر.

و أمّا تداخل بعض مسائل العلوم في بعض فلا يضر بما ذكرناه، لأنّ المركب

ص:29

بما هو مركب متميز بذاته عن غيره لاختلاف أكثر أجزائه مع أجزاء المركب الآخر، و إن اتّحدا في بعض.(1)

يلاحظ عليه: أنّه ليس قولاً آخر غير القول بأنّ التمايز إمّا بالموضوع أو بالجهة الجامعة بين محمولات المسائل، فانّ قولنا:» كلّ فاعل مرفوع «و إن كان غير مسانخ لقولنا:» زوايا كلّ مثلث تساوي زاويتين قائمتين «غير انّ عدم التسانخ إمّا لأجل الاختلاف في الموضوع، أو المحمول، أو النسبة بينهما، و ليس في المقام وراء هذه الصور الثلاث أمر آخر يكون هو موجباً لعدم التسانخ، فلاحظ.

و الحقّ في المقام هو أنّ الميز بالموضوع فيما إذا كان بين الموضوعين تباين نوعي كعلمي الهندسة و الحساب، و بالجهة المشتركة بين محمولات المسائل، فيما إذا كان الموضوع واحداً كعلمي الصرف و النحو و علوم الطب و التشريح و وظائف الأعضاء.

و أمّا التمايز بالأغراض فقد عرفت تأخّره عن الميز الجوهري الموجود بين المسائل، إذ ترتّب غرض واحد على عدّة من المسائل دون الآخر كاشف عن تمايز جوهري بين العلمين فلا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض مع وجود التمايز الجوهري.

الجهة الخامسة: ما هو موضوع علم الأُصول؟
اشارة

قد اختلفت أنظار علماء الأُصول في تعيين موضوع علم الأُصول، و هناك عدّة أقوال:

1. إنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة و هو خيرة القدماء.

ص:30


1- - تهذيب الأُصول: 1/4.

2. إنّ موضوع علم الأُصول هي الجهة الجامعة بين موضوعات مسائل ذلك العلم، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

3. إنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه، و هو خيرة المحقّق البروجردي.

4. لا حاجة لوجود موضوع لعلم الأُصول، و هو مختار سيّدنا الأُستاذ، و هو الأقوى.

و إليك دراسة الأقوال واحداً تلو الآخر.

تحليل القول الأوّل و نقده

ذهب القدماء إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة، و ربّما يحذف الوصف، و يقال: نفس الأدلّة.

و أورد عليه: بأنّه إذا كان الموضوع هي الأدلة الأربعة بقيد الدليلية تخرج أكثر المباحث الأُصولية عن كونها مسألة أُصولية و تُصبح من مبادئ ذلك العلم، لوجود الفرق الواضح بين مبادئ العلم و عوارضه.

فالأوّل يبحث في وجود موضوع العلم، و الثاني يبحث عن عوارضه بعد تسليم وجوده، فإذا كان موضوع علم الأُصول هو الأدلّة الأربعة يكون البحث عن حجّية الخبر الواحد و كونه دليلاً أو لا، بحثاً عن وجود مصاديق هذه الأدلّة الأربعة، و البحث عن مصاديق الموضوع بحث عن المبادئ لا عن العوارض.

و قد أجاب عنه الشيخ عند البحث عن حجّية الخبر الواحد، بقوله:» إنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة أعني: قول الحجّة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد، أو لا يثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر و القرينة؟ و من هنا يتّضح

ص:31

دخولها في مسائل أُصول الفقه الباحث عن أحوال الأدلّة «.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ المراد من السنة إمّا المحكي أعني: قول المعصوم) عليه السلام (و فعله و تقريره أو ما يعمّ الحاكي، أعني: خبر الواحد الحاكي عنها.

فعلى الأوّل، فالمراد من الثبوت، إمّا الثبوت الواقعي أي وجود السنّة الذي هو مفاد كان التامة، فهو بحث عن وجود الموضوع لا عن عوارضه.

أو الثبوت التعبّدي، أي وجوب العمل على طبق الخبر، فهو و إن كان بحثاً عن العوارض لكنّه بحث عن عوارض الحاكي لا المحكي، و مرجع البحث إلى أنّ الحاكي هل له هذا الشأن أو لا؟ و على الثاني، أي كون المراد من السنّة ما يعمّ حاكيها، فالإشكال و إن كان مرتفعاً، و ذلك لأنّ البحث في تلك المباحث يكون عن أحوال السنّة بهذا المعنى، إلاّ أنّ البحث في غير واحد من مسائل هذا العلم لا يخصّ الأدلّة، بل يعمّ غيرها كالبحث عن مفاد الأمر و النهي و أنّهما ظاهران في المعنى الكذائي أو لا.(2)

يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشق الثاني، و لكن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب و الفور و إن كان لا يختصّ بالسنّة، بل يعمّ مطلق الأمر في اللغة العربية لكن إذا ثبت ظهوره في الوجوب لمطلق الأمر، يثبت ظهوره في الأمر الوارد في السنّة، و ذلك لأنّ الأمر الوارد في السنّة مصداق جزئي من مصاديق مطلق الأمر، و العارض بواسطة أمر أعم يعدّ عرضاً ذاتياً بالنسبة إلى الأخص إذا لم تكن الواسطة، واسطة في العروض كما في المقام.

ص:32


1- - الفرائد: 37، طبعة رحمة اللّه.
2- - كفاية الأُصول: 91/6.
تحليل القول الثاني و نقده

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة من دون أن نعلم ذاك الموضوع بخصوصه.

يلاحظ عليه: أنّه نوع فرار عن بيان الحقيقة، لأنّ المشاكل التي تكتنفها، صدّته عن بيان ما هو الموضوع لذلك العلم.

تحليل القول الثالث و نقده

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه، و مسائله عبارة عن التعيّنات العارضة لها و المحدّدة إيّاها.

توضيح ذلك: انّ العرض على قسمين: خارجي و تحليلي.

فالبحث عن عوارض الجسم من حيث الحركة و السكون و الألوان و الطعوم بحث عن عوارض خارجية محسوسة.

و لكن البحث عن تعيّن الوجود المطلق بإحدى التعيّنات التالية ككونه عقلاً و نفساً و صورة و هيولى و جسم بحث عن العوارض التحليلية.

فالموضوع في العلم الإلهي عبارة عن الوجود المطلق بما هو هو و عوارضه عبارة عن حدوده و تعيّناته. فالحكيم الإلهي يبحث عن تعيّنات الوجود بكونه واجباً أو ممكناً، و الممكن جوهراً أو عرضاً، و الجوهر عقلاً و نفساً و جسماً و هكذا، فروح البحث في جميع الأقسام ليس ثبوت الوجود و تحقّقه، لأنّ الواقعية أمر مسلّم عند الحكيم و إنّما الهدف بيان أقسامه و أنواعه و حدوده و تعيّناته.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الفقيه يعلم أنّ بينه و بين ربّه حججاً قاطعة للعذر و لكن لا يعرف خصوصياتها و حدودها مع العلم بأصل الموضوع، فيطرح

ص:33

الحجّة المقطوعة على بساط البحث، و يبحث عن تعيّناتها و حدودها و أشكالها و ألوانها، بأنّها هل هي خبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو الإجماع المنقول و هكذا؟ فالبحث عندئذ يكون بحثاً عن عوارض الموضوع بعد التسليم بأصل وجوده.

فتلخّص من ذلك أنّ الموضوع هو الحجّة في الفقه، و العوارض العارضة عليها هي العوارض التحليلية كما لا يخفى.

و قد استشكل السيّد الأُستاذ) قدس سره (على هذا التقرير في درس المحقّق البروجردي) قدس سره (و قال:

لو كان الموضوع هو الحجّة في الفقه، فالواجب أن يقال: الحجّة خبر الواحد مع أنّ المتعارف هو العكس.

فأجاب المحقّق البروجردي: بأنّ هذا نظير مسائل الفن الأعلى، فإنّ الموضوع فيه بالاتفاق هو الموجود من حيث هو موجود، مع أنّه يقع محمولاً لا موضوعاً، فلا يقال: الموجود عقل، بل يقال العقل موجود، و هكذا، و وجه ذلك ما أشار إليه الحكيم السبزواري في أوّل الطبيعيات حيث قال:

إن قلت: كيف يكون الجسم هناك عرضاً ذاتياً للموضوع، و المسألة الجسم موجود؟ قلت: بل المسألة» الموجود جسم «و لا سيما على أصالة الوجود و اعتبارية الماهية.(1)

و قد أورد عليه شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة بأنّ لازم هذا خروج أكثر المسائل عن كونها مسألة أُصولية، كالبحث عن ظهورات الأمر و النهي في الوجوب و التحريم، و الفور و التراخي، و الوحدة و الكثرة، ممّا يتطلب فيه إثبات أصل الظهور لا بحثاً عن تعيّنات الحجّة و تطوراتها، و لكنّه عدل عن

ص:34


1- - السبزواري: شرح المنظومة: 201.

الإشكال في هذه الدورة قائلاً بأنّ عنوان المسألة شيء و روحها شيء آخر، فليس الأُصولي عالماً لغوياً يتطلب إثبات أصل الظهور، و إنّما هو يتطلّب إثبات أصل الظهور حتى يكون ذريعة لإقامة الحجّة على واحد من الطرفين. و لأجل ذلك يكون مرجع البحث في هذه المسائل إلى طلب الحجّة على الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الفورية و عدمها و هكذا.

ما هو المختار؟

فالأولى أن يقال: انّ كلّ قاعدة تكون ممهدة لتشخيص الأحكام و الوظائف الكلية للمكلفين، فهي مسألة أُصولية، سواء أ كان لهذه القواعد موضوع واحد أم لا، و سواء أ كان البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة أو تعيّنات الحجّة أم لا، بل يكفي كون القاعدة ممهدة لتشخيص الوظائف الكلية.

الجهة السادسة: ما هو تعريف علم الأُصول؟

عرّف علم الأُصول قديماً و حديثاً بتعاريف لا يخلو أكثرها من مناقشة:

1. تعريف القدماء: هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ المستنبَط ربّما لا يكون حكماً شرعياً بل وظيفة عملية و عذراً عقلياً بين العبد و المولى كالأُصول العقلية، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بمعنى معذورية العبد في مخالفة الواقع، و أمّا ما هو الحكم الشرعي الفرعي فلا يستنبط من حكم العقل.

فإن قلت: على القول بالملازمة بين حكم العقل و الشرع يكون المستنبَط حكماً شرعياً.

ص:35

قلت: إنّ غاية ما يَثبت بالملازمة هو إمضاء الشارع معذورية العبد في هذه الحالة و هي ليست حكماً شرعياً فرعياً، و لأجل هذا الإشكال عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بوجه آخر.

2. تعريف المحقّق الخراساني: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي تنتهي إليها في مقام العمل.

و يردّ عليه أوّلاً: أنّ لازم ما اختاره في تمايز العلوم أن يعد علم الأُصول علمين لغرضين مختلفين، و تصوّر وجود الجامع بين الغرضين لا يدفع الإشكال، و إلاّ تلزم وحدة علم الصرف و النحو لوحدة الغرض و هو صيانة اللسان عن الخطأ.

و ثانياً: أنّ الظاهر انّ علم الأُصول هو نفس القواعد، و أمّا الصناعة فإنّما هي من المبادئ لا نفس العلم.

3. تعريف المحقّق النائيني: هو العلم بالكبريات التي لو انضمَّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي.(1)

و يرد عليه: ما أوردناه على تعريف القدماء أنّه ربّما لا يكون المستنتج حكماً فرعياً كليّاً، بل تكون وظيفة عملية.

4. تعريف السيّد الأُستاذ: القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى لاستنباط الأحكام الفرعية الإلهية، أو الوظيفة العملية.

و هذا التعريف يحتوي على نقطتين هامتين:

النقطة الأُولى: توصيف القواعد بالآلية، كالمنطق الذي هو قواعد آلية للتفكير الصحيح. فخرجت القواعد الفقهية حيث إنّها مطلوبة بنفسها و ليست مطلوبة لغيرها.

ص:36


1- - فوائد الأُصول: 1/19.

و بعبارة أُخرى: انّ القواعد الأُصولية ما ينظر بها إلى الفقه، و أمّا القواعد الفقهية فهي ما ينظر فيها، و كم فرق بين النظر إلى الشيء بعنوان الآلية و الوسيلة و النظر فيه بعنوان بما هو هو.

و ثمة حديث منقول عن الإمام أمير المؤمنين علي) عليه السلام (حيث قال في بيان نظر الإسلام إلى الدنيا:» من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته «.(1)

فلو طلب الدنيا لغاية نيل رضا اللّه سبحانه فهو طلب مرغوب، و أمّا لو طلبها لنفسها دون أن تكون ذريعة إلى كسب الآخرة فهو طلب مرغوب عنه، فالمطلوب من القواعد الأُصولية وقوعها في طريق الاستنباط لا أنّها مطلوبة في حدّ ذاتها، و هذا ما يدفعنا إلى القول بتهذيب علم الأُصول و الأخذ بما هو مقدمة للاستنباط و رفض ما ليس كذلك.

النقطة الثانية: وصفها بإمكان الوقوع لا حتميته، و ذلك ليدخل في التعريف الظنون غير المعتبرة كالقياس و الاستحسان و الظن الانسدادي عامّة، فالجميع يمكن أن تقع في طريقه، و إن لم يقع، للنهي عن بعضها.

و هناك تعريف خامس ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة. فمن أراد فليرجع إلى المحصول.

الجهة السابعة: الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية

و قد ذكرتْ بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية فروق عديدة نقتصر على أهمها:

الفرق الأوّل: انّ المسائل الأُصولية لا تتضمن حكماً شرعيّاً، خلافاً للقواعد

ص:37


1- - نهج البلاغة: الخطبة 82.

الفقهية التي تتضمن حكماً شرعيّاً، و توضيح ذلك:

إنّ المسائل الأُصولية تدور حول محاور أربعة:

1. تعيين الظهورات و مداليل الألفاظ التي يعبّر عنها بمباحث الألفاظ، كالبحث عن ظهور الأمر في الوجوب و النهي في الحرمة.

2. المباحث العقلية أو ما يعبّر عنها بالملازمات العقلية، كالبحث عن الملازمة بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، أو وجوب الشيء و حرمة ضده.

3. مباحث الحجج و الأمارات، كالبحث عن حجّية خبر الواحد.

4. الأُصول العملية التي يراد بها تعيين وظيفة الشاك.

و أنت إذا لاحظت هذه المحاور تقف على أنّ المحمول في جميعها ليس حكماً شرعياً فرعياً، بل هو إمّا حكم عقلي أمضاه الشارع كباب الملازمات، أو حكم وضعي كالحجّية، فهي و إن كانت حكماً شرعياً لكن ليس فرعياً، و هكذا الحال في تعيين الظهورات و الوظائف العملية فالجميع بين حكم عقلي أو شرعي غير فرعي.

و هذا بخلاف القواعد الفقهية فانّها تتضمن حكماً شرعيّاً فرعياً كقوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «، و قوله:» على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «، و قوله:» ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده «. فانّ القاعدة و إن لم ترد بلفظها في الشرع و لكنّها قاعدة مقتبسة من الأحكام الشرعية الفرعية في موردها. فللفقيه أن يقتبس من هذه الموارد قاعدة كليّة باسم» ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده «.

هذا هو الفرق الأوّل بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية.

الفرق الثاني: انّ المسائل الأُصولية تجري في كلّ باب من أبواب الفقه، بخلاف القواعد الفقهية فانّ الغالب فيها هو اختصاصها بباب دون باب

ص:38

كالأمثلة المذكورة. نعم ربّما يجري بعضها في جميع الأبواب كقاعدة لا ضرر و لا حرج.

الفرق الثالث: انّ نتائج المسائل الأُصولية أحكام و وظائف كلّية، بخلاف القواعد الفقهية فانّه ربّما تكون نتيجتها حكماً جزئياً كجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية كاستصحاب طهارة الثوب المعيّن، و نظيره أصالة البراءة و الاحتياط في الموضوعات، فانّ المترتب عليهما هو الوظيفة الشخصية لمن تم عنده أركان البراءة و الاحتياط.

و من هنا يعلم أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية بخلافه في الشبهات الموضوعية فانّه قاعدة فقهية، و لا بأس أن يختلف حال المسألة باختلاف موارد تطبيقها، و نظيره البراءة و الاحتياط فانّها في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية و في الشبهات الموضوعية قواعد فقهية.

إلى هنا تمّ ما هو المهم عندنا في بيان الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية، غير أنّ للشيخ الأنصاري بياناً آخر في المقام و هو:

انّ إجراء المسألة الأُصولية في موردها يختص بالمجتهد بخلاف الفقهية فانّ إجراءها في مواردها جائز للمقلّد أيضاً.

و الظاهر عدم تماميّة هذا الفرق فانّ كثيراً من القواعد الفقهية كالمسائل الأُصولية يختص العمل بها بالمجتهد إذ هو القادر على تشخيص» ما يضمن عمّا لا يضمن «، و تمييز الأصل الحاكم عن الأصل المحكوم في الشبهات الموضوعية، و الشرط المخالف للكتاب و السنّة عن موافقهما.

إلى هنا تمّ الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية، بقي الكلام في تمييز المسألة الفقهية من القواعد الفقهية و المسائل الأُصولية، فنقول:

ص:39

المسألة الفقهية: ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصّة، تكليفية كانت كالبحث عن وجوب الصلاة و الصوم أم وضعية كالبحث عن طهارة الماء و نجاسة الدم، بل يمكن أن يقال انّ المسائل الفقهية لا تختص بالبحث عن أحكام الموضوعات بل تشمل أيضاً البحث عن ماهية الموضوعات التي تتعلّق بها الأحكام، كالبحث عن ماهية الصلاة و الصوم و أجزائها و موانعها و شرائطها إذ لا وجه لكون البحث عنها استطرادياً.

و من هنا يعلم الفرق بينها و بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية فلا نطيل.

إلى هنا تمّ ما أفاده المحقّق الخراساني في الأمر الأوّل، و إليك الكلام في الأمر الثاني:

ص:40

الأمر الثاني في الوضع

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأُولى: في حقيقة الوضع
اشارة

(1)

منها: الوضع، هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى و ارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة، و من كثرة استعماله فيها أُخرى.(2)

يلاحظ عليه:

1. انّ اختصاص اللفظ بالمعنى و الارتباط المذكور من نتائج الوضع، ناشئ منه و ليس نفسه.

2. انّ الارتباط المذكور كما يحصل بالأمرين اللّذين أشار إليهما، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في المعنى بداعي الوضع، و سيوافيك تفصيله عند البحث في الحقيقة الشرعية على أنّ تصوير الجامع بين القسمين من الوضع مشكل.

3. انّ التعريف لا يخلو من إجمال، حيث قال: نحو ارتباط بين اللفظ و

ص:41


1- - لقد استأثرت هذه البحوث باهتمام خاص في علم الألسنة الذي يدرس في الجامعات كعلم مستقل، له خصوصياته و استيعاب البحث فيه يخرجنا عن المقصود، إنّما نكتفي بالإشارة إليه على وجه عابر.
2- - كفاية الأُصول: 1/10.

المعنى، دون أن يُبيّن حقيقة هذا الربط.

و منها: انّ حقيقة الوضع ليست إلاّ التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.(1)

و هذا التعريف هو المعروف بمسلك التعهد في الوضع، و أوّل من فسّر الوضع به هو المحقّق النهاوندي) المتوفّى 1317 ه (و تبعه تلميذه أبو المجد الاصفهاني (1285 1362 ه (و المحقّق الخوئي (1317 1413 ه (في محاضراته و تعليقاته على أجود التقريرات.

قال أبو المجد في شرح مرام أُستاذه: الوضع عبارة عن التعهّد، أعني: تعهد المتكلّم للمخاطب و التزامه بأنّه لا ينطق بلفظ خاص إلاّ عند إرادته معنى خاصاً، أو أنّه إذا أراد إفهامه معنى معيناً، لا يتكلّم إلاّ بلفظ معيّن، فمتى تعهد له بذلك و أعلمه به حصلت الدلالة و حصل الإفهام.(2)

يلاحظ عليه بوجوه:

1. انّه من قبيل خلط الغاية من الفعل، بنفس الفعل. فالوضع شيء و الغاية المتوخّاة منه شيء آخر، فالتعهد المذكور في كلامه غاية الوضع حتى يخرج فعل المتكلّم عن اللغوية.

و إن شئت قلت: الوضع عمل خاص يستعقب ذلك التعهدَ و ليس نفسَه.

2. لو كانت حقيقة الوضع ذاك التعهد، لزم كون كلّ مستعمل واضعاً، لالتزام كلّ مستعمل تفهيم المعنى عند التكلّم باللفظ المخصوص و الالتزام به أمر

ص:42


1- - تشريح الأُصول: للمحقق النهاوندي.
2- - وقاية الأذهان: 62، ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

غريب و إن التزم به بعض المحقّقين.(1)

3. انّ الالتزام بالتعهد في الوضع، غير لازم بل يكفي فيه مجرّد جعل اللفظ في مقابل المعنى بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلائم الرائجة لإدارة المرور.

و قد تفطن المحقّق الاصفهاني لما ذكرناه من كون كيفية الدلالة و الانتقال من اللفظ و سائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال.

فقال: فليس من ناصب العلامة على رأس الفرسخ إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه، من دون أيّ تعهّد منه.(2)

نظرنا في حقيقة الوضع

و الحقّ انّ الوضع(3) عبارة عن تعيين الألفاظ في مقابل المعاني فقط، و أمّا التزام الواضع بأنّه متى أراد تفهيم المعنى، يتكلّم بهذا اللفظ فهو الغرض الداعي إلى ذلك الجعل، و الذي يدلّ على أنّ حقيقة الوضع لا تتجاوز عن ذلك، أمران:

الأوّل: انّ وظيفة الأخصّائيين في اللغة العربية هي وضع الألفاظ بإزاء المعاني، فإذا كانت هناك اصطلاحات علمية أو اجتماعية غير دارجة في اللغة العربية، فانّ هؤلاء الأخصّائيين يضعون بازائها ألفاظاً من اللغة العربية و بعد أن يتمّ الاتفاق عليها، يذاع أمرها فتستعمل.

فإذا كان عملهم لا يتجاوز إلاّ جعل اللفظ بإزاء المعنى فليكن كذلك عمل السائرين عبر الزمان من أهل اللغة.

ص:43


1- - تعاليق أجود التقريرات: 1/12.
2- - نهاية الدراية: 1/14.
3- - المقصود، التعييني، لا التعيّني لما مرّ في ص 41.

الثاني: انّ مسئولية إدارة المرور هي عبارة عن» وضع علائم للوظائف «التي ينبغي لسائقي الشاحنات و الناقلات الالتزام بها بغية تنظيم المرور، و عملهم هذا أشبه بعمل الواضع فليكن عمل المتقدمين من أهل اللغة كذلك.

الجهة الثانية: وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و معانيها

قد نقل عن غير واحد من أهل الأدب وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و المعاني و ذلك لصيانة عمل الواضع عن الترجيح بلا مرجح، فانّ جعل لفظ في مقابل معنى فعل اختياري صادر من الإنسان الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلاّ بمرجح و ليس هو إلاّ وجود العلقة الذاتية.

يلاحظ عليه: لو صحّ ذلك لزمت لغوية الوضع إذ تكون دلالة اللفظ على المعنى أشبه بدلالة الدخان على النار، أو دلالة السعال على وجع الصدر.(1)

نعم يمكن تفسير القول بالعلقة الذاتية بين اللفظ و المعنى بوجه آخر، و هو أنّ التتبع يكشف عن أنّ الإنسان كان يسمِّي الحيوانات بأصواتها كالهدهد، و البوم، و الحمام، و العصفور، و الهرة، كما يستند في حكاية الأفعال و الحركات إلى أصواتها، كالدق، والدك، و الشق، الكسر، الصرير، الدوي، النهيق، و لأجل ذلك ربّما يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنسان بما هو مفطور على إظهار ما في ضميره، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يرى بينها و بين معانيها مناسبة خيالية أو وهمية كالمشابهة في الشكل و الهيئة و غير ذلك من المناسبات، فها هو لفظ الهيولى فانّه بمعنى» المادة الأُولى «لكن يستعمل العرف الخاص في الموجود المَهيب، لما يراه بين ذلك اللفظ و المعنى من مناسبة وهمية.

ص:44


1- - الدلالة الأُولى عقلية، و الثانية طبعيّة.

و بذلك يجاب عمّا يقال بأنّه لو لا العلقة الذاتية بين اللفظ و المعنى يلزم الترجيح بلا مرجح، و ذلك لما عرفت من أنّه يكفي وجود التناسب الوهمي و الخيالي و غيرهما في انتخاب اللفظ و لا يحتاج إلى المناسبة الذاتية.

الجهة الثالثة: في تعيين الواضع

إنّ الإمعان في الحياة البشرية الغابرة، يُثبت بأنّ الحضارة الإنسانية بأبعادها ليست وليدة يوم أو شهر أو سنة، بل الإنسان خرج من البداوة و الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية بالتدريج فهو عبْر تعمير الأرض بأنحائها المختلفة كان بحاجة شديدة إلى المفاهمة و المكالمة، و قد خلق اللّه سبحانه مادتها في فطرته، و قال: (عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) فالحاجة دعته إلى إفهام ما في ضميره من الحوائج بإنشاء ألفاظ مقابل معان بالتدريج فلو قلنا إنّ لكلّ لغة واضعاً، فالواضع هو البشر عبر الزمان بإذن اللّه سبحانه بالتدريج و لم يزل الأمر كذلك في مستقبل الحضارة حيث انّ الألفاظ تزداد، وفق زيادة المعاني.

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواضع هو اللّه تبارك و تعالى، و هو الواضع الحكيم حيث جعل لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا، و جعله تبارك و تعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل و إنزال كتب، و جعل الأُمور التكوينية التي جبل الإنسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء و نحو ذلك. فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر، و لا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبيّ أو وصيّ، بل يلهم اللّه تبارك و تعالى عباده على اختلافهم كلّ طائفة بالتكلّم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.

ص:45

و استدل على ذلك بأمرين:

الأوّل: لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ، بقدر ألفاظ أيّ لغة لما قدروا عليه فما ظنك بواحد.

الثاني: كثرة المعاني، فانّه يتعذّر تصوّرها من شخص أو أشخاص.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّه سبحانه وضع الألفاظ لمعانيها ثمّ ألهم بها الإنسان أمر محتمل، و ربما يشير إليه سبحانه: (اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) لا يخالف ما اخترناه آنفاً، لكن ما استدلّ عليه بالوجهين غير تام. لأنّه إنّما يتمّ لو كان هناك واضع خاص أو أشخاص معينون، و أمّا على القول بأنّ أصل كلّ لغة و تكاملها يرجع إلى جهد الإنسان عبر سنين طويلة فلا بعد في أن يقوم البشر طيلة هذه السنين بوضع لغات متعددة لمعاني كثيرة.

الجهة الرابعة: في أقسام الوضع
اشارة

قُسِّم الوضع إلى أقسام أربعة:

1. الوضع الخاص و الموضوع له الخاص.

2. الوضع العام و الموضوع له العام.

3. الوضع العام و الموضوع له الخاص.

4. الوضع الخاص و الموضوع له العام.

القسم الأول و الثاني إمكانا و وقوعا

و قد اتّفق علماء الأُصول على إمكان الأوّلين و وقوعهما، و الأكثر على إمكان الثالث و وقوعه و امتناع القسم الرابع.

غير انّ المهم هو الوقوف على ما هو الميزان في كون الوضع خاصّاً أو عامّاً؟

ص:46


1- - أجود التقريرات: 121/11.

ثمّ البحث عن القسمين إمكاناً و وقوعاً و إجمال الكلام فيه على انّ الوضع يقوم بأمرين:

الأوّل: اللفظ و هو الموضوع.

الثاني: المفهوم الملحوظ.

و المدار في وصف الوضع بكونه خاصّاً أو عامّاً، هو كون الملحوظ خاصّاً، أو عاماً. فلو كان الملحوظ خاصّاً فالوضع خاص. و لو وضع اللفظ لنفس الملحوظ الخاص يكون الموضوع له خاصاً أيضاً. و لو كان الملحوظ عاماً فالوضع عام و لو وضع اللفظ لنفس الملحوظ العام يكون الموضوع له عامّاً أيضاً.

و أمّا إذا كان المفهوم الملحوظ عامّاً لكن لم يوضع اللفظ بازائه، بل بإزاء مصاديقه، فيكون الوضع عامّاً لكون الملحوظ عاماً، و الموضوع له خاصاً، لأنّ الوضع للأفراد و المصاديق، و هذا كأسماء الإشارة حيث إنّ الملحوظ طبيعة المفرد المذكر و الموضوع له مصاديق ذلك الملحوظ العام.

و أمّا إذا كان المفهوم الملحوظ خاصّاً لكن لم يوضع اللفظ بإزاء ذلك الخاص بل بإزاء الجامع بين ذلك الفرد و سائر الأفراد، يكون الوضع خاصّاً و الموضوع له عاماً.

إلى هنا وقفنا على واقع التقسيم الرباعي في مجال الوضع، فإذا كان الأوّل و الثاني ممكنين و واقعين فلا نبحث فيهما و إنّما نركز الكلام على الثالث و الرابع.

القسم الثالث: إمكاناً و وقوعاً

فنقول: المشهور بين الأُصوليين إمكان الثالث و وقوعه، و قد قرروا إمكانه بوجوه:

ص:47

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني في» الكفاية «، قال:

إنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده و مصاديقه بما هو كذلك، فانّه من وجوهها، و معرفة وجه الشيء معرفته بوجه، بخلاف الخاص فانّه بما هو خاص لا يكون وجهاً للعام و لا لسائر الأفراد، فلا تكون معرفته و تصوّره معرفة له و لا لها أصلاً و لو بوجه.(1)

و حاصل هذا الوجه: انّه لا يشترط في تصوّر الموضوع له تصوّره تفصيلاً، بل يكفي تصوّره إجمالاً، و يكفي في ذلك معرفة الأفراد بوجهها و هو العام.

يلاحظ عليه: أنّ معنى كون الشيء وجهاً، هو كونه مرآة له و حاكياً عنه، و الحكاية فرع الوضع، و المفروض أنّ الملحوظ العام كالحيوان الناطق لم يوضع إلاّ لنفس الحقيقة المعرّاة عن كلّ قيد و شرط، فكيف يمكن أن يحكي المعنى المطلق، عن القيود و الخصوصيات التي بها قوام الفرديّة؟! و الحاصل: انّ القدر المشترك بما هو قدر مشترك و الذي نعبّر عنه بالملحوظ لا يحكي إلاّ عن القدر الجامع عن الخصوصيات و فردية الفرد بالثانية دون الأُولى.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخوئي، حيث قرر إمكان القسم الثالث بما هذا خلاصته: الفرق بين القضية الخارجية و الحقيقية، هو انّ الحكم في الأُولى مقصور على الأفراد الموجودة في ظرف الحكاية، مثل قولك:

» قُتل من في العسكر «و» نهب ما في الدار «و أمّا الحقيقية فالحكم فيها مجعول على الأفراد المحقّقة، و المقدّرة في الأزمنة الآتية، مثل قولك: كلّ إنسان كاتب بالقوّة.

فكلّ إنسان موجود في ظرف الحكم و الموجود في الأزمنة الآتية المقدرة ظرفه، مشمول لهذا الحكم، و ليس هذا إلاّ لأجل أخذ الطبيعة في موضوع الحكم

ص:48


1- - كفاية الأُصول: 1/10.

على وجه سارية في أفرادها، و جارية في مصاديقها، فيشمل كلّ فرد محقّق في ظرفه، و ما قيل من أنّ العام لا يحكي عن المصاديق و الأفراد فإنّما يصحّ إذا كانت القضية طبيعية أو خارجية، و أمّا إذا كانت مأخوذة على نحو القضية الحقيقية التي تكون فيها الطبيعة متحدة مع المصاديق و سارية فيها، فانّها تحكي عن الجميع حسب سريانها.(1)

يلاحظ عليه: انّ معنى سريان الطبيعة في مصاديقها هو ثبوت الحكم عليها متى وجدت، و يكفي في ثبوت الحكم انطباق العنوان عليها، و يكفي في الانطباق كون الفرد بما هو إنسان مصداقاً للجامع بما هو هو، لا بما له من الخصوصيات و القيود. و أمّا حكايتها عن الافراد و الخصوصيات فلا، لأنّ مناط الحكاية هو دخول الخصوصيات في مفاد الملحوظ العام، و المفروض انّها حقيقة معرّاة، و تصور انّ الجامع متحد مع الخصوصيات و إن كان صحيحاً لكن الاتحاد ليس مناط الحكاية، و إنّما مناطها دخول الخصوصيات في المعنى الجامع و حكايتها عنها، و المفروض أنّ الملحوظ الجامع لم يوضع إلاّ لنفس الجامع.

الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي و حاصله:

إنّ العناوين العامة المنتزعة على أنواع:

1. العنوان المنتزع من الجامع الذاتي بين أفراده، المتحد وجوداً مع خصوصيات الأفراد و المعرّى عنها تصوراً و حقيقة كالحيوان و الإنسان.

2. العنوان المنتزع من الأفراد باعتبار اتّصافها بخصوصية خارجة عن ذاتها

ص:49


1- - حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه انّه سمع ذلك التقرير من السيد الخوئي في درسه الشريف عام 1370 ه. ق و أشار إلى ذلك التقرير في المحاضرات بصورة عابرة حيث قال: و هذا هو الوضع العام و الموضوع له الخاص و حاله كحال القضية الحقيقية ) المحاضرات: 1/53).

و ذاتياتها، سواء كان ما بحذائها شيء كالأبيض، أو لا كالممكن. و هذان القسمان لا يحكيان عن شيء من خصوصيات أفراده بل يحكيان عن الجامع الساري.

3. العنوان العام الذي يحكي إجمالاً عن الخصوصيات التي يكون بها التشخص خارجاً.

و الأوّل و الثاني يحكيان عن الجامع الموجود في الفرد، دون الخصوصيات، و الثالث يحكي عن نفس الخصوصيات التي بها يكون التشخص خارجاً، مثل مفهوم» الشخص «و» الفرد «و» المصداق «فهذه عناوين كلية منتزعة من الأفراد و الخصوصيات الخارجية. و نظيرها لفظ» كل «و» بعض «و الموصولات مثل» من « و» ما «. و عندئذ يصحّ أن يوضع لفظ» الإنسان «، لكلّ من ينطبق عليه لفظ الإنسان فانّ لفظ الكلّ، حاك عن الأفراد إجمالاً، أو يقال لفظ» هذا «موضوع لكلّ مفرد مذكر.(1)

و هذا التقرير لا غبار عليه، و على ذلك يمكن أن يمثل له بأسماء الإشارة، فلفظ» هذا «وضع لكلّ مفرد مذكر، فقولنا: مفرد مذكر إشارة إلى الجامع، و إذا أضيف إليه لفظة كلّ يشير إلى المصاديق، و هذا المقدار من الحكاية يكفي لكون الموضوع له خاصاً.

إلى هنا تمّ بيان القسم الثالث، و إليك بيان القسم الرابع:

القسم الرابع: إمكاناً و وقوعاً
اشارة

ذهب المحقّق الخراساني إلى امتناع القسم الرابع و استدلّ عليه بقوله:

إنّ الخاص لا يكون مرآة للعام، لأنّه إذا لوحظت الخصوصية فيه حين

ص:50


1- - لاحظ بدائع الأفكار: 391/38.

الوضع يكون الموضوع له كالوضع خاصاً، و إن جرّد عن الخصوصية يكون الوضع عامّاً و يرجع إلى القسم الثالث.(1)

و حاصل كلامه: انّ الخاص لتقيده بقيود و خصوصيات لا يحكي إلاّ عن الموجود المشخص، فكيف يمكن أن يكون مرآة للمعنى المتعرّي عن الخصوصيات؟! و لو جرّد الملحوظ عن الخصوصية يصبح حينئذ كليّاً و يصير من قبيل القسم الثالث، لأنّ الملحوظ يكون عاماً و إن كان الموضوع له خاصاً، هذا.

لكن لفيفاً من المحقّقين حاولوا تصحيح هذا القسم بالأمثلة التالية:

أ: إذا لاحظ الواضع فرداً خارجياً من نوع كزيد، و هو يعلم أنّ بينه و بين سائر الأفراد جامعاً كليّاً، فيضع اللفظ للجامع بينه و بين سائر الأفراد، فالملحوظ خاص أعني زيداً، لكن الموضوع له الجامع بين هذا الفرد و سائر الأفراد.

ب: ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري: إذا تصور شخصاً جزئياً خارجيّاً من دون أن يعلم تفصيلاً بالقدر المشترك بينه و بين سائر الأفراد، و لكنّه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه و بين باقي الأفراد مثله، كما إذا رأى جسماً من بعيد و لم يعلم أنّه حيوان أو جماد، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع) أي على الجامع بينه و بين غيره (فالموضوع له لوحظ إجمالاً و بالوجه، و ليس الوجه عند هذا الشخص إلاّ الجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقلاً عنده إلاّ بعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص.(2)

ج: الكمّ المعروف بالمتر الذي هو وحدة قياس الطول و مقداره 100 سانتيمتر، فالمخترع وضع لفظ المتر على الوحدة القياسية التي اخترعها و على كلّ

ص:51


1- - كفاية الأُصول: 1/10.
2- - درر الفوائد: 1/5.

وحدة تشابهها، فالوضع خاص، لأنّ الموضوع هو الكمية المعيّنة، و لكن الموضوع له هو الجامع بينه و بين غيره.(1)

فالمحقّقون حاولوا تصحيح هذا القسم كما صححوا أيضاً القسم السابق.

نظرية السيد الأُستاذ

إنّ سيدنا الأُستاذ حاول حسم النزاع بالبيان التالي:

و حاصله: القول بالتفصيل بين كون الملحوظ الخاص حاكياً عن العام، و بين كونه سبباً للانتقال إلى العام.

فعلى الأوّل يمتنع هذا القسم، لأنّ الملحوظ بما هو خاص لا يحكي عن العام، ضرورة تقيّده بخصوصيات تعيقه عن حكاية العام.

و أمّا على الثاني فلا مانع من إمكان القسم الرابع، لأنّ الخاص ربّما يكون سبباً للانتقال إلى العام، و الانتقال خفيف المئونة لا يتوقف على أن يكون اللفظ حاكياً عن المنتقل إليه حتى يقال انّ الحكاية فرع الوضع، بل ربّما يكون الضدّ سبباً للانتقال إلى الضدّ، فكلّما يسمع الإنسان اسم موسى الكليم ينتقل إلى طاغوت عصره فرعون، و هكذا.(2)

نعم ذكر سيدنا الأُستاذ نفس هذا التفصيل في القسم الثالث، و انّ العام لا يحكي عن الخصوصيات و لكن يوجب الانتقال إليها، فلو كان الوضع متوقفاً على الحكاية فهذا القسم مثل القسم الرابع في الامتناع و لو كان الانتقال كافياً في الوضع فكلاهما سيان.

ص:52


1- - حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظله انّه سمعه من والده عند تدريسه المنطق لجمع من الفضلاء.
2- - تهذيب الأُصول: 1/8، بتلخيص.

و لكنّك عرفت أنّ الانتقال من العام إلى الخاص يمكن أن يتمّ عن طريق ضميمة لفظ» كلّ «إلى الملحوظ حتى يكون مشيراً و حاكياً عن الخصوصيات، بأن يضع لفظة هذا لكلّ مفرد مذكر، فالوضع عام، لأنّ الملحوظ عام و هو المفرد المذكر، و الموضوع له خاص و هو ما أُشير إليه بقولنا كل.

الجهة الخامسة: في المعاني الحرفية
اشارة

يقع البحث في الحروف في موضعين:

1. ما هي معانيها و مضامينها.

2. ما هي كيفية وضعها.

و النظر في كيفية الوضع و أنّه خاص أو عام يتبع اتخاذ النظر في الموضع الأوّل، و البحثان مختلطان في كلام القوم.

و نحن نركز البحث على الموضع الأوّل و نبحث عن الموضع الثاني في الجهة السادسة.

التعريف المعروف لكلّ من الاسم و الحرف، و هو ما ذكره ابن الحاجب (570 640 ه (صاحب الكافية حيث قال:

» الاسم ما دلّ على معنى في نفسه، و الحرف ما دلّ على معنى في غيره، و المراد من الموصول هو الكلمة، و الضمير في كلّ من» نفسه «و» غيره «يرجع إلى المعنى. و أنّه في حدّ ذاته على قسمين، قسم يكون مفهوماً محصلاً في نفسه، لا يحتاج في تحصيله في الذهن إلى معنى آخر، و قسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن يتبع غيره «.(1)

ص:53


1- - شرح الكافية: 5، في معنى الحرف.

ثمّ إنّه ظهرت بعد ابن الحاجب آراء في معنى الحروف و هي بين الإفراط و التفريط، و إليك دراسة هذه الآراء:

1. نظرية المحقّق الرضي) المتوفّى 668 ه (

إنّ الشيخ الرضي اختار في تفسير التعريف المذكور بأنّ الضمير في كلّ من نفسه و غيره يرجع إلى الموصول الذي أُريدت منه الكلمة، و انتهى إلى أنّ معنى الاسم) الابتداء (مضمون نفسه، و لكن معنى الحرف ) من (مضمون لفظ آخر، يضاف ذلك المعنى) مضمون من (إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، و إليك نصّه.

قال الرضي: انّ معنى» من «الابتداء، فمعنى» من «و معنى لفظة» الابتداء «سواء، إلاّ أنّ الفرق بينهما انّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الذي في نفسه مطابقة، و معنى» من « مضمون لفظ آخر يضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، فلهذا جاز الاخبار عن لفظ الابتداء في قولك» الابتداء خير من الانتهاء «و لم يجز الاخبار عن لفظ» من «لأنّ الابتداء الذي هو مدلولها، في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه، بل في لفظ غيره، و إنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الذي في نفسه مطابقة، فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شيء ليدل على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما، فإذا أفرد من ذلك الشيء بقي غير دال على معنى في شيء أصلاً، فظهر بهذا انّ المعنى الافرادي للاسم و الفعل في أنفسهما و للحرف في غيره.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: وجود التناقض بين الصدر و الذيل، فانّ صدر كلامه يوحي إلى أنّ لفظة» من « موضوعة لنفس ما وصفت له كلمة الابتداء، حيث يقول:

ص:54


1- - شرح الرضي لمقدمة ابن الحاجب (الكافية): 4.

فمعنى» من «و معنى» لفظة الابتداء «سواء. فينطبق على نظرية المحقّق الخراساني الآتية.

لكن الذيل يشير إلى نظرية غير معروفة، هي انّ وزان الحروف وزان الأعاريب في أواخر الكلم، فكما أنّ التنوين يشير إلى كون اللفظ فاعلاً، و مفعولاً من دون أن يكون له معنى خاص فهكذا الحروف.

و ثانياً: أنّ الميزان في كون اللفظ ذا معنى أو غيره إنّما هو التبادر، و لا شكّ انّه يتبادر من الحروف معاني خاصة مندكة في معاني متعلقاتها لا انّها خالية من المعنى.

و الفرق بين الحروف و الاعراب واضح فانّ الحروف ممّا ينطق بها مستقلاً فيليق أن يكون لها وضع خاص دون الاعراب.

2. نظرية المحقّق الخراساني

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المعاني الحرفية و الاسمية متحدة جوهراً فلا فرق بينهما، و انّ الاستقلال و الآلية خارجان عن حريم المعنى و حقيقته و إنّما يعرضان عند الاستعمال. فيكون الوضع عاماً و الموضوع له عاماً.(1)

و إنّما ذهب إلى هذا القول تخلصاً من المضاعفات الموجودة في القول بأنّها موضوعة للمعاني الآلية من الابتداء و الانتهاء، لأنّ أخذ الآلية جزء للمعنى يوجب كون الموضوع له خاصاً؟ و عندئذ يعود السؤال بأنّه ما هو المراد من كونه خاصاً؟ فإن أُريد منه الجزئي الخارجي، فربما يكون المستعمل فيه عاماً كما إذا قال:

سر من البصرة إلى الكوفة، و إن أُريد منه الجزء الذهني بحيث يكون لحاظ الآلية قيداً له فيترتب عليه عدّة أُمور:

ص:55


1- - كفاية الأُصول: 1/15.

1. لزوم تعدد اللحاظين عند الاستعمال، لاستلزامه لحاظ المعنى، مضافاً إلى اللحاظ الموجود فيه عن طريق الوضع.

2. عدم انطباقه على الخارج لكون جزء الموضوع أمراً ذهنياً.

3. لزوم كون لحاظ الاستقلالية جزءاً للمعاني الاسمية فيُصبح المعنى الاسمي خاصاً، و هو خلاف ما اتّفقوا عليه.

و حاصل تلك النظرية انّ الأسماء و الحروف موضوعة لمعنى واحد معرّى عن كلّ قيد، أعني:

الاستقلالية و الآلية، لكنّ تعرضهما تلك الخصوصية عند الاستعمال فليستا جزء الموضوع و لا جزء المستعمل فيه، بل من طوارئ الاستعمال و عوارضه.

و الفرق بين تلك النظرية و ما هو المشهور واضح جدّاً، إذ المعنى على مبنى المحقّق الخراساني خال عن كلا القيدين: لحاظ الاستقلال و لحاظ الآلية، و كلاهما يعرضان على المعنى في درجة متأخرة عن الوضع، و هذا بخلاف ما عليه المشهور من أنّ الاستقلال من صميم المعنى الاسمي و جوهره، كما أنّ الآلية و التدلّي و القيام بالغير مقوم للمعنى الحرفي بحيث لو حذفت التبعية لما يبقى للمعنى الحرفي أثر.

هذا مذهبه فهلم معي لتحليله و نقده.

يلاحظ عليه: أوّلاً: انّ لتبيين معاني الألفاظ و تشخيص الموضوع له عن غيره طرقاً مألوفة عند العقلاء و الاخصائيين في ذلك العلم و ما سلكه) قدس سره (من إقامة البراهين العقلية في ذلك الموضوع نهج غير مألوف و لا مفيد، فإنّ لكلّ علم مبادئ و مقدمات خاصة يجب التطرق من تلك المبادئ إلى النتائج، فإثبات اللغة بالبرهان الفلسفي أشبه باصطياد المعاني الفلسفية و اقتناصها من الاعتبارات العرفية، و ممن نبّه على هذه النكتة أساتذتي الكرام لا سيما السيّد الأُستاذ و العلاّمة الطباطبائي قدّس سرّهما.

ص:56

و ثانياً: إذا كانت المعاني في الخارج، مستقلة و غير مستقلة، قائمة بنفسها و متدلّية بغيرها. فلما ذا يترك الواضع هذين المعنيين و لم يُعْرِ لهما أهمية فانّ تعلّق الغرض ببيان هذين المعنيين بنفس خصوصياتهما أكثر من تعلّق غرضه بالجامع بينهما.

و ثالثاً: إذا فرضنا انّ الخصوصيتين أعني: الاستقلالية و الآلية غير داخلتين في الموضوع له و إنّما تعرضان للمعنى عند الاستعمال فما هو الدليل المفهم لتلك الخصوصية فانّ المفروض انّ الدالّ هو اللفظ، و اللفظ دالّ على المعنى الجامع، فكيف تفهم الخصوصية عند الاستعمال مع أنّها غير داخلة لا في الموضوع له و لا في المستعمل فيه؟! و رابعاً: انّ لازم ما ذكره جواز استعمال كلّ من الاسم و الحرف مكان الآخر، مع أنّه غير جائز، و ما ذكره من أنّ هذا النوع من الاستعمال على خلاف شرط الواضع، غير تام، لعدم لزوم اتّباع شرطه، حتى و إن شرطه في ضمن الوضع.

و خامساً: ما ذا يريد من خروج الاستقلالية و التبعية من صميم المعنى الاسمي و الحرفي؟ فإن كان يريد خروجهما عن مفهومهما واقعاً، فهذا نفس القول بارتفاع النقيضين، فانّ المعنى في حدّ الذات إمّا مستقل أو غير مستقل.

و إن أراد خروج لحاظ الاستقلالية و الآلية لا نفسهما عن صميم المعنى كما هو ظاهر كلامه، فيرد عليه انّ مقوم المعنى الحرفي ليس لحاظ الآلية حتى يلزم من خروجه عن صميم المعنى، وحدة المعاني الحرفية و الاسمية، بل المعيار في كون المعنى حرفياً هو كون جوهره و حقيقته قائماً بالغير متدلّياً به في مقابل خلافه.

و لو كان الملاك للمعنى الاسمي و الحرفي هو لحاظ الاستقلال في الأوّل و لحاظه الآلية في الثاني كان لما ذكره وجه حيث يصحّ ردّه بالبراهين الثلاثة على

ص:57

خروجها، فنخرج بالنتيجة التالية: وحدة المعاني الاسمية و الحرفية حقيقة و اختلافاً عند الاستعمال.

و أمّا إذا كان ملاك التمييز بينهما هو جوهر معانيهما على نحو يكون أحدهما مستقلاً بالذات، و إن لم يلاحظ الاستقلال، و يكون ثانيهما متدلّياً بالذات و قائماً بالغير، و إن لم يلاحظ التدلّي و القيام بالغير، لم يكن لما ذكر وجه، و لأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ التفاوت بين المعنيين لا يمتّ إلى اللحاظ بصلة، بل يمتّ إلى جوهرهما و واقعهما، و إليك شرح هذه النظرية.

النظرية الثالثة: تمايزهما بنفس الذات
اشارة

هذه النظرية هي النظرية المعروفة من عصر ابن الحاجب إلى يومنا هذا، فقد تقدّم تعريف المعنى الاسمي و الحرفي عنه. و شرحه الشريف الجرجاني في تعليقته على شرح الكافية للشيخ الرضي، و نقله عبد الرحمن الجامي في شرحه على الكافية تارة باسم الحاصل و أُخرى باسم المحصول.

و أوّل من شرحه بأمانة و دقة صدر الدين الشيرازي، و تبعه شيخنا المحقّق الاصفهاني في تعليقته على الكفاية، و السيد الطباطبائي في تعليقته عليها، و السيد الإمام الخميني في محاضراته قدّس اللّه أسرارهم، و نحن نذكر النظرية بأوضح العبارات و أبينها.

إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أ كان بالوضع التعييني أو التعيّني هو رفع الحاجة و إظهار ما يقوم بالنفس من المفاهيم و المعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرف الحواس و غيرها من أدوات المعرفة.

هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الوجود في النشأة الخارجية على أقسام ثلاثة:

ص:58

1. ما هو مستقل ذاتاً و ماهية كما هو مستقل خارجاً و وجوداً.

و بعبارة أُخرى: مستقل في كلتا النشأتين: الذهنية و الخارجية، فله استقلال في صحيفة الذهن كما له استقلال في صحيفة الوجود، كالجواهر بأقسامها، و هذا ما يعبّر عنه الفلاسفة بقولهم:» في نفسه لنفسه «فكلمة » في نفسه «إشارة إلى استقلاله في مفهومه و ذاته، كما أنّ لفظة» لنفسه «إشارة إلى استقلاله في الوجود من دون أن يكون قائماً بالغير ناعتاً له.

2. ما هو مستقل ذاتاً و ماهية، لكن غير مستقل خارجاً و وجوداً، بل إذا وجد في الخارج وجد في موضوع، ناعتاً لغيره واصفاً له.

و بعبارة أُخرى: مستقل في صحيفة الذهن دون صحيفة الخارج، و ذلك كالأعراض بأقسامها التسعة، فالبياض له مفهوم مستقل يُعرف: انّه لون مفرّق لنور البصر. لكنّه إذا وجد في الخارج بحاجة إلى موضوع يقوم به. و مثله سائر الأعراض و يعبّر عنه:» في نفسه مفهوماً لغيره وجوداً «.

3. ما هو غير مستقل في كلتا النشأتين لا في الذهن و لا في الخارج و ليس له مفهوم تام كما ليس له وجود مستقل، فهو في عالم التصوّر اندكاكيّ المعنى، و في عالم التحقّق اندكاكيّ الوجود، فمفهومه فان في مفهوم آخر كما أنّ وجوده كذلك.

و هذا كالمعاني الحرفية حيث لا تتصور إلاّ تبعاً للمعاني المستقلة و في ظلها، كما لا تتحقق إلاّ مندكة في الغير و فانية فيه، و يعبّر عنه في مصطلحهم بقولهم:» ما وجوده في غيره لغيره «.

فالقسم الأوّل هو الوجود النفسي، و الثاني هو الوجود الرابطي و يعبّر عنه بالاعراض أيضاً، و الثالث هو الوجود الرابط، كما يقول الحكيم السبزواري:

انّ الوجود رابط و رابطي ثمة نفسي فهناك و اضبطي

ص:59

و إن أردت التوضيح فاستوضح الأمر في المثال التالي:

تقول زيد في الدار، فهاهنا أمران مستقلان مفهوماً و مصداقاً و هو» زيد «و» دار «و هناك مفهوم ثالث و هو» كون زيد في الدار «فهو مفهوم لا يتصوّر إلاّ مضافاً إلى زيد و دار كما لا يتحقق إلاّ بهما. و الاندكاكية و اللااستقلالية في صميم ذاته و جوهر حقيقته على نحو لو انسلخ المعنى عن هذا الوصف، لعدم المعنى و انقلب المعنى الحرفي معنى اسمياً، و بذلك أصبح المعنى الحرفي أخسَّ المعاني تصوراً و وجوداً.

و قس عليه سائر الأمثلة الرائجة كقولك: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهاهنا مفهومان مستقلان ماهية و ذاتاً، أحدهما السير، و الآخر البصرة، و هناك مفهوم ثالث و هو كون ابتداء السير من البصرة هو غير مستقل مفهوماً إلاّ إذا أُضيف إلى سائر المعاني كالسير و البصرة، كما هو غير مستقل وجوداً فلا يتحقّق الابتداء بهذا المعنى إلاّ قائماً بالسير من البصرة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

و بذلك يعلم انّ الفرق بين المعاني الاسمية و الحرفية جوهري، ينبع الفرق من جوهر معانيهما و صميم ذاتهما سواء أ كان هناك ملاحظ أم لا.

و بعبارة أُخرى: الاستقلالية و الآلية من صميم ذاتهما على نحو لو سلختا عن هذين المعنيين لانعدما.

قال الشريف الجرجاني: كما أنّ في الخارج موجوداً قائماً بذاته، و موجوداً قائماً بغيره، كذلك في الذهن معقول هو مدرك قصداً ملحوظ في ذاته، يصلح أن يحكم عليه و به، و معقول هو مدرك تبعاً و آلة، كملاحظة غيره، فلا يصلح لشيء منهما، فالابتداء مثلاً إذا لاحظه العقل قصداً و بالذات كان معنى مستقلاً بالمفهومية، ملحوظاً في ذاته، و هو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء فقط، و لا حاجة في الدلالة

ص:60

عليه إلى ضمّ كلمة أُخرى إليه لتدل على متعلّقه، و هذا هو المراد بقولهم إنّ للاسم و الفعل معنى كائناً في نفس الكلمة الدالة عليه، و إذا لاحظه العقل من حيث هو حالة بين السير و البصرة مثلاً و جعله آلة لتعرف حالهما كان معنى غير مستقل بالمفهومية و لا يصلح أن يكون محكوماً عليه و به و لا يمكن أن يتعقّل إلاّ بذكر متعلّقه بخصوصه و لا أن يدلّ عليه إلاّ بضم كلمة دالّة على متعلّقه.(1)

ثمّ إنّه أفاض القول في ذلك، فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

و بذلك يعلم ضعف كلام المحقّق الخراساني حيث جعل المعاني الاسمية و الحرفية واحداً بالذات تصوراً و ذاتاً لكن الاستقلالية و الآلية تعرضان على المعنى الوارد عند الاستعمال، فجعل ما هو جزء الذات أو صميمها أمراً عرضياً للمعنى.

أسئلة و أجوبة

فإن قلت: قد عدّ العرض في البيان السابق من القسم الثاني و هو ما يكون مستقلاً مفهوماً، و غير مستقل وجوداً، مع أنّ هذا التعريف للأعراض لا يصدق إلاّ على الكم و الكيف و لا يصدق على الأعراض النسبية كالأين و متى، فانّ الأوّل عبارة عن كون الشيء في المكان، كما أنّ الثاني عبارة عن كون الشيء في الزمان، و ما هذا معناه فهو من المعاني الحرفية القائمة بالغير مفهوماً و وجوداً لا وجوداً فقط.

قلت: إنّ تفسير المقولتين بما ذكر تفسير خاطئ، بل الأين عبارة عن الهيئة الحاصلة للشيء من كونه في المكان أو من كونه في الزمان، و الهيئة الحاصلة معنى اسمي مستقل مفهوماً، و إن كان غير مستقل وجوداً، و هذا نظير الجِدَة فانّ الجدة ليست إلاّ الهيئة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالهيئة الحاصلة للإنسان بالتعمم

ص:61


1- - شرح الكافية المشهور بشرح الجامي: 15.

و التقمّص.

فإن قلت: إنّ ما ذكر من التعريف للمعنى الحرفي لا ينطبق على بعض الحروف كالكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ )(1). فانّ معناه» ليس مثلَ مثله شيء «و نظيره» واو «الاستئناف و» تاء «التأنيث في » ضربت «، و لفظة» قد «في الفعل الماضي.

قلت: إنّ الكاف في الآية ليس حرفاً بل اسم بمعنى» مثل «و لذلك تقسم الكافُ إلى حرف و اسم، و أمّا الباقي فالأولى المعاملة معها معاملة العلائم كالتنوين في الفاعل، و النصب في المفعول، و لا مانع من كون بعض العلائم مشيرة إلى المعنى الاسمي.

فإن قلت: إنّ المحقّق صاحب الحاشية) المتوفّى 1248 ه (قسّم معاني الحروف إلى قسمين: إخطارية و إيجادية، و المراد من الأُولى ما يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج مثل قولك:» سرت من البصرة إلى الكوفة «، كما أنّ المراد من الثانية ما لا يكون حاكياً عن معنى متحقّق في الخارج بل المعنى يوجد بنفس الاستعمال، مثل قولك: يا زيد أو» إياك «فالجميع ينشئُ معنى النداء و الخطاب، فالقسم الأوّل أشبه بالجمل الخبرية و القسم الثاني أشبه بالجمل الإنشائية، فهل يخالف ذلك المعنى، المختار؟ قلت: إنّ تقسيم معاني الحروف إلى إخطارية و إيجادية تقسيم بديع، و لكن الإخبار و الإيجاد يتحقّقان بما للحروف من المعنى، فلا بدّ من التركيز على المعنى الحرفي أوّلاً و قد أهمله صاحب الحاشية ثمّ تقسيم ذلك المعنى إلى إخطاري

ص:62


1- - الشورى: 11.

و إيجادي فقد تكلّم هو عن خصوصيات المعنى الحرفي و أقسامه دون حقيقته و واقعه.

و بذلك يعلم انّ نظرية المحقّق النائيني أيضاً لا تخالف مختارنا حيث قال: إنّ شأن أدوات النسبة ليست إلاّ إيجاد الربط بين جزئي الكلام، فانّ الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية و الذات، فلفظ» زيد «بما له من المعنى مباين للفظ» قائم «بما له من المعنى، و كذا لفظ» السير «مباين للفظ» الكوفة «و» البصرة «بما لهما من المعنى، لكن أدوات النسبة إنّما وضعت لإيجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم على وجه يفيد فائدة تامة يصحّ السكوت عليها، فكلمة» من «و» إلى «إنّما جيء بهما لإيجاد الربط و إحداث العلقة بين » السير «و» البصرة «و» الكوفة «الواقعة في الكلام بحيث لو لا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط و علقة أصلاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من شأن الحروف أمر لا سترة عليه لكن الربط يحصل بواقع المعنى الحرفي فكان عليه أن يحدد المعنى الحرفي ثمّ يتكلّم في أوصافه و قُدُراته.

و بذلك يظهر انّ نظرية المحقّق الخوئي في الحروف أيضاً لا تخالف ما ذكرنا حيث قال: إنّ الحروف وضعت لتضييق المعاني الاسمية و تقييدها بقيود خارجة عن حقائقها، و مع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية، بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوم، ثمّ مثّل بمثال و قال: الصلاة في المسجد حكمها كذا، فانّ الصلاة لها إطلاق إلى الخصوصيات المسنونة و المصنفة و المشخصة، فغرض المتكلّم قد يتعلّق ببيان المفهوم على إطلاقه وسعته و يقول: الصلاة خير موضوع، و قد يتعلّق بإفادة حصة خاصة منه و يقول: الصلاة في المسجد حكمها كذا، حتى تدلّ على

ص:63


1- - فوائد الأُصول: 1/42; أجود التقريرات: 1/18.

انّ المراد ليس الطبيعة السارية إلى كلّ فرد بل خصوص حصة منها.(1)

يلاحظ عليه: لو سلمنا انّ دور الحروف دور التضييق فهو يحصل بما للحرف من المعنى فلا بدّ أن نتعرف على ذات المعنى ثمّ على وصفه من الضيق.

على أنّ فيما ذكره من وضع المعاني الحرفية للضيق إشكالاً واضحاً ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة.(2) و بذلك علم أنّ النظريات الثلاث ليست مخالفة للمختار و إنّما ركّز أصحابها على صفات المعاني الحرفية دون ذاتها و واقعها، فهذه النظريات الأربع ترجع إلى أمر واحد.

الجهة السادسة: في بيان كيفية وضع الحروف
اشارة

قد تقدّم البحث في حقيقة المعنى الحرفي و حان البحث عن كيفية وضعها، فهناك نظريات:

أ: الوضع عام كما أنّ الموضوع له كذلك، و هو خيرة المحقّق الخراساني.

ب: الوضع عام لكن الموضوع له خاص، و هو المختار.

أمّا الأُولى: فهي خيرة المحقّق الخراساني، و حاصلها: انّه لا فرق بين المعنى الاسمي و الحرفي جوهراً و ذاتاً و انّهما وضعا لمعنى واحد غير انّ الاختلاف بالاستقلال و الآلية يعرضان على المعنى عند الاستعمال.

فالواضع نظر إلى مفهوم ك» آغاز «باللغة الفارسية و وضع له لفظ الابتداء و لفظة» من «لكن اشترط على المستعملين باستعمال الأوّل في الابتداء المستقل و الثاني في الابتداء غير المستقل، فهما يعرضان على المعنى عند الاستعمال، فالملحوظ» آغاز «بما انّه عام فالوضع عام و بما انّه الموضوع له فكذلك.

ص:64


1- - أجود التقريرات: 1/18.
2- - لاحظ المحصول لزميلنا الجلاليّ.

و لكنّك عرفت عدم اتقان المبنى و انّ معاني الحروف تتمايز عن الأسماء بجوهرهما لا باللحاظ.

و أمّا الثانية: فهي خيرة السيّد الأُستاذ) قدس سره (، و توضيحها يحتاج إلى مقدّمة، و هي انّه لا جامع مقولي للمعاني الحرفية، و ذلك لأنّ الجامع المقولي عبارة عن المفهوم العام المنتزع من الأفراد باعتبار اشتراكهما في حقيقة واحدة، و ما هو كذلك يكون له مفهوم مستقل يلاحظه الذهن مرة بعد مرة، و مثل ذلك لا يكون جامعاً مقولياً للحروف، لأنّ واقع الحروف هو القيام بالغير و الاندكاك فيه، فلو انسلخت هذه الخصوصية عنه لانقلب المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي.

و بذلك يعلم أنّه لا يمكن أن يكون هناك جامع مقولي للحروف، لأنّه بما هو جامع مقولي يلازمه الاستقلال، و بما هو جامع مقولي للحروف يلازمه الاندكاك و التبعية، و هما لا يجتمعان في مفهوم واحد في زمان واحد.

و بعبارة أُخرى: لا جامع مقولي بين المعاني الحرفية، إذ لو كان الجامع من سنخ المعنى الحرفي لوجب أن يكون متدلّياً بالذات و هو بهذا الوصف يمتنع أن يكون مقولة، لأنّ المقولة تحمل على مصاديقها، و الحمل يستلزم الاستقلال في التصور، و هو لا يجتمع مع كونه معنى حرفياً غير مستقل في المفهوم.

و إن شئت قلت: إنّه لو كان الجامع من سنخ المعاني الاسمية، فهو لا يكون جامعاً للمعاني الحرفية.

فإن قلت: إذا لم يكن هناك جامع ذاتي للمعاني الحرفية، فكيف توضع الحروف لمصاديق المعنى الكلي حتى يكون الموضوع له عاماً؟ قلت: لا محيص للواضع من التمحل بأن يتوصل عند الوضع بمفاهيم اسمية لا تكون جامعاً ذاتياً لها، كما لا تكون ربطاً حقيقياً و تدلياً واقعيا، كمفاهيم

ص:65

الظرفية و الابتداء الآلي و غيرهما. فيضع الحروف لما هو مصداق لها بالحمل الشائع، و يشير بهذه العناوين إلى المصاديق، و بهذه المفاهيم إلى الأفراد.

و بذلك يعلم أنّ الموضوع له خاص، لأنّه وضع لما هو المصداق للابتداء أو الانتهاء، و المصداق يلازم الجزئية.

فإن قلت: قد استدلّ المحقّق الخراساني على كون معاني الحروف كلية بقوله: إنّ المستعمل فيه كثيراً ما يكون كلياً كما إذا وقع تحت الأمر كقوله:» سر من البصرة إلى الكوفة «بشهادة انّه إذا بدأ بسيره من أي نقطة من نقاط البصرة يكون ممتثلاً و لو كان المستعمل فيه جزئياً لما صحّ الامتثال إلاّ من نقطة واحدة.

يلاحظ عليه: أنّا لا نجد فرقاً بين هذا المثال المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الكلي، و بين قولنا:

» سرت من البصرة إلى الكوفة «المدّعى استعمال الحرف فيه في المعنى الجزئي، و الظاهر انّ المتكلّم لاحظ البصرة أمراً واحداً شخصياً و استعمل الحرف في ذلك الواحد الشخصي، و إنّما التكثر جاء من جانب العقل، حيث إنّ العقل بعد ما لاحظ انّ البصرة واحد ذو أجزاء، يصلح أن يبتدأ بالسير من كلّ جزء، حكم بأنّ الامتثال يحصل من أي جزء تحقق، و كم فرق بين أن يكون المستعمل فيه أمراً كلياً من أوّل الأمر، و بين أن يكون واحداً حقيقياً منحلا إلى كثير بحكم العقل، نظير انحلال الحكم الواحد إلى الكثير كما لا يخفى.

ثمرة البحث

و قد ذكرت ثمرات للبحث عن كيفية الوضع و الموضوع له نشير إلى بعضها:

أ: لو كان الموضوع له فيها خاصاً لا يتصور تقييده، و ذلك لأنّ التقييد فرع الإطلاق و هو فرع السعة، و الخاص فاقد لها فلا يمكن تقييده، و على ذلك رتبوا انّ

ص:66

القيد في الواجب المشروط لا يرجع إلى الهيئة، لأنّ مدلول الهيئة معنى حرفي، و المعنى الحرفي بما انّ الموضوع له فيه خاص لا يقبل التقييد فلا مناص من إرجاعه إلى المادة، نظير قولك:» أكرم زيداً إن سلّم «فقوله:» أكرم «مركب من هيئة و مادة، فلو كان الموضوع له للهيئة هو الوجوب الشخصي فهو لا يقبل التقييد فلا يمكن القول بأنّ الوجوب مشروط بالتسليم، بل يجب القول بأنّ التسليم قيد للمادة، و معنى الجملة هو ان سلم زيد أكرمه إكراماً مقيداً بكونه بعد التسليم.

يلاحظ عليه: بما ذكرناه في محلّه من أنّ الجزئي غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل له من حيث الأحوال، فزيد بما انّه جزئي لا يقبل التقييد الافرادي، و لكن يقبل التقييد الأحوالي، لأنّ له أحوالاً كثيرة ككونه قائماً قاعداً، متعمماً، و غير متعمّم، فيمكن أن يقيّد بحال من الأحوال، و لذلك لو شككنا انّ الموضوع للوجوب هو زيد أو هو مع قيد التعمم يحكم بالإطلاق على الأوّل. و على هذا، الوجوب أو إنشاء البعث و إن كان أمراً شخصياً لكن له أحوالاً مختلفة، فالوجوب المقيّد بتسليم زيد غير الوجوب المقيّد بعدم تسليمه فيصحّ تقييده بالتسليم.

ب: إنكار المفهوم للقضايا الشرطية، فانّ القول بالمفهوم على أساس انّ المنفي سنخ الحكم لا شخصه، و إلاّ فانّ الشخص يرتفع بارتفاع قيده و هو لا يجتمع مع كون مفاد الهيئة أمراً جزئياً بخلاف ما إذا قلنا بأنّ مفادها أمر كلي فمع ارتفاع شخص الحكم، يقع الكلام في ارتفاع سنخه و عدمه.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرنا في الثمرة الأُولى فانّ الموجود الشخصي و إن لم يكن قابلاً للتقييد من حيث الافراد، لكنّه قابل له من حيث الأحوال، فانّ وجوب الإكرام المقيّد بتسليم زيد غير وجوب الإكرام في حالة أُخرى، فللوجوب وجود

ص:67

سعي حسب الحالات.

و على ضوء هذا فللحكم الشخصي الجزئي حالتان:

1. ملاحظته مع التسليم فلا شكّ انّه في هذا اللحاظ مرتفع بعدم التسليم على كلا القولين.

2. ملاحظته مع عدم التسليم فالمثبت للمفهوم يقول بارتفاعه أيضاً دون المنكر.

فالقول بالمفهوم و إنكاره لا يبتني على كون مفاد الهيئة كليّاً بل يجري على القول بجزئية معناها.

و بذلك ظهر انّ المسألة فاقدة الثمرة.

الجهة السابعة: في وضع أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات
اشارة

و في المسألة آراء نشير إليها:

1. نظرية المحقّق الخراساني

لقد اختار المحقّق الخراساني فيها ما اختاره في الحروف من أنّ الوضع عام و الموضوع له و المستعمل فيه كذلك، و انّ أسماء الإشارة مثل» هذا «و الضمائر الغائبة و الحاضرة كلّها وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلي، إمّا ليشار بها إلى معانيها كأسماء الإشارة و الضمائر الغائبة، أو يخاطب بها كما في الضمائر الخطابية، و لما كانت الإشارة و التخاطب يستدعيان التشخص، لأنّ الإشارة و التخاطب لا يكاد يكون إلاّ إلى الشخص أو معه، فتعرض الخصوصية من ناحية الاستعمال كما لا يخفى.(1)

ص:68


1- - كفاية الأُصول: 1/16.

فعلى ما ذكره يكون الموضوع له هو ذات المفرد المذكر و نفس المشار إليه مع قطع النظر عن كونه بوصف المشار إليه، لكن النظرية يحيطها شيء من الغموض لأنّه يقول:» وضعت لنفس المفرد المذكر على النحو الكلّي ليشار بها إلى معانيها «.

فما ذا يريد من الإشارة؟ فإن أراد الإشارة بنفس اللفظ، فهو غير معقول، لأنّه إذا كان موضوعاً لنفس المفرد المذكر فاستعماله فيه لا يستلزم إلاّ إحضار نفس المعنى لا أمراً زائداً عليه.

و إمّا أن يراد الإشارة الحسية بالاصبع و غيره، فمع أنّه يستلزم عدم صحّة استعماله إلاّ مع الإشارة يلزم عدم صحّة الضمائر الخطابية، فانّ الخطاب لا يتحقّق إلاّ بنفس اللفظ لا بأمر آخر حيث نقول:» خرجت أنت «.

2. النظرية الثانية: نظرية المحقّق البروجردي

و هذه النظرية على طرف النقيض من النظرية السابقة، لأنّها تعتمد على أنّ أسماء الإشارة وضعت لنفس الإشارة من دون أن يدخل فيها المشار إليه، أعني: المفرد المذكّر، و قد تبعه السيّد الأُستاذ) قدس سره (.

و حاصل النظرية: انّ أسماء الإشارة و الضمائر و الموضوعات، التي يجمعها» المبهمات «وضعت لنفس الإشارة فيكون لفظ» هذا «بمنزلة الإشارة بالاصبع فيكون آلة للإشارة، و الإشارة أمر متوسط بين المشير و المشار إليه. و على ذلك يكون عمل المبهمات كلّها عملاً إيجادياً، و لأجل ذلك ينتقل الذهن بعد سماعها إلى المشار إليه.

و لعلّه إلى ذلك يشير ابن مالك في ألفيّته بقوله:

بذا، لمفرد مذكر أشر بذي و ذه، تي تا على الأُنثى اقتصر

فهو يقول: إنّ لفظ» ذا «موضوع لنفس الإشارة لا للمشار إليه، و مثله

ص:69

الضمائر فيشار بلفظ» أنا «إلى المتكلّم، و بلفظ» أنت «إلى المخاطب، و بلفظ» هو «إلى الغائب.

و لأجل ذلك يجب أن يكون المشار إليه متعيّناً إمّا تعيّناً خارجياً أو ذكرياً، كما في ضمير الغائب، أو وصفياً كما في الموصولات حيث يشار لها إلى ما يصدق عليه مضمون الصلة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كانت أسماء الإشارة موضوعة لنفس الإشارة، فالإشارة معنى حرفي قائم بالمشير و المشار إليه، و لازم ذلك أن لا يقع مبتدأً مع أنّ الواقع خلافه، و قد أجاب عن هذا الإشكال السيّد الأُستاذ بقوله:

بأنّ المبتدأ هو الشخص الخارجي و قد أُحضر بواسطة اللفظ، و المحمول إنّما يحمل على ذلك الشخص الخارجي.

لكن الإجابة غير مقنعة، إذ لازم ذلك تركيب الكلام من جزء ذهني و هو المحمول، و جزء خارجي و هو الموضوع. و الالتزام بصحّة هذا النوع من الكلام كما ترى.

على أنّ بعض المبهمات مثل» من «،» ما «،» أي «لا يتبادر منها الإشارة كقوله: (يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ).(2)

و قوله تعالى: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).(3)

و قوله) عليه السلام (:» من كان على يقين و شكّ فليمض على يقينه «.(4)

3. النظرية المختارة

إنّ أسماء الإشارة لم توضع لنفس المفرد المذكر كما في النظرية الأُولى، و لا لنفس الإشارة مع قطع النظر عن المشار إليه كما في النظرية الثانية، بل وضعت

ص:70


1- - نهاية الأُصول: 21 22.
2- - الجمعة: 1.
3- - الأنعام: 81.
4- - الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.

للمفرد المذكر في حال الإشارة على نحو يكون القيد) أي الإشارة (خارجاً و التقيّد داخلاً، و هذا هو الذي اختاره المحقّق الاصفهاني فقال: إنّ أسماء الإشارة و الضمائر و بعض المبهمات موضوعة لنفس المعنى في حال تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً على نحو القضية الحينية(1). فقولك» هذا «لا يصدق على زيد إلاّ إذا صار مشاراً باليد أو بالعين، و الفرق بين مفهوم لفظ» المشار إليه «و لفظ» هذا «هو الفرق بين لفظ الربط و مفهوم» في «و» من «.(2)

توضيحه: انّه يمكن استظهار حال أسماء الإشارة من الإشارة التكوينية فانّ دورها هو إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة بالاصبع و العصا، و كان الإنسان البدائي يحضرها بالاستعانة بالإشارة التكوينية، و لمّا تقدّم في مجال الحضارة قامت الألفاظ مكان الأعمال، و وضع لفظ» هذا «مكان العمل التكويني فكانت النتيجة إحضار المشار إليه عن طريق الإشارة اللفظية فيكون الموضوع له، الذاتَ الواقعة في إطار الإشارة و مجالها أو حين الإشارة.

و بالجملة المتبادر من أسماء الإشارة هو الذات المتقيدة بالإشارة على نحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً. و دخول الإشارة بالمعنى الحرفي لا بالمعنى الاسمي.

و بذلك تظهر كيفية الوضع فهو عام فيكون الملحوظ قبل الوضع عاماً) الذات في مجال الإشارة (لكن الموضوع له خاص، لأنّ الإشارة الخارجية) لا مفهوم الإشارة (معنى حرفي لا جامع مقولي بين أفرادها.

فيتوصل بلفظ) المفرد المذكر عند الإشارة (إلى مصاديقها فتوضع عليها، فيكون الموضوع له خاصاً.

و منه تظهر حال الضمائر: الخطاب و التكلّم و الغيبة حرفاً بحرف، فالمتبادر

ص:71


1- - بل المقيدة بالإشارة كما سيوافيك في التوضيح.
2- - نهاية الدراية: 1/21.

من لفظ» أنت «و» أنا «و» هو «الذات عند الإشارة و إن كانت الإشارة في الضمير الغائب أضعف من الأوّلين.

ثمّ إنّ الإشارة اللفظية تتكفّل وراء إحضار المشار إليه، بيان إفراده و تثنيته و جمعه و تذكيره و تأنيثه، حضوره و غيبته، و لذلك مسّت الحاجة إلى وضع الألفاظ و عدم الاكتفاء بالإشارات التكوينية.

و أمّا الموصول فالظاهر عدم وجود الإشارة فيه فهو بأسماء الأجناس أشبه، و لأجل اشتمالها على الإبهام المطلق دون أسماء الأجناس تلزم الصلة بعدها، فالظاهر انّ الوضع فيها عام كالموضوع له.

الجهة الثامنة: في الإخبار و الإنشاء
اشارة

الجمل الإنشائية على ضربين:

فضرب منها يُستخدم في باب الأمر و النهي، و قسم منها في العقود و الإيقاعات، مثل قولك» بعت «أو » أنت طالق «إذا كنت في مقام الإنشاء، و قد اختلف الأُصوليون في تبيين الفرق بين الإخبار و الإنشاء على وجوه:

1. نظرية المحقّق الخراساني

اختار المحقّق الخراساني في المقام نفسَ ما اختاره في المعاني الاسمية و الحرفية من عدم دخول واقعية الانشاء و الاخبار في الموضوع له، و إنّما هما من قيود الوضع و طوارئ الاستعمال. فمفاد» بعت «نسبة مادة البيع إلى المتكلّم إمّا بقصد ثبوت معناه في موطنه فإخبار، أو بقصد تحقّقه و ثبوته بنفس الاستعمال فإنشاء.(1)

ص:72


1- - كفاية الأُصول: 1/16.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف الحكمة فإذا كان المعنى في حدّ ذاته على قسمين و يريد المتكلّم تارة حكاية المعنى و أُخرى إيجاده بنفس الاستعمال، فلا وجه للعدول عن هذا الطريق الطبيعي و جعل اللفظ لمعنى مشترك بين القسمين.

و بالجملة: اخراج مفاد الإخبار و الإنشاء عن نطاق الموضوع له و جعلهما من قيود الوضع خلاف الوضع الطبيعي.

2. نظرية المحقّق الخوئي

إنّ للمحقّق الخوئي في باب الفرق بين الإنشاء و الإخبار نظرية شاذة خالف فيها المشهور، توجد جذورها في كلام المحقّق الإيرواني.(1) و قد ذكره في تعاليقه في أجود التقريرات.(2) و قرره تلميذه في المحاضرات، و نحن نذكر ما في الأخير حيث قال: إنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمر نفساني خاص، و كلّ متكلّم متعهد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك، يتكلّم بالجملة الإنشائية. مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكية، يتكلّم بصيغة» بعت «أو» ملكت «و إذا قصد إبراز اعتبار الزوجية، يبرزه بقوله:» زوجت «أو» أنكحت «و إذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب، يتكلم بصيغة» افعل «و نحوها.

فالجمل الإخبارية و الإنشائية تشترك في الدلالة على الإبراز، إلاّ أنّ الأُولى مبرزة لقصد الحكاية و الإخبار عن الواقع و نفس الأمر، و تلك مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية و الزوجية و نحوهما.

و استدلّ على ذلك بأنّ المراد من كون الإنشاء للإيجاد، إمّا الإيجاد التكويني فهو بيّن البطلان، و إمّا الإيجاد الاعتباري، كإيجاد الوجوب و الحرمة و الملكية

ص:73


1- - نهاية الدراية: 1/13.
2- - أجود التقريرات: 261/25.

و الزوجية، فيرده أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ و التكلّم، فإنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أ كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن، و من هنا يعلم أنّه لا فرق بينها و بين الجمل الاخبارية.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لازم ما ذكره هو رجوع الإنشاء إلى الإخبار و قبوله الصدق و الكذب مثل الاخبار، فإذا كانت الجملة مطلقاً سواء كانت إنشائية أو إخبارية موضوعة للإبراز غير انّ المبرَز تارة يكون قصد الحكاية و الإخبار عن الواقع، و أُخرى الابراز عمّا في الذهن من اعتبار المالكية للمشتري و الزوجية لزيد. فعندئذ يكون مفاد الجملة الإنشائية كالجملة الإخبارية، غير أنّ إحداهما تحكي عن الخارج و الثانية عن عمل الذهن، و يتوجه عليه انّه يحتمل الصدق و الكذب، و هذا هادم لما هو المعروف من أنّ الجملة الإنشائية لا يصحّ وصفها بالصدق أو الكذب.

ثانياً: أنّ لازم ذلك كون» بعت «و» زوجت «مرادفاً لاعتبار الملكية للمشتري أو الزوجية للزوج و هو كما ترى.

ثالثاً: أنّ ما ذكره من أنّ الإيجاد يتحقّق بالاعتبار النفساني سواء أ كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن، غير تام، و ذلك لأنّه مبني على أنّ وعاء الاعتبار هو الذهن، و قد تم فيه مع أنّ الأُمور الاعتبارية لا خارجية و لا ذهنية، بل لها واقعية في عالم الاعتبار، و الأثر مترتب على إيجاد الموضوع في ذلك الوعاء لا في وعاء الذهن.

فقولك: زوجت هذه لهذا إيجاد للزوجية في عالم الاعتبار لا في وعاء الذهن، فما اعتبره في الذهن يكون كالمقدمة و الأرضية الصالحة لإنشاء ما اعتبره في الذهن في عالم الاعتبار باللفظ على نحو يعد ذلك العمل في تلك الظروف وعاءً للإنشاء.

ص:74


1- - المحاضرات: 951/94.

و إن شئت قلت: إنّ الأثر غير مترتب على التصورات الذهنية و ان ابرزه باللفظ، بل الأثر مترتب على النقل و الانتقال الإنشائيّين بالسبب القولي أو السبب الفعلي. و أنت إذا لاحظت حقيقة المعاطاة تقف على أنّ الغاية هي إيجاد البيع بالسبب الفعلي الذي كان الإنسان البدائي يزاوله.

3. النظرية المختارة

إنّ مشاهير الأُدباء و الأُصوليين ذهبوا إلى أنّ دور الصيغ الإنشائية دور الإيجاد لمعانيها لا الكشف عن حقيقة خارجية أو ذهنية، فقولك:» زوّجت «إيجاد للزوجية، و» بعتُ «إيجاد للملكية، و» هل قام زيد « إيجاد للاستفهام بالحمل الشائع، و الكلام في المقام في العقود و الإيقاعات التي تدور عليها رحى الحياة فنقتصر على توضيحها، و أمّا الكلام عن سائر الإنشائيات كمدلول الأمر و النهي فنرجئ البحث عنها إلى مكانها.

لا شكّ أنّ الزوجية و الملكية و الرئاسة اعتبارات اجتماعية، إنّما الكلام في كيفية اعتبارها و انتقال الإنسان الاجتماعي إلى تلك الأُمور الاعتبارية، فنقول:

إنّ سبب الانتقال إلى اعتبار هذه الأُمور إنّما هو التكوين، مثلاً:

يرى الإنسان في الخارج أمرين مماثلين، كالعينين و الأُذنين و الرجلين و اليدين على نحو كلّ يدعم الآخر في العمل و من جانب آخر يلمس الإنسان انّ بين الرجل و المرأة تجاذباً جنسياً و عاطفياً على نحو يُكمل كلّ منهما الآخر في مجالات مختلفة، و هذا ما يدفع الإنسان الاجتماعي إلى اعتبارهما زوجين كالأُذنين، غير انّ زوجية الأُذنين بالتكوين و زوجية الرجل و المرأة بالاعتبار و التنزيل.

ثمّ إنّ الزوجية الاعتبارية كالزوجية التكوينية تحتاج إلى عامل يوجدها

ص:75

و يحقّقها، فالعامل المكوّن للزوجية التكوينية هو خالق الكون، و المكوّن للزوجية الاعتبارية هو السبب اللفظي أو السبب الفعلي، فيقول: زوجت هذه بهذا، أو زوجت المرأة المعلومة بالرجل المعلوم، و بذلك يوجد ما اعتبره من الزوجية في عالم الاعتبار و على صعيد القانون بحيث يتلقّى العرف كلاً زوجاً للآخر.

و لك أن تجري ذلك البيان في الملكية الاعتبارية، فانّ الإنسان يحسّ من جانب انّه مالك لكلّ عضو من أعضائه و لذلك يضيف الأعضاء إلى نفسه فيقول: يدي و رجلي و عيني و سمعي، و هذه الملكية ملكية تكوينية.

و من جانب آخر انّه يرى نفسه أولى من غيره لما جناه بيده من السمك من البحار و البلوط من الغابات، بل يرى كلّ ما حصّله ببدنه و سائر أعضائه أولى بها من غيرها، و لذلك يخاطب أمير المؤمنين ) عليه السلام (جنوده و يقول:» فَجَناةُ أيديهم لا تكونُ لغيرِ أفواهِهِم «.(1)

ثمّ إنّه يحسّ في الحياة الاجتماعية إلى ضرورة التبادل بين ما يرى نفسه أولى به و ما يراه الآخر أولى به، كدفع السمك الذي اصطاده من البحر إلى من يملك الحنطة فيقوم بالمبادلة يقول: بعت هذا بهذا، أي ملكتك ما مَلِكتُ، غير انّ الملكية التكوينية تحتاج إلى عامل تكويني و لكنّها في المقام بعامل لفظي.

و بذلك يعلم أنّ عالم الاعتبار عبارة عن تنزيل الفاقد منزلة الواجد، أو تنزيل الموجود الاعتباري منزلة التكويني و أخذ الثاني أُسوة للجعل و الإنشاء.

و لك أن تجري ذلك البيان في الرئاسة فانّ الرأس يدير البدن تكويناً فالإدارة بما أنّها أمر تكويني منحها اللّه سبحانه هذه المسئولية إليه هذا من جانب، و من جانب آخر إذا كان هناك مجتمع لغاية عقلائية فالضرورة تقضي وجود مدير

ص:76


1- - نهج البلاغة: الخطبة 232.

لهم و عند ذلك يعتبره رئيساً، أي يعطي ما للرأس من الحكم التكويني لهذا الإنسان. و ينشأ ما اعتبر، بقوله: جعلته حاكماً و رئيساً لكم، و بذلك يتبين انّ عامل الاعتبار كنفس المعتبرات ليس لها في الواقع و الخارج مصداق يخصّه و لكن الحياة تدور على هذه المفاهيم الوهمية.

فخرجنا بتلك النتيجة: انّ الأحكام الإنشائية لا توصف بالصدق أو الكذب، لأنّ السبب أعني: اللفظ أو الفعل وضعا للإيجاد، و المفروض تحقّقه و يتلوه المسبب، و الصدق و الكذب من آثار الحكاية.

الجهة التاسعة: في مفاد هيئة الجملة الاسمية
اشارة

المعروف بين المنطقيين أنّ القضية تتركب من أُمور ثلاثة: الموضوع، المحمول، و النسبة، و هي إمّا إيجابية أو سلبية، و على ذلك فالقضية مشتملة على نسبة كلامية و الدالّ عليها هيئة الجملة الاسمية.

ثمّ إن وافقت النسبةُ الموجودة في القضية الملفوظة أو المتصورة، النسبةَ الخارجية، فالقضية صادقة، و إلاّ فهي كاذبة.

فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في اشتمال القضية على النسبة التي نعبر عنها بالنسبة الكلامية.

الثاني: في وجود النسبة الخارجية.

و الدليل الوحيد في المقام الأوّل هو التبادر، كما أنّ الدليل في المقام الثاني هو البرهان العقلي. فلا يختلط عليك المقامان من حيث التحليل و اختلاف البرهان.

أمّا الأوّل: فالظاهر عدم اشتمال القضية الحملية على النسبة الكلامية، و ذلك لأنّ هيئة الجملة الاسمية لم توضع لها بل وضعت للهوهوية و انّ هذا ذاك،

ص:77

فإذا لم يكن هناك دالّ على النسبة الكلامية، فمن أين نعلم بأنّ القضية الكلامية تشتمل على النسبة؟ هذا، و انّ التبادر ببابك، فلاحظ القضايا الحملية ترى أنّ المتبادر هو الهوهوية و انّ هذا ذاك لا أنّ هنا موضوعاً و هناك محمولاً و هناك نسبة تَربط المحمول بالموضوع، فهذا غير متبادر جدّاً.

و إليك دراسة القضايا:

1. القضايا الحملية الأوّلية مثل: الإنسان إنسان أو حيوان ناطق.

2. القضايا الحملية الشائعة بالذات مثل: البياض أبيض.

3. القضايا الحملية الشائعة بالعرض مثل: الجسم أبيض.

و الفرق بين القسمين الأخيرين أنّ الموضوع في الأوّل مصداق حقيقي للمحمول و في الثاني مصداق له بالعرض، فانّ ما هو الأبيض واقعاً هو البياض، و أمّا الجسم فإنّما يكون أبيض ببركة ذلك العارض له.

4. قضايا الهلية البسيطة مثل: زيد موجود.

5. قضايا الهلية المركبة مثل: زيد قائم.

ففي جميع هذه الموارد يتبادر من الهيئة الهُوهويّة، أي كون المحمول عين الموضوع مفهوماً أو مصداقاً. و لا تتبادر الكثرة حتى يُربط أحدهما بالآخر بالنسبة، فإذا سألك سائل بقوله: هل زيد قائم أو موجود؟ فانّه يسأل عن أنّه هل هو و لا يسأل عن ثبوت الوجود أو القيام لزيد، من دون فرق بين كون المشتق مركباً أو بسيطاً، لأنّ الكلام ليس في مفهوم المشتق بل الكلام في مفهوم الجملة التركيبية فبساطة المشتق و تركبه غير مؤثر في ذلك.

هذا كلّه في الحمليات الموجبة بعامة أقسامها.

و أمّا الحمليات السالبة فالهيئة فيها موضوعة لسلب الحمل و نفي الهوهوية،

ص:78

فمعنى قول القائل: ليس زيد عالماً هو سلب كونه هو هو، و انّه لا اتحاد بينهما، و ليس معناه حمل النسبة السلبية على زيد.

فالسوالب المحصلة من القضايا الحملية لسلب الهوهوية لا حمل النسبة السلبية على زيد.

هذا كلّه في الحمليات الحقيقية، و أمّا الحمليات المؤوّلة، أعني: ما تتخللها الأدوات مثل» في «و» على « فالحقّ انّ موجباتها تشتمل على النسبة الكلامية أوّلاً و الخارجية ثانياً دون سالباتها، فالأوّل مثل قولك:» زيد في الدار «أو» زيد على السطح «لأنّ تفسير الجملة عن طريق الهوهوية غير تام، إذ لا يمكن أن يقال انّ زيداً هو نفس في الدار، بل لا بدّ من القول باشتمال الجملة على النسبة و هي انّ هنا زيداً، كما أنّ هنا داراً و شيئاً ثالثاً و هو كون زيد فيها. و هو أمر وراء الموضوع و المحمول. و هذا من غير فرق بين مقام الدلالة و مقام الخارج، ففي الخارج أيضاً زيد و سطح و استقرار زيد عليه نظير قولك:» الماء في الكوز «، ففي هذا النوع من الحمليات ترافق النسبةُ الكلامية، النسبةَ الخارجية.

و أمّا السوالب فهي لسلب النسبة، فقولك: ليس زيد في الدار، سلب للنسبة المذكورة الكلامية أو الخارجية.

و بذلك يعلم أنّ متعلّق السلب تابع لما هو مدلول القضية الحملية الموجبة، فلو كان مدلولها هو الهوهوية فالسلب يتعلّق بسلب الهوهوية كما أنّه لو كان موجبها هو النسبة و حصول شيء في شيء أو على شيء فالسلب يتعلّق بسلب تلك النسبة.

إلى هنا تبيّن عدم اشتمال الجمل الاسمية على النسبة الكلامية إلاّ في الحملية المؤوّلة الموجبة، فالقول بالاشتمال فيها هو الصحيح.

ص:79

الثاني: في النسبة الخارجية

هذا كلّه حول المقام الأوّل، و أمّا المقام الثاني أي عدم وجود النسبة الخارجية بين الموضوع و المحمول في عالم التطبيق، فالدليل الوحيد هو البرهان لا التبادر.

و البرهان يثبت عدمها في القضايا التالية:

1. الحمل الأوّلي كقولك: الإنسان إنسان أو حيوان ناطق، فلا نسبة خارجية بين الأمرين لامتناع جعل الربط بين الشيء و نفسه، فانّ النسبة فرع التعدد و المفروض هو الوحدة في مقام المفهوم فضلاً عن مقام المصداق.

2. الهلية البسيطة، مثل قولك: زيد موجود، فانّ القول بوجود النسبة الحرفيّة بين الطرفين يستلزم استقلال الماهية و كونها طرفاً للنسبة و هو باطل.

3. الهلية المركبة و لكن المحمول من قبيل الذاتي في باب البرهان كقولك: زيد ممكن، و إذ يمتنع أن تكون هناك نسبة خارجية بين زيد و إمكانه، لأنّ المفروض انّ المحمول ينتزع من صميم الموضوع و حاقه على نحو يكون وضع الموضوع كافياً لوضع المحمول، فكيف يمكن أن يكون هناك رابط بينهما؟ 4. الحمل الشائع بالذات، مثل قولنا: البياض أبيض، لامتناع تصور النسبة بين الشيء و مصداقه الذاتي.

فلم يبق إلاّ الحمل الشائع بالعرض، مثل قولنا: الجسم أبيض أو زيد قائم ففيه التفصيل بين النسبة الكلامية و النسبة الخارجية، فالأُولى منتفية لما عرفت من أنّ الهيئة الكلامية موضوعة للهوهوية لا للنسبة، و أمّا الثانية فهي متحقّقة فانّ زيداً شيء و القيام شيء آخر، و حصول القيام له أمر ثالث.

و منه تظهر حال الحمليات المؤوّلة نحو زيد في الدار، أو زيد على السطح،

ص:80

فالقول بالنسبة الخارجية فيها كالنسبة الكلامية على ما مرّ موافق للتحقيق، فانّ زيداً شيء و السطح شيء آخر و استقراره عليه أمر ثالث الذي هو معنى حرفي.

إذا عرفت ما ذكرنا تقف على أنّ منهجنا في دراسة هذه المقدّمة أقرب إلى التحقيق لما عرفت من تفكيك النسبة الكلامية عن النسبة الخارجية، و برهنا على الأوّل بالتبادر، و على الثانية بالبرهان، خلافاً للسيّد الأُستاذ فانّه جعل برهان الأمرين شيئاً واحداً و استدلّ من عدم النسبة الخارجية على انتفاء النسبة الكلامية مع أنّه لا ملازمة بين الانتفاءين. إذ لم يكن الواضع فيلسوفاً حتى يضع الهيئة وفق مقتضى البرهان.

ص:81

الأمر الثالث في الحقيقة و المجاز

عرّف المجاز بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له لمناسبة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي، فإن كانت المناسبة هي المشابهة فالمجاز استعارة، و إلاّ فالمجاز مرسل، كاستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ و بالعكس، كاستعمال العين في الإنسان مثل ما ورد في قول الإمام أمير المؤمنين علي) عليه السلام ( :» عيني بالمغرب كتب إليّ يُعلمني «.(1)

و عكسه كاستعمال الإنسان في عضو منه، كما في قولك: ضربت إنساناً، إذا ضربت عضواً منه.

و على قول هؤلاء يكون استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالوضع و حسب تحديد الواضع حيث إنّ الواضع رخص فيما إذا كان هناك علقة مشابهة أو سائر العلائق البالغة إلى 25 علاقة.

هذا هو المعروف و لكن هناك نظرية جديدة أبدعها العلاّمة أبو المجد الشيخ محمد رضا الاصفهاني (1285 1362 ه (في كتابه» وقاية الأذهان «و تبعه السيد المحقّق البروجردي (1292 1380 ه ( و السيّد الأُستاذ) قدس اللّه أسرارهم (و هذه النظرية من بدائع الأفكار في عالم الأدب، و قد أحدثت هذه

ص:82


1- - نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم 33.

النظرية انقلاباً في عالم المجاز حيث استطاعت أن تغيّر العديد من المفاهيم السائدة آنذاك، و حاصلها انّ اللفظ في مجال المجاز يستعمل في نفس المعنى الحقيقي بالإرادة الاستعمالية لكن بادّعاء انّ المورد من مصاديق المعنى الحقيقي، يقول العلاّمة أبو المجد: إنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصلية، و مستعملها لم يحدث معنى جديداً و لم يرجع عن تعهده الأوّل، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع و الاستعمال.(1)

و الدليل على ذلك انّ الغاية المتوخاة من المجاز كالمبالغة في النضارة و الصباحة أو الشجاعة أو إثارة التعجب لا يحصل إلاّ باستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي لا في المعنى المجازي، و يعلم ذلك بالإمعان في الأمثلة التالية:

1. يحكي سبحانه عن امرأة العزير انّه لما سمعت بمكر نسوة في حاضرة مصر بقوله: (... أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ).(2)

و الغاية من وصفه ب» ملك «هو المبالغة في النضارة و الصباحة، و هو لا يتم إلاّ أن يستعمل اللفظ في نفس المعنى الحقيقي» فرشته «لا في الإنسان الجميل، لأنّه لا يؤمّن الغرض المنشود إلاّ به، بشهادة انّك لو قلت هكذا:» ما هذا بشراً إنْ هذا إلاّ إنسان جميل «لسقطت العبارة عن قمة البلاغة.

2.

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد اظفاره لم تقلم

فالشاكي مقلوب» الشائك «و هو حدة السلاح، و قوله: مقذف، أي من له

ص:83


1- - وقاية الأذهان: 103.
2- - يوسف: 31.

صولات في ساحات الوغى، فالغرض هو المبالغة في الشجاعة و انّه أسد حقيقة بشهادة انّه أثبت له لبداً و أظفاراً غير مقلّمة، و الغاية المتوخّاة لا تحصل إلاّ باستعمال الأسد في نفس الحيوان المفترس لكن بادّعاء انّ المورد من مصاديقه. و أمّا إذا استعمل في الرجل الشجاع يكون الكلام بعيداً عن البلاغة بشهادة انّك لو قلت:» لدى رجل شجاع ذي سلاح حاد «ترى بوناً شاسعاً بين المعنيين.

3.

قامت تظلّلني و من عجب شمس تظلّلني من الشمس

و الغرض هو إثارة العجب من أنّ المحبوبة بما انّها شمس ساطعة صارت تظلّله من الشمس، و التعجب إنّما يحصل إذا استعمل الشمس الأُولى في نفس معناها، و عندئذ يتعجب الإنسان كيف تكون الشمس مظلّلة من الشمس؟! بخلاف ما إذا قلنا بأنّها استعملت في المرأة الجميلة، إذ لا موجب عندئذ للتعجب، لأنّ الأجسام على وجه الإطلاق جميلة و غير جميلة تكون حائلة عن الشمس.

و بذلك تقف على حقيقة أدبية، و هي انّ المجاز ليس من قبيل التلاعب باللفظ بل من قبيل التلاعب بالمعنى على حد تعبير السيّد الأُستاذ، فالإنسان البليغ لا يستعير لفظ الأسد للرجل الشجاع و إنّما يستعير معناه له، و هو لا يتحقّق إلاّ باستعماله في نفس الموضوع له، غاية الأمر بادعاء، فيكون المجاز هو استعمال اللفظ في المعنى ليكون قنطرة للفرد الادّعائي.

فإن قلت: إنّ تلك النظرية إنّما تصحّ في اسم الجنس الذي له فرد حقيقي و فرد ادّعائي لا في الاعلام كحاتم و يوسف اللذين ليس لهما إلاّ فرد واحد.

قلت: إنّ قوام المجازية هو ادّعاء العينية، و هو يدّعي انّه نفس حاتم و نفس يوسف و ليس مغايراً.

ص:84

و يمكن أن يقال: انّ حاتم و يوسف قد خرجا عن العلمية و صارا عند المتكلم اسماً للسخي غاية السخاء، و الجميل غاية الجمال، فعندئذ يستعمله في الجامع المنطبق على ذينك الفردين.

و الذي يؤيد كون المجاز من مقولة الاستعمال فيما وضع له هو انّ الكناية عند القوم من قبيل استعمال اللفظ في الملزوم لغاية الانتقال إلى لازمه، فهو أشبه بالمجاز حيث إنّه من قبيل الاستعمال في المعنى الحقيقي لغاية الانتقال إلى الفرد الادّعائي. و الفرق بينهما وجود الادعاء في المجاز دون الكناية.

فإن قلت: ما الفرق بين هذه النظرية و ما نسب إلى السكاكي في كتابه» مفتاح العلوم «حيث إنّه هو أيضاً يدّعي انّ المعنى المجازي فرد ادّعائي للمعنى الحقيقي؟ قلت: الفرق بينهما واضح، ذلك انّ السكاكي يعتقد كالمشهور بأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له من أوّل الأمر لكن المجوز لاستعارته لما لم يوضع له هو ادّعاء كونه من مصاديق ما وضع له ادّعاءً على خلاف تلك النظرية التي تقول باستعمال اللفظ فيما وضع له مدّعياً بأنّه من مصاديق ما وضع له من أوّل الأمر، و إليك نصّ عبارة السكاكي في» مفتاح العلوم «، قال في علم البيان:

و أمّا المجاز فهو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق، استعمالاً في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع، ثمّ أخذ في تفسير قيود التعريف.(1)

ص:85


1- - مفتاح العلوم: 153، ط مصر عام 1318 ه.

و على هذا البيان يمكن إرجاع كثير من المجاز في الاسناد إلى المجاز في الكلمة، فقوله سبحانه حاكياً عن إخوة يوسف: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنّا لَصادِقُونَ )(1) فالمشهور انّه من قبيل المجاز في الاسناد بتقدير أهل القرية، نظير قول الفرزدق في مدح زين العابدين) عليه السلام (:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحل و الحرم

فالمعروف انّه من قبيل المجاز في الاسناد أي يعرف أهل البطحاء وطأته، و لكن الحقّ انّ الجميع من قبيل المجاز في الكلمة، لأنّه بصدد المبالغة أنّ الأمر من الوضوح وصل إلى حدّ حتى أنّ جدران القرية مطّلعة على هذا الأمر، و انّ البطحاء تعرف وطأة الإمام فضلاً عن أهلها.

و بذلك يظهر انّ صحّة الاستعمالات المجازية تستند إلى الوضع، لأنّه من قبيل استعمال اللفظ فيما وضع له، و لكن حسنه يستند إلى الطبع و الذوق.

و بعبارة أُخرى: المصحح هو الوضع منضماً إلى حسن الطبع.

ص:86


1- - يوسف: 82.

الأمر الرابع في استعمال اللفظ في اللفظ

اشارة

إنّ استعمال اللفظ في اللفظ يتصوّر على أقسام أربعة:

1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه، مثل زيد في كلامي هذا لفظ.

2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله، مثل زيد في كلام القائل زيد قائم لفظ.

3. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه، كقول القائل: زيد في ضرب زيد فاعل.

4. إطلاق اللفظ و إرادة نوعه، كقولنا: زيد على وجه الإطلاق لفظ.

فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: صحّة الإطلاق.

الثاني: كون ذلك الإطلاق استعمالاً أم لا؟ و على فرض كونه استعمالاً، فهل هو حقيقي أو مجازي؟ لا كلام في صحّة الإطلاق، و أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، فالأمثلة تعرب عن استحسان الذوق هذا النوع من الإطلاق، و لم يخالف في ذلك أحد من الأُصوليين إلاّ صاحب الفصول في القسم الأوّل، فلنرجع إلى المقام الثاني و انّ هذا الإطلاق هل يوصف بالاستعمال أو لا؟ فلنأخذ كلّ قسم بالبحث.

ص:87

1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه

إنّ حقيقة الاستعمال تقوم على أركان ثلاثة:

الأوّل: إطلاق اللفظ.

الثاني: انتقال المخاطب عند سماع اللفظ إلى الصورة الذهنية.

الثالث: انتقاله منها إلى الوجود الخارجي.

مثلاً إذا قلنا:» قام زيد «يتحقّق هناك الركن الأوّل و هو إطلاق اللفظ ثمّ يعقبه انتقال المخاطب إلى الصورة الذهنية من قيام زيد، و بما انّ القضيّة ليست ذهنية ينتقل المخاطب من الصورة الذهنية إلى الوجود الخارجي، و لذلك قلنا بأنّ الاستعمال ثُلاثي الأركان.

و أمّا المقام، أعني: إطلاق اللفظ و إرادة شخصه، فليس هناك إلاّ ركنان:

أ: إطلاق اللفظ.

ب: انتقال المخاطب إلى الصورة الذهنية ثمّ انتقاله إلى نفس اللفظ الصادر) الركن الأوّل (مكان الانتقال إلى الركن الثالث، أعني: الوجود الخارجي المغاير للّفظ.

و بعبارة أُخرى: انّ الاستعمال أمر ثلاثي، و هو الانتقال من اللفظ إلى الصورة الذهنية له، و منها إلى الخارج، و لكن الأمر هنا ثنائي ينتقل من اللفظ إلى الصورة الذهنية و منها إلى اللفظ.

و بعبارة ثالثة: انّ هنا وجوداً خارجياً للّفظ و هو أمر تكويني قائم بالمتكلّم، و صورة ذهنية له حاصلة في ذهن المخاطب ثمّ انتقال إلى اللفظ الصادر من المتكلّم من دون أن ينتقل إلى شيء ثالث، فالمنتقل إليه و إن كان لفظاً خارجياً لكنّه ليس شيئاً ثالثاً.

ص:88

فالمقام من قبيل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب لينتقل منه إلى نفس الموضوع ثمّ يحكم عليه بأنّه كذا.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية و تبعه سيد مشايخنا البروجردي ذهب إلى أنّ هذا القسم من قبيل إلقاء نفس الموضوع في ذهن المخاطب، و لعلّه من سهو القلم، بل من قبيل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب، لأنّ الهوية الخارجية لا تنالها النفس و لا تقع في لوحها.

و من ذلك يعلم أنّ المقام ليس من قبيل الاستعمال لما عرفت من أنّ الاستعمال ثلاثي الأركان و المقام من قبيل ثنائي الأركان.

و أمّا وصف القضية بالدال و المدلول فلا مانع منه، فاللفظ بما انّه موجد للصورة في ذهن المخاطب دال، و بما انّه يُنتقل من الصورة الذهنية إلى نفس ذلك اللفظ فهو مدلول، كما أنّ الدلالة ليست من قبيل الدلالة الوضعية، لأنّ الدلالة عبارة عن دلالة اللفظ على معناه الخارجيّ الذي هو غير الصورة الذهنية للّفظ و غير شخص اللفظ و لكن ليس في المقام وراء الأمرين شيء.

ثمّ إنّه لم يخالف في هذا القسم إلاّ صاحب الفصول و قد ذكر دليلاً لمنع صحّة الإطلاق نقله صاحب الكفاية و أجاب عنه، و لكن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه حيث إنّ الطبع السليم يستحسن هذا النوع من الإطلاق فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضرات شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة.

2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله

كما إذا قال: زيد في قولك: زيد قائم، لفظ و أراد اللفظ الصادر من المخاطب. لا شكّ في إمكانه إنّما الكلام في كون الإطلاق استعمالاً، أو لا، و الحقّ

ص:89

انّه استعمال حيث يكون زيد وسيلة و آلة للحاظ مماثله و تصوّره، فيكون دالاً و المماثل مدلولاً، فالمماثل هنا بمنزلة المعنى.

و إن شئت قلت: إنّ التلفّظ بلفظ» زيد «يكون سبباً لإيجاد الصورة الذهنية للفظ في ذهن المخاطب، ثمّ هو ينتقل من تلك الصورة إلى الصورة المماثلة و هو أمر ثالث لا إلى نفس ذلك اللفظ حتى يكون من قبيل القسم الأوّل.

نعم هذا النوع من الاستعمال لا حقيقة و لا مجاز، لأنّ زيداً وضع للشخص الخارجي و إطلاقه و إرادة المماثل ليس استعمالاً فيما وضع له و لا في غير ما وضع له بنوع من العلاقة.

3 و 4. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه و نوعه

المراد من الصنف هو النوع المحدود بقيود، فإذا قال: زيد في ضرب زيد فاعل فقد حدّ طبيعة زيد بكونه بعد الفعل، فأطلق لفظ زيد و أُريد منه صنف ذلك اللفظ و هو الواقع بعد فعل ضرب.

نعم الحكم لا يختص بزيد الوارد في الجملة، بل يعمّه و كل ما ورد بعد فعل ضرب في كلام أيّ متكلّم كان.

و أمّا الرابع، أعني: إطلاقه و إرادة النوع كما إذا قال:» زيد لفظ «و أراد منه نوع اللفظ لا خصوص ما تكلم و لا مثله و لا صنفه، فزيد من أي متكلم صدر لفظ و لا شكّ في إمكان هذين الإطلاقين، إنّما الكلام كونه استعمالاً أو لا؟ و الظاهر حسب المعيار الذي عرفت أنّه من قبيل الاستعمال، لأنّ المخاطب ينتقل من سماع زيد إلى الصورة الذهنية و منه إلى أمر ثالث و هو زيد الواقع بعد الفعل أو طبيعة اللّفظ.

ص:90

و الحاصل: انّ ركن الاستعمال الذي يقوم على أركان ثلاثة موجود، فانّ المخاطب ينتقل من الصورة الذهنية إلى مراد المتكلّم، أعني: الصنف أو النوع و هو أمر ثالث.

و بما انّ هذه المقدّمة لا تمّت إلى الأُصول بصلة و إنّما هي بحث أدبي، اكتفينا بهذا المقدار.

فتحصّل ممّا ذكرنا: انّ القسم الأوّل ليس استعمالاً كما أنّه ليس من قبيل إلقاء نفس الموضوع، بل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب، و أمّا الأقسام الثلاثة فهي من قبيل الاستعمال، لأنّ المخاطب ينتقل بعد سماع اللفظ إلى الصورة الذهنية و منها إلى الفرد المماثل أو الصنف أو النوع.

ص:91

الأمر الخامس في وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية

اشارة

و قبل الخوض في المقصود، نذكر أمرين:

الأوّل: ما هو السبب لطرح المسألة؟

عرّف المحقّق الطوسي في» منطق التجريد «، الدلالةَ المطابقية: أنّها دلالة اللفظ على تمام المسمّى.

و التضمنية: انّها دلالة اللفظ على جزئه.

و ذكر العلاّمة في شرحه على» منطق التجريد «انّه أورد على المحقّق الطوسي الإشكال التالي و هو:

انّ هذا التعريف غير مانع فيما إذا كان اللفظ مشتركاً بين الكلّ و الجزء، كما إذا كان لفظ الإنسان موضوعاً للحيوان الناطق تارة و لخصوص الناطق أُخرى فأطلق الإنسان و أراد الناطق، فيصدق عليه انّه مطابقي، لأنّه تمام الموضوع بالنسبة إلى الوضع الثاني، و تضمني، لأنّه جزء الموضوع بالنسبة إلى الوضع الأوّل.

ثمّ نقل العلاّمة عن المحقّق الطوسي أنّه أجاب عن الإشكال و قال: إنّ اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة و القصد و اللفظ، فحينما يراد منه المعنى المطابقي لا يراد منه المعنى التضمني فهو يدلّ على معنى واحد لا غير. ثمّ قال العلاّمة: و فيه نظر.(1)

ص:92


1- - الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد: 4.

توضيح جواب المحقّق الطوسي هو: انّ المتكلّم إذا أطلق الإنسان و أراد الناطق فإن أراده بما انّه تمام المعنى فلا يصدق انّه معنى تضمني، و إن أراد أنّه جزء المعنى فلا يصدق عليه انّه معنى مطابقي.

و قد أجاب المحقّق الطوسي بنفس هذا الجواب عن إشكال أُورد على تعريف المفرد حيث عُرّف المفرد بأنّه الذي ليس لجزئه دلالة أصلاً، و اعترض عليه بعض المتأخرين بلفظ» عبد اللّه «إذا جعل علماً لشخص فانّه مفرد مع أنّ لجزئه دلالة ما.

فأجاب عنه المحقّق الطوسي بأنّ دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع، فما يتلفّظ به و يراد به معنى ما و يفهم عنه ذلك المعنى، يقال له انّه دال على ذلك المعنى; و ما سوى ذلك المعنى ممّا لا تتعلّق به إرادة المتلفّظ، لا يقال إنّه دالّ عليه، و إن كان ذلك اللفظ أو جزء منه، بحسب تلك اللغة أو لغة أُخرى أو بإرادة أُخرى، يصلح لأن يدل به عليه.

و إذا ثبت هذا فنقول، اللفظ الذي لا يراد بجزئه الدلالة على جزء معناه، لا يخلو من أن يراد بجزئه، الدلالة على شيء آخر أو لا يراد، و على التقدير الأوّل لا تكون دلالة ذلك الجزء متعلّقة بكونه جزءاً من اللفظ الأوّل، بل قد يكون ذلك الجزء بذلك الاعتبار لفظاً برأسه دالاً على معنى آخر بإرادة أُخرى، و ليس كلامنا فيه، فإذن لا يكون لجزء اللفظ الدال من حيث هو جزء دلالة أصلاً و ذلك هو التقدير الثاني بعينه، فحصل من ذلك انّ اللفظ الذي لا يراد بجزئه دلالة على جزء معناه لا يدل جزؤه على شيء أصلاً.(1)

و الحاصل: انّه إذا تلفّظ بلفظ عبد اللّه، فإمّا يتلفّظ به بما انّ جزء لفظه يدل

ص:93


1- - شرح الإشارات: 321/31.

على جزء معناه أو لا يدل; فعلى الأوّل مركب خارج عن التعريف، و على الثاني مفرد لا ينتقض به التعريف.

و على كلّ تقدير فالمحقّق الطوسي ممّن ذهب إلى أنّ دلالة اللفظ على المعنى موقوفة على إرادة المتلفّظ ذلك المعنى إرادة جارية على قانون الوضع، إذ الغرض من الوضع تعدية ما في الضمير و ذلك يتوقّف على إرادة اللافظ فما لم يرد المعنى من اللفظ لم تجد له دلالة عليه.(1)

الثاني: أشكال أخذ الإرادة جزءاً للمعنى

إنّ وضع اللفظ للمعنى المراد يتصوّر على وجوه:

1. أخذ الإرادة بالحمل الأوّلي) مفهوم الإرادة (جزءاً للمعنى.

2. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي) مصداق الإرادة (جزءاً للمعلوم بالذات.

3. أخذ الإرادة بالحمل الشائع جزءاً للمعلوم بالعرض.

4. أخذ الارادة بالحمل الشائع الصناعي بنحو القضية الحينية في الموضوع له.

5. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي قيداً للوضع. هذه هي الوجوه المتصوّرة.

إذا عرفت هذين الأمرين، فلنذكر حكم كلّ واحد من هذه الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل، فهو بديهي البطلان، و لم يذهب إليه أحد.

و أمّا الثاني أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالذات) الصورة الذهنية (التي

ص:94


1- - المحاكمات لقطب الدين الرازي في ذيل الإشارات: 1/32.

تعلّقت بها الإرادة بالحمل الشائع، فيلزم أن تكون القضايا إخباراً عن الأُمور الذهنية لا إخباراً عن الخارج، لأنّ المعلوم بالذات الذي هو متعلّق الإرادة قائم بالذهن، فالقيد و المقيد كلّها أُمور ذهنية و بالتالي لا ينطبق على الخارج.

و أمّا الثالث، أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالعرض الذي تعلّقت به الإرادة عن طريق الصورة الذهنية(1)، فهذا أيضاً يستلزم عدم إمكان حمل قائم على زيد الخارجي، لأنّ الموضوع في» قائم «مركب من أمر خارجي) المعلوم بالعرض (و أمر ذهني) تعلّق الإرادة به (فلا يصحّ أن يقال:» زيد قائم «إلاّ بالتجريد، فانّ القيام و إن كان موجوداً في الخارج إلاّ أنّ الإرادة التي وصف بها القيام عن طريق الصورة الذهنية أمر ذهني.

و أمّا الرابع، أي كون الموضوع له المعلوم بالعرض حين تعلّقت به الإرادة على نحو لا يصدق اللفظ إلاّ على المعنى المراد و في الوقت نفسه ليس كونه مراداً جزءاً للمعنى، و هذا هو مفاد القضية الحينية.

توضيحه: انّ القضايا على أقسام ثلاثة:

أ: المشروطة، مثل قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتباً، فحركة اليد ثابتة للكاتب بشرط كونه كاتباً.

ب: المطلقة، مثل قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع بالفعل، أي في أحد الأزمنة الثلاثة، فحركة اليد للكاتب على وجه الإطلاق.

ج: و الحينية، و هي نحو قولك: كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب، فحركة اليد ثابتة للكاتب لا على وجه الإطلاق حتى يعم المحمول) الحركة (حالة

ص:95


1- - و إنّما يوصف الخارج بكونه معلوماً بالعرض، لأنّ الإنسان يصل إليه عن طريق الصورة الذهنية، فتكون الأخيرة معلومة بالذات و ما قبلها معلوماً بالعرض.

عدم الكتابة و لا على وجه التقييد حتى يؤخذ في الموضوع ما دام كونه كاتباً، و لكنه في الوقت نفسه لا ينطبق إلاّ على حال الكتابة، فالمحمول في الحينية و إن كان مطلقاً غير مشروط لكنّه على نحو لا ينطبق إلاّ على المشروطة; و هذا كما إذا رأيت زيداً معمّماً، فالتعمّم ليس قيداً للمرئيّ و لا للرؤية، و لكنّه لا ينطبق إلاّ على المعمّم و أنت ما رأيت إلاّ زيداً المعمّم، و في المقام، اللفظ وضع لذات المعنى لكن حين كونها مراداً للمتكلّم و اللافظ. و على ضوء ذلك لا يرد عليه ما أوردنا من انقلاب القضية الخارجية إلى الذهنية كما في الثاني، و لا عدم انطباق القضية على الخارج كما في الثالث، و الحينية مع كونها نزيهة عما أورد على القسمين و لكنّها لا تنطبق إلاّ على المضيق و هو المعنى المراد.

يلاحظ عليه: بأنّ القضية الحينية و إن كانت رائجة بين المنطقيّين و لكن لم نتصور لها معنى محصلاً، فانّ الكتابة في قوله:» حين هو كاتب «إمّا قيد للمحمول) متحرك الأصابع (فيكون من قبيل المشروط، أو ليس قيداً له و للمحمول إطلاق، فيكون من قبيل المطلقة العامة، فما معنى هذا التذبذب بين المشروطة و المطلقة، و إن نطق به المنطقيون؟ و بعبارة أُخرى: انّ القول بأنّ المحمول هو المتحرك المقترن بالكتابة لا بقيدها لا يخلو من إبهام، لأنّ المحمول إمّا مقيد بالاقتران بالكتابة أو لا، و على الأوّل تعود الحينية إلى المشروطة، و على الثاني يكون المحمول مطلقاً صادقاً في كلتا الحالتين: حالة وجود الكتابة و عدمها.

و بذلك يظهر انّ قوله إنّ الموضوع له هي المعاني حالة كونها مرادة لا مقيداً بها لا يخلو إمّا أن تكون القضية مطلقة فتعم المرادة و غير المرادة، أو مقيدة فيرجع إلى المشروطة.

ص:96

و بعبارة أُخرى: انّ تمييز الحصة التوأمة بالإرادة عن الحصة غير التوأمة يحتاج إلى قيد حتى يوضع لاحدى الحصتين دون الأُخرى. و معه يرجع إلى المشروطة.

و أمّا الخامس: فهو خيرة المحقّق الأصفهاني فقال: العلقة الوضعية متقيدة بصورة الإرادة الاستعمالية و في غيرها لا وضع، و ما يرى من الانتقال إلى المعنى بمجرّد سماع اللفظ من لافظ غير شاعر فمن جهة أُنس الذهن بالانتقال من سماعه إلى إرادة معناه.(1)

توضيح ما ذكره: هو أنّ الوضع فعل اختياري للواضع، و كلّ فعل اختياري لا بدّ له من غاية، فالعلّة الغائية تضيق جانب الفعل و تحدده و تخصه بصورة وجوده الغاية و هو الإفادة و الاستفادة أو إبراز ما في الضمير.

يلاحظ عليه: أنّ الغرض من الوضع و إيجاد العلقة الاعتبارية بين اللفظ و المعنى، هي بيان الحقائق الواقعية بما هي هي لا ما وقعت في أُفق الإرادة، فإذا قال القائل:» الماء جسم رطب سيال «، فانّه يريد بيان الحقيقة الخارجية و انّ ذلك العنصر بما هو هو لا بما انّه واقع في ذهن القائل، فإذا كانت الغاية محددة للفعل فالغاية هي بيان الحقائق و هو يوجب إطلاق العلقة الوضعية و عدم تقيّدها بإرادة المتكلّم.

بقي هنا أُمور:

الأوّل: انّ الدلالة تنقسم إلى: تصورية، و تفهيمية، و تصديقية.

أمّا الأُولى: فهي عبارة عن دلالة اللفظ على معناه عند سماعه، و ربّما يعبّر عنها بالدلالة الوضعية، و هي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع، و لأجل

ص:97


1- - نهاية الدراية: 1/23.

ذلك ينتقل الذهن إلى المعنى بمجرّد السماع و لو من لافظ غير شاعر.

و أمّا الثانية: أعني الدلالة التفهيمية، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المعنى للغير، و هذه الدلالة تتوقّف وراء العلم بالوضع على أنّ المتكلّم في مقام التفهيم، لا في مقام تمرين الخطابة و أمثالها أو تعلم اللغة.

و أمّا الثالثة: أي الدلالة التصديقية، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجديّة، و هي تتوقف وراء الأمرين على أمر ثالث و هو أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية. و هذا الأصل و ما قبله أي كونه بصدد التفهيم من الأُصول العقلائية إذا لم يقم دليل على خلافه.

الثاني: انّ المحقّق الخراساني لما قال بوضع الألفاظ للمعاني الواقعية حاول تأويل الكلام المنقول عن العلمين الطوسي و الحلي، بأنّ مرادهما من تبعية الدلالة للإرادة، هو الدلالة التصديقية و لذلك لا يصحّ لنا أن نُسند مضمون الكلام إلى شخص ما لم يُحرز أنّه أراد ذلك المعنى، وعليه لو تكلّم مورّياً أو تقيّة أو لغير ذلك لا يصحّ أن يسند مضمونه إليه.

أقول: ما ذكر من تبعية الدلالة التصديقية لإرادة المتكلّم و إن كان صحيحاً لكنّه ليس نظرية خاصّة للعلمين، بل هي ممّا لم يختلف فيه اثنان، فاشتمال كلامهما على التبعية ناظر إلى معنى آخر و هو تبعية الدلالة التصورية أو الوضعية للإرادة. و عذر المحقّق الخراساني في هذه النسبة، عدم مراجعته لكلامهما في محلّه.

الثالث: انّ كلّ من فسّر الوضع بالتعهد و الالتزام و قال إنّه عبارة عن التعهد بأنّ كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى الخاص لا مناص له عن القول باختصاص الدلالة الوضعية بصورة قصد التفهيم و إرادة المعنى من اللفظ.

لأنّ الالتزام أو التعهد الذي هو مقوّم الوضع إنّما يتعلّق بالأمر الاختياري،

ص:98

و ما هو تحت اختيار الواضع هو ذاك) كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى (، و أمّا الالتزام بكون اللفظ دالاً على معناه و لو صدر منه عن غير شعور أو اختيار، فلا يعقل أن يكون طرفاً للالتزام و الاختيار.

و بالجملة: إنّما يتعلّق الالتزام بفعل الإنسان لا بفعل غيره. و في أفعال النفس يتعلّق بالاختياري منها لا بالخارج عنه، كالنطق نائماً أو ساهياً.

ص:99

الأمر السادس في وضع المركّبات

اشارة

ربّما نسب إلى بعض الأُدباء القول بوضع خاص للمركّبات وراء المفردات.

توضيحه: انّ قولنا» زيد إنسان «حاو لأوضاع ثلاثة، فللموضوع وضع، و للمحمول وضع آخر، و للهيئة وضع ثالث، فنسب إلى بعض الأُدباء انّه يقول: إنّ هنا وضعاً رابعاً و هو وضع مجموع المادة و الهيئة، و ربّما يتجاوز عدد الأوضاع عن الأربعة إلى الخمسة و من خمسة إلى ستة، مثلاً: قولنا:» زيد قائم « للمحمول وضعان: وضع للمادة، و وضع للهيئة مضافاً إلى وضع المبتدأ و الهيئة، فيكون وضع المجموع وضعاً خامساً.

و لو كان لكلّ من الموضوع و المحمول وضع، كقولنا:» الضارب متعجب «ينتهي عدد الوضع إلى ستة و هكذا يزداد عدد الأوضاع.

فسواء أصحت النسبة إلى بعض الأُدباء) كما يظهر من شرح المفصّل لابن مالك انّ لهذا القول قائلاً ( أم لم تصح فالقول بوضع المجموع ساقط، و ذلك للوجوه التالية:

1. أنّ وضع المجموع أمر لغو، لأنّ وضع المفردات و الهيئة الاسمية كافيتان في إفادة المراد من دون حاجة إلى وضع المجموع من حيث المجموع.

2. ما ذكره ابن مالك في شرحه على المفصل، و قال: إنّه لو كان للمجموع

ص:100

وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم يسبق إليه، إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد.

توضيحه: انّه لو كان للمجموع وراء المفردات و الهيئة وضع للزم أن تكون صحة الاستعمال متوقفة على الوضع المذكور، و على ذلك فلو كانت الجملة مما سبق استعمالها و تعلق بها وضع الواضع يصحّ لنا الاستعمال، و أمّا إذا كانت من الجمل المحدثة التي لم يسبق استعمالها و لم يتعلق بها الوضع لزم عدم صحّة استعمالها، لأنّها ليست على موازين الوضع كقولنا:» ارمسترونغ أوّل رائد فضائي «.

و ربّما يورد على تلك النظرية بأنّه: لو صحّ لزم الانتقال إلى المعنى مرتين في آن واحد، لفرض وضع المفردات مرّة، و المجموع من حيث المجموع مرّة أُخرى، و هذا يكون نظير ما إذا أتى الإنسان أوّلاً بأسماء كلّ عضو من أعضاء الإنسان، ثمّ أتى بلفظ الإنسان الجامع للأعضاء كلّها مرة ثانية.

يلاحظ عليه: أنّ الانتقال معلول للأُنس الحاصل من الاستعمال المعلول للوضع، و تعدّد الوضع لا يوجب تعدّد الانس فلا يلزم الانتقال.

إكمال المعروف انّ وضع المواد شخصي و وضع الهيئات نوعي،

و يراد منه أنّ المصدر بوحدته الشخصية كالضرب و القتل موضوع لمعناه، بخلاف الهيئات فانّها موضوعة بجامعها العنواني فيقال هيئة فاعل وضعت لمن قام بالفعل.

و قد أورد عليه بأنّه إن أُريد من نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاصها بمادة معينة فانّ المادة أيضاً غير مختصة بهيئة معينة، فانّ المصدر له صيغ مختلفة كالضارب و المضروب التي هي كالهيئة بالنسبة إلى المصدر.

ص:101

و إن أُريد من شخصية الوضع في المواد امتياز كلّ مادة عن الأُخرى، فكل هيئة أيضاً تتميز عن الأُخرى إذ هيئة الفاعل غير هيئة المفعول.

و الظاهر انّ مراد القائل بنوعية الوضع في الهيئات و شخصيته في المواد هو انّ الهيئة غير قابلة للحاظها مستقلّة بل تلاحظ في ضمن مادة لكن وضعها كذلك كالضارب يوجب عدم اطّرادها في مادة أُخرى، فيجب أن توضع بشكل لا يكون للمادة) الضرب (فيها أي مدخلية كأن يقال: هيئة ضارب و ما يشبهها، و هذا معنى نوعية الوضع في الهيئة، فليس الوضع متعلّقاً لهيئة شخصية قائمة بمادة معلومة، بل لها و لما يشبهها.

و أمّا المادة فهي قابلة للحاظها استقلالاً فلا تكون مقيدة بالهيئة و لو استخدمنا الهيئة فإنّما هي لإمكان النطق بها لا للحاظها مستقلاً.

فإن قلت: فعلى ذلك يكون المصدر هو مادة المشتقات مع أنّ المادة يجب أن تكون موجودة بعامة خصوصياتها في المشتقات، و من المعلوم انّ المصدر و إن كان موجوداً بمادته في سائر المشتقات و لكن هيئته غير موجودة، لأنّها تمنع طروء الصيغ المختلفة عليه.

قلت: إنّ هيئة المصدر ليست جزءاً، و إنّما استخدمنا الهيئة لإمكان النطق بها. فالموضوع هو) ض، ر، ب (و الهيئة آلة لإمكان النطق بها. وعليه تكون المادة متوفرة في جميع الصيغ.

ص:102

الأمر السابع في علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز

اشارة

قد ذكروا لتمييز الموضوع له عن غيره أو تمييز الحقيقة عن المجاز علائم أربع، نذكرها واحدةً بعد الأُخرى.

العلامة الأُولى: التبادر
اشارة

التبادر عبارة عن سبق المعنى من اللفظ عند الإطلاق بنفسه من غير قرينة.

و بعبارة أُخرى: انسباق المعنى إلى الذهن من حاقِّ اللفظ لا عن القرينة بحيث كان السبق مستنداً إلى اللفظ نفسِه لا إلى القرينة فيكون دليلاً على أنّه موضوع له، إذ ليس لحضور المعنى منشأ إلاّ أحد أمرين: إمّا القرينة أو الوضع فإذا انتفى الأوّل ثبت الثاني.

ثمّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع إذا كان سبق المعنى من اللفظ أمراً

ص:103

مرتكزاً في النفس كما هو الحال في أهل اللغة حيث إنّ الإنسان إذا نشأ و ترعرع بين أهل اللغة يرتكز معنى اللفظ في ذهنه فإذا تبادر بلا قرينة يكون دليلاً على الوضع.

فإن قلت: إنّ سبق المعنى إنّما يكون دليلاً على الحقيقة إذا فُسّر المجاز باستعماله في غير ما وضع له، و أمّا على القول المختار من أنّ المجاز هو اللفظ المستعمل في الموضوع له كالحقيقة لكن بادّعاء انّ المنطبق عليه من مصاديق اللفظ، فلا يكون دليلاً على الحقيقة لاشتراكهما في أنّ المستعمل فيه هو الموضوع له.

قلت: إنّ المستعمل فيه في الحقيقة و المجاز و إن كان واحداً لكن يفترقان بانسباق نفس المعنى الحقيقي من اللفظ مجرداً عن الادّعاء بخلاف المجاز فانّ الانسباق فيه على أساس الادّعاء.

مشكلة الدور في التبادر

و قد أورد على كون التبادر علامة الوضع لاستلزامه الدور، فانّه يُستخدم للعلم بالوضع، و على ذلك فالعلم بالوضع متوقّف على التبادر، و هو متوقّف على العلم بالوضع، إذ لو لا العلم به لما تبادر.

يلاحظ عليه: بأنّ المستعلِم) بالكسر (إمّا من أهل اللسان أو من غيره، فإن كان من أهل اللسان فالعلم التفصيلي بالوضع، موقوف على تبادره و لكن تبادره موقوف على العلم الارتكازي بالوضع الذي ربّما يعبّر عنه بالعلم الإجمالي، و هذا النوع من العلم الارتكازي يحصل للإنسان الناشئ بين أهل اللغة منذ نعومة أظفاره.

و إن كان المستعلم من غيرهم فعلمه تفصيلاً بالوضع موقوف على تبادر

ص:104

المعنى من اللفظ عند أهل اللسان و تبادرهم موقوف على علمهم بالوضع من طرق شتّى.

ثمّ إنّ هناك كلاماً للمحقّق العراقي في رفع الدور حيث قال: إنّ العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر حتى لو قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي، لأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف و الموقوف عليه بالشخص لا بالنوع و لا بالصنف، و لا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر للعلم الشخصي الذي يتوقف عليه التبادر.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان العلم التفصيلي الثاني موجوداً في لوح النفس قبل التبادر، فلا معنى لتحصيل مثله كما لا يخفى.

بقيت هنا أُمور:

الأوّل: ربما يقال إذا كان الموضوع للاحتجاج هو ظهور الكلام سواء أ كان حقيقة أم مجازاً فلا فائدة في معرفة الموضوع له، و تمييز المعنى المجازي عن المعنى الحقيقي و الذي يعتبره العقلاء هو ظهور الكلام سواء كان الموضوع له أو لا.(2)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان الكلام ظاهراً في معنى، كان لما ذكره وجه، و أمّا إذا كان الكلام مجملاً فانعقاد الظهور موقوف على العلم بالوضع، و هو يُعرف بالتبادر فيكون لمعرفة الموضوع له أثر و فائدة.

الثاني: انّ تبادر المعنى من اللفظ في زماننا لا يثبت كونه المعنى الحقيقي في عصر الرسول و الأئمّة ) عليهم السلام (حتى يحمل اللفظ الوارد من الكتاب و السنّة عليه إلاّ أن يعضد بأصالة عدم النقل، و قلنا بأنّ مثبتاتها حجّة، و لعلّه على هذا جرت سيرة

ص:105


1- - المحقّق العراقي: بدائع الأفكار: 1/97.
2- - المحقّق العراقي: المقالات: 31، و التعبير منّا.

المفسرين للقرآن حيث يفسرون الأشعار الجاهلية و الرسائل القديمة بالمعاني الرائجة في أيامهم.

الثالث: انّ التبادر كما قلنا إنّما يكون حجّة على الموضوع له إذا كان التبادر مستنداً إلى اللفظ لا إلى القرينة، و إلاّ فالمعنى المجازي أيضاً يتبادر مع القرينة، و على هذا فلو أحرزنا أنّ التبادر مستند إلى حاق اللفظ أو إلى القرينة فهو، و إلاّ فهل يُجدي أصالة عدم القرينة لإثبات كون المعنى متبادراً من حاق اللفظ أو لا؟ الظاهر لا، لا لأجل عدم حجّية الأصل المثبت لما علمت أنّ الأصل اللفظي حجّة في مثبتاته بل لأنّ العقلاء إنّما يستخدمون ذلك الأصل عند الشكّ في المراد فيعيّنون به المراد، و أمّا إذا علم المراد و شك في كيفية الإرادة و انّه هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز فلا، و ما هذا إلاّ لأنّ العقلاء يستخدمون الأُصول فيما يمسّ بحاجاتهم، و أمّا تعيين كيفية الإرادة و انّها هل هي على وجه الحقيقة أو المجاز فخارج عن مقاصدهم.

بحث استطراديّ

قد انتهى البحث عن التبادر و هناك بحث استطرادي، و هو أنّ الدور المتوهم في التبادر، نفس الدور المتوهم في الشكل الأوّل، حيث إنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلّية الكبرى، و العلم بكليتها موقوف على العلم بثبوت الأكبر للأصغر، ففي المثال المعروف: العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث، فلا شكّ أنّ العلم بالنتيجة موقوف على العلم بكلية الكبرى، أي أنّ كلّ متغير) حتى العالم (حادث، و العلم بكليّتها فرع العلم بالنتيجة، إذ لو لا العلم بأنّ الأصغر) العالم (من مصاديق الأوسط) المتغير (لما أمكن له الحكم بنحو الكلية.

و قد نقل أنّ العارف أبا سعيد أبا الخير أورد تلك الشبهة على الشيخ الرئيس

ص:106

أبي علي ابن سينا قائلاً: بأنّ الاستنتاجات كلها من طرق الأشكال الأربعة و الثلاثة الأخيرة تنتهي إلى الشكل الأوّل و هو مستلزم للدور، لأنّ ثبوت النتيجة يتوقف على كلية الكبرى، و لا يعلم صدق الكبرى على النحو الكلي حتى يكون الأكبر) الحادث (صادقاً على الأصغر) العالم (.

و كان في وسع الشيخ أبي سعيد تبيين الشبهة بأقوى من ذلك بأن يقول: إنّ الموادّ التي تتألف من الأقيسة لا تتجاوز عن خمسة أقسام.

فالقسم الشعري و المغالطي خارجان عن حيّز الاعتبار، و قسم الجدل لإسكات الخصم و تبكيته، و ربما يكون باطلاً عند المجادل، و القياس الخطابي لإقناع الإنسان العاجز عن إدراك البرهان، و القياس البرهاني يصاغ بأحد الأشكال الأربعة، و أفضلها هو الشكل الأوّل و هو لا ينتج لاستلزامه الدور.

و قد نقل انّ الشيخ ملا خليل القزويني الذي تتلمذ على الشيخ بهاء الدين العاملي و المحقّق الداماد كان ممّن يجوّز الترجيح بلا مرجّح و يستشهد برغيفي الجائع و طريق الهارب و انّه يختار أحدهما بلا مرجح، كما يعتقد ببطلان الشكل الأوّل لاستلزامه الدور بالبيان الآتي، و لما وقف على أنّ المحقّق آغا حسين الخوانساري أجاب عن شبهته، غادر قزوين متوجهاً إلى أصفهان و لما نزل بها و دخل المدرسة صادف بها أحد تلاميذ الخوانساري أعني الشيخ ميرزا محمد حسن الشيرواني فسأله عن سبب مجيئه إلى أصفهان، فقال: جئت لأناظر الخوانساري لاعتقاده بصحّة الشكل الأوّل و أنا أعتقد بكونه عقيم.

فقال الشيرواني: لما ذا؟ أجاب: لأنّه مستلزم للدور، و الدور باطل، فالشكل الأوّل باطل.

فقال الشيرواني: يا للعجب ما أتقن برهانَك حيث تستدل بالشكل الأوّل على بطلان الشكل الأوّل، فانّ ما ذكرته نفس الشكل الأوّل.

ص:107

فلمّا سمع القزويني الجوابَ ركب راحلتَه و عاد إلى قزوين من دون أن يرى حاجة لمواجهة الخوانساري.

إنّ هذا النوع من التفكير الذي كان عليه القزويني شائع بين أهل العرفان المجرّدين عن البرهان حتى انّ جلال الدين الرومي من تلك الزمرة حيث يبرهن بالعقل على عدم حجّية العقل و يقول:

پاى استدلاليان چوبين بود پاى چوبين سخت بى تمكين بود

و حاصله: انّ البرهان كالقدم الخشبي، و القدم الخشبي ضعيف المقاومة، فينتج انّ البرهان ضعيف المقاومة، ترى أنّه يستدلّ بالبرهان العقلي على صورة الشكل الأوّل على بطلان البرهان.

هذا و قد أجاب الشيخ الرئيس عن الدور الذي طرحه العارف أبو سعيد أبو الخير و قال: إنّ كلية الكبرى موقوفة على العلم باندراج الأصغر في الأكبر إجمالاً، و المقصود من النتيجة حصوله تفصيلاً; و قد أوضحه المحقّق السبزواري في شرحه على منطق منظومته و قال: إنّ الحكم يختلف باختلاف العنوان، حتى يكون الموضوع بحسب وصف، معلوم الحكم، و بحسب وصف آخر مجهولاً، فيستفاد حكمه باعتبار وصف، من العلم بحكمه باعتبار وصف آخر، فإذا قلنا كلّ إنسان حيوان، و كلّ حيوان حساس، أخذنا أفراد الحيوان الذي هو الحد الأوسط بعنوان الحيوان، لا بعنوان الإنسان و مجانساته، فلا دور و لا مصادرة، و تختلف الأحكام باختلاف العنوانات اختلافاً بيناً.(1)

فالإنسان بما انّه حيوان، نعلم أنّه حساس، و نريد أن نقف على أنّه حساس، بما انّه إنسان فالعلم الثاني موقوف على الأوّل بلا عكس.

ص:108


1- - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة: قسم المنطق، 79.

و أوضحه المحقّق الآشتياني بقوله: إنّ العلم بالنتيجة، أي أنّ العالَم بالخصوص و بالتفصيل حادث يتوقف على العلم بالمقدمتين، و أمّا العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث لا يتوقف على العلم بأنّ العالم بما هو عالم و بعنوان كونه عالماً بخصوصه و تفصيلاً، حادث، بل على العلم إجمالاً بعنوان انّه شيء متغير، حادث لا بعنوان انّه عالَم بخصوصه، فالعلم به من حيث إنّه متصف بعنوان خاص و هو العالمية محكوم بصفة أُخرى و هي الحدوث، متوقف على العلم به من حيث إنّه متصف بصفة أُخرى بعنوان آخر، و هو كونه شيئاً متغيراً، فلا دور لاختلاف طرفي التوقف.(1)

جواب آخر عن الدور

و هو انّ العلم بالنتيجة موقوف على كلية الكبرى، و لكن العلم بكلية الكبرى موقوف على الدليل العقلي الدال على الملازمة بين التغيّر و الحدوث من دون نظر إلى مصداق دون مصداق، فإذا دلّ الدليل العقلي على أنّ التغير عبارة عن التدرّج في الوجود، و التدرج يلازم تحقّق الشيء شيئاً فشيئاً يكون التغير ملازماً للحدوث، فالعقل ينتزع من هذه الملازمة قانوناً كلياً باسم كل متغير حادث.

هذا إذا كان الموضوع في الكبرى دليلاً على الملازمة كالتغير، و ربما لا يكون كذلك و إنّما تعلم كلية الكبرى من دليل خارجي، مثلاً نقول: هذا مثلث و كلّ مثلث زواياه تساوي زاويتين قائمتين، فالعلم بالكبرى رهن البرهان الهندسي على انّ مقدار زوايا المثلث، تساوي زاويتين قائمتين.

تمّ الكلام في التبادر و إليك البحث في العلامة الثانية.

ص:109


1- - الآشتياني: التعليقة على شرح المنظومة.
العلامة الثانية: صحّة الحمل و صحّة السلب

إنّ صحّة الحمل تعرب عن كون الموضوع هو المعنى الحقيقي كما أنّ صحّة السلب آية كونه مجازاً.

و تحقيق المقام يحتاج إلى بيان أُمور:

الأوّل: انّ الحمل إمّا أولي ذاتي أو شائع صناعي، فالأوّل عبارة عمّا إذا كان بين المحمول و الموضوع وحدة مفهومية، و أمّا الثاني فهو عبارة عن كون الموضوع من مصاديق المحمول، و كان الاتحاد في مقام الوجود و العينية دون المفهوم كما إذا قلنا: زيد إنسان.

ثمّ إنّ صحّة الحمل إنّما تجدي في القسم الأوّل كأن يقال: الحيوان المفترس أسد، و الحيوان الناطق إنسان، بخلاف الحمل الشائع الصناعي فانّه لا يثبت كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول، و إنّما يثبت كونه من مصاديق المحمول، و هو ليس بمطلوب في المقام، و لذلك نركّز في المقام على الحمل الأوّلي دون الحمل الشائع الصناعي.

الثاني: انّ كيفية الاستعلام تتحقّق بالنحو التالي:

يُتخذ المعنى موضوعاً و ينظر إليه لا بما هو لفظ بل بما انّه مفهوم، و يجعل اللفظ الذي نريد استعلام معناه، محمولاً و يقال: الحيوان المفترس أسد أو الحيوان الناطق إنسان، فإذا صحّ الحمل يكون ذلك علامة على أنّ الموضوع، هو الموضوع له، كما أنّ صحّة السلب آية انّه ليس بموضوع له، كما إذا قال: الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة.

الثالث: انّ المحقّق القمي فرّق بين صحّة الحمل و صحّة السلب، فاكتفى

ص:110

في الأوّل بصحّة حمل معنى واحد على الموضوع، و قال في الثاني بأنّه لا يكون علامة إلاّ إذا صحّ سلب جميع المعاني الحقيقية عن المستعمل فيه لئلا يرد النقض في المشترك فانّه يصحّ سلب بعض المعاني عن مورد، كالعين بمعنى الذهب عن الفضة و لا يصحّ سلب جميعها.(1)

الرابع: قد أورد السيّد الأُستاذ على كون صحّة الحمل علامة الوضع، أو صحّة السلب علامة المجاز، بأنّ الاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع، السابق على الحمل و سلبه، فيكون اسناده إلى الحمل و سلبه في غير محله.

فإن قلت: إنّما يصحّ ما ذكر إذا كان المستعلم من أهل اللسان، و أمّا إذا كان من غيرهم فلا تبادر و لا وحدة عنده بين الموضوع و المحمول فحينئذ إذا رأى صحّة الحمل عند العرف أو صحّة السلب يجد ضالّته.

قلت: إنّ صحّة الحمل عند أهل اللغة أو عدم صحّته يرجع إلى تنصيص أهل اللغة و اللسان و ليست بعلامة مستقلة، لأنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير.(2)

يلاحظ عليه: انّا نختار الشق الأوّل و انّ المراد هو صحّة الحمل عند المستعلم لكن إنّما تكون صحّة الحمل مسبوقة بالتبادر إذا كان زمان الاستعلام مقارناً بزمان الحمل و سلبه فيسبقه التبادر و يغني عن غيره.

و أمّا إذا كان زمان الحمل مقدّماً على زمان الاستعلام، كما إذا صدر الحمل عن الإنسان في مقام إلقاء الخطابة أو المحاضرات العلمية و لم يكن حينذاك بصدد الاستعلام و إنّما تكلم بما تكلم ارتجالاً، و لما صار بصدد الاستكشاف وقف

ص:111


1- - قوانين الأُصول: 1/21.
2- - تهذيب الأُصول: 1/58.

على حمله أو سلبه السابقين، فيستدل به على كون الموضوع حقيقة أو مجازاً.

و نختار الشق الثاني و نقول: إنّ المراد من تنصيص أهل اللغة هو تصريحهم بالموضوع على وجه تفصيلي كقاموس اللغة و أساس البلاغة و لسان العرب، و ما أفاده من أنّ العلم بصحّة الحمل لا يحصل إلاّ بتصريح الغير فيرجع إلى تنصيصه، غير تامّ، بل العلم بها يحصل من الوقوف و لو بالقرائن الخارجية على كون الحمل أو السلب صحيحاً عندهم و إن لم يصرّحوا بصحّة الحمل.

الخامس: قد سبق انّ التبادر لا يثبت إلاّ انّ الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصر المتعلّم، و امّا انّه هو الموضوع له في عصر النبي و الأئمّة فلا يتم إلاّ بأصالة عدم النقل المتفق عليها عند العقلاء، و مثله صحّة الحمل أو عدم صحّة السلب فلا يثبت إلاّ كون الموضوع هو المعنى الحقيقي في عصرنا.

نعم لو قلنا بأنّ المدار في الحجّية هو الظهور الواصل للسامع كفى نفس التبادر و صحة الحمل المثبتين لهذا الظهور.

و أمّا لو كان المدار هو الظهور حين صدوره من المتكلّم فهو يحتاج وراء التبادر أو صحة الحمل إلى أصالة عدم النقل.

السادس: انّ مشكلة الدور و حلها في المقام نفسها في التبادر طابق النعل بالنعل.

***

ص:112

العلامة الثالثة: الاطّراد

إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كلي بحيثية خاصة، كرجل باعتبار الرجولية في زيد و عمرو، مع القطع بكونه غير موضوع لكل واحد على حدة، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها و بين ذاك الكلي، و علم أنّه موضوع للجامع بين الأفراد. و احتمال كونه مجازاً لأجل العلاقة، مدفوع بعدم الاطّراد في علائق المجاز، فانّ علامة الجزء و الكل ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال العين في المراقب و لا يصحّ استعمال الشعر فيه، و يصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه و غير ذلك.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. انّ المجاز و إن لم يطرد في نوع علائقه و مطلق المشابهة إلاّ انّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة.(1)

يريد أنّ استعمال الجزء في الكل و إن كان ليس بمطّرد في نوع تلك العلاقة بأنْ يطلق الجزء كالشعر و يراد الكل أي الإنسان، لكنّه مطّرد في خصوص ما كان للجزء دور خاص في مورد الاستعمال كالعين في المراقبة، و التبيين في اللسان، و العمل في اليد.

ثمّ إنّه لما التفت إلى وجود الفرق بين الاطّرادين حيث إنّ الاطّراد في الحقيقة عار عن التأويل، بخلاف الاطّراد في المجاز فانّه لا يصحّ إلاّ مع التأويل، أي تنزيل الجزء منزلة الكل، و كأنّه ليس للإنسان الجاسوس شأن سوى العين و النظر،

ص:113


1- - كفاية الأُصول: 1/28.

و للعامل سوى العمل باليد، و هكذا، و على ذلك فالاطّراد بلا تأويل علامة الحقيقة، و الاطّراد معه آية المجاز.

و لما التفت إلى ذلك الإشكال حاول الإجابة عنه من دون أن يذكر الإشكال و قال:

2. و زيادة قيد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة و إن كان موجباً لاختصاص الاطّراد كذلك في الحقيقة إلاّ انّه حينئذ لا يكون علامة لها إلاّ على وجه دائر.(1)

توضيحه: انّ العلم التفصيلي بالحقيقة موقوف على الاطّراد من غير تأويل أي الاطّراد على وجه الحقيقة تفصيلاً فيلزم اتحاد الموقوف و الموقوف عليه.

ثمّ قال: إنّه لا يمكن الإجابة عن الدور بما ذكر في التبادر و صحة الحمل، لأنّ أحد الطرفين فيهما كان تفصيلياً و الآخر إجمالياً بخلاف المقام فانّ الطرفين على نحو التفصيل.

3. و إلى الإشكال الثالث يشير المحقّق الخراساني بقوله: و لا يتأتّى التفصّي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره.(2)

و حاصل كلام المحقّق الخراساني يرجع إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: انّ المجاز مطرد كالحقيقة في صنف العلامة.

الثاني: انّ إضافة قيد» بلا تأويل «في تعريف الاطّراد يوجب الدور.

الثالث: الجواب المذكور عن الدور في العلامتين الماضيتين لا يأتي هنا.

و قبل الإجابة عن هذه الإشكالات نوضح واقع الاطّراد و انّه لو كان هناك

ص:114


1- - كفاية الأُصول: 1/29.
2- - كفاية الأُصول: 1/29.

علامة للتعرف على الحقيقة لمن يريد الوقوف على اللغة هو الاطّراد غير انّ المشهور لم يعيروا أهمية لهذه العلامة حتى أنّ البعض ترك البحث فيها، غير أنّ المتتبع لاستعمالات اللغة يجد أنّ الاسلوب الوحيد للتعرّف على معاني الألفاظ هو الاطّراد.

توضيح ذلك: انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان ليس له طريق إلاّ الاستماع لمحاضرات أهل اللغة في مقامات مختلفة، فإذا رأى أنّ لفظاً خاصاً تستعمله طوائف مختلفة مع ثقافات متنوعة بحيثية واحدة في معنى واحد ينتقل إلى أنّه هو الموضوع له و انّ الاستعمال خال عن القرينة، مثلاً: رأى أنّ الفقيه يقول: الماء طاهر و مطهّر، أو قليل أو كثير، و يقول الكيميائي: الماء مركب من عنصرين أوكسيجين و هيدروجين، و يقول الفيزيائي: الماء لا لون له، و الكل يستعمل ذلك اللفظ في مورد خاص بحيثية واحدة و هو المائع السيال، و بما انّ المستعملين ذوو ثقافات مختلفة فمن البعيد أن يكون بينهم اتفاق على الاستعمال، فإذاً ينتقل الإنسان إلى أنّ الماء في لغة العرب موضوع للجسم الرطب السيال، فالفقيه العربي كالكيمياوي العربي مثل الفيزياوي كلّ يطلق ذلك اللفظ على هذا المعنى بما هو من أبناء تلك اللغة لا بما هو فقيه أو كيمياوي أو فيزياوي.

و بذلك يعلم أنّ طريق اقتناص معاني اللغة الأجنبية إنّما هو الاطّراد، فلنفترض انّا لا نعلم معنى الغنيمة الواردة في قوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ )(1) حيث إنّ معناها مردد بين غنيمة الحرب أو مطلق ما يفوز به الإنسان، فالسنّة على الأوّل، و الشيعة على الثاني، و من الطرق الموضحة

ص:115


1- - الأنفال: 41.

لمعناها هو التتبع في لغة العرب و استعمالها في كلمات أهل اللسان في خصوص الغنيمة الحربية أو مطلق ما يفوز به الإنسان، فإذا رجعنا إلى القرآن نرى أنّه يستعمله في المعنى الثاني و يقول: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ )(1)، فالمراد من الغنائم عند اللّه هو الثواب الأُخروي، و إذا رجعنا إلى السنّة نرى أنّها تستعمله في ذلك المعنى، يقول رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» غنيمة مجالس الذكر الجنة «(2)و في حديث آخر:» رمضان غنم المؤمن «(3)إلى غير ذلك من الموارد التي تستعمل في ألسنة أهل اللغة في معنى عام، فإذاً يحدس الإنسان بأنّه الموضوع له، و أمّا استعمالها في الغنيمة الحربية فلأجل أنّها من مصاديق ذلك المعنى، و إن شاع الاستعمال الثاني في ألسن المفسرين و الفقهاء.

إذا وقفت على ما ذكرنا فلنرجع إلى نقد ما ذكره المحقّق الخراساني.

أمّا الإشكال الأوّل: أعني وجود التسوية بين الحقيقة و المجاز حيث إنّ الثاني مطرد في صنف العلائق كالحقيقة.

فالإجابة عنه واضحة، و ذلك لأنّ المجاز غير مطّرد حتى في مورد صنف العلاقة، لأنّ المجاز عبارة عن حسن استعمال اللفظ في الموضوع له لكن بادّعاء أنّ المورد من مصاديق المعنى الحقيقي، و لكن حسن هذا الادّعاء رهن أمرين:

أ: أن يستحسنه الذوق، فلو قال أسد و أراد به الحيوان المفترس و طبّقه على الرجل الشجاع يستحسنه الذوق، دون ما إذا قال أسد و أراد الحيوان المفترس لكن طبقه على الرجل الأبخر بادعاء أنّ الحيوان المفترس أيضاً أبخر.

ب: كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء، فلا يستعمل الأسد في المعنى

ص:116


1- - النساء: 94.
2- - انظر الاعتصام بالكتاب و السنّة: 292 تجد فيها أحاديث أُخرى مع مصادرها.
3- - انظر الاعتصام بالكتاب و السنّة: 292 تجد فيها أحاديث أُخرى مع مصادرها.

المجازي إلاّ إذا كان المقام مناسباً لإظهار بطولته و شجاعته، كما في قول الشاعر:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم

بخلاف ما إذا لم يكن المقام مقتضياً له كما إذا حاول أن يشاركه في الغذاء فلا يصحّ أن يقول يا أسد تفضل إلى الطعام بل يجب أن يقول: يا صديق تفضل إلى الطعام.

فهناك فرق بين يا رجل و يا أسد، فالثاني لا يصحّ إلاّ إذا كان المقام مختصاً ببيان شجاعته، بخلاف الأوّل فانّه يطّرد مطلقاً في عامة المقامات، و بذلك يظهر اختصاص الاطّراد بالحقائق دون المجازات، و لأجل ذلك قلنا لو صحّ استعمال اللفظ في موارد مختلفة مع محمولات مختلفة، لكشف عن كون المجوز هو الوضع دون القرينة.

و مثله إذا قلنا» فلان عين «فليس له اطّراد، كاطّراد لفظ الإنسان إلاّ في مقام خاص و هو كونه مراقباً للأُمور.

و أمّا الإشكال الثاني: أعني إضافة» من غير تأويل «إلى تعريف الاطّراد يستلزم الدور.

فالظاهر أنّ المحقق الخراساني زعم أنّ العلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقف» على الاطّراد من غير تأويل «على نحو يجب أن يحرز قبل الاستعلام» الاطّراد بلا تأويل «ثمّ يستخدمه المستعلم في التعرف على الموضوع له، فلو كان هذا هو المراد لكان لإشكاله وجه، إذ مع العلم بالمعنى الحقيقي، لا جهل حتى نتوسل إلى رفعه، مضافاً إلى اتحاد الموقوف و الموقوف عليه.

و أمّا إذا كان المراد أنّ العلم بالمعنى الموضوع له على وجه الحقيقة موقوف على إعمال الاطّراد بكثرة حتى يقف المستعلم بأنّ الاستعمال في هذه الموارد الكثيرة

ص:117

ليس مقروناً بالتأويل، فهو لا يستلزم الدور، لأنّ قيد» من غير تأويل «ليس قيداً للاطّراد من أوّل الأمر و إنّما هو نتيجة الإطراد.

و على ذلك فالعلم بالموضوع له على وجه الحقيقة متوقّف على الاطّراد، لكن إلى حد يحصل العلم بأنّه ليس في المقام أي تأويل و تنزيل، و إلاّ فلو كان لعُلم، فهو) أي من غير تأويل (نتيجة الاطّراد و في طوله لا في عرضه.

و على ذلك فينشأ من الاطّراد أُمور ثلاثة:

أ. انّ الاطّراد نتيجة الوضع.

ب. الاطّراد ليس مقروناً بالتأويل.

ج. انّ المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.

إلى هنا تمّت الإجابة عن الإشكالين.

و أمّا الإشكال الثالث من انّ الجواب عن الدور على النحو السابق في التبادر و صحّة الحمل لا يأتي في المقام فقد علم جوابه ممّا ذكرنا، و ذلك لأنّ العلم بالحقيقة على وجه التفصيل هو الموقوف و لكن الموقوف عليه هو الاطّراد إلى حد ينتهي إلى العلم بعدم التأويل، فعندئذ يحصل العلم بالعلم بالحقيقة.

و قد أورد على الاطّراد السيّد الأُستاذ إشكالاً آخر و حاصله:

أنّ الاطّراد مسبوق بصحّة الحمل فيكون غير محتاج إليه.

و يمكن الإجابة عنه، بأنّ الاطّراد إنّما يكون مسبوقاً بصحّة الحمل لو علم انّ الحمل صحيح بلا قرينة، و أمّا إذا شكّ في أنّ المصحّح للحمل ذات الموضوع، أو بضميمة قرينة فلا يكون مسبوقاً به، فعندئذ يكون اطّراد الاستعمال في موارد مختلفة مع الحمل عليه بمحمولات متنوعة كاشفاً عن الحقيقة، و أنّ المجوز هو الوضع، دون القرينة من دون أن يكون لصحّة الحمل دور في مجال الاستكشاف.

ص:118

ثمّ إنّ كون الاطّراد دليلاً على الحقيقة ليس بمعنى أنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة كما عليه المرتضى، و ذلك للفرق بين القولين فانّ ما ذكره يرجع إلى أنّ الأصل في كلّ استعمال ما لم يعلم كونه مجازياً كون المستعمل فيه معنى حقيقياً، و لأجل ذلك ذهب إلى أنّ اشتراك صيغة الأمر في الوجوب و الندب لأجل استعماله فيهما.

و بالجملة: هو يكتفي بمجرّد الاستعمال و يجعله دليلاً على الحقيقة.

و ما ذكرنا يرجع إلى أنّ استعمالاً واحداً أو اثنين لا يكشف عن كون المستعمل فيه حقيقة إلاّ إذا انتهى إلى حدّ نطمئنّ بأنّ الانتقال من اللفظ إلى المعنى، مستند إلى الوضع لا إلى القرينة إذ لو كان لبان، و لو خفي في مورد فلا يكاد يخفى في الموارد المختلفة، و كم فرق بين القولين.

العلامة الرابعة: تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة على معنى اللفظ من أسباب التعرّف على المعنى الحقيقي و تمييزه عن المعنى المجازي، و المراد من أهل اللغة هم الذين ألّفوا معاجم اللغة و قواميسها، منهم:

1. الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي سيد أهل الأدب، فهو أوّل من دوّن لغة العرب على وفق حروف المعجم لكنّه رتب الحروف حسب مخارجها من الحلق، فاللسان فالأسنان، فالشفتين، و بدأ بحرف العين و ختمها بحروف العلة) واي (و قد طبع أخيراً، توفّي عام 170 ه.

ص:119

2. محمد بن الحسن بن دريد، صاحب الجمهرة في اللغة) المتوفّى عام 321 ه (.

3. إسماعيل بن حمّاد الجوهري، صاحب كتاب صحاح اللغة،) المتوفّى عام 391 ه (.

إلى غير ذلك من أُمّهات كتب اللغة المؤلفة في العصور الأُولى، أو المؤلفة في العصور الوسطى، كلسان العرب لابن منظور المصري) المتوفّى عام 707 ه (، و» القاموس المحيط «للفيروزآبادي ) المتوفّى عام 717 ه (.

ثمّ إنّه استشكل على تلك العلامة بأنّ شأن اللغوي هو بيان موارد الاستعمال من غير فرق بين كونه معنى حقيقياً أو مجازياً، مع أنّ المطلوب هو تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ كتب اللغة على قسمين: قسم منه يتعرّض للمعنى الأصلي الذي اشتقّ منه سائر المعاني و تفرّع منه بمناسبة من المناسبات، و من أحسن ما ألف في هذا المضمار كتاب» المقاييس «لأحمد بن فارس بن زكريا) المتوفّى عام 395 ه (، و» أساس البلاغة «للزمخشري) المتوفّى عام 538 ه (فقد بذل المؤلفان الجهودَ لتعيين أُصول المعاني و تميزها عن متفرعاتها، فالرجوع إلى هذين المعجمين يوقف المراجع على المعنى الموضوع له، دون خصوص المستعمل فيه.

الثاني: ان همّ أغلب المعاجم و إن كان بيان المستعمل فيه، من دون تركيز على المعنى الأصلي، لكن الممارس لها، ممارسة تامة يكتسب ملكة يستطيع بها تمييز المعنى الحقيقي عن المعاني المشتقة منه، و ذلك رهن الممارسة الممتدة بكتب اللغة، على نحو يخالط علمُ اللغة دمَه و لحمَه، مضافاً إلى قريحة أدبية يقتنص على ضوئها

ص:120

الحقائقَ، و نمثل لذلك مثالين:

1. انّ أهل اللغة يذكرون للفظ الوحي معان: كالإشارة السريعة، و الصوت الخفي، و الإلهام القلبي، و التسخير، إلى غير ذلك من المعاني، و لكلّ واحد منها شاهد في القرآن الكريم(1)، لكن الإمعان فيها يقضي أنّ له معنى واحداً و هو الافهام بخفاء و البواقي صور له.

2. يذكر أهل اللغة للقضاء عشرة معاني كالحكم، الصنع، الحتم، البيان، الموت، الإتمام، بلوغ النهاية، العهد، الإيصاء، و الأداء، و لكن الإمعان يثبت أنّ الجميع مصاديق مختلفة لمعنى واحد و هو العمل المتقن، و الباقي صور له، و لذلك أرجع صاحب المقاييس الجميع إلى أصل واحد.

و على ذلك فالرجوع إلى هذه القواميس على النحو المذكور ربّما يرفع الستار عن وجه الحقيقة.

ص:121


1- - الإشارة، كقوله سبحانه: (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا) (مريم: 11). الصوت الخفي، كقوله سبحانه (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) (الأنعام: 112). الإلهام القلبي، كقوله سبحانه: (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص: 7). التسخير، كقوله سبحانه: (وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (فصلت: 12).

الأمر الثامن في تعارض الأحوال

لا شكّ أنّه إذا دار الأمر بين حمل اللفظ على المعنى الحقيقي و المجازي، فالأصل هو الحقيقة حتى يثبت خلافه، أو إذا دار الأمر بين العام و الخاص، أو المطلق و المقيّد، فالأصل هو الأخذ بالعموم و المطلق حتى يثبت خلافها.

إنّما الكلام فيما إذا دار الأمر بين أحد الأُمور الخمسة التي كلها على خلاف الأصل كالتجوز و التخصيص و الاشتراك، و النقل و الإضمار، و غيرها كالاستخدام و التقييد فهل هناك ترجيح لأحدها على الآخر، أو لا؟ قد ذكر الأُصوليون وجوهاً استحسانية لترجيح بعض على البعض الآخر، و قد أطنب المحقّق القمي(1) الكلام في ذلك لكنّها وجوه عقلية ظنية، لا تثبت الظهور.

مثلاً إذا دار الأمر في قوله سبحانه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها )(2) بين إضمار لفظ» أهل «، أو استعمال القرية في غير معناها الحقيقي فقد ذكروا لكلّ وجهاً غير مقنع، فالبحث عن هذه الوجوه و نقدها إضاعة للعمر و المتّبع لدى أهل المحاورة هو الظهور فإن تحقّق فهو و إلاّ فلا تعتبر، لأنّ هذه الوجوه، علل فكريّة، أشبه بأُمور عقلية بعيدة عن الأذهان العرفية، فلا يلتفت إليها العرف الدقيق حتى يثبت بها الظهور للكلام.

ص:122


1- - قوانين الأُصول: 351/31.
2- - يوسف: 82.

الأمر التاسع في الحقيقة الشرعية

اشارة

الحقيقة الشرعية عبارة عن صيرورة ألفاظ العبادات حقائق في المعاني المخصوصة بوضع الشارع تعييناً أو تعيّناً، أو بنحو آخر كما سيوافيك و هل هي ثابتة أو لا؟ و تحقيق المقام يتوقف على نقل الآراء في المسألة.

إنّ النظريات المطروحة في المقام لا تتجاوز عن أربع:

الأُولى: بقاء ألفاظ العبادات على معانيها اللغوية.

و هذه النظرية هي المنسوبة إلى أبي بكر الباقلاني) المتوفّى 403 ه (و هو من أكابر الأشاعرة و قد ادّعى أنّ ألفاظ العبادات استعملها النبي في معانيها اللغوية و طبَّقها على تشريعاته، لأنّها من مصاديقها التي كشف عنها الشارع و إن كان العرف غافلاً عنها، فالألفاظ باقية على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا.

الثانية: انّ ألفاظ العبادات نقلت على لسان النبي من معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية بالوضع الجديد.

الثالثة: انّ النبي استعملها في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق في تلك المعاني في لسان المتشرعة، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

الرابعة: انّها كانت حقائق في تلك المعاني الشرعية قبل بعثة النبي و بعده

ص:123

و انّ العرب كانت تستعمل تلك الألفاظ في هذه الماهيّات بلا قرينة مقالية أو حالية، و قد خاطب النبي الأُمّة الإسلامية بلغتهم. و إليك دراسة الأقوال:

دراسة النظرية الأُولى: أي بقاء ألفاظ العبادات على معانيها اللغوية

أمّا النظرية الأُولى: فهي مردودة، إذ كيف يمكن أن يدّعى أنّ الصلاة من مصاديق الدعاء التي كشف عنها الشارع، إذ بين الدعاء و الصلاة بون شاسع، فإذا استعملها النبي في تلك المعاني في حين مغايرتها مع المعنى اللغوي فلا بدّ له من مسوّغ، و هو أحد أمرين: إمّا النقل و الوضع فيدخل في القول الثاني، أو العلاقة بين المعنيين فيدخل في القول الثالث، فنظرية الباقلاني مردّدة ثبوتاً بين القولين و لا يمكن أن تكون نظرية مستقلة.

دراسة النظرية الثانية: أي أنّ ألفاظ العبادات نقلت على لسان النبي ص من معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية بالوضع الجديد

و استدلّ للنظرية الثانية بتبادر المعاني الشرعية من هذه الألفاظ في محاورات النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو رهن الوضع، إذ لو لا الوضع لم يصح التبادر.

و بالجملة: انّ المثبِت يعتمد على التبادر في لسان النبي و يراه ملازماً للقول بالوضع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح لو لم يصحّ تفسير التبادر عن طريق القول الرابع، و إلاّ فلو كانت تلك الألفاظ حقائق عرفية في عصر التشريع في لسان العرب لصحّ تفسير التبادر عن ذلك الطريق من دون أن يكون للنبي دور في تحقّق التبادر كما سيوافيك. فهذا القول متين إذا لم يثبت القول الرابع.

دراسة النظرية الثالثة: أي أنّ النبي ص استعملها في تلك المعاني مجازاً ثمّ صارت حقائق في تلك المعاني في لسان المتشرعة

و استدل للنظرية الثالثة بأنّ كونها حقائق شرعية في لسانه) صلى الله عليه و آله و سلم (يتوقف على الوضع و هو إمّا تعييني أو تعيّني، و الأوّل بعيد جداً، و إلاّ لنقل، و الثاني يتوقف على الاستعمال بكثرة و لا يكفي عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (و استعمالاته في تحقّق النقل.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: لما ذا لا تكفي فترة الرسالة لتحقق الوضع التعيّني مع أنّ بلالاً

ص:124

ينادي كلّ يوم و يقول:» حي على الصلاة «عشر مرات، فيكفي في تحقق الحقيقة الشرعية مضيّ أيام أو شهور؟! الثاني: الوضع غير منحصر بالتعيينيّ و التعيّني، إذ هناك طريق آخر للوضع و هو الاستعمال بداعي الوضع كما يقول الأب عند تسمية المولود الجديد مخاطباً أُمّه: ائتيني ولدي الحسين يحاول بذلك تسميته به.

و من الممكن أن يتولّى النبي عملية الوضع من خلال هذا الطريق، فلما صلّى أمام قومه، فقال: صلّوا كما رأيتموني أُصلي، فهو بنفس ذلك الاستعمال نقل الصلاة من معناها اللغوي إلى الحقيقة الجديدة.

نعم ربّما يقال بأنّه يمتنع الاستعمال بداعي الوضع، لأنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين المختلفين في آن واحد، فبما انّه بصدد الوضع فيلاحظ لفظ الحسين لحاظاً استقلالياً، و بما انّه بصدد استعماله في المولود الجديد يلاحظ اللفظ استعمالاً آلياً، فليزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ وضع اللفظ يستلزم لحاظه على وجه الاستقلال ممّا لا غبار عليه، إنّما الكلام في الشق الثاني و هو أنّ الاستعمال يلازم لحاظ اللفظ آلياً و تبعياً، إذ حينئذ يسأل عن معنى التبعية و الآلية فإن أُريد منها مغفوليةُ اللفظ، فهو غير صحيح، فانّ الإنسان في مقام إظهار الفصاحة يتوجه إلى اللفظ مثل توجهه إلى المعنى فينتخب السهلَ العذْب و يترك خلافه لا سيما إذا كان سياسياً يحاسَب على كلّ لفظ يتفوّه به.

و إن أُريد من التبعية كون اللفظ وسيلة لإفادة المعنى و المعنى، هو الأصل، فهذا النوع من التبعية لا ينافي اللحاظ و لا يلازم المغفوليّة.

ص:125

دراسة النظرية الرابعة أي أنّها كانت حقائق في تلك المعاني الشرعية قبل بعثة النبي و بعده و انّ العرب كانت تستعمل تلك الألفاظ في هذه الماهيّات بلا قرينة مقالية أو حالية

و حاصل هذه النظرية: أنّ هذه الألفاظ كانت حقيقة في هذه المعاني قبل البعثة و متزامناً معها و قد استعملها النبي فيها كاستعمال سائر الألفاظ من غير فرق بينها. و توضيح ذلك يتوقف على ثبوت أمرين و إن ذكر أحدهما القوم و غفلوا عن الثاني، و لذلك استشكلوا على تلك النظرية غفلة عن الأمر الثاني.

1. انّ هذه العبادات كانت موجودة في الشرائع السابقة، و يشهد لها كثير من الآيات القرآنية، و نكتفي بالبعض منها.

قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).(1)

و قال تعالى: (وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ).(2)

و قال تعالى: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ).(3)

و قال تعالى: (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ).(4)

فانّ هذه الآيات و غيرها ممّا يجده المتتبع في القرآن، تدل على وجود تلك الماهيات في الشرائع السابقة و انّها ليست ماهيات مخترعة.

هذا هو الأمر الأوّل و إليك الكلام في الأمر الثاني:

ص:126


1- - البقرة: 183.
2- - الحج: 27.
3- - مريم: 3130.
4- - مريم: 5554.

2. إذا كانت هذه الحقائق موجودة في الشرائع السماوية، و كانت للعرب صلة وثيقة باليهود و النصارى، فقد كانت» يثرب «معقل اليهود و» نجران «مركزاً للنصارى، و كانت لقريش رحلتان في الشتاء و الصيف، فرحلة في فصل الشتاء إلى» اليمن «التي كانت تتواجد فيها اليهود بكثرة، و رحلة في فصل الصيف إلى الشام التي كانت يوم ذاك مركزاً للنصارى، فلم يكن للعرب يوم ذاك بُدّ من وجود لفظ، يعبّر به عن عباداتهم: صلاتهم و صومهم، و لم يكن ذلك اللفظ سوى نفس هذه الألفاظ.

و يؤيّد ذلك انّ القرآن استعملها في نفس تلك المعاني في بدء البعثة فجاءت الآيات التالية في السور المكية النازلة في صدر البعثة:

1. (أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلّى ).(1)

2. (فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى * وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى ).(2)

3. (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ).(3)

4. (إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ ).(4)

فقد نزلت هذه الآيات في أوائل البعثة، مع أنّ الصلاة فرضت في ليلة المعراج و كان عروجه إلى السماء في العام العاشر من الهجرة، و قد ورد لفظ الصلاة في السور المكية قرابة 35 مرة. كلّ ذلك يدلّ على أنّ العرب المعاصرين لعصر الرسالة كانوا يستعملون تلك الألفاظ في نفس هذه المعاني، بلا قرينة.

و انّ الوحي اتبع اللغة الدارجة بين قوم النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

و بالجملة: المهم في هذا الأمر، هو الوقوف على أنّ العرب كانت لهم صلة

ص:127


1- - العلق: 109.
2- - القيامة: 31 32.
3- - المدثر: 43 44.
4- - الكوثر: 21.

وثيقة، مع أتباع الشرائع السماوية الذين كانوا يصلّون، و يصومون و لم يكن لهم بدّ من التعبير عن هذه الحقائق بلفظ خاص، و ليس هذا اللفظ إلاّ ما استخدمه القرآن في بدء البعثة غاية الأمر قد أضاف جزءاً أو شرط شرطاً، و عين موانع و قواطع لها.

و يؤيد ذلك أيضاً أنّ جعفر بن أبي طالب عرّف دين النبي لملك الحبشة بكلام مفصل و كان ذلك في العام الخامس من البعثة، و قد جاء في ثناياه:

أيّها الملك كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام إلى أن قال: و أمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام فصدقناه و آمنا... «.(1)

كل ذلك يعرب عن شيوع استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني يوم ذاك و قد خاطب رئيس الوفد ) جعفر بن أبي طالب (ملكَ الحبشة بلغة قومه، و بالتالي خاطب النبي الناس أيضاً بلغة قومه و قال سبحانه:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ).(2)

ثمّ إنّ القوم نظروا إلى القسم الأوّل من الآيات الدالة على ثبوت هذه الحقائق في الشرائع السماوية، و غفلوا عن القسم الثاني منها الدال على التعبير عنها في بدء البعثة بنفس هذه الألفاظ، كما غفلوا عن انتشار هذه المفاهيم بين الجزيرة العربية فقد كانوا يعبّرون عنها بهذه الألفاظ، و لذلك استشكل على هذه النظرية جماعة منهم المحقق النائيني حيث قال:

إنّ المعاني و إن كانت ثابتة في الشرائع السابقة إلاّ أنّها لم تكن يعبّر عنها

ص:128


1- - السيرة النبوية: 1/338; اقناع الاسماع: 21; بحار الأنوار: 18/414.
2- - إبراهيم: 4.

بهذه الألفاظ بل بألفاظ أُخر، فلا يكون ثبوتها في الشرائع السابقة مانعاً عن الحقيقة الشرعية.(1)

و منهم المحقّق المشكيني حيث قال:

إنّ وجود هذه المخترعات عند الأُمم السابقة لا يقدح في الحقيقة الشرعية، لأنّ تلك الألفاظ لم تكن حقيقة في هذه المعاني كما هو كذلك بالنسبة إلى أكثر الشرائع الواردة على غير لسان العرب.(2)

و منهم المحقّق الخوئي حيث يقول: إنّ مجرّد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ، و ليس في المقام إلاّ التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز، و من الواضح أنّه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات و القصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة عيسى أو العبرانية في لغة موسى، و من المعلوم أنّ تلك المعاني كان يعبر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية.(3)

و أنت ترى: أنّ أساس الاستدلال ليس مجرّد ورودها في الشرائع السابقة حتى يستشكل بما ذكر، بل أساسه هو وجود هذه المفاهيم و انتشارها في الجزيرة العربية بحكم الصلة الوثيقة بينهم و بين اليهود و النصارى، فلم يكن لهم بدّ من ألفاظ يعبّر بها عن هذه الحقائق.

و توهم أنّ ما هو الموجود من هذه الحقائق، يغاير ما هو الموجود في الشريعة الإسلامية مردود بتصريح القرآن على الوحدة في مورد الصيام و الحج كما هو صريح الآيات السابقة.

ص:129


1- - أجود التقريرات: 1/34.
2- - كفاية الأُصول: 1/33 قسم التعليقة.
3- - المحاضرات: 1/138.

و على كلّ تقدير تظهر الثمرة فيما إذا وردت هذه الألفاظ في لسان النبي و الأمير، بلا قرينة مفهمة، فعلى القول بالحقيقة الشرعية يحمل على تلك المعاني، و على القول الآخر، تحمل على المعنى اللغوي.

لكن الثمرة افتراضية بحتة إذ ليس لنا مورد نشك في المراد من تلك الألفاظ حتى يُتوقف رفع إجماله، على تلك المسألة.

*** لو افترضنا مورداً دار الأمر فيه بين الحمل على المعنى اللغوي أو الشرعي، فهل هنا أصل يعيّن أحد المعنيين أو لا؟ نقول: إنّ هنا صوراً:

1. إذا كان تاريخ النقل و الاستعمال معلومين.

2. إذا كان تاريخ النقل و الاستعمال مجهولين.

3. إذا كان تاريخ النقل مجهولاً و الاستعمال معلوماً.

4. إذا كان تاريخ النقل معلوماً و الاستعمال مجهولاً.

أمّا الصورة الأُولى فخارجة عن مورد الافتراض، كما أنّ الصورة الثانية لا يجري فيها الأصلان، و لو جرى تساقطا بالتعارض.

أمّا الكلام في الصورتين الأخيرتين:

الف: إذا علم تاريخ الاستعمال و أنّ النبي قال في العام الأوّل من الهجرة:» إذا رأيتم الهلال فصلّوا « و جهل تاريخ النقل و انّه هل كان قبل ذلك العام أو بعده، و جاره أمر الصلاة بين الدعاء و العبادة الخاصة فهل تجري أصالة عدم النقل إلى زمان الاستعمال فتكون النتيجة، هو الحمل على المعنى اللغوي؟ فيه خلاف بين المحقق الخراساني و شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري، فقال الأوّل: بالمنع، لأنّ أصالة عدم النقل أصل عقلائي مجراه هو الشكّ في أصل النقل، لا

ص:130

العلم بالنقل و الشك في تقدّمه و تأخره كما في المقام.

و قال الثاني: إنّ الوضع السابق لا ترفع عنه اليد إلاّ بعد العلم بالوضع و حيث لم يعلم وجوده حين الاستعمال فيحمل على المعنى اللغوي فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم النقل.

يلاحظ عليه: أنّ الحجّة هو ظهور الكلام لا العلم بالوضع الأوّل، و مع هذا العلم الإجمالي بالنقل و الشك في تقدمه أو تأخره عن الاستعمال، لا يبقى للكلام ظهور حتى نتبعه.

ب: إذا علم تاريخ النقل و انّه كان في العام الأوّل من الهجرة، و لكن جهل تاريخ الاستعمال و انّه هل كان قبل النقل أو بعده، فهل تجري أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل فتكون النتيجة هو الحمل على المعنى الشرعي أو لا؟ وجهان:

1. أنّ الأصل المزبور ليس أصلاً عقلائياً إذ ليس عندهم منه عين و لا أثر، بل هو أصل شرعي، و جريانه فرع وجود أثر شرعي مرتب عليه بلا واسطة و هو ليس بموجود.

2. ما عليه شيخ مشايخنا العلامة الحائري بحمل اللفظ على المعنى اللغوي، لأنّ الوضع الأوّل حجّة و لا يرفع عن الحجّة إلاّ بالحجة، فتكون النتيجة موافقة لأصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل، و قد عرفت أنّ الحجّة هو الظهور و هو غير متحقّق مع العلم الإجمالي.

ص:131

الأمر العاشر في أنّ ألفاظ العبادات وضعت للصحيح أو الأعم

تمهيد في تخصيص صاحب الكفاية البحث بألفاظ العبادات

عنون صاحب الكفاية المسألة بالنحو التالي و قال:» ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منه «فخصّ البحث بالعبادات لأجل أنّه عقد باباً خاصّاً للمعاملات، و عنوان البحث في كتب القوم بالنحو التالي: أسماء العبادات و المعاملات» هل هي موضوعة للصحيح أو للأعم منه؟ «أو هل هي أسام للصحيح أو الأعم؟ و عنوان البحث متفرع على ثبوت الحقيقة الشرعية عندهم، و أمّا على القولين الآخرين، أعني:

استعمالها في لسان الشارع في معانيها الشرعية مجازاً و صيرورتها حقائق متشرعية كما هو القول الثالث، أو بقائها على معانيها اللغوية إلى يومنا هذا و قد أضاف الشارع أجزاءً و شرائط لها، فالعنوان غير شامل لهما إذ ليس من الوضع و التسمية أثر على القولين.

لكن عدم شمول العنوان شيء، و عدم جريان النزاع على ذينك القولين أمر آخر، بل النزاع يجري على جميع الأقوال الأربعة.

ص:132

21. أمّا جريانه على القول بالحقيقة الشرعية أو الحقيقة العرفية التي كانت هي المختار فواضح، فانّه يبحث عمّا هو الموضوع له عند الشارع على القول بالحقيقة الشرعية، أو ما هو الموضوع له عند العرب المعاصرين لنزول القرآن عند نقلهم ألفاظ العبادات من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية.

3. و أمّا جريانه على القول بالحقيقة المتشرعية فيقع النزاع في أنّ الشارع هل لاحظ العلاقة بين المعاني اللغوية و المعاني الصحيحة، أو لاحظ العلاقة بينها و بين الأعم من هذه المعاني الجديدة؟ و على كلّ تقدير يكون الأصل في استعمالات الشارع هو المعنى الذي لاحظ العلاقة بينه و بين المعنى اللغوي، و يكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة، و إلاّ فيحمل على المعنى الذي وقع طرفاً عند ملاحظة العلاقة.

4. و أمّا جريانه على القول ببقاء الألفاظ على معانيها اللغوية و انّ إرادة الخصوصيات من طريق الدوال الأُخر، فيقع النزاع في أنّ القرينة التي نسبها الشارع لإفادة الخصوصيات هل كانت دالة على إرادة المعنى الصحيح أو كانت دالة على المعنى الأعم؟ و يكون الأصل في الاستعمال هو المعنى الذي نصب عليه القرينة في هذا الاستعمال بحيث يكون إرادة المعنى الآخر محتاجة إلى القرينة المعينة.

إذا عرفت هذا فيقع البحث في جهات:

الجهة الأُولى ما هو معنى الصحّة؟

قد ادّعى المحقّق الخراساني أنّ الصحّة بمعنى التمام، ثمّ ذكر أنّ تفسير

ص:133

المتكلّم الصحّة بموافقة الشريعة، أو الفقيه بما يسقط الإعادة و القضاء، تفسير باللازم، و بما يهم كلّ واحد منهما، فالمتكلّم يهمّه التعرف على ذاته سبحانه و صفاته و أفعاله و العقاب و الثواب من أفعاله، و هما يترتبان على الموافقة و المخالفة، و لأجل ذلك فسره بموافقة الشريعة، كما أنّ الفقيه يهمه تعيين تكليف المكلّف من الإعادة و القضاء و عدمهما و لذلك فسّره بسقوطهما.

يلاحظ عليه: أنّ بين الصحّة و الفساد تقابل التضاد، فالصحّة كيفية وجودية عارضة للشيء باعتبار اتصافه بكيفية ملائمة لنوعه أو باعتبار ترتب أثر يترقب منه، كما أنّ الفساد كيفية منافرة لطبعه أو باعتبار ترتّب أثر لا يترقب منه، و بهذا المعنى توصف الدهون و الأدوية و المعاجين بالصحّة و الفساد. و على هذا فلا وجه لتفسير الصحّة بمعنى التمام، لأنّ الصحّة بمعنى التمام لا يقابلها الفساد بل يقابلها النقص، يقال: تام و ناقص، فيطلقان على الشيء باعتبار اجتماع أعضائه أو أجزائه و عدمه، و بذلك ظهر أنّ الصحة في مقابل الفساد و التمام في مقابل النقص و تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً.

و يظهر من أهل اللغة أنّ الصحّة تستعمل تارة في مقابل المرض و أُخرى في مقابل العيب، قال ابن فارس: الصحّة، أصل يدلّ على البراءة من المرض و العيب، و على الاستواء من ذلك. الصحّة ذهاب السقم، و البراءة من كلّ عيب، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ «.(1)

فقوله:» يدلّ على البراءة من المرض «يعرب عن أنّ الصحّة كيفية وجودية في مقابل المرض الذي هو أيضاً كذلك، و قوله:» على البراءة من العيب «يدل على أنّ الصحّة بمعنى تام الأجزاء في مقابل المعيب الذي هو ناقص الأعضاء.

هذا هو حال اللغة، و أمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

ص:134


1- - المقاييس: 3/281.

المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا كانت متصفة بصفات مقابلها. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة، فيكون بينهما من التقابل، هو تقابل التضاد. و أُخرى على الجامع للأجزاء و الشرائط و غير الجامع لهما، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم و الملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض، و الآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

الجهة الثانية ما هو المقصود من الوضع للصحيح؟

هل المراد من الصحيح هو الصحيح بالحمل الأوّلي، أو المراد هو الصحيح بالحمل الشائع، أو لا هذا و لا ذاك بل ماهية لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة؟ لا طريق إلى القول الأوّل لاستلزامه كون الصلاة مرادفة لمفهوم الصحّة، كما لا طريق إلى الثاني لاستلزامه أن يكون الموضوع له خاصّاً مع أنّ الجميع متفق على أنّ الموضوع له هو الأمر الكلي المردد بين الصحيح أو الأعم منه و غيره، فتعيّن الثالث، أي الماهية الاعتبارية التي لو وجدت في الخارج لوصفت بالصحّة، فالصحّة الفعلية من صفات وجودها و التعليقية من أوصاف الماهية.

الجهة الثالثة ما هو الداخل في المسمّى؟

لا شكّ أنّ الأجزاء داخلة في المسمّى، إنّما الكلام في دخول الشرائط فيه على

ص:135

القول بالصحيح سواء أ كان شرطاً شرعياً كالطهارة، أو شرطاً عقلياً غير قابل للأخذ في المتعلق كقصد الأمر، أو شرطاً لتحقّق المأمور به كعدم الابتلاء بالضد.

ذهب الشيخ الأنصاري إلى خروج الشرائط عن تحت المسمّى، قائلاً: بأنّ رتبة الأجزاء رتبة المقتضي، و رتبة الشرائط متأخرة عن رتبة المقتضي، فلا يسوغ إدخالها في المسمّى لتستوي مع الأجزاء رتبة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ تقدّم الأجزاء على الشرائط في عالم العين و الكون لا يكون مانعاً من اجتماعهما في مقام التسمية، كما أنّ الواجب و الممكن كذلك و لكنّهما داخلان تحت عنوان الوجود.

أقول: الظاهر دخول الشرائط في المسمّى على القول بالصحيح، بشهادة أنّ المحقّق الخراساني يجعل الموضوع له هو الجامع بين أفراد الصحيح الذي يترتب عليه النهي عن الفحشاء، و من المعلوم أنّ ذلك الأثر لا يترتب إلاّ على الجامع للأجزاء و الشرائط، و يدلّ على ذلك) دخول الشرائط في المسمّى عند الصحيحي ( اعتراض الأعمّي على الصحيحي من أنّ القول بالوضع للصحيح يلزم تكرار معنى الطلب في الأوامر المتعلّقة بها، لأنّ الأمر حينئذ يرجع إلى الأمر بالمطلوب إذ هو معنى الصحيح، فيكون المعنى أطلب المطلوب.(2) و من المعلوم أنّ المطلوب هو التام جزءاً و شرطاً. و مع ذلك فالرائج بين العقلاء هو الفرق بين شرائط الماهية و شرائط التحقق بإدخال الأوّل في المسمّى كالطهارة، و عدم دخول الثاني» كعدم الابتلاء بالأهم منه «و أمّا قصد الأمر فهو متفرّع على القول بإمكان أخذه في المتعلق أو لا. فعلى الأوّل يكون داخلاً في المسمّى دون الثاني.

ص:136


1- - مطارح الأنظار: 6.
2- - الفصول: 48.
الجهة الرابعة في لزوم جامع على كلا القولين
اشارة

إنّ الأثر الفقهي المترتّب على المسألة هو صيرورة المسمّى مجملاً على القول بالصحيح، و مبيّناً على القول بالأعم، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق على القول بالصحيح دون القول بالأعم. و من المعلوم أنّ تصوير ذلك الأثر الفقهي فرع وجود جامع واقع تحت الأمر يكون مبيّناً على أحد القولين و مجملاً على القول الآخر.

أضف إلى ذلك أنّه لو لا القول بوجود الجامع يلزم أن يكون لفظ العبادات مشتركاً لفظياً، لأنّ للصحيح مراتب مختلفة كما للأعم كذلك، و جواز الإطلاق على الجميع رهن أحد الأمرين: كونه مشتركاً معنوياً أو مشتركاً لفظياً و الثاني باطل، فتعيّن الأوّل، و هو يلازم وجود الجامع في البين.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ تصوير الجامع على القول بالأعم من السهولة بمكان، لأنّه يقسم الأجزاء إلى قسمين: أجزاء المسمّى، و أجزاء المأمور به، فالأركان الأربعة مثلاً، أجزاء للمسمّى و لا تخلو صلاة منها إمّا بعينها أو بأبدالها، و خلوّ صلاة الغرقى غير مضر، لأنّها ليست صلاة، بل دعاء و ابتهال، بخلاف الصحيحي فانّ الاجزاء كلّها عنده أجزاء للمسمّى و ليس من أجزاء المأمور به لديه عين و لا أثر، و عندئذ يشكل تصوير جامع، يصدق على عامة الصلوات الصحيحة رباعيتها، و ثلاثيتها، و ثنائيتها و أحاديتها، مع أنّ لكلّ منها مراتب مختلفة حسب اختلاف حالات المكلّف، لأنّ لازم كونها موضوعة للأجزاء الكثيرة

ص:137

هو خروج الصلوات الصحيحة القليلة الأجزاء عن المسمّى. كما أنّ وضعه للأجزاء القليلة من الصلوات الصحيحة يستلزم كون الأجزاء الأُخرى أمراً خارجاً عنها.

و الحاصل: أنّ الأعمّي جعل بعض الأجزاء جزء المسمّى، أعني: الأركان الأربعة، و الأجزاء الباقية جزء المأمور به و بذلك تخلّص عن الإشكال.

و أمّا الصحيحي فبما أنّه يدّعي الوضع للصحيح يجعل الجميع جزء المسمّى و ليس عنده من جزء المأمور به عين و لا أثر، فعند ذلك يتوجه إليه الإشكال المتقدم، حيث إنّ وضعها للأجزاء الكثيرة يوجب خروج الأجزاء القليلة عن المسمّى، كما أنّ وضعها للأجزاء القليلة يوجب اشتمال الأجزاء الكثيرة على الصلاة و غير الصلاة.

ثمّ إنّ ذلك صار سبباً لالتجاء المحقّق الخراساني إلى الجامع البسيط حتى يتمكن له ادّعاء وجوده في عامة الصلوات قليلة كانت أو كثيرة.

و بالجملة: انتخابه كون الموضوع له هو الأمر البسيط لأجل الفرار عن الإشكال المتقدم، فإليك تقريبه مع سائر التقريبات الواردة للأعلام.

التقريب الأوّل للمحقّق الخراساني

حاصله: انّ الجامع بين أفراد الصلاة ليس مشخصاً باسمه، و لكنّه يمكن الإشارة إليه بخواصه و آثاره، قال: فانّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلاً، بالناهية عن الفحشاء و ما هو معراج المؤمن و نحوهما.(1)

ص:138


1- - كفاية الأُصول: 1/36.

يلاحظ عليه أوّلاً: وجود التعارض بين الصدر و الذيل، فالصدر ظاهر في أنّ الموضوع له شيء و الأثر المترتب عليه معرف له، و لكن الذيل ظاهر في أنّ الموضوع له هو نفس الناهية عن الفحشاء، إلاّ أن يحمل حرف الباء في قوله بالناهية على السببية أي بسبب الناهية عن الفحشاء و من خلالها.

و ثانياً: أنّ الهدف من الوضع تفهيم ما قام في الذهن في المعنى، فلو كان المعنى غير قابل للتفهيم إلاّ بالإشارة إليه بالأثر الخاص كان الوضع له لغواً و يتعين الوضع للأثر، و هذا يجرّنا إلى القول بوجوب كون الجامع أمراً عرفياً مخطوراً إلى أذهان العرف.

و ثالثاً: أنّ استخدام قاعدة الواحد أعني:» لا يصدر الواحد إلاّ عن الواحد «في المقام حيث استدلّ باشتمال عامة الصلوات الصحيحة في الأثر الواحد، أعني: النهي عن الفحشاء على وجود جامع بينها، غير تام، و ذلك لأنّها حسب برهانها مختصة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات من دون أن يكون فيه أي شائبة كثرة و إلاّ فيخرج عن تحت القاعدة.

و أمّا برهان القاعدة فهو أنّ المعلول الواحد البسيط من جميع الجهات الخالي عن شائبة أيّة كثرة يجب أن يصدر عن علّة معينة فقط، و إلاّ فلو صدر عن كثير يلزم طروء الكثرة عليه.

و ذلك لأنّه يلزم أن يكون بين المعلول و العلة رابطة ظلية تصحح صدوره عنها، و إلاّ فلو صدر عنها بلا تلك الرابطة يلزم صدور كلّ شيء من كلّ شيء، و على ذلك فلو صدر المعلول البسيط عن علة فلا بدّ أن يصدر عنها بحيثية خاصّة، و مع ذلك فلو صدر عن علّة أُخرى يلزم أن يصدر عنها بحيثية مغايرة للحيثية الأُولى، و هذا يستلزم انقلاب الواحد إلى الكثير ففرض كون المعلول واحداً

ص:139

بسيطاً لا كثرة فيه يساوق حصر صدوره عن علة واحدة.

و على ضوء ذلك فالقاعدة مختصة بالواحد البسيط من جميع الجهات، و أين هو من النهي عن الفحشاء الذي هو واحد بالنوع حيث إنّ النهي عن الكذب غير النهي عن الغيبة و كلاهما غير النهي عن النميمة؟! و رابعاً: انّ الأثر المترتب على الصلاة مختلف، و اختلافه يكشف عن وجود الكثرة في الصلاة، فالصلاة كما هي تنهى عن الفحشاء، فهي عمود الدين، و قربان كلّ تقي، و معراج المؤمن، فيلزم أن يكون في الصلاة جوامع كثيرة كلّ مصدر لأثر خاص.

و خامساً: انّ القول بوضع الصلاة للجامع البسيط الموجود في جميع المراتب و إن كان يرفع الإشكال و هو وجود الجامع في عامة مراتب الصحيح أُحادية كانت الصلاة أو ثُنائية أو ثلاثية أو رباعية، كانت الصلاة صلاة اختيار أو صلاة اضطرار، لكنّه يوجب الإشكال في أمر آخر و هو أنّ مشاهير الأُصوليين في مبحث الشك في الجزئية و الشرطية ذهبوا إلى القول بالبراءة بادّعاء انحلال العلم الإجمالي إلى أمر يقيني و شكّ بدوي، و هذا إنّما يصحّ إذا تعلّق الأمر بأمر مركب ذي أبعاض حتى يكون بعضه متيقناً و البعض الآخر مشكوكاً، الذي هو قوام الانحلال، و أمّا إذا كان الأمر متعلّقاً بأمر بسيط و كانت نسبة الأجزاء إليه نسبة المحصِّل إلى المحصَّل يكون المرجع هو الاشتغال لكون المأمور به واضحاً، و الشكّ إنّما هو في محقّقه و دورانه بين الأقل و الأكثر، و من المعلوم انّ العقل يحكم عندئذ بالاحتياط للعلم بالاشتغال القطعي و الشكّ في سقوطه بالأقل، و هذا ما يعبّر عنه تارة بالشكّ في المحصل أو الشكّ في السقوط.

هذا هو الإشكال الذي تنبّه إليه المحقّق الخراساني و أجاب عنه بقوله:

ص:140

إنّ الجامع مفهوم واحد منتزع عن هذه المركّبات المختلفة زيادة و نقيصة، بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتحاد و في مثله تجري البراءة، و إنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً مسبباً عن مركب مردّد بين الأقل و الأكثر كالطهارة المسببة عن الغسل و الوضوء فيما إذا شكّ في اجزائهما.(1)

توضيح الجواب: وجود الفرق بين المسبب الذي له وجود مستقل منفصل عن السبب، و بين المنتزع عن المركب المتحقّق معه من دون أن يكون له وجود مستقل، فالأُولى كالطهارة إذا فسِّرت بالطهارة النفسانية التي تتحقق بالغسلات و المسحات فظرف المسبب هو النفس كما أنّ ظرف السبب هو الخارج، ففي هذا المورد إذا شكّ في حصول الطهارة النفسانية لأجل الشكّ في اعتبار الاستنشاق في الوضوء و عدمه يجب الاحتياط، لأنّ الاشتغال اليقيني بالمسبب البسيط، أعني: الطهارة النفسانية، يقتضي البراءة اليقينية و لا يحصل إلاّ بضمّ الاستنشاق إليه و الثاني كما في المقام، فانّ للعنوان البسيط نحو اتحاد في الخارج مع الأجزاء و الشرائط و لا يضر اختلاف المنتزع منه قلة و كثرة في انتزاعه كالإنسان المنتزع من الإنسان التام و الناقص، فوجود هذا الجامع البسيط عين وجود المركبات و ليس مغايراً لها حتى يكون الشكّ في قلتها أو كثرتها من قبيل الشكّ في المحقّق.

يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بالجامع البسيط بأيّ نحو كان، يوجب الاشتغال لا البراءة، و كون المسبب غير السبب كما في الصورة الأُولى أو متّحداً معه كما في المقام، لا تأثير له في اختلاف الأصل، و ذلك لأنّ متعلّق الأمر هو العنوان الكلي المنتزع و هو أمر بسيط، لا المنتزع منه الذي يتّحد فيه الأمران، فمنشأ الخلط تصوّر أنّ الأمر يتعلّق بالوجود الخارجي الذي يتّحد فيه المنتزع و المنتزع منه غافلاً عن

ص:141


1- - كفاية الأُصول: 1/37.

أنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الكلي الموجود في الذهن لغاية الإيجاد، و هو غير المنتزع منه في مقام تعلّق الأمر.

إلى هنا تمّ الكلام حول الجامع الأوّل، و إليك الكلام في الجامع الثاني.

التقريب الثاني للمحقّق الاصفهاني

ذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ الماهية إذا كانت من الماهيات الحقيقية تكون واضحة في مقام الذات و مبهمة من حيث الطوارئ و العوارض، و هذا كالإنسان الذي هو معلوم جنساً و فصلاً، و إنّما الإبهام في عوارضه المشخّصة.

و إذا كانت الماهية من الأُمور المؤتلفة من عدّة أُمور بحيث تزيد و تنقص كمّاً و كيفاً، فمقتضى الوضع لها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرّفية بعض العناوين غير المنفكّة عنها، و هذا كالصلاة حيث إنّها مركبة من ماهيات مختلفة: كالوضع، و الكيف و الفعل، فلا محيص من وضع اللفظ لسنخ عمل مبهم لا يعرف إلاّ من جانب أثره، و هو النهي عن الفحشاء أو غيره من المعرّفات، بل العرف لا ينتقل من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاص مبهم إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات و هذا هو الذي تصوّرناه في ما وصفت له الصلاة بتمام مراتبها، من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي، و من دون الالتزام بالاشتراك اللفظي.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الصلاة مركّب اختراعي، و كلّ مخترع أعرف بما اخترع من غيره، يقول سبحانه: (أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(2) و عندئذ كيف يمكن اختراع مركب لغاية الأمر به و عدم التعرف عليه إلاّ من جانب أثره؟!

ص:142


1- - نهاية الدراية: 1/39.
2- - الملك: 14.

و على ضوء هذا لا يصحّ كلامه بأنّ الصلاة مبهمة في ذاتها و في مقام تجوهرها. كيف! و انّ الآمر هو الذي يتصوّر الموضوع و يأمر به، و عند ذلك لا بدّ له من تصوّر ما يأمر به.

ثمّ إنّه) قدس سره (قاس المقام بالخمر قائلاً» بأنّه مبهم من حيث اتخاذه من العنب و التمر و غيرهما، و لذا لا يمكن وصفه إلاّ ببعض الآثار كالمسكرية «و لكن الفرق بين المقيس و المقيس عليه واضح، فانّ الخمر من الأُمور التكوينية و ليست ذاتها و تجوهرها رهن تصور متصوّر و لحاظ لاحظ، فلا مانع من أن يكون لها واقع مبهم غير معلوم إلاّ من ناحية أثره كالاسكار، و هذا بخلاف المركّبات الاختراعية الاعتبارية فانّ واقعيتها و تجوهرها بيد مخترعها و لاحظها فلا بدّ أن تكون ذاتها معلومة لمخترعها في مقام الذات لا أن تكون مبهمة إلاّ من حيث الأثر.

ثانياً: انّ ما ذكره قريب ممّا ذكره أُستاذه غير انّه يفارقه في أنّ الأُستاذ صرّح ببساطة الجامع دونه فيرد عليه ما أورد عليه أخيراً.(1) و هو انّ الموضوع له مع إبهامه و إجماله إمّا مركب أو بسيط، و البسيط إمّا جامع مقولي أو جامع عنواني، و المجموع غير تام.

أمّا المركّب فيرد عليه أنّه مردّد بين الأقل و الأكثر أجزاءً، فلو وضعت الصلاة على الأكثر أجزاءً لا يصدق على القليل و إن وضعت على العكس يكون الأكثر أجزاءً صلاة مع شيء خارج عن ماهيتها.

و أمّا البسيط، فالمقولي منه غير متصوّر، لأنّ الصلاة مركب من مقولات مختلفة كالوضع، و الكيف، و الفعل، و من المعلوم أنّ الجميع من الأجناس العالية التي ليس فوقها جنس فلو كانت للصلاة جامع مقولي يلزم أن يكون الجامع فوق

ص:143


1- - قد تقدّم عند مناقشة قول المحقّق الخراساني تحت عنوان» و خامساً «.

تلك الأجناس مع أنّها ليس فوقها جنس» ليس وراء عبادان قرية «.

و أمّا الجامع العنواني الذي يعبّر عنه بالانتزاعي كالناهي عن الفحشاء و المنكر فهو يستلزم خلاف المطلوب إذ يلزم عليه وجوب الاحتياط عند الشكّ في الأقل و الأكثر.

إلى هنا تمّ التقريبان للعلمين: المحقّق الخراساني و المحقّق الأصفهاني قدّس سرّهما، و هناك تقريب ثالث للمحقّق النائيني.

التقريب الثالث للمحقّق النائيني

قال: إنّ الموضوع له هو خصوص التام الأجزاء و الشرائط كصلاة المكلّف المختار، و إطلاقها على الصلوات الناقصة الاضطرارية إنّما يكون بعد التصرّف في الأمر العقلي، و جعل الصلوات العذرية المجزية مشابهة للصلوات التامّة في الإسقاط و عدم وجوب الإعادة و القضاء و تنزيلها منزلتها من جهة المسقطية و الإجزاء و بعد هذا التنزيل صارت صلوات ادّعائية ثمّ أطلقت الصلاة عليها.(1)

و حاصله: انّ الموضوع له أوّلاً هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء و الشرائط، و الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي، أو الأعمّ منها على الأعمّي، من باب الادّعاء و التنزيل، أي تنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة، كما في جملة من الاستعمالات.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ صلاة المكلّف المختار ليست على نمط واحد، فالرباعية و الثنائية كلاهما من صلاة المكلّف المختار، فما هو الموضوع له؟ فان وضعت

ص:144


1- - هذا ما نقله شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه من كتاب نتائج الأفكار: 1/93 الذي هو تقرير لبحوث المحقّق الشاهرودي، و كان من أبرز تلاميذ النائيني و محيطاً بآراء أُستاذه.
2- - السيد الخوئي: أجود التقريرات: 1/36.

للثنائية تكون الرباعية مشتملة على الصلاة و غيرها، و لو وضعت للرباعية تخرج الثنائية عن اسم الصلاتية، و بما انّه لا يتصوّر الجامع بين الواجد و الفاقد فيلزم أحد المحذورين.

إلى هنا تمّت التقريبات الثلاثة للصحيحي و كلّها غير ناجعة.

ثمّ إنّ هناك تقريبات أُخرى لتصوير الجامع على القول بالصحيح نذكرها تباعاً، و لكن نود أن نشير إلى نكتة و هي أنّ الجامع المتصور للصحيحي يجب أن يعالج الأُمور التالية و هي:

1. شمول الجامع لعامة الصلوات الصحيحة بوضع واحد لا بأوضاع متعددة.

2. كون الاجزاء مطلقاً في الثنائية و الثلاثية نفس الجامع دون أن يكون البعض جزء المسمّى، و البعض الآخر جزء الماهية.

3. كون المرجع عند الشكّ في الجزئية و الشرطية هو البراءة، فكلّ تقريب يؤمِّن هذه الأهداف الثلاثة فهو ممّا يرتضيه الصحيحي، و إليك دراسة التقريبات الباقية من هذا المنظار.

التقريب الرابع للمحقّق البروجردي

يقول: إنّ الجامع الذاتي المقولي لا يتصوّر في المقام، فانّ الأشياء المتباينة بالذات لا يعقل فرض الجامع بينها بالوحدة الحقيقية الذاتية في مرتبة واحدة من مراتب الصلاة، فكيف بالجامع بين جميع المراتب من الكامل المختار تام الأجزاء و الشرائط إلى أنقص المراتب كمية و كيفية؟ فتصوير الجامع الذاتي ممّا لا سبيل إليه.

ص:145

و أمّا الجامع العرضي فالذي يخطر ببالنا أنّ حال المركّبات العبادية كالصلاة و الصوم و الزكاة و أمثال ذلك حال المركّبات التحليلية كالإنسان و نظائره، فكما أنّ الإنسان محفوظ في جميع أطوار أفراده زادت خصوصية من الخصوصيات أو نقصت، كان في أقصى مراتب الكمال أو حضيض النقص، و ذلك لأنّ شيئية الشيء بصورته فكذلك حال المركبات الاعتبارية العبادية، بمعنى انّه يمكن اعتبار صورة واحدة تمتاز بها عن غيرها و تكون تلك الصورة، ما به الاجتماع لتمام الأفراد و جميع المراتب، و تكون محفوظة في جميع المراحل، و هذا الشيء هو الخشوع الخاص في الصلاة، فانّ التخشّع الخاص الذي كون محصل شيئية الصلاة و به تصير الصلاة صلاة محفوظ في جميع أفراد الصلاة و مراتبها المختلفة، و هذا هو المناسب لمقام عبودية العبد بالنسبة إلى مولاه.(1)

و إن شئت قلت: إنّ جميع مراتب الصلاة بمالها من الاختلاف في الأجزاء و الشرائط تشترك في كونها توجّهاً خاصّاً و تخشّعاً مخصوصاً من العبد، و يوجد هذا التوجّه بإيجاد أوّل جزء منها و يبقى إلى أن تتم، فيكون هذا التوجّه بمنزلة الصورة لتلك الأجزاء المتباينة بحسب الذات، المختلفة كمالاً و نقصاً باختلاف المراتب، فالتخشّع بوجوده الخارجي بمنزلة الصورة لهذه الأجزاء، فهو موجود بعين وجودات الأجزاء فيكون الموضوع له لنفس الصلاة هذا المعنى المحفوظ في جميع المراتب.(2)

و حاصله: انّ الصلاة عبارة عن توجّه الإنسان إلى اللّه سبحانه و تخشّعه و خضوعه متقارناً مع الأجزاء و الشرائط بحيث يكون للمجموع من الصورة

ص:146


1- - الحجة في الفقه مهدي الحائري اليزدي، تقريراً لبحث العلاّمة البروجردي: 1/58.
2- - نهاية الأُصول: 1/40.

و الأجزاء وجود واحد.

يلاحظ عليه: أنّ التقرير المزبور غير دافع للإشكال، و ذلك لأنّه لو كان الموضوع له هو التوجّه و التخشّع القائم بالأجزاء و الشرائط، محدَّداً بحدّ خاص يتوجّه عليه الإشكال، و هو انّه يلزم أن تكون الصلاة المشتملة على ذلك الحدّ و غيره من الصلوات الصحيحة، مشتملة على الصلاة و غيرها، كما يلزم أن لا يكون الأقل من المحدد في الهيئة و المادة مصداقاً للصلاة، و ذلك لازم التحديد من كلا الجانبين.

اللّهمّ إلاّ أن يكون الموضوع له لا بشرط من كلا الجانبين، بمعنى أنّه يكون عين الصلاة عند الوجود و غير مضر عند الفقدان، و كان على السيد البروجردي التصريح بهذا الأمر، و إلاّ فمجرّد القول بكون الموضوع له التوجّه إلى اللّه المتّحد مع الأجزاء، لا يدفع الإشكال.

التقريب الخامس ما ذكره السيّد الأُستاذ

إنّ المركّبات الاعتبارية إذا اشتملت على هيئة و مادة، يمكن أن يؤخذ كلّ منهما في مقام الوضع لا بشرط. و المراد من أخذهما لا بشرط هو أخذ المادة و الهيئة بعرضها العريض. و ذلك كالمخترعات من الصنائع المستحدثة، فإنّ مخترعها بعد أن صنعها من موادّ مختلفة و ألّفها على هيئة خاصّة، وضع لها اسم الطيّارة أو السيّارة آخذاً كلاً من موادّها و هيئاتها لا بشرط. و لأجل ذلك ترى أنّ تكامل التصنيع كثيراً ما يوجب تغييراً في موادّها و هيئاتها، و مع ذلك يطلق عليها اسمها، كما كان يطلق في السابق و ليس ذلك إلاّ لأخذ الهيئة و المادّة لا بشرط، أي عدم لحاظ مادّة خاصّة و هيئة مقيّدة.

ص:147

و أوضح مقالته هذه بقوله: المركّبات الاعتبارية على قسمين: قسم يكون الملحوظ فيه كثرة معيّنة كالعشرة، فإنّها على وجه لو فقد منها جزء، تنعدم العشرة. و قسم يكون فيه الأمر الاعتباري، على نحو لم تلحظ فيه كثرة معيّنة في ناحية الموادّ، بحيث ما دامت هيئتها و صورتها العرضية موجودة، يطلق عليها اللفظ الموضوع و إن قلّت موادّها أو تكثّرت.

و الحاصل: أنّ المادّة لم تلحظ فيها كثرة معيّنة، و يكفي فيها ذكر بعدَ) التكبيرة (ركوع و سجود و طهور و تصدق على الميسور من كلّ واحد.

و أمّا الهيئة فهي أيضاً مأخوذة بنحو اللابشرط مثل مادّتها، بعرضها العريض، و تكفي صورة اتصالية حافظة لمادّتها أخذت لا بشرط في بعض الجهات.

و نظير ذلك، لفظ الدار و البيت فانّها من حيث المادة لا بشرط، سواء أخذت موادّها من الطين، أو الآجر، أو من الحجر و الحديد، كما أنّها من حيث الهيئة أيضاً كذلك، سواء بنيت على هيئة المربع أو المثلث، و على طبقة واحدة أو طبقتين، فهو موضوع لهيئة مخصوصة غير معيّنة من بعض الجهات مع مواد فانية فيها.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لفظ الصلاة موضوع لنفس الهيئة اللابشرط، الموجودة في الفرائض و النوافل قصرها و تمامها، و ما وجب على الصحيح أو المريض بأقسامها، فيكفي في صدقها، وجود هيئة بمراتبها إلاّ بعض المراتب التي لا تكون صلاة كصلاة الغرقى، لعدم وجود مواد من ذكر و قرآن و سجود و ركوع.(1)

ص:148


1- - تهذيب الأُصول: 781/77، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
التقريب السادس للمحقّق الخوئي

إنّ كلّ مخترع هو أعرف بما اخترعه سواء كان المخترع شارعاً أم غيره، و تدلّ الروايات على أنّ التكبيرة و التسليمة معتبرتان فيها حيث إنّ الصلاة أوّلها التكبير و آخرها التسليم، كما أنّ الركوع و السجود و الطهارة معتبرة فيها، حيث إنّ كلاً منها ثُلث الصلاة، و أمّا غير ذلك من الأجزاء و الشرائط فهي خارجة عن حقيقتها و دخيلة في المأمور به على اختلاف الأشخاص و الحالات، و المراد من دخل الطهارة و الركوع و السجود، هو الأعمّ منها و من أبدالها، و لا بأس أن يكون مقوّم الأمر الاعتباري على سبيل البدلية.

كما أنّه لا مانع من دخول شيء في مركّب اعتباري عند وجوده، و خروجه عنه عند عدمه إذا كان المسمّى بالنسبة مأخوذاً على نحو لا بشرط كما هو الحال بالنسبة إلى غير المأخوذ في المسمّى من القراءة و التشهد و غيرهما فلو وجب يكون عينها، و لو لم يجب، لم يضرّ بتحقق الصلاة كما هو الحال في لفظ الدار فانّه موضوع بما اشتمل على ساحة و حيطان و غرفة، فإن كان هناك إيوان و نهر و سرداب يكون جزءاً منه و إلاّ فلا يضرّ عدمه.(1)

ففي ظل هذين التقريرين يرتفع الإشكال و يتحقق مطلوب الصحيحي.

أمّا أوّلاً: فالجامع إذا أُخذ لا بشرط من حيث الهيئة و المادة يصدق على عامة مراتب الصحيح و مصاديقه.

و ثانياً: انّ الاجزاء مطلقاً في الثنائية و الثلاثية و الرباعية نفس الجامع، إذ هو مقتضى أخذه لا بشرط دون أن يكون البعض جزء الماهية و الآخر جزء المأمور به.

ص:149


1- - تعليقة أجود التقريرات: 411/40.

بما انّ الموضوع له هو الهيئة و المادة المركبة ففي ظرف الشك في الشرطية و الجزئية الزائدة يكون المرجع هو البراءة لانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و شك بدوي.

التقريب السابع للعلاّمة الطباطبائي

إذا هيّأ الإنسان معجوناً من المعاجين للحصول على أثر خاص، ربّما يوصله التتبع إلى أنّ الأثر لا يقتصر على الأجزاء المعيّنة للمعجون فحسب بل ربما يترتب مع تبديل بعض أجزاء المعجون بأجزاء أُخرى مغايرة مع الأجزاء الأوّلية فيطلق عليه نفس الاسم لاشتراك جميع الأجزاء في الأثر، و كأنّ الاشتراك في الأثر يكون سبباً لانتزاع جامع أعمّ من الجامع الأوّل، و هكذا الحال إذا وجد ذلك الأثر في أجزاء أُخرى مغايرة لأجزاء المعجون الأصلية.

و في النتيجة يكون الاشتراك في الأثر سبباً لسبك جامع من جامع أوّلي و هكذا، و نظيره صناعة الحلوى إذا عملها من دقيق البر ثمّ وجد انّ دقيق الشعير يفي بالغرض المطلوب فيسمّيه أيضاً بنفس الاسم، ثمّ يقف على أنّ دقيق الارز و الذرة يفيان بالغرض يتوسع في الاسم، و ما هذا إلاّ لأنّ الوحدة في الأثر تكون سبباً في كلّ مرتبة لانتزاع جامع أوسع من سابقه.

و نظير ذلك المصباح فقد كان يطلق في البداية على الحطب المشتعل، ثمّ وصل الإنسان بنضوج عقله إلى أنّه يمكن أن يصل إلى مُنيته من الدهن المائع إذا وقع فيه فتيلاً ليمس الدهن بسهولة فأسماه أيضاً مصباحاً مع البون الشاسع بين المسمّيين، و بهذا المنوال سمّى المصباح الغازي أو الكهربائي مصباحاً، و ما هذا إلاّ لأنّ ترتّب الأثر المطلوب عليها صار سبباً لتبسيط الاسم توسيع الجامع.

ص:150

إذا عرفت ذلك فنقول: كانت الصلاة يوم فرضت ركعتين مع ما لها من الأجزاء و الشرائط فصار له جامع متواطئ يصدق على أفراده على نحو واحد.

ثمّ أُضيف إليها ما فرضه النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فسمّيت أيضاً بنفس التسمية مع ما بين المسمّيين من الفرق، و ما هذا إلاّ لأنّ وحدة الأثر صارت سبباً لتبسيط الجامع الأوّل، ثمّ طرأت عليه التصرّفات المختلفة بالعفو بحسب الحالات الطارئة و الآثار اللاحقة من السفر و الحضر و الخوف و المرض و الاضطرار، كلّ ذلك صار سبباً لتسمية الفاقد بنفس الاسم لاشتراك الجميع في الأثر، فكأنّ لوحدة الأثر دوراً في تبسيط الجامع الأوّل و تبديله إلى جامع أوسع، و إن شئت قلت: سبباً لسبك جامع من جامع آخر.(1)

و ليس هذا بمعنى كثرة الوضع حسب اختلاف المراتب، بل لأجل أنّ الاجزاء لم يؤخذ في المسمّى في المرحلة الأُولى بما هي هي، بل بما أنّ لها دوراً في الأثر المطلوب، فإذا قام متى آخر بذلك الدور يجوز إطلاق الاسم عليه لكونه واجداً لنفس الحيثية التي بررت تسميته بنفس الاسم، و على ضوء ذلك فعامّة الأجزاء و الشرائط في كلّ مرتبة نفس المسمّى و ليس خارجاً عنه، كما انّه عند الشكّ في الجزئية و الشرطية يكون المورد مصبّاً للبراءة، و ما ذلك إلاّ لأنّ الواجب نفس الأجزاء لا الأمر البسيط.

إلى هنا تم تصوير الجامع على الصحيحي، و معنى هذا هو إمكان القول بالصحيح ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فيحتاج إلى دراسة أدلّته، فنقول:

ص:151


1- - حاشية الكفاية: 1/42، 43، بتوضيح منّا.
الجهة الخامسة أدلّة القول بالصحيح

احتجّ القائل بالصحيح بوجوه نذكر بعضها:

الأوّل: التبادر، و دعوى انّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح، و لما كان المختار عند المحقّق الخراساني هو إجمال مفهوم الصلاة، توجّه إليه إشكال يختص بمقالته و مقالة تلميذه القائلين بإجمال مفهوم الصلاة، و انّها لا تعرف إلاّ بآثارها.

و حاصل الإشكال انّه: كيف يمكن الجمع بين تبادر الصحيح و القول بإجمال مفهومها و عدم تبيّنها؟ فأجاب عنه بقوله: و لا منافاة بين دعوى ذلك و بين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فانّ المنافاة إنّما تكون إذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه، و قد عرفت كونها مبينة بغير وجه.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تبادر الصحيح بمعرفية بعض الآثار، يلازم عدم تبادر شيء من حاق اللفظ أصلاً، و رجوع هذا الدليل إلى الدليل الثالث المذكور في كلامه و هو التعرّف على معنى الموضوع له من خلال آثاره و يعلم ذلك بملاحظة أمرين:

أ: التبادر عبارة عن فهم المعنى من ذات اللفظ و حاقه بلا استعانة بقرينة خارجية أو من آثاره و خواصّه.

ب: انّ اللفظ في هذه المرحلة حسب فرض المستدلّ مجمل، مغمور في

ص:152

الإبهام لا نعرف منه شيئاً، و إن كان الإجمال زائلاً بملاحظة آثاره و خواصّه.

فنقول: إنّ ادّعاء تبادر الصحيح على الافتراض الأوّل غير ممكن، لأنّ المفروض أنّ اللفظ مجمل فيها، و مهما رجع العارف باللسان إلى ارتكازه لا يتبادر منه شيء.

كما أنّ تبادر الصحيح منه على الافتراض الثاني و إن كان أمراً ممكناً لكنّه يرجع إلى الدليل الثالث، و هو التعرف على الموضوع من حيث السعة و الضيق من خلال آثاره كمعراج المؤمن.

و بالجملة: لمّا ذهب المحقّق الخراساني و تلميذه المحقّق الاصفهاني إلى إجمال معنى اللفظ و إبهامه و عدم وضوحه إلاّ من خلال آثاره، لم يكن لهم بد من إرجاع الدليل الأوّل إلى الثالث و حذف التبادر بما انّه دليل مستقل، إذ لا معنى للتبادر مع القول بالإجمال، و بعد رفع الإجمال بالآثار لا حاجة إلى التبادر لمعلومية الموضوع من خلال آثاره.

و قد أورد على الاستدلال السيّد الأُستاذ) قدس سره (بما هذا حاصله:

إنّ أسماء الأجناس كالصلاة موضوعة للماهية المعرّاة عن كلّ شيء سوى نفسها، و أمّا الصحّة فهي من لوازم وجود الماهية، فانّ الماهية تتقرّر في مقام التسمية، ثمّ توجد بفعل المكلّف، ثمّ يعرضها الصحّة من المرحلة الثالثة و معه كيف يمكن أخذ لازم الوجود في مرحلة التقرر الماهوي.

يلاحظ عليه: أنّ الموضوع له ليس الماهية الصحيحة بالحمل الأوّلي أو الصحيحة بالحمل الشائع ) الصحة الخارجية (لأنّهما كما أفاد) قدس سره (متأخّران، بل الموضوع له واقع الصحيح لا عنوانه و لا وجوده الخارجي نظير ذلك نسبة واقع التقدّم إلى عنوان التقدّم، فانّ اليوم متقدّم على الغد بواقعه لا بعنوانه لأنّه لا يوصف به ما لم يتحقّق الغد، لأنّهما متضايفان، هما متكافئان قوة و فعلاً، و مع

ص:153

ذلك فلليوم واقع التقدم و حقيقته. و قد صرح بذلك) قدس سره (في الشرط المتأخر.

و ثانياً: انّ الدليل لا يثبت إلاّ كون الصحّة متبادراً في هذه الظروف، و أمّا كونها كذلك في عصر النبي و بعده فلا يثبت بهذا النوع من التبادر.

اللّهمّ إلاّ أن يدفع الإشكال بأصالة عدم النقل التي من لوازمها كون المتبادر اليوم هو المتبادر في عصر النبي، و عند ذلك لا يكون التبادر دليلاً مستقلاً بل بضميمة أصل عقلائي آخر.

الثاني: صحّة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه و شرائطه بالمداقة و إن صحّ الإطلاق عليه بالعناية، فيقال الصلاة الفاسدة ليست بصلاة.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الصلاة على مسلك المحقّق الخراساني و تلميذه موضوع لمعنى مبهم من جميع الجهات مبيَّن من جانب الآثار، فعندئذ لا يمكن سلب الصلاة على وجه الإطلاق عن الصلاة الفاسدة، و إنّما يكون المسلوب الصلاة المبيّنة من طريق آثارها كالنهي عن الفحشاء و المنكر و معراج المؤمن، فعندئذ يعود مفاد السلب إلى القول التالي: الصلاة الفاسدة ليست صلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، و من المعلوم أنّ السلب المقيّد لا يكون آية المجاز، بل السلب المطلق دليل المجاز، فلو قلنا العبد الكافر ليس رقبة مؤمنة لا يعدّ دليلاً على أنّه ليس برقبة على الإطلاق، فآية المجاز هو ما إذا كان المحمول مسلوباً بنعت الإطلاق.

و ثانياً: أنّ صحّة السلب عن الفاسد إنّما هو بحسب عرفنا، و أمّا أنّه كذلك حسب عرف النبيّ فلا يثبت إلاّ بأصالة عدم النقل، و قد عرفت حالها.

الثالث: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص و الآثار للمسمّيات مثل» الصلاة عمود الدين «أو » معراج المؤمن «و» الصوم جنّة من النار «إلى غير ذلك، أو نفي ماهياتها و طبائعها مثل:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «و نحوه ممّا كان ظاهراً

ص:154

في نفي الحقيقة بمجرّد فقد ما يعتبر في الصحّة شرطاً أو شطراً، و إرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأُولى، و نفي الصحّة من الثانية، خلاف الظاهر لا يصار إليها مع عدم نصب قرينة عليه، بل و استعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى في مثل» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «ممّا يعلم أنّ المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحو من العناية لا على الحقيقة و إلاّ لما دلّ على المبالغة.(1)

و أورد عليه سيّدنا الأُستاذ بأنّ هذه الآثار إنّما تترتّب على الصلاة إذا انضم إليها قصد القربة و إلاّ فلا تكون معراجاً و لا ناهية، و لم يقل أحد بدخول هذا الجزء في مدلول الصلاة، و عندئذ تكون الصلاة بالنسبة إلى هذه الآثار مقتضية لا علة تامّة، و الاقتضاء كما هو موجود في الصحيحة موجود في الفاسدة غاية الأمر أنّها في الأُولى أقرب إلى الآثار.

يلاحظ عليه: أنّ القائل بالصحّة لا يدّعي أزيد من ذلك، و هو أنّه وضع للماهية التامة من حيث الأجزاء و الشرائط إذا انضم إليه قصد القربة تكون معراجاً للمؤمن و ناهية عن الفحشاء و المنكر.

و هذا بخلاف القول بالأعمّي، فانّ المسمّى عنده إذا انضم إلى قصد الأمر لا تترتب عليه تلك الآثار على وجه القطع.

نعم لو كان المدّعى كون الصلاة علّة تامّة لهذه الآثار بلا حاجة إلى شيء آخر، لكان لما ذكر من الإشكال وجه، لكن المدّعى غير ذلك كما عرفت.

فإن قلت: على هذا تكون الصلاة الصحيحة مقتضية لهذه الآثار لا علّة تامّة، و مع هذا القول لا يبقى فرق بينها و بين الفاسدة منها فانّها أيضاً مقتضية لهذه الآثار إذا انضم إليها، سائر الأجزاء أو الشرائط.

ص:155


1- - كفاية الأُصول: 1/45.

قلت: هذا ما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة لكن عدل عنه في هذه الدورة بما هذا حاصله: انّ ظاهر الروايات، عدم الفصل بين الصلاة و هذه الآثار و انّها مترتبة عليها بلا ترتيب، خرجنا عنه في مورد قصد القربة لأنّها روح العبادة و مقومها، فالصلاة مع هذا الجزء علة تامة لهذه الآثار، بخلاف الأعمّ من الصحيح و الفاسد، فهي ليست علة تامة حتى مع هذا الجزء، بل يتوقف على انضمام أجزاء أُخرى إليها، و الروايات المبينة للآثار، منصرفة عن هذا النوع من العبادة.

نعم يرد على الاستدلال بالقسم الثاني من الروايات أنّ هذه التراكيب و إن كانت مستعملة في نفي الحقيقة حتى في نوعه» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «(1)، و قوله:» يا أشباه الرجال و لا رجال «(2)لكن فرق بين نفي الحقيقة حقيقة و بين نفي الحقيقة مبالغة و عناية، و هذه التراكيب كثيرة الاستعمال في نفي الحقيقة مبالغة و عناية مثل قوله:» لا رضاع بعد فطام «(3)، و» لا رهبانية في الإسلام «.(4)

و مع هذه الكثرة فلا تصلح تلك الأخبار للاستدلال، لأنّ كثرة الاستعمال إذا صارت إلى حدّ وافر، تزاحم ظهور اللفظ في نفي الحقيقة حقيقة كما في قوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «كما هو أساس الاستدلال.

و لم يفرق المستدل بين نفي الحقيقة حقيقة، و نفيها ادّعاءً و مبالغة.

ص:156


1- - التهذيب للشيخ الطوسي: 3/261، باب فضل المساجد و الصلاة فيها، الحديث 55; الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1، و رواه الدارقطني في سننه: 1/420.
2- - نهج البلاغة: الخطبة 27.
3- - الوسائل: 14، كتاب النكاح، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع، الحديث 5.
4- - بحار الأنوار: 68/317.

الدليل الرابع: و يمكن تقريره بالنحو التالي، و هو مركّب من مقدمات أربع:

أ: انّ طريقة العقلاء في وضع الألفاظ هي وضعها للصحيح.

ب: انّ الداعي إليه هو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح.

ج: انّ هذه الحكمة أيضاً موجودة في وضع الشارع.

د: لا يصحّ التخطّي عن هذه الطريقة.(1)

يلاحظ عليه: بمنع المقدمة الثانية و هو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح فانّ الحاجة إلى تفهيم الفاسد ليست بأقل من العكس، و الأولى أن يقرر بنحو آخر، و هو أنّ الغاية تحدِّد فعل الفاعل، فلا يتصور أن يكون الفعل أوسع من الغرض و الهدف، فالسفر لغاية زيارة الصديق تتحدد بتلك الغاية، و إرادة السفر في إطار أعم من هذا لا يصدر من الفاعل الحكيم.

و على ضوء هذا فنقول: إنّ الشارع اخترع الصلاة لغاية خاصة، و هي تهذيب الإنسان و تربيته، و من المعلوم أنّ تلك الغاية من نتائج الصلاة التامة لا الناقصة، و من آثار الصلاة الصحيحة لا الفاسدة، فإذا كان الداعي للاعتبار هو تهذيب الإنسان و تربيته فيتحدد فعله) أي اعتباره ماهية الصلاة (بتلك الغاية، فينتج أنّ ما هو المعتبر عند الشارع هو الصلاة الصحيحة لترتب الغرض عليه فقط، و طبيعة الحال أن يكون المسمّى هو نفس المعتبر بأن يكون اللفظ موضوعاً لنفس ما اعتبره لا للأعم منه.

نعم ربّما يتعلق الغرض بتفهيم قسم آخر و هو الفاسد فله أن يطلق عليه عناية. فقد خرجنا بالنتيجة التالية: انّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح منها.

ص:157


1- - كفاية الأُصول: 1/26.
الجهة السادسة في بيان أدلّة القول بالأعم
اشارة

إنّ دراسة القول بالأعم كدراسة القول بالصحيح فرع تصوير جامع له أوّلاً، ثمّ دراسة أدلّته، و لما كان هذا القول ساقطاً عندنا فندرس أدلّته فقط و نحيل دراسة تصوير الجامع إلى الكفاية و غيرها، فقد بحثوا عنه بحثاً وافياً، فلنركِّز البحث على دراسة أدلّته. استدلّ القائل بالأعم بوجوه:

الأوّل: التبادر
الثاني: عدم صحّة سلب الصلاة عن الفاسدة

يلاحظ عليهما انّهما دليلان وجدانيان لا برهانيان، إذ للخصم أيضاً أن يدّعي خلافها، كما مرّ حيث إنّ الصحيحي كان يدّعي تبادر الصحيح من الصلاة كما يدّعي صحة سلب الصلاة عن الفاسدة، فالأولى الإعراض عنهما و صبّ الجهود على دراسة سائر الأدلّة.

الثالث: صحّة التقسيم إلى الصحيحة و الفاسدة

إنّ صحّة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة و الفاسدة آية كونها اسماً للأعم، و ذلك لأنّ المقسم يجب أن يكون موجوداً في جميع الأقسام و إلاّ لما صحّ التقسيم، فلا يقال: الصلاة إمّا صحيحة أو سعي بين الصفا و المروة.

ص:158

و أجيب عن الاستدلال بأنّ الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة بل هو أعمّ من الحقيقة و المجاز.

و الجواب لا يخلو من نظر، لأنّ الاستعمال إنّما لا يكون دليلاً على الحقيقة إذا احتمل فيه أنّ الإطلاق من باب الادّعاء، و أمّا إذا اطلق على الشيء من دون شائبة ادّعاء فهو يكون دليلاً على الحقيقة، كما أنّ المقام كذلك.

نعم يرد على الاستدلال بأنّ صحّة التقسيم حسب أعصارنا حيث صار الابتلاء بالعبادات الفاسدة بين الناس أمراً رائجاً و اتخذ التقسيم المزبور ذريعة لبيان حكم الفردين فعبروا عنها بالصحيح و الفاسد، و أمّا كون الأمر كذلك في عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (، أعني: عصر التسمية، فلم يثبت ذلك.

اللّهمّ إلاّ بمعونة أصالة عدم النقل حتى يثبت به صحّة التقسيم في عصره، و لكن القدر المتيقن من هذا الأصل هو المورد الذي لم يكن هناك أي مظنة بالنقل، بخلاف المقام فانّ الظن بالنقل موجود لأجل كثرة الحاجة إلى إفهام الفاسد من الموضوع.

الرابع: حديث الولاية

قال الإمام الصادق) عليه السلام (:» بني الإسلام على خمس: الصلاة، و الزكاة، و الحجّ، و الصوم، و الولاية، و لم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بالأربع و تركوا هذه، فلو أنّ أحداً صام نهاره و قام ليله و مات بغير ولاية لم يقبل له صوم و لا صلاة «.(1)

وجه الاستدلال: أنّه لو كانت أسماء العبادات أسامي للأعم لصحّ وصفهم بالأخذ

ص:159


1- - الكافي 2/19، باب دعائم الإسلام، الحديث 5.

بالأربع، و أمّا على القول بوصفها للصحيح فلا يتم لهم الأخذ مطلقاً لا الأربع و لا الولاية.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال غير تام على كلا القولين، سواء أقلنا بصحّة عباداتهم لكن مع عدم ترتب الثواب عليه، أو ببطلان عباداتهم.

أمّا على الأوّل: فالأخذ يحمل على الحقيقة، فقد أخذوا بالأربع حقيقة، لأنّ المفروض صحّة عباداتهم، و أمّا على الثاني فالمراد من أخذهم هو أخذهم بها حسب اعتقادهم لا حسب الواقع، و قد عقد صاحب الوسائل باباً أسماه» بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة) عليهم السلام («(1)أورد روايات تناهز تسع عشرة رواية، أكثرها دالة على صحّة عباداتهم و لكن لا تقبل و لا يترتب عليها الثواب فلاحظ رقم 2، 4، 5، 7، 8 و غيرها، و على ذلك فيكون الأخذ على وجه الحقيقة.

و هناك جواب آخر و هو أنّ المراد من الصحيح هو الصحيح النسبي أي الأجزاء و الشرائط التامّة لا الصحيح المطلق كالصّحة لأجل الاعتقاد بالولاية فانّ الصحّة بهذا المعنى خارج عن المسمى قطعاً.

الخامس: الحديث النبوي، روي عنه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال لجارية كانت تعرف أيام حيضها :» دعي الصلاة أيام أقرائك «.(2)

وجه الاستدلال: انّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لما صحّ النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتم إذا كان النهي مولوياً فيشترط فيه أن يكون المتعلّق مقدوراً، و الصحيح ليس بمقدور، و أمّا إذا كان إرشادياً إلى المانعية فلا يشترط فيه التمكّن لأنّ النهي لأجل بيان المانعية. و المراد إرشادها إلى أنّ الصلاة لا تجتمع مع الحيض.

ص:160


1- - الوسائل: 1، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات.
2- - الكافي: 3/88، باب جامع في الحائض و المستحاضة، الحديث 1.

السادس: انّه لا شبهة في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في مكان تكره فيه، و حصول الحنث بفعلها، و لو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لزم إشكالان:

الإشكال الأوّل: عدم إمكان حنث الحلف، لأنّ الحنث يتحقّق بالصلاة الصحيحة، و هي غير مقدورة بعد نهي الشارع.

الإشكال الثاني: يلزم المحال، لأنّ المنذور حسب الفرض تعلّق بالصحيحة، و مع النذر لا تقع صحيحة، فيلزم من فرض تعلّق النذر بالصحيحة عدم صحّتها.

أقول: إنّ الإشكال مشترك بين الصحيحي و الأعمّي، لأنّ متعلّق النذر على كلا القولين هو الصحيح لا الأعم، لأنّ المنذور ليس ترك الأجزاء الرئيسية، و لا الصورة المعهودة المشتركة بين الصحيح و الفاسد، فما هو الجواب عند الأعمّي هو الجواب عند الصحيحي. إذا عرفت ذلك فنقول:

الأوّل: ما أجاب به المحقّق الخراساني، و قال: لو صحّ ذلك لاقتضى عدم صحّة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعاً.

مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.(1)

أقول: أمّا الجواب الأوّل فواضح لا سترة عليه.

و أمّا الجواب الثاني: فحاصله أنّ النذر منعقد، و الصلاة باطلة، و الحنث متحقق، و ما ذلك إلاّ لأنّ النذر تعلّق بما هو الصحيح في نفسه لا الصحيح من الجهات الطارئة عليه، و الصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها، صحيحة في حدّ نفسها على وجه لو أتى بها في البيت أو المسجد لكانت صحيحة بالفعل، و إن

ص:161


1- - كفاية الأُصول: 1/48.

كانت بعد تعلّق النذر باطلة بالفعل.

بعبارة أُخرى: أنّ للصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها نحوين من الصحة.

أ: كونها صحيحة في حدّ نفسها، أي تامّة الأجزاء و الشرائط، و هذه هي المنذور تركها.

ب: ما هو الصحيح بالفعل و بالحمل الشائع، و هو لم يتعلّق به النذر.

و على ضوء ذلك فالنذر منعقد لرجحان ترك تلك الصلاة، و الحنث محقّق لأنّه أتى بالمنذور تركها أعني الصلاة الصحيحة في حدّ ذاتها، و في الوقت نفسه هي باطلة بالحمل الشائع لتعلّق النهي بها و ليست بمبرئة للذمة.

نعم لو تعلّق النذر بترك الصلاة المطلوبة بالفعل نمنع انعقاد النذر كما نمنع حصول الحنث بفعلها، لأنّ ما أتى به ليس بصحيح بالفعل.

الثاني: ما أفاده المحقق البروجردي، و حاصله: منع انعقاد النذر من رأس، بدليل أنّ صرف المرجوحية الإضافية لا يكاد يكون مصححاً لتعلّق النذر بتركه، و إلاّ فمن الجائز شرعاً تعلّق النذر بترك الصلاة في البيت لمرجوحيتها بالإضافة إلى الصلاة في المسجد، و لا أظن أن يلتزم به أحد في الفقه، فالصلاة في الحمام أيضاً كذلك فانّها ليست مرجوحة في حدّ نفسها بل هي مرجوحة بالقياس إلى غيرها من أطراف التخيير، و اللازم في صحّة النذر بالترك هو المرجوحية الذاتية، و أظن أنّ الجمود على لفظ الكراهة في الصلاة في الحمام ممّا أوجب القول بصحّة النذر بتركها.

و بعبارة أُخرى: المراد من كراهة الصلاة في الحمام هو كونها أقلّ ثواباً لا أنّ فيها حزازة ذاتية حتى يصحّ تعلق النذر بتركها، و أمّا الأقلية فلا تكون مسوغة لتعلّق النذر، و إلاّ لزم صحّة تعلق النذر بترك الصلاة في البيت أو في مسجد

ص:162

المحلة لكونهما أقلّ ثواباً بالنسبة إلى المسجد الجامع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الكراهة في المقام هي من قبيل القسم الثاني، أي كونها ذات حزازة، فانّ الحمام محل الأوساخ و القذارات فإقامة الصلاة فيها أشبه بسقي المولى بماء عذب في وعاء قذر، فقياس الصلاة في الحمام بالصلاة في البيت قياس مع الفارق، و لذلك يتعلّق النذر بتركها في الحمام دون الثاني.

الثالث: ما أفاده المحقّق الحائري و تبعه سيدنا الأُستاذ و حاصل كلامهما بإيضاح منّا: أنّ النذر صحيح و الصلاة صحيحة بالفعل و الحنث واقع.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من وجود الحزازة في الصلاة المأتي بها في الحمام فيصحّ تعلّق النذر بتركها كما يصحّ تعلّق النذر بترك سائر المكروهات.

و أمّا الثاني: أي كون الصلاة صحيحة بالفعل فلتعدد متعلّق الأمر في الصلاة و النهي عن الحنث، فالأمر تعلق بطبيعة الصلاة بما هي هي من دون أن يتعدّى الأمر عن متعلقه إلى شيء آخر، كما أنّ النهي تعلّق بعنوان الحنث، فالصلاة المأتي بها في الحمام مصداق ذاتي للصلاة و مصداق عرضي للحنث، و قد ثبت في محله جواز اجتماع الأمر و النهي بين عنوانين بينهما من النسبة عموم و خصوص من وجه، فالصلاة المأتي بها مصداق للواجب بالذات كما هي مصداق بالعرض للمنهي عنه.

و أما الثالث: أي تحقّق الحنث لأنّ المفروض هو جواز اجتماع الأمر و النهي على شيء و عدم مزاحمة الأمر للنهي، فهو صحيح بالفعل و قد حنث به نذره.

إلى هنا تمّت أدلة القائلين بالأعم، و قد عرفت سقم الجميع و عدم نهوضها على المدّعى، بقي الكلام في ثمرات المسألة و هذه هي التي سنوضحها في الجهة الآتية.

ص:163


1- - نهاية الأُصول: 54، الطبعة الثانية.
الجهة السابعة في ثمرات المسألة في مورد العبادات
اشارة

قد ذكر للمسألة ثمرات أربع نذكر واحدة منها:

جواز التمسّك بالإطلاق

و حاصل الثمرة: صحّة التمسك بالإطلاق على القول بالأعمّ و عدمها على القول بالصحيح.

و ذلك لأنّ الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته، عند الأعمّي يرجع إلى الشك في كونه داخلاً في المأمور به أو لا، بعد إحراز الموضوع، أعني: الجامع بين الصحيح و الفاسد.

بخلاف الشكّ عند الصحيحي فانّ الشكّ فيهما يرجع إلى الشكّ في صدق الموضوع و عدمه، و مع الشكّ فيه لا يجوز التمسّك بالإطلاق.

وجهه: أنّ الأركان الأربعة مثلاً تشكِّل عند الأعمي تمام المسمّى، فيكون محرزاً باحرازه، فيرجع الشك في جزئية

ص:164

الاستعاذة إلى الشك في كونه جزءاً للمأمور به أو لا بعد إحراز الموضوع فتنفى جزئيته بالإطلاق.

و أمّا عند الصحيحي، فما وجب من جليل و دقيق فهو عنده داخل في المسمّى، و ليس عنده من التقسيم المزبور عين و لا أثر. مثلاً الشك في جزئية الاستعاذة، يرجع إلى الشكّ في دخوله في المسمّى و عدمه، و مع هذا الشك يكون الموضوع مشكوك الإحراز، و معه لا يصحّ التمسّك بالإطلاق، فانّ التمسّك فرع إحرازه و تعلّق الشك بالطوارئ و العوارض كشرطية الإيمان في الرقبة.

و ردّت الثمرة بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ الصحيحي و إن كان لا يتمكن من التمسّك بالإطلاقات اللفظية لكن بإمكانه التمسّك بالإطلاقات البيانية نظير الإطلاق الوارد في صحيحة حمّاد حيث قام الإمام و صلّى ركعتين و بيّن عملاً أجزاء الصلاة و شرائطها(1)، فإذا شكّ في وجوب الاستفادة فيتمسّك بهذا الإطلاق المسمّى بالإطلاق البياني.

يلاحظ عليه: أنّ ذلك خروج عن محط البحث، فانّ الثمرة في المسألة هي جواز التمسّك بالإطلاقات اللفظية و عدمها، و أمّا الإطلاقات البيانية فالصحيحي و الأعمي أمامها سواسية.

الوجه الثاني: أنّ الثمرة عديمة الفائدة، لأنّ المطلقات الواردة في الكتاب لا يجوز التمسّك بها لعدم ورودها في مقام البيان، فقوله:» أقيموا الصلاة «نظير قول القائل» الغنم حلال «فكما لا يجوز التمسّك بإطلاق قوله:» الغنم حلال «على حلية المغصوب و الجلاّل و الموطوء لعدم كونه في مقام البيان، فهكذا الحال في إطلاقات الكتاب، فانّها في مقام بيان أصل الحكم و التشريع لا في مقام بيان الخصوصيات، و عندئذ فالصحيحي و الأعمّي أمامها سيّان فلا يجوز التمسّك على كلا القولين، غاية الأمر أنّ الصحيحي ليس له التمسّك لوجهين:

إجمال الموضوع، و كون الخطاب في غير مقام البيان، و الأعمي لوجه واحد.

ص:165


1- - الوسائل: الجزء 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً في قسم من إطلاقات الكتاب العزيز غير أنّ بعضها في مقام البيان مثلاً قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )(1) في مقام البيان بشهادة انّه سبحانه يأخذ ببيان الجزئيات و التفاصيل و يقول: (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ )(2) كما أنّه يأخذ ببيان مبدأ الإمساك و نهايته و يقول: (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ )(3) فعلى هذا فلو شكّ في مدخلية ترك الارتماس في حقيقة الصيام فعلى القول بالصحيحي يكون مرجع الشكّ إلى صدق المسمّى، و أمّا على القول بالأعمّي يكون مرجع الشكّ إلى جزئية أو شرطية أمر زائد وراء المسمّى فيتمسّك بإطلاق الآية و يثبت عدم مدخليته.

الوجه الثالث: أنّ الأعمّي أيضاً لا يصحّ له التمسّك بالمطلقات، لأنّ المسمّى و إن كان الأعم لكن المأمور به هو القسم الصحيح فكلما شكّ في جزئية شيء أو شرطيته فهو شكّ في تحقّق الصلاة الصحيحة.

يلاحظ عليه: أنّ المستشكل خلط بين كون المأمور به ذات الصحيح أو المقيّد بعنوان الصحيح، فعلى الأوّل إذا كان المسمّى محرزاً كما هو المفروض عند القول بالأعم و شكّ في جزئية شيء أو شرطيته يتمسّك بالإطلاق لإحراز ذات الصحيح لأجل كون الشكّ في شرطية شيء وراء صدق المسمّى.

و أمّا على الثاني فبما أنّ المأمور به مقيد بعنوان الصحّة فيجب على المكلف إحراز ذلك العنوان و يعود الشكّ إلى الشكّ في وجود جزء الموضوع فلا يحرز إلاّ بالإتيان بالمشكوك، نظير المقام.

و بعبارة أُخرى: فرق بين أمر المولى بتهيئة معجون و علمنا أنّ مراده هو

ص:166


1- - البقرة: 183.
2- - البقرة: 184.
3- - البقرة: 187.

المعجون الصحيح، و بين أمره بتهيئة معجون مقيّد بالصحّة، فلو شكّ في مدخلية السكر فيه يصحّ التمسّك بالإطلاق على القول الأوّل لإحراز كونه معجوناً، و إنّما الشكّ في جزئية شيء زائد على المعجون، و أمّا على الثاني فالشكّ في صدق الموضوع، لأنّ المأمور به هو المعجون المقيّد بعنوان الصحّة، فكما يجب على العبد إحراز كونه معجوناً كذلك يجب إحراز كونه صحيحاً، فالجزء الأوّل و إن كان محرزاً لكن الجزء الثاني بعد ليس محرزاً.

إلى هنا تبيّن أنّ الإشكالات الثلاثة الموجّهة إلى الثمرة الأُولى غير واردة.

نعم يرد على تلك الثمرة إشكالان آخران:

أ: قد عرفنا فيما ذكرنا أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة في لسان الشارع فيما هو الموضوع له من أوّل الأمر في العصور السابقة على الإسلام، إذ ليست هذه الماهيات العبادية من مخترعات الشريعة الإسلامية، بل كانت موجودة بين العرب قبل الإسلام، و إنّما تصرّف فيها الشرع المقدس بإضافة بعض الخصوصيات.

و على ذلك فالموضوع له الذي وضعت بازائه هذه الألفاظ محرز عند الشكّ في وجوب الاستعاذة على كلا القولين، فيرجع الشكّ على كلا المبنيين إلى الشكّ في جزئية شيء زائد أو شرطيته، فيجوز التمسّك بالإطلاقات على القول بالصحيح و الأعمّ.

ب: انّ ما ذكر ليس ثمرة أُصولية، لأنّ الثمرة الأُصولية ما تقع كبرى في عملية الاستنباط، و أمّا المقام فانّ غايته كشف وجود الإطلاق على القول بالأعم دونه على الصحيح، و هذا أشبه بمبادئ المسائل الفقهية، فالقول بوجود الإطلاق على الأعمّي دون الصحيحي كالقول بوجود الخبر في موضوع دون موضوع فلا يعد ثمرة لمسألة أُصولية.

ص:167

و أمّا الثمرات الثلاث الباقية فقد طوى عنها الكلام شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في هذه الدورة و قد أشبع الكلام فيها في الدورات المتقدّمة.(1)

الجهة الثامنة في أسماء المعاملات
و تحقيق المقام رهن أُمور:
الأوّل: لمّا كانت العبادات من مخترعات الشارع و معتبراته يصحّ فيها البحث في أنّ ألفاظها هل هي موضوعة للصحيح أو الأعمّ منها؟

لأنّ الموضوع له من مخترعاته، و هو الذي وضع لفظ العبادة في مقابلها، و هذا بخلاف المعاملات، فانّها ليست من مخترعاته بل من مخترعات العقلاء و هم الذين وضعوا ألفاظ المعاملات في مقابل ما اعتبروه بيعاً أو نكاحاً أو إجارة و ليس للشارع دور فيها، سوى تحديدها بحدود و قيود، و على ذلك فلا معنى للقول بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة في الشرع للصحيح أو الأعم، بل لو صحّ طرحه فلا بدّ أن يقال هل المعاملات موضوعة عند العرف و العقلاء لخصوص الصحيح أو الأعم؟

الثاني: ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النزاع في أنّ أسماء المعاملات وضعت للصحيح أو للأعم إنّما يتأتى على القول بوضعها للأسباب دون القول بوضعها للمسببات،

و ذلك لأنّ المسبب أمر بسيط دائر أمره بين الوجود و العدم،

ص:168


1- - و قد سها قلم زميلنا السيد الجلالي (حفظه اللّه) في تقرير الثمرة الثالثة، و التقرير الصحيح ما يلي: إذا نذر أن يعطى درهماً للمصلّي فعلى القول بوضعها للصحيح لا يفي بنذره و لا تبرأ ذمّته إلاّ إذا دفع إلى من صلّى صلاة صحيحة، بخلافه على القول الآخر فتبرأ ذمّته بالدفع إلى كلّ من صلّى، صحيحة كانت صلاته أم فاسدة. (المؤلف).

فالعلقة الحاصلة في البيع و النكاح إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، و لا معنى لأن تكون متحقّقة فاسدة، و هذا شأن الأُمور الاعتبارية البسيطة و هي بين الوجود و العدم و لا واسطة بينهما، فعلى هذا لو عقد بالفارسية أو كان العاقد غير بالغ، فعلقة الزوجية إمّا موجودة فتكون صحيحة، أو غير موجودة.

نعم لو قلنا بوضعها للأسباب فللنزاع فيه مجال، و ذلك لأنّ الأسباب مركبة من أجزاء و شرائط كالإيجاب المتعقّب للقبول مع صدورهما من عاقل بالغ إلى غير ذلك من الشروط، فيمكن أن يقال بأنّه هل وضعت للمركّب التام من الأسباب عند العرف للأعم.(1)

الثالث: أنّ اختلاف الشرع و العرف في اعتبار سبب و عدمه في عالم الثبوت كبيع المنابذة هل يرجع إلى الوحدة في المفهوم و الاختلاف في المصداق

كما عليه المحقّق الخراساني أو يرجع إلى الاختلاف في نفس المعتبر؟(2)، فالمعتبر عند الشرع في عالم الثبوت غير المعتبر عند العرف.

استدلّ المحقّق الخراساني على مختاره بقوله:

لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً و انّ الموضوع له هو العقد

ص:169


1- - و لكن يمكن أن يقال: انّ النزاع لا يجري حتى على القول بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب مثل عدم جريانه على القول بوضعها للمسببات، و ذلك لأنّ أمر الاعتبار يدور أمره بين الوجود و العدم، فلو كانت العربية معتبرة في العقد عند المعتبر يختصّ اعتبار السببية بها، و لا يكون غيرها سبباً أصلاً، لا انّه يكون سبباً فاسداً لأنّ معناه انّه اعتبره لكن بوصف الفساد، و هو بعيد عن عالم الاعتبار، فانّه لو ترتب الأثر عليه، يكون معتبراً، و إلاّ فلا يعتبره و يحذفه عن قاموس حياته.
2- - قلنا في المعتبر لا الموضوع له لما سيوافيك من أنّ ألفاظ المعاملات في الأدلّة الامضائية موضوعة و مستعملة في الصحيح عند العرف، و بذلك يتبين انّ هذا البحث راجع إلى مقام الثبوت. و انّ الأولى التعبير بوحدة المعتَبر و عدمها، لا وحدة الموضوع له، لما عرفت من أنّه ليس للشارع دور في وضع ألفاظ المعاملات. (المؤلّف)

المؤثر لأثر كذا شرعاً و عرفاً، و الاختلاف بين الشرع و العرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات و المصاديق و تخطئة الشرع العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محقِّقاً لما هو المؤثر كما لا يخفى.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان المعتبر عند العرف و الشرع هو العقد المؤثر» لأثر كذا «كان لما ذكره وجه و يلزم وحدة المعتبر و يرجع الاختلاف إلى المصاديق و يصحّ للشرع أن يخطِّئ العرف تخطئة مصداقية.

و أمّا إذا كان المعتبر أمراً تفصيلياً مثل: الإيجاب و القبول اللفظيين المتعاقبين الصادرين من بالغ عاقل، فعندئذ يكون عدم اعتبار جزء من أجزاء هذا المعتبر اختلافاً في نفس المعتبر، لا وحدة في المعتبر و اختلافاً في المصداق.

أضف إلى ذلك أنّ التخطئة في المصداق إنّما تصحّ في الأُمور التكوينية التي يكون لها واقع محفوظ فبالقياس إليه يشار إلى أنّ هذا مصداق له و ذاك ليس بمصداق كقوله» الفقاع خمر، هي خمرة استصغرها الناس «.(2)

و أمّا الأُمور الاعتبارية التي لا واقع محفوظ لها، و انّ محورها نفس الاعتبار، فلا يصحّ لمعتبِر أن يخطِّئ اعتبار معتبر آخر. لأنّ لكلّ معتبر سلطاناً في عالم الاعتبار حسب معاييره.

الرابع: في إمكان وضع ألفاظ المعاملات للصحيح أو الأعم ثبوتاً دون مقام الإثبات

قد عرفت أنّ النزاع في وضع ألفاظ المعاملات للصحيح أو الأعم إنّما يأتي على القول بوضعها للأسباب دون المسببات إذ الأُولى توصف بالصحّة عند اجتماع جميع أجزائها و بالصحّة عند فقدان بعضها، فعلى ذلك فهي قابلة

ص:170


1- - كفاية الأُصول: 1/49.
2- - الكافي: 6/423، باب الفقاع، الحديث 91.

للوضع لأحد المعنيين ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فهي موضوعة للسبب الصحيح لما عرفت من أنّ الغرض يحدد فعل الإنسان فلا يصدر عنه فعل أوسع من غرضه، و بما أنّ الداعي لاعتبار المعاملات و وضع اللفظ لها، هو المصالح التي تترتب عليها و تدور عليها رحى الحياة، فلا بد أن يدور اعتباره ثبوتاً و وضع اللفظ إثباتاً، مدار وجود الاغراض الداعية، و هي منحصرة بالصحيح من الأسباب دون الفاسد منها، فيكون الاعتبار و الوضع منحصرين به، فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: اختصاص النزاع في أسماء المعاملات بالعرف دون الشرع.

ثانياً: أسماء المعاملات موضوعة للصحيح العرفي.

ثالثاً: أنّ اختلاف الشارع و العرف في اعتبار سبب و عدمه يرجع إلى الاختلاف في نفس المعتَبر، حيث إنّ الشارع اعتبر في عالم الثبوت وجود اللفظ في الأسباب و القبول و لم يعتبره العرف، و هذا يرجع إلى الاختلاف في المعتبر لا الوحدة في نفس المعتبر و الاختلاف في المصداق.

الخامس: في وجه التمسّك بالإطلاقات و الأدلّة الإمضائية بعد القول بأنّ أسماء المعاملات وضعت عند العرف للصحيح دون الأعم،

و هذا هو بيت القصيد في هذا المبحث فعلى الفقيه الذي يتمسّك بالأدلة الإمضائية في مقام الشك في التخصيص أو اعتبار قيد أو شرط أن يثبت أنّ القول بوضع الألفاظ للصحيح عند العرف لا يمنع من التمسّك بها، فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: لو قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات وضعت للأسباب الصحيحة عرفاً فهل يجوز التمسّك بالإطلاق أو لا؟ و بعبارة أُخرى: إذا قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات أسام للأسباب الصحيحة، فهل يكون ذلك مانعاً من التمسك بإطلاقات الأدلة الإمضائية عند الشكّ في

ص:171

صحّة سبب و فساده، كتقدم القبول على الإيجاب، أو إجراء الصيغة بلفظ المضارع أو لا؟ التحقيق أنّه لا يكون مانعاً و يترتب عليه صحّة التمسّك بها.

أمّا على مذهب المحقّق الخراساني من اتفاق العرف و الشرع فيما هو السبب للملكية أو علقة الزوجية، و إنّما الاختلاف يرجع إلى التخطئة في المصداق، فظاهر، لأنّ إطلاقها لو كان مسوقاً في مقام البيان يُنزَّل على أنّ المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند العرف و لم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل عليه إطلاق كلام غيره حيث إنّه منهم، و لو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره كان عليه البيان و نصب القرينة عليه، و حيث لم ينصب بان عدم اعتباره عنده أيضاً، و لذا يتمسّكون بالإطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.(1)

و أمّا على المختار من أنّ اختلاف الشارع و العرف في بعض الأسباب إنّما هو من حيث المعتَبر لا من باب الاختلاف في المصداق، فربما يشكل التمسّك، لأنّ مرجع الشكّ إلى التمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية له، و إلى هذا الإشكال يشير الشيخ الأعظم في آخر تعريف البيع حيث قال: و يشكل بأنّ وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسّك بإطلاق نحو» أحل اللّه البيع «و إطلاقات أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء منها مع أنّ سيرة علماء الإسلام التمسّك بها في هذه المقامات.(2)

أقول: الحقّ جواز التمسّك على هذا القول أيضاً، و يعلم ذلك بأمرين:

ص:172


1- - كفاية الأُصول: 1/50.
2- - المتاجر: 80، آخر تعريف البيع.

1. انّ المعتبر عند الشارع و إن كان يختلف مع المعتبر عند العرف، لكن الاختلاف ليس بالتباين بل بالأقل و الأكثر، و المفهوم الشرعي لأجل زيادة القيود أضيق من المفهوم العرفي.

2. انّك قد عرفت أنّه ليس للشارع في باب المعاملات دور فالأسباب و المسببات و وضع اللفظ في مقابل الأسباب كلّها من العرف و العقلاء، و عندئذ فإذا قال الشارع:» أوفوا بالعقود «فمعنى ذلك أوفوا بالأسباب الصحيحة العرفية، غاية الأمر أنّ الأمر بالوفاء بعامة العقود إنّما هو بالإرادة الاستعمالية، فلو افترضنا مورداً ما لم تتعلق به الإرادة الجدية كبيع المنابذة الذي هو بمعنى تعين المبيع برمي الحجارة على قطيع غنم بإصابة شاة معينة، يشير إليه الشارع بقوله:» لا منابذة في البيع «فإذا سكت فيعلم أنّ السبب الصحيح عند العرف هو السبب الصحيح عند الشرع.

و بعبارة أُخرى: يتخذ السبب الصحيح عرفاً مرآة و طريقاً إلى السبب الصحيح شرعاً، و إلاّ تلزم لغوية الخطابات الإمضائية، و هذا هو الذي يشير إليه الشيخ الأعظم في آخر تعريف البيع و يقول: و أمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلة البيع و نحوه فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف، حُمِل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف، أو على المصدر الذي يراد من لفظ) بعت ( فيستدل بإطلاق الحكم بحله أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثراً في نظر الشارع أيضاً.(1)

و الحاصل: انّ المهم في المقام هو أنّ القول بوضع الألفاظ للصحيح لا يوجب إجمال الأدلة الإمضائية، و لو قلنا بالإجمال في العبادات على وجه الفرض

ص:173


1- - المتاجر: 80، آخر تعريف البيع.

فلا نقول به في المقام لما عرفت من أنّه ليس للشارع دور في اختراع المعاملات و لا أسبابها و لا في وضع ألفاظها لها، بل كلّها بيد العرف غير أنّ الشارع إذا تكلم إنّما يتكلم بلسان العرف، فإذا أمضى العنوان الذي هو اسم للسبب الصحيح عرفاً يكون معناه أنّه كذلك عند الشرع، فإذا شكّ في سببية شيء كعقد غير البالغ، فلو كان سبباً عرفاً نستكشف انّه أيضاً سبب شرعاً، أخذاً بحديث المرآتيّة، و إلاّ كان عليه التصريح بعدم السببية كما صرح في باب الطلاق و عيّن السبب المعيّن و هو أن يقول المطلّق:» أنت طالق «.

المقام الثاني: إذا قلنا بوضعها للمسببات، أعني: الملكية الحاصلة من العقد، و علقة الزوجية الحاصلة من الإيجاب و القبول، فشككنا في صحّة واحد من المعاملات، فالشك في الصحّة يتجلّى على قسمين، فتارة يكون الشكّ نابعاً من احتمال خروج عنوان عن الإطلاقات، و أُخرى يكون الشكّ نابعاً من جزئية شيء أو شرطيّته في أسبابها.

أمّا الأوّل: فيجوز التمسّك بالإطلاقات و الأدلّة الإمضائية، لأنّ الشرع إذا أمضى المسبب العرفي و كان الفرد المشكوك واجداً للمسبب حسب نظر العرف، فبحكم الإطلاق يحكم ببقاء الفرد المشكوك تحته. كما إذا شكّ في خروج البيع الربوي في غير المكيل و الموزون كالمعدود و المزروع و المشاهد عن تحت إطلاق قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) فيحكم ببركة إطلاق الأدلة الإمضائية بعدم خروجها عن المسبب الممضى على وجه الإطلاق.

و أمّا الثاني: إذا كان الشكّ في صحّة المسبب نابعاً من احتمال مدخلية شيء في السبب كمدخلية البلوغ في العاقد، و تقدّم الإيجاب على القبول في العقد، فالشكّ في صحة النكاح و البيع بالمعنى المسببي، نابع عن شرطية البلوغ أو تقدّم

ص:174

الإيجاب على القبول في السبب، فهل يمكن رفع الشكّ عن ناحية السبب بالتمسّك بالإطلاق المنصبّ على إمضاء المسبب العرفي أو لا؟ ذهب المحقّق النائيني إلى القول الثاني، و حاصل كلامه: أنّ إمضاء المسبب كما هو المفروض ) لافتراض أنّ أسماء المعاملات اسم للمسبب دون السبب (لا يكون دليلاً على إمضاء السبب، قال) قدس سره ( : انّه إذا كان إمضاؤه للمسببات أي للمعاملات التي هي رائجة عند العرف كالزوجية و المبادلة، مع قطع النظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها، كما في قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) فانّه في مقام بيان أنّ المعاملات الربوية من دون نظر إلى الأسباب غير ممضاة في الشريعة، بخلاف المعاملة البيعية، فالإطلاق لو كان وارداً في هذا المقام فلا يدل على إمضاء الأسباب العرفية، و ذلك لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب و إمضاء السبب، إلاّ فيما إذا كان له سبب واحد فانّ إمضاءه لمسببه يستلزم إمضاءه لا محالة و إلاّ كان إمضاؤه لغواً، و كذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن فإنّ نسبة المسبّب حينئذ إلى الجميع على حدّ سواء فلا يمكن الحكم بإمضاء بعض دون بعض، و في غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن و في الزائد يرجع إلى أصالة العدم.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بجواب فلاحظه.(2)

و الأولى أن يجاب بوجهين:

أ: وجود الملازمة العرفية بين إمضاء المسببات و الأسباب، فهي و إن لم تكن

ص:175


1- - أجود التقريرات: 501/49; المحاضرات: 1/197.
2- - حاصله: إبداء الفرق بين إمضاء الأسباب و إمضاء الأدوات، فنفى الملازمة في الأُولى و أثبتها في الثانية، قائلاً بأنّ نسبة الإيجاب و القبول بالنسبة إلى المنشأ من قبيل الإيجاد بالآلة لا من باب السبب و المسبب.

عقلية و لكنّها ملازمة عرفية فإمضاء المسبب العرفي و الذي له سبب مثله، يلازم إمضاء الثاني.

ب: التمسّك بالإطلاق المقامي، و حاصله: أنّ كلّ شيء لا يلتفت إليه إلاّ الأوحدي من الناس، فلو كان معتبراً كان على الشارع التنبيه عليه، و إلاّ لزم نقض الغرض، فمثلاً: أنّ العرف يرى تحقّق المنشأ في باب الطلاق بأي صيغة اتفقت، مثل قوله:» أنت خلية «، و» أنت برية «، و لكن الشارع لا يرى السبب إلاّ قوله:

» أنت طالق «فإذا أمضى الشارع المسبب العرفي) الطلاق العرفي (و لكن كان هناك اختلاف بين الشرع و العرف في السبب نبّه عليه كما قال: إنّما الطلاق أن تقول:» أنت طالق «.(1)

و حيث لم يرد في باب المعاملات بيان خاص بالنسبة إلى السبب يستكشف من سكوت الشارع عدم اعتبار سبب خاص، و انّ السبب الفعلي كالسبب القولي، و هذا نظير قصد الوجه و التمييز اللّذين يدّعيهما ابن إدريس في امتثال الواجبات، و المشهور لم يقل بوجوبهما و ذلك تمسكاً بإطلاقات أدلّة الصلاة، لأنّ قصد الوجه و التمييز من الأُمور العقلية التي لا يلتفت إليهما إلاّ الأوحدي من الناس فلو كان واجباً كان على الشارع التنبيه عليها، و مثله المقام.

فإن قلت: فهل يمكن دفع الشكّ عن طريق المرآتية حسب ما قرر في المقام الأوّل؟ قلت: ثمة فرق جوهري بين المقامين فانّ الإمضاء تعلّق في المقام الأوّل بالأسباب، و تعلق الشكّ بسببية شيء كالمعاطاة، فيمكن أن يقال انّ إمضاء السبب العرفي طريق إلى السبب الشرعي، و هذا بخلاف المقام فانّ المفروض

ص:176


1- - الوسائل: 15، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، الحديث 3 و 4.

أنّ الإمضاء تعلّق بالمسبب، و لكن الشكّ تعلّق بشرطية شيء في السبب كتقدّم الإيجاب على القبول فلا يمكن إمضاء المسبب الصحيح عرفاً طريقاً إلى إمضاء السبب.

و على كلّ تقدير فهذا البحث هو بيت القصيد في هذا المقام، فعلى الفقيه الجهد و بذل الجد حتى يرفع المحاذير الواقعة أمام التمسّك بالإطلاقات، سواء أقلنا بوضعها للأسباب أو المسببات.

السادس: في أنّ أسماء المعاملات اسم للأسباب أو للمسببات

هل أسماء المعاملات موضوعة للأسباب أو للمسببات؟ و هذه مسألة صغروية.

و الجواب انّ الأدلّة على قسمين:

1. ما يكون العنوان اسماً للسبب كما هو الحال في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(1)فالإمضاء يتعلّق بالأسباب.

فانّ العقد عبارة عن شدّ الحبلين، و استعير في الآية للإيجاب و القبول، فتكون الآية ظاهرة في إمضاء الأسباب فيؤخذ بإطلاقها في كلّ ما يراه العرف سبباً إلاّ إذا قام الدليل على إلغاء سببيته.

و ما ربما يقال من أنّ العقد هو العهد المشدد فلا يصدق إلاّ في الأيمان و الأقسام، في غير محله، لقوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ )(2) فالعقدة في الآية بمعنى الإيجاب و القبول المعبّر عنهما بالعُقْدة.

و ربما يقال بأنّ الآية ناظرة إلى إمضاء المسببات، لأنّها تأمر بالوفاء بالعقود و الوفاء إنّما يتصوّر في أمر باق و ما هو الباقي هو المسبب دون السبب فانّه أمر آني.

ص:177


1- - المائدة: 1.
2- - البقرة: 237.

يلاحظ عليه: أنّ الأسباب لها بقاء في عالم الاعتبار بشهادة أنّه ربّما يتعلّق بها الفسخ.

2. ما يكون العنوان ظاهراً في المسبب مثل قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1) و قوله:» الصلح جائز بين المسلمين «(2)و» النكاح سنّتي «(3)و» الطلاق بيد من أخذ بالساق «.(4)

السابع: في أقسام الجزئية و الشرطية و...

إنّ دخالة شيء في شيء تارة تكون بنحو الجزئية و أُخرى بنحو الشرطية.

ثمّ إنّ الجزئية و الشرطية تنقسمان إلى الجزئية و الشرطية للماهية، و أُخرى للفرد، و بذلك تصير الأقسام أربعة.

كما أنّ تأثير الشيء تارة يكون وجوده مؤثراً في المطلوب أو في كماله، و أُخرى يكون وجوده مخلاً، ثمّ المخل ينقسم إلى قسمين، فتارة يكون وجوده مخلاً للواجب و مبطلاً للغرض، و أُخرى يكون وجوده مخلاً للهيئة الاتصالية و قاطعاً لها كالضحك و البكاء و الفعل الكثير الماحي لصورة الواجب. فيسمى الأوّل بالمانع كالحدث و الخبث، و الثاني بالقاطع كالبكاء الممتد.

و إليك التفاصيل:

أمّا إذا كان للشيء مدخل في قوام الماهية سواء أ كان بنحو الجزئية كالركوع و السجود، أو بنحو الشرطية كالطهارة، فيسميان بجزء الماهية و شرطها، و الفرق بين الجزء و الشرط واضح، لأنّ الجزء بوجوده حاضر في حدّ الشيء فيكون القيد و التقيد داخلاً فيها، و أمّا الشرط فهو بوجوده و إن لم يكن حاضراً في قوام الشيء

ص:178


1- - البقرة: 275.
2- - من لا يحضره الفقيه: 3/21، الحديث 2.
3- - لآلي الأخبار: 3/221.
4- - الجامع الصغير: 2/57.

و لكنّ لوجوده قبل المأمور به أو معه أو بعده تأثيراً في حصول المطلوب، فيكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً، فالطهارة قبل الصلاة و استقبال الكعبة حين الصلاة و الأغسال الليلية للمرأة المستحاضة بعد الصوم من قبيل الشروط للماهية.

و بعبارة أُخرى ما يكون دخيلاً في أصل المطلوب بنحو الجزئية أو الشرطية يسمّى جزء الماهية و شرطها.

و أمّا إذا كان الشيء غير دخيل في قوام الشيء على نحو لو لم يكن محققاً لما يضرّ به و لكن له مدخلية في كمال المطلوب و جماله، فإن كان دخيلاً على نحو الجزئية يسمى جزء الفرد، و إن كان دخيلاً بنحو الشرطية يسمى شرط الفرد، و هذا كالقنوت في الصلاة أو الصلاة في المسجد، فالصلاة بلا قنوت أو في غير المسجد صلاة صحيحة وافية بالغرض المطلوب غير أنّ القنوت في الصلاة، و إقامتها في المسجد يوجب كمال المطلوب و جماله، و هذا ما يعبّر عنه بجزء الفرد و شرطه فالأمران يعدان من محققات الفرد و مشخصاته و إن لم يكونا من قوام الشيء و الغرض المطلوب.

و بذلك يعلم أنّ القنوت في الصلاة جزء للصلاة الموجودة فهي بعامة أجزائها مصداق للواجب مثل الصلاة في المسجد لا أنّ أصل الصلاة واجبة و القنوت أمر مستحب في واجب.

و ما هذا إلاّ لأنّ الصلاة مع القنوت فرد وحداني له حكم واحد و ليس له حكمان، و لا يعد القنوت أمراً زائداً على الصلاة الموجودة كردّ السلام إلى من سلّم على المصلي فانّ التسليم بعنوان الجواب شيء وراء الصلاة، أو الصلاة على النبي إذا سمع اسمه، فهي تعدّ أمراً زائداً على الصلاة، مستحباً فيها بخلاف المشخصات الفردية فانّهما من أجزاء الفرد و الفرد بوحدته مصداق للواجب.

و ربّما يورد على هذا التصوير أي تقسيم الجزء و الشرط إلى كونهما جزءاً أو

ص:179

شرطاً للفرد بأنّ المراد من الجزء أو الشرط في المقام، هو العوارض الفردية الخارجية عن ماهية الشيء، و هذا إنّما يتصور في المركبات الخارجية، مثلاً الإنسان له علل القوام أعني الجنس و الفصل كما له العوارض الفردية من الأعراض التسعة من الطول و القصر و اللون و غيرها، و عندئذ يحلّله العقل إلى أُمور مربوطة بجوهره و ماهيته، و أُمور مربوطة بعوارضه و خصوصياته الفردية.

و أمّا المركب الاعتباري فبما أنّه فاقد للوحدة الحقيقية فكلّ فرد منه له ماهية خاصّة فللفاقد ماهية، و للواجد ماهية أُخرى، مثلاً الصلاة مع القنوت موجودة، و الصلاة لا معه موجودة أُخرى، فلا يعد القنوت من العوارض الفردية و البواقي من علل القوام.

يلاحظ عليه: بأنّ الأُمور الاعتبارية سهلة المئونة، فيمكن أن تسمّي ما له مدخلية في أصل الغرض بجزء الماهية و شرطها، و ما له مدخلية في كمال الغرض فهو جزء الفرد أو شرطه، و يمكن أن يقال بصورة التقريب أنّ ذلك التقسيم بكلا شقيه نظير ما نشاهده في التكوين كالدار فهناك ما هو دخيل في أصل المطلوب على وجه لولاه لما يتحقق الغرض كالغرف، و هناك ما يعد كمالاً للدار كالإيوان و السرداب، فلو وجدا كانا جزءاً من الدار و إلاّ لم يضر.

هذا كلّه حول الجزئية و الشرطية، و أمّا المانعية و القاطعية، فمدخلية الأُولى لأجل كون وجود المانع مخلاً للواجب و لملاكه، و هذا ما يعبّر عنه مسامحة بجزئية عدمه أو شرطيته، و إلاّ فحقيقة الأمر هو كون المانع بوجوده مخلاً، و أمّا القاطع فهو أيضاً بوجوده يخل بالهيئة الاتصالية و يقطعها.

إلى هنا تمّت الأقسام الستة، و أمّا القسم السابع فهو أن يكون الواجب ظرفاً للمستحب بدون مدخلية أحدهما في الآخر و ذلك، كالأدعية الواردة في أيّام شهر رمضان لخصوص الصائم.

ص:180

الأمر الحادي عشر في الاشتراك اللفظي

اشارة

الاشتراك اللفظي: عبارة عن كون اللفظ موضوعاً لمعنيين أو أكثر من واضع واحد(1) بأوضاع متعددة بالوضع التعييني أو التعيّني.

و يقع الكلام فيه في جهات:

الجهة الأُولى: في إمكان الاشتراك اللفظي

لا شكّ في إمكان الاشتراك اللفظي و الدليل عليه وجوده، فهذه هي العين تستعمل في الباكية و الجارية، و لو افترضنا انّها كانت حقيقة في واحدة منهما و استعملت في الأُخرى لعلاقة المشابهة لنبع الماء فيهما، لا يضرّ بالمقصود، إذ ليس المدّعى تقارن المعنيين في الوضع، بل يكفي التعاقب أيضاً.

ثمّ إنّ هناك من أحال الاشتراك اللفظي بدعوى أنّه مخل بتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن.

و أجاب عنه في» الكفاية «من إمكان الاتّكال على القرائن الواضحة أوّلاً، و منع كونه مخلاً بالمقصود لتعلّق الغرض بالإجمال ثانياً.

ص:181


1- - هذا القيد من قبيل» لزوم ما لا يلزم «ذكره من أحاله كالمحقق الخوئي، و إلاّ فالمشترك اللفظي ليس رهن واضع واحد، بل الغالب هو تعدّد الوضع، لتعدّد الواضع، فتدبّر.

و يمكن أن يقال انّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان الواضع واحداً فيصدّه الاخلال عن الوضع الثاني دون ما إذا كان متعدداً.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات استدلّ على امتناع الاشتراك بأنّ الوضع الثاني يستلزم نقض الوضع الأوّل، لأنّ الوضع ليس بمعنى جعل الملازمة بين طبيعي اللفظ و المعنى الموضوع له، أو جعله وجوداً تنزيلياً للمعنى، بل بمعنى تعهد الواضع في نفسه بأنّه متى تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلاّ تفهيم معنى خاص، و من المعلوم أنّ هذا التعهد لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأنّه متى تكلّم بذلك اللفظ لا يقصد إلاّ تفهيم معنى آخر مبايناً للأوّل، ضرورة أنّه بذلك نقض ما تعهده أوّلاً.

و إن شئت قلت: إنّ الوضع عبارة عن التعهد المجرّد عن الإتيان بأيّة قرينة، و هذا غير متحقّق في الاشتراك اللفظي.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ إذا كان الواضع واحداً، و أمّا إذا كان متعدداً فلا، و سيوافيك أنّ الاشتراك اللفظي مستند إلى تباعد القبائل العربية بعضهم عن بعض.

ثمّ إنّ هناك من زعم وجوب الاشتراك قائلاً: بأنّ الألفاظ و التراكيب المؤلّفة منها متناهية، و المعاني غير متناهية و الحاجة ماسّة إلى تفهيم المعاني بالألفاظ و لا يتم ذلك إلاّ بالاشتراك.

و أجاب عنه في» الكفاية «: بأنّ المعاني إذا كانت غير متناهية فلا يمكن الوضع لها لا بالاشتراك و لا بغيره، لاستلزامه الأوضاع غير المتناهية من الإنسان المتناهي.

ص:182


1- - المحاضرات: 1/213.

و لكن الظاهر أنّ مراد القائل هو كثرة المعاني لا كونها غير متناهية حقيقة.

نعم ما ذكره من الأجوبة الثلاثة عقيب هذا الجواب هو الصحيح، قال:

1. إنّ المعاني على فرض تناهيها، لا تمس الحاجة إلاّ بالقدر المتناهي منها، لأنّ الأغراض المتداولة بين العقلاء متناهية.

2. مع أنّه يكفي الوضع للمفاهيم الكلية و إرادة الجزئيات بالقرائن.

3. انّ طريق التفهيم لا ينحصر بطريق الحقيقة، بل يكفي إفهام المعاني بطريق المجاز، و هو باب واسع.(1)

و يمكن أن يجاب أيضاً بأنّ الألفاظ كالمعاني غير متناهية عرفاً، و ذلك بسبب تلفيق الحروف الهجائية بعضها مع بعض لا سيما إذا أُضيف إليها الاختلاف في الحركات فلا تكون الألفاظ أقلّ عدداً من المعاني المطروحة للعقلاء.

الجهة الثانية: في منشأ الاشتراك

الظاهر أنّ منشأ الاشتراك هو تشتت الناطقين باللغة العربية، حيث كانت طائفة تعبّر بلفظ خاص عن معنى، و طائفة أُخرى تعبّر به عن معنى آخر من دون أن تطّلع على ما في حوزة الأُخرى من أوضاع، فلما قام علماء اللغة بجمع لغات العرب من أفواه القبائل العربية ظهر الاشتراك اللفظي.

و هناك عامل آخر أقلّ تأثير من العامل الأوّل و هو ظهور الاشتراك في ظل كثرة الاستعمال في معنى مجازي إلى حدّ يصير حقيقة كما في لفظ» الغائط «فانّه موضوع للمكان الذي يضع فيه الإنسان، ثمّ كنّى به القرآن عن فضلته إلى أن صار حقيقة.

ص:183


1- - كفاية الأُصول: 1/53.
الجهة الثالثة: في وقوع الاشتراك في القرآن

لا شكّ في وجود الاشتراك في لغة العرب، و قد جمع علماء اللغة المشتركات اللفظية فيها.

و أمّا القرآن فقد ورد فيه النجم و هو مشترك بين الكوكب و النبات الذي لا ساق له، قال سبحانه:

(وَ النَّجْمِ إِذا هَوى )(1) و قال: (وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ )(2) و مثل النجم لفظة» النون «فانّه مشترك بين الحوت و الدواة.(3)

قال سبحانه: (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ).(4)

و قال سبحانه: (ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ).(5)

ثمّ إنّ علماء علوم القرآن فتحوا باباً في المشتركات القرآنية أسموه بمعرفة الوجوه و النظائر و ألّفوا في هذا المضمار رسائل و كتباً، و لكنّهم خلطوا في كثير بين المصداق و المعنى.(6) مثلاً: ذكروا للقضاء معاني مختلفة كالفراغ، و الأمر، و الأجل، و الفصل، و المضي، و الهلاك، و الوجوب، و الإبرام، و الإعلام، و الوصية، و الموت، و النزول، و الخلق، و الفعل، و العهد، مع أنّ الجميع من مصاديق المعنى الواحد و هو العمل المتقن و التنفيذ القاطع.

يقول ابن فارس(7): ليس له إلاّ أصل واحد و الجميع يرجع إلى ذلك و هو ما يدلّ على إحكام أمر، و إتقانه و إنفاذه لجهة، قال اللّه تعالى: (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ

ص:184


1- - النجم: 1.
2- - الرحمن: 6.
3- - مجمع البيان: 5/330; الإتقان: 1/667، أخرجه عن الحسن و قتادة.
4- - الأنبياء: 87.
5- - القلم: 1.
6- - لاحظ الإتقان في علوم القرآن: 1/445.
7- - إنّ ابن فارس بطل في حلبة ردّ المعاني الفرعية إلى الأصلية، و كتابه» المقاييس «من أحسن الكتب، و يليه ما ألّفه الزمخشري باسم » أساس البلاغة «.

سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ )(1) أي أحكم خلقهن، و القضاء: الحكم، قال اللّه سبحانه في ذكر من قال: (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ )(2) أي اصنع و احكم، و لذلك سمّي القاضي قاضياً، لأنّه يحكم الأحكام و ينفذها، و سمّيت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم و غيره من الخلق.

إلى أن قال: و كلّ كلمة في الباب فانّها تجري على القياس الذي ذكرناه، فإذا هُمز تغيّر المعنى، يقولون: القُضاة: العيب، يقال ما عليك منه قضاة، و في عينه قضاة: أي فساد.(3)

ص:185


1- - فصّلت: 12.
2- - طه: 72.
3- - لاحظ في ذلك المقاييس: 1005/99، مادة قضى.

الأمر الثاني عشر في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى

اشارة

كان البحث السابق يدور حول إمكان الاشتراك و عدمه، فإذا ثبت وجود اللفظ المشترك يقع الكلام في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد.

و محلّ النزاع هو أن يكون كلّ من المعنيين ملحوظاً بحياله و استقلاله مثلما استعمل في واحد منهما، فخرجت الصورتان التاليتان عن محط النزاع:

أ. إذا استعمل في مجموع المعنيين، بحيث يكون كلّ منهما جزء المستعمل فيه، نظير العام المجموعي عند الأُصوليين.

ب. إذا استعمل في معنى جامع لكلا المعنيين، كما إذا استعمل في المسمّى بالعين الشاملة للذهب و الفضة، و الباكية و الجارية.

فإنّ هاتين الصورتين ليستا من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الأُولى استعمال في معنى مركب من معنيين حقيقتين، كما أنّ الثانية استعمال في جامع المعنيين، و المستعمل فيه ذو أجزاء، و في الثانية ذو أفراد.

و على كلّ تقدير، فالظاهر من القدماء أنّ البحث في الجواز و عدمه بحث لغوي، و لكن الظاهر من المتأخرين أنّ البحث عقلي.

و لذلك

استدلّوا للامتناع العقلي بوجوه،
اشارة

نذكرها مع تحليلها.

ص:186

1. جواز الاستعمال رهن لفظ و لحاظ ثان

استدلّ المحقّق الخراساني على الامتناع بأنّ الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة للمعنى حتى يصحّ جعل اللفظ الواحد علامة لشيئين، بل الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، فإذا كان فانياً في أحد المعنيين، فافناؤه في المعنى الثاني يحتاج إلى لحاظ اللفظ بغير اللحاظ الأوّل، و المفروض انتفاؤه، قال في» الكفاية «:

حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجهاً و عنواناً له، بل بوجه نفسه، كأنّه الملقى، و لذا يسري إليه قبحه و حسنه كما لا يخفى، و لا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد، ضرورة انّ لحاظه هكذا في إرادة معنى، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إنّ لحاظه كذلك، لا يكاد يكون إلاّ بتبع المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه و العنوان في المعنون، و معه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ آخر، غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟!(1)يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد من الإفناء، المعنى الحقيقي بأن يتبدّل اللفظ إلى المعنى و تذهب فعلية اللفظ، فهو غير صحيح، و لا يلتزم به القائل، و إن أُريد أنّ الغرض الذاتي يتعلّق بالمعنى دون اللفظ، فالتالي غير ممتنع، إذ أي مانع من أن يتعلّق الغرض الذاتي بمعنيين و ينظر إليهما بلفظ واحد ملحوظ بلحاظ فارد.

2. اجتماع لحاظين آليّين في شيء واحد

استدلّ المحقّق العراقي بأنّ وضع اللفظ للمعنى ليس جعله علامة عليه

ص:187


1- - كفاية الأُصول: 1/54، المطبوع بحاشية المشكيني رحمه اللّه.

و لو بنحو التنزيل، بل هو جعل اللفظ مرآة تحكي المعنى و تصوره للسامع، و استعمال اللفظ في المعنى هو فعلية كون اللفظ الموضوع مرآة و حاكياً. و بما أنّ المرآة ملحوظة حين استعمالها باللحاظ الآلي، فيلزم من استعمال اللفظ الواحد في معنيين أو أكثر، أن يلحظ ذاك اللفظ الواحد، في آن واحد، بلحاظين آليينَ و حينئذٍ يجتمع اللحاظان في واحد شخصي.

نعم لو كانت حقيقة الوضع هو العلامة، فلا مانع من كون شيء واحد علامة لشيئين.(1)

و الفرق بين تقريري الأُستاذ) الخراساني (و التلميذ) العراقي (، انّ تقرير الأُستاذ يركز على لزوم وجود لفظ و لحاظ آخر باعتبار انّ الاستعمال إفناء للّفظ، و لا بدّ في الاستعمال في المعنى الثاني من لحاظ و لفظ و استعمال آخر.

و هذا التقرير يركز على استلزام الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على أنّ تعدّد اللحاظ في المعنيين يلازم تعدده في اللفظ المستعمل فيها، و لكن الظاهر أنّه لا ملازمة بين تعدّد اللحاظ في المعنى، و تعدّده في اللفظ، و ذلك لأنّ كلاً من المعنيين تعلّق به الغرض الذاتي فيكون كلّ منهما ملحوظاً على وجه الاستقلال، بخلاف اللفظ فانّه متعلّق بالغرض تعلقاً آلياً، فيكفي في مقام استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، تصوّر المعنيين مستقلاً أوّلاً، ثمّ الانتقال منهما إلى اللفظ ثانياً، و الانتقال منه إلى المعنيين ثالثاً.

3. اجتماع لحاظين مستقلين في صقع النفس

استدلّ المحقّق النائيني على الامتناع بأنّ لازم استعمال اللفظ في المعنيين

ص:188


1- - بدائع الأفكار: 1/146، و ما أفاده تعبير آخر عما في» الكفاية «.

على نحو الاستقلال، تعلّق اللحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد، كما إذا لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه، و من الواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد.(1)

و هذا التقرير يغاير التقريرين السابقين، فانّ الأوّل كان يركّز على أنّ الاستعمال رهن لحاظ ثان و هو غير موجود، كما أنّ الثاني يركز على أنّ لازم الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.

و هذا التقرير يركز على أنّ النفس ليس بمقدورها ملاحظة معنيين بحيالهما و استقلالهما.

يلاحظ عليه: أنّ الممتنع هو اجتماع لحاظين مستقلين في آن واحد في معنى واحد، لأنّه أشبه باجتماع المثلين.

و أمّا تعلّق اللحاظين المستقلين بمعنيين في آن واحد كما في المقام فليس يمتنع، و الشاهد على ذلك انّ النفس تستخدم العين و السمع و الذائقة و الشامة في آن واحد و يكون مدركات كلّ منها ملحوظة بالاستقلال أيضاً.

4. إيجاد ماهيتين مختلفتين بوجود واحد

استدلّ المحقّق الاصفهاني في تعليقته بأنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، حيث إنّ وجود اللفظ في الخارج، وجود لطبيعي اللفظ بالذات،) تكويناً (و وجود لطبيعي المعنى بالجعل و المواضعة و التنزيل، لا بالذات، و لا يعقل أن يكون وجود واحد وجوداً لماهيتين بالذات، و حيث إنّ الموجود الخارجي ) اللفظ (بالذات واحد، فلا مجال لأن يقال: انّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى

ص:189


1- - المحاضرات: 1/217 و لاحظ أجود التقريرات: 1/51 و المذكور في الثاني لا يخلو من إجمال.

خارجاً، و وجود آخر لمعنى آخر، حيث لا وجود آخر حتى ينسب إلى الآخر بالتنزيل، و ليس الاستعمال إلاّ إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجاً، و قد عرفت أنّ الإيجاد و الوجود متحدان بالذات و حيث إنّ الوجود واحد فكذا الإيجاد.(1)

و حاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين:

1. اللفظ وجود تنزيلي للمعنى، فإذا صار وجوداً لأحد المعنيين، فلا وجود آخر له.

2. الوجود و الإيجاد واحد بالذات، و الاختلاف بالاعتبار، فإذا كان وجود اللفظ واحداً بالذات، فليكن إيجاداً كذلك، لتفرّع الإيجاد على الوجود في الوحدة و الكثرة.

يلاحظ عليه: أنّ أساسه خلط الاعتبار بالتكوين، فانّ الإيجاد التكويني لا يتعلّق إلاّ بماهية واحدة دون ماهيتين، و أمّا الإيجاد الاعتباري فلا دليل على أنّه كذلك، إذ أيّ مانع من فرض اللفظ وجوداً لكلّ من المعنيين في وعاء الاعتبار، و هل هذا إلاّ إجراء حكم التكوين على الاعتبار؟ أضف إلى ذلك أنّه لا دليل على أنّ اللفظ إيجاد للمعنى، بل وسيلة للالتفات إلى المعنى، فاستعمال اللفظ أشبه بكونه سبباً للانتقال إلى المعنى.

إلى هنا تبيّن أنّه لا دليل على امتناع الاستعمال، لكن يقع الكلام في وجود المانع من جانب الواضع و عدمه، فلو كان هناك مانع فإنّما هو من ناحية الوضع.

ص:190


1- - نهاية الدراية: 1/64.
المانع من جهة الوضع

ذهب المحقّق القمي إلى أنّ المانع هناك وضعي لا عقلي و هو أنّ الواضع وضع اللفظ للمعنى في حال الوحدة فلا يجوز استعمال المفرد في غير حال الانفراد لا حقيقة و لا مجازاً، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلانّه لم تثبت الرخصة في هذا النوع من الاستعمال.(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللفظ و إن وضع للمعنى حال الوحدة لكن القيد) حال الوحدة (ليس قيداً للموضوع له و لا قيداً للوضع فلا يكون مانعاً من الاستعمال.

فإن قلت: إنّ الوحدة و إن لم تكن قيداً لواحد منهما لكن الوضع لم يتحقّق إلاّ في هذه الحالة فكيف يستعمل في غيرها؟ قلت: إنّ الضيق الذاتي إنّما يكون مانعاً إذا كان الاستعمال بملاك وضع واحد، و أمّا إذا استعمله بملاك وضعين فلا يكون مثله مانعاً عن الاستعمال.

و الحاصل: أنّ كون المعنى موضوعاً له في حال الوحدة لا يكون مانعاً من استعماله في أكثر من معنى واحد و إلاّ يرجع إلى كونه قيداً لأحدهما و المفروض عدمه.

ثمّ أدلّ دليل على إمكانه هو وقوعه، فقد قام أحد المعنيين بالأدب العربي(2) بجمع شواهد على تحقّق استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، و نحن نقتصر على شيء قليل.

يقول الشاعر في مدح النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:

المرتمي في الدجى، و المبتلى بعمى و المشتكي ظمأ و المبتغي دينا

ص:191


1- - قوانين الأُصول: 1/63، طبعة تبريز عام 1315 ه.
2- - المحقّق أبو المجد الشيخ محمد رضا الاصفهاني في كتاب» وقاية الأذهان «.

يأتون سدّته في كلّ ناحية و يستفيدون من نعمائه عيناً

فاستعمل الشاعر لفظ» العين «في الشمس، و البصر، و الماء الجاري، و الذهب حيث إنّ المرتمي » المرميّ «في الدجى، يطلب الضياء، و المبتلى بالعمى يطلب العين الباصرة، و الإنسان الظمآن يريد الماء، و المستدين يطلب الذهب.

بقيت هنا أُمور:
الأوّل: لو قلنا بجواز استعمال اللفظ في الأكثر فالظاهر أنّه حقيقة في المفرد و المثنى و الجمع،

لما عرفت من أنّ محط النزاع استعمال اللفظ في كلّ واحد من المعنيين مستقلاً، بالنظر إلى الوضعين لا في مجموع المعنيين على نحو التركيب و لا في الجامع بين المعنيين و قد عرفت أنّ الوحدة ليست قيداً للوضع و لا للموضوع له.

نعم ذهب صاحب المعالم إلى أنّ استعمال المفرد في الأكثر مجاز، و استعمال غيره كالتثنية و الجمع في الأكثر حقيقة.

أمّا الأوّل، فلاستلزامه سقوط قيد الوحدة المأخوذ في الموضوع له; و أمّا الثاني، فلأنّ التثنية بمنزلة تكرير اللفظ، فكأنّك نطقت بلفظين، و استعملت كلاً في معنى خاص.

و ما ذكره غير تام، أمّا في المفرد فلما عرفت من أنّ الوحدة ليست قيداً لا في الوضع و لا في الموضوع له.

و أمّا الثاني أي استعمال التثنية و الجمع في أكثر من معنى حقيقة، فلأنّ الظاهر أنّ الهيئة فيهما تدل على تعدد ما أُريد من المفرد، فلو أُريد من المفرد أحد المعاني فيدلّ على الفردين منه، و عندئذ لا يكون من قبيل استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، و إن أريد منه أكثر من معنى واحد فالهيئة تدل على الفردين

ص:192

من كلّ من المعنيين، كفردين من العين الجارية و فردين من العين الباكية، و لا يكون الاستعمال حقيقة أيضاً على مبناه، لاستلزامه حذف الوحدة الملحوظة.

و حاصل الكلام: انّ الاستعمال على وجه يكون حقيقة و لا يكون من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و على فرض آخر يكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، و لكن لا يكون الاستعمال حقيقة على مبناه.

الثاني: إذا ثبت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فهل يحمل المشترك على جميع المعاني عند عدم قرينة على واحد منها، أو لا؟

ذهب المحقّق البروجردي إلى الأوّل، قائلاً بأنّه حقيقة في الجميع فمقتضى أصالة الحقيقة في الاستعمالات حمله على الجميع.

يلاحظ عليه: أنّ المتَّبَع في الكلام هو الظهور العرفي، حتى أنّ العمل بأصالة الحقيقة، لأجل كون المجاز خلاف الظاهر المتبادر، و لا شكّ أنّ المتبادر هو إرادة واحد من المعاني لا أكثر، لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى نادر، فلا يصار إليه إلاّ أن يدلّ عليه دليل.

الثالث: هل يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي و المجازي معاً؟

الظاهر أنّه لا يوجد مانع عقلي و لا قانوني، نعم ربما يقال بامتناعه، لأنّ استعماله في المعنى الموضوع له يصيّره حقيقة، و استعماله في الوقت نفسه في غير الموضوع له يصيّره مجازاً، و المجاز و الحقيقة متضادان لا يجتمعان.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره إنّما يتم في الأعراض المتأصلة كالسواد و البياض دون الأُمور الاعتبارية كالحقيقة و المجاز. و لا مانع من وصف الاستعمال الواحد حقيقة باعتبار، و مجازاً باعتبار آخر.

ص:193

الرابع: قد ورد في الروايات أنّ للقرآن تنزيلاً و تأويلاً، و أنّ لآياته ظهراً و بطناً،
اشارة

فربّما استدلّ القائل بجواز استعمال المشترك في معنيين بهذه الروايات بذريعة أنّ التأويل غير التنزيل، و البطن غير الظهر.

و لكن الظاهر انّه لا صلة لهذه الروايات بمحل النزاع، و إليك التفصيل.

أمّا التأويل فيستعمل في موردين:

الأوّل: تأويل خصوص المتشابه.

الثاني: تأويل الآيات القرآنية.

أمّا الأوّل فقد أشار إليه سبحانه بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ ).(1)

فالتأويل من آل، يؤول: رجع و يرجع في هذه الآية بمعنى إرجاعها إلى ما هو المراد الواقعي، فانّ للآيات المتشابهة ظهوراً غير مستقر، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور المتزلزل ابتغاء الفتنة، و أمّا غيرهم فيتأمّلون فيها و يرجعون الآية في ظل الآيات المحكمة إلى ما هو المراد واقعاً و يستقر بذلك ظهورها.

مثلاً قد وردت آيات حول صفاته سبحانه التي تسمّى بالصفات الخبرية كاليد و الوجه و العين، و الاستواء على العرش، إلى غير ذلك من الآيات التي لها ظهور بدوي و هو ظهور غير مستقر، و ظهور نهائي و هو ظهور مستقر.

أمّا الظهور البدوي فهو أنّ للّه سبحانه أعضاء كأعضاء الإنسان، و استقراراً على العرش كاستواء الإنسان على السرير.

ص:194


1- - آل عمران: 7.

و أمّا الظهور المستقر فهو ما يتبادر من الآية بعد الإمعان في القرائن الحافّة بها، بضميمة الرجوع إلى الآيات المحكمة التي هي كالقرائن المنفصلة بالنسبة إلى الآية، و على ذلك فالمراد من التأويل الذي هو مصدر باب التفعيل، بمعنى إرجاع الآية إلى ما هو المقصود بالتأمل في القرائن و الشواهد المتصلة و المنفصلة.

و من القول الخطأ تفسير التأويل بمعنى حمل الآية على خلاف ظاهرها، لأجل مخالفتها لحكم العقل أو الحكم القطعي من الشارع فيؤوّل أي يصرف إلى خلاف ظاهرها بغية الجمع بين مفاد الآية و حكم العقل أو الآيات الأُخرى.

وجه الخطأ: انّ التأويل بهذا المعنى مصطلح جديد للمفسرين و الأُصوليّين و ليس له أثر في كتب اللغة، و حاشا أن توجد في القرآن آية مخالفة لحكم العقل، أو الحكم القطعي في الشرع حتى يصرف إلى خلاف ظاهرها، فما يتبادر من المخالفة كما في مورد الصفات الخبرية فإنّما هي مخالفة بدوية و ظهور غير مستقر، و أمّا الظهور المستقر للآية فلا يكون مخالفاً لسائر الأدلة، و لأجل المزيد من الإيضاح نأتي بمثال يرجع إلى استعمال اليد في الآيات:

1. يقول سبحانه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ).(1)

فنقول: إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص و لكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم، فقوله سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له، بحجّة أنّه لا صلة له بي، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي، و نفخت فيه من روحي، فهو مخلوقي الذي قمت

ص:195


1- - ص: 75.

بخلقه، فمع ذلك تمرّدتَ عن السجود له.

فأُطلقت الخلقةُ باليد و كُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه، و عنايته بإيجاده، و تعليمه إيّاه أسماءه، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا ما بنيته بيدي، أو ما صنعته بيدي، أو ربّيته بيدي، و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. و كأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.

2. (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ )(1) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ للّه سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة، و لكنّ المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ و لم يتدبّروا في الظهور التصديقي، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجُملي، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية و ما احتفّ بها من القرائن، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك لتحديد مفاد الآية عن غيره، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى بخلق الأنعام و انّه لم يشاركه أحد فيها، فهي مصنوعة للّه تعالى و الناس ينتفعون بها، فبدل أن يشكروا، يكفرون بنعمته، و أنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي، و المدار في الموافقة و المخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.

قال الشريف المرتضى(2): قوله تعالى: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) جار مجرى قوله:» لما خلقت أنا «و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبتْ يداك،

ص:196


1- - يس: 71.
2- - أمالي المرتضى: 1/565.

و ما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه، و لا ينطق لسانه، و لا تكتب يده، و كذلك في الإثبات، و لا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة، بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل.

3. قال سبحانه: (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ )(1) فاليد و إن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة و الإحكام بقرينة قوله: (وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ ) و كأنّه سبحانه يقول: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة.

(2)إلى هنا خرجنا بالنتائج التالية:

1. انّ اللازم في الصفات الخبرية، أعني اليد و الرجل و العين و الاستواء، هو تحصيل الظهور التصديقي لا التصوّري، و الظهور الجملي لا الجزئي، فعندئذ يتعبّد به و لا يعدل عنه. و لا يحتاج إلى حمل الظاهر على خلافه.

2. انّ اليد في الآيات الثلاث، إمّا كناية عن قيام الفاعل بالفعل مباشرة لا باستعانة من الغير كما في الآيتين الأُوليين، أو كناية عن القدرة الخارقة.

3. حمل الآية على خلاف ظهورها البدوي أمر لا مانع منه، لأنّ الظهور البدوي ليس بحجّة و مخالفته لا تعد خلافاً للحجة.

هذا كلّه حول تأويل المتشابه، و أمّا الثاني أي تأويل القرآن فهو في مقابل التنزيل، فللقرآن تنزيل و تأويل، فالمراد من التنزيل ما انطبقت الآية عليه وقت

ص:197


1- - الذاريات: 47.
2- - الكشاف: 3/21.

نزولها، و أمّا التأويل فالمراد هو المصاديق التي تتجدد للآية عبر الزمان، و ها نحن نستعرض المثالين التاليين:

1. يقول سبحانه: (وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ).(1)

نص القرآن الكريم بأنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بشخصه منذر، كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد، و قد قام النبي بتعيين مصداق الهادي في حديثه، و قال:» أنا المنذر و عليٌّ الهادي إلى أمري «.(2)

و لكن المصداق لا ينحصر بعلي، بل الهداة الذين تواردوا عبر الزمان هم المصاديق للآية المباركة، و لذلك نرى أنّ الإمام الباقر) عليه السلام (يقول:» رسول اللّه المنذر، و عليٌّ الهادي، و كلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيه «.(3)

فالهداة المتواردون كلّهم تأويل للآية في مقابل التنزيل.

2. يقول سبحانه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(4)

فهذه الآية تعطي ضابطة كلية في حقّ الناكثين للعهد الشرعي، قد احتجّ بها أمير المؤمنين) عليه السلام (في يوم الجمل، روي عن الإمام الصادق) عليه السلام (أنّه قال:» دخل عليّ أُناس من أهل البصرة، فسألوني عن طلحة و الزبير، فقلت لهم: كانا من أئمّة الكفر، انّ عليّاً يوم البصرة لمّا صفَّ الخيول، قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتى أعذِّر فيما بيني و بين اللّه عزّ و جلّ و بينهم، فقام إليهم فقال:

يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جوراً في حكم اللّه؟

ص:198


1- - الرعد: 7.
2- - نور الثقلين: 2/482 و 485.
3- - نور الثقلين: 2/482 و 485.
4- - التوبة: 12.

قالوا: لا.

قال: فحيفاً في قسم) جمع القسمة (؟ قالوا: لا.

قال: فرغبت في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا.

قال: فأقمت فيكم الحدود و عطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا.

قال: فما بال بيعتي تُنكث، و بيعة غيري لا تُنكث؟ إنّي ضربت الأمر أنفَه و عينَه فلم أجد إلاّ الكفر أو السيف، ثمّ ثنى إلى أصحابه، فقال:

إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول في كتابه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(1)

فقال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمداً بالنبوة انّهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا منذ نزلت «.(2)

ثمّ إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (هو الذي سمّى هذا النوع من القتال حسب ما ورد في الرواية تأويلاً في مقابل التنزيل، فقال مخاطباً لعلىّ:» فتقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله، ثمّ تقتل شهيداً تخضب لحيتك من دم رأسك «.(3)

روى ابن شهرآشوب عن زيد بن أرقم، قال: قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» أنا أُقاتل على التنزيل، و عليّ يقاتل على التأويل «.(4)

ص:199


1- - التوبة: 12.
2- - نور الثقلين: 2/189; البرهان في تفسير القرآن: 2/106.
3- - بحار الأنوار: 40/1، الباب 91.
4- - المناقب: 3/218.

فهذا هو عمار قاتل في صفين مرتجزاً بقوله:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله(1)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

و على ذلك فالمراد من البطن هو المصاديق المتجددة عبر الزمان، و التعبير بالسبعين كناية عن الكثرة.

منهج القرآن في الهداية

إنّ كثيراً من الآيات القرآنية نزلت في ظروف خاصة، غير أنّ مفادها لا يقتصر على هذه الظروف فحسب بل يعمّها و غيرها، فمثلاً قوله سبحانه:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(2)

إنّ كثيراً من المشركين كانوا يرفضون رسالة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بذريعة أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يأكل الطعام كسائر الناس، فأمرهم سبحانه أن يسألوا أهل الذكر عن الأنبياء السابقين، و انّهم هل كانوا على تلك الوتيرة أو على غيرها؟ فمورد السؤال هو ذاك، كما أنّ المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب، و لكن مفهوم الآية و هو الرجوع إلى أهل الذكر في المشاكل العالقة عام لا يختص بأهل الكتاب و لا بمورد الآية، و لذلك فسّر أهل الذكر في بعض الروايات بأئمّة أهل البيت، و هو أيضاً من قبيل الجري، أعني:

تطبيق الكلي على أفضل أفراده، و لذلك يستدل بالآية على لزوم التقليد، لأنّه رجوع إلى أهل الذكر.

فالانتقال بالآية من مفادها الضيّق البدوي إلى هذا المعنى الوسيع تأويل

ص:200


1- - الاستيعاب: 2/472، المطبوع في حاشية الإصابة.
2- - النحل: 43 و الأنبياء: 7.

و بطن لها، و بذلك تستفيد الأُمّة من الآية حقائق و معاني كثيرة. و لا صلة للتأويل بهذا المعنى لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فسّر التأويل و البطن بوجه آخر لا يخلو من إشكال و قد بين شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه إشكاله في الدورة السابقة فليُرجع إلى المحصول.

ص:201

الأمر الثالث عشر في المشتق

اشارة

اتّفقت كلمة علماء الأُصول على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدإ، و مجازٌ فيما يتلبس به في المستقبل، و اختلفوا فيما انقضى عنه المبدأ،

و قبل الدخول في صلب الموضوع، نقدّم أُموراً:
الأوّل: تعريف المشتق

المشتق هو اللفظ المأخوذ من لفظ آخر، و يسمّى الأوّل فرعاً، و الثاني أصلاً، و لا بدّ بينهما من مناسبة حتى يتحقّق الأخذ و قد قسّموه إلى صغير و كبير و أكبر. لأنّ الفرع إمّا أن يشتمل على حروف الأصل و ترتيبه، فهو الأوّل، و إذا أطلق لا ينصرف إلاّ إليه. و إمّا أن يشتمل على حروفه دون ترتيبه، و هو الاشتقاق الكبير، كما قيل: إنّ» فسر «مأخوذ من سفر، و يقال:» أسفر النقاب «إذا رفع، و التفسير أيضاً رفع النقاب عن وجه المراد; و إمّا أن لا يشتمل على حروفه فضلاً عن ترتيبه و هو الأكبر كثلم و ثلب.(1)

ص:202


1- - لاحظ في الوقوف على تفصيل الأقسام: الفصول الغروية: 58 59.
الثاني: النزاع لغوي لا عقلي

الظاهر أنّ النزاع في المقام لغوي، و البحث في حدود الموضوع له، و انّ الواضع هل وضعه لخصوص المتلبّس بالمبدإ أو وضعه للأعم منه و ممن تلبّس به آناً ما و إن زال عنده؟ و الدليل على أنّه لغوي هو استدلال الطرفين بالتبادر و صحّة السلب و عدمه، و لو كان النزاع عقلياً لما كان لهذه الاستدلالات وجه، خلافاً لصاحب المحجة حيث ذهب إلى أنّ النزاع عقلي، و انّه لا خلاف في المفهوم و المعنى، بل الاختلاف في الحمل، فانّ القائل بعدم صحّة الإطلاق على من انقضى عنه المبدأ يرى وحدة سنخ الحمل في المشتقات و الجوامد، فكما لا يصحّ إطلاق الماء على البخار بعد ما كان ماءً، كذلك لا يصحّ إطلاق المشتق على ما زال عنه المبدأ بعد تلبّسه به، و القائل بصحّته يدّعي تفاوت الحملين، فانّ الحمل في الجوامد» حمل هو هو «، فلا يصحّ أن يقال للهواء ماء، و الحمل في المشتقات» حمل ذي هو «و» حمل انتساب «و يكفي في الانتساب مجرّد الخروج من العدم إلى الوجود فيصحّ الحمل على المتلبّس و من انقضى عنه المبدأ.

حاصله: انّ المفهوم واحد عند الطرفين، و القائل بالمجازية يدّعي كون الحمل في الجامد و المشتق حمل مواطاة، و القائل بالحقيقة يقول إنّ الحمل في الجامد مواطاة و في المشتق» حمل ذي هو «.

يلاحظ عليه: أنّه لا معنى للنزاع في صحّة الإطلاق و عدمه عقلاً إذا تسالموا على المفهوم، و المعنى بداهة بطلان عدِّ ما كان واجداً للمبدإ ثمّ صار فاقداً، من مصاديقه بحسب نفس الأمر، لأنّ الصدق و الجري يدور مدار الواجدية و معه لا وجه له.

ص:203

الثالث: المشتق بين الأُدباء و الأُصوليين

قد عرفت معنى المشتق عند الأُدباء، و هو أخذ اللفظ من لفظ آخر، و أمّا المشتق في لسان الأُصوليين فهو عبارة عمّا يجري على الذوات باعتبار كونها واجدة للمبدإ و اتحادها معه بنحو من الاتحاد.

و بذلك يعلم أنّ النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه، فالأفعال قاطبة ماضيها و مستقبلها و أمرها، و إن كانت مشتقة عند الأُدباء لكنّها خارجة عن تعريف المشتق عند الأُصوليين، لأنّ الأفعال تدلّ على قيام مبادئها بالذات، قيام صدور أو حلول أو طلب فعل أو طلب ترك، و لا تدل على وصف الذات بها، و نظير الأفعال المصادر المجرّدة و المزيدة لعدم جريها كالأفعال على الذوات بنحو الهوهوية، بل هي تدل على نفس المبادئ.

كما أنّ بعض الجوامد الذي يجري على الذوات، و ينتزع منه باعتبار اتحاده بالمبدإ كالزوج و الرق و الحرّ، داخل في تعريف المشتق عند الأُصوليين و خارج عن تعريف المشتق عند الأُدباء.

و أمّا الاجتماع فيصدقان جميعاً على أسماء الفاعلين و المفعولين و أسماء الزمان و المكان، و أسماء الآلة و الصفات المشبهة و صيغ المبالغة، لوجود الملاك في الجميع و هو: انتزاعها من الذات و حملها عليه.

و بالجملة: الميزان وجود ذات و مبدأ قائم بها، من غير فرق بين القيام الصدوري و الحلولي، أو كون المبدأ فعلاً، أو حرفة، أو ملكة، كما لا فرق بين النسب، أي النسبة القائمة بين الصفات و الذات، سواء أ كانت النسبة ثبوتية، أو تجددية، أو وقوعاً عليه، أو وقوعاً فيه، أو وقوعاً به، أو غير ذلك ممّا يجده الإنسان في أسماء الفاعل و المفعول و الزمان و المكان و الآلة و الصفة.

ص:204

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أيّد كون ملاك البحث أعمّ من المشتق عند الأُدباء و انّه يعمّ بعض الجوامد كالزوج للفرع الذي طرحه صاحب الإيضاح فيمن كان له زوجتان كبيرتان ارضعتا زوجته الصغيرة، قال:

تحرم الأُولى و الصغيرة، و أمّا الثانية فحرمتها و عدمها مبنيّة على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس، أو كونه حقيقة في الأعمّ منه و ممن انقضى عنه المبدأ، فإن قلنا بالأوّل، لم يصدق على الثانية انّها أُمّ زوجته، بل هي أُمّ البنت، و ليست أُمّ البنت محرّمة، و إن قلنا بالأعمّ، يصدق أنّها أُمّ من كانت زوجته سابقاً.(1)

ثمّ إنّ الكلام يقع في تحريم المرتضعة أوّلاً، و الكبيرة الأُولى ثانياً، و الكبيرة الثانية ثالثاً.

أمّا المرتضعة، فلا شكّ أنّها تحرم على الزوج إذا كان اللبن له، إذ حينئذ تكون الزوجة الصغيرة المرتضعة، بنته الرضاعية، و البنتية و الزوجية غير مجتمعتين.

نعم لو كان اللبن لزوجها السابق الذي خرج عن حبالتها و تزوّجت بالثاني، تكون المرتضعة عندئذ ربيبة رضاعية للزوج الثاني، و حرمتها مبنية على حرمة الربيبة النسبية إذا تأخرت ولادتها، كما إذا طلّقها الزوج و تزوّجت بآخر و أنجبت بنتاً فلو قلنا بحرمة المتأخّرة للزوج الأوّل فتعمّ الحرمة البنت الرضاعية المتأخّرة في المقام أخذاً بقوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

و أمّا الكبيرة فقد اتّفقت كلمتهم على بطلان زوجيتها، لأنّها صارت أُمّ الزوجة مع أنّها كالكبيرة الثانية لا تحرم إلاّ على القول بوضع المشتق للأعم لا لخصوص المتلبس فلا خصوصية للأُولى في ذلك.

بيان ذلك بوجهين:

ص:205


1- - إيضاح الفوائد في شرح القواعد: 3/52.

الأوّل: انّ المتضائفين متكافئان قوّة و فعلاً، و لا يمكن التفكيك بينهما، وعليه فبنتية المرتضعة و أُمومة المرضعة متضايفتان، لأنّه عند ما صارت المرضعة أُمّاً صارت المرتضعة بنتاً، فهي أُمّ البنت، لا أُمّ الزوجة، و إلاّ لزم تفكيك أحد المتضائفين) الأُمومة (عن الآخر) البنتية (.

الثاني: إنّ زوجية المرتضعة و بنتيتها، متضادتان شرعاً، فمرتبة البنتية، مرتبة زوال الزوجية، و المفروض أنّها أيضاً مرتبة حصول الأُمومة، فينتج أنّ مرتبة الأُمومة، مرتبة زوال الزوجية فليس لنا زمان و لا مرتبة تضاف فيه الأُمومة إلى الزوجية.

و حاصل التقرير الأوّل: أنّ صدق الأُمومة على الكبيرة، و الزوجية على الصغيرة غير معقول، لعدم صحّة انفكاك أحد المتضائفين) الأُمومة (عن المتضائف الآخر) البنتية (.

و حاصل التقرير الثاني: أنّ مرتبة حصول البنتية و الأُمومة، مرتبة زوال الزوجية، فكيف تكون أُمّاً للزوجة بل تكون أُمّاً للبنت، و أُمّ البنت ليست من المحرمات.

هذا هو الإشكال، و انّ المرضعتين في الحكم على حد سواء، و حرمة الكل مبنيّة على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أجاب عن الإشكال بما هذا لفظه: من أنّ صدق البنتية للمرتضعة و زوال زوجيتها، و أُمومة المرضعة الأُولى، متّحدات في الزمان، فآخر زمان الزوجية متصل بأوّل زمان حدوث الأُمومة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاكتفاء بهذا المقدار، خلاف منصرف العمومات، فانّ الظاهر من» أُمّهات نسائكم « أن تكون المرأة أُمّاً حقيقة أو تنزيلاً لزوجة فعلية، و أمّا الأُمومة المقارنة لآخر جزء الزوجية الزائلة، فليست داخلة تحتها.

ص:206


1- - الجواهر: 33029/329.

و الأولى أن يقال انّ التفريق بين المرضعتين لأجل النصّ الخاص، و ذلك لمعتبرة علي بن مهزيار عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: قيل له: انّ رجلاً تزوج بجارية صغيرة، فأرضعتها امرأته، ثمّ أرضعتها امرأة له أُخرى.

فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية و امرأتاه، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية و امرأته التي أرضعتها أوّلاً، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنّها أرضعت ابنته «.(1)

و لعلّ الرواية تؤيد ما ذكره صاحب الجواهر من أنّه يكفي صدق الأُمومة عند زوال الزوجية. و ذلك من خلال انّ حكم التفصيل بين المرضعتين، مقتضى القاعدة: دخول الأُولى تحت الآية دون الثانية، و لا وجه لهذا الاستظهار إلاّ إذا قلنا بمقالة صاحب الجواهر.

الأمر الرابع: في دخول أسماء الزمان في محط النزاع

ربّما يتوهم خروج أسماء الزمان عن حريم النزاع كالمضرب إذا أُريد منه زمان الضرب، إذ لا يتصور له إلاّ قسم واحد و هو الذات المتلبّسة بالمبدإ، أي الزمان الذي وقع فيه الضرب، و أمّا القسم الآخر، أعني: ما انقضى عنه المبدأ فلا يتصوّر في الزمان، لأنّ الذات في اسم الزمان كالمضرب و المقتل هو الزمان و هو ليس شيئاً باقياً بل هو أمر منقض جزءاً فجزءاً.

و قد أجاب عنه في» الكفاية «بأنّ انحصار مفهوم في فرد لا يلازم وضع اللفظ لهذا الفرد كما في لفظي الإله(2) و الواجب، فهما كليان مع أنّ المصداق

ص:207


1- - الوسائل: 14، الباب 14 من أبواب الرضاع، الحديث 1.
2- - و في المصدر لفظ الجلالة، و الظاهر انّه علم للذات الجامعة لصفات الجلال و الكمال، و لم يقل أحد بكونه كلياً و إنّما قال به من قال في لفظ الإله.

منحصر في واحد.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين اسم الزمان و ذينك اللفظين، فانّ انحصار اسم الزمان في مصداق واحد، أعني: المتلبس أمر تدركه عامّة الناس، و هذا بخلاف انحصار الإله و الواجب في فرد، فهو ليس بهذا الوضوح، و لذلك ذهبت الثنوية إلى تعدد الإله و الواجب.

أضف إلى ذلك أنّ عطف» الواجب «على الإله غير تام، لعدم انحصار الثاني بفرد خاص، بل هو يعم الواجب بالذات و الواجب بالغير، و الواجب بالقياس إلى الغير كالمتضايفين، فانّ وجود الأب واجب بالقياس إلى الابن و بالعكس.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن التوهّم بأنّه لو كان الزمان المأخوذ فيها، شخص ذاك اليوم بعينه لا كليه فللتوهم المذكور مجال، لكن كون المأخوذ فيها هو الشخص، في حيّز المنع، بل الظاهر أنّه الكلي.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لو كان الإشكال منصبّاً على صدق عنوان المقتل على اليوم الثاني أو الثالث من السنة الثانية و الثالثة كان لما ذكره وجه، و هو أنّ المقتل اسم كلي له مصاديق متعددة عبر الزمان حسب السنوات، غير أنّ الإشكال منصبّ على صدقه في نفس اليوم الأوّل بعد طروء القتل، فانّ المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل و هو جزء من اليوم، مع أنّه يطلق على جميع الأجزاء.

و ثانياً: انّ المقتل و إن كان كلّياً، لكنّه بعد انطباقه على اليوم المعيّن تشخّص الكلي في ضمن ذلك الفرد، فصار ذلك اليوم) اليوم العاشر من محرم عام 61 ه (مصداقاً لمقتل الحسين) عليه السلام (فقط فلا يكون له مصداق آخر.

ص:208


1- - أجود التقريرات: 1/56.

و الصحيح أن يقال: انّ لكلّ شيء بقاءً بحسبه، فالأشياء المادية على أقسام ثلاثة، و لكلّ بقاء عند العرف:

1. الجوامد، كالإنسان و الفرس.

2. الزمانيات كالتكلم و سيلان الماء.

3. الزمان كاليوم و الليل.

و لا شكّ أنّ للقسم الأوّل بقاء حسب الحسّ، فزيد اليوم هو نفس زيد في الأمس أو الغد.

و أمّا القسم الثاني فمع أنّ الإنسان يحس زواله و عدم بقائه، و مع ذلك يفترض الإنسان له بقاءً كسيلان الماء و نبعه فانّ له ابتداء و انتهاء، و للتكلم مبدأ و منتهى، فيتلقاها العرف أمراً واحداً ثابتاً، و مثله الزمان كاليوم فانّه له مبدأ بطلوع الشمس و بقاءً إلى غروبها عند العرف مع أنّ أجزاءه غير مجتمعة، فإذا وقع القتل في أوّل اليوم صحّ إطلاق المقتل إلى آخر اليوم لما عرفت من أنّ لليوم في نظر العرف بقاءً، و لذلك يقول: رأيته في أوّل اليوم أو وسطه أو آخره.

و أمّا صحّة إطلاقه بعد مضي سنة أو سنوات فلأجل اعتقاد الناس بعود الزمان بنفسه في ذلك اليوم و هم يرون اليوم في السنة الثانية نفس اليوم الماضي و عينه لا مثله. و لذلك يقولون اليوم مقتل الحسين) عليه السلام (.

ثمّ إنّه ربّما يتوهم أيضاً بخروج اسم المفعول عن حريم النزاع لا لأجل عدم بقاء ذاته على ما توهم في اسم الزمان، بل لأجل كونه متلبساً دائماً، فالشخص ما دام موجوداً يطلق عليه أنّه مضروب أو مقتول فتكون أسماء المفعولين خارجة عن محط النزاع.

يلاحظ عليه: أنّه يجب أن يُحدّد مفهوم المضروب، فلو أُريد منه المعنى

ص:209

الحدوثي التجددي فهو قابل للانقضاء، ففي الآن الذي وقع عليه الضرب هو مضروب دون الآنات المتتالية.

نعم لو أُريد منه المعنى الناعت و المعرّف كما يقال: علي قالع باب خيبر فلا يتصوّر فيه الانقضاء.

و بعبارة أُخرى: فهو بالمعنى الحدوثي يتصوّر له التلبس و الانقضاء، و بالمعنى الوصفي فهو متلبّس دائماً لا يتصوّر له الانقضاء.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني استثنى من محط البحث، ألفاظ العلة و المعلول و الممكن و الواجب و الممتنع، قائلاً: بأنّ منزلة هذه الألفاظ منزلة العناوين الذاتية كالإنسان، إذ لا يعقل بقاء الذات مع ذهاب الإمكان و إلاّ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب و الممتنع.

يلاحظ عليه بوجهين: أوّلاً: أنّ ما ذكره إنّما يتم في العلل غير الاختيارية فلا يمكن ذهاب الوصف ) العلية (مع بقاء الذات، دون العلل الاختيارية فلا مانع من بقاء الذات و ازالة وصف العلية في العلل المختارة.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ لو كانت هذه الألفاظ موضوعة بوضع خاص، فبما أنّه لا يتصور فيها الأعمية، فلا معنى للوضع بالأعم، و أمّا إذا كان الموضوع له هو الهيئة الكلية في أسماء الفاعلين و المفعولين من دون نظر إلى مادة، فعدم جريان النزاع في بعض الموارد لا يوجب عدم جريانه في الهيئة على الوجه الكلّي من دون نظر إلى مادة خاصّة، كما لا يخفى.

الأمر الخامس: في دلالة الأفعال على الزمان

المعروف بين الأُدباء أنّ الفعل يدلّ على الزمان، فالماضي يدل على تحقّق

ص:210

الحدث فيما سبق، و المضارع على تحقّقه فيما يأتي أو الحال، و صيغة الأمر تدلّ على الطلب في زمان الحال حتى أنّ ابن الحاجب عرّف الفعل بقوله: ما دلّ على معنى في نفسه مقترناً بأحد الأزمنة الثلاثة.(1)

و لكن المشهور بين الأُصوليين المتأخّرين عدم دلالته على الزمان، و استدلّوا عليه بوجوه غير تامّة، و إليك سردها:

الأوّل: انّ المادة في الأفعال تدلُّ على نفس الحدث، و الهيئة على نسبة الحدث إلى الفاعل، فما هو الدال على الزمان؟ يلاحظ عليه: بأنّ الدالّ عليه عند القائل بدلالة الفعل على الزمان هي الهيئة التي تدلّ على نسبة الحدث إلى الفاعل في زمان خاص كما سيوافيك بيانه.

الثاني: النقض بصيغة الأمر و النهي، فانّ مدلولهما إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر أنّ نفس الإنشاء بهما متحقّق في الحال و هو غير القول بدلالتهما عليه.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين المقيس و المقيس عليه، فانّ الأفعال من قبيل الإخبار الملازم للزمان لكونه ينبئُ عن فعل محقّق أو سيتحقق في المستقبل، بخلاف الأمر و النهي فانّهما من مقولة الإنشاء، و لا يلازم مدلولُ الإنشاء الزمانَ.

أضف إلى ذلك انّ القائل بالفورية في كلتا الصيغتين يقول بدلالة الأمر و النهي على الزمان الحاضر.

الثالث: لو دلّ على الزمان لما صحّ اسناده إلى نفس الزمان، كما في قوله» مضى الزمان «و إلاّ لزم أن يكون للزمان زمان. و لما صحّ اسناده إلى المجرّد من دون فرق بين أن يكون المجرّد فاعلاً كما في قولك:» علم اللّه «، فانّ فعله فوق

ص:211


1- - شرح الكافية: للرضي: 1/11.

الزمان، أو مفعولاً كما في قولك» خلق اللّه الأرواح «.

يلاحظ عليه: أنّ ذلك إثبات اللغة بالبرهان، مع أنّ الوضع لا يقتضي أن يكون على وفقه، فالبرهان العقلي شيء و الوضع شيء آخر، فانّ الواضع لم يكن فيلسوفاً حتى يلتفت إلى هذه المحاذير و يضع الفعل للحدث المنتسب إلى الفاعل المجرّد عن الزمان حتى يصحّ اسناده إلى المجردات فاعلاً و مفعولاً، و المحذور المتوهم في المثال الأوّل ممّا يلتزم به العرف بشهادة أنّه يعتقد أنّ للزمان زماناً و يقول:» كان يوم، و لم يكن مع اللّه سبحانه شيء، ثمّ خلق السماوات و الأرض و الأيّام و الليالي «حتى أنّ هذا الزعم سرى إلى بعض المتكلّمين الذين أثبتوا لمجموع العالم حدوثاً زمانياً، فقالوا: كان زمان و لم يكن شيء سوى اللّه ثمّ خلق ما خلق.

و من هنا يعلم الحال في المثال الثاني، فإنّ قولنا» علم اللّه «يدلّ على الزمان و إن كان البرهان يقتضي كون فعله فوق الزمان بمعنى أنّ علمه سابق على الزمان أو أنّ فعله غير مقيّد به.

و أمّا قوله:» خلق اللّه الأرواح «فمعنى تجرّد الأرواح كونها غير متقيدة بالزمان و إن كانت غير خارجة عنه.

و الحاصل: انّ إثبات اللغة بالبراهين الفلسفية ليس طريقاً صائباً، فاللازم تحليل مسائل كلّ علم حسب الأُسلوب الخاص به.

الرابع: المضارع عندهم مشترك في الحال و الاستقبال و ليس بمشترك لفظي، و إلاّ لزم استعماله فيهما استعمالاً في أكثر من معنى واحد كما في قولنا:» يضرب زيد اليوم و غداً «، و لا معنوي لعدم الجامع بين الحال و الاستقبال لتباين أجزاء الزمان.

يلاحظ عليه: بأنّ الجامع بين الحال و الاستقبال أمر انتزاعي، و هو» ما لم

ص:212

يمض من الزمان «، و هو كاف في الوضع إذ يمكن به الإشارة إلى الموضوع له.

الخامس: انّ الماضي عندهم ربّما يستعمل فيما هو مستقبل حقيقة، و بالعكس، مثل قولك:» يجيئني زيد بعد عام، و قد ضرب قبله بأيّام «و قولك:» جاء زيد في شهر كذا، و هو يضرب في ذلك الوقت «أو» فيما بعده «أو» فيما مضى «.

يلاحظ عليه: أنّ الملاك في كون الشيء ماضياً أو مضارعاً، إمّا حال التكلّم أو الحدث الذي قورن به الكلام، و المثالان من قبيل الثاني لا الأوّل، فانّ الملاك هو المجيء و» ضرب زيد «ماض بالنسبة إليه، كما أنّ» ضربه «مضارع بالنسبة إليه فلا تعارض.

فهذه الأدلّة التي ذكر أكثرها المحقّق الخراساني في الكفاية لا تسمن و لا تغني من جوع.

و الحقّ أن يقال: أنّ الأفعال ماضيها و مستقبلها تدلّ على الزمان الماضي أو المستقبل بالدلالة الالتزامية، لا بالدلالة المطابقية و لا التضمنية.

و يعلم ذلك بملاحظة أمرين:

أ. لا يمكن لأحد أن يُنكر وجود الفرق بين قولنا: ضرب و يضرب، فانّ الأوّل يقارب من قولنا ضرب في الماضي مثلاً، و الثاني من قولنا يضرب في المستقبل.

هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ الزمان ماضيه و مستقبله من المفاهيم الاسمية و لا معنى لأخذها في مداليل الهيئة التي هي من المفاهيم الحرفية.

فالأمر الأوّل يجرّنا إلى القول بدلالته على الزمان، و الأمر الثاني يصدّنا عن القول به، فالذي يمكن أن يقال: انّ المتبادر من الهيئة معنى ينبئُ عن صدور الحدث من الفاعل كما في الأفعال المتعدية، أو قيامه به كما في الأفعال اللازمة، أو

ص:213

ترقّب الصدور عن الفاعل أو ما يقرب من ذلك في الفعل المضارع، و من الواضح أنّ الإخبار عن التحقّق أو الترقّب يلازم دلالة الفعل على الماضي و الحال و المستقبل، فالقول بالدلالة صحيح إذا أُريد منه ما ذكرنا.

و إن شئت قلت: إنّ الهيئة موضوعة لسبق الحدث، أو لترقّب وقوعه، و السبق و الترقّب يلازمان الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال.

نعم ليس المراد من وضع الهيئة على مفهوم التحقّق و السبق أو مفهوم الترقّب و اللحوق بصورة المعنى الاسمي حتى يقال: انّ الهيئة من الأدوات الحرفية فكيف تدل على المعنى الاسمي؟! بل المراد واقع السبق و حقيقته أو مصداقه، و هذا نظير ما يقال انّ لفظة» من «موضوعة للابتداء و انّ» إلى «موضوعة للانتهاء، فليس المراد انّهما موضوعان لمفهومهما الاسمي بل لواقعهما و مصداقهما و ما يعد ابتداءً و انتهاء في الخارج.

و ما ذكرناه هو خلاصة ما أفاده المحقّق الاصفهاني في تعليقته و السيّد الأُستاذ في درسه.

قال الأوّل: إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بالسبق الزماني بنحو يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً، و هيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيّدة بعدم السبق الزماني، لا أنّ الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال أو غير الماضي بهذه العناوين الاسمية، مأخوذة في الهيئة كي يقال انّ الزمان عموماً و خصوصاً من المعاني المستقلة بالمفهومية فلا يعقل أخذها في النسبة التي هي من المفاهيم الأدوية.(1)

و الحاصل: انّ هنا دلالة واحدة و هي الدلالة على سبق الحدث أو ترقّب

ص:214


1- - نهاية الدراية: 1/75، ط عبد الرحيم، طهران.

حصوله، لكن العقل يحلّله إلى دلالات كثيرة، و هو أنّ هنا حدثاً و نسبة و فاعلاً و صدوراً سابقاً أو لاحقاً. كما هو الحال في قولنا باللغة الفارسية» زد «أو» مى زند 3 «.

الأمر السادس: ما هي مادة المشتقات؟
اشارة

لا شكّ انّ العارف باللغة يُحسّ أنّ هناك معنى سارياً في عامّة المشتقات بحيث إنّ المفاهيم المختلفة تطرأ على ذلك المعنى، و يصوّره بصور مختلفة، و هذا ما يسمّى بمادة المشتقات، فالهيئات تفيد معاني مختلفة لكن الجميع ينصبُّ على معنى واحد، فتارة يلاحظه صادراً عن الفاعل، و أُخرى واقعاً عليه، و ثالثة متحقّقاً في زمان و مكان، إلى غير ذلك من المعاني الطارئة، و هذا يدلّنا على أنّ في المشتقات مادة سيّالة متضمّنة معنى سارياً في عامّة الصحيح في جميع الصور.

و يؤيد ذلك أنّه كثيراً ما يعلم الإنسان مفهوم الهيئة و لكن يجهل بمفاد المادة، و هذا آية تعدد الوضع و انّ هناك شيئا موضوعاً لمعنى، و الهيئة موضوعة لمعنى آخر، و قد اختلفت كلمتهم في تعيين ما هي المادة السارية لهذه المشتقات الكثيرة إلى مذاهب:

الأوّل: انّ المصدر أصل، و الفعل و الوصف مشتقان منه، و هذا خيرة البصريين.

الثاني: انّ الفعل أصل، و المصدر مشتق منه، و هذا مذهب الكوفيين، و إلى المذهبين يشير ابن مالك في ألفيته، يقول:

المصدر اسم ما سوى الزّمان من مدلولي الفعل كامن من أمن

بمثله أو فعل أو وصف نصب و كونه أهلاً لهذين انتخب

الثالث: انّ المصدر أصل، و الفعل مشتق منه، و الصفات مشتقة من الفعل.

ص:215

الرابع: انّ كلاً من المصدر و الفعل أصل برأسه.(1)

و هناك مذهب خامس سيوافيك بيانه و هو خيرة السيّد الأُستاذ) قدس سره (.

وهم و إزاحة

إنّ بعض المتأخّرين من الأُصوليين نفوا كون المصدر أصلاً و مادة للمشتقات قائلين بأنّ الأصل يجب أن يكون محفوظاً في فروعه بمادته و هيئته مع أنّ هيئة المصدر مانعة من كونه أصلاً لسائر المشتقات، لعدم إمكان حفظ الهيئة فيها.

و بالجملة: انّ نسبة مادة المشتقات إليها كالمقسم بالنسبة إلى سائر الأقسام، فكما أنّه يشترط وجود المقسم في عامة الأقسام، فيجب وجود المصدر بهيئته و مادته في جميع المشتقات، و لكنّه أمر غير ممكن، لأنّ هيئة المصدر آبية عن انضوائها في هيئة أُخرى، فلا بد من إزالة الهيئة السابقة و هي لا تجتمع مع مبدئيتها للمشتقات.

يلاحظ عليه: بأنّه نشأ من قياس المبدأ في عالم الألفاظ بما هو المبدأ في عالم التكوين و الحقائق العينية، فانّ الهيولى الأُولى مادة الكون و هي عارية عن كلّ الفعليات حتى تصلح لئن تتعاقب عليها صور كثيرة، و أمّا المبدأ في عالم الألفاظ فلا دليل على لزوم كونه عارياً عن كلّ الخصوصيات، بل يكفي وجود سريان حروفه مع ترتيبها في عامة المشتقات.

فالمصدر أشبه بالمبدإ في التراكيب الصناعية، فانّ القطن يُعد مبدأ لكثير من الألبسة حيث إنّه مادة للخيط و الثياب، و النفط مادة للصناعات البلاستيكية

ص:216


1- - لاحظ شرح ابن عقيل: 4741/473.

مع أنّهما غير مأخوذتين بعامة الخصوصيات في فروعهما.

فإذا كان الحال كذلك في التراكيب الصناعية، فليكن كذلك في عالم الألفاظ فانّ المصدر لما كان أقل و أبسط من حيث المعنى عن سائر المشتقات، أخذ مبدأ لها، و أمّا لزوم حفظ عامّة خصوصيات المبدأ في الفروع فهو أشبه بلزوم ما لا يلزم.

فإن قلت: إنّ المصدر يشتمل على نسبة ناقصة، فهي تمتنع عن كون المصدر مادة المشتقات.

قلت: إنّ اشتمال المصدر على النسبة الناقصة لا يضرّ بالمقصود، لأنّها نسبة مبهمة قابلة لتوارد النسب المختلفة عليه.

نعم لو اشتمل على نسبة تامّة كالفاعلية أو المفعولية فهي تمنع عن التلوّن بألوان النسب.

فإن قلت: فعلى هذا فاسم المصدر أولى بأن يكون مادة المشتقات، لأنّه فاقد حتى نفس هذه النسبة الناقصة، و إنّما يدل على مجرّد الحدث.

قلت: إنّ اسم المصدر نادر الوجود فلا يكن اتخاذه مبدأ و مصدراً.

فإن قلت: لو كان للمادة وضع مستقل وراء وضع الهيئات، للزم تعدد الدلالة، و هو يستلزم تعدد المداليل، و هو لا يناسب بساطة المشتق الذي اتّفقت عليه كلمتهم في هذه الأعصار، على أنّ تعدد المداليل خلاف المتبادر في عامّة الصيغ.

قلت: إنّ وجود المادة لما كان مندكّاً في الهيئة و متحصلاً بتحصلها، و متحداً معها بنحو من الاتحاد، اندكت دلالتها في دلالة الهيئة، فصار اللفظ بهيئته و مادّته مفيداً لمعنى واحد.

ثمّ إنّ هيئة المصدر لما كانت مانعة عن كون المصدر مادة للمشتقات عند

ص:217

السيّد الأُستاذ) قدس سره (ذهب إلى أنّ المبدأ عبارة عن الحروف المترتبة مجرّدة عن كلّ هيئة، كحروف» ض، ر، ب «فهي موضوعة لنفس المعنى مجردة عن كلّ خصوصية و نسبة فاعلية أو مفعولية.

فإن قلت: إنّ اللفظ الموضوع لا بدّ و أن يكون قابلاً للتنطّق و التلفظ، و المادة العارية عن كلّ صورة غير قابلة له.

قلت: إنّ وضع المادة لما كان وضعاً تهيئياً لأن تتلبس بالهيئات الكثيرة من الماضي و المضارع، فلا يلزم أن تكون قابلة للتنطق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ العرف العام لا يضع لفظاً لمعنى ما لم ينطق به فهو بالنطق به يضع اللفظ غالباً، و قد مرّ أنّ وضع غالب الألفاظ وضع تعيني لا تعييني، و وضع المادة بلا هيئة يحتاج إلى قدرة فكرية خارج عن إطار قدرة الواضع الساذج. و لذلك استقرّ نظره أخيراً على أنّ المصدر مادة المشتقات، لكن الهيئة غير دخيلة في المبدئيّة بل دخيلة في إمكان النطق به، و لو أمكن النطق به بلا هيئة لوضعها بلا هيئة، و على ذلك يصبح النزاع أشبه باللفظيّ.

الأمر السابع: التفصيل في بعض المشتقات و نقده

ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم أنّ بعضها حقيقة في المتلبّس و البعض الآخر في الأعم، و ذلك فيما لو كان المبدأ فيه حرفة أو قوّة أو ملكة فانّ المشتق يصدق مع عدم التلبّس بالمبدإ و ذلك كالكاتب و المثمر و المجتهد.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما حاصله: أنّ اختلاف المشتقات في المبادئ و كون المبدأ في بعضها حرفة و صناعة، و في بعضها قوّة و ملكة، و في بعضها

ص:218


1- - تهذيب الأُصول: 1061/105.

فعلية، لا يوجب تفصيلاً في المسألة، بل يوجب طول التلبّس و قصره حسب اختلاف المبادئ، فلو كانت المادة فعلية يكون المتلبّس أقل مدّة مما إذا كانت المادة حرفة أو ملكة أو قوّة.

توضيح ذلك: أنّ المبدأ تارة يؤخذ على نحو الفعلية كقولنا قائم، و أُخرى على نحو الحرفة كقولنا تاجر، و ثالثة على نحو الصناعة كقولنا: حدّاد و نسّاج، و رابعة على نحو القوّة كالشجر المثمر، و خامسة على نحو الملكة كالطبيب و المجتهد، و سادسة على نحو الانتساب إلى الأعيان الخارجية كقولنا لابن و تامر.

فعند ذلك يختلف واقع التلبّس حسب اختلاف المبادئ، ففي القسم الأوّل: يشترط كونه واجداً للمبدإ فعلاً و لذلك لا يصدق القائم على القاعد.

و في الثاني و الثالث: يكفي اتخاذه حرفة و صنعة ما دام لم يعرض عنهما و إن لم يكن يمارس فعلاً.

و في الرابع: يكفي كونه واجداً لقوة الإثمار في مقابل فقدانها و إن لم يثمر الآن، فالشجرة الواجدة لتلك القوّة شجرة مثمرة حتى في أيام الشتاء. نعم لو زالت قوّة الاثمار لخرجت عن كونها مثمرة. و هكذا الأمر في الخامس و السادس، فما دام الطبيب و المجتهد يملكان ملكة الطبابة و الاجتهاد يصدق عليهما أنّهما طبيب و مجتهد إلاّ إذا زالت الملكة.

و إلى ذلك يرجع قول بعضهم من أنّ تلبّس كلّ شيء بمادة حسب اختلاف المادة. و عند ذلك يقع النزاع في أنّ هيئة المشتق هل رخصت للمتلبّس الذي تقتضيه مادته أو للأعم منه و ممن انقضى عنه المبدأ؟ و بذلك يعلم أنّ اختلاف كيفية التلبّس لا يوجب اختلافاً فيما هو الملاك غير أنّ الظاهر من المحقّق الخراساني أنّ الاختلاف في كيفية التلبّس ينشأ من

ص:219

جانب المادة كما هو الغالب فيما مضى، و لكنّه ربّما ينشأ من الهيئة و ذلك كما في المفتاح و المسجد، فانّ المادة فيهما أعني الفتح و السجود من قبيل الفعليات لكن الهيئة وُصفت لما يصلح للفتح أو يكون معداً للسجود و إن لم يفتح به أو لم يسجد فيه.

بل ربّما ينشأ الاختلاف من كيفية الجري، فإذا قلت: هذا المائع سم قاتل، يستفاد منه أنّ المبدأ أخذ بالقوّة، و أمّا إذا قلت، زيد قاتل، فيراد منه أنّه قاتل بالفعل.

الأمر الثامن: ما هو المراد من الحال في عنوان البحث؟
اشارة

المذكور في عنوان المسألة في الكتب هو أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس في الحال أو الأعم منه و ممن انقضى عنه المبدأ، فاختلفت كلمتهم في تفسير الحال إلى أقوال:

الأوّل: أنّ المراد هو زمان النطق بالمشتق.

و هذا الاحتمال مردود بوجوه:

أ. عدم دلالة المشتق على الزمان.

ب. اتّفاقهم على أنّ قولنا: كان زيد ضارباً أمس، أو سيكون ضارباً غداً، حقيقة إذا كان متلبّساً بالمبدإ في ظرف النسبة، و هذا يدل على أنّ المشتق لم يوضع للمتلبّس في زمان النطق.

ج. أنّ هذا الاحتمال يوجب كون المشتق مجازاً في أغلب الموارد، لأنّ التلبّس في زمان النطق أقلّ مصداقاً من غيره.

الثاني: انّ المراد زمان التلبّس.

ص:220

و هذا الاحتمال لا ينسجم مع عنوان البحث لاستلزام أن يكون اللفظ» في الحال «أمراً زائداً حيث إنّهم عنونوا البحث بالشكل التالي و قالوا:» هل المشتق حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه « و لا معنى لقولنا:» تلبّس بالمبدإ في حال التلبس «لأنّ المتلبّس بالمبدإ يتلبّس في حال التلبّس.

الثالث: انّ المراد زمان الجري و النسبة.

و هذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني و غيره، و حاصله: أنّه موضوع للمتلبّس بالمبدإ في ظرف النسبة، فلو كان ظرف التلبس موافقاً لظرف النسبة فهو حقيقة و إلاّ فهو مجاز، فإذا قلت: زيد ضارب غداً، فلو أردت أنّ المتلبّس بالضرب غداً، ضارب غداً يكون حقيقة، و لو أُريد انّ المتلبّس بالضرب غداً، ضارب فعلاً فهو مجاز.(1)

يلاحظ عليه بأُمور:

الأوّل: انّ مدلول المشتق بسيط و وضعه للمتلبّس في حال الجري و زمان النسبة يستلزم كونه مركّباً و دالاً على الزمان تضمناً، و هو لا يجتمع مع كونه بسيطاً.

الثاني: انّ ما ذكره إنّما يتمشّى في الجمل الإخبارية، و أمّا الجمل الإنشائية مثل قولك:» أكرم العالم « لأنّ الجمل الإنشائية لا تدلّ على الزمان حتى يقال: إذا طابق زمان التلبّس مع زمان النسبة فهو حقيقة و إلاّ فهو مجاز.

الثالث: و هو بيت القصيد في المقام أنّ النزاع في مفاهيم المفردات و معاني الكلمات و انّ لفظ المشتق بما هو هو مع قطع النظر عن كونه مبتدأ أو فاعلاً أو مفعولاً هل هو موضوع للمتلبّس أو موضوع للأعم؟ و النسبة و الجري و تطابق زمان التلبّس مع زمان الجري يوجب أن يكون

ص:221


1- - كفاية الأُصول: 1/66.

البحث في الجمل و المركبات، و المفاهيم التصديقية مع أنّ البحث إنّما هو في المفاهيم التصورية، و بذلك يعلم أنّ هذه الاحتمالات كلّها ضعيفة و انّه لا بدّ من تفسير الحال بمعنى آخر.

ما هو المختار في تفسير الحال؟

و الحقّ أن يقال أنّ المراد من الحال في عنوان البحث هو فعلية اتصاف الذات بالمبدإ، و يرجع النزاع إلى سعة المفاهيم و ضيقها.

فعلى القول بالأخصّ يكون الموضوع له هو الذات المتزامنة مع المبدأ، و على القول الآخر يكون الموضوع له الأعم من المتلبّس و من انقضى عنه المبدأ.

و بذلك ظهر أنّ المراد من الحال هو فعلية التلبّس و مقارنة الذات بالمبدإ.

و إن شئت قلت: إنّ العقل يرى جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدإ و لا يرى ذلك الجامع بين المتلبّس و ما انقضى عنه المبدأ، و لو كان هناك جامع، فالجامع كما سيوافيك جامع انتزاعي فالنزاع في أنّ الموضوع له هو الجامع الحقيقي أو الجامع الانتزاعي فالنزاع حقيقة في تحديد معاني المفردات لا فيما هو المراد من الجمل، فانّ الثاني يتبع الأوّل. فلو كان المشتق موضوعاً لحكم إنشائي كقولنا:» أكرم العالم «و» صل خلف العادل «فعلى القول بالتلبّس يختص الحكم بالموضوع المتّصف بالمبدإ، فلا يجب إكرام من نسي علمه كما لا يجوز الصلاة خلف من كان عادلاً و أُزيلت عدالته، بخلافه على القول بالأعم.

هذا في القضايا الإنشائية، و أمّا القضايا الخبرية كقولنا: إنّ زيداً ضارب، فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس بالفعل فهو ينطبق على التلبّس في زمان الجري و النسبة، بخلافه على القول الآخر، فهو ينطبق على كلا الظرفين، ظرف

ص:222

الجري و النسبة و ظرف الانقضاء.

و بعبارة أُخرى: على القول بوضعه للمتلبّس، فلو قلنا زيد ضارب، و أردنا منه أنّه ضارب أمس، فهو حقيقة في ذلك الظرف دون الآخر; و أمّا إذا قلنا بالقول الآخر، فهو حقيقة في ذلك الظرف و غيره.

و القول بأنّ الموضوع له هو المتلبّس بالفعل غير القول بأنّه موضوع للمتلبّس في ظرف النسبة و الجري، نعم، ينطبق المتلبّس بالفعل عند ما ورد في الجملة الخبرية على المتلبّس في ظرف النسبة في الجمل الخبرية، لكن الانطباق غير كونه موضوعاً له، و بذلك ظهر الفرق بين المختار و ما ذهب إليه المحقّق الخراساني.

الأمر التاسع: ما هو الأصل في المسألة؟

المراد من الأصل ما ينتهي إليه المجتهد بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي، فلو ثبت بالدليل الاجتهادي بأنّ المشتق موضوع للمتلبّس أو للأعم فالمستنبط في غنى عن هذا الأصل، و إنّما يحتاج إليه إذا لم يتبين له ما هو الواقع حسب الدليل الاجتهادي، فكون الأصل مرجعاً فرع اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي.

ثمّ إنّ الأصل في المقام إمّا لفظي أو عملي، و العملي إمّا موضوعي أو حكمي.

أمّا الأوّل: فالمراد منه هل الأصل تقديم المجاز على الاشتراك المعنوي، أو الأصل العكس؟ فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس يكون استعماله في ما انقضى عنه المبدأ من باب المجاز، و أمّا على القول الآخر يكون اللفظ موضوعاً لمعنى جامع بين المصداقين، و يكون مشتركاً معنوياً، و بما أنّه لا ترجيح عندنا

ص:223

لتقديم أحد الأصلين على الآخر كما أوضحنا حاله فيما سبق فليس هنا أصل لفظي، و انحصر البحث في الأصل العملي و هو إمّا موضوعي جار في تنقيح الموضوع و إمّا حكمي.

أمّا الأوّل: فكقولنا: الأصل عدم الوضع للأخص، أو الأصل عدم وضعه للأعم، فهذا الأصل ساقط في المقام لوجوه:

أ. تعارض الأصلين في كلّ من الجانبين.

ب. انّ هذا الأصل مثبت، فانّ عدم الوضع للجامع بين أفراد المتلبّس لا يثبت كونه موضوعاً للجامع الوسيع الشامل للمتلبّس و غير المتلبّس، لأنّه من اللوازم العقلية.

ج. انّ هذا النوع من الأصل غير معتبر عند العقلاء، فانّ الغاية من إجراء الأصل عندهم هو كشف المراد لا تحديد المعنى اللغوي كما هو المفروض في المقام.

و أمّا الأصل الحكمي الشرعي في موارد الشكّ، فهو يختلف حسب اختلاف الموارد.

قال المحقّق الخراساني: فلو كان الانقضاء قبل انشاء الحكم و شككنا في سعة الحكم و ضيقه لأجل الشكّ في معنى المشتق، تكون أصالة البراءة محكّمة، كما إذا قال:» أكرم العلماء «و قد انقضى المبدأ قبل إنشاء الحكم عن بعض الأفراد، و أمّا إذا كان الانقضاء بعد إنشاء الحكم فاستصحاب الوجوب محكَّم.(1)

و حاصله: انّه إن كان الشكّ في الحدوث تجري أصالة البراءة، و إذا كان الشكّ في البقاء تجري قاعدة الاشتغال، فلو كان الانقضاء قبل إنشاء الحكم يرجع

ص:224


1- - كفاية الأُصول: 1/68.

الشكّ إلى سعة الحكم و ضيقه فتجري فيه البراءة، و أمّا إذا كان الانقضاء بعد انشاء الحكم يرجع الشكّ إلى بقاء الوجوب و الأصل بقاؤه.

هذا فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً، و أمّا إذا كان الواجب عامّاً بدلياً كما إذا قال:» أكرم عالماً «، فالثمرة أيضاً مترتبة فلا يسقط التكليف إلاّ بإكرام المتلبّس في الصورة الأُولى، و لا يسقط بإكرام المنقضي عنه المبدأ للشكّ في شمول الحكم له حتى يسقط بامتثاله، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بالأعم، فيجوز الاقتصار بإكرام من انقضى عنه المبدأ لشمول الحكم له على ذلك الفرض.

فاتضح بذلك ظهور الثمرة في كلا المقامين: إذا كان الواجب استغراقياً، و إذا كان الواجب عامّاً بدلياً.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات اختار أنّ الأصل على كلا القولين هو البراءة فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً; أمّا إذا كان إنشاء الحكم بعد الانقضاء، فواضح لكون الشكّ في الحدوث; و أمّا إذا كان الانقضاء بعد الإنشاء، فلا يجري سواء قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية و عدمها، أمّا على الثاني، أعني: عدم جريانه في الأحكام الكلية فواضح، و أمّا على القول بجريانه فوجه عدم الجريان في المقام لأجل نكتة خاصة و هي عدم إحراز بقاء الموضوع، فانّ الشبهة فيه مفهومية، لأنّ الموضوع له مردد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه و من المنقضي، فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز وحدة القضية المتيقنة مع المشكوكة، مثلاً: العالم بما له من المعنى موضوع للحكم، فالتمسّك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشكّ في بقاء الموضوع.(1)

أقول: و تحقيق المقام يتوقّف على البحث في موضعين:

ص:225


1- - المحاضرات: 2581/257.

الأوّل: حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية، سواء أ كانت الشبهة مفهومية أو لا.

الثاني: حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية في خصوص ما إذا كانت الشبهة مفهومية.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإشكال الماثل في نظر الأعلام هو ارتفاع الموضوع، فإذا قال الشارع) الماء المتغيّر نجس (فلو فرضنا زوال تغيّره بنفسه و شككنا بقاء الحكم لا يصحّ استصحاب الحكم الكلي، لأنّ الموضوع هو الماء المتغيّر، و المفروض زواله، فكيف يستصحب؟ و نظيره استصحاب النجاسة المترتبة على العنب المغلي و اسرائه إلى الزبيب المغلي مع أنّهما موضوعان متغايران.

هذا هو حقيقة الإشكال في جريان الأصل في الأحكام الكلية على وجه الإطلاق، و أمّا دفع هذا الإشكال فحاصله: أنّ هنا خلطاً بين استصحاب الحكم الكلي المترتب على عنوان الماء المتغيّر و إسرائه إلى عنوان آخر و هو الماء غير المتغيّر، و بين استصحاب الجزئي بعد انطباق الحكم الكلي على مصداقه الخارجي، و زوال الموضوع يختص بالأوّل دون الثاني، إذ لا شكّ أنّ إسراء حكم عنوان إلى عنوان آخر أشبه بالقياس و لا يصدق عليه النقض إذا لم يترتب حكم الأوّل على الثاني.

و أمّا إذا افترضنا أنّ هذا الحكم الكلي) الماء المتغيّر نجس (انطبق على الخارج و مصداقه الجزئي، فصار الماء الموجود في الحوض محكوماً بالنجاسة، فعند ذلك يصير الموضوع هو الماء الموجود في الخارج لا عنوان الماء المتغيّر.

فإذا افترضنا أنّه زال تغيّره بنفسه فبما أنّ الموضوع للحكم الشرعي بعد الانطباق هو ذلك الماء المشخّص لا) العنوان الكلي (فنشير إلى ما بين أيدينا من

ص:226

الماء، و نقول: كان هذا نجساً و الأصل بقاء نجاسته، و من الواضح أنّ الوحدة محفوظة في كلتا الحالتين و ليس هاهنا ماءان، بل هو ماء واحد في الحوض زال شيء من أوصافه، فالوحدة محفوظة و مرجع الشكّ إلى أنّ التغيّر في الدليل هل هو حيثية تقييدية فتدور النجاسة مدار وجودها، أو حيثية تعليلية فيكفي وجود التغيّر آناً ما؟ و الحاصل: أنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة، فالموضوع في لسان الدليل هو مفهوم الماء المتغيّر و إن كان يشار به إلى الخارج لكنه في عالم العقل غير الماء الذي زال تغيّره، و أمّا بعد الانطباق و صيرورة الهوية الخارجية موضوعاً للنجاسة، فجواز الاستصحاب و عدمه يدور مدار حفظ الهوية الخارجية، و قد عرفت أنّ الماء في كلتا الحالتين ماء واحد و موضوع فارد و إنّما تغيّر بعض أوصافه، فعندئذ يحكم ببقاء نجاسة هذا الماء.

و بذلك تعلم صحّة استصحاب الحكم، المترتب على العنب المغلي و إسرائه إلى الزبيب و ذلك بالبيان السابق، فانّ العنب و الزبيب و إن كانا موضوعين و هما كثيران متعددان، متغايران في عالم المفهوم و لا يصحّ إسراء حكم العنب إلى الزبيب لأنّه أشبه بالقياس، لكن إذا انطبق الحكم الكلّي على العنب الخارجي المغلي فيصير الموضوع بعد ذلك العنب الخارجي لا عنوان العنب، و عندئذ يشار إليه بأنّه كان إذا غلى ينجس، و هكذا إذا صار زبيباً لوحدة الهوية الخارجية و إنّما طرأ التغيّر على حالات الموضوع من حيث اشتماله على الرطوبة و جفافها.

هذا كلّه حول استصحاب الحكم الكلّي على وجه الإطلاق.

و أمّا الثاني: أي استصحاب الحكم الكلي فيما إذا كانت الشبهة موضوعية.

بيانه: أنّه إذا كان الشكّ في البقاء ناشئاً عن إجمال الموضوع كالمغرب لتردده

ص:227

بين كونه نفس استتار القرص أو هو مع ذهاب الحمرة المشرقية، فلو افترضنا استتار القرص و عدم ذهاب الحمرة، و شككنا عندئذ في حرمة الإفطار فالموضوع بمفهومه الكلّي مشكوك إذ هو على فرض مرتفع، و على فرض آخر باق، لكن موضوع الاستصحاب أي استصحاب الحكم الجزئي، ليس هو مفهوم النهار بل الزمان الموجود فيشار إليه بأنّه كان الإمساك فيه واجباً و الأصل بقاؤه. أو كانت إقامة العصر فيه واجبة و الأصل بقاؤها، و قد ثبت في محله انّ للزمان بقاءً بحسبه كالزمانيات و الجوامد.

و هذا إجمال ما تلقيناه من السيّد الأُستاذ، و قد حكاه عن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري في درسه الشريف، و سيوافيك مزيد توضيح في مبحث الاستصحاب، و مما ذكرنا يعرف حال المقام فلا نطيل.

الأمر العاشر: نفي الملازمة بين التركّب و الوضع للأعم
اشارة

ذهب المحقّق النائيني إلى الملازمة بين نظرية تركّب المشتق و وضعه للأعم، و نظرية بساطته و القول بوضعه للأخص. قال: إنّ الركن الوطيد على القول بالوضع للمركّب هو الذات و انتساب المبدأ إليها. و من المعلوم أنّ النسبة الناقصة لم يؤخذ فيها زمان دون زمان، و قد تبيّن عدم دلالة الأفعال على الزمان، فالمشتقات لا تدلّ عليه بالأولوية. و لذا كان المشهور بين القدماء القائلين بالتركيب هو الوضع للأعم، و هذا بخلاف القول بوضعه لمعنى بسيط فانّ الركن في صدق المشتق بناء على البساطة هو نفس المبدأ، غاية الأمر أنّه ملحوظ بنحو يصحّ معه الحمل، و لا يكون مبايناً للذات بحسب الوجود، فيقوم الصدق بالمبدإ فإذا انعدم و انقضى فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلاّ بالعناية.(1)

ص:228


1- - أجود التقريرات: 761/75.

يلاحظ عليه: أنّه لا ملازمة بين التركّب و الوضع للأعم، كما لا ملازمة بين البساطة و الوضع للأخص.

أمّا الأوّل: فلو افترضنا أنّ الركن الركين على القول بالتركّب هو الذات لكن يمكن ملاحظتها مع المبدأ) غير الركن (بإحدى الصورتين التاليتين:

أ. الذات المتلبّسة بالمبدإ.

ب. الذات المنتسب إليها المبدأ.

فالأوّل: لا يصدق إلاّ على المتلبّس بالفعل، و أمّا الثاني فيكفي في الصدق مجرّد الانتساب إلى المبدأ و إن انقضى عنه.

و ما أفاده من أنّ المشتق لا يدلّ على الزمان) زمان النطق أو زمان التلبّس (و إن كان صحيحاً لكنّه لا يفيده لما عرفت من أنّ المراد من الحال ليس أحد الزمانين، بل فعلية التلبّس، فيرجع النزاع إلى أنّ الموضوع له هل هو المتلبس بالفعل أو المنتسب إليه المبدأ؟ و أمّا الثاني: فلأنّ ما ذكره مبني على ما اختاره الشريف من أنّ المشتق عين المبدأ، و الفرق بينهما هو كون الأوّل لا بشرط و الآخر بشرط لا، و عندئذ يكون الركن الركين هو المبدأ، و مع زواله لا معنى لصدقه.

و لكن سيوافيك عدم صحّة مختار الشريف، و أنّ الفرق بين المشتق و المبدأ أوسع ممّا ذكره، بل بينهما مغايرة تامّة و إن كان كلّ بسيطاً، فالمبدأ هو نفس الحدث أو نفس العنوان، و المشتق هو، المعنون، و هو مفهوم وحداني بسيط منحل عند العقل إلى ذات و عنوان و نسبة.

و عندئذ يقع الكلام في أنّ الموضوع له هو المفهوم الوحداني الذي لا ينطبق إلاّ على المعنون بالمبدإ حدوثاً و بقاءً، أو المفهوم الوحداني الذي يكفي في انطباقه عبر الزمان كونه معنوناً حدوثاً و إن زال العنوان بقاءً.

ص:229

دعوى أُخرى: للمحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ القول بالأعم يحتاج إلى تصوير جامع بين المتلبّس و المنقضي و لا جامع بينهما، فإذا لم يعقل وجود الجامع فلا مجال لدعوى الوضع للأعم.(1)

و قد استحسنه سيّدنا الأُستاذ، و قال: لا محيص للقائل بالأعم من تصوير جامع بينهما، و إلاّ يلزم الاشتراك اللفظي، و لو امتنع تصوير الجامع يسقط دعواه. و لكن الجامع غير موجود إذ الجامع الذاتي بين الواجد و الفاقد غير موجود، و أمّا الجامع الانتزاعي فهو إمّا بسيط أو مركّب، و الجامع البسيط على قسمين لأنّه إمّا جامع بسيط لا ينحلّ إلى شيئين و إمّا ينحل.

و الأوّل غير معقول لعدم وجود جامع بسيط يتكفّل إفهام كلا المعنيين و إخراج المتلبّس فيما بعد، و الجامع البسيط المنحل إلى المركب غير متصور إذ هو لا بدّ أن ينتزع من الواقع، و الانتزاع فرع صلاحية الواقع، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط منحل واحد من الواجد و الفاقد، أمّا الجامع التركيبي التفصيلي فهو و إن كان ممكناً حتى يدخل المعنيان و يخرج الثالث لكنّه ممّا لا يرضى به القائل بالأعم.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الجامع هو الجامع البسيط المنحل إلى المركب، و هو المعنون بما هو معنون و هو ينحل عقلاً إلى ذات ثبت لها العنوان و المبدأ بنحو من أنحاء الثبوت، و ما أفاده» من أنّ الجامع ينتزع من الواقع، و الانتزاع فرع صلاحية الواقع، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط من الواجد و الفاقد «، صحيح لو كان

ص:230


1- - أجود التقريرات: 1/78; المحاضرات: 1/249.
2- - تهذيب الأُصول: 1151/114.

منشأ الانتزاع هو حيثية الفقدان و الوجدان، بل منشأ الانتزاع في كلا الموردين حيثية الوجدان، لأنّ القائل بالأعم يقول بأنّ ثبوت المبدأ للذات آناً ما في التكوين يوجب اتصاف الذات بحيثية) تعنونها بمن ثبت له المبدأ (كافية في انتزاع المفهوم عن الذات في كلتا الحالتين، و ذلك لأنّ الحيثية الاعتبارية المصححة للانتزاع موجودة دائماً و إن زال عنه المبدأ، فالعنوان البسيط المنحل إنّما ينتزع من هذه الحيثية الوجودية المتحقّقة في المنقضي و المتلبس، فالمعنى الجامع منتزع من الواجد على كلا القولين لا من الواجد و الفاقد.

هذه هي الأُمور العشرة التي تسلط الضوء على البحث، فإذا فرغنا عن بيانها فلندخل في صلب الموضوع، و هو أنّ الحقّ أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ.

المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ

إنّ القوم استدلّوا على كون المشتق موضوعاً للمبدإ بوجوه سيوافيك بيانها: و لكن الأولى أن يستدلّ عليها بطريق أسهل و هو ما يلي:

و هو أنّ الإمعان في الصيغ يثبت أنّ الواضع يريد توارد المعاني المختلفة على المبدأ و تصوير المبدأ بألوان النسب بينه و بين الذات، فتارة يلاحظ المبدأ بما أنّه منتسب إلى الذات بالصدور عنها، و أُخرى بالوقوع على الذات، و ثالثة بثبوته فيها كما في الصفة المشبهة، و رابعة بملاحظة الزمان و المكان ظرفاً للمبدإ و هكذا، فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسب و إضافات مختلفة، و ما هذا شأنه يكون المحور هو المبدأ لا الذات، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ و تضاف إلى الذات.

و إن شئت قلت: إنّ الواضع يتلاعب بالمبدإ من خلال صياغته في قوالب

ص:231

مختلفة، فالمبدأ هو الذي يتجلّى بصور و أشكال مختلفة، و ليس هناك تلاعب بالذات و لا صياغتها بأشكال مختلفة، و ما هذا شأنه لا يمكن غض النظر عنه عند الاستعمال، فانّ القول بكونه حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ أشبه بغض النظر عنه عند الاستعمال.

و بعبارة أُخرى: انّ النسبة تتوقف على أمرين: الذات، و الحدث. و الواضع يصبّ اهتمامه على طروء النسب المختلفة على المبدأ عند نسبته إلى الذات، فالمحور هو الذات، لكن وجود الذات ضروري لا لكونه محوراً بل لأجل انّ النسبة قائمة بالطرفين.

أدلّة القائلين بالوضع للمتلبّس

استدلّ القائلون بالوضع للمتلبّس بوجوه:

الأوّل: التبادر، إذ المرتكز عند أهل اللسان عند إطلاق المشتق هو المتلبّس بالمبدإ لا من هو كان متلبّساً، فإذا قيل: صلّ خلف العادل، أو أدّب الفاسق، أو إذا قيل: لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون، أو إذا قيل: الاعرابي لا يؤم المهاجرين.(1) لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدإ، و هذا هو الظاهر في اللغات الأُخرى.

و بما أنّ النزاع في كون المشتق حقيقة في المتلبّس أو الأعم فيما إذا يتصور له الانقضاء و يتصور له الاستمرار، و على ذلك فخرج الاستدلال بلفظ» الممكن «على القول بالأخص لعدم تصوّر الانقضاء فيه، كما خرج الاستدلال بالسارق و الزاني على القول بالأعم إذ لا يتصوّر فيه الاستمرار.

ص:232


1- - الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

الثاني: صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ فيقال: زيد الناسي ليس بعالم، و هي آية المجازية.

و أورد عليه: أنّه إن أُريد بصحّة السلب صحّته مطلقاً، فغير سديد; و إن أُريد مقيداً فغير مفيد، لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق.

توضيحه: انّ علامة المجازية هو سلب اللفظ بما له من المعنى عن المورد حتّى يدلّ على أنّه ليس من مصاديقه مطلقاً، و أمّا سلب معنى خاص للفظ عن المورد فلا يدلّ إلاّ على أنّه ليس من مصاديق ذلك المقيّد، و أمّا أنّه ليس من مصاديق المعنى على وجه الإطلاق فلا، فإذا قلت مشيراً إلى الرقبة الكافرة إنّها ليست برقبة مؤمنة، لا يدلّ على أنّها ليست برقبة أصلاً، فعلى ذلك إذا قلت: زيد الناسي ليس بعالم بالفعل، يدلّ على أنّه ليس من مصاديق المتلبس بالفعل و أمّا انّه ليس من مصاديقه مطلقاً و لو باعتبار من انقضى عنه المبدأ فلا.

و قد أجاب عنه في» الكفاية «بما هذا توضيحه: انّ قولنا بالفعل تارة يكون قيداً للمسلوب أي العالم، و أُخرى أن يكون قيداً للسلب أي) ليس (، فلو قلنا: زيد الناسي، أو الذي انقضى عنه المبدأ ليس بعالم بالفعل، يصير المسلوب مقيّداً، و يكون معناه أنّ زيداً الناسي ليس من مصاديق العالم بما له علم بالفعل، و مثله لا يكون علامة للمجازية لوضوح انّ عدم كونه مصداقاً للعالم بملاك العلم الفعلي لا يكون دليلاً على عدم كونه مصداقاً له الآن و لو بملاك علمه السابق الزائل.

و أمّا لو قلنا: زيد الناسي، أو الذي انقضى عنه المبدأ ليس بالفعل بعالم يكون المسلوب مطلقاً، و يرجع مفاده إلى أنّ زيداً الذي نسي علمه ليس بالفعل بعالم، أي ليس مصداقاً بالفعل بأيّ عنوان من العناوين، للعالم، لا بملاك العلم الفعلي، و لا بملاك العلم السابق الزائل، و مثل هذا يكون علامة للمجازية.

ص:233

و لعلّ ما ذكرناه في توضيح الكفاية أقرب إلى المتن ممّا ذكره المحقّق المشكيني) قدس سره (في تعليقته.

يلاحظ عليه: أنّ الغاية من التمسّك بصحّة السلب و عدمه هو تبيين كون المورد مصداقاً للّفظ و عدمه و تحديداً لمفهوم اللفظ سعة و ضيقاً عرفاً و من المعلوم أنّه لو كان هذا هو الغاية المتوخّاة، فالعرف لا يعير أهمية لهذه الدقة الفلسفية، فلا يفرق بين كون القيد قيداً للمسلوب أو قيداً للسلب، و عند ذلك لا يمكن نسبة النتيجة الحاصلة من التفريق إلى العرف.

و الحاصل: أنّ العرف هو المرجع في تحديد المفاهيم و تبيين المصاديق و لكن يجب أن يكون المحكم في هذا الباب هو العقل العرفي الدقيق لا الفعل الفلسفي، فسلب مصداقية المنقضي عنه المبدأ بالنحو المذكور لا يفهمه العرف حتى يحكم بأنّه ليس بمصداق.

و الشاهد على ذلك أنّ صاحب الكفاية اتبع في الجواب ما ذكره الحكماء في تعريف الماهية، فقد ذكروا في حدّ الماهية تعبيرين:

1. الماهية ليست من حيث هي هي إلاّ هي.

2. الماهية من حيث هي هي ليست إلاّ هي.

ففرقوا بين تقديم السلب على الحيثية و تأخرها عنه، يقول السبزواري:

و قدّ مَنْ سلباً على الحيثية حتى يعم عارض الماهية

فإثبات المصداقية أو نفيها بهذه الدقائق لا يلتفت إليها العرف و لا يكون مصداقاً له و إن أصرّ عليه العقل لانّ الموضوع له هو المفاهيم المنطبقة على المصاديق العرفية.

الثالث: ربّما يستدل على وضع المشتق للمتلبّس بالدليل التالي: و هو أنّه لا

ص:234

ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة بل مخالفة لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ و تلبّس بالآخر.

و أورد عليه المحقّق الرشتي من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني: من أنّ التضاد أمر ارتكازي من غير فرق بين المشتقات كالأبيض و الأسود و مباديهما كالبياض و السواد.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّه يرجع إلى التبادر و ليس دليلاً مستقلاً، و ذلك انّ الحكم بالتضاد بين المشتقين بأنّهما من الأُمور غير القابلة للجمع فرع إحراز معنى كلّ بالتبادر، و أنّ المتبادر من كلّ واحد هو تلبّس الموضوع بالمبدإ، و عندئذ يحكم العقل بعدم صحّة اجتماعهما، فالحكم بالتضاد متأخر عن إحراز المعنى بالتبادر، و معه لا حاجة إلى دليل آخر.

2. انّ الأعمّي لا يسلم التضاد إلاّ بين المبدأين لا بين العنوانين، فصدق الأبيض و الأسود لا يستلزم إلاّ اجتماع العنوانين من غير ملازمة بين صدقهما و اجتماع المبدأين.

هذه هي الوجوه المهمة و بقيت هنا وجوه أُخرى تطلب من محالها.

أدلّة القول بالأعم

استدلّ القائل بالأعم بوجوه:

الأوّل: التبادر، و لكنّه غير تام، لأنّ المتبادر من قولنا:» لا تصل خلف الفاسق «و أمثاله، هو المتلبّس، و ادّعاء وجود القرينة في أمثال هذه الموارد و إن كان محتملاً، لكن ليس كلّ مورد كذلك.

ص:235

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الصيغ المشتقة من المبدأ، نوع تلاعب بالمبدإ لا بالذات، فكيف يصدق الفرع دون الأصل.

الثاني: عدم صحّة السلب في المقتول و المضروب إذا انقضى عنه المبدأ.

يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد منها المعنى الحدوثي أي من وقع عليه القتل و الضرب، فلا نسلم صدقه عند ما انقضى عنه المبدأ، و إن أُريد الأثر الباقي بعد القتل و الضرب، فالصدق لأجل كونه متلبساً بالأثر الباقي.

ثمّ إنّ أكثر الإطلاقات في الجمل و التراكيب بلحاظ ثالث و هو الإطلاق بلحاظ حال التلبّس خصوصاً فيما إذا لم تقبل التكرار كالمقتول و المصلوب، أو ما يقبل التكرار و لا يقبل الاستمرار كالسارق و الزاني.

الثالث: هو استدلال الإمام بآية الابتلاء على عدم صلاحية الخلفاء الثلاثة لإشغال منصب الإمامة بعد رحلة الرسول الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (، و إليك الآية و نصّ الإمام و كيفية الاستدلال، قال سبحانه:

1. (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ).(1)

و في الآية جهات مهمة للبحث نشير إليها:

1. ما هو الغرض من ابتلاء الأنبياء؟ 2. كيف كان ابتلاء إبراهيم) عليه السلام (؟ 3. ما هو المراد من الكلمات؟ 4. ما هو المراد من الإتمام؟ 5. ما هو المراد من جعله إماماً بعد ما كان نبيّاً و رسولاً؟ 6. ما هو المقصود من العهد المنسوب إليه سبحانه، و كيف تكون الإمامة

ص:236


1- - البقرة: 124.

عهد اللّه؟ 7. كيف تدل الآية على عصمة الإمام؟ و قد حققت هذه الأُمور في موسوعة مفاهيم القرآن.(1)

2. و أمّا استدلال الإمام بالآية، فقد روى الصدوق عن الإمام الصادق) عليه السلام (في تفسير قوله:

(لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) انّه قال: إنّ الإمامة لا تصلح لمن عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين، و إن أسلم بعد ذلك، و الظلم وضع الشيء في غير موضعه، و أعظم الظلم الشرك باللّه قال اللّه تعالى:

(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )(2).(3)

3. و أمّا كيفية الاستدلال فلأنّه مبني على صغرى مسلّمة و كبرى قرآنية.

أمّا الصغرى: هؤلاء كانوا ظالمين مشركين.

و أمّا الكبرى: و الظالمون لا تنالهم الإمامة.

فينتج: هؤلاء لا تنالهم الإمامة.

و إنّما يصحّ وصفهم بعنوان الظالمين عند التعدي إذا قلنا بوضع المشتق للأعم بحيث يصدق على المتلبّس بالمبدإ و المنقضي عنه حتى يصحّ عدّهم من الظالمين حين تصدّوا للخلافة و قد انقضى المبدأ، و لو قلنا بوضع المشتق على المتلبس تبقى الكبرى بلا صغرى، إذ لا يصحّ أن يقال: هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي بل يجب أن يقال: كانوا ظالمين قبل التصدي، و أمّا بعده فقد صاروا موحّدين.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإمامة يصحّ على كلا

ص:237


1- - مفاهيم القرآن: 2595/197.
2- - لقمان: 13.
3- - البحراني: البرهان: 1/149.

القولين، أمّا على الأعم فلما عرفت.

و أمّا على القول بالأخص فللاستدلال أساس آخر، غير مبني على كونهم ظالمين حين التصدي، بل هم غير لائقين لها و إن لم يكونوا ظالمين حين التصدي.

و ذلك لأنّ الإمامة كالنبوّة منصب إلهي يجب أن يتنزه المتصدّي عمّا يوجب نفرة الناس و تباعدهم عنه، و لا تتحقّق تلك الأمنية إلاّ بتباعده عن ألوان الشرك و الأعمال القبيحة طيلة عمره حيث إنّ الناس يفرون عمّن كان في فترة من عمره مشركاً مقترفاً للمعاصي.

و بما أنّ هؤلاء كانوا كذلك في فترات من أعمارهم فكانوا ظالمين، فصار هذا سبباً لحرمانهم منه.

و هناك بيان آخر للاستدلال بالآية نقله السيد الطباطبائي عن بعض مشايخه و انّه قال: إنّ الناس حسب التقسيم العقلي على أربعة أقسام:

أ. من كان ظالماً في جميع عمره.

ب. من لم يكن ظالماً طيلة عمره.

ج. من كان ظالماً في مقتبل عمره و تائباً في أواخره حين التصدّي.

د. من لم يقترف الشرك في أوان عمره و اقترفه في أواخره حين التصدي.

فيجب إمعان النظر في تحديد ما هو المسئول لإبراهيم الخليل، و العقل يحكم بأنّ إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل و الرابع من ذريّته، فيبقى القسمان الآخران و قد نفى اللّه أحدهما أي من كان ظالماً في مقتبل عمره و غير ظالم حين التصدّي، و بقي الآخر و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.

على أنّه يمكن أن يفسر استدلال الإمام بالآية بأنّ الإطلاق باعتبار حال التلبّس.

ص:238

خاتمة المطاف في ثمرات البحث

تظهر الثمرة بين كون المشتق موضوعاً لخصوص المتلبّس أو الأعم في الموارد التالية و يجمع الكل كون المشتق موضوعاً للحكم:

1. قال رجل لعلي بن الحسين) عليهما السلام (: أين يتوضّأ الغرباء؟ قال:» تتّقي شطوط الأنهار، و الطرق النافذة و تحت الأشجار المثمرة... «(1)فعلى التلبّس يختص الحكم بما إذا كان مثمراً و لو بالقوّة، بخلاف القول بالأعم، فيشمل حتى الشجرة اليابسة الساقطة عن التوريق و الأثمار.

2. قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون و المحدود، و ولد الزنا، و الأعرابي لا يؤم المهاجرين «.(2)

3. عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في المرأة إذا ماتت و ليس معها امرأة تغسلها، قال:» يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق «.(3) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي فللزوج المطلّق لها، التغسيل عند فقد المماثل.

ص:239


1- - الوسائل: 1، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1.
2- - الوسائل: 5، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
3- - الوسائل: 2، الباب 24 من أبواب غسل الميت، الحديث 8.

و ربما يمثل بالماء المشمَّس أو المسخَّن، و لكن الوارد في لسان الأدلّة، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق، فقد ورد عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به و لا تغسلوا و لا تعجنوا به فانّه يورث البرص «.(1)

ص:240


1- - الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
مسائل في المشتق
المسألة الأُولى: في خروج الذات عن مفهوم المشتق

هل المشتق في مفهومه الابتدائي يدلّ على الذات أو لا؟ فالمحور في المقام هو التركيز على دخول الذات في المشتق و عدمه، و أمّا ما هو الفرق بين هذه المسألة و المسألة الآتية أعني: الفرق بين المبدأ و المشتق فسيوافيك بيانه.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ في المسألة أقوالاً:

الأوّل: انّ الذات خارجة عن المشتق ابتداءً و انتهاءً، فالمشتق لا يدلّ عليها لا بمفهومه الابتدائي و لا بمفهومه الانحلالي، و هذا هو قول الشريف على ما في تعليقاته على شرح المطارح، و هذا مبنيّ على أنّ المفهوم من المشتق، نفس المفهوم من المبدأ و الاختلاف في أنّ الأوّل لا بشرط و الثاني بشرط لا.(1)

الثاني: أنّ المشتق مشتمل على الذات، و المبدأ و النسبة، ابتداء و انتهاء، أي في مفهومه الابتدائي و الانحلالي، و هذا القول يقابل القول الأوّل تماماً.

الثالث: أنّ المشتق يدلّ على معنى بسيط، غير أنّه ينحلّ عند التحليل إلى ذات و عنوان و نسبة، فهو بسيط لفظاً و دلالة و مدلولاً في مقابل الجمل المركبة.

و المختار هو الأخير، و ببيان برهانه يظهر عدم تمامية القولين، و إليك البيان:

إنّ المشتق بسيط لفظاً و دلالة و مدلولاً، في مقابل الجمل التي هي مركبة لفظاً

ص:241


1- - شرح المطارح: 11.

و دلالة و مدلولاً، لكنّه ينحل عند العقل إلى أُمور ثلاثة: ذات و عنوان و اتّصاف، في مقابل الجوامد التي هي بسائط في المراتب الثلاثة، و غير منحلّة إليها عند التعمّل، و في مقابل المركبات التي تتألف ابتداءً من أُمور ثلاثة من ذات و عنوان و اتصاف.

و إن شئت قلت: إنّ العقل تارة يدرك الذات بلا عنوان، كزيد، و ربّما يدرك العنوان بلا ذات كالعلم، و ربّما يدرك الذات مع العنوان، فقد وضع للأوّل الجوامد، و للثاني المبادئ، و أمّا الثالث فله صورتان:

الأُولى: يدرك الذات و العنوان و الاتصاف على وجه التفصيل، بحيث يتعلّق بكلّ منها إدراك مستقل، فهذه هي المركبات التفصيلية، و يقال: زيد متصف بالعلم.

الثانية: يكون الذات و العنوان و النسبة مدركة بنحو وحدانيّ و بإدراك واحد فيعبّر عنه بالمشتق، فهو حاك لا عن الذات وحدها، و لا عن العنوان كذلك، و لا عن الذات و العنوان و النسبة تفصيلاً، بل عن المعنون بما هو مفهوم واحد منحل عند التعمّل إلى الثلاثة عند الإطلاق.

و الفرق بين الصورتين واضح، ففي الأُولى ألفاظ و دلالات و مدلولات تفصيلية، بخلاف المشتق ففيه لفظ واحد و دلالة واحدة و مدلول واحد، لكن تنحل إلى ألفاظ و دلالات و مداليل عند التعمّل.

و الدليل على ذلك هو التبادر، و معه لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر» فالكاتب و الضارب «في لغة العرب و» نويسنده و زننده «في لغة الفرس، تدلاّن على معنى وحداني له التحليل في مرحلة ثانية. فمن قال ببساطة المشتق و أراد هذا المعنى فهو صحيح، كما أنّ من قال بالتركيب و أراد التركّب عند التحليل فهو أيضاً صحيح.

ص:242

و أمّا من قال بالبساطة في المرحلتين، أو التركيب كذلك فقد نازع وجدانه و إليك تحليلهما:

أمّا الثاني: أعني دلالة المشتق على الذات و المبدأ و النسبة في مفهومه الابتدائي فهو ساقط جدّاً للفرق الواضح بين قولنا» ضاحك «و قولنا» الإنسان له الضحك «أو» كاتب «و» الإنسان له الكتابة «فادعاء التركيب في المفهوم الابتدائي من السخافة بمكان.

أمّا القول الأوّل فظاهره أنّه يريد نفي دخول الذات في مفهوم المشتق مطلقاً، لا ابتداءً و لا تحليلاً، فقد استدلّ عليه بوجوه.

الأوّل ما استدلّ به الشريف و قال:

لو قلنا بدخول الذات في المشتق يلزم أحد محذورين:

أ. دخول العرض العام في الفصل، إذا كان الداخل فيه مفهوم الشيء كما في قولنا» الإنسان ناطق «.

ب. انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، إذا كان المأخوذ مصداق الشيء كما في قولنا» الإنسان كاتب «.

فدخول الشيء في مفهوم الناطق يستلزم دخول العرض العام في الفصل، كما أنّ دخول الإنسان في المثال الثاني يوجب انقلاب القضية من الممكنة إلى الضرورية، لأنّ معنى قولنا:» الإنسان كاتب «هو » الإنسان، إنسان كاتب «و ثبوت الإنسانية للإنسان بالضرورة.

و قد أُجيب عن الشق الأوّل بوجوه:

1. ما أفاده صاحب الفصول من أنّ أخذ الناطق فصلاً مبني على تجريده عن مفهوم الشيء.(1)

ص:243


1- - الفصول: 62، ط الحجرية.

و هو غير تام، لأنّ المنطقيين جعلوا الناطق فصلاً للإنسان بما له المعنى من دون تجريد.

2. ما أجاب به المحقّق الخراساني من أنّ الناطق ليس فصلاً حقيقياً بل من أظهر خواص الإنسان، و لذا ربّما يجعلون لازمين و خاصتين مكان فصل واحد، فيعرفون الحيوان، بأنّه حساس متحرك بالإرادة، مع أنّ الشيء الواحد لا يكون له إلاّ فصل واحد.

و الوجه في عدم كون الناطق فصلاً حقيقياً، هو أنّ المبدأ للناطق لو كان هو النطق بمعنى التكلّم فهو كيف محسوس، و إن كان بمعنى التفكّر و درك الكليات فهو كيف نفساني على القول بأنّ العلم من مقولة الكيف.

3. انّ الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس، غير أنّ الناطق عنوان وصفي لهذا الفصل الحقيقي و من أظهر خواصه، فلما كانت حقيقة الفصل مجهولة لنا، أُشير إلى توضيحه بالعنوان الوصفي كما لا يخفى.

و أمّا الشقّ الثاني: فقد أجاب عنه صاحب الفصول بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء و الذات وحده بل المقيّد بالوصف، و ليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضرورياً.

و الحقّ أنّ ما أجاب به صاحب الفصول جواب كاف، و ما أورد عليه صاحب الكفاية ليس بكلام جدير بالدراسة بل يورث الإطالة بلا فائدة.

كما أنّ ما تنظر صاحب الفصول حسب ما نقله في الكفاية لا على النحو الموجود في نفس الفصول فيما أفاده سابقاً ليس كلاماً تامّاً جديراً بالدراسة، فنحن نضرب صفحاً عن كليهما.

و الذي أضيف في المقام ردّاً على دليل الشريف هو أنّ ما ذكره إثبات اللغة

ص:244

بالدليل الفلسفي و هو بعيد عن جادة الصواب، فانّ لتحليل مسائل كلّ علم أُسلوباً خاصاً به و لم يكن الواضع يحمل ذهنية فلسفية حتى يخرج الذات على المشتق بغية الفرار من دخول العرض العام في الفصل، أو انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية، فهذا الجواب يحسم هذا الدليل كما يحسم سائر الأدلّة التي هي على غرار هذا الدليل.

الثاني: ما ذكره صاحب الفصول استلهاماً من دليل المحقّق الشريف الذي طرح قضية منفصلة و قال:

» لو كان المأخوذ مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل، و لو كان المأخوذ مصداقه يلزم الانقلاب «، و قد انتقل صاحب الفصول منه إلى أمر آخر، و هو أنّ الانقلاب غير منحصر بأخذ المصداق فيه، بل يلزم من أخذ مفهوم الشيء أيضاً فيه، لأنّ الشيئية أمر ضروري للإنسان.

يلاحظ عليه: بمثل ما أورد هو على كلام الشريف في الشق الثاني، و حاصله: أنّ المحمول ليس الشيئية المطلقة بل المتقيدة بالكتابة و هي ليست بضرورية.

الثالث: لو كان الشيء داخلاً فيه بمفهومه أو مصداقه لزم تكرار الموصوف في قولنا:» زيد الكاتب «.

يلاحظ عليه: بأنّ المأخوذ فيه هو المفهوم المعرّى من كلّ قيد، ما عدا قيام المبدأ به و لا تعيّن له لينطبق على ذوات معينة كزيد و عمرو و يلزم التكرار.

و بعبارة أُخرى: إنّما يلزم التكرار لو كانت الذات مأخوذة على نحو التفصيل، و لا أظن أنّ القائل يعتقد به، لأنّها مأخوذة على نحو الإجمال.

الرابع: أنّ المادة في المشتق تدل على نفي الحدث، و الهيئة من الدوال الحرفية، فيجب أن يكون مدلولها معنى حرفياً لا اسمياً، و ليس هو إلاّ نسبة الحدث إلى

ص:245

الذات بحيث تكون نفس الذات خارجة و التقيّد داخلاً. و القول بأنّ المشتق موضوع للذات المتلبّسة، قول بدلالة الدوال الحرفية على المعنى الاسمي، و هو غير تام، فانتزاع المشتق من الذات المتلبسة و دلالته عليها أشبه شيء بدلالة الدوال الحرفية على المعاني الاسمية.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو قلنا بدخول الذات على وجه التفصيل في المشتق و أمّا لو قلنا بأنّ المتبادر منه في المفهوم الابتدائي أمر بسيط، لا الذات وحدها و لا العنوان وحده، و لا النسبة وحدها، بل شيء بسيط ينحل لدى التحليل إلى أُمور ثلاثة، و ذلك البسيط القابل للانحلال هو المعنون فلا يتوجّه الإشكال.

إلى هنا تمّ ما أُقيم من الوجوه على خروج الذات عن المشتق، و كلّها أدلة غير صالحة لإثبات اللغة حتى و إن خلت من الإشكالات المذكورة لما عرفت من أنّ اللغة لا تثبت بالدليل العقلي.

المسألة الثانية: في الفرق بين المشتق و مبدئه
اشارة

لمّا ذهب الشريف و من تبعه إلى أنّ الذات خارجة عن مفاد المشتق ابتداءً و تحليلاً، توجه إليه سؤال و هو انّه ما هو الفرق بين» الضارب «الذي هو على مختاره بمعنى الضرب، فحاول إبداء الفرق بينهما.

و الحاصل: انّه لو قلنا بأنّ مفاد المشتق مركّب دالّ على الذات و العنوان و النسبة.

أو قلنا بأنّ مفاد المشتق بسيط وحداني أي المعقول و لكن ينحلّ إلى أُمور ثلاثة.

ص:246

لكُنّا في غنى عن عقد مسألة باسم» ما الفرق بين المبدأ و المشتق «لأنّ الفرق جوهري واضح لا حاجة إلى البيان.

نعم لو قلنا بمقالة الشريف أي بخروج الذات عن المشتق، ابتداء و تحليلاً، و انّ مفاد المشتق نفس مفاد المبدأ جوهراً، لزم عقد مسألة باسم الفرق بينهما، و لذلك عمد القائل إلى بيان الفرق.

قال في» الكفاية «: الفرق بين المشتق و مبدئه مفهوماً أنّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبّس بالمبدإ، و لا يعصي على الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد.

بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس و نسب إليه كان غيره لا هو هو، و ملاك الحمل و الجري إنّما هو نحو من الاتحاد و الهوهوية، و إلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتق يكون لا بشرط و المبدأ يكون بشرط لا. أي لا يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل و مفهوم المبدأ يكون آبياً عنه.

ثمّ إنّهم شبّهوا الفرق بين المشتق و المبدأ بالفرق بين الجنس و المادة، فهما اسمان لشيء واحد كالحيوان، غير أنّه بما أنّه لا بشرط يسمّى جنساً و يحمل على النوع، و يقال: الإنسان حيوان، و بما أنّه بشرط لا، مادة فلا يحمل على الإنسان.

و مثله الناطق فهو باعتبار كونه لا بشرط فصل، و باعتبار كونه بشرط لا صورة.

هذا خلاصة ما ذكره المحقّق الخراساني و هو من الإجمال بمكان.

و توضيحه: أنّ اللابشرط و بشرط لا، يستعمله أهل المعقول في موردين:

الأوّل: أحدهما لحاظ مفهوم واحد تام بالنسبة إلى عوارضها و طوارئها

ص:247

كالرقبة حيث يلاحظ بالنسبة إلى الإيمان بأنحاء ثلاثة، فيقال: رقبة بشرط الإيمان، و رقبة بشرط عدمه، و رقبة مطلقة سواء كانت مؤمنة أو كافرة.

و في هذا الصدد يقول المحقّق السبزواري:

مخلوطة مطلقة مجرّدة عند اعتبارات عليها موردة

من لا بشرط و كذا بشرط شيء و معنيي بشرط لا استمع إليّ

ففي هذا النوع من اللحاظ، الملحوظ، ماهية واحدة تامّة، تلاحظ بالنسبة إلى ما يعرضها من الطوارئ و تطرأ المفاهيم الثلاثة الاعتبارية، أعني: بشرط شيء، و لا بشرط، و بشرط لا، و هي خارجة عن واقع الملحوظ و مفهومه و إنّما يعرض عليها بنوع من اللحاظ، فهذا القسم من لحاظ الماهية لا صلة له بالمقام و لا بما ذكره أهل المعقول في باب الفرق بين الجنس و المادة، أو الفصل و الصورة.

الثاني: ما ذكروه في التفريق بين كون الحيوان جنساً و مادة، أو كون الناطق فصلاً و صورة، فيفارق الملحوظ في هذا المورد ما هو الملحوظ في المورد الأوّل، بالوجه التالي:

إنّ المفهوم في القسم الأوّل مفهوم واحد تعرض عليه الاعتبارات الثلاثة، و لا تنثلم وحدة الملحوظ بعروضها عليها، و لذلك قلنا تلاحظ الماهية بالنسبة إلى عوارضها و طوارئها، بخلاف القسم الثاني فانّ الملحوظ يخرج عن كونه مفهوماً واحداً باعتبار كون اللابشرطية داخلاً في صميم الجنس، و البشرطاللائية داخلاً في صميم المادة، فيكون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر، فالجنس هو المفهوم المبهم المغمور الذي هو على عتبة الاكتمال بالفصل و لذلك يكون قابلاً للحمل و لذلك يوصف باللابشرط بالنسبة إلى الحمل.

و أمّا المادة فهي ماهية محصّلة مبينة غير قابلة للحمل و لذلك توصف بشرط

ص:248

لا، فيكون كلّ من القيدين: اللابشرط و بشرط لا، داخلاً في جوهر المعنى و مكملاً له على خلاف ما مرّ في السابق. فيسمّى الحيوان و الناطق عند اعتبارهما جنساً و فصلاً، بالأجزاء الحملية، و عند اعتبارهما مادة و صورة، بالأجزاء الحدّية.

و بهذا يعلم عدم صحّة ما اعترض به صاحب الفصول على هذا النوع من الفرق حيث قال:

إنّ أخذ العرض لا بشرط لا يصحح حمله على موضوعه، فانّا إذا قلنا: زيد عالم، أو متحرك، يمتنع حمل العلم و الحركة عليه و إن اعتبر لا بشرط، بل مصحح الحمل أنّ مفاد المشتق باعتبار هيئته مفاد ذو هو فلا فرق بين قولنا ذو بياض و قولنا ذو مال، فكما أنّ المال إن اعتبر لا بشرط لا يصحّ حمله على صاحبه، فكذلك البياض، و مجرّد استقلال أحدهما) المال (بالوجود دون الآخر) البياض (لا يجدي فرقاً في المقام، فالحقّ أنّ الفرق بين المشتق و مبدئه هو الفرق بين الشيء وذي الشيء، فمدلول المشتق أمر اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها.(1)

وجه الإشكال: انّه خلط بين المقامين و زعم أنّ لحاظ الماهية لا بشرط في المقام الثاني على غرار لحاظ الماهية لا بشرط في المقام الأوّل، و لذلك أورد انّ العلم و الحركة مهما لوحظا لا بشرط، لا يصحّ حملهما على الذات ما لم يقدّر فيهما لفظة» ذو «و لكنّه غفل عن الفرق بين اللحاظين، فاللابشرطية و البشرطلائية في المقام الأوّل غير داخلين في جوهر الملحوظ، و لذلك يبقى الملحوظ على وحدته، بخلاف المقام الثاني، فالمفهومان داخلان في جوهر الملحوظ فيصبح الملحوظ كمفهومين مختلفين يكون لأحدهما قابلية الحمل دون الآخر. و لذلك يقول الشيخ الرئيس في المقام الثاني:

ص:249


1- - الفصول: 62.

إنّ الماهية قد تؤخذ بشرط لا، بأن يتصور معناها بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كلّ ما يقارنه زائداً عليه، فيكون جزءاً لذلك المجموع مادة له، فيمتنع حمله على المجموع) الإنسان (لانتفاء شرط الحمل، و قد تؤخذ لا بشرط، بأن يتصوّر معناها مع تجويز كونه وحده، و كونه لا وحده، بأن يقترن مع شيء آخر فيحمل على المجموع، و الماهية المأخوذة كذلك قد تكون غير محصلة بنفسها في الواقع، بل يكون أمراً محتملاً للمقولية على الشيء مختلفة الماهيات) كما هو شأن الجنس (، و إنّما يتحصل بما ينضاف إليها فيتخصص به و يصير بعينها أحد تلك الأشياء فيكون جنساً و المنضاف إليه الذي قومه و جعله أحد تلك الأشياء فصلاً.(1)

إلى هنا أوضحنا ما ذكره صاحب الكفاية، كما أوضحنا مقصود صاحب الفصول و عدم تمامية كلامه، غير أنّ الواجب إيضاح ما ذكره أهل المعقول حول كون الحيوان جنساً تارة و مادة أُخرى و كذلك الناطق فصلاً و صورة.

و الذي يمكن أن يقال في المقام) و التفصيل موكول إلى محله (هو أنّ الحد كالحيوان الناطق، بالنسبة إلى المحدود كالإنسان يلاحظ على وجهين:

الأوّل: أن يلاحظ كلّ من المفهومين على وجه الإبهام و الإجمال من دون أن يكون لها مفهوم تام، فيلاحظ الحيوان بما انّه جسم نام حساس متحرك بالإرادة الذي يصلح لأن يشكّل أحد الأنواع كالإنسان و الفرس، فعندئذ إذا نسب إلى الإنسان أو غيره من الأنواع يكون نفس النوع، لا جزءاً من النوع، إذ معنى ذلك أن الحيوان في حركته الجوهرية يصل إلى مقام الإنسانية، و عندئذ يتّحد مع الناطق، و في هذا اللحاظ لا يعد الحيوان جزءاً) للمحدود (و لا الناطق كذلك، بل تُتناسى الجزئية لما عرفت من أنّ الجنس في هذا اللحاظ يتحصّل بالناطق و يكون نفس

ص:250


1- - المنظومة: قسم الحكمة: 91. نقلاً عن الشيخ الرئيس.

الإنسان، فلذلك يصحّ أن يقال: الإنسان حيوان أو الحيوان ناطق، أو غيرهما، و يسمّى» الحيوان الناطق «أجزاء حملية في مقابل ما سيوافيك في المورد الثاني.

الثاني: أن يلاحظ كلّ من الحيوان و الناطق بما هما مفهومان متحصلان و يكون كلّ واحد جزءاً من ماهية الإنسان و يتشكل الإنسان من اجتماعهما، ففي هذا اللحاظ أي النظر إليها بعنوان الجزئية للمحدود يسمّى الحيوان مادة ذهنية، و الناطق صورة ذهنية، و يمتنع حمل الحيوان على الإنسان لأنّه أصبح عندئذ جزء الإنسان لا نفسه، و لا يصحّ حمل الجزء على الكلّ فلا يقال: زيد يد، و لأجل تلك الحالة يوصفان بكونهما أُخذا بشرط لا، غير قابلين للحمل، كما يسمى بالأجزاء الحدية.

و بذلك يعلم مضمون الجملة المعروفة بين أهل المعقول حيث قالوا: إنّ الجنس و الفصل(1) من أجزاء الحد لا من أجزاء المحدود أي الإنسان، و معنى الجملة أنّ الحيوان و الناطق إذا لوحظا جنساً و فصلاً للمحدود، يصبح كلّ منهما نفس الإنسان لا جزئه، و لو وصفا بالجزئية فإنّما هو باعتبار كونهما من أجزاء الحد، لا من أجزاء المحدود أي الإنسان لما عرفت من أنّهما في هذا اللحاظ عين المحدود و نفسه.

نعم لو لوحظا بما انّهما مادة و صورة ففي هذه الحالة يكون كلّ جزء للمحدود فيكون الحيوان جزءاً لماهية الإنسان فيمتنع الحمل، كما يكون الناطق جزءاً له فيمتنع الحمل فيطلق عليهما المادة و الصورة ) الذهنيتين (مكان الجنس و الفصل.

و لعلّ هذا المقدار من الإيضاح كاف في المقام، و التفصيل يطلب من محله.

ص:251


1- - أي ما ينطبق عليه الجنس و الفصل كالحيوان الناطق لا عنوانهما، إذ بهذا العنوان ليسا من أجزاء الحدّ كما مرّ.

هذا هو الكلام في المشبه به، و أمّا الكلام في المشبه فنقول:

إنّ المشتق و المبدأ كالجنس و المادة، فالأوّل منهما مفهوم مبهم غير متحصّل و إنّما يتحصّل بما يحمل عليه، بخلاف الثاني فانّه مفهوم متحصّل في نفسه آب عن الحمل.

أقول: إنّ قياس المشتق و المبدأ بالجنس و المادة، قياس مع الفارق، فانّ مصحح حمل الجنس على الفصل هو تقوّمه بالفصل في عالم المفهوم، لما عرفت من أنّ الجنس مفهوم مغمور، مبهم، يحتاج إلى ما يخرجه من الإبهام في ذلك الظرف، و هذا بخلاف المشتق بالنسبة إلى موضوعه لعدم تقوّم مفهوم المشتق بالموضوع فهو غير الموضوع مفهوماً، و إن اتحدا وجوداً، و شتّان بين الاتحادين، فالأوّل يتّحد مع الموضوع في المفهوم، و الآخر يختلف معه فيه و يتّحد معه في الوجود.

و بعبارة أُخرى: انّ الجنس هو المفهوم المغمور الذي لم تتعين حدوده و خصوصياته إلاّ بالفصل بحيث لو وجد في الخارج يكون عين الفصل عينية اللامتحصل مع المتحصل، و هذا بخلاف المشتق فانّ مسوغ الحمل ليس إبهام مفهومه، فانّه ذو مفهوم متحصّل و متعيّن إلاّ من جهة الموضوع، و هذا غير الإبهام في المفهوم، بل مسوّغ الحمل قيامه بالموضوع في عالم التكوين، فشتان بين المسوّغين، فوجه الشبه بين الجنس و المشتق غير موجود كما لا يخفى.

إيضاح و إكمال

لما كان ما ذكروه من الفرق بين المشتق و المبدأ من خلال التشبيه بالجنس و الفصل، مجرّد دعوى بلا برهان، بل كان صرف التشبيه، حاول غير واحد من أهل المعقول إقامة البرهان عليه بوجوه أربعة، ترجع بعضها إلى المحقّق الدواني، و إليك البيان:

ص:252

الأوّل: ما ذكره أهل المعقول في الفرق بين العرض و العرضي، أنّ العرض تارة يلاحظ بما هو هو و انّه موجود في قبال موضوعه فهو بهذا اللحاظ بياض و لا يصحّ حمله على موضوعه مثل الجسم، كيف و المفروض أنّه لوحظ بنحو المبائنة مع الموضوع، و الحمل هو الاتحاد في الوجود.

و أُخرى يلاحظ بما أنّه ظهور موضوعه و طور لوجوده و شأن من شئونه، و ظهور الشيء و طوره و شأنه لا يباينه فيصحّ حمله عليه، إذ المفروض انّ هذه المرتبة من مراتب وجود الشيء، و الحمل هو الاتحاد في الوجود.

و بعبارة أُخرى: انّ واقع البياض يطرد العدم من جانب ماهيته أوّلاً، فيكون اللابياض بياضاً، و من جانب موضوعه فيكون اللاأبيض، أبيض، فبما أنّه يطرد العدم عن جانب ماهيته يقال له البياض، و بما انّه يطرد العدم عن جانب موضوعه، يقال له: الأبيض.

و هكذا الضرب بما أنّه يطرد العدم عن ماهيته، يطلق عليه الضرب، و بما أنّه يطرد العدم عن جانب موضوعه يطلق عليه الضارب.

فتحصل من ذلك أنّ للبياض و الأبيض مفهوماً واحداً، يختلفان بالاعتبار، فوزان الضرب وزان البياض، و وزان الضارب كوزان الأبيض.

و هذا التقرير، بيان جديد لكون الفرق بين المبدأ و المشتق بشرط لا و لا بشرط.

يلاحظ على ذلك البيان بوجهين:

أوّلاً: انّه لا يتم في كلّ مشتق كأسماء الأزمنة و الأمكنة حيث لا يعدّ المبدأ» الضرب «من شئون الزمان و المكان، و مع ذلك يصح حمله عليه هنا مقتل الحسين أو هذا اليوم مقتله) عليه السلام (، و إنّما يجري في بعض المشتقات كالمبدإ بالنسبة إلى الفاعل و المفعول.

ص:253

و ثانياً: انّ ابتناء الفرق بين المبدأ و المشتق على هذا التقرير الوارد عن الحكماء في دراسة عالم الكون من غير نظر إلى عالم الألفاظ ابتناء غير صحيح، فانّ معاني الألفاظ إنّما تؤخذ من الإمعان فيما يتبادر منها عند أهل اللسان لا ممّا حقّقه الحكماء عند دراسة صحيفة الكون الذي لا صلة له بعالم الألفاظ فإنّ ما ذكروه في الفرق بين العرض و العرضي يرجع إلى دراساتهم صحيفة الكون، يقول الحكيم السبزواري:

و عرضي الشيء غير العرض ذاك البياض ذاك مثل الأبيض

الثاني: ما نقله الحكيم السبزواري في تعاليقه على الأسفار من انّا إذا رأينا شيئاً أبيض، فالمرئي بالذات هو البياض، و نحن قبل ملاحظة أنّ البياض عرض و العرض لا يوجد قائماً بنفسه، نحكم بأنّه بياض و أبيض، و لو لا الاتّحاد بالذات بين البياض و الأبيض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة، و لم يجوِّز قبل ملاحظة هذه المقدمات، كونه أبيض، لكن الأمر بخلاف ذلك.

يلاحظ عليه: بأنّا و إن نحكم عند رؤية البياض قبل ملاحظة أنّه عرض و انّ العرض لا يوجد قائماً بنفسه بأنّه أبيض، و الملاحظة التفصيلية و إن كانت غير موجودة عند الرؤية، لكن الملاحظة الإجمالية موجودة ارتكازاً، لأنّ الإنسان طيلة حياته يشاهد أنّ البياض لا يوجد إلاّ مع موضوعه، فهو مع هذا العلم الموجود في خزانة ذهنه إذا رأى البياض، و حمل عليه الأبيض، فإنّما حمل على البياض الذي لا يفارق الموضوع، فلا يدلّ ذاك الحمل على خروج الذات و النسبة عن مفهومه.

الثالث: أنّ المعلّم الأوّل و مترجمي كلامه عبروا عن المقولات بالمشتقات، و مثلوا لها بها فعبّروا عن الكيف بالمتكيف و مثلوا لها بالحار و البارد، فلولا الاتحاد

ص:254

بالذات لم يصحّ ذلك التعبير و التمثيل إلاّ بالتكلّف، بأن يقال: ذكر المشتقات لتضمنها مبادئها.(1)

الرابع: نقل عن بهمنيار تلميذ الشيخ الرئيس قال: إنّ الحرارة لو كانت قائمة بذاتها، لكانت حرارة و حارة.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه لا حجّية لكلام أرسطو و مترجمي كلامه.

و مثله ما نقل عن تلميذ الشيخ الرئيس، إذ هو قضية شرطية لا تثبت بها اللغة.

المسألة الثالثة: في ملاك الحمل

قد اشتهر بينهم أنّ ملاك الحمل أمران:

المغايرة من جهة و الاتحاد من جهة أُخرى، و المغايرة إمّا تكون بالاعتبار كما في قولنا:» زيد زيد « فالأوّل منهما يغاير الثاني اعتباراً، حيث يحتمل فيه في بادئ النظر، جواز سلب الشيء عن نفسه فيرده بقوله » زيد «، أو بالإجمال و التفصيل كما في قولنا:» الإنسان حيوان ناطق «أو مغايراً بالمفهوم كما في الحمل الشائع الصناعي» زيد قائم «.

هذا هو حال التغاير، و أمّا الوحدة فالمثالان الأوّلان يتّحد الموضوع مع المحمول في المفهوم كما أنّ المثال الثالث يتحدان مصداقاً.

هذا هو المعروف بين المنطقيّين و اختاره المحقّق الخراساني، و قال: ملاك الحمل هو الهوهوية و الاتحاد من وجه و المغايرة من وجه آخر كما يكون بين المشتقات و الذوات.(3)

ص:255


1- - الأسفار: 1/42.
2- - نهاية الدراية: 1/94.
3- - كفاية الأُصول: 1/84.

و أوضحه المحقّق الاصفهاني بأنّ ملاك المغايرة في الحمل الأوّلي، هو المغايرة بالاعتبار الموافق للواقع، و في الحمل الشائع هو المغايرة بالمفهوم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكروه و إن كان صحيحاً لكنّه ليس ملاكاً و مصححاً للحمل و ذلك أنّ مناط الحمل هو الوحدة و الهوهوية لا التغاير و الاثنينية، فاشتراط وجود التغاير بين الموضوع و المحمول في صحّة الحمل أمر غير صحيح.

نعم يشترط في كون الحمل مفيداً و خارجاً عن اللغو و العبث أن يكون بينهما تغاير إمّا اعتباراً أو إجمالاً و تفصيلاً، أو مفهوماً.

و الحاصل: انّ ملاك الحمل هو تناسي التغاير حتى يجوز الحمل بأنّه هو و التوجه إلى التغاير يعوق الإنسان عن الحمل.

نعم الحمل المفيد رهن وجود التغاير بينهما، و إلاّ يصير أمراً لغواً، فهؤلاء خلطوا بين ملاك الحمل و كونه مفيداً.

ثمّ إنّه يظهر من صاحب الفصول الاكتفاء بهذا الملاك في مورد يكون التغاير اعتبارياً و الوحدة حقيقة، كما في قولك:» هذا زيد «أو» الناطق إنسان «و أمّا إذا انعكس بأن كان التغاير حقيقياً و الاتحاد اعتبارياً كقولك:

الإنسان جسم، فيحتاج وراء ذلك إلى أمرين آخرين:

الأوّل: أخذ الأجزاء لا بشرط كما في المثالين، و لأجل ذلك لا يصحّ حمل البدن و النفس على الإنسان، و لا يصحّ أن يقال: الإنسان بدن) مكان الجسم (، أو نفس، مكان الناطق.

الثاني: تنزيل الأشياء المتغايرة منزلة شيء واحد و ملاحظتها من حيث المجموع و الجملة، فتلحقه بذلك الاعتبار وحدة اعتبارية، فيصحّ حمل كلّ جزء من

ص:256


1- - نهاية الدراية: 1/97.

الأجزاء لا بشرط، عليه. و حمل كلّ واحد منها على الآخر بالقياس إليه نظراً إلى اتحادهما فيه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ملاحظة التركيب يعطي للمحمول وصف الجزء من الكل، و عندئذ يمتنع حمله عليه كامتناع حمل كلّ جزء على الكلّ، مثل زيد يد أو رجل، اللّهمّ إلاّ بالعناية و المجاز، و إلى هذا الإشكال يشير المحقّق الخراساني بقوله:» بل يكون ذلك مخلاً لاستلزام المغايرة بالجزئية و الكلية أي كون الموضوع كلاً و المحمول جزءاً.

و ثانياً: انّه خلط بين الأجزاء الحدية و الأجزاء الحملية، فلو لوحظ كلّ من الجنس و الفصل جزءاً للنوع و تركبه منهما فعندئذ يصير كلّ من الحيوان و الناطق من الأجزاء الحدية و لا يصحّ حمل واحد منهما على النوع، و هذا بخلاف ما لو لوحظا على نحو الإبهام على نحو يكون كلّ عين الآخر، و عندئذ يصبحان من الأجزاء الحملية، فيصحّ أن يقال» الإنسان حيوان «فما ذكره من حديث الجزئية و الكلية من آثار الأجزاء الحدية لا الأجزاء الحملية.

المسألة الرابعة: مغايرة المبدأ للذات

قد مرّ سابقاً أنّه يشترط في صحّة الحمل أو كونه مفيداً على ما عرفت مغايرة المحمول مع الموضوع، فعند ذلك ربّما يشتبه الأمر على بعضهم من أنّه إذا كان ملاك الحمل هو المغايرة، فكيف تحمل صفاته سبحانه مثل» العالم «و» القادر «عليه سبحانه مع أنّه صفاته تعالى عين ذاته لا تغاير بينهما؟ و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني من أنّ المراد من المغايرة هو التغاير

ص:257


1- - الفصول: 62.

الاعتباري أو الإجمالي و التفصيلي أو التغاير المفهومي، و كلّ منها لا ينافي الاتّحاد العيني و الخارجي، فمفهوم العالم و القادر و إن كان غير مفهوم الموضوع و لكنّهما عينه خارجاً، و على هذا لا نحتاج في إجراء الصفات إلى التأوّل بالنقل أو التجوز.

أقول: لو كان محور البحث و روح الإشكال هو ما ذكره المحقّق الخراساني في وجود توهّم التضاد بين شرطية التغاير في صحّة الحمل و عينية صفاته مع ذاته لكان لما أجابه مجال، و ذلك لأنّه يشترط في التناقض الوحدات الثمانية و هي هنا منتفية، و ذلك لأنّ مصب التغاير هو المفاهيم، و مصب الوحدة هو العينية الخارجية، فلا تصادم بين الكلامين.

و أمّا لو كان محور البحث أمراً آخر و هو أنّ المتبادر من المشتق هو زيادة العنوان على الذات، و عندئذ يصبح جواب المحقّق الخراساني أجنبياً عن البحث، و إليك التفصيل:

إنّ مذهب الحقّ أنّ صفاته تعالى قديمة لا حادثة خلافاً للكرامية.

و انّها عين ذاته لا زائدة عليها خلافاً للأشاعرة.

فالإمامية و الأشاعرة يتفقان في كون الصفات قديمة لا حادثة، و لكنّها عند الأشاعرة زائدة على الذات تمسّكاً بظواهر بعض الآيات مثل قوله سبحانه: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ )(1) الظاهر في أنّ علمه غير ذاته، و لكن الإمامية قائلة بعينية الصفات، و إلاّ يلزم القدماء الثمانية عدد الذات و الصفات السبعة الجمالية.

هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون، لا المبدأ فقط كما عليه الشريف، و لا الذات و النسبة و المبدأ على نحو التفصيل، بل المفهوم الوحداني المنحل عند التعمل إلى ذات و عنوان.

ص:258


1- - النساء: 166.

فإذا كان المتبادر من الصفات كالعالم و القادر هو المعنون بما هو معنون يلزم عدم صحّة إجراء الصفات الثبوتية عليه تعالى، لأنّ مقتضى المحمول في قولنا:» اللّه عالم «هو زيادة العنوان على المعنون مع أنّ العقيدة على خلافها.

فلو كان محور البحث هو هذا لأصبح كلام المحقّق الخراساني في» أنّ صفاته و إن كانت عين ذاته خارجاً لكنّه غيرها مفهوماً «أمراً لا صلة له بالإشكال.

نعم يكون كلام صاحب الفصول من الالتزام بالنقل و التجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى كلاماً مرتبطاً و إن كان غير صحيح، و ذلك لانّا نجري تلك الصفات على اللّه سبحانه كجريها على غيره من دون تجوّز و لا نقل. فعلى ذلك يجب حلّ المسألة من طريق آخر.

و يمكن حل الإشكال بوجهين:

الأوّل: ما أجاب به سيدنا الأُستاذ بأنّه لا يفهم من لفظ العالم إلاّ المعنون من حيث هو كذلك، و أمّا زيادة العنوان على المعنون و قيامه به فهو خارج عن مفهومه، فالمشتق يدل على المعنون، و العينية و الزيادة من خصوصيات المصاديق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ دلالة الهيئة على مغايرة المبدأ لما يحمل عليه ليس أمراً خفياً لقضاء التبادر بذلك.

الثاني: أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون، و الذات المتلبّسة بالمبدإ، و ظاهره زيادة العنوان على الذات، و نحن نجري أوصافه سبحانه عليه بهذا المعنى، و نستعملها في المعنى المتبادر عرفاً بالإرادة الاستعمالية غير انّ البرهان قام على

ص:259


1- - تهذيب الأُصول: 1/228.

عينية صفاته مع ذاته، فترفع اليد عن هذا الظهور بالدليل العقلي، فالمراد الجدي عند من قام الدليل عنده على العينية، غير المراد الاستعمالي الذي يشترك فيه العالم و الجاهل و الفيلسوف و المتكلّم.

و قيام البرهان على الوحدة لا يكون سبباً لتغيير اللغة و المتبادر العرفي، غاية الأمر أنّ الأكثرية الساحقة من الناس لا يتوجهون إلى هذه الدقائق، فيستعملون اللفظ فيه سبحانه على النحو الذي يستعملونه في غيره و لا يرون الزيادة مخلّة بالتوحيد.

و الحاصل أنّ هنا مقامين:

الأوّل: اللغة، الظهور، و التبادر.

الثاني: العقيدة و البرهان و الاستدلال.

و ليس من شأن العقيدة تفسير اللغة و المتبادر العرفي، كما أنّه ليس للظواهر أنْ تصادم البراهين العقلية، فلكلّ طريقه و مجراه.

المسألة الخامسة: في قيام المبدأ بالذات

هل يشترط في صحّة الحمل قيام المبدأ بالموضوع أولا؟ وجوه و آراء.

الأوّل: يشترط قيام المبدأ بالذات قياماً حلولياً، و هذا ما عليه الشيخ الأشعري حيث فسّر كونه سبحانه متكلّماً بأنّ التكلّم من صفات الذات القائم بها قياماً حلولياً، و كلامه هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي، و لا ما هو المفهوم من اللفظ.

الثاني: عدم اعتبار قيامه بالذات، بشهادة أنّه يصدق على الفاعل أنّه ضارب و مؤلم مع أنّ الضرب غير قائم بهما بل بالمؤلم و المضروب.

ص:260

الثالث: ما اختاره صاحب الفصول من أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات قياماً أعم من الحلول كما في قولنا » زيد عالم «أو بالصدور كما في» زيد ضارب و مولم «أو بغير هذا النحو من القيام بالوقوع عليه كما في المفعول به أو الوقوع فيه كما في أسماء الزمان و المكان كالمضرب.

نعم لا يشترط على مختاره قيام المبدأ بالذات إذا كان المبدأ ذاتاً لا وصفاً كصفاته سبحانه بالنسبة إلى ذاته، أو كان كمثل اللابن و التامر إذ ليس المبدأ أعني: التمر و اللبن قائماً ببائعهما.

الرابع: ما اختاره صاحب الكفاية من لزوم قيام المبدأ بالذات و تلبّسها به، غير أن تلبّس كلّ شيء بحسبه، ففي صفاته الجارية عليه تعالى، يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً، و قائماً به عيناً بنحو من القيام لا أن يكون هناك اثنينية أو كان ما بحذائه غير ما بحذاء الذات. و عدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الأُمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة و لو بنحو من التأمل و التعمل من العقل.

فإن قلت: إنّ مثل هذا التلبّس لا يعد عرفاً من مصاديق القيام و تلبّس الذات به.

قلت: إنّ العرف مرجع في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها.

يلاحظ عليه أوّلاً: إنّ المتبادر في القيام و التلبّس، التعدّد و الاثنينية، فإذا كان المبدأ عين الذات في عامّة المراحل، كيف يمكن أن نتصوّر قيام شيء بشيء أو تلبّسه به؟ و ما ذكره من التعابير المتكررة نوع تلاعب بالألفاظ و ليس له من الحقيقة نصيب.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ العرف مرجع لتحديد المفاهيم لا لتعيين المصاديق

ص:261

أمر غير تام، بل العرف مرجع في كلا الموردين، و لذلك لا يعدّ لون الدم دماً واجب الاجتناب، و ذلك لأنّ لون الدم غير الدم عرفاً و إن كان حسب التحليل الطبي أو العقلي مرتبة من اللون.

و الحقّ أن يقال: انّ العقيدة لا تمسّ اللغة و لا تغيّرها، فنحن نجري صفاته تعالى عليه بما له من المعنى من دون أي نقل و تجوّز، و ظاهره زيادة العنوان على المعنون، أو تلبّس الذات بشيء ورائها، أو قيامه بها، لكن دلّ البرهان على أنّ هذا الظهور غير معتبر عقيدة، لدلالة العقل على أنّ صفاته سبحانه عين ذاته.

قال الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (:» شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه.(1)

و قوله) عليه السلام (:» لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف «إشارة إلى ما ذكرناه من المتفاهم العرفي من الصفات، و لكن الإمام نفى الاثنينية بالبرهان، لا بالتصرّف في معاني المشتقات، و لا إشكال في أنّه يستعمله العامي و الحكيم في معنى واحد في حقّه سبحانه إرادة استعمالية غير أنّ المراد الجدي لدى الحكيم يغاير الاستعمالي.

و أظن أنّ القوم لو فتحوا باباً خاصّاً للألفاظ و معانيها، و باباً آخر للعقائد، بحيث لا يكون ظهور اللفظ مبدأً للعقيدة، و لا العقيدة صادمة لظهور اللفظ، لكان أحسن.

و الحاصل: نحن نشاطر المحقّق الخراساني الرأي في أنّ الصفات الكمالية، تطلق على الممكن و الواجب بمعنى واحد من دون أن يكون في الإطلاق الثاني

ص:262


1- - نهج البلاغة، الخطبة الأُولى.

تجوّز أو نقل لكن نختلف معه في أنّه يدّعي انّ مفهوم المشتق الذي هو التلبس و القيام صادق على الممكن و الواجب و لا يتنافيان مع عينية صفاته لذاته لأن تلبّس كلّ شيء بحسبه و لا يتوقفان على أن يكون ما بحذاء أحدهما عين الآخر.

و لكنا نجري الصفات عليه تعالى بنفس المفهوم العرفي و لكن نعتقد انّ البرهان لا يوافق هذا الظهور فيكون الظهور مراداً استعمالياً و لكنّ المراد الجدي لمن التفت إلى ذلك، غيره.

المسألة السادسة: في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي

ربما يقال بأنّ تلبّس الذات بالمبدإ ليس شرطاً في صحّة الحمل فربّما يكون هناك حمل بلا تلبّس كما في» الميزاب جار «و الجريان قائم بالماء مع أنّه حمل على الميزاب.

و الجواب: انّ الجريان قائم بالماء حقيقة و بالميزاب ادّعاءً و تنزيلاً، فلا يشترط في القيام و التلبّس، القيام و التلبس الحقيقيّان، بل يكفي التنزيليان منهما، و هذا هو الحال في عامّة المجازات في الاسناد، فلفظ الجاري مستعمل في معناه اللغوي غير أنّ اسناده إلى الميزاب اسناد مجازي لا حقيقي و لا يشترط التلبّس الحقيقي و هذا من الوضوح بمكان.

تمّ الكلام في الأُمور الأربعة عشر التي جعلها المحقّق الخراساني كالمقدمة الواحدة لمقاصد الكتاب.

ص:263

ص:264

المقصد الأوّل في الأوامر

اشارة

و فيها فصول:

الفصل الأوّل: في مادّة الأمر و فيه جهات من البحث الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر و فيه مباحث الفصل الثالث: في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب الفصل الخامس: في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه و فيه أُمور الفصل السادس: في جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه الفصل السابع: في تعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد الفصل الثامن: إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز؟ الفصل التاسع: في الواجب التخييري و حلّ مشاكله الفصل العاشر: في الواجب الكفائي الفصل الحادي عشر: في المطلق و المؤقت، و الموسع و المضيّق الفصل الثاني عشر: في الأمر بالأمر بفعل، هل هو أمر بالفعل؟ الفصل الثالث عشر: الأمر بالشيء بعد الأمر به، ظاهر في التأكيد أو التأسيس

ص:265

ص:266

الفصل الأوّل مادة الأمر

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأُولى: معنى لفظ الأمر لغة

قد ذكروا للفظ الأمر معان متعددة:

أ. الطلب، كما يقال أمره بكذا.

ب. الشأن، كما يقال شغله أمر كذا.

ج. الفعل كما في قوله: (وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ).(1)

ه. الفعل العجيب كما في قوله: (وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا ).(2)

و. الغرض كما يقال: جاء زيد لأمر كذا.

ز. الحادثة كما يقال: وقع الأمر.

و لا شكّ أنّ ما ذكروه من التفاصيل من باب خلط المصداق بالمفهوم كما هو الحال في أكثر المعاجم اللغوية حيث ذكروا للفظة» القضاء «معاني عشرة مع أنّه ليس له إلاّ معنى واحد و هو إتقان الفعل، و ما ذكر من المعاني مصاديق له: كقوله سبحانه: (وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ )(3). فانّ التشريع الإلهي بما أنّه يتمتّع

ص:267


1- - هود: 97.
2- - هود: 58.
3- - الإسراء: 23.

بالإتقان استعمل في حقّه القضاء أي الحكم المتقن. و مثله المقام فانّ قسماً من هذه المعاني من المصاديق و بعضها من الوضوح بمكان، فانّ الغرض في قوله:» جاء زيد لأمر كذا «مستفاد من اللام فالمدخول مصداق الغرض لا مفهومه، و هكذا في قوله سبحانه: (فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا ) فالمدخول مصداق للتعجب لا مستعمل في مفهومه.

بقي الكلام في تحديد معنى الأمر، فهناك آراء نشير إلى بعضها.

انّه موضوع لمعنيين:

الطلب و الشأن و هو خيرة صاحب الفصول الطلب و الشيء و هو خيرة المحقّق الخراساني الطلب و الفعل و هو المختار عندنا أمّا الأوّل: فقد استند صاحب الفصول في كون الشأن من معاني الأمر إلى قول القائل:» شغلني أمر كذا «مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو الفعل أي شغلنا فعل كذا، كما اعتمد المحقّق الخراساني في استعماله في الشيء على قول القائل: رأيت اليوم أمراً عجيباً، مع أنّه من المحتمل أن يكون الأمر بمعنى الفعل.

أضف إلى ذلك انّه لو كان الأمر بمعنى الشيء يلزم صحّة استعمال أحد المترادفين مكان الآخر، فكما يقال:» اللّه شيء «و» العقل شيء «، يجب أن يصحّ القول بأنّ اللّه أمر، و العقل أمر، كلّ ذلك يعرب عن عدم كون الأمر بمعنى الشيء.

هذا كلّه حول القولين، و أمّا القول الثالث أي كون المعنى الثاني للأمر هو الفعل، فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما

ص:268

لا يُبْدُونَ ).(1)

أي كلّما يجري في الكون من السنن التي هي من أفعاله سبحانه بيد اللّه، و قوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ).(2)

و قوله: (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )(3) أي شاور هؤلاء في أُمورك و أفعالك و ما تفعل و ما تترك.

ثمّ إنّ الأمر بمعنى الطلب بالقول المخصوص يجمع على أوامر، كما أنّه بمعنى الفعل يجمع على أُمور.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر هو نفس الأمر المخصوص فلا يصحّ منه الاشتقاق لكونه معنى جامداً غير قابل للسيلان، بخلاف ما إذا قلنا إنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص.

ثمّ إنّ الثمرة تظهر فيما لو ورد لفظ الأمر في الكتاب و السنّة و لم يعلم المقصود منه، فعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول العملية، فلو كان للحكم حالة سابقة يستصحب، و إلاّ فلو كان الشكّ في التكليف، يقع مجرى للبراءة و إلاّ، يقع مجرى الاشتغال.

الجهة الثانية: في اعتبار العلو و الاستعلاء

هل يعتبر العلو و الاستعلاء في صدق مفهوم الأمر، أو لا يعتبران أو فيه تفصيل؟ فيه أقوال و آراء:

الأوّل: اعتبار العلو دون الاستعلاء.

الثاني: اعتبار أحدهما.

ص:269


1- - آل عمران: 154.
2- - البقرة: 210.
3- - آل عمران: 159.

الثالث: اعتبار كليهما و هذا هو المختار.

الرابع: عدم اعتبار واحد منهما.

و إليك دراسة الكلّ واحداً تلو الآخر.

أمّا القول الأوّل: فهو خيرة المحقّق الخراساني، فذهب إلى اعتبار العلو في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً، و لو أطلق عليه الأمر، كان بنحو من العناية.

كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمراً و لو كان مستخفضاً بجناحه.

أقول: ما ذكره) قدس سره (من اعتبار العلو لا غبار عليه، و الدليل عليه هو التبادر، فانّ في لغة العرب ألفاظاً ثلاثة لكلّ مورده:

1. الأمر، و يرادفه في اللغة الفارسية» فرمان «.

2. الالتماس، و هو طلب المساوي من المساوي.

3. السؤال، و هو طلب السافل من العالي.

فالأوّل هو الطلب الصادر من العالي، و الثاني هو الطلب الصادر من المساوي، و الثالث هو الطلب الصادر من السافل.

و هذا يُثبت دخول العلو في مادة الأمر و أمّا عدم اعتبار الاستعلاء فلم يذكر عليه دليلاً و سيوافيك اعتباره أيضاً.

و أمّا القول الثاني: فقد نقله في» الكفاية «و ضعّفه، و حاصل استدلاله أنّه يكفي أحدهما، أمّا العلو فلما مرّ، و أمّا كفاية الاستعلاء فلأجل تقبيح العقلاء، الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، و توبيخه لأجل أنّه يصدق عليه الأمر.

و ردّه بقوله: إنّ التوبيخ ليس على الأمر، بل على استعلائه حقيقة، و لو أطلق

ص:270

عليه الأمر فإنّما هو بالمشاكلة، أو لكونه بصورة الأمر لأنّه مقتضى استعلائه.

و أمّا القول الثالث: أعني: اعتبار كليهما، فهذا هو المختار أمّا العلو فواضح لما عرفت من التبادر.

و أمّا الاستعلاء فنمنع صدق الأمر على طلب العالي من السافل بلسان الاستدعاء، و ذلك لأنّ مورد البحث هو ما إذا صدر الطلب بلسان المولوية و العبودية، و في مثله يعتبر الاستعلاء، و لو كان الكلام خارجاً عن تلك الدائرة فلا يطلق عليه انّه الأمر بل يطلق عليه الاستدعاء حتى و لو صدر عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و يشهد لذلك ما رواه ابن عباس حيث إنّ بريرة كانت زوجة للعبد فلما اعتقت كان لها الخيار حسب الحكم الشرعي بين البقاء على حبالة زوجها أو المفارقة، فاختارت هي، المفارقة; فاتّصل زوجها بعمّ النبي العباس بن عبد المطلب ليكلّم النبي حتى يأمرها بالبقاء، فلمّا كلمها النبي، و قال لها:» إنّه زوجك « فقالت بريرة: أ تأمرني يا رسول اللّه؟ فقال: لا، إنّما أنا شافع، قال: فخيّرها، فاختارت نفسها.(1)

ترى أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لما يخاطبها، بقوله:» إنّه زوجك «، الظاهر في أنّ الإبقاء مع حبالة الزوج السابق، كان مورد رغبة النبي، فسألته) صلى الله عليه و آله و سلم (و قالت: أ تأمرني بكلامك هذا؟ فنفى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (الأمر و أثبت الشفاعة، فلو كان وجود العلو كافياً في صدق الأمر لما كان لبريرة السؤال عن مقصود النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لملازمة العلو وحده مع الأمر.

و هذا أي سؤالها عن مقصود النبي يدلّ على أنّ خطاب العالي على قسمين:

قسم يكون مقروناً بالاستعلاء فيكون أمراً، و قسم آخر يكون بلسان الاستدعاء فيكون شفاعة.

ص:271


1- - مسند أحمد: 1/215.

و أمّا القول الرابع: فهو خيرة المحقّق البروجردي القائل بعدم أخذ واحد منهما في صدق الأمر مستدلاً، بقوله: إنّ حقيقة الطلب على قسمين: قسم يطلب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس الطلب، بحيث يكون داعيه و محرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب، و هذا ما يسمّى أمراً.

و قسم يقصد فيه انبعاث المطلوب منه من الطلب منضماً إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه، كطلب المسكين من الغني، و هذا القسم من الطلب يسمّى التماساً(1) و القسم الأوّل يناسب العالي. و لا يراد منه كون الطالب عالياً، مأخوذاً في مفهوم الأمر، حتى يكون معنى» آمرك بكذا «أطلب منك و أنا عال.

فعلى هذا فحقيقة الطلب على قسمين غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه حقّ من كان عالياً، و مع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمراً أيضاً و لكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأناً له فيقولون أ تأمره؟! كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل، و لو صدر عن العالي أيضاً لم يكن أمراً فيقولون لم يأمره بل التمس منه و يرون هذا تواضعاً منه.(2)

يلاحظ عليه: أنّ تقسيم الطلب إلى قسمين، و إن كان تقسيماً صحيحاً، لكن الكلام في كيفية وضع لفظ الأمر للقسم الأوّل فما هو المخصص لعدم شموله للقسم الثاني، فلا بدّ أن يضمّ إلى معنى الطلب شيء آخر حتى يصدّه عن الشمول للقسم الآخر، فما هو ذاك القيد؟ فهل هو:

1. ما يكون الانبعاث من نفس الطلب، و هو كما ترى.

ص:272


1- - طلب السافل من العالي يسمّى سؤالاً و دعاءً لا التماساً.
2- - نهاية الأُصول: 761/75 بتلخيص.

2. ما يكون الطالب، عالياً بالنسبة إلى المطلوب منه.

و لا ثالث، و الثاني هو المتعيّن، و لا يعني هذا القول دخول العلو بالمعنى الاسمي في مدلول الأمر حتى يكون معنى قوله:» آمرك «أي أطلب منك و أنا عال، و لو فسّر بذلك فهو من قبيل زيادة الحدّ على المحدود، بل يراد دخوله على وجه الإجمال و على نحو المعنى الحرفي.

الجهة الثالثة: في دلالة مادة الأمر على الوجوب

اختلفت كلمتهم في أنّ لفظة الأمر حقيقة في الوجوب، أو مشترك معنوي بينه و بين الوجوب.

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل، و استدلّ عليه بوجوه تالية:

1. انسباق الوجوب منه عند الإطلاق.

2. الأمر بالحذر من مخالفة أمر الرسول، كقوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )(1) و الضمير في» أمره «يرجع إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لما تقدم من قوله سبحانه: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )(2) و» المخالفة «يتعدى بنفسه يقال خالف أمره، و لكن جاءت هنا مقروناً ب» الجارّ «لتضمنها معنى الإعراض، أي يعرضون عن أمر الرسول.(3)

3. و قوله:» لو لا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك «(4)الدالّ على أنّ الأمر

ص:273


1- - النور: 63.
2- - النور: 63.
3- - مجمع البيان: 4/158 ط صيدا.
4- - وسائل الشيعة: الجزء 2، الباب 3 من أبواب السواك، الحديث 4.

يلازم المشقة و هي آية الوجوب.

4. قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (لبريرة بعد قولها: أ تأمرني يا رسول اللّه؟ قال:» لا إنّما أنا شافع « أي أ تلزمني بالبقاء مع الزوج؟ فأجاب: لا.

5. و صحّة توبيخ العبد الذي خالف أمر المولى، كقوله سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ).(1)

6. و الإيعاد بالسجن عند المخالفة، كقوله سبحانه حاكياً عن امرأة العزيز: (وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ).(2)

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن أدلة القائلين بالاشتراك المعنوي حيث استدلّوا بالوجوه التالية:

أ: الأمر ينقسم إلى الإيجاب و الاستحباب و التقسيم آية أنّه حقيقة في الجامع بينهما.

يلاحظ عليه: أنّ التقسيم بنفسه قرينة على أنّ المراد من المقسم هو الأعم من الوجوب، و الكلام فيما لا يكون هناك قرينة.

ب: انّ الأمر يستعمل في الوجوب و الندب فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم أن يكون إمّا مجازاً في الندب أو مشتركاً لفظياً و كلاهما على خلاف الأصل.

يلاحظ عليه: بأنّه لا دليل على هذه الترجيحات كما تقدّم في تعارض الأحوال فانّ الأُصول اللفظية إنّما يحتجّ بها فيما إذا كان الشكّ في المراد لا في مثل المقام حيث إنّ الهدف تبيّن كيفية الإرادة، و انّها هل على نحو الحقيقة أو الأعمّ منها و من المجاز؟ إلى غير ذلك.

ص:274


1- - الأعراف: 12.
2- - يوسف: 32.

ج: انّ فعل المندوب طاعة، و كلّ طاعة فهو فعل المأمور به، ففعل المندوب، فعل المأمور به.

يلاحظ عليه: منع الكبرى لو أُريد من المأمور به، المعنى الحقيقي أي فعل الواجب، و لو أُريد الأعم منه و من غيره لا يثبت المدعى. هذا توضيح ما في الكفاية.

هناك نكتة مهمة كان على صاحب الكفاية التنبيه عليها، و هي:

أنّه لا شكّ في استفادة الوجوب من لفظة الأمر و من مرادفه في الفارسية) فرمان (إنّما الكلام في مَنْشَئِها، فهل الوجوب مدلول لفظي وضعي، بمعنى أنّ لفظه موضوع للوجوب، أو هو مقتضى الإطلاق و انّ الوجوب لا يحتاج إلى بيان زائد، بخلاف الندب، فإذا لم يكن هناك بيان زائد يحمل على الوجوب، أو لا هذا و لا ذاك، بل هو مقتضى حكم العقل؟ هنا احتمالات ثلاثة ندرسها.

لا سبيل إلى الأوّل، إذ ليس الوجوب و الندب من مداليل لفظ الأمر، بل الكل من المفاهيم الانتزاعية، فانّ لفظ الأمر وضع لنفس الطلب وحده، و إنّما ينتزع الوجوب من استعماله مقروناً بشيء يدل على شدّة رغبة المولى بالفعل و عدم رضاه بتركه، كما أنّ الندب ينتزع من استعماله مقروناً بما يدل على خلاف ذاك.(1)

نعم الاحتمال الثاني قريب بناء على إلقاء الأمر(2) بلا قرينة دالة على الندب كاف في بيان الوجوب، بخلاف الندب فهو رهن بيان زائد من تجويز المخالفة و سيوافيك أنّ مقتضى صيغة الأمر هو كونه نفسيّاً، عينياً تعيينياً، لأنّها لا تحتاج إلى

ص:275


1- - و سيوافيك تفصيله في دلالة صيغة الأمر على الوجوب أو الندب و الكلام في المقام في لفظ» الأمر «فلا يختلط عليك البحث.
2- - من فرق بين لفظ الأمر و صيغته.

بيان زائد سوى الأمر و البعث، بخلاف مقابليها فانّها رهن القيود التي تفيد انّ الأمر غيري لا نفسي، أو كفائي لا عيني، أو تخييري لا تعييني، و سيأتي توضيح ذلك في محله العاجل.

و الاحتمال الثالث هو الأقرب و هو حكم العقل بأنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب، و انّه يلزم تحصيل المُؤمِّن من العقوبة، و لا يجوز تركه باحتمال انّه يرضى لتركه.

و لذلك، يجب العمل بالأمر إلاّ إذا دلّ الدليل على الترخيص، فيكون الوجوب من المداليل العقلية، لا اللفظية الوضعية، و لا الإطلاقية.

الجهة الرابعة: في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي
اشارة

لما اختار المحقّق الخراساني أنّ مفاد الأمر، هو الطلب، حاول بيان واقع هذا الطلب و أنّ المراد منه هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي الذي يقال له الطلب بالحمل الشائع الصناعي.

و لا يختص هذا البحث بمادة الأمر، بل يعم صيغته فانّها أيضاً موضوعة حسب مختاره للطلب، و انّ المراد منه هو الإنشائي، لا الحقيقي.

و على هذا كان الأنسب إيراده في الفصل الثاني المختص بصيغة الأمر، و أن يبحث عن مفاد الأمر بمادته و صيغته بصفقة واحدة.

و على كلّ تقدير، انّ الطلب على قسمين:

1. اعتباري إنشائي.

2. واقعي حقيقي.

و الذي يمكن إنشاؤه باللفظ هو المعنى الاعتباري منه، لا الحقيقي كما هو

ص:276

الحال في عامّة الإنشائيات، فانّ الزوجية الحقيقية غير قابلة للإنشاء، بل القابل له، هو الاعتباري المنتزع من الحقيقي بنوع من التشبيه.

و كذا الرئاسة، فمنها تكويني و قد منح اللّه سبحانه الرأس تدبير الأعضاء فهو يدير و يدبّر تكويناً، و منها اعتباري و هو المدير المنصوب لإدارة مجتمع خاصّ، يأمر و ينهى.

و التكويني من كلّ هذه الأُمور، رهن علّة تكوينية، فاللّه سبحانه خلق العين و الأُذن زوجين، بخلاف الاعتباري منه، فهو رهن ترتّب غرض عقلائي لاعتباره و فرضه، فالرجل الهندي يتزوج امرأة إيرانية، و بينهما من حيث الموطن و الثقافة، بعد المشرقين، لكن الاعتبار يفرضهما زوجين يتساهمان في الحياة حلوها و مرّها.

و نظير ذلك، الإرادة، فمنها حقيقيّة تتجلّى في الذهن بعد مقدّمات، من تصوّر الشيء المراد و التصديق بفائدته، و الميل إليه، و... إلى أن تنتهي تلك الأُمور إلى استتباعها حركة العضلات، نحو إنجاز العمل أو نحو الأمر به فالإرادة التكوينية، رهن علّة تكوينية توجب ظهورها على لوح النفس.

كما أنّ منها قسماً إنشائياً، يفرض لأجل ترتب غرض عقلائي عليه فقول المولى:» افعل «أو آمرك بكذا إنشاء للإرادة باللفظ على غرار الإرادة التكوينية، غير انّها تفترق عن الثانية، انّ الإرادة الحقيقية أمر واقعي ظاهر على لوح النفس، بخلاف الأُخرى فهي صرف اعتبار و فرض.

و على ضوء ذلك فالطلب و الإرادة كفرسي رهان في عامّة المجالات و المظاهر من حيث المفهوم و المصداق و الإنشاء.

الف: فالطلب و الإرادة يتّحدان مفهوماً و بينهما من الحمل، الحمل الأوّلي.

ب: الطلب و الإرادة يتّحدان مصداقاً، فالظاهر في لوح النفس طلب و إرادة بالحمل الشائع.

ص:277

ج: الطلب و الإرادة يتّحدان إنشاءً، فالمنشأ بلفظ الأمر أو افعل أمر واحد، له اسمان لكن كلّما أُطلق الطلب ينصرف إلى القسم الإنشائي من هذه الأقسام، و كلما أُطلقت الارادة تنصرف إلى القسم الحقيقي منها.

و لعلّ بعض من ذهب إلى تعدّد الطلب و الإرادة، و عدم وحدتهما، أراد مغايرة الإنشائي من الطلب، مع الفرد الحقيقي من الإرادة و إلاّ فلا وجه للتعدد.

و يشهد على الوحدة أنّ الإنسان إذا حاول أن يفعل شيئاً مباشراً، أو يقوم به غيره نيابة لم يجد في قرارة ذهنه، سوى شيئاً واحداً يعبّر عنه تارة بالطلب التكويني و أُخرى بالإرادة الحقيقية، و لذلك ذهب الأصحاب إلاّ من شذّ إلى وحدتهما في مجال التكوين و الحقيقة، كوحدتهما في عالم المفهوم و الإنشاء، و من ذهب من الأصحاب إلى التعدّد، فإنّما أخذ من الطلب، الجانب الإنشائي و من الإرادة القسم الحقيقي، و لا شبهة في مغايرتهما، إنّما الكلام مقايسة كلّ إلى الآخر في رتبة واحدة.

و ليس هذا من خصائص الطلب و الإرادة، بل الأمر كذلك في مورد النهي فلا تجد في لوح النفس إلاّ أمراً واحداً كالكراهة و ليس شيء آخر سواها حتى تسمّيه بلفظ آخر، خلافاً لمورد الأمر حيث نجد هناك لفظين مختلفين، لكن يشير إلى معنى واحد.

و مثلهما: الترجّي و التمنّي، بل الجمل الخبرية، فليس في مورد الجميع سوى أمر نفساني، يعبّر عنه في مورد الإنشاء بالترجي و التمنّي، و في مورد الخبر بالعلم، فليس في عامة الموارد إنشائية أو إخبارية سوى أمر واحد، و يعبّر عنه بلفظ واحد كما هو الغالب أو بلفظين كما في مورد الأمر.

هذا توضيح ما في» الكفاية «مع ما في تعبيره من التعقيد.

ص:278

و كان عليه) قدس سره (الإشارة إلى نكتة مهمة و هي ما هو السبب لطرح هذه المسألة؟ أي: وحدة الطلب و الإرادة أو تعددهما.

و لأجل إزاحة النقاب عن وجه الحقيقة يلزم البحث في النقاط التالية:

أ. ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟ ب. ما هو المراد من الكلام النفسي الذي أعقب طرحَ تلك المسألة؟ ج. الأدلة الأربعة للأشاعرة على إثبات الكلام النفسي و نقدها.

د. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً عند المعتزلة و الإمامية؟ ه. ما هو موقفنا من المسألة المطروحة: وحدة الطلب و الإرادة؟ و إليك البحث فيها واحدة تلو الأُخرى.

الأُولى: ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟

ربّما يسأل الإنسان نفسَه عما هو السبب لطرح مسألة وحدة الطلب و الإرادة) كما عليه الإمامية و المعتزلة (أو تعددهما) كما عليه الأشاعرة (و ما دور تلك المسألة في علم الكلام؟ و يعلم السبب من خلال الوقوف على سيرها التاريخي.

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتي و فعلي، و المائز بينهما هو أنّ الأوّل أُحادي التعلّق، بمعنى أنّه لا يقبل النفي و الإثبات، و هذا كالعلم و القدرة، فهو سبحانه يعلم و يقدر على الإطلاق و لا يصحّ أن يقال و لو في مورد خاص لا يعلم و لا يقدر عليه، و هذا بخلاف صفات الفعل المنتزعة من إيجاده سبحانه و خلقه، فهي ثُنائية التعلّق، أي تقبل النفي و الإثبات و يقال: يُحيي و لا يحيي، يميت و لا يميت، يخلق و لا يخلق، و لو باعتبار تعلّق أحدهما بموجود و الآخر بغيره.

ص:279

و قد ذكر شيخنا الكليني ذلك الميزان في كتاب الكافي حيث قال: أ لا ترى انّا لا نجد في الوجود ما لا يُعلم و لا يُقدر عليه و كذلك صفاته الذاتية الأزلية، فلسنا نصفه بقدرة، و عجز، و علم، و جهل، و سفه، و حكمة، و عزة، و دولة. و لكن يجوز أن يقال: يُحب من أطاعه، و يُبغض من عصاه، و يُوالي من أطاعه، و يُعادي من عصاه، و انّه يرضى و يسخط، إلى آخر ما أفاد.(1)

هذا و قد اختلفت كلمة أهل العلم في صفة التكلّم، فأهل الحديث أي أتباع أحمد بن حنبل) المتوفّى عام 241 ه (و الأشاعرة الذين يقتفون أثر الشيخ أبي الحسن الأشعري (260 324 ه (على أنّها من صفات الذات كالعلم، و القدرة و الإرادة، و هي غير هذه الثلاثة.

و اختارت الإمامية و المعتزلة أنّها من صفات الفعل و إن اختلفت الطائفتان في كيفيّة تقرير كونها من صفات الفعل بعد الاتفاق على عدم كونها من صفات الذات، و سيوافيك الفرق بين التقريرين.

و لما كان القول بأنّ التكلّم من صفات الذات مستلزماً لكونه قديماً كالذات ذهب أهل الحديث و الأشاعرة برُمّتهم إلى أنّ كلامه سبحانه قديم ليس بمخلوق.

قال أحمد بن حنبل: القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، و من زعم أنّ القرآن كلام اللّه عزّ و جلّ، و وقف و لم يقل مخلوق و لا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، و من زعم بأنّ ألفاظنا و تلاوتنا له مخلوقة و القرآن كلام اللّه، فهو جهمي، و من لم يُكفّر هؤلاء القوم فهو مثلهم.(2)

و على هذا اتّفقت الحنابلة و الأشاعرة على أنّ التكلّم وصف ذاتي قديم، و كلامه مثل ذاته قديم، و بالتالي: القرآن قديم.

ص:280


1- - الكافي: 1/111.
2- - السنة: 49.

و بذلك تشبّهوا في كلامهم هذا من غير وعي بقول النصارى، حيث قالوا: بأنّ المسيح كلمة اللّه و هي قديمة، و هؤلاء أيضاً قالوا بأنّ القرآن كلام اللّه و هو قديم، و قد أثبتنا في بحوثنا الكلامية أنّ القول بأنّ التكلّم من صفات الذات و انّ كلامه قديم و القرآن أمر غير حادث، إنّما تسرّب من قبل علماء النصارى الذين كان لهم صلة وثيقة بعلماء البلاط الأموي و العباسي.(1)

ثمّ بعد الاتّفاق بأنّ التكلّم من صفات الذات اختلفت الأشاعرة و الحنابلة في تفسير تلك الصفة، فالحنابلة قالوا بأنّ كلامه و حروفه و جمَله و أصواته قديمة حالّة في الذات(2)، و لما كان هذا القول واضح البطلان، حاول الإمام الأشعري لما تاب عن الاعتزال و التحق بأهل الحديث حاول أن يصحح عقيدة أهل الحديث بكون التكلّم من صفات الذات و انّه قديم بقدم الذات، خالياً عن تلك الوصمة العالقة بعقيدة أهل الحديث، و ذلك من خلال تفسير كلامه بالكلام النفسي.

و كان من نتائج القول بالكلام النفسي هو تعدد الطلب و الإرادة، و سيوافيك عند دراسة أدلة الأشاعرة انّ القول بالكلام النفسي يلازم تعدد الطلب و الإرادة.

الثانية: ما هو المراد من الكلام النفسي؟

إنّ الكلام النفسي الذي طرحه الإمام الأشعري في تفسير كلامه سبحانه قد اكتنفه غموض كثير، حتى أنّ المحقّق الطوسي وصفه بأنّه غير معقول، و قال: و النفساني غير معقول.(3)

و قد نقل الشريف المرتضى عن شيخه المفيد أنّه كان يقول: ثلاثة أشياء لا

ص:281


1- - انظر كتاب بحوث في الملل و النحل: 3/379، لشيخنا الأُستاذ (مد ظله).
2- - شرح المواقف: 8/92.
3- - كشف المراد: قسم الإلهيات: 32.

تُعقل، و قد اجتهد المتكلمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات تناقض المعنى فيها مفهوم الكلام، اتحاد النصرانية يعني التثليث مع ادّعاء التوحيد، و كسب النجارية، و أحوال البهشمية.(1)

و كان على الشيخ المفيد أن يعطف عليها الكلام النفسي.

و على الرغم من ذلك ففي الأشاعرة من تصدّى لتفسيره، منهم:

1. قال العضدي في» المواقف «: هو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ و نقول هو الكلام حقيقة، و هو قديم قائم بذاته تعالى، و هو غير العبارات، إذ قد تختلف بالأزمنة و الأمكنة، و لا يختلف ذلك المعنى النفسي.(2)

2. الفاضل القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد، فقال: إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه معاني يعبر عنها بالألفاظ التي يسمّيها بالكلام الحسّي، فالمعنى الذي يجده في نفسه و يدور في خلده و لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع و الاصطلاحات و يقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه، هو الذي نسمّيه الكلام النفسي.(3)

3. و قال الفضل بن روزبهان) المتوفّى عام 927 ه (في ردّه على كتاب العلاّمة باسم كتاب نهج الحقّ:

إذا أراد المتكلّم بالكلام، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر و يرتب المعاني فيعزم على التكلم بها، كما انّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتب معاني و أشياء و يقول في نفسه سأتكلم بهذا؟ فالمنصف يجد في نفسه هذا البتة.(4)

ص:282


1- - الفصول المختارة: 1292/128 ط النجف الأشرف.
2- - شرح المواقف: 8/94.
3- - شرح التجريد للقوشجي: 420.
4- - محمد حسين المظفر، دلائل الصدق: 1/146.

ما ذكره هؤلاء الأعلام أوضح شيء وقفت عليه في الكتب الكلامية للأشاعرة. و مع ذلك كلّه فما ذكروه لا يسمن و لا يغني من جوع، لأنّ التكلّم عندهم من صفات الذات و صفة التكلّم عندهم غير صفة الإرادة و العلم، و ما ذكروه من المعاني المنتظمة في النفس التي لا تختلف مع اختلاف اللغات ترجع إلى أحد الأمرين: إمّا معاني إخبارية فترجع إلى التصور و التصديق، أو إنشائية فترجع إلى الإرادة و الكراهة و نظائرهما من الترجي و التمني و الاستفهام، فعندئذ يكون الكلام النفسي من فروع العلم في الإخبار، و فروع الإرادة و الكراهة في الإنشائيات.

و بذلك أصبح الكلام النفسي بين الأحجيّة و اللغز و ما يرجع إلى العلم و الإرادة.

إلى هنا تمّ الكلام في النقطة الثانية.

الثالثة: أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي

استدلّت الأشاعرة على وجود الكلام النفسي بوجوه نذكر منها أربعة:

الأوّل: استدلّ السيد الشريف على الكلام النفسي و تبعه الفضل بن روزبهان في شرحه على كتاب » نهج الحقّ «للعلاّمة الحلي بأنّ الرجل قد يأمر بما لا يريده، كأمره للاختبار فليس فيه الإرادة و لكن يطلق عليه الأمر، و هذا دليل على وجود شيء في النفس المصحح لإطلاق الأمر عليه، و ليس هو إلاّ الطلب و هو الكلام النفسي.(1)

فهذا الدليل متضمّن لإثبات الكلام النفسي كما يتضمن تعدد الإرادة و الطلب.

و الجواب: أنّ الأوامر الاختبارية على قسمين:

ص:283


1- - شرح المواقف: 8/94.

قسم تتعلّق الإرادة فيه بنفس المقدمة، و يكون نفس الفعل غير مراد، كما هو الحال في الأمر بذبح إسماعيل، فانّ المقصود هو ترفيع إبراهيم بهذا العمل حتى يُؤثر رضا ربِّه على عواطفه النفسية، و هذا يتم بالتهيؤ للعمل من خلال الإتيان بالمقدمات و لذلك لما جاء إبراهيم بالمقدمات أُوحي إليه (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ).(1)

ففي هذا القسم نمنع عدم وجود الإرادة، بل هي موجودة متعلّقة بالمقدمة، و بذلك ينخرم الاستدلال، لأنّه مبني على عدم وجود الإرادة حتى يثبت بذلك وجود شيء آخر باسم الطلب الذي يصحِّح صدق الأمر.

و قسم آخر تتعلّق الإرادة بنفس الإنشاء دون المقدّمة و لا ذيها، و هذا كما إذا أمر الوالد ولده بالأمر لغاية تدريبه للرئاسة و تدبير الأُمور، ففي هذا المقام أيضاً الإرادة موجودة لتعلّقها بنفس الأمر بالأمر.

و بذلك ظهر أنّه ليس في الأوامر الاختيارية مورد يفقد الإرادة حتى نحتاج في تصحيح الأمر إلى شيء ثان باسم الطلب.

الثاني: انّ العصاة و الكفّار مكلّفون بما كُلّف به أهل الطاعة و الإيمان، و تكليفهم لا يكون ناشئاً من إرادة اللّه سبحانه، و إلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده، فلا بدّ أن يكون هناك مبدأ آخر للتكليف و هو الطلب. و هذا يدل على تغاير الإرادة و الطلب أوّلاً، و وجود صفة أُخرى في ذاته غير الإرادة.

و حاصل الاستدلال: أنّ الأمر في مورد العصاة و الكفّار لا يخلو من حالتين:

1. إمّا أن تكون هناك إرادة من اللّه بالنسبة إليهما.

2. أو لا تكون إرادة منه إليهما.

ص:284


1- - الصافات: 105.

فعلى الأوّل يكون هؤلاء مكلفين لكن يلزم تفكيك المراد من الإرادة، بشهادة المخالفة.

و على الثاني يلزم عدم كونهم مكلفين فلا يصحّ العقاب.(1)

فلا محيص عن القول بأنّهم مكلّفون لا بملاك الإرادة بل بملاك الطلب، و تفكيكه عن المطلوب غير ضائر.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفكيك بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية، بأنّ ما لا ينفك عن المراد هي الأُولى من الإرادتين دون الثانية، و إليك نص كلامه حيث قال:

إنّ استحالة التخلّف إنّما تكون في الإرادة التكوينية و هو العلم بالنظام على النحو الكامل التام دون الإرادة التشريعية و هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف، و ما لا محيص عنه في التكليف إنّما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية.(2)

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد في مسألة أُخرى و هي أنّ سبب الإطاعة و الإيمان هو موافقة الإرادة التشريعية من اللّه مع الإرادة التكوينية منه، فعندئذ يختار العبد الإيمان و الطاعة، و سبب الكفر و العصيان مخالفة الإرادة التشريعية مع التكوينية منه سبحانه، فالتشريعية تتعلّق بالإيمان و الطاعة، و التكوينية منه تتعلق بالخلاف فيصدر منه الكفر و العصيان.

أقول: إنّ ما ذكره ذيلاً خارج عمّا هو المطلوب في المقام و لذلك نرجئه إلى المقام الثاني الذي يأتي بعد الفراغ عن مسألة وحدة الطلب و الإرادة و تعدّدهما.

و لو كان) قدس سره (مقتصراً بما قبل الذيل لأغنانا عن الخوض في المسألة الثانية غير أنّ كلامه في الذيل جرّه إلى البحث عن الجبر و الاختيار إلى أن وصل إلى مقام

ص:285


1- - شرح المواقف: 8/95.
2- - الكفاية: 1/99.

انكسر رأس يراعه، و نحن نرجع إلى ذلك البحث بعد الفراغ من وحدة الطلب(1) و الإرادة و عدمها.

و على كلّ حال فما ذكره في الجواب غير صحيح لوجهين:

الأوّل: أنّ تفسير الإرادة في كلا الموردين بالعلم تفسير خاطئ لاستلزامه إنكار الإرادة في ذاته تقدّست أسماؤه و الفاعل الفاقد للإرادة أشبه بالفاعل غير المختار، و هو إنكار لذات جامعة لجميع الصفات الجمالية و الجلالية.

الثاني: انّ ظاهر كلامه أنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل النفس و لذلك لا تنفك عن المراد لكونها تحت اختيار النفس، و الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير، و بما أنّه خارج عن اختيار النفس ربّما تنفك الإرادة عن المراد فيريد المولى شيئاً و يريد العبد شيئاً آخر.

و لكنّه غير تام، لأنّ الإرادة لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد، و الذي هو تحت اختيار الفاعل إنّما هو أفعاله، سواء كان مبدأً للتكوين أو مبدأً للتشريع، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار الآمر فكيف تتعلق الإرادة بالخارج عن حيطة اختياره؟ و الحاصل: أنّ دراسة ماهية الإرادة يدفعنا إلى القول بأنّها لا تتعلق إلاّ بما يقع تحت اختيار المريد و هو ليس إلاّ فعل نفسه، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختياره، فكيف يطلبه و يريده من دون فرق بين أن يكون الآمر هو اللّه سبحانه أو الموالي العرفية.

نعم انّ اللّه سبحانه قادر على أن يلجئه إلى الطاعة و لكن المفروض غير ذلك و أنّ المطلوب قيامه بالفعل عن اختيار.

ص:286


1- - لاحظ ص 296.

و بهذا تبيّن أنّ جواب المحقّق الخراساني غير تام.

و الأولى في الجواب أن يقال: انّ الإرادة في كلا المقامين تعلقت بفعله سبحانه و أنّه ليس هنا أي تفكيك بين الإرادة و متعلقها، ففي القسم التكويني منها تعلقت بإيجاد العالم، فإذا قال له كن فيكون.

و في القسم التشريعي تعلقت إرادته بإنشاء البعث و انشاء الطلب و قد تحقّق الانشاء و لم يلزم منه تفكيك الإرادة عن المراد.

و على ضوء ذلك نحن نختار أنّ الكفار و العصاة مكلّفون، و ملاك التكليف إرادته سبحانه لكن ليس متعلقها أفعالهم الجوانحية و الجوارحية، بل متعلقها إنشاء البعث و الطلب و إقامة الحجة عليهم، و هو متحقّق. و يكفي هذا المقدار كونهم مكلفين.

الثالث: ما ذكره الفضل بن روزبهان، قال: إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم، و خالق الكلام لا يقال انّه متكلّم، كما أنّ خالق الذوق لا يقال انّه ذائق، فيجب أن يكون كلامه قائماً بنفسه و ذاته، و ليس هو إلاّ الكلام النفسي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به مبني على أنّ الهيئة موضوعة للدلالة على القيام الحلولي، وعليه لا يكون سبحانه متكلماً إلاّ بحلول الكلام في ذاته، و بما أنّ حلول الحروف و الجمل و الأصوات في ذاته أمر محال فالحال في ذاته هو الكلام النفسي أي المعاني المنتظمة.

و لكن المبنى غير تام، إذ قد يكفي في صدق المشتق قيام المبدأ بالذات بنحو من الأنحاء سواء كان القيام حلولياً كالحي و الميت أو صدورياً كالضارب، أو لأجل صلتها بالمبدإ كاللابن و التامر، و ليس صدق المشتقات بإحدى هذه

ص:287


1- - دلائل الصدق: 1/147.

الملابسات قياسياً حتى يقاس الذائق و الطاعم على المتكلّم و يستدل بصدق الأخير على صدق الأولين.

و يمكن أن يقال: انّ اختلاف المبادئ من حيث التعدية و اللزوم يوجب صدق بعض المشتقات عليه سبحانه دون بعض، فما كان منها متعدياً، يكفي فيه الإيجاد و الصدور، و يستند إليه سبحانه، كالقابض و الباسط و المتكلّم، و ما كان من قبيل اللازم يشترط فيه الحلول فلا يطلق عليه سبحانه كالنائم و الذائق و القائم.

ثمّ إنّ هذا الدليل يركِّز على إثبات الكلام النفسي و لا صلة له بوحدة الطلب و الإرادة أو تعدّدهما.

و مثله الدليل التالي.

الرابع: انّ الكلام كما يصحّ إطلاقه على الكلام اللفظي كذلك يصحّ إطلاقه على الكلام الموجود في النفس، كما في قوله سبحانه: (وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ )(1) فأطلق» القول « على الموجود في الذهن. و قوله سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ).(2)

و الجواب عن الآية الأُولى: انّ إطلاق القول فيها على الموجود في الضمير من باب العناية فانّ القول من التقوّل باللسان فلا يطلق على المعاني المنتظمة في النفس إلاّ بالعناية كما يقول الإنسان: إنّ نفسي صحيفة علم، و أمّا الآية الثانية فلا صلة لها بالمقام لأنّها ترجع إلى أنّ نية السوء يُحاسَب بها العبد.

و حصيلة البحث: انّ الكلام النفسي أمر باطل و ما تصوّروه من الكلام النفسي فهو في الإنشائيات من قسم الإرادة و الكراهة أو التمنّي و الترجّي أو

ص:288


1- - الملك: 13.
2- - البقرة: 284.

الاستفهام، و في الإخبار من قبيل التصوّر و التصديق، فإذا كان المبنى باطلاً فما فرّعوا عليه من تغاير الطلب و الإرادة مثله.

الرابعة: معنى كونه سبحانه متكلّماً عند العدلية
اشارة

اتّفق المسلمون على أنّ من صفاته سبحانه كونه متكلّماً و لكن اختلفوا في تفسيره إلى مذاهب أربعة:

أ. إنّه سبحانه متكلّم بمعنى حلول الحروف و الأصوات و الجمل و الكلمات في ذاته، و هو مذهب أهل الحديث.

ب. انّه متكلّم بالكلام النفسي، و هو مذهب الشيخ الأشعري الذي قام به بإصلاح عقيدة أهل الحديث، و قد زاد الطين بلّة.

ج. انّه سبحانه متكلّم بمعنى أنّه يوجد ألفاظاً في الشجر و الجبل و الحجر، و هذا مذهب المعتزلة.

د. كلامه سبحانه فعله و هو نظرية الإمامية.

قد وقفت على التفسيرين الأوّلين و ضعفهما، و إليك التفسير الثالث الذي عليه أئمّة المعتزلة.

قالوا: كلامه سبحانه أصوات و حروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي، و قد صرح بذلك القاضي عبد الجبار، فقال: حقيقة الكلام الحروف المنظومة و الأصوات المقطعة، و هذا كما يكون منعِماً بنعمة تُوجد في غيره، و رازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلّماً بايجاد الكلام في غيره، و ليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه الفعل.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تفسير التكلّم بهذا المعنى لا يختص بالمعتزلة بل

ص:289


1- - شرح الأُصول الخمسة: 528; شرح المواقف: 495.

هو شيء تقبله عامة الطوائف الإسلامية، و هذا هو شارح المواقف يقول: هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره، بل نحن نقوله و نسمّيه كلاماً لفظيّاً و نعترف بحدوثه و عدم قيامه بذاته تعالى و لكن نُثبت أمراً وراء ذلك.

و ثانياً: أنّ تفسير التكلّم بهذه الصورة إنّما يصح فيما إذا كلّم سبحانه شخصاً من أنبيائه كما في قوله سبحانه: (وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً )(1). و ليس تكليمه عندئذ منحصراً بما ذكر، بل له أقسام ثلاثة أشار إليها سبحانه في بعض الآيات، فقال: (وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ).(2)

و قد بين تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية:

1. (إِلاّ وَحْياً ).

2. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ).

3. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ).

فقد أشار بقوله (إِلاّ وَحْياً ) إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة و خفاء.

كما أشار بقوله (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) إلى الكلام المسموع لموسى) عليه السلام (في البقعة المباركة . قال تعالى: (فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ).(3)

و أشار بقوله (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسط فيه ملك الوحي، قال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ ).(4)

ص:290


1- - النساء: 164.
2- - الشورى: 51.
3- - القصص: 30.
4- - الشعراء: 193 194.

ففي الحقيقة الموحي في الأقسام الثلاثة هو اللّه سبحانه تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع، أو بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت و لا يرى المتكلّم، و أُخرى بواسطة الرسول) أمين الوحي (، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

هذا كلّه حول مذهب المعتزلة; و أمّا مذهب الإمامية فحاصله ما يلي:

مذهب الإمامية في كونه متكلّماً

مذهب الإمامية، و هو يتركب من أمرين:

أ. حقيقة كلامه إذا خاطب الأنبياء و هذا هو الذي سبق تفسيره.

ب. وصفه بالتكلّم إذا لم يكن هناك مخاطب خاص، فلا بدّ من تفسيره بوجه آخر، و هو أنّ كلامه ليس من قبيل الأصوات و الألفاظ، بل عبارة عن الأعيان الخارجية و الجواهر و الأعراض، و قد سمّى سبحانه فعله كلاماً في غير واحد من الآيات، كما سيوافيك، و تسمية الكون بعامّة أجزائه كلاماً لأجل أنّه يفيد ما يفيده الكلام اللفظي.

توضيحه: أنّ الكلام في أنظار الناس هو الحروف و الأصوات الصادرة من المتكلّم، القائمة به و هو يحصل من تموج الهواء و اهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج، زال الكلام معه، و لكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في إطلاقه، فيطلقه على الخطبة المنقولة، و الشعر المروي مع أنّ الكلام الواقعي قد زال بزوال الموجات و الاهتزازات، و ليست الخطب و الأشعار المكتوبة منها، و مع ذلك يطلق عليهما الكلام توسّعاً، و وجه التوسّع اشتراك الثاني مع الأوّل في الأثر و هو الكشف عمّا في

ص:291

ضمير الإنسان.

كما يتوسّع أكثر من ذلك فيطلقه على كلّ فعل يكشف عمّا في ضمير الفاعل من العلم و القدرة و العظمة و الكمال، غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر و الضمائر وضعيّة اعتبارية، و دلالة الأفعال و الآثار على ما عليه الفاعل من العظمة، تكوينية.

و لأجله نرى أنّه سبحانه يسمّي عيسى بن مريم كلمة اللّه و يقول: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ )(1)وجه الإطلاق هو أنّ ولادة المسيح من أُمّه من دون أن يكون هناك لقاح الذكر و الأُنثى، يعد آية من آياته و معجزة من المعاجز و كاشفاً عن قدرته و عظمته سبحانه.

و في ضوء هذا الأصل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته و يقول: (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ).(2)

و يقول سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ ).(3)

قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين) عليه السلام (في» نهج البلاغة «:

» يُخْبِرُ لا بِلسان وَ لَهَوات، و يَسْمَعُ لا بخُروق و أدوات، يقولُ و لا يَلفِظُ، وَ يَحْفَظُ و لا يَتَحَفَّظُ، وَ يُريد و لا يُضْمِر، يُحِبّ و يرضى مِنْ غَيرِ رِقَّة، وَ يُبْغِضُ وَ يغضب من غير مشقّة، يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يُقْرَع، و لا

ص:292


1- - النساء: 171.
2- - الكهف: 109.
3- - لقمان: 27.

بِنداء يُسمَع، و إنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً «.(1)

و قد نقل عنه) عليه السلام (أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان:

أ تزعم أنّك جرمٌ صغيرٌ و فيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

و أنت الكتابُ المبينُ الذي بأحرُفِهِ يَظهَرُ المُضْمَرُ

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته، و تخبر عمّا في المبدأ من كمال و جمال و علم و قدرة.

و إلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته بقوله:

لسالك نهج البلاغة انتَهَج كلامه سبحانه الفعل خَرَج

إنّ تَدْرِ هذا، حمدَ الأشيا تعرِف إن كلماتُه إليها تُضف(2)

إلى هنا تمّ البحث عن النقطة الرابعة، و حان البحث عن النقطة الخامسة و هي موقفنا من اتحاد الطلب و الإرادة.

الخامسة: موقفنا من وحدة الطلب و الإرادة
اشارة

قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى اتّحاد الطلب و الإرادة في المراحل الثلاث، أي مفهوماً و إنشاءً و مصداقاً، و لكن مقتضى التحقيق خلاف ما أفاد.

أمّا المرحلة الأُولى أي وحدتهما مفهوماً فهو غير تام للفرق بينهما بوجوه:

1. المفهوم من الطلب، غير المفهوم من الإرادة، بدليل عدم صحّة استعمال الطلب مكان الإرادة و بالعكس يقول سبحانه: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ

ص:293


1- - نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122، ط عبده.
2- - شرح منظومة السبزواري، لناظمها، ص 190.

بِكُمُ الْعُسْرَ )(1) و لكن لا يصحّ أن يقال يطلب اللّه منكم اليسر و لا يطلب منكم العسر.

قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» طلب العلم فريضة على كلّ مسلم «.(2) فلا يقوم مكانه الإرادة، بأن يقال إرادة العلم فريضة على كلّ مسلم و مسلمة.

2. تستعمل الإرادة فيما إذا كان المراد قريب الوصول غير محتاج إلى مقدمات كثيرة، بخلاف الطلب فانّه السعي الذي يكون الوصول إلى المطلوب رهن مقدّمات كثيرة.

3. الإرادة أمر قلبي جانحي، و الطلب أمر خارجي جارحيّ.

و مع هذه الاختلافات كيف يمكن ادّعاء الترادف بين اللفظين، و انّهما متحدان مفهوماً.

و أمّا المرحلة الثانية: مرحلة الإنشاء و الاعتبار فالمشكلة فيها تكمن في أنّ الأُمور الاعتبارية، بما أنّها أُمور عرفية ترجع حقيقتها إلى جعل مثال لأمر خارجي ملموس كالزوجية و المالكية، و أمّا الأُمور البعيدة عن الحسّ القائمة بالنفس كالإرادة، فلا تمس الحاجة إلى جعل فرد اعتباريّ منها حتى يسمّى بالإرادة الإنشائية أو بالترجّي أو التمنّي الإنشائيين، بل غاية ما يطلبه العقلاء في تلك الموارد، إظهارها و إبرازها.

و أمّا الطلب فلا مانع من جعل فرد انشائي يقوم مقام فرد تكويني، فانّ الإنسان ربّما يطلب خروج زيد من البيت، فتارة يقوم بالتكوين، فيأخذه بيده و يُخرجه منه، و أُخرى بإنشاء ذلك الأمر التكويني، بالإشارة باليد أو الحاجب، أو التكلّم بلفظ أخرج.

ص:294


1- - البقرة: 185.
2- - الكافي: 1/30.

و بذلك اتضح انّه ليس لنا إرادة إنشائية، و أمّا الطلب فله وجود تكويني و إنشائي، و معه كيف يمكن أن يتّحدان في مقام الإنشاء مع أنّه ليس للإرادة فرد إنشائي؟! و أمّا المرحلة الثالثة: أي عدم اتحادهما مصداقاً، فلأنّ الإرادة التكوينية من الأُمور النفسانية موطنها النفس و الطلب من الأُمور الجوارحية، موطنها الخارج عن حيطة النفس، فكيف يمكن الحكم باتحادهما؟! و بذلك تبيّن تغاير الطلب و الإرادة في المراحل الثلاث، لكن لا بالمعنى الذي عليه الشيخ الأشعري، فانّ الكلام النفسي باطل، و مع ذلك فالطلب يغاير الإرادة في عامّة المراحل.

و من آفات التحقيق قلة التتبع، و أنّ أكثر المفكرين يغترون بإبداعاتهم دون أن يتحملوا عبء التحقيق، و على ذلك فلا غرو في رمي المحقّق الخراساني النزاعَ القائم بين الأشاعرة و المعتزلة طِوال قرون على قدم و ساق، باللفظي و انّ من قال بالوحدة، فقد رام وحدة كلّ مع الآخر، مع حفظ المرحلة، فقال: إنّ كلاً منهما متحدان مفهوماً و إنشاء و مصداقاً، و من قال بالتعدد، فقد نسب الفرد الحقيقي من الإرادة مثلاً إلى الفرد الإنشائي منه، ثمّ تبجّح) قدس سره (بتحقيقه و تصليحه فقال» ثمّ إنه يمكن مما حققنا ان يقع الصلح بين الطرفين و لم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد من حديث الاتحاد، ما عرفت من العينية مفهوماً و وجوداً حقيقياً و إنشائياً، و يكون المراد من المغايرة و الاثنينية، هو اثنينية الإنشائي من الطلب، و الحقيقي من الإرادة.

و لكنّك بعد الوقوف على السير التاريخي للمسألة تقف على عدم صحّة هذا النوع من التصالح و أنّ النزاع حقيقي، كيف؟! و كان النزاع بين الطائفتين، عنيفاً، و التاريخ يعبّر عنه بمحنة أحمد و أتباعه.

ص:295

إكمال

إنّ المحقّق الخراساني لما ذكر أنّ للّه سبحانه إرادتين: تكوينية و تشريعية، و انّ ما لا ينفك عن المراد إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني، عرج على مبحث آخر من دون ملزم، و هو أنّ الإيمان رهن موافقة الإرادة التكوينية للّه سبحانه مع الإرادة التشريعية منه، كما أنّ الكفر و العصيان رهن مخالفتهما، فإذا توافقتا فلا بدّ من الإطاعة و الإيمان، و إذا تخالفتا فلا مناص من اختيار الكفر و العصيان.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا لمع في ذهنه إشكالان ذكرهما بصيغة السؤال و الجواب، نذكرهما كالتالي:

الإشكال الأوّل: فإذا كان الكفر و العصيان، و الإطاعة و الإيمان بإرادته سبحانه التي لا تتخلف عن المراد فلا يصحّ أن تتعلّق بها الإرادة لكونها خارجية عن الاختيار المعتبر في التكليف عقلاً.

هذا هو السؤال أو الإشكال.

فأجاب عنه: بأنّ تعلّق الإرادة التكوينية بفعل الإنسان لا يلازم الجبر لأنّها تعلّقت بصدور الفعل عن العبد بقيد الإرادة و الاختيار، فلو صدر عنه جبراً يلزم تخلّف إرادته عن مراده تعالى.

و بالجملة هناك أُمور ثلاثة:

الأوّل: تعلّق الإرادة الإلهيّة بفعل العبد.

الثاني: تعلّقها بصدور الفعل عنه لكن لا مطلقاً، بل عن إرادة و اختيار.

الثالث: ما يترتّب على فعل العبد من الكفر و العصيان.

و إنّما يلزم الجبر لو لم يتوسط الثاني بين الأوّل و الثالث.

الإشكال الثاني: إنّ الكفر و الإيمان و إن صدرا عن العبد بإرادة و اختيار إلاّ

ص:296

أنّ هنا أمراً آخر يُضفي على الفعل طابع الجبر، و هو أنّ كلّ ما في الكون قد تعلقت به الإرادة الأزلية و المشيّة الإلهية، و بما أنّ الإرادة جزء من صحيفة الكون، فقد تعلّقت بها الإرادة الأزلية، فيصبح وجودها أمراً حتمياً، و معه لا يكون الفعل أمراً اختيارياً.

و أجاب عنه) قدس سره (بقوله: إنّ ثمة أُموراً أربعة:

الأوّل: العقاب.

الثاني: الكفر و العصيان.

الثالث: الاختيار و الانتخاب.

الرابع: الشقاء الذاتي.

و الأوّل مسبب عن الثاني و هكذا، فالعقاب مسبب عن الكفر، و هو بدوره مسبب عن الاختيار الذي ينتهي إلى الشقاء الذاتي. و حيث إنّ الذاتي لا يعلل فلا يصحّ القول لم جعل السعيد سعيداً و الشقي شقياً. فانّ السعيد سعيد في بطن أُمّه، و الشقي شقي في بطن أُمّه. فلا مناص من دخول الكافر النار كما لا مناص من دخول المؤمن الجنة، لكون الأوّل شقيّاً بالذات و الثاني سعيداً كذلك.

و بما انّ المحقّق الخراساني لم يخرج من البحث بنتيجة باهرة بل أثار في نفس الوقت إشكالين لم يخرج من عهدة الاجابة عنهما، و هما:

1. انّ كفر الكافر متعلّق الإرادة الأزلية فلا محيص عن كفره.

2. انّ عقوبة الكافر معلول للشقاء الذاتي و لو بوسائط فلا مناص من كفره.

و كلا الإشكالين لا ينتجان إلاّ الجبر.

اعتذر عن هذه النتيجة السيئة للبحث بقوله:» قلم اينجا رسيد سر

ص:297

بشكست «أي وصل اليراع هنا و انكسر رأسه، كناية عن عدم الخروج بنتيجة صحيحة.

و هذا ما دعانا إلى عقد بحث مستقل حول الجبر و التفويض و إن كان البحث فيه استطراداً.(1)

و لو لا كلام المحقّق الخراساني في المقام لاقتصرنا على القدر الذي قدّمناه.

ص:298


1- - بما انّ هذا البحث من بحوث شيخنا الأُستاذ دام ظلّه كان بحثاً مسهباً مترامي الأطراف ننشره مستقلاً بفضل من اللّه سبحانه.

الفصل الثاني في صيغة الأمر

اشارة

و فيه مباحث:

المبحث الأوّل ما هو معنى صيغة» افعل «؟

قد خصّصنا المبحث الأوّل من مباحث هذا الفصل لبيان الموضوع له لصيغة» افعل «كما خصّصنا المبحث الثاني لبيان كيفية استفادة الوجوب و الندب منها. غير أنّ القدماء خلطوا بين المبحثين و الأولى ما صنعه صاحب الكفاية فقد فصل المبحث الأوّل عن الثاني، فنقول:

لا شكّ أنّ صيغة افعل تستعمل و يراد منها البعث تارة، و التمنّي ثانياً، كقول امرئ القيس:

ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجلي بصبح و ما الإصباح منك بأمثل

و التعجيز ثالثاً كقوله سبحانه: (وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ).(1)

ص:299


1- - البقرة: 23.

و التحقير رابعاً كقوله سبحانه: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ )(1) إلى غير ذلك من المعاني التي تراد من صيغة الأمر.

إنّما الكلام فيما هو الموضوع له لهذه الصيغة، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه وضعت لإنشاء الطلب و انّه استعمل في عامّة الموارد في هذا المعنى فلو كان هنا اختلاف فإنّما هو في الدواعي و البواعث فربّما يكون الداعي الطلب الحقيقي، و أُخرى التمنّي، و ثالثة التعجيز، و رابعة الإهانة، فهي موضوعة لانشاء الطلب بلا قيد و شرط، و مستعملة فيها في عامّة الموارد، فبما أنّ المستعمل فيه واحد في الجميع و إنّما الاختلاف في الدواعي، يوصف الجميع بالحقيقة.

لكنّه احتمل في ذيل كلامه أنّ استعمالها فيما إذا كان الداعي، هو البعث و التحريك، حقيقة و في غيره كالتمني و التعجيز مجاز، لا لأجل الاختلاف في المستعمل فيه، لأنّه واحد حسب المفروض، بل لأجل كون الوضع لإنشاء الطلب مقيّداً بما إذا كان الداعي هو التحريك لا غيره. فلأجل تخلّف شرط الوضع توصف سائر الاستعمالات بالمجازية.

يلاحظ عليه بأُمور:

1. الظاهر أنّ هيئة افعل موضوعة للبعث الإنشائي مكان البعث التكويني; كما في بعث العبد و الغلام إلى العمل، باليد، و كإغراء الكلب المعلَّم للصيد. نعم لازم البعث الإنشائي هو كون المأمور به مطلوباً و مراداً، و يدل على ذلك أنّ مفاد» افعل «مضاد لمفاد» لا تفعل «و مفاد الثاني هو زجر المكلف عن الفعل فيكون مفاد » افعل «هو بعثه نحو الفعل.

2. انّ ما احتمله في آخر كلامه بأنّ استعماله فيما إذا كان الداعي غير التحريك مجاز، غير صحيح على مذهبه، لأنّ المجاز عنده عبارة عن استعمال

ص:300


1- - آل عمران: 119.

اللفظ في غير ما وضع له، و المفروض أنّ صيغة» افعل «مستعملة في عامّة الموارد فيما وضع له أعني: إنشاء الطلب و إنّما الاختلاف في المبادي و البواعث فلا ينطبق عليه حدّ المجاز، و إنّما ينطبق عليه حدّ الغلط، لأنّ وضع الهيئة للطلب الإنشائي إذا كان مقيّداً بكون الداعي هو التحريك، يكون استعماله في الطلب الإنشائي لكن بداعي التعجيز، خارجاً عما رخّصه الواضع فيكون الاستعمال مع وحدة المستعمل فيه غلطاً نظير استعمال الابتداء الاسمي في المعنى الحرفي و بالعكس، حيث ذهب المحقّق الخراساني إلى وحدة المعنيين و انّ الاختلاف في شرط الوضع حيث شرط الواضع استعمال كلّ في الابتداء الاسمي أو الحرفي، فلو عكس يكون الاستعمال غلطاً.

و أمّا على المذهب المختار في المجاز فقد بنى شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة(1) على أنّه مجاز حيث إنّ المجاز يشارك الحقيقة في أنّه استعمال اللفظ فيما وضع له و يختلف عنه بادّعاء الفردية للمعنى الموضوع من المجاز دون الحقيقة مثل المقام حيث يدّعي المشابهة و الفردية، بين الطلب الإنشائي، و التعجيز، و التحقير، و التمنّي.

و لكنّه مدّ ظله عدل عنه في هذه الدورة فبنى على أنّه من قبيل الكنايات بداهة عدم وجود ادّعاء الفردية أو المشابهة بين البعث الإنشائي، و التعجيز و ما عطف عليه. نعم ينطبق عليه حدّ الكناية، حيث طلب من الليل، الانجلاء و من الكافر الإتيان بسورة، و أريد منه لازمه في هذه الموارد، و هو التمنّي، و التعجيز، و الإهانة و غير ذلك. و سيوافيك نظيره في الجمل الاخبارية التي أُريد منها إنشاء الحكم، كقوله:» ولدي يصلّي « و نقول إنّه من باب الكناية.

تمّ الكلام في المبحث الأوّل.

ص:301


1- - لاحظ المحصول: 1/332.
المبحث الثاني في أنّ الأمر بلا قرينة يدل على الوجوب
اشارة

هل يتبادر من صيغة الأمر، الوجوب بالوجوه الأربعة التالية أو لا؟ و يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً.

الثاني: في حمل الأمر الفاقد للقرينة على أحد المعنيين، على الوجوب بأحد الوجوه و إليك البيان:

الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً

انّ الوجوب و الندب من أقسام البعث الإنشائي، و إنّما الكلام فيما يميّز أحدهما عن الآخر فهناك وجوه مذكورة في كتب القوم.

1. الوجوب و الندب مشتركان في الطلب الإنشائي غير أنّ أحدهما مقيّد بالمنع عن الترك و الآخر مقيّد مع عدم المنع من الترك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره معنى تحليلي لهما و المطلوب تبيين المعنى المطابقي، و هذا كالماء له معنى مطابقي و معنى تحليلي يذكره علماء الكيمياء حيث يفسرونه

ص:302


1- - معالم الدين: 63، ط منشورات الرضيّ.

بأنّه سائل مركب من عنصري الأُوكسجين و الهيدروجين.

2. الوجوب هو الطلب المترتب عليه العقوبة عند المخالفة بخلاف الندب، فالاستحقاق و عدم الاستحقاق يميّز الوجوب عن الندب.

يلاحظ عليه: أنّ الاستحقاق و عدمه من آثار الوجوب و الندب، و الكلام في تبيين واقع المؤثر مع قطع النظر عن الأثر.

3. الوجوب و الندب يشتركان في البعث المسبوق بالإرادة و يختلفان في شدّة الإرادة في الأوّل و ضعفها في الثاني.

و إن شئت قلت: البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس و لا بدّ من سبق إرادة تكوينية، فالإرادة التكوينية إذا كانت شديدة و الأغراض و المصالح لازمة الاستيفاء ينتزع عنه الوجوب، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فينتزع منه الندب.

و على ذلك فالوجوب و الندب من المفاهيم البسيطة تنتزعان من طلب نابع من إرادة شديدة أو نابع من إرادة ضعيفة.

هذا كلّه هو الفرق المفهومي من حيث الثبوت، و أمّا من حيث الإثبات و انعقاد الظهور في أحد الأمرين، فيمكن استظهاره بالقرائن التالية:

1. كيفية أداء المطلب بشدّة و صلابة أو رخوة و فتور.

2. علو الصوت و انخفاضه.

3. اشتمال الأمر على نون التوكيد و عدمه.

4. الوعيد على الترك و عدمه.

هذا كلّه فيما إذا علم أحد الأمرين، و أمّا إذا كان الكلام غير مقرون بهذه القرائن، فهل يمكن أن يستفاد منها الوجوب أو الندب أو لا يستفاد واحد منهما؟

ص:303

الثاني: حمل الأمر على الوجوب إذا لم يكن قرينة

ذهب الأكثر إلى أنّها ظاهرة في الوجوب و اختلفوا في منشأ هذا الظهور إلى وجوه.

الأوّل: دلالة الهيئة على الوجوب بالدلالة اللفظية الوضعية.

يلاحظ عليه: بأنّ الموضوع له لصيغة الأمر كما مرّ هو البعث الإنشائي و ليس الوجوب داخلاً في حقيقته و لا الندب، و قد عرفت أنّها من المفاهيم الانتزاعية من الطلب المقرون بالإرادة الشديدة أو الضعيفة.

و عندئذ فكيف تدل الصيغة بالدلالة اللفظية على الوجوب؟ الثاني: انصراف الصيغة إلى الوجوب.

يلاحظ عليه: بأنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود، أو كثرة الاستعمال، و الوجوب و الندب متساويان في هذين الأمرين فقد استعملت صيغة الأمر في الندب كثيراً كما أنّ مصاديقه أيضاً متوفرة.

الثالث: انّ الوجوب مقتضى مقدّمات الحكمة، و هو خيرة المحقّق العراقي في» بدائع الأفكار «.(1)

و حاصل مرامه بتوضيح منّا: انّه إذا كان لحقيقة واحدة فردان يتوقّف تفهيم أحدهما على بيان زائد دون الفرد الآخر فيحمل بمقتضى كون المتكلّم حكيماً على الفرد الذي لا يحتاج بيانه إلى أمر زائد، مثلاً: الرقبة لها قسمان:

أ. مطلق الرقبة سواء كانت كافرة أو مؤمنة.

ب. الرقبة المؤمنة.

ص:304


1- - بدائع الأفكار: 1/214.

فإذا قيل: اعتق رقبة من دون أن يقيّد بالإيمان يحمل على القسم الأوّل، لأنّه لو كان الأوّل هو المراد لكان اللفظ وافياً بالمراد، بخلاف ما إذا كان المراد هو الثاني فاللفظ قاصر عن إفادته، فلا يكون اللفظ وافياً بالمراد، و هو خلاف مقتضى الحكمة.

و مثله المقام فانّ الوجوب هو نفس الإرادة بلا قيد، و أمّا الندب فهي الإرادة المحدودة بحدّ خاص به تكون إرادة ندبية، وعليه يكون إطلاق الكلام كافياً في الدلالة على كونها وجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلى بيان ذلك الحد، و هذا بخلاف ما لو كانت الإرادة ندبية فانّها محدودة بحدّ خاص ليس من سنخ المحدود، و لهذا يفتقر المتكلّم في مقام بيانه إلى تقييد الكلام بما يدل عليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه غير تام ثبوتاً و لا إثباتاً.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ الوجوب و الندب ينتزعان من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة أو إرادة لينة، فكلّ منهما يشتركان في البعث الإنشائي و يتميزان بقيدين، فالإرادة في الأوّل مقيدة بالشدّة، و في الثاني بالضعف، فإن قيل انّ الشدّة ليست شيئاً سوى الإرادة قلنا هكذا الضعف ليس شيئاً سوى الإرادة كما حقّق في محلّه.

و أمّا الثاني: فإذا كان كلّ واحد قسمين من مقسم واحد أي البعث الإنشائي فكلّ يتميز في مقام الإثبات بقيد و انّ العرف يتلقّى الأمر بلا قيد مساوياً للوجوب، فالوجوب هو الأمر المطلق، بخلاف الندب فهو الأمر المقيّد بجواز الترك زائد على المقسم، و إلاّ فلو اشتمل أحدهما على القيد دون الآخر لزم أن يكون القسم عين المقسم.

ص:305


1- - بدائع الأفكار: 1/214.

نعم يمكن تصحيحه ببيان يأتي عند البحث في أنّ الأمر يحمل على النفسي العيني التعييني لا على مقابلاتها، فانتظر.

الرابع: انّ دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل بمعنى أنّ العقل يرى مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الطاعة و لاستحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الأمر ندباً، و هذا معنى كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

و إن شئت قلت: إذا صدر عن المولى أمر يحكم العقل بتحصيل المؤمّن لوجوب دفع الضرر المحتمل و هو امّا الطاعة و إمّا تحصيل الحجّة على كون الأمر بالندب.

و إن شئت قلت: وظيفة المولى هي إنشاء البعث و إصدار الأمر، و أمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه، بل على العبد السعي، فإن تبيّن له أحدهما عمل على طبق ما تبين، و إلاّ عمل على مقتضى حكم العقل و هو أنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب.

فعلى هذا يحمل الأمر المجرّد عن القرينة على الوجوب ما لم يدل الدليل على كونه للندب.

إيضاح

قال صاحب المعالم: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمّة) عليهم السلام (أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها في اللفظ، لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجِّح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر، بمجرّد ورود الأمر به

ص:306

منهم) عليهم السلام (.(1) و قد أجاب المحقّق الخراساني بالنقض تارة و الحل أُخرى.

أمّا النقض: فبالعمومات الواردة في لسان الشرع حيث إنّ أكثرها خُصِّصت حتى قيل: ما من عام إلاّ و قد خصّ، مع أنّه لا يمنع من حمل العام على العموم عند عدم المخصص.

و أمّا الحل فلأنّ الاستعمال في الندب و إن كان كثيراً لكن الاستعمال لما كان مصحوباً بالقرينة فلا يوجب صيرورته مجازاً مشهوراً حتى يوجب التوقّف في حمله على الوجوب أو يرجح المجاز، الندب عليه.

يلاحظ عليه: بعدم تمامية كلا الوجهين:

أمّا النقض فلأنّ المدعى استعمال الأمر ابتداءً في المعنى المجازي أي الندب، و هذا لا ينطبق على العام المخصص، لأنّ العام قبل التخصيص و بعده مستعمل في المعنى الموضوع له، و التخصيص إنّما يرد على الإرادة الجدية لا الاستعمالية، و المقياس في المجاز كون اللفظ مستعملاً في غير الموضوع له بالإرادة الاستعمالية، فكيف يقاس الأمر المستعمل في الندب، بالعام المستعمل في العموم قبل التخصيص و بعده، و أمّا الحلّ فلأنّ صاحب المعالم يدّعي استعمال الأمر في الندب بلا قرينة، فأين هذا من الردّ عليه بأنّ الاستعمال كان مصحوباً مع القرينة.

و الأولى في الجواب أن يقال: انّ الوجوب و الندب ليس من المداليل اللفظية و إنّما هما من المفاهيم المنتزعة من البعث الإنشائي النابع عن إرادة شديدة ثبوتاً، و أمّا إثباتاً فقد عرفت أنّ لكلّ، أمارة و علامة في مقام الدلالة.

و أمّا إذا كان الكلام مجرّداً عن القرينة فقد عرفت أنّ الأمر على وجه الإطلاق موضوع لوجوب الطاعة عند العقل ما لم يعلم الإذن في الترك فليس للمكلّف ترك المأمور به باحتمال وجود الإذن في الترك، فأئمّة أهل البيت استعملوا الأمر في عامّة

ص:307


1- - المعالم: 48 49، قوله» فائدة «الطبعة الحجرية.

الموارد في البعث الإنشائي، غير أنّه دلّت القرائن تارة على الوجوب و أُخرى على الندب و إن كان أكثر، و ثالثة تجرّدت عن القرينة فيجب بحكم العقل الطاعة ما لم يدل دليل على الإذن في الترك.

و حاصل الردّ: انّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان الوجوب و الندب من مداليل الأمر لا من أحكام العقل، و على الثاني لا يترك أمر المولى بلا دليل إلاّ إذا كان هناك دليل على الترك.

ص:308

المبحث الثالث دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

ربّما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب و البعث يقول سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(1) و قال سبحانه: (وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )(2) و قال سبحانه: (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ )(3) و قد تضافرت في الروايات عنهم) عليهم السلام (في أبواب الطهارة و الصلاة و غيرهما» يغتسل «،» يعيد الصلاة «،» يستقبل القبلة «، إلى غير ذلك، فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي الطلب أو البعث، و الكلام يقع في أُمور أربعة:

أ. هل الاستعمال مجاز أو حقيقة أو كناية؟ ب. هل يلزم الكذب إذا لم يمتثل العبد؟ ج. هل الجملة ظاهرة في الوجوب؟ د. هل الجملة آكد في إفادة الوجوب من الجمل الإنشائية؟ و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

أمّا الأوّل: فلا شكّ انّها ليست بمجاز لا على مذهب المشهور و لا على المختار.

ص:309


1- - البقرة: 228.
2- - البقرة: 241.
3- - البقرة: 233.

أمّا مذهب المشهور فلأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ ابتداءً في غير ما وضع له، و أمّا المقام فالجملة الخبرية استعملت في الإخبار لا في الإنشاء فلا يكون مجازاً.

و أمّا على المختار من أنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في نفس ما وضع له لكن بادّعاء المشابهة و ادّعاء أنّ المورد من مصاديق الموضوع له. فليست الجملة الخبرية موصوفة بالمجاز، إذ ليس هناك مشابهة بين الإخبار و الانشاء، كما ليس هناك ادّعاء أنّ الانشاء من مصاديق الاخبار، و النتيجة أنّه لا ينطبق تعريف المجاز على مثل هذه الموارد، كما قلنا نظير ذلك في استعمال الإنشاء بداعي الإخبار بأنّ المستعمل فيه و إن كان البعث الإنشائي، لكنّه ليس بمجاز لا على مذهب المشهور لكون الاستعمال فيما وضع له، و لا على المختار لعدم وجود المشابهة و الادّعاء.

و أمّا كونه حقيقة فذهب المحقّق الخراساني إلى كونها حقيقة قائلاً بأنّ الجمل الخبرية في هذا المقام مستعملة في معناها، إلاّ أنّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواع أُخر.

يلاحظ عليه: بأنّ استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ليس تعريفاً تامّاً للحقيقة، بل يحتاج إلى قيد آخر و هو أن يكون الموضوع له متعلقاً للإرادة الاستعمالية و الجدية معاً، و إلاّ فلو كان المعنى الحقيقي موضوعاً للإرادة الاستعمالية فقط دون الجديّة، بل صار المعنى الحقيقي جسراً و واسطة لتفهيم المعنى الآخر فهذا ليس بحقيقة، بل يسمّى في الاصطلاح كناية، فإذا قال: زيد جبان الكلب، أو كثير الرماد، أو طويل النجاد، فالجمل الثلاثة مستعملة فيما وضعت له و لكن الموضوع له مراد بالإرادة الاستعمالية، و أمّا المراد الجدي فهو

ص:310

وصفه بالسخاء و الشجاعة، و الدليل على ذلك أنّه لو لم يكن في بيته أيُّ كلب و لا رماد و لا طول النجاد لا توصف الجمل بالكذب، لعدم استقرار الذهن على المعنى الموضوع له، بل يستقر على المعنى الثاني اللازم للمعنى الموضوع له.

و قد قلنا(1) نظير ذلك في الجمل الإنشائية المستعملة بداعي التعجيز و التمنّي و الإهانة، فهي و إن استعملت في البعث الإنشائي لكن المراد الجدّي شيء آخر و هو التعجيز و التمنّي و الإهانة، فيعد اللفظ كناية، أي ذكر الملزوم و إرادة اللازم.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل أي كونه مجازاً أو حقيقة أو كناية.

و أمّا الأمر الثاني: أي عدم لزوم الكذب فلما أفاده المحقّق الخراساني بأنّه إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار و الإعلام لا لداعي البعث، كيف؟ و إلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل زيد كثير الرماد، أو مهزول الفصيل، لا يكون كذباً إذا قيل كناية عن جوده و لو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، و إنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد.

و أمّا الثالث: أي دلالته على الوجوب فالأظهر أنّه كذلك بشهادة أنّ الجملة تكشف عن شدة رغبته بالموضوع حتى يراه في الخارج مجسّماً موجوداً، و هذا يكشف عن شدّة الرغبة و كثرة العناية بالموضوع، مثلاً انّ الرجل في مقام دعوة ابنه إلى الصلاة يقول في مجمع: إنّ ولدي هذا يصلِّي، فرغبته إلى إقامة الصلاة كانت على درجة يرى الصلاة بعينها في مستقبل أيّام الولد.

و منه يظهر الأمر الرابع من أنّه آكد كما هو واضح.

إلى هنا تمّ الكلام في المباحث الثلاثة من الفصل الثاني، و أمّا المبحث الرابع الذي عقده المحقّق الخراساني، فنحن في غنى عنه، لأنّنا أدرجنا مطالب هذا المبحث في المبحث الثالث.

ص:311


1- - لاحظ ص 301 من هذا الجزء.
المبحث الرابع التوصلي و التعبدي
و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً تسلّط أضواءً على المسألة.
الأوّل: ما ذا يقصد من التوصلي؟

يستعمل التوصّلي في موارد كلّها مصاديق من مفهوم واحد.

1. ما لا يعتبر فيه المباشرة، بل يكفي تبرّع الغير كأداء الدين، فلو قام متبرّع بأداء دين الغير كفى، و يقابله ما يشترط فيه المباشرة، كما إذا سلَّم شخص على شخص خاص فلا يسقط بجواب شخص آخر.

2. ما لا يعتبر في سقوطه الاختيار و الالتفات كتطهير البدن و الثوب من الخبث، فلو غمست الأُمّ يد الطفل في الماء لطهرت و إن كان الطفل غير مختار بل غير ملتفت، و يقابله ما يشترط فيه قصد العنوان، كعناوين المعاملات كالبيع و غيره، فلا يتحقّق البيع بلا قصد عنوانه.

3. ما لا يشترط في سقوطه تحقّقه في ضمن فرد سائغ بل يسقط في ضمن فرد محرّم، كما إذا وجب قتل الحية فيسقط الواجب و لو بقتلها بآلة مغصوبة.

و هذا لا يعني أنّ الواجب هو الفرد الأعم من السائغ و المحرّم، بل لما حصل الغرض بقتل الحية بآلة مغصوبة سقط الوجوب لانتفاء الموضوع أو

ص:312

لحصول الغرض و إلاّ فالواجب هو الكلي المتحقق في ضمن السائغ.

4. ما يحصل الغرض بمجرّد ايجاد الواجب بأيّ داع كان، و يقابله ما لا يسقط بايجاده، بل لا بدّ من إتيانه لأمره سبحانه أو لأجله، و الأوّل كدفن الميت، و الثاني كالواجبات العباديّة.

هذه الموارد الأربع يستعمل فيها كلمة التوصل فله معنى عام يشمل هذه الموارد.

و المقصود من التوصلي في المقام هو المورد الرابع، أي ما لا يشترط في سقوطه الإتيان به لأجل أمره سبحانه.

الثاني: ما ذا يقصد من التعبّدي؟

يطلق التعبّدي و يراد منه أحد الأُمور التالية:

أ. الإتيان بالواجب بقصد أمره سبحانه.

ب. الإتيان بالواجب للّه تبارك و تعالى.

ج. الإتيان بداعي التقرّب إليه سبحانه.

د. الإتيان بداعي كونه تعظيماً و تقديساً له.

ه. الإتيان بداعي المحبوبية للمولى، فيكون الداعي إلى العمل كونه محبوباً و مطلوباً للّه لا سائر الدواعي.

و. الإتيان بقصد المصلحة المعنوية المترتبة على العمل، كالتقوى في الصوم، و الانتهاء عن الفحشاء في الصلاة، قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(1) و قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ).(2)

ص:313


1- - البقرة: 183.
2- - العنكبوت: 45.

نعم لا يكفي الإتيان بالعمل لأجل المصالح الدنيوية كالصحة في الصوم و التجارة في الحجّ و الرياضة في الصلاة، لأنّ الإتيان لأجل هذه الغايات لا يضفي للعمل عنوان العبادة.

و على ضوء ذلك فالعبادة عبارة عن إتيان العمل بواحد من هذه الغايات.

الثالث: هل هناك عبادة ذاتية؟

ثمّ إنّه ربّما يتصور أنّ هناك أُموراً تعد من العبادات الذاتية، و هي التي تعدّ من مظاهر التعظيم و التقديس بين عامّة الشعوب.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ السجود لو كان عبادة ذاتية، فكيف أمر اللّه سبحانه الملائكة بالسجود لآدم، أو كيف سجد يعقوب و أولاده لولده يوسف، قال سبحانه: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ )(1) و قال أيضاً: (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ).(2)

و ثانياً: انّ كونهما من مظاهر التقديس و التعظيم إنّما هو بالجعل و الاعتبار بشهادة انّه يمكن أن يجعل الركوع أمام الشخص آية التحقير و الإهانة.

الرابع: ما هو حدّ العبادة؟

العبادة عبارة عن الخضوع بالجوارح نابعاً عن الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له، أو ربوبيته، و المراد من الأُلوهية هو الاعتقاد بأنّ المخضوع له إله العالم أو يملك شيئاً من أفعاله من الإمطار و الغفران و...، و على ذلك فالعبادة متقوّمة بعنصرين: عنصر ظاهري و هو الخضوع عملاً، و عنصر باطني و هو الاعتقاد بكون المخضوع له إلهاً أو ربّاً.(3)

ص:314


1- - الحجر: 29.
2- - يوسف: 100.
3- - لاحظ للمزيد من التفصيل كتاب مفاهيم القرآن: 1، فصل التوحيد في العبادة.

و بذلك يعلم انّ مجرد الخضوع لا يعدّ عبادة ما لم ينبع من الاعتقاد الخاص، و هو كون المخضوع له إله العالم أو ربّه.

و الشاهد على ذلك أنّ عبادة المسلمين للّه سبحانه، و عبادة المشركين للأصنام و الأوثان واجدة لهذا الشرط، فالمسلمون يعبدون اللّه تعالى بما أنّه إله العالم و ربّ العالمين و ربّ الإنسان، كما أنّ المشركين يعبدون الأوثان و الأصنام بما انّها آلهة و أرباب، و لذلك يقول سبحانه ردّاً عليهم: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا )(1) و قال سبحانه: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ )(2) و قول يوسف لصاحبيه في السجن: (أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ ).(3)

و من هنا يعلم أنّ كلّ خضوع و خشوع أمام الأنبياء و الأولياء لا تعدّ عبادة ما لم يعتبرهم الخاضع أرباباً و آلهة، بل اتّخذهم عباداً مكرمين.

و الكلام الحاسم مع من يرى كلّ تعظيم و تقديس للأنبياء و الأولياء عبادة أو دعوتهم شركاً هو أن يحدد ذلك القائل العبادة بحد منطقي فما لم تحدد به لا يمكن القضاء الحاسم، و قد علمت الحد المنطقي لها.

الخامس: التقسيم ثنائي لا ثلاثي

المعروف أنّ الواجب إمّا توصلي أو تعبّدي، و ذهب السيّد الأُستاذ إلى أنّ التقسيم ثلاثي، و ذلك أنّ ما يعتبر في ثبوته قصد القربة ينقسم إلى قسمين تعبّدي و تقرّبي، فانّ ما يؤتى به متقرّباً إلى اللّه، إمّا ينطبق عليه عنوان العبودية للّه، بحيث يعد العمل عبودية للّه سبحانه كالصلاة و الاعتكاف و الحجّ، أو لا ينطبق عليه ذاك

ص:315


1- - الأنبياء: 22.
2- - ص: 5.
3- - يوسف: 39.

العنوان، و إن كان يعد إطاعة، كالزكاة و الخمس، و يعتبر في سقوط الواجب الإتيان به للّه سبحانه، لكن لا يعدّ عبادة و عبودية، أعني ما يساوق عنوان:» پرستش «في الفارسية. و على ذلك فالأولى تبديل عنوان البحث إلى التوصلي و التقربي، حتّى يعم القسم الأخير.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على أن ترادف العبادة للفظ» پرستش «في الفارسية مع أنّه غير ثابت، فانّ للثاني ضيقاً لا ينطبق على الفرائض المالية التي يشترط في صحّتها الإتيان بها متقرّباً إلى اللّه، و لكن العبادة في لغة العرب أعمّ من ذلك اللفظ، لأنّ العبادة لغة هي: الخضوع و الخشوع و التذلّل، لكن لا مطلقاً بل الخضوع النابع من اعتقاد خاص و هو الاعتقاد بما انّه إله، أو خالق أو انّه قائم بالأفعال الإلهية، فصلاة الموحّد و صيامه عبادة، لأنّه قام بها لأجل انّ المعبود إله أو ربّ، كما أنّ خضوع المشركين أمام الوثن و الصنم كان عبادة لا لأنّ الأصنام خلاّق العالم، بل لتخيّلهم أنّه سبحانه فوّض أفعاله إليها، من المغفرة، و الشفاعة، فإذا شفعت تقبل شفاعتها من دون حاجة إلى إذنه سبحانه في الشفيع، و ارتضائه المشفوع له.

فإذا كان هذا معنى العبادة فكلّ عمل يشعر بالخضوع، و يعرب عن تعظيم الغير بما أنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه أفعاله سبحانه، يكون عبادة من غير فرق بين الصلاة و إعطاء الخمس و الزكاة. و الوقوف في عرفات و المشعر الحرام و منى، و الذبح و حلق الرأس و السعي و الطواف، فروح العبادة عبارة عن كون المحرّك، هو استشعار العظمة استشعاراً نابعة من الاعتقاد بكون المعبود خالقاً أو ربّاً أو ما يماثل ذلك من كونه مالكاً لبعض أفعاله سبحانه.

ص:316

السادس: ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي؟

إذا علم أنّ الواجب تعبدي أو توصلي يعمل به حسب ما علم، و أمّا إذا شكّ، فهل هناك أصل لفظي يثبت كونه توصلياً أو لا؟ ثمّ إذا لم يكن هناك أصل لفظي فما هو حكم الأصل العملي في المقام.

لا شكّ أنّه إذا شككنا في قيد المتعلّق يتمسك بالإطلاق كما إذا قال: اعتق رقبة، نتمسّك بإطلاق المتعلق ويحكم بعدم وجوب الإيمان، و أمّا المقام فهناك خصوصية ربّما تكون مانعة عن التمسّك بإطلاق المتعلق، فإذا قال الشارع: أقم الصلاة لدلوك الشمس، فربّما لا يمكن التمسّك، بإطلاق الصلاة لدفع الشك في اعتبار قصد القربة مثلاً، و ذلك لأنّ قيود المتعلق على قسمين:

قسم ما ينوع المتعلّق إلى قسمين كرقبة مؤمنة و رقبة كافرة، فهذا ما يسمّى من القيود الواقعة تحت دائرة الطلب، فكأنّ الطلب يقع على المتعلق مطلقة أو مقيدة.

و قسم آخر لا ينوع المتعلّق إلى قسمين، و هو عبارة عن القيود الناشئة من جانب الأمر بالمتعلّق بحيث لو لا الأمر لما يكون عن هذا القيد عين و لا أثر، و هذا كقصد الأمر في الصلاة، فالصلاة المقيّدة بقصد الأمر متقيّدة بقيد يأتي من قبل الأمر، فلولا أمر الآمر لما يوصف المتعلق بقصد الأمر، و لأجل هذا التفاوت بين القيدين صار القسم الثاني محطاً للنزاع، و انّ إطلاق المتعلّق هل يدل على كون الواجب توصلياً أو لا؟ فمن قال بإمكان أخذ هذا القسم من القيود في المتعلق قال بأنّ الأصل هو التوصلية إلاّ أن يدلّ الدليل على خلافه، و هذا خيرة الفقهاء من القدامى و المتأخّرين إلى عصر الشيخ الأنصاري.

و أمّا من قال بعدم جواز أخذه في المتعلّق، فذهب إلى أنّ الأصل هو التعبدية إلاّ أن يدل دليل على التوصلية وعليه الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني.

ص:317

أدلة القول بامتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر و إن مقتضى الأصل التوصلية
اشارة

و استدلّوا على امتناع الأخذ في المتعلّق بوجوه نذكرها تباعاً، و نقدّم ما ذكره صاحب الكفاية أوّلاً ثمّ نعرّج على ما ذكره الآخرون.

الأوّل: استلزامه التكليف بغير المقدور

إنّ أخذ» قصد الأمر «في المتعلّق يستلزم التكليف بغير المقدور، فإذا افترضنا أنّ الموضوع قبل الأمر هو» الصلاة مع قصد الأمر «فهو فعل غير مقدور قبل الأمر، فكيف يأمر بشيء غير مقدور قبله مع أنّه يشترط تعلّقه بالمقدور؟ يلاحظ عليه: أنّه يشترط كون المتعلّق مقدوراً حين الامتثال لا حين الأمر، و المفروض أنّه بعد الأمر يصير امتثاله أمراً ممكناً.

الثاني: استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه

إنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلقه، و المتعلّق هاهنا هو الشيء المقيّد بقصد الأمر، فنفس الصلاة مثلاً لا تكون مأموراً بها حتى يقصد المأمور امتثال أمرها، و الدعوة إلى امتثال المقيّد محال، للزوم كون الأمر داعياً إلى داعوية نفسه و محرّكاً لمحرّكية نفسه.

و إلى ذلك يشير صاحب الكفاية بقوله: لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها، فانّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّداً بداعي الأمر و لا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.(1)

و حاصل الاستدلال: أنّ الأمر إمّا يدعو إلى امتثال نفس الصلاة، و هي ليست متعلّق الأمر، و إمّا يدعو إلى امتثال المركب من الصلاة و قصد الأمر، و هو

ص:318


1- - كفاية الأُصول: 1/109.

يستلزم كون الشيء داعياً إلى نفسه.

و هذا الوجه غير تام بكلا شقّيه، إذ لنا أن نختار كلاً من الشقين و نجيب عنه، فنقول:

أمّا الشقّ الأوّل: فنحن نقول إنّ الصلاة بما هي هي متعلقة بالأمر و واجبة إمّا بالوجوب الغيري على القول بوجوب الأجزاء الداخلية، أو بالوجوب الضمني حسب ما ذهب إليه المحقّق البروجردي حيث يترشح من الوجوب النفسي وجوبات متعددة حسب تعدد الأجزاء، أو بالوجوب النفسي حسب المختار في باب الأجزاء الداخلية حيث إنّ الإنسان يأتي بكلّ جزء داخلي بنيّة امتثال الأمر النفسي، فإذا قال المولى: ابن مسجداً، فالمهندس أو البنّاء إنّما ينوي امتثال الأمر النفسي عند الاشتغال بالتخطيط و تهيئة مواد البناء، و حفر الأرض لنصب الأعمدة، فهذه الأعمال كلها نوع امتثال للأمر النفسي، غير أنّ هذا الامتثال يتم بنحو تدريجي. و على جميع الأقوال فالصلاة مأمور بها.

و أمّا الشقّ الثاني: فنلتزم بأنّ الأمر يدعو إلى كلا الجزءين: الصلاة، و قصد الأمر، غير أنّ داعوية الأمر إلى متعلّقه ليست داعوية تكوينية حتّى يلزم محرّكية الأمر لنفسه، بل داعوية تشريعية التي مرجعها إلى بيان موضوع الطاعة، و على ذلك فالأمر يبيّن موضوع الطاعة و هما أمران: الصلاة و قصد الأمر، و لا ضير في ذلك.

نعم لو قلنا بأنّ الأمر محرّك تكويني بالنسبة إلى المتعلّق يلزم ما ذكر، و يدل على ذلك أنّ الأمر لو كان محركاً لما وجد على أديم الأرض كافر أو عاص، بل المحرّك هو الخوف من العذاب أو الطمع في الثواب.

ثمّ إنّ» الأمر بالصلاة مقيّدة بداعي أمرها «ليس بمعنى أنّه يأتي الجزء

ص:319

الثاني» داعي أمرها «بقصد أمره، فانّ هذا التفسير غفلة عن معنى أخذ» قصد الأمر «في متعلّق الأمر، فانّ الهدف من أخذه ليس إلاّ لبيان كيفية امتثال الجزء الأوّل فقط، فإذا أتى بالصلاة بقصد أمرها فقد امتثل الأمر بالمركب من الصلاة و قصد الأمر، قهراً، و معه لا يبقى موضوع لامتثال الجزء الثاني.

و هذا كما إذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة فمن لم يكن متطهراً يكون الأمر داعياً إلى كلا الجزءين، و أمّا من كان واجداً لها فتنحصر داعويته إلى الصلاة وحدها.

و الحاصل: انّ المستدل زعم أنّ هناك واجبين يجب امتثالهما:

أ. نفس الصلاة بقصد أمرها.

ب. قصد الأمر بقصد أمره.

فيخيل إليه أنّ الإتيان بالجزء الأوّل غير كاف في صدق الامتثال، بل لا بدّ من امتثال الجزء الثاني بقصد أمره، و عندئذ يترتب عليه محذور و هو عدم إمكان إتيان الجزء الثاني بقصد أمره، و لكنّه غفل عن أنّ الواجب بالذات هو الجزء الأوّل و إنّما أخذ الجزء الثاني في الموضوع طريقاً إلى الصلاة و عنواناً لها، فإذا أتى بالصلاة مع قصد الأمر فقد حصل الجزء الثاني قهراً من دون حاجة إلى إتيانه بقصد الأمر.

الثالث: استلزامه التسلسل

و بيانه يحتاج إلى بيان مقدمة و هي:

كان المبنى في الدليل الثاني على أنّ الصلاة فاقدة للأمر، و المجموع و إن كان واجداً للأمر لكن الأمر لا يمكن أن يدعو إلى المركب لاستلزامه داعوية الأمر إلى نفسه كما تقدّم.

و لقائل أن يقول: إنّ الصلاة إنّما تفقد الأمر إذا كان الجزء الثاني شرطاً لا

ص:320

شطراً، و إلاّ فيوصف كلّ جزء بالوجوب.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أبطل هذا البيان باستلزامه التسلسل، و ذلك لما اختاره في باب اختيارية الشيء حيث ذهب إلى أنّ ملاك الاختيارية كون الشيء مسبوقاً بالإرادة، و على ضوء هذا فكلّ شيء اختياري إذا صدر عن إرادة، و أمّا الإرادة فليست اختيارية لعدم صدورها عن إرادة.

و على ضوء ذلك فالصلاة اختيارية، و قصد الأمر الذي هو عبارة أُخرى عن إرادة الأمر غير اختيارية، و لو قلنا بأنّ الجزء الثاني اختياري أيضاً يجب أن يسبق بإرادة ثالثة و هلم جراً.

و إلى هذا الدليل أشار المحقّق الخراساني بقوله:

» فانّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري، فانّ الفعل و إن كان بالارادة اختيارياً، إلاّ أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة أُخرى و إلاّ لتسلسلت ليست باختيارية.(1)

يلاحظ عليه: عدم تمامية المبنى، فانّ الملاك في اختيارية الفعل أحد أمرين: إمّا أن يكون مسبوقاً بالإرادة كما هو الملاك في الأفعال الصادرة عن الجوارح.

و إمّا أن يكون صادراً عن فاعل مختار بالذات و إن لم يكن مسبوقاً بالارادة و هذا كالأفعال الصادرة عن الجوانح مثل الإرادة، فانّها فعل اختياري لصدورها عن نفس المختار بالذات.

ثمّ إنّ الإرادة لو كانت غير اختيارية لزم عدم صحّة جعلها قيداً أيضاً مع أنّ المحقّق الخراساني خصّ الإشكال بكون الإرادة شطراً لا شرطاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان قصد الأمر غير اختياري كيف يحكم العقل

ص:321


1- - كفاية الأُصول: 1/110.

بوجوب تحصيله مع أنّ تعلق التكليف بغير المقدور أمر ممتنع سواء كان الحاكم هو الشرع أو العقل؟ إلى هنا تمّت الأدلة الثلاثة التي أوردها المحقّق الخراساني دليلاً لامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق و هي:

1. استلزام التكليف بغير المقدور.

2. داعوية الأمر إلى نفسه.

3. استلزامه التسلسل.

و قد عرفت وهن الجميع.

و هناك أدلّة أُخرى ذكرها غير المحقّق الخراساني، و إليك تفصيلها:

الرابع: استلزام الدور

إنّ الأمر يتوقف على موضوعه توقّفَ العرض على موضوعه، فلو كان قصد الأمر مأخوذاً في الموضوع، لزم الدور، لعدم تحقّق جزء الموضوع إلاّ بالأمر.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر الصادر من المولى يتوقف على تصور» الصلاة في الذهن مع قصد الأمر « و هذا لا يتوقف على صدور الأمر من المولى، بل يمكن تصوّر الصلاة مع قصد الأمر و إن لم يكن هناك أمر، و عندئذ فلا دور.

الخامس: تقدّم الشيء على نفسه

و يلوح من هذا الدليل أنّ في القول بالأخذ مفسدة الدور، و الفرق بين الرابع و الخامس، أنّ الأوّل يصر على نفس» الأمر «و انّه عرض، و هذا الدليل يصر على عنوان» القصد «في قصد الأمر و يقول:

إنّ الأخذ في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء) أي القصد (على نفسه برتبتين،

ص:322

و ذلك لأنّ قصد الأمر متأخر عن الأمر، و الأمر متأخر عن الموضوع، فينتج انّ القصد متأخر عن الموضوع برتبتين. و أخذه في الموضوع يستلزم تقدّم الشيء) القصد (على نفسه.

يلاحظ عليه: أنّه نفس الإشكال السابق، لكن ببيان آخر، و هو بيان مفسدة الدور، و الجواب أنّ المتأخر عن الموضوع هو القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى، فهما) الأمر و القصد ( متأخران عن الموضوع، إمّا برتبة) كما هو الحال في الأمر (، أو برتبتين) كما هو الحال في قصده (.

و المأخوذ في الموضوع هو مفهوم» قصد الأمر «الكلي لا القصد الخارجي المتعلّق بالأمر الواقعي الصادر عن المولى، فما هو المتأخر ليس جزء الموضوع، و ما هو جزء الموضوع ليس متأخراً.

و بعبارة أُخرى: ما هو المتأخر عبارة عن قصد الأمر بالحمل الشائع الصناعي، و ما هو المتقدّم عبارة عن مفهومه الكلي الذي ينطبق عليه قصد الأمر بالحمل الأوّلي، فالموقوف و الموقوف عليه مختلفان.

السادس: لزوم اتحاد الحكم و الموضوع

انّ ما لا يوجد إلاّ بنفس انشائه كيف يعقل أخذه مفروض الوجود في موضوع نفسه، فانّ مرجعه إلى اتحاد الحكم و الموضوع، و الأمر في» قصد الأمر «ممّا لا يوجد إلاّ بالإنشاء، و كيف يصحّ أخذه في المتعلّق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المأخوذ في الموضوع ليس نفس الحكم الخارجيّ، بل المأخوذ

ص:323


1- - هذا، هو الوجه الذي يظهر من المحقّق الخوئي في أثناء تقرير برهان أُستاذه، و لكن لا صلة له ببرهانه و إنّما هو وجه مستقل) لاحظ المحاضرات: 2/156).

مفهوم كلي، و ما هو الحكم مصداق له، و الفرق بينهما هو الفرق بين الحمل الأوّلي و الشائع الصناعي.

السابع: لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث

و حاصله: انّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق يستلزم تقدّم الشيء على نفسه في مقام الإنشاء و الفعلية و الامتثال.

أمّا في مقام الإنشاء فلأنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ و أن يكون مفروض الوجود في الخارج في مقام أخذه موضوعاً، سواء أ كان خارجاً عن اختيار المكلّف كالوقت أم داخلاً تحت اختياره كما في قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فانّ معناه انّه إذا فرض حصول عقد في الخارج يجب الوفاء به، و حينئذٍ لو أخذ قصد امتثال الأمر قيداً للمأمور به، يكون الأمر موضوعاً للتكليف و مفروض الوجود في الإنشاء، فيكون وجود التكليف مشروطاً بفرض وجود نفسه فرضاً مطابقاً للواقع، و يستلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه، و هو بعينه محذور الدور.

و أمّا في مقام الفعلية فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية موضوعه، أعني: متعلقات متعلّق التكليف، و حيث إنّ المفروض انّ نفسه هو الموضوع لنفسه و متعلّق لمتعلّقه فطبيعة الحال تتوقف فعليته على فعلية نفسه.

و بعبارة أُخرى: إذا أمر المولى بواجب مقيد بداعي أمره، ففعلية خطابه تتوقّف على فعلية موضوعه و المفروض انّ الأمر لنفسه، جزء الموضوع وعليه تتوقّف فعلية الأمر على فعلية نفسه.

و أمّا في مقام الامتثال فانّ قصد امتثال الأمر متأخر عن الإتيان بتمام أجزاء المأمور به و قيوده، و حيث إنّ من جملة الأجزاء و القيود حسب الفرض نفس قصد

ص:324

الامتثال الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذاك الأمر فلا بدّ و أن يكون المكلّف في مقام امتثاله قاصداً للامتثال قبل قصد امتثاله، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه، لأنّه بما هو جزء المأمور به مقدّم، و بما أنّ ماهية قصد امتثال الأمر عبارة عن الإتيان بالأجزاء بقصد الأمر متأخر عن الاجزاء.(1)

يلاحظ على الأوّل: بأنّ أقصى ما يلزم هو فرض وجود الشيء) قصد الأمر (قبل تحقّقه و هو ليس بمحال، و إنّما المحال وجوده واقعاً قبل تحقّقه، فما عبّر بقوله» يلزم كونه مفروض الوجود قبل وجوده و هو بعينه محذور الدور «غير تام فانّ محذور الدور هو وجوده واقعاً قبل تحقّقه لا فرض وجوده قبل تحقّقه، و شتان بينهما.

و على الثاني: فلأنّ فعلية الحكم تتوقّف على فعلية الموضوع لا بمعنى وجوده خارجاً بل بمعنى قدرة المكلّف على الإيجاد و الامتثال، و المفروض أنّ المكلّف قادر على الصلاة بقصد أمرها، و أمّا القدرة على إيجاد المتعلّق و الصلاة) بقصد الأمر (فهي موقوفة على صدور الأمر الإنشائي قبل فعلية الموضوع لا على الأمر الفعلي.

فينتج: الأمر الفعلي موقوف على القدرة على إيجاد الصلاة بأمرها، و القدرة الكذائية ليست موقوفة على الأمر الفعلي، بل على الأمر الإنشائي السابق.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال: إنّ فعلية الحكم لا تتوقف على فعلية الموضوع توقّف المعلول على علته، بل لا بدّ في حال فعلية الحكم من فعلية الموضوع و لو صار فعلياً بنفس فعلية الحكم، لأنّ الممتنع هو التكليف الفعلي بشيء لم يكن متحقّقاً بالفعل، و أمّا التكليف الفعلي بشيء يصير فعلياً بنفس فعلية الحكم فالضرورة قاضية بجوازه.

و على الثالث: فلأنّ قصد الامتثال الذي هو متأخر عن إتيان المأمور به

ص:325


1- - أجود التقريرات: 1081/107 و أوضحه تلميذه المحقّق الخوئي في المحاضرات: 2/157.

المركب من الصلاة و قصد الأمر إنّما هو قصد بالحمل الشائع الصناعي، فهو بهذا المعنى متأخر عن المتعلّق و جزئه، و أمّا المتقدّم الذي يجب على المكلف قصد امتثاله فإنّما هو قصد الأمر بمفهومه الكلي الذي يقال انّه قصد الأمر بالحمل الأوّلي.

الثامن: استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي

إنّ التكليف بالصلاة بقصد أمرها مستلزم للجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي، لأنّ الموضوع بقيوده لا بدّ و أن يكون ملحوظاً استقلالاً، و الأمر بما أنّه آلة البعث ملحوظ باللحاظ الآلي، فكون شيء مأخوذاً في ناحية الأمر و المأمور به يستلزم كونه ملحوظاً بلحاظين مختلفين.(1)

يلاحظ عليه: بما سبق من أنّ الملحوظ استقلالاً هو قصد الأمر المأخوذ في المتعلّق و هو أمر بالحمل الأوّلي، و الملحوظ آلياً هو الأمر الجزئي المتعلّق بالمتعلّق الكلي.

و الحاصل: انّ الأمر الخارجي الذي هو بعث بالحمل الشائع ملحوظ آلياً و المأخوذ في المتعلّق هو الصورة الكلية للأمر الذي لا يقال انّه حمل بالشائع الصناعي.

التاسع: التهافت في اللحاظ

لو أخذ قصد الأمر في متعلّق متعلقه يلزم منه التهافت في اللحاظ و التناقض في العلم، لأنّ موضوع الحكم متقدّم عليه في اللحاظ، و قصد الأمر متأخر عنه في

ص:326


1- - راجع نهاية الأُصول: 99.

اللحاظ، كما أنّه متأخر عنه في الوجود فيكون متأخراً عن موضوع الأمر برتبتين، فإذا أخذه جزءاً من موضوع الأمر أو قيداً فيه لزم أن يكون الشيء الواحد في اللحاظ الواحد متقدّماً في اللحاظ و متأخراً فيه، و هو في نفسه غير معقول وجداناً امّا للخلف أو لغيره.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الملحوظ متقدّماً غير الملحوظ متأخراً، فالملحوظ متقدّماً هو قصد الأمر بمفهومه الكلي، و الملحوظ متأخراً هو الأمر بالحمل الشائع، فهناك لحاظان و ملحوظان، لا انّ هناك لحاظاً واحداً لشيء واحد متقدّم و متأخر.

و ثانياً: انّ أقصى ما يترتّب عليه لحاظ الشيئين المترتبين في رتبة واحدة و هو ليس بمحال كلحاظ العلة و المعلول المترتبين في رتبة واحدة و اللحاظ خفيف المئونة، و إنّما المحال كون المترتبين في رتبة واحدة في عالم الوجود.

العاشر: وجود التسلسل في المدعو إليه

هذا الوجه، نقله المحقّق البروجردي عن أُستاذه المحقّق الخراساني، و حاصله: إذا تعلّق الأمر بالصلاة بداعي الأمر، فيسأل عن داعي الأمر و انّه إلى مَ يدعو؟ فإن دعا إلى ذات الصلاة، فهو خلف، إذ ليس له أمر و إن دعا إلى المركب أي) الصلاة بداعي الأمر (ننقل الكلام إلى هذا الداعي الثالث و هلم جراً.

و الجواب: نختار الأمر الأوّل، و انّه يدعو إلى نفس الصلاة، و القول بأنّه فاقد للأمر قد مرّ جوابه بأنّ الأجزاء مأمور بها بالأمر النفسي، و انّ من شرع في الصلاة فقد شرع بامتثال الأمر النفسي.

ثمّ نختار الأمر الثاني بأنّه يدعو إلى الصلاة بداعي الأمر، و لكن ليس معناه

ص:327


1- - بدائع الأفكار: 230.

هو الإتيان بكلّ من الجزءين بداعيه، أي الاتيان بالصلاة بداعي الأمر و الإتيان بداعي الأمر بداعي أمره، و ذلك لأنّ الجزء الثاني لما لم يكن مقصوداً بالذات، بل كان المقصود هو إتيان الجزء الأوّل بداعي أمره، فإذا أتي بالجزء الأوّل بداعي الأمر، يسقط امتثال الجزء الثاني، لأنّه لم يؤخذ على وجه الموضوعية، بل لأجل الطريقية إلى الجزء الأوّل و بيان كيفية امتثاله.

و لعمر القارئ انّ ما ذكروه من الوجوه العشرة مغالطات ظهر وجهها ممّا ذكرنا، و مقام الشيخ الأنصاري و تلاميذه و تلامذة تلاميذه أرفع من أن يعتمدوا على هذه الوجوه، خصوصاً و انّ المقام من قبيل الاعتباريات و الاعتبار سهل المئونة، فكيف يدعى فيها الاستحالة و الامتناع؟! ***

تصحيح الأخذ بأمرين
اشارة

ثمّ إنّ من قال بامتناع قصد الأمر في المتعلّق بأمر واحد حاول أن يصحح الأخذ في المتعلّق بأمرين:

أحدهما يتعلق بنفس الطبيعة

و يقول: أقم الصلاة، و الأمر الثاني يتعلّق بالإتيان بها بداعي أمرها كما إذا قال: امتثل أمر الصلاة بقصد أمرها.

و على هذا فيكون الأصل في الأوامر التوصلية، فانّ الأخذ في متعلّق الأمر الأوّل و إن كان محالاً و لكن لما كان الأخذ في المتعلق بالأمر الثاني جائزاً فعدم وجود الأمر الثاني يكشف عن عدم مدخليته فيه.(1)

و أورد المحقّق الخراساني على هذا الوجه بأنّ الأمر الأوّل إن كان يسقط

ص:328


1- - مطارح الأنظار: 60.

بمجرّد موافقته، و لو لم يقصد به الامتثال كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله، فلا يتوصل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة و الوسيلة و إن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله و إلاّ لما كان موجباً لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر، بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه فيسقط أمره.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان للمكلّف إحدى الحالتين، إمّا عالماً بالتوصلية، أو شاكّاً فيها و في التعبدية، فعلى الأوّل يسقط البحث، و على الثاني يعمل بقاعدة الاشتغال، و أمّا إذا كان المكلّف قاطعاً بأنّه توصلي قطعاً مخالفاً للواقع، أو غير ملتفت إلى أنّه تعبدي أو توصلي، فعندئذ يحتاج المولى في استيفاء غرضه إلى التوصل بالأمر الثاني فلا يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أورد على تصحيح الأخذ بإشكالين:

الأوّل: إذا كانت المصلحة قائمة بالمركّب من الصلاة و قصد الأمر، فكيف يبعث المولى عبده إلى الجزء) الصلاة (الفاقد للمصلحة؟ الثاني: انّ الأمر الأوّل لما تعلّق بالفاقد للمصلحة لا يكون إلاّ أمراً صورياً، و لا يكون قصد الأمر الكذائي مصحّحاً لكون الشيء عبادة.(2)

و الظاهر عدم تماميتهما أمّا الأوّل، فلأنّ الصلاة بما هي هي، ليست مجرّدة عن المصلحة، بل هي حاملة لبعضها.

و إن شئت قلت: تعدّ مقتضياً بالنسبة إليها، و لأجل ذلك يصحّ الأمر بها.

ص:329


1- - كفاية الأُصول: 1/111.
2- - نهاية الأُصول: 115.

نعم إنّما يمتنع إذا بعث إليها و اكتفى بالأمر الأوّل.

و منه يظهر حال الجواب الثاني، إذ ليس الأمر الأوّل صورياً بل أمر جدّي غاية الأمر على نحو الأمر بالمقتضي كما مرّ.

نعم يمكن أن يؤاخذ على تصحيح الأخذ بالأمرين بأنّ الأخذ لا يتوقف على الأمرين بل يصحّ بأمر واحد و لكن بوجهين:

الأوّل: أخذه في المتعلّق بصورة جملة خبرية بأن يقول: أقم الصلاة و يجب أن تُقيمها بقصد أمرها، فانّ أكثر الإشكالات غير متوجهة على هذه الصورة.

الثاني: أن ينهى عن الضد حتى يتعيّن الضد الآخر بأن يقول:» أقم الصلاة لا بداع نفساني «فإذا كان أحد الضدين اللّذين لا ثالث لهما منهياً عنه يتعيّن الضد الآخر أي بداع إلهي.

الإطلاق المقامي

إذا قلنا بامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق فالإطلاق اللفظي يكون منتفياً بانتفاء موضوعه، إذ ليس للمولى إمكان الأخذ للمتعلّق حتى يُستدل بعدم الأخذ على عدم الوجوب، و لكن هناك أصلاً آخر باسم الإطلاق المقامي فيتمسّك به و يستدل به على التوصلية.

و الفرق بين الإطلاقين هو أنّ الإطلاق اللفظي عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في متعلّق الحكم، فإذا سكت نستكشف عن عدم مدخليته، بخلاف الإطلاق المقامي فانّه عبارة عن كون المولى بصدد بيان كلّ ما له دخل في غرضه و إن لم يكن له دخل في المتعلّق فإذا سكت نستكشف عن عدم وجوبه.

و على ضوء ذلك فيمكن أن يتمسّك بالإطلاق المقامي على عدم مدخلية

ص:330

قصد الأمر، و حتى قصد الوجه و التمييز في الغرض، إذ لو كان له مدخلية لوجب على المولى التنبيه على مدخليته و لو ببيان خارج عن الخطاب كأن يقول بعد الأمر بالصلاة أيّها المكلّف، الواجب الذي أمرت به واجب تعبّدي لا توصّلي، فسكوته في كلّ مورد مشكوك كاشف عن عدم مدخليته في غرض المولى و عدم مدخليته في المتعلّق.

و بهذا ظهر أنّ الأصل في التعبّدية و التوصّلية هو التوصّلية، و ذلك من وجوه شتى:

أ. إمكان أخذه في المتعلّق، و قد عرفت عدم تمامية الوجوه التي استدلّوا بها على الامتناع.

ب. إمكان أخذه في المتعلّق بأمر ثان.

ج. إمكان أخذه في المتعلّق مقيّداً بجملة خبرية.

د. إمكان تفهيمه بالنهي عن ضده بعد الأمر بالشيء.

ه. إمكان التمسّك بالإطلاق المقامي و انّه لو كان له مدخلية لكان على المولى البيان.

بقي الكلام في أدلّة القائلين في أنّ الأصل هو التعبديّة.

أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة
اشارة

استدلّ القائلون بانّ الأصل هو التعبّدية بوجوه:

الأوّل: ما نقله المحقّق النائيني عن العلاّمة الكلباسي:

أنّ المولى إنّما يأمر عبده بشيء و يطلبه منه ليجعل أمره محرّكاً إيّاه نحو العمل و باعثاً له نحو المراد.

و إن شئت قلت: إنّ الغرض من الأمر، كون الأمر داعياً، فحينئذ إن أتى

ص:331

المكلّف به بداعي أمره، فقد حصل الغرض و سقط الأمر، و إلاّ فلا.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين كون الغرض من الأمر أن يكون داعياً للمكلّف إلى المأمور به، و بين كون الغرض منه هو الإتيان به بذاك القصد. و المسلّم إنّما هو الأوّل، و أمّا الثاني فيفتقر إلى دليل.

و بعبارة أُخرى: انّ الغرض من الأمر هو تعيين موضوع الطاعة حتّى يقف المكلّف على واجبه، و أمّا الإتيان لأجل أمر المولى فلم يعلم أنّه غرض الأمر.

الثاني: قوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ).

(2)

و هو يدل على حصر الأوامر الصادرة منه سبحانه في التعبّدية، حيث جاءت غاية للأمر، في قوله (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) أي ما أُمروا بشيء في مورد من الموارد من الطهارة إلى الديات إلاّ لأجل عبادة اللّه، فكانت الغاية للأمر في جميع الموارد هي عبادة اللّه، وعليه فكلّ أمر ورد في الشريعة، عباديّ، إلاّ ما قام الدليل على كونه غير عبادي، و هذا العموم متّبع إلى أن يدلّ دليل على خلافه.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية بصدد بيان حصر العبادة و الطاعة في اللّه سبحانه، لا حصر عامة أوامره في التعبّدية، و على ذلك فمعنى قوله (وَ ما أُمِرُوا ) أي ما أُمروا) في مجال العبادة (إلاّ بالعبادة الخالصة. و ليس معناه انّهم ما أمروا بشيء مطلقاً إلاّ ليعبدوا اللّه به حتى تكون الغاية من الأمر مطلقاً في تمام الموارد عبادة اللّه سبحانه، و يؤيد ذلك قوله سبحانه: (اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ )(3) فالآية ظاهرة في أنّهم ما أمروا في مجال العبادة إلاّ عبادة إله واحد لا

ص:332


1- - أجود التقريرات: 1131/112.
2- - البينة: 5.
3- - التوبة: 31.

عبادة الآلهة و لا اتخاذ الأحبار و الرهبان أرباباً من دُون اللّه.

الثالث: قوله (صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّما الأعمال بالنيّات، و إنّما لامرئ ما نوى»

(1)

أي واقعية كلّ عمل بنيّة القربة و إيجاده للّه سبحانه، فيكون المراد من النيّة، نيّة القربة، فكلّ عمل خلا عن نيّة القربة لا يُعدّ عملاً، فلا يحصل الامتثال.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على تفسير النيّة في الحديث بنيّة القربة، مع أنّه لا دليل عليه، بل المراد منه قصد العناوين التي ربّما ينطبق على العمل، كضرب اليتيم للأدب أو للإيذاء، وعليه لا يكون للروايتين مساس بالمقام.

و إن شئت قلت: إنّ اتّصاف العمل بالحسن و القبح، أو بكونه مقرّباً و غير مقرّب منوط بكيفية النيّة.

و أنّ كلّ عمل أتاه المكلّف بنيّة صالحة، يوصف بالحسن و القربة، و إلاّ فلا، و أمّا أنّ سقوط كلّ أمر يتوقّف على نيّة التقرّب إلى اللّه، و أنّه لولاها لفسد العمل فلا يدل عليه.

و في بعض الروايات: انّ اللّه لا ينظر إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم.

إلى هنا تبيّن أنّ مقتضى الأصل اللفظي هو التوصّلية إلاّ أن يدلّ دليل على كون الواجب قربياً.

مقتضى الأصل العقلي

لو افترضنا أنّه لم نخرج بنتيجة قطعية حسب الأدلة الاجتهادية فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العقلي أوّلاً و الشرعي ثانياً، فما هو مقتضى الأصل العقلي؟

ص:333


1- - الوسائل: 1، الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7.

إنّ مقتضاه هو البراءة، سواء أقلنا بإمكان أخذه في المتعلّق أم لا؟ أمّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني فلأنّ المولى و إن كان غير متمكّن من الأخذ في المتعلّق لكن يمكن أن ينبه على شرطيته بالأمر الثاني أو بالطرق التي تعرفت عليها.

لكن المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ الأصل الجاري في المقام عند الشكّ هو الاشتغال، قائلاً:

بأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب مع الشكّ و عدم إحراز الخروج عقاباً بلا بيان، ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف، تصحّ المؤاخذة على المخالفة، و عدم الخروج عن العهدة، لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة، و هكذا الحال في كلّ ما شكّ دخله في الطاعة، و الخروج به عن العهدة ممّا لا يمكن اعتباره في المأمور به، كالوجه و التمييز.(1)

توضيحه: أنّه) قدس سره (بصدد بيان الفرق بين الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، و المقام بأنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى الشكّ في السقوط دون الأوّل فانّ الشكّ فيه يرجع إلى سعة المتعلّق و ضيقه.

و أساس الفرق هو التمكّن من أخذ القيد في المتعلّق في الارتباطيين، دون المقام حيث إنّ الأخذ فيه مستلزم للمحال، و على ضوء ذلك لا ملازمة بين القول بالبراءة فيهما و القول بالبراءة في المقام مضافاً إلى أنّه) قدس سره (يعول بالاشتغال في كلا المقامين كما سيوافيك في مبحث الاشتغال.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره مبني على تقسيم الجزء إلى ما يمكن أن يكون

ص:334


1- - كفاية الأُصول: 1141/113.

مأخوذاً في المتعلّق و ما لا يمكن، فتجري البراءة في الأوّل دون الثاني.

و أمّا على المختار من أنّ جميع الشروط و الأجزاء على سنخ واحد، و انّ الكلّ يرجع إلى المتعلّق، و انّ للمولى أن يأخذ قصد الأمر جزءاً للمأمور به كالقنوت و جلسة الاستراحة، فلا يصحّ الفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من الدليل على الاشتغال في المقام ليس أمراً جديداً، بل هو دليل القائلين بالاشتغال في الأقل و الأكثر الارتباطيين في ذلك المبحث حيث قالوا: بأنّ الأمر بالأقل معلوم و نشك في سقوطه لأجل ارتباطية الأجزاء، و انّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم و نشك في سقوطه بإتيان الأقل، فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض.

فإذا كان روح الدليل في المقامين هو الشكّ في السقوط و حصول الغرض، فنقول:

إنّ تحصيل غرض المولى واجب لكن في المقدار الذي قام الدليل عليه، و أمّا ما لم يقم عليه الدليل فليس بواجب تحصيله، كما في المقام.

و بعبارة أُخرى: فالعبد مسئول أمام اللّه حسب ما أعطي من الحجة لا ما شك فيه، و الشكّ في سقوط الأمر في المقامين لاحتمال عدم حصول الغرض لا يؤثر في الاشتغال، و قد نبّه ببعض ما ذكرنا المحقّق العراقي في تقريراته، فقال:

إنّ التقريب المذكور ليس موجباً للفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين، بل هو أحد الوجوه التي ذكرت للدلالة على لزوم الاحتياط فيهما.(1)

ص:335


1- - بدائع الأفكار: 1/240.
حكم الأصل الشرعي
اشارة

قد عرفت أنّ حكم الأصل العقلي هو البراءة، و أمّا حكم الأصل الشرعي فهو أيضاً كالعقلي على ما اخترنا من إمكان أخذه في المتعلّق بطرق مختلفة، فإذا شككنا في جزئيته أو شرطيته فيكون ممّا لا يعلمون، فيرفع بحديث الرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما بنى على عدم إمكان أخذه في المتعلّق ذهب في المقام إلى عدم جريان البراءة الشرعية قائلاً:

بأنّه لا بدّ في عمومها لشيء من كونه قابلاً للرفع و الوضع، و ليس المقام كذلك، فانّ دخل قصد القربة و نحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي، و دخل الجزء و الشرط فيه و إن كان كذلك، إلاّ أنّهما قابلان للوضع و الرفع شرعاً. فبدليل الرفع و لو كان أصلاً يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه الشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فانّه علم بثبوت الأمر الفعلي و شكّ في كيفية الخروج.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على امتناع أخذه في المتعلّق مطلقاً، فعندئذ يكون دخله في الغرض تكوينياً لا جعلياً، و الأمر التكويني غير قابل للوضع و الرفع.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى وجود الفرق بين المقام و الشكّ في الجزئية و الشرطية، بعد اشتراكهما في أنّ مدخلية الجزء و الشرط أمر عقلي، و لكنّه في غير قصد الوجه قابل للرفع و الوضع، فلأجل ذلك يشمله حديث الرفع بخلاف المقام.

ص:336


1- - كفاية الأُصول: 1161/114.
نقل كلام عن المحقّق العراقي

إنّ المحقّق العراقي تابع المحقّق الخراساني في عدم جريان البراءة الشرعية، و أيّده بوجهين، لكن مبنى الوجه الأوّل غير مبنى الوجه الثاني.

فالأوّل منهما مبني على عدم جريان البراءة العقلية.

كما أنّ الوجه الثاني مبني على القول بعدم إمكان أخذه فيه بأمر واحد و إمكان أخذه بأمرين، و لو لا التوجّه إلى أنّ لكلّ وجه مبنى خاصاً لانقلب كلامه إلى ألغاز.

أمّا الأوّل فقال:

أمّا الوجه الأوّل فمحصّله أنّ ملاك البراءة النقلية هو كون الأمر المشكوك فيه إذا لم يبينه المولى كان ناقضاً لغرضه، و مورد الكلام ليس كذلك، فانّ القيد المزبور على فرض كونه مراداً للمولى لا يكون ناقضاً لغرضه إذا لم يبينه لكفاية حكم العقل بلزوم الإتيان به في مورد الشكّ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض، و إذا كان المورد كذلك لا يكون مجرى للبراءة النقلية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ حكم العقل بالاشتغال حكم في مقام الشكّ، و ليس حكماً واقعياً، فكم فرق بين الحكم بحسن العدل و قبح الظلم فلا يمكن للشارع نقضه و بين حكمه بالاشتغال في المقام في مقام الشكّ، فعندئذ يكون حكم الشارع بالبراءة النقلية بما انّه حكم مولوي رافعاً لحكم العقل.

و أمّا الوجه الثاني: انّ جريان البراءة النقلية عن وجوب قيد الدعوة بنحو الأمر الثاني، لا يثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل هو تمام المطلوب إلاّ على القول بحجّية

ص:337


1- - بدائع الأفكار: 1/243.

الأصل المثبت، ضرورة أنّ نفي الوجوب من متمم الجعل، و إثبات انّ الباقي واف بالغرض بالأصل المذكور من أظهر مصاديق الأصل المثبت، بخلاف ما لو قلنا بإمكان أخذ قيد الدعوة و نحوه في متعلّق الأمر الأوّل فانّه عليه يرجع الشكّ إلى انبساط الأمر على الجزء أو القيد المشكوك في دخله، فإذا جرت البراءة في انبساط الأمر عليه و تعلقه به استفدنا أنّ باقي الأجزاء هو تمام المأمور به في نظر العرف و ليس ذلك من المثبت لخفاء مثل هذه الواسطة في نظر العرف.(1)

و حاصله: انّه لو قيل بإمكان الأخذ بأمر واحد تثبت أصالة البراءة الشرعية انّ المأتي به تمام الموضوع، و أمّا على القول بعدم إمكان أخذه بأمر واحد و إنّما يمكن بأمر ثان، فنفي الأمر الثاني بالبراءة و بالتالي نفي التعبدية لا يثبت كون المأتي به تمام الواجب.

يلاحظ عليه: بأنّ الالتزام بوجوب العلم بكون المأتي به تمام المأمور به من قبيل الالتزام بما لا يجب الالتزام به، إذ ليس الواجب إلاّ عنوان الصلاة لا عنوان تمام المطلوب حتى يجب إحرازه، بل يجب إحراز ما قامت عليه الحجّة سواء أ كان تمام المأمور به أو لا.

إلى هنا خرجنا عن هذا البحث الضافي بالنتائج التالية:

1. انّ مقتضى الأصل اللفظي في التوصلية و التعبدية هو التوصلية.

2. انّ مقتضى الأصل العقلي و الشرعي عند عدم الدليل كالإطلاق و غيره على التوصلية، هو التوصلية.

3. انّ المعتبر في صحّة الواجب هو الإتيان به للّه سبحانه، و لا يعتبر الإتيان به لأمره سبحانه.

ص:338


1- - بدائع الأفكار: 1/244.

إنّ هذا البحث مبنيّ على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان لأمره، و أمّا على القول بأنّ ملاك العبادة هو الإتيان للّه سبحانه فالبحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

ص:339

المبحث الخامس في دوران صيغة الأمر بين كونه نفسياً، تعيينياً، عينياً، و ما يقابلها
اشارة

إذا دار أمر الصيغة بين كونه نفسياً أو غيرياً، كما إذا قال: اغتسل للجنابة، و احتمل كونه واجباً بنفسه أو غيرياً واجباً للغير كالصلاة و الصوم.

أو دار أمرها بين كونه تعيينياً أو تخييرياً، كما إذا قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ )(1) و دار بين كونه واجباً تعيينياً لا يسقط بالإتيان بشيء آخر، أو تخييرياً ساقطاً بفعل الظهر أيضاً.

أو دار أمرها بين كونه عينيّاً أو كفائياً كما إذا قال: قاتل في سبيل اللّه، و دار أمره بين كونه واجباً عينياً و واجباً عليه في جميع الحالات قام به الآخر أو لا، أو كفائياً ساقطاً إذا قام به الآخر.

فالمعروف في جميع الصور الثلاث هو الحمل على النفسي التعييني العيني، غير أنّهم اختلفوا في وجه ذلك بعد الاتفاق على أصل الحمل، و قد ذكروا في المقام وجوهاً.

ص:340


1- - الجمعة: 9.
الوجه الأوّل: الحمل مقتضى الإطلاق

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الحمل مقتضى إطلاق الصيغة قال: مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً، تعيينيّاً، عينياً، لأنّ الوجوب في مقابلاتها مقيّد بقيد، و مضيقة دائرته به، فإذا كان في مقام البيان و لم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كون الوجوب مطلقاً، وجب هناك شيء آخر أو لا، أتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا.(1)

و حاصله: انّ الوجوب في الثلاثة الأول، مطلق، و في مقابلاتها مقيّد، فإذا لم يأت بالقيد مع كونه في مقام البيان، يؤخذ بإطلاقه و يحمل على كونه نفسياً تعيينياً، عينيّاً.

و أورد عليه السيّد الأُستاذ: بأنّ كلاً من القسمين، من أقسام الوجوب، يمتاز عن المقسم بقيد، و لا معنى لأن يكون أحد القسمين مقيّداً دون الآخر، و إلاّ يلزم أن يكون القسم عين المقسم، و إليك بيان قيد كلّ واحد من القسمين:

الواجب النفسي ما وجب لنفسه.

و الغيري ما وجب لغيره.

الواجب التعييني ما وجب و إن أتى بشيء آخر.

و التخييري ما وجب إذا لم يأت بشيء آخر.

الواجب العيني، ما وجب و إن أتى به شخص آخر.

و الكفائي ما وجب إذا لم يأت به شخص آخر.

و على ضوء ذلك يكون كلّ واحد منهما في مقام التحديد مشتملاً على قيد زائد على نفس البعث و لو من باب زيادة الحدّ على المحدود، وعليه تصير النفسية

ص:341


1- - كفاية الأُصول: 1/116.

مباينة للغيرية، لا تتعين إلاّ بدال آخر، فلو كان هناك قرينة على أحد الطرفين فهو، و إلاّ يصير الكلام من هذه الجهة مجملاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح إذا لوحظ كلّ من القسمين برؤية عقلية، فلكلّ، قيد يمتاز به عن المقسم و القسم الآخر، و أمّا إذا لوحظ برؤية عرفية فالعرف يرى الوجوب النفسي، نفس الوجوب بلا قيد، و هكذا الآخران، من دون أن يزيد على الوجوب بشيء، و ذلك لأنّ القيد في الواجب النفسي، أعني قوله:» ما وجب لذاته أو لنفسه «ليس شيئاً زائداً على أصل الأمر، بل هو تأكيد له، فلا يتلقّاه العرف أمراً زائداً على أصل الوجوب و إن كان في نظر العقل قيداً زائداً.

و به يتبين حال الأمرين الآخرين، فانّ تفسير التعييني» بما وجب و إن أتى بشيء آخر «، و تفسير العيني » بما وجب و إن أتى به آخر «، ليس قيداً زائداً على الوجوب، بل هو تفسير لإطلاق الوجوب وسعته و انّه غير محدد و لا مقيّد، و واجب في كلتا الحالتين، وعليه يكفي في بيانه السكوت بخلاف القيد في الأقسام الثلاثة، فانّه تحديد للوجوب و تضييق له فلا يكفي في بيانه السكوت، بل لا بدّ من التكلّم به، فإذا سكت يحمل على الفرد الذي يكون إطلاق الوجوب كافياً في بيانه و إفادته.

و بعبارة أُخرى: انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم، و يكون وافياً بإفادة المقصود، فلو أُريد النفسي و نظيره، فالوجوب المطلق من غير قيد باللفظ واف بإفادة المراد، و إن أُريد المقيّد، فالتعبير غير واف، و قد عرفت انّ النفسي و التعييني و العيني، نفس الوجوب المطلق في منظر العرف لا تزيد عليه بشيء في ذهنه. و كأن العرف يتلقى السكوت وافياً ببيان الثلاثة الأول، دون الثلاثة الأُخر.

ص:342


1- - تهذيب الأُصول: 1/167.
الوجه الثاني: الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية

قد عرفت أنّ أمر المولى، تمام الموضوع لوجوب الطاعة و العلم بالخروج عن العهدة، و لا يصحّ له ترك المأمور به باحتمال كونه مندوباً، فلا يترك أمر المولى بلا جواب، و الجواب إمّا العلم بكونه مندوباً و إمّا الإتيان بالمأمور.

و على ضوء ذلك يجب أن يحمل على كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً، إذ على هذا الفرض يقوم بامتثال الأمر في جميع الأحوال و لا يترك أمر المولى بلا جواب بخلاف ما إذا حمل على مقابلاتها فحينئذ يصحّ له ترك المأمور به باحتمال انّه واجب مقدّمي بشيء لم يجب بعد، أو واجب تخييري أتى بعدله، أو كفائي أتى آخر به، و من المعلوم أنّ ترك المأمور به بهذه الاحتمالات ترك بلا عذر قاطع و جواب حاسم.

الوجه الثالث: المختص بمورد التعييني و العيني

إنّ الوجوب في الواجب التخييري متعلّق بعنوان انتزاعي و هو أحد الفعلين أو الأفعال كما أنّه في الواجب الكفائي متعلّق بأحد المكلّفين، فلو أتى المكلّف بأحد الأعدال أو قام به أحد المكلّفين فقد امتثل الحكم، لكون المأتي به موافقاً للمأمور به، و على هذا فمقتضى الإطلاق كون الواجب تعيينياً عينياً، و ذلك لأجل أنّ الفرق بين الواجب التعييني و التخييري هو أنّ الواجب في الأوّل هو الجامع الحقيقي و العنوان المتأصّل المنطبق على مصاديقه انطباقاً ذاتياً و يكون لنفس العنوان مدخلية في الحكم، مثل قوله:» صلّ «و يكون المكلّف مخيّراً بين مصاديقه الذاتية في مقام الامتثال، و أمّا الواجب في الثاني، فالواجب فيه هو العنوان الانتزاعي و الجامع غير المتأصّل، و المكلّف مخيّر بين مصاديقه كعنوان أحد الفعلين

ص:343

أو أحد الأفعال، و لا مدخلية للعنوان في ثبوت الحكم، إلاّ أنّه اتخذ وسيلة لبيان ما هو الواجب، و تعلّق الإرادة و العلم بهذه العناوين، بمكان من الإمكان فضلاً عن تعلّق الحكم الذي ليس إلاّ أمراً اعتبارياً.

فإذا قال المولى:» أطعم «فظاهر البيان مدخلية ذاك العنوان، بما هو هو، في الحكم، لا بما أنّه أحد أفراد العنوان الانتزاعي، و لو كان المتكلّم في مقام البيان، و كان الواجب تعيينياً لكفى البيان المزبور، بخلاف ما إذا كان تخييرياً، فانّه يكون البيان ناقصاً غير واف.

و بذلك يعلم حال التردد بين العيني و الكفائي، فانّ مردّ التردد إلى أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين، فانّ ظاهر الخطاب أنّه متوجّه إلى شخصه أو إلى عنوان ذاتي كالمستطيع الذي هو من مصاديقه، و هذا بخلاف ما إذا كان واجباً كفائياً فالخطاب فيه ليس متوجّهاً إلى شخص المكلّف و لا إلى عنوان ذاتي، بل إلى عنوان انتزاعي كأحد المكلّفين.

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره مبني على تفسير الفرق بين التعييني و التخييري أو العيني و الكفائي بما ذكر، و سيوافيك عدم صحّته و انّ التعلق في الجميع بنحو واحد. و إنّما الاختلاف في سنخ الوجوب، لا في متعلقه على النحو الذي مرّ.

هذا كلّه حول الأصل اللفظي، و أمّا مقتضى الأصل العملي فقد فرّقه الأُصوليون المتأخرون فبحثوا عن مقتضى الأصل فيما إذا دار بين النفسي و الغيري في مبحث وجوب المقدمة، و عن الأمرين الأخيرين في مبحث البراءة و الاشتغال.

ص:344

المبحث السادس الأمر عقيب الحظر أو توهمه

لو قلنا بإفادة صيغة الأمر الوجوب وضعاً أو إطلاقاً أو لأجل حكم العقل، فهل الأمر كذلك إذا وقع عقيب الحظر أو توهمه؟ و إليك بعض الأمثلة:

1. قال سبحانه: (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ ) و قال بعد النهي (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ )(1) فالحظر و النهي في آية واحدة.

2. قال سبحانه: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ )(2) أي غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامها.

و جاءت الآية الثانية بالأمر بالاصطياد بعد الاحلال، و قال: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ).(3)

فما هو مفاد الأمر بعد النهي أو توهمه؟ و هناك أقوال:

أ. فمن قائل بظهورها في الاباحة.

ب. إلى آخر قائل بظهورها في الوجوب.

ج. إلى ثالث بتبعية حكم الموضوع لما قبل النهي إذا علّق الأمر بزوال علّة

ص:345


1- - البقرة: 222.
2- - المائدة: 1.
3- - المائدة: 2.

النهي، كما قال: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ).

د. إلى رابع بإجمال الكلام لاكتنافه بما يصلح للقرينية، فالمرجع بعد الإجمال هو الأُصول العملية كما هو مختار المحقّق الخراساني و هو الأقوى.

وجه ذلك: هو ما عرفت من أنّ دلالة الأمر على الوجوب تدور على أحد محاور ثلاثة:

1. دلالة الصيغة على الوجوب بالدلالة اللفظية.

2. دلالتها على الوجوب من باب الإطلاق، و هو أنّ البعث المطلق يساوق الوجوب، بخلاف الندب، فانّه يحتاج في إفادته وراء البعث إلى قيد زائد، و قد مرّ نظير ذلك في دوران الأمر بين النفسية و الغيريّة فلو أراد الوجوب، يكون اللفظ وافياً ببيانه، بخلاف الندب.

3. دلالتها على الوجوب، من باب حكم العقل و العقلاء، بأنّ أمر المولى لا يُترك بلا جواب، و ليس للعبد ترك المأمور به باحتمال كون الطلب مندوباً.

و على أيّ وجه من هذه الوجوه الثلاثة، اعتمد في استفادة الوجوب، فهو غير جار في المقام.

أمّا على الوجه الأوّل، فانّ استعماله في الوجوب حقيقة و في غيره مجاز، فإذا دار مفاد الصيغة في قوله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ) بين الحقيقة و المجاز فلا يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة لأنّها إنّما تجري إذا لم يكتنف الكلام بمحتمل القرينية كما في المقام حيث إنّ تقدّم النهي ربّما يصلح أن يكون قرينة على أنّ الأمر لبيان الترخيص و رفع الحظر، لا لزوم الامتثال.

و منه يظهر حال الوجه الثاني، فانّ الأخذ بالإطلاق رهن تمامية مقدّمات الحكمة أعني كون المتكلّم في مقام البيان، و عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب،

ص:346

و فقد ما يصلح للقرينية، فثبوت الإطلاق، المساوق للوجوب، فرع عدم وجود ما يصلح للقرينية، لكن النهي المتقدّم يصلح لها و انّ المراد من الأمر، هو نقض النهي و الحظر لا البعث الجدّي إلى المتعلّق.

أمّا على المذهب المختار فهو أيضاً كذلك، لأنّ الموضوع لوجوب الطاعة، هو الأمر، غير المكتنف بما يصلح لأن يصرفه إلى أنّ المقصود رفع الحظر المحقق، أو المتوهم و ليس هذا الاحتمال، نظير احتمال إرادة الندب من الأمر المطلق، غير المكتنف بما يصلح للقرينية، إذ لا إجمال فيه، و لا يكون الاحتمال المجرّد عذراً في ترك المأمور به، بخلاف المقام.

و من ذلك يعلم، أنّ أقوى الأقوال هو القول بالإجمال و الرجوع إلى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي فوقهما و إلاّ فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي و هذا كما في مورد المرأة الحائض.

فقد ورد مفاد النهي في قوله سبحانه (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ).

و ورد الأمر بعده عند زوال ملاك النهي و قال: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) و لاحتفاف الأمر بما يصلح للقرينة، يصبح الأمر مجملاً غير دال إلاّ على حكم شرعي مردد بين الأحكام الأربعة.

و لكن لما كان في المقام تشريع فوقاني دال بإطلاقه الأحوالي على حكم الزمان الذي ورد فيه الأمر، يكون هو المرجع، أعني قوله سبحانه: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ )(1) فهو بإطلاقه يعم حال المحيض و الطهارة، خرج عنه الأوّل، و بقي الباقي تحته، و يكون الحكم الشرعي هو الإباحة الشرعية.

ص:347


1- - البقرة: 223.
المبحث السابع دلالة الأمر على المرّة و التكرار
اشارة

و لنقدّم أمام البحث أُموراً:

الأوّل: فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين

إنّ البحث في دلالة الأمر على المرّة و التكرار مركّز فيما إذا لم يدل دليل خارجي على أحد الأمرين كالتكرار في قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(1) أو المرّة في الأمر الوارد في الحج في الروايات الذي يعبر عنه قوله سبحانه: (لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).(2)

الثاني: في تحرير محلّ النزاع

هل النزاع في دلالة المادة، أو الهيئة أو مجموعهما على أحد الأمرين؟ وجوه، ذهب صاحب الفصول إلى أنّ محلّ النزاع في دلالة الهيئة لا في المادة، لإجماع أهل الأدب على أنّ المصدر المجرّد من اللام و التنوين لا يدلّ إلاّ على صرف الطبيعة.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّه إنّما يتم إذا كان المصدر هو مبدأ المشتقات، و ليس كذلك، بل هو أحد المشتقات، فعدم دلالته لا يدل على عدم

ص:348


1- - الإسراء: 78.
2- - آل عمران: 97.

دلالة مبدأ المشتقات عليهما.

يلاحظ عليه: أنّ عدم دلالة المصدر، يكشف عن عدم دلالة مادة المشتقات على أحدهما، لاشتراك المصدر مع سائر المشتقات في مادتها، فإذا كان المصدر مادة و هيئة غير دالّ إلاّ على نفس الطبيعة فينتج أنّ مادة المشتقات مطلقاً في أي واحد منها لا تدل على أحدهما لوجود مادتها في المصدر بلا تغيير.

الثالث: الفرق بين الدفعة و المرة و...

الفرق بين الدفعة و الدفعات و المرّة و التكرار، هو أنّ الملاك في الدفعة و الدفعات، هو وحدة الحركة و تعددها، و لكن الملاك في الثاني، هو وحدة المصداق للطبيعة و كثرته.

و على ضوء ذلك ربّما يجتمع الدفعة مع التكرار كما إذا أتى العبد بإناءين مملوءين من الماء فقد امتثل دفعة، و لكن بفردين مكررين، و على كلّ تقدير فكلّ من المعنيين قابل لأن يقع محلّ النزاع.

و تظهر الثمرة فيما لو قلنا بدلالته على المرّة بمعنى الدفعة، إذ يكون الإتيان بفردين دفعة، مجزياً و واقعاً، تحت الأمر بخلاف ما لو فُسرت بالفرد، فيضرّ تعدد الفرد و إن كانت الحركة واحدة.

ثمّ إنّ صاحب الفصول أصرّ على أنّ المراد من المرّة و التكرار هو الدفعة و الدفعات لا الفرد و الأفراد، قائلاً بأنّه لو كان المراد، هو الفرد و الأفراد، لكان الأنسب جعله ذيلاً للبحث الآتي في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد، فلو قلنا بالثاني، يلزم أن يبحث بأنّ المدلول هل هو الفرد الواحد أو الأكثر أو لا واحد منهما؟ و أمّا لو أُريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين.

ص:349

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا علقة بين المسألتين سواء أُريد من المرّة و التكرار، الدفعة و الدفعات، أو أُريد منهما، الفرد و الافراد.

و ذلك لأنّه إنّما يصحّ جعل هذه المسألة ذيلاً لمسألة تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد، إذا أُريد من الطبيعة في عنوان المسألة الثانية: تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد، الطبيعة بما هي هي، فبما انّه لا يتصوّر في الطبيعة بهذا المعنى، الفرد و الأفراد، فتصبح دلالة الأمر على الفرد و الأفراد، ذيلاً للشق الثاني من تلك المسألة و يقال: فعلى القول بتعلّقها بالفرد، فهل يتعلّق بفرد واحد، أو أفراد؟ و لكن تفسير الطبيعة بالمعنى المذكور في عنوان المسألة الثانية، خاطئ جداً، لأنّها بما هي هي ليست محبوبة و لا مبغوضة، فكيف يتعلّق بها الأمر؟ بل المراد منها في عنوان المسألة الوجود السعي بلا لحاظ المشخصات، و عندئذ وقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر، هل وجود الطبيعة بوجودها السعي من دون أن يكون للمشخصات دور في المطلوب أو انّ متعلقها وجود الطبيعة مع مشخّصاتها الفرديّة، مثلاً إذا قال: اسقني بالماء فجاء بالماء في إناء بلّور، فهل المتعلق إحضار الماء بوجوده السعي، سواء أ كان في إناء بلور أو نحاس أو غيره من دون نظر إلى تلك الخصوصيات، أو أنّ المتعلّق هو تلك المشخصات مضافاً إلى وجود الطبيعة.

فإذا كان هذا معنى النزاع في تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد، يصحّ النزاع في أنّ الأمر يدل على المرّة و التكرار بمعنى الفرد و الافراد على كلا القولين، و أمّا على القول الأوّل أي تعلقه بالطبيعة بمعنى الوجود السعي، فيقع النزاع في دلالة الأمر على الوجود الواحد لها أو الوجودات الكثيرة، و أمّا على القول الثاني فواضح لا يحتاج إلى بيان.

فاتضح أنّ البحث عن المرّة و التكرار سواء فسّرنا بالدفعة أو الدفعات أو

ص:350

بالفرد و الافراد، مسألة مستقلة فيصحّ النزاع في دلالة الأمر على المرّة و التكرار بكلا المعنيين، فليست المسألة، ذيلاً للقول الثاني في مسألة متعلق الأمر، فلاحظ.

*** إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الحقّ عدم دلالة الصيغة على واحد من الأمرين، لأنّ الدالّ إمّا الهيئة فهي موضوعة للبعث و الاغراء، أو المادة و هي موضوعة للطبيعة بما هي هي من دون تقيّد بالوحدة أو الكرة، فأين الدال؟! و أمّا الاكتفاء بالمرة فلأجل حصول الامتثال بها عقلاً، لا من باب دلالة الصيغة عليها لفظاً.

نعم يمكن القول بأنّ المرّة مقتضى الإطلاق بالبيان الذي مرّ في كون الوجوب أو النفسية مقتضى إطلاق الأمر، فلاحظ.

بقي هنا شيء و هو انّه على المختار من عدم الدلالة على واحد من المرّة و التكرار، لو امتثل المكلّف بالاتيان بعدة افراد من الطبيعة دفعة واحدة، كما إذا قال المولى: أكرم عالماً فأكرم عدّة منهم دفعة، فهل هو يعد امتثالاً واحداً أو متعدّداًً؟ ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى القول الثاني قائلاً بأنّ الطبيعة تتكثر بتكثر أفرادها، و كلّ فرد من الأفراد محقّق للطبيعة، و لما كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة و التكرار فحينئذ إذا أتى المكلف بأفراد متعددة فقد أوجد المطلوب أي الطبيعة بايجاد كلّ فرد، و يكون كلّ فرد امتثالاً برأسه كما أنّه موجود برأسه.

و من هذا القبيل الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة و يكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها فلو أتى واحد منهم بها سقطت عن الباقي

ص:351

و لا مجال للامتثال ثانياً، و لو أتى عدّة منهم بها دفعة يكون كلّ واحد منهم ممتثلاً و تتحقق امتثالات لا امتثال واحد من الجميع.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ فيه خلطاً بين تعدد الطبيعة و تعدد الامتثال، أمّا الأوّل فلا شكّ فيه، لأنّ كلّ واحد من المصاديق و الافراد، محقق للطبيعة فزيد إنسان تام، و عمرو إنسان تام آخر كما أفاده الشيخ الرئيس في تحقيق أنّ وجود الطبيعة في الخارج بمعنى وجود أفرادها.

و أمّا الثاني: انّ تعدد الامتثال فهو رهن تعدد الطلب و البعث، حتّى يعدّ امتثال كلّ بعث امتثالاً مستقلاً، لكن المفروض عدمه حيث إنّ هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالطبيعة غير المقيّد بالمرة و التكرار، و معه كيف يتعدد الامتثال؟ و ليس الأمر بإكرام العالم، كالأمر بإكرام العلماء، حيث إنّ الأمر في الثاني ينحلّ إلى أوامر حسب عدد المصاديق و لكلّ امتثال، بخلاف الأوّل، فهو أمر واحد، متعلّق بالطبيعة المطلقة غير المقيّدة، و معها يكون البعث مثلها واحداً، كما يكون الامتثال أيضاً واحداً.

و بما ذكرنا يعلم الفرق بين المقام و الواجب الكفائي حيث إنّ البعث هناك متعدد حسب تعدد الأفراد، فالكلّ مأمور بتجهيز الميت و مواراته لكن لو أتى به فرد منهم سقط عن الباقي لارتفاع الموضوع أو غيره و على ضوئه لو أتى به عدّة دفعة واحدة يعد الجميع ممتثلاً، لقيام الكلّ بالخطاب الموجَّه إليه.

ص:352


1- - لمحات الأُصول: 84
المبحث الثامن في دلالة الأمر على الفور أو التراخي و عدمها
اشارة

إنّ الواجب ينقسم إلى قسمين: موسّع و مضيّق. فالأوّل ما لا يكون مقيّداً بالزمان، كأداء الدين غير المؤجّل بأجل، أو يكون الزمان المضروب على الفعل أوسع منه، و يكون المكلّف مخيّراً في امتثاله بين الزمن الأوّل و الثاني. كصلاة الظهر بالنسبة إلى وقتها.

و أمّا الثاني، فعلى أقسام:

الأوّل: ما يكون محدوداً من حيث الزمان، لا يجوز تقديمه و لا تأخيره، كالصوم الواجب في شهر رمضان.

الثاني: ما يجب فوراً، و يسقط وجوبه فضلاً عن فوريته لو أخّر. كردّ السلام، فلو لم يردّ، عصى، و سقط الوجوب.

الثالث: ما يجب فوراً، و لو عصى لسقطت فوريته لا أصله، كصلاة الزلزلة: فلو عصى و أخّر، سقطت فوريتها لا أصل وجوبها.

الرابع: ما لا يسقط أصل وجوبه و لا فوريته إذا عصى، و لكن يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً، كقضاء الفوائت.

و هذا التقسيم حسب الثبوت. و إليك الكلام حسب الإثبات. فهل الأمر يدلّ على كونه مضيّقاً أو موسّعاً أو لا يدلّ على واحد منهما؟ استدلّ القائل بعدم الدلالة على واحد منهما بالدليل الماضي في مبحث المرّة و التكرار، و حاصله: أنّ الأمر مركّب من هيئة و مادة، و الثانية دالة على الطبيعة

ص:353

المطلقة، و الهيئة موضوعة للبعث، فأين الدالّ على الفورية أو التراخي؟! هذا حسب الدلالة اللفظية و قد عرفت عدم دلالتها على واحد منهما.

إنّما الكلام في مقتضى الإطلاق فقال المحقّق الخراساني بأنّ قضية إطلاق الصيغة جواز التراخي.

و يمكن أن يقال انّ مقتضى الإطلاق هو الفور، و ذلك لما مرّ في وجه حمل الأمر على الوجوب دون الندب، أو النفسية دون الغيرية، فيقال في المقام انّ كلا من الفور و التراخي خارج عن مفهوم البعث، و قسمان له، و إرادة كلّ قسم يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان البعث، غير أنّ متلقّى العرف أنّ البعث يلازم الانبعاث فكأنّهما متلازمان فلو أراد الآمر ذاك الفرد، فهو غني عن البيان، و إن أراد التراخي فهو رهن بيان زائد.

هذا إذا كان المولى في مقام البيان، و أمّا إذا كان في مقام الإجمال و الإهمال فالمرجع هو البراءة عن الكلفة الزائدة على أصل التكليف و هي الفورية.

أدلة القائل بالفورية
اشارة

استدل على القول بالفورية تارة بأنّها مقتضى صيغة الأمر، و أُخرى بأنّها مقتضى الأدلّة الخارجية.

أمّا الأوّل: مقتضى صيغة الأمر

فهو خيرة شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري حيث نزّل العلل التشريعية منزلة العلل التكوينية فكما أنّ مقتضى الثانية عدم انفكاك معاليلها عنها، فهكذا الأُولى قال في قضاء الفوائت: إنّ الفورية و إن كانت غير ملحوظة قيداً في المتعلق، إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلق به فانّ الأمر تحريك إلى العمل و علة تشريعية، و كما أنّ العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في الخارج، كذلك العلة

ص:354

التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج.(1)

و ضعفه ظاهر، فانّ عدم الانفكاك في التكوين، لا يكون دليلاً على عدم انفكاكه في التشريع، فانّ نظام العلّة و المعلول، نظام الضرورة فوجود المعلول بعد العلة أمر ضروريّ لا محيص عنه، و هذا بخلاف نظام التشريع فانّه نظام الاعتبار و الفرض فيتبع كيفية الاعتبار، فلو اعتبر البعث غير منفك عن الانبعاث التشريعي، فلا محيص عن الفورية، و إن اعتبره منفكّاً عنه فلا محيص عن التأخير، و إن اطلق، يحتمل الأمران، فوزان الزمان كوزان المكان و سائر القيود، لا يتكفّل لبيانها نفس البعث بل لا بدّ من دليل آخر.

و ما ذكرناه لا ينافي ما تقدّم من أنّ الإطلاق يساوق الفورية و انّ التراخي رهن البيان الزائد، و ذلك لأنّ ما ذكرناه مبني على أنّ الفورية هو متلقى العرف في دائرة المولوية و العبودية، من دون حاجة إلى قياس علل التشريع كالأمر بالعلل التكوينية كما عليه هذا البيان.

و أمّا الثاني: مقتضى الأدلّة الخارجية

أي الاستدلال بالأدلة الخارجية فقد استدلّوا بآيتين:

الأُولى: آية المسارعة

قال سبحانه: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ).(2)

و الدلالة مبنية على بيان أمرين:

1. انّ الأمر في» سارعوا «للوجوب فتكون المسارعة واجبة.

2. انّ المغفرة من أفعاله سبحانه و لا يمكن التسارع إليها فيكون قرينة على

ص:355


1- - كتاب الصلاة، باب قضاء الفوائت: 392، ط 1352 ه.
2- - آل عمران: 133.

انّ المراد بها، هو أسبابها أعني الواجبات فينتج وجوب المسارعة إلى الإتيان بالواجبات.

يلاحظ عليه: أنّ سبب المغفرة بين المتشرعة هو الاستغفار بشرائطه، وعليه كتاب اللّه العزيز يقول سبحانه: (وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ).(1)

فلو تمت دلالة الآية، لدلّت على المبادرة إلى الاستغفار، لا إلى سائر الواجبات.

الآية الثانية: آية المسابقة

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ).(2)

وجه الاستدلال أنّ ظاهر الآية وجوب الاستباق إلى الخيرات التي من أظهر مصاديقها هو فعل الواجبات فلو عصى، يجب عليه الإتيان في الآن الثاني و هكذا.

يلاحظ عليه: أنّ مفهوم الآية هو وجوب تسابق العباد في ميدان المباراة نحو عمل الخير، على نحو لو بادر أحد لم يبق موضوع للآخر، و أين هذا من وجوب مبادرة كلّ إلى واجبه و إن لم يكن في جانبه أيّ مكلف؟!

ص:356


1- - آل عمران: 136135.
2- - المائدة: 48.

و الآية نظير قوله سبحانه (وَ اسْتَبَقَا الْبابَ )(1) حيث تسابق كل من يوسف و امرأة العزيز نحو الباب فحاول يوسف فتحه و الأُخرى غلقه و المنع عن خروجه.

أضف إلى ذلك أنّ الإمعان في الآية يعطي انّ المراد منها هو الحكم بما أنزل اللّه و عدم اتّباع الأهواء، و يدل عليه قوله سبحانه: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ).(2)

إكمال: لو قلنا بدلالة الصيغة على الفور امّا بالدلالة اللفظية أو لكونه مقتضى الإطلاق، فلو عصى المكلّف فهل يجب عليه الإتيان بالمأمور به ثانياً أو لا؟ فيه تفصيل بين كون المقام من قبيل وحدة المطلوب كما في السلام فيسقط عصياناً، أو تعدده، كما في قضاء الفوائت بناء على المضايقة. و لا يمكن استظهار واحد منهما من صيغة الأمر فالمرجع أحد الأمرين:

1. الإطلاق القاضي بعدم الوجوب في الآن الثاني لو تمّت مقدّمات الحكمة.

2. الأصل العملي من الاستصحاب أو البراءة، فلو جرى استصحاب الوجوب لأجل القول بأنّ الفورية ليست قيداً للموضوع، و إلاّ فالمرجع البراءة من الإتيان ثانياً.

ص:357


1- - يوسف: 25.
2- - المائدة: 48.

الفصل الثالث في الاجزاء

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
الأوّل: في عنوان المسألة

اختلفت كلمة الأُصوليين في عنوان المسألة، فعنونه المرتضى في» الذريعة «(1)بقوله: هل الأمر يقتضي الإجزاء أو لا؟ و تبعه صاحب الفصول.(2)

و عنونه الشيخ في» مطارح الأنظار «(3)بقوله: إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء أو لا؟ و الفرق بين العنوانين واضح، فالنزاع على الأوّل لفظي، منصبٌّ على دلالة لفظ الأمر على الإجزاء، كما أنّه على الثاني، عقلي منصبٌّ على وجود الملازمة بين الإتيان بالشيء على وجهه و الإجزاء.

الثاني: ما هو المراد من لفظة» على وجهه «؟

قد جاء في العنوان الذي طرحه الشيخ في المطارح لفظة» على وجهه «فما هو المراد منه؟ هناك احتمالات:

ص:358


1- - الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/121.
2- - الفصول الغروية: 116.
3- - مطارح الأنظار: 18.

1. المراد منه قصد الوجه، أعني: قصد الوجوب أو الندب.

يلاحظ عليه: بعدم اعتبار قصد الوجه عند الأصحاب إلاّ من شذّ منهم كابن إدريس، فلا وجه لأخذه في العنوان.

2. المراد منه الكيفيات الشرعية المعتبرة في المأمور به من الأجزاء و الشرائط الشرعية.

يلاحظ عليه: باستلزامه أن يكون القيد زائداً لدخولها في قوله:» المأمور به «فلا وجه للتعبير بلفظ آخر.

3. المراد منه الكيفية التي لا يمكن أخذها في المأمور به، و يعدّ من القيود الواقعة فوق دائرة الطلب دون تحتها، أعني قصد الأمر حيث إنّه من الأُمور التي تتحقّق بعد تعلّق الأمر.

يلاحظ عليه: أنّ تقسيم القيود إلى ما يقع تحت دائرة الطلب و ما لا يقع، من التقسيمات التي ظهرت من عصر الشيخ الأنصاري إلى يومنا هذا، و قد عرفت أنّ القيود عند القدماء كانت على وزان واحد، فقصد الأمر كالسورة و القنوت فالجميع يتعلّق بها الأمر، و عند ذلك يدخل قصد الأمر في قولهم» إتيان المأمور به «.

نعم على خيرة الشيخ و المحقّق الخراساني يكون قصد الأمر خارجاً عنه و يحتاج إلى التعبير عنه بلفظ آخر، لكن العنوان ليس للشيخ نفسه بل لغيره.

و يمكن أن يقال: أنّ المراد من قوله» على وجهه «التنبيه على بعض صور المسألة ممّا يعد موافقاً للشرع حسب الظاهر دون الواقع، كما إذا صلّى بالطهارة الاستصحابية ثمّ بان كونه محدثاً فقد صلّى و أتى بالمأمور به لا على وجهه الواقعي، لما قرر في محله من أنّ الطهارة شرط واقعي لا ظاهري و القيد على هذا و إن أصبح

ص:359

توضيحياً لكن أتي به لغرض التنبيه على هذا النوع من الموارد الذي ربما يغفل عنه بعض الأفراد.

الثالث: ما هو المراد من الاقتضاء؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاقتضاء في العنوان) الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء (بمعنى العلية و التأثير لا بنحو الكشف و الدلالة، بشهادة أنّه نسب إلى الإتيان لا إلى صيغة الأمر.(1)

ثمّ استشكل على نفسه بقوله: هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، و أمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده.(2)

و بعبارة أُخرى: أنّ الإتيان إنّما يكون علّة و مؤثراً لسقوط الأمر المتعلّق بالمأتي به، و أمّا بالنسبة إلى الأمر الآخر الذي لم يمتثل بعدُ: أعني الأمر الواقعي فلا معنى لكون الامتثال بالأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لسقوط الأمر الواقعي، فلا محيص في تصحيح النزاع من تفسير الاقتضاء بالدلالة و الكشف، بأن يكون مصب النزاع في دلالة الدليل على اشتمال المأتي به بالمصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة فيجزي و إلاّ فلا. مثلاً انّ قوله:» إنّ التيمّم أحد الطهورين «(3)و قوله:» و يكفيك الصعيد عشر سنين «(4)دالّ على اشتمال المورد على المصلحة

ص:360


1- - بخلاف العنوان الأوّل فقد عرفت أنّ الاقتضاء فيه نسب إلى الأمر.
2- - الكفاية: 1/125.
3- - الوسائل: 2، كتاب الطهارة، الباب 23 من أبواب التيمم، الحديث 5.
4- - الوسائل: 2، كتاب الطهارة، الباب 24 من أبواب التيمم، الحديث 12.

التامّة الجابرة للمصلحة الفائتة و معه لا يبقى مجال للشكّ في السقوط.

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بقوله:

نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدّم، غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنّه على نحو يستقل العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء و يؤثر فيه و عدم دلالته و يكون النزاع فيه صغروياً أيضاً، بخلافه في الإجزاء بالاضافة إلى أمره فانّه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض.(1)

و حاصله: انّ ما ذكر ليس مانعاً من تفسير الاقتضاء بالعلية و التأثير في نفس المورد، غاية الأمر يحتاج إلى إحراز الصغرى و هو اشتمال المأتي به على المصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة; فعندئذ يقع النزاع في الكبرى و هو عليّة امتثال الأمر الاضطراري أو الظاهري لسقوط الأمر الواقعي، فالنزاع في أنّ إتيان كلّ شيء مسقط لأمره كبروي، و في غيره صغروي و كبروي.

و أورد عليه السيد الأُستاذ: بأنّه لا يصحّ تفسير» الاقتضاء «بالعليّة، سواء كان المعلول هو الإجزاء بالمعنى اللغوي أي الكفاية، أو سقوط الأمر، أو سقوط إرادة المولى.

أمّا الأوّل: فهو أمر انتزاعي لا يقع مورد التأثر و التأثير، مثلاً أنّ العطشان إذا شرب ماءً و تروّى يقول كفى، فينتزع من التروّي و رفع العطش عنوان» الإجزاء «فليس هو شيئاً وراء التروّي.

و أمّا الثاني: فانّ الإتيان علّة لحصول الغرض، و مع حصوله ينتفي الأمر، بانتفاء مقتضيه، و سببه حصول الغرض لا انّه يسقط.

ص:361


1- - الكفاية: 1/125.

و أمّا الثالث: فلأنّ الإتيان معلول لإرادة الآمر، فلا يكون المعلول علّة لارتفاع علّته فلا يكون علّة لسقوط الإرادة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ المعلول أمر آخر وراء هذه الأُمور الثلاثة، و لعلّ لفظ الإجزاء كناية عنه و هو حكم العقل بالإجزاء، و المراد من العلّية كون الإتيان موضوعاً لحكم العقل، كما أنّ العدل موضوع لحكم العقل بالحسن، و الظلم موضوع لحكمه بالقبح، فتصبح المسألة عقلية بحتة في مورد، و عقلية و شرعية في مورد آخر، كما أفاده المحقّق الخراساني) قدس سره (.

ثمّ إنّ ما أفاده من أنّ إتيان المأمور به، من معاليل إرادة المولى فكيف يكون المعلول طارداً لعلّته؟ قد مرّ الكلام فيه، و هو أنّ الإرادة مطلقاً تكوينية كانت أو تشريعية إنّما تتعلق بالفعل الاختياري و ليس فعل الغير في اختيار المريد، و لذلك قلنا إنّ الإرادة التشريعية متعلّقة بالبعث و الطلب و هو فعل اختياري للمريد، و هو بالنسبة إلى العبد مبيّن لموضوع الطاعة، و أمّا الانبعاث فهو من آثار الخوف من تبعات المخالفة كما لا يخفى.

الرابع: للإجزاء حقيقة متشرعيّة؟

ربّما يتصوّر أنّ للإجزاء حقيقة متشرعيّة، فقد نقل من معناه اللغوي أي الكفاية إلى سقوط الإعادة في الوقت، و القضاء في خارجه.

و الظاهر خلافه و أنّه ليس له إلاّ معنى واحداً، و أمّا السقوط فهو من لوازم المورد، فإجزاء المأتي به يلازم عدم التعبّد به في وقته أو خارجه ثانياً، كما في إجزاء المأتي به بالأمر الاضطراري، فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الاختياري، أو إجزاء

ص:362


1- - تهذيب الأُصول: 1791/178، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المأتي به بالأمر الظاهري فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الواقعي، فكلّ ذلك من لوازم المورد، أو المستعمل فيه من دون أن يكون هناك وراء الفقه مصطلح خاصّ.

الخامس: الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرّة و التكرار

ربّما تتصور وحدة المسألتين و انّ القول بالإجزاء نفس القول بدلالة الأمر على المرّة، كما أنّ القول بعدمه عبارة أُخرى عن عدم الإجزاء.

يلاحظ عليه بأنّ تصادق المرة مع الإجزاء أو تصادق التكرار مع عدمه، لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين بعد تعدد الملاك الذي يُصحح عقد مسألتين مختلفتين، فانّ البحث في أُولى المسألتين إنّما هو في تعيين ما هو المأمور به شرعاً حسب دلالة الصيغة بنفسها كما عليه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري على ما مرّ أو بدلالة أُخرى كما عليه الآخرون.

و أمّا البحث في المقام فإنّما هو بعد الفراغ عن تعيين ما هو المأمور به، سواء أ كان المأمور به هو الطبيعة المجرّدة أو المقيدة بالمرّة أو التكرار، و يقال إذا أتى المكلف بما هو المأمور به بكماله و تمامه، سواء أ كان المأمور به، هو الطبيعة أو المقيّدة بالمرة أو التكرار هل هو يجزي أو لا؟ نعم القول بالإجزاء يتصادق مع القول بالمرة، كما أنّ القول بالتكرار، يتصادق مع عدم الإجزاء، و لكن التصادق الموردي لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين.

السادس: الفرق بين المقام و مسألة تبعية القضاء للأداء

إنّ هنا مسألة أُخرى باسم تبعية القضاء للأداء و عدم تبعيّتها له و يعبّر

ص:363

عنها بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بالأمر الجديد فإذا فات الأمر الواقعي منه و امتثل مكانه الأمر الاضطراري أو الظاهري يكون القول بالإجزاء مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الجديد، كما يكون القول بعدمه مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل.

يلاحظ عليه: أنّ المسألتين مختلفتان من حيث الموضوع أوّلاً و أنّ بينهما من حيث المورد عموم و خصوص من وجه ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ الموضوع في مسألة تبعية القضاء للأداء هو فوت المأمور به، كما أنّ الموضوع في المقام هو إتيان المأمور به بنحو من الأنحاء، و مع الاختلاف في الموضوع كيف تكونان مسألة واحدة؟! و أمّا الثاني، ففيما إذا أتى بالمأمور به على وجهه الواقعي يبحث فيه عن الإجزاء و عدمه دون مسألة تبعية القضاء للأداء، إذ لا موضوع لها لعدم الفوت، كما إذا فات منه الواقع و لم يأت بالواجب أصلاً لا واقعياً و لا اضطرارياً و لا ظاهرياً، لا موضوع للإجزاء، بل يتمحض المقام لمسألة التبعية.

نعم يجتمعان فيما إذا أتى بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري فيصح البحث فيه من الجهتين.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فرّق بين المسألتين بأنّ البحث في المقام عقلي و في مسألة تبعية الأداء للقضاء لفظي حيث يبحث عن دلالة الأمر على تبعية القضاء للأداء و عدمها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى ذلك أنّ المسألتين متحدتان في الماهية و مختلفتان في أُسلوب الاستدلال إلاّ انّ هذا لا يصحح عقد مسألتين مختلفتين، بل يُلزم الأُصولي

ص:364


1- - كفاية الأُصول: 1/126.

على عرض مسألة واحدة، يستدلّ عليها تارة بالعقل و أُخرى بالنقل.

إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّه يقع الكلام في مواضع ثلاثة:

1. امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد بنفس ذلك الأمر سواء أ كان واقعياً أم اضطرارياً أو ظاهرياً.

2. إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.

3. إتيان المأمور به بالأمر الظاهري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.

إذا عرفت عناوين المواضع، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

ص:365

الموضع الأوّل امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً
اشارة

إنّ إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبّد به ثانياً من قبيل القضايا التي قياساتها معها، و ذلك لأنّ عدم السقوط رهن أحد أُمور كلّها منتفية.

1. تعدد المطلوب و انّه أتى بمطلوب واحد دون الآخر، و هو باطل، لأنّ الواجب هو نفس الطبيعة و هي تصدق على الإتيان بفرد واحد.

2. عدم حصول الغرض، و هو أيضاً باطل، لأنّ المأتي به سبب تام لحصول الغرض و إلاّ لما أمر به.

3. بقاء الأمر مع حصول الغرض، و هو أيضاً باطل، لاستلزامه الإرادة الجزافية.

فإذا انتفت الأُمور الثلاثة فلا وجه لبقاء الأمر، نعم ربّما يعترض بالحج الفاسد بالجماع محرّماً، فانّه يجب عليه الإعادة.

يلاحظ عليه: بأنّ من جامع و هو محرم، إمّا أن يكون عالماً بالحكم أو جاهلاً، فالحج في الصورة الأُولى فاسد فلم يأت بالمأمور به على وجهه، فيجب عليه القضاء في العام القابل، و هو في الصورة الثانية و إن كان صحيحاً لكن إيجاب الإعادة لأجل العقوبة لا لإيجاب التعبّد بما امتثل ثانياً.

و تدلّ عليه رواية زرارة، قال:» فأي الحجّتين لهما «قال: الأُولى التي أحدثا

ص:366

فيها ما أحدثا، و الأُخرى عليهما عقوبة «.(1)

فما حكي عن أبي هاشم الجبائي) المتوفّى 321 ه (و القاضي عبد الجبار) المتوفّى 415 ه ( المعتزليين من عدم اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء مستدلاً بإعادة الحجّ على من أفسد، فكأنّه في غير محلّه، إذ العالم بالحرمة ما أتى بالواجب على وجهه، و الجاهل و إن أتى على وجهه، لكن الحجّ الثاني عقوبة و ليس امتثالاً للأمر الأوّل.

تبديل امتثال بامتثال آخر
اشارة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد وافق المشهور في أنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه يوجب الإجزاء، و لكنّه ذهب أيضاً إلى أنّ للعبد تبديل امتثال بامتثال آخر، و القولان بظاهرهما متناقضان، فانّ الإجزاء يلازم سقوط الأمر، و معه لا يبقى موضوع للامتثال الثاني، فانّ مفاده هو الإتيان بالشيء بقصد أمره السابق و المفروض انّه قد سقط، فكيف يمكن القول بالجمع بالإجزاء الذي يلازم سقوط الأمر بتاتاً و تبديل امتثال بامتثال آخر و هو يستلزم بقاء الأمر الأوّل و هو كما ترى؟ هذا هو الإشكال الواضح على الكفاية لكنّه) قدس سره (حاول الجمع بين القولين) الإجزاء و تبديل امتثال بامتثال آخر (و أفاد في وجهه: بأنّه ربّما لا يكون مجرّد امتثاله علّة تامة لحصول الغرض، و إن كان وافياً به لو اكتفى به، كما أنّه إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد، فانّ الأمر بحقيقته و ملاكه لم يسقط بعدُ، و لذا لو أُهرق الماء و اطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه و إلاّ لما وجب حدوثه، فحينئذ يكون له

ص:367


1- - الوسائل: 9، الباب 3 من أبواب كفارة الاستمتاع، الحديث 9.

الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه.(1)

يلاحظ عليه: بما عرفت بأنّ الامتثال الأوّل يوجب سقوط الأمر و لا يعقل صدق امتثال ثان بعد سقوطه.

و أمّا المثالان، فيلاحظ على الأوّل بأنّه من قبيل تبديل مصداق امتثال لمصداق آخر، لا تبديل امتثال بامتثال آخر، فانّ الأمر بظاهره و حقيقته و ملاكه قد سقط و إنّما للمكلّف أن يبدّل مصداقاً بمصداق آخر.

و أمّا الأمر الثاني، و هو أنّ الإتيان بالماء ثانياً ليس لأجل بقاء الأمر فانّه قد سقط بتمامه و إنّما الملزم هو العلم بالغرض و إن لم يكن هناك أمر، كما إذا رأى انّ ابن المولى سقط في الماء و كان المولى غافلاً فعلى العبد إذا اطّلع عليه أن ينقذه و إن لم يكن هناك أمر من المولى لكفاية العلم بالغرض.

ثمّ إنّه استدل على جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر بالروايات الواردة في الأبواب الثلاثة التالية:

أ. باب الكسوف إذا صلّى و الشمس بعد لم تنجل.

ب. الصلاة جماعة مع المخالف و قد صلّى الفريضة قبله.

ج. إعادة الصلاة إذا وجد جماعة.

و لكن الروايات لا صلة لها بالمدعى كما ستعرف.

فنقول:

1. ما ورد في باب الكسوف

روى معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّه:» صلاة الكسوف إذا فرغت

ص:368


1- - كفاية الأُصول: 1/127.

قبل أن ينجلي، فأعد «.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ المتبادر من الرواية هو إعادة الصلاة بأمر جديد لا بالأمر الساقط بالامتثال، و كأنّ الإعادة مستحبة شرعاً، و هو ينوي ذلك الأمر الثاني لا الأمر الأوّل، بخلافه على القول بجواز تبديل امتثال بامتثال آخر فانّه ينوي في الإتيان الثاني امتثال الأمر الأوّل الذي وصفه المحقّق الخراساني بأنّه بحقيقته و ملاكه لم يسقط.

2. ما ورد في إعادة الصلاة مع المخالف

هناك روايات تدلّ على أنّ من صلّى وحده يجوز له أن يعيد الصلاة خلف المخالف.

روى عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (انّه قال:» ما منكم أحد يصلّي فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة تقية و هو متوضّئ إلاّ كتب اللّه له بها خمس و عشرين درجة فارغبوا في ذلك «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ هذه الرواية لا مساس لها بتبديل امتثال بامتثال آخر، بل هي كروايات الباب السابق تدلّ على استحباب إعادة الفريضة جماعة تقية، فهو من قبيل امتثال أمر بعد امتثال آخر.(3)

3. استحباب الإعادة إذا وجد جماعة

روى هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال: في الرجل يصلّي الصلاة

ص:369


1- - الوسائل: 5، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف، الحديث 1.
2- - الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و لاحظ 2 و 3.
3- - لاحظ ما لم نذكر من الروايات في ذلك الباب.

وحده ثمّ يجد جماعة، قال:» يصلّي معهم و يجعلها الفريضة إن شاء «.(1)

و روى زرارة، عن أبي جعفر في حديث، قال:» لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم و هو لا ينويها صلاة، بل ينبغي له أن ينويها و إن كان قد صلّى، فانّ له صلاة أُخرى «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ روايات هذا الباب تتحد مع نفس ما أوردها صاحب الوسائل في الباب السابق) أي الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة (و إن فرّق بينهما صاحب الوسائل فزعم أنّ روايات الباب السابق راجعة إلى إعادة الصلاة بالمخالف و هذه الروايات مطلقة تعم المخالف و غيره إذا كان إماماً، فيجوز لمنفرد إعادة الصلاة خلف الموافق أيضاً.

و لكن دراسة روايات الباب البالغة إحدى عشرة رواية تعرب إذا كان عارفاً بلحن كلماتهم و كيفية إشاراتهم أنّ الروايات تعود إلى إعادة الصلاة خلف المخالف جماعة، و لا ينافي ما ذكرنا وصف الصلاة الثانية بالفريضة، و يقول:» و يجعلهما الفريضة «كما في رواية هشام بن سالم(3) و حفص بن البختري.(4)

فانّ المراد أنّه ينوي الفريضة التي أقامها، و لكن الإعادة مستحبة.

و حصيلة الكلام: انّا لم نجد رواية تدل على جواز تبديل امتثال بامتثال آخر.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ فسّر القسم الثالث من الروايات بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال لكن

ص:370


1- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و 2.
2- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و 2.
3- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.
4- - الوسائل: 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 11.

محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأوّل، أو بنحو أوفى، فهو لا يتوقف على بقاء الأمر، لأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بوصف كونه مأموراً به.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصحّ في التوصّليات، و أمّا الفرد التعبّدي فيحتاج إلى قصد الأمر، فما هو الأمر الداعي؟ فإن كان الأمر الأوّل، فقد سقط كما اعترف به، و إلاّ يكون من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر و هو بصدد الردّ عليه، و إن كان الأمر الاستحبابي، أو الوجوبي القضائي، فهذا يكفي في الجواب من دون حاجة إلى القول بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر.

تمّ الكلام في الموضع الأوّل و يليه الكلام في الموضع الثاني

ص:371


1- - تهذيب الأُصول: 1/183.
الموضع الثاني في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي
اشارة

و قد يعبّر عن العنوان باجزاء الأمر الواقعي الثانوي عن الأمر الواقعي الأوّلي، كالصلاة مع الطهارة الترابيّة أو على وفق التقية، و ظاهر العنوان يعطي انّ هنا أمرين: أمراً واقعياً ثانوياً، و أمراً واقعياً أوّلياً، و محط البحث إغناء امتثال الأمر الأوّل، عن امتثال الأمر الثاني، لكن الحقّ أنّ هنا أمراً واحداً متعلقاً بالجامع الواحد، الصادق على جميع أفراده، غير أنّ المختار مكلّف بامتثاله بكيفية، و المضطرّ مكلّف بامتثاله بكيفية أُخرى، و الصلاة بكلتا الكيفيتين من مصاديق الجامع المنطبق على عامّة أفراد الصحيح على ما مرّ في مبحث الصحيح و الأعمّ.

و إن شئت مزيد توضيح فنقول: إذا زالت الشمس، يخاطب عامّة المكلفين بخطاب و أمر واحد متعلق بالصلاة في قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)، فالصلاة قائماً أو قاعداً، راكباً أو راجلاً، مع الطهارة المائية أو الترابية من مصاديق الصلاة الواردة في تلك الآية و هي تعمها بوضعها للجامع الشامل لعامة أفراد الصحيح، فالأمر واحد، و المأمور به واحد، و لو كان هنا اختلاف فانّما هو في كيفية امتثال الأمر الواحد.

ص:372


1- - الاسراء: 78.

فإن قلت: الاختلاف في الكيفية يكشف عن تعدد المأمور به، الملازم لتعدد الأمر.

قلت: إنّ الاختلاف فيها إنّما يكشف عن تعدد المأمور به إذا كانت الكيفيات بصورها المختلفة كالطهارة المائية و الترابية مأخوذة في الموضوع، و عندئذ يكون لفظ الصلاة مشتركاً لفظياً لا معنوياً، و المفروض خلافه، لأنّ المأخوذ في الصلاة هي الطهارة بعرضها العريض الشامل لكلتا الطهارتين، و مثلها عدد الركعات، فلم يؤخذ فيه عدد معيّن كالثنائية أو الرباعية، و إلاّ لصار اللفظ مشتركاً لفظيّاً، بل الموضوع له هي الهيئة الصلاتية الصادقة على الثنائية و الرباعية، فالصلاة بما لها من المعنى الواحد، الشامل لصلاة المختار و المضطر(1)، أو الآمن و(2) الخائف، و الحاضر و المسافر(3) وقعت موضوعة للأمر الواحد، و دلّ الدليل الخارجي على أنّ الصلاة مع الطهارة المائية للواجد، و مع الترابية للفاقد، و هكذا سائر الأفراد.

في العذر غير المستوعب

إذا عرفت أنّ في المقام أمراً واحداً، يقع الكلام في الاجزاء، و عدمه عند ما كان العذر غير مستوعب فنقول هنا صور ثلاث:

1. أن يكون لدليل البدل أعني دليل التيمم إطلاق(4)، بمعنى شمول دليله، لمن فقد الماء في بعض الوقت دون الجميع، فيجب على غير المستوعب كالمستوعب، امتثال الأمر بالطهارة الترابية، و في مثله يكون القول بالإجزاء من

ص:373


1- - المائدة: 6.
2- - البقرة: 238 239.
3- - النساء: 101.
4- - المراد من الإطلاق كون العذر غير المستوعب مسوّغاً للتيمّم و إيقاع الصلاة منه.

قبيل قضايا قياساتها معها، بل يدخل في المبحث السابق، من أنّ امتثال كلّ أمر موجب لإجزاء نفسه، لأنّ المفروض أنّ هنا أمراً واحداً و واجباً فارداً، و الامتثال، آية الإجزاء و ليس هنا أمر آخر حتى يبحث عن إجزائه عنه.

2. أن يكون لدليل المبدل فقط إطلاق أعني قوله سبحانه: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... )(1) الخ بحيث يفرض على المكلف الواجد للماء في بعض الأوقات دون كلها، الصلاةَ مع الطهارة المائية أيضاً، فلا شكّ في عدم الإجزاء.

3. أن يكون الدليلان مهملين، كأن يكون عدم الوجدان في بعض الأوقات دون بعض غير داخل تحت موضوع المبدل و البدل، فيكون المرجع عندئذ هو الأُصول العملية، و الظاهر أنّ المرجع هو الاحتياط، لأنّ مرجع الشك إلى الشك في سقوط الأمر بالصلاة بالطهارة الترابية و عدمها.

و بعبارة أُخرى: انّه يشكّ في سقوطه بالطهارة الترابية إذا كان فاقداً في بعض دون بعض.

هذا على المختار، و أمّا على مختار القوم من تعدد الأمر و الشكّ في إغناء امتثال أحد الأمرين عن الآخر، فقد بحث عنه المحقّق الخراساني تارة من حيث الثبوت و أُخرى من حيث الإثبات، و قال ما هذا إيضاحه:(2)

حكم الإجزاء ثبوتاً على القول بالتعدّد
اشارة

إنّ الفرد الاضطراري من حيث وفائه لمصلحة الفرد الاختياري على أقسام أربعة:

ص:374


1- - المائدة: 6.
2- - كلّما يمرّ عليك بحوث مبنية على تعدد الأمر و المختار غيره. المؤلّف

الأوّل: أن يكون الفرد الاضطراري في حال الاضطرار كالاختياري في حال الاختيار في كونه وافياً بتمام المصلحة و الملاك.

الثاني: أن لا يكون وافياً به، و لكنّه لو أتى بالفرد الاضطراري يكون مانعاً عن استيفاء المصلحة الفائتة بعد رفع الاضطرار.

الثالث: تلك الصورة و لكن تكون المصلحة الفائتة واجبة الاستيفاء.

الرابع: تلك الصورة، و لكن تكون المصلحة الفائتة مستحبّة الاستيفاء.

إذا عرفت أنّ نسبة الفرد الاضطراري إلى الاختياري من حيث الثبوت على أقسام أربعة، فاعلم أنّه يجب البحث في كلّ قسم عن أمرين:

أ: إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري.

ب: جواز المبادرة إلى الامتثال بالفرد الاضطراري و عدمه.

فكلّ قسم من هذه الأقسام الأربعة تقع موضوعاً للبحث عن الإجزاء أوّلاً، و جواز المبادرة ثانياً.

فأخذ المحقّق الخراساني بدراسة كلّ قسم من حيث الإجزاء أوّلاً، و المبادرة ثانياً، و قال ما هذا مثاله:

1. أمّا الصورة الأُولى: فلا شكّ في إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، لعدم قصور مصلحته عن مصلحته.

و أمّا تصوير البدار فيدور مدار كون الفرد مشتملاً على المصلحة مطلقاً و إن كان العذر غير مستوعب، أو مشروطاً بالانتظار إلى حدّ يضيق الوقت إلاّ عن الصلاة بالطهارة الترابية، أو مشروطاً باليأس و إن حصل في أوّل الوقت.

فعلى الأوّل يجوز البدار دون الثاني، و أمّا الثالث فيدور مدار حصول اليأس.

2. و أمّا الصورة الثانية: فلو أتى بالفرد الاضطراري يجزي قطعاً لعدم تمكّنه من الفرد الاختياري بعد الإتيان بالاضطراريّ لكونه مانعاً عن درك مصلحة الفرد

ص:375

الاختياري.

و أمّا البدار فلا، لأنّ الفرد الاضطراري مفوِّت لمصلحة الواقع التي لا يمكن تداركها، فلا يسوغ البدار إلاّ لمصلحة فيه كالإتيان بالصلاة في أوّله.

3. و أمّا الصورة الثالثة: فلا شكّ أنّه لا يجزي، بل لا بدّ من الإعادة أو القضاء، لأنّ المفروض عدم وفاء الفرد الاضطراري بمصلحة الفرد الاختياري و كان استيفاء المصلحة الباقية ممكنة و واجبة و أمّا البدار فيجوز بشرط أن يأتي بالفرد الاختياري أيضاً بعد زوال العذر، و على ذلك فهو مخيّر بين البدار بإتيان الفرد الاضطراري أوّلاً و الاختياري بعد رفع الاضطرار، أو الصبر إلى أن يأتي بالفرد الاختياري وحده.

4. و أمّا الصورة الرابعة: فلا شكّ أنّ الفرد الاضطراري يجزي لكون الفائتة مستحبّة التدارك.

و أمّا البدار فالظاهر من الكفاية المطبوعة مع حاشية المشكيني أنّه يتعيّن عليه البدار.

هذا كلامه في مقام الثبوت، و سيوافيك كلامه في مقام الإثبات.

أقول: يلاحظ عليه أوّلاً: انّ التقسيم حسب الثبوت انّما يفيد إذا كان عندنا دليل في مقام الإثبات ما يمكن به الاهتداء إلى كلّ واحد من هذه الصور مع أنّه ليس في الأدلّة ما يشير إلى أكثرها.

و ثانياً: لم يعلم وجه تعين البدار في رابع الأقسام، فانّه إذا كان الباقي ممكن الاستيفاء بعد ارتفاع العذر و إن لم يكن واجبه فلا وجه لتعيّن البدار المفوت للمصلحة الفائتة غير الملزمة.

غاية ما يمكن أن يقال: انّه يستحب البدار إذا كان لأوّل الوقت فضيلة

ص:376

رابية على سائر الأوقات.

ثمّ إنّه أورد صاحب المحاضرات على المحقّق الخراساني بأنّ التخيير في الصورة الثالثة غير معقول، لأنّ الشارع إذا لم يكتف بالعمل الناقص في أوّل الوقت، و أوجب على المكلّف الإتيان بالعمل التام الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار و العذر، سواء أتى المكلّف بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت، أم لم يأت به، فبطبيعة الحال لا معنى لإيجابه العمل الاضطراري الناقص و إلزام المكلّف بإتيانه و لو على نحو التخيير، فانّه بلا ملاك يقتضيه حيث إنّه لا يترتب على وجوبه أثر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ تسويغ البدار بالناقص مع لزوم الإتيان بالكامل في آخر الوقت بعد ارتفاع العذر، لأجل ترتّب رجحان ما عليه غير واف بمصلحة الفرد التام، فيصحّ تسويغه و الحكم بجواز الإتيان به مع لزوم الإتيان بالفرد التام في آخر الوقت، أشبه ببدل الحيلولة إذا لم يتمكّن الإنسان من أداء العين عاجلاً، فيلجأ إلى الناقص إلى أن يتمكّن من الكامل.

و الفرد الناقص و إن لم يشتمل على تمام المصلحة لكنّه مشتمل على مصلحة تامّة راجحة. هذا كلّه حول ما ذكر في مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات فيقع الكلام تارة في العذر غير المستوعب، و أُخرى في المستوعب منه، و إليك الكلام فيهما فنقول:

المقام الأوّل: في العذر غير المستوعب

فقد ذكر المحقّق الخراساني في المقام أمرين:

ص:377


1- - انظر المحاضرات: 2/233.

1. أن يكون لدليل البدل إطلاق بمعنى، فلو قال:» التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين «و فرضنا شموله للعذر غير المستوعب و لم يذكر شيئاً من الإعادة و القضاء، فالظاهر هو الإجزاء.

2. إذا لم يكن لدليل البدل إطلاق، فالمرجع هو البراءة، لكونه شكّاً في أصل التكليف، من غير فرق بين الإعادة و القضاء.

أقول: إنّ هنا صوراً ثلاثاً:

الأوّل: أن يكون لدليل البدل إطلاق دون دليل المبدل.

الثانية: أن يكون لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل.

الثالثة: أن يكون كلّ من دليلي البدل و المبدل مهملين.

أمّا الصورة الأُولى: فالظاهر هو الإجزاء كما مرّ في كلامه، لأنّ المفروض أنّ دليل البدل يعم العذر غير المستوعب، و هو بصدد بيان ما هي الوظيفة فلو وجبت الإعادة و القضاء وراء الإتيان بالبدل لأشار إليه في نفس الدليل.

كما أنّ مقتضى الإطلاق هو البدار، إذ لو كان الانتظار لازماً و كان الشرط هو العذر المستوعب لصرّح به.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أنكر وجود الإطلاق في أدلّة التيمم و قال:

إنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعية التيمم بالقياس إلى من يتمكّن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت، بداهة أنّ وجوب التيمم وظيفة المضطر، و لا يكون مثله مضطراً لفرض تمكّنه من الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت، و مجرّد عدم تمكّنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت.(1)

ص:378


1- - المحاضرات: 2362/235.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ حكم الوضوء و التيمم جاءا في آية واحدة و هي الآية السادسة من سورة المائدة و الفقهاء يحتجون بإطلاق الآية في مورد الوضوء، فكيف يمكن أن يقال أنّها في مورد التيمم ليست في مقام البيان؟ و ثانياً: أنّ الموضوع في التيمم هو غير الواجد لا المضطر، و الفاقد و إن كان مضطراً لكنّه عنوان ملازم و ليس بموضوع للحكم، فإذا كان الموضوع هو الفاقد للطهارة المائية يتحقق الموضوع في المقام، ويحكم بإيجاب التيمم و عدم لزوم الإعادة و القضاء بحكم أنّ الآية في مقام البيان.

نعم انّه) قدس سره (سلّم جواز البدار عند التقية لدليل خاص و قال: قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد لكن بدليل خاص مع فرض تمكن المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت: منها موارد التقيّة حيث يجوز البدار فيها واقعاً و إن علم المكلّف بارتفاعها في أثناء الوقت و تمكّنه من العمل بلا تقية.(1)

و أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا كان لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل، بمعنى أنّ ما دلّ على شرطية الطهارة المائية شاملة لهذه الصورة، و انّ الشارع لم يرفع اليد عن الشرط في هذه الصورة، فعدم الإجزاء واضح فيحتاج إلى الإعادة في الوقت و القضاء خارجه.

و أمّا الصورة الثالثة: أعني ما إذا كان الدليلان مهملين، فالمتّبع هو الأصل، و هو عند المحقّق الخراساني في المقام هو البراءة عن إيجاب الإعادة و القضاء، لأنّه شكّ في التكليف.

توضيحه: أنّ التكليف بالأمر الواقعي لم يكن فعلياً في زمن الاضطرار و إنّما الفعلي هو التكليف الظاهري، و المفروض انّه امتثله، و بعد ارتفاع العذر يشكّ في

ص:379


1- - المحاضرات: 2362/235.

فعلية الحكم الواقعي و عدمها، و معه يكون الشكّ في حدوث تكليف آخر بالإعادة أو القضاء و هو مدفوع بالأصل مع احتمال كون الأمر الظاهري وافياً بمصلحة الأمر الواقعي.

يلاحظ عليه: بأنّ محط البحث عدم وجود إطلاق في ناحية البدل، و معه لا علم بفعلية التكليف الظاهري أيضاً إذ يحتمل أن يكون الشرط المسوّغ للتيمّم هو استيعاب العذر و المفروض خلافه، و عند ذلك يكون مرجع الشكّ في المقام إلى دوران الأمر بين الواجب التخييري أو التعييني، إذ لو كان العذر في بعض الوقت كافياً في إقامة الصلاة مع الطهارة الترابية يكون المكلّف مخيراً بين إتيانها في أوّل الوقت بالطهارة الترابية أو الصبر إلى ارتفاع العذر و الإتيان بها مع الطهارة المائية، و هو مخيّر بين هذا و بين الصبر إلى ارتفاع الضرر و التمكّن من الطهارة المائية، و من المعلوم أنّ في دوران الأمر بين الواجب التخييري و الواجب التعييني هو الأخذ بالثاني. لأنّ في العمل بما يحتمل التعيين علم بالبراءة القطعية بخلاف الأخذ بأحد طرفي الواجب التخييري المحتمل ففيه احتمال البراءة.

ثمّ إنّ السيّد الأُستاذ وافق القائل في كون المرجع هو البراءة و لكن خالفه في التقرير.

فانّ الأوّل اعتمد على أنّ التكليف الظاهري الفعلي قد امتثل، و التكليف الواقعي غير الممتثل مشكوك حدوث وجوبه.

و أمّا السيّد الأُستاذ فقد دعمه بوجه آخر، و قال:

بأنّه في حال العذر المؤقت قاطع بعدم الأمر بالإتيان بالصلاة

ص:380

مع الطهارة المائية، و لكن يحتمل أن يكون مأموراً بالأمر الاضطراري فقط، فيأتي به رجاء امتثاله على فرض الأمر به، فإذا أتى به رجاءً يشكّ في حدوث الأمر الآخر بالصلاة مع الطهارة المائية، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف لا إلى سقوطه بعد العلم به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يصحّ بعد الإتيان بالأمر الاضطراري المحتمل، فيقال: الأوّل قطعي الارتفاع و الثاني مشكوك الحدوث، و أمّا إذا لوحظ التكليف أوّل الوقت قبل الإتيان بالفرد الاضطراري فانّه عندئذ يعلم بتوجه أحد الأمرين:

1. التخيير بين امتثال الأمر الظاهري أو الأمر الواقعي.

2. تعيّن امتثال الأمر الواقعي فقط.

و من المعلوم أنّ المرجع في مثله، هو الأمر التعييني المحتمل، لأنّ فيه البراءة القطعية من التكليف دون الأوّل.

المقام الثاني: في العذر المستوعب

و الصور المتصوّرة فيه اثنتان:

1. أن يكون لدليل البدل إطلاق.

2. أن يكون كلّ من دليلي البدل و المبدل مهملين.

و لا يتصور هناك عكس الصورة الأُولى بأن يكون لدليل المبدل إطلاق دون البدل، لأنّ لازم شرطية الطهارة المائية في الصلاة في العذر المستوعب هو جواز ترك الصلاة بتاتاً، و هو غير جائز لعدم جواز ترك الصلاة على كلّ حال.

أمّا الصورة الأُولى فلا شكّ في الإجزاء، لأنّ المفروض انّ لدليل البدل إطلاقاً يعمُّ العذر المستوعب، و لم يرد فيه الأمر بالقضاء خارج الوقت، من غير فرق بين القول بوحدة الأمر كما هو واضح، و بين تعدده كما عليه القوم.

ص:381


1- - تهذيب الأُصول: 1/188.

أمّا الأوّل فلأنّ الواجب هو الجامع المتحقّق بالفرد الاضطراري، و من المعلوم أنّه يسقط التكليف عندئذ لفرض تحقّق الطبيعة في فرد واحد.

و أمّا على القول بتعدد الأمر فالأصل أيضاً هو البراءة، لأنّ البحث على أساس أنّ القضاء بأمر جديد مستفاد من قوله) عليه السلام (:» من فاتته فريضة يقضي ما فاته كما فاته «.(1) فإيجاب القضاء يحتاج إلى صدق عنوان الفوت و هو مردّد بين العناوين التالية:

1. فوت الواجب بالأمر الظاهري، و المفروض أنّه لم يفت.

2. فوت الفريضة الواقعية الفعلية، و هو خلاف المفروض، إذ لا فعلية لأمر الصلاة بالطهارة المائية حتى يصدق على المورد فوت الفريضة الواقعية الفعلية.

3. فوت الملاك الواقعي، و هو مشكوك، لاحتمال قيام الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية في هذه الحالة، فلا علم بفوت الملاك.

فتلخّص من ذلك أنّه لا محيص من القول بالبراءة في العذر المستوعب على كلا المبنيين، سواء كان هناك أمر واحد أو أمران.

أمّا الأمر الواحد فقد امتثله، و أمّا الأمران فالثاني منهما مشكوك الحدوث لأنّ حدوثه فرع صدق الفوت و هو دائر بين فوت الفريضة الظاهرية الفعلية أو فوت الفريضة الواقعية الفعلية أو فوت الملاك.

أمّا الأوّل فقد امتثله، و أمّا الثاني و الثالث فهما مشكوكا الحدوث.

ص:382


1- - الوسائل: 5، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 1.
الموضع الثالث إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أمراً:

إنّ العمل بالأمارات و الأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف; كما إذا قامت الأمارة على أنّ الواجب هو صلاة الجمعة، و تبين أنّ الواجب هو الظهر، فلا معنى للبحث في الإجزاء، أي إجزاء امتثال أمر موهوم عن امتثال أمر واقعي، فلأجل ذلك نضرب الصفح عنه في كلا الموردين: الأمارات و الأُصول.

و أُخرى يكون لغاية استكشاف خصوصيات المكلّف به من كون شيء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً أو عدم كونه كذلك، فالنزاع منصبّ على هذا القسم.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موردين:

الأوّل: العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف
اشارة

إذا عمل بالأمارة لاستكشاف خصوصيات المكلّف به، مثلاً: إذا صلّى إنسان أو توضأ أو اغتسل أو حجّ على وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً على قول الشارع بحجّية خبره ثمّ بان الخلاف، فهل يكون مجزياً أو لا؟ ذهب المتأخرون من الأُصوليين، منهم: المحقّق الخراساني و السيد الأُستاذ، إلى عدم الإجزاء عند ظهور الخلاف، سواء انكشف الخلاف بعلم وجداني أو

ص:383

بأمارة شرعية، و ذلك:

لأنّ لسان الأمارات لسان ما هو الشرط واقعاً، فانّ دليل حجّيتها حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك بل كان شرطه فاقداً.(1)

و بعبارة أُخرى: انّ لسان دليل التعبد بالأمارات هو التعبّد بها بما انّه طريق إلى الواقع و كاشف عنه و انّ الواقع متحقّق هنا، فإذا تعبّدنا الشارع بالعمل بالأمارة لأجل هذه الحيثية ثمّ تبيّن الخلاف و انّه لم يكن طريقاً و لا كاشفاً و لا الواقع متحقّقاً، يتبين أنّه لم يكن هنا تعبد بالعمل بها في هذا المورد، و معه كيف يمكن القول بالإجزاء؟ و بعبارة ثالثة: انّ العمل بالأمارات لأجل الكشف عن الواقع دون تصرّف فيه و لا انقلاب الواقع عنه إلى مدلول الأمارة، فعندئذ فالذي تعلق به الأمر لم يحصل، لتخلّف الأمارة، و الذي حصل لم يتعلق به الأمر.(2)

هذا هو الظاهر من كلّ من قال بعدم الإجزاء في العمل بالأمارات و البيّنات.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ المعيار في حجيّة الأمارة و إن كان هو الكشف عن الواقع غير أنّ المراد من الكشف هو الكشف النوعي الغالبي لا الكشف الدائمي، و ذلك واضح لمن لاحظ الأمارة، فانّ الثقة ليس بمعصوم و إنّما يُصيب قوله الواقع في أكثر الموارد لا جميعها، فمن اعتبره حجّة فإنّما اعتبره بهذا الملاك أي كونه كاشفاً عن الواقع في غالب الموارد، فإذا كان هذا هو الملاك فهو موجود في عامّة الموارد حتّى فيما خالف الواقع.

ص:384


1- - الكفاية: 1/133.
2- - تهذيب الأُصول: 1/147.

ثانياً: أنّ بين الأمر بالعمل بالأمارة حتّى على القول بالطريقية و الاكتفاء بمدلول الأمارة في مقام الامتثال ملازمة واضحة، و تعد هذه الملازمة من المداليل العرفية التي هي حجّة عندهم و تكون حجّة على العبد، و نوضح الملازمة بالمثالين التاليين:

أ. إذا أمر المولى عبده بأن يهيئ له دواء ليتداوى به، و أمره بأن يسأل صيدلياً بالخصوص عن نوعية اجزائه و كميته و كيفية تركيبه، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب، ثمّ ظهر أنّ الصيدلي كان قد أخطأ في مورد أو موردين، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه، و يرون عمله مسقطاً للتكليف، من دون إيجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولى مجدداً.

ب: إذا أمر عبده ببناء بيت، و أمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس متخصص و معمار ماهر، و اتبع العبد أوامره فبنى البيت، لكن تبيّن خطأ المهندس أو المعمار، فانّ العبد معذور، و العمل مجز، اللّهمّ إلاّ أن يأمره بالإعادة.

و الإنسان المتشرع إذا خوطب بهذه الارتكازات، بوجوب العمل بقول الثقة ينتقل منه إلى أنّ الشارع قد اكتفى في تحصيل مقاصده بما تؤدي إليه الأمارة تسهيلاً للأمر على العباد، فانّ الشارع واقف على أنّ إلزام المكلّف بتحصيل العلم يوجب العسر و الحرج و رغبة الناس عن الدين. هذا من جانب، و من جانب آخر وقف على أنّ العمل بالأمارة يؤدّي إلى تحصيل مصلحة المولى بنسبة عالية أي تسعين بالمائة، و لذلك أمر بالعمل بها مكتفياً في تحصيل مقاصده و مصالحه بهذا المقدار لما أنّ في الأمر بتحصيل العلم عسراً و حرجاً.

و هذا البيان يقتضي كون العمل بالأمارة موجباً للاجزاء عند كشف الخلاف

ص:385

مطلقاً، سواء انكشف بدليل قطعي أو بأمارة.

فإن قلت: إنّ لسان دليل حجّية الأمارة هو الطريقية، لأنّ الشارع تعبّدنا بالأمارة بحيثية خاصة و هي كونها طريقاً إلى الواقع كاشفة عنه، و تحقّق الواقع في موردها، و المفروض عدم تحقّق هذه الحيثية فينتج عدم وجود التعبّد في ذلك الموضع و إنّما تخيلنا التعبد.

قلت: إنّ الملاك للتعبّد هو الكشف النوعي، و الملاك بهذا المعنى متحقّق في العمل بالأمارات.

و المستدل تصوّر أنّ الملاك هو كونه كاشفاً في عامّة الموارد، و هو كما ترى! لأنّ الأمارات توافق الواقع غالباً لا دائماً فالخلط بين كون التعبّد بملاك الكشف الدائم أو الكشف الغالب صار سبباً لاختيار القول بعدم الإجزاء.

و الأوّل و إن كان غير موجود لكنّه ليس بملاك، و الثاني موجود و هو الملاك.

أسئلة و أجوبة

إن قلت: إنّ الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة، و الإجزاء غير مختصة بالعمل بها لأجل استكشاف الأجزاء و الشرائط، بل يعمّ ما إذا عمل بها عند استكشاف أصل التكليف و على ضوء ذلك يلزم القول بالإجزاء في كلتا الصورتين.

قلت: فرق واضح بين عدم امتثال أمر المولى أصلاً، و بين امتثاله على وجه غير تام، ففي مجال استكشاف أصل التكليف إذا تخلفت الأمارة عن الواقع لم يُمتثل أمر المولى، أصلاً، فكيف يحكم بالإجزاء؟! بخلاف التخلف في استكشاف الأجزاء و الشرائط فقد قصد الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر، مثلاً، غاية الأمر أتى بالمأمور به ناقصاً فبانسحاب الأمر عن الأجزاء العشرة إلى الأجزاء التسعة، كما هو

ص:386

مقتضى جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية و الشرطية، يكون المأتي به متعلّقاً للأمر الواقعي لأجل انسحاب الأمر عن الجزء المجهول و استقراره على ما سواه.

فإن قلت: إنّ القول بالإجزاء يستلزم التصويب، لأنّ رفع اليد عن جزئية السورة في حقّ من قامت عنده الأمارة على عدم الجزئية يوجب اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل و هكذا سائر الموارد.

قلت: إنّ التصويب عبارة عن إنكار الحكم المشترك الإنشائي بين العالم و الجاهل، و هو موجود، و انّ المرتفع هو فعلية الحكم أو تنجزه، و هو ليس بمحذور، و ليس للقائل بعدم الاجزاء أيضاً القول بفعلية الحكم أو تنجزه في حقّ الجاهل.

فإن قلت: إنّ لازم إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة هو عدم الإجزاء، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الأمارة و هو يناقض القول بالإجزاء الذي مقتضاه كون المحور مؤدى الأمارة.(1)

قلت: هذا ما استند إليه السيّد الأُستاذ في القول بعدم الإجزاء، و لكنّه غير تام، لأنّ إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة غالباً لا دائماً، و مثل هذا لا يستلزم أن يكون الملاك هو الواقع، بل يستلزم كون الملاك هو الواقع الغالب و هو متحقّق، فلا يلزم من القول بالكاشفية و الإجزاء الجمع بين النقيضين.

و حصيلة الكلام: انّ الأمارات حجّة من باب الكاشفية النوعية، و التعبّد بها لأجل هذا الملاك، و هذا الملاك موجود في عامة الموارد هذا من جانب، و من جانب آخر وجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل على وفق الأمارة و بين اجتزاء المولى بما أدّت إليه الأمارة و إن خالفت في بعض الموارد.

و لذلك قوّى شيخنا الأُستاذ دام ظلّه في كافة دوراته الأُصولية كون

ص:387


1- - تهذيب الأُصول: 1/191.

العمل بالأمارات في إثبات الجزئية و الشرطية و المانعية أو نفيها موجباً للإجزاء و إن خالف الواقع.

و ليس هذا القول ملازماً للقول بالتصويب لثبوت الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، كما ليس القول بالإجزاء مضاداً للقول باعتبار الأمارة من باب الكاشفية، لأنّ الكاشفية الغالبية لا تزاحم القول بالاجزاء، و انّما تزاحمه إذا كان الملاك هو الكاشفية الدائمية.

الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (ممّن تفرّد بين معاصريه في القول بالإجزاء عند تخلّف الأمارة، و استدلّ على ما رامه بما هذا حاصله: انّ دليل حجّية الأمارة حاكم على دليل الشرائط و الاجزاء و الموانع فيما إذا كانت الشبهة موضوعية فإذا قال الشارع: صلّ في طاهر، كان المتبادر من لفظ» طاهر «هو الطهارة الواقعية، و كان الشرط لو لا الدليل الحاكم لصحّة الصلاة هو الطهارة الواقعية، و لكن لما جعل الشارع قول الثقة حجّة و أخبر هو عن طهارة الثوب المعيّن تصير نتيجة الجمع بين الدليلين هو توسعة المأمور به الصلاة في الثوب الطاهر و انّه تجوز الصلاة في ثوب طاهر واقعاً أو محكوم بالطهارة ظاهراً، فلو صلّى مع ثوب هذا شأنه، فقد حازت صلاته شرط الصلاة واقعاً، لأنّ الشرط واقعاً أعمّ من الواقعي و الظاهري، و تخلّف الأمارة يوجب ارتفاع الشرط من حين التخلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في أدلة الأُصول العملية كقاعدتي الطهارة و الحلية اللتين للشارع دور تأسيسي في حجيّتهما.

ص:388


1- - نهاية الأُصول: 1/129.

فإذا قال الشارع صلّ في طاهر، ثمّ قال:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «، فاقتران الثاني بالأوّل يوجب حكومته عليه، بمعنى أنّ الشرط للصلاة واقعاً هو الطهارة الأعم من الواقعية و الظاهرية، و أمّا أدلّة حجّية الأمارات فليس للشارع هناك دور لا تأسيساً و لا إمضاءً، بل غاية الأمر هو عدم الردع، و من المعلوم أنّ الحكومة تقوم باللفظ، و المفروض سكوت الشارع في مقابل عمل العقلاء بقول الثقة، و كون سكوته كاشفاً عن الرضا، فما هذا حاله كيف يكون حاكماً على دليل الشرائط و الاجزاء؟! مع أنّه لم يرد منه في مورد حجّيتها دليل لفظي، و سيوافيك عند البحث في حجّية خبر الواحد أنّ ما استدل به القوم على الحجّية ناظر إلى بيان الصغرى لا إلى الكبرى، و كأنّ الكبرى كانت عندهم أمراً مسلماً و إنّما حاولوا إحراز الصغرى و انّ فلاناً هل هو ثقة أو لا، و في مثل هذا المورد الذي ليس هناك دليل لفظي حول الحجّية كيف يمكن استظهار الحكومة التي هي قائمة باللفظ؟ و الأولى التمسّك بما ذكرنا من الملازمة في دائرة المولوية و العبودية بين صحّة العمل بقول الثقة و الاكتفاء في مجال الطاعة على ما أدّت إليه الأمارة.

تفصيل بين الانكشاف الوجداني و غيره

و ربّما يفصل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني فلا يجزي، أو بحجّة معتبرة فيجزي، لأنّ الحجّة اللاحقة كالسابقة، فكما يحتمل أن تكون الحجّة اللاحقة مطابقة للواقع كذلك يحتمل أن تكون الحجّة السابقة مطابقة للواقع و إن كان الواجب على من قامت عنده الحجّة الثانية العمل على مفادها.

يلاحظ عليه: أنّه لو أغمضنا النظر عن الملازمة العرفية، فالحقّ هو عدم الإجزاء في كلتا الصورتين، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، و المفروض

ص:389

في كلتا الصورتين عدم تحصيل البراءة اليقينية فيهما، فالعلم السابق بالتكليف كاف في عدم الإجزاء حتى يعلم الخروج عنه، إمّا بعلم قطعي أو بحجّة شرعية، فالعلم غير موجود و الحجّة الشرعية الأُولى متعارضة مع الحجّة الشرعية الثانية.

التفصيل بين الطريقية و السببية

و قد فصّل صاحب المحاضرات بين الطريقية و السببية، و أنّ الحقّ على الأولى هو عدم الإجزاء، لأنّ ما أُتي به ليس بمأمور به، و المأمور به ليس بمأتي به. و المفروض أنّ الصحّة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت، و القضاء في خارجه، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به.(1)

يلاحظ عليه: بمنع عدم مطابقة المأتي به للمأمور به، فانّ الملازمة العرفية تكشف عن انسحاب الوجوب عن الجزء أو الشرط الذي قام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً، فيكون الواجب الفعلي في حقّه ما أتى به، فيكون المأتي به مأموراً به.

بقي الكلام في الإجزاء على القول بحجّيتها من باب السببية فقبل الخوض في المقصود نذكر أقسام السببية.

أقسام السببية

إنّ للسببية تفاسير ثلاثة:

الأوّل: ما ينسب إلى الأشاعرة، و هو إنكار الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و انّ أحكامه سبحانه تابعة لآراء المجتهدين أو الأمارات و الأُصول

ص:390


1- - المحاضرات: 2/260.

القائمة في المورد، و هذا النوع من التصويب يستلزم الدور، لأنّ البحث و التفحّص و الاجتهاد آية وجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، فيبحث عن العثور عليه، فلو فرض تحقّق وجوده تابعاً للفحص و البحث يلزم الدور لكن لا أظن انّ الأشاعرة تقول بالسببية بهذا المعنى، و قد أثبتنا في رسالة الاجتهاد و التقليد أنّهم لا يقولون بالتصويب إلاّ فيما لا نصّ فيه من الأحكام التي فوّض تشريعها في نظرهم إلى الحكام و المجتهدين، و امّا المشرَّع من الأحكام فالحكم الواقعي غير تابع لآراء المجتهدين و قيام الأمارة، فلو كان للسببية مفهوم عند الأشاعرة فإنّما هو بهذا المعنى.

الثاني: ما هو منسوب إلى المعتزلة، و حاصله: تسليم الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، غير أنّه إذا طابقت الأمارة الواقع تنجزه، و إن خالفت الأمارة الواقع ينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة، فيكون مضمونها هو الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة على وفقه.

و هذا القول و إن كان يسلّم وجود الحكم الواقعي المشترك بين العالم و الجاهل، و لكنّه يخصّه بالعالم دون من قامت الأمارة عنده على خلاف الواقع، و إلاّ ينقلب الواقع إلى مضمون الأمارة.

الثالث: ما اختاره بعض علمائنا الإمامية و على رأسهم الشيخ الأنصاري حيث ذهب إلى أنّ الأمارة إذا طابقت الواقع تجزي بلا إشكال.

و أمّا إذا خالفت الواقع فبما أنّ العمل بها مفوت لمصلحة الواقع يجب أن يكون هناك ما يجبر به تلك المصلحة الفائتة.

و ليس هنا شيء سوى القول بالمصلحة السلوكية، و انّ في تطبيق العمل على مفاد الأمارة مصلحة، فهذه المصلحة القائمة بنفس السلوك لا بمؤدى الأمارة

ص:391

جابرة للمصلحة الفائتة القائمة بالمؤدّى.

و قد اعترض المحقّق الخوئي على هذا النوع من السببية و قال: بأنّ المصلحة الواقعية إذا كانت حاصلة بأحد أمرين:

الأوّل: الإتيان بالواقع كصلاة الظهر مثلاً.

الثاني: سلوك الأمارة الدالّة على وجوب الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف، فيمتنع عندئذ تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر، لقبح الترجيح من دون مرجح، و معه كيف يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم و الجاهل؟! بل يكون الحكم الواقعي تعيينياً في حقّ العالم، و تخييرياً في حقّ الجاهل.(1)

يلاحظ عليه: انّ المطلوب بالذات هو المصلحة القائمة بالمتعلّق و أمّا المصلحة السلوكية فهي في طول الاولى تحدث لأجل جبر ما فات، فإذا كان لها تلك المكانة فكيف يمكن أن يؤمر بها على وجه التخيير؟

حكم الإجزاء على التفاسير الثلاثة

إذا عرفت أنّ السببية على أقسام ثلاثة فلا شكّ أنّ العمل بالأمارة موجب للإجزاء على القولين الأوّلين، إذ لا واقع للحكم الشرعي فيما لا نصّ فيه سوى مفاد الأمارة من أوّل الأمر على القول الأوّل، و انقلاب الواقع إلى مفادها عند المخالفة على القول الثاني فلا يتصوّر فيه التخلّف.

إنّما الكلام في الإجزاء على القول بالسببية بالمعنى الثالث، و يختلف حكم الإجزاء حسب اختلاف الفائت، فإن كان الفائت فضيلةَ أوّل الوقت، كما إذا بان

ص:392


1- - المحاضرات: 2/272.

الخلاف قبل خروج الوقت، فالمتدارَك هي الفضيلة لا مصلحة أصل الوقت و لا الصلاة فتجب الإعادة، و أمّا إذا كان الفائت مصلحة الوقت و بالتالي مصلحة الصلاة فلا بدّ أن تكون المصلحة الفائتة متداركة بالسلوكية كما هو المفروض، فلا يجب القضاء.

هذا كلّه إذا كان وجه الحجّية معلوماً و انّ الأمارة حجّة من باب الطريقية المحضة أو السببية المحضة، و أمّا إذا لم يعلم وجه الحجّية بل صار وجهها مردداً بين الطريقية و السببية، و هذا هو الذي أفاض فيه الكلام المحقّق الخراساني قرابة صفحة واحدة مع غاية الإيجاز، فخرج بالنتيجة التالية: أنّه تجب الإعادة دون القضاء، و بما انّ هذا الموضع من الكفاية معقد جدّاً نشرحه على النحو التالي:

إذا كان وجه الحجّية غير معلوم

ذكر المحقّق الخراساني ما هذا حاصله:

إذا بان الخلف و الوقت باق، تجب عليه الإعادة، للأصل و هو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف، فهذا الأصل يقتضي الإعادة في الوقت.

لا يقال: انّ هنا أصلاً آخر يعارضه و هو استصحاب عدم كون التكليف في الواقع فعلياً في الوقت.

و بعبارة أُخرى: لم يكن الواقع فعلياً قبل الزوال و بعده مع قيام الأمارة على خلاف الواقع و نشكّ في فعليته، فالأصل بقاؤه على ما كان عليه من عدم الفعلية.

لأنّا نقول: إنّ الواجب على المكلّف احراز إنّ ما أتى به مسقط للتكليف، و قد علم اشتغال ذمته و شكّ في فراغها بالمأتي. و ما أُشير إليه من الأصل أي عدم فعلية الواقع لا يثبت أنّ المأتي به مسقط إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ص:393

و الحاصل: انّ المطلوب بعد العلم باشتغال الذمة هو العلم بالمسقط أو قيام الحجّة عليه، و الأصل الثاني لا يثبت كون المأتي به مسقطاً، و إنّما يدلّ على عدم فعلية الواقع في حقّه، و لازم ذلك و إن كان مسقطية المأتي به لكنّه أصل مثبت.

فإن قلت: ما الفرق بين المقام و بين المقامين الآخرين:

1. الأوامر الاضطرارية، إذا فقد الماء في أوّل الوقت و وجده في آخره.

2. الأوامر الظاهرية، إذا أحرزت انّ الحجّية من باب السببية، حيث مرّ عدم وجوب الإعادة في هاتين الصورتين عند ارتفاع الاضطرار أو تبين الخلاف؟ قلت: الفرق بينهما واضح و هو وجود العلم بوجوب الفرد الاضطراري أو الفرد المأمور به بالأمر الظاهري) لأجل القول بالسببية (فيهما، و قد امتثل ما علم به و بعد ارتفاع الاضطرار أو الجهل في الوقت يشك في حدوث وجوب آخر يتعلّق بإتيان الفرد الاختياري أو الفرد الواقعي و الأصل عدم حدوثه.

و أمّا المقام فليس هناك أيّ علم بوجوب الفرد الظاهري، و ذلك لأنّ الأمارة لو كانت حجّة من باب السببية فالفرد مأمور به، و إن كانت حجّة من باب الطريقية فليس بمأمور به، فينتج أنّه ليس لنا علم قطعي بوجوب الفرد المأتي به حتى يقال: انّ ما علم قد امتثل و ما لم يمتثل) الفرد الواقعي (يُشك في حدوث الوجوب المتعلق به، فيكون المرجع هو أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف و هي تقتضي الإعادة في الوقت.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى السؤال و الجواب من دون طرح السؤال بقوله:» و هذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً و شكّ في أنّه يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأوّلي، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً على أنّ

ص:394

الحجّية على نحو السببية «. فهذه العبارة تشتمل على سؤال مقدر مفاده أي فرق بين المقام و تينك الصورتين؟ كما تشتمل على جواب و هو وجود العلم بالتكليف قبل رفع العذر و الجهل و قد امتثله و الشكّ في حدوث تكليف آخر في الصورتين، بخلاف المقام فانّ الشكّ فيه في أصل سقوط التكليف.

هذا كلّه حول الأداء و أمّا القضاء فقد بنى الحكم بالقضاء على ما اختاره في الإعادة من أنّ المحكم هو عدم الإتيان بالمسقط، فهنا صور ثلاث:

1. إذا قلنا إنّ القضاء بالأمر الجديد، أعني» من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته «و انّ الفوت الذي هو موضوع لهذا الأمر، أمر وجودي لا يحرز بالأصل أي أصالة عدم الإتيان بالواقع.

2. تلك الصورة، لكن الفوت الذي هو موضوع للأمر الجديد، أمر عدمي قابل للإثبات بالأصل.

3. انّ القضاء بنفس الأمر الأوّل من دون حاجة إلى الأمر بالقضاء فكان إتيان الطبيعة مطلوباً و إتيانه في الوقت مطلوباً ثانياً.

فعلى الأوّل لا يجب القضاء لعدم ثبوت الموضوع حتّى يثبت التكليف الجديد بخلاف الصورتين الأخيرتين، فيجب القضاء امّا لثبوت الموضوع بالأصل، إذا كان بأمر جديد، أو لكفاية نفس الأمر الأوّل في إثبات القضاء.

هذا إيضاح ما أفاده في» الكفاية «.

يلاحظ على ما ذكره في أمر الإعادة: أنّ الظاهر عدم وجوب الإعادة في المقام كالصورتين الأخيرتين لعدم العلم بثبوت التكليف أزيد ممّا أتى، و ذلك لأنّه لو كانت الأمارات حجّة من باب الطريقية، أو السببية السلوكية فالواجب هو الواقع دون ما أدّت إليه الأمارة، غاية الأمر تكون المصلحة السلوكية جابرة لفضيلة

ص:395

الوقت، دون مصلحة أصل الوقت و الفعل، فتجب الإعادة.

و إن كانت الأمارات حجّة من باب السببية بالمعنيين الأوّليين، فقد أتى بما اشتغلت به ذمّته، و عند ذلك ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي و شكّ بدوي، لأنّه يعلم بتوجّه الوجوب إليه و هو متعلّق إمّا بالصلاة التي صلاّها أو الصلاة التي لم يصلها، و مثل هذا العلم لا يؤثر، لأنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، و ليس هذا النوع من العلم كذلك، لأنّه على فرض لا يحدث تكليفاً، لأنّ المفروض أنّه امتثله، و على الفرض الثاني و إن كان محدثاً للتكليف لكنّه مشكوك، و هذا نظير ما إذا علم بعد إقامة صلاة الجمعة بأنّ الواجب إمّا الصلاة التي صلاّها أو صلاة الظهر التي لم يصلّها، فلا يؤثر ذلك العلم الإجمالي، نعم لو كان ذلك العلم قبل إقامة صلاة الجمعة يكون مؤثراً.

هذا كلّه حول الإعادة، و أمّا ما أفاده حول القضاء، فالظاهر عدم القضاء على جميع المباني حتى على القول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل، أو الأمر الثاني لكن الفوت أمر عدمي يثبت بالأصل، و ذلك لأنّ القضاء معلّق في لسان الدليل على الفوت الذي هو عبارة أُخرى عن عدم الإتيان بالواجب في الوقت، و المفروض أنّ الموضوع عدم الإتيان بالواجب في الوقت بعد لم يثبت لأنّه على القول بحجّية الأمارة من باب السببية فقد أتى بالواجب، فلم يحرز عدم الإتيان به حتى يتبعه الأمر بالقضاء. نعم لو كان ملاكها هو الطريقيّة وجب القضاء لكنّ الملاك مشكوك.

ص:396

المورد الثاني العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف
اشارة

قد عرفت حكم الامتثال بالأمارات في مجالي استكشاف أصل التكليف، و استكشاف الأجزاء و الشرائط عند ظهور المخالفة، فحان البحث في حكم الامتثال بالأُصول العملية عند ظهور المخالفة.

و بما انّه قد مرّ أنّ التخلّف في أصل الحكم لا يوجب الإجزاء، من غير فرق بين الأمارة و الأصل، نخص البحث بما إذا عمل بالأُصول لاستكشاف أجزاء المكلّف به و شرائطه و موانعه و قواطعه.

و اللازم بالبحث في المقام هي الأُمور التالية:

1. أصالة الطهارة.

2. أصالة الحلّية.

3. الاستصحاب.

4. أصالة البراءة.

5. قاعدة التجاوز.

6. تبدل رأي المجتهد بالنسبة إلى أعماله و أعمال مقلّديه.

و إليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

ص:397

1. أصالة الطهارة و الإجزاء

ذهب أعلام المتأخرين إلى أنّ امتثال قاعدة الطهارة موجب للإجزاء و إن بان التخلّف، معتمدين في ذلك على ما ذكره المحقّق الخراساني، و حاصله:

انّ دليل أصالة الطهارة حاكمة على أدلّة الأجزاء و الشرائط، بتوسعة الموضوع، مثلاً إذا قال الشارع:

» صلّ في طاهر «. فالظاهر منه أنّه يشترط أن يكون اللباس طاهراً واقعياً، فإذا قال بعده:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر «فبالمقارنة نستكشف أنّ الثاني بصدد توسعة الموضوع و أنّ الطهارة التي هي شرط صحّة الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية و الظاهرية.

و على ضوء ذلك: إذا تبيّن أنّ الثوب نجس فانكشاف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى نفس الطهارة و النجاسة حيث تبين انّ الثوب نجس، و أمّا بالنسبة إلى شرط الصلاة فالانكشاف من حينه لا من أصله، لما عرفت من أنّ شرط الصحّة هو الشرط الأعمّ من الظاهري و الواقعي لا الشرط الواقعي فقط حتّى تصحّ نسبة انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الشرط.

و هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في المقام حيث قال:

و التحقيق أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف و تحقيق متعلّقه و كان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل و استصحابهما في وجه قوي و نحوها بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلية، يجزي، فانّ دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط و مبينا لدائرة الشرط و انّه أعمّ من الطهارة الواقعية و الظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل بشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل

ص:398

ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل.(1)

و كان السيد البروجردي يعتمد في درسه الشريف على بيان آخر و هو أنّه إذا صلّى في ثوب طاهر تمسّكاً بأصالة الطهارة، ينطبق على المأتي به عنوان الصلاة فيسقط التكليف المتعلّق به في قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و قد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد للمكلّف في وقت واحد.

فالحكم بالإعادة و القضاء خرق لهذا الإجماع، و معناه وجوب صلاتي الظهر في وقت واحد.

و هناك دليل آخر على الإجزاء و هو التمسّك بالملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأُصول في كيفية الامتثال و إجزاؤه في مقام الامتثال مطلقاً، سواء أ وافق الواقع أم خالفه. و قد مرّ في مورد الأمارة.

2. أصالة الحلية و الإجزاء

يظهر حكم قاعدة الحلية ممّا ذكرناه في أصالة الطهارة بالوجوه الثلاثة، تارة لأجل حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء و الشرائط، و أُخرى بانطباق عنوان الصلاة على المأتي به و سقوط وجوبه بعد الإتيان و عدم وجوب صلاتين من نوع واحد للشخص في يوم واحد و ثالثة من وجود الملازمة بين الأمر بالعمل بأصالة الحلية، و الإجزاء في مقام الامتثال، و الوجوه الثلاثة واضحة لا حاجة إلى التبيين.

3. الاستصحاب و الإجزاء

ذهب المحقّقون من الأصوليّين إلى أنّ الاستصحاب أصل محرِز، و انّ لسانه في الموضوعات كالطهارة و العدالة هو جعل المماثل عند الشكّ، فإذا قال الشارع:

ص:399


1- - كفاية الأُصول: 1/133.

صلّ في طاهر، فإذا شككنا في طهارة ثوب بعد اليقين بطهارته و قال الشارع:» لا تنقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها «فمعناه أنّ الثوب محكوم بالطهارة، فيكون بالنسبة إلى دليل الشرطية حاكماً و جاعلاً للمصداق، غاية الأمر مصداقاً ظاهرياً لا واقعياً، فلو ظهر التخلّف فالتخلّف إنّما هو بالنسبة إلى طهارة الثوب و نجاسته لا بالنسبة إلى كون المكلّف واجداً للشرط، فصلاته كانت صلاة صحيحة تامّة إلى يوم القيامة حتّى و إن ظهر بالعلم القطعي كون الثوب نجساً، فالعلم المتأخر يؤثر في مجال الشرط بالنسبة إلى المستقبل لا بالنسبة إلى الماضي، لأنّ الشرط إذا كان أعمّ من الواقعي و الظاهري لا يتصوّر فيه التخلّف.

و هذا البيان هو الذي نقلناه من المحقّق الخراساني، و يمكن تعضيده بما نقلناه من كلام المحقّق البروجردي، و بما أردفناه من حديث الملازمة، فالجميع يهدف إلى أمر واحد، و هو أنّ الشارع اقتصر في مجال امتثال تكاليفه بما تؤدي إليه هذه الأُصول، سواء أ وافقت الواقع كما هو الحال في 90% أم خالفه كما في 10%، غير أنّ المصلحة التسهيلية دفعت بالشارع إلى الاكتفاء بما أدّت إليه الأُصول مطلقاً. و رفع اليد عن الجزئية و الشرطية في مقام التنجيز عند المخالفة.

4. أصالة البراءة و الإجزاء

إذا شكّ في جزئية شيء كوجوب السورة التامّة شبهة حكمية و أجرى الفحص اللازم فلم يعثر على الدليل في مظانه فأجرى البراءة عن الوجوب و صلّى صلاة بلا سورة تامّة، ثمّ بدا خلافه و أنّ الواجب هو السورة التامّة، فهل يجزي ما أتى به من العمل الناقص أو لا؟ الأقوى هو الإجزاء.

و الدليل على ذلك ما ذكرنا من حديث الملازمة، فإذا قال الشارع: (أَقِمِ

ص:400

اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و كانت الصلاة موضوعة للصلاة التامّة التي من أجزائها السورة الكاملة.

ثمّ قال: إذا شككت في وجوب شيء من أجزاء الصلاة، فهو مرفوع،) و ليس المراد الرفع الواقعي لاستلزامه التصويب، بل المراد الرفع الظاهري، و هو الرفع في ظرف الشكّ (تكون نتيجة الدليلين انّ المولى قد اكتفى في امتثال اغراضه و مقاصده بما أدّت إليه الأُصول في ظرف الشكّ، و بما أنّ مؤداها يوافق الواقع في أكثر الموارد و يخالفه في أقلّها اقتصر بالأكثر و رفع اليد عن الأقل.

و هذه هي الملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها في غير مرّة.

و أمّا القول بالإجزاء من طريق حكومة الأُصول على أدلّة الأجزاء و الشرائط فإنّما يتصوّر في الشبهات الموضوعية، و أمّا الشبهات الحكمية فلا يعقل حكومة الأُصول على الأدلّة الاجتهادية حيث إنّ الأصل دليل حيث لا دليل.

نعم لو كان مجرى البراءة هو الشبهة الموضوعية فهذا المانع غير موجود، إنّما الكلام في كون لسان حديث الرفع لسان الحكومة. فانّ لسانه لسان النفي) رفع (لا جعل المصداق و الإثبات.

5. قاعدة التجاوز و الإجزاء

الظاهر من الروايات الدالّة على عدم الاعتداد بالشكّ عند التجاوز أنّه أصل عقلائي أمضاه الشارع، فقد ورد في غير مورد قوله:» فشكك ليس بشيء «(1)و قوله:» فليمض «.(2) فهذان التعبيران يعبّران عن تجويز الإتيان بالمأمور به بهذه الكيفية، و هو يلازم عرفاً باقتصار الشارع في تأمين مقاصده و أغراضه بما أدّت إليه

ص:401


1- - الوسائل: 5، الباب 23 من أبواب الخلل، الحديث 1.
2- - الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 6.

قاعدة التجاوز تسهيلاً للعباد، فبحكم الملازمة يحكم بالإجزاء.

أضف إلى ذلك ما نقلناه من المحقّق البروجردي بأنّه بعد ما امتثل المأمور به في ظلّ القاعدة ينطبق عليه عنوان الصلاة، لأنّها و إن وضعت للصلاة الصحيحة لكن لها عرضاً عريضاً و مصاديق مختلفة، فإذا انطبق عليه عنوان المأمور به يسقط الأمر لزوماً و إيجاب الإعادة و القضاء يكون بلا ملاك، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب صلاتين من نوع واحد في يوم واحد.

و أما الحكم بالإجزاء عن طريق الحكومة فهو فرع أن يكون اللسان لسان الحكومة بجعل المصداق.

6. انكشاف الخلاف بدليل قطعي

قد عرفت أنّ مقتضى العمل بالأُصول في استكشاف الأجزاء و الشرائط هو الإجزاء من غير فرق بين انكشاف الخلاف على وجه الظن أو على وجه القطع، فلو صلّى صلاة الظهر بلا سورة أو مع سورة ناقصة اعتماداً على الأُصول، أو صلّى في ثوب مشكوك محكوم بالطهارة، و قام الدليل المفيد للعلم بوجوب السورة، أو وجوب السورة الكاملة، لكان ما أتى به مجزياً لما عرفت من حديث الحكومة، أو حديث انطباق عنوان الصلاة، أو الملازمة، و كون الدليل الثاني قطعياً و حجّية القطع ذاتية لا يضرُّ بالمقام لأنّ القطع يكشف عن الحكم الواقعي و يهدم الحكم الظاهري عند وجوده لا الحكم الظاهري في ظرفه، كما أنّه لا فرق بين العبادات و المعاملات تكليفاً و جزءاً و شرطاً و مانعاً، فالأعمال المنطبقة على الأمارات و الأُصول أو فتوى المجتهد مجزية و ان تبيّن الخلاف بقيام حجج قطعية على خلافها.

ص:402

7. تبدّل رأي المجتهد

إذا تبدّل رأي المجتهد إلى رأي آخر أو مات المقلَّد و قلّد مجتهداً آخر، يخالف رأيه، رأي الميت يكفي ما أتى به سابقاً، و ذلك لقصور أدلّة حجّية الاجتهاد الثاني، عن شموله لما مضى، بل القدر المتيقّن هو لزوم تطبيق العمل عليه في المستقبل.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالات على حكومة الأُصول العملية على أدلّة الأجزاء و الشرائط و قد تعرّضنا لها في الدورات السابقة و بيّنا انّها غير تامّة، فمن أراد فليرجع إلى المحصول.(1)

ص:403


1- - المحصول: 4451/440.
تنبيهات ثلاثة
الأوّل: الامتثال اعتماداً على القطع بالأمر

كان الكلام في السابق هو امتثال أمر المولى اعتماداً على دليل شرعي كالأمارة و الأُصول، و أمّا إذا امتثل أمره اعتماداً على قطعه و يقينه فقطع بعدم وجوب السورة الكاملة، أو قطع بطهارة ثوبه فصلى ثمّ بدا خلافه، فهل يكون مجزياً أو لا؟ الجواب: لا يكون مجزياً إذ لا دليل عليه.

لأنّ الدليل المهم على الإجزاء أحد الأمرين:

أ: ادعاء الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة و الأصل و اكتفاء المولى في دائرة المولوية و العبودية بما أتى، و هو إنّما يجري إذا كان هناك أمر من الشارع لكيفية الامتثال، و المفروض انتفاؤه، بل اتبع المكلف حكم العقل بأنّه يجب العمل بالقطع، و نتيجة حكمه عبارة عن التنجّز إذا أصاب و التعذير إذا أخطأ، و هذا غير الإجزاء.

ب: حكومة دليل الأمر الظاهري على الأدلّة الواقعية، كما هو الحال في بعض الأُصول، و هو أيضاً فرع وجود أمر من الشارع و المفروض انتفاؤه.

الثاني: القول بالإجزاء لا يلازم التصويب

ربّما يتهم القائل بالإجزاء بالقول بالتصويب مع أنّه لا ملازمة بين القولين، سواء كان الدليل رافعاً للحكم أو موسّعاً لدائرة الشرط.

ص:404

فالأوّل: كما إذا قامت الأمارة على عدم وجوب السورة الكاملة ثمّ بان الخلاف.

و الثاني: كما إذا أثبت الأصل طهارة شيء و حليته.

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الأُولى أي إذا كان الدليل رافعاً لوجوب الشيء فلأنّ مورد توهّم التصويب أحد الأُمور التالية:

أ: القول بالإجزاء بمعنى إنكار حكم اللّه المشترك بين العالم و الجاهل، فحكم العالم هو وجوب الصلاة مع السورة الكاملة، و حكم الجاهل وجوبها بلا سورة، فالحكم المشترك بينهما منتف.

يلاحظ عليه: أنّ الحكم المشترك بين العالم و الجاهل في مرحلة الإنشاء محفوظ، فما شرعه اللّه سبحانه و بلغه إلى النبي حكم مشترك بين الطائفتين بلا فرق بين العالم و الجاهل.

ب: القول بالإجزاء يلازم عدم فعلية الحكم في حقّ الجاهل، و فعليته في حقّ العالم، و هذا أيضاً نوع إنكار لحكم اللّه المشترك.

يلاحظ عليه: أنّ تخصيص الفعلية بالعالم و إخراج الجاهل عنها أمر مشترك بين القائل بالإجزاء و النافي له، و ذلك لقبح خطاب الجاهل فعلاً.

ج: القول بالإجزاء يلازم قبول الناقص مكان الكامل.

يلاحظ عليه: بأنّه ليس أمراً بديعاً، فقد اتّفق الكل على سقوط بعض الأجزاء و الشرائط عن المطلوبية بعد الإتيان بالفرد الناقص من الصلاة، لحديث» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة «(1)فلو أتى بالصلاة بلا سورة جهلاً أو نسياناً فصلاته صحيحة بلا إشكال.

ص:405


1- - الوسائل: 4، كتاب الصلاة، الباب 10، من أبواب الركوع، الحديث 5.

أمّا عدم لزوم التصويب في الصورة الثانية، أعني: فيما إذا قام الأصل على طهارة ثوب و كان الواقع على خلافه، فالأصل الثاني يكون مبيّناً لموضوع دليل الجزئية و مبسّطاً له، و أين هذا من التصويب؟! فإذا قال المولى:» صل في طاهر «فدليل أصالة الطهارة بالنسبة إليه بمنزلة المفسّر للدليل الأوّل و لا معنى لتصور التصويب عند تفسير أحد الدليلين الدليلَ الآخر.

نعم دليل الأصل يخصص دليل الجزئية و الشرطية، لا دليل نجاسة البول إذا كان الثوب متنجّساً بالبول.

فقوله) عليه السلام (:» اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه «(1)فيفهم منه نجاسة هذه الأبوال مطلقاً لا في حالة العلم، فدليل الأصل لا صلة له بأدلّة النجاسات.

فتلخّص انّ حديث التخصيص بالنسبة إلى أدلّة النجاسات منتف، و أمّا توسيع شرط الصلاة من الظاهرية إلى الأعم من الواقعية و الظاهرية فليس بتصويب، بل حكومة دليل على دليل.

التنبيه الثالث: في مسائل تترتّب على الاجزاء
اشارة

إنّ هنا مسائل فقهية تترتب على مختار الفقيه في باب الإجزاء و هذه المسائل مبثوثة في أبواب الفقه، نختار منها ما يلي:

المسألة الأُولى: إذا اختلفت فتوى السابق مع اللاحق

قال السيد الطباطبائي في العروة الوثقى:

المسألة 53: إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع و اكتفى

ص:406


1- - الوسائل: 2، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

بها، أو قلّد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة، ثمّ مات ذلك المجتهد، فقلّد من يقول بوجوب التعدد، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

و كذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات و قلّد من يقول بالبطلان، يجوز له البناء على الصحّة. نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.

و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات و قلّد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة و إن كانت مع استعمال ذلك الشيء، و أمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته.

و كذا في الحلية و الحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً، فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، و أمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه، و لا أكله، و هكذا.(1)

و هذه المسألة صارت محلاً للنقاش و الجدل و قد علّق عليها العلماء تعاليق وافقوا المتن في بعض الموارد و خالفوه في بعض آخر، و نحن نذكر ما هو المختار عندنا، نقول:

يقع الكلام تارة في عبادات المكلّف، و أُخرى في معاملاته بالمعنى الأعم كحلية الحيوان المذبوح، و طهارة الثوب و البدن، و ثالثة في الموضوعات التي تعد أثراً خارجاً عن إطار فعل المكلّف كالكحول و الفقاع إذا أفتى المجتهد الأوّل بطهارتهما و الآخر بنجاستهما، و هما موجودان في وعائهما في كلتا الحالتين، و إليك الكلام في الموارد الثلاثة.

ص:407


1- - العروة الوثقى، فصل التقليد، المسألة 53.
1. حكم العبادات

الظاهر أنّ كلّ ما أتى به من العبادات يُعد أمراً صحيحاً، و إن كان يجب عليه تطبيق العمل في المستقبل على قول المجتهد الثاني، فما صدر منه من الأفعال و كان صحيحاً حسب الحجّة الأُولى يحكم عليها بالصحة حتّى بعد تقليد المجتهد الثاني لوجوه:

الأوّل: أنّ الحجة الثانية تُسقط الحجة السابقة عن الاعتبار في المستقبل مع بقائها على وصف الحجّية بالنسبة إلى ما سبق، لا أنّ الحجّة الثانية تكشف عن عدم حجّية السابقة في ظرفها، فالأُولى حجّة فيما سبق حتى الآن، و إن كانت الحجّة الثانية تسقط الأُولى عن الحجّية فيما يأتي من الزمان، و على ذلك فالأعمال التي أتى بها حسب الحجة الأُولى محكومة بالصحّة حتى بعد قيام الحجة الثانية، لما عرفت من أنّها لا تكشف عن عدم الحجّية فيما مضى و إنّما تسقطها عن الحجّية فيما يأتي. و ذلك لأنّ الحجّة الثانية ليست وحياً إلهياً كاشفاً عن بطلان الأُولى، بل هي اجتهاد كالاجتهاد الأوّل و إن كان المتعيّن الرجوع إليها فمقتضى الجمع بين الحجتين كون كلّ حجّة بالنحو المذكور.

الثاني: التمسك بالملازمة العرفية، فانّ الشارع إذا أمر بمركب كالصلاة و الحجّ ثمّ جعل فتوى المفتي حجّة في تشخيص الواجب عن غيره، فمعنى ذلك أنّه اكتفى في أغراضه بما أدّت إليه فتوى ذلك المجتهد على التفصيل الذي عرفت فاقتضت المصلحةُ التسهيلية إضفاءَ الاعتبار على قوله مطلقاً حتّى فيما خالف الواقع.

الثالث: انّ الفتوى الأُولى كانت حجّة في الأعمال السابقة، و نشك في سقوط حجّيتها بالنسبة إلى ما مضى، فيحكم ببقائها بالنسبة إلى ما مضى، و أمّا

ص:408

الفتوى الثانية فلا شكّ أنّها حجّة بالنسبة إلى الحوادث التالية: و أمّا الحوادث السابقة فنشكّ في حجّيتها بالنسبة إليها فيؤخذ بالاستصحاب من دون معارض.

و بالجملة: فالقدر المتيقّن في قوله:» و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا «أو ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة هو حجّية قول الفقيه بالنسبة إلى ما يأتي من الحوادث، و أمّا بالنسبة إلى السابق فلا إطلاق في الأدلّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن ذهب إلى لزوم تطبيق العمل على الاجتهاد الثاني من غير فرق بين ما مضى و ما يأتي و استدلّ على ذلك بالوجه التالي:

أنّ قيام الحجّة الثانية و إن كان لا يستكشف به عن عدم حجّية الاجتهاد الأوّل مثلاً في ظرفه إلاّ أنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء لعدم اختصاصه بعصر دون عصر، إذاً العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل، لأنّه مقتضى الحجّة الثانية، و معه لا بدّ من إعادته أو قضائه.

و احتمال مخالفة الواقع، و إن كانت تشترك فيه الحجتان، إلاّ أنّ هذا الاحتمال يلغى في الحجّة الثانية حسب أدلّة اعتبارها، و لا يلغى في الأُولى، لسقوطها عن الاعتبار، و مجرد احتمال المخالفة يكفي في الحكم بالإعادة أو القضاء، لأنّه لا مؤمِّن معه من العقاب. و حيث إنّ العقل مستقل بلزوم تحصيل المؤمن، فلا مناص من الحكم بوجوب الاعادة على طبق الحجّة الثانية، لأنّ بها يندفع احتمال الضرر بمعنى العقاب.

و أمّا القضاء فهو أيضاً كذلك، لأنّ مقتضى الحجّة الثانية أنّ ما أتى به المكلّف على طبق الحجّة السابقة، غير مطابق للواقع فلا مناص من الحكم ببطلانه، و معه يصدق فوت الفريضة و هو يقتضي وجوب القضاء.(1)

ص:409


1- - التنقيح، قسم الاجتهاد و التقليد: 1/54.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ مدلول الحجّة الثانية هو ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء و إن كان أمراً صحيحاً، إلاّ أنّ الكلام في مقدار حجّية هذا الكشف، فانّه لما كان ظنياً يمكن تخصيص حجّيته بالحوادث التي يواجهها المكلّف في المستقبل، و قد علمت أنّ القدر المتيقّن من حجّية قول المفتي هو حجّيتها فيما سيرد من الحوادث، و أمّا ما مضى من الحوادث فالحجة الأُولى حجّة بالفعل بالنسبة إليها.

و إن شئت قلت: إنّ الحجّة الثانية لما كانت ظنية لا تكشف عن بطلان الحجّة الأُولى، غاية الأمر ورد التعبّد بالأخذ بها دون الأُولى و القدر المتيقن من التعبد هو ما سيرد من الحوادث لا ما مضى و بذلك يعلم وجود المؤمِّن بالنسبة إلى الأعمال السابقة و ليس هو إلاّ الحجّة الأُولى.

و أمّا القضاء فهو و إن كان مترتباً على فوت الفريضة لكن إثبات فوت الفريضة بالنسبة إلى ما مضى أوّل الكلام لما عرفت من أنّ القدر المتيقن من حجّيتها إنّما هو فيما يرد من الحوادث لا فيما مضى فلا يثبت بها فوت الفريضة حتّى يعمّه قوله: ما فاتته فريضة فليقض كما فاتته.

2. حكم المعاملات

قد عرفت أنّ السيد الطباطبائي ذهب إلى البناء على الصحّة فيما إذا أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم عليه بالصحّة ثمّ مات و قلّد من يقول بالبطلان.

و كذا إذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلاً فَذُبِح حيوان كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل.

ص:410

هذا ممّا لا غبار عليه، و ما ذكرنا من الأدلّة في العبادات يجري في المعاملات طابق النعل بالنعل.

لكنّه) قدس سره (حكم بنجاسة الغسالة، و قال: و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثمّ مات، و قلّد من يقول بنجاسته فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة، و إن كانت مع استعمال ذلك الشيء، و أمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته. و مثله إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه و لا أكله.

و أمّا ما هو الحقّ في المقام فيعلم بالبيان التالي فانّ مصب الإجزاء هو صدور عمل من المكلّف أمضاه الشارع حسب فتوى المجتهد الأوّل، فلو كان ذلك العمل سبباً لأثر، فمعنى إمضاء السبب هو ثبوت أثره حدوثاً و بقاءً، و التفصيل بين الحدوث و البقاء نقض لسببية ذلك السبب.

و على ذلك فبما أنّ الشارع أمضى نفس الفعل بمعنى الذبح فيترتب أثره من غير تقيّد بزمان دون زمن، فيجوز أكل الذبيحة و بيعها حتى بعد موت المجتهد الأول.

و مثله غسل الثوب بالغسالة فانّ العمل الصادر من المكلّف هو الغسل، و قد أمضاه الشارع بأنّه مطهر فيترتب عليه أثره حدوثاً و بقاءً فيحكم بطهارة الثوب، و أمّا نفس الغسالة فبما انّه جسم خارجي لا يعد عملاً للمكلّف فيرجع في حكمها إلى المجتهد الثاني فالمعيار هو إمضاء العمل.

3. الموضوعات الخارجية

و أمّا الموضوعات الخارجية التي تختلف فيها أنظار المجتهدين نظير طهارة

ص:411

الفقاع مثلاً، فلو كان رأي المجتهد الأوّل على الطهارة على خلاف المجتهد الثاني فإنّه يرجع في مثله إلى الثاني، و ذلك لأنّه لم يكن هناك فعل صادر من المكلّف حتّى يقع في إطار الإمضاء، بل غاية ما كان هناك موضوع خارجي كان الأوّل يحكم بطهارته، ويحكم الثاني الآن بنجاسته، فبما أنّ الفقاع موضوع مستقل في كلّ آن، و ليست طهارته أو نجاسته في الآن اللاحق استمراراً لهما في الآن السابق، بل تنسبان إلى ذات الفقاع من دون أن يتقيّد بيوم دون يوم، فيكون محكوماً بالنجاسة، هذا.

المسألة الثانية: لو دخل الصبي في الصلاة و هو غير بالغ فبلغ في أثنائها،

فهناك احتمالات:

1. إكمال الصلاة و الاجتزاء بها.

2. وجوب الإعادة بعد الإكمال.

3. قطع الصلاة و الابتداء بها.

لا سبيل إلى الثالث و الأقوى هو الأوّل، و وجهه وحدة الأمر المتوجّه إلى الصبي و البالغ و كلاهما مأموران بأمر واحد، أعني قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ).(1)

غير أنّ الدليل الخارجي دلّ على قوّة الطلب في الأوّل و ضعفه في الثاني، و ليس الوجوب و الندب من مداليل الأمر حتى يكون الأمر المتوجّه إلى البالغ غير المتوجه إلى غيره، فإذا اتحد الأمر فقد امتثله، غاية الأمر كان الطلب في النصف الأوّل من العمل غير مقرون بالشدة و مقروناً بها في النصف الآخر، لكنّه لا يؤثر في تعدد الأمر، خلافاً لصاحب الجواهر حيث ذهب إلى لزوم الإعادة زاعماً تعدد

ص:412


1- - الإسراء: 78.

الأمر.(1)

المسألة الثالثة: إذا انحصر الثوب في النجس و لم يتمكن من غسله و نزعه لبرد و صلّى فيه، ثمّ تمكّن من أحدهما أو كليهما و الوقت باق،

يجزي إذا كان في دليل رفع الاضطرار إطلاق، و لو كان في دليل المبدل أي طهارة الساتر إطلاق، يعيد، و لو شكّ فعلى المختار من وحدة الأمر، فالمرجع هو الاحتياط، لأنّه من قبيل الشكّ في سقوط الأمر الواحد، و على القول بتعدّده كما عليه المحقّق الخراساني فالمرجع هو البراءة كما عرفت.(2)

إلى غير ذلك من المسائل التي جاء تفصيلها في المحصول.(3)

ص:413


1- - الجواهر: 7/239، و لاحظ كتاب الصلاة للشيخ الحائري، ص 25.
2- - الجواهر: 2526/248.
3- - راجع المحصول: 4581/456.

ص:414

الفصل الرابع مقدّمة الواجب

اشارة

خصّص المحقّق الخراساني هذا الفصل بالبحث في الأُمور التالية:

الأوّل: تحرير محلّ النزاع.

الثاني: كون المسألة عقلية أُصولية.

الثالث: تقسيمات المقدّمة إلى داخلية و خارجية، و عقلية و شرعية و عادية، إلى غيرها من المقدّمات.

الرابع: في تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط و منجّز و معلّق.

الخامس: وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها.

السادس: ما هو الواجب من المقدّمة؟ السابع: في ثمرات القول بوجوب المقدّمة.

الثامن: ما هو الأصل عند الشكّ في وجوب المقدّمة.

إذا عرفت ذلك فلندرس تلك الأُمور واحداً تلو الآخر.

الأوّل: في تحرير محلّ النزاع

إنّ محلّ النزاع يحتمل أن يكون أحد الأُمور التالية:

1. الوجوب العقلي الذي يدركه العقل و يعبّر عنه باللابدية، و لكنّه ليس

ص:415

موضع النزاع قطعاً لحكمه بالوجوب بالبداهة أوّلاً، و اتّفاق العقلاء على وجوبها ثانياً لمن أراد الوصول إلى ذيها.

2. الوجوب العرضي، بمعنى أنّ هنا وجوباً واحداً ينسب إلى ذيها حقيقة و إلى مقدمته مجازاً، كنسبة الجريان إلى الماء بالحقيقة و إلى الميزاب بالمجاز، و هذا أيضاً خارج عن محط البحث لأنّه يصبح بحثاً أدبياً خارجاً عن غرض الأُصولي.

3. الوجوب الشرعي الغيري الأصلي.

4. الوجوب الشرعي الغيري التبعي.

فالنزاع على هذين الاحتمالين مركز على عروض وجوب شرعي للمقدّمة بما انّها مقدّمة و لذلك يوصف الوجوب بالغيري، غاية الأمر إذا كانت المقدمة مورداً لتوجه الآمر يوصف بالأصلي، و إذا لم يكن كذلك يوصف بالتبعي.(1)

يلاحظ على ذينك الاحتمالين: بأنّه تكون المسألة عندئذ فقهية، و لما عرفت أنّ محمول المسألة إذا كان أحد الأحكام الشرعية، فالمسألة فقهية.

5. وجوب الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، فعلى هذا تكون المسألة أُصولية كسائر الملازمات المبحوث عنها في علم الأُصول، فانّ المسائل التي يبحث فيها عن الملازمات كلّها مسائل أُصولية نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضده و كالبحث عن الملازمة بين ثبوت الحكم عند وجود قيده، و ارتفاعه عند ارتفاعه) أبواب المفاهيم (.

البحث عن الملازمة بين حرمة العبادات و فسادها.

البحث عن الملازمة بين المعاملات و فسادها.

ص:416


1- - سيوافيك الفرق بين الأصلي و التبعي في محله فلو تعلقت الإرادة بالشيء على وجه التفصيل فهو أصلي و إلاّ فهو تبعي. لاحظ ص 535 من هذا الجزء.

فالبحث في هذه المسائل كما في المقام أيضاً عن وجود الملازمة بين الأمرين و عدمها، فالقائل بالوجوب يدّعي الملازمة، و القائل بالعدم ينكر الملازمة.

فإن قلت: هل الملازمة في المقام من المستقلات العقلية أو من غير المستقلات العقلية؟ قلت: هي من القسم الثاني، و ذلك لأنّ الفرق بينها هو لو كانت الصغرى و الكبرى عقليتين تعدّ المسألة من المستقلات العقلية، كما في حسن العدل و قبح الظلم، و حسن العمل بالميثاق و قبح التخلّف عنه، و حسن جزاء الإحسان بالإحسان و قبح جزائه بالإساءة، فالصغرى و الكبرى كلاهما ممّا يدركهما العقل.

و أمّا إذا كانت الصغرى شرعية و الكبرى عقلية فتكون المسألة من الأحكام العقلية غير المستقلة، كما في المقام حيث إنّ الصغرى في باب المقدمة مأخوذة إمّا من الشارع أو من العرف و العادة، فإذا قال الشارع:

الوضوء مقدمة. يحكم العقل بوجود الملازمة بين الوجوبين، أو قال: إزالة النجاسة عن المسجد واجبة، يحكم العقل بوجود الملازمة بين وجوبها و حرمة ضدّها أعني الصلاة.

فإن قلت: إذا كان البحث في هذه المسائل الخمس مركزاً على وجود الملازمة و عدمها، فلما ذا يبحث عنها في الجزء الأوّل المختص بمباحث الألفاظ، أ ليس الأولى البحث عنها في الجزء الثاني المخصص بالمباحث العقلية؟ قلت: الحقّ انّها من المباحث العقلية، غير أنّ المقدمة لما كانت متوقفة على السماع من الشرع صار ذلك مسوغاً للبحث عنها في الجزء الأوّل المخصَّص بالمباحث اللفظية.

على أنّ هناك من الأُصوليين من قال بدلالة الأمر بذي المقدّمة على وجوب المقدّمة بالدلالة الوضعية الالتزامية، و هي عند المنطقيين دلالة لفظية لا عقلية كما

ص:417

سيوافيك تفصيله في الأمر الثاني، و لذلك جاء ذكر المسألة في المباحث اللفظية.

فإن قلت: هل الملازمة بين وجوب ذيها و وجوب المقدّمة الواقعية، أو بين وجوب ذيها و ما يراه المولى مقدّمة؟ قلت: ذهب السيّد الأُستاذ إلى القول الثاني، قائلاً: بأنّ الإرادة من الفاعل إنّما تتعلّق بالشيء بعد تصوّره و الإذعان بفائدته، و يمتنع تعلّق الإرادة بما هو مقدّمة في نفس الأمر إذا كان غافلاً عنها. و على ذلك فالملازمة هي بين إرادة ذيها و إرادة ما يراه مقدّمة.

و الحاصل: انّ الإرادة وليدة العلم، و لا يعقل تعلّقها بشيء إلاّ بعد العلم به و عرفانه مقدمة للشيء.(1)

قلت: الظاهر أنّه يكفي كون المقدمة مورداً للتوجّه و متعلّقة بالإرادة حسب الإجمال، كما إذا أمر المولى بصنع دواء سائل من عقاقير مختلفة و لا يعلم تفصيلها و خصوصياتها، فتتعلّق الإرادة بوجوب ما هو مقدمة لتحضير هذا الدواء، فالظاهر أنّ الملازمة على فرض ثبوتها بين وجوب الشيء و وجوب ما هو مقدمة في الواقع سواء وقف عليه المولى بالتفصيل أم لا، و لعلّ ما ذكرناه هو مراد السيّد الأُستاذ.

نعم لو لم يكن مورداً للالتفات لا تفصيلاً و لا إجمالاً لما يكون طرفاً للملازمة.

الأمر الثاني: المسألة عقلية أُصولية
اشارة

هل البحث في المسألة لفظي أو عقلي، فقهي أو أُصولي، الظاهر انّ المسألة

ص:418


1- - تهذيب الأُصول: 1/153.

عقلية أُصولية.

أمّا كونها عقلية: فلما عرفت أنّ محور البحث هو وجود الملازمة بين الإرادتين ثبوتاً، و الوجوبين إثباتاً، و عدمها، و هو بحث عقلي.

و الظاهر أنّ وصف القدماء بكون المسألة لفظية لأجل قولهم بدلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته دلالة التزامية و هي عندهم دلالة لفظية لا عقلية، تبعاً للمنطقيين حيث إنّهم يعدون الدلالة التضمّنية و الالتزامية من الدلالات اللفظية، قال السبزواري في منظومته:

دلالة اللفظ بدت مطابقة حيث على تمام معنى وافقه

و ما على الجزء تضمناً وسم و خارج المعنى، التزام، إن لزم(1)

و في مقابلهم علماء البيان حيث جعلوا كلتا الدلالتين) التضمنية و الالتزامية (من الدلالات العقلية فلاحظ.(2)

و أمّا كونها مسألة أُصولية فلوجود ملاكها فيها و هو كونها صالحة لاستنباط الحكم الشرعي منها بوقوعها كبرى للدليل، فيقال: الوضوء مقدمة، و مقدمة الواجب واجب لأجل الملازمة بين الوجوبين، فينتج:

الوضوء واجب، و منه يظهر أيضاً انّ الملازمات كلّها من المسائل الأُصولية حيث يستنبط من الملازمة، الحكمُ الشرعي.

المسألة من مبادئ الأحكام أيضاً

إنّ للفقهاء مصطلحاً خاصّاً في باب الأحكام الخمسة باسم مبادئ الأحكام، و يراد بها ما يبحث عن عوارض الأحكام الخمسة من ملازماتها

ص:419


1- - شرح المنظومة، قسم المنطق: 13.
2- - لاحظ مفتاح العلوم للسكاكي: 140 141.

و معانداتها إلى غير ذلك ممّا يمكن أن يعرض الحكم الشرعي بما هو هو، مثلاً يقال: وجوب الشيء يلازم وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء يلازم حرمة ضدّه، هذا في باب الملازمة، و أمّا المعاندة فيقال وجوب الشيء يعاند حرمته فلا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً و حراماً، و لأجل ذلك منعوا من اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، و هذا مصطلح خاص بالفقهاء حول الأحكام الخمسة.

و على ضوء ذلك ذهب سيد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى أنّ هذه المسألة من مبادئ الأحكام، قائلاً: بأنّ القدماء كانوا يبحثون عن معاندات الأحكام و ملازماتها و يسمّونها بالمبادئ الأحكامية، و منها هذه المسألة، و المراد منها المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الأحكام التكليفية أو الوضعية من التلازم و التضاد.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لا مانع من أن تكون مسألة واحدة من مبادئ الأحكام في علم، و من المسائل في علم آخر، نظير المقام فانّه بالنسبة إلى علم الفقه يعد من مبادئ الأحكام، و بالنسبة إلى أُصول الفقه يعدّ من المسائل.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات ردّ على كون المسألة من مبادئ الأحكام بقوله: إنّ المبادئ لا تخلو إمّا أن تكون تصوّرية أو تصديقية و لا ثالث لهما، و المبادئ التصوّرية هي لحاظ ذات الموضوع و المحمول و ذاتياتهما في كلّ علم، و من البديهي أنّ البحث عن مسألة مقدّمة الواجب لا يرجع إلى ذلك، و المبادئ التصديقية هي المقدّمات التي يتوقّف عليها تشكيل القياس، و منها المسائل الأُصولية، فانّها مبادئ تصديقية بالإضافة إلى المسائل الفقهية.

ثمّ قال: و لا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصوّرية

ص:420


1- - نهاية الأُصول: 1/142.

و التصديقية. نعم قد يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته و آثاره إلاّ أنّه داخل في المبادئ التصديقية و ليس شيئاً آخر في مقابلاتها، كما أنّ تصوّر الحكم بذاته و ذاتياته داخل في المبادئ التصوّرية.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ مبادئ الأحكام من فروع المبادئ التصوّرية فانّها تتلخص في الأُمور التالية:

1. تصوّر الموضوع بذاته و ذاتياته و لازمه و معانده.

2. تصوّر المحمول بذاته و ذاتياته و لازمه و معانده.

3. تعريف العلم على وجه الإجمال.

4. بيان الغرض من العلم.

فالفقيه في الفقه يبحث عن أفعال المكلّفين التي هي الموضوع، و يعرضها الأحكام الخمسة التي هي المحمول، فيبحث عن ذات الحكم كالوجوب، و ذاتياته كجنسه و فصله، فيقال: الوجوب هو الطلب المانع من الترك، و لازمه، و يقال: إيجاب الشيء يلازم إيجاب مقدمته و حرمة ضده، و معانده و هو امتناع كون شيء واحد واجباً و حراماً، فمبادئ الأحكام ليست إلاّ جزءاً من المبادئ التصوّرية.

و بذلك يظهر ضعف ما جاء في آخر كلامه من أنّه» يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته و آثاره إلاّ أنّه في الحقيقة داخل في المبادئ التصديقية «لما عرفت من أنّه داخل في المبادئ التصوّرية، فذات الحكم و ذاتياته و لوازمه و معانداته كلّها مبادئ تصوّرية للأحكام التي هي محمولات في الفقه على أفعال المكلّفين.

ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي ذهب إلى عدم كون المسألة أُصولية

ص:421


1- - المحاضرات: 2/295.

قائلاً: بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الحجّة في الفقه، و البحث عن تعيناتها و تشخّصاتها بخبر الواحد و غيره من مسائلها، و أمّا المقام فمحط النظر في المسألة هو إثبات الملازمة أو نفيها لا الحجّية.

و بعبارة أُخرى: بعد ثبوت الملازمة لا معنى للبحث عن الحجّية، لأنّ وجود أحد المتلازمين حجّة على الآخر، و مع عدمها لا معنى لحجيّة وجوب شيء على وجوب شيء آخر بالضرورة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المحمول في عامّة المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيّن الحجّية بموضوع المسألة، غاية الأمر تارة يكون المحمول نفس الحجّية، فيقال: خبر الواحد حجّة، و أُخرى يكون المحمول أمراً غير الحجّية لكن يكون مرجعه إليها، مثلاً، نقول:

هل الأمر يدلّ على الفور أو التراخي؟ أو انّ الأمر يدلّ على المرّة و التكرار؟ فالمحمول في تينك المسألتين و نظائرها أمر غير الحجّية، لكن يرجع الكلام إلى البحث عن وجود الحجّة للفقيه على كون الواجب فوريّاً أو غير فوري أو واجباً مرة أو غير مرة، و قد عرفت في صدر الكتاب أنّ الفقيه يعلم أنّ بينه و بين ربّه حججاً شرعية في بيان الواجبات و المحرّمات، فيبحث في علم الأُصول عن تشخّص تلك الحجج الكلية في موضوع خاص و هو كون الأمر حجّة على الوجوب إذا كان دالاً على الوجوب، و حجّة على الفور و التراخي إذا كان موضوعاً لهما، و حجّة على المرّة و التكرار إذا كان موضوعاً لهما، فروح البحث في الجميع هو البحث عن وجود الحجّة على أحد هذه الأُمور.

ص:422


1- - نهاية الأُصول: 1/142.

و منه يعلم حكم المقام فانّ البحث عن وجود الملازمة و عدمها لغاية تحصيل الحجّة على وجوب المقدمة و عدم وجوبها، فإثبات الملازمة أمر طريقي لإثبات وجوب المقدمة الخاصّة كالوضوء و عدم وجوبها، و بذلك يعلم أنّ مرجع أكثر ما يبحث في مباحث الألفاظ الذي يتراءى فيها كون المحمول أمراً غير الحجّة إلى تحصيل الحجّة على أحد الطريقين، كما عرفت.

الأمر الثالث: تقسيمات المقدّمة
اشارة

تنقسم المقدّمة إلى أقسام كثيرة نبحث فيها على وجه التفصيل.

التقسيم الأوّل: تقسيمها إلى داخلية و خارجية.
اشارة

(1)

أمّا الداخلية ففيها اصطلاحان:

الداخلية بالمعنى الأخص

قد تطلق الداخلية و يراد بها ما يكون القيد و التقيّد داخلين في ماهية الواجب، كالأجزاء، فذات الركوع و اتّصاف الصلاة به داخلان في ماهية الصلاة، و على ذلك فيخرج كلّ من الشرط، و عدم المانع، و المعد، عن كونها مقدمة داخلية لأنّ ذواتها خارجية عن الواجب و انّما الداخل فيها هو تقيّد الصلاة بها، و هذا ما يطلق عليه» الداخلية بالمعنى الأخص «.

الداخلية بالمعنى الأعم

و قد تطلق الداخلية على ما إذا كان التقيّد داخلاً في ماهية الواجب، سواء أ كان القيد داخلاً أم خارجاً، و على ذلك فلا شكّ انّ الشرط و عدم المانع و المعد داخلة في المقدمة الداخلية و هذا ما يطلق عليه» الداخلية بالمعنى الأعم «.

ص:423


1- - و يأتي التقسيم الثاني ص 434 من هذا الجزء.

و بما أنّه يشترط بين المقدمة و ذيها التعدّد و الاثنينية فيكون وجود الشرط و عدم المانع و المعد داخلاً في محط النزاع لوجود الملاك فيها، لأنّ الشرط غير المشروط، و هكذا المعد غير المعدّ له، إنّما الكلام في دخول الأجزاء في محط النزاع و ذلك لأجل عدم ملاك البحث فيها أعني الاثنينية، حيث إنّ الأجزاء نفس الكلّ، و تفصيل الكلام يتوقّف على البحث في الأُمور التالية:

1. هل يصحّ وصف الأجزاء بالمقدمية؟ 2. إذا صحّ الوصف، هل هناك ملاك لعروض الوجوب الغيري على الأجزاء؟ 3. و على فرض وجود الملاك هل هناك مانع من وصف الأجزاء بالوجوب الغيري؟ فهذه أُمور ثلاثة لا بدّ من دراستها واحداً بعد الآخر في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في صحّة عدّ الأجزاء مقدمة

إنّ أوّل من طرح هذه المسألة هو الشيخ محمد تقي الاصفهاني مؤلف كتاب» هداية المسترشدين «في شرح معالم الدين، و يُعد المؤلف من نوابغ هذا العلم، فقد ذهب إلى عدم صحّة وصف الأجزاء بالمقدّمية، لأنّ الأجزاء ليست إلاّ نفس الشيء و ليس بين الأجزاء و الكلّ، تعدد و مغايرة.

و بعبارة أُخرى: المقدّمة تطلق على ما يقع في طريق وجود الشيء، و الشيء لا يمكن أن يقع في طريق نفسه.

هذا هو الإشكال الذي أثاره ذلك المحقّق، و لا يذهب عليك أنّه جعل المقدمة» الأجزاء «، و كأنّ هناك مقدمة واحدة باسم الاجزاء فرتب عليها أنّها عين الكلّ.

و قد سلك هذا الطريق المحقّق الخراساني فجعل المقدمة الاجزاء لكنّه

ص:424

تخلّص عن الإشكال بوجه سيوافيك.

و أمّا الشيخ الأنصاري فقد جعل المقدّمة نفس الجزء، و لكنّه تخلّص عن الإشكال بوجه غير صحيح.

و أمّا المحقّق البروجردي و تبعه السيد الإمام قدّس سرّهما فقد جعل المقدّمة كلّ جزء جزء على حدة، فصار هناك بعدد الأجزاء مقدمة، و عندئذ تخلّص عن الإشكال بوجه صحيح كما سيوافيك.

إذا عرفت ذلك فقد أجيب عن الإشكال بوجوه:

الأوّل: جواب الشيخ الأعظم

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ الجزء له لحاظان:

الأوّل: لحاظ الجزء بشرط لا، و هو في هذا النظر مقدمة.

الثاني: لحاظ الجزء» لا بشرط «و معنى» لا بشرط «انّه يجتمع مع كلّ شرط، و من الشروط هو لحاظ الجزء منضمّاً مع سائر الأجزاء، فالجزء في هذا اللحاظ يكون عين الكلّ و لا يعد مقدمة، و إليك نصّ كلامه:

إنّ الجزء له اعتباران:

أحدهما: اعتباره» لا بشرط «، و هو بهذا الاعتبار عين الكلّ، و متّحد معه، إذ لا ينافي ذلك انضمامَ سائر الأجزاء إليه، فيصير مركباً منها، و يكون هو الكلّ.

و ثانيهما: اعتباره بشرط لا، و هو بهذا الاعتبار يغاير الكلّ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كلا اللحاظين غير تامّين:

أمّا لحاظ الجزء كالركوع» بشرط لا «فهو و إن كان يحدث المغايرة بين الجزء

ص:425


1- - مطارح الأنظار، ص 40، السطر الرابع.

و الكلّ، لكنّه يخرجه عن المقدّمية، لأنّ المقدمية ما يكون في خدمة ذيها، فإذا لوحظ الجزء بشرط لا فمعنى ذلك أنّ الجزء لوحظ منفصلاً عن كلّ شيء، و أن لا يكون معه شيء آخر فالجزء في هذا اللحاظ لا يجتمع مع الكلّ، و معه كيف يكون مقدمة له بمعنى كونه جزءاً للمركب؟! و أمّا لحاظ الجزء على نحو اللابشرط فلحاظه بهذا المعنى لا يجعله عين الكلّ في عامّة الشرائط، و ذلك لأنّ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، فكما أنّ من الشروط الانضمام فلحاظ الجزء في هذه الحالة يجعله عين الكلّ، لكن من الشروط أيضاً الوحدة و التجرّد، فالجزء الموصوف لا بشرط عند لحاظ الوحدة، يخرجه عن كونه عين الكلّ.

الثاني: جواب المحقّق الخراساني

قد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المقدّمة هي الأجزاء بالأسر(1)) مكان قول الشيخ الذي جعل المقدمة كلّ جزء جزء، فعلى مبنى الخراساني ليس هنا إلاّ مقدمة واحدة، بخلاف جواب الشيخ فانّ هنا مقدمات حسب تعدد الأجزاء (قال ما هذا حاصله:

إنّ المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر، و ذا المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فتحصل المغايرة بينهما، و على ذلك يلزم في اعتبار الجزئية، أخذ الأجزاء لا بشرط، كما أنّه لا بدّ في اعتبار الكلية من أخذه بشرط الاجتماع.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الحلّ المزبور، مبنيّ على أنّ هنا مقدمة واحدة بمعنى الأجزاء، تلاحظ تارة امّا لا بشرط، و أُخرى بشرط شيء، لكنّه ليس بتام، بل هناك

ص:426


1- - بالأسر: أي برمّته و جميعه.
2- - كفاية الأُصول: 1/140.

مقدمات حسب تعدد الاجزاء و معه يحصل التغاير بين المقدمة و ذيها من دون حاجة إلى اللحاظين المذكورين و سيوافيك تفصيله.

الثالث: جواب المحقّق البروجردي

إنّ منشأ الإشكال في المقدّمة الداخلية هو تخيّل أنّ هناك مقدّمة واحدة باسم الأجزاء فأُثير الإشكال و هو أنّه عين الكلّ فكيف توصف بالمقدّمية؟ و يندفع بأنّه ليست هنا مقدمة واحدة حتّى يترتب عليه الاشكال، بل هناك مقدّمات حسب تعدد الأجزاء، فلو كانت الصلاة ملتئمة من أجزاء عشرة، فهناك عشر مقدمات في كلّ واحد ملاك المقدمية، و هو توقّف الكلّ عليه، و من المعلوم أنّ الجزء بما هو جزء غير الكل، و الفرق بينها واضح جدّاً.

و إن شئت فقس الإرادة الآمرية بالإرادة الفاعلية، فكما أنّ الإنسان المريد لتحضير مركّب من مواد متعددة تتعلق ارادته بتحضير كلّ واحد واحد من أجزاء المركّب، فهكذا إرادته الآمرية تتعلق بتحضير المأمور كلّ جزء من هذا المركب حتى تتشكل أجزاؤه، فتحضير المركّب رهن تحضير كلّ جزء، ففي كلّ جزء ملاك المقدمة، و ملاك تعلّق الإرادة الفاعلية و الآمرية.

و بذلك تقف على ضعف كلام المحقّق الخراساني فانّه تصوّر أنّ هنا مقدمة واحدة و هي الأجزاء بالأسر، فصار بصدد تصحيح المغايرة بين المقدّمة و ذيها بجعل المقدّمة لا بشرط و ذيها بشرط شيء.

و أمّا على هذا المبنى فالمقدّمة نفس الجزء، و هو يغاير الكلّ جوهراً، من دون حاجة إلى تصوير المغايرة بلحاظ اللابشرطية و بشرط شيء.

ص:427

الرابع: جواب المحقّق الخوئي

ذكر صاحب المحاضرات جواباً رابعاً، و هذا حاصله: انّ المقدّمة قد تطلق و يراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيه، بأن يكون هناك وجودان. و قد تطلق و يراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء، و إن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه.

أمّا المقدّمة بالإطلاق الأوّل، فلا تصدق على الأجزاء، بداهة أنّ وجود الاجزاء ليس مغايراً لوجود الكلّ، بل وجوده عين وجود أجزائه بالأسر، و التغاير لحاظاً لا يثبت التغاير الخارجي.

و أمّا المقدمة بالإطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضاً، لوضوح أنّ وجود الكلّ يتوقّف على وجود أجزائه، و أمّا وجودها فلا يتوقّف على وجوده. و ذلك كالواحد بالنسبة إلى الاثنين، فانّ وجود الاثنين يتوقّف على وجود الواحد دون العكس.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كلامه فاقد للانسجام، فانّه عند ما يعرّف الجزء بأنّه نفس الكلّ يأخذ الأجزاء موضوعاً لكلامه و يقول بداهة انّ وجود الأجزاء ليس مغايراً للكل.

و عند ما يحاول إثبات المغايرة يأخذ الجزء موضوعاً لكلامه فيقول: بأنّ الاثنين يتوقّف على الواحد.

و لو انّه اكتفى بالشق الثاني من كلامه الذي اهتم فيه بإثبات المغايرة من خلال أنّ الجزء غير الكلّ لحصل المطلوب من دون حاجة إلى ما ذكره في صدر كلامه.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل.

ص:428


1- - المحاضرات: 2982/297.
المقام الثاني: في وجود الملاك لوصف الأجزاء بالوجوب المقدّمي

قد عرفت أنّ في الأجزاء ملاك المقدمية، فهل يمكن وصفها بالوجوب الغيري أو لا؟ ذهب صاحب الكفاية في هامش كتابه إلى عدمه، قائلاً بأنّه ليس فيها ملاك الوجوب الغيري، حيث إنّه لا وجود لها غير وجودها في ضمن الكلّ حتى يتوقف على وجودها، و بدون التوقّف لا وجه لعروض الوجوب عليها أصلاً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على أنّ هنا مقدمة واحدة باسم الأجزاء بالأسر، و بما أنّها نفس الكلّ لا توصف بالوجوب الغيري وراء الوجوب النفسي، و أمّا على ما قلناه من أنّه هنا مقدمات حسب تعدد الأجزاء، فملاك الوجوب موجود في كلّ جزء، لأنّ الجزء غير الكلّ عنواناً و تحقّقاً.

المقام الثالث: في وجود المانع عن تعلّق الوجوب

إذا ثبت وجود المقتضي للوجوب بالبيان الذي مرّ، فهل هنا مانع عن عروض الوجوب الغيري على الأجزاء أو لا؟ و المانع المتخيل هو اجتماع المثلين.

ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود المانع قائلاً: ما هذا تفصيله.

إنّ الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتاً، و إن كانت المغايرة بينهما اعتباراً، فتكون واجبة بعين وجوبه، و مبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه، فلا تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلين.

يلاحظ عليه: بأنّ أساس الإشكال تخيل انّ المقدّمة عبارة عن الاجزاء

ص:429


1- - كفاية الأُصول: 1/141، ط المشكيني، قسم الهامش.

برمتها مقدمة واحدة، فصار ذلك سبباً لتوهم اجتماع وجوبين متماثلين أحدهما غيري و الآخر نفسي.

و أمّا على ما قلنا من أنّ هناك مقدّمات لا مقدّمة واحدة، فمعروض الوجوب الغيري هو الجزء، و معروض الوجوب النفسي هو الكل، فالموضوعان متغايران.

و بذلك يظهر الاستغناء عن بقية كلام المحقّق الخراساني حيث طرح إشكالاً و أجاب عنه فانّهما مبنيان على مختاره من أنّ المقدمة هي الاجزاء، و على ما ذكرنا من أنّ المقدمة هي الجزء فالإشكال و الجواب ساقطان من رأس.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني حاول أن يجيب عن اجتماع المثلين بالبيان التالي، و حاصله: انّ اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد، لا يؤدي إلى اجتماع المثلين، بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في الآخر، فيصيران حكماً واحداً مؤكداً، كما في كلّ واجب نفسي وقع مقدمة لواجب آخر، كصلاة الظهر بالاضافة إلى صلاة العصر، حيث إنّها واجب نفسي و في الوقت نفسه واجب غيري باعتبار كونها مقدمة لصلاة العصر، و مثله ما لو نذر إقامة النافلة في المسجد، فالوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الاستحباب النفسي.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الاندكاك فرع إمكان التعلّق، فإذا كان التعلّق غير ممكن لاستلزامه اجتماع المثلين فلا تصل النوبة إلى الاندكاك.

و بعبارة أُخرى: الاندكاك مرحلة العلاج، فلا بدّ من تصحيح الاجتماع أوّلاً ثم معالجته.

ثانياً: ما ذكره من الأمثلة ليس فيها أي اندكاك.

ص:430


1- - المحاضرات: 3012/299. لاحظ أجود التقريرات: 1/216.

فانّ الأمر النفسي تعلّق بالظهر، و الأمر الغيري تعلّق بتقدّم الظهر على العصر، فليس هناك اجتماع في موضوع واحد حتّى يندك أحدهما في الآخر.

و منه يظهر حال النذر فإذا نذر إقامة النافلة في المسجد، فالوجوب النفسي تعلّق بنفس الصلاة، و الوجوب الآتي من قِبل النذر تعلّق بالوفاء للنذر، فالموضوعان متغايران حاملان لحكمين متماثلين.

نعم الصلاة في المسجد مصداق لكلا العنوانين الواجبين، و لا يلزم اجتماع الأمرين فيها، لأنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين لا بالمصاديق.

نعم يعد المصداق طاعة للواجب لا نفس الواجب.

الغناء عن الوجوب الغيري للإجزاء

و يمكن أن يقال: انّا و إن صححنا ملاك المقدمية و ملاك تعلّق الوجوب و عدم المانع من تعلّقه، لكن المولى في غنى عن إيجاب الأجزاء الداخلية بعد إيجابها نفسياً، و ذلك لأنّ الأمر الداعي إلى الكل يدعو إلى كلّ جزء جزء، و معه يكون إيجاب الجزء أمراً لغواً و عبثاً لا فائدة فيه، و يظهر ذلك بالإمعان في الإرادة الفاعلية فان إرادة إيجاد الكلّ يبعث الإنسان إلى المقدمة الخارجية إيجاد الجزء من دون حاجة إلى إرادة ثانوية متعلّقة بالجزء، فإذا كان هذا حال الإرادة الفاعلية يكون حال الإرادة الآمرية مثلها، فأمر المولى بالكل و بعث العبد إليه يغنيه عن تعلّق بعث و وجوب إلى كلّ جزء جزء، فإنّ الإيجاب الأوّل يبعثه إلى الكلّ كما يبعثه إلى الجزء.

فقد ظهر من ذلك عدم الحاجة إلى إيجاب المقدمات الداخلية إيجاباً غيرياً وراء الإيجاب النفسي المتعلّق بالكل.

ص:431

هذا كلّه حول المقدمة الداخلية، أي المقدمة التي هي داخلة في ذيها، و ليس لها وجود غير ذيها، و إليك الكلام في المقدمة الخارجية.

المقدمة الخارجية

تنقسم إلى مقدمة خارجية بالمعنى الأخص، و خارجية بالمعنى الأعم، أمّا الأوّل فهي ما يكون القيد و التقيّد كلاهما خارجين عن الواجب، و يمثل لها بالمكان، فانّ المكان ليس جزءاً من الواجب، بل هو خارج عنه قيداً و تقيّداً، لكنّها متوقفة عليه.

و أمّا الثاني ما يكون القيد خارجاً سواء كان التقيّد أيضاً خارجاً كالمكان أو كان التقيّد داخلاً، كطهارة البدن، و طهارة الثوب، و استقبال القبلة، و الطهارة من الحدث، فانّها بوجوداتها الخارجية خارجة عن الصلاة، لكن تقيّد الصلاة بها داخلة فيها.

و على ضوء هذا فالمقدمة الداخلية بالمعنى الأعمّ هي خارجية أيضاً بالمعنى الأعم.

إذا عرفت ذلك فقد اختلفت كلماتهم في وجوب المقدمة الخارجية إلى أقوال:

1. التفصيل بين السبب و الشرط، فالأوّل واجب دون الثاني، و هو المحكي عن السيد المرتضى، و لكن صاحب المعالم أمعن في كلامه و قال: بأنّ النسبة في غير محلّها، بل هو يريد أنّ وجوب الواجب لا يمكن أن يكون مشروطاً بالنسبة إلى سببه لاستلزامه طلب الحاصل، بخلاف غيره من المقدمات، فان وجوبه بالنسبة إليها يمكن أن يكون على قسمين: مطلق و مشروط.

ص:432

2. الواجب النفسي هو السبب و إن كان الوجوب في الظاهر متعلقاً بالمسبب لكونه هو المقدور دون المسبب.

و الإجابة عنه واضحة، لكون المسبب أيضاً مقدوراً، بالقدرة على سببه.

3. التفصيل بين ما يكون وجود أحدهما مغايراً لوجود الآخر في الخارج، كشرب الماء و رفع العطش، و ما يكون عنوانين لموجود واحد، مثل الإلقاء في النار و الإحراق، و الغسل و التطهير، ففي مثل ذلك يمتنع وجود وجوبين، دون القسم الأوّل، لاستلزامه اجتماع المثلين في مورد واحد.(1)

يلاحظ عليه: كيف يتصوّر العلية و المعلولية في القسم الثاني الذي يكون العنوانان متّحدين في الوجود، فانّ وزان العلة وزان التأثير، و وزان المعلول وزان التأثر، فكيف يمكن أن يتحد المؤثر و المتأثر وجوداً و مع ذلك يطلق عليهما العلة و المعلول؟ على أنّ المثال المذكور لا ينطبق على الضابطة لتغاير الإلقاء و الإحراق وجوداً، و الغسل و التطهير الشرعي تحقّقاً.

و على كلّ تقدير فالملاك في هذا التقسيم تقسيم المقدمة بذاتها و نفسها، و هي إمّا داخلة في المأمور به أو خارجة عنها.

ص:433


1- - لاحظ أجود التقريرات: 1/219.
التقسيم الثانيتقسيمها إلى عقلية و شرعية و عادية

(1)

و ملاك هذا التقسيم هو الحاكم بالمقدمية، فتارة يحكم العقل بأنّه مقدمة كمقدمية العلّة للمعلول، و يسمّى مقدمة عقلية; و أُخرى يحكم الشرع بأنّه مقدمة كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة فيكون مقدمة شرعية; و ثالثة تحكم العادة بأنّها مقدمة فتكون المقدمة عادية، فملاك التقسيم في المقام غير ملاكه فيما مضى حيث كان الملاك في التقسيم السابق لحاظ المقدمة بنفسها و ذاتها بالنسبة إلى المأمور به، و هناك لحاظ المقدمة بالنسبة إلى الحاكم بأنّه مقدمة.

و قد أورد على هذا التقسيم ما هذا توضيحه:

1. انّ الثانية ترجع إلى الأولى، لأنّ امتناع المشروط بدون شرطه بعد أخذه فيه من جانب الشارع عقلي.

2. انّ العادية لو أُريد بها ما يكون التوقّف عليها حسب العادة بحيث يمكن تحقّقها بدونها) واقعاً و فعلاً ( إلاّ أنّ العادة جرت على الإتيان به بواسطتها) و هذا كالسيارة بالنسبة إلى الخيل، فانّ العادة جرت في هذه الأيام على الاستفادة من الأُولى دون الثاني، و لكن الوصول إلى المقصد لا يتوقّف على السيارة لا واقعاً و لا فعلاً (و هي و إن كانت غير راجعة إلى العقلية إلاّ أنّه

ص:434


1- - مرّ التقسيم الأوّل، ص 423.

خارج عن محلّ النزاع.

و إن كانت بمعنى أنّ التوقّف عليها و إن كان فعلاً واقعياً كنصب السلّم و نحوه للصعود إلى السطح، إلاّ أنّه لأجل عدم التمكّن من الأسباب الأُخرى كالطيران و الإعجاز، لكنّها عندئذ راجعة إلى العقلية لتعيّن الاستفادة من هذه المقدمة عقلاً بعد فقدان القسمين الآخرين.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ ما ذكره من أنّ الشرعية داخلة في العقلية، و إن كان صحيحاً، لكنّه لا ينافي ذلك التقسيم، لأنّ محور التقسيم في المقام هو الحاكم، و انّه إمّا العقل أو الشرع أو العادة، و هذا لا ينافي أن تدخل المقدّمة الشرعية بعد حكم الحاكم في المقدّمة العقلية فانّ الكلام في المقام في التقسيم قبل الحكم لا بعد ما حكم، و دخول إحداهما في الأُخرى إنّما يتحقّق بعد الحكم.

ثانياً: أنّ المراد من المقدّمة العادية هو ما احتمله أوّلاً، أي ما يكون هناك أسباب متعددة لتحصيل ذيها لكن جرت العادة على الاستفادة بمقدمة خاصّة، و هذا كالوصول إلى المقصد، فهناك أسباب كالسيارة و الخيل و لكن جرت العادة على الأُولى غالباً، و ما ذكر من أنّه ليس موضع النزاع لا ينافي التقسيم، لأنّ التقسيم يدور مدار الحاكم لا على مدار كونه موضع النزاع أو لا.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات أورد على هذا التقسيم بقوله:

إنّ الشرعية هي المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم، و العقلية هي الخارجية بالمعنى الأخص.(2)

و ما ذكره و إن كان صحيحاً، لكن ملاك التقسيم هو الحاكم، فلا مانع من أن يقسم المقدمة بلحاظ إلى الداخلية و الخارجية، و بلحاظ آخر إلى الشرعية و العقلية.

ص:435


1- - الكفاية: 1/143.
2- - المحاضرات: 2/303.
التقسيم الثالث تقسيمها إلى مقدمة الوجود و الصحّة و...

المقدمة بالنسبة إلى ذيها تارة تكون مقدمة لوجود ذي المقدمة كالأجزاء بالنسبة إلى الكل، و أُخرى مقدمة لصحتها كما في الشرائط بالنسبة إلى الصلاة على القول بكونها اسماً للأعم.

و ثالثة مقدمة لوجوب ذيها كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ، و رابعة مقدمة للعلم بها كالصلاة إلى الجوانب الأربع. و ملاك التقسيم هو دور المقدمة بالنسبة إلى ذيها.

و قد أورد المحقّق الخراساني على هذا التقسيم بأُمور:

1. انّ مقدمة الصحّة ترجع إلى مقدمة الوجود، أمّا إذا قلنا بأنّ ألفاظ العبادات أسام للصحيح منها فواضح، و أمّا على القول بأنّها موضوعة للأعم، فهي و إن كانت لا ترجع إلى مقدمة الوجود لكن لمّا كان الواجب هو الصحيح من الصلاة لكون المأمور به هو الصحيح تكون مقدمة وجودية للواجب، و البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمّى.

2. انّ مقدّمة الوجوب خارجة عن محلّ البحث، لأنّه لولاها لما اتصف الواجب بالوجوب، فكيف تتصف بالوجوب من قبل الواجب المشروط وجوبه بها.

ص:436

3. انّ المقدمة العلمية كالصلاة إلى أربع جهات، ممّا يحكم بها العقل إرشاداً ليؤمن من العقاب لا من باب الملازمة بين وجوبها و وجوب ذيها، فانّ ملاك الملازمة هو التوقّف و هو منتف في المقام.(1)

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فهو و إن كان متيناً لرجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، و لا يمكن تفكيكها عنه، لكن ما ذكره من الإشكالين الأخيرين غير تامّين، لأنّ محور التقسيم ليس كون الشيء موضعاً للنزاع و عدمه، بل ملاك التقسيم اختلاف دور المقدّمة بالنسبة إلى ذيها و انّها امّا مقدّمة وجودية أو مقدّمة وجوبية أو مقدّمة علمية.

ص:437


1- - كفاية الأُصول: 1/144.
التقسيم الرابع تقسيمها إلى السبب و الشرط و المعدّ و عدم المانع
اشارة

و ملاك التقسيم هو اختلاف كيفية تأثير السبب و الشرط و المعدّ في ذي المقدمة، و إليك تعاريفها:

1. عرّفوا السبب:

ما يكون منه وجود المسبب، و يتوقّف عليه وجوده.(1)

و التعريف ينطبق على المقتضي الذي هو جزء العلّة التامة كالنار بالنسبة إلى احتراق الحطب، فانّ وجود الاحتراق من النار، و لكنّها ليست علّة تامّة لوضوح انّ الاحتراق رهن أُمور أُخرى، كيبوسة الحطب و تحقّق المحاذاة بينهما و عدم المانع إلى غير ذلك من الشروط.

و ربما يُعرّف: ما يلزم من وجوده وجود المسبب و من عدمه عدمه، و السبب بهذا المعنى ينطبق على العلّة التامة و لعلّ تعريفه به نظراً إلى إطلاق السبب في لسان الفقهاء على الأُمور التالية التي أشبه بالعلّة التامة.

كصيغة العتق بالنسبة إلى العتق الواجب، و الوضوء و الغسل بالنسبة إلى الطهارة عن الحدث، و الغَسْل بالنسبة إلى إزالة الخبث، و النظر، المحصل للعلم الواجب و قطع الرقبة، المحقّق للواجب.

ص:438


1- - قوانين الأُصول: 1/100.
2. عرّفوا الشرط:

ما يلزم من عدمه عدم المشروط و لا يلزم من وجوده وجوده، و ذلك كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة و نصب السلّم بالنسبة إلى الكون على السطح.(1)

و لكن الأولى أن يعرف:

ما يكون مكملاً لفاعلية الفاعل و مؤثراً في قابلية القابل كيبوسة الحطب بالنسبة إلى إحراق النار.

3. عرّفوا المعدّ:

ما يُقرِّب العلة من المعلول كارتقاء السلّم، فانّ صعود درجة يُهيئ الفاعل إلى الصعود إلى درجة أُخرى.

و كأنّ الشرط و المعد من سنخ واحد و الجامع بينهما هو إفاضة القابلية، فلو كانت الإفاضة شيئاً فشيئاً فهو معد و إلاّ فهو شرط، فيكون المعدّ من أقسام الشرط بالمعنى الجامع.

4. عرّفوا المانع:

ما لا يلزم من عدمه عدم شيء بل يلزم من وجوده عدم شيء.(2)

إنّ حقيقة المانعيّة ترجع إلى وجود التضاد بين المانع و بين الشيء، فعبروا عن التضاد و التمانع بين الشيئين بأنّ عدم المانع شرط، و من المعلوم انّ العدم أنزل من أن يكون جزءاً للعلّة و مؤثراً في المعلول.

يقول الحكيم السبزواري:

لا ميز في الاعدام من حيث العدم و هو لها إذاً بوهم يرتسم

كذاك في الاعدام لا علية و إن بها فاهوا فتقريبية(3)

ص:439


1- - قوانين الأُصول: 1/100.
2- - قوانين الأُصول: 1/100.
3- - شرح المنظومة للحكيم السبزواري: 42.
التقسيم الخامس تقسيمها إلى متقدمة و مقارنة و متأخرة
اشارة

قد عرفت أنّ لكلّ تقسيم من تقسيمات المقدمة ملاكاً خاصّاً، و الملاك في هذا التقسيم هو الزمان، فتارة تكون المقدمة، متقدمة في الزمان على ذيها، و أُخرى مقارنة، و ثالثة متأخرة عنه في الوجود.

و الذي دعاهم إلى هذا التقسيم وجود الأقسام الثلاثة في الفقه، و إليك أمثلتها:

1. قسّم الفقهاء الوصيةَ إلى تمليكية و عهدية و فكية، فالأوّل كما إذا أوصى بتمليك شيء للموصى له، و الثاني كما إذا أوصى بأن يحج عنه، و الثالث كما إذا أوصى أن يفك عنه عبده.

فإذا أوصى بتمليك شيء من تركته لزيد فالوصية شرط متقدّم على الملكية، و الملكية تحصل بعد قبول الموصى له.

2. اتّفق الفقهاء على أنّ العقل و البلوغ شرطان لعامّة التكاليف فهما من الشرائط المقارنة.

3. اتّفقوا على أنّ صوم المستحاضة في اليوم الذي تصوم محكوم في يومها بالصحة مع تأخر شرطها، أعني: اغتسالها ليلاً، فالصحّة متقدّمة و الشرط متأخر.

ثمّ إنّهم بعد الوقوف على ذلك التقسيم وقفوا على إشكال و هو أنّ الشرط

ص:440

من أجزاء العلّة، و العلّة تكون مقارنة للمعلول وجوداً و متقدّمة عليه رتبة، فإذا كان هذا حال العلّة، و كان الشرط على وجه الإطلاق جزءاً للعلة، فكيف ينقسم الشرط بالنسبة إلى المعلول إلى أقسام ثلاثة متقدم، مقارن، متأخر؟ و لأجل رفع الإشكال نبحث في مقامات ثلاثة:

الأوّل: في شرائط المأمور به.

الثاني: في شرائط التكليف.

الثالث: في شرائط الوضع.

فانّ الشرط لا يخلو من الأقسام الثلاثة، و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر.

***

المقام الأوّل: شرط المأمور به

تنقسم شرائط المأمور به إلى متقدّم على الواجب، كالغسل و الوضوء، إذا قلنا بشرطية نفس الأعمال الخارجية للواجب، و مقارن، كالستر و الاستقبال، و متأخر كما إذا أمر بالصوم نهاراً مقيّداً إياه بالاغتسال ليلاً.

و الجواب: انّ لشرط المستعمل في المقام غير الشرط الفلسفي، فانّ الثاني عبارة عمّا يكون مكملاً لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل، فالأوّل كالمحاذاة للنار فلولا المحاذاة لم تؤثر النار في إحراق القطن، و الثاني كيبوسة الحطب فلولاها لم يحترق بسهولة.

هذا هو الشرط الفلسفي، و يجب أن يكون مقارناً مع العلّة لا متقدّماً و لا متأخراً، فالمحاذاة و اليبوسة الخارجتان عن تلك الضابطة لا تؤثران لا في فاعلية الفاعل، و لا في قابلية القابل.

ص:441

و أمّا الشرط المستعمل في المقام فهو عبارة عمّا يكون القيد خارجاً و التقيّد داخلاً في مقابل الجزء، فانّ الثاني كالركوع يكون داخلاً في المأمور به قيداً و تقيّداً، بخلاف الوضوء فانّه يكون داخلاً تقيداً لا قيداً.

فالذي أوجد الإشكال في المقام هو اشتراك لفظ الشرط بين معنيين: أحدهما ما يستعمل في الفلسفة و الآخر ما يستعمل في الفقه، فالاشتراك اللفظي أحد أسباب المغالطة مثل قولك مشيراً إلى الباصرة هذه عين.

ثمّ مشيراً إلى نبع جار و» كلّ عين جارية «فتستنتج هذه جارية، و إنّما نشأ الخلط في أنّ المقصود من العين الأولى هي الباصرة، و من الثانية النبع الجاري، و مثله المقام.

و على ذلك فالمقصود من الشرط أي ما يكون من متعلقات المأمور به، و من المعلوم أنّ المأمور به أمر تدريجي لا دفعي، فيقدّم قسم من أجزائه و يؤخّر قسم آخر، و المتقدم و المتأخر يعد اعتباراً عملاً واحداً ذا عنوان واحد.

هذا هو حقيقة الأمر، و ممن تنبّه لهذا الجواب المحقّق النائيني حيث قال: التحقيق هو خروج شروط المأمور به عن حريم النزاع، بداهة أنّ شرطية شيء للمأمور به ليست إلاّ بمعنى أخذه قيداً في المأمور به، فكما يجوز تقييده بأمر سابق أو مقارن، يجوز تقييده بأمر لاحق أيضاً، كتقييد صوم المستحاضة بالاغتسال في الليلة اللاحقة، إذ لا يزيد الشرط بالمعنى المزبور على الجزء، الدخيل في المأمور به تقيّداً و قيداً.(1)

و بذلك نستغني عمّا ذكره المحقّق الخراساني من الجواب، لما عرفت من أنّ الإشكال غير شامل لهذه الصورة، إذ لا علّية و لا معلولية.

ص:442


1- - أجود التقريرات: 2221/221.
المقام الثاني: شرائط التكليف

إنّ شرائط التكليف على أقسام، تارة يكون متقدماً كما إذا قلت: إذا جاء زيد اليوم يجب عليك إكرامه غداً، على وجه يكون لفظة غداً قيداً للوجوب، و منه ما يكون مقارناً كالبلوغ و العقل المقارنين للوجوب، و منه ما يكون متأخراً كوجوب الحجّ في أوّل أشهر الحجّ للمستطيع مع كونه مشروطاً بدرك الوقوفين، فيقال: انّ التكليف فعل من أفعال المولى، و شرطه جزء من علل التكليف فكيف يكون متقدّماً تارة و متأخراً أُخرى مع أنّه من أجزاء العلّة التي يجب أن تكون مجتمعة في زمان و مكان واحد؟ و الجواب: انّ التكليف يطلق و يراد منه أحد المعنيين:

الأول: الايجاب و الزجر الاعتباريان الإنشائيّان.

الثاني: الإرادة الحقيقية الظاهرة في نفس المولى الباعثة إلى الإيجاب و الزجر الاعتباريين.

أمّا الأوّل: فبما انّ الأُمور الاعتبارية قائمة بنفس الاعتبار و تابعة لكيفيته فلا يحكم عليها بضوابط التكوين، فما ذكر من أنّ شرط العلة يجب أن يكون مقارناً فهو راجع إلى الشرط التكويني كالمحاذاة في يبوسة الحطب، و أمّا الخارجة عن مدار التكوين فهي تابعة لكيفية الاعتبار، فللمعتبر أن يجعل الشيء المتقدّم شرطاً للاعتبار المتأخر و بالعكس.

و أمّا الثاني: فبما انّ الإرادة الظاهرة في لوح النفس من الأُمور التكوينية فلو كان شيء شرطاً لظهور الإرادة يجب أن يكون تابعاً لضوابط التكوين بأن يكون مقارناً لعلة الإرادة لا متقدّماً و لا متأخراً عنها.

هذا هو الإشكال، و أمّا الحل فلا شكّ أنّ الصغرى) كون الإرادة من الأُمور

ص:443

التكوينية (و الكبرى لزوم اقتران شرط العلة التكوينية معها صحيح، إنّما الإشكال في تعيين ما هو الشرط للإرادة.

فالخلط حصل بين ما هو شرط في القضية اللفظية للإيجاب، و ما هو شرط للإرادة الحقيقية، ففي المثال المذكور» إن جاءك زيد اليوم يجب عليك إكرامه غداً «انّ شرط الإيجاب و إن كان هو المجيء المتقدّم على الإيجاب، لكنّه ليس شرط الإرادة بل شرطها هو تصوّر المولى في أنّ إكرام زيد غداً لأجل قدومه إلى هذا البلد مصلحة ملزمة، و هذه الصورة العلمية تصير سبباً لظهور الإرادة في ذهن المولى التي يتبعها الإيجاب.

فالمجيء المتقدّم شرط للإيجاب الاعتباري، و أمّا شرط الإرادة فهو عبارة عن الصورة العلمية للقضية الموجودة في النفس المقارنة لانقداح الإرادة، و المراد من الصورة العلمية هو علمه بوجود المصلحة في الإكرام.

و منه يظهر حال الشرط المتأخر، فانّ حياة المكلف في أيّام الحجّ و دركه الموقفين شرط للإيجاب الاعتباري للحج للمستطيع في أوائل أشهر الحجّ، و أمّا انقداح الإرادة في ذهن المولى التي يتبعها الإيجاب فشرطها عبارة عن العلم بالمصلحة في هذا النوع من العمل، و العلم بالمصلحة مقرون بانقداح الإرادة، فالخلط حصل بين شرط الايجاب و شرط انقداح الإرادة.

و إن شئت مزيد توضيح فلنذكر ما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة فقال: إنّ هاهنا أُموراً يجب التمييز بينها:

1. الوجوب الاعتباري العقلائي المنتزع عن نفس التكليف، و لا شكّ أنّ شرطه هو نفس المجيء أو نفس القدرة الموجودة في ظرفه. و لكن التقدّم و التأخّر في الشرط لا يضرّان في الأُمور الاعتبارية، إذ لا تأثير فيها و لا تأثّر، و إنّما واقعها هو

ص:444

اعتبار الوجوب و فرضه تحت شرائط خاصّة، متقدّمة أو مقارنة أو متأخّرة.

2. الإرادة الحقيقية المنقدحة في ذهن المولى، فهي بما أنّها أمر تكويني يجب أن يكون شرطها مقارناً لها، و قد علمت أنّ المحرك و الباعث لظهورها انّما هو العلم بالمصلحة فيما إذا قال: إذا جاءك زيد يوم الخميس فأكرمه يوم الجمعة، أو العلم بتحقق القدرة في ظرفها في فريضة الحجّ.

3. نفس العمل الخارجي الصادر من المكلّف، فلا شكّ أنّ الشرط هو نفس القدرة الخارجية و هي مقارنة.

فتلخّص أنّ الشرط فيما تجب فيه المقارنة الزمانية، مقارن لمشروطه، و فيما هو متقدّم و متأخر ممّا لا تجب فيه المقارنة لخروجها عن مصب القاعدة العقلية، أعني: لزوم مقارنة الشرط لمشروطه.

و ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الشرط هو لحاظه ذهناً لا وجوده خارجاً فإنّما يتمّ في هذا القسم، أي شرائط التكليف: الاعتبار، و الإرادة الحقيقية، لا في شرائط الوضع الذي هو المقام الثالث.

المقام الثالث: في شرائط الوضع

المراد بالوضع هو الأحكام الوضعية من الصحة و الملكية و الزوجية و غير ذلك، فتارة يكون الشرط الذي ربّما يطلق عليه السبب متقدّماً على الوضع، و أُخرى مقارناً له، و ثالثة متأخّراً عنه.

فالأوّل كالوصية التمليكيّة حيث إنّ الإيصاء جزء السبب لحصول الملكية، و الجزء الآخر هو قبول الموصى له.

و الثاني: كالعقل و البلوغ المقرون بالعقد.

ص:445

و الثالث: كالاجازة بالنسبة إلى صحّة البيع الفضولي، إذا قلنا بأنّ الإجازة كاشفة عن حدوث الملكية للمشتري من زمان العقد، و مثلها الأغسال الليلية إذا كانت شرطاً لوصف الصوم بالصحّة الفعلية بشرط تعقبها بالأغسال.

فالإشكال في المقام هو تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه.

و الإجابة عن هذا الإشكال واضحة لما قلنا من أنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقواعد التكوينية فمقارنة الشرط مع العلّة و عدم تأخّره أو تقدّمه عليه إنّما يختص بالعلل التكوينية، و أمّا الأُمور الاعتبارية الخاضعة لاعتبار المعتبر فلا مانع من أن يتّخذ المتقدم أو المتأخّر شرطاً، فلا إشكال في القول بصحّة البيع الفضولي فيما مضى إذا لحقت الإجازة، أو صحّة صوم المستحاضة في يومها إذا اغتسلت بعد اليوم.

نعم هنا إشكال آخر غير الإشكال المعروف) امتناع تقدّم الشرط على العلّة أو تأخّره عنها (نوضحه بالبيان التالي:

إنّ الأُمور الاعتبارية و إن كانت غير خاضعة للقواعد التكوينية لكنّها بما أنّها أُمور اعتبارية عقلائية تتوقّف صحّة اعتبارها على أمرين:

1. أن يترتب على الاعتبار أثر، فلو كان خالياً عنه لغى الاعتبار كاعتبار» أنياب أغوال «فانّ تخيّل الغول و نابه أمر ذهني فاقد للأثر فلا يعد من الاعتبارات العقلائية.

2. عدم اشتمال الاعتبار على التناقض، مثلاً إذا اعتبر شيئاً جزءاً للسبب و مع ذلك رتّب الأثر مع عدم هذا الجزء فانّه و إن لم يكن أمراً محالاً لكنّه بما انّه تناقض في الاعتبار و تناقض في القانون لا يحوم حوله العقلاء و يسقط عن الاعتبار.

و على ضوء ذلك فالاعتبارات الشرعية و العقلائية يجب أن يجتمع

ص:446

فيها شرطان:

أ. ترتّب الأثر.

ب. عدم التناقض في الاعتبار.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القول بصحّة عقد الفضولي و ملكية المشتري للمبيع قبل الإجازة) الكشف الحقيقي (و إن لم يكن أمراً محالاً إلاّ انّه مناقضة في الاعتبار و التقرير حيث إنّ المقنن يعتبر أوّلاً مقارنة الرضا للتجارة شرطاً لحصول الملكية و يقول: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ )(1) و يقول ) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه «(2)فمعنى ذلك انّه اعتبر السبب التام لحصول الملكية، هو التجارة الناشئة عن الرضا و طيب النفس.

و القول بحدوث الملكية للمشتري، قبل الإجازة و رضى المالك يناقض الاعتبار الأوّل. فلو حاول المقنن صيانة الاعتبار الأوّل فليس له محيص عن القول بالنقل أي تأثير الاجازة في ما يأتي فالقول بالكشف الحقيقي مع القول بأنّ الموضوع هو التجارة المقرونة بالتراضي لا يجتمعان في عالم الاعتبار.

و لأجل ذلك قلنا في محلّه انّ الكشف الحقيقي ليس أمراً محالاً بل مخالفاً للاعتبار السابق.

تصوير نتيجة الكشف الحقيقي

و بهذا تبيّن انّ الكشف الحقيقي و إن لم يكن أمراً محالاً و لكنّه يلازم التناقض في الاعتبار، و لأجل ذلك التجأ غير واحد من المحقّقين كشريف العلماء و غيره إلى

ص:447


1- - النساء: 29.
2- - المستدرك: 3، كتاب الغصب، الحديث 5; الوسائل 3، الباب 3 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3.

الكشف الحكمي، و حاصله: عدم حصول الملكية إلاّ بعد الاجازة غير انّه إذا حصلت الاجازة يكون نماء المبيع للمالك الثاني شرعاً و تعبّداً، و قد أوضحه الشيخ في متاجره.(1)

و يمكن أن يقال بنتيجة الكشف الحقيقي بالبيان التالي، و هو أنّ الملكية لما كانت من الأُمور الاعتبارية، و الاعتبار سهل المئونة، فلا مانع من أن يقال: لا ملكيّة للمشتري قبل الإجازة لا واقعاً و لا ظاهراً، غير انّ إجازة المالك كما تؤثر في المستقبل و تجعل المشتري مالكاً للمبيع فيه كذلك تؤثر فيما مضى و تجعل المبيع ملكاً للمشتري من زمان العقد إلى زمان الإجازة.

و على ما ذكرنا من إنشاء الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة إلى الأزمنة الآتية ليس فيه أي تناقض في الاعتبار مع حصول نتيجة الكشف الحقيقي و هو كون المبيع ملكاً للمشتري فيما مضى. لأنّ الملكية على وجه الإطلاق تحصل بعد الإجازة و اجتماع الشرط.

فإن قلت: ما ذكرت من المحاولة و إن كان خالياً من التناقض في الاعتبار، لكنّه مخدوش من جهة أُخرى و هو أنّه يستلزم أن يكون شيء واحد في زمان واحد ملكاً لشخصين، حيث إنّ المبيع يوم الخميس باعتبار عدم صدور الإجازة يُعدّ ملكاً للمالك الأوّل، و ينقلب الأمر بعد صدورها من المالك فيصير نفس ذلك المبيع في ذلك اليوم ملكاً للمشتري، و هذا ما ذكرنا من استلزامه ملكية شيء واحد في ظرف واحد لشخصين.

قلت: إنّ المسوّغ لهذا النوع من الملكية، أعني: أن يكون شيء واحد في يوم واحد ملكاً لشخصين هو اختلاف زمان الاعتبار، حيث إنّ ظرف اعتبار كون

ص:448


1- - المتاجر: 133 طبعة تبريز.

المالك مالكاً للمبيع هو يوم الخميس، و أمّا اعتبار كون المشتري مالكاً له في نفس ذلك الظرف، فإنّما هو يوم الجمعة، فاختلاف زمان الاعتبارين هو المسوّغ، و إن كان زمان الملكيتين واحداً.

و يمكن استظهار ذلك) أي أنّ دور الإجازة إيجاد الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة و بعدها (من صحيحة محمد بن قيس، فانّ هذه الصحيحة و إن اشتملت على مشاكل في المضمون و ربّما يمكن التغلب على بعضها لكن الهدف هو استظهار أنّ دور الإجازة دور إحداث الملكية من زمان العقد إلى زمان الإجازة و بعدها، فعندئذ يكون هناك نتيجة الكشف أي كون المبيع ملكاً للمشتري و إن لم يكن نفسه.

روى محمد بن قيس، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: قضى أمير المؤمنين) عليه السلام (في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب، فاستولدها الذي اشتراها منه، فولدت منه غلاماً، ثمّ جاء سيدها الأوّل، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال:» الحكم أن يأخذ وليدته و ابنها «، فناشده الذي اشتراها، فقال له:» خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفّذ لك البيع «، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسل ابني، قال:

لا و اللّه، لا أرسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه.(1)

و الشاهد في قوله:» خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع «أي ينفذ البيع الذي صدر من ابنه و أن يسنده إلى نفسه من لدن صدوره إلى زمان إجازته، و هذا دليل على أنّ دور الإجازة دور إحداث الملكية لا الكشف عن الملكية، و لكن لا إحداثاً في المستقبل فقط حتّى تكون ناقلة، بل إحداثاً من زمان

ص:449


1- - الوسائل: 14، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، الحديث 1.

العقد إلى زمان الإجازة و فيما بعد.

و بذلك يرتفع الإشكال، لأنّ العقد غير مؤثر في الملكية إلاّ بعد الإجازة و هي مقترنة بالعقد، لأنّ للعقد بقاء عرفياً لا عقلياً.

و بهذا تمّ تحليل الموارد الثلاثة، أعني: شرط المأمور به، أو شرط التكليف، أو شرط الوضع.

و اللازم علينا أن نقتصر على ما ذكرنا غير أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني في» الكفاية «ممّا تداولته الألسن، فلنرجع إلى كلامه فقد أتى بجواب مجمل غاية الإجمال في» الكفاية «و أوضحه في فوائده.

جواب المحقّق الخراساني

قال في» الكفاية «: و كذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً و لو كان مقارناً فإن دخل شيء في الحكم به و صحّة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلاّ ما كان بلحاظه يصحّ انتزاعه لدى الحاكم و بدونه لا يكاد يصحّ اختراعه عنده فيكون دخل كلّ من المقارن و غيره بتصوره و لحاظه و هو مقارن فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن، فتأمّل تعرف.(1)

و لا يخفى ما في كلامه من الإجمال، و قد أوضحه في الفوائد بما هذا نصّه:

إنّ كلّما تتوقف عليه الأحكام الشرعية مطلقاً تكليفية أو وضعية ممّا يتداول إطلاق الشرط عليه مطلقاً، مقارناً كان لها أو لا، إنّما يكون دخله بوجوده العلمي لا بوجوده الخارجي، و يكون حال السابق أو اللاحق بعينه، حالَ المقارن في الدخل مثلاً إلى أن قال إن قلت: هذا خلاف ظاهر لفظ الشرط الذي قد أطلق على مثل الإجازة و الغسل في الليل.

ص:450


1- - كفاية الأُصول: 1/146.

قلت: لو سلّم كان إطلاقه عليه من باب إطلاقه على مثل الرضاء المقارن لما عرفت أن دخلها كدخله في التأثير بلا تفاوت أصلاً.

إن قلت: فما وجه إطلاقهم الشرط على مثل ذلك ممّا لا دخل له إلاّ بوجوده العلمي؟ قلت: الوجه صدق الشرط حقيقة بناء على إرادة الأعمّ من الذهني و الخارجي من لفظ الوجود و العدم في تعريفه بما يلزم من عدمه العدم و لا يلزم من وجوده الوجود، و صدقه مجازاً من باب التشبيه و المسامحة بناء على إرادة خصوص الخارجي، و مثل هذا الإطلاق ليس بعزيز.(1)

و حاصل كلامه: انّ الشرط يطلق و يراد منه الوجود الخارجي كاليبوسة في الحطب التي هي شرط الاحتراق، و قد يطلق و يراد به الوجود العلمي، و هذا هو المراد في هذا المقام، مثلاً الحكم بما انّه فعل اختياري للحاكم لا يتوقف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام شرائطه المتقدّمة و المقارنة و اللاحقة و هو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الشرائط في عالم التصوّر دون وجودها في عالم الخارج.

و منه يظهر حال الوضع فالشرط عبارة عن لحاظ الحاكم كون الرضا مقارناً أو متأخّراً عنه، فنفس الرضا و إن كان مقارناً أو متأخّراً لكن لحاظ العقد معه مقارن للعقد في جميع الأحوال.

يقول المحقّق الخوئي في توضيح مرام المحقّق الخراساني: إنّ الشرط في الحقيقة تصوّر الشيء و وجوده الذهني دون وجوده الخارجي، و إطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أنّه طرف له.

ص:451


1- - فوائد الأُصول: 309.

و على ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدّماً عليه أو مقارناً له، إذ على جميع هذه التقادير، الشرط واقعاً و الدخيل فيه حقيقة هو لحاظه، و وجوده العلمي، و هو معاصر له زماناً و متقدّم عليه رتبة.

و على الجملة فالحكم بما أنّه فعل اختياري للحاكم فلا يتوقّف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام أطرافه من المتقدّمة و المقارنة و اللاحقة، و هو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه نحو إيجاده كسائر الأفعال الاختيارية، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور و اللحاظ دون وجودها في عالم الخارج.(1)

و كان عليه أن يضيف عليه قوله: و هكذا الحال في شرائط الوضع، أي صحّة الصوم و حدوث الملكية، فإنّ الشرط هو لحاظ العقد مع الرضا، سواء كان الرضا متقدّماً أو متأخراً.

هذا هو غاية توضيح مرامه.

يلاحظ عليه: أنّه على خلاف ظاهر الأدلّة فانّ الشرط عبارة عن نفس الرضا، قال سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ).(2)

و ما تخلّص به في آخر كلامه من النقض و الإبرام غير رافع لهذا الإشكال، إذ ليس الإشكال في صحّة الصدق و إنّما الإشكال فيما هو المتبادر من الأدلّة، فانّ المتبادر من الأدلّة هو الوجود الخارجي لا لحاظ الحاكم وجوده في ظرفه.

نعم يصحّ ما ذكره في شرائط الحكم و الارادة، فانّ الشرط فيها هو تصوّر الشروط المتقدّمة و المتأخّرة و لا يصحّ في شرائط الوضع كما مرّ.

ص:452


1- - المحاضرات: 2/310.
2- - النساء: 29.
إجابة المحقّق النائيني عن الإشكال

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر، و قال:

إنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها و لا تحتاج إلى برهان، بل يكفي في امتناعه نفس تصوّره، فانّ حال الشرعيات حال العقليات التي تقدّم امتناع تأخّر العلّة فيها أو جزئها أو شرطها ممّا له دخل في تحقّق المعلول، عن معلولها.

ثمّ قال: و أمّا توهّم انّ امتناع الشرط المتأخّر إنّما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات و الشرعيات التي أمرها بيد المعتبر و الشارع، حيث إنّ له أن يعتبر كون الشيء المتأخّر شرطاً لأمر متقدّم، ففساده أيضاً غني عن البيان، لأنّه ليس المراد من الاعتبار مجرّد لقلقة اللسان، بل للاعتباريات واقع، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها، و بعد اعتبار شيء شرطاً لشيء و أخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط، كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه؟ و هل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره؟! و بالجملة: بعد فرض اعتبار شيء موضوعاً للحكم لا يمكن أن يتخلّف و يتقدّم ذلك الحكم على موضوعه، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر.

و أحسن ما قيل في المقام من الوجوه: هو أنّ الشرط عنوان التعقب و الوصف الانتزاعي، و قد تقدّم عدم توقّف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقّب، و انّ السبب للنقل و الانتقال هو

ص:453

العقد المتعقب بالإجازة، و هذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها لا يخلو من خلط التكوين بالتشريع، فانّ الممتنع هو الأوّل، و أمّا الثاني فلا يقبل الامتناع، نعم فرض وجود المعتبَر مع فقد ما يعتبر علة له يوجب تناقضاً في الاعتبار و هو أمر خارج عن سيرة العقلاء لا أنّه أمر محال.

و ما ذكره جواباً عن هذا الإشكال من» انّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان، بل للاعتباريات واقع غايته انّ واقعها عين اعتبارها «لا يدفع الإشكال، فانّ أقصى ما يمكن أن يقال انّ للاعتباريات نظاماً عقلائياً فاعتبار شيء ثمّ اعتبار خلافه و إضفاء الرسمية على كلا الاعتبارين خارج عن سيرة العقلاء.

و العجب أنّه يقول في آخر كلامه:» كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه؟ و هل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره؟! «فانّ حاصل هذا الكلام: أنّ القول بتأخّر الشرط خلاف الاعتبار السابق لا انّه أمر محال.

ثانياً: أنّ ما وصفه بأحسن الأجوبة و هو أنّ الشرط عنوان التعقّب و هو موجود مع العقد و إن لم يوجد الشرط، أعني: الإجازة، ففيه أيضاً خلط بين ذات المتعقّب و عنوان التعقب، فالأوّل متحقّق و إن لم يلحق به الإجازة، و أمّا التعقّب بالعنوان الوصفي فبما انّه أمر انتزاعي و الأمر الانتزاعي من مراتب التكوين، فكيف يمكن انتزاعه بالفعل مع عدم وجود منشأ الانتزاع، أعني: الإجازة؟! و بعبارة أُخرى: انّ عنوان التعقّب امّا منتزع من ذات العقد و ذات الصوم بلا لحاظ ضمّ الاجازة و الاغتسال، فلازمه حدوث الملكية، و وصف الصوم بالصحة الفعلية، و إن لم تنضم إليهما الإجازة و الاغتسال، و هو خلاف الفرض.

ص:454


1- - فوائد الأُصول: 1/281.

و إمّا منتزعة عنهما بملاحظة الاجازة و الاغتسال، فلازمه عدم إمكان انتزاعهما ما لم تلحق بهما الإجازة و الاغتسال، إذ لو لم يكن ذات العقد أو الصوم كافياً في صحّة الانتزاع، فلا معنى لانتزاع الخصوصية بلا ضم الإجازة أو الغسل.

فالحقّ في الجواب ما عرفت.

ص:455

الأمر الرابعتقسيمات الواجب
اشارة

(1)

قسم الواجب إلى أقسام بملاكات مختلفة، نستعرضها فيما يلي:

التقسيم الأوّل: تقسيمه إلى مطلق و مشروط
اشارة

قد جعل المشهور التقسيم إلى مطلق و مشروط تقسيماً للواجب مع أنّه في الحقيقة على مذهب المشهور تقسيم للوجوب، حيث إنّ الوجوب يكون تارة مرسلاً و مطلقاً من أيّ قيد، و أُخرى مقيّداً و مشروطاً بقيد، وعليه فوصف الواجب بالمطلق و المشروط وصف بحال المتعلّق.

و على كلّ حال فقد عرّف المطلق و المشروط بتعاريف نقتصر على ذكر تعريفين:

الأوّل: المطلق ما لا يتوقف وجوبه بعد الأُمور العامة على شيء، و يقابله المشروط. و المراد من الأُمور العامة: العقل و البلوغ و العلم و القدرة العقلية لا الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ تعريف المطلق بما ذكر يوجب أن لا يوجد له مصداق إلاّ معرفة اللّه سبحانه، إذ ما من واجب إلاّ و هو مشروط بشيء مضافاً إلى الأُمور

ص:456


1- - مرّ الأمر الثالث في تقسيم المقدمة ص 423.

العامّة كالصلاة و الصوم و الحجّ بالنسبة إلى الوقت، و الجهاد بالنسبة إلى أمر الإمام به، و غير ذلك.

على أنّ في جعل العلم ممّا يتوقّف عليه الحكم إشكالاً واضحاً، و هو استلزامه الدور، لأنّ الحكم يتوقّف على شرطه و هو العلم، و العلم موقوف على المعلوم) الحكم (.

إلاّ أن يقال بأنّ مرتبة من الحكم و هو الفعلية أو التنجّز موقوفة على العلم لا كلّ المراتب كالإنشاء، فالإنشاء حكم مطلق غير مشروط بالعلم، لكن فعلية الحكم على مبنى القوم أو تنجّزه كما هو الحقّ موقوفة على علم المكلّف.

الثاني: المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة حيث إنّ وجودها موقوف على الطهارة لكن وجوبها ليس موقوفاً عليها، فلو لم يكن متوضّئ تجب الصلاة عليه غاية الأمر يجب عليه تحصيل الوضوء، و يقابله المشروط كالحج فانّ وجوبه موقوف على الاستطاعة التي يتوقّف عليها وجود الحجّ، فالحجّ وجوداً و وجوباً موقوف على الاستطاعة.

يلاحظ عليه: أنّ وجوب الحجّ موقوف على الاستطاعة الشرعية، لكن وجودَه لا يتوقّف على الشرعية منها، بل يكفي الاستطاعة العقلية كما في حج المتسكع، فانّ الاستطاعة العقلية أوسع من الاستطاعة الشرعية، فالناس أكثرهم مستطيعون للحجّ بالاستطاعة العقلية دون الشرعية.

اللّهم إلاّ أن يقال المراد توقّف الحجّ الواجب لا مطلق الحجّ، فالقسم الواجب من الحجّ موقوف وجوده على الاستطاعة الشرعية، كما أنّ وجوبه موقوف عليها.

ص:457

اعتذار المحقّق الخراساني

إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها تعريفات لفظية و التي تسمّى بشرح الاسم، و ليس بالحد و الرسم، و قال ما يقرب من هذا أيضاً في مبحث العام و الخاص، و هكذا في مبحث المطلق و المقيد.

أقول: بما انّ المحقّق الخراساني كرّر ذلك الاعتذار في غير مورد من كتابه فنعود إلى مناقشته بالوجه التالي:

أوّلاً: إن أراد انّ هذه التعاريف تعاريف لفظية بحجّة انّ المعرّف من الأُمور الاعتبارية و هي تفقد الجنس و الفصل الحقيقيّين، فيرجع جميع المعرفات إلى كونها لفظية، فلو أراد هذا، فهو حقّ.

و إن أراد أنّ القوم كانوا بصدد التعريف اللفظي و العرفان الإجمالي دون التعريف بالحد و الرسم فهو غير مطابق للواقع، إذ لو كانت الغاية ذلك لما كان لمناقشاتهم في مقام التعريف وجه، فانّ النقاش آية انّهم كانوا بصدد التعريف الحقيقي.

ثانياً: انّ الظاهر من كلماته أنّ» التعريف اللفظي «و» شرح الاسم «و» ما الشارحة «من الألفاظ المترادفة تستعمل في معنى واحد، قد تبع في ذلك أُستاذَه الحكيم السبزواري، حيث قرأ عليه شيئاً من الفلسفة في مسيره من خراسان إلى العراق، قال الحكيم السبزواري:

أُسّ المطالب ثلاثة علم مطلب» ما «مطلب» هل «مطلب» لم

فما هو الشارح و الحقيقي و ذو اشتباك مع هل أنيق

ص:458

و قال في شرحه:» يطلب «ب» ما «الشارحة أوّلاً شرح مفهوم الاسم، بمثل: ما الخلاء؟ و ما العنقاء؟ و ب» ما «الحقيقية، تعقل ماهية النفس الآمرية، مثل ما الحركة؟ و ما المكان؟(1)الظاهر اشتباه الأمر على المحقّق السبزواري حيث عدّ ما الشارحة في مقابل ما الحقيقية، مع أنّ القول الشارح في المنطق نفس الحد و الرسم، و الاختلاف بينهما بالاعتبار، فتعريف الشيء بالحد أو الرسم قول شارح قبل العلم بوجوده، و تعريفه بنفس ذلك بعد العلم بوجوده، حدّ و رسم، فالقول الشارح عنوان يشمل الحدّ و الرسم، و لكن يختلف استعمالها حسب اختلاف الاعتبار، و يشهد بذلك كلام الشيخ الرئيس في» منطق الإشارات «و شارحه المحقّق الطوسي، و إليك كلامهما:

قال الشيخ الرئيس في» منطق الاشارات «: قد جرت العادة أن يسمّى الشيء الموصل إلى التصوّر المطلوب، قولاً شارحاً، فمنه حدّ و منه رسم.(2)

و تختلف ما الشارحة عن ما الحقيقية بالاعتبار، و الفرق أنّ السؤال في الثانية بعد معرفة وجود المسئول عنه دون الأُولى.

قال المحقّق الطوسي: إنّا إذا قلنا في جواب من يقول: ما المثلث المتساوي الأضلاع؟ انّه شكل تحيط به خطوط ثلاثة متساوية، كان حداً بحسب الاسم، ثمّ إنّه إذا بيّنا أنّه الشكل الأوّل من كتاب أقليدس، صار قولنا الأوّل بعينه حدّاً بحسب الذات.(3)

ص:459


1- - شرح المنظومة: 32.
2- - شرح الإشارات: 1/25.
3- - المصدر نفسه.
الإطلاق و التقييد من الأُمور النسبية

الإطلاق و التقييد من الأُمور الاضافية كالأُبوّة و البنوّة لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة و إن كان يجتمعان فيه من جهتين، فهكذا الإطلاق و الاشتراط، فانّ وجوب الشيء قد يكون بالنسبة إلى شيء مطلقاً، كوجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء، و بالنسبة إلى شيء آخر مشروطاً كوجوبها بالنسبة إلى الوقت.

و تظهر الثمرة أنّه إذا كان وجوب الشيء بالنسبة إلى شيء مطلقاً يجب تحصيله بخلاف ما إذا كان بالنسبة إليه مشروطاً، فلو كان خارجاً عن الاختيار ينتظر إلى حصوله، و إن كان داخلاً في الاختيار لا يجب تحصيله كالاستطاعة الشرعية.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ هناك بحثاً آخر، و هو ما يلي:

هل القيد يرجع إلى مفاد الهيئة أو إلى مفاد المادة؟

ذهب المشهور إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى مفاد الهيئة، و تكون النتيجة عدم الوجوب ما لم يحصل القيد، و أمّا المادة فهي باقية على إطلاقها.

نعم خالف الشيخ الأنصاري الرأي العام في الواجب المشروط فاختار أنّ القيد يرجع إلى الواجب فيكون الواجب محدداً بالقيد، و أمّا الوجوب فهو باق على إطلاقه، فالصلاة قبل الوقت واجبة غير أنّ الواجب مقيّد بالزوال، و نستوضح كلتا النظريتين بالآية التالية:

قال سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ

ص:460

قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)» الدلوك «بمعنى الزوال، و لفظة» اللام «في قوله» لدلوك «بمعنى » عند «أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس، فلو قلنا بأنّ غسق الليل هو وسط الليل فالآية متضمنة لأوقات الصلوات الخمسة، فتدلّ على أوقات الأربعة قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ... إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )، و على وقت صلاة الفجر قوله: (وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) و لو قلنا إنّ المراد من غسق الليل هو ابتداء الليل، فتدلّ على أوقات الفرائض الثلاثة: الظهر و العصر و الفجر.

و على كلّ حال فالقيد في الآية، أعني قوله: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) إمّا إلى قوله: (أَقِمِ ) كما عليه المشهور أو إلى (اَلصَّلاةَ ) كما عليه الشيخ الأنصاري، و لنستوضح المقام بمثال آخر.

إذا قال القائل: أكرم زيداً إن سلّم، فالتسليم إمّا قيد للوجوب المستفاد من هيئة أكرم، أو قيد للإكرام الحامل للهيئة.

فعلى الأوّل: يكون المعنى يجب إن سلّم على وجه لو لا التسليم لا وجوب.

و على الثاني يكون المعنى يجب إكرام زيد إكراماً مقيداً بتسليمه، فالوجوب على إطلاقه و إن كان الإكرام مقيّداً بالتسليم.

و بعبارة أُخرى: الوجوب حالي و إن كان ظرف العمل استقبالياً.

تحليل واقع القيود ثبوتاً

و قبل أن ندرس أدلّة الطرفين نحلل واقع القيود ثبوتاً، فانّ القيود حسب الواقع على قسمين:

ص:461


1- - الاسراء: 78.

فقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للمتعلّق، و قسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً لمفاد الهيئة.

أمّا الأوّل: فلو افترضنا أنّ المصلحة قائمة بإقامة الصلاة جماعة، أو إقامتها في المسجد، أو الطواف بالبيت على نحو تكون الصلاة و الطواف مجرّدتين عن القيود فاقدتين للمصلحة، ففي هذا الظرف يكون القيد راجعاً إلى الواجب، فإذا قال: صلّ في المسجد، أو صلِّ صلاة الجمعة جماعة، أو طف بالبيت، فجميع تلك القيود من محصلات المصلحة في الصلاة و الطواف، فهذا النوع من القيد لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للواجب لا للوجوب.

و أمّا الثاني: فكما إذا افترضنا انّ الصوم بما هو هو ذو مصلحة أو انّ العتق بما هو هو أمر راجح، و لكن مثل هذه المصلحة غير كافية، لانقداح الارادة في نفس المولى و بالتالي انشاء البعث إليه، إلاّ إذا صدر منه فعل لا يغتفر إلاّ بالتكفير من الصوم و العتق، ففي هذا المورد يكون القيد راجعاً إلى مفاد الهيئة أي البعث، و يقول: إن أفطرت فكفّر، و إن ظاهرت فأعتق. فالإفطار و الظهار من قيود الإرادة و البعث، و نظيره الحج متسكعاً فانّ الحجّ ذو مصلحة كافية و لكنّه غير كاف في انقداح الإرادة في لوح النفس و بعث العبد إليه، لاستلزامه الحرج، و إنّما يبعث إذا استطاع العبد، فتكون الاستطاعة قيداً لظهور الإرادة، و بالتالي لبعث المولى، و مثل الموردين الأُمور العامّة، فانّ العقل و القدرة من شروط الإيجاب، فلولاهما لما ظهرت الإرادة في لوح النفس و لا البعث إلى العمل.

و بذلك ظهر أنّ القيود ثبوتاً على قسمين، فقسم يرجع إلى المادة و لا يصلح أن يكون قيداً للوجوب و البعث، و قسم على العكس. فإذا كانت القيود حسب الثبوت على قسمين فلا وجه لجعلهما قسماً واحداً كما عليه العلمان حيث جعل

ص:462

المحقّق الخراساني كلّ القيود راجعة إلى الهيئة و جعل الشيخ الأنصاري كلّها راجعة إلى المادة، بل لا بدّ من التفصيل بين القيود.

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى دراسة أدلّة الشيخ.

أدلّة رجوع القيد إلى المادة

استدلّ الشيخ على رجوع القيد إلى المادة بوجوه أربعة:

الأوّل: انّ هيئة الأمر موضوعة» بالوضع النوعي العام و الموضوع له الخاص «لخصوصيات أفراد الطلب و الإرادة الحتمية الإلزامية التي يوقعها الآمر و يوجدها، فالموضوع له و المستعمل فيه، فرد خاص من الطلب، و هو غير قابل للتقييد.

و إن شئت قلت: إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العام للموضوع له الخاص، فيكون مفادها إيجاد البعث، و هو أمر جزئي لمساواة الإيجاد بالجزئية، و الجزئي لا يقبل التقييد.(1)

يلاحظ عليه: ما مرّ سابقاً من أنّ الجزئي فاقد للسعة و الإطلاق من حيث الأفراد، و أمّا من حيث الحالات فهو قابل للتقييد، فانّ الوجوب المنشأ، له مصداق واحد و لكنّه من حيث الحالات ينقسم إلى حالتين:

أ. الوجوب المقرون بالتسليم.

ب: الوجوب المجرّد عن التسليم.

فالقيد إذا رجع إلى المقيّد يخص البعث بحالة خاصّة و هو حالة التسليم.

الثاني: ما لخصه المحقّق الخراساني في» الكفاية «، بقوله: إنّ العاقل إذا توجّه

ص:463


1- - لاحظ مطارح الأنظار: 46.

إلى شيء و التفت إليه، فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً، لا كلام في الثاني.

و على الأوّل فإمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه و أمره مطلقاً، على اختلاف أطواره، أو على تقدير خاص، و ذلك التقدير تارة يكون من الأُمور الاختيارية، و أُخرى لا يكون كذلك، و ما يكون من الأُمور الاختيارية قد يكون مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف، و قد لا يكون كذلك على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه و الأمر به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه جعل المقسم من أوّل الأمر هو المطلوب و ذكر له أقساماً، و لنا أن نجعل المقسم هو الطلب، فنقول: إذا أطلّ الإنسان بنظره إلى شيء، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه، و على الثاني إمّا أن يتعلّق طلبه به على وجه الإطلاق، و أُخرى على وجه التقييد، ثمّ القيد إمّا أن يكون أمراً اختيارياً أو خارجاً عنه، و القيد الاختياري إمّا أن يكون مطلوباً حصوله أو مطلوباً تحصيله.

الثالث: انّ المقصود من الإنشاء ليس مفهوم الطلب الاسمي، بل إيجاد مصداقه في الخارج إنشاء و اعتباراً، و مثله غير ملحوظ مستقلاً، بل ملحوظ على نحو الاندكاك في ضمن لحاظ متعلّقه، أعني: المطلوب، و الشيء ما لم يلحظ مستقلاً و لم يقع في أُفق النفس كذلك يمتنع تقييده، إذ التقييد عبارة عن لحاظ شيء مستقلاً، ثمّ تقييده ثانياً.

و على هذا الوجه اعتمد المحقّق النائيني حيث قال: إنّ النسبة حيث إنّها مدلولة للهيئة فهي ملحوظة آلة و معنى حرفياً، و الإطلاق و التقييد من شئون

ص:464


1- - كفاية الأُصول: 1/153.

المفاهيم الاسمية الاستقلالية.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ النسب التي هي من المعاني الحرفية من المقاصد الأصلية للمتكلّم، و القيد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

توضيحه: أنّ الغرض الأصلي من التكلّم غالباً هو افادة النسب التي هي قسم من المعاني الحرفية كالهوهوية في قولنا:» زيد قائم «، و الظرفية في قولنا:» زيد في الدار «، و التقييد يرجع إلى المقاصد الأصلية.

و إن شئت قلت: إنّ الإثبات تابع للثبوت و قد عرفت أنّ القيد تارة يرجع إلى الطلب و أُخرى إلى المطلوب، فإذا كان الثبوت على قسمين فكيف يمكن لنا جعله في الإثبات قسماً واحداً؟ و ثانياً: ما أفاده المحقّق الخراساني من أنّه لو سلّمنا امتناع تقييد المعاني الملحوظة آلية، فانّه إنّما يمنع عن التقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً غاية الأمر قد دلّ بدالّين و هو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً.

الرابع: انّ تقييد مفاد الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء و هو أمر محال، لأنّ الإنشاء من مقولة الإيجاد و هو لا يقبل التقييد، بل أمره دائر بين الوجود و العدم، فامّا أن يكون الإيجاد محقّقاً أو غير محقّق، و لا معنى للإيجاد المعلّق من غير فرق بين الإيجاد التكويني و الإنشائي.

يلاحظ عليه: بأنّ ما أُفيد من أنّ الإنشاء لا يقبل التعليق، فهو كالإيجاد أمره دائر بين الوجود و العدم غير أنّ القيد يرجع إلى المنشأ فهاهنا انشاء و هاهنا منشأ، و الأوّل غير مقيّد و الثاني و هو الطلب مقيد.

ص:465


1- - أجود التقريرات: 1/131.

توضيحه: انّ الانشاء عبارة عن استعمال اللفظ في معناه الإيجادي و الاستعمال لا يقبل التعليق، فانّه إمّا يُستعمل اللفظ في معناه الإيجادي أو لا يستعمل.

ثمّ إنّ استعمال اللفظ لغاية إيجاد معناه تارة يكون المستعمل فيه الطلب المطلق كما إذا قال: أقم الصلاة، و أُخرى يكون مفاده الطلب المقيّد كما إذا قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) و معناه الطلب و البعث على تقدير، فلو كان هناك تعليق فإنّما هو في المنشأ لا في الإنشاء.

فإن قلت: بأنّ المنشأ الطلب المعلّق من مقولة الوجود، و هو لا يقبل التعليق، لأنّ النبي امّا موجود أو معدوم و ليس هنا قسم ثالث أي الوجود المعلق.

قلت: إنّما ذكرته إنّما يتم في الأُمور التكوينية فالوجود التكويني لا يقبل التعليق، و أمّا الوجود الاعتباري أعني الطلب فلا مانع من تعليقه فتارة يكون المنشأ فلا مانع من الطلب المطلق، و أُخرى الطلب المشروط بشرط الاستطاعة، و الاشتباه حصل من قياس الأُمور الاعتبارية بالتكوينية.

الخامس: إذا كان رجوع القيد إلى الهيئة مستلزماً لرجوع القيد إلى المنشأ يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ، حيث إنّ الإنشاء قد تمّ، مع أنّ المنشأ أعني الطلب غير موجود، للاتفاق على عدم حصول الطلب قبل تحقّق الشرط، و هذا نظير القول بتحقّق الإيجاد من دون أن يتحقّق الوجود و هو محال.

يلاحظ عليه: بأنّ المنشأ غير منفك عن الإنشاء، و ذلك لأنّ المنشأ لو كان هو الطلب المطلق لكان لما ذكر وجه، و أمّا إذا كان المنشأ الطلب على تقدير حصول الشرط فهذا النوع من الطلب موجود قبل حصول الشرط.

فإذا قال: أقم الصلاة عند دلوك الشمس، فالطلب على تقدير الدلوك

ص:466

موجود و إن لم يكن هناك دلوك و ينقلب إلى الطلب المطلق بعد دلوكها.

و الحاصل: انّ الأُمور الاعتبارية رهن شيئين:

الأوّل: ترتّب الأثر عليه.

الثاني: عدم التناقض في الاعتبار.

و على ضوء هذين الأمرين لا مانع من إنشاء الطلب المطلق كما لا مانع من انشاء الطلب المقيّد، و ذلك لأنّ المولى ينظر إلى أحوال المكلّفين فيرى بعضهم واجداً للشرط فعلاً، كما يرى البعض الآخر فاقداً له لكنّه سوف يحصله أو يحصل له، فعندئذ ينشئ الوجوب المقيّد ليكون حجّة في حقّ الحائزين للشرط بالفعل و للحائزين له عند حصول الشرط.

و بكلمة قصيرة انّ الاستدلال الرابع كان مبنياً على أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء، و هو لا يقبل التعليق، كما أنّ لب الدليل الخامس هو أنّ رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

و الجواب عن كلا الاستدلالين بما عرفت.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإنشاء غير معلّق و إنّما المعلّق هو المنشأ، و هو غير قابل للتعليق في التكوين دون عالم الاعتبار، فيمتنع إيجاد الوجود المعلق على شيء لم يحصل، لكنّه يجوز إنشاء طلب معلّق بشرط غير حاصل.

و أمّا الثاني: فالمنشأ غير منفك عن الإنشاء، بل هو يلازم الطلب المعلّق في مقابل عدم الطلب أصلاً أو الطلب المنجز.

و مما يرشدك إلى إمكان المنشأ) الملك (المعلق صحّة الوصية التمليكية فيما إذا قال المولى: هذه الدار لزيد بعد وفاتي، فالإنشاء فعلي مع أنّ المنشأ معلّق، و هو

ص:467

حصول الملكية للموصى له بعد وفاته أو بعد قبوله، و فائدة هذا الإنشاء انّ الدار تكون ملكاً منجّزاً له بعد الموت.

ثمّ إنّ الظاهر من متاجر الشيخ تصوّر رجوع القيد إلى الهيئة و قد صرّح بأنّه لا مانع من إنشاء الملكية المعلّقة لكن الإجماع قام على بطلان التعليق، فما أُفيد هنا يخالف ما صرّح به في متاجره.(1)

سؤال و إجابة

أمّا السؤال و هو انّه إذا كان الطلب فعلياً مطلقاً و كان القيد قيداً للواجب عند الشيخ فيجب بحكم إطلاق الوجوب تحصيل تمام قيود الواجب من غير فرق بين الوضوء و الاستطاعة، لأنّ الوجوب مطلق و الواجب مقيد و إطلاق الوجوب يدعو إلى تحصيل الواجب بعامة قيوده مع انّ الشيخ لا يقول بوجوب تحصيل الشرط في الواجب المشروط بل يعتقد بشرطية حصوله لا تحصيله.

أمّا الجواب: فقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال بقوله: إنّ الفعل المقيّد قد يكون ذا مصلحة ملزمة على وجه يكون الفعل و القيد مورداً للإلزام، و قد يكون متعلّق التكليف ذا مصلحة، لكن على تقدير وقوع القيد، لا على وجه التكليف، ففي كلّ هذه الصور ينبغي للحاكم أن يعبّر عن المقصود بلفظ يكون وافياً بمقصوده.(2)

و إلى ذلك ينظر قول المحقّق الخراساني في تقرير رجوع القيد إلى المادة لبّاً: قد يكون القيد مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف، و قد لا يكون كذلك

ص:468


1- - المتاجر، كتاب البيع، ص 100.
2- - مطارح الأنظار: 49.

على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه و الأمر به.(1)

و قوله أيضاً: فانّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب و يتعلّق به الطلب؟(2)يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح ثبوتاً حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بالفعل المقيد على وجه يكون القيد مورداً للإلزام و التحصيل، و أُخرى تكون قائمة بالفعل المقيّد على وجه لا يكون القيد مورداً للإلزام بل يرجى حصوله، و امّا إثباتاً فظاهر إطلاق الوجوب تحصيل عامة القيود، لأنّ الوجوب مطلق و الفعل مع قيده واقعان تحت دائرة الطلب، فكما تعلّق الطلب بنفس الفعل تعلّق بغيره، فيكون الكلّ مورداً للإلزام.

اللّهمّ إلاّ أن يدلّ دليل من خارج على أنّ القيد مطلوب الحصول لا مطلوب التحصيل.

مسائل ثلاث:

المسألة الأُولى: هل الوجوب في الواجب المشروط فعلي أو إنشائي؟ المسألة الثانية: إذا كان الوجوب إنشائياً فما فائدته؟ المسألة الثالثة: إذا شكّ في كون القيد راجعاً إلى الهيئة أو المادة فما هو المرجع؟ و إليك البحث فيها تباعاً.

المسألة الأُولى: الوجوب فعلي أو انشائي

هل الوجوب على فرض رجوع القيد إلى الهيئة فعلي أو إنشائي؟ و المراد من

ص:469


1- - كفاية الأُصول: 1/153.
2- - كفاية الأُصول: 1/158.

الفعل هو البعث على كلّ تقدير و من الانشائي هو البعث على تقدير دون تقدير، فإذا كان هذا هو المراد من الفعلي و الإنشائي، فالوجوب في الواجب المشروط، إنشائي، إذ ليس هناك بعث على كلّ تقدير بل بعث على تقدير، و المفروض عدم حصول المعلّق عليه فلا يكون هناك بعث فعلي إلاّ إنشاء البعث.

نعم لو قلنا بأنّ المراد من الفعلي كلّ حكم بيّنه الشارع على لسان نبيّه أو وصيّه من غير فرق بين الواجب المطلق و الواجب المشروط، فيكون الجميع فعلياً في مقابل الإنشائي و هو الحكم الذي يكون مخزوناً عند النبي و الوصي غير مبيّن لمصلحة في عدم البيان كالأحكام المخزونة عند صاحب الأمر صلوات اللّه عليه.

و لكن هذا المصطلح صحيح بالنسبة إلى كلّ الأحكام، فهي بين مبيّنة و مخزونة، فالمبيّنة هي الفعلية و المخزونة هي الشأنية.

و أمّا إذا لوحظ الحكم بشخصه فيعبر بالفعلي عمّا فيه البعث و التحريك فعلاً و بالإنشائي ما ليس كذلك، و على هذا الغرار فالوجوب في الواجب المشروط إنشائي لا غير.

لكن المحقّق العراقي مع اعترافه برجوع القيد إلى الهيئة دون المادة زعم كون الوجوب في الواجب المشروط فعلياً و أفاد في هذا الصدد بما يلي:

إنّ الآمر إذا التفت إلى كون فعل غيره ذا مصلحة على تقدير خاص أراده منه على ذاك التقدير، فإن لم يجد مانعاً من إظهار إرادته المذكورة أظهرها بما يجده مظهراً من قول أو فعل، فإذا أظهر إرادته التشريعية، اعتبر العرف هذا الإظهار حكماً و طلباً، و قالوا: حكم الشارع مثلاً على كذا بكذا، لأنّ جميع ما يمكن أن يصدر و يتأتى من الأمر قد حصل منه من شوقه و إرادته و إظهاره إرادته المتعلّقة

ص:470

بالفعل، الذي علم اشتماله على المصلحة إمّا مطلقاً أو على تقدير دون تقدير.

فالوجوب مطلقاً في المشروط و المطلق حكم فعلي حصل شرطه أم لم يحصل، و لا يعقل أن يكون للحكم نحوان من الوجود ليكون إنشائياً قبل تحقق شرطه و فعلياً بعده.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: انّ ما ذكره من أنّ الإرادة المظهرة بنحو من الأنحاء يعتبره العرف حكماً و طلباً له، ليس بتام، لأنّ الإرادة من مبادئ الحكم و مقدماته و ليس نفس الحكم و لا جزءاً منه و إنّما الحكم هو الإنشاء النابع عن الإرادة.

و الدليل على ذلك انّه ربّما يبعث المولى عبده و ينتزع منه الحكم مع الغفلة عن الإرادة الكامنة في ذهن المولى التي نجم منها الحكم.

و يوضح ذلك: انّا ننتزع الحكم من الأحكام الوضعية كالملكية و الزوجية المنشأتين بالإنشاء اللفظي أو الفعلي من دون ملاحظة انّ إنشاءهما نابع عن إرادة سابقة، فما أفاده من أنّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة، أمر لا يساعده الاعتبار.

و ثانياً: لو سلّمنا انّ الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة بفعل أو قول، و لكن يوصف الحكم بالفعلي إذا تعلق البعث بالشيء على كلّ تقدير لا إذا تعلّق به على تقدير خاص، و المفروض عدم حصول المعلّق عليه.

فإن قلت: إذا كان الحكم نابعاً عن الإرادة فهل الإرادة فعلية أو تقديرية؟ فعلى الأوّل كيف تكون المبادئ فعلية مع عدم كون الحكم فعلياً، و على الفرض الثاني يلزم التعليق في الوجود التكويني أي الإرادة و التعليق في التكوين أمر محال؟ قلت: لا شكّ أنّ الإرادة فعلية و لكن إرادة المولى لا تتعلق بفعل الغير لما

ص:471


1- - بدائع الأفكار: 1/340.

عرفت من امتناع تعلّق الإرادة بفعل الغير، لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المريد فكيف تتعلّق به الإرادة، بل متعلّق بفعل المريد و هو ليس إلاّ» إنشاء الحكم فالإرادة فعلية، لفعلية متعلّقه و هو إنشاء الحكم « و لكنّه لا ينافي أن يكون الحكم غير فعلي، لأنّه يكفي في فعلية الإرادة، هو فعلية نفس الإنشاء، لا فعلية متعلّقه.

و بعبارة أُخرى: الإرادة فعلية و ما تعلّقت به الإرادة، أعني: إنشاء البعث أيضاً فعلي، لأنّ المفروض أنّ المولى انشأ البعث لكن إنشاء البعث لا يلازم كون البعث فعلياً، لأنّ المفروض تعلّق البعث المنشأ على تحصيل شيء على تعدّيه.

المسألة الثانية: ما فائدة الوجوب المشروط؟

ربّما يقال بانّه إذا كان الوجوب انشائياً غير فعلي فما فائدة هذا الإنشاء؟ هذا هو الذي ذكره صاحب الكفاية بصورة السؤال و الجواب، فقال:

فإن قلت: فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعلياً و بعثاً حالياً؟ فأجاب عنه بقوله: كفى فائدة له أنّه يصير بعثاً فعلياً بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر بحيث لولاه لما كان حينذاك متمكّناً من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط فيكون بعثاً فعلياً بالإضافة إليه و تقديرياً بالنسبة إلى الفاقد له.

و أورد عليه المحقّق العراقي: بأنّ إنشاء التكليف من المقدّمات التي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف به في الخارج، و الواجب المشروط على مبنى المشهور ليس بمراد المولى قبل تحقّق شرطه في الخارج، فكيف يتصوّر أن يتوصّل العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلاً؟ فلا بدّ أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال

ص:472

بوجود غرض في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقّق شرطه و هو كما ترى.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لم يتوصّل بكلامه إلى طلب الإيجاد فعلاً حتّى يقال كيف يتوصّل بكلام ما لا يريد إيجاده فعلاً، بل توصّل به إلى طلب الإيجاد على تقدير حصول الشرط و كم فرق بينهما.

ثمّ إنّ هذا السؤال يوجّه إلى الخطابات الشخصية القائمة بمخاطب واحد، فيقال ما فائدة هذا الخطاب بالنسبة إلى شخص ليس واجداً للشرط؟ و أمّا الخطابات القانونية الكلّية المتعلّقة بعنوان كالمؤمنين أو الناس فيكفي في تشريع الحكم الكلّي المشروط وجود عدّة من المكلّفين الواجدين للشرط و إن لم يكن الجميع واجداً له، فعندئذ ينشأ الحكم الكلي القانوني فيكون باعثاً فعلياً في حق الواجد و باعثاً، إنشائياً بالنسبة إلى غير الواجد و إنّما يصير فعلياً عند حصول الشرط.

المسألة الثالثة: ما هو الأصل عند الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة؟

إذا لم تكن أدلّة الطرفين مقنعة و شكّ في رجوع القيد، فما هو مقتضى الأصل؟ و قد طرحها السيّد الأُستاذ تبعاً للمحقّق العراقي في هذا المقام، و لكن طرحها المحقّق الخراساني في التقسيم الثاني للواجب، أعني: تقسيمه إلى منجّز و معلّق، و نحن نرجئ البحث فيها إلى المسألة الثانية، كما نرجئ البحث عن المقدّمات المفوتة إلى ذلك البحث.

ص:473


1- - بدائع الأفكار: 1/346.
التقسيم الثاني تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلَّق
اشارة

ربّما يقسم الواجب المطلق إلى منجّز و معلّق بالبيان التالي:

إنّ الوجوب إذا تعلّق بالمكلّف به، و لم يتوقّف حصول الواجب على أمر غير مقدور، كالمعرفة يسمّى منجّزاً، و إن تعلّق به و توقّف حصول الواجب في الخارج على أمر غير مقدور، كالوقت في الحج يسمّى معلقاً، فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، و يتوقّف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور.(1)

و حاصل مرامه: إذا لم يكن وجوب الواجب و لا نفس الواجب متوقّفين على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المنجز كالمعرفة، و إن كان وجوبه غير متوقّف على شيء لكن كان الواجب متوقّفاً على حصول أمر غير مقدور فهو الواجب المعلّق أي علق الإتيان به على مجيء زمنه، و على ذلك فالوجوب و الواجب في المنجّز حاليّان، و في المعلّق الوجوب حاليّ و الواجب استقبالي.

و في الحقيقة أنّ ما اختاره صاحب الفصول في تفسير المعلّق هو نفس ما

ص:474


1- - الفصول: 81 بتلخيص.

فسّر به الشيخ الواجبَ المشروط حيث إنّ الوجوب في الواجب المشروط لدى الشيخ مطلق و الواجب مقيّد، غير انّ صاحب الفصول خصّ القيد في كلامه المتقدّم بغير المقدور و هو عمّمه إلى المقدور و غير المقدور. و بالتالي المعلّق قسم من الواجب المشروط لدى الشيخ.

ثمّ إنّه أورد على هذا التقسيم إشكالات ستة نذكرها تباعاً مع ما فيها من الانظار.

إشكالات ستة
الأوّل: ما أورده المحقّق الخراساني

قائلاً: بأنّه لاوجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر أخذ على نحو لا يكون مورداً للتكليف و يترشح عليه الوجوب من الواجب.(1)

يلاحظ عليه: أنّ صاحب الفصول لم يخصّه بغير المقدور بشهادة أنّه قال بعد العبارة المتقدمة: و اعلم انّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير أمر مقدور، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله.(2)

الثاني: ما أورده هو أيضاً

بقوله: لا وقع لهذا التقسيم، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط، و خصوصية كون الواجب حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، و لا اختلاف فيه، فإنّ ما رتبه عليه من وجوب المقدّمة فعلاً كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه و حاليته لا من استقبالية الواجب.(3)

توضيحه: انّ الداعي إلى تصوير الواجب المعلّق إنّما هو دفع الإشكال عن

ص:475


1- - كفاية الأُصول: 1/164.
2- - الفصول: 81.
3- - كفاية الأُصول: 1/161.

المقدّمات المفوتة، حيث أطبق القوم على وجوب الغُسل على الجنب الصائم قبل طلوع الفجر، و قطع المسافة على المستطيع قبل زمان الحجّ، و لا يتعلّق الوجوب بهما إلاّ بجعل الوجوب فعلياً و الواجب استقبالياً، فعندئذ وجوب المقدّمة إنّما هو من آثار إطلاق الوجوب و حاليته لا من استقبالية الواجب، فلا ثمرة لهذا التقسيم، لأنّ الذي يميّز المعلّق عن المنجّز إنّما هو استقبالية الواجب في الأوّل دون الثاني و ليس لذلك القيد أثر عملي.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لم يرتب الثمرة على المعلّق في مقابل المنجّز حتّى يقال بأنّ الثمرة مشتركة بينهما، بل على المعلق في مقابل الواجب المشروط على مذهب المشهور، فالواجب المشروط بما انّ الوجوب غير حالي لا تجب مقدّماته بخلاف الواجب المعلّق فبما أنّ وجوبه حالي تجب مقدماته المفوتة.

الثالث: ما أورده المحقّق ملا علي النهاوندي

و ربّما ينسب إلى السيد العلاّمة الفشاركي و قد نقله المحقّق الخراساني بتلخيص مخل، و قال:

إنّ الطلب و الإيجاب إنّما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد، فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد فليكن الإيجاب غير منفك عمّا تتعلّق به، فكيف يتعلّق بأمر استقبالي فلا يكاد يصحّ الطلب و البعث فعلاً نحو أمر متأخّر.(2)

و حاصل هذا الإشكال: انّ تجويز الواجب المعلّق يستلزم تفكيك الإرادة عن المراد و هو محال، بتوضيح أنّ وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية، غير أنّ الثانية تتعلق بفعل النفس و الأُولى بفعل الغير، فكما أنّ الإرادة في

ص:476


1- - كفاية الأُصول: 1/161.
2- - كفاية الأُصول: 1/162.

التكوينية لا تنفك عن المراد فهكذا الثانية.

أمّا التكوينية فإذا ظهرت الإرادة في لوح النفس، استعقبت حركة العضلات التي يستتبعها المراد، فهناك أُمور ثلاثة: إرادة، و تحريك للعضلات، و إيجاد للمراد.

فهكذا الأمر في الإرادة التشريعية فهناك إرادة تشريعية التي تستعقب الإيجاب على المكلّف، و هو لا ينفك عن حركة العبد و إطاعته إذا كان مطيعاً.

و لازم ذلك استحالة الواجب المعلّق، لأنّه يستلزم انفكاك الإيجاب عن حركة العبد، و هو مستحيل، فالإيجاب بمنزلة تحريك العضلات، و حركة العبد نحو المراد بمنزلة حركة الشخص نحو المراد كلمة بكلمة.

أقول: ما ذكره يتركّب من أمرين:

1. الفرق بين الإرادتين هو أنّ التكوينية تتعلّق بفعل النفس و التشريعية بفعل الغير.

2. الوجه المشترك بين الإرادتين هو امتناع انفكاك الإرادة عن المراد، فاستنتج من المقدمتين أنّ الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي في التكوين و التشريع.

أقول: أمّا الوجه الأوّل و هو بيان الفرق بين الإرادتين فهو غير صحيح، لما سمعت منّا مراراً من أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري، و الفعل الاختياري هو فعل النفس، فينتج أنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن سلطان المريد، فكيف يريده مع أنّه ليس تحت قدرته؟ و لذلك ربّما يعصي و لا يطيع، كلّ ذلك يدلّ على أنّ التشريعية كوزان التكوينية تتعلّق بأمر اختياري غير أنّ متعلّقها في التشريعية هو إنشاء البعث و في غيرها تحريك

ص:477

الأعضاء أو انجاز المراد الخارجي كما سيوافيك.

و أمّا الوجه الثاني، أعني: تفكيك المراد عن الإرادة فنبحث عنه في مقامين:

الأوّل: في الإرادة التشريعية.

و الثاني: في الإرادة التكوينية.

أمّا الأوّل: سواء أجاز تفكيك المراد عن الإرادة أم لم يجز، فالإرادة في التشريعية مطلقاً غير منفكّة عن المراد، و ذلك لأنّ المراد فيها هو إنشاء الطلب و البعث أو إنشاء الزجر، و المفروض تحقّق الإنشاء بعد الإرادة، و كون المراد حالياً أو استقبالياً لا يضر بفعلية المراد في الإرادة التشريعية، لما عرفت من أنّ المراد فيها هو فعل المريد و هو نفس إنشاء البعث.

و أمّا فعل المكلّف فهو خارج عن حيطة الإرادة التشريعية.

فظهر من ذلك أنّ الإرادة غير منفكّة عن المراد في هذا القسم.

و أمّا المقام الثاني، أعني: عدم تفكيك المراد عن الإرادة التكوينية أو تفكيكه عنها، فهو بحث فلسفي لا يمت إلى المسائل الأُصولية بصلة، غير انّا نبحث فيه بمقدار الحاجة.

قد عرفت استدلال المحقّق النهاوندي حيث إنّه سلّم عدم الانفكاك في الإرادة التكوينية و لم يقم عليه دليلاً، غير انّ المحقّق الأصفهاني قد أقام عليه دليلاً في تعليقته على الكفاية حيث قال: إنّ النفس في وحدتها كل القوى، و في كلّ مرتبة عينها، فإذا أدركت في مرتبة العاقلة فائدة الفعل تجد في مرتبة القوة الشوقية شوقاً إليه، و إذا لم تجد مزاحماً تخرج منها إلى حدّ الكمال الذي يعبّر عنه بالقصد و الإرادة و ينبعث منها هيجان في القوة العاملة و يحرك العضلات، و من

ص:478

الواضح أنّ الشوق و إن أمكن تعلّقه بأمر استقبالي، إلاّ انّ الإرادة لا يمكن تعلّقها بأمر استقبالي، و إلاّ يلزم تفكيك العلّة التامة عن معلولها، أعني: انبعاث القوة العاملة المنبثَّة في العضلات، و أمّا الشوق المتعلّق بالمقدّمات بما هي مقدّمات فإنّما يحصل من الشوق إلى ذيها، لكنّه فيها يحصل إلى حد الباعثية لعدم المزاحمة، دون ذي المقدّمة فانّه فيه يبقى بحاله إلى أن يرفع المانع.(1)

و حاصل ما أفاد: انّ الإرادة علّة تامّة لتحريك العضلات، فلو كان المراد فعليّاً صارت الإرادة سبباً لتحريك العضلات، لأنّ تعلق الإرادة بالمراد الفعلي دليل على عدم الحوائل و الموانع لنيل المراد فتتعلق الإرادة بمعلولها، أي تحريك العضلات، و أمّا إذا كان المراد استقبالياً فبما أنّ هناك حوائل بين النفس المريد و المراد بشهادة كون المراد استقبالياً فلا تستعقب الإرادة تحريك العضلات مع أنّ الإرادة علّة تامة لتحريكها و هو بمنزلة تفكيك المعلول) تحريك العضلات (عن علته و) الإرادة (.

هذا توضيح مرامه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ في الأفعال الإرادية إرادة واحدة و هي تستمدّ وجودها من العلم بالفائدة إلى الشوق و منه إلى حصول القصد و الإرادة الذي يستعقب تحريك العضلات نحو الفعل الإرادي، فلو صحّ ذلك لصحّ ما ذكره من أنّ تعلّق الإرادة بأمر استقبالي يستلزم تفكيك العلة التامة) الإرادة (عن معلولها أي تحريك العضلات، لأنّ في مثل المقام لا تستعقب الإرادةُ تحريك العضلات، لعلمها بوجود حوائل بين النفس و المراد، فلا فائدة في مثله لتحريك العضلات.

ص:479


1- - نهاية الدراية: 2/72 طبعة آل البيت.

و أمّا لو قلنا بأنّ في كلّ فعل خارجي إرادي إرادتين إحداهما تتعلّق بتحريك العضلات و الأُخرى بإنجاز العمل الخارجي.

فلو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً فعلياً تستعقب ذلك ظهور إرادة أُخرى متعلّقة بتحريك العضلات لاستشعار النفس بعدم الموانع بشهادة أنّ الإرادة تعلّقت بأمر فعلي.

و أمّا لو كان متعلّق الإرادة الثانية أمراً استقبالياً، ففي مثله لا تحدث إرادة متعلّقة بتحريك العضلات، لأنّ تعلّقها بأمر استقبالي قرينة على وجود الحائل بين النفس و المراد، و بالتالي لا تظهر في لوح النفس إرادة محرّكة للعضلات حتى يقال: يلزم تفكيك العلة عن المعلول.

و الذي يدلّ على تعدّد الإرادة هو أنّه لو كان هناك إرادة واحدة، متعلّقة بتحريك العضلات كان الفعل الخارجي فعلاً غير إرادي لعدم تعلّق الإرادة به، و تصوّر انّ إرادة واحدة تتعلّق بتحريك العضلات و إنجاز العمل بالفعل الخارجي، أمر مرفوض، و ذلك لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد، فإذا تعدّد المراد) تحريك العضلات و إنجاز العمل (فلا محالة تتعدد الإرادة.

و الذي يدعم تعلّق الإرادة بأمر استقبالي هو أنّ إرادته سبحانه إرادة بسيطة قديمة تعلّقت بخلق الأشياء حسب التدريج في عالم المادة فالإرادة قديمة و المراد أمر حادث.

و بذلك يعلم أنّ ما اشتهر بين الأعاظم من أنّ الإرادة علّة تامّة لا تتخلّف عن المراد بين صحيح و غير صحيح، فإن أُريد الإرادة المتعلّقة بتحريك العضلات فهو صحيح، و إن أُريد تعلّقها بالعمل الخارجي فليس بصحيح، لأنّها ليست علّة تامة فيمكن تخلّفها عن المراد إلاّ إذا كانت هناك إرادة ثانية متعلّقة بتحريك

ص:480

العضلات.

ثمّ إنّ صاحب المحاضرات فسّر إمكان تعلّق الإرادة بأمر استقبالي بأنّه إن كان المراد من الإرادة هو الشوق فلا شكّ في تعلّقها بأمر استقبالي كتعلّقها بأمر حالي، و هذا لا يحتاج إلى إقامة برهان، بل هو أمر وجداني، و إن أُريد منها الاختيار و إعمال القدرة فهي لا تتعلّق بفعل الإنسان نفسه إذا كان في زمن متأخّر فضلاً عن فعل غيره، و لذا لا يمكن تعلّقها بالمركب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الإرادة ليست نفس الشوق بشهادة أنّ الإنسان يريد شرب الدواء المرّ مع عدم الشوق، و لا إعمال القدرة، فانّه من آثار الإرادة و نتائجها، بل هي عبارة عن إجماع النفس و تصميمها و جزمها بحيث لا يرى المريد في نفسه أيَّ تردد في الإتيان بالعمل، فحينئذ إذا كان المقتضي موجوداً و المانع مفقوداً، تتعقبها إرادة أُخرى بتحريك العضلات، و إن كانت هناك موانع لا تكون هناك إلاّ إرادة واحدة متعلّقة بالمطلوب بالذات إلى أن يرتفع المانع، فتنقدح إرادة أُخرى بتحريك العضلات.

و أمّا ما استشهد به في ذيل كلامه على مدّعاه) الإرادة لا تتعلّق بأمر استقبالي (بعدم تعلّقها بالمركّب من أجزاء طولية كالصلاة دفعة واحدة، فغير تام، لأنّ عدم تعلّقها به لأجل أنّه مستلزم لاجتماع النقيضين، لأنّ كون الشيء تدريجياً يستلزم التعاقب في الوجود، و كونه دفعياً يستلزم خلافه. و هذا بخلاف ما إذا تعلّقت بالمركب من أجزاء طولية على نحو التدريج فانّه في غاية الإمكان، بل لا محيص عنه، و إلاّ يلزم تعدّد الإرادة حسب تعدّد الأجزاء الكثيرة و هو كما ترى.

ص:481


1- - المحاضرات: 2/352.
الرابع ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري

من أنّ إطلاق الوجوب و كون القيد راجعاً إلى الواجب، يقتضي ايجاب الفعل مع القيد و هذا إنّما يتصوّر في القيود الاختيارية، و أمّا القيود الخارجة عن قدرة المكلّف فيستحيل تعلّق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلّف، فلا محيص عن إرجاع القيد إلى الهيئة، فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من أقسام الطلب المشروط.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الشيء تارة يلاحظ جزءاً للواجب و أُخرى شرطاً له، ففي الأوّل يكون القيد و التقيّد داخلين في الواجب، و أمّا على الثاني فيكون التقيد داخلاً و القيد خارجاً.

إذا عرفت ذلك فانّ الإشكال إنّما يرد إذا كان الوقت جزءاً للواجب فيجب إيجاده بحكم إطلاق الوجوب مع أنّه خارج عن اختيار الإنسان.

و أمّا إذا كان شرطاً على نحو يكون ذات القيد خارجاً و التقيّد داخلاً فامتثاله أمر ممكن، مثلاً انّ الزمان و السماء خارجان عن اختيار المكلّف، إلاّ انّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور و إتيانها في الوقت المزبور أمر ممكن.

الخامس: ما حكاه المحقق الخراساني من عدم القدرة على المكلّف به في حال البعث مع أنّها من الشرائط العامة.

و الإجابة عنه واضحة حيث إنّ الشرط كما ذكره المحقّق الخراساني القدرة على الواجب في زمان لا في زمان الإيجاب و التكليف.(2)

ص:482


1- - درر الفوائد: 1/76.
2- - كفاية الأُصول: 1/164.
السادس: ما ذكره المحقّق النائيني

في كلام مفصّل كما جاء في تقريراته و يتألف كلامه من أُمور ثلاثة:

1. كلّ القيود ترجع إلى الموضوع

إنّ الأحكام الشرعية موضوعة على نهج القضايا الحقيقية، و هي عبارة عن وضع الحكم على العنوان الكلي الصادق على الأفراد المتحقّقة أو المقدرة عبر الزمان على نحو يكون الإنشاء أزلياً و فعلية الحكم مشروطة بتحقّق الموضوع، فقوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(1)، بمنزلة قولنا:» الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ «فالحكم مترتب على موضوع كلي لا تنحصر مصاديقه بالموجودين وقت التشريع بل يشمل مصاديقه عبر الزمان.

فإذا كانت القيود راجعة إلى الموضوع فلا معنى لاستثناء قيد الزمان فهو أيضاً راجع إلى الموضوع كسائر الشروط، فكأنّه يقول: الإنسان البالغ العاقل المستطيع المدرك لزمان الحج يجب عليه الحجّ، و من المعلوم أنّ كلّ حكم مشروط بوجود الموضوع فيكون الموضوع بعامّة شروطه قيداً للحكم أي الوجوب، من غير فرق بين الاستطاعة و الزمان، فكما أنّه لو لا الاستطاعة لا وجوب فهكذا لو لا الزمان لا بعث فعلي.

ص:483


1- - آل عمران: 97.
2. لا فرق بين الاستطاعة و الزمان

يقول) قدس سره (: نحن نسأل القائل بالواجب المعلّق، أيّة خصوصية في الوقت حتى يتقدّم الوجوب عليه؟ مع أنّا لم نقل بذلك في سائر القيود من البلوغ و الاستطاعة مع اشتراك الكلّ في كونه مأخوذاً قيداً للموضوع، فأيّ فرق بين الوقت و الاستطاعة، بحيث يتقدم الوجوب على الأوّل دون الثاني؟

3. الزمان أولى أن يكون قيداً للوجوب

ثمّ إنّه) قدس سره (أفاض الكلام و قال: إنّ الأمر في الوقت أوضح، لأنّه لا يمكن أخذه إلاّ مفروض الوجود، لأنّه أمر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك، و يكون فوق دائرة الطلب، و يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطاً، و إلاّ يلزم تكليف العاجز.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ إرجاع عامّة القيود إلى الموضوع غير تام، و ذلك لما عرفت عند البحث في الواجب المطلق و المشروط انّ القيود ثبوتاً على قسمين:

قسم لها دور أساسي في ظهور الإرادة و انقداحها في النفس على نحو لولاه لما أراده المولى و إن كان المتعلق ذا مصلحة و هذا كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ، فانّ الحجّ مطلقاً ذو مصلحة من غير فرق بين المستطيع و المتسكع، لكن إيجابه على نحو الإطلاق مستلزم للحرج، و لذلك قيّد المولى الوجوب بالاستطاعة لئلا يكون حرج بالنسبة إلى غير المستطيع، فهذا القسم من القيود يرجع إلى الوجوب. و بعبارة أُخرى يرجع إلى الموضوع، و يصحّ قوله: إنّ الموضوع البالغ العاقل المستطيع.

ص:484


1- - لاحظ فوائد الكاظمي: 1/187; أجود التقريرات: 1/141.

و قسم منه يرجع إلى المتعلّق بمعنى أنّه لو لا القيد لما كان فيه أيّة مصلحة، و هذا كما في الطواف بالبيت و الصلاة مع الوضوء، فلولا البيت لا يوصف الطواف بالصلاح، كما أنّه لو لا الوضوء لا توصف الصلاة بالمصلحة، ففي هذا النوع من القيود لا محيص من القول برجوعها إلى المتعلق دون الوجوب و بالتالي دون الموضوع.

فإذا كانت القيود ثبوتاً على قسمين فكيف جعلها قسماً واحداً؟! و يلاحظ على الثاني: بوجود الفرق بين الاستطاعة و الزمان فانّ للاستطاعة دوراً في ظهور الإرادة و انقداحها في لوح النفس و لذلك يكون قيداً للوجوب و بالتالي جزء الموضوع، و أمّا الزمان فليس له مدخلية في انقداح الإرادة، بل له دور في ترتب المصلحة على الأعمال التي يقوم بها الحاج في أيّام الحج، فالأعمال إنّما تكون ذات مصلحة إذا أتى بها الحاج في الأراضي المقدّسة و الأزمنة المحددة، و لو كان له دور في ظهور الإرادة فإنّما هو بتبع تأثيره في المتعلّق، و لأجل ذلك صارت الاستطاعة قيداً للوجوب، و هذا) الزمان (قيداً للواجب.

و يلاحظ على الثالث بأنّ ما ذكره مبني على عدم الفرق بين كون الزمان جزءاً و شرطاً، و الإشكال إنّما يرد إذا كان الزمان جزءاً و هو عبارة عن كون القيد و التقيّد داخلين في المتعلّق مع أنّ الزمان فوق دائرة الطلب فكيف يقع مورد الطلب؟! و أمّا إذا قلنا إنّ الزمان شرط لا جزء، فالجزء و إن كان خارجاً عن حيّز القدرة و لكن التقيّد داخل في إطار الاختيار فللمكلّف الإتيان بالأفعال في ذلك المقطع من الزمان كما أنّ له الاختيار في الإتيان بها في غير ذلك المقطع. و هذا نظير استقبال الكعبة فانّ الكعبة خارجة عن اختيار المكلّف لكن إيقاع الصلاة نحوها

ص:485

داخل في اختياره.

و بالجملة، هذه الإشكالات لا تورد أيَّ خدشة على تقسيم الواجب المطلق إلى معلّق و منجّز، و من أوضح الأدلّة على إمكان القسمين هو وجود المعلّق و المنجّز بين العقلاء.

بقي هنا إشكال آخر و إن شئت فاجعله سابع الإشكالات، فنقول:

السادس

السابع: ما ذكره المحقّق الخوئي

من أنّ الواجب المعلّق ليس من أقسام الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه، و ذلك لأنّ وجوب الحجّ مثلاً إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق، و بما أنّ التكليف لم يتعلّق بذات الفعل على الإطلاق و إنّما تعلّق بإيقاعه في زمن خاص، فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلاً في ملاكه و إلاّ فلا مقتضى لأخذه في موضوعه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الوجوب مشروطاً به غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مبني على عدم التفريق ثبوتاً بين القيود الراجعة إلى الإرادة و الوجوب و القيود الراجعة إلى المتعلّق، و على وفق ما ذكرنا من الضابطة، فالزمان بما له مدخلية في ترتّب المصلحة على المتعلّق على نحو لو لا إيقاع الفعل في تلك الفترة لما ترتب على الفعل أي مصلحة، فالزمان قيد للمادة.

و ما ذكره من أنّ وجوب الحجّ إمّا مشروط بيوم عرفة أو مطلق، لا يثبت مرامه، لأنّا نختار أنّ وجوبه مطلق و له مدخلية في ملاك الواجب، و ما رتّب عليه من أنّه إذا كان دخيلاً في الملاك يكون الوجوب مشروطاً به، غير تام لما فيه:

أوّلاً: بالنقض فانّ الوضوء له مدخلية تامّة في الصلاة، مع أنّ الوجوب غير مشروط به.

ص:486


1- - المحاضرات: 2/348.

و ثانياً: انّ عدم تعلّق الوجوب بغير ما فيه الملاك، ليس بمعنى اشتراط الوجوب به، بل بمعنى عدم تعلّق الوجوب بما ليس فيه الملاك و تضيّقه ذاتاً لا اشتراطه بالقيد، و هذا كتضيق كلّ حكم بالنسبة إلى موضوعه، إذ ليس كلّ حكم مشروطاً بموضوعه، و مع ذلك ليس له دعوة إلاّ إلى موضوعه.

ص:487

المقدمات المفوتة أو ثمرات الواجب المعلّق

إنّ الغاية من تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلّق هو رفع الإشكال في قسم من المقدمات الوجودية التي أفتى المشهور بوجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها، و عندئذ أشكل عليهم بأنّ وجوب المقدّمة نابع عن وجوب ذيها، و معه كيف وجد المعلول دون العلة، و ذلك في الموارد التالية:

1. وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

2. وجوب الغسل للمستحاضة قبل الفجر في الصيام الواجب.

3. وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية للحج قبل وقته.

4. تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت وجوب العمل، إذا ترتب على تركه فوت الواجب.

إلى غير ذلك من الموارد التي يتقدّم فيها وجوب المقدّمة على وجوب ذيها، و هو بمنزلة تقدّم المعلول على العلة.

فقد اختار كلّ مهرباً نشير إليه.

ص:488

1. ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى المادة، و الوجوب مطلق و الواجب مقيّد بقيد اختياري أو غير اختياري، ففي الموارد المذكورة وجوب المقدّمة رافق وجوب ذيها، لإطلاق الوجوب و عدم تقيّده بقيد، حتّى لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّقه و المفروض عدم تحقّقه.

2. تخلّص صاحب الفصول بجعل هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق حيث إنّ الوجوب حاليّ و الواجب استقباليّ، و ما اختاره من المعلّق هو نفس ما اختاره الشيخ الأنصاري في تفسير الواجب المشروط، غير أنّ صاحب الفصول، قسّم المطلق إلى منجّز و معلّق، مع تسليمه تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط فهو مع القول بالواجب المشروط، أبدى ذلك التقسيم.

3. ما اختاره المحقّق الخراساني من جعل الشرط في هذه الموارد من قبيل الشرط المتأخّر الذي مرجعه عنده إلى الشرط المقارن فيكون وجوب ذيها فعلياً، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، و إنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به، قال) قدس سره (: لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه في الموارد الثلاثة:

1. فيما إذا كان منجزاً و كان الوجوب و الواجب حاليّين.

2. فيما إذا كان معلّقاً و كان الوجوب حالياً دون الواجب.

3. أو مشروطاً بشرط متأخّر كان معلوم الوجود فيما بعد ضرورة فعلية وجوبه و تنجّزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدّمة فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، و لا يلزم منه محذور وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها و إنّما اللازم الإتيان بها قبل الإتيان به.(1)

ص:489


1- - كفاية الأُصول: 1661/165.

4. ما اختاره المحقّق الأردبيلي في خصوص مسألة خصوص التعلّم قبل الوقت و هو القول بالوجوب النفسي التهيئي للجاهل البالغ الذي يعلم عدم تمكّنه من التعلّم بعد دخول الوقت فهو واجب نفسي لكن يُهيّئ الإنسان لواجب آخر.

5. ما اختاره شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في سالف الزمان و هو أنّ الوجوب هنا وجوب عقلي إرشادي إلى حفظ غرض المولى، لأنّ العقل لا يفرق في القبح بين مخالفة التكليف الشرعي و بين مخالفة التكليف العقلي حيث إنّ العقل يستقل بلزوم الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وجوب ذيها، لأنّ في ترك الإتيان تفويت للملاك و الغرض اللازم و إلى هذا الجواب أشار المحقّق الخراساني حيث قال: بل لزوم الإتيان بها عقلاً و لو لم نقل بالملازمة.

6. ما اختاره السيّد الأُستاذ و هو القول بوجوب المقدّمة غير المترشحة من وجوب ذيها، و محصله:

انّه لا مانع من فعلية وجوب المقدّمة دون فعلية وجوب ذيها، فانّ الإشكال ينشأ من توهم أنّ وجوب المقدّمة ناشئ و نابع عن وجوب ذيها. و عندئذ كيف يتصوّر وجود المعلول قبل وجود العلّة، و أمّا إذا قلنا بأنّ لكلّ من الوجوبين مبادئ مستقلة في نفس الأمر، فكما أنّ لذيها مبادئ من تصوّر الفائدة و الشوق ثمّ التصميم و الجزم، فهكذا في جانب المقدّمة حيث إنّ المولى يتصوّر فائدة المقدّمة و يشتاق إليها ثمّ يريدها بالطلب و الإيجاب و عندئذ لا مانع من إيجاب المقدّمة قبل إيجاب ذيها.

و بذلك يعلم معنى الملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذيها، فإن أُريد الملازمة في مقام الفعلية فهي غير صحيحة، و إن أُريد منها انّ وجوب المقدّمة لا يفارق وجوب ذيها و لو في موطنه و محلّه، لأنّ وجوبها غيري و مثله لا ينفك عن الوجوب النفسي و لو بعد فترة فهذا صحيح.

ص:490

و بذلك يعلم عدم تمامية ما أفاده المحقّق الخراساني من تصوير أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها، و لذلك يكشف وجوبها آناً عن وجوب ذيها حيث قال: إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف بطريق الإنّ عن سبق وجوب ذيها، لو كان وجوبها ناشئاً عن وجوبه، و إرادتها ناشئة من إرادته.

و لكنّك عرفت خلافه، و إنّ وجوب ذيها أو إرادته بمنزلة العلّة الغائية التي لا يعتبر إلاّ تقدّمها ذهناً لا خارجاً، و يكفي في المقام العلم بأنّه سوف يأمر به المولى.

و إن شئت قلت: إنّ وجوب المقدّمة إنّما يكشف عن وجوب ذيها إنّاً، لو كان وجوبها مترشحاً من وجوبها و إرادتها مترشحة من إرادته، و أمّا إذا كان وجوب ذيها علّة غائية لا علة فاعلية فيمكن أن يتقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها، فالخلط حصل من تصوّر أنّ وجوب ذيها علّة فاعلية مع أنّها علّة غائية.

تطبيقات

لقد عرفت انقسام الواجب إلى المطلق و المشروط، و المطلق إلى المعلّق و المنجّز، فحان البحث عن سرد تطبيقات في هذا المجال.

1. قال سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ).(1)

قال المفسرون: المراد من شهود الشهر هو رؤية الهلال أو كون المكلّف حاضراً لا مسافراً، و الآية ظاهرة في الوجوب المعلّق حيث أوجب على الشاهد في أوّل الشهر وجوبَ صيام الشهر كلّه، فالوجوب حالي و الواجب استقبالي.

2. قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ).(2)

ص:491


1- - البقرة: 185.
2- - آل عمران: 97.

فالظاهر من الآية أنّ وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجب مشروط و لكنّه بالنسبة إلى زمان الحجّ واجب معلق، لأنّه إذا تمكن المكلّف من الزاد و الراحلة وجب عليه الحجّ لانقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى المطلق فيصير الوجوب فعلياً، لكن الواجب متأخر عن زمان الوجوب فلا مانع من أن يكون وجوب الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة واجباً مشروطاً و بالنسبة إلى زمان الحجّ واجباً معلقاً.

3. روى زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (انّه قال:» إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلاّ بطهور «.(1)

و الرواية ظاهرة في كون وجوب الصلاة مشروطاً بالوقت و الواجب، واجب مشروط.

إلى غير ذلك من التطبيقات التي في وسع الباحث أن يتدبر فيها.

سؤال و إجابة

أمّا السؤال: أيّ فرق بين إراقة الماء قبل الوقت مع العلم بعدم إمكان تحصيله بعده، و إجناب الرجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله قبل الوقت، مع علمه بعدم تمكّنه من الطهارة المائية بعده، حيث أفتوا بعدم جواز الأوّل و جواز الثاني. فهذا التفريق لا يصحّ على أيّ وجه من الوجوه المذكورة.

و أمّا الجواب: فهو ما أفاده المحقّق الخراساني بما هذا حاصله: أنّ الواجبات الشرعية مختلفة من ناحية المقدّمة، فقد تكون القدرة المعتبرة قدرة مطلقة، فعندئذ

ص:492


1- - الوسائل: 1، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

يجب تحصيلها أو حفظها، و قد يكون الواجب قدرة خاصّة و هي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله. فالتجويز من الفقهاء كاشف عن كون المعتبر هو القدرة الخاصّة لا العامة.(1)

إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة

إنّ هنا بحثين: أحدهما ما مرّ من حكم المقدّمات المفوِّتة، و الثاني انّه إذا لم يكن دليل الطرفين مقنعاً لإثبات أحد القولين فما هو المرجع؟ و قبل الخوض في البحث نذكر أُموراً:

1. ليس البحث بحثاً علمياً صرفاً، بل له ثمرة عملية، و ذلك لأنّه إن دلّ الدليل على رجوع القيد إلى الهيئة يكون من قبيل الواجب المشروط فلا يجب تحصيل الشرط، و إن رجع إلى المادة فإنّ إطلاق الوجوب يقتضي وجوب تحصيل القيد إذا كان أمراً اختيارياً، إلاّ إذا دلّ الدليل على أنّ المطلوب حصول القيد لا تحصيله.

نعم لا تظهر الثمرة في القيود الخارجة عن الاختيار كطلوع الفجر و زوال الشمس.

2. انّ عقد هذا البحث يصحّ ممّن يرى كلاً من الهيئة و المادة صالحة للتقييد، و امّا من يرى تقييد الهيئة أمراً محالاً فلا يصلح له البحث في هذا الموضوع، و العجب من الشيخ مع اعتقاده بالامتناع، طرح هذا البحث.

3. إنّ محط البحث ما إذا كان القيد منفصلاً، و أمّا إذا كان القيد متّصلاً و دار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة، يصير الكلام مجملاً شأن كلّ كلام محتف

ص:493


1- - كفاية الأُصول: 1/167.

بما يصلح للقرينية مع عدم وجود ظهور لغوي أو انصراف أو قرينة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الأُصول اللفظية و أُخرى في مقتضى الأُصول العملية، و إليك بيان الأمرين:

مقتضى الأصل اللفظي عند الترديد

استدلّ الشيخ على أنّه إذا دار الأمر بين تقييد الهيئة و تقييد المادّة، فمقتضى الأصل اللفظي إرجاع القيد إلى المادة دون الهيئة بوجهين:

الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي

و حاصل هذا الوجه: انّ مفاد الهيئة إطلاق شمولي، و إطلاق المادة إطلاق بدلي، و إذا دار الأمر بين تقييد أحد الإطلاقين فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي.

إنّ الدليل مؤلف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ إطلاق الهيئة شمولي و إطلاق المادة بدلي.

و أمّا الكبرى فهي أنّه إذا دار الأمر بين تقييد أحدهما، فتقييد البدلي أولى من تقييد الشمولي، و إليك توضيح الأمرين:

أمّا الصغرى فلانّه إذا قال: أكرم زيداً) و لم يقيّده (فمقتضى إطلاق الهيئة، وجوب الإكرام على كلّ التقادير سواء أسلّم أم لا، سواء أ جاء أم لم يجئ.

و هذا بخلاف المادّة فانّ المطلوب هو الإتيان بفرد من الطبيعة، و قد اشتهر أنّ الطبيعة توجد بفرد واحد و تنعدم بعامّة الأفراد. هذا هو بيان الصغرى.

و أمّا الكبرى فهو تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي، لأنّ الدلالة الثانية أقوى من الدلالة الأُولى.

ص:494

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا حاصله: و هو انّ المقرر عند الأُصوليّين و حتّى الشيخ نفسه في باب التعادل و الترجيح(1) هو تقديم العام الشمولي على الإطلاق البدلي لا تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، و ذلك لأنّه إذا كان الشمول بالدلالة اللفظية الوضعية) العام الشمولي (تكون دلالته تامّة غير معلقة بشيء، بخلاف ما إذا كان الإطلاق البدلي مستفاداً من الإطلاق فدلالته معلّقة على عدم ورود البيان بخلافها، و المفروض أنّ العام الشمولي الذي دلالته وضعية يصلح لأن يكون قرينة و بياناً للقيد في جانب الإطلاق البدلي.

و إن شئت قلت: إنّ الميزان في حفظ أحد المدلولين: الشمولي و البدلي و إيراد القيد على الآخر ليس هو الشمولية أو البدلية، بل الميزان هو قوّة الدلالة و هو يرجع إلى كون أحدهما مدلولاً بالدلالة اللفظية و الآخر مدلولاً بالدلالة العقلية، فاللفظية مقدّمة على العقلية، سواء كانت في جانب الشمولي أو في جانب البدلي، فإذا قال: أكرم كل العلماء، ثمّ قال: أهن فاسقاً، و بما انّ النسبة بين الدليلين عموم و خصوص من وجه يتعارضان في العالم الفاسق، فيقدّم العام الوضعي و هو الشمولي على الإطلاق و هو البدلي، و ذلك لأنّ دلالة العام دلالة تامّة و دلالة الإطلاق معلّقة على عدم القرينة على خلافه، و المفروض أنّ العام يصلح أن يكون قرينة على الإطلاق، ففي هذا المثال يقدّم الشمولي على البدلي لا بملاكهما، بل ملاك أنّ الأوّل مدلول لفظي و الآخر مدلول عقلي، و لو عُكِس، عُكِس، مثلاً إذا قال: أكرم أي واحد من العلماء، بصورة العام البدلي ثمّ قال: و لا تكرم فاسقاً، و بما أنّ بين الدليلين عموماً من وجه، يتعارضان في العالم الفاسق،

ص:495


1- - الفرائد مبحث التعادل و الترجيح ص 457 طبعة رحمة اللّه عند قوله:» و منها تعارض الإطلاق و العموم «.

فيقدّم البدلي على الشمولي بحكم أنّ دلالة البدلي دلالة وضعية و دلالة الشمولي دلالة عقلية. فدلالة اللفظ على البدل غير معلّقة على شيء بخلاف دلالته على الشمولي فانّها معلّقة على عدم ما يصلح أن يكون قرينة للخلاف.

فقد علم بذلك أنّ الميزان هو تقدّم الدلالة الوضعية على الدلالة الإطلاقية من غير فرق بين الشمولي و البدلي، و أمّا المقام فالمفروض أنّ المدلولين على شاكلة واحدة، حيث إنّ كلاً من الشمولي و البدلي مفهومان من الإطلاق، فهما سيّان في الأقوائية، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

إلى هنا تمّ الوجه الأوّل لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، و إليك بيان الوجه الثاني.

الوجه الثاني: تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً و لا عكس

و حاصله: أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة و يرتفع به مورده، بخلاف العكس، و كلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك، كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

توضيحه: أنّ هذا الوجه كالوجه السابق مؤلّف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى فلأنّ تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة و لا عكس.

أمّا الكبرى فلأنّ الأمر إذا دار بين تقييدين أو تقييد واحد فالثاني مقدّم.

أقول: الظاهر أنّ الكبرى أمر لا سترة عليه، إنّما المهم هو بيان الصغرى. فنقول: إذا فرض أنّ المولى قال: أكرم زيداً إن جاءك يوم الجمعة، فلو فرضنا أنّ القيد يرجع إلى الوجوب الذي هو مفاد الهيئة، فبما أنّه لا وجوب قبل مجيء يوم الجمعة، يكون الواجب أيضاً هو الإكرام التوأم مع مجيء زيد، و هذا بخلاف ما

ص:496

إذا كان القيد راجعاً إلى المادة حيث يكون الإكرام المقيّد بالمجيء يومئذ واجباً، فلا يسري التقيد إلى مفاد الهيئة أعني: الوجوب لجواز أن يكون الوجوب حالياً قبل يوم الجمعة و المطلوب استقبالياً.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّه إنّما يتمّ إذا كان القيد منفصلاً، بحيث ينعقد لكلّ من الهيئة و المادة إطلاق، فيدور الأمر بين التصرّفين و التصرّف الواحد، و أمّا إذا كان القيد متّصلاً فبما أنّه لم ينعقد للكلام أي ظهور و إطلاق، فلو رجع القيد إلى الهيئة فهو لا يستلزم تقييد المادة، بل يستلزم إبطال محلّ الإطلاق و إلغاء القابلية في المادة، و هو ليس أمراً مخالفاً للأصل.

فلو دار الأمر بين تقييد واحد كالمادة، و تقييد واحد و إبطال محلّ الإطلاق في الآخر، بمعنى أنّه لا ينعقد الإطلاق فيه من أوّل الأمر فلا دليل على الترجيح.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خروج عن موضع النزاع لما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا كان القيد منفصلاً، و أمّا إذا كان متّصلاً فيعود الكلام مجملاً لا يعتبر كلّ من الظهورين.

و الأولى أن يجاب بأنّ ما ذكره الشيخ وجه عقلي لا ينعقد به الظهور حتّى يكون موجباً لتقديم ما هو الأقوى دلالة و ظهوراً على الأضعف كذلك، و قد مرّ منّا القول عند البحث في تعارض الأحوال أنّ ما ذكروه من الوجوه لتقديم بعض الأحوال على بعض كالنقل المجاز مثلاً وجوه استحسانية لا يلتفت إليها العرف و لا ينعقد بها الظهور.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق النائيني لا يخلو من نكتة حيث قال:

إنّا لو فرضنا ثبوت أقوائية الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، فلا

ص:497


1- - كفاية الأُصول: 1701/169.

يوجب ذلك تقديمه عليه، لأنّ الأقوائية إنّما توجب التقديم، لو كان التخالف و التكاذب بينها بالذات، كما في المثالين:» لا تكرم فاسقاً «،» أكرم عالماً «و الأوّل يفيد الشمول، و الثاني يفيد البدلية، فانّ كلّ واحد منها يكذّب الآخر، إذ لا تجتمع حرمة إكرام الفاسق على إطلاقه و لو كان عالماً مع وجوب إكرام مطلق العالم و لو كان فاسقاً، ففي مثله يقدّم الأقوى على الأضعف، و هذا هو محل الكلام في مبحث التعادل و الترجيح، لا في المقام إذ ليس بين إطلاق الهيئة و المادة في أنفسهما تكاذب في المقام إذ لا مانع من كونهما مطلقين غير مقيدين، و إنّما جاء التعارض لأجل علم إجمالي بطروء القيد على أحدهما مع تساويه بالنسبة إلى الأقوى و الأضعف، و في مثله، لا وجه لتقديم الأقوى على الأضعف لما ذكرناه من تساوي العلم الإجمالي.(1)

مقتضى الأصل العملي

قد عرفت أنّه لا أصلَ لفظي في المقام يعتمد عليه، و انّ القيد إذا كان متصلاً يلزم منه الإجمال في الكلام، و إن كان منفصلاً فالعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين يمنع عن الأخذ بواحد منهما، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

و أمّا مقتضاه فلانّ الشكّ في كون القيد راجعاً إلى الهيئة) فلا يجب تحصيله (و إلى المادة) فيجب تحصيله (شكّ في وجوب تحصيل القيد و المرجع فيه البراءة.

نعم الأصل العملي، أعني: البراءة لا يثبت أحد الظهورين أي كون القيد قيداً للهيئة أو المادة.

ص:498


1- - أجود التقريرات: 1641/163.
التقسيم الثالثتقسيمه إلى نفسي و غيري
اشارة

(1)

عرّف القوم الواجب النفسي و الغيري بالتعريف التالي:

النفسي ما أُمر به لنفسه.

و الغيري ما أمر به لغيره.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ تعريف النفسي غير جامع، كما أنّ تعريف الغيري غير مانع.

أمّا الأوّل: فلأنّ النفسي ينحصر بمعرفة اللّه تعالى التي أمر بها لنفسها، و أمّا سائر الواجبات النفسية كالصلاة و الصوم و الزكاة فتخرج عن التعريف، لأنّها لم يؤمر بها لأنفسها، بل أمر بها لغاياتها المعلومة من النهي عن الفحشاء و كونه جُنّة من النار و اختباراً للأغنياء إلى غير ذلك من الغايات.

و أمّا الثاني: فقد علم ممّا ذكر، لأنّ غير المعرفة إذا خرج عن تحت الواجب النفسي يدخل في الواجب الغيري، لأنّه أمر به لغيره، أعني: المصالح و الغايات.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من كلمة» لنفسه «هو ما أمر به لا لبعث آخر، كما أنّ المراد من لفظة » لغيره «ما أمر به لبعث آخر، فالمقيس عليه في تسمية الأمر نفسياً

ص:499


1- - مرّ التقسيم الثاني، ص 474.
2- - مطارح الأنظار: 66.

أو غيرياً هو ملاحظة كون البعث لأجل بعث آخر و عدمه، فالأوّل هو الغيري، و الثاني هو النفسي.

و بعبارة أُخرى: الملاك في كون الواجب نفسياً أن يتعلّق به البعث في ملاك فيه لا لأجل بعث آخر، كما أنّ الملاك في كون الواجب غيرياً أن يتعلّق به البعث لأجل بعث آخر، و عندئذ تدخل الواجبات النفسية المعلومة كونها نفسية في التعريف الأوّل و لا يعمّه التعريف الثاني.

تعريف ثان للنفسي و الغيري

ثمّ إنّ الشيخ لما لم يرتض بالتعريف المتقدّم حاول التعريف بوجه آخر نقله المحقّق الخراساني في » الكفاية «، قال: فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد يمكن التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري، و إلاّ فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات و التوصليات.(1)

و بما أنّ الشيخ عمّم الواجب النفسي إلى ما إذا كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة أو محبوبيته بما له من الغايات، أورد عليه في الكفاية، بأنّه لو كان الداعي هو اشتماله على الفائدة المترتبة عليه كان الواجب غيريّاً، فانّه لو لم تكن هذه الفائدة لازمة، لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الإشكال نابع من عدم الإمعان في كلام الشيخ حيث إنّه جعل المعيار كون الداعي إلى الأمر التوصّل إلى واجب آخر و عدمه، لا التوصّل إلى الغايات و الأغراض و عدمها، و الأغراض و إن كانت محبوبة بالذات و لكنها ليست

ص:500


1- - كفاية الأُصول: 1/171.
2- - المصدر نفسه.

واجبة في الشريعة و لم يتعلّق بها الأمر و الطلب.

و الحاصل: انّ المعيار في الواجب الغيري كون الداعي إلى الأمر هو التوصّل إلى واجب آخر دلّ الدليل على وجوبه في الشريعة، فمثل هذا التعريف لا يشمل الصلاة و الصوم، إذ لم يكن الداعي إلى الأمر بها هو التوصّل إلى واجب ورد في الشريعة، و كون الداعي من الأمر و إن كان هو التوصّل إلى الأغراض و الغايات لكن الأغراض لما لم تقع في إطار الأمر الظاهري لا يصدق على الصلاة كون الأمر بها للتوصل إلى واجب في الشريعة، و كون الأمر بها للتوصل إلى الغاية ليس معياراً في تحديد الواجب الغيري.

و بذلك ظهر صحّة كلا التعريفين و رجوعهما إلى تعريف واحد سواء أقلنا:

النفسي ما أمر به لنفسه لا لبعث آخر.

و الغيري ما أمر به لغيره و لبعث آخر، أو قلنا:

الغيري: ما يكون الداعي إلى الأمر، التوصّل إلى واجب آخر.

النفسي: ما لا يكون الداعي التوصّل إلى واجب آخر، و إن كان الداعي إلى الأمر لبّاً هو تحصيل الغايات و الأغراض التي ليست واجبة في الشريعة الإسلامية.

فإن قلت: ينتقض التعريف بالظهر و المغرب إذ فيهما كلا الملاكين: النفسيّة و الغيرية، و بأفعال الحج، و ذلك لأنّ المتقدّم منها واجب نفسي و في الوقت نفسه وجب لبعث آخر أو لواجب آخر على اختلاف في التعبيرين.

قلت: تقدّم أنّ المقدّمة ليس هي نفس الصلاة أو نفس العمل في أعمال الحجّ، بل المقدّمة هو تقدّمه على العصر، و العمل شيء و التقدّم شيء آخر، أو الشرط تأخّر العصر عن الظهر أو تأخّر السعي عن الطواف، و تأخّرهما لا صلة له

ص:501

بالظهر و العمل المتقدّمين.

فإن قلت: ما هو حكم المقدّمات المفوتة، إذ هي ليست واجباً غيريّاً لعدم وجوب ذي المقدّمة حتّى يكون البعث بها لأجل بعث آخر، و لا نفسياً لعدم استلزام تركها العقاب، بل العقاب في مسألة اغتسال المستحاضة على ترك الصوم.

قلت: نلتزم بأنّها واجب غيري، فانّ البعث بها لأجل بعث آخر و إن لم يكن البعث. الثاني فعلياً و قد تقدّم أنّه يمكن فعلية وجوب المقدّمة قبل فعلية ذيها.(1)

دوران الوجوب بين النفسي و الغيري

إلى هنا تمّ تعريف الواجب النفسي و الغيري، فلو تبيّن كون شيء نفسيّاً أو غيرياً فهو، و إلاّ فيرجع إلى الأصل اللفظي أوّلاً، و الأصل العملي ثانياً، فيقع الكلام في إمكان التمسّك بالأصلين.

الأوّل: ما هو مقتضى الأصل اللفظي؟

إنّ مقتضى الأصل اللفظي كون الواجب نفسياً لعدم حاجة النفسي إلى القيد و حاجة الغيري إليه، فالأمر بالشيء مع السكوت عن شيء آخر آية كونه نفسياً، و أمّا الغيري فلا يكفي فيه الأمر بالشيء، بل يتوقّف على الأمر بالشيء الآخر حتّى يكون الأمر الأوّل لأجل الأمر الثاني، هذا ما لا إشكال فيه، إنّما الكلام في إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة، و إلاّ فلو قلنا بالإطلاق فمقتضاه هو النفسية، و المتأخّرون من الأُصوليّين في المقام بين ناف لإمكان انعقاد الإطلاق

ص:502


1- - لاحظ ص 490، حول مختار السيد الأُستاذ (قدس سره).

كالشيخ الأنصاري و مثبت كالمحقّق الخراساني.

استدلّ الشيخ على عدم إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة بوجهين:

الأوّل: أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب، فانّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبية إلاّ بواسطة تعلّق واقع الإرادة و حقيقتها به لا بواسطة مفهومها، و من المعلوم أنّ الفرد الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يقبل فيه التقييد و الإطلاق، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيرياً.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ مفاد الهيئة ليس الفرد الحقيقي من الطلب بل مفادها هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف و لا يكاد يكون مفادها، الفرد الحقيقي من الطلب، أعني: ما يكون بالحمل الشائع طلباً، و إلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ضرورة انّه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو) الطلب الحقيقي (هو السبب لإنشائه، بل المنشأ هو الطلب الإنشائي و الوجود الإنشائي لكلّ شيء ليس إلاّ قصد مفهومه بلفظه.(2)

الظاهر وجود الخلط في كلام العلمين.

أمّا الأوّل: فلأنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب، أمر غير صحيح، فانّ الأُمور التكوينية كالطلب الحقيقي الذي هو عبارة أُخرى عن الإرادة التكوينية لاتحّاد الطلب و الإرادة الحقيقيتين غير قابلة للإنشاء، و إنّما القابل للإنشاء هو المفهوم لا المصداق الحقيقي، فالزوجية التكوينية كالعينين و الأُذنين بما انّهما ظاهرة تكوينية

ص:503


1- - مطارح الأنظار: 67.
2- - كفاية الأُصول: 1741/173.

غير قابلة للإنشاء اللفظي، و إنّما القابل للإنشاء الزوجية الاعتبارية فبالإنشاء يصيران زوجين رجل و امرأة اعتباراً، و هذا ما نبّه به المحقّق الخراساني.

و أمّا الثاني: فلأنّ المحقّق الخراساني و إن أصاب في نفي كون الموضوع له هو الطلب الحقيقي، لأنّه غير قابل للإنشاء لكنّه أخطأ في قوله في أنّ الموضوع له هو الطلب الكلي أي مفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي لما عرفت من أنّ الموضوع له في الحروف و الهيئات مصاديق الطلب الكلي، فانّ القابل للإنشاء هو الفرد لا المفهوم الكلي بقيد انّه كليّ، و قد أوضحنا ذلك عند البحث عن المعاني الحرفية.

و أمّا إمكان تقييد الجزئي فقد مرّ أنّ الجزئي و إن كان غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل للتقييد من حيث الأحوال، فانّ الطلب المنشأ و إن كان جزئياً لكن لها سعة من حيث الأحوال فيقال في المقام الوجوب ثابت، سواء أوجب شيء أم لا.

الثاني: ما أفاده المحقّق العراقي: انّ المعاني الحرفية و إن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها، أعني: المعاني الاسمية لكونها قد اتخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية، و ما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق و التقييد إليه لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولاً عنه بخصوصه، و هذا خلف.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كون المعاني الحرفية معان آلية غير كونها مغفولاً عنها، و قد عرفت فيما سبق أنّ الغرض ربّما يتعلّق بتفهيم المعاني الحرفية و تكون هي المقصد الأصلي في الكلام، كما في قولك:» زيد على السطح «أو» الماء في الإناء «فالغرض

ص:504


1- - بدائع الأفكار: 1/373.

الأصلي هو كينونة زيد على السطح و الماء في الإناء، فكيف يكون مفهوماً مغفولاً عنه؟ و قد تبيّن من ذلك انّ المنشأ قابل لانعقاد الإطلاق و ليست الجزئية كما في كلام الشيخ و لا الآلية كما في كلام المحقّق العراقي مانعين لانعقاد الإطلاق.

أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة

إذا كان الشيخ و المحقق العراقي قدّس سرّهما من نفاة إمكان انعقاد الإطلاق في الهيئة بالدليلين السابقين، فانّ هناك من يصحح إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة و انّ نتيجة الإطلاق كون الواجب نفسيّاً مستدلّين بما يلي:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الهيئة و إن كانت موضوعة لما يعمهما إلاّ انّ إطلاقها يقتضي كونه نفسياً، فانّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه على المتكلم الحكيم.

يلاحظ عليه: أنّ كلاً من الواجب الغيري و النفسي يشاركان في أصل الوجوب و يمتازان بشيء آخر، و الفصل المميّز لهما هو كون الوجوب في الأوّل» لنفسه «و في الآخر» لغيره «فكلّ منهما يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان أصل الوجوب، و لو كان النفسي نفس الوجوب لزم كون القسم نفس المقسم.

الثاني: ما أفاده المحقّق البروجردي من أنّ الصيغ الإنشائية قد وضعت للبعث و التحريك نحو متعلّقاتها، و البعث الغيري المتعلّق بالمقدّمات ليس في الحقيقة بعثاً نحوَ المتعلّق و إنّما هو تأكيد للبعث المتعلّق بذيها، فالكلام يُحمل على ظاهره و هو البعث الحقيقي نحو ما تعلّق به.(1)

ص:505


1- - نهاية الأُصول: 1/170.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان دليل المقدّمة إرشاداً إلى الشرطية مثل قوله:» لا صلاة إلاّ بطهور «، و أمّا إذا كان بلسان الأمر المولوي بالمقدّمة فلا وجه لإنكار البعث نحوها كما في الآيتين التاليتين:

1. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).(1)

2. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً )(2).(3)

و الآية الأُولى تؤكد على الوضوء و تبيّن كيفيته، و معه كيف يقال: ليس فيه بعث نحوه، كما أنّ الآية الثانية تأمر بحفظ الحذر و تبيّن كيفية النفر، و معه كيف يقال: ليس في الأمر الغيري بعث إلى المقدّمة؟ و كون البعث إلى المقدّمة لأجل ذيها شيء، و عدم البعث إلى المقدّمة شيء آخر، و الصحيح هو الأوّل دون الثاني.

و مما يدلّ على وجود البعث الأكيد إلى المقدّمة في الآية الثانية قوله سبحانه في سورة أُخرى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ).(4)

الثالث: ما اخترناه و حاصله: انّ هناك فرقاً بين الثبوت و الإثبات، فالواجبان: النفسي و الغيري يشاركان في أصل الوجوب و يتميّزان بفصل قوله:

ص:506


1- - المائدة: 6.
2- - النساء: 71.
3- - و الحذر الآلة التي بها يتقى الحذر و هو كناية عن السلاح، و الثبات جمع» ثبة «جماعات في تفرقة) مجمع البيان: 2/73).
4- - التوبة: 38.

» لنفسه «و» لغيره «.

و أمّا في مقام الإثبات فكأنّ أحد القسمين في نظر العرف يحتاج إلى بيان زائد دون الآخر، فالأمر بالشيء و السكوت عن القيد) لنفسه أو لغيره (كاف في بيان الأمر النفسي، و لا منافاة بين كون الشيء مركباً في عالم الثبوت و بسيطاً في عالم الإثبات، و قد مرّ توضيح ذلك في أوائل الأوامر عند البحث في حمل الأمر على الوجوب.

الرابع: بناء العقلاء على حمل الواجب على كونه نفسياً و القيام به و إلغاء احتمال كونه غيرياً الذي لو اعتمدنا عليه لا يجب القيام بالفعل، و ذلك لأنّ الأمر عند العقلاء يحتاج إلى جواب فلا يصحّ للعبد ترك المأمور به باحتمال انّه غيري و لم يثبت وجوب ذيه بعد فلا يصحّ تقاعس العبد عن الامتثال باحتمال كونه غيرياً.

الخامس: التمسّك بإطلاق دليل الواجب كالصلاة، إذ لو كان الأمر بالوضوء واجباً غيرياً يلزم تقييد الواجب أعني: الصلاة به، بخلاف ما إذا كان نفسياً فإطلاق دليل الواجب أعني: الصلاة يثبت كون الوضوء واجباً نفسياً بناء على حجّية الأُصول المثبتة اللفظية.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجوه الأربعة السابقة هو أنّ التمسّك فيها بإطلاق هيئة الأمر المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً، و أمّا المقام فالتمسّك هنا بمادة الأمر الغيري الذي نحتمل أن يكون الأمر المشكوك، مقدمة له.

يلاحظ على ذلك الوجه: أنّ كون الأمر غيرياً لا يستلزم تقييد الواجب النفسي مطلقاً و إنّما يقتضيه إذا كان الأمر الغيري قيداً للواجب النفسي و مأخوذاً فيه تقيّده به كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، و أمّا نصب السلّم و سائر المعدّات التي هي واجبات غيرية فليست مأخوذة في متعلّق الأمر النفسي.

ص:507

فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ مقتضى الأُصول اللفظية كون الأمر المشكوك نفسياً أو غيرياً هو النفسية، فلو اقتنع المجتهد بأحد هذه الوجوه لما تصل النوبة إلى الأصل العملي، و أمّا لو افترضنا أنّ الهيئة غير قابلة لانعقاد الإطلاق فيها كما عليه العلمان: الأنصاري و العراقي، فلا بدّ من الرجوع إلى الأُصول العملية، و هذا ما نذكره في البحث التالي:

المقام

الثاني: في مقتضى الأصل العملي

و قبل أن نذكر مقتضى الأصل العملي نشير إلى الصور الثلاث المذكورة في» الكفاية «منطوقاً و مفهوماً.

1. الشكّ في النفسية و الغيرية مع العلم بوجوب الغير.

2. الشكّ في النفسية و الغيرية مع الشكّ في وجوب الغير.

3. الشكّ في النفسية و الغيرية مع العلم بعدم وجوب الغير.

و إليك تفاصيل هذه الصور:

الأُولى: إذا تردد وجوب الوضوء أنّه نفسي لأجل النذر أو غيري لأجل الصلاة الواجبة، فلا شكّ أنّ مقتضى الأصل هو الإتيان به للعلم بوجوبه فعلاً و إن لم نعلم جهة وجوبه.

هذا ما ذكره المحقّق الخراساني، و لكنّه لم يركّز على المقصود الأصلي في هذا الفرع إذ لا شكّ في وجوب الإتيان بالوضوء، إنّما الكلام في تعيين محلّه، فهل هو مختار بين الإتيان به قبل الصلاة و بعدها كما هو مقتضى النفسية، أو انّه يأتي به قبل الصلاة قطعاً لا بعدها كما هو مقتضى النفسية؟ مقتضى الاشتغال اليقيني هو الإتيان به قبل الصلاة، لأنّ الإتيان به بعدها يلازم الشكّ في الامتثال،

ص:508

فالاشتغال اليقيني بوجوب الإتيان بالوضوء، امّا قبل الصلاة متعيّناً أو قبل الصلاة و بعدها متخيراً يقتضي الإتيان به على نحو يعلم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به و ليس هو إلاّ الإتيان قبلها.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذهب إلى أنّ المرجع في المقام هو البراءة و انّه يكون مختاراً بين الوقتين قائلاً:

بأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء و انّه شرط لصحتها، فيرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل و الأكثر الارتباطي، و أصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة، فتكون النتيجة، النفسية.(1)

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ الأصل مثبت حيث إنّ إجراء البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء لا يثبت كون الأمر المشكوك واجباً نفسياً إلاّ بالقول بالأصل المثبت فانّ كون الأمر المشكوك نفسياً لازم عقلي لعدم تقييد الصلاة بالوضوء.

ثانياً: انّ اجراء الأصل في ناحية المتعلّق) الصلاة (لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي فانّه يعلم بوجوب الوضوء إمّا غيرياً أو نفسياً، و لكلّ من الغيرية و النفسية أثر شرعي، إذ على الغيري يجب تقديمه، و على النفسي مخيّر بين الأمرين. فمقتضى هذا العلم الإجمالي هو لزوم الامتثال اليقيني و هو فرع الإتيان بالعمل قبل الصلاة.

الثانية: إذا دار أمر وجوب الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لكن وجوب الغير بعدُ لم يثبت فما هو مقتضى الأصل؟ و الظاهر أنّ مقتضاه هو البراءة، إذ لو كان وجوبه غيرياً لم يجب الآن لعدم وجوب ذيه فبقي كونه واجباً نفسياً و هو

ص:509


1- - فوائد الأُصول: 1/223.

مشكوك، و إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني حيث قال:» و إلاّ فلا، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً «(1)، إذ لو كان وجوبه غيرياً لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة فيصير كونه واجباً نفسياً مشكوكاً مجرى للبراءة.

و أورد عليه المحقّق النائيني قائلاً: بأنّ الأقوى وجوبه، لأنّ المقام من قبيل العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، إذ كما أنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي امتثال ما علم و لا يجوز البراءة فيه، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً و مقدّمة للصلاة مع السورة فكذلك المقام، من غير فرق بينهما سوى تعلّق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة، و في المقام تعلّق بمقدار من الواجب كالوضوء فقط، و هذا لا يصلح لأن يكون فارقاً.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ العلم التفصيلي بأنّ الأقل واجب على كلّ تقدير معلول العلم الإجمالي بأنّ الأقلّ إمّا واجب نفسي أو واجب غيري، و عند ذلك كيف يمكن الأخذ بالأقل بادّعاء أنّه معلوم الوجوب تفصيلاً، مع إجراء البراءة عن وجوب الأكثر) الصلاة مع السورة (و القول بانحلال العلم الإجمالي إلى تفصيلي و بدوي و ليس هذا إلاّ نظير الأخذ بالمعلول مع اعدام العلة؟ و نظيره المقام فانّ الجمع بين القول بوجوب الوضوء و إجراء البراءة عن وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء يشبه بالأخذ بالمعلول مع نفي علّته، و ذلك لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء رهن العلم الإجمالي بكونه واجباً إمّا نفسياً أو غيريّاً، فكيف يمكن القول بوجوبه تفصيلاً مع إجراء البراءة عن الوجوب الغيري » وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء «، مع أنّ حفظ العلم التفصيلي رهن حفظ العلم الإجمالي بكلا طرفيه لا حفظ طرف واحد؟!

ص:510


1- - كفاية الأُصول: 1/175.
2- - فوائد الأُصول: 1/223.

و ثانياً: وجود الفرق بين المقام و الأقل و الأكثر الارتباطيين، و ذلك لأنّ الأقل في الارتباطي واجب بالوجوب النفسي لما سيوافيك أنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي غير أنّ الشكّ يدور بين كون وجوبه قصيراً لقلة أجزائه أو طويلاً لكثرة أجزائه، و على كلّ تقدير فقد أحرز وجوب الأقل نفسياً.

و هذا بخلاف الوضوء في المقام فانّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري، و على فرض كونه قيداً للصلاة يصبح وجوبه غيرياً لا نفسياً لكونه خارجاً عن ماهيّة الصلاة، و يُعد من المقدّمات الخارجة عنها.

الثالثة: إذا تردد أمر الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لواجب يعلم قطعاً بعدم وجوبه، كما هو الحال في الحائض إذا دار حكم الوضوء بين كونه واجباً نفسيّاً أو غيرياً للصلاة التي تعلم أنّها غير واجبة في حقّها، فلا شكّ أنّه لا يجب عليها التوضّؤ بل هو مجرى للبراءة لكون الشكّ في وجوبه بدوي، فتلخص انّ المرجع في الفرع الأوّل هو الاحتياط، و قد عرفت أنّ معناه تقديم الوضوء على الصلاة و في الأخيرين هو البراءة.

و ينبغي التنبيه على أُمور:
الأوّل: في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري

لا شكّ في ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد به القربة، كما أنّه لا شكّ في ترتّب العقاب على ترك الواجب النفسي، لأنّه يعدّ تمرّداً على المولى و خروجاً عن رسم العبودية و زيّ الرقية.

هذا كلّه في الواجب النفسي، و أمّا الواجب الغيري فلا شكّ أنّ تركه بما هو هو لا يوجب العقاب، نعم لما كان تركه منتهياً إلى ترك الواجب النفسي

ص:511

فالعقاب على ترك ذيه لا على نفسه.

هذا كلّه لا كلام فيه و إنّما الكلام في أمر رابع و هو ترتّب الثواب على الواجب الغيري و عدم ترتبه، و قبل الخوض في صلب الموضوع نشير إلى مسألة كلامية و هي هل الثواب في مطلق الواجبات من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل؟ ذهب المحقّق الطوسي في» التجريد «و تبعه شارحه العلاّمة في» كشف المراد «إلى أنّ ترتّب الثواب على امتثال الواجبات من باب الاستحقاق، و ذهب الشيخ المفيد إلى أنّه من باب التفضّل، فلندرس أدلّة القولين:

أدلّة القائلين بالاستحقاق

استدلّ القائل بالاستحقاق بوجهين:

الأوّل: انّ التكليف مشقّة، و كلّ مشقة بلا عوض ظلم، فينتج أنّ التكليف بلا عوض ظلم.(1)

و يظهر من المحقّق الخراساني ارتضاؤه حيث قال: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي و موافقته، و استحقاق العقاب على عصيانه و مخالفته عقلاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ الصغرى و الكبرى مخدوشتان.

أمّا الصغرى، و هو انّ التكليف مشقة فلا يخلو من ضعف، فانّ التكاليف الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد، و معها كيف يمكن وصف التكليف بالمشقة،

ص:512


1- - كشف المراد: 262، المقصد السادس في المعاد، المسألة الخامسة، في الوعد و الوعيد.
2- - كفاية الأُصول: 1/175.

فانّ التكاليف الشاقة و إن كان بظاهرها شاقة لكن وراء التكاليف مصالح لازمة التحصيل، أو مفاسد واجبة التحرّز، و مثل التكاليف الشاقة كشرب الدواء المر أو تحمّل الكي بالنار، فانّ الجميع بظاهرها شاق و لكنّها في الباطن تعدّ من أسباب السعادة و السلامة.

و أمّا الكبرى، فنمنع كلّيتها فانّه إنّما يُعد قبيحاً إذا لم يكن الغير مملوكاً للآمر و المفروض أنّه مملوك له.

و بذلك تبيّن أنّ القول بالتفضّل أوضح من القول بالاستحقاق، و ذلك لأنّ كلّ ما يملكه العبد من حول و قوّة و ما يصرفه في طريق الطاعة كلّه ملك للّه سبحانه و ليس للعبد دور سوى صرف نعمه سبحانه في موارد يرتضيها، و عندئذ كيف يكون مستحقاً للأجر مع أنّه لم يبذل في طريق الطاعة شيئاً إلاّ ما أعطاه المولى، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ).(1)

قال العلاّمة الطباطبائي: و ما يعطيه تعالى من الثواب للعبد تفضّل منه من غير استحقاق من العبد، فإنّ العبد و ما يأتيه من عمل، ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل و الانتقال، غير أنّه اعتبر اعتباراً تشريعيّاً، العبدَ مالكاً و ملّكه عمله، و هو المالك لما ملّكه و هو تفضّل آخر ثمّ اختار ما أحبّه من عمله فوعده ثواباً على عمله و سمّاه أجراً و جزاء و هو تفضّل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلاّ العبد. قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ )(2)، و قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )(3)، و قال بعد وصف الجنّة

ص:513


1- - فاطر: 15.
2- - آل عمران: 172.
3- - فصّلت: 8.

و نعيمها: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً )(1)، و ما وعده من الشكر و عدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضّل.(2)

فالقول بالتفضّل أوضح برهاناً و أوفق بالقرآن الكريم كما سيوافيك.

الدليل الثاني: ما تكرر في الذكر الحكيم من التعبير عن الثواب، بالأجر للعمل و هو آية الاستحقاق، كاستحقاق العامل لراتبه في آخر الشهر، قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ).(3)

و قال تعالى: (وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(4) إلى غير ذلك ممّا يعدّ الثواب أجراً و هو تعبير آخر عن الاستحقاق.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ التعبير بالأجر فيها كالتعبير بالاستقراض في قوله سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )(5) فانّ التعبير بالاستقراض لغاية الحثّ على ما ندب إليه القرآن من الإنفاق حتّى شبّه إنفاقه بأنّه قرض يقرضه اللّه سبحانه وعليه ان يردّه، و نظيره التعبير بما يتفضّل بالأجر، فانّه لإيجاد الرغبة إلى الإنفاق و انّه لا يذهب سدى، بل يقابل بالأجر الكريم على اللّه العزيز الذي لا يبخس أحداً.

و ثانياً: أنّ هنا آيات تدلّ على أنّ الثواب إنّما هو بالوعد و المواضعة كقوله: (وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى )(6) و قوله سبحانه: (وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ )(7) فلو كان هناك استحقاق في الثواب، لما كان هناك حاجة بالجعل، و هذا كاشف عن الثواب ليس إلاّ تفضّلاً منه سبحانه.

ص:514


1- - الإنسان: 22.
2- - الميزان: 19/176.
3- - فاطر: 7.
4- - هود: 115.
5- - الحديد: 11.
6- - النساء: 95.
7- - المائدة: 9.

نعم لا يصحّ له أن يتخلّف بعد ما وعد، لاستلزامه الكذب لو أخبر عن الثواب، أو لاستلزامه تخلّف الوعد، لو أنشأه، و كلا الأمرين قبيح.

الثواب و العقاب من لوازم الأعمال التكوينية

قد عرفت اختلاف المتكلّمين في أنّ ترتّب الثواب على العمل من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل، و على كلا الأمرين فالثواب فعله سبحانه و عطاء منه بالنسبة إلى المطيعين من عباده استحقاقاً أو تفضّلاً، و هناك من يقول بأنّ الثواب و العقاب من لوازم الأعمال بوجوه ثلاثة:

1. الصلة بين العمل و الثواب توليدية

إنّ الصلة بين العمل و الثواب صلة توليدية، و انّ العمل الدنيوي يزرع في الدنيا و يحصد نتائجه في الآخرة، فالعمل علّة، و الثواب و العقاب ثمار العمل يترتّب عليه ترتّب الفرع على الأصل، و ربما يستظهر من قوله) عليه السلام (:» العمل الصالح حرث الآخرة «.(1)

2. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي

إنّ صاحب القول الأوّل كان يتبنّى الاثنينية، و انّ هناك عملاً و ثواباً، و العمل بذر ينمو و يتبدّل إلى الثمر سواء أ كان حلواً أو مرّاً، لكن صاحب هذا القول ينكر الاثنينية و يقول: إنّ الثواب هو نفس العمل، غير أنّ للعمل ظهورين: ظهوراً دنيوياً و هو ما نراه من العمل الحسن و السّيّئ، و ظهوراً أُخرويّاً و هو الثواب

ص:515


1- - نهج البلاغة، الخطبة 22، ط عبده.

و العقاب، و هذا هو القول المعروف بتجسّم الأعمال و تمثّلها، و يستظهر ذلك المعنى من بعض الآيات:

1. قوله سبحانه: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ).(1)

فقوله سبحانه: (هذا ما كَنَزْتُمْ ) يشير إلى الجزاء الذي يُواجَه به الإنسان في الآخرة، و أنّ هذا الجزاء ليس شيئاً سوى نفس العمل الدنيوي و لذلك وصفه بقوله: (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ )، فالكنز له وجودان: وجود دنيوي و هو الدنانير الصفراء التي تسرّ الناظرين، و لكنه في الآخرة نفس الدينار المحمّر الذي بها تكوى الجباه و الجنوب و غير ذلك.

2. قوله سبحانه: (وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )(2) فما يحضر في الآخرة هو نفس ما عمله في الدنيا.

3. قوله سبحانه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ).(3)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الجزاء هو التمثّل الملكوتي و انّ رابطة الثواب و العقاب مع العمل ليست رابطة توليدية كما في القول الأوّل بل من قبيل ظهور الشيء في كلّ ظرف بثوبه المناسب.

3. الثواب فعل النفس

إنّ كلا من القولين الأوّلين يتبنّى للعمل أصالة، فتارة يُتصوّر أنّ الصلة بين الفعل و الثواب من مقولة التوليد و الانتاج، و أُخرى أنّ الصلة بينهما صلة ظهور

ص:516


1- - التوبة: 35.
2- - الكهف: 49.
3- - آل عمران: 30.

الشيء بوجودين حسب اختلاف ظروف العمل، إلاّ أنّ هذا القول يتبنّى أنّ الثواب و العقاب من أفعال النفس فهي بما اكتسبت من العقائد الصحيحة أو الفاسدة و ما أتت من الأعمال الحسنة و القبيحة تكتسب استعداداً و ملكة خاصة تقدر معها على إنشاء صور مناسبة لتلك الملكة فهي إمّا تتنعّم بالصور أو تتأذّى بها.

و بالجملة: الإنسان في ظل العقائد الصحيحة و الفاسدة و الأعمال الحسنة و السيئة يكتسب ملكة خاصّة تكون مع الإنسان، خلاّقة للصور التي تناسبها، و هذا ليس أمراً بعيداً، فمن يتملّك ملكة العدالة في هذه النشأة لم يزل يتصوّر أُموراً تناسبها، و من يمتلك ملكة الفسق و الجور لم يزل يتصوّر صوراً تناسبها، فنفس هذه الملكة فعّالة في يوم القيامة فتخلق الصور البهية أو الصور الموحشة، و يعبّر عن الأوّل بالجنة و عن الثاني بالجحيم.

و هذه الآراء الثلاثة لعرفاء الإسلام، و التسليم بها رهن دراستها صحّة و فساداً في محلّها، غير أنّ القول الثالث إذا كان بصدد حصر الجنة و الجحيم بالصور المخلوقة للنفس فتعارضها الآيات و الأخبار القطعية على أنّ الجنة أمر منفصل عن النفس و كذلك الجحيم. و لو لم يكن بصدد الحصر فلا مانع من القول بالجنتين المتصلة بالنفس و المنفصلة عنها، و إن كان الظاهر من القائل هو الحصر.(1)

إلى هنا تمّت الآراء في كيفية ترتّب الثواب و العقاب. فلندخل في صلب الموضوع و هو:

ص:517


1- - الأسفار الأربعة: 9/131، فصل» في الشقاوة التي بإزاء السعادة «.
ترتّب الثواب على الواجب الغيري

هل يترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري أو لا؟ فيه أقوال:

1. يترتّب الثواب على النفسي دون الغيري، و هو خيرة المحقّق الخراساني و السيد الإمام الخميني قدّس سرّهما.

2. يترتّب الثواب على الغيري كالنفسي، لكن إذا كان واجباً أصلياً لا تبعياً أي مدلولاً لخطاب مستقل، لا ما إذا فهم وجوبه على نحو التبعية بإحدى الدلالات: الالتزامية الإيماء و الاقتضاء، و هو خيرة المحقّق القمي.

3. يترتّب الثواب على الواجب الغيري بشرط قصد التوصّل به إلى ذيها، و هو خيرة المحقّق النائيني و تبعه صاحب المحاضرات.

4. يترتّب عليه الثواب مضافاً إلى قصد التوصّل كون المقدّمة موصلة بأن تنتهي إلى الإتيان بذيها.

و هذه الأقوال مبنيّة على القول بأنّ الثواب من باب الاستحقاق فيبحث عن حدود الاستحقاق، و انّها هل تعمّ الغيري أو تنحصر بالنفسي؟ و أمّا على القول المختار من أنّ الثواب في الواجب النفسي من باب التفضّل، فعندئذ يجب أن تتفحّص في الكتاب و السنّة هل هناك ما يدلّ على ترتّب الثواب على الواجب الغيري أو لا؟ إذ ليس عندئذ لكشف الثواب طريق وراء النقل.

إذا عرفت ذلك فلندرس أدلّة الأقوال الأربعة، و إن كان الأساس مرفوضاً.

الاستدلال على القول الأوّل

استدلّ للقول الأوّل بوجهين:

ص:518

الأوّل: ما استدلّ به المحقّق الخراساني على عدم ترتّب الثواب على الواجب الغيري باستقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لعقاب واحد أو لثواب كذلك فيما خالف الواجب و لم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها، أو وافقه و أتى به بماله من المقدمات.(1)

يلاحظ عليه: كيف يستقلّ العقل بوحدة الثواب مع أنّ الموضوع لترتّب الثواب هو إطاعة المولى و المفروض وجود ذلك الملاك في امتثال الواجب الغيري أيضاً و لا يقاس الثواب بالعقاب، لأنّ الثواب على الطاعة و المفروض انّها متعدّدة حيث إنّه أطاع أمر المولى في مورد الغيري ثمّ أطاع أمره في مورد النفسي، فالطاعتان مختلفتان و يتبع تعدّدَ الطاعة، تعدّدُ الثواب، و أمّا العقاب فهو مترتب على التمرّد و الخروج عن رسم العبودية و زيّ الرقية. و ليس في ترك الواجب إلاّ تمرّد واحد حسب العقل.

فإن قلت: إنّ الثواب فرع كون العمل مقرِّباً من المولى، و هو فرع كون المتعلّق محبوباً و حسناً بالذات، و المفروض أنّ الواجب الغيري ليس محبوباً بالذات، بل محبوب بالعرض فكيف يترتب عليه الثواب؟ قلت: إنّ الثواب يترتّب على إطاعة أمر المولى سواء أ كان المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض.

و إن شئت قلت: إنّ الثواب يترتّب على كون حركة العبد حركة إلهية و عملاً يُتطلب به امتثالُ أمر المولى سواء أ كان المتعلّق محبوباً بالذات أو لا، و على ضوء ذلك يكفي في ترتّب الثواب انصباغ العمل بصبغة إلهية، و عندئذ يستقل العقل بترتّب الثواب عليها على القول بالاستحقاق.

ص:519


1- - كفاية الأُصول: 1/174.

الثاني: ما استدلّ به السيد الأُستاذ، فقال: إنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة، و لا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية، لأنّها بمعزل عن الباعثية، لأنّ المكلّف إمّا أن يكون قاصداً لامتثال الأمر النفسي أو لا.

فعلى الأوّل فالأمر النفسي داع و باعث إلى الإتيان بالمقدّمة من دون حاجة إلى باعثية الأمر الغيري، و على الثاني فلا يكون الأمر الغيري باعثاً لأنّ المفروض أنّه راغب عن ذي المقدّمة، فكيف يكون الأمر الغيري باعثاً؟ و الحاصل: انّ ملاك الاستحقاق هو الطاعة، و هي فرع كون أمره داعياً و باعثاً و المفروض انّه ليس بباعث في حالة من الحالات.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر النفسي و الغيري في الباعثية و عدمها سيّان، فإن أُريد بها الباعثية التكوينية فليس واحد منهما باعثاً تكوينياً، بل الباعث إلى الطاعة هو رجاء الثواب و الخوف من العقاب.

و إن أُريد الباعثية الإنشائية فكلّ من الأمرين صالح لذلك. و ما ذكره من الاستدلال إنّما يتمُّ إذا أُريد من الباعثية، القسم التكويني منها، و قد عرفت انتفاءها فيهما معاً.

إلى هنا تبيّن أنّ القول الأوّل على القول بالاستحقاق غير تام برهاناً.

و أمّا القول الثاني(2): و هو التفصيل بين امتثال الأمر الغيري الأصلي و امتثال الأمر الغيري التبعي، فليس له دليل صالح بعد قيام الدليل على حجية خطابات المولى، أصلياً كان الخطاب أو تبعياً، و سيمرّ في باب المفاهيم أنّ دلالة الاقتضاء و الإيماء من الدلالات الصالحة للاحتجاج.

ص:520


1- - تهذيب الأُصول: 1/249.
2- - مرّ القول الأوّل، ص 518.

و أمّا القول الثالث: فهو قول متقن، و إن كان القول الرابع أتقن منه، و الجامع بين القولين هو أن يكون الباعث لامتثال الأمر الغيري هو قصد التوصّل بالواجب النفسي لكن بشرط أن يكون الامتثال موصلاً لامتثال الأمر النفسي على القول الرابع، و أمّا إذا خلا عن هذين الأمرين كما إذا امتثل الأمر الغيري لغاية الهوى و الهوس لا لقصد التوصّل أو لم يكن في الواقع موصلاً إلى ذيها للانصراف عن الامتثال عمداً فلا يعدّ ممتثلاً حتى يترتّب عليه الثواب، و هذا أشبه بمن يقوم بتناول الغذاء في السحر دون أن يصوم.

هذه الأقوال كلّها مبنية على القول بالاستحقاق و مع رفض المبنى لا يبقى للبناء قيمة، و الحقّ ما اخترناه من أنّ ترتّب الثواب على العمل الصالح من باب التفضّل، و عند ذلك لا طريق لترتّبه و عدمه إلاّ الرجوع إلى النقل من القرآن الكريم، و السنّة المطهرة.

و من حسن الحظ أنّ المصدرين صريحان في ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري إذا كان بقصد التوصّل لذيها، و إليك بعض ما يدلّ على ذلك في المصدرين.

قال سبحانه: (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ).(1)

و الآية المباركة تخبر عن أنّه سبحانه يكتب للمجاهدين في مقابل كلّ

ص:521


1- - التوبة: 120.

خطوة يخطونها إلى الجهاد و ما يقابلون من ظمأ و عطش، و نصب و تعب، و مخمصة و جوع، عملاً صالحاً لا ينفك عن الأجر كما يقول سبحانه: (كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و من المعلوم أنّ ما وصف كلّها واجب غيري مقدمي.

و نظير الآية ما تضافر من ترتّب الثواب على كلّ خطوة يخطوها زائر الإمام الحسين بن علي) عليهما السلام (.(1)

و على ضوء ما ذكرنا يمكن الحدس بأنّ امتثال الأمر الغيري كامتثال الأمر النفسي إذا كان في سبيل التوصّل إلى امتثال الأمر النفسي يعد طاعة و يثاب الفاعل.

محاولة المحقّق الخراساني لتفسير ما دلّ على ترتّب الثواب

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لمّا أنكر ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري و واجهه ما ورد في الشرع من ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري حاول توجيه الآيات و الروايات بوجهين:

الأوّل: لا بأس بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له من باب أنّه يصير حينئذ من باب أفضل الأعمال، حيث صار أشقّها وعليه ينزل ما ورد من الثواب على المقدّمات.

و حاصله: انّ كثرة المقدّمات تجعل العمل من الأعمال الشاقة و يكون الثواب المترتّب على ذيها أكثر من غير المشتمل عليها، و على هذا يكون الإتيان

ص:522


1- - كامل الزيارات: 133.

بالمقدّمة للّه علّة لترتب الثواب الكثير على ذيها.

يلاحظ عليه: بأنّ التأويل يخالف ظاهر الآية و الرواية، فالآية ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس طي الأرض و السفر إلى أرض المعركة و ما يقابل في طريقه من الظمأ و النصب و المخمصة، يقول سبحانه:

(كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) لا على الجهاد، من جانب المقدّمة.

الثاني: انّ امتثال الأمر الغيري بما أنّه يُعد شروعاً في امتثال الأمر النفسي يترتّب عليه الثواب المترتب على الأمر النفسي.

يلاحظ عليه: أنّه لا يصحّ إلاّ في المقدّمات الداخلية التي قد عرفت خروجها عن حريم النزاع، لا في مثل الشرائط و المعدّات. إذ كيف يعد الوضوء شروعاً في الصلاة مع أنّ الثواب مترتّب على الإتيان بالواجب لا على الشروع فيه؟! *** و هذا البحث الضافي حول ترتّب الثواب على الأمر الغيري و عدمه يرجع إلى القولين: الاستحقاق أو التفضّل، و أمّا على القول بأنّ الثواب نتيجة العمل أو تمثّل ملكوتي له أو غيره فلا يصحّ لنا إبداء النظر فيه لعدم العلم بحدوده و خصوصياته فهل الثواب نتيجة كلّ واجب أو خصوص الواجب النفسي؟ و مثله نظرية التمثّل، فهل يعمّ كلّ الأعمال و الواجبات أو يختصّ بالواجبات النفسية؟ فالأولى على هذا المذهب هو السكوت.

ص:523

التنبيه الثاني إشكالات الطهارات الثلاث

قد وقعت الطهارات الثلاث مورداً للإشكال من جهات ثلاثة:

الأوّل: اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الآتي بها يثاب، مع أنّ الأمر الغيري لا يترتّب عليه ثواب.

الثاني: اتّفق الفقهاء غير أبي حنيفة على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للصلاة بما هي عبادة يتقرّب بها إلى اللّه تعالى، مع أنّ الأوامر المتعلّقة بها أوامر غيرية و هي توصلية دائماً لا تُصحّح عبادية متعلّقاتها، إذ ليست المقدّمة محبوبة للمولى إذ لو أمكنه الأمر بذيها بدون التوصّل بها، لأمر، فالأمر بها من باب اللابدية و مثل هذا لا يصلح للمقربية.

و إن شئت قلت: إنّ الأوامر الغيرية أوامر توصلية، و هي لا تكون منشأ لعبادية المتعلّق.

الثالث: انّ الطهارات الثلاث، إنّما أخذت مقدّمة للصلاة بما انّها عبادة، و ليس حالُها حالَ بقيّة المقدّمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدّمة، سواء أتي بها عبادة أم لا، فحينئذ لا إشكال في توقّف الأمر الغيري على عباديتها، فلو توقفت عباديتها على الأمر الغيري، لزم الدور.

و بعبارة أُخرى: انّ الأمر الغيري يتعلّق بما يتوقّف عليه الواجب، و المفروض

ص:524

أنّ الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة، مقدّمة، وعليه فالأمر الغيري المتعلّق بها بطبيعة الحال، يتعلّق بها بعنوان انّها عبادة، و معه كيف يعقل أن يكون الأمر الغيري منشأ لعباديتها؟ و إليك دراسة الإشكالات واحداً بعد الآخر.

***

دراسة الإشكال الأوّل

إنّ الإشكال الأوّل ليس بمهم، لأنّه إن قلنا بأنّ الثواب بالاستحقاق فقد تقدّم انّه يترتّب على إطاعة أمر المولى من غير فرق بين كونه نفسياً أو غيرياً، غاية الأمر يشترط في امتثال قصد الأمر الغيري كون الامتثال بقصد التوصّل إلى ذيه.

و أمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالتفضّل و لا طريق إلى تحقيق الحال إلاّ بالرجوع إلى الكتاب و السنّة، فلو دلّ الدليل على ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري بالطهارات الثلاث فيؤخذ به.

إنّما المهم الإشكال الثاني و الثالث حيث كان الثاني يركّز على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للواجب، و ليس المقدّمة إلاّ العبادة منها، فحينئذ يُسأل عن ملاك العبادة فهل هو وجود الملاك فيها؟ فهو مردود بأنّ المقدّمة غير مطلوبة بالذات فكيف يكون فيها الملاك، أو قصد الأمر الغيري و هو أمر توصلي لا يصحّح العبادة.

كما أنّ الإشكال الثالث يركّز على الدور، لأنّ الأمر الغيري تعلّق بالوضوء العبادي، فيجب أن يوصف بالعبادة قبل تعلّق الأمر، فلو كانت عبادية الوضوء رهن قصد الأمر الغيري، فيدور.

ص:525

دراسة الإشكالين الثاني و الثالث
قد أجيب عن الإشكالين بأجوبة أربعة:
الأوّل: انّ الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة

ذهب المحقّق الخراساني بأنّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبة و عبادة، و غاياتها) كالصلاة و قراءة القرآن ( إنّما تكون متوقّفة على إحدى هذه العبادات، فلا بدّ أن يؤتى بها عبادة، و إلاّ فلم يؤت بما هو مقدّمة لها، فقصد القربة فيها لأجل كونها في نفسها أُموراً عبادية، و مستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية.(1)

و هو) قدس سره (بهذا البيان دفع الإشكالين) الأخيرين (، أمّا الأوّل فلأنّ عباديتها بالأمر النفسي لا بالأمر الغيري، كما دفع إشكال الدور لأنّ عبادة الوضوء إنّما هو بالأمر النفسي المتعلّق بها، فصار الوضوء عبادة قبل تعلّق الأمر الغيري، فالأمر الغيري موقوف على الموضوع، و الموضوع) أي كون الوضوء عبادة ( غير موقوف على الأمر الغيري.

و أورد عليه المحقّق النائيني بوجوه ثلاثة:

1. انّه لا يتم في خصوص التيمّم الذي لم يدلّ على كونه مطلوباً في حدّ ذاته.

2. انّ الأمر النفسي الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب.

3. انّه يصحّ الإتيان بجميع الطهارات بقصد الأمر النفسي المتعلّق بذيها، من دون التفات إلى الأمر النفسي المتعلّق بها.(2)

و حاصله: انّ الأمر النفسي المتعلّق بها مغفول عند الناس، فكيف يكون

ص:526


1- - كفاية الأُصول: 1/177.
2- - أجود التقريرات: 1/175.

ملاكاً لتصحيح العبادية؟! و سيوافيك مراده من قصد الأمر النفسي في الجواب الثاني.

يلاحظ على الأوّل: بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة أنّ الطهارات الثلاث حتّى التيمّم عبادة في ظرف خاص.

و أمّا من حيث سعة الغاية و ضيقها فلو قلنا بأنّ التيمّم رافع للحدث فالتيمّم و الوضوء سيّان، فيجوز لفاقد الماء أن يتيمّم لأجل مسح المصحف أو المكث في المسجد و غير ذلك.

و أمّا لو قلنا بأنّه مبيح للصلاة فتكون عباديته منحصرة بهذا الظرف.

و يلاحظ على الثاني: بأنّ الأمر الوجوبي القربي لا يزاحم الأمر النفسي الاستحبابي، و ذلك لاختلاف متعلّقهما، فالأمر الاستحبابي تعلّق بذات الطهارات الثلاث، و أمّا الأمر الوجوبي الغيري فقد تعلّق بالطهارات بما هي مستحبة نفسياً.

و بعبارة أُخرى: الوضوء بما هو هو مستحب نفسي و متعلّق للأمر النفسي، و الوضوء بما أنّه مستحب نفسي متعلّق للأمر القربي.

نظير ذلك: لو نذر صلاة الليل، فالأمر الاستحبابي تعلّق بذات صلاة الليل، و الأمر النذري الوجوبي تعلّق بالوفاء بالنذر، و لا يتحقّق الوفاء إلاّ بالإتيان بصلاة الليل على وجه الاستحباب.

و يلاحظ على الثالث: بما ذكره المحقّق الخراساني بقوله: و الاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنّما هو لأجل انّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه، حيث إنّه لا يدعو إلاّ إلى ما هو مقدّمة.(1)

ص:527


1- - كفاية الأُصول: 1/178.

و حاصله: انّ الأمر النفسي المتعلّق بالوضوء مثلاً و إن كان مغفولاً عنه لكن قصد الأمر الغيري المتعلّق به يغني عن قصد الأمر النفسي، لأنّه يدعو إلى ما هو مقدّمة بالحمل الشائع، و المفروض أنّ المقدّمة بالأمر الشائع هو الوضوء الذي تعلق به الأمر النفسي.

و لكن الحقّ أنّ الإشكال الثالث للمحقّق النائيني بعد باق بحاله، لأنّه إذا كان الأمر النفسي هو المقوّم لعبادية الوضوء، فكيف يكفي قصد الأمر الغيري؟ و مجرّد كون ذاك الأمر داعياً إلى ما هو عبادة لا يكفي في عبادية الوضوء، و الشاهد على ذلك انّه لو صلّى أحد الظهرَ بنيّة الأمر الغيري أي بما انّها مقدّمة للعصر لا يغني عن قصد الأمر النفسي، مع أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالظهر يدعو إلى ما هو مقدّمة بالحمل الشائع، و ليس هو إلاّ الظهر الواجب نفسيّاً.

إلى هنا تم الجواب الأوّل عن الإشكالين، و قد عرفت كيفية الذب عن الإشكالات التي أوردها المحقّق النائيني إلاّ ثالثها فهو باق على حاله، فلندرس سائر الأجوبة.

الثاني: انّ ملاك العبادية هو الأمر النفسي المتعلّق بذيها

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث هو الأمر المتعلق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة، و حيث إنّ الطهارة ممّا أخذت في متعلّق الأمر النفسي، فيصلح أن يكون الأمر النفسي مصحّحاً للطهارات الثلاث، قال في توضيحه: لا وجه لحصر منشأ عبادية الطهارات الثلاث في الأمر الغيري، و لا في الأمر النفسي المتعلّق بالشيء) المقدّمة (، بل هناك أمر ثالث و هو الموجب لكونها عبادة، فانّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة، كما أنّ له تعلّقاً بأجزائها و هو موجب

ص:528

لكونها عبادة لا يسقط أمرها إلاّ بقصد التقرّب، فكذلك له تعلّق بالشرائط المأخوذة فيها، فلها أيضاً حصة من الأمر النفسي و هو الموجب لعباديتها، فالموجب لعباديتها في الأجزاء و الشرائط واحد.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلط بين الجزء و الشرط، فالجزء مأخوذ في الواجب النفسي قيداً و تقيّداً، فيصحّ الإتيان به بالأمر النفسي المتعلّق بالمركب، و هذا بخلاف الشرط فالتقيّد مأخوذ في متعلّق الأمر النفسي كالطهارة في الصلاة لكن القيد من المقدمات الخارجة عن المركّب، فلا يصحّ إتيانه بالأمر النفسي المتعلّق بالمركب، لأنّ القيد خارج عن المتعلّق.

الثالث: كفاية قصد التوصّل في العبادية

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّه يكفي في إضفاء العبادية على الطهارات الثلاث قصد التوصّل بها إلى الأمر النفسي المتعلّق بالغاية، يقول: يكفي في عبادية الشيء أن يأتي به المكلّف تارة بقصد أمره النفسي الاستحبابي، و أُخرى أن يأتي به بقصد التوصّل به إلى إحدى غاياته. و حينئذٍ يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر النفسي المتعلّق بالغاية المطلوبة من الصلاة و القراءة و نحوهما.

و الحاصل: انّ المصحّح لعبادية المقدّمات هو قصد الأمر المتعلّق بذيها، من غير حاجة إلى قصد الأمر النفسي أو الغيري المتعلّق بأنفسها.(2) و لعلّه إلى ذلك الجواب يشير المحقّق الخوئي على ما في محاضراته حيث قال: إنّ منشأ عبادية الطهارات أحد أمرين على سبيل منع الخلو: أحدهما قصد امتثال الأمر النفسي، و ثانيهما قصد التوصّل بها إلى الواجب، فانّه أيضاً موجب لوقوع المقدّمة عبادة و لو

ص:529


1- - أجود التقريرات: 1/175.
2- - نهاية الأُصول: 1751/174.

لم نقل بوجوبها شرعاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إن أراد انّ الأمر المتعلّق بذي المقدّمة يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة، فهو خلاف التحقيق، لأنّ كلّ أمر لا يتجافى عن متعلّقه و لا يدعو إلى الخارج عنه و الشرائط من الأُمور الخارجة عنه.

و إن أراد انّ الإتيان بالشيء للتوصّل به إلى العبادة كاف في تعنون المقدّمة بالعبادية، ففيه أنّه غير تام بشهادة أنّ الإتيان بالستر و طهارته إذا قصد به التوصّل إلى الصلاة لا يوصفان بالعبادة، فلا بدّ وراء التوصّل إلى العبادة من شيء آخر كما سيوافيك في الجواب الرابع.

الرابع: كفاية قصد الإتيان للّه

إنّ إضفاء وصف العبادية على الطهارات الثلاث و حلّ الإشكالين الأخيرين يتحقّق بوجهين آخرين:

1. انّ الشيء إذا كان صالحاً للعبادة فيكفي في إضفاء وصف العبادة عليه الإتيان به للّه سبحانه، من دون حاجة إلى قصد الأمر النفسي و لا الغيري، بل إذا كان لشيء في حدّ نفسه صالحاً للتعبّد و جاء به المكلّف للّه سبحانه يوصف بالعبادة، و الطهارات الثلاث من هذا القبيل، فقد اتّفق العلماء على كونها صالحة للعبادة، فمع إحراز هذه الصلاحية يكفي الإتيان بها للّه سبحانه في تعنونها بالعبادة من دون نظر إلى الأمر النفسي المتعلّق بها أو الأمر النفسي المتعلّق بذيها أو الأمر الغيري المتعلّق بها، و على ضوء هذا ينحل الإشكالان.

ص:530


1- - لاحظ المحاضرات: 2/401.

أمّا الثاني و هو تعيين مصحّح العبادة فقد مرّ أنّ المصحّح عبارة عن أمرين تاليين:

أ. كون الشيء صالحاً للتعبّد.

ب. الإتيان به للّه سبحانه.

و كلا الأمرين متحقّقان.

و أمّا الإشكال الثالث، و هو انّه يشترط قبل تعلّق الأمر الغيري كون الطهارات الثلاث موصوفة بالعبادة، و المفروض انّ الطهارات الثلاث قبل تعلّق الأمر الغيري موصوفة بها لما عرفت من أنّ ملاك العبادية هو صلاحية الفعل لها بشرط الإتيان به للّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه لا حاجة بعد اتّصافها بالعبادية إلى الأمر الغيري حتّى يتوجّه الإشكال.

2. إضفاء وصف العبادة على الطهارات الثلاث من جانب الأمر الغيري فيمكن أن يقال انّ قصد الأمر الغيري كالأمر النفسي مصحح للعبادية، و لا فرق فيه بين قصد الأمر النفسي أو الغيري، و لا كون المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض، فما اشتهر بين الأساطين من التفريق بين النفسي و الغيري و إن الأوّل أمر قربي دون الثاني، لا يرجع إلى محصل، لأنّ الأمرين و إن كانا مختلفين في الغاية و المقصد لكن محصِّل القرب، هو كون الحركة لأجل امتثال أمره كائناً ما كان، و بذلك يظهر أنّ الإتيان بالواجب الغيري بنيّة امتثال أمره، موجب لاستحقاق الثواب على القول بأنّه أمر استحقاقي و لا يختصّ ذلك بامتثال الأمر النفسي.

و عندئذ ينحل الإشكالان: أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ قصد الأمر الغيري

ص:531

يضفي القربية على المتعلّق إذا أتى به امتثالاً لأمره.

و أمّا الإشكال الثاني، فيظهر حاله بما قدّمناه في أخذ قصد الأمر في متعلّقه، و حاصل ما يمكن أن يقال هنا:

إنّ الأمر الغيري يتعلّق بالوضوء بما هو صالح للعبادة و لا يعتبر فيه كونه عبادة بالفعل.

نعم إذا أتى به بقصد الأمر الغيري يكون عبادة بالفعل، فالأمر الغيري موقوف على ما هو عبادة شأناً، و العبادة الفعلية موقوفة على تعلّق الأمر الغيري و قصده.

و لكن الحقّ في الجواب ما قدّمنا من الوجه الأوّل.

تطبيقات

الأوّل: إذا توضّأ المكلّف قبل الوقت بداعي أمره النفسي على القول به صحّ وضوؤه و صلاته لو صلّى به بعد دخول الوقت، لحصول المقدّمة العباديّة.

الثاني: لو توضّأ قبل الوقت متقرباً به إلى اللّه، صحّ وضوؤه و صلاته، إذا صلى بها بعد دخول الوقت، لما عرفت من صلاحية العمل للعبادة، فإذا انضم إليها كونه للّه سبحانه تحصل المقدّمة العباديّة.

الثالث: لو توضّأ قبل الوقت بداعي التوصّل إلى امتثال أمر الواجب النفسي الذي لم يدخل وقته، فهل يصحّ وضوؤه و صلاته إذا صلّى به بعد دخول الوقت أو لا؟ اختار سيد مشايخنا المحقّق البروجردي الثاني قائلاً بأنّها لا يصحّ و لا يجوز الدخول معه إلى الصلاة، لعدم تحقّق الأمر النفسي بعد، فكيف يكون

ص:532

الأمر المعدوم داعياً؟! فليس للأمر المعدوم امتثال حتى يقال انّ المقدّمة واقعة في طريقه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه ليس الداعي وجود الأمر ثبوتاً و ان لم يعلم به المكلّف، بل الداعي هو علمه به سواء أ كان الأمر موجوداً بالفعل، أم لا، فإذا كان المكلّف على ثقة بأنّه يدرك فعلية الأمر بعد ساعة، فيكفي في الداعوية العلم بوجوده في ظرفه فيأتي بالوضوء للتوصّل إلى امتثال النفسي الذي سيتوجه إليه.

و بعبارة أُخرى: إذا لم يكن للمكلّف داع إلى إتيان الوضوء الاستحبابي قبل الوقت لكن لما رأى أنّ الصلاة بعد دخول الوقت مشروطة به، قام فتوضّأ لأجل ذلك فيكفي ذلك في الداعويّة.

و إن أبيت إلاّ عن شرطية الأمر الفعلي في الداعوية، فنقول إنّ هذا القسم يدخل في الوجه الثاني، من الوجهين لحلّ الإشكالين لأنّ التوضّؤ أعني: امتثال الواجب في المستقبل لا ينفك عن كون الحركة، حركة إلهية بداعي التقرّب إليه سبحانه بعمله، فإذا ضمّ هذا إلى وجود القابلية في العمل، تحصل المقدّمة العبادية، و مع حصولها يجوز الدخول في الصلاة بعد دخول الوقت.

الرابع: إذا توضّأ بعد دخول الوقت بقصد أمره النفسي الاستحبابي، فهل يصح وضوؤه و يجوز له الدخول في الصلاة أو لا؟ نقول:

إنّ للفرع صورتين:

أ: لو توضّأ بقصد امتثال أمره النفسي، مع القول بعدم وجوبه غيريّاً لأجل إنكار وجوب الغيري مطلقاً في عامّة المقدّمات كما سيوافيك برهانه فيصحّ

ص:533


1- - نهاية الأُصول: 176.

الوضوء و يدخل معه الصلاة، إذ لا وجه لسقوط الأمر الاستحبابي الثابت له قبل الوقت.

ب: تلك الصورة مع القول بالوجوب الغيري، كسائر المقدّمات فالصحة و عدمها مبنيّان على جواز اجتماع الأمر الاستحبابي مع الوجوب الغيري و عدم جوازه و بالتالي سقوط الأمر الاستحبابي.

و ربّما يقال بجواز الاجتماع لأنّ الأمر النفسي تعلّق بذات الوضوء و الأمر الغيري به بعنوان كونه مقدمة، فاختلف المتعلّقان.

يلاحظ عليه: بما مرّ من أنّ عنوان المقدّمة، عنوان تعليلي لا تقييدي، و في مثله يكون المتعلّق واقعاً هو ذات الوضوء، و تكون المقدّمية علّة لعروض الحكم لا موضوعاً له فيتّحد متعلق الأمر الاستحبابي و الوجوب الغيري.

الخامس: إذا توضّأ بعد دخول الوقت بنيّة الأمر الغيري صحّ وضوؤه و يصحّ معه الدخول فيها، لما عرفت من أنّ الإتيان بالشيء بنيّة امتثال أمره يضفي على العمل عنوان العبادة إذا كان الشيء في حدّ ذاته صالحاً للعبادة، من غير فرق بين الأمر النفسي و الغيري، إذ الميزان كون الحركة للّه سبحانه، أو بداعي امتثال أمره، و كون الشيء في ذاته محبوبا أو لا، لا مدخلية في تحقق التقرّب إذا أتى الشيء بامتثال أمره إذا كان المأتي به صالحاً للعبادة. و بما ذكرنا يعلم حال ما ذكره السيد الطباطبائي في الوضوءات المستحبة، المسألة 6 من العروة الوثقى فلاحظ.

ص:534

التقسيم الرابع من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي و التبعي
اشارة

لما كان الأمر الرابع(1) معقوداً لبيان أقسام الواجب كان اللازم على المحقّق الخراساني بيان هذا التقسيم في هذا الأمر و لكنه أخّره إلى مقام آخر و تبعه السيّد الأُستاذ) قدس سره (، في درسه الشريف.

و قد اختلفت كلمة الأُصوليّين في ملاك هذا التقسيم، فهل هو بلحاظ الثبوت أو بلحاظ الإثبات؟ و الأوّل هو خيرة المحقّق الخراساني، و الثاني مختار المحقّق القمّي.

نظرية المحقّق الخراساني

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ ملاك التقسيم هو مقام الثبوت، و انّ الشيء تارة يكون متعلّقاً للإرادة مستقلاً لأجل الالتفات إليه تفصيلاً، و أُخرى يكون متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته، و ذلك لعدم الالتفات إليه تفصيلاً.

و على هذا فلا شكّ في أنّ الواجب الغيري يُوصف بالأصلي و التبعي، حيث إنّ المولى تارة يلتفت تفصيلاً إلى المقدّمة فيريدها كذلك، فتكون غيرياً أصلياً،

ص:535


1- - كان الأمر الثالث لبيان أقسام المقدّمة، و الرابع لتقسيم الواجب.

و أُخرى لا يلتفت إليها تفصيلاً فتتعلّق إرادته بها تبعاً لإرادة غيره فيكون غيرياً تبعياً.

و أمّا الواجب النفسي فلا يوصف إلاّ بالأصالة لا بالغيرية، ضرورة أنّ ما فيه مصلحة في نفسه تتعلق به الإرادة مستقلاً كان هنا شيء آخر أو لم يكن، فلا تكون إرادته تبعية لغيره.

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان الملاك كون الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال و عدمه يجب أن يلتزم بأحد الأمرين.

أمّا انّ النفسي كالغيري يوصف بالأصالة و التبعية أيضاً.

و أمّا أنّ الغيري لا يوصف إلاّ بالتبعية مطلقاً.

لأنّه إن أراد من الاستقلال الذي هو ملاك الأصالة، الالتفاتَ التفصيلي في مقابل الالتفات الإجمالي، ففيه انّ النفسي أيضاً تارة يكون تبعياً بهذا المعنى، كما إذا كان ولد المولى مشرفاً على الغرق و التفت إليه العبد دون المولى، فانقاذ ولده واجب تبعي لا أصلي، لعدم الالتفات إليه على وجه التفصيل حتّى تتعلّق به إرادته التفصيلية، بل تعلّقت إرادته الإجمالية في ضميره بحفظ ما يتعلّق به من النفس و النفيس و الأعراض و الأموال، فيكون إنقاذ الولد واجباً نفسياً تبعياً لعدم الالتفات إليه تفصيلاً.

و إن أراد من الاستقلال عدم تبعيّة إرادة الشيء لإرادة أُخرى في مقابل ما تكون إرادته تابعة لأُخرى ففيه انّ الواجب الغيري يكون تبعياً في جميع الأحوال لأنّ ماهيته هو التبعية لكونه مطلوباً لأجل ذيه.

و ثمة إشكال آخر و هو أنّ عامّة التقسيمات الماضية كانت بملاك الإثبات و الدلالة، فلما ذا خرج هذا التقسيم عن تحت هذه الضابطة و صار الملاك فيه إرادة الشيء مستقلاً أو غير مستقل دون مقام الدلالة؟

ص:536

نظرية المحقّق القمي

ذهب المحقّق القمي إلى أنّ ملاك التقسيم هو مقام الإثبات و الدلالة، و بيانه أنّه إذا كان الوجوب مفاد خطاب مستقل، و مدلولاً بالدلالة المطابقية، فالواجب أصلي، سواء أ كان نفسياً أم غيرياً. و إن فهم بتبع خطاب آخر، و مدلولاً بالدلالة الالتزامية، فالواجب تبعي، سواء أ كان نفسياً أم غيرياً، و على هذا ينقسم النفسي إلى الأصلي و التبعي أيضاً كالغيري، و ذلك لأنّ كون الشيء ذا مصلحة نفسية لا يستلزم أن يكون مدلولاً لخطاب مستقل و مستفاداً من الدلالة المطابقية، بل ربّما تقتضي المصلحة تفهيمه بالدلالة الالتزامية و بتبع خطاب آخر.(1)

نعم على هذا لا يكون التقسيم حاصراً، لأنّ من أقسام الواجب ما لا يكون مدلولاً لخطاب أصلاً لا أصالة و لا تبعاً، كما إذا كان مدلولاً لدليل لبّي من الإجماع و العقل.

و يمكن أن يقال انّ هذا التقسيم ليس لمطلق الواجب، بل الواجب الذي عليه دليل لفظي، فالواجب المستفاد من الإجماع و العقل خارج عن المقسم.

إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي

إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي، فهل يمكن إحراز أحد الأمرين بالأصل أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل و أنّ نتيجة الأصل كون المشكوك واجباً تبعياً، لأنّ الأصل عدم تعلّق إرادة مستقلّة به، و يترتّب عليه آثار التبعية لو كان له

ص:537


1- - قوانين الأُصول: 1/102.

أثر شرعي كسائر الموضوعات المتقوّمة بأُمور عدمية كالماء القليل إذا قلنا إنّه عبارة عن الماء الذي لم يكن كرّاً.

نعم لو كان الواجب التبعي أمراً وجودياً خاصّاً غير متقوّم بعدمي و إن كان يلزمه لما يثبت بالاستصحاب لأنّ الأصل مثبت.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأصل مثبت مطلقاً حتّى و إن قلنا إنّ الواجب التبعي أمر عدمي، و ذلك لاختلاف القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة، فالمتيقّنة سالبة محصلة، و المشكوكة موجبة معدولة.

أمّا القضية المتيقّنة فبيانها أن يقال: لم يكن قبل تشريع الشرائع هناك أيّة إرادة متعلّقة بهذا الشيء، و لأجل ذلك يصدق انّه لم تتعلّق به إرادة مستقلة بهذا الشيء و لو لأجل عدم وجود الإرادة أصلاً، و هذا ما عبّرنا عنه بالسالبة المحصّلة الصادقة) عدم الاستقلال (بعدم الموضوع) عدم الإرادة (.

و أمّا المشكوك فهو يغاير المتيقّن، بل هو عبارة عن قضية، تحقَّقَ موضوعها و تعلّقت الإرادة بالشيء، إنّما الكلام في وصفها، فهل هو استقلالي أو تبعي؟ فاستصحاب القضية الأُولى التي كانت صادقة مع عدم الموضوع و إثبات وصف القضية المشكوكة) عدم الاستقلال (لموضوع محقّق من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

و بعبارة أُخرى: القضية المتيقّنة عبارة عن الواجب الذي لم تتعلّق به إرادة مستقلة، و القضية المشكوكة عبارة عن الواجب بإرادة غير مستقلة، و صدق الأوّل لا يتوقّف على وجود الموضوع، بخلاف الثاني فهو فرع وجود الموضوع.

ص:538


1- - كفاية الأُصول: 1/195.
الأمر الخامس وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً

إذا قلنا بوجوب المقدّمة، يتّبع وجوبُها وجوبَ ذيها في الإطلاق و الاشتراط; فإذا كان وجوب ذيها مشروطاً بشيء، كالوقت في الصلاة، و الاستطاعة في الحجّ، يكون وجوبها مشروطاً بها; و لو كان وجوب ذيها مطلقاً بالنسبة إلى شيء كوجوب الظهر بالنسبة إلى إتيانها بالجماعة، يكون وجوب المقدّمة كالطهارة بالنسبة إليه كذلك.

و يمكن الاستدلال على التبعية بوجهين:

الأوّل: انّ إرادة المقدّمة ناشئة من إرادة ذيها فلا محالة يكون وجوبُها في الإطلاق و الاشتراط تابعاً لكيفية وجوب ذيها.

يلاحظ عليه بما مرّ في البحوث السابقة: أنّ نشوء إرادة من إرادة أُخرى ممّا لا حقيقة له، لأنّ إرادة ذيها ليست علّة فاعليّة لإرادة المقدّمة، بل هي غاية لإرادتها، و لكلّ من الإرادتين، مبادئ و مقدّمات إذا حصلت، ظهرت الإرادة في لوح النفس، و على ذلك ففاعل الإرادة و موجدها في الذهن هو النفس، فإذا بطل نشوء إرادة عن أُخرى بطل ما رتب عليه من حديث التبعيّة.

ص:539

الثاني: انّ إرادة المقدّمة و إن لم تكن ناشئة من إرادة ذيها، لكن الثانية غاية لإرادة المقدّمة، فلا معنى لأن يكون ذو الغاية) وجوب المقدّمة (أوسع من الغاية، و قد ثبت في محلّه انّ الأفعال الاختيارية تتضيق ضيقاً ذاتياً حسب غاياتها، فلا يطلب العاقل شيئاً أوسع من الغاية التي يطلبه لأجلها.

و هذا القول غير القول بأنّ وجوب المقدّمة مشروط بوجوب ذيها، إذ هو أمر باطل، بل متضيق بالذات.

ص:540

الأمر السادس ما هو الواجب من المقدّمة؟
اشارة

لو قلنا بوجوب المقدّمة، فقد اختلفت كلمتهم في ما هو الواجب منها إلى أقوال ستة:

1. وجوب مطلق المقدّمة.

2. وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها.

3. وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها.

4. وجوب المقدّمة التي يتوصل بها إلى ذيها.

5. وجوب المقدّمة الموصلة إلى ذيها في نفس الأمر.

6. وجوب المقدّمة في حال الإيصال.

و إليك دراسة الأقوال واحداً بعد الآخر.

القول الأوّل: وجوب مطلق المقدّمة

إنّ دليل إيجاب المقدّمة لملاك رفع الاستحالة و هو موجود في عامّة المقدّمات من دون تقييد بشيء من القيود من الأقوال الخمسة.

و هذا القول هو المشهور، على القول بوجوب المقدّمة، و يُعلم حاله بدراسة سائر الأقوال.

ص:541

القول الثاني: وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها

يظهر هذا القول من صاحب المعالم في مبحث الضد حيث قال: و أيضاً حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها.(1)

و إنّما صار إلى هذا القول لأجل تصحيح العبادة إذا ابتلى بالأهم كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، إذا ترك الثانية و أقام الأُولى.

توضيحه: أنّه استدلّ القائل ببطلان الصلاة بأنّ ترك الضد الصلاة مقدّمة لفعل الأهم) الإزالة (، فإذا كان الترك واجباً، كان الفعل محرّماً، و حرمة العبادة تلازم بطلانها.

هذا دليل القائل بالبطلان، و لكن صاحب المعالم قبل المقدّمتين، و هما:

1. انّ ترك الضد مقدّمة لفعل الضد.

2. إذا كان الترك واجباً، يكون الفعل حراماً.

و لكن منع أن يكون ترك الضد واجباً مقدّمة مطلقاً، بل إنّما يكون واجباً حين أراد أن يأتي بالأهم، و أمّا إذا كان هناك صارف بالنسبة إليه كما في المقام حيث إنّ المفروض انّ المكلّف ترك الإزالة و توجّه إلى الصلاة فلا يكون مثل هذا الترك واجباً في هذه الحالة، و بالتالي لا يكون فعله حراماً، و عندئذ تصح الصلاة لعدم حرمتها.

يلاحظ عليه: أنّ تضييق وجوب المقدّمة بما إذا أراد ذيها، يستلزم أن يكون

ص:542


1- - معالم الأُصول: 74.

إيجابها حينئذ أمراً لغواً، لأنّ الغاية من إيجاب المقدّمة إيجاد الداعي بالنسبة إلى إتيانها، فلو أراد إتيان ذيها، عن جدّ فهو لا محالة يأتي بالمقدّمة، فلا وجه لإيجاب المقدّمة.

القول الثالث: وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها

و قد نسب هذا القول إلى صاحب المعالم و لم يعلم مصدره، و الفرق بين هذا و القول الثاني هو الفرق بين الحينية و المشروطة.

فلو قلت: كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب، فالقضية حينيّة.

و لو قلت: كلّ كاتب متحرك الأصابع ما دام كاتباً، فالقضيّة مشروطة.

و القضيتان تشتركان في أنّ تحرك الأصابع لا يعدو عن حالة الكتابة إلاّ قولنا:» حين هو كاتب «في القضية الأُولى و إن لم يكن قيداً لكن القضية لا تصدق إلاّ في هذه الصورة، فلها ضيق ذاتي بالنسبة إلى غير هذه الصورة، بخلاف إذا قلنا:» ما دام كاتباً «فهو قيد و شرط له و إيجاد ضيق في مقام الدلالة و الإثبات.

و على كلّ تقدير فالقول المزبور باطل، و ذلك:

يلاحظ عليه أوّلاً: انّه لا ينطبق على عبارة المعالم بل عبارته تنطبق على القول الثاني السابق.

و ثانياً: إنّ إرادة ذي المقدّمة إمّا شرط لوجوب المقدّمة، أو شرط لوجوب المقدّمة و وجوب ذيها.

أمّا الأوّل: فيرد عليه إشكالان:

1. انّ القول باشتراط المقدّمة بإرادة ذيها فقط يخالف ما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً، فكيف يكون وجوب المقدّمة مشروطاً

ص:543

بإرادة ذيها دون وجوب ذي المقدّمة.

2. يلزم التفكيك بين وجوب ذيها و وجوب المقدّمة عند عدم إرادة ذيها، حيث تلزم فعلية وجوب ذي المقدّمة في ظرف عدم وجوب المقدّمة لأجل عدم وجود شرط وجوبها و هو إرادة ذيها.

أمّا الثاني: فيرد عليه أيضاً إشكالان:

1. لو كان وجوب ذيها مشروطاً بإرادة ذي المقدّمة يلزم أن يكون إيجابه لغواً، لأنّ الإيجاب لأجل جعل الداعي إلى العمل في نفس المكلّف، فإذا كان الداعي موجوداً في نفس المكلّف حيث إنّ المفروض إرادته لفعل ذي المقدّمة، يلزم أن يكون إيجاب ذيها لغواً.

2. يلزم أن يكون وجوب الشيء تابعاً لإرادة المكلّف و هو كما ترى.

القول الرابع: وجوب المقدّمة بشرط التوصّل إلى ذيها
اشارة

قد نسب هذا القول إلى الشيخ الأعظم قدَّس سرّه، و لكن عبارة مقرّره مضطربة للغاية و محتملة لوجوه مختلفة نذكر منها ما يلي:

الأوّل: قصد التوصّل قيد لحصول الامتثال

قد استظهر السيد الأُستاذ) قدس سره (من أنّ مراد الشيخ هو أنّ قصد التوصل شرط لحصول الامتثال و تحقّقه، و ليس قيداً لوجوب المقدّمة و لا قيداً لذات المقدّمة، و على ذلك فقول الشيخ هو قول المشهور في مقدار ما هو الواجب في المقدّمة، غير أنّه أضاف بأنّ قصد الامتثال للأمر الغيري رهن قصد التوصّل و هو ليس بأمر بديع.

ص:544

و يدلّ على ذلك التفسير قول المقرر: الحق عدم تحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصداً للإتيان بذلك، إذ لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا أُريد الامتثال.(1)

و من الواضح انّ قصد التوصّل يتحقّق بأحد أمرين:

أ. الإتيان بالمقدّمة كالوضوء لقصد إيقاع الصلاة.

ب: أن يأتي بالوضوء بقصد أمرها الغيري.

و هذا التفسير ينطبق مع بعض كلمات المقرّر كما تقدّم.

الثاني: قصد التوصّل شرط لرفع الحرمة عند التزاحم

و هذا القول نقله المحقّق النائيني) قدس سره (عن أُستاذه المحقّق الفشاركي) قدس سره (و هو أنّ قصد التوصّل شرط لرفع حرمة المقدّمة عند التزاحم مع واجب أهم، مثلاً: إذا توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض مغصوبة فلا توصف المقدّمة بالوجوب إلاّ إذا قصد باجتيازه انقاذَ الغريق و إلاّ فلو اجتاز لا لهذا القصد بل للتنزّه و التفرّج فلا يوصف الاجتياز بالوجوب بل يبقى على حرمته.(2)

و يؤيد ذلك قول الشيخ في بيان وجه الثمرة لمختاره:

تظهر الثمرة في جهة بقاء الفعل المقدّمي كالدخول في الأرض المغصوبة على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على قصد الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق، و إن لم يقصد إنقاذه، بخلاف ما لو اعتبرناه، فهو حرام ما لم يكن قاصد لإنقاذه.(3)

ص:545


1- - مطارح الأنظار: 7672.
2- - فوائد الأُصول: 1/289.
3- - مطارح الأنظار: 74.

يلاحظ عليه: أوّلاً: انّ كلام الشيخ أعمّ من صورة التزاحم، بشهادة أنّه أفتى فيما إذا كان على المكلّف فريضة فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها و لا لغاية من غايات المقدّمة انّه لا يجوز له الدخول به في الصلاة الحاضرة، و لا الفائتة، فلو كان منحصراً بصورة المزاحمة لما كان وجه لعدم صحّة الوضوء مع عدم قصد التوصّل.(1)

و ثانياً: انّه إذا كان الملاك لوجوب المقدّمة هو رفع الاستحالة و تمكين المكلّف من امتثال الأهم فلا يفرق بين كونه قاصداً للتوصّل أو غير قاصد، إذ الملاك لارتفاع الحرمة و انقلابها إلى الوجوب إنّما هو رفع الاستحالة، و هو محفوظ و موجود في كلتا الصورتين.

الثالث: قصد التوصّل جزء الموضوع

إنّ القول بأنّ الواجب هو خصوص ما أتى به بقصد التوصّل هو المعروف عن الشيخ الأعظم، و انّه ذهب إلى أنّ موضوع الوجوب مركّب من ذات المقدّمة و قصد التوصّل.

و يدلّ عليها بعض تعبيرات المقرّر حيث قال:

و هل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان لأجل التوصّل إلى الغير أو لا؟ وجهان، أقواهما الأول، و تظهر الثمرة فيما إذا كان على المكلّف فائتة فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها و لا لإحدى غاياتها، فعلى المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة و لا الفائتة; و أيضاً تظهر من جهة بقاء الفعل

ص:546


1- - مطارح الأنظار: 74.

المقدّمي على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم إنشاء قصد التوصّل في وقوع المقدمي على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت مقدمة لإنقاذ غريق و إن لم يترتّب عليه، بخلاف ما لو اعتبرناه، فهو حرام ما لم يكن قاصداً لإنقاذه.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ ملاك الوجوب هو التوقّف و انّه به ترتفع الاستحالة، و على ذلك فلا فرق بين أن يقصد التوصّل أو لا يقصده، و لا معنى لأخذ ما لا مدخلية له في موضوع الوجوب.

تأييد لمقالة الشيخ

ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني نصر الشيخ الأعظم بالبيان التالي: و هو مبني على مقدّمتين:

أ. انّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية راجعة إلى الحيثيات التقييدية، فإذا كانت مطلوبية المقدّمة لا لذاتها بل لحيثية مقدّميتها و التوصّل بها، فالمطلوب الجدّي، و الموضوع الحقيقي للحكم العقلي هو نفس التوصّل.

ب. انّ الشيء لا يقع على صفة الوجوب و مصداقاً للواجب بما هو واجب، إلاّ إذا أُتي به عن قصد و عمد حتّى في التوصّليات، لأنّ البعث توصّلياً كان أم تعبّدياً لا يتعلّق إلاّ بالفعل الاختياري، فالغسل الصادر بلا اختيار، و إن كان مطابقاً لذات الواجب و محصّلاً لغرضه، و لكنّه لا يقع على صفة الوجوب و مصداقاً للواجب بما هو واجب.

ثمّ استنتج من هاتين المقدّمتين انّ اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب مطلقاً، و ذلك من جهة انّ المطلوب الحقيقي بحكم العقل،

ص:547


1- - مطارح الأنظار: 74.

هو التوصّل حسب المقدّمة الأُولى، و من جهة انّه ما لم يقع الواجب على وجهه المتعلّق به الوجوب و هو كونه عن قصد و عمد، لا يقع مصداقاً للواجب حسب المقدّمة الثانية.(1)

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره في المقدّمة الأُولى أمر صحيح لا غبار عليه، إنّما الكلام في المقدّمة الثانية فقد أفاد فيها انّ الواجب هو نفس التوصّل الصادر من المكلّف باختياره، فنقول: إنّ الواجب في مقام التشريع و إن كان هو عنوان التوصّل لكن الامتثال يتحقّق بمصداقه و هو نفس الدخول إلى الأرض المغصوبة أو نفس الوضوء و الغسل، و يكفي في امتثال الأمر المقدّمي قصد نفس الدخول بما هو هو أو الوضوء كذلك، حتّى يكون فعلاً اختياريّاً، و أمّا القصد الزائد على هذا، أعني: قصد الدخول لغاية التوصّل إلى إنقاذ الغريق أو إيقاع الصلاة فلم يدلّ عليه دليل.

و إن شئت قلت: إنّ المكلّف في مقام الامتثال يجب أن يقصد مصداق ما يتوصّل به حتّى يكون الفعل اختيارياً، لما عرفت من أنّ المطلوب هو الفعل الصادر عن المكلّف باختيار. فعلى ضوء هذا فالواجب عليه هو الدخول و الورود عن اختيار، فلو دخل الأرض المغصوبة نائماً أو توضّأ غير قاصد للوضوء فلا يسقط الأمر المقدّمي.

و أمّا لزوم كون الدخول الاختياري لغاية الإنقاذ أو لغاية الصلاة فلا دليل عليه، فالذي يستنتج من المقدّمتين هو الإتيان بالمقدّمة عن قصد لا إتيانها منضماً إلى قصد ثان و هو التوصّل إلى الواجب.

ص:548


1- - لاحظ نهاية الدراية: 2051/204.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي اعترض على بيان المحقّق المحشّي و حاصل. اعتراضه يتلخّص في وجهين:

الوجه الأوّل: إنّا لا نسلم انّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية جهات تقييدية، لوضوح أنّ العقل يرى لحكمه موضوعاً و علّة.

الوجه الثاني: لو صحّ ما ذكره، فإنّما هو في الأحكام العقلية المحضة لا الشرعية المستكشفة كما في المقام، فانّ الوجوب فيه بحكم الشارع و لا دخل للعقل فيه إلاّ بنحو الكاشفية.(1)

و إلى الوجه الثاني يشير المحقّق الخوئي في تعليقته على تقريرات أُستاذه حيث قال: مغالطة نشأت من خلط الحكم الشرعي المستكشف من حكم عقلي، بالحكم العقلي الثابت لجهة تعليلية، و من الواضح انّ كون الجهات التعليلية في الأحكام العقلية، جهات تقييدية، أجنبي عن كون الجهات في الأحكام الشرعية جهات تقييدية و لو كانت مستكشفة من طريق العقلي.(2)

و الظاهر ضعف الإشكالين:

أمّا الأوّل: فانّه نابع من خلط مقام الثبوت بالإثبات، فما ذكره من أنّ للعقل حكماً و موضوعاً و علّة، صحيح في مقام الإثبات، فيقال: الكذب قبيح لأنّه مضر للمجتمع، و أمّا في مقام الثبوت فليس هناك إلاّ شيئان:

الحكم و الموضوع، و الموضوع عند العقل في مقام الثبوت هو الإضرار، و الكذب محكوم بالقبح لا بالذات بل لكونه من مصاديق الإضرار.

ص:549


1- - بدائع الأفكار: 1/387.
2- - أجود التقريرات: 1/233.

و نظيره قولنا: الظلم قبيح لكونه مفسداً للمجتمع، ففي مقام الإثبات أُمور ثلاثة، و أمّا مقام الثبوت فليس هناك إلاّ موضوع، و هو المفسد، و حكم، و هو القبح، و أمّا الظلم فليس موضوعاً للقبح بالذات، بل لأجل كونه داخلاً تحت عنوان المفسد.

و أمّا الثاني: فلا فرق بين الحكم العقلي و الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي، إذ لا معنى لأن يكون المعلول) الحكم المستكشف (أوسع من علّته أي الحكم العقلي.

نعم يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي في الواقع أوسع من ملاك الحكم العقلي، إذ ليس للعقل الإحاطة بعامّة الملاكات، بخلاف الشرع فانّه محيط بعامّة الملاكات، و لكنّه لا يوجب أن يكون الحكم الشرعي المستكشف في مقام الإثبات، أوسع من الحكم العقلي الذي هو بمنزلة العلّة له.

القول الخامس: وجوب المقدّمة الموصلة
اشارة

قد اختار صاحب الفصول أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بقيد الإيصال، و تحليل هذا القول يتوقّف على الكلام في مقامات ثلاثة:

1. أدلّته.

2. إشكالاته.

3. ثمراته.

و قد خالف المحقّق الخراساني النظامَ الطبيعي للبحث فقدّم الإشكالات على الأدلة، و ما صنعناه أحسن.

و إليك الكلام في كلّ منها:

ص:550

المقام الأوّل أدلّة القول بوجوب الموصلة

قد استدلّ صاحب الفصول على وجوب المقدّمة الموصلة بوجوه ثلاثة ندرسها واحداً بعد الآخر.

الدليل الأوّل: انّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل، و لا يرى العقل إلاّ الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب ما يقع في طريق حصول الشيء و سلسلة وجوده، و فيما سوى ذلك لا يدرك العقل أية ملازمة بينهما.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتّب عليها الواجب فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه) كالأرض المغصوبة (لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها و عدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.(2)

و أجاب عن إشكال المحقّق الخراساني، تلميذُه الجليل المحقّق الاصفهاني بقوله: ليس التمكّن من ذي المقدّمة ملاكاً لوجوبها، فانّ التمكّن من ذيها حاصل بصرف التمكّن من المقدّمة و إن لم يأت بها. نعم تتوقّف فعلية ذيها على فعلية مقدّمته، و يتوقّف تحقّقه على تحقّقها، بل الملاك هو إيصالها إلى الواجب حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علل

ص:551


1- - الفصول الغروية: 87، ط تبريز.
2- - كفاية الأُصول: 1/188.

وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها.(1)

إنّ هذه الكلمات تدور حول محور واحد، و هو أنّ الملاك لوجوب المقدّمة هل هو التوقّف أو التوصّل؟ و كل يدّعي واحداً منهما من دون أن يقيم برهاناً عقلياً قاطعاً للنزاع.

و الذي يمكن أن يحسم به النزاع هو تشخيص الغاية الذاتية عن العرضية في المقام بما قرر في الفلسفة و هو:

إنّ الإجابة بالغاية الذاتية تقطع السؤال، بخلاف الإجابة بالغاية العرضيّة فانّها لا تقطع، بل للسائل أن يسأل عن وجه تحصيل الغاية العرضيّة أيضاً، و قبل أن نميّز الغاية العرضية عن الذاتية في المقام نطرح مثالاً لينجلي فيه الموضوع.

إنّ طالب العلم يتحمّل مشقّة و عناءً في سبيل التعلم، فلو طرحنا عليه السؤال التالي:

1. لما ذا تدرس و تتحمل كلّ هذا العناء؟ لأجاب: أدرس بغية النجاح في الامتحان.

2. و لما ذا تريد النجاح في الامتحان؟ لأجاب: لنيل الشهادة.

3. لما ذا تريد نيل الشهادة العلميّة؟ لأجاب: للارتزاق بها في حياتي.

فعندئذ تنتهي الأسئلة المتواردة، فلو سألته بقولك لما ذا تريد الارتزاق؟ يكون السؤال غلطاً، لأنّ الارتزاق من ضروريات الحياة، و هي غاية ذاتية لا تنفك عنها.

ص:552


1- - نهاية الدراية: 205.

و مثله المقام: فلو سأل سائل الآمر بقوله:

1. لما ذا أوجبت المقدّمة؟ لأجاب: لتوقّف المراد عليها سواء أ كانت موصلة أم لا.

2. إذا كانت المقدّمة غير مطلوبة بالذات فلما ذا تطلبها في صورة عدم كونها موصلة؟ و هذا دليل على أنّ التوقّف غاية عرضية و ليست ذاتية.

و هذا بخلاف ما أجاب عن السؤال الأوّل بقوله:

أوجبتها لتوصل بها إلى المقصود الذاتي.

فعندئذ ينقطع السؤال و يقتنع السائل.

و بذلك يُعلم أنّ أكثر إشكالات المحقّق الخراساني التي ساقها على صاحب الفصول و ستمرّ عليك، غير صحيحة، لأنّ أساسها أنّ الغاية من الإيجاب هي التوقّف، مع أنّك عرفت أنّ الغاية حسب التحليل هي التوصّل .

الدليل الثاني: انّ العقل لا يمنع من أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحجَ، و يريد منه السير الذي يتوصّل به إلى ذلك الفعل الواجب دون ما لا يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك، كما أنّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقاً أو على تقدير التوصّل بها إليه. و ذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه و وجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

و لما كان الملاك عند المحقّق الخراساني هو رفع الإحالة و إيجاد التمكّن أنكر هذا الدليل، قائلاً: بأنّه ليس على الحكيم ذلك، لأنّ دعوى قضاء الضرورة بذلك مجازفة، و كيف يكون ذلك بعد كون المناط موجوداً في مطلق المقدّمة الموصلة

ص:553

و غيرها.(1)

و قد عرفت أنّ الملاك هو كونها واقعة في سلسلة الغرض الأسمى و كونها موصلة لما هو المطلوب الأقصى، و على ذلك فالتصريح المذكور بمكان من الصحّة.

الدليل الثالث: صريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئاً بمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه. و يلزم منه أن يكون وقوعه على وجهه المطلوب منوطاً بحصوله.

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

أوّلهما: انّ مطلوبية المقدّمة انّما هي لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها، لا لأجل التوصّل بها، لأنّ التوصّل ليس من آثارها بل ممّا يترتب عليها أحياناً بالاختيار و لو لا إرادة ذيها لما تكون موصلة.

يلاحظ عليه: من أنّ الملاك كما عرفت التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها خارجاً، و قد أثبتنا عدم انقطاع السؤال لو كان الملاك مطلق التمكّن، سواء أ كانت موصلة أو لا، و أمّا عدم ترتّبه على المقدّمة من دون ضم إرادة ذيها فسيوافيك الجواب عنه عند ذكر الإشكالات.

ثانيهما: انّ الغاية) الصلاة (لا تكون قيداً لذي الغاية) الوضوء (بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية) الوضوء (على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و إلاّ يلزم أن تكون الغاية) الصلاة (مطلوبة بطلب غيري كسائر قيود الواجب الغيري.

ص:554


1- - كفاية الأُصول: 1/188.

يلاحظ عليه: بما سنشير إليه في المبحث الثاني) إشكالات المقدّمة الموصلة (من أنّه لا يلزم من إيجاب المقدّمة الموصلة، كون الغاية من قيود ذي الغاية على نحو تكون الغاية واجبة بوجوب ذيها الغيري، لأنّ مدخلية الغاية في المقدّمة على نحو دخول التقيّد و خروج القيد فانتظر.

إلى هنا تمّت دراسة الأدلّة الثلاثة التي أقامها صاحب الفصول على مختاره، كما تمّت مناقشة المحقّق الخراساني لها، و وقفت على مدى صحتها، و هناك دليل آخر على وجوب المقدّمة الموصلة ينسب إلى معاصر المحقّق الخراساني أعني: السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف العروة الوثقى و استدلّ هو بالنحو التالي:

الدليل الرابع: يصحّ للمولى تجويز الموصلة و تحريم غيرها و لا يجوز له تحريم مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة، و ذلك دليل على عدم وجود الملاك في غير الموصلة و إلاّ لما صحّ تحريمها.

و هذا الدليل قريب من الدليل الثاني الماضي لصاحب الفصول حيث قال: إنّ العقل لا يمنع أن يقول الآمر الحكيم بأنّه يريد من المأمور الحج و يريد منه السير الموصل دون ما لا يوصل كما عرفت. و على كلّ تقدير فتجويز الموصلة و تحريم غيرها آية وجود الملاك في الأُولى و عدمها في الثانية.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد عليه بوجهين:

1. انّ الواجب في هذه الصورة و إن كان مختصّاً بالموصلة لكن خروج غير الموصلة ليس لأجل اختصاص الوجوب بالموصلة في باب المقدّمة بل لأجل المنع من غيرها المانع من الاتّصاف بالوجوب بها هنا.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كانت المقدّمة محرمة بالذات كما في

ص:555

اجتياز الأرض المغصوبة فلا تكون الحرمة فيه دليلاً على عدم الملاك، و أمّا إذا كانت حلالاً بالذات و صارت ممنوعة بعنوان غير الموصلة كنصب السلّم لغاية الرياضة، فانّ صحّة النهي آية عدم ملاك الوجوب الغيري فيه، و إلاّ لما صحّ النهي بعد اشتراك الموصلة و غيرها في الملاك، بل يكون النهي لغواً على خلاف الحكمة.

2. انّ تجويز الموصلة و تحريم غيرها يستلزم أحد المحذورين:

أ. إمّا تحصيل الحاصل.

ب. أو تفويت الواجب.

و ذلك لأنّ الإيصال إمّا أن يكون موجوداً بالفعل أو لا.

فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل، لأنّ كون المقدّمة موصلة بالفعل يلازم وجود ذيها، و معه يكون الطلب أشبه بتحصيل الحاصل.

و على الثاني أي ما إذا كان الإيصال بالقوّة لا بالفعل يكون الشروع في المقدّمة لفقدان وصفها أمراً حراماً، و الحرمة تُعجِزُ المكلّف عن امتثال الواجب عجزاً تشريعياً، و يترتّب عليه المحذور الثاني و هو تفويت الواجب.

و إلى المحذور الثاني يشير المحقّق الخراساني بقوله: إنّه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة و عصياناً لعدم التمكّن شرعاً منه لاختصاص جواز المقدّمة بصورة الإتيان به.

و إلى المحذور الأوّل يشير بقوله:» و بالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصّاً بصورة الإتيان، لاختصاص جواز المقدّمة بها، و هو محال فانّه يكون من طلب الحاصل المحال «.

ص:556

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يرد أحد المحذورين إذا أُريد من الإيصال، هو فعليته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، فعلى فرض وجوده يلزم طلب الحاصل، و على فرض عدمه يلزم تفويت الواجب.

و أمّا إذا كان شرطاً متأخّراً لجواز المقدّمة فيكفي في جوازها علم الفاعل بالترتّب في المستقبل فتكون المقدّمة جائزة، و لا يلزم لا تفويت الواجب و لا تحصيل الحاصل.(1)

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من الإيصال ليست فعلية ترتّب ذيها عليها حتّى يلزم أحد المحذورين) حيث عند الترتّب يلزم تحصيل الحاصل، و عند عدمه يلزم حرمة المقدّمة (بل المراد بالإيصال هو كون المقدّمة واقعة في صراط الإتيان بذيها حسب تشخيص المكلّف و إرادته، و يكفي في تحقّق الشرط بهذا المعنى كون المقدّمة في صراط ذيها في نيّة المكلّف.

و إن شئت قلت: ليس الإيصال قيداً لجواز المقدّمة، بل من قيود الواجب) المقدّمة (التي يجب على المكلّف تحصيلها، و ذلك بالسعي حتّى تنتهي المقدّمة إلى ذيها.

و عندئذ لا يلزم أحد المحذورين، أمّا تحصيل الحاصل فلأنّ المفروض عدم تحقّق وصف الإيصال، و أمّا تفويت الواجب فلأنّ المفروض جواز المقدّمة التي وقعت في صراط ذيها حسب نية المكلّف.

و بعبارة أُخرى: الإيصال كسائر قيود الواجب قيد اختياري يجب على المكلّف تحصيله حتّى لا يؤاخذ بترك الواجب.

ص:557


1- - نهاية الدراية: 1/207، بتوضيح منّا.

و نظير ذلك جواز تصرّف الولي في مال اليتيم بشرط أن يكون مقروناً بالغبطة، فانّ النتيجة و هي كون المعاملة لصالح اليتيم شرط يجب على الولي تحصيلها، و ليس هذا الشرط موجوداً في أوّل الأمر.

إلى هنا تمّت أدلّة المقدّمة الموصلة، و حان البحث في المقام الثاني، أعني: إشكالات القول بالمقدّمة الموصلة.

ص:558

المقام الثاني إشكالات القول بوجوب المقدّمة الموصلة

قد فرغنا من الكلام في أدلّة القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، و بقي الكلام في البحث عن الشبهات التي وُجهت إلى تلك النظرية من قبل المتأخّرين عن صاحب النظرية، و إليك بيانها:

1. انقلاب الواجب النفسي إلى الغيري

إنّ تقييد المقدّمة بالإيصال يوجب أخذ ذي الغاية جزءاً للمقدمة، و هو يستلزم أن يكون الشيء الواحد واجباً نفسياً، و واجباً غيريّاً حيث جعل ذي المقدّمة جزءاً من المقدّمة، و مجموع المقدّمة واجب بالوجوب الغيري فيكون جزؤه أيضاً كذلك، و إلى هذا أشار في» الكفاية «بقوله:

إنّ الغاية لا تكاد تكون قيداً لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، و إلاّ يلزم أن تكون الغاية مطلوبة بطلبه كسائر قيوده.(1)

و قد أجاب عنه السيد الإمام الخميني) قدس سره (بقوله: إنّ وصف الموصلية أمر

ص:559


1- - كفاية الأُصول: 1/191.

انتزاعي من وجود نفس ذي المقدّمة في الخارج، و هو منشأ انتزاعي لهذا الوصف، و ما هو قيد لوجوب المقدّمة إنّما هو ذاك الوصف الانتزاعي دون منشأ انتزاعه الذي هو نفس وجود ذي المقدّمة في الخارج، فما هو الواجب غيرياً إنّما هو رهن الانتزاع، و ما هو واجب بالوجوب النفسي إنّما هو منشأ انتزاعه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان عنوان الموصلية أمراً انتزاعياً من وجود نفس ذي المقدّمة، فيكون الواجب النفسي كالمقدّمة لهذا الأمر الانتزاعي الذي هو جزء للموضوع فيوصف أيضاً بالوجوب الغيري بحكم انّ منشأ الانتزاع مقدّمة للعنوان المنتزع الذي هو جزء المقدّمة.

و الأولى أن يجاب: بأنّ عنوان الموصلية لا ينتزع من وجود ذي المقدّمة في الخارج و لا من ترتّب ذيها على المقدّمة، بل ينتزع من نفس المقدّمة إذا كانت في طريق ذيها و منتهية إليه، فالواجب هو إيجاد المقدّمة مع وصفها بأن يجعل المقدّمة في طريق ذيها و واصلة إليه، و عند ذاك لا يلزم انقلاب الواجب النفسي إلى الواجب الغيري.

2. سقوط المقدّمة بالإتيان بها

إذا كان الواجب هو المقدّمة بقيد الإيصال، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يجب أن لا يسقط أمرها بالإتيان بها ما لم يترتّب عليه ذيها، مع أنّ المعلوم خلافه، و إلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و لأنّه لو كان الترتّب معتبراً فيه لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها بحيث لا يبقى في البين إلاّ طلبه و ايجابه، كما إذا

ص:560


1- - تهذيب الأُصول: 1/263.

لم تكن هذه بمقدّمة، أو كانت حاصلة من الأوّل قبل إيجابه، مع أنّ الطلب لا يكاد يسقط إلاّ بالموافقة، أو بالعصيان و المخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحياناً أو حرقه، و لا يكون الإتيان بها بالضرورة من هذه الأُمور غير الموافقة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال مبني على تفسير الموصلة بوجود ذي المقدّمة في جنب المقدّمة على نحو يكون الوجوب الغيري متعلّقاً بشيئين متغايرين:

1. المقدّمة.

2. ذو المقدّمة في جنبها.

و على ذلك فما لم يأت المكلّف بالجزء الثاني لا يسقط الأمر المقدّمي.

و لكنّك عرفت أنّ عنوان الإيصال ليس نفسَ الواجب النفسي و لا منتزعاً عنه، بل هو عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق ذيها و منتهية إليه.

و عند ذلك يختلف الحكم ثبوتاً و إثباتاً.

فلو كانت المقدّمة واجدة لهذا الوصف) كونها في طريق ذيها و منتهية إليه (يسقط الأمر واقعاً لا ظاهراً، لعدم علم المكلّف بالانتهاء.

و الحاصل: انّه لا مانع من أن يُحدّد الآمر موضوعَ حكمه بالمقدّمة التي تنتهي إلى ذيها و تقع في طريقها و لا يتعلّق حكم الآمر بما إذا لم يكن كذلك.

3. ما هو مقدّمة ليست بموصلة

إنّ الإتيان بذيها ليس أثر المقدّمة بما هي هي، بل يعدّ من أثره إذا انضم

ص:561


1- - كفاية الأُصول: 1/186.

إليه أمر آخر و هو إرادة المكلَّفِ امتثالَ الواجب النفسي، فعندئذ يترتّب ذو المقدّمة على المقدّمة، و على ضوء ذلك فما هو مقدّمة ليست بموصلة، و ما هو موصلة أي المقدّمة مع قيد الإرادة لا يتعلّق به التكليف، لأنّ الإرادة أمر خارج عن الاختيار و لا يتعلّق بها التكليف، و إلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و أمّا ترتّب الواجب فلا يعقل أن يكون الغرضَ الداعي إلى إيجابها و الباعثَ على طلبها، فانّه ليس بأثر تمام المقدّمات فضلاً عن إحداها في غالب الواجبات، فانّ الواجب إلاّ ما قلّ في الشرعيات و العرفيات فعل اختياري يختار المكلّف تارة، اتيانَه بعد وجود تمام مقدّماته، و أُخرى عدمَ إتيانه، و من المعلوم أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري لا يوصف بالوجوب لعدم كونها بالاختيار و إلاّ لتسلسل.(1)

يلاحظ عليه:

أوّلاً: بأنّ الإشكال نشأ من تفسير الموصلة بالعلّة التامة لتحقّق ذيها، و عندئذ تُصوّر أنّ المقدّمات بلا ضم الإرادة ليست بعلّة تامة، و معها و إن كانت علّة تامة لكن لا يتعلّق بها الأمر، غير انّك عرفت أنّ المراد من الموصلة عبارة عن كون المقدّمة في الواقع في طريق المقصود و منتهية إليه و لو بواسطة الإرادة، و إن كانت المقدّمة بعامّة أجزائها غير كافية في تحقّق الغاية بل محتاجة إلى توسيط الإرادة.

و على ذلك فكلّ من الشرط و المعد و السبب لو كان في الواقع في طريق ذيها فالجميع موصلة بهذا المعنى و إن لم يترتّب المقصود عليها بالفعل غير أنّه سيترتّب

ص:562


1- - كفاية الأُصول: 1/185، و قد خلط المحقّق الخراساني في المقام بين الإشكالين الثالث و السادس و لأجل ذلك أوجد تشويشاً في العبارة.

عليه بعد فترة من الزمن.

و ثانياً: نمنع عدم تعلّق الأمر بالإرادة، كيف! و قد ورد الأمر بالقصد و الإرادة في مقامات مختلفة، مثلاً:

إذا نذر الإقامة في البلد يجب عليه قصدها، و مقوّم الإقامة هو القصد و الإرادة التي تعلّق بهما الأمر.

و نظير ذلك لزوم قصد القربة في التعبّديات، فقد ورد الأمر في الشرع بإرادة الإتيان بها للّه سبحانه.

و أمّا ما هو ملاك الاختيار فقد أشبع شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه الكلام فيه في رسالة خاصّة له بالجبر و التفويض(1) فلاحظ.

4. لزوم الدور

و قد قرّر الدور بوجهين:

الأوّل: انّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّمة، و لو قلنا بقيدية الإيصال لتوقّف وجود جزء المقدّمة على وجود ذيها.

يلاحظ عليه: أنّ الموقوف مغاير للموقوف عليه، لأنّ وجود ذيها متوقّف على وجود المقدّمة، و وصف المقدّمة أعني: الإيصال موقوف على وجود ذيها و حينئذٍ فلا دور.

الثاني: ما قرره المحقّق النائيني و هو أنّ قيد الإيصال يرجع إلى اعتبار كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري، فيلزم أن يكون الواجب النفسي مقدّمة

ص:563


1- - رسالة الأمر بين الأمرين نُشرت مع رسالة» لبّ الأثر في الجبر و القدر «سنة 1418 ه.

للمقدّمة و واجباً بوجوب ناش من وجوبها، و هو يستلزم الدور، فانّ وجوب المقدّمة إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة، و لو ترشح وجوب من وجوبها على ذي المقدّمة للزم الدور.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ الإشكال ناشئ من تفسير خاطئ للموصلة، و هو أخذ وجود الواجب النفسي قيداً في المقدّمة، و تعلّق الأمر الغيري بالمركب منه، و قد عرفت أنّ الإيصال ليس بمعنى ترتّب واجب نفسي عليها و لا أخذ الواجب النفسي جزءاً للمقدمة، بل كون المقدّمة في طريق ذيها.

و ثانياً: لو سلّمنا التفسير المذكور لا يلزم منه إلاّ اجتماع المثلين لا الدور، و ذلك لأنّ الواجب النفسي بما هو واجب نفسي يتعلّق به الوجوب النفسي، و بما أنّه جزء للمقدمة يتعلّق بها الوجوب الغيري المتعلّق بالجميع الذي من أجزائه الواجب النفسي، و أين هذا من الدور.

5. لزوم التسلسل

لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدّمة، أو السير الموصل إلى الحج مقدّمة، فذات الوضوء و السير يكون مقدّمة للوضوء الموصل، و السير الموصل و إن اعتبر الإيصال فيه أيضاً يكون مركّباً من شيئين: الوضوء و الإيصال، فينتقل الكلام إلى الجزء الأوّل منه، فبما انّه أيضاً مقدّمة يعتبر فيه الإيصال و هكذا يلزم التسلسل، و لا محيص من أن ينتهي الأمر إلى ما يكون الذات مقدمة، فإذا كان الأمر كذلك فلتكن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصّل.(2)

ص:564


1- - أجود التقريرات: 1/208.
2- - فوائد الأُصول: 1/209.

و قد أجاب عنه الإمام الخميني) قدس سره (: بأنّ الواجب بالأمر الغيري هو قيد المقدّمة الموصلة إلى الواجب النفسي لا المقدّمة الموصلة إلى المقدّمة، وعليه فالذات) الوضوء (لم تكن واجبة بقيد الإيصال إلى المقيّد، بل واجبة بقيد الإيصال إلى ذيها، و هو حاصل بلا قيد زائد، بل لا يمكن تقييد الموصلة بالإيصال.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره أشبه بتخصيص القاعدة العقلية، مع أنّ القاعدة العقلية لا تُخَصّص، لوجود ملاكها في عامة الأفراد.

مثلاً إذا كان دليل وجوب المقدّمة الموصلة ما ذكره صاحب الفصول» من أنّ الإنسان لا يطلب شيئاً لا يقع في طريق مقصوده «فهو يقتضي أن تكون المقدّمة مع أجزائها في طريق مقصوده، لأنّ العلّة كما تقتضي أن يكون الكل في طريقه كذلك تقتضي أن يكون الجزء أيضاً كذلك، فلا يقع مطلوباً إلاّ إذا كان بهذا الوصف، و عندئذ يلزم التسلسل.

و الأولى أن يجاب بأنّ وصف الإيصال ليس جزءاً خارجياً للمقدّمة، بحيث تكون مركبة في الخارج من شيئين أحدهما ذات المقدّمة و الآخر عنوان الموصلية، بل المقدّمة في الخارج شيء واحد، و أمّا الإيصال فهو أمر انتزاعي يصنعه الذهن من وقوع المقدّمة في طريق المقصود و انتهائها إليه، و على ضوء هذا فليس الوضوء مقدّمة للمقدّمة) الوضوء الموصل (حتّى يقال: يجب أن يكون هو أيضاً موصلاً. بل المقدّمة هي الوضوء و لكن يجب على المكلّف إيجاد وصف الإيصال.

6. اختصاص الوجوب بالعلل التوليدية

لو كان الملاك مطلق التوقّف فهو موجود في الموصلة و غيرها، و لو كان

ص:565


1- - تهذيب الأُصول: 1/262.

الملاك خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج فيختص الوجوب بالعلل التوليدية كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق، و لا يعمّ العلل الاعدادية كالشرط و المعد و السبب، فانّ كلّ واحد منها مقدّمة، و لكن لا يستحيل انفكاك كلّ واحد منها عن الواجب.(1)

و إلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله:

إنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات، و القول بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليدية.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ الملاك ليس التوقّف بما هو هو و لا خصوص ما يستحيل انفكاكه عن الواجب في الخارج، بل الملاك ما يقع في طريق المطلوب بالذات، و هذا لا يوجب اختصاص الوجوب بالعلّة التامّة بل كلّ من الشرط و المعد على قسمين موصل أي واقع في طريق المقصود، و غير موصل أي ليس كذلك.

بقيت هناك إشكالات أُخرى تعرّض لبعضها المحقّق العراقي فلاحظها.(3)

ص:566


1- - أجود التقريرات: 1/239.
2- - كفاية الأُصول: 1/185.
3- - بدائع الأفكار: 1/388.
المقام الثالث ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة

و قد فرغنا بحمد اللّه عن بيان الأدلّة لوجوب المقدّمة الموصلة و الشبهات المتوجّهة إليها، بقي الكلام في ثمرات هذا القول، فنقول: يترتّب على هذا القول ثمرتان:

الثمرة الأُولى: بقاء الحرمة في غير الموصلة

لو انحصرت المقدّمة في المحرّم منها، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على سلوك أرض مغصوبة، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة، تزول عنها الحرمة و يتّصف السلوك بالوجوب، سواء أ كان موصلاً أم لم يكن كما لو كان سلوكها لأجل التنزّه.

و على القول بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة، لا تزول الحرمة إلاّ إذا توصّل بسلوكها إلى إنقاذ الغريق، فلو لم يتمكّن في النهاية من الإنقاذ كانت باقية على حرمتها واقعاً، جائزة له ظاهراً.

و على القول بوجوب قصد التوصّل لا تزول الحرمة إلاّ بقصد الإنقاذ.

و على القول بعدم وجوب المقدّمة من رأس، يبقى السلوك على حرمته، و لا ترتفع الحرمة إلاّ بمقدار الضرورة، و هو ما يتمكّن به من الإتيان بالواجب.

ص:567

الثمرة الثانية: صحّة الصلاة على القول بالموصلة

هذه هي الثمرة الثانية و هي انّه إذا كانت العبادة مزاحمة لواجب أهم كالصلاة عند الابتلاء بأمر أهم منها كإزالة النجاسة عن المسجد، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة تبطل الصلاة و لا تبطل على القول بوجوب المقدمة الموصلة.

و هذه الثمرة تبتني على أُمور أربعة:

1. ترك الضد مقدّمة لفعل الضد الآخر.

2. مقدّمة الواجب واجبة.

3. انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام، و هو النقيض.

4. انّ هذا النهي موجب لفساد العبادة.

و عندئذ يقال:

1. ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم الأمر الأوّل.

2. و ترك الصلاة واجب بحكم الأمر الثاني، أي الملازمة بين وجوب المقدّمة و ذيها.

3. و إذا كان ترك الصلاة واجباً ففعلها حرام بحكم الأمر الثالث.

4. و النهي المتعلّق بالصلاة موجب للفساد بحكم الأمر الرابع.

فإذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة تكون النتيجة بطلان الصلاة، حيث إنّ مقدّمية ترك الصلاة توجب وجوبها، و وجوب الترك يوجب حرمة الصلاة التي هي ضد الواجب) ترك الصلاة (و هي تستلزم بطلانها.

و أمّا إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون ترك الصلاة واجباً، بل

ص:568

الواجب هو ترك الصلاة الموصل للإزالة، و بما أنّ المكلّف غير راغب للإزالة فلا يكون ترك الصلاة في هذا الظرف واجباً حتّى يكون نقيضه حراماً، و معه لا يكون فاسداً.

و لكن هذه الثمرة باطلة من أساسها لابتنائها على المقدّمات الأربع التي لم تُسلَّم واحدة منها كما ستظهر لك في مبحث الضد، و مع ذلك فقد اعترض الشيخ الأنصاري على الثمرة الثانية.

نظرية الشيخ في الثمرة

ذهب الشيخ الأنصاري إلى بطلان الثمرة الثانية على القول بالموصلة، و انّ الصلاة إمّا صحيحة على كلا القولين أو باطلة كذلك، و ذلك بتقديم مقدّمة.

حدّ النقيض اختلفت كلمة المنطقيّين في تعريف النقيض، فقال بعضهم:

1. نقيض كلّ شيء رفعه، فنقيض الإنسان، هو اللاإنسان، و نقيض الثاني هو رفع اللاإنسان، و على هذا يختصّ النقيض بالأمر السلبي.

2. نقيض كلّ شيء رفع أو مرفوع، فنقيض الإنسان هو اللاإنسان، و نقيض الثاني هو الإنسان الذي هو المرفوع.

و ربّما يقال أنّ من عرّف النقيض بالرفع أراد منه الأعم من الرفع و المرفوع، يقول الحكيم السبزواري:

نقيض كلّ رفع أو مرفوع تعميم رفع لهما مرجوع(1)

ص:569


1- - شرح المنظومة، قسم المنطق: 59.

و على هذا فالمقدّمة للإزالة في المقام هو» ترك الصلاة «و نقيضه الذي يطلق عليه الضد العام على التعريف الأوّل هو رفع ترك الصلاة، و على التعريف الثاني هو نفس الصلاة.

إذا عرفت هذا فإليك بيان الشيخ في بطلان الثمرة بما هذا توضيحه:

لو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء و ضدّه العام عبارة عن الرفع. فنقيض» ترك الصلاة «أو» ترك الصلاة الموصل «عبارة عن رفعهما لا نفس الصلاة، و تتعلّق الحرمة برفع ترك الصلاة المطلق أو المقيّد بالموصل، لا بالصلاة التي هي تقارن النقيض، غاية الأمر انّ لنقيض» الترك المطلق «أعني: رفع الترك المطلق مقارناً واحداً و هو الصلاة، و لنقيض» الترك الموصل «أعني: رفع ذلك الترك الموصل مقارنان: أوّلهما الترك المجرّد بأن لا يصلّي و لا يزيل النجاسة، و ثانيهما إقامة الصلاة، فلا يصحّ الحكم بالبطلان على الأوّل، و الصحّة على الثاني، بل يجب أن يحكم بالصحّة على كلا القولين.

و لو قلنا بالشق الثاني و انّ النقيض أعمّ من الرفع و المرفوع فنقيض ترك الصلاة المطلق، أو الترك الموصل، هو نفس الصلاة فتكون باطلة على كلا القولين لتعلّق النهي به بعنوان النقيض و الضد العام.

هذا توضيح لمقالة الشيخ.

كلام المحقّق الخراساني في ردّ الثمرة

ذهب المحقّق الخراساني إلى ترتّب الثمرة على القول بالموصلة و عدمه في صورة واحدة و هو أن يكون نقيض كلّ شيء هو رفعه فنقيض الترك المطلق أو الترك الموصل هو رفعهما لا الصلاة، و انّ الصلاة من مقارنات النقيض على كلا

ص:570

القولين، و مع ذلك، فرق عرفاً بين مقارن و مقارن.

و ذلك لأنّ نسبة الصلاة إلى الترك المطلق، كنسبة النقيض إلى العين، لما عرفت من أنّه ليس للنقيض الواقعي رفع الترك المطلق إلاّ مقارن واحد، و لذلك يعدّ ذلك المقارن للنقيض الواقعي، نقيضاً للعين ترك الصلاة عرفاً فتكون محرّمة أخذاً بالقاعدة: إذا كان الشيء واجباً ترك الصلاة المطلق يكون ضدّه العام أو نقيضه محرّماً، فتكون الصلاة باطلة لأجل حرمتها.

و هذا بخلاف نسبة الصلاة إلى الترك الموصل، فليس كلّ من الفعل و الترك المجرّد نقيضاً له عرفاً، لامتناع تعدّد النقيض، و لا الجامع بينهما نقيضاً لامتناع الجامع بين الوجود و العدم، فينحصر نقيضه برفع الترك الموصل، و يكون كلّ من الفعل و الترك المجرّد، من مقارناته، حيث إنّ رفع الترك المطلق، تارة ينطبق على الفعل، و أُخرى على الترك المجرّد، و الحرمة لا تسري من الشيء) رفع الترك الموصل (إلى مقارناته.

و الأولى ردّ الثمرة بردّ عامّة مقدّماته أو أكثرها، و لا أقلّ من إبطال أنّ وجوب شيء مقتضي لحرمة ضده العام و نقيضه، لما سيوافيك أنّ هذا النوع من النهي أمر لغو لا يصدر من الفاعل الحكيم.

***

القول السادس: وجوب المقدّمة حال الإيصال

الفرق بين هذا القول و خامس الأقوال، أنّ الإيصال في السابق قيد للواجب، و الموصل وصف له، بخلاف هذا القول فليس الإيصال قيداً، و مع هذا لا ينطبق إلاّ على المقيّد، شأن الفرق بين المشروطة و الحينية.

ص:571

و إنّما لجأ القائل إلى هذا القول، لأجل الفرار عن الإشكالات الستة المتوجّهة إلى القول الخامس، و قد قرّر بوجوه:

الأوّل: ما قرره سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي، و حاصل ما أفاده:

إنّ متعلّق الوجوب ذاتُ ما يوجد من المقدّمات مصداقاً للموصل، لا بوصف الموصلية. بمعنى أنّ الشارع رأى أنّ المقدّمات في الخارج على قسمين. قسم منها يوصل إلى ذيها و يترتّب هو عليها واقعاً، و قسم منها لا يوصل، فخصّ الوجوب بالقسم الأوّل أعني: ما يكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصل و ليست الموصلية قيداً مأخوذاً في الواجب بنحو يجب تحصيله، بل هي عنوان مشير إلى ما هو واجب في الواقع، و إنّما خصّ الوجوب به لأنّ المقدّمة ليست مطلوبة في حدّ الذات، بل مطلوبيّتها لأجل ذيها، فيختصّ طلبُها بما هو ملازم للمطلوب بالذات.

ثمّ ردّه المحقّق البروجردي بأنّ ما ذكر من المقدّمة الموصلة ليس أمراً جديداً، بل هو نفس ما ذكره بعض القدماء من اختصاص الوجوب بالمقدّمة السببيّة، فانّ المقدّمة التي تكون موصلة في متن الواقع و يترتّب عليها ذو المقدّمة لا تنطبق إلاّ على المقدّمة السببيّة.(1)

و مع ذلك فالبيان المذكور ليس وافياً للمقصود، إذ فيه:

أوّلاً: أنّ تصوير القضية الحقيقية المتوسطة بين المشروطة و المطلقة أمر غير تام. لأنّ قوله:» حين هو كاتب «إمّا ملحوظ في ثبوت الحكم، فيكون قيداً، فترجع القضية الحينية إلى المشروطة، أو غير ملحوظ فيه، فترجع إلى المطلقة، و لا

ص:572


1- - نهاية الأُصول: 179 180.

يعقل أن لا يكون للشيء مدخلية في الحكم، و مع ذلك، لا ينطبق الحكم إلاّ على المقيّد.

فإن قلت: إذا قلت رأيت زيداً قائماً، فقد رأيته في تلك الحالة لا في غيرها، و مع ذلك ليست الحالة قيداً للرؤية و لا للمرئي، و مع ذلك أوجد ضيقاً في الرؤية حيث إنّك ما رأيته إلاّ في تلك الحالة.

قلت: إنّ الحالة، تعد من قيود ذيها فتكون جزء الموضوع، فإذا قلت: رأيت زيداً قائماً، فكأنّك قلت:

رأيت زيد القائم، و من المعلوم أنّ الحكم لا يتجاوز عن موضوعه، فعدم شمول الحكم لأوسع من حدّ الحال، لأجل كونه من قيود الموضوع لبّاً، و الحكم يتضيّق حسب ضيق الموضوع.

و على ضوء ذلك فانّ تخصيص الإيجاب بالمقدّمة التي تكون بالحمل الشائع مصداقاً للموصل لا يخلو إمّا أن يأخذ الموصل قيداً للواجب أو لا. فعلى الأوّل يرجع إلى القول الخامس، و على الثاني يعمّ ما هو مصداق له بالحمل الشائع و ما ليس كذلك.

و ثانياً: انّ المراد من الإيصال كونه واقعاً في طريق المقصود لا الموصلة بالفعل فيعمّ الشرط و المعدّ و السبب بمعنى المقتضي و ارتفاع المانع، إذ كلّ واحد منهما على قسمين تارة في طريق المقصود، و أُخرى خارجه، حتّى أنّ الخطوة الأُولى للسير إلى الحج توصف بالموصلة و غيرها.

الثاني: ما أفاده المحقّق العراقي على ما في تقريراته(1)، و هو أنّ الواجب ليس مطلقَ المقدّمة و لا خصوص المقدّمة المتقيّدة بالإيصال، بل الواجب هو الحصّة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات، الملازمة(2)لوجود ذي المقدّمة.

ص:573


1- - بدائع الأفكار: 1/389.
2- - صفة الحصة.

و على هذا جرى المحقّق الخوئي في تعاليقه على أجوده، حيث قال: إنّ ملاك الوجوب الغيري هو خصوصُ التوقّف على ما يكون توأماً لوجود ذي المقدّمة في الخارج من جهة وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل، فيختصّ الوجوب الغيري حينئذ بالموصلة، و لا يعم غيرها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ التوأمية إمّا قيد، أو لا، فعلى الأوّل، تنطبق على مذاقِ صاحب الفصول; و على الثاني، لا يختصّ الحكم بالموصلة، بل يعمّ غيرها.

و بعبارة أُخرى: انّ كلاً من المقدّمة التوأمة و المقدّمة غير التوأمة و إن كان متميزاً في نفس الأمر، حيث إنّ نصب السلّم في الخارج على قسمين:

1. قسم ينتهي إلى ذي المقدّمة، و هو المسمّى بالمقدّمة التوأمة.

2. قسم لا ينتهي بل تنفك المقدّمة عن ذيها، و هو المسمّى بغير التوأمة.

إلاّ انّ الكلام في مقام تعلّق الإرادة بأحد القسمين دون الآخر، كتعلّق الوجوب كذلك، فالتعلّق بقسم دون قسم يحتاج إلى عنوان يميّز أحد القسمين عن الآخر حتّى يكون القسم الموصل متعلّقاً للإرادة و الإيجاب، و ليس هو إلاّ عنوان التوأمة أو الإيصال و هو نفس القول بالمقدّمة الموصلة.

الثالث: ما نقله شيخنا الأُستاذ) مد ظله (عن أُستاذه السيد الإمام الخميني عن شيخه العلاّمة الحائري و نذكر المنقول في مقطعين:

1. انّ للمعاليل الخارجية ضيقاً ذاتياً من جانب علّتها، فالحرارة الصادرة عن النار الخارجية و إن كانت غير مقيّدة بعلّتها لامتناع تقييد المتأخّر بالأمر المتقدّم إلاّ أنّها ليست أيضاً مطلقة بالنسبة إليها و إلى غيرها، و إلاّ يلزم أن تكون

ص:574


1- - أجود التقريرات، قسم الهامش، ص 239.

أوسع من علّتها، بل هي على وجه لا تنطبق إلاّ على المقيّد أي الحرارة المفاضة من جانب الصلة لا الأعم منها و من غيرها.

2. العلة الغائية بما انّها متقدّمة تصوّراً، متأخرة وجوداً، فالمعلول ليس مقيّداً بوجود العلّة الغائية لتقدّم المعلول وجوداً على العلّة الغائية في الخارج لكنّه ليس أوسع من الغاية التي هي علّة لفاعلية الفاعل و سبب لبروز الإرادة في لوح النفس، و إلاّ يلزم أن تكون الإرادة بلا غاية.

و على هذا تكون الإرادة غير مقيّدة بالغاية، و لكنّها ليست بأوسع منها، وعليه فالواجب ليس مطلق المقدّمة لما عرفت من أنّ الإرادة و الوجوب يتضيق ضيقاً ذاتياً بالنسبة إلى غايتها، و لا المقيّدة بالإيصال، لما عرفت من أنّ الإرادة المتقدّمة لا يمكن أن تكون مقيّدة بغايتها المتأخّرة عنها، و مع ذلك فالإرادة لا تنطبق إلاّ على المقيد.(1)

يلاحظ على المقطع الأوّل: بأنّ ما ذكره من أنّ وجود المعلول لا يقيّد بوجود العلّة و إن كان صحيحاً، لكن عدم التقييد ليس لأجل تقدّم العلة و تأخّر المعلول، فانّ التقدّم و التأخّر فيهما ليس تقدّماً زمانياً بل رتبياً، و مثل هذا لا يضر بالتقييد، بل وجهه أنّ مصبّ الإطلاق و التقييد إنّما هو المفاهيم التي يمكن تقييد المفهوم الموسّع بقيد، و أمّا التكوين فهو غير قابل لتقييد المطلق، فانّ الشيء يتكوّن في بدو الأمر إمّا مطلقاً إلى الأبد و إمّا مقيّداً كذلك، و لا يتصوّر فيه الوجود المقيّد بعد تكونه موسعاً.

و أمّا المقطع الثاني الذي هو بيت القصيد في المقام، فما ذكره من أنّ الإرادة

ص:575


1- - فوائد، السيد الإمام الخميني، المخطوط. و قد حكى شيخنا الأُستاذ مدّ ظله انّه رأى الكتاب بخط الإمام و نقل النصّ عن خطّه (قدس سره).

و الوجوب الإنشائي يتضيّق تبعاً للعلّة الغائية دون أن تتقيّد بها و إن كان صحيحاً، و الكلام في مورد آخر، و هو انّ الفاعل إذا حاول أن يظهر إرادته المضيّقة و يضفي الإيجاب على المقدّمة المضيّقة بالذات، لا محيص له إلاّ بتعليق الوجوب على المقدّمة التي توصل إلى الغاية، و عندئذ يرجع القول السادس إلى القول الخامس.

ص:576

الأمر السابع في ثمرات القول بوجوب المقدّمة
اشارة

قد عرفت ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة، و حان الكلام عن ثمرات القول بوجوب المقدّمة على الآراء الستة، و إليك هذه الثمرات:

الثمرة الأُولى: اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري

هذه الثمرة هي التي ذكرها المحقّق الخراساني و جعلها ثمرة للمسألة الأُصولية و قال: إنّه على القول بالملازمة بين الوجوبين يستنتج وجوب المقدّمات في الواجبات و حرمتها في المحرّمات، و على هذا تكون المسألة) وجوب المقدّمة (مسألة أُصولية لوقوعها في استنباط الحكم الشرعي الكلّي.

و هذه الثمرة لا بأس بها لو قلنا بوجوب المقدمة.

الثمرة الثانية: تحقّق الوفاء بالنذر

إذا تعلّق النذر بالإتيان بالواجب، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي الإتيان بها، و إلاّ فلا بدّ من الإتيان بواجب نفسي.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ عد مثل هذا ثمرة لمسألة أُصولية غير خال عن الإشكال، و قد مرّ نظيره في مبحث الصحيح و الأعم.

ص:577

و ثانياً: أنّ النتيجة ليست كلّية، لأنّ الوفاء بالنذر تابع لكيفية النذر، فإن كان متعلّقه هو الواجب النفسي فلا يتحقّق الوفاء بالنذر و إن قلنا بوجوب المقدمة.

و إن كان متعلّقه هو الواجب الأعم من الشرعي و العقلي، يصدق الوفاء بالنذر، و إن لم نقل بوجوب المقدّمة شرعاً، و ذلك لأنّ الوجوب العقلي للمقدّمة أمر غير منكر، و المفروض أنّ متعلق النذر أوسع.

نعم لو كان متعلّق النذر الأعم من الواجب الشرعي و العقلي و من الشرعي الأعم من النفسي و الغيري، فلو أتى بالمقدّمة فقد وفى بنذره.

على أنّ تلك الثمرة تترتّب على القول بوجوب مطلق المقدّمة، و أمّا على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فحيث إنّ وصف الإيصال لا ينفك عن الإتيان بالواجب النفسي، فيصدق الوفاء سواء أقلنا بوجوب المقدّمة أم لا، لأنّ المفروض انّ الإتيان بالمقدّمة لا ينفك عن الإتيان بذيها.

الثمرة الثالثة: استحقاق الأجر

إذا أمر شخص ببناء بيت، فأتى المأمور بالمقدّمات ثمّ انصرف الآمر، فعلى القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته، يصير ضامناً لها، فيجب على الآمر دفع أُجرة المقدّمات و إن انقطع العمل بعدها.

يلاحظ عليه: مع ما في عدّ هذه ثمرة لمسألة أُصولية نوع من التعسّف أوّلاً: أنّ الآمر ضامن، و إن لم يكن الأمر بالشيء أمراً بالمقدّمة، لأنّه لمّا أمر بذيها و صار ذلك الأمر مبدأ لاشتغال العامل بالمقدّمات صار ضامناً، و يكفي في الضمان كون الأمر بذيها سبباً للاشتغال بالمقدّمة و إن كان الأمر به فاقداً للدلالة على الإتيان

ص:578

بمقدّمته.

و ثانياً: انّه لا يتم على القول بوجوب المقدّمة الموصلة، لعدم الإتيان بالواجب، فلا يكون القول بوجوبها ملازماً للضمان.

و ثالثاً: ما عرفت من أنّ الاشتغال بما يسمّى بالمقدّمات، اشتغال بنفس الواجب النفسي فيما إذا كانت المقدّمات داخلية، كالمثال، إذ ليس لبناء البيت معنى سوى القيام به على نحو التدريج و إن لم يكن الحال في المقدّمات الخارجية كذلك.

الثمرة الرابعة: حرمة أخذ الأُجرة على المقدّمة

و من الثمرات المترتّبة على وجوب المقدّمة، حرمة أخذ الأُجرة على إنجازها، و الثمرة مستنبطة من صغرى و كبرى.

أمّا الأُولى: فهي عبارة عن وجوب المقدّمة وجوباً شرعيّاً.

و أمّا الثانية: فقد تقرّر في محلّه التنافي بين الوجوب و الاستئجار، أي حرمة أخذ الأُجرة على إنجاز الواجب.

فيستنتج حرمةُ أخذ الأُجرة على إنجاز مقدّمة الواجب.

يلاحظ عليه: بأنّه لا ملازمة بين وجوب الشيء و حرمة أخذ الأُجرة، و لعلّ النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

توضيح ذلك: انّ الواجب إمّا توصلي لا يتوقف سقوط أمره على الإتيان به لأمره سبحانه، و أُخرى تعبّدي لا يسقط إلاّ بالإتيان به لأمره، أو للّه سبحانه.

أمّا الأُولى فتارة يكون المطلوب للمولى تحقّقه في الخارج بالمجّان بحيث تكون المصلحة قائمة به، و هذا كتجهيز الميت من تغسيله تكفينه و تدفينه، و أُخرى

ص:579

يكون المطلوب وجوده فقط، نظير الواجبات الاجتماعية التي لولاها لاختلّ النظام، سواء أتى بها بالمجّان أو في مقابل الأُجرة.

و على ضوء ذلك فالوجوب التوصّلي بالمعنى الأوّل ينافي أخذ الأُجرة لا الثاني، فلو كانت المقدّمة من قبيل القسم الأوّل يحرم أخذ الأُجرة عليه دون الثاني.

و أمّا الواجبات التعبّدية فهي أيضاً على قسمين: تارة يكون واجباً على الأجير، و أُخرى يكون واجباً على الغير، و إنّما يريد الإنسان إتيانه نيابة عنه.

أمّا الأوّل: فالظاهر بطلان عقد الإجارة بأن يؤجر نفسه من الغير ليصلّي أو يصوم شهر رمضان عن نفسه، و ذلك لأمرين:

1. عدم تمشّي قصد القربة، فلا يتمكّن من إيجاد ما استؤجر له على الوجه الصحيح.

2. عدم انتفاع الموجر من عمله، مع أنّه يشترط في صحّة الإجارة انتفاع الموجر من عمل الأجير، و إلا تكون الإجارة سفهية، و لذلك قالوا ببطلان ما لو أجّر بلا أُجرة، أو باع بلا ثمن، و انتفاعه بعمله عند اللّه، و إن كان صحيحاً لكنّه لا يصحح العقد، فمن يريده فليدفع إليه هبة و إحساناً، لا أُجرة.

و أمّا الثاني أعني: الاستئجار لإنجاز ما وجب على غيره و فات منه لعجزه أو موته فهو صحيح في مثل الحج، لأنّه عمل عبادي ماليّ، و قد تضافرت الروايات عن النبي و الأئمّة) عليهم السلام (على صحة النيابة فيه، و صحّ عن الصادق) عليه السلام (أنّه أعطى ثلاثين ديناراً يُحج بها عن إسماعيل و لم يترك من العمرة إلى الحج شيئاً إلاّ اشترط عليه، ثمّ قال:» يا هذا!! إذا أتيت هذا كان لإسماعيل حجّة بما أنفق من ماله، و كان لك تسع حجج بما أتعبت من بدنك «.(1)

ص:580


1- - الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب النيابة في الحج ص 115، الحديث 1.

و أمّا الاستئجار في غير الحج الذي يعدّ عبادياً محضاً، كالصلاة و الصوم فعقد الإجارة لإتيان ما وجب على الغير من العبادة في مقابل الأُجرة أمر مشكل، و ليس في الأخبار و الروايات أثر منه، و إنّما جرت السيرة على ذلك بين المتأخّرين فانّ قصد القربة مع أخذ الأُجرة متنافيان و إن أصرّ المتأخّرون على صحّتها، و قد نقل شيخنا الأُستاذ مدّ ظله الوجوه التي ذكرها المشايخ لتصحيح الإجارة التي أهمها ما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّه من قبيل الداعي إلى الداعي، و انّه يأخذ الأُجرة لأن يصلي للّه سبحانه عن جانب الغير.

و قد نقد شيخنا الأُستاذ مد ظله هذه الوجوه في بحوثه الفقهية(1) و لكنّه سلك مسلكاً آخر في تصحيح هذا النوع من النيابة، و هو نفس ما سلكه المشهور في مورد القاضي و المفتي و معلّم الأحكام الشرعية و المؤذن مما علم من الشرع حرمة أخذ الأُجرة في مقابلها، فانّ المسلك الحق فيه هو قيام الحاكم بقضاء حوائج هؤلاء بأن يموّلهم حتى يتسنّى لهم القيام بوظائفهم الشرعية من دون شائبة مادية، و قد كتب الإمام) عليه السلام (إلى عامله في مصر في حقّ القاضي و قال:

» و أفْسِحْ له في البذلِ ما يُزيلُ علَّته، و تَقلُّ معه حاجتُه إلى الناس «.(2)

و على ضوء هذا فمن يريد القيام بفرائض الغير، فعلى الوليّ أن يسدّ حاجات النائب مدة سنة أو أقل، حتّى يقوم بفرائض والده مثلاً المتوفّى، فيكون العطاء من جانب و العمل من جانب آخر من دون معاوضة، بل من باب» جزاء الإحسان بالإحسان «.

ص:581


1- - لاحظ المواهب في تحرير أحكام المكاسب، المطبوع. لاحظ ص 725 730.
2- - نهج البلاغة، قسم الرسائل، رقم 53.
الثمرة الخامسة: حصول الفسق بترك مقدّمة

لو قلنا بوجوب المقدّمة و كان للواجب مقدمات كثيرة يحصل الفسق بترك مقدّمتين، لحصول الإصرار بتركهما.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: انّه بترك المقدّمة الأُولى يسقط وجوب ذيها بالعصيان، و مع سقوطه لا تكون الثانية أو الثالثة من المقدّمات واجبة حتّى يصدق العصيان بتركهما.

و أورد على تلك الثمرة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة اشكالاً آخر، و حاصله:

انّه لا ملازمة بين ترك مطلق الواجب الأعم من الغيري و النفسي، و بين المعصية، إنّما الملازمة بين ترك الواجب النفسي و المعصية، لا الغيري كما في المقام، إذ ليس فعله محبوباً و لا تركه مبغوضاً، و الأمر به من باب اللابدية و مخالفة مثل هذا الأمر لا يوجب المعصية.

و قد عدل عنه مدّ ظلّه في هذه الدورة، و قال: بأنّ ملاك العصيان، مخالفة الأمر المولوي سواء أ كان المأمور به محبوباً أم لا، فإذا صدر الأمر عن مقام المولوية فعلى العبد الإتيان به، و لو خالف عدّ عاصياً، و مبغوضاً عند المولى، سواء أ كان الفعل محبوباً بالذات أم لا، و هذا يكفي في صدق العصيان.

و قد مرّ في تصحيح العبادات الثلاث بالأمر الغيري، ما يفيدك في المقام.

الثمرة السادسة: جعل المصداق لمسألة الاجتماع
اشارة

لو قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً، يلزم فيما إذا كانت محرّمة اجتماع الأمر النهي، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب، فلا يكون في المورد إلاّ النهي.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

ص:582

الف: عنوان المقدّمة تعليلي

إنّ واقع اجتماع الأمر و النهي عبارة عمّا إذا تعلّق كلّ من الأمر و النهي بعنوانين تقييديين على نحو يستقر كلّ من الأمر و النهي على العنوان، من دون أن يسري الحكم في مقام التشريع إلى موضوع آخر، و هذا كالصلاة و الغصب، فإذا تطابقا على مورد، يقع البحث في لزوم تقييد إطلاق أحد الدليلين بالآخر و بالتالي إخراج المورد عن تحت أحدهما أو لا، فالامتناعي على الأوّل، و الاجتماعي على الثاني.

و أمّا إذا كان أحد العنوانين تقييدياً كالغصب و الآخر تعليلياً، كعنوان المقدّمة، فتصادقا في الوضوء بالمغصوب، فعندئذ لا يستقرّ الوجوب على عنوان المقدّمة لكونه علّة للحكم لا موضوعاً له، فيسري الحكم من العلّة إلى الموضوع أي الوضوء، فيكون واقع المسألة هكذا: لا تغصب، و توضّأ بالماء المغصوب، فتكون النسبة بين متعلّق الأمر و النهي، عموماً و خصوصاً مطلقاً، و يعدّ من باب النهي في العبادات نظير قولك: صلّ و لا تصلّ في الحمام. بخلاف باب» الاجتماع «فانّ النسبة بين المتعلّقين هو العموم و الخصوص من وجه نظير قولك: صلّ و لا تغصب.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من أنّ عنوان المقدّمة عنوان تعليلي، لا يستقر الحكم عليه بل يسري إلى الموضوع، و إن كان صحيحاً لكن المورد مع ذلك لا يكون من قبيل النهي في العبادات، و ذلك لأنّ النهي تعلّق بالغصب و الأمر في الظاهر بالعنوان أي المقدّمة، ثمّ يسري الحكم منه إلى الموضوع و هو نفس الوضوء، أو نفس السير أو نفس الركوب، لا قسم المغصوب منها، و النسبة بين العنوانين عموم و خصوص من وجه، و لا يسري الحكم من العنوان إلى الوضوء، بالماء

ص:583

المغصوب، أو السير بالمركب المغصوب، و إلاّ لجاز ارتكاب مثل ذلك في قوله:» لا تغصب، و صلّ « . و يقال أيّ صلّ في المغصوب. و بالجملة، خصوصية المورد لا يؤخذ في لسان الدليل، و على ذلك فالثمرة صحيحة.

ب: الوجوب مختص بغير الحرام في صورة عدم الانحصار

إذا كانت المقدّمة محرّمة، فإمّا ينحصر التوصّل إلى الواجب بالمقدّمة المحرمة أو لا، و على الصورة الأولى أي انحصار المقدّمة، فالدور إمّا للحرمة، إذا قدّمنا النهي، أو للوجوب إذا قدّمنا الأمر، فلا يكون هناك اجتماع.

و على الصورة الثانية يكون الواجب هو غير المقدّمة المحرّمة، كالماء المباح، و المركب غير المغصوب فلا يكون هنا إلاّ الأمر.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح في الصورة الأُولى إذ على الانحصار يكون الدور لأحد الأمرين، لئلا يلزم التكليف بالمحال دون الثانية فانّ القائل بالاجتماع لا يقول باختصاص الوجوب بغير المحرم، بل يقول إنّ كلاً من الإطلاقين محفوظ و مصون من التقييد، فالأمر بالتوضّؤ مطلق يعم التوضّؤ بالماء المغصوب و غيره، كما أنّ النهي عن الغصب يعمّ الغصب المقدّمي و غيره.

و ما ذكره المحقّق كأنّه أشبه بفرض مذهبه في مسألة اجتماع الأمر و النهي، على المقام و على كلّ تقدير فالثمرة صحيحة.

ج: وجوب المقدّمة لا مدخلية له فيما هو المهم في باب المقدّمة

و حاصله: انّ وجوب المقدّمة و عدمه لا تأثير لهما في الامتثال بالمقدّمة إذا كانت توصّلية، لأنّ الغاية هو التوصّل بذيها، و يمكن التوصّل بها إلى ذيها، على القولين قيل بوجوب المقدّمة أو لا.

ص:584

و أمّا إذا كانت تعبّدية كالوضوء فإن قلنا بالامتناع و تقديم النهي على الأمر، فلا يمكن التوصّل بها، قلنا بوجوب المقدّمة أو لا.

و لو قلنا بالاجتماع، جاز التوصّل بها، لأنّ تصحيح العبادة لا يتوقّف على وجوبها حتّى يقال انّ قصد القربة لا يتمشّى مع كون ما يتقرّب به حراماً، بل يكفي وجود الملاك و الحسن الذاتي، كانت المقدّمة واجبة أو لا.

فتلخص أنّ القول بوجوب المقدّمة و عدمه لا دور له في المقام.

و مما ذكرنا يظهر الخلل في عبارة الكفاية في بيان الإشكال الثالث حيث قال:» إنّ الاجتماع و عدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة «، و الصحيح أن يقال: الوجوب و عدمه لا دخل له في التوصّل الخ.

الثمرة السابعة: تصحيح العبادات الغيرية

و من ثمرات القول بوجوب المقدّمة، تصحيح التقرّب ببعض العبادات الغيرية، كالطهارات الثلاث إذا وقعت مقدّمة للصلاة لما تقدّم من أنّ محور التقرّب لا ينحصر بالأمر النفسي(1) و لا بكون المتعلّق محبوباً بالذات(2) بل يكفي في حصول التقرّب كون الحركة و الامتثال لأجل الأمر الإلهي، سواء أ كان غيرياً أم نفسياً، فعلى القول بوجوب المقدّمة يكون قصد أمرها مصححاً للعبادة و التقرّب، بلا حاجة إلى التمسّك بوجوه أُخرى، و قد مرّ البحث عنها عند البحث في الطهارات الثلاث.

ص:585


1- - حكاه شيخنا الأُستاذ مد ظله عن درس السيد الإمام الخميني حيث كان يقول باستحباب الطهارات الثلاث بذاتها.
2- - كما عليه المحقّق الخراساني.
الأمر الثامن تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

و الغرض من تأسيس الأصل هو تعيين المرجع عند ما لم يصل الفقيه عن طريق الأدلّة الاجتهادية إلى نتيجة واحدة في وجوب المقدّمة و عدمه، إذ لا محيص له إلاّ الأصل، و إلاّ فلو ثبت بفضل الأدلّة الاجتهادية وجوبها أو عدمه فلا موضوع للأصل، فالبحث عن الأصل بحث إعدادي إذا لم يثبت أحد الطرفين.

ثمّ إنّ مجرى الأصل إمّا المسألة الأُصولية أو المسألة الفقهية، و المراد من المسألة الأُصولية هو الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين، كما أنّ المراد من المسألة الفقهية هو وجوب المقدّمة و عدمه، فإليك البحث فيهما واحداً تلو الآخر.

حكم الأصل في المسألة الأُصولية

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّه لا أصل في المسألة الأُصولية، بالبيان التالي:

إنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذي المقدّمة و عدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية.

توضيحه: إنّ الاستصحاب يجري في المتيقّن الذي يحتمل أن ينتقض و لا يستمر كحياة الإنسان، و كونه على الطهارة، و أمّا الأمر الذي لو ثبت لدام إلى يوم القيامة كالملازمة بين الأربعة و الزوجية، فهذا النوع من الأُمور لا يخضع

ص:586

للاستصحاب، و الملازمة بين الوجوبين أو الإرادتين في المقام من هذا السنخ فلا يقبل الشكّ لو ثبت أحد الطرفين.

هذا ما أفاده المحقّق الخراساني.

فإن قلت: يمكن استصحاب عدم الملازمة بالنحو التالي:

لم تكن ملازمة بين وجوب الصلاة و وجوب مقدّمتها عند ما لم يكن أيّ تشريع بالنسبة إليها، و لكن نشك في بقاء عدم الملازمة بعد تشريع الوجوب لذيها و عدمه و الأصل بقاؤه.

قلت: إنّ هذا النوع من الاستصحاب مثبت لم يكتب له الحجّية، و ذلك لأنّ المستصحب هو عدم الملازمة عند ما لم يكن أيَّ وجوب للصلاة، و الحال أنّ المشكوك هو بقاء ذلك العدم بعد كتابة الوجوب عليها، فاستصحاب الأمر الأوّل و إثبات الأمر الثاني من أقسام الأصل المثبت.

و إن شئت قلت: إنّ المستصحب هو السالبة المحصّلة، كالتالي:

لم تكن الصلاة واجبة، فلم تكن هناك ملازمة بين الوجوبين لعدم الموضوع.

و المطلوب هو إثبات عدم الملازمة بعد ثبوت الموضوع أي وجوب الصلاة و يعبّر عنها بالموجبة المعدولة المحمول كالتالي:

كانت الصلاة واجبة و لم تكن ملازمة بين الوجوبين.

و من المعلوم انّه ليس للثانية حالة سابقة، فاستصحاب القضية الأُولى و إثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.

و هناك دليل آخر على خروج المسألة الأُصولية عن مجرى الأصل لم يشر إليه المحقّق الخراساني في كفايته و حاصله:

إنّ الملازمة بما هي هي ليست حكماً شرعياً و لا مبدأ لحكم شرعي، فلا تقع

ص:587

مصبّاً للاستصحاب، لأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً كوجوب الشيء أو حرمته أو موضوعاً لحكم شرعي كما في الاستصحابات الموضوعية كاستصحاب الكرّية و استصحاب حياة زيد، و الملازمة بين الوجوبين ليست من قبيل واحد منهما.

فإن قلت: إنّ الملازمة موضوع لحكم شرعي، إذ على القول بالملازمة يستكشف منه الحكم الشرعي، فلو كان المستصحب وجود الملازمة يستكشف وجود الحكم الشرعي و لو كان عدمها يستكشف منه عدمه.

قلت: ما ذكرته و إن كان صحيحاً لكن يعوزه أنّ الحاكم بترتّب النتيجة في المقام على المقدّمة، هو العقل القاطع بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع، و مثل هذا لا يخضع للاستصحاب، و إنّما يخضع له إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع، فالمستصحب) الملازمة (و استكشاف الحكم الشرعي، و الحاكم بالاستصحاب، كلّها من أفعال العقل، و ما هذا حاله لا يصلح لأن يستصحب.

بخلاف ما إذا كان الحاكم بالترتّب هو الشرع كما في استصحاب الكرّية، يترتب عليها طهارة ما غُسِل فيه، لأنّ الحاكم بالترتّب هو الشرع الذي قال: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء.

إجراء حكم الأصل في المسألة الفقهية

قد عرفت عدم جريان الأصل في المسألة الأُصولية، و حان البحث في حكمه في المسألة الفقهية، أي وجوب المقدّمة، و عدمه.

و الأُصول المتوهّم جريانها في المقام ثلاثة:

1. البراءة العقلية، أي قبح العقاب بلا بيان.

ص:588

2. البراءة الشرعية، كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «.

3. الاستصحاب، نظير قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا تنقض اليقين بالشك «.

و إليك الكلام في كلّ واحد تلو الآخر.

أمّا البراءة العقلية فلا تنفع في المقام، لأنّ مجراها هو احتمال العقاب، و في المقام نقطع بعدم العقاب، سواء أ كانت المقدّمة واجبة أم لا، لما قلنا من أنّ امتثال الأمر الغيري يوجب الثواب و لكن تركه لا يوجب العقاب، فمع القطع بعدم العقاب فلا موضوع للبراءة العقلية.

و أمّا البراءة الشرعية فلا موضوع لها أيضاً، لأنّ شرط جريانها هو وجود الكلفة في الإيجاب، و الامتنان في الرفع، و كلاهما منفيّان، إذ لا كلفة في إيجاب المقدّمة لعدم ترتّب العقاب على تركها، كما لا امتنان في رفعها، لحكم العقل بوجوبها و لزوم الإتيان بها.

و أمّا الاستصحاب فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو الاستصحاب فقال: نعم نفس وجوب المقدّمة مسبوق بالعدم حيث يكون حادثاً بحدوث وجوب ذي المقدّمة، فالأصل عدم وجوبها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاستصحاب أصل عملي يجري فيما إذا كان هناك أثر عملي في مجراه، و لكنّه مفقود في المقام، إذ لا يترتّب على استصحاب وجوب المقدّمة أثر عملي لحكم العقل بلزوم الإتيان بها و إن لم يحكم الشرع بوجوبها.

و إن شئت قلت: إنّ الحكم بعدم وجوبها شرعاً بعد حكم العقل بوجوبها يجعل الاستصحاب عقيماً بلا أثر، و الاستصحاب من الأُصول العملية المجعولة لتعيين وظيفة المكلّف من حيث العمل، فإذا لم تكن هناك فائدة في مورد العمل

ص:589


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

فجريانه لغو.

نعم لو كان المستصحب وجوب المقدّمة فله أثر عملي و ثمرات فرغنا عن ذكرها. و لكن المفروض أنّ المستصحب هو عدم الوجوب.

هذا هو الإشكال الواقعي المتوجّه على جريان الاستصحاب في المقام.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر اعتراضين لهذا الاستصحاب و أجاب عنهما، و لا بأس بالتعرّض لهما:

الأوّل: يشترط في الاستصحابات العدمية أن يتعلّق العدم بالحكم الشرعي كالوجوب و الحرمة، أو متعلّقه كالزوجية و الكرّية و غيرهما، و وجوب المقدّمة ليس موضوعاً لحكم شرعي كما هو واضح، كما أنّه ليس حكماً شرعياً مجعولاً حتى يتعلّق به العدم، و ذلك لأنّ وجوب المقدّمة على فرض وجوبها من لوازم وجوب ذيها، و اللازم ليس من المجعولات، فإذا لم يكن مجعولاً شرعياً فلا يجوز استصحاب عدم ذلك الأمر غير المجعول، و قد أشار المحقّق الخراساني إلى الإشكال بقوله:

و توهّم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة، و لا أثر آخر مجعول مترتّب عليه، و لو كان لم يكن بمهم هاهنا.(1)

ثمّ أجاب عنه بما حاصله: انّ وجوب المقدّمة و إن لم يكن موضوعاً لحكم شرعي لكنّه حكم شرعي مجعول بالعرض، فالمجعول بالذات هو وجوب ذيها، و المجعول بالعرض هو وجوب نفسها، و كفى في جريان استصحاب العدم كون المتعلّق مرتبطاً بالشارع بنحو من الارتباط، و عندئذ إذا تعلّق به العدم تتم أركان الاستصحاب، و إلى هذا الجواب أشار المحقق الخراساني بقوله:

ص:590


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

بأنّه و إن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، و لا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلاّ أنّه مجعول بالعرض و يتبعُ جعلَ وجوب ذي المقدّمة، و هو كاف في جريان الأصل.(1)

الثاني: كيف يجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة مع أنّه لو كانت هناك ملازمة بين الوجوبين للزم تفكيك اللازم عن الملزوم، و احتمال التفكيك بين المتلازمين كما هو مقتضى الاستصحاب كالقطع بالتفكيك محال؟ و بعبارة أُخرى: لو لم يكن هناك ملازمة بين الوجوبين كان استصحاب عدم الوجوب موافقاً له و لو كان بينها ملازمة فيكون استصحابه مخالفاً له، فبما انّ الواقع مستور عنّا، فنحتمل وجود الملازمة و بالتالي نحتمل انّ لازم استصحاب عدم وجوب المقدّمة احتمالُ التفكيك بين المتلازمين لا يصحّ استصحاب عدمها، إذ من المعلوم انّ احتمال التفكيك كالقطع به، محال.

و أجاب عنه بأنّ لزوم التفكيك بين المتلازمين محال واقعاً و ليس بمحال ظاهراً.

و بعبارة أُخرى: لزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشكّ لا ينافي الملازمة الواقعية و إنّما ينافي الملازمة الفعلية.

نعم، لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية لصحّ التمسّك بذلك الأصل في إثبات بطلان الملازمة الفعليّة.

و ما أشار إليه من الجواب مبني على ما أفاده الشيخ الأنصاري في آخر الاستصحاب من أنّه لا بأس بالتفكيك بين المتلازمين في الظاهر دون الواقع، و لذلك لو توضّأ بماء أحد الإناءين المشتبهين يحكم على الأعضاء بالطهارة، و على

ص:591


1- - كفاية الأُصول: 1/199.

النفس بالحدثية، مع أنّه تفكيك بين المتلازمين، فانّه إن كان الماء طاهراً فالحدث مرتفع أيضاً و إن كان غير طاهر فالأعضاء نجسة أيضاً.(1)

و على ضوء ذلك لا بأس بأخذ أحد المتلازمين في الظاهر، أي وجوب ذيها دون الآخر كوجوب مقدّمتها، و إن كان بين الوجوبين في مقام الجعل في الواقع تلازم و الملازمة الواقعية لا تنافي عدمها في الظاهر.

إشكال المحقّق البروجردي على صاحب الكفاية

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي لم يرتض هذا الجواب من أُستاذه و أشكل عليه بما هذا حاصله:

إنّ وجوب المقدّمة على فرض ثبوته ليس وجوباً مستقلاً بملاك مستقل حتى يكون تابعاً لملاك نفسه، بل هو من اللوازم غير المنفكة لوجوب ذيها فتفكيكهما غير ممكن لا في الفعلية و لا في غيرها من المراتب.

توضيحه: انّ ما ذكره المحقّق الخراساني إنّما يصحّ إذا كان التلازم أمراً جعلياً في مراحل التكليف كما في التوضّؤ بواحد من الإناءين المشتبهين، دون ما إذا كان التلازم عقلياً كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ففيه لا يصحّ التفكيك بينهما في الواقع و الظاهر. و على ضوء ذلك فلو كانت هناك ملازمة فانّ معناها أنّ الأمر بذي المقدّمة يستتبع الأمر بها في عامّة المراحل الواقعية و الظاهرية، كما أنّ إرادته تستتبع إرادتها في عامة المجالات، و عندئذ فلو كانت هناك ملازمة في عامة المراحل فالأمر بالمقدّمة فعليّ منجّز لا يمكن جعل حكم مخالف في موردها، و مع هذا الاحتمال كيف يمكن جعل حكم مضاد له، إذ جعل الحكم المخالف، فرع إحراز إمكانه

ص:592


1- - الفرائد: 428، ط رحمة اللّه في تعارض الاستصحابين.

و هو بعدُ غير محرز؟! و إن شئت قلت: إنّ إجراء الأصل فرع إحراز الإمكان الواقعي و هو بعدُ لم يحرز إلاّ بنسبة خمسين بالمائة، لاحتمال عدم وجود الملازمة، لا مائة بالمائة لاحتمال وجود الملازمة و مع التردد، فالإمكان الذاتي غير محرز، و معه لا يمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه.

و على هذه الضابطة أخرج الشيخ الأنصاري الموارد الثلاثة من مجرى البراءة، أعني: موارد النفوس و الأعراض و الأموال المحتملة إباحتها و حرمتها، و ذلك لأنّه لو كان هناك حكم في حرمتها فهو فعليّ واقعاً و ظاهراً، و مع هذا العلم الجزمي و لو على وجه التعليق لا يمكن الحكم بالبراءة، لأنّ لازمه جعل حكم ظاهري يخالف الحكم الواقعي الذي لو كان واقعاً كان فعلياً قطعاً.

و بهذا تمتاز هذه الأُمور الثلاثة عن شرب التتن، إذ يمكن جعل الإباحة في شربه، فانّه لو كان هناك حكم واقعي كالحرمة فهو ليس بفعلي قطعاً، بخلاف الأُمور الثلاثة إذ لو كان هناك حكم باسم الحرمة لكان فعلياً بلا ريب.

و إن شئت قلت: إنّ مفاد جريان الاستصحاب هو نفي الوجوب الفعلي حتى على فرض الملازمة بين الوجوبين، و هو خلف، لأنّ جريان الأصل إنّما يصحّ على فرض عدم الملازمة.

هذا غاية توضيح مرام السيد المحقّق البروجردي، و قد ناقش فيه شيخنا الأُستاذ مد ظله بما هذا بيانه:

أوّلاً: بأنّ العلقة التكوينية موجودة بين الإرادتين، و أمّا العلقة بين الوجوبين فليست تكوينية، إذ من الممكن إيجاب ذي المقدّمة دون إيجابها، بخلاف الإرادتين فانّ التوالي هناك أمر لا يمكن التخلّص عنه.

و ثانيا: انّ ما ذكره مبني على شرطية إحراز الإمكان الذاتي في جريان الأصل،

ص:593

أو إحراز الإمكان الوقوعي، و هو مساوق للقطع بعدم فعلية الحكم الواقعي و لكنّهما غير محرزين، و لكن من المحتمل كفاية الإمكان الاحتمالي، و هو أعمّ من الإمكان الذاتي و موضوع الإمكان الاحتمالي هو عدم العلم بالامتناع، و المقام من هذا القبيل، فلو كان في الواقع ملازمة لا يصحّ جعل حكم ظاهري على خلاف مقتضى الملازمة، بخلاف ما إذا لم تكن ملازمة فانّه يصحّ، و بما انّ الملازمة غير محرزة فالإمكان الاحتمالي موجود و هو كاف في إجراء الأصل.

و ثالثاً: إنّ لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة التي حكم فيها الشيخ بالاحتياط مع كون الشكّ شبهة بدوية ليست لأجل كون الحكم فعلياً على فرض الوجود كي تكون العلة موجودة في المقام أيضاً، بل المانع هناك العلم بمذاق الشارع في عظائم الأُمور، و هو عدم التهجّم على الدماء و الأعراض و الأموال بصرف الاحتمال، و هذا المناط غير موجود في المقام، إذ ليس ترك المقدّمة من عظائم الأُمور لعدم إضرار البراءة عن الوجوب مع حكم العقل بوجوب الإتيان.

و إن شئت قلت: إنّ عدم جريان البراءة في الأُمور الثلاثة، لأنّ الحكم الطبيعي في الدماء و الأعراض و الأموال هو الحرمة و المصونية و الخروج عنه يحتاج إلى الدليل بخلاف المقام.

إلى هنا تمّت المباحث التمهيدية، و حان البحث عن صلب الموضوع و هو الدليل على وجوب المقدّمة و عدمه.

أدلّة القائلين بوجوب المقدمة
اشارة

قد عرفت حكم الأصل في المقدّمة إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي على أحد القولين، فلنذكر ما استدلّ به من العقل و النقل على وجوب المقدمة، و قبل

ص:594

الخوض في بيان أدلّتهم ينبغي تحرير محل النزاع و انّ النزاع في أيّ نوع من الوجوب، فهناك احتمالات:

1. الوجوب العقلي، بمعنى اللابدية العقلية.

يلاحظ عليه: بأنّه ليس شيئاً قابلاً للنزاع لاتّفاق العقلاء عليه.

2. الوجوب العرضي، بمعنى انّ هنا وجوباً واحداً منسوباً لذيها بالحقيقة. و للمقدّمة بالعرض و المجاز، و هذا كنسبة الجريان إلى الماء و الميزاب.

يلاحظ عليه: بأنّ البحث يصبح عندئذ بحثاً أدبياً لا أُصولياً، و بالتالي غير قابل للنزاع، لأنّ النسبة المجازية تابعة لوجود المناسبة و عدمها.

3. الوجوب المولوي الغيري الاستقلالي.

يلاحظ عليه: انّ إيجاب المقدّمة بصورة الوجوب الاستقلالي يتوقّف على الالتفات إلى المقدّمة و ربّما يكون الآمر غافلاً عن المقدّمة و عن عددها، و لو صحّ ذلك لزم اختصاص النزاع بصورة التفات المولى و هو كما ترى.

4. الوجوب المولوي الغيري التبعي، بمعنى انّه لو التفت المولى إلى المقدّمة لأمر بها و هذا هو اللائق لأن يقع موضعاً للبحث.

إذا عرفت هذا فلنذكر ما استدلّ به على وجوب المقدمة:

الأوّل: لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم تجب

استدلّ أبو الحسين البصري مؤلف» المعتمد في أُصول الفقه «من مشايخ المعتزلة(1) بأنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها و حينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه

ص:595


1- - توفّي عام 436 ه، و هو غير أبي الحسن البصري إمام الأشاعرة (المتوفّى عام 324 ه) و هما غير الحسن البصري التابعي (المتوفّى عام 89 ه) كما أنّ الثلاثة غير أبي موسى الأشعري الصحابي (المتوفّى عام 43 ه). من إفادات شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه.

لزم التكليف بما لا يطاق و إلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً.

يلاحظ عليه أوّلاً: بالنقض بالمتلازمين إذا كان في أحدهما ملاك الوجوب دون الآخر، فيجب أحدهما دون الآخر، و لو وجب الآخر للزم الإيجاب بلا ملاك و يجري فيهما ما ذكره من الاستدلال، فيقال: إذا لم يجب الملازم جاز تركه، و حينئذٍ فإمّا أن يبقى الملازم الآخر على وجوبه، فيلزم التكليف بما لا يطاق; أو لا، فيلزم خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً.

و ثانياً: أنّه لو أراد من قوله:» لجاز تركها «الإباحة الشرعية فالملازمة باطلة، لأنّ رفع الوجوب المولوي لا يلازم ثبوت أحد الأحكام الخمسة، إذ من الممكن أن يكون المورد من قبيل عدم الحكم، لا الإباحة الشرعية، و الفرق بينهما واضح، فالإباحة الشرعية عبارة عن اقتضاء المورد التساويَ فيكون المجعول هو الإباحة الشرعية التي هي أحد الأحكام الخمسة بخلاف عدم الحكم، فانّه بمعنى عدم الاقتضاء لواحد من الأحكام.

و ثالثاً: ما ذا يريد من قوله:» حينئذ «.

فإن أراد» جواز الترك «لما ترتّب عليه التاليان من لزوم التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً، و ذلك لأنّ جواز الترك لا يلازم الترك، إذ ربّما يكون جائز الترك و لكن المكلّف يأتي به.

و إن أراد نفس الترك» لا جواز الترك «فيترتّب عليه أمر ثالث، و هو سقوط الوجوب لأجل العصيان لكونه متمكّناً من الإطاعة و قد تركها عالماً عامداً، فانّ الشرع و إن لم يُوجِب المقدمة و لكنّه لم يُحرّمها، و الرسول الباطني يبعث الإنسان إلى الإتيان بها فيكون الترك معصية بلا ريب.

ص:596

الثاني: قضاء الوجدان بالوجوب

إنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله و يقول مولويّاً: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلاً، بداهة انّ الطلب المنشأ بخطاب: ادخل مثل المنشأ بخطاب:» اشتر «في كونه بعثاً مولويّاً و انّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه و أنّه يكون مقدّمة له.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الوجدان يشهد على خلافه، فانّ الإنسان لا يجد في أعماق نفسه إلاّ إرادة واحدة متعلّقة باشتراء اللحم، و أمّا أمره بدخول السوق إمّا إرشاد إلى المقدمية إذا كان العبد غير عارف على محل شرائه، أو تأكيد لطلب الاشتراء.

و الشاهد على ذلك انّه لو جعل المولى جعالة لامتثال أوامره و قال: أدخل السوق و اشتر اللحم، فدخل العبد السوق و اشترى اللحم فلا يراه العقلاء إلاّ مستحقاً لجعل واحد في مقابل شراء اللحم.

الثالث: وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية

و حاصله: انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية و التشريعية في جميع لوازمهما، غير أنّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد، و التشريعية تتعلّق بفعل غيره، و من الضروري أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.

نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية، فيما إذا كانت المقدّمية مغفولاً

ص:597


1- - كفاية الأُصول: 1/200.

عنها، إلاّ أنّ ملاك تعلّق الإرادة بها، و هو المقدّمية، على حاله، فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ وصف الإرادة التكوينية بأنّها تتعلّق بفعل النفس و الإرادة التشريعية تتعلّق بفعل الغير، ليس بتام، بل الإرادة مطلقاً لا تتعلّق إلاّ بفعل النفس، و ذلك لأنّها لا تتعلّق إلاّ بأمر واقع في إطار اختيار المريد، و ليس هو إلاّ فعل نفسه، و أمّا فعل الغير فهو خارج عن اختيار المريد، فكيف تتعلّق به إرادته؟! و لأجل ذلك قلنا بأنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بإنشاء البعث و هو أمر صادر عن المريد، و الغاية منه تحريك الغير إلى العمل، فتحريكه إلى العمل غاية و ليس متعلّقاً للإرادة.

و ثانياً: انّ الغاية من الإرادة التكوينية قيام نفس المريد بالفعل، و إرادته لا تنفك عن إرادة مقدّماته، فلذلك تتعلّق إرادتان تكوينيتان بالفعل و مقدّماته.

و هذا بخلاف الأوامر التشريعية فانّ الغاية هناك إيجاد الداعي و الباعث في ذهن المكلّف إلى نفس العمل، و هو حاصل بإيجاب ذيها من دون إيجاب مقدّمته.

الرابع: وجود الأوامر الغيرية في الشريعة

إنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة دليل واضح على وجود المناط في المقدّمة لتعلّق الوجوب فإذا تعلّق الوجوب في مورد بهذا المناط يستكشف وجوده في عامة المقدمات لوجود المناط فيها، قال المحقّق الخراساني:

وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات و العرفيات لوضوح انّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري بمقدّمة إلاّ إذا كان فيها مناطه، فإذا تعلّق الأمر بها، بهذا المناط،

ص:598


1- - أجود التقريرات: 1/231.

يتعلّق في مثلها ممّا لم يلتفت إليه أيضاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ وجود الأوامر الغيرية في الشريعة أمر غير منكر و لكن غالبها ظاهرة في الإرشاد إلى المقدّميّة لعدم علم المكلّف بالمقدّمة، لاحظ الآيات التالية:

1. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ).(2)

2. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).(3)

3. (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ).(4)

4. (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ).(5)

5. (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ).(6)

6. و قوله) عليه السلام (: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه.(7)

فلا نشكّ في ورود الأوامر في هذه المجالات.

لكن الآيةَ الأُولى مسوقة لبيان شرطية العدلين في صحّة الطلاق، و لو لا الأمر بها لما عُلِمتْ شرطيّةُ الشهادة في صحة الطلاق. فيكون الأمر إرشاداً إلى الشرطيّة.

ص:599


1- - كفاية الأُصول: 1/201.
2- - الطلاق: 2.
3- - المائدة: 6.
4- - المائدة: 6.
5- - الحجرات: 6.
6- - الممتحنة: 10.
7- - الوسائل: 1، الباب 8 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

و الثانية و الثالثة مسوقة لبيان كيفية الوضوء و التيمّم، فيكون الأمر إرشاداً إلى الجزئيّة.

كما أنّ الآية الرابعة بيان لشرطية التبيّن للعمل بقول الفاسق.

كما أنّ الأمر بالامتحان في الآية الخامسة سيق لغاية العلم بإيمانهنّ حتّى لا يرجعن إلى الكفّار.

و بالجملة: لو لا أمر الشارع في هذه الموارد لما حصل العلم بالمأمور به و شرطه و شروطه كما مرّ.

إلى هنا تمّ ما استدلّ به القائلون بوجوب المقدّمة.

ما هو المختار في باب المقدّمة؟

الأقوى عدم وجوب المقدّمة شرعاً، لأجل انّ إيجابها مع إيجاب ذيها أمر لغو لا يصدر من العاقل الحكيم، و ذلك لأنّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي و إحداثه في ضمير المكلّف، لينبعث و يأتي بالمتعلق، فإيجاب المقدّمة إمّا غير باعث، أو غير محتاج إليه، فانّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة، فالأمر النفسي الباعث إلى ذيها باعث إليها أيضاً، و معه لا يحتاج إلى باعث آخر بالنسبة إليها، و إن لم يكن بصدد الإتيان بذيها و كان مُعْرِضاً عنه، لما حصل له بعث بالنسبة إلى المقدّمة.

و الحاصل: انّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها و عدم الباعثية و إحداث الداعوية أبداً إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

ص:600

إكمال تفصيلان في مقدّمة الواجب
الأوّل: التفصيل بين السبب و غيره

ربّما يفصّل بين السبب و الشرط، فيقال: انّ السبب واجب عند الأمر بالمسبّب، لأنّ المقدور هو السبب دون المسبب، ففي مسألة الإحراق، المقدور هو الإلقاء، فلو أمر المولى بالإحراق ينصرف الأمر إلى السبب، أعني: الإحراق.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ المسبب مقدور بواسطة السبب، و قد قرّر في محلّه انّ المقدور ربّما يكون مقدوراً بالمباشرة و أُخرى بسببه.

و ثانياً: أنّ لازم ما ذكره كون السبب) الإلقاء (واجباً نفسياً لا غيرياً، و هو خلاف المفروض.

الثاني: التفصيل بين الشرط الشرعي و العقلي

ربّما يفصّل بين الشرط الشرعي كالوضوء، و الشرط العقلي كمحاذاة القطن للنار عند الأمر بالإحراق، فيحكم بوجوب الأوّل دون الثاني قائلاً بأنّه لو لا وجوبه لما كان شرطاً.

يلاحظ عليه: ما ذا يريد من قوله» لو لا الوجوب لما كان شرطاً «؟، فإن أراد انّه لو لا الوجوب لما كان شرطاً في الواقع، فهو يستلزم الدور، لأنّ الوجوب فرع كون

ص:601

الشيء شرطاً في الواقع، و لو توقّفت شرطيته في الواقع على الوجوب، لزم الدور.

و إن أراد انّه» لو لا الوجوب لما عُلمت شرطيته «فيلاحظ عليه بانّ العلم بالشرطية لا ينحصر بالإيجاب، بل يعلم بالأمر الإرشادي أوّلاً كما في آية الوضوء، و بالتصريح بالشرطية ثانياً كما في قوله» لا صلاة إلاّ بطهور «، و بالأمر بالمقيّد ثالثاً كما إذا قال: صل متطهّراً.

***

مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام
اشارة

قد عرفت عدم الملازمة بين وجوب مقدّمة الواجب و وجوب ذيها، فتكون مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام مثل مقدّمة الواجب في عدم الحكم عليها بالاستحباب و الكراهة و الحرمة، لكن يقع الكلام على القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة و وجوب ذيها في مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام فهل هناك ملازمة، فيكون المشي إلى المسجد أو إلى الطلاق المكروه أو شرب الخمر الحرام، مستحباً أو مكروهاً أو حراماً حسب حكم ذيه، أو لا؟ هناك أقوال:

1. القول بالسريان مطلقاً على القول بالملازمة.

2. التفصيل بين المقدّمة التوليدية التي لا تتوسط بين المقدّمة و ذيها إرادة الإنسان، و المقدّمة الإعدادية كالسبب و الشرط، و المُعدّ، و عدم المانع، التي تتوسط بينها و بين ذيها إرادة الإنسان فلا يسري الحكم، و هذا هو الظاهر من المحقّق الخراساني.

3. التفصيل في نفس المقدّمات الإعدادية بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل و ارادته فيسري الحكم، و ما تتوسط فيه بين المقدّمة و ذيها إرادة

ص:602

الفاعل فلا يسري، و هو الظاهر من المحقّق النائيني.

4. سريان الحكم إلى الجزء الأخير من العلة التامّة، و هو ما ينتقض به العدم إلى الوجود، و هو الظاهر من السيد الإمام الخميني) قدس سره (، و إليك دلائل الأقوال:

الأوّل: السريان مطلقاً

لو قلنا بوجوب المقدّمة، أو المقدّمة الموصلة، لا محيص من القول به في مقدّمات الأحكام الثلاثة، لوحدة الملاك في الجميع، فانّ ملاك السريان في مقدّمة الواجب إمّا التمكّن و رفع الإحالة، أو كونه في طريق المطلوب، و هذا الملاك بعينه موجود في مقدّمات الأحكام الثلاثة، فكلّ جزء من مقدّمات المستحب أو المكروه أو الحرام يُمكِّن المكلّفَ من الإتيان بذيه، كما أنّ كلّ جزء منه يقع في طريق المطلوب) المستحب (أو المكروه أو الحرام. و على ذلك فلا معنى للتبعيض مع أنّ الجميع من باب واحد.

فإن قلت: فرق بين الواجب و الحرام، فانّ الفعل الواجب لمّا كان متوقّفاً على كلّ جزء من أجزائه، يسري الحبُّ إلى أجزاء المقدّمة كلّها و توصف بالوجوب، بخلاف الحرام فانّه يتوقف على محقّق المبغوضية، و ربّما انّ جميع الأجزاء ليس محقّقاً، بل المحقّق هو المخرج للمبغوض إلى حيز الوجود لا يسري إلى كلّ جزء من أجزاء المقدّمة، بل يتعلّق بخصوص المخرج للمبغوض عن العدم إلى الوجود.

قلت: السؤال مبني على الخلط بين مقام التشريع و مقام الامتثال و العصيان، فالكلام إنّما هو في المقام الأوّل و الحكم يتبع ملاكه فالملاك في جميع الأجزاء واحد و هو إمّا التمكّن أو الإيصال، فتجب المقدّمة المطلقة على الأوّل، و الموصلة على الثاني.

ص:603

و أمّا كون الامتثال في الواجب متوقّفاً على عامّة المقدّمات و الامتثال في باب المحرّمات يتوقّف على ترك واحدة منها إذا لم تكن المقدّمات متحقّقة، و على ترك الأخيرة إذا كانت متحقّقة، و إن كان صحيحاً لكنّه لا يرتبط بباب تعلّق الأحكام بصلة، فالبحث ليس في كيفية الامتثال، و إنّما البحث في سريان الحب و البغض في مقام التشريع إلى المقدّمة، و الملاك موجود في عامة المقدّمات إمّا مطلقة و إمّا موصلة.

الثاني: السريان في المقدّمة التوليدية

ذهب المحقّق الخراساني إلى سراية التحريم من ذي المقدّمة إلى المقدّمة التوليدية، أعني: ما لا تتوسط بين المقدّمة و ذيها إرادة المكلّف، كالإلقاء بالنسبة إلى الإحراق(1)، و أمّا في العلل الإعدادية من السبب و الشرط و المعد فبما انّ الإتيان بغير الجزء الأخير) الإرادة (لا يسلب الاختيار من المكلّف و يتمكّن المكلّف معه أيضاً من ترك الحرام فلا يترشّح التكليف إلى ما عدا الجزء الأخير.

و أمّا الجزء الأخير، أعني: الإرادة، فهو و إن كان لا يتمكّن معه من ترك الحرام لكنّه أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.

و حاصل كلامه: انّه يسري الحكم في العلل التوليدية لكونها ملازمة مع المبغوض في المكروه و الحرام، و أمّا في غيرها فالذي يقع في إطار الاختيار كما هو الحال قبل تعلّق الإرادة فهو لا يلازم المبغوض، بل يتمكّن المكلّف معه من ترك

ص:604


1- - و إلى هذا يشير في كتابه بقوله:» فلو لم يكن للحرام مقدّمة لا يبقى معه اختيار تركه «أي علّة تامّة لا يتمكّن معها من ترك ذيها. و ما في النسخة المحشّاة بتعليقة العلاّمة المشكيني من قوله:» فلم لم يكن «تصحيف.

المبغوض، و ما هو يلازم إتيانه إتيان المبغوض و لا يتمكّن المكلّف معه من تركه فهو أمر خارج عن الاختيار لا يتعلّق به التكليف.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من العلل التوليدية و إن كان صحيحاً، لكن ما ذكره في العلل الإعدادية مجرّدة عن الإرادة غير تام، لأنّ ملاك السريان ليس هو الملازمة أو عدم التمكّن حتّى يقال بأنّ المكلّف يتمكّن من ترك المبغوض في العلل الإعداديّة مجردة عن الإرادة، بل الملاك هو كون كلّ واحد من أجزاء العلل الإعدادية ممّا يتوقّف عليه المبغوض أو يقع في طريقه فيسري حكم المبغوض أو المحبوب إليه.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ الجزء الأخير أعني: الإرادة خارجة عن الاختيار مبني على أساس غير صحيح، و هو أنّ الميزان في الفعل الاختياري أن يكون مسبوقاً بالإرادة، و أمّا الإرادة فبما أنّها ليست مسبوقة بها و إلاّ لزم التسلسل فهو خارج عن الاختيار.

لكنّك عرفت أنّ الميزان في كون الفعل اختيارياً أحد أمرين:

أ. أن يكون مسبوقاً بالإرادة، كما في الأفعال الصادرة عن الجوارح، المسبوقة بالإرادة.

ب. أن يكون صادراً من فاعل مختار بالذات كالإنسان و الإرادة اختيارية بالمعنى الثاني نظير أفعاله سبحانه و التفصيل في محلّه.(1)

ص:605


1- - لاحظ رسالة الأمر بين الأمرين لشيخنا الأُستاذ مدّ ظله.
الثالث: التفصيل بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل

و هذا التفصيل غير التفصيل السابق، لأنّ السابق كان يركّز على الفرق بين العلل التوليدية و الإعدادية، و أمّا هذا فإنّما يركز على خصوص العلل الإعدادية، لكنّه يفصّل فيه بين ما لا يبقى للمكلّف بعد العلل الإعدادية اختيار فيسري فيه، و بين ما لا يسلب منه الاختيار فلا يسري فيه.

أمّا الأوّل: فكما لو علم أنّه لو دخل المكان الفلاني لاضطرّ إلى ارتكاب الحرام قهراً دون ما إذا لو دخله لا يكون مضطرّاً إلى ارتكابه، فالسراية متحقّقة في الأوّل دون الثاني.

نعم فلو أتى في الثاني بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام تحرم للتجرّي، و أمّا إذا أتى من دون ذلك القصد فلا دليل على الحرمة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في الصورة الأُولى صحيح، و أمّا الصورة الثانية فقسّمه إلى ما أُتي بالمقدّمة بقصد التوصّل فحكم بالحرمة، دون ما إذا لم يكن بذلك القصد، فنقول:

أمّا أوّلاً فانّه إذا أتى بالمقدّمة التي يتمكّن مع الإتيان بها عن ترك ذيها بقصد التوصّل يكون تجرّياً، و التجرّي لو قلنا بحرمته حرام نفسي لا غيري، و الكلام في الحرمة الغيرية.

و ثانياً: فانّه إذا لم يأت بتلك المقدّمات بقصد التوصّل يكون محكوماً بحكم ذيها أيضاً، و ذلك لأنّ الميزان للسراية ليس هو عدم التمكّن من ذيها، بل الميزان كونه ممّا يتوقّف عليه المكروه و الحرام، أو ممّا يقع في طريقه، و الملاكان موجودان في هذا القسم أيضاً، أي القسم الثاني من الصورة الثانية.

ص:606

الرابع: انّ الحرام هو الجزء الأخير إذا كانت الأجزاء مترتّبة

ذهب السيد الإمام الخميني إلى أنّ الحرام هو الجزء الأخير إن كانت الأجزاء مترتبة، أو مجموع الأجزاء إذا كانت عرضية، قائلاً:

فانّ الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود، لا إلى كلّ ما هو دخيل في تحقّقه، و المبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، و السبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات، و في غيرها يكون المجموع هو السبب و عدمه بعدم جزء منه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الملاك في السريان هو التوقّف على القول بوجوب مطلق المقدّمة و الوقوع في مسير المحبوب و المبغوض على القول بوجوب المقدّمة الموصلة.

فعلى كلا القولين يكون الحرام أو المكروه و المستحب هو جميعُ الأجزاء، غاية الأمر يكون الموضوع على القول بالموصلة أضيق من القول الأوّل.

فالبغض كما يسري إلى ناقض العدم و محقّق وجود المبغوض أعني: الجزء الأخير كذلك يسري إلى كلّ ما يمكّن المكلّف من المبغوض أو ما يقع في طريقه و مسيره.

و مما يؤيّد حرمة المقدّمة و أجزائها من ورود اللعن على عشرة أصناف في مورد الخمر، فعن جابر لعن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (في الخمر عشرة:» غارسها، و حارثها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها «.(2)

ص:607


1- - تهذيب الأُصول: 1/284.
2- - الوسائل: 12، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.

فالظاهر حرمة غاية المقدمات، اللّهمّ إلاّ أن يقال: بأنّ المتبادر من الرواية هو الحرمة النفسية لهذه المقدّمات، و الكلام في الحرمة المقدمية.

و منه يظهر حال حرمة السفر إذا كانت الغاية محرّمة، و ما هذا إلاّ لأنّ نفس السفر يكون حراماً إذا كانت الغاية محرّمة، اللّهمّ إلاّ أن يحمل على الحرمة النفسية.

نجز الكلام بحمد اللّه في الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ و يليه الجزء الثاني من هذه المباحث بعون اللّه و فضله و تمّ تحرير تلك المحاضرات سادس شعبان المعظم من شهور عام 1416 مصلّياً مستغفراً راجياً

ص:608

فهرس المحتويات

كلمة المحاضر أ 5 كلمة المؤلف أ 7 مقدّمة، و فيها أُمور أ 9 الأمر الأوّل: في موضوع العلوم و مسائلها و تمايزها، و فيه جهات أ 11 الجهة الأُولى: تعريف موضوع العلم أ 11 تفسير الذاتي عند القدماء أ 14 الجهة الثانية: نسبة موضوعات المسائل إلى موضوع العلم أ 20 إجابة المحقق النائيني أ 23 الجهة الثالثة: في لزوم وجود موضوع لكلّ علم أ 24 الجهة الرابعة: في تمايز العلوم أ 26 الجهة الخامسة: ما هو موضوع علم الأُصول؟ أ 30 الجهة السادسة: ما هو تعريف علم الأُصول؟ أ 35

ص:609

الجهة السابعة: الفرق بين المسائل الأُصولية و القواعد الفقهية أ 37 الأمر الثاني: في الوضع، و فيه جهات أ 41 الجهة الأُولى: في حقيقة الوضع أ 41 الجهة الثانية: وجود العلقة الذاتية بين الألفاظ و معانيها أ 44 الجهة الثالثة: في تعيين الواضع أ 45 الجهة الرابعة: في أقسام الوضع أ 46 الجهة الخامسة: في المعاني الحرفية أ 53 1. نظرية المحقّق الرضي) المتوفّى 668 ه (أ 54 2. نظرية المحقّق الخراساني أ 55 3. النظرية الثالثة: تمايزهما بنفس الذات أ 58 أسئلة و أجوبة أ 61 الجهة السادسة: في بيان كيفية وضع الحروف أ 64 الجهة السابعة: في وضع أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات أ 68 1. نظرية المحقّق الخراساني أ 68 2. النظرية الثانية: نظرية المحقّق البروجردي أ 69 3. النظرية المختارة أ 70 الجهة الثامنة: في الإخبار و الإنشاء أ 72 1. نظرية المحقّق الخراساني أ 72

ص:610

2. نظرية المحقّق الخوئي أ 73 3. النظرية المختارة أ 75 الجهة التاسعة: في مفاد هيئة الجملة الاسمية أ 77 الأمر الثالث: في الحقيقة و المجاز أ 82 في تعريف المجازي و الحقيقي أ 82 الأمر الرابع: في استعمال اللفظ في اللفظ أ 87 1. إطلاق اللفظ و إرادة شخصه أ 88 2. إطلاق اللفظ و إرادة مثله أ 89 3 و 4. إطلاق اللفظ و إرادة صنفه و نوعه أ 90 الأمر الخامس: في وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية أ 92 الأوّل: ما هو السبب لطرح المسألة؟ أ 92 الثاني: أشكال أخذ الإرادة جزءاً للمعنى أ 94 الأمر السادس: في وضع المركّبات أ 100 الأمر السابع: في علائم الوضع أو تمييز الحقيقة عن المجاز، و فيه علائم أربع أ 103 العلامة الأُولى: أ 103 1. التبادر أ 103 مشكلة الدور في التبادر أ 104 2. صحّة الحمل و صحّة السلب أ 110 3. الاطّراد أ 113

ص:611

4. تنصيص أهل اللغة أ 119 الأمر الثامن: في تعارض الأحوال أ 122 الأمر التاسع: في الحقيقة الشرعية أ 123 النظريات المطروحة في المقام أ 123 الأمر العاشر: في أنّ ألفاظ العبادات وضعت للصحيح أو الأعم، و فيه جهات أ 132 الجهة الأُولى: ما هو معنى الصحّة؟ أ 133 الجهة الثانية: ما هو المقصود من الوضع للصحيح؟ أ 135 الجهة الثالثة: ما هو الداخل في المسمّى؟ أ 135 الجهة الرابعة: في لزوم جامع على كلا القولين أ 137 التقريب الأوّل للمحقّق الخراساني أ 138 التقريب الثاني للمحقّق الاصفهاني أ 142 التقريب الثالث للمحقّق النائيني أ 144 التقريب الرابع للمحقّق البروجردي أ 145 التقريب الخامس ما ذكره السيّد الأُستاذ أ 147 التقريب السادس للمحقّق الخوئي أ 149 التقريب السابع للعلاّمة الطباطبائي أ 150 الجهة الخامسة: أدلّة القول بالصحيح أ 152 الجهة السادسة: في بيان أدلّة القول بالأعم أ 158

ص:612

الأوّل: التبادر أ 158 الثاني: عدم صحّة سلب الصلاة عن الفاسدة أ 158 الثالث: صحّة التقسيم إلى الصحيحة و الفاسدة أ 158 الرابع: حديث الولاية أ 159 الجهة السابعة: في ثمرات المسألة في مورد العبادات أ 164 جواز التمسّك بالإطلاق أ 164 الجهة الثامنة: في أسماء المعاملات أ 168 في أنّ أسماء المعاملات اسم للأسباب أو للمسببات أ 177 في أقسام الجزئية و الشرطية و... أ 178 الأمر الحادي عشر: في الاشتراك اللفظي، و فيه جهات أ 181 الجهة الأُولى: في إمكان الاشتراك اللفظي أ 181 الجهة الثانية: في منشأ الاشتراك أ 183 الجهة الثالثة: في وقوع الاشتراك في القرآن أ 184 الأمر الثاني عشر: في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى أ 186 1. جواز الاستعمال رهن لفظ و لحاظ ثان أ 187 2. اجتماع لحاظين آليّين في شيء واحد أ 187 3. اجتماع لحاظين مستقلين في صقع النفس أ 188 4. إيجاد ماهيتين مختلفتين بوجود واحد أ 189

ص:613

المانع من جهة الوضع أ 191 منهج القرآن في الهداية أ 200 الأمر الثالث عشر: في المشتق، و فيه أُمور أ 202 الأوّل: تعريف المشتق أ 202 الثاني: النزاع لغوي لا عقلي أ 203 الثالث: المشتق بين الأُدباء و الأُصوليين أ 204 الرابع: في دخول أسماء الزمان في محط النزاع أ 207 الخامس: في دلالة الأفعال على الزمان أ 210 السادس: ما هي مادة المشتقات؟ أ 215 السابع: التفصيل في بعض المشتقات و نقده أ 218 الثامن: ما هو المراد من الحال في عنوان البحث؟ أ 220 التاسع: ما هو الأصل في المسألة؟ أ 223 العاشر: نفي الملازمة بين التركّب و الوضع للأعم أ 228 المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ أ 231 أدلّة القائلين بالوضع للمتلبّس أ 232 أدلّة القول بالأعم أ 235 خاتمة المطاف: في ثمرات البحث أ 239 مسائل في المشتق أ 241

ص:614

المسألة الأُولى: في خروج الذات عن مفهوم المشتق أ 241 المسألة الثانية: في الفرق بين المشتق و مبدئه أ 246 المسألة الثالثة: في ملاك الحمل أ 255 المسألة الرابعة: مغايرة المبدأ للذات أ 257 المسألة الخامسة: في قيام المبدأ بالذات أ 260 المسألة السادسة: في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي أ 263 المقصد الأوّل: في الأوامر أ 265 الفصل الأوّل: مادة الأمر، و فيه جهات 267 الجهة الأُولى: معنى لفظ الأمر لغة أ 267 الجهة الثانية: في اعتبار العلو و الاستعلاء أ 269 الجهة الثالثة: في دلالة مادة الأمر على الوجوب أ 273 الجهة الرابعة: في أنّ الموضوع له هو الطلب الإنشائي أ 276 الأُولى: ما هو السبب لطرح هذه المسألة في علم الكلام؟ أ 279 الثانية: ما هو المراد من الكلام النفسي؟ أ 281 الثالثة: أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي أ 283 الرابعة: معنى كونه سبحانه متكلّماً عند العدلية أ 289 مذهب الإمامية في كونه متكلّماً أ 291

ص:615

الخامسة: موقفنا من وحدة الطلب و الإرادة أ 293 الفصل الثاني: في صيغة الأمر، و فيه مباحث أ 299 المبحث الأوّل: ما هو معنى صيغة» افعل «؟ أ 299 المبحث الثاني: في أنّ الأمر بلا قرينة يدل على الوجوب أ 302 الأوّل: تبيين حقيقة الوجوب و الندب ثبوتاً و إثباتاً. أ 302 الثاني: حمل الأمر على الوجوب إذا لم يكن قرينة أ 304 المبحث الثالث: دلالة الجملة الخبرية على الوجوب أ 309 المبحث الرابع: التوصلي و التعبدي أ 312 الأوّل: ما ذا يقصد من التوصلي؟ أ 312 الثاني: ما ذا يقصد من التعبّدي؟ أ 313 الثالث: هل هناك عبادة ذاتية؟ أ 314 الرابع: ما هو حدّ العبادة؟ أ 314 الخامس: التقسيم ثنائي لا ثلاثي أ 315 السادس: ما هو الأصل فيما شكّ أنّه توصلي أو تعبّدي؟ أ 317 أدلّة القائلين بامتناع الأخذ في المتعلّق أ 318 الأوّل: استلزامه التكليف بغير المقدور أ 318 الثاني: استلزامه داعوية الأمر إلى نفسه أ 318 الثالث: استلزامه التسلسل أ 320

ص:616

الرابع: استلزام الدور أ 322 الخامس: تقدّم الشيء على نفسه أ 322 السادس: لزوم اتحاد الحكم و الموضوع أ 323 السابع: لزوم تقدّم الشيء على نفسه في المراحل الثلاث أ 324 الثامن: استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي أ 326 التاسع: التهافت في اللحاظ أ 326 العاشر: وجود التسلسل في المدعو إليه أ 327 تصحيح الأخذ بأمرين أ 328 الإطلاق المقامي أ 330 أدلّة القائلين بأنّ مقتضى الأصل هو التعبديّة أ 331 مقتضى الأصل العقلي أ 333 حكم الأصل الشرعي أ 336 نقل كلام عن المحقّق العراقي أ 337 المبحث الخامس: في دوران صيغة الأمر بين كونه نفسياً، تعيينياً، عينياً، و ما يقابلها، و فيه وجوه أ 340 الوجه الأوّل: الحمل مقتضى الإطلاق أ 341 الوجه الثاني: الحمل مقتضى حكم العقل في مجال العبودية أ 343 الوجه الثالث: المختص بمورد التعييني و العيني أ 343 المبحث السادس: الأمر عقيب الحظر أو توهمه أ 345

ص:617

المبحث السابع: دلالة الأمر على المرّة و التكرار أ 348 الأوّل: فيما إذا كانت هناك قرينة على أحد الأمرين أ 348 الثاني: في تحرير محلّ النزاع أ 348 الثالث: الفرق بين الدفعة و المرة و... أ 349 في دلالة الأمر على الفور أو التراخي و عدمها أ 353 أدلة القائل بالفورية أ 354 الأُولى: آية المسارعة أ 355 الفصل الثالث: في الاجزاء، و فيه أُمور أ 358 الأوّل: في عنوان المسألة أ 358 الثاني: ما هو المراد من لفظة» على وجهه «؟ أ 358 الثالث: ما هو المراد من الاقتضاء؟ أ 360 الرابع: للإجزاء حقيقة متشرعيّة؟ أ 362 الخامس: الفرق بين هذه المسألة و مسألة المرّة و التكرار أ 363 السادس: الفرق بين المقام و مسألة تبعية القضاء للأداء أ 363 مواضع ثلاثة في الإجزاء أ 365 الموضع الأوّل: امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً أ 366 تبديل امتثال بامتثال آخر أ 367 1. ما ورد في باب الكسوف أ 368

ص:618

2. ما ورد في إعادة الصلاة مع المخالف أ 369 3. استحباب الإعادة إذا وجد جماعة أ 369 الموضع الثاني: في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي أ 372 في العذر غير المستوعب أ 373 حكم الإجزاء ثبوتاً على القول بالتعدّد أ 374 المقام الأوّل: في العذر غير المستوعب أ 377 المقام الثاني: في العذر المستوعب أ 381 الموضع الثالث: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي أ 383 الأوّل: العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف أ 383 أسئلة و أجوبة أ 386 الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر أ 388 تفصيل بين الانكشاف الوجداني و غيره أ 389 التفصيل بين الطريقية و السببية أ 390 أقسام السببية أ 390 حكم الإجزاء على التفاسير الثلاثة أ 392 إذا كان وجه الحجّية غير معلوم أ 393 المورد الثاني: العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف، و فيه أُمور أ 397 1. أصالة الطهارة و الإجزاء أ 398

ص:619

2. أصالة الحلية و الإجزاء أ 399 3. الاستصحاب و الإجزاء أ 399 4. أصالة البراءة و الإجزاء أ 400 5. قاعدة التجاوز و الإجزاء أ 401 6. انكشاف الخلاف بدليل قطعي أ 402 7. تبدّل رأي المجتهد أ 403 تنبيهات ثلاثة أ 404 الأوّل: الامتثال اعتماداً على القطع بالأمر أ 404 الثاني: القول بالإجزاء لا يلازم التصويب أ 404 التنبيه الثالث: في مسائل تترتّب على الاجزاء أ 406 المسألة الأُولى: إذا اختلفت فتوى السابق مع اللاحق، و فيها موارد أ 406 1. حكم العبادات أ 408 2. حكم المعاملات أ 410 3. الموضوعات الخارجية أ 411 المسألة الثانية: لو بلغ الصبي أثناء الصلاة أ 412 المسألة الثالثة: إذا انحصر الثوب في النجس أ 413 الفصل الرابع: مقدّمة الواجب، و فيه أُمور أ 415 الأوّل: في تحرير محلّ النزاع أ 415

ص:620

الأمر الثاني: المسألة عقلية أُصولية أ 418 المسألة من مبادئ الأحكام أيضاً أ 419 الأمر الثالث: تقسيمات المقدّمة أ 423 التقسيم الأوّل إلى داخلية و خارجية أ 423 التقسيمات الداخلية، و فيها اصطلاحات و ثلاثة مقامات أ 423 أ. الداخلية بالمعنى الأخص أ 423 ب. الداخلية بالمعنى الأعم أ 423 المقام الأوّل: في صحّة عدّ الأجزاء مقدمة أ 424 الأوّل: جواب الشيخ الأعظم أ 425 الثاني: جواب المحقّق الخراساني أ 426 الثالث: جواب المحقّق البروجردي أ 427 الرابع: جواب المحقّق الخوئي أ 428 المقام الثاني: في وجود الملاك لوصف الأجزاء بالوجوب المقدّمي أ 429 المقام الثالث: في وجود المانع عن تعلّق الوجوب أ 429 الغناء عن الوجوب الغيري للإجزاء أ 431 التقسيمات الخارجية أ 432 التقسيم الثاني: تقسيمها إلى عقلية و شرعية و عادية أ 434 التقسيم الثالث: تقسيمها إلى مقدمة الوجود و الصحّة و... أ 436

ص:621

التقسيم الرابع: تقسيمها إلى السبب و الشرط و المعدّ و عدم المانع أ 438 التقسيم الخامس: تقسيمها إلى متقدمة و مقارنة و متأخرة، و فيه مقامات ثلاثة أ 440 المقام الأوّل: شرط المأمور به أ 441 المقام الثاني: شرائط التكليف أ 443 المقام الثالث: في شرائط الوضع أ 445 تصوير نتيجة الكشف الحقيقي أ 447 جواب المحقّق الخراساني أ 450 إجابة المحقّق النائيني عن الإشكال أ 453 الأمر الرابع: تقسيمات الواجب أ 456 التقسيم الأوّل: تقسيمه إلى مطلق و مشروط أ 456 الإطلاق و التقييد من الأُمور النسبية أ 460 تحليل واقع القيود ثبوتاً أ 461 أدلّة رجوع القيد إلى المادة أ 463 مسائل ثلاث أ 469 المسألة الأُولى: الوجوب فعلي أو انشائي أ 469 المسألة الثانية: ما فائدة الوجوب المشروط؟ أ 472 المسألة الثالثة: ما هو الأصل عند الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو

ص:622

المادة؟ أ 473 التقسيم الثاني: تقسيم الواجب المطلق إلى منجّز و معلَّق أ 474 إشكالات على هذا التقسيم أ 475 1. إشكال المحقّق الخراساني أ 475 2. إشكال آخر للمحقّق الخراساني أ 475 3. إشكال المحقّق ملا علي النهاوندي أ 476 4. إشكال العلاّمة الحائري أ 482 5. إشكال آخر للمحقّق الخراساني أ 482 6. إشكال المحقّق النائيني، و فيه أُمور أ 483 1. كلّ القيود ترجع إلى الموضوع أ 483 2. لا فرق بين الاستطاعة و الزمان أ 484 3. الزمان أولى أن يكون قيداً للوجوب أ 484 7. إشكال المحقّق الخوئي أ 486 المقدمات المفوتة أو ثمرات الواجب المعلّق أ 488 تطبيقات أ 491 سؤال و إجابة أ 492 إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة أ 493 مقتضى الأصل اللفظي عند الترديد أ 494

ص:623

الأوّل: تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي أ 494 الوجه الثاني: تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً و لا عكس أ 496 مقتضى الأصل العملي أ 498 التقسيم الثالث: تقسيمه إلى نفسي و غيري أ 499 تعريف ثان للنفسي و الغيري أ 500 تعريف ثان للنفسي و الغيري أ 500 دوران الوجوب بين النفسي و الغيري أ 502 الأوّل: ما هو مقتضى الأصل اللفظي؟ أ 502 أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة أ 505 المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي أ 508 تنبيهات أ 511 الأوّل: في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري أ 511 أدلّة القائلين بالاستحقاق أ 512 الثواب و العقاب من لوازم الأعمال التكوينية أ 515 1. الصلة بين العمل و الثواب توليدية أ 515 2. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي أ 515 3. الثواب فعل النفس أ 516 ترتّب الثواب على الواجب الغيري أ 518

ص:624

محاولة المحقّق الخراساني لتفسير ما دلّ على ترتّب الثواب أ 522 التنبيه الثاني: إشكالات الطهارات الثلاث أ 524 دراسة الإشكال الأوّل أ 525 دراسة الإشكالين الثاني و الثالث أ 526 الأوّل: انّ الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة أ 526 الثاني: انّ ملاك العبادية هو الأمر النفسي المتعلّق بذيها أ 528 الثالث: كفاية قصد التوصّل في العبادية أ 529 الرابع: كفاية قصد الإتيان للّه أ 530 التقسيم الرابع: الأصلي و التبعي أ 535 نظرية المحقّق الخراساني أ 535 نظرية المحقّق القمي أ 537 إذا دار أمر الواجب بين الأصلي و التبعي أ 537 الأمر الخامس: وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقاً و اشتراطاً أ 539 الأمر السادس: ما هو الواجب من المقدّمة؟، و فيه أقوال أ 541 القول الأوّل: وجوب مطلق المقدّمة أ 541 القول الثاني: وجوب المقدّمة حين إرادة ذيها أ 542 القول الثالث: وجوب المقدّمة بشرط إرادة ذيها أ 543 القول الرابع: وجوب المقدّمة بشرط التوصّل إلى ذيها أ 544

ص:625

الأوّل: قصد التوصّل قيد لحصول الامتثال أ 544 الثاني: قصد التوصّل شرط لرفع الحرمة عند التزاحم أ 545 الثالث: قصد التوصّل جزء الموضوع أ 546 تأييد لمقالة الشيخ أ 547 القول الخامس: وجوب المقدّمة الموصلة، و فيه مقامات أ 550 المقام الأوّل: أدلّة القول بوجوب الموصلة أ 551 المقام الثاني: إشكالات القول بوجوب المقدّمة الموصلة أ 559 1. انقلاب الواجب النفسي إلى الغيري أ 559 2. سقوط المقدّمة بالإتيان بها أ 560 3. ما هو مقدّمة ليست بموصلة أ 561 4. لزوم الدور أ 563 5. لزوم التسلسل أ 564 6. اختصاص الوجوب بالعلل التوليدية أ 565 المقام الثالث: ثمرات القول بوجوب المقدّمة الموصلة أ 567 الثمرة الأُولى: بقاء الحرمة في غير الموصلة أ 567 الثمرة الثانية: صحّة الصلاة على القول بالموصلة أ 568 نظرية الشيخ في الثمرة أ 569 حدّ النقيض أ 569

ص:626

كلام المحقّق الخراساني في ردّ الثمرة أ 570 القول السادس: وجوب المقدّمة حال الإيصال أ 571 الأمر السابع: في ثمرات القول بوجوب المقدّمة أ 577 الثمرة الأُولى: اتّصاف المقدّمات بالوجوب الغيري أ 577 الثمرة الثانية: تحقّق الوفاء بالنذر أ 577 الثمرة الثالثة: استحقاق الأجر أ 578 الثمرة الرابعة: حرمة أخذ الأُجرة على المقدّمة أ 579 الثمرة الخامسة: حصول الفسق بترك مقدّمة أ 582 الثمرة السادسة: جعل المصداق لمسألة الاجتماع أ 582 الف: عنوان المقدّمة تعليلي أ 583 ب: الوجوب مختص بغير الحرام في صورة عدم الانحصار أ 584 ج: وجوب المقدّمة لا مدخلية له فيما هو المهم في باب المقدّمة أ 584 الثمرة السابعة: تصحيح العبادات الغيرية أ 585 الأمر الثامن: تأسيس الأصل في المسألة أ 586 حكم الأصل في المسألة الأُصولية أ 586 إجراء حكم الأصل في المسألة الفقهية أ 588 أدلّة القائلين بوجوب المقدمة أ 594

ص:627

الأوّل: لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم تجب أ 595 الثاني: قضاء الوجدان بالوجوب أ 597 الثالث: وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية أ 597 الرابع: وجود الأوامر الغيرية في الشريعة أ 598 ما هو المختار في باب المقدّمة؟ أ 600 إكمال: تفصيلان في مقدّمة الواجب أ 601 الأوّل: التفصيل بين السبب و غيره أ 601 الثاني: التفصيل بين الشرط الشرعي و العقلي أ 601 مقدّمة المستحب و المكروه و الحرام أ 602 الأوّل: السريان مطلقاً أ 603 الثاني: السريان في المقدّمة التوليدية أ 604 الثالث: التفصيل بين ما لا يتوسط بين المقدّمة و ذيها اختيار الفاعل أ 606 الرابع: انّ الحرام هو الجزء الأخير إذا كانت الأجزاء مترتّبة أ 607 فهرس المحتويات أ 609

ص:628

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:2

ص:3

المدخل

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة: 122

ص:4

كلمة الأُستاذ المحاضر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه الذي تواترت نعماؤه، و استفاضت آلاؤه، و الصلاة و السلام على سيّد أنبيائه و خاتم رسله أبي القاسم محمّد و آله الذين هم معجزة نبوته و آية رسالته صلاة دائمة لا نهاية لها.

أمّا بعد، فقد سبرت هذا الجزء من كتاب» إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول «الذي قام بتحريره و ترصيفه ولدنا الأعزّ العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي حفظه اللّه و قد أودع فيه ما ألقيته على فضلاء الحوزة العلمية في قم المقدسة، فوجدته كأجزائه السابقة وافياً للمراد، بعيداً عن الإيجاز المخلّ، و الإطناب المملّ.

و جاءت هذه الأجزاء الأربعة على منوال واحد في حسن التعبير و روعة البيان، و قد قام المؤلّف بهذا المجهود العظيم.

بعزمة دونها العيّوق منزلة و ساعد ليس تُثنيه الملمّات

ص:5

فقد شمّر عن ساعد الجدّ، و بذل غاية الجهد و الكدّ، و أسهر الناظر، و أتعب الخاطر، فجاء بصحيفة كاملة لدورة أُصولية، بلغة واضحة، تناسب لغة علم الأُصول، فصار قدوة لأمثاله، و أُسوة لأقرانه.

فجزاه اللّه أحسن الجزاء بما أسدى للمكتبة الإسلامية من خدمة كبيرة.

و أسأله سبحانه أن يرزقه خير الدنيا و الآخرة، و يوفقه لمزيد من العلم و العمل. و جعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه.

جعفر السبحاني قم مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 12 محرم الحرام من شهور عام 1424 ه

ص:6

كلمة المؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين محمّد) صلى الله عليه و آله و سلم (و آله الطيّبين الطاهرين الذين هم أساس الدين و عماد اليقين صلاة دائمة زاكية غير منقطعة.

أمّا بعد، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا» إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول «أُقدمه للقراء الكرام عسى أن ينال الرضا منهم و قد اقتطفته من بحوث شيخنا الجليل و الأُستاذ الكبير الذي كرّس نفسه للتدريس و التأليف و تربية جيل كبير من رواد العلم، أعني: به شيخنا و أُستاذنا آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني) مدّ اللّه في عمره الشريف (.

و هذا الجزء يحتوي على لبّ ما أفاده و ألقاه في حوزة درسه على فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة و به تتم دورة كاملة أُصولية، و قد أشرف على ما كتبتُه و نسّقته فحظى بالرضا و القبول.

ص:7

و حقيقة الأمر أنّي لم أكن أحلم يوم حضرتُ مجلس درس شيخنا الأُستاذ مدّ ظله الوارف بهذه النعمة العظمى التي لا تُنال إلاّ بهمة قعساء، و جهود مضنية، لكن سوابغ نعمه سبحانه، و عميم فضله شملتني حتّى وفقتُ لتقديم موسوعة أُصولية تحتوي على أقوال المتقدّمين، و أنظار المتأخرين للجيل الحاضر.

أشكره سبحانه على هذه النعمة الكبرى، التي حباني بها، و أسأله سبحانه أن يتقبله بقبول حسن، و يرزقني حسن العاقبة.

محمد حسين الحاج العاملي قم الحوزة العلمية

ص:8

تتمة المقصد الأول في الأوامر

الفصل الخامس اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه؟

و قبل الخوض في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
1. المسألة أُصولية

البحث عن أحكام الضد مسألة أُصولية لوقوع نتيجتها في طريق الاستنباط، لأنّه إذا ثبت اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه، كالإزالة الواجبة بالنسبة إلى الصلاة، تكون الصلاة منهيّة و النهي يوجب فسادَ متعلّقِه على القول بأنّ مثل هذا النهي يوجب الفساد فتُصبح الصلاة فاسدة، كما أنّه على القول بعدم الاقتضاء يحكم بصحتها.

2. المسألة عقلية أو لفظية

لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء في عنوان البحث) الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه (هو الملازمة بين إرادة الوجوب و إرادة النهي عن ضدّه، تُصبح المسألة مسألة عقلية، و أمّا لو قلنا بأنّ المراد من الاقتضاء هو دلالة الأمر سواء أ كانت مطابقية أو تضمنية أو التزامية، تكون المسألة لفظية أُصولية.

ص:9

و من هنا يعلم أنّ الجمع بين كون المسألة عقلية و تفسير الاقتضاء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية جمع غير صحيح، فمن جعل المسألة عقلية ليس له إلاّ البحث عن وجود الملازمة و عدمه، و من جعل المسألة لفظية فعليه البحث عن كيفية الدلالة في مقام الإثبات.

3. الضدّ العام و الخاص

يُفسّر الضدُّ المطلق بالمعاند، و هو إمّا ترك الشيء كترك الإزالة أو الشيء المزاحم للواجب كالصلاة بالنسبة إليها; و يسمى الأوّل بالضدّ العام، و الثاني بالضد الخاص، و كلّما أطلق الضد بلا قرينة ينصرف إلى الضد الخاصّ.

4. محاور البحث
اشارة

يتلخص البحث في هذا الفصل في محاور ثلاثة:

أ. حكم الضدّ العام.

ب. حكم الضدّ الخاص.

ج. الثمرات الفقهية للمسألة.

و إنّما قدمنا البحث عن الضدّ العام على الخاص، لأنّ إقامة البرهان على اقتضاء الأمر النهيَ عن الضدّ الخاص مبني على اقتضائه النهيَ عن الضدّ العام.

ص:10

المحور الأوّل: الضد العام
هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العام أو لا؟

قد عرفت أنّ الاقتضاء إمّا بدلالة اللفظ، أو بحكم العقل بالملازمة. فلنقدّم الكلام في دلالة اللفظ على البحث في حكم العقل بالملازمة، فنقول:

إنّ دلالة الأمر على النهي عن الضدّ العام إمّا بالدلالة المطابقية، أو بالتضمنية، أو بالالتزامية.

أمّا الأُولى: فقد قالوا في بيانها ما يلي:

إذا أمر المولى بإزالة النجس عن المسجد فضده العام هو ترك الإزالة هذا من جانب.

و من جانب آخر انّ النهي مطلقاً عبارة عن طلب الترك.

فعندئذ لو تعلّق النهي بترك الإزالة يكون مفادُه، طلبَ تركِ تركِ الإزالة، و هو نفس الأمر بالإزالة.

ص:11

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه افترض أُموراً، نحن أيضاً نفترض انّها صحيحة.

أ. انّ ضدّ الإزالة هو: ترك الإزالة.

ب: انّ مفاد النهي عن الشيء في عامة الموارد هو طلب الترك.

ج. انّ طلب ترك ترك الإزالة عبارة عن نفس الأمر بالإزالة.

نفترض انّ هذه الأُمور الثلاثة لا نزاع فيها و إنّما الكلام هل الأمر بالشيء يقتضي النهي الكذائي حتّى يكون النهي عين الأمر أو لا يقتضي؟ و المستدلّ لم يقم برهاناً على الاقتضاء، و من المعلوم أنّ الكلام ليس في عينية، الأمر بالشيء مع النهي عن ترك الترك، و إنّما الكلام في اقتضاء الأمر و انّه يتولّد منه ذلك النهي الكذائي.

و ثانياً: لو افترضنا وجود النهي الكذائي فهو ليس عين الأمر بالإزالة مفهوماً، نعم عينه مصداقاً و وجوداً، و محل النزاع هو الأوّل لا الثاني.

و ثالثاً: أنّ الاستدلال مبني على أنّ مفاد هيئة النهي في عامة الموارد هو) طلب الترك (، فإذا أُضيف إلى الضدّ العام) ترك الإزالة (يكون حاصل المجموع طلب ترك ترك الإزالة لكن مفهوم النهي هو الزجر عن الطبيعة، لأنّ النهي مشتمل على هيئة و مادة، فالهيئة تدلّ على الزجر، و المادة تدلّ على الطبيعة فأين الدال على طلب الترك؟ هذا كلّه حول الدلالة المطابقية.

و أمّا القول بالاقتضاء بالدلالة التضمنية فهو يَكْمُنُ في تحليل قولنا:» أزل النجاسة «حيث إنّ الأمر عند القائل» طلب الشيء مع المنع عن تركه «بحيث يكون المنع عن الترك جزء مفاد الأمر.

يلاحظ عليه: بأنّ الأمر مشتمل على الهيئة و المادة; و الهيئة تدلّ على إنشاء البعث، و المادة على الطبيعة، فما هو الدالّ على المنع عن الترك؟ هذا كلّه حول الدلالة التضمنية.

و أمّا الدلالة الالتزامية فهي إمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص بأن يكون

ص:12

نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع عن الترك، و إمّا بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم بأن يكون تصور الطرفين و النسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء و الدلالة.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء، إذ كيف يمكن ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بالشيء و هو غافل عن تركه، فضلاً عن النهي عن تركه.

و أمّا الثاني فلو افترضنا وجود ذلك النهي بعد تصور الأُمور الثلاثة، فهو إمّا لغو، أو غير باعث على النحو الذي ذكرنا في وجوب المقدّمة، إذ لو كان مطيعاً فلا حاجة إلى النهي عن الترك، و إن كان عاصياً فلا يكون النهي عن الترك داعياً و باعثاً.

أضف إلى ذلك: انّ ملاك الأمر وجود المصلحة في الفعل و عدمها في الترك، كما أنّ معنى النهي عن الشيء وجود المفسدة في الفعل و عدمها في الترك، فلو تواجد الأمر و النهي في مورد واحد فمعنى ذلك وجود المصلحة في الفعل و المفسدة في الترك و هو أمر نادر.

هذا كلّه إذا قلنا بالدلالة اللفظية، و أمّا القول بالدلالة العقلية فبيانه هو ادّعاء الملازمة بين الإرادتين، فلو أمر بشيء فلا محيص من ظهور إرادتين في نفسه و هو إرادة فعل الشيء و إرادة ترك تركها، و إثباتها دونه خرط القتاد، بل ليس في لوح النفس الإرادة واحدة فتارة تنسب إلى فعل الشيء، و أُخرى إلى ترك الترك.

إلى هنا تبيّن انّه لا وجه لادّعاء الاستلزام لا لفظياً و لا عقلياً، فلنعطف عنان القلم إلى بيان حكم الضدّ الخاص الذي هو بيت القصيد في هذا الفصل.

ص:13

المحور الثاني حكم الضدّ الخاص

و الكلام في المقام هو نفس الكلام في المقام السابق، غير أنّ البحث فيه كان في الضدّ العام و في المقام في الضدّ الخاص، و انّ الأمر بالشيء كالإزالة هل يدل على النهي عن الضدّ الخاص كالصلاة؟ فلو قال المولى: أزل النجاسة عن المسجد أو أدِّ الدين العاجل، فهل يلازم النهي عن الصلاة و أمثالها ممّا يمنع عن القيام بالواجب المضيّق أو لا.

و قد استدلّ القوم على الدلالة بوجهين:

الأوّل: انّ ترك الضد مقدمة لفعل الضدّ الأهم، و هذا ما نسمّيه بمسلك المقدمية.

الثاني: وجود الملازمة العقلية بين الأمر بالأهم و النهي عن المهم، و هذا ما نسمّيه بمسلك الملازمة.

و لنقدم البحث في الوجه الأوّل على الثاني، فنقول:

إنّ مسلك المقدمية مبنيّ على أُمور ثلاثة:

1. انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر الأهم.

2. انّ مقدّمة الواجب واجبة، فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.

ص:14

3. انّ الأمر بالشيء أي الأمر بترك الصلاة بحكم انّه مقدمة يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيض الترك و هو فعل الصلاة.

فلو ثبتت هذه المقدمات تكون النتيجة هي النهي عن الصلاة التي هي ضدّ عام لتركها و ضدّ خاص للإزالة.

و بما انّ المهم من هذه الأُمور الثلاثة هو الأمر الأول نقدّم الكلام فيه.

ص:15

مسلك المقدّمية

استدلّ القائل بالمقدّمية بالنحو التالي:

إنّ توقّف الشيء على ترك ضدّه ليس إلاّ من جهة المضادة و المعاندة بين الوجودين و قضيتهما الممانعة بينهما، و من الواضح انّ عدم المانع من المقدمات.

و حاصل الاستدلال: انّ الصلاة مانعة عن الإزالة، و عدم المانع من أجزاء العلة، و جزء العلة ككلّ العلّة مقدّمة.

و قد ناقش صاحب الكفاية هذه المقدّمة بوجوه:

المناقشة الأُولى: بينهما كمال الملاءمة لا المقدمية

إنّ المعاندة و المنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق بحيث لا منافاة أصلاً بين إحدى العينين و ما هو نقيض الآخر) كالإزالة و عدم الصلاة (، بل كان بينهما كمال الملاءمة، فإنّ إحدى العينين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر.(1)

و حاصل المناقشة: انّ المعاندة بين العينين و كمال الملاءمة بين إحدى العينين و نقيض الآخر يقتضي انّ الجميع في رتبة واحدة، و ما يكون في رتبة واحدة

ص:16


1- الكفاية: 1/206.

لا يمكن أن يعد إحداهما مقدّمة للآخر.(1)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني نقد هذه المقدمة، و قال:

إنّ المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضي، بحيث لولاه لأثر المقتضي أثره من إفاضة الوجود إلى المعلول فيكون الموجب لعدم الرشح و الإفاضة هو وجود المانع، و هذا المعنى من المانع لا يتحقّق إلاّ بعد فرض وجود المقتضي بما له من الشرائط فانّه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع و يكون عدم الشيء مستنداً إلى وجود المانع، و أمّا قبل ذلك فليس رتبة المانع، لوضوح أنّه لا يكون الشيء مانعاً عند عدم المقتضي أو شرطه، فلا يقال للبلّة الموجودة في الثوب أنّها مانعة عن احتراق الثوب إلاّ بعد وجود النار و تحقّق المجاورة و المماسة بينها و بين الثوب، و حينئذٍ يستند عدم احتراق الثوب إلى البلّة الموجودة فيه.

و يترتب على ذلك عدم إمكان مانعية أحد الضدّين.

و ذلك لأنّه لا يتصوّر المانعية للصلاة إلاّ بعد تحقّق أمرين متضادين:

1. وجود العلّة التامة الشاملة للمقتضي لتحقّق الصلاة في الخارج.

2. وجود المقتضي و الشرط للإزالة حتّى تكون الصلاة مانعة.

و ذلك يستلزم وجود المقتضيين للضدّين، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الضدّين، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضي الضدّين لتضاد مقتضيهما أيضاً، و بعد عدم إمكان اجتماع مقتضي الضدّين لا يمكن كون أحدهما مانعاً عن الآخر.(2)

ص:17


1- ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ناقش جواب المحقّق الخراساني كما ناقش السيد الإمام الخميني كلام المحقّق الاصفهاني، و قد نقلهما شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة كما نقل نظره في كلام الإمام السيد الخميني، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب » المحصول «لزميلنا السيد الجلالي المازندراني حفظه اللّه.
2- فوائد الأُصول: 3081/307.

ثمّ إنّ أساس الإشكالين السابقين من المحقّق الخراساني و المحقّق النائيني كان مبنياً على تسليم كون عدم المانع مقدمة و لكن نوقش في خصوص كون عدم الضدّ مقدّمة لترك الضدّ.

و بعبارة أُخرى: كانت المناقشة في الصغرى مع قبول الكبرى و لكن الحقّ المناقشة في الكبرى و انّ عدم المانع على وجه الإطلاق من غير فرق بين المقام و غيره كعدم الرطوبة بالنسبة إلى الاحتراق ليس مقدّمة.

و ذلك لأنّ الأصل في الخارج هو الوجود، و العدم ليس له أيّ أصالة فيه و إنّما هو مفهوم ذهني يصنعه الذهن بتعمل، مثلاً انّ الإنسان إذا دخل القاعة أملاً برؤية زيد و لم يره فيها، فهو في الواقع لم ير شيئاً و لم يجد فيها شيئاً لا انّه يرى عدمه فيها، لكن الذهن بالتعمل يصنع من هذا مفهوماً ذهنياً باسم العدم مع خلو صفحة الوجود عنه.

و على ضوء ذلك فلا معنى لجعل عدم المانع من أجزاء العلة، إذ ليس له شأن التأثير أو التأثر و لا الموقوف و لا الموقوف عليه.

نعم لما كان وجود الضد مزاحماً لوجود الضد الآخر عُبِّر عن هذا التزاحم بأنّ عدم الضدّ شرط لوجود الضد الآخر، و كم فرق بين القول بأنّ الضدّ مزاحم، و القول بأنّ عدمه شرط.

و بعبارة أُخرى: انّ رطوبة الحطب أو القطن مانعة من تأثير المقتضي أي النار فيهما لا أنّ عدم الرطوبة شرط. فالأحكام كلّها للوجودات) الرطوبة مانعة (و ينسب إلى الاعدام) عدم الرطوبة شرط بالعرض و المجاز (، و إلى ذلك يشير المحقّق السبزواري في منظومته و شرحه ما هذا لفظه:

ص:18

لا ميز في الاعدام من حيث العدم و هو، لها إذاً بوهم ترتسم

كذاك في الأعدام لا عليّة و إن بها فاهوا فتقريبية

فلو قالوا: عدم العلّة علّة لعدم المعلول، فهو على سبيل التقريب، فانّ الحكم بالعلّية عليه، بتشابه الملكات، فإذا قيل: عدم الغيم علّة لعدم المطر، فهو باعتبار انّ الغيم علّة للمطر، فبالحقيقة قيل: لم تتحقّق العلّية التي كانت بين الوجودين، و هذا كما تجري أحكام الموجبات على السوالب في القضايا، فيقال: سالبة، حملية، أو شرطية، متصلة أو منفصلة أو غيرها كلّ ذلك بمتشابه الموجبات.(1)

و على ضوء هذا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الاصفهاني حيث رأى أنّ لاعدام الملكات واقعية لكونها أمراً منتزعاً من الخارج فقال:

الاستعدادات و القابليات و أعدام الملكات كلّها، لا مطابَق لها في الخارج، بل شئون و حيثيات انتزاعية لأُمور موجودة، فعدم البياض في الموضوع الذي هو من أعدام الملكات كقابلية الموضوع من الحيثيات الانتزاعية منه» فكون الموضوع بحيث لا بياض له «هو بحيث يكون قابلاً لعروض السواد فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية انتزاعية.(2)

وجه الضعف: انّ ما ذكره صحيح في الاستعداد و القابلية و حتى الإضافة فانّ القابلية في النواة و النطفة أمر تكويني موجود فيها دون الحجر، و هكذا الإضافة كالأُبوّة و البنوّة، فانّهما ينتزعان من حيثية وجودية من تخلّق الابن من ماء الأب،

ص:19


1- شرح المنظومة، قسم الحكمة، ص 47، نشر دار العلم.
2- نهاية الدراية: 1/220.

فلكلّ واقعية بواقعية مبدأ انتزاعهما، و أمّا الاعدام فليس لها واقعية سوى واقعية ملكاتها، فالواقعية في عدم البياض هي لنفس البياض دون عدمه و في عدم البصر لنفس البصر لا للعدم.

و ما أفاده من أنّ متمّم القابلية كنفس القابلية مشيراً إلى أنّ» عدم المانع «متمم للقابلية ضعيف جداً، فانّ قابلية الجسم لقبول البياض تامة لا نقص فيها، و أمّا عدم قبوله له مع وجود السواد، فليس لأجل نقص في القابلية، بل لوجود التزاحم بين الوجودين، فعُبِّر عن التمانع بأنّ عدم المانع شرط.

و على ما ذكرنا فالأولى رفض الكبرى على وجه الإطلاق لا قبولها و المناقشة في الصغرى.

و بذلك يظهر النظر فيما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي) قدس سره (حيث قال: ربما يضاف العدم إلى الوجود، فيحصل له حظ من الوجود، و يتبعه نوع من التمايز كعدم البصر الذي هو العمى المتميز من عدم السمع الذي هو الصمم، و كعدم زيد و عدم عمر المتميز أحدهما عن الآخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ التميّز الذهني، غير كون العدم ذا حظ من الوجود في الخارج، فكلّ ما ذكره صحيح في الذهن لا في الخارج، و الكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل، و التميز نوع ارتباط ذهني بين الأمرين الوجوديين فانّ العدم في عدم البصر، عدم بالحمل الأوّلي، لكنّه موجود بالحمل الشائع الصناعي.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني مناقشتين أُخريين حول المقدّمة الأُولى، و إليك دراستهما.

ص:20


1- نهاية الحكمة: 19.
المناقشة الثانية: قياس الضدّين بالنقيضين

إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين.(1)

هذه، هي المناقشة الثانية التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى المقدّمة الأُولى، أعني: كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضد، و توضيحها كالتالي:

إنّ ارتفاع أحد النقيضين كرفع اللابياض ليس مقدمة لتحقّق النقيض الآخر) البياض (مع كمال المنافرة بين النقيضين) البياض و اللابياض (، بل رفع أحد النقيضين ملائم لثبوت النقيض الآخر.

فإذا كان هذا حال النقيضين فليكن حال الضدين أيضاً كذلك لوحدة الملاك و هو المنافرة بين العينين و الملاءمة بين أحدهما و رفع الآخر، فلا يكون رفع البياض مقدمة لثبوت الضدّ الآخر.

و ربما تقرّر المناقشة بوجه آخر و هو التمسّك بقانون المساواة، بيانه:

إنّ النقيضين كالبياض و اللابياض في رتبة واحدة هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الضدّين كالبياض و السواد في رتبة واحدة، فينتج انّ اللابياض في رتبة الضدّ الآخر أي السواد.

و ذلك لأنّه لو كان اللابياض في رتبة البياض، و كان البياض في رتبة السواد، تكون النتيجة انّ اللابياض في رتبة السواد لقاعدة التساوي، فانّ مساوي المساوي للشيء، مساو لذلك الشيء.(2)

ص:21


1- كفاية الأُصول: 1/207.
2- المراد من المساوي الأوّل هو اللابياض و من الثاني البياض، و المراد من الشيء هو السواد.

يلاحظ عليه: أنّ قانون المساواة إنّما يجري في المسائل الهندسية فيقال: انّ زاوية» أ «مساوية لزاوية » ب «، و زاوية» ب «مساوية لزاوية» ج «، فينتج انّ زاوية» أ «مساوية لزاوية» ج «، و أمّا التقدّم و التأخّر و التقارن من حيث الرتبة فلا تعمّها القاعدة، بل ثبوت كلّ تابع لوجود الملاك فيه و قد يوجد الملاك في أحد المساويين دون الآخر، و لذلك قالوا: إنّ ملازم العلّة ليس متقدماً على المعلول رتبة مع أنّ العلّة متقدمة عليه كذلك و ما هو إلاّ لأنّ ملاك التقدّم و هو نشوء المعلول عن العلّة موجود في العلة لا في ملازمها.

و على ذلك فلو كان البياض متحداً مع السواد رتبة لا يكون دليلاً على أنّ المتحد مع البياض) اللابياض (متّحد مع السواد في الرتبة، و ذلك لفقد الملاك، لأنّ اتحاد النقيضين في الرتبة لأجل انّه لو لا الاتحاد يلزم ارتفاعهما و هو محال مثلاً إذا لم يصدق أحد النقيضين كالبياض فلو قلنا بأنّ النقيضين في رتبة واحدة فلا بدّ أن يصدق اللابياض، و لو نقل، لا يلزم أن يصدق اللابياض و عند ذاك يلزم ارتفاع النقيضين، فظهر انّه لا محيص من القول بوحدة رتبة النقيضين و إلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

و هذا بخلاف اللابياض و السواد فلا يلزم من القول بعدم الوحدة في الرتبة، سوى ارتفاعهما و عدم صدقهما و لا محذور فيه.

المناقشة الثالثة: استلزامه الدور

هذه هي المناقشة الثالثة التي وجهها المحقّق الخراساني إلى كون الضدّ مقدمة للضدّ الآخر، و بيّنها بالعبارة التالية:

لو اقتضى التضاد توقّفَ وجود الشيء على عدم ضدّه، توقّفَ الشيء على

ص:22

عدم مانعه، لاقتضى توقّفَ عدمِ الضدّ على وجود الشيء، توقّفَ عدم الشيء على مانعه، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين و كون المطاردة من الجانبين، و هو دور واضح.(1)

و ربما يردّ الدور بما في الكفاية من أنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلي، و لكن توقّف عدم الآخر على وجود واحد من الضدّين شأني، مثلاً: انّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقّق البياض فيه، و أمّا توقّف عدم الضدّ) البياض (على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي فلا دور.

أمّا كون التوقّف في جانب الوجود فعلي، فلوضوح انّ توقّف وجود المعلول على جميع أجزاء علته و منها عدم المانع فعلي، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحقّقه و وجوده في الخارج، و أمّا عدم الضدّ فلا يتوقّف على وجود الضدّ الآخر، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقّق المقتضي مع بقية الشرائط ليكون توقّفه عليه فعليّاً.

و قد أجاب عن الإشكال المحقّق الخراساني(2) بأنّ الدور و إن ارتفع فعلاً لكن لم يرتفع شأناً، لأنّ عدم الضدّ و إن كان موقوفاً عليه بالفعل، لوجود الضدّ

ص:23


1- كفاية الأُصول: 1/207.
2- لا يخفى انّ عبارة الكفاية في هذا المقام لا تخلو من إغلاق و غموض، و ذلك لأجل أمرين: الأوّل: انّه فصل بين المبتدأ أعني قوله:» و ما قيل في التفصي «و الخبر أعني قوله:» غير سديد «بفاصل طويل يبلغ مقدار صفحة، و مثل هذا يخل بالبلاغة. الثاني: انّه أقحم بين الإشكال على الدور و الإجابة عنه سؤالاً و جواباً تحت عنوان» إن قلت، قلت «، و زاد هذا تعقيداً على تعقيد. و ذكر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه انّ السؤال قد طرحه تلميذه الشيخ عبد اللّه الكلبايكاني في درسه الشريف، و أجاب عنه بما في الكفاية، فمدّ اللّه عمر شيخنا الأُستاذ فقد أوضح ما في الكفاية بما لا مزيد عليه كما ترى.

الآخر، و لكنّه أيضاً موقوف على وجود الضدّ الآخر شأناً، بحيث لو وجد المقتضي للإيجاد يكون عدمه مستنداً إلى وجود الضدّ و هو أيضاً محال، ضرورة استلزامه كون شيء مع كونه في مرتبة متقدمة فعلاً، في مرتبة متأخرة شأناً.

تحليل المقدّمة الثانية من الاستدلال

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ الخاص استدلّ بدليل ذات مقدّمات ثلاث:

الأُولى: انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، و هذا هو الذي تقدّم الحديث عنه.

الثانية: انّ مقدّمة الواجب واجب، و قد مرّ الكلام فيه.

الثالثة: إذا كان ترك الصلاة مقدّمة للإزالة بحكم المقدّمة الأُولى، و كان ترك الصلاة واجباً بحكم المقدّمة الثانية، تصل النوبة إلى المقدّمة الثالثة و هي انّ الأمر بالشيء و هو في المقام أمر مقدّمي، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة يقتضي النهي عن ضدّه العام أي نقيضه و هو هنا الصلاة، فتكون الصلاة منهياً عنها.

و ببركة هذه المقدّمات الثلاث يثبت انّ المولى إذا أمر بالإزالة فلا محيص له عن النهي عن الصلاة بحكم هذه المقدّمات.

أقول: إنّ المقدّمتين التاليتين كالمقدّمة الأُولى باطلتان.

أمّا الثانية فقد قلنا: إنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة مطلقاً من غير فرق بين المقام و غيره، لأنّ الهدف من إيجاب المقدّمة هو إيجاد البعث و الداعي في ذهن المخاطب; و عندئذ فلو كان المخاطب قاصداً للإتيان بذيها، فهو يأتي بالمقدّمة

ص:24

بحكم العقل من دون حاجة إلى إيجابها; و إن كان صارفاً عن إتيانه، فلا يبعثه الأمر بالمقدّمة إلى امتثال ذيها لعدم ترتّب العقاب على تركها.

و منه يظهر بطلان المقدّمة الثالثة و هو انّه إذا أمر المولى بترك الصلاة بحكم انّه مقدّمة فعليه أن ينهى عن ضدّه العام أعني: ترك ترك الصلاة الذي هو مساو للصلاة فانّ هذا النهي مثل الأمر بالمقدّمة إمّا لغو و إمّا غير باعث، لأنّه لو كان ناوياً للإزالة فلا حاجة للنهي عن الصلاة، و إن كان صارفاً عنها فلا يكون النهي عن الصلاة داعياً له إلى امتثال الإزالة.

و بذلك تمّ الكلام في المسلك الأوّل الذي أسميناه بمسلك المقدّميّة حيث إنّ المستدلّ يتطرق إلى مقصود عن هذا الطريق، و بدوري أرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء من الإطناب في هذا البحث، فانّ طبيعة البحث ألجأتني إليه.

ص:25

المسلك الثاني: مسلك الملازمة

قد عرفت أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام استدلّ بوجهين:

أحدهما: مسلك المقدمية و قد مضى الكلام فيه.

الثاني: مسلك الملازمة و الاستدلال عن هذا الطريق مبني على أُمور ثلاثة:

أ: انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضدّه العام و هو ترك الإزالة.

ب: انّ الاشتغال بكلّ فعل وجودي) الضدّ الخاص (كالصلاة و الأكل ملازم للضدّ العام، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج: المتلازمان متساويان في الحكم، فإذا كان تركُ الإزالة منهياً عنه حسب المقدّمة الأُولى فالضدّ الملازم لها كالصلاة يكون مثلَه. فينتج انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن الضدّ الخاص.

يلاحظ على الأمر الأوّل بما مرّ من المنع عن اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه العام، و انّ مثل هذا النهي المولوي لا يترتّب عليه أي أثر.

كما يلاحظ على الأمر الثاني بأنّه لا دليل على تساوي المتلازمين في الحكم، إذ يمكن أن يكون الملاك موجوداً في أحدهما دون الآخر. بأن يكون ترك الإزالة حراماً و لا يكون ملازمة الصلاة حراماً لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

نعم يجب أن لا يكون المساوي محكوماً بحكم مضاد لحكم المساوي، فإذا

ص:26

وجب الاستقبال إلى الكعبة لا يجوز أن يحرم الاستدبار إلى الجدي. نعم لا يجب أن يكون الاستدبار واجباً.

قد فرغنا عن الدليلين اللّذين أُقيما على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص، و لما كانت المقدّمة الأُولى للدليل الأوّل، هو مقدمية ترك الضدّ، لفعل الضدّ الآخر، و قد عرفت بطلانه و كان للمحقّق الخوانساري تفصيلاً في المقام، أحببت التعرّض له فأقول:

عود إلى مسلك المقدمية ثانياً

ذهب المحقّق الخوانساري إلى التفصيل بين الضدّ الموجود و الضدّ المعدوم، فذهب إلى توقّف الضدّ على ارتفاع الضد الموجود و لا يمكن، فلو كان المحل أسود توقف عروض: البياض على ارتفاع السواد دون ما إذا لم يكن أسود.

و أيّده المحقّق النائيني بقوله: إنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين، فلا يكون قابلاً لعروض الضدّ الآخر إلاّ بعد انعدامه، و يكون وجوده موقوفاً على عدم الضدّ الموجود، و هذا بخلاف ما إذا لم يكن شيء منهما موجوداً و كان المحل خالياً عن كلّ منهما، فانّ قابليته لعروض كلّ منهما فعلية، فإذا وجد المقتضي لأحدهما، فلا محالة يكون موجوداً من دون أن يكون لعدم الآخر دخل في وجوده.(1)

يلاحظ على أصل الاستدلال بأنّ العدم أنزل من أن يكون موقوفاً عليه أو موقوفاً و حقيقة الأمر انّه يرجع إلى التزاحم بين الوجودين، فعبّروا عن رفع التزاحم بأنّ ورود أحدهما يتوقّف على عدم الآخر، ففيما كانت الفاكهة على الشجر سوداء، و إن كان يمتنع عروض البياض عليها، لكن لا لأجل كون عدم السواد مقدمة

ص:27


1- أجود التقريرات: 1/259.

لعروض البياض، بل لأجل التزاحم بين الوجودين فعبروا عن التزاحم بكون عدم السواد مقدمة لعروض البياض.

و يلاحظ على التأييد بأنّه أيضاً كأصل الاستدلال، إذ لا نقص في قابلية الجسم، بل هي كاملة سواء أ كان الضدّ موجوداً أم لا، و انّ عروض الضدّ لا يبطل القابلية للجسم، و عدم قبوله لا للنقص في القابلية بل لأجل وجود التمانع بين الوجودين.

بحث استطرادي: إنكار المباح أو شبهة الكعبي

نقل الأُصوليون عن عبد اللّه بن أحمد الكعبي انتفاء المباح و انّ الأحكام تنحصر في الواجب و الحرام قائلاً بأنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل واحد من أفراد المباح فيجب بوجوبه بحكم كونه مقدّمة.

و ما ذكره من الاستدلال مبنيّ على أُمور ثلاثة:

الأوّل: انّ النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العام، فلو كان فعل الشيء حراماً كالكذب كان تركه واجباً، و هذا نظير ما لو كان فعله واجباً كالإزالة كان تركه حراماً.

و بالجملة كما يتولد من الأمر بالشيء، النهي عن الضدّ العام، فهكذا يتولّد من النهي عنه، الأمر بالضد العام.

الثاني: انّ الترك الواجب) ترك الكذب (يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية لاستحالة خلو المكلّف عن فعل من الأفعال الاختيارية.

الثالث: انّ مقدمة الواجب و هي الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الترك الواجب واجبة فينتفي المباح.

ص:28

يلاحظ على الأمر الأوّل: أنّه لا دليل إذا كان فعل الشيء حراماً أن يكون تركه واجباً لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام، إذ هو لا يترتّب عليه أيّ أثر.

و يلاحظ على الأمر الثاني: أنّ الترك الواجب) ترك الحرام (لا يتوقّف على فعل من الأفعال الاختيارية الوجودية كالمباح، و ذلك لأنّ ترك الحرام مستند إمّا إلى فقد المقتضي الذي يعبر عنه بالصارف، أو وجود المقتضي للضد الآخر. مثلاً: انّ ترك الكذب إمّا لأجل الصارف عنه خوفاً من اللّه سبحانه، أو إلى وجود المقتضي للأضداد الأُخر كالأكل و الشرب.

و على كلّ تقدير فالمقدّمة لترك الحرام) أو للترك الواجب (أحد الأمرين:

1. الصارف عن الحرام.

2. وجود المقتضي لارتكاب الأكل و الشرب و بالتالي لا يكون المباح مقدّمة.

ص:29

المحور الثالث في الثمرة الفقهية

قد عرفت أنّ الكلام في هذا الفصل يدور على محاور ثلاثة، و قد مضى الحديث عن المحورين الأوّلين فلا نعود إليهما، و لنركِّز على المحور الثالث و هو ثمرة البحث، فنقول:

إنّ ثمرة البحث هي بطلان الصلاة و صحّتها على القول بالاقتضاء و عدمه، فلو كان الأمر بالمضيَّق كالإزالة مقتضياً للنهي عن الموسَّع كالصلاة، فالصلاة تكون محكومة بالبطلان، و لو نُفِي الاقتضاء فلا تكون منهياً عنها و تكون صحيحة طبعاً.

نعم مجرّد ثبوت تعلّق النهي بالصلاة لا يكفي في استنتاج المسألة الفقهية بل يجب أن تُضم إليها مسألة أُصولية أُخرى، و هي انّ النهي في العبادات موجب للفساد.

و على ضوء ذلك فاستنتاج البطلان موقوف على مقدّمتين: صغرى و كبرى.

فالصغرى أي تعلّق النهي يثبت في المقام.

و أمّا الكبرى فترجع إلى المقصد الثاني و هو انّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.

و بذلك يعلم أنّ المسألة الأُصولية تارة تكون علّة تامّة لاستنتاج المسألة

ص:30

الفقهية كما هو الحال في حجّية خبر الواحد، و أُخرى تكون جزء العلّة كما في المقام حيث إنّ الصغرى على ذمّة هذا البحث و الكبرى على ذمّة المقصد الثاني، فبضم الأمرين يُستنتج الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ جماعة أنكروا الثمرة لوجهين:

الأوّل: انّ النهي على فرض ثبوته نهي غيري، و هو لا يكشف عن وجوب المفسدة في المتعلّق فلا يكون ملازماً للفساد، و إنّما يدلّ النهي على الفساد إذا كان كاشفاً عن وجود المفسدة في المتعلّق على نحو يكون مبغوضاً للمولى و هو من خصائص النهي النفسي لا الغيري كما في المقام.(1)

هذا من غير فرق بين كون النهي مستفاداً من مسلك المقدمية أو مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو واضح، لأنّ ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة فيكون واجباً و يتعلّق به الأمر، لكن الأمر بترك الإزالة أمر مقدّمي يتولّد منه نهي غيري آخر، و هو النهي عن الصلاة بذريعة انّ الأمر بالشيء ) ترك الصلاة (يقتضي النهي عن ضدّه العام أي النقيض و هو الصلاة.

و أمّا الثاني فقد عرفت أنّ استنباط النهي متوقّف على أنّ الأمر بالإزالة مقتض للنهي عن الضد العام، أعني: ترك الإزالة، و هذا النهي غيري يتولّد منه نهي آخر عن الصلاة لكونها ملازمة لترك الإزالة، و المتلازمان متحدان حكماً.

و لعلّنا نرجع إلى الإجابة عن هذا الإشكال.

الثاني: ما ذكره بهاء الدين العاملي من أنّ التكليف لإثبات النهي عن

ص:31


1- تهذيب الأُصول: 1/300.

الصلاة أمر لا طائل تحته، إذ لا نحتاج في الحكم بفساد الصلاة إلى النهي، بل يكفي عدم الأمر بالصلاة، و هو أمر متفق عليه لظهور سقوط الأمر بالصلاة بعد الأمر بالإزالة، فكون الصلاة غير مأمور بها يكفي في فسادها.

ثمّ إنّ القوم حاولوا الإجابة عن هذا الإشكال بوجوه ثلاث:

الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة و لا يلزم قصد الأمر، و هذا ما أجاب به المحقّق الخراساني.

الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلق بالطبيعة و إن كان الفرد المزاحَم فاقداً للأمر، و هو المستفاد من كلمات المحقّق الثاني.

الثالث: تصحيح الأمر بالصلاة عن طريق الترتب.

و إليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر:

الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الصحّة ليست رهن تعلّق الأمر بالعبادة فقط، بل الصحّة أعمّ من الأمر، و يكفي فيها أيضاً وجود الملاك و الرجحان الذاتي في العبادة، إذ الفرد المزاحم من العبادة و غير المزاحم سيّان في الملاك و المحبوبية الذاتية، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره و أمّا سقوط ملاكه و رجحانه الذاتي و كونه معراج المؤمن و قربان كلّ تقي فهو بعد باق عليه.

فإن قلت: إنّ العلم بوجود الملاك فرع تعلّق الأمر بالصلاة و المفروض سقوطه، و معه كيف يعلم الملاك و انّها صالحة للتقرب. و بعبارة أُخرى كما أنّ النهي يكشف عن عدم الملاك، فكذلك الأمر يكشف عن وجوده، و مع فقد الأمر فمن أين نستكشف وجود الملاك؟

ص:32

قلت: إنّ المقام من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين، و الملاك في كلّ من المتزاحمين موجود على نحو لو لا التزاحم لكان الفرد الموسَّع مأموراً به، و هذا معنى اشتماله على الملاك و إن لم يكن مأموراً به بالفعل، حتّى أنّ المحقّق النائيني جعل قصد الملاك أقوى في حصول التقرب من قصد الأمر، فقال: لم يدل دليل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة، و أمّا تطبيقه على قصد الأمر فإنّما هو بحكم العقل، و قصد الملاك لو لم يكن أقوى في حصول التقرب بنظر العقل من قصد الأمر فلا أقلّ من كونه مثله.(1)

الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة

و هذا الجواب مستنبط من كلام المحقّق الكركي و إن لم يكن هو بصدد الإجابة على إشكال بهاء الدين العاملي لتقدّم عصره عليه.

و حاصل ما يستنبط من كلامه انّ البحث عديم الثمرة في المضيقين دون المضيّق و الموسّع.

أمّا الأوّل كإنقاذ الغريقين اللّذين أحدهما أهمّ من الآخر، فإنّ الأمر بالأهم يوجب سقوط الأمر بالمهم مطلقاً عن الفرد و الطبيعة، إذ ليس لها إلاّ فرد واحد مزاحم بالأهم.

و أمّا الثاني فتظهر فيه الثمرة، فأمّا إذا بنينا على عدم تعلّق النهي بالضد كما هو مفروض الإشكال فغايته انّه يوجب سقوط الأمر بالطبيعة المتحقّقة في الفرد المزاحم لعدم القدرة على الإتيان به شرعاً، و هو في حكم عدم القدرة عقلاً، لا سقوط الأمر عن الطبيعة بوجودها السعيّ، بل الأمر بها باق لعدم اختصاص

ص:33


1- أجود التقريرات: 1/265; المحاضرات: 733/71.

تحقّق الطبيعة بالفرد المزاحم.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ الفرد المزاحم و إن لم يكن من مصاديق الطبيعة المأمور بها و لكنّه من مصاديق مطلق الطبيعة، و ملاك الامتثال إنّما هو انطباق عنوان الطبيعة على الفرد الخارجي لا كون الفرد الخارجي بشخصه مأموراً به، فهو مصداق الطبيعة و إن لم يكن مصداق الطبيعة المأمور بها.

و بعبارة أُخرى: انّ الثابت هو سقوط الأمر عن هذا الفرد فواضح، لا سقوطه عن الطبيعة، و ذلك لأنّ الواجب الموسّع له أفراد غير مزاحمة و إنّما المزاحمة بين المضيق و الفرد المزاحم من الموسع، فيأتي الفرد بنية الأمر بالطبيعة باعتبار انّ لها مصاديق غير مزاحمة.

هذا هو المستفاد من كلام المحقّق الكركي في» جامع المقاصد «في كتاب الدين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام:

1. أن يكون وجوبها إنشائياً ما دام الأهم غير مأتي به.

2. أن يكون وجوبها فعلياً و الواجب استقبالياً، و المراد من الاستقبالي تعيّن الإتيان بالمهم بعد الإتيان بالأهم.

3. أن يكون الوجوب و الواجب فعليّين.

ص:34


1- قال فيه: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: أوجبت عليك كلاً من الأمرين لكن أحدهما مضيق و الآخر موسّع، فإنّ قدّمت المضيّق فقد امتثلت و سلمت من الإثم، و إن قدّمت الموسّع فقد امتثلت و أثمت بالمخالفة في التقديم.) جامع المقاصد: 5/12). و لم نجد فيه عبارة تصلح سنداً لما ذكره شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في المتن، و هو أعرف بمواقع كلمات الفقهاء.

لكن الأمر الإنشائي لا يمكن التقرّب به، لأنّ المفروض عدم بلوغ إرادة المولى حدّ الطلب الجدّي.

و على الثاني لا يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم، لأنّ المفروض انّ الطبيعة مقيدة بالزمان المتأخّر عن الإتيان بالأهم.

و أمّا الثالث و هو يستلزم أن يكون كلّ من الوجوب و الواجب فعليين، فهو يستلزم الأمر بالضدين.

فالإتيان بالمهم في الأمر المتعلّق بالطبيعة لا ينجع، لأنّه بين كون الأمر إنشائياً أو الواجب استقبالياً و بين استلزامه طلب الضدين.

أضف إلى ذلك هو انّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود أو نفس الطبيعة باعثاً و داعياً بالنسبة إلى هذا الفرد أو لا; فعلى الأوّل يلزم التكليف بالضدّين، و على الثاني لا يصحّ الإتيان بهذا الفرد بنية الأمر المتعلّق بالطبيعة لافتراض عدم باعثيته له.

هذا فإذا كان الجواب الأوّل أي إتيان الصلاة بملاكها أو إتيانها بلحاظ الأمر المتعلّق بالطبيعة ناجعاً في إضفاء الصحة على الصلاة فهو، و إلاّ فلا بدّ من سلوك طريق آخر، و هو تصوير تعلّق الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان أمر الأهم و هذا هو البحث المعروف بالترتب، لترتب الأمر المتعلق بالمهم على عصيان الأمر الأهم.

ص:35

الأمر بالضدين على نحو الترتّب
اشارة

إنّ الترتّب من المسائل الشائكة التي تضاربت فيه الأقوال و الآراء، و بما انّها من أُمّهات المسائل الأُصولية التي يستنبط بها مسائل مختلفة كما سنشير إليها،

نقدم أُموراً قبل الخوض في صلب الموضوع.
الأوّل: الفرق بين التعارض و التزاحم

يستعمل لفظ التزاحم في هذا الباب و مبحث اجتماع الأمر و النهي، فلا بدّ من توضيح المراد في المقام فقط، فنقول:

لا شكّ انّ التعارض و التزاحم يجمعهما وجود التنافي بين الدليلين و إنّما الاختلاف في مصبِّه، فنقول:

إنّ التعارض عبارة عن تنافي الدليلين في الجعل و الإنشاء بأن يستحيل من المقنن الحكيم، صدور حكمين أو جعلين حقيقيين لغاية الامتثال فهو التعارض و يعرف بالتنافي بين مدلولي الدليلين في مقام الجعل و الإنشاء.

مثلاً يستحيل على الحكيم أن يحرّم بيع العذرة و في الوقت نفسه أن يبيحها فيقول: ثمن العذرة سحت ثمّ يقول: و لا بأس ببيع العذرة، إذ لا تنقدح الإرادتان المتضادتان في نفس المقنن على وجه الجد، فيُعلم كذب أحد الدليلين و عدم صدور واحد منهما في مقام التشريع.

ثمّ إنّ التكاذب بين الدليلين تارة يكون بالذات كما في المثال المذكور،

ص:36

و أُخرى بالعرض، كما إذا ورد الدليل على وجوب صلاة الظهر و صلاة الجمعة في يومها، فانّ الدليلين خاليان من التنافي في مقام الجعل، إذ لا مانع من إيجاب صلاتين في وقت واحد يسع كلاً منهما لكن بعد ما علمنا أنّ الشارع لم يكتب يوم الجمعة على المكلّف إلاّ فريضة واحدة، عرضهما التكاذب بالعرض.

نعم لا يشترط في التعارض التنافي في مقام الامتثال، بل يمكن أن يكون المتعارضان ممكني الامتثال، كما إذا دلّ أحد الدليلين على وجوب الشيء و الآخر على استحبابه أو إباحته; كما يمكن أن يكون ممتنعي الامتثال، كما إذا دلّ أحدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة و الجامع بين عامة الأقسام وجود التكاذب في مقام الجعل و الإنشاء.

و أمّا التزاحم فهو عبارة عن وجود التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال بمعنى عدم المنافاة في مقام الجعل و التشريع، بل الحكمان في ذلك المقام متلائمان غير أنّ عجز المكلّف و قصور قدرته صار سبباً لحدوث التنافي بين الدليلين، كما في قولك» انقذ أخاك «و» انقذ عمّك «فجعل الحكمين و الأمر بإنقاذ كلا الشخصين ليس فيه أي تناف في مقام الإنشاء، و لذلك لو ابتلى المكلّف بهما متعاقباً لا مجتمعاً تمكّن من الامتثال، و إنّما التنافي في مقام الامتثال عند ما ابتلي بهما جمعاً.

و مثله المقام فإذا قال المولى أزل النجاسة عن المسجد و قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1)فليس هناك أيّ تناف بين الدليلين لا في مقام الجعل كما هو واضح لاختلاف الموضوعين، بل و لا في مقام الامتثال، كما إذا ابتلى بأحدهما بعد الآخر، و إنّما التنافي فيما إذا ابتلى بهما معاً حيث يعجز عن القيام بالأمرين معاً.

ص:37


1- الإسراء: 78.

و هذا هو المسمّى بالتزاحم بمعنى انّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن الصرف في الآخر.

ثمّ اعلم أنّ تفسير التعارض و التزاحم على هذا النحو هو خيرة المحقّق النائيني و تلاميذ مدرسته، و قد خالف في تفسيره المحقّق الخراساني و سيوافيك تفسيره في باب اجتماع الأمر و النهي عند الكلام في الأمر الثامن و التاسع من مقدّمات البحث.

الثاني: مرجحات التعارض غير مرجحات التزاحم

إذا كان التعارض يختلف بجوهره عن التزاحم فمرجّحات الأوّل غير مرجّحات الثاني، أمّا الأوّل فبما انّ التعارض هناك يرجع إلى مقام الجعل و التشريع فتمييز الصادق عن الكاذب رهن المرجحات التي يذكرها الشارع لتلك الغاية و ليس للعقل إليها سبيل، و ستوافيك تلك المرجحات في المقصد الثامن عند البحث عن التعادل و الترجيح، و أمّا مرجحات باب التزاحم فبما انّ التنافي خارج عن مصب التشريع و لا صلة له بالشارع و إنّما يرجع إلى قصور قدرة المكلّف عن الامتثال، فللعقل سبيل إلى تعيين المرجّحات و هو تقديم الأهم بالذات أو بالعرض على غيره.

و عناوين تلك المرجّحات عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

2. تقديم المضيق على الموسع.

3. تقديم الأهم بالذات على المهم.

4. سبق أحد الحكمين زماناً.

ص:38

5. تقديم الواجب المطلق على المشروط.

و بما انّا قد استوفينا الكلام فيها تبعاً لشيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في باب التعادل و التراجيح نطوي الكلام فيها و إن شئت فراجع» إرشاد العقول «.(1)

الثالث: في تعريف الترتّب

إنّ الترتّب عبارة عن تعلّق أمر فعلي بواجب أهم على وجه الإطلاق بلا تقييد بشيء و تعلّق أمر فعلي آخر بضدّه المهم مشروطاً بعصيان ذلك الأمر المتعلّق بالأهم على نحو الشرط المتأخر أو بالعزم على عصيانه، و تظهر حقيقة الترتّب في المثالين الأخيرين.

أ. إذا كان الواجبان مضيّقين، كما إذا قال المولى: انقذ ولدي فإن عصيت فأنقذ الأجنبي.

ب. إذا كان أحد الواجبين مضيّقاً و الآخر موسّعاً كما إذا قال: أزل النجاسة فإن عصيت فصلِّ.

فعلى كلا التقديرين يكون أحد الأمرين مطلقاً و الآخر مشروطاً بالعصيان.

الرابع: صحّة الترتّب و عدمها عقلي

البحث عن صحّة الترتّب و عدمها بحث عقلي لا دخالة للّفظ فيه و ذكره في أبواب مباحث الألفاظ كذكر أحكام الملازمات في باب الأوامر مع أنّ البحث فيها عن الملازمة العقلية.

ص:39


1- إرشاد العقول: 3142/310، من المباحث العقلية.
الخامس: الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه

إنّ مسألة الترتّب من المسائل التي يكفي في وقوعها إمكانها، و ذلك لأنّه إذا ابتلى المكلّف في أوّل الظهر مثلاً بواجبين أحدهما مضيق و الآخر موسّع، فيدور الأمر لأجل رفع التنافي بين أحد الأمرين:

أ. إمّا رفع اليد عن نفس الأمر بالمهم مطلقاً و القول بسقوطه كما عليه شيخنا بهاء الدين العاملي حيث زعم انّ الأمر بالإزالة موجب لسقوط الأمر بالصلاة مطلقاً.

ب. رفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم بأن يُقيّد بعصيان أمر الأهم، فلو كان تقييد الأمر بالمهم كافياً لرفع التنافي فلا وجه لرفع اليد عن أصل الأمر، لأنّ الضروريات تتقدر بقدرها، فمن صحّح الترتّب أخذ به، و من لم يصحّحه رفع اليد عن الأمر بالمهم أساساً.

السادس: الأمر بالمهم فعليّ كالأهم

إنّ واقع الترتّب يقوم على أساس توجه أمرين فعليين إلى المكلّف أحد الأمرين مطلق و الآخر مشروط.

و بعبارة أُخرى ففي الوقت الذي يكون الأمر بالمهم) الصلاة (فعلياً يكون الأمر بالإزالة أيضاً فعلياً لم يَسقط بعدُ لا بالامتثال و لا بالعصيان، فلأجل تصحيح الجمع بين الأمرين الفعليين يبقى الأمر بالأهم على إطلاقه، و يُقيّد الأمر بالمهمّ بالعصيان على نحو يكون الأمر معه فعليّاً أيضاً. و لذلك لا بدّ من الدقة في الشرط الذي يخرج الأمر بالمهم عن إطلاقه و يصيره مشروطاً مع كونه فعلياً أيضاً.

ص:40

فالجمع بين هذه الأُمور:

أ: كون الأمر بالمهم مشروطاً.

ب: كون الأمر بالمهم فعلياً.

ج: كون الأمر بالأهم غير ساقط بعد.

أمر دقيق يحتاج إلى مزيد من النظر.

فالذي يمكن أن يجمع بين هذه الأُمور هو عبارة عن جعل الشرط) العصيان (بالنحو التالي:

جعل العصيان شرطاً للأمر بالمهم لكن على نحو الشرط المتأخر لا المتقدم.

و المراد من الشرط المتأخر للتكاليف هو ما يكون الشرط متقدماً لحاظاً و متأخراً وجوداً، و في المقام انّ المولى يتصور عصيان العبد بالنسبة إلى الأمر بالأهم في المستقبل، ففي ذاك الظرف الذي يكون العصيان متقدماً لحاظاً و متأخراً وجوداً يأمر بالمهم و يقول: و إن عصيت فصلِّ.

فالشرائط الثلاثة الآنفة الذكر محقّقة:

1. انّ الأمر بالمهم مشروط بالعصيان بنحو الشرط المتأخر.

2. كون الأمر بالمهم فعلياً لوجود شرطه و هو العصيان لكن بنحو الشرط المتأخر بمعنى تحقّقه لحاظاً لا خارجاً، و إلاّ فلو تحقق خارجاً لسقط الأمر بالإزالة و لا يوجد في ظرف التكليف إلاّ الأمر بالمهم.

3. و الأمر بالأهم غير ساقط، لأنّه إنّما يسقط بالطاعة أو بالعصيان الخارجي المتقدّم على الأمر بالصلاة و المفروض انتفاؤهما.

أمّا الامتثال فظاهر، و أمّا العصيان فالمفروض انّه لم يتحقّق بعدُ كما هو

ص:41

مقتضى أخذ العصيان على نحو الشرط المتأخر وجوده، و بذلك يعلم سرّ أخذ الشرط على نحو الشرط المتأخر لا المتقدّم بوجوده و لا المقارن، لأنّ العصيان المتقدم بوجوده يوجب سقوط الأمر بالإزالة و انحصار التكليف بامتثال الأمر المهم.

و أمّا العصيان المقارن فلأنّ الكلام في الأُمور التدريجية و لا يتصوّر فيها العصيان التدريجي، بل في الأُمور الدفعية كعصيان الأمر بإنقاذ الولد شرطاً مقارنها للأمر بإنقاذ الأجنبي.

فكما يمكن أن يكون العصيان الخارجي شرطاً للأمر بالمهم لكن بنحو الشرط المتأخر يمكن أن يكون الشرط المأخوذ في المهم هو عزم المكلّف بالعصيان، و الفرق بين الأمرين واضح.

ففي الأوّل يكون الشرط هو العصيان الخارجي بوجوده المتأخر و مرجعه إلى لحاظ المولى العصيان شرطاً.

و أمّا الثاني فالشرط هو نية المكلّف و عزمه على العصيان، و من المعلوم أنّ التكليف بالأهم لا يسقط بالعزم و النية فيكون الأمران فعليين متجانسين.

و بذلك تختلف مسألة عزم العصيان مع العصيان المتقدم حيث إنّ الأوّل لا يوجب سقوط التكليف بالأهم بخلاف الثاني.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى تقرير الترتّب. و قد ذكر له تقريبات مختلفة نأتي بها واحد بعد الآخر.

ص:42

التقريب الأوّل للترتّب
اشارة

قد قرر صاحب الكفاية دليل جواز الترتّب بالنحو التالي:

إنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك أي بأن يكون الأمر بالأهم مطلقاً و الأمر بغيره معلقاً على عصيان ذلك الأمر) على نحو الشرط المتأخر (أو البناء و العزم عليه بل هو واقع كثيراً عرفاً.(1)

نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب

إنّ المحقّق الخراساني نقد الدليل المذكور بما هذا بيانه:

إنّ ملاك الامتناع في الأمرين المطلقين متوفر في الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط، فانّ ملاك امتناع الأمرين العرضيين عبارة عن استلزامهما طلب الضدين، فإذا قال: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ، فمعنى ذلك طلب الضدّين مع عدم تمكين المكلّف من صرف القدرة إلاّ في امتثال أحد الأمرين.

فإذا كان هذا) طلب الضدين (هو الملاك في امتناع الأمرين العرضيين المطلقين، فهو أيضاً موجود في الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط، و ذلك لأنّ الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود

ص:43


1- الكفاية: 1/213.

في رتبة الأمر بالمهم، فانّ المفروض انّ الأمر بالأهم لم يسقط بعدُ لا بالامتثال و لا بالعصيان فيكون في رتبة الأمر بالمهم، فيجتمع أمران فعليان في رتبة الأمر بالمهمّ و إن لم يكونا كذلك في رتبة الأمر بالأهمّ.

و بعبارة أُخرى: في المرتبة التي للأمر بالأهم دعوة إلى نفسه ليس للأمر بالمهم دعوة إلى امتثال نفسه و لكن في المرتبة التي للأمر بالمهم دعوة إلى متعلّقه فللأمر بالأهم أيضاً دعوة و طلب، لافتراض انّه بعدُ لم يسقط، لأنّ الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر.

هذا هو الإشكال الذي اعتمد عليه المحقّق الخراساني في نفي الترتّب، و الذي عاقه عن تصويبه هو اجتماع الأمرين في مرتبة الأمر بالمهم و إن لم يكن اجتماع في مرتبة الأمر بالأهم.

تحليل نظرية المحقّق الخراساني

إنّ الملاك في استحالة توجه أمرين مطلقين إلى المكلّف ليس هو طلب الضدّين، بل طلب الجمع بين الضدّين، فانّ طلب الضدّين إذا لم يكن هناك طلبُ جمع بينهما فلا مانع منه كما في الأمر بالسكون في ظرف و الأمر بالحركة في ظرف آخر، و إنّما الملاك في الاستحالة هو أن تكون نتيجة الأمرين هو طلب الجمع بينهما في زمان واحد، و هذا الملاك موجود في الأمرين المطلقين دون المطلق و المشروط، فهاهنا دعويان:

الأُولى: انّ نتيجة الأمرين المطلقين هي طلب الجمع بين الضدّين حيث يقول: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ صلاة الظهر، فهو يطلب في زمان واحد صدور أمرين متضادين و هما بمعنى الجمع بين الضدين، لأنّه جعَل ظرف امتثال

ص:44

الأمر الأوّل، نفس ظرف امتثال الأمر الثاني بشهادة انّه قال: و في الوقت نفسه صلِّ.

الثانية: انّ نتيجة الأمرين اللّذين أحدهما مطلق و الآخر مشروط هو طلب الضدين لا طلب الجمع بين الضدين، و ذلك لأنّه يطلب الإزالة بلا قيد و شرط كما هو مقتضى الإطلاق.

و لكن يطلب الصلاة في ظرف انصراف المكلّف عن امتثال الأمر بالإزالة، فتكون النتيجة طلب الضدين لا طلب الجمع بينهما، و إنّما يلزم طلب الجمع بين الضدّين لو طلب الأمر بالمهم حتّى في ظرف إرادته لامتثال الأمر بالأهم و المفروض خلافه.

و بعبارة أُخرى: انّ المولى يلاحظ انّ للمكلّف حالتين:

تارة يريد صرف قدرته في الأمر بالأهمّ، و هذا هو الذي يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله.

و أُخرى لا يريد صرف قدرته فيه فلا يبعثه الأمر بالأهم إلى امتثاله لبعض الملابسات و لكن يوجد في نفسه داع إلى امتثال الأمر بالمهم، و لأجل رعاية كلتا الحالتين يأمر بالأهم و في ظرف العصيان على نحو الشرط المتأخر يأمر بالمهم.

و بذلك يظهر انّ شيئاً من الأُمور التالية ليس مانعاً من توجيه أمرين إلى المكلّف على نحو الترتب.

1. اجتماع أمرين فعليين.

2. كون الأمر بالأهم في رتبة الأمر بالمهم.

3. استلزام اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم طلب الضدين.

ص:45

فليس شيء من هذه الأُمور مانعة عن إنشاء أمرين أحدهما مطلق و الآخر مشروط ما لم يكن هناك طلب الجمع بين الضدين، و إنّما المانع هو الأمر الرابع أعني:

4. استلزام توجه الأمرين طلب الجمع بين الضدين، و هذا موجود في الأمرين العرضيين لا في الأمرين الطوليين.

و نزيد بياناً انّ مفتاح الترتّب كلمة واحدة، و هي استلزام اجتماع الأمرين الفعليين هل هو طلب الضدين أو طلب الجمع بين الضدّين؟ فمن أحال فاعتمد على الأوّل مع أنّه ليس بمحال، و من جوزه فقد اعتمد على الثاني و انّ الترتب لا ينتهي إلى طلب الجمع بين الضدّين.

بذلك تقف انّ أكثر ما تداولته الألسن و الرسائل و الكتب حول الترتّب بحوث جانبية لا صلة لها بما هو مفتاح المسألة وحل معضلتها.

اعتراضات و أجوبتها

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما تبنَّى امتناعَ الترتّب و زعم أنّ لازمه طلب الضدّين، أثار أسئلة أربعة و أجاب عنها على النحو الرائج في الكتب العلمية، و نحن نذكر الأسئلة و الأجوبة مع القضاء بين المعترض و المجيب.

الاعتراض الأوّل لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار

فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلاّ الطلب بالأهمّ و لا دليل على امتناع طلب الضدّين إذا كان بسوء الاختيار.

ص:46

إجابة المحقّق الخراساني

أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ استحالة طلب الضدّين إنّما هي لأجل كون صدور نفس التكليف بهذا النحو من الحكيم الملتفت إلى امتناعه، محالاً، بمعنى أنّه لا تنقدح في نفس الحكيم إرادتان متضادتان متعلّقتان بأمرين لا يتمكن المكلّف من جمعهما، و ما هذا شأنه لا يفرَّق فيه بين سوء الاختيار أو حسن الاختيار، فلا فرق بين قولنا: أزل النجاسة و إن عصيت فصلّ، و قولنا: أزل النجاسة و إن سلمت على زيد فصلِّ، و قد حقّق في محله انّ مرجع التكليف بالمحال إلى كون نفس التكليف محالاً، فلا ينقدح في ذهن المولى إرادة جديّة متعلّقة بطيران زيد إذا كان فاقداً لأسبابه.

تحليل السؤال و الجواب

إنّ المعترض يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال غير أنّ المكلّف لما كان مقصّراً في المقام، و سبباً لهذا النوع من التكليف فلا مانع من تكليفه أخذاً بقولهم: الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار.

كما أنّ المجيب يسلِّم انّ الترتّب يستلزم المحال و لكن يردّ على تجويز التكليف بغير المقدور حتّى و لو كان السبب هو المكلّف.

و نحن نقول: الحقّ مع المجيب فإنّ التكليف بغير المقدور تكليف محال، و هو غير جائز في منطق العقل، سواء أ كان المكلّف مقصّراً أم لا، غير أنّ الكلام في مقام آخر و هو فقدان الموضوع) المحال (في مبحث الترتب، إذ غاية ما يترتب عليه هو طلب الضدّين و هو ليس بمحال و ما هو محال أي طلب الجمع بين الضدّين فليس بلازم في المقام.

ص:47

فالسائل و المجيب يبحثان عن أمر لا وجود له في المقام كما عرفت.

الاعتراض الثاني إنّ قياس المقام بالأمرين العرضيين قياس مع الفارق،

فانّ كلاً من الأمرين العرضيين يطارد الآخر، فإذا قال: أزل النجاسة و في الوقت نفسه صلِّ، فكلّ يدعو إلى بذل القدرة في متعلّقه، و عندئذ تظهر المطاردة لوحدة القدرة و كثرة المقدور، بخلاف الأمرين الطوليين، أي إذا كان الأمر الثاني مقيداً بعصيان الأمر الأوّل، فانّ الأمر المتعلّق بالمهم لا يطرد الأمر المتعلق بالأهم، و ذلك لأنّ دعوة الأمر المتعلّق بالمهم إلى امتثاله في ظرف عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غير الأهم على تقدير إتيانه و إطاعة أمره.

و بعبارة أُخرى لو كانت دعوة الآمر المتعلق بالمهم شاملة لصورة إطاعة الأمر بالأهم يلزم المطاردة، و أمّا لو اختصت دعوته بصورة عدم امتثاله فلا يكون هناك مطاردة.

إجابة المحقّق الخراساني

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ طرد الأمر المتعلّق بالمهم لا يختصّ بصورة إتيان الأمر بالأهم حتّى يقال: لا مطاردة عندئذ بين الأمرين، بل يعمّ حتّى صورة عدم إتيانه.

الثاني: انّ المطاردة من جانب واحد و هو طرد الأمر المتعلّق بالأهمّ كاف في إبطال الترتّب.

أمّا الأوّل فانّ الأمر المتعلّق بالمهم يطارد الأمر الآخر حتّى في صورة عصيان

ص:48

الأمر بالأهم و عدم الإتيان به، و ذلك لأنّ المطاردة لازم فعلية الأمر بالمهم، و كلّ أمر فعلي يدعو إلى متعلّقه و لو في ظرف عدم الإتيان بالأهم و المفروض انّ الأمر المتعلّق بالأهم لم يسقط بعدُ، و هو أيضاً فعلي فيلزم اجتماع أمرين فعليين كل يدعو إلى متعلّقه، و هو نفس مطاردة الأمر بالمهم، الأمرَ بالأهم.

و الحاصل: انّ المعترض يركِّز في إنكار المطاردة على صورة إطاعة الأمر المتعلّق بالأهم، و من المعلوم أنّه ليس في هذه الصورة أيّة مطاردة، و لكن المجيب يركز في إثبات المطاردة على صورة أُخرى، و هي صورة عصيان الأمر المتعلّق بالأهم و وجه المطاردة فعلية كلّ من الحكمين لحصول شرط الفعلية و داعوية كلّ إلى متعلّقه.

أقول: هذا، هو الإشكال المهم في الترتّب و هنا تُكْمنُ روح الترتب أو إنكاره، و لا بدّ من علاجه على وجه يقلع الشبهة عن الأذهان، فنقول:

إنّ للأمر المتعلّق بالمهم في الصورة التي أشار إليها المحقّق الخراساني) صورة عدم الإتيان بالأهم ( مفهومين:

الأوّل: بما انّه أمر فعلي يدعو إلى إيجاد متعلّقه لحصول شرط الفعلية، و عندئذ يتبادر إلى الذهن وجود المطاردة بينه و بين الأمر بالأهم غير الساقط بعدُ، و بما انّ الأمر بالأهم غير ساقط بعد يُستظهر منه وجود المطاردة، و هذا هو الذي جرّ المحقّق الخراساني إلى القول بوجود المطاردة حتّى من جانب الأمر بالمهم، و لكنّه غفل عن المفهوم الثاني للأمر بالمهم و هو:

الثاني: انّ الأمر بالمهم مع كونه فعلياً لا يأبى عن ترك امتثاله و الاشتغال بالأهم حتّى في نفس هذه الحالة، و هذا هو الذي يزيل المطاردة المتوهمة، فالمحقّق الخراساني أخذ بالمفهوم الأوّل و غفل عن المفهوم الثاني.

ص:49

و بعبارة أُخرى: انّ الأمر بالمهم و إن كان يدعو إلى إنجاز متعلّقه و لكنّه في حدّ نفسه يرخِّص ترك امتثاله و الاشتغال بالأهم و بذلك تنثلم المطاردة المتوهمة.

هذا كلّه حول الجواب الأوّل.

و أمّا الجواب الثاني فهو انّ المحقّق الخراساني اكتفى في إبطال الترتّب بوجود الطرد من جانب واحد و هو الأمر بالأهم، و أساسه ما مرّ من أنّ الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم فيجتمع أمران فعليان كما مرّ.

يلاحظ عليه بما مرّ من أنّ اجتماع أمرين فعليين كلّ يدعو إلى إنجاز متعلّقه إنّما يستلزم الامتناع بما إذا لم يكن لواحد من الأمرين مرونة و ليونة و أمّا المقام فانّ الأمر بالأهم و إن لم يكن فيه مرونة و ليونة لكنّ اجتماعهما في مرتبة الأمر بالمهم، لا يضرّ ما دام الأمر الثاني يحتضن المرونة حيث إنّه في كلّ زمان ينسحب عن الساحة إذا أراد المكلّف امتثال الأمر المتعلّق بالأهم.

و نزيد إيضاحاً و نقول: إنّ مركز المطاردة الذي يعتمد عليه المحقّق الخراساني أحد المواضع الثلاثة:

أ. مقام الجعل و التشريع.

ب. مقام الفعلية.

ج. مقام الامتثال.

أمّا الأوّل فقد عرفت أنّ المورد من قبيل المتزاحمين، و المتزاحمان متلائمان في مقام الجعل و لا تكاذب بينهما في تلك المرتبة، فلا إشكال في جعل الإيجاب على إزالة النجاسة و الصلاة و غيرهما من عشرات الموضوعات.

ص:50

و أمّا الثاني: أي المطاردة في مرحلة الفعلية فلا شكّ انّ كلاً من الحكمين فعلي يدعو إلى إنجاز متعلّقه، لأنّ الأوّل مطلق و الثاني مشروط قد تحقّق شرطه.

لكن كلّ أمر يدعو إلى متعلّقه و لا ينظر إلى الأمر الآخر حتّى تكون النتيجة طلب الجمع، و على فرض تسليمه في سائر الموارد ليس للأمر بالمهم إطلاق بالنسبة إلى صورة امتثال الأمر بالأهم.

و أمّا الثالث أي الامتثال، و من حسن الحظ عدم المطاردة فيه، و ذلك انّه لم يكن هناك صارف فالتأثير للأمر الأوّل، و إن كان صارف فالتأثير للأمر الثاني.

فتبيّن انّه لا مطاردة في البين في أية مرحلة من المراحل الثلاث:

الاعتراض الثالث كيف تنكرون الترتب مع أنّه واقع في العرف كثيراً؟
إجابة المحقّق الخراساني

يمكن الجواب عمّا يتراءى انّه من باب الترتّب بوجهين:

أ. أن يكون الأمر بالمهم بعد التجاوز عن الأمر بالأهم.

ب. أن يكون الأمر بالمهم إرشاداً إلى محبوبيته و بقائه على ما هو عليه من المصلحة و الغرض.

يلاحظ على الجواب الأوّل أعني التجاوز عن الأمر بالأهم: أنّه ما ذا يريد من التجاوز؟ فهل يريد كونه منسوخاً و المفروض خلافه، و لأجل ذلك كلّما رجع إلى امتثال الأمر بالأهم لكان مطيعاً.

ص:51

أو يريد انّه عند الخيبة عن تأثير الأمر الأوّل دون سقوطه، يأمر بالمهم، فهو نفس الترتّب.

إلى هنا تمّت الاعتراضات التي طرحها المحقّق الخراساني و أجاب عنها، و قد عرفت مدى صحّة الأجوبة.

الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الإن

و قد استدلّ المحقّق الخراساني على بطلان الترتّب من طريق الإنّ و قال: لو صحّ الترتّب للزم تعدّد التكليف، و لو تعدد التكليف و عصى المكلّف كلا الأمرين يلزم أن يعاقب بعقابين، و لكن التالي باطل لامتناع تعدّد العقوبة مع وحدة القدرة، فكذا المقدم أي تعدد التكليف.

يلاحظ عليه: أنّ في تعدّد العقاب و وحدته قولين:

1. انّ تعدّد العقاب و وحدته تابع لتعدّد القدرة و وحدتها، لا وحدة التكليف و تعدّده، فلو كانت القدرة واحدة و التكليف متعدداً، كما إذا تعدد الغريق و هو ترك نجاة الجميع لما كان عليه إلاّ عقاب واحد، لاستقلال العقل بقبح تعدّده مع عدم تعدّد القدرة.

و لذلك أفتوا بتعدّد العقاب في التكاليف العرضية كالصلاة و الصوم، فلو تركهما، يعاقب عقابين لتعدّد القدرة المستلزمة كون المخالفة لا عن عذر.

و هذا بخلاف التكاليف الطولية فلا يوجب تعدد التكليف فيها تعدد العقاب مع وحدة القدرة.

و على ضوء ذلك فالتكليف في الترتب متعدد و بما انّ القدرة واحدة فليس هنا إلاّ عقاب واحد.

ص:52

2. انّ تعدد العقاب و وحدته تابع لتعدد التكليف و وحدته عند المعصية، فلو كان هناك غريقان و ترك نجاة الكلّ، يعاقب بعقابين و إن لم يكن له إلاّ قدرة واحدة، و لا ينافي ذلك عدله سبحانه، لأنّه كان في وسع العبد مع تعدد التكليف و وحدة القدرة الاجتناب عن مخالفة التكليفين عن عذر، و ذلك ببذل قدرته في إنقاذ واحد، و الاعتذار عن ترك الأمر الآخر بالعجز، و مع أنّ هذا الباب كان مفتوحاً أمامه، فقد ترك إنقاذ الغريقين بلا عذر، فللمولى أن يؤاخذه و يقول:

لِمَ تركت إنقاذ زيد بلا عذر؟ لم تركت إنقاذ أخيه كذلك؟ فصار العبد التارك لكلا الأمرين مصدراً لمخالفة أمرين بلا عذر، فيستحقّ عقابين.

و بعبارة أُخرى: انّه يجب على العبد إمّا الامتثال و إمّا الاعتذار، فلو بذل قدرته في واحد يصحّ له الاعتذار عن عدم امتثال الآخر، و أمّا إذا ترك الجميع فليس له ما يصرف عنه العقاب، إذ لا امتثال و لا اعتذار.

إلى هنا تمّ التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني للترتّب كما تمّت مناقشاته و تحليلاته.

و هناك وجوه أُخرى لتقريب الترتب نذكرها تباعاً.

بيان للمحقّق الحائري في امتناع الترتّب

إنّ لشيخ مشايخنا المحقّق الحائري) قدس سره (تقريباً للقول بامتناع الترتّب و نقداً عليه، و نحن نذكر إجمال التقريب ثمّ نذكر نظرنا فيه.

إنّ هنا مقدّمتين:

ص:53

1. انّ الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلاً، و هذه المقدّمة تعود إلى المكلَّف.

2. لا يصحّ للمكلِّف أن يطلب الضدّين في زمان واحد على وجه الإطلاق، و هذه المقدمة راجعة للآمر.

و على ضوء ذلك فإمّا أن يكون الأمران المتعلّقان بإيجاد الضدّين مطلقين، أو يكون أحدهما مطلقاً و الآخر مشروطاً.

و الأوّل لا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق.

و أمّا الثاني أي كون التكليف الثاني مشروطاً فالشرط إمّا هو الترك الخارجي للأهم، و بتعبير آخر العصيان الخارجي المتقدّم أو تصور المولى عصيان العبد، بمعنى انّه يترك في علم اللّه.

و الأوّل أي كون الشرط هو العصيان الخارجي خارج عن الترتّب، لأنّ الأمر الأوّل يسقط بالعصيان الخارجي كما لو غرق الأهم دون المهمّ فلا يكون هناك أمران و لو طوليان، فبقي كون الشرط هو العزم على العصيان أو العصيان على نحو الشرط المتأخر، فعندئذ يسأل هل الشرط متحقّق أو لا؟ فعلى الثاني لا يكون الأمر بالمشروط فعلياً، و على الأوّل ينقلب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق فتقع هذه الصورة في عداد الصورة الأُولى، أي الأمرين العرضيين المطلقين.

يلاحظ عليه: نحن نختار الشقّ الأخير، و انّ الشرط هو تصوّر العصيان من جانب المولى أو علمه سبحانه بعصيان العبد، أو قول المولى:» إن كنت معرضاً عن امتثال الأمر الأوّل «، أو:» كان في نفسك صارف عنه «. و على كلّ تقدير فالشرط

ص:54

متحقق، و انّ القضية الشرطية بعد حصول شرطها تنقلب إلى قضية مطلقة، و مع ذلك كلّه فالأمر بالمهم على نحو لو انصرف من صرف القدرة في المهم و حاول أن يمتثل الأمر بالأهم لما منعه الأمر بالمهم، فهذا النوع من التكليف و إن كان مطلقاً لكن لا يزاحم الأمر بالإزالة على وجه الإطلاق.

و قد تقدّم منّا انّ السبب لكون المطاردة من طرف واحد لا من طرفين، هو اشتمال الأمر الثاني على شرط يوجد فيه مرونة بالنسبة إلى امتثال الأمر بالأهم.

على أنّ انقلاب الواجب المشروط بعد حصول شرطه إلى الواجب المطلق، ممنوع جدّاً كما بيّن في محله.

ص:55

التقريب الثاني لتصحيح الترتّب

(1)

نقل المحقّق الاصفهاني تقريباً عن بعض الأُصوليين ما هذا حاصله:

إنّ اقتضاء كلّ أمر لإطاعة نفسه، في رتبة سابقة على إطاعته، كيف لا و هي مرتبة تأثيره و أثره، و من البديهي أنّ كلّ علّة منعزلة في مرتبة أثرها عن التأثير و إنّما اقتضاؤها، في مرتبة ذاتها المقدّمة على تأثيرها و أثرها، و لازم ذلك كون عصيان المكلّف و هو نقيض طاعته أيضاً في مرتبة متأخّرة عن الأمر و اقتضائه.

وعليه فإذا أُنيط أمر بعصيان مثل هذا الأمر، فلا شبهة انّ هذه الإناطة تُخرج الأمرين عن المزاحمة في التأثير، إذ في رتبة الأمر بالأهم، لا وجود للأمر بالمهم، و في رتبة وجود الأمر بالمهم لا يكون اقتضاء للأمر الأهم. فلا مطاردة بين الأمرين، بل كلّ يؤثر في رتبة نفسه على وجه لا يوجب تحيّر المكلّف في امتثال كلّ منها و لا يقتضي كلّ من الأمرين إلقاء المكلّف فيما لا يطاق، بل كلّ يقتضي موضوعاً لا يقتضي غيره.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ التأخر الرتبي يحتاج إلى وجود الملاك في نفس الشيء و إلاّ فبمجرّد كونه مقارناً لما هو متأخر رتبة عن شيء لا يوجب اتّصافه بالتأخّر الرتبي و المقام من هذا القبيل، لأنّ تأخّر الطاعة عن الأمر لا يوجب تأخّر العصيان عن الأمر، إذ ملاك التأخّر موجود في الطاعة دون العصيان، لأنّ الطاعة

ص:56


1- مرّ التقريب الأوّل في كلام المحقّق الخراساني.
2- نهاية الدراية: 1/233.

أثر الأمر و معلوله، و المعلول متأخّر رتبة عن العلّة، بخلاف العصيان، فإنّه ليس أثرَ الأمر لأنّ أثر الأمر هو البعث و التحريك.

و قد سبق منّا انّ قانون المساواة إنّما يحتجّ به في المسائل الهندسية، كمساواة الزوايا مثلاً و في الزمانيات، فلو كان زيد متأخراً عن عمرو تأخراً زمانياً، و كان زيد و بكر من حيث الزمان متقارنين، فيكون بكر أيضاً متأخراً عن عمرو.

و أمّا التأخّر العقلي الذي يعبر عنه بالتأخّر الرتبي فلا يكفي فيه المقارنة، بل يجب أن يكون في المتأخر ملاك التأخر الرتبي، و لذلك لا يكون ملازم المعلول متأخراً عن العلة تأخّراً رتبياً مع أنّ ملازم المعلول متّحد معه رتبة.

و ثانياً: أنّ التزاحم و التضاد ليس في المعية العقلية حتّى يرتفعا بالتأخر الرتبي للأمر بالمهم، بل موردهما هو المعية الزمانية، إذ الزمان الذي يكون الأمر بالأهم فيه فعلياً يكون الأمر بالمهم فيه أيضاً فعلياً باعثاً، فاللازم رفع التضاد في ذلك الظرف لا رفعه باختلاف الرتب.

و الحاصل: انّ مجرّد تأخّر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بحسب الرتبة العقلية مع المعية في الاقتضاء بحسب الزمان لا يدفع المطاردة، إذ مناط الاستحالة هي المعية الكونية في المتزاحمات و المتضادات لا في الرتب العقلية من المراتب الوجودية.

و هذا الإشكال يرد على أكثر من يحاول تصحيح الترتّب من طريق الاختلاف في الرتبة العقلية مع أنّه لا ينجع في رفع التضاد في زمان الامتثال.

ص:57

التقريب الثالث لتصحيح الترتّب

ما نقله المحقّق الاصفهاني أيضاً و حاصله: انّ مرجع إطلاق الأمر بالأهم إلى سدّ باب عدمه من جميع الجهات حتّى العدم الآتي من قبل الأمر بالمهم فهو بإطلاقه يدعو إلى حفظه مطلقاً.

و أمّا الأمر بالمهم فلما كان مترتّباً على عدم الأهم و تركه، فإطلاقه يقتضي سدّ باب عدمه من كل الجهات إلاّ في ناحية الإتيان بالأهم.

و إن شئت قلت: إنّ الأمر بالمهم يقتضي سدّ باب عدمه في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق و لا منافاة بين قيام المولى بسدّ باب عدم الأهم مطلقاً، و سدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فالأمر بالمهم و إن كان فعليّاً لكنّه حيث تعلّق بسدِّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق، فلا محالة لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم المهم إلاّ في ظرف انفتاح باب عدم الأهم من باب الاتفاق.(1)

توضيحه: انّ لكلّ شيء اعداماً من جانب فقد المقتضي و فقد الشرط و وجود المانع و هو الضدّ هنا، و الأمر بالأهم يقتضي سدّ كلّ عدم يتطرق إليه من أية جهة كان حتّى من جانب وجود المانع.

و أمّا الأمر بالمهم فهو يقتضي سدّ باب عدمه من جانب المقتضي، و من

ص:58


1- نهاية الدراية: 1/235.

جانب الشرط، و أمّا من ناحية المانع أعني: الأهم فانّه يقتضي سدّ باب عدم المهم، إلاّ فيما إذا كان سبب عدمه هو وجود الأهم فلا يقتضي عند ذلك سدّ عدمه، فحينئذ لا محركية للأمر بالمهم نحو طرد عدم نفسه، إلاّ إذا تطرق العدم إلى الأهم من باب الصدفة.

يلاحظ عليه: أنّ التزاحم بعد باق فنحن نفترض انّه تطرق العدم على الأهم من باب الاتفاق، و عندئذ فهل الأمر بالأهم عندئذ ساقط أو لا؟ و الأوّل خلاف المفروض و الثاني يستلزم المطاردة حيث إنّ الأمر بالأهم يطلب قلب عدمه إلى الوجود مع التحفظ على عدم المهم لكون وجوده مانعاً مع أنّ الأمر بالمهم في هذه الحالة أي عند تطرق العدم إلى الأهم فعلي يطلب طرد عدمه إلى الوجود فتقع المطاردة بين الاقتضاءين.

و لعمري الحقّ انّ الترتّب أمر عرفي لا يتوقف على هذه الدقائق العقلية، فالمهم ألاّ يكون نتيجته طلب الجمع بين الضدّين و إن كان نتيجته طلب الضدّين.

ص:59

التقريب الرابع لتصحيح الترتّب

و هناك تقريب رابع ذكره المحقّق البروجردي، و قد ركز على خلاف التقريبين السابقين على عدم التزاحم في المواضع الثلاثة: مقام الجعل و التشريع، و مقام الفعلية، و مقام الامتثال. و قد قرره تارة في هذا المبحث و أُخرى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي، و إليك إجمال ما أفاد:

إنّه لا إشكال في أنّ التكليف بالمحال، بنفسه محال، فإنّ التكليف الحقيقي إنّما يصدر من المولى بداعي انبعاث المكلّف و تحرّكه نحو العمل، فإذا كان نفس المكلّف به محالاً، كالجمع بين السواد و البياض، أو الصعود إلى السماء بلا وسيلة، فلا محالة لا تنقدح الإرادة في نفسه جدّاً، و إن تكلّم به فإنّما يتكلّم به لدواع أُخر.

و مثله إذا كان هناك تكليف و كان كلّ واحد منهما أمراً ممكناً، و الزمان لا يتّسع إلاّ لواحد منهما. فهذا أيضاً لا يصدر من المولى، لا لأنّ المكلّف به أمر محال، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد منهما أمر ممكن، و ليس الجمع هو المأمور به حتّى يكون الامتناع لأجل طلب الجمع، بل من جهة تزاحمهما في مقام التأثير و إيجاد الداعي، فإنّ كلّ واحد من الضدّين، و إن كان بحياله أمراً ممكناً، لكن لمّا كان قيامه بهذا الواجب و ذاك الواجب في زمان لا يسع إلاّ واحداً منهما، أمراً غير ممكن، كان صدور الطلب من المولى بهذا النحو، أمراً محالاً بعد التفاته إلى الحال.

ص:60

و أمّا إذا فرض البعثان غير متزاحمين في مقام التأثير، بل كان تأثير أحدهما عند عدم تأثير الآخر و خلوّ الظرف من المزاحم، فلا محالة ينقدح في نفس المولى طلب آخر يتعلّق بالضدّ، إذ الفعل مقدور للمكلّف، و الأمر الأوّل غير باعث و لا داع، و الزمان خال عن الفعل بحيث لو لم يشغله المهمّ، لكان الزمان فارغاً عن الفعل مطلقاً، فأيّ مانع من طلب المهم عند عدم تأثير الأهم و عدم باعثيته؟ و هذا التقريب جميل في بابه حقيق بالتصديق، و قد أجال فكره في مجال التطبيق من دون أن يركز على الدقائق العقلية فيرفع التزاحم بجعل الأمرين في رتبتين، و بالتالي لم تأخذه هيبة الأمر بالمهم و فعليته في ظرف فعلية الأمر بالأهم الذي صار سبباً لذهاب جمع من الأعاظم إلى امتناع الترتب، منهم المحقّق الخراساني و منهم سيدنا العلاّمة الحجّة الكوهكمري، فقد شغلت بالهم فعلية الأمر بالمهم و قالوا بأنّ نتيجة فعلية الأمرين هي طلب الضدّين.

و نزيد بياناً انّ التلاؤم و التضاد يعني الأمرين أمر عرضي، و مصبهما هو متعلّقات الأوامر، و قد عرفت أنّ بين المتعلّقين كمال التلاؤم في المجالات الثلاثة، و المهم هو مقام الامتثال فانّ تقييد أحد الأمرين بالعصيان يوجب التلاؤم بين الامتثالين.

ص:61

التقريب الخامس لتصحيح الترتّب
اشارة

و هناك تقريب خامس قام بتفصيله و تهذيبه و تشييد معالمه المحقّق النائيني آخذاً أصله من المحقّق المجدد الشيرازي (13121230 ه (ثمّ من تلميذه السيد محمد الفشاركي) المتوفّى 1315 ه () قدس اللّه أسرارهم (و قد أطال الكلام في المقام و رتّب لإثبات الترتّب مقدّمات خمس، و نحن نذكر من كلّ مقدمة ملخّصها.

المقدّمة الأُولى: هل الموجب للجمع إطلاق الخطابين أو نفسهما؟

لا إشكال في أنّ الذي يوجب وقوع المكلّف في مضيقة المحال و استلزام التكليف بما لا يطاق إنّما هو إيجاب الجمع بين الضدّين، و على ذلك لا إشكال في سقوط ما هو منشأ إيجاب الجمع ليس إلاّ، و لا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك، و هذان الأمران ممّا لا كلام فيهما، بل الكلام كلّه في أنّ الموجب لإيجاب الجمع بين الضدّين هل هو نفس الخطابين و اجتماعهما و فعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقّق شرطهما؟ أو انّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق كلّ من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر و عدمه.

فلو قلنا بأنّ الموجب لإيجاب الجمع هو إطلاق الخطابين يسقط الإطلاق و يبقى أصل الخطاب و يصحّ الترتب و لو قلنا بأنّ الموجب هو نفس الخطابين و اجتماعهما و فعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما يسقط الخطابان من رأس وعليه

ص:62

يبتني بطلانه.

ثمّ قال: و من الغريب ما صدر من الشيخ حيث إنّه أنكر الترتّب في الضدين اللّذين يكون أحدهما أهم، و لكنّه في مبحث التعادل و الترجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي و فقد المرجّح حيث قال في ذيل قوله:» إنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّية أحدهما «ما لفظه:

» لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ منهما كسائر التكاليف الشرعية و العرفية مشروطاً بالقدرة، و المفروض انّ كلاً منهما مقدور في حال ترك الآخر و غير مقدور مع إيجاد الآخر، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعيّن فعله، و مع إيجاد الآخر يجوز تركه و لا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلّة وجوب الامتثال و العمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، و هذا ممّا تحكم به بديهية العقل كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف و لا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ تعيين الآخر عليه كذلك «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في تبيين محل النزاع لا غبار عليه، إنّما الكلام في عزو الترتب من الجانبين إلى الشيخ الأعظم) قدس سره (مع أنّ ما ذكره الشيخ لا صلة له بالترتّب المصطلح في المقام و ذلك بالبيان التالي:

ذهب الشيخ إلى أنّ القول بحجّية الأخبار من باب الطريقية يستلزم السقوط و طرح كليهما، و أمّا على القول بحجّيتها من باب السببية و اشتمال العمل بكلّ واحد منهما على مصلحة، فاللازم هو التخيير بين الخبرين، و هذا الخطاب التخييري يستفاد من نفس الأمر بالعمل بخبر العادل، أعني قوله:» صدق العادل « حيث إنّ العمل به في كلّ، مع الأخذ بالآخر غير ممكن، فيُقتصر في تقييد

ص:63


1- فوائد الأُصول: 3381/337.

الدليل بتركه حين الأخذ بالآخر، فالحكم في الدرجة الأُولى هو الأخذ بهما، و لمّا كان الأخذ بهما محالاً يقتصر في الأخذ بكلّ عند ترك الآخر.

و عندئذ يظهر الفرق بين المقامين، بوجهين:

الأوّل: انّ التزاحم في مورد الترتّب و إن كان في مرحلة الامتثال لكن لا يعالج التزاحم فيها إلاّ بالتصرّف في مقام التشريع بتقييد خطاب المهم بعصيان الأهم، و سيوافيك انّ الترتّب من المسائل التي يلازم إمكانُها وقوعَها، فالدليلان بإطلاقهما يستلزمان التزاحم في مقام الامتثال، و لا يعالج إلاّ بتقييد المهم بعصيان الأهم فيرتفع التزاحم في مقام الامتثال.

و أمّا التعارض في كلام الشيخ فلا يمكن علاجه بالتصرّف في مقام التشريع للعلم بكذب أحدهما و لكن لمّا كان كلّ واحد مشتملاً على المصلحة مع كذب واحد منهما يقتصر في ترك المصلحة، بالأخذ بالآخر فيختصّ مورد العلاج بمقام الامتثال.

الثاني: انّ الأمر بالمهم في المقام في طول الأمر بالأهم كما سيوافيك تفصيله و هذا بخلاف الترتّب في كلام الشيخ فانّ كلاً من الدليلين في عرض الآخر غير انّه يتخير في العمل بواحد مع ترك الآخر، فكيف يقاس هذا الترتب بذلك؟

الثانية: الواجب المشروط) بعد حصول شرطه (لا ينقلب إلى الواجب المطلق

إنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه لا ينقلب إلى الواجب المطلق، فالحجّ واجب مشروط في حقّ الفقير و الغني، و المستطيع و غيره حتّى بعد حصول شرطه، و بنى ذلك على أمرين:

أ. انّ الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية، و هي الحكم على

ص:64

عنوان له مصاديق محقّقة و مقدرة و ليست من قبيل القضايا الشخصية، بل هي أحكام كلية.

ب. انّ كلّ شرط موضوع) و ربما يبالغ و يقول: و كل موضوع شرط (و انّ الاستطاعة إن كانت بظاهرها شرطاً للوجوب لكنّها موضوعة للوجوب و كأنّه سبحانه يقول: الإنسان العاقل البالغ المستطيع يجب عليه الحجّ.

و الحكم المجعول على موضوعه، لا ينقلب عمّا هو عليه، و لا يخرج الموضوع عن كونه موضوعاً، و لا الحكم عن كونه مجعولاً على موضوعه و وجود الشرط عبارة عن تحقّق موضوعه خارجاً، و بتحقّق الموضوع خارجاً لا ينقلب الواجب المجعول من الكيفية التي جعل عليها و لا يوصف بالإطلاق بعد ما كان مشروطاً، لأنّ انقلابه إلى الإطلاق يستلزم خروج ما فرض كونه موضوعاً عن كونه موضوعاً.

نعم لو كانت الأحكام الشرعية أحكاماً شخصية لصحّ ما ذكر.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ إرجاع عامّة الشروط إلى الموضوع مخالف لواقع الشروط فانّها حسب الواقع تنقسم إلى أقسام و نكتفي بذكر أقسام ثلاثة:

1. ما يكون قيداً للوجوب و مفاد الهيئة و الحكم المنشأ، المعبِّر عن الإرادة، كما إذا كان الشخص غير محب للضيف و لكن لو فاجأه الضيف لم يكن له بدّ من التكريم فيقول لعبده: إذا نزل بك الضيف فأكرمه، فالوجوب معلّق على نزوله، و لولاه فلا إرادة و لا وجوب بل ربما تتعلّق به الكراهة.

2. ما يكون قيداً لمتعلّق الحكم، كما إذا تعلّقت إرادة المولى على الصلاة في المسجد فيقول: صلّ صلاة الظهر في المسجد فالقيد ظرف للصلاة يجب تحصيله كتحصيلها.

ص:65


1- فوائد الأُصول: 3401/339.

3. ما يكون قيداً للموضوع، ككونه إنساناً عاقلاً بالغاً.

فإذا كانت القيود على أقسام ثلاثة فكيف نجعلها قسماً واحداً؟ و ثانياً: أنّ ما ذكره من بقاء القضايا الكلية المشروطة على وصفها السابق مبني على القول بعدم انحلالها إلى أحكام جزئية و شخصية لهذا الفرد و ذاك الفرد، و إلاّ فلو ثبت الانحلال يكون الخطاب الشخصي إلى الفقير مشروطاً بالاستطاعة دون خطابه إلى الغني مطلقاً، إذ يقبح أن يخاطب الغني السالم بأنّك إذا استطعت فحج، مع علمنا و علمه بأنّ المقتضي تام و المانع مفقود.

و ثالثاً: أنّ رحى الترتّب لا تدور على بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على ما كان عليه، بل تدور على أن يكون الشرط المأخوذ في موضوع الأمر بالمهم على وجه لا يقتضي طلب الجمع بين الضدّين و إن اقتضى طلب الضدّين. و على ذلك فلا بدّ من التركيز على أنّ العصيان هل يقتضي طلب الجمع بين الضدين أو يقتضي طلب الضدّين؟ فعلى الأوّل يمتنع الترتّب، و على الثاني يصحّ، مثلاً لو كان الشرط هو امتثال الأمر الأهم على نحو الشرط المتأخر أي تصوّر الامتثال أو كان الشرط هو التسليم على زيد و افترضنا انّه سلم، ففي هذا القسم لا ينجع الشرط في صحّة الترتّب، سواء قلنا بأنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه باق على مشروطيته، أو ينقلب إلى الواجب المطلق، كما أنّه إذا كان الشرط هو العصيان على نحو الشرط المتأخر فهو نافع في رفع طلب الجمع، من غير فرق بين بقاء الواجب المشروط بعد حصول شرطه على الشرطية أو لا، فالواجب التركيز على دراسة واقعية الشرط و انّه هل يمنع عن طلب الجمع أو لا يمنع؟ لا على انقلاب الواجب المشروط إلى المطلق و عدمه.

فالمحقّق النائيني مكان التركيز على هذا الأمر المهم الذي تدور عليه رحى

ص:66

الترتّب ركّز على قضية لا ينتفع بها في الترتب إلاّ على وجه بعيد كما سيوافيك.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني بحث في مقدّمة مستقلة ثالثة عن تقسيم الواجب المضيق إلى قسمين، و أفاد انّ هذه المقدّمة ليست بمهمة في إثبات الترتّب، و لأجل ذلك تركناها و نعرّج إلى المقدمة الرابعة في كلامه التي هي مقدّمة ثالثة في كلامنا و قد وصفها بأنّ رحى الترتّب تدور مدارها.

المقدّمة الثالثة: في أنّ الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم

إنّ السبب لوجود الخطاب في صورة خاصة أو في عامّة الصور هو التقييد أو الإطلاق، فالتقييد آية وجود الخطاب في ظرف خاص، و الإطلاق آية وجود الخطاب في عامة الأحوال.

ثمّ إنّه) قدس سره (قسم الإطلاق إلى أقسام ثلاثة:

الأوّل: الإطلاق و التقييد اللحاظيان.

الثاني: نتيجة الإطلاق و التقييد.

الثالث: الإطلاق الذاتي.

و ذكر انّ مصب الأوّل هو الانقسامات الطارئة على المتعلّق قبل تعلّق الحكم، كتقييد الصلاة بالوضوء أو إطلاقها بالنسبة إلى جميع الأمكنة.

كما أنّ مصبّ الثاني هو الانقسامات اللاحقة بعد تعلّق الحكم كاختصاص وجوب الجهر أو القصر بالعالم دون الجاهل، أو كاشتراك أحكام اللّه بين العالم و الجاهل فانّ التقييد و الإطلاق نتيجة دليل ثانوي يفيد الاختصاص أو التعميم و لا يكون الدليل الأوّل متكفلاً لا للاختصاص و لا للتعميم، لأنّ المفروض انّهما من الأحوال الطارئة بعد تعلّق الحكم.

ص:67

و إنّما المهم في المقام هو الإطلاق الذاتي، و المراد وجود الخطاب في حالتي الفعل و الترك بنفسه و باقتضاء هويته الذاتية، فالخطاب في قوله» أزل النجاسة «عام يشمل صورة الإزالة و عدمها، نظير قولك:

الإنسان موجود، فالموضوع ذات الإنسان لا بوصف الوجود، و إلاّ لانقلبت النسبة إلى الضرورة; و لا بوصف العدم، و إلاّ لانقلبت إلى الامتناع بل الماهية المعراة من كلّ قيد و منه الوجود و العدم.

و في المقام يتعلّق الوجوب بذات الإزالة لا بقيد الوجود الذي نعبر عنه بالامتثال، و لا بقيد العدم الذي نعبر عنه بقيد العصيان، فينتج انّ خطاب أزل النجاسة محفوظ في حالتي الوجود و العدم و الامتثال و العصيان.

هذا كلّه حول الأمر بالأهم، و أمّا الأمر بالمهم فنلفت نظرك إلى أمرين:

1. ما مرّ في المقدّمة الثانية من أنّ الشرط أي العصيان موضوع في الأمر بالمهم فمرجع قولك:

» و إن عصيت فصلّ «إلى قولك:» أيها العاصي صلّ «، و من الواضح انّ الحكم لا يتكفّل حال موضوعه من وضع أو رفع، بل هو حكم على تقدير وجوده و مشروط به.

و بعبارة أُخرى: قولك:» أيّها العاصي صلّ «بمعنى انّه إن وجد العصيان صدفة فصلّ و ليس الأمر بالصلاة داعياً إلى إيجاد العصيان، لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه.

إذا عرفت معنى الإطلاق في الأهم أي كونه محفوظاً في حالتي العصيان و الامتثال، و عرفت أنّ العصيان مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم من دون أن يكون للأمر دعوة إلى إيجاد موضوعه أي العصيان، يظهر لك انّ الأمر بالصلاة في طول الأمر بالإزالة و ذلك ببيانين:

ص:68

1. انّ مقتضى الإطلاق الذاتي في الأمر بالأهم كونه محفوظاً في حالتي الامتثال و العصيان و داعياً إلى إيجاد متعلّقه في حالة العصيان أيضاً فيكون طارداً للعصيان و رافضاً له من أن يدخل في حوزة الأمر بالأهم.

و أمّا الأمر بالمهم فلا يدعو إلى حفظ العصيان و إثباته و إيجاده، بل يدعو إلى الأمر بالصلاة لو تحقّق العصيان صدفة و على عفو الخاطر و ما يشبه ذلك، فيكون الأمر بالمهم غير مزاحم للأمر بالأهم.

2. انّ خطاب الأهم في رتبة متقدمة على موضوع خطاب المهم و هو العصيان، لما عرفت من أنّ العصيان كالطاعة متأخران عن الحكم، و المفروض انّ العصيان موضوع في الأمر بالمهم فهو مقدّم على حكمه تقدّم الموضوع على حكمه، فينتج تقدّم خطاب الأهم على خطاب المهم برتبتين.

و إن أردت تصويره فلاحظ العناوين التالية:

الأمر بالأهم علة فهو في رتبة متقدّمة.

العصيان في رتبة الإطاعة التي هي متأخرة عن الأمر.

العصيان موضوع في الأمر المهم و هو متقدّم على حكمه.

فيكون الأمر بالمهم متأخّراً عن الأمر بالأهم برتبتين.(1)

يلاحظ على هذه المقدّمة بطولها التي لخصناها في هذه السطور بوجهين:

الأوّل: انّ الطاعة و إن كانت متأخّرة عن الأمر بالأهم، لأنّها أثرها، و الأثر كالمعلول يكون متأخّراً عن العلة رتبة، إلاّ انّه لا دليل على تأخر العصيان رتبة عن الحكم، لعدم وجود ملاك المعلولية في العصيان.

ص:69


1- فوائد الأُصول: 3611/357.

نعم الطاعة و العصيان متأخران زماناً عن الأمر بالأهم و لكن الكلام في التأخّر الرتبي.

الثاني: انّ التأخّر الرتبي لا ينفع ما لم يرفع فساد طلب الجمع بين الفعلين بشهادة انّه لو جعل الشرط في الأمر الثاني امتثال الأمر الأوّل على نحو الشرط المتأخر بأن يقول:» أزل النجاسة إن امتثلت فصلِّ «فلا يرتفع الفساد، بل يلزم طلب الجمع بين الفعلين مع أنّ الأمر الثاني متأخّر عن الأمر الأوّل برتبتين.

و الحاصل انّ التأخّر الرتبي مهما بذلت الجهود على إثباته لا ينجح، فانّ التزاحم في مقام الامتثال، و الامتثال أمر زماني و لا يرتفع طلب الجمع إلاّ أن يكون زمان تأثير الأوّل مغايراً لتأثير زمان الثاني على النحو الذي عرفت في تقريب السيد المحقّق البروجردي.

المقدّمة الرابعة: في أنّ الخطاب الترتّبي لا يقتضي الجمع

هذه المقدّمة كما قلنا سابقاً و يفصح عنوانُها سيقت لإثبات أنّ الخطابَ الترتبيّ لا يقتضي إيجابَ الجمع، و هي تحمل روح الترتّب و لها أهمية خاصة، و قد فصّل المستدل الكلام في بيان مقصوده، و نحن نقتصر على ما هو اللازم المؤثر في إثبات المدّعى.

إذا كان أحد الدليلين متعرّضاً لحال الدليل الآخر، فإمّا أن يكون نفس الخطاب رافعاً أو دافعاً لموضوع الآخر، و إمّا أن يكون امتثاله.

فإن كان الأوّل فهذا ممّا يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية، و لا يعقل أن يكون كلّ من الخطابين فعليّاً، لأنّ وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى تقع المزاحمة، و هذا كما إذا ربح الرجل و كان عليه

ص:70

دين من عام الربح، فخطاب» أدّ دينك «، رافع لموضوع خطاب الخمس الوارد في الآية المباركة، و ذلك لأنّ الخمس بعد المئونة و أداء الدين(1) من المئونة.

فإن كان الثاني، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر، فهذا هو محلّ البحث في الخطاب الترتّبي حيث يتحقّق اجتماع كلّ من الخطابين في الفعلية، لأنّه ما لم يمتثل خطاب الأهمّ لا يرتفع خطاب الآخر لعدم ارتفاع موضوعه بعدُ، فيجتمع الخطابان في الزمان و في الفعلية بتحقّق موضوعهما، فيقع الكلام في أنّ اجتماع مثل هذين الخطابين يوجب إيجاب الجمع أو لا، و الحقّ أنّه لا يوجب لوجوه ثلاثة:

1. لو لزم إيجاب الجمع يلزم المحال في جانب المطلوب، لأنّ مطلوبية المهمّ و وقوعه على هذه الصفة إنّما يكون في ظرف عصيان الأهم و خلوّ الزمان عنه، بداهة أنّ ما يكون قيداً للطلب) فإن عصيت فصلّ (يكون قيداً للمطلوب، فيكون الواجب» الصلاة بعد العصيان «، كالحجّ بعد الاستطاعة، فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم و امتثاله، يلزم الجمع بين النقيضين، إذ يلزم أن يكون مطلوباً مقيداً بكونه بعد العصيان و في الوقت نفسه مطلوباً و لو حال عدمه.

2. لو لزم إيجاب الجمع لزم المحال في ظرف الوجوب، لأنّ خطاب الأهمّ يكون من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه، فلو اجتمع خطاب الأهم و المهم و صار المهمّ في عرض خطاب الأهمّ كما هو لازم إيجاب الجمع لكان من قبيل اجتماع الشيء مع علّة عدمه.

3. البرهان المنطقي أيضاً يقتضي عدم إيجاب الجمع فانّ الخطاب الترتبي بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع، بين النسبة الطلبيّة في جانب المهمّ و النسبة

ص:71


1- الوسائل: الجزء 6، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

الفاعليّة في جانب الأهم، فصورة القضية هكذا: إمّا أن يكون الشخص فاعلاً للأهم، و إمّا أن يجب عليه المهم و معه كيف يعقل إيجاب الجمع.(1)

يلاحظ على الوجه الأوّل، منع كون العصيان قيداً للطلب و المطلوب، و إنّما هو قيد للطلب دون المطلوب بشهادة أنّه لو تمكّن عن طريق الإعجاز الجمع بين الأهم و المهمّ لوقع المهمّ على وصف المطلوبية فما يظهر منه) قدس سره (من عدم كون المهم مطلوباً في غير صورة العصيان كما ترى.

و على الثاني، أنّ ما ذكره من أنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهمّ لاقتضائه رفع موضوعه.

لا يوافق جعل المقام من القسم الثاني، أي كون أحد الخطابين بامتثاله رافعاً لموضوع الآخر، فكيف يصحّ أن يقول إنّ خطاب الأهم من علل عدم خطاب المهم لاقتضائه رفع موضوعه.

و الحقّ أن يقال: إنّ المحقّق النائيني أتعب نفسه الشريفة في ترتيب هذه المقدّمات لتصحيح الترتّب، لكن تصحيحه و استنباطه، لا يتوقّف على هذه المقدّمات المفصّلة، و كان في وسعه أن يرد من أقصر الطرق و أسهلها كما عرفت منّا. شكر اللّه مساعي علمائنا.

ص:72


1- فوائد الأُصول: 3611/357.
ثمرات بحث الترتّب:
الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب

إنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و نحن إذا راجعنا الفقه نرى أنّ هناك أحكاماً شرعية أفتى بها العلماء، و لا يصحّ الإفتاء بها إلاّ على القول بصحّة الترتّب، و إليك بعض ما عثرنا عليه أو ذكره غيرنا:

1. المسألة المعروفة، أعني: ما إذا رأى المكلّف نجاسة في المسجد و قد دخل وقت الصلاة، فلا شكّ أنّه تجب المبادرة إلى إزالتها قبل أن يصلي مع سعة الوقت، و مع الضيق يقدّم الصلاة، و لكن لو ترك الإزالة مع سعة الوقت و اشتغل بالصلاة عصى، لأنّه ترك الأهمّ، و إنّما الكلام في صحّة صلاته، فتحكم بالصحّة على الترتّب.(1)

2. إذا كان بدن المكلّف أو ثوبه نجساً، و من جانب آخر كان محدثاً و ليس عنده من الماء إلاّ بقدر أحد الأمرين: رفع الحدث أو الخبث. فبما أنّ لرفع الحدث بدلاً و هو التيمّم، يجب استعمال الماء في رفع الخبث، فصار رفع الخبث أهمّ، و رفع الحدث هو المهم. فلو عصى و استعمل الماء في رفع الحدث بالتوضّؤ أو الاغتسال، فصحّتهما مبنيّة على القول بالترتّب، أي توجّه الأمر إلى رفع الحدث

ص:73


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، فصل» يشترط في صحّة الصلاة... «المسألة الرابعة.

عند العزم على عصيان الأمر بالأهم.(1)

3. إذا كانت وظيفة المكلّف التيمّم لضيق الوقت عن استعمال الماء، و مع ذلك خالف فتوضّأ أو اغتسل، فصحّة الوضوء أو الغسل مبنية على صحّة الترتّب أو الاكتفاء بالملاك.(2)

4. إذا كان وضوء الزوجة مفوِّتاً لحقّ الزوج، مع سعة الوقت فتوضأت، فصحّة وضوئها مبنيّة على صحّة الترتّب، أو القول بكفاية الملاك، كما هو الحال في عامة المسائل.(3)

5. لو انحصر ماء الوضوء بما يوجد في الآنية المغصوبة، فإن اغترف منها مرّة واحدة لأجل التوضّؤ ما يكفيه للوضوء، فيجب عليه الوضوء، و إن عصى في الاغتراف، و لا صلة للصحّة هنا بالترتّب، لسقوط النهي عن الاغتراف بالعصيان، و أمّا إذا كان بناؤه على الاغتراف تدريجياً، فاغترف مرّة ما يكفيه لغسل الوجه، فصحّة وضوئه بهذا الشكل بأن يغترف مرّة أُخرى بعد غسل الوجه، لغَسْل اليمنى ثمّ اليسرى مبنية على صحّة الترتّب، فانّ القدرة على كلّ غسلة من غسلات الوضوء حاصلة عند كلّ غسلة بالعصيان بالتصرّف في الآنية المغصوبة.(4)

و نظيره الاغتراف من آنية الذهب أو الفضّة، و ليست القدرة الفعلية على

ص:74


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، فصل في التيمم و مسوغاته، في ذيل المسألة 22.
2- المصدر السابق، المسألة 29.
3- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الطهارة، شرائط الوضوء، المسألة 36.
4- لاحظ فوائد الأُصول: 1/378.

مجموع العمل قبل الشروع فيه شرطاً، بل تكفي القدرة عند كلّ جزء من أجزائه.

6. إذا توقّف حفظ نفس محترمة على ترك الصلاة أو قطعها، فلو عصى و اشتغل بالصلاة، مبتدأ بها أو مستمرّاً فيها، فالصحّة مبنية على صحّة الترتّب أو القول بكفاية الملاك.(1)

7. إذا كان المكلّف في حال الصلاة فسلّم عليه شخص، وجب عليه ردّ السلام، و لو عصى و استمرّ في الصلاة، صحّت لمكان الأمر الترتبي.(2)

8. لو شرع في اليومية مع سعة وقتها، ثمّ ظهر له ضيق وقت صلاة الآية، يجب عليه قطعها و الاشتغال بصلاة الآية، فلو لم يقطعها و استمرّ في الصلاة، فالصحّة مبنية على القول بالترتّب أو كفاية الملاك.(3)

و مثله كلّ صلاة موسّعة عارضت صلاة مضيّقة، كالنافلة في وقت الفريضة مع ضيق وقتها.

9. إذا وجب السفر في شهر رمضان بإيجاب أهم من صومه، كسفر الحجّ، فلو عصى و لم يسافر توجّه إليه الأمر بالصوم بحيث لو أفطر وجبت عليه الكفّارة، كما يجب عليه الإتمام و لا يصحّ منه القصر، فكأنّ المولى يقول:» سافر، و أفطر، و قصّر، و لو عصيت فصم و أتمم «.(4)

ص:75


1- لاحظ العروة الوثقى، فصل لا يجوز قطع صلاة الفريضة اختياراً، المسألة 4.
2- لاحظ العروة الوثقى، فصل في مبطلات الصلاة، المسألة 16.
3- العروة الوثقى، فصل في صلاة الآيات، المسألة 12.
4- لاحظ فوائد الأُصول: 1/357، و أجود التقريرات: 1/302.

10. إذا زاحم الصوم، حفظ نفس الغير أو عرضه أو زاحمه حفظ مال أهمّ في نظر الشارع من الصوم، و مع ذلك صام، فالصحّة مبنية على أحد الأمرين الترتّب أو القول بكفاية الملاك.(1)

11. إذا كان اعتكاف الزوجة منافياً لحقّ الزوج، أو اعتكاف المستأجر منافياً لحقّ الأجير، فلو خالف و صام و اعتكف، فتصحيح العبادة بأحد الأمرين كما مرّ.(2)

12. إذا كان عليه خمس من عام الربح الماضي، و كان عليه دين حال، فيقدّم الدين على الخمس، فلو خالف و لم يؤدّ الدين يمكن القول بوجوب الخمس مترتّباً على العصيان.(3)

13. لو صلّى العصر قبل الظهر في الوقت المشترك نسياناً فلا مانع من الإتيان بالظهر في الوقت المختصّ بالعصر.

فلو ترك الإتيان بالظهر في هذا الوقت و اشتغل بصلاة أُخرى قضاءً فيمكن أن يقال إنّ اشتغال الذمّة بالواجب الفوريّ. أعني: صلاة الظهر لا ينافي صحّة عبادة أُخرى مضادّة له بناء على تعلّق الأمر بالموسّع أعني: صلاة القضاء فعلاً أيضاً على الترتّب.(4)

14. لو فرضت حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزوال، فلو

ص:76


1- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الصوم، فصل في شرائط صحّة الصوم، في ذيل قوله:» الشرط السادس «.
2- لاحظ العروة الوثقى، كتاب الاعتكاف، فصل: يشترط في صحّته أُمور: السابع.
3- لاحظ فوائد الأُصول: 1/358.
4- كتاب الصلاة للحائري اليزدي: 16.

فرض أنّه عصى هذا الخطاب و أقام، فلا إشكال في أنّه يجب عليه الصوم و يكون مخاطباً به، فيكون في الآن الأوّل الحقيقي من الفجر قد توجّه إليه كلّ من حرمة الإقامة و وجوب الصوم و لكن مترتّباً، فيكون وجوب الصوم أو وجوب التمام مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة. و كأنّه يقول: تحرم لك الإقامة، و إن عصيت بنيّة الإقامة، فصُم و اتمم.

15. لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال، فلو عصى و لم ينو الإقامة وجب عليه القصر و إفطار الصوم، و كأنّه يقول: أقم و إن عصيت فقصّر و أفطر.(1)

ص:77


1- فوائد الأُصول: 3581/357.
خاتمة المطاف نظرية الأمر بالأهم و المهم عرضاً لا بنحو الترتّب
اشارة

إنّ سيّدنا الأُستاذ الإمام الخميني) قدس سره (لمّا لم يرتض بالترتّب على النحو الذي أقام دعائمه المحقّق النائيني، سلك مسلكاً آخر في تصحيح الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم.

و حاصل النظرية: عبارة عن حفظ الأمر على الموضوعين بلا تقييد المهم بالعصيان، و ذلك بترتيب مقدّمات مفصّلة، نذكر ملخّصاً منها:

الأُولى: الأحكام تتعلّق بالطبائع

إنّ الأحكام الشرعية تتعلّق بنفس العناوين الكلّية، لا بها مع سائر الخصوصيات، فانّ الطبيعي في الخارج لا ينفك عن الزمان و المكان و سائر الملابسات، لكن المأمور به نفس الصلاة لا ضمائمها الكلّية، و هكذا النواهي، و ذلك لأنّ المحصِّل للغرض هو نفس وجود الطبيعة دون الضمائم و إن كانت الطبيعة لا تنفك عنها.

و بذلك يُعلم أنّ مراد القائل بتعلّق الأحكام بالأفراد ليس هو المصاديق

ص:78

الخارجية، بل الضمائم و المشخّصات الكلّية، فالوجوب في الصلاة يتعلّق بنفس الطبيعة لا بملازماتها، كالصلاة في المساجد و البيوت و الشوارع; و قس على ذلك، النواهي.

الثانية: الإطلاق: كون الطبيعة تمام موضوع الحكم

إنّ الإطلاق عبارة عن كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم، ففي قولنا: اعتق رقبة» الرقبة «مطلق و مرسل عن القيد باسم المؤمنة، فهي تمام الموضوع، بخلاف المقيّد، فالمطلق فيها جزء الموضوع.

و أمّا تفسير الإطلاق بلحاظ سريان الطبيعة في أفرادها و أصنافها بأن يلاحظ المولى الرقبة في ضمن المؤمنة و الكافرة و العادلة و الفاسقة و هكذا فليس بتام، فما ربّما يفسر الإطلاق بكون الرقبة واجبة سواء أ كانت مؤمنة أم كافرة و هكذا، فهو إطلاق لحاظي غير ثابت و لا دليل عليه، إذ يكفي بالاحتجاج بالمطلق جعله تمام الموضوع من دون لحاظ سيلانه أو سريانه في أصنافه و مصاديقه.

الثالثة: انّ الدليل غير ناظر لحال التزاحم

إذا تعلّق الحكم بنفس الإزالة فالمقنن في حال التقنين لا يلاحظ زمان تزاحمه بالصلاة و غيرها، و ذلك لأنّ الحكم المتعلّق بالصلاة متأخّر عن الحكم بوجوب الإزالة بمرحلتين، و ما يتأخّر عن الشيء بمرحلتين، لا يصحّ أن يكون الحكم ناظراً إليه، و ذلك لأنّ الحكم بالإزالة متقدّم على تطبيق الحكم على الصعيد العملي، أعني: مقام الامتثال، كما هو متقدّم على حدوث التزاحم بينه و بين سائر الواجبات، فيكون الحكم بالإزالة متقدّماً على التزاحم برتبتين، فكيف يكون ناظراً لحال ما يتأخّر عنه برتبتين؟

ص:79

أضف إلى ذلك انّ الأمر بالإزالة مشتمل على الهيئة و المادة، و الهيئة تدلّ على الوجوب و المادة على الطبيعة فليس هناك دالّ على صورة التزاحم.

الرابعة: ليس للحكم إلاّ مرحلتان

المعروف أنّ للحكم الشرعي مراتب أربعة:

الف: مرحلة الاقتضاء، و هي مرحلة المصالح و المفاسد المقتضية لإنشاء الحكم.

ب: مرحلة الإنشاء، و هي إنشاء الحكم على وفق المصالح و المفاسد بالإيجاب في الأُولى و النهي في الثانية.

ج: مرحلة الفعلية: و هي مرحلة بيان الحكم على المناهج المعروفة سابقاً و لاحقاً.

د: مرحلة التنجّز: و هي قيام الحجّة عند المكلّف على حكم المولى.

لكنّه) قدس سره (أنكر كون الأُولى و الرابعة من مراحل الحكم، قائلاً: بأنّ مرحلة الاقتضاء من مقدّمات الحكم لا نفسه، كما أنّ مرحلة التنجّز مرحلة متأخّرة عن الحكم، و هو حكم العقل بتنجّز الحكم على المكلّف و أثره استحقاق الثواب و العقاب و لا صلة للتنجّز بالحكم.

الخامسة: الخطاب الشرعي خطاب قانوني واحد

إنّ الخطابات الشرعية بل الأحكام مطلقاً سواء أ كان هناك خطاب أم لا خطاب أو حكم واحد، و هو بوحدته حجّة على عامّة المكلّفين، فالحكم أو الخطاب واحد، و المتعلّق كثير، مثلاً، قوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ

ص:80

اَلْبَيْتِ ) (1)حكم واحد لا كثرة فيه و إن كان المتعلّق) الناس (فيه الكثرة لكن الحكم بوحدته بما انّه متعلّق بالناس حجّة على الجميع، فكلّ فرد وقف على ذلك الحكم، تتمّ الحجّة عليه لكونه من مصاديق الناس، و لا حاجة لتكثير الحكم و الخطاب حسب تعدد المكلّفين بأن يكون لكلّ فرد من أفراد المكلّفين حكم خاص أو خطاب كذلك.

و يشهد على ذلك الأُمور التالية:

1. قضاء الوجدان، فانّ من يخاطب الجمع الكثير لإنجاز عمل فإنّما يدعوهم إليه بخطاب واحد و لا يدعو كلّ فرد بخطاب خاص لكفاية وحدة الخطاب مع تعدد المتعلّق مع كون كلّ مكلّف مصداقاً للمتعلّق و مخاطباً به بنفس الخطاب الواحد.

2. لو صحّ انحلال الخطاب الواحد إلى خطابات في الجمل الإنشائية لصحّ في الجمل الإخبارية، فإذا أخبر بأنّ القوم جاءوا، و الحال انّه لم يجئ منهم أحد، فلو قلنا بالانحلال يلزم أن يحكم عليه بأنّه كذب حسب تعدد الأفراد مع أنّه لم يكذب إلاّ كذبة واحدة.

3. لو قلنا بانحلال الخطاب يلزم خروج الكفّار و العصاة عن مصبِّ الخطابات، و ذلك لأنّ خطاب العاصي و الكافر أمر قبيح لا يصدر من الحكيم، فانّ من نعلم أنّه يعصي على وجه القطع و الجزم لا نطلب منه شيئاً على وجه الجد، مع أنّ العصاة و الكفّار محكومون بالفروع، كما أنّهم محكومون بالأُصول، و هذا بخلاف ما إذا قلنا إنّ الخطاب واحد و هو حجّة على الكلّ سواء أطاع أم خالف، و لا يشترط في الخطاب القانوني إلاّ وجود جماعة ينبعثون من بعث المولى أو ينتهون

ص:81


1- آل عمران: 97.

من نهيه، و لا يشترط انبعاث الكلّ أو انزجارهم.

و قد اشتهرت هذه المقدّمة عن سيّدنا الأُستاذ بأنّه يفرّق بين الخطابات الشخصية و الخطابات القانونية، و انّه لا حاجة في الخطاب القانوني إلى الانحلال في الخطاب و الحكم. و على هذه المقدّمة تدور رحى النظريّة:

اجتماع خطابين عرضيين في وقت واحد.

السادسة: انّ الأحكام غير مقيّدة بالقدرة

المعروف أنّ الأحكام الشرعية مقيّدة عقلاً بالقدرة، و ذلك لأنّ خطاب العاجز أمر قبيح، بل أمر محال، إذ لا تنقدح الإرادة في ذهن المولى الذي يعلم بعجز المخاطب.

هذا هو المعروف، غير أنّ سيدنا الأُستاذ أنكر هذه المقدّمة و ذهب إلى أنّه ليس للعقل التصرّف في حكم الغير و الشرع غير العقل فلا تكون الأحكام مقيّدة بالقدرة.

فإن قلت: إنّ خطاب العاجز قبيح بل محال فكيف للشارع الأمر به أو الحكم عليه؟ قلت: فرق بين الخطاب القانوني و الخطاب الشخصي، فما ذكرته صحيح في الخطاب الشخصي، إذ لا يصحّ خطاب العاجز مع العلم بعجزه، بخلاف الخطابات القانونية فانّ الحكم فيها واحد و الكثرة في المتعلّق، و ليس لكلّ فرد حكم و خطاب حتّى يطلب لنفسه التقيّد بالقدرة، بل خطاب واحد متعلّق بالعنوان و هو حجّة على الجميع.

نعم يشترط في الخطاب القانوني وجود جماعة مستعدّة لامتثال أمر المولى

ص:82

و الانتهاء بنهيه حتّى لا يكون جعل الحكم لغواً.

فإن قلت: هذا يدلّ على أنّ الحكم الشرعي غير مقيّد بالقدرة عقلاً و لكن لا مانع من القول بتقيّد الأحكام بالقدرة الشرعية.

قلت: إنّ لازم هذه النظرية هو إجراء البراءة عند الشكّ في القدرة، لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في وجود شرط التكليف، و الأصل عدم وجوده، مع أنّهم لا يلتزمون بها عند الشكّ في القدرة، بل الكلّ صائرون إلى القول بالاحتياط مع الشكّ فيها، و لذلك لو شكّ في الاستطاعة أو بلوغ النتاج، النصاب وجب الفحص، و لا تجري البراءة.

السابعة: كلّ من الضدين أمر مقدور

إنّ المأمور به هو كلّ من الضدّين بما هو هو و ذلك أمر مقدور، و أمّا غير المقدور فهو الجمع بين الضدّين و هو ليس بمأمور به، مثلاً: إذا زالت الشمس و قامت حجّة على إزالة النجاسة عن المسجد و قامت حجّة أُخرى على صلاة الظهر، فهناك حجّتان تامتان قامتا على العبد كلّ يطلب نفسه و لا يطلب الجمع، فقيامهما في هذه الحالة كقيام الحجّتين عند طلوع الفجر في شهر رمضان فكلّ حجّة في مفاده سواء أ كانتا غير متزاحمتين كما في الصوم و الصلاة أو متزاحمتين كما في الإزالة و الصلاة.

هذا هو حال الشرع، و أمّا العقل فإن رأى التكليفين متساويين في الأهمية حكم بالتخيير بين الأمرين، فيكون في ترك الأمر الآخر معذوراً

ص:83

من دون أن يقيد أحد الأمرين بترك الآخر، و أمّا لو كان أحدهما أهم من الآخر فيحكم العقل بتقديم الأهم على المهم على نحو لو اشتغل بالأهم يكون في ترك الآخر معذوراً و لو اشتغل بالمهم فقد امتثل أحد التكليفين لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهم، كما أنّه لو ترك اشتغاله بالأهمّ و المهمّ معاً فلا يكون معذوراً في ترك الأمرين.

إذا عرفت هذه المقدّمات السبع، فقد استنتج) قدس سره (من هذه المقدّمات بقاء الحكمين أو الخطابين على الموضوعين من دون تقييد الأمر بالمهم بالعصيان، و ذلك لما مرّ في المقدّمة الخامسة من أنّ الخطابات الشخصية تختلف عن الخطابات القانونية، فالخطاب الشخصي ناظر إلى صورة الابتلاء فلا محيص من تقييد الخطاب بالمهم بترك الأهم و عصيانه، و أمّا الخطابات القانونية فبما انّ الخطاب واحد و هو غير ناظر إلى حالة التزاحم بحكم المقدّمة الرابعة فلا داعي لتقييد امتثال الأمر بالمهم بعصيان الأوّل.

فخرج بهذه النتيجة بقاء الحكمين و الخطابين بحالهما عند الابتلاء بالتزاحم غاية الأمر للمكلّف تحصيل العذر في ترك أحدهما، فلو امتثل الأمر بالأهم فقد حصّل العذر، و إن امتثل الأمر بالمهم لم يحصّل العذر في ترك الأهم، و إن عصى كلا الأمرين فلم يحصّل عذراً أبداً.

و بهذا تبين انّ الأهم و المهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر، و هذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم و عجز المكلّف، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الآخرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً و لا عقلاً، بل تلك المطاردة لا توجب عقلاً إلاّ المعذورية العقلية في ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر في المتساويين و في ترك المهم حال اشتغاله بالأهم.(1)

ص:84


1- تهذيب الأُصول: 3121/302.
نظرنا في المقدّمات و النتيجة

هذا ما أفاده سيدنا الأُستاذ) قدس سره (شكر اللّه مساعيه و لكنّ لنا في بعض المقدّمات و النتيجة نظراً نطرحه على صعيد البحث؟ 1. انّ ما استدلّ على نفي الانحلال بأنّه لو صحّ الانحلال في الإنشاء لصحّ في الإخبار، و لو صحّ في الإخبار يلزم أن يُحكم على القائل بأنّ النار باردة انّه كذب بعدد وجود النار في العالم ماضية و حاضرة، غير تام، و ذلك إذ لا ملازمة بين الانحلال و تعدّد الكذب، لأنّ الثاني من صفات الكلام المتفوَّه به، فإذا كان ما تفوَّه به كلاماً واحداً و إن كان الموضوع وسيعاً فلا يلزم إلاّ كذباً واحداً، فلو جاء القوم و لم يجئ واحد منهم لم يكذب إلاّ كذباً واحداً، إذ لم يصدر منه إلاّ كلام واحد مع وحدة المجلس.

2. انّ ما أفاده في المقدّمة السادسة بأنّ الأحكام الشرعية غير متقيّدة بالقدرة عقلاً و إلاّ يلزم تصرّف العقل في حكم الغير، و لا شرعاً و إلاّ يلزم إجراء البراءة عند الشكّ في التكليف، غير تام، لأنّ موقف العقل في المقام موقف الكشف لا التصرّف، فإذا وقف العقل على صفات الشارع يستكشف بما انّه حكيم انّه لا يوجه الحكم إلاّ إلى القادر لا الأعم منه و العاجز، فالأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة الشرعية دلّ على ذلك العقل دون أن يتصرّف في حكم الشرع.

و مع الاعتراف بأنّ الأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة فمع الشكّ في القدرة يجب الاحتياط و لا يجوز إجراء البراءة، لما قلنا في محلّه من أنّ كلّ شرط لا يعلم وجوده و عدمه إلاّ بالفحص يجب الفحص عنه، و لذلك يجب التفحّص عن

ص:85

الاستطاعة في الحج، و النصاب في الزكاة و القدرة في كلّ الأحكام، و إلاّ يلزم تعطيل قسم كبير من الأحكام.

هذا كلّه حول بعض ما أفاده في المقدّمات.

و أمّا النتيجة التي استنتجها من هذه المقدّمات فهي مبنيّة على مقدّمتين:

المقدمة الأُولى: الإطلاق هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع من دون سريان حكمه إلى حالات الموضوع المختلفة.

المقدمة الثانية: انّ الدليل غير ناظر إلى صورة التزاحم.

فنقول: إنّ ما ذكره صحيح في عالم الإثبات دون الثبوت، و الدليل و إن كان غير ناظر إلى حالات المكلّف من الابتلاء و التزاحم إلاّ انّ المولى يمكنه التفطّن إلى صورة الابتلاء، و عندئذ نسأل هل يرى المولى نوع المكلّف محكوماً بالحجّتين و ملزماً بالعمل بهما أو لا؟ فعلى الأوّل يلزم التكليف بغير المقدور، و على الثاني يلزم رفع اليد عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً.

و إن شئت قلت: إنّ الأحكام الشرعية متقيّدة بالقدرة بالمعنى الذي عرفت، و على ضوء ذلك فلو سئل المولى عن انبساط طلبه و شموله لصورة التزاحم في حقّ نوع المكلّف، لا شخصه حتّى يقال انّ الخطاب قانوني لا شخصي فامّا أن يجيب بالإثبات لزم الأمر بغير المقدور، و إن أجاب بالسلب فمعنى هذا انّه رفع يده عن إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً، و هذا ما يجرّنا إلى القول بعدم التحفّظ بالأمرين معاً.

و الحاصل: انّه قد وقع الخلط بين مقام الإثبات و مقام الثبوت، فما ذكره صحيح في مقام الإثبات، فالدليل غير ناظر لصورة التزاحم و الخطاب واحد

ص:86

و ليس هناك خطابات، إلاّ انّ الكلام في مقام الثبوت و توجّه المولى إلى أنّه ربّما يبتلي نوع المكلّف بالأمرين، و من المعلوم أنّ هذا الموقف لا يقبل الإهمال، فإمّا أن يكون هناك إرادتان و حجّتان على المكلّف من دون رفع اليد عن أحدهما تخييراً أو تعييناً فيلزم الأمر بغير المقدور أو لا يكون إلاّ إحدى الحجّتين تعييناً أو تخييراً فهو على جانب النقيض ممّا اختاره.

ص:87

الفصل السادس في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه

اشارة

هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه، أو لا؟ ظاهر العنوان يعرب عن أنّه من فروع مسألة» التكليف بما لا يطاق «فالأشاعرة على الجواز و العدلية على المنع، و على كلّ تقدير ففي مرجع الضمير في قوله» بانتفاء شرطه «وجوه.

الأوّل: انّ الضمير يرجع إلى نفس الأمر، و المراد من شرط الآمر هو علل وجوده، فانّ الأمر ظاهرة كونيّة و لكلّ ظاهرة علّة و من أجزاء العلّة هو الشرط. فيقع الكلام في جواز الأمر مع انتفاء شرط من شرائط علّة وجود الأمر. و أمّا علّة وجود الأمر فهو عبارة عن تصور الشيء، و التصديق بفائدته، و الشوق المؤكّد إليه، و دفع موانعه و....

وعليه يكون المراد من الجواز هو الإمكان الوقوعي، و أنّه هل يصدر الأمر من الآمر في هذا الظرف أو لا يصدر؟ و الجواب هو عدم الجواز، لأنّ صدور المعلول مع عدم العلّة التامّة أشبه بصدور المعلول بلا علّة، و هو محال وقوعاً و إن كان بالذات ممكناً و هذا شأن

ص:88

كلّ معلول ممكن بالذات، ممتنع بعدم وجود علّته، فيكون ممكناً بالذات ممتنعاً بالغير، و هذا هو الذي يعبر عنه بالامتناع الوقوعي.

الثاني: انّ الضمير يرجع إلى الأمر مثل الاحتمال الأوّل، لكن يراد من المرجع نفس الأمر و من الضمير الراجع إليه بعض مراتبه على نحو الاستخدام، بأن يقال: هل يجوز أمر الآمر مع علم الآمر بانتفاء شرط الفعلية أو شرط التنجز؟ و هذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني و قال: إنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث و التحريك حقيقة و قد يكون صورياً و ربما يكون غير ذلك.

و يؤيد ذلك انّ القائلين بالجواز يستدلّون بأمره تعالى إبراهيمَ الخليلَ بذبح ولده إسماعيل مع علمه تعالى بفقدان شرط فعلية الأمر أو تنجّزه، و الشرط هو عدم النسخ، و قد كان منتفياً و الأمر منسوخاً، و إلى هذا الاحتمال يرجع ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في تعليقته على الكفاية من رجوع الضمير إلى الامتثال. أي هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الامتثال؟ و هذا التعبير أفضل و أوضح من تعبير المحقّق الخراساني.

و قد سبق منّا القول بأنّ شرط فعلية الأمر هو بيان المولى و المفروض انّه سبحانه بيّن أمره للخليل، و إنّما المنتفي هو شرط التنجز و هو عدم النسخ فهو شرط تنجز الأمر لا فعليته.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر انّ هذا الاحتمال يرفع النزاع من البين و يقع التصالح بين الجانبين فالقائل بالجواز يريد من الأمر بالشيء هو الإنشاء الصوري مع عدم بلوغ الأمر إلى مرحلة الفعلية و التنجّز، كما أنّ القائل بالامتناع يريد من الأمر بالشيء هو الأمر به بعامّة مراتبه حتّى التنجز، فعندئذ لا نزاع بين النافي و المثبت.

ص:89

الثالث: ما اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (و هو انّ المراد الأمر بالشيء مع انتفاء شرائط المأمور به، كما إذا أمر بالصلاة مع الطهارة و هو يعلم عدم تمكّن المكلّف منها، ثمّ إنّه) قدس سره (قال بجوازه و ذلك مستنداً بما اختاره في البحث السابق من وجود الفرق بين الخطاب الشخصي و الخطاب القانوني حيث لا يصحّ توجيه الخطاب الشخصي إلى الفاقد بأن يقول لفاقد الماء و التراب، صل مع الطهارة.

و أمّا الخطاب القانوني فيصحّ، و ذلك لأنّه ليس خطاباً شخصياً، بل خطاباً لعامّة المكلّفين، و هم بين واجد للشرط و فاقد له، فيصحّ خطاب الجميع بالأمر و إن كان بعضهم فاقداً للشرط، إذ عند الفقدان تصل النوبة إلى العقل فيعد العاجز معذوراً و الواجد غير معذور.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره لا ينطبق على المثال الذي طرحه كلّ من النافي و المثبت، و هو أمر الخليل بذبح إسماعيل مع عدم شرطه، إذ لم يكن الخطاب في هذا المورد إلاّ خطاباً شخصياً لا قانونياً.

أضف إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً من أنّ الخطابات القانونية و إن كانت غير ناظرة إلى صورة التزاحم أو إلى صورة فقد المكلّف شرط المأمور به، لكن عدم النظارة يختص بعالم الإثبات فالدليل في مقام الدلالة غير ناظر إلى صورة التزاحم و فقد الشرط.

لكن المولى سبحانه واقف باختلاف المكلّفين من حيث الشروط و أنّهم بين واجد لشرط المكلّف به و فاقد له و عندئذ فهل يبقى خطابه عند التوجه إلى اختلاف المكلّفين في الشرط أو لا؟ فعلى الأوّل عاد محذور التكليف بالمحال و على الثاني لا يكون للخطاب القانوني دور في المقام، لأنّ الخطاب الشخصي أيضاً مثله.

ص:90

ثمرة البحث

تظهر الثمرة في لزوم الكفّارة على من أفطر يوم شهر رمضان مع فقد شرط المأمور به في الواقع، دون أن يكون المكلّف عالماً به، كما إذا أفطر ثمّ بدا له السفر قبل الظهر أو مات أو مرض كذلك، فعلى القول بصحّة التكليف تجب عليه الكفارة بخلاف القول بعدم صحّته، لفقدان الشرط.

يلاحظ على الثمرة: أنّ الظاهر لزوم الكفّارة مطلقاً، إذ ليست الكفّارة دائرة مدار وجوب الصوم و عدمه واقعاً حتّى يقال بأنّ المكلّف لم يكن مكلّفاً بالصوم لفقدان الشرط في الواقع به، بل تدور على الإفطار بلا عذر و المفروض انّه أفطر بلا عذر ثمّ طرأ عليه العذر.

ص:91

الفصل السابع هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو الافراد؟

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
الأوّل: ليس النزاع في الدلالة اللفظية

إنّ النزاع لا يختصّ بالأمر و النهي باللفظ بل يعمّ الأمر بالجملة الخبرية أو النهي بمثلها، كما يعمّ الأمر و النهي بالإشارة فيقع الكلام في الجميع فيما هو المتعلّق للأمر و النهي.

و الذي يعرب عن عمومية محلّ النزاع ما نقل عن السكاكي من اتّفاق علماء العربيّة على أنّ المصدر المجرّد عن اللام و التنوين لا يدلّ إلاّ على نفس الماهية، فلو كان النزاع في الدلالة اللفظية لكان اللازم عدم النزاع، لأنّ المادة في الأمر و النهي هي المصدر المجرّد من اللام و التنوين فلا يدلّ إلاّ على نفس الماهية، و هي المتعلّق للأمر، فيجب على الأُصوليّين الاتّفاق على كون المتعلّق هو الطبيعة، لكن وجود النزاع يُعرب عن كون محلّه أعمّ من اللفظ و الفعل. و من اللفظ أعم من الإنشاء و الإخبار.

ص:92

الثاني: ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية

إنّ في الفلسفة مسألتين هامّتين لهما تأثيران في سائر المسائل الفلسفية.

1. هل الأصل في الخارج، و المنشأ للأثر هو الوجود أو حدّ الوجود و هو الماهية؟ و بعبارة أُخرى: هل المحصّل للغرض هو الوجود و تحقّق الشيء أو المحصّل هو الشيء لكن عند التلبّس بالتحقق؟ فربّما يقال بتعلّق الأمر بالفرد على القول الأوّل و بالطبيعة على القول الثاني.

2. هل الموجود في الخارج هو طبيعي الشيء أو فرده؟ فعلى الأوّل يكون المتعلّق هو الطبيعة، و على الثاني هو الفرد.

يلاحظ على كلا الأمرين: بأنّ المسائل الأُصولية مسائل عرفية، و بتعبير آخر عقلائية لا صلة لها بالمسائل الفلسفية الدقيقة، فانّ الحاكم في المسائل الفلسفية هو العقل الدقيق، و لكن الحاكم في المسائل الأُصولية هو العرف الدقيق.

و عند ذلك لا وجه لابتناء البحوث الأُصولية على البحوث الفلسفية.

و بذلك يعلم أنّ ما أطنب به المحقّق الاصفهاني) قدّس اللّه نفسه الزكية (من أنّ النزاع مبني على أنّ الطبيعي بنفسه موجود أو هو موجود بوجود أفراده تبعيد للمسافة و خروج عن طور البحث في المسائل الأُصولية.

الثالث: ما هو المراد من الطبيعة؟

قد تطلق الطبيعة و يراد بها الماهية الحقيقية التي لو وجدت في الخارج لكانت من إحدى الحقائق الكونيّة و تكون داخلة تحت مقولة واحدة كالإنسان

ص:93

الذي هو داخل تحت مقولة الجوهر.

و قد تطلق على العنوان المنتزع من حقائق متعددة داخلة تحت مقولات مختلفة، كالصلاة التي هي ليست داخلة تحت مقولة من المقولات، بل هي عنوان منتزع من حقائق متباينة كالقراءة التي هي من مقولة الفعل، و الجهر و المخافتة اللّتين هما من مقولة الكيف، و الركوع و السجود اللّذين هما من مقولة الوضع، و لأجل ذلك توصف الصلاة، بالماهية المخترعة و هي في الحقيقة عنوان منتزع من ماهيات و حقائق متباينة.

الرابع: ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث؟

هذا هو بيت القصيد في المقام و هناك احتمالات:

1. المراد من الافراد هو المصاديق الخارجية من أفراد الطبيعة بحيث يتعلّق الأمر أوّلاً و بالذات بنفس الفرد لا على العنوان حتّى يكون مرآة لها.

يلاحظ على ذلك: أنّ الغرض من الأمر هو تحصيل ما ليس بموجود، و لو تعلّق الأمر بالفرد الخارجي، يلزم تحصيل الحاصل، إذ بعد وجود الفرد الذي هو متعلّق الأمر لا معنى للبعث إليه، فانّ ظرف الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الأمر لا تعلّقه.

2. أن يراد من الفرد، المشخّصات الكلّية و الضمائم التي لا تنفك الطبيعة عنها فالمتعلّق و الضمائم عناوين كلّية يتعلّق بهما الأمر أيضاً، فبما انّ الطبيعة و المشخّصات عناوين كلّية و المفروض تعلّق الأمر بكليهما، فيُصبح الفرد الخارجي مصداقاً للواجب بكلتا الحيثيتين: فيكون مصداقاً للطبيعة كما أنّه يكون مصداقاً للضمائم و المشخّصات و الأعراض التي لا ينفك عنها.

ص:94

و على ضوء هذا فالنزاع في أنّ المأمور به هو الطبيعي بما هو هو أو هو مع المشخّصات و الأعراض الكلية.

فمن قال بالأوّل فقد جعل الواجب هو الحيثية الطبيعية و من قال بالثاني جعل الواجب الحيثيتين الطبيعية و الضمائم المقترنة بها.

فإذا فرضنا انّه توضأ بماء حار في البرد القارص، فهل متعلّق الأمر هو نفس التوضؤ بالماء، أو أنّ متعلّقه هو الضميمة المقترنة بها كحرارة الماء؟ فلو افترضنا انّه قصد القربة في أصل الوضوء دون الوضوء بالماء الحارّ، فعلى القول بأنّ متعلّقه هو الطبيعة يصحّ وضوؤه دون القول الثاني لأنّه لم يقصد القربة في الضمائم.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تفسير الفرد بهذا المعنى فقال ما هذا لفظه:

إنّ تشخّص الطبيعي بنفس وجوده، و تشخّص الوجود بذاته، و أمّا الأُمور الملازمة للوجود الجوهري خارجاًً التي لا تنفك عنه، كأعراضه من الكم و الكيف و الأين و الوضع و غيرها، فهي موجودات أُخرى في قبال ذلك الموجود و مباينة له ذاتاً و حقيقة، و متشخّصات بنفس ذواتها، و افراد لطبائع شتّى، لكلّ منها وجود و ماهية فلا يعقل أن تكون الأعراض مشخّصات لذلك الوجود لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخّص، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بكمه و كيفه و أينه و وضعه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه خلط بين المصطلحين: مصطلح الفلاسفة و ما اصطلح عليه الأُصوليون.

توضيح ذلك: قد كان الرأي السائد قبل الفارابي) المتوفّى 339 ه (على أنّ

ص:95


1- المحاضرات: 4/19.

التشخّص بالاعراض و انّ الجواهر تتشخّص بالكم و الكيف و سائر الاعراض، فالإنسان الطبيعي بالبياض و السواد يتميّز عن الآخر، كما أنّه بطول قامته و قصرها يتميّز عن الآخر و هكذا.

و لكن انقلب الرأي السائد في عصر الفارابي إلى يومنا هذا بأنّ تشخّص الإنسان بوجوده، و مع قطع النظر عن الوجود فالإنسان كلّي، و ضم كلي) العرض (إلى كلي آخر لا يفيد التشخّص، فإذاً التشخّص الخارجي، يتحقق بنفس وجود الجوهر فله طبيعة و وجود، كما أنّ للعرض طبيعة و وجوداً، فالوجود هو الذي يضفي التشخّص على الجوهر و على العرض، فتعيّن الجوهر بوجوده كما أنّ تعيّن العرض به و لا يتشخّص الجوهر لا بطبيعة العرض و لا بوجوده.

هذا هو مصطلح الفلاسفة المتأخرين عن الفارابي و لكنّ للتشخّص اصطلاحاً آخر عند الأُصوليين و هو مبنيّ على الفهم العرفي، حيث إنّ تميّز فرد عن فرد آخر عند العرف بعوارضه و اعراضه ككون زيد أبيض و أطول من عمرو الذي هو أسود و أقصر، أو كون زيد ابن فلان و عمرو ابن فلان آخر، فهذه الاعراض تميّز الجواهر بعضها عن بعض. و كلّ من المصطلحين صحيح في موطنه، ففي الدقّة العقلية التشخّص مطلقاً بالوجود لا بالاعراض و لكن التشخّص بين الناس إنّما هو بالاعراض و لكل قوم مصطلحهم و مشربهم.

الثالث: ما اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (و هو انّ المراد من الافراد هو المصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال كما هو الحال في الوضع العام و الموضوع له الخاص فيكون معنى» صلّ «أوجد فرد الصلاة و مصداقها، لا بمعنى انّ الواجب هو الفرد الخارجي أو الذهني بما هو كذلك، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً، فانّ الافراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها كما انّ الطبيعة قابلة للتصوّر كذلك.(1)

ص:96


1- تهذيب الأُصول: 1/343.
دليل القول المختار

إذا عرفت هذه الأُمور فالظاهر انّ المراد من الفرد هو المعنى الثاني، و على ذلك فالأمر يتعلّق بنفس الطبيعة لا بالمشخّصات التي نعبّر عنها بالضمائم أو الجهات الفردية، و دليله واضح و هو انّ البعث لا يتعلّق إلاّ بما هو دخيل في غرض المولى و لا يتعلّق بما ليس له دخل فيه، و من المعلوم أنّ المؤمِّن لغرض المولى هو نفس الطبيعة مع قطع النظر عن الضمائم و المشخّصات الفردية بحيث لو أمكن أن توجد الطبيعة مجرّدة عن الضمائم و المشخّصات لكان صالحاً للامتثال، غير أنّ الطبيعة لا تتحقّق في الخارج بلا ضمائم.

أدلّة القول بتعلّقه بالافراد

استدلّ القائل بتعلّق الأوامر بالافراد بأُمور فلسفية غير مفيدة في المقام، و إليك بيانها ضمن أُمور:

1. انّ الطبيعة ليست موجودة في الخارج و إنّما الموجود هو الفرد، فكيف يكون ما ليس موجوداً في الخارج متعلقاً بالأمر؟ يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بما ذكر غفلة عن تفسير قولهم:» الحقّ انّ الطبيعي موجود بوجود أفراده « و ذلك لأنّ تحقق الفرد عين تحقّق الطبيعة و هي تتحقّق في ضمن كلّ فرد مع تكثّر الأفراد. فإذا كان في مجلس عشرة أشخاص فهناك طبائع كثيرة حسب تكثّر الأفراد، فزيد إنسان تام كما أنّ عمرو إنسان تام آخر و هكذا، و التفصيل في محلّه.

2. قد اشتهر بين الفلاسفة أنّ الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي، فهي لا موجودة و لا معدومة، و لا مطلوبة و لا مبغوضة، فإذا كان هذا مقام الطبيعة و شأنها

ص:97

فكيف تكون متعلّقة للأمر و موضوعاً للبعث؟ يلاحظ عليه: بأنّ الاستدلال بهذه الكلمة المأثورة من الفلاسفة نابع من تفسير خاطئ لها فانّ المراد من سلب الوجود و العدم أو المطلوبية و المبغوضية عن الماهيّة هو عدم كون هذه الأُمور في مرتبة الماهية، إذ لو كان الوجود أو العدم مأخوذين في مرتبتها لأصبحت واجبة الوجود أو ممتنعة فلا محيص عن توصيف الماهية بالإمكان بمعنى سلب الوجود و العدم عن حدّها و كونهما غير مأخوذين في تلك المرحلة، و هكذا المطلوبية و المبغوضية فليستا في حد الماهية، إذ لو كانت الأُولى مأخوذة لما صحّ السلب عنه في ظرف من الظروف، و هكذا العكس.

و مع هذا الاعتراف تكون الماهية في مرتبة دون حدها موجودة معدومة مطلوبة و مبغوضة.

و إن شئت قلت: إنّ الماهية بالحمل الأوّلي ليست واجدة لهذه الأُمور بشهادة انّ مفهوم الإنسان غير مفاهيم هؤلاء، و أمّا بالحمل الشائع الصناعي فلا شك انّ الإنسان موجود و العنقاء معدوم و الصلاة مطلوبة و شرب الخمر مبغوض.

3. انّ الطبيعي الصرف لا يقضي حاجة الإنسان و إنّما القاضي لها هو وجوده الخارجي و معه كيف يكون الطبيعي الصرف متعلقاً للبعث و الزجر؟ يلاحظ عليه: بأنّ المستدل خلط بين متعلّق البعث و ما هو غاية البعث المفهومة من القرينة، فالبعث يتعلّق بالطبيعي الصرف من كلّ قيد و لكن الغاية من البعث إليه هو إيجادها، فإذا قال: اسقني، فقد بعثه إلى السقي من دون تجاوز الطلب عن السقي إلى شيء آخر لكن الغاية هو إيجادها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما وقف على الاستدلال حاول أن يجيب عنه بالتفريق بين متعلّق الأمر و متعلّق الطلب، فقال: إنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة و أمّا

ص:98

الطلب فهو يتعلق بوجودها و إليك نصّه، يقول:

إنّ المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الافراد هو انّ الطبائع بوجودها السعي بما هو وجودها) قبالاً لخصوص الوجود (متعلّقة للطلب لا أنّها بما هي هي، كانت متعلّقة لها كما ربما يتوهّم فانّها كذلك ليست إلاّ هي، نعم هي كذلك تكون متعلّقة للأمر فانّه طلب الوجود.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ كلامه مبني على أنّ الهيئة تدلّ على أخذ الوجود في متعلّق الطلب، فإذا قال: اسقني، فمعنى ذلك: اطلب منك وجود السقي، لكنّه كلام غير تام، لأنّ الهيئة وضعت للبعث أو الطلب المجرّدين عن الوجود.

فالأولى في الإجابة ما قلنا من أنّ البعث إلى الطبيعة لغاية الإيجاد، فبما انّ المؤمِّن للغرض هو الوجود فهذا يشكِّل قرينة على أنّ البعث لتلك الغاية.

و ربما يجاب عن الإشكال بأنّ الطبيعة تؤخذ مرآة للخارج شأن كلّ المفاهيم فإذا قال: اسقني، فقد جعل السقي مرآة إلى الحيثية الوجودية و الجهة العينية من الطبيعي فيطلب الطبيعي بما هو حاك عن الخارج و مرآة له.

يلاحظ عليه: بما سبق في مبحث الوضع من أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة إلى الافراد، لأنّ اللفظ لا يحكي إلاّ عن معناه، و المفروض انّ الخصوصيات الفردية خارجة عن الموضوع له، فكيف تدلّ عليها الطبيعة؟ و مجرّد اتحاد الطبيعة مع المشخّصات الفردية لا يكون سبباً لحكاية الطبيعة عن الملازمات فلا بدّ من إرادة المشخّص من لفظ و دالّ آخر، و المفروض عدمه.

4. انّ المتلازمين يجب أن يكونا متّحدين في الحكم، فإذا تعلّق البعث بالطبيعة، يجب أن يتعلّق بلوازمها و ضمائمها.

ص:99


1- كفاية الأُصول: 2231/222.

يلاحظ عليه: ما مرّ في مبحث وجوب المقدمة من أنّ المتلازمين يجب أن يكونا غير متضادين في الحكم كأن يكون أحدهما واجباً و الآخر محرّماً، أمّا اتحادهما في الحكم فلا.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في موارد نشير إلى موردين:

الأوّل: إذا توضأ في الصيف بماء بارد و قصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع يكفي وجود القربة في أصل التوضّؤ بالماء، و أمّا لو قلنا بتعلّقها مضافاً إلى الطبائع بالافراد أي اللوازم و المقارنات يبطل الوضوء لعدم القربة فيها، بل الغاية منها هو التبرّد.

الثاني: فيما إذا صلّى في دار مغصوبة فعلى القول بأنّ متعلّق الأمر و النهي هو نفس الطبيعة لا المشخّصات الفردية يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي، لأنّ الصلاة تتشخّص تارة بالمباح و أُخرى بالمغصوب و الكلّ من الملازمات المتّحدة معها في الوجود فلا يتجاوز الأمر عن متعلّقه إلى ملازماته و متشخّصاته، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الأمر بالأفراد حيث تكون الملازمات المتّحدة متعلقة للأمر فيلزم أن يتعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي و هو غير جائز.

و أورد عليه المحقّق الخوئي بما هذا حاصله: بأنّ الأمر على كلا القولين تعلّق بالصلاة أو بفرد ما منها، و لم يتعلق بفرد ما من هذه الطبيعة و فرد ما من الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي، و على ذلك فالقائل بتعلّق الأمر بالطبائع يدّعي تعلّقه بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات، و القائل بتعلّقه بالافراد يدّعي انّه تعلّق

ص:100

بفرد ما من أفرادها، و لا يدّعي انّه تعلّق بفرد ما من أفرادها و فرد ما من الطبائع الأُخرى كالغصب أو نحوه، فالخصوصيات من الاعراض خارجة عن مصب الأمر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على تفسير الفرد بالمعنى الأوّل و انّ مدار القولين هو تعلّق الأمر بالطبيعي أو فرد ما من ذلك الطبيعي، فعندئذ يصحّ ما يقول من أنّ المقصود من تعلّق الأمر بالفرد، هو الفرد من طبيعي واحد لا الفرد من طبيعة أُخرى أيضاً كالغصب.

و لكنّك عرفت أنّ هذا التفسير تفسير خاطئ، لأنّ الفرد بهذا المعنى ظرف سقوط الوجوب لا ظرف ثبوته و تعلّقه، بل المراد من الفرد هو الضمائم و اللوازم التي لا تنفك عن الطبيعة مطلقاً أو تقارنها أحياناً، و عندئذ يقع البحث في أنّ متعلّق الأمر هو ذلك الطبيعي أو الطبيعي مع ضمائمه الكلية و لوازمه غير المنفكة عند التحقّق، فعلى القول الأوّل، يجوز اجتماع الأمر و النهي، لأنّ متعلّق الأمر الحيثية الصلاتية و متعلّق النهي هو الحيثية الغصبية و كلّ ثابت على متعلّقه، و هذا بخلاف القول بتعلّق الأمر بالفرد، أي اللوازم و الضمائم الكلّية، فبما انّ الصلاة تارة تقام في مكان مباح و أُخرى في مكان مغصوب فالأمر يتعلّق بالصلاة في المكان المباح أو بالصلاة في مكان مغصوب، فعندئذ تكون الحيثية الغصبيّة متعلّقة بالأمر كما تكون نفس الصلاة كذلك، فيلزم من القول باجتماع الأمر و النهي اجتماعهما في عنوان واحد.

إلى هنا ظهر انّ الأمر كالنهي يتعلّقان بالطبائع دون الخصوصيات الفردية.

ص:101


1- المحاضرات: 4/20.
تكميل للطبيعة أفراد لا حصص

إنّ الدائر في ألسن كثير من المحقّقين كالشيخ النائيني و ضياء الدين العراقي و السيد الخوئي وجود الحصص للطبيعة، و الحقّ انّ للطبيعة أفراداً لا حصصاً، و إليك التفصيل:

إنّ الكلّي ينقسم إلى كلي منطقي و طبيعي و عقلي.

أمّا الأوّل: فهو مفهوم الكلي في مقابل مفهوم الجزئي، فالأوّل ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين، و الثاني ما يمتنع فرض صدقه كذلك.

و أمّا الثاني: فهو عبارة عن معروض الكلي أي المفهوم الذي يصدق عليه انّه كلي كالإنسان و الحيوان و الشجر، فالطبيعي عبارة عن المفهوم الذي ينطبق عليه عنوان الكلي.

و أمّا الثالث: فهو عبارة عن لحاظ العارض و المعروض معاً، أي الإنسان بما انّه كلي فعندئذ يطلق عليه انّه كليّ عقلي، و ليس للأوّل و لا للثالث موطن إلاّ العقل، إنّما الكلام في الثاني أي ذات الطبيعي، و الحقّ انّه موجود في الخارج متكثّر بتكثّر الأفراد.

و ذلك لأنّ مفهوم الإنسان لما كان معرًّى عن كلّ قيد حتّى قيد كونه في الذهن يتكثّر في الخارج بتكثّر الأفراد فلو كان على أديم الأرض إنسان واحد فهناك طبيعة واحدة، و إذا كان عليه أفراد كثيرة فهناك طبائع كثيرة محققة في

ص:102

الخارج.

و الذي يوقع الإنسان غالباً في الاشتباه هو الخلط بين ذات الطبيعي و الطبيعي بقيد الكلية، فالثاني غير موجود لأنّ ظرف الكلية هو الذهن دون الخارج، بخلاف ذات الطبيعي فانّه معرّى عن كلّ قيد فيوجد في الذهن كما يوجد في الخارج، فلو وجد في الذهن يوصف بالكلية، و لو وجد في الخارج يتكثر بتكثر أفراده، و لذلك اشتهر عن الشيخ الرئيس انّه قال: إنسانية زيد غير إنسانية عمرو و إنسانيته غير إنسانية بكر، و كلّ واحد إنسان، تام الإنسانية، لأنّها تقبل الكثرة في الخارج.

و على ضوء ذلك فمثل الطبيعي إلى أفراده كمثل الآباء إلى الأبناء لا كمثل أب واحد إلى الأبناء، و هذا ما يقال انّ الطبيعي واحد نوعي و الفرد واحد شخصي، فلو وجد فرد في الخارج فقد وجد الطبيعي بعامّة حقيقته و هو لا يمنع أن يوجد في ضمن فرد آخر بعامّة حقيقته، و ذلك لأنّه واحد نوعي فلا تمنع الوحدة النوعية عن الكثرة العددية.

و من هنا يعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان تمام الإنسان لا حصة منه، كما أنّ كلّ فرد من أفراد الصلاة نفس الصلاة لا حصة منها، فإذا كان الإنسان يقبل التكثّر حسب تكثّر الأفراد فلا معنى لكون الفرد حصة من الإنسان، بل الفرد كلّ الإنسان، لا جزء منه.

و أمّا من قال بأنّ الطبيعي واحد بالشخص و انّه موجود خاص جزئي، فالأفراد تكون حصصاً بالنسبة إليه، و بالتالي يكون كلّ إنسان ناقصاً في إنسانيته، بل جميع الأفراد تشكل إنساناً تاماً، و هذه هي نظرية الشيخ الهمداني الذي رآه الشيخ الرئيس في مدينة همدان و كان يقول: إنّ الطبيعي واحد بالشخص، فألّف

ص:103

رسالة مستقلة في ردّه و كان في التعبير بالحصة شيئاً من التأثر بتلك النظرية المردودة.

و قد اعتذر شيخنا الأُستاذ) مد ظله (عن الورود في هذه المسألة التي ليس لها مسيس بالمسائل الأُصولية و إنّما ألجأته إليه كثرة استعمال الحصة و الحصص في كلمات المتأخرين من الأُصوليين.

ص:104

الفصل الثامن بقاء الجواز عند نسخ الوجوب

اشارة

إذا استعقب وجوبَ الشيء نسخُه فهل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب أو لا؟ مثلاً إنّه سبحانه أمر المؤمنين إذا أرادوا النجوى مع رسول اللّه أن يُقدِّموا صدقة قبل نجواهم حتّى يُصان بذلك وقتُ النبي الثمين، حيث كان الأكثر راغبين في النجوى و المسارّة مع النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (في أُمور تافهة غير ناجعة، فلأجل الحيلولة دون فوات وقت النبي أمرهم بإعطاء دينار، و قد حكاه سبحانه في الذكر الحكيم بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(1)

و لمّا نُهوا عن المناجاة إلاّ بالصدقة ضنّ كثير من الناس بماله فلم يناجه أحد إلاّ علي بن أبي طالب) عليه السلام (حيث تصدّق بدينار و ناجى، و بذلك امتحن المؤمنون امتحاناً في ذلك المجال. و لمّا حصلت الغاية المتوخّاة من فرض الصدقة و علم أنّ الدينار عند الأكثر أثمن من وقت النبي فاجأهم النسخ بقوله سبحانه: (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ).(2)

ص:105


1- المجادلة: 12.
2- المجادلة: 13.

فعندئذ يقع الكلام في أنّه هل يبقى الجواز بعد النسخ على نحو يصحّ لمن يناجي النبي أن يدفع الصدقة قبل النجوى بنيّة العمل بالآية لا بنيّة مطلق الصدقة؟ إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موضعين:

الأوّل: إمكان بقاء الجواز بعد النسخ و عدمه.

الثاني: الدليل على بقائه إذ ليس كلّ ممكن واقعاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استسهل البحث في المقام الأوّل و سلم إمكانه بعد نسخ الوجوب و قال:

ضرورة انّ ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن.(1)

إذا عرفت هذا فلنبحث في الموضعين واحداً تلو الآخر.

الموضع الأوّل: إمكان بقاء الجواز

إنّ إمكان بقاء الجواز رهن ثبوت أمرين:

الأوّل: انّ الوجوب مجعول شرعي و مفاد للأمر، و ليس أمراً انتزاعياً من أمر المولى مع سكوته عن جواز تركه.

الثاني: انّ الوجوب مركب من أُمور ثلاثة: الجواز، الرجحان، اللزوم.

و على ضوء ذينك الأمرين فإذا نسخ الوجوب فيمكن أن يتعلق النسخ بالفصل الأخير أي اللزوم و يبقى الجواز و الرجحان ضمن فصل آخر أي جواز الترك.

فإن قلت: إنّ بقاء الجنس مع ذهاب الفصل أمر غير ممكن فانّ الفصل

ص:106


1- كفاية الأُصول: 1/224.

علّة تحقق الجنس فالجنس حقيقة مغمورة و مبهمة لا تخرج من الإبهام إلاّ بفضل الفصل فالفصل و الجنس متّحدان زماناً اتحاد المتقوم مع المقوّم، و عندئذ كيف يمكن أن يبقى الثاني مع ذهاب الأوّل؟ قلت: ما ذكرته صحيح في عالم التكوين دون الاعتبار فلا مانع من قيام الجنس بفصلين متتاليين كالخيمة التي تقوم بدعامة بعد زوال دعامة.

و لكنّ الأمرين غير ثابتين.

أمّا الأوّل: فلأنّ الوجوب أمر بسيط ربما ينحل إلى المفاهيم الثلاثة، فالجواز و الرجحان و الالزام يفهم من الوجوب عند التحليل، فهذه المفاهيم الثلاثة تنضوي تحت لواء الوجوب انضواء الكثرات في الواحد البسيط.

و أمّا الثاني: فلأنّ الوجوب ليس مفاد الأمر فانّ مفاده هو البعث، و أمّا الوجوب و الاستحباب فإنّما يستفاد من القرائن أو من حكم العقل، فإذا أمر و سكت يحكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى، لأنّه لا يترك أمر المولى بلا جواب.

كما أنّه إذا أمر و رخّص يستفاد منه الاستحباب، فالوجوب و الاستحباب مفاهيم انتزاعية من الأمر بالشيء حسب ظروف مختلفة.

فاتضح بذلك انّ إمكان البقاء رهن أمرين و كلاهما منتفيان، لأنّ الوجوب بسيط، و ليس بمركب، كما أنّ الوجوب و الاستحباب ليسا من المجعولات الشرعية بل من المفاهيم الانتزاعية.

ثمّ إنّ للمحقّق الخوئي كلاماً في تفسير الوجوب و الحرمة و هو انّ المجعول في الواجبات و المحرّمات ليس إلاّ اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته.

ص:107

و رتب على ذلك أنّ الوجوب و الحرمة ليسا مجعولين شرعاً، بل منتزعان من اعتبار الشارع شيئاً في الذمة فينتزع منه الوجوب، و من اعتبار محرومية المكلف من الفعل فينتزع منه الحرمة، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار) اعتبار الشيء في ذمة الإنسان أو محروميته عن الشيء (لا الوجوب و الحرمة إلى أن قال:

و على ذلك لا يعقل القول بأنّ المرفوع هو نسخ الوجوب دون جنسه ضرورة انّ الوجوب ليس مجعولاً شرعيّاً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ ما أفاده من أنّ الوجوب من الأُمور المنتزعة و إن كان صحيحاً لكن تفسير الوجوب بجعل الفعل في ذمة المكلّف و الحرمة بحرمان المكلف عن الفعل تفسير غير تام و ذلك لتغاير الاعتبار في المثالين التاليين:

أ. له عليه دين كذا أو له على زيد عمل يوم.

ب. أدِّ دينك أو اعمل في هذا اليوم.

فانّ الاعتبار في المورد الأوّل هو جعل الفعل في ذمّة المكلّف بخلاف الاعتبار في الثاني ففيه البعث إلى أداء الدين، و العمل في اليوم، فإرجاع أحد الاعتبارين إلى الآخر أمر غير تام.

و ثانياً: أنّ الالتزام بكون الحرمة غير مجعولة و انّه ينتزع من حرمان المكلّف عن الفعل أمر لا يساعده الكتاب العزيز فانّ الظاهر منه إنشاء نفس الحرمة بالمصطلح الدارج فلاحظ الآيات التالية:

قوله تعالى: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ ).(2)

و قوله تعالى: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ).(3)

ص:108


1- المحاضرات: 4/23.
2- البقرة: 173.
3- البقرة: 275.

و قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ).(1)

و ثالثاً: لو صحّ ما ذكر فإنّما يصحّ في الأحكام الأربعة دون الإباحة، إذ ليس فيه أيُّ واحد من الاعتبارين: اعتبار جعل الفعل في ذمة المكلّف أو حرمانه منه، بل مفاده فسح المجال للمكلّف و كونه مخيّراً بين الفعل و الترك إلاّ أن يكون كلامه في غير الإباحة.

إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل، و قد عرفت عدم إمكان بقاء الجواز لفقد الشرطين، فليس الوجوب أمراً مركباً و لا مجعولاً شرعياً.

و إليك البحث في الموضع الثاني و هو بحث افتراضي أي لو فرضنا إمكان بقاء الجواز نبحث في الدلالة عليه.

الموضع الثاني: فيما يدلّ على بقاء الجواز

لو افترضنا إمكان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب، فيقع الكلام في فعلية الجواز و انّه هل هنا دليل على بقائه أو لا؟ ثمّ الدليل إمّا داخلي أو خارجي، و المراد من الداخلي هو دلالة كلّ من الناسخ و المنسوخ على البقاء، كما أنّ المراد من الخارجي هو الاستصحاب.

أمّا الأوّل فيستدلّ عليه بأمرين:

1. انّ القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام، و أمّا ما عداه فيؤخذ من دليل المنسوخ.

2. انّ المقام نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء، و دلّ دليل آخر على عدم وجوبه، كما إذا ورد أكرم زيداً و ورد» لا بأس بترك إكرامه «، فيحكم

ص:109


1- الأعراف: 33.

بأظهرية الدليل الثاني ببقاء الجواز و الرجحان.

يلاحظ على الأوّل: أنّه ليس للأمر إلاّ ظهور واحد و هو البعث نحو المأمور به، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز و الرجحان، إذ ليس له إلاّ ظهور واحد لا ظهورات متعددة حتّى يؤخذ بالباقي.

و أمّا الثاني: فانّ قياس المقام بالدليلين المتعارضين قياس مع الفارق، لأنّ استكشاف الجواز هنا إنّما هو لاتفاق الدليلين عليه، و ذلك لأجل تحكيم الأظهر) لا بأس بترك إكرامه (على الظاهر) أكرم زيداً (، و أمّا المقام فليس من هذا القبيل بل هو من قبيل نفي الدليل الأوّل بالدليل الثاني.

و بكلمة مختصرة ليس هنا أيُّ دليل على بقاء الجواز، أمّا المنسوخ فالمفروض ارتفاعه، و أمّا الناسخ فالمفروض انّ مفاده منحصر في رفع البعث أو الوجوب) على القول بكونه مدلولاً لفظياً لا إثبات أمر آخر (.

هذا كلّه حول القرينة الداخلية، و أمّا القرينة الخارجية فليس هناك دليل إلاّ الاستصحاب بأن يقال كان التصدّق قبل النجوى جائزاً و الأصل بقاؤه حتّى بعد النسخ.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و لكن الجواز ليس حكماً شرعياً، لأنّ المراد من الجواز في المقام هو الجواز الجامع بين الأحكام الأربعة و من المعلوم أنّه أمر عقلي ينتزعه العقل من البعث إلى المأمور به الكاشف عن الإرادة الحتمية، الكاشفة عن جوازه عند المولى فلا يكون عندئذ حكماً شرعياً قابلاً للاستصحاب.

و ثانياً: انّ الاستصحاب في المقام أشبه بالقسم الثالث من أقسام

ص:110

استصحاب الكلي، لأنّ المتيقن هو الجواز في ضمن الوجوب، و المفروض انتفاؤه، فلو بقي الجواز فانّما يبقى ضمن إقامة فرض آخر كالاستحباب مكانه، و من المعلوم أنّ استصحاب الكلي بهذه الصورة غير جار لعدم اتحاد القضيتين.

فإن قلت: إنّ نسبة الوجوب إلى الاستحباب نسبة الشديد إلى الضعيف فيرجع الشك إلى انتفاء البعث الشديد من رأس أو تبدّله إلى فرد ضعيف كالاستحباب و قد استثناه بعضهم من هذا القسم.

قلت: ما ذكرته و إن كان صحيحاً عند العقل لكنّهما عند العرف متباينان.

ص:111

الفصل التاسع الواجب التخييري

اشارة

عُرِّف الواجبُ التعييني بما لا بدل له و لا يسقط بإتيان شيء آخر، إذ لا بدل له، بخلاف التخييري فللواجب بدل و يسقط بإتيان بدله، و قد وقع في الشرع كخصال كفّارة الصوم ودية قتل العمد و غيرهما.

إنّما الكلام في بيان ما هو واقع الواجب التخييري حيث اختلفوا في المأمور به إلى أقوال:

1. ذهب أصحابنا و جمهور المعتزلة إلى أنّ كلّ واحد واجب على البدل، و أيّاً منها أتى فقد أتى بالواجب لا البدل.

2. ذهب الأشاعرة إلى أنّ أحد الأبدال واجب لا بعينه.

3. انّ الواجب هو الجميع و يسقط بفعل البعض.

4. انّ الواجب معيّن عند اللّه و لكن يسقط به و بالآخر و قد نُسِبَ هذان القولان إلى المعتزلة.

5. ما يفعله المكلّف و يختاره هو الواجب عند اللّه فيختلف باختلاف المكلّفين.(1)

ص:112


1- لاحظ القوانين: 1/116.
شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري
اشارة

قد عرفت أنّ الأصحاب ذهبوا إلى أنّ الواجب كلّ واحد منها على البدل، فقد طرأت هناك عدّة إشكالات نطرحها على طاولة البحث.

1. الإرادة و البعث لا تتعلّقان بالأمر المردّد

و حاصل هذا الإشكال: انّ الإرادة الفاعلية إنّما تتعلّق بالأمر المعيّن لا بالأمر المردد، و هو أمر واضح و مثله الإرادة الآمرية فلا تتعلّق إلاّ بأمر معيّن، و وجه ذلك انّ تشخّص الإرادة في كلا المقامين بالمراد. فإذا كان المراد مردداً لا تتعلّق به الإرادة، و ظاهر كون كلّ واحد واجباً على البدل، تعلّق الإرادة بالأمر المردد، و نظيره البعث، إذ لا معنى للبعث إلى المردد.

2. كيف يكون واجباً و يجوز تركه؟

و هذا هو الإشكال الثاني، فانّ كلّ واحد من أطراف الواجب التخييري واجب و لكن يجوز تركه إلى بدل و هذا ينافي كون الشيء واجباً.

3. وحدة العقاب مع كثرة الواجب

و هذا هو الإشكال الثالث حيث إنّه إذا ترك الكلّ يعاقب بعقاب واحد، مع كون الواجب متعدداً.

هذه الأُمور هي التي دعت المتأخرين إلى البحث عن ماهية الواجب التخييري و واقعه حتّى يتيسر لهم الذب عن هذه الإشكالات.

و سنتناولها بالتفصيل واحداً تلو الآخر.

ص:113

أمّا تعلّق الإرادة بالأمر المردد و هو المهم بين الإشكالات فقد أجيب عنه بوجوه.
1. نظرية المحقّق الخراساني

و حاصل هذه النظرية: انّ الواجب التخييري على قسمين:

فقسم منه يكون التخيير فيه تخييراً عقلياً، و القسم الآخر يكون التخيير تخييراً شرعياً.

أمّا الأوّل: ففيما إذا كان الغرض واحداً يقوم به كلّ من الطرفين، كما إذا كان الغرض هو إنارة الغرفة و هي تتحقّق بإسراج المصباح أو إيقاد النار في الموقد فيأمر المولى و يقول: اسرج المصباح أو أوقد النار.

فهاهنا غرض واحد يحصل بكلا الأمرين، و بما انّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد فلا بدّ من القول بأنّ إنارة الغرفة معلولة للجامع بين الفعلين، لامتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون الواجب هو الجامع، فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعي كما عرفت تبيان انّ الواجب هو الجامع بين الاثنين. فعلى المكلّف إيجاده في الخارج لتحصيل الغرض الواحد، و في هذا القسم تتعلّق الإرادة بأمر معين و هو الجامع بين الفعلين.

و أمّا الثاني: أعني ما إذا كان التخيير شرعياً، فهناك أغراض متعددة للمكلّف لكن بينها تزاحم في مقام الإتيان بأن تكون الأغراض غير قابلة للتحصيل و الجمع فلا يمكن للمولى الأمر بتحصيلها.

فعندئذ يكون كلّ واحد واجباً لكن بنحو من الوجوب تَكشف عنه تبعاتُه و آثارُه، أعني:

ص:114

أ. عدم جواز ترك كلّ واحد إلاّ إلى الآخر.

ب. ترتّب الثواب على فعل الواحد منهما.

ج. العقاب على تركهما لا على ترك واحد منهما.

ففي هذه الصورة يكون الواجب كلّ واحد لكن بنحو من الوجوب يتفاوت سنخه مع وجوب الواجب التعييني.

فالصلاة و الصوم في شهر رمضان واجبان تعيينيان و الحمد أو التسبيحات واجبان تخييريان في الركعتين الأخيرتين.

لكن سنخ الوجوب في الأوّل غير سنخه في الثاني، مع اشتراك الجميع في تعلّق إرادة مستقلة بكلّ واحد كتعلّق البعث المستقل بكلّ واحد.

إلى هنا تمّ تقرير نظرية المحقّق الخراساني.(1)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استطاع أن يذب عن الإشكالات الثلاثة بما اختاره في حقيقة الواجب التخييري.

أمّا التخيير العقلي فلأنّ الواجب هو الجهة الجامعة التي تؤمّن غرض المولى فالواجب واحد و الإرادة واحدة.

و أمّا التخيير الشرعي فلما كانت الأغراض متعددة، و بتبعها تتعدد الإرادة، و كلّ إرادة متعلّقة بموضوع خاص و هو محصّل لغرض خاص.

و مثلها البعث فليس هنا بعث متعلّق بالمردد، بل لكلّ بعث خاص دون أن يكون هناك تردد في المتعلّق.

هذا كلّه حول الإشكال الأوّل الذي هو المهم.

ص:115


1- لاحظ كفاية الأُصول: 1/226.

و أمّا الثاني: أعني كون الشيء واجباً مع جواز تركه و الإتيان بالآخر.

فقد أجاب عنه انّ هذا خصيصة نحو هذا الوجوب، فانّ الوجوب على قسمين: تارة يكون الإتيان بأحد الفعلين لا يجزي عن الفعل الآخر كالصلاة و الصوم في شهر رمضان، و أُخرى يكون الوجوب على نحو لو أتى بواحد ممّا تعلّق به الوجوب يغني عن إتيان الآخر و ذلك نتيجة تزاحم الأغراض و عدم اجتماعها.

و إلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله:

كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يُستكشف عنه تبعاتُه من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر.(1)

هذا كلّه حول الإشكال الثاني.

و أمّا الإشكال الثالث: و هو أنّ تعدد الواجب يقتضي تعدد العقاب عند ترك عامّة الأطراف مع أنّهم اتفقوا على وحدة العقاب.

و الإجابة عنه واضحة، و ذلك لأنّ تعدد العقاب إمّا لأجل تفويت المصلحتين الملزمتين أو لأجل مخالفة التكليفين الفعليين.

أمّا الأوّل: فلأنّ المفروض عدم إمكان الجمع بين الغرضين و تنافيهما في مقام التأثير في الغرض، فإذا كان كذلك فليس عليه إلاّ تحصيل غرض واحد و بفوته يستحقّ عقاباً واحداً.

و أمّا الثاني: فلأنّ الحكمين و إن كانا فعليين و لكن مخالفة التكليفين الفعليين إنّما توجب كثرة العقاب إذا لم يكتف المولى في مقام الامتثال بواحد منهما. و مع هذا التصريح لا ملاك لتعدد العقاب.

ص:116


1- كفاية الأُصول: 1/226.

و الحاصل: انّ الكبرى أي مخالفة كلّ حكم فعلي توجب العقاب ممنوعة، و إنّما توجبه إذا لم يصرح المولى بأنّه يكفي إتيان واحد منهما، ففي مثله لا يتعدد العقاب.

فاتّضح بما ذكرنا انّ نظرية المحقّق الخراساني خصوصاً في التخيير الشرعي نظرية صالحة لدفع الإشكالات الثلاثة، و المؤثر في دفعها هو تعدد الغرض الموجب لتعدد الإرادة و التزاحم بين الأغراض في مقام الامتثال.

نعم يرد على هذه النظرية إشكالان يرجع أحدهما إلى التخيير العقلي و الثاني إلى التخيير الشرعي.

أمّا الأوّل: أي التخيير العقلي، فقد أسس نظريته على قاعدة:» لا يصدر الواحد إلاّ من واحد «و بما انّ الغرض واحد فلا يصدر إلاّ من واحد و هو الجهة الجامعة بين إيقاد النار و إسراج المصباح و لا يصدر من كلّ واحد منهما لاستلزامه صدور الواحد عن الكثير.

و لكن القاعدة صحيحة إلاّ أنّ تطبيقها على المورد تطبيق خاطئ.

أمّا صحّة القاعدة فتظهر بملاحظة أمرين:

الأوّل: انّ صدور شيء عن شيء رهن وجود صلة بينهما، و إلاّ يلزم أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء، و هذا ما يعبّر عنه في الفلسفة بقانون السنخية.

مثلاً انّ شرب الماء يزيل العطش دون أكل الخبز، و هذا يدلّ على وجود صلة بين الأوّلين و عدمها في الآخر.

نعم السنخية المعتبرة هي سنخية ظلية لا سنخية توليدية) انتاجية (كالسنخية الموجودة بين المطر و الندى.

الثاني: انّ مصب القاعدة هو المعلول البسيط من كلّ الجهات كالعقل

ص:117

الأوّل فانّه عند الفلاسفة إنّي الوجود فلا يصدر إلاّ من سبب واحد، فلو صدر من كثير يلزم أن يكون مشتملاً على أكثر من جهة حتّى تكون كلّ جهة سبباً لصدوره عن السبب المحتمل عليها أخذاً بما تقدّم من اشتراط السنخية بين العلة و المعلول، و عندئذ) تعدد السنخية و الرابطة (يلزم أن يكون الواحد كثيراً لكثرة الجهات و هذا خلف.

هذا إجمال ما عليه الفلاسفة في مفاد القاعدة و هو كما ترى يجري في المعلول البسيط من جميع الجهات، و أين هذا من النور الصادر من إيقاد الموقد و إسراج المصباح؟ فهناك نوران مختلفان و إن كانا يتحدان في الاسم أي النور، فإعمال القاعدة في المتكثّر بالذات إعمال لها في غير محلّه.

و قد استند المحقّق الخراساني إلى هذه القاعدة في محل آخر حيث قال: بوجود الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة و نستكشف وجود الجامع من وحدة الأثر، فانّ اشتراك جميع الصلوات الصحيحة في الأثر كاشف عن وجود جامع بين الصلوات يؤثر الكلّ فيه بذاك الجامع، مثلاً: النهي عن الفحشاء أثر واحد مشترك بين الجميع فيحكم بوحدة الأثر على وجود الجامع الذي هو المؤثر في ذلك الأثر و إلاّ يلزم صدور الكثير عن الواحد.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الأثر واحد بالنوع و لكنّه متعدد في الخارج و مصب القاعدة هو الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، فكلّ من أقام صلاة صحيحة يترتب عليه النهي عن الفحشاء و هو في كلّ مورد يغاير الفرد الآخر في مورد آخر.

أضف إلى ذلك انّ أثر الصلاة متعدد لا واحد، فأين قربان كلّ تقي، من الناهية عن الفحشاء و المنكر؟ و أين كلاهما من عمود الدين؟ إلى غير ذلك.

ص:118


1- كفاية الأُصول: 1/36.

هذا كلّه حول التخيير العقلي و أمّا التخيير الشرعي فقد بنى نظريته على أنّ الأغراض متنافية غير قابلة للجمع، فعندئذ يتوجّه إليه السؤال الثاني و هو: انّ مصب التزاحم إمّا مقام الامتثال و إمّا ملاكات الأحكام:

أمّا الأوّل فلا تزاحم فيه، إذ لا مانع من أن يقوم المفطر بعتق رقبة و إطعام ستين مسكيناً وصوم ستين يوماً.

و أمّا الثاني أي التزاحم في مقام الملاكات، أعني: التزاحم في المرتبة المتقدمة على الخطاب فهو أيضاً منتف بشهادة انّه لو أفطر بالمحرّم وجب عليه الخصال جميعاً من دون أن يكون أيّ تزاحم بين الملاكات، و الظاهر انّ ملاك التخيير هو التسهيل على العباد و رفع الحرج عنهم لا التزاحم بين الملاكات كما يدور عليه كلام المحقّق الخراساني.

إلى هنا تمت نظرية المحقّق الخراساني نقلاً و تحليلاً.

2. نظرية المحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الواجب هو العنوان المردّد، أعني: أحد الفعلين أو أحد الأفعال قائلاً: بأنّ الخصوصيات المعتبرة في الإرادة على قسمين، فتارة تعتبر فيها لا لخصوصية كونها تكوينية، بل لكونها إرادة، فهذا النوع من الخصوصية معتبرة في التشريعية أيضاً، و أُخرى يكون اعتبارها فيها لأجل كونها تكوينية فلا يعم التشريعية قطعاً.

و على ضوء هذا لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعية بالأمر الكلي بين الفردين بخلاف الإرادة التكوينية) الفاعلية (فانّها لكونها علّة لإيجاد المراد لا

ص:119

تتعلّق إلاّ بالشخص لامتناع ايجاد الكلّي في الخارج إلاّ في ضمن فرده.

ثمّ قال: إنّ امتناع تعلّق الإرادة التكوينية بالمردّد و ما له بدل من لوازمها خاصة و لا يعم التشريعية فانّ الغرض المترتب على كلّ من الفعلين، إذا كان أمراً واحداً، كما هو ظاهر العطف بكلمة» أو «سواء كان عطف جملة على جملة كما هو الغالب أو عطف مفرد على مفرد انّه حسب مقام الإثبات الموافق لمقام الثبوت يدل على أنّ هناك غرضاً واحداً يترتّب على واحد من الفعلين على البدل، فلا بدّ و أن يكون طلب المولى بأحدهما على البدل أيضاً لعدم الترجيح بينهما.

و الحاصل: انّ امتناع تعلّق الإرادة بالمبهم و المردد من خصائص الإرادة التكوينية لكونها علّة للمراد و لا معنى لتعلّق العلّة بالكلي بخلاف الإرادة التشريعية.(1)

ثمّ إنّ هذه النظرية هي خيرة تلميذه المحقّق الخوئي في تعليقته على أجود التقريرات و في محاضراته التي دوّنها بعض تلاميذه.

قال ما هذا حاصله:

الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلّة هو انّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، و تطبيقه على كلّ منها في الخارج بيد المكلّف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية غاية الأمر انّ متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصّلة و الجامع الحقيقي، و في الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة و الجامع العنواني، فهذا هو الفارق بينها و تخيّل انّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي و هو عنوان أحدهما في المقام، ضرورة انّه ليس

ص:120


1- أجود التقريرات: 1/183، و لاحظ فوائد الأُصول: 1/235 فالتقريران يهدفان إلى أمر واحد في هذه الدورة و قال: و الاختلاف بين التقريرين طفيف.

له واقع موضوعي غير تحقّقه في عالم الانتزاع و النفس فلا يمكن أن يتعدّى عن أفق النفس إلى ما في الخارج، و من الواضح انّ مثله لا يصلح أن يتعلّق به الأمر، خيال خاطئ جداً، بداهة انّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم و الإرادة و ما شاكلهما فما ظنك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض.(1)

إنّ الأُستاذ و التلميذ قد نجحا لو قلنا بصحّة المعنى في الذب عن الإشكالات الآنفة الذكر، أمّا تعلّق الإرادة بالفرد المردد مفهوماً فلأجل الفرق بين الإرادة الفاعلية و الإرادة الآمرية. و الامتناع من خصائص الإرادة الفاعلية دون الآمرية، و أمّا ترك أحد الأطراف عند الإتيان بالآخر فذلك لازم كون الواجب أحد الأفعال لا جميعها.

و به يُعلم دفع الإشكال الثالث، لأنّ وحدة العقاب لأجل وحدة الواجب المتحقّق بإنجاز واحد من الأطراف.

نعم يرد على تلك النظرية انّها لم تتحفظ على ظواهر النصوص فانّ ظاهرها على أنّ الواجب هو نفس تلك العناوين لا العنوان المنتزع عنها باسم أحدهما، فانّ العنوان المنتزع أمر عقلي ينتزعه من تعلّق الحكم بالعناوين الأصلية على وجه التخيير و إن كنت في شكّ فلاحظ الآيتين التاليتين.

قال سبحانه: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ).(2)

ص:121


1- المحاضرات: 4/42 و 44.
2- المائدة: 89.

فانّ المتبادر من الآية أنّ الواجب هو نفس العناوين لا عنوان أحدها، و مثلها الآيات التالية:

(فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ).(1)

فانّ المتبادر من الآيات انّ الواجب، هو كلاً من الفك و الإطعام في يوم ذي مسغبة لا عنوان أحدهما، و هو) قدس سره (أبدع تلك النظرية ليتحفظ بها على ظواهر الأدلة، و لكن كانت النتيجة هي العكس.

3. نظرية المحقّق الأصفهاني

و للمحقّق الأصفهاني نظرية أُخرى، حاصلها: أن يكون كلّ واحد منها واجباً تعيينياً و يكون الإتيان بواحد منهما في الخارج موجباً لسقوط الآخر أيضاً بحكم المولى إرفاقاً و تسهيلاً على المكلّفين.

هذا ما لخّصه تلميذه المحقّق الخوئي(2) و إليك نصّ عبارة صاحب النظرية قال: يمكن أن يفرض غرضان، لكلّ منهما اقتضاء إيجاب محصَّله، إلاّ أنّ مصلحة الإرفاق و التسهيل تقتضي الترخيص في ترك أحدهما، فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه، و يرخِّص في ترك كلّ منهما إلى بدل، فيكون الإيجاب التخييري، شرعيّاً، محضاً من دون لزوم الإرجاع إلى الجامع.(3)

إنّ هذه النظرية قريبة من نظرية المحقّق الخراساني و ليست عينها غير أنّ الأُستاذ علل عدم وجوب الإتيان بسائر الابدال لأجل التزاحم في الملاك و لكن

ص:122


1- البلد: 1611.
2- تعاليق الأجود: 1/182.
3- نهاية الدراية: 1/254.

التلميذ علله بالتسهيل و الإرفاق.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض على تلك النظرية في تعاليق الأجود و في المحاضرات بإشكالين:

الأوّل: انّه يستلزم تعدد العقاب عند عصيان الوجوب التخييري و عدم الإتيان بشيء من الفعلين ضرورة انّ الجائز هو ترك كلّ منهما إلى بدل لا مطلقاً.

الثاني: انّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في كلّ من الطرفين إلاّ بالأمر، و حيث إنّ الأمر فيما نحن فيه تعلّق بأحد الطرفين أو الأطراف فلا محال لا نستكشف إلاّ قيام الغرض به.(1)

يلاحظ على الإشكال الأوّل: أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين:

1. تفويت المصلحتين الملزمتين.

2. عصيان الخطابين العقليين المطلقين.

أمّا الأوّل: فهو خلاف الفرض، لأنّ المفروض انّ المولى رخص في ترك أحد الغرضين لأجل التسهيل.

ص:123


1- أجود التقريرات: 1/182; المحاضرات: 4/28.

و أمّا الثاني: انّ عصيان الخطابين الفعليين المطلقين إنّما يُصحح تعدّد العقاب إذا لم يصرّح المولى بأنّه يجوز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر، فانّ معنى ذلك انّ المطلوب الجدّي المصحح للعقاب هو واحد لا كثير، و معه كيف يوجب تعدد العقاب؟ و إن شئت قلت: إنّ دائرة التكليف لا تكون أوسع من الملاك اللازم تحصيلُه، و المفروض انّ اللازم تحصيله هو أحد الملاكين لا كلاهما.

و أمّا الإشكال الثاني: فظاهره انّه لا ملاك في كلّ واحد من أحد الأطراف، بل الملاك في واحد منها غير معيّن، و هذا خلاف فرض المحقّق الاصفهاني حيث قال: فيوجب كليهما لما في كلّ منهما من الغرض الملزم في نفسه قطعاً، إذ لو لم يكن كلّ واحد منها مشتملاً على الملاك، لما صحّ الأمر بأحدها.

نعم تعدّد الأمر لا يلازم تعدّد الغرض، بل يجتمع مع وحدة الغرض، المتحقّق بكلّ من الأطراف.

4. نظرية بعض القدماء

إنّ الواجب هو الواحد المعيّن الذي يعلم اللّه انّ العبد يختاره.

يلاحظ عليه: أوّلاً: بأنّ لازم ذلك عدم الاشتراك في التكليف و انّ تكليف من يختار العتق هو العتق و تكليف من يختار الصوم هو الصوم، و هذا ممّا اتّفق العلماء على بطلانه.

و ثانياً: أنّ لازم ذلك عدم العقاب على من ترك التكليف رأساً، لأنّ الواجب هو ما يختاره العبد في علم اللّه، فإذا لم يختر واحداً منهما كشف عن عدم موضوع للتكليف في علم اللّه و مع فقد الموضوع لا عقاب.

5. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري؟

هذا ما ذكره القوم في المقام و هناك نظرية خامسة هي أقرب إلى الواقع و ما هو الدارج بين الموالي و العبيد في الواجبات التخييرية.

و حاصله: انّه إذا كان للمولى غرض واحد يتحقّق بأُمور متعددة و ليس بينهما جامع أصيل كما في المثالين التاليين:

ص:124

أ. إذا تخلّف السائق عن مراعاة قوانين المرور، فيمكن للحاكم تأديبه بأحد أمرين:

1. الحكم عليه بتأدية غرامة نقدية.

2. الحكم عليه بزجّه في السجن.

ب: من أفطر في شهر رمضان متعمداً فللمولى أن يوبخ المكلّف بأحد الأُمور الثلاثة المعروفة بخصال الكفارة.

إلى غير ذلك من الأمثلة.

فبما انّ إيجاب واحد معيّن خال عن الوجه، و كلّ منهما محصّل للغرض فعندئذ يخاطب المكلّف بإيجاب الجميع لكن على وجه التخيير لأجل وحدة الغرض، و هذه النظرية تشارك نظرية المحقّق الخراساني من جهة، و تفارقها من جهة أُخرى. أمّا المشاركة فهي إيجاب الجميع لكن على وجه التخيير. و انّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب.

و أمّا المفارقة فتفارقها بوحدة الغرض على هذه النظرية و كثرتها على نظرية المحقّق الخراساني.

و كلتا النظريتين تستمدان من أنّ الوجوب التخييري نحو من الوجوب كالتعييني و لكن يفارق التخييريُّ، التعيينيَ باكتفاء المولى بالإتيان بأحد الأطراف في الواجب التخييري دون الواجبات التعيينية، و يعود وجهه إلى وحدة الغرض في الأوّل و تعدّده في الثاني حسب ما بيّناه.

و أمّا على مختار المحقّق الخراساني فالاكتفاء في الأوّل بأحد الأطراف لأجل امتناع الجمع بين الغرضين في التخييري، و إمكانه في الواجبات التعيينيّة.

و بذلك تقدر على الذبّ عن الإشكالات الثلاثة.

ص:125

أمّا الإرادة فلم تتعلّق بالمراد، بل تعلّقت بالمعيّن، حيث إنّ المراد متعدد كالإرادة و المبعوث إليه متعدد كالمراد.

و أمّا الإشكال الثاني أي جواز ترك أحدهما عند الإتيان بالآخر فانّه مقتضى وحدة الغرض.

و أمّا وحدة العقاب عند ترك الجميع فلما عرفت من أنّ تعدد العقاب رهن أحد أمرين و كلاهما منتفيان.

1. كون الغرض متعدداً و المفروض في المقام خلافه.

2. مخالفة الخطابين الفعليين المطلقين، و قد عرفت عدم كلّية هذه الضابطة في تعدد العقاب و إنّما هو إذا لم يكن هناك تصريح أو تلويح من المولى بكفاية أحد الأطراف دون الآخرين.

إلى هنا تمّ الكلام في الواجب التخييري.

ص:126

التخيير بين الأقل و الأكثر
اشارة

لا شكّ في التخيير بين المتباينين أو الأُمور المتباينة كما في خصال الكفّارة، إنّما الكلام في جوازه بين الأقلّ و الأكثر كتخيير المصلّي بين تسبيحة أو ثلاث تسبيحات.

وجه الإشكال هو انّ المكلّف إذا أتى بالأقلّ يحصل الامتثال و يسقط الأمر و لا تصل النوبة إلى امتثال الأمر بالأكثر و بذلك يكون الأمر بالأكثر لغواً، و لذلك حمل القائلون بكفاية التسبيحة الواحدة على أنّ الزائد أمر مستحبّ.

تصحيح التخيير بين الأقل و الأكثر

ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل، و انّ التخيير غير جائز في صورة و جائز في صورة أُخرى.

فلو كان الغرض مترتباً على ذات الأقل و لو في ضمن الأكثر لامتنع التخيير بين الأقل و الأكثر، لأنّ الأقلّ حاصل مطلقاً قبل حصول الأكثر و كان الزائد على الأقل زائداً على الواجب.

و أمّا إذا ترتّب الغرض لا على مطلق الأقل و لو في ضمن الأكثر، بل على خصوص الأقل الذي لم يكن معه الأكثر، فعندئذ يحصل الامتثال بكلا الطرفين.

أمّا الأقلّ الذي لم يكن معه الأكثر فهو أحد الواجبين، و أمّا الأكثر الذي في ضمنه الأقل فالغرض قائم بالأكثر لا بالأقل الذي في ضمنه، لما عرفت من أنّ الأقل إنّما يحصِّل الغرض إذا انقطع عن الأكثر و صار فرداً مستقلاً، و أمّا إذا انضمّ

ص:127

إليه شيء فلا يكون مصداقاً للواجب.

و يمكن تصويره بالمثال التالي:

إذا أمر المولى برسم خط طولي إمّا متراً أو مترين، فلو كان الغرض حاصلاً بمطلق الأقل سواء كان الأقل منفكّاً عن الأكثر أو في ضمن الأكثر ففي مثله لا يصحّ التخيير، لأنّه إذا أتى بالأكثر فبالأقل الموجود في ضمنه يحصل الامتثال و يكون الزائد أمراً زائداً على الواجب.

و أمّا إذا ترتّب الغرض على الأقل التام المنفصل عن الأكثر، أو نفس الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه، فعندئذ يصحّ الأمر بترسيم أحد الخطين، فالمكلّف إمّا يأتي بالواجب الأقل أو يأتي بالواجب الأكثر و ليس في ضمن الأكثر إلاّ ذات الأقلّ لا الأقلّ الواجب.

يلاحظ عليه: أمّا ما ذكره من المحاولة يخرج المورد من التخيير بين الأقل و الأكثر فانّ البحث دائر على إمكان التخيير بين الأقل و الأكثر لا بين المتباينين، و ما فرضه من جواز التخيير بين الأقل و الأكثر فإنّما هو من قبيل المتباينين و إن كان في نظر العرف الساذج تخييراً بين الأقل و الأكثر. إذ على ما فرضه يكون الموضوع أحد الأمرين:

أ. الأقل بشرط لا، أي الخط الذي بلغ طوله متراً بشرط أن لا يَضمّ إليه الأكثر.

ب. الأكثر بشرط شيء، أي ذات الأقل الذي يضاف إليه متر آخر، ففي مثله يكون التخيير بين الأقل بشرط لا و الأكثر بشرط شيء و هو خارج عن الموضوع.

نعم يصدق عليه عرفاً التخيير بين الأقل و الأكثر.

ص:128

ثمّ إنّه) قدس سره (استشكل على نفسه و قال:

إنّ ما ذكرته من المحاولة إنّما يصحّ إذا كان الأقل مندكّاً في الأكثر و لم يكن للأقل في ضمنه وجود مستقل.

و أمّا الأقلّ الذي يكون له وجود مستقل مطلقاً سواء زيد عليه أم لا غير مندك في ضمن الأكثر كالتخيير بين تسبيحة أو ضمن ثلاث تسبيحات أو التخيير بين نزح 30 دلواً و 40 دلواً، ففي مثله يسقط الأمر بالواجب بالأقل مطلقاً و لا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر.

و هذا نظير ما إذا خيره بين ترسيم خط طوله متر أو مترين بشرط تخلل العدم بعد رسمه متراً، فعندئذ يحصل الامتثال بالأقل مطلقاً و لا تصل النوبة إلى الأكثر.

ثمّ إنّه) قدس سره (أجاب عن الإشكال بأنّ التخيير في مثل هذه الموارد إنّما يتحقّق إذا أخذ الأقل بشرط لا أي عدم انضمام شيء إليه و الأكثر بشرط شيء أي بشرط الانضمام فعندئذ لو أتى بالأقل و لم ينضم إليه شيء يسقط الأمر بالأقل، و أمّا إذا أضاف إلى التسبيحة الواحدة تسبيحتين أُخريين، ففي مثله لا يسقط الأمر بالأقل، لأنّ الأقل يفقد شرطه، و إنّما يحصل بالأكثر.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرناه في البحث السابق فانّ أخذ التسبيحة الواحدة بشرط لا، و الأكثر بشرط شيء، يخرج المورد عن الأقل و الأكثر و يدخله في التخيير بين المتباينين، و مثله التخيير بين ثلاثين دلواً أو أربعين، فإذا أخذ الثلاثين بشرط لا، و العِدْل الآخر بشرط شيء، فلا يكون فيه الأقل موجوداً في ضمن الأكثر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني عاد في آخر البحث إلى ذكر النتيجة، فقال: إذا كان الغرض الواحد مترتّباً على الأقل و الأكثر فالواجب هو الجامع بين الفردين، لما عرفت من امتناع صدور الواحد عن الكثير فيكون التخيير عقلياً.

ص:129

و أمّا إذا كان هناك غرضان مختلفان متزاحمان فيكون التخيير تخييراً شرعياً.

نعم لو كان الغرض مترتّباً على الأقلّ مطلقاً سواء أ كان له وجود مستقلّ أو في ضمن الأكثر فالواجب يسقط بالأقل و الزائد عليه مستحب لحصول الأقل مطلقاً قبل الأكثر.(1)

و قد عرفت عدم تمامية نظره، فلاحظ.

ص:130


1- الكفاية: 1/228.

الفصل العاشر الواجب الكفائي

اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

1. لا شكّ في وجود الواجبات الكفائية بين العقلاء و الشريعة الإسلامية المقدسة حيث إنّ الوالد يأمر أولاده بتنظيف البيت، و شراء اللحم و الخبز إلى غير ذلك من الأُمور، فلو قام واحد منهم بهذا الواجب لسقط عن الجميع، و لو عصوا يُعاقب الكلّ; و نظيره ما في الشريعة من الأمر بإجراء الحدود و الأمر بالمعروف و إقامة النظام فانّها واجبات كفائية. فلو قام واحد من المكلّفين بهذه الأُمور لسقط عن الجميع، و لو عَصوا لعوقبوا.

2. تقسيم الواجب إلى العيني و الكفائي، تقسيم للوجوب باعتبار إضافته إلى المكلَّف، كما أنّ تقسيمه إلى التعييني و التخييري تقسيم له بالإضافة إلى المكلَّف به، و ذلك لأنّ التكليف من الأُمور ذات الإضافة، فله إضافة إلى المكلِّف و في الوقت نفسه إضافة إلى متعلّق التكليف الذي يطلق عليه المكلّف به، كما أنّ له إضافة إلى المكلَّف الذي ربما يطلق عليه الموضوع في مصطلح المحقّق النائيني) قدس سره (.

فباعتبار كون المكلَّف به واحداً أو متعدداً على وجه التخيير ينقسم الواجب إلى التعييني و التخييري، كما أنّ باعتبار كون امتثال بعض مسقطاً عن الآخرين أو

ص:131

غير مسقط، ينقسم الواجب إلى العيني و الكفائي.

و إن شئت قلت: إمّا أن يكون لصدور الفعل من مكلّف مشخص مدخلية في حصول الغرض أو لا، بل الغرض يحصل بصدور الفعل من مكلّف ما، فالأوّل هو الواجب العيني، و الثاني هو الواجب الكفائي. و لبّ الفرق بينهما يرجع إلى أنّ المكلّف في العيني آحاد المكلّفين مستغرقاً، و في الكفائي صرف المكلّف، فالفرق بين العيني و الكفائي يرجع إلى جانب المكلَّف، خلافاً للمحقّق البروجردي حيث أرجع الفرق بينهما إلى جانب المكلّف به فقال: إنّ متعلّق الكفائي هو نفس الطبيعة، كما أنّ متعلّق العيني هو الطبيعة بقيد مباشرة كلّ مكلف بالخصوص.

يلاحظ عليه: أنّ جعل متعلّق التكليف في الكفائي نفس الطبيعة و في العيني الطبيعة بقيده صدورها من كلّ مكلف بالخصوص، عبارة أُخرى عن لحاظ المكلف في العيني بصورة العام الاستغراقي و في الكفائي بصورة العام البدلي.

3. على ضوء ما ذكرنا عرف الواجب الكفائي بأنّه: عبارة عن الواجب الذي لو أتى به فرد من المكلّفين لسقط عن الباقي، و إن تركه الجميع لعوقبوا، فعندئذ يجري الإشكال المذكور في الواجب التخييري في المقام أيضاً حيث إنّ كلاً من الواجب التخييري و الكفائي واضحان مفهوماً و لكن مبهمان كنهاً حيث إنّ مشكلة كيفية تعلّق الإرادة بالأمر المردد قائمة في كلا الواجبين، و قد عرفت كيفية دفع الإشكال في الواجب التخييري.

و أمّا المقام فيقرر الإشكال بالنحو التالي:

ص:132

إنّ المكلّف إن كان هو الفرد المردد يلزم تعلّق الإرادة و الوجوب بالفرد المردد، و الإرادة لا تتعلّق بالمردد، سواء أ كانت فاعلية أم آمرية.

و إن كان هو جميع الأفراد فلما ذا يسقط بفعل واحد منهم؟ و قد أجاب الأُصوليون عن الإشكال بنظريات:

النظرية الأُولى: تعلّق التكليف بعموم المكلّفين
اشارة

إنّ الواجب الكفائي سنخ من الوجوب و له تعلّق بكلّ واحد، بحيث لو أخلّ الكلّ بامتثاله لعوقبوا على مخالفته جميعاً، و إن أتى به بعضهم لسقط عنهم، و ذلك لأنّه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد يحصل بفعل واحد صادر عن الكلّ أو البعض.(1)

و حاصل هذه النظرية: انّ الوجوب يتعلّق بعامّة المكلّفين فلا يكون متعلّق الإرادة و الوجوب أمراً مردداً، غير أنّ تعلّقه بالجميع على قسمين:

تارة يكون الغرض متعدداً و يتوقّف حصوله على قيام كلّ واحد من المكلّفين بالواجب كالصلوات اليومية، فلا يسقط تكليف مكلّف، بفعل مكلّف آخر، و أُخرى يكون الغرض واحداً يحصل بقيام واحد منهم، و مقتضى هذا، سقوط الواجب بفعل أحد المكلّفين، و معاقبة الجميع حين تركهم.

هذا هو ما يركّز عليه صاحب الكفاية، و كان الأولى أن يضيف إليه شيئاً آخر و يقول: الفرق بين الواجب العيني و الكفائي أمران:

الأوّل: ما صرح به صاحب الكفاية من تعدد الغرض في العيني و وحدته في الكفائي.

ص:133


1- كفاية الأُصول: 1/229.

الثاني: مدخلية قيام مكلّف خاص بالمأمور به في تحصيل غرض المولى في العيني دون الكفائي، بل يكفي صدور الفعل عن أيّ واحد من المكلّفين، كالصلاة على الميت.

فإن قلت: إذا كان الغرض واحداً حاصلاً بإنجاز فرد من المكلّفين فلما ذا وجّه التكليف إلى عامّة المكلّفين؟ و بعبارة أُخرى: لو كان الغرض حاصلاً بفعل الواحد فلما ذا وجّه التكليف إلى عامّتهم؟ و إن لم يكن حاصلاً إلاّ بفعل الجميع فكيف يسقط بفعل الواحد؟ قلت: نختار الشق الأوّل، و هو انّ الغرض واحد يحصل بفعل واحد من المكلّفين، لكن عدم تخصيصه بمكلف خاص لأجل رعاية أمرين:

أ. ما تقدّم من عدم مدخلية صدور الفعل عن مكلَّف خاص، فلذلك لم يوجهه إلى واحد معيّن، بل إلى الجميع.

ب. انّ توجيه التكليف إلى الجميع بهذا النحو يؤمِّن غرض المولى في الإتيان به، إذ لو وجّهه إلى فئة خاصّة ربما يتساهلون في القيام بواجبهم لعذر أو لغير عذر، بخلاف ما لو جعل التكليف في ذمة الجميع و حذّرهم من مخالفته فعندئذ لقام الأمثل فالأمثل بامتثال التكليف قطعاً.

سؤال و إجابة

فإن قلت: إذا كان الخطاب في الواجب الكفائي متوجّهاً إلى عامة المكلّفين فلما ذا جعل سبحانه فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر التي هي من الواجبات الكفائية على عاتق طائفة من الأُمّة، لا على نفسها، قال سبحانه:

ص:134

(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )؟(1)قلت: أوّلاً: يحتمل أن تكون لفظة» من «نشأوية لا تبعيضيّة، مثل قول القائل:» و ليكن لي منك صديق «: أي كن صديقاً، و المراد كونوا أُمّة يدعون إلى الخير.

و ثانياً: نفترض انّ» من «تبعيضيّة، لكن الآية ناظرة إلى حال الامتثال و تجسيد التشريع المتوجّه إلى الكل و انّه يكفي في تحقيقه قيام أُمّة من المسلمين بهذه الفريضة الحيويّة، بشهادة انّ الأمر بالمعروف فُرض في بعض الآيات على قاطبة المؤمنين، لا إلى لفيف منهم يقول سبحانه: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).(2)

ثالثاً: انّ للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، مراتب:

مرتبة يشمل وجوبها عامّة المؤمنين و ذلك كالإنكار بالقلب و اللسان و إظهار الاشمئزاز بالوجه، قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» أمرنا رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة «.(3)

و مرتبة منها تختص بأصحاب القدرة، كقطع يد السارق، و حدّ الزاني، روى مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول: و سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أ واجب على الأُمّة جميعاً؟ فقال:» لا «فقيل له: لم؟ قال:» إنّما هو على القوي المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيّ من أيّ، يقول في الحقّ إلى الباطل، و الدليل على ذلك

ص:135


1- آل عمران: 104.
2- التوبة: 71.
3- الوسائل: 11، الباب 6 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1.

كتاب اللّه عزّ و جلّ قوله (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) فهذا خاص غير عام «.(1)

و على ضوء هذا الحديث: انّ إجراء الحدود، و الأحكام التأديبية، واجبة على عامّة القضاة و الحكام لا على صنف منهم لكن على نحو لو قام واحد منهم بإجراء الحكم أو تصدّى أحد القضاة للقضاء في موضوع، سقط عن الآخرين.

نقد النظرية و الإجابة عنه

إنّ السيد الأُستاذ) قدس سره (تناول تلك النظرية بالنقد و قال: ما هذا حاصله:

كيف يتعلق الوجوب بعامّة المكلفين مع أنّ الواجب الكفائي على أقسام:

1. ما لا يقبل التعدد و ما لا يمكن امتثاله إلاّ مرّة واحدة كقتل ساب النبي.

2. ما يقبل التكثّر، و لكن الفرد الثاني مبغوض ممنوع كمواراة الميت.

3. ما يقبل التكثّر و ليس الفرد الثاني مبغوضاً، و لكنّه ليس مطلوباً أيضاً كتكفين الميّت ثانياً.

4. ما يقبل التكثر و يكون مطلوباً كالصلاة على الميت.

أمّا الشقّ الأوّل، فيمتنع بعث عامّة المكلّفين إليه، لأنّه فرع إمكان التكثّر، و أمّا الثاني و الثالث اللّذان يقبلان التكثر لكن الفرد الثاني إمّا مبغوض أو غير مطلوب، فبعث عامة المكلّفين إليه الملازم للتكثر إمّا نقض للغرض أو بعث إلى ما ليس بمطلوب.

ص:136


1- الوسائل: 11، الباب 2 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1.

و أمّا الرابع فإمكان بعث الجميع إليه و إن كان لا يُنكَر، إلاّ انّ لازمه هو لزوم اجتماعهم في إيجاد صرف الوجود، على نحو لو لم يحضر، عُدّ المتخلف عاصياً لترك الأمر المطلق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ دعوة عامة المكلّفين إلى إيجاد الطبيعة في الواجب الكفائي ليس مثل دعوتهم إلى إيجادها في الواجب العيني، بأن يقوم كلّ مكلّف في زمان واحد بإيجادها حتّى يقال بأنّ الطبيعة ربّما لا يكون قابلاً للتكرار أو يكون قابلاً له و لكن يكون مبغوضاً، أو غير مطلوب، بل دعوة الجميع إلى إيجاد الطبيعة على نحو البدلية مثلها في الواجب التخييري الذي قد مرّ انّ الكلّ واجب على البدل، فإذا قام أحد الأفراد بامتثال التكليف سقط الواجب و لا تصل النوبة إلى التكرار بأنواعه الثلاثة.

و قد عرفت أنّ النكتة لتوجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين مع أنّه يكفي في حصول الغرض قيام فرد منهم بالواجب، هو أمران:

1. عدم قيام الغرض بقيام مكلّف خاص.

2. التحفّظ عليه، إذ احتمال التسامح و ترك الامتثال أمر محتمل في فرد منهم، لا في جميعهم.

و أمّا الصورة الرابعة التي يكون الفعل قابلاً للتكرار و مطلوباً، لا يلازم كون المتخلّف عاصياً، لأنّ الأمر و إن كان في الظاهر مطلقاً غير مقيد، لكنّه بشهادة القرائن مقيّد بالبدلية، و معه لا يعد تركه عصياناً، كأخذها في جانب المكلف به في الواجب التخييري.

ص:137


1- تهذيب الأُصول: 3671/366.
النظرية الثانية: التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين

هذه هي النظرية الثانية التي تؤكد على أنّ التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين لا بعينه نظير الواجب التخييري، غير أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف، و في الكفائي في جانب موضوعه، و هذا واقع في العرف كما إذا أمر الوالد أولاده، بقوله: فليقم واحد منكم بالعمل الفلاني.(1)

و اختاره السيد الأُستاذ لكن بتفصيل خاص، و هو انّ المكلّف أحد المكلّفين بشرط لا في الثلاثة الأُولى، أعني: ما لا يقبل التكثّر، أو يقبل لكن يكون مبغوضاً أو غير مطلوب، أو أحد المكلّفين لا بشرط في الصورة الرابعة، أعني: ما يقبل التكثر و يكون مطلوباً.(2)

أقول: هذه النظرية لبعض القدماء من الأُصوليين.(3) و لذلك تناولها السيد البروجردي بالنقد، و قال: هل المراد من توجه التكليف إلى أحد المكلفين، هو أحدهم المردد مفهوماً، أو أحدهم المردد مصداقاً و خارجاً؟ أمّا الأوّل فهو غير قابل لتوجه التكليف إليه كما هو معلوم و أمّا الثاني فليس له مصداق في الخارج، لأنّ كلّ فرد من آحاد المكلّفين فرد معين، و الوجود يلازم التشخّص و التعيّن، فكيف يكون الفرد موجوداً و مع ذلك مردداً؟(4)يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشقّ الثاني، و انّ المراد من قولهم بأنّ التكليف يتوجه إلى الفرد المردد، هو ذات الفرد الخارجي، و لكن ليس التردد قيداً له، حتّى

ص:138


1- تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الكفاية: 137، و المحاضرات: 4/53.
2- تهذيب الأُصول: 1/367.
3- انظر للوقوف على الأقوال: المعالم و تعليقة المشكيني على المقام.
4- نهاية الأُصول: 228.

يمنع تشخصه، بل المردد عنوان مشير إلى أحد المكلّفين و انّه لا خصوصية لمكلف دون مكلف.

و لك أن تقول مكان الفرد المردد، أحد المكلّفين، و كلّهم مصاديق لهذا العنوان على نحو البدلية.

نعم يرد على تلك النظرية أنّه مخالف لظاهر الأدلّة في الواجب الكفائي فلاحظ.

النظرية الثالثة: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين

إن هناك تكليفاً واحداً يتعلّق بمجموع المكلّفين من حيث المجموع، فالمكلّف هو مجموع الأشخاص على نحو العام المجموعي، غاية الأمر انّه يتحقّق فعل المجموع بفعل الواحد منهم و تركه بترك المجموع، نسبه في حاشية القوانين إلى قطب الدين الشيرازي.

و أورد على هذه النظرية بأنّ المجموع أمر اعتباري لا وجود له في الخارج و إنّما الموجود ذوات الأفراد فلا معنى لتكليف المجموع.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره صحيح على الأُصول العقلية الفلسفية، إذ لا وجود للهيئة الاجتماعية، بل الوجود للأفراد، و أمّا النظر إلى الموضوع من منظار العرف فللهيئة واقعية تصحّح تعلّق التكليف بها، و لذلك نرى أنّ الأُمّة وقعت موضوعاً لأوصاف أو أحكام في القرآن و السنّة كما سيوافيك بيانه.

نعم يرد على تلك النظرية التي جعل المكلّف عنوان مجموع المكلّفين انّ لازمه لزوم اشتراك الجميع في التكليف لا سقوط التكليف بفعل واحد منهم، لأنّ

ص:139


1- نهاية الأُصول: 228.

المفروض هو توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع لا إلى البعض، و عندئذ كيف يسقط عن المجموع بفعل الواحد أوّلاً و عدم إمكان اشتراك المجموع في كثير من الواجبات الكفائية كغسل الميت و مواراته ثانياً؟ نعم يمكن إصلاح تلك النظرية ببيان آخر بأن يقال: انّ الفرق بين الواجبات العينية و الكفائية هو انّ الأوّل يتعلّق بذوات الأفراد فكلّ فرد محكوم بحكم خاص غير حكم الفرد الآخر، و أمّا الواجبات الكفائية فهي عبارة عن الأحكام التي تتعلّق بالأُمة و بالمجتمع، فالمولى يطلب من المجتمع إقامة النظام و جهاد العدو، و تجهيز الميّت و القضاء بين الناس و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإذا كان المسئول هو المجتمع فيجب عليهم تنظيم الأُمور من خلال تقسيم الوظائف فيما بينهم.

و هذه النظرية قريبة من النظرية الأُولى، فانّ الأُولى تركّز على تعلّق الأحكام بذوات الأفراد، و أمّا هذه النظرية فهي تركِّز على تعلّق الأحكام بذات المجتمع و الأُمّة، و من الواضح انّ واقع الأُمّة بواقعية أفرادها، نعم في مقام تعلّق الأمر يظهر التغاير بين الموضوعين.

و مما يدلّ على إتقان تلك النظرية أنّ القرآن يخاطب الأُمّة مكان مخاطبة الأفراد و يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).(1)

و في آية أُخرى تعدّ إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من وظائف الأُمّة المتمكنة لا الفرد المتمكن، و يقول: (اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ

ص:140


1- آل عمران: 110.

اَلْأُمُورِ ).(1)

فجعل إقامة الصلاة و ما تلاه في ذمّة الأُمّة المتمكّنة و هو روح الواجبات الكفائية.

هذا و قد بسط الكلام شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في تبيين هذه النظرية في موسوعته المسمّاة ب» مفاهيم القرآن «.(2)

النظرية الرابعة: تعلّق الوجوب بواحد معيّن

و حاصل هذه النظرية انّ التكليف منصبٌّ على واحد معيّن عند اللّه سبحانه، فإن قام هو بالفريضة و إلاّ يسقط عنه بفعل غيره، لأنّ المفروض انّ الغرض واحد، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

يلاحظ عليه: أوّلاً: ما هو السبب لتعلّق التكليف بشخص معين عند اللّه دون إعلامه.

و ثانياً: انّه خلاف ظواهر الأدلّة فانّ التكليف إمّا متوجّه إلى عامّة المكلّفين استغراقاً، أو إلى الفرد غير المعيّن أو مجموع المكلّفين.

إكمال فيه أمران:
1. ربّما يظهر من المحقّق الخراساني عند البحث فيما إذا دار أمر الواجب بين العينية و الكفائية، كون الواجب الكفائي من قبيل الواجب المشروط،

حيث قال في وجه الحمل على كون الواجب واجباً عينياً بأنّ الحكمة تقتضي كونه مطلقاً

ص:141


1- الحج: 41.
2- مفاهيم القرآن: 2032/198.

سواء أتى به آخر أو لا.(1)

و مفاد ذلك انّ الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان الآخر به، بخلاف العيني، و هو كما ترى، لأنّ الترك إمّا شرط للوجوب أو شرط للواجب. فعلى الأوّل يلزم على الجميع وجوب القيام بالفعل، دفعة واحدة لحصول الشرط. و على الثاني يلزم عدم حصول الامتثال إذا أتى به الجميع لعدم الإتيان بالواجب مع شرطه.

و بما انّ هذه النظرية مستوحاة من عبارة الكفاية و لا نص عليها، فلم نردفها بسائر النظريات.

2. إذا قلنا بأنّ الواجب الكفائي ما له بدل فإذا قام أحد يسقط الحكم عن الأبدال الأُخر، فالمقصود البدل الذي يكون مثل الأبدال الأُخر في توجّه الوجوب إليه،

فخرج وجوب أداء الدين عن التعريف فانّه و إن كان يسقط بأداء البريء، لكنّه ليس بدلاً بهذا المعنى، إذ ليس الأداء عليه واجباً و إنّما هو متبرّع له أن يؤدي و له أن لا يؤدي.(2)

ثمرات البحث

ثمّ إنّه يقع الكلام في ثمرات الاختلاف في واقع الواجب الكفائي فنقول:

إنّ هناك ثمرات فقهية و كلامية على تلك النظريات، و إليك الفقهية ثم الكلامية.

1. لو نذر أحد أن يعطي عشرة رجال لكلّ درهماً إذا أتى كلّ واحد منهم بواجب، فلو قام الكلّ بالصلاة على الميّت و دفع الشخص لكلّ واحد درهماً، فهل

ص:142


1- الكفاية: 1/116
2- الفصول: 107.

برَّ نذره أو لا؟ يختلف حسب اختلاف الأنظار.

أمّا على الأوّل فقد امتثل نذره، لأنّ المفروض انّ الوجوب يتعلّق بآحاد المكلّفين فكلّ واحد من هذه العشرة كان مخاطباً بتجهيز الميّت و الصلاة عليه غاية الأمر لو سبق أحد منهم إلى الواجب لسقط عن الآخر، و أمّا إذا شارك الكلّ دفعة واحدة، أو كان التكثّر و التعدد مطلوباً فقد أتى كلّ بواجبه، فيكون إعطاء الدرهم إعطاءً لمن أتى بواجبه.

و يمكن أن يقال بصدق الطاعة و الامتثال على النظرية الثانية أيضاً لما عرفت من أنّ متعلّق التكليف هو الفرد الخارجي أو الفرد الذي يصدق عليه عنوان المكلّف، و المفروض انّ كلّ واحد من المصلّين مصداق للفرد، و ينطبق عليه عنوان المكلّف.

نعم على القول بأنّ المتعلّق هو المجموع فالوجوب تعلّق به لا بكلّ واحد من آحاد المكلّفين فليس هناك إلاّ امتثال واحد لا امتثالات.

و مثلها النظرية الرابعة فانّ التكليف تعلّق بفرد مشخّص عند اللّه فليس هناك إلاّ تكليف واحد و مكلّف معيّن و الباقي من العشرة غير مكلّفين.

و حصيلة البحث: انّه إذا دفع لكلّ واحد من المصلّين درهماً فقد أبرّ نذره على النظريتين الأُوليين دون الأُخريين.

2. جواز قصد الأمر لكلّ واحد من المكلّفين إذا كان المتعلّق قابلاً للتكرار و مطلوباً غير مبغوض كتحصيل علم الدين مع قيام عدّة معه بالتحصيل، فعلى النظريتين الأُوليين يصحّ لكلّ واحد قصد الأمر لما عرفت من أنّ النظرية الثانية تتحد نتيجة مع الأُولى و إن كانت تختلف عنها في كيفية التحليل.

و أمّا الثالثة فالأمر متوجّه إلى المجموع و ليس الفرد نفس المجموع، فكيف

ص:143

يتقرب بالأمر غير المتوجّه إليه؟ و مثلها النظرية الرابعة حيث إنّ المكلّف فرد معيّن عند اللّه، لا كلّ من بلغ و عقل.

3. إذا كان رجلان متيمّمين فوجدا ماءً لا يفي إلاّ بوضوء واحد منهما فهل يبطل تيمم كلّ منهما أو لا يبطل واحد منهما، أو يبطل واحد منهما على البدل؟ فاختار المحقّق النائيني) قدس سره (الوجه الأوّل، و ذلك لأنّ بطلان التيمّم مترتّب على وجدان الماء، المحقّق في ظرف القدرة على الحيازة، فيبطل التيمّمان معاً، و ليس بطلانه مترتباً على الأمر بالوضوء حتّى يقال بوجود التزاحم في تلك الناحية حيث إنّ الأمر بواحد منهما بالتوضّؤ يزاحم الأمر بالآخر.

و فصّل تلميذه الجليل في التعليقة بين صورة سبق أحدهما إلى الحيازة و عدمه، ففي الأُولى يبطل تيمم السابق فقط و يستكشف به عدم قدرة الآخر على الوضوء و بقائه على ما كان عليه من عدم وجدانه الماء، و أمّا الصورة الثانية فيبطل كلّ من التيمّمين لتحقّق ما ترتّب عليه بطلانه و هو وجدان الماء، فإذا تحقّق يترتّب عليه كلّ من الأمرين.(1)

و قال السيد الطباطبائي: إذا وجد جماعة متيمّمون ماءً مباحاً لا يكفي إلاّ لأحدهم بطل تيمّمهم أجمع إذا كان في سعة الوقت و إن كان في ضيقه بقى تيمّم الجميع.(2)

أقول: إنّ المتبادر من قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (3)هو الوجدان العرفي الملازم مع التمكّن من استعماله بلا نزاع، و على ذلك يختلف

ص:144


1- أجود التقريرات: 1/189.
2- العروة الوثقى: أحكام التيمم، المسألة 22.
3- المائدة: 6.

حكم الصور.

1. إذا تسابقوا عليه فسبق واحد منهم لحيازته بطل تيمّمه خاصّة، لأنّه وجد الماء عرفاً متمكّناً من استعماله بالانتزاع دون الآخرين فانّهم و إن وجدوا ماءً و لكن غير متمكّنين من استعماله.

2. تلك الصورة و لكن كان المسبوق قادراً على التغلّب فتسامح، ففي تعليقة السيد الحكيم بطل تيممه أيضاً، و الحقّ صحته لما عرفت من أنّ المراد هو التمكّن العرفي بلا مغالبة و مصارعة، و المفروض هنا عدمه.

3. إذا وجدا ماءً مع الانصراف عن الحيازة فهل يبطل تيمم الكلّ لتحقّق شرط البطلان في كلّ واحد لصدق وجدان الماء و التمكّن منه بلا نزاع، لأنّ المفروض انصرافهما عن حيازته؟

ص:145

الفصل الحادي عشر تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت و تقسيم المؤقت إلى الموسّع و المضيّق

اشارة

قُسِّم الواجب إلى المطلق و المؤقّت، و المطلق إلى فوري و غير فوري، و المؤقّت إلى موسّع و مضيّق، و إليك بيان كلا التقسيمين.

لا شكّ انّ الفعل لا ينفك عن زمان فالإنسان المادّي بما هو يعيش في عالم المادة لا يفارق فعلُه الزمانَ بل فعلُه يولِّد الزمان، و مع ذلك كلّه فنسبة الفعل إلى الزمان على قسمين:

أ. تارة لا يكون للزمان تأثير في وصف الفعل بالمصلحة أو المفسدة و إنّما يكون الزمان ظرفاً للفعل، و أُخرى يكون للزمان دور وراء كونه ظرفاً للفعل في وصف الفعل بالملاك، و يكون له مدخلية في تحقّق الغرض، و عندئذ ينقسم الواجب إلى مطلق مرسل من مدخلية الزمان فيه و موقّت قُيّد الفعل بالوقت و الزمان.

ثمّ إنّ المطلق أي الواجب الذي لا دور للزمان فيه، تارة يكون واجباً فوريّاً

ص:146

لا يجوز تأخيره كصلاة الآيات، و أُخرى يكون غير فوري كقضاء الفوائت الذي يجوز تأخيره.

كما أنّ المؤقت و هو الواجب الذي للزمان فيه دور، تارة يكون مضيّقاً كصوم رمضان و أُخرى موسّعاً كالصلوات اليومية بالنسبة إلى أوقاتها.

فعلى ذلك فالمؤقت على قسمين: تارة يكون الوقت بمقدار الفعل لا أوسع و لا أضيق كصوم رمضان، و أُخرى يكون الزمان أوسع من الفعل كالصلوات اليومية، و أمّا عكس الثاني فغير صحيح أي كون الفعل أكثر من الزمان، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق.

إذا عرفت تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت، و الأوّل إلى فوري و غير فوري، و الثاني إلى الموسّع و المضيّق، فلنذكر أُموراً لها صلة بالمقام:

1. إذا وجبت الصلاة بين الزوال و المغرب فللطبيعة أفراد عرضية كالصلاة في المسجد أو البيت، كما أنّ لها أفراداً طولية كالصلاة في الساعة الأُولى و الثانية و هكذا، فالتخيير بين تلك الأفراد تخيير عقلي لا شرعي فالعقل يخيّر بين هذه الأفراد في مقام الامتثال. نعم لو قال الشارع: صلِّ في المسجد أو في البيت أو في الوقت الأوّل أو في الوقت الثاني، يكون التخيير شرعيّاً كخصال الكفّارة، و المفروض انّه فرض الصلاة بين الحدين فقط.

2. إذا أخر المكلّفُ الواجبَ الموسّع حتّى ضاق الوقت فلا يخرج الواجب عن كونه موسّعاً و لا يدخل في المضيّق، نعم يكون مضيقاً بالعرض، و عدم تأخيره لكونه مفوِّتاً للواجب لا لكونه مضيَّقاً بالذات.

3. أشكل على الواجب الموسّع بأنّه ما يجوز تركه في بعض الأوقات، فكيف يكون واجباً و يجوز تركه؟

ص:147

يلاحظ عليه: بأنّ الواجب عبارة عمّا لا يجوز تركه بتاتاً، و الموسّع كذلك، و لا ينافيه تركه في بعض الأوقات.

4. عُرِّف الواجبُ المضيّق بأنّه عبارة عمّا يكون وقت الوجوب و الواجب) المكلّف به (واحداً مع أنّ مقتضى القاعدة أن يكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب و لو بلحظة، لأنّ الإتيان بالواجب انبعاث و هو معلول البعث و الوجوب فيجب أن يكون الوجوب متقدّماً على الانبعاث تقدّمَ العلّة على المعلول فيكون وقت الوجوب أوسع من وقت الواجب الذي يعبّر عنه بوقت الانبعاث.

يلاحظ عليه: بأنّ تقدّم العلّة على المعلول ترتبيّ لا زماني كتقدّم حركة اليد على حركة المفتاح، و أقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب تقدّم بيان الوجوب على زمان الواجب حتّى يتمكّن المكلّف من امتثاله، و أمّا تقدّم زمان الوجوب على الواجب فليس بلازم.

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟

هذه مسألة أُصولية يعبّر عنها تارة بما ذكر، و أُخرى بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بأمر جديد.

و حاصله: انّه إذا مضى وقت الفعل هل الأمر الأوّل كاف في وجوب قضائه خارج الوقت أو يتوقّف على وجود أمر جديد و إلاّ فالأمر الأوّل قد سقط؟ قولان:

فمنهم من يقول بكفاية الأمر الأوّل في إيجاب القضاء، و منهم من يقول بلزوم أمر جديد متعلّق بالفعل خارج الوقت أيضاً.

و تحقيق المقام يتوقّف على البحث في مقامين:

الأوّل: في مقام الثبوت.

الثاني: في مقام الإثبات.

ص:148

أمّا الأوّل: فحاصله انّه لو قلنا بتعدّد المطلوب و أنّ إيجاد الفعل مطلوب و إيجاده في وقته مطلوب آخر فالقضاء بالأمر الأوّل، و أمّا لو قلنا بوحدة المطلوب و انّ هنا مطلوباً واحداً و هو إيجاد الفعل في وقته، فإيجاده خارج الوقت رهن أمر جديد.

و أمّا الثاني: أي البحث إثباتاً فهو فرع استظهار التعدد أو الوحدة من لسان الدليل، فالحقّ انّ الدليل قاصر عن إفادة تعدد المطلوب، فإذا أمر بالوقوف في عرفات من الزوال إلى الغروب فلو فات الموقف من المكلّف فإيجاب القضاء عليه بوقوفه فيها في خارج الوقت الذي يعبّر عنه بالوقوف الاضطراري يحتاج إلى الدليل، و ذلك لأنّ الأمر متعلّق بالمقيّد بالوقت، فالواجب هو الفعل المحدد بالوقت فلا دلالة للأمر على إيجاب الفعل المجرّد عن الوقت.

نعم استثنى المحقّق الخراساني ممّا ذكرنا مورداً خاصّاً بالشروط الثلاثة:

1. أن يكون لدليل الواجب إطلاق بالنسبة إلى خارج الوقت.

2. أن يكون التقييد منفصلاً لا متّصلاً.

3. أن لا يكون في الدليل المقيّد إطلاق حاك عن كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة) الركن (و انّ المولى يطلبه مطلقاً متمكناً كان أو عاجزاً غاية الأمر إذا عجز المكلّف منه سقط وجوب الباقي، فعندئذ يجب قضاء الفعل بنفس الأمر الأوّل، قال:

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل و لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت و كان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت و كون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.(1)

ص:149


1- كفاية الأُصول: 1/230.

مثلاً إذا قال المولى: اغتسل من دون تحديد، ثمّ قال في دليل آخر: اغتسل يوم الجمعة، فلو افترضنا وجود الإطلاق في دليل الواجب و الإهمال في دليل القيد بالنسبة إلى خارج الوقت، فعندئذ يكون إطلاق دليل الواجب محكّماً خارج الوقت، فعليه الغسل بعد غروب الجمعة.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره خارج عن محل النزاع، فإنّ البحث فيما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي بالنسبة إلى تعدد المطلوب أو وحدته، و إلاّ فالمتبع هو الدليل الاجتهادي، و لو افترضنا كون البحث في نطاق وسيع، فعليه أن يطرح الصور الأربع في المقام:

أ. أن يكون لكلّ من دليلي الواجب و التوقيت إطلاق و المراد من وجود الإطلاق في دليل الواجب كونه بذاته مطلوباً، سواء أُتي به في الوقت أو خارجه، كما أنّ المراد من الإطلاق لدليل التوقيت كون الوقت دخيلاً في أصل المصلحة و انّه مطلوب في حالتي التمكن و عدمه.

ب. أن يكون كل من الدليلين مهملاً من هذه الناحية فلا يدلّ دليل الواجب على كون الفعل بذاته مطلوباً مع قطع النظر عن القيد كما لا يدلّ دليل التوقيت على مدخلية الوقت في أصل المصلحة و كونه مطلوباً في حالي التمكّن و عدمه.

ج. أن يكون لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

د. عكس الثالث.

أمّا الأوّل: فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد لأظهريته من إطلاق دليل الواجب، و يكون المراد انّ الوقت دخيل في أصل المصلحة لا في كمالها.

كما أنّ المرجع في الثاني هو الأُصول العملية لفقدان الدليل الاجتهادي،

ص:150

و سيوافيك ما هو المرجع من الأُصول، و على الثالث يؤخذ بإطلاق دليل الواجب و يثبت تعدد المطلوب و يجب القضاء بنفس الأمر الأوّل.

و على الرابع يكون الأمر على العكس، إذ إطلاق القيد يثبت كون الوقت دخيلاً في تمام مراتب مصلحة الواجب لا في بعضها.

و بعبارة أُخرى يكون إطلاق المقيَّد بياناً للمطلق، فيؤخذ به لا بالمطلق فلا تتم مقدّمات الحكمة في جانب دليل الواجب.

و الظاهر انّ محط النزاع هو الثاني لا الأوّل و لا الأخيران.

الأصل العملي في المسألة

إذا كان دليل الواجب أو دليل التوقيت مهملاً بالنسبة إلى خارج الوقت فما هو المرجع عند الشكّ؟ فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المرجع هو أصالة البراءة و عدم وجوبها في خارج الوقت لا استصحاب وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت، و ذلك لعدم جريان الاستصحاب في المقام لعدم اتحاد القضيتين، و ذلك لأنّ الوقت إمّا قيد للموضوع) الغُسْل (أو للمحمول الوجوب، و على كلا الفرضين فإبقاء الحكم بعد خروج الوقت قضية أُخرى غير القضية المتيقنة.

نعم يستظهر من الروايات الواردة في المستحبّات المقيّدة انّ القيد ليس ركناً بل يأتي بالمستحب خارج الوقت أيضاً كما إذا ورد بزيارة الحسين تحت السماء إذا لم يتمكّن منه لعذر أو لغير عذر فيجوز له الزيارة في البيت و غيره.

ثمرات القولين:

تظهر الثمرة في موارد نذكر منها ما يلي:

ص:151

1. إذا ترك الواجب في وقته قطعاً، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ يجب على القول الثاني دون الأوّل، كما إذا لم يخرج الفطرة في وقتها المحدد، أو تساهل في صلاة الخسوف و الكسوف حتّى انجلى النيران، فهل يجب القضاء أو لا؟ 2. إذا أتى بالواجب و لكن شكّ في صحّة العمل لأجل الشكّ في الشرائط و عدمها على النحو التالي:

أ. إذا توضّأ في الظلمة بمائع مردد بين كونه ماء مطلقاً أو مضافاً فشكّ في صحّة العمل بعد خروج الوقت.

ب. إذا صلّى على جهة ثمّ شكّ بعد خروج الوقت انّها كانت إلى القبلة أو لا.

ج. إذا توضّأ أو اغتسل و الخاتم على اصبعه مع العلم بعدم تحريكه وقت العمل، فشكّ بعد خروج الوقت في جريان الماء تحته و عدمه.

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل كاف في إيجاب القضاء، فالعلم بالقضاء و إن لم يكن موجوداً في الصور الثلاثة، لكن على القول بهذا الأصل ينقلب الشكّ في المقام، إلى الشكّ في أصل الامتثال الذي يعبّر عنه بالشكّ في السقوط حيث بعد خروج الوقت يشكّ في أنّه هل امتثل ما علم اشتغال ذمته به، يقيناً أو لا، و بما انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، يحكم العقل بلزوم الاشتغال في حالة الشكّ.

و أمّا لو قلنا بأنّ الأمر الأوّل غير كاف في إيجاب القضاء فلا يجب شيء خارج الوقت، لأنّه لو علم قطعاً بعدم الامتثال في الوقت فلا يجب القضاء عليه خارج الوقت، فكيف إذا شكّ في الامتثال؟ فعدم وجوب شيء بطريق أولى.

فإن قلت: المشهور عدم العبرة بالشكّ بعد خروج الوقت، فلما ذا لا يكون

ص:152

هو المرجع بعد خروجه في هذه الصور الثلاث؟ قلت: إنّ القاعدة المزبورة راجعة إلى الشكّ في أصل الإتيان، فلا يعتد به خارج الوقت، و أمّا المقام فالشكّ إنّما هو في صحّة العمل المأتي به لا في إتيانه.

فإن قلت: إنّ مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة العمل، و عليها، فالوضوء في الصورة الأُولى و الثالثة محكوم بالصحة، مثل الصلاة في الصورة الثانية.

قلت: سيوافيك في محلّه انّ القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حتى لا يكون حال العمل و حال الشكّ سيّان من حيث التذكر و عدمه، و أمّا المقام فالحالتان متساويتان من حيث التذكر بشهادة انّه لو نبّهه إنسان حال العمل، و سأله عن إطلاق الماء و عدمه، أو جريان الماء تحت خاتمه و عدمه أو كون الجهة قبلة أو لا، لأجاب بالشك و عدم الترجيح بواحد من الطرفين، و مثله لا يكون مجرى للقاعدة، لأنّ المتيقّن منها ما يكون حال العمل أذكر من حال الشكّ كما في روايات الباب، فلاحظ.

ص:153

الفصل الثاني عشر الأمر بالأمر بفعل هل هو أمر بنفس الفعل؟

اشارة

إذا أمر المولى فرداً، ليأمر فرداً آخر بإنجاز فعل، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضاً أو لا؟ و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا أمر سبحانه نبيّه أن يأمر الأُمّة بغضِّ الأبصار عن النساء الأجنبيات و قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )(1)، هل ينحصر أمره سبحانه في الأمر بالنبي فقط، أو يسري أمره إلى نفس الفعل، أعني: غضّ البصر؟ 2. إذا أُمر أولياءُ الصبيان بأمرهم بالصلاة، فهل يتلخص أمر الشارع في الأمر بالأولياء أو يسري إلى نفس الفعل أي الصلاة أيضاً، فعندئذ تصبح صلاتهم، شرعية؟ 3. إذا أمر الوالدُ، الولدَ الأكبر بأمر الولد الأصغر ببيع الدار، فهل يكون

ص:154


1- النور: 30

الأصغر مأموراً من جانب الوالد أيضاً، أو لا؟ فلو باع الدار قبل أمر الولد الأكبر يكون بيعه صحيحاً لازماً أو لا؟ و الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في مقام الثبوت

إنّ للمسألة صوراً ثلاث في عالم التصوّر:

الف: إذا تعلّق غرض المولى بإنجاز الفعل و كان أمر المأمور الأوّل طريقاً للوصول إليه، على نحو لو كان المأمور الثاني حاضراً لدى المولى، لأمره بالفعل مباشرة.

ب: إذا كانت المصلحة قائمة بمجرّد أمر المأمور الأوّل للثاني منهما من دون أن يكون إنجاز الفعل مورداً للغرض، مثلاً إذا كان المأمور الثاني معروفاً بالتمرّد عن طاعة المولى، فيأمر المولى أحد ملازميه بالأمر لغرض أن يقوم بفعل كذا، فيكون تمام المصلحة قائماً بالإنشاء. و أمر المأمور الأوّل الثاني.

ج. إذا تعلّق الغرض بنفس الفعل لكن بعد أمر المأمور الأوّل فيكون كلا الشيئين متعلّقين للغرض.

فعلى الأوّل، يكون الأمر بالأمر، أمراً بنفس الفعل، دون الصورتين الأخيرتين، و ذلك لأنّ الأمر الثاني إمّا تمام الموضوع كما في الصورة الثانية، أو جزءه كما في الصورة الثالثة، فلا يصحّ القيام بالفعل قبل ثبوت الموضوع كلّه أو جزؤه.

ثمرات المسألة
الثمرة الأُولى: إذا أمر الولي الصبي بالصلاة، فهل تكون الصلاة مأموراً بها للآمر الأوّل، أو ينحصر مفاد أمره بنفس الأمر بالثاني؟
اشارة

مثلاً ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه قال:» إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين،

ص:155

فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين «فالحديث يدلّ على أنّه سبحانه أمر الأولياء بأمر الصبيان بالصلاة في سنين خاصّة، فلو قلنا بأنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بنفس ذلك الشيء تقع صلاة الصبي متعلقاً بأمره سبحانه فتصبح صلاته و صومه، شرعية يُكتفى بصلاتهم و صيامهم عند النيابة عن الغير كما يجوز الاقتداء بهم، إلى غير ذلك من آثار الصحة، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّه ليس أمراً بالفعل، بل أمر بالأمر فقط، فلا يترتّب عليها آثار الصلاة الشرعية.

و الظاهر هو الأوّل فانّ المتبادر عرفاً في هذه المواضع انّ أمر المولى طريق إلى قيام الصبي بالصلاة، فلو قام بها من دون أمر الآمر الثاني لكان مثل ما إذا قام بعد أمره، و هذا يكشف عن عدم مدخلية أمره، فيكون أمره بالأمر أمراً بذلك الشيء.

كما أنّ أمر الإمام أولاده بالصلاة، طريقي لا موضوعي، فأولاد الإمام في خمس سنين، و أولاد غيره في سبع سنين مأمورون شرعاً، بأمر غير إلزامي لإتيان الصلاة.

و ربّما تردّ الثمرة بأنّه لا حاجة في إثبات شرعية عبادات الصبي، إلى هذه القاعدة المتمثلة في هذه الرواية لوجود روايات كثيرة في هذا المورد حيث حكم عليهم بالأمر بالعبادات المحمول على الاستحباب في سنين خاصة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من إثبات المطلب من طريقين، أحدهما ما أُشير إليه في الروايات، و ثانيهما هذه القاعدة.

ص:156


1- الوسائل: 6، الباب 29 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 141.
إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على شرعيّة عبادات الصبي بالعمومات الواردة في الكتاب و السنة الشاملة للبالغ و الصبي، غاية الأمر انّ حديث الرفع) رفع القلم عن ثلاثة،... الصبي حتّى يحتلم (رفع الإلزام لا أصل الحكم و لا أصل المحبوبية، لانّه حديث امتنان و لا امتنان في رفع الحكم غير الإلزامي، فتكون عباداته شرعية.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّ القول بشمول الخطاب و العمومات لكلّ مميّز، سواء أ كان بالغاً شرعياً أم لا، خرق للسنّة السائدة بين الأُمم و العقلاء، فانّ مصبّ القوانين بين العقلاء في عامّة الحضارات هم البالغون لا غيرهم و إن كانوا مختلفين في حدّ البلوغ و لم يثبت انّ للشارع طريقة خاصّة تخالف طريقتهم.

و بعبارة أُخرى: انّ تعيين نصاب خاص لشمول القانون في المجتمعات الإنسانية بلا فرق بين الدينية و غيرها لقرينة على أنّ التشريع الإسلامي كسائر التشريعات، رهن الوصول إلى ذلك النصاب غير أنّ الشارع قد حدّد النصاب و لم يفوضه إلى العرف و العقلاء و لكنّه لا يكون مانعاً، عن انصراف العمومات و الخطابات إلى البالغ ذلك النصاب.

فإن قلت: إذا كان غير البالغ غير مشمول للحكم، فما معنى» رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم «، فانّ الرفع فرع الثبوت.

قلت: إنّ استعمال الرفع و إن لم يكن الحكم ثابتاً لأجل قابلية المميّز

ص:157


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/424، المسألة 2; حقائق الأُصول: 1/342.

للحكم عليه بشيء من الأحكام، نظير رفع الحكم عن النائم بل في المجنون أيضاً بإلزام الولي بمراقبته، فوجود المقتضي للإيجاب، صار مصحّحاً للاستعمال.

2. انّ المنشأ هو البعث نحو المطلوب و هو أمر بسيط دائر أمره بين الوجود و العدم و ليس أمراً مركباً من أصل الحكم و الإلزام حتى يرفع الثاني و يبقى الأول.

الثمرة الثانية الثمرة الثانية ما مرّ في صدر البحث

من أنّه لو أمر الوالد ولده الأكبر، بأمر الولد الأصغر، ببيع الدار، فاطّلع الولد الأصغر قبل أمر الأكبر فباعه، فلو قلنا بأنّ مثل هذا الأمر، أمر بنفس الفعل يكون البيع صحيحاً لازماً دون ما لم نقل فيكون بيعاً فضوليّاً.

ص:158

الفصل الثالث عشر الأمر بعد الأمر تأكيد أو تأسيس

إذا أمر المولى بشيء، ثمّ أمر به ثانياً، فهل هو تأكيد للأمر الأوّل، أو إيجاب ثان غير الإيجاب الأوّل و يعبّر عنه بالتأسيس؟ هنا صور:

1. إذا قيّد الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدد، كما إذا قال: صلّ، ثمّ قال: صلّ صلاة أُخرى.

2. إذا كان السبب للأوّل، غيره للثاني، كما إذا قال: إن ظاهرت فاعتق، و إن أفطرت عمداً فاعتق.

3. إذا كان أحد الأمرين خالياً عن ذكر السبب و الآخر محفوفاً بذكر السبب فقط كما إذا قال: توضّأ، ثمّ قال: إذا بُلت فتوضّأ.

4. إذا كان كلّ من الأمرين خالياً من ذكره.

لا إشكال انّ الأمر الثاني في الصورة الأُولى يحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب، و تعدد الواجب، لمكان قيد» أُخرى «، و أمّا الصورة الثانية فيحمل على التأسيس أي تعدد الوجوب، و أمّا تعدد الواجب أي العتق و عدمه فهو مبني على ما سيأتي في باب المفاهيم من التداخل في المسببات أو لا، و انّه هل يمكن

ص:159

امتثال وجوبين، بفعل واحد أو لا؟ و أمّا الصورتان الباقيتان، فإطلاق المادة و عدم تقييدها بقيد» أُخرى «يقتضي الحمل على التأكيد، لامتناع تعلّق الوجوبين الكاشف عن الإرادتين، بشيء واحد، لأنّ تشخّص الإرادة في لوح النفس بالمراد فلا يعقل التعدد فيها مع وحدة المشخِّص، هذا حول المادة، و أمّا الهيئة فربما يقال بأنّها ظاهرة في التأسيس أي تعدد الوجوبين.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر بعد الأمر ظاهر في تعدد الطلب، و أمّا إنّه طلبُ تأسيس أو طلبُ تأكيد فلا ظهور له في واحد منهما، فيؤخذ بإطلاق المادة و انّ الموضوع هو نفس الوضوء الآبي عن تعلّق إرادتين به و تكون النتيجة هي التأكيد.

تمّ الكلام في المقصد الأوّل) الأوامر ( و حان البحث في المقصد الثاني) النواهي (

ص:160

المقصد الثاني في النواهي و فيه فصول:

اشارة

الفصل الأوّل: في مادة النهي و صيغته الفصل الثاني: في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين الفصل الثالث: في كشف النهي عن الفساد و عدمه و فيه مقامان:

الأوّل: كشف النهي في باب العبادات، عن الفساد الثاني: كشف النهي في باب المعاملات عن الفساد

ص:161

ص:162

الفصل الأوّل في مادّة النهي و صيغته

اشارة

أسقط المحقق الخراساني البحث في مادّة النهي مع أنّها مثل مادة» الأمر «قابلة للبحث فيها من جهات شتّى على ضوء ما مرّ في مادة الأمر و خصَّ البحث بصيغة النهي التي تمثّلها لفظة» لا تفعل «مكان » افعل «في جانب الأمر، كما أسقط كثيراً من المباحث التي خاض فيها في صيغة الأمر نظير: دلالتها على الحرمة و عدمها، و اشتراط العلو أو الاستعلاء و عدمهما، و ظهورها في النفسي العيني التعييني و عدمه، و دلالتها على الفور و التراخي و عدمه، إلى غير ذلك من المباحث، و إنّما ركّز في المقام على الأُمور التالية:

1. انّ مفاد هيئة النهي هو الطلب.

2. انّ متعلّق الطلب، هو الترك لا الكف عن الفعل.

3. انّ النهي لا يدل على الدوام، غير أنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع أفرادها.

4. إذا خالف النهي فهل يدلّ على إرادة ترك المتعلّق ثانياً أو لا؟ و إليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

ص:163

الف: مفاد الهيئة

ادّعى المحقّق الخراساني بأنّ مفاد الهيئة في كلا الموردين هو الطلب، غير أنّه يتعلّق في الأمر بالوجود و في النهي بالعدم.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض و المتبادر منهما غير الطلب، بل الهيئة في الأمر و النهي تدل على البعث أو الزجر، حيث إنّ الصيغة تقوم مكان البعث أو الزجر بالفعل، فانّ الإنسان يبعث غلامه بحركة الرأس و يزجره بالإشارة باليد، فقام الأمر بالصيغة، مكان البعث بالرأس، و النهي بالصيغة مكان الزجر باليد.

ب: متعلّق الطلب

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المتعلّق في الأوّل هو الوجود و في الثاني هو العدم.

لكنّه خلاف التحقيق، لأنّ الصيغة مركّبة من هيئة و مادة، و المادة لا تدلّ إلاّ على نفس الطبيعة، فأين الدال على الوجود و العدم؟ نعم البعث أو الزجر، لغاية الإيجاد، أو الاستمرار على الترك و كون شيء غاية شيء، غيرُ كونه مأخوذاً فيه و بذلك يسقط البحث عن كون المتعلّق هو الترك أو كف النفس، و ما حولهما من النقض و الإبرام.

ج: عدم دلالتها على الدوام

ذكر المحقّق الخراساني بأنّ الصيغة لا تدلّ على الدوام و التكرار، غير أنّ إيجاد الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد، و عدمها لا يكون إلاّ بعدم الافراد.

ما ذكره) قدس سره (و نسبه إلى أنّه مقتضى العقل، منظور فيه، بل مقتضى العقل انّ

ص:164

الإيجاد و الإعدام على نسق واحد، لما حُقِّق في محلّه من أنّ الطبيعة تتكثّر حسب تكثّر الأفراد فزيد إنسان تام، و بكر إنسان آخر، و كلّ حائز تمام الإنسانية، و نسبة الطبيعة إلى الافراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا الأب الواحد بالنسبة إليهم، فإذا كانت الطبيعة متعددة الوجود حسب تعدد الأفراد، تكون متعددة العدم كذلك.

نعم ما ذكره صحيح عرفاً، فلا تكون الطبيعة معدومة عنده إلاّ بانعدام جميع الأفراد، فلو نهى عن السرقة و شرب الخمر و الغيبة، فلا يصدق ترك الطبيعة إلاّ بترك جميع أفرادها و ذلك لمناسبات مغروسة في ذهن المكلّف من أنّ النهي عن الشيء لغاية المفسدة الملزمة في كلّ فرد، فلا يتحقّق الغرض الغائي الاجتناب عن المفسدة إلاّ بترك جميع الأفراد.

د. إذا خالف النهي

إذا خالف النهي، فهل يدل على لزوم تركه ثانياً أو لا؟ و الظاهر عدم الدلالة لسقوط النهي بالعصيان، و لزوم امتثاله ثانياً يتوقف على الدليل، بل إطلاق المتعلّق يدل على العدم، و إلاّ لكان على المولى أن يقيّد و يقول: و إن عصيت فلا تفعل أيضاً.

ص:165

الفصل الثاني في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد باعتبار عنوانين

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:
الأوّل: الفرق بين الاجتماع الآمري و الاجتماع المأموري

إنّ الأمر و النهي من المفاهيم ذات الإضافة، فللأمر إضافة إلى الآمر، و إضافة إلى المأمور به، و إضافة إلى المأمور، كما أنّ النهي له إضافة إلى الناهي أوّلاً، و إلى المنهيّ عنه ثانياً و إلى المنهيّ ثالثاً، فعندئذ فهنا صور ثلاث:

1. لو اتّحد الآمر و المأمور، و الناهي و المنهي في زمان واحد، و كان بين المأمور به و المنهي عنه، من النسب التساوي كأن يقول: أخرج من البيت في ساعة خاصّة و لا تخرج منه في نفس الساعة، يسمّى الاجتماع آمريّاً، فإنّ الآمر هو السبب لاجتماع الأمر و النهي في شيء واحد في زمان واحد، و يكون من قبيل التكليف المحال، إذ لا ينقدح في ذهن الإنسان، في زمان واحد إرادتان متضادتان طلبُ الخروج و عدمُه فهذا النوع من الطلب تكليف محال من شخص واحد في زمان واحد بدل كونه تكليفاً بالمحال حيث إنّ عدم إمكان امتثاله يرجع إلى عدم

ص:166

القابلية في ناحية المكلّف به قبل أن يرجع إلى قصور قدرة المكلّف، حيث لا يمكن الجمع بين الوجود و العدم.

نعم لو رجع عدم إمكان الامتثال إلى قصور قدرة المكلّف، مع كون المكلّف به في نفسه أمراً ممكناً كما إذا قال: انقذ الغريقين مع عدم قدرته إلاّ على إنقاذ أحدهما، يكون من قبيل التكليف بالمحال، و إن كان مرجع ذلك عند الدقّة أيضاً إلى التكليف المحال، لانّ المكلِّف إذا وقف على قصور قدرة المكلَّف كيف ينقدح في ذهنه إرادة إنقاذ الغريقين؟ لكن القضية شكلاً و صورة من قبيل التكليف بالمحال، و حقيقة و مآلاً من قبيل التكليف المحال.

2. تلك الصورة و لكن كانت النسبة بين المأمور به و المنهي عنه، هي التباين كما إذا أمر بالصلاة و نهى عن النظر إلى الأجنبية، فهذا من الإمكان بمكان و لا يعدّ من باب الاجتماع حتّى لو نظر إليها حين الصلاة، لا توصف الصلاة به، لأنّ النظر قائم بالعين و الصلاة قائمة بسائر الجوارح.

3. نفس الصورة الأُولى و لكن كانت النسبة بين المأمور به و المنهي عنه، عموماً و خصوصاً من وجه، كما إذا أمر بالصلاة و نهى عن الغصب، فيقع الكلام في أنّه هل يصحّ للمولى أن يأمر بالأُولى على الإطلاق و ينهى عن الغصب كذلك أو لا يصح؟ اختلف الأُصوليون على قولين:

1. يجوز، لانّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فيخرج عن كونه تكليفاً محالاً، كما هو واضح، أو تكليفاً بالمحال، لأنّ له المندوحة في إقامة الصلاة في غير المغصوب.

2. لا يجوز، لأنّ مفاد الإطلاق في الدليلين عبارة: صل و لو في الدار المغصوبة، و لا تغصب و لو في حال الصلاة، و لو أخذنا بكلا الإطلاقين يكون

ص:167

الشيء الواحد الصلاة في الدار المغصوبة متعلّقاً للأمر و النهي و يكون من قبيل الاجتماع الأمري.

فقد ظهر ممّا ذكر انّ محل النزاع هو الصورة الثالثة، و انّ أساس النزاع بين المجوّز و المانع هو كفاية اختلاف المتعلّقين في توجّه الأمر و النهي، و عدم كفايته، لأنّ مرجع الأخذ بالإطلاقين إلى الاجتماع الأمري و كون الشيء الواحد في مورد الاجتماع متعلّقاً للأمر و النهي فلاحظ.

الثاني: هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟

هل النزاع في المسألة صغروي كما ذهب إليه صاحب الكفاية أو كبرويّ كما هو اللائح من الكتب الأُصولية حيث يبحثون عن جواز الاجتماع و عدمه و لكلّ من القولين، وجه.

أمّا كونه صغروياً فمن اعتمد كالمحقّق الخراساني في إقامة الدليل على الجواز و عدمه، على أنّ تعدد العنوان كالصلاة و الغصب يوجب تعدد المعنون كالحركة في الدار المغصوبة أو لا يوجب، جعل النزاع صغروياً و انّه هل هنا اجتماع أو لا؟ و ذلك لأنّه لو قلنا بأنّ تعدّد العنوان، لا يحدث تعدّداً في المعنون، يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، و لو قلنا: إنّ تعدّده يحدث تعدّداً في المعنون، و انّ كلاً من الصلاة و الغصب موجود بوجود خاص لا يلزم اجتماعهما في شيء واحد.

و يقرب من ذلك نظرية المحقّق النائيني حيث إنّه بنى الجواز و عدمه في المسألة على أنّ تركيب المادة و الصورة، أو تركيب المقولات بعضها مع بعض، تركيب انضمامي أو اتّحادي، فعلى الأوّل يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي فلا

ص:168

يلزم الاجتماع، و على الثاني تلزم وحدة متعلّقهما فيلزم الاجتماع.

و بالجملة من بنى الجواز و عدمه على قضية» تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، أو لا «أو انّ تركيب المقولات بعضها مع بعض تركيب انضمامي أو اتّحادي، فقد جعل النزاع صغروياً، فالمجوز ينفي الاجتماع، و المانع يثبته.

لكن جعل النزاع صغروياً، يلازم القول بأنّ الأوامر و النواهي تتعلّق بالأفراد الخارجية، مع أنّ المعروف بينهم حتّى المحقّق الخراساني انّها تتعلّق بالطبائع دون الافراد إذا فسّرت الأفراد، بالمصاديق الخارجية، و ذلك لأنّ الخارج ظرف لسقوط الأمر لا ثبوته، و لا محيص عن القول بكون النزاع كبرويّاً و انّ مصب النزاع عبارة عن الأمر التالي:

هل يجوز الأمر بشيء، و النهي عن شيء آخر، مع تصادقهما على مورد واحد، أو لا؟ فالقائل بالجواز يقول: إنّ متعلّق الأمر هو حيثية الصلاتية، و متعلّق النهي هو الحيثية الغصبية، فالمتعلّقان مختلفان، و تصادقهما على مورد لا يكون مانعاً عن حفظ الأمر و النهي المتعلّقين بشيئين مختلفين فيجوز اجتماع الأمر و النهي في المقام.

و القائل بالامتناع يقول: إنّ متعلّق الأمر و النهي و إن كان مختلفاً حقيقة، لكن حفظ إطلاق الدليلين، يستلزم وحدة متعلّق الأمر و النهي في النهاية، و ذلك لأنّ مقتضى إطلاق» اقم الصلاة «هو وجوب إقامة الصلاة في عامّة الأماكن حتّى المكان المغصوب، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله:» لا تغصب «هو تحريمه مطلقاً حتّى في الحالة الصلاتية، فلو صلّى في مكان مغصوب يلزم أن يكون العنوان الكلي) الصلاة في الدار المغصوبة (متعلّقاً للأمر و النهي بحكم حفظ الإطلاقين، فيرجع الاجتماع المأموري إلى الاجتماع الأمري لاتّحاد الآمر و الناهي، و المأمور و المنهي، و المأمور به و المنهي عنه فلا يجوز هذا النوع من الأمر و النهي.

ص:169

الثالث: ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

العنوان المعروف للمسألة هو قوله: هل يجوز اجتماع الأمر و النهي في واحد أو لا؟ فقد وقع الكلام في تعيين المراد من» الواحد «في التعريف.

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ المراد هو الأعم من الواحد الشخصي و النوعي و الجنسي و قال: المراد منه مطلق ما كان ذا وجهين و مندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر، و بالآخر مورداً للنهي فيعم الواحد الشخصي الذي له عنوانان كالصلاة في الدار المغصوبة، و الواحد النوعي مثل عنوان» الصلاة في المغصوب «و الواحد الجنسي كالحركة المعنونة بالصلاتية و الغصبية و أضاف فخرج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر و النهي و لكن لم يجتمعا وجوداً و لو اجتمعا مفهوماً كالسجود للّه و السجود للصنم.

يلاحظ عليه: أنّ لازم ذلك إرادة معنيين من لفظ الواحد، فتارة أُريد به مطلق الواحد، ليشمل الواحد الشخصي و النوعي و الجنسي، و أُخرى أُريد به الواحد الشخصي فقط ليخرج السجود للّه و السجود للصنم، حيث لا يجتمعان وجوداً في مصداق واحد.

و الأولى أن يقال: انّ المراد من الواحد هو الواحد الشخصي فقط، و يرجع النزاع إلى أنّ اجتماع العنوانين في واحد شخصي و تصادقهما عليه، هل يمنع من الأخذ بالإطلاقين في الأمر و النهي معاً فيكون الحقّ مع الامتناعي، فعندئذ لا محيص من الأخذ بأحد الإطلاقين، إمّا الأمر بالصلاة، أو النهي عن الغصب ففي مورد الصلاة في الدار المغصوبة، إمّا أمر و لا نهي، أو نهي و لا أمر أو لا يمنع فيكون الحقّ مع الاجتماعي.

ص:170

الرابع: ما هو الفرق بين المسألتين؟
اشارة

اختلفت كلمتهم في بيان الفرق بين هذه المسألة، و ما سيوافيك من البحث في دلالة النهي عن العبادات و المعاملات، على الفساد و عدمها، ففي بيان ما هو الفارق أقوال:

1. التمييز بالغرض

انّ الجهة المبحوث عنها في المسألتين هي التي تميّز إحدى المسألتين عن الأُخرى، فانّ الجهة المبحوث عنها في المقام عبارة عن كون تعدد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا، فعلى القول بالتعدّد ترتفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد، لاستقرار كلّ حكم على موضوعه من دون سراية أحد الحكمين إلى موضوع الحكم الآخر، و على القول بعدم التعدّد، يتحد متعلّق كلّ من الأمر و النهي، فيسري كلّ حكم إلى متعلّق الحكم الآخر، فيعود البحث إلى السراية و عدمها تلو القول بأنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ هذه من الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة، بخلاف الجهة المبحوث عنها في الأُخرى فانّها بعد تسليم توجّه النهي إلى العبادة يقع الكلام في كون النهي موجباً للفساد أو لا، فجهة البحث في الأُولى غيرها في الثانية.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تعدد الغرض يحكي عن وجود اختلاف جوهري بين المسألتين، إذ لا معنى لترتّب أثرين مختلفين على المسألتين مع عدم اختلافهما في الذات و الجوهر، و على ذلك فيحصل التمايز الجوهري قبل الغرض و الأثر.

و ثانياً: أنّ ما ذكره مبني على كون البحث في المسألة صغروياً و إنّ تعدّد

ص:171

العنوان هل يوجب تعدّد المعنون، حتّى يكون متعلّق الأمر غيره في النهي أو لا؟ فيكون مرجع البحث إلى أنّه هل هنا اجتماع أو لا؟ و لكنّك عرفت أنّ البحث في المقام كبروي و انّ البحث إنّما هو في جواز الأمر بشيء و النهي عن شيء آخر، متصادقين على مصداق واحد و عدمه، و مرجع البحث إلى جواز الاجتماع و عدمه بعد تسليم أصل الاجتماع في مصداق واحد لا أصل الاجتماع و عدمه.

2. التمييز بالموضوع

ذهب صاحب الفصول إلى أنّ المسألتين تتميّزان بالموضوع ذكره عند البحث عن دلالة النهي المتعلّق بالعبادة، على الفساد أو لا و حاصل ما ذكره هو انّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو فيما إذا تعلّق الأمر و النهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة، سواء أ كان بينهما عموم و خصوص من وجه كما إذا قال:

صلّ و لا تغصب، أو عموم و خصوص مطلق كما إذا قال: أكرم الناطق، و لا تكرم الشاعر، و على كلّ تقدير، فالموضوعان متغايران مفهوماً، و أمّا النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد و عدمه، ففيما إذا كان الموضوعان متّحدين حقيقة مختلفين بالإطلاق و التقييد، كما إذا قال: صلّ، و لا تصلّ في الحمام.

يلاحظ عليه: بأنّه لو انحصر وجه التمايز بين المسألتين بالتمايز في الموضوع لتوجّه إليه، ما أورده المحقّق الخراساني عليه، و حاصله: انّه لو كانت الجهة المبحوث عنها متعددة فلا بدّ من عقد مسألتين و إن كان موضوعهما واحداً، و إن كانت الجهة المبحوث عنها واحدة فلا بدّ من عقد مسألة واحدة و إن كان الموضوع متعدّداً، فلا دور لوحدة الموضوع و تعدّده.

ص:172

3. التمييز بالموضوع و المحمول

إنّ المسألتين تتميّزان موضوعاً و محمولاً، أمّا الأوّل فقد عرفته في كلام صاحب الفصول، و أما الثاني فلأنّ المحمول في المقام جواز الاجتماع و عدمه، و في مسألة النهي عن العبادة، هو دلالة النهي على الفساد و عدمه، و مع الاختلاف الجوهري بين المسألتين في جانب الموضوع و المحمول، لا وجه اشتراك بينهما حتّى يُسأل عن جهة افتراقهما.

نعم لو قلنا في المقام بالامتناع و انّه لا بدّ من حفظ أحد الحكمين فقدّمنا النهي على الأمر، يكون المورد من صغريات المسألة الآتية في دلالة النهي على الفساد وضعاً أو لا.

4. التمييز بكون البحث عقلياً

الفرق بين المسألتين هو انّ ملاك البحث في المقام عقلي حيث يبحث في جواز الاجتماع و عدمه عقلاً، و في المسألة الآتية لفظي حيث يبحث في دلالة النهي على الفساد لفظاً.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ البحث هناك لا يختصّ باللفظ، بل يعمّ ما إذا كان الدالّ عليه، هو الدليل اللّبي كالعقل و الإجماع، انّ مثل هذا الاختلاف لا يصير سبباً لتعدّدها، لأنّ اختلاف طريق إثباتها لا يجعل المسألة الواحدة، مسألتين.

الأمر الخامس: المسألة أُصولية
اشارة

اختلفت كلمة علماء الأُصول في حقيقة هذه المسألة إلى أقوال:

ص:173

1. مسألة أُصولية، 2. مسألة كلامية، 3. من مبادئ الأحكام، 4. مسألة فقهية، 5. من المبادئ التصديقية.

و إليك تبيين هذه الأقوال مع نقدها.

1. المسألة أُصولية

المشهور انّ هذه المسألة مسألة أُصولية لوجود ملاكها فيها و هو صحّة وقوع نتيجتها كبرى للاستنباط، فانّها على القول بجواز الاجتماع يُستنبط منها صحّة الصلاة، كما أنّها كذلك على القول بالامتناع مع تقديم جانب الأمر، و أمّا على القول بالامتناع و تقديم جانب النهي فيترتّب عليه الفساد.

هذا و لو قلنا بأنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه، فالمسألة أُصولية أيضاً لما عرفت من أنّ البحث عن العوارض التحليلية بحث عن عوارض الموضوع، و المراد من العوارض التحليلية هو تعيّنات الموضوع و تشخّصاته.

فانّ الفقيه عالم بوجود الحجّة بينه و بين ربّه و لكن لا يعلمها على وجه التحديد، فالبحث في علم الأُصول بحث عن تعيّن الحجّة بخبر الواحد و نظائره، و مثله المقام فالكلام في تشخيص ما هو الحجّة عند اجتماع الأمر و النهي فهل هناك حجّتان أو حجّة واحدة؟ و على الثاني فهل هي الأمر بالصلاة أو النهي عن الغصب؟

الإشكال على كون المسألة أُصولية

و قد أورد المحقّق النائيني على كون المسألة أُصولية بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على مجرّد القول بالامتناع، بل القول بالامتناع يوجب دخول دليلي الوجوب

ص:174

و الحرمة في باب التعارض و إجراء أحكام التعارض عليهما. و يستنبط من ذلك حكم فرعي.(1)

توضيحه: انّ القول بالامتناع لا يكفي في إثبات فساد العبادة، بل يتوقّف على أمر آخر و هو إعمال المرجّحات بتقديم جانب النهي على الأمر، فعند ذلك تفسد العبادة أخذاً بأحد الدليلين و رفض الآخر، فظهر انّ فساد العبادة ليس نتيجة مباشرة للقول بالامتناع، بل لا بدّ بعد القول به من إعمال قواعد التعارض و تقديم جانب النهي على جانب الأمر.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ كون المسألة أُصولية ليس رهن ترتّب الأثر على كلتا الصورتين: الإثبات و النفي، بشهادة انّ حجّية خبر الواحد مسألة أُصولية يترتّب الأثر على واحد من طرفي القضية و هو كونه حجّة دون عدمها. و على ذلك فيكفي في عدّ المسألة أُصولية ترتّب أثر الصحة على القول بالاجتماع و إن لم يكن على القول بالامتناع أثر شرعي حسب افتراضه.

و ثانياً: لا يشترط في كون المسألة أُصولية أن تكون المسألة سبباً تامّاً لاستنباط الحكم الشرعي، بل ربّما يتوقّف استنباط الحكم الشرعي على ضم مسألة أُخرى إلى المسألة الأُولى حتّى يستنبط منها الحكم الشرعي و ذلك كحجّية خبر الواحد التي لا يستنبط منها الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها مسألة أُخرى باسم حجّية الظواهر.

و على ذلك فلا مانع من جعل المسألة أُصولية و ان توقّف ترتّب الأثر على القول بالامتناع على إعمال قواعد التعارض.

و ثالثاً: أنّ المتبادر من كلام المحقّق النائيني انّ المسألة من باب التزاحم على

ص:175


1- أجود التقريرات: 1/334; فوائد الأُصول: 1/399.

القول بالاجتماع، و من باب التعارض على القول بالامتناع، و لكنّه رأي شاذ فإنّ الظاهر من الأُصوليين انّه على القول بالاجتماع لا تزاحم و لا تعارض، و أمّا على القول بالامتناع فهناك تزاحم لا تعارض، و لأجل ذلك يجب أن يلجأ الامتناعي إلى إعمال مرجّحات باب التزاحم لا التعارض، و سيوافيك شرحه عند البحث عن الأمر الثامن للمحقّق الخراساني.

2. مسألة كلامية

إنّ المسألة كلامية، لأنّ الأمر و النهي من الأُمور الواقعية، فالبحث هو عن جواز اجتماعهما و امتناعه.

و أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ علم الكلام هو العلم المتكفّل لبيان حقائق الأشياء من واجباتها و ممكناتها و ممتنعاتها، و ليس البحث في المقام عن جواز الاجتماع و امتناعه، بل البحث عن وجود الاجتماع و عدمه.(1)

و لا يخفى ضعف الاستدلال و الإشكال.

أمّا الأوّل: فلأنّ علم الكلام، هو العلم الباحث عن ذاته سبحانه، و صفاته و أفعاله، حتّى أنّ البحث عن النبوّات العامّة و الخاصّة و الإمامة و المعاد، بحث عن أفعاله سبحانه، و انّه هل يجب عليه بعث الأنبياء، أو نصب الإمام أو احياء المكلّفين للجزاء أو لا؟ و أمّا البحث عن الجواز و الامتناع كما في كلام المستدل، أو البحث عن حقائق الأشياء من واجباتها و ممكناتها و ممتنعاتها كما في كلام المستشكل فلا صلة لهما بعلم الكلام.

و لو أردنا جعلها في عداد المسائل الكلامية لوجب تغيير عنوان المسألة بأن

ص:176


1- فوائد الأُصول: 1/399.

نقول: هل يجوز على اللّه أن يأمر بعنوان و ينهى عن عنوان آخر، متصادقين في أمر واحد أو لا؟ و لكن الملاك في عدّ المسألة من مسائل علم ما، هو العنوان الموجود في الكتب لا المحرّف منه.

3. من مبادئ الأحكام

و ربّما يظهر من بعض الأُصوليين انّها من مبادئ الأحكام حيث يبحث فيها عن أحوال الأحكام الخمسة و أوصافها، فيبحث عن إمكان اجتماع الوجوب و الحرمة في شيء واحد أو لا، و انّه هل هناك مطاردة بين الوجوب و الحرمة أو لا؟ و أورد عليه المحقّق الخوئي: بأنّ مبادئ الأحكام راجعة إلى المبادئ التصوّرية أو المبادئ التصديقية، و ذلك لأنّه إن أُريد تصوّر نفس الأحكام كالوجوب و الحرمة و نحوهما فهو من المبادئ التصورية) لعلم الفقه (، لأنّه لا يعني من المبادئ التصورية إلاّ تصوّر الموضوع و المحمول) و هنا الأخير (.

و إن أُريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه، و علم الأُصول كلّه مبادئ تصديقية لعلم الفقه، و بفضل هذه المسألة نجزم بحكم الصلاة في الدار المغصوبة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ مبادئ الأحكام من مصطلحات القدماء في خصوص علم الفقه، و المراد منها لا هذا و لا ذاك، بل شيء ثالث و هو البحث عن ماهية الأحكام الخمسة و ملازماتها كالبحث في أنّ الوجوب و الاستحباب بسيطان أو مركبان، و البحث عن اقتضاء وجوب شيء وجوبَ مقدمته، أو حرمته حرمتَها، و في المقام يعود البحث إلى استلزام وجوب الشيء عدمَ حرمته أو بالعكس فيما إذا

ص:177


1- المحاضرات: 1794/178.

تصادق العنوانان في مورد واحد، فالبحث كلّه يرجع إلى الأحكام الخمسة بصور مختلفة، فلو كان علم الفقه باحثاً عن عوارض فعل المكلّف التي هي الأحكام الخمسة فالمبادئ الأحكامية تبحث عن حالات تلك العوارض التي تعرض فعل المكلّف.

نعم يلاحظ على صاحب النظرية انّ الملاك في جعل المسألة من باب هو عنوانها المعروف في الكتب، و ليس هو إلاّ جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، دون مطاردة الوجوب الحرمة أو بالعكس، فانّ البحث على هذا العنوان يوجب تغيير عنوان المسألة المعروفة من الكتب.

4. مسألة فقهية

و جعل بعضهم مسألة جواز الاجتماع أو الامتناع من المسائل الفقهية قائلاً بأنّ البحث يرجع إلى صحّة الصلاة و فسادها عند الإتيان بها في المكان المغصوب.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره نتيجة المسألة و ليس أصلها، و المحمول في المسألة جواز الاجتماع و عدمه لا صحّة الصلاة و فسادها.

على أنّ نتيجة البحث لا تختص بباب الصلاة، بل تعم الحجّ و الاعتكاف و غيرها.

5. من المبادئ التصديقية

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المسألة من المبادئ التصديقية، و قد ذهب إليه عند ما ردّ على أُصولية المسألة قائلاً: بأنّ فساد العبادة لا يترتّب على القول

ص:178

بالامتناع مباشرة، بل يجب أن ينضم إلى القول بالامتناع شيء آخر و هو فرض المورد من باب التعارض و إجراء أحكامه على العبادة، و يستنبط من الجميع حكم فرعي. و المسألة الأُصولية عبارة عمّا يستنبط بها حكم فرعي من دون حاجة إلى ضم نتيجتها إلى قاعدة أُخرى.

فإذن ليس للمسألة دور، إلاّ أنّ القول بالامتناع يحقّق موضوعاً للتعارض، كما أنّ القول بالاجتماع يحقق موضوعاً للتزاحم، و من المعلوم أنّ البحث عن أحكام التعارض و التزاحم مسألة أُصولية، لكن البحث عن وجود التعارض أو التزاحم بحث عن المبادئ التصديقية.(1)

فالإنصاف انّ البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية لرجوع البحث فيه إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض و التزاحم.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ تسمية هذه المسألة بالمبادئ التصديقية تسمية خاطئة، فانّها عبارة عن المقدّمات التي يتوقّف عليها الجزم بالنسب الموجودة في مسائل العلم، كشعر امرئ القيس في علم النحو حيث يثبت به القواعد النحوية، أو البراهين التي يتوقّف عليها إثبات النسبة في المسألة الهندسية ككون زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين.

فإذا كان هذا هو المراد من المبادئ التصديقية فليست هذه المسألة سبباً للإذعان بالنسب في المسائل الأُصولية، بل هي من المبادئ التصوّرية لإثبات وجود موضوع المسائل و هو انّ المقام على الاجتماع حسب فرضه من باب

ص:179


1- أجود التقريرات: 3341/333.
2- فوائد الأُصول: 1/400.

التزاحم، فعلى الفقيه أن يجري فيه قواعد التزاحم، و على الامتناع من باب التعارض فعليه أن يجري مرجّحات التعارض.

و بالجملة: فالتزاحم و التعارض من موضوعات المسائل الأُصولية حيث إنّ كل واحد منها موضوع لأحكام خاصّة فللتزاحم حكم و للتعارض حكم آخر.

فنتيجة البحث في المقام تنتهي إلى إثبات التزاحم أو التعارض في المقام و هما من موضوعات المسائل الأُصولية التي لهما من الأحكام و المرجّحات، و إثبات موضوع المسائل، يعد من المبادئ التصوّرية للعلم لا التصديقية.

و ثانياً: الظاهر أنّ القول بالاجتماع يخرج المسألة عن إطار التزاحم و التّعارض، و أمّا القول بالامتناع في المقام فيدخل المسألة في باب التزاحم لا التعارض، لأنّ المتزاحمين عبارة عمّا إذا كان مورد كلّ دليل مشتملاً على مصلحة ملزمة و المقام كذلك حيث نعلم بوجود المصلحة الملزمة في جانب الفعل أي الصلاة و وجود المفسدة الملزمة للترك لأجل الغصب، غير أنّ المكلّف بسوء الاختيار صار عاجزاً عن الجمع بين المصلحتين فأشبه بما إذا لم يتمكّن من إنقاذ الغريقين.

السادس: في عموم النزاع لأقسام الأمر و النهي

هل النزاع يختص بالايجاب و التحريم النفسيّين، العينيّين، التعيينيّين، أو يعم الغيريّين و الكفائيّين و التخييريّين؟ ذهب صاحب الفصول إلى الأوّل، و المحقّق الخراساني إلى الثاني.

لا شكّ انّ كلاً من مادّة الأمر و النهي، إذا أطلقت تنصرف إلى ما هو الشائع، أي النفسي العيني و التعييني، كما أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة في صيغة الأمر هو كذلك، لأنّ غيرها في مقام الإثبات يحتاج إلى بيان زائد، بخلافها، و قد مرّ

ص:180

توضيح ذلك في المقصد الأوّل عند البحث في دوران الصيغة بين هذه الاحتمالات.

إنّما الكلام في أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر و النهي، هل يختصّ بما إذا كان الإيجاب و التحريم نفسيين أو عينيين أو تعيينيين، أو يعمّها و مقابلاتها؟ الظاهر هو العموم، لوجود ملاك البحث في عامّة الأقسام، فالقائل بالامتناع يستدلّ بتضاد الوجوب و الحرمة تارة، و تضاد مبادئهما من الإرادة و الكراهة ثانياً، و إنّ تعدد العنوان، لا يوجب تعدد المعنون ثالثاً، و هذا النوع من الاستدلال جار في عامّة أقسام الأمر و النهي، كما أنّ القائل بالاجتماع يستدلّ بأنّ متعلّق الأمر و النهي متغايران و التصادق في مورد لا يضر بتعدّد المتعلّق في مقام الإنشاء، و الفعلية، من غير فرق بين أقسام الأمر و النهي، و لإيضاح الحال نأتي بمثالين:

1. إذا أمر المولى بالصلاة و الصوم تخييراً، و نهى عن التصرّف في الدار و مجالسة الأشرار كذلك، فالامتثال في جانب الأمر يحصل بإتيان واحدة منهما لكن المخالفة في جانب النهي تتوقف على مخالفتهما معاً، و على ذلك لو صلّى في نفس الدار مع مجالسة الأشرار، يقع الكلام في صحّة الصلاة و الحال هذه و عدمها.

نعم لو صلّى فيها مع عدم مجالستهم، أو صلّى في غيرها مع مجالستهم، أو صام فيها بلا مجالسة، أو صام مع المجالسة لكن في غيرها، فقد أتى بالواجب دون الحرام، لما عرفت من أنّ الحرام هو الجمع لا الواحد منهما.

2. إذا أمر بالوضوء أو الغسل أو التيمم للصلاة و نهى عن التصرّف في دار معيّنة، فتوضأ أو اغتسل أو تيمّم فيها يقع الكلام فيه كما في غيرها و الأمر بها غيري و لكن النهي نفسي.

ص:181

السابع: في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع و عدمه

هل يلزم أخذ عنوان المندوحة في عنوان النزاع أو لا يلزم؟ فيه أقوال:

1. عدم اعتباره في صحّة النزاع.

2. اعتباره فيه كما عليه صاحب الفصول.(1)

3. التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يعتبر، و كبروياً فيعتبر.

4. التفصيل بين كون الابتلاء بسوء الاختيار فلا يعتبر، و ما إذا حصل بدونه فيعتبر، وعليه المحقّق القمي في قوانينه.(2)

و الحقّ هو الأوّل: على القول بكون النزاع صغروياً، إذ لا دور لوجود المندوحة في أساس القولين، و هو انّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا؟ كما في تعبير المحقّق الخراساني، أو تركيب المقولات تركيب اتحادي أو انضمامي، كما في تعبير المحقّق النائيني.

و بعبارة أُخرى: هل الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية لأجل انّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لأجل تركيب المقولات، انضمامياً لا اتحادياً، أو لا؟ بناء على أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، أو تركيب المقولات، تركيب اتحاديّ، و الجزم بأحد الطرفين لا يتوقف على وجود المندوحة و عدمه في المورد، فسواء أ كان المكان منحصراً بالمغصوب أو متعدداً، فالعقل إمّا يحكم بالوحدة أو التعدد.

نعم فعلية النهي تتوقّف على وجود المندوحة حتى لا يلزم الأمر بالمحال، سواء أ كان هناك أمر أو لا، إذ لا يصلح النهي جداً عن المغصوب حتى يتمكّن

ص:182


1- الفصول: 126.
2- قوانين الأُصول: 541/53.

الإنسان من تركه فالمحبوس في مكان مغصوب، مأمور بالصلاة، و ليس منهيّاً عن الغصب فعلاً و إن كان منهيّاً عنه إنشاء.

و بعبارة أُخرى: انّ صاحب الفصول خلط بين مقام التكليف المحال، و التكليف بالمحال، فلو كان متعلّق الأمر نفس متعلّق النهي، يكون التكليف محالاً سواء أ كان هناك مندوحة أم لا، لاستحالة انقداح الإرادة و الكراهة في النفس مع وحدة المتعلّق.

و لو تجاوزنا عن ذلك المحذور و قلنا بتعدّد المتعلّق و كان التكليف ممكناً، يأتي الكلام في كون المكلّف به ممكناً، و عندئذ يشترط وجود المندوحة، و إلاّ فالتكليف و إن كان ممكناً، لكن المكلّف به يكون أمراً محالاً، لافتراض انحصار المكان بالمغصوب، و بذلك يظهر صحّة قول المحقّق الخراساني و ضعف قول صاحب الفصول.

و أمّا الثالث: أي التفصيل بين كون النزاع صغروياً فلا يشترط وجود المندوحة، و ذلك لما في كلام المحقّق الخراساني من أنّ ملاك النزاع، و صحته لا يتوقّف على وجود المندوحة، لأنّ البحث يرجع إلى أمر تكويني و بحث فلسفي فانحصار المكان في المغصوب و عدمه، لا يؤثر فيه.

و هذا بخلاف ما إذا كان البحث كبرويّاً فانّ تجويز اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد، باعتبار انطباق عنوانين عليه فرع وجود المندوحة و التمكّن من إقامة الصلاة في غير المكان المغصوب، و إلاّ فلو كان مضطرّاً فلا محيص من سقوط أحد الحكمين، إمّا وجوب الصلاة أو حرمة الغصب، فالتحفّظ على فعلية الحكمين يستدعي وجود المندوحة و السعة.

يلاحظ عليه: أنّ لزوم وجود المندوحة ليس من آثار اجتماع الحكمين

ص:183

الفعليين في مورد واحد، بل من آثار نفس النهي، سواء أ كان هناك اجتماع أم لا، إذ التكليف مطلقاً مجرّداً أو مقروناً بآخر يطلب لنفسه الاستطاعة و القدرة كسائر الشرائط العامّة، و مع عدمها، يصبح التكليف تكليفاً بالمحال.

و أمّا القول الرابع: الذي هو قول المحقّق القمي فسيوافيك الكلام فيه في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة.

الثامن: صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام
اشارة

قد مرّ في المقصد الأوّل أنّ في متعلّق الأوامر و النواهي قولين:

1. تعلّقها بالطبائع و المفاهيم المجردة عن كلّ قيد.

2. تعلّقها بالافراد.

و عندئذ يطرح السؤال التالي: النزاع في جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، هل يطرح على كلا القولين أو لا؟ و الجواب: هنا آراء و أقوال:

1. النزاع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و أمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا مجال للبحث بل يتعيّن الامتناع.

2. انّ القول بالجواز مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع، و القول بالامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

3. جريان النزاع على كلا الرأيين، و هذا مذهب المحقّق الخراساني، فلا القول بتعلّقها بالطبائع يلازم القول بالجواز، و لا القول بتعلّقها بالأفراد يلازم القول بالامتناع.

أمّا الأوّل: فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون، فالامتناع هو

ص:184

المتعيّن حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و ذلك لأنّ الطبيعتين و إن كانتا متغايرتين مفهوماً لكنّهما متحدتان وجوداً و خارجاً، فيلزم أن يكون الشيء الواحد متعلقاً بحكمين متضادين.

و أمّا الثاني: فلو قلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، فالجواز لا غبار عليه، حتى على القول بتعلّقها بالأفراد، و ذلك لأنّ الحكمين و إن تعلّقا بالفرد الخارجي لكنّه لمّا كان معنوناً بعنوانين يكون فرداً لكلّ من الطبيعتين، و مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد، و يكون بما انّه فرد لهذا العنوان متعلّقاً للوجوب، و بما انّه مصداق لعنوان آخر متعلّقاً للنهي، فهو على وحدته وجوداً يكون اثنين لكونه مصداقاً للطبيعتين.(1)

يلاحظ على القولين الأوّلين: أنّهما مبنيّان على تفسير الفرد في متعلّق الأحكام، بالفرد المنطقي و هو الجزئي الخارجي، و عندئذ يصحّ القولان بأنّ النزاع في الجواز و الامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالطبائع، و أمّا على القول بتعلّقها بالفرد، فالقول بالامتناع متعيّن، أو انّ الجواز مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و الامتناع مبنيّ على القول بتعلّقها بالأفراد.

و لكنّك خبير أنّ الفرد بهذا المعنى، لا يعقل أن يكون متعلّقاً للحكم، لأنّه قبل الوجود لا يوصف بالفرديّة، و بعده فهو ظرف سقوط الحكم بالطاعة أو بالمعصية، بل المراد من الفرد في متعلّق الأحكام هو الفرد الأُصولي، و المراد، هو الطبيعة مع ملازماتها و مقارناتها، و المراد من الملازمات هو ما لا يفارقها كالتأيّن بأين، و التحيّن بالزّمان و غير ذلك، كما أنّ المراد من المقارنات ما يصاحبها تارة و يفارقها أُخرى، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة، و يعبّر عن ملازمات الطبيعة

ص:185


1- الكفاية: 2411/240.

و مقارناتها، بالمشخّصات الفرديّة، فلو قلنا بتعلّق الأحكام بها، فبما انّها كلي كالطبائع فالواجب الأين الكلّي و الزمان الكلّي، و هكذا فيتأتى النزاع على كلا الرأيين، لأنّ الفرد بهذا المعنى كالطبيعة في الكلية و الشمول و صحّة تعلّق الأمر به.

بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قام بأمرين:

الف: فسّر الفرد، على النحو الذي فسّرناه، و فرّق بين الفرد في مصطلح المنطقيين، و الفرد في مصطلح الأُصوليين.

ب: قبل التفصيل الثاني و انّ جواز الاجتماع مبنيّ على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، و الامتناع على القول بالافراد.

أمّا الأوّل: فقال: إنّ النزاع في أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة، هل يتعلّق بمشخّصاتها الخارجية أو انّها من لوازم الوجود و خارجة عن حيّز الأمر؟ أمّا الثاني: فقال: فإذا بنينا على تعلّق الأمر بالمشخّصات سواء أ كان الأمر بها استقلالياً أم تبعياً، و كانت نسبة كلّ من المأمور به، و المنهي عنه إلى الآخر نسبة المشخّصات، فلا محالة يكون كلّ منهما محكوماً بحكم الآخر، فيلزم منه اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد، و أمّا إذا بنينا على خروج المشخّصات عن حيّز الطلب فلا يسري الأمر إلى متعلّق النهي، و لا النهي إلى متعلّق الأمر، فيكون القول بالجواز و الامتناع مبنيّاً على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد بالضرورة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يتمّ لو أُريد من المشخّصات الفرديّة ما يعمّ

ص:186


1- أجود التقريرات: 3451/344.

الملازمات و المقارنات الاتفاقية كالغصبية بالنسبة إلى الصلاة، و أمّا لو خصصناه، بخصوص الملازمات، أي ما لا ينفك وجود الطبيعة عنها، كالزمان و المكان، لا ما يصاحبه تارة و يفارقه أُخرى، فلا تلزم وحدة المتعلّق، لأنّ النهي تعلّق بالغصب، لا الغصب المصاحَب بالصلاة اتفاقاً، و هكذا الأمر تعلق بالصلاة، لا الصلاة المقارنة بالغصب.

و الذي يسهل الخطب هو أنّ المشخّصات الفردية غير داخلة في متعلّق الأوامر، لأنّ المولى الحكيم لا يأخذ من متعلّق الحكم إلاّ ما هو دخيل في غرضه، و الدخيل فيه، هو نفس الطبيعة، لا ملازماتها و لا مقارناتها على نحو لو أمكن إيجادها مجرّداً عنها، يعد ممتثلاً.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ ذكر لتعلّق الحكم بالفرد صوراً صحح النزاع في بعضها دون بعض، و بما أنّ المبنى غير تام، فلا يهمّنا بيان الصور المختلفة له.

التاسع: الفرق بين التعارض و التزاحم
اشارة

إنّ كلمتي التزاحم و التعارض من الكلمات الدائرة على ألسنة الأُصوليين، حيث يستعملون التزاحم في هذا المقام) باب اجتماع الأمر و النهي (و التعارض في باب» التعادل و الترجيح «، فإذاً يقع الكلام فيما هو الفرق بينهما.

و الذي يزيد غموضاً في المقام هو أنّ الأُصوليّين فيما إذا كان بين الدليلين عموم و خصوص من وجه تارة يطرحونه في هذا المقام نظير صلّ و لا تغصب، و أُخرى يعقدون له مبحثاً في باب التعادل و الترجيح نظير: أكرم العالم و لا تكرم الفاسق. حيث يتعارض الدليلان في العالم الفاسق، و عندئذ يقع الكلام فيما هو الفرق بين المقامين و كيف تكون مسألة واحدة من مسائل هذا الباب و الباب الآخر

ص:187

الذي بينهما من البعد بعد المشرقين؟ فنقول:

إنّ المحقّق الخراساني بصدد الإجابة عن هذين السؤالين:

1. ما الفرق بين التزاحم و التعارض؟ 2. ما الفرق بين المثالين؟ و حاصل ما ذكره: انّه لو كان في كلّ من موردي الدليلين مناط الحكم و ملاكه فهو من باب التزاحم، و أمّا إذا كان المناط موجوداً في و احد منهما، أو احتملنا انّ كلاً منهما فاقد للملاك، فهو من باب التعارض، هذا هو الذي تبنّاه و عقد لبيانه فصلين باسم التاسع و العاشر، و كأنّ الأوّل بصدد بيان الموضوع و أقسامه، و الثاني في بيان ما يحرر به وجود المناطين و عدمه.

و إليك توضيح ما ذكره في الأمر الثامن برُمّته كي يتّضح للقارئ ما رامه صاحب الكفاية، و أمّا التاسع فنضرب عنه صفحاً لما سيوافيك وجهه، فنقول:

جعل المحقّق الخراساني الكلام في مقامين:

الأوّل: مقام الثبوت، و المراد منه ملاحظة الموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به.

الثاني: مقام الإثبات، و المراد منه ملاحظة الموضوع بعد تعلّق الحكم به.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر فيه صوراً ثلاثاً:

الأُولى: إذا كان الملاك موجوداً في مورد التّصادق منهما، و قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي، يكون المورد محكوماً بحكمين فعليّين، فالصلاة في الدار المغصوبة و الغصب بما انّهما واجدان للملاك فالاجتماعي يقول إنّه يكون محكوماً بحكمين بلا تريّث.

ص:188

الثانية: تلك الصورة أي يكون مورد التصادق واجداً للملاكين و لكن لا نقول بجواز الاجتماع بل امتناعه، فعندئذ يكون مورد التّصادق من باب التزاحم(1) و يؤخذ بمرجّحات بابه فيكون مورد التّصادق محكوماً بأقوى المناطين، و لو لم يكن هناك مناط أقوى يرجع إلى حكم آخر غير الحكمين.

الثالثة: ما إذا لم يكن في مورد التّصادق ملاك، فيخرج من هذا الباب و يدخل في باب التّعارض الذي يبحث عنه في المقصد الثامن من المقاصد الثمانية، فعندئذ يؤخذ بالحكم الذي له مناط دون ما ليس له مناط.

و أمّا ما هو طريق كشف وجود المناط في حكم دون حكم؟ فهو ما سيوافيك في مقام الإثبات، و حاصله: انّ مرجّحات باب التّعادل و التراجيح طريق إلى وجود الإحراز في المرجّح دون المرجح عليه.

كما أنّه يحتمل أن يكون المورد فاقداً للملاك مطلقاً، و عندئذ يطرحان و يرجعان إلى حكم آخر، و لا تأثير في هذا المقام للقول بالجواز و الامتناع لما عرفت من أنّ القولين من فروع القول بوجود الملاك في مورد التصادق و المفروض عدم اشتمال مورده على المناط.

هذا كلّه بيان الأحكام حسب الثبوت، و إليك أحكامها حسب الإثبات.

ما هو المختار حسب الإثبات؟

قد عرفت أنّ صور البحث في مقام الثبوت ثلاثة، و عندئذ يقع الكلام في بيان ما هو المختار على الإثبات أي بعد تعلّق الحكم بالموضوعين؟ فنقول:

ص:189


1- و العجب انّ الشيخ الأنصاري، جعل هذه الصورة من صغريات التعارض. لاحظ مطارح الأنظار: 124.

إنّ المحقّق الخراساني قدَّم حكم الصورة الثالثة أوّلاً، و حذف بيان حكم الصورة الأُولى، و اقتصر على بيان حكم الصورة الثانية، و نحن نشرح الجميع لكن على ضوء الكفاية بتقديم ما قدّمه فنقول:

الصورة الثالثة: عبارة عمّا إذا كان مورد الدليلين خالياً من الملاكين، فيرجع إلى دليل آخر، و أمّا إذا كان واحد منها خالياً عنه، فعندئذ يؤخذ بما فيه المناط، و طريق التعرّف عليه هو الرجوع إلى المرجّحات الواردة في باب التعادل و الترجيح، فيؤخذ بما هو المشهور أوّلاً، ثمّ الموافق للكتاب ثانياً، و مخالف العامّة ثالثاً، و هذا النوع من البحث يرجع إلى باب التّعادل و الترجيح.

و أمّا الصورة الأُولى: التي أحجم المحقّق الخراساني عن بيانها فنقول: إذا كان مورد التصادق واجداً لكلا الملاكين و قلنا بجواز الاجتماع و انّ كلّ حكم ثابت على متعلّقه من غير تجاوز عن موضوعه إلى موضوع آخر فلا كلام فيه، و هذا هو الذي يتبنّاه الاجتماعي و يرى الساحة خالية عن التزاحم فضلاً عن التعارض، و بما انّ المحقّق الخراساني لم يقل بجواز الاجتماع أسقط بيان حكم هذه الصورة.

الصورة الثانية: ما إذا كان مورد التصادق واجداً للملاكين و لكن قلنا بامتناع الاجتماع، فالقائل لا محيص له إلاّ الأخذ بأقوى المناطين فانّه إذا كان هناك تزاحم بين المقتضيين يؤخذ بالأقوى مناطاً من غير فرق بين هذا الباب و سائر الأبواب حتّى إذا كان أقوى المناط مروياً بسند غير قوي يقدم على ما هو أضعف مناطاً و إن روي بسند قوي، فلو ورد إنقاذ النبي بخبر الواحد و إنقاذ الولي بخبر أقوى منه، فبما انّ إنقاذ النبي أقوى مناطاً يؤخذ به و إن كان السند غير قوي.

هذا ما أفاده في الكفاية، ثمّ إنّه) قدس سره (أشار بالجملة التالية إلى صورة رابعة تعد من شقوق مقام الإثبات و من فروع القول بعدم جواز الاجتماع حيث قال:

ص:190

نعم لو كان كلّ منها متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض فلا بد من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة.(1)

توضيحه: انّه إذا كان في مورد التصادق كلا المناطين يؤخذ بأقواهما و لكن فيما إذا لم يدل دليل خارجي على فعلية كلا الحكمين، بل كان المورد قابلاً لحمل أحدهما على الفعلي و الآخر على الاقتضائي، و أمّا لو دلت القرينة على فعلية كلا الحكمين مع القول بامتناع الاجتماع فلا محالة يكون المقام مزيجاً من التزاحم و التعارض.

أمّا التزاحم فلما عرفت من وجود الملاكين، و أمّا التعارض فلما عرفت من شهادة القرائن على فعلية الحكمين فعندئذ لا مناص في هذه المرحلة من إعمال مرجحات باب التعارض.

هذا إيضاح ما أفاده في الثامن.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بأُمور:

الأوّل: انّ ما ذكره في أوّل الفصل من أنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان في كلّ واحد من متعلّق الإيجاب و التحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق و الاجتماع شيء لا مدخلية له في حقيقة البحث و إن كان له مدخلية في ترتب الأثر فانّ البحث في المقام يدور على أنّ تعدد العنوان موجب لتعدّد المعنون أو لا، و هذا لا يتوقف على وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التصادق و عدمه.

نعم ترتّب الثمرة و القول بصحّة الصلاة على الاجتماع رهن وجود المناط في

ص:191


1- الكفاية: 1/242.

الموردين، كما أنّ الحكم بصحّتها على القول بالامتناع و تقديم الأمر على النهي رهن وجود الملاك فيها، و هذا هو الذي أشار إليه السيد المحقّق البروجردي، فقال: إنّ صاحب الكفاية خلط بين الإمكان و الامتناع كبروياً و بين ثمرة النزاع في الفقه فالقائل بالجواز يقول: إنّ اجتماع الأمر و النهي في واحد ذي جهتين ممكن و القائل بالامتناع ينكره.

نعم تظهر الثمرة في الشرعيات في مورد يكون ملاك الحكم متحقّقاً في صور الاجتماع و هو أمر آخر وراء محل النزاع.(1)

الثاني: انّ الفرق بين التزاحم و التعارض ليس وجود المناط لكلا الدليلين في مورد التزاحم و عدمه لهما في مورد التعارض، بل الملاك هو ما سبق ذكره في مبحث الترتّب، و هو انّه إذا كان التكاذب بين الدليلين في مقام الجعل و التشريع فهو من باب التعارض كما إذا قال: ثمن العذرة سحت، لا بأس ببيع العذرة، فلا يمكن جعل حكمين متضادين لموضوع واحد و هو ثمن العذرة.

و أمّا إذا كان بين الدليلين في مقام التشريع كمال الملاءمة و لكن طرأ التزاحم في مقام الامتثال و هذا كقول القائل: انقذ النبي و أنقذ الإمام، فلا نرى أي تكاذب بين الدليلين، و لو كان هناك شيء من التدافع فإنّما هو لضيق قدرة المكلّف و بُعْد الغريقين مكاناً، و إلاّ فلو كان الغريقان متقاربين أو كانت قدرة المكلّف أوسع فلا تزاحم.

الثالث: و هو ان عدّ قولنا: صلّ و لا تغصب من هذا الباب و قول القائل: أكرم العالم و لا تكرم الفاسق من قبيل المتعارضين ليس لأجل وجود الملاك فيما يسمى بالتزاحم، و عدمه فيما يسمّى بالتعارض، و إنّما يعد العرف المورد الثاني من

ص:192


1- لمحات الأُصول: 217.

التعارض دون الأوّل، و ذلك لأنّ كلاً من الدليلين في الأوّل غير ناظر إلى صورة الاجتماع، بل الأمر تعلّق بطبيعة الصلاة و النهي تعلّق بطبيعة الغصب، فلا يعد الدليلان عند العرف متعارضين، لعدم الإشارة فيها إلى صورة التصادق و لو إجمالاً بخلاف الدليلين الآخرين، أي أكرم كل فاسق و أكرم كلّ عالم، أو قوله: أكرم العالم و أكرم الفاسق، فإنّ في كلّ من لفظتي:» كل «و» اللام «إشارة إلى المصاديق الخارجية التي منها اجتماع الفسق و العلم في مورد واحد.

و إلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده سيدنا الأُستاذ في درسه الشريف حيث يقول: إنّ الميز بين البابين لبس بما ذكر، إذ الميزان في عد الدليلين متعارضين هو كونهما كذلك في نظر العرف، و لذا لو كان بينهما جمع عرفي خرج من موضوعه فالجمع و التعارض كلاهما عرفيان، و هذا بخلاف المقام فانّ التعارض فيه إنّما هو من جهة العقل، إذ العرف مهما أدق النظر و بالغ في ذلك لا يرى بين قولنا: صلّ و لا تغصب تعارضاً، لأنّ الحكم على عنوانين غير مرتبط أحدهما بالآخر، كما أنّ الجمع أيضاً عقلي مثل تعارضه، وعليه فكلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر و إن أحرزنا المناط فيهما فهو داخل في باب التعارض و لا بدّ فيه من إعمال قواعده من الجمع و الترجيح و الترك، كما أنّ ما لم يعده متعارضاً مع آخر و آنس بينهما توفيقاً و إن عدهما العقل متعارضين فهو من باب الاجتماع و إن لم يحرز المناط فيها.(1)

ثمّ إنّ الشيخ المحقّق المظفر أتى بهذه المقالة التي ذكرها السيد الأُستاذ ببيان مشروح، و إليك ما ذكره، فإنّه) قدس سره (عد ما جعل الملاك بين التزاحم و التعارض هو ما ذكرناه من وجود التكاذب في مقام التشريع في الثاني دون الأوّل، قال:

إنّ العنوان المأخوذ في الحكم على قسمين:

ص:193


1- تهذيب الأُصول: 1/383.

الأوّل: إذا أخذ العنوان في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات و المميزات، يكون في حكم المتعرض لحكم كلّ فرد من أفراده فيكون نافياً بالدلالة الالتزامية لحكم مناف لحكمه.

الثاني: أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد، أي لم تلحظ فيه الكثرات و المميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة و لا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأُخرى، فيكون المطلوب في الأمر و النهي عنه صرف وجود الطبيعة.

فإن كان العنوان مأخوذاً في الخطاب على النحو الأوّل، فإنّ موضع الالتقاء يكون العام حجّة فيه كسائر الأفراد الأُخرى بمعنى أن يكون متعرضاً بالدلالة الالتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة إلى الأفراد و خصوصيات المصاديق.

و في هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر و النهي في مقام الجعل و التشريع، لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامية في كلّ منها على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.

و إن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع و لا يقع تعارض بين الدليلين حينئذ ذلك مثل» صلّ «و قوله:» لا تغصب «باعتبار انّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر و النهي الكثرات و المميزات على وجه يسع العنوان و جميع الأفراد، و إن كان نفس العنوان في حدّ ذاته و إطلاقه شاملاً لجميع الأفراد، فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة للصلاة و امتثاله يكون بفعل أي فرد من الأفراد فلم يكن ظاهراً في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم

ص:194

آخر في هذا المورد ليكون نافياً لحرمة الغصب في المورد.

و كذلك النهي يكون متعلّقاً بصدق طبيعة الغصب فلم يكن ظاهراً في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاً بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافياً لوجوب الصلاة.(1)

و في الختام نقول: إنّ المحقّق النائيني جعل الفرقَ بين البابين، هو انّ اجتماع المتعلّقين في باب الاجتماع صلّ و لا تغصب يكون على وجه الانضمام، و في باب التعارض أكرم العالم و لا تكرم الفاسق يكون على وجه الاتحاد، و قد عرفت أنّ مسألة اجتماع الأمر و النهي لا تندرج في صغرى التعارض لكون التركيب فيها انضمامياً.(2)

يلاحظ عليه: أنّه إن رجع ما ذكره إلى ما ذكرناه فنعم الوفاق و إلاّ فالتفريق بما ذكره ليس أمراً واضحاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سوف يرجع إلى المسألة في التنبيه الثاني من تنبيهات المسألة بعد الفراغ عن مسألة امتناع الاجتماع فلاحظ.(3) و كان عليه أن يقتصر بما أفاده في المقام.

العاشر: في ثمرات القولين

ذكر المحقّق الخراساني في المقام صوراً خمساً حسب القولين، و إليك الإشارة إلى عناوينها:

1. إذا قلنا بجواز الاجتماع.

ص:195


1- أُصول الفقه، الطبعة المنقحة: 329 330.
2- فوائد الأُصول: 1/428.
3- كفاية الأُصول: 1/273.

2. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم الأمر.

3. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي و الالتفات إلى الحرمة.

4. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي، مع الجهل بالحرمة تقصيراً و نسيانها كذلك.

5. إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي مع الجهل بالحرمة جهلاً عن قصور.

فنذكر هذه الصور و بيان أحكامها من حيث صحّة العمل و بطلانه عبادياً كان أو توصلياً.

الصورة الأُولى: إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي فلا شكّ في صحّة العمل التوصلي، و هكذا العمل العبادي، لأنّه يأتي بالمجمع بداعي الأمر و إن كان عمله معصية أيضاً، لأنّ الاعتبار إنّما هو بالأمر غير الساقط، و إلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله:» لا إشكال في سقوط الأمر و حصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز قطعاً و لو في العبادات و إن كان معصية للنهي أيضاً «.

و هذه الثمرة هي الثمرة المعروفة للمسألة اعتمد عليها الأُصوليون من سالف الأيام و كانت النتيجة صحة العبادة على القول بالاجتماع و بطلانها على القول بالامتناع.

غير أنّ كلاً من العلمين: المحقّق البروجردي، و المحقّق النائيني قدّس اللّه سرّهما أشكلا على صحّة الصلاة، بل مطلق العبادة على القول بجواز الاجتماع، لكن كل ببيان خاص.

أمّا الأوّل فقال بأنّ العمل غير قابل للتقرب، و متعلّق كلّ من الأمر و النهي و إن كان متغايراً لكنّهما موجودين بوجود واحد، فهو موجود غير محبوب، بل

ص:196

مبغوض فكيف يتقرب إلى المولى بأمر مبغوض؟! و بعبارة أُخرى: انّ المكلّف بعمله هذا متمرد على المولى و خارج عن رسم العبودية و زيّ الرقيّة، فكيف يتقرب إلى ساحته سبحانه، بما يعدُّ مبعِّداً و لا يكون مقرِّباً؟! يلاحظ عليه: أنّه إذا كان القرب و البعد، أمراً عقلائياً، و كان العمل مزيجاً بالمحبوب و المبغوض، فلا مانع من أن يتقرّب بحيثية دون الأُخرى، نظير ما إذا أطعم اليتيم بمال حلال في دار مغصوبة، فيعدّ لأجل الترحم عليه متقرباً، و إن كان لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن عاصياً، غير متقرّب.

و الذي يرشدك إلى وجود الفرق بين العملين: انّه لو غصب دار المولى، و أكرم فيها ابنه، و ما لو غصبها و ضرب فيها ابنه، فلا شكّ انّ بين العملين بعد المشرقين، و هذا آية إمكان التقرب، بعمل متحد مع العمل المبغوض.

و أمّا الثاني فحاصل ما أفاده انّ الصلاة في الدار المغصوبة ليس مصداقاً للمكلّف به، كما أنّه ليس واجداً للملاك.

أمّا الأوّل فلأنّ منشأ اعتبار القدرة نفس التكليف لا حكم العقل، لأنّ الأمر هو جعل داع للمكلّف نحو المكلف به و لا يصح جعله داعياً إلاّ إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف، فيكون متعلّق التكليف هو الحصة المقدورة عقلاً، غير الممنوعة شرعاً، فتخرج الحصة المحرمة تحت الأمر، و على ضوء ذلك فالصلاة لما كانت ملازمة للمحرم فلا تكون مصداقاً للأمر و لا تكون مأموراً بها، و لا يمكن الحكم بالصحة لأجل الأمر.

و أمّا عدم تصحيحها بالملاك، فلأنّه إنّما يصحّ التقرب به إذا لم يكن ملازماً بالقبح الفاعلي و إلاّ فلا يكون صالحاً للتقرب، و الصلاة و الغصب و إن كانا غير

ص:197

متحدين إلاّ انّهما موجودان بإيجاد واحد، فلا محالة يكون موجِدهما مرتكباً للقبيح بنفس الإيجاد و يستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ المعروف بين المتكلّمين هو انّ الحاكم باشتراط التكليف بالأُمور العامّة من العقل و القدرة و العلم، هو العقل دون ذات التكليف، و ما ذكره من» أنّ منشأ اعتباره القدرة نفس التكليف، و ذلك لأنّ الأمر جعل داع للمكلّف نحو العمل، و لا يصحّ جعله داعياً إلاّ إلى ما وقع في إطار قدرة المكلّف «، عبارة أُخرى عن حكم العقل بذلك، و إلاّ فلو غضّ النظر عن حاكمية العقل، فأيّ دليل يمنع عن كون الأمر داعياً إلى الأعم ممّا هو واقع في إطار قدرة المكلّف و ما هو خارج عنه؟ و بذلك يعلم أنّ متعلّق الأمر هو مطلق الطبيعة، لا الطبيعة المقدورة، غير الممنوعة، فيكون الفرد المحظور مصداقاً لها، غير خارج عنها.

أضف إلى ذلك أنّ لازم ذلك هو الخروج عن محلّ البحث، فانّ المفروض اجتماع الأمر و النهي، و تصادقهما على المصداق الخارجي، و تخصيص المورد بالنهي فقط خلف الفرض.

و ثانياً: انّ ما ذكره من كون المجمع فاقداً للملاك بحجّة أنّ موجد الصلاة و الغصب مرتكب للقبح بنفس هذا الإيجاد،» و يستحيل أن يكون العمل الصادر منه مقرِّباً «مبنيّ على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل، و هو بعدُ غير ثابت، لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة نفسها في البيت، و كون الفاعل مرتكباً للقبيح مقارناً للصلاة كما هو المفروض لا يجعل الصلاة فعلاً قبيحاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الصورة الأُولى و إليك الكلام في الصورة الثانية.

ص:198


1- المحاضرات: 4/216، 217، 219.

الصورة الثانية: القول بالامتناع و تقديم جانب الأمر و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» و كذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر إلاّ أنّه لا معصية عليه، و الفرق بين الصورتين هو وجود المعصية في الأُولى دون الثانية، لكون النهي حكماً اقتضائيّاً لا فعليّاً «و ذلك لأنّ القائل بالامتناع يحمل أحد الحكمين على الاقتضائي و الآخر على الفعلي، و ظاهر العبارة صحّة العمل عبادياً كان أم توصلياً.

لكن الموافقة معه مطلقاً مشكلة، لأنّ الأخذ بالأمر لأجل كونه أقوى ملاكاً عن الحرام مختص بالصورتين التاليتين:

1. إذا لم يتمكن من الصلاة إلاّ في المكان المغصوب.

2. إذا تمكن من الصلاة في المكان المباح لكن دار الأمر بين فوت الواجب لأجل ضيق الوقت و ارتكاب الحرام فيقدم الأمر.

و أمّا إذا كان الوقت وسيعاً، و كان هناك مندوحة، فيؤخذ بالنهي دون الأمر لإمكان الجمع بين الامتثالين.

الصورة الثالثة: إذا قلنا بالامتناع مع تقديم النهي لكونه أقوى ملاكاً مع الالتفات و العلم بالحرمة و إلى هذه الصورة أشار في الكفاية بقوله:» و أمّا عليه) الامتناع (و ترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر به مطلقاً في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له، و أمّا فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة «و ما ذكره هو المتعيّن و وجهه واضح.

الصورة الرابعة: إذا قلنا بالامتناع مع تقديم جانب النهي لكن المكلّف غير ملتفت إلى الحرمة تقصيراً أو نسياناً، و إلى هذه الصورة أشار في» الكفاية «بقوله: أو بدونه) الالتفات (تقصيراً فانّه و إن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد

ص:199

القربة و قد قصدها إلاّ أنّه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب به أصلاً، فلا يقع مقرباً و بدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عادة.

و حاصله: انّه يتمكن من قصد القربة، لكن العمل غير صالح لأن يتقرب به، و نزيد بياناً بأنّ الصحة رهن أحد أمرين: الأمر و المفروض كونه اقتضائياً، و الملاك و هو بعد غير معلوم، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر و المفروض كونه إنشائياً، و لأجل ذلك قال الفقهاء بأنّ المقصر و الناسي خارجان عن قاعدة» لا تعاد «كما هما خارجان أيضاً عن حديث الرفع.

الصورة الخامسة: تلك الصورة مع الجهل بالحرمة قصوراً.

إذا قلنا بالامتناع و قدمنا النهي و لكن كان المصلي جاهلاً بالحرمة حكماً أو موضوعاً عن قصور، فقد نسب إلى المشهور صحّة الصلاة في الدار المغصوبة إذا كان الجهل عن قصور، و الظاهر انّ قولهم لها لأجل قولهم بجواز الاجتماع و سيوافيك انّ القول المشهور بين الإمامية من عصر الفضل بن شاذان) المتوفّى 260 ه (إلى الأعصار المتأخرة كالمحقّق الأردبيلي و تلميذيه هو القول بجواز الاجتماع، غير أنّ المحقّق الخراساني لما قال بالامتناع حاول أن يصحح فتوى المشهور بالصحة على مختاره و حاصل ما أفاده من الفرق بين الجهل عن تقصير و الجهل عن قصور يتلخص في النقاط التالية:

1. انّ صحّة العبادة رهن أمرين:

الف: قصد القربة.

ب: كون المأتي به صالحاً لأن يتقرّب به.

و الأوّل مشترك بين الجاهلين فيقصدان القربة، لكن الثاني كون المأتي به صالحاً للتقرب غير متحقّق في المقصّر، لأنّ الجاهل لما كان كالعامد، يعد عمله

ص:200

تمرّداً و عصياناً للمولى و المفروض انّ الحكم بالحرمة فعلي، لا اقتضائي، و لكنّه متحقّق في القاصر، لعدم فعلية النهي و كونه اقتضائياً، فلا يكون المأتي به مبغوضاً فيصلح لأن يتقرب به، و إلى ما ذكرنا أشار بقوله: و أمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً و قد قصد القربة فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً.

2. انّ سقوط الأمر لأجل حصول الغرض من الأمر، و ليس لأجل الامتثال، لافتراض تقديم النهي على الأمر، و ذلك) تقديم النهي (لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواقعية في المصالح و المفاسد، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً و المفروض انّ مصلحة النهي و إن لم يكن واصلاً هو الأقوى فيكون العمل محكوماً بالحرمة لا بالوجوب، و لأجل ذلك قلنا إنّه لا يصدق الامتثال نعم يسقط الأمر لأجل حصول الغرض. و إلى ما ذكرنا أشار بقوله: فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً و إن لم يكن امتثالاً بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح و المفاسد.

3. لو قلنا بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للجهات الواصلة، و انّه لا أثر للملاك الواقعي، بل التأثير في التقديم و التأخير هو الملاك الواصل و هو ما كان ملتفتاً إليه ينقلب حكم الواقعة من النهي إلى الوجوب فيكون المورد، امتثالاً للأمر المقدم، دون النهي، لكن الفرض غير ثابت عند الإمامية لاستلزامه نوعاً من التصويب و أن يكون حكم اللّه تابعاً لعلم المكلف.

و إلى ما ذكرنا أشير بقوله: لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقّق في محله.

4. يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام

ص:201

للملاكات الواقعية من المصالح و المفاسد، لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً، و ذلك لأنّ العقل لا يرى فرقاً بين هذا الفرد و الفرد الآخر في الوفاء بالغرض من الأمر بالطبيعة، و إلى ذلك أشار في» الكفاية «بقوله: مع أنّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك كون المؤثر هو الجهات الواقعية لا الواصلة بأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه و بين سائر الأفراد في الوفاء بفرض الطبيعة المأمور بها و إن لم يعمه بما هي مأمور بها، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي، فيكون المورد أشبه بما مرّ في الواجب الموسع المبتلى بواجب مضيق فيأتي بالموسع دونه، فإنّ الفرد الموسع و إن كان فاقداً للأمر، لكنّه لا لفقد المقتضي، بل لأجل وجود المانع، فيأتي به بنيّة الأمر المتعلّق بالطبيعة بما هي هي لا بما هي مأمور بها.

5. ثمّ رتّب على ما ذكر بأنّه لو كان دليلا الحرمة و الوجوب من قبيل المتعارضين و قُدّم دليل الحرمة، فلا يكون مجال للصحة، لفقدان الملاك حتى في الجهل عن قصور بخلاف ما إذا كانا من باب الاجتماع و قيل بالامتناع و تقديم جانب الحرمة، فيمكن الحكم بالصحة في موارد الجهل و النسيان عن قصور لوجود الملاك و حصول الغرض كما في الفروض الثلاثة الأُولى و إمكان إتيانه بالأمر المتعلّق بالطبيعة كما في الفرض الرابع.

هذا إيضاح ما في» الكفاية «.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ، أورد على صاحب الكفاية بأنّ الجمع بين القول بالامتناع، و اشتمال الصلاة في الدار المغصوبة على الملاكين، جمع بين المتضادين.

توضيحه: انّه لا شكّ في وجود التضاد بين ملاكي الغصب و الصلاة، فإن أمكن رفع التضاد بين الملاكين باختلاف الحيثيتين، أمكن رفعه في الحكمين مع أنّ

ص:202

القائل بالامتناع لا يلتزم به، و لو قلنا بأنّ اختلاف الحيثيتين، لا يرفع تضاد الحكمين لكونهما موجودين بوجود واحد فلا يرفع تضاد الملاكين.(1)

لكن لقائل أن يقول: إنّ اختلاف العنوانين لا يكون مصحِّحاً لتعلّق الوجوب و الحرمة بالشيء الواحد وجوداً، و إن جاز أن يكون مصحِّحاً لاجتماع الملاكين فيه، و ذلك لأنّ العنوانين و إن كانا مختلفين مفهوماً، لكنّهما متّحدان وجوداً. و لازم اجتماع الحكمين المتضادّين، طلب إيجاد شيء واحد و تركه، و هو بمنزلة الأمر بالمحال. و هذا بخلاف الملاكين المختلفين في المصلحة و المفسدة، فانّهما ليسا قائمين بالمكلّف به حتّى لا يصحّ توصيفه بالصلاح و الفساد، لأنّهما من الأُمور الخارجية الراجعة إلى نفس المكلَّف تارة، و مجتمعه أُخرى.

فالصلاة في الدار المغصوبة ذات صلاح و فلاح و هي التي تدفع الإنسان إلى ذكر ربّه، الذي هو مفتاح كلّ خير. كما أنّها مبدأ فساد و شر، لاستلزامها التعدّي على حقوق الغير الذي هو قبيح عقلاً، و مستلزمة لرواج الفوضى في المجتمع و اختلال النظام. و لا مانع من اجتماعهما لاختلاف محلّهما. و هو دام ظلّه صرّح بذلك في موضع آخر(2)، و بذلك صحّح كون الشيء الواحد مقرّباً و مبعداً، حسناً و قبيحاً.

إذا عرفت هذه المقدمات يقع الكلام في أدلّة القائل بالامتناع، و قد هذّبه المحقّق الخراساني في ضمن أُمور:

ص:203


1- تهذيب الأُصول: 1/288.
2- لاحظ تهذيب الأُصول: 1/316.
دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر و النهي
اشارة

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها و أوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات أربع، و إليك الإشارة إلى رءوسها:

1. الأحكام الخمسة تضاد بعضاً بعض، و المتضادان لا يجتمعان.

2. الأحكام تتعلّق بالمصاديق و الأفعال الخارجية لا العناوين الكلية.

3. انّ تعدد العنوان كالغصب و الصلاة لا يوجب تعدداً في المعنون.

4. ليس للوجود الواحد إلاّ ماهية واحدة.

ثمّ إنّه) قدس سره (شرع ببيان هذه المقدّمات الأربع و خرج بالنتيجة التالية، و هي امتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين.

و الحجر الأساس لاستنباط الامتناع هو الأوّليان من المقدّمات الأربع دون الثالثة و الرابعة، فانّ الثالثة أي إيجاب تعدّد العنوان تعددَ المعنون على القول به إنّما يختصّ بالعناوين الأصلية كالجنس و الفصل دون الاعتبارية كالصلاة و الانتزاعية كالغصب، فانّ الصلاة كما سيوافيك أمر اعتباري يطلق على موجود متشكل من أجناس مختلفة كالكيف في القراءة و الوضع في الركوع و السجود، كما أنّ الغصب عنوان انتزاعي ينتزع من استيلاء الأجنبي على ملك الغير سواء كان بالكون فيه كالسكنى في بيت الغير، أو بالحيلولة بينه و بين المالك و إن لم يتصرف فيه، و على أيّ حال فالبحث في أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا، مختص بالأُمور التكوينية و لا يعم الاعتبارية و الانتزاعية.

ص:204

كما أنّ المقدمة الرابعة خارجة عن محط البحث، لأنّ البحث في أنّ للوجود الواحد ماهية واحدة لا غير يختص بالماهيات المتأصلة، و أين هذا من الماهيات الاعتبارية و الانتزاعية؟ فالمهم في المقام هو المقدّمة الأُولى و الثانية، و إليك تحليلهما.

تحليل المقدّمة الأُولى

قال المحقّق الخراساني في إثبات تلك المقدمة: إنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها و بلوغها إلى مرتبة البعث و الزجر، ضرورة ثبوت المنافاة و المعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان، و الزجر عنه في ذاك الزمان فاستحالة اجتماع الأمر و النهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة انّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً.(1)

أقول: القول بأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة، رهن انطباق تعريف التضاد عليها مع أنّه غير منطبق عليها، و قد عُرّف الضدّان بأنّهما أمران وجوديان لا يستلزم تعقّل أحدهما تعقّل الآخر يتعاقبان على موضوع واحد داخلان تحت جنس قريب، بينهما غاية الخلاف.

و التعريف مشتمل على قيود خمسة و كلّ قيد يحترز به عمّا ليس واجداً للقيد.

1. أمران وجوديان، خرج المتناقضان و العدم و الملكة.

2. لا يستلزم تصوّر أحدهما تصوّر الآخر، خرج المتضائفان، كالأُبوة و البنوة.

ص:205


1- كفاية الأُصول: 1/249.

3. يتعاقبان على موضوع واحد، خرج ما يجتمع من الأعراض كالحلاوة و الحُمْرة.

4. داخلان تحت جنس قريب، خرج المتماثلان لأنّهما داخلان تحت نوع واحد و إن كانا لا يجتمعان.

5. بينهما غاية الخلاف، خرج القتمة و الحمرة.

إذا وقفت على تعريف التضاد فهلمّ معي ندرس انطباقَ تعريف التضاد على مطلق الأحكام أو خصوص الوجوب و الحرمة و عدمه؟ فنقول: المراد من الوجوب و الحرمة في اصطلاح الأُصوليّين هو البعث و الزجر الإنشائيّان بلفظ:

» افعل «أو» لا تفعل «و البعث و الزجر من الأُمور الاعتبارية بقرينة إنشائهما باللفظ، فإنّ الإنشاء يتعلّق بالأمر الاعتباري دون الأمر التكويني، و الإنشاء نوع مضاهاة لعالم التكوين مثلاً انّ الإنسان قبل الحضارة كان يبعث غلامه أو يزجره بيده و لما جلس على منصّة التشريع و التقنين أخذ ينشأ بلفظتي» افعل «و» لا تفعل « ما يضاهي البعث أو الزجر التكوينيين، فالمنشأ بعث إنشائي قائم مكان البعث باليد، و الأُمور الاعتبارية خارجة موضوعاً عن تعريف التضاد.

فإن قلت: إنّ الوجوب و الحرمة و إن كانا أمرين اعتباريين لكن منشأهما هو الإرادة، و من المعلوم انّ إرادة البعث تضادّ إرادة الزجر، فلعلّ إطلاق التضاد على الأحكام باعتبار مباديها و هي الإرادة.

قلت: إنّ الإرادتين و إن كانتا غير مجتمعتين لكن عدم الاجتماع ليس لأجل التضاد لما قلنا من أنّ الضدّين عبارة عن الأمرين اللّذين يكونان من نوعين داخلين تحت جنس قريب كالسواد و البياض، إذ هما داخلان تحت الكيف المبصر

ص:206

و لكن الإرادتين في الأمر و النهي ليستا من نوعين، بل من نوع واحد، غاية الأمر يختلفان باعتبار المراد.

فإن قلت: إنّ القول باجتماع الأمر و النهي يستلزم ما لا يمكن اجتماعهما، سواء أ كانا من الأُمور المتضادة أم من غيرها، و ذلك في مواضع ثلاثة:

1. في مقام الجعل حيث لا يمكن البعث إلى شيء في وقت، و الزجر عنه في نفس الوقت.

2. في المبادئ حيث إنّ الأمر كاشف عن المحبوبية و المصلحة، و النهي كاشف عن خلافها.

3. في مقام الامتثال حيث إنّ بينهما مطاردة من حيث الامتثال و الإطاعة، فامتثال الأمر يكون بالإتيان بالمتعلق، و امتثال النهي بتركه و ليس بإمكان المكلّف الجمع بين الفعل و الترك.

قلت: إنّ البحث منصبّ على مسألة وجود التضاد بين الأحكام و عدمه و أمّا البحث عن إمكان اجتماع البعث و النهي و عدم إمكانهما، أو عن اختلاف المبادي و عدم إمكان اجتماعها، أو المطاردة في مقام الامتثال فموكول إلى المستقبل و سيوافيك دفع هذه المحاذير.

تحليل المقدّمة الثانية

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف و ما هو في الخارج يصدر عنه و هو فاعله و جاعله، لا ما هو اسمه و هو واضح، و لا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه، و إنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلة للحاظ متعلّقاتها و الإشارة إليها بمقدار الغرض منها و الحاجة إليها، لا بما هو هو و بنفسه و على

ص:207

استقلاله و حياله.(1)

ثمّ استنتج ممّا ذكره ما هذا لفظه: انّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً و ذاتاً كان تعلّق الأمر و النهي به محالاً، و لو كان تعلّقهما به بعنوانين و ذلك لما عرفت من كون فعل المكلّف بحقيقته و واقعيته الصادرة عنه، متعلّقاً للأحكام، لا بعناوينه الطارئة عليه.(2)

أقول: إنّ في متعلّق الأحكام احتمالات نذكرها تباعاً:

1. الأحكام متعلّقة بالمفاهيم الذهنية المقيدة بكونها في الذهن.

2. الأحكام متعلّقة بالأفعال الخارجية و الموجودات العينية، و هذا ما يعبَّر عنه بالوجود بمعنى اسم المصدر.

3. الأحكام متعلّقة بإيجاد الطبائع في الخارج، و الذي يقال له الوجود بالمعنى المصدري.

4. الأحكام متعلّقة بالطبائع المعراة من كلّ عارض و لاحق، المنسلخة عن كلّ شيء لكن لغاية الإيجاد، فالإيجاد غاية للبعث و ليس متعلّقاً له.

5. الأحكام متعلّقة بالعناوين بما هي مرآة للخارج و طريق إليه، و ليس مراد القائل بتعلق الأحكام بالخارج، بتعلّقها به من دون توسيط عنوان مشير إليه.

هذه هي مجموع الاحتمالات التي تتصوّر في المقام.

أمّا الأوّل فهو غير صحيح بالمرة، لأنّ المفاهيم بقيد كونها في الذهن غير قابلة للامتثال أوّلاً، و لا تغني و لا تسمن من جوع ثانياً.

و أمّا الثاني فهو الذي بنى عليه المحقّق الخراساني نظرية الامتناع، فهو أيضاً

ص:208


1- كفاية الأُصول: 1/249.
2- كفاية الأُصول: 2521/251.

غير تام، و ذلك لأنّه إن أُريد من تعلّق الحكم بالخارج، الفرد الخارجي من الصلاة بعد وجودها فهو طلب للحاصل، و إن أُريد الفرد الخارجي قبل وجودها فليس له أيّة واقعية حتّى يتعلّق به الطلب، و ما له الواقعية هي العناوين الكلية التي لا يرضى القائل في المقام بتعلّق الأحكام بها.

و أمّا الثالث فهو الذي أوعز إليه المحقّق الخراساني عند البحث عن متعلّقات الأوامر في خاتمة كلامه.

فيرد عليه أمران:

أ. انّ دلالته على إيجاد الطبيعة فرع وجود دال عليه، و الدال منحصر في الهيئة و المادة، و الأولى وضعت للبعث نحو الطبيعة، و الثانية وضعت لنفس الطبيعة فأين الدال على إيجاد الطبيعة.

ب. لو افترضنا صحّة النظرية لكانت النتيجة هي جواز اجتماع الأمر و النهي، لأنّ القول بتعلّق الأحكام بإيجاد الطبيعة عبارة أُخرى عن تعلّقها بالعناوين الكلية من دون فرق بين أن يكون العنوان هو الصلاة أو الغصب أو يكون العنوان إيجاد الصلاة و إيجاد الغصب فيكون متعلّق كلّ غير الآخر.

و أمّا الرابع فهو الحقّ الذي لا غبار عليه، فانّ القوة المقننة تنظر إلى واقع الحياة عن طريق العناوين و المفاهيم الكلية و تبعث إليها لغاية الإيجاد أو الترك فيكون متعلّق كلّ من الأمر و النهي مفهوماً فاقداً لكلّ شيء إلاّ نفسه، فعندئذ ترتفع المطاردة في مقام التشريع، لأنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي.

كما ترتفع المطاردة في مقام الامتثال، لأنّه بوجوده الواحد مصداق للامتثال و العصيان لكن كلاً بحيثية خاصة.

و أمّا الخامس فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع، فإن أُريد من المرآتية، المرآتية

ص:209

بالفعل، فالمفاهيم الذهنية لا تكون مرآة للخارج بالفعل لعدم وجود المرئي; و إن أُريد المرآتية الشأنية، فهو يرجع إلى الاحتمال الرابع، و هو انّ المأمور به هو الطبيعة المنسلخة عن كلّ تعين و عارض سوى نفسها لكن الأمر بها لغاية الإيجاد أو لغاية الترك.

إلى هنا تمّ تحليل ما أرساه المحقّق الخراساني من الاستدلال على الامتناع، و قد عرفت عدم تماميته، فحان البحث في بيان أدلّة القائلين بالجواز.

ص:210

أدلة القائلين بجواز الاجتماع
اشارة

استدلّ القائل بالجواز بوجوه سبعة نذكرها واحداً تلو الآخر، و لكن قبل الخوض في بيان هذه الوجوه نلفت نظر القارئ إلى نكتة، و هي:

إنّ القائلين بالجواز على طائفتين:

فمنهم من يقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية و الأُمور العينية، و على الرغم من ذلك فهو يقول بجواز الاجتماع لأجل انّ التركيب بين الصلاة و الغصب انضمامي لا اتحادي و هذا يقرب ممّا ذكره الآخرون من أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون فالقول بالجواز لأجل انّ متعلق الأمر غير متعلق النهي في الخارج.

و هذا كالمحقق النائيني الذي تطرق إلى تثبيت الجواز عن طريق انّ التركيب بين المادة و الصورة انضمامي لا اتحادي، فخرج بالنتيجة التالية: انّ تركيب الغصب و الصلاة تركيب انضمامي فالحيثية الصلاتية غير الحيثية الغصبية.

و منهم من يقول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بما هي هي، و عندئذ يسهل له القول بالجواز، لأنّ متعلّق الأمر في عالم الجعل و الإنشاء غير متعلّق النهي، و قد ذهب إلى هذا القول السيد المحقّق البروجردي و السيد الأُستاذ) قدس سرهما (.

فعلى القارئ الكريم الالتفات إلى هذه النكتة في دراسة أدلّة القائلين بالجواز.

إذا عرفت ذلك فلنذكر تلك الوجوه:

ص:211

الأول: دليل قدماء الأُصوليّين

إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب و نهاه عن الكون في مكان خاص، فخاطه العبد في ذلك المكان عدّ مطيعاً لأمر الخياطة، و لذا لا يأمره بتجديد الخياطة، و عدّ عاصياً للكون في ذاك المكان الخاص.

يلاحظ عليه: أنّ المثال خارج عن محط البحث فلأنّ الخياطة لا تختلط بالغصب، لأنّ الأولى عبارة عن إدخال الإبرة في الثوب، كما أنّ الثاني عبارة عن الكون في المكان الخاص فلا يعد إدخال الإبرة في الثوب غصباً، إذ ليس فيه تصرف في المغصوب، و ليس التصرّف في الهواء تصرّفاً في المغصوب، لأنّه ليس ملكاً لصاحب المكان.

الثاني: دليل المحقّق القمّي

استدل المحقّق القمي بوجه مفصل نذكره ضمن مقاطع.

قال: إنّ متعلّق الأمر طبيعة الصلاة، و متعلّق النهي طبيعة الغصب، و قد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شيء واحد و لا يرد في ذلك قبح على الآمر، لتغاير متعلق المتضادين فلا يلزم التكليف بالمتضادين.

فإن قلت: الكلي لا وجود له إلاّ بالأفراد، فالمراد بالتكليف بالكلي هو إيجاد الفرد و إن كان على الظاهر متعلّقاً بالكلّي.

قلت: إنّ الفرد مقدّمة لتحقّق الكلّي في الخارج، فلا غائلة في التكليف به مع التمكّن من سائر المقدمات.

فإن قلت: إنّ الأمر بالمقدّمة اللازم من الأمر بالكلّي يكفينا، فإنّ الأمر بالصلاة أمر بالكون الكلي، و الأمر به أمر بالكون الخاص مقدّمة، فهذا الكون

ص:212

بعينه منهي عنه أيضاً بالنهي المقدّمي.

قلت: نمنع وجوب مقدّمة الواجب، و على فرض الوجوب، فالواجب هو فرد ما من الكون، لا الكون الخاص الجزئي، و إنّما اختار المكلّف مطلقاً الكون في ضمن هذا الفرد المحرّم.

نعم لو كانت المقدّمة منحصرة في الحرام، كما إذا لم يتمكن إلاّ من الصلاة في الدار المغصوبة، فنحن نقول بامتناع الاجتماع، فلا بدّ إمّا من الوجوب أو الحرمة.(1)

هذا ملخّص كلامه، و حاصله:

1. لا مانع من اجتماع الحكمين لاختلاف المتعلّقين، و اجتماع الحكمين المتضادين في الفرد لا يضر، لأنّ الفرد مقدمة لهما.

2. لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب و حرمة مقدّمة الحرام، فالكون حرام لا انّه واجب لاختصاص الوجوب بالمباح، و يسقط وجوب المقدّمة بالمحرّم، لكون وجوبها توصلياً.

3. لو فرض انحصار المقدّمة بالحرام، فلا بدّ من القول بامتناع الاجتماع، فلا بدّ من تقديم الوجوب أو التحريم.

و ربما ينسب إليه التفصيل بين كون الانحصار بسوء الاختيار و عدمه، و انّه لا مانع من فعلية وجوب ذيها لكونه بسوء الاختيار، دون ما لم يكن كذلك و لكنّه ليس في كلامه إشارة إليه، و لعلّه ذكره في غير هذا المقام، كما قال المحقّق المشكيني في تعليقته على الكفاية، و ستوافيك النسبة في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة

ص:213


1- القوانين: 1421/141.

فانتظر.

يلاحظ عليه أوّلاً: بما في الكفاية من أنّ الفرد الخارجي نفس الطبيعي في عالم العين و إن كان غيره في عالم التصوّر، و مع العينية كيف تتصوّر المقدّمية المستلزمة للاثنينية. و هي منتفية قطعاً.

و ثانياً: انّ ما نسب إليه من فعلية وجوب ذيها مع تسليم حرمة المقدّمة غير تام، لأنّه يستلزم التكليف بالمحال و هو غير جائز، سواء أ كان بسوء الاختيار أو لا.

و أمّا القاعدة المعروفة من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فليس بمعنى صحّة الخطاب بل بمعنى وجود الملاك.

و بعبارة أُخرى: لا ينافي ملاكاً و عقاباً لا خطاباً و حكماً، فلو ألقى نفسه من شاهق فحال السقوط حرام ملاكاً لا خطاباً لامتناع الامتثال عندئذ.

الثالث: دليل المحقّق النائيني

إنّ المحقّق النائيني من القائلين بالجواز مع القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية، غير أنّه يسعى ليثبت انّ متعلّق الأمر في الخارج غير متعلّق الأمر فيه، و دليله مبني على مسألة فلسفية حول تركيب المادة و الصورة، فالحكماء على طائفتين، فمنهم من يقول بأنّ التركيب اتحادي و ليست هنا كثرة.

مثلاً الحيوان إذا وقع في مدارج الكمال يصير نفس الإنسان لا شيئاً منضماً إلى النفس الناطقة و نظيره: تركب الجسم من حيوان و صورة، فانّ الهيولى في الماء نفس الصورة المائية كما أنّ الهيولى في النار نفس الصورة الخارجية.

و منهم من يذهب إلى أنّ التركيب انضمامي و إنّ هنا كثرة باسم المادة و الصورة كالحيوان بالنسبة إلى الناطق، أو باسم الهيولى و الصورة كما في الماء و النار

ص:214

على القول بتركب الكل من الهيولى و الصورة. و إلى كلا القولين يشير المحقّق السبزواري بقوله:

ان بقول السيد السناد تركيب عينية اتحاد

لكن قول الحكماء العظام من قبله التركيب الانضمام

ثمّ إنّ المحقّق النائيني) قدس سره (برهن على مختاره ببيان مفصل نأتي بموجزه تحت أرقام رياضية حتى يسهل فهم مرامه.

1. انّ الصلاة الموجودة في المجمع لا تنقص عن حقيقة الصلاة بشيء، إذا أتى بها في مكان مباح كما أنّ الغصب الموجود في المجمع لا تنقص من حقيقة الغصب بشيء كما إذا كان الغصب مجرداً عن الصلاة.

2. انّ الصلاة من مقولة الوضع و عُرّف الوضع بأنّه نسبة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض و المجموع إلى الخارج) أي الخارج عن ذلك الشيء (كالقيام و القعود، و الاستلقاء و الانبطاح و غيرها، فالقيام مثلاً عبارة عن الهيئة الحاصلة من نسبة بعض أعضاء البدن إلى بعض كالرأس إلى أعلى و الأقدام إلى أسفل، و المجموع إلى الخارج ككونه مستقبلاً للقبلة و مستدبراً الجدي.

فعلى هذا فالصلاة مؤلفة من قيام و ركوع و سجود، و جلوس في التشهد كلّها حتّى مقولة الوضع، و أمّا الهويّ إلى الركوع و السجود فإن قلنا بخروجها عن ماهية الصلاة فهو، و إلاّ فما هو جزء للصلاة عبارة عن الأوضاع المتلاحقة و المتلاصقة، فانّ الهويّ لا ينفك عن الأوضاع المتبادلة، فإذا شرع في الانحناء للركوع أو السجود إلى الأرض يتبدّل الوضع السابق إلى وضع لاحق و يستمر التبدّل إلى أن يصل إلى حدّ الركوع أو السجود.

كما أنّ الغصب من مقولة الأين، و عرف الأين بأنّه هيئة حاصلة من كون

ص:215

الشيء في المكان و ليس مجرد نسبة الشيء إلى المكان، بل الهيئة الحاصلة من كون المكين فيه، فالصلاة في الدار المغصوبة لا تنفك عن كون الإنسان فيها، فتحصل هيئة خاصة باسم الغصب.

إلى هنا تبيّن انّ الصلاة لا تجتمع مع الغصب في حال من الأحوال، لأنّ الأولى من مقولة الوضع و الثاني من مقولة الأين، و الوضع و الأين من الأجناس العالية التي لا جنس فوقها و هي متباينات بالذات غير مجتمعات كذلك.

3. هذا هو لبّ البرهان غير أنّ المستدل التفت إلى وجود الإشكال في الحركة في حال الهوي إلى الركوع و السجود، فإنّ الحركة يجتمع فيها عنوان الغصب و الصلاة مع كونها أمراً واحداً، فهذا هو الأمر الثالث الذي حاول أن يثبت فيه انّ هنا حركتين، لأنّ وحدة الحركة في المقام يتصور على وجهين و كلاهما باطلان.

أ. أن تكون الحركة جنساً و عنوانا الصلاة و الغصب فصلاً.

ب. أن تكون الحركة عرضاً و الصلاة و الغصب عارضين لها.

أمّا الأوّل فغير صحيح بالمرة لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد يقع تحت فصلين.

و أمّا الثاني فيستلزم قيام العرض بالعرض كما يستلزم تركب الأعراض مع انّها بسائط، فلا محيص إلاّ عن الالتزام بأمر آخر و هو تعدّد الحركة الذي بيّنه في المقطع الرابع بقوله:

4. قد حقّق في محله انّ الحركة لا تدخل تحت مقولة، و المقولات و إن كانت عشرة و لكن الحركة لا تدخل تحت واحدة من هذه المقولات، و هذا لا يعني انّ الحركة مقولة وراء المقولات العشرة تضاف إليها حتّى ينتهي عدد المقولات إلى إحدى عشرة مقولة بل الحركة في كل مقولة نفسها، مثلاً:

ص:216

إنّ التفاحة على الشجرة يطرأ عليها حالات مختلفة، فتنقلب من البياض إلى الصفرة و الحمرة، و من صغر الحجم إلى كبره.

فهناك حركتان حركة في الكيف و حركة في الكم و الحركة في كلّ مقولة نفس تلك المقولة لا شيئاً وراء ذلك.

و على ضوء ذلك فالحركة في الدار المغصوبة ينطبق عليها الوضع و الأين، فهي مع الوضع وضع و مع الأين أين، و بما انّهما من الأجناس المتباينة لا محيص إلاّ أن يقال انّ الصلاة مغايرة بالحقيقة و الهوية للغصب، و بالتالي الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية، بعين مغايرة الصلاة و الغصب، و يكون في المجمع حركتان: حركة صلائيّة، و حركة غصبيّة، و ليس المراد من الحركة رفع اليد و وضع اليد و حركة الرأس و الرّجل و وضعهما، فإنّ ذلك لا دخل له في المقام حتّى يبحث عن أنّها واحدة أو متعددة، بل المراد من الحركة: الحركة الصلاتيّة، و الحركة الغصبيّة، و هما متعددتان لا محالة.

و إلى الأمر الثالث و الرابع يشير المحقّق الخوئي في تقريراته عن أُستاذه، فيقول:

فإن قلت: أ ليست الحركة الواحدة الخارجية يصدق عليها انّها صلاة كما يصدق عليها انّها غصب وعليه، فلا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً و يكون كلّ منهما بالإضافة إلى الآخر لا بشرط.

قلت: ليس الأمر كذلك فانّ الصلاة من مقولة و الغصب من مقولة أُخرى منضمة إليها، أعني بها مقولة الأين، و من الواضح انّ المقولات كلّها متباينة يمتنع اتحاد اثنتين منها في الوجود و كون التركيب بينهما اتحادياً و ما ذكر من صدقها على حركة شخصية واحدة يستلزم تفصّل الجنس الواحد، أعني به: الحركة بفصلين في

ص:217

عرض واحد و هو غير معقول.

هذه عصارة البرهان التي استللناها من كلا التقريرين:)» فوائد الأُصول «للكاظمي و» أجود التقريرات «للخوئي (.

يلاحظ على الاستدلال بأُمور:

الأوّل: فلأنّ التأكيد على أنّ تركيب العنوانين تركيب انضمامي لا اتحادي يعرب عن اتّفاقه مع المحقّق الخراساني على أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال الخارجية، و لما كانت نتيجة ذلك هو الامتناع لا جواز الاجتماع فانبرى إلى تصحيح الاجتماع بأن تركيب المقولتين انضمامي و كلّ مقولة بمعزل عن المقولة الأُخرى، فتكون إحداهما متعلّقة بالأمر و الأُخرى متعلّقة بالنهي.

و لكنّك عرفت أنّ الأحكام لا تتعلّق بالأفعال الخارجية لأنّها بعد الوجود ظرف السقوط، و قبل الوجود ليس لها تحقّق في الخارج حتّى يتعلّق بها الحكم.

الثاني: انّ حديث التركيب الانضمامي و الاتحادي من خصائص الوجودات الخارجية كالمادة و الصورة أو الهيولى و الصورة، فمن قائل بأنّ المادة في مدارج حركتها تصير نفس الصورة من دون أن يكون بينهما اثنينية، و التركيب بينهما اتحادي إلى آخر بأنّ المادة في مدارج حركتها تتشخص بالصورة و بينهما اثنينية و التركيب بينهما انضمامي.

و على كلّ حال فهذا البحث الفلسفي مختص بالموجودات الخارجية دون العناوين الاعتبارية كالصلاة أو الانتزاعية كالغصب.

أمّا الصلاة فهي عنوان اعتباري يعبر بها عن عدة مقولات متنوعة و مجتمعة فالصلاة تشتمل على الأذكار، و هي بما انّها مشتملة على الجهر و الإخفات من مقولة الكيف، و على القيام و الركوع و السجود فهي من مقولة الوضع، و على الهوي فإن

ص:218

قلنا بأنّ الواجب هي الهيئة الركوعية و السجودية و انّ الهوي مقدمة فهي من مقولة الوضع، و إن قلنا:

إنّ الواجب هو الفعل الصادر من المكلّف، فيكون الهُويّ حركة في الوضع إلى أن تنتهي بترك الأوضاع المتلاحقة إلى حدّ الركوع و السجود.

و على ضوء ذلك تكون الصلاة أمراً اعتبارياً باعتبار إطلاقها على ما يشتمل على أزيد من مقولة و أمّا الغصب فهو أمر انتزاعي بشهادة انّه ينتزع من أمرين مختلفين في الماهية.

1. قد ينتزع من التصرف في مال الغير، كلبس ثوب الغير.

2. قد ينتزع من الاستيلاء على مال الغير بلا تصرف فيه، كما إذا منع المالك من التصرف في ماله فيكون الغصب عنواناً انتزاعياً، تارة ينتزع من التصرف في مال الغير، و أُخرى من الاستيلاء على مال الغير و إن لم يتصرف فيه، فمثل ذلك لا يكون داخلاً تحت مقولة و إنّما يكون أمراً انتزاعياً، فحديث التركيب الاتحادي و الانضمامي في المقام أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، و على ذلك فالغصب ليس من الماهيات المتأصلة ليستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً و انّه من المفاهيم الانتزاعية القابلة للانطباق على ماهيات متعددة، وعليه فلا مانع من انطباقه على الصلاة.

الثالث: انّ القول بتعدّد الحركة و انّ الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية يخالف الحس و الوجدان، إذ لا يصدر عن المصلي إلاّ حركة واحدة و على فرض صدور حركتين فالحركة الثانية أيضاً بما انّها تصرف في مال الغير توصف بالغصب أيضاً.

على أنّ استنتاج الحكم الشرعي من هذه المقدّمات الفلسفية المبتنية على مقدّمات غير واضحة لا يمكن الاعتماد عليه.

ص:219

الوجه الرابع ما ذكره بعضهم من أنّ الاجتماع لو كان آمريّاً و من قبل المولى، لكان ذلك مستحيلاً،

لكنّه ليس في المقام كذلك بداهة أنّه مأموري و من قبل نفس المكلّف بسوء اختياره، فلا يكون هناك مانع عن الاجتماع.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّ القائل بالامتناع يقول بأنّ الحكم بصحّة الاجتماع يؤول إلى الاجتماع الآمري، لأنّ المفروض أنّ كلا من الخطابين لإطلاق متعلّقه يعمّ ما لو وجد كل في ضمن الآخر فيعود المحذور، إذ لو كان لمقولة:

» صلّ «إطلاق، يعمّ ما إذا كانت متحدة مع الغصب، للزم أن يكون المجمع واجباً و حراماً و هذا لا يمكن الالتزام به.

2. لو افترضنا انّ الاجتماع مأموريّ، فالإشكال غير مندفع أيضاً، لأنّ التكليف بالمحال أمر قبيح من غير فرق بين سوء الاختيار و عدمه، هذا و سيوافيك في الوجه الخامس دفع الإشكالين فانتظر.

الوجه الخامس للمحقّق البروجردي
اشارة

و هذا الوجه ذكره المحقّق البروجردي) قدس سره (و أوضحه السيّد الإمام الخميني) قدس سره (و شيّد أركانه، و دفع المحاذير المتوهمة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه، و حاصل الوجه هو:

إنّ الأحكام لا تتعلّق إلاّ بالطبائع دون المصاديق الخارجية، و عندئذ لا مانع من تعلّق الأمر بحيثيته، و النهي بحيثية أُخرى و عند ما تصادفت الحيثيتان على شيء واحد، لا مانع من أن يكون ذاك الشيء مصداقاً للمأمور به بحيثيته

ص:220

و مصداقاً للمنهي عنه بحيثية أُخرى، فالتضاد بين الأحكام على فرض صحته، يرتفع باختلاف المتعلّقات، و هذا هو حاصل النظرية و إجمالها، و أمّا التفصيل فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه.

الثاني: دفع المحاذير المتوهمة على القول بالاجتماع في المراحل الثلاث: مرحلة التشريع، مرحلة المبادئ، مرحلة الامتثال، و إليك الكلام في الأوّل.

المقام الأوّل: في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه

إنّ النظرية تبتني على مقدّمات:

الأُولى: انّ أساس التشريع هو تعلّقه بالعناوين و الطبائع دون المصاديق، فالمشرِّع ينظر إلى واقع الحياة عن طريق متعلّقات الأحكام التي ليست إلاّ عنواناً كلياً، قابلاً للانطباق على مصاديق كثيرة، فيأمر بها، لغاية الإيجاد، كما يزجر عنها لغاية الانتهاء و الترك، و بما انّ هذه المقدّمة قد سبق ذكرها فلا نطيل الكلام فيها.

الثانية: إنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بما هو دخيل في الغرض، ثبوتاً و تتبعها دلالة الأمر إثباتاً.

أمّا الثبوت، فلأنّ تعلّق الإرادة بما لا مدخلية له في غرضه، أمر جزاف لا يحوم حوله الحكيم، فلو كان لما هو الدخيل في الغرض، لوازم وجودية، أو أُمور مقارنة معه أحياناً فلا تتعلق بهما الإرادة، و على ضوء ذلك، فالأمر يتعلّق بالحيثية الصلاتيّة دون الغصبية و إن قارنت معها أحياناً، إذ لا مدخلية للثانية في حصول غرض المولى، كما أنّه لو كان المحصِّل لغرضه شيء له أجزاء أربعة، فلا تتعلق إرادته إلاّ بذات الأربعة بما هي هي و إن كانت تلازم الزوجية فاللوازم و المقارنات

ص:221

خارجتان عن مصب الإرادة في الإرادة الفاعلية التكوينية، و مثلها الإرادة الأمرية التشريعية حرفاً بحرف.

و أمّا الإثبات فلأنّ المفروض انّ المادة موضوعة لنفس الطبيعة بما هي هي، فلا تدل إلاّ عليها، و أمّا اللوازم و المقارنات، فخارجتان عن حريم دلالة المادة اللفظية و إن كانت ربما تدلّ عليها بالدلالة الالتزامية التي هي دلالة عقلية فلا يتعلق بهما الأمر اللّهمّ إلاّ بدال آخر و المفروض عدمه، و لذلك قلنا في محله انّ العام لا يكون مرآة للخاص، لأنّه موضوع للجامع بين الأفراد، لا له مع الخصوصيات، و لذلك اخترنا عدم صحة الوضع العام و الموضوع الخاص، إلاّ على وجه قد أوضحناه في محله.

الثالثة: انّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود، و بعبارة أُخرى الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب، تمام الموضوع للحكم لا بعضه و جزئه، فيكون الحكم، حاضراً بحضور موضوعه، و هذا ما نسمّيه بالإطلاق الذاتي.

و أمّا الإطلاق اللحاظي، أعني: تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع، بلحاظ الحالات واحدة بعد الأُخرى حين الأمر حتّى يكون معنى قوله:» إن ظاهرت أعتق رقبة «هو عتقها سواء أ كانت مؤمنة أم كافرة، عادلة أو فاسقة، عالمة أو جاهلة، فممّا لا أساس له، لما عرفت أنّ الإطلاق هو تسريح الموضوع عن القيد، لا أخذه مع جميع القيود و بعبارة أُخرى هو: رفض القيود و تركها و عدم العناية بها، لا جمعها و ذكرها في الموضوع و لو بصورة القضية المنفصلة، لعدم مدخلية القيود في الحكم حتّى تلاحظ و تؤخذ في الموضوع و على ضوء ذلك، فمعنى الأمر بالصلاة على وجه الإطلاق هو كون الحيثية الصلاتية تمام الموضوع للحكم، و ليس معناه هو

ص:222

الأمر بها سواء أ كانت مع الغصب أو لا، بحيث يعد الغصب، مأخوذاً في موضوع الأمر و لو على نحو القضية المنفصلة.

إذا عرفت هذه المقدمات: ظهر لك جواز الاجتماع، لأنّ تمام المتعلّق للأمر، هو الصلاة، و تمامه للنهي هو الغصب، و هما مختلفان مفهوماً و ماهية، و ليس معنى الأمر بها هو الأمر باللوازم الوجودية أو الأُمور المقارنة لعدم مدخليتهما في الغرض المطلوب، بالإرادة ثبوتاً، و بالأمر إثباتاً، فمعنى كون الصلاة مطلوبة مطلقاً، ليس كونها مطلوبة مع الغصب، حتّى يكون الثاني، جزء المتعلّق، بل المراد عدم أخذ أية خصوصية في المتعلّق، و تصادقهما على مورد واحد لا يضر، إذ لا إشكال في إمكان الشيء الواحد مصداقاً لعنوانين لكن بحيثيتين مختلفتين.

نعم غاية ما يمكن أن يقال: انّه يمتنع أن يكون اللازم محكوماً بحكم مضاد مع حكم الملزوم، فإذا وجب إيجاد الأربعة، لا يجوز تحريم إيجاد الزوجية، و أمّا المقارن المنفك عنه أحياناً، فلا يمتنع أن يكون محكوماً بحكم مضاد، إذ في وسع المكلّف التفكيك بينهما كما هو الحال في المقام حيث إنّ الصلاة واجبة و الغصب المقارن معها أحياناً حرام.

هذا هو حاصل النظرية بقي الكلام في المقام الثاني، و هو دفع المحاذير في المراحل الثلاث على القول بجواز الاجتماع، و إليك البيان:

المقام الثاني: دفع المحاذير

إنّ المحاذير المقصودة في المقام تدور على محاور ثلاثة:

1. في الجعل و التشريع.

2. في مبادئ الأحكام و مقدّماتها.

ص:223

3. في مقام الامتثال و الطاعة.

فلندرس الجميع واحداً تلو الآخر.

1. عدم المحذور في مقام الجعل

أمّا عدم المحذور في مقام الجعل و التشريع فلعدم التكاذب بين الحكمين، إذ لا مزاحمة بين إيجاب الصلاة و تحريم الغصب لاختلاف المتعلّقين بالذات، و تصادقهما في مورد، لا يضرّ بصحّة التشريع و حفظ الإطلاقين في مورده، لأنّ الواجب هو الحيثية الصلاتية، و المحرم هو الحيثية الغصبية، و لا مانع من أن يكون شيء واحد مصداقاً للواجب و الحرام بحيثيتين مختلفتين و بما انّا بسطنا الكلام فيه فلا نطيل.

2. عدم المحذور في مبادئ الأحكام

إنّ الحبّ و البغض من مبادئ الأحكام فيأمر بإتيان المحبوب و ينهى عن ممارسة المبغوض، كما أنّ المصلحة و المفسدة من مباديها، فيطلب ذات المصلحة، و ينهى عن ذات المفسدة و لو قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، ربّما يتوهم أنّه يلزم أن يكون الشيء محبوباً و مبغوضاً، و ذات مصلحة و مفسدة، و هي عين القول باجتماع الضدين.

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال مبني على كون الحبّ و البغض أو المصلحة و المفسدة من الكيفيات الجسمانية القائمة بالشيء الخارجي كالسواد و البياض، فيمتنع وصف الشيء بهما و لو بعنوانين، لكن الأمر ليس كذلك.

أمّا الحبّ و البغض، و يقرب منهما الإرادة و الكراهة فالجميع من الكيفيات

ص:224

النفسانية ذات الإضافة، فلها إضافة إلى النفس لقيامها بها، و إضافة بالذات إلى الصورة العلمية من المحبوب و المبغوض، و المراد و المكروه، و إضافة بالعرض إلى مصاديقها و أعيانها الخارجية، و على ضوء ذلك فلا مانع من اجتماع الجميع في شيء واحد، لأنّه إذا اجتمعت حيثيتان في شيء واحد، تشتاق النفس إليه لحيثية و تزجر عنه لأجل حيثية أُخرى، فتكريم اليتيم في الدار المغصوبة محبوب من جهة، إذ فيه ترويح لحال اليتيم; و مبغوض لكونه تصرفاً في مال الغير، و نقضاً للقانون، و يقرب منهما، كون الشيء الواحد مراداً و مكروهاً لجهتين.

و أمّا المصلحة و المفسدة فليستا من الأُمور القائمة بذات الشيء، بل المصالح و المفاسد الفردية، يرجع إلى حياة الشخص الفردية، فلا غرو في أن يكون الشيء في حياة الإنسان ذا مصلحة باعتبار، و ذا مفسدة باعتبار آخر، إذ ربما يكون الدواء الخاص مفيداً و مضرّاً باعتبارين، و منه يظهر حال المصالح و المفاسد الاجتماعية، و الإشكال نابع من تنزيل المصلحة و المفسدة، منزلة الكيفيات الجسمانية القائمة بذات الشيء، و قد عرفت أنّهما من الأُمور الإضافية و النسبية و لا مانع من كون الشيء ذا مصلحة و مفسدة باعتبارات مختلفة.

3. عدم المحذور في مقام الامتثال

هذه المرحلة من المراحل الثلاث، هي بيت القصيد للامتناعي، و هو يعتمد في إبطال الاجتماع على هذا المحذور، أكثر من المحاذير الأُخر، و حاصله انّه لو قلنا بجواز الاجتماع يلزم أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه و منهياً عنه، أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالمصاديق الخارجية فواضح، إذ يلزم من تصحيح الاجتماع أن يكون الشيء الواحد مبعوثاً إليه و منهياً عنه، و كون متعلّق الأمر غير متعلّق

ص:225

النهي لا ينفع في المقام بعد تحقّق العنوانين في شيء واحد، فعندئذ تكون نتيجة تجويز الاجتماع هو التكليف بالمحال، حيث يكلف بالإتيان و الترك في آن واحد و إن كان لأجل عنوانين، لأنّ تعدّد العنوان، لا يجعل الشيء الواحد، شيئين.

و أمّا على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، فكذلك لأنّ المولى و إن لم يلاحظ عند الأمر بالصلاة، اقترانها مع الغصب الذي أسميناه بالإطلاق اللحاظي، لكن حضور الحكم عند حضور الموضوع في كلّ الأمكنة و الأزمنة أمر لا يُنكر، و هذا هو المسمّى بالإطلاق الذاتي للدليل، فعندئذ يسأل القائل بالاجتماع، إذا حاول المكلف إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة فهل الحضور يختص بأحد الحكمين و هو نفس القول بالامتناع، أو يعمّ الحضور لكلا الحكمين؟ و نتيجة حضور الحكمين و حفظ الإطلاقين في المورد هو اجتماع البعث و الزجر بالنسبة إلى شيء واحد، و ليس هذا إلاّ التكليف بالمحال فالمكلّف بحكم إطلاق الأمر بالصلاة مبعوث إلى الفعل، و بحكم إطلاق النهي عن الغصب مزجور عنه، فهل هذا إلاّ الأمر بالمحال.

قلت: هذا الإشكال كما قلنا هو بيت القصيد في المقام، فلو أتيح للاجتماعي حلُّه فقد حاز القِدْح المُعلّى فنقول:

لو كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به من قبيل اللوازم غير المنفكة كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، كان لما توهّم وجه حتّى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع إذ لا يعقل أن يكون اللازم محكوماً بحكم يضاد حكم الملزوم بأن يجب إيجاد الأربعة و يحرم إيجاد الزوجية، و أمّا إذا كان المنهي عنه بالنسبة إلى المأمور به قبيل المقارن الذي في وسع المكلّف تفكيكه من المأمور به فلا يلزم من إيجاب الشيء، و تحريم المقارن، التكليف بالمحال، لأنّ الحركة في الدار المغصوبة و إن

ص:226

كانت واجبة من حيث كونها مصداقاً للصلاة، و محرمة من حيث كونها مصداقاً للغصب و المولى في وقت واحد بحكم حفظ كلا الإطلاقين يأمر بها و ينهى عنها، إلاّ أنّ إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة ليس واجباً تعيينياً، بل هي إحدى المصاديق الواجبة التي يتخيّر المكلّف بينها عقلاً و لما كان هذا المصداق مقروناً بالمحذور، فعلى المكلّف العدول إلى الفرد الخالي عنه، و بهذا ينحل إشكال التكليف بالمحال، من دون حاجة إلى تقييد أحد الإطلاقين بالآخر.

و الحاصل: انّ المولى لو أمر بالصلاة في الدار المغصوبة على وجه التعيين يكون التأكيد على حفظ الإطلاقين موجباً للتكليف بالمحال، و لكنّه لمّا أمر بها على النحو الكلي مخيّراً المكلّفة بين مصاديقه، و كانت المصاديق بين مجرّد عن المحذور، و مقرون به، فعلى العبد، أن يختار الأوّل دون الثاني.

1. فإن قلت: ما فائدة حفظ الإطلاقين في صورة التقارن بالمانع؟ قلت: أقل ما يترتّب عليه انّه لو صلّى فيها، كان مطيعاً من جهة و عاصياً من جهة أُخرى.

2. فإن قلت: قد سبق في بعض المقدّمات أنّه لا يعتبر قيد المندوحة فيما هو المهم في المقام أعني: أنّ تعدّد العنوان، هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ قلت: نعم لا تأثير لقيد المندوحة في المسألة الفلسفية، أعني: كون تعدّد العنوان موجباً لتعدّد المعنون أو لا.

و بعبارة أُخرى: قيد المندوحة غير مؤثر في مسألة» كون التركيب اتحاديّاً أو انضمامياً «، و أمّا في رفع غائلة التكليف بالمحال فقيد المندوحة معتبر قطعاً، و قد مرّ الكلام فيه تفصيلاً و صرّح به المحقّق الخراساني في الأمر السادس فلاحظ.

3. فإن قلت: قد سبق انّ سوء الاختيار لا يكون مجوّزاً للتكليف بالمحال،

ص:227

و إنّ من ألقى نفسه من شاهق، و هو في أثناء السقوط، لا يكون مكلفاً بصيانة النفس، لعدم التمكّن منه و إن كان بسوء الاختيار، و قد مرّ انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، عقاباً و ملاكاً، لا خطاباً و حكماً.

قلت: ما ذكرته صحيح لكنّ المقام ليس من صغريات تلك القاعدة حتّى لا يصح خطابه، بل هو في كلّ آن من الآنات قادر على ترك الغصب، و الإتيان بها في مكان مباح، فهو أشبه بمن ألقى نفسه من شاهق، لكنّه مزوّد بجهاز صناعي لو أعمله لهبط إلى الأرض بهدوء، فعندئذ لا يسقط النهي لا ملاكاً و لا عتاباً، و لا خطاباً و لا حكما.(1)

4. فإن قلت: قد سبق في باب الترتّب أنّه لا يجوز خطاب المكلّف بأمرين متزاحمين من دون تقييد أحدهما بترك الآخر، كأن يقول: انقذ هذا الغريق، و انقذ ذاك الغريق، مع عدم استطاعته إلاّ بإنقاذ أحد الغريقين، و ما ذاك إلاّ لكونه تكليفاً بالمحال، و إن كان في وسع المكلّف تعذير نفسه بالاشتغال بإنقاذ أحدهما، و إن ترتّب عليه غرق الآخر، فمجرّد التعذير، لا يسوِّغ التكليف بالمحال، و المقام أشبه بذلك حيث إنّه مخاطب بخطابين غير قابلين للامتثال معاً، لكن باب التعذير واسع، بأن يصلي في مكان مباح، فكما أنّ فتح باب العذر غير مسوِّغ لخطابين مطلقين، فهكذا المقام.

قلت: الفرق بين المقامين واضح فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر، و ذلك لأنّ التكليف هناك متقدّم على التعذير، فلا ينقدح في ذهن المولى إيجاب إنقاذ غريقين مع علمه بعدم قدرة المكلّف إلاّ بإنقاذ أحدهما، و إن كان للعبد تعجيز

ص:228


1- و قد اختلف تقرير شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة، مع ما أفاده في هذه الدورة و ما أثبتناه هو الموافق لتقريره أخيراً.

نفسه و تعذيرها بخلاف المقام فانّ المسوغ مقارن مع التكليف حيث إنّ الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة ليس على النحو التعييني من أوّل الأمر.

5. إن قلت: إنّ وزان الإرادة التشريعية كوزان الإرادة التكوينية، أو إنّ وزان الإرادة الأمرية كوزان الإرادة الفاعليّة. فكما لا ينقدح في ذهن الفاعل، إرادتان متضادّتان، بأن يريد إيجاد الشيء في وقت، و تركه و عدمه في نفس ذلك الوقت، فهكذا لا ينقدح في ذهن الآمر إرادتان متضادّتان فيطلب الشيء) الصلاة التوأمة مع الغصب (في وقت، و تركه في نفس ذلك الوقت.

قلت: إنّ قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق، فانّ الإرادة الفاعلية علّة تامّة لتحقّق المراد فلا يمكن اجتماع علّتين تامّتين فضلاً عن كونهما متضادّتين على شيء واحد، و هذا بخلاف التشريعية فانّها ليست علّة تامّة لتحقّق المراد، سواء أقلنا بأنّها تتعلّق بفعل الغير كما هو المعروف، أو تتعلّق بالبعث و الطلب كما هو المختار. و على كلّ تقدير فبما انّها ليست علّة تامّة لتحقق المراد، بل أشبه بالداعي، فلا إشكال في تعلّق إرادتين تشريعيتين بمراد واحد بعنوانين و لا يلزم من جعل الداعيين، التكليفُ بما لا يطاق، بل فائدة تعلّقهما انّه لو جمع بين المأمور به و المنهي عنه، يكون مطيعاً من جهة و عاصياً من جهة أُخرى.

***

الوجه السادس: استكشاف جواز الاجتماع من عدم ورود النص على عدم جواز الصلاة في المكان و اللباس المغصوبين،

مع عموم الابتلاء به في زمان الدولتين: الأموية و العباسية، خصوصاً على القول بحرمة الغنائم التي كانوا يغنمونها عن طريق جهاد العدو ابتداءً الذي هو حق طلق للإمام العادل أو المعصوم.

ص:229

و الذي يوضح ذلك أنّ الشيخ الكليني نقل عن الفضل بن شاذان الذي هو من أصحاب العسكريين مؤلّف كتاب الإيضاح و قد توفّي عام 260 ه انّه قال: و إنّما قياس الخروج و الإخراج كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار و صلاته جائزة.(1) و هذا يعرب عن كون المشهور لدى أصحاب الأئمّة هو الجواز، و إلاّ لصدر النصّ عنهم) عليهم السلام (على المنع.

هذه هي الوجوه الستة التي استدل بها القائل بالاجتماع، بقي في المقام وجه سابع و هو وجود العبادات المكروهة في الشريعة الإسلامية التي تلازم اجتماع الأمر و النهي في الشيء الواحد كصوم يوم عاشوراء، و الصلاة في الحمام، فقد اجتمع الاستحباب و الكراهة في الأوّل، و الوجوب و الكراهة في الثاني، و إليك بيان هذا الوجه.

الوجه السابع: الاستدلال بالعبادات المكروهة
اشارة

أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و قد تعلّق النهي في الشريعة الإسلامية بالعبادات، فلو كان التّضاد بين الأحكام مانعاً عن الاجتماع لما تعلّق النهي بصوم يوم عاشوراء، أو بالنوافل المبتدئة في أوقات خاصّة فكلّ واحد منها بنفسه مأمور به و في الوقت نفسه منهي عنه.

و قد أجاب المحقّق الخراساني عن الاستدلال بهذه الموارد إجمالاً بوجوه ثلاثة:

1. انّ الظهور لا يصادم البرهان فلو قام البرهان على الامتناع فلا بدّ من تأويل ما يدلّ على الجواز.

ص:230


1- الكافي: 6/94.

2. انّ الاجتماعي و الامتناعي أمام بعض الأقسام كالقسم الأوّل أو جميعها سواء، حيث إنّ الأمر و النهي تعلّقا بعنوان واحد و هو صوم يوم عاشوراء، و من المعلوم أنّه غير جائز حتّى عند الاجتماعي.

3. انّ الاجتماعي إنّما يقول به إذا كان هناك مندوحة و المورد المذكور خال عن هذا الشرط، لأنّ صوم يوم الحادي عشر، موضوع مستقل، و ليس بدلاً عن صوم يوم عاشوراء.

تقسيم العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة

ثمّ إنّه بعد ما فرغ عن الأجوبة الثلاثة حاول أن يجيب عن الاستدلال على نحو التفصيل، فقال: إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما تعلّق به النهي بعنوانه و ذاته، و لا بدل له كصوم يوم عاشوراء أو النوافل المبتدئة في بعض الأوقات.

ثانيها: ما تعلّق به النهي كذلك و يكون له بدل كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها: ما تعلّق به النهي لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له(1)، خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة بناء على أنّ النهي عنها لأجل اتّحادها مع الكون في مواضعها.

القسم الأوّل: النهي عن عبادة ليس لها بدل

ثمّ إنّه شرع بالإجابة التفصيلية فأجاب عن العبادة التي تعلّق بها النهي

ص:231


1- الترديد لأجل احتمال جزئية الكون للصلاة كاحتمال خروجه عنها.

و ليس لها بدل بأجوبة ثلاثة فقال:

الأوّل: انّ حقيقة النهي عن الصوم يرجع إلى طلب تركه لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة، كالفعل، فحينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين، و الأصل فيهما هو التخيير لو كانا متساويين، و إلاّ فيتعيّن الأهم و إن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً و موافقاً للغرض كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمة، بل الواجبات، و أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة و منقصة فيه أصلاً كما يوجبها ما إذا كان مفسدته غالبة على مصلحته، و لذا لا يقع صحيحاً على الامتناع فانّ الحزازة و المنقصة فيه مانعة عن صلاحية المتقرَّب به بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان و موافقة الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.(1)

و حاصل ما أفاده يعتمد على أُمور:

1. انّ الكراهة في المقام ليست كراهة مصطلحة و هي التي تنشأ من مفسدة في الفعل و حزازة فيه غالبة على مصلحته، إذ لو كان كذلك لامتنعت الصحة، مع انّها أمر اتفاقي، بل هو بمعنى رجحان تركه مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة و المحبوبية. و بعبارة أُخرى النهي ناش من مصلحة في الترك، لا من مفسدة في الفعل.

2. انّ رجحان الترك و كونه محبوباً لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أُمية و لأجل انطباقها عليه صار الترك ذا مصلحة كالفعل.

3. انّ النهي عن الصوم، يؤوّل إلى تعلّق الطلب بالترك، فيخرج المورد عن صلاحية الاستدلال، لعدم تعلّق النهي بالصوم أبداً، بل تعلّق به الأمر فقط، و في

ص:232


1- الكفاية: 2561/255.

الحقيقة هنا طلبان، يتعلّق أحدهما بالفعل و الآخر بالترك فيكون من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لا الأهمية، و إلاّ فيقدم الأهم و إن كان المهم أيضاً يقع صحيحاً لرجحانه و موافقته للغرض، و أرجحية الترك لا توجب منقصة في الفعل بل الفعل يكون ذا مصلحة خالصة و إن كان الترك لأجل انطباق عنوان عليه مثله.

الثاني: نفس ذلك الجواب غير أنّ العنوان الراجح ليس منطبقاً على الترك، بل ملازماً معه كملازمة ترك الصوم مع التمكّن من إقامة العزاء على الحسين) عليه السلام (.

فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل لا محالة يكون الترك أرجح منه، و لا فرق بين العنوان المنطبق و الملازم إلاّ أنّ الطلب في الأوّل يتعلّق بالترك حقيقة، لاتّحاد العنوان مع الترك، بخلاف الثاني فانّ الطلب يتعلّق بالعنوان الراجح الملازم حقيقة، و بالترك بالعرض و المجاز، إذ الملازم خارج عن حقيقة الترك، فلا يتجاوز الطلب عن العنوان إلى الملازم.

الثالث: حمل النهي على الإرشاد إلى أنّ الترك أرجح من الفعل أو ملازم لما هو أرجح و أكثر ثواباً، فيكون النهي متعلّقاً بالصوم حقيقة، لا بالعرض و المجاز كما في الوجه الثاني، و الكراهة في المقام ليس بمعنى المنقصة في الفعل، بل بمعنى كونه أقلّ ثواباً.

ففي الكراهة اصطلاحان، أحدهما وجود المنقصة، و الثاني كون العبادة، أقلّ ثواباً، و هذا هو المراد من قولهم: عبادة مكروهة.

هذا إيضاح ما في الكفاية.

يلاحظ على الجواب الأوّل: أوّلاً بأنّه إذا كان الفعل و الترك متساويين في المصلحة فيصبح الفعل مباحاً لا انّه يكون كلّ منهما مستحبّاً، و يشهد على ذلك

ص:233

انّه لم يقل أحد من الفقهاء بأنّ النوافل المبتدئة في أوقات خاصّة مستحبّة فعلاً و تركاً، أو الإفطار في يوم عاشوراء مستحب فعلاً و تركاً.

و ثانياً: انّ تأويل قوله:» لا تصم يوم عاشوراء «، الذي هو بمعنى الزجر عن الفعل، إلى طلب الترك، بحيث يصبح الترك كالفعل، أمراً مستحبّاً، أمر غير صحيح، فأين الزجر عن الفعل الذي هو مفاد النهي من طلب الترك المقصود منه استحباب الترك.

و يلاحظ على الجواب الثاني: بأنّ إرجاع لا تصم يوم عاشوراء إلى طلب الترك و جعل الثاني كناية عن الدعوة إلى إقامة العزاء للحسين، تأويل في تأويل، مضافاً إلى أنّه يشترط في صحّة الكناية وجود الملازمة العقلية أو العرفية بين ذكر الملزوم و إرادة اللازم، و هي مفقودة في المقام، إذ ربّما صائم يقيم العزاء، و ربّما مفطر لا يقيمه، فكيف يكون النهي عن الصوم المتأوّل إلى طلب الترك، كناية عن إقامة العزاء؟! نعم لا بأس بالجواب الثالث، و هو كون النهي إرشاداً إلى أنّ الفعل أقلّ ثواباً من الترك المنطبق عليه عنوان المخالفة لأعداء الدين الملازم لما هو أرجح من الفعل على فرض صحته.

إلى هنا تمّ تحليل ما أفاده المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة، و قد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخرى ربّما تصل مع الأجوبة لصاحب الكفاية إلى وجوه ستّة، فنقول على غرار ما سبق.

الرابع: انّ السابر في الروايات التي جمعها الحرّ العاملي في الباب 21 من أبواب الصوم المندوب، انّ يوم عاشوراء يوم حزن و مصيبة لأهل البيت و شيعتهم، و يوم فرح و سرور لأعدائهم، و قد صام ذلك اليوم آل زياد و آل مروان شكراً و فرحاً

ص:234

و تبركاً، فمن صامه يقع في زمرة من يصومه شكراً للمصيبة الواردة على أهل البيت و شكراً على سلامة أعدائهم.

فعند ما سأل الراوي عن صوم يوم عاشوراء، قال ذلك يوم قتل فيه الحسين، فإن كنت شامتاً فصم ثمّ قال: إنّ آل أُمية نذروا نذراً إنْ قتل الحسين أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم، يصومون فيه شكراً و يُفرِّحون أولادَهم، فصارت في آل أبي سفيان سنّة إلى اليوم، فلذلك يصومونه و يدخلون على أهاليهم و عيالاتهم الفرح ذلك اليوم، ثمّ قال: الصوم لا يكون للمصيبة و لا يكون إلاّ شكراً للسلامة، و انّ الحسين) عليه السلام (أُصيب يوم عاشوراء فإن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم، و إن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية فصم شكراً للّه تعالى.(1)

فعلى ضوء هذه الروايات فالمبغوض هو التشبّه ببني أُمية و الانسلاك في عدادهم و لو في الظاهر، فقد كانوا متبرّكين بهذا اليوم كما في الزيارة:» اللّهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أُمية و ابن آكلة الأكباد «، و كان صوم ذلك اليوم من مظاهر التشبّه على نحو لولاه لما توجّه إليه نهي، و عندئذ يصبح الصوم مأموراً به، لا منهياً عنه، و إنّما المنهيّ عنه هو التشبّه و الانسلاك في عدادهم في الظاهر، فأين اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد؟ فإن قلت: النهي عن الصوم، كناية عن النهي عن التشبّه يتوقّف على وجود الملازمة بين النهيين كما مرّ في الجواب الثاني للمحقّق الخراساني.

قلت: الملازمة هنا واضحة، بعد شيوع عمل الأمويين و المروانيين في هذا اليوم و انّهم كانوا يصومون ذلك اليوم للتبرّك و الفرح.

الخامس: ما أفاده المحقّق البروجردي من كون الصوم منهيّاً عنه، و ليس

ص:235


1- الوسائل: 7، الباب 21 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 7.

بمأمور به، و لو صام و إن كان صحيحاً لكن الصحة لا تكشف عن الأمر، لاحتمال كونها لأجل الملاك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم بالصحة جازماً فرع وجود الأمر و لولاه لما كان هنا كاشف عن الملاك قطعاً.

السادس: انّ متعلّقي الأمر بالصوم و النهي عنه مختلفان فالأمر تعلّق بنفس الصوم، و النهي تعلّق بالصوم بداعي أمره الاستحبابي فلا يكون متعلّقه متحداً مع متعلّقه ليلزم اجتماع الضدين في شيء واحد، و النهي ليس ناشئاً عن وجود مفسدة في ذات الصوم أو وجود مصلحة في تركه كما عليه المحقّق الخراساني بل هو ناش عن مفسدة في التعبد بهذه العبارة) بقصد أمرها (لما فيه من المشابهة و الموافقة لأعداء الدين فالنهي مولوي حقيقي ناش عن المفسدة في التعبدي.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: نحن نفترض امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّقه و إن كان الحقّ خلافه لكن متعلّق الأمر لباً و حسب حكم العقل، هو إيقاع الصوم بقصد أمره و إلاّ يصبح الصوم واجباً توصلياً و هو خلف الفرض.

فإذا كان متعلّق الأمر هو الصوم بقصد العبادة، و كان هو أيضاً متعلّقاً للنهي يلزم اتحاد متعلق الأمرين.

و ثانياً: أنّ ما ذكره افتراض لا دليل عليه، و لو انّه) قدس سره (اكتفى بما في آخر كلامه من أنّ النهي لأجل المشابهة و الموافقة لأعداء الدين، يكون أفضل و يرجع محصل مرامه إلى ما ذكرنا في الوجه الرابع.

ص:236


1- نهاية الأُصول: 243، و الموجود في اللمعات التي هي تقرير لدرس السيد البروجردي غير ذلك، و يقرب مما ذكرناه في الوجه الرابع فلاحظ.
2- المحاضرات: 4/317 بتلخيص.
القسم الثاني: النهي عن عبادة لها بدل

استدلّ المجوز بورود النهي عن العبادات التي لها بدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام مع تعلّق الأمر بالصلاة مطلقاً، و لما كان المحقّق الخراساني قائلاً بالامتناع حاول أن يصحح النهي على وجه لا يصادم مختاره.

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ جواز الاجتماع يختص بما إذا كان بين المتعلّقين عموم و خصوص من وجه كالصلاة و الغصب دون ما إذا كان بينهما عموم و خصوص مطلق، كالمقام، يكون الاجتماعي و الامتناعي أمام هذا القسم سواء، فيجب على كلتا الطائفتين الإجابة عن الاستدلال، و أمّا لو قلنا بجواز الاجتماع مطلقاً حتّى فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم مطلق، فالاجتماعي في فسحة من الجواب، بل له أن يتّخذ ذلك دليلاً على مدعاه.

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى الجواز مطلقاً من غير فرق بين العموم من وجه أو العموم المطلق، و لذلك قال في المقام: نحن في فسحة من القسمين الأخيرين) القسم الثاني و الثالث (، لأنّا اخترنا الجواز كما تقدّم.(1)

و قال أيضاً: و هل يجري النزاع في الأخص المطلق، كالأخص من وجه حسب المورد؟ الظاهر جريانه فيه، و يلتزم الاجتماعي بالجواز في كلا الموردين، فلو فرض أنّ خياطة الثوب تكون ذات مصلحة تامّة ملزمة و كانت تمام الموضوع لتلك المصلحة بلا مدخلية شيء وجودي أو عدمي فيها بأن يتعلّق الأمر بها بنفس ذاتها على الإطلاق أي بلا دخالة قيد فيها لا بمعنى السراية إلى الافراد.

و لو فرض انّ في خياطته في دار زيد مفسدة تامّة بحيث تكون الخياطة فيها

ص:237


1- لمحات الأُصول: 336.

تمام الموضوع للمفسدة، فلا بدّ أن يتعلّق النهي بها، فلو خاط المكلّف الثوب في دار زيد أتى بمورد الأمر بلا إشكال لتحقق الخياطة التي هي تمام الموضوع بلا مدخلية أمر وجودي أو عدمي، و أتى بمورد النهي الذي هو الخياطة في دار زيد و تكون تمام الموضوع للمفسدة و النهي، فأصل الخياطة مأمور بها، و هي مع التقييد الكذائي منهي عنها، فهما مفهومان، قد تعلّق النهي بأحدهما، و الأمر بالآخر، و أخذ أحدهما في الآخر لا يوجب اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بجهة واحدة، و اجتماعهما في الوجود بسوء اختيار المكلّف لا يوجب امتناعاً في ناحية التكليف.(1) و أشار السيد الأُستاذ إلى المسألة و ذكر لكلّ من جريان النزاع فيها و عدمه وجهاً و لم يختر شيئاً و قال: و المسألة محل إشكال.

و الكلام(2) الحاسم في المقام: هو انّ النهي في المقام على أقسام:

1. أن يكون النهي إرشاداً إلى مانعية هذه الأُمور عن الصلاة و تقييدها بعدمها كما في النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل و النجس و الميتة، فيكون النهي مقيِّداً لإطلاق ما دلّ على صحّة العبادة، دالاًّ على الفساد في العبادات و المعاملات، فهذا القسم خارج عن محط البحث.

2. أن يكون النهي لبيان حكم تحريمي كالنهي عن الوضوء و الغسل من الماء المغصوب، فالنهي يدلّ على مبغوضية متعلّقه) الوضوء بماء مغصوب (، و معه يقيّد إطلاق الأمر بالوضوء، إذ مقتضى النهي، عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج و عدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها، عليه، و هذا أيضاً خارج عن محط البحث، إذ التقييد في هذين القسمين ممّا لا بدّ منه.

ص:238


1- لمحات الأُصول: 230.
2- تهذيب الأُصول: 3901/389.

3. أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلّقه، ففي مثل هذا لا وجه لتقييد إطلاق متعلّق الواجب، لأنّه غير مانع عن إيجاد الطبيعة في مثل هذا الفرد، غير أنّه يرى أنّ الأفضل هو غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة.

و على ذلك لا مانع من اجتماع الأمر و النهي، و قد عرفت أنّ الميزان في صدق التزاحم عدم التكاذب في مقام الجعل و التشريع، و المفروض انّه كذلك، إذ لا مانع من الأمر بالطبيعة على وجه الإطلاق، ثمّ النهي التنزيهي عن قسم خاص منها، و يكون النهي مولوياً تنزيهياً.

إجابة المحقّق الخراساني عن القسم الثاني

ثمّ إنّ المحقّق، لما اختار امتناع الاجتماع، حاول تأويل الاستدلال بهذا النوع من الاجتماع بحمل النهي على الإرشاد إلى انطباق عنوان قبيح على الفعل، فقال: إنّ النهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأوّل، كما يمكن أن يكون لأجل وجه رابع. و الفرق بين هذا الجواب و ما سبق من الأجوبة الثلاثة انّ بناء الأجوبة الثلاثة على انطباق عنوان راجح على الترك أو ملازمته معه، و أمّا هذا الجواب فالعنوان القبيح ) مكان الراجح في الثلاثة (منطبق على الفعل، و ذلك لأنّ الطبيعة تارة تتشخّص بمشخّص غير ملائم لها كالصلاة في الحمام فانّه مركز الخبث و الوسخ فلا يصلح أن يكون وعاء للمعراج، و أُخرى تتشخّص بمشخّص شديد الملاءمة معها كالصلاة في المسجد، و ثالثة تتشخّص بما لا يكون معه شديد الملاءمة و لا عدمها كالصلاة في الدار، و يكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيّتها فيه، إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد و يكون أكثر ثواباً.

و هذا مراد مَن يفسر الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثواباً، المدار في القلة

ص:239

و الكثرة هو نفس الطبيعة إذا تشخصت الطبيعة بما لا تكون معه شدّة الملاءمة) كالصلاة في البيت ( و لا عدم الملاءمة، فإن زاد ثواب الفرد على الثواب المرتب على الطبيعة الكذائية يكون مستحبّاً و إن نقص كان مكروهاً.

و لا يرد على هذا، بأنّ لازمه وصف عامّة افراد الطبيعة بالكراهة إلاّ الفرد الأعلى، لما عرفت من أنّ الميزان في التفضيل و التنقيص هو الطبيعة المتوسطة فالراجح عليها، مستحبّ و المرجوح بالنسبة إليها، مكروه.

القسم الثالث: تعلّق النهي بشيء خارج عن العبادة

إنّ للقسم الثالث ظاهراً و واقعاً، فالنهي حسب الظاهر تعلّق بالعبادة و قال: صلّ، و لا تصلّ في مواضع التهمة، فصار كالقسم الثاني من حيث إنّ النسبة بين المتعلّقين، هو العموم و الخصوص المطلق، و أمّا حسب الواقع فالنهي تعلّق بالكون في مواضع التهمة، لأجل الصلاة أو غيرها، فالكون إمّا من خصوصيات المأمور به أو من لوازمه، و النسبة بين المتعلّقين هو العموم و الخصوص من وجه كالصلاة و الغصب، و على هذا فالاجتماعي في فسحة من الإجابة، بل يعدّ ذلك من دلائل رأيه.

و بما انّ المستدل، استدلّ بظاهر الكلام و انّ العبادة في مكان خاص صارت متعلّقة للنهي دون خصوص الكون في المكان، لزمت على الاجتماعي أيضاً، الإجابة عن الإشكال.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذكر عن جانب الاجتماعي جوابين:

أحدهما: مبني على التصرف في متعلّق النهي.

ثانيهما: مبني على التصرف في مفهوم الحكم و معناه.

ص:240

أمّا الأوّل فبأن يقال انّ الأمر تعلّق بالعبادة، و النهي لم يتعلق بها أبداً، بل تعلّق بالكون فيها و لو نسب إلى العبادة فإنّما هو بالعرض و المجاز، فالنهي المولوي تعلّق بالكون حقيقة و بالعبادة مجازاً.

و إلى هذا الوجه أشار في» الكفاية «بقوله:» فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة، المتحدة مع ذلك العنوان أو الملازمة له، بالعرض و المجاز و كان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان «.

أمّا الثاني، فبحمل الأمر على الإرشاد، إلى ما ليس فيه هذا النقص و لا مانع من اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، إذا كان النهي إرشادياً.

و إلى هذا الوجه أشار في» الكفاية «بقوله:» و يمكن أن يكون النهي على الحقيقة إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد ممّا لا يكون متحداً معه أو ملازماً له، إذ المفروض التمكّن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً «.(1)

و أمّا الإجابة عنه على القول بالامتناع فالعنوان الموجب للنقصان لا يخلو إمّا أن يكون ملازماً للصلاة، أو عنواناً منطبقاً.

أمّا الأوّل فيمكن أن يقال بنفس الجواب المذكور على القول بالاجتماع، غاية الأمر انّ الاجتماعي يقول به مطلقاً في العنوان المتحد و الملازم، و الامتناعي يقول به حسب أُصوله في خصوص الملازم، بأن يقول: انّ الأمر تعلّق بالعبادة و النهي تعلّق بالعنوان الملازم، و لو نسب إلى العبادة، فإنّما هو بالعرض و المجاز و لا مانع من اختلاف المتلازمين في الحكم إذا لم يكونا متساويين كالصلاة، و الكون في مواضع التهمة الملازم لعنوان قبيح.

ص:241


1- كفاية الأُصول: 1/259.

و إنّما قلنا: إنّ هذا النوع في الجواب من الامتناعي يجري في العنوان الملازم دون العنوان المنطبق، لأنّه لو تعلّق النهي بالعنوان المنطبق، المتحد مع الصلاة يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد و لو بعنوانين، و هو خلاف المختار عند الامتناعي، و لذا اقتصر بهذا الجواب في خصوص الملازم بخلاف الاجتماعي فانّه لقوله بالجواز، لم يفرق بين الملازم و المنطبق.

أمّا الثاني، فيحمل النهي على الإرشاد إلى أفضل الأفراد، و التحرز، عن الفرد الفاقد للفضيلة، و لا مانع من الجمع بين الأمر و النهي الإرشادي و إن تعلّق بشيء واحد لكن بعنوانين.

و على كلّ تقدير فالصلاة على القولين صحيحة، لأنّ النهي التنزيهي لا يوجب تقييد إطلاق دليل العبادة، إذ معنى التنزيه هو الدعوة إلى العدول إلى الأفراد الأُخرى، مع تجويز إيجاد الطبيعة بالفرد المنهيّ.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار في ذيل كلامه إلى أُمور، أوضحها شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في الدورة السابقة و طوى الكلام فيها في هذه الدورة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد محمود الجلالي.(1)

ص:242


1- المحصول: 2502/247.
تنبيهات
اشارة

1

التنبيه الأول في حكم الاضطرار إلى الحرام
اشارة

إنّ لارتكاب الحرام صوراً أشار المحقّق الخراساني في كفايته إلى ثلاث منها:

الأُولى: إذا كان المكلّف متمكّناً من امتثال الواجب في غير المكان المغصوب و لكنّه أتى به فيه عن اختيار، و هذه هي التي مضى الكلام فيها تحت جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين.

الثانية: إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن لا بسوء الاختيار كما إذا كان محبوساً في الدار المغصوبة فيقع الكلام في دخوله، و بقائه، و خروجه و حكم العبادة في هذه الحالات.

الثالثة: إذا اضطرّ إلى ارتكاب الحرام لكن بسوء اختياره، كما إذا دخل أرض الغير للتنزّه و أراد الخروج فهو مضطر إلى التصرف في أرض الغير عند الخروج، لكن الاضطرار طارئ عليه بسوء اختيار، إذ لم يكن هناك أيُّ إلزام على الدخول، ليضطرّ في ترك الغصب إلى الخروج الذي هو تصرّف فيه أيضاً، فيقع الكلام في حكم الخروج تكليفاً أوّلاً، و حكم الصلاة الواقعة حال الخروج وضعاً ثانياً، و هذا هو المقصود من عقد هذا التنبيه، و إليك دراسة القسمين واحداً تلو الآخر.

ص:243

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار

إذا حبسه الظالم في مكان مغصوب، فالاضطرار لا عن اختيار رافع للحرمة التكليفية دخولاً و بقاءً و خروجاً أخذاً بالأدلّة.

1. قال سبحانه: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ). (1)فالآية دالة على أنّ الأحكام محدّدة بالقدرة و الوسع، فإذا كانت فوقها، فليس هناك أي حكم للشرع.

2. حديث الرفع، روى الصدوق في خصاله عن شيخه أحمد بن محمد بن يحيى) رضي الله عنه (عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه... «.(2) و الرواية صحيحة و رواتها كلّهم ثقات، و أحمد بن محمد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ثقة بلا إشكال، و عدم ورود التوثيق في حقّه في الكتب الرجالية لأجل انّ المشايخ فوق التوثيق أوّلاً، و القرائن تشهد على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى ثانياً، لأنّ الشيخ الصدوق يروي عنه و يترضّى عليه و يقول) رضي الله عنه (، و إكثار الثقات النقل عنه ثالثاً، فإنّ الثقة و إن كان يروي عن غير الثقة أحياناً و لكن كثرة النقل عن الضعيف كان من أسباب الجرح عند القدماء، و لذلك أخرج الرئيس أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري محدّثين عظيمين من قم أعني بهما: أحمد بن محمد بن خالد و سهل بن زياد الآدمي و ما هذا إلاّ لكثرة نقلهما عن الضعاف من دون أي غمز فيهما.

ص:244


1- البقرة: 286.
2- الخصال: 2، باب التسعة، الحديث 8.
في عبادة المحبوس المضطر

هذا كلّه حول الحكم التكليفي إنّما الكلام في الحكم الوضعي، أي صحّة عبادته في الحالات الثلاث دخولاً و بقاءً و خروجاً.

فلو قلنا بجواز الاجتماع فالحكم بالصحة موافق للقواعد بشرط تمشي قصد القربة، كما أنّه لو قلنا بالامتناع و قدّمنا الأمر على النهي فكذلك إنّما الكلام في القول بالعكس، أي قلنا بالامتناع و قدّمنا النهي على الأمر، فالتحقيق صحّة عبادة ذلك المضطر بغير سوء الاختيار.

لأنّ الاضطرار يرفع الحرمة التكليفية و العقوبة، و لكن ملاك الوجوب لو كان يكون مؤثراً، و ذلك لأنّه لو كان الاضطرار بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة فانّ سقوط الخطاب لا يلازم الصحة، لأنّه يصدر عنه مبغوضاً عليه و عصياناً لذلك الخطاب و مستحقاً عليه العقاب، و لكن المفروض انّ الاضطرار لم يكن بسوء الاختيار، بل فُرِض عليه ارتكابُ المحرّم من جانب القويّ القاهر و عندئذ فالحرمة مع تقدّمها على الأمر عند الامتناعي شأنية و ملاك الوجوب باق مؤثر فيكون صحيحاً.

يقول المحقّق الخراساني: إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام إن كان يوجب ارتفاع حرمته و العقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثراً له كما إذا لم يكن بحرام.(1)

فإن قلت: إنّ المانع عن تحقّق الوجوب ليس هو الحرمة الفعلية، حتّى يصير

ص:245


1- قوله:» لو كان مؤثراً له «لفظة» كان «تامة فاعلها ضمير الملاك، و قوله» مؤثراً «حال من ملاكه و معنى العبارة: بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب لو كان مؤثراً في الوجوب و مقتضياً له لسقوط ملاك التحريم من صلاحية المزاحمة له فيترتب على بقاء الملاك أثره فعلاً.

ارتفاعها سبباً لتحقّقه، بل المانع عن تحقّقه و تأثير ملاكه فيه، هو أقوائية ملاك الحرمة) أعني: المفسدة الداعية إلى جعلها (من ملاك الوجوب) أعني المصلحة الباعثة نحو الإيجاب (فما دامت المفسدة باقية على قوتها لا مجال لتأثير ملاك الوجوب و إن كان هنا مانع عن فعلية الحرمة أيضاً.(1)

قلت: هذا ما ذكره السيّد المحقّق البروجردي لكن وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب) كالصلاة ( عند الاضطرار أوّل الكلام، لأنّ العلم بالملاك رهن وجود الحكم و فعليته، و مع عدم الفعلية كما هو المفروض كيف نستكشف وجود المفسدة الأقوى من مصلحة الواجب.

مثلاً انّ التصرف في مال الغير أمر قبيح عقلاً، لأنّه يعدّ من شقوق الظلم و التعدي على حقوقه و أمواله، و من المعلوم أنّ استقلال العقل بقبح التصرف بمال الغير محدّد بصورة الاختيار، و المفروض انّه مضطر غير مختار، بل فُرِض عليه التصرف في مال الغير فيكون عمله فاقداً للمفسدة و لو كان هناك ذمّ أو عقاب فإنّما لحامله على الحرام.

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي قاس المقام بالخمر الذي اضطرّ إلى شربه فكما أنّ ارتفاع حرمته لا يصير شربه راجحاً أو واجباً، فهكذا المقام.

فقال: مثلاً انّ الخمر مع كونه ذا مصلحة و منفعة، لكن لما كانت مفسدته راجحة، و إثمه أكبر من نفعه، صار حراماً لغلبة الملاك فلو فرضنا الاضطرار إلى شربه لمرض أو شبهه و ارتفع الخطاب لأجله، فلا يصير راجحاً أو واجباً بمجرده.

نعم لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أُخرى ملزمة أو راجحة على المفسدة صار الفعل لا محالة واجباً لكن هذا غير ما أفاده) قدس سره (.(2)

ص:246


1- نهاية الأُصول: 244، الطبعة الأُولى.
2- لمحات الأُصول: 239.

أقول: البحث في كلام المحقّق الخراساني مركّز على ما إذا كان هناك ملاكان ملزمان للوجوب و الحرمة كالصلاة و الغصب، غير أنّ ملاك الغصب غلب على ملاك الصلاة فقدم النهي على الأمر، فإذا زال النهي لأجل الاضطرار يكون ملاك الوجوب مؤثراً، لأنّ انقلاب الحرمة الفعلية إلى الشأنيّة يكون كاشفاً عن ضعف الملاك في هذه الحالة.

و بذلك تظهر الحال في المثال الذي ذكره، إذ ليس في شرب الخمر، ملاك ملزم لا قبل الشرب و لا بعده، حتّى يؤثر في الوجوب، و لذلك لا يوصف به، نعم لو طرأ ملاك ملزم كما أشار إليه في آخر كلامه كما إذا توقفت حياة الإنسان عليه، يوصف العمل بالوجوب و يكون ملاكاً مؤثراً.

ثمّ إنّه) قدس سره (بين أقسام الاضطرار و علاجه فمن أراد فليرجع إليه.

فإن قلت: لو كان النهي عن التصرف في المغصوب موجباً لتقيد الصلاة بقيد وجودي كلزوم كون الصلاة في مكان مباح أو بقيد عدمي كاشتراطها بعدم كونها في مكان مغصوب الذي مرجعه إلى مانعية الغصب لصحتها، فعندئذ يكون المأمور به مقيداً بقيد وجودي) إذا كانت الإباحة شرطاً (أو عدمي) إذا كان الغصب مانعاً (و مع عدم إمكان تحصيله يسقط الأمر بالمركب لعدم إمكان تحصيله، لا أنّ الواجب ينحصر في الباقي و يصحّ الإتيان به.

قلت: إنّ الأحكام الوضعية من الشرطية أو المانعية أُمور منتزعة من الأحكام التكليفية، فلو كان الحكم التكليفي مرفوعاً بفضل القرآن و السنّة فلا يبقى لاحتمال الشرطية و المانعية في هذه الحالة مجال. فسعة الحكم الوضعي و ضيقه تابع لسعة الحكم التكليفي و ضيقه فبارتفاعه يرتفع الوضعي.

فالظاهر صحّة عامة عباداته إلاّ ما كان له بدل مباح، فإذا دار الأمر بين

ص:247

الوضوء بماء مغصوب أو التيمم بالتراب فالثاني مقدّم على الأوّل.

فإن قلت: على هذا يجب على المحبوس الاقتصار على الإيماء و الإشارة بدلاً عن الركوع و السجود باعتبار انّهما تصرف زائد على مقدار الضرورة.(1)

قلت: ذهب جماعة إلى أنّه لا بدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار، و إليه ذهب الشيخ المحقّق النائيني قائلاً بأنّ الركوع و السجود تصرف زائد عند العرف فيجب الاقتصار على الإيماء.

و لكن الصحيح ما اختاره تلميذه أعني: المحقّق الخوئي و حاصله: عدم الفرق بين كون المكلّف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة أو كونه على هيئات متعدّدة، و ذلك لأنّ كلّ جسم له حجم خاص و مقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه، و من الطبيعي أنّ مقدار أخذه المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه و أشكاله الهندسية من المثلث و المربع و ما شاكلهما بداهة انّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته و أوضاعه، و لا تختلف تلك النسبة زيادة و نقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه، مثلاً إذا اضطر الإنسان إلى البقاء في المكان المغصوب لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه و ان يكون راكعاً أو ساجداً، فكما أنّ الركوع و السجود تصرف فيه فكذلك القيام و القعود، فلا فرق بينها من هذه الناحية أصلاً.

حكم الاضطرار بسوء الاختيار

هذا هو الموضع الثاني الذي عقد لبيانه هذا التنبيه، و يقع الكلام في موارد:

ص:248


1- المحاضرات: 4/355. و لاحظ جواهر الكلام: 8/300.

1. حكم الدخول.

2. حكم الخروج تكليفاً.

3. حكم العبادة حين الخروج وضعاً.

أمّا الأوّل أي حكم الدخول فلا شكّ انّه أمر محرم،

لأنّه تصرّف في مال الغير بلا عذر فيكون محرماً، إنّما الكلام في الأمر الثاني، و هذا ما سندرسه.

الثاني: حكم الخروج تكليفاً

إذا توسط أرضاً مغصوبة بسوء الاختيار كأن دخل حديقة الغير للتنزّه و غيره، ثمّ حاول أن يخرج و يترك الغصب، فما هو حكم الخروج من حيث الحكم التكليفي؟ هناك أقوال:

1. انّ الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي و ليس بواجب شرعاً، و هو خيرة السيد البروجردي و السيد الأُستاذ قدس سرهما.

2. انّه مأمور به شرعاً و ليس وراء الأمر أي حكم شرعي، و هو خيرة المحقّق الأنصاري و النائيني.

3. انّه مأمور به شرعاً لكن مع جريان حكم المعصية عليه حيث إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار، اختاره صاحب الفصول.

4. انّه واجب و حرام بالفعل، و هو خيرة أبي هاشم الجبائي المعتزلي) المتوفّى عام 321 ه (و اختاره المحقّق القمي.

5. انّه واجب عقلاً لدفع أشد المحذورين بارتكاب أخف القبيحين و ليس محكوماً بحكم شرعي بالفعل.

نعم هو منهي عنه بالنهي السابق الساقط

ص:249

بالاضطرار، و هذا خيرة المحقّق الخراساني و هو الأقوى.

6. انّه مأمور به و منهي عنه لكن بالترتّب فكأنّه قال: لا تغصب، و هو يشمل الدخول و البقاء و الخروج، ثمّ قال: فإن عصيت فاخرج.

هذه هي الأقوال الستة فلندرس قول المحقّق الخراساني أوّلاً، ثمّ بقية الأقوال ثانياً.

فقوله مركّب من أُمور:

1. واجب بالوجوب العقلي.

2. ليس واجباً بالوجوب الشرعي.

3. منهي عنه بالنهي السابق الساقط.

4. انّ أثر النهي و هو العقاب باق.

و إليك دراسة الأُمور الأربعة:

أمّا الأوّل، فلاستقلال العقل بوجوب الخروج و التخلّص، لأنّه الطريق الوحيد للتخلّص من أشدِّ المحذورين بارتكاب أقلّهما، فلو دار الأمر بين قليل العصيان و كثيره فالعقل يستقل بتقديم الأقل.

و أمّا الثاني، أي ليس محكوماً بحكم شرعي من الوجوب، و ذلك لأنّه لو كان واجباً فإمّا أن يكون وجوبه نفسيّاً أو مقدّمياً.

أمّا النفسي فلم يرد في الشرع ما يدلّ على وجوب الخروج من المغصوب و إنّما ورد المنع عن التصرّف في المغصوب.

و أمّا الغيري فهو فرع القول بأنّ حرمة الشيء تلازم وجوب ضدّه العام، أعني: تركه، كحرمة الغصب الملازم لوجوب تركه، فإذا وجب الترك تجب مقدّمته، أعني: الخروج حيث إنّه مقدمة لترك الغصب، أو يقال كما يأتي عن

ص:250

الشيخ بأنّ حرمة البقاء الذي هو من مصاديق الغصب، يستلزم وجوب تركه و الخروج مقدّمة له.

و من المعلوم أنّ المقدّمات ممنوعة لعدم دلالة حرمة الشيء على وجوب تركه حتّى تجب مقدّمته.

و أمّا الثالث، أي كون النهي السابق ساقطاً فلأجل عدم إمكان امتثاله بعد التوسط، فقوله: لا تغصب، و إن كان قبل الدخول يعمّ الدخول و البقاء و الخروج، لأنّ الجميع من مصاديق الغصب، لكنّه بعد الدخول و لو بسوء الاختيار لا يتمكن المكلّف من امتثال قوله لا تغصب المتمثّل في البقاء و الخروج.

نعم ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى تصحيح وجوب الخطاب) لا تغصب (و لو بعد ما توسط الأرض المغصوبة قائلاً: بأنّه يكفي في صحّة الخطاب ترتّب الأثر عليه و إن كان الأثر نفس العقاب، و يكفي في القدرة، القدرة على الامتثال في ظرف من الظروف، و الشرطان حاصلان و المكلّف كان قادراً على ترك التصرّف الخروجي قبل الدخول، و هو يكفي في بقاء الخطاب حتى في صورة العجز عن الامتثال كما إذا توسّطها، و فائدة الخطاب مع عجزه هي صحّة عقابه و مؤاخذته.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين الخطاب النابع عن الإرادة الجدّية في حال الاضطرار و بين قيام الحجة على المضطر في هذا الظرف، و الأوّل منتف، لامتناع تعلّق الإرادة بفعل العاجز، و الثاني ثابت بلا كلام، لأنّ القدرة قبل الدخول أتمّت الحجّة على العبد في جميع أحواله من الدخول و البقاء و الخروج، و القدرة في ظرف خاص إنّما تكفي في إتمام الحجّة حين المخالفة لا في توجّه الخطاب.

و أمّا الرابع، فهو جريان حكم المعصية عليه و كونه معاقباً فقد علم ممّا ذكرنا

ص:251


1- التعليقة على الكفاية: 143.

حيث إنّ القدرة في ظرف من الظروف أعني: قبل الدخول تصحح العقوبة على التصرّف الخروجي و إن لم يكن في ظرف العمل قادراً، و قد عرفت فيما سبق أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكاً و عقوبة.

نعم ينافي الاختيار حكماً و خطاباً و لذاك قلنا بسقوط الخطاب السابق و بقاء الملاك، أعني: العقاب و هو الرابع.

و بذلك يظهر الحال فيما أفاده السيد المحقّق البروجردي حيث قال: إذا سقط النهي فلا معنى للعصيان و المخالفة و مجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب المخالفة و العصيان، مع عدم النهي الفعلي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ صدق العصيان، ليس رهن النهي الفعلي، بل يكفي في ذلك تمامية الحجّة عليه و لو قبل العمل، فالساقط من شاهق عاص بسقوطه و إن لم يكن النهي فعلياً، لتمامية الحجّة عليه، فمن علم بنجاسة أحد الإناءين تمّت الحجّة عليه و لزمه الاجتناب مطلقاً، و لو اضطرّ إلى أحد الأطراف لا يحل له الطرف الآخر و إن لم يكن العلم الإجمالي موجوداً لتماميّة الحجّة عليه قبل الاضطرار، و هو كاف في إيجاب الاجتناب عن الإناء غير المضطر إليه.

فخرجنا بالنتيجة التالية: نظرية المحقّق الخراساني هي أقوى النظريات في المقام، فلندرس سائر

الأقوال على الترتيب المذكور في صدر البحث.
الأوّل: الخروج منهي عنه بالنهي الفعلي فقط

ذهب السيد المحقّق البروجردي إلى أنّ الخروج حرام و ليس بواجب، أمّا أنّه حرام فلأنّ التصرّف في مال الغير، بغير إذنه أو مع نهيه، حرام و خروج عن طاعة

ص:252


1- لمحات: 242.

المولى، من دون فرق بين التصرّف الدخولي و الخروجي في نظر العقل فإنّه يرى جميع التصرفات في كونها معصية و خروجاً عن رسم العبودية متساوية.

و أمّا أنّه ليس بواجب، فلأنّ وجوبه إمّا بالخصوص فلا دليل عليه، و إمّا لكونه مقدّمة لترك الغصب الواجب، فهو أيضاً مثله، إذ لم يرد دليل على وجوب ترك الغصب و ما ورد من أنّ الغصب مردود، فإنّما تأكيد لحرمة الغصب.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ حرمة الخروج إمّا لأجل تعلّق النهي به بالخصوص، أو لأجل انّه تصرّف في مال الغير; أمّا الأوّل فهو دفع الفاسد بالأفسد، لأنّ النهي عن الخروج بما هو هو يستلزم البقاء في المغصوب إلى آخر العمر و هو أشدّ محذوراً، و أمّا الثاني فهو يستلزم التكليف بالمحال، لعدم قدرته على امتثال ذلك النهي إلاّ أن يلتجئ إلى البقاء، و هو أيضاً حرام.

فإن قلت: إنّ الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار.

قلت: قد سبق انّ القاعدة صحيحة، و لكن المراد أنّه لا ينافي ملاكاً و عقاباً، لا خطاباً و حكماً، فهو معاقب إذ كان في وسعه امتثال هذا النهي الشامل للخروج أيضاً بترك الدخول، لأنّه عصى و دخل فيعاقب على الخروج للنهي السابق الساقط لا أنّه مخاطب بالفعل بالنهي عن الخروج.

ثمّ إنّ السيد الأُستاذ) قدس سره (اختار نظرية السيد البروجردي و استدلّ عليه لكن بطريق آخر، و هو ما اختاره من أنّ خطابات الشرع، خطابات قانونية و ليست خطابات شخصية، و يكفي في صحّة الخطاب القانوني، اجتماعُ الشرائط العامّة في كثير من المكلّفين لا في كلّ واحد، بخلاف الخطاب الشخصي فانّه يشترط اجتماع الشرائط العامة في كلّ مخاطب بالخصوص.

ص:253


1- لمحات: 244.

توضيح ذلك: انّ الخطاب تارة يتعلّق بالعنوان الكلّي كالناس و المؤمنين، و أُخرى بفرد معيّن، و معنى الخطاب في الأوّل جعل الحكم على العنوان الكلّي من دون لحاظ كلّ واحد واحد من الأفراد التي ينطبق عليها العنوان، و يكفي في صحّة الخطاب و عدم لغويته، اجتماع الشرائط في كثير من مصاديق العنوان، لا في كلّ واحد، بخلاف الخطاب الشخصي، فانّ الصحّة فيه رهن اجتماع الشرائط في نفس المخاطب.

فإن قلت: إنّ العقل يتصرّف في الخطابات القانونية، و يقيّدها بالقدرة، فعندئذ يكون الخطاب القانوني، كالخطاب الشخصي في اعتبار القدرة في كليهما.

قلت: ليس من شأن العقل، التصرّفُ في إرادة الغير و خطابه، غاية ما في الباب أنّ للعقل، التعذير، فإذا كان بعض المكلّفين فاقداً للشرط أو الشرائط يعدّه معذوراً في مخالفة التكليف من دون أن يتصرّف في إرادة المولى، أو خطابه.

و على ضوء ذلك يكون الخروج محرّماً و مصداقاً للحكم الكلّي، أعني: حرمة التصرّف في مال الغير المطلق الشامل للقادر و العاجز، و أمّا التعذير فإنّما يصحّ إذا كان بغير سوء الاختيار، دون ما إذا كان معه كما في المقام.

فخرجنا بالنتيجة التالية: من كون التصرّف» الخروج «حراماً لكونه مصداقاً لحرمة التصرّف في مال، و انّ الخطاب أو الحكم شامل، و إن كان عاجزاً، إذ لا يشترط القدرة في كلّ واحد من الأفراد، و أمّا التعذير فهو منتف لأجل سوء الاختيار.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: بالنقض بالخطاب الشخصي فإنّه مقيّد بالقدرة، مع كون الخطاب أو الحكم مطلقاً، فهل المقيّد هو المولى أو العقل؟ و الأوّل منتف لإطلاق

ص:254


1- تهذيب الأُصول: 1/404.

خطابه و كلامه، و الثاني يستلزم تصرّف العقل في إرادة المولى.

و ثانياً: أنّ العقل لا يتصرّف في إرادة المولى و إنّما يكشف عن ضيق إرادته و عدم تعلّقها إلاّ بالقادر، فكم فرق بين التصرّف في إرادة المولى و حمله على ما يحكم به العقل، و بين كشف العقل عما في ضمير الجاعل و صميم ذهنه، و هو انّ الطلب من العاجز و إن كان بسوء الاختيار غير صحيح، لأنّه تكليف بالمحال.

و ثالثاً: بما تقدّم في باب الترتب من أنّ الإجمال في مقام الثبوت غير ممكن، فلو سئل المولى عن عموم حكمه للعاجز، لأجاب بالنفي، لأنّه تكليف بالمحال.

الثاني: الخروج واجب شرعاً

ذهب الشيخ الأنصاري و المحقّق النائيني إلى أنّ الخروج واجب شرعاً و ليس وراء الوجوب حكم سواه، و استدلّ عليه بوجوه ثلاثة نقلها المحقّق الخراساني بصورة السؤال و الجواب.

الأوّل: أنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء الواجب الأهم، و مقدّمة الواجب، واجبة، فلا يكون منهياً عنه لامتناع الاجتماع.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

أوّلاً: أنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة إذا كانت مباحة لا محرمة، و كون الواجب أهمّ من المقدّمة المحرّمة و إن كان يوجب وجوبها إلاّ أنّه فيما إذا لم يكن بسوء الاختيار، و معه لا يتغير عمّا هو عليه من الحرمة و المبغوضية.

توضيحه: انّ المقدّمة المحرّمة على أقسام ثلاثة:

1. أن لا تكون المقدّمة منحصرة بالحرام، بل كان معها مقدّمة مباحة، و عندئذ لا توصف المقدّمة المحرمة بالوجوب لعدم الانحصار، و بالتالي عدم

ص:255

التوقف عليه.

2. أن تكون المقدمة منحصرة به، و لكن لم يكن الابتلاء بها عن سوء الاختيار، فلو كان الواجب أهمّ من حرمة المقدّمة ليطرأ عليها الوجوب، كالمحبوس في مكان مغصوب إذا أُطلق سراحه فيكون الخروج واجباً على فرض وجوب ترك البقاء.

3. تلك الصورة و لكن كان الابتلاء بسوء الاختيار كما في المقام، فلا توصف المقدّمة بالخروج شرعاً و إن كان الواجب أهمّ من المقدمة، غير أنّ العقل يحكم بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين.

و ثانياً: لو قلنا بوجوب المقدمة) الخروج (في هذه الحالة يلزم أن تكون حرمة الخروج و وجوبها، معلّقة على إرادة المكلّف، فلو لم يدخل، يبقى الخروج على حرمته، لكونه من مصاديق الغصب; و إن دخل، صار واجباً بحكم كونه مقدّمة للواجب.(1)

و الأولى أن يجاب بأنّ أصل الدليل باطل، لأنّه مبني على وجوب» ترك البقاء «الذي مقدّمته الخروج، مع أنّ الحكم الشرعي في المقام هو حرمة الغصب، لا وجوب ترك البقاء، اللّهم إلاّ إذا قلنا بأنّه إذا حرم الشيء) البقاء بما أنّه من مصاديق الغصب (، وجب تركه أخذاً بالقاعدة المعروفة من أنّ حرمة الشيء تستلزم وجوب ضدّه العام أي الترك و قد عرفت في مبحث الضدّ عدم صحته.

*** الثاني: انّ التصرّف في أرض الغير حرام دخولاً و بقاءً، و أمّا التصرّف الخروجي فليس بحرام، أمّا قبل الدخول فلعدم التمكّن منه، و أمّا بعده فلكونه

ص:256


1- كفاية الأُصول: 2651/264.

مضطرّاً إليه لانّه سبب للتخلص، فحاله حال من يشرب الخمر للتخلص عن الوقوع في التهلكة.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. بالنقض بالبقاء فانّه غير مقدور قبل الدخول، مع أنّه حرام، و بالنقض بالأفعال التوليدية كالإحراق المترتّبة على الأفعال المباشرية كالإلقاء فإنّ تركها بتركها و إيجادها بإيجادها.

2. بالحل فانّ التصرّف الخروجي مقدور، غاية الأمر انّه مقدور بالواسطة، فتركه بترك الدخول، و المقدور بالواسطة مقدور أيضاً، و كون ترك الخروج بترك الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع لا يضرّ في صدق المقدورية.

و إلى هذا الوجه أشار بقوله:» ضرورة تمكّنه من) ترك الخروج (قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره، و بالجملة كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً غاية الأمر يتمكّن من الدخول بلا واسطة، و من الخروج بالواسطة، و مجرّد عدم التمكّن منه إلاّ بالواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً.

3. انّ قياس الخروج بشرب الخمر لأجل التخلّص من الهلكة قياس مع الفارق، لأنّ اضطراره إلى شرب الخمر لم يكن بسوء الاختيار، كما إذا لسعه العقرب فاضطرّ إلى شرب الخمر بتجويز الطبيب، بخلاف المقام.

و إلى هذا الوجه أشار بقوله:» و من هنا ظهر حال شرب الخمر... «.

و نشير في المقام إلى نكتتين:

الأُولى: انّ الاستدلال و الإجابة مبنيّان على أنّ كلا من الدخول و البقاء، و الخروج متعلّقات للحرمة بعناوينها، فعندئذ يُوجَّه استدلال الشيخ بأنّه كيف يكون الخروج حراماً، مع أنّه غير مقدور؟ كما يوجّه إجابة المحقق الخراساني بأنّه

ص:257

مقدور بالواسطة.

و لكن الحقّ أنّ هنا حكماً واحداً متعلّقاً بموضوع واحد، و هو حرمة التصرف في مال الغير إذا كان بسوء الاختيار، فكلّ من الدخول و البقاء و الخروج، حرام لأجل انّها من مصاديق التقلّب في مال الغير و التصرّف فيه، لا بما أنّه دخول، أو بقاء، أو خروج، فوصف التصرّف بهذه العناوين إنّما هو من جانب المكلّف لا من جانب الشارع، و عندئذ يسقط البرهان، و مع سقوطه لا يبقى مجال للإجابة.

الثانية: انّ الشيخ شبّه المقام بمن يضطرّ إلى شرب الخمر للنجاة من الهلكة و لكنّه في غير موقعه، إذ في مورد الخمر حكمان شرعيان.

أ. وجوب حفظ النفس من الهلكة.

ب. حرمة شرب الخمر.

فإذا كان الأوّل أهمّ في نظر الشارع يقدّم حكمه على حرمة المقدّمة) الخمر (. بخلاف المقام، إذ ليس فيه إلاّ تكليف واحد و هو حرمة التصرّف في مال الغير، و أمّا وجوب التخلّص من الغير، أو ردّه إليه، أو الخروج من المغصوب فكلّها أحكام عقلية مشتقة من حكم الشارع بحرمة الغصب، فليس في المقام حكمان شرعيان يكون أحدهما أهمّ من الآخر.

*** الثالث: كيف يكون مثل الخروج ممنوعاً عنه شرعاً و معاقباً عليه عقلاً، مع بقاء ما يتوقّف عليه) ترك البقاء أو التخلّص من الغصب (على وجوبه، لوضوح سقوط وجوب ذي المقدّمة مع امتناع المقدّمة المنحصرة و لو كان بسوء الاختيار، و العقل قد استقل فانّ الممنوع شرعاً كالممنوع عادة أو عقلاً؟ أقول: هذا هو الوجه الثالث الذي استدلّ به الشيخ على وجوب الخروج، و أساسه هو تسليم وجوب » ترك البقاء «أو» التخلّص من الغصب «و مع فرض

ص:258

وجوب ذيها، لا تعقل حرمة المقدّمة، تنزيلاً للممنوع الشرعي منزلة الامتناع العقلي.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. إنّما يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً إذا لم يكن هناك إرشاد من العقل إلى لزوم الأخذ بأقل المحذورين و الخروج ليتخلّص عن أشدّهما، و مع حكم العقل بالخروج، لا يكون الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.

يلاحظ على هذا الجواب: هو وجود التناقض بين ايجاب ذي المقدّمة شرعاً) وجوب التخلّص (و تحريم مقدّمتها، فانّ إيجاب ذيها، يلازم إيجاب مقدّمتها، أو لا أقل من عدم تحريم المقدّمة، فإيجاب ذيها مع تحريم مقدّمته ممّا لا يجتمعان.

2. انّ الخروج عن هذا المأزق لا يصحّ إيجاب الشيء مع تحريم مقدّمته، و انّ ارشاد العقل إلى الخروج غير كاف كما يتحقّق بتحليل المقدّمة) الخروج (، يتحقّق بنحو آخر أيضاً و هو سقوط وجوب ذيها، أعني:» وجوب ترك البقاء «أو» التخلّص من الغصب «، و بكلمة جامعة سقوط» حرمة الغصب «بعد الدخول للعصيان فانّه أحد أسباب سقوط التكليف و يتبعه عدم وجوب المقدّمة، مع بقاء حكم العقل بالخروج حذراً من أشدّ المحذورين كما حقّقناه.

إلى هنا تمّت دراسة القول الثاني، و إليك دراسة القول الثالث و هو قول صاحب الفصول.

القول الثالث: مأمور به، و منهي بالنهي الساقط

ذهب المحقّق صاحب الفصول إلى قول ثالث مركّب من جزءين:

ص:259

1. الخروج مأمور به و واجب شرعاً.

2. انّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط.

فقد وافقه الشيخ الأنصاري في الجزء الأوّل، كما وافقه المحقّق الخراساني في الجزء الثاني، فلو كان هنا ردّ عليه من المحقّق الخراساني، فلا بدّ أن يتوجّه إلى الجزء الأوّل دون الثاني و لذلك ردّ على الأوّل بأُمور:

أ: ما قد مرّ في دراسة نظرية الأنصاري أنّه لا وجه لوجوب الخروج شرعاً.

ب: انّه يستلزم اتصاف فعل واحد) الخروج (بعنوان واحد بالوجوب و الحرمة.

فإن قلت: إنّه لا مانع من اجتماع حكمين مختلفين، لاختلاف زمان تعلّقهما، لأنّ زمان تعلّق الحرمة هو قبل الدخول، و زمان تعلّق الوجوب بعد الدخول و التصرف في الأرض.

قلت: لا ينفع اختلاف زمان التعلّق، مع اتّحاد زمان الفعل المتعلّق به، و إنّما المفيد، اختلاف زمان الفعل و لو مع اتحاد زمانهما، فلو نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة، و أمر يوم الخميس بصوم ذلك اليوم، لزم التكليف بالمحال، و إن كان زمان التعلّق مختلفاً، بخلاف ما لو أمر و نهى و لو في آن واحد بصوم يوم الخميس و نهى عن صوم يوم الجمعة، و المقام من قبيل القسم الأوّل، لأنّ الدخول منهي عنه بالنهي السابق على الدخول و مأمور به بالأمر اللاحق بعد الدخول فزمان التعلّق و إن كان مختلفاً، لكن زمان الفعل و الامتثال واحد.

فإن قلت: إنّ النهي مطلق يعم الحالات الثلاث: الدخول و البقاء و الخروج، و الأمر بالخروج مشروط بالدخول، فلا منافاة بينهما.

ص:260

قلت: كيف لا منافاة بينهما، مع أنّ المأمور به، قسم من المنهي عنه، و شمول إطلاق المنهيّ عنه لخصوص الخروج بعد الدخول، ينافي كونه واجباً بالخصوص.

هذا توضيح مقالة المحقّق الخراساني، حول نقد القول الثالث لصاحب الفصول.

أقول: ما أفاده من أنّه لا دليل على وجوب الخروج حق لا غبار عليه، إنّما الكلام فيما ذكره من امتناع كون الخروج محرّماً بالنهي السابق الساقط و واجباً بعد الدخول لاستلزامه طلب المحال. ذلك لأنّه إنّما يلزم طلب المحال لو كان النهي باقياً في ظرف امتثال الأمر بالخروج، و أمّا إذا كان ساقطاً في نفس ذلك الظرف فلا يلزم اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد.

و ما ذكره من أنّ الميزان في الصحة و الامتناع اختلاف زمان الفعل و الامتثال و وحدتهما و إن كان صحيحاً، لكن وحدة المتعلّق إنّما تكون سبباً للامتناع إذا كان كلا الحكمين باقياً إلى زمان الامتثال، دون ما إذا كان أحدهما ساقطاً بالعصيان كما في المقام أو بالنسخ كما في غيره.

و المقام نظير ما لو أمر يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة، و نهى عنه يوم الخميس، و مع ذلك نَسخ أحد الحكمين قُبيل ظرف الامتثال.

و جريان حكم المعصية، ليس بمعنى بقاء الخطاب و الحكم، بل بمعنى انّه كان قبل الدخول قادراً على امتثال» لا تغصب «بأقسامه الثلاثة، و لما عصى باختياره، يعاقب على الخروج لأجل أنّه بالدخول، أعجز نفسه عن امتثال الخطاب في مورد هذا المصداق، و هذا غير بقاء الخطاب و الحكم في حال الخروج.

ص:261

فإن قلت: انّ الخروج إن كان مشتملاً على المفسدة امتنع تعلّق الأمر به، و إن كان مشتملاً على المصلحة امتنع تعلّق النهي به.

قلت: قد مرّ أنّ المصالح و المفاسد، ليست من الأعراض القائمة بالفعل حتّى يمتنع اجتماعهما في الموضوع كالبياض و السواد، و إنّما هي جهات خارجية راجعة إلى حياة الفرد و المجتمع، و لا مانع من أن يكون الشيء ذا مصلحة من جهة و مفسدة من جهة أُخرى.

إلى هنا تبيّن حال القول الثالث، فلندرس القول الرابع و هو قول أبي هاشم الجبائي و المحقّق القمي.

القول الرابع: انّه مأمور به و منهيّ عنه

ذهب أبو هاشم الجبائي) المتوفّى 321 ه (و المحقّق القمي) المتوفّى 1231 ه (إلى أنّ الخروج مأمور به و منهي عنه و كلاهما فعليان.

و قد استدلّ لهذا القول كما نقله المحقّق الخراساني في آخر كلامه حول هذا القول بأنّ الأمر بالتخلّص، و النهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، و لا موجب للتقييد عقلاً، لعدم استحالة كون الخروج واجباً و حراماً باعتبارين مختلفين) التخلّص و الغصب (.

إذ منشأ الاستحالة:

إمّا لزوم اجتماع الضدين، و هو غير لازم مع تعدّد الجهة.

و إمّا لزوم التكليف بما لا يطاق، و هو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه:

ص:262

أوّلاً: من لزوم التقييد و تقديم أحدهما على الآخر، فيما إذا تعدّد العنوان، و الجهة حقيقة، كما إذا تعلّق الأمر بعنوان الصلاة، و النهي بعنوان الغصب، و إلاّ يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد و هو الفعل الخارجي لتعلّق الأحكام بالمصاديق دون العنوانين.

ثانياً: لو قلنا بالجواز هناك فلا نقول بالجواز في المقام لعدم تعدد الجهة، و ذلك لأنّ عنوان التخلّص ليس عنواناً تقييدياً حتّى يتعلّق الأمر به و النهي بالغصب و إنّما هو عنوان انتزاعي، ينتزع من خروج الغاصب عن أرض الغير، و هو علّة غائية و ليس بموضوع للحكم، كأنّ الشارع يقول أخرج لأجل التخلّص من الغصب فيلزم اجتماع الأمر و النهي في موضوع واحد و هو الخروج.

و ثالثاً: انّ التكليف بالمحال محال حتى و إن كان بسوء الاختيار، و ما ربّما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فالمراد به انّه لا ينافي عقاباً و ملاكاً، لا انّه لا ينافي خطاباً و حكماً، لوضوح قبح خطاب العاجز و إن كان السبب للعجز هو نفسه.

و رابعاً: انّ القاعدة لا صلة لها بالمقام، و قد وردت في ردّ الأشاعرة حيث أنكروا القاعدة الفلسفية، أعني:» الشيء ما لم يجب لم يوجد «، بأنّه يستلزم الجبر، لأنّ تحقّق المعلول لو كان رهن وصوله إلى حالة الوجوب، يخرج عن اختيار الفاعل و يستلزم الجبر.

فأُجيب بأنّ إيجاب المعلول و وصوله إلى حدّ اللزوم و الوجوب لما كان باختيار الفاعل فلا يكون هذا النوع من الإيجاب و الامتناع أمراً غير اختياري، لأنّ الفاعل هو الذي أضفى على الممكن عند إيجاده أو إعدامه وصفَ الوجوب و الامتناع باختياره فالفاعل، فاعل موجِب) بالكسر (لا موجَب) بالفتح (.

ص:263

القول الخامس: ليس محكوماً بحكم فعلاً مع جريان المعصية

و هذا القول هو مختار المحقّق الخراساني و خيرة شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه و قد مرّ تفصيلاً فلا نعيده.

القول السادس: انّه منهي عنه و مأمور به بالترتّب

نقل السيد المحقّق البروجردي هذا الوجه في درسه الشريف، و هو انّه منهي عنه و مأمور به بالترتّب، فكأنّه قال: لا تغصب و هو يشمل الأقسام الثلاثة، ثمّ قال: فإن عصيت بالدخول فأخرج.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين الترتّب و المقام، و ذلك: انّ في الترتّب أمرين يتعلّق أحدهما بالأهم و الآخر بالمهم مقيّداً بعصيان الأوّل و لو تركهما يعاقب على كلا العصيانين.

و أمّا المقام فليس هنا إلاّ تكليف واحد و هو النهي عن التصرّف في ملك الغير، بدون إذنه، و أمّا الأمر بالخروج فهو حكم العقل، ليدفع أشد المحذورين بأخفّهما، دون أن يكون هنا حكم من الشرع متعلّق به.

تمّ الكلام في مسألة من توسط أرض الغير بلا إذن، أو مع النهي، في الموردين:

1. حكم الدخول، 2. حكم الخروج.

بقي الكلام في المورد الثالث و هو حكم العبادة حين الخروج، و إليك دراسته:

ص:264

المورد الثالث: حكم العبادة حين الخروج

إذا صلّى حال الخروج جامعة لسائر الشرائط فالمشهور هو القول بالصحّة عند ضيق الوقت و البطلان عند سعته.

و لكنّه لا ينطبق على القواعد، لأنّه لو قلنا بجواز الاجتماع أو بالامتناع لكن قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة هو الصحة مطلقاً، و لو قدّمنا النهي فاللازم هو البطلان من دون فرق بين سعة الوقت و ضيقه، و عندئذ لا محيص من ذكر الصور المتصوّرة مع بيان مقتضى القاعدة فيها.

1. إذا قلنا بجواز الاجتماع و إمكان تمشّي القربة فالصلاة في الأرض المتوسطة مطلقاً دخولاً و بقاء و خروجاً صحيحة، سواء كان بسوء الاختيار أو لا، و إلى هذه الصورة أشار في الكفاية:» لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع «.

2. إذا كان الوقوع فيها لا بسوء الاختيار فالصلاة فيها صحيحة، سواء أقلنا بجواز الاجتماع أم لا، أمّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني فلأجل سقوط النهي لأجل الاضطرار.

و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» و أمّا على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا لسوء الاختيار «.

3. إذا قلنا بالامتناع و كان الاضطرار بسوء الاختيار، و قلنا بمقالة الشيخ من أنّ الخروج واجب، و ليس بحرام، و لا يجري عليه حكم المعصية، فالصلاة صحيحة لوجود الأمر و عدم النهي.

و إلى هذه الصورة أشار بقوله و معه) أي مع القول بالامتناع (و لكنّها وقعت

ص:265

في حال الخروج على القول بكونه مأموراً، بدون إجراء حكم المعصية.

4. إذا قلنا بالامتناع و قدّمنا الأمر فمقتضى القاعدة الصحة، و إلى هذه الصورة أشار بقوله:» أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي... مع ضيق الوقت و أمّا السعة ففيها وجهان «.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحقّق الخراساني حاول أن يطبِّق فتوى المشهور على التفصيل بين ضيق الوقت وسعته على هذه الصورة قائلاً:

بإمكان امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المباحة في سعة الوقت، دون ضيقه بل ينحصر امتثال الأمر بالصلاة في الأرض المغصوبة.

توضيحه: انّ مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة على فرض تقديم الأمر على النهي و إن كانت غالبة على ما فيها من المفسدة، لكن الصلاة في غير تلك الدار خالية عن المفسدة، فيكون أهمّ من الواجد لها، و بما انّهما ضدّان يتوجّه الأمر الفعلي إلى الفاقد للمفسدة، و يكون الواجد لها منهيّاً عنه، بحجّة انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة منهياً عنها، و محكومة بالبطلان لوجود النهي.

و هذا بخلاف الصلاة فيها مع ضيق الوقت فانّ انحصار الامتثال بالصلاة في الدار المغصوبة ينفي توجّه الأمر إلى الضدّ الأهم الفاقد للمفسدة، فلا يكون هناك أمر بالضد الفاقد لها حتى يتولّد منه النهي عن الضد المهم.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من تقديم الأهم على المهم في باب التزاحم، هو تقديم الأقوى ملاكاً، على الأضعف ملاكاً، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي و الرعية، فالعقل حكم بتقديم الأوّل، و أمّا المقام فالمفروض أنّ الفردين في سعة الوقت متساويان في الملاك، غير أنّ أحدهما يشتمل على المفسدة دون الآخر،

ص:266

و الخلو عن المفسدة، غير كون الخالي أهم من المشتمل عليها.

بل يمكن أن يقال: انّ المفروض هو تقديم ملاك الأمر على ملاك النهي و كون مصلحة الأوّل غالبة على مفسدة الآخر، و لأجله لا تؤثر المفسدة لوجود المصلحة الغالبة، و عندئذ تكون الصلاة في الدار المغصوبة، مثل الصلاة في غيرها فلا مفسدة مؤثرة، حتّى يجعل الفرد المشتمل عليها، أضعف و الخالي عن المفسدة أقوى.

5. و يمكن أن يقال انّ تفصيل المشهور راجع إلى صورة خامسة لم يذكرها المحقّق الخراساني، و هي إذا قلنا بالامتناع و كون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط، أو الحاضر و قلنا بتقديم ملاك النهي، فالصلاة باطلة في سعة الوقت و ضيقه، لتقديم النهي على الأمر. و هذه الصورة لم يذكرها في الكفاية، فإذا قدّم النهي تكون المفسدة غالبة على المصلحة و من المعلوم انّها في سعة الوقت و أمّا في ضيقه، فيقدّم الأمر، لأجل قوله:» لا تسقط الصلاة بحال «فيقدّم على حرمة التصرّف في مال الغير لقوّة لسان دليل الأمر و هذا بخلاف سعة الوقت، إذ لا دليل ثالث حتّى يكون مؤثراً في تقديم الأمر على النهي فتكون التصرّفات المتّحدة مع الصلاة أمراً مبغوضاً و منهيّاً عنه فلا أمر كما هو المفروض من القول بالامتناع و تقديم النهي.

حكم الخروج إذا تاب بعد الدخول

لو تاب العبد بعد الدخول و حاول أن يخرج من أقرب الطرق للتخلّص عن المعصية لا للتنزّه كالدخول، فقد ذهب السيد البروجردي إلى عدم كونه منهياً عنه و صادراً عن معصية، و ذلك لأنّه إذا تاب عن تصرّفاته السابقة تكون تصرفاته

ص:267

اللاحقة الاضطرارية بعد التوبة، تصرفات غير مسبوقة بالمعصية المؤثرة، فيصير حاله بالنسبة إلى التصرّفات الخروجية لأجل التخلّص كمن اضطرّ إلى الدخول، فاختار الخروج بعد رفع الاضطرار للتخلّص من البقاء المحرم.

و الحاصل: أنّ الخروج بما انّه من توابع الدخول فلو عدّ الدخول عصياناً و ظلماً و تمرّداً على المولى تكون توابعه محكومة بحكمه، و أمّا إذا تقلّب حكمه بحكم انّ التائب من ذنبه كمن لا ذنب له فتكون توابعه أيضاً محكومة بحكمه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتصوّر فيما إذا عصى اللّه في حقوقه، دون ما إذا عصاه في حقوق الناس، و أمّا إذا عصاهم و تجاوز على حقوقهم، فلا تكفي التوبة و الندامة ما لم يُحصِّل رضاهم، و مع تحصيله لا يبقى موضوع للبحث.

ص:268


1- لمحات الأُصول: 246; نهاية الأُصول: 249.
التنبيه الثاني قد ذكر المحقّق الخراساني في هذا التنبيه أُموراً ثلاثة:
اشارة

1. لا تعارض و لا تزاحم بين خطابي: صلّ و لا تغصب على القول بجواز الاجتماع، و أمّا على القول بالامتناع فهما من قبيل المتزاحمين يقدّم منهما الأقوى ملاكاً، و ليسا من قبيل المتعارضين كي يقدّم الأقوى دلالة) الجمع الدلالي (أو الأقوى سنداً، و قد أفاض المحقّق الخراساني الكلام في ذلك في الأمر التاسع فلا وجه للتكرار هنا، و قد أشبعنا الكلام فيه كما قلنا: إنّ التزاحم في مصطلح المحقّق النائيني الذي اخترناه غير المصطلح في لسان المحقّق الخراساني.

2. لو قلنا بالامتناع، و قدّمنا النهي فلا يلازم بطلانَ الصلاة في موارد الأعذار، كما إذا صلّى في المغصوب جاهلاً به، و قد أفاض الكلام فيه في الأمر العاشر، و قد أوضحنا حاله.

و حاصل ما قلنا هناك: إنّه فرق بين أن يقول من أوّل الأمر» لا تصلّ في الدار المغصوبة «فيخرج الصلاة فيها عن إطلاق قوله:» أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل «، فلا تصحّ الصلاة عند طروء الأعذار كالنسيان، لأنّ التقييد أو التخصيص آية عدم وجود الملاك في مورد فقد القيد أو في الخارج عن العام; و بين أن يقول:» صلّ «و» لا تغصب «فالصلاة على الإطلاق و في كلّ مكان، مشتملة على الملاك، مثل الغصب في كلّ مكان، و عند ذاك يطرأ التزاحم على المقتضيين المؤثّرين عند الامتثال فيقدم الأقوى منهما ملاكاً، لو كان الخطإ

ص:269

بان متكفّلين لحكم فعلي و إلاّ فلا بدّ من الأخذ بالفعلي منهما.

و يترتّب عليه أنّه لو لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها، لاضطرار أو جهل، أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثّراً لها فعلا.

نظير المقام:

1. إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى.

2. أو لم يكن واحد من الدليلين دالاً على الفعلية.

و بالجملة: وزان المقام تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب وزان التخصيص العقلي الناشئ من تقديم أحد المقتضيين و تأثيره فعلاً، و التقديم مختص بما إذا لم يمنع مانع عن تأثير المقتضي للنهي عنه كما في مورد الاضطرار، أو مانع عن فعلية التأثير كما في صورة الجهل و النسيان، فعندئذ تصح الصلاة مع الأمر و أُخرى بملاكه.

3. إذا قلنا بالامتناع و دار الأمر بين تقديم أحد الحكمين، فهل يقدّم النهي أو الأمر؟ و قد ذكروا لتقديم النهي وجوهاً ثلاثة ذكرها المحقّق الخراساني، و هذا هو اللازم بالبحث في المقام، و إليك تلك الوجوه:

الأوّل: النهي أقوى دلالة من الأمر

إنّ هذا المرجّح أقوائيّة الدلالة مرجّح في مقام الإثبات و الدلالة، كما أنّ المرجح الثاني أي دفع المفسدة المترتبة على النهي أولى من جلب المنفعة المترتبة على الأمر مرجِّح في عالم الثبوت و الملاك، و كان على المحقّق الخراساني تقديم الثاني على الأوّل حفظاً للترتيب الطبيعي للبحث و لكنّه قدّم الأوّل، أي عالم الإثبات على عالم الثبوت، و نحن نتبع أثره حفظاً لنظام البحث.

ص:270

و تقرر قوّة الدلالة بالنحو التالي:

إنّ دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر، لأنّ مفاد النهي شمولي بخلاف مفاد الأمر فانّه بدلي.

أمّا كون الأوّل شمولياً فلانحلال النهي بانحلال موضوعه إلى أحكام فيكون كلّ تصرّف عصياناً مستقلاً لا صلة له بالتصرّف الآخر، و هذا بخلاف الأمر فانّه بعث إلى الطبيعة و يكفي في وجودها وجود فرد واحد.

و على ضوء ذلك يتعيّن التصرف في جانب الأمر بإخراج الصلاة في الدار المغصوبة من تحته و إبقاء الصلاة في غيرها تحته من دون تصرّف في جانب النهي.

و أورد على الاستدلال بأنّه لا فرق بين الدلالة الشمولية و الدلالة البدلية إذا كان الدال عليهما هو الإطلاق الذي هو نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فلا وجه لترجيح إحداهما على الأُخرى، فكما يصلح النهي للتصرّف في الأمر و يكون الشمول قرينة على تقييد الأمر و إخراج ذلك الفرد من تحته، فهكذا الأمر يصلح للتصرّف في النهي و يكون طلب فرد ما، قرينة على إخراج فرد ما من الصلاة، من تحت النهي.

و ردّ الإشكال بأنّ الدلالة البدلية هو مفاد الإطلاق حيث إنّ المولى أمر بالطبيعة دون أن يعيّن الخصوصية فيكفي في مقام الامتثال الإتيان بفرد ما، و أمّا الدلالة الشمولية فليست مستندة إلى الإطلاق، و ذلك لأنّه لو كانت مستندة إلى الإطلاق لكان استعمال» لا تغصب «في بعض أفراد الغصب حقيقة، لعدم جريان مقدّمات الحكمة لأجل القرينة، فلا يكون هناك دالّ على الشمول، و بالتالي لا يكون استعماله في بعض الأفراد استعمالاً له في غير ما وضع له. مع أنّ كون استعماله فيه حقيقة واضح الفساد.

ص:271

بل الشمول مستند إلى دلالة العقل، و هي انّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام جميع أفرادها، فعندئذ تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية لقوّة الدلالة العقلية على الدلالة الإطلاقية.

ثمّ إنّ المحقق الخراساني نصر المستشكل الأوّل و ردّ الإشكال عليه بما هذا توضيحه: إنّ دلالة النفي أو النهي على العموم و الاستيعاب أمر لا ينكر إلاّ أنّ سعة العموم و الشمول تابع لما يراد من مدخولهما و متعلّقهما، و عندئذ تختلف سعة الشمول حسب اختلاف المتعلّق.

فلو أُريد من المتعلّق الطبيعة المطلقة فيدل النفي و النهي على سعة دائرة الشمول، و أمّا إذا أُريد من المدخول الطبيعة المقيّدة فيتوجه النفي و النهي على الطبيعة المقيّدة، فالسعة و الضيق في جانب النفي و النهي رهن سعة المتعلّق و ضيقه و هما فرع جريان مقدّمات الحكمة فيه.

و يتّضح الأمران في المثالين التاليين:

1. لا رجل في الدار.

2. لا رجل عادل في الدار.

فتجد أنّ النفي في الأوّل أوسع دائرة من النفي في الثاني، و يعود ذلك إلى سعة المتعلّق و ضيقه، فإذا اتّضح ذلك، نقول: إنّه لا فرق بين الدلالة البدلية و الشمولية في الأقوائية، لأنّ البدل كما هو نتيجة الإطلاق فهكذا الشمول هو نتيجة إجراء مقدّمات الحكمة، حيث أخذ المولى الطبيعة المطلقة متعلّقة بالنهي من دون قيد و لو كان المراد هو الطبيعة المقيّدة لكان عليه الإتيان بالقيد.

هذا ما أفاده في الكفاية.

ص:272

ثمّ إنّه) قدس سره (احتمل احتمالاً ضعيفاً أشار إلى ضعف الاحتمال بقوله:» اللّهم «.(1)

و حاصل الاحتمال: أنّ المخاطب في استفادة الشمول لفي غنى عن إجراء مقدّمات الحكمة، و ذلك لأنّ مكانة النهي و النفي في لغة العرب كلفظة كلّ في كلّ رجل، فكما أنّ استفادة الشمول في الثاني غير موقوف على إجراء مقدّمات الحكمة في متعلّقه) رجل (بل السامع ينتقل إلى السريان و الشمول لأجل لفظة كلّ، فهكذا المقام، حيث إنّ دلالة النفي و النهي على الشمول و الاستيعاب تُغني المخاطب عن اجراء مقدمات الحكمة، و هذا هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في دلالتهما على الاستيعاب كفاية و دلالة على أنّ المراد من المتعلّق هو المطلق كما ربّما يدعى ذلك في مثل» كلّ رجل «و انّ مثل لفظة» كل «يدلّ على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله و قرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة.(2)

و مع أنّ المحقّق الخراساني حسب ما أفاده أخيراً قوّى) الأمر الثالث (أي الإشكال، على الإشكال، لكنّه لم يقبل دليله من أنّه لو كان الشمول مستفاداً من الإطلاق لكان استعمال مثل» لا تغصب في بعض الأفراد حقيقة... «بل اعترف بكونه حقيقة على جميع المباني، سواء قلنا بأنّ الشمول مستند إلى مقدّمات الحكمة فواضح، لعدم جريانها مع وجود القرينة و لا على القول بأنّ دلالته على الشمول بالالتزام أو بالوضع، لأجل تعدّد الدال و المدلول بمعنى انّ الخصوصية مستفادة من القرينة لا من استعمال قوله:» لا تغصب «في بعض الأفراد كما

ص:273


1- و قد أيّده المحقّق البروجردي في درسه الشريف، لاحظ لمحات الأُصول: 307.
2- كفاية الأُصول: 1/276.

سيوافيك توضيحه في فصل» انّ العام بعد التخصص حقيقة و ليس بمجاز «.

و أنت خبير بضعف ما احتمله، إذ لا فرق بين النفي و النهي و لفظة» كلّ «في أنّ استفادة السعة و الضيق تابع لسعة المتعلّق و ضيقه، هذا من جانب.

و من جانب آخر: انّه كان في وسع المكلّف تقييد المتعلّق في جانب النفي و النهي، و مع التقييد تضيق دائرة الشمول، و الدالّ على عدم القيد هو الإطلاق بإجراء مقدّمات الحكمة، فالاشكال على الاستدلال متوجّه.

نعم يرد على الاستدلال بأنّه انّما تقدّم الدلالة الشمولية على البدلية إذا كانت الأُولى وضعية و الثانية إطلاقية، فإذا قال المولى: لا تكرم الفسّاق، و قال: أكرم عالماً، فبما أنّ دلالة الأوّل على الشمول بالدلالة اللفظية، أعني: الجمع المحلّى باللام، و دلالة الثاني على كفاية فرد من أفراد الطبيعة، بالدلالة العقلية، فلا مناص من تقديم الدلالة الوضعية على الدلالة العقلية عند التّعارض في العالم الفاسق، لأقوائية الوضعية و عدم توقّف تمامية دلالتها على شيء، بخلاف الدلالة العقلية، فانّها فرع عدم ما يصلح للقرينيّة، و الوضعية صالحة لها، و أمّا الشمولي و البدلي الإطلاقيان كما في المقام، فكلّ منهما يصلح للتصرّف في الآخر، فلا مرجّح للتقديم.

الثاني: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة

و حاصل هذا الدليل أنّ في امتثال الأمر جلب المصلحة و في مخالفة النهي وجود المفسدة، فإذا دار الأمر بين كون شيء واجباً أو حراماً فقد دار الأمر بين حيازة المصلحة و دفع المفسدة، فترك الفعل لأجل دفع المفسدة المحتملة أولى من امتثاله لجلب المصلحة المحتملة.

ص:274

أقول: الدليل مؤلّف من صغرى و كبرى.

أمّا الصغرى: فهي عبارة عن اشتمال الأمر على المصلحة دون أن يكون في تركه مفسدة، و اشتمال النهي على المفسدة.

و أمّا الكبرى: و هي أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة كذلك، و لكن كلاً من الصغرى و الكبرى ليسا بتامّين.

المناقشة في الصغرى

و قد ناقش المحقّق القمّي في الصغرى بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعيّن.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الواجب و لو كان معيّناً ليس إلاّ لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما انّ الحرام ليس إلاّ لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.(1)

و حاصل الإيراد: انّ الواجب يشتمل على المصلحة من دون أن يكون في تركه مفسدة و الحرام على العكس.

يلاحظ على كلام المحقّق الخراساني بأنّ المراد من المصالح و المفاسد هو الأعم من الفردية و الاجتماعية، و على ذلك فربّما يكون في ترك الواجب مفسدة عظمى كما في ترك الجهاد فانّه يوجب الذُّلّ و الهوان و سيطرة العدو على النفوس و الأموال، و أيّ مفسدة أعظم من ذلك؟! قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» فو اللّه ما غُزِي قوم في عُقر دارهم قط إلاّ و قد ذلّوا «.(2)، و مثله ترك الزكاة فانّ في تركها إيجاد الفوضى و اتّساع دائرة الفتنة و فقدان

ص:275


1- كفاية الأُصول: 1/277.
2- نهج البلاغة: الخطبة 27.

الأمن المالي.

قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» ما جاع فقير إلاّ بما متِّع به غني «.(1)

إلى هنا تبيّن أنّ الصغرى ليست بتامّة، و انّ المفسدة موجودة في كلا الطرفين: فعل الحرام و ترك الواجب، و الحقّ مع المحقّق القمي) قدس سره (.

المناقشة في الكبرى

و حاصل الكبرى: انّ دفع المفسدة المتيقّنة و المحتملة أولى من جلب المنفعة المتيقنة و المحتملة، و قد ناقشها المحقّق الخراساني بوجوه ستة نذكرها بتوضيح:

1. انّ الواجبات و المحرّمات ليست على وزان واحد فربّ واجب يكون في تركه أشد المجازات كالفرار من الزحف، و ربّ حرام لا يكون مثل ذلك كالنظر إلى الأجنبية، فلو دار الأمر بين الفرار من الزحف، و النظر إلى الأجنبية فلا يصحّ أن يقال: انّ ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة، فليس في المقام ضابطة كلية.

2. انّ القاعدة أجنبية عن المقام، فانّه فيما إذا دار الأمر بين الواجب و الحرام [الحتميّين] كما إذا دار الأمر بين ركوب الطائرة المغصوبة، و الحجّ، ففي مثله يرجع إلى القاعدة، لا في المقام الذي ليس هنا إلاّ أحد الحكمين إمّا الوجوب أو الحرمة، فلا موضوع للقاعدة. هذا حسب ما في الكفاية، و لكنّه أوضحه في الهامش بقوله: إنّ الترجيح بهذه القاعدة إنّما يناسب ترجيح المكلّف و اختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام و هو مقام جعل الأحكام فانّ المرجع هناك ليست إلاّ حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الأغراض و مخالفتها.

توضيح كلامه: أنّ ملاكات الأحكام على قسمين:

ص:276


1- نهج البلاغة، قصار الحكم، برقم 328.

أ. ملاك التشريع و مناط جعل الحكم فهو ينحصر بالحسن و القبح فيحكم بوجوب الأوّل و حرمة الثاني.

ب. المصالح و المفاسد التي ترجع إلى المكلفين. و لكلّ من الملاكين مقام خاص، فلو كان الشك راجعاً إلى نفس الحكم الشرعي و ما هو المجعول كما هو الحال في المقام حيث إنّ الشكّ مركز على أنّ المجعول في الصلاة في الدار المغصوبة هو الوجوب أو الحرمة ففي مثله لا يرجع إلى القاعدة) دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (.

نعم لو كان الحكم الشرعي معلوماً و دار الأمر بين ترك الواجب و فعل الحرام ففي مثل ذلك يتمسّك بالقاعدة كما إذا دار الأمر بين الحجّ و ركوب الطائرة المغصوبة، فعندئذ يقال:» ترك المفسدة أولى من جلب المنفعة «.

إلى هنا تمّت المناقشة الثانية، و إليك سائر المناقشات التي أوردها في» الكفاية «.

3. و لو سلّم فإنّما يجدي لو حصل القطع.

أي انّ مورد القاعدة فيما إذا قطع بالأولوية لا ما إذا ظن، و ليس في المقام أيُّ قطع بالأولوية، لما عرفت من أنّه ربما يكون جلب المنفعة المحتملة أولى من دفع المفسدة كذلك.

4. و لو سلّم انّه يجدي و لو لم يحصل اليقين فإنّما تجري فيما يكون العلم الواقعي فعلياً على كلّ تقدير و لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في المقام لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته.

توضيحه: انّ مصب القاعدة هو ما إذا كان الحكم الواقعي المردد بين

ص:277

الوجوب و الحرمة فعلياً على كلّ تقدير، بحيث نعلم أنّ المولى يطلب امتثاله، ففي مثله لا موضوع للبراءة للعلم القطعي بوجود الحكم الفعلي على كلّ تقدير كما في المرأة المرددة بين كونها زوجة على رأس أربعة أشهر أو أجنبية، فتصل النوبة إلى القاعدة فيؤخذ بما فيه دفع المفسدة و يترك ما فيه جلب المنفعة.

و أمّا المقام فتجري البراءة في أحد الطرفين، أعني: الحرمة دون الوجوب محال، أمّا عدم جريانها في جانب الوجوب للعلم القطعي بعدم سقوط وجوب الصلاة، و لو في ضمن المكان المباح، و أمّا جريانها في جانب الحرمة فبما انّه تُحتمل مساواة الملاكين، فلا يكون هنا علم بالحرمة الفعلية، لأنّ احتمال تساوي الملاكين يلازم احتمال عدم فعليتها فيصلح لأن تقع مجرى لها.

5. و لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشكّ في الأجزاء و الشرائط فلا يلزم القول بالاشتغال في المقام فانّه لا مانع عقلاً إلاّ فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً و نقلاً.

توضيحه: انّه لو قيل إنّ الأصل عند الشكّ في الأجزاء و الشرائط ككون السورة جزءاً من الصلاة أو لا هو الاشتغال و بطلان الصلاة بدونها، لما كان دليلاً على القول بالاشتغال و بطلان الصلاة في المقام، و ذلك لوجود المقتضي للصحة في المقام و هو الأمر و ليس المانع إلاّ الحرمة المرفوعة بأصل البراءة، بخلاف الشكّ في كمّية الأجزاء و الشرائط فلا علم بالصحة لاحتمال وجوب الشيء المشكوكة جزئيته.

و حاصل الفرق بين المقام: هو وجود العلم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء و الشرائط في المقام و إنّما الشكّ في مانعية الغصب، و هي مرفوعة بالأصل، فالمقتضي موجود، و المانع مرفوع.

ص:278

و هذا بخلاف الشكّ في الجزئية و الشرطية فليس هناك علم بتمامية المأمور به من حيث الأجزاء و الشرائط، بل يحتمل كون السورة جزءاً، فيكون المأتي به ناقصاً من حيث كونه جامعاً للأجزاء و الشرائط، و توهم أنّ أصل البراءة رافع للجزئية على فرض ثبوتها مدفوع بأنّ الرفع الظاهري لا ينافي الجزئية الواقعية على فرض ثبوتها في الواقع فتكون الصلاة ناقصة. فتأمّل.

فإن قلت: إنّ الشكّ في المانعية و الجزئية من باب واحد، فأصل البراءة رافع للمانعية و الجزئية في الظاهر دون الواقع، فلو كان المشكوك مانعاً واقعاً، يكون المأتي به ناقصاً من حيث اقترانه بالمانع.

قلت: المفروض انّ المانع هو المبغوضية المحرزة لا المبغوضية الواقعية، كما أشار إليه بقوله:» فانّه لا مانع عقلاً إلاّ فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عقلاً أو نقلاً «، فإذا لم تكن محرزة يكون عدم المبغوضية قطعياً، بخلاف جزئية الجزء أو شرطية الشرط، فالجزء بما هو جزء و الشرط بما هو شرط مأخوذان في المتعلّق، فأصالة البراءة لا تؤثر في انقلاب الواقع على فرض وجوده.

6. نعم لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية و لو لم تكن الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير مجدية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكّمة حتّى لو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء و الشرائط، لعدم تأتي قصد القربة مع الشكّ في المبغوضية.

حاصله: انّ التفكيك بين المقام و الشك في الجزئية و الشرطية، مبنيّ كما تقدم على أنّ المفسدة الغالبة المحرزة مانعة من الصلاة، فعدم إحرازها يكفي في الحكم بصحّة الصلاة، و عدم اقترانها بالمانع واقعاً، و أمّا إذا قلنا بأنّ المفسدة بوجودها الواقعية الغالبة مانعة و إن لم يعلم بها المكلّف، فعندئذ، تكون النتيجة

ص:279

معكوسة، فلا يجدي الأصل في المقام و إن قلنا به في الشك في الجزئية و الشرطية.

و ذلك لأنّها لو كانت المفسدة الواقعية مطلقاً مانعة فبما أنّها محتملة في المقام، فلا يتمشّى قصد القربة، إذ كيف يمكن التقرّب القطعي بشيء يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى؟! فتكون أصالة الاشتغال محكّمة.

هذه هي الوجوه الستة التي أوردها صاحب الكفاية على القاعدة أوردناها بإيضاح لقصور عبارة الكفاية في المقام في إفادة المقصود.

المرجّح الثالث: الاستقراء

استدلّ القائل بتقديم جانب الحرمة بأنّ الاستقراء يشهد على أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب فيما إذا دار الأمر بين المحذورين و أشار إلى موردين:

1. أيّام الاستظهار بعد تمام العادة و قبل العشرة حيث أمر الشارع بترك العبادة مع أنّ الأمر يدور بين الوجوب و الحرمة.

2. إذا كان الإنسان محدثاً، و ابتلى بإناءين مشتبهين فقد أُمِر بإهراقهما و العدول إلى التيمم، مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدّمة للصلاة و حرمة التوضّؤ بالماء النجس.

يلاحظ على الاستدلال:

إنّ الاستقراء كما يستفاد من تعريفه، تصفح الجزئيات حتّى ينتقل الباحث منه إلى الحكم الكلّي و إفادته الظن أو القطع تابع لمقدار التتبع و كثرته، و أمّا تتبع مورد أو موردين فلا يفيد الظن، فكيف القطع؟! مضافاً إلى أنّ ترجيح جانب الحرمة في هذين الموردين، لوجود دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي ذلك الجانب.

ص:280

أمّا الأوّل: فلأنّ الاستظهار أيّ ترجيح جانب الحرمة لأجل الدليل الحاكم على أنّ الدم المشكوك، دم حيض، و الدليل إمّا الاستصحاب، أو قاعدة الإمكان و انّ كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً فهو حيض.

هذا كلّه حول المورد الأوّل، و أمّا المورد الثاني أي عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين فقد

أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:
1. تقديم النهي فيه تعبّدي يختصّ بمورده

إنّ فرض المورد من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إنّما يتم إذا قصد بالتوضّؤ بالماء الذي لم تحرز طهارته امتثالَ الأمر الواقعي فيوصف التوضّؤ بالحرمة التشريعية، فيدور أمر الوضوء بين الحرمة لأجل التشريع، و الوجوب لكونه مقدّمة للصلاة.

و أمّا إذا توضأ بكلّ من الماءين رجاء و من باب الاحتياط فلا يحرم، و بالتالي يخرج المورد عن باب دوران الأمر بين المحذورين، فتقديم النهي في هذه الصورة لأجل النصّ تعبدىٌّ يختص بمورده.

2. تقديم النهي لأجل عدم الابتلاء بالنجاسة

و حاصل الجواب انّه لو توضّأ بالماءين المشتبهين ربّما تحصل له الطهارة من الحدث، في بعض الصور(1)، لكنّه يبتلي بالنجاسة الخبثية القطعية، و المقرر في محلّه انّه إذا دار الأمر بين الطهارة الحدثية و النجاسة في البدن أو الثوب، تُقدّم الطهارةُ من الخبث على الطهارة من الحدث، مثلاً إذا كان محدثاً و كان بدنه أو ثوبه الساتر

ص:281


1- كما في الصورة الثانية في الصورة الآتية، عن قريب.

أيضاً نجساً و كان الماء الموجود لا يكفي إلاّ لواحد منهما، يُقدّم تطهير البدن و الثوب على الوضوء و الغسل، و ما هذا إلاّ لأنّ للطهارة من الحدث بدلاً و هو التيمم دون الأُخرى أي الطهارة من الخبث، و قد قُرِّر في باب التزاحم أنّه إذا دار الأمر بين أمرين لأحدهما بدل دون الآخر يقدّم الثاني على الأوّل.

و مثله المقام فانّ الوضوء بماءين مشتبهين و إن كان ربّما يحصّل الطهارة من الحدث و لكنه يورث نجاسة البدن للقطع بنجاسة الأعضاء عند صبّ الماء الثاني إمّا بالماء الأوّل أو بالثاني كما سيوافيك تفصيله فعند الدوران تقدّم الطهارة من الخبث، على الطهارة من الحدث، فيترك الوضوء و يتيمّم، فتقديم جانب النهي لأجل هذا الدليل المقرّر في محلّه لا من باب أنّه إذا دار الأمر بين الأمر و النهي يقدّم النهي مطلقاً مع غض النظر عن الدليل كما هو المدّعى.

هذا هو الجواب الواقعي، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً... «.

دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين

ثمّ إنّ للتوضّؤ بالماءين المشتبهين صوراً ثلاثاً أشار إليها في» الكفاية «، و إليك إيضاحها على ضوء ما في الكفاية.

الأُولى: ما أشار إليه بقوله:» أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثاني، إمّا بملاقاته، أو بملاقاة الأُولى و عدم استعمال مطهر بعده «.

توضيحها: إذا توضّأ بكلا الماءين من دون أن يتخلّل بين الوضوءين تطهير الأعضاء بالماء الثاني، فعند صب الماء الثاني على الوجه يقطع بنجاسة الوجه واقعاً

ص:282

تفصيلاً إمّا لأجل استعمال الماء الأوّل و عدم استعمال مطهر بعده، أو باستعمال الماء الثاني.

نعم يحصل القطع بالنجاسة بصب الماء الثاني، قبل انفصال الغسالة، و قبل حصول تعدد الغسل فيما يحتاج إليه، ثمّ يزيل القطع بها إلى الشك فيها بعد الانفصال و حصول التعدد لاحتمال كون الماء الثاني طاهراً فيحكم على العضو بفضل الاستصحاب بكونه نجساً ظاهراً فلا منافاة بين العلم بالنجاسة الواقعية، ثم الظاهرية، لتعدد زمان العلم و الشك.

الثانية: ما أشار إليه بقوله:» و لو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى «.

توضيحها: انّ قوله» لو «في كلامه وصلية لا شرطية حاصله اشتراك الصورتين في العلم بالنجاسة الواقعية، ثمّ الشكّ في بقائها، و الفرق بينهما هو انّه في الصورة الأُولى لا يطهر الأعضاء بخلاف هذه الصورة فانّه يطهرها، و بالتالي يحصل العلم بالطهارة من الحدث في خصوص هذه الصورة كما أشرنا، و ذلك كما إذا توضّأ أوّلاً بأحدهما ثمّ غسل مواضع الوضوء بالماء الثاني، ثمّ توضّأ بالماء الباقي في الإناء، فعندئذ يحصل العلم بالنجاسة الظاهرية بحكم الاستصحاب، و ذلك لأنّه عند تطهير الأعضاء بالماء الثاني وصب الماء عليها قبل انفصال الغسالة الذي هو شرط التطهير بالماء القليل، يحصل له العلم التفصيلي بالنجاسة، إمّا لأجل استعمال الماء الثاني، أو الأوّل، و استعمال الماء الثاني و إن كان مطهراً لكن المفروض عدم حصول شرط التطهير، أعني: انفصال الغسالة أو التعدد، و بعد الانفصال يطرأ الشك في بقاء النجاسة، لأنّه كما يحتمل أن يكون النجس هو الماء الثاني، يحتمل أن يكون النجس هو الأوّل الذي ترتفع نجاسته باستعمال الماء الثاني و انفصال الغسالة، و حيث إنّ الحالة غير معلومة يحكم ببقاء

ص:283

ما علم عند الصب و قبل انفصال الغسالة، فيكون العضو محكوماً بالنجاسة الظاهرية لأجل الاستصحاب. نعم يحصل العلم بالطهارة من الحدث، مقرونة بالنجاسة الظاهرية.

الثالثة: ما أشار إليه بقوله: نعم لو طَهُرتْ على تقدير نجاستها بمجرّد الملاقاة بلا حاجة إلى التعدد، و انفصال الغسالة، كما لو كان كلّ منهما كرّاً و لكن كان أحدهما نجساً، فلا يعلم تفصيلاً بنجاستها في وقت معين و إن علم بنجاستها حين ملاقاة الأُولى أو الثانية إجمالاً و لا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

توضيحها: انّه إذا كان الماء الثاني قليلاً يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين صب الماء الثاني و إن كان يطرأ الشكّ في ثباتها بعد انفصال الغسالة، و أمّا إذا كان الماءان كرّين و لا يتوقف التطهير بهما على التعدّد أو انفصال الغسالة، فلا يحصل العلم التفصيلي بالنجاسة حين الملاقاة بالماء الثاني، بل يعلم إجمالاً بأنّه صار نجساً إمّا بالملاقاة الأُولى أو بالثانية فلا مجال لاستصحابها.

و ظاهر العبارة أنّ عدم جريان الاستصحاب لأجل عدم العلم تفصيلاً بنجاسة العضو في وقت معيّن، بخلاف الصورة الأُولى و الثانية، حيث يعلم عند الصب و قبل انفصال الغسالة، بنجاسة العضو، فلو كان الاستصحاب غير جار في المقام تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة، لأنّه مشكوك الطهارة و النجاسة، فلو كان النجس هو الماء الثاني فهو نجس قطعاً، و لو كان الماء الأوّل فهو طاهر كذلك، و عند الجهل بحال الماءين، يكون الملاقى مشكوك الطهارة و النجاسة فيحكم عليه بالطهارة حسب القاعدة.

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر انّه يحكم في الجميع بضد الحالة السابقة قبل توارد

ص:284

الماءين عليه و بالتالي يحكم في المقام بنجاسة الأعضاء في عامّة الصور، و ذلك لأنّه يشترط في تأثير العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، بأن يكون الماء الطاهر، مطهراً سواء تقدّم استعماله أو تأخّر، و الماء النجس منجِّساً كذلك، و عندئذ يؤثر العلم الإجمالي، لكن هذا الشرط موجود في استعمال الماء النجس دون استعمال الماء الطاهر واقعاً، أمّا الأوّل فواضح فهو ينجس العضو سواء استعمله قبل الماء الطاهر أو بعده، بخلاف الماء الطاهر فلو استعمله قبل الماء النجس، لا يؤثر في العضو، لأنّ المفروض طهارة العضو، و لو استعمل بعد الماء النجس فهو و إن كان يؤثر في طهارة العضو لكن يكون محدثاً للتكليف على فرض دون فرض لا على جميع الفروض، فالعلم بطروء الطهارة على العضو دائر بين كونه مؤثّراً و غير مؤثر، محدثاً للطهارة، و غير محدث، فليس هنا علم بالطهارة المؤثرة المزيلة للنجاسة، لاحتمال كون الطاهر هو الماء الأوّل، بخلاف النجاسة فهناك علم تفصيلي بطروء النجاسة المؤثرة المزيلة للطهارة، المشكوك بقاؤها فتستصحب.

و لذلك قلنا: إنّه يؤخذ بضد الحالة السابقة، و منه يعلم حال عكس المسألة، أعني: إذا كان العضو نجساً و استعمل الماءان، فيحكم بطهارة العضو بنفس البيان في المقام السابق، فانّ الماء النجس غير مؤثر في كلتا الصورتين بل يؤثر استعماله إذا كان بعد استعمال الماء الطاهر، و أمّا لو كان قبله فلا يؤثر في نجاسة العضو، لأنّ المفروض كونه نجساً، بخلاف الماء الطاهر فهو رافع للنجاسة و مؤثر في رفع النجاسة، سواء استعمله قبل الماء النجس، أو بعده.

ص:285

التنبيه الثالث هل تعدّد الإضافات كالإكرام المضاف إلى العالم و الفاسق بالأمر بالأوّل و النهي عن الثاني كتعدّد العناوين و الجهات أو لا؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الأوّل، لأنّه لو كان اختلاف العناوين مجدياً مع وحدة المعنون كان تعدّد الإضافات مجدياً لأنّ المصالح و المفاسد تختلف حسب الإضافات و الجهات و ما يتراءى من العلماء معاملة التعارض مع العموم من وجه، لأجل البناء على الامتناع أو إحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

و يظهر ذلك من الشيخ أيضاً قائلاً بأنّ العالم و الفاسق طبيعتان متغايرتان فيلزم على المجوّز في مورد الصلاة و الغصب، التجويز فيهما.

ص:286

الفصل الثالث في كشف النهي عن الفساد

اشارة

(1)

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
الأوّل: قد اختلفت كلماتهم في عنوان الفصل

فتارة يعبّرون عنه بقولهم:

هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا؟ و أُخرى:

هل النهي يدلّ على الفساد أو لا؟ و الأوّل غير وجيه، إذ ليس النهي مؤثراً في الفساد، و إنّما هو دالّ عليه أو كاشف عنه، و الثاني منصرف إلى الدلالة اللفظية، و لا يشمل استكشاف الفساد، من الملازمة العقلية، و الأولى أن يعبّر بما صدّرنا به البحث من كشف النهي عن الفساد.

الثاني: يتبادر من عبارة «الكفاية» انّ المسألتين (هذه المسألة و المسألة السابقة) متّحدتان جوهراً و مختلفتان في الجهة المبحوث عنها،

فانّ جهة البحث في المقام هو دلالة النهي على الفساد، و هي في المسألة السابقة، هو انّ تعدد العنوان هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر و النهي في مورد الاجتماع أو لا؟

ص:287


1- فيه مقامان: النهي عن العبادات، و النهي عن المعاملات.

يلاحظ عليه: بأنّ المسألتين متميّزتان جوهراً قبل تميّزهما بالاغراض و جهات البحث، فأين قولنا:

هل يجوز تعلّق الأمر و النهي بشيئين مختلفين في مقام التعلق، و متحدين في مقام الوجود، أو لا؟ من قولنا:

هل النهي يكشف عن الفساد أو لا؟ و قد مرّ أنّ لفظ الكشف جامع للدلالة اللفظية، و الملازمة العقلية.

هذا إذا قلنا بأنّ النزاع في المسألة السابقة كبروي كما هو المختار و أمّا إذا قلنا بأنّ النزاع فيها صغروي كما هو مختار المحقّق الخراساني بأن يقال: بعد تسليم امتناع الكبرى هل تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون أو لا؟ فهذا النوع من البحث غير ما هو المبحوث عنه في المقام.

و الذي يعرب عن تمايز المسألتين بجوهرهما هو لزوم وجود الأمر في المسألة السابقة، دون هذه المسألة، بل يكفي وجود النهي سواء أ كان معه أمر كما في العبادات أو لا كما في المعاملات.

نعم لو قلنا في المسألة السابقة بالامتناع، و قدّمنا النهي على الأمر، تكون نتيجة البحث في المسألة السابقة، صغرى لهذه المسألة، و أمّا لو قلنا بجوازهما، أو قلنا بالامتناع لكن بتقديم الأمر على النهي، فلا صلة بين المسألتين أبداً.

الثالث: انّ البحث في المسألة السابقة عقلي محض،

كما يعلم من براهين المجوّزين و المانعين، و أمّا المقام، فذهب المحقّق النائيني(1) تبعاً للشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار(2) إلى أنّ البحث في المقام أيضاً عقلي، كما أنّ المتبادر من المحقّق الخراساني أنّ البحث لفظي، قال: لا يخفى انّ عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل انّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه و بين الحرمة.(3)

ص:288


1- فوائد الأُصول: 1/455.
2- مطارح الأنظار: 161.
3- كفاية الأُصول: 1/283.

و الأولى أن يقال: إنّ وصف البحث بأحد العنوانين، تابع لكيفية البرهنة و الاستدلال عليه.

فإن قلنا بدلالة لفظ النهي على الفساد، فيكون البحث لفظياً، و إن قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمة و الفساد، يكون البحث عقلياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لما استظهر كون النزاع لفظياً، أورد إشكالاً ثمّ أجاب عنه و لما كان الإيراد و الجواب مبهمين نأتي بتوضيحهما.

أمّا الإشكال فحاصله: انّ الملازمة بين الحرمة و الفساد إما ثابتة أو لا، فعلى الوجه الأوّل يكون النزاع عقلياً، و على الوجه الثاني تكون الملازمة منتفية، فلم يبق لكون النزاع لفظياً أو عقلياً ملاك.

و حاصل الجواب: انّ وجود الملازمة عبارة أُخرى عن دلالة النهي على الفساد عن طريق الدلالة الالتزامية و هي عند المنطقيين دلالة لفظية، و إن كانت عند علماء البيان دلالة عقلية فالنزاع على القول بالملازمة لفظيّ أيضاً.

يلاحظ عليه: بأنّه لم يدفع الإشكال بحذافيره و إنّما دفعه عند وجود النهي اللفظي فصار البحث لفظياً حتّى على القول بالملازمة بين الحرمة و الفساد، و لكن المورد أعمّ، إذ ربّما لا يكون لفظ في المقام و إنّما دلّ الإجماع على التحريم دون وجود أيِّ لفظ فالفساد ثابت و متحقّق دون أن تكون هنا دلالة لفظيّة.

الرابع: لا شكّ أنّ المسألة أُصولية،

لأنّ نتيجة البحث تقع كبرى للاستنباط، فلو قلنا بدلالة النهي على الفساد، أو قلنا بالملازمة بين الحرمة و الفساد أو بين النهي و الفساد تكون العبادات و المعاملات المنهية فاسدة لا يترتّب عليها الأثر المقصود، فإذا قال:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «أو قال:» لا تبع ما ليس عندك « و قلنا بدلالة النهي على الفساد، أو قلنا بالملازمة العقلية، تكون

ص:289

النتيجة فساد الصلاة و البيع، فلا تكون الصلاة مسقطة للقضاء و الإعادة كما لا يكون البيع سبباً لخروج المبيع عن ملك البائع و دخوله في ملك المشتري و الثمن على العكس.

فإن قلت: قد مرّ في المقدّمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول أنّ الفرق بين القاعدة الأُصولية و القاعدة الفقهية هو أنّ المحمول في الثانية حكم شرعي، نظير قوله:» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر «أو قوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ في خمس «و أمّا المسألة الأُصولية فالمحمول فيها هو الحجّية و عدمها كالبحث عن حجية الخبر الواحد و الإجماع و الشهرة، أو البحث عن الملازمات بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته.

و على كلّ تقدير فالمحمول إمّا حكم عقلائي كحجية الخبر الواحد أو عقلي كباب الملازمات.

و على ضوء ذلك فالمسألة في المقام قاعدة فقهية لأنّها تبحث عن فساد العبادة و المعاملة و عدمهما، و الفساد حكم شرعي كالصحة.

قلت: إنّ الفساد و الصحّة من الأُمور الانتزاعية من مطابقة المأتي به للمأمور به و عدمه، فهما حكمان وضعيّان منتزعان من قول الشارع» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «فيوصف عمل ناسي السورة بالصحّة، بحكم الرواية، كما يوصف بيع من باع من غير ملك بالفساد بفضل قوله:» لا تبع ما ليس عندك «.

و على ذلك فليس الفساد كالصحة من الأحكام الشرعية بل من الأحكام الوضعية المنتزعة.

نعم لو قلنا بأنّهما مجهولان فلا محيص عن كون المسألة فقهية.

الخامس: إنّ للنهي أقساماً و إنّ أيّ قسم من الأقسام مورد للنزاع،

و الأقسام كالتالي.

ص:290

تحريمي و تنزيهي.

نفسي و غيري.

أصلي و تبعي.

و قد اختلفت أنظار الأُصوليين في تعيين محط النزاع، فذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الجميع داخل في محطّ النزاع، فقولنا: هل النهي يدل أو يكشف عن الفساد؟ يعم جميع الأقسام، إمّا عنواناً أو ملاكاً، كما سيتضح.

و ذهب المحقّق النائيني إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي دون التنزيهي، و بالنفسي دون الغيري، و لم يذكر شيئاً حول الأصلي و التبعي.

و الحقّ مع المحقّق الخراساني، و إليك بيان كلامه:

إنّ النهي التحريمي داخل في محط النزاع و يشمله عنوان البحث، و امّا النهي التنزيهي كالعبادة عند مطلع الشمس و مغربها فغير داخل في عنوان البحث) هل النهي... (لانصراف النهي إلى التحريمي و لكنّه داخل فيه ملاكاً، إذ لقائل أن يقول: إنّه يكفي عدم المطلوبية في الفساد و هو أمر مشترك بين التحريمي و التنزيهي.

كما أنّ النهي النفسي داخل في مصب النزاع، و أمّا الغيري كالنهي عن الصلاة عند ابتلاء المصلي بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد فهو على قسمين: غيري أصلي، و غيري تبعي.

فلو قلنا بأنّ الملاك في تقسيم الأمر إلى الأصلي و التبعي إنّما هو مقام الإثبات و الدلالة، بمعنى أنّه إذا كان الوجوب مفهوماً بخطاب مستقل و مدلولاً بالدلالة المطابقية، فالواجب أصلي، و إن كان مفهوماً بتبع خطاب آخر و مدلولاً بالدلالة الالتزامية فالواجب تبعي، فلو قلنا بهذا التفسير للأصلي و التبعي،

ص:291

فالغيري مطلقاً داخل في عنوان النزاع لشمول قوله: هل النهي يدلّ على الفساد للنهي المفهوم بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

و أمّا لو قلنا بأنّ ملاك التقسيم إليها هو الثبوت لا الإثبات، فلو كان الشيء متعلّقاً للإرادة على وجه الاستقلال عند الالتفات إليه بما هو عليه فهو أصلي، و إن كان متعلّقاً بها تبعاً لإرادة غيره من دون التفات إليه فهو تبعي، فلو قلنا بهذا التفسير فالغيري التبعي بما انّه ليس مدلولاً للدلالة يكون داخلاً في محط البحث ملاكاً لا عنواناً.

هذا هو توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: أنّ القول بانصراف النهي إلى التحريمي و خروج التنزيهي عن مدلوله غير تامّ، لأنّ الانصراف إمّا لكثرة استعمال النهي في التحريمي، أو لكثرة وجوده، و كلاهما منتفيان، فانّ النهي استعمل في التنزيه كثيراً و له مصاديق متوفرة، فالتحريمي و التنزيهي أمام العنوان سواء.

الثاني: أنّه جعل الغيري التبعي تارة داخلاً في عنوان النزاع، و أُخرى داخلاً فيه بملاك النزاع لا بعنوانه، مع أنّ الأصلي أيضاً كذلك، فلو فسّر الأصلي بما تعلّق به الخطاب على وجه الاستقلال، فهو داخل في عنوان النزاع، و ان فسّر بما تعلّقت به الإرادة الاستقلالية و إن لم يتلفّظ به المولى، فهو داخل في البحث ملاكاً، اللّهمّ إلاّ أن يقال إذا كان الشيء متعلّقاً للإرادة الاستقلالية لا ينفك عن كونه متعلّقاً للنهي اللفظي مطلقاً، فكأنّ الأصلي بكلا التفسيرين داخل في عنوان النزاع.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أخرج النهي التنزيهي عن محل النزاع قائلاً: بأنّ

ص:292


1- كفاية الأُصول: 1/284.

النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاق الأمر، نعم لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به، إلاّ أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر و النهي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من عدم اقتضاء النهي التنزيهي فساد العبادة و إن كان حقاً، لكنه لا يوجب خروجه عن محلّ النزاع، إذ يمكن أن يتوهم أنّ النهي كاشف عن عدم المطلوبية أو الحزازة، و هما لا يجتمعان مع التقرّب.

و الحاصل: انّ كون الفساد على خلاف التحقيق أمر، و كونه غير داخل في محط النزاع شيء آخر، و الكلام في الدخول و عدمه إنّما هو قبل التحقيق و بيان الحال لا بعده، و ما ذكره راجع إلى ما بعد التحقيق.

إلى هنا تمّ ما ذكره صاحب الكفاية و المحقّق النائيني، بقي هنا أقسام لم يشر إليها المحقّق الخراساني و هي:

1. النهي الإرشادي.

2. النهي التشريعي.

3. النهي التخييري في مقابل التعييني.

أمّا الأوّل: فتارة يكون إرشاداً للفساد، كقوله:» لا تبع ما لا يملك «; و أُخرى يكون إرشاداً إلى المانعية، كقوله:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «. من غير فرق بين أن تفسّر المانعية بأخذ قيد عدمي في المأمور به، أو بضدية الشيء المنهي عنه مع الصلاة و انّهما لا يجتمعان، و بما أنّ النهي الإرشادي بكلا قسميه سواء كان

ص:293


1- الفوائد الأُصولية: 4561/455.

إرشاداً إلى الفساد أو إلى المانعية واضح الحكم فلا يكون داخلاً في محلّ النزاع.

و أمّا الثاني: أي النهي التشريعي فمفاده النهي عن الاعتقاد بكون شيء مأموراً به بالخصوص، كما إذا صلّى في مكان خاص زاعماً بتعلّق أمر خاص به مع إطلاق الأمر فصار باعتقاده و عمله مشرّعاً، فهل هو داخل في محلّ النزاع أو لا؟ اختار المحقّق القوجاني(1) الثاني قائلاً بأنّ مفاد النهي التشريعي هو البطلان فلا يتصوّر فيه النزاع.

يلاحظ عليه: أنّ غاية ما يدلّ عليه النهي التشريعي هو حرمة الإتيان بالعمل الناشئ منه، أمّا الفساد فليس من المداليل الواضحة، فيقع البحث عن دلالته على الفساد أو ملازمته معه عقلاً أو عدمها.

و أمّا الثالث: أي النهي التعييني و التخييري كما إذا قال:» لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تجالس الفسّاق «فصلى فيها مع مجالستهم، فالظاهر دخول القسمين في محلّ النزاع، لكن المحرّم في الأوّل نفس العمل و في الثاني الجمع بين العملين.

السادس: في تعريف العبادة و المعاملة

الغاية القصوى من عقد هذا الفصل، هو استكشاف حال العبادة و المعاملة إذا تعلّق بهما النهي من حيث الصحّة و الفساد، فيلزم التعرّف على مفهوم العبادة و المعاملة.

امّا العبادة: فقد عُرّفت بوجوه ثلاثة وراء ما عَرَّف به المحقّق الخراساني و هي:

أ. ما أمر لأجل التعبّد به.

ص:294


1- من تلاميذ المحقّق الخراساني (قدس سره) و مقرر بحثه و هو أُستاذ المحقّق المشكيني (قدس سره) توفّى سنة 1333 ه.

ب. ما تتوقف صحّتُه على نيّة القربة.

ج. ما لا يعلم انحصارُ المصلحة فيها في شيء.

و أورد عليها المحقّق الخراساني بأنّ الكلام في العبادة التي يتعلّق بها النهي، و العبادة بهذه المعاني لا يتعلق بها النهي.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره يصحّ في التعريف الأوّل، لأنّ ما أمر به يكون صحيحاً بالفعل، فكيف يتعلّق به النهي، بخلاف التعريفين الأخيرين، فلا مانع من تعلّق النهي بما تتوقّف صحّته على الأمر، و لكن لم يتعلّق به الأمر، و مثله الثالث، فلنرجع إلى ما ذكره المحقّق الخراساني من التعريف و قد عرفها بوجهين:

1. ما يكون بنفسه و بعنوانه عبادة له تعالى، موجباً بذاته للتقرّب من حضرته لو لا حرمته كالسجود و الخضوع له و تسبيحه و تقديسه.

2. ما لو تعلّق به كان أمره عباديّاً لا يكاد يسقط إلاّ إذا أتى به بنحو قربي، كسائر أمثاله نحو» صوم العيدين «، و الصلاة في أيّام العادة.(1)

يلاحظ على التعريف الأوّل: بأنّه لو كان السجود عبادة ذاتية، لما جاز أمر الملائكة بالسجود لآدم كما قال سبحانه: (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) (2)فآدم كان مسجوداً له، لا قبلة، و لا مسجوداً عليه، كالتربة الحسينية إذ معنى ذلك انّه سبحانه أمر بعبادة غيره الذي هو يساوي الأمر بالشرك المنزّه عنه سبحانه، يقول: (وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (3)و الفحشاء القبيح، أو ما اشتد قبحه و المقصود به هنا هو الشرك.

ص:295


1- كفاية الأُصول: 1/286.
2- البقرة: 34.
3- الأعراف: 28.

فالأولى أن يعرف بما ذكره ثانياً أعني: ما لو تعلّق به الأمر لا يكاد يسقط إلاّ إذا أتى به بنحو قربي(1)، خرج التوصليّات فانّها لو تعلّق بها الأمر يسقط مطلقاً قصد به القربة أو لا. هذا كلّه حول العبادة.

و أمّا المعاملة، فقد أُريد منها في العنوان، كلّ ما يكون قابلاً لوصفه بالصحة و الفساد، فيعمّ العقود و الإيقاعات و غيرهما، كالرضاع و الاحياء من الموضوعات التي تارة يترتّب عليه الأثر المترتّب عنه، و أُخرى لا يترتب لاختلال بعض الشرائط المعتبرة.

فخرج الأمران التاليان:

1. ما لا يترتّب عليه الأثر شرعاً مطلقاً، كالغلبة في القمار.

2. ما لا ينفك أثره عنه كالإتلاف بلا إذن، لعدم طروء الفساد عليه.

السابع: في معنى الصحّة و الفساد

ذكر المحقّق الخراساني في المقام أُموراً نشير إليها:

1. انّ الصحّة و الفساد، وصفان إضافيّان يختلفان حسب الآثار و الأنظار، فربّ شيء يكون صحيحاً بحسب أثر، دون أثر كإفساد الصوم بما يوجب القضاء دون الكفّارة، فهو صحيح بالنسبة إلى الكفّارة و فاسد حسب القضاء، كما ربّما يكون صحيحاً في نظر فقيه دون فقيه آخر.

2. انّ الصحّة في العبادة و المعاملة، بمعنى واحد و هو التمامية، و أمّا الاختلاف فيهما فإنّما هو فيما هو المرغوب منهما من الآثار، حيث إنّ المطلوب في

ص:296


1- انّ شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه قد اختصر الكلام في تفسير العبادة، و له بحث ضاف حولها في مفاهيم القرآن، لاحظ الجزء الأوّل: 455 468.

العبادة حصول الامتثال أو سقوط التّضاد و الإعادة، و في المعاملة ترتّب الأثر المطلوب كالملكية في البيع، فتوصف الصلاة بالصحة لهاتين الغايتين، كما يوصف البيع بالصحة لتلك الغاية) ترتّب الأثر (و إلاّ فالصحة في الموردين بمعنى التمامية.

3. إنّ اختلاف الفقيه و المتكلّم في صحّة العبادة ليس اختلافاً مفهومياً أو اختلافاً جوهرياً، بل الصحّة عند الطائفتين بمعنى واحد و هو التمامية، لكن ملاك التمامية عند المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً، لاستحقاق المثوبة، و ملاكها عند الفقيه سقوط الإعادة و القضاء، فكلّ ينظر إلى التمامية من منظاره الخاص و مطلوبه، فالغاية عند المتكلّم هو تعيين موارد استحقاق المثوبة و العقوبة فيفسّر التمامية بموافقة الأمر، أو الشريعة الملازم للامتثال الموجب عقلاً للمثوبة بخلاف الغاية عند الفقيه، فهو بصدد تعيين موارد سقوط القضاء و الإعادة فيفسّر التمامية بهما.

4. انّ الأمر ينقسم إلى واقعي أوّلي و واقعي ثانوي و ظاهري، و قد اختلفت الأنظار في أنّ امتثال الأخيرين هل يجزيان عن امتثال الأمر الواقعي أو لا كالصلاة متيمّماً، أو الصلاة بالطهارة الظاهرية؟ فلو فسّر الأمر في قوله:» امتثال الأمر، يقتضي الإجزاء «بالأعم من الواقعي الثانوي و الظاهري، تكون النتيجة هو الإجزاء مطلقاً، و لو فسّر بخصوص امتثال الأمر الواقعي، تكون النتيجة عدم الإجزاء.

و ربّما يكون الملاك عند المتكلّم، موافقة مطلق الأمر، و عند الفقيه هو خصوص موافقة الأمر الواقعي، فيكون مجزئاً عند الأوّل دون الثاني، و ربّما يكون الملاك على العكس، فيكون مجزئاً عند الفقيه دون المتكلّم، و ربّما يتفقان في الملاك، فيخرجان بنتيجة واحدة.

ص:297

فظهر انّه لا اختلاف في مفهوم الصحّة في الموارد التالية:

1. لا في العبادات و لا في المعاملات.

2. و لا بين الفقيه و المتكلّم.

3. و لا في مجال امتثال الأمر الواقعي الثانوي.

هذا توضيح ما في الكفاية:

يلاحظ عليه أوّلاً: بما قدمناه في مبحث الصحيح و الأعم(1) أنّ تفسير الصحّة بالتمام ليس تفسيراً تاماً في عامة الموارد و ذلك لأنّ الصحّة تستعمل في موردين:

1. الصحّة في مقابل المرض، فيقال مصحّ لا مريض، قال ابن فارس: الصحّة أصل يدل على البراءة من المرض و العيب و على الاستواء من ذلك، و الصحة: ذهاب السقم. و عند ذلك فالصحة كيفية وجودية في الشيء ملائمة لنوعه، و المرض على خلافها. و بين المعنيين من التقابل تقابل التضاد.

2. الصحّة في مقابل العيب، فيقال صحيح لا معيب، و إليه أشار ابن فارس في كلامه أيضاً فقال:

البراءة من المرض و العيب، فإذا كان الوجود تاماً حسب الخلقة النوعية يقال صحيح و إن كان ناقصاً يقال انّه معيب.

و بذلك ظهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية في خصوص المورد الثاني، أي إذا استعملت في مقابل المعيب، فيكون وزان الصحيح و المعيب، وزان التام و الناقص، و بين المعنيين تقابل العدم و الملكة. و أكثر استعمال الصحّة إنّما هو في المعنى المقابل للمرض.

هذا حال اللغة: و أمّا اصطلاحاً فتطلق الصحّة تارة على الجامع للصفة

ص:298


1- إرشاد العقول: 1/133.

المعتبرة في العبادة في مقابل الآخر إذا لم تكن كذلك. ككون القراءة صحيحة أو ملحونة، فيكون بينهما من التقابل، هو تقابل التضاد. و أُخرى على الجامع للأجزاء و الشرائط و غير الجامع لهما، فيكون بينهما من التقابل هو تقابل العدم و الملكة. فالأوّل يناسب كون الصحّة في مقابل المرض، و الآخر كون الصحّة في مقابل المعيب.

و ثانياً: إنّ وصف المركبات الانتزاعية بالصحة و الفساد إنّما هو بالإضافة إلى أنفسها عند تحقّقها في الخارج) و سيوافيك أنّ الصحّة و الفساد من عوارض الماهية الموجودة لا بما هي هي (فإن كانت جامعة لما يعتبر فيها فصحيحة و إلاّ ففاسدة لا بالإضافة إلى الآثار و الأنظار.

الثامن: هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً؟
اشارة

هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً أو ليس كذلك مطلقاً، أو مجعولان في المعاملات دون العبادات، أو الصحّة الظاهرية مجعولة دون الواقعية؟ وجوه و احتمالات، فتارة يقع الكلام في العبادات، و أُخرى في المعاملات.

نظرية المحقّق الخراساني حول الصحّة في العبادات يظهر من المحقّق الخراساني في مجعولية الصحّة في العبادات، التفصيل التالي:

أ. لو فسِّرت الصحّة و الفساد وِفقَ مسلك المتكلّمين) مطابقة المأتي به للشريعة (فالصحّة و الفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من المطابقة و عدمها.

ب. و لو فُسِّرت الصحّة و الفساد وفق مسلك الفقهاء) ما كان مسقطاً للإعادة و القضاء (فالصحة و الفساد حكمان عقليان حيث يستقل العقل بسقوط

ص:299

الإعادة و القضاء جزماً أو يستقل بعدمها.

و على ضوء ذلك فليست من الأحكام المجعولة مستقلة و لا من المجعولة تبعاً كما ليست أمراً اعتبارياً و انتزاعياً.

هذا كلّه حول امتثال الأمر الواقعي، و أمّا امتثال الأمر الاضطراري(1) فقد ذكر هنا صورة واحدة و هي ما إذا لم يكن المأتي به وافياً لمصلحة الواقع و كانت المصلحة الفائتة لازمة الاستيفاء، فلو كان الاستيفاء حرجيّاً يكون السقوط) الصحّة (مجعولاً شرعاً تخفيفاً و منّة على العباد مع وجود المقتضي لثبوت الإعادة و القضاء، كما ربّما يكون وجوب الإعادة و القضاء) الفاسد (مجعولين كذلك.

هذا خلاصة ما أفاده في» الكفاية «و يرجع حاصله إلى أُمور ثلاثة:

أ. الصحة و الفساد في مسلك المتكلّمين اعتباريان انتزاعيان.

ب. و في مسلك الفقهاء من الأحكام العقلية.

ج. و في امتثال الأمر الاضطراري إذا كان الفائت لازم الاستيفاء و لكن حرجيّاً تكون الصحّة مجعولة شرعاً و إلاّ يكون الفساد مجعولاً.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الجمع بين الاعتباري و الانتزاعي في الشق الأوّل على خلاف الاصطلاح، فانّ الأمر الانتزاعي يُعدُّ من مراتب التكويني في بعض الموارد، كما إذا كان المنشأ متحيثاً بحيثية وجودية، كالفوقية المنتزعة من الطابق الثاني لكونه فوق الأوّل، و هو تحته، فلذلك قالوا إنّ الحقائق الخارجية إمّا جواهر،

ص:300


1- و قد أشار إليه بقوله: و في غيره فالسقوط ربّما يكون مجعولاً، و الضمير يرجع إلى امتثال الأمر الواقعي الأوّلي، فيكون المراد امتثال الأمر الواقعي الثانوي أي الاضطراري كالتيمّم.
2- كفاية الأُصول: 1/289.

أو أعراض أو انتزاعيات، بخلاف الأُمور الاعتبارية فانّ قوامها بإعطاء حدّ التكوين لشيء آخر، اعتباراً، كإعطاء حد الرأس الذي شأنه الإدارة للرئيس، فهو رأس اعتباراً، و الآخرون بمنزلة الأعضاء فأين الثاني من الأوّل؟! و للبحث حول الأُمور الانتزاعية و الاعتبارية مجال آخر و الغرض أنّ الجمع بينهما خلاف الاصطلاح.

و ثانياً: انّ الصحّة على مسلك المتكلّمين ليست من الأُمور الانتزاعية و لا الاعتبارية و إنّما هي من الأُمور الواقعية كسائر الواقعيات التي يدركها العقل، فانّ حصول الامتثال بتطابق المأتي به للشريعة، من الأُمور الواقعية كتطابق الخطين و تساويهما، فالصحة عندئذ ليست أمراً انتزاعياً و لا اعتبارياً و لا مجعولاً بنفسه و لا مجعولاً بتبع أمر آخر، و لا من الأحكام العقلية المستقلة كحسن الإحسان و قبح الظلم أو الملازمة بين الوجوبين، بل واقعية يدركها العقل.

نعم ما أفاده من أنّ الصحّة على مسلك الفقهاء، من الأحكام العقلية، إذ هو الحاكم بسقوط الإعادة و القضاء إذا أتى بالمأمور على ما هو عليه، و عدمه إذا لم يأت كذلك.

و ثالثاً: أنّه) قدس سره (حكم بأنّ الصحّة و الفساد مجعولين شرعاً فيما إذا كان المأتي به غير واف بمصلحة الواقع فيما كانت الإعادة أو القضاء حرجيّاً فيكون سقوطهما) الصحة (مجعولين و إلاّ كان ثبوتهما ) الفساد (مجعولين، مع أنّ الظاهر منه في مبحث الإجزاء، أنّ الإجزاء و عدمه في الصورتين أمر عقلي(1)، و مع ذلك يمكن تصحيح كونهما مجعولين لكن باعتبار منشأ انتزاعهما حيث إنّ العمل لا يوصف

ص:301


1- كفاية الأُصول: 1/129.

بالصحة، إلاّ برفع اليد عن جزئية الجزء و شرطية الشرط، كما لا يوصف بالفساد إلاّ بإثباتهما، فالمجعول رفع الشرط أو الجزء أو إثباتهما، فيتبعهما جعل الصحة و الفساد.

إكمال

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاد في آخر التنبيه الذي عقده في ذيل الأمر السادس بأنّ الصحّة و الفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنّما هي تتصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ معنى ذلك أنّ الموصوف بالصحّة و الفساد هو العناوين الكلّية من الصلاة و البيع، و اتّصاف الفرد الخارجي منهما إنّما هو بانطباق المفهوم الكلّي عليه، و لكنّه كما ترى، لأنّ الصلاة الكلية لا توصف بالصحة و الفساد ما لم تتحقّق في الخارج، فانّ الأجزاء و الشرائط بما هي هي لا توصف بالصحّة و الفساد، و إنّما توصف بأحدهما إذا انطبق عليها عنوان الصلاة في الخارج، فإن كانت جامعة لهما فتوصف بالصحة، و إلاّ فتوصف بالفساد. و سيوافيك الكلام في البحث التالي.

الصحّة في المعاملات

قد وقفت على نظرية الخراساني حول الصحّة في العبادات و تفاصيلها، و أمّا الصحّة في المعاملات فأفاد في المقام كالتالي:

1. انّ الصحّة في المعاملات مجعولة، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما

ص:302


1- كفاية الأُصول: 1/290.

هو بجعل الشارع و ترتيبه عليها و لو إمضاءً، ضرورة انّه لو لا جعله لما كان يترتّب عليه لأصالة الفساد.

2. نعم صحّة كلّ معاملة شخصية و فسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها على ما هو المجعول سبباً و عدمه كما هو الحال في التكليفية من الأحكام، فاتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة ليس إلاّ انطباق ما هو الواجب عليه.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّه سبحانه جعل البيع حلالاً، فقال: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1)، و جعل الصلح بين المسلمين جائزاً و نافذاً فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الصلح جائز بين المسلمين «. فمتعلّق الجعل في الآية و الرواية، هو الحلّية و الجواز، لا الصحة، فلو قلنا بأنّه لا دور للشارع في مجال المعاملات، فالمراد انّه أمضى الحلّية و الجواز الرائجين بين العقلاء قبل الإسلام.

و أمّا الصحّة فإنّما يوصف بها العنوان إذا تحقّق في الخارج، و انطبق عليه ما أمضاه الشارع بالحلّية أو الجواز.

و الحاصل: انّ المحقّق الخراساني خلط بين متعلّق جعل الحلية و الجواز) و إن شئت قلت القانونية (و بين متعلّق الصحّة، فمتعلق الحلّية و الجواز هو العناوين الكلية و المجعول فيها هو الحلّية و الجواز، و متعلّق الصحّة هو المصداق الخارجي المنطبق عليه تلك العناوين.

و على ذلك فما هو المجعول شرعاً و لو إمضاء، هو الحلّية و الجواز، لا الصحّة، بل الصحّة و الفساد تنتزع من انطباق تلك العناوين الحامل للأحكام على المصداق الخارجي، و قد أشرنا إلى ذلك في الإكمال السابق.

ص:303


1- البقرة: 275.
التاسع: ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟
اشارة

إذا ثبت عند المجتهد دلالة النهي على الفساد أو عدم دلالته عليه فهو في غنى عن طرح هذا البحث، لعدم الحاجة إليه بعد وجود الدليل الاجتهادي على أحد الطرفين. و إنّما تصل النوبة إليه إذا قصرت اليدُ عن الدليل الاجتهادي و لم يثبت أحد الأمرين، فلا محيص من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشكّ.

فنقول: تارة يتعلّق الشكّ بالمسألة الأُصولية، و أُخرى بالمسألة الفرعية.

أمّا الأوّل: فلو كان مصب النزاع عقلياً، أي في وجود الملازمة بين النهي و الفساد عقلاً و عدمها، فلا أصل هنا يعوّل عليه، إذ ليست للملازمة و لا لعدمها حالة سابقة، و على فرض وجودها لا شكّ في الحالة اللاحقة، إذ لو ثبت الملازمة لكانت باقية قطعاً، و لو ثبت عدمها فكذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّه إذا كان النزاع عقليّاً فليس هاهنا قضية متيقّنة أوّلاً، و على فرض وجودها فليس هاهنا قضية مشكوكة.

أضف إلى ذلك أنّ الملازمة و عدمها غير قابلة للاستصحاب، لأنّه يشترط فيه كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و الملازمة تفتقد هذا الشرط.

هذا إذا كان مصبُّ النزاع في المسألة الأُصولية عقليّاً، و أمّا إذا كان لفظياً، أي في دلالة لفظ النهي على الفساد أو عدمه، فالأصل و إن كان موجوداً، أعني: أصالة عدم وضع النهي للفساد و لكنّها بالنسبة إلى إثبات أنّ النهي الموجود غير موضوع له مثبت، و قد ثبت في محلّه انّ استصحاب النفي التام لا يثبت النفي

ص:304

الناقص، كاستصحاب عدم قرشية هذه المرأة عند ما لم تكن موجودة و إثبات عدم قرشيتها بعد ما وجدت، لأنّ القضية المتيقّنة صادقة بانتفاء الموضوع، و القضية المشكوكة لا تصدق إلاّ بعد وجود الموضوع و انتفاء محموله، و مثله المقام حيث إنّ عدم دلالة النهي على الفساد لأجل عدم وجود الواضع و الوضع، فكان عدم دلالتها أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، و المقصود إثبات عدم الدلالة بعد وجود الواضع و ثبوت الوضع و صدور النهي من المولى، فالقضية المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع، و القضية المشكوكة إن صدقت صادقة بعد وجود الموضوع و الاتصاف بعدم المحمول.

فثبت أنّه لا أصل مفيد إذا كان النزاع في المسألة الأُصولية، إمّا لا أصل كما إذا كان عقليّاً أو هنا أصل و لكنّه مثبت كما إذا كان النزاع لفظيّاً.

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية

إذا كان الشكّ في المسألة الفرعية في باب المعاملات بأن شك في صحّة البيع وقت النداء، أو صحة المضاربة مع شرط اللزوم، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل هو الفساد، لأنّ مقتضى صحّة البيع مثلاً انتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري و الثمن على العكس، فالأصل عدم حصول النقل و الانتقال.

هذا في المعاملات، و أمّا في العبادات فقد أفاد المحقّق الخراساني بأنّ الأصل هو الفساد، لأنّ تعلّق النهي مانع عن تعلّق الأمر لامتناع اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، فصوم يوم الفطر إذا كان منهيّاً عنه يمتنع أن يتعلّق به الأمر.

ص:305

كلام للمحقّق الأصفهاني

و أورد عليه المحقّق الاصفهاني) قدس سره (بأنّه لا شكّ في المسألة الفرعية حتّى يؤسس الأصل في مقام الشكّ، لأنّ الصحّة لو كانت بمعنى موافقة الأمر فلا شكّ في الفساد لعدم تعلّق الأمر بالعبادة مع تعلّق النهي بها.

و إن كان بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به من حيث الملاك فهو قطعي الثبوت، فالمنهي عنه مستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط الدخيلة في الملاك، و الشكّ في أمر آخر و هو إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه، و لا أصل يقتضي أحد الأمرين، فكيف يقال الأصل الفساد؟(1)و حاصله: انّه لو كان ملاك الصحّة، هو الأمر، فالعبادة باطلة قطعاً بلا شكّ لعدم الأمر; و لو كان ملاك الصحة هو وجود الملاك فهو صحيح قطعاً لكونه واجداً للملاك، و لو طرأ الشكّ في الصحة لأجل إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه فلا أصل يعيّن أحد الطرفين.

يلاحظ عليه أوّلاً: نختار الشقّ الثاني و هو انّ الصحّة تدور حول وجود الملاك في الصلاة، و القول بأنّه قطعي الثبوت غير تام، إذ لو كان الشكّ في الصحّة لأجل ابتلاء العبادة بالمزاحم كابتلاء الصلاة بإزالة النجاسة عن المسجد، فالقول بوجود الملاك القطعي صحيح، و أمّا إذا كان الشكّ معلولاً لأجل النهي عن الجزء كقوله لا تقرأ العزائم في الصلاة، أو الوصف كالنهي عن الصلاة متكتفاً، فالقول بأنّ الملاك قطعي غير صحيح، لاحتمال أن تكون الصلاة مقيّدة بغير العزائم و التكتّف، و الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في كون الصلاة تامّة من حيث عدم

ص:306


1- نهاية الدراية: 1/310.

المانع أو لا، فعندئذ يكون الملاك أيضاً مشكوكاً.

و ثانياً: لو افترض أنّ الشك في إمكان التقرّب مع المبغوضية و عدمه، فقوله» لا أصل «غير صحيح، لوجود الأصل و هو انّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فليس للمكلّف الاكتفاء بالصلاة مع سور العزائم أو التكتّف لاحتمال مانعيتها، فيجب عليه الإعادة أخذاً بقاعدة الاشتغال.(1)

كلام للمحقّق النائيني

و قد فصّل المحقّق النائيني) قدس سره (بين ما إذا كان الشكّ في صحتها و فسادها لأجل شبهة موضوعية، كما إذا شكّ في أنّه ركع أو سجد في الركعة الأُولى أو لا؟ فمقتضى القاعدة الأُولى فسادها مع قطع النظر عن القاعدة الثانية) قاعدة الفراغ و التجاوز (.

و أمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية، فالحكم بالصحّة و الفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة أو الاشتغال عند الشكّ في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.

و إن شئت قلت: الشكّ في اقتضاء النهي للفساد يستتبع الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة و عدمها و يندرج في مسألة الأقل و الأكثر.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ كلاً من الشقين خارج عن محطّ البحث، أمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فلا نهي هناك حتّى يدخل في صلب الموضوع، فمن يشكّ في أنّه

ص:307


1- هذا و قد قرر شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه هذه المباحث على خلاف ما قرره في الدورة الثالثة، فلو كان هناك خلاف بيننا و بين ما أفاده في تلك الدورة فهو راجع إلى اختلاف التقرير من جانب شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه.
2- أجود التقريرات: 1/394.

ركع أو سجد لا نهي هنا قطعاً حتّى يبحث في دلالته، و أمّا إذا كانت الشبهة حكمية فالشكّ في الصحة و إن كان نابعاً من الشكّ في مانعية التكتّف أو لبس خاتم الذهب فبالتالي يدخل في مبحث الشكّ في المانعية الذي يبحث عنه في باب الاشتغال، و لكنّه خروج عن نمط البحث في المقام، فانّ البحث هنا مركّز على شيء واحد و هو دلالة النهي على الفساد و عدمها، و إرجاع البحث إلى الشكّ في المانعية و إدخاله في مبحث الأقل و الأكثر الارتباطيين خروج عن موضوع البحث.

كلام للمحقّق الحائري

قد فرّق شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (بين كون النزاع لفظياً و كونه عقلياً، إذ على الأوّل يرجع الشكّ إلى تقييد دليل العبادة بغير الخصوصية كالتختّم بالذهب و التكتّف، و معه إمّا تجري البراءة أو الاشتغال على الخلاف، بخلاف ما إذا كان عقلياً، و إنّما الشكّ في القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بإيجاد العمل في ضمن فرد محرّم، أو لا و الأصل الاشتغال حتّى يحصل القطع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في الشق الثاني لا غبار عليه، و قد أوضحناه عند نقل كلام المحقّق الاصفهاني حيث زعم» انّه لو كان مناط الصحة هو الملاك فيرجع إلى مبغوضية المنهي عنه و عدمها و لا أصل في البين «و قد عرفت أنّ الأصل هو انّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

نعم يرد الإشكال على الشقّ الأوّل حيث أرجع البحث في المقام إلى الشكّ في تقييد العبادة بغير الخصوصية) التكتّف مثلاً (و قد عرفت أنّ هذا خروج عن

ص:308


1- درر الأُصول: 1/155.

موضوع البحث، بل البحث مركَّز على كون النهي مانعاً عن الصحّة أو لا، لا كون النهي سبباً للشكّ في تقييد المأمور به بعدم المنهي عنه.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ الأصل في العبادات المنهية هو الفساد، إذ الشكّ في الصحّة يلازم الشكّ في حصول البراءة اليقينية، و معه تجب الإعادة و القضاء.

العاشر: في أقسام تعلّق النهي بالعبادة
اشارة

إنّ النهي عن العبادة على أقسام:

1. إمّا يتعلّق بنفس العبادة.

2. أو جزئها.

3. أو شرطها الخارج عنها كالتستّر.

4. أو وصفها الملازم لها.

5. أو وصفها غير الملازم لها.

6. أو يتعلّق بها لا بالمباشرة، بل لأجل تعلّق النهي بأحد هذه الأُمور.

فقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في تعلّق النهي بالجزء و الشرط و...، ثمّ انتقل إلى البحث عن تعلّق النهي بنفس العبادة، و بعد إنهائه استعرض مسألة تعلّق النهي بالمعاملات، و نحن نقتفيه أيضاً فنقول:

1. إذا تعلّق النهي بالجزء

إذا تعلّق النهي بالجزء كالنهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة، روى زرارة عن أحدهما) عليهما السلام (قال:» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فانّ السجود

ص:309

زيادة في المكتوبة «(1)فقال المحقّق الخراساني: إنّ النهي يوجب بطلان الجزء لكن بطلانه لا يوجب بطلان العبادة إلاّ في صورتين:

1. إذا اقتصر على الجزء المنهي عنه لا مع الإتيان بغيره ممّا لم يتعلّق به النهي بأن يقرأ سورة أُخرى من العزائم.

2. إذا استلزم الإتيان بجزء آخر، محذوراً كالقران بين السورتين و قد نهي عنه، روى الصدوق عن أبي جعفر) عليه السلام (أنّه قال:» لا قرآن بين السورتين في ركعة «.(2)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أورد على نظرية المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة. و حاصل الوجوه: انّ النهي عن الجزء، مبطل للجزء و الكلّ، أي العبادة، و إليك الوجوه:

الأوّل: انّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء، و تكون نسبة العبادة إلى ذلك الجزء المنهي عنه» بشرط لا «لا محالة، و اعتبار العبادة» بشرط لا «بالنسبة إلى شيء، يقتضي فساد العبادة المشتملة على ذلك الشيء لعدم كون الواجد من أفراد المأمور به، بل المأمور به غيره، فالآتي بالمنهي عنه غير آت بالمأمور به.

الثاني: انّه يعد زيادة في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها، و لا يعتبر في تحقّق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس إجزاء العمل، نعم يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

ص:310


1- الوسائل: 4، الباب 40 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
2- الوسائل: 4، الباب 8 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 12.

الثالث: انّه تعمّه أدلّة مبطلية مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدمي، و القدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن و الذكر الجائزين، و يبقى الذكر و القرآن المنهي عنهما داخلين تحت الإطلاق.(1)

و الوجوه الثلاثة تهدف إلى أنّ بطلان الجزء موجب لبطلان الكلّ أي نفس العبادة، فتارة من جهة فقدان وصف الصلاة، أي اللابشرط، و أُخرى من جهة الزيادة، و ثالثة من جهة كونه تكلّماً غير جائز.

يلاحظ على الأوّل: أنّ حرمة جزء العبادة ليست إلاّ بمعنى حرمته في نفسه، و حرمته كذلك تقتضي بطلانه و عدم حصول الامتثال به، و أمّا تقييد العبادة بعدمه، و كون نسبتها إليه، على نحو» لا بشرط «فهو ممّا لا تدلّ عليه حرمة الجزء.

و إن شئت قلت: قولنا:» جزء العبادة «تعبير مسامحي، فانّ الروايات الناهية عن قراءة سور العزائم في المكتوبة سلبت عنها وصف الجزئية، و صارت قراءتها فيها، كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة، فكما أنّ الثاني، لا يبطل العبادة فهكذا قراءة العزائم، و كون السورة المنهيّة من جنس سائر الأجزاء دون النظر لا يكون فارقاً، بعد سلب عنوان الجزئية عنها بقوله» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم «.

و بطلان الجزء [الشأني] في نفسه، يلازم بطلان العبادة إذا اقتصر به، و أمّا إذا قرأ سورة أُخرى، كانت الصلاة واجدة للجزء لو لا المحذور الآخر، أعني: قران بين السورتين المنهي عنه كما مرّ.

و يلاحظ على الثاني: المفروض انّ المصلّي عالم بالحكم، و انّ الشارع سلب عن العزائم عنوان الجزئية فيمتنع أن يقرأها بقصد الجزئية، و إنّما يقرأها بعنوان انّه

ص:311


1- أجود التقريرات: 1/397; فوائد الأُصول: 4661/465.

قرآن، فعندئذ كيف يكون سبباً للزيادة مع عدم قصد الجزئية؟ و التفريق بين ما كان من سنخ العبادة و غيرها باشتراط قصدها في الثاني دون الأوّل خال عن الوجه، و ذلك للفرق الواضح بين كون شيء جزءاً تكوينياً و كونه جزءاً اعتباريّاً، فلو زاد في المركب الخارجي شيئاً عن سهو، صدق انّه زاد فيه سواء قصد الجزئية أم لا، و بين كونه جزءاً اعتبارياً للمركب الاعتباري الذي هو في الحقيقة أُمور مختلفة، متفرقة، من مقولات متشتّة، يجمعها عنوان اعتباري آخر كالصلاة، ففي مثلها، تكون جزئية الشيء رهن القصد و الاعتبار فلا يصدق انّه زاد في صلاته إلاّ إذا أتى بالجزء بما انّه جزء منه، و المفروض خلافه. نعم لو أتى بالجزء بما انّه جزء للصلاة و انّه لا فرق بين العزائم و غيرها صدقت الزيادة.

فإن قلت: إنّ الإمام عدّ السجود لأجل قراءة العزائم زيادة في المكتوبة كما مرّ، مع أنّه لم يقصد كونه جزءاً من الصلاة، و هذا دالّ على التفصيل بين ما يكون من جنس المزيد عليه و ما ليس كذلك.

قلت: لعلّ المراد كون السجود ماحياً للهيئة الصلاتية المعتبرة فيها كالأفعال الكثيرة المبطلة، بما هي ماحية لها، و إلا فالاستعمال أعمّ من الحقيقة، و إطلاقها على السجود في مورد لا يكون دليلاً على صحّة إطلاقها على غيره إذا لم يقصد كونه من الصلاة.

و على الثالث، فانّ المحرّم هو التكلّم بكلام الآدمي لا مطلق التكلّم حتّى يخصص بالقرآن و الذكر الجائزين و يبقى القرآن و الذكر المحرّمين تحته، و يدلّ على ذلك لسان الروايات.

روى أبو بصير عن الصادق) عليه السلام (:» ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة «.(1)

ص:312


1- الوسائل: 4، الباب 25 من أبواب القواطع، الحديث 1 و 2 و 4.

أضف إلى الجميع أنّ المسألة أُصولية، لا فقهية، فيجب تحليلها على غرار سائر المسائل الأُصولية بأن يركّز على البحث في الملازمة أو دلالة النهي على الفساد، و أمّا تحليله بفقدان الوصف أو الزيادة، أو بكونه تكلّماً فهو يناسب المسائل الفرعية.

2. إذا تعلّق النهي بالشرط إذا تعلّق النهي بالشرط كالتستر بالحرير فهل يوجب فساد العبادة أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين أن يكون الشرط عبادة، كالطهارات الثلاث فانّ فسادها يوجب فساد المشروط، و ما لا يكون عبادة كالتستر فانّ النهي يجتمع مع الصحة لعدم لزوم قصد القربة حتّى لا تجتمع مع الحرمة.

يلاحظ عليه: أنّ الشرط غير العبادي إذا كان متقدّماً على المشروط صح ما ذكره كغسل الثوب النجس بالماء المغصوب، و الصلاة فيه بعد جفافه و أمّا إذا كان الشرط مقارناً مع الصلاة كالتستر، فانّ النهي عنه كاشف عن مبغوضيته و عدم إمكان التقرّب بالصلاة المتّحدة مع الشرط المبغوض.

و بعبارة أُخرى: انّ هنا مشروطاً كالصلاة و قيداً كالثوب المنسوج من الحرير و تقيداً و هو الإضافة الحاصلة بين الستر و الصلاة، و ذات القيد أي نفس الثوب و إن كان خارجاً عن الصلاة، لكن التقيّد داخل فيها، فالأمر يتعلّق بالصلاة التي تكون العورة فيها مستورة، فإذا كان الشرط أي التستّر محرماً، يمتنع تعلّق الأمر الصلاتي به و لو بانبساط الأمر، و قد اشتهر قولهم:» تقيّد جزء و قيد خارجي «فالتستّر جزء من الصلاة داخل فيها و إن كان نفس الستر خارجاً فالأمر النفسي المتعلّق بالمشروط، يتعلّق بالشرط أيضاً و النهي مانع عن تعلّقه به.

ص:313

فإن قلت: إذا كان التقيّد أمراً ذهنياً، فلا يكون متعلّقاً للأمر النفسي و لو بانبساطه إلى الأجزاء و الشروط.

قلت: المراد من كونه أمراً ذهنياً أنّ وجوده ليس من سنخ الجواهر بأن يكون عيناً من الأعيان، و إلاّ يلزم أن تكون المعاني الحرفية كلّها أُموراً ذهنية فاقدة للواقعية، مع أنّها من مراتب التكوين، و لذلك يمكن أن يقال انّ التستّر، كالتعمم و التقمّص من مقولة الجدة و له واقعية كسائر الأعراض النسبية.

فإن قلت: ما الفرق بين الجزء و الشرط حيث إنّ بطلان الجزء بما هو هو لا يوجب بطلان الكل، بخلاف الشرط فانّ مبغوضية» الشرط «أي» التستّر «توجب بطلان العبادة؟ قلت: الفرق واضح فانّه ليس للجزء المنهي أيُّ دور في قوام الصلاة و انّما هو فعل زائد في الصلاة موصوف بالحرمة، بمعنى أنّه لا يسري بطلانه إلى الكلّ إذا استدركه بإتيان فرد منه غير ممنوع، بخلاف الشرط فانّ له دوراً في الصلاة، لأنّه من توابع الصلاة و مكمّلاً لها حيث لا تصحّ الصلاة بلا تستر.

3. إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم

إذا تعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالقراءة في الصلوات النهارية، فهل يدلّ على فساد القراءة أو لا؟ و ربّما يفسّر الوصف اللازم بما لا ينفك عن الملزوم، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، لكن التفسير خاطئ من وجهين:

1. انّ الجهر ليس من اللوازم غير المنفكّة، لإمكان القراءة بالمخافتة.

2. لو كان الوصف ممّا لا ينفك، يمتنع تعلّق الوجوب بالملزوم و الحرمة

ص:314

باللازم لاستلزامه طلب الضدّين و لذلك قيل بأنّ اللاّزم و إن كان لا يجب أن يكون محكوماً بحكم الملزوم لكن يجب أن لا يكون محكوماً بحكم يضادّ حكم الملزوم كما في المقام.

بل المراد من اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موصوفه، و في المقام تنعدم القراءة الشخصية مع انعدام وصفها، نعم يمكن إيجاد قراءة أُخرى في ضمن صنف آخر.

و إن شئت قلت: أن لا يكون للموصوف وجود مغاير للوصف حيث إنّ الجهر من كيفيّات القراءة و خصوصياتها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ النهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن القراءة لامتناع كون القراءة التي يجهر بها مأموراً بها مع كون الجهر بها منهيّاً عنه فعلاً.

و ما ذكر مبنيّ على مختاره في باب تعلّق الأحكام فانّ التحريم عنده يتعلّق بما هو مصداق الجهر خارجاً، و المفروض انّه متّحد وجوداً مع القراءة، و لو تعلّق بها الأمر، يلزم أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به النهي لحديث اتحادهما في الخارج و هو محال، و لازم ذلك خروج القراءة عن تحت الأمر فيكون ما أتى به غير مأمور به، و ما هو المأمور به، غير مأتي به، و هذا هو الوجه لفساد القراءة عند المحقّق لا ما ذكره بعض الشرّاح من» أنّه لا يمكن عند العقل أن يكون أحد المتلازمين واجباً و الآخر حراماً «لما عرفت من عدم صحّة تفسير اللازم في المقام بما ذكر.

و أمّا تفسير الفساد، بامتناع التقرّب بهذه القراءة المنهية، أو استلزام النهي كون القراءة فاقدة لوصفها الشرعي، أعني: المخافتة، كلّها خروج عن محط البحث، لأنّ البحث أُصولي، لا فقهي، و ما ذكر من الوجهين يناسب كون البحث

ص:315

فقهياً.

لكن الظاهر عدم اقتضاء النهي الفساد، لما عرفت من أنّ متعلّق الأحكام هو العناوين الفعلية، و المصاديق ليست متعلّقة للأحكام، و إنّما هي مصاديق لما هو الواجب، و القراءة و الجهر من المفاهيم المختلفة فلا يسري الحكم المتعلّق بالجهر إلى القراءة و هكذا بالعكس.

4. إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق

إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق، كالغصب بالنسبة إلى الصلاة حيث إنّ الصلاة عبارة عن الأذكار و الأفعال، و الغصب، هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً، و هما في الخارج حقيقتان مختلفتان، بل ربّما يحصل الاستيلاء بلا تصرّف في مال الغير، كما إذا منع المالك من التصرّف في ماله، و سلب سلطانه عنه من دون أن يتصرّف في الدار، فعندئذ عدم استلزام النهي، فساد الموصوف واضح لا يحتاج إلى البيان، و أمّا فسادها لأجل عدم حصول التقرب و غيره فهو خارج عن محط البحث.

5. إذا تعلّق النهي بالعبادة لأجل أحد هذه النواهي

إذا تعلّق النهي بالعبادة و كان النهي ناجماً من تعلّق النهي بالجزء، أو الشرط و غيرهما فهو على قسمين، فتارة يكون النهي عن الجزء و الشرط واسطة في العروض فيكون حكمه، حكم الواسطة، و أمّا إذا كان النهي عن أحد هذه الأُمور واسطة في الثبوت، يدخل في باب النهي المباشر عن العبادة الذي سوف يوافيك حكمه.

وجهه، انّه إذا كانت الواسطة، واسطة في العروض، كقولك جرى الميزاب،

ص:316

فإنّ جريان الماء واسطة لنسبته إلى الميزاب، فلا يكون ذو الواسطة) الميزاب (موصوفاً حقيقة بالجريان و إنّما ينسب إليه مجازاً و بالعرض، بإعطاء حكم الحالّ للمحلّ، فيكون النهي الناجم من هذه النواهي، المتعلّق بنفس العبادة، نهياً مجازيّاً لا حقيقياً، فلا يزيد حكمه على حكم الواسطة.

و إذا كانت الواسطة، واسطة في الثبوت كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء، يكون ذو الواسطة) الماء (موصوفاً بالحرارة حقيقة، لا مجازاً، فيكون النهي المتولّد من هذه النواهي نهياً حقيقياً متعلّقاً بالمباشرة بالعبادة فيدخل في قسم النهي عن ذات العبادة الذي سيوافيك بيانه.

ثمّ إنّ هذه الأقسام الخمسة متصوّرة في النهي عن المعاملة، فتارة يتعلّق النهي بجزء المعاملة، و أُخرى بشرطها و هكذا...، و لكنّها فروض لا مصداق لها في الخارج و كلّها مبتنية على كون أسماء المعاملات، أسماء للأسباب المركّبة، لا للمسببات البسيطة كالملكية في البيع.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما هو المقصود من عقد هذا الفصل، أعني:

1. تعلّق النهي بنفس العبادة.

2. تعلّق النهي بنفس المعاملة.

فيقع الكلام في مقامين.
المقام الأوّل: تعلّق النهي بالعبادة
اشارة

إذا تعلّق النهي بالعبادة، فهو إمّا مولوي، و إمّا إرشادي. و المولوي إمّا ذاتي أو تشريعي، فتصير الأقسام ثلاثة، و إليك بيان أحكامها:

ص:317

1.

الأول النهي التحريمي المولوي الذاتي

إذا تعلّق النهي التحريمي المولوي الذاتي بذات العبادة كصلاة الحائض في قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» دع الصلاة أيّام أقرائك «.(1) وصوم يوم الفطر في قوله:» نهى رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (عن صيام ستة أيام يوم الفطر، و يوم النحر... «.(2)

أو بذات العبادة، و لكن بواسطة النهي عن وصفه كصوم الوصال في قوله:» لا وصال في الصوم «(3)فهل يدلّ النهي على الفساد أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الدلالة و استدلّ بالبيان التالي:

إنّ الصحّة إمّا بمعنى مطابقة الأمر للشريعة كما عليه المتكلّمون أو بمعنى سقوط الإعادة و القضاء.

فعلى الأوّل الصحة فرع الأمر، و مع النهي عن ذات الشيء لا يتعلّق به الأمر.

و على الثاني فسقوط القضاء و الإعادة فرع تمشّي قصد القربة، و مع الحرمة الذاتية كيف يتمشّى قصدها؟! ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على نفسه إشكالاً حاصله:

إنّ النهي في الموارد المذكورة ليس نهياً تحريمياً ذاتيّاً و إنّما هو نهي تحريمي تشريعي، و ذلك لأنّ متعلّق النهي الذاتي إمّا العبادة الشأنية، أو العبادة الفعلية.

و إن شئت قلت: إمّا ذات الفعل بلا قصد القربة، أو هو مع قصد القربة.

فالأوّل ليس عبادة فلا يوصف فعلها بالحرمة، كما إذا علّمت الحائض إقامة

ص:318


1- مسند أحمد: 6/42 و 262 و في المصدر» حيضك «.
2- الوسائل: 6، الباب 1 من أبواب الصوم المحرم، الحديث 4.
3- الوسائل: 6، الباب 4 من أبواب الصوم المحرم، الحديث 1.

الصلاة من حضرها من النساء.

و على الثاني، أي ما يكون متعلّق النهي العبادة الفعلية و التي تعلّق به الأمر بالفعل فلا يخلو إمّا أن يقصد الأمر الواقعي أو الأمر التشريعي.

فالأوّل أمر غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بالمحرّم ذاتاً، و على الثاني تكون الحرمة تشريعية لا ذاتية، و معه يمتنع أن يتعلّق به نهي ذاتي لامتناع اجتماع المثلين.

و إلى هذه القضية المنفصلة أشار المحقّق الخراساني بقوله:» و عدم القدرة عليها مع قصد القربة) إذا قصد الأمر الواقعي (إلاّ تشريعاً) إذا قصد الأمر التشريعي (و بالنتيجة يصبح النهي تشريعيّاً لا ذاتياً «و الكلام في النهي الذاتي.

و لتوضيح الحال نذكر صلاة التراويح التي نهي عن إقامتها جماعة.

فإن أتى بها بلا قصد الأمر الواقعي فلا تكون محرّمة، و إن أتى بها بقصد الأمر الواقعي فهو غير ممكن لامتناع تعلّق الأمر بها مع النهي.

و إن أتى بها بالأمر التشريعي بأن ادّعى انّ الشارع أمر بصلاة التراويح جماعة فتصبح العبادة حراماً تشريعياً و يمتنع أن يتعلّق بها نهي ذاتي لامتناع اجتماعهما.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الإشكال بوجوه أربعة:

أوّلاً: نختار الشق الأوّل و انّ المراد من العبادة، العبادة الشأنية، أعني: الفعل الذي لو تعلّق به الأمر يكون عبادة و إن لم يتعلّق به الأمر الفعلي كصوم يوم العيدين فانّ فيه تلك القابلية، أعني: لو تعلّق به الأمر يكون عبادة فالإتيان به و الحال هذه حرام ذاتي، فسقط قول المعترض» من أنّه بدون قصد القربة ليس بحرام «.

و ثانياً: نختار الشق الثاني أي كون متعلّق النهي العبادة الفعلية و لكنّها

ص:319

ليست رهن أمر فعلي، بل ربّما تكون عبادة ذاتية كما في نهي الحائض عن السجود للّه فتكون عبادة محرّمة ذاتاً بلا حاجة إلى الأمر.

و ثالثاً: نمنع ما قاله من أنّه:» إذا قصد الأمر التشريعي يصير حراماً تشريعيّاً و يمتنع تعلّق النهي الذاتي به لاستلزامه اجتماع المثلين، و ذلك لاختلاف متعلّق الحرمتين، لأنّ النهي الذاتي تعلّق بذات الفعل و الحرمة التشريعية تتعلّق بعقد القلب بأنّه ممّا أمر به الشارع مع أنّه لم يأمر به.

و رابعاً: نفترض أنّ النهي ليس ذاتياً بل نهي تشريعي فيكون دالاً على الفساد و لا أقلّ يدلّ على أنّها ليست بمأمور بها و ان عمّها إطلاق دليل الأمر أو عمومه... فيخصص به) النهي (أو يقيد.(1)

يلاحظ على الأوّل بأنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً في تعريف العبادة و قد قلنا بصحّة التعريف في أوائل البحث، لكن عنوان البحث، أعني قولهم:» هل النهي عن العبادة يدلّ على الفساد أو لا «ناظر إلى العبادة الفعلية لا الشأنية.

و يلاحظ على الثاني بأنّه مبنيٌّ على وجود العبادة الذاتية كالسجود للّه، و قد عرفت ضعفها، لأنّه يستلزم أن يكون أمر الملائكة بالسجود لآدم أمراً بالشرك، و هو فحشاء، و اللّه سبحانه لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على اللّه ما لا تعلمون.

و يلاحظ على الثالث بأنّ تصوير النهيين: الذاتي و التشريعي و القول باختلاف متعلّقها صحيح على القول بإمكان التشريع وراء البدعة، و أمّا على ما حقّقناه من امتناع التشريع بالمعنى الرائج عند العلماء و هو عقد القلب بوجوب شيء يعلم بعدم وجوبه شرعاً، فهو غير متصوّر. إذ كيف يتأتّى عقد القلب بما

ص:320


1- كفاية الأُصول: 2961/295. قوله» فيخصص به أو يقيّد «ناظر إلى قوله: إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه و لا صلة له بقوله:» نعم لو لم يكن النهي عنها إلاّ عرضاً «.

يعلم خلافه؟! نعم الذي يتصوّر هو البدعة، و هو القيام العملي بنشر البدع بين الناس و القول بأنّها من الشارع، و هو غير التشريع.

و أمّا الرابع فهو عدول عن القول بالحرمة الذاتية و تسليم للحرمة التشريعية.

هذا كلّه حول ما ذكره المحقّق الخراساني و ما يرد عليه.

و الذي نقول به: إنّ النهي في هذه الموارد و ما شابهها ليس نهياً ذاتيّاً كالنهي عن الخمر و القمار كما يدّعيه المحقّق الخراساني، و لا نهياً تشريعيّاً كما كان يدّعيه المستشكل، بل النهي في هذه الموارد إرشادي إلى فساد العبادة و عدم تحقّقها و الذي يدلّ على ذلك هو فهم العرف في امتثال الموارد.

مثلاً إذا كان العنوان موضوعاً لحكم و لم يكن العنوان مطلوباً بالذات و إنّما أمر به لأجل مصالح تترتّب عليه، غير أنّ المأمور جاهل بتركيب العنوان و أجزائه و شرائطه و موانعه، فعندئذ كلّما يصدر من الآمر أمر أو نهي فكلّها تحمل على الإرشاد إلى أجزاء الموضوع و شرائطه و موانعه، فإذا قيل:» دع الصلاة أيّام أقرائك «فهو إرشاد إلى أنّ الحيض مانع عن صحّة الصلاة فلا يحصل ما هو المطلوب.

و الحقّ انّ المحقّق الخراساني و من سار على نهجه أطنبوا الكلام في المقام مع انتفاء الموضوع و هو تعلّق الحرمة الذاتية بالعبادة.

بقي الكلام في القسمين الآخرين، و إليك الكلام فيهما.

الثاني: النهي المولوي التشريعي

إذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً لم يوجبه الشرع أو حرّم عليها ما لم يُحرّمه

ص:321

فأتى به أو تركه بنيّة أمره و نهيه، يكون الفعل و الترك حراماً تشريعياً لا ذاتياً، فالفعل و الترك ربّما لا يكون واجباً و لا حراماً بالذات، لكن ادّعاء تعلّق الأمر أو النهي به شرعاً، يصيِّره حراماً تشريعياً، ويحكم عليه بالفساد، سواء أقلنا بأنّ الصحة رهن الأمر، فالمفروض انّه لا أمر له و إلاّ لم يكن حراماً تشريعاً أو رهن الملاك و المفروض عدم العلم به، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر و المفروض عدمه. و على ذلك حمل النواهي المتعلّقة بصوم يوم العيدين، و صلاة الحائض و صومها، و قد مضى انّ الظاهر انّها من قبيل القسم الثالث الذي سيوافيك. و لعل منه، النهي عن إقامة صلاة النوافل في ليالي رمضان بالجماعة.

ثمّ أشار في» الكفاية «إلى قسم من النهي و أسماه بالعرضي، و هو النهي المتولّد من الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضده) الصلاة (عرضاً، فهذا النهي بما انّه عرضي، لا يوجب الفساد، إذ ليس هنا إلاّ واجب واحد، و هو الإزالة، و نسبة النهي إلى ضده، أعني: الصلاة، نسبة مجازية.

الثالث: النهي الإرشادي

قد عرفت أنّه إذا أمر المولى بعنوان طريق لإحراز المصالح، فالأوامر و النواهي المبيّنة، لإجزائه و شرائطه و موانعه، نواهي إرشادية إلى بيان الأجزاء و الشرائط و الموانع، و ربما يكون المرشد إليه هو الكراهة كما في النهي عن الصلاة في الحمام، و في البيت و هو جار للمسجد، فانّ المتبادر بعد الإجماع على الصحة هو الإرشاد إلى الكراهة.

و ربّما يكون النهي المتعلّق بالعنوان، إرشاداً إلى كونه فاسداً كما في النهي عن صوم العيدين.

ص:322

المقام الثاني دلالة النهي على الفساد في المعاملات
اشارة

قد عرفت حكم النهي عن العبادة و لم يذكر له المحقّق الخراساني إلاّ قسماً واحداً و هو تعلّق النهي المولوي التحريمي بذات العبادة، و قد أضفنا إليه قسمين آخرين و هو تعلّق النهي التشريعي بالعبادة، أو النهي الإرشادي إلى الفساد، و قد أشرنا إلى أنّه ليس للقسم الأوّل مصداق في الفقه، و انّ دلالة النهي على الفساد في القسمين الأخيرين واضحة.

و أمّا المعاملات فقد ذكر له المحقّق الخراساني أقساماً خمسة أنكر دلالة النهي فيها على الفساد إلاّ في القسم الرابع و الخامس، و إليك الإشارة إلى أقسامها:

1. إذا تعلّق النهي بنفس المعاملة بما هو فعل مباشري كالعقد وقت النداء.

2. إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة بما هو فعل بالتسبيب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر فالمنهي عنه هو مالكيته المتحققة بالبيع.

3. إذا تعلّق النهي بالتسبيب بها إليه و إن لم يكن السبب و لا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام، و هذا كالتسبب إلى الطلاق بقوله: أنت خليّة، و مثل المحقّق البروجردي بالظهار، فانّ التلفّظ بلفظة) ظهرك كظهر أُمّي (ليس بحرام، كما أنّ مفارقة الزوجة مثله، فالمبغوض هو تحصيل المسبب بذلك السبب.

4. رابعها أن يتعلّق النهي بما لا يكاد يحرم مع صحّة المعاملة مثل النهي عن

ص:323

أكل الثمن و المثمن في بيع المنابذة، أو بيع شيء كالخمر.

5. ما يكون ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد و خص الدلالة على الفساد بالعقود و الإيقاعات لا مطلق المعاملات كالنهي عن غسل الثوب النجس بماء مضاف.

و هناك قسم سادس لم يتعرّض له المحقّق الخراساني و هو:

6. إذا ورد نهي و لم يعلم أنّه من مصاديق أيِّ قسم من الأقسام الخمسة.

و إليك دراسة الكل.

أمّا القسم الأوّل فإنّ تعلّق النهي بالفعل المباشري أي صدور العقد وقت النداء لكونه مانعاً من درك الفريضة لا بمضمونه، فهو لا يلازم الفساد.

يلاحظ عليه بوجهين:

1. لا معنى لتعلّق النهي بنفس التلفّظ بالعقد مع كونه غير مبغوض، بل النهي تعلّق في الواقع بالاشتغال بغير ذكر اللّه، و لما كان البيع من أغلب ما يوجب الاشتغال بغيره، خصّ بالذكر و قيل (وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ).

2. انّ النهي في المقام لما لم يكن ناشئاً عن مفسدة موجودة في المتعلّق لا في لفظه و لا في معناه، بل كان لأجل كونه مفوّتاً للمصلحة فيكون النهي في الواقع تأكيداً للأمر بإتيان الواجب لا شيئاً زائداً، و كان الأمر (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) في المقام و النهي (وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ) وجهين لعُملة واحدة فتارة يعبر عنه بالأمر به و أُخرى بالنهي عمّا يزاحمه.

و الأولى أن يمثّل بإجراء العقد مُحْرِماً، لنفسه أو غيره.

و أمّا القسم الثاني، أي تعلّق النهي بمضمون المعاملة) المسبّب (بما هو فعل تسبيبي لا مباشري. و قد ذهب الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني إلى عدم دلالته على الفساد، لأنّ غاية ما يدلّ عليه النهي هو كونه مبغوضاً، و أمّا كونه فاسداً فلا، بشرط أن لا يكون النهي إرشاداً إلى الفساد، و لم يكن لسانُه لسانَ تقييد العمومات

ص:324

و المطلقات.

و ذهب المحقّق النائيني إلى دلالته على الفساد بالبيان التالي:

يشترط في صحّة المعاملة أُمور:

1. أن يكون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكم المالك.

2. أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر لتكون له السلطنة الفعلية على التصرّف فيها.

3. أن لا يكون لإيجاد المعاملة سبب خاصّ.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا تعلّق النهي بالمسبب و بنفس الملكية المنشأة كالنهي عن بيع المصحف، كان النهي معجزاً مولوياً للمكلّف و رافعاً للسلطنة عليه، فلا يكون المكلّف مسلّطاً على المعاملة في حكم الشارع و يترتب على ذلك فسادها.

ثمّ إنّه) قدس سره (استشهد على ما رامه بأنّ الفقهاء حكموا بفساد البيع في الموارد التالية لأجل فقدان هذا الشرط أي ما يكون محجوراً عن التصرّف فيها.

1. الإجارة على إنجاز الواجبات المجّانية، لأنّ العمل لوجوبه عليه، خارجة عن سلطانه و مملوك للّه.

2. بيع منذور الصدقة فانّ النذر يجعل المكلّف محجوراً عن التصرّف المنافي.

3. شرط حجر المشتري عن بيع خاص كما إذا باع الدار، و شرط على المشتري عدم بيعه من زيد، فيبطل لو باعه، لحجر المكلّف حسب ما التزم في هذا النوع من التصرّف فيترتّب عليه الفساد.(1)

ص:325


1- أجود التقريرات: 4051/404.

يلاحظ عليه: أنّ الشرط الثاني لصحّة المعاملة عبارة عن عدم كون البائع محجوراً شرعاً كالسفيه، و عدم كون مورد المعاملة متعلّقاً لحقّ الغير كالعين المرهونة التي تعلّق بها حقّ المرتهن أو ورثة الميّت، و كأموال المفلّس التي تعلّق بها حقّ الديّان.

و أمّا ما ادّعاه من أنّ شرط صحّة المعاملة اشتراط كون التصرّف حلالاً و غير حرام، فلم يقم عليه دليل، فإذا كان التصرّف مبغوضاً، لا لأجل تعلّق حق الغير به، و لا لأجل كون المتصرّف محجوراً، بل لنهي الشارع عن التصرّف كالنهي عن بيع المصحف فلا دليل على كونه شرطاً في الصحّة، نعم هو حرام لكن ليس كلّ حرام باطلاً.

ثمّ إنّ الموارد التي استشهد بها على ما ادّعى من الشرط مورد نظر:

أمّا الأوّل، أعني: فساد الإجارة على الواجبات المجانية، فإنّما هو لأجل تعلّق غرض الشارع بتحقّقها في الخارج بالمجان لا لكون العمل مملوكاً للّه سبحانه أو كون الأجير محجوراً عن التصرّف، و ذلك فان أريد من كونه مملوكاً للّه تكويناً فالكون و ما فيه حتّى أفعال الإنسان مملوك للّه سبحانه مع أنّه يجوز عقد الإجارة على فعله.

و إن أريد كونه مملوكاً للّه تعالى اعتباراً و بالتقنين و التشريع، فاللّه سبحانه فوق هذا و في غنى عن كونه مالكاً قانوناً بعد كونه مالكاً حقيقة.

و أمّا قوله سبحانه: (فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى ) (1)فاللام للاختصاص لا للملكية، و على فرض كونها للملكية بعد كونه سبحانه مالكاً لأجل اقترانه بمالكية الرسول وذي القربى، فعبّر عن الأوّل بلفظ الأخيرين و هذا

ص:326


1- الأنفال: 41.

ما يوصف في علم البديع،» بالمشاكلة «، نظير (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(1)

و أمّا الثاني، أعني: بيع المنذور، فهو بين صحيح و فاسد فانّ تعلّق النذر بالفعل، أي الالتزام بأن ينذر للّه سبحانه، فلو لم يفعل فقد حنث نذره و لكن المنذور باق على ملكه له أن يبيع و يهب، و هذا ما يعبّر عنه بنذر الفعل. و ان تعلّق النذر بالنتيجة أي التزم أن يكون قطيع الغنم صدقة إذا قضيت حاجته، فبعد القضاء تكون العين خارجة عن ملك الناذر و لا يجوز له البيع لعدم كونه مالكاً و هذا ما يعبّر عنه بنذر النتيجة.

و الحاصل: انّه إذا كان النذر نذر فعل فالمعاملة صحيحة و ليس عليه إلاّ كفّارة الحنث، و إن كان نذر نتيجة فالبيع باطل لعدم كونه مالكاً للعين عند البيع لدخولها في ملك المنذور له.

و أمّا الثالث: أعني إذا شرط في البيع، عدم بيعها من زيد فالظاهر انّه لو باعه منه صحّ البيع و للبائع الأوّل خيار تخلّف الشرط.

فقد تحصّل من ذلك انّه لم يقم دليل على أنّ جواز التصرّف في المبيع من شروط الصحّة أوّلاً و إنّ ما رتّب عليه من المسائل الثلاث لا تصلح للاستشهاد كما عرفت ثانياً.

إكمال: الاستدلال بصحيحة زرارة

ربّما يستدلّ بصحيحة زرارة على الملازمة الشرعية بين النهي المولوي التحريمي و الفساد نظير الملازمة المستفادة من قوله) عليه السلام (:» إذا قصّرتَ أفطرتَ «(2)

ص:327


1- الأنفال: 30.
2- الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 19.

و إليك الرواية.

عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيّده، فقال:» ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بينهما «قلت: أصلحك اللّه إنّ الحكم بن عتيبة و إبراهيم النخعي و أصحابَهما، يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد و لا تُحِلُّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لم يعص اللّه، و إنّما عصى سيّده، فإذا أجاز فهو له جائز «.(1)

وجه الاستدلال: انّ ظاهر قوله:» إنّه لم يعص اللّه... «أنّه لو كان هنا عصيان بالنسبة إليه تعالى كان فاسداً و المراد من العصيان هو العصيان التكليفي، و بما انّه لم يكن هناك عصيان بالنسبة إلى اللّه سبحانه لم يكن فاسداً.

فعلى ظاهر هذا الحديث كلّ ما تعلّق به النهي التحريمي فهو يدلّ على فساد متعلّقه إذا أتى به.

ثمّ إنّ هناك سؤالاً آخر و هو أنّه كيف فرّق الإمام بين عصيان اللّه و عصيان السيد، و قال:» إنّه لم يعص اللّه و إنّما عصى سيّده «مع أنّ عصيان السيّد يلازم عصيانه سبحانه، لانّه تعالى أمر العبد بإطاعة مولاه. و عدم التصرّف في شيء إلاّ بإذنه، فإذا خالف مولاه و سيده فهو في الحقيقة خالف أمر اللّه تعالى، فكيف فرَّق بينهما في الحديث؟ أقول: إنّ الجواب عن الاستدلال بالحديث أوّلاً، و الإجابة عن وجه التفريق بين العصيانين ثانياً يظهر بالبيان التالي:

فإنّ الاستدلال بالحديث على أنّ العصيان يلازم الفساد في النهي التحريمي، مبنيّ على تفسير العصيان في الرواية بالعصيان التكليفي، أي ما

ص:328


1- الوسائل: 14، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 1.

يستلزم العقوبةَ و المؤاخذةَ في الآخرة، و حينئذٍ يدلّ على أنّ كلّ مخالفة شرعية للحكم التحريمي في مورد المعاملات، يوجب الفساد و يثبت مقصود المستدل، كما يوجب طرح السؤال عن التفريق بين العصيانين.

و أمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العصيان في المقام هو العصيان الوضعي، أي كون الشيء موافقاً للضوابط أو مخالفاً لها، فعندئذ يسقط الاستدلال أوّلاً، و لا يبقى مجال لطرح السؤال ثانياً.

توضيحه: انّ في مورد العصيان احتمالات:

1. أن يكون المراد منه في كلا المقامين، العصيانَ التكليفي المستتبع للعقاب.

2. أن يكون المراد منه في كلا الموردين، العصيانَ الوضعي المستتبع للفساد قطعاً.

3. أن يكون المراد من العصيان في الأوّل، العصيان الوضعي; و من الثاني العصيان التكليفي.

4. أن يكون عكس الثالث.

و بما انّ التفريق بين العصيانين خلاف الظاهر فيحمل على معنى واحد، و بذلك يبطل الاحتمالان الأخيران المبنيّان على التفريق بين العصيانين، و لكن الظاهر من الرواية و الرواية التالية هو العصيان الوضعي الذي يراد منه كون الشيء غير موافق للقانون و الضابطة الشرعيّة.

و الدليل على ذلك أنّ الإمام أبا جعفر) عليه السلام (فسّر العصيان في رواية أُخرى بالنكاح في عدّة و أشباهه الذي يكون نكاحها على خلاف الشريعة و قوانينها،

ص:329

و إليك الرواية:

روى زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن رجل تزوّج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه، قال: ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما... «فقلت لأبي جعفر) عليه السلام (: فإن أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّما أتى شيئاً حلالاً و ليس بعاص للّه و إنّما عصى سيده و لم يعص اللّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدة و أشباهه «.(1)

ترى أنّ الإمام يفسّر العصيان المنفي في المقام بما حرّم اللّه عليه من النكاح في العدة، فتكون النتيجة أنّ الإمام ينفي العصيان الوضعي في المورد من غير تعرّض للعصيان التكليفي، و من المعلوم أنّ العصيان الوضعي يلازم الفساد، لأنّ كون العمل غير موافق للضابطة عبارة أُخرى عن عدم إمضاء الشارع له، و هو لا ينفك عن الفساد، بخلاف العصيان التكليفي الذي نحن بصدد بيان حكمه فلا يلازم الفساد.

و إن شئت قلت: إنّ صحّة نكاح العبد تعتمد على دعامتين:

الأُولى: كون المنكوحة محللة النكاح و لا يكون بينها و بين الزوج ما يحرمه عليه من النسب و الرضاع و المصاهرة.

و بعبارة أُخرى: أن لا يكون ممّا حرّم اللّه نكاحه في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ... ).(2)

و المفروض تحقّق هذا الشرط.

الثانية: صدور العقد من العبد عن رضا المولى، و المفروض انتفاء هذا

ص:330


1- الوسائل: 14، الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 2.
2- النساء: 23.

الشرط، فنكاح العبد جامع للشرط الأوّل دون الشرط الثاني، فإذا حاز الشرطَ الثاني يكتمل الموضوع و يصحّ.

و بعبارة ثالثة: انّ نكاح العبد عقد فضولي صدر من أهله و وضع في محله، و لكنّه يفقد شرطاً من شروط الصحّة الوضعية، فإذا حاز شرطها يحكم عليه بالصحة.

و بذلك تحيط بالاجابة عن كلا الأمرين:

أمّا الاستدلال فقد عرفت أنّه مبنيّ على تفسير العصيان بالحرمة التكليفية التي هي محلّ البحث و النقاش، و لكن المراد من العصيان هو الوضعية، فالعصيان الوضعي يلازم الفساد، لا العصيان التكليفي الذي هو المدّعى.

و أمّا الثاني فانّ الملازمة بين عصيان السيّد و عصيانه سبحانه إنّما هو في مرحلة الحرمة التكليفية، و المفروض أنّها غير مطروحة.

و أمّا الحرمة الوضعية أي كون العقد مشروطاً برضا المولى فهو من خصائصه حيث أعطى له سبحانه تلك الخصيصة فله أن يجيز و له أن لا يجيز.

و ما ذكرنا من الجواب هو أوضح ما يمكن أن يقال:

و ربّما يظهر من تقريرات سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي ارتضاؤه لهذا الجواب.(1)

تذنيب: في ملازمة النهي للصحّة

قد عرفت أنّ الأُصوليين ركّزوا على البحث في دلالة النهي على الفساد و عدم دلالته، و لكن أبا حنيفة و تلميذيه أبا يوسف و محمد بن الحسن الشيباني،

ص:331


1- لاحظ لمحات الأُصول: 259.

و حُكي عن فخر المحقّقين أيضاً انّ النهي يدل على الصحّة مكان دلالته على الفساد، و هذا من غريب الدعاوي حيث يجتني الصحة من النهي مكان اجتناء المشهور الفساد منه.

ثمّ إنّ ما ذكره أبو حنيفة و تلميذاه من البيان غير موجود بأيدينا و لكن

المحقّق القمي نقل في المقام بيانين

... نذكر كلّ واحد على وجه الإيجاز.

الأوّل: المنهي عنه هو الصوم الشرعي لا اللغوي

ليس المراد دلالة النهي على الصحة بالدلالة المطابقية أو التضمنية، إذ ليست الصحة نفس مفاد النهي لا عيناً و لا جزءاً، بل المراد انّه يستلزم الصحة، فقول الشارع» لا تصم يوم النحر « و للحائض» لا تصل «يتضمن إطلاق الصوم على صومها و الصلاة على صلاتها، و الأصل في الإطلاق الحقيقة، فلو لم يكن مورد النهي صحيحاً لم يصدق تعلّق النهي على أمر شرعي فيكون المنهي عنه مثل الإمساك و الدعاء و نحو ذلك و هو باطل إذ نحن نجزم بأنّ المنهي عنه أمر شرعي.(1)

و حاصل هذا الاستدلال: انّ المنهي عنه إمّا الصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي أو بمفهومهما اللغوي، و الثاني غير منهيّ عنه، و الأوّل يلازم الصحة، فإذا تعلّق النهي بالصوم الشرعي فقد تعلّق بالصوم الصحيح، لأنّ كلّ صوم شرعي صحيح، و هذا ما قلنا من أنّ النهي يدلّ على الصحة.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر غير دائر بين شيئين، بل هناك أمر ثالث يعد قسماً من الشرعي، و هو انّ الأمر تعلّق بالصوم أو الصلاة بمفهومهما الشرعي، لكنّه أعمّ من الصحة و الفساد، فالصلاة غير الصحيحة و الصوم الفاسد كلاهما من العبادات

ص:332


1- القوانين: 1/163.

الشرعية الفاسدة، فلو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ فهو واضح، لأنّ الفاسد أيضاً أمر شرعي فاسد، و أمّا لو قلنا بكونها موضوعة لخصوص الصحيح، فاستعمال هذه الألفاظ في القسم الفاسد يكون مجازاً و لا مانع منه بعد قيام القرينة على الفساد.

الثاني: الحرمة الذاتية لا تتعلّق بالفاسد

هذا هو البيان الثاني لإثبات أنّ النهي يلازم الصحّة يقول: إنّ النهي عن شيء كالأمر إنّما يصحّ بعد كون المتعلّق مقدوراً، و من المعلوم أنّ النهي لا يتعلّق بالعبادة الفاسدة، إذ لا حرمة لها فلا بدّ أن يكون متعلّق النهي هو الصحيح و لو بعد النهي فلو اقتضى النهي الفساد يلزم أن يتعلّق النهي بشيء غير مقدور.

و بعبارة أُخرى لو كان النهي سبباً للفساد لزم أن يكون النهي سالباً للقدرة، و التكليف الذي يجعل المكلّف عاجزاً عن الارتكاب يكون لغواً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الاستدلال في مجال العبادات أوّلاً و المعاملات ثانياً، أمّا في الأوّل فقد أجاب عنه بالبيان التالي:

» أمّا العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود و الركوع و الخشوع و الخضوع له تبارك و تعالى فمع النهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان مأموراً به و ما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلاّ إذا قيل باجتماع الأمر و النهي في شيء و لو بعنوان واحد و هو محال، و قد عرفت أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهياً عن العبادة بمعنى انّه لو كان مأموراً به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلاّ بقصد القربة «.(1)

ص:333


1- الكفاية: 1/300.

و حاصل بيانه: انّ العبادة على قسمين امّا الذاتي فلا تتغيّر و لا تتبدّل أوصافها فهي عبادة بالذات قبل النهي و بعد النهي و لا يؤثر النهي في حالها.

و أمّا العبادات المجعولة التي قوام عباديتها بتعلّق الأمر بها، فهي تنقسم إلى عبادة فعلية و عبادة شأنية أو بالتالي إلى صحيحة فعلية و صحيحة شأنية.

و المراد من الأُولى ما يكون متعلّقاً للأمر بالفعل.

كما أنّ المراد من الثانية ما لو تعلّق به الأمر لكان أمره عبادية و لما سقط إلاّ بالقصد، فالقسم الأوّل لا يقع متعلّقاً للنهي، لأنّ العبادة و الصحّة الفعلية و الصحّة عبارة عمّا تعلّق به الأمر، و ما هو كذلك يمتنع أن يقع متعلّقاً للنهي و المفروض انّه تعلّق به النهي.

و القسم الثاني، أي العبادة الشأنية يقع متعلّقاً للنهي و يكشف عن صحّة المتعلّق لكن صحّة شأنية، و هو غير مطلوب المستدلّ فانّه يريد أن يستدلّ بتعلّق النهي على الصحّة الفعلية دون الشأنية، و لكن النهي لا يكشف إلاّ عن الصحّة الشأنية، أي ما لو تعلّق به الأمر يكون أمره عبادياً و فعله صحيحاً.

فما هو المطلوب أي الصحّة الفعلية لا يعطيه النهي و ما يعطيه النهي، أي العبادة الشأنية ليس هو المطلوب.

إجابة المحقّق الخراساني في مورد المعاملات

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال في مجال المعاملة بالنحو التالي قال: و التحقيق في المعاملات انّه كذلك إذا كان في السبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر و لا يكاد يقدر عليهما إلاّ فيما كانت

ص:334

المعاملة مؤثرة صحيحة، و أمّا إذا كان عن السبب فلا لكونه مقدوراً و إن لم يكن صحيحاً.(1)

و حاصله انّ النهي عن السبب لا يكشف عن الصحّة، لأنّ حرمة السبب عبارة عن حرمة التلفّظ به في حال النداء و الإحرام، و هو مقدور مطلقاً قبل النهي و بعده، نعم يكشف النهي عن الصحّة فيما إذا تعلّق النهي بمضمون المعاملة، أي تملّك الكافر المصحفَ و العبدَ أو تعلّق النهي بالتسبب، فانّ النهي كاشف عن كون المعاملة المنهية مؤثرة في حصول السبب و هو آية الصحة.

يلاحظ عليه: بوجود الفرق بين العبادات و المعاملات فانّ الأُولى مخترعات شرعية بخلاف الثانية فانّها مخترعات عقلائية، و قد تحقّق الاختراع و التسمية بالبيع و الإجارة و غيرها قبل بزوغ شمس الرسالة و لم يتصرف الشارع فيها إلاّ بإضافة شرط أو جزء أو بيان مانع، فعلى ذلك فأسماء المعاملات اسم للصحيح عند العرف و العقلاء و نهي الشارع دليل على أنّ المعاملة مؤثرة في حصول هذا النوع من الصحّة، أي الصحّة العرفية، و من المعلوم أنّ الصحة العرفية لا تثبت مطلوب المستدل فانّه يريد أن يستدل بالنهي على الصحة الشرعية لا العرفية و بينها من النسب عموم و خصوص مطلق أو من وجه، فكلّ صحيح عند الشرع صحيح عند العقلاء دون العكس، فالبيع الربوي صحيح عند العقلاء و ليس كذلك عند الشرع.

و بعبارة أُخرى فأقصى ما يدل عليه النهي تأثير المعاملة في الصحة العرفية، و هي ليست بمطلوبة، و إنّما المطلوب دلالة النهي على الصحّة الشرعية.

ص:335


1- الكفاية: 3001/299.
فروع فقهية

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم تعرض في تقريراته إلى بعض المسائل التي لها صلة بالموضوع و نحن نقتفيه:

1. إذا تعلّق النهي بالإيجاب دون القبول فهل تسري الحرمة إلى القبول أو لا؟ كما إذا كان الموجب محرماً دون القابل؟ الظاهر، لا لعدم الملاك إلاّ إذا لوحظت المسألة من باب الإعانة على الإثم، و هو خارج عن محط البحث، قال في» الجواهر «: ذهب جماعة إلى اختلاف حكم المتعاقدين في البيع وقت النداء إذا كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر، فخصّوا المنع بمن خوطب بالسعي و حكموا بجواز البيع من طرف الآخر، نعم رجّح جماعة آخرون عموم المنع من حيث الإعانة بالإثم.(1)

2. إذا كانت المعاملة باطلة من جانب واحد كما إذا كانت غررية من جانب الموجب دون القابل، فهل يسري الحكم الوضعي إلى الطرف الآخر، أو لا؟ الظاهر نعم، لأنّ مفاد المعاملة أمر بسيط لا يقبل التبعض، فالملكية المنشأة إمّا موجودة أو لا. فعلى الأوّل يلزم صحة المعاملة في كلا الجانبين، و هو خلاف الفرض، و الثاني هو المطلوب.

3. لو كان لنفس الإيجاب أثر مستقل و إن لم ينضم إليه القبول لترتب عليه، كما إذا كان الموجب أصلياً دون القابل، فما لم يردّ القابلُ الحقيقي لما كان له حق التصرف في المبيع، لأنّه أثر للايجاب الكامل، و هو محقّق و ليس أثراً لمالكيّة القابل حتّى يقال بأنّها غير متحقّقة بعده.(2)

ص:336


1- الجواهر: 29/241.
2- مطارح الأنظار: 171.

ثمّ إنّ الثمرات الفقهية لمسألة النهي عن العبادات و المعاملات متوفرة في الفقه، و قد ذكر شيخنا الأُستاذ مد ظلّه قسماً منها في الدورة السابقة و لم يتعرض لها في هذه الدورة) الرابعة (و أحال إلى كتاب المحصول الذي هو تقرير لدروس الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة الثالثة من دورات أُصوله بقلم زميلنا السيّد محمود الجلالي المازندراني حفظه اللّه فمن حاول الاطلاع فليرجع إليه.

ص:337

ص:338

المقصد الثالث المفاهيم 1. مفهوم الشرط 2. مفهوم الوصف 3. مفهوم الغاية 4. مفهوم الحصر 5. مفهوم اللّقب 6. مفهوم العدد

ص:339

ص:340

المقصد الثالث المفاهيم

و قبل الدخول في صلب المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: المنطوق و المفهوم من أوصاف المدلول

يوصف المدلول، بالمنطوق تارة و بالمفهوم أُخرى، يقال: مدلول منطوقي و مدلول مفهومي، كما توصف الدلالة بهما أيضاً و يقال دلالة منطوقية، و دلالة مفهومية، فيقع الكلام في أنّهما من أوصاف المدلول أو الدلالة، و الظاهر انّهما من أوصاف المدلول فانّ المعنى إذا دلّ عليه شيء، فإمّا أن يفهم من منطوق اللفظ و حاقِّه فهو مدلول منطوقي، أو يفهم لا من منطوقه و حاقه فهو مدلول مفهومي، فعندئذ ينقسم المعنى المدلول إلى منطوق و مفهوم.

و بما انّ المدلول هو المعنى الذي دلّ عليه اللفظ الدالّ فتنقسم الدلالة أيضاً باعتبار المدلول إلى منطوقية و مفهومية.

و إن شئت قلت: إنّ ما يدلّ عليه اللفظ ينقسم إلى ما يسمّى بالعرف بما يُنْطَق و إلى ما يُفْهم، و وصف الدلالة بهما ليست بنفسهما، بل بعناية انتزاعهما من المدلول ثمّ وصفها بهما. فإذا كان المدلول منطوقياً توصف الدلالة أيضاً بها، و إذا كان مفهومياً توصف بها أيضاً.

ص:341

نعم، ليس المنطوق و لا المفهوم من أوصاف المعنى بما هو هو، بل من أوصاف المعنى إذا وقع في إطار الدلالة حتى صار مدلولاً، و هذا بخلاف الكلية و الجزئية فانّها من صفات المعنى بما هو هو، و إن لم يقع في إطار الدلالة.

و من هنا يعلم أنّ أوصاف المفهوم على قسمين، قسم وصف له بما هو هو، كما مثّلنا بالكلية، و قسم وصف له بما انّه مدلول بإحدى الدلالات فلاحظ.

الثاني: تعريف المفهوم
اشارة

عرّف الحاجبي) المتوفّى 642 ه (المفهوم ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق و المنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق.

ثمّ إنّ العضدي) المتوفّى 757 ه (شارح مختصر الحاجبي قال بأنّ المراد من الموصول) ما (هو الحكم، فهو إن كان محمولاً على موضوع مذكور فهو منطوق، و إن كان محمولاً على موضوع غير مذكور فهو مفهوم. ثمّ قال: إنّ قوله:» في محلّ النطق «إشارة إلى المنطوق بما انّ الموضوع مذكور فيه، كما أنّ قوله:» لا في محل النطق «إشارة إلى المفهوم لعدم ذكر الموضوع في محله.(1)

يلاحظ على ذلك التفسير بأنّ الفارق بين المنطوق و المفهوم ليس هو ذكر الموضوع في الأوّل، و عدمه في الثاني، بل الموضوع مذكور في كلتا القضيتين، و إنّما الاختلاف في وجود القيد في المنطوق و عدمه في المفهوم و بالتالي اختلاف القضيتين في الكيف أي الإيجاب و السلب، فإذا قلنا: إن سلّم زيد أكرمه، فالموضوع هو زيد لكنّه في صورة التسليم يحكم عليه بالإكرام، و في صورة عدمه بعدمه.

ص:342


1- منتهى الوصول و الأمل المعروف بمختصر الحاجبي: 147، و نقل الشيخ الأعظم كلام العضدي في مطارح الأنظار: 172، الطبعة الحجرية

و لمّا كان هذا التفسير من العضدي غير صحيح عاد المحقّق البروجردي إلى تفسير كلام الحاجبي بنحو آخر و قال: ما هذا خلاصته: انّ ما يفهم من كلام المتكلّم قد يكون على نحو يمكن أن يقال انّه نطق به على نحو لو قيل للمتكلّم: أنت قلت هذا؟ لا يصحّ له إنكاره.

و قد يكون على نحو لا يصحّ أن ينسب إليه بأنّه نطق به و للمتكلّم إمكان الفرار منه و نفي صدوره عنه، فإذا قال:» إذا جاءك زيد أكرمه «فعدم ثبوت الإكرام عند عدم المجيء و إن كان مفهوماً منه لكن للمتكلم إمكان الفرار منه و إنكار انّه مراده، و المداليل المطابقية و التضمنية و الالتزامية للجمل ممّا لا يمكن للمتكلّم أن ينكر القول بها بعد إقراره بنطقه بالكلام، و لأجل ذلك جعلوها من المداليل المنطوقية.

و ببيان آخر: انّ المنطوق ما نطق به المتكلم بلا واسطة كما في المدلول المطابقي أو مع الواسطة كما في الأخيرين، و المفهوم عبارة عمّا لم ينطق به لا بلا واسطة و لا معها و لكن يفهم من كلامه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير أيضاً كالتفسير السابق، و ذلك لأنّه لم يبين ضابطة لما يُنطق به المتكلّم و لما لم يُنطق به، بل اكتفى بأنّ المداليل الثلاثة يعدّ ممّا ينطق بها و غيرها ممّا لا ينطق بها، و ذلك لأنّ الملاك في النطق و عدمه لو كان سرعة التبادر إلى الذهن فرب مفهوم أسرع تبادراً من المنطوق خصوصاً إذا كان المفهوم مفهوم الموافقة، كالنهي عن الشتم و الضرب المتبادر من النهي عن التأفيف و تبادره أسرع من تبادر جزء المعنى الذي ربما يكون مغفولاً عنه، و عندئذ يطرح السؤال: كيف يكون النطق بالكل) المدلول المطابقي ( نطقاً بالجزء) الدلالة التضمنية (و لا يكون النهي عن التأفيف نطقاً بالنهي عن الضرب و الشتم؟

ص:343


1- نهاية الأُصول: 1/263.

و لو كان الملاك كون المنطوق ممّا سيق لأجله الكلام دون المفاهيم فهو أيضاً كالشقّ السابق، إذ ربما يكون المفهوم ممّا سيق لأجله الكلام و يتعلّق الغرض من الكلام إفادة المفهوم.

أضف إلى ذلك، إذا كانت الدلالة التزامية من المداليل المنطوقية فلا يبقى للمدلول المفهومي شيء، سوى الدلالات السياقية الثلاثة كما سيوافيك.

و على كلّ حال فتعريف الحاجبي بكلا التفسيرين غير خال عن الإشكال.

تعريف المحقّق الخراساني للمفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهوم بأنّه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيةُ المعنى الذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصية، فالمفهوم حكم غير مذكور لا أنّه حكم لغير مذكور.(1)

إنّ ما أفاده في ذيل الكلام هو الذي أشرنا إليه في نقد كلام العضدي و قلنا: إنّ الموضوع مذكور، و الاختلاف في الحكم رهن الاختلاف في الشرط، فعند وجوده يترتّب عليه الجزاء، و عند عدمه يرتفع.

ثمّ إنّ مراد المحقّق الخراساني من المعنى في لفظ» خصوصية المعنى «هو العلية، و المراد من الخصوصية كونها منحصرة، و معنى العبارة: انّ المفهوم رهن كون القيد علّة منحصرة.

و لا يخفى انّ ظاهر العبارة انّ هنا شيئين:

1. المعنى و هو العلّية.

2. الخصوصية و هي الانحصار.

ص:344


1- كفاية الأُصول: 1/301.

و لا يخفى انّ الخصوصية جزء من المعنى لا زائد عليه، فمعنى قولنا: إن سلّم زيد أكرمه، هو انّ التسليم علّة منحصرة دلّ عليها الهيئة الشرطية، فإذا ارتفعت العلّة المنحصرة ارتفع المعلول.

و كان على المحقّق الخراساني أن يعرّفه بتعريف أسهل و هو: حكم إنشائي أو إخباري لازم للمعنى المراد من اللفظ.

الثالث: حصر المداليل في المنطوق و المفهوم
اشارة

إنّ ظاهر كلمات القوم حصر المداليل في المنطوق و المفهوم و لا ثالث له، و المراد من المنطوق ما نطق به المتكلّم باعتبار كون اللفظ مرآة للمعنى، و ينحصر في الدلالة المطابقية و التضمنية باعتبار انّ النطق بالكل، نطق بالجزء، كما أنّ المراد من المفهوم هو الدلالة الالتزامية، أي لازم المعنى، من غير فرق بين لازم المفرد، أو لازم الكلام.

نعم ظاهر كلام المنطقيين، انّ تقسيم الدلالة إلى مطابقية أو تضمنية أو التزامية من خصائص المفردات و الكلمات، لا الكلام و الجمل و لكنّ الأُصوليين عمّموها إلى الكلام أيضاً، فيجري فيه ما يجري في المفرد، مثلاً إذا قال: الشمس طالعة، فقد أخبر بالدلالة الالتزامية عن أنّ النهار موجود.

و الذي يعرب عن كون موضوع التقسيم عند أهل الميزان هو المفرد، تعبير التفتازاني في» التهذيب « و السبزواري في منظومته.

قال الأوّل: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له، مطابقة، و على جزئه تضمن و على الخارج التزام.

و قال الحكيم السبزواري:

ص:345

دلالة اللفظ بدت مطابقة حيث على تمام المعنى وافقه

و ما على الجزء تضمنا وُسِم و خارج المعنى التزام إن لزم

و نظير ذلك، تقسيم اللازم إلى البيّن و غير البيّن، و كلّ منهما إلى الأخص و الأعم فانّ المتبادر، هو تقسيم العرض) المفرد (إلى تلك الأقسام قال التفتازاني في» التهذيب «: و كلّ من العرض الخاص و العام إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية و الوجود، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما و النسبة بينهما بالجزم باللزوم و غير بيّن بخلافه.

توضيحه: انّهم قالوا:

1. اللازم البيّن بالمعنى الأخص هو ما يكون تصوّر الموضوع كافياً في تصوّر اللازم، كالأعمى بالنسبة إلى البصر. و اللازم غير البيّن بخلاف حيث لا يكفي تصوّر الموضوع، في تصوّر اللازم.

2. اللازم البيّن بالمعنى الأعم و هو ما يكون تصوّر الموضوع غير كاف في تصور اللازم، بل يحتاج إلى تصوّر الطرفين و لحاظ النسبة ثمّ الجزم باللزوم، و هذا كالزوجية بالنسبة إلى الأجداد القريبة، فانّ الإنسان لا ينتقل من مجرد تصوّر الموضوع إلى اللازم و الحكم بالملازمة.

3. اللازم غير البيّن بالمعنى الأعم، و هو ما يحتاج وراء تصوّر الأُمور الثلاثة إلى إقامة البرهان على الملازمة، و هذا كالحدوث بالنسبة إلى العالم الذي يحتاج بالجزم بالنسبة إلى برهان، نظير قولنا: العالم متغير، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و لكنّ الأُصوليين، قالوا بجريان مثل ذلك في لوازم الكلام و الجمل، و انّه أيضاً ينقسم إلى أقسام ثلاثة، فلوازم المعنى مفرداً كان المعنى أو كلاماً، بيّناً كان

ص:346

اللازم أو غير بيّن من أقسام الدلالة الالتزامية.

فاتّضح بذلك انّ المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية و لا ثالث. لأنّ المداليل لا يخلو إمّا أن تكون مطابقية أو تضمنية أو التزامية و لا رابع. و الأوّلان يشكّلان المداليل المنطوقية، و الأخير بعرضها العريض كما عرفت يشكّل المدلول المفهومي.

فإن قلت: ما تقول في المداليل السياقية أ هي مداليل منطوقية، أو مفهومية، أو لا هذه و لا تلك بل هي أُمور برأسها، يجمع الكل انّها دلالات سياقية، فعندئذ تنثلم كلية القضية المذكورة، أعني: المداليل إمّا منطوقية أو مفهومية؟ قلت: ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّها دلالات منطوقية بأنّ المنطوق منقسم إلى الصريح و غير الصريح، و الثاني ما دلّ عليه اللفظ بدلالة الاقتضاء و التنبيه و الإشارة، لأنّ ما يدلّ عليه إن كان غير مقصود للمتكلّم فهو المدلول عليه بدلالة الإشارة كدلالة الآيتين) البقرة: 233، الأحقاف: 15) على أقلّ الحمل.

و إن كان مقصوداً بأن كان صدق الكلام أو صحته يتوقّف عليه فهو المدلول بدلالة الاقتضاء، نحو رفع عن أُمّتي تسعة: الخطأ و النسيان و نحو: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1)فانّهما يدلاّن على مقدّر مصحّح الكلام.

و إن اقترن بالحكم ما فهم منه العلية فهو المدلول عليه بدلالة الإيماء و التنبيه، كما لو قال السائل:

واقعت في نهار رمضان، فأجيب» كفّر «، فإنّ اقتران الجواب بسؤال السائل يفهم منه، عليّة الوقاع للكفّارة.

ص:347


1- يوسف: 82.

و أقول: يمكن عدّها من الدلالات الالتزامية حيث إنّ الجميع من لوازم المعنى، سواء كان مقصوداً أو لا.

و قد خصّ المحقّق النائيني المفهوم باللازم البيّن بالمعنى الأخص، و جعل الدلالات الثلاث من اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ و أسماها دلالة سياقية، و ظاهره انّها ليست منطوقية و لا مفهومية.

وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم

و مما يجب إلفات نظر القارئ إليه انّ في إطلاق لفظ» المفهوم «اصطلاحين مختلفين:

1. الاصطلاح العام: و هو يعمّ جميع المداليل الالتزامية للمفرد و الكلام، البيّن و غير البيّن حتّى الأقسام الثلاثة التي أسماها المحقّق النائيني بالسياقية.

2. الاصطلاح الخاص: و هو ما يبحث عنه هنا من ثبوت الحكم عند ثبوت القيد و ارتفاعه عند ارتفاعه، و المقصود في المقام هو الثاني، و لعلّ النسبة بين الاصطلاحين هي العموم و الخصوص المطلق.

الرابع: مسلك القدماء و المتأخّرين في استفادة المفهوم

ذهب السيّد البروجردي إلى أنّ مسلك القدماء في استفادة العموم من القضايا، يختلف مع مسلك المتأخرين، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها ليست دلالة لفظيّة، بل هي من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير، على كونه صادراً لغاية، و كون الغاية المنظورة منه، غايته النوعية العادية، و الغاية المنظورة عند العقلاء من

ص:348

نفس الكلام، حكايته لمعناه، و من خصوصياته، دخالتها في المطلوب، فإذا قال المولى: إن جاءك زيد فأكرمه، حَكَمَ العقلاءُ بمدخلية مجيء زيد في وجوب إكرامه قائلاً بأنّه لو لا دخله فيه لما ذكره المتكلّم، و كذا سائر القيود، و على ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنيّة على دلالة الجملة على الانتفاء عند الانتفاء، بل مبني على أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً، بل يكون كلّ فعل منه، و منه الإتيان بالقيد صادراً لغايته الطبيعية و هو دخله في الحكم.

و أمّا مسلك المتأخّرين فهو مبنيّ على دلالة الجملة وضعاً أو إطلاقاً على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم فيرتفع الحكم بارتفاعه، و على ذلك يكون البحث عند القدماء عقلياً، و عند المتأخّرين لفظيّاً.(1)

إنّ ما نسبه سيّدنا الأُستاذ إلى القدماء لم أقف عليه صريحاً في كتب القدماء إلاّ في الذريعة للشريف المرتضى، قال: استدلّ المخالف لنا في هذه المسألة بأشياء.(2)

منها: انّ تعليق الحكم بالوصف لو لم يدل على انتفائه إذا انتفت الصفة لم يكن لتعليقه بالصوم معنى و كان عبثاً.

و مع ذلك فقد استدلّ بأُمور أُخرى غالبها يرجع إلى التبادر أو قياس الوصف بالاستثناء، أو قياس الوصف بالشرط، و لذلك استدلّ المخالف بالوجوه التالية أيضاً:

1. انّ تعليق الحكم بالسوم يجري مجرى الاستثناء من الغنم، و يقوم مقام قوله:» ليس في الغنم إلاّ السائمة، الزكاةُ «فكما أنّه لو قال ذلك لوجب أن تكون

ص:349


1- نهاية الأُصول: 265.
2- يريد بالمخالف، القائل بالمفهوم.

الجملة المستثنى منها بخلاف الاستثناء، فكذلك تعليق الحكم بصفة.

2. انّ تعليق الحكم بالشرط لمّا دلّ على انتفائه بانتفاء الشرط، فكذلك الصفة، و الجامع بينهما انّ كلّ واحد منهما كالآخر في التخصيص، لأنّه لا فرق بين أن يقول: في سائمة الغنم الزكاة، و بين أن يقول: فيها إذا كانت سائمة الزكاة.

3. ما روي عن عمر بن الخطاب: أنّ يعلى بن منبه سأله، فقال له: ما بالنا نقصر، و قد أُمنّا؟ فقال له: عجبتُ ممّا عجبتَ منه، فسألتُ عنه رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال:» صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته «فتعجبهما من ذلك يدلّ على أنّهما فهما من تعلّق القصر بالخوف أنّ حال الأمن بخلافه.(1)

هذا هو نصّ المرتضى من أعيان أئمّة الأُصوليين من الشيعة) المتوفّى عام 436 ه (و إليك نصاً آخر من أحد أئمّة الأُصوليين من السنّة ألا و هو أبو الحسين محمد بن علي بن طيب البصري المعتزلي، المتوفّى في نفس السنة التي توفي فيها المرتضى، فانّه ذكر ما ذكره المرتضى بصورة أُخرى، و استدلّ على وجود المفهوم بالقضايا الشرطية، قال: الدليل على أنّ الشرط يمنع من ثبوت الحكم مع عدمه على كلّ حال انّ قول القائل لغيره) أدخل الدار إن دخلها عمرو (معناه انّ الشرط في دخولك هو دخول عمرو، لأنّ لفظة إن موضوعة للشرط، و لو قال له:» شرط دخولك الدار دخول عمرو «علمنا أنّه لم يوجب عليه دخول الدار مع فقد دخول عمرو على كلّ حال، فكذلك في مسألتنا.(2)

ترى أنّه يستدلّ بالتبادر.

ثمّ قال: و يدلّ على أنّ المعقول من الشرط ما ذكرنا ما روي من أنّ يعلى بن

ص:350


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة: 4031/402.
2- المعتمد: 1/142.

منبه سأل عمر بن الخطاب: ما بالنا نقصر و قد أُمنا؟ فقال: عجبتُ ممّا عجبتَ منه فسألت رسول اللّه ) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: صدقة تصدق اللّه بها عليكم فأقبلوا صدقته، فلو لم يعقل من الشرط نفي الحكم عمّا عداها لم يكن لتعجبهما معنى.

كما أنّ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي) المتوفّى 476 ه (مؤلف » التبصرة في أُصول الفقه «استدلّ ببعض هذه الوجوه مثلاً، قال: روي أنّ ابن عباس خالف الصحابة في توريث الأُخت مع البنت و احتجّ بقوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )، و هذا تعلّق بدليل الخطاب. و انّه لما ثبت ميراث الأُخت عند عدم الولد، دلّ على أنّها عند وجوده لا تستحقه.

و هو من فصحاء الصحابة و علمائهم، و لم ينكر أحد استدلاله، فدلّ على أنّ ذلك مقتضى اللغة.(1)

ترى أنّهم يستدلّون بالتبادر تارة، و بالمقايسة ثانياً، و ليس في كلامهم شيء من بناء العقلاء على أنّ للقيد دخلاً، كما ليس في كلامهم ما يدلّ على أنّ البحث منعقد على حجّية بناء العقلاء.

نعم كان لسيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (اطلاع واسع على كلمات الأُصوليين قدمائهم و متأخريهم، و لعلّه وقف على ما لم نقف عليه.

الخامس: النزاع صغروي لا كبروي

إنّ النزاع في باب المفاهيم على مسلك المتأخّرين صغروي و مرجعه إلى دلالة القضية الشرطية الوصفية بالوضع أو الإطلاق على كون الشرط أو الوصف علّة منحصرة للحكم، و عدم دلالتها، فلو ثبت الانحصار، و دلّ على المفهوم، يكون

ص:351


1- التبصرة في أُصول الفقه: 219.

حجّة بلا كلام، بخلاف ما إذا لم يثبت، فالنزاع في دلالة القضية على الانحصار، و بالتالي في وجود المفهوم للقضية و عدمه، الذي هو نزاع صغروي. و إلاّ فلو ثبت انّ للقضية مفهوماً فهو حجّة بلا كلام.

و أمّا على مسلك القدماء فقد استظهر السيّد البروجردي بناءً على أنّ النزاع كبروي، أنّ البحث في حجية بناء العقلاء، لأنّه قد استقر بناؤهم على حمل الخصوصيات الموجودة في الكلام على كونها صادرة عنه بداعي غايتها النوعية، و انّ الغاية النوعية هي دخلها في المطلوب، و هذا البناء من العقلاء موجود و الكلام في حجّيته.

يلاحظ عليه: أنّه يمكن أن يكون النزاع على مسلك القدماء لو ثبت أيضاً صغرويّاً و هو النزاع في تفسير مقدار المدخلية في الحكم، فهل على نحو لو ارتفع ارتفع، الحكم مطلقاً و لا ينوبه شيء آخر، حتّى يكون سنخ الحكم مرتفعاً أيضاً كشخص الحكم أو ليس كذلك.

فإذا قال الإمام:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء «فهل مدخلية الكرّية على نحو، يدور سنخ الحكم مدارها فيثبت بثبوتها و ينتفي بانتفائها؟ أو ليس كذلك و إنّما يرتفع شخص الحكم، دون سنخه لإمكان إقامة علّة قيد آخر مكانه ككونه جارياً، أو كون السماء ماطرة عليه عند ملاقاته بالنجاسة، فالنزاع في مقدار المدخلية، فلو ثبت مقدارها فبناء العقلاء حجّة لكونه بمرأى و مسمع من الشارع.

السادس: في مفهوم الموافقة

الفرق بين المفهوم المخالف و الموافق هو انّ الحكم في القضيتين لو كان

ص:352

مخالفاً بالنفي و الإثبات، فالمفهوم مخالف، و لو كان موافقاً فالمفهوم موافق، فإذا قال سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) فهو يدلّ على حرمة الضرب و السب، فالحكم منطوقاً و مفهوماً هو الحرمة، و القضية سالبة بخلاف ما إذا قال: إن سلّم زيد أكرمه، فالمنطوق قضية موجبة، و المفهوم قضية سالبة.

السابع: في الشرط المحقّق للموضوع

النزاع في وجود المفهوم أو حجّيته فيما إذا شملت القضية على أُمور ثلاثة متغايرة:

1. فعل الشرط.

2. الموضوع، أو الفاعل 3. الجزاء.

فيحكم على الموضوع أو الفاعل بالجزاء عند وجود الشرط، و بعدمه عند عدم الشرط، و أمّا إذا كان فعل الشرط، محقّقاً للموضوع لا أمراً زائد عليه، كما إذا قال: إن رزقت ولداً فاختنه، فإنّ رزق الولد، ليس شيئاً زائد على وجود نفس الولد، ففي مثله، تكون القضية خالية عن المفهوم لعدم الموضوع، لا لوجود الموضوع و عدم الشرط.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في صلب الموضوع، و الكلام فيه ضمن فصول:

ص:353

الفصل الأوّل مفهوم الشرط

اشارة

هل الجملة الشرطية، تدلّ على الثبوت لدى الثبوت و الانتفاء عند الانتفاء، أو لا؟ و القائل بالدلالة، إمّا يدّعيها عن طريق الوضع و ان هيئة الجملة الشرطية وضعت لذلك، أو يدّعيها عن طريق الإطلاق و مقدّمات الحكمة، و انّ الاقتصار على بيان شرط واحد، مع كونه في مقام البيان، شاهد على أنّه السبب المنحصر، أو يدّعيها عن طريق الانصراف.

ثمّ إنّ القول بالدلالة على المفهوم فرع ثبوت أُمور ثلاثة:

1. وجود الملازمة بين وجود الشرط و الجزاء، و عدم كون القضية من قبيل القضايا الاتفاقية، مثل قولك: خرجت فإذا زيد بالباب، فانّ المفاجأة بوجود زيد، لدى الخروج قضية اتفاقية دون وجود أيّة ملازمة بين الخروج و المفاجأة لوجوده.(1)

2. انّ التلازم من باب الترتّب، أي كون الشرط علّة للجزاء، فخرج ما إذا كان هناك تلازم دون أن يكون ترتّب علّيّ كقولك: كلّما قصر النهار طال الليل، أو كلّما طال النهار قصر الليل، فانّ طول الليلة عند قصر النهار، معلولين لعلّة

ص:354


1- خرج قولهم:» إذا كان الإنسان ناطقاً، فالحمار ناهق «لوجود الملازمة الاتّفاقية و إن لم يكن بين الحكمين، رابطة علّية أو معلولية.

ثالثة دون أن يكون الأوّل علّة للثاني.

3. كون الترتّب بنحو العلّة المنحصرة، و عدم وجود علّة أُخرى تقوم مقام العلّة المنتفية، و لعلّ ظهور القضية في الأوّلين ممّا لا ريب فيه،

وجوه على كون ترتّب الجزاء على الشرط بنحو العلّة المنحصرة و النقاش فيها
اشارة

إنّما الكلام في ثبوت الأمر الثالث و قد استدل عليه المحقّق الخراساني بوجوه خمسة و ناقش في الجميع.

و نحن نذكر الجميع، مع بعض الملاحظات في كلام المحقّق الخراساني.

الأوّل: التبادر

المتبادر من الجملة الشرطية، كون اللزوم و الترتّب بين الشرط و الجزاء، بنحو العلّة المنحصرة.

و ناقش فيه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. انّ التبادر آية الوضع، أي وضع الجملة الشرطية على ما كون الشرط علّة منحصرة، و يترتّب على ذلك انّه لو استعملت في غير العلة المنحصرة صار مجازاً و هو كما ترى، إذ لا يرى في استعمالها في غير المنحصرة عناية و رعاية علاقة، بل إنّما تكون إرادته كإرادة الترتّب على العلة المنحصرة بلا عناية، فلا ترى أي عناية في قوله:» إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء «مع أنّ الكرّيّة ليست علّة منحصرة للعاصمية، بل ينوب عنها كون الماء جارياً، أو ورود المطر عليه عند ورود النجاسة على الماء.

2. عدم صحّة التمسك بمفهوم كلام المتهم في المحاكمات و المخاصمات و أنّ له أن يعتذر بخلو كلامه عن المفهوم، مع أنّه لو كان موضوعاً له، لم يصحّ الاعتذار.

ص:355

الثاني: الانصراف

و حاصل هذا الوجه: انّ المطلق ينصرف إلى أكمل أفراده، فإذا كان السبب دالاً على الترتّب العلّي فهو ينصرف إلى أكمل الأفراد، و هي العلّة المنحصرة.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين: أحدهما صغروي و الآخر كبروي.

أوّلاً: بمنع كون العلّة المنحصرة، أكمل في العلّية من غيرها إذ عدم قيام شيء آخر مقامه، أو قيامه، لا يؤثر في شئون العلية و واقعها.

و ثانياً: لو افترضنا انّ المنحصرة أكمل أفراد العلّة فلا وجه لانصراف المطلق إليه، لأنّ الانصراف معلول أحد أمرين:

كثرة الاستعمال، أو كثرة الوجود. و كلاهما منتفيان في العلّة المنحصرة.

الثالث: التمسّك بالإطلاق
اشارة

و قد قرره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط

إنّ أداة الشرط أو هيئة الجملة الشرطية موضوعة لمطلق اللزوم الترتّبي إلاّ أنّ له فردين:

1. اللزوم الترتّبي بنحو الانحصار.

2. اللزوم الترتّبي لا بنحو الانحصار.

و من المعلوم أنّ المتكلّم بالقضية الشرطية لم يستعمل صرف الشرط أو هيئة الجملة الشرطية في الجامع، أعني: اللزوم الترتبي بما هو هو، بل أراد منه أحد

ص:356

الفردين، فمقتضى مقدمات الحكمة حملها على الفرد الذي لا يحتاج إلى بيان زائد، أعني: العلّة المنحصرة لا على الفرد الآخر، أي العلّة غير المنحصرة و لو أراد الثاني لقيّده.

ثمّ إنّ المستدل قاس المقام بما إذا دار الأمر بين الواجب النفسي و الغيري، فانّ الضابطة هي حمل الصيغة على الأمر النفسي دون الغيري، و ذلك لأنّ النفسي هو الواجب على الإطلاق بلا قيد و لكن الثاني هو الواجب لغيره، أو إذا وجب الغير فمقتضى مقدّمات الحكمة حمله على ما يكون المطلق وافياً ببيانه كالنفسي دون الفرد الآخر الذي يحتاج وراء المطلق إلى وجود قيد آخر.

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الإطلاق و التقييد من شئون المعاني الاسمية التي تقع في أُفق النفس، فيلاحظها تارة مطلقة و أُخرى مقيدة.

و أمّا المعاني الحرفية كمعنى» إن الشرطية «أو هيئة الجملة الشرطية فكلّها معان حرفية آلية فلا توصف بالإطلاق و لا التقييد، إذ لا يمكن لحاظها على وجه الاستقلال حتّى توصف بأحدهما.

الثاني: وجود الفارق بين المقيس و المقيس عليه، و حاصله: انّ المطلق أو الجامع بين الفردين كاف في بيان الواجب النفسي، و ليس كذلك في بيان الواجب الغيري، و ذلك لأنّ النفسي هو الواجب على كلّ حال بخلاف الغيري فانّه واجب إذا وجب الغير، فإذا تمت مقدّمات الحكمة يحمل المطلق على النفسي لعدم حاجته إلى بيان زائد.

و هذا بخلاف اللزوم الترتّبي فانّ له فردين و كلّ فرد يتميّز عن الفرد الآخر بقيد زائد على اللزوم الترتّبي، أعني: الانحصار و عدم الانحصار.

ص:357

يلاحظ على نقد المحقّق الخراساني بوجوه:

أوّلاً: أنّ ما ذكره هنا في وصف المعاني الحرفية يغاير مختاره في مقدّمات الكتاب عند البحث عن المعاني الاسمية و الحرفية، فقد ذهب هناك إلى وحدة المعنى الاسمي و الحرفي جوهراً و ان الاستقلالية و الآلية من طوارئ الاستعمال و عوارضه، فعندئذ تصبح المعاني الحرفية كالاسمية مصباً للإطلاق، إذ ليس الآلية جزءاً، كما أنّ الاستقلالية ليست جزءاً بل ذات المعنى عارية عن الآلية و الاستقلالية.

ثانياً: سلمنا انّ الآلية جزء للمعنى الحرفي و لكن كون الشيء مفهوماً آلياً ليس بمعنى كونه مغفولاً عنه من رأس حتّى يمتنع التقييد، بل انّ كثيراً من القيود في الكلام يرجع إلى المعاني الحرفية، فقولك: ضربت زيداً في الدار، فالظرف قيد للنسبة، أي كونه في الدار.

ثالثاً: انّ التفريق بين المقيس و المقيس عليه غير تام إذا قصرنا النظر إلى مقام الثبوت، فكما أنّ العليّة التي هي المقسم ينقسم إلى قسمين منحصرة و غير منحصرة و كلّ من القسمين يتميز عن المقسم بقيد زائد و إلاّ عاد القسم مقسماً، فهكذا الواجب فانّه بما هو هو مقسم و النفسي و الغيري من أقسامه، و من واجب القسم أن يتميز عن المقسم بقيدين، و إلاّ عاد القسم مقسماً، فالواجب النفسي ما وجب لنفسه أو ما وجب على كلّ تقدير; و الواجب الغيري ما وجب لا على كلّ تقدير، بل إذا وجب الغير(1)، فأصبح كالعلّة المنقسمة إلى المنحصرة و غير المنحصرة.

و الأولى أن يُردّ الاستدلال بوجه حاسم، و هو انّ قوام الإطلاق كون المتكلّم

ص:358


1- نعم قد ذكرنا في أوائل مبحث الأوامر انّه إذا دارت صيغة الأمر بين النفسي و الغيري يحمل على الغيري بالبيان المذكور في محله.

في مقام البيان بالنسبة إلى نفي القيد الزائد، إلاّ أنّ احتمال دخالة القيد الزائد يتصوّر على وجهين:

1. دخله في الموضوع بنحو الجزئية و الشرطية، كما إذا قال: اعتق رقبة، فاحتمال دخالة الإيمان مدفوع بالإطلاق، و ذلك لأنّ المتكلّم إذا صار بصدد بيان الموضوع كلّه كان عليه أن يقيد الرقبة بالإيمان، فإذا خلا كلامه عن ذلك القيد يحكم عليه بعدم الدخالة.

2. دخله في الموضوع لا بصورة الجزئية، بل لكونه نائباً عن الموضوع و مؤثراً مثله، كما إذا احتملنا انّ لوجوب تكريم زيد سببين أحدهما تسليمه، و الآخر إحسانه، فإذا قال المولى: زيد إن سلّم أكرمه، فمقتضى الإطلاق كون التسليم تمام الموضوع كالرقبة في المثال السابق، و أمّا كونه سبباً منحصراً لا ينوب عنه شيء آخر فلا يثبته الإطلاق إلاّ أن يكون المتكلّم بصدد بيان هذه الجهة أيضاً و هو نادر.

فإذا قال الصادق: الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء، فمقتضى الإطلاق كون الكرّيّة تمام الموضوع للعاصمية و ليس لها شرط و لا جزء وراء الكرّيّة.

نعم و أمّا كون الكرّيّة سبباً منحصراً مضافاً إلى أنّه سبب تام فهو يحتاج إلى كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى هذه الجهة، أي وراء جهة كونه سبباً تامّاً و أنّى يمكن إحرازه، و هذا هو الإشكال المهم في المقام، و هو يرد على عامّة التقريرات الثلاثة للإطلاق، و لكن المحقّق الخراساني أشار إليه في التقرير الثاني من التقريرات الثلاثة للإطلاق.

الثاني: الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط

هذا هو التقرير الثاني للإطلاق، و الفرق بين التقريرين واضح، فإنّ مصب

ص:359

الإطلاق في التقرير الأوّل هو مفاد» إن الشرطية «أو هيئة الجملة الشرطية، بخلاف هذا الوجه فانّ مصبه هو فعل الشرط، أعني قوله:» سلم «في قوله:» إن سلم زيد أكرمه «.

و حاصل هذا الوجه: انّه لو لم يكن منحصراً لزم تقييد تأثيره بما إذا لم يقارنه أو لم يسبقه شرط آخر ضرورة انّه لو قارنه أو سبقه شرط آخر لما أثّر وحدة كما في عاصمية الكر فانّه إنّما يؤثر إذا لم يكن ماء جارياً عن مبدأ و إلاّ فلا يكون مؤثراً مع أنّ قضية إطلاقه أنّه مؤثر مطلقاً، قارنه شيء أم لم يقارنه، سبقه شيء أم لم يسبقه.(1)

يلاحظ عليه: بما مرّ في نقد الوجه الأوّل من التقرير للإطلاق، و هو انّ الإطلاق رهن كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى القيد الذي يراد نفيه، فلو كان القيد مؤثراً في نفس الموضوع جزءاً أو شرطاً فينفى دخله بالموضوع في الإطلاق.

و أمّا إذا كان القيد المحتمل غير مؤثر في الموضوع، بل يحتمل أن يكون ذلك القيد سبباً مستقلاً للحكم وراء السبب الموجود في المنطوق بأن يكون للعاصمية سببان:

1. الكرّيّة.

2. جريان الماء متّصلاً بالنبع.

فنفي الشك الثاني النابع عن احتمال تعدّد السبب، و عدمه، فرع كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً و أنّى لنا إثبات ذلك.

و بتعبير آخر: انّ نفي الشكّ في وحدة السبب و عدمها، رهن كون المتكلّم يكون في مقام بيان أمرين:

ص:360


1- كفاية الأُصول: 1/306.

1. بيان كمال السبب و عدم نقصه.

2. بيان وحدة السبب و عدم تعدّده.

و السائد على المتكلّمين في مقام الإطلاق هو الأوّل، و أمّا كونه واحداً لا متعدّداً فخارج عن مصب الإطلاق غالباً، إلاّ أن يحرز انّه أيضاً في مقام البيان لهذه الجهة.

إلى هنا تمّ بيان التمسّك بالإطلاق لإثبات الانحصار بوجهين.

بقي الكلام في الوجه الثالث للإطلاق، و هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» و أمّا توهم انّه قضية إطلاق الشرط... «و إليك بيانه:

الوجه الثالث: التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب انّ مقتضى إطلاقه، انحصارُه

كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر كون الوجوب تعيينياً لا تخييرياً.(1)

و هذا الوجه ليس شيئاً جديداً و إنّما أخذ من الأوّل شيئاً و من الثاني شيئاً آخر و لفّقهما و صار بصورة تقريب ثالث للإطلاق المفيد للانحصار، فقد أخذ من التقريب الثاني كون مصب الإطلاق هو الفعل لا مفاد هيئة الجملة الشرطية، كما أخذ من التقريب الثاني التشبيه غاية الأمر شبّه المقام بتردد صيغة الأمر بين التعييني و التخييري، و قد شبّه المقام في التقريب الأوّل بتردّد الصيغة بين النفسي و الغيري، و إليك توضيحه:

إذا كانت العلّة و المؤثر على قسمين: قسم منحصر يؤثر مطلقاً سواء أ كان هناك شيء آخر أو لا، و قسم غير منحصر و إنّما يؤثر إذا لم يكن هناك مؤثر آخر متقدّم عليه، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان و اقتصر على بيان مؤثر واحد، فمعناه انّه يؤثر مطلقاً حتّى و ان تقدّم عليه شيء، إذ لو لم يكن كذلك لزم المتكلّم تقييد

ص:361


1- الكفاية: 1/306.

تأثيره بما إذا لم يكن هناك شيء آخر، فسكوته دليل على أنّه من قبيل القسم الأوّل، نظير الواجب التعييني و التخييري حيث إنّ المتكلّم إذا اقتصر على بيان واجب واحد فمعناه انّه واجب مطلقاً أتى بشيء آخر أو لا، و إلاّ كان عليه تقييد وجوبه بما إذا لم يأت بشيء آخر، فإذا سكت فهو دليل على أنّه واجب تعييناً، إذ لو كان واجباً تخييرياً كان عليه بيان العِدْل.

فخرجنا بتلك النتيجة: انّ بيان الجامع بين المنحصرة و غير المنحصرة، و بين الواجب التعييني و التخييري كاف في بيان الشق الأوّل من الشقين أي العلّة المنحصرة و الواجب التعييني و ليس بواف لبيان الشقين الآخرين: غير المنحصر، و التخييري.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا البيان، ما هذا حاصله:

إنّ الفرق بين المقيس و المقيس عليه ظاهر فانّ التعيين و التخيير وصفان داخلان في ماهية الوجوبين، و كأنّهما بالنسبة إلى الوجوب فصلان منوِّعان فكلّ من التعييني و التخييري نوع من الوجوب.

حيث إنّ الوجوب التعييني وجوب على كلّ تقدير أتى بشيء أو لا، بخلاف الثاني فانّ التخييري وجوب على تقدير عدم الإتيان بشيء آخر.

و هذا بخلاف الانحصار و عدمه فانّهما غير داخلين في ماهية العلّة، فانّ تأثير العلّة المنحصرة مثل تأثير غير المنحصرة من دون تفاوت بينهما ثبوتاً في نحو التأثير، بل الانحصار و عدمه من المشخصات الصنفية حيث يكون الفرق بين العلّة المنحصرة و غيرها كالفرق بين الإنسان الأبيض و الأسود.

و يترتّب على ذلك الفرق هو انّ بيان الجامع كاف لبيان الفرد من الواجب التعييني، و ليس كذلك في مورد العلة المنحصرة، و وجهه هو انّ الاختلاف في القسم الأوّل يعود إلى مقام الثبوت، لما عرفت من أنّ نسبة الوجوب التعييني و

ص:362

التخييري كنسبة نوع إلى نوع كالإنسان بالنسبة إلى الفرس، فإذا أطلق و لم يذكر عدلاً يحمل على بيان خصوص الوجوب التعييني، و إلاّ يلزم أن لا يكون في مقام البيان، بل في مقام الإهمال و الإجمال و هذا خلاف المفروض.

و هذا بخلاف العلّة المنحصرة و غير المنحصرة، لأنّهما لمّا كانا في مقام الثبوت محددين جوهراً و إنّما الاختلاف في مقام الإثبات إذا أُطلق و لم يقيد بشيء يكون الكلام مجملاً لا محمولاً على الفرد المنحصر، و إلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله: و احتياج ما إذا كان الشرط متعدداً إلى ذلك إنّما يكون لبيان التعدّد لا لبيان نحو الشرطية فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف كان هناك شرط آخر أم لا، حيث كان مسوقاً لبيان شرطيته بلا إهمال و لا إجمال بخلاف إطلاق الأمر فانّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال و الإجمال.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هذا البيان مع طوله غير واف في التفريق، لأنّه إذا افترضنا انّ نسبة التعيين و التخيير إلى الوجوب نسبة الفصلين المنوعين إلى الجنس، و نسبة الانحصار و غير الانحصار إلى العلّة نسبة المصنّفات، و مع ذلك فكلّ من المشبه و المشبه به يشتركان بوجود الاختلاف في الثبوت و الإثبات و إلاّ لأصبح القسم مقسماً، و ذلك لأنّ الواجب التعييني ثبوتاً يختلف مع التخييري، فالأوّل هو الواجب مطلقاً سواء أتى بشيء أو لا، و الثاني واجب فيما إذا لم يأت بشيء، فكما أنّ هذه القيود معتبرة في مقام الثبوت ليجعلها نوعين من الوجوب، فهكذا معتبرة في مقام الإثبات، لأنّ الإثبات هو المعبر عن الثبوت بالتمام، فإذا كان القيد مأخوذاً في الثبوت يكون مأخوذاً في مقام الإثبات، و عندئذ لا معنى للقول بأنّ بيان الجامع

ص:363


1- الكفاية: 1/307.

كاف في إثبات أحد النوعين دون النوع الآخر، لما عرفت من أنّ النوعين يتميزان ثبوتاً و إثباتاً بقيدين، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد من النوعين لا ثبوتاً و لا إثباتاً، و كون المتكلّم في مقام البيان لا يُلزمنا بالأخذ بالوجوب التعييني، بل يمكن أن يكشف ذلك عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان، بل هو في مقام الإهمال و الإجمال، بحجة انّ المتكلّم لم يشر إلى أحد القيدين المتنوعين.

و منه يظهر حال العلّة المنحصرة و غير المنحصرة فهما متميزان في مقام الثبوت بقيدين كما أنّهما متميزان في مقام الإثبات بقيدين أيضاً، فلا يكون بيان الجامع بياناً لأحد الفردين لا في مقام الثبوت و لا في مقام الإثبات.

فإن قلت: قد تقدّم في الجزء الأوّل في مبحث دوران أمر الصيغة بين النفسي و الغيري و التعييني و التخييري، و الكفائي و العيني انّه يحمل على النفسي و التعييني و العيني.

قلت: ما ذكرناه هناك مبني على بيان آخر مذكور في محله، لا على هذا الأصل الذي بنى عليه حمل الأمر على التعييني.(1)

إلى هنا تمّت الوجوه الخمسة التي ذكرها المحقّق الخراساني و هناك وجه آخر، و هو

الوجه السادس:

الذي سمعناه من السيد المحقّق البروجردي

في درسه الشريف عام 1367 ه و حاصله:

إنّ مقتضى الترتّب العلّي على المقدّم، أن يكون المقدّم بعنوانه الخاص علّة، و هو محفوظ عند ما كانت العلّة منحصرة و لو لم يكن كذلك لزم استناد الثاني إلى الجامع بينهما لامتناع استناد الواحد إلى الكثير، و هو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه.(2)

ص:364


1- إرشاد العقول: 3/341، طبعة بيروت.
2- نهاية الدراية: 322.

ثمّ إنّا وقفنا على ذلك التقريب في تعليقة المحقّق الاصفهاني، و لعلّ البيانين من قبيل توارد الخاطرين أو انّ المحقّق المحشّي أخذه من السيد المحقّق البروجردي، و ذلك لأنّ السيد البروجردي قال: عرضت ذلك التقريب على المحقّق الخراساني، فأجاب عنه بالنحو التالي:

إنّ المفهوم رهن الظهور العرفي، و الظهور العرفي لا يثبت بهذه المسائل الفلسفية البعيدة عن الأذهان العرفية، و أنّى للعرف دراسة هذا الموضوع» انّه لو كان للجزاء علل مختلفة يجب أن يستند إلى الجامع و حيث إنّه خلاف ظاهر القضية فهو مستند إلى شخص الشرط و تصير نتيجته انّه علة منحصرة «.

السابع: ما ذكره المحقّق النائيني على ما في تقريراته،

و حاصله:

إنّ الشرط المذكور في القضية الشرطية إمّا أن يكون في حدّ ذاته ممّا يتوقف عليه عقلاً، وجود ما هو متعلّق الحكم في الجزاء، و إمّا أن لا يكون كذلك، و على الأوّل لا يكون للقضية مفهوم لا محالة، كما في قولنا:

إن رزقت ولداً فاختنه، و بما انّ كلّ قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية يكون مقدّمها وجود الموضوع، و تاليها ثبوت المحمول له و يكون التعليق عقلياً لا يكون هناك مفهوم.

و أمّا القسم الآخر في أنّ الحكم الثابت في الجزاء ليس بمتوقّف على وجود الشرط عقلاً، فلا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً بالإضافة إلى وجود الشرط، أو يكون مقيّداً به، و بما انّه رتب في ظاهر القضية على وجود الشرط، يمتنع الإطلاق فيكون مقيّداً بوجود الشرط و بما انّ المتكلّم في مقام البيان قد أتى بقيد واحد و لم يقيده بشيء آخر، سواء أ كان التقييد بذكر عدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو ليكون قيد الحكم في الحقيقة مركباً من أمرين، كما في قولنا: إذا جاءك زيد و أكرمك فأكرمه، يستكشف من ذلك، انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية

ص:365

الشرطية، و بالجملة فكما أنّ إطلاق الشرط و عدم تقييده بمثل العطف بالواو، يدلّ على عدم كون الشرط مركباً، كذلك إطلاقه و عدم تقييده بشيء مثل العطف، يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية.(1)

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه ليس تقريباً جديداً، بل هو نفس التقريب الثالث للمحقّق الخراساني للإطلاق وجود الفرق الواضح بين كون الشرط ذا جزء و بين كونه ذا عدل، فلو تعلق الشكّ بالأوّل لكان مقتضى الإطلاق هو كونه تاماً في السببية و الشرطية لا ناقصاً، و أمّا إذا تعلّق الشكّ بأنّ له عدلاً أو لا فلا يكفي الإطلاق، و قد عرفت فيما سبق انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع لا انّه لا موضوع له بغير ما ورد في متعلّق النص.

فلو شككنا في أنّ للكرّيّة شرطاً أو لا، يتمسّك بإطلاق الدليل، و امّا أنّ له عدلاً أو لا، كجريان الماء و إن لم يكن كرّاً فلا يدلّ على نفيه.

إلى هنا تمت أدلّة القائلين بالمفهوم، و قد عرفت أنّ الأدلّة غير وافية.

نظرية المحقّق البروجردي

ثمّ إنّ المحقّق البروجردي فصل في القضايا المشروطة بين كون سوقها لأجل إفادة كون المشروط علّة للجزاء، و سوقها لأجل إفادة انّ الجزاء ثابت للمشروط بهذا الشرط، فالأوّل كقول الطبيب: إن شربت السقمونيا فيسهل الصفراء.

و الثاني: كقوله) عليه السلام (: إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء.

فإن سيقت لإفادة العلّية فلا مفهوم لها، لأنّ المتكلّم لم يأت في كلامه بقيد زائد، بل أفاد انّ السقمونيا مثلاً علّة لإسهال الصفراء.

ص:366


1- أجود التقريرات: 1/418.

و بالجملة كلّما كان إتيان الشرط لإفادة علّيته للجزاء، و لا يكون فيه قيد زائد لا يكون له مفهوم.

و إن سيقت على النحو الثاني، يكون له مفهوم إن تم ما ذكر من أنّ القيود الزائدة في الكلام تفيد دخالتها على نحو ينتفي الحكم عند انتفائها.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره) قدس سره (نقض لما أبرمه في السابق، و هو انّ غاية ما يدلّ عليه أخذ القيد في الكلام ان له دخلاً فإذا ارتفع ارتفع شخص الحكم، و أمّا أنّه لا ينوب هنا به شيء آخر فلا يدلّ عليه إلاّ أن يكون المتكلّم في مقام البيان لهذه الجهة. اللّهمّ إلاّ إذا كان التفصيل على مبنى القوم كما يعرب عنه قوله إن تمّ ما ذكر.

ما هو المختار في المقام؟

قد عرفت عدم كفاية التقريبات السبعة لإثبات كون الشرط سبباً منحصراً للجزاء و مع ذلك يمكن القول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في موردين:

الأوّل: إذا كان الشرط من الأضداد التي لا ثالث لها، و بالتالي لا يكون للموضوع إلاّ حالتين لا غير، و إليك بعض الأمثلة:

1. السفر و الحضر فيها من الأوصاف التي تعرض الإنسان و لا ثالث لهما، إذ الإنسان الذي هو الموضوع إمّا حاضر أو مسافر، فإذا قال: إذا سافرت فقصِّر أو إذا سافرتَ فأفطر، يفهم منه انّ التقصير و الإفطار، من أحكام المسافر دون الحاضر، فهو يتم و يصوم. و المراد من الحاضر، هو المتواجد في الوطن بما هو هو مع قطع النظر عن العوارض ككونه مريضاً، أو شيخاً مطيقاً.

ص:367

2. انّ الاستطاعة و العجز من الأضداد التي لا ثالث لها، و الإنسان الذي هو الموضوع، إمّا مستطيع أو غير مستطيع، فإذا قال:» إن استطعت فحجّ «يدلّ بمفهومه على سلب الوجوب عن غيره. إذ لو كان الحكم ثابتاً عند وجود الشرط و عدمه، يكون التعليق لغواً، و لا يتصور فيه قيام سبب آخر مكان الشرط المنتفي، إذ المفروض انّهما من الأضداد التي لا ثالث لهما.

3. انّ الظلم و العدل من الأضداد التي لا ثالث لهما، فإذا قال:» ليس لعرق ظالم حق «(1)فالوصف يدلّ على أنّ عرق غير الظالم له حقّ، فلو كان الحكم عاماً، للظالم و العادل يلزم اللغوية، و لذلك فرّع الفقهاء على القول بالمفهوم في الحديث فروعاً:

1. ما لو زرع أو غرس المفلس في الأرض التي اشتراها و لم يدفع ثمنها، و أراد بائعها أخذها، فإنّه لا يقلع زرعه و غرسه مجاناً و لا بأرش، بل عليه إبقاؤه إلى أوان جذاذ الزرع، و في الغرس يباع و يكون للمفلس بنسبة غرسه من الثمن.

2. لو انقضت مدّة المزارعة، و الزرع باق. و لم يعلما تأخّره عن المدّة المشروطة وقت العقد، فإنّ الزرع حينئذ لا يقلع أيضاً، لأنّه ليس بظالم، نعم يجمع بين الحقّين بالأُجرة. و الفرق أنّ المشتري دخل على أن تكون المنفعة له مباحة بغير عوض، بخلاف العامل.

3. لو أخذ الشفيع الأرض بالشفعة بعد زرع المشتري. و نظائر ذلك كثيرة. و ادّعى بعضهم الإجماع أيضاً على العمل بمفهوم الحديث هنا، و إن منع من العمل بمفهوم الوصف.(2)

ص:368


1- صحيح البخاري: 3/140، كتاب المزارعة.
2- تمهيد القواعد: 112.

الثاني: إذا كان المتكلّم بصدد بيان حكم الموضوع بعامة صوره، كما إذا سئل السائل و قال: ما هو الماء الذي لا ينجس، حيث تعلّق السؤال بعاصمية مطلق الماء، سواء أ كان ماء غدير، أو بئر، أو جار، أو غير ذلك فإذا أُجيب بأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء، بقيد انّ السبب المنحصر للعاصمية، هو الكرية على نحو لو دلّ الدليل على عاصمية ماء المطر أو الجاري المتصل بالنبع، أو الماء الواقع تحت المطر عند إصابة النجاسة، لوقع التعارض بين المفهوم و الدليل الدالّ على عاصمية غير الكرّ بخلاف ما إذا سئل عن عاصمية ماء خاص، كما إذا سئل عن ماء الغدير الذي تلغ فيه الكلاب، فأجيب: الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء، فانّ السؤال و الجواب قرينة على أنّ السؤال تعلّق ببيان ما هو العاصم للماء الخاص و هو ماء الغدير، فيكون الجواب مشيراً إلى الموضوع الذي جاء في سؤال السائل، فعاصمية ماء الغدير و عدمها تدور مدار الكرّيّة و عدمها، من دون نظر إلى عاصمية مطلق الماء الذي يعم ماء البئر و الجاري و ما يقع عليه المطر.

هذه هي الضابطة و مع ذلك فاستنباط المفهوم و عدمه من القضية رهن قرائن أُخرى أيضاً ربما تؤيد اشتمالها عليه، هذا و انّ الإمام الصادق) عليه السلام (استدلّ على حرمة لحم الشاة التي ذبحت و لم تتحرك و أُريق منها دم عبيط بمفهوم كلام الإمام علي) عليه السلام (.

ففي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الشاة تذبح فلا تتحرك و يهراق منها دم كثير عبيط فقال: لا تأكل انّ عليّاً) عليه السلام (كان يقول: إذا ركضت الرِّجْلُ أو طرفت العين فكُلْ.(1) فكلام علي) عليه السلام (إنّما يدلّ على الحرمة بمفهومه لا بمنطوقه و لو لا كون المفهوم حجّة، كيف استدلّ الإمام به على حرمة

ص:369


1- الوسائل: 16، الباب 12 من أبواب الصيد و الذباحة، الحديث 1.

أكله.

فعلى المستنبط أن يتحرى في القرائن الحافّة حتى يعرف موقف المتكلم من الكلام.

ثمّ إنّ نفاة المفهوم استدلوا بوجوه ذكرها في» الكفاية «و نحن في غنى عن دراستها، إذ لم نقل بدلالة القضايا الشرطيّة على المفهوم مطلقاً، حتّى ندرس أدلّة المخالف، بل ألمعنا إلى مواضع خاصّة لا أظن انّ المخالف ينفي وجود المفهوم فيها فلنرجع إلى البحث في تنبيهات الفصل التي عقدها المحقّق الخراساني.

ص:370

تنبيهات
التنبيه الأوّل المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه
اشارة

إنّ نزاع المثبت و النافي للمفهوم إنّما هو في انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط و عدم انتفائه، لا انتفاء شخصه ضرورة انتفائه بانتفاء موضوعه و لو ببعض قيوده، و النزاع في اشتمال القضية على المفهوم فرع ثبوت مرحلتين للحكم:

1. شخص الحكم الذي ينتفي قطعاً بانتفاء شرطه باتفاق من المثبت و النافي.

2. سنخ الحكم و نوعه الذي يحتمل الانتفاء و عدمه.

فلو كان للجزاء مرحلة واحدة من الحكم و هو شخص الحكم لما يبقى وجه للنزاع، لأنّه منتف على كلّ حال، سواء قلنا باشتمال القضية على المفهوم أو لا.

توضيح المقام رهن بيان أمرين:

1. ما هو الفرق بين سنخ الحكم و شخصه؟ 2. لما ذا لا يجري النزاع إذا لم يكن للجزاء إلاّ مرحلة واحدة و هو شخص الحكم؟ أمّا الأوّل فبيانه: انّه إذا قلنا: زيد إن سلّم أكرمه، فهناك حكمان:

ص:371

الف: الوجوب الجزئي المتعلّق بإكرام زيد بقيد تسليمه.

ب: الوجوب الكلّي المتعلّق بإكرام زيد، غير مقيّد بتسليمه، بل يعمّ تلك الحالات و سائر حالاته، كما إذا لم يسلم، و لكنّه أطعم اليتيم و غير ذلك.

و نظيره قوله) عليه السلام (:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء «، فهناك مثل السابق، حكمان:

1. إنشاء العاصمية للماء بقيد كونه كرّاً.

2. إنشاء العاصمية له غير مقيد بالكرية بل يعمّ تلك الحالة و سائر الحالات الطارئة له، ككونه جارياً، نابعاً من الأرض، أو ماء بئر فالحكم الجزئي المقيّد بالشرط ينتفي بانتفاء شرطه عقلاً، لأنّ المعلّق ينتفي بانتفاء المعلّق عليه، فلو لم يسلِّم أو لم يكن كرّاً، فالإنشاء المقيّد بهما، بكونه منتفياً بالاتّفاق، سواء قلنا بالمفهوم أو لا.

و الذي يصلح للنزاع هو البحث في انتفاء سنخ الحكم و نوعه، أي وجوب الإكرام غير المقيد بالتسليم، أو إنشاء العاصمية غير المحدد بالكرّيّة، فهل يحكم بانتفائه كانتفاء شخص الحكم كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه بل يحتمله الانتفاء و عدمه؟ ثمّ إنّ المحقّق البروجردي أنكر وجوب سنخ الحكم و نوعه، وراء شخص الحكم و انّه لا يعقل لسنخ الحكم وراء شخصه مفهوم معقول، فقال ما هذا حاصله: إنّا لا نتعقّل وجهاً معقولاً لسنخ الحكم لوضوح أنّ المعلّق في قولك: إن جاءك زيد فأكرمه هو الوجوب المحمول على إكرامه، و التعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه فما فرضته سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق، موضوعاً و محمولاً فهو شخصه لا سنخه، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد

ص:372

بما هو هو و إن كان مختلفاً معه في الموضوع كإكرام عمرو أو محمولاً كاستحباب إكرام زيد، فلا معنى للنزاع في أنّ قوله: إن جاءك زيد فأكرمه يدلُّ على انتفائه أو لا يدلّ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ سنخ الحكم متّحد مع شخصه موضوعاً) زيد (و محمولاً) وجوب الإكرام (لكن يختلف في الشرط فهو شرط لشخص الحكم دون سنخه لكن اتحادهما ليس بمعنى كونهما متساويين كالإنسان، و الحيوان الناطق بل اتحادهما كاتحاد الكلي و مصداقه، و الطبيعي و فرده، فالوجوب المنشأ بقيد التسليم وجوب جزئي، و الوجوب المنتزع عنه غير المقيد بالشرط، كلي يعم الفرد المنشأ، و غيره.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

و أمّا الأمر الثاني و هو انّ مدار النزاع هو إمكان اشتمال القضية وراء شخص الحكم على سنخه، حتّى يحكم على السنخ أيضاً بالانتفاء كالشخص كما عليه القائل بالمفهوم أو لا يحكم عليه، بل يكون الانتفاء و البقاء احتمالين متساويين و أمّا لو اشتملت القضية على الحكم الجزئي، و لم يكن فيها صلاحية للحكم الكلي و سنخه، فارتفاع الحكم و عدم ثبوته، عند انتفاء القيد ليس من باب المفهوم، بل لأجل عدم القابلية في المحل، و ذلك فيما إذا وقف داره للفقراء أو أوصى بتمليك ماله لهم، أو نذر كونها لهم إذا قضيت حاجته الشرعية أو حلف بالتمليك لهم فانّ سلب الملكية عن الأولاد الأغنياء، ليس من باب المفهوم، بل من باب عدم وجود المرحلتين للملكيّة الشخصية و السنخيّة سنخ الحكم، و ذلك: لأنّ المال الخارجي إذا صار وقفاً أو نذراً أو وصية فقد صار ملكاً أو وقفاً لهؤلاء،

ص:373


1- نهاية الأُصول: 1/273.

و لا يتصور عندئذ ملكية كلية، للمال، حتّى يبحث عن ارتفاعها عند ارتفاع الفقر و عدمه، لأنّ المال الواحد، لا يصلح أن يكون وقفاً أو ملكاً إلاّ لواحد، و عندئذ يكون الارتفاع عن غير مورده عقلياً لا من باب المفهوم، ففرق بين إنشاء وجوب الإكرام و انشاء الملكية، إذ يصحّ إنشاء وجوبين طوليين أحدهما في ظرف التسليم و ثانيهما في ظرف آخر، و هذا بخلاف إنشاء الملكية للعين فلا يمكن نقلها مرّتين تارة للأولاد الفقراء، و أُخرى لأولاده الأغنياء.

و منه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني في تمهيد القواعد حيث زعم انّ انتفاء الحكم في هذه الموارد من باب المفهوم فقال: لا إشكال في دلالة الشرط و الرهن في مثل الوقف و الوصايا و النذور و الأيمان، كما إذا قال: وقفت هذا على أولادي الفقراء، أو إن كانوا فقراء، و نحو ذلك.(1)

إشكال و إجابة

أمّا الإشكال فقد حكاه الشيخ الأنصاري في تقريراته عن بعضهم، و قال: و قد يستشكل في المقام) مطلق القضايا الشرطيّة (نظراً إلى أنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الإنشاء الخاص، الحاصل بذلك الكلام دون غيره فأقصى ما تفيده الشرطية انتفاء ذلك و أين ذلك، من دلالته على نوع الوجوب؟!(2)و إلى هذا الإشكال يشير في» الكفاية «بقوله: إنّ المناط في المفهوم هو سنخ الحكم لا نفس شخص الحكم في القضية، و كان الشرط في الشرطية إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فغاية قضيتها انتفاء ذاك

ص:374


1- تمهيد القواعد، القاعدة 25، ص 110.
2- مطارح الأنظار: 177.

الحكم بانتفاء شرطه لا انتفاء سنخه.(1)

ثمّ إنّه أجاب بأنّ الخصوصية غير مأخوذة في المستعمل فيه و ذلك لوجهين:

1. الخصوصية الإنشائية كالخصوصية الاخبارية غير مأخوذة في المعنى، مثلاً كلمة بعت وقعت لنسبة البيع إلى المتكلم، و أمّا كونه موجداً للبيع أو حاكياً عنه في الخارج فهو يستفاد من القرائن و يعد من طوارئ الاستعمال.

2. انّ اللحاظ الآلي في الحروف و الاستقلالية في الأسماء ليس جزءاً للمعنى الموضوع له و المستعمل فيه، و إنّما تعرضه الآلية عند الاستعمال كما يعرضه الاستقلال عنده.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان الإشكال هو ما يتبادر من ظاهر» المطارح «و» الكفاية «من أنّ الجزاء مقيّد بالشرط حيث إنّ الظاهر انّ الشرط، شرط للحكم الحاصل بإنشائه دون غيره فبانتفاء الشرط ينتفي شخص الحكم دون سنخه، فيصح الذب عنه بما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ الخصوصيات غير مأخوذة لا في الإخبار و لا في الإنشاء، لا في الأسماء و لا في الحروف.

و أمّا لو قرر الإشكال حسب ما قرره السيد المحقّق البروجردي في درسه الشريف، و يستفاد من بعض مواضع المطارح أيضاً، و هو انّ شأن صيغة الأمر في جانب الجزاء هو إيجاد البعث و الوجوب، فإذاً المنشأ أمر جزئي، لا نوعي فليس هنا دال على سنخ الوجوب، فعندئذ لا يصلح ما في» الكفاية «ردّاً له.

توضيحه: انّ القول بالمفهوم فرع تصوّر وجود حكمين في جانب الجزاء.

أ. سنخ الحكم و نوعه.

ص:375


1- كفاية الأُصول: 1/310.

ب. شخص الحكم و جزئيّه.

و هذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان الجزاء جملة خبرية كما إذا قال: إن جاء زيد فيجب إكرامه، فقال: إن جاء زيد فإكرامه واجب، فالجزاء يمكن أن يكون حكاية عن حكم جزئي مقيّد بالمجيء و عن حكم غير مقيّد به.

و أمّا إذا كان الجزاء جملة إنشائية من شأنها إيجاد المعاني في عالم الاعتبار فليس هناك وراء شخص الحكم حكم آخر، لأنّ المفروض انّ شأن الجملة الإنشائية إيجاد المعنى لا حكايته عن الخارج و الإيجاد نفس الوجود و هو نفس التشخص، فيكون الجزاء غير مشتمل على وجوب وراء شخصه.

و بعبارة أُخرى: انّ الجمل على قسمين: حاك عن الخارج كما يقول: زيد قائم أو يقول: يجب إكرامه أو إكرامه واجب بشرط أن يكون جملة خبرية غير مستعملة في الإنشاء موجد للمعنى على نحو ليس وراء عالم الإنشاء شيء يحكي عنه اللفظ فالمعنى الذي هذا شأنه يكون جزئياً شخصياً لا غير و لا يتصوّر فيه نوع المعنى وراء الشخص.

هذا هو الإشكال و الأولى أن يجاب عن كلا التقريرين بجواب واحد، و هو:

إنّ الوجوب و إن كان مقيّداً بالشرط، أو انّ الشرط وقع شرطاً للحكم المذكور في الجزاء حسب تقرير العلمين أو انّ مفاد الجزاء معنى إيجادي و جزئي حقيقي حسب تقرير السيد البروجردي لكن تعلّق الوجوب بمادة الجزاء عند وجود الشرط تحكي عن مناسبة بين الشرط) التسليم (و الجزاء) الإكرام (فإذا تمت دلالة القضية على انحصار العلّة، دلّت على فقدان المقتضي للإكرام عند فقدان الشرط، و هو نفس القول بالمفهوم، لأنّ عدم المقتضي له، يلازم عدم كونه مطلوباً، لا بهذا الطلب المختص أو الجزئي و لا بطلب آخر.

ص:376

و لك أن تقول: إنّ الهيئة و إن كانت جزئية لكن تناسب الحكم و الموضوع يوجب إلغاء الخصوصية، و جعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب و طبيعيّه، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب.

جواب آخر:

و يمكن أن يقال: انّ الحكم الشخصي و إن كان جزئياً حسب أفراده، و لكنّه حسب حالاته أمر قابل للتقييد، مثلاً: إذا قلنا أكرم زيداً، فالبعث و إن كان جزئياً لكنّه حسب حالاته قابل للتقييد كأن يقول: أكرم زيداً إذا كان عادلاً لا فاسقاً، عالماً لا جاهلاً بإرجاع القيود إلى مفاد الهيئة و سوف يوافيك انّه لا يشترط في جريان مقدّمات الحكمة كون الموضوع كلياً ذا أفراد، بل يكفي كونه جزئياً ذا أحوال.

و على ضوء ذلك فالبعث الجزئي و إن كان متشخّصاً لكنّه قابل للتقييد بالتسليم كما يمكن أن يكون مطلقاً عنه.

فالبعث المقيد بالتسليم شخص الحكم فينتفي بانتفاء التسليم و لحاظه غير مقيد به هو سنخ الحكم، فعندئذ انتفاء الحكم الشخصي لا يكون دليلاً على انتفاء سنخ الحكم، بل يمكن أن يكون نفس الشخص باقياً ضمن شرط آخر.

نعم وصف البعث الجزئي باعتبار شخص الحكم، و باعتبار آخر سنخ الحكم لأجل تقريب المطلب إلى الذهن، و إلاّ فالأمر الجزئي، بهما معاً.

ص:377

التنبيه الثاني إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء
اشارة

إذا ورد: إذا خفي الأذان فقصّر، و ورد أيضاً إذا خفيت الجدران فقصّر، فلو قلنا بخلوّ الجملة الشرطية عن المفهوم فلا تعارض بين الدليلين و يؤخذ بظهورهما في انّ كلّ واحد سبب تام، و ليس سبباً ناقصاً فيكفي خفاء واحد منهما في وجوب التقصير.

و لو قلنا بظهور الجملة الشرطية في المفهوم يقع التعارض بين مفهوم كلّ مع منطوق الآخر.

و ذلك لأنّ مفهوم قوله: إذا خفي الأذان فقصّر: انّه إذا لم يخف الأذان لا تقصّر الصلاة، سواء أخفيت الجدران أم لا، فهذا المفهوم يعارض منطوق القضية الثانية التي تحكم بوجوب القصر عند خفاء الجدران.

و مثل القضية الأُولى القضية الثانية فانّ مفهومها انّه إذا لم تخف الجدران فلا تقصّر، سواء أ خفي الأذان أم لا، فيعارض مفهومُها منطوق القضية الأُولى التي مفادها انّه إذا خفي الأذان، فقصّر، فلا بدّ من علاج التعارض بين القضيتين.

وجوه لرفع التعارض بين مفهوم إحدى القضيتين مع منطوق الأخرى

و قد ذكر المحقّق الخراساني في رفع التعارض وجوهاً خمسة، و المقبول منها هو الأوّل و الثالث و البعيد هو الثاني، و المردود هو الرابع و الخامس. فنحن نذكر

ص:378

المقبول أوّلاً، ثمّ نذكر البعيد، ثمّ المردود.

أمّا المقبول فوجهان:

1. تخصيص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر

و حاصل هذا الوجه: انّه يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر، فإذا كان مفهوم قوله:» إذا خفي الأذان فقصّر «انّه إذا لم يخف الأذان فلا تقصر، فيُخصّص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الأذان بقوله:» إذا خفي الجدران فقصّر «إذا لم تخف و مثلها، القضية الثانية فمفهوم قوله: إذا خفيت الجدران فقصّر، انّه إذا لم تخف الجدران لا تقصر، فيُخصص النهي عن التقصير عند عدم خفاء الجدران بقوله:» إلاّ إذا خفي الأذان «، فتكون النتيجة كفاية خفاء واحد من الأمرين، فكأنّه قال: إذا خفي الجدران أو الأذان فقصر، فما في عبارة » الكفاية «من قوله:» عند انتفاء الشرطين «بمعنى كفاية انتفاء واحد من الشرطين و حاصل هذا الجمع، هو عطف الجملة الثانية على الأُولى بلفظة» أو «العاطفة.

2. تقييد منطوق كلّ بالآخر

و حاصل هذا الوجه: انّه يقيد إطلاق الشرط في كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر، فيكون الشرط عندئذ هو خفاء الأمرين معاً، فتكون النتيجة بعد التقييد هو انّه إذا خفيت الجدران و الأذان فقصّر، خلافاً للتصرف الأوّل فانّ النتيجة تكون» إذا خفي الأذان أو الجدران فقصّر «.

و إن شئت قلت: إنّ ظاهر القضية الشرطية على القول بالمفهوم انّ للشرط وصفين:

1. انّه سبب تام لا ناقص.

ص:379

2. انّه سبب منحصر ليس له بديل.

فالتصرف في مفهوم كلّ بمنطوق الآخر بمعنى سلب الانحصار عن كلّ مع حفظ سببية كلّ، للقصر، كما أنّ التصرف في منطوق كلّ هو التصرف في تمامية السبب، و انّ كلّ واحد ليس سبباً تاماً، بل سبب ناقص لا يتمّ إلاّ بضمّ جزء آخر إليه.

و هذان الوجهان معقولان، و أمّا انّ الترجيح بأي واحد منهما فهو رهن قرينة خارجية.

و ذهب المحقّق النائيني إلى عدم الترجيح و بالتالي صيرورة القضيتين مجملتين، فتصل النوبة إلى الأُصول العملية، قال:

إنّ كلا من القضيتين ظاهر في العلّة المنحصرة و لكن تعدّدها ينافي ذلك، فلا بدّ إمّا من رفع اليد عن كونه علّة تامة و جعله جزء العلة فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفي الجزاء عند انتفائهما معاً، فتكون القضيتان قضية واحدة، مثلاً يكون قوله: إذا خفي الأذان فقصّر و إذا خفي الجدران فقصّر بمنزلة قوله: إذا خفي الأذان و الجدران فقصّر.

و إمّا من رفع اليد عن كونه علّة منحصرة مع بقائه على كونه علّة تامّة فيكون الشرط أحدهما تخييراً و تكون القضيتان بمنزلة قوله: إذا خفي الأذان أو خفي الجدران فقصّر، و يكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء، و حينئذٍ لا بدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين: إمّا ظهور الشرط في كونه علة تامة و إمّا ظهوره في كونه علّة منحصرة.

و حيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر و لا أحدهما حاكماً على الآخر لمكان انّ كلا من الظهورين إنّما يكون بالإطلاق و مقدّمات الحكمة كان

ص:380

اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي من ورود التقييد على أحد الإطلاقين.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان أحد الظهورين أقوى من الظهور الثاني فيؤخذ بالأقوى و يتصرف في الأضعف.

هذه هي الضابطة و أمّا تطبيقها على المقام، فبيانه:

إنّ دلالة القضية الشرطية على السببية التامة أظهر من دلالتها على السببية المنحصرة، و الدلالة الأُولى مورد اتفاق إذا كان المتكلّم في مقام البيان، بخلاف الدلالة الثانية فقد عرفت إنكار جمع المحقّقين لها، و التصرف في مفهوم كلّ من القضيتين بمنطوق الآخر تصرف في الدلالة الثانية) أي دلالتها على انحصار العلّية و السببية في واحد من الشرطين (.

بخلاف التصرف في منطوق كلّ بالآخر فانّه تصرف في سببية كلّ للجزاء و دلالة القضية الشرطية للسببية التامة أقوى و أظهر من دلالتها على الانحصار، و مع دوران الأمر بين أحد التقييدين يتصرف في الأضعف دون الأقوى.

أضف إلى ذلك انّا نعلم علماً وجدانياً بزوال الانحصار إمّا بزواله وحده أو في ضمن زوال الاستقلال، فعند ذلك ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي، و هو زوال الانحصار و شك بدوي و هو الشك في زوال الاستقلال.

و ربما يؤيّد ما ذكرنا من أنّ اللازم رفع اليد عن الانحصار دون السببيّة بأنّ مصب التعارض و إن كان هو المفهوم من جانب و المنطوق من جانب آخر إلاّ أنّه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه، لأنّه مدلول تبعي و لازم عقلي للمنطوق، فلا بدّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض، و لا يكون ذلك إلاّ

ص:381


1- فوائد الأُصول للكاظمي: 4881/487.

بتقييد المنطوق و رفع اليد عن انحصاره، دون كونه علة تامة، لعدم الحاجة إلى التصرف في تمامية كل واحد من الشرطين بعد إلغاء الانحصار.(1)

يلاحظ عليه: كيف يقول باستحالة التصرف في المفهوم بحجّة انّه مدلول تبعي و لازم عقلي للمنطوق، لأنّه إذا صار حجة فيكون كالمنطوق في قابلية كلّ للتقييد.

نعم صار المنطوق واسطة في الثبوت في ظهور هذه الحجة، و عندئذ لا مانع بعد ظهورها أن يكون طرفاً للمعارضة بينه و بين المنطوق الآخر.

هذا كلّه حول الوجهين الأوّلين المقبولين، و قد عرفت أنّ الجمع الأوّل أظهر من الجمع الثاني.

و القول بأنّ كلّ واحد سبب مستقل أظهر من القول بأنّهما معاً سبب مستقل.

بقي الكلام في الوجوه الثلاثة.

الثالث: رفع اليد عن المفهوم منهما

و حاصل هذا الوجه هو سلب المفهوم عن القضيتين و انّهما لا تدلاّن وراء المنطوق على شيء آخر حتّى يخصص منطوق كلّ بمفهوم الآخر.

يلاحظ عليه: أنّ إنكار الموضوع ليس علاجاً للمشكلة فانّ المفروض في البحث اشتمال القضيتين على المفهوم و لو لا الاشتمال لما كان للبحث ملاك.

أضف إلى ذلك: انّ هذا ليس وجهاً مستقلاً، بل يتحد نتيجة مع الوجه الأوّل، غاية الأمر انّ القائل بالجمع الأول يقول بدلالته كلّ على المفهوم غاية الأمر

ص:382


1- أجود التقريرات: 4251/424، قسم التعليقة.

يخصص مفهوم كلّ بمنطوق الآخر.

و أمّا القائل بهذا الوجه فهو ينفي أساس التعارض، و هو الاشتمال على المفهوم و يأخذ بظهور كلّ قضية في استقلال سببها.

الرابع: جعل الشرط هو القدر المشترك

و حاصل هذا الوجه، هو جعل الشرط القدر الجامع المشترك بين الخفاءين، فليس الميزان خفاء الأذان بما هو هو و لا خفاء الجدران كذلك، بل الميزان في وجوب القصر، هو البعد عن الوطن أو محل الإقامة بمقدار خاص يلازمه خفاء الأذان و الجدران، فخفاؤهما أمارتان للموضوع أي الابتعاد بمقدار خاص و طريقان إليه، و ليس لهما موضوعيّة.

ثمّ استدلّ على ذلك بوجهين:

1. انّ وحدة المعلول أي وجوب القصر كاشف عن وحدة العلّة لامتناع صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير من دون جامع بينهما، فهذه القاعدة تجرّ الباحث إلى القول بأنّ هنا علّة واحدة و هي البعد عن الوطن أو محل الإقامة للمعلول الواحد أي وجوب القصر.

يلاحظ عليه: أنّ مصب القاعدة على فرض الصحة هو الأُمور التكوينية لا الاعتبارية و في التكوين، الواحد البسيط الذي لا كثرة فيه، كالعقل الأوّل بناء على كونه وجوداً بلا ماهية فهو لا يصدر إلاّ عن البحث البسيط و هو اللّه سبحانه، و أين هذه الضابطة من الوجوب الاعتباري النوعي) وجوب القصر (الذي يتكثر بتكثر أفراده؟! 2. انّ الشارع لمّا لم يجوز بالإفطار و التقصير في البلد حفظاً لكرامة الصيام

ص:383

بين الحاضرين، و كرامة الصلاة الرباعية بين الأهل و العيال و إنّما جوز إذا ابتعد المسافر عن البلد على قدر يلازمه خفاء الأذان و الجدران.

و هذا الوجه لا بأس به غير أنّه يثير إشكالاً، و هو كيف يكون خفاء الأذان و الجدران أمارة على البعد المعين مع أنّ الأذان يخفى بكثير قبل خفاء الجدران، فانّ خفاء الثاني يتوقّف على قطع طريق كثير.

و يمكن دفعه بأنّ الأمارة هي تواري المسافر عن البيوت لا تواريها عن المسافر كما في الحديث(1)، و لمّا كان تواري المسافر عن البيوت غير معلوم للمسافر جعل تواري البيوت عن المسافر طريقاً إلى الطريق ) تواري المسافر عن البيوت (و الأمارتان الواقعيتان) خفاء الجدران، و تواري المسافر عن أهل البيوت ( متقاربتان جداً.

الخامس: رفع اليد عن مفهوم إحدى القضيتين

و حاصل هذا الوجه: انّه يرفع اليد عن خصوص إحدى القضيتين و يؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى، و هذا هو المنقول عن ابن إدريس الحلي فزعم انّه يُلغى مفهوم قوله:» إذا خفي الأذان فقصّر «و يؤخذ بمفهوم القضية الأُخرى، فعندئذ يرتفع التعارض.

يلاحظ عليه: مع أنّه ترجيح بلا مرجح، انّ التعارض باق على حاله أيضاً و لم يقلع من الأساس، و ذلك لأنّ القول بعدم اشتمال القضية الأُولى على المفهوم و إن كان يعالج التعارض في جانب مفهوم تلك القضية، و لكنّه باق على حاله في الجانب الآخر، فإذا كان مفهوم قوله:» إذا خفيت الجدران فقصّر «هو انّه إذا لم

ص:384


1- الوسائل: ج 5، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

تخف الجدران فلا تقصر، و عندئذ يقع التعارض بين هذا المفهوم و منطوق القضية الأُولى، فعلى المفهوم لا يجوز القصر، و على منطوق القضية الأُولى يجب القصر و بذلك ظهر انّ الطريق منحصر في الأوّلين، أي إمّا تقييد مفهوم كل بمنطوق الآخر، أو تقييد منطوق كلّ بالآخر، فمقتضى الصناعة هو الأوّل كما عرفت، غير أنّ الفتاوى على الثاني.

ص:385

التنبيه الثالث تداخل الأسباب و المسببات
اشارة

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: قد جعل المحقّق الخراساني عنوان البحث في التنبيهين: الثاني و الثالث أمراً واحداً، و هو قوله:» إذا تعدّد الشرط و اتحد الجزاء «و جعل وجه التمايز بينهما الغرض و الجهة المبحوثة عنها، فكأنّ الغاية من عقد التنبيه الثاني معالجة التعارض الواقع بين مفهوم كلّ قضية مع منطوق القضية الأُخرى، و لكن الغرض من عقد التنبيه الثالث البحث عن تداخل الأسباب في مقام التأثير و عدمه، و على فرض عدم التداخل، البحث عن تداخل المسببات في مقام الامتثال و عدمه، و على ذلك فالبحث في التنبيه الثاني لفظي و في الثالث عقلي حيث يقع البحث تارة في أنّ كلّ سبب هل يقتضي مسبباً مستقلاً أو لا؟ فإذا قال: إذا بلت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ، فهل يقتضي كلّ من البول و النوم مسبباً مستقلاً، أي إيجاباً متعدّداً أو لا؟ و على فرض اقتضائه وجوباً متعدداً، يقع الكلام في كفاية الوضوء الواحد لامتثال الوجوبين أو لا، فيعبر عن الأوّل) اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً و عدمه (بعدم التداخل في الأسباب و تداخله كما يعبر عن الثاني) كفاية وضوء واحد عن امتثال وجوبين أو لا (بالتداخل في المسببات و عدمه.

و الأولى تغيير العنوان، و لذلك جعلنا العنوان عند تعدّد الشرط تداخل

ص:386

الأسباب و المسببات لأنّ المسألتين متمايزتان جوهراً و ذاتاً، و مع هذا لا تصل النوبة إلى التمايز بالأغراض و المقاصد.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا المراد من تداخل الأسباب و المسببات فمرجع التداخل في الأسباب و عدمه إلى اقتضاء السببين وجوباً واحداً أو اقتضائهما وجوبين مختلفين، فالأوّل هو التداخل في الأسباب و الثاني هو عدم التداخل فيها.

و مرجع التداخل في المسببات و عدمه بعد القول بعدم تداخل الأسباب و انّ كلّ سبب يقتضي إيجاباً مستقلاً إلى لزوم تعدّد الامتثال و عدمه و يعبر عن الأوّل بعدم تداخل المسببات و عن الثاني بتداخلها.

و إن شئت قلت: إنّ مرجع التداخل السببي و عدمه إلى دعوى عدم اشتغال الذمة إلاّ بوجوب واحد أو بوجوبين، كما أنّ مرجع التداخل المسببي و عدمه بعد القول بعدم التداخل في الأسباب إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكاليف و الاشتغالات و عدمه، فالتداخل في المسببات لا يعني تداخل الوجوبين، بل المراد تداخلهما في مقام الامتثال، و بذلك اتّضح انّ البحث في مورد الأسباب تداخلاً و عدمه يرجع إلى مقام الدلالة و ظهور القضية في تعدد الوجوب و عدمه، كما أنّ البحث في مورد المسببات تداخلاً و عدمه يرجع إلى مقام الامتثال و انّه هل يكفي الإتيان بفرد واحد في امتثال الوجوبين أو لا؟ الثالث: انّ النزاع في التداخل و عدمه فيما إذا كان الجزاء أمراً قابلاً للتكرار كالوضوء و الغسل، و أمّا لو كان غير قابل له كالقتل فيما إذا ارتد وزنى بالإحصان، فهو خارج عن محطّ البحث.

الرابع: انّ الشرط للجزاء وجوب الوضوء تارة يختلف نوعاً كالنوم و البول بالنسبة إلى وجوب الوضوء، و مسّ الميت و الجنابة بالنسبة إلى الاغتسال، و أُخرى

ص:387

يتحد نوعاً و يتعدد مصداقاً، كما إذا بال مرتين أو نام أو وطأ الحائض كذلك فيقع الكلام تارة في مقام الدلالة، و أُخرى في مقام الامتثال، فلو كان الكلام في الأُولى فيقال: هل ظاهر القضية الشرطية انّ كلّ شرط يطلب جزاء وجوباً خاصاً أو لا؟ و لو كان الكلام في مقام الامتثال فيقال على القول بعدم التداخل في الأسباب: هل يكفي الإتيان بمصداق واحد، في امتثال الوجوبين أو لا؟ الخامس: انّ النزاع كما يجري في القضايا الشرطية، يجري في القضايا الخبرية، كما إذا قال:

الحائض تغتسل، و الجنب يغتسل، نعم يمكن إرجاع القضايا الخبرية إلى الشرطية بأن يقال: إذا حاضت تغتسل كما يمكن العكس.

السادس: انّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

1. عدم التداخل مطلقاً، و هو المشهور و إليه ذهب الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني، إلاّ ما خرج بالدليل.

2. التداخل مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخونساري و السيد البروجردي.

3. التفصيل بين اختلاف الشرطين ماهية أو اتحادهما كذلك و تعدّدهما مصداقاً، فالأوّل كما مرّ كالنوم و البول، و الجنابة و مس الميت و الزيادة و النقيصة في الصلاة فانّ زيادة الركوع، غير زيادة السجود، و كذلك نقيصتهما; و أمّا الثاني فمعلوم.

فذهب ابن إدريس إلى عدم التداخل في الأوّل، و التداخل في الثاني، و لذلك أفتى بعدم تكرر الكفّارة، لو تكرر وطء الحائض.

السابع: انّ المحقّق الخراساني قد خلط بين البحثين: التداخل و عدمه في الأسباب، و التداخل و عدمه في المسبّبات و لم يفصّل بينهما بالعنوان، و قد أوجب

ص:388

ذلك إغلاقا في فهم عبارات الكتاب.

إذا عرفت ذلك، فلندخل في صلب الموضوع. اعلم أنّ التنبيه الثالث يقع في موضعين:

الموضع الأوّل حكم الأسباب من حيث التداخل و عدمه

قد عرفت أنّ المقصود من تداخل الأسباب و عدمه، هو اقتضاء كلّ سبب وجوباً مستقلاً، و عدمه.

و بعبارة أُخرى: تأثير كلّ شرط في حدوث وجوب خاص، غير تأثير الشرط الآخر فيه، و لا ملازمة بين عدم التداخل في الأسباب) و حدوث وجوبين مستقلين (، و بين عدم التداخل في المسببات، أي عدم كفاية مصداق واحد في امتثال الوجوبين، بل ربّما يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب، و مع ذلك يكتفى في امتثال السببين، بالإتيان بمصداق واحد، فلو مسّ الميت أو أجنب، يكفي الاغتسال الواحد لامتثال وجوبين. نعم القول بعدم التداخل في المسببات فرع القول بعدم التداخل في الأسباب، أي فرع القول بتعدّد الوجوب.

إذا عرفت ذلك فلنذكر دليل القائل بعدم التداخل:

إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل

استدلّ القائل بعدم التداخل في الأسباب،) اقتضاء كلّ شرط وجوباً مستقلاً (بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء) الوجوب (عند حدوث الشرط، سواء أقلنا إنّه هو السبب أو كاشف عن السبب الواقعي و لازم ذلك تعدّد

ص:389

الوجوبين.

و بعبارة أُخرى: انّ ظاهر كلّ قضية شرطية أنّه علّة تامة لحدوث الجزاء، سواء أوجد الشرط الآخر أم لا، و على فرض الوجود، سواء وجد معه أو قبله، أو بعده.

هذا هو دليل القائل بعدم التداخل فيها.

دليل القائل بالتداخل إطلاق الجزاء

فإذا كان ظهور كلّ من الشرطين في كلّ من القضيتين في الحدوث عند الحدوث دليل القائل بعدم التداخل، فإطلاق متعلّق الوجوب و هو» الوضوء «أو» الاغتسال «دليل القائل بالتداخل، لأنّ ظاهر إطلاق الجزاء، انّ الوضوء مثلاً هو الموضوع التام، و من المعلوم أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن تقع متعلّقاً، لوجوبين، لاستلزامه اجتماع المثلين، و هو محال كاجتماع الضدين.

فتلخّص انّ إطلاق الشرط و تأثيره في الحدوث عند الحدوث مطلقاً، دليل القائل بعدم التداخل، كما أنّ إطلاق الجزاء و انّ الموضوع لكلا الوجوبين، هو الوضوء لا غير دليل القائل بالتداخل و لا يمكن الأخذ بكلا الظهورين و لا بد من التصرف في أحدهما.

تخلّص القائل بالتداخل عن الإشكال

ثمّ إنّ القائل بالتداخل يتصرف في ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث، بأحد الوجهين:

1. منع دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث، بل على الثبوت

ص:390

عند الحدوث، أي ثبوت الوجوب، أعمّ من كونه نفس الوجوب السابق أو الوجوب الجديد.

و هذا تصرف في ناحية الشرط، و منع دلالته على الحدوث عند الحدوث.

2. أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلاّ أنّ الأثر وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأوّل، و تأكّده عند الآخر.

و هذا تصرف في ناحية الجزاء و انّ الهيئة الجزائية لا تدلّ على الوجوب التأسيسي، بل إذا سبقه شرط آخر، يدل على الوجوب التأكيدي.(1)

هذان الوجهان ممّا اعتمد عليه القائل بالتداخل و تخلّص عن التعارض اللازم من الأخذ بالإطلاقين، و إليك ما تخلّص به القائل بعدم التداخل في الأسباب.

تخلّص القائل بعدم التداخل عن الإشكال

و قد تخلّص القائل بعدم التداخل بوجهين آخرين:

1. الالتزام بأنّ متعلّق الجزاء و إن كان واحداً صورة، إلاّ أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشرط، كصلاة الفجر و نافلته فهما واحدتان صورة و مختلفتان حقيقة. و على ضوء ذلك نقول الوضوء لأجل النوم غير الوضوء لأجل البول.(2) و هذا تصرّف في الجزاء.

ص:391


1- هذا الوجه هو الذي ذكره المحقّق الخراساني بعنوان ثالث الوجوه، و كان الأولى أن يذكره بعد الأول كما فعلناه و أمّا ما ذكره بصورة الوجه الثاني، فهو دليل القائل بعدم التداخل، لا التداخل فقد أدخل في ضمن بيان دليل القائل بالتداخل، دليل القائل بعدمه.
2- و ما في الكفاية في ذيل هذا الاحتمال من إمكان الاجتزاء بمصداق واحد ممّا لا حاجة إليه في المقام و إنّما يناسب مسألة تداخل المسببات مع أنّ الكلام في تداخل الأسباب.

2. ما أشار إليه في ضمن النقض و الإبرام و قال:» قلت نعم إذا لم يكن المراد بالجملة فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال هو وجوب الوضوء مثلاً لكلّ شرط غير ما وجب بالآخر «.

و حاصله: انّه يقيّد إطلاق الجزاء بقوله:» مرة أُخرى «و كأنّه يقول:» إذا نِمت فتوضّأ «و إذا بُلت فتوضّأ مرّة أُخرى، و يكون الموضوع للوجوب الأوّل هو الطبيعة و للوجوب الثاني، هو الفرد الثاني، و يرتفع محذور اجتماع المثلين، و هذا أيضاً تصرّف في الجزاء.

فظهر من ذلك، انّ كلاً من القائل بالتداخل و عدمه قد لمس الإشكال و صار بصدد دفعه، إمّا بالتصرف في جانب الشرط كما في الوجه الأوّل، أو في جانب الجزاء هيئة أو مادة كما في الوجوه الثلاثة المتأخّرة، إنّما الكلام في ترجيح أحد التأويلين بكلا شقيه على التأويل الآخر كذلك، فنقول:

ترجيح ظهور القضية الشرطية على إطلاق الجزاء
وجوه لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، الذي هو الأساس لعدم التداخل في الأسباب

ثمّ إنّ القائلين بعدم التداخل في الأسباب، ذكروا لترجيح ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث، الذي هو الأساس لعدم التداخل وجوهاً نذكرها تباعاً.

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم

و قال:» لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء، و ظهور الإطلاق، ضرورة انّ ظهور الإطلاق، يكون معلّقاً على عدم البيان، و ظهورها) القضية الشرطية (صالح لأن يكون بياناً فلا ظهور للجزاء مع ظهورها فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل.(1)

ص:392


1- كفاية الأُصول: 1/318.

توضيحه: انّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث بالدلالة اللفظية الوضعية و دلالتها عليه، لا يتوقف على شيء آخر غير نفسها، بخلاف دلالة الجزاء) فتوضأ (على وحدة متعلّق الوجوبين فانّه بالإطلاق و سكوت المتكلّم عن القيد مع كونه في مقام البيان، فدلالته على وحدة الجزاء متعلّق على عدم البيان الدالّ على القيد، و ظهور القضية الشرطية، في الحدوث عند الحدوث كاف، لأن يكون بياناً و انّ متعلّق الوجوب في كلّ من القضيتين شيء غير الآخر، و انّ المحكوم في كلّ فرد غير الآخر، فعندئذ لا ينعقد الإطلاق في جانب الجزاء لوجود البيان فلا يُعدّ تقديم ظهور الشرط على الجزاء تصرّفاً فيه، لعدم انعقاد الإطلاق.

يلاحظ عليه: أنّ دلالة القضية الشرطية على الحدوث عند الحدوث و إن كانت لفظية لكن دلالتها على أنّ الشرط في عامة الأحوال كذلك، سواء سبقه الشرط الآخر أم قارنه أو تأخّر عنه، إنّما هو بالإطلاق و سكوت المتكلّم مع كونه في مقام البيان، فالمقام من قبيل تعارض الإطلاقين، لا من قبيل تعارض الدلالة اللفظية مع الدلالة الإطلاقية، فكما أنّ إطلاق الشرط يصلح لأن يكون قرينة على تقييد متعلّق الجزاء، أي الوجوب، و انّ المحكوم بالوجوب في الشرط الثاني غير الأوّل، كذلك إطلاق الجزاء يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الحدوث عند الحدوث فيما إذا تفرّد الشرط، لا ما إذا سبقه الآخر أو قارنه، فعندئذ يكون الوجوب مؤكّداً لا مؤسّساً لحكم جديد.

و بعبارة أُخرى: انّ دلالة القضية الشرطيّة على أنّ كلّ سبب تامّ للجزاء و تعلّق الوجوب، و إن كان بالوضع، لكن كونه كذلك في عامة الحالات سواء كان قبله أو معه شيء أو لا، إنّما هو بالإطلاق ببيان انّه لو كان المؤثر هو الشرط، بشرط أن لا يسبقه شيء أو يقارنه شيء، لكان عليه البيان و رفع الجهل، و حيث لم يبين

ص:393

يؤخذ بالإطلاق و يقال: الشرط مؤثر في عامة الأحوال.

و هذا النوع من الإطلاق موجود في جانب الجزاء ببيان انّ الموضوع هو الطبيعة، فلو كان الموضوع الطبيعة الموجودة في ضمن فرد آخر، لكان عليه البيان و حيث لم يبين نستكشف انّ الموضوع هو الطبيعة، و يستحيل تعلّق إرادتين مستقلتين بها.

فكما أنّ إطلاق القضية الشرطية صالح للتصرّف في جانب الجزاء بإضافة قيد عليه مثل» فرد آخر « عليه، فهكذا إطلاق الجزاء صالح للتصرّف في جانب القضية الشرطية بأحد الوجهين الماضيين: الثبوت عند الحدوث، أو الوجوب المؤكّد.

الثاني ما أفاده المحقّق الاصفهاني:

انّ نسبة الصدر إلى الذيل نسبة ذات الاقتضاء إلى فاقد الاقتضاء حيث إنّ متعلّق الجزاء نفس الماهية المهملة، و الوحدة و التعدّد، خارجان عنها، بخلاف أداة الشرط فانّها ظاهرة في السببية المطلقة و لا تعارض بين المقتضي و الاقتضاء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من خروج الوحدة و التعدّد من مدلول الجزاء و إن كان صحيحاً لكن دلالة القضية الشرطية على السببية المطلقة ليس إلاّ كونه سبباً لحدوث الجزاء عند حدوث الشرط و هذا المقدار من الدلالة لا يكفي، لأنّ كونه سبباً مطلقاً في جميع الأحوال ليس مدلول الدلالة اللفظية، بل مدلول الدلالة الإطلاقية حيث إنّ المتكلّم لم يخص السببية بحال دون حال و عند ذاك تصبح السببية في عامة الأحوال مدلول الإطلاق، فكيف يقدّم على إطلاق الجزاء؟

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني

و حاصله:

ص:394


1- نهاية الدراية: 326.

» إنّ ظهور القضية الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين، و ذلك لأنّه لا شبهة في أنّ القضية الشرطية، كالقضية الحقيقية، فكما أنّ قوله:» المستطيع يحجّ «عامّ لمن استطاع في كلّ وقت، فكذلك قوله:» إذا استطعت فحجّ «عام لمن استطاع في وقت و لازم الانحلال ان يترتّب على كلّ شرط جزاء غير ما رتب على الآخر، فيكون هذا قرينة للجزاء و يصير بمنزلة أن يقال: إذا بُلت فتوضأ و إذا نِمْت ثانياً فتوضأ وضوءاً آخر.(1)

و قد وصفه تلميذه في محاضراته بأنّه في غاية الصحة و الجودة و انّه يتمّ ببيان أمرين:

أوّلهما: انّ القضية الشرطية ظاهرة في الانحلال و تعدد الطلب، لأنّها ترجع إلى القضية الحقيقية، و لا إشكال انّ الحكم في القضية الحقيقية ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة.

ثانيهما: انّ مقتضى تعدّد القضية الشرطية في نفسها، تعدّد الطلب أيضاً، فإذا فرض تعلّق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كلّ، إيجادَ تلك الماهية، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها مرّتين فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلالية و تعدّد الطلب، كان ظهور القضية في تعدّد الحكم لكونه لفظياً مقدماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلمنا ظهوره فيها، و يكون مقتضى القاعدة عدم التداخل.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه لو أُريد من الانحلال، انحلالُ قضيّة واحدة إلى قضايا كثيرة حسب عدد الموضوعات، على نحو، لو افترضنا انّ عبر القرون ملايين من

ص:395


1- فوائد الأُصول: 1/494.
2- المحاضرات: 5/118.

المسلمين لهم القدرة و الاستطاعة لحجِّ البيت لتعلّق بكلّ إرادة و إنشاء و حكم مستقل، و بالتحليل، فلو أُريد من الانحلال هذا، فنحن نمنعه لشهادة الوجدان على أنّ المولى إذا أنشأ إلزاميّاً على عبيده، أو على من تحت يده فليس هنا إلاّ إرادة واحدة متعلّقة بالعنوان الكلي يتلقّاه كلّ منهم حجّة على نفسه دون أن يكون هنا انشاءات و إرادات.

و إن أُريد من الانحلال كون الحكم المتعلّق بالعنوان حجّة على كلّ منهم، أو حجّة على ثبوت الحكم، للموضوع كالقوم مهما وجد، فهو صحيح، لكن دلالته على ثبوت الحكم له، في عامة الأحوال، متقدماً، أو متأخراً أو لاحقاً إنّما هو بالإطلاق و سكوت المولى عن القيد، فعندئذ يكون ذلك الإطلاق نظير الإطلاق الموجود في الذيل.

الرابع: ما اعتمد عليه السيد الأُستاذ

إنّ العلل الشرعية في نظر العرف كالعلل التكوينية، فكما أنّ كلّ علّة تكوينية تُؤثّر في معلول مستقل، دون المعلول المشترك بينها و بين غيرها، فهكذا العلل الشرعية يؤثر كلّ منها في معلول خاص.

مثلاً انّ كلاً من النار و الشمس، تُولّد حرارة خاصة، لا حرارة مشتركة، سواء أ كانت النار متقدّمة على الشمس، أو متأخّرة و هذا هو المرتكز في أذهان العرف، فإذا سمع العرف الذي ارتكز في ذهنه ما لمسه و شاهده في العلل التكوينية، قوله: إذا بُلْت فتوضأ، و إذا نمت فتوضأ، ينتقل حسب الارتكاز السابق انّ لكلّ من البول و النوم معلولاً مستقلاً، و انّ وجوب الوضوء الناشئ من البول، غير الوجوب الناشئ من النوم، و ظهور الصدر في هذا المعنى ليس

ص:396

مستنداً إلى الإطلاق، بل إلى الارتكاز الحاصل من ممارسة الأُمور التكوينية، و يكون ظهوره أقوى من ظهور الجزاء في الإطلاق، بل يصير مثل ذاك سبباً للتصرف في ذيل الجزاء على نحو يلتحم مع تعدّد الوجوب.

نعم قد مرّ منّا انّ قياس التشريع بالتكوين، أو الاعتبار بالحقيقة ممنوع و انّ هذا سبب لأكثر المغالطات، و لكن ما ذكرناه لا ينافي ذلك، لأنّ كلامنا في المقام في فهم العرف، الذي لا يدرك هذه الأُمور الدقيقة، فارتكازه في الأُمور التكوينية و تلقّيه العلل الشرعية أسباباً و عللاً للأحكام كالتكوين، يصير سبباً لانعقاد ظهور أقوى في جانب القضية الشرطية على نحو يقدم على ظهور الجزاء في الوحدة.(1)

و لعلّه إلى ما ذكرنا يرجع قول المحقّق الأصفهاني في بيان وجه عدم التداخل» انّ العرف إذا أُلقي إليه القضيتان، فكأنّه يرى مقام الإثبات مقروناً بمقام الثبوت ويحكم بمقتضى تعدّد السبب بتعدّد الجزاء من غير التفات إلى أنّ مقتضى إطلاق المتعلّق خلافه، و هذا المقدار من الظهور كاف في المقام «.(2)

ترجيح إطلاق الجزاء على الشرط

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي ذهب إلى ترجيح ظهور الجزاء في الوحدة على ظهور الشرط في تعدّد الوجوب قائلاً: إذا قال المولى: إذا بلت فتوضأ، و قال: إذا نمت فتوضأ، فإمّا أن يكون متعلّق الوجوب نفس الحيثية المطلقة، أعني: طبيعة الوضوء، أو شيء وراء ذلك. فعلى الأوّل لا يصحّ تعلّق وجوبين على أمر واحد،

ص:397


1- تهذيب الأُصول: 1/444.
2- نهاية الدراية: 326.

و على الثاني فلا بدّ أن يقال: إذا نمت فتوضّأ و إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر، و هذا لا يصحّ من وجهين:

1. ربما يكون البول متقدّماً، فعندئذ لا يصحّ أن يقال: إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

2. انّ هذا النوع من التقييد إنّما يصحّ إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى الآخر، لا فيما إذا لم يكن كذلك كما في المقام.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ القيد لا ينحصر بلفظة» آخر «بل يمكن أن يُقيّد الطبيعة بقيد آخر، كأن يقال:

إذا بلت فتوضّأ لأجل البول، و إذا نمت فتوضّأ وضوءاً لأجل النوم.

يلاحظ على الثاني: بانّ المتفرقات في كلام إمام واحد بل الأئمة كحكم كلام واحد.

فتلخّص من هذا البحث الضافي، تقدّم ظهور القضية الشرطية الدالة على تعدّد الوجوب على ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق، و تكون النتيجة هو عدم تداخل الأسباب و انّ لكلّ سبب تأثيراً.

بقيت هنا أُمور:
الأوّل: التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات

قد بنى فخر المحقّقين المسألة على أنّ الأسباب الشرعية هل هي معرفات و كواشف، أو مؤثرات؟ و على الأوّل الأصل التداخل بخلافه على الثاني، و حكاه الشيخ الأنصاريّ عن المحقّق النراقي في عوائده.(2)

ص:398


1- نهاية الأُصول: 278 279; لمحات الأُصول: 293.
2- مطارح الأنظار: 180.

قال العلاّمة في القواعد: لا تداخل في السهو و إن اتّفق السبب، على رأي.

و قال فخر المحقّقين في شرحه: ذهب الشيخ في» المبسوط «إلى التداخل مطلقاً... و ذهب ابن إدريس إلى التداخل في المتّفق لا المختلف، و التحقيق انّ هذا الخلاف يرجع إلى أنّ الأسباب الشرعية، هل هي مؤثرات أو علامات.(1)

و قال أيضاً في باب غسل الجنابة و الأسباب الشرعية علامات فلا يستحيل تعدّدها.(2)

إنّ الفرق بين تداخل الأسباب و تداخل المسببات غير منقّح في كلمات القدماء، بل عند بعض المتأخّرين كالمحقّق الخراساني فقد خلط بينهما في الكفاية. و أوّل من نقّحه ببيان رائق هو الشيخ الأنصاري(3) و الظاهر انّ كلام الفخر ناظر إلى التداخل في الأسباب و هذا هو الذي استظهره الشيخ أيضاً حيث قال:» و لا ينافي ذلك استدلالهم بأنّ العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع اجتماعها في شيء واحد «الظاهر في دعوى تداخل الأسباب.(4)

و حاصل كلام فخر المحقّقين انّه لو كان كلّ من البول و النوم موضوعاً للحكم، و علّة و سبباً له فيطلب كلّ، حكماً و معلولاً وجوباً غير ما يطلبه الآخر، لامتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد.

و أمّا لو كان كلّ منها معرفاً لما هو الموضوع واقعاً، فلا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد، و ذلك كمبطلات الوضوء فانّ الظاهر انّ الجميع حتى الريح كاشفة عن ظلمة نفسية يُذهبها الوضوء.

ص:399


1- إيضاح الفوائد: 1/245.
2- إيضاح الفوائد: 1/48.
3- لاحظ المطارح: 180، في أوائل الهداية.
4- مطارح الأنظار: 180.

يلاحظ عليه أوّلاً: بعدم الملازمة بين كون الأسباب الشرعية معرّفات و بين كونها معرّفات لشيء واحد، إذ من المحتمل أن يكون كلّ كاشفاً عن سبب مستقل، فيكون حكم المعرِّف، حكم كونه موضوعاً و سبباً.

و ثانياً: أنّ تعدد الأسباب الشرعية كما أفاده المحقّق الخراساني، ليس إلاّ كالأسباب العرفية في كونها معرفات تارة، و مؤثرات أُخرى.

أمّا السبب الشرعي فتارة يكون علّة للحكم الشرعي و دخيلاً في ترتّب الحكم الشرعي، كما في قوله:

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً )(1)، و قوله: إذا شككت فابن على الأكثر; و أُخرى كاشفاً عن السبب، كعبور الحمرة إلى جانب المغرب، الكاشف عن استتار القرص كاملاً.

و مثلها، الأسباب العرفية فهي أيضاً على قسمين فتارة تكون علّة كما في قولك: إذا طلعت الشمس كان النهار موجوداً و أُخرى يكون أمارة على حدوث الموضوع و كاشفاً كما إذا قلنا: إذا كان النهار موجوداً كانت الشمس طالعة.

فليست الأسباب الشرعية، معرفات مطلقاً، و لا الأسباب العرفية عللاً مطلقاً بل ينقسمان إلى قسمين.(2)

الثاني: التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً و عدمها

و هناك تفصيل آخر لابن إدريس و هو التفصيل بين ما كان السبب من جنس واحد كتكرر وطء الحائض، أو من أجناس متعددة كزيادة العمل و الذكر في الصلاة، فاختار في الأوّل التداخل دون الثاني.

ص:400


1- الإسراء: 78.
2- لاحظ الكفاية: 3191/318.

و قد ذكر ذلك التفصيل في ضمن مسألة» و من سها فلم يدر أربعاً صلّى أم خمساً و تساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو «و قال ما هذا لفظه:

فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة، في صلاة واحدة، أ يجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو، أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا: إن كانت المرّات من جنس واحد، فمرّة واحدة تجب سجدتا السهو، مثلاً تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى، و كذلك في باقي الركعات، فانّه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب; لأنّه لا دليل عليه، و قولهم) عليهم السلام (: من تكلّم في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو(1)، و ما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي بل الواجب، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو; لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ; لأنّ هذا قد تكلّم مثلاً، و قام في حال قعود، و أخلّ بإحدى السجدتين، و شكّ بين الأربع و الخمس، و أخلّ بالتشهد الأوّل، و لم يذكره إلاّ بعد الركوع في الثالثة، و قالوا) عليهم السلام (: من فعل كذا، يجب عليه سجدتا السهو، و من فعل كذا في صلاته ساهياً يجب عليه سجدتا السهو، و هذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر، و لا دليل على تداخلهما، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقّق.(2)

و حاصل كلامه: أنّه إذا كانت الأسباب الشرعية من نوع واحد يمكن التمسّك بإطلاق الجزاء و هو وجوب سجدتا السهو من دون تقييد بالمرّات، و أمّا

ص:401


1- الوسائل ج 5، الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- السرائر: 1/258، باب أحكام السهو و الشكّ في الصلاة.

إذا كانت الأسباب الشرعية من جنسين فليس هناك ما يمكن التمسّك بإطلاقه، بل يجب امتثال كلّ على حدة، لأنّ الفرضين لا يتداخلان.

بل لقائل أن يقول انّ مقتضى الإطلاق في القسم الثاني هو عدم التداخل، لأنّ مقتضى إطلاق قوله: إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو، هو وجوبها، سواء وجبتا لأجل فعل أو لا، كما أنّ مقتضى إطلاق قوله:» إن قمت مكان القعود فاسجد سجدتي السهو «، هو وجوبها مطلقاً، سواء وجبتا لأجل التكلّم أو لا، فصارت النتيجة هي اجتماع وجوبين.

و من هنا يعلم أنّ ما أورد عليه في» الكفاية «تبعاً لما في» مطارح الأنظار «لا صلة له بكلامه و قد نشأ من عدم الرجوع إلى نفس الكتاب، فالأولى أن يقال: كما سيوافيك في الموضع الثاني أنّ الضابطة فيما إذا كانت النسبة هو العموم و الخصوص من وجه هو التداخل إلاّ إذا قامت القرينة على عدمه، و من هذا الباب باب الديات و الحدود و الغرامات و الخسارات و التأديبات، لأنّ إيجاب سجدة السهو يعد تأديباً للمصلّي فمن كثر عليه الخطأ يكثر تأديبه، فلأجل ذلك لا فرق بين كون الفعلين من جنس واحد أو غير جنس.(1)

ص:402


1- و قد أورد شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة على التفصيل الذي عليه الحلّي ما هذا حاصله: ما ذا يريد الفخر من الوحدة، فهل يريد الوحدة النوعية كتكرر الوطء فهو و إن كان صحيحاً لكن المؤثّر هو الأفراد و المفروض انّها متعددة، و إن أراد انّ الوحدة الحقيقية فهي غير صحيحة حسب المفروض. هذا ما أفاده في الدورة السابقة و لكنّه مدّ ظلّه أفاد في هذه الدورة الرابعة بأنّ ما ذكرناه سابقاً و إن كان صحيحاً، لكن ليس له و لا لما في المطارح و الكفاية من الإشكال على الفخر، صلة بكلامه فانّ كلامه يدور حول وجود الإطلاق في المتحد دون المختلف، و مقتضى الإطلاق في الأوّل هو الاقتصار على المرّة بخلاف الثاني فترديد كلامه بين الوحدة النوعية أو الشخصية، أجنبي عن مرامه، فلاحظ.
الثالث: إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية

إذا شكّ في مقتضى الأدلّة و انّ مقتضاها تداخل الأسباب) وحدة الوجوب (أو تعدّده، فالأصل هو البراءة عن الوجوب الواحد الزائد.

نعم مقتضى الأصل في الموضع الثاني،) اجزاء الامتثال الواحد عن وجوبين (أوّلاً، هو الاشتغال للشك في سقوط الوجوب بالامتثال الواحد.

الرابع: فيما إذا تكرر الجزاء من دون ذكر السبب إنّ محط البحث فيما إذا ذكر سببان لجزاء واحد كالنوم و البول للتوضّؤ، و أمّا إذا تكرّر حكم واحد من دون ذكر السبب كما إذا قال: صم، ثمّ قال بعد فترة: صم، فهو خارج عن حريم النزاع، و عندئذ يكون البحث مركّزاً على أنّ الأصل هو في الأمرين المتكررين هو التأسيس أو التأكيد، و قد تقدّم في أواخر الأوامر(1) فلاحظ.

ص:403


1- لاحظ هذا الجزء، ص 159.
الموضع الثاني في تداخل المسببات و عدمه

قد عرفت أنّ البحث في التنبيه الثالث يقع في موضعين:

الأوّل: في تداخل الأسباب و عدمه.

الثاني: في تداخل المسبّبات و عدمه.

و قد عرفت أنّ النزاع الأوّل يرجع إلى اقتضاء كلا الشرطين وجوباً واحداً، أو اقتضاء كلّ، وجوباً خاصاً له، فلو قلنا بأنّ مدلول القضية الشرطية هو الأعم من حدوث الجزاء، أو ثبوته، عند ثبوت الشرط، فلازمه القول بالتداخل في الأسباب، و أمّا لو قلنا بالحدوث لدى الحدوث، فلازمه القول بعدم التداخل فيها، و قد مرّ انّ الثاني هو المتعيّن عند العرف.

و أمّا النزاع الثاني) تداخل المسببات و عدمه (فيرجع إلى دعوى صدق الامتثال بالإتيان بفرد واحد عند تعدّد التكليف و الاشتغال، و عدم صدقه.

و بعبارة أُخرى: هل يكفي الإتيان بفرد واحد مع تعدّد التكليف فلازمه تداخل المسببات، أو لا يكفي فلازمه عدم تداخلها؟ و من هنا يظهر انّ البحث في تداخل المسببات و عدمه، فرع القول بعدم تداخل الأسباب، و تعدد الوجوب و التكليف، و إلاّ فعلى القول بتداخل الأسباب،

ص:404

و انّه ليس في المقام إلاّ وجوب واحد فلا موضوع للبحث عن تداخل المسببات و عدمه، لوضوح انّ التكليف الواحد، لا يقتضي إلاّ امتثالاً واحداً، و يكون الإتيان بفرد من أفراد الطبيعة، مسقطاً قطعاً، فالبحث في الموضع الثاني مبنيّ على ظهور القضية الشرطية في استقلال تأثير كلّ شرط، و انّ أثر كلّ غير أثر الآخر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقام الثبوت، أي إمكان تداخل المسببات و عدم إمكانه، و أُخرى في مقام الإثبات، و ما هو مقتضى الأدلّة.

1. إمكان التداخل ثبوتاً و عدمه

ذهب الشيخ الأعظم إلى امتناع التداخل و قال: قد قرّرنا فيما تقدّم انّ متعلّق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل و لا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة، بل و لا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببية.(1)

يلاحظ عليه: بما سبق في المقام الأوّل و هو انّ إيجاد التكثّر في جانب الجزاء، لتصحيح تعلّق وجوبين بطبيعة واحدة، رهن التصرّف في جانب الجزاء بأحد وجهين:

الأوّل: تقييد متعلّق الوجوب في إحدى القضيتين الشرطيتين بلفظة» آخر «فيكون وزانُ القضيتين وزانَ قولنا: إذا نمت فتوضأ و إذا بلت فتوضأ وضوءاً آخر.

الثاني: تعلّق كلّ من الجزاء) وجوب الوضوء (بشرطه بأن يقال: إذا بلت فتوضّأ وضوءاً مسبباً من النوم، أو البول.

فما ذكره الشيخ إنّما يتمّ على الوجه الأوّل و تكون النسبة بين الموضوعين، هو

ص:405


1- مطارح الأنظار: 181.

التباين مثل ما إذا قال: أكرم الإنسان الأبيض، و أكرم الإنسان الأسود، فعندئذ يمتنع تداخل المسببين، بل لا بد من إكرام انسانين بلونين مختلفين.

و أمّا إذا قلنا بأنّ المصحّح لتعلّق الوجوبين، هو تقييد كلّ وجوب بسببه، فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم من وجه.

و من هنا يعلم أنّ النزاع في تداخل المسببات و عدمه يختصّ بما إذا كان بين متعلّقي الوجوبين، من النسب الأربع، هو العموم و الخصوص من وجه أو المطلق دون التباين لعدم إمكان التداخل، عندئذ و لا التساوي، إذ لا موضوع للتداخل حينئذ.

و لقد أحسن المحقّق الخراساني في المقام حيث استدلّ على إمكان التداخل بما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه و قال:

» الذمة و إن اشتغلت بتكاليف متعدّدة، حسب تعدّد الشرط) عدم التداخل في الأسباب (إلاّ أنّ الاجتزاء بواحد، لكونه مجمعاً لها كما في أكرم هاشمياً، و أضف عالماً، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ضرورة انّه بضيافته بداعي الأمرين يصدق انّه امتثلهما و لا محالة يسقط بامتثاله و موافقته، و إن كان له امتثال كل منهما على حدة، كما إذا قال: أكرم الهاشمي بغير الضيافة، و أضاف العالم غير الهاشمي.

2. ما هو مقتضى الأدلة إثباتاً؟

إذا ثبت إمكان التداخل ثبوتاً، يقع الكلام فيما هو مقتضى الأدلّة الاجتهادية إثباتاً، فقد استدل القائل بعدم التداخل و لزوم تعدّد الامتثال بوجهين:

ص:406

حجّة القائل بعدم التداخل

الأوّل: ما استدلّ به العلاّمة في» المختلف «و نقله السيد الصدر في شرح الوافية عن العلاّمة على ما حكاه الشيخ الأعظم في» المطارح «و قال:

إذا تعاقب السببان أو اقترنا فإمّا أن يقتضيان مسبّبين، أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيان شيئاً، أو يقتضي أحدهما شيئاً دون الآخر، و الثلاثة الأخيرة باطلة، فتعيّن الأوّل و هو المطلوب، أمّا الملازمة فلانحصار الصور في المذكورات، و أمّا بطلان التوالي:

أمّا الأوّل) من الثلاثة الأخيرة (فلما عرفت سابقاً من أنّ النزاع المذكور مبني على خلافه، [لأنّ المختار في الموضع الأوّل هو عدم التداخل].

و أمّا الثاني: فلأنّ ذلك خلاف ما فرضناه من سببيّة كلّ واحد منهما على ما يقتضيه الدليل.

و أمّا الثالث: فلأنّ استناده إلى واحد معيّن من السببين يوجب الترجيح بلا مرجّح مع أنّه خلاف المفروض من دليل السببيّة، و إلى غير المعيّن يوجب الخلف المذكور.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بطوله، إنّما يناسب المقام الأوّل، أي عدم تداخل الأسباب، و انّ كلّ سبب يقتضي وجوباً مستقلاً، و لا صلة له بالمقام أي تداخل المسببات و عدمه، أي لزوم تعدّد الامتثال و عدمه.

اللّهمّ إلاّ إذا ضُمّ إليه أمر آخر، و هو إن تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل الثاني، و لذلك قام الشيخ بتهذيب الدليل و قال: و اعلم أنّ محصل هذا الوجه ينحل إلى مقدمات ثلاث:

ص:407

الأُولى: دعوى تأثير السبب الثاني.

الثانية: أنّ أثره غير أثر الأوّل.

الثالثة: أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل.

فالقائل بالتداخل لا بدّ له من منع إحدى المقدّمات المفروضة على سبيل منع الخلو.(1)

هذا و للقائل بالتداخل أن يمنع كلّية المقدّمة الثالثة و يفصِّل بين كون النسبة بين المتعلّقين هي التباين أو العموم و الخصوص من وجه أو المطلق، فعلى الأوّل تعدّد الأثر يقتضي تعدّد الفعل كما مثلنا، بخلاف الثاني فيكفي في امتثال الأثرين، امتثال واحد على ما عرفت.

الثاني: ما استدلّ به المحقّق النائيني و هو انّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعدّدة بفعل واحد، و لو كان ذلك بقصد امتثال الجميع في غير ما دلّ الدليل على سقوطها به، كما هو الحال في سقوط أغسال متعدّدة بغسل الجنابة، أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع و كما في ارتفاع أفراد الحدث الأصغر بوضوء واحد.

و بالجملة الأصل العملي يقتضي عدم سقوط الواجبات المتعدّدة ما لم يدلّ على سقوطها دليل بالخصوص.

نعم يستثنى من ذلك مورد واحد، و هو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً و خصوصاً من وجه كما في قضية أكرم عالماً و أكرم هاشمياً، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين، و لا يعتبر في تحقّق الامتثال إلاّ الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر.(2)

ص:408


1- مطارح الأنظار: 181، و لم نعثر على أصل الدليل في» المختلف «و لكن لاحظ: 1921/191 الطبعة الحجريّة.
2- أجود التقريرات: 1/432.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ البحث في المقام من التداخل و عدمه حول مقتضى الأدلّة الاجتهادية و ليس الكلام في مقتضى الأُصول العملية، فالاستدلال بالأصل مع إمكان الاستدلال بالدليل الاجتهادي، غير تام.

و ثانياً: أنّه لم يعلم الفرق بين المقام و مسألة العموم و الخصوص من وجه الذي استثناه من الضابطة، إذ لو كان المعتبر عند العقل في تحقّق الامتثال، الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر خارجاً، فيجب القول بالتداخل في المقام، لأنّه ينطبق على الوضوء الواحد عنوان التوضّؤ المأخوذ في كلا الجزاءين، إذ المفروض أنّ الجزاء عبارة عن قوله:» يجب عليك الوضوء الناشئ من جانب البول أو النوم «. فالتداخل عندئذ يكون مقتضى القاعدة من دون حاجة إلى دليل خارجيّ كما هو ظاهر كلامه.

حجّة القائل بالتداخل

احتجّ القائل بالتداخل بأنّه إذا كان ما به الامتثال مصداقاً لكلا العنوانين، كالإكرام و الضيافة، يتلقّاه العرف امتثالاً بكلا الأمرين، نظير ما إذا أمر الطبيب رجلاً سميناً بأكل الفاكهة مكان الطعام حتّى يخفّ وزنه ثمّ أمره بأكل فاكهة خاصة لتداوي مرض خاص فيه، فإذا أكل تلك الفاكهة بدل الطعام أيضاً، فقد امتثل كلا الأمرين الإرشاديين، و نظيره الأمران المولويان.

هذه هي الضابطة في المقام إلاّ إذا قامت قرينة على تعدّد الامتثال، كما في الأمثلة التالية:

1. إذا ورد النص على نزح سبع دلاء عند وقوع كلّ من الفأرة في البئر، و بول الصبي الذي لم يبلغ فوقع كلّ بعد الآخر، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة

ص:409

واحدة، بل يلزم نزح سبع دلاء أُخرى أيضاً، و ذلك لأنّ لوقوع كلّ منهما بعد الآخر تأثيراً خاصّاً في قذارة الماء، فلا يكفي نزح سبع دلاء مرّة واحدة، بل يجب التكرار.

2. إذا ظاهر و أفطر في شهر رمضان، فلا يكفي تحرير رقبة واحدة في مقام التكفير، و ذلك لأنّ الغاية من إيجاب التكفير هو تأديب العاصي، و هو لا يحصل إلاّ بالتعدّد، و منه يعلم حكم سائر الكفّارات.

3. إذا أتلف ثوبين من صنف واحد، فلا يجوز الاقتصار على دفع ثوب واحد، لأنّ الغاية من الضمان هو جبر الخسارة الواردة على الطرف، و هو رهن دفع ثوبين، و منه يعلم حكم الغرامات و الخسارات و الديات عامة.

4. إذا نذر ذبح شاة لقضاء حاجة خاصة، ثمّ نذر شاة أيضاً لقضاء حاجة ثانية فقُضيت له الحاجتان، فلا يكفي ذبح شاة واحدة، لأنّ لقضاء كلّ من النذرين شكراً خاصّاً.

و بذلك يظهر حال الحدود و التعزيرات، فالأصل فيهما التعدد و إن كانت متماثلة.

بقي هنا أُمور:

بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل و عدمه

نذكر في المقام بعض الفروع المترتبة على هذه المسألة و هي كالتالي:

1. إذا وجبت عليه الزكاة فهل يجوز دفعها إلى واجب النفقة إذا كان فقيراً من جهة الإنفاق؟ قال في » الجواهر «: لا يجوز لكونه ليس إيتاءً للزكاة، لأصالة عدم تداخل الأسباب.(1)

ص:410


1- الجواهر: 15/401.

2. إذا اجتمع للمستحق سببان أو ما زاد، يستحقّ بها الزكاة، كالفقر، و» الكتابة «و» الغزو «جاز أن يعطى بحسب كل سبب نصيباً، لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلاً فيستحقّ بكلّ منها.(1)

3. إذا اجتمع سببان للخيار كالمجلس و العيب و خيار الحيوان، فلا يتداخل السببان و فائدته بقاء أحدهما مع سقوط الآخر.

4. لو تكرر منه وطء الحائض في وقت واحد كالثلث الأوّل، أو في وقتين، كما إذا كان الثاني في الثلث الثاني يقع الكلام في تكرر الكفّارة و عدمه.(2)

5. إذا وقعت نجاسات مختلفة في البئر لكلّ تقدير خاص، فهل يجب نزح كلّ ما قدر أو لا؟ مبنيّ على التداخل و عدمه.(3)

6. إذا تغير أحد أوصاف ماء البئر و مع ذلك وقع فيه من النجاسات ما له مقدّر، فهل يكفي نزح الجميع أو يجب معه نزح ما هو المقدّر؟ مبني على مسألة التداخل و عدمه.

7. إذا مات و هو جنب، فهل يكفي غسل واحد أو يجب الغسلان؟

ص:411


1- الجواهر: 15/447.
2- الجواهر: 3/236.
3- الجواهر: 1/260.
السالبة الكلية و مفهومها

قد عرفت أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فيعتبر في مفهوم القضية الشرطية أمران:

1. اختلاف القضيتين في الإيجاب و السلب.

2. وحدة القضيتين موضوعاً و محمولاً و قيداً.

مثلاً إذا قال القائل:» إن جاء زيد يوم الجمعة راكباً فأكرمه «يصير مفهومه إن لم يجئ زيد يوم الجمعة راكباً فلا تكرمه. فتجد انّ القضيتين تشتركان في الموضوع و المحمول و عامة القيود، و تختلفان في السلب و الإيجاب.

هذه هي الضابطة في أخذ المفهوم.

و على ضوء ذلك ينبغي إمعان النظر في مفهوم السالبة الكلية، أعني قوله) عليه السلام (:» إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء «.(1)

فهل مفهومه هو الموجبة الجزئية بمعنى إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ فينجّسه شيء، أي بعض النجاسات على سبيل الإهمال، فلا يكون المفهوم عندئذ دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس.

و على ذلك جرى الشيخ محمد تقي) المتوفّى 1248 ه (صاحب الحاشية على

ص:412


1- الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب طهارة الماء، الحديث 1 و 2 و 6.

المعالم.(1)

أو أنّ مفهومه هو الموجبة الكلية بمعنى انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كلّ شيء، أي عامّة النجاسات، فيكون المفهوم دليلاً على انفعال الماء القليل بكلّ نجس، وعليه الشيخ الأنصاري على ما في تقريراته.(2)

استدلّ صاحب الحاشية بما اشتهر بين المنطقيّين بأنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية، و ليس للمفهوم دور إلاّ أنّه نقيض المنطوق، فإذا كان المنطوق سالباً كلّياً يكون مفهومه، أي نقيضه موجباً جزئياً، و تبعه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي على ما في تقريراته(3) و سيدنا الأُستاذ الخميني.(4)

و التحقيق أن يقال: انّ لفظ» شيء «في المنطوق يحتمل أحد أمرين:

1. أن يكون المراد منه هو معناه العام المتوغل في الإبهام.

2. أن يكون المراد منه هو العناوين التي أُخذت في لسان الأدلّة موضوعة للحكم عليها بالنجاسة، نظير قولنا:» الدم نجس «و البول نجس.

فإنّ قلنا بالأوّل يكون مفهومه قضية موجبة جزئية، لوضوح انّ رفع السلب الكلي إنّما هو بالايجاب الجزئي، فإذا قلنا:» لم يكن هناك شيء «يكفي في رفعه وجود شيء ما في المحل، و أمّا لو قلنا بأنّ لفظة شيء أخذت مرآة إلى العناوين العشرة التي هي موضوعات للحكم عليها بالنجاسة، فقولنا:» لم ينجسه شيء «بمنزلة قولنا:» لم ينجسه الدم و لا البول و لا الكلب و لا الخنزير و لا الميتة و لا... «

ص:413


1- هداية المسترشدين: 291.
2- مطارح الأنظار: 174.
3- لمحات الأُصول: 296
4- تهذيب الأُصول: 1/450.

فعند ذلك يكون مفهومها موجبة كلية، أي إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه الدم و البول و الكلب و الخنزير و الميتة... الخ.

هذا هو مبنى القولين و من المعلوم أنّ الحقّ هو الأوّل، فانّ لفظة» شيء «مفهوم متوغّل في الإبهام، فنفيه كما في المنطوق رهن نفي كلّ ما يصدق عليه شيء و إيجابه كما هو الحال في المفهوم بوضع شيء من الأشياء.

ثمّ إنّ الذي دعا الشيخ الأعظم إلى اختيار القول الثاني مع أنّه مخالف لما عليه المنطقيّون في باب التناقض و مخالف لما هو المتفاهم العرفي في هذه المواضع هو ما سبق منّا من أنّه يجب الاحتفاظ بعامة القيود الواردة في المنطوق، و بما انّ الكليّة من إحدى القيود في المنطوق فيجب أن يحتفظ بها في المفهوم.

و على هذا المبنى تكون الكلية قيداً محفوظاً في جانبي المنطوق و المفهوم و يصبح المفهوم موجبة كلية.

و إلى ما ذكرنا يشير الشيخ بقوله:» و من هنا) لزوم حفظ القيود بتمامها في المنطوق و المفهوم (يعلم صحّة ما أفاده بعض الأساطين من قوله) عليه السلام (: إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء «فانّ مفهومه انّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسه كلّ شيء من النجاسات، كما يعلم فساد ما قيل من أنّ لازم القضية المذكورة نجاسة الماء غير الكرّ بشيء من النجاسات، و هو مجمل لا يفيد و لا يلزم منه النجاسة، بكلّ شيء من النجاسات.

ثمّ رتّب الشيخ على مختاره و قال: إنّ ما دلّ على عدم نجاسة الماء المستعمل في الاستنجاء يعارض عموم المفهوم، مثل ما دلّ على نجاسته إذا كان غالباً.(1)

ص:414


1- مطارح الأنظار: 178.

يلاحظ عليه: بأنّ الضابط) أي الاحتفاظ بكلّ القيود الموجودة في المنطوق (مختص بالقيود المذكورة في الكلام، كالقيود المذكورة في المثال السابق يوم الجمعة راكباً، دون القيود المستفادة من سياق الكلام كالاستغراق المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، أعني:» لم ينجسه شيء «، ففي مثله لا يؤخذ القيد في جانب المفهوم، فإذا قال: إن جاءك زيد لا تكرم أحداً، يصير مفهومه إذا لم يجئ زيد فأكرم أحداً، لا أكرم كلّ أحد، و ذلك لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام) وقوع النكرة في سياق النفي (و المفروض انقلابه إلى سياق آخر) إلى الإيجاب (فكيف يمكن التحفّظ بهذا القيد في جانب المفهوم؟ و بعبارة أُخرى: انّ القيود على قسمين:

قيد مذكور في الكلام فلا بدّ من أخذه في جانب المفهوم طابق النعل بالنعل.

و قيد مفهوم من سياق الكلام، أي وقوع النكرة في سياق النفي و النهي، فهذا النوع من القيد رهن حفظ السياق و المفروض انّ السياق يتغير في المفهوم، و معه كيف يمكن الاحتفاظ بهذا القيد؟! و إن شئت قلت: إنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان القيد، المفهوم منه العموم، مجموعياً كان أو استغراقياً قابلاً للانتقال إلى المفهوم حتّى يكون الاستغراق الموجود في المنطوق مأخوذاً في المفهوم، كما إذا قال: إن جاء زيد أكرم كلّ واحد ممّن معه، فيكون مفهومه استغراقياً أيضاً، و أمّا إذا كان العموم مستفاداً من سياق النفي، فيكون قائماً بالسياق فإذا تبدل سياق النفي إلى الإيجاب ينتفي ما يدلّ على العموم فلا يمكن أخذه في المفهوم حتّى يكون إيجاباً استغراقياً و يكون مفهومه موجبة كلية، بل يتعيّن أن يكون موجبة جزئية.

ص:415

ثمّ إنّ شيخنا الأُستاذ) مدّ ظله (اقتصر على هذا القدر في دورتنا الرابعة، و قد أفاض الكلام في ذلك في الدورات السابقة، و بما انّ ما أفاده فيها طويل الذيل طوينا الكلام عنه، فمن أراد فليرجع إلى تقريرات زميلنا السيد الجلالي.(1)

ص:416


1- المحصول: 3962/392.

الفصل الثاني مفهوم الوصف

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:
الأوّل: في تعريف مفهوم الوصف

قد عُرِّف مفهوم الوصف بتعاريف نذكر منها ما يلي:

1. الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عام مقيّد بصفة خاصة، و هو خيرة الآمدي.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّه لا يشمل الوصف غيرَ المعتمد على موصوفه كقولنا:» أكرم عالماً «، إذ ليس فيه إلاّ شيء واحد لا اسم انضم إليه وصفه.

2. تعليق الحكم بالصفة حتّى يدلّ على انتفائه لدى انتفائها.

و أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ التعليق يناسب مفهوم الشرط لا مفهوم الوصف.

قلت: و فيه تأمّل واضح، لأنّ التعليق من العلقة و هي الرابطة، فهي موجودة في القضايا الشرطية و الحملية في كلّ بنحو.

3. إثبات الحكم لذات مأخوذة مع بعض صفاتها يدلّ على انتفاء ذلك

ص:417

الحكم عند انتفاء الصفة.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه يرد عليه ما أورده الشيخ على تعريف الآمدي من عدم شموله للوصف غير المعتمد على موصوفه، كما إذا قال:» أكرم عالماً «من غير فرق بين القول ببساطة المشتق و تركّبه.

أمّا على الأوّل فلا ذات مأخوذة مع بعض صفاتها، و أمّا على الثاني فالذات غير مذكورة و ظاهر التعريف كونها مذكورة.

اللّهمّ إلاّ أن يريد الشيخ من أخذ الذات، الأعم من الأخذ لفظاً أو تقديراً لدى التحليل.

و على كلّ تقدير فحصيلة التعاريف عبارة عن دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن موضوعه عند انتفائه.

الثاني: تحديد محلّ النزاع

خصّ المحقّق النائيني محلّ النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف، و استدلّ على ذلك بوجهين:

1. لو كان غيره داخلاً في محلّ النزاع لدخلت الجوامد فيه أيضاً بداهة انّه لا فرق بين الجامد و غير المعتمد من الوصف، إلاّ في أنّ المبدأ في الجامد جعلي و في غير المعتمد غير جعلي. و هذا لا يكون فارقاً بينهما في الدلالة على المفهوم و عدمها.(2)

2. انّ ذكر الموضوع بصورة الوصف غير المعتمد كالعالم لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له، لا إثباته له و انتفاؤه عن غيره.(3)

ص:418


1- مطارح الأنظار: 187; و لاحظ القوانين: 1/178.
2- أجود التقريرات: 1/433.
3- فوائد الأُصول: 1/501.

يلاحظ على الأوّل: بوجود الفرق بين قولنا: اسق شجرة، و قولنا: اسق عالماً، فانّ الأوّل لا ينحل إلى ذات و وصف، بخلاف الثاني فانّه ينحل إلى ذات و علم، فارتفاع الوصف و المبدأ الجعلي في الأوّل مساوق لارتفاع الذات، فانّ رفع الشجرية رفع لتمام الموضوع، و هذا بخلاف الثاني حيث تبقى الذات مع ارتفاع الوصف كالإنسان غير العالم. مضافاً إلى استدلال الفقهاء بآية النبأ على حجّية خبر الواحد تمسّكاً بمفهوم الوصف غير المعتمد على الموصوف، و بعضهم بفهم أبي عبيدة(1) من حديث:» ليّ الواجد بالدين يحل عرضه و عقوبته «(2)، انّ ليّ غير الواجد لا يبيح، و هو أيضاً من قبيل الوصف غير المعتمد.

و يلاحظ على الثاني بأنّ التعبير عن الموضوع بالوصف العنواني مع إمكان التعبير عنه بغيره يشعر بمدخلية الوصف في ثبوت الحكم عند ثبوته و ارتفاعه عند ارتفاعه، فإذا قال: إن جاءكم فاسق بنبإ مكان: إذا جاءكم إنسان بخبر يفيد، انّ للفسق مدخلية في عدم القبول، و عندئذ يكون الإنسان تمام الموضوع، و الفسق قيداً زائداً أتى به لنكتة.

و الحاصل: انّ المفهوم يدور حول وجود قيد زائد في الكلام، و القيد الزائد في المقام هو أخذ الفسق أو العلم في الموضوع مع إمكان أخذ الإنسان موضوعاً، لا الفاسق كما في الآية و لا العالم كما في المثال.

ص:419


1- هو معمر بن مثنى المعروف بأبي عبيدة (المتوفّى عام 207 ه) أُستاذ أبي عبيد سلام بن قاسم مؤلف كتاب الأموال (المتوفّى سنة 225 ه) و هو بصري لا كوفي، فما في القوانين انّه كوفي غير صحيح.
2- الوسائل: 13، كتاب الدين، الباب 8، الحديث 4.
الثالث: أقسام الوصف

إنّ النسبة بين الوصف و الموصوف لا تخلو عن وجوه أربعة:

1. أن تكون النسبة بينهما هو التساوي، كقولنا: الإنسان المتعجّب أكرمه.

2. أن يكون الوصف أعمّ مطلقاً من الموضوع، كالإنسان الماشي.

3. أن يكون الوصف أخصّ مطلقاً من الموضوع، كقولنا: الإنسان الكريم.

4. أن تكون النسبة بينهما أعمّ من وجه، كما في قولنا:» في الغنم السائمة زكاة «.

ثمّ إنّ القسمين الأوّلين خارجان عن محط البحث، لأنّ الميزان في حجّية مفهوم الوصف، هو بقاء الموضوع و ارتفاع الوصف، ففيما إذا كانت النسبة بينها هو التساوي أو كان الوصف هو الأعم، ينتفي الموضوع بانتفاء الوصف أمّا لأجل التساوي لأجل كون الوصف أعمّ و انتفاؤه يستلزم انتفاء الأخصّ، فلا يبقى بحث في انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف.

و لكن القسم الثالث داخل في محلّ النزاع قطعاً، فلو قال: أكرم إنساناً كريماً، فعلى القول بالمفهوم يكون مفهومه انّه لا تكرم إنساناً لئيماً.

و أمّا القسم الرابع فله صورتان:

أ. أن يكون الافتراق من جانب الوصف مع بقاء الموضوع، كما إذا قال: في سائمة الغنم زكاة، فيكون مفهومه في معلوفة الغنم ليست زكاة.

ب. أن يكون الافتراق من جانب الموضوع بأن يرتفع الغنم و يحلّ مكانه الإبل، و عندئذ يقع الكلام في أنّه هل يحتج بمفهوم قولنا:» في الغنم السائمة زكاة «على عدم الزكاة في الإبل المعلوفة أو لا؟

ص:420

فقد نسب إلى بعض الشافعية صحّةُ الاحتجاج و هو كما ترى، لأنّه يشترط في صحّة الاحتجاج وحدة الموضوع في جانبي المنطوق و المفهوم، و الاختلاف في وجود الوصف و عدمه، و أمّا إذا كان الموضوع مرتفعاً كالإبل، فسائمتها و معلوفتها خارجتان عن موضوع الكلام.

قال في» القوانين «: إنّ دليل الخطاب نقيض المنطوق، فلمّا تناول المنطوق سائمة الغنم كان نقيضه مقتضياً لمعلوفة الغنم دون غيرها.(1)

نعم نقل عن بعض الشافعية انّه استدلّ بمفهوم قولنا: في الغنم السائمة زكاة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل، و لعلّ وجهه هو إحراز انّ السوم يجري مجرى العلة المنحصرة فيثبت الحكم بثبوتها و ينتفي بانتفائها، غير أنّ الكلام في فهم العلّية المنحصرة و لعلّها إحدى العلل.

الرابع: ما هو المراد من الوصف؟

المراد بالوصف مطلق القيد الوارد في الكلام الأعم من الوصف الأُصولي أي المشتق أو الوصف النحوي التابع لموصوفه، و لذلك يعمّ القيود الزمانية و المكانية.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندخل في أدلّة القائلين في حجّية مفهوم الوصف.

ص:421


1- القوانين: 1/186.
أدلّة القائلين بحجّية مفهوم الوصف
اشارة

ذكر المحقّق الخراساني تبعاً للمحقّق القمي و غيره وجوهاً لإثبات حجّية مفهوم الوصف مع نقدها، فنحن نقتفي أثر صاحب الكفاية.

1. التبادر

يتبادر من الهيئة الوصفية، الانتفاءُ عند الانتفاء و هو آية الوضع.

يلاحظ عليه: أنّه يتبادر رفع الحكم الشخصي عند رفع الوصف، و أمّا انتفاء أصل الحكم و سنخه بأن لا يخلفه شيء آخر فهو ممنوع، و سيوافيك بأنّ القول بالمدخلية لا يلازم كونه دخيلاً منحصراً.

2. لزوم اللغوية

لو لم يكن للوصف مفهوم يلزم اللغو في كلام الحكيم فلو لم يفد انتفاء الحكم عند انتفائه لعرى الوصف عندئذ عن الفائدة و لعدّه العقلاء مستهجناً، مثل قولك: الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب مع أنّ مطلق الإنسان لا يعلمه.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً، و أمّا إذا كان له دخل و لو بنحو العلّة التامّة و إن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا تلزم اللغوية و تخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو التأكيد، نحو قولك:» إياك و ظلم الطفل اليتيم «مع أنّ الظلم قبيح

ص:422

على اليتيم و غيره، لكن لمّا كان المخاطب مبتلى به خاطبه بقوله: إياك و ظلم اليتيم.

و ربّما يكون الوجه هو دفع توهم عدم الحرمة في مورد الوصف، كقوله تعالى: (وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) (1)مع أنّ قتل الأولاد حرام، سواء أ كان لغاية الإطلاق أو لا.

و أمّا ما مثّل به المستدلّ فوجه الاستهجان فيه، عدم مدخلية البياض في الحكم، لا بنحو العلّة الناقصة، و لا التامّة و لا المنحصرة، بخلاف سائر الأمثلة.

3. الأصل في القيد أن يكون احترازياً

احتجّ القائل بالمفهوم بما اشتهر في الألسن من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً، و لعلّ هذا الدليل من أتقن أدلّة القائل بالمفهوم، غير أنّه خلط بين القيد الاحترازي و القيد المفهومي، و القيد الاحترازي عبارة عن مدخلية القيد في الحكم في مقابل القيد الغالبي، و أمّا كونه دخيلاً على وجه الانحصار و لا يقوم مقامه شيء فهو ممّا لا يفهم من كون القيد احترازياً، و لأجل إيضاح حال القيود في الكلام نقول: إنّ القيود الواردة في الكلام على أقسام ستة:

1. القيد الزائد، كقولك: الإنسان الضاحك ناطق، فانّ الإنسان ناطق، سواء كان ضاحكاً أو لا. و مثله المثال السابق: الإنسان الأبيض لا يعلم الغيب.

2. القيد التوضيحي و هو القيد الذي يدلّ عليه الكلام و إن لم يذكر، كقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(2)، فقوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) قيد توضيحي، إذ لا يصدق الإكراه إلاّ معه و يغني عن ذكره قولُه: (وَ لا

ص:423


1- الأنعام: 151.
2- النور: 33.

تُكْرِهُوا ) و مع ذلك جيء به لنكتة خاصة، كما هو الحال في كلّ قيد توضيحي في كلام البلغاء.

3. القيد الغالبي: و هو القيد الوارد مورد الغالب، و مع ذلك لا مدخلية له في الحكم، كقوله سبحانه:

(وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )(1)، فكونهن في حجور الأزواج قيد غالبي، لأنّ المرأة التي توفّي عنها زوجها إذا تزوجت مرّة أُخرى تأتي مع أطفالها إلى بيت زوجها الثاني، فلذلك تكون الربائب غالباً في حجر الزوج الثاني، و لكن الربيبة محرمة سواء أ كانت في حجره أم لا.

4. القيد المحقّق للموضوع، مثل قولك: إن رزقت ولداً فاختنه.

5. القيد الاحترازي، و هو القيد الذي له مدخلية في الحكم و لا يحكم على الموضوع بحكم إلاّ معه كالدخول في الآية المتقدّمة فانّ الدخول بالأُمّ شرط لحرمة الربيبة فلو لم يدخل بها و طلقها يتوقّف في الحكم.

فلا يحكم عليه لا بجواز التزويج و لا بعدمه.

6. القيد المفهومي: أو القيد ذات المفهوم، و هو ما يدلّ على ثبوت الحكم عند وجوده و عدمه عند انتفائه، و هذا النوع من القيد يُثبت أكثر ممّا يثبته القيد الاحترازي، فانّ الثاني يثبت الحكم في مورد القيد و يسكت عن وجوده و عدمه في غير مورده، و لكن القيد المفهومي يثبت الحكم في مورده و ينفيه عن غيره.

إذا وقفت على أقسام القيد و آثاره المختلفة، فاعلم أنّ أقصى ما يدلّ عليه القيد هو كونه قيداً احترازياً بالمعنى الذي مرّ عليك، و أمّا الزائد عليه أي الانتفاء لدى الانتفاء فلا دليل عليه، و إلى ما ذكرنا أخيراً يشير المحقّق الخراساني بقوله: إنّ

ص:424


1- النساء: 23.

الاحترازية لا توجب إلاّ تضييق دائرة الحكم في القضية مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد فلا فرق بين أن يقال جئني بإنسان أو بحيوان ناطق.

4. فهم أبي عبيدة و هو من أهل اللسان

إنّ أبا عبيدة البصري فهم من قول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لي الواجد يحل عقوبته و عرضه «، انّ ليّ غير الواجد لا يحل عرضه، و فهم أهل اللسان حجّة.

يلاحظ عليه: أنّ القول بالمفهوم في الحديث لا يخلو من إشكال، لأنّ الليّ فرع الوجدان، فإذا لم يكن واجداً فلا يطلق عليه الليّ، مثل قولك: إن رزقت ولداً فاختنه، و مثله التعبير عن اللي بالمطل، ففي» مجمع البحرين «: المطل و الليّ و التسويف، التعلّل في أداء الحقّ و تأخيره من وقت إلى وقت، و على هذا فليس للحديث مفهوم حتّى يبحث عن حجّيته و عدمه.

5. لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد

لو لم يكن للوصف مفهوم لما صحّ حمل المطلق على المقيّد، إذ لا تنافي بينهما إلاّ من جهة دلالة القيد على سلب الحكم عن غيره.

يلاحظ عليه: بمثل ما فسرنا به كون القيد احترازياً، فانّ معنى حمل المطلق على المقيد في المورد الذي يجب الحمل، هو تخصيص الحكم بالموضوع المقيّد، و قصره عليه، فكأنّ الحكم ورد على المقيد من أوّل الأمر، و أمّا دلالته على ارتفاع الحكم عن مورد انتفاء القيد، فلا و هذا بخلاف القول بالمفهوم فانّ معناه دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم عن غير مورد الوصف، و شتّان بين قصر الحكم على موضوع مقيد و السكوت عن انتفائه عن غير مورده، و بين دلالة الشيء على

ص:425

قصر الحكم على المقيد و دلالته على انتفائه عن غير مورده.

و منه يعلم حال التخصيص فانّه كالتقييد في لزوم حمل العام على الخاص، و دخالته في الحكم دون أن يدخل على أنّه يخلفه غيره.

6. ظهور الجملة في مدخلية الوصف بما هو هو لا بجامعه

قد استند المحقّق الأصفهاني إلى الدليل التالي: و هو انّ ظاهر القضية الوصفية يقتضي كون الحكم مستنداً إلى نفس العنوان الوصفي دون غيره، أعني: الجامع، فلو فرض كونه علّة منحصرة، لزم الأخذ بالظهور، و إلاّ لزم استناد الحكم إلى الجامع بين ذلك الوصف و الوصف الآخر، و هو خلاف الظاهر.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لزوم كون الحكم مستنداً إلى الجامع عند تعدد العلّة لقاعدة:» لا يصدر الواحد إلاّ عن واحد «أمر في غير محلّه، لأنّ موردها هو المعلول التكويني لا المعلول الاعتباري، أعني: الوجوب، بل لا مطلق التكوين، بل المعلول البحت البسيط الذي ليست فيه كثرة أبداً، و أين ذلك ممّا نحن فيه؟ و على هذا فظهور القضية محفوظ و إن كانت العلّة غير منحصرة، فالوجوب معلول لكلّ سبب بشخصه بلا حاجة إلى إرجاع السببين إلى الجامع، لأنّ الأُمور الاعتبارية لا تخضع للقانون الفلسفي أعني: لا يصدر الواحد عن الكثير بل هنا يصدر الواحد عن الكثير.

و ثانياً: أنّ البحث في المقام في الاستظهارات العرفية و هو غير مبنيّ على هذه التدقيقات الصناعية التي لا يلتفت إليها. و قد مرّ نظيره في مبحث المفهوم.

ص:426


1- نهاية الدراية: 1/330.
تفصيل المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل بين رجوع القيد إلى الحكم و رجوعه إلى متعلّقه و موضوعه، فاختار الدلالة على المفهوم في الصورة الأُولى دون الصورة الثانية، فقال: انّ التقييد إذا رجع إلى نفس الحكم كان لازم ذلك هو ارتفاعه بارتفاعه، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشيء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، و أمّا إذا كان القيد راجعاً إلى الموضوع فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، و من الضروري انّ ثبوت شيء بشيء لا يستلزم نفيه عن غيره، و إلاّ لكان كلّ قضية مشتملة على ثبوت حكم على شيء دالاً على المفهوم، و ذلك واضح البطلان.(1)

و سوف يوافيك نفس هذا التفصيل من المحقّق الخراساني في» مفهوم الغاية «فانتظر.

إلى هنا تمّ ما عرفت من أدلّة القائل بالمفهوم و نقدها، بقي هنا دراسة أدلّة النافي.

دراسة أدلّة النافي للمفهوم
اشارة

استدلّ نفاة المفهوم للجملة الوصفية بوجهين:

الأوّل: ما نقله المحقّق القمي من قولهم: إنّه لو دل لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث و كلّها منتفية.

أمّا عدم الدلالة بالمطابقة أو التضمّن فظاهر و إلاّ لكان منطوقاً، و أمّا

ص:427


1- أجود التقريرات: 1/435.

الالتزام فلعدم اللزوم الذهني لا عقلاً و لا عرفاً.

و قد توقّف المحقّق القمي في المسألة و استظهر انّه لا يخلو من إشعار و ذلك لأنّ التعليق بالوصف مشعر بالعلّيّة.

أقول: إنّه لا يخلو عن إشكال، لأنّ المتبادر من قولهم:» مشعر بالعلّية «هو المدخلية، و أمّا الانحصار فلا، و قد أوضحه السيّد المرتضى في ذريعته بأنّ نيابة علّة مكان علّة أُخرى شائع في الشريعة الإسلامية حيث إنّ الشاهد الواحد و المرأتين يقومان مقام الشاهدين، كما أنّ الشاهد الواحد مع اليمين يقوم مقام الشاهدين و أمثاله يصدنا عن القول بالملازمة الذهنية.

الثاني: الاستدلال بقوله سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )

.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ القائلين بحجّية مفهوم الشرط و الوصف خصّوا وجود المفهوم بما إذا لم يكن القيد وارداً على طبق الغالب، ففي مثله يسقط الاستدلال بالآية و أمثالها.

و مثله قوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ).(2)

فالتقصير في الآية قيّد بالخوف من فتنة الكفّار، و قد كان الضرب في الأرض يوم نزول الآية مقروناً بالخوف غالباً، و لذلك كان القيد غالبياً.

و على كلّ تقدير فالضابطة هو عدم الاشتمال على المفهوم إلاّ إذا دلّت القرائن على كونه علّة منحصرة.

ص:428


1- النساء: 23.
2- النساء: 101.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

اشارة

البحث في دلالة الغاية يقع في موردين:

المقام الأوّل: هل الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى؟ أو عنها و عن ما بعدها بناء على خروجها؟
اشارة

فهذا النوع من البحث، بحث في وجود الدلالة المفهومية و عدمها.

مثلاً إذا أمر المولى عبده بقوله:» سر من البصرة إلى الكوفة «فهل يدلّ على ارتفاع وجوب السير عن الكوفة و ما بعدها بناء على خروج الغاية) الكوفة (عن حكم المغيّى) وجوب السير (أو عن ما بعد الكوفة فقط بناء على دخولها فيه؟ أو لا يدلّ فهذا النوع من البحث بحث في وجود المفهوم للقضية.

الثاني: هل الغاية محكومة بحكم المغيّى أو لا؟ بمعنى أنّ السير في نفس الكوفة أيضاً متعلّق للوجوب، أو خارج عنه، و هذا بحث في سعة الدلالة المنطوقية.

و إليك الكلام في مقامين:

الأوّل: هل للقضية المغيّاة دلالة على المفهوم و ارتفاع الحكم عن الغاية و ما بعدها، أو عن ما بعدها فقط، أو لا؟ هنا أقوال ثلاثة:

ص:429

1. ذهب المشهور إلى الدلالة و انّ دلالة القضية المغيّاة على المفهوم أوضح من دلالة القضية الشرطية عليه.

2. ذهب السيد المرتضى في الذريعة(1) و الشيخ في العدّة(2) إلى عدم الدلالة.

و فصّل المحقّق الخراساني بين كون الغاية قيداً للحكم و كونها قيداً للموضوع فتدل القضية على الارتفاع في الأوّل دون الثاني، و إليك توضيحه:

إذا ورد قوله:» كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام «أو ورد» كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر « فالغاية) حتّى تعرف حتّى تعلم (حسب القواعد العربية قيد، للحكم، أي كونه حلالاً أو طاهراً، فيدلّ على ارتفاع الحكم عند حصول الغاية) العلم و العرفان (فلا حلّية و لا طهارة بعد انكشاف الواقع و» ليس وراء عبادان قرية «و ذلك لوجهين:

1. انسباق ذلك من القضية.

2. انّ مقتضى تقييد الحكم بالغاية، هو ذلك، أي ارتفاعه عند حصول الغاية و إلاّ لما كان ما جعل غاية له، بغاية.

هذا كلّه حال ما إذا كانت الغاية، غاية للحكم.

و أمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع و محدّدة له، كما إذا قال: سر من البصرة إلى الكوفة، حيث إنّ الابتداء و الانتهاء من خصوصيات السير، و كأنّه قال: السير المقيّد من البصرة إلى الكوفة واجب، و عندئذ حال الغاية حال الوصف في عدم الدلالة، حيث إنّ إثبات الحكم لموضوع محدد، لا يدلّ على انتفاء ذلك عن موضوع آخر.

ص:430


1- الذريعة: 1/407.
2- العدة: 2/24، ط الهند.

و بعبارة أُخرى: انّ السير المحدّد بالابتداء من البصرة، و الانتهاء إلى الكوفة تعلّق به الطلب و لا دلالة له إلاّ على ثبوت الحكم على المحدّد، و أمّا نفيه عن غيره فلا دلالة له بوجهين:

1. عدم ثبوت الوضع لذلك.

2. عدم قرينة ملازمة للقضية دلّت على اختصاص الحكم بالمغيّى و عدم ثبوته في غيره.

فإن قلت: لو كان الحكم ثابتاً لغير المغيّى، فما فائدة التقييد بالغاية؟ قلت: إنّ الفائدة غير منحصرة بدلالتها على ارتفاع الحكم، بل لها فوائد كسائر أنحاء التقييد على ما مرّ في مفهوم الوصف.

هذا و قد اختاره المحقّق النائيني(1) و المحقّق العراقي(2) و السيّد المحقّق الخوئي(3) كلّ بتعابير متقاربة.

هذا و إنّ تردد رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع أمر ذائع في الفقه، مثلاً كون السفر سائغاً لا حراماً، فهل هو قيد لوجوب القصر؟ فكأنّه قال: قطع المسافة الشرعية موجب للقصر إذا كان السفر سائغاً، أو قيد للموضوع، أعني: المسافة، فكأنّه قال: قطع المسافة الشرعية إذا كان سائغاً موجب للقصر؟ فالسيد الطباطبائي في عروته على الأوّل، و الشيخ الأنصاري على الثاني. و لكلّ أثر شرعي خاص مذكور في محلّه.

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني و إن كان صحيحاً إلاّ أنّ الكلام في

ص:431


1- أجود التقريرات: 1/437.
2- نهاية الأفكار: 4981/497.
3- المحاضرات: 1405/137.

تمييز أحد الأمرين و ليس هنا ضابطة تعيّن أحد الأمرين.

و قد حاول المحقّق الخوئي) قدس سره (أن يضع ضابطة لتمييز ما يرجع إلى الحكم، عمّا يرجع إلى غيره، و حاصل ما أفاده في المقام و ما أوضحه في» المحاضرات «: هو انّ الحكم، أي الوجوب، لو كان مستفاداً من الهيئة فالغاية تارة ترجع إلى المتعلّق و أُخرى إلى الموضوع و لا ترجع إلى مفاد الهيئة أي الحكم.

أمّا الأوّل: فمثل قوله سبحانه: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1)فانّ المتبادر أنّ الصيام محدد بالليل، كأنّه يقول:» الصيام إلى اللّيل، يجب «.

و أمّا الثاني، فكقوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (2)ففيه أُمور ثلاثة:

1. الوجوب الذي هو مفاد الهيئة.

2. الغسل، و هو متعلّق الوجوب.

3. الموضوع و هو اليد، فالمتبادر من الآية كون الغاية قيداً للثالث، كأنّه يقول: اليد المحدّدة بالمرافق، يجب غسلها.

و نظير ذلك إذا قال:» اكنس المسجد من الباب إلى المحراب «، فانّ المتبادر من الكلام كون الغاية قيداً للموضوع) المسجد (، لا للوجوب، و لا للكنس الذي يعبّر عنه بالمتعلّق.

و مثله قوله سبحانه: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فانّ المتبادر أنّ الغاية قيد للأرجل، لا للوجوب و لا للغسل.

ص:432


1- البقرة: 187.
2- المائدة: 6.

ففي هذه الموارد يكون حكمها حكم الوصف فانّ التقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف، و قد عرفت أنّ التقييد بالوصف ساكت عن وجود الحكم و عدمه.

و أمّا لو كان الوجوب مستفاداً من غير الهيئة كالجملة الفعلية فهي على قسمين: تارة يكون متعلّق الحرمة محذوفاً، كما في قولك:» يحرم الخمر إلى أن يضطرّ المكلف إليه «فانّ متعلّق الحرمة محذوف و هو شربه أو بيعه أو غير ذلك، فالغاية فيها باعتبار حذف المتعلّق، قيد للحكم، فالحكم مرفوع عند طروء الاضطرار.

و أُخرى يكون مذكوراً كما إذا قال:» يجب الصيام إلى الليل «ففيه وجهان فيحتمل أن تكون الغاية قيداً للوجوب، و كأنّه قال:» الصيام يجب إلى الليل «كما يحتمله أن تكون قيداً للصيام، فكأنّه قال:» الصيام إلى الليل يجب «فعلى الأوّل تشتمل القضية على المفهوم دون الآخر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ انتزاع ضابطة كلّية من مورد أو موردين، غير صحيح، و ذلك لوجود القرينة على رجوع الغاية إلى الموضوع في بعض الأمثلة، و إلى الحكم في البعض الآخر.

أمّا الأوّل: أعني قوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فلأنّ رجوع الغاية في الآية إلى الموضوع لأجل انّها بصدد بيان حد المغسول، لا حد الوجوب، و ذلك لأنّ اليد ربّما تطلق و يراد بها أُصول الأصابع، و أُخرى هي إلى الزند، و ثالثة إلى المرفق، و رابعة إلى المنكب، فصارت الآية بصدد بيان ما هو المغسول في الآية و قالت: إلى المرافق، أي المقصود بها هو العضو إلى نهاية المرافق.

ص:433


1- لاحظ أجود التقريرات: 1/437، قسم التعليقة; المحاضرات: 1395/137.

و مثله قوله سبحانه: (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )، و قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فانّ الغاية لحد الممسوح، و الزمان الذي يمسك فيه.

و أمّا الثاني: فلأنّ رجوع القيد إلى الحكم ليس لأجل حذف المتعلّق، بل لوجود قرينة خارجية على أنّ الأحكام الشرعية محددة بالضرر، و الحرج و الاضطرار، فكلّ ما اضطرّ إليه ابن آدم فهو مرفوع عنه أي مرفوع حكمه.

و أمّا المثال الثالث فالاحتمالان كما أفاد سواء.

و الحاصل: انّ التفريق بين رجوع القيد إلى الحكم أو الموضوع و المتعلّق، بارتفاع الحكم في الأوّل، دون الثاني كلام متين، لكن الإشكال في الضابطة التي يتميّز على ضوئها ما يرجع إلى الحكم عمّا يرجع إلى الموضوع.

و ربّما يتصوّر انّ مقتضى القاعدة رجوع الغاية إلى الحكم، لأنّ أداة الغاية أعني: إلى و حتّى من أدوات الجر و الجار و المجرور يتعلّقان بالفعل، و بهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد.

يلاحظ عليه: بأنّ تعلّق الجار و المجرور بالفعل لا يكون دليلاً على رجوع الغاية إلى الحكم الوارد في القضية، بل الفعل المتعلّق به الجار أعم من الحكم المستفاد من الهيئة، و ذلك لأنّ الظرف على قسمين مستقر و لغو، ففي الأوّل يتعلّق بالمعنى الحدثي المقدر مثل:» كائن «و» موجود «، و في الثاني يتعلّق بالفعل، لا مفاد الهيئة ففي سر من البصرة إلى الكوفة، فالظرف متعلّق بالسير، لا الوجوب، فلا ملازمة بين تعلّق الظرف بالفعل، و كونه قيداً للوجوب كما لا يخفى.

ص:434

نظريتنا في الموضوع

فلو خرج الباحث عن حيطة الاصطلاحات، و رجع إلى ما هو المتبادر من التقييد بالغاية لوقف على أنّ المتفاهم العرفي منه هو ارتفاع الحكم عند ارتفاع الغاية، على نحو لو صرّح بعد ذلك ببقاء الحكم بعدها لعد كلامه بداءً.

فإذا قال:» احفر إلى هذا الخط «ينتقل العرف إلى تحديد الوجوب بالحد الخاص، من غير فرق بين كون الغاية قيداً للوجوب المستفاد من الهيئة في» احفر «أو لمتعلّق الوجوب أي الحفر، و إن كان ظهور القضية في المفهوم في الصورة الأُولى أوضح.

و يدلّ على ما ذكر ملاحظة الآيات التالية:

(وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ).(1)

2. (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ).(2)

3. (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ).(3)

فانّ لفظة» حتّى «في الآية جارة تحدد الوظيفة بأنّها بين هذا و هذا لا أزيد و لا أنقص.

ص:435


1- البقرة: 222.
2- البقرة: 187.
3- البقرة: 193.
المقام الثاني في دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه

قد عرفت أنّ البحث في أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو لا، بحث منطوقي مثلاً إذا قال: اغسل يدك إلى المرفق، فهل المرفق الذي هو عبارة عن مكان رفق العظمين، داخل في حكم اليد فيجب غسله أو لا؟ أو إذا قال: سر من البصرة إلى الكوفة، فهل نفس الدخول في الكوفة و لو بجزء منها واجب حتّى يكون حكم الغاية نفس حكم المغيّى أو لا؟ اختلفت كلمة القوم على أقوال، و قبل أن نذكر الأقوال نركّز على أمر أدبي، و هو انّ بيان الغاية يتحقّق غالباً بأحد اللفظين:

لفظة» إلى «و لفظة» حتّى «و لما كانت اللفظة الثانية تستعمل في معان مختلفة يجب تعيين ما يستعمل في بيان الغاية عن غيره.

اعلم انّ كلمة حتّى تستعمل على ثلاثة أوجه:

1. حرف جر.

2. حرف عطف.

3. حرف ابتداء.

أمّا الجارّة فهي مثل قوله سبحانه: (سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).

ص:436

و أمّا العاطفة فهي بمنزلة الواو مثل قوله:» أكلتُ السمكة حتّى رأسها «.

و أمّا الابتدائية فهي حرف يبتدأ بها الجمل مثل قول الفرزدق:

فوا عجبا حتّى كليب يسبني كأنّ أباها نهشل أو مجاشع(1)

إذا علمت هذا فاعلم أنّ حتّى الغائية هي حتّى الجارّة لا العاطفة و لا الابتدائية.

و بذلك تعرف ضعف بعض الأقوال التي نشير إليها.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه، إنّما يتصوّر إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره داخلاً في حكم المغيّى تارة و في حكم ما بعد الغاية أُخرى كالمرفق، و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا موضوع للبحث، كما إذا قال: اضربه إلى خمس ضربات، فالضربة السادسة، من أفراد بعد الغاية، و الضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّى حسب التبادر، فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيّى و عدمه.

و بعبارة أُخرى: انّ محلّ البحث ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء، كسورة الإسراء في المثال، أو الكوفة في قولنا: سر من البصرة إلى الكوفة، دون ما لم يكن كذلك، كما في الضربة الخامسة في المثال المذكور، أو كقولك: اقرأ سورة يس إلى آخرها.

إذا عرفت ذلك فنسرد الأقوال:

1. الخروج مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخراساني و سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (.

2. الدخول مطلقاً.

ص:437


1- كليب رهط جرير الذي هجاه الفرزدق بشعره هذا. و» نهشل «و» مجاشع «أبناء دارم رهط الفرزدق. فالشاعر يفتخر بآبائه.

3. التفصيل بين ما إذا كان ما قبل الغاية و ما بعدها متّحدين بالجنس فتدخل و إلاّ فتخرج، نظير قوله سبحانه: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(1)، بخلاف قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فتدخل في الأوّل دون الثاني.

4. التفصيل بين» حتّى «و» إلى «، فالدخول في الأوّل كما في قولك:» جاء الحجاج حتّى المشاة «، و » مات الناس حتّى الأنبياء «و عدم الدخول في الثاني.

5. عدم الدلالة على الدخول و الخروج و إنّما يُتبع في الحكم القرائن الدالة على واحد منهما.(2)

و إليك دراسة سائر الأقوال.

استدلّ نجم الأئمة على القول الأوّل بأنّ حدود الشيء خارجة عن الشيء و ما يتراءى من الدخول في بعض الموارد كالمرافق في الوضوء فلقرينة خارجية، و تبعه المحقّق الخراساني في البرهنة.

و استدلّ للقول الثاني بأنّ الغاية بمعنى النهاية و هي الأمر المنتزع من الجزء الأخير للشيء المفروض امتداده، كما أنّ الابتداء ينتزع من الجزء الأوّل للشيء، فإن كانت الغاية نهاية الشيء فتكون داخلة في الشيء و تشاركه في الحكم.

يلاحظ على الاستدلالين: بأنّ الظهور لا يثبت بالدليل العقلي، و المرجع في هذه المباحث هو التبادر، و أمّا القول بأنّ حدّ الشيء خارج عنه كما في الدليل الأوّل، أو انّ نهاية الشيء داخلة فيه كما في الدليل الثاني، إثبات للظهور بأمر عقلي فلا يعتد بهما.

ص:438


1- المائدة: 6.
2- لاحظ المغني، باب الحروف، حرف حتّى.

و أمّا الوجه الثالث: فقد نقله المحقّق القمي، و قال: إنْ كان المغيّى و الغاية من جنس واحد كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف فتدخل، و إلاّ فلا كقول القائل صوموا إلى الليل.

ثمّ ذكر انّ الظاهر انّ دليلهم في ذلك عدم التمايز فيجب إدخاله من باب المقدمة كما في إدخال المرفق في الغَسل، بخلاف ما لو اختلفا في الماهية و تميّزا في الخارج.

و أمّا التفصيل الرابع: فمبناه الخلط بين حتّى العاطفة و الخافضة، فانّ البحث في الثانية دون الأُولى، و ما مثله من قوله:» جاء الحجاج حتّى المشاة «فاللفظ فيه عاطفة لا جارة.

و أمّا الخامس: فلأنّ القائل لما وقف على كلا الاستعمالين و لم يرجّح أحدهما على الآخر توقّف في الحكم و قال بأنّه إنّما تتبع القرائن.

و أمّا التفصيل السادس: فذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري و هو التفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل كما في قولنا:» سر من البصرة إلى الكوفة «و بين كونها غاية للحكم مثل قولنا:» صم من الفجر إلى الليل « فيدخل في الأوّل، لأنّ الظاهر دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة، كما أنّ الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة أيضاً في المطلوب، دون الثاني فانّ المفروض أنّها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه إلى الفعل المتخصص بها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ البحث فيما إذا كان هناك أُمور ثلاثة:

1. الحكم.

2. المغيّى.

ص:439


1- درر الأُصول: 1/170.

3. الغاية.

و عندئذ يقع الكلام في كون الغاية جزءاً من المغيّى أو لا، فعلى الأوّل يشمله حكمه دون الثاني، و هذا يقتضي أن تكون الغاية قيداً للموضوع لا غاية للحكم، و إلاّ يكون الحكم و المغيّا أمراً واحداً كما في قولنا:

» كلّ شيء حلال، حتّى تعلم انّه حرام «فالتفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل أو للحكم خارج عن مصبّ البحث، بل البحث مركّز على ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل.

و الظاهر عدم الدخول مطلقاً، إلاّ إذا دلّ الدليل على الدخول، أخذاً بالمتبادر:

1. إذا قال: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهو صادق في إخباره إذا انتهى في سيره إلى باب الكوفة و سورها، و إن لم يدخل المدينة.

2. إذا قال: قرأت القرآن من أوّله إلى سورة الإسراء، فهو أيضاً صادق في إخباره إذا لم يقرأ شيئاً من سورة الإسراء.

و قس عليه نظائره، و الظاهر انّ حكم» حتّى «أيضاً حكم» إلى «بشرط أن تكون جارّة لا عاطفة، فإذا قلت: نمت البارحة حتى الصباح بالجر يصدق إذا نمت إلى مطلع الفجر نظير قوله تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).(1)

و من غرائب الكلام الإشكال على هذا النوع من الاستدلال بأنّه لا يثبت بذلك حكم العرف، و لعلّ الصدق لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر.

يلاحظ عليه: بأنّه إنّما يتوجّه لو كان مصب الاستدلال الأمر بالسير أو القراءة إلى الكوفة و الاسراء و شك الساري و القارئ في مقدار الواجب، كان عليه

ص:440


1- القدر: 5.

التمسّك بالبراءة، و لكن محلّه هو الجملة الإخبارية، و المتكلّم هو الذي يخبر بأنّه سار و قرأ كذلك و العرف يصدقه في كلامه، و لا يكون لهذا التصديق منشأ عندهم إلاّ عدم دلالتها على إدخال الغاية في حكم المغيّى.

ثمّ لو قلنا بأحد الأقوال في دخول الغاية في حكم المغيّى فهو، و إلاّ فيصير الكلام مجملاً فينتهي الأمر إلى الأُصول العملية، فهل المقام من مجاري الاستصحاب أو البراءة؟ فيه خلاف، فإذا غسل اليد دون المرفق فهل يمكن التمسّك باستصحاب بقاء الوجوب؟ الظاهر لا، لأنّ استصحاب الوجوب لا يثبت وجوب غسل المرفق إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّ بقاء الوجوب مع غسل ما سوى المرفق من اليد يلازم عقلاً وجوب غسل المرفق، و إلاّ لما كان وجه لبقائه لعدم وجوب ما فوق المرفق إجماعاً.

بل المورد مجرى البراءة لكونه من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر الارتباطيين.

ص:441

الفصل الرابع مفهوم الحصر

المشهور انّ الأُمور التالية تفيد الحصر:
اشارة

1. إلاّ الاستثنائية، 2. إنّما، 3. بل الاضرابية، 4. تقديم ما حقّه التأخر، 5. تعريف المسند إليه باللام.

و إليك دراسة الكلّ واحداً بعد الآخر.

1. الكلام في «إلاّ» الاستثنائية
اشارة

1. هل الاستثناء من النفي إثبات، و من الإثبات نفي، أو لا هذا و لا ذاك؟ 2. لو قلنا بالدلالة، فهل الجملة الاستثنائية أو خصوص لفظة» إلاّ «تدلّ على الحصر أو لا؟ و سيوافيك ما هو المراد من الحصر.

3. و هل دلالتها على الحصر، دلالة منطوقية أو مفهومية؟ و إليك دراسة تلك الأُمور:

أ. الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي

إنّ لفظة» إلاّ «تستعمل على وجوه:

ص:442

1. أن تكون للاستثناء نحو قوله: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً ).(1)

2. أن تكون صفة بمنزلة» غير «، فيوصف بها و بتاليها جمع منكَّر أو شبهه، نحو قوله: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ).(2)

3. أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ و المعنى، نحو قوله: (لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً ).(3)

4. أن تكون زائدة تختص بالشعر.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المفيد للحصر هو إلاّ» الاستثنائية «فنقول:

لا خلاف في أنّ الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي، و لم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة.

و قد أوضح الشيخ الأنصاري مقصود أبي حنيفة بقوله: إنّ غاية ما يُستفاد من الاستثناء انّ المستثنى غير داخل في الحكم الذي نطق به المتكلّم به، و أمّا حكمه واقعاً فيحتمل أن يكون محكوماً بحكم المستثنى منه أيضاً، أو يكون محكوماً بخلافه، و بالجملة انّ المتكلّم يريد بالاستثناء أن لا يخبر عنه بالحكم المذكور(4)، و عدم اخباره عنه بذاك الحكم لا يثبت عدم كونه محكوماً به بل يحتمل الأمرين.(5)

و احتجّ بمثل قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا صلاة إلاّ بطهور «فانّه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً يلزم أن تكون الصلاة نفس الطهور و إن لم تكن سائر الشرائط

ص:443


1- البقرة: 249.
2- الأنبياء: 22.
3- النمل: 1110.
4- و بعبارة أُخرى: ليس محكوماً بشخص الحكم لكن من المحتمل أن يكون محكوماً بسنخه كما يحتمل أن لا يكون كذلك.
5- مطارح الأنظار: 187.

موجودة.

يلاحظ عليه: بأنّه خلاف المتبادر منها في عامة الموارد، و خلاف ما يتبادر ممّا يعادله في بعض اللغات كلفظة» مگر «في الفارسية فانّه يعادل» إلاّ «الاستثنائية، فلو وقع بعد النفي، يفيد الإثبات، كما لو وقع بعد الإثبات، يفيد النفي.

أقول: ما استدلّ به ضعيف فانّ الحصر ناظر إلى صورة اجتماع عامّة الأجزاء و الشرائط غير الطهارة، و عندئذ تدلّ على لزوم تحصيل الطهارة أو قراءة فاتحة الكتاب، لأنّه لا تحصل الصلاة إلاّ إذا كانت الأجزاء و الشرائط الفعليّة المفروضة وجودها مقرونة بالطهارة، أو بقراءة الفاتحة، و عندئذ يصحّ أن يقال: انّ الصلاة نفس الطهارة، أي التوأمة مع سائر الأجزاء و الشرائط.

و يؤيد ذلك، التعبير عن ذلك» بطهور «أو بفاتحة الكتاب، دون أن يقول إلاّ طهوراً أو فاتحة الكتاب، ليفيد معنى الاقتران، أيْ اقتران سائر الأجزاء و الشرائط بهما.

ب. دلالته على الحصر

هذا هو الموضع الثاني، أي دلالة» إلاّ «الاستثنائية على الحصر و هو مبنيّ على تسليم الأمر الأوّل أعني أنّ الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي.

و الظاهر من كلمات الأُصوليين انّ أداة الحصر هو لفظة» إلاّ «و لكن الظاهر من الخطيب القزويني هو» النفي و الاستثناء «قال: و من أداة الحصر: النفي و الاستثناء، كقولك في قصر الموصوف أفراداً:» ما زيد إلاّ شاعر «، أو قلبا:» ما زيد إلاّ قائم «و في قصرها أفراداً و قلبا:» ما شاعر إلاّ زيد «.(1)

ص:444


1- شرح المختصر: 82.

و على أيّ تقدير فالظاهر أنّ المراد من الحصر، حصر الخارج عن حكم المستثنى منه، في المستثنى و انّه لم يخرج عنه سواه، و قد عبّر عن الحصر في الكفاية بقوله لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم سلباً أو إيجاباً بالمستثنى منه و لا يعمّ المستثنى.(1)

و يدلّ على الحصر بالمعنى المختار أمران:

1. تبادر الحصر

يتبادر الحصر من موارد استعمالاته في الكتاب و السنّة.

أمّا الكتاب فقوله سبحانه: (وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ).(2)

إذ لو لم تدل على الحصر لما تمّ الاحتجاج على الطوائف الخارجة عن الطوائف الأربعة الواردة في نفس السورة، إذ هي بصدد التنديد بسائر الطوائف، فلو لم تدل على الحصر و احتمل خروج بعض الطوائف عن الحكم عليهم بالخسران، لما تمّ التنديد، لأنّ كلّ طائفة غير الأربع يتصوّر انّها الخارجة عن حكم الآية.

و أمّا السنّة فقوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ في خمسة: الطهور و الوقت و القبلة، و الركوع و السجود «(3)على نحو لو دل دليل على لزوم اعادتها بفوت القيام المتّصل بالركوع، لعدّ مخالفاً للمفهوم، و يلزم تخصيصه به، لأنّ المنطوق أخصّ من المفهوم.

ص:445


1- كفاية الأُصول: 1/326.
2- العصر: 31.
3- الوسائل: 4، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.
2. دلالة كلمة الإخلاص على الحصر

قبول رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (إسلامَ من قال: لا إله إلاّ اللّه، فلو لم يكن مفيداً في حصر الالوهية في اللّه، لما شهد القائل بالتوحيد، و تصوّر انّ دلالته على التوحيد لأجل القرينة كما في الكفاية لا دليل عليه، و عدّه الشيخ في المطارح كلاماً سخيفاً.

ثمّ إنّ في كلمة الإخلاص سؤالاً و جواباً سيوافيك الكلام فيه بعد إتمام دراسة المواضع الثلاثة التي أشرنا إليها في صدر البحث.

ج. هل الدلالة على الحصر دلالة مفهومية؟

إذا قلنا: أكرم العلماء إلاّ زيداً، فهنا أُمور ثلاثة:

1. حكم المستثنى منه: وجوب إكرام العلماء باستثناء زيد.

2. حكم المستثنى، عدم وجوب إكرام زيد.

3. حصر الخروج في المستثنى.

أمّا الأوّل: فلا شكّ انّ دلالة الجملة عليه منطوقية، إنّما الكلام في الأمر الثاني، أعني: استفادة حكم المستثنى، فهل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فقد فصّل المحقّق الخراساني بين كون حكم المستثنى لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه فالدلالة مفهومية و بين كونه مستفاداً من لفظة» إلاّ «فمنطوقية، قال في هذا الصدد:

ثمّ إنّ الظاهر انّ دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم و انّه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلّت عليها الجملة الاستثنائية. نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما

ص:446

هو ليس ببعيد.(1)

توضيحه: انّه لو قلنا بأنّ حكم المستثنى مستفاد من الخصوصية الموجودة في الجملة الاستثنائية و انّ حكمه لازم الخصوصية، فالدلالة تكون مفهومية، و المراد من تلك الخصوصية هو» حصر المجيء في قوم غير زيد «فيفهم منه عدم مجيء زيد، فعدم مجيئه ليس مصرحاً به في الكلام و إنّما المصرّح به هو مجيء القوم، نعم قيد القوم بغير زيد.

و أمّا لو قلنا: إنّ لفظة إلاّ بمعنى» استثني «فاللفظ قائم مقام ذلك الفعل، فتكون الدلالة منطوقية لاستفادة حكم زيد من لفظة» إلاّ «.

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر انّ الدلالة منطوقية، و ذلك لأنّ هيئة الجملة الاستثنائية موضوعة لإفادة معنيين:

1. ثبوت الحكم للمستثنى منه.

2. و نفيه عن المستثنى.

و قد سبق تمثيل الخطيب القزويني للحصر الافرادي بقوله:» ما زيد إلاّ شاعراً «و في الحصر القلبي بقوله:» ما زيد إلاّ قائماً «فاستفادة كلّ من الحكمين من المنطوق و دلالة الهيئة الاستثنائية على حكم كلّ من المستثنى منه و المستثنى دلالة لفظية تضمنية.

و بذلك يسقط الاحتمال الثاني، أعني: كون إلاّ بمعنى» استثنى «.

و أما الثالث، أعني: دلالة الجملة الاستثنائية على حصر الخروج في المستثنى فهو محتمل الأمرين، و بما انّه لا يترتب على تعيين ذلك ثمرة عملية فلا نخوض فيه.

ص:447


1- كفاية الأُصول: 1/328.

و ربما يتصوّر وجود الثمرة، و هي انّ الدلالة المنطوقية أقوى من المفهومية، فتعيين إحدى الدلالتين غير خالي عن الثمرة.

يلاحظ عليه: أنّ تقديم الدلالة المنطوقية على المفهومية ليس لأجل كونها أقوى من المفهومية دائماً، بل ربما يكون المفهوم أقوى من المنطوق، بل الحكم في كلّ مورد يتبع أقوى الدلالتين.

بحث حول كلمة الإخلاص
الإشكال في تقدير خبر لا

لا شكّ انّ» لا «النافية للجنس تعمل عمل» ان «كقولك:» لا رجل قائم «و يكثر حذف خبرها كقوله سبحانه: (قالُوا لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ) (1)و قوله: (وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ). (2)و عندئذ يقع الكلام في تعيين الخبر، لقوله:» لا إله إلاّ اللّه «فان قدر» ممكن «كان اعترافاً بإمكان المستثنى، لا لوجوده، و إن قدر» موجود «كان اعترافاً بنفي وجود الآلهة، لا نفي إمكانه و كلا الأمرين خلاف المقصود، فانّ المطلوب من هذه الكلمة أمران:

1. الاعتراف بوجود المستثنى فعلاً هو رهن تقدير» موجود «لا» ممكن «.

2. إنكار إمكان الآلهة و امتناعها و هو رهن تقدير» ممكن «لا» موجود «فكلّ من الخبرين صالح من جهة و غير صالح لجهة أُخرى.

و قد أُجيب بوجوه:
1. انّ لفظ» لا «اسميّة غنية عن الخبر

إنّ لفظ» لا «النافية للجنس، اسمية غنية عن الخبر، فقولك:» لا رجل «و» لا

ص:448


1- الشعراء: 50.
2- سبأ: 51.

مال «، كلام تام غني عن الجواب، و هذا هو الذي نقله الشيخ الأنصاري عن بعضهم و حاصله: انّ العدم كالوجود، فكما أنّ الوجود منه رابط، مثل قوله:» زيد قائم «و منه محمول مثل:» زيد موجود «، فكذلك العدم، فمنه رابط مثل قولك:» زيد ليس قائماً «، و منه محمول مثل قولك:» زيد معدوم «. و الأوّل يحتاج إلى الطرفين لامتناع تحقّق الرابط بدونهما بخلاف الثاني، فالعدم المستفاد من كلمة» لا «على طريقة التميميّين عدم محمول و لا يحتاج إلى تقدير خبر، و المعنى نفي عنوان الالهية مطلقاً إلاّ في اللّه كأنّه يقول:» الإله معدوم إلاّ اللّه «كما في قولك: لا مال و لا أهل، و يراد منه نفي المال و الأهل.(1) و كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي يرتضيه في درسه الشريف في مبحث العام و الخاص كما سيوافيك.

فإن قلت: إنّ القضية لا بدّ لها من جهة و هي لا تخلو من الإمكان و الفعلية، و على كلّ تقدير يعود المحذور، فإن كانت الجهة هي الإمكان يكون الاستثناء اعترافاً بإمكان المستثنى، و إن كانت» الفعلية «التي هي مساوقة بالموجود، كان نفياً لوجود الآلهة لا لإمكانها.

قلت: إنّ الجهة لا هذا و لا ذاك، بل الجهة عبارة عن الضرورة فكأنّه يقول:» الإله معدوم إلاّ اللّه بالضرورة «و نفي الإله بالضرورة يساوق امتناعه، كما أنّ إثباته بالضرورة يلازم وجوب وجوده.

و صحّة الجواب مبنية على ثبوت» لا «الاسمية، و إلاّ يلزم تركيب الكلام من حرف و اسم، و نقل الشيخ في المطارح انّه لغة التميميّين لكن تفسير الجملة الذائعة بين العرب كلّهم بلغة طائفة خاصة ليس صحيحاً.

ص:449


1- مطارح الأنظار: 192.
2. الإله بمعنى واجب الوجود

المراد من» الإله «هو واجب الوجود، و نفي ثبوته و وجوده في الخارج و إثبات فرد منه و هو» اللّه « يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك و تعالى ضرورة انّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد، لكونه من أفراد الواجب.(1)

و على هذا فالمقدر هو» موجود «فهو يدلّ بالدلالة المطابقية على فعلية وجوده سبحانه و لكن يدلّ بالملازمة على نفي إمكان غيره، إذ لو كان ممكناً بالإمكان العام لكان موجوداً بالضرورة لضرورة وجوده و وجوبه.

يلاحظ عليه: أنّ الإله إمّا بمعنى المعبود، كما هو المشهور أو يساوق مفهومه مفهوم لفظ الجلالة، غير أنّ الأوّل كلّي، و الآخر علم شخصي فما يتبادر من لفظ» اللّه «هو المتبادر من لفظ» الإله « بحذف التشخّص، و أمّا كونه بمعنى واجب الوجود فلم يثبت. نعم هو من لوازم وجود الإله الواقعي.

3. المقصود حصر العبادة في اللّه لا إثبات وجوده

إنّ العرب الجاهليّين كانوا موحّدين في المراتب الثلاثة التالية:

1. التوحيد الذاتي: واحد لا ثاني له.

2. التوحيد الخالقي: لا خالق سواه.

3. التوحيد الربوبي: لا مدبر في الكون سواه.

و إنّما كانوا مشركين في العبادة، و كانوا يعبدون الأصنام بذريعة انّهم عباد اللّه المكرمين حتّى يتقربوا بعبادتهم إلى اللّه زلفى، فجاء النبي لردّ هذه العقيدة و انّ

ص:450


1- كفاية الأُصول: 2281/227.

العبادة كسائر مراحل التوحيد مختصة باللّه سبحانه، و انّه لا معبود إلاّ اللّه، فالكلمة سيقت لحصر العبادة فيه لا لإثبات وجوده.

يلاحظ عليه: بأنّ الإشكال باق بحاله لكن بصورة أُخرى، و هو انّ الخبر امّا ممكن أو موجود، فعلى الأوّل لم يعترف بكونه معبوداً بالفعل، و على الثاني لم ينف إمكان معبودية غيره.

4. الكلمة مشتملة على عقد واحد و هو عقد النفي

إنّ الإشكال مبني على أنّ الكلمة الطيبة مشتملة على عقدين: عقد النفي و عقد الإثبات بمعنى نفي ألوهية غيره، و إثبات أُلوهيّته، و عندئذ يتوجه الإشكال، لأنّ الغرض في العقد الأوّل نفي الإمكان، و في الثاني إثبات وجوده فعلاً و الخبر الواحد، أعني:» ممكن «أو» موجود «لا يفي بكلا الأمرين.

و أمّا لو قلنا بأنّ الغرض الأقصى منها، هو العقد السلبي، أي سلب الأُلوهية عن كلّ ما يتصوّر سوى اللّه سبحانه، و امّا إثبات الأُلوهية للّه سبحانه، فليس بمقصود، لكونها كانت أمراً مسلّماً، فيسقط الإشكال، و يكون الخبر المقدر، هو الممكن.

و يكون مفاده نفي إمكان أُلوهيّة غيره و أمّا أُلوهيته سبحانه، إمكاناً أو فعلاً، فليس بمقصود، لكونها أمراً مسلماً إمكاناً و فعلية.(1)

5. الهدف نفي الفعلية و إثباتها

و هذا الوجه ذكره الشيخ الأنصاري، و حاصله: انّ الغاية من كلمة

ص:451


1- التعليقة على الكفاية: 159، للعلاّمة الطباطبائي.

الإخلاص في جانبي السلب و الإيجاب، هو نفي أُلوهية الآلهة الموجودة بين المشركين و حصر الأُلوهية في اللّه.

و بعبارة أُخرى نفي الفعلية عنها و إثباتها له، و أمّا نفي إمكان أُلوهيتها فليس بمطلوب في المقام و إنّما يطلب من الآيات الأُخرى نظير:

1. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ )(1)، و قوله: (وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ )(2).(3)

هذه هي أجوبة القوم في المقام، و الأظهر هو الجواب الرابع و الخامس، فلاحظ.

***

2. من أدوات الحصر لفظة «إنّما»
اشارة

من أدوات الحصر كلمة» إنّما «قال الخطيب في تلخيص المفتاح: و منها» إنّما «كقولك في قصره أفراداً» إنّما زيد كاتب «و قلنا:» إنّما زيد قائم «(4)فلو أُريد من الكلام قطع الشركة كما إذا زعم المخاطب انّ زيداً كاتب و شاعر معاً، فيكون القصر أفراداً، و إن أُريد قلب اعتقاد المتكلّم كما إذا اعتقد المخاطب انّ زيداً قاعد، يكون القصر قلباً.

و استدلّ علماء المعاني على إفادتها للحصر بوجوه:

1. انّ لفظة» إنّما «تتضمن معنى» ما «و» إلاّ «بشهادة قول المفسّرين (إِنَّما

ص:452


1- الأنبياء: 22.
2- المؤمنون: 91.
3- مطارح الأنظار: 192.
4- المختصر: 82.

حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ) (1)أي ما حرم ربّكم إلا الميتة و ما تلاها.

2. قول النحاة: إنّ لفظة» إنّما «لإثبات ما يذكر بعدها و نفي ما سواه.

3. صحّة انفصال الضمير معه، كقولك:» إنّما يقوم أنا «و لا وجه لظهور الضمير إلاّ إفادة الحصر.

أنا الذائد الحامي الذمار و إنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي(2)

و استدل المحقّق الخراساني على إفادته الحصر بوجهين تاليين:

4. تبادر الحصر منها في استعمالاتها.

5. تصريح أهل اللغة بذلك كالأزهري و غيره.(3)

و أورد على الأوّل من الأخيرين بأنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة و لا يعلم بالدقة، لعدم وجود ما يرادفها في عرفنا حتّى يستكشف منه بمراجعة الوجدان.

يلاحظ عليه: بأنّه يكفي التبادر عند أهل اللسان و إن لم يكن في عرفنا ما هو مرادف لها.

و على الثاني منها بأنّ قول اللغوي ليست بحجّة إلاّ من باب الظن المطلق.

يلاحظ عليه: بأنّه إذا تضافر النقل من اللغويين و النحويين و علماء المعاني على أنّه يفيد الحصر، أفاد ذلك وثوقاً و هو علم عرفي و حجّة شرعية.

ص:453


1- البقرة: 173.
2- الذمار كلّ ما يلزمك حمايته و حفظه و الدفع عنه.
3- مطارح الأنظار: 192; درر الأُصول: 197.
دليل النافي لإفادة الحصر

ذهب الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (1)إلى أنّ لفظة» إنّما «لا تفيد الحصر ليبطل بذلك دلالة الآية على ولاية الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (، و استدلّ على مختاره بالآية التالية:

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ).(2)

وجه الاستدلال: انّ حال الدنيا ليس منحصراً بما جاء في هذا المثل، بل يمكن بيان حال الدنيا بتمثيلات أُخرى.

1. (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ).(3)

2. (وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ ).(4)

إلى غير ذلك من الأمثال الواردة في الكتاب و السنّة و الأدب العربي بُغْية بيان حال الدنيا و هذا آية عدم الحصر.(5)

ص:454


1- المائدة: 55.
2- يونس: 24.
3- محمد: 36.
4- الحديد: 20.
5- مفاتيح الغيب: 12/30 بتصرف و إيضاح.

يلاحظ عليه: بأنّ الدنيا في التمثيلات المتقدّمة شبهت بأُمور متماثلة في الحقيقة و المعنى كما في تشبيهها بماء أنزل من السماء أو باللعب و اللهو أو ببيت عنكبوت، فالمشبه به و إن كان مختلفاً صورة، و لكنّه واحد معنى و هدفاً، فلو نظرنا إلى الدنيا من حيث سرعة الفناء و عدم الخلود فالدنيا أمر غير باق زائل، كزوال طراوة الورود و الأزهار و الأشجار الخضراء، أو زوال اللهو و اللعب بسرعة حيث يتمّ بعد ساعة أو ساعتين، و انخرام بيت العنكبوت بقطرة ماء أو شعلة نار أو بنسيم الصبا و أمثالها.

فلا يصحّ أن يقال: انّ واقع الدنيا لا ينحصر في الأوّل، إذ لا فرق بين الأوّل و الثاني و الثالث فالجميع إشارة إلى أمر واحد.

فإن قلت: ما معنى الحصر في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(1)، و قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (2)حيث إنّه أوحى إلى النبي أشياء كثيرة وراء قوله: إله واحد فلو قلنا بالحصر يجب أن يكون الموحى إليه أمراً واحداً.

قلت: إنّ الحصر في الآية إضافي و ليس بحقيقي فليست الآية بصدد بيان انّه لم يوح إليه طول رسالته إلاّ أمر واحد، بل بصدد بيان أنّ الذي أُوحي إليه في مجال معرفة اللّه شيء واحد، و هو انّه إله واحد لا اثنان كما عليه الثنوية و لا ثلاثة كما عليه المسيحية، و لا أكثر كما عليه المشركون، ففي هذا المجال لم يوح إليه إلاّ شيء واحد.

ص:455


1- الأنبياء: 108.
2- الكهف: 110.

و أظن انّ الرازي و من لفّ لفّه كان عالماً بعدم صحّة ما تمسّك به لكن عقيدته المسبقة بتربيع الإمامة و انّ علياً رابع الخلفاء لا أوّلهم، جرته إلى هذه المناقشات غير التامة.

و على كلّ تقدير درس مورد الآيات المشتملة على كلمة» إنّما «يقف على أنّه يفيد الحصر، و إليك بعض هذه الآيات:

1. (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ).(1)

2. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ... ).(2)

3. (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ ).(3)

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالحصر خصوصاً إذا كانت بعد السلب، كما إذا قيل: ليس زيد قائماً إنّما هو قاعد.

و على كلّ تقدير فلو دلت على الحصر فإنّما تدلّ بالمنطوق لا بالمفهوم و لا وجه لتسمية تلك الدلالة و ما تقدّمها مفهوماً.

3. بل الإضرابية

ذكر النحاة و الأُدباء في كتبهم القواعد التالية للفظة بل:

1. انّ لفظة بل وضعت للإضراب و الانتقال من معنى إلى معنى، أو من

ص:456


1- المائدة: 33.
2- البقرة: 173.
3- الممتحنة: 98.

غرض إلى غرض، و هذه الحقيقة لا تنفك عن لفظة بل، قال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ).(1)

2. لو تلاها جملة فهي حرف ابتداء كما في الآية المتقدمة و ليست بعاطفة، و إن تلاها مفرد فهي عاطفة كما سيوافيك أمثلته.

3. ثمّ إنّ لفظة» بل «تارة تنقل حكم المعرض عنه إلى المدخول بعينه، و أُخرى تنقل ضدّه، و هذا ممّا لا بدّ للفقيه من معرفة موارده.

فإن تقدّمها جملة خبرية إيجابية أو جملة إنشائية، فعندئذ تنقل حكم الأوّل إلى الثاني و مع السكوت عن حكم المضرب عنه فلا يحكم عليه بشيء من النفي و الإثبات كقولك: اضرب زيداً بل عمراً، و قام زيد بل عمر، و إلى تلك الضابطة يشير ابن مالك في منظومته و يقول:

و انقل بها للثاني حكم الأوّل في الخبر المثبت و الأمر الجلي

و إن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته مع جعل ضدّ ما سبق لما بعدها نحو قوله: ما قام زيد بل عمرو، أي: بل قام عمرو، و لا تضرب زيداً بل عمراً، أي: بل اضرب عمراً.(2)

هذه هي القواعد الكلية في تلك اللفظة و عند ذاك تصل النوبة إلى البحث عن إفادتها الحصر فقد اختلفت الأقوال كالتالي:

1. لا تفيد الحصر مطلقاً، و نسب إلى الحاجبي.

2. تفيد الحصر مطلقاً، و نسب إلى الزمخشري.

ص:457


1- الأعلى: 1614.
2- المغني، باب الحروف. (حرف بل)، ج 1، ص 151، ط 5; بيروت 1979 م.

3. انّ لفظة» بل «وضعت لنقل الحكم من المتبوع إلى التابع فقط مطلقاً كما عن بعضهم أو في الإثبات فقط كما عليه المشهور.

4. التفصيل بين مورد دون مورد، و هو خيرة المحقّق الخراساني. و حاصله: انّ الاضراب على أقسام ثلاثة:

1. ما كان لأجل انّ المضرب عنه إنّما أُوتي به غفلة أو سبقه به لسانه فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه، كأن يقول: جاءني زيد بل عمرو فيما إذا التفت إلى أنّ قوله:» زيد «غلط أُوتي به غفلة، ففي مثله لا دلالة لها على الحصر.

2. ما كان لأجل التأكيد فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة و التمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له على الحصر أيضاً كقوله سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ).(1)

و قوله تعالى: (وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ).(2)

3. ما كان في مقام الردع و إبطال ما أثبت أوّلاً فيدلّ على الحصر، قال سبحانه: (وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ).(3)

و المعنى بل هم عباد و نحوه قوله سبحانه: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) (4)و هو يفيد الحصر.

و لا يخفى انّها لو أفادت الحصر فالحصر إضافي، أي انّه ليس شأن لملائكة

ص:458


1- الأعلى: 1614.
2- المؤمنون: 62 63.
3- الأنبياء: 26.
4- المؤمنون: 70.

اللّه في مقابلة اتهامهم بالولدية إلاّ أنّهم عباد مكرمون، و مع ذلك لا ينافي أن يكون لهم شأن في غير ذلك المجال، فانّهم كتبة الأعمال و قبضة الأرواح إلى غير ذلك من الشئون.

4. من أدوات الحصر تقديم ما حقّه التأخير

اتّفق النحاة على أنّ تقديم ما حقّه التأخير كالمفعول يفيد الحصر، كقوله سبحانه: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ).(1)

نعم لا يصحّ أن يقال انّه يفيد الحصر دائماً، إذ ربما يكون للتقديم علل مختلفة كالأهمية و غيرها.

5. اشتمال المسند إليه على اللام
اشارة

و قال المحقّق الخراساني ما هذا حاصله: إذا كان المسند إليه محلّى بلام الجنس و كان الحمل شائعاً لما أفاد الحصر، كما إذا قال: الضارب زيداً، فانّ غاية ما يفيده الحمل اتحادهما وجوداً و مصداقاً، و مثل ذلك لا يقتضي حصر المسند إليه في المسند.

نعم يفيد تعريف المسند إليه الحصر في موارد ثلاثة:

1. إذا كانت اللام للاستغراق.

2. إذا أُخذ مدخول اللام بنحو الإرسال و الإطلاق.

3. إذا كان الحمل حملاً أوّلياً ذاتياً.

فلنرجع إلى إيضاح ما أفاده فنقول: إنّ لام التعريف على أقسام:

ص:459


1- الحمد: 5.
1. لام الجنس فيما إذا كان الحمل شائعاً

يقع الكلام تارة فيما إذا كان الحمل شائعاً صناعياً و أُخرى حملاً أوّلياً.

أمّا الأوّل فله أقسام خمسة:

أ. إذا كانت النسبة بين المسند إليه و المسند التساوي نحو الإنسان ضاحك.

ب. إذا كان المسند إليه أخصَّ مطلق من المحمول، نحو: الإنسان ماش.

ج. إذا كان المسند إليه أعمّ مطلق من المسند نحو: الأمير زيد.

د. إذا كانت النسبة بينهما عموماً و خصوصاً من وجه كما في قول القائل: الحمامة بيضاء.

فالقسمان الأوّلان يفيدان الحصر لا لجهة اللام، بل لأجل كون النسبة هي التساوي أو كون المسند إليه أخصّ مطلق.

فلو استفيد الحصر فإنّما يستفاد من لحاظ النسبة، و أمّا وجود اللام فليس له دور في المقام، و أمّا الآخران فلا يدلاّن على الحصر لافتراض انّ المسند إليه أعمّ من المسند، أو كون النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه فلا يعقل للحصر مفهوم.

و حاصل الكلام: انّ الذي يؤثر في الحصر و عدمه هو لحاظ واقع المسند إليه مع المسند من حيث النسبة، و لذلك يفيد الحصر في الأوّلين دون الآخرين.

إذا أُريد من مدخول لام الجنس الإطلاق و الإرسال فهو يفيد الحصر، كما في قوله: (اَلْحَمْدُ لِلّهِ ) فانّ حصر جنس الحمد للّه، لأجل انّ كلّ ما يصدق عليه الحمد فهو للّه حتّى الحمد الموجه إلى غيره، لانّه سبحانه مبدأ المحامد و أصلها، فكلّ ما للغير من جمال و كمال فهو منه سبحانه.

ص:460

هذا كلّه إذا كان الحمل شائعاً صناعياً، و إليك الكلام في الثاني، أي فيما إذا كان الحمل أوّلياً.

2. لام الجنس إذا كان الحمل أوّلياً

إذا كانت النسبة بين المسند إليه المحلّى باللام و المسند هو التساوي في المفهوم لا الوجود. و بعبارة أُخرى: إذا كان الحمل أوّلياً فهو يفيد الحصر بلا إشكال، نظير قولك: الإنسان حيوان ناطق غير أنّ الحصر مدلول وحدة الموضوع و المحمول مفهوماً و ليس للام هاهنا أيّ دور.

هذا كلّه حول لام الجنس، و إليك الكلام في القسمين الآخرين للام.

3. لام العهد

إنّ لام العهد بمنزلة» هذا «و الغرض الإشارة إلى ما سبق ذكره، كما في قوله تعالى: (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) (1)و لا يدلّ على الحصر كما هو واضح.

4. لام الاستغراق

و المراد من لام الاستغراق ما يدلّ على شمول المدخول لكلّ ما يصدق عليه، نحو قوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (2)و هو يفيد الحصر قطعاً، أي حصر الإنسان في الخسر على نحو لا يشذّ عنه فرد من أفراد المدخول، إلاّ إذا قام الدليل على الخروج كما في قوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ).

ص:461


1- المزمل: 1615.
2- العصر: 2.
بعض أدوات الحصر

من أدوات الحصر توسط الضمير بين المسند إليه و المسند، كقولك: زيد هو القائم.

كما أنّ من أدواته أيضاً تعريف المسند نحو زيد الأمير.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في المقام ضابطة غالبية و ليست ضابطة عامة، و لذلك يجب على المحقّق الإمعان في القرائن التي يكتنف بها الكلام.

ص:462

الفصل الخامس مفهوم اللقب

قسّم الأُدباء الاسم الذي يعيّن المسمّى إلى أقسام ثلاثة:

1. العلم، 2. الكنية، 3. اللقب.

يقول ابن مالك:

اسمٌ يُعَيِّنُ الْمُسَمّى مُطلقاً عَلَمُهُ كَجَعْفَر وَ خِرْنَقاً

وَ قَرَن وَ عَدَن وَ لاحِق وَ شَذْقَم وَ هَيْلَة وَ واشِق

وَ اسْماً أتى وَ كُنْيَةً وَ لَقباً وَ أَخِّرَنْ ذا إِنْ سِواهُ صَحِبا

فإذا قلنا: اللهمّ صلّ على سيّدنا أبي القاسم محمّد رسول اللّه، فقد جاء فيه الكنية و العلم و اللقب.

هذا هو مصطلح النحاة في لفظ اللقب، و أمّا مصطلح الأُصوليين في اللقب هو كلّ ما يعدّ من أركان الكلام أو أحد قيوده كالفاعل و المفعول و المبتدأ و الخبر و القيود الزمانية و المكانية كلّها ألقاب حسب ذلك الاصطلاح، و المعروف بين الأُصوليين إلاّ من خرج كالدقاق و الصيرفي و أصحاب أحمد بن حنبل عدم المفهوم للقيود الواردة في الكلام مستدلاً بأنّ قولنا:» المسيح رسول اللّه «لا يعدّ

ص:463

دليلاً على أنّ محمّداً ليس رسول اللّه، فإذا قال:» أكرم زيداً في الدار «فالتشريع محدد بالإكرام في الدار و لا يدلّ على عدم وجوبه في غير الدار، لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

و أمّا عدم إجزاء الإكرام في غير الدار عن الإكرام في الدار فليس لأجل كون القضية الأُولى ذات مفهوم، بل لأجل عدم امتثال المأمور به.

فهناك فرق بين الدلالة على العدم و بين عدم الإجزاء لأجل عدم الامتثال، فإذا قال: نذرت للفقراء أو وقفت عليهم أو أوصيت لهم ثمار هذا البستان، فلا يدلّ على نفي الحكم عن غير الفقراء، بل هو ساكت عنه.

نعم لو صرف ثماره على الأغنياء لا يجزي لا لأجل المفهوم، بل لأجل عدم الامتثال.

و على ضوء هذا ذهب الأُصوليون إلى أنّ للقيود الموجودة في الكلام لها مدخلية في الحكم على نحو لولاها لما أمكن الحكم بالموضوع، و مع ذلك لا يدلّ على سلب الحكم عنه عند عدمه، و ذلك لأنّ إثبات الشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

مع ذلك فهذه الضابطة ضابطة غالبية و ربما تدلّ القرائن على الأخذ بالمفهوم، و قد نقل رحمة اللّه الكرماني في تعليقته على الرسائل عند البحث عن مفهوم الوصف لآية النبأ، قصة مفيدة في المقام فلاحظ.

ص:464

الفصل السادس مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ في الموضوع أو في جانب المحمول يتصوّر على أقسام أربعة:

1. أن يؤخذ العدد في جانبي الزيادة و النقيصة على نحو» لا بشرط «فلا تعد النقيصة مخلة و لا الزيادة كذلك. كقوله سبحانه مخاطباً النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (: (اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ).(1)

فانّ ذكر عدد سبعين لبيان المبالغة لا للتحديد، فلا تكون النقيصة و لا الزيادة موجبة للغفران، لأنّ الجميع لبيان عدم صلاحيتهم للمغفرة سواء أ زاد على السبعين أم نقص منه.

2. يؤخذ» بشرط لا «في كلا الجانبين كأعداد الفرائض.

3. يؤخذ» بشرط لا «في جانب النقيصة دون الزيادة، كما هو الحال في مسألة الكر فانّه عبارة عن ثلاثة أشبار و نصف، طولاً و عرضاً و عمقاً و لا يكفي الناقص كما لا يضر الزائد.

ص:465


1- التوبة: 80.

4. على عكس الصورة الثالثة بأن يؤخذ» بشرط لا «في جانب الزيادة دون النقيصة كما في أيام العادة فيحكم عليها بالحيض إلى العشر بشرط أن لا تتجاوز، و كما هو الحال في الفصل بين المصلين فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

فإذا كان العدد حسب الثبوت على أقسام أربعة، فكيف يمكن لنا القول بالمفهوم فيه، أي انّه مأخوذ بشرط لا في كلا الجانبين، إذ ليس معنى المفهوم إلاّ هذا.

و الحاصل: انّه لو كان العدد دائماً لغاية التحديد في كلا الجانبين كان علينا الأخذ بالمفهوم أي بدلالة الدليل على عدم كفاية الأقل و إخلال الزائد، و أمّا إذا كان الواقع على الوجوه الأربعة فلا يمكن استظهار المفهوم.

هذا ما يرجع إلى مقام الثبوت و لكن ما ورد في القرآن الكريم من الأعداد في آيات الأحكام فهو بصدد التحديد من كلا الجانبين أو من جانب واحد، نحو قوله سبحانه:

1. (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ). (1)فظاهر الآية التحديد في كلا الجانبين.

2. قوله سبحانه: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ )(2)، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا جانب الزيادة.

ص:466


1- النور: 2.
2- البقرة: 282.

3. (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً )(1)، فالآية بصدد تحديد جانب النقيصة لا الزيادة.

4. (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ )(2)، و الآية ظاهرة في تحديد جانب النقيصة، و يحتمل أن يكون كذلك جانب الزيادة أيضاً.

و الحاصل: انّ الأعداد الواردة في مقام التشريع ظاهرة في التحديد.

و الذي يهم الفقيه أن يدرس كلّ مورد و يأخذ بحكمه:

1. فربما يؤخذ بشرط لا في جانب الأقل، كما هو الحال في عدد الغسلات من البول و الخنزير و عدد منزوحات البئر و النصاب بالزكاة و الخمس، و عدد من تقوم به الجمعة و الجماعة.

2. و ربما يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة، ككون ما تراه المرأة من الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا يتجاوز.

إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم أحد الأمرين فالظاهر كونه في مقام التحديد زيادة و نقيصة.

تطبيقات

اشارة

ثمّ إنّ تعلم القواعد و إن كان مهماً لكن الأهمّ هو تطبيقها على مصاديقها الواردة في الكتاب و السنّة، و ها نحن نذكر بعض التطبيقات في المقام:

فرعان مبنيان على إفادة إلاّ للحصر

1 لو حصل التغيير في ماء الكرّ أو الجاري في غير صفاته الثلاث كالحرارة و الرقّة و الخفّة، فهل ينجس أو لا؟ الظاهر هو الثاني للحصر المستفاد من

ص:467


1- النور: 4.
2- النور: 6.

الاستثناء بعد النفي، أعني قوله) عليه السلام (: خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونَه أو طعمه أو ريحه.(1)

2. لو ضمّ إلى نيّة التقرّب في الوضوء رياء، قال المرتضى بالصحّة مع عدم الثواب و المشهور هو البطلان، لقوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(2)، و المراد من» الدين «هو الطاعة، و الحصر قاض بأنّ فاقدة الإخلاص لا أمر بها فلا تكون صحيحة.(3)

فرعان مبنيان على إفادة» إنّما «للحصر

1. يجب أن تُحنَّط مساجد الميّت السبعة بالحنوط، و هو الطيب المانع عن فساد البدن، و ظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالكافور لقول الصادق) عليه السلام (:» إذا أردت أن تحنط الميت فاعمد إلى الكافور «.(4)

2. روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: إذا كنت إماماً» فإنّما التسليم «أن تسلّم على النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و تقول: السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة.(5)

فيدلّ الحصر على عدم الخروج إلاّ بالتسليم الثاني.

***

ص:468


1- الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 1/83.
2- البيّنة: 5.
3- لاحظ الجواهر: 972/96.
4- الوسائل: 2، الباب 14 من أبواب التكفين، الحديث 1; لاحظ الجواهر: 4/176.
5- الوسائل: 4، الباب 2 من أبواب التسليم، الحديث 2.
فروع مبنية على مفهوم العدد

1. لا يفسد الصوم ما يصل إلى الجوف بغير الحلق من منافذ البدن المعلومة عمداً غير الحقنة بالمائع، لصدق اسم الصوم معه شرعاً، و حصر الباقر) عليه السلام (:» لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب، و النساء، و الارتماس في الماء «.(1)

2. هل يكفي الحجر الواحد إذا كان له أطراف ثلاثة؟ قيل لا، لورود النصّ على ثلاثة أحجار إلاّ أن يحمل على الغالب.(2)

3. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل: نعم لمفهوم موثقة سماعة قال: سألته عن الجنب، هل يقرأ القرآن؟ قال:» ما بينه و بين سبع آيات «.(3)

4. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة و هي ثلاثة أيّام; قال بعض الأفاضل: بلياليها تحقيقاً، لأنّه الأصل في التحديد.(4)

5. يستحبّ أن يرغم الأنف في حال السجود و لا يجب، لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء.(5)

6. لا تنعقد الجمعة بالأقلّ من خمسة لقوله) عليه السلام (:» لا تكون الخطبة و الجمعة و صلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة «(6)، فيكون مفهومه لو

ص:469


1- الوسائل: 7، الباب 1 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1; لاحظ الجواهر: 16/296.
2- الوسائل: 2، الباب 9 من أبواب الخلوة، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 2/35.
3- الوسائل: 2، الباب 19 من أبواب الجنابة، الحديث 9; لاحظ الجواهر: 3/71.
4- لاحظ الجواهر: 23/30.
5- الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب السجود، الحديث 8; لاحظ الجواهر: 10/174.
6- الوسائل: 5، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 11/199.

قلنا بأنّ للعدد مفهوماً انعقادها بالخمسة.

فروع لها صلة بمفهوم اللقب

1. يستدل على حرمة عمل الصور المجسّمة لذوات الأرواح بصحيح زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» لا بأس بتماثيل الشجر «.(1)

2. يستدلّ على اختصاص خيار الحيوان بالمشتري بصحيح الحلبي عن الصادق) عليه السلام (:» في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام للمشتري، و هو بالخيار فيها إن شرط أو لم يشترط «.(2) فيدلّ على نفيه عن البائع بمفهوم اللقب.

3. روي عن أمير المؤمنين) عليه السلام (أنّ رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (نهى أن يكفن الرجال في ثياب الحرير، فلو قلنا بالمفهوم لدلّ على جواز تكفين المرأة به.(3)

4. استدلّ على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد بصحيح ابن سنان» يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها «، و مفهومه عدم جواز الاكتفاء بها لغيره.(4)

تمّ الكلام في المفاهيم

ص:470


1- الوسائل: 12، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 22/42.
2- الوسائل: 12، الباب 3 من أبواب الخيار، الحديث 1.
3- المستدرك: 2، الباب 91 من أبواب الكفن، الحديث 2; لاحظ الجواهر: 4/170.
4- الوسائل: 4، الباب 2 من أبواب القراءة، الحديث 5; لاحظ الجواهر: 9/334.

المقصد الرابع في العام و الخاص و فيه فصول:

الفصل الأوّل: للعام صيغة تخصّه الفصل الثاني: تخصيص العام لا يوجب المجازية الفصل الثالث: العام المخصّص حجّة في الباقي الفصل الرابع: في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً الفصل الخامس: المخصص اللفظي المجمل مصداقاً الفصل السادس: إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي الفصل السابع: إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي الفصل الثامن: إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي الفصل التاسع: لزوم الفحص عن المخصّص الفصل العاشر: في الخطابات الشفاهية الفصل الحادي عشر: تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده الفصل الثاني عشر: تخصيص العام بالمفهوم الفصل الثالث عشر: الاستثناء المتعقّب للجمل الفصل الرابع عشر: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد الفصل الخامس عشر: في حالات العام و الخاص

ص:471

ص:472

المقصد الرابع العام و الخاص

و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الاول: الأُمور الاعتبارية و التعريف الحقيقي

التعاريف الواردة في كلمات القوم في أمثال المقام هل هي تعاريف حقيقية أو تعاريف لفظية؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثانية، و علّلها بوجهين:

1. كون المعنى المركوز في الأذهان أوضح ممّا عُرِّف به مفهوماً و مصداقاً، و لذا يجعل صدق ذلك المعنى على فرد و عدم صدقه، مقياساً في الإشكال على التعاريف بعدم الاطراد أو الانعكاس. و التعريف لا بدّ أن يكون بالأجلى مع أنّ مصاديقه أجلى بكثير من التعريف.

2. عدم تعلّق غرض و ثمرة فقهية و حكم فرعي عليه.

يلاحظ على الوجه الأوّل بأنّ الظاهر أنّهم بصدد التعريف الحقيقي و آية ذلك، الإشكال بعدم الطرد و عدم العكس، و لو كانوا بصدد التعريف اللفظي لتركوا نقد التعاريف.

ص:473

و هذا لا ينافي أن تكون بعض المصاديق أوضح ممّا جاء في التعريف كما هو الحال في أكثر الموضوعات الواقعة في مجاله. و لو كان وضوح بعض المصاديق مانعاً عن التعريف الحقيقي لصار مانعاً في أكثر الموارد حتّى الأُمور التكوينية كالبياض و السواد و الماء و التراب مع انّ الجميع يقع في أُطرِ التعريف.

و الغرض من التعريف، هو التعرّف على المصاديق غير الواضحة، على نحو يكون التعريف مقياساً لتمييز المصداق عن غيره في عامة الموارد، سواء أ كان واضحاً أم لا.

و يلاحظ على الثاني بانّ عدم ترتّب الثمرة الفقهية لا يكون مانعاً عن التعريف فانّ أكثر ما يذكرونه في مقدمات علم الأُصول بل و في ضمن المقاصد ربما لا يترتّب عليها ثمرة فقهية كالبحث عن الوضع و المعاني الحرفية نعم فيها تشخيص للأذهان.

و مما يؤخذ على المحقّق الخراساني انّه جعل التعريف اللفظي مرادفاً للتعريف بشرح الاسم مع انّه غيره و قد أوضحنا حاله في مباحث الألفاظ عند البحث عن تقسيم الواجب إلى مطلق و مشروط.(1)

و ربما يقال انّ التعريف الحقيقي من خصائص المتأصلات و الأعيان الخارجية دون المفاهيم الاعتبارية لانّ مأخذ الجنس و الفصل هو الوجود الخارجي و ما لا وجود له خارجاً لا جنس له و لا فصل.

و لذلك يعبر في الأُمور الاعتبارية عمّا به الاشتراك بانّه كالجنس و عمّا به الامتياز بانّه كالفصل، مثلاً يقول الشهيد الثاني في كتاب الروضة عند قول الشهيد في تفسير الطهارة» بانّه استعمال طهور مشروط بالنية «: إنّ الاستعمال كالجنس و ما

ص:474


1- لاحظ إرشاد العقول: 4591/458.

هذا إلاّ لانّ الطهور أمر اعتباري.

و مع ذلك كلّه فانّ تعريف كلّ شيء بحسبه، فالتعريف الحقيقي للأُمور الاعتبارية لا يعدو عن مفاهيم اعتبارية يشكِّل أحدهما القدرَ المشترك، و الآخر وجه الامتياز.

الثاني: تعريف العام
اشارة

عرّف علماء الأُصول العامَ بوجوه نذكرها تباعاً:

1. شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ التعريف مبني على أنّ وصف اللفظ بالعموم إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم به، و سيوافيك عدم صحّته، فانّ للعموم في لغة العرب و بعض اللغات التي نعرفها ألفاظاً خاصة وضعت للعموم، سواء أتعلق به حكم أو لا.

و ثانياً: أنّ التعريف يشمل المطلق، فالحكم فيه أيضاً شامل لجميع أفراد مدخوله غاية الأمر على وجه البدل مثل قوله: اعتق رقبة.

2. شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه

يلاحظ عليه: أنّ فاعل قوله:» ينطبق عليه «هو لفظ العام كالعلماء في قوله:» أكرم العلماء «، و من المعلوم أنّ المقياس في العام شموله لكلّ ما ينطبق عليه مفرده، لا شموله لكلّ ما ينطبق عليه لفظ العام، فكم فرق بينهما؟ فانّ العام كالعلماء لا ينطبق إلاّ على ثلاثة، ثلاثة، و أمّا مفرده فينطبق على واحد واحد. و لذلك عدل المحقّق البروجردي إلى تعريف ثالث و هو:

ص:475

3. شمول مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد.

فلفظة العلماء عام لشمولها لجميع ما يصلح أن ينطبق مفرده عليه.(1)

الثالث: أقسام العام
اشارة

إنّ العام ينقسم إلى استغراقي و مجموعي و بدليّ، فإن لوحظ كلّ واحد من أفراد العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به بحياله و استقلاله، أي بوصف الكثرة فهو عام استغراقي، و إن لوحظ الأفراد لا بحياله بل بنعت الجمع فهو مجموعي، و إن لوحظ واحد من الأفراد لا بعينه على نحو الفرد المنتشر، فهو بدلي.

و على ما ذكرنا فالعام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم به، ينقسم إلى تلك الأقسام، فالمتكلّم تارة يلاحظ كلّ فرد فرد على نحو الاستقلال بحيث لو تعلّق به حكم يكون لكلّ فرد إطاعة و عصيان.

و أُخرى يلاحظه بنحو المجموع على نحو لو تعلّق به الحكم يكون له إطاعة واحدة و عصيان واحد.

و في ذينك القسمين تكون الافراد ملحوظة في عرض واحد، غاية الأمر تارة بنعت الكثرة، و أُخرى بنعت الجميع.

و ثالثة: يلاحظ فرد ما على نحو لا يقف اللحاظ على ذلك الفرد بل ينتقل إلى فرد آخر فيكون المنظور إليه هذا أو ذاك أو ذلك فيكون العام بدلياً.

و على ضوء ما ذكرنا تبين انّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة لا يتوقّف على لحاظ الحكم المتعلّق به بل العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم يقع في إطار اللحاظ على الأنحاء الثلاثة.

ص:476


1- لمحات الأُصول: 302.

و مما يؤيّد ذلك انّ الواضع وضع لكلّ من الأقسام لفظاً خاصاً، فلفظة» كلّ «موضوعة للعام الاستغراقي، كما أنّ لفظة» مجموع «موضوعة للعام المجموعي و لفظة» أي «موضوعة للعام البدلي.

يقول سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ).(1)

فلفظة كلّ في (كُلَّ واحِدٍ ) موضوعة للعام الاستغراقي.

يقول سبحانه: (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ).(2)

و قال سبحانه حاكياً عن سليمان: (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )(3).

فلفظة أيّ في الآيتين موضوعة للعام البدليّ.

نظرية المحقّق الخراساني انقسام العام إلى ثلاثة

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنّما هو باختلاف كيفية تعلّق الأحكام به و إلاّ فالعموم في الجميع بمعنى واحد و هو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، غاية الأمر:

انّ تعلق الحكم به، تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم و أُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في» أكرم مجموع الفقهاء «مثلاً، لما امتثل أصلاً بخلاف الصورة الأُولى فانّه أطاع و أصاب. و ثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لأطاع و امتثل.(4)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره غير تام من جهات ثلاثة: رتبة، و ملاكاً، و وضعاً:

ص:477


1- النور: 2.
2- الإسراء: 110.
3- النمل: 38.
4- كفاية الأُصول: 1/332.

أمّا الجهة الأُولى: أي رتبة فانّ الموضوع في رتبة سابقة على الحكم، و الحكم متأخر عنه رتبة و تصوراً، فكيف يكون الحكم المتأخّر سبباً لانقسام الموضوع إلى أقسام ثلاثة.

لا أقول: إنّ ذلك مستلزم للدور بتوهم» انّ الحكم متوقّف على الموضوع و الموضوع حسب انقسامه إلى أقسام ثلاثة متوقّف على الحكم «.

و ذلك لأنّ امتناع الدور يختص بالأُمور التكوينية لا الاعتبارية، و لكنّه على خلاف الضابطة في الأُمور الاعتبارية بأن يكون المتأخّر أي الحكم سبباً لانقسام المتقدّم رتبة.

و أمّا الجهة الثانية أي ملاكاً فانّ انقسام الحكم إلى أقسام ثلاثة رهن وجود مصالح مختلفة للموضوع، حيث إنّ المصلحة تارة تكون قائمة بكلّ فرد فرد من أفراد العام، فيأمر بإكرام كلّ واحد على سبيل الاستقلال.

و قد تكون المصلحة قائمة بإكرام المجموع بحيث لو تخلّف واحد منهم لما حصل الغرض الداعي.

و ثالثة تكون قائمة بإكرام فرد من أفراد الموضوع على سبيل البدل فيأمر بإكرامه كذلك، فملاك الانقسام إلى الأقسام الثلاثة حاصل قبل تعلّق الحكم، فلا بدّ أن يكون الانقسام باعتبار الموضوع الحامل للملاك، لا الحكم المتعلّق بحامل الملاك.

و أمّا الجهة الثالثة: أعني: وضعاً فانّ الوضع يتبع الغرض، فربما يتعلّق الغرض ببيان كون الموضوع كلّ فرد من الأفراد أو مجموعهم أو واحد منهم موضوعاً للحكم، فيجب أن يوضع لما يتعلّق به الغرض، لفظ خاص، و قد أشرنا إلى بعض الألفاظ الموضوعة للأقسام الثلاثة، فلاحظ.

و لنأت بمثال لأجل إيضاح أحكام الأقسام الثلاثة:

ص:478

لو نذر أن لا يدخّن فتارة يتعلّق نذره بترك كلّ ما يصدق عليه لفظ السيجارة في بيته، و أُخرى بترك مجموع ما في بيته منها، و ثالثة بترك واحد منها.

فالنذر في الأوّل بنحو العام الاستغراقي، و يكون لكلّ فرد إطاعة و عصياناً و بالتالي كفّارة متعدّدة، كما أنّه في الثاني بنحو العام المجموعي و تتحقّق الطاعة بترك الجميع و العصيان بفعل واحد منهم و يكون هناك كفّارة واحدة، و ذلك لحنث النذر بالفرد الأوّل، و لا يصدق الحنث على الفرد الثاني لافتراض انّ الموضوع ) المجموع (لم يبق بحاله حيث نقص منه فرد واحد، كما أنّه في الثالث بنحو العام البدلي فيجوز له التدخين إلى أن يبقى منها واحد.

الرابع: البدلي من أقسام العام

الظاهر من الأُصوليّين انّ العام ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب ما عرفت، غير أنّ المحقّق النائيني) قدس سره (قال: إنّ في عدّ العام البدلي من أقسام العموم مسامحة واضحة، بداهة أنّ البدلية تنافي العموم. فانّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلاّ فرد واحد، أعني به: الفرد المنتشر، و هو ليس بعام. نعم البدلية عامة فالعموم إنّما هو في البدلية لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ البدلية ليست شيئاً وراء الموضوع، فالموضوع هو العام بقيد البدلية، و إطلاق العام عليه على المختار لأجل قابلية صدقه على كلّ فرد فرد، لكن لا في عرض واحد، بل على نحو التبادل، كقوله: أكرم أي رجل شئت.

و أمّا على مختار المحقّق الخراساني الذي هو خيرة المحقّق النائيني فلوجود ملاك العموم و هو سعة الحكم و شموله لكلّ فرد على نحو التبادل، حيث إنّ الحكم يعمّ و يسع كلّ فرد على وجه البدلية مقابل اختصاصه بفرد واحد.

ص:479


1- أجود التقريرات: 1/443.
الخامس: دوران الأمر بين أحد الأقسام الثلاثة

إذا دار أمر العام بين أحد هذه الأقسام، فهل هي أصل يعتمد عليه في تعيين أحد الأقسام؟ مثلاً: إذا حلف على ترك التدخين فشك انّه هل كان على نحو العموم الاستغراقي أو المجموعي، قال المحقّق النائيني:

إنّ الأصل اللفظي الإطلاقي يقتضي الاستغراقية، لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى غاية زائدة و هي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع و جعلها موضوعاً واحداً.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لا موضوع للأصل اللفظي في العام، و ذلك لما عرفت من أنّ في لغة العرب لكلّ من الأفراد لفظاً خاصاً، فأين لفظة» كلّ «من لفظة» أي «و هما من لفظة» المجموع «، فالأمر يدور بين المتباينين فلا أصل هنا يعيّن واحداً من هذه الألفاظ.

و الحاصل: انّ تعلّق العلم الإجمالي بصدور واحد من هذه الألفاظ المردد بين الاستغراقي و المجموعي و البدلي، يكون سبباً لدوران الموضوع بين الأُمور المتباينة كدوران الفائت بين الظهر و المغرب و الفجر، فكما لا موضوع للأصل اللفظي فيه فهكذا المقام.

نعم يتصوّر الدوران فيما إذا كان الدليل لبياً كالإجماع و السيرة على وجوب شيء كصيام ثلاثة أيّام فيقع الكلام في وجوبها متوالية حتّى يكون كالعام المجموعي أو أعمّ منه و من غير المتوالي ليكون كالعام الاستغراقي، فالمرجع حينئذ هو البراءة، و ذلك لأنّ الشكّ في كلفة زائدة و هو التوالي و الأصل عدمه.

ص:480


1- فوائد الأُصول: 1/515.
السادس: الفرق بين العام و المطلق

إنّ العام كما عرفت ينقسم إلى شموليّ و مجموعيّ و بدليّ، و المطلق أيضاً ينقسم إلى شمولي و بدلي، أمّا الشمولي فكقوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1)، فانّ اللام للجنس و مع ذلك تفيد العموم لجريان مقدّمات الحكمة حيث إنّ المتكلّم في مقام البيان و لم ينصب قرينة على فرد خاص فيفيد الشمولي.

و أمّا البدلي كقوله:» اعتق رقبة «بمعنى كفاية فرد ما، نظير قوله في العام» اعتق أيّ رقبة «و عندئذ يطرح السؤال التالي: ما الفرق بين العام و المطلق؟ و الجواب المعروف هو انّ دلالة العام بالوضع فكأنّ الشموليّة و البدلية داخلان في مفهوم العام و لكن دلالة المطلق عليهما بالعقل و بفضل مقدّمات الحكمة كما قررنا.

و مع أنّ هذا الجواب متين و لكن يمكن الإجابة بوجه آخر، و حاصله:

حقيقة الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم لا جزأه، سواء أ كان الموضوع أمراً طبيعياً أو فرداً شخصياً، مثلاً:

قولنا: اعتق رقبة نظير قولنا: أكرم زيداً في أنّ كلاً من اللفظين تمام الموضوع للحكم لا جزؤه، بخلاف ما إذا قلنا:» اعتق رقبة مؤمنة «أو قلنا:» أكرم زيداً قائماً «حيث يعود اللفظ فيهما جزء الموضوع، فإذا كان هذا) كون الشيء تمام الموضوع للحكم (حقيقة الإطلاق، فالشمول و البدلية، و الجزئية لا صلة لها بواقع الإطلاق.

نعم يختلف مفاد ما وقع تحت دائرة الطلب من حيث المضمون، فتارة تكون نتيجة الإطلاق الشمولية و أُخرى البدلية و ثالثة الجزئية، فهذه الأُمور الثلاثة نتائج الإطلاق لا نفس الإطلاق، و هذا بخلاف العام فانّ الشمولية و البدلية داخلان في جوهر الموضوع.

ص:481


1- البقرة: 275.
السابع: حكم العشرة و أمثالها

لمّا عرّف المحقّق الخراساني المفهوم العام بقوله: شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه، خرج بالنتيجة التالية: انّ مثل شمول عشرة و غيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها.(1)

و بعبارة أُخرى: قوله في تعريف العام» انطباقه لكلّ ما يشمله «يُخرج العشرة لأنّها و إن كانت تشمل الآحاد و لكنّها لا تنطبق عليها، فليس الشمول كافياً في صدق العموم، بل يحتاج وراءه إلى الانطباق.

يلاحظ عليه: أنّ قيد الانطباق و إن أخرج العشرة عن تحت العموم و لكنّه يوجب خروج الجمع المحلّى باللام عن تعريف العام، فانّ» العلماء «شامل لكل فرد فرد لكنّه لا ينطبق على واحد منهم فلا يقال: زيد العلماء.

و الأولى إخراج العشرة عن تحت العام بقيد آخر، و هو انّ العام في مصطلح الأُصوليّين ما دلّ على الكثرة المبهمة من حيث الكمية و المقدار، كما هو الحال في الجمع المحلّى باللام و النكرة الواقعة في سياق النفي.

و أمّا العشرة فهي محدودة قلّة و كثرة.

نعم يمكن عدّها من ألفاظ العموم إذا أُريد منها مجموعات من العشرة كالعشرات بحيث يكون لكلّ عشرة مصداق و فرد فلاحظ.

إذا عرفت هذا فلندخل في صلب الموضوع، و يأتي الكلام فيه ضمن فصول:

ص:482


1- الكفاية: 1/332.

الفصل الأوّل للعام صيغة تخصّه

اشارة

اختلفت كلمتهم في الصيغ المعروفة بصيغة العام إلى أقوال ثلاثة:

1. انّها وضعت للعموم.

2. انّها وضعت للخصوص.

3. انّها مشتركة بين العموم و الخصوص.

و المعروف هو الأوّل، و استدلّ له بوجهين:

1. تبادر العموم من كلمة» كلّ «و» الجمع المحلّى باللام «و ما يعادلهما في سائر اللغات.

2. انّ الحاجة كما تمسُّ لبيان الخصوص، تمسُّ لبيان العموم أيضاً فلا بدّ للواضع من وضع لفظ أو ألفاظ لبيانها. نعم ربما يستعمل في الخصوص مجازاً و بالعناية يقال: جاء العلماء، أو حضر الصاغة، إذا جاء أعيانهم و أكابرهم و من يعتدّ بهم و ذلك لا يصير دليلاً على كونها موضوعة للخصوص، و مع ذلك فهناك ألفاظ وضعت للخصوص كما سيوافيك.

و استدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين:

1. انّ إرادة الخصوص في مقام الاستعمال أمر متعيّن إمّا بنفسه أو في

ص:483

ضمن العام، و جعل اللفظ حقيقة فيه أولى من جعله حقيقة في المشكوك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأولوية في مقام الاستعمال لا يكون دليلاً على الأولوية في مقام الوضع، لأنّ لكلّ ملاكاً خاصاً، إذ الملاك في مقام الوضع، هو الحاجة لبيان العموم فلا بدّ من وضع لفظ أو ألفاظ لبيان هذا المقصد، و الملاك لتعيين المستعمل فيه هو كونه متيقناً، لا مشكوكاً، فلا يستدلّ بأحدهما على الآخر، مع كون مقام الوضع متقدّماً و الاستعمال متأخراً.

2. انّ الخاص أكثر من العام حتّى اشتهر: ما من عام إلاّ و قد خُصّ، فلو كانت حقيقة في الخصوص لزم تقليل المجاز بخلاف العكس.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه دليل على ضد المقصود، لأنّ تخصيص العام آية انّه موضوع له، لكن ورد عليه التخصيص، و لو لا ذلك، لما كان للتخصّص معنى محصل.

و ثانياً: أنّه مبني على أنّ التخصيص مستلزم كون العام مجازاً مستعملاً في غير ما وضع له، و سيوافيك انّ الحقّ خلافه، و انّ العام مطلقاً مستعمل في معناه، سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً و مراد بالإرادة الاستعمالية التي هي مناط الحقيقة و المجاز.

لكن ما تتعلّق به الإرادة الاستعمالية على صنفين:

1. يكون متعلّقاً للإرادة الجديدة أيضاً.

2. ما لا يكون كذلك.

ص:484


1- قوانين الأُصول: 1/193; الفصول: 161.
2- قوانين الأُصول: 1/196.

و المتكلّم يشير بالمخصص إلى القسم الثاني و انّ الفساق مما لم تتعلّق به الإرادة الجدية و إن تعلّقت به الإرادة الاستعمالية.

و أمّا ما هو الداعي لاستعمال اللفظ في معنى وسيع تعلّقت به الإرادة الاستعمالية دون الجدية فسيوافيك بيانه.

و أمّا القول بالاشتراك فلم نقف على دليل له، و لعلّه جعل الاستعمال في كلا المعنيين دليلاً على وضع الألفاظ لهما، لكن الاستعمال أعمّ من الوضع كما هو واضح.

ثمّ إنّ للخصوص أيضاً ألفاظاً، كلفظة» بعض «أو» قسم «أو» فئة «أو» طائفة «، أو ما يقوم مقام هذه الألفاظ.

ثمّ إنّهم ذكروا للعام صيغاً نشير إليها:

1. وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي.

2. لفظة» كل «و» الجميع «أو ما يعادلهما.

3. الجمع المحلّى باللام، كالعقود في قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).(1)

4. المفرد المحلّى باللام كقوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ).(2)

و لندرس الجميع واحداً بعد الآخر:

الأوّل: النكرة في سياق النفي أو النهي
اشارة

إنّ من أدوات العموم وقوع النكرة في حيز النفي و النهي، يقول ابن مالك في مورد» لا «النافية للجنس .

ص:485


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.

عمل إنّ اجعل للا في النكرة مفردة جاءتك أو مكررة

فانصب بها مضافاً أو مضارعة و بعد ذاك الخبر اذكر رافعة

و لا النافية للجنس غير» ما «و» لا «و» لات «المشبهات بليس فانّها ترفع الاسم و تنصب الخبر و لا تفيد العموم.

و على كلّ تقدير فاتّفقوا على إفادته العموم، توضيحه:

إنّ رجلاً مع قطع النظر عن اللام و التنوين له وضع، فهو مع التنوين يدلّ على الوحدة، و مع اللام يدلّ تارة على الجنس و أُخرى على العهد، فإذا جُرّد اللفظ عن كليهما دلّ على الماهية لا بشرط شيء.

و قد نقل المحقّق القمي عن السكاكي انّه نقل إجماع أهل العربية على أنّ المصادر الخالية من اللام و التنوين موضوعة للماهية لا بشرط شيء.(1)

و لا يختصّ هذا بالمصادر، بل يعمّ الأسماء فالمجرّد من اللام و التنوين يدلّ على الطبيعة، فإذا وقعت تحت النفي أو النهي يدلّ على نفي الطبيعة و هو يتحقّق في ضمن نفي تمام الأفراد.

و يؤيد دلالته على العموم أنّه لا يجوز أن يقال: لا رجل في الدار بل رجلان، أو: و ما من رجل في الدار بل رجلان، بخلاف ليس و ما و لا و لات المشبهات بها حيث يصحّ: ليس في الدار رجل بل رجلان، و ما في الدار رجل بل رجلان، حيث إنّ التنوين إشارة إلى الوحدة العددية المعينة و يكون النفي راجعاً إلى الوحدة.

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: انّ القول بأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما و تنعدم بانعدام جميع

ص:486


1- القوانين: 1/202.

الأفراد غير تام على الأُصول الفلسفية، لأنّ الطبيعة لا واحدة و لا كثيرة، بل مع الواحد واحدة و مع الكثير كثيرة، فكما لها وجودات حسب الافراد، فهكذا لها اعدام بحسبها.

نعم تصحّ القاعدة في نظر العرف و ذلك لقرينة خارجية خصوصاً في النواهي، لأنّه إذا قال: لا تشرب الخمر، فالمفسدة قائمة بكلّ واحد واحد من أفراد الخمر، فترك فرد من أفرادها مع استعمال سائر الأفراد لا يؤمّن غرض المولى، فصار ذلك قرينة على أنّ المراد هو نفي الطبيعة بنفي جميع أفرادها.

الثاني: انّ العموم عبارة عمّا تدلّ على الكثرة و الافراد بالدلالة اللفظية لا بالدلالة العقلية، فانّ استفادة العموم في المورد مستند إلى الدلالة العقلية العرفية لا إلى الدلالة اللفظية، و مع ذلك كلّه فلا شكّ في أنّ هيئة لا رجل تدلّ على نفي عامة الأفراد و لو بقرينة عامة عرفية، و هي انّ نفي الطبيعة بنفي عامة أفرادها و التبادر أفضل دليل له.

هل استفادة العموم رهن مقدّمات الحكمة؟ ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى أنّ استفادة العموم رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة، قابلة للتقييد و إلاّ فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما أُريد منها يقيناً لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها، و هذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فانّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها لا الافراد التي تصلح لانطباقها عليها.(1)

توضيحه: انّه يشترط في استفادة العموم أخذ الطبيعة مرسلة سارية في جميع

ص:487


1- كفاية الأُصول: 1/334.

أفرادها، و أخذ الطبيعة كذلك من مقدّمات الحكمة الذي يعبّر عنه بكون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال و الإبهام.

إذا عرفت ذلك فالذي يدلّ على لزوم إحراز هذا الشرط انّه لولاه لما أمكنت استفادة العموم، لأنّ لفظة » لا «وضعت لنفي المدخول، و أمّا كون المدخول عبارة عن كلّ ما يصلح انطباقه عليه فهو رهن أخذ الطبيعة مرسلة لا مبهمة و لا مجملة، و إلاّ فيمكن أن تكون لا لنفي ما أُريد من الطبيعة و إن كان المراد قسماً منها.

و بعبارة أُخرى: انّه لا دور للفظة» لا «إلاّ السلب و هو يحتمل أحد أمرين:

1. استيعاب السلب لكلّ ما تنطبق الطبيعة عليه، أو لكلّ ما يراد منها; و الأوّل يفيد العموم دون الثاني، و إحرازه فرع جريان مقدمات الحكمة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من احتمال استيعاب السلب لما أُريد منها لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها مبني على أنّ العام عند التخصيص يستعمل في غير معناه الحقيقي، و لذلك يدور الأمر بين الاحتمالين أي استيعاب السلب لما أُريد من الطبيعة يقيناً إذا كان مخصصاً أو استيعاب ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها.

و أمّا على القول بأنّ العام سواء خص أم لم يخصّ يستعمل في المعنى اللغوي العام، أي ما يصلح انطباقه عليه من أفرادها(1)، فلا يكون هناك إلاّ احتمال واحد، و هو استيعاب كلّ ما يصلح انطباقها عليه، و على ضوء ذلك فلا حاجة إلى أخذ الطبيعة مرسلة في مقابل كونها مبهمة أو مجملة.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً آخر وراء الطبيعة فيمكن دفعه بجريان مقدّمات الحكمة.

ص:488


1- سيوافيك بيانه في الفصل القادم.

و حصيلة الكلام: انّ المحقّق الخراساني خلط بين استفادة العموم و دفع احتمال مدخلية قيد آخر في الموضوع; فالأوّل يكفي فيه نفي الطبيعة بمعناها اللغوي من دون حاجة إلى إرسال و غيره، و أمّا الثاني أي احتمال دخالة قيد في الموضوع فدفعه رهن مقدّمات الحكمة.

الثاني: لفظة كلّ أو ما يعادلها

المتبادر من لفظ كلّ أو ما يعادله هو الاستيعاب و العموم، غير أنّ سعة الدلالة تتبع سعة المدخول و ضيقه، فهو على كلّ تقدير بصدد إفادة العموم، سواء قال: أكرم كلّ عالم أو قال: أكرم كلّ عالم عادل.

فإطلاق الموضوع و تقييده لا يضرّ بدلالة كلّ الموضوع للشمول و الاستيعاب.

و بذلك يعلم أنّا لا نحتاج في استفادة الشمول و العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة، لأنّ لفظة كلّ موضوعة للشمول و معه لا حاجة لشيء آخر.

نعم لو احتملنا انّ للموضوع قيداً سقط من كلام المتكلّم يصحّ نفيه بمقدّمات الحكمة، فالخلط السائد في القسم الأوّل جار في المقام، فنحن في استفادة العموم مستغنون عن إجراء مقدّمات الحكمة، و أمّا في نفي احتمال تقيد الموضوع بقيد آخر فيدفع بمقدّمات الحكمة.

الثالث: الجمع المحلّى باللام

و مما عدّ من أدوات العموم ما اتّفق الأُصوليون على إفادتها للعموم(1)، كقوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(2)، و قوله سبحانه: (وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ

ص:489


1- القوانين: 1/197.
2- المائدة: 1.

كَافَّةً )(1)، و قوله: كافة تأكيد للعموم المستفاد من الجمع المحلّى، و قوله سبحانه: (وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ ).(2)

و الدليل على إفادته العموم، هو تبادر العموم كما هو الحال في تلك الآيات، و تؤيده كثرة استعماله في العموم في المحاورات، كقول القائل: إن كنت جاهلاً سل العلماء، و إن كنت مريضاً راجع الأطباء، و إن كنت غنياً واس الفقراء.

نعم تردد المحقّق الخراساني في إفادته العموم بذاته، و قال: إنّما يفيده إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى، و ذلك لأنّ الدالّ عليه أحد الأُمور الثلاثة:

1. اللام و لا دلالة لها بشهادة عدم دلالتها في المفرد المحلّى به.

2. الجمع المجرد، و لا دلالة له لصدقه على الاثنين و ما فوقه.

3. المركّب من اللام و الجمع، فلا دلالة له، لعدم الوضع.

و أجاب سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (عنه، بأنّ استفادة العموم لازم كون اللام لتعريف الجمع، و القابل للتعريف، هو أقصى المراتب، دون غيره، لأنّ له عرضاً عريضاً و مراتب متعددة، لا يمكن الإشارة إلى واحد منها.

فإن قلت: إنّ أقلّ الجمع، متعيّن كالثلاثة.

قلت: إن أُريد من التعيّن مفهومها فصحيح لكنّه لا يفيد في المقام، و إن أُريد تعيّنها مصداقاً، فغير تام، لتردّده بين مصاديق مختلفة، كهذه الثلاثة أو تلك الثلاثة، و لذلك لو قلت جاءني ثلاثة أشخاص، فللمخاطب أن يسأل عن مصاديقها، و يقول: أي ثلاثة هل هي زيد و عمرو و بكر، أو رعد

ص:490


1- التوبة: 36.
2- البقرة: 155.

و خالد و حيدر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ طريق إثبات اللغة و تعيين مفاد الألفاظ و معانيها، هي التبادر و صحّة الحمل و الاطراد لا الدقائق العقلية التي لا يلتفت إليها إلاّ طبقة خاصة، و إلاّ فيجب أن يقول بالعموم في المفرد المحلّى باللام، لجريان نفس البيان فيه مع أنّه) قدس سره (لا يقول به فيه.

و الأولى التمسك بالتبادر الحاسم للنزاع.

و الكلام في استفادة العموم نفس الكلام في استفادة العموم من وقوع النكرة في سياق النفي أو لفظ » كلّ «طابق النعل بالنعل بمعنى انّه لا حاجة في فهم العموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة. نعم دفع احتمال مدخلية قيد في الموضوع رهن جريانها.

الرابع: المفرد المحلّى باللام

و قد عدّ من ألفاظ العموم، المفرد المحلّى باللام و استدلّ له بوجوه قاصرة، كوصفه بالجمع في المثل الدارج: أهلك الناس الدينار الصفر و الدرهم البيض، و صحّة ورود الاستثناء عليه كقوله سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا )(2)، و انّ اللام للتعريف و المعرّف هو أقصى المراتب.

و الظاهر انّ استفادة العموم في الموردين الأوّلين بالقرينة الخارجية، أمّا الأوّل فلأنّه لا فرق بين دينار و دينار و درهم و درهم في أنّه يغرّ الإنسان، و أمّا الثاني فبما انّ الإنسان طبيعة واحدة، فيكون تمام أفرادها في خسر، لأنّ أفراد الطبيعة فيما يجوز

ص:491


1- تهذيب الأُصول: 1/467.
2- العصر: 32.

و ما لا يجوز واحد.

و الوجه الثالث دليل عقلي لا يركن إليه في باب الدلالات كما مرّ في الجمع المحلّى باللام. و التبادر لا يساعد العموم في جميع الموارد.

نعم يمكن استفادة العموم من قوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1)بجريان مقدّمات الحكمة ببيان انّ المولى في مقام التشريع و التقنين، فإن أراد بيعاً خاصاً كان عليه البيان، و إلاّ فيكون مطلق البيع حلالاً و نافذاً، و على ذلك يخرج من باب العموم و يدخل في باب المطلق.

ص:492


1- البقرة: 275.

الفصل الثاني تخصيص العام لا يوجب المجازية

اشارة

عقد المحقّق الخراساني فصلاً في أنّ العام المخصَّص بالمتّصل أو المنفصل حجّة فيما بقي تحت العام، و لمّا كان القضاء الحاسم في هذا الموضوع مبنيّاً على مسألة أُخرى، و هي كون التخصيص، موجباً لمجازية العام، و استعماله في غير ما وضع له، و عدمه، عدلنا عن النظام الموجود في الكفاية و عقدنا فصلاً مستقلاً لهذه المسألة التي هي المبنى لحجّية العام فيما بقي، و بعد الفراغ منه، نعقد فصلاً جديداً للحجّية فيما بقي و عدمها.

فنقول: إنّ الأقوال في المسألة كثيرة ربما تناهز الثمانية(1): و المعروف منها ثلاثة:

1. حقيقة مطلقاً.

2. مجاز مطلقاً.

3. التفصيل بين المخصّص المتّصل و المنفصل فهو حقيقة في الأوّل و مجاز في الثاني.

و الحقّ هو الأوّل و هو الذي نصره المحقّق الخراساني ببيانين: أحدهما خاص بالمخصص المتصل، و الآخر بالمخصص المنفصل، و ربما تكون روح البيانين في الموردين واحداً و إن كان التعبير مختلفاً.

ص:493


1- الفصول: 198 199، الطبعة الحجرية.
1. المخصص المتّصل و تعدد الدال و المدلول

إنّ المجاز في اصطلاح المشهور عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، و لكن أدوات العموم ك» كل «مستعمل في معناه الحقيقي، الذي يعادله في اللغة الفارسية لفظة» هر «من غير فرق بين أن يكون مدخوله وسيعاً، مثل» أكرم كلّ رجل «، أو مضيقاً نحو:» أكرم كلّ رجل عادل «، فكون المدخول موسّعاً أو مضيّقاً لا يؤثر في استعمال أداة العام فهو مطلقاً مستعمل في معناه و إنّما تعلم السعة و الضيق، ممّا يأتي بعده من» رجل «أو» رجل عادل «لا انّ لفظة» كلّ «تستعمل في الأوّل في المعنى الوسيع للسعة، و في الثاني في المعنى المضيق، بل هو في كلا المقالين» كلّ رجل «،» كلّ رجل عالم «مستعمل في العموم و إن كانت افراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر قليلاً.

و إن شئت قلت: إنّ المورد من قبيل تعدّد الدالّ و المدلول، فكلّ لفظ مستعمل في معناه الحقيقي فلفظ » كل «مستعمل في الشمول، كما أنّ كلاً من الرجل و العالم مستعمل في معناه، و كلّ لفظ يحكي عن مدلوله، لا عن مدلول الآخر.

نظير ذلك في المطلق و المقيد، فإذا قال: أعتق رقبة مؤمنة، فالرقبة مستعمل في نفس معناها المجرد عن كلّ خصوصية، أعني: الإيمان، و إنّما دلّ على شرطية الإيمان و مدخليته في المكلّف به، هو لفظ» مؤمنة « فلكلّ لفظ رسالة خاصة يؤدّيها، دون أن يتدخل واحد منه في رسالة الآخر.

و يكفي في ثبوت ذلك، ملاحظة المحاورات الدارجة بيننا و القيود اللاحقة للعمومات و المطلقات في كلماتنا، فإذا قلنا: تجب الصلاة على كلّ إنسان بالغ، عاقل، نستعمل كلّ لفظ في مفهومه اللغوي، دون أن نستعمل الإنسان في الإنسان

ص:494

البالغ و هكذا.

و على ضوء ما ذكرنا فلا تخصيص واقعاً، إذ لم ينعقد للعام ظهور في العموم، حتّى يخصص، بل تولد العام من لدن صدوره مخصصاً و مضيقاً، و لو يوصف بالمخصص، فإنّما هو لأجل وجود نتيجة التخصيص فيه، لا نفسه، نظير قول القائل:» ضيّق فم الركيّة «.

2. المخصص المنفصل و الإرادة الاستعمالية
اشارة

ما ذكر من البيان يرجع إلى المخصص المتصل، و أمّا المخصص المنفصل كما إذا قال: أكرم العلماء، و قال بعد فترة: لا تكرم فسّاق العلماء، فهذا أيضاً لا يوجب مجازية العام، أي استعمال العلماء في المثال الأوّل في العلماء غير الفسّاق، بل العام فيه استعمل في نفس معناه اللغوي الوسيع، بالإرادة الاستعمالية، و إن كانت الإرادة الجدية متعلّقة بالعلماء غير الفساق، و ملاك الحقيقة و المجاز هي الإرادة الأُولى دون الثانية.

و إليك توضيحه:

إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي إطلاق اللفظ و إرادة معناه، سواء أ كان هازلاً، أو غير هازل، مختبراً بكلامه مدى استعداد المخاطب لامتثال أمره، أو غير مختبر، مجداً في طلب المأمور به أو غير مجد.

ففي مورد الهازل و المختبر، توجد الإرادة الاستعمالية دون الجدية، بخلاف المتكلّم لا عن هزل و لا عن اختبار، فالإرادة الاستعمالية ترافق الجدية.

كلّ هذا يدلّ على وجود الإرادتين، فتارة يتفارقان كما في الهازل و المختبر، و أُخرى يوافقان كما في الأوامر الجدية.

ص:495

بل ربما تتعلّق الإرادة الاستعمالية بشيء و الجدية بشيء آخر، فإذا قلت فلان كثير الرماد، فالاستعمالية تعلّقت بالمعنى اللغوي و هو كثرة الرماد و الجدية تعلّقت بكونه كريماً.

و على ضوء ذلك إذا قال المتكلّم: أكرم العلماء فقد تعلّقت إرادته الاستعمالية بإكرام كلّ العلماء بلا تخصيص، فلو كانت الإرادة الاستعمالية وفق الجدّية، لسكت عليه و لم يعقبه بشيء، و لو كانت الجدية مخالفة معها، لعقبه بكلام آخر يدلّ على ضيق نطاق الإرادة الجدية و يقول: لا تكرم فسّاق العلماء، فالكلام يحكي عن ضيق الإرادة الجدية، و لكنّها ليست ملاك الحقيقة و المجاز، بل ملاكهما هو الإرادة الاستعمالية المتعلّقة بكلّ العلماء.

فإن قلت: إذا كانت الإرادة الجدية مضيقة من حيث التعلّق، فلما ذا تتعلّق الاستعمالية بالأوسع منه، أو ليس الأولى أن تتعلّق هي أيضاً بنفس ما تعلّقت به الإرادة الجدية.

قلت: إنّ الغاية من التفريق بين متعلق الإرادتين هو ضرب القاعدة في الموارد المشكوكة، ليتمسك الشاك بها و يحتج على عدم خروج المشكوك عن تحت العام، باستعمال العام في معناه اللغوي.

توضيحه: انّه إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم فسّاق العلماء، و شككنا في خروج قسم آخر كالنحاة منهم عن تحت العام، فلو كان العام مستعملاً في غير معناه اللغوي لا يمكن التمسّك بالعام على عدم خروج هذا عن تحت العام لتعدّد المجازات حسب تعدد الخصوصيات، بخلاف ما إن كان مستعملاً في معناه اللغوي، فعند ذلك يأتي دور الأصل العقلائي، أعني: أصالة تطابق الإرادتين، إلاّ ما خرج بالدليل، ففي مورد الفسّاق قام الدليل على المخالفة

ص:496

و أمّا في غيره فأصالة التطابق هو المرجع.

و إلى ذلك المعنى أشار المحقّق الخراساني بقوله:» قاعدة «.

مخالف للظهور أو مخالف للحجّية

و بما ذكرنا ظهر انّ المخصص المتصل لاقترانه بالعام يمنع عن انعقاد ظهور الكلام في العموم، لأنّ الأخذ بالظهور إنّما يتمّ إذا فرغ المتكلّم عن كلامه، فما دام هو يتكلّم فله أن يُلحق بكلامه من القيود ما شاء، وعليه إذا قال: أكرم كلّ رجل فهو و إن كان ظاهراً في العموم نتيجة استعماله فيه بالإرادة الاستعمالية لكنّه ظهور بدوي غير مستقر، و لا يستقر إلاّ بفراغ المتكلّم عن كلامه و المفروض انّه أتى بالقيد في كلامه بلا فصل، و هذا ما يقال انّ المخصص المتصل يزاحم ظهور العام فيه و معه لا تصل النوبة إلى الحجّية، لأنّها فرع انعقاد الظهور و المفروض انّه لم ينعقد إلاّ في الخصوص، و في الحقيقة لا تخصيص فيه.

هذا بخلاف المخصّص المنفصل، فانّ المفروض انّ المتكلّم فرغ من كلامه و لم يأت بمخصّص فانعقد لكلامه الظهور في العموم، و ظهوره في العموم حجّة ما لم يدلّ دليل أقوى على خلافه، فإذا قال بعد يومين: لا تكرم فسّاق العلماء، يقدّم الثاني، على حجّية العام في العموم لكونه أظهر من الأوّل، و هذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل يزاحم حجّية العام في العموم، لا ظهوره فيه، و ذلك لانّ الفصل بين العام و المخصص صار سبباً لانعقاد الظهور للعام في العموم، و المخصص المنفصل لأقوائيته، يتصرف في حجّية ظهور العام فيه لا في أصل الظهور.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

ص:497

إنّ العام المخصّص بالمتصل ينعقد ظهوره من أوّل الأمر في الخصوص، أي العنوان المركّب » العلماء العدول «فلا تخصيص فيه حقيقة، و أمّا المنفصل، فلأجل انفصال المخصّص ينعقد ظهور الكلام في العموم، و مجيء المخصص المنفصل لا يهدم ظهوره في العموم، و إنّما يهدم حجّيته في مورد المخصص فترفع اليدُ عن حجّية الظهور في مورده.

ص:498

الفصل الثالث العام المخصص حجّة في الباقي

اشارة

هل العام المخصص حجّة في الباقي، سواء أ كان متّصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء العدول، أم منفصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة قبل العمل بالعام: لا تكرم فسّاق العلماء، فإذا شكّ في خروج غير الفسّاق من العلماء، كخروج النحاة و الصرفيين و العروضيين العدول، فهل يكون العام حجّة في حقّهم فيجب إكرامهم إلى أن يعلم الخلاف؟ أو يتوقّف فيها و يكون المرجع، الأُصول العملية إذا لم يكن دليل اجتهادي غير العام؟ فيه خلاف و المشهور هو الحجية و ربما نسب إلى أهل السنّة عدم الحجّية و ربما يفصل بين المتصل و المنفصل بحجّيته في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ الفرد الذي يتمسّك فيه بالعام تارة تكون فيه الشبهة حكمية و أُخرى موضوعية، أمّا الأُولى فكما مثلنا فإذا احتملنا خروج النحوي العادل أيضاً عن تحت العام كالفاسق، فهل العام حجّة في حقّه أو لا؟ و هذا ما عبر عنه المحقّق الخراساني بقوله:

ص:499

» فيما علم عدم دخوله في المخصص «و أمّا الثانية فكما إذا علمنا أنّ زيداً عالم و لكن نشك في أنّه فاسق أو لا، فهل يجوز التمسّك فيه بالعام أو لا؟ و هذا ما يعبّر عنه بالشبهة المصداقية للمخصص، و سيوافيك الكلام فيه في الفصل القادم، لا في هذا الفصل، و إليه يشير المحقّق الخراساني بقوله:» و ما احتمل دخوله فيه أيضاً «.

و لا يخفى انّ الإشارة إلى هذا القسم في أوّل الفصل مع أنّه راجع إلى الفصل الآتي يوجب تشويش الذهن، و المعروف عدم حجّية العام في الشبهة المصداقية للمخصص مطلقاً، سواء أ كان المخصص متصلاً أو منفصلاً. و الأولى التركيز على القسم الأوّل و إرجاع البحث في الثانية إلى الفصل القادم.

دليل القائل بعدم حجّية العام في الباقي

استدلّ المخالف بعدم الحجّية بأنّ العام المخصص مستعمل في غير ما وضع له، و بما انّ للمعنى المجازي مراتب مختلفة حسب مراتب الخصوصيات، يكون تعيين الباقي) عامة الأفراد سوى المخصّص ( ترجيحاً بلا مرجّح.

و قد أُجيب عن الاستدلال بوجوه نأتي بها:
1. انّ الباقي أقرب المجازات، فإذا تعدّدت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من الأقربية هي الأقربية من حيث أُنس الذهن به لا الأقربية من حيث العدد و الكثرة، فإذا قيل: رأيت أسداً في الحمام، و امتنعت الحقيقة و دار أمر اللفظ بين حمله على الرجل الشجاع أو الرجل الأبخر) الرجل الذي في فمه رائحة كريهة كما هو الحال كذلك في الأسد (، يحمل على الأوّل، لكثرة أُنس الذهن به في المحاورات دون الثاني، و لذلك يقول الشاعر:

أسد عليّ و في الحروب نعامة

2. ما ذكره الشيخ الأنصاري
اشارة

بعد تسليم مبنى المستدل، التخصيص يوجب المجازية و حاصله:

انّ دلالة العام في كلّ فرد من أفراده، غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، و لو كانت دلالة مجازية، إذ هي بواسطة عدم

ص:500

شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود و المانع مفقود، لأنّ المانع في مثل العام إنّما هو يوجب صرف اللفظ عن مدلوله و المفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شكّ فالأصل عدمه.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:
أ. حمله على الباقي ترجيح بلا مرجّح

إذا كانت دلالة العام على كلّ فرد، ضمن دلالته على العموم و الشمول، فإذا لم يستعمل فيه و استعمل في غيره و كان الغير ذا مراتب مختلفة، و إرادة كلّ مرتبة أمراً ممكناً محتملاً، فحمله على مرتبة خاصة ) الباقي كلّه (يكون ترجيحاً بلا مرجّح.

ب. فقد المقتضي للحمل

إنّ ظهور العام المخصص في الباقي رهن أحد أمرين أمّا الوضع أو القرينة، و المفروض انتفاء الأوّل لافتراض انّه ليس بموضوع للباقي، كما أنّ الثانية أيضاً كذلك و دلالته على كلّ فرد على حدة في ضمن دلالته على العموم لا يوجب بقاء الدلالة مع انتفاء الثانية، فانّ الدلالة التبعية فرع بقاء الدلالة الأصلية، فإذا انتفت الثانية، انتفت الأُولى و على هذا فلا مقتضي للحمل على الباقي فقوله:» لو شكّ فالأصل عدمه «صحيح لكنّه إذا كان هنا مقتض للدلالة، و قد عرفت عدمه.

و قد قام المحقّق النائيني بالدفاع عن مقالة الشيخ حيث قال: إنّ هناك دلالات عرضية فإذا سقطت إحداها عن الحجّية بقيت غيرها من الدلالات على حجّيتها ضرورة أنّه إذا لم تكن دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد، دخيلة في دلالته

ص:501

على ثبوته لفرد آخر، لم يكن خروج فرد ما عن الحكم، منافياً لبقاء دلالته على حكم الفرد الآخر، فخروج بعض الأفراد إذا استلزم المجاز، لا يوجب ارتفاعَ دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمّها المخصِّص.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه ما ذا يريد من الدلالات العرضية؟ هل يريد منها، الدلالات العرضية المستلزمة للأوضاع المستقلّة كالمشترك اللفظي؟ فهو غير صحيح جدّاً و لا يلتزم به القائل، إذ ليس لفظ العام موضوعاً بأوضاع متعدّدة.

و إن أراد الدلالات العرضية الضمنية، في ضمن دلالة لفظ العام على الكل، ففيه انّه إذا سقطت الدلالة الثانية لأجل كون العام مستعملاً في غير معنى الكلّ حسب الفرض، تبطل الدلالات التبعية.

إلى هنا تبيّن انّ الجوابين عن استدلال الخصم، غير ناهضين لقلعه.

3. إجابة المحقّق الخراساني عن الاستدلال

انّ المحقّق الخراساني استعان في رد الدليل بما أسّسه في الفصل السابق، من إنكار المجازية في العام المخصص، لا في متصله و لا في منفصله.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من حديث تعدد الدالّ و المدلول و أنّ كلّ لفظ من ألفاظ» أكرم كلّ عالم عادل « في معناه لا أنّ لفظ» كل «استعمل في مجموع المعنى، و على ضوء هذا فالعام حجّة في الخصوص حسب تعبير الكفاية و المراد من الخصوص أي العنوان المركب فكلّ من صدق عليه عالم عادل و إن كان نحوياً أو عروضياً أو لغوياً يجب إكرامه بحجّة هذا الدليل. و لا يعتدّ بالشكّ في النحوي العادل بعد شمول عنوان العام له.

ص:502


1- أجود التقريرات: 1/452.

و أمّا المنفصل فلما عرفت من حديث تعدد الإرادتين و أنّ العام استعمل حسب الإرادة الاستعمالية أو التفهيمية في معناه العام ثمّ أخرج عنه بعد فترة ما لم تتعلّق به الإرادة الجدية و قيل لا تكرم العالم الفاسق، فالمخصص باعتبار انفصاله عن العام لا يزاحم ظهور العام، بل يبقى ظهوره بحاله و إنّما يزاحم حجيّة العام لكن في مورده الخاص و هو الفسّاق، و أمّا في غير هذا المورد فالظهور حجّة يجب الأخذ به في عامة الموارد غير الفسّاق. و ذلك ببركة الأصل العقلائي و هو تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها ظهور العام مع الإرادة الجدية إلاّ ما خرج بالدليل، فهذا الأصل السائد بين العقلاء يبعثنا على الأخذ بالظهور في كلّ مقام لم يكن قرينة على خلافه.

فإن قلت: إنّ الإرادة الاستعمالية إنّما تكون حجّة إذا لم ينكشف خلافها، و مع قيام الدليل الخاص، الكاشف عن عدم تطابقهما لا اعتبار بهذه الإرادة.

قلت: إنّ الأصل العقلائي بمعنى أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجديّة، جار في كلّ واحد واحد من أفراد العموم التي تعلّق بها الحكم، و ليس هنا أصل واحد حتى يكون الوقوف على عدم تطابقهما في مورد أو صنف، مانعاً عن جريانها فهناك حسب الأفراد و الآحاد أُصول يدل على تطابقهما و لأجل ذلك ترى العقلاء لا يشكّون في حجّية العام في الباقي و إن عُلم خروج فرد أو صنف.

و حاصل الكلام: انّ المخصّص المتّصل يُزاحم ظهورَ انعقاد الظهور في العموم، و لذلك قلنا بكونه حجّة في الخصوص أي العنوان المركّب، و أمّا المخصص المنفصل فلأجل انفصاله زماناً لا يبطل ظهور العام، بل هو باق في

ص:503

ظهوره لكنّه يبطل حجّية العام في مورد الخاص ترجيحاً للأظهر على الظاهر أو النصّ على الأظهر فإذا كان الظهور غير منثلم، الكاشف عن وجود الإرادة الاستعمالية فالأصل الثابت بين العقلاء تطابق الإرادتين إلاّ ما خرج بالدليل. و تكون نتيجته هو حجّية الظهور في كلّ موضوع شكّ في خروجه عن تحت العام.

ص:504

الفصل الرابع في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً

اشارة

إذا كان المخصّص مجملاً في مورد، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام في نفس ذلك المورد أيضاً أو لا؟ و بعبارة أُخرى إذا كان إجمال المخصص مانعاً عن التمسّك به في مورد، فهل يكون ذلك مانعاً عن حجّية العام فيه أيضاً أو لا؟ و أمّا حجّية العام في غير ذلك المورد أو حجّية الخاص في مصداقه القطعي فلا كلام فيها، و ليست مطروحة في المقام.

مثلاً إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة: لا تكرم فسّاق العلماء، و تردد مفهوم الفسق بين خصوص مرتكب الكبيرة فقط، أو الأعمّ منها و من الصغيرة، فإجمال المخصص مانع عن كونه حجّة في مورد مرتكب الصغيرة، و هل إجماله يمنع عن حجّية العام في مورده، حتّى تصل النوبة إلى الأُصول العملية، أو لا يكون مانعاً عنه، فيحتجّ في مورد مرتكب الصغيرة بالعام ويحكم بوجوب إكرامه.

هذا هو محور البحث في المقام، و ما اخترناه في العنوان يناسب ما هو المقصود من عقد هذا الفصل.

و في كلمات القوم عنوانان آخران:

1. في سراية إجمال المخصص إلى العام و عدمها.

ص:505

2. التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية للمخصص.

و أمّا صور المسألة فلا تتجاوز عن أربع، لأنّ المخصص إمّا متّصل أو منفصل، و إجمال المخصص تارة يستند إلى دورانه بين الأقلّ و الأكثر، أو بين المتباينين، و إليك رءوس الصور على وجه التفصيل:

1. المخصص المتّصل و دوران الأمر بين الأقل و الأكثر.

2. المخصّص المنفصل و دوران الأمر بين الأقل و الأكثر.

3. المخصّص المتصل و دوران الأمر بين المتباينين.

4. المخصّص المنفصل و دوران الأمر بين المتباينين.

و ليعلم أنّ المخصص المجمل تارة يكون لفظياً و أُخرى لبيّاً، كما أنّ إجماله تارة يكون في المفهوم و أُخرى في المصداق، و البحث في المقام مركّز على المخصص اللفظي دون اللّبي و على المفهومي، دون المصداقي.

أمّا اللبي فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني.

إذا وقفت على رءوس الصور فلنذكر أحكامه:

1. المخصص اللفظي المتصل الدائر بين الأقلّ و الأكثر

إذا كان المخصص اللفظي متصلاً بالعام و دار أمره بين الأقل و الأكثر كما إذا قال:» أكرم العلماء غير الفسّاق «فيسري إجمال المخصِّص إلى العام، و لا يحتجّ به في مورد الشكّ) مرتكب الصغيرة (و استدلّ عليه المحقّق الخراساني بقوله:» فلعدم انعقاد الظهور للعام أصلاً، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقل و الأكثر «.(1)

ص:506


1- الكفاية: 1/329.

تفصيله هو ما مرّ في الفصل الماضي من أنّ المخصص المتّصل، يعارض ظهور العام، فلا ينعقد له ظهور في العموم، حتّى يتمسك به في مورد الشكّ) أعني: مرتكب الصغيرة (بل ينعقد ظهوره في الخصوص، أي العنوان المركب، أي:» العلماء غير الفسّاق «، فكما يجب في مقام الاحتجاج إحراز كونه عالماً، هكذا يجب إحراز كونه غير فاسق، و المفروض انّه غير محرز، لإجمال مفهوم الفاسق و تردده بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه و من مرتكب الصغيرة، فعلى الأوّل فهو من مصاديق غير الفسّاق، دون الثاني، و معه كيف يمكن أن يتمسّك بالدليل الذي لم يحرز موضوعه؟ فإن قلت: إنّما يصحّ هذا إذا كان المخصّص بلسان الوصف كالمثال الماضي، و أمّا إذا كان بلسان الاستثناء كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم، فالموضوع هو العالم، و المفروض انّه محرز بعامة أجزائه.

قلت: إنّ الموضوع و إن كان هو العلماء، لكن الاستثناء جعل العام حجّة في غير مورد الفسّاق، فالعام حسب الموضوع و إن كان محرزاً، لكنّه بما هو حجّة فيه غير محرز.

و بعبارة أُخرى: الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية و إن كان محرزاً، لكنّه حسب الإرادة الجدية غير محرز لتعلّقها بشهادة الاستثناء، بغير الفسّاق من العلماء، و إنّما يحتجّ بالإرادة الاستعمالية إذا أحرزت مطابقتها مع الإرادة الجدية، لكنّها بعدُ غير محرزة، إذ لو كان مرتكب الصغيرة غير معدود من الفسّاق فالتطابق في مورد مرتكب الصغيرة محقّق محرز، دون ما إذا كان معدوداً منهم.

2. المخصص اللفظي المنفصل الدائر بين الأقل و الأكثر

إذا كان المخصص اللفظي، منفصلاً عن العام، بحيث لا يزاحم لأجل

ص:507

انفصاله انعقادَ ظهوره في العموم، و إنّما يزاحم حجّيته فيه كما مرّ، و دار أمره بين الأقل و الأكثر، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال بعد فترة:» لا تكرم فسّاق العلماء «فهل يسري إجماله إلى العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني و تبعه السيّد الأُستاذ قدّس سرّهما إلى عدم سرايته إلى العام، و أنّ العام يكون حجّة في مورد الشكّ، كمرتكب الصغيرة، و الفرق بينه و بين المتّصل حيث قلنا بعدم حجّية العام فيه هو انعقاد ظهور اللفظ في العموم و بالتالي شموله لكلّ فرد حتّى مرتكب الصغيرة، هذا من جانب و من جانب آخر الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية التي يحكي عنها الظهور في مورد مرتكب الصغيرة مع الإرادة الجدية فيكون العام حجّة في الفرد المشكوك، و أمّا المخصص اللفظي المنفصل فهو و إن كان حجّة قطعية في مورد الكبيرة، لكنّه في مورد الصغيرة مشكوك الحجيّة، فلا يجوز رفع اليد عن الحجّة القطعيّة بالحجّة المشكوكة.

و إلى هذا الدليل يشير المحقّق الخراساني بقوله:

» إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً بأن كان دائراً بين الأقل و الأكثر و كان منفصلاً فلا يسري إجماله إلى العام لا حقيقة و لا حكماً، بل كان العام متبعاً فيما لا يُتبع فيه الخاص، لوضوح انّه حجّة فيه بلا مزاحم أصلاً ضرورة انّ الخاص إنّما يزاحمه فيما هو حجّة على خلافه تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر لا فيما لا يكون كذلك «.(1)

و قال السيد الأُستاذ) قدس سره (: و لا يقاس ذلك بالمتصل المردد بين الأقل و الأكثر، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط إلاّ في المعنون بالعنوان المجمل و مرتكب الصغيرة

ص:508


1- كفاية الأُصول: 1/339.

مشكوك الدخول في العام هناك من أوّل الأمر، بخلافه هنا فانّ ظهور العام يشمله قطعاً.

و الذي يدلّ على ذلك أنّه لو كان المخصّص المنفصل المجمل حكماً ابتدائياً من دون أن يسبقه العام لما كان حجّة إلاّ المقدار المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام.(1)

أقول: إنّ ما أسّسه المحقّق الخراساني) قدس سره (، من أنّ المخصّص المنفصل لا يهدم ظهور العام و لا يعارضه فهو حجّة إلى أن يثبت خلافه، صحيح فيما إذا شكّ في أصل التخصيص أو في التخصيص الزائد، كما إذا شكّ في تخصيصه وراء الفسّاق، بالنحاة أيضاً.

و أمّا إذا شكّ في سعة المخصّص القطعي و ضيقه، فالظهور المنعقد للعام لا يحتجّ به كما هو الحال كذلك في جانب المخصص المجمل الدائر بين الأقلّ و الأكثر.

توضيحه: انّ الاحتجاج بالعام في مورد الصغيرة يعتمد على أحد أمرين:

1. الظهور في العموم.

2. تطابق الإرادة الاستعمالية في موردها مع الإرادة الجدية.

و كلاهما لا يجتمعان.

أمّا الأوّل، فلأنّ الاحتجاج به لأجل كشفه عن الإرادة الجدّية، و إلاّ فالظهور بما هو ظهور، ليس بحجّة، و عندئذ فلو شكّ في أصل التخصيص، كما إذا شكّ في ورود تخصيص ثان على العام، كعدم إكرام النحاة، فيحتجّ بعموم العام و ظهوره في

ص:509


1- تهذيب الأُصول: 1/473.

الشمول كشفه عن وجود الإرادة الجدية في مورد النحاة.

و أمّا إذا كان التخصيص قطعياً و كان الشكّ في سعته و ضيقه كما في المقام حيث شكّ في شمول » الفسّاق «لمرتكب الصغيرة و عدمه، ففي مثله لا يحتجّ بالظهور المنعقد للعام في العموم، لأنّه إنّما يحتجّ به إذا كان كاشفاً عن الإرادة الجدية، و قد علم خلافه بعد ورود المخصص حيث إنّ المخصص كشف عن تعلّق الإرادة الجدية، بغير الفسّاق، و الظهور كشف عن تعلّقها بمطلق العلماء و مع هذه المخالفة لا يحتج بالظهور المنهار.

نعم لو شكّ في تخصيص زائد وراء الموجود يحتجّ به، لأنّ سقوط ظهوره في مورد) الفسّاق (لا يصير دليلاً على سقوطه في مورد آخر لا صلة بينهما، كما في مورد النحاة.

و أمّا الثاني، أعني: الاحتجاج بأصالة التطابق في الإرادتين، فهو أيضاً كالاحتجاج بالظهور، لأنّها ليست أصلاً تعبدياً، بل أصلاً عقلائياً كاشفاً عن وجود الإرادة الجدية، في كلّ مورد تعلّقت به الإرادة الاستعمالية و مع صدور المخصص المنفصل، و تطرق الشك في دخول الصغيرة تحت العام أو المخصص به فلا يصلح الأصل المزبور، للاحتجاج لزوال الوثوق بعموم العام خصوصاً عدم استلزام الخروج عن تحت العام، تخصيصاً آخر، بل هنا تخصّص واحد، كانت الصغيرة باقية تحته أو خارجة.

و بهذا البيان عدل شيخنا الأُستاذ) مد ظلّه (عمّا بنى عليه في الدورات السابقة حيث استقرّ نظره أخيراً على أنّ إجمال المخصص المنفصل يسري إلى العام حكماً.

و مما ذكرنا يظهر عدم تمامية ما أفاده السيّد الأُستاذ من أنّه لو كان

ص:510

المخصص المنفصل حكماً ابتدائياً من دون سبق العام لما كان حجّة إلاّ في القدر المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام؟ و ذلك لأنّه لا ملازمة بين عدم الحجّية و بين عدم المانعية عن الاحتجاج بالعام، فالأوّل مسلم إذ ليس المخصص حجّة في المشكوك و لكن الثاني غير معلوم، فانّ المنفصل المجمل يصير كالقرينة الحافة بالكلام التي توجب إجمال الكلام.

و ما ذكرنا هو الوجه في التوقّف في العمل بالعام، و قد أشار إلى بعض ما ذكرناه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري و إن عدل عنه في هامش كتابه، قال: إذا صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلاً عن كلامه، فحال المنفصل في كلامه، حال المتصل في كلام غيره، فيحتاج في العمل بالعام إلى أحد أمرين:

1. القطع ببقائه تحت العام.

2. الأصل.

أمّا الأوّل فغير موجود، و أمّا الثاني فجريانه مخصوص بمورد لم يوجد فيه ما يصلح لأن يكون مخصصاً.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (عدل عمّا ذكر في الهامش، و حاصله: انّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم، لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلم قبل مجيء ذيله، مع أنّ ديدنهم جرى على التمسّك.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت انّهم كانوا يتمسّكون بعموم العام، مع احتمال

ص:511


1- درر الفوائد: 1/215، ط جماعة المدرسين.

مجيء مخصص في كلام الإمام اللاحق، فانّ أكثر الروايات المتضمنة للأحكام صدر عن الصادقين، و لم يثبت انّ نظائر زرارة و محمد بن مسلم و أضرابهما من أصحاب الإمامين كانوا يتمسّكون مع احتمال صدور مخصص في كلام الأئمّة الباقين، و لأجل ذلك كان الأصل حاكماً.

إلى هنا تمّ بيان أحكام القسمين في المخصّص المتصل و المنفصل من أقسام دوران المخصّص بين الأقل و الأكثر و بقي الكلام في أحكامهما من أقسام دوران الأمر بين المتباينين.

3. المخصص اللفظي المتصل الدائر أمره بين المتباينين

إذا دار أمر المخصص اللفظي المتصل بين المتباينين، كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً و تردد المستثنى بين شخصين أحدهما زيد بن عمر و الآخر زيد بن بكر، يسقط الاحتجاج بالعام في مورد كلّ من الشخصين، لما عرفت في المخصص المتّصل الدائر أمره بين الأقل و الأكثر من أنّ اتصال المخصّص يمنع عن انعقاد الظهور للعام في العموم، بل ينعقد ظهوره في الخصوص من أوّل الأمر، أي في العنوان المركب من العلماء و غير الفسّاق، فكما يجب إحراز كون المورد عالماً يجب إحراز كونه غير فاسق، و في المقام أيضاً كذلك فكون المورد عالماً و إن كان محرزاً لكن لم يحرز الجزء الآخر لأجل الجهل بالمفهوم.

4. المخصّص اللفظي المنفصل المجمل الدائر أمره بين المتباينين

إذا كان المخصص اللفظي المنفصل، مجملاً مفهوماً مردداً بين المتباينين، كما إذا قال: أكرم العلماء و لا تكرم زيداً العالم و دار أمره بين زيد بن عمرو و زيد

ص:512

بن بكر العالمين، فهل يسري أو لا؟ الحقّ أنّه يسري حكماً، بمعنى أنّه لا يكون العام حجّة في حقّ هذين الشخصين، للعلم التفصيلي بسقوط العام عن الحجّية في حقّ أحدهما، و معه كيف يمكن أن يكون العام حجّة في مورد أحدهما أو كليهما؟! و على ذلك يجب إعمال قواعد العلم الإجمالي، فلو كان لسان المخصص رفع الوجوب يجب إكرام كلا الرجلين حتّى تحصل البراءة، و إن كان لسانه تحريم الإكرام يدور الأمر بين المحذورين فيعمل بحكمه من التخيير أو القرعة.

إلى هنا تمّ الكلام في المخصص اللفظي المجمل مفهوماً و أمّا الكلام في المخصص اللبي المجمل مفهوماً فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني، و إنّما بحث فيه في الشبهة المصداقية لا في الشبهة المفهومية.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ إجمال المخصّص اللفظي يسري إلى الأقسام في عامة الصور متصلاً كان أو منفصلاً، دار أمر الإجمال بين الأقل و الأكثر أو بين المتباينين.

إذا علمت ذلك فلندخل في الإجمال المصداقي الذي يعبر عنه بالشبهة المصداقية للمخصّص، و لنعقد له فصلاً مستقلاً كما عقدناه للمجمل مفهوماً.

ص:513

الفصل الخامس المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً

اشارة

إذا كان المخصص مجملاً من حيث المصداق لا من حيث المفهوم، كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال:

لا تكرم فسّاق العلماء، و كان المخصص معلوماً مفهوماً و إنّما تعلّق الشكّ بالمصداق و انّ زيداً العالم مثلاً هل هو فاسق أو لا؟ و هذا هو المسمّى بالشبهة المصداقية للمخصص و موردها ما إذا كان عنوان العام محرزاً و عنوان الخاص مشكوكاً كما عرفت، و أمّا إذا كان نفس عنوان العام مشكوكاً و أنّ زيداً مثلاً عالم أو لا، فهذا ما يسمّى بالشبهة المصداقية للعام، و هذا خارج عن محط البحث، و من المعلوم أنّ العام ليس بحجّة فيه.

و كان اللازم على المحقّق الخراساني أن يقسّم المخصّص اللفظي في الشبهة المصداقية إلى مخصص متّصل، و مخصص منفصل، ثمّ إنّ الشبهة في كلّ من المتّصل و المنفصل تارة تدور بين الأقلّ و الأكثر، و أُخرى بين المتباينين فتصير الأقسام أربعة كالشبهة المفهومية، لكنّه) قدس سره (سلّم عدم جواز التمسّك في المتصل مطلقاً، و في المنفصل صورة دوران الأمر بين المتباينين خص البحث بصورة واحدة و هي صورة انفصال المخصص، و دوران الإجمال بين الأقل و الأكثر، و نحن أيضاً نقتفيه.

ثمّ إنّ المشهور بين القدماء هو جواز التمسّك كما سيوافيك كلامهم عند

ص:514

التطبيقات و وافقهم من المتأخرين المحقّق النهاوندي) المتوفّى 1317) في كتاب» تشريح الأُصول «و المعروف بين المتأخرين هو عدم الجواز، و لنذكر أدلة المجوزين، حيث استدلّوا بوجوه:

أدلة المجوزين
الأوّل: مزاحمة الحجّة بغير الحجّة

انّ الخاص إنّما يزاحم العام فيما كان فعلاً حجّة) ما علم أنّه مصداق له كمعلوم الفسق (، و لا يكون حجّة فيما اشتبه انّه من أفراده فخطاب:» لا تكرم فسّاق العلماء «لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء، فلا يزاحم مثل أكرم العلماء و لا يعارضه، فانّه من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.(1)

حاصله: انّ الحجّة عبارة عن ضم الكبرى إلى صغرى محرزة فيقال هذا خمر، و كلّ خمر حرام، و أمّا المقام فالكبرى) لا تكرم فسّاق العلماء (و إن كانت محرزة لكن الصغرى) كون زيد فاسقاً (غير محرز، فلا يحتجّ بالخاص فيه، و هذا بخلاف جانب العام، فانّ الحجّة بكلا جزئيها محرزة حيث نعلم أنّه عالم، و كلّ عالم يجب إكرامه، فرفع اليد عن الثاني من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال بقوله:» إنّ الخاص و إن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً، إلاّ أنّه يوجب اختصاص حجّية العام في غير عنوانه) الخاص (من الأفراد، فيكون أكرم العلماء دليلاً و حجّة في العالم غير الفاسق، فالمصداق المشتبه و إن كان مصداقاً للعام بلا كلام، إلاّ أنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق.

و بالجملة: العام المخصّص بالمنفصل و إن كان ظهوره في العموم كما إذا لم

ص:515


1- الكفاية: 1/342، و لاحظ تشريح الأُصول للمحقّق النهاوندي: 261 262.

يكن مخصَّصاً، بخلاف المخصص المتصل، كما عرفت إلاّ أنّه في عدم الحجّية إلاّ في غير عنوان الخاص، مثله فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين فلا بد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين «.(1)

و حاصله: انّ الصغرى في كلا الدليلين غير محرزة، أمّا الخاص فلما عرفت، و أمّا العام فهناك ملاحظتان، فالصغرى حسب إحداهما محرزة دون الأُخرى فإن لوحظ العام، مع قطع النظر عن المخصص المنفصل، فالصغرى و الكبرى محرزتان، لأنّها في هذا اللحاظ ليست إلاّ نفس العالم، و أمّا إذا لوحظ العام بعد تخصيصه به، فالموضوع يتعنون بقيد عدمي، و يكون الموضوع هو العالم غير الفاسق، و الجزء الأوّل منها و إن كان محرزاً لكن الجزء الثاني، أعني: القيد العدمي بعد غير محرز.

و إن شئت قلت: إنّ الموضوع حسب ظهور العام و إن كان محرزاً، لكنّه بالنسبة إلى ما هو حجّة فيه غير محرز، لأنّه ليس حجّة في مطلق العلماء، بل العلماء غير الفسّاق.

و بعبارة ثالثة: انّ الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية محرز و لكنّه بالنسبة إلى الإرادة الجدية غير محرز.

فإن قلت: ما ذكرته خلط بين التقييد و التخصيص فبما انّ لسان التقييد، لسان بيان حدّ الموضوع و خصوصياته، يكون سبباً لتركب الموضوع و تعنونه بعنوان القيد، كما إذا قال:

إذا أفطرت اعتق رقبة، ثمّ قال: إذا أفطرت اعتق رقبة مؤمنة.

ص:516


1- كفاية الأُصول: 3431/342.

فعندئذ يكون متعلّق الإرادة الجدية هو المعنون المركب من شيئين.

و هذا بخلاف التخصيص فانّ شأنه إخراج ما ليس بموضوع عن تحت الموضوع، فلا يورث إخراج الفسّاق منهم، تركّب الموضوع من جزءين أحدهما إيجابي أعني: العلماء و الآخر سلبي و هو غير الفسّاق.

قلت: إنّ ما ذكرته من الفرق بين التقييد و التخصيص إنّما يصحّ إذا كان الإخراج أفرادياً، كأن يُخرج زيداً، و عمراً و هكذا على التفصيل، و أمّا إذا كان الإخراج بملاك و تحت عنوان كالفسّاق مثلاً، فلا محالة يكون العام في مقام الحجّية، معنوناً بغير عنوان الخاص، أي العلماء غير الفسّاق.

نعم يظهر من المحقّق العراقي، انّ التخصيص، لا يُضفي على العام أي عنوان، و انّ إخراج بعض الأفراد، بعنوان خاص كالفسّاق أشبه بإخراجهم عن تحته بالموت، حيث قال: إنّ شأن المخصّص إخراج الفرد مع إبقاء العام على تمام الموضوعية، و إنّما يُقلِّل افراد العام دون انقلاب فيه نظير موت بعض الأفراد.(1)

و أنت خبير بأنّه خلط بين التخصيص الإفرادي، و التخصيص العنواني الحاكي عن ملاك الإخراج، فعندئذ يكون العام حجّة في غير عنوان الخاص كما أوضحناه.

الثاني: التمسّك بالعموم الأحوالي

إنّ العام بعمومه الافرادي يدلّ على وجوب كلّ فرد من العلماء كما أنّه بعمومه الأحوالي يدلّ على سراية الحكم إلى كلّ حال من حالات الموضوع، و هي عبارة عن كونهم عدولاً أو فسّاقاً، أو مشكوكي العدالة، فقد خرج الثاني عن

ص:517


1- مقالات الأُصول: 4451/444.

تحت العموم بفضل المخصص، و بقي الثالث تحت العموم الأحوالي للدليل.

يلاحظ عليه أوّلاً: مضافاً إلى أنّ العموم الأحوالي هو نفس الإطلاق الأحوالي و التعبير عن الثاني بالأوّل خلاف الاصطلاح، انّه ليس الإطلاق هو تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع و أخذها فيه، بأن يقال: إنّ العالم واجب الإكرام، سواء كان معلوم الفسق، أو مشكوك، أو مقطوع العدم حتّى يرجع الإطلاق إلى ضم القيود، مع أنّه رفض القيود، بل الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع و هو في المقام هو لفظ» العالم «فقط لاجعل الفرد واجب الإكرام في الأحوال الثلاثة.

و ثانياً: أنّ العموم الأحوالي فرع العموم الافرادي، فلو علم بقاء فرد تحت العام يشمله الحكم في الأحوال الثلاثة، و أمّا إذا شكّ في بقائه أو خروجه، كما هو الحال في المقام، لأنّ المورد على فرض من مصاديق المخصص، نشك في وجود العموم الأحوالي حتّى يحتجّ به.

و ثالثاً: إنّما يصحّ التمسّك بالعموم الأحوالي، إذا كان الشكّ مأخوذاً في لسان الدليل، بأن يقال: انّ العالم واجب الإكرام حتّى و لو شكّ في كونه فاسقاً أو غير فاسق، مع أنّه ليس كذلك و إلاّ يلزم أن يكون مبيّناً لحكمين: واقعي و ظاهري، أمّا الأوّل فالحكم على العالم بما هو هو، و الحكم عليه، بما انّه مشكوك الفسق و العدالة، و هذا ممّا لا يحتمله قوله:» أكرم العلماء «.

الثالث: استصحاب حكم العام

هذا الوجه ذكره الشيخ من قبل المجوزين و قال: و يمكن أن يحتجّ للخصم بالاستصحاب فيما لو عمل بالعام في المشكوك بواسطة القطع باندراجه

ص:518

ثمّ طرأ الشكّ فيه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الكلام في التمسك بالعام لا بالاستصحاب.

و ثانياً: أنّه لا يعمّ الشكوك البدوية و يختصّ بما إذا كان للحكم حالة سابقة.

و ثالثاً: انّ طروء الشكّ إلى اليقين يوجب زوال اليقين من أصله، فعندئذ يخرج المورد عن قاعدة الاستصحاب و يدخل في قاعدة اليقين، و هي ليست بحجّة و لا تشملها أخبار الاستصحاب، لأنّها ظاهرة في وجود اليقين الفعلي حين الشكّ و المفروض زواله من عند الشك.

الرابع: التمسّك بقاعدة المقتضي و المانع

و هذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ في المطارح من قبل المجوزين، قال:

الظاهر عن عنوان العام و المخصص أن يكون الأوّل مقتضياً، و الثاني مانعاً عن الحكم ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي و الأصل عدمه فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي.(2)

يلاحظ عليه: أنّه لم يدلّ دليل على حجّية قاعدة» المقتضي و المانع «، نعم قال بحجّيتها العلاّمة الشيخ محمد هادي الطهراني) قدس سره (و بالغ في تشييدها، بتطبيق أخبار الاستصحاب عليها، و قد أوضحنا في محلّه ضعف التطبيق.

أضف إلى ذلك: انّه ربّما لا يكون لسان المخصّص، لسان المانع، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال:

و ليكن العلماء عدولاً، و الشكّ في عدالة واحد منهم، ليس شكّاً في المانع بعد إحراز المقتضي، بل هو شكّ في جزء المقتضي.

ص:519


1- مطارح الأنظار: 197.
2- مطارح الأنظار: 197.
المخصّص اللبّي و الشكّ في الشبهة المصداقية

المراد من المخصّص اللبيّ، ما إذا كان الدالّ على الحكم الشرعي، أمراً غير لفظي، كالإجماع، و سيرة المتشرّعة، و حكم العقل، مثلاً لو دلّ الدليل اللفظي على إكرام الجيران و حصل القطع للمكلّف على عدم وجوب إكرام الأعداء منهم، يسمّى مثل ذلك تخصيصاً لبيّاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني خصّ ذكر المخصّص اللبي بهذا الفصل، أعني: الشبهة المصداقية، و لم يذكره في فصل الشبهة المفهومية مع إمكان جريانه فيها و نحن أيضاً نقتفيه.

و نقول: إنّ المخصّص اللبيّ في الشبهة المصداقية تارة يكون متّصلاً بالحكم العام كحكم العقل و أُخرى منفصلاً، كالإجماع و السيرة، و على كلا الوجهين فتارة يكون الإجمال دائراً بين الأقل و الأكثر، و أُخرى بين المتباينين، و الأمثلة نفس الأمثلة.

و على ضوء ما ذكر يسري الإجمال إلى العام، في متصله و منفصله، في الدائر بين الأقل و الأكثر أو الدائر بين المتباينين، و وجهه انّ المخصص جعل العام حجّة في غير عنوان الخاص و العام بعنوانه و إن كان محرزاً، لكنّه بما هو حجّة فيه، أعني: الجار غير العدو، غير محرز.

لكن الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني أجازا التمسّك بالعام في صورة واحدة، و هي إذا دار إجمال المخصص المنفصل بين الأقل و الأكثر مصداقاً و أوضحه في» الكفاية «بما يلي:

و أمّا إذا كان لبيّاً بأن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد

ص:520

البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلاّ في الخصوص، و إن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجّيته كظهوره فيه.

و السرّ فيه انّ الكلام الملقى من السيد حجةً، ليس إلاّ ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بد من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلاً إذا قال المولى: أكرم جيراني و قطع بأنّه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم و شكّ في عداء بعض الجيران كانت أصالة العموم باقية على الحجّية بالنسبة إلى من لم يُعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم(1) بعداوته لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظياً، فانّ قضية تقديمه عليه، هو كون الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلاً. و القطع بعدم إرادة إكرام العدو لا يوجب انقطاع حجّيته إلاّ فيما قطع انّه عدوه لا فيما شكّ فيه.

كما يظهر هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته، و حسن عقوبته على مخالفته، و عدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة كما لا يخفى.

بل يمكن التمسّك بعموم العام و إثبات انّ المشكوك ليس فرداً لما علم خروجه، فلو شكّ في جواز لعن شخص من بني أُميّة لاحتمال كونه مؤمناً يتمسّك بعموم:» لعن اللّه بني أُميّة قاطبة «، فيحكم عليه بأنّه ليس بمؤمن.(2)

و حاصل كلامه يرجع إلى أُمور ثلاثة:

ص:521


1- متعلّق بقوله بخروجه.
2- كفاية الأُصول: 1/342.

1. وجود التفاوت بين المخصّص اللفظي بكلا قسميه و المخصّص اللبي، و هو انّ المولى ألقى حجّتين في الأوّل و صارت قضيةُ تحكيم الخاص على العام، انّ العام لم يشمل الخاص) الفاسق (من رأس، بخلاف المقام فانّ الحجّة الملقاة ليست إلاّ أمراً واحداً، و القطع بعدم إكرام العدو لا يوجب رفع اليد عن عموم الدليل إلاّ فيما قطع بخروجه.

2. وجود السيرة العقلائية على صحّة المؤاخذة لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته.

3. يمكن أن يتمسّك بعموم العام ويحكم للفرد المشكوك أنّه ليس من أقسام الفرد المقطوع خروجه، كما في مثال: لعن اللّه بني أُميّة قاطبة، و دلّ النقل على عدم جواز لعن المؤمن منهم، فلو شكّ في أي فرد من بني أُمية يمكن التمسك بعموم العام و إثبات انّه ليس مؤمناً.

و نتيجة البحث: انّ العام حجّة باق على ظهوره و حجّيته مطلقاً إلاّ ما علم خروجه.

يلاحظ على الأوّل: بأنّه إذا كان العقل أو السيرة أو الإجماع أحد الحجج الشرعية، يكون حكمها حكم الحجج اللفظية، فكما أنّ الثانية تجعل العام حجّة في غير عنوان الخاص، كذلك الأُولى فكما يجب إحراز كونه عالماً غير فاسق في اللفظي من المخصص كذلك إحراز انّ الجار ليس عدوّ المولى.

و ما اعتمد في الدليل من إلقاء الحجّتين هناك واقعاً و حجة واحدة في المقام غير واضح، بل هو ألقى حجتين في كلا المقامين غاية الأمر قام بالثاني، مباشرة في اللفظي و بغير مباشرة في اللبي.

يلاحظ على الثاني: بأنّ ما ادّعى من السيرة العقلائية غير محرزة خصوصاً

ص:522

إذا كان تكريم العدو محرّماً و أمراً مبغوضاً، فكيف يجزى العبد بإكرامه مع دوران الأمر بين المحذورين؟! يلاحظ على الثالث: بأنّ إحراز الموضوع، أعني: بعموم الدليل، أعني قوله:» لعن اللّه بني أُميّة قاطبة «، عدم كون الفرد المشكوك مؤمناً، بأنّه مبني على حجّية مثبتات الأُصول اللفظية حتى تثبت بأصالة العموم كون الفرد المشكوك كافراً غير مؤمن، و هو موضع تأمّل.

و على فرض الصحّة فما ذكر إنّما يتأتّى إذا كان التخصيص أفرادياً، فيكون إخراج الفرد المشكوك تخصيصاً آخر، فيتمسّك بالعموم لئلاّ يلزم التخصيص الزائد بخلاف ما إذا كان التخصص عنوانياً، فانّ خروجه و عدم خروجه لا يؤثر في كثرة التخصص و قلته، كما سيوافيك توضيحه في التفصيل الآتي.

تفاصيل ثلاثة في المسألة
اشارة

ثمّ إنّ في المسألة جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية تفاصيل ثلاث:

1. التفصيل الذي اختاره الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار.

2. التفصيل الذي أفاده المحقّق النائيني) قدس سره (.

3. التفصيل الذي اخترناه في سالف الزمان.

فلندرس تلك التفاصيل بعون اللّه تبارك و تعالى.

1. التفصيل بين مخصّص يوجب التنويع و ما لا يوجب

إنّ للشيخ الأنصاري تفصيلاً آخر في المسألة) حجّية العام في الشبهة

ص:523

المصداقية (و حاصله:

أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين و تنويعهما كالعالم و الفاسق، و العالم غير الفاسق و أُخرى لا يوجب ذلك، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العام و إن علمنا بأنّه لو فرض بين أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه) لكن انطباق العنوان عليه ارتجالي و ليس بملاك للحكم (. فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العام و أغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظية، و على الثاني يجب تحكيم العام و أغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبيّة.(1)

و ما ذكره الشيخ) قدس سره (نظرية علمية متقنة و لكن يجب أن نشير إلى وجه الإتقان و ظاهر كلام الشيخ انّ الفارق بين القسمين هو كون المخصص لفظياً، و كونه لبيّاً، و لكن الفارق الواقعي غيره و إن كان الغالب في المخصص اللفظي هو الأوّل و في اللّبي هو الثاني، و يظهر ما ذكرنا بالبيان التالي:

إذا كان التخصيص عنوانياً فلا يصحّ التمسّك بالعام لوجهين:

الأوّل: المخصّص العنواني يجعل العام حجّة في غير الخاص، ففي ظرف الشبهة المصداقية يكون أحد الجزءين محرزاً و الجزء الآخر غير محرز كما مرّ بيانه.

الثاني: انّ التوقف في العمل بالعام في مورد الشبهة المصداقية لا يستلزم تخصيصاً زائداً، فسواء أصح التمسّك بالعام أم لم يصحّ لا يتوجه إلى العام إلاّ تخصيص واحد و هو تحت عنوان» الفاسق «، سواء أكثرت أفراده أم قلّت، فالتوقف في إكرام زيد العالم مشكوك الفسق لا يكون سبباً لتخصيص زائد وراء ما خصّ به.

ص:524


1- مطارح الأنظار: 198.

و لأجل هذين الوجهين يتوقّف في العمل بالعام.

و هذا بخلاف ما إذا كان التخصيص أفرادياً بأن يخرج من تحت العام تسعة أشخاص كلّ باسمه و شخصه و شكّ في الفرد العاشر في أنّه هل خرج من العام أو لا؟ ففي ذلك المورد يتمسّك بالعام للوجهين التاليين:

1. انّ التخصيص الافرادي لا يُضفي على العام عنواناً زائداً على ما له من العنوان و إن علمنا دخول من خرج تحت عنوان خاص و هو الفاسق لكنّه في مقام الإثبات ليس بهذا العنوان العام، بل بلحاظ كلّ فرد منهم، و عندئذ فالموضوع هو العالم، سواء أخرج عن تحته أفراد خاصة أم لم يخرج و التخصيص لا يجعل الموضوع مركباً، و عند ذلك يتمسّك في المصداق المشتبه لانطباق الموضوع عليه غاية الأمر نشك في إخراجه و الأصل عدمه.

2. إنّ التوقّف بالعمل بالعام في التخصيص الأفرادي يوجب كثرة التخصيص، و ذلك لأنّ تخصيص كلّ فرد يعدّ تخصيصاً مستقلاً، فلو خرج تسعة أشخاص و شكّ في الشخص العاشر فقد خصّ تسع مرات و شكّ في المرة العاشرة، وعليه فالشكّ في الفرد العاشر شكّ في التخصيص الزائد.

نعم التخصيص في الشريعة الإسلامية إنّما هو على نحو الإخراج العنواني دون الإخراج الأفرادي.

و على ما ذكرنا فهذا التفصيل في أصل المسألة، لا تفصيلاً بين المخصص اللفظي و اللبي.

2. التفصيل بين القيد و الملاك

قد عرفت أنّ التفصيل السابق و إن كان بظاهره تفصيلاً بين أقسام

ص:525

المخصص اللبي لكنّه كان في الواقع تفصيلاً بين المخصّص اللفظي و المخصص اللبي.

و أمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني فهو تفصيل بين المخصصات اللبيّة فهو يفرّق بين المخصص اللبيّ الذي يصلح أن يؤخذ قيداً و عنواناً في العام و بين المخصص اللبيّ الذي لا يصلح لذلك، بل يكون ملاكاً لحكم العام، فلا يجوِّز التمسّك بالعام في الأوّل بخلاف الثاني، و حاصل ما أفاده:

1. انّ المخصص اللبّي لو كان صالحاً لأخذه في عنوان العام و قيداً له كالعدالة في قوله:» فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا «حيث عُلم أنّ العام بعمومه غير مراد، و قام الإجماع على اعتبار العدالة في الراوي ففي مثله يكون المخصص اللبي كالمخصص اللفظي حيث يصبح موضوع العام مركّباً من قيدين، أعني:

رجلاً عادلاً، فكما يجب إحراز الجزء الأوّل يجب إحراز الجزء الثاني.

2. انّ المخصّص اللبي لو كان غير صالح للأخذ في الموضوع، بل كاشفاً عن ملاك الحكم و علّته كعنوان» غير المؤمن «و» غير الخيّر «، ففي مثله يجوز التمسّك بعموم العام و إن شكّ في وجود الملاك، و ذلك لبقاء موضوع العام على بساطته وسعته من دون تقييد، و أمّا عدم صلاحيته للأخذ في العنوان، هو انّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصلح للتقييد، فللحكم ضيق ذاتي بغير المؤمن فكيف يتصوّر فيه السعة ثمّ التقييد؟! بخلاف الفاسق فانّ حكم الإكرام بطبعه يصلح أن يكون عاماً للعادل و الفاسق ثمّ يخرج الفاسق، و هذا بخلاف اللعن فانّه من أوّل الأمر من خصائص غير المؤمن و غير الخير.

فإذا كان غير المؤمن ملاكاً لحكم العام غير مأخوذ فيه يؤخذ بحكم العام في مورد الشكّ لكون الموضوع بسيطاً) بني أُمية (و عدم أخذ قيد آخر فيه.

ص:526

هذا من جانب و من جانب آخر انّ إحراز الملاك من وظائف المولى، فإلغاء الحكم بصفة العام كاشف عن إحراز وجود الملاك في عامتهم، و عندئذ: فلو علمنا بإيمان أموي كخالد بن سعيد بن العاص و إخوته أبان بن سعيد و عمرو بن سعيد كان ذلك موجباً لخروجهم من تحت العام، و انّ المتكلّم أخّر بيانَ إخراجهم لمصلحة فيه.

فعلى ضوء ذلك فلو شككنا في إيمان أحد من بني أُميّة يتمسّك بعموم العام لإحراز الموضوع.

ثمّ إنّ هنا صورة ثالثة و هي انّه إن تردد أمره و لم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً فلو كان من الأحكام العقلية الضرورية يمكن الاتّكال عليه فيكون قيداً، و إن كان نظرياً أو إجماعياً لا يصحّ الاتّكال عليه، فيلحق بالقسم الثاني فتمسك بالعموم لجواز أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه مع احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ وجود أمثال أبناء سعيد بن العاص أوضح دليل على أنّ حكم العام ليس ملازماً لوجود ملاك اللعن في كلّ فرد فرد.

و على ضوء ذلك فنحن نحتمل أنّ سكوت المولى عن الفرد الآخر لنفس العلّة التي لأجلها سكت عن ذكر الثلاثة، و هي وجود المصلحة في تأخير البيان، و عند ذلك لا عبرة بعموم العام عند العقلاء، إذ ليس كاشفاً عن وجود الملاك.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية دليل على وجود الملاك في الجميع إلاّ ما قام الدليل على فقده.

و ثانياً: أنّ موضوع الحكم لا يمكن أن يكون أعمّ من الملاك، فإذا كان الملاك

ص:527


1- فوائد الأُصول: 5391/536.

أخصّ من مطلق بني أُمية يجب أن يكون الموضوع أيضاً كذلك، و ليس هذا إلاّ قيد» غير المؤمن « أو قيد» غير الخير «و نظائرهما، فعندئذ يلحق الحكم الثاني بالقسم الأوّل في تركّب الموضوع من جزءين:

1. كونه أُموياً، 2. كونه غير المؤمن أخذاً بوحدة الموضوع و الملاك في السعة و الضيق.

و أمّا ما ذكره من أنّ الملاك لا يمكن أخذه في الموضوع، و ذلك لأنّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصحّ تخصيصه بأحد هذين الوجهين، مدفوع بأنّه خلط بين سعة الحكم حسب الإرادة الاستعمالية وسعة الحكم بالإرادة الجديّة، فاللعن حسب الإرادة الجديّة و إن كان لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير و لكنّه حسب الإرادة الاستعمالية قابل لأن يعمّ عامة بني أُميّة حتّى المؤمن و الخيّر، و ذلك لوجود المقتضي في كلهم إلاّ من هداهم اللّه، فعلى ذلك فلا فرق بين كون غير المؤمن ملاكاً للحكم أو مأخوذاً في الموضوع.

و ثالثاً: أنّ ما ذكره من الصورة الثالثة، أعني: ما يتردد بين الملاك و قيد الموضوع مخدوش أيضاً، لأنّ حاصله أنّه يلحق بالقسم الثاني باحتمالين:

1. احتمال أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه.

2. احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.

فهذان الاحتمالان من الظنون التي لم يقم على حجّيتها دليل، أ فيصحّ أن يتمسّك بالعام اعتماداً على هذين الاحتمالين؟!

3. التفصيل بين ما إذا كان الفساد هو الأصل و عدمه

و هاهنا تفسير ثالث و إن شئت فسمه رابع التفاصيل بضم ما أفاده المحقّق

ص:528

الخراساني من التفصيل إليه.

و حاصله: انّه إذا كان الحكم الطبيعي للموضوع هو الحرمة و الفساد و كانت الحلية و الصحّة أمراً طارئاً و على خلاف طبع الموضوع، ففي هذه الموارد لو شكّ في مورد انّه باق تحت حكم العام أو خارج عنه فالعام هو المحكّم حتّى يثبت الخلاف، و على ذلك جرت سيرة علمائنا و إن كان تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

و ها نحن نذكر عدّة أمثلة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على العمل بالعام و إن كانت الشبهة مصداقية:

1. دلّ الذكر الحكيم على وجوب الغض على المؤمنين بالنسبة إلى الجنس غير المماثل، و إن شئت قلت حرمة النظر إليه، و قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ).(1)

ثمّ إنّه سبحانه خصّص وجوب الغض أو حرمة النظر بالنسبة إلى غير المماثل في سورة النساء بالمحارم الواردة في قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ... ) (2)فإذا ضُمّت الآيتان يتشكل منهما، عام مخصَّص، كأنّه سبحانه قال: غضّوا أبصاركم عن المرأة غير المحارم...، فلو شكّ في جنس غير مماثل انّه من المحارم، أو لا، يكون مرجعه إلى الشكّ في مصداق المخصص فأحد الجزءين محرز و هو كونه مرأة أو جنساً غير مماثل و إنّما الشكّ في الجزء الآخر، أعني:

كونه غير المحارم، فالدليل الاجتهادي، أعني: العام، ساقط، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فالمرجع

ص:529


1- النور: 30.
2- النساء: 23.

هو حلية النظر و مع ذلك عدل المشهور عن الضابطة و أفتوا بالحرمة أخذاً بحكم العام، و ما ذلك إلاّ لأنّ الحكم الطبيعي في نظر الرجل إلى المرأة هو الحرمة، خرج عنه، موارد معدودة استثنائية فيؤخذ بالحكم الطبيعي للموضوع و هو حرمة النظر، إلى أن يثبت خلافه.

و لذلك يقول السيد الطباطبائي في العروة: إذا شكّ في كونه مماثلاً أو لا، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا، فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغض إلى جواز النظر مشروط بأمر وجودي و هو كونه مماثلاً أو من المحارم فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم.(1)

و ما علَّل به الحكم من الأخذ بقاعدة المقتضي و عدم المانع ليس بتام، فانّ عدم احراز عنوان المخصص لا يكون دليلاً على التمسك بالعام، إذ ليست المرأة بما هي هي موضوعة للحرمة بل المرأة بوصف كونها من غير المحارم فكما لا يجوز التمسّك بالمخصص لا يجوز التمسك بعموم العام، إلاّ أن يكون الدليل ما ذكرناه من جريان السيرة على العمل بعموم العام، لكون الأصل في المورد هو الحرمة، و الحلية أمر استثنائي.

2. يقول سبحانه: (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ... ) (2)فالأصل في إبداء الزينة لغير المماثل هو الحرمة، خرجت المحارم عن تحتها، أعني قوله: (إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ) و ما عُطِفَ عليها في الآية، فلو شك في رجل في أنّه من المحارم الذين يجوز ابداء الزينة لهم، أو لا، فالسيرة على حرمة الإبداء، إلاّ إذا تبيّن كونه من المحارم، مع أنّ مقتضى الأصل العملي هو جواز

ص:530


1- العروة الوثقى، كتاب النكاح، المسألة 50.
2- النور: 31.

الإبداء و ما ذلك، إلا لأنّ الحكم الطبيعي أو الأصل الأوّلي في إبداء الزينة هو الحرمة و الحلية طارئة استثنائية فيؤخذ به حتّى يثبت خلافه.

3. انّ الوقف عبارة عن تحبيس العين و تسبيل المنفعة فلا يباع و لا يوهب و لا يرهن، و مع ذلك كلّه فقد أفتى الفقهاء تبعاً للنصوص و القواعد، بجواز بيعه في موارد عشرة تكفّل ببيانها الشيخ الأعظم في المتاجر، فلو قام رجل ببيع الوقف و احتملنا كون المورد من الموارد المرخصة فمقتضى القاعدة الأُصولية عدم جواز التمسّك بالعام:» لا يجوز بيع الوقف «لكون الشبهة مصداقية، لكن الفقهاء أفتوا بعدم جواز الشراء، حتّى يعلم المجوز، عملاً بالعام، و ما ذلك إلاّ لأجل أنّ الأصل الأوّلي في الوقف هو الحرمة تكليفاً و وضعاً، فالعام حجّة، و إن كانت الشبهة مصداقية.

4. انّ الأصل في مال اليتيم هو حرمة التصرف إلاّ إذا كان فيه غبطة اليتيم، قال سبحانه: (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1)فلو قام أحد ببيع مال اليتيم و احتملنا فيه غبطة اليتيم، لا يجوز الشراء حتّى يثبت المجوز، و لا يجري في المقام و لا في المورد السابق أصالة الصحّة حتّى أنّ الشيخ استثنى في فرائده(2) هذين الموردين من مجرى أصالة الصحة، فلاحظ.

و بذلك يعلم وجه التفريق في كلام الشيخ في فرائده و متاجره، بين الصلاة على الميّت، و بيع مال اليتيم و الوقف، حيث تجري أصالة الصحّة في الأُولى دون الثاني; فلو قام أحد بإقامة الصلاة على الميّت و شككنا في صحّة صلاته و فسادها، تحمل على الصحّة; و لو قام هو ببيع مال اليتيم، أو الوقف، لا يحمل على

ص:531


1- الأنعام: 152.
2- الفرائد: 419، طبعة رحمة اللّه.

الصحّة إذا كان هناك شك في وجود المسوّغ للبيع.

5. لو تلف مال الغير تحت يد الإنسان فالأصل فيه هو الضمان إلاّ إذا كانت اليد يد أمانة، فلو تلف مال و شكّ في كيفية اليد أنّها يد أمانة أو لا، فالأصل فيه الضمان، و لأجل ذلك حكم الفقهاء في مثل المورد بالضمان.(1)

و إن كان المورد، من قبيل الشبهة المصداقية، لقوله: على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.(2)

6. الأصل في اللحوم البحرية هي الحرمة إلاّ السمك ذات الفلس، فلو شكّ في نوع سمك في أنّه من ذوات الفلس أو لا، فالأصل فيه الحرمة حتّى يثبت الخلاف، لنفس الوجه الذي أوضحنا حاله في الأمثلة السابقة.

ص:532


1- نقل شيخنا الأُستاذ مد ظلّه عن شيخه المحقّق البروجردي في درسه احتمال انّ المشهور اعتمدوا في الإفتاء بالضمان بالروايات الواردة في المقام، لاحظ الوسائل: 13، الباب 16 من أبواب الرهن، الحديث 2 و 3.
2- سنن البيهقي: 6/90، 95; مسند أحمد: 5/8 و 13.

الفصل السادس إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي

اشارة

(1)

قد عرفت أنّ العام إلاّ ما سبق ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص. فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل، فلو كان للمصداق المشتبه حالة سابقة يؤخذ بها، فإذا قال: أكرم العلماء و لا تكرم فسّاق العلماء، و شكّ في عدالة زيد العالم و كان مسبوق العدالة أو مسبوق الفسق فيحكم عليه بأحدهما فعلى الأوّل يدخل تحت العام و على الثاني تحت المخصص.

إنّما الكلام إذا لم يكن له حالة سابقة، فهل هنا أصل موضوعي يُنقِّح حال المشتبه و يدخله تحت العام أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود الأصل المحرز في صورتين:

1. إذا كان المخصّص منفصلاً.

2. إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء.

و أما في غيرهما كما إذا كان متّصلاً و كان وصفاً فلا يحرز الموضوع بالأصل.

توضيح كلامه: هو انّ المخصّص يتصوّر على صور أربع:

ص:533


1- و ما يأتي في هذا الفصل، و إن كان ذيلاً و متمّماً لمباحث الفصل السابق، لكن فصلناه عن السابق لتسهيل الأمر على القارئ، فإنّ الإطناب ربما يوجب الملَل.

1. أن يكون وصفاً متّصلاً، كما إذا قال: أكرم العلماء العدول.

2. أن يكون وصفاً متّصلاً لكن بصورة الموجبة المعدولة، كما إذا قال: أكرم العلماء غير الفسّاق.

3. أن يكون المخصّص متّصلاً على نحو الاستثناء كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق.

4. أن يكون المخصّص منفصلاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم فسّاق العلماء.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل المحرز ينقح حال الموضوع المشتبه في الصورتين الأخيرتين دون الأُوليين.

و ذلك لأنّ عنواني العدول أو غير الفسّاق من العناوين المنوعة التي تقسّم الموضوع إلى علماء عدول و غير عدول، أو علماء فسّاق و غير فسّاق، و استصحاب العدم الأزلي) عدم كونه فاسقاً (لا يثبت العنوان الوجودي للعام، لأنّ استصحاب الأمر العدمي) عدم كونه فاسقاً (و إثبات الأمر الوجودي) كونه عادلاً، أو غير فاسق (من الأُصول المثبتة التي ثبت في محلّها عدم حجّيتها.

و الحاصل: الفرق بين كون المخصّص منوّعاً للعام، و مقسّماً له إلى قسمين، و بين ما لا يكون كذلك، بل يُخرج طائفة عن تحت العام دون أن ينوّع العام و يجعل الموضوع مركّباً من جزءين.

أمّا الأوّل، فكما إذا كان المخصّص وصفاً للعام كالعدول، و غير الفسّاق، إذ عندئذ يكون العام مركّباً من جزءين، يحرز أحد الجزءين بالوجدان و أمّا الأمر فلا يحرز بالأصل، لما عرفت من أنّ استصحاب العدم الأزلي، لا يثبت عنواناً وجودياً و إن كانا متلازمين في الخارج.

ص:534

أمّا الثاني فكما إذا ورد المخصص بصورة الاستثناء أو ورد منفصلاً عن العام، إذ ليس لهما دور عند ذاك إلاّ الإخراج من دون تقييد للعام بقيد وجودي، فالاستثناء يخرج آحاد الفسّاق دون أن يقيد عنوان العام بقيد و مثله المخصص المنفصل، غاية الأمر يجب في كلا الموردين أن لا يصدق عليه عنوان المخصص، و يكفي في ذلك استصحاب العدم الأزلي للرجل المشكوك فسقه و عدالته.

و على ضوء هذا قال المحقّق الخراساني بجريان استصحاب عدم القرشية في المرأة المرددة بين القرشية و غير القرشية، قائلاً، بأنّ النصّ ورد على أنّ المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلاّ القرشية، فالمخصّص متصل لكنّه بصورة الاستثناء فليس له دور إلاّ إخراج القرشية من دون تقييد موضوع العام بقيد، غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص، و يكفي في ذلك استصحاب عدم القرشية للمرأة المرددة، فيكون المورد من الموارد التي تثبت أحد الجزءين بالوجدان و الآخر بالأصل.

و مثله ما إذا كان المخصّص منفصلاً كما إذا قال: المرأة ترى الحمرة إلى خمسين عاماً ثمّ ذكر بعد فترة: القرشية ترى الدم إلى ستين.

و بذلك تبين انّ نظريته مبنيّة على أمرين:

الأوّل: انّ التخصيص المتصل بصورة الوصف أو بصورة القضية الموجبة المعدولة ينوِّع العام و يجعل الموضوع مركّباً من جزءين، و من المعلوم أنّه لا يمكن إثبات القيد الوجودي بالأمر العدمي.

الثاني: انّه إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء أو منفصلاً فلا يضفي للعام تنويعاً و لا يوجب تركّب الموضوع، بل العام باق على عمومه، غاية الأمر يجب أن لا يصدق عليه عنوان المخصّص، فعندئذ يكفي استصحاب عدم

ص:535

قرشية المرأة، بعدم تحقّق الانتساب بينها و بين قريش فيكون باقياً تحت العام محكوماً بحكمه.

و بذلك علم أنّ المحقّق الخراساني يركز في جريان الأصل الأزلي و عدمه على شيء واحد و هو تعنون العام بقيد وجودي كما في القسمين الأوّلين و عدم تقيّده به كما في القسمين الأخيرين، فبما انّ الوصف أو الموجبة المعدولة ينوِّع العام بقيد وجودي فلا يثبت بالأصل العدمي، و أمّا الاستثناء و المخصّص المنفصل لا ينوع الموضوع و لا يضفي عليه قيداً زائداً غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص فيجري و يثبت عدم تعنونه به.

هذا توضيح مفصّل لمرام صاحب الكفاية، و قد أجمل) قدس سره (في بيان مقصوده.

مناقشة نظرية المحقّق الخراساني

البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي في المرأة المرددة بين القرشية و غيرها يقع في مقامين:

الأوّل: مقام الثبوت.

الثاني: مقام الإثبات.

أمّا الأوّل فالذي يمكن أن يبقى تحت العام بعد ملاحظة المخصص، أحد الأُمور الثلاثة:

1. الموجبة المعدولة نحو قولنا: المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

2. الموجبة، السالبة المحمول نحو قولنا: المرأة التي هي ليست قرشية ترى الدم إلى خمسين.

و المراد من الموجبة السالبة المحمول هو جعل القضية السالبة المحصلة خبراً لموضوع أو في حكم الخبر، كما في المقام بحيث يكون الربط قبل

ص:536

الخبر فتحمل السالبة على الموضوع و يوصف بها لبّاً و يقال: المرأة التي هي ليست بقرشية.

3. السالبة المحصلة نحو قولنا: إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين، و على كلّ تقدير فالباقي تحت العام أحد القضايا الثلاثة.

فلو كان الباقي تحت العام، هو الأوّلان، أعني: المرأة بوصف القرشية، أو المرأة التي هي ليست بقرشية، فلا يمكن إثبات هذا القيد بالأصل العدمي، و ذلك لوجهين:

الأوّل: انّ القيد المنوِّع أمر وجودي، و المستصحب أمر عدمي، و استصحاب الأمر العدمي و إثبات القيد الوجودي من الأُصول المثبتة. و هذا هو الذي ركّز المحقّق الخراساني عليه.

الثاني: انّ المتيقّن قضية سالبة محصلة حيث تقول: إذ لم تكن المرأة موجودة فلم تكن قرشية، و القضية المشكوكة قضية سالبة المحمول بمعنى نعلم وجودها و نشك في وصفها، فاستصحاب السالبة المحصلة الصادقة مع نفي الموضوع و إثبات القضية بصورة سالبة المحمول من الأُصول المثبتة.

و قد تكرر من الشيخ الأعظم و غيره أنّ مفاد كان التامة أو النفي التام لا يثبتان مفاد كان الناقصة و النفي الناقص، مثلاً:

إذا كان في البيت ماء كرّ فنقص منه شيء، فلو قيل كان في البيت ماء كرّ بصورة كان التامة فلا يثبت به كرّيّة هذا الماء المشكوك، و لا محيص من الاستصحاب بصورة كان الناقصة بأن يقال: انّ هذا الماء كان كرّاً و الأصل بقاؤه.

و منه المرأة المشتبهة المرددة بين القرشية و غير القرشية، فالمتيقّن عدم قرشية تلك المرأة عند عدم وجودها، أعني: النفي التام، و المشكوك هذه المرأة الموجودة، المشكوكة قرشيتها. و استصحاب التام لا يثبت النفي الناقص.

ص:537

إلى هنا تبيّن انّ الأصل لا يجري فيما إذا كان الواقع تحت العام إحدى القضيتين:

1. معدولة المحمول.

2. الموجبة سالبة المحمول.

نعم لو كان الواقع تحت العام على نحو السالبة المحصلة نحو قولنا: إذا لم تكن هذه المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين الصادقة حتّى مع عدم الموضوع، ففي هذه الصورة تثبت القضيةُ المشكوكة بالقضية المتيقّنة لعدم وجود المانعين المذكورين، فعندئذ يصحّ استصحاب عدم قرشيتها لإثبات انّ المرأة المرددة واقعة تحت العام لم تخرج منها.

الكلام في مقام الإثبات

إلى هنا تمّ كلامنا في مقام الثبوت، بقي الكلام في مقام الإثبات، أي تعيين أنّ الباقي تحت العام من أي قسم من الأقسام الثلاثة.

الظاهر أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص هو القسمان الأوّلان لا الثالث.

و ذلك لأنّ الحكم الوارد في القضية حكم إيجابي) ترى (و القضية الموجبة لا تصدق إلاّ بوجود الموضوع، قال التفتازاني في التهذيب: و لا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع، إمّا محقّقاً و هي الخارجية، أو مقدّراً فالحقيقية، أو ذهناً فالذهنية.(1) و القضية في المقام حقيقية يجب وجود الموضوع في ظرف الصدق، و من المعلوم أنّ الرؤية إلى خمسين من خصائص المرأة الموجودة فيختص الباقي تحت العام

ص:538


1- الحاشية على تهذيب المنطق: 58، ط مؤسسة النشر الإسلامي.

بالقضية المعدولة أو بالموجبة السالبة المحمول اللتين لا ينفكان عن صدق الموضوع و وجوده.

و أمّا القضية السالبة المحصّلة فيمتنع أن تقع موضوعاً للرؤية، فلو قيل إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين فقد جُمِعَ بين نقيضين، فالموضوع بما انّه قضية سالبة محصّلة يصدق مع عدم الموضوع، و لكن المحمول) ترى (بما انّه قضية موجبة لا تصدق إلاّ مع وجود الموضوع فلا يمكن أن يكون الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة.

فإن قلت: لا مانع من أن يكون الأصل فاقداً للأثر حدوثاً و واجداً له بقاءً، فعدم القرشية و إن كان فاقداً للأثر عند عدم الموضوع و لكنّه واجد له بعد وجود الموضوع و مثل هذا داخل تحت قوله: لا تنقض اليقين بالشك.

قلت: ما ذكرته صحيح فيما إذا عمّ الدليل كلتا الصورتين، مثلاً: إذا كان الماء كراً على وجه اليقين يشمله الدليل الاجتهادي بأنّه لا ينجّسه شيء، فإذا نقص منه شيء فشكّ في كونه كرّاً فالدليل الاجتهادي يكون قاصراً عن شموله لهذا المورد، و لكن لا قصور في دليل الاستصحاب فيستصحب بقاء الماء على الكرّية فيشمله الدليل الاجتهادي ثانياً.

غير أنّ هذا الشرط غير موجود في المقام، لأنّ موضوع الدليل الاجتهادي، أعني قوله:» المرأة غير القرشية «لم يكن شاملاً لها في فترة من الزمن، أي عند ما كانت معدومة الوجود و الصفة، فكيف يشملها بعد وجودها مع الشكّ في بقاء عدم وصفها؟ ففي مثل ذلك لا يشملها الدليل الاجتهادي و لا الاستصحاب.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّه يتوجّه على المحقّق الخراساني إشكالات نأتي بها تالياً.

ص:539

1. إذا كان الباقي تحت العام حسب الدراسة السابقة هو القضية الموجبة، سواء أ كانت موجبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول فهذا ممّا لا حالة سابقة له، إذ المرأة الموصوفة بغير القرشية لم يتعلّق بها اليقين في عصر من الأعصار، و أمّا السالبة المحصلة، أعني» إذا لم تكن المرأة قرشية فترى الدم إلى خمسين «فهي غير صالحة لأن تكون موضوعاً للرؤية، لأنّ الحكم الإيجابي يستلزم وجود الموضوع كما ذكره المنطقيون.

قال التفتازاني في التهذيب:

و لا بدّ في الموجبة من وجود موضوع... و السالبة المحصّلة التي تصدق مع عدم الموضوع لا تصلح لأن تقع موضوعاً للحكم الإيجابي.

2. نفترض انّ الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة و لكن القضية المتيقّنة تُغاير القضية المشكوكة، فانّ المتيقّنة منها هي السالبة الصادقة بانتفاء الموضوع، أي لم تكن موجودة فلم تكن قرشية، و المشكوكة هي القضية السالبة، الصادقة بانتفاء المحمول مع وجود الموضوع، و من المعلوم أنّ إسراء الحكم من القضية الأُولى إلى القضية الثانية إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

3. انّ استصحاب العدم الأزلي ليس مصداقاً عرفياً للاستصحاب، و ظواهر الكلام حجّة في المصاديق العرفية لا المصاديق العقلية الدقيقة كما في المقام.

4. انّ التفريق بين الوصف و الاستثناء قائلاً بأنّ الأوّل ينوِّع دون الثاني تفريق بلا وجه، لأنّ العرف لا يفرّق بين قولنا: أكرم العلماء غير الفسّاق، و قولنا: أكرم العلماء إلاّ الفسّاق، و التفريق بينهما بكون المخصص وصفاً في الأوّل و منوِّعاً للموضوع إلى فاسق و غير فاسق دون الثاني فانّ دوره الإخراج لا التنويع، بعيد عن الأذهان العرفية.

ص:540

هذا كلّه حول أصل العدم الأزلي في نظر المحقّق الخراساني، و إليك دراسة ما أفاده المحقّق النائيني من التفصيل بين القيد المقسِّم و القيد المقارن.

التفصيل بين القيد المقسِّم و المقارن
اشارة

إنّ المحقّق النائيني لمّا لم يرتض ما أفاده المحقّق الخراساني حول استصحاب العدم الأزلي حاول إصلاح النظرية بالفصل بين القيد المقسِّم و القيد المقارن، فنفى حجّية الأصل الأزلي في الأوّل و أثبت حجّيته في الثاني، و بذلك صار مفصِّلاً في حجّية الأصل الأزلي لا مثبتاً مطلقاً كالمحقّق الخراساني و لا نافياً كغيره.

و إيضاح مقصوده رهن الكلام في موضعين:
الأوّل: ما هو المراد من القيد المقسِّم و المقارن؟

إذا كان القيد قائماً بالموضوع، مقسِّماً له بالذات أو حسب الوصف إلى قسمين، كتقسيم القرشية و النبطية، و المرأةَ إلى قسمين، فيقال: قرشية و غير قرشية، نبطية و غير نبطية، فهذا ما نسمّيه بالقيد المقسِّم، و يشترط فيه قيامه بالموضوع على نحو يجعل الموضوع قسمين.

و أمّا إذا كان القيد جوهراً قائماً بنفسه، كوجود زيد، أو عرضاً قائماً بموضوع آخر لا بموضوع العام فهذا ما نسمّيه بالقيد المقارن، و ذلك كما إذا قال: أكرم العالم عند وجود زيد، أو قال: أكرم العالم عند مجيء زيد، فوجود زيد جوهر قائم بنفسه لا بالعارض، كما أنّ مجيئه قائم بزيد لا بموضوع الحكم) العالم (، و لأجل ذلك يعدّ الكلّ من المقارنات الاتفاقية أو الدائمية.

ص:541

الثاني: ما هو الوجه في التفريق بين المقسِّم و المقارن؟

هذا هو المقام الثاني الذي يريد المحقّق النائيني بيان وجه التفريق بين نوعي القيدين، و حاصل ما أفاده هو انّه إذا كان القيد وصفاً للموضوع، قائماً به قياماً ذاتياً كالقرشية، أو عرضياً كالفسق، يكون الموضوع موصوفاً بالقيد، وجوداً و عدماً كقولنا المرأة غير القرشية ترى الدم إلى ستين، و المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.

و من المعلوم أنّ الموصوف لم يتعلّق به اليقين، فانّ المرأة إمّا تتولد قرشية أو غير قرشية، فليس هنا قضية متيقّنة و قضية مشكوكة، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر.

و استصحاب العدم المحمولي، أي عدم القرشية من دون مضاف إلى مرأة معيّنة، لا يثبت أنّ هذه المرأة غير قرشية.

و هذا بخلاف ما إذا كان القيد جوهراً مستقلاً قائماً بنفسه أو عرضاً لكن غير قائم بموضوع القضية، فانّ الجزء الثاني بحكم انّه جوهر أو قائم بغير موضوع القضية لا يقع وصفاً للموضوع، و ليس لها شأن سوى اجتماعهما في عمود الزمان، فمجرّد إحراز اجتماعهما في فترة من الزمان يكفي في ترتّب الأثر، سواء أ كان الإحراز بالوجدان أم بالأصل.

ثمّ فرّع على ما ذكره الفرع التالي و هو انّه إذا تلفت العين تحت يد إنسان غير مالك، و شكّ في أنّ يده هل كانت يد ضمان أو يد أمان، فقد ذهب المشهور إلى الضمان، و ما هذا إلاّ لأجل انّ» عدم إذن المالك «أُخذ جزءاً مقارناً للاستيلاء لا واصفاً له، فعندئذ إذا أحرز الاستيلاء بالوجدان و عدم الإذن بأصل العدم الأزلي، يثبت كون اليد عادية، و ذلك لأنّ إذن المالك ليس وصفاً للاستيلاء بل مجرّد

ص:542

اجتماعهما في عمود الزمان كاف في الحكم بالزمان.

يلاحظ عليه: انّ ما ذكره في القيود المقسمة أمر لا غبار عليه، إنّما الكلام في القيود المقارنة حيث زعم انّه يجوز أخذ شيئين مختلفين موضوعاً لحكم واحد و إن لم يكن بينهما رابط، و هذا شيء لا يساعده الدليل.

و ذلك لأنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع، و وحدة الموضوع رهن وجود رابط بين الجزءين حتّى يجعله موضوعاً واحداً و مركّباً بأن تصلح للوقوع موضوعاً لحكم واحد، و عندئذ يكون الجزء الثاني وصفاً للأوّل و يكون الموضوع للضمان هو الاستيلاء الموصوف بعدم إذن المالك، و إلاّ فالشيئان المختلفان الفاقدان للوحدة و الربط كيف يمكن أن يقعا موضوعاً لحكم واحد؟! و أمّا ما مثّله من ذهاب المشهور إلى الضمان فلا يدلّ على ما يتوخّاه لاحتمال انّ ذهابهم إليه رهن أحد أمرين:

1. وجود النصّ في المسألة، و قد كان سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي معتمداً عليه كما مرّ.(1)

2. ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحكم الأوّلي للموضوع هو الحرمة أو الفساد أو الضمان فيتمسّك به في الموارد المشكوكة إلاّ أن يدلّ عليه دليل.

و حاصل الكلام: انّ ما اختاره المحقّق النائيني من جريان الأصل في القيود المقارنة دون المقسّمة مبني على إنكار لزوم الوحدة في الموضوع و لو وحدة عرفية فعندئذ يمكن إحراز أحد الجزءين بالوجدان و الآخر بالأصل، و لكنّك عرفت أنّ الحكم و الإرادة الواحدة يطلبان لأنفسهما شيئاً واحداً و وحدة حرفية فانية في الموضوع.

ص:543


1- لاحظ صفحة 532 من هذا الكتاب.
إحياء نظرية المحقّق الخراساني

إنّ المحقّق الخوئي لمّا لم يرتض تفصيل أُستاذه بين القيد المقسِّم و القيد المقارن ذهب إلى حجّية استصحاب العدم الأزلي وفاقاً للمحقّق الخراساني لكن ببيان آخر.

و حاصل ما أفاده مبنيّ على أمرين:

الأوّل: انّ وجود العرض بذاته محتاج إلى وجود موضوعه، لأنّه من لوازم وجود العرض، و قد عُرِّف العرض بأنّه ذو ماهية تامّة قائمة في الخارج بموضوعه، و هذا ما يعبر عنه على وجه الإيجاز) العرض ماهية في نفسه لغيره (لكن عدم العرض ليس له هذا الشأن، فهو غير محتاج إلى وجود الموضوع، مثلاً: انّ العدالة لمّا كانت عرضاً يتوقّف وجودها على وجود الموصوف بها، و أمّا عدم العدالة فلا يحتاج إلى وجود الموضوع، و لذلك لو وجد زيد و صار غير عادل فنفس العدم الأزلي مستمر إلى ذلك الوقت.

و منه يعلم حال القرشية فهي عرض قائم بالمرأة فلا يعقل وجود القرشية بلا وجود موضوعها، و أمّا عدم القرشية فهي غنيّة عن الموضوع، فلو أُشير إلى ماهية المرأة و قيل انّها لم تكن قرشية قبل ان تتولد، فهذا العدم باق على حاله بعد ولادتها.

الثاني: إذا ورد أنّ المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية.

فهاهنا قضيتان:

إحداهما: الجملة الاستثنائية: إلاّ القرشية.

و الأُخرى: الجملة المستثنى منها، أعني: المرأة تحيض إلى خمسين.

فلا شكّ أنّ القرشية في الجملة الأُولى عرض لا يفارق الموضوع فلا تتحقّق القرشية في الخارج إلاّ بوجود المرأة، و لأجل ذلك لا يصحّ استصحاب القرشية، إذ

ص:544

لا حالة سابقة لها.

و أمّا الجملة الثانية فبما انّ المأخوذ فيها عدم القرشية فلا يستدعي أخذ عدم القرشية فيها على نحو مفاد ليس الناقصة، أي وصفاً للمرأة بأن يقال: كلّ مرأة لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين، بل يكفي أخذ عدم القرشية بنحو ليس التامة بأن يكون شيئاً مقارناً للمرأة بأن يقال: كلّ مرأة، لا تكون متّصفة بالقرشية تحيض إلى خمسين عاماً.

و الباقي تحت العام هو الثاني لا الأوّل، وجهه واضح أنّ العدم غني عن الموضوع فلا وجه لأخذ عدم القرشية وصفاً للمرأة، بل يكفي صدق عدم القرشية في ظرف تحقّق المرأة دون أن يكون وصفاً لها، فعندئذ إذا شكّ في قرشية المرأة و عدمها فالموضوع مركّب من جزءين:

1. المرأة 2. لا تكون بقرشية.

و الأوّل محرز بالوجدان و الآخر بالأصل.

هذا هو حاصل ما أفاده المحقّق في هامش أجود التقريرات.(1)

و لأجل أن نذكر شيئاً من عبارات المحقّق المذكور في الجزء الأوّل، نقول:

قال) قدس سره (: إنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة) إلاّ القرشية (إنّما يكون ارتفاعه) في جانب المستثنى منه (بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصلة من دون أن يتوقّف ذلك باتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة، فمفاد قضية» المرأة تحيض إلى

ص:545


1- أجود التقريرات: 4691/468; المحاضرات: 3365/332. و رسالة اللباس المشكوك لنفس المحقّق، و هذه الرسالة أسبق نشراً من الكتابين السابقين فقد أطال الكلام فيها في حجّية أصل العدم الأزلي.

خمسين إلاّ القرشية «و إن كان هو اعتبار وصف القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم بتحيض القرشية بعد الخمسين إلاّ أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية، أعني به مفاد ليس الناقصة و إنّما يستدعي أخذ عدم القرشية في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصلة، و كلّ مرأة لا تكون متصفة بالقرشية باقية تحت العام و إنّما الخارج خصوص المتصفة بالقرشية لا انّ الباقي بعد التخصيص هو المرأة المتصفة بعدم القرشية، فإذا شكّ في كون المرأة قرشية لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشية الثابت لها قبل ولادة تلك المرأة في الخارج.(1)

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ ما أفاده في جانب المستثنى في غاية المتانة، إنّما الكلام فيما أفاده في جانب المستثنى منه، فقد سبق منّا انّ الباقي تحت العام يتصوّر على أنحاء ثلاثة:

1. الموجبة المعدولة: المرأة غير القرشية تحيض إلى خمسين.

2. الموجبة السالبة المحمول: المرأة التي هي ليست بقرشية تحيض إلى خمسين.

3. السالبة المحصلة: إذا لم تكن المرأة قرشية تحيض إلى خمسين.

و الأوّلان رهن وجود الموضوع، إذ الوصف الوجودي) غير القرشية (أو) هي التي ليست بقرشية (لا ينفك عن وجود الموصوف بخلاف الثالث فانّه يصدق حتّى مع عدم الموضوع و لكن الكلام في تشخيص انّ الباقي تحت العام ما هو؟! فإن كان الموضوع من قبيل الأوّلين فلا يجري الاستصحاب لعدم الحالة

ص:546


1- تعاليق أجود التقريرات: 4691/468. و لاحظ المحاضرات: 3365/332.

السابقة، و إن كان من قبيل الثالث يجري الاستصحاب لوجودها إلاّ أنّ المحمول أعني قوله:) ترى أو تحيض (قرينة على أنّ الباقي تحت العام هو القسمان الأوّلان ضرورة انّ الحكم الإيجابي) ترى أو تحيض ( رهن وجود الموضوع، قال التفتازاني في منطق التهذيب: فلا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع إمّا محقّقاً و هي الخارجية، أو مقدراً فهي الحقيقية، أو ذهنياً فهي الذهنية كما مرّ.

و بالجملة نحن نستكشف من الحكم على أنّ الموضوع هو القسم الأوّل و الثاني اللذان لا يصدقان إلاّ على المرأة الخارجية.

الثاني: يرد عليه ما أوردناه على أُستاذه، لأنّ مرجع ما ذكره هو تركّب الموضوع من أمر وجودي محرز بالوجدان و هو المرأة، و أمر عدمي يحرز بالأصل دون أن يكون بينهما صلة بجعل الثاني وصفاً للأوّل، و كأنّ الموضوع في لسان الشرع كالآتي في لساننا «1. المرأة 2. لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين « و من المعلوم أنّ وحدة الحكم كاشفة عن وحدة الموضوع، فلا بدّ أن يكون في الموضوع وحدة آلية يجعل الشيئين الأجنبيين أمراً واحداً، و عندئذ ترجع السالبة المحصّلة إلى موجبة سالبة المحمول. فيكون الموضوع:

المرأة التي هي لم تكن قرشية تحيض إلى خمسين، و من الواضح انّها تفقد الحالة السابقة.

ما هو المرجع إذا لم يكن الأصل العدمي حجّة؟

قد عرفت أنّ العام لا يحتجّ به في الشبهة المصداقية للمخصص، لأنّ الموضوع مركّب من عنوان العام و عدم عنوان المخصص و الجزء الأوّل و إن كان محرزاً لكن الثاني ليس بمحرز.

كما أنّ أصل العدم الأزلي لا يحتجّ به على بقاء المشتبه تحت العام للوجوه

ص:547

التي عرفتها.

بقي الكلام في تعيين المرجع بعد قصور اليد عن العام و الأصل العدمي، فنقول:

إنّ المرجع هو الأُصول العملية: الاستصحاب و التخيير و الاشتغال و البراءة و هي تختلف حسب اختلاف الموارد، و إليك الأمثلة.

أمّا الأوّل أعني الاستصحاب: فلو أقام إنسان في بلد متردداً في الإقامة و شكّ في أنّ هذا اليوم يوم الثلاثين أو يوم التاسع و العشرين، فعلى الأوّل يتمّ بعد انقضاء ذلك اليوم و على الثاني يقصر يوم الشكّ و بعده ثمّ يتم، فالمرجع هو استصحاب وجوب القصر إلى أن يحصل اليقين بأنّه أقام في ذلك البلد ثلاثين يوماً.

و أمّا الثاني أعني التخيير: فكما إذا قال المولى: يجب إكرام العلماء ثمّ قال: يحرم إكرام فسّاق العلماء، فالفرد المشتبه بما انّه يحتمل بقاؤه تحت العام يجب إكرامه كما يحتمل خروجه عن تحته و دخوله تحت المخصص فيحرم، فيدور الأمر بين المحذورين فيتخير.

و أمّا الثالث أعني الاشتغال: كالمرأة المرددة بين القرشية و غيرها، فإذا رأت الدم بعد الخمسين فيتردد أمر الدم بين كونه دم استحاضة أو دم حيض فتجمع بين الوظيفتين.

أمّا الرابع أعني البراءة: فكما إذا قال: يجب إكرام العلماء ثمّ قال: لا يجب إكرام فسّاق العلماء، فالفرد المشتبه مردد بين وجوب الإكرام و عدمه فتجري البراءة.

إلى هنا تمّ الكلام في إحراز حال المشتبه في الشبهة المصداقية للمخصص.

ص:548

الفصل السابع إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي

اشارة

كان البحث في الفصل السابق مركّزاً على إحراز حال الفرد، الذي اشتبه حاله لأجل تخصيص العام فدار أمر الفرد بين كونه باقياً تحت العام أو خارجاً عنه، مثلاً: قال المولى: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم فساق العلماء، و اشتبه حال العالم من حيث الفسق و العدالة، فشكّ في بقائه تحت العام و عدمه فلا يُحرز حال الفرد لا بالعام و لا بالأصل الأزلي.

و أمّا هذا الفصل فقد استظهر المحقّق الخراساني بأنّ الاشتباه رهن غير التخصيص، بل لأجل وجود الإجمال في الدليل العام، فهل يمكن تنقيح حاله من حيث دخوله تحت الدليل بالعنوان الثانوي أو لا؟ مثلاً: قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).(1)

فلو قلنا بظهور الآية أو انصرافها إلى الغَسْل بالماء المطلق فلا شكّ في بطلان الوضوء بالماء المضاف، و أمّا لو قلنا بإجمال الآية و إمكان سعتها للماء

ص:549


1- المائدة: 6.

المطلق و المضاف، فيقع الكلام في إمكان تنقيح حال الفرد المشتبه، أي التوضّؤ بالماء المضاف بالعنوان الثانوي، و بالتالي استنتاج دخوله في الآية.

كما إذا نذر أحد أن يتوضأ بالماء المضاف إذا رزقه اللّه الولد، و قد رُزق الولد، فبما انّ العمل بالنذر واجب لقوله سبحانه: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ). (1)فيمكن استكشاف شمول آية الوضوء للتوضّؤ بالماء المضاف من وجوب الوفاء بالنذر) الوضوء بالماء المضاف (، بأن يقال: التوضّؤ بالماء المضاف واجب وفاءً للنذر، و كلّما وجب الوفاء به حسب النذر يكون صحيحاً، لأنّه لو لا الصحّة لما وجب الوفاء، فينتج انّ الإتيان بهذا الوضوء صحيح، و من الواضح انّ الشكّ نبع من إجمال الآية لا من تخصيص العام بمخصص شكّ في كون فرد من أفراد العام من أفراد المخصص أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول نقد هذا الإحراز بتقسيم العناوين الثانوية إلى قسمين: قسم أخذ في متعلّقه حكم من الأحكام الخمسة المتعلّقة بالأفعال.

و قسم لم يؤخذ فيه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال.

و مع أنّ القسم الثاني كان خارجاً عن غرضه طرحه على صعيد البحث بعد ما فرغ من القسم الأوّل، و نحن نقدّم البحث في الثاني على الأوّل، لأنّه بحث استطرادي إذا وقع في أثناء البحث يوجب التعقيد، فنقول:

إنّ الضرر و الحرج و الإكراه من العناوين الثانوية التي لم يؤخذ في متعلقه حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين، فهو يفارق القسم الأوّل الذي أخذ في متعلّقه الرجحان أو الإباحة، و لأجل ذلك لو شكّ في جواز الصوم لأجل الضرر يقدّم على حكم العنوان الأوّلي بلا تردد، بخلاف القسم الأوّل فلا يقدّم إلاّ إذا

ص:550


1- الحج: 29.

أحرز فيه الرجحان و الإباحة.

و إلى ذلك أشار المحقّق الخراساني بقوله:» نعم لا بأس بالتمسّك به في جوازه بعد إحراز التمكّن منه و القدرة عليه(1). فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً) كالضرر و الحرج و الإكراه (، فإذا شكّ في جوازه ) الفرد كشرب الخمر عن إكراه و الإفطار لكون الصوم ضررياً (صحّ التمسّك بعموم دليل العناوين الثانوية في الحكم بجوازها «.(2)

و الحاصل فرق بين النذر و طاعة الوالد، و بين الحرج و الضرر و الإكراه، فلا يتمسّك بالقسم الأوّل إلاّ بعد إحراز الحكم المأخوذ في متعلّق النذر من الطاعة و الإباحة، بخلاف الحرج و الضرر و الإكراه فيتمسك بهما في جواز الفرد المشكوك بلا شرط.

نعم للتمسّك بالقسم الثاني من العناوين الثانوية شرط آخر، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني في المقطع الثاني من كلامه، و هو:

إنّ التمسك بالحرج و الضرر و الإكراه لإثبات جواز الفرد المشكوك مشروط بكون الملاك فيها أقوى من ملاك الحكم الأوّلي، حيث إنّ الخمر و الصيام و الوضوء، محكومة بالعنوان الأوّلي بالحرمة أو الوجوب، و بالعنوان الثانوي بالجواز، فلا يقدّم العنوان الثانوي إلاّ إذا كان الملاك في جانب العنوان الثانوي أقوى، و إلاّ لم يؤثر أحد العنوانين فيرجع إلى الأُصول كالإباحة.

هذا و ما أفاده في المقام مغاير لما سيأتي منه في البحث عن قاعدة:» لا ضرر و لا ضرار «من تقدّم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية مطلقاً من غير فرق

ص:551


1- لا وجه لأخذ القدرة، إذ الأحكام كلّها مقيّدة بالقدرة.
2- الكفاية: 1/351.

بين الأقسام و انّ التقديم مطلقاً مقتضى التوفيق العرفي بينهما.

و على كلّ تقدير فهذا القسم غير مقصود بالذات في هذا الفصل.

إنّما الكلام في العناوين الثانوية التي أخذت في متعلّقها حكم من الأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّفين بعناوينها الأوّلية. كاستحباب الفعل و وجوبه المأخوذين في متعلق وجوب الوفاء بالنذر، و كالاباحة المأخوذة في متعلق إطاعة أمر الوالد.

فصحّة النذر فرع وجود الرجحان في المتعلّق فيختص بالمستحب و الواجب، و لزوم طاعة الوالد فرع عدم كون المأمور به معصية للّه فيختص بغير الحرام.

و الذي يدلّ على انّ لزوم الرجحان في متعلّق النذر ما رواه أبو الصلاح الكناني عن أبي عبد اللّه ) عليه السلام (قال:

» و ليس شيء هو طاعة يجعله الرجل عليه إلاّ ينبغي له أن يفي به، و ليس من رجل جعل للّه عليه مشياً في معصية اللّه إلاّ أنّه ينبغي له أن يترك إلى طاعة اللّه «.(1)

و على ضوء ذلك فيجب الوفاء بالنذر الذي ثبت وجوب الرجحان في متعلّقه، كما أنّ وجوب طاعة الوالد مقيد بما إذا كان متعلّقه أمراً مباحاً.

إذا علمت ذلك فنقول:

إذا نذر أن يتوضّأ بماء مضاف فلا ينعقد النذر إلاّ إذا أحرز استحباب الوضوء أو وجوبه بالماء المضاف. و بعبارة أُخرى: رجحان الوضوء، و إلاّ فلا يجوز التمسّك بإطلاق قوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ )، لأنّه مخصّص بقوله:» للّه طاعة «فيكون التمسّك بقوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) في إثبات صحّة الوضوء بالماء المضاف

ص:552


1- الوسائل: 16، الباب 7 من أبواب النذر، الحديث 6.

من قبيل التمسّك بالعام: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) في الشبهة المصداقية للمخصص حيث يحتمل أن يكون الوضوء بالماء المضاف طاعة أو غير طاعة، و قد مرّ عدم جوازه.

ثمّ إنّ القائل أيّد كلامه بما ورد من صحّة الصيام في السفر و الإحرام قبل الميقات إذا نذر كذلك.

أمّا الأوّل فقد روى الشيخ عن علي بن مهزيار قال: كتب بندار مولى إدريس: يا سيدي نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت... فكتب) عليه السلام (في الجواب:» و ليس عليك صومه في سفر و لا مرض إلاّ أن تكون نويت ذلك «.(1)

و أمّا الثاني: فقد روى الشيخ عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن رجل جعل للّه عليه شكراً أن يحرم من الكوفة؟ قال» فليحرم من الكوفة و ليفِ للّه بما قال «.(2)

و روى أيضاً عن علي بن أبي حمزة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه) عليه السلام (عن رجل جعل للّه عليه أن يحرم من الكوفة؟ قال:» يحرم من الكوفة «.(3)

و روى أيضاً عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» لو انّ عبداً أنعم اللّه عليه نعمة أو ابتلاه ببليّة فعافاه من تلك البليّة، فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان، كان عليه أن يتم «.(4)

يلاحظ عليه: وجود الفرق بين المقيس و المقيس عليه، بأنّ الصيام في السفر، و الإحرام قبل الميقات، محكومان بالحرمة و يصيران جائزين بالنذر، فبالنذر، ينقلب الحرام إلى الجائز، و أمّا المقام فالمدعى هو استكشاف كون الوضوء بالماء

ص:553


1- الوسائل: 7، الباب 10 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.
2- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.
3- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.
4- الوسائل: 8، الباب 13 من أبواب المواقيت، الحديث 1، 2، 3.

المضاف، جائزاً قبل النذر و داخلاً تحت العام، فللنذر عندئذ دور الكشف، و في المقيس عليه، دور التقليب، و أين أحدهما من الآخر؟ ثمّ إنّ في المقيس عليه إشكالين:

الأوّل: اشتراط الرجحان في متعلّق النذر

يشترط في متعلّق النذر، وجود الرجحان قبل تعلّقه، و المفروض أنّه حرام قبله، فكيف تعلّق به النذر؟ و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. انّ الروايات السابقة تكشف عن رجحان الصوم في السفر، و الميقات قبل الإحرام أمراً راجحاً بالذات، و إنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النذر.

و أورد عليه بانّه كيف يمكن القول بكونهما راجحين بالذات و قد منع مانع عن الأمر بهما، مع تشبيه الإحرام قبل الميقات، بالصلاة قبل الوقت.(1)

أقول: لم نجد نصّاً بهذا المضمون و إنّما الوارد غيره:

1. روى زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (في حديث:» و ليس لأحد أن يُحرم دون الوقت الذي وقّته رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم («.(2) و المراد من الوقت، هو الميقات، أُطلق و أُريد منه المكان.

2. روى ابن أُذينة قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (في حديث:» و من أحرم دون الوقت فلا إحرام له « .(3) نعم شُبّه في بعض الروايات، بمن صلّى أربعاً في

ص:554


1- كفاية الأُصول: 1/349.
2- الوسائل: 8، الباب 11 من أبواب المواقيت، الحديث 11.
3- الوسائل: 8، الباب 9 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

السفر و هو كالآتي:

رواية ميسرة قال: دخلت على أبي عبد اللّه) عليه السلام (و أنا متغيّر اللون فقال لي:» من أين أحرمت؟ « قلت: من موضع كذا و كذا، فقال:» رب طالب خير تزلّ قدمه ثمّ قال: يسرّك أن صلّيت أربعاً في السفر؟ «. قلت: لا، قال:» فهو و اللّه ذاك «.(1)

و على أيّ تقدير فهل تدلّ هذه الروايات على كونهما راجحين بالذات أولا؟ ظاهر رواية زرارة و ابن أُذينة عدم المصلحة بتاتاً في الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر، لكن ظاهر رواية ميسرة وجود المصلحة، غير أنّه رفع الوجوب رحمة للأُمّة كما يعلم من تشبيه الإحرام قبل الميقات بمن صلّى أربعاً مكان ركعتين، فإنّ الصلاة الرباعية واجدة للمصلحة كالثنائية، لكنّه سبحانه رحمة للأُمّة، رفع وجوبها.

هذا و قد ورد في الصوم في السفر:» ليس من البر الصيام في السفر «الظاهر من عدم الملاك.(2)

2. صيرورتهما راجحين عند تعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك.

3. تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذه الروايات، و هذا هو الظاهر من صاحب الجواهر.

يلاحظ عليه: أنّ اللسان آب عن التخصيص، فانظر إلى القول المعروف لا نذر إلاّ في طاعة، أو ما ورد في الروايات:» هو للّه طاعة «. و قد جاء هذا الجواب

ص:555


1- الوسائل: 8، الباب 12 من أبواب المواقيت، الحديث 6.
2- الوسائل: 7، الباب 12 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 7 و 8.

في كلام» الكفاية «عند الإجابة عن الإشكال الثاني مع أنّ محله هنا، و لذلك أوجد تعقيداً في العبارة.

مضافاً إلى أنّ كلاً من الصوم و الإحرام عبادة يتقرب بها العبد إلى اللّه سبحانه، فإذا كان خالياً عن أي رجحان فكيف يحصل التقرّب؟! إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل، و إليك الإشكال الثاني.

الثاني: الأمر النذري كالأمر الإجاري توصّلي

هذا هو الإشكال الثاني و حاصله: أنّه لم يتعلّق بالصوم في السفر، و لا بالإحرام قبل الميقات أمر، بما هو هو كما هو المفروض حتّى يقصده و يتعبد به، فانحصر الأمر، بالأمر النذري و هو أمر توصّلي لا تعبديّ.

أقول: إنّ الإشكال الأوّل كان يركّز على شرطية رجحان المتعلّق في النذر و قد عرفت الإجابة عنه بوجوه ثلاثة، و هي بين مقبول و غير مقبول.

و أمّا الإشكال الثاني فهو يركز على أنّ الصيام في السفر، و الإحرام قبل الميقات عمل عبادي و صحّته فرع قصد أمره العبادي، فما هو الأمر العبادي في المقام؟ فهل هو الأوامر الواقعية المتعلّقة بالصيام في السفر و الإحرام قبل الميقات، أو غيره؟ و الأوّل منتف لافتراض كونهما محرمين قبل النذر فلا أمر حتّى يقصده; بقي الثاني و هو الأمر النذري، الذي هو أمر توصّلي لا تقرّبي، فقوله: (وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) مثل قوله: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

و يمكن الجواب عنه بوجوه ثلاثة، و قد ذكر المحقّق الخراساني منها وجهين:

1. يكفي في صحّة العبادة وجود الرجحان قبل النذر كشف عنه دليل

ص:556

صحتها، فملاك العبادة وجود الملاك فيها، و قد عرفت ما يدلّ من الروايات على كونهما راجحين بالذات و إنّما لم يؤمرا بهما لوجود المانع، و لم يذكر المحقّق الخراساني هذا الجواب في المقام مع أنّه ذكره عند الذبّ عن الإشكال الأوّل، و كان عليه أن يشير إليه في المقام أيضاً الإشكال الثاني.

2. صيرورة الصوم في السفر و الإحرام قبل الميقات راجحين بتعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.(1) و إلى هذا أشار المحقّق الخراساني بقوله: لأجل كشف دليل صحّتها عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النذر.

و مرجع هذا الجواب إلى أنّه يعرض للمتعلّق عنوان راجح يجعله ذا ملاك كاف في عبادية المتعلّق، نظير ما مرّ في صوم يوم عاشوراء من أنّه ينطبق عليه عنوان يجعله مكروهاً غير محبوب.

و أورد عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي بأنّ العنوان غير الملتفت إليه لا يكون مصحّحاً للعبادة حيث قال: إنّه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طروء عنوان مجهول يغفل عنه المكلّف و لا يكون مقصوداً له لا تفصيلاً و لا إجمالاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره و إن كان صحيحاً لكنّه يكفي في وجود الرجحان وجود العنوان الراجح في الواقع و إن لم يتوجه المكلّف إليه فمصحح العبادية وجود الرجحان و قصد الشيء الراجح و إن لم يعلم وجه الرجحان لا قصد العنوان حتّى تكون الغفلة مانعة عن قصد العبادية.

ص:557


1- لم نقف على هذا النصّ و إنّما الموجود هو تشبيه الإحرام قبل الميقات بإتمام الصلاة في السفر كما مرّ.
2- لمحات الأُصول: 334.

على أنّه يمكن أن يقال: انّ العنوان العارض:» كون أفضل الأعمال أحمزها «و هو ليس شيئاً مغفولاً للمكلّف عند النذر.

3. يكفي في العبادية الرجحان الطارئ على المتعلّق بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً و متقرباً بهما منه تعالى.

و الفرق بين الثاني و الثالث واضح، فانّ الرجحان الطارئ في الجواب الثاني يرافق تعلّق النذر و ليس متأخراً عنه بخلاف هذا الجواب، فانّ الرجحان يكون طارئاً بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً و متقرباً بهما منه.

فإن قلت: كيف يتعلّق بهما النذر بإتيانهما عبادياً مع أنّهما ليسا حين النذر عبادة، بل يوصفان بها بعد تعلّق النذر كما هو المفروض، و عندئذ فهو عند النذر ليس متمكّناً من المتعلّق الموصوف بالعبادية.

قلت: يكفي التمكّن من المتعلّق بعد النذر و لا يعتبر في صحّة النذر إلاّ التمكّن من الوفاء و لو بسبب النذر.

هذه هي الأجوبة الثلاثة التي جاء الثاني و الثالث منهما في» الكفاية «دون الأوّل.

و على كلّ تقدير فالذب عن الإشكال الثاني بأحد الوجوه الثلاثة:

1. وجود الرجحان الذاتي في المتعلّقين قبل النذر.

2. طروء عنوان راجح يرافق النذر.

3. طروء رجحان به بعد النذر لأجل انّ المكلّف نذر بقيد انّ المتعلّق عبادي و موجب للتقرب.

و هذا هو السبب لطروء عنوان راجح بعد النذر.

ص:558

و لا يخفى انّ هذه الأجوبة فروض نظرية لا دليل عليها إلاّ الفرض الأوّل على بعض الروايات من تشبيه الإحرام قبل الميقات على إتمام الصلاة فيه، بناء على اشتماله على المصلحة و اقترانه بالمانع.

و الأولى أن يجاب بجواب رابع و هو انّ عبادية الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر ببركة نفس الأوامر المتعلّقة بالإحرام و الصوم غاية الأمر انّ الموضوع للوجوب هو الإحرام من الميقات و للاستحباب هو الصوم في الحضر، و لا يعمّان الإحرام قبله أو الصيام في السفر، و أمّا مع ملاحظة النذر فصار موضوع الوجوب أو الاستحباب أوسع ممّا في الدليل.

فالموضوع مع النذر أوسع من الإحرام من الميقات و الصوم في الحضر.

و بالجملة انّ ما دلّ على صحّة الإحرام قبل الميقات و الصوم في السفر مع النذر كشف عن كون الموضوع في حال النذر أوسع منه في غيره.

و على ذلك فالناذر يأتي بقصد نفس الأمر المتعلّق بحجة الإسلام أو الصوم الاستحبابي من دون حاجة إلى التمسّك بالأجوبة الثلاثة.

ص:559

الفصل الثامن إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي

اشارة

كانت البحوث السابقة تدور حول إحراز حال الفرد المشتبه بالطرق التالية:

1. إحرازه بالتمسّك بالعام المخصص.

2. إحرازه عن طريق الأصل العدمي الأزلي.

3. إحرازه عن طريق العناوين الثانوية.

هذه هي البحوث الماضية و لكن يدور البحث في هذا الفصل على إحراز الفرد لكن بالأصل اللفظي أي أصالة العموم و ربّما يعبر عن هذا البحث بأنّه إذا دار أمر الفرد بين التخصيص و التخصّص فهل يمكن إثبات الثاني بالتمسّك بأصالة العموم أو لا؟ و للمسألة صورتان:

الصورة الأُولى: إذا ورد قوله: أكرم العلماء، و علم من الخارج حرمة إكرام زيد،

و دار الأمر بين كونه جاهلاً فيكون الخروج تخصّصاً، أو عالماً فيكون الخروج تخصيصاً، فهل يصحّ التمسّك بأصالة العموم و إثبات انّ الخروج تخصّصي و انّ زيداً جاهل لا عالم، فلو وقع الجاهل في لسان الدليل موضوعاً للأثر الشرعي يترتب عليه ذلك الأثر بفضل أصالة العموم؟

ص:560

ذهب الشيخ الأعظم في تقريراته إلى جواز التمسك قائلاً بأنّ مقتضى العام: كلّ عالم يجب إكرامه، و ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم و هو المطلوب.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني باحتمال اختصاص حجّية أصالة العموم بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه كما هو قضية عمومه، و المثبت من الأُصول اللفظية و إن كان حجّة، إلاّ أنّه لا بدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل و لا دليل هاهنا إلاّ السيرة و بناء العقلاء و لم يعلم استقرار بنائهم على ذلك.(2)

توضيحه: انّ القدر المتيقّن من الأصل الرائج بين العقلاء هو الاحتجاج بها عند الشكّ في المراد كما إذا ورد العام و شكّ في خروج فرد منه و عدمه، فتجري أصالة العموم و تثبت تعلّق الإرادة الجدية به بعد تعلّق الإرادة الاستعمالية به قطعاً.

و أمّا إذا علم المراد، و انّ زيداً على كلّ تقدير غير واجب الإكرام لكن شكّ في أمر آخر، و هو هل انّه جاهل فيكون خروجه تخصّصاً، أو عالم فيكون خروجه تخصيصيّاً؟ ففي مثله لا يحتجّ بأصالة العموم، و ذلك لانّها أصل اعتبر لاحتجاج المولى على العبد، و الصالح له، هو ما إذا كان الشكّ في المراد، لا في كيفية الإرادة من أنّها تخصيصية أو تخصّصية، إذ لا صلة لهذا بمقام الاحتجاج.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر لجريان أصالة العموم ثمرتين نشير إليهما:

ص:561


1- مطارح الأنظار: 200.
2- كفاية الأُصول: 1/352.

1. اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ ماء الاستنجاء غير منجّس، و اختلفوا في كونه طاهراً غير منجّس، أو نجساً غير منجس. فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين:

أ. ثبت في محله: انّ كلّ نجس منجس، و لذلك ذهبوا إلى انفعال الماء القليل، الملاقي للنجاسة.

ب. كما ثبت في محلّه على أنّ الملاقي لماء الاستنجاء ليس بنجس.(1)

و عندئذ نقول: لو كان ماء الاستنجاء طاهراً، لكان خروج طهارة ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل» كلّ نجس منجّس «من باب التخصّص، بخلاف ما لو كان ماء الاستنجاء نجساً، لكان خروج ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصاً، لافتراض انّ الماء نجس، و لكنّه ليس بمنجّس، و لازم القول بعدم ورود التخصيص على الدليل الأوّل كون الماء طاهراً.

2. اختلفت كلمتهم في أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح أو الأعم، فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين:

الأوّل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) (2)كما في الآية المباركة.

الثاني: انّ الصلاة الفاسدة لا تنهى عنهما.

فلو كانت الصلاة موضوعة للصحيح، يكون خروج الفرد الفاسد عن تحت الدليل الأوّل من باب التخصّص، و لو قلنا بأنّها موضوعة للأعم يكون خروجه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصياً فمقتضى حفظ عموم الدليل الأوّل هو الثاني فتكون النتيجة هو كونه موضوعاً للصحيح.

ص:562


1- الوسائل: 1، الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحديث 5.
2- العنكبوت: 45.
الصورة الثانية للمسألة

إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم زيداً، و دار الأمر بين كون المراد، هو زيد العالم أو زيد الجاهل، فالظاهر صحّة التمسك بأصالة العموم و انّه لم يخصص، فيترتب عليه انّ الخارج هو زيد الجاهل، و أمّا زيد العالم فيجب إكرامه.

و ما ذلك إلاّ لأنّ الشكّ في هذه الصورة في المراد، فهل هو زيد العالم أو زيد الجاهل فهما شخصان؟ و الشيخ الأعظم ذهب إلى حجّية الأصل المذكور في كلّ من الصورتين مع وضوح الفرق بينهما، لأنّ الشكّ في الصورة الأُولى في كيفية الإرادة لا المراد، و أمّا الصورة الثانية فالشك و مركزه هو المراد و انّ أيّاً من الرجلين خرج عن تحت العام، إذ لو كان الخروج من باب التخصيص يحرم أو لا يجب إكرام زيد العالم، بخلاف ما لو كان الخروج تخصّصياً فيجب إكرامه.

تنبيه ما مرّ عليك من الصورتين غير ما تقدم عند البحث عن سراية إجمال المخصص الدائر إجماله بين المتباينين حيث قلنا بعدم جواز التمسّك بالعام لرفع إجماله.

و ذلك لأنّ الكلام فيما مرّ ما إذا كان التخصيص قطعياً و دار أمر زيد، بين كونه زيد بن عمرو العالم، أو زيد بن بكر العالم، ففي مثله يسري إجمال المخصص إلى العام فلا يكون حجّة في واحد من الموردين، و هذا بخلاف الصورتين الماضيتين فانّ التخصيص مشكوك من رأس.

ص:563

غاية الأمر يدور الأمر في الصورة الأُولى بين كون زيد، عالماً أو جاهلاً; كما يدور الأمر في الصورة الثانية، بين كون المراد، زيد العالم، أو زيد الجاهل، فالتخصيص في كلتا الصورتين مشكوك بخلاف الصورة الثالثة، فانّ التخصيص قطعي، غاية الأمر يدور الأمر بين زيدين عالمين أحدهما ابن عمرو و الآخر ابن بكر.

ص:564

الفصل التاسع لزوم الفحص عن المخصّص

اشارة

قد جرت سيرة الفقهاء على عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص و اليأس عن الظفر به، مثلاً: لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه: (وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (1)إلاّ بعد الفحص عن مخصّصه، كجواز الربا بين الزوج و الزوجة و الوالد و الولد، أو لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ) (2)قبل الفحص عن مخصصه، كلزوم الإتمام لكثير السفر، أو لمن حرم سفره، أو أقام عشرة أيام في مكان، و غير ذلك.

و هكذا سائر العمومات، و هذا أمر اتّفق عليه الفقهاء.

و أوّل من طرح المسألة هو ابن سريج في أوائل القرن الرابع و خالفه تلميذه أبو بكر الصيرفي حيث استشكل على الأُستاذ بأنّه لو وجب الفحص عن المخصّص في التمسّك بالعام وجب الفحص عن قرينة المجاز عند الحمل على الحقيقة، و سيظهر جوابه فيما نتلوه عليك من الدليل على وجوب الفحص.

ص:565


1- البقرة: 275.
2- النساء: 101.

فإذا كان الفحص عن المخصص أمراً متفقاً عليه، يقع الكلام فيما هو الوجه لاتّفاق العلماء على هذا الأصل،

و قد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة لاتفاق العلماء على وجوب الفحص عن المخصص
اشارة

أوضحها أوّلها:

الأوّل: وقوع العام في مظان التخصيص

قد جرى ديدن العقلاء في المحاورات الشخصية على الإتيان بكلّ ما له دخل في مقاصدهم، و لأجل ذلك يتمسّك بظواهر كلماتهم من دون تربّص قيد، مثلاً: كما إذا طلب المولى من عبد أن يدعو مجموعة معينة من جيرانه لمأدبة طعام، فعندئذ يذكر كلّ ما له دخل في غرضه دون أن يميز بين الأصل و الفرع.

و أمّا المحاورات العامة التي تدور حول تقنين قوانين و تسنين سنن على صعيد عام أو صعيد خاص، فقد جرت سيرتهم على ذكر العام و المطلق في برهة و المخصص و المقيّد في برهة أُخرى.

ثمّ إنّ الداعي إلى التفريق بين العام و مخصّصه أو المطلق و مقيّده هو قصور علم المقنن عن الإحاطة بالمصالح و المفاسد، حيث يضع حكماً عاماً ثمّ يتبيّن عدم توفر الملاك في طائفة من أفراد العام.

و ربما يكون الداعي غير ذلك لكن الغالب هو الأوّل.

و أمّا التشريع الإسلامي في الذكر الحكيم فقد سار على هذا النحو، لا لقصور في الإحاطة بالمصالح و المفاسد، لأنّ المشرِّع هو اللّه سبحانه و هو محيط بكلّ شيء، بل لمصالح في نزول الأحكام نجوماً طيلة 23 سنة تقتضيه مصالحُ العباد، نرى أنّه سبحانه يتكلّم في أحكام الكلالة في أوائل سورة النساء و أواخرها، و ما هذا إلاّ لوجود المصلحة في تبيين الأحكام نجوماً.

و قد كان المشركون في صدر الإسلام يعترضون على نزول القرآن نجوماً، و قد

ص:566

جاء هذا الاعتراض و الجواب عنه في آية واحدة، أعني قوله سبحانه: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ).(1)

إلى هنا تبيّن انّ السبب لنزول الأحكام و القرآن تدريجاً أمران:

1. اقتضاء مصلحة العباد ذلك.

2. انّ في النزول التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

و يمكن أن تكون هناك مصالح أُخرى.

هذا كلّه حول القرآن، و أمّا السنّة أعني: كلام المعصوم فقد وصلت إلينا في فترات تقرب من مائتي و خمسين سنة، فكانت الظروف مختلفة، فتارة كانت الظروف تقتضي بيان أصل الأحكام دون بيان مخصّصاتها و مقيّداتها، و ربما كانت الظروف سانحة لبيان تلك المخصّصات و المقيدات، و لذلك ربّما ترى وجود العام في كلام النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و المخصص في كلام الأئمّة) عليهم السلام (.

و على كلّ تقدير فالعام الذي هو في مظان التخصيص لا يحتجّ به إلاّ بعد الفحص عن مخصّصاته و مقيّداته.

نعم لا يجب الفحص عن المخصّص المتصل، لأنّ سقوطه عن الكلام عمداً ينافي وثاقة الراوي، و سهواً يخالف الأصل العقلائي المجمع عليه من أصالة عدم السهو في النقل.

و حصيلة الكلام: انّ الواجب على المولى هو بيان التكاليف على النحو الذي لو تفحص عنه العبد لوجده و لا يجب على المولى إيصال التكاليف إلى العبد مباشرة من دون حاجة إلى الفحص و البحث.

ص:567


1- الفرقان: 32.

هذا هو توضيح الوجه الذي بيّنه المحقّق الخراساني و تبعه سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (، و مع هذا الوجه لا حاجة إلى الوجهين التاليين:

الثاني: الظن الشخصي بالتكليف رهن الفحص

إنّ الظن الشخصي بالمراد الجدي لا يحصل قبل الفحص عن المخصّص، فلا بدّ من الفحص حتّى يحصل الظن الشخصي بالمراد، و يمتثل.

يلاحظ عليه أوّلاً: بأنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في لزوم الفحص من دون حاجة إلى إثبات أنّ الظنّ الشخصي رهن الفحص، و من المعلوم أنّ الأوّل أقلّ مئونة من الثاني.

و ثانياً: أنّ مناط حجّية الظواهر ليس هو الظنّ الشخصي، بل مناطه عند المشهور الظن النوعي، كما عليه مشهور الأُصوليّين; أو اليقين بالمراد الاستعمالي، كما هو المختار. و على كلا التقديرين لا محيص من الفحص.

أمّا الأوّل فانّ حصول الظن النوعي رهن الفحص عن المخصص إذا كان ديدن المولى على فصل المخصص عن العام.

و أمّا الثاني فانّ اليقين بالإرادة الاستعمالية لا يحتج به إلاّ إذا أحرز تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية و إحراز التطابق رهن الفحص عن المخصص.

و ثالثاً: لو كان مناط الفحص هو عدم حصول الظن قبل الفحص يلزم الاقتصار في مقدار

ص:568

الفحص على الحدّ الذي يحصل به الظن الشخصي، و هو خلاف المدّعى، فإنّ ديدن العلماء هو الفحص عن مظان المخصّص، سواء حصل الظن الشخصي قبله أو لا.

و رابعاً: لو كان الملاك هو حصول الظن الشخصي يلزم الفوضى في مقدار الفحص فانّ طبائع الناس مختلفة، فربّ شخص يحصل له الظنّ بأدنى فحص، و ربّ شخص آخر لا يحصل له ذلك الظن إلاّ بعد إنهاء الفحص.

إلى هنا تبيّن انّ المناط في لزوم الفحص هو كون العام في مظان التخصيص لا توقف حصول الظن الشخصي بالبحث.

بقي الكلام في الوجه الثالث الذي قيل في لزوم الفحص، و هو الآتي.

الثالث: وجود العلم الإجمالي بالمخصّص

إنّ العلم الإجمالي بالمخصّص يمنع عن جريان الأصل اللفظي، كما أنّه يمنع عن جريان الأصل العملي، فكما لا تجري أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين فهكذا لا تجري أصالة العموم في عمومات الكتاب و السنّة، و الجامع وجود العلم الإجمالي بالتكليف المخالف لمقتضى الأصل.

يلاحظ عليه: بما ذكرناه في الوجه السابق من أنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في الحث على البحث من دون حاجة إلى التمسّك بالعلم الإجمالي، فالأوّل أقلّ مئونة دون الثاني.

نعم استشكل على هذا الوجه بوجوه غير تامة.

1. لو كان المناط هو وجود العلم الإجمالي بالمخصص لزم إيقاف الفحص إذا ظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال، مثلاً نفترض أنّه لو علم بأنّ في الشريعة الإسلامية حوالي خمسين مخصصاً فأخذ بالفحص في أحاديث الكافي فظفر بهذا المقدار، تفصيلاً، فلازم ذلك الحال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود مخصصات قطعية في كتاب الكافي و شك بدويّ في غيره و نتيجة الانحلال عدم وجوب الفحص عندئذ في كتابي: الفقيه و التهذيب، مع أنّ سيرة العلماء هو

ص:569

الفحص في الجميع.

و يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّه إذا ظفر بالمقدار المعلوم إجمالاً بمجرد مطالعة الكافي يُكشف له بطلان العلم الأوّل، أعني: كون المخصص حوالي خمسين رواية، بل يحصل له العلم بسعة دائرة العلم الإجمالي بوجود مخصّصات أُخرى في كتابي: الفقيه و التهذيب، فيكون الميزان هو وجود العلم الإجمالي أيضاً و انحلاله.

هذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال، غير أنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر.

إنّ المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلاً غير معلّم بعلامة، و أُخرى معلّماً بعلامة و انحلال العلم الإجمالي بالعثور على المقدار المتيقّن إنّما يكون في القسم الأوّل، لأنّ منشأ العلم فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقّنة، كما إذا علم بأنّه مديون لزيد و تردد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، و أمّا القسم الثاني فلا ينحلّ به، بل حاله حال دوران الأمر بين المتباينين، و لا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل، و الشكّ في الأكثر من أوّل الأمر، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به العلم و تنجز بسببه و ليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لو كان العنوان المتعلّق بالعلم الذي يعبّر عنه المحقّق النائيني بالعلامة، ذا أثر شرعي لكان لما ذكره وجه، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بوجود خمسة شياه موطوءة في قطيع غنم، فقامت البيّنة على حرمة أكل خمسة شياه معينة، فهذا النحو من العلم التفصيلي لا ينحل به العلم الإجمالي، بل يجب

ص:570


1- فوائد الأُصول: 1/545.

الاجتناب عن الجميع أيضاً، و ذلك لأنّ المعلوم بالإجمال كان معنوناً بعنوان الموطوءة، و لكنّ البيّنة قامت على مجرّد حرمة أكلها، و هي أعمّ من كونها موطوءة.

و أمّا إذا كان العنوان فاقداً للأثر كما في المقام فلا يجب رعايته.

فلا فرق بين القضيتين إحداهما مرسلة و الأُخرى معنونة.

1. إذا علم بأنّه أتلف دنانير لزيد مردّدة بين الخمسة و العشرة، فبما انّ الخمسة معلومة تفصيلاً و الزائد عليها مشكوكة، ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و شكّ بدوي.

2. أتلف الدنانير الموجودة في كيس زيد، و هي مردّدة بين الخمسة و العشرة، فإنّ المعلوم بالإجمال معنون بما في الكيس، لكن ذلك لا يمنع عن الانحلال، لعدم ترتّب الأثر على قوله في الكيس.

و نظيره تعلّق العلم الإجمالي في المقام بما في الكتب التي بأيدينا، إذ ليس للقيد بما في الكتب أثر شرعي، و إنّما الأثر الشرعي نفس المخصصات و الكتب ظرف لها.

و الأولى الإجابة عن الإشكال بما ذكرناه.

2. لو كان الفحص لأجل وجود العلم الإجمالي لزم عدم جواز التمسك بالعام حتّى بعد الفحص لعدم انحلال العلم الإجمالي حتّى بعد المراجعة إلى الكتب التي بأيدينا، سواء كانت معتبرة أم لا، لأنّ العلم بالمخصّصات لا ينحصر فيما بأيدينا من الكتب، بل يعمّ الكتب المؤلفة في عصور الأئمّة التي ضاعت و لم تصل إلينا، كجامع البزنطي المتوفّى عام 221، و نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى المتوفّى حوالي 290، و غيرهما و معه كيف ينحلّ؟!

ص:571

يلاحظ عليه: بما سيوافيك عند البحث في دليل الانسداد انّ ادّعاء العلم الإجمالي بوجود أخبار متضمّنة لأحكام عامّة أو خاصّة في الكتب التالفة مجرد احتمال لا يدعمه دليل، بل المحمدون الثلاثة نقلوا ما في الجوامع الأوّلية إلى كتبهم بنظم و نسق خاص.

3. انّ لازم ذلك الفحص عن كلّ الكتب الموجودة بأيدينا، سواء كانت من المعتبرة أو غير المعتبرة، و سواء كان الكتاب فقهاً أو حديثاً أو أخلاقاً، و من المعلوم أنّ وقت المجتهد لا يسع لهذا المقدار من الفحص.

يلاحظ عليه: بأنّ دائرة العلم الإجمالي ضيّقة من أوّل الأمر، إذ لا علم لنا بوجود روايات صحيحة متضمنة لأحكام عامة أو خاصة في غير الكتب المعتبرة، بل وجود الروايات فيها مشكوك من أوّل الأمر و ليس طرفاً للعلم الإجمالي.

و هناك جواب آخر و هو ترتيب علمين إجماليّين أحدهما كبير و الآخر صغير و انحلال الكبير بالصغير، فقد أوضحه شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في الدورة السابقة و لم يتعرض له في هذه الدورة، فمن أراد الوقوف فليرجع إلى كتاب» المحصول «لزميلنا السيد الجلالي حفظه اللّه.

هل الفحص عن المخصّص فحص عن المزاحم أو المتمم للحجّية؟

إنّ هنا بحثاً آخر و هو انّ البحث عن المخصص هل هو بحث عمّا يزاحم الحجية، بمعنى انّ العام حجّة تامة لا نقص فيها و انّما نبحث عمّا يزاحم حجّيتها، و من المعلوم أنّه يؤخذ في المتزاحمين بأقواهما و هو الخاص كالغريقين أحدهما ذمي و الآخر مؤمن، فيؤخذ بالأقوى ملاكاً.

أو هو فحص عن متمم الحجية بمعنى انّ العام الواقع في مظان

ص:572

التخصيص ليس بحجّة عند العقلاء حتّى يفحص عن مخصصه فيكون عدم المخصص مكمّلاً لحجّية العام. نظير الفحص عن الدليل الاجتهادي عند التمسك بالأُصول العملية فانّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان و لا يحرز عدم البيان إلاّ مع الفحص، كما أنّ موضوع التخيير هو عدم الترجيح و لا يحرز ذلك العدم إلاّ بالفحص.

كما أنّ موضوع الاحتياط هو احتمال العقاب الأُخروي في كلّ من طرفي العلم الإجمالي و لا يحرز إلاّ بفقد الدليل على أنّ الحرام في جانب معين.

ذهب المحقّق الخراساني إلى القول الثاني و انّ الفحص في المقام فحص عن المزاحم بخلافه في جريان الأُصول العملية.

و لكنّ الظاهر انّ الموردين من باب واحد، و ذلك لما أوضحناه سابقاً من أنّ أساس الاحتجاج أُمور ثلاثة:

1. وجود الدليل الظاهر في مفهومه.

2. عدم قيام قرينة على خلافه.

3. كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.

و لا يُحرز الأخيران إلاّ بالفحص، إذ بالفحص يتبيّن وجود القرينة على الخلاف، كما أنّه بالفحص يتبيّن تطابق الإرادتين، إذ بوجود المخصّص يظهر عدم المطابقة و من عدمه يظهر تطابقهما، و الجميع رهن الفحص.

و إن شئت قلت: إنّ العام الذي هو في مظان التخصيص ليس بحجّة فعلية، بل حجّة شأنية، لما عرفت من جريان السيرة على عدم الاحتجاج بمثل هذا الكلام إلاّ بعد الفحص عمّا له مدخلية في تبيين الإرادة الجدية.

ص:573

مقدار الفحص

و أمّا مقدار الفحص فيختلف حسب الأدلّة التي أُقيمت على وجوب الفحص، أمّا إذا كان الدليل وقوع العام في مظان التخصيص فيجب الفحص حتّى يخرج العام عن ذلك المظان بالرجوع إلى الكتب الأربعة، أو الوسائل المتضمنة لها و لسبعين كتاباً آخر.

و هو أمر واضح لا حاجة إلى البيان.

و العجب انّه اعترض المحقّق الخوئي على هذا الأمر الواضح بأنّه لا يرجع إلى معنى محصل، لأنّه بالفحص لا يخرج عن المعرضية، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من المعرضية احتمال وجود مخصص وارد عليه موجود في الكتب الروائية فإذا سبر و لم يجد المخصص ينتفي ذلك الاحتمال و بالتالي يخرج عن المعرضية.

ص:574


1- المحاضرات: 5/272.

الفصل العاشر في الخطابات الشفاهية

اشارة

هل الخطابات الشفاهية مثل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) (1)تختص بالحاضرين في محل التخاطب، أو تعمّ غيرهم من الغائبين و المعدومين؟ جعل المحقّق الخراساني محل النزاع أحد الأُمور التالية:

الأوّل: في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين أو لا؟ الثاني: هل تصحّ مخاطبة المعدوم و الغائب في محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له أو بنفس توجيه الكلام إليهم أو لا؟ الثالث: هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم و الغائب أو لا؟ و البحث عن الأمرين الأوّلين عقلي و عن الثالث لغوي.(2)

و على كلّ تقدير

فلنبحث عن الجهات الثلاث.
اشارة

ص:575


1- البقرة: 183.
2- كفاية الأُصول: 1/354.
الجهة الأُولى: في صحّة تكليف المعدوم و عدمها
اشارة

فنقول: إنّ المحقّق الخراساني صوّرها بوجوه ثلاثة:

1. أن يتوجّه إليه البعث و الزجر الفعليان بأن يكون هناك بعث و زجر، و هذا ما لا يتمشى من الإنسان العاقل، و إلى هذا القسم ينظر كلامه حيث قال: لا ريب في عدم صحّة تكليف المعدوم عقلاً بمعنى بعثه أو زجره فعلاً.(1)

نعم ذهب بعض الحنابلة إلى جواز تكليف المعدوم، و استدلّوا على جوازه بآيتين مباركتين تاليتين:

أ. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2)حيث إنّه يكلّف المعدوم بقبول الوجود و التكون.

ب. (وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (3)حيث إنّه سبحانه كلّفهم بالشهادة على ربوبيته فأجابوا بقولهم: بلى.

و الاستدلال واه جداً.

أمّا الآية الأُولى: فلأنّها بصدد بيان انّ إرادة اللّه سبحانه نافذة في كلّ شيء ممكن، و انّها إذا تعلّقت بتحقّق شيء و وجوده، يتحقّق فوراً بلا تريث و تربّص لا انّ هناك خطاباً لفظياً بلفظة» كن «و مخاطباً واقعياًً حتّى يكون دليلاً للحنابلة، هذا و قد فسّر الإمام علي) عليه السلام (الآية المباركة بقوله:» يقول لمن أراد كونه، كن، فيكون،

ص:576


1- كفاية الأُصول: 1/355.
2- يس: 82.
3- الأعراف: 172.

لا بصوت يُقْرع و لا بنداء يُسمع، و إنّما كلامه فعل منه أنشأه و مثّله و لم يكن من قبل ذلك كائناً «.(1)

و أمّا الآية الثانية: فليس الاستشهاد و الشهادة بلسان القال و إنّما هو بلسان الحال، و إنّ كلّ إنسان إذا صار بشراً سوياً يشهد بفطرته على توحيده، و بصنعه على حكمته سبحانه، و لذلك يقول شيخ المفسرين الإمام الطبرسي في تفسير الآية:

المراد بالآية انّ اللّه سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أُمّهاتهم ثمّ رقاهم درجة بعد درجة، و علقة ثمّ مضغة، ثمّ أنشأ كلاً منهم بشراً سوياً، ثمّ حياً مكلّفاً، و أراهم آثار صنعه، و مكّنهم في معرفة، دلائله حتّى كأنّه أشهدهم و قال لهم: (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلّهم بخلقه على توحيده.

و إنّما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلّة الدالّة على وحدانيته و ركّب فيهم من عجائب خلقه و غرائب صنعته و في غيرهم، فكأنّه سبحانه بمنزلة المُشْهِد لهم على أنفسهم، فكانوا في مشاهدة ذلك و ظهوره فيهم على الوجه الذي أراده اللّه و تعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقر، و إن لم يكن هناك إشهاد صورة و حقيقة نظير ذلك قوله تعالى: (فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) و إن لم يكن منه سبحانه قول و لا منها جواب.(2)

إلى هنا تبين انّ تكليف المعدوم بالبعث و الزجر الفعليين ممّا لا يصدر من الإنسان المريد.

2. جعل التكليف الإنشائي للموجودين و الغائبين و المعدومين، و إلى هذا

ص:577


1- نهج البلاغة، الخطبة 179.
2- مجمع البيان: 2/498.

القسم ينظر قول المحقّق الخراساني: نعم هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث و لا زجر و لا استحالة فيه أصلاً، فانّ الإنشاء خفيف المئونة، فالحكيم تبارك و تعالى ينشأ على وفق الحكمة و المصلحة، و يطلب شيئاً قانوناً من الموجود و المعدوم حين الخطاب ليصير فعلياً بعد ما وجد الشرائط و فقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الإنشاء و إن كان خفيف المئونة لكن فيما إذا كان له معنى متصوّر، و المعدوم ليس من أفراد الناس حتّى يكون محكوماً بحكم إنشائي و إيقاعي، و إنّما يتصور الحكم الفعلي أو الإنشائي فيما إذا كان المكلّف موجوداً، فتارة يكون الحكم في حقّه فعلياً و أُخرى إنشائياً، و أمّا إذا لم يكن منه أي أثر و أي ميز فكيف يمكن أن يحكم على المعدوم و المجهول المطلق بحكم و قد اشتهر قولهم:» المجهول المطلق لا يمكن الإخبار عنه «، و ما استشهد في كلامه من الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة سوف يوافيك انّ كيفية الوقف بشكل آخر.

و ثانياً: أنّ الحكم الإنشائي الصادر لا لغرض البعث، بل لغاية التحسّر و التضجّر، لا يصير فعلياً عند تحقّق الموضوع و الصادر لغاية البعث لا يتعلّق بالمعدوم و يكون لغواً.

3. إنشاء الحكم مقيداً بوجود المكلّف و كونه جامعاً للشرائط، و إليه أشار المحقّق الخراساني بقوله:

و أمّا إذا أنشأ مقيداً بوجود المكلّف و وجدانه للشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان.(2)

ص:578


1- كفاية الأُصول: 1/355.
2- كفاية الأُصول: 1/356.

و هذا الوجه هو المصحّح لشمول الخطابات الشفاهية للغائبين و المعدومين لكن بتقرير يتوقّف بيانه على توضيح أقسام القضايا من حيث الموضوع، فنقول:

تقسم القضايا من حيث الموضوع إلى ذهنية و خارجية و حقيقية.

أمّا الذهنية فهي عبارة عمّا إذا حكم على موضوع في الذهن، و هو على قسمين:

تارة يكون على وجه يمتنع عليه الوجود في الخارج، كقولنا: اجتماع النقيضين محال.

و أُخرى لا يمتنع، و إن كان غير موجود بالفعل، كقولنا: بحر من زيبق بارد أو جبل من الذهب لامع، فانّ الموضوع في القضيتين ليس له وجود إلاّ في الذهن و إن أمكن وجوده في الخارج.

فإن قلت: ما الفرق بين الذهنية و الطبيعية حيث إنّ للقضايا تقسيماً آخر باعتبار حالات الموضوع، فتنقسم إلى: شخصية كقولنا زيد قائم، و طبيعية كما إذا كان الحكم على الماهية بما هي هي، مثل قولنا: الإنسان نوع أو الإنسان كلّي.

قلت: الفرق بينهما انّ الموضوع في الطبيعية هي الماهية من دون نظر إلى الخارج، و لذلك قلنا: إنّ الموضوع الماهية بما هي هي، و هذا بخلاف الذهنية، فإنّ الحكم فيها على الموجود في الذهن بما انّه يحكي عن الخارج و لو بالامتناع أو عدم الوجود، كما في المثالين: اجتماع النقيضين محال أو بحر من زيبق بارد.

و أمّا الخارجية و الحقيقية فهما يشتركان في أنّ الحكم في كلتا القضيتين على العنوان لا على الافراد، غير أنّ العنوان في إحدى القضيتين على وجه لا ينطبق إلاّ على الافراد الموجودة حين التكلّم بخلاف الأُخرى، فإنّ العنوان فيها ذو قابلية

ص:579

يصلح أن ينطبق على الافراد الموجودة عبر الزمان من غير فرق بين موجود حال التكلّم أو موجود بعده.

و بعبارة أُخرى: يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج. و يفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الموجودة في زمان التكلم، كما إذا قال: قُتِلَ مَنْ في العسكر و نُهِب ما في الدار، فانّ الإخبار عن القتل و النهب في الزمان الماضي لا ينطبق إلاّ على الموجود في ظرف التكلّم بخلاف العنوان في القضية الحقيقية، فإنّ له مرونة على وجه ينطبق على الافراد الموجودين عبر القرون فالحكم بما له بقاء في عالم الاعتبار محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج.

إذا عرفت ذلك فلا مانع من القول بشمول الحكم لعامّة مصاديق العنوان طول الزمان على وجه القضية الحقيقية، كما إذا قال سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) فالتكليف متعلّق بالعنوان و هو الناس، و لكنّه على وجه يتكثّر أفراده و مصاديقه طول الزمان، فللموضوع استمرار لوجود مصداق بعد مصداق و يتبعه الحكم في استمراره.

نعم كلّ ذلك كما قلنا رهن بقاء الحكم في وعاء من الأوعية و لو في عالم الاعتبار كما هو مفهوم الخاتمية، و معنى ذلك أنّ لأحكامه سبحانه وجوداً و بقاءً عبر الزمان متعلّق بالعناوين المتكثرة مصداقاً و وجوداً.

و بهذا يعلم حال الوقف للبطون اللاحقة، فإنّ الوقف على عنوان الأولاد و للعنوان قابلية للتكثّر من حيث الافراد طول الزمان و للحكم بقاء في عالم الاعتبار فكلّما توفرت الأفراد استتبعته الأحكام.

فتلخص ممّا ذكرنا:

ص:580

1. إنّه لا مانع من عمومية التكاليف الواردة في الخطابات للحاضر و الغائب و المعدوم، بشرط جعل التكليف على نحو القضايا الحقيقية، أي يكون للعنوان قابلية الانطباق على الافراد طول الزمان.

2. انّ الحكم في كلّ من القضيتين: الخارجية و الحقيقية، على العنوان ابتداءً،) لا على الأفراد الخارجية مباشرة و بلا توسيط عنوان (، غاية الأمر يختلف العنوانان في قابلية التطبيق ضيقاً وسعة.

المحقّق النائيني و تفسير القضيتين

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني تفسيراً خاصاً حول القضيتين نذكرهما بنصّ مقرر بحثه المحقق الكاظمي.

أمّا الخارجية فعرّفها بقوله:

إنّ الحكم في القضية الخارجية مترتّب ابتداءً على الخارج بلا توسط عنوان، سواء كانت القضية جزئية أو كلية، فإنّ الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضاً إنّما يكون مترتباً على الافراد الخارجية ابتداءً من دون أن يكون هناك بين الأفراد جامع اقتضى ترتّب الحكم عليها بذلك الجامع كما في القضية الحقيقية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلط بين القضية الشخصية و القضية الخارجية، فانّ الحكم في القسم الأوّل يتعلق بالخارج دون توسيط عنوان، فيقال: زيد قائم و خالد جالس، و بما انّ الجزئي لا يكون كاسباً و لا مكتسباً، صارت القضايا الشخصية غير معتبرة في العلوم.

و هذا بخلاف القضايا الخارجية فانّها من القضايا المعتبرة، و ما ذلك إلاّ لأنّ

ص:581


1- فوائد الأُصول: 1/512.

الحكم متعلّق بالعنوان القابل للتكثّر، و إلاّ فلو كان سبيل القضايا الخارجية سبيل الشخصية فلما ذا فرقوا بينهما بالاعتبار و عدم الاعتبار؟ ثمّ إنّه) قدس سره (عرف القضية الحقيقية بقوله: بأنّها ما كان الحكم فيها وارداً على العنوان و الطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع.(1)

هذا ما ذكره في أوائل مبحث العام و الخاص و أضاف في المقام قوله: و أمّا القضايا الحقيقية فحيث إنّها متكفّلة لفرض وجود الموضوع، و كان الخطاب خطاباً لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب، فتستوي الأفراد الموجودة في زمن الخطاب و غيره.(2)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من تعلّق الحكم في القضايا الحقيقية بالعنوان بلحاظ مرآتيته و إن كان صحيحاً، لكن تقييد العنوان بفرض وجود الموضوع تكلّف لا يحتاج إليه، بشهادة انّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء، و قد عرفت أنّه يكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان الحاكي عن الخارج حسب مرور الزمان و عبر الأجيال و القرون.

و بالجملة تكفي قابلية انطباق العنوان على الأفراد الموجودة تدريجاً في عمود الزمان.

الجهة الثانية: في إمكان خطاب المعدوم

قد كان البحث في الجهة السابقة منصبّاً على تكليف المعدوم و في هذه الجهة

ص:582


1- فوائد الأُصول: 1/512.
2- فوائد الأُصول: 1/550.

إلى إمكان توجيه خطاب إليه لغاية التفهيم و التفهم، و قد صرّح المحقّق الخراساني بامتناعه قائلاً: بأنّه لا ريب في عدم صحّة خطاب المعدوم، بل الغائب حقيقة و عدم إمكانه ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة، إلاّ إذا كان موجوداً بحيث يتوجّه إلى الكلام و يلتفت إليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ امتناع تكليف المعدوم كامتناع خطابه من باب واحد، فلو أمكن تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية، يمكن توجيه الخطاب إليه عن هذا الطريق.

توضيحه: أنّه إن أُريد من امتناع خطاب المعدوم و الغائب، الخطاب الشفهي و الخطاب الحدوثي فهو أمر مسلم، فإنّ الخطاب الشفهي قائم بمخاطِب و مخاطَب و المفروض كون المخاطب معدوماً أو غائباً.

و أمّا لو أُريد من الخطاب هو وجوده الاستمراري) إذا كان له في نظر العقلاء استمرار و بقاء (فهو من الإمكان بمكان، و عندئذ فالمخاطب له بقاء بملاحظة بقاء خطابه و المخاطَب حاضر لا غائب و لا معدوم، و عندئذ تكتمل أركان الخطاب.

و الحاصل: انّ من قال بالامتناع نظر إلى الخطاب بوجوده الحدوثي الزائل و غضّ النظر عن أنّ للخطاب نوع بقاء عند العقلاء في الصدور و الألسن أوّلاً، و الرسائل و الكتب ثانياً، و الأشرطة و الأقراص المضغوطة ثالثاً، و لأجل ذلك نرى أنّ الرؤساء يوجهون خطابهم للأجيال الحاضرة و الغائبة، و لا يخطر على بالهم أنّ الخطاب الحقيقي لا يمكن توجيهه إلى الغائب و المعدوم، و ما ذلك إلاّ لأنّهم يرون أنّ لخطاباتهم بقاءً في القلوب و الصدور، و الألواح و الكتب و أخيراً

ص:583


1- كفاية الأُصول: 1/256.

في أجهزة تسجيل الصوت.

و على ذلك فلو كان العنوان المأخوذ في الخطابات من العناوين المنطبقة على الأفراد عبر الزمان و كان للخطاب بقاء و ثبات، فلا مانع من توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائب و المعدوم بهذا الطريق.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يخاطب قاطبة البشر في نسل بني آدم إلى من يأتي إلى يوم القيامة بالآيات التالية:

1. (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ).(1)

2. (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ).(2)

3. (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ).(3)

4. (يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ).(4)

و الحاصل: انّ الخطاب الحقيقي يدور على وجود الخطاب بنحو من الأنحاء و وصوله إلى المخاطب و كون المخاطب موجوداً، و الشرطان موجودان في عامة الخطابات الشفاهية.

فظهر ممّا ذكرنا إمكان خطاب المعدوم و الغائب كما ثبت صحّة تكليفهما، كلّ ذلك على نحو القضايا الحقيقية أوّلاً، و بقاء الخطاب ثانياً.

***

ص:584


1- الأعراف: 26.
2- الأعراف: 27.
3- الأعراف: 31.
4- الأعراف: 35.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ صحّح تكليف المعدوم عن طريق القضية الحقيقية و لكنّه لم يُصحّح خطاب الغائب و المعدوم عن تلك الطريقة، فقال في الفرق بين الموردين ما هذا حاصله:

إنّ الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كلّ مصداق موجود فعلاً أو ما يوجد في القابل، و مثل ذلك لا يتصور في الخطاب، إذ لا يمكن أن يتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له و لو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب و الخطاب نحو توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، و مثل ذلك يتوقّف على حاضر ملتفت، و المعدوم و الغائب ليسا حاضرين و لا ملتفتين.

و بالجملة ما سلكناه من التمسك بالقضية الحقيقية، في غير الخطابات لا يجري فيها، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم وجوداً للمخاطَب، و وجوداً واقعياً للمخاطِب، و القول بأنّ الخطاب متوجّه إلى العنوان كجعل الحكم عليه، مغالطة محضة، لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع يأبى عن التفوه بذلك.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ الظاهر عدم الفرق بين التكليف و الخطاب و انّ الممتنع، ممتنع في كلا المقامين و الممكن منها ممكن كذلك، و ذلك لأنّ الخطاب و إن كان لا ينفك عن المخاطب و لكن المفروض وجود المخاطَب في كلتا المرحلتين: الحدوث و البقاء.

و ليس المدعى شمول الخطاب بوجوده الحدوثي الغائبينَ و المعدومين، حتّى يتم ما ذكره، بل المراد شمول الخطاب لا بوجوده الحدوثي، بل بوجوده الاستمراري، فكما أنّ الموضوع ينطبق على مصاديقه حسب التدريج، فهكذا الخطاب يتحقّق شيئاً فشيئاً بوجوده الاستمراري على مصاديقه التدريجية عبر

ص:585


1- تهذيب الأُصول: 1/506.

الزمان أو غير الحاضرين في زمن الخطاب.

نعم الخطاب بوجوده الحدوثي تكويني، و بوجوده الاستمراري) في غير الأشرطة (اعتباريّ، و هذا يكفي في الشمول، و ترتّب الثمرة.

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة: عمومية ما وقع بعد أداة الخطاب

ثمّ إنّه يقع الكلام في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة النداء و الخطاب للغائبين و المعدومين و عدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة و قد فصّل المحقّق الخراساني في المقام و بناه على ما هو المختار في الجهة الثانية.

فلو قلنا بأنّ ما وضع للخطاب مثل أدوات النداء، موضوع للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه، تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين.

و لو قلنا بأنّها موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي، يلازم ذلك عموم ما وقع تلو النداء، للغائب و المعدوم.

ثمّ إنّه) قدس سره (استقرب الوجه الثاني بأمرين:

1. جعل استعمال ما وقع تلو أداة النداء في العموم من الحاضرين و غيرهم، قرينة على استعمال حرف النداء في غير الخطاب الحقيقي.(1)

2. ادّعى انّ أدوات النداء موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي فربّما يخاطب بها، لا تفهيماً و لا تفهماً، بل لإبراز الحزن كما في قول القائل:

ص:586


1- حيث قال:» كما أنّ قضية إرادة العموم لغير الحاضرين ممّا وقع تلو أداة النداء، هو استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقي «. و كلامه (قدس سره) مشتمل على ضمائر أوجد التعقيد في كلامه فبدّلنا الضمائر بالمراجع.

يا كوكباً ما كان أقصر عمره و كذا تكون كواكب الأسحار

أو لغايات أُخرى، فلو كان موضوعاً للخطاب الإنشائي لا يلزم تخصيص ما وقع بعده بالحاضرين، إذ ليست الغاية من الخطاب، البعث و الزجر حتّى يختص بالحاضرين.

نعم لا يبعد انصرافها إلى الحقيقي لو لا وجود القرينة على خلاف الانصراف، و هو عدم اختصاص الحكم بالحاضرين بضرورة من الدين.

و الذي يشهد على انّها موضوعة للخطاب الإنشائي، انّه لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي يجب أن يكون استعمالها في الخطاب الإنشائي مجازاً صادراً عن المتكلّم بعناية بمعنى تنزيل ما ليس له شعور، مكان ما له شعور مجازاً مع عدم أي أثر من العناية و التنزيل في ذهن المتكلّم.

يلاحظ عليه بأُمور:

الأوّل: منع الملازمة بين كون أداة النداء موضوعة للخطاب الإنشائي، و عمومية ما وقع بعده لغير الحاضرين، ضرورة انّ لفظ» الناس «في قوله سبحانه: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1)و (وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) في كثير من الآيات لا يصدق إلاّ على الموجودين، فليس المعدوم ناساً و لا مستطيعاً، و لا مؤمناً و لا مصداقاً لأمر من الأُمور، فالسعي في جعل الخطاب إنشائياً، لغاية التعميم ليس ناجحاً.

الثاني: انّ جعل خطابات القرآن خطابات إنشائية جاءت لغايات غير التفهيم و التعلم، يحطّ من مكانة القرآن الذي يقول فيه سبحانه: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ )(2)، إلى غير ذلك من الآيات التي تعرّف الغاية من

ص:587


1- آل عمران: 97.
2- ص: 29.

خطاباته، و هذا النوع من الغاية لا ينفك عن كون خطاباته حقيقية.

و ربما تُتخذ نظرية كون الخطابات إنشائية ذريعة لتصحيح ما نقل عن بعض متكلّمي المسيحيّين من أنّ بعض ما ورد في القرآن من القصص و القضايا تمثيلات و أُمور رمزية ليست لها حقائق و واقعيات سوى تقريب المعارف، فإبليس و آدم و حواء و الجنة رموز لأهداف تربوية في لباس الحكاية.

الثالث: نفترض انّ أداة النداء وضعت للخطاب الحقيقي و لكنّه لا يكون سبباً لاختصاص ما وقع بعده من العنوان، للحاضرين، لما عرفت أنّ للخطاب الحقيقي بقاءً في نظر العرف بأحد الأسباب، و معه يعمّ الخطاب و ما وقع بعده للغائبين و المعدومين جميعاً.

نظرية السيد الأُستاذ

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ عطف الجهة الثالثة على الجهة الثانية و بحث عنهما معاً دون أن يفصل بينهما، و اختار شمول الخطابات القرآنية لعامّة الناس إلى يوم القيامة لكن ببيان آخر، و حاصله:

إنّ الخطابات القرآنية ليست خطابات شفاهية لفظية حتّى يقابِلُ فيها الشخصُ بالشخص، بل هي خطابات أشبه بالخطابات الواردة في الكتب و الرسائل العلمية، فإنّ المؤلف مع أنّه يخاطب، لا يخاطب شخصاً معيناً، بل يخاطب كلّ من قرأ كتابه، فهكذا القرآن لا يخاطب شخصاً خاصاً، بل يخاطب كلّ من سمعه، و لذلك يأمر نبيه أن يقول: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ).(1)

ص:588


1- الأنعام: 19.

و يقول سبحانه: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ ).(1)

و يقول سبحانه: (وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ).(2)

إلى غير ذلك من الآيات التي تصفُ القرآن بانّه منذر لكلّ من بلغ إليه و هداية للناس عامة، و ما هذا إلاّ لأنّ خطاباته ليست خطابات شفوية، بل أشبه بخطابات تحريرية لا يقصد سوى من ينطبق عليه العنوان التالي لأدوات النداء.

و يؤيد ذلك نزول الوحي و كان ينزل على قلب سيد المرسلين و لم يكن الخطاب مسموعاً لأحد من الأُمّة، بل يمكن أن يقال بعدم وصول خطاب لفظي إلى الرسول و إنّما يجده الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (في قلبه منقوشاً و موجوداً، لقوله سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ).(3)

فعلى ضوء ذلك فحساب الخطابات القرآنية غير حساب الخطابات الشفوية الشخصية التي تتبادل بين شخصين، و عند ذلك لا مانع من أن يعم الجميع و تشمل جميع الأشخاص إلى يوم القيامة.

و إن أردت مزيداً من التوضيح فلاحظ انّ الخطابات التي يوجهها رؤساء الدول إلى شعوبهم، خطابات حقيقية لغاية التفهيم و التفهم و لكن ليس من قبيل مخاطبة شخص لشخص، و لذلك يعمّ الحاضر و الغائب حتّى غير الموجودين.

و مع إمكان تفسير الخطابات عن هذا الطريق لا حاجة إلى التمسك بأنّ خطابات القرآن خطابات إيقاعية أو إنشائية أو من قبيل القضايا الحقيقية، أو أنّ

ص:589


1- البقرة: 185.
2- الكهف: 54.
3- الشعراء: 193 194.

خطاباته مختصة بالموجودين ثمّ تعميمه بدليل آخر، أعني قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» حكمي على الأولين، كحكمي على الآخرين «، فانّ كلّ ذلك تطرف في الكلام و التزام بما لا يلزم.

حصيلة البحث

إنّ تعميم خطاباته سبحانه إلى الغائبين و المعدومين، رهن صحّة أحد أُمور:

1. جعل خطاباته بل عامّة تكاليفه و إن لم يكن بصورة الخطاب من قبيل القضايا الحقيقية، و قد عرفت أنّ للخطاب بقاءً فيعمّ التكليف) سواء أ كانت بصورة الخطاب أو غيره (عامّة المكلّفين عبر القرون.

2. جعل خطاباته بل مطلق ما جاء في القرآن، من الكلام، من قبيل خطابات المؤلّفين و الواقفين و الموصين، فكلّها خطابات رسائلية، لا شفوية، يقصد به كلّ من وقف عليها، سواء أ كان موجوداً حين التكلّم، أو لا لكنّه سيوجد في طول الزمان.

3. جعل الخطابات القرآنية من قبيل الخطابات الإيقاعية و الإنشائية التي ربما يقصد بها غير التفهيم، بل الرثاء و إظهار الأسف، فمثل ذا، لا يتوقّف صحة خطابه على وجود المخاطب، و قد عرفت بطلان هذا الوجه فلا نعيد إليه.

4. هناك وجه آخر، نقل صاحب الفصول عن بعض الحنابلة أنّ القول بوضع أداة الخطاب للحقيقي لا يلازم اختصاص خطاباته بالمشافهين، و ذلك لإحاطته بالموجود في الحال و الاستقبال.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين علمه سبحانه بالأُمور و بين فعله المتنزل إلى إطار

ص:590


1- الفصول: 183.

الزمان فعلمه الذاتي بما انّه فوق المادّة و لا يتطرق إليه الزمان مطلقاً، يتعلّق بالأشياء دفعة واحدة، إذ ليس هناك تدريج و العالم كله حاضر لديه أخذاً بالقاعدة الثانية في الفلسفة الإلهية: المتدرجات في وعاء الزمان، مجتمعات في وعاء الدهر.

لكن الكلام ليس في علمه الذاتي، بل في فعله المتنزل إلى حد المادة المحدود بحدّ الزمان، فهو بما انّه محدّد بإطار الزمان، لا يشمل إلاّ الموجود حين الخطاب و صار مخاطباً.

ثمرة البحث
اشارة

ذكر المحقّق الخراساني للبحث ثمرتين:

الأُولى: حجّية خطابات الكتاب لغير المشافهين و عدمها

لو قلنا بأنّ خطابات القرآن تعمّ الطوائف الثلاث، فتكون خطاباته حجّة على الجميع، و أمّا لو قلنا بعدم التعميم فلا تكون حجّة إلاّ على المشافهين، و يتوقّف تعميم الأحكام إلى غيرهم بدليل كالإجماع على الاشتراك في التكليف.

يلاحظ عليه: أنّ الثمرة مبنية على صغرى و كبرى ممنوعة.

1. الملازمة بين اختصاص الخطاب بالحاضرين، و كونهم مقصودين بالخطاب، و هذه هي الصغرى.

2. اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه و لا يعمّ غيره و هذه الكبرى.

و إن أردت صوغ الاستدلال في قالب الشكل الأوّل تقول:

ص:591

1. الحاضرون حين الخطاب، هم المقصودون بالإفهام.

2. و المقصودون بالإفهام، هم الذين الظواهر حجّة عليهم، فينتج: فالحاضرون حين الخطاب، هم الذين الظواهر حجّة عليهم.

و لكنّ المقدّمتين باطلتان.

أمّا الأُولى، فلأنّه لا ملازمة بين كون اختصاص الخطاب بهم، و كونهم، مقصودين لا غيرهم، إذ ربما يكون المقصود بالإفهام أوسع من المخاطب، بشهادة انّ رئيس البلد ربّما يخاطب جماعة خاصة من الشعب و لكن المقصود بالإفهام كلّ من بلغ إليه خطابه، و لذلك يأمر سبحانه نبيّه بأن يقول: (وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ).(1)

و لعلّ المراد، انّ المخاطب بالوحي أنا أو مع الحاضرين وقت النزول، لكنّ الغاية هو إنذار كلّ من بلغ إليه القرآن.

و أمّا الثانية: نفترض انّ الحاضرين، هم المقصودون بالإفهام من الخطاب لكن لا ملازمة بين كون جماعة مقصودين بالإفهام، و اختصاص حجّية الخطاب بهم، و سيوافيك في مبحث الظواهر، انّها حجّة على المقصودين بالإفهام و غير المقصودين و الجميع أمام الخطابات سواء، و لذلك لو كتب شخص رسالة أخويّة إلى شخص، لا يريد إلاّ إفهام صديقه بما فيه، فالرسالة تكون حجّة على الغير أيضاً في عامة المحاكم، و لا يسمع قول الكاتب بأنّ ظواهر كلامه حجّة على من قصد إفهامه لا غير.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بالإطلاقات على التعميم.
اشارة

لو قلنا بشمول الإطلاق لغير المشافهين، يصحّ لهم التمسّك بالإطلاقات

ص:592


1- الأنعام: 19.

القرآنية عند الشكّ في مدخلية قيد في الحكم،) كحضور الإمام المعصوم أو الحاكم الإسلامي مبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة (سواء كانوا متّحدين في الصنف أم لا كما في زمان الغيبة، و هذا بخلاف ما إذا لم نقل بالتعميم فلا تكون الخطابات متكفّلة لبيان أحكام غير المشافهين، فلا بدّ من تعميم الحكم و السراية إلى غير المشافهين في التمسّك بدليل الاشتراك) اشتراك غير المشافهين معهم في التكاليف (و هو الإجماع، الذي هو دليل لبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن و هو كونهما متحدين في الصنف و المفروض اختلافهم.

فظهر انّ هنا صوراً ثلاثاً:

1. القول بالتعميم و فيه يكون الإطلاق حجّة على الكلّ بلا قيد و شرط.

2. القول بعدم التعميم مع الاتحاد في الصنف، فيكون الإجماع دليلاً على الاشتراك في التكليف فلا ثمرة بين القولين.

3. القول بعدم التعميم مع الاختلاف في الصنف كما إذا وجبت صلاة الجمعة و أُقيمت بحكم حاكم عادل مبسوط اليد كالنبي و الوصيّ، و شكّ في وجوبه في زمان الغيبة مع عدم وجود ذاك الحاكم، فلا يصحّ التمسك بالإجماع لإثبات الاشتراك في التكليف، لأنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على مقدار المتيقن، و المقدار المتيقن هو وحدة المشافه و غيره في الصنف و المفروض عدمها.

سقوط الثمرة في القيد المفارق

إنّ المحقّق الخراساني قد ردّ الثمرة في خصوص القيد المفارق و انّه يصحّ التمسّك بالإجماع و إن كان دليلاً لبّياً يقتصر فيه بالقدر المتيقّن و ذلك بالبيان التالي:

ص:593

إذا كان القيد المفقود في غير المشافهين، من القيود اللازمة للمشافهين ككونهم عرباً، ففي هذه الصورة لا يصحّ التمسّك في نفي القيد بالإطلاق في حقّ المشافهين و بالتالي في حقّ غير المشافهين بالإجماع، كما إذا شككنا في لزوم العربية في العقود، فبما انّ المشافهين كانوا عرباً فكانوا يعقدون بالعربية، ففي مثله، لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله سبحانه: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لنفي شرطية العربية في حقّ المشافه، و بالتالي بالإجماع لنفي الشرطية في حقّ غير المشافه، لأنّه سبحانه لو أراد من الآية، العقود العربية، لم يكن هناك نقض غرض، لحصول القيد شاءوا أو لم يشاءوا.

و أمّا إذا كان القيد، مفارقاً، كإقامة صلاة الجمعة مع حضور المعصوم و بسط يده، حيث إنّ الإسلام يوم ذاك لم يضرب بجرانه كلّ المعمورة فربما يسافر بعض المشافهين إلى بلاد، يحكم فيها الكفر، فلو شك المشافه في شرطية الحضور عند الخروج عن حيطة المسلمين يصحّ التمسك بإطلاق الآية، أعني قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ).(1)

فإذا صحّ للمشافه التمسك بإطلاق الآية، يجوز لغير المشافه التمسّك بالإجماع لإثبات اشتراك الحكم، لأنّ المفروض وحدة الصنف.

و بهذا ظهر سقوط الثمرة الثانية في القيود المفارقة، و انّه لا يختلف الحال بين المشافه و غيره، غاية الأمر انّ المشافه يتمسّك بإطلاق الآية و غيره يتمسّك بالإجماع و النتيجة واحدة، سواء أقلنا بالشمول لغير المشافهين أم لا.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر انّ المراد بالاتحاد في الصنف لغاية جرّ التكليف من المشافه إلى غيره، هو القيود التي تعتبر قيداً في الأحكام كالبلوغ و الاستطاعة، و الخلو عن

ص:594


1- الجمعة: 9.

الحيض و النفاس، و السفر و الحضر ممّا يمكن أن يعتبر قيداً في الأحكام، لا الاتحاد فيما يكثر به الاختلاف بين الناس دون أن يكون مساس بالحكم، كالأبيض و الأسود و الشاب و الكهل و العراقي و الحجازي، و إلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراك حكم للغائبين فضلاً لغير الموجودين، إذ لا أقل من كون المشافهين واجدين لقيد من القيود لكونهم جالسين في المسجد آن إيجاب الحكم. و الغائب و غير الموجود ليس كذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أعاد ما ذكره سابقاً من جريان الإطلاق في حقّ المشافهين في القيود المفارقة و ممكنة الزوال، و جاء في المقام بعبارة لا تخلو عن تعقيد، توضيحها كالتالي:

و دليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين من القيود الممكنة الزوال إذا فقدوها بعد الخطاب، فشك في شمولها لهم، فيتمسك بالإطلاق و يثبت عدم دخالة ذاك القيد في الحكم و معه يعم الحكم لغير المشافهين بدليل الإجماع لوحدة الصنف بعد زوال القيد في حقّ المشافه(1) أراد به القيود المفارقة و ممكنة الزوال و قوله:» لو لم يكونوا معنونين به «أراد به لو كانوا فاقدين له بعد الخطاب و بوضع العبارة الثانية مكان الأُولى، يظهر المراد من العبارة بسهولة.

ص:595


1- فقوله: فيما لم يكونوا مختصّين بخصوص عنوان.

الفصل الحادي عشر تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

اشارة

إذا كان هناك عام و له حكم خاص، يتعقّبه ضمير له حكم آخر يرجع إلى بعض أفراده، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟ مثاله قوله سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ).(1)

ففي الآية عام، أعني قوله: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )، و هو بظاهره يشمل عامة المطلقات رجعية أو بائنة.

و في ذيل الآية جملة: (وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) تتضمن حكماً (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) و ضميراً (بُعُولَتُهُنَّ ) يرجع إلى بعض أقسام العام، فيقع الكلام في أنّ رجوع الضمير في الجملة الثانية إلى بعض أقسام العام هل يصلح قرينة على اختصاص الحكم الوارد في الجملة الأُولى بالرجعيات أيضاً أو لا؟ فيكون

ص:596


1- البقرة: 228.

التربّص، كالرجوع من خصائص الرجعية لا البائنة.

و بعبارة أُخرى: هل رجوع الضمير إلى بعض المرجع في الجملة الثانية يشكّل قرينة على أنّ المراد من المرجع أيضاً هو البعض، و بالتالي يختص الحكم بالبعض أو لا؟ ما ذكرناه هو المفهوم من كتب القوم، و ظاهر كلامهم انّ عود الضمير إلى بعض المرجع أمر مفروغ عنه مع أنّه ليس كذلك، بل المسلّم كون الحكم في مورد الضمير يختصّ ببعض الأفراد لا انّ الضمير يرجع إلى بعضها. و سيوافيك انّ الحقّ عود الضمير إلى العام بما هو هو، و إن كان الحكم مختصاً ببعض أفراده، فانتظر.

و الأولى أن يقال في عنوان البحث» انّ تخصيص الضمير بدليل منفصل هل يوجب تخصيص المرجع العام أو لا؟ «.

تحرير محلّ النزاع

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني جعل محلّ النزاع الصورة الثالثة من الصور التالية:

1. أن تقع الجملتان في كلامين مستقلين بينهما فاصل زماني.

2. أن يكون العام محكوماً بنفس حكم الضمير، كما إذا قيل في ذيل الآية: وَ المُطلّقات أَزواجهن أَحقّ بردّهن.

3. أن يكون العام محكوماً بحكم و الضمير محكوماً بحكم آخر و إن وقعا في كلام واحد.

و قال: إنّ محل النزاع هو الثالث.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ليس إلاّ توضيحاً للواضح، أمّا القسم الأوّل فلا يعقل فيه استخدام الضمير، لأنّ المفروض وقوع الجملتين في سياقين بينهما فاصل

ص:597

زماني، و عندئذ يستخدم في الجملة الثانية لفظ الظاهر لا الضمير، و الكلام إنّما هو في الضمير الراجع إلى بعض أفراد المرجع حسب تعبير القوم.

كما أنّ القسم الثاني أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع، إذ ليس في البين إلاّ حكم واحد حتّى يعمّ أحد الحكمين جميع الأفراد و الحكم الآخر بعضه.

دوران الأمر بين المحاذير الثلاثة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قال: بأنّ الأمر يدور حول أحد المحاذير الثلاثة:

1. أن يكون رجوع الضمير إلى بعض أفراد المرجع قرينة على التصرف في المرجع باستعماله في الرجعية من المطلقات فيكون التربص أيضاً مختصاً بهذا القسم.

2. حفظ أصالة العموم في المرجع و ارتكاب الاستخدام في الضمير بإرجاعه إلى بعض مصاديق المرجع.

3. حفظ أصالة العموم في ناحيتي المرجع و الضمير و التصرف في الاسناد، بأن ينسب الحكم المختص بالبعض إلى الكلّ من باب المجازية.

ثمّ إنّه) قدس سره (رجح حفظ أصالة العموم في صدر الآية و التصرف في الجملة الثانية بأحد النحوين:

إمّا الاستخدام و إمّا الاسناد المجازي.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر وجه ذلك بأنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا شكّ في المراد لا في كيفية الإرادة، و الشكّ في الجملة الأُولى إنّما هو في المراد حيث يشكّ في أنّ التربّص لعامّة المطلقات أو لخصوص الرجعيات، بخلاف الجملة الثانية فإنّ المراد هناك معلوم و انّ الرجوع يختصّ بالرجعيات دون البائنات، و إنّما الشكّ في كيفية الإرادة، فهل هو بنحو المجاز في الكلمة) الاستخدام (، أو المجاز في الاسناد؟

ص:598

) اسناد حكم المختصّ بالبعض إلى الكلّ من باب المجاز في الاسناد (.

و مع أنّه) قدس سره (قدّم أصالة العموم في الجملة الأُولى على أصالة العموم في الضمير أو أصالة الحقيقة في الاسناد، لكنّه أخيراً احتمل كون الكلام مجملاً و الآية خارجة عن نطاق الاستدلال بحجّة انّ الشكّ في المقام في قرينية الضمير على عدم إرادة العموم من المرجع و الكلام المحتف باحتمال القرينية يكون مجملاً لا يحتجّ به و يرجع إلى الأُصول العملية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الشكّ في ناحية العموم شكّ في المراد؟ فيجري الأصل من دون منازع بخلاف الشكّ في ناحية الضمير، فالشكّ هناك في كيفية الإرادة لا في المراد فتقدّم أصالة العموم على أصالة العموم في الضمير، أو أصالة الحقيقة في الاسناد، صحيح لا غبار عليه.

إنّما الكلام في الأمرين اللذين احتملهما في ناحية الضمير حيث إنّ كلاً من التصرفين غير جائز، أمّا الأوّل و هو القول بالاستخدام و رجوع الضمير إلى بعض أفراد العام فهو غير صحيح، لأنّ الضمائر كما تقدّم الكلام فيه في مقدّمة علم الأُصول وضعت لنفس الإشارة الخارجية فلا بدّ لها من مشار إليه، و هو ليس إلاّ المرجع المذكور في الآية، فيجب تطابقهما فلا يمكن أن تكون الإشارة على وجه أخص و المشار إليه على وجه أعمّ.

و أمّا الثالث، أعني: احتمال المجاز في الاسناد، فهو أيضاً غير صحيح، لأنّ المجاز في الاسناد رهن مصحح كالمبالغة حيث ينسب الحكم الصادر من بعض إلى الكلّ مبالغة، كما في قول القائل: قتل بنو فلان زيداً، و إنّما قتله بعضهم، و مثله قوله سبحانه مخاطباً اليهود: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي

ص:599


1- كفاية الأُصول: 3631/362.

قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1)مع أنّ القتل لم يصدر إلاّ عن بعضهم فنسب إلى الكلّ مبالغة بملاك رضاهم بعملهم، و هذا بخلاف الآية إذ ليس فيها وجه للمبالغة.

الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين

إذن يجب علينا علاج المشكلة من طريق آخر، و هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني عند البحث في أنّ التخصيص موجب لمجازية العام أو لا، فقد حقّق فيه أنّ التخصيص لا يوجب المجازية لا في المتصل و لا في المنفصل.

أمّا المتصل فلأجل تعدد الدالّ و المدلول، كقولنا: أكرم العالم العادل، فكلّ من العالم و العادل مستعمل في معناهما، لأنّ العالم مستعمل في العالم العادل.

نعم الحكم تابع بمجموع الموضوع.

و أمّا المنفصل فلما حقّق من أنّ لكل متكلّم إرادتين: استعمالية و جدية، فالعالم يستعمل في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية، فلو كانت الإرادة الجدية متعلّقة به أيضاً فيكون العام بعمومه موضوعاً و إن لم تكن الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية أشار إلى عدم المطابقة بدليل خاص، فترفع اليد عن ظاهر الدليل بدليل أقوى دون أن تطرأ المجازية على العام و يستعمل في غير معناه.

و على ضوء هذا فكان على المحقّق الخراساني أن يطرق هذا الباب و يقول إنّه لا محذور في البين أبداً من الاحتفاظ بأصالة العموم في كلا الموردين، إذ لا مانع من أن يكون العام مستعملاً في معناه و يكون الضمير أيضاً راجعاً إلى نفس

ص:600


1- آل عمران: 183.

العام لكن بالإرادة الاستعمالية. فإذا علم من الخارج عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الجدية في ناحية الضمير تُخصّص الإرادة الجدية في مورد الضمير من دون أي محذور. و لا يلزم من ذلك تخصيص المرجع أبداً، و ذلك لأنّه لو كان مستعملاً في الخاص لكان للتوهم المذكور مجال، و أمّا إذا كان مستعملاً في العموم كالمرجع بالإرادة الاستعمالية و لكن قام الدليل على عدم شمول الحكم لعامة أفراد المرجع، فمثل هذا لا يكون دليلاً على التصرف في العام، بل العام قائم على ظهوره حتّى يثبت الخصوص.

و الحاصل: انّه لو كان الضمير مستعملاً بالإرادة الاستعمالية في بعض المرجع لكان للتوهم المذكور مجال، و أمّا إذا استعمل في نفس المعنى الذي استعمل فيه لفظ العام و إن علم بدليل خارجي مخالفة الجد مع المراد استعمالاً فلا يصير سبباً لتخصص العام، لا استعمالاً و لا جداً.

و بذلك يعلم أنّ ما اختاره المحقّق الخراساني من طروء الإجمال على الكلام ليس بتام، إذ ليس شيئاً صالحاً للقرينية إلاّ استعمال الضمير في بعض مفاد المرجع و المفروض انتفاؤه.

ص:601

الفصل الثاني عشر في تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

و قبل الدخول في الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: انّ الغاية من عقد هذا الفصل هو دفع توهم انّ دلالة العام منطوقية، و دلالة المفهوم غير منطوقية، و الأُولى أقوى من الثانية، فلا يخصص الأقوى بالأضعف، من غير فرق بين أن يكون المفهوم، مفهومَ موافقة أو مفهوم مخالفة.

فلدفع هذا التوهم عقد الأُصوليون هذا الفصل قائلين بأنّ كون الدلالة مفهومية لا يكون سبباً لضعفها، بل ربما تكون دلالة المفهوم أقوى من دلالة المنطوق.

الثاني: انّ النزاع في هذا الفصل كبروي لا صغروي بمعنى انّ هنا عاماً و مفهوماً قطعيين و لا شكّ في وجودهما إنّما الكلام في أنّه هل يقدّم العام على المفهوم لتكون النتيجةُ الغاءَ المفهوم رأساً أو يُقدّم المفهوم على العام حتّى ينتهي الأمر إلى تخصيصه.

هذا هو نطاق البحث و محوره.

الثالث: لمفهوم الموافقة إطلاقات نأتي بها:

ص:602

1. إلغاء الخصوصية و إسراء الحكم لفاقدها، كقول زرارة: أصاب ثوبي دم رعاف.(1)

و قول القائل: رجل شكّ بين الثلاث و الأربع. فالموضوع في نظر العرف في الأوّل هو الدم لا دم رعاف و لا دم زرارة، و في الثاني هو الشكّ لا شكّ الرجل.

2. المعنى الكنائي الذي سيق لأجله الكلام مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، نظير قوله سبحانه: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (2)بناء على عدم حرمة التأفيف و انّ الحرام هو مفهومه الموافق، أي الضرب و الشتم.

3. تلك الصورة و لكن المنطوق محكوم بحكم المفهوم أيضاً، كالآية المتقدّمة بناء على حرمة التأفيف.

4. الأولوية القطعية، فإذا قال: لا تأكل ذبيحة الكتابي فيدلّ بالأولوية القطعية على حرمة ذبيحة المشرك.

5. الحكم المستفاد من العلّة المنصوصة، كما إذا قال: الخمر حرام لأنّه مسكر، فيفهم منه حرمة كلّ مسكر.

و بما انّ المفهوم هو الحكم غير المذكور لموضوع مذكور الحكم في هذه الموارد غير مذكور و إنّما يفهم بإحدى الطرق الخمسة، أطلق المفهوم على الجميع، و بما انّ حكمه موافق مع الحكم الوارد في المنطوق وُصِفَ بالموافقة.

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول:

يقع الكلام في مقامين:
اشارة

ص:603


1- الوسائل: 2، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
2- الإسراء: 23.
المقام الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق

إذا كان في مورد عام و مفهوم موافق، فهل يقدّم العام على المفهوم و يلغى الثاني، أو يقدّم المفهوم على العام و يخصص الثاني؟ مقتضى القواعد هو التخصيص لا الإلغاء، لأنّ كلاً منها دليل شرعي يجب إعماله حسب ما أمكن عرفاً; ففي الأوّل إلغاء للحجة الشرعية من رأس، و في الثاني إعمال لهما، و يقدّم الثاني على الأوّل.

و أيضاً لو كان مكان المفهوم دلالة منطوقية كانت مقدّمة على العام و مخصّصة له، فهكذا الدلالة المفهومية إذ لانتقص الثانية عن الأُولى و ليس إحداهما أقوى من الأُخرى، بل ربما يكون المفهوم أقوى و لا يُساق الكلام إلاّ لإفهامه.

نعم ربما يشترط كون المفهوم أخص مطلقاً لا عموماً من وجه و هو شرط زائد، لأنّه ليس من شرائط كون المفهوم مخصصاً، بل هو من شرائط كلّ مخصص، سواء أ كان لفظياً أو مفهومياً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني ادّعى الاتّفاق في تخصيص العام بالمفهوم الموافق، و علّله السيد الحكيم) قدس سره (في تعليقته على الكفاية بأنّ إلغاء المفهوم الموافق ينتهي إلى إلغاء المنطوق أيضاً، و ذلك لاشتراكها في الحكم، بل ربما يكون ثبوت الحكم في المفهوم أقوى من ثبوته في المنطوق، فإذا ألغى الحكم في جانب المفهوم يصبح الإلغاء في جانب المنطوق أولى.

يلاحظ على ما ذكره المحقّق الخراساني بعدم وجود الاتفاق، و هذا هو الشارح العضدي يظهر منه كون المسألة غير اتفاقية حيث قال: الأظهر هو التخصيص به.(1)

ص:604


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 275.

و أمّا ما ذكره السيد الحكيم في شرحه على الكفاية فلا يتمّ في عامة الصور لما عرفت من أنّ الأولوية القطعية أحد الموارد التي يستعمل فيها مفهوم الموافقة، و أمّا الموارد الباقية فربما لا يكون الحكم في المفهوم أولى من المنطوق، كما إذا قال: الخمر حرام لأنّه مسكر، فإسراء الحكم إلى النبيذ و الفقاع من باب مفهوم الموافقة مع أنّ الحكم فيه ليس بأولى من المنطوق، فلا يلزم من العمل بالعام في مقابل المفهوم، طرح المنطوق.

المقام الثاني: التخصيص بمفهوم المخالفة

إذا كان هناك عام و مفهوم مخالف، فهل يجوز تخصيص العام بمفهوم المخالفة أو لا؟ فيه أقوال:

1. جواز التخصيص مطلقاً.

2. عدم جوازه كذلك.

3. التفصيل بين استفادة المفهوم من لفظة» إنّما «، فيقدم على العام و بين غيره.

4. ما أفاده المحقّق الخراساني من التفصيل، و حاصله: انّ العام و ما له المفهوم على أقسام ثلاثة:

أ. ان يردان في كلام واحد.

ب. أو في كلامين و لكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر إمّا بتخصيص العام، أو بإلغاء المفهوم، كما هو الحال في آية النبأ، و سيوافيك بيانه.

ج. أو في كلامين ليس بينهما ذلك الارتباط و الاتّصال، كما إذا ورد في كلام

ص:605

إمامين) و لكن يصلح التصرّف في أحدهما بالآخر (كما هو الحال في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (: الماء إذا بلغ كرّاً لم ينجسه شيء، بالنسبة إلى رواية البزنطي عن الرضا) عليه السلام (، أو مرسلة السرائر كما سيوافيك.

و كل من هذه التقادير على أقسام ثلاثة:

1. أن يكون كلّ من العموم و المفهوم مستفادين من مقدّمات الحكمة.

2. أن يكون كلّ منهما مستفادين من الدلالة الوضعية.

3. أن يكونا مختلفين من غير فرق بين كون العام لفظياً وضعياً و المفهوم إطلاقياً أو بالعكس.

فعندئذ تصبح الأقسام تسعة باحتساب المختلفين قسماً واحداً.

ثمّ إنّه) قدس سره (قال بطروء الإجمال على كلّ من الدليلين فيما إذا كان كلّ من العموم و المفهوم إطلاقياً أو لفظياً وضعياً، غاية الأمر لا ينعقد الظهور إذا كانا مستندين إلى الإطلاق و ينعقد الظهور و لا يستقر إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية.

أمّا عدم انعقاده إذا كان كلّ إطلاقياً، فلأنّ عدم القرينة من مقدّمات الحكمة، و المفروض انّ كلّ واحد من العموم و المفهوم يصلح أن يكون قرينة على الآخر بأن يكون المفهوم قرينة على عدم العموم، و العموم قرينة على عدم المفهوم.

و أمّا عدم استقرار الظهور فيما إذا كانا مستندين إلى الدلالة اللفظية الوضعية، فلأنّ دلالة الشيء على العموم أو المفهوم دلالة مطلقة و ليست معلّقة، غاية الأمر عند الاجتماع يكون كلّ مزاحماً للآخر و موجباً لعدم استقرار الظهور، كما

ص:606

هو الحال في كلّ حجّتين شرعيتين بينهما صلة.

نعم في القسم الثالث، أعني: إذا كان أحدهما وضعياً و الآخر إطلاقياً فالوضعي سواء كان عاماً أو مفهوماً أظهر من الآخر، فلو كان العام وضعياً يكون دليلاً على إلغاء المفهوم، بل عدم انعقاده، و لو كان المفهوم وضعياً و العموم إطلاقياً، فهو يكشف عن عدم تمامية مقدّمات الحكمة في جانب العموم.

هذا هو التفصيل الرابع و سيوافيك ضعفه.

الخامس: ما عن المحقّق النائيني من التفصيل بين كون النسبة بين العام و المفهوم هي العموم و خصوص المطلق فيخصص به العام، و ما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه فلا يخصص به العام.

هذه هي الأقوال في المسألة، و الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث، و ذلك لما عرفت في الأمر الثاني من الأُمور المذكورة في صدر الفصل انّ محور البحث و نطاقه هو كونه كبروياً لا صغروياً مع أنّه يصبح البحث على القول الثالث و الرابع صغروياً.

أمّا الثالث، فلأنّ تقديم المفهوم المستفاد من لفظة» إنّما «على العام دون سائر المفاهيم يدلّ على وجود الحجّة) المفهوم (في مورد» إنّما «دون القضية الشرطية و الوصفيّة، و قد مرّ انّ البحث كبروي بمعنى انّ الفقيه مذعن بوجود العام و المفهوم قطعاً و إنّما الشكّ في تقديم أيّهما على الآخر.

و أمّا الرابع أعني: تفصيل المحقّق الخراساني فهو أيضاً خارج عن نطاق البحث، و ذلك لأنّه قال:

إذا كان العموم و المفهوم مستفادين من الإطلاق فالظهور غير منعقد، و إذا كانا مستفادين من الظهور الوضعي فالظهور غير مستقر، و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم الإذعان بوجود العام أو المفهوم

ص:607

حيث إنّ مقدمات الحكمة في كلّ تنهار بالآخر و مع عدمها لا يكون هناك إذعان بالعام و بالمفهوم، و مثله إذا كان كلّ من العموم و المفهوم مستفاداً من الدلالة الوضعية، فالظهور و إن كان منعقداً لكنّه يكون غير مستقر، لأنّ كلاً قابل للتصرف في الآخر، و هذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على كون الشكّ في وجود الصغرى، و هو خارج عن نطاق النزاع، و يكون البحث مركّزاً على صورة واحدة و هو أقوائية أحدهما و أضعفية الآخر بأن يكون الأقوى وضعياً و الأضعف إطلاقياً.

و أمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني من شرطية كون المفهوم أخصّ مطلق من العام، فهذا ليس شرطاً في مخصصية المفهوم، بل هو شرط في مخصصية الخاص سواء أ كان مفهوماً أو منطوقاً.

إلى هنا تبين انّ الأقوال الثلاثة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث، فالأولى أن يركز على شيء واحد و هو انّ كون الدلالة مفهومية هل يوجب الأضعفية و ان الدلالة المنطوقية توجب الأقوائية أو لا؟ و قد عرفت عدم الفرق بينهما، بل ربما يكون المفهوم أقوى من الآخر، و لذلك لا مانع من تخصيص العام بالمفهوم إذا حاز سائر الشرائط، فالقول الأوّل هو المختار.

نظرية المحقّق البروجردي في المقام

ثمّ إنّ السيد المحقّق البروجردي قال: يتقدّم المفهوم على العام لأجل انّ التعارض يرجع إلى اختلاف المطلق و المقيد، فإنّ قوله في العام:» خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه و طعمه أو رائحته «يعطي أنّ تمام الموضوع لعدم الانفعال هو الماء، و لكن قوله:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء « يعطي أنّ الماء بعض الموضوع و أمّا تمام الموضوع للاعتصام فهو الماء بقيد الكرية، فيقدّم

ص:608

ما له المفهوم على العام تقدّم المقيد على المطلق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره تغيير لعنوان البحث، إذ ليس البحث في تقديم المقيد على المطلق، بل في تقدّم المفهوم على العام بما هو هو من غير دخل لعنوان آخر.

و ربما لا يجري ما ذكره في بعض الموارد، أي لا يكون هناك حديث عن الإطلاق و التقييد. كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: أكرم فسّاقهم إذا أحسنوا إليك، فعلى فرض عدم إحسانهم يكون المفهوم عدم وجوب إكرام فسّاقهم فيتعارضان في العالم الفاسق، فلو قدّم العام يجب إكرامه، و لو قدّم المفهوم لا يجب، و ليس هناك حديث عن الإطلاق و التقييد. نعم يمكن إرجاع البحث بنوع إلى الإطلاق و التقييد و لكن بتكلّف و تعسّف.

تطبيقات
اشارة

قد عرفت أنّ النزاع في المقام كبروي، و انّه هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم، مع تسليم وجودهما، لا صغروي و انّه هل هنا، مفهوم أو لا؟ كما عرفت أنّ الضابطة تقديم المفهوم على العام بحجة انّ فيه الجمع العرفي بين الدليلين لا طرح المفهوم، و مع ذلك ربّما يكون قوة دلالة العام مانعاً عن التخصيص، و نأتي بأمثلة:

1. آية النبأ و التعارض بين المفهوم و التعليل

قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

ص:609


1- نهاية الأُصول: 324.

قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ).(1)

إنّ صدر الآية مشتمل على المفهوم و هو عدم لزوم التبيين إذا جاء العادل بالنبإ، سواء قلنا بأنّه مقتضى مفهوم الشرط أو الوصف، لكن الذيل مشتمل على تعليل يعم نبأ العادل و الفاسق، و هو قوله سبحانه: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )، فلو كانت الجهالة بمعنى عدم العلم القطعي بالواقع فهو مشترك بين نبأ العادل و الفاسق، و قبح إصابة القوم بجهالة، لا يختص بقوم دون قوم.

و عند ذاك فقد اختلفت كلمات المتأخرين في تقديم واحد منهما على الآخر لا اختلافاً في الكبرى، بل اختلافاً في قوة دلالة العام.

فالشيخ الأعظم، على تقديم التعليل العام على المفهوم لقوة دلالته لعدم اختصاص قبح الإصابة بمورد دون مورد، و لكن المحقّق النائيني على العكس أي تقديم المفهوم على العام لأنّ خبر العدل بعد صيرورته حجّة، يخرج عن كونه إصابة قوم بجهالة، و تكون القضية المشتملة على المفهوم حاكمة على عموم التعليل.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه مبني على تفسير الجهالة في الآية بمعنى» عدم العلم «فيعمّم عندئذ كلا الخبرين، و أمّا إذا كان المراد بها، ضد الحكمة، فلا يعمّ خبر العادل، إذ لا يعد العمل بقول الثقة، أمراً على خلاف الحكمة، مثل قوله سبحانه: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(3)

كما يرد على المحقّق النائيني أنّ الحكومة أمر قائم بلسان الدليل على نحو

ص:610


1- الحجرات: 6.
2- فوائد الأُصول: 2/172.
3- الأنعام: 54.

يعدّ الدليل اللفظي مفسراً للدليل الآخر، و المفهوم ليس دليلاً لفظياً فيكون فاقداً للسان، و معه كيف يكون حاكماً على التعليل.

و مع ذلك كلّه فمن المحتمل إجمال الكلام، لورودهما في كلام واحد أو منزلته، و يصلح كلّ لرفع الآخر، فالمفهوم صالح لتخصيص العام، كما انّ العام المتصل الظاهر بصورة التعليل، صالح لإلغاء المفهوم و إخلاء القضية عنه.

2. حديث» قدر كرّ «و قوة العام في حديث ابن بزيع

روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (و سُئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب؟ قال) عليه السلام (:» الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء «.(1) فذيل الحديث يشتمل على المفهوم و هو انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ، ينجسه شيء، و المراد من» شيء «هو عناوين النجاسات.

و روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا) عليه السلام (قال:» ماء البئر واسع لا يفسده شيء، إلاّ أن يتغير ريحه، أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه لأنّ له مادة «.(2)

إنّ قوله:» ماء البئر واسع لا يفسده شيء «، عام يعمّ القليل من ماء البئر و كثيره، فهل يصحّ تخصيصه بالمفهوم المستفاد في صحيحة محمد بن مسلم أو لا؟ إنّ النسبة بين المفهوم و العام، هو العموم من وجه، لأنّ المفهوم أعمّ من حيث كون الموضوع مطلق الماء، لا ماء البئر، و أخص من حيث اختصاصه بالماء غير الكرّ، و حديث البزنطي عام لاشتماله الكرّ و غيره، و خاص لاختصاصه بماء

ص:611


1- الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.
2- الوسائل: 1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.

البئر و يجتمعان في ماء البئر القليل. و مقتضى القاعدة، هو رفضهما و الرجوع إلى دليل ثالث، و مع ذلك فالذوق الفقهي يأبى ذلك، و يرجح تقديم العام على المفهوم لقوّة دلالته بالتعليل الوارد في ذيله، أعني:» لأنّ له مادة «و إلاّ يلزم لغوية التعليل، لأنّه لو كان كثيراً لكان عدم الانفعال مستنداً إلى كرّيته لا إلى كونه له مادة، و لو كان قليلاً، فإن قلنا بعدم انفعاله، لنفس العلّة الواردة في الرواية فهو، و إلاّ تلزم لغوية التعليل.

2. حديث» قدر كرّ «و رواية السرائر

روى ابن إدريس في» السرائر «و المحقّق في» المعتبر «و الظاهر منهما انّ الرواية معتبرة انّه ) عليه السلام (قال:» خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «.(1) و النسبة بينه و بين رواية محمّد بن مسلم، عموم و خصوص مطلق.

و في المقام يقدّم المفهوم المستفاد من صحيحة محمد بن مسلم على العام الوارد في هذه الرواية، لأنّه أخصّ من العام، و الخاص مقدّم على العام.

ص:612


1- الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 9.

الفصل الثالث عشر الاستثناء المتعقِّب للجمل

اشارة

إذا كان هناك جمل متعدّدة حقيقة أو حكماً و تعقّبها استثناء فهل يرجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الأخيرة، أولا ظهور له في أحدهما و إن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقناً؟ و لعلّ السبب لعقد هذا الفصل هو قوله سبحانه في حقّ القاذف، قال: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(1)

فوقع الكلام في أنّ الاستثناء في قوله سبحانه: (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) هل يرجع إلى الحكم الأخير أعني: (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أو يرجع إلى الجميع، يعني الأحكام الثلاثة: من الحكم بالجلد و عدم قبول الشهادة و الحكم بالفسق؟ ثمّ إنّ المراد من» المحصنات «في الآية العفائف، فانّ تلك اللفظة تطلق تارة و يراد بها إحصان العفة، فيعم كلّ مرأة عفيفة، سواء أ كانت مجردة أم متزوّجة،

ص:613


1- النور: 54.

و قد تطلق و يراد بها إحصان التزوّج حيث إنّ المتزوّجة تُحْصِن نفسها، و المراد كما عرفت هو الأوّل، و ذلك لأنّ الميزان في حرمة القذف هو كون المرأة متعفّفة لا متزوّجة، و إن كان مورد نزول الآية هو المتزوّجة.

نعم للإحصان في القرآن الكريم إطلاقات.

فتارة يطلق و يراد منه احصان التزوّج، كما في قوله: (وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1)أي حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلاّ من سُبيت في الحرب منهم.

و أُخرى: إحصان الحرية، كقوله سبحانه (وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ). (2)أي الحرائر المؤمنات.

و ثالثة: إحصان التعفّف كما في الآية المتقدّمة، كقوله سبحانه: (وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(3)، أي إذا أردن العفة و صيانة النفس عن الفجور.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:

أحدهما في مقام الثبوت، و الآخر في مقام الإثبات. و يراد من الأوّل إمكان الرجوع إلى الجميع، و من الآخر استظهار ظهور الجملة في أيّ واحد منهما. و إليك الكلام فيهما.

المقام الأوّل: في مقام الثبوت و إمكان الرجوع إلى الجميع

هل رجوع الاستثناء إلى عامّة الجمل المتقدّمة أمر ممكن أو لا؟ يظهر من

ص:614


1- النساء: 24.
2- النساء: 25.
3- النور: 33.

المحقّق الخراساني أنّ إمكان الرجوع إلى الجميع أمر مسلّم، غير أنّ الاختلاف في مقام الإثبات، قال ما هذا حاصله:

إنّ كلمة الاستثناء وضعت للإخراج بالمعنى الحرفي من غير فرق بين تعدّد المستثنى منه و وحدته، أو تعدّد المستثنى و وحدته، فتعدّدهما و وحدتهما غير مؤثر في استعمال كلمة الاستثناء في معناه، و تعدّد المخرَج منه أو المخرَج لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً.(1)

و ذهب سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي إلى امتناع الرجوع إلى الجميع قائلاً: بأنّ معاني الحروف معان فانية و مندكَّة في المستعمل فيه، فإذا رجع إلى الأخيرة فيندك فيها و معه كيف يرجع إلى غيرها قال:

إنّ الحروف آلة للحاظ المعاني الاسمية و فانية فيها، و لا يمكن فناء واحد في أُمور كثيرة، و لا يقاس ذلك بالاستثناء المتعدّد) جاء القوم إلاّ زيداً و عمراً و بكراً (، فانّ حروف العطف فيها رابطة فيُخرَجُ الأوّل ب» إلاّ «و يرتبط الثاني به بحرف العطف، بخلاف الاستثناء الواحد من الجمل الكثيرة) أكرم العلماء، و أهن الفساق، و سلّم على الطلاّب (فانّه من قبيل استعمال اللفظ الواحد في معاني متعددة.(2)

و إن شئت قلت: إنّ لحاظ المعنى الحرفي بلحاظ طرفيه، و حيث إنّ تعدّد الأطراف هنا بتعدّد المستثنى منه صار مرجع استعمال أداة واحدة في الإخراج في جميعها إلى لحاظ حقيقة واحدة ربطية بنحو الاندكاك و الفناء في هذا الطرف تارة، و ذاك الطرف أُخرى، و مقتضى ذلك كون حقيقة

ص:615


1- كفاية الأُصول: 1/365.
2- لمحات الأُصول: 314.

واحدة ربطية بنحو الاندكاك و الفناء في هذا الطرف تارة، و ذاك الطرف أُخرى، و مقتضى ذلك كون حقيقة واحدة ربطية في عين وحدتها، حقائق ربطية متكثرة و هذا مستحيل.(1)

يلاحظ عليه: بأنّها أشبه بالشبهة في مقابل البديهة، و الشاهد عليه ورود الرواية بأنّ القاذف إذا تاب تقبل شهادته، و معنى ذلك انّه يرجع إلى الجملة الثانية أيضاً.

روى قاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الرجل يقذف الرجل فيُجلَد حداً ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلاّ خير، أ تجوز شهادته؟ قال» نعم. ما يقال عندكم؟ «قلت: يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه و لا تقبل شهادته أبداً. فقال:» بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يُعلم منه إلاّ خير جازت شهادته «.(2)

و سواء أصحت الرواية أم لا فهي حجّة من أهل اللسان على إمكان رجوع الاستثناء إلى الجمل المتوسطة، فلو كان أمراً محالاً لما قال به الإمام و لا أخبر به الراوي بما أنّه من أهل اللسان.

و أمّا حلّ الشبهة فبوجهين:

الأوّل: انّ دلالة الحروف دلالة تبعية، و عندئذ يكون في إفادة الوحدة و الكثرة تابعاً لمتعلّقه، فإن كان المتعلّق واحداً يتحد، و إن كان كثيراً يتكثّر. و المفروض انّ متعلّقه كثير، حيث المستثنى منه متعدّد، و المستثنى قابل للانطباق، على مصاديق كلّ الجمل المتقدّمة.

الثاني: انّ الاستثناء و إن كان مستعملاً في الاستثناء المندك لكن رجوعه إلى أكثر من واحد لا يستلزم كون المعنى الربطي الواحد حقائق ربطية متكثرة، إذ هو في المثال المعروف أكرم العلماء و الطلاب و التجار إلاّ الفساق استعملت في

ص:616


1- نهاية الأُصول: 326 327.
2- الوسائل: 18، الباب 36 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

الاستثناء المندك في الفسّاق، غير أنّ الذي يُصحّح رجوعه إلى أكثر من واحد ليس عروض الكثرة على المعنى الربطي الواحد، بل لأجل وجود كثرة وسعة في متعلّقه، أي نفس مفهوم الفسّاق حيث يشمل الفاسق من الطوائف الثلاث، فلو كان المستثنى قابلاً للانطباق على أكثر من واحد بالذات، لسرت الكثرة مجازاً و بالعرض إلى نفس الاستثناء.

و إن شئت قلت: فرق بين تعلّق المعنى الربطي الواحد، بكلّ من العلماء و الطلاب و التجار، و تعلّقه بمفهوم واحد قابل للانطباق على أكثر من واحد، و هو لا يوجب تصرفاً في معنى الاستثناء.

و بذلك تبين انّ إمكان الرجوع أمر لا سترة عليه. و إليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني: في بيان ما هو ظاهر فيه
اشارة

إذا أمكن رجوع الاستثناء إلى الأخير و الجميع، يقع الكلام في استظهار ما هو الظاهر من الأمرين؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الكلام يصير مجملاً لا يكون ظاهراً في أحد الأمرين.

فإن قلت: إنّ رجوعه إلى الأخير أمر متعيّن فلما ذا لا يتمسّك بأصالة العموم في غير الأخيرة حتى يكون قوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ) و قوله: (وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) مصونان من التخصيص؟ قلت: أصالة العموم حجّة فيما إذا شكّ في أصل التخصيص و في وجود القرينة، و أمّا إذا شكّ في قرينية الأمر الموجود كما في المقام فلا يتمسّك بها. حيث إنّ الاستثناء صالح للرجوع إلى الجميع، و اكتناف الكلام بهذا النوع من القرينة التي

ص:617

لها الصلاحية للرجوع إلى الجميع يمنع من جريان أصالة العموم في المورد.

نعم لو قلنا بحجّية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور و الاطمئنان بها، يكون هو المرجع في غير الأخيرة لكن بشرط أن تكون استفادة العموم بالوضع لا بالإطلاق، لما عرفت أنّ من مقدّمات الحكمة هو عدم القرينة. و بما انّ الاستثناء صالح للقرينية لعدم العموم لا تجري مقدّمات الحكمة، فلا يحكم على الجمل بالظهور و العموم، بالذات حتّى يعرضه الإجمال.(1)

و اعترض عليه المحقّق النائيني بأنّ سقوط أصالة العموم في الجمل السابقة يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، و توهم كونه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية غير صحيح، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع و مع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد لكان مخلاً.(2)

يلاحظ عليه: بأنّه تصوّر انّ غرض المولى ينحصر في أحد أمرين:

الأوّل: إرادة العموم.

الثاني: إرادة الخصوص.

فعلى الأوّل يثبت المطلوب في الجمل السابقة ويحكم عليها بأصالة العموم.

و على الثاني يلزم الإخلال بالغرض حيث لم ينصب قرينة على الخصوص فرجوع الاستثناء إلى الكلّ متعيّن.

بل هناك غرض آخر ربما يتعلّق به غرض المولى و هو الإجمال في الكلام، و الإهمال في البيان، و عندئذ لا يكون عدم ذكر المخصص مع كونه مراداً مخلاً بالمقصود.

نظرية المحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصل في هذا المقام و جعل المحور للاستظهار تكرار عقد الوضع حيث إنّه يكون مانعاً من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة عليه، فذكر هنا صوراً ثلاثاً:

الأُولى: أن يتكرر عقد الوضع في الجملة الأخيرة أيضاً، كما في الآية المباركة حيث قال في صدرها:

(وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) و في ذيلها: (وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ).

الثانية: أن يقتصر على ذكر عقد الوضع في صدر الكلام و يحيل الباقي إليه، كما إذا قال: أكرم العلماء و أطعمهم و أحسن إليهم إلاّ فسّاقهم، فعقد الوضع، أعني: العلماء، ذكر مرة واحدة في صدر الجمل.

الثالثة: أن يتكرر عقد الوضع في وسط الجمل المتعدّدة، كما إذا قال: أكرم العلماء و سلم على الطلاب، و أضفهم إلاّ الفسّاق حيث ذكر الطلاب في الوسط.

ص:618


1- الكفاية: 1/365.
2- أجود التقريرات: 1/497.

ثمّ إنّه) قدس سره (حكم باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في الصورة الأُولى و برجوعه إلى الجميع في الصورة الثانية، و رجوعه إلى الجملة المشتملة على عقد الوضع، و الجملة المتأخرة عنها دون ما قبلها في الصورة الثالثة.

فالمدار عنده هو عقد الوضع حيث إنّ تكراره يمنع من عود الاستثناء إلى ما قبلها و ذكره وحده يوجب رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل المنتهية إليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجميع أو إليها حتّى تنتهي إلى عقد الوضع المذكور في وسط الجمل صحيح لا

ص:619


1- أجود التقريرات: 1/497، بتوضيح و تلخيص منّا.

غبار عليه، و لكن الميزان ليس تكرر عقد الوضع و عدمه، بل الملاك استقلال الجملة و عدمه، حيث إنّ استقلال الجملة يمنع من عود القيد إلى ما قبله بخلاف ما إذا كانت غير مستقلة، فالقيد يرجع إليها و إلى ما قبلها، فما ذكره من النتيجة صحيح لكن بالملاك الذي ذكرناه لا وحدة عقد الوضع و تعدّده.

و على ضوء ذلك فهناك صور ثلاث أُخرى نذكرها تباعاً على ضوء ما ذكرنا من القاعدة. و ربّما نختلف معه في النتيجة.

الرابعة: إذا كرر عقد الوضع في الجمل دون عقد الحمل، كما إذا قال: أكرم العلماء و الطلاب و التجار إلاّ الفساق منهم فبما أنّ جميع ما ذكر قبل الاستثناء بحكم جملة واحدة، و كأنّه قال: العلماء، الطلاب، التجار أكرمهم إلاّ الفساق، يرجع الاستثناء إلى الجميع.

الخامسة: ما إذا كرر عقد الوضع و الحمل في كلّ جملة: أكرم العلماء، أكرم الطلاب، أكرم التجار، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، لأنّ تكرر عقد الحمل قرينة على انقطاع الجمل بعضها عن بعض، و عندئذ يأخذ الاستثناء محله في الكلام و هو الرجوع إلى الأخيرة.

السادسة: إذا كان عقد الحمل في الجملة الأخيرة مغايراً مع ما ذكر في الجملة الأُولى، كما إذا قال:

أكرم العلماء و الطلاب و جالس التجّار إلاّ الفساق منهم، فإنّ تغير عقد الحمل يكون قرينة على استقلال الجملة الأخيرة عمّا تقدّمها.

فما ذكرناه قاعدة عامة يركن إليها إذا لم يكن هناك قرينة على خلافه، و لذلك يجب على الفقيه التفتيش عن القرائن الأُخرى فربما تكون مؤيدة للظهور و أُخرى مزيلة له.

ص:620

الفصل الرابع عشر تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

اشارة

هل يجوز تخصيص الكتاب العزيز بالخبر الواحد أو لا؟ و قد اختلفت فيه كلمتهم كما سيوافيك بعد ما اتّفقت كلمتهم في الأُمور التالية:

1. تخصيص الكتاب بالكتاب.

2. تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة.

3. تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيد للعلم.

4. تفسير مجملات الكتاب كالصلاة و الزكاة و الصوم بخبر الواحد، فإنّ أجزاء العبادات تتبيّن بالخبر الواحد.

و لم يخالف في ذلك أحد، إذ لا يعد التفسير للإجمال مخالفاً للقرآن و لا معارضاً له.

هذا ما اتّفقوا عليه، نعم اختلفوا في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد العاري من القرينة، نظير الأمثلة التالية:

1. (وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1)حيث تخصّص» حلية وراء ذلكم «بما ورد من أنّ المرأة لا تزوّج على عمتها و خالتها إلاّ بإذنهما.

ص:621


1- النساء: 24.

2. (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1)حيث خصّصت بأنّه لا ميراث للقاتل.(2)

3. (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (3)حيث خصصت بما دلّ على جواز الربا بين الوالد و الولد، و الزوج و الزوجة.

هذا و المسألة لها جذور في تاريخ أُصول الفقه، و قد تضاربت أقوالهم في هذا الصدد.

فذهب إلى المنع الأقطاب الثلاثة من أصحابنا، أعني: السيد المرتضى و الشيخ الطوسي و المحقّق الحلي.

1. قال السيد المرتضى: و الذي نذهب إليه أنّ أخبار الآحاد لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، و قد كان جائزاً أن يتعبّدنا اللّه تعالى بذلك فيكون واجباً غير أنّه ما تُعبدنا به.(4)

2. و قال الشيخ الطوسي: و الذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، سواء خصّ بدليل متّصل أو منفصل أو لم يخص.(5)

3. و قال المحقّق الحلي: يجوز تخصيص العموم المقطوع به بخبر الواحد، و أنكر ذلك الشيخ أبو جعفر، ثمّ ذكر دليل المجيز بأنّهما دليلان تعارضا فيجب العمل بالخاص منهما لبطلان ما عداه من الأقسام.

و أجاب عنه بأنّه لا نسلّم انّ

ص:622


1- النساء: 11.
2- الوسائل: 17، باب 7 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
3- البقرة: 275.
4- الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/280.
5- عدّة الأُصول: 1/135.

خبر الواحد دليل على الإطلاق، لأنّ الدلالة على العمل به الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة، فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به.(1)

و المشهور بين المتأخرين هو الجواز حتّى استدلّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (بوجود السيرة المستمرة في جميع الأعصار عليه، و انّه لولاه لما قام للمسلمين فقه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب.

و مع ذلك فالمسألة ذات أقوال:

1. المنع، كما عرفت من الأقطاب الثلاثة.

2. الجواز، كما عرفت من ادّعاء السيرة على التخصيص.

3. التفصيل بين عام خُصّص بدليل قطعي، فيخصص بالخبر الواحد أيضاً، و غيره.

4. التوقّف في المسألة.(2)

استدلّ المحقّق الخراساني للجواز بوجهين:

1. جرت سيرة الأصحاب على العمل بالأخبار الآحاد، في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة ) عليهم السلام (و احتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة، واضح البطلان.(3)

2. لو لا جواز التخصيص لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

يلاحظ على الأوّل: أنّ ما ادّعاه من السيرة على تخصيص الكتاب بخبر

ص:623


1- المعارج: 46.
2- لاحظ للوقوف على الآراء كتاب الفصول: 214.
3- الكفاية: 1/366.

الواحد غير ثابت، لما عرفت من مخالفة الأقطاب الثلاثة، مضافاً إلى أنّ هناك من القدماء من يمنع حجّية الواحد مطلقاً، مخصّصاً كان للكتاب أو لا، و القدر المتيقن من السيرة، هو أخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن، و قد كانت في العصور الأُولى محفوفة.

و لأجل توفّر القرائن في عصر القدماء، قسّموا الحديث إلى قسمين معتبر و غير معتبر، فما أيّدته القرائن الداخلية كوثاقة الراوي، أو الخارجية كوجوده في أصل معتبر ثابت انتسابه إلى جماعة كزرارة و محمد بن مسلم و الفضيل بن يسار، فهو صحيح أي معتبر يجوز الاستناد إليه، و الفاقد لكلتا المزيتين غير صحيح بمعنى انّه لا يمكن الركون إليه.

و إنّما آل التقسيم الثنائي إلى الرباعي لأجل ضياع القرائن بضياع الأُصول.(1)

يلاحظ على الثاني: بأنّ كثيراً من أخبار الآحاد يرجع إلى تفسير مبهمات القرآن و مجملاته، و قد عرفت أنّ حجّية خبر الواحد في هذا الباب خارج عن محط النزاع.

فإن قلت: إنّ ما ورد، حول النجاسات و المحرّمات ينافي قوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ).(2)

قلت: لا منافاة بين مفاد الآية و بين ما دلّ على كون شيء نجساً أو محرّماً، و ذلك لأنّ المراد من الآية الانتفاع بنحو من الأنحاء، لا خصوص الأكل و الشرب، حتّى يكون دليلاً على المخالفة. هذا دليل المجوزين، و لندرس دليل المانعين.

ص:624


1- لاحظ: كليات في علم الرجال: 59.
2- البقرة: 29.
حجّة المانعين من التخصيص

احتجّ المانع بوجوه:

1. انّ الكتاب قطعي السند، و الخبر ظني السند، و الظنّي لا يعارض القطعي، و لا ترفع اليد عن القطعي به.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه: بأنّ التعارض ليس بين السندين، حتّى يقال بأنّ الظني لا يعارض القطعي و إنّما الدوران بين دلالة الكتاب) أصالة العموم (و دليل حجّية الخبر، فأمّا أن تُرفع اليد عن دلالة الكتاب أو دليل حجّية خبر الواحد، كآية النبأ و غيرها، و المتعيّن هو الأوّل، لأنّ الخبر بدلالته و سنده صالح للتصرّف في دلالة الكتاب، حيث إنّ اعتبار الأصل المذكور موقوف على عدم قرينة على خلافه، و المفروض انّ الخبر يصلح لأن يكون قرينة، فترفع اليد عنها به.

و إنّما قلنا: انّ دلالة الكتاب موقوفة على عدم ورود قرينة على الخلاف لما عرفت من أنّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً، لا دفعيّاً، و على ضوئه لا مانع من ورود العموم و الإطلاق في الكتاب، و ورود مخصصه و مقيّده في السنّة.

و إلى هذا الجواب يشير المحقّق البروجردي و يقول: إنّ التصرف ليس في السند بل في العموم و أصالة العموم ظنية، فرفع اليد عن العموم به، رفع لليد عن الدليل الظني بالدليل الظني الأقوى، للسيرة العقلائية.

و مراده) قدس سره (من كون دلالة الكتاب ظنيّاً، هو كون عمومات الكتاب و إطلاقاته في مظنة التخصيص و التقييد لا كون كلّ الكتاب ظنّياً، و سيوافيك شرحه عند البحث في حجّية الظواهر.

ص:625

2. انّ دليل حجّية الخبر هو الإجماع و القدر المتيقن منه هو غير هذا المورد.

يلاحظ عليه: أنّ الدليل على حجّية الخبر الواحد، ليس هو الإجماع، بل الدليل هو السيرة العقلائية الجارية على الأخذ بالخبر الواحد، سواء أ كان في مقابله دليل قطعي أو لا، مضافاً إلى سيرة الأصحاب الجارية على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.

3. لو جاز التخصيص بالخبر الواحد، لجاز نسخ الكتاب به لكونهما مشتركين في أصل التخصيص و يختلفان في أنّ النسخ تخصيص في الأزمان، و الآخر تخصيص في الأفراد.

يلاحظ عليه: بأنّ القياس مع الفارق، فانّ النسخ رفع الحكم من رأس بخلاف الآخر، فانّه بمعنى إخراج بعض الأفراد عن حكم الآية، و لذلك اتّفق المسلمون على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد، حفظاً لكرامة القرآن و صيانته عن تطرق الأهواء إليه، بخلاف التخصيص فانّه أمر ذائع شائع فكم فرق بين قولنا: لا ميراث للقائل المخصص لقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1)فهو مخرج للقائل عن تحت العموم، و بين نسخ حلية المتعة، الواردة في قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (2)بخبر الواحد الذي يدّعيه أهل السنّة فهو بمنزلة رفع الحكم من رأس.

4. الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للقرآن، و الخبر المخصص مخالف له فينتج لزوم طرحه، لا الأخذ ثمّ تخصيص الكتاب به و إن شئت ان تصبّه في قالب الشكل الأوّل تقول: الخبر المخصّص للكتاب، مخالف للكتاب، و كلّ خبر مخالف للكتاب ليس بحجّة، ينتج: الخبر المخصّص للكتاب، ليس بحجّة.

ص:626


1- النساء: 11.
2- النساء: 24.

أقول: الروايات الواردة حول كون الحديث موافقاً للكتاب أو مخالفاً له، تُدرس في مقامين:

1. في باب جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، بحجّة انّ المخصص مخالف أو ليس بموافق.

2. في باب حجّية خبر الواحد، حيث يستدلّ المانع بهذه الروايات على عدم حجّية الخبر الواحد، مخصصاً كان أو لا.

و اعلم أنّ هذه الروايات ليست على صنف واحد، بل على أصناف أربعة، و المهم هو الصنف الثالث، أعني: ما يدلّ على عدم حجّية المخالف للكتاب بناء على أنّ المخصص مخالف، و إليك بيان الأصناف إجمالاً.

الأوّل: ما لا يعترف بحجّية الخبر الواحد، إلاّ إذا كان موافقاً للكتاب، أو كان له شاهد أو شاهدان منه، نظير ما رواه أيوب بن راشد عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف «.(1)

و هذا الصنف من الروايات، لا يمكن الأخذ بظاهرها، إذ معنى ذلك، إلغاء حجّية الخبر الواحد من رأس، و المفروض حجّيته و إنّما الكلام في سعتها و ضيقها، و هي محمولة على مورد العقائد حيث إنّ الغلاة يروون أحاديث في مقامات الأنبياء و الأولياء حسب أهوائهم، فلم يكن في علاجها محيص عن عرضها على الكتاب لتُعلم صحّة الرواية و فسادها.

و أمّا الروايات الواردة حول الأحكام فيؤخذ بها و إن لم تكن موافقة، غاية الأمر يجب أن لا تكون مخالفة له، و أمّا الوارد في العقائد و الأُصول خصوصاً فيما

ص:627


1- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، و لاحظ الحديث 11، 14، 18، 37، 47 من هذا الباب.

يرجع إلى مقامات الأولياء، فالشرط هو الموافقة، لا عدم المخالفة حتّى يتميّز الصحيح عن غيره.

الثاني: ما ورد في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر، و انّه يطرح المخالف، نقتصر على رواية واحدة:

روى الكليني عن العالم) عليه السلام (يقول:» اعرضوهما على كتاب اللّه عزّ و جلّ فما وافق كتاب اللّه عزّ و جلّ، فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(1)

و هذا القسم من الأحاديث لا صلة له بالمقام، لأنّ الكلام في الخبر غير المعارض، فلو عدّ عدم المخالفة في الخبرين المتعارضين مرجّحاً فلا يكون دليلاً على اشتراطه في غيره.

الثالث: ما يُركّز على المخالف المجرّد عن التعارض.

روى الكليني بسنده عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:

» من خالف كتاب اللّه و سنّة محمد فقد كفر «.(2)

الرابع: ما يشترط الموافقة و عدم المخالفة معاً، و قد ورد بهذا العنوان روايات ربّما تناهز ثلاثاً، نقتصر على رواية واحدة:

روى السكوني عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّ على كلّ حق حقيقة، و على كل صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(3)

ص:628


1- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19. و لاحظ الحديث: 1، 10، 21، 29 و غيرهما.
2- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 16.
3- الوسائل: 19، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10. و لاحظ أيضاً الحديث: 15، 35.

و لا يذهب عليك أنّ أحد الملاكين في الصنف الرابع خاص) كونه موافقاً للكتاب (و الآخر عام) عدم كونه مخالفاً (فالأوّل رهن وجود مضمون الحديث في الكتاب، و أمّا الثاني فيكفي عدم المخالفة، سواء أ كان موافقاً كما إذا كان المضمون موجوداً، أم لم يكن موافقاً و في الوقت نفسه لم يكن مخالفاً كما إذا لم يكن مضمونه وارداً في الكتاب، مثلاً ما دلّ على عدم جواز الصلاة في عرق الجنب عن حرام ليس موافقاً للكتاب و مع ذلك ليس مخالفاً أيضاً، و لعلّ العرف يأخذ بالملاك الأعم، لأنّ الأخص موجود في الأعم، فالميزان هو عدم المخالفة، فعندئذ يرجع الصنف الرابع إلى الصنف الثالث. و تكون النتيجة عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب و المفروض انّ المخصص مخالف للكتاب.

إلى هنا تمّ تقرير دليل الخصم.

يلاحظ عليه: بأنّ الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر المخالف يفسر بأحد وجهين:

الأوّل: أنّها محمولة على التباين الكلّي بأن يكون الحديث مخالفاً للكتاب تماماً، و ذلك لأنّ المخالفة على نحو العموم و الخصوص ليست مخالفة في دائرة التقنين و التشريع، بشهادة انّه يجوز تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة، و السنّة المحفوفة بالقرائن، فلو كانت المخالفة تعمّ هذا القسم يجب أن لا يخصّص الكتاب بالسنّة أبداً، لأنّ لسان هذه الروايات آب عن التخصيص.

فإن قلت: حمل هذه الروايات على الخبر المباين يوجب حملها على الفرد النادر، لعدم وجود الخبر المباين في الروايات، فيكون الكلام بعيداً عن البلاغة.

قلت: إنّ علماءنا الأبرار بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب أحاديث الشيعة عن الموضوعات، فلا تجد المباين في الجوامع الحديثية إلاّ نادراً، و إلاّ فقبل دورة

ص:629

التهذيب كانت الروايات المتباينة غير عزيزة.

الثاني: حمل روايات المقام على صورة التعارض و يحتمل أن يكون المراد من ترك الخبر المخالف للكتاب هو صورة تعارضه مع الخبر الآخر و إن كان يؤخذ به عند عدم التعارض و يخصّص به القرآن.

و الذي يقودنا إلى هذا الحمل، هو انّ المخالف المطرود في الخبرين المتعارضين أعمّ من التباين و العموم و الخصوص المطلق، فلو حمل ما ورد على ترك المخالف في الصنف الثالث على المباين يلزم التفريق في لسان الروايات في البابين، و هذا ما يبعثنا بحمل روايات المقام على باب التعارض، و يكون المراد من المخالف هو الأعمّ من التباين و العموم و الخصوص لكن يختصّ عدم حجّية المخالف بصورة التعارض دون انفراده.

ص:630

الفصل الخامس عشر في حالات العام و الخاص

اشارة

الهدف من عقد هذا الفصل بيان حالات العام و الخاص من التخصيص و النسخ و انتهى كلام صاحب الكفاية فيه إلى البحث عن النسخ و البداء، فصارت مادة البحث في هذا الفصل ممزوجة من المسائل الأُصولية و القرآنية و الكلاميّة و نحن نقتفيه حسب تناسب المقام.

الأمر الأوّل: في دوران الأمر بين التخصيص و النسخ
اشارة

إنّ للخاص و العام حالات مختلفة، حسب تقدّم أحدهما على الآخر و وروده قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده، و الصورة المتصوّرة لا تخرج عن ست صور:

الأُولى: ورود الخاص و العام متقارنين

إذا ورد الخاص و العام متقارنين، سواء كانا في كلام واحد على وجه لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً، كما إذا قال: أكرم العلماء إلاّ زيداً، أو ينعقد الظهور، لكن ظهوراً غير مستقر، إذ جاء المخصّص في آخر كلامه بصورة مستقلة، و الحال انّه لم يفرغ بعدُ من كلامه و مقصده، فلا شكّ انّه يحمل على التخصيص بلا كلام.

ص:631

الثانية: ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام

إذا ورد الخاص بعد العام و قبل حضور وقت العمل به; كما إذا قال المولى يوم السبت: أكرم العلماء يوم الجمعة، و قال يوم الأربعاء: لا تكرم فسّاقهم يوم الجمعة، فيكون أيضاً مخصصاً، لا ناسخاً.

وجه ذلك: انّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر على وجه لولاه لكان ثابتاً، و هو فرع ثبوت الحكم للموضوع جداً، في برهة من الزمان ثمّ رفعه، و لذلك قالوا: إنّ النسخ تخصّص في الأزمان، بمعنى انّه مانع عن استمرار الحكم بعد ثبوته شرعاً، لا عن أصل ثبوته، كما أنّ هذا معنى قولهم:

النسخ عبارة عن حضور الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ.

و إن شئت قلت: إذا تعلّقت الإرادة الجدية بأصل التكليف و لو في برهة من الزمان، و كان الدليل ظاهراً في الاستمرار، فورد الناسخ بعد العمل بالتكليف في قسم من الزمان، يكون الدليل الثاني ناسخاً، لكونه مانعاً عن استمرار التكليف لا عن أصله.

و أمّا الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل، يكون مانعاً عن أصل التكليف و كاشفاً عن عدم تعلّق الإرادة الجدية به من أوّل الأمر، فهو إخراج فرد، أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام من أوّل الأمر، و لذلك يشترط وروده قبل وقت العمل بالعام لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثالثة: ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام
اشارة

إذا ورد الخاص متأخراً عن العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام، كما

ص:632

إذا ورد العام في الكتاب و السنّة و الخاص في لسان الأئمة، مثل قوله سبحانه: (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ ) (1)و ورد الخاص في لسان الإمام الصادق) عليه السلام (حيث قال:» لا ترث النساء عن عقار الدور شيئاً «(2)، فمقتضى القاعدة كون الخاص ناسخاً لا مخصصاً، لكنّه لا يخلو عن محذورين.

الأوّل: إجماع الأُمّة على أنّ النسخ مختص بعصر الرسول و إنّ ما لم ينسخ فهو باق مستمر إلى يوم القيامة.

الثاني: انّ الخاص في الروايات الصادرة عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (كثيرة، فجعل هذه الروايات من قبيل النسخ ما لا يلتزم به أحد.

و على هذين الوجهين لا يكون مثل هذا النوع من الخاص، ناسخاً، لكن عدّه مخصصاً أيضاً مشكل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا كان الحكم في مورد الخاص كالعقار في إرث الزوجة غير متعلّق للإرادة الجدية و كانت النساء محرومة من الإرث فيه، لما ذا تأخر البيان في عصر الرسالة إلى أوائل القرن الثاني.

و الحاصل: انّ عدّه ناسخاً أو مخصّصاً مقرون بالإشكال.

نظرية الشيخ الأعظم في المقام

لو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فلا محيص عن كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا أُحرز كون العام وارداً لبيان الحكم الواقعي، و إلاّ لكان الخاص أيضاً مخصِّصاً له، كما هو الحال في

ص:633


1- النساء: 12.
2- الوسائل: 17، الباب 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 7.

غالب العمومات و الخصوصات في الآيات و الروايات.

وجهه: أنّه لو كان المولى بصدد بيان الحكم الواقعي، لم يجز له تأخير البيان عن وقت العمل، فإذا شاهدنا التأخّر فلا مناص عن جعله ناسخاً، أي من قبيل ارتفاع الحكم من زمان ورود الخاص و كان الحكم الواقعي إلى زمان ورود الخاص هو العام، فلم يكن هناك إلقاء في المفسدة و تفويت للمصلحة.

و أمّا إذا كان المولى بصدد بيان الحكم الظاهري دون بيان الحكم الواقعي، فيكون الناس مكلّفين بالحكم الظاهري دون الواقعي ما لم يصل إليهم الخاص، فإذا وصل ارتفع الحكم الظاهري بارتفاع موضوعه، و تصل النوبة إلى العمل بالحكم الواقعي و يكون الخاص مخصّصاً غير متأخّر عن وقت الحاجة.

نظريتنا في المسألة

و لكن الظاهر هو القول بالتخصيص مطلقاً من غير تفصيل، و ذلك لأنّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً فالأحكام كلّها كانت مشرّعة في عصر الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (نازلة عليه، غير أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (بيّن ما بيّن، و أودع ما لم يُبيّن إمّا لعدم استعداد في المجتمع أو لعدم وجود الفرصة للبيان، أو لوجود المصلحة في تأخيره عند أوصيائه الأئمة المعصومين) عليهم السلام (بعده، و ليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتى لا يُغيّر حكمه و إنّما هو بالنسبة إلى القبح كالمقتضي نظير الكذب، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً. هذا هو الحقّ الذي يدركه من سبر حال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و المجتمع الإسلامي.

فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقّة، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، و كلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.

ص:634

الرابعة: ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص

إذا ورد العام بعد الخاص و قبل حضور وقت العمل به، كما إذا قال: لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان ثمّ أمر بإكرام العلماء قبل دخول الشهر، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصِّصاً للعام المتأخّر، و لا وجه للنسخ لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل. أضف إلى ذلك ما سبق من أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام و هو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

الخامسة: ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص

تلك الصورة و لكن ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، أي بعد حضور زمان يمكن العمل به، فهل الخاص المتقدّم مخصّص للعام المتأخّر، أو العام المتأخّر ناسخ للخاص المتقدّم؟ و ليست هذه الصورة كالمتقدّمة، إذ لا تلزم لغوية الخاص من القول بناسخية العام. و الثمرة بين القولين واضحة، فعلى الأوّل يعمل بالخاص في خصوص مورده، و على الثاني ينتهي أمد حكم الخاص و يجب العمل بالعام في الفاسق و العادل.

قال المحقّق الخراساني: الأظهر أن يكون الخاص مخصِّصاً لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام إلاّ و قد خصّ مع قلّة النسخ في الأحكام جدّاً، و بذلك يصير ظهور الخاص في الدوام و لو بإطلاقه أقوى من ظهور العام و لو كان بالوضع.(1)

ص:635


1- كفاية الأُصول: 1/371.

السادسة: إذا حصل تردّد بين ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، و قبل حضوره، قال المحقّق الخراساني: الوجه هو الرجوع إلى الأُصول العملية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا يترتّب على كلا القولين أثر في مقام العمل فإنّ الواجب في المقام هو العمل بالخاص في المستقبل، سواء أ كان ناسخاً للعام أم مخصّصاً، لافتراض أنّه لو كان ناسخاً فإنّما يكون ناسخاً في مورده الخاص لا في الأعمّ منه.

بخلاف الصورة الخامسة فإنّ الثمرة موجودة في كون الخاص مخصّصاً، أو العام ناسخاً. فعلى الأوّل يكون ملاك العمل في المستقبل هو الخاص بخلاف الثاني فإنّه يكون ملاك العمل عندئذ هو العام.

و هناك صورة سابعة و هو الجهل بأحوال الدليلين على وجه الإطلاق من كونهما متقارنين أو متأخرين و لم يعلم المتقدّم و لا المتأخّر، و لا كيفيتهما.

و بما أنّ المتعيّن في جميع الصور السابقة هو التخصيص، فيكون حكمه أيضاً هو التخصيص لعدم خروجها عنها. فلاحظ.

تمّ الكلام في الأمر الأوّل، و إليك الكلام في الأمرين الآخرين:

ص:636


1- كفاية الأُصول: 1/371.
الأمر الثاني النسخ
اشارة

قد عرفت أنّ في هذا الفصل أُموراً ثلاثة، و قد تمّ الكلام في الأمر الأوّل، فلنأخذ الأمر الثاني بالبحث و هو النسخ، و يقع الكلام في أُمور:

الأوّل: النسخ لغة و اصطلاحاً

النسخ لغة هو إبطال شيء و إقامة شيء آخر مقامه.

يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ أي أذهبتْه و حلّتْ محلَّه، و انتسخ الشيبُ الشبابَ، و التناسخ في الفرائض و المواريث أن تموت ورثة بعد ورثة و أصل الميراث قائم لم يُقسَّم، و كذلك تناسخ الأزمنة و القرون بعد القرون الماضية.

و ربما يقال: أصل النسخ: الإبدال من الشيء غيره، و لعلّه بهذا المعنى نسختُ الكتابَ أي استنسخته.

و على هذا يكون إمّا مشتركاً لفظيّاً بين الإبطال و الإبدال، أو مشتركاً معنوياً بتصوير جامع بينهما.

و أمّا اصطلاحاً فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان سائداً، و عرّفه الطبرسي بقوله:» كلّ دليل شرعي دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنص الأوّل، غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنصّ الأوّل مع تراخيه عنه «.

و لا تخفى وجازة التعريف الأوّل.

ص:637

الثاني: في إمكان جواز النسخ عقلاً أو شرعاً

النسخ عندنا جائز عقلاً، واقع سمعاً، و أدلّ دليل على جوازه وقوعه في الشريعة الإسلامية فانّها نسخت شيئاً من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة، كما أنّ كلّ شريعة سماوية نسخت شيئاً ممّا ورد في سابقتها، مثلاً: جاء في التوراة: إنّ اللّه تعالى قال لنوح) عليه السلام (عند خروجه من الفلك انّي جعلت كلّ دابة مأكلاً لك و لذريتك و أطلقت لذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه «(1)مع أنّه سبحانه حرّم على موسى و على بني إسرائيل كثيراً من اللحوم.

و يظهر إمكان النسخ من خلال اختلاف المقتضيات الزمانية و المكانية، فربما يكون حكماً صالحاً في ظروف معينة، فإذا تغيرت لم يصر ذلك الحكم صالحاً في تلك الظروف، بل لا بدّ من تغيّره أيضاً.

نعم الأحكام المتناغمة مع الفطرة الإنسانية لا تتغيّر ما دامت الفطرة الإنسانية.

و بالجملة إمكان النسخ و وقوعه أمر لا ريب فيه غير أنّ اليهود ذهبت إلى امتناعه إمّا عقلاً و شرعاً، أو شرعاً فقط.

و قد نقل الرازي في تفسيره استدلالهم بشكل مبسوط، و نحن نلخّص كلامه:

إنّ الدليل لا يخلو من حالات ثلاث: إمّا أن يدلّ على الدوام، أو يدلّ على خلافه، أو لا يدلّ على أحدهما.

أمّا الأوّل فيلزم من نسخه كذب الخبر الأوّل.

و أمّا الثاني فهذا لا يعدّ نسخاً، لأنّ المفروض انّ الأمر الأوّل كان موقتاً.

ص:638


1- سفر التكوين، الاصحاح التاسع، الآية 3.

و أمّا الثالث فبما انّ امتثال الأمر مرة واحدة مسقط، فليس هناك دليل على لزوم امتثاله في المرة الثانية حتّى يكون الدليل الثاني ناسخاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ هناك قسماً رابعاً و هو ظهور الدليل في الدوام لا كونه نصاً فيه، فإذا جاء الناسخ فيكشف عن عدم صحّة ظهور الدليل الأوّل و انّ ما فهم من استمرار الحكم و دوامه كان فهماً خاطئاً و مصب النسخ هو هذا القسم، و إلاّ فما نص عليه بالدوام أو بالانقطاع أو يكون مهملاً من حيث الدوام و عدمه، إمّا يستحيل نسخه لاستلزامه الكذب كما في القسم الأوّل، أو يستغني عن النسخ كما في القسمين الأخيرين و ذلك إمّا ارتفاعه: بانتهاء غايته، أو عدم ظهوره في الاستمرار، حتّى يرتفع و إنّما النسخ فيما إذا كان الدليل حسب الظاهر ظاهراً في الاستمرار، قابلاً للدوام، فيكون الدليل الثاني ناسخاً له، رافعاً للحكم حسب الظاهر و إن كان في الواقع كاشفاً عن انتهاء أمد الحكم.

و لذلك يقول الأُصوليون النسخ رفع حسب الظاهر، و أمّا في الواقع فهو دفع و إعلام بانتهاء الحكم.

الثالث: الفرق بين النسخ و التخصيص

لا شكّ انّ النسخ و التخصيص يشتركان في تضييق دائرة الحكم لكن النسخ تخصيص في الأزمان، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله، بخلاف الثاني فانّه تخصيص في الأفراد، أي مانع من شمول الحكم لبعض أفراد العام منذ أوّل الأمر.

و بذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور العمل

ص:639


1- تفسير مفاتيح الغيب: 2293/228 بتلخيص منّا.

بالمنسوخ بفترة قصيرة أو طويلة، و أمّا التخصيص فيشترط وروده قبل حضور وقت العمل بالحكم، و إلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و هو قبيح.

و بذلك يعلم أنّ أمره سبحانه تبارك و تعالى بذبح إسماعيل و المنع عنه قبل ذبحه ليس من مقولة النسخ، لما علمت من أنّ النسخ عبارة عن قطع استمرار الحكم، و هو رهن العمل به، و لو مدة قصيرة. يقول سبحانه:

(فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ ) (1)و بما انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة، فقد أيقن إبراهيم) عليه السلام ( بأنّ اللّه سبحانه قد أمره بذبح ولده، و لمّا جاء به إلى منى و وضع السكين على حلقه و همّ بذبحه خوطب بقوله:

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ).(2)

فالآية تحكي انّه بإنجاز المقدّمات صدّق رؤياه، و هذا كاشف على أنّه كان مأموراً بالمقدّمات دون الذبح، و كان ذلك كافياً في رفع مستوى إخلاصه و تفانيه في جنب اللّه.

و بعبارة أُخرى: كان الأمر، اختباريّاً.

الرابع: وقوع النسخ في القرآن الكريم

دلّت غير واحدة من الآيات على وقوع النسخ في القرآن الكريم إجمالاً نحو:

1. قوله سبحانه: (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ).(3)

ص:640


1- الصافات: 102.
2- الصافات: 105.
3- النحل: 101.

كان المشركون و اليهود يطعنون بالإسلام و يقولون: أ لا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولاً و غداً يرجع عنه، فنزلت هذه الآية أو ما هو بمضمونها.

و الآية تدلّ على وقوع النسخ بشهادة قوله: (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ). و الآية ظاهرة في الآية القرآنيّة، لا الآية الكونية كالمعجزة، و يشهد على ذلك قولهم: (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ).

2. قوله: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ). (1)و الآية تعمّ المحو التشريعي و المحو التكويني الذي نعبر عنه بالبداء.

و هناك آية ثالثة تدلّ على إمكان النسخ لا على وقوعه، و هو قوله سبحانه: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ).(2)

و بما انّ هذه الآية من الآيات المشكلة في القرآن الكريم نذكر شيئاً حولها:

1. انّ لفظة» ما «ليست نافية و لا موصولة، بل هي ما شرطية تجزم شرطها و جزاءها، و لذلك صار الشرط) نَنْسَخْ (مجزوماً و هكذا جزاؤها) نُنْسِها (، لأنّ أصلها ننسيها فحذف الياء الناقصة لأجل الجزم، فانّ علامة الجزم هو سكون آخر الفعل في الصحيح و حذف حرف العلّة في المعتل، و قوله:» ننسها «مأخوذ من أنسي فهو ناقص يائي.

يقول ابن هشام: إنّ» ما «الشرطية على نوعين:

غير زمانية نحو (وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (3)(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ )

ص:641


1- الرعد: 39.
2- البقرة: 106.
3- البقرة: 197.

و قد جوزت في: (وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) على أنّ الأصل و ما يكن، ثمّ حذف فعل الشرط.(1)

2. انّ في لفظة» ننسها «قراءتين:

فقراءة عاصم برواية حفص هو» نُنْسِها «، فيكون مشتقاً من أنسى ينسي و صيغة المتكلّم مع الغير هو » ننسي «، فإذا ورد عليه الجزم يحذف حرف العلة، أعني: الياء من آخرها، فإذا أُضيف إلى مفعوله الضمير يصير» ننسها «و هو إذهاب الشيء عن الخاطر.

و قراءة غيره» ننسئها «فهو من النسيء بمعنى التأخير، كقوله سبحانه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً ) (2)و المراد تأخير أشهر الحرم.

و» النسيئة «هو البيع المتأخر ثمنه عن وقت البيع.

3. ما هو المراد من» ننسها «على كلتا القراءتين؟ أمّا القراءة الأُولى فمعنى» ننسها «هو إذهاب الآية عن الأذهان و إنّما الكلام في تبيين المراد منه، ففسّره بعض السُّذّج من العامّة، بنسخ الحكم و التلاوة و قالوا: إنّ المراد منه إزالة الآية من ذاكرة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (، حتّى أنّ السيوطي روى في أسباب النزول انّ الآية كانت تنزل على النبي ليلاً فينساها نهاراً، فحزن لذلك، فنزلت الآية!! و نحن لا نعلّق على هذه الرواية و لا على هذا التفسير شيئاً، و يكفي في ذلك قول صاحب المنار:

ص:642


1- المغني لابن هشام: 1/398.
2- التوبة: 37.

لا شكّ عندي في أنّ هذه الرواية مكذوبة، و أنّ مثل هذا النسيان محال على الأنبياء) عليهم السلام (، لأنّهم معصومون في التبليغ، و الآيات الكريمة ناطقة بذلك، كقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ )(1)، و قوله: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ )(2).(3)

أقول: إنّ هذه الآية مدنية، و قد أخبر سبحانه في سورة مكية بأنّ النبي لا ينسى، و قال: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى ).(4)

و قوله: (إِلاّ ما شاءَ اللّهُ ) لا يدلّ على وقوع المشيئة، بل هذا الاستثناء نظير الاستثناء عن خلود أهل الجنة و النار فيهما، قال سبحانه: (وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ).(5)

و الغاية من ورود الاستثناء في هذه الآية و نظائرها هو بيان انّ الحكم بخلودهما فيهما لا يعني خروج الأمر من يده سبحانه، بل الأمر بعدُ بيده، و هو قادر على إنجاز خلاف ما وعد أو أوعد.

و على ضوء ذلك نقول: إنّ لفظ» ننسها «و إن كان بمعنى الإذهاب عن الذهن، لكنّه كناية عن ترك الآية و عدم نسخها، إذ كثيراً ما يطلق النسيان و يراد به الترك لا الذهول، أي تركها على ما هي عليه بلا تغيير و تبديل حيث يصحّ أن تقول: نسيت الشيء و أنت تريد تركه على حاله، أو تقول: نسيت الفعل الفلاني أي تركته، فتدلّ الآية على أنّ نسخها و عدم نسخها كلاهما يتبعان المصلحة، فلو

ص:643


1- القيامة: 17.
2- الحجر: 9.
3- تفسير المنار: 1/415.
4- الأعلى: 76.
5- هود: 108.

اقتضت المصلحة نسخ الآية، تُنْسخ; و لو اقتضت إبقاءها، تترك بلا تبديل و تغيير.

قال الرازي: إنّ إطلاق النسيان على الترك مجاز، لأنّ المنسي يكون متروكاً، فلمّا كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم.(1)

و يدلّ على ما ذكرنا من أنّ النسيان يطلق و يراد به لازمه، لفيف من الآيات نحو:

قوله سبحانه: (فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ )(2)، أي تركوا ما أمروا به من عدم الصيد يوم السبت.

و قال سبحانه: (وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ).(3)

و قال سبحانه: (فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ).(4)

و قال سبحانه: (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ).(5)

و أوضح دليل على أنّ المراد من قوله:» ننسها «هو الترك، وجود التقابل بينه و بين» ما ننسخ «، فلو كان الأوّل بمعنى الإزالة، فالفعل الثاني بمعنى الإبقاء.

و أمّا القراءة الثانية، فهي قراءة من قرأ بالهمز أي ننسئها، فهي قراءة غير معروفة، فيكون المراد هو التأخير في النزول أو النسخ، و يؤوّل معنى الآية إلى قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) أو ننسئها، أي نؤخّر نزولها أو نسخها، فالكلّ من التقديم و التأخير تابع لمصلحة.

فهذه الآيات تدلّ على إمكان النسخ، بل وقوعه في القرآن.

ص:644


1- مفاتيح الغيب: 3/227.
2- الأعراف: 165.
3- الجاثية: 34.
4- طه: 115.
5- طه: 88.
الخامس: أقسام النسخ

قسّم أهل السنّة النسخ إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: ان تُنسخ الآية تلاوة و حكماً بحيث يرتفع لفظها و حكمها.

الثاني: أن تنسخ تلاوة لا حكماً، أي يرتفع لفظها، و يبقى حكمها.

الثالث: أن تنسخ حكماً لا تلاوة، أي تثبت، و لكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ.

أمّا القسم الأوّل، فلا وجود له في الخارج، لأنّ المفروض انّ الآية رفعت بلفظها و حكمها فلم تبق بين الأُمة.

و قال الرازي: و أمّا الذي يكون منسوخ الحكم و التلاوة فهو ما روت عائشة أنّ القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات; فالعشر مرفوع التلاوة و الحكم، و الخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم.(1)

و أمّا الثاني، ففسروه بمنسوخ التلاوة، و هو ما رفعت تلاوته و بقي معناه، و مثّلوا لذلك ما روي عن عمر أنّه قال: كنّا نقرأ آية الرجم:» الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللّه و اللّه عزيز حكيم «.

و روى:» لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً و لا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب و يتوب اللّه على من تاب «.

و لفظ الآيتين المزعومتين يحكي عن أنّهما ليستا من القرآن الكريم، لأنّهما عاريتان عن البلاغة و الفصاحة.

على أنّ الآية الأُولى نسجت على منوال قوله سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي

ص:645


1- مفاتيح الغيب: 3/230.

فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ).(1)

و الظاهر أنّ من جوّز نسخ التلاوة حاول بذلك تبرير ما ورد في الصحاح و السنن و المسانيد ممّا يدلّ على التحريف، فجعلوه من قبيل منسوخ التلاوة.

و هناك سؤال و هو انّ المفروض في منسوخ التلاوة انّ المعنى ثابت و هو رجم الشيخ و الشيخة، دون اللفظ، و اللفظ القرآني يجب أن يكون على حد يمتنع على الآخرين مقابلته حتّى يكون على القمة من الجزالة و الحلاوة، و عندئذ يُسأل لما ذا نسخت تلاوة الآية، و ما هو السبب في نسخها؟ أ فهل كان العيب في المعنى و المفروض انّه ثابت، أم في اللفظ و المفروض انّه على درجة سائر الآيات في البلاغة؟

السادس: الآيات المنسوخة في القرآن الكريم
اشارة

اختلف المسلمون في وجود النسخ في القرآن، و المشهور وجوده، و لكنّهم بين مقلّ و مكثر.

فالنحاس في كتابه» الناسخ و المنسوخ «من المكثرين، فقد أدرج كثيراً من الآيات في عداد الناسخ و المنسوخ و ليس منها شيء.

و السيد المحقّق الخوئي من المقلّين لو لم نقل من المنكرين إلاّ في مورد واحد، و هو مورد الصدقة عند النجوى في كتابه» البيان في تفسير القرآن «.

و ها نحن نذكر الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرّق النسخ إليها.

ص:646


1- النور: 2.
1. عدّة الوفاة

كانت عدّة الوفاة بين العرب قبل الإسلام حولاً و قد أمضاها سبحانه بالآية التالية: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).(1)

فإنّ تعريف الحول للأُمّ إشارة إلى الحول الرائج بين العرب قبل الإسلام و هو حول العدّة.

قال المحقّق القمي: الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول و هو عدّتها ما لم تخرج، فإن خرجت تنقضي عدّتها و لا شيء لها.(2)

و لكن نسخت الآية بقوله: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ).(3)

و ربّما يتصوّر انّ الآية الأُولى تدلّ على حكم تكليفي للزوج في حقّ الزوجة، و هو انّه يجب على الزوج أن يوصي لزوجته بسكنى الدار إلى حول، و انّه لا يحق للورثة إخراجها من بيتها إلاّ باختيارها.

و على ضوء هذا، فلا منافاة بينها و بين آية العدة التي تحدّدها بأربعة أشهر و عشراً.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان المقصود مجرّد بيان الحكم التكليفي و انّ المرأة لها حقّ السكنى في دار الزوج إلى حول كان اللازم تنكير الحول مع أنّه ذكره معرّفاً

ص:647


1- البقرة: 240.
2- القوانين: 2/94.
3- البقرة: 234.

باللام مشيراً إلى حول خاص معروف بين العرب، و ما ذلك الحول إلاّ حول العدة.

و يدلّ على ذلك ما نقله العياشي عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: لمّا نزلت هذه الآية: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ) جئن النساء يخاصمن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (و قلن: لا نصبر، فقال لهن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم ( : كان إحداكنّ إذا مات زوجها، أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في حذرها، ثمّ قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول، أخذتها ففتتها، ثمّ اكتحلت بها، ثمّ تزوجت، فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر.(1)

2. الصدقة قبل النجوى

أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل نجوى الرسول، و قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(2)

و لما امتنع المسلمون من تقديم الصدقة تفرقت الصحابة من حول الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (، فنسخت الآية بقوله سبحانه: (أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ... ).(3)

و كانت الغاية من تشريع إيجاب الصدقة هي تمييز من يؤثر نجوى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على دنياه عمّن لا يؤثر.

فقد روي أنّ علياً تصدّق بدرهم و ناجى الرسول.(4)

ص:648


1- بحارالأنوار: 104/188; تفسير العياشي: 1/237، الحديث 489.
2- المجادلة: 12.
3- المجادلة: 13.
4- تفسير مفاتيح الغيب: 3/230.

روى ابن جرير باسناده عن مجاهد قال:

قال علي) عليه السلام (: آية من كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرّفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (تصدّقت بدرهم، فنسخت، فلم يعمل بها أحد قبلي (إِذا ناجَيْتُمُ ).(1)

قال الشوكاني: و أخرج عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه عنه ) علي بن أبي طالب) عليه السلام ((قال: ما عمل بها أحد غيري حتّى نسخت، و ما كانت إلاّ ساعة، يعني: آية النجوى.(2)

دلّت الآية المباركة على أنّ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (خير، و تطهير للنفوس، و الأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. و دلّت على أنّ هذا الحكم إنّما يتوجّه على من يجد ما يتصدّق به، أمّا من لا يجد شيئاً فانّ اللّه غفور رحيم.

قال المحقّق الخوئي: و لا ريب في أنّ ذلك ممّا يستقلّ العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحّته، فإنّ في الحكم المذكور نفعاً للفقراء، لأنّهم المستحقّون للصدقات، و فيه تخفيف عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فانّه يوجب قلّة مناجاته من الناس، و انّه لا يقدم على مناجاته بعد هذا الحكم إلاّ من كان حبّه لمناجاة الرسول أكثر من حبّه للمال.

و لا ريب أيضاً في أنّ حسن ذلك لا يختصّ بوقت دون وقت، و دلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين غير علي بن أبي طالب أعرضوا عن مناجاة الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (اشفاقاً من الصدقة و حرصاً على المال.(3)

ص:649


1- تفسير الطبري: 28/15.
2- فتح القدير: 5/186.
3- تفسير البيان: 376.
3. الإمساك في البيوت بدل الحد

كان حد الزانية هو حبسها في البيت، قال سبحانه: (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ).(1)

فنسخت بجلد الزانية مائة جلدة قال سبحانه: (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ).(2)

ثمّ إنّ السيد المحقّق الخوئي أنكر وجود النسخ في الآية قائلاً: بأنّ المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه و تفاحش، و ذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة، و قد يكون بين ذكرين فيكون لواطاً، و قد يكون بين ذكر و أُنثى فيكون زنا، و لا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعاً و لا انصرافاً.

ثمّ إنّ الالتزام بالنسخ في الآية يتوقّف:

أوّلاً: على أنّ الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة.

ثانياً: أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم و الجلد.

و كلا هذين الأمرين لا يمكن إثباتهما.

إذ الظاهر من الآية المباركة انّ إمساك المرأة في البيت إنّما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية.

كما أنّ الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فهل يكون الجلد أو الرجم سبيلاً لها؟!

ص:650


1- النساء: 15.
2- النور: 2.

ثمّ خرج بالنتيجة التالية: أنّ المراد من الفاحشة خصوص المساحقة أو الأعمّ منها و من الزنا.

يلاحظ على الوجه الأوّل: بأنّ الفاحشة أُطلقت في القرآن و أُريد بها الزنا، نعم ربّما أُطلقت و أُريد بها غيرها أيضاً.

قال سبحانه: (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً ).(1)

و قال في سورة يوسف: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ).(2)

و أمّا الثاني أي كيف يكون الجلد و الرجم سبيلاً لصالحهنّ، فيلاحظ عليه: أنّ المراد من الإمساك في البيوت هو الحبس الدائم، و المراد من السبيل خصوص الجلد و هو أهون من الحبس الدائم، و ليس الرجم داخلاً في السبيل بشهادة انّ الآية منسوخة بآية الجلد كما ذكرنا.

روى العياشي في تفسيره عن جابر، عن أبي جعفر) عليه السلام (في قول اللّه سبحانه: (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى سَبِيلاً ) قال: منسوخة، و السبيل هو الحدود.(3)

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سألته عن هذه الآية (وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى سَبِيلاً )، قال:» هذه منسوخة «.(4)

هذه هي الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرق النسخ إلى الآيات

ص:651


1- الإسراء: 32.
2- يوسف: 24.
3- تفسير العياشي: 1/377 برقم 902.
4- تفسير العياشي: 1/377 برقم 903.

القرآنية، و لعلّ هناك موارد أُخرى لم نشر إليها.

و اعلم أنّ البحث في المقام هو نسخ الحكم الشرعي الوارد في القرآن بالقرآن، و هناك قسم آخر، و هو ما يكون الناسخ آية قرآنية و المنسوخ سنّة نبوية، و هذا كنسخ وجوب الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجّه إلى الكعبة.

أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس، و صلّى النبي و المسلمون إليها حوالي سبعة عشر شهراً، ثمّ نسخ الحكم الشرعي بآية قرآنية، يقول سبحانه: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ).(1)

هذا بعض الكلام في النسخ، و لنعطف عنان القلم إلى بحث آخر و هو البداء.

ص:652


1- البقرة: 144.
الأمر الثالث البداء
اشارة

البداء مسألة كلامية لا صلة له بعلم الأُصول، و الفرق بين النسخ و البداء أنّ الأوّل نسخ في التشريع و الثاني نسخ في التكوين، و لأجل ذلك ناسب أن نردف البحث في النسخ، بالبحث في البداء.

البداء من المسائل الشائكة لمن لم يتدبّر فيها، و من المطالب الواضحة لمن تدبّر، و سيظهر أنّ النزاع فيها لفظي لا معنوي كما سيوافيك، و تحقيق البحث ضمن أُمور:

1. البداء في اللغة

البداء في اللغة هو ظهور ما خفي، و قد اتّفق عليه أصحاب معاجم اللغة، و يدلّ عليه قوله سبحانه في حقّ المشركين يوم القيامة: (وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ).(1)

أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيِّئات بعد ما خفيت عليهم، و أحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

و قال عزّ من قائل: (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى

ص:653


1- الجاثية: 33.

حِينٍ ). (1)أي ظهر لهم بعد ما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام الناس.

فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه، و لأجل ذلك لم يُنسَب البداءُ في القرآن إلى اللّه سبحانه، بل إلى غيره، لأنّه استعمل في الكتاب العزيز بالمعنى الحقيقي، و يستحيل أن يوصف به العالم بعواقب الأُمور.

2. إحاطة علمه سبحانه بعامّة الأشياء

اتّفق الإلهيون إلاّ الشاذّ منهم على أنّه سبحانه عالم بما وقع و ما يقع قبل وقوعه، و هو بقيوميته و إحاطته بالأشياء لا يتصوّر في حقّه الجهل أو الظهور بعد الخفاء، و أظهر آية تدلّ على ذلك قوله سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ).(2)

ثمّ إنّ البحث في البداء يقع في مقامين:

مقام الثبوت، و مقام الإثبات. و إليك الكلام في المقام الأوّل:

3. البداء في مقام الثبوت

اتّفق الإلهيون على أنّ للإنسان أن يغيّر ما قُدِّر له، و لم يخالف في ذلك إلاّ اليهود حيث ذهبوا إلى استحالة تعلّق مشيئة اللّه بغير ما جرى به قلم القضاء و القدر، و قد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم» يَدُ اللّه مَغْلُولة «قال سبحانه حاكياً

ص:654


1- يوسف: 35.
2- الحديد: 22.

عنهم: (وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً )(1)، إنّ كثيراً من المفسّرين و إن خصصوا مضمون الآية بالعطاء و السعة في الرزق، و لكنّ أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (فسّروا قولهم» يَدُ اللّه مَغْلُولة « بالفراغ عن الأمر.

روى هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في تفسير الآية أنّه قال:» كانوا يقولون قد فرغ من الأمر «(2)فالمعروف عن اليهود انّهم يقولون: انّه سبحانه قد فرغ من الأمر لا يبدل و لا يغير ما قُدِّر فلا يزاد في العمر و لا ينقص.

فاستنتجوا من هذا الأصل امتناع نسخ الأحكام أوّلاً، و نسخ التكوين ثانياً.

أمّا نسخ الأحكام فقد مرّ جوازه و وقوعه.

و أمّا نسخ التكوين فاللّه سبحانه يرد على هذه العقيدة من أنّ التقدير الأوّل لا يغيّر و لا يبدّل في ضمن آيات، و يقول سبحانه:

(اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ... يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ).(3)

(وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ).(4)

فاللّه سبحانه كما هو المقدّر للمصير الأوّل، هو المقدّر للمصير الثاني أيضاً

ص:655


1- المائدة: 64.
2- تفسير البرهان: 1/486، الحديث 3.
3- فاطر: 1.
4- فاطر: 11.

فهو في كلّ يوم في شأن، و انّه جلّ و علا يبدأ و يعيد، يزيد في الرزق و العمر و ينقص، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية و المصالح الكامنة، فكما هو عالم بالتقدير الأوّل عالم في نفس الوقت بأنّه سوف يزول و يخلفه تقدير آخر لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه و سببه.

ثمّ إنّ الآيات الدالّة على أنّ التقدير يغيّر بصالح الأعمال و صالحها على قسمين:

تارة يؤكد على الضابطة، و أُخرى يعيّن الموضوع الذي به يتغيّر ما هو المقدّر.

أمّا القسم الأوّل كقوله سبحانه: (ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ).(1)

و قوله: (إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ).(2)

و قوله سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ).(3)

و قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ).(4)

إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة على انّ العمل يغيّر ما قُدِّر، سواء أ كان صالحاً أم طالحاً.

و أمّا القسم الثاني ما يؤكّد على أنّ عملاً خاصاً مثلاً يغيّر المصير، و هذا كالاستغفار و التسبيح و الكفران بنعمة اللّه.

ص:656


1- الأنفال: 53.
2- الرعد: 11.
3- الأعراف: 56.
4- الرعد: 39.

أمّا الاستغفار، فكقوله سبحانه: (اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ).(1)

و أمّا التسبيح، فكقوله سبحانه: (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ).(2)

و أمّا الكفران، فقال سبحانه: (وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ).(3)

هذا كلّه في القرآن الكريم، و أمّا الروايات فقد روى الفريقان أثر الدعاء و الصدقة في تغيير المصير، و رفع البلاء.

أخرج الحاكم عن ابن عباس) رض (قال: لا ينفع الحذر من القدر و لكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.(4)

روى الكليني عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» إنّ الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك و قد أبرم إبراماً «.(5)

و أمّا الصدقة فقد روى السيوطي في» الدر المنثور «عن علي، عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (عن هذه الآية (يَمْحُوا اللّهُ ) فقال:» لأقرّنّ عينيك بتفسيرها، و لأقرّنّ عين

ص:657


1- نوح: 1210.
2- الصافات: 143 146.
3- النحل: 112.
4- الدر المنثور: 4/661.
5- الكافي: 2/169، باب الدعاء يرد البلاء و القضاء، الحديث 1.

أُمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها و برّ الوالدين و اصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة، و يزيد في العمر، و يقي مصارع السوء «.(1)

و قد كان الصحابة يدعون اللّه سبحانه بتغيير مصيرهم، هذا هو الطبري ينقل في تفسير الآية بأنّ عمر بن الخطاب يقول و هو يطوف بالكعبة: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، و إن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني و أثبتني في أهل السعادة، فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك أُمّ الكتاب.

و روى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود و ابن عباس و شقيق و أبي وائل.(2)

هاتان الآيتان تدلاّن بوضوح على أنّ الأمر لم يُفرغ عنه، و انّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء ممّا قدّر، كلّ ذلك معلوم له سبحانه من أوّل الأمر.

4. البداء في الإثبات
اشارة

البداء في الإثبات عبارة عن إخبار النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أو الولي) عليه السلام (بوقوع شيء لأجل الاطّلاع على المقتضى له، و لكنّه لا يقع لأجل وجود المانع من تأثير المقتضي.

و بعبارة أُخرى: انّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (يطّلع على وقوع الشيء و لكن لا يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم أمر هو واقع، فلذلك يخبر عن الشيء و لا يتحقّق فيقال: بدا للّه في هذه الواقعة.

فيقع الكلام في أُمور:

الأوّل: هل يمكن أن يخبر النبيّ أو الإمام عن وقوع الشيء أو عدم وقوعه

ص:658


1- الدر المنثور: 4/661.
2- تفسير الطبري: 11413/112.

و تكون النتيجة على العكس، و مع ذلك لا يلزم كذب النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (؟ الثاني: هل ورد في الذكر الحكيم أو السنّة الشريفة نماذج من هذا النوع من الإخبار؟ الثالث: كيف يمكن نسبة البداء إلى اللّه سبحانه، و قد تقدّم من أنّ مورد استعماله هو الجهل بعواقب الأُمور؟ أمّا الأمر الأوّل: فإمكانه بمكان من الوضوح، مثلاً إذا اطّلع النبي على المقتضي دون شرطه أو مانعه، فيخبر عن وقوعه نظراً إلى المقتضي، و لا يتحقّق نظراً إلى عدم وجود شرطه أو وجود مانعه.

قال المحقّق الخراساني:

و أمّا البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى فهو ممّا دلّ عليه الروايات المتواترات كما لا يخفى، و مجمله انّ اللّه تبارك و تعالى إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره لهم، أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به مع علمه بأنّه يمحوه أو مع عدم علمه به لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه و إنّما يخبر به لأنّه حال الوحي و الإلهام لارتقاء نفسه الزكية و اتصاله بعالم لوح المحو و الإثبات اطّلع على ثبوته و لم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع، قال اللّه تبارك و تعالى: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الآية.(1)

هذا كلّه إذا اتّصل النبي بصحيفة المحو و الإثبات; و أمّا إذا اتّصل بصحيفة اللوح المحفوظ الذي يتكشف فيه الواقعيات على ما هي عليها، فيقف

ص:659


1- كفاية الأُصول: 2741/273.

على المقتضي و شرطه و مانعه، و يميّز ما هو الواقع عن غيره.

و أمّا الثاني: فنذكر فيه بعض ما ورد في الذكر الحكيم:

1. أخبر يونس قومه بنزول العذاب، ثمّ ترك القوم، و كان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضى العذاب الذي اطّلع عليه، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع، أعني: التوبة و التضرع، قال سبحانه: (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ).(1)

أخرج عبد الرزاق، عن طاووس في قوله: (وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ).(2)

قال: قيل ليونس) عليه السلام (: إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا و كذا... فلمّا كان يومئذ خرج يونس) عليه السلام (ففقده قومه، فخرجوا بالصغير و الكبير و الدواب و كلّ شيء، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها، و الشاة عن ولدها، و الناقة و البقرة عن ولدها، فسمعت لهم عجيجاً، فأتاهم العذاب حتى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم، فلمّا لم يصبهم العذاب ذهب يونس) عليه السلام (مغاضباً، فركب في العير في سفينة مع أناس... الخ.(3)

2. ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة، فصامها موسى) عليه السلام (و طواها، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره اللّه تعالى أن يكمل بعشر، يقول سبحانه:

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

ص:660


1- يونس: 98.
2- الصافات: 139 140.
3- الدر المنثور: 7/121.

وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ).(1)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة، كلّم بما وعده اللّه سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات، فلمّا طوى موسى) عليه السلام (ثلاثين ليلة أُمر بإكمال أربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية: أنّ موسى قال لقومه: إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه و أخلف هارون فيكم، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه.(2)

فكان هناك إخباران:

الأوّل: بانّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة، و كان موسى صادقاً في كلا الإخبارين، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة، لو لا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء اللّه بوقوعها في الذكر الحكيم إلاّ أنّها لم تقع، و هذا ممّا يعبر عنه بانّه بدا للّه فيها.

و بذلك يعلم أنّ عدم وقوع ما أخبر بوقوعه لا يكون دليلاً على كذب المخبر، لأنّ القرائن دلّت على صدق ما أخبر به و انّه كان مقدراً كما هو الحال في حادثة يونس، حيث إنّ العذاب أقبل و لكنّهم استقبلوه بالالتجاء إلى اللّه و الدعاء و التضرع و البكاء بحالة يرثى لهم، فصرف عنهم العذاب.

ص:661


1- الأعراف: 142.
2- الدر المنثور: 3/335.
البداء في الأحاديث

و يؤيد ما ذكرنا ما ورد في أحاديث كثيرة نذكر منها حديثين:

1. مرّ يهوديّ بالنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: السام عليك، فقال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم ( له:» و عليك «، فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، فقال: الموت عليك؟ فقال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم ( :» و كذلك رددت «، ثمّ قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لأصحابه:» إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله «. قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (» ضعه «، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» يا يهوديّ ما عملت اليوم؟ «قال: ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت به، و كان معي كعكتان فأكلت واحدة و تصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» بها دفع اللّه عنه «، و قال:» إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان «.(1)

2. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين، فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه، فقال: يُجلَبُون اليوم و يَبكون غداً، فقال قائل منهم: و لم يا رسول اللّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها، ليس بها شيء، فقالوا: يا روح اللّه إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت، فدخل المسيح دارها فقال: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلاّ و كنت أصنعه فيما مضى، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح: تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة،

ص:662


1- بحار الأنوار: 4/121.

عاضّ على ذنبه، فقال) عليه السلام (: بما صنعت، صرف عنك هذا.(1)

و أمّا الأمر الثالث، فقد تقدّم انّ البداء هو ظهور ما خفي، و على ضوء ذلك كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه سبحانه، مع أنّ القائلين بالبداء يتكرر على ألسنتهم بدا للّه؟! و الإجابة على هذا السؤال واضحة، و هي انّ وصْفَه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة، و هو باب واسع في كلام العرب، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم، و ما ذلك إلاّ لأجل المشاكلة الظاهرية، و قد صرّح بها القرآن الكريم في مواطن عديدة نذكر منها:

يقول سبحانه: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ).(2)

و يقول تعالى: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(3)

و قال عزّ من قائل: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ).(4)

و يقول تعالى: (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ).(5)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يَخدع و لا يَمْكر و لا ينسى، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف، و لكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة، و الجميع كناية عن إبطال خدعهم و مكرهم و حرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه و بالتالي عن جنته و نعيمها.

ص:663


1- بحار الأنوار: 4/94.
2- النساء: 142.
3- آل عمران: 54.
4- الأنفال: 30.
5- الأعراف: 51.
ورود» بدا للّه «في كلام النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (

كما نرى أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (يستعمل كلمة البداء و ينسبها إلى اللّه سبحانه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة:

إنّه سمع من رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص و أقرع و أعمى » بدا للّه «أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، و جلد حسن، قد قذّرني الناس، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً و جلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر هو شك في ذلك أنّ الأبرص و الأقرع، قال أحدهما: الإبل، و قال الآخر: البقر فأُعطي ناقة عُشراء، فقال: يبارك اللّه لك فيها.

و أتى الأقرع، فقال: أي شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن و يذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال:

فمسحه، فذهب، و أُعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملاً، و قال:

يبارك لك فيها.

و أتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد اللّه إليّ بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان و ولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، و لهذا واد من بقر، و لهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته و هيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن و المال، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري; فقال له: إنّ

ص:664

الحقوق كثيرة. فقال له: كأنّي أعرفك أ لم تكن يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك اللّه؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

و أتى الأقرع في صورته و هيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثلما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

و أتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين و ابن سبيل و تقطّعت بي الحبال في سفري، فلابلاغ اليوم إلاّ باللّه، ثمّ بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاة أتبلّغ بها في سفري; فقال: قد كنت أعمى فرد اللّه بصري، و فقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو اللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه، فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك و سخط على صاحبيك.(1)

*** هذا هو كلام الرسول الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (و قد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه، و من الطبيعي انّ النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه و العياذ باللّه الجهل على اللّه سبحانه، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه و بين المعنى اللغوي.

و على ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبر عن فعله بما نعبر به عن أفعالنا، إذا كان التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة، و إلاّ فهو في الحقيقة بداء من اللّه للناس، و لكنّه يتوسع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ، و يقال بدا للّه تمشياً مع ما في حسبان الناس و أذهانهم و قياس أمره سبحانه بأمرهم، و لا

ص:665


1- البخاري: الصحيح 4/172، كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص و أعمى و أقرع في بني إسرائيل.

غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز و المشاكلة.

و بذلك يعلم أنّ النزاع في البداء أمر لفظي لا معنوي، و أنّ الفريقين متّفقان على البداء ثبوتاً و إثباتاً، و الذي صار سبباً لإنكار البداء و طعن الشيعة به هو تصور انّ المراد منه هو الظهور بعد الخفاء، و قد عرفت أنّ المراد هو الإظهار بعد الإخفاء و انّ إطلاق البداء في المقام من باب المشاكلة.

تمّ الكلام في مبحث العام و الخاص و النسخ و البداء و يليه البحث في المطلق و المقيد و المجمل و المبين

ص:666

المقصد الخامس في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في ألفاظ المطلق الفصل الثاني: في تقييد المطلق لا يستلزم المجازية الفصل الثالث: في بيان مقدمات الحكمة الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد الفصل الخامس: في المجمل و المتشابه و تأويله

ص:667

ص:668

المقصد الخامس في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن

اشارة

عرّف المطلق بتعاريف مختلفة نذكر منها ما يلي:

1. المطلق ما دلّ على شائع في جنسه، و المقيّد بخلافه.(1)

2. المطلق ما دلّ على حصّة محتملة الصدق مندرجة تحت جنس تلك الحصة، و هو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصة و غيرها من الحصص.(2)

3. المطلق هو اللفظ الدالّ على الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة و لا تعدد، و المقيّد بخلافه.(3)

و لنقتصر على هذه التعاريف الثلاثة، و لنأخذ كلّ واحد بالنقض و الإبرام.

أمّا التعريف الأوّل فالمقصود من الموصول في قوله:» ما دلّ «هو اللفظ، كما أنّ المقصود من قوله:

» على شائع «هو الفرد الشائع، و على هذا ينطبق المطلق على النكرة، فإذا قلت: اعتق رقبة، يدلّ على لزوم عتق فرد من أفراد الرقبة التي لها أفراد

ص:669


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 284.
2- القوانين للقمي: 1/321.
3- تمهيد القواعد لزين الدين العاملي: 1/222.

متعددة، فعدم تعيّن الفرد من بين الأفراد هو المقصود من قوله شائع في جنسه.

و قد تبعه المحقّق القمي في تعريفه الثاني فانّه نفس التعريف الأوّل غير أنّه عبّر عن الفرد الشائع، بالحصة، محتملة الصدق على حصص كثيرة.

و التعبير ب» الحصص «مكان» الأفراد «يناسب نظرية الرجل الهمداني في تفسير الكلّي الطبيعي، فانّه كان يعتقد أنّ الإنسان الطبيعي واحد شخصي و الأفراد الموجودة حصص منه، فكأنّ لكلّ فرد جزءاً من الإنسانية لا كلّه.

و قد تبيّن بطلان تلك العقيدة، و أنّ الطبيعي واحد بالنوع، و أنّ المصاديق هي الأفراد لا الحصص، فكلّ فرد نفس الإنسان لا جزءه، و كلّ مصداق إنسان كامل ليس بإنسان ناقص.

و لما كان التعريف الأوّل غير جامع، لخروج اسم الجنس عن تحته لما سيتبين انّ أسماء الأجناس عند القوم وضعت للماهية من حيث هي هي غير المقيّدة بشيء حتّى الشمول و الشيوع، عدل الشهيد الثاني إلى التعريف الثالث حتّى يدخل أسماء الأجناس في تعريف المطلق مثل قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) حيث إنّ البيع وضع للماهية المعراة عن كلّ قيد.

و إن شئت قلت: الماهية من حيث هي هي، فليس هناك ما يدلّ على الفرد حتّى تستتبعه الدلالة على الشيوع.

يلاحظ عليه: أنّه بتعريفه هذا و إن أدخل اسم الجنس في تعريف المطلق لكنّه أخرج النكرة عن تحت المطلق مع أنّها من مصاديقه، كما إذا قال: أكرم رجلاً أو طالباً إلى غير ذلك، فانّ المفهوم من النكرة غير المفهوم من اسم الجنس فالتنوين آية الوحدة.

ص:670

جولة حول التعاريف

اشارة

1. انّ هذه التعاريف تعرب عن أنّ الإطلاق و التقييد من أوصاف الألفاظ، سواء أتعلق بها حكم مولوي أم لا؟ فهاهنا لفظ مطلق و ها هنا لفظ مقيّد نظير البحث في العموم و الخصوص، فهناك لفظ دالّ على العموم و لفظ دالّ على الخصوص.

و لكن هذا النمط من البحث يناسب الأبحاث الأدبية و اللغوية التي لا همّ لأصحابها إلاّ التعرف على معاني الألفاظ.

و أمّا الباحث الأُصولي فالتعرف على معاني الألفاظ أمر خارج عن غرضه و لو بحث فيها فإنّما هو لغاية كونها مقدّمة لاستنباط الحكم الشرعي.

فإذا كانت الغاية من هذه البحوث هو استنباط الحكم الشرعي، فيجب أن يفسر المطلق و المقيد بنحو يناسب الغاية المتوخاة لا على النحو الذي مرّ فانّه يناسب غرض الأديب و اللغوي لا غرض الأُصولي الذي هو بصدد تمهيد مقدّمات للفقه، و سيوافيك التعريف الصحيح.

2. انّ التعريف الأوّل الذي اعتمد عليه القدماء يركز على وجود الشيوع في المطلق، فعندئذ نسأل عن كيفية دلالة المطلق على الشيوع.

فإن قيل: بأنّ المطلق يدلّ على الشيوع بالدلالة المطابقية أو التضمنية فيرد عليه خروج أسماء الأجناس لما عرفت من أنّها عند القوم موضوعة للماهية المعراة من كلّ شيء، غير الملحوظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ) عدم لحاظ شيء (.

كما تخرج الأعلام إذ ليس فيها الشيوع مع أنّها قد تقع مصب الإطلاق كما في

ص:671

قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ )(1)، فإذا شكّ في أنّ الموضوع للطواف هل هو البيت بما هو هو، أو بشرط أن يكون مكشوفاً أو مستوراً، فيتمسّك بإطلاق الآية و يدفع باحتمال قيدية غيره.

اللّهم إلاّ أن يقال: انّ الشيوع في الاعلام أحوالي و ليس بأفرادي، و لكنّه خلاف المتبادر من التعريف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها من قبيل شرح الاسم و هو ممّا يجوز أن لا يكون بمطرد و لا بمنعكس، و لكنّه كلام عار عن التحقيق فانّ نفس النقض و الإبرام دليل واضح على أنّ المعرف أو المعرفين كانوا بصدد التعريف الحقيقي.

المختار في تعريف المطلق

قد علمت أنّ الغاية من الخوض في هذه المباحث هو تمهيد مقدّمات لاستنباط الحكم الشرعي و ليس التعرف على مفاد لفظ بما هو هو غاية للأُصول.

فإذا كانت هذه هي الغاية فالأولى أن يقال:

لو كان اللفظ في مقام الموضوعية للحكم مرسلاً عن القيد فهو مطلق و إن كان مزدوجاً مع شيء آخر فهو مقيد.

و بعبارة أُخرى: إذا كان ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع فهو مطلق أي مرسل عن القيد، و أمّا إذا كان جزء الموضوع و كان معه جزء آخر فهو مقيد بالقيد.

و بذلك يعلم أنّ المطلق و المقيد أطلقا بنفس المعنى اللغوي حيث إنّ

ص:672


1- الحج: 29.

المطلق بمعنى المرسل، يقال: أطلق سراح فلان كما يقال قُيّد رِجْل فلان بقيد.

و على هذا التعريف تترتّب نتائج باهرة في علم الأُصول.

الأُولى: انّ المقوم للإطلاق هو كون الشيء تمام الموضوع من غير فرق بين كونه اسم جنس أو نكرة أو علماً، فالشيوع و عدم الشيوع بالنسبة إلى الإطلاق كالحجر في جنب الإنسان، بل يكفي كون الشيء قابلاً للتقييد، فالقابل للتقييد إذا جرد عن القيد فهو مطلق.

الثانية: انّ الإطلاق خلافاً للتعاريف السابقة ليس من المداليل اللفظية كما هو الحال في التعاريف السابقة، بل هو من المداليل العقلية حيث إنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان الموضوع و كان حكيماً غير ناقض لغرضه فأخذ لفظاً موضوعاً لحكمه و جرده عن القيد فالعقل يحكم بأنّه تمام الموضوع، و إلاّ لما ترك المتكلّم الحكيم القيد اللازم في كلامه.

و أمّا جعل مبحث الإطلاق و التقييد من المباحث اللفظية فلأجل انّ مصب الإطلاق هو اللفظ و إلاّ فاستنباط الإطلاق بمعنى كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع إنّما هو بالعقل.

الثالثة: انّ مصب الإطلاق أعمّ من أن يكون اسم جنس أو نكرة أو معرّفاً باللام حيث ينعقد الإطلاق في الأعلام الشخصية، كما إذا قال: أكرم زيداً، و احتملنا كون الموضوع هو زيد متقيداً بالتعمّم فيتمسك بالإطلاق و يدفع كون التعمّم مؤثراً في الموضوع، كما عرفت نظيره في قوله سبحانه: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ).

الرابعة: انّ التقابل بين الإطلاق و التقييد، شبيه تقابل العدم

ص:673

و الملكة حيث إنّ المطلق فاقد لما يكون المقيد واجداً له و إنّما قلنا شبه التقابل، لأنّ تقابل العدم و الملكة يطلق على المورد الذي من شأنه أن يكون فيه الملكة كالعمى بالنسبة إلى البصر و ليس كلّ مطلق من شأنه أن يكون مقيداً، بل يكفي كونه قابلاً للتقييد.

الخامسة: انّ الإطلاق و التقييد أمران إضافيان، فالدليل الواحد يمكن أن يكون مطلقاً من جهة و مقيداً من جهة أُخرى. كما إذا قال: أكرم إنساناً في المسجد فهو مطلق من حيث الموضوع و مقيد من حيث ظرف الإكرام.

السادسة: انّ القوم لمّا فسّروا المطلق بما دلّ على شائع في جنسه بحثوا في ألفاظ يترقب فيها الدلالة على الشيوع كاسم الجنس و علمه و الفرد المحلى باللام.

و أمّا على المختار بأنّ هذا النمط من البحث شأن الأديب و ليس من شأن الأُصولي، فالبحث في معاني هذه الأصناف من الألفاظ ساقط لما عرفت أنّ مقوم الإطلاق تمامية الشيء للموضوع و عدمها، سواء أ كان اسم جنس أو علم جنس أو محلّى باللام، فاشتراط المطلق بكونه اسم جنس أو نظيريه كالحجر في جنب الإنسان و ليس لها أي دخل في تكوين الإطلاق.

فنحن بالنسبة إلى هذه البحوث التي شغلت بال الأُصوليين في المقام لفي فسحة، غير أنّا نتبع القوم في هذه البحوث استطراداً بل استجراراً. و تمام الكلام في ضمن فصول:

ص:674

الفصل الأوّل في ألفاظ المطلق

1. اسم الجنس
اشارة

قد عدّ من ألفاظ المطلق اسم الجنس.

قال المحقّق الخراساني: إنّ أسماء الأجناس من جواهرها و أعراضها و عرضياتها(1) موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط ملحوظ معها أصلاً حتّى لحاظ انّها كذلك.

و حاصل كلام المحقّق الخراساني: أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة المبهمة من كلّ جهة تفقد كلّ شيء إلاّ ذاتها و ذاتياتها و لا يلاحظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ، أي عدم لحاظ شيء معه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاض الكلام في البرهنة على ذلك، و قال ما هذا حاصله:

إنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو نفس الماهية بما هي هي.

لا بشرط الإرسال و العموم البدلي حتّى يكون بشرط شيء.

ص:675


1- يطلق العرض على مثل البياض و العرضي على مثل الأبيض، غير أنّ المحقّق الخراساني أطلق الأعراض و أراد به الأعراض المتأصلة و أطلق العرضيات و أراد به الأُمور الاعتبارية حسب ما فسّره المحقّق المحشي.

و لا بشرط» لحاظ عدم لحاظ شيء معه «حتّى يكون اللابشرط القسمي.

و ذلك لأنّه لو كان من قبيل القسم الأوّل أي مأخوذاً فيه الشمول لما صحّ حمله على فرد خارجي كقولنا زيد إنسان.

و لو كان من قبيل القسم الثاني أي مأخوذاً فيها لحاظ» عدم لحاظ شيء معه «فلا يحمل أيضاً على الخارج، لأنّ جزء المعنى) لحاظ عدم اللحاظ (أمر ذهني لا ينطبق على الثاني.

فتلخّص من كلامه الإشارة إلى أُمور ثلاثة:

الأوّل: الماهية اللابشرط المقسمي و هي التي وضع اللفظ بازائها.

الثاني: الماهية بشرط شيء و هي الماهية بشرط الشمول و الشيوع.

الثالث: الماهية اللابشرط القسمي و هي الماهية الملحوظة بعدم اللحاظ.

و لا يخفى إجمال ما ذكره، إذ كان عليه أوّلاً ان يشرح تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة، أعني: اللابشرط و بشرط لا و بشرط شيء، ثمّ يحكم على أسماء الأجناس بأنّها موضوعة لمقسم هذه الأقسام لا لواحد منها، و لأجل إيقاف القارئ على حقيقة التقسيم و إن كانت خارجة عن علم الأُصول نذكر تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة و نبيّن الفرق بين اللابشرط المقسمي و اللابشرط القسمي.

فنقول: قسّم أهل المعقول الماهية إلى أقسام ثلاثة:

أ. مطلقة و هي اللابشرط.

ب. مخلوطة و هي البشرط شيء.

ج. مجردة و هي البشرطلا.

ص:676

قال الحكيم السبزواري:(1)

مطلقة، مخلوطة، مجردة عند اعتبارات عليها موردة فالحكيم السبزواري بقوله:» عند اعتبارات «يشير إلى أنّ التقسيم ليس للماهية بما هي هي بل للماهية الملحوظة، و ذلك لأنّ الماهية ما لم تقع في أُفق اللحاظ و لم تر نوراً بالوجود الخارجي أو الذهني يساوق العدم فهي كالمعدوم المطلق لا يخبر عنها فلذلك قال الشيخ الرئيس: ما لا وجود له لا ماهية له، فأي حكم على الماهية فرع تنوّرها بنور الوجود و لو وجوداً ذهنياً غاية الأمر يكون الوجود الذهني مغفولاً عنه، و الإنسان يحكم عليها بواسطة تنوّرها بالوجود.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا مقسماً باسم اللابشرط المقسمي و أقساماً ثلاثة و إليك بيانها.

اللابشرط المقسمي
اشارة

و هي عبارة عن لحاظ الماهية بذاتها و ذاتياتها مع قطع النظر عن كلّ شيء معها حتّى الوجود الذهني الذي به ظهرت، و الماهية بهذا المعنى ليست إلاّ هي لا موجودة و لا معدومة بمعنى لا انّ الوجود جزؤها و لا العدم. و الماهية بهذا المعنى مقسم للأقسام الثلاثة الآتية:

1. الماهية البشرط شيء

فإذا لوحظت تلك الماهية بهذا المعنى السابق مقيسة إلى الخارج مقترنة بشيء من عوارضها كالإنسان بقيد الوجود، و الرقبة بقيد الإيمان، و العبد بشرط الكتابة، فهذا هو المسمّى بالماهية بشرط شيء.

ص:677


1- شرح المنظومة: 90.
2. الماهية البشرطلا

فإذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج مشروطة بعدم مقارن خاص كالإنسان بقيد عدم الوجود و الرقبة بقيد عدم الإيمان و العبد بقيد عدم الكتابة فالماهية بشرط لا.

3. الماهية اللابشرط القسمي

و أمّا إذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج بلحاظ عدم شيء معها على نحو يكون ذلك اللحاظ) عدم لحاظ شيء (قيداً له فهذه هي الماهية على نحو اللابشرط القسمي. حسب ما اختاره المحقّق الخراساني، و نحن نمشي في تفسير هذه المصطلحات الثلاثة في المقام على ضوء» الكفاية «.

فتلخص انّ هناك» لا بشرطاً مقسمياً «و له أقسام ثلاثة:

بشرط شيء، بشرط لا، و لا بشرط القسمي.

و الفرق بين اللابشرط المقسمي و القسمي واضح، فانّ الأوّل عار عن كلّ قيد حتّى لحاظها في الذهن و ليست إلاّ هي هي، و لكن القسمي هي الماهية بلحاظ عدم قيد معه فيصير لحاظ عدم القيد قيداً.

و إن أردت التشبيه فقس الفرق بينهما بالفرق بين مطلق المفعول و المفعول المطلق، فالإطلاق في القسم الأوّل ليس بقيد بل رمز عدم القيد، و لذلك يشمل الأقسام الخمسة للمفعول، بخلاف الثاني فانّ الإطلاق هناك قيد، أي تعرّيه عن كلّ قيد، قيد كقولك ضربت ضرباً، فقوله ضرباً مفعول مطلق ملحوظ بلحاظ عدم كونه مقترناً بالباء أو بمع أو بفي أو باللام أو غير ذلك.

فإن قلت: إذا كان اللابشرط القسمي هو الماهية المشروطة بلحاظ عدم

ص:678

لحاظ شيء، فهو يكون من أقسام الماهية بشرط شيء و الشرط هو لحاظ عدم اللحاظ.

قلت: إنّ هذا التقسيم الثلاثي لما كان باعتبار إضافة الماهية إلى خارجها كالوجود و الإيمان و الكتابة و غير ذلك، يكون المراد من الشيء هو الأمر الخارجي، و لا يعمّ القيد الذهني كاعتبار» عدم لحاظ شيء معها «قيداً، فالماهية اللاّبشرط عارية عن القيود الخارجية و إن كانت تحمل قيداً ذهنياً، كالإطلاق، و لحاظ » عدم لحاظ شيء معه «.

فإن قلت: إذا كان معنى الماهية البشرطلا، هو أخذ» بشرط لا «، قيداً يكون هذا القسم أيضاً داخلاً في الماهية البشرط شيء، إذ الشيء أعمّ من القيد الذهني.

قلت: الجواب عن هذا الاعتراض نفس الجواب عن الاعتراض السابق، لأنّ المراد من القيود هو القيود الخارجية بشهادة انّ هذا التقسيم بلحاظ إضافة الماهية إلى خارجها التكويني، فالشيء في هذا القسم هو القيد الطارئ الخارجي فلا يعمّ القيد الذهني» كونها بشرط لا «.

و بالجملة لحاظ عدم اللحاظ أو لحاظ عدم الشيء غير داخلين في لفظ الشيء الوارد في» الماهية بشرط شيء «.

تفسير السيّد الأُستاذ لتقسيم الماهية
اشارة

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (فسّر تقسيم الماهيات الملحوظة إلى الأقسام الثلاثة بوجه آخر، و أفاد أنّ التقسيم ليس بحسب الماهية في مقام ذاتها، بل التقسيم باعتبار مرتبة وجودها.

ص:679

و إن شئت قلت: الماهية الموجودة إذا قيست إلى أيّ شيء فإمّا أن يكون الشيء لازم الالتحاق بها كالتحيّز بالنسبة إلى الجسمية، و الزوجية بالنسبة إلى الأربعة; و إمّا أن يكون ممتنع الالتحاق، كالتجرّد عن المكان بالنسبة إليها; أو يكون ممكن الالتحاق، كالبياض بالنسبة إلى الجسم. فالأوّل هي الماهية بشرط شيء، و الثاني هي الماهية بشرط لا، و الثالثة هي الماهية لا بشرط.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره راجع إلى تقسيم عوارض الوجود و أنّها لا تخلو عن حالات ثلاث، من ممكن الالتحاق، إلى ممتنعه و لازمه، و البحث في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة.

و ثانياً: أنّ البحث في تقسيم نفس الماهية أو الملحوظة لا في الماهية الموجودة.

ثمّ إنّ هذا التقسيم ليس تلاعباً بالألفاظ كما حسبه، بل هذا التقسيم لأجل إيجاد الفرق بين النوع و الجنس و الفصل و المادة و الصورة و إلاّ يلزم أن يكون جميع المباحث الدارجة في باب الماهيات تلاعباً بها.

فانّ الحيوان على فرض اللابشرط جنس، و على فرض بشرط لا مادة، و على فرض بشرط شيء نوع و المفهوم منه في كلّ موطن، يغاير المفهوم منه في موطن آخر، كما أنّ الناطق على فرض» اللابشرط « فصل، و على فرض» بشرط لا «صورة، و أمّا ما هو المراد من» اللابشرط «في الجنس و الفصل، و من » البشرطلا «في المادة و الصورة فموكول بيانه إلى محله.(1)

إذا عرفت ذلك ينبغي الكلام في موضعين:

ص:680


1- لاحظ ما حرّرناه من محاضرات شيخنا الأُستاذ مدّ ظله في هذا المضمار في مبحث المشتق في الجزء الأوّل، ص 248 252.
الأوّل: ما هو الموضوع له لأسماء الأجناس؟

ذهب المشهور إلى أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيداً للمعنى و رتّبوا على ذلك أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية، فإذا قلت: أعتق رقبة مؤمنة فالقيد أعني» مؤمنة «تضيق دائرة المطلق و يخصّه بالمقيّد، و على هذا فالمطلق موضوع للا بشرط القسمي.

هذا هو المعروف قبل السيد سلطان العلماء) المتوفّى سنة 1064 ه (.

و لكنّه) قدس سره (أوّل من ردّ هذه النظرية و قال: بأنّ اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي هي دون أن يكون الإطلاق قيداً للمعنى فالمطلق عنده موضوع للا بشرط المقسمي، و قد أشار إلى ذلك في حاشيته على المعالم و نقله الشيخ في مطارحه بما هذا لفظه:

إنّه يمكن العمل بالمطلق و المقيد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيد و يبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق، فانّ مدلول المطلق» ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان «حتّى ينافي مدلول المقيد، بل هو أعمّ منه و مما يصلح للتقييد، بل المقيد في الواقع. أ لا ترى أنّه معروض للقيد كقولنا: رقبة مؤمنة، و إلاّ لزم حصول المقيد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت فظهر انّ مقتضى المطلق ليس ذلك و إلاّ لم يتخلّف فيه.(1)

و رتّب على ذلك أمرين:

1. تقييد المطلق لا يوجب المجازيّة.

ص:681


1- لاحظ مطارح الأنظار: 221; و لاحظ معالم الدين: 155، قسم التعليق طبعة عبد الرحيم.

2. انعقاد الإطلاق فرع تمامية مقدّمات الحكمة.

و قد أخذه المتأخرون بعد السلطان فقالوا بأنّ المطلق موضوع للاّبشرط المقسمي أي موضوع للماهية بما هي هي من دون أن يكون فيه قيد كالإطلاق، و ممن اختار هذا النظر المحقّق الخراساني فذهب إلى أنّ الوضع في أسماء الأجناس عام و الموضوع له عام و انّ الواضع لاحظ الماهية من حيث هي هي. و وضع اللفظ لها و قال ما هذا توضيحه: التي تفقد كلّ شيء إلاّ ذاته و ذاتياته فوضع اللفظ عليها و هي المعبر عنها باللابشرط المقسمي.

فإن قلت: إذا كان الموضوع هو الماهية الملحوظة بما هي هي التي ليست إلاّ هي، فيكون اللحاظ جزء المعنى و هو أمر ذهني، فيلزم عدم صحّة حمل الإنسان على أفراده.

قلت: إنّ اللحاظ ليس جزء المعنى الموضوع، بل هو عبارة عن نفس الماهية لكنّها بما انّها لا تقع في أُفق الذهن، ما لم يتنوّر بنور الوجود، فالواضع يتوسل باللحاظ، لأجل تصورها و إدخالها من أُفق التصوّر، ثمّ يضع اللفظ لنفس الملحوظ، لا بقيد اللحاظ.

و إن أردت التنزيل و التشبيه فلاحظ لازم الماهية، أعني: الزوجية بالنسبة إلى الأربعة، فانّ وجود الماهية في الخارج أو الذهن شرط لظهور الملازمة، لا لثبوتها فالزوجية أمر لا ينفك عن الأربعة في أي موطن من المواطن، لكن وجه اللزوم ليس دخيلاً في أصل الملازمة، بل دخيل في ظهورها و لو افترض انفكاك الأربعة عن الوجود مطلقاً، لكانت الزوجية معها.

و بذلك أبطلوا القول بأنّ الزوجية من قبيل لازم الوجودين لا من قبيل لازم الماهية، ببيان أنّها من قبيل لازم الماهية، غاية الأمر انّ ظهور الملازمة رهن تنوّر

ص:682

الماهية بالوجود لا بثبوتها.

و مثل المقام، فالموضوع هو ذات الماهية، لكن الطريق إلى تصورها عارية عن كلّ قيد، رهن لحاظها في الذهن على نحو يكون اللحاظ أمراً مغفولاً عنه، و غير المغفول، هو ذاتها من حيث هي هي.

الثاني: ما هو المراد من الكلّي الطبيعي؟

إنّ علماء المنطق قسّموا الكلّي إلى أقسام ثلاثة:

1. كلّي منطقي، و هو مفهوم لفظ» الكلّي «أي ما يصدق على كثيرين.

2. كلّي طبيعي، و هو مصداق الكلّي المنطقي كالإنسان.

3. كلّي عقلي و هو المجموع من الكلّي المنطقي و الطبيعي.

فعندئذ يقع السؤال في أنّ الكلّي الطبيعي هل هو نفس اللابشرط المقسمي، أو نفس اللابشرط القسمي؟ الظاهر من الحكيم السبزواري هو الأوّل، يقول:

و هو بكلّ طبيعي وُصف و كونه من كون قسميه كُشف أي نحن نستكشف من وجود القسمين: الماهية بشرط شيء و الماهية اللابشرط دليل واضح على وجود المقسم و هو اللابشرط المقسمي.

و على ذلك فالكلّي الطبيعي هو الماهية الملحوظة في الذهن بما هي هي، أي بذاتها و ذاتياتها دون لحاظ أي شيء معها حتّى هذا اللحاظ.

و ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المراد منه هو اللابشرط القسمي، و لا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي، و ذلك لأنّ الكلّي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو و الجامع بين جميع المتّفقة الحقيقة من الأفراد الخارجيّة

ص:683

الفعليّة و ما يفرض وجودها. و الماهيّة بشرط لا عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن كلّ خصوصيّة حتّى خصوصيّة وجوده الذّهني، و ليست الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة.

فلو كان الكلّي الطّبيعي هو اللاّبشرط المقسمي يلزم أن تكون الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة، لما عرفت من أنّ الكلّي الطّبيعيّ عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأفراد. و ليس الإنسان بشرط لا، مثلاً من أفراد حقيقة الإنسان حتّى يقال: انّ المقسم هي الحقيقة الجامعة، و أفرادها: الماهيّة بشرط لا، و بشرط شيء، و لا بشرط، فلا بدّ أن يكون الكلّي الطّبيعي هو اللاّبشرط القسمي الّذي يكون تمام حقيقة الأفراد الخارجيّة. و على كلّ حال: فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

يلاحظ عليه: الذي يمنع عن صدق الكلّي الطبيعي على الأفراد الخارجية هو القيد المأخوذ فيه، أعني:

كونه مجرّداً عن الوجود، و الماهية بهذا القيد يمتنع صدقها على الأفراد، و هذا لا يمنع أن تكون بنفسها و مجرّدة عن ذاك، صادقة عليها.

و الحاصل: أنّ القيد المأخوذ في بعض الأقسام يمنع المقسم عن الانطباق على الخارج، و هذا لا يمنع عن كون المقسم قابلاً له في حدّ ذاته، هذا واضح لا سترة عليه.

ثمّ إنّ المراد من الجامع ليس هو الجامع الخارجي، بداهة أنّ الشيء الخارجي بوصف الوجود يمتنع أن يكون جامعاً إذ الوجود، ملاك التشخّص و الوحدة، و الجامع على الطرف النقيض منهما. و المراد من اشتراك زيد و عمرو في الإنسانية هو الاشتراك في مفهوم الإنسان الصادق على كلّ واحد، لا الاشتراك في الإنسانية المشخَّصة.

ص:684

نظرنا في أسماء الأجناس

إنّ مختار المشهور) أسماء الأجناس موضوعة للماهية بما هي هي مجرّدة عن الوجود و العدم و عن عامة العوارض (لا يخلو عن إشكال، و يعلم ذلك مَن وقف على نشوء اللغات في المجتمع البشري.

إنّ وضع اللفظ للماهية بالنحو المذكور عمل الحكيم و الفيلسوف الذي يستطيع أن يتصوّر الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ثمّ يضع اللفظ بازائها، و الظاهر انّ الواضع في أكثر اللغات لم يكن إنساناً حكيماً عارفاً بتجريد الماهية عن الوجود و تصوّرها عن كلّ قيد، بل الظاهر أنّ أسماء الأجناس من يومها الأوّل وضع لفرد خارجي ثمّ إذا قابل الواضع بفرد هو نظيره، يطلقُ عليه ذلك اللفظ لما بينهما من المشابهة.

و هكذا يستمر الأمر حتّى يحصل له وضع ثانوي حسب كثرة الاستعمالات فينقل اللفظ من المعنى الأوّل إلى الجامع بين هذه المصاديق.

و إن كنت في شكّ من ذلك فلاحظ ألفاظ أرباب الاختراع كالسيارة و المذياع و التلفاز إلى غير ذلك، فانّ المخترع ينتخب لفظاً لما اخترعه فيكون الوضع خاصاً لكون الملحوظ خاصاً و يضع اللفظ لما اخترعه و يكون الموضوع له خاصاً أيضاً، لكن حسب تكرر الاستعمال في أشباه ما وضع له، يحصل الوضع التعيني للجامع بين الأفراد.

و بذلك تعرف انّ الموضوع له كالوضع كان خاصاً و لكن مرور الزمان و كثرة الاستعمال صار سبباً لنقله القهري من الموضوع له الخاص إلى الموضوع له العام.

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون الوضع خاصاً و الموضوع له عاماً من أوّل

ص:685

الأمر، و قد أثبتنا إمكانه في محلّه بمعنى أن يكون الملحوظ شيئاً معيّناً و لكن الموضوع له أمراً عاماً، مثلاً: يتصوّر المخترعُ المذياع الماثل أمامه و يضع تلك اللفظة لكلّ ما يماثله في الهيئة و الأثر، فيكون استعماله في غير الماثل أمامَه حقيقياً أيضاً.

اسم الجنس موضوع للماهية الموجودة

و هذه هي النظرية الثالثة في تصوير اسم الجنس و هي انّ الإنسان و الشجر و الغنم موضوع للماهية الموجودة من هذا النوع، لأنّ الغاية من الوضع هو إلفات ذهن المخاطب إلى ما يرفع حاجته و يسدّ خُلّته، و الماهية المجردة لا تسمن و لا تغني من جوع، فالذي يسدّ خُلَّة المخاطب هو الفرد الموجود من الماء و النار و غيرهما لا المفهوم منهما.

و الحاصل: أنّ الغاية من الوضع تُحدِّد الموضوعَ له و الغاية من الوضع في قسم من المحاورات هو احضار الأشياء التي ترفع الحاجة، فإذا قال: اسقني، فهو يطلب الماء الذي يرفع عطشه و ليس إلاّ الماء الموجود بوجوده السّعِيّ.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لو كان الوجود جزء الموضوع له يلزم انقلاب القضايا الممكنة إلى الضرورية، فإذا قلنا: الإنسان موجود، يكون معناه الإنسان الموجود موجود و يكون من قبيل الضرورة بشرط المحمول فمثله ليس موجوداً بالإمكان، بل موجود بالضرورة مع أنّا نرى أنّ جهة الحمل في هذه القضايا هي الإمكان لا غير.

فإن قلت: لا مناص في هذه القضايا من تجريد المبتدأ عن الوجود عند حمل الموجود عليه.

قلت: إنّ التجريد خلاف الوجدان أوّلاً و يلزم المجازية في ناحية الموضوع له، لأنّ اللفظ الموضوع للكلّ استعمل في الجزء و ذلك خلاف الوجدان.

ص:686

و ثانياً: أنّ ما ذكره من الغاية و إن كان صحيحاً و لكنّه لا يكون دليلاً على أخذ الوجود في الموضوع له، بل يكفي أن يكون الإيجاد غاية للأمر، فإذا قال: اسقني فهو قرينة على أنّ طلب السقي أو البعث إلى السقي لغاية تحصيله. فالبعث يتعلّق بالماهية المعرّاة عن الوجود لكن لغاية إيجاده، و قد مرّ الكلام فيه، في مبحث تعلّق الأحكام بالطبائع.

***

2. علم الجنس
اشارة

إنّ في لغة العرب أسماءً ترادف أسماء الأجناس مفهوماً و لكن يعامل معها معاملة المعرفة فتقع مبتدأ، و ذا حال و من المعلوم اشتراط التعريف فيهما.

فهذا كالثعلب و الثعالة، و الأسد و أُسامة، و العقرب و أُم عريط حيث إنّ الثاني يقع مبتدأ و يجيء منه الحال بخلاف الأوّل، و هذا ما دعاهم إلى تسمية هذا النوع من الألفاظ بعلم الجنس، و في الوقت نفسه عدّها من ألفاظ المطلق كاسم الجنس يقول ابن مالك في ألفيته:

و وضعوا لبعض الأجناس علم كاعلم الأشخاص لفظاً و هو عمّ

من ذاك أُم عريط للعقرب و هكذا ثعالة للثعلب

و مثله بَرّة للمبرّة كذا فجارُ علم للفجْرة(1)

و قد وقع الكلام في سبب عد علم الجنس معرفة و ما هو الفارق بين اسم الجنس و علمه حتّى يوصف الثاني بالمعرفة دون الأوّل، فهناك أقوال:

الأوّل: التعريف لفظي،

و هو خيرة الرضي في شرحه على الكافية، قال: إنّ

ص:687


1- شرح ابن عقيل: 1/111.

كون علم الجنس معرفة مثل كون الشمس مؤنثاً، فكما أنّ التأنيث ينقسم إلى حقيقي و مجازي، كذلك التعريف ينقسم إلى: حقيقي كالأعلام الشخصية، و مجازي كعلم الجنس، أي يعاملون معه معاملة المعرفة من صحّة وقوعه مبتدأ و ذا حال.(1)

توضيحه: أنّ لعلم الشخص حكمين: أحدهما معنوي، و الآخر لفظي، و الأوّل و هو انّه يطلق و يراد به واحد بعينه كزيد و أحمد، و الثاني صحّة مجيء الحال متأخرة عنه كما يقال جاءني زيد ضاحكاً.

و علم الجنس له الحكم الثاني فقط فهو نكرة و لكن يجيء منه الحال و يقال: هذا أُسامة مقبلاً، و لا تدخل عليه الألف و اللام فلا تقول هذه الأُسامة، و يقع مبتدأ يقال: أُسامة مقبل و ثعالة هارب، كما نقول: علي حاضر و خالد مسافر.

فكما أنّ التأنيث على قسمين فهكذا التعريف على قسمين، و هذا هو المفهوم من كتب الأدب.(2)

و لو اقتصر الأُصوليون في مقام التفريق بين اسم الجنس و علم الجنس على ما ذكره الأُدباء لكان أحسن غير أنّهم ذكروا في وجه تعريفه وجوهاً أُخرى نأتي بها تباعاً.

الثاني: أنّه موضوع للطبيعة المتعيّنة في الذهن

ربما يقال انّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني، و لذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف، و العجب انّ المحقّق

ص:688


1- شرح الكافية للاسترآبادي.
2- لاحظ شرح ابن عقيل الحمداني المصري (698 769 ه).

الخراساني نسب هذا إلى أهل العربية مع أنّ المختار عندهم هو الوجه السابق كما عرفت.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الموضوع له في اسم الجنس و علم الجنس أمر واحد و القول بأنّ الثاني موضوع للماهية المتعيّنة يستلزم عدم صدقه على الخارج، فلا يصحّ أن يقال هذا أُسامة، لأنّ المفروض انّ التعيّن جزء الموضوع و هو قائم بالذهن، فلا محيص في الحمل إلاّ عن التجريد، و هو أمر على خلاف الوجدان.

أضف إلى ذلك: أي فائدة في الوضع على الماهية المتعيّنة ثمّ تجريده عن التعيّن في عامة الاستعمالات، و معنى ذلك كون الوضع للمعنى المتعيّن أمراً لغواً.

الثالث: علم الجنس موضوع للطبيعة في حال التعيّن

إنّ الموضوع له هو الماهية في حال خاص و هو كون المعنى متصوّراً في الذهن لا على نحو المشروطة حتّى يرجع إلى كونه قيداً للمعنى، و لا على نحو المطلقة حتّى يكون الموضوع له عارياً عن كلّ قيد، بل الموضوع هو ذات الطبيعة لكن مقارناً بهذا الحال.

و إلى ذلك ينظر كلام صاحب المحاضرات و هو أنّ الإشكال إنّما يلزم إذا أخذ التعيين الذهني جزءاً أو شرطاً لا ما إذا أخذ على نحو المرآتية و المعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية و لا بنحو الشرطية.(1)

و الفرق بين هذين الوجهين جوهري، حيث إنّ الوجه الثاني مبنيّ على أساس قبول كون التعيّن جزءاً أو شرطاً لكن أخذ مرآة، بخلاف الوجه الثالث فإنّه

ص:689


1- المحاضرات: 5/355.

مبني على إلغاء أخذ القيد في الموضوع له، و انّه من حالاته شبيه القضية الحينية.

يلاحظ عليه: أنّ تلك الحالة إمّا أن تكون دخيلة في الموضوع له أو لا; فعلى الأوّل يعود الإشكال فلا ينطبق على الخارج، و على الثاني يتحد علم الجنس مع اسم الجنس معنى و ذاتاً.

و بالجملة الأمر دائر بين الدخل و عدمه، فعلى الأوّل يلزم عدم الانطباق، و على الثاني يعود عدم التفاوت.

الرابع: الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها

ذهب سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (إلى أنّ الماهية في حدّ ذاتها و في وعائها و تقررها الماهوي عارية عن كلّ شيء سوى ذاتها و ذاتياتها حتّى كونها نكرة فضلاً عن كونها معرفة و بالجملة الماهية في مرتبة ذاتها ليست إلاّ هي ليس فيها شيء من التعريف و التنكير و إلاّ يمتنع أن تتصف بخلافه فاسم الجنس موضوع لهذا المعنى بما هو هو.

و بما انّ الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها و متميزة عن سائر المعاني بجوهرها، و بعبارة أُخرى:

يعرضها التعيّن في مقابل اللاتعيّن و يعرضها التميز من عند نفسها بين المفاهيم فيوضع عليه اسم الجنس.

و لا يرد عليه ما أُورد على الوجه الثاني و الثالث، لأنّ التعيّن فيهما عرضيّ، بخلافه في هذا الوجه، لأنّ التعيّن نابع عن ذات الشيء، لاحظه أحد أو لا.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح و لكن أنّى للواضع هذا الإدراك المخصوص بالحكيم.

***

ص:690


1- تهذيب الأُصول: 1/530.
3. المعرف باللام
اشارة

ينقسم اللفظ إلى معرب و مبنيّ، و المعرب ما يختلف آخره باختلاف العوامل و لا يستعمل إلاّ بالتنوين أو اللام أو الإضافة.

ثمّ اللام ينقسم إلى: لام الجنس، و لام الاستغراق، و لام العهد.

و لام الاستغراق ينقسم إلى: استغراق الأفراد، و استغراق خصائصها.

و لام العهد ينقسم إلى: عهد ذهني، أو ذكري، أو حضوري; فتكون الأقسام ستة:

1. المُحلّى بلام الجنس: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1)و قولهم: التمرة خير من جرادة.

2. المُحلّى بلام استغراق الأفراد، مثل قولهم: جمع الأمير الصاغة.

3. المُحلّى بلام استغراق خصائص الأفراد، مثل قولهم: زيد الشجاع.

4. المُحلى بلام العهد الذهني: كقولهم:

لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمررتُ ثمة قلت لا يعنيني

و المعروف أنّه بمنزلة النكرة، و الفرق بينهما انّ القصد في الأوّل إلى نفس الطبيعة من حيث هي هي، و في الثاني إلى الطبيعة من حيث وجودها في فرد، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ).(2)

5. المحلى بالعهد الذكري كقوله سبحانه: (إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).(3)

ص:691


1- العصر: 2.
2- يس: 20.
3- المزمل: 1615.

6. المحلّى بلام العهد الحضوري، مثل قول الصادق) عليه السلام (:» عليك بهذا الجالس «، مشيراً إلى زرارة بن أعين.(1)

و على القول بأنّ اللام للتعريف، فما هو الدالّ على هذه الخصوصيات؟ فهناك احتمالات:

1. الدالّ عليها هو اللام.

2. الدالّ عليها هو المدخول.

3. الدالّ عليها هو المجموع منهما.

4. الدالّ عليها هو القرائن.

و الأخير هو المتعيّن، يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة المتقدّمة مثلاً استفادة العهد الذكري لأجل تقدّم قوله: (رَسُولاً ) كما أنّ استفادة العهد الحضوري لأجل قوله (عَلَيْكُمْ )، كما أنّ استفادة استغراق الأفراد في قوله:» جمع الأمير الصاغة «لأجل كون الجامع هو الأمير و هو لا يكتفي بصائغ دون صائغ في ضرب الدرهم و الدينار.

إنّما المهم في بيان ما وضع له «اللام»
اشارة

في هذه الموارد فهناك أقوال:

1. اللام وضع لتعريف المدخول.

2. اللام للزينة كما في الحسن و الحسين.

3. التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي.

4. اللام للإشارة إلى الموضوع و هو المختار.

ص:692


1- الوسائل: 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.
أ. اللام للتعريف

المعروف أنّ اللام وضعت لتعريف المدخول قال ابن مالك:

ال حرف تعريف أم اللام فقط فنمط عرّفتَ قل فيه النمط

و أورد عليه المحقّق الخراساني بالبيان التالي:

1. لا تعيّن في تعريف الجنس إلاّ الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً و لازمه أن لا يصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد لامتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّ بالتجريد. و مع التجريد لا فائدة في التقييد مع أنّ التأويل و التصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.

هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه، بل لا بدّ من التجريد عنه و إلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه، كان لغواً.

و حاصل كلامه يرجع إلى أمرين:

الأوّل: انّ كون اللام للتعريف يستلزم كون اللحاظ في الذهن جزء الموضوع أو المحمول و معه لا ينطبق على الخارج.

الثاني: انّ التخلص من الإشكال بالتجريد حين العمل ينتهي إلى لغوية الوضع للتعريف، لأنّ الغاية من الوضع هو استعمال اللفظ في الموضوع له و المفروض انّه لا يستعمل فيه إلاّ بالتجريد.

يلاحظ عليه: بأنّ المراد من التعريف هو الإشارة إلى المدخول كما هو القول الرابع، و سيوافيك انّ القول بدلالة اللام إلى الإشارة خال عن الإشكالين المذكورين، فانتظر.

ص:693

ب. اللام للتزيين

ذهب المحقّق الخراساني بعد إبطال كون اللام للتعريف إلى أنّه للتزيين مطلقاً، كما في لفظي الحسن و الحسين و استفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيّنها على كلّ حال.

يلاحظ عليه: أنّ لام التزيين يختص بالأعلام المنقولة من الوصف إلى العلمية، و الهدف من اللام الإشارة إلى كونه منقولاً كلفظي الحسن و الحسين لا مطلقاً.

يقول ابن مالك:

و بعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نُقلا

ج. التعريف لفظي

ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي، فكما أنّ المؤنث حقيقي و مجازي فهكذا المعرف حقيقي كزيد و مجازي كمدخول اللام.

يلاحظ عليه: أنّه ادّعاء بلا دليل، بل مع قيام الدليل على خلافه، فإنّ اللام في العهد الذكري أو الحضوري للتعريف قطعاً، فكيف يقول التعريف لفظي لا حقيقي؟!

د. اللام للإشارة

أظن انّ مرادهم من التعريف و التعيين باللام هو كون اللام إشارة إلى المعنى المراد من المدخول، فإن كان جنساً فهي إشارة إلى ذات الطبيعة، مثل: الرجل خير من المرأة، فإن كان جمعاً فهو إشارة إلى مدلوله الجمعي، مثل قوله:

ص:694

» أكرم العلماء «، و إن كان فرداً فهو إشارة إلى ذاك الفرد، مثل (إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ).(1)

و هذا خيرة صاحب القوانين حيث قال: اللام للإشارة إلى شيء يتّصف بمدخولها، و اختاره أيضاً صاحب الفصول عند بيان الفرق بين علم الجنس و المحلّى باللام كالأسد بأنّ الثاني يتضمن الإشارة إلى الماهية.

فإن قلت: إذا كان اللام موضوعاً للإشارة يرد عليهما ما ذكره المحقّق الخراساني، و هو إذا كان اللام موضوعاً للإشارة إلى المعنى فمع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلة، و قد عرفت إخلالها.(2)

و حاصل ما ذكره يرجع إلى أمرين:

1. إذا كانت الخصوصيات مفهومة من القرائن فلا حاجة للإشارة إليها باللام ثانياً.

2. لو كانت الإشارة مأخوذة في الموضوع له لم ينطبق على الخارج.

يلاحظ على الأوّل: أنّه إنّما يلزم التكرار إذا كان اللام إشارة إلى عامة الخصوصيات، بل هو إشارة إلى معنى المدخول، و أمّا سائر الخصوصيات من الجنسية و العهدية فإنّما تستفاد من القرائن.

و يلاحظ على الثاني: بأنّ كون اللام للإشارة بمعنى أنّه وضع لواقع الإشارة لا لمفهوم الإشارة، و واقع الإشارة أمر خارجي و هو ليس أمراً ذهنياً نظير لفظة» هذا «في» هذا إنسان «.

ص:695


1- المزمل: 1615.
2- الكفاية: 1/381.

و الحاصل: انّ اللام إشارة إلى واقع المدلول و حقيقته التي لها واقعية خارجية.

فظهر أنّ المراد من قولهم: اللام للتعريف، أي الإشارة إلى المدلول بما هو مدلول.

الجمع المحلّى باللام

لا شكّ أنّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم و عدّه من ألفاظ الإطلاق خلط بين العموم و المطلق.

ثمّ ربّما يستدلّ على أنّ اللام موضوعة للدلالة على التعيّن، باستفادة العموم من الجمع المحلّى باللام.

وجه الدلالة: أنّ المرتبة المستغرقة للمراتب متعيّنة من بين جميع المراتب، فلو كانت اللام موضوعة للإشارة، و هي تلازم تعيّن المشار إليه، تصحّ استفادة العموم منه، و إلاّ فليس هنا دالّ على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا دلالة فيها على أنّ استفادة العموم لأجل دلالة اللام على التعيّن، و ذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى و هي أقلّ مراتب الجمع. فلا بدّ أن تكون دلالته على الاستغراق مستندة إلى وضع المجموع) الجمع مع اللام (للاستغراق لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين.

ص:696

يلاحظ عليه: بأنّ المتعيّن هو المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد، و أمّا أقلّ المراتب فهو و إن كان معيّناً مفهوماً لكنّه غير معيّن مصداقاً، لتردّده بين هذا الأقل، و ذاك الأقل، و ذلك الأقل، فالمتعيّن هو الاستغراق و اللام إشارة إلى هذا المعيّن.

***

4. النكرة

إنّ مقوم النكرة هو التنوين الواقع في آخره، سواء أخبر عنه كما في قوله: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى )، أو وقع تحت دائرة الانشاء كما إذا قال: جئني برجل، فقد اختلف في مفهوم النكرة على أقوال:

1. انّه موضوع للفرد المردد بين عدّة أفراد.

2. انّه موضوع للفرد المنتشر.

3. انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة.

أمّا الأوّل، فغير صحيح، لأنّ الفرد المردّد غير قابل للامتثال، إذ الامتثال يتحقّق بالفرد المشخّص لا بالفرد المردد.

و أمّا الثاني، أعني: الفرد المنتشر فليس له مفهوم صحيح إلاّ أن يرجع إلى القول الثالث و هو انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة و هو قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

و الحاصل: انّ المدخول بدون اللام يدلّ على الطبيعة، و مع التنوين يدلّ على الوحدة.

ثمّ الظاهر أنّ النكرة لا يخرج عن الكلية حتّى فيما إذا وقع تحت الإخبار، مثل قوله سبحانه: (وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ).

فإن قلت: كيف لا يخرج عن الكلية و هو متعيّن في الواقع؟ قلت: إنّ الجواب بوجهين:

1. انّ التعيّن مستفاد من نسبة الفعل إليه لا من نفس الكلمة، فالكلمة مستعملة في الفرد غير المعيّن.

ص:697

2. إن أُريد من التعيّن هو التعيّن في عالم الثبوت فلا نزاع فيه، لكنّه ليس محوراً للوصف بالكلية و الجزئية.

و إن أراد عالم الإثبات و مقام الدلالة فهو كلّي قابل للانطباق.

مثلاً قولنا: مررت برجل قد سلم عليّ أمس قبل كلّ أحد، فهو حسب الواقع متعيّن، و لكنّه حسب الإثبات أمر كلّي قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (ذهب إلى أنّه جزئي في كلا الموردين.

قال: إنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد و انّه في كليهما جزئي حقيقي.

بيانه: انّه لا إشكال في أنّ الجزئية و الكلية من صفات المعقول في الذهن و هو ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي و إلاّ فكليّ، و جزئية المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره بتمام تشخصاته الواقعية، و لذا لو رأى الإنسان شبحاً من بعيد و تردد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية و كون أحد الأشياء ثابتاً في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن فإذا كانت هذه الصورة جزئيّة كما في القضية الأُولى فكذلك الصورة المتصورة في القضية الثانية إذ لا فرق بينهما إلاّ انّ التعيين في الأوّل واقعي و في الثانية بيد المكلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين كون الصورة الذهنية بما انّها موجودة في الذهن و الوجود عين التشخّص، و بين كونه مفهوماً قابلاً للانطباق على كثيرين، و الجزئية

ص:698


1- درر الفوائد: 1/200.

بالمعنى الأوّل، لا ينافي الكلّية بالمعنى الثاني و إلاّ فلا يوجد مصداق للكلّي، لأنّه بما هو موجود ذهني متشخص جزئي.

و امّا الشبح المردّد بين آحاد في الخارج فهو جزئي حقيقي و كونه كلّياً أمر وهمي، لا واقعي بخلاف الصورة الذهنية في» رجل «.

إكمال لو قلنا بأنّ المطلق هو الشائع في جنسه و الساري في أفراده أو المفيد بالإطلاق على نحو لا بشرط القسمي، فتخرج الألفاظ التالية عن تعريف المطلق.

1. اسم الجنس الموضوع للماهية بما هي هي.

2. علم الجنس الموضوع للماهية بما هي متعيّنة.

3. النكرة الدالّة على الطبيعة بقيد الوحدة.

فلم يبق ما يعد من ألفاظ المطلق إلاّ المحلّى بلام الاستغراق.

و لأجل ذلك تردّد المحقّق الخراساني في صدق النسبة أي أنّ المطلق عند المشهور هو ما قيّد بالإرسال و الشمول البدلي، لاستلزامه خروج ما أُريد منه الجنس أو الحصّة) النكرة (و علم الجنس، و لكن لا وجه للشكّ في صحّة النسبة، و قد عرفت ما هو المعروف عند مشهور الأُصوليّين.

ص:699

الفصل الثاني تقييد المطلق لا يستلزم المجازية

قد عرفت أنّ المطلق عند المشهور هو ما دلّ على الشياع و السريان و الإطلاق على نحو اللابشرط القسمي، و كأنّ المطلق عندهم من أقسام اللابشرط القسمي.

و قد أثار هذا التفسير رد فعل في الأوساط العلمية، و ممن قام بوجه هذا التفسير هو المحقّق سلطان العلماء حيث رد دلالة المطلق على السريان و الشيوع، و قال في كلمته التي تقدّمت:» ليست صحة العمل بكلّ فرد مدلولاً لفظياً للمطلق، بل مدلول المطلق أعمّ من ذلك «، و إلاّ فلو قلنا بدلالته على السريان يترتّب عليه أُمور ثلاثة:

الأوّل: يلزم كون تقييد المطلق مجازاً، لأنّ القيد ينافي مدلول المطلق.

الثاني: يلزم أن لا يكون اسم الجنس و علم الجنس و النكرة من مصاديق المطلق.

الثالث: يلزم الخلط بين المطلق و العام، إذ لو كان الشيوع مدلولاً لفظياً للمطلق لم يبق فرق بين المطلق و العام.

ثمّ إنّ بعض هذه المضاعفات دفع سلطان العلماء إلى القول بأنّ المطلق موضوع للماهية المبهمة التي لا تجد إلاّ نفسها و ذاتها و ذاتياتها و ليس في مدلولها أي

ص:700

شيوع و سريان، و عندئذ ترتفع المضاعفات الثلاث.

1. لا تلزم المجازية من تقييد المطلق.

2. و لا يلزم خروج اسم الجنس و علم الجنس و النكرة من مصاديق المطلق.

3. لا يلزم عدم الفرق بين المطلق و العام، فإنّ الشمول مدلول لفظي للعام بخلاف المطلق فانّ الشيوع فيه مستفاد من العقل ببركة مقدّمات الحكمة.

و ليعلم أنّ سلطان العلماء و إن أوجد ثورة عارمة في باب المطلق حيث نفى دلالة المطلق على السريان و الشيوع بالدلالة اللفظية، لكنّه التزم به عقلاً و زعم أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هو سريان الحكم إلى كلّ واحد واحد من أفراده، فالدلالة على إجزاء كلّ فرد دلالة لفظية عند القدماء و عقلية عند سلطان العلماء.

هذا هو المستفاد من كلمات القوم لا سيّما سلطان العلماء.

أقول: نلفت نظر القارئ إلى أمرين:

1. إنّ تقييد المطلق لا يستلزم المجازية حتّى على القول بدلالة المطلق على الشيوع دلالة لفظية، و ذلك لأنّ المطلق بهذا المعنى يكون من أقسام العام، و قد تقدّم أنّ العام بعد التخصيص حقيقة لا مجاز، و أوضحنا هناك ما هذا خلاصته:

انّ المتكلّم يستعمل العام في المعنى الموضوع له بالدلالة الاستعمالية فإن كانت الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية سكت عن التخصيص و التقييد، و إن كانت مخالفة لها يُخرج ما لم تتعلّق به الإرادة الجديّة بالتخصيص و التقييد فيقول: أكرم العلماء العدول، أو اعتق رقبة مؤمنة، فالتخصيص و التقييد لا يوجبان استعمالهما في غير ما وضع له و لا يوجدان ضيقاً في المعنى المستعمل فيه و إنّما يحدثان ضيقاً في متعلّق الإرادة الجديّة، و مناط الحقيقة و المجاز هو الإرادة الاستعمالية و المفروض انّ اللفظ حسب تلك الإرادة مستعمل في المعنى

ص:701

الشائع.

هذا من غير فرق بين العام، كما إذا قال: أكرم العلماء العدول; أو المطلق أعتق رقبة مؤمنة، فلا يلزم من القول بكون المطلق موضوعاً للسريان و الشيوع كون التقييد مجازاً.

نعم لو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشيوع يبقى الإشكالان الآخران على حالهما و هما خروج اسم الجنس و علم الجنس و النكرة عن تعريف المطلق أوّلاً، و الخلط بين العام و المطلق ثانياً.

و ما ذهب إليه سلطان العلماء من عدم دلالة المطلق على السريان و إن كان حقاً لكن ما توهم من استلزام نقيضه مجازية المطلق ليس في محله.

2. انّ سلطان العلماء و إن أتى بقول بديع في باب المطلق و لكنّه شارك القوم في استفادة الشيوع و السريان من المطلق بالدلالة العقلية، و انّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي الشيوع و السريان، و لكنّه غير صحيح; إذ غاية ما تثبته مقدّمات الحكمة كون ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع، سواء أمكن فيه الشيوع كما في قول: اعتق رقبة، أو لم يمكن كما إذا قال: أكرم زيداً.

فكان على سلطان العلماء أن ينكر السريان و الشيوع في الدلالة الإطلاقية مطلقاً، سواء أ كان مستفاداً من اللفظ أم العقل، و أمّا على المختار فالحديث عن الشيوع و السريان باطل من رأسه، و أمّا لزوم جريان مقدّمات الحكمة فهو و إن كان صحيحاً لكنّه لا لغاية إثبات الشيوع، بل لغاية كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع كما سيوافيك في الفصل التالي.

ص:702

الفصل الثالث مقدّمات الحكمة

اشارة

قد عرفت أنّ التمسّك بالإطلاق فرع جريان مقدّمات الحكمة، إمّا لغاية إثبات الشيوع و السريان في الموضوع، أو لغاية إثبات أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع فلا محيص عنه.

إنّما الكلام في تبيين ما هي مقدّمات الحكمة.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّها مؤلّفة من مقدّمات ثلاث:

1. كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.

2. انتفاء ما يوجب التعيين) القرينة (.

3. انتفاء القدر المخاطب في مقام التخاطب.

و ربما يُزاد عليها عدم وجود الانصراف إلى صنف و هو ليس بمقدّمة رابعة، لأنّه داخل في المقدّمة الثانية، أي انتفاء ما يوجب التعيين.

و اقتصر المحقّق النائيني على الأوليين.

ثمّ إنّ بعض المقدّمات مقوّم للإطلاق على نحو لولاه لما انعقد الإطلاق و بعضها الآخر شرط للتمسّك به.

فمن القسم الأوّل» تمكّن المولى من البيان «، فخرج القيد الذي لا يتمكن

ص:703

المولى من بيانه كقصد الأمر على القول بامتناع أخذه في المتعلق كما عليه الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني على ما مرّ في مبحث التوصلي و التعبدي و إن كان المختار عندنا خلافه.

و مثله عدم القرينة فإنّ وجود القرينة يمنع من انعقاد الإطلاق، و أمّا القسم الثاني، أي كونه شرطاً للتمسّك ككونه في مقام البيان أو عدم القدر المتيقّن على القول بشرطيته، فعلى الباحث أن يميز المقوّم عمّا هو شرط للتمسّك، فلنرجع إلى توضيح المقدّمات الثلاث:

المقدّمة الأُولى: إحراز كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو دخيل في متعلّق حكمه بحيث يكون الإخلال ببيان الأجزاء و الشرائط منافياً للحكمة لافتراض انّه في مقام بيان تمام ما هو الموضوع للحكم.
اشارة

توضيحه: انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل المقصود لا في مقام بيان خصوصياته، فلنفرض طبيباً رأى صديقه في الشارع فانتقل من صفرة وجهه إلى انّه مريض و بحاجة إلى تناول الدواء، فيقول له:

لا بدّ لك من تعاطي الدواء، ففي هذا المقام لا يصحّ للمريض التمسّك بإطلاق كلام الطبيب و يتناول كلّ دواء وقع بين يديه، و قد يكون في مقام بيان خصوصيات المقصود، كما إذا دخل المريض المذكور إلى عيادة الطبيب، فأجرى الطبيب عليه الفحوصات اللازمة و بعد ذلك كتب له و صفة، ففي هذا المقام يصحّ التمسّك بإطلاق ما كتب.

نعم انّ كثيراً من المشايخ يتمسّكون في نفي بعض الاجزاء و الشرائط للبيع بقوله سبحانه: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) (1)و لكن التأمل في سياق الآية يثبت انّها ليست في مقام بيان شرائط أجزاء البيع و شرائطه، بل هو في مقام بيان

ص:704


1- البقرة: 275.

ردّ التسوية التي كان المشركون يتبنونها. و كانوا يقولون: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) و يسوّون بين البيع و الربا، بل كانوا يجعلون الربا أصلاً و البيع فرعاً، و لذلك شبهوا البيع بالربا، فردّ اللّه سبحانه هذه التسوية و قال: (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ) فالتسوية غير صحيحة، فالآية عند الإمعان ليست في مقام بيان أجزاء البيع و شرائطه، فلو شككنا في شرطية العربية للصيغة لا يصحّ لنا التمسّك بإطلاقها، بل الآية في مقام نفي التسوية و أمّا انّ للبيع شرائط أو لا فالآية ساكتة عنه.

ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري أنكر هذه المقدّمة، و قال:

إنّ المهملة مردّدة بين المطلق و المقيّد و لا ثالث، و لا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة بالمقيّد أصالة و إنّما تُنسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد، مع أنّ ظاهر قولنا:» جئني برجل «انّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة، لا انّ المراد هو المقيّد و إنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد، و مع تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد و هذا معنى الإطلاق.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه إذا كان المتكلّم في مقام بيان ما هو دخيل في موضوع الحكم يصحّ لنا الأخذ بهذا الظهور دون ما إذا كان في مقام الإهمال و الإجمال فلا يصحّ أن يؤخذ بهذا الظهور، مثلاً إذا قال: الغنم حلال، و الكلب حرام، فهل يمكن لنا الأخذ بإطلاق القضية الأُولى و الحكم بأنّ الغنم الموطوء أو الجلاّل حلال كلا و لا. و ما ذلك إلاّ لأنّ الظهور عندئذ بدوي يزول بالتأمل إذا أحرزنا انّ المتكلّم في مقام الإجمال و الاهمال.

و الحاصل: أنّ قوله:» انّ ظاهر قولنا: جئني برجل، إنّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة لا انّ المراد هو المقيّد و إنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان

ص:705


1- درر الأُصول: 1/102.

الاتحاد «ظهور بدوي غير مستقر إذا أحرز انّ المتكلّم في مقام الاهمال، إذ يكون الإهمال في البيان مبرراً لنسبة الحكم إلى المطلق مع كونه للمقيد، كما إذا قال: الغنم حلال مع أنّ الحلال هو الغنم غير الموطوء و غير الجلال. و بالجملة لا محيص عن الأخذ بهذه المقدّمة.

كون المتكلّم في مقام البيان لجهة دون جهة

قد يكون المتكلّم في مقام بيان جهة دون جهة، فلا يصحّ الإطلاق إلاّ في الجهة التي صار بصدد بيانها.

فإذا قال سبحانه: (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ )(1)، تكون الآية ظاهرة في بيان انّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكى إذا ذكر اسم اللّه عليه و ليس بميتة، فهي في المقام بيان حلية أكْلِ ما يصيد الصيود مطلقاً و إن مات قبل دركه، لأنّ إمساكه تذكية للصيد، و لكن لا يصحّ التمسّك بإطلاقها من جهة ريق فم الكلب حتّى يحكم بطهارته من خلال جواز أكله، فما نقل عن شيخ الطائفة في طهارة موضع العض أخذاً بإطلاق الآية موضع تأمّل.

ما هو الأصل في كلام المتكلّم؟

إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال و الإجمال، فالأصل العقلائي المعتمد عليه بين العقلاء كونه في مقام البيان لا الإجمال و الإهمال، و ذلك لأنّ الأصل حمل كلّ فعل صادر من الإنسان على غايته الطبيعية. و التكلّم بما انّه من فعل الإنسان يحمل على غايته الطبيعية و هي الإفادة و بيان المقصود لا

ص:706


1- المائدة: 4.

الإجمال و الإهمال.

و بالجملة: هنا أُمور ثلاثة يطلب كلّ غايته الطبيعية:

1. التكلّم بما هو فعل صادر من الفاعل العاقل يطلب غاية عقلائية.

2. التكلّم بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار يطلب غاية اختيارية.

3. التكلّم بما أنّه فعل خاص يطلب غاية مناسبة لسنخ الفعل.

و الغاية المتناسبة لفعل التكلّم بما هو هو، إفهام المراد الجدي في مقام التخاطب لا إفهام بعضه دون بعض فيحمل على أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد.

و على ضوء ذلك فلو عثرنا على المقيد يعد معارضاً للمطلق كما هو الحال في المحاورات الشخصية.

نعم في المحاورات التي تدور حول التقنين و التشريع يؤخذ بكلا الدليلين لجريان السيرة على فصل الخاص عن العام و المقيد عن المطلق.

العثور على القيد لا يبطل الإطلاق

العثور على القيد على قسمين:

تارة يعثر الإنسان على القيد في المحاورات العرفية فيستدلّ به على حصول البداء له، فأعرض عن المطلق إلى جانب المقيد.

و أُخرى في كلام المقنّن و المشرّع من غير فرق بين العرفي و الإلهي، فالعثور على القيد يكشف عن كون الإطلاق حكماً قانونياً لأجل ضرب القاعدة، و لذلك يجب على المكلّف أن لا يحكم بكون المطلق تمام المراد إلاّ بعد الفحص عن القيد و اليأس منه، و أمّا بعده فيحكم به من غير فرق بين مقنن و مقنن، لوجود الأصل العقلائي و هو تطابق الإرادتين في جميع الموارد إلاّ ما قام الدليل على خلافه.

ص:707

المقدّمة الثانية: انتفاء القرينة

هذه هي المقدّمة الثانية، و ربّما يعبّر عنها بانتفاء ما يوجب التعيين. و على أيّ تقدير فالقرينة المتّصلة تمنع عن انعقاد الإطلاق، و المنفصلة تمنع عن حجّيته، بعد انعقاده، و هذا نظير المخصِّص المتّصل و المنفصل للعام، فالأوّل منهما يمنع عن انعقاد العموم، و الثاني يمنع عن حجّيته كما مرّ تفصيله في مبحث العام و الخاص.

و أمّا عدم الانصراف إلى فرد أو صنف فهو داخل تحت هذه المقدّمة، و ذلك لأنّ الانصراف ينقسم إلى بَدئيّ، و غير بَدئيّ.

أمّا الأوّل: فهو الذي يزول بالتأمّل كالقول بأنّ الأكل و الشرب من المفطِّرات فهو ينصرف في بدء الأمر إلى ما هو المأكول و المشروب عادة، و لكنّه بَدئيّ يزول بالتأمّل، بل المبطل مطلق الأكل و الشرب و إن كان غير متعارف كأكل ورق الشجر و شرب بول ما يؤكل لحمه، فهو لا يمنع عن حجّية الإطلاق، فضلاً عن انعقاده، إذ لا يصحّ أن يُعتمد على مثل ذلك الانصراف البدئي المتزلزل غير المستقرّ.

و أمّا الثاني: أي غير البدئيّ فهو على قسمين:

تارة يكون الانصراف على حدّ يوجب مهجورية المعنى الأوّل) المطلق (و متروكيته، و أُخرى لا يكون على هذا الحدّ.

أمّا الأوّل، فيمنع عن انعقاد الإطلاق كما هو الحال في ألفاظ الصلاة و الزكاة و الحجّ في عصر الصادقين عليهما السَّلام.

و أمّا الثاني، فيكون من قبيل القرينة المنفصلة فهو يمنع عن حجّية الإطلاق لا عن انعقاده، و هذا كلفظ » حرام الأكل «فانّه و إن كان يشمل الإنسان لغة،

ص:708

لكنّه منصرف إلى خصوص الحيوان، فإذا قيل الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره، و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد.(1) فهو ينصرف إلى الحيوان المصطلح لا إلى الحيوان اللغوي الذي يشمل الإنسان أيضاً.

المقدّمة الثالثة: انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب

و قد عدّ انتفاء القدر المتيقّن من مقدمات الحكمة، و استدلّ المحقّق الخراساني على لزوم انتفائه بأنّه لو كان المتيقّن تمام مراده فان الفرض انّه بصدد بيان تمامه و قد بيّنه لا بصدد بيان انّه تمامه كي أخلّ ببيانه.

توضيحه: أنّه لو كان الفرد المتيقّن تمامَ مراده، لم يلزم إخلال بالغرض، لأنّه بيّنه بواسطة كونه متيقناً، و لو كان مراده الأعم منه و من الفرد المشكوك فقد أخلّ بغرضه حيث لا بيان له، و إنّما البيان للفرد المتيقّن.

و بعبارة أُخرى: أنّه قد بيّن تمام المراد بالحمل الشائع، و إن لم يبيّنه بوصف انّه تمام المراد و إنّما يتعلّق الغرض بالأوّل و قد بيّنه و لا يتعلّق بالثاني فلا يضرّ عدم بيان وصفه بأنّه تمام المراد.

يلاحظ عليه: أوّلاً: ما ذا يراد من القدر المتيقّن الذي يُعد وجوده مانعاً عن التمسّك بالإطلاق، فإن أُريد به انصراف المطلق إليه عند الإطلاق في ذهن المخاطب فلا كلام في أنّه مانع عن التمسّك به، إذ هو يُصبح كالقرينة المنفصلة المانعة من حجيّة الإطلاق، الوارد في الكلام.

و إن أُريد به غير صورة الانصراف، فلا يضرّ بالإطلاق لا انعقاداً و لا تمسّكاً، لأنّ المانع هو بيان تمام المقصود مع التفات المكلّف إلى أنّه بيّن تمام المراد،

ص:709


1- الوسائل: الجزء 4، الباب 2 من أبواب لباس المصلي.

إذ عندئذ يصدق بأنّه لم يخل بغرضه، و أمّا بيان تمام المراد من دون وقوف المخاطب على أنّ المتكلّم بيّن تمام المراد، بل احتمل أنّ تمامه هو الجامع بين المورد المتيقّن و المشكوك، ففي مثله يصدق أنّه أخلّ ببيان تمام المراد عند المخاطب، لأنّ المدار في صدق عدم الإخلال و الإخلال، هو التفات المخاطب بأنّه بيّن تمام المراد، و عدم التفاته، لا بيانه واقعاً و إن لم يلتفت إليه المخاطب، فلو اعتمد في مقام بيان المراد، على وجود القدر المتيقّن في ذهن المخاطب حين الخطاب، مع وجود الشكّ في ذهن المخاطب في أنّه تمامه أو بعضه، فقد أخلّ بالغرض، إذ لم يصدر منه بيان، يوقف المخاطب على أنّه تمام المراد فقط، بل صار متحيّراً في أنّه تمام المقصود أو بعضه، فلا يصحّ في منطق العقل الاكتفاء بهذا البيان الذي لم يلتفت إليه المخاطب.

و لذلك ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري إلى عدم اعتبار هذه المقدّمة و قال: إنّ اللازم أن يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفاً عن تمام مراده، و هذا ملازم لصحّة حكم المخاطب أنّ هذا تمام مراده، و المفروض عدم صحّة حكم المخاطب بكون القدر المتيقّن تمام مراده، فيقال: لو كان مراده مقصوراً على المتيقّن لبيّنه لكونه في مقام البيان.(1)

و ثانياً: إذا كان القدر المتيقّن في زمان التخاطب مانعاً عن انعقاد الإطلاق بحجّة أنّ المولى بيّن اعتماداً عليه تمام المراد و إن لم يصرّح بأنّه تمامه. فليكن كذلك إذا كان هناك قدر متيقّن و لو بعد التأمّل خارج التخاطب فإنّه أيضاً ممّا يمكن أن يقال إنّ المولى بيّن المراد اعتماداً على تلك القرينة المنفصلة و إن لم يصرّح بأنّه تمام المراد، فإذا قال: أكرم العلماء فالقدر المتيقّن هو العالم الهاشمي

ص:710


1- درر الأُصول: 2031/202.

التقي، بعد التأمّل خارج الخطاب كما أنّ المتيقّن في قوله: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )، هو البيع المنشأ بالصيغة العربية الماضية التي يتقدّم الإيجاب فيها على القبول بلا تعليق، مع أنّ مانعية ذلك القدر المتيقّن بمعزل من الكلام، و إلاّ لما صحّ التمسّك في مورد بإطلاق الكتاب و السنّة، إذ ما من إطلاق إلاّ و له قدر متيقّن، إذا تأمّل فيه المخاطب خارج مجلس التخاطب.

و لذا اشتهر بأنّ المورد غير مخصّص لا في الآيات و لا في الروايات.

ص:711

الفصل الرابع في حمل المطلق على المقيّد

اشارة

إنّ هذا الفصل هو بيت القصيد في المقصد الخامس و يعدّ كالنتيجة لما سبق من المباحث، و لنقدّم أُموراً:

الأوّل: إنّ محطّ الكلام في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان القيد منفصلاً عن المطلق، و أمّا إذا كان متّصلاً به فهو خارج عن محلّ البحث، لما عرفت من أنّ وجود القيد المتصل يلازم عدم انعقاد الإطلاق فلا يكون هنا إطلاق حتّى يحمل على المقيّد، بخلاف القيد المنفصل، إذ الإطلاق ينعقد عند وجود مقدّمات الحكمة و يكون المقيّد مزاحماً لحجيّة الإطلاق لكون ظهوره في مدخلية القيد في المطلوب أقوى من ظهور المطلق.

الثاني: انّ تقدّم ظهور القرينة على ظهور ذيها أشبه بالورود، لما عرفت من أنّ الإطلاق ليس من المداليل اللفظية، بل من المداليل العقليّة، يُعتمد فيها على كون المتكلّم حكيماً غير مناقض لمراده، فلو أمر بالمطلق، كشف عن كونه تمام الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية، هذا من جانب، و من جانب آخر، الأصل تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية، و من المعلوم أنّ هذا الأصل حجّة إذا لم يكن دليل على المخالفة، فإذا ورد المقيّد كشف عن عدم التطابق في هذا المورد الخاص

ص:712

فيرتفع موضوع الأصل، و إن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان كما مرّ، و هذا أشبه بتقدّم الدليل الاجتهاديّ على الدليل الفقاهي، نظير تقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي كالبراءة.

نعم يظهر من المحقّق النائيني أنّ التقديم من باب الحكومة كتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي، ببيان أنّ الشكّ في إرادة ما يكون ذو القرينة ظاهراً فيه و عدمها) كالأسد (، يكون مسبّباً عن الشكّ في إرادة ما تكون القرينة ظاهرة فيه و عدمها، بداهة أنّ الأخذ بظاهر القرينة يوجب رفع الشكّ فيما أُريد بذي القرينة و لزوم حمله على غير ما يكون ظاهراً فيه لو لا القرينة.(1)

أقول: الظاهر وجود الفرق بين المقيس) المقام (و المقيس عليه) الأصل السببي و المسببي (لأنّ موضوع الأصلين أي الشكّ محفوظ، لكن يقدّم أحد الأصلين على الآخر، بحجّة انّ التعبّد بمضمون الأصل السببي، يلازم رفع اليد عن التعبّد بمضمون الأصل المسببيّ بخلاف المقام فإنّ موضوع أصالة التطابق الذي هو عدم ورود البيان على خلافها، يرتفع بالمقيّد، و معه لا يبقى للأصل موضوع.

و بعبارة أُخرى: قوام الإطلاق بأمرين:

1. كونه في مقام البيان حسب الإرادة الاستعمالية.

2. الأصل الحاكم على تطابق الإرادتين.

و العثور على القرينة و إن لم يكشف عن عدم كونه في مقام البيان، لكنّه يكشف عن عدم الموضوع لأصالة التطابق.

الثالث: يظهر من المحقّق الخراساني أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة تختلف حسب اختلاف المقامات، قال: إنّ نتيجتها تارة يكون حملها على العموم البدلي،

ص:713


1- أجود التقريرات: 1/535.

و أُخرى على العموم الاستيعابي، و ثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام و اختلاف الآثار و الأحكام كما هو الحال في سائر القرائن بلا كلام، فالحكمة في إطلاق صيغة الأمر تقتضي أن يكون المراد خصوص الوجوب التعييني العيني النفسي فإنّ إرادة غيره تحتاج إلى مزيد بيان و لا معنى لإرادة الشياع فيه فلا محيص عن الحمل عليه فيما إذا كان بصدد البيان، كما أنّها قد تقتضي العموم الاستيعابي كما في (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا )، إذ إرادة البيع مهملاً أو مجملاً تنافي ما هو المفروض من كونه بصدد البيان، و إرادة العموم البدلي لا تناسب المقام و لا مجال لاحتمال إرادة بيع اختاره المكلّف أيّ بيع كان مع أنّها تحتاج إلى نصب دلالة عليها لا يكاد يفهم بدونها من الإطلاق، و لا يصحّ قياسه على ما إذا أخذ في متعلّق الأمر) جئني برجل (، فإنّ العموم الاستيعابي لا يمكن إرادته، فيحمل على العموم البدلي.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ظاهر عبارته أنّ هذه النتائج، من ثمرات مقدّمات الحكمة و لكنّ الحقّ انّه ليس لمقدّمات الحكمة إلاّ ثمرة واحدة، و هي كون ما وقع تحت دائرة التشريع تمام الموضوع للحكم فقط، و أمّا غير ذلك من كون الأمر تعيينيّاً، لا تخييرياً، شموليّاً لا بدليّاً أو بالعكس فإنّما هي من مقتضيات اختلاف طبيعة الأحكام.

مثلاً إذا وقعت الطبيعة تحت دائرة الطلب تكون النتيجة هي البدلية لسقوط الأمر بالامتثال بإيجاد الطبيعة في ضمن فرد.

و أمّا إذا وقعت الطبيعة في مقام التشريع تحت دائرة الامضاء، كقوله سبحانه: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) تكون النتيجة هي الشمول، إذ لا معنى لإمضاء بيع

ص:714


1- كفاية الأُصول: 3971/395.

خاص مجملاً أو مهملاً.

و إذا وقعت الطبيعة مورداً للطلب دون أن يذكر له العدل تكون النتيجة هي التعيين، لأنّ التخيير يحتاج إلى البيان دون التعيين، و الحاصل أنّ النتائج المختلفة وليدة اختلاف المقامات لا مقدّمات الحكمة.

و منه يظهر أنّ تقسيم الإطلاق إلى بدليّ و شمولي و مجموعي ليس صحيحاً، إذ ليس للإطلاق إلاّ قسم واحد و هو كون ما وقع تحت دائرة الحكم تمام الموضوع، و أمّا الخصوصيات فإنّما تستفاد من القرائن و حسب اقتضاء الحكم.

الرابع: إنّ البحث في حمل المطلق على المقيّد فيما إذا اتّحد الحكم و اختلف الموضوع بالإطلاق و التقييد مثل قولنا: أعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، و أمّا إذا اختلفا حكماً و موضوعاً فهو أجنبي عن الإطلاق و التقييد، كما إذا قال: أعتق رقبة مؤمنة و سلّم على رجل.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الحكمين إمّا يكونان مثبتين أو نافيين أو مختلفين، و على كلّ تقدير فإمّا أن يكون السبب غير مذكور أو يكون مذكوراً، فتكون الأقسام حسب الظاهر ستّة، و إن كانت عند الدّقة أكثر فلنذكر القسم الأوّل بشقوقه الثلاثة:

القسم الأوّل: فيما إذا لم يذكر السبب
اشارة

و فيه صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا كانا مثبتين
اشارة

إذا قال: أعتق رقبة ثمّ قال: أعتق رقبة مؤمنة، فهل يحمل المطلق على المقيّد

ص:715

أو لا؟ لقد تكلّم فيه المحقّق الخراساني بنحو مفصّل نأتي بخلاصته، و هي: انّه يمكن الجمع بين المطلق و المقيّد بأحد الوجهين:

1. حمل المطلق على المقيّد، لأنّ فيه جمعاً بين الدليلين.

2. حمل المطلق على أفضل الأفراد، و فيه أيضاً جمعاً بين الدليلين.

و يؤيَّد الوجهُ الأوّل بأنّ حمل المطلق على المقيد لا يحدث تصرّفاً في المطلق لكشف المقيّد عن عدم وجود الإطلاق و أنّه كان تخيّليّاً بخلاف حمل المقيّد على الاستحباب فإنّه تصرّف في دلالة الأمر.

و قد ردّ هذا التأييد بما يلي:

إنّ حمل المطلق على المقيّد أيضاً تصرّف، و ذلك لما عرفت من أنّ العثور على المقيّد و إن كان لا يكشف عن عدم كون المطلق وارداً في مقام البيان كما هو ظاهر كلام المؤيّد، لكن يكون كاشفاً عن عدم كون الإطلاق بمراد جدّاً و انّ الإرادتين ليستا بمتطابقتين، و هذا أيضاً نوع تصرّف.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد نقل هذه الوجوه رجّح الوجه الأوّل، أعني: حمل المطلق على المقيّد بوجه آخر، و حاصله: انّ إطلاق الصيغة في الإيجاب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق، و ذلك لأنّ الأمر دائر بين الأخذ بالمطلق و رفع اليد عن الوجوب التعييني في مورد المقيّد، و بين أن يكون المكلّف مخيّراً بين عتق المؤمنة و الكافرة و الأخذ بالظهور التعييني في جانب المقيّد، و تكون النتيجة لزوم الإتيان بالقيد، و لكن الظهور الثاني أقوى من الظهور الأوّل فيتصرّف فيه ببركة الظهور الثاني.

يلاحظ عليه: بأنّه لم يظهر وجه الأقوائيّة.

و ذلك لأنّ هنا أمرين:

ص:716

1. الظهور التعييني في جانب المقيّد و لزوم الإتيان بالقيد.

2. تساوي الأفراد في مقام الامتثال لإطلاق الدليل.

و كلا الأمرين من نتائج الإطلاق فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر بعد كون الجميع من نتائج شيء واحد.

*** إذا علمت ذلك: فاعلم أنّه يجب أن تحلّ العقدة من طريق آخر، و هو أنّه إذا كانا مثبتين، و مجرّدين عن ذكر السبب، تكون هنا صورتان:

الأُولى: إذا أحرزت وحدة الحكم و أنّ هنا وجوباً واحداً لا وجوبين.

الثانية: إذا لم تحرز وحدة الحكم و احتملنا تعدّده و تعدّد الامتثال.

أمّا الأُولى فما ذكر من أنّ هنا وجهين للجمع بين الدليلين، و إن كان صحيحاً لكن الجمع الأوّل) حمل المطلق على المقيّد (أظهر من الجمع الثاني، أي حمل المقيد على أفضل الأفراد، و ذلك لجريان السيرة المستمرّة في مجالس التقنين على فصل المخصّص عن العام و المقيّد عن المطلق، و الداعي إليه في التقنين البشري هو عدم إحاطة علم أصحاب التشريع بالمفاسد و المصالح فيشرّعون حكماً مطلقاً ثمّ يعثرون على أنّ المصلحة في المقيد.

و أمّا التشريع السماوي فالوجه فيه هو وجود المصلحة الملزمة في تدريجية التشريع يقول سبحانه:

(وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ).(1)

فهذه السيرة كالقرينة على تعيّن الجمع الأوّل.

ص:717


1- الفرقان: 32.

و أمّا الثانية: أعني إذا لم تحرز وحدة التكليف، و الامتثال، فضلاً عمّا إذا أحرز تعدّدهما كما إذا قال:

اسقني بالماء، ثمّ قال بعد زمن: جيء بالماء و احتملنا أنّ هناك غرضين: أحدهما رفع العطش و الثاني غسل الثياب، غير أنّ الأوّل يشترط فيه كون الماء خالياً عن الأملاح، قابلاً للشرب بخلاف الثاني فإنّه يكفي فيه كون الماء مطلقاً، سواء أ كان قابلاً للشرب أم لا، فالجمع بين الدليلين يتحقّق بأُمور ثلاثة:

1. حمل المطلق على المقيّد و لزوم امتثالهما بعتق الرقبة المؤمنة.

2. حمل المقيّد على أفضل الأفراد و التخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة و الكافرة و إن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

3. التحفّظ على الوجوبين و القول بأنّ هنا تكليفين إلزاميين، و مقتضى ذلك لزوم القيام بعتق رقبتين يكفي في أحدهما عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة بخلاف الثاني و لا موجب للعدول عن الثالث إلى الوجهين الأوّلين، و بما أنّ الشكّ في المقام بعد عتق المؤمنة يرجع إلى الشكّ في سقوط التكليف المعلوم، و حصول الامتثال بالعمل بالمقيّد وحده، يتعيّن العمل بالوجه الثالث.

فإن قلت: إنّ المقام أشبه بالأقل و الأكثر الاستقلاليّين، حيث إنّ الأمر يدور بين التكليف الواحد و الأكثر، و الأوّل متيقّن و الزائد مشكوك، كدوران الدين بين الأقل و الأكثر فالحكم في الجميع واحد.

قلت: الفرق بين المقامين واضح، فإنّ الوجوب في مورد الدين واحد فهو مخاطب بقوله:» أدّ دينك «، نعم المتعلّق) الدين (مردّد بين الأقل و الأكثر، و هذا بخلاف المقام، فإنّ الخطاب متعدّد قطعاً، حيث قال:» أعتق رقبة «ثمّ قال:» أعتق رقبة مؤمنة «، فإذا أعتق رقبة مؤمنة، يشك حصول الامتثال بعتق الرقبة

ص:718

المؤمنة، و ذلك إذ لو كان الغرض واحداً لحصل الامتثال و لو كان الغرض متعدداً لما حصل، فيكون مرجع الشكّ إلى سقوط التكليف، و حصول الامتثال و المرجع في الجميع هو الاشتغال.

فاتّضح من ذلك أنّ مفتاح الحلّ هو إحراز وحدة الحكم و عدمه، ففي الصورة الأُولى يحمل المطلق على المقيّد، و في الصورة الثانية يعمل بالاحتياط، فيكون أحد التكليفين مقيّداً بالإيمان و التكليف الثاني غير مقيّد به و يحصل الغرض بعتق أيّ رقبة من المؤمنة و الكافرة.

تقريب للمحقّق النائيني لإحراز وحدة الحكم

لمّا وقف المحقّق النائيني على أنّ مفتاح الحل في المقام هو إحراز وحدة الحكم صار بصدد تقريبه في موارد الشكّ بالبيان التالي، و حاصله: امتناع تكليفين مستقلّين ناشئين من ملاكين إلزاميّين، و ذلك لأنّ لهذا الغرض صورتين:

1. أن يكون الإتيان بالمقيّد وافياً بكلا الملاكين.

2. أن يكون وافياً بخصوص أحدهما دون الآخر، أي وافياً بملاك القيد وحده أو المطلق كذلك.

لا سبيل إلى الثاني، لأنّه خلاف ظاهر الأمر المتعلّق بصرف الوجود) الأمر بالمطلق (المنطبق على المقيّد أيضاً. فلا وجه لوفائه بملاك المقيّد دون المطلق.

و لا سبيل إلى الأوّل، لأنّه يستلزم كون الأمر المتعلّق بكلّ من المطلق و المقيّد تخييرياً من باب التخيير بين الأقل و الأكثر بأن يُخيّر المكلّف بين الإتيان بالمقيّد أوّلاً فيكون مجزياً عن كلا التكليفين، و بين الإتيان بغير المقيّد من أفراد

ص:719

المطلق أوّلاً، ثمّ الإتيان بالمقيّد بعده ثانياً، إذ بعد فرض لزوم الإتيان بالمقيّد بعينه و وفائه بكلا الملاكين لا يبقى موجب للأمر بالمطلق إلاّ بعد تقييده بالإتيان به أوّلاً في غير ضمن المقيّد مع الترخيص في تركه بالإتيان بالمقيّد ابتداء، و من الواضح أنّ هذا تكلّف زائد لا سبيل إلى الالتزام به مع عدم القرينة عليه.(1)

يلاحظ عليه: بأنّا نختار الشق الثاني و لكن لا بمعنى وفاقه بملاك المقيّد دون ملاك المطلق حتّى يقال بأنّه غير معقول، لأنّ المطلق موجود في ضمن المقيّد فكيف يكون وافياً بملاك المقيد دون المطلق؟! بل بمعنى أنّ الإتيان بالمقيّد يلازم حصول أحد الغرضين لا بعينه، دون الغرضين معاً، مثلاً لو قال:

اسقني، ثمّ قال: جئني بالماء، فأحضر الماء القابل للشرب، فقد حصل أحد الغرضين و هو التمكن من الشرب و الغسل، و لكنّه لا يفي إلاّ بأحدهما إمّا الشرب أو الغسل و يبقى الغرض الآخر بحاله، و لا يتحقق إلاّ بإحضار ماء ثان غير مشروط بكونه قابلاً للشرب، و إن أحضره يكون أيضاً وافياً به. و احتمال أن يكون المورد من هذا القبيل كاف في الحكم بالاشتغال و لزوم عتق رقبتين.

أضف إلى ذلك: أنّ إثبات وحدة التكليف بهذه الاعتبارات العقلية بعيد عن الأذهان الساذجة التي هي المرجع في تشخيص وحدة التكليف عن تعدّده.

فاتّضح بذلك أنّ الطريق لإحراز وحدة التكليف الملازم لوجود المنافاة بين الكلامين، الباعث إلى التصرّف بأحد الوجهين من حمل المطلق على المقيّد أو حمل المقيّد على أفضل الأفراد هو دلالة القرائن على أنّ القضيتين ناظرتان إلى حكم واحد، لا هذا الوجه البعيد عن الأذهان. و المفروض في المقام عدمها فلا وجه

ص:720


1- أجود التقريرات: 1/535.

للتصرّف في أحدهما بأحد الوجهين، بل المتعيّن هو الوجه الثالث من إبقائهما على كونهما تكليفين إلزاميين يطلب كلّ واحد امتثالاً مستقلاً.

الصورة الثانية: إذا كانا نافيين

إذا كان الدليلان نافيين، كما إذا قال: لا تشرب الخمر الذي هو بمنزلة» لا تشرب المسكر المأخوذ من العنب «، ثمّ قال: لا تشرب المسكر، فلا وجه لحمل المطلق على المقيّد، لعدم التنافي بين الدليلين، غاية الأمر يحمل النهي عن شرب الخمر على الحرمة المؤكّدة.

الصورة الثالثة: أن يكون أحدهما مثبتاً و الآخر نافياً

و لها شقّان:

الأوّل: أن يكون المطلق نافياً و المقيّد مثبتاً، كما إذا قال: لا تعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، فالتنافي بين الدليلين واضح، إذ لا يمكن تحريم عتق مطلق الرقبة مع إيجاب عتق الرقبة المؤمنة، كما لا يمكن كراهة عتق مطلق الرقبة و رجحان عتق الرقبة المؤمنة، فلا محيص في رفع التنافي من حمل المطلق على المقيّد من غير فرق بين حمل الأمر على الإيجاب أو الاستحباب أو حمل النهي على التحريم أو الكراهة.

الثاني: ما إذا كان المطلق مثبتاً و النافي مقيّداً، كما إذا قال: أعتق رقبة و لا تعتق رقبة كافرة، فهنا شقوق:

أ. إذا أحرز أنّ النهي تحريمي.

ب. إذا أحرز أنّ النهي تنزيهيّ.

ص:721

ج: إذا تردّد بين الاحتمالين.

أمّا الأوّل فالتنافي محرز، إذ لا يصحّ إيجاب عتق مطلق الرقبة الذي يشمل الكافر مع تحريم عتق خصوص الرقبة الكافرة، لأنّ الخاص الحرام قسم من العام الواجب، فلا يرتفع التنافي إلاّ بحمل المطلق على المقيّد.

و أمّا الثاني، أعني: إذا كان النهي تنزيهياً، كما إذا قال: صلّ و لا تصلّ في الحمّام، فلا مجال للحمل، إذ لا تنافي بين إيجاب الصلاة في مطلق الأمكنة و النهي عن الصلاة في الحمّام إذا كان النهي إرشاداً إلى أقليّة الثواب، كما هو معنى الكراهة في العبادات. نعم لو كان النهي بمعنى المرجوحية الذاتية يعود التنافي بين الأمر بالصلاة في كلّ مكان الذي هو بمعنى رجحان الصلاة في كلّ مكان و الزجر عن الصلاة في الحمام بمعنى خصاصة الصلاة فيه.

و أمّا الثالث، أعني: إذا لم يحرز أنّ النهي تحريمي أو تنزيهي كالنهي عن الصلاة في مواضع التهمة، إذ على الأوّل لا بدّ من الحمل و على الثاني لا وجه له، و الحقّ أنّ هنا ظهورين متعارضين:

الأوّل: ظهور الإطلاق في جواز الصلاة في تمام الأمكنة حتّى مواضع التهم.

الثاني: ظهور النهي عن الصلاة في موضع التهمة، في التحريم، فكلّ من الظهورين يصلح للتصرف في الآخر، فإطلاق الدليل الأوّل يقتضي حمل النهي على الكراهة بمعنى أقلّية الثواب لا مرجوحية الفعل، كما أنّ ظهور النهي في الحرمة يقتضي تقييد إطلاق المطلق، و بما أنّ الرائج فصل المقيّد عن المطلق و هذا يقتضي رفع التنافي بهذا الطريق.

و ينبغي التنبيه على أمرين:
اشارة

ص:722

الأوّل: حكم الأحكام الوضعية

لا فرق بين الأحكام التكليفية و الوضعية في أنّ مدار الحمل هو وجود التنافي بين حكمي المطلق و المقيّد، أي التنافي الذي هو لازم وحدة الحكم، فلو كان هذا الشرط موجوداً في الأحكام الوضعية، يحمل الوضعي المطلق على الوضعيّ المقيّد، كما إذا قال:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «ثمّ قال:» صلّ في جلد السنجاب «.

نعم لو انتفى التنافي يبقى الحكمان على حالهما، كما إذا قال: لا تصلّ في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، ثمّ قال في دليل آخر:» لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه «، إذ لا مانع من أن تكون الصلاة في مطلق ما لا يؤكل لحمه فاسدة، و في خصوص وبره أيضاً كذلك، و إنّما خصّ الوبر لسبب خاص.

الثاني: في حكم المستحبّات

قد اشتهر على الألسن أنّ القيود في المستحبّات ليست مقوّمة للعمل فلا يجب حمل المطلق على المقيّد، فلو قال: زر الإمام الطاهر سيد الشهداء) عليه السلام (تحت السماء، ثمّ قال في دليل آخر: زر الإمام الطاهر سيد الشهداء) عليه السلام (، فلا يحمل المطلق على المقيّد، بل يحمل المقيّد على كونه أفضل الأفراد.

هذا هو المشهور بين الأصحاب، و إنّما الكلام في وجه هذا الحكم، فقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة:

1.» الغالب في باب المستحبّات هو تفاوت الأفراد بحسب مراتب المحبوبية «(1)، فتكون تلك الغلبة قرينة على إرادة الأفضلية من القيد الوارد في

ص:723


1- كفاية الأُصول: 1/393.

المستحبّات، و انّ العمل معه من أفضل الأفراد.

يلاحظ عليه: ما ذا يراد من الغلبة؟ و هل المراد، هو الغلبة في الوجود و أنّ القيود في المستحبّات حسب التتبّع قيود لمراتب الفضيلة و تأكّد الاستحباب، فيكون ذلك دليلاً على حمل الأمر بالمقيّد على مورد الغلبة، و من المعلوم أنّ كثرة الوجود لا يوجب الانصراف؟ أو المراد كثرة استعمال المقيّد في المستحبّات في أفضل الأفراد لكن الكلام في إحراز هذه الكثرة بمعنى أنّ الفقيه تتبع موارد الاستعمالات فوقف على أنّ المتكلّم استعمل الأمر بالمقيّد في المستحبات في ذات المرتبة العليا؟ و أنّى لنا إثبات ذلك.

2. إنّه مقتضى أدلّة التسامح في أدلّة المستحبات، و قد روى صفوان عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال:» من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يقله «.(1)

يلاحظ عليه: أنّه إذا كان القيد متصلاً بالمطلق فالحكم على إطلاقه لم يصل فلا يكون مورداً للرواية، و إن كان القيد منفصلاً، فالحكم على إطلاقه و إن وصل لكنّ أدلّة التسامح في السنن مختصّة بجبر السند لا جبر الدلالة، و المشكلة في المقام ليست في السند، و إنّما هي في الدلالة، بشهادة قوله في رواية صفوان:» و إن كان رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (لم يقله «.

3. ما أفاده المحقّق النائيني بقوله: إنّه إذا لم يكن الأمر إلزامياً فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد منهما، و الوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيد غير إلزامي جازت مخالفته، فلا تكون منافاة حينئذ بينه و بين

ص:724


1- وسائل الشيعة: 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 1.

إطلاق متعلّق الحكم الآخر، المستلزم لجواز تطبيقه على كلّ فرد أراد المكلّف تطبيقه عليه في الخارج، و من الواضح أنّه مع عدم المنافاة بينهما لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق بحمله على المقيّد، ضرورة أنّ المنافاة إنّما ترتفع بعدم الإلزام و بالترخيص في ترك امتثال الحكم المتعلّق به فلا يكون هناك مانع من التمسّك بإطلاق متعلّق الحكم الآخر، سواء كان إلزامياً أم كان غير إلزامي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ مجرّد كون الأمر بالمقيد غير إلزامي لا يكون سبباً للأخذ بالمطلق و إلغاء القيد بحجّة أنّ العمل بالمقيّد غير واجب، بل الحقّ هو التفصيل بين كون القيد إرشاداً إلى الشرطيّة أو الجزئية أو المانعيّة و غيره، ففي الصورة الأُولى لا محيص عن حمل المطلق على المقيّد إذ في هذه الصورة يكون القيد مقوّماً للعبادة.

و لأجل ذلك لا تصحّ صلاة الليل بلا طهور و لا قبلة، و ما ذلك إلاّ لأنّ أصل الصلاة و إن كان غير واجب لكن حقيقة الصلاة الليلية تنتفي بانتفاء أحدهما.

ثمّ إذا تردّد القيد بين كونه إرشاداً إلى الشرطية أو الجزئية أو المانعيّة أو كونه ناظراً لبيان الدرجة العليا من المستحب، فيتوقّف عن العمل فلا يصحّ الاكتفاء بالمطلق بإلغاء القيد.

تمّ الكلام في القسم الأوّل، أعني: ما إذا لم يذكر السبب في كلّ من المطلق و المقيّد و لنشرع لبيان أحكام القسم الثاني.

القسم الثاني: ما إذا كان السبب مذكوراً

إذا كان السبب مذكوراً فله صور:

ص:725


1- أجود التقريرات: 1/539.

الأُولى: أن يكون السبب في أحدهما غيره في الآخر نوعاً، كما إذا قال: إذا أفطرت أعتق رقبة، ثمّ قال: إذا ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة، فلا وجه للحمل، لعدم التنافي بين الحكمين، و بالتالي عدم وحدة الحكم.

الثانية: إذا كان السبب مذكوراً فيهما، و يكونان متّحدين نوعاً، كما إذا قال: إذا أفطرت أعتق رقبة، و إذا أفطرت أعتق رقبة مؤمنة، فالجمع بين الدليلين و إن كان يمكن بحمل المقيّد على أفضل الأفراد، لكن الرائج في طرف التشريع هو حمل المقيّد على المطلق.

الثالثة: إذا كان السبب مذكوراً في واحد منهما إذا كان السبب مذكوراً في أحدهما، كما إذا قال: أعتق رقبة، و قال: إن ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة، فلو كان السبب مذكوراً في كليهما نستكشف من وحدة السبب وحدة الحكم، و أمّا إذا كان السبب مذكوراً في واحد دون الآخر، فبما أنّ وحدة الحكم ليست بمحرزة فنحتمل أن يكون هنا غرضان تامّان، أحدهما يتحقّق بعتق مطلق الرقبة، و الآخر بعتق الرقبة المؤمنة، فلا وجه للجمع كما لا وجه للاقتصار على خصوص عتق الرقبة المؤمنة، لما عرفت من أنّ مرجع الشكّ في حصول الامتثال و سقوط التكليف.

ص:726

الفصل الخامس في المجمل و المبيّن و المحكم و المتشابه

اشارة

قد أردف الأُصوليّون البحثَ في المطلق و المقيّد بالبحث في المجمل و المبيّن، و كان الأنسبُ عطفَ المحكم و المتشابه عليهما ليبحث عن الجميع في مقام واحد، و لعلّ تركهم البحث عن الأخيرين لأجل أنّ آيات الأحكام كلّها محكمة و ليس فيها آية متشابهة بخلاف المجمل و المبيّن، و على كلّ تقدير فنحن نطرح الجميع لما بينها من الصلة،

و يقع الكلام في أُمور:
1. المجمل و المبيّن لغة و اصطلاحاً

الإجمال في اللغة هو الجمع بلا تفصيل، يقال أجملتُ الشيء إجمالاً: جمعتَه من غير تفصيل.(1)

قال سبحانه: (وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً )(2)،

ص:727


1- الفيومي: المصباح المنير، مادة» جمل «.
2- الفرقان: 32.

أي دفعة واحدة بلا فاصل زماني كنزول التوراة على الكليم في الميقات. و يقابله المبيّن فمادته تحكي عن الوضوح. يقال: بأن الأمر يبين، فهو بيّن، و أبان و استبان: كلّها للوضوح و الانكشاف.(1)

و أمّا اصطلاحاً، فكلّ كلام يكون قالباً للمعنى فهو مبيّن، و خلافه مجمل، فكأنّ المبيّن فيه تفصيل، بخلاف المجمل فيه جمع.

2. الإجمال و البيان وصفان نفسيان

إنّ الإجمال و البيان وصفان نفسيّان للكلام، يجمعهما كون اللفظ قالباً للمعنى و عدمه، و هذا شيء يوصف به الكلام بما هو هو من دون إضافة إلى شخص.

لكن الظاهر من المحقّق الخراساني» أنّهما وصفان إضافيّان ربما يكون مجملاً عند واحد لعدم معرفته بالوضع، أو لتصادم ظهوره بما حَفَّ به لديه، و مبيّناً لدى الآخر لمعرفته و عدم التصادم بنظره «.

يلاحظ عليه: إذا كان الملاك كونَ اللفظ على قَدَر المعنى و خلافه، يكون الإجمال و البيان وصفان نفسيّان للكلام سواء أ كان هناك مخاطب أو لا، أو كان المخاطب عالماً باللغة أو لا.

أضف إلى ذلك انّه لو كان ملاك الإجمال جهل المخاطب باللغة، يلزم أن يكون القرآن كلّه مجملاً عند من لا يعرف لغته، و مبيّناً عند من يعرف، و من المقطوع عدم إرادة هذا منهما.

نعم يمكن وصف الإجمال و البيان بالنسبيّة لكن لا بهذا المعنى بل بمعنى آخر هو أن يكون الكلام مبيّناً من جهة و مجملاً من جهة أُخرى، فقوله سبحانه:

ص:728


1- المصباح المنير، مادة بين.

(وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (1)مبين من حيث الفعل) القطع (، مجمل من حيث المتعلّق، فإنّ اليد يطلق على أُصول الأصابع و الزند و المرفق و المنكب.

3. ما هو منشأ الإجمال؟

إنّ منشأ الإجمال غالباً أحد الأمرين التاليين:

أ. إجمال المفردات.

ب. إجمال الهيئة التركيبية.

فالأوّل كاليد في آية السرقة كما مرّت، و آية التيمم، أعني قوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ).(2)

و أمّا الثاني كقوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «أو» لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد «لتردّد الهيئة بين نفي الحقيقة أو نفي الصحة أو نفي الكمال.

4. ذكر نماذج من المجملات

أ. قال سبحانه: (وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ).(3)

فإنّ الإجمال في قوله: (اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) حيث إنّه مردّد بين كون المراد منه وليّ الزوجة أو نفس الزوج، فلو أُريد الأوّل فمعنى ذلك أنّ الزوجة المطلّقة و وليّها يعفوان نصفَ المهر الواجب بالطلاق قبل المسّ، فيُفرضُ الكلام فيما إذا لم يدفع المهر لا كلاً و لا جزءاً.

ص:729


1- المائدة: 38.
2- المائدة: 6.
3- البقرة: 237.

و لو أُريد الثاني يكون المعنى أنّ الزوج لا يطلب النصف الباقي، فيفرض الكلام فيما إذا دفع جميع المهر و طلّق قبل المس فيعفو عن النصف الباقي و لا يأخذ شيئاً.

ب: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ ).(1)

ج: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ ).(2)

د. (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).(3)

و إنّما عدّت هذه الآيات من المجمل لأجل أنّ التحريم فيها أسند إلى الأعيان مع أنّه من عوارض فعل المكلّف لا المتعلّق و لذلك طرأ الإجمال عليها.

لكن الأظهر بمناسبة مقتضى الحكم و الموضوع هو أنّ المحرّم في هذه الآيات هو الأثر البارز المقصود من الشيء، و هو الأكل في المأكولات، و الشرب في المشروبات، و اللعب في آلات القمار، و العبادة في مظاهر الأُلوهية، و النكاح في النساء، و عند ذلك يرتفع الإجمال.

نعم يبقى الكلام في قوله سبحانه: (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ).(4)

فهل المراد من الصيد هو فعل المكلّف فيكون هو حراماً لا الأكل من المصيد أو المراد نفس المصيد فيكون أكله أيضاً حراماً و إن صاده المحلّ فالمحرِم لا يأكل صيد البرّ مطلقاً. صاده المحرم أو المحلّ.(5)

ص:730


1- المائدة: 3.
2- النساء: 23.
3- المائدة: 90.
4- المائدة: 96.
5- مجمع البيان: 2/246.
المحكم و المتشابه
اشارة

الأصل في تقسيم الآيات إلى قسمين: محكم و متشابه هو قوله سبحانه في سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ ).(1)

و استقصاء الكلام في الآية يقتضي البحث في أُمور:
اشارة

1. ما هو المراد من المحكم و المتشابه.

2. ما هو المراد من التأويل؟ 3. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟ 4. هل الراسخون في العلم يعلمون التأويل أو لا؟ و إليك الكلام في الجميع واحداً بعد الآخر:

1. المحكم و المتشابه لغة و قرآناً

1. المحكم من الحُكْم و هو بمعنى المنع و منها الحِكْمة لأنّها تمنع صاحبها من فضول الكلام و رذائل الأخلاق، و يطلق على اللجام» الحكيمة «لأنّها تمنع

ص:731


1- آل عمران: 7.

الدابّة من الجموح و الحركة، و لو وصف البناء أو المصنوع بالاستحكام لأنّه يمنع عن تسرّب الخراب إليه.

2. المتشابه هو الشيء غير الواضح يشتبه بشيء آخر يقول سبحانه: (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ).(1)

و المعنى إنّ أهل الجنّة كلّما رزقوا من رزق، يقولون: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ )(2)، و لكنّه ليس منه و إنّما أوقعهم في هذا، التشابه بين الثمرتين في اللون و الحجم مع الاختلاف في الطعم و الجودة.

يقول سبحانه: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ). (3)أي لم يتميز ما هو الواجب لغاية الذبح، عن غيره.

و يقال للشبهة شبهة لأنّها تُشبه الحقّ.

إنّه سبحانه يصف الأعناب و الزيتون و الرمان بالمشتبه و غير المتشابه، و يقول:

(وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ ).(4)

و في آية أُخرى يصف خصوص الزيتون و الرّمّان متشابهاً و يقول:

(وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ).(5)

فالمراد إمّا تشابه أحدهما بالآخر من حيث الظاهر و اختلافهما من حيث الطعم أو تشابه أصناف كلّ نوع بصنف آخر و الاختلاف في أمر آخر.

ص:732


1- البقرة: 25.
2- البقرة: 25.
3- البقرة: 70.
4- الأنعام: 99.
5- الأنعام: 141.

و ينتزع من المجموع أنّ التشابه هو كون الشيء على نحو يشتبه لغيره و لا يتميز عنه بسهولة.

إلى هنا تمّ الكلام في معنى المحكم و المتشابه لغة، و أمّا قرآناً فالميزان في وصف الآية بالإحكام و التشابه هو الدلالة، فإذا كان الكلام واضح الدلالة، فهو في الإتقان و الرصانة بمكان تمنع عن الاحتمال الآخر، و هذا بخلاف المتشابه، فبما أنّ دلالتها ليست على حدّ تمنع عن تشابه المقصود بغيره، ففي بادئ النظر يرد إلى الذهن وجوه و احتمالات يحتملها لفظ الآية في بادئ النظر. أحدها هو المقصود و الباقي ليس بمقصود.

فإن قلت: إنّه سبحانه قسّم في الآية السابقة، الآيات القرآنية إلى قسم محكم و قسم متشابه مع أنّ بعض الآيات يصف الجميع بالإحكام كما أنّ البعض الآخر يصف الجميع بالمتشابه.

أمّا الأوّل فهو قوله سبحانه: (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ).(1)

و أمّا الثاني فهو قوله سبحانه: (اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّهِ ).(2)

قلت: إنّ تقسيم الآيات إلى محكم و متشابه بملاك و وصف جميع الآيات بالاستحكام بملاك آخر.

فالملاك في تقسيم الآية إلى المحكم و المتشابه دلالة الآية، فالآية إذا كانت

ص:733


1- هود: 1.
2- الزمر: 23.

محكمة الدلالة و مبيّن المراد يوصف بالمحكم، و إذا كانت غير واضحة الدلالة و متزلزلها توصف بالمتشابه.

و أمّا وصف جميع الآيات بالإحكام فبملاك آخر إمّا المضمون و هو أنّ مضامين القرآن مضامين متقنة لا يتطرق إليه الباطل، فلا يبلى و لا يخلق بل يكون طريّاً في كلّ عصر أو النظم حيث نظمت نظماً رصيناً لا يقع فيه نقص و لا خلل كالبناء المحكم المرصف.(1)

و يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها و تشتّت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصلي لا تكثّر فيه و لا تشتّت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصداً من المقاصد و لا ترمي إلى هدف إلاّ و الغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتّت آياته و تفرّق أبعاضه إلاّ غرض واحد متوحّد إذا فصّل كان في مورد أصلاً دينياً و في آخر أمراً خلقياً و في ثالث حكماً شرعياً، و هكذا كلّما تنزّل من الأُصول إلى فروعها و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كلّ واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.(2)

هذا كلّه حول الأحكام، و أمّا التشابه فقد علمت أنّ التقسيم بملاك

ص:734


1- الكشاف: 2/89.
2- الميزان: 13711/136.

الدلالة، و أمّا وصف الكلّ بالمتشابه، فالمراد التشابه و التماثل من حيث المضمون حيث إنّ مضمون بعضه يشابه الآخر و يؤكّده، و يدلّ على ذلك أنّه سبحانه يقول: (مَثانِيَ ) أي متكرّراً يشبه بعضه بعضاً، فكم تكرّرت قصة آدم و موسى في القرآن الكريم، و كم تكررت الآيات المندّدة بالشرك و عبادة الأصنام، و غير ذلك.

ما هو المراد من الآية المتشابهة؟

اختلفت أنظار المفسّرين في مصاديق المتشابه في الآية الكريمة إلى أقوال ربما يناهض ستة عشر قولاً(1)، و نحن نذكر منها ما هو المهمّ:

1. المتشابه هو الخارج عن اطار العقل و الحسّ

المتشابه عبارة عن الموضوعات الواردة في القرآن الكريم الخارجة عن اطار الحس و العقل و الّتي لا يقدر الإنسان على درك حقيقته و كنهه كذاته سبحانه و حقيقة صفاته و العوالم الغيبية كالملك و الجنّ و الروح و البرزخ و الميزان و غير ذلك من الأُمور التي لا يمكن للإنسان الدنيوي درك حقائقها، بل يُطلب منه الإيمان بها، لقوله سبحانه: (اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ).(2)

يلاحظ عليه: أنّ النظرية لا تنسجم مع الخصوصيات المذكورة للمتشابه في الآية الكريمة و ذلك:

أوّلاً: إنّ المتشابه عبارة عن شيء يشبه الشيء الآخر، و يصعب للإنسان تمييزهما كالتوأمين و الثمار المتشابهة، و هذا غير كون الشيء مجهول الحقيقة مبهم الماهية لا يدخل في إطار أدوات المعرفة كما مثّل، فما ذكر من العوالم الغيبيّة

ص:735


1- مفاتيح الغيب: 2/417; المنار: 1653/163; الميزان: 393/32.
2- تفسير المنار: 2/167; و لاحظ الإتقان: 3/1، و هذه النظرية خيرة ابن تيمية و من تبعه.

مبهمات لا متشابهات، مجهولات لا متماثلات.

و ثانياً: إنّ وصف المحكمات بكونها أُمّ الكتاب لبيان أنّ رفع التشابه من الآيات المتشابهة يتحقّق بإرجاعها إلى المحكمات، و أمّا العوالم الغيبية فهي حقائق مغمورة لا توضح بالرجوع إلى أيّ آية من الآيات.

و ثالثاً: إنّ الآية تصرّح بأنّ أصحاب الأهواء يتبعون الآيات المتشابهة مكان الاتباع للمحكمات، و هذا فرع أن يكون للآية المتشابهة ظهور ما، و أمّا العوالم الغيبية فليس هناك أيّ ظهور لها حتّى يتّبع.

و رابعاً: إنّ المتشابه، آية متشابهة من أوّلها إلى آخرها يشتبه المراد منها بغيره، و أمّا العوالم الغيبية فهي مفردات لا آيات، فقوله سبحانه: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (1)آية محكمة واضحة الدلالة، مبيّنة المقصد، و إجمال حقيقة الجن لا يوجد في الآية أي تشابه.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار هذا الرأي هو أنّ ابن تيميّة ممّن يحمل الصفات الخبرية كالاستواء على العرش، و البناء بالأيدي و غيرهما على معانيها اللغويّة فهي عندها من المحكمات و إن استلزمت التشبيه و التجسيم و الجهة للّه سبحانه مع أنّها عند المشهور، متشابهات تُفسر في ضوء المحكمات و لأجل ذلك اضطرّ إلى تفسير المتشابه بالعوالم الغيبيّة الّتي هي مجهولات مبهمات لا متشابهات.

و خامساً: انّ الآية تحكي عن أنّ أصحاب الأهواء يثيرون الفتنة بالآيات المتشابهة، و لم تكن العوالم الغيبية كالروح و الجنّ و الملك سبباً لإثارة الفتنة، بخلاف ما نذكره من الصفات الخبرية، فإنّها لم تزل و ما زالت سبباً لإثارة الفتنة و قد فرّقت كلمة الأُمّة و جعلتها طائفتين أو طوائف.

ص:736


1- الذاريات: 56.

إنّك ترى أنّ الوهّابية التابعة لمنهج ابن تيمية لم تزل تنشر رسائل حول الصفات الخبرية و تصرّ على أنّها محمولة على اللّه بنفس معانيها اللغوية، غاية الأمر يردفها أسيادهم بقولهم» بلا كيف «و يقولون له سبحانه أيد لا كأيدينا و عرش لا كعرشنا، إلى غير ذلك.

2. المتشابه و الحروف المتقطّعة

هذه هي النظرية الثانية، ذكرها الطبري في ضمن رواية حاصلها أنّ ياسر بن أخطب مرّ برسول اللّه ) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو يتلو فاتحة سورة البقرة: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) فاخبر به أخاه » حُيَيّ بن أخطب «فتمشى هو مع رجال من اليهود إلى رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقالوا يا محمّد أ لم تذكر أنّك تتلو فيما أنزل عليك: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ ) فقال نعم فقال: حيي: الألف واحدة و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فهذه إحدى و سبعون و هذا مدّة نبوّتك ثمّ أقبل على رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال: يا محمّد هل مع هذا غيره؟ فقال) صلى الله عليه و آله و سلم (: نعم. قال: ما ذا؟ قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» المص «فقال: هذه أثقل و أطول، الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فهذه مائة و إحدى و ستون سنة. و لم يزل يسأل النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و هو يقرأ الحروف المقطّعة و يحاسب على حساب الحروف الهجائية فلمّا وصلوا إلى سبعمائة سنة و أربع و ثلاثون فقالوا لقد تشابه علينا أمره فنزل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) الخ.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث ضعيف سنداً لأنّه مرويّ عن سلمة بن فضل الذي جرحه علماء الرجال، حيث قال أبو حاتم الرازي في كتابه الجرح و التعديل:» في حديثه إنكار، ليس بقويّ، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا «.(2)

ص:737


1- الطبري: التفسير: 1/71 و ج 3/118.
2- الجرح و التعديل: 169، ط الهند.

كما انّه مطرود دلالة، و ذلك لأنّ ظاهر الرواية أنّ حُييّ اليهودي كان يتلاعب بالحروف المقطعة و يحدّد مدّة نبوّة النبي و هو) صلى الله عليه و آله و سلم (ساكت في مقابل تلاعبه بها، و هذا لا يناسب شأن النبي الأعظم في حقّ اللاعبين بآيات اللّه.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الآية أنّ أصحاب الفتنة يؤمنون بمجموع القرآن و لكن يتبعون خصوص المتشابه، و هذا لا ينطبق على شأن النزول، فإنّ اليهود كانوا يرفضون القرآن كله.

بل الظاهر من الرواية أنّهم لم يتبعوا المتشابه، بل قاموا قائلين: لقد تشابه علينا أمره.

3. النظرية المعروفة

إنّ الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم واضح الدلالة، مبيّن المقاصد، و متشابه يشتبه مدلوله الواقعي بغير الواقعي، و يرتفع التشابه إذا لوحظت مع سائر الآيات.

و إنّما يعرض التشابه للآية لا لقصور في اللفظ أو في الهيئة التركيبية، بل لأجل أنّ المعارف الإلهيّة إذا نزلت إلى سطوح الأفهام العادية، و أُريد بيانها بالألفاظ الدارجة التي وضعت لبيان المعاني الحسّية الملموسة، عرض لها التشابه في المقاصد، فإنّ الألفاظ الدارجة إنّما وضعت للاستعانة بها في إلقاء المقاصد العرفية الحسّيّة، فإلقاء المعارف العقلية العليا بهذه الوسيلة، لا تنفك عن عروض التشابه لها.

و هناك سبب آخر للتشابه و هو استخدام المجاز و الاستعارة و الكناية في حلبة البلاغة فتصير الآية متشابهة المراد، لا بحسب المعنى المستعمل فيه، بل

ص:738

حسب المعنى الجدّي فيؤخذ بالمستعمل فيه، و يترك المقصد الجدّي الذي سيق لأجله الكلام لابتغاء الفتنة، كما قال سبحانه.

و ها نحن نذكر فهرساً إجمالياً من الآيات الظاهرة في التجسيم و التشبيه و الجبر و الحركة و الجهة للّه سبحانه، و من المعلوم أنّ ظواهر هذه الآيات المتزلزلة الدلالة، لا تنسجم مع المحكمات، و ما ذلك إلاّ لأنّ ظهورها ظهور بدوي لا استقراري، أفرادي لا جملي، تصوّري لا تصديقي، و لا قيمة لهذه الظهورات ما لم تنتهِ إلى الظهور الاستقراري، الجملي، التصديقي.

1. العين، كقوله سبحانه: (وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ).(1)

2. اليمين، كقوله سبحانه: (وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ ).(2)

3. الاستواء، كقوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ).(3)

4. النفس، كقوله سبحانه: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ).(4)

5. الوجه، كقوله سبحانه: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ).(5)

6. الساق، كقوله سبحانه: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ).(6)

7. الجنب، كقوله سبحانه: (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ).(7)

8. القرب، كقوله سبحانه: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ).(8)

9. المجيء، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ رَبُّكَ ).(9)

ص:739


1- طه: 39.
2- الزمر: 67.
3- طه: 5.
4- المائدة: 116.
5- البقرة: 115.
6- القلم: 42.
7- الزمر: 56.
8- البقرة: 186.
9- الفجر: 22.

10. الإتيان، كما قال سبحانه: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ).(1)

11. الغضب، كما في قوله: (وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ).(2)

12. الرضا، كما في قوله: (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ).(3)

و نظير ذلك الآيات الدالّة على الجبر نحو قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ).

نعم إنّ كلتا الطائفتين يؤوّلون المتشابهات، فأصحاب الزيغ يأخذون بالظاهر المتزلزل ذريعة لنشر البدع و الضلالات، و أمّا الآخرون فيؤوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هنّ أُمّ الكتاب.

2. ما هو المراد من التأويل؟

إلى هنا تعرّفنا على الآيات المتشابهة، و حان حين البحث عن تأويلها، سواء أ كان من أصحاب الزيغ أو من غيرهم، فنقول: إنّ التأويل في مصطلح العلماء صرف الظاهر المستقرّ عن ظاهره، و هذا التفسير للتأويل مصطلح للعلماء و لا صلة له بالتأويل في القرآن الكريم، و أمّا تأويل المتشابه، فهو تحقيق ظهوره، و السعي وراء مراده و إرجاع ظهوره البدوي، إلى الظهور الاستقراريّ، و إليك بيانه:

التأويل مأخوذ من» آل يؤول «بمعنى رجع، قال الراغب الاصفهاني: التأويل من الأول، أي الرجوع إلى الأصل، و منه الموئِل للموضع الذي يرجع إليه، و ذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً.(4)

ص:740


1- الأنعام: 158.
2- الفتح: 6.
3- المائدة: 119.
4- المفردات، مادّة أول.

و على ذلك فالتأويل عبارة عن إرجاع الفعل أو الكلام المبهمين من خلال القرائن الموجودة، إلى واقعه. و قد استعمل في القرآن المجيد في موارد ثلاثة:

أ. تأويل الفعل

يصف القرآن الكريم ردّ المنازعات إلى اللّه و الرسول بقوله: (أَحْسَنُ تَأْوِيلاً )، و يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ).(1)

أي أحسن مآلاً، لأنّ في الرجوع إلى اللّه و الرسول إحقاقاً للحق و إبطالاً للباطل، على خلاف الرجوع إلى الجبت و الطاغوت.

و من هذا القبيل وصف الكيل بالعدل و الإنصاف بقوله: (أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) يقول سبحانه: (وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) فالمراد أحسن مآلاً لما يترتّب على إجراء العدل في عمليّة الوزن من المصالح و الغايات الصحيحة.

فالتأويل في هذه الآيات بمعنى المآل و المرجع بما يترتب عليه من المصالح.

ب. تأويل النوم

قد شاع إضافة التأويل إلى الرؤيا في القرآن الكريم في غير واحد من الآيات نظير:

1. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس و القمر له.

ص:741


1- النساء: 59.

2. رؤية أحد مصاحبيه في السجن أنّه يعصر خمراً.

3. رؤية مصاحبه الآخر أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.

4. رؤية الملك سبع بقرات سمان و سبع عجاف.

فالتأويل في هذه الموارد عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى حقيقتها، فإنّ الإنسان في الرؤيا الصادقة يرى الواقع نفسه و لكن القوة المتخيّلة إلى حين الانتباه تتصرّف في ما رآه و تتغيّر كيفية الرؤيا و شكلها، فالتأويل عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى أُصولها و جذورها التي كانت عليها.

ج. تأويل المتشابه قد تعرّفت على أنّ التأويل ربما يوصف به الفعل و أُخرى به الرؤيا و ثالثة الكلام، و ليس المراد منه في القرآن الكريم هو صرف الظاهر عن وضعه الأصلي، و إن ذكره ابن منظور في لسانه،(1) فقال المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.

فلو صحّ ما ذكره فإنّما هو مصطلح جديد لا صلة له بالقرآن الكريم فإنّ ظاهر القرآن المستقرّ يستحيل منه العدول إلى معنى آخر، إذ معنى ذلك أنّ القرآن يشتمل على ما لا يوافق العقل و العلم، فيُعدل عن الظاهر لرفع التناقض، سبحان من لا يناقض كلامُه حكمَ العقل الحصيف، و العلم الصحيح، بل الوحي و العقل و العلم يسيرون جنباً إلى جنب، و للتأويل في القرآن عند ما يقع وصفاً للكلام معنى آخر و هو الذي نذكره:

التأويل عبارة عن إرجاع الكلام الذي له ظهور بدويّ غير مستقرّ، إلى

ص:742


1- لسان العرب، ج 11، مادّة أول.

الظهور النهائي الاستقراري بالإمعان في القرائن المكتنفة بالآية.

و ها نحن نذكر نماذج من هذا التأويل الذي هو بمعنى تحقيق ظهور الآية و إنهاء الظهور البدوي إلى الظهور النهائي.

1. إنّه سبحانه يحيط بالظالمين في الدنيا و الآخرة إحاطة قيّوميّة، فيحيط بالإنسان بشراشر وجوده و خصوصياته، يقول سبحانه: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ).(1)

و يقول سبحانه: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ).(2)

فهاتان الآيتان من الآيات المحكمة تبيّن لنا إحاطة وجوده سبحانه بعامة الممكنات إحاطة قيّوميّة.

و لكنّه سبحانه و تعالى يبيّن تلك الإحاطة القيّومية في مورد الظالم بتشبيه خاص بغية تقريب المراد و يقول: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ).(3)

و ما ذلك إلاّ لأجل تشبيه الإحاطة القيومية بالأمر الحسّي و عند ذلك يعرض التشابه، و ما ذلك إلاّ لأنّ السلطة الحقيقية عند الناس هي سلطة الصياد بصيده إذا جلس في المرصاد و أخفى نفسه عنه و هو يراه و لا يراه هو، فالآية لأجل تقريب سلطته الإحاطية إلى الأذهان يستخدم كلمة المرصاد، و عندئذ يعرض التشابه للآية، لكن أين سلطته سبحانه على الناس، من سلطة الصياد على الصيد.

و على ضوء ذلك فالآية متشابهة من حيث الظهور البدوي، و لكن بالإمعان

ص:743


1- الحديد: 4.
2- المجادلة: 7.
3- الفجر: 14.

في نفس الآية و مقارنتها بالآيات الأُخرى يتبيّن أنّ الغرض تشبيه الإحاطة العقلية بالإحاطة الحسّية تقريباً للأذهان و معاذ اللّه أن تكون إحاطته بالإنسان كإحاطة الصيّاد بصيد.

2. إنّه سبحانه يريد أن يبيّن عظمته يوم القيامة، فبيّنها بقوله: (كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى ).(1)

و هو بظاهره يفيد، نسبة المجيء إليه سبحانه و بالتالي جسميته و الذي أوقع التشابه فيه، أي تشابه المراد هو نزول المعارف العقلية العليا إلى موقع الحس و اللمس. فإنّ ظهور عظمته و قهره يوم القيامة باندكاك الجبال و ظهور جهنّم يعد مجيئاً له.

3. يقول سبحانه: (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ )(2).

فأصحاب الأهواء يثبتون له سبحانه يدين جسمانيتين، أو يقولون لا نعلم كيفيتهما، و لكنّه لو أُمعن النظر يعلم أنّ التصريح بأنّه سبحانه خلق آدم بيديه كناية عن الاهتمام بخلقة آدم حيث خلقه و نفخ فيه من روحه و علّمه الأسماء حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم و أنّه ترك السجود لما قام بخلقته مباشرة و إنّما أتى » باليدين «لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول: هذا البناء بنيته بيدي، مع أنّه استعان في عمله هذا بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء، و كأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممتُ بخلقه و صنعه.

4. قوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3)في اللغة هو السرير،

ص:744


1- الفجر: 21 23.
2- ص: 75.
3- طه: 5.

و الاستواء عليه هو الجلوس، غير أنّ هذا حكم مفرداتها، و أمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها، على القرائن الحافّة بها، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو و الاستيلاء، و حملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر، و تأويلاً لها، فإذا سمع العرب قول القائل:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق

أو سمع قول الشاعر:

و لما علونا و استوينا عليهم تركناهم مرعى لنسر و كاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو و السيطرة و السلطة لا العلو المكاني الذي يعد كمالاً للجسم، و أين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات؟! و قد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات(1) مقترناً بذكر فعل من أفعاله، و هو رفع السماوات بغير عمد، أو خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيّام، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني، بل الاستيلاء و السيطرة على العالم كلّه، فكما لا شريك له في الخلق و الإيجاد لا شريك له أيضاً في التدبير و السلطة، و لأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ).(2)

و لو لم يفسّر الاستواء بما ذكرناه، يكون ذكر جلوسه على السرير في ثنايا ذكر أفعاله، بلا مناسبة، إذ أي نكتة في الإخبار عن جلوسه على سريره، لو لم يكن كناية عن استيلائه على عالم الخلق و الكون.

ص:745


1- الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، طه: 5، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4.
2- الأعراف: 54.
3. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة؟

إنّ أصحاب القلوب الزائغة لا يريدون الاهتداء بهدى القرآن الكريم، و إنّما يتبنّون عقيدة أو فكرة أو سلوكاً خاصّاً فيرجعون إلى القرآن بغية الاستدلال عليها، و لأجل ذلك يأخذون من الآيات المتشابهة ما تؤيد ظهورها المتزلزلة مقاصدَهم، و إليك نموذجاً:

إنّ روّاد الجبر الذين يتظاهرون به بغية الانحلال الأخلاقي و الحرّية في السلوك، يتمسّكون بقوله سبحانه: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1)و يبثّون فكرة الجبر الذي هو بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية و الضلالة و الإيمان و الكفر و الطاعة و العصيان فكأنّ الإنسان ريشة في مهبّ الريح.

غير أنّ الراسخين في العلم يؤوّلون الآية و يرجعونها إلى واقعها المراد، و هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ الفيوض المعنوية و المادّية كلّها بيد اللّه سبحانه و لا يملك الإنسان شيئاً من ذلك، و لكن لا بمعنى وجود الفوضى في هداية الإنسان و إضلاله و إنّما يتّبعان الأرضية الصالحة التي يكتسبها العبد باختياره و يستحق الهداية أو الضلالة.

و قد صرّح سبحانه في آيات أُخرى بذلك، يقول سبحانه: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ )(2)، و يقول: (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ )(3). و يقول: (إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ).(4)

فهذه الآيات تفسّر لنا إضلال اللّه سبحانه و أنّه جزاء من اللّه سبحانه لمن

ص:746


1- النحل: 93.
2- البقرة: 26.
3- الأنعام: 144.
4- الرعد: 27.

خرج عن طاعته) الفاسقون (و عدّ من الظالمين كما أنّ الهداية جزاء منه سبحانه لمن هو أناب إلى اللّه سبحانه، فلا يصحّ تفسير هذه الآيات إلاّ بردّ المتشابه إلى المحكم.

4. الراسخون في العلم و التأويل

إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه بشهادة أنّهم راسخون في العلم، و لو كانوا غير عالمين به لكان الصحيح أن يقول و أمّا الراسخون في الإيمان، و قد تضافرت الروايات على أنّ أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (هم الراسخون العالمون بتأويل المتشابه. نعم أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (هم المصداق الأوسط لهذا و إلاّ فالراسخون في العلم هم العلماء المتحلّون بالإيمان، الذين لا يؤوّلون المتشابه برأي مسبق و إنّما يعوّلون على الآيات المحكمات في تفسير المتشابهات.

إلى هنا تمّ الكلام في المواضع الأربعة ممّا يرجع إلى المحكم و المتشابه.

إكمال:
اشارة

التأويل في مقابل التنزيل

قد عرفت أنّ تأويل المتشابه إنّما هو إرجاع ظهوره المتزلزل إلى ظهوره المستقرّ على ضوء القرائن الموجودة في الآية و ما في الكتاب العزيز من الآيات المحكمات، و هناك مصطلح آخر للتأويل و هو: التأويل في مقابل التنزيل فللآية تنزيل، كما أنّ لها تأويل، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله، و المصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله، و هذا من دلائل سعة آفاق القرآن، فالقرآن كما يصفه الإمام يجري مجرى الشمس و القمر، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس

ص:747

و القمر عامّة الناس في عامّة الأجيال، و لذلك يقول الإمام الصادق) عليه السلام (:» إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل، ماتت الآية مات الكتاب!، و لكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى «.(1)

نموذجان من التأويل في مقابل التنزيل

1. يقول سبحانه: (وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ).(2)

نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد، و قد قام النبيّ بتعيين مصداق الهادي في حديثه، و قال:» أنا المنذر و عليّ الهادي إلى أمري «.(3)

و لكن المصداق لا ينحصر بعلي) عليه السلام (، بل الهداة الذين ظهروا عبر الزمان هم المصاديق الجديدة للآية المباركة، و لذلك نرى الإمام الباقر) عليه السلام (يقول:» رسول اللّه المنذر، و علي الهادي، و كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيه «.(4)

فالمتحلّون بحلية الإيمان و العلم، كلّهم هداة عبر الزمان فالمصاديق المتجددة، تأويل للقرآن مقابل تنزيله.

2. يقول سبحانه: (وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).(5)

فتنزيل الآية هو مشركوا قريش و تأويلها هو الناكثون في عهد الإمام

ص:748


1- نور الثقلين: 2/483، ح 22.
2- الرعد: 7.
3- نور الثقلين: 2/482.
4- نور الثقلين: 2/485.
5- التوبة: 12.

علي) عليه السلام (، و لذلك يقول في حقّهم:» و الذي فلق الجنة و برأ النسمة و اصطفى محمّداً بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية، و ما قوتلوا منذ نزلت «.(1)

و من العجب أنّ النبيّ) صلى الله عليه و آله و سلم (هو الذي سمّى هذا النوع من القتال حسب ما ورد في الرواية تأويلاً في مقابل التنزيل، فقال مخاطباً عليّاً) عليه السلام (:» تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتَ معي على تنزيله، ثمّ تُقْتَل شهيداً تخضب لحيتُك من دم رأسك «.(2)

فهذا هو عمّار قاتل في صفّين مرتجزاً بقوله:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله(3)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

الجري و التطبيق هو التأويل في مقابل التنزيل

إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً طائفياً، بل هو كتاب عالمي نزل لهداية الناس عبر القرون، و مع ذلك نرى أنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية فسّرت بأئمّة أهل البيت) عليهم السلام (حتّى أنّ قوله سبحانه: (اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) في سورة الفاتحة فسر بصراط النبيّ و الأئمّة القائمين مقامه.

و هناك من يجهل أهداف هذه الروايات و كيفية تفسيرها للآيات فينسب الشيعة إلى الطائفية.(4)

ص:749


1- نور الثقلين: 2/189; البرهان في تفسير القرآن: 2/106.
2- بحارالأنوار: 40/1، الباب 91.
3- الاستيعاب: 2/472، المطبوع في حاشية الإصابة; مجمع البيان: 1/28.
4- انظر نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنا عشرية: 504.

غير أنّ هذه التفاسير تأويل للقرآن بمعنى بيان مصاديقها الواضحة و معالمها الوسطى و لا تعني اختصاص الآية بهم، و هذا ما يسمّيه سيد المحقّقين العلاّمة الطباطبائي بالجري و التطبيق.

و هذا هو المراد من أنّ للقرآن بطناً أو بطوناً يقول الإمام الصادق) عليه السلام (:» ظهره تنزيله و بطنه تأويله، و منه ما مضى و منه ما لم يجئ بعد، يجري كما تجري الشمس و القمر «.(1)

نحمده سبحانه و نشكره على توفيقه لهذا العبد لتحرير هذه المحاضرات التي ألقاها شيخنا الأُستاذ مدّ ظلّه في مباحث الألفاظ و قد لاح بدر تمام هذا الجزء في الثامن من شهر ذي القعدة الحرام من شهور عام 1417 ه و أرجو من اللّه سبحانه أن يجعل جهدي ذخراً لآخرتي و سعيي سبباً لنيل رضاه، فإنّ ما في الكون يفنى سوى ما كان للّه، يقول الشاعر:

تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنيّة كالخيال

و من فيها جميعاً سوف يُفنى و يبقى وجه ربّك ذو الجلال(2)

أنا الراجي محمد حسين الحاج العاملي عامله اللّه بلطفه الخفي

ص:750


1- مرآة الأنوار: 4.
2- البيتان لمحمد بن أحمد بن عبد اللّه (المتوفّى 988 ه) كما في نفح الطيب: 1/120.

فهرس محتويات الكتاب

كلمة الأُستاذ المحاضر 5 كلمة المؤلّف 7 الفصل الخامس: اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضدّه؟ 9 المسألة أُصولية، و هل هي عقلية أو لفظية؟ 9 الفرق بين الضدّ العام و الخاص و المحاور الثلاثة في هذا الفصل 10 المحور الأوّل: الضد العام 11 هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العام أو لا؟ 11 المحور الثاني: اقتضاء الأمر، النهي عن الضدّ الخاص 14 إنكار المقدمية لوجوه ثلاث 16

ص:751

الاستدلال بمسلك الملازمة و انّ المتلازمين متساويان في الحكم 26 المحور الثالث: في الثمرة الفقهية 30 الأوّل: كفاية وجود الملاك في صحّة العبادة 32 الثاني: كفاية قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة 33 الأمر بالضدين على نحو الترتّب 36 الثالث: في تعريف الترتّب 39 الرابع: صحّة الترتّب و عدمها عقلي 39 الخامس: الترتّب يكفي في وقوعه إمكانه 40 السادس: الأمر بالمهم فعليّ كالأهم 40 تقريبات لتصحيح الترتّب التقريب الأوّل للترتّب 43 نقد المحقّق الخراساني دليل القائل بالترتّب 43 الاستدلال على بطلان الترتّب بطريق الإنّ 52 التقريب الثاني لتصحيح الترتّب 56 التقريب الثالث لتصحيح الترتّب 58 التقريب الرابع لتصحيح الترتّب 60 التقريب الخامس لتصحيح الترتّب 62 الفروع الفقهية المترتّبة على صحّة الترتّب 73 خاتمة المطاف: نظرية الأمر بالأهم و المهم عرضاً لا بنحو الترتّب 78

ص:752

الفصل السادس: في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه 89 ما هو المراد من العنوان و حكم الأوامر الامتحانية؟ 89 ما ذكره السيد الأُستاذ في تفسير العنوان 90 الفصل السابع: هل الأوامر و النواهي تتعلّق بالطبائع أو الافراد؟ 92 الأوّل: ليس النزاع في الدلالة اللفظية 92 الثاني: ليس النزاع مبنيّاً على المسائل الفلسفية 93 الثالث: ما هو المراد من الطبيعة؟ 93 الرابع: ما هو المراد من الافراد في عنوان البحث؟ 94 دليل القول المختار 97 أدلّة القول بتعلّقه بالافراد 97 ثمرة البحث 100 تكميل للطبيعة أفراد لا حصص 102 الفصل الثامن: بقاء الجواز عند نسخ الوجوب 106 الموضع الأوّل: إمكان بقاء الجواز 106 الموضع الثاني: فيما يدلّ على بقاء الجواز 109

ص:753

الفصل التاسع: الواجب التخييري 113 شبهات مثارة حول تصوير الواجب التخييري 113 1. نظرية المحقّق الخراساني 114 2. نظرية المحقّق النائيني 119 3. نظرية المحقّق الأصفهاني 122 4. نظرية بعض القدماء 124 5. ما هو المختار في تفسير الوجوب التخييري؟ 124 تصحيح التخيير بين الأقل و الأكثر 127 الفصل العاشر: الواجب الكفائي 133 النظرية الأُولى: تعلّق التكليف بعموم المكلّفين 133 النظرية الثانية: التكليف على ذمّة واحد من المكلّفين 138 النظرية الثالثة: تعلّق الوجوب بمجموع المكلّفين 139 النظرية الرابعة: تعلّق الوجوب بواحد معيّن 141 ثمرات البحث 142 الفصل الحادي عشر: تقسيم الواجب إلى المطلق و المؤقّت 146 و تقسيم المؤقت إلى الموسّع و المضيّق 146

ص:754

هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد؟ 148 الأصل العملي في المسألة 151 الفصل الثاني عشر: الأمر بالأمر بفعل 154 هل هو أمر بنفس الفعل؟ 154 ثمرات المسألة 155 إثبات شرعية عبادات الصبي بالعمومات 157 الفصل الثالث عشر 159 الأمر بعد الأمر هل الأمر بعد الأمر تأكيد أو تأسيس 159 المقصد الثاني: في النواهي الفصل الأوّل في مادّة النهي و صيغته 163 مفاد الهيئة 164

ص:755

عدم دلالتها على الدوام 164 الفصل الثاني 166 في اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد 166 الأوّل: الفرق بين الاجتماع الآمري و الاجتماع المأموري 166 الثاني: هل النزاع صغروي أو كبرويّ؟ 168 الثالث: ما هو المراد من الواحد في العنوان؟ 170 الرابع: ما هو الفرق بين المسألتين؟ 171 الأمر الخامس: المسألة أُصولية 173 الإشكال على كون المسألة أُصولية 174 السادس: في عموم النزاع لأقسام الأمر و النهي 180 السابع: في لزوم أخذ عنوان المندوحة في النزاع و عدمه 182 الثامن: صحّة النزاع على كلا الرأيين في متعلّق الأحكام 184 بيان للمحقّق النائيني حول التفصيل 186 التاسع: الفرق بين التعارض و التزاحم 187 العاشر: في ثمرات القولين 195 دليل القائلين بامتناع اجتماع الأمر و النهي 204 أدلة القائلين بجواز الاجتماع 211 المقام الأوّل: في إيضاح النظرية بذكر ما تبتني عليه 221 المقام الثاني: دفع المحاذير 223 الاستدلال بالعبادات المكروهة 230 تنبيهات 243 1. في حكم الاضطرار إلى الحرام 243 الاضطرار إلى ارتكاب الحرام من غير اختيار 244 في عبادة المحبوس المضطر 245 حكم الاضطرار بسوء الاختيار 248

ص:756

التنبيه الثاني 269 الأوّل: النهي أقوى دلالة من الأمر 270 الثاني: دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة 274 دراسة أقسام التوضّؤ بماءين مشتبهين 282 التنبيه الثالث: تعدد الإضافات كتعدّد العناوين أو لا؟ 286 الفصل الثالث 287 في كشف النهي عن الفساد 287 فيه مقامان 287 الفرق بين هذه المسألة 287 المسألة أُصوليّة لا فقهيّة 289 انقسام النهي إلى تحريمي و تنزيهي 291

ص:757

حكم النهي الإرشادي 293 تعريف العبادة و المعاملة 294 معنى الصحّة و الفساد 296 هل الصحّة و الفساد مجعولان مطلقاً؟ 299 ما هو الأصل المعوّل عليه عند الشكّ؟ 304 في أقسام تعلّق النهي بالعبادة 309 المقام الثاني: دلالة النهي على الفساد في المعاملات 323 إكمال: الاستدلال بصحيحة زرارة 327 تذنيب: في ملازمة النهي للصحّة 331 فروع فقهية 336 المقصد الثالث: في المفاهيم، و فيه فصول 341 الأوّل: المنطوق و المفهوم من أوصاف المدلول 341 الثاني: تعريف المفهوم 342 الثالث: حصر المداليل في المنطوق و المفهوم 345

ص:758

وجود اصطلاحين في لفظ المفهوم 348 الرابع: مسلك القدماء و المتأخّرين في استفادة المفهوم 348 الخامس: النزاع صغروي لا كبروي 351 السادس: في مفهوم الموافقة 352 السابع: في الشرط المحقّق للموضوع 353 الفصل الأوّل 354 مفهوم الشرط 354 الأوّل: التبادر 355 الثاني: الانصراف 356 الثالث: التمسّك بالإطلاق 356 الأوّل: الانحصار مقتضى إطلاق أداة الشرط 356 الثاني: الانحصار مقتضى إطلاق فعل الشرط 359 نظرية المحقّق البروجردي 366 ما هو المختار في المقام؟ 367 تنبيهات 371 التنبيه الأوّل: المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه 371 التنبيه الثاني: إذا تعدّد الشرط و اتّحد الجزاء 378 التنبيه الثالث: تداخل الأسباب و المسببات 386 إطلاق الشرط يقتضي عدم التداخل 389

ص:759

التفصيل بين كون الأسباب معرفات أو مؤثّرات 398 التفصيل بين وحدة الأسباب جنساً و عدمها 400 إذا شكّ في مقتضى الأدلّة الاجتهادية 403 في تداخل المسببات و عدمه 404 إمكان التداخل ثبوتاً و عدمه 405 حجّة القائل بعدم التداخل 407 حجّة القائل بالتداخل 409 بعض الفروع المترتّبة على مسألة التداخل و عدمه 410 السالبة الكلية و مفهومها 412 الفصل الثاني 417 مفهوم الوصف 417 في تعريف مفهوم الوصف 417 أقسام الوصف 420 دراسة أدلّة النافي للمفهوم 427

ص:760

الفصل الثالث 429 في مفهوم الغاية 429 هل للقضية المغيّاة دلالة على ارتفاع الحكم عن الغاية و ما بعدها أو لا؟ 429 الأقوال في المسألة و بيان المختار 430 في دخول الغاية في حكم المغيّى و عدمه 436 سرد الأقوال و بيان ما هو المختار 437 الفصل الرابع 442 مفهوم الحصر 442 الاستثناء من النفي إثبات و من الإثبات نفي 442 أدلّة القائلين بدلالة الاستثناء على الحصر 444 من أدوات الحصر لفظة» إنّما «452 الكلام في بل الاضرابيّة و تقديم ما حقّه التأخير 457

ص:761

الفصل الخامس مفهوم اللقب 463 انقسام الاسم إلى العلم و الكنية و اللقب 463 الفصل السادس 465 مفهوم العدد 465 أقسام العدد المأخوذة في الموضوع 465 تطبيقات 467 المقصد الرابع 473 العام و الخاص، و فيه فصول: 473 الفصل الأوّل: للعام صيغة تخصّه 483 الفصل الثاني: تخصيص العام لا يوجب المجازية 493 الفصل الثالث: العام المخصص حجّة في الباقي 499 الفصل الرابع: في حجّية العام في مورد إجمال المخصص مفهوماً 505 الفصل الخامس: المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً 514 الفصل السادس: إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي 533 الفصل السابع: إحراز حال الفرد المشتبه بالعنوان الثانوي 549

ص:762

الفصل الثامن: إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي 560 الفصل التاسع: لزوم الفحص عن المخصّص 565 الفصل العاشر: في الخطابات الشفاهية 575 الفصل الحادي عشر: تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 596 الفصل الثاني عشر: في تخصيص العام بالمفهوم 602 الفصل الثالث عشر: الاستثناء المتعقِّب للجمل 613 الفصل الرابع عشر: تخصيص الكتاب بالخبر الواحد 621 الفصل الخامس عشر: في حالات العام و الخاص 631 المقصد الخامس 669 في المطلق و المقيّد و المجمل و المبيّن، و فيه فصول: 669 الفصل الأوّل: في ألفاظ المطلق 675 الفصل الثاني: تقييد المطلق لا يستلزم المجازية 700 الفصل الثالث: مقدّمات الحكمة 703 الفصل الرابع: في حمل المطلق على المقيّد 712 الفصل الخامس: في المجمل و المبيّن و المحكم و المتشابه 727

ص:763

بيان الأقوال في المتشابه 735 التأويل في القرآن الكريم 740 فهرس محتويات الكتاب 751

ص:764

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ص:2

ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة

تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی

تالیف محمد حسین الحاج العالمی

ص:3

ص:4

مقدمة المولف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي شرّف العلماء، و عظّم الفضلاء، و فضّل مدادهم على دماء الشهداء، فمن علم و عمل فقد ارتقى إلى منازل السعداء، و من جهل أو علم و لم يعمل فقد هبط إلى درك الأشقياء.

ثمّ الصلاة و السلام على سيّد الأنبياء و خير الأصفياء محمّد و آله مصابيح الهدى و أعلام الورى.

أمّا بعد; يعدّ علم الفقه من أهمّ المعارف و أسناها حيث يتكفل بيان الحلال و الحرام، و المنجيات و المهلكات، ثم يليه في الأهمية أُصول الفقه، كالنظرية إلى التطبيق.

و ممن ساهم في هذا المضمار العلاّمة الحجّة الثبت الشيخ محمد حسين الحاج العاملي) حفظه الله (، حيث حضر بحوثنا الفقهية و الأُصولية و انبرى لكتابتها و مذاكرتها، و قد أودع جلَّ ما ألقيناه من دروس و محاضرات حول الحجج الشرعية في هذا الكتاب الّذي يزف الطبع الجزء الأوّل منه لطلاب الفقه و بغاة الاجتهاد و هو بحمد الله بما أُوتي من مواهب و قابليات سبق أقرانه بسبق غير منكور وسعي مشكور و عقدت عليه آمال الخير و السعادة في مستقبله المشرق.

نسأل الله أن يوفقه لصالح العلم و ينير أمامه درب الخير و الصلاح.

جعفر السبحاني قم. مؤسسة الإمام الصادق) عليه السلام ( 22 من شهر صفر المظفر 1420

ص:5

ص:6

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام على خاتم أنبيائه محمّد و آله الطاهرين.

أمّا بعد: فهذه درر و فوائد، و غرر و فرائد، التقطتها من دروس شيخنا العلاّمة الحجّة، الباحثِ الكبيرِ، و المحقِّق الخبير، أُسوة المشتغلين، و أُستاذ المتأخرين، آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني دامت أيّام إفاداته، في الحجج العقلية و الأمارات الشرعية.

قمتُ بنشر ما أفاده في هذه الدورة الدورة الرابعة الأُصولية لما رأيت أنّ بينها و بين ما تقدّمها من الدورات، اختلافاً في التقرير، و تفاوتاً في العرض و الاستنتاج، و أرجو أن يكون الكتاب مرجعاً لطلاّب الفضيلة و بغاة الاجتهاد بإذنه سبحانه.

و يأتي جميع ما حرّرته من بحوث شيخنا الأُستاذ مُدّ ظلّه في المباحث العقلية في جزءين:

الأوّل: في مباحث القطع و الظن و البراءة و الاشتغال.

الثاني: في مباحث الاستصحاب و التعادل و الترجيح و الاجتهاد و التقليد.

فها أنا أقدم الجزء الأوّل للقرّاء بفضل من اللّه سبحانه، و أرجو أن يوفقني لنشر الجزء الثاني انّه قريب مجيب.

محمد حسين الحاج العاملي قم المشرقة الجامعة العلمية 10 شوال المكرّم / 1419 ه

ص:7

ص:8

قال شيخنا الأُستاذ:

المقصد السادس: في الحجج الشرعية

اشارة

خصّص المحقّق الخراساني هذا المقصد ببيان الحجج الشرعية، و طرح فيها: حجّية ظواهر الكتاب، و قول اللغوي، و الإجماع المنقول، و الشهرة الفتوائية، و خبر الواحد، فانتهى إلى حجية أكثرها.

و لكنّه قدّم على البحث في هذه الأُمور، أُموراً ترتبط بالقطع و جعلها مقدمة للبحث عن الحجج الشرعية.

و بما انّ الحجّة في الفقه عند الشيعة تنحصر بالكتاب و السنّة و العقل و الإجماع كان الأولى عقد فصول أربعة لهذه الحجج كي يقف المتعلّم على كلّ واحد من هذه الحجج و أدلّة حجّيتها. و ما صنعه المحقّق الخراساني و من بعده من الأعلام تبعاً للشيخ الأنصاري صار سبباً لعدم وضوح معالم الأدلّة الأربعة.

و مع ذلك كلّه، ما فاتهم الإلماعُ إلى هذه الحجج الأربع، فأدخلوا البحث عن حجّية الكتاب في باب حجّية الظواهر على الإطلاق، كما أدخلوا البحث عن السنّة في البحث عن حجّية خبر الواحد، و البحث عن الإجماع في البحث عن حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد، و البحث عن العقل في ثنايا البحث عن حجّية القطع.

ص:9

و لو لا انّ المخالفة لنهج الأعلام يوجب صعوبة في دراسة المسائل الأُصولية للأذهان المألوفة بكتابي الفرائد و الكفاية و ما أُلِّف بعدهما من التقريرات، لتركت السير على نهجهم، و عقدت فصولاً أربعة لكلّ واحد من هذه الحجج، و بعد الفراغ منها، استعرضت البحث فيما لا نصّ فيه و طرحت فيه الأُصول العملية لعلّ اللّه سبحانه يوفقنا على استعراض جديد لهذه المسائل.

مقدمة البحث في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد

التقسيم الثلاثي في كلام الأنصاري

قال الشيخ الأعظم: اعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع هي القواعد الشرعية، الثابتة للشاكّ في مقام العمل، و تسمّى بالأُصول العملية.

و قد نوقش كلامه بوجوه نذكر منها ما يلي:

1. قد أُخذ المكلف موضوعاً لطروء الحالات الثلاث مع أنّها من خصائص المجتهد دون مطلق المكلّف.

2. أُطلق لفظ الحكم و هو يشمل الإنشائي و الفعلي، مع أنّ الأحكام المترتّبة على القطع و الظن و الشكّ إنّما تترتّب على ما إذا تعلّق القطع و غيره، بالحكم الفعلي دون الإنشائي، و المراد من الحكم الإنشائي ما تمّ تشريعه و لم يبيّن أو لم يصل إلى يد الأُمّة بتاتاً لوجود موانع في طريق إبلاغه و بيانه للناس.

فإن قلت: المراد من الحكم الإنشائي هو الحكم الفاقد للموضوع، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى فاقد الاستطاعة، فيقال وجوب الحج في حقّه إنشائي، و معلوم انّ أحكام القطع و غيره مترتبة أيضاً على هذا النوع من الحكم الإنشائي.

قلت: إنّ في الحكم الإنشائي اصطلاحين: أحدهما ما ذكرت، و الثاني ما ذكره المورد كما مرّ، و الإشكال مبنيّ على الاصطلاح الأوّل.

ص:10

3. وجود التداخل في تقسيمه الثلاثي، لأنّ الظنّ إذا قام الدليل على حجّيته، يدخل تحت القطع بالحكم و إن كان ظاهريّاً، و كان الطريق ظنّياً، و إلاّ يدخل تحت الشكّ.

فالإشكال الأوّل متوجه إلى أخذ المكلّف موضوعاً، و الثاني إلى إطلاق لفظ الحكم، و الثالث إلى التقسيم الثلاثي، مع أنّه ثنائي.

نعم من حاول أن يتحفظ بالتقسيم الثلاثي بأن لا يدخل القسم الثاني تحت القسم الأوّل فعليه تبديل الظن بالدليل المعتبر و تقريره بالنحو التالي: إمّا أن يحصل له القطع أو لا، و على الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا.(1)

و لا يذهب عليك انّ مجرّد جعل الدليل المعتبر مكان الظن لا يكفي في رفع التداخل إلاّ إذا فسر الحكم في قوله:» إذا التفت إلى حكم «بالحكم الواقعي و يقال: انّ الدليل المعتبر بما انّه لا يفيد القطع بالحكم الواقعي لا يدخل تحت القطع، و بما أنّه معتبر لا يدخل تحت الشك، فالصيانة على التثليث فرع تخصيص الحكم، بالواقعي، و إلاّ يدخل الدليل المعتبر تحت القطع، و ينتفي التثليث أيضاً.

التقسيم الثنائي في كلام المحقّق الخراساني ثمّ إنّه لما لم تكن أحكام القطع و قسيميه مختصة بالحكم الواقعي بل يعمّه و الظاهري، عدل المحقّق الخراساني من التقسيم الثلاثي إلى الثنائي و دفع الإشكالات الثلاثة فقال: إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا.

و على الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له و قد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة و إلاّ فالرجوع إلى

ص:11


1- تقرير لما في الكفاية بتوضيح منّا.

الأُصول العقلية من البراءة و الاشتغال و التخيير.

إنّ كلامه) قدس سره (مركّب من شقين قد تخلص في أوّلهما عن الإشكال الأوّل، باتخاذ المجتهد هو الموضوع بقرينة قوله:» أو بمقلّديه «، و في الوقت نفسه لم يخص حجّية ما استنبطه لنفسه، بل عمّمه لنفسه و لغيره من مقلديه، بل ربما يكون المورد ممّا لا يبتلي به المجتهد كأحكام الحائض و غيرها. كما تخلص عن الثاني بتخصيص الحكم بالفعلي. و عن الثالث بالتقسيم الثنائي.

و على ضوء تعريفه يدخل في القسم الأوّل القطع بالحكم، بقيام الأمارات و جريان الأُصول العملية الشرعية كالبراءة الشرعية و التخيير الشرعي و الاستصحاب، لكون الجميع من قبيل القطع بالحكم الظاهري و المفروض فيها جعل المؤدّى و انّ للشارع فيها حكماً مماثلاً لما تؤدّيه الأمارة و الأُصول الشرعية، هذا هو الشقّ الأوّل.

و أمّا الشقّ الثاني، فأشار به إلى دور المعذّرات العقلية التي ليس في موردها جعل حكم شرعي على الترتيب التالي:

1. الظن عند انسداد باب العلم، إذا قلنا بأنّ العقل يستقل عند انسداده بلزوم الإطاعة الظنية، و تقديمها على الإطاعة الشكية و الوهمية من دون أن يكون للشارع أيُّ تدخّل في المقام، فعندئذ لا يكون المظنون حكماً شرعياً مجعولاً، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ العقل يستكشف في حال الانسداد أنّ الشارع جعله حجّة في هذه الحالة، فيكون للشرع في مورده حكم شرعي مجعول.

2. الأُصول العقلية من البراءة و الاشتغال و التخيير، فانّ مبنى الأوّل قبح العقاب بلا بيان، و الثاني لزوم الخروج عن عهدة التكليف على وجه القطع، و الثالث لزوم الخروج بالمقدار الممكن. و كلّها أحكام عقلية للتخلص من المأزق.

ص:12

القضاء بين العلمين

لا يخفى انّ التقسيم الثلاثي لا يخلو من محسِّنات:

1. انّه تقسيم طبيعي في كلّ موضوع يقع في أُفق الفكر من غير اختصاص بالحكم الشرعي.

2. انّه كديباجة للمباحث الثلاثة التي ألّف الشيخ حولها الرسائل الثلاث: القطع، الظن، و الأُصول العملية. و المحقّق الخراساني مع أنّه اختار التقسيم الثنائي، لكنّه تبع الشيخ في مقام العمل فعقد بحثاً للقطع، و بحثاً آخر للأمارات و الطرق، و أدرج الأُصول العملية في المقصد السابع فلاحظ.

3. التثليث هو المناسب لحال المبتدئ، لأنّ إدخال الظن تحت القطع، بحجّة انّ المضمون حكم قطعي ظاهري من شأن المنتهى.

و أمّا التقسيم الثنائي فإنّما يصحّ إذا قلنا بأنّ المجعول في مورد الأمارات هو الحكم الشرعي و هو غير واضح، و إنّما المجعول فيها إمضاء لما في يد العقلاء و ليس للأمارة عندهم في الأُمور المولوية دور إلاّ أنّه إذا أصاب الواقع نجّز و إن أخطأ عذّر، فليس لنا حكم باسم الحكم الشرعي الظاهري و مثلها الأُصول العملية العامة إذ ليس فيها أيّ جعل للشارع كالبراءة الشرعية و التخيير الشرعي و الاستصحاب.

نعم لا يبعد في الأُصول العملية الخاصة كقوله:» كلّ شيء طاهر «أو» كلّ شيء حلال «كون المجعول هو الحكم الظاهري و سيوافيك بيانها.

هذا كلّه حول الإشكال الثالث المتوجّه إلى الشيخ.

و أمّا الإشكال الأوّل فيمكن الذبّ عنه بأنّ المراد من المكلّف هو المكلّف الفعلي الذي لا ينفك عن الالتفات الإجمالي، و قوله:» إذا التفت «إشارة إلى

ص:13

الالتفات التفصيلي الذي لا ينطبق إلاّ على المجتهد.

و أمّا الإشكال الثاني، فلعلّ انصراف الحكم إلى الفعلي، أغناه عن تقييده به.

انحصار الأُصول العملية في الأربعة، استقرائيّ
اشارة

المعروف انّ انحصار الأُصول العملية العامة في الأربعة استقرائي لإمكان أن يكون هنا أصل عملي خامس، و أمّا أصالة الطهارة و الحلية فانّ كلاً منهما و إن كان أصلاً عملياً لكنّهما تختصان بأبواب معينة، و المقصود من الأُصول العملية في المقام، ما يجري في جميع الأبواب. نعم لو قطع النظر عن الاستصحاب يمكن أن يقال انّ الحصر عقلي، لأنّ الأصل إمّا لا يراعى فيه التكليف المحتمل فهو البراءة، أو يراعى بوجه و هو التخيير، أو يراعى بكلّ وجه و هو الاحتياط.

حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي
اشارة

قد تعرفت على أنّ حصر الأُصول العملية في الأربعة استقرائي لكن حصر مجاريها في الأربعة حصر عقلي دائر بين النفي و الإثبات، فقد ذكر مجاري الأُصول في رسالة القطع للشيخ الأعظم ببيانين، و قد اختلفت طبعات الفرائد، فجاء في بعضها كلا التعبيرين في المتن كما عليه طبعة رحمة اللّه، كما جاء في بعضها الآخر أحدهما في المتن و الآخر في الهامش، و أردفه في رسالة البراءة ببيان ثالث، و إليك دراسة الجميع.

البيان الأوّل

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، و على الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط إمكان الموافقة القطعية أو لا، و على الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في

ص:14

التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى قاعدة الاحتياط.(1)

فقد جعل مجرى التخيير قسيماً لمجرى الاحتياط و البراءة.

البيان الثاني

الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا، و الأوّل مجرى البراءة، و الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، و الأوّل مجرى قاعدة الاحتياط و الثاني مجرى قاعدة التخيير.(2)

فقد جعل مجرى التخيير قسماً من مجرى الشكّ في المكلّف به، فالشكّ في المكلّف به على قسمين: فإمّا لا يمكن الاحتياط و إمّا يمكن. فالأوّل مجرى التخيير و الثاني الاحتياط.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من العلم بالتكليف أو الشكّ فيه كما صرّح به الشيخ هو العلم بنوع التكليف كخصوص الوجوب أو خصوص الحرمة، أو الشكّ فيه، فلو علم النوع فهو من قبيل الشكّ في المكلّف به، و لو جهل النوع أو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في التكليف، و هذا ما يستفاد من كلام الشيخ قال في أوّل رسالة البراءة:» لأنّ الشكّ إمّا في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الإلزام و إن علم جنسه كالتكليف المردّد بين الوجوب و الحرمة... «.(3)

ص:15


1- الفرائد: رسالة القطع: 1، طبعة رحمة اللّه.
2- نفس المصدر.
3- الفرائد: رسالة البراءة: 192، طبعة رحمة اللّه.

و على هذا يرد على التقريرين أمران:

الأمر الأوّل: انّ الشكّ في التكليف ليس ملاكاً للبراءة، و لا الشكّ في المكلف به ملاكاً للاحتياط بل ربّ شك في التكليف يجب فيه الاحتياط، كما أنّ ربّ شك في المكلّف به لا يجب فيه الاحتياط.

أمّا الأوّل، فكالشكّ قبل الفحص، أو كون الشكّ متعلقاً بالدماء و الأعراض و الأموال أو إذا دار الأمر بين وجوب شيء، و حرمة شيء آخر، حيث إنّ المعلوم جنس التكليف لا نوعه، فالجميع من قبيل الشكّ في التكليف مع أنّه يجب فيه الاحتياط مثلاً يجب في الأخير فعل الأوّل و ترك الثاني.

و يمكن دفع الأوّلين، بأنّ الفحص من شرائط جريان البراءة لا من شرائط العمل، فلا موضوع لها قبله، كما أنّ وجوب الاحتياط لدليل ثانوي من الإجماع و غيره و لولاه لكانت البراءة جارية.

نعم يبقى المورد الثالث باقياً بحاله و الاحتيال بجعله من قبيل العلم بالنوع بأنّ مرجعه إلى الشكّ إلى العلم بوجوب فعل هذا، أو وجوب ترك ذاك، تكلّف جدّاً.

و أمّا الثاني فكما إذا كان أطراف الشبهة غير محصورة، فلا يجب الاحتياط مع كون الشكّ من قبيل الشكّ في المكلّف به.

الأمر الثاني: انّ نوع التكليف في مجرى التخيير، أعني: دوران الأمر بين المحذورين، مجهول، و على هذا فهو من قبيل الشكّ في التكليف، لكنّه جعله قسيماً لكلا الأمرين في البيان الأوّل، و قسماً من الشكّ في المكلّف به في البيان الثاني، في غير محله.

هذا ما يرجع إلى البيانين الموجودين في أوّل رسالة القطع.

ص:16

البيان الثالث

و هناك بيان ثالث للشيخ ربما يكون أمتن منهما و لا يرد عليه واحد من الإشكالين، و قد جعل فيه ملاك البراءة و الاشتغال عدم نهوض دليل على ثبوت العقاب أو نهوضه من غير نظر إلى كون الشكّ في التكليف أو كون الشكّ في المكلّف به، نعم الغالب على الأوّل عدم نهوض الدليل على العقاب و على الثاني نهوضه عليه، و إليك نصّه:

إنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه و إمّا أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان و لم يلحظ، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أم لا، و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا، و الأوّل مورد الاحتياط و الثاني مورد البراءة.(1)

و قد تبع المحقّق الخراساني كلام الشيخ في تعليقته و قيد مجرى البراءة بما إذا لم يكن هناك حجّة ناهضة على التكليف في البين عقلاً و نقلاً.(2)

أمّا عدم ورود الإشكالين فواضح:

أمّا الأوّل: فلأنّ عدم جريان البراءة في الموارد الثلاثة لنهوض الدليل على العقاب، و أمّا الثاني:

فلنهوض الدليل على عدم العقاب من حيث استلزامه العسر و الحرج المنفيين في الشرع.

و على هذا فيكون مجرى كلّ واحد مشخصاً من دون أن يتداخل أحدهما في الأمر بالنحو التالي:

ص:17


1- الفرائد: رسالة البراءة: 192، طبعة رحمة اللّه.
2- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد: 3.

1. مجرى الاستصحاب: أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

2. مجرى التخيير أن لا تكون ملحوظة إمّا لعدمها أو لعدم حجّيتها و لكن كان الاحتياط غير ممكن، سواء كان الشكّ من سنخ الشك في التكليف، كما إذا تردد حكم شيء معين في وقت محدد بين الوجوب و الحرمة; أو كان من قبيل الشكّ في المكلّف به، كما لو علم بوجوب البيتوتة إمّا في هذا البلد أو في بلد آخر، فأصالة التخيير تجري في كلا الموردين بملاك عدم إمكان الاحتياط.

3. مجرى البراءة بعد امتناع الاحتياط عبارة عمّا إذا لم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل: كقبح العقاب بلا بيان أو الشرع كحديث الرفع.

4. مجرى الاشتغال بعد إمكان الاحتياط، إذا نهض دليل على العقاب لو خالف.

و هذا هو المختار، وعليه لا يكون هناك أيّ تداخل.

و أمّا المحقّق النائيني فقد تخلص عن التداخل بوجه آخر حيث جعل مجرى البراءة، هو الشكّ في التكليف و فسّره بالجهل بنوع التكليف و جنسه و جعل العلم بالجنس مع الجهل بالنوع من أقسام الشكّ في المكلّف به، غاية الأمر إذا لم يمكن الاحتياط، يجري التخيير كدوران الأمر بين وجوب الشيء و حرمته، و إذا أمكن يكون مجرى للاحتياط كما إذا علم وجوب شيء، أو حرمة شيء آخر فالمعلوم هو الجنس لكن يختلفان بعدم امكان الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

نعم يتوجه عليه النقض بما إذا جهل بالتكليف نوعاً و جنساً فهو عنده من قبيل الشكّ في التكليف و مع ذلك إذا حاز المحتمَل أهميّة خاصة دعت الشارع إلى جعل الاحتياط كالدماء و الأعراض و الأموال فأمرها و إن كان دائراً بين الحلية و الحرمة و كان جنس التكليف مجهولاً لكن يجب الاحتياط. كما يتوجه إليه النقض

ص:18

بعدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة مع أنّه من قبيل العلم بالتكليف و الشكّ في المكلّف به.

إلاّ أن يقال انّه بصدد بيان حكم الشبهة بما هي هي مع قطع النظر عن قيام الدليل الخارجي على حكمها.

ص:19

الأمر الأوّل:
اشارة

في أحكام القطع

و نذكر من أحكامها ما يلي:

1. في وجوب متابعة القطع

قال الشيخ الأعظم: لا إشكال في وجوب متابعة القطع و العمل عليه ما دام موجوداً، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع.

و قال المحقّق الخراساني: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً و لزوم الحركة على طبقه جزماً.

يلاحظ عليه: أنّه إن أُريد من متابعة القطع، متابعة نفس القطع، فهو فرع كونه ملتفتاً إليه مع أنّه أمر مغفول عنه، لأنّ البحث في القطع الطريقي الذي ليس فيه أيّ التفات إلى القطع، و إن أُريد المقطوع كالوجوب و الحرمة و غيرهما من الأحكام الصادرة من المولى، فالموضوع لوجوب الاتباع عند نظر العقل هو نفس الأحكام بما هي هي حيث يستقل العقل بلزوم إطاعة أوامر المولى و نواهيه، نعم ذات الأحكام بما هي هي و إن كانت موضوعة لوجوب الإطاعة لكن لا يمكن امتثالها إلاّ إذا وقف عليه المكلّف بالحجّة العقلية أو الشرعية كالأمارات، فالوقوف عليها من شرائط تنجز الطاعة من غير اختصاص بالقطع.

ص:20

2. هل طريقية القطع أمر ذاتي له؟

المعروف انّ طريقية القطع من ذاتياته أو لوازمه فهي غنية عن الجعل.

توضيحه: انّ الجعل إمّا بسيط و هو جعل الشيء، أو مركب و هو جعل الشيء شيئاً و مفاد الأوّل مفاد كان التامة، و مفاد الثاني مفاد كان الناقصة، و يسمّى جعلاً تأليفياً أيضاً.

ثمّ الجعل التأليفي ينقسم إلى: جعل تأليفي حقيقي كجعل الجسم أبيض، و جعل تأليفي مجازي كجعل الأربعة زوجاً.

ثمّ إنّ ذاتي الشيء أو لازمه غنيان عن الجعل التركيبي الحقيقي، و ذلك لأنّ مناط الجعل الحقيقي هو الحاجة و عدم إغناء جعل الموضوع عن جعل المحمول كما هو الحال في جعل الجسم فانّ إيجاده لا يغني عن إيجاد البياض، إذ ليس الجسم بما هو هو واجداً للبياض فيحتاج البياض إلى جعل أمر، بخلاف الأربعة بالنسبة إلى الزوجية فانّ جعلها تُغني عن تعلّق جعل مستقل بها، فجعلها جعل بالنسبة إلى لازمها، و إذا كان هكذا حال اللازم، فكيف بالذاتي كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان.

يلاحظ عليه: أنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع و في الوقت نفسه لا تنالها يدُ الجعل.

أمّا الأوّل: فإن أُريد من الذاتي، ذاتي باب الايساغوجي، فهو فرع كونها جنساً أو فصلاً أو نوعاً و ليست كذلك، لأنّ حقيقة القطع ترجع إلى كونه من الحالات النفسانية كسائر الصفات، نعم فيه اقتضاء هداية الإنسان إلى الخارج في بعض الأوقات دون بعض.

ص:21

أمّا الثاني: فلأنّها لو كانت من لوازم وجوده لزم عدم صحّة الانفكاك بينهما مع أنّا نرى أنّ الإنسان غارق في الجهل المركّب و كم من قاطع ليس قطعه إلاّ ضلالة.

و مع الاعتراف بأنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع تُصافِقُ القولَ بأنّ الحجّية لا تنالها يد الجعل، لكن لا بالملاك السابق أي كونها ذاتية أو من لوازمه بل بملاك آخر، و هو انّ المراد من الجعل هو الجعل الاعتباري التشريعي، و هو ما لا يتعلق إلاّ بالأُمور الاعتبارية، و أمّا الطريقية و الكاشفية أو تتميم الكشف في الأمارات كلّها أُمور تكوينية لا تتحقق إلاّ بيد التكوين لا بالجعل الاعتباري الذي هو موضوع البحث في المقام ، و بذلك يعلم انّ ما يظهر من المحقّق النائيني في غير واحد من المواضع من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقية ليس بتام.

و مثله ما اختاره السيد الحجّة الكوهكمري) قدس سره (في درسه الشريف، فقد كان يقوِّي انّ عمل الشارع في الأمارات هو تتميم الكشف، و من المعلوم انّ التتميم كأصله أمر تكويني لا تنالهما يد الجعل.

فتخلص من ذلك ان الطريقية ليست ذاتية للقطع و في الوقت نفسه لا تنالها يد الجعل، و ما ربما يقال من أنّ الطريقية ذاتية له عند القاطع غير تام، لأنّ الأُمور التكوينية غير خاضعة للنسبية، لأنّ أمرها دائر بين الوجود و العدم، فالطريقية للقطع إمّا حاصلة أو لا؟ و كونها حاصلة له عند القاطع دون غيره يرجع معناه إلى جهله بالواقع فيزعم غير الطريق طريقاً.

نعم إذا صادف الواقع يكون طريقاً فيكون وصفاً مفارقاً لا دائماً.

ص:22

3. هل القطع حجّة بالذات؟

قد تعرفت على حكم الطريقية و انّها غير قابلة للجعل، و إن كانت غير ذاتية له، فيقع الكلام في حجّية القطع، فاعلم أنّ الحجّة على أقسام:

1. الحجّة اللغوية.

2. الحجّة المنطقية.

3. الحجّة الأُصولية.

و نبحث في الجميع واحداً تلو الآخر.

أمّا الحجّة اللغوية أو العقلائية، فهي عبارة عمّا يحتجّ به المولى على العبد و بالعكس. و بعبارة أُخرى:

ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب، و عذراً إذا أخطأ.

فقد افترض المحقّق الخراساني الحجّية بهذا المعنى من لوازم وجود القطع كالإحراق بالنسبة إلى النار، و من المعلوم امتناع الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء و لازمه، نعم يصحّ الجعل التأليفي العرضي، بجعل الموضوع و إيجاده بسيطاً، فإن جعل النار، جعل للإحراق تأليفاً مجازياً، ثمّ رتب عليه انّه لا يصحّ المنع من تأثيره أي كونه قاطعاً للعذر أو معذّراً، لعدم تعقل الانفكاك بين الشيء و لازمه بل يستلزم اجتماع الضدين في نظر القاطع مطلقاً وافق الواقع أم خالف، و في نفس الأمر إذا وافق.

و ربّما يستدل على امتناع جعل الحجّية له باستلزامه التسلسل، لأنّ الجاعل إمّا أن يكون القطع أو الظن أو الشكّ، و الأخيران أنزل من أن يكون مبدأً لحجّية القطع فينحصر بالقطع، فينقل الكلام إليه، إمّا يتسلسل أو يتوقف في مورد، تكون

ص:23

الحجّية له هناك أمراً ذاتياً.

يلاحظ عليه: أنّ القطع و إن كان في غنى عن جعل الحجّية لها، لكن لا لأجل كونها من لوازم وجوده و ذاته، كذاتي باب البرهان مثل الإمكان بالنسبة إلى الماهية، و الزوجية إلى الأربعة، بل لأجل أنّ صحة الاحتجاج بالقطع من الأحكام القائمة بنفس العقل، و ليست الحجية من عوارض القطع أو لوازمه حتى يستدل بعدم صحّة الجعل بما سمعت من امتناع الجعل التأليفي بين الشيء و ذاتياته أو لوازمه.

و هذا بخلاف الزوجية بالنسبة إلى الأربعة فإنّ الزوجية من لوازم وجود الأربعة و هي قائمة بها قيام اللازم مع الملزوم.

و نظير الحجية بالنسبة إلى القطع حسن العدل و قبح الظلم فربّما يتصور أنّ نسبتهما إلى العدل و الظلم كنسبة الزوجية إلى الأربعة بتصور أنّهما من لوازمهما أو من ذاتياتهما.

و لكن الحق أنّ الحسن و القبح من الادراكات العقلية التي ينتقل إليها العقل من احساسه بالملائمة بين الفطرة و العدل و بالمنافرة بينها و بين الظلم، فيعبر عن الاحساسين بالحسن و القبح دون أن يكونا من الأُمور القائمة بالعدل و الظلم و قد أسهبنا البحث في ذلك في محله(1).

و هذا هو الوجه في عدم خضوع القطع لجعل الحجّية له، لا كونها ذاتيةً له، أو استلزامه التسلسل، لأنّ الدليل الأوّل باطل و الثاني تبعيد للمسافة.

ص:24


1- انظر رسالة التحسين و التقبيح العقليين.
4. ليس القطع حجّة منطقية

إذا كان الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له فيوصف بالحجّة المنطقية كالتغيّر الذي هو علّة لإثبات الحدوث للعالم، و صورة القياس واضحة.

و بما انّ البحث في المقام في القطع الطريقي الذي ليس له دور في ثبوت المقطوع به واقعاً و تحقّقه، غير كونه كاشفاً عن الواقع فلا يوصف بالحجّة المنطقية فلا يصحّ تنظيم قياس من القطع و جعله حدّ الوسط بأن يقال: هذا مقطوع الخمرية، و كلّ مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام لكذب الكبرى، إذ ليس الحرام إلاّ نفس الخمر، تعلّق بها القطع أو لا، لا خصوص مقطوع الخمريّة.

و مثله الظن و الأمارة، فليس الظن و الأمارة علّة لثبوت المقطوع به، و إنّما هو كاشف، من دون أن يكون له دور في تحقّق متعلقه، فلا يصحّ أن يقال هذا مظنون الخمرية و كلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه، لكذب الكبرى، لأنّ المحرم هو ذات الخمر، لا كونه بوصف المقطوعية.

هذا كلّه في القطع الطريقي، و أمّا القطع الموضوعي خصوصاً إذا كان تمام الموضوع للحكم فبما انّ له دوراً في ثبوت الحكم كما إذا رتّب الشارع الحرمة على مقطوع الخمرية، يكون القطع واسطة لثبوت الأكبر على الأصغر، و يصحّ تأليف قياس منطقي منه، فيقال هذا مقطوع الخمرية و كلّ مقطوع الخمرية حرام، فهذا حرام و الكبرى صادقة بخلاف ما إذا كان القطع طريقاً لا دخيلاً في الموضوع.

و العجب من الشيخ الأعظم حيث فرّق بين القطع و الظن، فقال بأنّه لا يحتج بالقطع على ثبوت الأكبر للأصغر، بخلاف الظنّ أو البيّنة أو فتوى المفتي فصحح قول القائل هذا الفعل ما أفتى بتحريمه المفتي، أو قامت البيّنة على كونه

ص:25

محرماً، و كلّما كان كذلك فهو حرام(1) مع أنّ الجميع من باب واحد، و لعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الحجّة المنطقية و الحجّة الأُصولية، فانّ التفكيك إنّما يصحّ في الثانية دون الأُولى، و إليك بيانها.

5. ليس القطع حجّة أُصولية بخلاف الظن

الحجّة الأُصولية عبارة عمّا لا يحكم العقل بالاحتجاج بها و لا يحكم بعدمه أيضاً غير أنّ العقلاء أو الشارع يرون الاكتفاء بالقطع يوجب العسر و الحرج، أو فوتَ المصالح لقلة القطع و اليقين، فيعتبرون الأمارة في الأحكام و البيّنة في الموضوعات حجّة لإثبات متعلقاتهما، و الحجّة بهذا المعنى من خصائص الحجج العقلائية و الشرعية، و ذلك لأنّ كاشفية الأمارة ليست تامة فيحتاج في صحّة الاحتجاج بها إلى إضفاء الحجّية عليه، من جانب العقلاء أو المولى.

و هذا بخلاف القطع فبما انّه كاشف تامّ عند القاطع، يستقل العقل بصحة الاحتجاج به يراه غنيّاً عن إفاضة الجعل عليه، مضافاً إلى ما عرفت من استلزامه التسلسل.

6. لا يصحّ المنع عن العمل بالقطع

إذا كان الحكم مترتباً على الواقع كالحرمة على الخمر بما هو هو، فلو قطع إنسان بكون المائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع، سواء أصاب أم أخطأ، إذ معنى النهي هو تعلّق إرادتين تشريعيتين مختلفتين بشيء واحد.

نعم إذا كانت للطريق مدخليّة في موضوع الحكم، فله أن يتصرّف في

ص:26


1- الفرائد: 1، طبعة رحمة اللّه.

الموضوع و يرتّب الحرمة على الخمر الثابت بالقطع الحاصل من الحسّ دون الحدس، أو على الخمر الثابت بالبيّنة دون القطع ترجيحاً لها على قطع المكلّف لكثرة الخطأ في قطعه.

هذا كلّه في أحكام القطع.

بقي هنا شيء و هو ما ذكره المحقّق الخراساني:

7. أحكام القطع مترتّبة على القطع بالحكم الفعلي

قد مضى و سيوافيك انّ الحكم له مراتب أربع:

1. مرتبة الاقتضاء كالمصالح و المفاسد و تسميتها بالحكم بنوع من التوسّع و المجاز، و إلاّ فهما من مبادئه و مقدماته.

2. مرتبة الإنشاء و التصويب قبل الإبلاغ إلى المكلّف.

3. مرتبة الفعليّة، و جعل البعث و الزجر في مظان وجود التكليف.

4. مرتبة التنجيز إذا وقف عليه المكلّف، و إبلاغه إلى المكلّفين.

و ما ذكر من الأحكام للقطع فإنّما هي في مورد تعلقه بحكم فعلي، يتنجّز بالقطع، و أمّا ما لم يبلغ تلك المرتبة، فلا يترتب عليه حكم شرعي، لأنّه ليس حكماً و إن كان يترتّب عليه الثواب إذا قام بالامتثال من باب الانقياد.

ثمّ أشار إلى مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي الفعلي و الظاهري، و سيوافيك بيانه في مبحث الأمارات.

ص:27

الأمر الثاني في التجرّي
و قبل الورود في الموضوع نذكر أُموراً:
1. التجرّي لغةً:

التجرّي في اللغة مطلق إظهار الجرأة، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقّق التجرّي بالإقدام على خلاف ما قطع بوجوبه أو بحرمته بترك الأوّل و ارتكاب الثاني دون فرق بين كون قطعه مصيباً للواقع أو مخالفاً له، و لكن المقصود من التجرّي هنا ليس المعنى اللغوي بل المعنى المصطلح، و هو الإقدام على خلاف ما قطع به في مجال إطاعة المولى شريطة أن يكون قطعه خلافاً للواقع. كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته، فترك الأوّل و ارتكب الثاني فبان خلافهما، و يسمّى مخالفة القطع المصيب بالمعصية.

و منه يظهر حال الانقياد فهو لغة الإقدام على وفق ما قطع، سواء كان في قطعه مصيباً أم لا، لكن المراد هنا هو القسم الخاص، أعني: ما إذا عمل على وفق قطعه، لكن إذا تبيّن خطأ قطعه، فيختصّ الإقدام على وفق القطع المصيب بالطاعة.

و منه يعلم أنّ التجري و الانقياد بالمعنى الاصطلاحي لا يختصان بالقطع بل يعمان الحجج الشرعية أيضاً من الأمارات و الأُصول، فلو خالف البيّنة أو الأصل

ص:28

العملي ثمّ ظهر عدم إصابتها للواقع يسمى تجرياً، و مثله الانقياد فهو لا يختص بالقطع بل يعم الحجج الشرعية أيضاً.

2. التجرّي اصطلاحاً:

إنّ التجري بالمعنى الاصطلاحي إنّما يتصور إذا كان القطع طريقياً محضاً بحيث ينصبّ الحكم على ذات الواقع سواء أقطع به أم لا، و سواء أ كانت هناك حجّة أم لا.

و أمّا إذا كان الحكم منصبّاً على القطع بالشيء بحيث يكون القطع تمام الموضوع للحرمة سواء صادف الواقع أو لا، فلا يتصور التجري الاصطلاحي هنا بل يعدّ من قبيل المعصية.

3. هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟

قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري: إنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة و عدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة، كما يمكن أن يقع النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا؟ فتكون المسألة من المسائل الأُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي، و يمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل، أعني: ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا، فتكون من المسائل الفقهية.(1)

أقول: الظاهر انّ المسألة قاعدة فقهية، و مصبّ البحث فيها كون نفس التجرّي حراماً أو لا، حتى يكون دليلاً على الحكم الشرعي في أبواب مختلفة من الفقه.

ص:29


1- درر الفوائد: 2/11.

و أمّا البحث عن كونه قبيحاً أو لا؟ فإنّما هو من باب الاستدلال على الحرمة لكشف القبح عن الحرمة لو قلنا بصحّة الكشف في هذه المقامات، كما أنّ البحث عن استحقاقه للعقاب بحث عن نتيجة المسألة.

4. أقسام التجرّي:

إنّ الشيخ قسّم التجرّي إلى أقسام ستة نذكر منها ثلاثة:

أ. إذا نوى ارتكاب المحرم من دون ارتكاب مقدّماته فضلاً عن ارتكاب نفس الحرام ثم ارتدع.

ب. إذا نوى و ارتكب بعض المقدمات ثمّ ارتدع.

ج. إذا ارتكب ما يراه محرماً ثمّ بان كونه مباحاً.

و محلّ البحث هو القسم الثالث للاتفاق على عدم حرمة القسمين الأوّلين.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في حكم نفس ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً و انّه هل هو حرام أو لا؟ و أُخرى في حكم الفعل المتجرّى به الذي تحقّق التجرّي في ضمنه من حيث الحرمة و عدمها، و لأجل ذلك يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في حكم نفس التجرّي
اشارة

إذا ارتكب المكلّف ما يراه معصية أو ما قامت الحجّة على كونه كذلك، فهل ارتكب حراماً أو لا؟ ففيه أقوال ثلاثة:

1. الحرمة و استحقاق العقاب. و هو خيرة المحقّق الخراساني.

2. عدم الحرمة و عدم استحقاق العقاب. و هو خيرة الشيخ الأنصاري

ص:30

و إنّما يستحق اللوم و الذم.

و بعبارة أُخرى: ليس هناك قبح فعلي، و لو كان هناك قبح، فإنّما يرجع إلى الفاعل.

3. القول بهما إلاّ إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فلا يبعد عدم استحقاق العقاب و مرجعه إلى القول الأوّل غاية الأمر تتدارك الجهة القبيحة، بالجهة المحسِّنة الواقعية. و هو خيرة صاحب الفصول.

و استدلّ القائل بالقبح أو الحرمة بالإجماع تارة، و بناء العقلاء أُخرى، و دليل العقل ثالثاً.

أقول: إنّ الإجماع على فرض ثبوته لا يحتجّ به في مثل تلك المسألة ممّا للعقل إليه سبيل لاحتمال اعتماد المجمعين على حكم العقل، فيكون الإجماع مدركيّاً لا يحتجّ إلاّ بالمدرك لا بالإجماع.

على أنّ الإجماع مخدوش كما يظهر من التذكرة في من أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت ثمّ بان بقاؤه، فقال العلاّمة في التذكرة بعدم العقاب، و حكي عن المفاتيح أيضاً.

نعم أفتوا بحرمة سلوك طريق محظور، لأجل انّ الخوف هو موضوع الحرمة لا الخطر الواقعي.

و أمّا بناء العقلاء فلا يتجاوز عن ذم المرتكب و لومه لا عقابه، و بقي الدليل الثالث أي العقلي فنقول:

قرّر الدليل العقلي بوجوه:

الأوّل: ما نقله الشيخ في فرائده، و حاصله: إذا فرضنا انّ اثنين قصدا شرب الخمر، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، فإمّا أن نقول بصحّة عقوبتهما معاً، أو

ص:31

عدم عقوبتهما كذلك، أو عقوبة المخطئ دون المصيب أو بالعكس; و الأوّل هو المطلوب، و الثاني و الثالث خلاف المتفق عليه، و أمّا الرابع فيلزم أن يكون العقاب و الثواب منوطين بأمر خارج عن الاختيار.

أقول: نحن نختار الشقّ الرابع و هو عقاب المصيب دون المخطئ، و لكن القبيح هو إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار، و أمّا إناطة عدم العقاب بأمر خارج عن الاختيار فليس بقبيح كما أوضحه الشيخ الأنصاري، و الحاصل نعاقب المصيب لأنّه شرب الخمر عن اختيار، كما شربها في حالة الانفراد، و لا نعاقب المخطئ لأنّه لم يشرب و إن كان عن لا اختيار. و بعبارة أُخرى: تحقّق سبب الاستحقاق في المصيب و هو مخالفته عن عمد، و عدمه في الثاني و لو بلا اختيار.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني من شهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته و ذمّه على تجرّيه و هتك حرمة مولاه و خروجه عن رسم العبودية و كونه بصدد الطغيان و العزم على العصيان، كما يشهد الوجدان على صحّة مثوبته على قيامه بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقة القطع و البناء على طاعته.

أقول: إنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية أو الشرعية لأجل غلبة الهوى على العقل، و الشقاء على السعادة و ربّما مع استيلاء الخوف على المرتكب و عروض الارتعاش حينه، فهل يستحق العقاب أو لا؟ و أمّا ضمّ عناوين أُخر إلى ذلك من الهتك و التمرّد و رفع علم الطغيان فكلّها أجنبيّة عن المقام، و لا شكّ في استحقاق العقاب لو كان عمله مصداقاً للهتك و رمزاً للطغيان و إظهار الجرأة، إلى غير ذلك من العناوين القبيحة.

و الحاصل: انّ الإنسان ربما يرتكب ما يقطع بحرمته لا لأجل الطغيان و إظهار الجرأة و هتك الستر، بل لما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إيّاه الإمام السجاد) عليه السلام (حيث قال في مقطع من مناجاته معلّماً للداعي:

ص:32

» إلهي لم أعصك حين عصيتُك و أنا بربوبيّتك جاحد، و لا بأمرك مستخف، و لا لعقوبتك متعرض، و لا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت و سوّلت لي نفسي و غلبني هواي، و أعانني عليها شقوتي، و غرّني سترك المرخى عليّ «.

أضف إلى ذلك انّه يستلزم تعدّد العقاب عند الإصابة لموجبين: أحدهما: العصيان، و الثاني: العنوان المشترك) كالتمرّد و الهتك و... (; فقد اتفقوا على أنّ مجرّد مخالفة أمر المولى بلا عذر) العصيان (بأيّ داع كان مستلزم للعقوبة، فإذا ضمّ إليه العنوان المشترك بينه و بين التجرّي يلزم تعدّد العقاب.

ثمّ إنّ صاحب الفصول تفصّى عن الإشكال بتداخل العقابين، و من المعلوم انّه لا يسمن و لا يغني من جوع، لأنّه إن أراد من التداخل وحدة العقاب فيكون ترجيحاً بلا مرجح، و إن أراد كثرة العقاب فليس تداخلاً.

الثالث: ما هو الملاك للعقاب في المعصية؟ فهناك احتمالات:

1. ذات المخالفة للأمر و النهي.

2. تفويت غرض المولى.

3. ارتكاب مبغوض المولى.

4. كونه هتكاً لحرمة المولى و جرأة عليه و إن شئت قلت: المخالفة الاعتقادية.

و لا تصلح الثلاثة الأُولى ملاكاً للعقاب، لوجودها في الجاهل المعذور إذا خالف، فتعيّن الرابع، و هو مشترك بين المعصية و التجرّي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الملاك للعقاب في المعصية أمر خامس غير موجود لا في المخالفة عن جهل، و لا في التجري و هو مخالفة أمر المولى واقعاً عن عمد بلا عذر و هو مختص بالعصيان، و أمّا غيرهما فالجزء الأوّل أي المخالفة في التجرّي غير

ص:33


1- لمحقّق الاصفهاني: نهاية الدراية: 2/8.

موجود، و المخالفة للواقع و إن كانت موجودة في المعذور، لكن القيد الثاني) بلا عذر (منتف.

الرابع: ما نقله المحقّق النائيني في كلام مبسوط حاصله: انّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي و حيثيّة صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضاً للمولى من دون دخل للواقع، فانّ الإرادة الواقعية ممّا لا أثر لها عند العقل إلاّ بعد الوجود العلمي، و هذا المعنى مشترك بين العاصي و المتجري.

و إن شئت قلت: إنّ المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة و المعصية، و هذا بعد ما كان العلم من باب الطاعة و المعصية موضوعاً عند العقل واضح.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

1. بعد تسليم كون مناط العقاب هو البغض الفاعلي، انّ الملاك هو البغض الفاعلي المتولد من القبح الفعلي و هذا يختص بالمعصية، و أمّا التجرّي، فالقبح الفاعلي هناك متولد من سوء السريرة و خبث الباطن أو غلبة الهوى على العقل، و الشقاء على خلافه لا من القبح الفعلي.

2. إنّ الهدف من إثبات قبح إرادة المعصية، هو إثبات حرمته ليترتب عليه العقاب، و لكن المحاولة فاشلة، لأنّه ليس كلّ حسن ملازماً للحكم بالوجوب، و لا كلّ قبيح ملازماً للحرمة، إلاّ إذا تعلّق بمبادئ الأحكام و عللها و موضوعاتها كردّ الأمانة أو الخيانة بها، فيكشف كلّ من الحسن و القبح عن وجوب الأوّل و حرمة الثاني، و أمّا إذا تعلّق بمعاليل الأحكام كالطاعة و المعصية، فانّ حسن الأوّل و قبح الثاني لا يكشفان عن حكم شرعي، و إلاّ يلزم عدم انتهاء الأحكام إلى حدّ و تسلسل العقوبات، و ذلك لأنّ الطاعة و المعصية لا يتحقّقان إلاّ إذا سبق عليهما

ص:34


1- الكاظمي: فوائد الأُصول: 3/48.

حكم شرعي، حتى يقال بحسن طاعته و قبح عصيانه، فلو كشف الحكم بحسن طاعة ذلك الحكم، و قبح عصيانه، عن حكم شرعي ثالث يستقل العقل بحسنه و طاعته لتسلسل الأحكام و العقوبات و هو خلاف الوجدان و الضرورة.

و منه تظهر الحال في إرادة المعصية و الطاعة، فلو افترضنا حسن الأُولى و قبح الثانية فلا يكشفان عن حكم شرعي حتى تترتب عليه المخالفة و الموافقة و بالتالي: المثوبة و العقوبة فالكلّ خارج عن حريم الملازمة كما لا يخفى.

تمّ الكلام في المقام الأوّل، و إليك الكلام في المقام الثاني.

المقام الثاني: في حكم المتجرّى به
اشارة

الفرق بين التجرّي، و المتجرّى به واضح، فانّ الأوّل فعل للعبد ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية و الشرعية بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي تتحقق به مخالفة الحجّة.

ثمّ الكلام فيه تارة من حيث القبح، و أُخرى من وجه الحرمة الشرعية.

فقد استدل المحقّق الخراساني على عدم قبحه بوجوه ثلاثة:

1. انّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه و الاعتبارات التي بها يصير الشيء حسناً و قبيحاً و لا ملاكاً للمحبوبية و المبغوضية، فقتل ابن المولى مبغوض و إن قتله بعنوان انّه عدوه، و قتل عدوّه حسن و إن قتله بعنوان انّه ابنه.

2. انّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً، فانّ القاطع لا يقصده إلاّ بما قطع انّه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الأوّلي بل يكون غالباً بهذا العنوان ممّا لا يلتفت إليه.(1)

ص:35


1- كفاية الأُصول: 2/13.

3. انّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلاً، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده و ما صدر منه لم يقصده بل و لم يخطر بباله.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ العنوان المقبح في كلامهم ليس هو القطع بالقبح بل الجرأة و التمرد و الطغيان أو الهتك و الظلم و لا شكّ انّها من العناوين المقبحة، و منه يظهر حال الوجه الثاني فانّه مبني على كون العنوان القبيح هو القطع و مضافاً إلى ما في إنكار كون القطع مورداً للالتفات إجمالاً، فانّ الالتفات إجمالاً إلى العلم ممّا لا ينكر.

و يلاحظ على الثالث انّه يكفي في صدور الفعل الاختياري، كون الجامع بين الخمر و الماء مورداً للالتفات و هو شرب المائع، فكيف يقال انّه لم يصدر منه، و لذلك يبطل صومه بشرب ما قطع كونه خمراً و هو ماء.

و مع ذلك كلّه، فالحقّ مع المحقّق الخراساني انّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه، لأنّ العناوين المقبحة لا تتجاوز عن خمسة: ثلاثة منها قائمة بالجنان، كالجرأة، و العزم على المعصية و الطغيان، و قبحها لا يسري إلى الفعل لكونها من الأُمور القلبية و الفعل كاشف عنها; و اثنان منها الظلم و الهتك و إن كانا قائمين بالفعل لكنّهما يختصان بالمعصية فالظلم على المولى بنقض قانونه، و المفروض عدمه مثله و الهتك بمعنى خرق الستر فانّه من خصائص المعاصي.

في حرمة الفعل المتجرّى به

قد عرفت أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما كان عليه من الحسن و القبح إنّما الكلام في حرمته شرعاً لا باستكشاف حرمته من قبحه، لما عرفت من عدم قبحه بل بوجهين تاليين:

ص:36


1- تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد: 13.
1. ادعاء شمول الخطابات الأوّلية له) حرمته بالعنوان الأوّلي (

يمكن أن يقال: انّ متعلّق الخطابات الأوّلية ليس هو شرب الخمر الواقعي، بل القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع، و مخالفته له، بأن يقال: انّ الحرام تحريك العضلات نحو شرب ما أحرز انّه خمر، فيكون المتجرّي عاصياً حقيقة.

و الدليل عليه: انّ متعلّق التكليف يجب أن يكون مقدوراً و ليست المصادفة و المخالفة الواقعيتين تحت الاختيار حتى يتعلق التكليف بالمصادف دون المخالف، فيجب أن يكون متعلّقه إرادة ما أحرز انّه من مصاديق الموضوع إذ هو الفعل الاختياري، فتكون نسبته إلى المطابق و المخالف على حدّ سواء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الأحكام تتعلّق بما تشمل على المصالح و المفاسد، و لا شكّ انّ المفسدة قائمة بشرب الخمر بما هو هو سواء كان عالماً أو جاهلاً غير انّ الحكم الشرعي لا يتنجز إلاّ بالعلم، فإذا كان كذلك، فالخطابات الأوّلية لا تعمّ إلاّ شرب الخمر الواقعي، لا شرب ما أحرز انّه خمر، و إلاّ يلزم تعلّق الأحكام بالأوسع ممّا قام به الملاك.

و أمّا كون الإصابة و عدمها خارجتين عن الاختيار، فقد عرفت أنّ الأُولى داخلة تحته، نعم الخطاء و عدم الإصابة خارج عنه، فلو قصد شخصان قتل إنسان فأطلقوا الرصاص فأصاب أحدهما دون الآخر، يعاقب الأوّل لأجل قيامه بالفعل الاختياري من قتل إنسان بريء.

هذا كلّه حول حرمته حسب العنوان الأوّلي. بقي الكلام في حرمته بالعنوان الثانوي.

ص:37


1- فوائد الأُصول: 382/37.
2. حرمته بالعنوان الثانوي

قد عرفت أنّ ادّعاء شمول الإطلاقات للفعل المتجرّى به في غاية الضعف، و مثله القول بحرمته لأجل العناوين الثانوية كالجرأة و الطغيان و التمرّد، و الظلم و الهتك، فانّ الثلاثة من الأُمور النفسانية غير القائمة بنفس الفعل، كما مرّ سابقاً، و أمّا الظلم على المولى فرع نقض القانون و هو يختص بالعاصي، و أمّا الهتك فهو فرع التظاهر بالعمل و المفروض في المقام غيره، بل البحث مركز على مخالفة الحجّة و إن كان في خفاء مع الخوف و الوجل.

و بذلك يعلم حال الفعل المنقاد به، فلا يوصف بالحسن، كما إذا جامع امرأة أجنبية بزعم انّها زوجته قضاء للواجب في كلّ أربعة أشهر، فالفعل باق على قبحه، نعم يفارق الانقياد عن التجرّي بورود الدليل على ترتب الثواب على الأوّل، دون العقاب على التجرّي.

أسئلة ثلاثة و أجوبتها
السؤال الأوّل: حكم التجرّي في الآيات و الروايات

إذا لم يكن في مورد التجرّي قبح فعلي و بالتالي لم يكن أي عقاب، فما معنى ما دلّ من الآيات و الروايات على ثبوت العقاب لنية العصيان بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.

الجواب: لا دلالة لما استدل به من الأدلّة على المدّعى، و إليك دراسة الآيات أوّلاً، ثمّ الروايات ثانياً.

الف. قوله سبحانه: (وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ

ص:38

فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ).(1)

و الجواب بوجهين: أوّلاً: انّ الآية كبرى كلية لما مرّ في الآية المتقدمة، أعني: قوله سبحانه: (وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ). (2)ممّا يجب إظهارها و يحرم كتمانها و ليست نية المعصية من مصاديق هذه المقولة ممّا يجب إظهارها و يحرم كتمانها.

و ثانياً: انّ القدر المتيقن من الآية، الأُمور التي لها رسوخ في النفس كالإيمان و الكفر، و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و لا تعم الأُمور الآنيّة كنية العصيان التي تأتي و تزول.

2. قوله سبحانه: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ).(3)

يلاحظ على الاستدلال: أنّ ظاهرها انّ لكلّ من السمع و البصر و الفؤاد وظائف و أحكاماً يكون كلّ منها مسئولاً عنها، و هذه الضابطة أمر مسلم، انّما الكلام في الصغرى و هي هل الفؤاد مسئول عن حرمة نيّة المعصية إذا نواها و إن لم يرتكبها؟ فلم يدلّ دليل عليه.

و الحاصل: انّ الكبرى لا تدل على الصغرى أي كون الفؤاد مسئولاً عنه لا يدل على أنّه يسأل حتّى عن نيّة المعصية، نعم هو مسئول عن الإيمان و الكفر و النفاق و غيرها ممّا دلّ الدليل القطعي على أنّها من وظائفه، نعم لو ثبت انّ الفؤاد مسئول عن كلّ ما يرجع إليه، يكون هذا دليلاً على حرمة نيّة الجرأة.

3. (لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

ص:39


1- البقرة: 284.
2- البقرة: 283.
3- الاسراء: 36.

قُلُوبُكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ).(1)

و كيفية الاستدلال واضحة:

و الجواب انّ المراد من قوله: (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بقرينة مقابلته لقوله: (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) هو اليمين التي يحلف بها الإنسان عن عقد القلب و قصد منه، و أين هو من المؤاخذة على كلّ عمل قلبي.

و حاصل الآية: انّ ما يحلف به الإنسان جرياً على عادته من قوله:» و اللّه «،» بلى و اللّه «لا يؤخذ به، بل يؤخذ على كلّ يمين كان للقلب و الشعور تأثير فيه و هو الأيمان الجدية.

4. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(2)

ترى أنّه سبحانه أوعد بالعذاب على من أحبّ شيوع الفاحشة في الّذين آمنوا و هو أمر قلبي.

يلاحظ على الاستدلال: أنّ حبّ شيوع الفاحشة من المعاصي الموبقة كما سيوافيك إن شاء اللّه عند البحث في الروايات، فانّ هناك أعمالاً قلبية محرمة كالرضا بمعصية الغير، و أين هو من النية العارية بالنسبة إلى فعل الناوي؟! أضف إلى ذلك انّ الحب في الآية قد اقترن بالعمل، لأنّها نزلت في حقّ عبد اللّه بن أُبيّ الّذي قام بقذف الأبرياء بالفحشاء و المنكر، و المورد يصلح للقرينية، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى لمن أحبّ شيوع الفاحشة عارياً عن العمل.

5. قوله سبحانه: (تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).(3)

ص:40


1- البقرة: 225.
2- النور: 19.
3- القصص: 83.

إنّ الاستدلال بالآية ضعيف، لأنّها وردت في شأن قارون و قد أراد علواً في الأرض و فساداً من وراء أعماله الموبقة.

و بعبارة أُخرى: انّ المراد من عدم إرادة العلو، هو عدم بغيه عملاً، و عدم طلبه خارجاً فأطلقت الإرادة، و أُريد منها عدم تحقّق المراد.

هذا كلّه حول الآيات، و أمّا الروايات فهي على صنفين: صنف منها يدل بظاهره البدئي على ترتب العقاب على مجرد نيّة العصيان، و صنف آخر يدل على خلافه، و إليك الكلام في كلا الصنفين:

الصنف الأوّل: ما يدل على ترتّب العقاب
1. حشر الناس على نياتهم

عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة «.(1)

و الحديث و إن كان بظاهره دليلاً على المطلوب، و لكنّه يفسّره حديث آخر عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (قال:» في حديث انّما الأعمال بالنيّات، و لكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّ و جلّ، و من غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى «.(2)

و الحديث المفسر) بالكسر (و المفسَّر) بالفتح (و إن كانا ضعيفي السند، لكن الثاني يرفع الستار عن وجه الأوّل، و انّ المراد من حشر الناس على نياتهم هو حشرهم على نيّاتهم الخالصة أو المشوبة بالرياء، فأين هذا من المطلوب؟!

ص:41


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 5، من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 5.
2- المصدر السابق: الحديث 10.
2. جمع الناس بالرضا و السخط

ما روي عن أمير المؤمنين) عليه السلام (، انّه قال:» أيّها النّاس إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنّما عَقَر ناقَة ثمود رجل واحد، فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضى، فقال سبحانه: (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) (1)«.(2)

ما روي عنه) عليه السلام (:» الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، و على كلّ داخل في باطل إثمان:

إثم العمل به، و إثم الرضا به «.(3)

يلاحظ على الاستدلال: أنّ الرضا بصدور المعصية عن الغير من المعاصي الكبيرة و ليست من التجرّي، نظير ذلك حبّ شيوع الفاحشة بين الناس كما جاءت في الآية المباركة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ).(4)

فإنّ نفس الحب معصية قلبية كالكفر و النفاق و غير ذلك، و هذه الروايات الأربع لا دلالة لها على مقصود المستدل.

3. نيّة الكافر شرّ من عمله

روى السكوني عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (أنّه قال:» قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: نيّة المؤمن خير من عمله، و نيّة الكافر شرٌّ من عمله، و كلّ عامل يعمل على نيّته «.(5)

ص:42


1- الشعراء: 157.
2- نهج البلاغة: الخطبة 221.
3- المصدر نفسه، قسم الحكم، الرقم 154.
4- النور: 19.
5- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 3; و لعلّه متحد مع الحديث 22 في هذا الباب.
يلاحظ عليه بأمرين:

أ. انّ المضمون غريب، إذ كيف تكون نية المؤمن العارية عن العمل، خير من عمله، و مثله نيّة الكافر مع أنّ العمل أفضل من النيّة العارية للمؤمن و على العكس في الكافر، و الغرابة في المضمون تعدّ من مضعفات الاحتجاج بالرواية المذكورة.

ب. انّ الحديث وُجِّه في بعض الروايات بوجهين:

فتارة: فسر» الخير «في الحديث بالكثرة، بمعنى انّ نية المؤمن أكثر و أوسع من عمله كما انّ نية الكافر أكثر و أوسع من عمله، فالمؤمن يبغي الخير الكثير و لا ينال إلاّ القليل كما انّ الكافر يبغي الشر الكثير و لا ينال إلاّ القليل لضيق قدرته. و قد روى الحسن بن حسين الأنصاري، عن بعض رجاله، عن أبي جعفر ) عليه السلام (أنّه كان يقول:

» نيّة المؤمن أفضل من عمله ذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، و نيّة الكافر شرٌّ من عمله و ذلك لأنّ الكافر ينوي الشر و يأمل من الشر ما لا يدركه «.(1)

و أُخرى: بأنّ نيّة المؤمن بعيدة عن الرياء دون عمله، فقد روى زيد الشحام، قال: قلت لأبي عبد اللّه ) عليه السلام (: إنّي سمعتك تقول: نيّة المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال:» لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين و النية خالصةً لربِّ العالمين، فيعطي عزّ وَ جَلّ على النية ما لا يعطي على العمل «.(2)

و التوجيه يختص بنيّة المؤمن و يبقى الإشكال في نية الكافر على حاله.

ص:43


1- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 17.
2- المصدر السابق، الحديث 15.

و حاصل الكلام: انّ الحديث مشتمل على مضمون غريب أوّلاً، و انّ الخير و الشر فُسِّرا بالكمية تارة، أو بالابتعاد عن الرياء أُخرى، و أين هذا من كون النية المجردة حراماً؟!

4. خلود أهل النار لأجل النية

روى أبو هاشم المدني قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» انّما خُلِّد أهل النار في النار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً; و إنّما خُلِّد أهل الجنة في الجنة، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا، أن لو بقوا فيها، ان يطيعوا اللّه أبداً; فبالنيات خُلِّد هؤلاء و هؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (1)قال: على نيّته «.(2)

و لا يخفى وجود الغرابة في مضمون الحديث، إذ ليس كلّ مؤمن و لا كافر على النحو الذي وصف في الرواية، على أنّ الحديث ضعيف بالحسين بن أحمد المنقري، و أحمد بن يونس، فكيف يحتجّ بحديث غريب في المضمون محكي بالضعاف؟! و أمّا وجه خلودهم في الجنّة، فقد أوضحنا ذلك في كتاب الإلهيات.(3)

5. يكتب في حال المرض ما عمل في حال الصحّة

روى جابر، عن أبي جعفر قال: قال لي:» يا جابر: يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصحيح ما كان يكتب في صحّته، و يكتب للكافر في سقمه من

ص:44


1- الإسراء: 84.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات، الحديث 4.
3- تلخيص الإلهيات: 671.

العمل السيّئ ما كان يكتب في صحّته «.

ثمّ قال:» يا جابر ما أشدّ هذا من حديث «.(1)

و الحديث ضعيف جدّاً لما اشتمل على مجاهيل في السند. أضف إلى ذلك انّه يحتمل أن يكون الحديث ناظراً إلى الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كبناء المسجد فما دام المسجد باقياً و مأوى للمصلين يصل ثوابه إلى المؤمن و إن كان طريح الفراش، و مثله في الكافر إذا أسس سنة سيئة، و القرينة على هذا التفسير هي كلمة» العمل الصالح و العمل السيّئ «فقد ورد عن رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجرى له، أو ولد صالح يدعو له «.(2)

و هذا الخبر و ما تقدمه لا يحتج بهما لغرابة متنهما أو ضعف سندهما مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في الدلالة.

الصنف الثاني: ما يدل على عدم الحرمة

تضافرت الروايات على أنّ من ألطافه سبحانه على عباده هو انّه يُجزي على نية العمل الصالح و إن لم يفعله المؤمن، و لا يُجزي على نية العمل السيّئ ما لم يرتكبه، و إليك شيئاً من تلك الروايات، و نشير في الهامش إلى محال ما لم نذكره.

روى الكليني عن زرارة، عن أحدهما) عليهما السلام (، قال:» إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل لآدم في ذريته انّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة، و من همّ بحسنة و عملها كتبت له عشراً; و من همّ بسيئة لم تكتب عليه، و من همّ بها و عملها كتبت

ص:45


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 7 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 5.
2- بحار الأنوار: 2/23.

عليه سيئة «.(1)

و بما انّ هذا الصنف من الروايات أكثر عدداً و أوضح دلالة يتعين الأخذ بها، إنّما الكلام في الصنف الأوّل، فهل هناك جمع دلالي أو لا؟ يظهر الأوّل من الشيخ فقد جمع بينهما بوجهين:

الوجه الأوّل: حمل الطائفة الأُولى على من بقي على قصده حتى عجز لا باختياره، و الطائفة الثانية على من ارتدع بنفسه و اختياره.

و استشهد على هذا الجمع بالنبوي، قال:» إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة، فالقاتل و المقتول في النار «، قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:» لأنّه أراد قتله «.(2)

أقول: إنّ في السند الحسين بن علوان و هو عامي لم يوثّق، كما أنّ فيه عمرو ابن خالد و هو زيدي بتري فالحديث لا يحتج به.

أضف إلى ذلك انّ إرادة قتل المؤمن بالنحو الذي ورد في الرواية من سل السيف على وجهه إلى أن عجز، من المحرمات و ليس من التجرّي، لأنّ فيه إخافة للمؤمن و هو حرام.

و إن شئت قلت: ليس التعليل انّه أراد المعصية، بل أراد القتل على النحو الوارد في الرواية و إرادة القتل بالنحو الوارد فيها من المعاصي.

و قد عقد صاحب الوسائل باباً في الحدود تحت عنوان» من شهر السلاح لإخافة الناس «.(3)

ص:46


1- الوسائل: 1، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث السادس; و لاحظ الحديث 7، 8، 20، 21، 24 من هذا الباب، و الباب 7، الحديث 3.
2- الوسائل: 11، الباب 67 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب حدّ المحارب.

الوجه الثاني: ما دلّ على العفو يحمل على ما إذا لم يرتكب شيئاً من المقدمات و حمل ما دلّ على ترتّب العقوبة إذا اشتغل ببعض المقدمات.

أقول: إنّه جمع تبرعي و على خلاف إطلاق روايات الصنف الثاني.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق الخوئي من حمل الروايات الدالة على ترتّب العقاب على ما إذا قصد ارتكاب الحرام الواقعي و إن لم يرتكبه فلا صلة لها بقصد الحرام الخيالي و ما يعتقده المكلّف حراماً، مع عدم كونه حراماً في الواقع كما في التجرّي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى ذلك هو حمل الصنف الثاني على خصوص التجري و حمل هذه الروايات الكثيرة عليه بعيد جداً.

أضف إلى ذلك انّ كلاً من العاصي و المتجري قاصد للحرام الواقعي و إنّما الخطأ في التطبيق.

و بعبارة أُخرى تعلقت الإرادة بالحرام، فالمراد بالذات هو الحرام الواقعي، و إنّما يختلفان في الحرام بالعرض.

السؤال الثاني: في تفصيل صاحب الفصول

قد عرفت أنّ التجرّي بما هو مخالفة للحجّة ليس بقبيح غير انّ صاحب الفصول ذهب إلى قبحه، و لكن إذا تحقّق التجرّي في ضمن الواجب غير المشروط بالقربة تقع المزاحمة بين قبح التجرّي و حسن المتجرّى به، كما إذا عثر على إنسان قطع انّه عدو المولى فلم يقتله فبان انّه ابنه.

أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا وجه لهذه المزاحمة، لأنّ المفروض عدم علمه به و لا يكاد أن يؤثر شيئاً بدونه حيث لا يكون حينئذ بهذا الوجه اختيارياً

ص:47


1- مصباح الأُصول: 2/92.

و الحسن و القبح من صفات الأفعال الاختيارية.(1)

و حاصله: انّ الشيء إنّما يوصف بالحسن الفعلي إذا التفت إليه الفاعل و من المعلوم انّه ترك قتل الرجل، بعنوان انّه عدو المولى لا بعنوان انّه ابنه، فكيف يكون هذا الفعل غير الملتفت إليه ملاكاً للحسن و موجباً للمزاحمة بين حسنه و قبح التجرّي.

السؤال الثالث: هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟

هل مزاولة التجرّي و مداومته تمنع عن تحقّق العدالة بمعنى الملكة قبل تحقّقها، و تَرفَعُها بعد تحقّقها كالمعصية بعينها من غير تفاوت بينهما أصلاً؟ و الظاهر انّ التجرّي بمعنى مخالفة الحجّة و إن لم يكن قبيحاً مورثاً للعقاب و لكنّه كاشف عن انهيار ملكة العدالة إذا تكرّر ذلك العمل منه كما يكون مانعاً عن تحقّقها.

و للمحقّق الخراساني تفصيل ذكره في تعليقته على الفرائد فلاحظ.(2)

ص:48


1- تعليقة المحقّق الخراساني: 16.
2- تعليقة المحقّق الخراساني: 17.
الأمر الثالث في تقسيم القطع إلى طريقي و موضوعي
اشارة

اشتهر تقسيم القطع من زمان الشيخ الأعظم) قدس سره (إلى أقسام خمسة من كونه طريقياً محضاً، أو مأخوذاً في الموضوع ثمّ الثاني على قسمين، لأنّه إمّا يؤخذ فيه بما انّه طريق، أو يؤخذ بما انّه وصف نفساني; و على كلا التقديرين إمّا أن يكون المأخوذ في الموضوع تمامه أو جزءه، و إليك توضيح الأقسام:

1. الفرق بين الطريقي و الموضوعي

إذا كان الحكم مترتباً على نفس الواقع بلا مدخلية للعلم و القطع فيه كحرمة الخمر و القمار و غير ذلك فالقطع عندئذ يكون طريقيّاً و لا يكون للقطع هناك دور سوى التنجيز، و إلاّ فالخمر و القمار، حرام، سواء أ كان هناك علم أو لا، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب، و هذا بخلاف القطع الموضوعي فإنّ للقطع فيه مدخلية في الحكم بحيث لولاه، لما كان هناك حكم شرعي و أمثلته كثيرة، نظير:

1. الحكم بالصحة فانّه مترتب على الإحراز القطعي في الثنائية و الثلاثية من الصلوات و الأُوليين من الرباعية، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

2. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

ص:49

3. الحكم بوجوب التيمم لمن أحرز كون استعمال الماء مضراً بالقطع أو الظن.

4. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف و انّ الطريق لم يكن مخطوراً، و لا الماء مضراً، و لا الوقت ضيّقاً لما ضرّ بالعمل، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.

و بذلك يعلم أنّ القطع الموضوعي، هو ما يكون له مدخلية في ترتب الحكم، لا خصوص ما إذا أخذ في لسان الموضوع بل هو أعمّ من القطع المأخوذ في الموضوع كما هو الحال في قوله تعالى: (وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (1)فانّ التبيّن و إن كان مأخوذاً في لسان الدليل، لكن ليس له مدخلية في وجوب الإمساك إلاّ كونه طريقاً إلى طلوع الفجر، و لأجل ذلك يجب الإمساك إذا علم بطلوع الفجر و إن لم يكن هناك تبين، كما إذا كان الهواء غيماً أو كان الإنسان محبوساً. فليس كلّ قطع أخذ في لسان الدليل، قطعاً موضوعياً كما في الآية فهو مع الأخذ، فيها طريقي محض.

2. تقسيم الموضوعي إلى طريقي و وصفي

إنّ القطع من الأُمور الإضافية، فله إضافة إلى العالم و له إضافة إلى المعلوم، فلو أخذ في الموضوع بما له إضافة إلى العالم، و انّه أمر قائم به كقيام سائر الصفات به، فقد أخذ في الموضوع بما هو وصف نفساني; و لو أخذ فيه بما له إضافة إلى المعلوم و كاشف عنه، فقد أخذ فيه بما انّه طريق، فما في الكفاية من قوله:» لمّا كان

ص:50


1- البقرة: 187.

من الصفات الحقيقية «إشارة إلى أخذه فيه بما هو وصف، و قوله:» ذات الاضافة «إشارة إلى أخذه فيه بما هو طريق.

و بالجملة: القطع من الأُمور النفسانية فتارة يلاحظ بما انّه كاشف عن الواقع، و أُخرى بما انّه أمر قائم بالنفس كالبخل و الحسد، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق و كاشف، يُوصَف بالقطع الموضوعي الطريقي و إن أخذ بما انّه قائم بالنفس و عوارضها يوصف بالقطع الموضوعي الوصفي، و إن شئت التمثيل فقل: إنّ النظر إلى القطع كالنظر إلى المرآة، فتارة يلاحظها الإنسان بوصف كونها مرآة و أنّها كيف تُري، و أُخرى بما انّه جسم صيقلي شفاف و انّها على شكل كذا و قطر كذا، فالموضوعي الطريقي أشبه بالأوّل، و الموضوعي الوصفي أشبه بالثاني.

3. تقسيم الموضوعي إلى تمام الموضوع و جزئه

ثمّ إنّ القطع الموضوعي على قسمين: تارة يكون القطع تمام الموضوع للحكم من غير مدخلية للواقع و يكون الحكم دائراً مداره، و أُخرى يكون القطع جزء الموضوع و الواقع هو الجزء الآخر.

أمّا الأوّل فقد مرت أمثلته، و أمّا الثاني، كبطلان الصلاة في الثوب الذي قطع بنجاسته، فلا تبطل الصلاة إلاّ إذا كان نجساً في الواقع و تعلق به القطع، و إلاّ فلو كان نجساً في الواقع و كان جاهلاً أو كان طاهراً في الواقع و كان القطع جهلاً مركباً، تصح صلاته مع تمشي قصد القربة في الصورة الثانية.

و بذلك يظهر انّ الموضوعي على أقسام أربعة، لأنّ كلاً من المأخوذ في الموضوع طريقياً أو وصفياً، إمّا يكون تمام الموضوع أو جزأه، فتكون الأقسام أربعة، مضافاً إلى الطريقي المحض غير المأخوذ في الموضوع.

نعم استشكل المحقّق النائيني في أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع، و تبعه

ص:51

تلميذه في مصباحه. و حاصل كلامهما: أنّ أخذه تمام الموضوع آية انّه لا مدخلية للواقع في ترتّب الحكم، و أخذه بنحو الطريقية آية أنّ للواقع دخلاً فيه و الجمع بينهما جمع بين المتناقضين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي هو أخذه في الموضوع بما انّ له وصف الطريقية و المرآتية، لا انّ للواقع مدخلية في الحكم حتى لا يصحّ أخذه طريقاً في الموضوع على وجه التمامية، و الخلط حصل في تفسير القطع الموضوعي، و قد أحسن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (فقد فسره في درره على نحو ما ذكرناه و قال: المقصود كونه ملحوظاً على أنّه طريق كسائر الطرق المعتبرة. و بعبارة أُخرى:

ملاحظة الجامع بين القطع و سائر الطرق المعتبرة.(2)

4. تقسيم آخر للقطع الموضوعي

ثمّ إنّ المأخوذ في الموضوع تارة يكون القطع بالحكم مأخوذاً في موضوع حكم آخر لا يضاده و لا يماثله بل يخالفه، كما إذا قال: إن قطعت بنجاسة الثوب فلا تصل فيه. فمتعلق القطع حكم وضعي كالنجاسة أخذ في موضوع حكم تكليفي بينهما من النسب هو التخالف إذ قد يكون الشيء نجساً و لكن يجوز فيه الصلاة، كالمعفو عنها، و قد لا تجوز الصلاة و لا يكون نجساً، كالمغصوب و قد يجتمعان.

و قد مثل له المحقّق الخراساني بأنّه إذا قطعت بوجوب شيء فتصدق، و النسبة بين الحكمين هو التخالف لا التماثل و لا التضاد، و أُخرى يكون القطع بالموضوع أي الخمر موضوعاً للحكم الراجع إلى نفس الموضوع كما إذا قال: إن قطعت بخمرية مائع فلا تشربه، و الشائع هو القسم الثاني في ألسن الأُصوليين.

ص:52


1- لاحظ فوائد الأُصول: 2/11; مصباح الأُصول: 2/32.
2- درر الأُصول: 2/331.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بحث عن أقسام القطع الموضوعي هنا إجمالاً و في الأمر الرابع تفصيلاً و كان الأنسب البحث عنه في مورد واحد.

5. قيام الأمارات مكان القطع

إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع بما هو هو و كان القطع طريقاً إلى ثبوته أوّلاً، و ترتّب أحكامه ثانياً، تقوم مكانه الطرق و الأمارات بنفس دليل اعتبارهما، فإذا قال:» البيّنة حجّة «يكون معناه ثبوت ما أخبرت عنها من كون المائع خمراً، و المال ملكاً لزيد و يترتّب عليه آثارهما و إلاّ يلزم لغو جعل الحجّية لها، و بذلك يعلم وجه قيام الطرق مكان القطع الطريقي بنفس دليلِ اعتبارها، و المراد من القيام مكانه كونها حجّة مثله لا انّ القطع أصل و الأمارة فرع بل كلاهما طريقان إلى الواقع، غير انّ الأوّل طريق بنفسه و الثاني طريق بإذن الشارع و اقتناعه بها في مقام امتثال أوامره و نواهيه.

إنّما الكلام في قيامها مكانه في القسم الموضوعي بنفس دليل اعتبارها، فذهب الشيخ الأنصاري إلى قيامها مكانه بنفس دليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الوصفي، فلو أخذ في الموضوع بما هو طريق تقوم البيّنة بنفس دليل اعتبارها مكانه، دون ما أخذ فيه بما هو وصف.

و ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم القيام مطلقاً، فهنا قولان:

أمّا الأوّل: فقد ذكره الشيخ في أوّل رسالة القطع، و وجه التفصيل وجود الجامع بين الأمارات و الطرق، و القطع المأخوذ في الموضوع بما هو طريق دون القسم الآخر، و ذلك لأنّ القطع و إن أُخِذَ في الموضوع بشخصه لكن أخذه بما انّه كاشف و مرآة و من المعلوم انّ هذه الجهة مشتركة بين القطع و الأمارات و الطرق، بخلاف المأخوذ في الموضوع بما هو وصف نفساني، فلا جهة مشتركة بينه و بين الأمارات

ص:53

حتى تقوم مكانه، هذا هو المستفاد من كلام الشيخ في رسالة القطع.

و أمّا الثاني، فهو خيرة المحقّق الخراساني، و ذهب إلى عدم القيام إلاّ في القطع الطريقي المحض، و قد عرفت انّه لا معنى للقيام فيه.

أقول: الكلام يقع تارة في مقام الثبوت أي إمكان القيام، و تارة في مقام الإثبات و دلالة الدليل.

و إليك الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في إمكان تنزيل الطريق منزلة القسمين

ذهب المحقّق الخراساني إلى الامتناع، و استدل بما هذا حاصله:

انّ للقطع في جميع الأقسام أثرين بارزين:

1. حجّيته و طريقيته إلى الواقع، و هذا في القطع الطريقي المحض.

2. مدخليته في الموضوع و تأثيره في ثبوت الحكم كدخل القدرة و البلوغ، و هذا في القطع الموضوعي بكلا قسميه.

فدليل الحجّية إنّما يتكفل التنزيل الأوّل، أي تنزيل الطريق مكان القطع في ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا بما هو دخيل في الموضوع إلاّ إذا كان هناك تنزيل ثان و هو غير موجود.

فإن قلت: إذا كان لدليل التنزيل إطلاق من كلتا الجهتين فلا مانع من القيام مكانه، كما إذا نزّل الأمارة منزلة القطع في الطريقية و المدخلية في الموضوع.

قلت: إنّ دليل التنزيل مثل قوله:» العمري و ابنه ثقتان، فما أدّيا عني فعنّي يؤدّيان «(1)، لا يكاد يفي إلاّ بأحد التنزيلين، و ذلك لأنّه لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل الحجّية يكون النظر إلى القطع و الأمارة نظراً آليّاً و إلى الواقع

ص:54


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

و المؤدّى استقلالياً، و لو كان تنزيل الطريق مكان القطع لأجل المدخلية في الموضوع يكون النظر إلى الواقع و المؤدّى نظراً آلياً، و إليهما نظراً استقلالياً، و لا يصحّ الجمع بين اللحاظين المتضادين من الواحد.

نعم لو كانت بين التنزيلين جهة جامعة، و كان التنزيل لأجلها، لتحقّق التنزيلان بتنزيل واحد و لكن المفروض عدمه، فلا محيص إلاّ عن تنزيل واحد، إمّا لأجل كونه حجّة، أو لأجل كونه دخيلاً في الموضوع.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك أن يكون دليل التنزيل مجملاً غير دال على واحد من التنزيلين، فأجاب بأنّ ظهوره في أنّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه، هذا لبّ مراده في الكفاية.

يلاحظ عليه: أنّ النظر إلى القطع و الأمارة في كلا التنزيلين استقلالي بشهادة انّ المولى ينزِّل الأمارة منزلة قطع المكلّف، و يلاحظهما على وجه الاستقلال سواء أ كانت جهة التنزيل هي الحجية، أو المدخلية في الموضوع، غاية الأمر يلاحظ القطع في التنزيل الأوّل بما هو طريق و مرآة، و في التنزيل الثاني بما هو دخيل في الموضوع و انّه مؤثر في ترتّب الحكم و تحقّقه، و ليس هذان اللحاظان غير قابلين للجمع كما إذا نظر عند شراء المرآة إلى كيفية حكايتها و إراءتها و في الوقت نفسه إلى شكلها و ضخامة زجاجها و ما حولها من الرخام.

و بعبارة أُخرى: انّ نظر القاطع إلى قطع نفسه طريقي محض و لكنّه ليس هو المنزِّل، بل المنزل هو الشارع فهو ينظر إلى قطع المكلّف بنظر استقلالي من غير فرق بين ملاحظته من حيث إنّه مرآة و طريق، أو من حيث إنّه دخيل في الموضوع، فلو كان لدليل التنزيل إطلاق لما منع اللحاظان عن الشمول و الاستيعاب، و تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي، و القطع الموضوعي الطريقي. و بالجملة منشأ الخلط، هو تصور انّ القاطع هو المنزل، مع أنّه غيره.

ص:55

المقام الثاني: في مفاد دليل التنزيل

قد عرفت أنّ الكلام يقع في مقامين: أحدهما: في إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي، و القطع الموضوعي الطريقي بتنزيل واحد; ثانيهما: في استظهار مقدار دلالة الدليل، و قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني ذهب إلى الامتناع العقلي في المقام الأوّل فلم يعقد بحثاً للمقام الثاني، و لكنّك عرفت إمكانه. إنّما الكلام في مقدار دلالة الدليل.

و الاستظهار من الدليل فرع أن يكون للشارع دور في باب الأمارات و تنزيلها مكان القطع حتى يبحث في جهة التنزيل و انّه هل هو لأجل الحجّية أو المدخلية في الموضوع، لكن الحقّ انّه ليس للشارع في باب الأمارات، جعل و لا تنزيل سوى إمضاء ما بيد العقلاء، و سيوافيك في محلّه انّ عامة ما استدل به على حجّية الخبر الواحد راجع إلى بيان الصغرى و انّ فلاناً ثقة أو لا، دون الكبرى و كأنّها كانت عندهم محرزة و ثابتة.

و على ضوء ذلك يظهر أمران:

1. انّ العمل في مورد القطع الطريقي المحض بالأمارة ليس من باب تنزيله مكان القطع، بل لكونه طريقاً كالقطع و حجّة مثله، لا انّه منزل منزلته و لا يظهر من أدلّة الإمضاء سوى كونها حجّة، لا نازلة منزلته.

2. قيامه مكان القطع الموضوعي يتوقف على وجود جهة جامعة قريبة بينهما، فإن أخذ في الموضوع بما هو كاشف تام يرفض كلّ احتمال مخالف، فلا يكفي دليل الإمضاء في قيام الأمارة مكان القطع لانتفاء الحيثية التي لأجلها أخذ في الموضوع في الأمارة و إن أخذ بما انّه أحد الكواشف، فيقوم مكانه، لأنّ نسبة القطع و الأمارة إلى الحيثية المسوغة لأخذه في الموضوع، سواسية.

ص:56

و للمحقّق الخوئي) قدس سره (بيان آخر يقول: إنّ ترتيب آثار المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيلها منزلة القطع فيكون ترتيب أثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ترتيب أثر المقطوع على المؤدّى إنّما هو لأجل وجود الحجّة الشرعية لا لأجل تنزيلها منزلة القطع، فلا يكون ترتيب ذلك الأثر دليلاً على تنزيل الأمارة منزلة القطع أيضاً.

و بعبارة أُخرى: العمل بالأمارة في مورد القطع الطريقي المحض ليس لأجل تنزيل الأمارة مكان القطع، بل لأجل وجود الحجّة الشرعية، فالتساوي بين المقطوع و المؤدّى لا يكشف عن تنزيل المؤدّى منزلة المقطوع حتى يستكشف منه تنزيل الأمارة منزلة القطع كما لا يخفى.

في قيام الأُصول العملية مقام القطع

قسّم الأصل العملي إلى محرز و غير محرز. و المقصود من الأوّل ما يكون المجعول فيه لزوم الأخذ بأحد طرفي الشكّ بناء على أنّه الواقع و إلغاء الطرف الآخر، كالاستصحاب و قاعدة التجاوز و الفراغ في فعل النفس، و أصالة الصحّة في فعل الغير، و قاعدة عدم العبرة بشكِّ الإمام مع حفظ المأموم و بالعكس. و المراد من الثاني هو الوظيفة المقررة للجاهل شرعاً و عقلاً، كأصل البراءة و الاحتياط و قاعدتي الطهارة و الحلية.

أمّا القسم الثاني فلا يقوم مكان القطع مطلقاً، و ذلك لوجهين:

1. عدم وجود الجهة الجامعة بين القطع الطريقي إلى الواقع و الأُصول

ص:57


1- مصباح الأُصول: 2/37.

المقررة للجاهل بعنوان الوظيفة في مقام العمل، فالقطع طريق إلى الواقع، و الأصل غير المحرز، وظيفة للجاهل إذا انقطعت حيلته، و إلى هذا الوجه أشار المحقّق الخراساني بقوله:» لوضوح انّ المراد من القيام ترتيب ما للقطع من الآثار و الأحكام) تنجّز التكليف و غيره (على الأصل، مع أنّ شأنه ليس إلاّ وظيفة للجاهل في مقام العمل لا تنجيز الواقع «.

2. و لما كان هذا البيان غير جار في أصل الاحتياط حيث إنّ شأنه تنجيز التكليف أشار في وجه عدم قيامه مقام القطع إلى دليل آخر.

و حاصله: انّه يعتبر في التنزيل أُمور ثلاثة:

1. المنزَّل، 2. المنزَّل عليه، 3. جهة التنزيل. و لكن المنزل في المقام هو نفس جهة التنزيل، و ذلك لأنّ المنزل عبارة عن حكم العقل تنجيز الواقع) الاحتياط (و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل نفس المنزّل و هو حكم العقل بتنجز الواقع و التكليف لو كان.

فإن قلت: إنّ وحدة المنزَّل، وجهة التنزيل إنّما هو في الاحتياط العقلي، فالمنزل هو حكمه بالتنجّز و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل هو حكمه بالتنجز.

و أمّا الاحتياط الشرعي فالأضلاع الثلاثة مختلفة جداً، فالمنزَّل هو حكم الشارع بتنجز الواقع، و المنزل عليه هو القطع، وجهة التنزيل هو حكم العقل تنجز الواقع.

قلت: إنّ الاحتياط الشرعي في الشبهات البدوية غير واجب، بل هي مجرى البراءة، و في أطراف العلم الإجمالي و إن كان واجباً لكنّه بحكم العقل و بوجه سابق على حكم الشرع بالاحتياط كما قال: في الإناءين المشتبهين: يهريقهما جميعاً

ص:58

و يتيمّم.(1)

هذا كلّه حول الأصل غير المحرز; و أمّا الأصل المحرز، فيقوم مكان القطع الطريقي المحض، دون القطع الموضوعي، سواء كان موضوعياً طريقياً أو وصفياً، و ذلك بالبيان السابق في قيام الأمارات مكان القطع الموضوعي. و ذلك لأنّ التنزيل إمّا أن يكون بلحاظ اليقين، أو بلحاظ المتيقن; فإن كان بلحاظ تنزيل اليقين التعبدي مكان اليقين الحقيقي، كان النظر إلى اليقين في كلا الجانبين، استقلالياً، و إلى المؤدّى و المتيقّن آلياً; و إن كان التنزيل بلحاظ تنزيل المؤدّى مكان المتيقن، كان النظر إليهما استقلالياً، و إلى اليقين في كلا الجانبين آلياً، و لا يمكن الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا توضيح مراده في الكفاية.

صحّة الجمع بين التنزيلين بنحو الملازمة العرفية

قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني منع إمكان تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل واحد، كما منع بنفس هذا الدليل تنزيل الاستصحاب منزلة القطع الموضوعي الطريقي بدليل الاستصحاب لاستلزام التنزيل المزبور الجمع بين اللحاظين الآلي و الاستقلالي في آن واحد.

ثمّ إنّه في تعليقته على الرسائل صحّح دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين بالبيان التالي:

و هو انّ الأثر إمّا يترتّب على المقطوع بما هو هو، كما إذا قال: الخمر حرام شربه، ففي مثل ذلك يقوم الاستصحاب مكان القطع، فكما أنّه يحرم شربه إذا أحرز بالقطع كذلك يحرم شربه إذا أحرز بالاستصحاب.

ص:59


1- الوسائل: الجزء 2، الباب 4 من أبواب التيمم، الحديث 4.

و لكن ربما يتعلّق الأثر لا بالمتعلّق بما هو هو بل بما تعلّق به القطع، كما إذا قال: إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق، ففي مثل ذلك لو كان التنزيلان في عرض واحد يلزم ما تصور من المحال، و أمّا إذا كان التنزيلان لا في عرض واحد بل كلّ في طول الآخر فلا مانع من دلالة الدليل الواحد على كلا التنزيلين، أي تنزيل القطع التعبدي) الاستصحاب (منزلة القطع الواقعي، و تنزيل الخمر التعبدي منزلة الخمر الواقعي، و لكن لا في زمان واحد بل في زمانين، لأنّه إذا دلّ الدليل على أنّ الشارع نزّل الخمر التعبدي منزلة الخمر الحقيقي فهو كاشف عن أنّه نزل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي من ذي قبل، و إلاّ يلزم أن يكون التنزيل الأوّل لغواً، إذ لا يترتب الأثر على إحراز أحد الجزءين و الحكيم منزّه عن اللغوية، و حيث إنّ أحد التنزيلين في طول الآخر لا يلزم الجمع بين اللحاظين في آن واحد.

هذا عصارة ما ذكره في الحاشية.(1)

ثمّ إنّه أورد عليه في الكفاية بأنّه لا يخلو عن التكليف أوّلاً و التعسف ثانياً.

أمّا التكلّف، فلعدم الملازمة العرفيّة بين تنزيل أحد الجزءين و تنزيل الجزء الآخر، و لا ينتقل الإنسان من تنزيل أحدهما إلى أنّه قام بالتنزيل بالنسبة إلى الجزء الآخر قبل ذلك.

و أمّا التعسف فلاستلزامه الدور لأنّ التنزيل فعل شرعي اعتباري و العمل الاعتباري إنّما يصحّ إذا كان له أثر شرعي و المفروض انّ الأثر غير مترتب على واحد من التنزيلين بل على كليهما معاً، فعند ذلك مهما أقدم الشارع على تنزيل

ص:60


1- التعليقة: ص 9، و قد ألّفها قبل الكفاية بسنين، كما يظهر من تاريخ فراغه عن بعض أجزائه، فقد فرغ من التعليق على مبحث التعادل و الترجيح عام 1291 ه، لاحظ ص 289 من الطبعة الحجرية.

واحد من الجزءين دون تنزيل الجزء الآخر يكون فعله عبثاً و فاقداً للأثر إلاّ أن يكون لهذا الجزء الآخر تنزيل قبل ذلك و لكنه خلف لافتراض وحدة التنزيل من غير فرق بين أن يكون المتقدم هو تنزيل مؤدّى الاستصحاب مكان المتيقّن أو تنزيل القطع التعبدي مكان القطع الحقيقي.

و إن شئت قلت: انّ تنزيل المستصحب منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع لترتب الأثر على الواقع و العلم به، و المفروض أنّ تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب منزلة الواقع فيكون أحد التنزيلين متوقفاً على الآخر.

هذا لبّ مراده و توضيح مرامه.

و الإجابة عن كلامه بوجهين:

الأوّل: ما ذكرناه سابقاً من حسم مادة الإشكال بأنّ الجمع بين اللحاظين إنّما يلزم لو كان المنزِّل هو القاطع، و أمّا إذا كان المنزِّل غير القاطع فلا يكون هناك أيّ جمع بين اللحاظين أبداً.

و على ضوء ذلك لا حاجة لنا إلى ما تخلص به المحقّق الخراساني في الحاشية حتى ترد عليه مشكلة الدور.

و إن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً ثلاثة:

أ. لزوم اجتماع اللحاظين المتضادين.

ب. التخلص عن هذا الاجتماع.

ج. الردّ على هذا التخلص.

فنقول: إنّ الأمر الأوّل و هو اجتماع اللحاظين باطل من أساسه، فلا حاجة إلى التخلّص بما في التعليقة فضلاً عن تحليل ما ذكره نقداً عليها في الكفاية.

ص:61

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أجاب عن مشكلة الدور بأنّه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي و لا تتوقف صحّة التنزيل على الأثر الفعلي، فتنزيل أحد الجزءين دون تنزيل الجزء الآخر صحيح، لأنّه لو انضم إليه التنزيل الآخر صار موضوعاً للأثر و هذا يكفي في رفع الدور.

يلاحظ عليه: بأنّه و إن رفع به مشكلة الدور إلاّ أنّه أبطل البرهان، فإنّ أساسه هو صيانة فعل الحكيم عن اللغوية، فلو كان الأثر التعليقي كافياً يصان به فعل الشارع عن اللغوية فلا يحتاج إلى استكشاف تنزيل الجزء الآخر، لأنّ الحاجة إلى الاستكشاف إنّما كانت لأجل عدم كفاية الأثر التعليقي و لزوم الأثر الفعلي، و إلاّ فلو كفى الأثر التعليقي لصح أحد التنزيلين و إن لم ينضم إليه التنزيل الآخر إلى يوم القيامة.

نظرنا في الموضوع

لا يصحّ الجزم بدلالة الدليل على قيام الأصل المحرز مكان القطع الموضوعي الطريقي إلاّ بملاحظة لسان الدليل، فإن كان لسانه هو التعبد ببقاء اليقين فلا شكّ انّه يقوم مكان القطع الموضوعي الطريقي، فإذا قال الشارع: إذا قطعت بخمرية شيء فتصدق، ثمّ قال: إذا كنت على يقين بالخمرية ثمّ شككت فأنت ذو يقين و ليس عليك أن تنقض اليقين بالشكّ، فعند ذلك يكون دليل الاستصحاب حاكماً على الدليل الأوّل و مفسّراً له و دالاً على أنّ المراد من قوله:» إذا قطعت بخمريّة شيء «هو الأعم من القطع الحقيقي و التعبدي.

و أمّا إذا كان لسان الدليل هو التعبد بوجود المتيقن في السابق لا التعبد ببقاء اليقين فلا يقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي و إنّما يقوم مقام القطع الطريقي المحض، ففي رواية حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أشك

ص:62

و أنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا فقال:» مضى «.(1)

تجد انّه يركِّز على وجود ما مضى لا على وجود اليقين، ففي مثله لا يحكم إلاّ بقيامه مقام القطع الطريقي المحض دون ما كان الأثر مترتباً على اليقين بالواقع، إذ ليست العناية في هذا الأصل و ما أشبهه ) كأصالة الصحّة (و عدم العبرة بشكّ المأموم عند حفظ الإمام أو بالعكس، على وجود اليقين.

ص:63


1- الوسائل: 4، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1.
الأمر الرابع في القطع و الظن الموضوعيين
اشارة

قد طرح المحقّق الخراساني في هذا الأمر، القطعَ و الظنَ الموضوعيّين و بيّن أقسامهما، و لأجل إيضاح مقاصده نبحث في مقامين:

الأوّل: في أقسام القطع الموضوعي
اشارة

اعلم أنّ القطع إمّا يتعلّق بالحكم أو يتعلّق بموضوع ذي حكم، أمّا الثاني فلم يذكره المحقّق الخراساني بل اكتفى ببيان أقسام الأوّل، و نحن نقتفيه، فنقول: إنّ له أقساماً:

1. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بنفس هذا الوجوب المقطوع به.

2. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع مثل ذلك الحكم، كما إذا قال: إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تجب الصلاة عليك بوجوب آخر مثله.

3. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع ضدّ ذلك الحكم، كما إذا قال: إذا قطعتَ بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة.

4. أن يؤخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر يخالفه لا يضادّه و لا يماثله، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدّق.

ص:64

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حكم بامتناع الأقسام الثلاثة و لم يذكر من الرابع شيئاً لما سبق ذكره في الأمر الثالث، و إليك بيان أدلّة بطلان الأقسام الثلاثة:

أمّا الأوّل: فلاستلزامه الدور، لأنّ القطع بالحكم فرع وجوده، و المفروض انّ الحكم الواقعي متفرع على القطع بنفس الحكم فيلزم أن يكون الحكم موقوفاً على نفسه.

و بعبارة أُخرى: تعلّق القطع بالحكم يقتضي تقدّم الحكم على القطع هذا من جانب، و من جانب آخر انّ الحكم محمول على القطع بالحكم، فيقتضي تأخّر الحكم عن القطع، تأخرَ المحمول عن موضوعه.

أقول: إنّ القطع بالحكم لا يتوقف على وجود الحكم الواقعي بل يتوقف على الصورة الذهنية منه، فالتوقف من الجانب الأوّل غير صحيح، نعم الحكم الواقعي يتوقف على القطع بالصورة الذهنية من الحكم، و على ضوء هذا فالحكم الموقوف عليه هي الصورة الذهنية و هو غير الحكم الموقوف أي الواقعي.

و الحقّ التفصيل بين كون القطع بالحكم تمام الموضوع و بين كونه جزء الموضوع و الجزء الآخر، وجود الحكم الواقعي، فلو صحّ الدور فإنّما يصحّ في الصورة الثانية.

و ذلك لأنّ الحكم الواقعي حسب الفرض يتوقف على تحقّق الموضوع و هو القطع بالحكم الواقعي، و بما انّ القطع جزء الموضوع و الجزء الآخر هو الحكم الواقعي، فليس كلّ قطع مأخوذاً، و إنّما المأخوذ خصوص القطع الذي تعلّق بالحكم الواقعي، فيكون القطع في مقام الموضوعيّة متوقفاً على تحقّق الجزء الآخر، حتى يتعلّق به و هو الحكم الواقعي و المفروض انّه يتوقف على القطع بالحكم الواقعي.

و أمّا الثاني: إذا كان القطع بالحكم موضوعاً لحكم مماثل، فقد أحاله المحقّق

ص:65

الخراساني لأجل اجتماع المثلين في شيء واحد هو الصلاة فتكون واجبة بوجوبين متماثلين.

يلاحظ عليه بوجهين: أوّلاً: أنّ تعدّد موضوع الوجوبين يرفع الاستحالة، ضرورة انّ الوجوب الأوّل انصبّ على نفس الصلاة و الوجوب الثاني منصب على القطع بوجوبها. و المثلان لا يجتمعان في مكان واحد.

و ثانياً: أنّ الوجوب من الأُمور الاعتبارية و استحالة اجتماع المتماثلين مختص بالأُمور التكوينية النفس الأمرية، فالبياضان المتماثلان المتمايزان لا يجتمعان في نقطة واحدة، و أمّا الوجوبان الاعتباريان فلا مانع من اعتبار شيء واجباً بوجوبين غاية الأمر يكون الثاني أمراً لغواً.

فإن قلت: إنّ لازم اجتماع الوجوبين تعلّق إرادتين متماثلتين بمراد واحد.

قلت: إنّ الإرادتين متعلقتان بمرادين، فالصلاة بما هي هي متعلق بإحدى الإرادتين و القطع بوجوب الصلاة متعلّق بإرادة أُخرى.

و الأولى أن يقال: إنّ اجتماع وجوبين يوجب اللغوية إلاّ أن يحمل على التأكيد.

و أمّا الثالث: فقد أحاله المحقّق الخراساني لاستلزامه اجتماع الضدّين، و يظهر ضعفه ممّا ذكرناه في الوجه الثاني، نعم يصحّ أن يقال: إنّ مآل هذا النوع من الأخذ إلى اللغوية و إلى امتناع امتثال الحكمين المتضادين.

و أمّا الرابع فقد عرفت إمكانه.

ص:66

الاستثناء من عدم جواز الأخذ

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استثنى ممّا عدّه مستحيلاً من الأُمور الثلاثة ما يجمعها أخذ القطع بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أُخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضدّه، كما إذا قال:

1. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب الصلاة بنفس ذلك الوجوب فعلاً.

2. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً تجب بوجوب فعلي آخر.

3. إذا قطعت بوجوب الصلاة إنشاءً، تحرم عليك فعلاً.

وجه الجواز هو عدم لزوم الدور في الأوّل لكون الحكم المتوقف، غير المتوقف عليه و لعدم كون الوجوبين متماثلين أو متضادين، لأنّ أحدهما إنشائي و الآخر فعلي.

و الحاصل: انّه يجوز أن يكون القطع بالحكم الإنشائي موضوعاً لفعلية ذلك الحكم أو أن يكون القطع بحكم إنشائي موضوعاً لوجوب حكم فعلي آخر مثله أو ضدّه، فبما انّ الحكمين ليسا من نوع واحد لا يكون هناك أيُّ تماثل أو تضاد، فالممكن هو الأربعة، و الممتنع هو الثلاثة فتذكّر.

و أمّا بيان مراتب الأحكام، فنذكرها على وجه الإيجاز:

1. مرتبة الاقتضاء، و هي مرتبة ملاكات الأحكام. و إن شئت قلت: المصالح و المفاسد الموجودة في الأحكام.

2. مرتبة الإنشاء، و هي إنشاء الحكم دون أن يكون هناك بعث و زجر و تحريك بالفعل، كتشريع الحكم قبل بيانه للمكلّف.

ص:67

3. مرتبة الفعلية، و هي عبارة عن بلوغ الحكم مرتبة البعث و الزجر ببيانه و إبلاغه إلى المكلّفين.

4. مرتبة التنجز و الحتمية، و هي فرع علم المكلّف به فيكون مستحقاً للمثوبة و العقوبة لأجل الموافقة و المخالفة.

و ربما ناقش بعضهم فيها و جعل للحكم مرتبتين باخراج المرتبة الأُولى بحجّة انّها ليست حكماً و إخراج المرتبة الرابعة بحجّة انّها حكم عقلي لا صلة له بالحكم المنشأ الشرعي، و على كلّ تقدير، يجوز أن تكون مرتبة منه موضوعاً لمرتبة آخر كما أوضحناه.

في أقسام الظن المأخوذ في الموضوع

الظن المأخوذ في الموضوع، كالقطع المأخوذ فيه له أقسام أربعة أصلية، و أمّا حكمها فهل يتحدان حكماً أو يختلفان؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني. و توضيح كلامه: انّ الظنّ تارة يؤخذ في موضوع نفس الحكم، و أُخرى في مثله، و ثالثة في ضدّه، و رابعة في مخالفه.

و قد مرّ انّ الأقسام الثلاثة الأُول محال في القطع دون الأخير; و أمّا الظنّ فلا شكّ في امتناع الأوّل، و جواز الرابع، إنّما الكلام في القسمين المتوسطين، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جوازهما في الظنّ دون القطع، وجه الفرق انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الظن، لأنّ المفروض انّ الواقع غير منكشف مائة بالمائة و المكلّف بعدُ في غمار الجهل، فلا مانع من أن تكون الصلاة بما هي هي واجبة، و بما هي هي مظنون الوجوب، واجبة بوجوب مثله أو محرمة.

و الحاصل انّ هنا فرقاً بين انكشاف الواقع على وجه القطع، فلا موضوع لجعل حكم ثان مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع باجتماع الضدين أو المثلين،

ص:68

بخلاف ما إذا كان الواقع مغموراً في ستر الجهل فلا مانع من جعل حكمين متماثلين، أو ضدّين.

فإن قلت: لا فرق بين القطع و الظن، فكما أنّ القطع باجتماعهما محال، فهكذا الظن باجتماعها محال، فإذا تعلّق الظن بحكم فعلي، فجعل حكم فعلي مثله أو ضدّه يستلزم الظن باجتماع المثلين أو الضدين و كلاهما محالان، فالثلاثة الأُول محال في القطع و الظن، و الأخير جائز فيهما.

قلت: إنّ الحكم الفعلي على قسمين:

قسم منه ما يسمّى بالفعلي الحتمي، أي ما ليس له حالة انتظارية حيث تحقق فيه المقتضي و وجدت الشرائط و عدمت الموانع.

و قسم منه فعلي تعليقي بأن بلغ مرتبة الفعلية و لكن لم يبلغ مرتبة الحتمية و التنجز لفقدان شرطه و هو القطع، و إنّما يكون منجزاً إذا تعلّق به القطع.

و على ضوء هذا فالفعلي من جميع الجهات أي الحتمي منه، إذا تعلّق به الظن، لا يصلح أن يقع موضوعاً لحكم مثله أو ضده لاستلزامه الظن باجتماعهما، و أمّا إذا تعلّق بحكم فعلي غير حتمي و لا منجز ففي مثله لا مانع من أن يقع الظن به، موضوعاً لحكم حتمي مثله أو ضدّه، لأنّ تضاد الأحكام إنّما هو في مرحلة الفعلية الحتمية لا في مرحلة التعليقية، و بذلك ظهر الفرق بين القطع و الظن، ففي فرض تعلّق القطع يصير الحكم فعلياً حتمياً، و لا يصلح القطع به، موضوعاً لحكم آخر مثله أو ضدّه لاستلزامه القطع باجتماع المثلين أو الضدين، و هذا بخلاف الظن فانّه لا يوجب انقلاب التعليقي إلى الحتمي، فيبقى الحكم المتعلّق به الظن في مرحلة التعليق و يتعلّق الحكم الثاني على وجه الحتمية، و لا تماثل و لا تضادّ بين هذين النوعين من الحكمين.

ثمّ إنّه) قدس سره (توفق بذلك الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري، حيث جعل

ص:69

الحكم الواقعي من قبيل الفعليات غير المنجزة، و أمّا مؤدّى الأمارة أو الأصل من قبيل الفعليات الحتمية.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه عدل عمّا كان بصدده من إبداء الفرق الجوهري بين القطع و الظن في الأقسام الأربعة الأصلية بامتناع الثلاثة الأُوَل في القطع، و امتناع خصوص القسم الأوّل في الظن و جواز الثاني و الثالث فيه، و جعل وجه الفرق هو انحفاظ الحكم الواقعي في وجود الحكم المماثل و المضاد في مورد الظن كما مرّ و لكنّه بالبيان الأخير، جعل وجه الجواز اختلاف الرتبة بين الحكم الذي تعلّق به الظن و الحكم الذي ترتب على الظن بأنّ الأوّل فعلي غير حتمي و الثاني فعلي حتمي، و من المعلوم أنّه جائز حتى في نفس القطع، و قد صرّح به فيما سبق عند البحث عن أقسام القطع، و قال: نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضدّه، و على هذا لم يبق فرق بين القطع و الظن.

و إن شئت قلت: إنّ الكلام فيما إذا لم يكن تنجّز الواقع مشروطاً بشيء سوى وصول المكلّف إليه بطريق من الطرق، فيقع الكلام في جعل الحكم المماثل أو المضاد، و أمّا إذا كان تنجّز الحكم مشروطاً بخصوص القطع به يكون جعل الحكم المضاد فضلاً عن المماثل جائزاً.

و ثانياً: أنّ الظنّ المعتبر كالقطع، فكما أنّ الثاني، يوجب حتمية الحكم و تنجزه فهكذا الظن المعتبر، فلو صحّ كلامه، فيجب عليه أن يخص جواز الأخذ بالظنّ غير المعتبر، حتى لا يكون تعلّقه بالحكم سبباً لخروجه عن التعليق إلاّ أن تكون الحتمية معلقة على خصوص القطع، لا الحجّة المعتبرة.

ص:70

الأمر الخامس في وجوب الموافقة الالتزامية
اشارة

لا شكّ انّ المطلوب في الأُصول الدينية و الأُمور الاعتقادية، هو التسليم القلبي و الاعتقاد بها جزماً.

إنّما الكلام في الأحكام الشرعية الفرعية التي ثبتت و تنجّزت بالقطع، فهل هنا تكليفان؟ أحدهما: الالتزام بأنّه حكم اللّه قلباً و جناناً.

ثانيهما: الامتثال عملاً و خارجاً.

و لكلّ امتثال و عصيان، فلو التزم قلباً و لكن خالف عملاً فقد عصى و يستحق العقوبة، كما أنّه لو وافق عملاً، و خالف جناناً و التزاماً فقد ترك الفريضة القلبية، فيؤخذ به.

أو أنّ هناك تكليفاً واحداً و هو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل و إن لم يلتزم بها قلباً و جناناً.

ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني مستدلاً بشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة و العصيان بذلك و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمره إلاّ المثوبة دون العقوبة و لو لم يكن مسلّماً و ملتزماً به، نعم عدم الالتزام يوجب سقوط درجته.

ص:71

هذا و انّ محلّ النزاع في غير الأحكام التعبدية فانّ امتثالها رهن الإتيان بها للّه سبحانه أو لامتثال أمره و غير ذلك، و مثل ذلك لا ينفك عن الالتزام و التسليم بأنّه حكمه سبحانه و ينحصر النزاع بالأحكام التوصلية.

هذا هو محلّ تحرير النزاع و ذاك أيضاً مختار المحقّق الخراساني.

نعم أنكر سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (أن يكون للنزاع مفهوم صحيح قائلاً بأنّ التسليم القلبي و الانقياد الجناني و الاعتقاد الجزمي لأمر من الأمور لا يحصل بالإرادة و الاختيار من دون حصول مقدّماتها و مباديها، و لو فرضنا حصول عللها و أسبابها يمتنع تخلف الالتزام و الانقياد القلبي عند حصول مبادئها و يمتنع الاعتقاد بأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع كما أنّ حصولها بدونها ممتنع، و على ذلك فإذا قام الدليل القطعي على وجوب شيء فيمتنع عدم عقد القلب على وجوبه أو عقد القلب على ضدّه.

و أمّا الجحد الوارد في قوله سبحانه: (فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ). (1)فلا يراد منه الجحد القلبي، لامتناعه بعد حصول مبادئه من البراهين القطعية على أنّ موسى مرسل من ربه، بل المراد هو الجحد اللفظي و الإنكار اللساني.

و لمّا ذهب) قدس سره (إلى أنّ الالتزام القلبي وليد العلم بالواقع، فهو يحصل في قرارة الإنسان شاء أم لم يشأ، و لا يمكن له عقد القلب على خلافه، أنكر إمكان التشريع فضلاً عن حرمته، إذ كيف يمكن البناء و الالتزام القلبي على كون حكم من اللّه مع علمه بأنّه ليس منه أو يشك من كونه منه.

ص:72


1- النمل: 13 14.

فخرج بنتيجتين:

1. عدم وجوب الموافقة الالتزامية في الأحكام الفرعية المعلومة، لأنّ الالتزام أمر قهري عند حصول العلم.

2. عدم إمكان التشريع، أي عقد القلب على وجوب ما يعلم أنّه ليس بواجب أو يشك.

نعم البدعة حرام، و هي غير التشريع و هو الإفتاء بغير ما أنزل اللّه و دعوة الناس بالعمل به.(1)

يلاحظ على ما ذكره: أنّ النتيجة الثانية و إن كانت تامة و لكن الأُولى غير تامة، لعدم الملازمة بين القطع و الإيمان، و العلم و التسليم، فربّ قاطع و عالم، غير مؤمن و مسلِم قلباً، و قد أوضحه المحقّق الأصفهاني بقوله: الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب، لكنّه لا ينقاد له قلبه و لا يقرّ به باطناً، و إن كان في مقام العمل يتحرك بحركته خوفاً من سوطه و سطوته، و هكذا كان حال كثير من الكفار بالنسبة إلى نبيّنا، حيث إنّهم كانوا عالمين بحقيقته كما نطق به القرآن، و مع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً و لا مقرين باطناً، و لو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له مؤمنين حقيقة.(2)

و الذي يدل على أنّ بين العلم و التسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ). (3)قيل: نزلت في الزبير و رجل من

ص:73


1- تهذيب الأُصول: 462/45.
2- نهاية الدراية: 2/26.
3- النساء: 65.

الأنصار خاصمه إلى النبي في شراج(1) من الحرة كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبي للزبير:» اسق ثمّ أرسل إلى جارك «، فغضب الأنصاري و قال: يا رسول اللّه لئن كان ابن عمتك....(2)

فانّ خطاب الأنصاري للنبي كشف عن عدم تسليمه لقضائه و إن لم يخالف عملاً، و بذلك يعلم أنّ المراد من الجحد هو الجحد القلبي و عدم التسليم لمقتضى البرهان لا الجحد اللفظي، فالفراعنة أمام البيّنات التي أتى بها موسى كانوا:

1. عالمين بنبوة موسى و هارون.

2. غير مسلِّمين قلباً، مستكبرين جناناً.

و مما يؤيّد إمكان فصل الإيمان عن العلم، هو انّ الإنسان العادي يخاف من الإنسان الميت، و لكن الغسال يتعامل معه معاملة الإنسان العادي، فالإنسان العادي، عالم بأنّ الميت لا يضر و لكنه ليس بمؤمن بخلاف الغسال، فظهر بذلك انّ للنزاع معنى معقول.

و أمّا حكمها فهناك احتمالات:

الف. التسليم القلبي و الانقياد الجناني لكلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة و الشريعة، فلا شكّ انّه محقّق الإيمان و من أركانه.

ب. الانقياد و التسليم القلبي في القربيات و التعبديات عند الإتيان بها فهذا أيضاً لا غبار في وجوبه، لعدم تمشي القربة، مع عدم الانقياد و الالتزام بأنّه حكم اللّه سبحانه في الواقعة.

ص:74


1- مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، و» الحرّة «: الأرض ذات الحجارة.
2- الطبرسي: مجمع البيان: 2/69.

ج. عقد القلب على حكم الشيء في التوصليات و انّه حكم الواقعة، فلا دليل على وجوبه إذ المطلوب إنّما هو تطبيق العمل عليه، و ليس وراء ذلك مطلوب، نعم لا يجب الالتزام بأنّه حكم اللّه، و لكن يحرم الالتزام بخلافه و الالتزام بعدمه.

ثمرة المسألة

ثمّ إنّ الخراساني أشار إلى ثمرة البحث و انّ له ثمرتين، فتارة تظهر الثمرة في الالتزام بالحكم الواقعي، و أُخرى في الالتزام بالحكم الظاهري. و الأُولى ثمرة فقهية، و الأُخرى أُصولية.

أمّا الأُولى: فقد أشار إليها بقوله: ثمّ لا يذهب عليك انّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، تجب فيما إذا كان المكلّف متمكناً منها....

و حاصل ما أفاده انّ هنا صوراً:

أ. أن يعلم تفصيلاً بالحكم الواقعي، كحرمة العصير قبل التثليث.

ب. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع إمكان الموافقة العملية، كما إذا علم بوجوب أحد الفعلين.

ج. أن يعلم إجمالاً بالحكم الواقعي مع عدم إمكان الاحتياط، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته. فالمكلّف متمكن من الموافقة الالتزامية في جميع الصور، غاية الأمر إن علم بالحكم تفصيلاً يلتزم به تفصيلاً كما في الصورة الأُولى، و إن علم إجمالاً يلتزم به كذلك و يعتقد بما هو الواقع و الثابت و إن لم يعلم به بشخصه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعترض على نفسه بقوله:» و إن أبيت إلاّ على لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه «أي بأحدهما مخيّراً.

ص:75

و حاصل الاعتراض: انّ المراد من الموافقة الالتزامية هو الالتزام بالحكم بشخصه و عنوانه، و مثل هذا الالتزام غير حاصل في الصورتين الأخيرتين، لأنّه التزم فيهما بما هو الواقع دون تعيين.

ثمّ أجاب) قدس سره (عنه بوجوه ثلاثة:

1. لو كان المراد منها هو هذا المعنى لما كانت الموافقة القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة.

2. و لما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً، فانّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة.

و حاصل الجواب الأوّل: انّه لو فسرت الموافقة الالتزامية بهذا المعنى لما كان المكلّف متمكناً من امتثاله و يختص وجوبها حينئذ بالصورة الأُولى.

و حاصل الجواب الثاني: انّ الأخذ بأحد الحكمين بشخصه لغاية حصول الموافقة الالتزامية مستلزم التشريع المحرم.

3. انّ الموافقة الالتزامية لو قلنا بها فإنّما نقول بها لأنّها من آثار نفس التكليف، و لو كان كذلك فهو يقتضي الالتزام به معيّناً، و أين هو من القول بالأخذ بواحد من التكليفين مخيراً، فانّ معناه انّ كلّ تكليف يقتضي الالتزام به أو بضده و هو غير معقول، فلا مناص عن القول بأنّ الواجب هو الالتزام بالواقع على ما هو عليه لو قلنا بوجوبها.

الثمرة الأُصولية

قد ذكرنا انّ للبحث ثمرتين: فقهية و أُصولية.

أمّا الأُولى: فقد عرفت أنّ ثمرة البحث ترجع إلى وجوب آخر وراء الالتزام العملي في الأحكام، و قد عرفت أنّه غير واجب و إلاّ لزم عقابان عند الترك التزاماً

ص:76

و قلباً و ثوابان عند القيام بهما.

و أمّا الثانية: و هي جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، و انّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية هل يمنع عن القول بجريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ القول بوجوب الموافقة الالتزامية على النحو الذي عرفت لا يمنع من جريان الأُصول في أطرافه، لأنّ الالتزام بالواقع لا ينافي القول بالبراءة أو الحلية في أطراف العلم ظاهراً، لأنّ أحد الحكمين واقعي و الآخر ظاهري، و إلى ما ذكرنا أشار بقوله:» و من هنا قد انقدح انّه لا يكون من قِبَل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول... «.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذهب أيضاً إلى أنّ وجوب الموافقة الالتزامية ليس مانعاً عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، لكن لا بالبيان الماضي من المحقّق الخراساني من عدم التنافي بين الالتزام بالواقع، و إجراء البراءة ظاهراً، بل ببيان آخر، ذكره في رسالة القطع. و حاصله:

لو افترضنا وجود الدليل بالالتزام بالحكم الواقعي لكن دليل الأصل يخرج المورد عن أدلّة الالتزام بالحكم الواقعي. و هذا نص كلامه: لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعية إنّما يجب مقدمة للعمل و ليست كالأُصول الاعتقادية يطلب فيها الالتزام و الاعتقاد من حيث الذات و لو فرض ثبوت الدليل عقلاً أو نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم ينفع، لأنّ الأُصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي فهي كالأُصول في الشبهة الموضوعية مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم، أعني: وجوب الأخذ بحكم اللّه.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا يدفع بها) أي بالأُصول (محذور عدم

ص:77


1- الفرائد: رسالة القطع: 19، طبعة رحمة اللّه.

الالتزام أو الالتزام بخلافه، إلاّ بوجه دائر، و ذلك لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور، أي محذور عدم الالتزام بالواقع أو الالتزام بخلافه، و الثاني موقوف على جريان الأُصول.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني حاول أن يرد الدور الذي أورده على الشيخ بقوله:» اللّهمّ إلاّ أن يقال انّ استقلال العقل بالمحذور الخ. و حاصله: العلم بالحكم إنّما يكون علّة لوجوب الالتزام إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام و الاقتحام كما في صورة العلم التفصيلي، و أمّا إذا كان هناك ترخيص كما هو ظاهر عموم أدلّة الأُصول فلا دور، لأنّ جريان الأُصول موقوف على عدم المحذور، و الثاني موقوف على عموم الدليل في جانب الأُصول و هو متحقّق.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني كلاماً في عدم جريان الأُصول في أطراف العلم يتلخص في أُمور ثلاثة:

أ. يشترط في جريان الأُصول العملية وجود الأثر العملي و هو معدوم لاتفاق العلماء على أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية فيجب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين، كما يجب الإتيان بالظهر و الجمعة، فإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في جريان استصحاب الطهارة و البراءة في الأمثلة المذكورة.

و الحقّ انّه إشكال تام.

ب. ما نقله عن الشيخ الأنصاري و قد ذكره) قدس سره (في خاتمة الاستصحاب(1) لا في رسالة القطع، و هو انّ القول بجريان الأُصول كالاستصحاب يستلزم تناقض صدر الدليل مع ذيله، فلو شمل قوله:» لا تنقض اليقين بالشك «كلا الاناءين الطاهرين و قد علم بوقوع النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بطهارتهما، و لكن بما انّ

ص:78


1- الفرائد: 429، مبحث الاستصحاب في الأصل السببي و المسببي إذا كان الشكّ مسبباً عن أمر ثالث، طبعة رحمة اللّه.

المكلّف عالم بوجود النجاسة في أحدهما يلزم الحكم بنجاسة الإناء الواقعي الذي حلّت فيه النجاسة، فيلزم أن يكون الإناء الواقعي طاهراً بحكم الصدر و نجساً بحكم الذيل أعني قوله: و لكن انقضه بيقين آخر .

ج. نعم تأمل المحقّق الخراساني في هذا الإشكال قائلاً بأنّه مبنيّ على أنّ المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من الإجمالي و التفصيلي مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو اليقين التفصيلي، فعندئذ يكون الإناءان محكومين بالطهارة لا بالنجاسة، لعدم حصول الغاية.

و فيما ذكره من التأمل، تأمل واضح إذ لا دليل لانصراف الذيل إلى خصوص العلم التفصيلي و عدم شموله الإجمالي.

ص:79

الأمر السادس قطع القطاع

يطلق القطاع و يراد منه تارة: من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لو أُتيحت لغيره لحصل لهم أيضاً. و أُخرى: من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب التي لا يحصل منها اليقين لغالب الناس.

و القطّاع بالمعنى الأوّل زين و آية للذكاء، و بالمعنى الثاني شين و آية التدهور العقلي، و محلّ البحث هو القسم الثاني لا الأوّل.

ثمّ إنّ الوسواس في مورد النجاسات من قبيل القطّاع حيث يحصل له القطع بها من أسباب غير عاديّة، و في مورد الخروج عن عهدة التكاليف وسواس لا يحصل له اليقين بسهولة.

و منه يظهر حال الظنّان، فله أيضاً إطلاقان مثل القطّاع حذو النعلِ بالنعلِ.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه حُكي عن الشيخ الأكبر كاشف الغطاء عدم الاعتناء بقطع القطاع، و تحقيق الحق يتوقف على البحث في مقامين:

الأوّل: ما إذا كان القطع طريقيّاً محضاً.

الثاني: ما إذا كان القطع موضوعيّاً مأخوذاً في الموضوع.

أمّا الأوّل: فالظاهر كون قطعه حجّة عليه، و لا يتصور نهيه عن العمل به

ص:80

لاستلزامه وجود حكمين متناقضين في الشريعة، حيث يقول الدم نجس و في الوقت نفسه ينهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.

نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة العمل بعد انكشاف الخلاف، كما إذا قطع بدخول الوقت و تبيّن عدم دخوله، فيحكم عليه بالبطلان، كان له وجه، و لكن لا فرق عندئذ بين القطّاع و غيره.

و أمّا الثاني: أي القطع الموضوعي، فبما انّ القطع جزء الموضوع فللمقنن التصرف في موضوع حكمه، فيصح جعل مطلق القطع جزءاً للموضوع كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءاً له أي ما يحصل من الأسباب المتعارفة فللنهي عندئذ له مجال، فإذا قطع بأسباب غير عادية فللشارع النهي عن العمل به، لأنّ المأخوذ في الموضوع غيره.

ثمّ لو وقف الإنسان على خطأ القاطع قطاعاً كان أم غيره في الأحكام، و الموضوعات، فهل يجب على الغير إرشاده أو لا؟ فالظاهر وجوبه في مورد الجهل بالأحكام بالنظر إلى أدلّة إرشاد الجاهل من غير فرق بين البسيط و المركب، و أمّا الموضوعات فلا شكّ في عدم وجوب إرشاده إلاّ في مهام الأُمور كالدماء و الأعراض و الأموال الطائلة.

هذا كلّه حول القطاع.

أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار عنه من غير فرق بين كونه طريقاً محضاً إلى متعلقه، أو مأخوذاً في الموضوع و الفرق بينه و بين القطع واضح، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له و إنّما هو باعتبار الشارع، و جعله حجّة في مجال الطاعة و المعصية، وعليه يصحّ النهي عن العمل به مطلقاً من غير فرق بين كونه طريقيّاً محضاً أو موضوعيّاً.

ثمّ إنّ ظنّ الظنّان يكون محكوماً بحكم الشك، و إليك التوضيح بمثالين:

ص:81

1. لو ظن بعد الخروج عن المحل انّه ترك التشهد، فلا يعود، لكونه من قبيل الشك بعد المحل، نعم لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه الرجوع لحجّية الظن في الركعات الأخيرة و أجزاء الصلاة فعلاً أو تركاً.

2. لو ظن قبل الخروج عن المحل، بالإتيان فيعود، لأنّ الشاك في المحل يعود فيحكم عليه بالرجوع و الإتيان به مع أنّه لو كان ظاناً متعارفاً كان عليه عدم الرجوع.

و أمّا الشكّاك ففيه التفصيل: ففي كلّ مورد لا يعتنى بالشك العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى، كالشكّ بعد المحل; و أمّا المورد الذي يعتنى فيه بالشكّ العادي و يكون موضوعاً للأثر، فلا يعتنى بشكّ الشكّاك ، كما في الشك في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث و الأربع، فالشاك المتعارف يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر، و أمّا الشكّاك، فلا يعتنى بشكّه و لا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله:» لا شكّ لكثير الشكّ «فلو اعتدّ به أيضاً لم يبق فرق بين الشكّاك و غيره.

ص:82

الأمر السابع حجّية العقل في مجالات خاصة
اشارة

إنّ العقل أحد الحجج الأربع التي اتفق أصحابنا إلاّ قليلاً منهم على حجّيته، و لأجل إيضاح الحال نقدّم أُموراً:

الأوّل: الإدراك العقلي ينقسم إلى: إدراك نظري و إدراك عملي.

فالأوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم، كإدراك وجود الصانع و صفاته و أفعاله و غير ذلك.

و الثاني إدراك ما ينبغي أن يعمل، كإدراكه حسن العدل و قبح الظلم و وجوب ردّ الوديعة و ترك الخيانة فيها، و المقسم هو الإدراك، فهو ينقسم إلى نظريّ و عمليّ، و ربما يتوسع فيقسم العقل إلى القسمين.

الثاني: انّ الاستدلال لا يتم إلاّ بأحد طرق ثلاث: 1. الاستقراء، 2. التمثيل، 3. القياس المنطقي.

و الاستقراء الناقص لا يحتجّ به لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ، و أمّا الاستقراء الكامل فلا يعدّ دليلاً، لأنّ المستقرئ يصل إلى النتيجة في ضمن الاستقراء فلا تبقى حاجة للاستدلال بالاستقراء الكامل.

و بعبارة أُخرى: الاستقراء الكامل علوم جزئية تفصيلية تصبُّ بعد الانتهاء

ص:83

في قالب قضية كلية من دون أن يكون هناك مجهول يستدل به على العلم به.

و أمّا التمثيل، فهو عبارة عن القياس الأُصولي الذي لا نقول به كما سيوافيك تفصيله عند البحث عن مصادر التشريع عند أهل السنة.

فتعيّن أن تكون الحجّة هي القياس المنطقي، و هو على أقسام ثلاثة:

أ. أن تكون الصغرى و الكبرى شرعيتين.

ب. أن تكون كلتاهما عقليتين، كإدراك العقل حسن العدل و حكمه بوجوب تطبيق العمل عليه و قبح الظلم و حكمه بالاجتناب عنه، و هذا ما يعبّر عنه بالمستقلات العقلية، أو التحسين و التقبيح العقليين.(1)

ج. أن تكون الصغرى شرعية و الكبرى عقلية.

توضيح القسمين الأخيرين:

إنّ الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: ما يُستنبط من مقدمتين عقليّتين، و هذا كالحكم بحسن العدل و قبح الظلم، و حكمه بأنّه عند الشرع أيضاً كذلك، و هذا ما يسمّى بالمستقلات العقلية، فالدليل بعامة أجزائه عقلي، فقد حكم بحسن العدل كما حكم بالملازمة بين العقل و الشرع.

الثاني: ما تكون إحدى المقدمتين عقلية، و هذا كما في باب الملازمات العقلية كوجوب المقدمة فانّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشيء و وجوب ما يتوقف عليه، ويحكم بالحكم الإدراكي بأنّ طالب الشيء طالب لمقدماته، أو يحكم بثبوت التلازم بين الأمر بالشيء و حرمة أضداده و انّه عند الشرع في كلا الموردين

ص:84


1- في مقابل الأشاعرة الذين لا يعترفون بهما إلاّ من طريق الشرع، فالحسن عندهم ما حسنه الشارع و هكذا القبيح.

أيضاً كذلك.

و من المعلوم انّه لا يمكن التوصل بهذا الحكم الكلي إلى وجوب الوضوء إلاّ بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة و توقفها عليه، فيقال إذا أُريد ترتيب القياس و أخذ النتيجة:

الوضوء مقدمة للصلاة، فهذه المقدمة شرعية، و مقدمة الواجب واجبة عقلاً و شرعاً للملازمة، فينتج القياس: الوضوء واجب شرعاً.

الثالث: الفرق بين هذا المقام الباحث عن حجّية العقل و ما مرّ في مبحث الأوامر من الملازمات العقلية بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، هو انّ البحث السابق كان يدور حول وجود الملازمة بين الإرادتين أو الوجوبين عند العقل و عدمها. و لكن البحث في المقام يدور عن كشفه عن كون الحكم عند الشرع أيضاً كذلك.

و بعبارة أُخرى: كان البحث السابق منصباً على وجود الملازمة العقلية بين الوجوبين و عدمه، أو بين الوجوب و حرمة الضدّ و عدمه، و بعد ثبوتها يبحث في المقام عن حجّية حكمه و كشفه عن حكم الشارع. و نتيجة البحث تكون وجود الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و انّ الواجب عقلاً، واجب شرعاً أيضاً.

الرابع: عرف الدليل العقلي بأنّه حكم يتوصل به إلى حكم شرعي، و ربما يعرّف: بأنّه ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب نظري.(1) مثلاً إذا حكم العقل بأنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه، موجب لحصول الامتثال فيستدلّ به على أنّه في الشرع أيضاً كذلك، فيترتب عليه براءة الذمة عن الإعادة و القضاء، أو إذا حكم العقل عند التزاحم بلزوم تقديم الأهم كالنفس المحترمة على المهم كالتصرف في مال الغير بلا إذنه، فيستدل به على الحكم الشرعي و هو

ص:85


1- القوانين: 2/2; مطارح الأنظار: 233.

وجوب إنقاذ الغريق و جواز التصرف في مال الغير، كلّ ذلك توصل بالحكم العقلي للاستدلال على الحكم الشرعي.

الخامس: انّ الاستدلال بالحكم العقلي على الحكم الشرعي يتصور على وجهين:

أ. إذا أدرك العقل حكم الموضوع عند لحاظه بما هو هو مع قطع النظر عن سائر الجهات من كونه ذات مصلحة أو مفسدة، موجب لبقاء النظام أو هادم له، نافع للمزاج أو مضرّ له، بل انتقل بحكمه إذا نظر إلى الموضوع بما هو هو، من دون لحاظ أي ضميمة من الضمائم و من أوضح أمثلة هذا القسم استقلاله، بحسن العدل و حكمه بلزوم فعله، و قبح الظلم و حكمه بلزوم طرده.

نعم المورد لا ينحصر بالتحسين و التقبيح، و سيوافيك انّ كلّ ما يدركه العقل بوصف كونه حكماً عاماً غير مقيد بفاعل خاص، و لا طرف معين فهو من مصاديق هذا القسم و نظيره: إدراكه الملازمة بين الإرادتين و الوجوبين، أو إرادة و وجوب شيء و حرمة ضدّه، و هكذا فانّ المدرَك حكم عام غير مقيد بشيء غير انّ التحسين و التقبيح من المستقلات العقلية لكن يجمعهما استقلال العقل في إدراك الحكم العام الذي يشارك فيه الممكن و الواجب.

ب. إذا استقل العقل بالحكم لا بملاحظة الموضوع بما هو هو، بل بما هو ذات مصلحة أو مفسدة فحكم بلزوم حيازة الأُولى و اجتناب الثانية، فهل يستكشف منه الوجوب أو الحرمة عند الشارع، أيضاً بحيث يكون العلم بالمصالح و المفاسد من مصادر التشريع الإسلامي؟ إذا عرفت ذلك، فيقع البحث في حجّية العقل في مقامين:

المقام الأوّل: استكشاف حكم الشرع عند استقلاله بالحكم بالنظر إلى ذات الموضوع، فنقول: إذا استقل العقل بالحكم على الموضوع عند دراسته بما هو هو

ص:86

من غير التفات إلى ما وراء الموضوع من المصالح و المفاسد، كاستقلاله بقبح تكليف غير المميز و من لم يبلغه البيان، فهل يكون ذلك دليلاً على كون الحكم عند الشارع كذلك أو لا؟ فذهب الأُصوليون إلى وجود الملازمة بين الحكمين، و ما ذلك إلاّ لأنّ العقل يدرك حكماً عاماً غير مقيّد بشيء.

مثلاً إذا أدرك العقل) حسن العدل (أدرك انّه حسن مطلقاً، أي سواء كان الفاعل واجب الوجود أم ممكن الوجود، و سواء صدر الفعل في الدنيا أم في الآخرة، و سواء كان مقروناً بالمصلحة أو لا، فمثل هذا الحكم العقلي المدرك يلازم كون الحكم الشرعي أيضاً كذلك، و إلاّ لما كان المدرك عاماً شاملاً لجميع تلك الخصوصيات.

و بذلك تتضح الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في المستقلات العقلية.

هذا كلّه في المستقلات العقلية و به يظهر حكم غير المستقلات العقلية التي عرفت معناها، مثلاً إذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته، أو وجوب الشيء و حرمة ضدّه، أو الملازمة بين ثبوت الجزاء عند ثبوت العلّة المنحصرة و انتفائه عند انتفائها، يكشف كون الحكم عند الشرع كذلك، لأنّ الحكم المدرك للعقل حكم عام غير مقيّد بشيء من القيود، فكما انّ العقل يدرك الملازمة بين الأربعة و الزوجية بلا قيد، فيكون حكماً صادقاً في جميع الأزمان و الأحوال، فكذلك يدرك الملازمة بين الوجوبين أو بين الوجوب و الحرمة، فالقول بعدم كشفه عن كون الحكم عند الشارع كذلك ينافي إطلاق حكم العقل و عدم تقيّده بشيء.

و بذلك يتضح انّ ادعاء الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع يرجع إلى أنّ الحكم المدرك للعقل حكم مطلق غير مقيد بشيء فيعم حكم الشارع أيضاً.

ص:87

فالاحتجاجات في باب الملازمات مستقلة كانت أو غير مستقلة ترجع إلى كون الحكم المدرَك حكماً مطلقاً شاملاً لكلّ فاعل و ظرف، فإخراج الواجب و إخراج حكمه عن تحت القاعدة خلاف ما يحكم به العقل على وجه الجزم، فمن حاول نفي الملازمة فعليه أن ينفي الإدراك القطعي للعقل في تلك المجالات و انّه ليس للعقل ذلك الإدراك القطعي العام و أنّى له ذلك.

المقام الثاني: استكشاف الحكم الشرعي من المصالح و المفاسد في الموضوع دون نظر إلى حكم العقل بحسنه أو قبحه.

فنقول: إذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة في شيء و كان إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين اللّتين يستوي في إدراكها جميع العقلاء، ففي مثله يصحّ استنباط الحكم الشرعي من العقلي.

نعم لو أدرك المصلحة أو المفسدة و لم يكن إدراكه إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء بل إدراكاً شخصياً حصل له بالسبر و التقسيم، فلا سبيل للعقل إلى الحكم بالملازمة فيه، و ذلك لأنّ الأحكام الشرعية المولوية و إن كانت لا تنفك عن المصالح أو المفاسد، و لكن انّى للعقل أن يدركها على ما هي عليها.

و بذلك يعلم أنّه لا يمكن للفقيه أن يجعل ما أدركه من المصالح و المفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي بل يجب عليه الرجوع إلى سائر الأدلة.

فخرجنا بالنتائج التالية:

أوّلاً: أنّ حكم العقل بشيء في المستقلات العقلية أو في غيرها يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً و يكون المدرَك حكماً عاماً كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.

ثانياً: إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً

ص:88

يستوي فيه جميع العقلاء، كوجود المفسدة في استعمال المخدِّرات، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي.

ثالثاً: استكشاف ملاكات الأحكام و استنباطها بالسبر و التقسيم ثمّ استكشاف حكم الشرع على وفقه أمر محظور لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام و مفاسدها، و سيوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

تطبيقات

يترتب على حجّية العقل في المجالات الثلاثة، أعني:

1. باب الملازمات العقلية، 2. الحسن و القبح العقليين، 3. المصالح و المفاسد العامتين ثمرات فقهية كثيرة نستعرض قسماً منها.

أمّا باب الملازمات العقلية، فيستنتج منها الأحكام التالية:

1. وجوب المقدمة على القول بالملازمة عند العقل بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته.

2. حرمة ضد الواجب على القول بالملازمة عند العقل بين الأمر بالشيء و النهي عن ضدّه.

3. صحّة العبادة على القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و بطلانها على القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي مع تقديم النهي، و صحّتها على الامتناع لكن على القول بتقديم الأمر.

4. فساد العبادة إذا تعلق النهي بنفسها.

5. فساد العبادة إذا تعلق النهي بأجزائها أو شرائطها أو أوصافها، و قد مرّ انّ الصحّة رهن أحد أمرين:

وجود الأمر، أو وجود الملاك. و الأوّل منتف لوجود

ص:89

النهي، و الثاني مثله لكشف النهي عن المبغوضية، و هي لا تجتمع مع الملاك على تفصيل مرّ ذكره.

6. فساد المعاملة إذا تعلق النهي بالتصرف في الثمن أو المثمن للملازمة بين مثل هذا النهي و فساده.

7. انتفاء الحكم مع انتفاء الشرط في القضايا الشرطية إذا ثبت كون الشرط علّة منحصرة للملازمة بين انتفاء العلّة المنحصرة و انتفاء معلولها.

أمّا باب الحسن و القبح العقليين فيستنتج منه الأحكام التالية:

1. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

2. الاشتغال بالتكليف عند العلم الإجمالي و تردّد المكلّف به بين أمرين لحكمه بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية و حسن عقوبة من لم يخرج عن عهدة التكليف قطعاً.

3. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة و القضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال على تفصيل مرّ في محلّه.

4. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.

استكشاف الأحكام من باب إدراك المصالح و المفاسد النوعيين الذي يستوي فيهما كافة العقلاء كاستعمال المخدرات.

نعم إدراك المصالح و المفاسد و مناطات الأحكام بالسبر و التقسيم فهو أمر مرغوب عنه و إن حصل القطع، فالقطع حجّة للقاطع لا لغيره، و ليس حجّة على المقلد لاستناده في استنباط الحكم الشرعي على مصدر غير صالح كاستناده على القياس و الاستحسان.

ص:90

عنوان المسألة بين الأخباريين

هذا هو موقف الأُصوليين من حكم العقل، و أمّا موقف الأخباريين فهم يرفضون العقل في مجال الاستنباط بأحد الوجهين:

أ. منع الصغرى و انّه لا يحصل للعقل قطع بالحكم بل كلّ ما يدركه لا يخرج عن تحت الظنون.

ب. منع الكبرى بعد تسليم الصغرى، و انّ القطع بالحكم و إن كان حاصلاً، لكنّه ليس بحجّة لعدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و إليك دراسة هذين الوجهين:

أمّا الوجه الأوّل: فهو الظاهر من كلام المحدِّث الاسترابادي رائد الحركة الأخبارية حيث صرّح بأنّه لا يحصل اليقين من التمسك بغير الوحي، و يدل على ذلك كلامه في مواضع عديدة قال: كلّ مسلك غير التمسك بكلامهم إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنَّ بحكم اللّه و قد أثبتنا سابقاً انّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.

ج. قال في فهرست فصول كتابه: الأوّل: في إبطال التمسك بالاستنباطات الظنية في نفي أحكامه تعالى شأنه و وجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه، أو بحكم ورد عنهم) عليهم السلام (.

و لكنّه لم يذكر وجه عدم حصول اليقين و نحن نشير إلى الوجوه التي يمكن أن يعتمد عليها الأخباري في ادّعائه فنقول:

الأوّل: احتمال سعة مناط الحكم عند العقل

إنّ العقل و إن كان مدركاً للمصالح و المفاسد و الجهات المحسنة و المقبحة

ص:91

إلاّ أنّه من الممكن أن تكون لتلك الجهات، موانع و مزاحمات في الواقع و في نظر الشارع و لم يصل العقل إليها إذ ليس من شأن العقل، الإحاطة بالواقع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف المفروض، لأنّ الكلام فيما إذا حكم العقل بحكم قطعي على الموضوع بما هو هو كقبح الظلم و الخيانة في الأمانة، أو كقبح ترجيح الأهم على المهم و لا يحتمل أن يكون للحكم مانع في الواقع أو شرط عند الشارع، فما ذكره خارج عن محط البحث.

نعم لو احتمل العقل أحد هذه الأُمور لم يحكم بحكم باتّ.

الثاني: جواز خلو الواقعة عن الحكم

يجوز أن لا يكون للشارع فيما حكم فيه العقل بالوجوب أو الحرمة، حكم أصلاً لا موافقاً و لا مخالفاً بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً و على ذلك لا حكم للشرع في الموضوع وفاقاً أو خلافاً.(2)

يلاحظ عليه: أنّ احتمال خلو الواقعة من الحكم يضاد مع ما ورد عنهم) عليهم السلام (:» ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنة «.

و في حديث آخر: أ كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال:» بل كلّ شيء في كتاب اللّه و سنّة نبيّه «أو» في الكتاب و السنة «.(3)

فكيف يمكن أن لا يكون للشارع حكم في الموضوعات الخطيرة، و قد قال) صلى الله عليه و آله و سلم (في خطبة حجّة الوداع:» يا أيّها الناس ما من شيء يقربكم من الجنّة و يبعدكم من النار، إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقربكم من النار و يباعدكم

ص:92


1- فوائد الأُصول: 3/60، نقله المؤلف من الفصول و لم نعثر عليه فيه.
2- الفصول في علم الأُصول: 337.
3- الكافي: 621/59، باب الرد إلى الكتاب و السنّة.

من الجنة إلاّ و قد نهيتكم عنه «.(1)

ثمّ إنّ الأخباريين استدلوا بطوائف من الروايات التي زعموا دلالتها على مدّعاهم، و إليك استعراضها تحت عناوين خاصة ليسهل للطالب الوقوف على ما لم نذكر من الروايات فانّ جميعها غير خارجة عن تلك العناوين.

الطائفة الأُولى: لزوم توسيط الحجّة في بيان الحكم

قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم يتوسط الحجّة في تبليغه و بيانه و لا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة، و يدلّ على ذلك صحيح زرارة» فلو انّ رجلاً صام نهاره، و قام ليله، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية ولي اللّه فيواليه و تكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللّه ثواب و لا كان من أهل الإيمان «.(2)

قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من دان بغير سماع ألزمه اللّه البتة إلى الفناء «.(3)

قال أبو جعفر) عليه السلام (:» كلما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل «(4)إلى غير ذلك من الروايات.

يلاحظ عليه أوّلاً: انصراف الرواية إلى المعرضين عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و المستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم، و أمّا من أناخ مطيّته على عتبةِ أبوابهم في كلّ أمر كبير و صغير و مع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة فالرواية منصرفة عنه جداً.

و بعبارة أُخرى: كما للآيات أسباب و شأن نزول، فهكذا الروايات، فهي تعبّر

ص:93


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13.
3- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14 و 18.
4- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14 و 18.

عن سيرة قضاة العامة و فقهائهم كأبي حنيفة و ابن شبرمة و أضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و لم يُنيخُوا مطيّتهم على أبواب أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

و أمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب و السنّة و تمسكوا بالثقلين فلا يعمهم، و المورد و إن لم يكن مخصِّصاً لكن يمكن إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل و المشابه لا المباين، و تمسك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

و ثانياً: إذا كان العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روى هشام، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، و حجّة باطنة; فالظاهرة الرسل و الأنبياء و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول «.(1)

و القول بلزوم توسط الحجّة الظاهرة، يلزم طرح ما دلّ على كونه من الحجج.

الطائفة الثانية: ما تدل على عدم حجّية القياس

هناك روايات متضافرة دلت على المنع عن العمل بالقياس.

روى عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى) عليه السلام (عن القياس فقال:» ما لكم و للقياس انّ اللّه لا يسأل كيف أحل و كيف حرّم «.(2)

يلاحظ عليه: أنّ العمل بالقياس عمل بالدليل الظني المنهيّ عنه، و أين هو

ص:94


1- الكافي: 161/13، باب العقل و الجهل.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15; و لاحظ الحديث 18 و 28.

من العمل بالحكم القطعي الذي ربما لا يختلف فيه اثنان، كما هو الحال في باب التحسين و التقبيح العقليين، فالاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّية العقل في مجالات خاصة استدلال بالمباين على المباين.

الطائفة الثالثة: ما تدل على عدم حجّية الرأي

و هناك طائفة أُخرى تدل على عدم حجّية الرأي، فقد روي عن الإمام علي) عليه السلام (أنّه قال:» إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه و لم يأخذه عن رأيه «.(1)

و روى ابن مسكان، قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» ما أحد أحبَّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلاً شتى، منهم من أخذ بهواه، و منهم من أخذ برأيه، و انّكم أخذتم بأمر له أصل «.(2)

المهم في الباب هو تفسير الرأي، فالمستدل جعله مرادفاً للاستدلال بحكم العقل مع أنّ المقصود منه هو التفسير بما لا يعلم، قال أبو جعفر) عليه السلام (:» من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم «.(3)

و حصيلة الكلام حول تلك الروايات التي استعرضناها و بسطها الشيخ الحرّ العاملي في أبواب متفرقة من أبواب صفات القاضي إنّها وردت في تفنيد عمل فقهاء العامة و قضاتهم الذين لم يستندوا في الأُصول و الفروع إلى أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و أخذوا يُفتون و يقضون بقول كلّ من هبّ و دبّ معتمدين على معايير و أُصول منهية أو لم يدل عليها دليل، فإسراء مفاد تلك الروايات إلى عمل أصحابنا الأُصوليين بحكم أنّهم يستدلّون بواضح العقل و بداهة الفطرة على حكم شرعي يَقْضي عجباً.

إنّ أبا حنيفة بنى فقهاً كبيراً، و الحال انّه لم يثبت عنده من الأحاديث النبوية

ص:95


1- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.
3- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21، 31، 12.

إلاّ سبعة عشر حديثاً(1)، فما حال فقه هذا أساسه؟! و لذلك أخذ الإمام الصادق يذمّ أبا حنيفة و ابن شبرمة، يقول الأخير: دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمد) عليهما السلام (فقال لأبي حنيفة:» اتّق اللّه و لا تقس في الدين برأيك، فانّ أوّل من قاس إبليس «.(2)

و قال أبو جعفر) عليه السلام (لسلمة بن كهيل و الحكم بن عتيبة:» شرّقا و غرّبا فلا تجدان، علماً صحيحاً إلاّ شيئاً صحيحاً خرج من عندنا أهل البيت «.(3)

الطائفة الرابعة: ما تدل على أنّ المرجع هو الكتاب و السنّة

هناك روايات تدلّ على أنّ المرجع في الأحكام هو الكتاب و السنّة، قال أمير المؤمنين) عليه السلام (:

» من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، و من أخذ دينه من الكتاب و السنّة زالت الجبال و لم يزل «.(4)

و قال) عليه السلام (:» إنّما الناس رجلان: مُتَّبعُ شرعة، و مبتدع بدعة ليس معه من اللّه برهان سنة و لا ضياء حجّة «.(5)

يلاحظ عليها: أنّها بصدد ردّ عمل من يعمل بكلّ ما اشتهر على ألسن الناس و إن لم يكن له دليل مقابل من يرجع إلى الكتاب و السنّة، و لا صلة له بالبحث أبداً.

ص:96


1- ابن خلدون، المقدمة، طبعة دار و مكتبة الهلال ص 282.
2- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2 و 16.
3- الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2 و 16.
4- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 31.
5- الوسائل: 18، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 31.
الأمر الثامن العلم الإجمالي تنجيزاً و امتثالاً
اشارة

هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجيز الحكم الواقعي و كفاية الامتثال أو لا و قبل الشروع نطرح سؤالين:

الأوّل: العلم من مقولة الكشف، و هو لا يقبل التفصيل و الإجمال، بل أمره دائر بين الوجود و العدم، و كما هو لا يقبل ذاك التقسيم، فهكذا لا يقبله، متعلّقه، لأنّ تشخّص العلم بالمعلوم كتشخص الإرادة بالمراد، فلو كان فيه إجمال لسرى إلى العلم أيضاً.

الجواب: انّ وصف العلم بالإجمال من باب وصف الشيء بوصف مصداق متعلقه، لأنّه لا إجمال في العلم و لا في متعلقه و إنّما الإجمال في مصداق المتعلّق، فإذا تردّدت النجاسة بين الإناءين، فهنا علم تفصيلي تعلّق بمتعلق لا إجمال فيه، أعني: النجاسة، غير أنّها مردّدة وجوداً و مصداقاً بين الإناءين، فحقيقة العلم الإجمالي يرجع إلى علم تفصيلي، انضم إليه الجهل بمصداق المعلوم بالذات.

الثاني: انّ الأُصوليين يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع أوّلاً، و في مبحث الاشتغال ثانياً، فما هو وجه التكرار؟! الجواب: يمكن أن يُبرّر التكرار بأحد الوجوه الآتية:

1. ما ذكره الشيخ الأنصاري، و هو أنّ لاعتبار العلم الإجمالي مرتبتين:

ص:97

أحدهما: كونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية، ثانيهما: كونه كالتفصيلي في وجوب الموافقة القطعية. و المتكفّل للبحث في الأوّل هو مبحث القطع، و للثاني هو مبحث الاشتغال.

2. ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ تعدّد البحث لأجل تعدّد الغرض: فالغاية للبحث عنه في مبحث القطع هو التعرّف على أنّه علّة تامة للتنجز أو مقتض له، فلو قلنا بالأوّل، يترتب عليه بطلان جعل الترخيص في بعض أطرافه، و حينئذٍ لا يبقى مجال عنه في باب الاشتغال. و أمّا لو قلنا انّه مقتض للتنجّز أي انّه قابل لجعل الترخيص، يبقى مجال للبحث عن ورود الترخيص لبعض الأطراف في الشرع و عدمه، و هذا ما يبحث عنه في باب الاشتغال و يكون البحث صغروياً.

3. ما ذكره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (هو انّ المراد من العلم الإجمالي في مبحث القطع، غيره في مبحث الاشتغال، و ذلك انّ المراد منه في المقام هو العلم القطعي الذي لا يرضى المولى بتركه كالعلم بكون أحد الغريقين مسلماً، بخلاف العلم في مبحث الاشتغال، فالمراد منه: قيام الحجّة على التكليف، كما إذا قال:

اجتنب عن الدم، و صار مقتضى إطلاق الدليل هو الاجتناب عنه مطلقاً، كان معلوماً تفصيلاً أو إجمالاً، فالمورد الأوّل هو اللائق بمبحث القطع، و لا شكّ انّ العلم الإجمالي فيه علّة تامّة للتنجز و لا يصحّ معه جعل الترخيص، و المورد الثاني هو اللائق بمبحث الاشتغال و لا شكّ انّه بالنسبة إلى الأمرين مقتض و قابل لجعل الترخيص لأحد الطرفين أو كليهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ البحث يقع في مقامين:

الأوّل: في كون العلم الإجمالي منجّزاً كالعلم التفصيلي أو لا.

الثاني: كون الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي.

أمّا المقام الأوّل ففيه أقوال:

ص:98

1. العلم الإجمالي مقتض لحرمة المخالفة و وجوب الموافقة القطعيتين و معناه انّه يجوز جعل الترخيص و إن انتهى إلى المخالفة القطعية، و هو خيرة المحقّق الخراساني في المقام.

2. كونه علّة تامة لكلا الأمرين و هو خيرته في باب الاشتغال، و معناه عدم جواز جعل الترخيص مطلقاً.

3. كونه علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية، و مقتضياً للموافقة القطعية، و معناه عدم جواز جعل الترخيص في كلا الطرفين و جوازه في واحد منهما.

استدل المحقّق الخراساني على مدعاه في المقام بالبيان التالي:

وجود الفرق بين العلم التفصيلي و الإجمالي، فانّ الأوّل بما انّه لا سترة فيه و انكشف الواقع بتمامه فلا موضوع) الجهل و الشك (لجعل الحكم الظاهري بخلاف المقام، فانّ وجود الجهل بمصداق المكلّف به و الشكّ في كلّ واحد من الطرفين، يجعل المقام صالحاً لجعل الحكم الظاهري فيجوز للشارع الإذن في المخالفة احتمالاً و قطعاً.

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، حاصله: كيف يجتمع العلم بالتكليف مع الإذن في المخالفة المحتملة أو القطعية؟ ثمّ أجاب بوجهين:

1. انّه ليس إشكالاً جديداً، بل نفس الإشكال في الجمع بين الواقعي و الحكم الظاهري في باب الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية، مع العلم بوجود التكليف في الصورة الأُولى و احتمال وجوده في الصورة الثانية، فإذاً لا فرق بينهما و بين المقام، و ما هو الجواب عنه فيهما هو الجواب عنه في المقام.

2. يمكن رفع المناقضة بافتراض انّ الحكم الواقعي في الموارد الثلاثة فعلي معلّق، بمعنى انّه يتنجّز التكليف الواقعي إذا تعلّق به العلم التفصيلي، و المفروض عدم حصول المعلق عليه، فبذلك يرتفع التناقض، و سيأتي تفصيله عند البحث

ص:99

عن الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

و على ضوء ذلك فالعلم الإجمالي يوجب تنجّز التكليف لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما في أطراف كثيرة غير محصورة; أو شرعاً، كما إذا أذن الشارع في الاقتحام في المحصورة بناء على شمول قوله:

كلّ شيء فيه حلال و حرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه لأطراف العلم الإجمالي كلّ ذلك دليل على أنّ العلم الإجمالي مقتض للتنجز لو لم يمنع عنه مانع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا علم التكليف عن طريق إطلاق الحجّة، كما إذا قال:

اجتنب عن الدم، و كان مقتضى الإطلاق لزوم الاجتناب عن الدم المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال، ففي مثل ذلك يمكن دعوى أنّ العلم الإجمالي ليس بعلّة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعية، بل هو مقتض بالنسبة إليهما، و أمّا إذا كان هناك علم وجداني بالحكم بحيث يعلم انّ المولى لا يرضى بتركه أبداً سواء كان معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال، فادّعاء كونه مقتضياً بالنسبة إليهما كما ترى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني استعرض نظرية الشيخ أعني: كون العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية و مقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعية فرد عليه بقوله:» فضعيف جداً «ضرورة انّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها، موجباً لجواز الإذن في الاقتحام بل لو صحّ معها الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ في القطعية أيضاً «.(1)

توضيحه: أنّ احتمال جعل المتناقضين محال كالقطع بجعل المتناقضين، ففي مجال جعل الترخيص بالنسبة إلى كلا الطرفين قطع بالتناقض، و بالنسبة إلى

ص:100


1- كفاية الأُصول: 36.

بعض الأطراف، احتمال له، لاحتمال انّ الطرف المرخّص فيه حرامٌ في الواقع، فيكون محكوماً بحكمين متضادين و على ضوء ذلك فلا فرق بين الأمرين.

يلاحظ عليه: أنّ كلام الشيخ ليس بناظر إلى عالم الثبوت و إنّما هو ناظر إلى عالم الإثبات و استظهار الشمول من أدلّة الأُصول، و انّها هل تختص بالشبهة البدوية، أو تعمها و أطراف العلم الإجمالي. و لعلّ الشيخ ينظر في كلامه إلى البيان التالي: و هو انّ كلّ واحد من أطراف الشبهة بشخصه بما انّه مشكوك و غير معلوم، فهو داخل في صدر قوله) عليه السلام (:» كلّ شيء حلال «حتى تعلم انّه حرام. و أمّا المجموع فلأجل العلم بوجود الحرام فيها فهو داخل في ذيل الحديث، و ينتج انّ جعل الترخيص في كلّ واحد بلا مانع أخذاً بصدر الرواية، و جعل الترخيص في كلا الطرفين ممنوع لدخوله في ذيل الحديث.

فتكون النتيجة حرمة المخالفة القطعية و جواز المخالفة الاحتمالية.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل، و حان حين البحث في المقام الثاني.

المقام الثاني: هل الامتثال الإجمالي كالامتثال التفصيلي؟
اشارة

الامتثال الإجمالي تارة يقع في مقابل التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال، و أُخرى في مقابل التمكن من الحجّة على الامتثال التفصيلي كالاجتهاد و التقليد.

و يقع الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: الامتثال الإجمالي في مقابل العلم التفصيلي

إذا تمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي القطعي، فهل يجزي الامتثال الإجمالي، كما إذا تمكن من تعيين جهة القبلة بالجهاز الصناعي المفيد للعلم و مع ذلك، يصلّي إلى أربع جهات؟ ثمّ إنّ للمسألة صوراً:

ص:101

إنّ المورد إمّا أن يكون توصلياً أو تعبدياً، و على كلا التقديرين إمّا أن يستلزم التكرار أو لا.

أمّا التوصليات فيكفي الامتثال الإجمالي مطلقاً استلزم التكرار كغسل الثوب النجس بماءين يعلم انّ أحدهما مطلق و الآخر مضاف طاهر أو لا، كما إذا ترددت كيفية الغسل بين العصر بين الغسلتين و عدمه، لأنّ الفرض هو إنجاز العمل و المفروض انّه أُنجز بأحسن وجه.

و على هذا لو تردّدت صيغة النكاح بين لفظ النكاح أو الزواج، يجوز له إنشاؤه بكلا اللفظين مع إمكان تحصيل العلم بما يقع به النكاح، و أمّا ما أورد عليه الشيخ بأنّه قام الإجماع على بطلان العقد المعلق لأجل منافاته الجزم المعتبر في الإنشاء فغير تام، فانّ كلامه يرجع إلى أمرين:

1. بطلان العقد المعلّق.

2. لزوم الجزم في الإنشاء.

أمّا الأوّل: فمع قطع النظر عن عدم التعلّق في المقام إلاّ في الضمير بمعنى انّه لو صحّ النكاح بهذا اللفظ فقد أنشأتُ به، انّه لا دليل على بطلانه إلاّ ما دلّ الدليل الخارجي على بطلانه في مورده كالطلاق و نظيره و إلاّ فالمعلّق كالمنجز عند العقلاء في صحّة الانشائية.

و أمّا الجزم في الإنشاء، فإن أراد وجود القصد الجدي لإنشاء النكاح فهو أمر متحقّق و لولاه لما جمع بين اللفظين و إن أراد قصد الإنشاء الجدي بكلّ واحد من اللفظين فليس عليه دليل.

و أمّا التعبديات، فيقع الكلام تارة فيما لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل، و أُخرى فيما يستلزمه، ثمّ الأوّل على قسمين، لانّ التكليف المحتمل، تارة يكون تكليفاً مستقلاً، و أُخرى تكليفاً ضمنياً، و إليك الأقسام الثلاثة:

ص:102

1. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار و كان التكليف المحتمل تكليفاً مستقلاً كما في غسل الجمعة المردّد بين كونه واجباً أو مستحباً، فالحقّ جواز الاحتياط و جواز ترك الاجتهاد و التقليد، لأنّ اللازم هو إتيان العمل للّه أو كون المحرك إلى العمل أمره سبحانه.

و على كلا التقديرين فالقربة حاصلة، و الفعل مأتي به لأجله سبحانه و لأمره.

نعم الذي يفوت المحتاط هو قصد الوجه على وجه الوصفية، كما إذا قال: اغتسل غسل الجمعة الواجب، أو الغاية، كما إذا قال: اغتسل غسل الجمعة لوجوبه، و لكن الفائت وصفاً كان أو غاية ليس بلازم الاستيفاء، لأنّه لم يدل دليل عقلي أو شرعي على وجوب قصد الوجه وراء قصد القربة، بل يمكن أن يقال دلّ الدليل على خلافه.

و ذلك لأنّا لو قلنا انّ قصد الوجه ممّا يمكن أخذه في متعلّق الأمر فإطلاق الأوامر في الشريعة دالّ على عدم وجوبه.

و إن قلنا بعدم جواز أخذه، فالإطلاق اللفظي و إن كان مفقوداً لكن الإطلاق المقامي كاف في ردّ احتمال وجوبه، و المراد منه: أنّ الأُمور التي يغفل عنها جمهور الناس و لا يلتفت إليها إلاّ الأوحدي منهم لو كانت واجبة لكان على الشارع بيانها و لو ببيان مستقل خارجاً عن متعلق الأوامر و النواهي، و المفروض عدم وجود مثل هذا الدليل.

2. ما لا يستلزم الاحتياط التكرار و كان التكليف المحتمل تكليفاً ضمنياً، كما إذا دار أمر السورة بين كونها مستحبة أو واجبة و في مثله لا يفوت قصد القربة، بل يفوته قصد الوجه و تمييز المستحب عن الواجب و لا دليل عليه.

نعم لو دار أمر الجزء بين كونه واجباً أو مستحباً أو مباحاً، فيمكن الإتيان

ص:103

بالجميع بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة، و إن كان الأمر بالجزء مشكوكاً، و ذلك لأنّ وجود المستحبات و المباحات في ضمن الواجب ليس بمعنى مثل وجود المستحب أو المباح في ضمن الواجب كأدعية شهر رمضان في نهاره، بل معناه انّ تحقّق الطبيعة لا يتوقف على تلك الأجزاء، و لكنّه لو أتاه في ضمنها لكانت جزءاً للمأمور به و من مشخصاته، فيتعلق بها الوجوب بنفس تعلّقه بسائر الأجزاء.

3. ما يستلزم الاحتياطُ التكرارَ سواء كانت الشبهة موضوعية كالصلاة إلى الجهات الأربع، أو حكمية كالجمعة بين صلاة الظهر و الجمعة، و هذا هو محط البحث بين الأعلام، و انّه هل يجوز مع التمكن من العلم التفصيلي بالامتثال، الامتثال الإجمالي أو لا؟ ذهبت جماعة إلى عدم الجواز مستدلين بالوجوه التالية:

الوجه الأوّل: ادّعاء الإجماع على عدم الجواز.

الوجه الثاني: استلزام الاحتياط عدم قصد الوجه و التمييز.

الوجه الثالث: انّ التكرار استخفاف بأمر المولى.

الوجه الرابع: عدم صدق الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي و المحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به و انطباق المأمور به عليه، و هذا غير متحقّق في الامتثال الإجمالي، فانّ الداعي إلى الإتيان لكلّ واحد من فردي الترديد، ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به لا الأمر نفسه، إذ لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص.(1)

يلاحظ عليه: المهمّ هو الوجه الرابع و سائر الوجوه واضحة الدفع، فنقول: إنّه إن أراد من كون الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى هو الانبعاث عن

ص:104


1- الفوائد: 3/73.

البعث الموجود في البين، فالانبعاث عن الأمر بهذا المعنى متحقّق في الامتثال الإجمالي فانّه لا ينبعث و لا يتحمل العناء إلاّ لامتثال الأمر الموجود، و إن أراد الانبعاث من تعلّق الأمر بالفرد الذي هو بصدد إتيانه، فليس شرطاً في صدق الإطاعة.

و بعبارة أُخرى: المكلّف تارة ينبعث عن الميول النفسية، و أُخرى عن أمر المولى و بعثه. و المفروض في المقام هو الثاني، لأنّه في جميع الحالات منبعث من العلم بأمره الموجود في البين حتى أنّه إنّما يمتثل كلّ واحد لأمره سبحانه أي لأجل احتمال تعلّقه به و هو يكفي في صدق الإطاعة.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي في جميع المراحل إلاّ إذا كان الفعل في نظر العقلاء أمراً عبثاً.

الأمر الثاني: في كفاية الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي

و قد طرحه الفقهاء في مبحث التقليد، و انّه هل يجوز للمكلّف أن يحتاط مع إمكان الاجتهاد و التقليد؟ قال السيد الطباطبائي في عروته: يجب على كلّ مكلّف في عباداته و معاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً.(1)

و اعلم أنّ العمل بالاحتياط تارة في مقابل الظن المعتبر بالخصوص و يسمى الظنّ الخاص كالخبر الواحد، أو مقابل الظنّ الانسدادي الذي ثبتت حجيته بترتيب مقدمات خمس.

أمّا الأوّل، فالامتثال الظني التفصيلي ليس بأفضل من الامتثال العلمي التفصيلي، و قد عرفت عدم تقدّمه على الامتثال الإجمالي فكيف يقدم عليه ما هو أدون منه رتبة؟! و الظاهر انّ كلاً من الامتثالين في عرض الآخر. نعم ذكر المحقّق

ص:105


1- العروة الوثقى، كتاب التقليد، المسألة الأُولى.

الخراساني احتمالاً في حجّية الظن الخاص، و هو انّه ليس بحجّة إلاّ فيما إذا لم يتمكن من الاحتياط فلو صحّ هذا الاحتمال فالامتثال الإجمالي يكون مقدماً على الظن التفصيلي المعتبر بالخصوص لفقدان شرط حجّيته.

و أمّا الثاني: فلو قلنا انّ من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، يكون الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال بالظن التفصيلي.

و لو قلنا بأنّ في مقدماته بطلان الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام، يكون الامتثال بالظن التفصيلي مقدماً على الامتثال الإجمالي.

و ينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: انّ اختلاف القوم في أنّ نتيجة دليل الانسداد، هو الكشف أو الحكومة مبني على تعيين ما هو المأخوذ في مقدمة دليل الانسداد، فإن كان المأخوذ هو بطلان الاحتياط، فالنتيجة هو الكشف، و ذلك لانحصار طريق الامتثال في الظن بعد بطلان الاحتياط و عدم مساواة الوهم و الشك بالظن، و إلاّ يلزم نقض الغرض بخلاف ما إذا كان المأخوذ، عدم وجوبه و كفاية الامتثال به، فبما انّ الطريق متعدّد: الظن و الاحتياط، فلو لم يجعل الظن حجّة، لما لزم نقض الغرض لاحتمال اكتفائه في مقام الامتثال بالاحتياط.

الثاني: انّ في الفقه مسائل لا يمكن الاحتياط فيها كما في باب المواريث، فهل الحبوة للولد الأكبر أو لجميع الورثة؟ و مثله أبواب الحدود و القصاص، فلا محيص من الرجوع إلى الظن التفصيلي، أي الاجتهاد و التقليد.

الثالث: ربما يتصور انّ الاحتياط لأجل استلزامه العسر و الحرج على الإنسان و العيال مرفوع بقوله: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).(1)

ص:106


1- الحج: 78.

و لكنّه محجوج بما ذكره الشيخ في باب الشبهة غير المحصورة عن أنّ المرفوع بالآية و نظائرها ما إذا كان نفس الحكم بما هو هو مستلزماً للحرج، كرفع المرارة عند المسح عن موضع الجرح، لا ما إذا كان نفس الحكم غير حرجي غير انّ تردّده بين أطراف كثيرة صار سبباً لحرجية امتثاله، فمثله غير مرفوع و لا أقلّ انّه مورد للشك. و مع ذلك فهو قابل للتأمّل، لأنّ الحرج مستند إلى إطلاق الحكم و شموله لما علم بين أفراد غير محصورة، و على كلا التقديرين فالحرج نابع إمّا من الحكم أو من إطلاقه.

ص:107

في الحجج الشرعية

اشارة

قد عرفت أنّ المقصد السادس انعقد لبيان الحجج الشرعية، و كان البحث عن القطع و أحكامه بحثاً تمهيدياً لدراستها، و قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أمرين:

الأوّل: لا شكّ انّ الظنّ ليس كالقطع، لأنّ الثاني حجّة بالذات بخلاف الأوّل فحجّيته رهن أحد أمرين:

1. جعل الحجّية و إفاضتها عليه بالجعل الخاص من جانب الشارع كآية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة، أو بالجعل العام كدليل الانسداد بالنسبة إلى مطلق الظن بشرط تقرير مقدّمات الانسداد على نحو الكشف، أي كشف العقل عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة.

2. استقلال العقل بالحجّية بعد ثبوت مقدماته بطروء حالات موجبة لاستقلال العقل و حجّيتها في الظروف الخاصة بناء على تقرير مقدمات دليل الانسداد بنحو الحكومة، و مع استقلال العقل بالحجّية لا ملاك لإفاضة الحجّية عليها من الشرع لكفاية استقلاله بالحجّية عن جعلها له من جانب الشارع.

هذا من غير فرق بين ثبوت التكليف و سقوطه، فالظن لا يثبت به التكليف كما لا يسقط به التكليف الثابت، فما لم يحصل اليقين بالفراغ عن العمل و إتيانه على ما هو عليه لا يكفي الظن بالفراغ، و ما ربما ينقل عن المحقّق الخوانساري) قدس سره (من التفصيل بين ثبوت التكليف و سقوطه غير تام، فكما لا يثبت به التكليف لا

ص:108

يسقط به التكليف القطعي، و ذلك لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة العقلية و الضرر المحتمل) العقاب الأُخروي المحتمل (غير مدفوع بالامتثال الظنّي و إنّما يدفع إذا خرج عن العهدة باليقين.

الثاني: قد وقع الخلاف في إمكان التعبد بالظن و عدمه، فعن ابن قِبَة ادّعاء امتناع التعبد، و عن غيره إمكان التعبد، غير انّ القائلين بالإمكان اختلفوا في ورود الأمر بالعمل من الشارع و عدمه، فالمرتضى و ابن البراج و الطبرسي على عدم الورود بعد تسليم إمكانه و غيرهم على ثبوت الورود، فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: إمكان التعبد بالظن و عدمه.

الثاني: في ورود الأمر بالتعبد بالظن و عدمه.

المقام الأوّل: إمكان التعبد بالظن و عدمه
اشارة

ما هو المراد من الإمكان في كلام النافي و المثبِت؟ فهناك احتمالات:

ألف. الإمكان الذاتي بمعنى مساواة نسبة الحجّية و عدمها إلى الظن نظير نسبة الوجود و العدم إلى ماهية الإنسان.

ب. الإمكان الوقوعي بمعنى كون الشيء ممكناً في ذاته و لا يترتب على وقوعه في الخارج أيّ فساد، مثل إدخال المطيع في النار فانّه و إن كان أمراً ممكناً بالذات، لأنّه سبحانه كما هو قادر على الحسن قادر على القبيح أيضاً لكن لا يصدر عنه لمخالفته عدله و حكمته، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

و نظيره قول أصحاب الهيئة البطليموسية بامتناع الخرق و الالتئام في الأفلاك التسعة لا بمعنى عدم إمكانهما الذاتي بل بمعنى ترتب مفاسد عليها في عالم النظام، فالخرق و الالتئام غير ممكن وقوعاً لا ذاتاً، و على ذلك رتبوا كون معراج النبي روحياً لا جسمانياً لاستلزام الثاني الخرق و الالتئام.

ص:109

و بذلك يعلم انّ التمثيل بالامتناع الوقوعي بتعدد الآلهة استلهاماً من قوله سبحانه: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1)غير تام، لأنّ المراد منه ما يتمحّض امتناعه في الوقوع، و ليس تعدد الآلهة كذلك فإنّ امتناعهما لا يتمحض في الوقوع بل هو ممتنع ذاتاً قبل الحكم عليه بالامتناع وقوعاً. نعم الآية الكريمة كفيلة ببيان امتناعه وقوعاً.

ج. الإمكان الاحتمالي، و يراد منه عدم الجزم بامتناع الشيء بمجرّد سماعه، و هو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه، و قال:

كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان.

و الفرق بين المعاني الثلاثة واضح، فالإمكان الماهوي وصف للماهية بما هي هي، كما أنّ الثاني وصف لها بما انّه لا تترتب على وجودها مفسدة في مقابل ما يترتب على وجودها من مفسدة، و المراد من الثالث احتمال الإمكان و الامتناع فالإمكان بالمعنى الثالث يجتمع مع الممكن و الممتنع بالذات و الممتنع وقوعاً.

و الإمكان بالمعنى الثالث لا يحتاج إلى الدليل، إذ ليس فيه قضاء و لا حكم بخلاف الإمكان بالمعنيين الأوّليين فبما انّهما يحملان حكماً لا يصحّ الحكم بهما بلا دليل.

ما هو محل النزاع من معاني الإمكان؟

الظاهر انّ الإمكان بالمعنى الأوّل خارج عن محطّ النزاع، إذ لا يشك أحد في إمكان التعبد بالخبر الواحد ذاتاً و ماهية و انّ نسبة التعبد و عدمها بالنسبة إليه

ص:110


1- الأنبياء: 22.

سيان، و لو كان هناك نزاع فإنّما هو في الإمكان الوقوعي، و انّه هل يترتب على التعبد الفساد أو لا؟ فابن قبة على الأوّل، و الآخرون على الثاني، و سيوافيك كلام ابن قبة و هو ظاهر في أنّ هناك مانعاً خارجيّاً عن التعبد بالظن و يستشهد بأنّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال بمعنى أنّ هذا التالي الفاسد يصدّنا عن القول بصدور التعبد عن الشارع.

و من هنا يعلم انّ الاستدلال على الإمكان الوقوعي بالإمكان الاحتمالي غير تام، لأنّ الإمكان الاحتمالي لا يتضمن دعوى و لا حكماً بل هو بمعنى احتمال كلا الطرفين: الإمكان الذاتي و الامتناع الذاتي، و هذا بخلاف الإمكان الوقوعي فانّه يتضمن الحكم بإمكانه بالذات و إمكانه وقوعاً، فكيف يستدل بالإمكان الاحتمالي على الوقوعي.

نعم يمكن أن يقال لا حاجة إلى إثبات الإمكان الوقوعي بل يكفي الإمكان الاحتمالي إذا ثبت بالدليل القطعي وقوع التعبد بالظن في الشريعة، فانّ أدلّ دليل على إمكانه، وقوعه.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني حمل الإمكان الوارد في كلامهم على معنى رابع و هو الإمكان التشريعي قائلاً بأنّ النزاع في أنّه هل يلزم من التعبد بالأمارات محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و اجتماع الحكمين المتضادين أو لا؟ و ليس المراد من الإمكان، الإمكان التكويني بحيث يلزم عن التعبد بالظن محذور في عالم التكوين.

يلاحظ عليه: أنّ الإمكان التشريعي بهذا المعنى قسم من الإمكان التكويني و ليس قسيماً له، فانّ التوالي المتوهمة تعدّ أُموراً ممتنعة في صفحة الوجود و التكوين، و كون مورد الإمكان تشريع التعبد بالظن، لا يوجب عدّه قسماً مستقلاً.

إذا علمت هذا، فلنرجع إلى دراسة أدلّة القول بالامتناع.

ص:111

دليل القائل بامتناع التعبّد بالظن
اشارة

إنّ القائل بامتناع التعبد بالظن استدل بوجهين:

أحدهما: لو جاز العمل بالخبر الواحد في الفروع لجاز العمل به في الأُصول، فلو أخبر أحد من اللّه سبحانه لزم قبوله.

و لا يخفى وهن هذا الدليل، لأنّ الأمر في الفروع أسهل، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبوله في الأُصول.

ثانيهما: انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

هذا هو الدليل المهم في كلام ابن قبة، و ذكره المحقّق الخراساني تحت عناوين ثلاثة:

الأوّل: انّ التعبد بالظن يستلزم اجتماع أُمور مستحيلة:

أ. اجتماع المثلين فيما أصاب.

ب. اجتماع الضدين فيما أخطأ، كأن يكون الواقع واجباً و قامت الأمارة على تحريمه.

ج. اجتماع إرادة و كراهة و هما من مبادئ الأحكام، فالأُولى من مبادئ الإيجاب و الثانية من مبادئ الحرمة.

د. اجتماع المصلحة و المفسدة، و هما من ملاكات الأحكام فيما إذا كان الواقع حراماً و قامت الأمارة على الوجوب، أو بالعكس.

كلّ ذلك فيما إذا لم يكن هناك كسر و انكسار في الملاكات، و إلاّ فلو غلب ملاك الحكم الظاهري على ملاك الحكم الواقعي يلزم التصويب و خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي و اختصاص الحكم بالظاهريّ.

ص:112

الثاني: طلب الضدين(1) و هو فيما إذا أخطأت الأمارة و أدّت إلى وجوب ضدّ الواجب، كما إذا أمر المولى بالإزالة واقعاً و هو واجب مضيّق و قامت الأمارة على وجوب الصلاة فيلزم طلب الضدين في ظرف لا يكفي لأحدهما.

الثالث: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، و ذلك فيما إذا أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام.

هذه هي التوالي الفاسدة الناشئة من التعبد بالأمارة الظنية.

ثمّ إنّ المحقّقين أجابوا عن تلك المحاذير بأجوبة مختلفة نتناول بعضها بالنقاش حسب ما يقتضيه الحال.

إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن تلك الإشكالات بأجوبة ثلاثة، و بهذا جمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

الجواب الأوّل

(2)

المجعول في باب الأمارات هو الحجّية بمعنى انّه التنجيز لو أصاب و التعذير إذا أخطأ فقط لا جعل حكم مماثل لمؤدّى الأمارة حتى تستتبع حجّية الأمارة حكماً مجعولاً على نحو ما تتضمنه، بل حجّيتها ليست إلاّ تنجيز الواقع إذا أصابت و تعذيره إذا أخطأت، و ليس في مخالفتها أو موافقتها سوى التجري و الانقياد، و على ضوء ذلك ليس هنا حكم وراء الواقع حتى يلزم اجتماع حكمين مثلين إذا وافقت الواقع أو ضدين إذا خالفت الواقع و لا طلب الضدين لعدم الضد الثاني حتى يطلبه و لا اجتماع المصلحة و المفسدة و لا الكراهة و الإرادة، لأنّ الجميع من فروع وجود حكم ثان و المفروض انتفاؤه.

و هو بهذا الجواب ردّ على جميع تلك الإشكالات:

ص:113


1- و هذا المحذور غير ما مرّ من اجتماع الضدين فلاحظ.
2- أشار إلى هذا الجواب بقوله: لأنّ التعبد بطريق غير علمي الخ.

نعم بقي هنا إشكال، و هو انّ جعل الحجّية للأمارة إذا كانت مخالفة للواقع يوجب تفويت مصلحة الواقع إذا قامت على إباحة الواجب أو الإلقاء في المفسدة إذا قامت على حلية الحرام واقعاً، و الفرق بين هذا الإشكال و الإشكالات المتقدمة هي انّ الإشكالات المتقدّمة مترتبة على فرض حكم ثان و قد نفى بتاتاً، و هذا الإشكال مترتب على ترخيص العمل بالأمارة بأيّ معنى كان سواء كان هنا حكم ثان أو لا.

ثمّ أجاب عنه) قدس سره (بأنّه لا مانع من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة إذا كان هناك مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

الجواب الثاني

(1)

إنّ للشارع حكماً ظاهرياً وراء الحكم الواقعي بمعنى انّ جعل الحجّية للأمارة مستلزم لجعل حكم مماثل لمؤدّاه، أو بأنّه لا معنى لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام. فهناك حكمان مجعولان، و مع ذلك كلّه لا يلزم المحاذير المتقدمة و ذلك لاختلاف الحكمين جوهراً.

أحدهما: حكم واقعي ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه و قد تعلّقت به إرادة نفسانية أو كراهة كذلك.

ثانيهما: حكم طريقي لغاية تنجيز الواقع إذا أصاب و التعذير إذا أخطأ من دون أن تكون مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، أو تتعلّق الإرادة أو الكراهة به، غاية الأمر وجود المصلحة في نفس إنشاء الحكم موافقاً كان للواقع أو لا، فعندئذ ترتفع المحاذير السابقة لاختلاف الحكمين جوهراً فليس بمثلين عند الإصابة، و لا ضدين عند المخالفة، و لا يلزم اجتماع المصلحة و المفسدة و لا تتعلق الإرادة

ص:114


1- أشار إلى هذا الجواب بقوله: نعم لو قيل باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية الخ.

و الكراهة بشيء واحد، لأنّ المفروض انّ الحكم الطريقي ليس في متعلقه مصلحة و لا مفسدة و لا هو متعلّق إرادة و لا كراهة.

نعم لا ينفك الحكم الواقعي عن المصلحة و المفسدة و عن تعلّق الإرادة و الكراهة.(1)

و الحاصل انّه لا تضاد بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا، و لا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا و لا إرادة و لا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي.

نعم يرد على هذا الجواب نفس ما أورده على الجواب الأوّل، و هو انّ مشكلة تفويت المصلحة باق على حاله، و الجواب عنه نفس الجواب عنه في السابق طابق النعل بالنعل.

الجواب الثالث

إنّ المحقّق الخراساني لاحظ انّ ما ذكره المجعول هو الحجّية أو الأحكام الطريقية لا ينطبق على بعض الأُصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية، فانّ الظاهر منه انّ هناك حكماً شرعياً مجعولاً على المشكوك لا طريقاً إلى الواقع إذ الطريقية من أحكام الأمارات لا الأُصول، ففي مثل هذا المورد تخلص عنه بجواب ثالث، و هو انّه التزم بعدم كون الأحكام الواقعية فعلية مطلقة بل فعلية معلقة) أو فعلية لكن غير منجّزة (إلاّ إذا علم به أو أدت إليه الأمارة و لا تعارض بين الفعلي المعلق الذي لم يحصل فيه الشرط، و الحكم الفعلي المطلق فالأحكام الواقعية التي لم يتحقق شرطها أحكام فعلية معلقة بخلاف الأحكام الظاهرية

ص:115


1- ثمّ إنّه (قدس سره) أشار في توضيح هذا الجواب إلى تفسير الإرادة و الكراهة و انّه في المبدأ الأعلى بمعنى العلم بالمصلحة و المفسدة، و في المبادئ العالية، أعني: النبي و الوصي، واقعية الإرادة و الكراهة، و هو غير دخيل في الجواب.

فهي أحكام فعلية منجزة.

و بذلك جعل للفعلية مرحلتين:

أ. الفعلية المعلّقة التي لا يكون بعدها بعث و لا زجر.

ب. الفعلية المطلقة التي يكون بعدها بعث و زجر. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني من الأجوبة الثلاثة أو جواب واحد في مراحل ثلاث:

يلاحظ على الجواب الأوّل: أنّ القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الحجّية خلاف التحقيق فانّه ليس للشارع أيّ جعل في باب الأمارات، بل أمضى ما عليه العقلاء من العمل بقول الثقة، بالسكوت أو بإخراج الفاسق و إبقاء العادل بالروايات الإرجاعية و غيرها(1)، فما ورد في الروايات إمّا إرشاد إلى الصغرى أو إمضاء لما في يد العقلاء حتى انّ ما ورد في التوقيع عن الناحية المقدسة، أعني قوله:» و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانّهم حجّتي و أنا حجّة اللّه «ليس بصدد إنشاء الحجّية، بل اخبار عن كونهم حجج اللّه كما يخبر عن نفسه بأنّه حجّة من اللّه.

و يلاحظ على الجواب الثاني: أنّ القول بوجود حكمين أحدهما نفسي و الآخر طريقي قول بلا دليل، فانّ المجعول هو الحكم الواقعي النفسي و لا دليل على جعل حكم طريقي في مقابل الواقع، بل أقصى ما هناك هو الأمر بالعمل بالطرق ليتوصل بها المكلف إلى الواقع، فإن أوصلته إليه فمؤدى الأمارة هو حكم الواقع و إلاّ فتكون اكذوبة نسبت إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (و الإمام) عليه السلام (.

و بالجملة: حكم نقلة الأحاديث و الروايات عن اللّه سبحانه بواسطة أنبيائه و أئمته، حكم الناطق في الأجهزة الإعلامية عن جانب الدولة، فلو أصاب خبره

ص:116


1- سيوافيك انّ الروايات على طوائف خمس.

الواقع يكون المؤدّى نفس الواقع، و إن أخطأ يكون كلاماً مكذوباً على لسان الدولة.

نعم ما أفاده في الجواب الثالث مبني على أنّ المجعول هو الحكم الشرعي حيث إنّ الظاهر من أدلّة الأُصول جعل الطهارة و الحليّة للمشكوك و أنّ الواقع ليس بفعلي منجز.

الرابع: ما أفاده الشيخ الأعظم في المقام و أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله:» فقد انقدح بما ذكرنا انّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول و الأمارات فعلياً «و بما انّ ما نسب إليه المحقّق الخراساني لا يوافق كلام الشيخ في الفرائد نأتي بخلاصة كلامه في هذا المقام:(1)

انّ القائل بامتناع التعبد إمّا يقول به في حال الانسداد أو في زمان الانفتاح. أمّا الأوّل فالمنع عن التعبد غير صحيح بعد انحصار الطريق بالظن و إلاّ يلزم ترك العمل بالشريعة.

و أمّا الثاني فلأنّ الإشكال إنّما يتوجه إذا لم تتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة، بمصلحة في نفس التعبد بالظن بمعنى انّه لا مانع أن يكون في سلوك الأمارة و تطبيق العمل عليها مصلحة يجبر بها الفائتة منها أو الواردة من المفسدة، و ذلك لأنّ في بعث الناس إلى تحصيل العلم مفسدة العسر و الحرج و بالتالي خروجهم عن الدين بخلاف الأمر بالعمل بالأمارة و الأُصول ففيها تسهيل للمكلّفين في سلوكهم الاجتماعي و الفردي، و المصلحة السلوكية لا تمسّ كرامة الواقع و لا تغيره غير انّه إذا صادفت الأمارة الواقع يكون نفس الواقع

ص:117


1- قد ابتدأ الشيخ بتقرير جوابه من صفحة 26 بقوله:» فنقول في توضيح هذا المقام و إن كان خارجاً عن محلّ الكلام «و انتهى عنه في صفحة 30 بقوله:» و تلخص من جميع ما ذكرنا انّ ما ذكره ابن قبة من استحالة التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة غير العلمية ممنوع «) لاحظ طبعة رحمة اللّه ص 26 30).

و إلاّ يكون كاذباً، و لكن نفس العمل بالأمارة لما كان ذات مصلحة سلوكية يتدارك به ما فات من المصالح أو ابتلى به من المفاسد.

ثمّ إنّه يعرف الحكم الواقعي بالبيان التالي و يقول:

إنّ المراد بالحكم الواقعي هو الحكم المتعين المتعلّق بالعباد الذي يحكى عنه الأمارة، و يتعلّق به العلم و الظن و أمر السفراء بتبليغه، و إن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلاّ أنّه يكفي في كونه الحكم الواقعي انّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلاً مقصراً، و الرخصة في تركه عقلاً كما في الجاهل القاصر أو شرعاً كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.(1)

و على ضوء ذلك فتندفع جميع المحاذير.

أمّا محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، فلما عرفت من تداركه بالمصلحة السلوكية.

و أمّا التدافع بين الملاكين، مثلاً إذا كان الواقع حراماً و قامت الأمارة على وجوبه، فالمفسدة قائمة بمتعلّق الحكم و المصلحة بنفس السلوك.

و أمّا المحذور الخطابي من اجتماع المثلين أو الضدين فهو منتف بانتفاء الموضوع، لأنّ الأمارة في خدمة الواقع، فإن وافق فهو، و إلاّ فلا يتضمن حكماً شرعياً و ليس للشارع فيه دور سوى الإمضاء، ففي ظرف الموافقة و المخالفة لا حكم ثان حتى يتحقّق فيه مثلان أو ضدّان، و الدليل على أنّ قيام الأمارة لا تحدث حكماً شرعياً وافق أم خالف هو تصريحه بأنّ معنى» إيجاب العمل على الأمارة، وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب إيجاد عمل على طبقها «.(2)

ص:118


1- الفرائد: 30، طبعة رحمة اللّه.
2- لاحظ الفرائد: 27، طبعة رحمة اللّه.

و أمّا المحذور الراجع إلى المبادي كالإرادة و الكراهة، فمثلاً لو فرضنا انّ الأمارة قامت على وجوب الحرام، فالكراهة متعلّقة بالمتعلّق كالعصير العنبي، و الإرادة متعلّقة بتطبيق العمل على الأمارة و نفس السلوك، و بهذا الجواب تندفع جميع المحاذير: الملاكية و الخطابية و المبادئية.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على هذا الجواب إيرادين:

الأوّل: لو كانت الأحكام الواقعية أحكاماً انشائية يلزم عدم وجوب امتثالها لو قامت الأمارة عليها، و ذلك لأنّ جوهر الحكم الواقعي لما كان إنشائياً، فقيام الأمارة لا يحدث شيئاً سوى انّه قام على حكم واقعي إنشائي غير لازم الامتثال.

الثاني: كيف يمكن التوفيق بذلك مع احتمال وجود أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق و الأُصول العملية، المتكفلة لأحكام فعلية ضرورة انّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافين كذلك لا يمكن احتماله، فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون لو لا الطرق إنشائياً، غير فعلي.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ الإشكال مبني على كون الحكم الواقعي عند الشيخ إنشائياً، و هو خلاف صريح كلامه، فانّ صريح كلامه انّه فعلي و له آثار أربعة:

أ. لا يعذر إذا كان عالماً.

ب. لا يعذر إذا كان جاهلاً مقصراً.

ج. يعذر إذا كان قاصراً عقلاً.

د. معذور شرعاً.

إنّ احتمال المتنافيين و إن كان كالقطع بهما في الامتناع، لكن إذا كان

ص:119


1- الكفاية: 532/52.

الحكمان مختلفين جوهراً كأن يكون أحدهما إنشائياً حسب بعض كلماته أو فعلياً حسب ما استظهرناه، و الآخر فعلياً مطلقاً، فالقطع بوجودهما ليس محالاً فضلاً عن احتمالهما.

الخامس: ما نسب إلى المحقّق السيد محمد الفشاركي و قرّره المحقّق الخراساني بالنحو التالي: انّ الحكمين ليس من مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين. و قد أشار إلى هذا الجواب الشيخ الأنصاري في أوّل مبحث التعادل و التراجيح و إن كان كلامه في رفع التعارض بين الأُصول و ما يحصله المجتهد من الأدلّة الاجتهادية، و لكنّه عام لغير هذا المورد، حيث قال: إنّ موضوع الحكم في الأُصول، الشيء بنفس انّه مجهول الحكم فالحكم عليه بحلية العصير مثلاً من حيث إنّه مجهول الحكم، و موضوع الحكم الواقعي، الفعل من حيث هو هو، فإذا لم يطلع عليه المجتهد كان موضوع الحكم في الأُصول باقياً على حاله فيعمل على طبقه. الخ.(1)

و قد أورد عليه في الكفاية ما مرّ نظيره في تصوير الترتب، و هو انّ الحكم الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ انّه يكون في مرتبته أيضاً و على تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة.

إلى هنا تمت الأجوبة الخمسة للمجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري التي أشار إليها في الكفاية، و هناك جواب سادس يندفع به جميع المحاذير المذكورة بالبيان التالي و ربما يكون لبّه موجوداً ضمن الأجوبة السابقة.

تحليل جديد للمحاذير

إنّ المحاذير المتصورة في المقام لا تخلو إمّا أن تكون محاذير ملاكيّة، أو

ص:120


1- الرسائل: 431، خاتمة في التعادل و الترجيح، طبعة رحمة اللّه.

محاذير خطابية، أو محاذير مبادئية، و إليك دراسة الكل.

أمّا المحاذير الملاكية، فإمّا أن تكون بصورة تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة كما إذا كان الشيء واجباً أو حراماً و دلّت الأمارة على حلّيته، أو بصورة تدافع الملاكات كما إذا قامت الأمارة على وجوب ما كان حراماً في نفس الأمر، هذا إذا لم نقل بالكسر و الانكسار و إلاّ لا يكون سوى مؤديات الأمارات أحكام.

و الجواب عن الصورة الأُولى بأنّ في العمل بالأمارة و إن كان فوت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة في بعض الموارد، لكن في إيجاب العمل بتحصيل العلم و الاحتياط مفسدة كبرى و هي لزوم العسر و الحرج الشديدين اللّذين ربما يُسبّبان رغبة الناس عن الدين و خروجهم عنه، زرافات و وحدانا، ففي هذا المأزق، يحكم العقل، بتقديم الأوّل على الثاني، لا أقول إنّ المصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة تتدارك، بل أقول: إنّ الأمارات حجّة من باب الطريقية المحضة و انّ قيام الأمارة، لا يحدث مصلحة في المتعلّق، و إذا دار الأمر بين الشرّ القليل و الشرّ الكثير يحكم العقل بتقديم الأوّل على الثاني.

و أمّا الصورة الثانية، أعني: محذور تدافع الملاكات فدفعه واضح، لأنّه إنّما يلزم لو كانت الأمارة محدثة للمصلحة أو المفسدة في المتعلّق، فيلزم التدافع.

و بعبارة أُخرى: إذا كانت الأمارة تمس كرامة الواقع و تحدث مصلحة أو مفسدة في المتعلق، و أمّا لو قلنا بالطريقية المحضة كما هو الحقّ، أو المصلحة السلوكية، فلا، لأنّ المصلحة السلوكية مصلحة نوعية قائمة بنفس الأمر بالعمل بالأمارة لغاية إيجاد الرغبة في الدين فلا صلة لها بالمتعلق.

و من هنا تبين انّه لا يكون في الأمر بالعمل بالأمارة أيُّ محذور ملاكي، و إليك دراسة المحذور الخطابيّ.

ص:121

المحذور الخطابيّ

و المحذور الخطابيّ يتلخص في اجتماع المثلين أو اجتماع الضدين، فنقول: إنّ الجواب عنه بوجهين:

الأوّل: التماثل من أقسام الوحدة و التضاد من أقسام التقابل، و كلاهما من الأعراض الخارجية التي تتصف بها الأُمور الحقيقية و الأحكام أُمور اعتبارية لا تتصفان بهما إلاّ مجازاً، فانّ الوجوب و الحرمة من الأُمور الاعتبارية يقومان في مقام الاعتبار مقام البعث و الزجر التكوينيين، فانّ الإنسان إذا أراد بعث ولده إلى أمر، أو زجره عنه، يبعثه بيده أو يمنعه عنه، و لما كان هذا الأمر غير ممكن في كلّ الأحايين خصوصاً فيما إذا أراد بعث جماعة غائبين أو زجرهم حاول العقلاء لأداء ذينك الغرضين بوضع لفظ افعل أو لا تفعل للحكاية عنهما في عالم الاعتبار، فكلّ من هذين اللفظين مصداق تكويني للّفظ و الصوت، و مصداق اعتباري للبعث و الزجر.

و لما كانت دلالة الألفاظ على المعاني بالوضع و الاعتبار، كان البعث و الزجر المفهومان من اللفظين أولى بأن يكون اعتباريين فلا يتصفان بالتماثل أو التضاد.

الثاني: انّ الإشكال مبني على أن يكون في مورد الأمارات و الأُصول المحرزة حكم شرعي طبق المؤدّى، و يكون إمضاء الشارع للعمل بهما، بمعنى جعل حكم مماثل لما تدل عليه الأمارة و الأصل، و هو خلاف التحقيق، لأنّ العمل بها لغاية درك الواقع و الوصول إليه، فإن حصلت الغاية فنعم المراد، و إلاّ تكون هنا صورة حكم لا حكم شرعي.

نعم لا يبعد أن يكون للشارع في مجاري الأُصول غير المحرزة أحكاماً في ظرف الشكّ كالحلية فإنّ ظاهر قوله: كلّ شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر، أو

ص:122

كلّ شيء حلال حتى يعلم انّه حرام بعينه فتدعه جعل الطهارة الشرعية أو الحلية للمشكوك، و في هذه الصورة ينحصر دفع الإشكال الخطابي بالجواب الأوّل.

المحاذير المبادئيّة

تقرير انّ الإرادة القطعية قد تعلّقت بالأحكام الواقعية، فلو تعلّقت أيضاً بالأحكام الظاهرية سواء أ وافقت أم خالفت لزم ظهور الإرادتين المتماثلتين أو المتضادتين في آن واحد و مثلهما الحب و البغض حرفاً بحرف.

الجواب: أمّا في موارد الأمارات و الأُصول المحرزة، فليس هناك حكم ظاهري مجعول حتى تتعلّق به الإرادة و الكراهة، و لو كانت هناك إرادة و كراهة فقد تعلّقا بالحكم الواقعي، و على ذلك فاجتماع الإرادتين، أو الإرادة و الكراهة أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

نعم لا بأس بالإشكال في الأُصول غير المحرزة فانّ الظاهر في أدلّتها جعل الطهارة و الحلية للمشكوك و هو يكشف عن تعلّق الإرادة بالحكم بالطهارة و الحلية، فلو كانت في نفس الأمر محرمة يلزم اجتماع الإرادة و الكراهة.

و الجواب: انّه لا مانع من القول برفع اليد عن الحكم الواقعي و ذلك للمصلحة العليا التي وقفت عليها و لا يلزم منه التصويب، إذ هو عبارة عن إنكار الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و هو غير لازم و إنّما اللازم صيرورة الحكم المشترك إنشائيّاً أو فعليّاً معلّقاً و كون الفعلي المنجز هو الحكم الظاهري.

و بهذا البيان الضافي اندفعت المحاذير الثلاثة: الملاكية و الخطابية و المبدئية.

ص:123

المقام الثاني: في وقوع التعبّد بالظن
اشارة

قد تعرّفت على إمكان العمل بالظن، و انّه لا يترتب على التعبّد به شيء من الفساد، و حان حين البحث عن وقوعه في الشريعة، و لنقدم البحث عن الضابطة الكلية في العمل بالظن، و هل الأصل هو جواز العمل به إلاّ ما دلّ الدليل على عدم جواز العمل به كالقياس، أو أنّ الأصل هو عدم الجواز إلاّ ما دلّ الدليل على جواز العمل به.

و ليس المراد من الأصل، هو الأصل العملي بل مقتضى الأدلّة الاجتهادية، و اتفقت كلمة المحقّقين على أنّ الأصل هو الثاني، و انّ مجرّد الشك في الحجّية كاف في استنتاج القطع بعدم الحجّية، و هذا أمر عجيب حيث يتولد من الشكّ فيها، القطع بعدمها، و قد قرر بالبيانين التاليين:

1. البيان الأوّل

قال الشيخ الأعظم ما هذا توضيحه:

إنّ حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في مقام العمل، و الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه و هذان الأثران لا يترتبان في ظرف الشكّ في الحجّية، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل، و كذلك إسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي و قولي دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة، فإذا حرم الاستناد و الاسناد و علم ارتفاعهما في حالة الشك، يعلم عدم حجّية الظن، إذ لا معنى لوجود الموضوع مع عدم أثره.

و أورد عليه المحقّق الخراساني:

1. النسبة بين الحجّية و الأثرين عموم و خصوص مطلق، فصحّة الاستناد

ص:124

عملاً و الاسناد قولاً يلازم كون الشيء حجّة، و لا عكس إذ ربما يكون الشيء حجّة كالظن على الحكومة و لا يصحّ معه الاسناد إلى الشارع للفرق بين كون الظن حجّة في حال الانسداد من باب الكشف، و كونه حجّة من باب الحكومة فعلى الأوّل، فالعقل بعد ثبوت بطلان الاحتياط و انحصار الطريق بالظن، يكشف عن أنّ الشارع جعل الظن حجّة فيترتب عليه الأثران دون القول بالحكومة فانّه مبني على القول بعدم بطلان الاحتياط و جوازه، فعندئذ لا يستقل بحجّية الظن لعدم انحصار الطريق بالظن، غاية الأمر لما يجد العقل انّ العمل بالاحتياط على السعة يوجب العسر و الحرج عاد يضيق دائرة الاحتياط فيوجب العمل بالظن حتى لا يلزم العسر و الحرج، فالعمل بالظن في الحقيقة عمل بالاحتياط لكن بعد تضييق دائرته بإخراج المشكوك و الموهوم و إبقاء المظنون، فالظن حجّة في هذه الحالة و لا يصحّ اسناد مضمونه إلى الشارع.

و أضاف تلميذه المحقّق العراقي مورداً آخر، و هو انّ الشكّ قبل الفحص حجّة مع أنّه لا يجوز الانتساب إليه تعالى.(1)

2. لو فرض ترتّب الأثرين، و مع ذلك لم يترتّب عليه سائر الآثار من المنجزية و المعذرية و الانقياد و التجرّي لما كان يجدي في الحجّية شيئاً و مع ترتبها لما كان يضرّ عدم صحّة الاستناد و الاسناد.

و يمكن الذب عن النقض الأوّل بأنّ الكلام في الحجج الشرعية اعتبرها الشارع تأسيساً أو إمضاء، لا الحجج العقلية فانّ الظن على الحكومة حجّة عقلية لا شرعية و الحجّة الشرعية لا يفارق صحّة الاستناد و الإسناد، و منه يظهر حال النقض الثاني، مضافاً إلى أنّ الحجّة هو العلم الإجمالي بالأحكام على نحو لو

ص:125


1- لا يخفى ضعف النقض فانّ الحجّة هو العلم الإجمالي بالأحكام التي لو تفحص عنها يصل إليها لا الشكّ.

تفحص عنه، لعثر عليه و هو الباعث إلى الفحص، لا الشكّ.

2. البيان الثاني

قال المحقّق الخراساني ما هذا توضيحه:

إنّ الأثر المترتب على الشيء قد يترتّب على وجوده الواقعي كالحرمة المترتّبة على واقع الخمر، و قد يترتّب على واقعه و مشكوكه كالطهارة، و ثالثة يترتّب على العلم بالشيء فقط فيكون بوجوده العلمي موضوعاً للأثر.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتجّ به المولى على العبد، و العبد على المولى و لها آثار أربعة: التنجز، و التعذير و التجري و الانقياد، و كلّها آثار لما علم كونه حجة بالفعل، و إلاّ فلو كان حجّة في الواقع و لم يقف المكلّف على كونه كذلك لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار، لحكومة العقل بقبح العقاب بلا بيان، و عند ذلك لو شككنا في حجّية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجّية الفعلية و معه لا يترتب عليه شيء من آثارها الأربعة فيكون الأصل في الشكّ في الحجّية عدمها قطعاً، أي عدم صحّة الاحتجاج و ترتّب الآثار.

ثمّ إنّهم تمسّكوا في إثبات حرمة العمل بغير ما علمت حجّيته بآيات و روايات، أمّا الآيات فأوضحها دلالة قوله سبحانه: (وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (1)فذمّ سبحانه من يقول ما لا يعلم كونه من اللّه سواء أ كان مطابقاً للواقع أو لا.

و الذي يمكن أن يقال انّ ما ورد من الآيات في هذا المضمار إرشاد إلى حكم العقل القاضي بقبح القضاء بغير دليل و يؤيّد ذلك انّه سبحانه يستشهد على

ص:126


1- الأعراف: 28.

بطلان كلامهم، بما يقتضي به فطرتهم و عقولهم الساذجة، و هو قبح الادّعاء بلا سلطان و لا برهان، قال سبحانه: (وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).(1)

و قوله سبحانه: (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) (2)و قوله عزّ اسمه: (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ).(3)

ص:127


1- البقرة: 111.
2- الكهف: 15.
3- يونس: 68.
الحجج الشرعية 1 حجّية الظواهر
اشارة

قد علمت أنّ الضابطة الأُولى في الظنون عدم الحجّية، و هذا هو المحكَّم ما لم يدل دليل على خلافه، و قد ادّعى الأُصوليون خروج بعض الظنون عن تحت ذلك الأصل أوّلها: ظواهر كلام المتكلّم.

فنقول: إنّ استنباط مراد المتكلّم يتوقف على ثبوت أُمور:

أ. أصل الصدور، أي ثبوت صدور الكلام عن المتكلّم إمّا علماً كالخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن، أو بالحجّة الشرعية، و المتكفل لبيان هذا الأمر هو أدلّة حجّية قول الثقة.

ب. جهة الصدور، أي ثبوت انّ المتكلّم لم يتكلّم لهواً أو تمريناً أو هازلاً أو تقية، و المتكفل لإثبات هذا الأصل هي الأُصول العقلائية، لأنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم هو كونه بصدد بيان صميم مراده، و امّا التكلّم لهواً أو هزلاً أو تقية على خلاف ما عليه العقلاء في محاضراتهم، و لا يُعرَّج على واحد منها إلاّ بدليل خاص.

أضف إلى ذلك أنّ قسماً منها على خلاف الحكمة.

ج. ثبوت ظهور مفرداته، و المتكفل لبيان هذا الأصل علائم الوضع، أعني: التبادر، و صحّة الحمل، و عدم صحّة السلب، و الاطراد، و تنصيص أهل اللغة.

د. حجّية ظهور كلامه بعد انعقاده و كونه منبئاً لكشف مراده، و هذا هو

ص:128

الذي انعقد له هذا البحث و لكنّه لا يحتاج إلى بيان زائد لاتفاق العقلاء على اتباع الظواهر في حياتهم و في كتاباتهم و في أقاريرهم و وصاياهم و اتفاقياتهم التجارية و السياسية و غيرها.

أضف إلى ذلك أنّه لو لم تكن الظواهر حجّة لزم نقض الغرض، لأنّ الغاية من الوضع هي المفاهمة و لو اقتصرنا في ذلك المجال على النصوص لقلت فائدة الوضع.

هذا ممّا لا إشكال فيه إنّما الكلام في الأُمور التالية:

أوّلاً: هل الظواهر معدودة من الظنون خرجت عن تحت الأصل، أو انّها بالنسبة إلى إحضار المراد الاستعمالي دليل قطعي؟ ثانياً: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو مقيدة بإفادته الظن الشخصي بالمراد؟ ثالثاً: هل الظواهر حجّة مطلقاً أو تختص حجّيتها بمن قصد إفهامه؟ رابعاً: هل ظواهر الكتاب حجّة أو ليست بحجّة إلاّ بعد تفسير الإمام المعصوم.

فهذه الجهات جديرة بالبحث.

الجهة الأُولى: في أنّ الظواهر من القطعيات

الظاهر انّ خروج الظواهر عن الأصل خروج موضوعي لا حكمي يتبين بتقديم مقدّمة و هي:

انّ الفرق بين الظاهر و النص هو انّ كلا الأمرين يحملان معنى واحداً و يتبادر منهما شيء فارد، غير انّ الأوّل قابل للتأويل فلو أوّل كلامه لعدّ عمله خلافاً للظاهر و لا يعدّ مناقضاً في القول، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ أشار بدليل

ص:129

خاص بأنّ المقصود هو العلماء العدول.

و أمّا النصّ فهو لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، و لا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً، و هذا مثل قوله سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).(1)

فانّ كون حظّ الذكر مثلي الأُنثى شيء ليس قابلاً للتأويل و لذلك يعدّ نصاً، و من حاول تأويله لا يقبل منه، و مثله قوله سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ).

إذا علمت ذلك، فنقول: إنّ القضاء في أنّ كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني يتوقّف على بيان الوظيفة التي حملت على عاتق الظواهر، و ما هي رسالتها في إطار التفهيم و التفهّم، فلو تبيّن ذلك سهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.

فنقول: إنّ للمتكلّم إرادتين:

1. إرادة استعمالية، و هي استعمال اللفظ في معناه، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك، سواء كان المعنى حقيقياً أو مجازياً.

2. إرادة جدية، و هي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً، و ما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المراد الاستعمالي، المراد الجدي، كما في الهازل و المورّي و المقنن الذي يُرتِّب الحكم على العام و المطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص و المقيد، ففي هذه الموارد تغاير الإرادة الجدية الإرادة الاستعمالية، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل و الموري و اللاغي، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص، أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

ص:130


1- النساء: 11.

و على ضوء ذلك فيجب علينا أن نحلل أمرين:

الأوّل: ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟ الثاني: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟ أمّا الأوّل: فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء كانت المعاني حقائق أو مجازات، فلو قال: رأيت أسداً، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس، و إذا قال: رأيت أسداً في الحمام، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه، فدلالة الجملة في كلا الموردين على المراد الاستعمالي كشف قطعي و ليس كشفاً ظنياً و قد أدى اللفظ رسالته بأحسن وجه. و على ذلك لا يصحّ تسميته كشفاً ظنياً، اللّهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي متشخصاً، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث و الكلام في الظواهر لا في المجملات و المتشابهات.

و أمّا الثاني: أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً، فانّه يتلخص في الأُمور التالية:

1. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.

2. أو استعمل في المعنى المجازي و لم ينصب قرينة.

3. أو كان هازلاً في كلامه.

4. أو مورّياً في خطابه.

5. أو لاغياً فيما يلقيه.

6. أو أطلق العام و أراد الخاص.

7. أو أطلق المطلق و أراد المقيّد.

إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد

ص:131

الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه القطع.

و لكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام:

1. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي بالظنية، و ذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد و هو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، و أمّا الاحتمالات المذكورة و كيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.

2. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً، أو هازلاً، أو مورّياً أو متّقياً أو غير ذلك من الاحتمالات، مع ذلك نرى أنّهم يعدونها من القطعيات.

3. ثمّ إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة، لا الهزل و لا التمرين، بدافع نفسي، لا بدافع خارجي كالخوف و غيره.

و يدل على ما ذكرنا أيضاً انّ الحياة الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر، ففي مجال المفاهمة و التفاهم بين الأُستاذ و التلميذ و البائع و المشتري و السائس و المسوس، عليه تدور الجمل حول ما يهمهما و يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم دلالة قطعية لا ظنية، إلاّ إذا كان هناك إبهام أو إجمال. أو جريان عادة على فصل الخاص و القيد عن الكلام.

و بذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة، لا في مقام التقنين كشف قطعي و لا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.

ص:132

الجهة الثانية: في تقيّد الحجّية بالظن

هل الظواهر متَّبعة مطلقاً سواء أفادت الظن بالمراد، أو هي حجّة بشرط عدم الظن بالخلاف، أو حجّة بشرط الظن بالوفاق، أو يفصل بين الظواهر الدائرة بين الموالي و العبيد، و التي تدور بين غيرهم فيشترط في الثاني الاطمئنان بالمراد؟ و الظاهر هو القول الأوّل، لبناء العقلاء على حجّيتها مطلقاً، بلا قيد و شرط، أمّا في ميدان الاحتجاج و التكليف، فيحتج المولى بظاهر كلامه و لا يقبل من العبد عدم حصول الظن بالوفاق، أو حصول الظن بالخلاف، إلاّ إذا استند إلى قرينة منفصلة، أو متصلة صالحة لصرف الظاهر عن ظاهره، فيخرج عن محلّ البحث، كما أنّ للعبد الاحتجاج على المولى بظاهر كلامه، بل لا ينقدح كما عرفت في أذهانهم احتمال إرادة خلاف الظاهر باحتمال انّه غفل عن نصب القرينة، أو غفل السامع عمّا نصبه، فلأجل ذلك لا يرد من سماعها إلى أذهانهم إلاّ معنى واحد.

الجهة الثالثة: حجّية الظواهر لمن قصد إفهامه و من لم يقصد

لا شكّ في حجّية ظاهر كلامه لمن قصد إفهامه و من لم يقصد، و الشاهد عليه الاحتجاج بالرسائل السرية بين الشخصين، حيث يُستدل بها على حسن نيّة الكاتب أو سوئها، كما يستدلون بالوصايا التي يخاطب فيها الموصي الوصيّ كالابن بالقيام بكذا و كذا، إلى غير ذلك من الظواهر التي أُريد منها تفهيم شخص خاص، و لكنّها تتخذ حجّة مطلقاً.

و قد خالف المحقّق القمّي، حيث فصّل بين من قصد افهامه بالظواهر فهي حجّة له بالخصوص، و من لم يقصد، فهي حجّة له من باب الظن المطلق، الذي

ص:133

ثبتت حجّيته بدليل الانسداد.

و حاصل هذا التفصيل انّ الظواهر حجّة من باب الظن الخاص في موردين:

ألف. إذ أُريد افهام شخص خاص كما في الخطابات الشفاهية فهي حجّة لمن قصد من هذا الباب.

ب. إذ لم يرد إفهام شخص خاص، بل إفهام كلِّ من رجع إليها، و هذا كالكتب المصنّفة و السّجلاّت و الأقارير و الوصايا ممّا يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون تعلّق غرض بمخاطب خاص.

و أمّا في غير هذين الموردين فالظواهر حجّة من باب الظن المطلق، و له أيضاً موردان:

ألف. الأسئلة و الأجوبة الدائرة بين الراوي و الإمام.

ب. الكتاب العزيز بالنسبة إلى المشافهين، بناء على اختصاص خطاباته بالمشافهين و عدم كونه من باب تأليف المؤلفين، فالظهور اللفظي ليس حجّة إلاّ من باب الظن المطلق.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر وجهاً لهذا التفصيل و حاصله:

إنّ المتكلّم لو كان بصدد إفهام شخص معين، أو إفهام كلِّ من رجع إلى كلامه كالكتب المصنفة، يتحتم عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب الخاصُ أو العام في خلاف المراد، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود كان إمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد، أو لغفلة من المخاطب في الالتفات إلى ما اكتنِف به الكلام الملقى إليه، و كلا الاحتمالين مرجوح في نفسه مع اتفاق العقلاء و العلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أُمور

ص:134

العقلاء و أفعالهم و أقوالهم.

و أمّا إذا لم يكن الشخص مقصوداً بالإفهام، فلا ينحصر سبب وقوعه في خلاف المقصود بالأمرين، بل هناك سبب ثالث و هو انّه إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفاً عن ظاهره، و احتملنا انّ المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اختفت علينا فلا يكون هذا الاحتمال لغفلة من المتكلّم إذ لا يجب على المتكلّم إلاّ نصب القرينة لمن يقصد إفهامه، كما أنّه ليس اختفاء القرينة مسبّباً عن غفلة الآخر، بل دواعي الاختفاء أمر خارج عن اختياره، فعندئذ لا يوجب الظنَّ بالمراد.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ جميع الاحتمالات التي تصدّنا عن الأخذ بالظواهر مرجوحة عند العقلاء، فكما أنّ غفلة المتكلّم عن نصب القرينة، أو غفلة المخاطب عن الالتفات إلى ما اكتُنف به الكلام من القرينة، أمر مرجوح، فهكذا احتمال وجود قرينة سابقة على الكلام أو قرينة حالية غير منقولة في الكلام، أمر مرجوح لا ينقدح في ذهن العقلاء.

نعم لو جرت سيرة المتكلّم على فصل القرائن عن الكلام، كما هو الحال بين المقنّنين، لزم على المخاطب الفحصُ عن القرائن، و العمل بالظواهر بعد اليأس عن الظفر بها.

و ثانياً: انّ الغرض من نقل الأسئلة و الأجوبة هو إفادة الغير و استفادته، فإذا كان الناقل عارفاً بأسلوب الكلام فلا يخلّ بذكر القرائن المؤثرة في انعقاد الظهور، فعدم ذكره ناش إمّا من عدم عرفانه بأسلوب النقل، أو كونه غير أمين، و الكلّ مندفع.

إن قلت: إنّ الأخبار الصادرة عن الأئمّة لم تصل إلينا إلاّ مقطعة بحيث كانت الأُصول الأوّلية التي اعتمد عليها أرباب الكتب الأربعة، على غير هذا

ص:135


1- الفرائد: 41، طبعة رحمة اللّه.

النحو، فعملية التبويب أوجبت التقطيع فمن المحتمل وجود قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور و قد اختفت علينا بسبب التقطيع.

قلت: إنّ التقطيع حصل بأيدي أبطال الحديث كالكليني و الشيخ و غيرهما، فلو كانت في الكلام قرينة مؤثرة في انعقاد الظهور، لما تركوا نقلها.

و ربّما يجاب عن الشبهة بأنّ الأجوبة الصادرة عن الأئمّة ليست إلاّ كالكتب المؤلفة التي ذهب المحقّق القمي فيها إلى الحجّية بالنسبة إلى المشافه و غير المشافه، و ذلك لأنّ الأحكام لمّا كانت مشتركة بين الأُمّة يجري الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أنّ الغرض نفس الكلام من غير دخل في إفهام مخاطب خاص.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم مشتركاً غير كون الخطاب مشتركاً و عاماً، و كون الحكم متوجهاً إلى الكلّ غير كون الخطاب متوجهاً إليهم، فإذا كانت الخطابات شخصية يأتي فيها ما احتمله المحقّق القمي من اعتماد المتكلّم على القرائن المنفصلة و المتصلة غير المنقولة أو الحالية غير القابلة للنقل.

و ربما يجاب بجواب ثان و هو: انّه إذا كان الراوي الأوّل مقصوداً بالخطاب للإمام يكون الراوي الثاني مقصوداً بالخطاب للراوي الأوّل، و هكذا إلى أن يصل إلى أصحاب الجوامع، فالمقصود بالإفهام هو كلّ من نظر فيها، فلا يترتب على ذلك التفصيل ثمرة عملية.(2)

و الحاصل: انّ هذه التفاصيل من الشبهة و الأجوبة نتيجة جعل الظواهر من الظنون، فلو كان مختار القوم ما ذكرنا لما كان لهذه البحوث محل.

ص:136


1- تهذيب الأُصول: 2/95.
2- مصباح الأُصول: 2/122.
الجهة الرابعة: في حجّية ظواهر الكتاب
اشارة

قد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب، و هذه الدعوى ممّا يندى لها الجبين إذ كيف تكون المعجزة الكبرى للنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (مسلوبة الحجّية؟! و على أيّة حال انّ الاقتصار في الاستنباط على السنّة دون الكتاب كانت بمثابة ردّ فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (القلم و الدواة ليكتب كتاباً : حسبنا كتاب اللّه.(1)

و كلا القولين على طرفي الإفراط و التفريط.

و قبل الخوض في تحليل أدلّة الطرفين نحرر محلّ النزاع، فنقول:

المراد من حجّية ظواهر القرآن هو الاستفادة من عموماته و مطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة، خصوصاً الفحص عن مقيداته و مخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة، فإذا تمّت هذه الأُمور يقع البحث في صحّة الاحتجاج بظواهر القرآن أوّلاً، و إلاّ فالاستدلال بظواهر القرآن مع قطع النظر عن جميع القرائن و الروايات أمر مرفوض بنفس الكتاب و السنّة قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).(2)

و اللّه سبحانه عرّف النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (بأنّه مبيّن للقرآن، و أمر الناس بالتفكّر فيه، فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنّ لتفكر الناس سهماً آخر، فبهذين الجناحين يُحلِّق الإنسان في سماء معارفه و يستفيد من حكمه و قوانينه.

ص:137


1- صحيح البخاري: 1/22، كتاب العلم; و ج 2/14.
2- النحل: 44.

هذا هو محلّ النزاع، فالأُصولي ذهب إلى وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه بظاهره، و الأخباري إلى المنع، و أنّ الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم، فيصح الاحتجاج بتفسيره لا بنصِّ القرآن.

إذا عرفت ذلك، فيدل على قول الأُصوليين أدلّة كثيرة.

الأوّل: دلالة القرآن على صحّة الاحتجاج به

قد دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن نور، و النور بذاته ظاهر و مظهر لغيره، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً )(1). و في آية أُخرى: (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) (2)فلو كان قوله: (وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) عطف تفسير لما قبله، فيكون المراد من النور هو القرآن.

انّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء، و حاشا أن يكون تبياناً له و لا يكون تبياناً لنفسه: قال سبحانه: (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )(3). و قال سبحانه: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ).(4)

أ فيمكن أن يَهدِي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟! فإن قلت: إنّ الاستدلال بظواهر القرآن على حجّيتها دور واضح، فانّ الأخباري لا يقول بتلك المقالة.

ص:138


1- النساء: 174.
2- المائدة: 15.
3- النحل: 89.
4- الاسراء: 9.

قلت: إنّ الاحتجاج في المقام على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره، و الأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.

الثاني: تحدّي النبي بالقرآن

إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (تحدّى الناس بالقرآن، و التحدّي يتوقف على فهم الكتاب و دركه ثمّ مقايسته بالكتب الأُخرى ثمّ القضاء بأنّه فوق كلام البشر، و لا يخطو الإنسان هذه المراحل إلاّ إذا كان القرآن كلاماً مفهوماً و حجّة على المخاطب، فلو كان فهمُ القرآن منوطاً بتفسير الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (لزم منه الدور، فانّ ثبوت رسالته متوقف على إعجاز القرآن، و هو متوقف على فهمه، و فهمه متوقف على تفسيره، و تفسيره متوقف على حجّية قوله، و هو متوقف على ثبوت رسالته التي هي متوقفة على إعجاز القرآن.

على ذلك فليس فهم القرآن رهن تفسيره، غاية الأمر بما أنّ مقتضى التشريع فصل المخصِّصات و المقيِّدات عن المطلقات و العمومات فلا يحتج بها إلاّ بعد الرجوع إلى المقيّدات و المخصصات في السنَّة.

و قد فهم الوليد بصفاء ذهنه و صميم عربيته انّ بلاغة القرآن خارجة عن طوق القدرة البشرية و قال لماّ سمع آيات من سورة فصلت من الرسول الأعظم: لقد سمعت من محمّد كلاماً لا يُشبه كلام الإنس و لا كلام الجنّ، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أسفله لمغدق، و إنّ أعلاه لمثمر، و هو يعلو و لا يعلى عليه.(1)

فإن قلت: إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (كان يتحدّى بنصوص القرآن لا بظواهره.

قلت: هذا إنّما يصحّ لو لم يتحدّ القرآن بكلّ الآيات، قال سبحانه:

ص:139


1- مجمع البيان: 5/387، ط صيدا.

(وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(1). و على هذا فالنبي تحدّى بكلّ سورة من سور القرآن دون فرق بين نصّه و ظاهره.

فإن قلت: يكفي في ثبوت رسالته سائر معاجزه، فإذا ثبتت نبوته بهذا، يكون قوله حجّة في تفسير كتابه و صحيفته.

قلت: إنّ معنى ذلك عدم صحّة التحدّي بالكتاب و هو مردود بنفس الكتاب العزيز.

و الحاصل: انّ تحدِّي النبي في صدر عصر الرسالة بنفس القرآن قبل أن تثبت رسالته و حجّية قوله، دليل على أنّ القرآن أمر مفهوم و حجّة على المخاطب في كشف مفاهيمه و حقائقه.

نعم لا يحيط بكلّ حقائق القرآن و شئونه سوى المعصوم، و لكن الإحاطة به من جميع الجهات شيء، و درك ما يتوقف عليه التصديق بإعجازه شيء آخر، و الأوّل يختص بالمعصوم دون الثاني.

و لك أن تستنتج من هذا البرهان الذي أُقيم على حجّية الظواهر، أمراً آخر له مساس بالجهة الأُولى من الجهات الأربع و هو انّه لو كانت دلالة الظواهر ظنّية، لزم أن يكون القرآن معجزة ظنية، لأنّ الإعجاز أمر قائم باللفظ و المعنى، فلو كان ما يفهمه من ظواهر آياته، مفهوماً ظنياً، يكون إعجازه مبنياً على أساس ظني، و النتيجة تابعة لأخسّ المقدمات، و الإعجاز الظني لا يكون عماداً للنبوة التي تطلب لنفسها دليلاً قطعياً.

ص:140


1- البقرة: 23.
الثالث: حديث الثقلين

قد تضافرت بل تواترت الروايات عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على لزوم التمسّك بالثقلين و فسرهما بالكتاب و العترة و قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا «فجعل كلاً من الثقلين حجّة، و انّ كلاً يؤيد الآخر.

الرابع: الروايات التعليمية

هناك قسم عظيم من الروايات تحكي عن أنّ الأئمّة كانوا يحتجون بظواهر الكتاب على أصحابهم، و يعلمون كيفية استفادة الأحكام منها و يفسرونها لا تفسيراً تعبديّاً، بل تفسيراً تعليمياً، بمعنى انّ الإمام لا يتكلّم بما هو إمام، بل بما هو معلِّم يرشد إلى كيفية دلالة الآية على المقصود، بمعنى انّ الطرفين قد اتّفقا على كون الكتاب حجّة في حدّ ذاته، و يتحاوران في ما هو المقصود من الآية، فلولا انّ الكتاب حجّة لما كان لهذا النحو من التمسّك وجه، و إليك نماذج:

ألف: سأل زرارة أبا جعفر) عليه السلام (و قال: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فقام الإمام بتفسير الآية على وجه تعليمي إرشادي إلى ما تدل عليه بلفظها، فقد استدل على كون المسح ببعض الرأس بلفظة» الباء «و على لزوم مسح بعض الرجلين دون غسلهما بوصل الرجلين بالرأس و كونه معطوفاً على الرأس.(1)

ب: سأل عبد الأعلى مولى آل سام أبا عبد اللّه) عليه السلام (عمّن عثر فوقع ظفره فجعل على اصبعه مرارة؟ فقال:» إنّ هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّه: (ما

ص:141


1- الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1)ثمّ قال: امسَح على المرارة «فأحال الإمام حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة، إلى الكتاب. و قد أوضح الشيخ الأعظم كيفية الاستفادة من الآية فلاحظ.(2)

ج: سأل زرارة و محمد بن مسلم أبا جعفر، عن وجوب القصر على المسافر مع أنّه سبحانه يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (3)و لم يقل» افعلوا «فأجاب:» إنّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4)مع أنّ الطواف بهما واجب «.(5) فأرشد الإمام تلميذيه إلى أنّ الآيتين في مقام دفع توهم الحظر، لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فانّه يطلب من السنّة الشريفة.

د. روى عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (انّه شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر، و ادّعى انّه حديث العهد بالإسلام و لو علم انّه حرام اجتنبها فانتهى الأمر إلى الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (فقال:» ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار، من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه «ففعلوا ذلك به، فلم يشهد عليه أحد انّه قرأ عليه آية التحريم فخُلّي سبيله.(6)

ه. سأل زرارة و محمد بن مسلم أبا جعفر) عليه السلام (، عن رجل صلّى في السفر أربعاً أ يعيد أم لا؟ قال:» إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت أعاد أربعاً، و إن

ص:142


1- الحج: 78.
2- الوسائل: 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5; و لاحظ الفرائد: 47.
3- النساء: 101.
4- البقرة: 158.
5- الوسائل: الجزء 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 10 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

لم يكن قُرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه «(1)و المراد من التفسير هو انّ قوله سبحانه: (فَلا جُناحَ ) لدفع توهم الحظر و انّ الحكم يؤخذ من السنّة، أو المراد انّ تقيّد التقصير بالخوف مورديّ و حكم اللّه مطلق، و تقييد حجّية الآية بهذا النوع من التفسير لا يخل بالمقصود، لما قلنا عند تحرير محلّ النزاع، من أنّ المقصود هو التمسك بالقرآن بعد الرجوع إلى السنّة.

إلى غير ذلك من الروايات التي استدل فيها الإمام برهاناً أو جدلاً، فلاحظ.

الخامس: عرض الروايات المتعارضة على القرآن

قد تضافر عنهم) عليهم السلام (في مورد تعارض الروايات، لزوم عرضها على القرآن، فما وافق كتاب اللّه يؤخذ به، و ما خالف يضرب به عرض الجدار، فقال أبو عبد اللّه) عليه السلام (: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّ على كلّ حقّ حقيقة و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فدعوه «.(2) و سيوافيك في محلّه، انّ موافقة الكتاب، ليست من المرجحات، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

السادس: عرض الشروط على كتاب اللّه

روى الكليني بسند صحيح، عن عبد اللّه بن سنان الثقة قال: سمعته يقول:» من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب اللّه فلا يجوز له و لا يجوز على الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم ما وافق كتاب اللّه «و في رواية أُخرى:» المسلمون عند شروطهم إلاّ كلّ شرط خالف كتاب اللّه عزّ و جلّ فلا يجوز «.(3)

ص:143


1- الوسائل: الجزء 5، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10; و لاحظ الحديث 11، 12، 14 إلى غير ذلك.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 1 و 2; و لاحظ أحاديث الباب.
السابع: القرآن في حديث النبي الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (

يعرف الرسول الأعظم بأنّ القرآن هو المرجع لدى التفاف الفتن بالأُمّة، قال) صلى الله عليه و آله و سلم (:

» إذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفع، و ماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل، و بيان تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل «.(1)

و عنه صلوات اللّه عليه و آله في ذلك المضمار روايات نقلها الكليني في كتاب القرآن.

الثامن: القرآن في كلام الوصي) عليه السلام (

قال الإمام علي) عليه السلام (:» كتاب اللّه تبصرون به، و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض «.(2)

و في كلام آخر:» و اعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم «.(3)

إلى غير ذلك من الروايات التي تدل بوضوح على لزوم الرجوع إليه في فهم العقيدة و الشريعة و انّه سبحانه ما أنزله للتلاوة فقط، بل للتلاوة التي يستعقبها التدبّر و التفكّر، ثمّ العبرة و الاعتبار، ثمّ العمل و التطبيق على الحياة.

إلى هنا تجلّت الحقيقة بأعلى مظاهرها و لم يبق إلاّ دراسة أدلّة الأخباريين

ص:144


1- الكافي: 2/238، و السند معتبر.
2- نهج البلاغة: الخطبة 133.
3- نهج البلاغة: الخطبة 167.

الذين نسب إليهم عدم حجّية ظواهر الكتاب إلاّ بعد تفسير الإمام، و هي وجوه أشار إليها في الكفاية:

1. اختصاص فهم القرآن بأهله

يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة و قتادة أنّ القرآن فوق فهمهما و انّه لا يفهم القرآن إلاّ من خوطب به.

1. روى شبيب بن أنس، عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه) عليه السلام (في حديث أنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال لأبي حنيفة:

» أنت فقيه العراق؟ «قال: نعم، قال:» فبم تفتيهم؟ «قال: بكتاب اللّه و سنّة نبيّه. قال:» يا أبا حنيفة! تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته، و تعرف الناسخ و المنسوخ؟ «قال: نعم، قال:» يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم، ويلك، و لا هو إلاّ عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد، و ما ورثك اللّه عن كتابه حرفاً «.(1)

و السند ضعيف، لعدم توثيق شبيب بن أنس الوارد فيه، و للإرسال في آخره، لكن ربّما يؤيد المضمون قوله سبحانه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (2)بناء على أنّ المراد من الكتاب هو القرآن، و من المصطفين هو أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و من الوراثة هو فهمه، و الكلّ قابل للتأمل.

و على كلّ تقدير فالرواية تردّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسّرونه و يفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه و منسوخه،

ص:145


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
2- فاطر: 32.

عامّه و مخصصه، مطلقه و مقيده، و أين هو من عمل أصحابنا؟! فإنّهم يحتجون به بعد الرجوع إليهم ثمّ الأخذ بمجموع ما يدل عليه الثقلان.

2. روى الكليني بسند يتصل إلى محمد بن سنان، عن زيد الشحام: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر فقال:» يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ «فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» بلغني انّك تفسّر القرآن؟ «فقال له قتادة: نعم! فقال له أبو جعفر بعد كلام:» إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسرته عن الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به «.(1)

و السند ضعيف بمحمد بن سنان، و الحديث ناظر إلى الاستبداد بالقرآن من دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت، في معرفة ناسخه و مقيّده و مخصصه، و المراد من المعرفة هو المعرفة التامّة التي تكون حجّة على العارف.

2. احتواء القرآن على مضامين شامخة

القرآن مشتمل على مضامين شامخة و مطالب غامضة عالية لا تكاد تصل إليها أفكار أُولي الأنظار غير الراسخين في العلم.

يلاحظ عليه: أنّ احتواءه على تلك المضامين لا يمنع من الاحتجاج بظواهر الآيات التي هي بصدد بيان تكاليف العباد، و ما أُشير إليه من احتوائه على المضامين العالية يرجع إلى الآيات النازلة حول العقائد و القصص، أو يرجع إلى بطون الآيات، روى جابر قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» يا جابر! إنّ للقرآن بطناً، و للبطن ظهراً، و ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه «.(2)

ص:146


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 74.
3. الظواهر من المتشابهات

يقسم القرآن الكريم الآيات إلى محكم و متشابه، يقول سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ... ).(1)

فالآيات المتشابهة ممنوعة الاتباع، و الظواهر أمّا من المتشابهات قطعاً أو احتمالاً فلا يصحّ التمسّك بها.

يلاحظ عليه: انّ الظواهر من المحكمات، و المحكمات تنقسم إلى نصّ لا يقبل التأويل و يعدّ التأويل تناقضاً في الكلام، و ظاهر يقبله و يعد التأويل عملاً على خلاف الظاهر، و أمّا المتشابه فهو ما لم يستقر له الظهور أصلاً و لم يتبين المراد منه، و لأجل ذلك سمي متشابهاً لمتشابه المراد بغيره.

و قد اختلفت كلماتهم في تفسير المتشابهات، فالمعروف انّ المتشابهات هي الآيات المشعرة بتجسيمه سبحانه، أو كونه ذا جهة أو الجبر و سلب الاختيار عن الإنسان و ما يشبه ذلك ممّا ورد في المحكمات خلافها، ففي ظل القسم الثاني تحلّ عقده المتشابهات و ترجع إليها، و ذلك بالإمعان في الآية المتشابهة و ما قبلها و ما بعدها، و الإمعان في سائر الآيات الواردة في ذلك المجال فيتجلّى المراد بالإمعان و الدّقّة، و هذا مثل قوله سبحانه: (اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2)و لا تعلم حقيقته إلاّ بملاحظة الآيات الواردة حول عرشه و استيلائه عليه، و أين هذه الآيات من الظواهر التي استقر ظهورها في المعنى، مثلاً قوله سبحانه: (وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).(3)

ص:147


1- آل عمران: 7.
2- طه: 4.
3- الطلاق: 4.

فانّ ظاهر الآية انّ صاحبات الحمل لا يخرجن من العدة إلاّ بعد وضع أولادهن، و الآية و إن وردت في سورة الطلاق و لكن إطلاقها يعمّ المعتدة بعدّة الوفاة فلو مضى من موت الزوج أربعة أشهر و عشرة أيام فلا تخرج من العدّة إلاّ إذا وضعت حملها، فليست الآية متشابهة غير واضحة المراد و إنّما الكلام في وجود الإطلاق و عدمه، أي في سعة الآية و ضيقها.

على أنّ هناك رأياً آخر في تفسير المتشابه، و هو: انّ المتشابه عبارة عن الآيات الراجعة إلى حقيقة البرزخ و المعاد و الجن و الملك ممّا لا يمكن الإحاطة بكنهه إلاّ بعد الخروج عن دار التكليف، مثلاً انّ قوله سبحانه: (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) (1)من الآيات المتشابهة التي لا يقف الإنسان على حقيقتها ما دام في دار المجاز.

فلو كان المتشابه هو هذا فلا صلة له بالآيات الواضحة الدلالة و المداليل كأكثر ما ورد في العبادات و المعاملات.

4. العلم الإجمالي بالتخصيص و التقييد

انّا نعلم انّ عمومات القرآن و مطلقاته خصّصت و قيدت بمخصصات و مقيّدات، و مع العلم الإجمالي بطروء التصرف في دلالاتها كيف يمكن التمسّك بظواهرها؟ يلاحظ عليه: أنّ العلم الإجمالي يبعث المجتهد إلى الفحص عن المخصصات و المقيدات الواردة في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة، فإذا فحص عنها فحصاً كاملاً و عثر على عدّة منها و احتمل انطباق المعلوم بالإجمال على ما حصّله بالتفصيل، لم يبق له علم إجمالي بوجود المخصصات و المقيدات

ص:148


1- الصافات: 6564.

الصادرة من أئمّة أهل البيت، غاية الأمر يحتمل وجودها في الواقع غير واصلة إليه، و من المعلوم عدم جواز رفع اليد عن الدليل باحتمال التخصيص.

و الحاصل: انّ المستنبط بعد الفحص إمّا يقطع بأنّ المعلوم بالإجمال هو المعلوم بالتفصيل من المخصِّصات و المقيّدات لا غير، و إمّا يحتمل انطباقه على ما حصله، و على كلتا الصورتين لا يبقى علم إجمالي بوجود المخصص وراء ما وقف عليه، غاية الأمر يحتمله.

5. الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي

إنّ حمل الكلام الظاهر في معنى، على أنّ المتكلّم أراد هذا، تفسير له بالرأي.

أقول: روي عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار «.(1)

فالاستدلال بهذا الحديث المتضافر على أنّ حمل الظاهر في معنى، على أنّه المراد، من قبيل التفسير بالرأي، استدلال غير تام، و ذلك لأنّ» التفسير بالرأي «مركبة من لفظين:

1. التفسير.

2. الرأي.

أمّا الأوّل: فهو مأخوذ من» فسّر «المشتق بالاشتقاق الكبير من» السفر «و هو الكشف و الظهور، يقال:

أسفر الصبح: إذا ظهر، و أسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته.

ص:149


1- راجع الوسائل 18 الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 76; و لاحظ 66 و 67 و 78 و بقية أحاديث الباب....

و أمّا الثاني:» الرأي «فهو بمعنى الميل إلى أحد الجانبين و ترجيحه اعتماداً على الظن الذي لم يدل عليه دليل، يقول الراغب: الرأي: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، و يؤيده إضافته إلى الشخص أي » برأيه «.

و قد ورد في بعض الروايات مكان الرأي» بغير علم «:» من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار «. و يوضحه قول أبي جعفر) عليه السلام (:» من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم، و من دان اللّه بما لا يعلم فقد ضاد اللّه حيث أحلّ و حرم فيما لا يعلم «.(1) و في رواية أُخرى عن علي) عليه السلام (في كلام له:

» انّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه و لكن آتاه عن ربّه فأخذ به «.(2)

إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً، ثمّ الرأي ثانياً، نقول: إنّ حمل الظاهر في معنى، على أنّه مراد المتكلّم، ليس من مقولة التفسير، إذ ليس هنا أمر مستور كشف عنه، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه، ليس تفسيراً، و رافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه، و التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى ) (3)فتفسيرها بواحدة منها، تفسير و مثله قوله: (وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) (4)فانّ الآية قد أحاطها الإبهام من وجوه، و لعلّها أبهم آية وردت في القرآن الكريم، و لم يتسنّ لأحد من المفسّرين كشف قناعها و إن حاولوا لأن يقفوا على مغزاها، إذ فيها إبهامات:

ص:150


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12 و 14; و لاحظ الحديث 21، 28، 30، 33، 34، 35، 50.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12 و 14; و لاحظ الحديث 21، 28، 30، 33، 34، 35، 50.
3- البقرة: 238.
4- النمل: 82.

1. ما هو المراد من وقوع القول عليهم؟ فيفسر باستحقاقهم العذاب، لما في الآية 85 من هذه السورة من قوله سبحانه: (وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) فهذا تفسير الآية بالآية، و كشف الغطاء عنها بالاستعانة بالقرآن، فلو فسره من عند نفسه لا اعتماداً على آية، و لا سنّة، و لا من حجّة أُخرى كان تفسيراً بالرأي، و الذي يؤيد ذاك التفسير و انّ المراد هو استحقاقهم العقاب ذيل الآية، أعني قوله سبحانه: (أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) فالمعنى: لأنّ الناس كانوا غير موقنين بآياتنا.

2. ما هو المراد من قوله: (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ )؟ ما هو المراد من الدابة؟ و ما صفتها؟ و كيف تخرج؟ و ما ذا تتكلم به؟ فالآية يغمرها الإبهام فوق الإبهام، فكشف القناع عن وجه كلّ واحد هو التفسير.

فإذا لم يكن حمل الظاهر في معنى على أنّه المراد تفسيراً للآية، يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر ) برأيه (أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

6. دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف من الكتاب

هذا آخر الوجوه التي اعتمد عليها الأخباري، و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجوه بعد تسليم التحريف:

1. التحريف لا يمنع عن حجّية ظواهره، لأنّ الإسقاط لا يلازم حدوث الخلل في آياته.

2. و لو سلم، فلا نعلم حدوثه في آيات الأحكام التي هي مورد الابتلاء للفقيه.

3. و دعوى العلم الإجمالي بوقوع الخلل إمّا في آيات الأحكام، أو في غيرها، غير ضائر بحجّية آيات الأحكام، لعدم منجزية مثل ذاك العلم لعدم إحداثه

ص:151

التكليف على كلّ تقدير، لأنّ الأثر الشرعي) الحجّية (لا يترتّب على سائر الآيات التي لا تحمل حكماً شرعياً، مع أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، فالآيات الواردة في مجال القصص و العقائد و المعارف ليست بحجّة بمعنى، لا توصف بالتنجّز و التعذير.

أقول: كان المتوخّى من مثل المحقّق الخراساني هو الوقوف في وجه هذه الفرية التي تمسّ بكرامة القرآن و التشيّع، وقفة لائقة بحالها حتى يكشف الغطاء عن وجه الحقيقة، و يترك هذه الأجوبة.

ترى أنّه خصّ حجّية القرآن بآيات الأحكام، مع أنّ جميع آياته من أقوى الحجج و أكبرها، و توهم انّ الحجّية بمعنى التنجيز و التعذير من خصائص آيات الأحكام، غير تام، فانّها حجّة في باب الأعمال، كما أنّ ما نزل حول العقائد و المعارف حجّة في مجال الاعتقاد، فما جاء في الكتاب العزيز هو الحجّة في باب المعاد، أصله و وصفه، فمن لم يعتقد به أو بوصفه فقد خالف الحجّة المنجزة.

و بما انّ أعداء الإسلام و التشيع، اتخذوا فرية التحريف أداة للهجوم على المسلمين أو الشيعة; و قد كفانا في ذلك، ما حقّقه علماؤنا الأبرار عبر الزمان، و فيما كتبه الشيخ البلاغي في» آلاء الرحمن «و السيد الخوئي في» البيان «و العلاّمة الطباطبائي في» الميزان «في سورة الحجر و المحقّق المعاصر محمد هادي معرفة في كتاب» صيانة القرآن عن التحريف «غنى و كفاية، و قد أفرد شيخنا في تفنيد هذه التهمة رسالة طبعت في مقدمة موسوعة طبقات الفقهاء(1)، و لذلك طوينا الكلام من ذلك.

ص:152


1- مصادر الفقه الإسلامي: 36 78.
الحجج الشرعية 2 قول اللغوي
اشارة

كان البحث السابق حول حجّية الظواهر بعد ثبوت الظهور و قد تبين انّه من الأُمور المفيدة للقطع بالمراد الاستعمالي على المختار أو من الظنون المعتبرة عند العقلاء.

و حان حين البحث عن حجّية الأدوات التي تثبت الظهور عند الشكّ في أصله.

اعلم أنّ الشكّ في أصل الظهور يتصوّر على وجوه:

1. احتمال وجود قرينة حالية خفيت علينا أو سقطت من الكلام، فهل المرجع هو أصالة عدم القرينة؟ أو أصالة الظهور؟ يظهر من المحقّق الخراساني انّ المرجع هو الثاني، لأنّ العقلاء يحملون اللفظ على المعنى الذي كان اللفظ ظاهراً فيه لو لا القرينة، من دون استعانة بشيء لا أنّهم يبنون عليها بعد الاستعانة بأصالة القرينة.

و لا يخفى خفاء المراد من قولهم:» أصالة الظهور «فلو كان المراد هو لزوم الأخذ بالظاهر ما لم يدل دليل على خلافه، فهو صحيح، لكن لا صلة له بالمقام إذ الكلام في وجود الظهور و عدمه.

2. احتمال قرينية الأمر الموجود، كورود الأمر بعد الحظر، فهل هو للوجوب أو لرفع الحظر؟ و الجمل المتعقب بالاستثناء فهل يرجع إلى الأخير وحدها؟ أو إلى الجميع؟ أو فيه تفصيل؟ فإن قلنا انّ المرجع هو أصالة الحقيقة أو عدم القرينة

ص:153

و انّهما أصلان تعبديان فيحمل الأمر على الوجوب، و الجمل غير الأخيرة على العموم، و أمّا لو قلنا بأنّ المرجع هو أصالة الظهور، أي حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه، فيكون الكلام مجملاً لعدم الظهور العرفي.

3. و إن كان الشكّ في ظهور هيئات الجمل، كهيئة الجمل الاسمية و الفعلية، أو هيئة الجمل الشرطية، أو الوصفية، و هيئة الأمر و النهي، فالمرجع هو علم المعاني، و لكنّ الأُصوليين أدخلوا قسماً من هذه البحوث في علم الأُصول لمدخليتها في الغرض.

4. و إن كان الشكّ في ظهور المفردات، فإن كان الشكّ في هيئتها كاسم الفاعل و المفعول و الصفة المشبهة و اسم المبالغة، فالمرجع هو علم الصرف حيث يبحث عن وضع أسماء الفاعلين و المفعولين.

5. و لو تعلّق بمادة المفردات، فقد تقدّم انّ المرجع هو التبادر، و عدم صحّة السلب و الاطراد.

و هل هنا مرجع آخر و هو قول اللغوي أو لا؟ فلو أفاد قوله» الظن «و قلنا بحجّيته بالخصوص يكون من قبيل الظن الخاص، ذهب الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني إلى عدم حجّيته، و إن عدل الأوّل عن كلامه في هامش الفرائد عدولاً نسبيّاً كما سيوافيك.

و على فرض كونه حجّة، فهل هو حجة من باب الشهادة، أو من باب الخبرويّة؟ فلو قلنا بأنّ تشخيص المعاني الحقيقية من المجازية من الأُمور الحسية، التي لا يحتاج إلى إعمال النظر و الفكر، فتكون حجّية قوله من باب الشهادة فيعتبر فيه ما هو المعتبر فيها من العدالة و التعدّد.

و إن قلنا بأنّها من الأُمور التي تتوقف على إعمال النظر و الرأي و الاجتهاد، فتكون حجّيته من باب حجّية قول أهل الخبرة، فلا يعتبر فيه واحد من الأمرين،

ص:154

نعم يعتبر فيه الوثوق و الاطمئنان على قول.

ذهب المحقّق الخوئي إلى القول الأوّل، و قال: بأنّ تعيين معاني الألفاظ من قبيل الأُمور الحسية التي لا دخل للنظر و الرأي فيها، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده من الاستعمالات و المحاورات، و ليس له إعمال النظر و الرأي، فيكون داخلاً في باب الشهادة فتعتبر فيه العدالة و التعدّد على قول المشهور.(1)

يلاحظ عليه: أنّه) قدس سره (قصر النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين المرتزقين من المعاجم الأُمّ، فليس لهم شأن إلاّ ما ذكر فيها، و أمّا أصحاب المعاجم الأوائل، كالعين للخليل، و الجمهرة لابن دريد، و المقاييس لابن فارس، و الصحاح للجوهري، و أساس اللغة للزمخشري، و اللسان لابن منظور، فعملهم مزيج بالحدس و إعمال النظر، و يشهد لذلك، استشهادهم بالآيات و الأحاديث النبوية و أشعار الشعراء حيث يُعيّنون موارد الاستعمال بفضل الإمعان فيها.

إنّ تعيين مواضع استعمال الألفاظ فضلاً عن تعيين معانيها و أوضاعها أمر عسير لا يحصل إلاّ بالدقة و الإمعان، و من طالع المقاييس لابن فارس أو أساس اللغة للزمخشري أو اللسان لابن منظور يقف على الجهود التي بذلوها لتبيين مفاهيم الألفاظ و موارد استعمالها، فالشكّ في أنّ أخبارهم كأخبار أهل الخبرة في غير محله، و أمّا انّهم أهل خبرة في تعيين مواضع الاستعمال أو الأوضاع فسيوافيك بيانه.

و بالجملة استخراج المعاني بفضل الآيات و الروايات و أشعار الشعراء و كلمات العرب يحتاج إلى لطف في القريحة و دقة في الكلام، و قد سئل الأصمعي عن معنى الألمعيّ فأنشد الشعر:

الألمعي الذي يظنُّ بك الظنَّ كأن رأى و قد سمعا

ص:155


1- مصباح الأُصول: 1/131.

فانّ الانتقال إلى معنى الألمعي من هذا البيت، لا ينفك عن الدقة حيث إنّ الموصول وصلته تفسير للمبتدإ و كثير من الناس ربما يسمعون هذا البيت و لا ينتقلون إلى ما انتقل إليه ذلك الأديب.

أضف إلى ذلك انّ قسماً منهم قد قضى عمره في البادية ليعرف مواضع الاستعمال عن كثب، و انّ المتبادر هل هو مقرون بالقرينة أو لا؟ كلّ ذلك لا ينفك عن الاجتهاد و اعمال النظر، و ليس مثل رؤية الهلال التي لا تتوقف على شيء سوى فتح العين و النظر إلى السماء.

فتعيّن انّه لو قلنا بحجّية قول اللغوي فإنّما نقول به من باب أهل الخبرة.

فنقول: استدل على حجّية قوله بعد كون الأصل عدم حجّية قوله بوجوه:

الوجه الأوّل: إجماع العلماء على الرجوع إليهم في تفسير القرآن و الحديث، فلا تجد فقيهاً أو محدثاً إلاّ و يستند إلى أقوال أهل اللغة.

يلاحظ عليه: بما أورد عليه المحقّق الخراساني من أنّه ليس كاشفاً عن دليل تعبّدي وصل إليهم لم يصل إلينا، لاحتمال انّهم استندوا في عملهم على بناء العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة، و أهل اللغة منهم، فيكون الإجماع مدركياً.

الوجه الثاني: سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، و هذا كما في الأروش و الجنايات، و غيرهما، و أهل اللغة، من خبراء تشخيص المعاني الحقيقية و المجازية، و هذا الدليل هو الدليل المهم.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. انّ المتيقن من الرجوع إلى رأي أهل الخبرة هو كونه مفيداً للوثوق، و لا يحصل وثوق بالأوضاع عن قول اللغوي.

2. انّه ليس من أهل الخبرة، لأنّ المطلوب هو تشخيص المعاني الحقيقية عن

ص:156

المجازية ليُحْمل اللفظ عند التجرّد عن القرينة عليه، و لكنّ همَّ اللغوي ينحصر في بيان موارد الاستعمال لا تعيين الحقيقة و المجاز، و ليس ذكره أوّلاً دليلاً على كونه المعنى الحقيقي.

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة لأجل انسداد الطريق إلى الواقع، فلا طريق إلى تعيين الأرش في باب المعيب، و مقدار الغبن في البيع الغبني، و حدّ الجناية، إلاّ قول أهل الخبرة، فقولهم حجّة سواء أفاد الوثوق أو لا، و نظيره الرجوع إلى قول الرجالي في تمييز الثقات عن غيرهم، أو الرجوع إلى المجتهد في تعيين الوظائف، فالكلّ من هذا الباب، و ربما لا يفيد قولهم الظن فضلاً عن الوثوق.

و الحاصل: انّ انسداد الطريق جرّ العقلاء إلى إفاضة الحجّية على قول الخبير، لقطع النزاع و تحصيل المقاصد، و تقييد الرجوع بإفادته الظن الشخصيّ فاقد للدليل.

و يلاحظ على الثاني بوجهين:

أوّلاً: أنّ معاجم اللغة على قسمين قسم ألّف لبيان المعاني الأوّلية للألفاظ و إراءة كيفية اشتقاق سائر المعاني من المعنى الأصلي، بحيث تكون أكثر المعاني صوراً مختلفة لمعنى أصلي، و قد ألّف في هذا المضمار المقاييس لابن فارس، و أساس اللغة للزمخشري، فالمراجع إلى الكتابين يقف على المعنى الأصلي و المعاني الفرعية المشتقة من المعاني الأصلية، ثمّ المعاني المجازية.

و ثانياً: أنّ الأُنس بمعاجم اللغة، يخلق في الإنسان قوّة أدبية، يميز بها المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المجازي، و المراد في المقام عن غيره على وجه يثق بما استخرجه، و لكنّه رهن الأُنس بكتب اللغة و مطالعتها، كمطالعة سائر الكتب و الرجوع إليها في مشكلات القرآن و الحديث و الأدب طول سنين.

ص:157

فنقول: فقول اللغوي على هذا و إن لم يكن حجّة، لكن الرجوع إلى معاجم معدودة أُلّفت بيد فطاحل اللغة، يورث الوثوق بمعنى اللفظ عند التجرّد عن القرينة، فلا محيص عن الرجوع بتلك الغاية، نعم على هذا لا يكون قول اللغوي حجّة و لكن يكون الرجوع إلى المعاجم ذات أهمية كبيرة.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ أورد على السيرة بعدم حجّيتها لعدم وجودها في زمن المعصومين) عليهم السلام (، لأنّ الرجوع إلى كتب اللغويين أمر حادث بعدهم.(1)

يلاحظ عليه بأمرين:

أوّلاً: أنّه إذا أطبق العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، و كان الرجوع بمرأى و مسمع من الشارع، كفى ذلك في تصحيح الرجوع إلى أهل اللغة و إن لم يكن المصداق موجوداً في عصرهم، و إلاّ يلزم عدم حجّية رأيهم في المصاديق الجديدة في باب المعاملات و الجنايات و هو كما ترى.

ثانياً: أنّ تاريخ الأدب العربي يكشف عن وجود السيرة في صدر الرسالة، و قد كان ابن عباس مرجعاً في تفسير غريب اللغة و قد سأله نافع بن الأزرق عن لغات القرآن ما يربو على مائة و سبعين مورداً، فأجاب على الجميع مستشهداً بشعر العرب، و قد نقل الجميع السيوطي في إتقانه، و كان يقول: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فانّ الشعر ديوان العرب.(2)

أضف إليه انّ الأجانب كانوا يتعلمون معاني الألفاظ و مفاهيمها من أهل اللغة، فحجّية رأي أهل اللسان في بيان معاني الألفاظ، يوجب حجّية قول اللغوي خصوصاً إذا كان من أهل اللسان.

الوجه الثالث: ما أشار إليه الشيخ الأنصاري من انسداد باب العلم

ص:158


1- تهذيب الأُصول: 2/97.
2- الإتقان: 4161/382.

بتفاصيل المعاني بحيث يعلم بدخول المشكوك أو خروجه و إن كان المعنى معلوماً في الجملة و إلى ذلك أشار الشيخ الأنصاري بقوله: و الإنصاف انّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة أو خروجها و إن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة اللغوي كما في مثل ألفاظ الوطن و المفازة، و التمر، و الفاكهة و الكنز و المعدن و الغوص و غير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا تحصى، و إن لم يكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذوراً.(1)

و قد أورد عليه المحقّق الخراساني ما هذا حاصله: من أنّ الانسداد الصغير لا يثبت حجّية قول اللغوي، و ذلك لأنّ باب العلم و العلمي للأحكام الشرعية التي يهمّ المجتهد إمّا مفتوح أو مسدود، فعلى الأوّل، لا وجه لحجّية الظن الحاصل من قول اللغوي، و إن حصل منه الظن بالحكم الشرعي، لفرض انفتاح باب العلم بالأحكام، و على الثاني، يكون الظن على الإطلاق حجّة إذا وقع في طريق الاستنباط و منه الظن الحاصل من قول اللغوي، و إن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.(2)

يلاحظ على الشقّ الأوّل: بأنّ فرض انفتاح باب العلم و العلمي في جميع الأحكام الشرعية، يلازم حجّية قول اللغوي في الموارد التي يتوقف استنباط الأحكام على فهم التفاصيل و إلاّ فيكون فرض الانفتاح في جميع الأحكام فرضاً باطلاً، لأنّ قسماً من الأحكام لا يعلم إلاّ من طريق قول اللغوي، فكيف يكون باب العلم و العلمي مفتوحاً في عامة الأحكام الشرعية، مع عدم حجّية قول اللغوي الذي يتوقف عليه استنباط بعض الأحكام؟!

ص:159


1- الفرائد: 47.
2- في كلام الشيخ الأنصاري أيضاً إشارة إلى هذا الإشكال فلا تغفل.
الحجج الشرعية 3 الإجماع المنقول بخبر الواحد
اشارة

إنّ الأصل الأوّلي فيما يمكن الاحتجاج به عدم الحجّية إلاّ إذا قام الدليل القطعي على حجّيته، و قد عرفت خروج الأمرين عن تحت ذلك الأصل: أ. الظواهر، ب. قول اللغوي على التفصيل الذي مضى.

و مما قيل بخروجه عن تحت ذلك الأصل هو إجماع العلماء على حكم شرعي إذا نقل بخبر الواحد، و طبع البحث يقتضي ثبوت أمرين قبل الخوض في هذه المسألة:

الأوّل: حجية الإجماع المحصل لنفس الناقل حتى يُبحث عن حجّيته للغير إذا نقل إليه.

الثاني: حجّية خبر الواحد في نقل الحجج.

لكن العلمين الأنصاري و الخراساني بحثوا عن الإجماع المحصل في خلال البحث عن الإجماع المنقول و أخّروا البحث عن حجّية خبر الواحد، و نحن نقتفيهما و لكن بتفاوت يسير، و هو إنّا نعقد لكلّ من الإجماعين بحثاً مستقلاً، فنقول:

المقام الأوّل: حجية الإجماع المحصل
اشارة

الإجماع لغة هو العزم ففي الحديث» من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له «.(1)

ص:160


1- جامع الأُصول: 7/186.

و في الذكر الحكيم عند سرده لقصة يوسف: (فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) (1)و أمّا الاتفاق فإنّما يفهم من ذكر المتعلّق، يقال: أجمع القوم على كذا أي اتفقوا، قال سبحانه:

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ).(2)

و أمّا اصطلاحاً فقد عرّف بتعاريف، و بما انّ ملاك حجّيته عند السنّة غير ملاكها عند الشيعة، نطرح كلاً بوجه مستقل، فنقول:

الإجماع المحصّل عند أهل السنّة

عرّفه الغزالي بقوله: إنّه اتفاق أُمّة محمّد) صلى الله عليه و آله و سلم (بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي.(3)

و على هذا التعريف لا يكفي اتّفاق أهل الحلّ و العقد و لا المجتهدين بل يجب اتّفاق جميع المسلمين، و هذا ما لا ينطبق إلاّ على الضروريات و إن كان أكثر انطباقاً لما أقاموا من الدليل من عصمة الأُمّة، و مع ذلك أعرض عنه أكثر أهل السنّة، فعرّفوه بالنحو التالي:

اتّفاق أهل الحلّ و العقد على حكم من الأحكام، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر، إلى غير ذلك من التعاريف.

و المهم في المقام هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنة، و هذا هو الذي نطرحه فيما يلي:

ص:161


1- يوسف: 15.
2- يونس: 71.
3- المستصفى: 1/110.
مكانة الإجماع في الفقه السنّي

قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع ليس من أدوات التشريع و مصادره، و انّ حجّيته تكمن في كشفه عن الحكم الواقعي المكتوب على الناس قبل إجماع المجتهدين و بعده.

و أمّا على القول باختصاص الحكم الواقعي المشترك بما ورد فيه النص عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (، و ترك التكليف فيما سواه إلى اجتهاد المجتهد، فيصير الإجماع من مصادر التشريع، فيعادل الكتاب و السنّة في إضفاء المشروعية على الحكم المتفق عليه، و يصير بالاتفاق حكماً واقعياًً إلهياً.

و يوضحه الأُستاذ السوري» وهبة الزحيلي «بقوله: و نوع المستند في رأي الأكثر، إمّا دليل قطعي من قرآن أو سنّة متواترة، فيكون الإجماع مؤيّداً و معاضداً له; و إمّا دليل ظني و هو خبر الواحد و القياس، فيرتقي الحكم حينئذ من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع و اليقين.(1)

و معنى ذلك انّه لا بدّ أن يكون للإجماع من دليل ظني، فإذا اتّفق المجتهدون على الحكم و لو لأجل ذلك الدليل الظني يصبح الحكم قطعيّاً، و ما ذاك إلاّ لأجل دوران الحكم مدار الاتفاق و عدمه.

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاّف: من حقّق النظر في منشأ فكرة الإجماع في التشريع الإسلامي، و في كيفية الإجماع الذي انعقد في أوّل مرحلة تشريعية بعد عهد الرسول، و في تقدير المجمعين لمن عقد عليه إجماعهم من الأحكام، يتحقّق أنّ الإجماع أخصب مصدر تشريعي يكفل تجدّد التشريع و تستطيع به الأُمّة أن تواجه كلّ ما يقع فيها من حوادث، و ما يحدث لها من وقائع، و أن تساير به الأزمان

ص:162


1- الوجيز في أُصول الفقه: 49.

و مختلف المصالح في مختلف البيئات.

ثمّ قاس فكرة الإجماع بالشورى و قال: و منشأ فكرة الإجماع انّ الإسلام أساسه في تدبير شئون المسلمين، الشورى، و أنْ لايستبد أُولي الأمر منهم بتدبير شئونهم سواء أ كانت تشريعية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم إدارية أم غيرها من الشئون، قال اللّه تعالى مخاطباً رسوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )(1)، و لم يخص سبحانه بالمشاورة أمراً دون أمر... ليشعرهم أنّ الشورى من عمد دينهم كإقامة الصلاة.

و على هذا الأساس كان الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (يستشير رءوس صحابته في الأُمور التي لم ينزل وحي من ربِّه، و مما كان يستشيرهم فيه التشريع فيما لم ينزل فيه قرآن إلى أن قال: فلمّا توفّي رسول اللّه و واجهت أصحابه وقائع عديدة لم ينزل فيها قرآن و لم تمض فيها من الرسول سنّة سلكوا السبيل الذي أرشدهم إليه القرآن و هو الشورى، و الذي سلكه الرسول فيما لم ينزل فيه قرآن و هو الشورى.

إلى أن استنتج في كلامه المسهب ما هذا نصّه: و من هنا يتبيّن أنّ إجماع الصحابة ما كان إلاّ اتّفاق من أمكن اجتماعهم من رءوسهم و خيارهم على حكم واقعة لم يرد نص بحكمها، و أنّ الذي دعاهم إلى اتّباع هذا السبيل هو العمل بالشورى التي أوجبها اللّه و سار عليها الرسول، و تنظيم اجتهاد الأفراد فيما لا نصّ فيه، فبدلاً من أن يستقل كلّ فرد من خيارهم بالاجتهاد في هذه الوقائع اجتمعوا و تشاوروا و تبادلوا الآراء، و الخليفة ينفذ الحكم الذي اتّفقوا عليه.(2)

و لا يخفى ما في كلمات الأُستاذ من الخلط.

أمّا أوّلاً: فقد تضافرت الآيات القرآنية على أنّ التشريع حقّ مختص باللّه

ص:163


1- آل عمران: 159.
2- مصادر التشريع الإسلامي: 167166.

تبارك و تعالى، و أنّ كلّ تشريع لم يكن بإذنه فهو افتراء على اللّه و بدعة، و ليس على الناس إلاّ الحكم بما أنزل اللّه، و من حكم بغيره فهو كافر و ظالم و فاسق.(1)

قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ).(2)

و مع هذا التصريح فكيف يكون للبشر الخاطئ غير الواقف على المصالح و المفاسد حقّ التشريع على الإنسان على وجه يكون نافذاً، إلى يوم البعث؟! نفترض أنّ لفيفاً من الصحابة بذلوا جهوداً فوصلوا إلى أنّ المصلحة تكمن في أن يكون حكم الواقعة هو هذا، أ فهل يكون إجماعهم على ذلك الحكم دون أن يكون مستمداً من كتاب أو سنّة حجّة على البشر إلى يوم القيامة، لو لم نقل انّ اتّفاقهم على الحكم عندئذ بدعة و افتراء على اللّه؟! و ثانياً: أنّ عطف الإجماع على المشورة من الغرائب، فإنّ النبي كان يستشير أصحابه في الموضوعات العرفيّة التي ليس للشارع فيها حكم شرعي، و إنّما ترك حكمها إلى الظروف و الملابسات و إلى الناس أنفسهم، حتى نجد انّ أكثر مشاورات النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (كانت تتم في كيفية القتال و الذبّ عن حياض الإسلام.

فهذا هو رسول اللّه يشاور المسلمين في غزوة بدر قبل اصطدامهم بالمشركين، و قال: أشيروا عليّ أيّها الناس، و كأنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يريد أن يقف على رأي أصحابه في السير إلى الأمام و قتال المشركين، أو الرجوع إلى الوراء، و لم يكن في المقام أيّ حكم مجهول حاول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أن يستكشفه عن طريق المشاورة، و كم فرق بين المشاورة في الموضوعات العرفية و المشاورة لكشف حكم شرعي منوط بالوحي؟

ص:164


1- راجع سورة المائدة: الآيات: 44 و 45 و 47.
2- الأنعام: 57.

و هذه هي مشاورته الثانية في معركة أُحد حيث شاور أصحابه، ليقف على كيفية مجابهة المشركين و أُسلوب الدفاع عن الإسلام فأدلوا بآرائهم، فمن طائفة تصرّ على أن لا يخرج المسلمون من المدينة و يدافعوا عنها متحصنين بها، إلى أُخرى ترى ضرورة مجابهة المشركين خارج المدينة.(1)

إلى غير ذلك من مشاوراته المنقولة في كتب التاريخ كمشاورته في معركة الأحزاب و غيرها.

و من تتبع المشاورات التي أجراها النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (مع أصحابه في التاريخ يقف على حقيقة، و هي: انّنا لا نكاد نعثر على وثيقة تاريخية تثبت أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (شاورهم في أُمور الدين و الفتيا، بل كانت تلك المشاورات تتم في أُمور الدنيا و لما فيه صلاح أُمورهم.

أدلّة عدِّ الإجماع من مصادر التشريع

ثمّ إنّك بعد الوقوف على ما ذكرنا من أنّ الإجماع ليس من مصادر التشريع، و إنّما العبرة فيه قابلية كشفه عن الواقع و إصابته، و هذا يختلف باختلاف مراتب الإجماع كما سبق في غنى عن البرهنة على حجّية الإجماع، و إنّما يقوم به من رأى أنّ نفس الإجماع بما هو إجماع من مصادر التشريع، فاستدلوا بآيات:

الأُولى: قوله سبحانه: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ....

الآية الأُولى: قوله سبحانه: (وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ).(2)

ص:165


1- مغازي الواقدي: 1/211.
2- النساء: 115.

و هذه الآية هي التي تمسّك بها الشافعي على حجّية الإجماع في رسالته أُصول الفقه.

و وجه الاستدلال: هو انّ اللّه يعد اتّباع غير سبيل المؤمنين نوعاً من مشاقّة اللّه و رسوله، و جعلَ جزاءهما واحداً و هو الوعيد حيث قال: (نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) فإذا كانت مشاقّة اللّه و رسوله حراماً كان اتباعُ غير سبيل المؤمنين حراماً مثله، و لو لم يكن حراماً لما اتحدا في الجزاء، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم فاتباع سبيلهم واجب، إذ لا واسطة بينهما، و يلزم من وجوبِ اتباع سبيلهم كونُ الإجماع حجّة، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.(1)

يلاحظ على الاستدلال بوجوه:

الأوّل: انّ الامعانَ في الآية يُرشدنا إلى أنّ ثمة طائفتين:

الأُولى: من يشاقق الرسول و يعانِدُه و يتّبع سبيل الكافرين فاللّه سبحانه يولّيه ما تولّى و يصله جهنم.

الثانية: من يحبُّ الرسول و يتّبع سبيل المؤمنين فيعامل معه على خلاف الطائفة الأُولى.

ثمّ إنّ سبيل الكافرين عبارة عن عدم الإيمان به و معاندته و محاربته، و سبيل المؤمنين على ضدّ سبيلهم، فهم يؤمنون به و يحبّونه، و ينصرونه في سبيل أهدافه.

فاللّه سبحانه يذمُّ الطائفةَ الأُولى و يمدح الطائفةَ الثانية، و عندئذ أيُّ صلة للآية بحجّية اتفاق المجتهدين في مسألة من المسائل الفرعية؟ و بعبارة أُخرى: يجب علينا إمعان النظر في قوله سبحانه: (وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) بُغية تبيين سبيل المؤمن و الكافر، فسبيل الأوّل هو الإيمان باللّه

ص:166


1- أُصول الفقه الإسلامي: 1/540.

و إطاعة الرسول و مناصرته، و سبيل الآخر هو الكفر باللّه و معاداة الرسول و مشاقته.

و هذا هو المستفاد من الآية و أمّا الزائد على ذلك فالآية ساكتة عنه.

الثاني: انّ الموضوع في الآية مركب من أمرين:

أ. معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فجعل للأمرين جزاءً واحداً و هو إصلاءه النار، و بما انّ معاداة الرسول وحدها كاف في الجزاء، و هذا يكشف عن أنّ المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف عليه، و المراد من اتباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول و معاداته و ليس أمراً ثانياً; فما ذكره المستدل من أنّ سبيل الشخص، هو ما يختاره من القول و الفعل، و إن كان في نفسه صحيحاً، لكنّه أجنبي عن مفاد الآية فانّ المراد منه فيها، مناصرة الرسول و معاضدته.

الثالث: انّ اضفاء الحجّية على اقتفاء سبيل المؤمنين في عصر الرسول لأجل انّ سبيلهم هو سبيل الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (فلا يستفاد منه حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

الثانية: آية الوسط

قال سبحانه: (وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ).(1)

وجه الاستدلال: أنّ الوسطَ من كلّ شيء خياره، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة، فإذا أقدموا على شيء من المحظورات، لما وُصِفُوا بالخيرية،

ص:167


1- البقرة: 143.

فيكون قولهم حجّة.(1)

يلاحظ على الاستدلال: أوّلاً: انّ» الوسط «بمعنى العدل، فالآية تصف الأُمّة الإسلامية بالوسطيّة، إمّا لأنّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المفرّطين في حقّ الأنبياء حيث قتلوا أنبياءهم، و النصارى الغلاة في حقّهم حتى اتّخذوا المسيح إلهاً، أو انّهم أُمّة متوسطة بين اليهود المكبَّة على الدنيا، و النصارى المعرضة عنها لأجل الرهبانية المبتدعة، و أيّ صلة لهذا المعنى بحجّية رأي الأُمّة في مسألة فقهية؟ ثانياً: نفترض انّ الأُمّة الإسلامية خيار الأُمم و أفضلها لكنّه لا يدل على أنّهم عدول لا يعصون، و لا يدل على أنّهم معصومون لا يخطئون، و المطلوب في المقام هو إثبات عصمة الأُمّة، كعصمة القرآن و النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (حتى يكون ما أجمعوا عليه دليلاً قطعيّاً، مثلَ ما ينطِقُ به الكتابُ و النبيّ الأعظم) صلى الله عليه و آله و سلم (و الآية لا تدل على عصمتهم.

و كون خبر العادل حجّة، غير كون الإجماع حجّة، فإنّ الحجّة في الأوّل بمعنى كونه منجِّزاً إنْ أصاب، و معذِّراً إنْ أخطأ، لا كونه مصيباً للواقع على كلّ حال، و هذا بخلاف كون الإجماع حجّة فإنّ معناه بحكم عصمة الأُمّة انّه مصيب للواقع بل نفسه و الحكم قطعي.

ثالثاً: انّ وصف الأُمّة جميعاً، بالخيار و العدل، مجاز قطعاً، فإنّ بين الأُمّة من بلغ من الصلاح و الرشاد إلى درجة يُستدرّ بهم الغمام، و من بلغ في الشقاء أعلى درجته فخضّب الأرض بدماء الصالحين و المؤمنين، و مع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً و عدلاً، و تكون بعامّة أفرادها شهداء على سائر الأُمم، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتُهم في الدنيا فكيف في الآخرة؟!

ص:168


1- أُصول الفقه الإسلامي: 1/540.

يقول الإمام الصادق) عليه السلام (في تفسير الآية:» فإن ظننت انّ اللّه عنى بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحّدين، أ فترى أنّ من لا تجوز شهادتُه في الدنيا على صاع من تمر، تُطلب شهادتُه يوم القيامة و تقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟! «.(1)

و هذا دليل على أنّ الوسطيّة وصف لعدّة منهم، و لمّا كان الموصوفون بالوسطيّة جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم، إلى الجميع نظير قوله سبحانه: (وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) (2)فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

و إذا كانت الوسطيّة لعدّة منهم دون الجميع، يكون هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة و إنّما نسب إلى الجميع مجازاً.

إلى هنا تمّ تحليل أدلّة أهل السنّة على حجّية الإجماع المحصّل.

حجّية الإجماع حسب أُصول الإمامية

أمّا الشيعة فالمعروف عندهم من الطرق هو أمران:

1. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية) قاعدة اللطف (.

2. استكشاف قوله) عليه السلام (بالملازمة العادية) قاعدة الحدس (.

هذان الوجهان هما المعروفان، و أمّا استكشاف قوله عن طريق الدخول فهو يختص بعصر الحضور، و إليك تحليل الوجهين:

ص:169


1- البرهان: 1/160.
2- المائدة: 20.
1. استكشاف قوله) عليه السلام (بقاعدة اللطف

و حاصل تقريره: أن يستكشف عقلاً رأي الإمام) عليه السلام (من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم، و عدم ردّهم عنه، نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على اللّه نصب الحجّة المتصف بالعلم و العصمة، فانّ من أعظم فوائده، حفظ الحقّ و تمييزه من الباطل كي لا يضيع بخفائه و يرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره، و تلقينهم طريقاً يتمكن العلماء و غيرهم من الوصول به إليه و منعهم و تثبيطهم عن الباطل أوّلا، أو ردهم عنه إذا أجمعوا عليه.(1)

و ممن ذهب إلى اعتبار الإجماع من هذه الجهة، الشيخ الكراجكي قال: كثيراً ما يقول المخالفون: إذا كنتم قد وجدتم السبيل إلى علم تحتاجونه من الفتاوى المحفوظة عن الأئمّة المتقدّمين، فقد استغنيتم بذلك عن إمام الزمان، فأجاب إلى فائدة وجوده أيضاً بأنّه يكون من وراء العلماء، و شاهداً لأحوالهم عالماً بأخبارهم، إن غلطوا هداهم، أو نسوا ذكرهم.(2)

و ممن أيّد هذه القاعدة المحقّق الداماد، قال: و من ضروب الانتفاعات أن يكون حافظاً لأحكامهم الدينية على وجه الأرض عند تشعّب آرائهم، و اختلاف أهوائهم، و مستنداً لحجّية إجماع أهل الحلّ و العقد، فانّه عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف لا يتفرّد بقول، بل من الرحمة أن يكون من المجتهدين من يوافق رأيه رأي إمام عصره و صاحب أمره، يطابق قوله قوله.

و قد نقل عن شريف العلماء انّه قال: فانّ وجود الإمام في زمن الغيبة لطف قطعاً، و من ذلك حفظ الشريعة و ردّ المجمعين على الباطل و إرشادهم إلى

ص:170


1- كشف القناع: 114.
2- كشف القناع: 145.

الحقّ.(1)

هذا و قد نقل المحقّق التستري كلمات كثير من العلماء القدامى و المتأخرين و استظهر من عباراتهم أنّها تنطبق على الاعتماد على قاعدة اللطف، و مع ذلك فهي غير تامّة لوجوه:

الأوّل: انّ هنا أُموراً ثلاثة:

1. انّ وجود الإمام لطف إمّا لأنّه العلّة الغائية للكون، فانّ العالم خلق للإنسان الكامل، و الإمام من أظهر مصاديقه، و لو لا الغاية لساخت الأرض بأهلها، و إمّا لأنّ اعتقاد المكلّفين بوجود امام و تجويز إنفاذ حكمه عليهم في كلّ وقت سبب لردعهم عن الفساد و قربهم إلى الصلاح، و عاملاً لتوحيد حكمتهم و استعدادهم لنصرته لدى الظهور.

2. تصرّفه لطف آخر لأنّه بتصرفه يحفظ الشرائع و يصونها عن الزيادة و النقصان، و يبعث الرعية إلى الصلاح، و يصدّها عن الفساد، و يخلق اجواء و ظروفاً ثقافية، تكون الرعية فيها أقرب إلى الطاعة و أبعد عن المعصية إلى غير ذلك من فوائد لتصرفه.

فاللطف الأوّل لازم وجوده لا يعدم، بخلاف اللطف الثاني فهو رهن استعداد في الرعية، و استعدادها لنصرته، و قبول أوامره و امتثال قوله.

3. حرمان الأُمّة من اللطف الثاني مستند إليهم، لا إلى اللّه و لا إلى الإمام، و ذلك لأنّهم إذا لم يقوموا بوظيفتهم و أرادت الأكثرية مخالفته أو اغتياله، يختفي منهم و يكون حرمانهم من ألطافه و تصرفاته مستنداً إلى شقائهم لا إلى اللّه و لا إلى الإمام.(2)

ص:171


1- كشف القناع: 148.
2- كشف المراد: قسم الإلهيات: 183.

و بعبارة أُخرى: إذا كانت الرعيّة هي السبب لاختفائه فهي السبب لحرمانها من فيوضه و إرشاداته التي منها، التعرّف بالأحكام و معرفة صحيحها عن سقيمها، فليس خفاء بعض التكاليف، بأهمّ من سائر ألطافه، فما هو المجوّز لحرمانهم منها، هو المسوّغ له أيضاً، و على هذا، المصالح التي اقتضت غيبة الإمام و أوجبت حرمان الناس من الفيوض المعنوية، هي التي اقتضت حرمان الناس عن معرفة الحكم الصحيح عن الباطل، و ليس هذا النوع من الحرمان بأعلى من سائر أقسامه.

الثاني: انّ المتمسكين باللطف يرون كفاية إظهار الخلاف و لو بلسان واحد من علماء العصر، و لكن لسائل أن يسأل و يقول: أيّة فائدة تترتب على هداية واحد من أفراد الأُمّة و ترك الجميع في التيه و الضلالة، و لو وجب اللطف لكان عليه هداية الجميع أو الأكثرين، لا الفرد الشاذ النادر، نعم لا يتلقى الجيل الآتي ذلك الاتّفاق إجماعاً لوجود المخالف و هذا ليس إلاّ لطفاً نسبياً، لا مطلقاً؟ الثالث: انّ حال الغيبة لا يفترق حال الحضور، فكما يجوز كتمان بعض الحقائق لخوف أو تقيّة أو غير ذلك من المصالح، فهكذا يجوز حال الغيبة خصوصاً في المسائل التي لا تمسّ الحاجة إليها إلاّ نادراً.

و قد صرّح المرتضى في كتاب الشافي بذلك و قال: إنّ أمير المؤمنين) عليه السلام (كان منذ قبض اللّه نبيّه في حال تقية و مداراة و انّه لما أفضى الأمر إليه لم تفارقه التقية.(1)

و من هنا ظهر مدى صحّة كشف قول المعصوم بالإجماع، ففي الإجماع التشرفي، المتحقّق هو ذات المكشوف و هو قول المعصوم، دون الكاشف، و ادعاء الإجماع غطاء عليه، لئلا يكذب و استكشاف قوله) عليه السلام (عن هذا الطريق يختص بالأوحدي من العلماء.

ص:172


1- كشف القناع: 149، نقلاً عن الشافي.

و في الإجماع الدخولي، يوجد الكاشف و المكشوف، لكنّه يختص بزمان الحضور، و لا يعمّ حال الغيبة.

و استكشاف قوله) عليه السلام (عن طريق قاعدة اللطف غير تامّ من جهة عدم الملازمة العقلية بين الاتفاق و قول الإمام. و إن شئت قلت: بين الكاشف و المنكشف، إذ لا دليل على لزوم إظهار الحقّ و إيجاد الخلاف بين العلماء إذا كان الناس بأنفسهم هم السبب لخفائه، فقاعدة اللطف قاعدة تامة في الحدّ الذي أوعزنا إليه، لا في المقام.

2. الإجماع الحدسي أو الملازمة العادية

و المراد منه حدس قول المعصوم عن طريق اتفاق المجمعين بادّعاء الملازمة العادية بين اتّفاقهم و قول المعصوم، فخرج بقولنا:» حدس قول المعصوم «الإجماع التشرّفي و الدخوليّ، لأنّ المدّعي يصل إليه فيهما عن طريق الحس، كما خرج بقوله:» الملازمة العادية «، كشف قول المعصوم عن طريق قاعدة اللطف، فانّها لو تمّت في المقام لدلّت على وجود الملازمة العقلية بين سكوت الإمام و موافقته لما اتّفقوا عليه.

ثمّ إنّه يقرر كشف قول المعصوم بالحدس بوجوه:

1. تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه و إن كان يفيد الظن و لو بأدنى مرتبته إلاّ أنّه يتقوّى بفتوى فقيه ثان، فثالث، إلى أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة بموافقة القطع بالصحة، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

و هذا الوجه كان موجوداً في كلام القدماء، حتى أنّ السيّد المرتضى أشكل

ص:173

عليه بما سنذكره، و ذكر هذا الوجه المحقّق التستري في كشف القناع تحت عنوان الوجه السادس، و نقله المحقّق النائيني و قال: قيل إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.(1)

و أورد عليه المرتضى بما هذا حاصله: نحن إذا جوزنا الخطأ على كلّ واحد فقد جوزنا الخطأ على مجموعهم.

يلاحظ عليه: أنّ حكم المجموع غير حكم الآحاد، و هو أمر واضح، فرجل واحد لا يستطيع أن يرفع الجسم الثقيل، بخلاف المجموع من الرجال.

و الأولى أن يجاب عن الاستدلال بالنحو التالي: و هو وجود الفرق بين الخبر المتواتر، و المقام بوجهين:

الأوّل: انّ كلّ واحد من المخبرين في الخبر المتواتر، يدعي القطع بالرواية مثلاً، فتحصل من ادعاء كلّ فرد القطع بالرؤية، مرتبة في الظن، و يأتي حديث تراكم الظنون المنتهي إلى القطع، بخلاف المقام، فإنّ كلّ فقيه لا يصدر عن القطع، بل أكثرهم يصدر عن الدليل الظني فكلّ يقول: أظن أنّ الحكم كذلك. و من المعلوم انّه لا يحصل من ادعاء الظن مهما تراكم، القطع بالحكم إلاّ نادراً.

الثاني: وجود الفرق بين الخبر المتواتر، و الإجماع المحصّل، فإنّ كلّ مخبر في الأوّل يخبر عن حس، و الاشتباه في الحس قليل، و احتمال تعمّد الكذب مردود بالوثاقة و العدالة، بخلاف المقام فإنّ كلّ واحد من أصحاب الفتوى يخبر عن حدس، و الاشتباه في المسائل العقلية ليس بقليل.

ص:174


1- فوائد الأُصول: 3/150.
2. كشفه عن وجود الدليل المعتبر

إنّ اتّفاق العلماء يكشف عن وجود دليل معتبر وصل إليهم و لم يصل إلينا، و هذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول و قال: يُستكشف قول المعصوم أو عن دليل معتبر، باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام و طريقتهم التحرّز عن القول بالرأي و الاستحسان.

و اعتمد عليه المحقّق النائيني و عدّه من أحسن الوجوه.

و أورد عليه السيد المحقّق الخوئي: انّه يحتمل أن يعتمدوا على قاعدة باطلة أو أصل مردود.(1)

يلاحظ عليه: أنّ دراسة تاريخ الفقه إلى عصر الشيخ يعرب عن أنّ الفقهاء كانوا لا يصدرون إلاّ عن الروايات و النصوص لا على القواعد، و هذا ظاهر لمن راجعَ الفقه الرضوي، و هو إمّا نفس كتاب التكليف للشلمغاني، أو رسالة علي بن بابويه إلى ابنه الصدوق، أو راجعَ كتابي المقنع و الهداية للصدوق، و المقنعة للشيخ المفيد، و النهاية للطوسي، و هذه الكتب كلّها فقه منصوص مقابل الفقه المستنبط، نعم لا يمكن الاعتماد على انتصار المرتضى و ناصرياته، و لا على كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان المتوفّى عام 260 ه لاعتمادهما على الأُصول و القواعد، و لا على كتاب المبسوط للشيخ الطوسي، لأنّ أكثرها فقه مستنبط، استخرجه الشيخ من القواعد.

نعم يرد على هذا الوجه ما ذكره السيد الأُستاذ: من أنّه من البعيد أن يقف الكليني و الصدوق و المفيد و الشيخ و من بعدهما على رواية متقنة دالّة على المقصود، و أفتوا بمضمونه، و مع ذلك لا يذكرونه في جوامعهم.(2)

ص:175


1- سيوافيك تفصيله عند البحث عن الشهرة الفتوائية فانتظر.
2- تهذيب الأُصول:: 2/100.

و ما أوردنا عليه في الدورة السابقة من أنّ أصحاب الكتب الأربعة لم يحيطوا بجميع الأخبار، بشهادة أنّ الشيخ الحرّ العاملي استدرك عليهم بتأليف كتاب وسائل الشيعة، ليس بتام، إذ ليس الكلام في الإحاطة و عدمها، بل الكلام في أنّه من البعيد أن يقف أصحاب الجوامع على خبر، و يفتوا بمضمونه، و لا ينقلوه، و أين هذا من إحاطتهم بجميع الأخبار و عدمها؟

3. كشفه عن شهرة الحكم عند أصحاب الأئمّة

إنّ اتّفاق المرءوسين المنقادين على شيء يكشف عن رضا الرئيس، فإذا رأينا اتّفاق موظفي دائرة على تكريم شخص خاص، يستكشف، أنّ هذا بإشارة منه خصوصاً إذا تكرر التكريم.(1)

و هذا أمر جميل إذا كانت الصلة بين الرئيس و المرءوس موجودة كما في عصر الحضور، و لذلك كان أصحاب أئمّة أهل البيت يتركون ما سمعوه من الإمام شفهياً، و يأخذون بقول ما اتّفق عليه أصحابه، و قد استفتى عبد اللّه بن محرز أبا عبد اللّه عن رجل مات و ترك ابنة و قال: إنّ لي عصبة بالشام، فأفتى الإمام بدفع نصفها إليها و النصف الآخر إلى العصبة، فلمّا قدم الكوفة أخبر أصحاب الإمام فلمّا سمعوا قالوا: اتقاك و المال كلّه للابنة.(2)

و على هذا فالشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب في عصر الغيبة يكشف عن كون الحكم مشهوراً بين الأصحاب في زمان الأئمّة، و يدل على ذلك أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة، و لعلّ قسماً من أحكام الفرائض من هذا القبيل، كان السيد المحقّق البروجردي يقول: إنّ في الفقه مئات

ص:176


1- فوائد الأُصول: 3/149; درر الأُصول: 2/372.
2- الوسائل: 17، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.

من المسائل ليس لها دليل في الكتاب و السنّة و لكنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول، و هذا يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة و معروفيته لدى الأئمّة.

و هذا هو الذي اعتمد عليه السيد الإمام الخميني و لعلّه الأظهر.

تمّ الكلام عن الإجماع المحصّل، و حان حين البحث عن الإجماع المنقول.

المقام الثاني: في حجّية الإجماع المنقول
اشارة

إذا نُقِل الإجماعُ بخبر الثقة فهل هو حجّة للمنقول إليه أو لا؟ فيقع الكلام تارة في الثبوت، أي مقدار دلالة لفظ الناقل، و أُخرى في الإثبات أي حجّية نقله. و إليك الكلام فيهما:

الأوّل: في بيان مقدار الدلالة

يختلف تعبير الناقل في مقام النقل و بذلك يختلف مدلوله حسب نقل السبب أو المسبب أو كليهما، و إليك صوره:

1. أن ينقل السبب و المسبب كليهما عن حس، كما في الإجماع الدخولي.

2. أن ينقل السبب عن حس، و المسبب عن حدس، مثالهما: إذا قال أجمع جميع الأُمّة من المعصوم و غيره و أمّا كون المسبب منقولاً بالحس أو بالحدس فإنّما يعلم من مسلك ناقل الإجماع، و الغالب هو الثاني.

3. أن ينقل السبب عن حس مجرّداً عن المسبب، إمّا تصريحاً كما إذا قال: إجماعاً من غير المعصوم، أو انصرافاً كما إذا قال: أجمع عليه الأصحاب، لكن يكون ملازماً مع المسبب عادة على المسالك الثلاثة ) تراكم الظنون، أو الكشف عن الخبر، أو عن اشتهار الحكم بين أصحاب الأئمّة (.

4. إذا نقل السبب عن حس، لكن لم يكن ملازماً لقول المعصوم، كما إذا

ص:177

وقف على أقوال محدودة فزعم اتّفاق الباقين معهم عن حدس.

5. إذا كان نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس، كما إذا استكشف رأيهم من اتّفاقهم على قاعدة، يكون المورد من مصاديقه، و سيوافيك مثاله عند دراسة الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية، هذه هي الصور المتصورة في المقام، و لا طريق إلى استكشاف واحدة منها إلاّ لفظ الناقل، فتارة يكون صريحاً فيها و أُخرى ظاهراً و ثالثة مجملاً.

الموضع الثاني: في بيان ما هو الحجّة منه

إذا عرفت اختلاف ألفاظ الناقلين للإجماع في مقام الحكاية، فقبل بيان أحكام الصور يجب التنبيه على أمر و هو: انّه لا إشكال في حجّية القسم الأوّل، كما سيأتي إنّما الكلام في حجّية القسم الثاني، حيث ينقل المسبب عن حدس، فهل تشمله الأدلّة؟ إنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء، و هو مختص بما إذا كان المخبر به أمراً حسيّاً أو كانت مقدماته القريبة أُموراً حسيّة، كالاخبار عن العدالة النفسانية إذا شاهد منه التورّع عن المعاصي، أو الإخبار عن الشجاعة، إذا شاهد قتاله مع الأبطال في ساحة القتال، و أمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسياً محضاً و لم تكن مقدماته قريبة من الحس، فليست هناك سيرة عقلائية بلزوم الأخذ بخبره، إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى بيان أحكامه.

أمّا الصورة الأُولى: أي إذا نقل السبب و المسبب عن حس، فهو و إن كان يتضمن قول المعصوم، لكنّه إنّما ينفع في عصر الحضور لا في زمان الغيبة، فانّ أساس هذا النوع من الادّعاء يرجع إلى الإجماع الدخولي المختص بعصر الحضور.

أمّا الصورة الثانية: إذا كان نقل السبب عن حس، لكن المسبب عن

ص:178

حدس معتمداً على القاعدة العقلية أعني قاعدة اللطف، فلا شكّ أنّه ليس بحجّة للمنقول إليه، لما عرفت من اختصاص حجّية خبر الواحد بما إذا كان المخبر به أو مقدماته القريبة أمراً حسيّاً، و ليس المقام كذلك، لأنّ استكشاف قول المعصوم من الاتّفاق مبني على الحدس و الاستدلال.

أمّا الصورة الثالثة: إذا كان نقل السبب عن حس، الملازم لقول المعصوم عند المنقول إليه ملازمة عادية أو اتّفاقية، فلا شكّ في كونه حجّة، إذ لا فرق بين نقل قول المعصوم بالدلالة التضمنية كما في الصورتين الأُولتين أو بالالتزامية، كما في المقام، إلاّ أنّ الكلام في وجود الصغرى و انّ الناقل تتبع أقوال العلماء إلى حدّ يلازم قول المعصوم، حتى يكون ملازماً لقوله عادة، و سيوافيك تساهل نقلة الإجماع في نقله.

أمّا الصورة الرابعة: إذا نقل السبب عن حس لا يكون ملازماً لقول المعصوم، كما إذا وقف على أقوال عدّة من العلماء فأذعن باتّفاق الكلّ عن حدس و ادّعى الإجماع، فليس بحجّة لعدم الملازمة. اللّهمّ إلاّ أن يضيف المنقول إليه، أقوال الآخرين حتى يحصل عنده السبب التامّ الكاشف عن قول المعصوم.

أمّا الصورة الخامسة: إذا نقل السبب فضلاً عن المسبب عن حدس، كما إذا حاول استكشاف أقوال العلماء من اتّفاقهم على القاعدة، فليس بحجّة عند الناقل فضلاً عن المنقول إليه.

فتلخص من هذا البحث، عدم حجّية الإجماع المنقول إلاّ في الصورة الأُولى، و اختصاصه بعصر الحضور، و الصورة الثالثة، لكنّه قليل الوجود، لأنّ التساهل في نقل الإجماع قد خيّم على أكثر الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية و قلّما يتّفق للفقيه أنْ يتبع كلمات الأوائل و الأواخر حتى تجتمع عنده أقوال الفقهاء إلى حدّ يلازم عادة قول المعصوم.

ص:179

و لأجل إثبات وجود التساهل في نوع الإجماعات المنقولة نذكر بعض ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام و إنْ أهمله المحقّق الخراساني و ما يرتبط بتعارض الإجماعات المنقولة و ثبوت التواتر بالنقل و ذلك في ضمن أُمور.

الأوّل: تقييم الإجماعات الواردة في كتب القدماء

قد عرفت أنّ ما هو المفيد من نقل السبب ما يكون ملازماً عادياً لقول الإمام بأحد الوجوه الثلاثة، إنّما الكلام في انطباقه على الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة الذين ملأت كتبهم دعوى الإجماع على المسائل المعنونة فيها كالمفيد، و المرتضى، و الطوسي، و الحلبي صاحب الغنية، و الحلّي صاحب السرائر قدّس اللّه أسرارهم.

إنّ الامعان في كتبهم يثبت أنّ ادّعاءهم الإجماع لم يكن على أساس تتبع الأقوال في كتب الأصحاب، بل كانوا يعتمدون في استنباط فتوى الكلّ من اتّفاقهم على العمل بالأُمور التالية:

1. وجود الأصل العملي في المسألة مع افتراض عدم الدليل.

2. عموم دليل في المسألة مع عدم وجدان المخصص.

3. وجود خبر معتبر في المسألة عند عدم وجدان المعارض.

4. اتّفاقهم على مسألة أُصولية، يستلزم القولُ بها، الحكمَ في المسألة المفروضة.

و غير ذلك من الأُمور التي صارت سبباً لنسبة الحكم إلى الأصحاب و ادّعائهم الإجماع.

و الشاهد على ذلك أُمور:

ص:180

أ: وجود الإجماعات المتعارضة من شخص واحد، أو من معاصرين أو متقاربي العصر، أو الرجوع عن الفتوى الذي ادّعى عليه الإجماع.

ب: دعوى الإجماع في المسائل غير المعنونة في كلام من تقدّم على المدّعي.

ج: دعوى الإجماع في المسائل التي اشتهر خلافها في زمان المدّعي و بعده.

كلّ ذلك يشهد على أنّ الأساس لدعوى الإجماع هو أحد الأُمور الآنفة الذكر.

و قد نبه بما ذكرنا جمع من الأصحاب.

1. الشهيد الأوّل، فانّه أوّل من أوّل الإجماعات الواردة في كلمات الأصحاب بوجوه مذكورة في المعالم، منها إرادة الإجماع على نقل الرواية و تدوينها في كتب الحديث.

2. العلاّمة المجلسي في كتاب الصلاة من البحار، فانّه بعد ما ذكر معنى الإجماع و وجه حجّيته عند الأصحاب و رأى انّه لا ينطبق على المسائل، التي ادّي عليها الإجماع قال: إنّ الأصحاب لما رجعوا إلى الفقه نسوا ما ذكروه في الأُصول، فمصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأُصول.(1)

3. الشيخ الأعظم الأنصاري، فقد أثبت أنّ الإجماعات الواردة في كتب الأقطاب الخمسة، ليس على أساس التتبع في كلمات الأصحاب، بل على أساس الاتّفاق على دليل المسألة، و لما وقف أنّ ذلك منهم يوهم التدليس اعتذر بأنّه يندفع بأدنى تتبع في الفقه.

و لأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذا النوع من ادّعاء الإجماع نأتي بما استشهد به الشيخ الأعظم حسب تسلسل التاريخ.

ص:181


1- نقله الشيخ في الفرائد: 57، ط رحمة اللّه.
1. المفيد (336 413 ه (

سئل المفيد عن الدليل على أنّ المطلقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال: الدلالة على ذلك كتاب اللّه عزّ و جلّ، و سنّة نبيّه، و استدل من الكتاب بقوله: (اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ ) أي الطلاق الذي يجوز للزوج الرجوع مرّتان، و المرتان لا تكون مرّة واحدة، و في السنّة بقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» و ما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما لم يوافقه فاطرحوه «و أمّا إجماع الأُمّة فهم منطبقون على أنّ ما خالف الكتاب و السنّة فهو باطل.(1)

2. السيد المرتضى (355 436 ه (

قال المرتضى من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، و نقل المحقق أنّه نسب ذلك إلى مذهبنا، لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل، و ليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات(2)، فقد تمسك بأصل البراءة و ادّعى الإجماع، مع أنّ المورد من موارد التمسّك باستصحاب النجاسة بعد الغسل بالخلّ مثلاً.

3. الطوسي (385 460 ه (

ذكر الشيخ الطوسي انّه إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل بعد القتل أنّه يسقط القود، و تكون الدية في بيت المال، قال: دليلنا، إجماع الفرقة، فانّهم رووا أنّ ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين، فعلّل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب.(3)

ص:182


1- العيون و المناظرات: 176 طبع مؤتمر الشيخ المفيد.
2- المعتبر: 831/82.
3- الخلاف: ج 6، كتاب الشهادات: 289 برقم 36.
4. ابن زهرة (511 585 ه (

قد أكثر ابن زهرة من الاستدلال بالإجماع في المسائل التي لا يساعد دعوى الإجماع، و قد ذكر في أُصول الغنية ما يكون مبرِّراً لهذا النوع من دعوى الإجماع(1).

5. ابن إدريس الحلي (543 598 ه (

قال ابن إدريس في السرائر: كلّ صلاة فريضة فاتت إمّا لنسيان أو غيره من الأسباب فيجب قضاؤها في حال الذكر من غير توان في سائر الأوقات ثمّ قال: و لنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال على من منع من صحة المضايقة بالاعتلال، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات و أقصى النهايات(2). و قد نقل انّه استدل على القول بالمضايقة بالإجماع، بحجّة أنّ الأصحاب إلاّ نفراً يسيراً من الخراسانيين ذكروا أخبارها في كتبهم، كابن بابويه و الأشعريين، و القميين....

قال الحلي: تجب إخراج الفطرة سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ... للإجماع، و العموم، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا.(3)

و ردّه المحقّق بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك قال: فانّ الظاهر أنّ الحلي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة على وجوب فطرة الزوجة، متخيّلاً أنّ الحكم معلّق على الزوجية من حيث هي زوجته، و لم يتفطن أنّ الحكم من حيث العيلولة و وجوب الإنفاق.(4)

هذه نماذج تثبت انّ ادّعاءهم الإجماع كان على أساس الاتّفاق على الأصل أو القاعدة أو نقل الخبر، و مع ذلك لا يمكن الاعتماد على الإجماعات الواردة في كلامهم.

ص:183


1- الغنية: 1/371 قسم أُصول الفقه.
2- السرائر: 2731/272.
3- السرائر: 1/466.
4- المعتبر: 601 602 بتلخيص.
الثاني: تقييم الإجماعات الواردة في سائر الكتب

هناك من يدعي الإجماع على أساس التتبع في كلمات الفقهاء و من هذه الطبقة:

1. المحقّق (602 676 ه (، و العلاّمة الحلّي (648 726 ه (، و الشهيد الأوّل (733 786 ه (، و ابن فهد الحلي (842757 ه (، و الشهيد الثاني (911 966 ه (، و الأردبيلي ) المتوفّى 993 ه (.

و صاحب الحدائق) المتوفّى 1186 ه (و صاحب مفتاح الكرامة) المتوفّى 1228 ه (و صاحب الرياض (1159 1231 ه (و صاحب الجواهر (1200 1266 ه (فانّ كتبهم تدل بوضوح على استنادهم إلى التتبع و الوجدان في الكتب، و مع ذلك ليس الجميع على درجة واحدة في التتبع و الدّقة، فلا يمكن الاعتماد على نقولهم إلاّ بعد تبيين الأُمور التالية:

أ: ملاحظة المصادر التي رجع إليها في زمان التأليف.

ب: ملاحظة الكتاب المنقول فيه الإجماع.

ج: ملاحظة لفظ الناقل.

د: ملاحظة نفس المسألة.

ه: ملاحظة حال الناقل في زمان التأليف.

أمّا الأوّل: فانّ نَقَلة الإجماع مختلفة، فربّ ناقل يكتفي بالكتب الموجودة عند التأليف، و منهم من يتوسع في المصادر.

أمّا الثاني: فربّ كتاب وضع على التتبع، ككتاب مفتاح الكرامة، و ربّ كتاب لم يوضع على ذلك.

ص:184

و أمّا الثالث: فربّما يدعي الإجماع و الاتّفاق، و أُخرى يدّعي عدم وجدان الخلاف.

و أمّا الرابع: فربّما يدّعي الإجماع في المسائل المعنونة بين القدماء، و أُخرى يدّعي الإجماع في الفروع التفريعية بين المتأخرين.

و أمّا الخامس: فانّ حال الناقل في زمان تأليف الكتاب مختلفة، فربّ كتاب ألّفه الفقيه في أوان شبابه أو أواسط اشتغاله بالفقه، و ربّ كتاب ألّفه في أُخريات عمره بعد ما غامر في بحار الفقه.

فلو كان المحصّل بعد رعاية هذه الأُمور ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فهو، و إلاّ فعليه تحصيل أمارات أُخرى ليحصل بالمجموع القطع بقول الإمام.

بقيت أُمور ثلاثة

الثالث: حكم الإجماعات المنقولة المتعارضة

إذا تعارضت الإجماعات المنقولة، فهل التعارض يرجع إلى السبب أي اتّفاق العلماء، أو يرجع إلى المسبب؟! الصحيح انّه يرجع إلى المسبب، إذ لا مانع من صدق كلا الادّعاءين بعد عدم ابتناء الإجماع على اتّفاق الجلّ فضلاً عن الكلّ، و لذلك لا يثبت المسبب.

و أمّا ثبوت السبب، أي الاتّفاق الملازم لقول المعصوم فلا يثبت بواحد منهما، إلاّ إذا كان في أحد النقلين خصوصية موجبة للقطع بالموافقة كأن ينقل أحدهما من القدماء الخبراء بفتوى الأئمّة، و لا يمكن الوقوف على الخصوصية إذا نقل بوجه الإجمال كما هو المفروض إلاّ إذا نقل أسماء المفتين على وجه التفصيل.

ص:185

فخرجنا بهذه النتيجة: أنّ الإجماعات المنقولة المتعارضة غير مفيدة بالنسبة إلى المسبب، للتعارض، و أمّا بالنسبة إلى السبب، فهو و إن كان مفيداً في إثبات السبب، أي فتوى جماعة، لكنّها غير مؤثرة في اقتناص قول الإمام لعدم الملازمة بين فتوى جماعة و قول المعصوم، إلاّ إذا كان في أحد النقلين خصوصية فهو لا يعلم إلاّ ذكر أسماء المفتين تفصيلاً.

الرابع: نقل التواتر بخبر الواحد

الخبر المتواتر: عبارة عن إخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، و يؤمن من خطئهم.

فإذا نقل الشيخ الطوسي و قال: ثبت بالتواتر» انّ المرأة لا ترث من العقار «. فيقع الكلام تارة في ثبوت المسبب، أي قول المعصوم; و أُخرى في ثبوت صفة التواتر إذا ترتب عليه الأثر، كما إذا نذر أن يحفظ كلّ خبر متواتر أو يكتبه، و الثاني هو الذي أسماه المحقّق الخراساني بالسبب فإليك البيان:

أمّا المسبب، أي قول المعصوم، فلا، إذ غاية ما ثبت بخبر الواحد أنّ جماعة أخبروا بكذا، و ليس قول المعصوم من لوازم إخبار الجماعة الثابتة بخبر الواحد.

و إن شئت قلت: إنّ المخبر به من لوازم التواتر الواقعي لا التواتر الثابت عند الناقل، و الثابت بالخبر الواحد هو الثاني لا الأوّل.

نعم لو أخبر بالعدد، على وجه يكون ملازماً للمخبر به لو سمع منهم بلا واسطة كأن يقول: أخبر مائة شخص أنّ الإمام قال:» لا ترث المرأة من العقار «كان اللازم من قبوله، الحكمَ بوجود إخبار الجماعة، فيثبت المسبب و هو قول الإمام، و هذا هو المستفاد من كلام الشيخ، و إليه يشير المحقّق الخراساني بقوله: و انّه من حيث المسبب لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال

ص:186

بمقدار) مائة شخص (يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر لو علم به.

هذا كلّه حول المسبب.

و أمّا من حيث السبب، أي ثبوت صفة التواتر، و ترتيب أثره عليه كما إذا نذر حفظ كلّ خبر متواتر أو تدوينه، فيختلف حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الموضوع ما ثبت بالتواتر إجمالاً، و لو عند الناقل، فيترتب عليه الأثر، و إلاّ فلو كان الموضوع ما تواتر عند المنقول إليه فلا يترتب عليه الأثر.

نعم أخبرنا بأسماء المخبرين على التفصيل، و كان دون التواتر فلو ضَمَّ ما توصل المنقول إليه بالتتبّع و بلغ حدّ التواتر، كان عليه ترتّب أثر التواتر حتى و لو كان الموضوع هو التواتر عند المنقول إليه.

الخامس: صحّة القراءة في الصلاة بالقراءات السبع

قد استفاض الحديث عن أئمّة أهل البيت بأنّ القرآن واحد نزل من عند واحد(1)، و لم يكن للنبي إلاّ قراءة واحدة و هي القراءة الدارجة، التي رواها حفص عن عاصم عن علي) عليه السلام (، لكن العلاّمة و الشهيد ادعيا تواتر القراءات السبع، بل القراءات الثلاث الشاذّة، و على هذا فهل يجوز القراءة في الصلاة بغير القراءة المعروفة أو لا؟ يختلف الحكم جوازاً و منعاً حسب اختلاف الموضوع.

فلو كان الحكم منوطاً بالقرآن المتواتر في الجملة و لو عند الناقل كالعلاّمة و الشهيد، يجوز القراءة بكلّ من القراءات، و إن كان الموضوع هو القرآن المتواتر و الثابت لدى المصلي أو عند مجتهده فلا يُجدي إخبار العلامة و الشهيد بتواتر تلك القراءات إلاّ إذا ثبت تواتره عند المنقول إليه أو مقلّده.

ص:187


1- الكافي: 2/630، كتاب فضل القرآن، برقم 12 13.
الحجج الشرعيّة 4 الشهرة الفتوائية
اشارة

تنقسم الشهرة إلى روائية، و عمليّة، و فتوائية.

الشهرة الروائية عبارة عن: اشتهار نقل الرواية بين الرواة و أرباب الحديث و نقلها في الكتب، سواء عمل بها الفقهاء أم لم يعملوا.

و الشهرة العملية عبارة عن: اشتهار العمل بالرواية و الاستناد إليها في مقام الفتوى، كاستناد الفقهاء على النبوي:» على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «أو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الناس مسلّطون على أموالهم «و إن لم يكونا منقولين في جوامعنا الحديثية، فكيف برواية نقلها الرواة و أرباب الحديث و استند إليها الفقهاء في مقام الفتوى، و سيوافيك أنّ الشهرة العمليّة جابرة لضعف الرواية، كما أنّ الإعراض عنها كاسر لصحّتها، و النسبة بين الشهرتين عموم و خصوص من وجه كما هو واضح.

و الشهرة الفتوائية عبارة عن: مجرّد اشتهار الفتوى في مسألة، سواء لم تكن في المسألة رواية، أو كانت على خلاف الفتوى، أو على وفقها و لكن لم يكن الإفتاء مستنداً إليها، و لا تكون مثلها جابرة لضعف سند الرواية إلاّ إذا علم الاستناد، و لا كاسرة إلاّ إذا علم الإعراض.

فيقع الكلام في حجّية نفس الشهرة الفتوائية من غير فرق بين الشهرة الفتوائية بين القدماء أو بين المتأخرين.

و استدل على الحجّية بوجوه ضعيفة ذكرها الشيخ الأعظم و المحقّق الخراساني.

ص:188

الأوّل: الاستدلال بالأَولوية القطعية

إنّ المناط في حجّية خبر الواحد، كونه مفيداً للظن بالحكم، و هو موجود في الشهرة الفتوائية بوجه أقوى. و أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. القطع بكون المناط هو إفادته الظن غير حاصل، غاية الأمر الظن بكون المناط هو إفادته الظن فتكون الأَولوية ظنية لا قطعية.

2. القطع بأنّه ليس بمناط، لكونه حجّة سواء أفاد الظن أم لا، و الشاهد عليه حجّيته و إن لم يفد الظن الشخصي.

فإن قلت: الخبر الواحد حجّة لإفادته الظن النوعي و الملاك هو هذا.

قلت: لو كان هذا هو المناط يهدم الاستدلال، لأنّ الشهرة الفتوائية لو كانت حجّة فإنّما هي حجّة من باب الظن الشخصي فيكون المناطان متغايرين.

الثاني: تعليل آية النبأ

علل سبحانه المنع عن العمل بخبر الفاسق أنّ الاعتماد على قوله: يعد جهالة بمعنى السفاهة، و الاعتماد على الشهرة ليست كذلك.

يلاحظ عليه: أنّ منطوق الآية هو عدم جواز العمل بكلّ ما يعد سفاهة، لا جواز العمل بكلّ ما لا يعد كما هو واضح، و إلاّ يكون التعليل حجّة لكلّ ظنّ لم يكن العمل به سفاهة.

الثالث: دلالة المقبولة
اشارة

سأل عمر بن حنظلة أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن اختلاف القضاة؟ فقال:» الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما

ص:189

يحكم به الآخر «.

قال: فقلت: فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه، قال: فقال:

» ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه. إنّما الأُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيُتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه إلى اللّه و إلى رسوله «.(1)

هذه هي المقبولة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول، و لكن المشايخ العظام لم يعطوا للرواية حقّها، مثلاً انّ المحقّق الخراساني ضعّف الاستدلال بالرواية بأنّ المراد من الموصول في قوله:» ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا «هو الرواية فلا صلة لها بالشهرة الفتوائية، و المحقّق النائيني، و إنْ ذكر وجه الاستدلال بوجه مطلوب، لكن أورد عليه بما لا يرد عليه.

و بما انّ المورد من المباحث الهامّة في الفقه، نوضح مفاد الرواية، و سيوافيك انّه يستفاد منها أُمور أربعة:

1. انّ الشهرة العملية ليست من المرجّحات، بل من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

2. انّ الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية إذا علم الاستناد إليها في الفتوى.

3. انّ الشهرة العملية على خلاف الرواية كاسرة لصحّتها إذا أُحرز الإعراض.

ص:190


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1; ثمّ قال: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال (عليه السلام):» ينظر إلى ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامة فيؤخذ به «. و ليكن الذيل ببالك يفيد في المستقبل.

4. انّ الشهرة الفتوائية في الفقه المنصوص بين القدماء حجّة في الفقه، نعم ليس للشهرة الفتوائية قيمة في المسائل التفريعية بين المتأخرين، و إليك بيان الأُمور الأربعة.

إنّ استفادة الأُمور المذكورة تتوقف على بيان أُمور ثلاثة:

1. انّ المراد من» المجمع عليه «ليس ما اتّفق الكلّ على روايته، بل المراد ما اشتهرتْ روايتُه بين الأصحاب، في مقابل الشاذّ الذي ليس كذلك، و يدل على ذلك قول الإمام) عليه السلام (:» يُترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك «.

2. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب، هو اشتهارها مع العمل بها و الإفتاء بمضمونها، إذ هو الذي يصلح لأن يكون ممّا لا ريب فيه، و إلاّ فلو رووها و لم يعملوا بمضمونها، بل أفتوا على خلافه، ففي مثلها كلّ الريب.

و أمّا إفادة المحقّق الخراساني من أنّ المراد من» ما «الموصولة هو الرواية و لا يعم الإفتاء و إن كان صحيحاً، لكن المراد الرواية التي عملوا بها و أفتوا بمضمونها، و أمّا حجّية مجرّد الإفتاء فسيوافيك.

3. المراد كون المجمع عليه» ممّا لا ريب «هو نفي الريب على وجه الإطلاق كقوله سبحانه: (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ )(1)، بشهادة أنّ النكرة وقعت في سياق النفي و هو يفيد العموم، و إذا كانت الرواية المشهورة المعمول بها ممّا لا ريب فيه، تكون الرواية الشاذة المعرض عنها، ممّا لا ريب في بطلانها، و ذلك بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية، فانّه إذا كان أحد طرفي القضية ممّا لا ريب في صحّته و قطعَ الإنسان بصحّته يكون الطرف الآخر مقطوع البطلان، و إلاّ يلزم اجتماع اليقين بالصحّة، مع الشكّ فيها، مثلاً إذا كانت عدالة زيد ممّا لا ريب فيها، يكون مخالفها فسقه ممّا لا ريب في بطلانه.

ص:191


1- البقرة: 2.

و من ذلك يعلم أنّ المشهور داخل في القسم الأوّل من التثليث الوارد في الحديث أيْ بيّن الرشد، و الخبر الشاذ داخلاً في القسم الثاني أيْ بيّن الغي، لا في القسم الثالث أيْ مشكل يرد حكمه إلى اللّه و رسوله.

إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فاعلم أنّه يترتّب عليه أُمور أربعة:

1. الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجّة

إنّ الأُصوليين يذكرون الشهرة العمليّة من المرجّحات، و معنى ذلك أنّ المشهور المفتى به، و الشاذ المعرض عنه، حجّتان لكن تُرجّح إحداهما على الأُخرى بالشهرة، غير أنّ كونها مرجّحة مبنيّة على افتراض حجّية كلا الخبرين في حدّ نفسهما، لو لا التعارض، و لكن المقام ليس كذلك، لأنّ الشاذ إذا كان ممّا لا ريب في بطلانه، و كان داخلاً في بيّن الغي، لا يكون حجّة سواء كان هناك معارض أو لا، و في صورة المعارضة، يكون الحجّة هو المجمع عليه، المفتى به، دون الشاذ، و على ذلك تكون الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجة، لا من مرجّحاتهما.

2. الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية

إنّ مورد المقبولة فيما إذا كانت الرواية المشهورة المفتى بها صحيحة سنداً، و قد عرفت أنّها تقدّم على الشاذ المعرض عنه، و إن كان صحيح السند.

و لو افترضنا، كون المشهورة ضعيفة السند سواء أ كان له معارض شاذ أم لا فهل عمل المشهور، يجبر ضعف السند؟ الظاهر ذلك، لما سيوافيك من أنّ ما هو الحجّة في باب الروايات، ليس قول الثقة، بل الخبر الموثوق بصدوره، و حجّية قول الثقة لأجل كون وثاقته أمارة على صدوره من الإمام، و لا شكّ انّ عمل

ص:192

الأكابر بالرواية في عصر الحضور أو بعده في عصر الغيبة يورث الوثوق بصدورها.

و هذا المقدار كاف في شمول دليل حجّية خبر الواحد له، نعم المراد هو عمل القدماء بالرواية، المورث للوثوق بصدور الرواية، و لا عبرة بعمل المتأخرين، إذ لا يتميزون علينا بشيء.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ممّن لا يرى عمل المشهور جابراً لضعف الرواية، فخالف في المقام و اعترض بأمرين: أحدهما يرجع إلى الكبرى و هي كون العمل جابراً، و الآخر إلى الصغرى و هي استناد المشهور إلى الخبر.

أمّا الأوّل: فقال ما هذا حاصله: إذا كان الخبر الضعيف غير حجّة في نفسه على الفرض، و كذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض، يكون المقام من قبيل انضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة فلا يوجب الحجّة، فانّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ أساس منع الكبرى هو تصور انّ الموضوع للحجّية هو قول الثقة فرتّب عليه انّ عمل المشهور لا يثبت وثاقة الراوي، و لكن الأساس ممنوع، لأنّ ما هو الحجّة حسب سيرة العقلاء هو الخبر الموثوق بصدوره، و حجّية قول الثقة لأجل أنّ وثاقته أمارة على صدق الخبر و صدوره من الإمام، و منه يظهر ضعف ما أفاده، من أنّ كلا من الخبر و الشهرة الفتوائية ليس بحجّة، فأشبه بضم العدم إلى العدم، و ذلك لأنّ كلّ واحد و إن لم يكن مورِثاً للوثوق بالصدور، لكن بعد ضمِّ أحدهما إلى الآخر، يحصل الوثوق المؤكّد كما لا يخفى.

أمّا الثاني: أي إحراز استناد الفقهاء إلى الرواية فقد قال: إنّه أشكل، و ذلك لأنّ القدماء لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف. و المتعرّض للاستدلال هو الشيخ الطوسي دون من تقدّمه.(2)

ص:193


1- مصباح الأُصول: 2/202.
2- مصباح الأُصول: 2/202.

يلاحظ عليه: أنّ للقدماء لونين من التأليف: أحدهما بصورة الفقه المنصوص، و الآخر بصورة الفقه المستنبط، و كان أساس الأوّل هو تجريد المتون عن الأسانيد و الإفتاء بنفس الرواية أو بمضمون قريب منه، و إذا تضافرت فتاوى تلك الطبقة في مسألة على عبارة موجودة في الخبر الضعيف يستكشف اعتمادهم في مقام الإفتاء على ذاك الحديث، و من هذا القسم، كتاب الشرائع لعلي بن بابويه) المتوفّى عام 329 ه (و كتاب المقنع و الهداية لولده الصدوق) المتوفّى عام 381 ه (، و المقنعة للمفيد) المتوفّى 413 ه (و النهاية للشيخ الطوسي) المتوفّى 460 ه (و كتاب التكليف للشلمغاني) المتوفّى 323 ه (و لعلّ هو نفس كتاب فقه الرضا، فإنّ تضافر هؤلاء على الإفتاء بنص الحديث أو بمضمونه، يورث الاطمئنان بوثوقهم بالحديث من طرق مختلفة.

و أمّا اللون الآخر من التأليف فهو خارج عن محطّ بحثنا، و منه كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان، و كتب ابن جنيد، و الناصريات و الانتصار للسيد، و المبسوط للشيخ.

هذا كلّه حول الأمر الثاني كون الشهرة الفتوائية جابراً لضعف الرواية و إليك الكلام في الأمر الثالث.

3. إعراض المشهور عن الرواية كاسر لحجّيتها

إنّ إعراض المشهور عن الرواية مسقط لها عن الحجّية و إن كان السند صحيحاً سواء كان في مقابله خبر معارض أو لا، لكونه مصداق الشاذ النادر الذي لا ريب في بطلانه، و مورد المقبولة و إن كان هو صورة التعارض، و لكن المورد ليس بمخصص، و الموضوع هو الشذوذ و عدم اعتداد الأصحاب بها، من غير فرق بين وجود معارض له أو لا.

ص:194

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي اعترض عليه كما اعترض على الأمر السابق و قال: إذا كان الخبر الصحيح أو الموثق مورداً لقيام السيرة و مشمولاً لإطلاق الأدلّة اللفظية فلا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور عنه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الدليل الوحيد على حجّية الخبر الواحد هو السيرة العقلائية، و أمّا غيرها فإمّا إرشاد إليها أو بيان للصغرى أي أنّ الراوي ثقة، ففي مثل المقام الذي تسالم الأكابر على الإفتاء على خلاف الحديث مع كونه بمرأى و مسمع منهم يتوقف العقلاء من العمل به.

أضف إلى ذلك أنّ المستفاد من المقبولة أنّ الخبر الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، و معه كيف يمكن الاعتماد عليه؟!

4. الشهرة الفتوائية المجرّدة عن الرواية حجّة

هذا هو بيت القصيد و الغرض المهم الذي عقدنا الباب لبيانه فنقول:

المسائل المشهورة بين الفقهاء على قسمين:

1. المسائل التفريعية أو الفقه المستنبط

و هي المسائل التي لم يرد فيها نصّ و إنّما استنبط حكمها الفقهاء من القواعد و الضوابط، كالشهرة المتحققة في جواز الصلاة في اللباس المشكوك، فانّه من الفقه المستنبط، و الشهرة حصلت من عصر السيد المجدد الشيرازي، بعد ما كان عدم الجواز مشهوراً، و الشهرة و عدمها في هذه المسائل سيّان، و ليس على الفقيه إلاّ ملاحظة نفس الدليل سواء أ كانت هناك شهرة أم لا.

ص:195


1- مصباح الأُصول: 2/203.
2. المسائل المتلقاة عن الأئمة

التي يعبّر عنها بالفقه المنصوص، و أمّا تمييز أحدهما عن الآخر، فيحصل بالرجوع إلى كثير من الكتب التي أُلّفت في الغيبة الصغرى، و أوائل الغيبة الكبرى حيث صار الدارج هو، تجريد المتون عن الأسانيد و الإفتاء بلفظ النص، أو قريب منها.

فإذا وقفنا من القدماء على فتوىً في مسألة، و لم نجد له دليلاً من السنّة، كشف ذلك عن أحد الأمرين على وجه مانعة الخلو:

أ: كون الحكم واصلاً إليهم يداً بيد من عصر الأئمّة إلى زمانهم، و كان الحكم المشهور بين أصحاب الأئمّة و من بعدهم هو ما ورد في الكتب المعدة للفقه المنصوص و إن لم نجد النصّ، و هذا هو الذي اختاره سيدنا الأُستاذ) قدس سره (.

ب: أو كاشفاً عن وجود نصّ وصل إليهم و لم يصل إلينا، و على هذا الوجه تدخل الشهرة الفتوائية في عداد الشهرة العملية لافتراض كشفها عن النص المعمول به عند القدماء.

و الذي يؤيّد ما ذكرناه أمران:

1. انّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على حكم ليس له دليل من الكتاب و السنّة سوى تسالم الأصحاب، و كان السيد المحقّق البروجردي ينهيها إلى تسعين، و لكنّه) قدس سره (لم يعيّن مواردها غير انّ المظنون أنّ قسماً وافراً منها يرجع إلى باب المواريث و الفرائض، و لو حذفنا الشهرة، لأصبحت المسائل فتاوى فارغة عن الدليل.

2. انّ الظاهر من بعض الروايات أنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بالشهرة الفتوائية، بل كانوا يقدّمونها على ما سمعوه من الإمام شفهياً، و ها نحن نذكر هنا نموذجين ليقف القارئ على مدى اعتمادهم عليها:

ص:196

أ: روى سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: إنّ رجلاً مات و أوصى إلي بتركته و ترك ابنته، قال: فقال لي:» أعطها النصف «، قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: اتقاك، إنّما المال لها، قال:

فدخلت عليه بعد، فقلت: أصلحك اللّه! إنّ أصحابنا زعموا انّك اتقيتني؟ فقال:» لا و اللّه ما اتّقيتك، و لكنّي اتّقيت عليك أن تضمن، فهل علم بذلك أحد؟ «قلت: لا، قال:» فاعطها ما بقي «.(1)

ترى انّ الشهرة الفتوائية بلغت من حيث القدر و المنزلة عند الراوي إلى درجة منعته عن العمل بنفس الكلام الذي سمعه من الإمام فتوقف حتى رجع إلى الإمام ثانياً.

و ربّما كانوا لا يتوقفون عن العمل و يقدّمون المشهورة على المسموع من نفس الإمام شخصيّاً.

ب: روى عبد اللّه بن محرز بيّاع القلانس قال: أوصى إلي رجل و ترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، و ترك ابنة، و قال: لي عصبة بالشام، فسألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن ذلك، فقال:» اعط الابنة النصف، و العصبة النصف الآخر «، فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا فقالوا: اتقاك، فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد اللّه) عليه السلام (فأخبرته بما قال أصحابنا و أخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة، فقال:» أحسنت، إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك «.(2)

و على ضوء هذه الأحاديث تعرف مكانة الشهرة الفتوائية، عند أصحاب الأئمّة، و معه لا يصحّ لفقيه الإعراض عن الشهرة للأصل أو الرواية الشاذة.

فتبين أنّ الشهرة الفتوائية في المسائل المتلقاة) و إن شئت سمّه الفقه المنصوص (داخلة في مفاد المقبولة لو قلنا بكشفها عن الخبر) المعمول به (أو

ص:197


1- الوسائل: ج 17، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.
2- المصدر نفسه، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 4.

مناطها) لو قلنا بكشفها عن وجود الشهرة عند أصحابهم (و أنّ سيرة أصحاب الأئمّة جرت على الاعتناء بها، فمثل هذه الشهرة إن لم تكن صالحة للإفتاء على طبقها، لكنّها صالحة للاحتياط و عدم الإفتاء بشيء أو الإفتاء بالاحتياط.

و هناك كلمة قيّمة لبطل الفقه الشيخ المفيد (336 413 ه (و هو يعرف لنا مكانة الشهرة، يجب على من يفتى بكلّ خبر، و لا يراعى ضوابط حجّيته، أن يطالعها و يتدبر فيها و نحن نأتي ببعضها:

قال: إنّ المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمّة) عليهم السلام ( فيه، و ما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم، كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بدّ من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته.

و لم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقيّة، و لا شيء دُلِّس فيه و وُضِع مخروصاً عليهم و كذّب في إضافته إليهم، فإذا وجدنا أحد الحديثين متّفقاً على العمل به دون الآخر، علمنا أنّ الذي اتّفق على العمل به هو الحقّ في ظاهره و باطنه، و أنّ الآخر غير معمول به، امّا للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه.

و إذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمّة) عليهم السلام (يخالفه حديث آخر في لفظه و معناه، و لا يصحّ الجمع بينهما على حال، رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه العشرة و نحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة، و حملنا ما رواه القليل على وجه التقيّة أو توهّم ناقله.(1)

ص:198


1- تصحيح الاعتقاد: 71، ط تبريز.
الحجج الشرعية 5 في حجّية الخبر الواحد
اشارة

قبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: البحث عن حجّية الخبر الواحد من أهمّ المسائل الأُصولية التي يدور عليها استنباط أكثر الأحكام الشرعية، لأنّ الخبر المتواتر و المحفوف بالقرينة، قليل جداً لا تفي بمعظم الفقه، و لو اقتصر عليهما، فلا بد من العمل بالظن المطلق لدليل الانسداد، و لأجل ذلك أخذت المسألة لنفسها أهمية خاصة بين الأُصوليين.

الثاني: انّ الاحتجاج بالخبر الواحد يتوقّف على ثبوت أُمور أربعة:

أ: أصل الصدور.

ب: أصل الظهور.

ج: حجّية الظهور.

د: جهة الصدور.

أمّا الثاني: فيثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية كالتبادر و غيره و القرائن العامّة.

و أمّا الثالث: فقد مرّت حجّية الظواهر، عند العقلاء و إمضاء الشرع له.

و أمّا الرابع: فيثبت بالأصل العقلائي، و أنّ الأصل في إلقاء الكلام هو بيان

ص:199

المراد الجدي، و أنّ حمل الكلام على غيره كالتقية و غيرها يحتاج إلى دليل.

بقي الكلام في الأمر الأوّل فهذا ما يتكفله هذا الفصل من إقامة الدليل على حجّية الخبر الواحد.

الثالث: اختلفت كلمتهم في أنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد، بحث أُصولي و من مسائل علم الأُصول أو بحث استطرادي؟ ذهب المحقّق القمي إلى الثاني محتجّاً بأنّ الموضوع لعلم الأُصول هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، و المسألة عبارة عمّا يبحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم، وعليه البحث عن حجّية الخبر الواحد و انّه هل هو دليل شرعي أو لا، بحث عن وصف موضوع العلم أو جزئه.

ثمّ إنّ المتأخرين عنه ردّوا عليه و قالوا: إنّ البحث عن حجّية الخبر الواحد، بحث عن عوارض الموضوع، لكن بمحاولات مختلفة مذكورة في الفرائد و الكفاية و غيرهما، و إليك بيانها:

أ: ذهب صاحب الفصول إلى أنّ الموضوع ليس الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، بل الموضوع ذات الأدلّة الأربعة بما هي هي، و البحث عن الدليلية، من عوارض الموضوع) السنّة (. و قد وصفه الشيخ بالتجشم و التكلّف، و لعلّه للملاحظة التالية.

يلاحظ عليه: أنّ الأدلّة الأربعة عبارة عن الكتاب و السنّة و العقل و الإجماع، فلو كان البحث عن حجّية المحكي أي السنة الشاملة لقول المعصوم و فعله و تقريره يكون البحث عندئذ كلامياً لا أُصولياً، و إن كان البحث عن حجّية الحاكي فهو ليس من الأدلّة الأربعة.

ب: ما ذهب إليه الشيخ من أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بقيد الدليلية، لكن جهة البحث عبارة عن ثبوت السنّة أعني قول الحجّة أو فعله أو تقريره) المسلم وجودها (بخبر الواحد و عدمه، فيقال: هل السنّة ) المحكية (تثبت بخبر

ص:200

الواحد أو لا تثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر و القرينة؟(1)و قد أورد عليه المحقّق الخراساني في المقدمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول و في المقام، إشكالين:

1. انّ البحث عن ثبوتها به و عدمه خلاف عنوان المسألة في الكتب الأُصولية فانّ عنوانها هو حجّية الخبر الواحد، لا ثبوت السنة بخبر الواحد.

2. انّ المراد من الثبوت في كلامه هو الثبوت التعبّدي، و هو من عوارض الخبر الحاكي، لا المحكي الذي هو الموضوع، بداهة أنّ معناه هل للخبر الواحد هذا الشأن أو لا؟ فلو كان حجّة، ثبت له هذا الشأن و إلاّ فلا.(2)

ج: ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ مردّ البحث عن حجّية الخبر الواحد إلى أنّ مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟ و إن شئت قلت: إنّ البحث إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر و عدم الانطباق، و هذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة، و عدمها.

يلاحظ عليه: أنّه مجرّد تغيير في العبارة، فانّ مرجع البحث عن الانطباق و عدمه، هو وجود السنّة في المقام أو لا، و هو بحث عن أصل الموضوع لا عن عوارضه، و بتعبير آخر: هو عين البحث عن وجودها في ضمن هذا الفرد و هويته أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد تخلّص من الإشكال بأنّ الميزان في المسألة الأُصولية ليس هو البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة، بل تكفي صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، و لو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة.

ص:201


1- الفرائد: 67، طبعة رحمة اللّه.
2- فوائد الأُصول: قسم التعليقة: 157.

و قد مرّ ما هو الحقّ عندنا في مقدّمات علم الأُصول، فلاحظ.

الرابع: الظاهر من غير واحد من قدماء الأصحاب عدم ورود الدليل على جواز العمل بخبر الواحد و صرح به المرتضى في الذريعة،(1) و ابن إدريس في السرائر في مواضع كثيرة، و نقل عن القاضي ابن البراج و الطوسي. و أمّا الشيخ الطوسي فقال بحجيته، إجمالاً، و لكن اختلفت كلماته في كتاب العدّة في تحديدها إلى أقوال أربعة:

1. حجّية قول الثقة، و المراد منها هو العادل.

2. حجّية غير المطعون من أصحابنا، فيعم الثقة و الممدوح و المهمل.

3. حجّية قول الفاسق أيضاً إذا كان متحرزاً عن الكذب، قائلاً بأنّ الفسق بالجوارح يمنع عن قبول الشهادة و ليس بمانع عن قبول خبره.

4. حجّية ما يرويه المتهمون المضعَّفون إذا كان هناك ما يعضد روايتهم و يدل على صحّتها و إلاّ وجب التوقف.(2)

إلاّ أنّ المعروف بين المتأخرين هو الحجّية، و لعلّ النزاع بين المتقدمين و المتأخّرين أشبه باللفظي، فالجميع يعملون بما دوّن في الكتب الأربعة، غير انّ المتقدّمين يرون أكثرها مقرونة بالقرائن المفيدة للعلم فيعملون بها، و المتأخرون يقولون بحجّية أخبار الاخبار فيعملون بها.

إذا عرفت هذه المقدّمات فلنذكر دليل القائل بعدم الحجّية فقد استدلوا بوجوه.

***

ص:202


1- الذريعة: 2/529.
2- لاحظ العدة: 3671/336، طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
أدلّة نفاة الحجّية
اشارة

استدل النافي للحجّية بالأدلّة الثلاثة:

الأوّل: الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ أوّلاً، و عن اقتفاء غير العلم ثانياً.

و ذلك في ضمن آيات ثلاث:

الآية الأُولى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(1). و الآية صريحة في عدم حجّية الظن في القول و العمل.

الآية الثانية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).(2)

وجه الاستدلال: انّ النهي و إن كان عن كثير من الظنّ لا عن الجميع، و ذلك بملاك انّ القليل منه على وفق الواقع، و لكن بما انّ الموافق و المخالف غير متميزين يلزم الاجتناب عن الجميع.

الآية الثالثة: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(3). و الآية جزء من الحِكَم الغُرّ التي أوحى اللّه بها إلى نبيّه و ابتدأ بها بقوله: (وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) و ختمها بقوله: (ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ )(4). و العمل بخبر الثقة اقتفاء لما لا بعلم، و الآية تشمل الأُصول و الفروع و قد استشهد بها الإمام على حرمة استماع الغناء و غيره.

ص:203


1- النجم: 27 28.
2- الحجرات: 12.
3- الإسراء: 36.
4- الإسراء: 23 39.
إجابة القائلين بالحجّية عن الاستدلال بالآيات

أجاب القائلون بالحجّية عن الاستدلال بها مثل الشيخ و المحقّق الخراساني بوجهين:

1. اختصاصها بالأُصول و لا يعمّ الفروع.

2. على فرض تسليم عمومها، تخصص بالأدلة الآتية الدالّة على حجّية قول الثقة.

يلاحظ عليه بوجهين: الأوّل: انّ الآية الأُولى و إن وردت في الأُصول و العقائد، و الآية الثانية وردت في غير مورد الأحكام، لكن الآية الثالثة مطلقة تشمل الفروع، بشهادة أنّ الإمام استدل بها على حرمة استماع الغناء عند التخلّي.

الثاني: انّ مساق الآيات الثلاث مساقها الدعوة إلى الفطرة السليمة القاضية بعدم جواز القضاء في شيء إلاّ بعد التبيّن، وعليه لا يتم كلا الوجهين لأنّ مقتضى كونها إرشاداً لحكمها هو عدم الفرق بين الأُصول و الفروع أوّلاً، و عدم قبولها للتخصيص ثانياً، فانّ الأحكام الفطرية لا تقبل التخصيص.

و بذلك ظهر عدم تمامية ما أفاده سيدنا الأُستاذ) قدس سره (من التفصيل بين الآيتين الأُوليين و الثالثة بعدم عمومية الأُوليين، دون الثالثة، فهي عامّة تعمّ الأُصول و الفروع، لما عرفت من أنّ الأحكام الفطرية كالعقلية غير قابلة للتخصيص.

3. و هناك جواب ثالث يظهر من الرازي في تفسيره، و هو: انّه لو دلّت الآيات على عدم جواز التمسّك بالظن لدلت على عدم جواز التمسّك بنفسها فالقول بحجّيتها يقتضي نفيها، و هو غير جائز(1). و إليه يشير سيدنا الأُستاذ) قدس سره (من أنّ دلالة الآية على الردع، من غير العلم ظنية لا قطعية فيلزم الأخذ بمدلولها،

ص:204


1- مفاتيح الغيب: 20/210.

عدم جواز اتباعها لكون دلالتها بالفرض ظنية.

يلاحظ عليه: أنّ دلالة الظواهر على المعاني الاستعمالية قطعية، و لا يظهر في ذهن العقلاء أيّ تردد و شك، و قد تقدّم تفصيله و هناك جواب رابع، و هو للمحقّق النائيني و هو: انّ نسبة الأدلّة الدالّة على جواز العمل بخبر الواحد ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة، فانّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف و جعل الخبر محرِزاً للواقع، فيكون حاله حالَ العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الدليل الواضح لحجّية الخبر الواحد، هو السيرة العقلائية و هي دليل لبي ليس له لسان، و الحكومة أمر قائم باللسان.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في الأدلّة اللفظية ما يدل على إلقاء احتمال الخلاف و جعل الخبر محرزاً للواقع.

و أمّا قوله) عليه السلام (:» العمري و ابنه ثقتان، ما أدّيا إليك عنّي، فعنّي يؤديان، فاسمع لهما و أطعهما فانّهما الثقتان المأمونان «(2)فإنّما سيق لبيان وثاقة الأب و الابن، بقرينة ذيله:» الثقتان المأمونان «لا لأجل إلقاء احتمال الخلاف و تنزيل الظن منزلة العلم.

و التحقيق أن يقال: إنّ الظن يطلق و يراد منه معان مختلفة:

1. اليقين كقوله سبحانه: (وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ * اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ) (3)و المراد منه بقرينة كونه وصفاً للخاشعين هو اليقين.

ص:205


1- فوائد الأُصول: 3/161.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
3- البقرة: 45 46.

2. الاطمئنان كقوله سبحانه: (وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ) (1)أي اطمأنّوا انّه لا حيلة إلاّ الرجوع إلى اللّه، و لأجل ذلك رجع اللّه إليهم بالرحمة كما قال تعالى: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ).

3. ترجيح أحد الطرفين استناداً إلى الخرص و التخمين بلا دليل مثل قوله: (وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ ).(2)

و المراد من الآيات الناهية عن اتباع الظن إنّما هو هذا النوع من الترجيح غير المعتمد على أصل صحيح بل مبنيّاً على الخرص و التخمين و الخيال، و لأجل ذلك سمّوا الملائكة تسمية الأُنثى.

و يوضح ذلك قوله في سورة الحجرات: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (3)حيث إنّ الرجل يسيء الظن بشخص، ثمّ يتصدى للتحقيق هل هو صحيح أو لا؟ فيتجسس، ثمّ يصل إلى ما ظن به فيغتابه.

و أين هذا النوع من الظن، من العمل بقول الثقة الذي لا يصدر عن الهوى، و لا عن الخرص و التخمين بل يرويه عن حسّ أو ما يقرب منه؟! و لعمري انّ المشايخ ما أعطوا للآيات حقّها من الإمعان.

ص:206


1- التوبة: 118.
2- الأنعام: 116.
3- الحجرات: 12.
الثاني: السنّة

استدل القائلون بعدم جواز العمل بخبر الواحد، بروايات اختلفت مضامينها و انقسمت إلى أصناف، لكنّهم استظهروا من المجموع دلالتها على عدم حجّيته، و أنّها و إن لم تكن متواترة لفظاً لكن القدر الجامع بين الجميع متواتر معنىً، و إليك رءوس أصنافها:

الأوّل: ما يدل على لزوم الاكتفاء بما يعلم، و تدلُّ عليه رواية واحدة.

الثاني: ما يدل على حجّية ما وافق الكتاب و السنّة، و بهذا المضمون روايات خمس.

الثالث: ما يدل على عدم حجّية مخالف الكتاب، و بهذا المضمون رواية واحدة.

الرابع: ما يجمع بين الأمرين، يأمر بأخذ الموافق و طرح المخالف، و بهذا المضمون روايتان.

و قد بث الشيخ الحرّ العاملي هذه الروايات في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي، و إليك دراسة هذه الأصناف.

أمّا الصنف الأوّل: أعني ما يدل على الاقتصار بما يعلم، فقد رواه نضر الخثعمي قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» من عرف إنّا لا نقول إلاّ حقاً فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم انّ ذلك دفاع منّا عنه «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الرواية بصدد توجيه الروايات الواردة على وفق التقيّة، و أنّ الإفتاء بها، لأجل صيانة دماء الشيعة عن الإراقة، فإذا سمع منه خلاف ذلك فليأخذ بما علم، مثلاً: إنّ مسح الرجلين من ضروريات الفقه الإمامي فإذا سمع

ص:207


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

علي بن يقطين خلاف ذلك فليعلم أنّ التجويز لأجل صيانة دمه، و تفسره رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر) عليه السلام (، قال: قال لي:» يا زياد ما تقول لو افتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التقية؟ «قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك قال:» إن أخذ به فهو خير له و أعظم أجراً «.(1)

و في الرواية الأُولى احتمال آخر و هو كونها راجعة إلى الذموم الصادرة عن الأئمّة بالنسبة إلى أخلص أصحابه كزرارة، فما صدر إلاّ لأجل صيانة دمه.

أمّا الصنف الثاني، أعني: ما يدل على حجّية الموافق للكتاب و السنّة، و يكفي في ذلك وجود شاهد من القرآن له فقط، فقد عرفت انّه ورد بهذا المضمون روايات خمس:

أ: ما رواه أيّوب بن راشد، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف «.(2)

ب: ما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» كلّ شيء مردود إلى الكتاب و السنّة، كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف «.(3)

ج: مرسلة ابن أبي بكير، عن رجل، عن أبي جعفر في حديث قال:» إذا جاءكم عنّي حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به و إلاّ فقفوا عنده «.(4)

د: خبر جابر، عن أبي جعفر) عليه السلام (في حديث»... فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقاً فردّوه.(5)

ه: ما رواه سدير قال: قال أبو جعفر، و أبو عبد اللّه) عليهما السلام (:» لا يصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه و سنّة نبيّه «.(6)

ص:208


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
5- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 13، 14، 18، 37، 47.
يلاحظ على الاستدلال بهذه الروايات بوجهين:

1. إذا كانت هذه الروايات بصدد المنع عن العمل بخبر الواحد، كان التصريح بأصل المطلوب أسهل من دون أن يشرط موافقة الكتاب و السنّة، فاشتراط الموافقة يكشف عن عدم كون العمل مصبَّ البحث، و لو كان مصبُّه العمل بالخبر الواحد، كان اشتراط الموافقة لغواً، إذ مع الدلالة القرآنية لا حاجة إلى اخبار الأخبار، و أمّا ما هو مصب البحث فسيوافيك بيانه.

2. لا شكّ انّه صدر من أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (روايات كثيرة، في مختلف الأبواب في المعارف و العلوم الكونية و الأخلاق و الأحكام ما لا يوصف بالمخالفة، و في الوقت نفسه لا يوصف بالموافقة بهما أيضاً لعدم ورودها فيهما، فلا بدّ أن يرجع شرطية الموافقة إلى شرطية عدم المخالفة، كما في الصنفين التاليين.

و أمّا الصنف الثالث: أعني: ما يدل على عدم حجّية المخالف، و بهذا المضمون رواية واحدة و هي:

مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» من خالف كتاب اللّه و سنّة محمد فقد كفر «.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا صلة له بخبر الواحد، و انّه يركز على من أفتى بخلاف الكتاب فقد كفر، و البحث في المقام في الرواية لا في الإفتاء.

و أمّا الصنف الرابع: أعني: ما يجمع بين العنوانين، فيأمر بأخذ الموافق، و طرح المخالف، فقد ورد بهذا المضمون روايتان:

أ: ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف

ص:209


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 16.

كتاب اللّه فدعوه «.(1)

ب: ما رواه هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» خطب النبي بمنى فقال: أيّها النّاس ما جاءكم يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله «.(2)

و بما انّك عرفت انّه لا يصح جعل الموافقة ملاكاً للقبول، فيكون المراد منه، ما لا يخالف.

هذه أُصول الروايات، و قد عرفت خروج الصنف الأوّل عن مصب البحث، و انّ مرجع اشتراط الموافقة في الصنف الثاني بل مطلقاً إلى شرطية عدم المخالفة الواردة في الرابع.

و على ضوء هذا فقد تواترت الروايات معنىً على عدم حجّية الرواية المخالفة للكتاب و السنّة، و لكن المهم هو تبيين شأن ورود هذه الروايات، إذ كما أنّ للآيات شأن نزول هكذا للروايات أيضاً أسباب صدور و ببيانه يعلم عدم صلتها بعدم حجّية الخبر الواحد.

إنّ الروايات الناهية عن العمل بالرواية المخالفة للقرآن و السنة ناظرة إلى أحد موردين:

أ. في تمييز الحجّة عن اللاحجّة

إنّ موضع هذه الروايات، هو صورة اختلاف الخبرين في المضمون، فيطرد المخالف و لو كان خاصّاً بالنسبة إلى عموم القرآن، و يؤخذ بالموافق، و يشهد لذلك لفيف من الروايات.

ص:210


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 15 و يحتمل وحدة الروايتين.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 15 و يحتمل وحدة الروايتين.

1. ما رواه عمر بن حنظلة: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال:» ينظر ممّا وافق حكمه حكم الكتاب و السنة «.(1)

2. ما رواه ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق به قال:» إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللّه أو من قول رسول اللّه «.(2)

3. ما رواه الميثمي انّه سأل الرضا) عليه السلام (يوماً و قد اجتمع عنده قوم من أصحابه و قد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول اللّه في الشيء الواحد. فقال) عليه السلام (:»... ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب اللّه «.(3)

4. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قال الصادق) عليه السلام (:» إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه و ما خالف كتاب اللّه فردوه «.(4)

5. ما رواه الحسن بن الجهم، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال:» ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ و جلّ و أحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منّا «.(5) و رواه أيضاً عن العبد الصالح) عليه السلام (.(6)

فهذه الروايات المتضافرة تفسر مصب الروايات السالفة، و انّ النهي عن العمل بما خالف القرآن ناظر إلى صورة التعارض، لا صورة الانفراد، فالخبران المتعارضان، لو كان أحدهما خاصاً مخالفاً لعموم القرآن و الآخر مدعماً به يؤخذ بالموافق، بخلاف ما إذا كان الأوّل وحده بلا معارض سواء لم يكن مخالفاً للكتاب أصلاً، أو كان مخالفاً بنحو الخصوص و العموم، فيخصص القرآن بخبر الواحد على رأي أكثر الأُصوليين.

ص:211


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 11، 21.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
5- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
6- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29، 40، 48.
ب: في مقامات الأئمّة و درجات الأنبياء

إنّ ظاهرة الغلو بدت في عصر الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (فنمت إلى أن بلغت الذروة في عصر الصادق و الكاظم و الرضا) عليهم السلام (، فكان هناك أُناس يضعون الأحاديث في حقّ الأئمة إمّا تشويهاً لسمعة الأئمة حتى ينفضّ الناس من حولهم، بحجّة أنّهم يقولون خلاف القرآن و السنّة النبويّة، أو لغاية الاستئكال بالأحاديث حيث كانوا يملكون قلوب عوام الشيعة و السُّذّج منهم، بالغلو في حقّهم، و قد احتفلت كتب الملل و النحل بهذه الفرق كالخطابية، و النُّصيرية.

روى الكشي، قال يحيى بن عبد الحميد الجمالي في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين ) عليه السلام (: قلت لشريك: إنّ أقواماً يزعمون أنّ جعفر بن محمد ضعيف الحديث، فقال: أخبرك القصة، كان جعفر بن محمد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً، فاكتنفه قوم جهّال يدخلون عليه و يخرجون من عنده و يقولون:

حدّثنا جعفر ابن محمد، و يحدثون بأحاديث كلّها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلون الناس بذلك، و يأخذون منهم الدراهم، كانوا يأتون من ذلك بكلّ منكر، فسمعت العوام بذلك منهم، فمنهم من هلك و منهم من أنكر.(1)

و قد عالج الأئمّة هذه الظاهرة الخبيثة، بأمر الشيعة بعرض الروايات على القرآن فما وافق أُصول التوحيد بمراتبها و العدل، و مكانة الأئمة يؤخذ به، و ما خالف فلا يؤخذ به، روى الكشي عن ابن سنان قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» انّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذّب علينا و يسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس «.(2)

ص:212


1- البحار: 25/302، الحديث 67.
2- البحار: 25/263، باب نفي الغلو، الحديث 1.

و الذي نلفت إليه نظر القارئ أنّ علماءَنا الأبرار قد بذلوا جهوداً جبارة في تهذيب الشيعة عن الموضوعات، و لذلك لا تجد رواية مخالفة للكتاب و السنّة على وجه التباين إلاّ النادر.

الدليل الثالث: الإجماع

ادّعى السيد المرتضى و غيره من أعلام القدماء عدم جواز العمل بخبر الواحد، و أنّه كالقياس من شعار الشيعة، و أكثر من ركز على ذلك، هو السيد المرتضى و ابن إدريس.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ادّعاء إجماع السيد، يتعارض مع ادّعاء الشيخ الإجماع على العمل به، يقول في العدّة: و الذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقّة، فانّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دوّنوها في أُصولهم، لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه، حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا.(1)

و ثانياً: أنّ عبارة السيد و إن كانت مطلقة، لكنّها ناظرة إلى الأخبار التي رواها المخالفون، و بذلك أوّل الشيخ كلام أُستاذه. حيث قال: فإن قيل كيف تدّعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد و المعلوم من حالها انّه لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أنّ المعلوم من حالها انّها لا ترى العمل بالقياس؟ فأجاب: المعلوم من حالها الذي لا ينكر و لا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد، الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد و يختصون بطريقه.(2)

ص:213


1- العدة: 1/126.
2- لاحظ العدة: 1281/127.
أدلّة القائلين بالحجّية
اشارة

استدل القائلون بالحجّية، بالأدلة الأربعة.

فمن الكتاب:
الأُولى: آية النبأ

قال سبحانه: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ).(1)

ذكر الطبرسي سبب نزولها و قال: نزلت الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول اللّه في جباية صدقات بني المصطلق، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به و كانت بينه و بينهم عداوة في الجاهلية فظنّ أنّهم همُّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللّه و قال: إنّهم مَنعُوا صدقاتهم، و كان الأمر بخلافه، فغضب النبي و همَّ أن يغزوهم، فنزلت الآية.(2)

لكن الجزء الأخير من القصة، غير صحيح فليس النبي من المتسرعين في القضاء، و لو كان كذلك، لتوجه الخطاب إليه، مع أنّه توجّه إلى المؤمنين.

و هناك سؤالان:

و هو أنّ الوليد من أغصان الشجرة الخبيثة قد آمن ظاهراً عام الفتح كسائر الأمويين، و كانت غزوة بني المصطلق في العام السادس من الهجرة، فكيف بعثه النبي لجباية الصدقات؟! و الجواب كون الغزوة في العام السادس و إسلامهم فيه، لا يلازم كون البعث

ص:214


1- الحجرات: 6.
2- مجمع البيان: 5/132.

في تلك السنة و لعلّه) صلى الله عليه و آله و سلم (بعثه بعد عام الفتح كما لا يخفى.

و قد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت انّ قوله عزّ و جلّ: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) نزلت في الوليد(1). و حكاه عنه ابن الأثير في أُسد الغابة(2). و يؤيده نزول قوله سبحانه: (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ).(3)

روى الطبرسي، عن ابن أبي ليلى نزل قوله: (أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) في علي بن أبي طالب و رجل من قريش، و قال غيره نزلت في علي بن أبي طالب و الوليد بن عقبة، فالمؤمن علي و الفاسق الوليد، و ذلك انّه قال لعلي) عليه السلام (: أنا أبسط منك لساناً، و أحدُّ منك سناناً، فقال علي) عليه السلام (: ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة: و اللّه ما استووا لا في الدنيا و لا عند الموت و لا في الآخرة.(4)

روى الشارح المعتزلي أنّ حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة قد نظم الواقعة في بيتين:

أنزل اللّه و الكتاب عزيز في عليّ و في الوليد قرآنا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقا و عليّ مبوأ إيماناً(5)

2. كيف بعثه النبي إلى جبايتها، مع أنّه فاسق؟ و الجواب انّ المانع من البعث هو الفسق الظاهري لا الخفي، و لعلّه لم يظهر

ص:215


1- الاستيعاب: 2/620.
2- أُسد الغابة: 5/90.
3- السجدة: 18.
4- مجمع البيان: 4/332.
5- شرح النهج: 2/103.

منه إلى زمان البعث أي فسق، و كان فسقه مخفياً إلى أن أظهره القرآن الكريم.

و أمّا الاستدلال فتارة يستدل بمفهوم الوصف، و أُخرى بمفهوم الشرط، و إليك بيانهما.

الأوّل: الاستدلال بمفهوم الوصف بوجهين

1. إنّ قوله: فاسق، وصف لموصوف محذوف، أي مخبر فاسق، فالمخبر الموصوف بالفسق يجب تبيّن خبره، فيكون مفهومه انتفاؤه عند انتفاء الوصف، بمعنى كون المخبر عادلاً. و هذا سار في كلّ وصف لا ثالث له، كما في قوله:» في سائمة الغنم زكاة «فمعناه الغنم بقيد السائمة فيها زكاة، و يكون مفهومه، الغنم عند عدم كونها سائمة ليس فيها زكاة.

يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ خلطَ بين كون القيد احترازيّاً، و كونه ذا مفهوم، و مفاد الأوّل هو مدخليته في الحكم مقابل القيد غير الاحترازي مثل (فِي حُجُورِكُمْ ) في قوله سبحانه: (وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ )(1)و أمّا كونه دخيلاً منحصراً لا يقوم مقامه شيء آخر، فلا يدل عليه.

فإن قلت: القائم مقامه هو المعلوفة، فلو كان كذلك، كان ذكر السائمة لغواً، إذ يعرف هذا من أنّ الزكاة لجنس الغنم، و لا مدخلية لأحد الوصفين فيه.

قلت: لا تلزم اللغوية، لاحتمال أن تكون القضية جواباً لسؤال السائل عن المعلوفة فجاء الجواب وفقاً للسؤال، و إن كان الحكم عاماً.

2. ما حقّقه الشيخ، و قال: إنّ لخبر الفاسق حيثيتين: إحداهما ذاتية و هي ما يكون وصفاً للخبر و هي كونه خبر الواحد، و الأُخرى عرضية، أي ما يكون وصفاً للمخبر، و يوصف به الخبر أيضاً بالعناية، و تعليق التبين على العنوان العرضي دون

ص:216


1- النساء: 23.

الذاتي المشترك بين خبر العادل و الفاسق، يعرب عن كونه السبب للتبيّن دون مطلق الخبر، و إلاّ كان العدول عنه إلى العرضي غير بليغ.

يلاحظ عليه: أنّ البيان متين لو لم يكن للعدول وجه، و هو التصريح بفسق المخبر و رفع الغشاء عن وجهه القبيح.

و من هنا يعلم أنّ الآية ليست بصدد جواز العمل بخبر العادل و عدمه، بل هي بصدد المنع عن العمل بخبر الفاسق.

فإن قلت: إنّ سيرة العقلاء على عدم العمل بقول من لا يثقون بقوله، و الفاسق ممن يوثق بقوله، فما السرّ في هذا النهي؟ قلت: السرّ هو التصريح بفسق الوليد و بيان الصغرى، و إن كانت الكبرى عندهم معلومة. هذا كلّه حول الاستدلال بمفهوم الوصف.

و مما ذكرنا يعلم أنّ التقرير الثاني تقرير لمفهوم الوصف لا لمفهوم الشرط، فما أفاده المحقّق النائيني من أنّه ينطبق على مفهوم الشرط غير ظاهر.

الثاني: التمسك بمفهوم الشرط

و قبل تقرير المفهوم، نذكر نكتة و هي أنّ حمل الجزاء على الموضوع على قسمين:

تارة يصحّ حمله عليه سواء أ كان هناك شرط أو لا، كما إذا قال: زيد إن سلّم أكرمه. فإنّ حمل الجزاء صحيح سواء أسلم أم لا، غاية الأمر، خصّ الآمر الإكرام بإحدى الصورتين، و هو ما إذا سلّم.

و أُخرى لا يصحّ حمل الجزاء على الموضوع إلاّ مع وجود الشرط، بحيث لولاه لما صحّ حمله، كما إذا قال: الولد إن رُزِقتَ به فاختنه، أو زيد إن ركب فخذ ركابه، أو قال: الدرس إذا قرأته فاحفظه. ففي هذه الموارد، يكون الشرط من

ص:217

محققات ما موجودة بل كتاب الموضوع، بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.

و القضية الشرطية ذات المفهوم هو القسم الأوّل، الذي يصحّ حمل المشروط) الجزاء (على الموضوع سواء كان هناك شرط أو لا، لا القسم الثاني، بل يكون سلب الجزاء عندئذ لأجل عدم الموضوع، و هو ليس بمفهوم اصطلاحاً، و إلاّ يلزم أن تكون جميع القضايا الحملية ذات مفهوم، إذا علمت هذا فاعلم:

انّ مفهوم الشرط في الآية يقرر على وجهين مبنيين على كون الموضوع ما هو؟ فهل الموضوع:

1. نبأ الفاسق إذا جاء به فيجب تبيّنه؟ أو الموضوع.

2. النبأ المفروض وجوده إن جاء به الفاسق يجب تبيّنه؟ فقرّره المشهور على الوجه الأوّل، و قرّر المحقّق الخراساني على الوجه الثاني.(1)

و إليك كلا التقريرين:

مفهوم الشرط على تقرير المشهور

إنّ تقرير المشهور مبنيّ على جعل الموضوع: نبأ الفاسق، و الشرط: هو المجيء، و الجزاء: هو التبيّن و التثبت; فكأنّه قال: نبأ الفاسق، إن جاء به الفاسق، فتبيّنه و يكون مفهومه:

نبأ الفاسق إن لم يجئ به فلا تتبيّنه، لكنّ للشرط عدم مجيء الفاسق مصداقين:

ص:218


1- فوائد الأُصول: 3/169.

1. عدم مجيء الفاسق و العادل به فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

2. مجيء العادل به فيكون عدم التبيّن من قبيل السالبة بانتفاء المحمول، لأنّ النبأ موجود، و المنفي هو المحمول، أعني: التثبيت.

يلاحظ عليه: أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن الموضوع الوارد في القضية، لا عن موضوع آخر لم يرد فيها، فالموضوع في الآية حسب الفرض، هو: نبأ الفاسق، فالتثبّت عند المجيء به و عدم التثبّت عند عدم المجيء به، يجب أن يتوارد عليه لا على موضوع آخر كنبإ العادل الذي ليس منه ذكر في الآية، و على ذلك ينحصر مفهوم الآية بالصورة الأُولى، و هو عدم مجيء الفاسق، من دون نظر إلى نبأ العادل، و من المعلوم أنّ عدم التثبّت عند عدم مجيئه به، لأجل عدم الموضوع للتثبت.

و بعبارة أُخرى: انّ الإثبات و النفي لدى وجود الشرط و عدمه، يتواردان على الموضوع المذكور و هو » نبأ الفاسق «لا انّ الإثبات التبيّن يتوارد على نبأ الفاسق، و النفي عدم التبيّن يتوارد على موضوع آخر، و هو نبأ العادل.

مفهوم الشرط على تقرير الخراساني

لمّا وقف المحقّق الخراساني على الإشكال الوارد على تقرير المشهور، عدل عنه إلى تقرير آخر قال ما هذا نصّه: انّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

توضيحه: انّ الموضوع هو النبأ المحقّق وجوده عبر الزمان، و الشرط هو مجيء الفاسق، و الجزاء هو وجوب التبين، و على ذلك فليس مجيء الفاسق به من محقّقات الموضوع، بل من حالاته، لافتراض أخذ النبأ على نحو القضية الحقيقية، فله حالتان:

ص:219

1. مجيء الفاسق به 2. عدم مجيء الفاسق، و لكنّه يلازم مجيء العادل به لافتراض أنّ الخبر محقّق الوجود، و الجائي به إمّا فاسق أو عادل، فإذا لم يجئ به الفاسق، يكون الجائي به عادلاً قطعاً لعدم الشق الثاني.

يلاحظ عليه: أنّ الآية ليست بصدد بيان أحكام النبأ المطلق سواء أ كان الجائي به الفاسق أو العادل فيختص التثبت بالأوّل دون الثاني، بل بصدد بيان حكم نبأ الفاسق بشهادة قوله: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) أي فاسق يحمل نبأ فالنفي و الإثبات يجب أن يتواردا على موضوع واحد و هو نبأ الفاسق.

تقرير ثالث لمفهوم الشرط في الآية

إنّ هنا تقريراً ثالثاً يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني، و حاصله:

أنّ الشرط تارة يكون بسيطاً و يكون الجزاء في نفسه متوقفاً على الشرط، كما في قولك: إنْ رزقت ولداً فاختنه.

و أُخرى يكون مركّباً، و يكون الجزاء متوقفاً عقلاً على كليهما، كما إذا قال: إن رزقت ولداً و كان ذكراً فاختنه.

و ثالثة يكون متوقفاً على أحدهما دون الآخر، كما إذا قال: إن ركب الأمير و كان يوم الجمعة فخذ ركابه، فإنّ أخذ الركاب متوقف على الركوب عقلاً و لا يتوقف على كون ركوبه يوم الجمعة.

و مثله المقام فانّ التبيّن يتوقف على النبأ، و لا يتوقف عقلاً على الجزء الآخر أعني كون الآتي به فاسقاً، و مفاده عدم التبين عن النبأ عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً.(1)

ص:220


1- مصباح الأُصول: 2/159.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره تحليل عقلي صحيح في عالم الثبوت، و لكنّه على خلاف ظاهر الآية، لأنّها ليست بصدد بيان أحكام النبأ على وجه الإطلاق ليعلم بالمنطوق و المفهوم حكم كلا القسمين، بل هي بصدد بيان حكم موضوع واحد، و هو» نبأ الفاسق «، فالتبين عند المجيء و عدمه عند عدم المجيء، يتواردان على موضوع واحد، و هو قول الفاسق.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني سلّم أنّ الموضوع هو» نبأ الفاسق «لا مطلق النبأ، لكن حاول استفادة حكم نبأ العادل من طريق آخر، و هو: أنّ ظاهر الآية انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه و وجود موضوع آخر، ثمّ أمر بالتدبّر.

و لعلّ وجه ما ذكره من ظهورها في انحصار وجوب التبيّن في نبأ الفاسق، هو ما أشار إليه تلميذه المحقّق العراقي: انّ وجوب التبيّن يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرّزه عن المعاصي، التي منها تعمّد كذبه، فوجب التبيّن عن حال خبره لئلا يقع المكلّف في خلاف الواقع، فتحصل له الندامة، و هذا بخلاف خبر العادل فانّه من جهة تورّعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمّد بالكذب، فاحتمال تعمّد كذبه منفي بعدالته.(1)

ثمّ إنّ الإشكال المزبور راجع إلى نفي الاقتضاء و انّه لا مفهوم للقضية الشرطية في الآية، و هناك إشكالات ترجع إلى إيجاد موانع بعد تسليم اقتضائه، و لم يذكر منها المحقّق الخراساني إلاّ إشكالاً واحداً، بخلاف الشيخ الأعظم فانّه أشار إلى إشكالات عديدة منها و نحن نقتفيه.

ص:221


1- نهاية الأفكار: 3/107، للشيخ محمد تقي البروجردي تلميذ المحقّق العراقي.
الإشكال الأوّل: عموم التعليل مانع عن تمامية دلالة الآية

هذا الإشكال هو الذي نقله الشيخ الأعظم عن الشيخ الطوسي في عدّته بقوله: لا يمتنع ترك الخطاب ) مفهوم المخالفة (لدليل و التعليل دليل.(1)

و حاصله: انّه لو سلمنا دلالة مفهوم الآية على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم، لكن مقتضى عموم التعليل هو وجوب التبيّن في كلّ خبر لا يُؤمن من الوقوع في الندم من العمل، و إن كان المخبر عادلاً، فيعارض المفهوم، و الترجيح مع ظهور التعليل.(2)

و بتقرير آخر: انّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم و المنطوق قرينة على أنّ الآية فاقدة للمفهوم(3)، و الفرق بين التقريرين واضح، فالأوّل يركز على احتمال الندامة المشترك بين خبري العادل و الفاسق، و الثاني على صدق الجهالة بمعنى عدم العلم على الموردين.

و قد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل:

ما أفاده الشيخ: من أنّ المراد من التبيّن ما يعم الظهور العرفي الحاصل من الاطمئنان الذي هو في مقابل الجهالة و الاطمئنان منتف في خبر الفاسق دون العادل.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّ تفسير التبين بالظهور العرفي لا يصدقه القرآن الكريم، فانّه

ص:222


1- الطوسي، العدة: 1/113.
2- الفرائد: 71.
3- كفاية الأُصول: 2/86.

استعمل فيه في الظهور الحقيقي:

1. كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (1)و مورد الآية إراقة الدماء، و لا يكتفى فيه بالوثوق و الاطمئنان، بل لا بدّ من العلم أو البيّنة.

2. و قال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (2)أي يتبين أنّ القرآن حقّ بأجلى مظاهره.

3. و قوله سبحانه: (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ).(3)

ثانياً: لو صحّ ما ذكره لدلّ منطوق التعليل على حجّية الخبر العادل، من دون حاجة إلى المفهوم، لأنّ الظهور العرفي بمعنى الاطمئنان موجود في خبر العادل قطعاً.

الوجه الثاني:

ما أجاب به المحقّق الخراساني: من أنّ الإشكال مبنيّ على أنّ الجهالة بمعنى عدم العلم، و لكنّه بمعنى السفاهة و فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل، و هو غير موجود في خبر العدل.

فإن قلت: لو كان العمل بقول الفاسق عملاً سفهيّاً لما أقدم عليه أصحاب النبي و هم عقلاء.

ص:223


1- النساء: 94.
2- فصلت: 53.
3- البقرة: 187.

قلت: إنّهم أقدموا على العمل بقوله غافلين عن فسقه، و لو لا الغفلة لما ركنوا إلى قوله.

أقول: لا شكّ أنّ الجهالة تستعمل في معنى السفاهة، لكنّها في الآية ليست بهذا المعنى، بل هي فيها بمعنى عدم العلم بالواقع ضدّ التبيّن.

أمّا الأوّل: فقد استعملت في قوله سبحانه: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)و قال سبحانه: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2)و قال سبحانه: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )(3).

قال الراغب في المفردات: إنّ الجهل على ثلاثة أضرب: ثالثها فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل.

و أمّا الثاني: فلأنّ الظاهر انّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن، الذي هو إمّا بمعنى العلم القطعي كما قلناه، أو الاطمئنان، و يكون المراد من مقابله أعني الجهالة، ضدّهما، لا مقابل الحكمة.

الوجه الثالث: ما أجاب به المحقّق النائيني من أنّ المفهوم حاكم على التعليل، لأنّ أقصى ما يدل عليه التعليل عدم جواز العمل بما وراء العلم، و المفهوم يقتضي إلغاء احتمال الخلاف و جعل الخبر العادل محرِزاً للواقع و علماً في مقابل التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما، لأنّ المحكوم لا يعارض الحكم و لو كان ظهوره أقوى.(4)

ص:224


1- الأنعام: 54.
2- النحل: 119.
3- النساء: 17.
4- فوائد الأُصول: 3/172.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الحكومة عبارة عن نظارة أحد الدليلين إلى الدليل الآخر، و تكون نتيجتها تارة رفع حكم الدليل المحكوم بلسان رفع موضوعه، كما إذا قال: إذا شككت فابن على الأكثر، ثمّ قال: لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم، أو بالعكس، فهو بلسانه ناظر إلى الدليل المحكوم، و يدل على أنّ شكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر خارج عن تحت الدليل الأوّل، لكن لا بنحو الإخراج عن الحكم ابتداء حتى يكون تخصيصاً، بل بنحو رفع الموضوع تعبداً لغاية رفع الحكم. و أُخرى بالتعرض لحالات الحكم المحكوم، كما إذا قال صاحب الشريعة: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(1)، فهو بلسانه متعرض لأحوال الأحكام الواردة في الشريعة، و يدل على أنّ الحكم إذا كان حرجياً فإطلاقه غير مجعول. و على كلّ تقدير الحكومة قائمة بلسان الدليل، و المفروض في المقام أنّ المفهوم فاقد للّسان، فكيف يكون حاكماً؟! ثانياً: أنّ مفاد المفهوم على القول به، هو عدم وجوب التبيّن، و أين هو من إلغاء احتمال الخلاف، و كونه محرزاً للواقع و علماً في مقام التشريع؟! ثالثاً: أنّ ما ذكره يستلزم الدور، لأنّ انعقاد المفهوم و ظهور القضية في المفهوم، فرع حاكميته على التعليل المزاحم لانعقاد المفهوم، و كون القضية ذات مفهوم و كونه حاكماً، فرع وجوده و اشتمال القضية على المفهوم.

الوجه الرابع: انّ التعليل يختص بما إذا كان العمل بالخبر في معرض الندامة، و هو يلازم خبر الفاسق دون خبر العادل، و العادل و إن كان يخطأ، كالعلم القطعي لكنّهما ليسا في معرض الندامة، و لعلّ هذا الجواب أظهر.

ص:225


1- الحج: 78.
الإشكال الثاني: خروج المورد عن المفهوم

ما أشار إليه الشيخ أيضاً، و هو انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية و هو إخبار الوليد بارتداد طائفة، و من المعلوم انّه لا يكفي فيه خبر العادل فلا أقلّ من اعتبار العدلين، فلا بدّ من طرح المفهوم لعدم جواز إخراج المورد.

و قد أجاب عنه الشيخ بانّه لا يلزم إخراج المورد، غاية الأمر يقيّد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات بضمّ عادل آخر إليه، فقول العادل حجّة مطلقاً، غاية الأمر إذا كان المخبَر به حكماً شرعياً يؤخذ بقوله، و إذا كان موضوعاً خارجياً، فليلتمس ضمُّ عادل إليه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ليس جواباً عن الإشكال، بل هو تقرير له، و هو خروج المورد عن مفهوم الآية، و ما ذكره ليس إلاّ تغييراً في التعبير، فانّ معنى قوله:» يقيد إطلاق المفهوم في مورد الموضوعات « عبارة أُخرى عن عدم حجّية المفهوم في مورد الآية و انّه لو كان المخبر أيضاً عادلاً لا يعمل به بل لا بدّ من البيّنة.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بوجه آخر، و لم يرتضه السيد الأُستاذ و الجواب و الإشكال مذكور في التهذيب، فلاحظ.(1)

الإشكال الثالث: اختصاصه بالموضوعات الخطيرة

و الذي عندي في تفسير الآية من أوّلها إلى آخرها أمر وراء ما ذكره الأعاظم، و حاصله: أنّ الآية غير ناظرة إلى الخبر بما هو خبر، حتى نبحث عن المنطوق و المفهوم و نناقش ما يزاحم أصل المفهوم أو يعارضه، بل الموضوع في الآية هو النبأ

ص:226


1- تهذيب الأُصول: 2/114.

لا الخبر، و هو ليس مطلق الخبر، بل الأمر العظيم الذي يوجب على الإنسان الحزم و الاحتياط و تحصيل التبين و اليقين، و ترك الإقدام مع الجهل، من غير فرق بين خبر الفاسق و العادل، و يخصص الفاسق بالذكر لأجل التصريح بفسق الوليد.

توضيح ذلك: أنّه فرق في لغة العرب بين الخبر و النبإ، و لا يطلق الثاني إلاّ على الخبر الخطير، و لا يطلق النبيّ على مطلق المخبِر، بل الذي يُخبر عن خبر خطير و ينقل أخبار السماء إلى الأرض.

و قد استعمل القرآن لفظ النبأ في خمسة عشر مورداً و أُريد من الكل الأمر الخطير، قال سبحانه:

1. (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ).(1)

2. (وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ).(2)

3. (وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ).(3)

4. (عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ )(4)، و توضيحه بالعظم لغاية المبالغة.

و محط البحث في الآية هو الموضوعات الخطيرة، فلا يستخدم فيها إلاّ العلم و التبيّن القطعي و لا يكتفى بغيره، من غير فرق بين خبر العادل و الفاسق، و قد مرّ أنّ التبيّن في الآية ليس هو الاطمئنان بل التبيّن العلمي في مقابل الجهل.

فالآية تركِّز على أنّه لا يصلح في تلك المواقف الخطيرة سوى التبيّن و العلم،

ص:227


1- المائدة: 27.
2- الأنعام: 34.
3- النمل: 22.
4- النبأ: 21.

و أمّا في غيرها من سائر الأُمور غير المهمة فالآية ساكتة عنها منطوقاً و مفهوماً، و لا يستعمل لفظ النبأ إلاّ في الموضوعات و لا يعمّ الأحكام، و يختص بالموضوعات التي لها خطر و شأن، لا مطلقه.

هذا حول الإشكالات المختصة بالآية، و هناك إشكالات لا تختص بها بل تعم جمع أدلّة حجّية الخبر الواحد.

الإشكالات غير المختصة بآية النبأ

هناك إشكالات لا تختص بالآية بل تعم جميع ما استدل به على حجّية الخبر الواحد، و كان على الشيخ التفكيك بين النوعين:

الأوّل: التعارض بين المفهوم و الآيات الناهية

و قد أشار إليه الشيخ و حاصله: معارضة المفهوم بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم و النسبة عموم من وجه، فيفترق المفهوم عنها في خبر العادل المفيد للعلم، كما تفترق الآيات عن المفهوم في خبر الفاسق و يجتمعان في خبر العادل المفيد للظن، فالمرجع هو عموم الآيات لأقوائيتها.

و الحقّ أن يقال: إنّ النسبة بين المفهوم و الآيات الماضية هي التباين، لأنّ المراد من الظن كما مرّ هو الخرص و التخمين و الحدس، غير المبنيّ على دليل، و أين هذا من خبر العادل الحاكي عن حس؟

الثاني: المفهوم يعمّ قول السيد

لو كان خبر العادل حجّة، فقول السيد أيضاً خبر الواحد، داخل تحت الآية فلو كان حجّة لزم عدم حجّية الخبر الواحد بتاتاً.

ص:228

و أُجيب بوجوه كثيرة:

1. انّ السيد لا يخبر عن قول المعصوم إلاّ عن حدس، و الحجّة هو الإخبار عن حس.

2. انّ ادعاءه معارض بادّعاء الشيخ عن إجماع الطائفة على حجّية الخبر الواحد.

3. انّ الأمر دائر بين دخوله و خروج غيره، أو بالعكس، فالثاني هو المتعيّن، لاستلزامه التخصيص المستهجن.

4. لو شمله إطلاق المفهوم، يكون مآلها التعبير عن عدم حجّية الخبر الواحد بنقيضه، و ذلك بإدخال قول السيد، و هذا خلاف البلاغة.

5. انّ قول السيّد، ليس من مصاديقه، بل يناقض المفهوم، لأنّه يدل على حجّية خبر الواحد، و هو ينفيه، فلا يعدّ مثله من مصاديقه.

6. لو كان قول السيّد من مصاديق الآية لزم من حجّيته عدمه، لأنّ إخباره عن عدم حجّية خبر الواحد، يشمل قول نفسه بتنقيح المناط و ما يلزم من وجوده، عدمه، باطل.

و هنا كلام للمحقّق الخراساني و حاصله: من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة في زمان نزول الآية إلى زمان صدور هذا الخبر من السيّد، و عند ذاك يدخل قول السيد تحت الآية، و دخوله منتهى أمد الحكم الأوّل أعني الحجّية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا يمكن إدخال قول السيد في مفهوم الآية لا من عصر الرسالة و لا من عصر صدوره من السيّد، إذ على الأوّل يعود محذور تخصيص الأكثر المستهجن، و صيرورة الكلام أشبه باللغز و غيرها من الإشكالات، و على الثاني يلزم حدوث النسخ في الأحكام بعد رحيل النبي، و هو ممنوع إجماعاً.

ص:229


1- تعليقة الخراساني على الفرائد: 63.
الثالث: عدم شمولها للاخبار مع الواسطة

هذا الإشكال يتوجه على أخبار الآحاد المنقولة بوسائط، دون المنقول بواسطة واحدة، و في الحقيقة إشكال واحد و يقرر بوجوه مختلفة، و قد جاء في الكفاية وجهان منها.

أشار إلى الأوّل بقوله:» ربّما أشكل شمول مثلها «.

و إلى الثاني بقوله:» و لا يخفى أنّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال «.

و أمّا الشيخ فقد اختلفت نسخ الفرائد، فبعضها تشتمل على ثلاثة، و البعض الآخر على أربعة، أو خمسة، و ممن بينها بوجه واضح المحقّق النائيني في فوائده.

و نحن نذكر في المقام أكثر الوجوه مع إيضاح ما في الكفاية.

1. انصراف الأدلة عن الاخبار بوسائط

إنّ القدر المتيقن من أدلّة حجّية الخبر الواحد، هو الإخبار بلا واسطة، لا الاخبار بواسطتين أو بوسائط.

2. انصرافه عن الخبر التعبدي

الدليل منصرف عن الخبر التعبّدي و لا يعمّ سوى الخبر الوجداني، فمن وقع في مبدأ السند فكلامه خبر وجداني، دون من يحكيه هو عنهم فانّها أخبار تعبّدية لا دليل على حجّية قولها.

يلاحظ عليه: أنّه لا فرق بين الاخبار بلا واسطة أو معها عند العقلاء، كما لا فرق عندهم بين الوجداني و غيره، و اقتصارهم على الوجداني يوجب العسر

ص:230

و الحرج في الحياة، و لو ثبت ذلك فمعناه إلغاء التاريخ عن قاموس العلم فانّه يقوم على العنعنة، مع اهتمامهم بها. نعم لو كثرت الواسطة على نحو لا تسكن النفس بمثله كان لما ذكر وجه، و أمّا الاخبار المنقولة في الكتب الأربعة و غيرها فليست الوسائط على حدّ تسقط كثرة الوسائط لها عن الاعتبار.

3. لزوم كون المخبر به ذا أثر شرعي

إنّ التعبّد بتصديق العادل لا بدّ أن يكون لأجل ترتيب أثر شرعي على قوله، و إلاّ فلو كان المخبَر به فاقداً للأثر، فلا يجب تصديقه، فلو أخبر عن مقدار ارتفاع المنارة أو عن عمق البئر، فلا يجب تصديقه لعدم ترتّب أثر شرعي عليه، و على هذا فلو أخبر الراوي عن الإمام يجب تصديقه، لترتّب الأثر على تصديقه، فالمخبِر كالصفار إذا أخبر عن الإمام العسكري اشتمل على الحكم الشرعي، و أمّا إذا أخبر عن إخبار المخبر، كالصدوق أخبر عن إخبار الكليني، و هو عن إخبار الصفار، و هو عن الإمام العسكري) عليه السلام (، فلا يترتب على تصديق الصدوق و لا الكليني أيّ أثر، لأنّ المخبَر به ليس كلام الإمام، بل إخبار الراوي الفاقد للأثر.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في صحّة التعبّد أن يكون جزء الموضوع للأثر لا تمام الموضوع، فيصحّ الأمر بتصديق الصدوق و الكليني، لغاية إثبات قول الصفار الذي يحمل قول الإمام و الحكم الشرعي.

و بعبارة أُخرى: يكفي وقوعه في طريق ثبوت موضوع ذي أثر شرعي.

4. اتحاد الحكم مع جزء الموضوع

إنّ قول القائل» صدّق العادل «في كلّ خبر ذي أثر شرعي مركّب من أُمور ثلاثة:

ص:231

أ. الحكم و هو: صدِّق.

ب. الموضوع: كلّ خبر.

ج. قيده: ذو أثر شرعي.

فإذا أخبر زرارة عن الإمام الصادق) عليه السلام (عن طهارة العصير بعد التثليث أو نجاسته قبله، فالأُمور الثلاثة متحققة بالشكل التالي، فالحكم هو: وجوب التصديق، و الموضوع: خبره أعني» طهارة الشيء « أو نجاسته، و أثره هو: وجوب الاجتناب عنه، و عدم وجوبه.

فالأُمور الثلاثة متحققة كما هو واضح.

و أمّا إذا أخبر الصدوق عن الكليني، و هو عن الصفار، و هو عن الإمام العسكري) عليه السلام (فوجوب تصديق الصدوق يتوقف على تحقّق أُمور ثلاثة:

الأوّل: الحكم و هو: وجوب التصديق.

الثاني: الموضوع: إخباره عن الكليني.

الثالث: الأثر: و ليس الأثر هناك إلاّ نفس الحكم، إذ لا يترتب على إخبار الكليني للصدوق أيّ أثر شرعي سوى وجوب التصديق، فيلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع، و هو غير صحيح، لأنّ الحكم متأخر رتبة، و الموضوع بعامّة أجزائه متقدّم.

و بعبارة أُخرى: لا يمكن التعبّد بالتصديق إلاّ أن يكون للموضوع) إخبار الكليني للصدوق (أثر شرعي قبل التعبّد، و المفروض أنّ الأثر جاء من جانب الحكم، و ترتّب عليه في ناحيته و هذا نفس الدور.

نعم لو كان هناك إنشاءان لوجوب التصديق بحيث يكون أحدهما جزء الموضوع، و الآخر الحكم المترتب عليه، لارتفع الإشكال.

ص:232

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

1. انّ قوله:» صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر «لو كان قضيّة حقيقية ناظرة إلى كلّ فرد فرد من الآثار التي يدل عليها لفظة» ذي أثر «لصحّ الإشكال، إذ عندئذ يكون من الآثار هو وجوب التصديق الجائي من ناحية الحكم، مع أنّه يلزم أن يكون الموضوع ذا أثر قبل الحكم، فكيف تكون بعض الآثار نفس الحكم؟! و أمّا إذا كانت القضية طبيعيّة و الحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، فعندئذ لا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، لأنّه حكم بترتيب طبيعة الأثر من غير نظر إلى أفراده، غير أنّ ذلك الأثر في قول زرارة غير الحكم، و في اخبار الصدوق نفس الحكم، و هذا أمر غير مخل.

2. انّ قوله: صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر، و إن لم يدل بالدلالة اللفظية على ترتيب تصديق العادل للمحذور السابق أعني وحدة الحكم مع جزء الموضوع، و لكن بما أنّه لا فرق بين ذلك الأثر) وجوب التصديق (و سائر الآثار كالاجتناب و عدمه يترتب على خبر العادل جميع الآثار حتى وجوب التصديق.

3. عدم القول بالفصل بين هذا الأثر و بين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق.

هذا توضيح ما في الكفاية إشكالاً و جواباً.

يلاحظ على الجواب الأوّل: بأنّ الإجمال في مقام الثبوت غير صحيح، فإذا قال: صدّق العادل في كلّ خبر ذي أثر، فإمّا يراد منه أثر غير وجوب التصديق أو الأعمّ منه و من غيره.

فعلى الأوّل لا يصحّ التعبّد بإخبار الصدوق، لعدم الأثر فيما أخبر به، أعني: إخبار الكليني له، مع أنّ تصديقه فرع وجود الأثر في خبره.

ص:233

و على الثاني يعود الإشكال و يلزم أن يكون الحكم مأخوذاً في الموضوع. و الأولى أن يقال: إنّ تصديق الصدوق لا يتوقف على كونه ذا أثر شرعي وراء كونه جزءاً لثبوت الأثر الشرعي أعني قول العسكري.

و بالجملة: انّ وجوب التصديق فرع عدم لغوية التعبد بتصديق العادل، و يكفي في مصونيته عنها ثبوت قول العسكري بهذه التصديقات المتكررة.

5. إثبات الحكم لموضوعه

و هذا هو الإشكال الثاني في الكفاية و الإشكال الخامس حسب تقريرنا، و حاصله:

انّه لو عمّت الدليل للاخبار مع الواسطة لزم إثبات الموضوع بالحكم، مع أنّه يتوقف عليه.

توضيحه: لا شكّ أنّ كلاً من إخبار الشيخ، و المفيد، و الصدوق، و الكليني، و الصفار، موضوعات لقوله:

» صدّق العادل «و المحرز لنا بالوجدان هو أوّل السند، و هو خبر الشيخ، و أمّا الباقي فإنّما يثبت ببركة تصديق الشيخ فيما يحكي، فيلزم أن يكون الحكم) صدّق العادل (مثبتاً للموضوع، أي قول المفيد بأنّ الصدوق أخبره و هكذا.

و قد أجاب عنه في الكفاية بوجوه ثلاثة:

1. إذا كان خبر له أثر شرعي حقيقة بحكم الآية، وجب ترتيب أثره عليه عند اخبار العدل به كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية، للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية.

2. أو لشمول الحكم فيها له مناطاً إن لم يشمله لفظاً.

3. أو لعدم القول بالفصل.

ص:234

و حاصل الجواب الأوّل: انّ الموضوع المحرز قبل الحكم و إن كان هو خبر الشيخ عن المفيد فقط، و لكن لما كانت القضية) صدّق العادل (قضية طبيعية لا حقيقية، يسري الحكم إلى جميع الأفراد المحرزة قبل الحكم) خبر الشيخ (و المحرزة بعده كإخبار المفيد عن الصدوق، و ليست حكمها حكم القضية الخارجية، التي يتوقف صدور الحكم على تحقّق الموضوع قبله، و على ذلك فالموضوعات المحرزة بعد تصديق الشيخ، تقع تحت الحكم و إن كان الموضوع متأخراً عن الحكم إحرازاً و ثباتاً.

نظير ذلك قول القائل:» كلّ خبري صادق «فلو أخبر قبله بعشرة أخبار، فهو كما يعم العشرة هكذا يعم حتى نفسه، لأنّ الموضوع هو طبيعة الخبر حتى و إن صار خبراً بهذا الإخبار.

يلاحظ عليه: أنّ الجواب مبني على أنّ هنا» وجوب تصديق واحد «فتوصل بهذا الجواب، و أمّا لو قلنا:

إنّ قول القائل:» صدّق العادل «ينحل حسب تعدد الاخبار إلى قضايا كثيرة، غير أنّ الموضوع الأوّل لما كان محرزاً يشمله الحكم بلا تأخير، و لكن يثبت بفضل تصديق الشيخ موضوع ثان، و هو خبر المفيد عن الصدوق، له وجوب تصديق خاص غير التصديق المتعلق بخبر الشيخ حسب القول بالانحلال، فيصدَّق المفيد فيثبت خبر عدل ثالث و هو خبر الصدوق عن الكليني، فيشمله وجوب تصديق ثالث متولد من انحلال قوله:» صدّق العادل «و هكذا يثبت الموضوع اللاحق ببركة ثبوت الموضوع السابق.

و هذا نظير الإقرار بالإقرار، فيشمله قوله:» إقرار العقلاء على أنفسهم جائز «فلأنّ الإقرار الثاني يثبت بفضل الإقرار الأوّل، و مثله إقامة البيّنة على البيّنة كما لا يخفى.

و في الختام أعطف نظر القارئ إلى أنّ هذه الإشكالات نابعة من الدقة

ص:235

العقلية، فلا تلتفت إليها أذهان العامة الذين هم المخاطبون بالخطابات فلا تصير مانعة عن شمول العمومات، و لو افترضنا أنّ الإشكالات بقيت بحالها، و لم نتوفق لحلها، لما كانت مانعة عن شمول العمومات.

الآية الثانية: آية النفر

قال اللّه تبارك و تعالى: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ).(1)

و الاستدلال بالآية يتوقف على الكلام في أُمور:

1. تفسير الآية، 2. كيفية الاستدلال، 3. ما أشكل على الاستدلال.

المقام الاول الكلام في تفسير الآية

لا شكّ أنّ الآية وردت في سياق آيات الجهاد، فانّ الآية المتقدمة عليها و المتأخرة عنها راجعتان إلى الجهاد قال سبحانه: (وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ).(2)

و قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).(3)

و مع هذا الارتباط الوثيق بين الآية و سائر الآيات الحافّة بها فالاستدلال بها على حجّية الخبر الواحد يحتاج إلى فصلها عن سائر الآيات، و لنذكر الوجوه

ص:236


1- التوبة: 122.
2- التوبة: 121.
3- التوبة: 123.

المحتملة في الآية حيث فسّرت بوجوه:

الأوّل: انّ الخطاب متوجه للمؤمنين في المدينة و مَن حولها، و يخاطبهم بأنّ نفر الجميع إلى الجهاد أمر غير ممكن لاستلزامه تعطيل أمر الحياة و اختلاله، فأمر بنفر طائفة من كلّ فرقة لغاية التفقه في ميادين الحرب، ثمّ إنذار قومهم المتخلفين في المدينة و ما حولها، عند الرجوع إليهم، و المراد من التفقّه ما ذكره الطبرسي» ليتبصّروا و يتيقّنوا بما يُريهم اللّه من الظهور على المشركين و نصرة الدين، و أمّا الإنذار عند الرجوع إليهم باخبارهم بنصر اللّه النبي و المؤمنين لعلّهم يحذرون أن يقاتلوا النبي فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفّار «.

و مزية هذا الوجه أمران:

1. حفظ السياق وصلة الآية بما قبلها من سائر الآيات.

2. عدم التفكيك في ضمائرها، حيث إنّ الضمائر المتصلة الثلاثة: (لِيَتَفَقَّهُوا ) و (لِيُنْذِرُوا ) و (إِذا رَجَعُوا ) ترجع إلى النافرين.

و لكن الذي يبعده أمور ثلاثة:

أ: انّ الظاهر من التفقّه هو فهم معارف الدين و تعلّم أحكامه، و أمّا رؤية النصر في الحروب فهو يوجب مزيّة الثقة بأنّ اللّه ينصر رسوله و المؤمنين، كما قال سبحانه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ )(1)، و هذا ليس تفقهاً في الدين، بل مزيد إيمان باللّه و بما وعد.

ب: انّ النصر لم يكن حليف المسلمين دائماً، بل ربما كانوا يرجعون مع النكسة و الهزيمة، كما هو الحال في غزوة أُحد و حنين، فلا يمكن أن يكون مثل هذا غاية النفر، التي يجب أن لا تنفك عنه.

ص:237


1- غافر: 51.

ج: لازم ذلك أن يكون النافرون أفقه من الذين بقوا في المدينة و تعلموا من النبي كلّ آية نزلت و حديث صدر.

د: القول بأنّ المراد من (وَ لِيُنْذِرُوا ) هو إنذار قومهم الكافرين كي لا يقاتلوا النبي، خلاف الفرض، لأنّ المفروض، انّ الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة و من حولها و لم يكن يوم نزول الآية أيّ كافر فيها، لأنّها نزلت في العام التاسع من الهجرة، و قد أسلمت القبائل في الجزيرة العربية إلاّ قليلاً في جانب شمالها قرب الشامات، إلاّ أن يفسر الإنذار بتشجيعهم بالتمسّك بأهداب الإيمان و الإسلام.

الثاني: الخطاب للقاطنين في المدينة و المقيمين فيها و المراد انقسامهم إلى طائفتين، طائفة نافرة و طائفة قاعدة، فغاية النفر، هو الجهاد، و غاية القعود، هو التفقه في الدين لغاية إنذار النافرين عند الرجوع عن الجهاد، روى الطبري في تفسيره عن أبي زيد: انّ معنى الآية (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) أي ليتفقّه المتخلفون في الدين، و لينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون.(1)

و على هذا الوجه فالصلة بين الآيات محفوظة مثل السابق، لكن و يفضل عليه، بخلوّه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الأوّل.

لكن يرد عليه استلزامه التفكيك في مراجع الضمائر المتصلة، وعليه فالضمير في (لِيَتَفَقَّهُوا ) و (لِيُنْذِرُوا ) راجعان إلى القاعدين، و الضمير في (إِذا رَجَعُوا ) إلى النافرين و هو خلاف الظاهر. و هذان الوجهان يشتركان في أنّ الخطاب للمقيمين في المدينة، و هناك وجه ثالث و هو يفارق الوجهين بتوجيه الخطاب إلى غيرهم، و إليك البيان:

ص:238


1- تفسير الطبري: 11/49.

الثالث: انّ الخطاب لمؤمني سائر البلاد، و المراد من النفر، النفر إلى المدينة للتعلّم و التفقه، وعليه يجب أن ينفر من كلّ قبيلة، طائفة للتفقّه في حضرة النبي لغاية إنذار قومهم عند الرجوع.

و مزية هذا الوجه، التحفظ على وحدة مراجع الضمائر المتصلة و خلوه عن الإشكالات الثلاثة المتوجهة إلى الوجه الأوّل، غير انّ لازمه الاختزال و قطع الصلة الآيات، و هو ليس بأمر سهل.

نعم تؤيده روايات كثيرة مذكورة في التفاسير الروائية.

1. روى الصدوق في عيون الأخبار عن الرضا) عليه السلام (عند بيان علل الحج: انّ منها التفقّه و نقل أخبار الأئمة) عليهم السلام (إلى كلّ صقع و ناحية، كما قال اللّه عزّ و جلّ: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ... ).(1)

2. و روى عنهم) عليهم السلام (في تفسير قول النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» اختلاف أُمّتي رحمة «:

انّ المراد اختلافهم إلى البلدان، و أنّ الرسول أراد من قوله:» اختلاف أُمّتي رحمة «، قول اللّه عزّ و جلّ:

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ... ).(2)

و هذا الوجه أتقن الوجوه، و هو دليل على لزوم تأسيس الحوزات العلمية في البلدان لينتقل إليها طلاب العلم و بغاة الفضيلة حتى يتفقّهوا فيها و يرجعوا إلى بلدانهم للإنذار.

و لكن يرد عليه: أنّه على خلاف سياق الآية، فالآية واردة في ضمن آيات الجهاد، فكيف يمكن أن تكون مشيرة إلى هذا المعنى؟ نعم يمكن الذبّ عن هذا الإشكال: إمّا بالالتزام بنزول هذه الآية مرتين: مرة في ثنايا آيات الجهاد، و مرّة أُخرى مستقلة و منفصلة عن آياته، و ليس ذلك

ص:239


1- نور الثقلين: 2/283، الحديث 407 و الحديث منقول عن الفضل بن شاذان، انّه عن الرضا (عليه السلام).
2- المصدر نفسه: الحديث 408.

بعزيز، فقد نزلت بعض الآيات مرّتين، مثل قوله سبحانه: (وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ).(1)

كما يمكن الذبّ عنه بوجه آخر و هو: انّ للآية بعدين يتعلّق واحد منهما بأمر الجهاد و الآخر بتحصيل العلم و التفقّه، و الأوّل منهما معلوم من سياق الكلام، و الآخر بعد مجهول يعلم من تفسير الأئمّة و تبيينهم، و لا مانع من أن يكون لبعض الآيات بعد ان أحدهما معلوم و الآخر مجهول يحتاج إلى التنبيه.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي فسّر الآية بوجه يتّحد مع هذا الوجه، و لكن لا ترد عليه مشكلة عدم انطباقه على سياق الآيات، و إليك بيانه و إن شئت فاجعله رابع الوجوه.

الرابع: انّ الآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول، أن ينفروا إلى الجهاد كافة، بل يحضهم على أن تنفر طائفة منهم إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (للتفقّه في الدين، و ينفر غيرهم إلى الجهاد، و معنى الآية انّه لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً، فهلاّ نفر و خرج إلى النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين يتعلموا الفقه و يفهموا الدين فيعملوا به، و لينذروا بنشر معارف الدين قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون.(2)

و على ذلك، فتنفر طائفة للتفقّه، في الوقت الذي تنفر طائفة أُخرى للجهاد، فعند ما قضيا حاجتهما يتلاقيان في موطنهما للإنذار و الحذر. فتكون للآية صلة بالجهاد، وصلة بالتفقّه.

و لا يخفى انّ سياق الآية انّ هنا نفراً واحداً تقوم به طائفة واحدة لغاية واحدة، لا نفرين تقوم بهما طائفتان لغايتين مختلفتين، كما هو صريح كلامه،

ص:240


1- الضحى: 5.
2- الميزان: 2/428 بتصرف يسير.

أضف إليه: أنّ ظاهر كلامه أنّ الضمير في (إِذا رَجَعُوا ) يعود إلى النافرين للجهاد و هو مستلزم للتفكيك في الضمائر، حيث إنّ الضميرين السابقين يرجعان إلى النافرين للتفقّه.

المقام الثاني: الاستدلال بالآية

الاستدلال بها يتم على تفسيرها بالوجه الثاني أو الثالث دون الوجه الأوّل، و قد قرره الشيخ الأعظم في الفرائد بوجوه ثلاثة، و تبعه المحقّق الخراساني، و يشكل الحجر الأساس لجميع الوجوه هو: إثبات وجوب الحذر للمقيمين أو المتخلفين، و إليك تقريرها بوجوه ثلاثة.

التقرير الأوّل: محبوبية الحذر يلازم وجوبه

1. انّ أدوات الاستفهام و التمنّي و الترجّي تستعمل في كلام الواجب و غيره في معنى واحد، و هو إنشاء هذه المفاهيم، و إنّما يختلفان في المبادئ فالمبدأ للترجي في كلامه سبحانه إظهار محبوبية الحذر عن العقوبة، و في غيره، هو الجهل بالوقوع.

2. انّ حسن حذر المنذَر عند إنذار المنذِر، في مورد الآية يدل على وجود المقتضي فيه، و هو قيام الحجّة على أمر يستلزم فعله أو تركه العقوبة، و إلاّ فلا يحسن الحذر، لقبح العقاب بلا بيان، و ليس الحجّة إلاّ قول المنذِر و خبره الذي تعلّمه و رجع و أدّى رسالته.

و بعبارة أُخرى: من قال برجحان الحذر قال بوجوبه لا باستحبابه، لأنّ الأُمّة في مورد حجّية الخبر الواحد على قولين:

1. خبر الواحد حجّة، و هو عبارة أُخرى عن وجوب الحذر.

ص:241

2. عدم كونه حجّة، و هو عبارة أُخرى عن عدم وجوبه لا القول باستحبابه، فالقول به إحداث قول ثالث.

التقرير الثاني: لزوم اللغوية لو لا وجوب الحذر

إنّ الإنذار واجب بحكم كونه غاية للنفر الواجب بحكم» لو لا «التحضيضية، فإذا وجب الإنذار، وجب التحذّر أيضاً، و إلاّ لغى إيجاب الإنذار، و الفرق بين التقريرين واضح.

فالتقرير الأوّل، يتطرّق إلى إثبات وجوب الحذر، من حسنه الملازم لوجوبه، و المراد من الحذر هناك هو الحذر النفساني، و هذا التقرير يتطرّق إلى وجوبه من أنّه لو لا وجوب الحذر لغى الإنذار الواجب. و نظيره في الفقه، قولهم بأنّه يحرم على النساء كتمان ما في أرحامهنّ، الملازم لحجّية قولهن، و إلاّ لغى التحريم، قال سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ).(1)

التقرير الثالث: غاية الواجب واجب

إنّ الحذر غاية للإنذار و النفر الواجبين، و غاية الواجب واجب، لأنّ وجوبهما لأجل تلك الغاية، فلا يعقل أن تكون المقدمة واجبة دون ذيها، و المراد من الحذر في هذا التقرير هو الحذر العملي أي الأخذ بقول المنذِر، و هو عبارة أُخرى عن كونه حجّة.

المقام الثالث: إشكالات الاستدلال

إذا عرفت وجوه الاستدلال بالآية فاعلم أنّه قد أُشكل على كلّ تقرير

ص:242


1- البقرة: 228.

بإشكال، فقد أورد على التقرير الأوّل، ما يلي:

1. حسن الحذر لا يلازم حجّية قول المنذر

إنّ لحسنِ الحذر موردين:

الأوّل: فيما إذا قامت الحجّة على التكليف الواجب، أو الحرام فيحسن الحذر، و بالتالي يجب الخوف من العقاب لقيام الحجّة و هو قول المخبر، و على هذا يكون خبر الواحد حجّة.

الثاني: فيما إذا أخبر المخبر بوجوب الشيء أو بحرمته فهو عند ذلك يخبر عن وجود المصلحة أو المفسدة في الترك أو الفعل، فيحسن الحذر و إن لم يكن قوله حجّة و ذلك لأنّه و إن لم يكن حجّة لكنّه محتمل الصدق، و هو يلازم خوف فوت المصلحة، و الوقوع في المفسدة، و إن لم يلازم احتمال العقاب لافتراض عدم ثبوت حجّية قوله، و من المعلوم انّ المصالح و المفاسد من الأُمور الوضعية التي تترتب على الترك و الفعل سواء كان الفاعل عالماً أو جاهلاً.

و بالجملة احتمال صدق المخبر و إن لم يكن قوله حجّة كاف في حسن الحذر لئلاّ تفوت المصلحة الدنيوية المحتملة أو لا يقع في المفسدة كذلك.

و على ذلك فالحذر مستحب لا واجب، و ما قيل من أنّه إحداث قول ثالث غير مخل إذ فرق بين عدم وجود القول الثالث و بين الاتّفاق على عدم إحداث قول ثالث، فالمورد من قبيل القسم الأوّل لا الثاني.

2. عدم القبول لا يلازم اللغوية

أورد المحقّق الخراساني على التقرير الثاني إشكالاً بأنّه لا تنحصر فائدة الإنذار بالتحذّر تعبّداً.

ص:243

توضيحه: أنّ الغاية ليست منحصرة في القبول، بل هنا فائدة أُخرى و هي انّ إخباره يكون مقدمة لحصول التواتر، كما هو الحال في من رأى الهلال فيخبر و إن لم يكن حجّة لكنّه إذا ضمّ إليه مخبر آخر يكون حجّة.

إلى هنا تمّ الوجهان:

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على التقرير الثالث إشكالاً بما يلي:

3. عدم الإطلاق في وجوب الحذر

و حاصل هذا الإشكال: انّه لو سلّمنا وجوب الإنذار و وجوب الحذر، فالآية إنّما تدل على وجوب الإنذار و الحذر على وجه الإجمال لا على التفصيل، فلعلّه يكون هناك شرط آخر للإنذار أو لوجوب الحذر لم تتطرق إليها الآية لعدم كونها في مقام البيان، يقول المحقّق الخراساني:» و بعدم(1) إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق ضرورة انّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غائية التحذر و لعلّ وجوبه كان مشروطاً بما أفاده العلم «.

أقول: هذا هو الإشكال المهم في المقام و هو وارد على جميع التقارير لا على التقرير الثالث فقط كما هو ظاهر الكفاية، و لو قرر هذا الإشكال بوجه واضح لاتّضح عدم دلالة الآية على حجّية خبر الواحد، و إليك البيان:

تطرح الآية أُموراً ثلاثة و هي:

أ. تقسيم العمل، ب. وجوب الإنذار، ج. وجوب الحذر.

أمّا الأمر الأوّل، فالآية بالنسبة إليه في مقام البيان و تصرّح بأنّ مسألة التعليم و التعلم كسائر المسائل الاجتماعية لا بدّ فيها من تقسيم العمل و أن يقوم

ص:244


1- من الطبعة المحشاة بتعاليق المشكيني» لعدم إطلاق «و لكنّه تصحيف و الصحيح» و بعدم إطلاق «أي و يشكل الوجه الثالث بعدم إطلاق.

بها طائفة من المؤمنين، كما هو الحال في سائر الأُمور الاجتماعية.

و أمّا الأمر الثاني: أي كيفية الإنذار و هكذا الثالث: أي وجوب الحذر، فهما من الأُمور الجانبية الواردة في الآية، فليست الآية في مقام بيان كيفيتهما و انّه يجب الإنذار على النافر سواء أفاد العلم أم لم يفد، أو يجب الحذر على المقيم أو المتخلّف سواء حصل له العلم أو لا.

و الاستدلال مبني على وجود الإطلاق في ذينك الجانبين مع أنّ ورودهما في الآية ورود استطرادي لا اصالي.

و يدل على ذلك أمران:

1. الإتيان بلفظ كافة في الآية الأُولى، أعني: (وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) فانّه يعرب عن أنّ الآية تركّز البحث على تقسيم العمل لا على كيفية الإنذار أو الحذر.

2. لو كانت الآية بصدد بيان كيفية الإنذار كان عليه ذكر الشرط اللازم للحذر، و هو كون المنذِر ثقة.

نعم، أتعب السيد المحقّق الخوئي) قدس سره (نفسه الشريفة، فحاول أن يثبت انّ الآية في مقام البيان و انّها نظيرة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).(1)

و لكن هذا قياس مع الفارق فانّ صدر الآية الثانية يشهد بأنّها في مقام بيان حدود الوضوء و شروطه و جزئياته، فلو شكّ في جزئية شيء أو شرطيته صحّ التمسك بالإطلاق في نفي المشكوك، و هذا بخلاف المقام فالآية تركّز على الأمر

ص:245


1- المائدة: 6.

الخاص و هو تقسيم العمل و قيام عدّة بهذه الوظيفة المهمة، و أمّا سائر الجوانب فقد طرحت جانبياً.

4. وجوب الحذر إذا كان الإنذار بالأمر الواقعي

إنّ التفقّه الواجب ليس إلاّ معرفة الأُمور الواقعية من الدين، فالإنذار الواجب هو الإنذار بهذه الأُمور المتفقه فيها، فالحذر لا يجب إلاّ عقيب الإنذار بها، فإذا لم يعرف المخاطب ان الإنذار هل وقع بالأُمور الدينية الواقعية أو بغيرها خطأ أو تعمداً لم يجب الحذر، فانحصر وجوب الحذر إذا علم المتحذر صدق المنذر في إنذاره بالأحكام الواقعية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا وجه لهذا الإشكال بعد تسليم الإطلاق في جانبي الإنذار و الحذر، فلو قلنا بأنّ الآية تدل بإطلاقها على أنّه يجب على المنذر الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد، و يجب على المقيم الحذر مطلقاً كذلك كشف ذلك عن أنّ الشارع أمر بتلقّي إنذاره إنذاراً بالأمر الواقعي، فيجب الحذر على السامع لكونه إنذاراً به.

نعم لو أنكرنا الإطلاق، كان لهذا الإشكال وجه(2)، و الظاهر انّ الإشكال بعد تسليم الإطلاق و أمّا مع إنكاره فلا مجال له.

5. الإبلاغ مع التخويف غير نقل القول

و هذا هو الإشكال الخامس الذي طرحه الشيخ، و حاصله: انّ المطلوب في المقام هو إثبات انّ حكاية الراوي قول الإمام حجّة للمجتهد، دون فهمه منه،

ص:246


1- الفرائد: 80.
2- لاحظ الفوائد: 3/188.

و ربما يكون بينهما اختلاف في فهم المراد مع الاتفاق على اللفظ، و هذا هو المطلوب في المقام. و الآية لا تفي بذلك، لأنّها تركّز على الإنذار، و هو الإبلاغ مع التخويف، بحيث يكون نقله و فهمه منها حجّة على المنقول إليه، و هذا لا ينطبق إلاّ على المجتهد بالنسبة إلى مقلِّده، فالآية تركز على أنّ الراوي إذا تفقّه في الدين و فهمه ثمّ بلغه مع الإنذار، يجب على السامع، الحذر و القبول و أين هذا، من حجّية مجرّد حكاية قول الإمام للطرف، بلا قيمة لفهمه من الدين و دركه من الرواية و إنذاره حسب ما فهم؟(1)و الظاهر انّ الإشكال وجيه خصوصاً بالنسبة إلى لفظة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) فانّه عبارة عن فهم الدين حقيقة، فالآية تنص على أنّه يجب على طائفة التفقه في الدين، ثمّ إبلاغ رسالات اللّه إليهم بالتخويف و الإنذار، و هذا لا يقع إلاّ من شخصين:

1. كون المنذر واعظاً ينذر الناس بما يعلمه الناس من الحلال و الحرام، فيكون دوره هو التذكير (وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ).(2)

2. كون المنذر فقيهاً فهيماً للدين مبلِّغاً لأحكام اللّه سبحانه مع التخويف.

و أين هذا من حجّية حكاية الراوي قول الإمام بما هو حاك و ناقل، من دون أن يكون له شأن الإنذار و للسامع شأن الحذر؟ و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بأنّ الإنذار و إن كان هو الإخبار الشامل على التخويف، إلاّ أنّه أعمّ من الصراحة و الضمنية فانّه يصدق الإنذار على الاخبار المتضمن للتخويف ضمناً و إن لم يصرّح به المنذر.(3)

ص:247


1- لتوضيح الإشكال لاحظ الفرائد: 81.
2- الذاريات: 55.
3- الفوائد: 3/188.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية ظاهرة في من يتصدّى لأمر الإنذار، بعد التفقّه، و لا يصدق ذلك على من لا شأن له سوى نقل الرواية و حكاية الألفاظ، من دون أن يتصدى لمقام الإنذار.

نعم يمكن أن يقال انّ العرف يساعد على إلغاء الخصوصية، فإذا كان نقله كلام الإمام مع التخويف حجّة، فيكون نقله المجرد أيضاً حجّة و إن لم يكن فهمه و تخويفه حجّة للمنقول إليه.

و الحاصل: انّ المنذر يعتمد على أمرين: السنّة، و تحليلها للمنقول إليه، فإذا كان المنقول إليه عامياً يأخذ كلا الأمرين، و أمّا إذا كان مجتهداً مثل المنذِر، أو إذا كان الناقل عامياً فاقداً للتخويف، يأخذ كلام الإمام و يستقل في فهمه.

فقد خرجنا بالنتيجة التالية:

1. انّ الآية فاقدة للإطلاق في كيفية الإنذار و الحذر.

2. انّ الآية، تركز على من يتصدّى بعد التفقّه، منصب الإنذار و الإبلاغ التخويف، و لا يدل على حجّية نقل العامي كلام المعصوم مجرداً عن التفقّه و الإنذار و الحذر إلاّ إذا قلنا بإلغاء الخصوصية.

الآية الثالثة: آية الكتمان

قال عزّ من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ).(1)

تقرير الاستدلال: انّه سبحانه يذمُّ أهل الكتاب لكتمانهم البشارات الواردة في كتبهم بظهور النبي القرشي الهاشمي العربي مع أنّهم كانوا يعرفونه كما يعرفون

ص:248


1- البقرة: 159.

أبناءهم قال سبحانه: (اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ )(1). و قال سبحانه:

(وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ )(2). فالآية تدل على تحريم كتمان البيّنات و بالتالي تدل على وجوب القبول و إلاّ لغت حرمة الكتمان.

يلاحظ عليه: أنّ إيجاب البيان بلا قبول أصلاً يستلزم كونه لغواً و أمّا إذا كان القبول مشروطاً بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو العلم القطعي فلا تلزم اللغوية نظير تحريم كتمان الشهادة، قال سبحانه: (وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ).(3)

و مع أنّ إظهار الشهادة واجب و لكن قبولها مشروط بالتعدّد، و أمّا قياس المورد بحرمة الكتمان على النساء كما ورد في قوله سبحانه: (وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (4)فقياس مع الفارق، إذ ليس في موردها من تضم شهادته إلى شهادتها، فلا محيص من قبولها، و هذا بخلاف شهادة الشاهد و أخبار الراوي فانّ لها صوراً مختلفة كما أوضحناه.

أضف إلى ذلك انّ الآية بصدد بيان تحريم الكتمان على العلماء، نظير قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:

» إذا ظهرت البدع، فعلى العالم أن يُظهر علمَه «و أمّا ما هو شرط القبول فهو موكول إلى الأدلّة الأُخرى.

الآية الرابعة: آية السؤال

قال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ

ص:249


1- الأنعام: 20.
2- البقرة: 89.
3- البقرة: 283.
4- البقرة: 228.

اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).(1)

و قال عزّ من قائل: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ ).(2)

و يقع الكلام في أُمور ثلاثة:

1. تفسير الآية.

2. الاستدلال بالآية.

3. تحليل الإشكالات حول الاستدلال.

و إليك الكلام في الأمر الأوّل:

إنّ ذيل الآية الثانية يحكي عن سبب نزولهما و هو أنّ مشركي مكة كانوا يُنكرون أن يرسل إليهم بشر مثلهم فبيّن سبحانه بأنّ حكمته اقتضت أن يبعث الرسل من البشر ليشاهدوه و يخاطبوه، و لم يكن الرسل المبعثون إلى الأُمم الماضية ملائكة (جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ) بل كانوا بشراً يأكلون كما يأكل سائر الناس و ماتوا كما مات الآخرون و ما كانوا خالدين، و لأجل رفع جهلهم أمر بالرجوع إلى أهل الذكر و العلم، يعني السيرة المستمرة بين العقلاء من الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلمون.

هذا هو مفاد الآية التي نزلت في سورتين باختلاف يسير بينهما، حيث اشتملت الآية الأُولى على لفظة حرف الجر» من «قبلك، دون الآية الأُخرى، و ما هو الوجه في ذاك الاختلاف فعلى عاتق الأدب.

ص:250


1- النحل: 43.
2- الأنبياء: 87.

و أمّا الأمر الثاني: أعني كيفية الاستدلال فقد استدل به صاحب الفصول، و قال: إنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، و إلاّ لغى وجوب السؤال، فإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّما يصح أن يسأل عنه و يقع جواباً له و احتمال خصوصية المسبوقية بالسؤال، منتف جداً.

و أمّا الأمر الثالث: فقد أورد على الاستدلال بوجوه:

1. المراد من أهل الذكر أهل الكتاب أو الأئمّة) عليهم السلام (

إنّ المراد من أهل الذكر، حسب سياق الآيات هو علماء أهل الكتاب، حيث إنّ المشركين كانوا ينكرون بعث البشر رسولاً، فأحالهم سبحانه إلى علماء أهل الكتاب العارفين بأحوال الأُمم حتى يسألونهم عمّن بعث اللّه رسولاً، فهل كانوا بشراً أو كانوا ملائكة لا يأكلون و لا يشربون؟ كما أنّ المراد منهم حسب الروايات هم الأئمّة المعصومون) عليهم السلام (، فقد عقد الكليني في أُصول الكافي باباً لذلك، و أخرج فيه روايات بين صحيحة و حسنة و ضعيفة، و على كلّ تقدير لا يشمل غير الطائفتين.

يلاحظ عليه: أنّ الآية تذكّر المشركين بقاعدة سائدة بين العقلاء و هو رجوع الجاهل إلى العالم، و يختلف مصداقه حسب اختلاف الموارد، و في مورد رفع شبهة المشركين فالمرجع الصالح المقبول عندهم، هو علماء أهل الكتاب، و في مورد فهم معالم الإسلام و درك حقائق الكتاب و السنّة فالمرجع هم العترة حسب حديث الثقلين، كما أنّ المرجع للعامي في عرفان الوظيفة هو المفتي و هكذا، فلا السياق آب عن الاستدلال و لا الروايات، بعد كون الجملة حاملة لمعنى عقلائي له مصاديق مختلفة حسب اختلاف الموضوعات، عبر الزمان.

ص:251

2. السؤال لغاية تحصيل العلم

إنّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم وجوب تحصيل العلم، لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبداً، كما يقال في العرف: سل إن كنت جاهلاً، و يؤيّده أنّ الآية واردة في أُصول الدين و علامات النبي التي يؤخذ فيها بالتعبّد إجماعاً.(1)

يلاحظ عليه: تختلف الغاية من السؤال حسب اختلاف واقع السؤال، فإن كان ممّا يجب أن يُعْلَم، فالسؤال لغاية العلم به، و إن كان ممّا يجب أن يعمل به كالأحكام فالسؤال لتلك الغاية سواء أفاد العلم أو لا، لا أقول باختصاص الآية لوجوب السؤال للعمل بالجواب كما ذكره الشيخ ثمّ اعترض عليه بل يجب السؤال للغاية الخاصة به، فهي تعمّ السؤال للعلم و الاعتقاد أو السؤال للعمل.

على أنّ العامي إذا رجع إلى من قوله حجّة، يحصل له العلم بالوظيفة و إن لم يحصل له العلم بالواقع.

3. المراد من أهل الذكر هو أهل العلم لا ناقل الحديث

إنّ الذكر في الآية بمعنى العلم، و الآية تدل على حجّية قولهم بما هم أهل العلم و الفكر، لا بما هم نَقَلَة الحديث و حملته عن طريق البصر و السمع، كما إذا رأى فعل الإمام و سمع كلامه و نقل فلا يقال له إنّه من أهل الذكر و العلم.

و بعبارة أُخرى: أهل الذكر هم الذين يَضمُّون فكرهم و فهمهم إلى كلام الإمام، و يستخرجون مراده بفكرهم الثاقب، و ذهنهم الصائب، و ليس هذا إلاّ المجتهد بالنسبة إلى مقلده.

ص:252


1- الفرائد: 81.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما أشار إليه الشيخ أيضاً في ذيل كلامه و حاصله: أنّ أمثال زرارة و محمد بن مسلم و أبان بن تغلب كانوا من أهل الذكر و العلم، أي كانوا يضمُّون فهمهم إلى كلام الإمام و قوله، و إذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم و رواية غيرهم من العدول مطلقاً لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدإ و المسبوق، و لا بين أضراب زرارة و غيرهم ممن لا يكونون من أهل الذكر و إنّما يروي ما سمعه أو رآه.

يلاحظ عليه: أنّ الرجوع إلى زرارة و السؤال عمّا استحصله من الآراء و النظريات من القرآن و السنة فهو سؤال أهل الذكر، و أمّا سؤاله عن مسموعاته و مبصراته ليس سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر، فالآية لا تشمل مثل هذا في المقيس عليه) زرارة (فكيف المقيس؟! فلا تشمل الآية سؤال من رأى الفعل و سمع القول بلا إعمال نظر و فكر، فالآية أصلح للاحتجاج على جواز التقليد.

و الأولى أن يجاب بما ذكرنا في آية النفر: من أنّه إذا كان نقل رواية زرارة كلام الإمام مع إعمال النظر و الفكر حجّة، فالعرف يساعد على إلغاء الخصوصية بحجّية مجرّد روايته، إذ الأساس هو كلام المعصوم، و فهمه طريق إلى فهم مقاصد الإمام، فإذا استغنى المنقول إليه عن الحجّة الثانية لكونه مجتهداً، غير مقلد، فلا وجه لعدم حجّية مجرّد نقله فعل الإمام و قوله.

4. وجوب السؤال لا يلازم وجوب القبول

إنّ المستدل تطرّق إلى حجّية جواب المجيب بأنّه لو وجب السؤال و لم يجب القبول يكون السؤال لغواً، مع أنّه ليس كذلك لما عرفت في آية الكتمان من أنّ وجوب إظهار الشهادة لا يلازم وجوب القبول، كما لا يلزم من عدم قبولها

ص:253

اللغوية، و في المقام نقول: يجب عليه السؤال إلى أن يحصل له العلم، فكلّ سؤال يشكل شيئاً من الظن حتى ينتهي السائل إلى العلم.

5. الآية ليست بصدد البيان

الآية بصدد بيان قاعدة كلية ربما يكون أمراً فطرياً، و هو أنّه يجب على الجاهل أن يرجع إلى العالم، و أمّا ما هو شرط قبول قوله فهل يكفي الواحد، أو يشترط التعدد، أو إفادته العلم؟ فليس بصدد بيانه، و الشاهد على ذلك أنّه لم يذكر شرط الوثاقة في المجيب الذي هو من أوضح شرائط القبول.

الآية الخامسة: آية الإذن

(وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ).(1)

يقع الكلام في تفسير الآية أوّلاً، و كيفية الاستدلال ثانياً، و الإشكالات المتوجهة إليها ثالثاً، و إليك البيان:

1. تفسير الآية:

أ. انّ الضمير في قوله: (وَ مِنْهُمُ ) يرجع إلى المنافقين، و سبقته ضمائر أُخرى كلّها ترجع إلى المنافقين نظير:

(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي ).(2)

ص:254


1- التوبة: 61.
2- التوبة: 49.

(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ).(1)

(وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ).(2)

ب. الأُذن جارحة السمع المعروفة، و قد أطلقوا عليه الأُذن و سمّوه بها كناية عن أنّه يصغي لكلّ ما قيل له و يستمع إلى كلّ ما يذكر له فهو اذن.

ج. قوله: (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ): ربما يفسّر بأنّه سمّاع يسمع ما فيه خيركم، أي الوحي، و على هذا فالمسموع خير، لكن يبعده انّه لو كان هذا هو المراد لما كانت حاجة إلى قوله: (لَكُمْ ) لأنّ الوحي خير لعامّة الناس فلا يكون للتخصيص وجه.

و الأولى أن يفسّر و يقال انّه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة أي أُذن خير و انّ نفس استماعه لعامة الاخبار خير لكم، فربّ مخبر، يخبر عن اقتراف الكبائر و آخر يكذبها و النبيُّ يستمع الجميع و لا يكذب أحداً لئلاّ يهتك سترهم و هذا النوع من الأُذن فيه خير المجتمع.

د. قوله: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )، الباء في الأوّل للتعدية كقوله سبحانه: (كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ )(3)، و يحتمل في الثاني أن يكون كذلك مثل قوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ ) (4)و قوله: (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) (5)لكن الظاهر أنّها ليست للتعدية، و إلاّ لما كان وجه للعدول من الباء إلى اللام; بل للانتفاع، أي يصدقهم لكون التصديق لصالحهم.

ص:255


1- التوبة: 58.
2- التوبة: 61.
3- التوبة: 19.
4- العنكبوت: 26.
5- يونس: 83.

و المراد من المؤمنين في قوله: (لِلْمُؤْمِنِينَ ) المجتمع المنسوب للإيمان سواء كانوا مؤمنين حقيقيين أو لا، بقرينة قوله بعده: (وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) فانّ المراد منه، هو المؤمنون حقّاً.

ه. ثمّ إنّ التصديق الذي يكون لصالح جميع المجتمع المنسوب إلى الإيمان هو التصديق المخبرِيّ دون التصديق الخبري، أي فرض المخبر صادقاً لا كاذباً بمعنى انّه معتقد بصدق خبره و إن كان كاذباً لا يطابق الواقع، لا إعطاء الصدق للخبر و انّه يطابق الواقع، إذ عندئذ يكون لصالح طائفة من المجتمع دون الجمع.

و الحاصل: انّه يحترم الجميع و يصدقهم بما انّهم مخبرون، لا انّه يصدق أخبارهم و يفرضها عين الواقع، لأنّ ذلك لا يكون إلاّ لصالح جماعة دون أُخرى.

هذا هو تفسير الآية، وعليه وردت روايات كلّها تعرب عن أنّ المنافقين كانوا يتهمون النبي بأنّه إنسان ساذج يصدِّق كلّ خبر يصل إليه. روي أنّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقاً، كان يقعد لرسول اللّه فيسمع كلامه و ينقله، و لما أطْلَع اللّه النبي على عمله دعاه رسول اللّه فأخبره، فحلف انّه لم يفعل، فقال رسول اللّه: قد قبلت منك فلا تفعل، فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمداً أُذن أخبره اللّه انّي أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبله، و أخبرته انّي لم أقل و لم أفعل فقبله; فنزلت الآية.(1)

هذا هو تفسير الآية.

2. في كيفيّة الاستدلال

فقد نقله الشيخ بأنّه سبحانه مدح رسوله بتصديقه للمؤمنين، بل قرنه بالتصديق باللّه جلّ ذكره، فإذا كان التصديق حسناً يكون واجباً.(2) و يزيد في

ص:256


1- تفسير القمي: 1/300، بتلخيص.
2- الفرائد: 82.

تقريب الاستدلال وضوحاً ما رواه في الكافي: انّه كان لإسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال له أبو عبد اللّه:» يا بُنيّ أ ما بلغك انّه يشرب الخمر؟ «قال: سمعت الناس يقولون. فقال:» يا بني إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول يصدق اللّه و يصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم و لا تأمن(1) من شارب الخمر «.

3. ما أورد على الاستدلال من الإشكال

1. إنّ المراد من الأُذن السريع التصديق، و الاعتقاد بكلّ ما يسمع، فمدحه بحسن ظنه بالمؤمنين و عدم اتهامهم، فالعمل بقولهم لاعتقاده بصدقه. و أين هو من العمل دون الاعتقاد؟! يلاحظ عليه: أنّ تفسير الأُذن بسريع الاعتقاد ليس من المحاسن، لأنّه أشبه بالقطّاع، أضف إلى ذلك أنّه ربّما لا يمكن الاعتقاد بكلّ ما سمع إذا استلزم الخبران الاعتقاد بالمتضادين.

2. انّ المراد من التصديق في الآية في مرحلة الكلام من دون تجاوز عنه إلى القلب، فضلاً عن العمل، و إلى هذا يرجع ما قلنا:

من أنّ المراد من التصديق، التصديق المخبرِي، لا التصديق الخبري، و يشهد له كلام الإمام لولده إسماعيل، حيث أمره بتصديق الناس، و ليس المراد تصديق الناس في مورد القرشي جداً على نحو لو تمكن الإمام أجرى عليه الحدّ، بل الحذر منه و العمل على وفق الاحتياط و عدم دفع المال إليه.

و الحاصل: انّ التصديق على قسمين: أخلاقي، و عملي. و المقصود هنا هو

ص:257


1- تفسير البرهان: 1392/138، الحديث....

الأوّل فلا يكذب المخبر بخلاف الثاني، ففيه يترتب الأثر الشرعي كما هو الحال في إجراء أصالة الصحّة في فعل الغير، فالاستدلال ناش من الخلط بين التصديقين.

تمّ الكلام عن الآيات التي استدل بها على حجّية الخبر الواحد، و قد عرفت عدم دلالة واحدة منها على الحجيّة.

***

الاحتجاج على حجّية الخبر الواحد بالسنّة

قد يحتج على حجّية السنّة المحكية بالخبر الواحد بالسنّة، و صحّة الاحتجاج رهن كون ما يحتج به خبراً متواتراً ليكون دليلاً قطعياً على حجّية الخبر الواحد المفيد للظن، و لا يكفي الآحاد منها سواء كانت مستفيضة أو غيرها.

و قد جمع الشيخ الحرّ العاملي ما ورد في هذا المجال في كتاب القضاء خصوصاً في الثامن و التاسع و العاشر و الحادي عشر من أبواب صفات القاضي، و هي على طوائف خمس حسبما قسّمها الشيخ الأنصاري في الفرائد.(1)

و نحن نذكر مقداراً من كلّ طائفة و لكن نخالفه في كيفية السرد، و على كلّ تقدير يقع الكلام في مقامات:

الأوّل: عرض الروايات.

الثاني: كيفية الاستدلال.

الثالث: تحليل الإشكالات.

ص:258


1- الفرائد: 84.
الطائفة الأُولى: الروايات الإرجاعية إلى الرواة بذكر سماتهم و أوصافهم:

1. مقبولة عمر بن حنظلة قال:» ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «.(1) فانّها و إن وردت في القضاء لكن حجّية قضائه لأجل كون روايته مقبولة، و المتبادر من الجمل الثلاث كونه ذا نظر، و ذلك لأجل نصبه على الحكم و القضاء، كما قال:» فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «و إلاّ لم يكن لذكره وجه.

2. التوقيع المعروف:» و أمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّه «.(2) فقد أخذ مطلق راوي أحاديث أهل البيت موضوعاً للحجّية.

3. التوقيع الشريف: الذي ورد على القاسم بن العلاء، و فيه:» فانّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بانّا نفاوضهم سرنا و نحملهم إيّاه إليهم «.(3) و قد أخذ الوثاقة موضوعاً للحكم وراء كونه راوياً.

4. رواية علي بن سويد السائي قال: كتب إليّ أبو الحسن) عليه السلام (و هو في السجن:» و أمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا «.(4) فاكتفى في جواز الأخذ كون الراوي شيعياً.

5. رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا «.(5)

ص:259


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1. و نقتصر في الإرجاع بذكر الباب و رقم الحديث فيما يأتي.
2- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
3- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
4- الباب 11، الحديث 9، 40، 42.
5- الباب 11، الحديث 37، 41.

6. رواية أحمد بن ماهويه قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث) عليه السلام (أسأله عمّن آخذ معالم ديني، و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما:» فهمتُ ما ذكرتما، فاصمِدا في دينكُما على كلّ مسن في حبنا و كلّ كثير القدم في أمرنا «.(1) فالموضوع للقبول من عمّر في حبّ أهل البيت و كثير القدم في أمرهم.

إلى غير ذلك من الروايات الإرجاعية إلى لفيف من شيعتهم بذكر صفاتهم و سماتهم لا بذكر أسمائهم.

الطائفة الثانية: الإرجاع إلى آحاد الرواة بذكر أسمائهم

و نذكر من الطائفة ما يلي:

7. رواية أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن) عليه السلام (قال: سألته و قلت: مَن أُعامل و عمّن آخذ، و قول من أقبل؟ فقال:» العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع و أطع فانّه الثقة، المأمون «.(2)

8. رواية أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال له:» إنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي روايات كثيرة، فما رواه لك عنّي فاروه عنّي «.(3)

9. رواية يونس بن عمار أنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال له في حديث:» أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر، فلا يجوز لك أن تردّه «.(4)

10. رواية المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال للفيض بن المختار في حديث:» فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس «و أومأ إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه؟ فقالوا: زرارة بن أعين.(5)

11. روى الحسن بن علي بن يقطين، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت: لا أكاد

ص:260


1- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
2- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
3- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
4- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.
5- الباب 11، الحديث 45، 4، 8، 17، 19.

أصل إليك، أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال:» نعم «.(1)

12. رواية أبي بصير قال: إنّ أبا عبد اللّه) عليه السلام (قال له في حديث:» لو لا زرارة و نظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب «.(2)

13. رواية شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال:» عليك بالأسديّ «يعني أبا بصير.(3)

14. رواية جميل بن دُرّاج قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية البجلي، و أبو بصير ليث بن البختري المرادي، و محمد بن مسلم، و زرارة، أربعة نجباء أُمناء اللّه على حلاله و حرامه، لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة و اندرست «.(4)

إلى غير ذلك من الروايات التي تُرجِعُ الشيعة إلى أشخاص معيّنين، و يوصفهم بالوثاقة و الأمانة معرِباً عن كون الوثوق بالقول هو مناط الأخذ.

الطائفة الثالثة: الأخبار العلاجية

إنّ الأخبار العلاجية، على قسمين: قسم يأمر بالأخذ بذي المزية من الخبرين، و قسم يأمر بالتخيير.

و سيوافيك الجميع في باب التعادل و الترجيح.

أمّا القسم الأوّل فمنه ما يلي:

15. ما يأمر بأخذ خبر أعدل الراويين و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما.(5)

ص:261


1- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
2- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
3- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
4- الباب 11، الحديث 33، 16، 15، 14.
5- الكافي: 1/68.

16. ما يأمر بالأخذ بموافق الكتاب: كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قال الصادق) عليه السلام (:» إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه «.(1)

17. ما يأمر بأخذ ما خالف العامّة: كرواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المصري، قال: قال الصادق ) عليه السلام (:» فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، و ما خالف أخبارهم فخذوه «.(2)

و أمّا القسم الثاني الذي يأمر بالتخيير فمنه ما يلي:

18. رواية الحسن بن الجهم، عن الرضا) عليه السلام (قال: قلت له:... يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين و لا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال:» فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت «.(3)

19. رواية الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد إليه «.(4) إلى غير ذلك من الروايات الآمرة بالتخيير.(5)

الطائفة الرابعة: الواردة في الحث على نقل الحديث و كتابته و نشره

قد جمع صاحب الوسائل الشيء الكثير ممّا يدل على بثِّ الحديث و كتابته في الباب الثامن من أبواب صفات القاضي، و من أراد فليرجع إليه. لكن نذكر في المقام بعض الكتب التي عرضت على الأئمة فصدقوها.

ص:262


1- الباب 9، الحديث 29 و لاحظ الحديث 21.
2- الباب 9، الحديث 29.
3- الباب 9، الحديث 40، 41.
4- الباب 9، الحديث 40، 41.
5- لاحظ الحديث 44 من الباب 9.

20. روي عن أبي عمرو المتطبب انّه قال: عرضته على أبي عبد اللّه) عليه السلام (، يعني كتاب ظريف في الديات.(1)

21. روى يونس بن عبد الرحمن في حديث قال: أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر) عليه السلام (و وجدت أصحاب أبي عبد اللّه) عليه السلام (متوافرين فسمعت واحداً واحداً، و أخذت كتبهم فعرضتها بعدُ على الرضا، فأنكر منها أحاديث.(2)

22. روى أحمد بن أبي خلف قال: كنت مريضاً فدخل عليّ أبو جعفر) عليه السلام (يعودني عند مرضي، فإذا عند رأسي كتاب يوم و ليلة، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه من أوّله إلى آخره، و جعل يقول:» رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس، رحم اللّه يونس «.(3)

23. روى داود بن القاسم الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم و ليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري) عليه السلام (، فنظر فيه و تصفّحه كلّه، ثمّ قال:» هذا ديني و دين آبائي كلّه، و هو الحقّ كلّه «.(4)

24. روى بورق البوشجاني قال: خرجت إلى سرّ من رأى و معي كتاب يوم و ليلة، فدخلت على أبي محمد) عليه السلام (و أريته ذلك الكتاب و قلت له: إن رأيتَ أن تنظر فيه و تصفّحه ورقة ورقة فقال:» هذا صحيح ينبغي أن تعمل به «.(5)

25. روى حامد بن محمد انّه دخل على أبي محمد) عليه السلام (، فلما أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء، فتناوله أبو محمد) عليه السلام (و نظر فيه، و كان الكتاب من تصنيف الفضل، فترحّم عليه و ذكر أنّه قال:» أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان و كونه بين أظهرهم «.(6)

ص:263


1- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
2- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
3- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
4- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
5- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.
6- الباب 8، الحديث 32، 73، 74، 75، 76، 77.

26. روى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، عن الحسين بن روح، عن أبي محمد الحسن بن علي) عليهما السلام (انّه سئل عن كتب بني فضّال فقال:» خذوا ما رووا، و ذروا ما رأوا «.(1)

27. ذكر النجاشي أنّ كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي عرض على الصادق) عليه السلام (فصححه و استحسنه.(2)

إلى غير ذلك من الكتب المعروضة.

الطائفة الخامسة: ما ورد في ذمّ الكذّابين و وضّاع الحديث

28. قال النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار «.(3)

29. قال الصادق) عليه السلام (: لعن اللّه المغيرة بن سعيد انّه كان يكذب على أبي فأذاقه اللّه حر الحديد.(4)

30. و قال الصادق) عليه السلام (:» إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس «.(5)

31. و قال) عليه السلام (:» إنّ الناس أولعوا بالكذب علينا، كأنّ اللّه افترض عليهم و لا يريد منهم غيره «.(6)

ص:264


1- الباب 8، الحديث 79، 81.
2- رجال النجاشي: برقم 610.
3- الكافي: 1/62 و بحار الأنوار: 2/225.
4- رجال الكشي: 195.
5- رجال الكشي: 257.
6- بحار الأنوار: 2/246.

روى الكشي في ترجمة» المغيرة بن سعيد و أبي الخطاب «شيئاً كثيراً من تقول الكذابين على أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (.(1)

2. كيفية الاستدلال

لا يخفى انّ من لاحظ تلك الروايات الهائلة يستكشف أنّ حجّية الخبر الواحد عندهم كان أمراً مسلماً على وجه لولاها لم يكن لصدور هذه الروايات وجه.

فإذا كانت الحجّة هو الخبر المتواتر، فما معنى الإرجاع إلى رواة الأحاديث، أو الإرجاع إلى آحادهم بأسمائهم؟ كما أنّ السؤال عن علاج المتعارضين من الخبرين، آية تسليم كون كلّ منهما حجّة لو لا المعارض.

و مثله الحثّ على كتابة الحديث، و نقله و بثّه، كما أنّ عرضَ الكتب آية كونه حجّة، و قد عرضوها للتأكد من صحتها.

و لو كان بناء المسلمين على الاقتصار على المتواترات لم يكن لوضع الحديث وجه، لأنّ الغاية هي قبول الناس و المفروض انّ بناءهم كان على عدم قبول الآحاد، فالمجموع يكشف عن جريان السيرة على قبول الآحاد بشرائطها الخاصة.

نعم و لكن لا تجد فيها رواية هي بصدد جعل الحجية للخبر الواحد، بل تدور الروايات بين الفحص عن الصغرى و انّ الراوي ثقة أو لا، أو انّ كتابه مصون من الدس أو لا، أو الإرشاد إلى السيرة المألوفة بين العقلاء و انّه لا عذر لموالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا و في الوقت نفسه النهي عن الأخذ عن غير الموالين.

ص:265


1- رجال الكشي: 194 198 و 246 260.
3. الإشكال على الاستدلال

هذا هو المقام الثالث قد أورد على الاستدلال بها إشكالات نذكر أهمها:

أ. الأخبار ليست بمتواترة

إنّ هذه الأخبار ليست بمتواترة لأنّها تنتهي إلى الكتب الأربعة، و لفيف من سائر الكتب، و شرط التواتر بلوغ الخبر من كلّ طبقة من الطبقات حدّ التواتر، و ليس الأمر كذلك، فانّها في نهاية المطاف تنتهي إلى ثلاثة، أو أربعة أشخاص.

و الجواب: انّ المراد من التواتر في المقام ليس التواتر اللفظي، بل التواتر الإجمالي.

أمّا الأوّل، فالمراد منه إذا اتحدت ألفاظ المخبرين في خبرهم عن موضوع واحد كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه «أو قوله:» إنّما الأعمال بالنيّات «و في مثله لا يحصل العلم إلاّ ببلوغ الخبر في كلّ طبقة حدّ التواتر.

و أمّا الثاني، و المراد منه هو العلم الإجمالي بصدور بعض من الأحاديث المختلفة و تسميته بالتواتر، مسامحي و المراد العلم الإجمالي بصدور البعض.

ب. انّ هذه الأخبار مختلفة المضمون

إنّ هذه الأخبار مختلفة المضمون و اللسان، و إليك عناوينها:

1. كونه شيعياً

الظاهر من بعضها كفاية كون الراوي شيعياً، مثل قوله) عليه السلام (:» رواة

ص:266

حديثنا «(1). و قوله) عليه السلام (:» من غير شيعتنا «(2). أو قوله) عليه السلام (:» كلّ مسنّ في حبنا، كثير القدم في أمرنا «.(3)

2. كونه ثقة

إنّ الظاهر من البعض الآخر، كونه ثقة، مثل قوله) عليه السلام (:» التشكيك فيما يرويه ثقاتنا «(4). أو قوله) عليه السلام (:» العمري ثقتي «(5). أو قوله) عليه السلام (:» فيونس بن عبد الرحمن ثقة «(6). و قوله) عليه السلام (:» كلاهما أو كلّهم ثقة «(7).

3. كونه مجتهداً

الظاهر من بعضها لزوم كونه مجتهداً لا ناقلاً مثل قوله) عليه السلام (:» روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا «و يقرب منه ما دلّ على حجّية قول مثل زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و يونس بن عبد الرحمن و غيرهم من فضلاء أصحاب الصادق، و الرضا) عليهما السلام (، و على هذا يلزم الأخذ بأخص المضامين، و هو أن يكون الراوي جامعاً لجميع هذه الصفات، و هو غير القول بحجّية قول مطلق الثقة.

الجواب: لو وجدنا بين هذه الروايات ما يكون جامعاً لهذه الصفات، و يكون مفاده حجّية مطلق الثقة يتعدى منه إلى المطلوب و إلى هذا يشير المحقّق الخراساني بقوله: و قضيته و إن كان حجّية خبر دل على حجّية أخصها مضموناً إلاّ انّه يتعدى منه فيما إذا كان بينهما ما كان بهذه الخصوصية و قد دلّ على حجّية ما كان أعم.

ص:267


1- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
2- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
3- لاحظ الحديث 2، 4، 6.
4- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
5- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
6- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.
7- لاحظ الحديث 3، 7، 11، 19.

و لعلّ صحيح أحمد بن إسحاق بين تلك الأخبار جامعة لجميع هذه الخصوصيات من حيث السند، و قد دلّ مضمونه على حجّية قول الثقة.

روى الكليني بسند عال رواته كلّهم مشايخ ثقات عدول قد زكّاهم جمع من العدول، فروى: عن محمد بن عبد اللّه الحميري و محمد بن يحيى العطار القمي، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق، أنّه سأل أبا الحسن) الهادي) عليه السلام ((و قال له: من أُعامل، و عمّن آخذ، و قول من أقبل؟ فقال:» العمري ثقتي، فما روى إليك عنّي، فعني يؤدّي، و ما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له و أطع فانّه الثقة المأمون «.

و سئل أبو محمد) عليه السلام (عن مثل ذلك فقال:» العمري و ابنه ثقتان ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان، ... فإنّهما الثقتان المأمونان «.(1)

و عامة من ورد في السند، من المشايخ، فقال النجاشي في حقّ الأوّل) محمد بن عبد اللّه الحميري (:

ثقة وجه. و في حقّ الثاني) محمّد بن يحيى العطار (: أبو جعفر القمي ثقة. و في حقّ الثالث) عبد اللّه بن جعفر الحميري (: أبو العباس ثقة. و أمّا الرابع) أحمد بن إسحاق (: فهو مردّد بين الرازي و الأشعري، و كلاهما ثقة، و يحتمل اتحادهما. و نظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين.(2)

و أمّا المضمون، فقد علّل حجّية قول العمري بأنّه الثقة المأمون، وعليه فرواية كلّ ثقة مأمون، حجّة، سواء كان من المشايخ و الفقهاء أو لا، و المراد من الثقة هو العدل، و نظيره رواية الحسن بن علي بن يقطين.

و منه يظهر انّه ليس للشارع في باب حجّية الخبر الواحد أي جعل و لا تصرف، فما اشتهر في ألسن المشايخ من جعل الحجّية أو الطريقية، أو تتميم

ص:268


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

الكشف، ليس لها أيّ دليل في الروايات و المتبادر منها، هو إمضاء ما جرى عليه العقلاء في حياتهم العملية من الاعتماد على قول الثقة المأمون فالحجّية إمضائية لا تأسيسية.

***

الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالإجماع

و قد استدلّوا على حجّية الخبر الواحد بالإجماع القولي تارة، و الإجماع العملي أُخرى.

1. الاحتجاج بالإجماع القولي

إنّ الاحتجاج بالإجماع القولي على حجّية الخبر الواحد يتحقّق بأحد وجهين: إمّا بتتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من زماننا إلى زمان الشيخ حتى يكون إجماعاً محصَّلاً فيكشف رضاء الإمام بذلك على القول بقاعدة اللطف; أو يقطع من باب الحدس، أو بتتبع الإجماعات المنقولة على الحجّية.

و أورد المحقّق الخراساني على التقرير الأوّل باختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات و معه لا يكشف عن رضاه من تتبعها، و على التقرير الثاني، باختلاف معاقد الإجماعات فيها، إلاّ أن يقال:

الاختلاف في الخصوصيات لا يضرّ الإجماع على الحجّية إجمالاً.

يلاحظ على الاستدلال أيضاً بأنّ الإجماع حجّة إذا جهل مصدره و مدركه، و أمّا مع العلم به فيكون المتّبع هو الدليل لا الإجماع.

ص:269

2. الاحتجاج بالإجماع العملي

و قد يحتج بدعوى اتّفاق العلماء عملاً بل كافة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أُمورهم الشرعية، فبما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

و أورد عليه المحقّق الخراساني: انّه لم يحرز اتّفاقهم على العمل بما هم مسلمون، لأنّهم لا يزالون يعملون بها في غير الأُمور العادية به، فيرجع هذا الاستدلال إلى الاستدلال الآتي، أعني: الاستدلال بسيرة العقلاء.

3. الاحتجاج بالسيرة العقلائية

إنّك إذا تصفّحت حال العقلاء في حياتهم الدنيوية، تقف على أنّهم مطبقون على العمل بقول الثقة في جميع الأزمان و الأدوار و في تمام الأقطار و الأمصار، و يتضح ذلك بملاحظة أمرين:

الأوّل: أنّ تحصيل العلم القطعي عن طريق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن أمر صعب، خصوصاً بالنسبة إلى من يسكن البوادي و القرى مع قلة المواصلات و الوسائل الإعلامية.

الثاني: انّ القلب يسكن إلى قول الثقة و يطمئن به و يخرج عن التزلزل، و لأجل ذلك يُعدّ عند العرف علماً لا ظناً، خصوصاً إذا كان عدلاً، ذا ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب.

و لو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع، كان عليه الردع عن ذلك كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

مع أنّك إذا سبرت حياة الأُمم في العصور السابقة، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل بخبر الواحد، خصوصاً بين أهل القرى و البوادي التي لا يتوفر

ص:270

فيها الأخبار المتواترة و لا المحفوفة بالقرائن، و أنّ عمل المسلمين بخبر الثقة لم يكن إلاّ استلهاماً من السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

و الحاصل: أنّه لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً عند الشرع، لكان هناك الردع القارع و الطرد الصارم حتى ينتبه الغافل و يفهم الجاهل.

و لأجل ذلك نرى أنّه وردت الأخبار المتضافرة حول ردّ القياس، و الرجوع إلى قضاة الجور، و تقبل الولاية من الجائر لما جرت عليه سيرة العامة من العمل به و الرجوع إلى قضاة الجور، و تقبل الولاية من الجائرين، و هي أقلّ ابتلاء بمراتب عن العمل بخبر الواحد، و على ضوء هذا، فهذه السيرة العقلائية حجّة ما لم يردع عنها.

السيرة و الآيات الناهية عن الظن

لا شكّ انّ الاحتجاج بالسيرة فرع عدم الردع عنها شأن كلّ سيرة يستدل بها على حكم شرعي و ربما يتصور انّ الآيات الماضية و الروايات المانعة عن اتّباع غير العلم رادعة عنها و ناهيك قوله تعالى: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)، و قوله تعالى: (وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(2).

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عنه بوجوه ثلاثة:

1. انّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في أُصول الدين.

2. المتيقن منها، ما لم يقم على اعتباره حجّة.

3. كونها رادعة، مستلزمة للدور و ذلك:

ص:271


1- الإسراء: 36.
2- النجم: 28.

انّ الرادعية تتوقف على عدم كون السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية، و إلاّ فلا تكون رادعة، و عدم كونها مخصصة أو غير مقيدة فرع كونها بعمومها أو إطلاقها رادعة للسيرة فيلزم توقف كونها رادعة، على نفسها.

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد على نفسه بورود نفس الدور على اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً.

و لكن الظاهر انّ ما ذكره من الأجوبة الثلاثة تبعيد للمسافة و لا حاجة إليها بل النسبة بين الآيات و السيرة تباين، فانّ المراد من الظن في الآيات هو الوهم و الخيال و الخرص و التخمين، كتسمية الملائكة أُنثى، و أين هذا من العمل بقول الثقة المخبر عن حس، المتحرّز عن الكذب؟! فهو و إن كان ظنياً عقلاً، لكنّه ليس داخلاً في الظن المنهى عنه في الآية، كما أنّه و إن كان غير علمي في نظر المنطقيين، لكنّه في نظر العرف اطمئنان و سكون قلب، فهو لا يقصر عن العلم عندهم.

بقي هنا سؤال و هو انّ المحقّق الخراساني جعل رادعية الآيات للسيرة العملية في مورد خبر الواحد مستلزماً للدور، مع أنّه صحح رادعية الآيات للسيرة المستمرة بين العقلاء بالعمل بالاستصحاب. قال: يكفي في الردع عن مثله بما دلّ من الكتاب و السنّة على النهي عن اتّباع غير العلم عن مثله من الكتاب و السنّة على النهي عن اتباع غير العلم.(1)

فيتوجه السؤال انّه ما الفرق بين المقامين؟ أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً و هو انّه إذا فسر الظن في الآيات بما ذكرناه لا تصلح أن تكون رادعة للسيرة، لأنّ الظنّ المنهي عنه غير الظن الحاصل من السيرة، فهو في الأُولى بمعنى الخيال و في الثانية بعض الاطمئنان.

ص:272


1- الكفاية: 280، مبحث الاستصحاب، ط المشكيني.

و أمّا إذا قلنا بوحدة معنى الظن في مورد الآيات و السيرة كما تلقّاه المحقّق الخراساني، فالجواب الذي ذكره من استلزام الرادعية الدور ليس بصحيح، بل الآيات الناهية على هذا الفرض رادعة للسيرة من دون دور، و ذلك ببيانين:

الأوّل: انّ العام حجّة قطعية، و السيرة في مورد خبر الثقة هو حجّية مشكوكة، فكيف تعارض الحجّة القطعية؟ أمّا انّ الآيات فلحجية ظهور العام في تمام أفراده ما لم يدل دليل قطعي على التخصيص، و أمّا كون السيرة حجّة مشكوكة لأنّها لا يحتج بها إلاّ إذا ثبت الإمضاء و لو بالسكوت، و المفروض عدم إحرازه لاحتمال كون الآيات الناهية رادعة و حجّة في قبالها، فيكون مرجع الكلام إلى الشكّ في تخصيص الآيات بالسيرة، و من المعلوم انّ المرجع عندئذ هو العام حتى يثبت الخلاف.

الثاني: انّ رادعية الآيات و إن شئت قلت: الاحتجاج بالآيات موقوف على عدم ثبوت تخصيصها بالسيرة، و هو أمر متحقّق بالفعل، إذ لم يثبت بعد كون السيرة مخصِّصة، فيكفي بالاحتجاج بعدم الثبوت.

نعم لو قلنا بأنّ الاحتجاج بالآيات متوقف على عدم كون السيرة في الواقع مخصِّصاً، و هو بعدُ غير حاصل و لا متحقّق و يتوقف عدم كونها مخصصاً على صحّة الاحتجاج لزم الدور.

فمنشأ الخلط توهم توقف صحّة الاحتجاج بالآيات على ثبوت عدم كونها مخصصةً في الواقع، و الحال انّه متوقف على عدم الثبوت و عدم العلم بالتخصيص و هو أمر حاصل.

ما هو الموضوع للحجّية أ هو خبر الثقة، أو الموثوق بصدوره؟

هل عمل العقلاء بخبر الثقة، بما هو ثقة و إن لم يفد الوثوق بصدور الرواية،

ص:273

أو العمل به لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم؟ و الظاهر هو الثاني، لأنّ معنى الأوّل كون العمل بخبر الثقة من باب التعبد، و هو بعيد جداً، بل العمل به لأجل كونه طريقاً إلى الوثوق بصدور الرواية، و لأجل ذلك لو لم يُفِدْ ذلك لما عملوا به إلاّ في صورة الاضطرار.

فإذا كان الأمر كذلك يكون الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيعم الأقسام الأربعة، أعني:

1. الصحيح: ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات.

2. الموثق ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل الثقة) العدل (مع دخول غير الإمامي في سنده كالواقفي و الفطحي.

3. الحسن: ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامي ممدوح بلا معارضة ذم مقبول من غير تنصيص على عدالته في جميع مراتبه السند أو بعضه مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح بشرط الوثوق بصدوره.

4. الضعيف ما لا تجتمع فيه أحد الثلاثة و هو على أقسام:

أ. أن يكون مهملاً: أي يكون في السند من هو معنون في الرجال، و لكن لم يذكر في حقّه شيء من المدح أو الذم، فأُهمل من جانب التوثيق و التضعيف.

ب. أن يكون مجهولاً، أي غير معروف بين الرجاليين، و حكموا عليه بالجهالة.

ج. ما حكم عليه بالضعف في العقيدة أو بالخلط و الدس و الوضع.

فالقسمان الأوّلان من الضعيف إذا اقترنا بما يورث الوثوق بصدوره يحكم عليه بالحجّية.

فإن قلت: فعلى هذا يكون الدليل هو القرائن لا الخبر.

ص:274

قلت: إنّ للخبر دوراً في إفادة الاطمئنان، و لذلك اعتبرنا من الضعيف، القسمين الأوّلين.

و هذا هو المختار في باب حجّية الخبر الواحد، و هو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد، قال: و الإنصاف انّ الدال منها لم يدل إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق و الاطمئنان بمؤدّاه، و هو الذي فسر الصحيح في مصطلح القدماء.

و المعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به) الاحتمال (العقلاء و لا يكون غيرهم موجباً للتحيّر و التردّد.(1)

***

الخامس: الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالعقل

(2)

و قد استدل على حجّية الخبر الواحد بتقارير ثلاثة:

الأوّل: إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار

انّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب و لا سبيل إلى منع العلم بذلك، و نحن مكلّفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام، هذا من جانب.

و من جانب آخر لا يجب الاحتياط في الأخذ بجميعها الأعم من المظنون و المشكوك و الموهوم لعدم إمكانه أو تعسره، و لا يجوز الرجوع إلى الأُصول العملية لمنافاته للعلم الإجمالي بالتكاليف الموجودة فيها، فيجب الأخذ بمظنون الصدور فقط، لأنّ الأخذ بمشكوكه أو موهومه ترجيح للمرجوح على الراجح.

ص:275


1- الفرائد: 106، طبعة رحمة اللّه.
2- و قد عرفت انّ السيرة دليل مستقل وراء الإجماع، فيكون العقل دليلاً خامساً.

و أورد الشيخ على هذا التقرير إشكالات ثلاثة، لم يتعرض المحقّق الخراساني لثانيها، و ردّ الإشكال الأوّل في مقام تقرير الدليل، و قَبِلَ الإشكال الثالث، و صار الدليل لأجل الإشكال الثالث، عقيماً.

تقرير الإشكال: انّ العمل بالخبر المظنون الصدور لأجل كونه موصلاً إلى الظن بصدور الحكم الشرعي، فيجب العمل بكلّ أمارة لها هذا الوصف، أي كلّ أمارة تفيد الظن بصدور الحكم، فعندئذ يكون الخبر و الشهرة الفتوائية و الإجماع المنقول سواسية.

و هذا الإشكال هو الذي أجاب عنه المحقّق الخراساني في ضمن تقرير الدليل من دون أن يشير إلى الإشكال و الجواب.

و حاصل ما دفع به الإشكال في ضمن التقرير: انّ العلم الإجمالي بالتكاليف بين مطلق الأمارات ينحلّ بالعلم بها تفصيلاً عن طريق الاخبار، و عندئذ ينحل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً و الشكّ البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة كالشهرة الفتوائية و الإجماع المنقول.

توضيحه: انّ هنا علماً إجمالياً كبيراً، و هو العلم بالتكاليف في ضمن الأمارات على وجه الإطلاق; و علماً إجمالياً صغيراً، و هو العلم بالتكاليف في ضمن الأخبار التي بأيدينا بأقسامها الثلاثة: المظنونة، المشكوكة، أو الموهومة. و الشيخ يدّعي انّه لا ينحل العلم الإجمالي الكبير بعزل الأخبار عنه، بل يبقى العلم الإجمالي بحاله لوجود العلم بالتكليف في ضمن سائر الأمارات فيجب الاحتياط في الجمع، و لكن المحقّق الخراساني يدّعي انحلال الكبير بعزل الأخبار منها بل بعزل قسم عظيم منه كالتسعين بالمائة من الأخبار فلا يجب الاحتياط في الاخبار.

ص:276

و حينئذٍ يقع الكلام في بيان ما هو الميزان للانحلال و عدمه.

أقول: الميزان في الانحلال و عدمه هو انّه لو كان عدد التكاليف الموجودة في دائرة العلم الإجمالي الكبير مساوياً مع العدد المعلوم في دائرة العلم الإجمالي الصغير، ينحلُّ قطعاً، و يكفي في الانحلال احتمال الانطباق و لا يلزم العلم بالانطباق بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ من العدد المعلوم في الأُولى.

مثلاً لو علمنا بأنّ في قطيع الغنم التي فيها البيض و السود، عشر شياه محرمة، ثمّ علمنا انّ في خصوص السود منها عشر شياه محرمة و احتملنا أن يكون المحرّمة في الثانية نفس الشياه المحرمة في الأُولى، فبعزل الشياه السود ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل و إن كانت دائرته أوسع، إذ مع العزل لا يبقى علم إجمالي أبداً، بخلاف ما إذا كان العدد المعلوم في الثانية أقلّ، كما إذا علم وراء العلم الإجمالي في القطيع، بوجود خمسة شياه محرمة في السود منها، إذ عندئذ لا ينحل و إن عزل عن القطيع.

هذه هي الضابطة، و أمّا انّ المقام من قبيل أي من القسمين فهو أمر وجداني لا برهاني، فلو قلنا: إنّ عدد التكاليف المعلومة في دائرة العلم الإجمالي الكبير لا يزيد على العدد المعلوم في دائرة الإجمالي الصغير، فبعزل الاخبار بل بعزل قسم عظيم منها، ينحل العلم الإجمالي الكبير، فلا يجب الاحتياط في سائر الأمارات كالشهرات و الإجماعات المنقولة; و أمّا لو كان العدد المعلوم في الدائرة الأُولى أكثر يبقى العلم الإجمالي الكبير بحاله و إن عزلت الأخبار فلا يختص الاحتياط بخصوص الأخبار، بل يجب فيها و في سائر الأمارات.

و لعلّ الحقّ مع الشيخ بالنظر إلى ما نقلناه عن سيد مشايخنا البروجردي من أنّ في الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس لها دليل سوى الشهرة الفتوائية، و هذا

ص:277

يؤيد انّ العلم بالتكاليف أوسع بما ورد في الأخبار.

و أمّا الإشكال الثاني(1) فقد تركه المحقّق الخراساني و نحن نقتفيه، و إنّما المهم هو الإشكال الثالث.

حاصله: انّ المطلوب هو إثبات حجّية الخبر الواحد، و هذا الدليل يثبت العمل بالأخبار في باب الاحتياط، و تظهر الثمرة في الأُمور التالية:

1. لو كان الخبر الواحد حجّة تكون أمارة، و الأمارة حجّة في لوازمه العقلية و العادية و بالتالي يترتب عليها أحكامها الشرعية، بخلاف ما لو كان الأخذ بها من باب الاحتياط فيكون أصلاً و مثبتات الأُصول ليست بحجّة.

2. لو كان الخبر الواحد حجّة، يصحّ نسبة مضمونه إلى الشارع لقوله:» ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان « و لا يكون تشريعاً، بخلاف ما لو كان أصلاً فلا تصحّ نسبة مضمونه إليه.

3. لو كان الخبر الواحد حجّة يكون مقدماً على الأُصول اللفظية كالعموم و الإطلاق فيخصص العموم و يقيد الإطلاق به، بخلاف ما لو كان الأخذ به من باب الاحتياط فلا يقدّم الأصل العملي على الأصل اللفظي.

4. لو كان الخبر الواحد حجّة، يقدم على الأُصول العملية مطلقاً نافية كانت أو مثبتة، بخلاف ما لو كان أصلاً فيقدم على الأصل النافي للتكليف لكونه على خلاف الاحتياط و لا يقدم على الأصل المثبت للتكليف، فإذا كان مفاد الأصل مثبتاً للتكليف و الخبر نافياً له، لأنّ الأخذ بالثاني من باب الاحتياط و المفروض كونه على خلاف الاحتياط.

ص:278


1- أشار إليه الشيخ بقوله: إنّ اللازم من كون مضمونه حكم اللّه....
التقرير الثاني: إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء و الشرائط

استدل الفاضل التوني على حجّية الخبر الموجود في الكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر، و قال: إنّا نقطع ببقاء التكليف في العبادات و المعاملات، مع أنّ جلّ أجزائها و شرائطها و موانعها إنّما تثبت بالخبر الواحد بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأُمور عن كونها هذه الأُمور عند ترك العمل بخبر الواحد.

و أورد عليه الشيخ بوجهين:

الأوّل: ما أورده أيضاً على التقرير الأوّل مع تفاوت يسير و قال: إنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء و الشرائط بين جميع الأخبار لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره; فاللازم إمّا الاحتياط إن لم يستلزم الحرج، أو العمل بكلّ ما دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.

و استشهد على ذلك بأنّه لو عزلنا أخبار العدول من الكتب الأربعة ثمّ ضممنا الباقي منها إلى سائر الأخبار الواردة في غيرها لبقى العلم الإجمالي بحاله.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بما أورده على التقرير الأوّل و قال: إنّ العلم الإجمالي و إن كان حاصلاً بين جميع الأخبار، إلاّ أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم) عليهم السلام (بقدر الكفاية بين تلك الطائفة(1) أو العلم باعتبار تلك الطائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم و صيرورة غيره خارجاً عن طرف العلم.

و حاصله: انّه إذا ضُمّت الروايات المعلومة الصدور إلى معلومة الاعتبار

ص:279


1- المراد من الطائفة ما ورد في كلام صاحب الوافية: الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة من غير فرق بين كونها مفيداً للعلم، أو علمياً دلّ على اعتبار الدليل الخاص.

يبلغ إلى حدّ قد ينحل معه العلم الإجمالي بالأجزاء و الشرائط بين مطلق الأخبار فليس لازم هذا التقريب الاحتياط المطلق بين جميع الأخبار حتى يترتب عليه ما ترتب، ثمّ إنّه) رحمه الله (احتمل عدم الانحلال ثمّ أمر بالتأمّل.

الثاني: انّ المطلوب في المقام هو صيرورة الخبر الواحد من باب كونه أمارة و دليلاً اجتهادياً حتى تترتب عليه الآثار الأربعة.

أ: حجّية مثبتاته و إثبات لوازمه ليترتب على اللازم ما له من الآثار الشرعية.

ب: صحّة نسبة مضمونه إلى اللّه سبحانه أخذاً بقوله) عليه السلام (:» ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان «.

ج: كونه وارداً على الأُصول العملية و رافعاً لموضوعها مثلاً لو كان مقتضى سائر الأُصول هو الاحتياط في الجزء و الشرط كاستصحاب وجوبهما في حال النسيان و الجهل، و كان مقتضى الخبر النفي، فلا يقدم الخبر عليه، لأنّه على خلاف الاحتياط فليس في مثل هذا الخبر ملاك الأخذ به في مقابل الأصل فإذا نسي السورة، فمقتضى استصحاب وجوبها في حال النسيان هو إعادة الصلاة و لكن مقتضى قوله:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «عدمه لأنّه ليس من الأُمور الخمسة.

د: كونه مقدّماً على الأُصول اللفظية من إطلاق و عموم.

و الدليل الذي أقامه صاحب الوافية لا يثبت إلاّ كونه حجّة من باب الاحتياط فيكون أصلاً من الأُصول لا يترتب عليه تلك الآثار.

التقرير الثالث:

ما ذكره المحقّق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم باسم هداية المسترشدين و قد لخّصه الشيخ الأنصاري على وجه لا يخلو عن اختصار مخل، و كلامه) قدس سره (في هداية المسترشدين أيضاً لا يخلو عن إطناب مخل،

ص:280

و تتضح حقيقة مراده إذا رجعنا إلى التنبيه الأوّل من تنبيهات دليل الانسداد، فقد فرعوا على المقدمات الخمس انّ قضيتها على تقدير سلامتها هل هو حجّية الظن بالواقع، أو حجّية الظن بالطريق، أو بهما؟ و قد اختار صاحب الحاشية انّ الحجّة هو الظن بالطريق كالظن بأنّ القرعة حجّة، و الخبر الواحد حجّة، و لا يكفي الظن بالواقع إذا لم يكن هناك ظن بالحجّية كالظن بالحكم الواقعي عن طريق القياس و الاستحسان.(1)

فهو) قدس سره (قد أقام ثمانية أدلة على اعتبار الظن بالطريق، و قد نقل الشيخ الأنصاري الوجه السادس، و نحن نذكر نصّ كلامه.

قال: السادس: إنّه قد دلّت الأخبار القطعية و الإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب و السنّة بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الأُمّة.

و حينئذٍ إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعي من الرجوع إليهما في الغالب، تعيّن الرجوع على الوجه المذكور، و إن لم يحصل ذلك و كان هناك طريق في كيفية الرجوع إليهما) كالخبر الصحيح و الموثق مثلاً (تعين الأخذ به و كان بمنزلة الوجه الأوّل و إن انسد سبيل العلم، و كان هناك طريق ظني) كالخبر الحسن و الضعيف ( في كيفية الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه و الأخذ بمقتضاه و حيث لا ترجيح لبعض الظنون المتعلقة بذلك على بعض يكون مطلق الظن المتعلق بهما حجّة.(2)

فإن قلت: كيف يكون هذا التقرير دليلاً على حجّية الخبر الواحد، مع أنّ نتيجته هو حجّية مطلق الظن؟

ص:281


1- لاحظ الكفاية: 2/25» هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجّية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما؟ «.
2- هداية المسترشدين: 391.

قلت: لأنّ الضرورة قامت على لزوم الرجوع إلى السنّة و الأخذ بخبر الواحد أخذ بالسنّة دون سائر الأمارات كالإجماع المنقول و الشهرة.

أضف إلى ذلك: انّه ربما يحصل الظن بالحكم و لكن لا يظن بصدوره عن الحجّة، إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم و بقى مخزوناً عندهم لمصلحة من المصالح، فلا يكون مطلق الظنّ مجرداً عن الظن بالطريق حجّة.

هذا توضيح لمرامه.

و أورد عليه الشيخ بالنحو التالي:

إن أراد من السنّة هو قول المعصوم و فعله و تقريره، فيرد عليه انّ الرجوع إلى السنّة ليس إلاّ الوقوف على ما فيها من الأحكام، و ليس الوقوف على لفظها أمراً مطلوباً للفقيه، فإذا كان الملاك للرجوع هو الوقوف على التكاليف، فيشاركه سائر الأمارات في الدلالة على المطلوب، كالإجماع المنقول و الشهرة و لا تختص الحجّية بالخبر الواحد.

و بعبارة أُخرى: إذا لم يتمكن من تحصيل العلم بمدلول السنّة يتعيّن الرجوع باعتراف المستدل إلى ما ظن كونه مدلولاً لأحدهما، و عندئذ لا فرق بين خبر الواحد و مؤدّى الشهرة أو معقد الإجماع المنقول فإنّ مؤدّى الجميع مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره.

و توهم احتمال عدم ورود مؤدّى الشهرة و الإجماع المنقول في الكتاب و السنّة نادر جدّاً، لأنّ المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكي الإجماع بها من المسائل التي تعمّ بها البلوى بحيث نعلم صدور حكمها عنهم صلوات اللّه عليهم.

و إن أراد من السنّة، الحواكي، أي الأخبار و الأحاديث، و المراد انّه يجب الرجوع إلى الأخبار المحكية عنهم فإن تمكن من الرجوع إليها على وجه يفيد العلم

ص:282

بالحكم فهو، و إلاّ وجب الرجوع إليها على وجه يظن منه الحكم.

فقد أورد عليه الشيخ بعد إشكالات جانبية بأنّه لو ادّعى الضرورة على وجوب الرجوع إلى تلك الحكايات غير العلمية لأجل لزوم خروج عن الدين لو طرحت بالكلية، يرد عليه انّه إن أراد لزوم الخروج عن الدين من جهة العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً) و على حدّ تعبير الكفاية دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية فيها (فهذا يرجع إلى دليل الانسداد.

و إن أراد لزومه من جهة خصوص العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار حتى لا يثبت بها حجّية غير الخبر الظني من الظنون ليصير دليلاً عقليّاً على حجّية الخبر، فهذا يرجع إلى الوجه الأوّل.(1)

و الحاصل: انّ الرجوع إليها، إمّا لأجل العلم بمطابقة أكثرها للواقع، أو للعلم بصدور أكثرها الكاشف عن الواقع. فالأوّل تقرير لدليل الانسداد، و الثاني تقرير لدليل الفاضل التوني.

و قد أورد المحقّق الخراساني على الشيخ في الكفاية بأنّ إشكاله على تقدير إرادة السنّة بالمعنى الثاني إنّما يتم لو كان الرجوع إلى الأخبار من باب الطريقية إلى الواقع و الإنسان غير معذور من قبل الواقعيات فيجب العمل بها، إمّا لقضية المطابقة، أو صدور الأكثر; و أمّا لو قلنا بأنّ الرجوع إليها من باب النفسية و الموضوعية و انّه لا فعلية للواقعيات، بل الفعل هو مؤديات الأخبار، فلا يرجع إلى أحدهما.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار انّ مراده هو الوجه الثاني، و أورد عليه بأنّ لازم ما أفاده هو التدرّج في الأخذ بالأخبار، فإن وفى المتيقن الاعتبار لاستنباط

ص:283


1- الفرائد: 106.

الأحكام فهو، و إلاّ فيرجع إلى المتيقن اعتباره بالإضافة و إلاّ فالاحتياط لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، لأنّ الرجوع إلى ما علم اعتباره تفصيلاً أو إجمالاً) كالرجوع إلى الجمع احتياطاً (يمنع عن الرجوع إلى ما ظن اعتباره.

تمّ الكلام في الأدلة العقلية القائمة على حجّية الخبر الواحد كما تمّ البحث في الظنون الخاصة، و حان حين البحث في الظن المطلق، و لكن هنا ظناً خاصاً دلّ الدليل على اعتباره و لم يتعرض إليه القوم و هو حجّية العرف و السيرة، و إليك البيان.

ص:284

الحجج الشرعية 6 العرف و السيرة
اشارة

إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط أوّلاً، و فصل الخصومات ثانياً، حتى قيل في حقّه العادة شريعة محكمة، أو الثابت بالعرف كالثابت بالنص.(1) و لا بدّ للفقيه من تحديد دوره و تبيين مكانته حتى يتبين مدى صدق القولين.

أقول: العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس و ساروا عليه، من فعل شاع بينهم، أو قول تعارفوا عليه، و لا شكّ انّ العرف هو المرجع في منطقة الفراغ، أي إذا لم يكن هناك نصّ من الشارع على شيء على تفصيل سيوافيك، و إلاّ فالعرف سواء أ وافقها أم خالفها ساقط عن الاعتبار.

استكشاف الجواز تكليفاً و وضعاً
اشارة

يستكشف جواز الفعل تكليفاً، و وضعاً بالسيرة بشرط أمرين:

1. أن لا يصادم التنصيص:

قد يطلق العرف و يراد به ما يتعارف بين المسلمين من دون أن يدعمه دليل من الكتاب و السنّة، و هذا ما نلاحظه في الأمثلة التالية:

1. العقود المعاطاتية من البيع و الإجارة و الرهن و غيرها.

2. وقف الأشجار و الأبنية من دون وقف العقار.

ص:285


1- رسائل ابن عابدين: 2/113، في رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام 1243 ه.

3. دخول الحمام من دون تقدير مدّة المكث فيه و مقدار المياه التي يصرفها.

4. استقلال الحافلة بأُجرة معينة من دون أن يعين حدّ المسافة. إلى غير ذلك من السير المستمرة بين المسلمين و لو اجتمع فيه الشرطان، فالسيرة تضفي عليها الجواز تكليفاً لا وضعاً.

فإن قلت: دلّ الدليل على بطلان الإجارة المجهولة، فالقول بالصحّة في الأخير يصادم النص.

قلت: المراد منه هو الدليل في خصوص المورد على وجه التنصيص.

و أمّا الموجود في المقام فلا يتجاوز الإطلاق القابل للتقييد.

و الكلام الخامس في السيرة، هي انّها على قسمين:

تارة تصادم الكتاب و السنّة و تعارضهما، كاختلاط النساء بالرجال في الأفراح و الأعراس و شرب المسكرات فيها و المعاملات الربوية، فلا شكّ انّ هذه السيرة باطلة لا يرتضيها الإسلام و لا يحتج بها إلاّ الجاهل.

و كاشتراط المرتهن الانتفاع من العين المرهونة، أو اشتراط ربّ المال في المضاربة قدراً معيناً من الربح لا بالنسبة، فهذا النوع من السيرة لا يحتج بها لمخالفتها للنص الصريح.

و أُخرى لا تصادم الدليل الشرعي و في الوقت نفسه لا يدعمها الدليل، فهذا النوع من السيرة إن اتصلت بزمان المعصوم و كانت بمرأى و مسمع منه و مع ذلك سكت عنها تكون حجّة على الأجيال الآتية.

و بذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين بعد رحيل المعصوم لا يصحّ الاحتجاج بها و إن راجت بينهم كالأمثلة التالية:

1. عقد التأمين: و هو عقد رائج بين العقلاء، عليه يدور رحى الحياة

ص:286

العصرية، فموافقة العرف لها ليس دليلاً على مشروعيتها، بل يجب التماس دليل آخر عليها.

2. عقد حقّ الامتياز: قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء و الهاتف و الماء و غير ذلك التي تعد من متطلبات الحياة العصرية، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة و الانتفاع بها، و حيث إنّ هذه السيرة استحدثت و لم تكن من قبل، فلا تكون موافقة العرف لها دليلاً على جوازها، فلا بد من طلب دليل آخر.

3. بيع السرقفلية: قد شاع بين الناس انّ المستأجر إذا استأجر مكاناً و سكن فيه مدّة فيصبح له حقّ الأولوية و ربما يأخذ في مقابله شيئاً باسم» السرقفلية «حين التخلية.

4. عقود الشركات التجارية الرائجة في عصرنا هذا، و لكلّ منها تعريف يخصها، و لم يكن لها أثر في عصر الوحي، فتصويب كلّ هذه العقود بحاجة ماسة إلى دليل آخر وراء العرف، فإن دلّ عليه دليل شرعي يؤخذ بها و إلاّ فلا يحتج بالعرف.

2. الرجوع إلى العرف في تبيين المفاهيم

1. إذا وقع البيع و الإجارة و ما شابههما موضوعاً للحكم الشرعي ثمّ شكّ في مدخلية شيء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعاً، فالصدق العرفي دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع.

إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره و كمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات و المكروهات إذ يكون تركه إغراء بالجهل و هو لا يجوز.

ص:287

يقول الشيخ الأنصاري في نهاية تعريف البيع: إذا قلنا بأنّ أسماء المعاملات موضوعة للصحيح عند الشارع، فإذا شككنا في صحّة بيع أو إجارة أو رهن يصحّ لنا أن نستكشف ما هو الصحيح عند الشارع ممّا هو الصحيح عند العرف، بأن يكون الصحيح عند العرف طريقاً إلى ما هو الصحيح عند الشارع إلاّ ما خرج بالدليل.

2. لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلى العرف.

قال المحقّق الأردبيلي: قد تقرر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جرياً على العادة المعهودة من ردّ الناس إلى عرفهم.(1)

3. لو افترضنا الإجمال في حدّ الغناء، فالمرجع هو العرف، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفاً فهو حرام و إن لم يشتمل على الترجيع و لا على الطرب.

يقول صاحب مفتاح الكرامة: المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه، و ما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بين في الأُصول.(2)

يقول الإمام الخميني) رحمه الله (: أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع و العنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذاً في دليل لفظي أو معقد الإجماع.(3)

ص:288


1- مجمع الفائدة و البرهان: 8/304.
2- مفتاح الكرامة: 4/229.
3- البيع: 1/331.
3. الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق

قد اتخذ الشرع مفاهيم كثيرة و جعلها موضوعاً لأحكام، و لكن ربما يعرض الإجمال على مصاديقها و يتردد بين كون الشيء مصداقاً له أو لا.

و هذا كالوطن و الصعيد و المفازة و المعدن و الحرز في السرقة و الأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في مصاديقها، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.

يقول المحقّق الأردبيلي في حفظ المال المودع: و كذا الحفظ بما جرى الحفظ به عادة، فإنّ الأُمور المطلقة غير المعيّنة في الشرع يرجع فيها إلى العادة و العرف، فمع عدم تعيين كيفية الحفظ يجب أن يحفظها على ما يقتضي العرف حفظه، مثل الوديعة، بأن يحفظ الدراهم في الصندوق و كذا الثياب و الدابة في الاصطبل و نحو ذلك، ثمّ إنّ في بعض هذه الأمثلة تأملاً، إذ الدراهم لا تحفظ دائماً في الصندوق، و لا الثياب و هو ظاهر.(1)

4. الأعراف الخاصة

إنّ لكلّ قوم و بلد أعرافاً خاصة بهم يتعاملون في إطارها و يتفقون على ضوئها في كافّة العقود و الإيقاعات، فهذه الأعراف تشكل قرينة حالية لحلّ كثير من الإجماعات المتوهمة في أقوالهم و أفعالهم، و لنقدم نماذج منها:

1. إذا باع دابة ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع ليس هو اللغة بل ما هو المتبادر في عرف المتعاقدين و هو الفرس.

2. إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه، فالمرجع هو المتبادر في عرف

ص:289


1- مجمع الفائدة و البرهان: 28010/279.

المتبايعين و هو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.

3. إذا وصّى بشيء لولده، فالمرجع في تفسير الولد هو العرف، و لا يطلق فيه إلاّ على الذكر لا الأُنثى خلافاً للفقه و الكتاب العزيز قال سبحانه: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).(1)

4. إذا اختلفت البلدان في بيع شيء بالكيل أو الوزن أو بالعد، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.

قال المحقّق الأردبيلي: كلّما لم يثبت فيه الكيل و لا الوزن و لا عدمهما في عهده) صلى الله عليه و آله و سلم (فحكمه حكم البلدان، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح، و إن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربوياً تحرم الزيادة و في غيره لا يكون ربوياً فيجوز التفاضل، و الظاهر انّ الحكم للبلد لا لأهله و إن كان في بلد غيره.(2)

5. إذا اختلف الزوجان في أداء المهر، فالمرجع هو العرف الخاص، فلو جرت العادة على تقديم المهر أو جزء منه قبل الزفاف و لكن ادّعت الزوجة بعده انّها لم تأخذه، و ادّعى الزوج دفعه إليها، فللحاكم أن يحكم على وفق العرف الدارج في البلد.

و قد روي عن الإمام الصادق) عليه السلام (فيما إذا اختلف أحد الزوجين مع ورثة الزوج الآخر، انّه جعل متاع البيت للمرأة و قال للسائل:» أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ «فقلت: شاهدين، فقال:» لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذ بمكة لأخبروك انّ الجهاز و المتاع يهدى علانية، من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به و هذا المدّعي، فإن زعم أنّه أحدث فيه

ص:290


1- النساء: 11.
2- مجمع الفائدة و البرهان: 8/477، كتاب المتاجر، مبحث الربا.

شيئاً فليأت عليه البيّنة «.(1)

6. إذا اختلف البائع و المشتري في دخول توابع المبيع في البيع فيما إذا لم يصرحا به، كما إذا اختلفا في دخول اللجام و السرج في المبيع، فإذا جرى العرف على دخولهما في المبيع و إن لم يذكر يكون قرينة على أنّ المبيع هو المتبوع و التابع، و لذلك قالوا: إنّ ما يتعارفه الناس في قول أو فعل عليه يسير نظام حياتهم و حاجاتهم، فإذا قالوا أو كتبوا فإنّما يعنون المعنى المتعارف لهم، و إذا عملوا فإنّما يعملون على وفق ما يتعارفونه و اعتادوه، و إذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقتضي به عرفهم، و لهذا قال الفقهاء:

المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

إمضاء النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (لبعض الأعراف
اشارة

إنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أمضى بعض الأعراف الموجودة بين العرب كما أمضى ما سنّه عبد المطلب من السنن، و لكن كان الجميع بإذن منه سبحانه، فلو وضع الدية على العاقلة، أو جعل دية الإنسان مائة من الإبل و غير ذلك، فقد كان بأمر من اللّه سبحانه، كيف و قد أُوحي إليه قوله سبحانه:

(وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ * ... فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ).(2)

تفسير خاطئ

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: إنّ الرسول لمّا وجد عرف أهل المدينة جارياً على بيع السلم و على بيع العرايا و أصبح هذان النوعان من البيوع التي لا

ص:291


1- الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.
2- المائدة: 44 47.

يستغني عنهما المتعاملون أباحهما، فرخّص في السلم و رخص في العرايا مع أنّ كلاًّ منهما حسب الأحكام الشرعية عقد غير صحيح، لأنّ السلم بيع مبيع غير موجود وقت البيع بثمن حال فهو عقد على معدوم، و قد نهى) صلى الله عليه و آله و سلم (عن بيع المعدوم.

و العرايا: عبارة عن بيع الرطب على النخل بالتمر الجاف، و هذا لا يمكن فيه التحقّق من تساوي البدلين، و قد نهى) صلى الله عليه و آله و سلم (عن بيع الشيء بجنسه متفاضلاً، و لكن ضرورات الناس دعتهم إلى هذا النوع من التعامل و جرى عرفهم به فراعى الرسول ضرورتهم و عرفهم و رخّص فيه.(1)

أقول: من أين وقف الأُستاذ على أنّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (نهى عن بيع المعدوم مع أنّ الوارد هو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» و لا بيع ما ليس عندك «؟(2)و قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (ناظر إلى بيع العين الشخصية التي ليست في ملك البائع و إنّما يبيعها ليشتريها من غيره ثمّ يدفعها إليه و مثله لا يشمل بيع السلم.

نعم أطبق العقلاء على عدم اعتبار بيع المعدوم إلاّ إذا كان للبائع ذمّة معتبرة تجلب اعتماد الغير و كان بيع السلف أمراً رائجاً بين العقلاء إلى يومنا هذا غير انّ الشارع جعلها في إطار خاص قال ابن عباس: قدم النبي المدينة و هم يسلفون في الثمار السنة و السنتين، فقال:» من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم و وزن معلوم إلى أجل معلوم «.(3)

و أمّا بيع العرايا فلا مانع من أن يكون تخصيصاً لما نهى عن بيع الرطب بالجاف(4) و قد قيل: ما عام إلاّ و قد خصّ.

ص:292


1- مصادر التشريع الإسلامي: 146.
2- بلوغ المرام: برقم 820، قال وراه الخمسة. و روى أيضاً» و لا تبع... «.
3- بلوغ المرام: برقم 874.
4- روى سعد بن أبي وقاص، قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر إذا يبس، فقال: » أ ينقص الرطب إذا يبس؟ «، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك.) بلوغ المرام: برقم 865).

و لو افترضنا انّ النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (رخص هذه البيوع من باب الضرورة يجب الاختصار على وجودها.

نعم لمّا كان النبي واقفاً على مصالح الأحكام و مفاسدها و ملاكاتها و مناطاتها، و كانت الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد في متعلّقاتها، كان للنبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أن ينص على أحكامه عن طريق الوقوف على عللها و ملاكاتها و لا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف على مناطاتها بأقصر من الطرق الأُخرى التي يقف بها النبي على حلاله و حرامه.

في حجّية مطلق الظن

اشارة

و قد استدل على حجّية مطلق الظن بوجوه أربعة رابعها دليل الانسداد، و إليك الإشارة إليها واحداً تلو الآخر.

الدليل الأوّل: ما استدل به القدماء من الأُصوليين

ذكره الشيخ في العدّة عند البحث في حجّية الخبر الواحد فقال:» إنّ في العقل وجوب التحرز من المضارّ، و إذا لم نأمن عند خبر الواحد أن يكون الأمر على ما تضمّنه الخبر، يجب علينا التحرّز منه، و العمل بموجبه. كما أنّه يجب علينا إذا أردنا سلوكَ طريق أو تجارة و غير ذلك فخُبِّرنا بخبر انّ في الطريق سبعاً أو لصّاً، أو خُبِّرنا بالخسران الظاهر، وجب علينا أن نتوقف عليه و نمتنع من السلوك فيه.(1)

و قرره المحقّق الخراساني بالشكل التالي:

ص:293


1- عدة الأُصول: 1/107.

إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي و التحريمي لمظنة الضرر، و دفع الضرر المظنون لازم.

أمّا الصغرى فقد فسر الضرر بأحد الأمرين:

1. بالعقوبة تارة، و المفسدة أُخرى. فقيل: إنّ الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح و المفاسد.

و أمّا الكبرى دفع الضرر المظنون لازم فقد استدلّ عليها بوجهين:

1. إمّا أن نقول بالتحسين و التقبيح العقليين فواضح، فالعقل يُقبِّح ارتكاب ما فيه الضرر المظنون.

2. أو لا نقول بهما و مع ذلك يستقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل لا بملاك استقلاله بهما، بل يحكم بذلك و إن لم يستقل بالتحسين و التقبيح العقليين، و لذلك أطبق العقلاء على ذلك و إن اختلفوا فيهما.

ثمّ إنّ القدماء ناقشوا الكبرى و قد نقل شيخنا الأنصاري منهم أجوبة ثلاثة كلّها يرجع إلى رفض الكبرى و قال:

أ: منع الحاجبيّ الكبرى، و قال: دفع الضرر المظنون احتياط مستحب.

ب: نقل الشيخ في العدّة انّ الحكم في الكبرى راجع إلى المضار الدنيوية لا الأُخروية و هو منه عجيب.

ج: و نقل عن ثالث جواباً نقضياً، و هو النهي عن الأمارات، كخبر الفاسق و القياس مع كونهما مفيدين للظن بالضرر.

و لكن الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني ركّزا على منع الصغرى، و انّ الظن بالوجوب و الحرمة لا يلازمان الظنّ بالضرر بكلا المعنيين: العقوبة و المفسدة،

ص:294

و إليك توضيح كلا الأمرين.

أمّا الأُولى: فيعلم ببيان مورد القاعدتين:

الأُولى: قبح العقاب بلا بيان.

الثانية: لزوم دفع الضرر) العقاب (المحتمل.

فلو وقفنا على حدود القاعدتين لظهر منع الصغرى في المقام، و إليك البيان:

أمّا القاعدة الأُولى: فالعقل يستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، و لا يرى الملازمة بين الوجوب و التحريم الواقعيين، و العقوبة، و إنّما يرى الملازمة بين الحكم الواصل إلى المكلّف، و العقوبة و ليس المراد إلاّ العلم أو ما دل الدليل القطعي على حجّيته.

و بما انّ المفروض في المقام عدم ثبوت حجّية الظن بالحكم في المقام، فلا يلازم الظّنُّ بالحكم، الظن بالعقوبة أبداً و يكون المحكّم هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان و إن كان في الواقع واجباً أو حراماً. فالقاعدة تنفي أي موضوع للقاعدة الثانية، فالثانية بالنسبة إلى مورد الأُولى، كبرى بلا صغرى.

و أمّا القاعدة الثانية، أعني: وجوب دفع الضرر) العقاب (فتختص بما إذا أُحرزت العقوبة على وجه القطع في ظل البيان الواصل و مع ذلك ربما تتجلّى بصور ثلاث:

أ: القطع بالعقاب، كما إذا علم انّ المائع مسكر.

ب: الظن بالعقاب، كما إذا علم انّ أحد الإناءين مسكر، ففي شرب الواحد منهما مظنة العقاب كما انّ في شرب كليهما القطع به.

ج: احتمال العقاب، كما إذا كانت الأطراف متعددة على وجه لا تخرج عن

ص:295

حدّ المحصورة و احتمال العقاب في واحد لا ينافي القطع بالعقاب في الجميع، ففي هذه الصور الصغرى و الكبرى محرزتان، ففي ظل البيان الواصل يكون العقاب، مقطوعه أو مظنونه أو محتمله واجب الدفع.

و العجب من المحقّق الخراساني حيث احتمل فيما إذا لم يكن في المورد بيان واصل و مع ذلك ظن بالحكم، أن لا يحكم العقل بأحد الطرفين لا باستحقاق العقاب و لا بعدم استحقاقه، و لأجل عدم حكمه بحسن واحد منهما، يكون العقاب محتملاً و يستقل العقل بلزوم دفع العقاب مقطوعه و مظنونه و مشكوكه(1).

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره غير تام لوجهين:

أ: انّ العقل لا يتوقف في الحكم إذا كان الموضوع ممّا له به صلة.

ب: انّ في تجويز توقف العقل عن إصدار الحكم في الموضوع الذي هو المرجع فيه، إبطالاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان و كيف يحتمل العقاب مع عدم كون الظن حجّة و البيان غير واصل.

هذا كلّه إذا أُريد من الضرر في الصغرى العقوبة الأُخروية.

و أمّا إذا أُريد من الضرر، المفاسد، فقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة أو المفسدة، لأنّهما من الأُمور التكوينية و لا تأثير للعلم و الجهل فيهما، و لكن ليس كلّ مفسدة واجبَ الدفع. و ذلك لأنّه ليس المراد منهما المصالح و المفاسد الشخصية، بل المصالح و المفاسد النوعية، و الذي يستقل العقل بدفعه هو الضرر المظنون الشخصي، لا النوعي، و مثله المصلحة النوعية فليس في تفويتها أيّ ضرر شخصي، بل ربما يكون في استيفائها مفسدة كما في الإنفاق بالمال.

ص:296


1- كفاية الأُصول: 110 111.

الثاني: ليس الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد في المأمور و المنهي عنها و إنّما هي تابعة لمصالح في نفس الأحكام.

و على ذلك فالصغرى أي الظن بالضرر الشخصي منتف، و معه كيف يُسْتَدلُّ بالكبرى؟! فإن قلت: إنّ الضرر الشخصي و إن كان منتفياً عند الظن بالحكم، لكن الظن بالمفسدة النوعية أو احتمالها حسب ما ذكر ليس منتفياً، و العقل مستقل بقبح مظنون المفسدة النوعية أو محتملها أو مظنون المصلحة أو محتملها.

قلت: قد أشار إلى هذا السؤال و الجواب عنه بقوله:» و لا استقلال للعقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة... «.

و حاصل الجواب: انّ العقل إنّما يستقل في مجال المصالح و المفاسد النوعية في صورة العلم بهما دون الظن و الاحتمال.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من تبعية الأحكام للمصالح النوعية و مفاسدها دون الشخصية، ليس بتام، إذ لا مانع من أن يكون في الحكم كلا الملاكين، كما في شرب المسكر و القمار و أكل الميتة و الدم و غير ذلك.

و ثانياً: أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام تابعة لهما في نفس الإنشاء دون المتعلّق، غير تام أيضاً، و لو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في الأوامر الامتحانية دون غيرها، و لو صحّ ما ذكره في عامة الأحكام لما وجب امتثالها، بعد حصول الملاكات، بالإنشاء.

و ثالثاً: التفريق بين الضرر الشخصي المظنون و المحتمل و الضرر النوعي كذلك بإيجاب دفع الأوّل دون الثاني عجيب جدّاً، و لا يحكم بذلك إلاّ العقل المادي الذي يقدم نفسه و نفعه على كلّ شيء، دون العقل الإلهي الذي يرى الناس سواسية، فلو وجب دفع الضرر الشخصي في مجالي الظن و الاحتمال، يجب دفع الضرر النوعي أيضاً كذلك، فالأولى الإجابة بأحد الوجهين على نحو المانعة

ص:297

الخلو:

1. الالتزام بالاحتياط فيما إذا كان الضرر خطيراً و إن كان من حيث الاحتمال ضعيفاً، كما إذا احتمل انّ المائع ممزوج بالسم المهلك، أو انّ شرب التتن يوجب احتراق المعمل المتعلّق بالشعب، فالعقلاء قاطبة على لزوم الاجتناب دون ما إذا كان الضرر طفيفاً و إن كان من حيث الاحتمال قويّاً، هذا من غير فرق بين الضرر الشخصي أو النوعي في كلتا الصورتين.

2. ما ذكره الشيخ من أنّ حكم الشارع بالبراءة في الشبهات يكشف إمّا عن عدم الأهمية، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة، كما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري قال: إنّ الضرر و إن كان مظنوناً، إلاّ أنّ حكم الشارع قطعاً أو ظناً بالرجوع في مورد الظن إلى البراءة و الاستصحاب و ترخيصه لترك مراعاة الظن، أوجب القطع أو الظن بتدارك ذلك الضرر المظنون.(1)

الدليل الثاني على حجّية الظن المطلق

إذا ظن بوجوب السورة في الصلاة، فالأمر دائر بين الأخذ به و الأخذ بمقابله، أعني: عدم الوجوب الذي يعدّ بالنسبة إلى مقابله وَهْماً، فلو لم يُؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

و قد أجاب عنه الشيخ بوجهين، تارة بالنقض بكثير من الظنون التي حَرُمَ العمل بها إجماعاً كالقياس و الاستحسان، و أُخرى بالحلّ و اقتصر المحقّق الخراساني بالثاني، و إليك توضيحه:

إنّ المستدل قد أخذ لزوم الأخذ بأحد الطرفين) الظن أو الوهم (أمراً مسلماً، فاستنتج انّه لو لم يؤخذ بالظن، لزم الأخذ بالوهم، و هو ترجيح المرجوح على

ص:298


1- الفرائد: 109.

الراجح.

و لسائل أن يقول: لزوم الأخذ إمّا في مقام الإفتاء، أو في مقام العمل.

أمّا الأوّل فإنّما يدور الأمر بينهما إذا وجب عليه الإفتاء، و لكن لقائل أن يقول يحرم عليه الإفتاء و الحال هذه، لأنّه إفتاء بما لا يعلم صحّته سواء كان جانب الظن أو جانب الوهم.

و أمّا الثاني فلأنّ الأمر لا يدور بينهما إلاّ إذا ثبتت قبله مقدمات ثلاث:

1. العلم الإجمالي بالتكاليف.

2. انسداد باب العلم و العلمي بالأحكام بمقدار يكفي في انحلاله.

3. بطلان الاحتياط لاستلزامه العسر و الحرج و عدم جواز الرجوع إلى البراءة لاستلزامه الخروج عن الدين و عدم جواز التقليد.

فعندئذ ينحصر الطريق بالعمل بواحد من الطرفين، و لكنّه يرجع إلى دليل الانسداد، و لا يكون دليلاً مستقلاً.

الدليل الثالث على حجّية الظن المطلق

ما حكاه الشيخ الأنصاري، عن أُستاذه شريف العلماء، و هو عن أُستاذه السيد محمد المجاهد صاحب المناهل) المتوفّى سنة 1242 ه (، ابن السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض قدّس اللّه أسرارهم و حاصله:

انّه لا ريب في وجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى ذلك، الاحتياط التام حتى في الموهومات، و بما انّ الاحتياط التام مستلزم للحرج، فمقتضى الجمع بين القاعدتين هو الاحتياط في المظنونات دون المشكوكات، لأنّ عكسه باطل بالإجماع.

ص:299

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بعض مقدمات دليل الانسداد و قد أهمل ذكر بعضها الآخر، و هو انسداد باب العلم و العلمي أوّلاً، و عدم إهمال الوقائع المشتبهة ثانياً.

الدليل الرابع على حجّية الظن المطلق: دليل الانسداد
اشارة

و هو مؤلَّف من مقدّمات يستقل العقل من تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنية، حكومة أو كشفاً، و هي خمس و جعلها الشيخ أربع بحذف المقدمة الأُولى، و إليك بيانها:

الأُولى: العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعلية.

الثانية: انسداد باب العلم و العلمي.

الثالثة: لا يجوز لنا إهمالها و عدم التعرض لها.

الرابعة: لا يجوز أو لا يجب الاحتياط لعدم وجوبه بقوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1)أو للإجماع كما لا يجوز الرجوع إلى الأُصول من استصحاب و براءة، لعدم جواز الرجوع إلى الأُصول عند العلم الإجمالي و لا تقليد لحرمته على المجتهد.

الخامسة: لا بدّ في مقام الإطاعة إمّا من الاكتفاء بالإطاعة الوهمية أو الشكية أو الظنية، فعلى الأوّلين يلزم ترجيح المرجوح على الراجح فيتعين الثالث، أعني: الاكتفاء بالإطاعة الظنية.

هذا هو لبّ دليل الانسداد، و تسميته بالدليل العقلي مع كون بعض مقدماته شرعية، أعني: عدم وجوب الاحتياط لقيام الإجماع عليه، أو لدلالة قوله تعالى: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2)لأجل انّ الدليل بصورة قياس

ص:300


1- الحج: 78.
2- الحج: 78.

استثنائي مركب من قضية منفصلة حقيقة ذات أطراف كثيرة، و هي: إمّا أن يكون علم إجمالي بالتكاليف، أو لا يكون، و على الأوّل إمّا أن ينسد باب العلم و العلمي إلى كثير منها أو لا. و على الأوّل إمّا أن يجوز الإهمال أو لا، و على الثاني فالتعرض إمّا بالاحتياط أو بالأُصول العملية أو بالرجوع إلى القرعة أو بالإطاعة الوهمية و الشكية أو الظنية. و الكلّ باطل غير الأخير، فتعين الأخير.

و إليك دراسة المقدّمات واحدة تلو الأُخرى.

المقدمة الأُولى العلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

و هذه المقدمة أسقطها الشيخ من مقدمات دليل الانسداد و الحقّ معه، لأنّها إمّا أمر بديهي إذ أريد منه العلم بثبوت الشريعة و عدم نسخ أحكامها، أو راجعة إلى المقدمة الثالثة إذا أريد منها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الوقائع المشتبهة التي لم يتبين حكمها و لذلك لا يجوز إهمالها و عدم التعرض لامتثالها أصلاً.

و لكن الظاهر من المحقّق الخراساني هو اختيار الوجه الأوّل، و بذلك تكون مقدمة بديهية لكن العلم الإجمالي بتكاليف فعلية في الشريعة ليس باقياً بحال إجماله بل كلّ ينحلّ بالترتيب التالي.

توضيحه: انّ لنا علوماً ثلاثة:

أ: علم إجمالي كبير، و هو العلم بوجود التكاليف في الواقع و انّ الشرع لم يترك الإنسان سدى.

ب: علم إجمالي صغير، و هو العلم بوجود عامة التكاليف بين الأمارات و الأخبار الموجودة فيما بأيدينا.

ص:301

ج: علم إجمالي أصغر و وجود عامة التكاليف المعلومة إجمالاً في خصوص الأخبار المودوعة في الكتب المعتبرة و غير المعتبرة التي يربو عددها على خمسين ألف حديث.(1)

فلازم ذلك العلم، الاحتياط في خصوص الأخبار الأعم من المعتبرة و غيرها و لا يورث مثل هذا الاحتياط، عسراً و لم يقم إجماع على عدم وجوبه في مورد الأخبار و إن قام الإجماع على عدم وجوبه في أطراف العلمين الأوّلين.

على أنّه سيوافيك إمكان انحلال ثالث العلوم برابعها أيضاً.

المقدمة الثانية انسداد باب العلم و العلمي في معظم الفقه و عليها تدور رحى دليل الانسداد،

و قد اقتصر بها صاحبا المعالم و الوافية و إنّما أضاف إليها سائر المقدّمات المتأخرون عنهما، و لكن انسداد باب العلم بالنسبة إلى معظم الفقه صحيح لقلّة الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة لكن ادّعاء انسداد باب العلمي، أي ما دلّ الدليل القطعي على حجّيته بالنسبة إلى معظم الفقه، غير صحيح لما عرفت من الدليل القطعي على حجّية الخبر الموثوق بصدوره سواء حصل الوثوق بالصدور من وثاقة الراوي أو قرائن أُخر و هو بحمد اللّه متوفر و واف بمعظم الفقه على وجه لا يلزم الرجوع في غير مورد الخبر إلى الأُصول العملية محذور الخروج من الدين، أو مخالفة العلم الإجمالي، لعدم العلم بالتكاليف في غير موارد الاخبار.

نعم لو قلنا بحجّية خصوص الصحيح الأعلائي الذي يكون جميع من ورد في السند إمامياً معدلاً بعدلين من أهل الخبرة، كان لما ادّعاه مجال، و لكن الاقتصار على خلاف ما دلّت عليه الأدلّة.

ص:302


1- الروايات الواردة في الجامع لأحاديث الشيعة تربو على خمسين ألف حديث.

أو قلنا بمقالة المحقّق القمي من أنّ الظهورات حجّة لمن قصد إفهامه من الكلام، فيدخل العمل بها لغير المشافهين تحت العمل بالظن المطلق، و قد عرفت عدم صحّة ما ذكر.

المقدمة الثالثة لا يجوز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها و ترك التعرض لامتثالها بإجراء البراءة في جميعها،

و مع أنّ المقدمة قطعية كما قالها المحقّق الخراساني، لكن الشيخ الأنصاري استدل عليها بوجوه ثلاثة:

أ: الإجماع القطعي على أن ليس المرجع على تقدير انسداد باب العلم و عدم ثبوت الدليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص، هو البراءة و إجراء أصالة العدم في كلّ حكم، بل لا بدّ من امتثال الأحكام المجهولة بوجه ما، و هذا الحكم و إن لم يصرح أحد به من القدماء بل المتأخرين في هذا المقام، إلاّ أنّه معلوم للمتتبع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طراً.

ب: انّ الرجوع في جميع تلك الوقائع المشتبهة حكمها إلى نفي الحكم، مستلزم للمخالفة القطعية المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين بمعنى انّ المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة، جاعلاً لها كالمعدومة يكاد يعد خارجاً عن الدين لقلّة المعلومات و كثرة المجهولات.

ج: لا يجوز الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجمالي بوجود الواجبات و المحرمات، فانّ أدلّة البراءة مختصة بغير هذه الصورة.

و الفرق بين الوجهين الأخيرين واضح، و هو انّ أوّل الوجهين مبني على عدم جواز المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين، و هو محذور

ص:303

مستقل; بخلاف ثانيهما، فهو مبني على عدم جواز مطلق المخالفة القطعية و إن لم تكن كثيرة.

و بعبارة أُخرى: أساس الثاني هو العلم الإجمالي المنجز و معه لا تجوز المخالفة مطلقاً قلت أو كثرت، بخلاف الأوّل فانّ أساسه هو لزوم الخروج من الدين و لا يتحقق إلاّ بالمخالفة القطعية الكثيرة.

و قد اعتمد المحقّق الخراساني على الوجه الثاني و قال:

أمّا المقدمة الثالثة فهي قطعية و لو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، و ذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام و عدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأنّه مرغوب عنه شرعاً و مما يلزم تركه إجماعاً.

ثمّ إنّه) قدس سره (أشار إلى إشكال في المقام و قال ان قلت:

إذا لم يكن العلم بها منجزاً للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما أشير إليه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ على تقدير المصادفة، إلاّ عقاباً بلا بيان، و المؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان.

لكن يمكن الإجابة عنه بوجوه:

الأوّل: ما أفاده) قدس سره (بتوضيح منّا انّ إيجاب الاحتياط في غير ما يرتفع به العسر، ليس أثر العلم الإجمالي حتى يقال انّه غير منجز، بل أثر علمنا باهتمام الشارع بمراعاة تكاليف بحيث لا ينافيه عدم إيجابه الاحتياط) فيما يرتفع به العسر (و لو بالالتزام ببعض المحتملات، و أمّا مصدر علمنا باهتمامه فهو إمّا الإجماع أو كونه مستلزماً للخروج عن الدين) الوجهان الأوّلان (.

الثاني: انّ الاضطرار إلى بعض الأطراف إنّما ينافي تنجيز العلم الإجمالي إذا

ص:304

كان الاضطرار إلى طرف معين لا إلى واحد لا بعينه كما سيوافيك، و الاضطرار في المقام إنّما هو للبعض غير المعين لا المعين، لأنّ الاضطرار يرتفع بارتكاب بعض الأطراف لا بعينه.

الثالث: الفرق بين الاضطرار المقدّم على العلم الإجمالي، حيث يوجب عدم انعقاد العلم الإجمالي مؤثراً، لأنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير، و هذا إنّما يتصور إذا لم يتقدّم الاضطرار على العلم إذ عندئذ) فرض التقدم (يكون مؤثراً على فرض و غير مؤثر على فرض. و مثل هذا ينافي العلم بتنجز التكليف على كلّ تقدير، و بين الاضطرار الحادث بعد العلم، فهو و إن كان رافعاً للعلم، لكنّه ليس برافع أثره، لأنّ العقل يحكم بوجوب الاجتناب لأجل العلم السابق المرتفع فعلاً، و انّ الضروريات تتقدر بقدرها، و هو الطرف الرافع للاضطرار، لا غيره. و سوف يوافيك تفصيله.

المقدمة الرابعة: في بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقررة للجاهل.
اشارة

إنّ الطرق المقررة للجاهل أحد أُمور ثلاثة:

1. الاحتياط في المشتبهات مطلقاً.

2. الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة، ففي الشكّ في التكليف يرجع إلى البراءة، و في الشكّ في المكلّف به إلى الاحتياط إلاّ إذا لم يمكن فيرجع إلى التخيير، و في الشكّ في حكم سابق يحتمل بقاؤه يرجع إلى الاستصحاب.

3. تقليد الغير، و رجوع المجتهد الذي يعتقد بانسداد باب العلم إلى المجتهد القائل بالانفتاح و كلّ هذه الطرق باطلة، فلم يبق إلاّ العمل بالظن.

فيجب البحث في محاور ثلاثة:

ص:305

1. الرجوع إلى الاحتياط

أمّا الرجوع إلى الاحتياط، فوجه بطلانه أحد أمرين على وجه القضية المانعة الخلو:

أ: الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام، بمعنى العلم بسيرة العلماء في الفقه، و هو انّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم، ليس هو الاحتياط في الدين، و الالتزام بفعل كلّ ما يحتمل وجوبه و لو موهوماً و ترك ما يحتمل حرمته كذلك.

ب: لزوم العسر الشديد، و الحرج الأكيد لكثرة ما يحتمل خصوصاً في أبواب الطهارة و الصلاة، مع عدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد، كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ إلى صرفه عليه أو كما في المرافعات و على ذلك فلا مناص من العمل بالظن.

ثمّ إنّ الشيخ أورد إشكالاً على التمسك بأدلّة الحرج و قال: إنّ الأدلة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلاً و بالذات فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع إلى أن قال: و لا ريب في انّ وجوب الاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب و ترك كلّ ما يحتمل الحرمة إنّما هو من جهة اختفاء أحكام الشريعة و ليس مستنداً إلى نفس الحكم.

ثمّ أجاب عنه بأنّ الحرج وصف للحكم و المرفوع هو الحكم الحرجي و لا فرق فيه بين ما يكون بسبب يسند عرفاً إلى الشارع و هو الذي أريد بقولهم: دع ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالنذر، و بين ما يكون مسنداً إلى غيره، فانّ وجوب صوم الدهر على ناذره إذا بان فيه مشقة لا يحتمل عادة، ممنوع، و كذا أمثالها من المشي إلى بيت اللّه جلّ ذكره و إحياء الليالي و غيرهما.

ص:306

توضيحه: أنّ دليل نفي الحرج ينفي كلّ حكم حرجي سواء كان حرجياً حدوثاً، كما في إيجاب المسح على البشرة على من وضع المرارة عليها; أو بقاءً، كما في المقام فانّ امتثال الأحكام في هذه الظروف التي يتوقف امتثال واجب على الإتيان بعشرة أُمور، و ترك المحرم على ترك أُمور كثيرة ناش من حفظ الحكم في المقام فيكون مدلولها نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج و لو باعتبار بقائه في حال الاشتباه(1).

و أمّا المحقّق الخراساني فقد وافق المستدل إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام لا ما إذا استلزم الحرج، إذ لا حكومة لأدلته على إيجاب الاحتياط في المقام.

و توضيح كلامه مبني على بيان أمرين:

1. انّ المرفوع هو نفس الحرج، لا الحكم، و الحرج و الضرر من أوصاف أفعال المكلّفين التي هي متعلقات الأحكام، فلا يستدل بأدلّتهما إلاّ إذا كان نفس الفعل و متعلّق التكليف حرجياً. و لذلك يصحّ الاستدلال على عدم وجوب مسح البشرة لمن عثر و سقط ظفره، لأنّ نفس الفعل و متعلّق الحكم حرجي و لا يصحّ الاستدلال بها على عدم لزوم العقد الغبنيّ، لأنّ الفعل، أعني: نفس البيع ليس بحرجي و إنّما الحرج ناش من إيجاب العقد، و هو غير مرفوع.

2. انّ الغرض من رفع الفعل الحرجي إنّما هو رفع حكمه الشرعي، كما هو الحال في: لا شك لكثير الشك، و لا ربا بين الوالد و الولد، و هذا الشرط أعني: كون المتعلّق حرجياً و إن كان حاصلاً في المقام، لأنّ متعلّقه عبارة عن الإتيان بالمشتبهات الكثيرة، لكن حكمه، أعني: إيجاب الاحتياط ليس شرعياً، بل هو حكم عقلي من باب حكمه بتحصيل الموافقة القطعية عند الاشتغال اليقيني.

ص:307


1- الفرائد: 121، طبعة رحمة اللّه; و 111، طبعة محمد علي.

فعدم شمول أدلّة الحرج لأجل انتفاء الشرط الأخير، أي عدم كون حكم المرفوع حكماً شرعياً.

يلاحظ على ما ذكره بوجهين:

أمّا أوّلاً: فلأنّه لو صحّ ما ذكره فإنّما يصحّ في قوله:» لا ضرر «بناء على أنّ الضرر صفة الفعل، و انّ المرفوع خصوص الفعل الضرري لا الحكم الضرري لكن لغاية رفع حكمه، و أمّا القاعدة الأُخرى، فالدليل الواضح فيها قوله سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فهو ظاهر في نفي الحكم الحرجي بقرينة قوله: (وَ ما جَعَلَ ) فانّ الجعل التشريعي يتعلّق بالحكم لا بالموضوع، و المقصود كما هو الظاهر من رواية» عبد الأعلى مولى آل سام «أعني قوله:» إنّ هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّه «هو الاخبار عن عدم جعل وجوب المسح على البشرة برفع ما عليها، فكيف يقاس هذا بهذا؟! و أمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره غير تام حتى في نفس» لا ضرر «، لأنّه إذا كان المراد نفي الفعل الضرري بلحاظ نفي حكمه، يلزم ارتفاع حرمة الفعل الضرري و جواز الإضرار بالغير و هو خلاف المقصود قطعاً، إذ لو كان وزان» لا ضرر «هو وزان» لا ربا بين الولد و الوالد «يكون المقصود ارتفاع حرمة الضرر، كارتفاع حرمة الربا بينهما، و هو غير صحيح بالضرورة. فتعين انّ المقصود إمّا ما اختاره الشيخ، أو ما ذهب إليه شيخ الشريعة من كون النفي بمعنى النهي، مثل قوله سبحانه: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ )(1)، أو ما اختاره سيّدنا الأُستاذ من كون النهي حكماً سلطانياً و حكومياً، لا حكماً شرعياً و فرعياً. و سيوافيك تحقيق الحال في محلّه فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى إشكال آخر، و هو انّه لا يصحّ الاحتجاج

ص:308


1- البقرة: 197.

بالعلم الإجمالي على لزوم الاحتياط للزوم رفع اليد عن بعض الأطراف لأجل رفع الاضطرار، بل لا بدّ من الاستدلال على وجوبه بالدليل الشرعي و هو الوجهان الأوّلان الماضيان في المقدمة الثالثة.

و قد عرفت الإشكال في كلامه عند البحث فيها بوجوه ثلاثة فلا يفيد.

الرجوع إلى الأصل في كلّ مورد

من الطرق المقررة للجاهل بالحكم الواقعي، الرجوع إلى الأصل في كلّ مسألة، فيرجع في الشك في التكليف إلى البراءة، و في المكلّف به إلى الاحتياط إذا أمكن، و إلى التخيير إذا لم يمكن، و إلى الاستصحاب إذا كان للحكم سابق; و لكن العمل بهذا الطريق غير صحيح لما أفاده الشيخ بقوله: فالعمل بالأُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة، و بالأُصول المثبتة للتكليف من الاحتياط و الاستصحاب مستلزم للحرج، و هذا لكثرة المشتبهات في المقامين.(1)

و أمّا المحقّق الخراساني فلم يوافق هذا الجزء من إجزاء الاستدلال، و حاصل ما أفاد: أنّ المانع عند الشيخ الأنصاري عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي، هو لزوم التناقض في مدلول الدليل الدال عليها، أعني قوله:» لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر «مثلاً إجراء أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين باعتبار كونهما مسبوقي الطهارة يوجب دخولهما في صدر الحديث و كونهما محكومين بالطهارة، لكن مقتضى العلم بوجود النجاسة في البين هو نقضهما و الحكم بوجوب الاجتناب و دخولها في قوله:» و لكن تنقضه بيقين آخر «و هذا ممّا يصد الفقيه عن القول بدخول أطراف العلم الإجمالي تحت أدلّة الأُصول.

ص:309


1- الفرائد: 126، أواخر المقدمة الثالثة للانسداد.

لكن المانع عن جريان الأُصول عند المحقّق الخراساني، هو وجود المخالفة القطعية، و ذلك لأنّ الحكم بطهارة الاناءين المشتبهين ينتهي إلى شربهما معاً فيلزم المخالفة القطعية.

إذا علمت هذه المقدمة، فاعلم أنّ لكلام المحقّق الخراساني في المقام مقاطع ثلاثة:

1. لا مانع من جريان الأُصول في عامة الموارد المشتبهة و لا يلزم محذور التناقض في المقام، فلأنّ استصحاب عدم التكليف مثلاً بمقتضى قوله: لا تنقض اليقين بالشك في مورد، إنّما يستلزم التناقض إذا كان الشك في جميع الأطراف فعلياً بحيث لا يجري الأصل في مورد جزئي إلاّ و يجري في جميع الموارد المشتبهة، فالحكم بالبراءة في تلك الموارد، ينافي العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها، فاستصحاب عدم التكليف في هذه الموارد، تمسكاً بالصدور يناقضه العلم بانتقاض الحالة السابقة في كثير منها فيصدق قوله:

و لكن تنقضه بيقين آخر.

و أمّا إذا لم يكن الشكّ فعلياً إلاّ في مورد جزئي و لم يكن سائر الأطراف مورداً للالتفات، فلا يلزم التناقض لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة في هذا المورد الذي جرى فيه استصحاب عدم التكليف و البراءة منه.

2. لا مانع من جريان الأُصول إذا قلنا بأنّ المانع عن جريانها هو لزوم المخالفة القطعية، فإنّ إجراء أصل الطهارة في كلا الإناءين و استعمالها فيما يشترط فيه الطهارة يستلزم المخالفة القطعية، لكن ذلك الملاك غير موجود في المقام، و ذلك:

لأنّ العلم الإجمالي الكبير، بالتكاليف في المظنونات و المشكوكات و الموهومات منحل ببركة أمرين:

ص:310

أ: ما علم تفصيلاً أو نهض عليه دليل علمي.

ب: الأُصول المثبتة للتكاليف.

فبعد هذا لا يبقى علم بالتكليف بل يكون المقدار منطبقاً على المعلوم بالتفصيل.

و لو افترضنا عدم انحلاله و بقاء العلم الإجمالي بالتكليف لكنّه ليس على وجه يستكشف معه الاحتياط بالوجهين السابقين في المقدمة الثالثة، أعني: الإجماع و الخروج عن الدين.

و عند ذلك فلا يبقى وجه للاحتياط و تكون الأُصول نافيها و مثبتها جارية بلا إشكال.

3. على فرض عدم الانحلال، يلزم القول بالتبعيض في الاحتياط، أي الاحتياط في مظنونات التكاليف و مشكوكاتها و موهوماتها. لا مطلق محتملات التكليف حتى يجب الاحتياط في موارد دلّ الدليل على التكليف، أعني: الدليل العلمي و الأُصول المثبتة، و لو افترضنا لزوم العسر و الحرج في الموارد الثلاثة فيقصر بموارد الظن بالتكليف.

و أمّا الجزء الثالث من أجزاء الاستدلال فواضح لا يحتاج إلى البحث ضرورة انّ التقليد لا يجوز إلاّ للجاهل لا للفاضل الذي يخطئ رأي القائل بالانفتاح.

هذا تمام الكلام في نقد المقدمة الرابعة، أضف إليه انّ المطلوب غير حاصل منها على فرض صحّتها، لأنّ المقصود إثبات حجّية الظن على وجه يقع في عداد الكتاب و السنة القطعية على وجه يخصص به عموم الكتاب و السنة و إطلاقهما حتى و لو كان مفاده على خلاف الاحتياط و لكن الحاصل منها هو حجّية الظن من باب الاحتياط. فيقتصر في العمل به بالموارد التي يكون العمل بها موافقاً للاحتياط... و هو غير المطلوب في المقام.

ص:311

المقدمة الخامسة إذا وجب التعرض لامتثال الأحكام المشتبهة و لم يجز إهمالها بالمرة

كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة و ثبت عدم وجوب الامتثال على وجه الاحتياط، و عدم جواز الرجوع إلى الأُصول الشرعية إمّا لاستلزام جريانها طروء التناقض، أو المخالفة القطعية كما هو مقتضى المقدمة الرابعة، تعين التعرض لأمثال الأحكام المشتبهة على وجه الظن بالواقع، إذ ليس بعد الامتثال العلمي، و الامتثال الظني بالظن الخاص، امتثال مقدّم على الامتثال الظني.

توضيح ذلك: انّ للامتثال مراتب أربع:

1. الامتثال العلمي التفصيلي، و هو أن يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به و في معناه إذا ثبت كونه المكلف به بالظن الخاص، فالعمل بالخبر الواحد و الأُصول التي تثبت حجّتها بالدليل من مصاديق هذه المرتبة.

2. الامتثال العلمي الإجمالي، و هو العمل بالاحتياط في الشبهات البدوية و المقرونة بالعلم الإجمالي.

3. الامتثال الظني، أي أن يأتي بما يظن المكلف به و لم يقم دليل بالخصوص على حجّيته.

4. الامتثال الاحتمالي، كالتعبد ببعض محتملات المكلّف به.

و هذه المراتب لا يجوز عند العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلاّ مع تعذّرها، فإذا تعذرت الأولتان بتعين الامتثال بصورة الظن بالمكلّف به لقبح الامتثال الشكي أو الوهمي، مع إمكان الامتثال الظني و على هذا يصبح الظن حجّة.

و أمّا انّ نتيجة دليل الانسداد إجمالاً هي حجّية مطلق الظن أو حجّيته في

ص:312

الجملة فهو كلام آخر يبحث عنه في تنبيهات الدليل هذا.

و لكن القياس إنّما ينتج إذا كانت المقدمات سليمة عن النقد، و قد عرفت أنّ أكثر المقدّمات غير خالية عن الإشكال.

أمّا الأُولى، فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الكبير ينحل بالصغير و هو بالأصغر، فغاية الأمر يلزم الاحتياط بما في ردّ الأخبار من الأحكام و لا يلزم منه العسر و الحرج، و هذا غير كون الظن حجّة.

أمّا الثانية، فلما عرفت من أنّ باب العلم و إن كان مسدوداً، و لكن باب العلمي ليس بمسدود.

أمّا الثالثة، فهي لا غبار عليها إذ لا يجوز الإهمال لوجوه ثلاثة، و إن أشكل المحقّق الخراساني على الوجه الثالث بعدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لجواز ارتكاب بعض الأطراف، و قد تقدّم دفع إشكاله بوجهين من أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف، أوّلاً، و عروضه بعد العلم ثانياً لا يخلّ بتنجيز العلم الإجمالي.

و أمّا المقدمة الرابعة، فقد أورد عليها المحقّق الخراساني إشكالات:

1. أمّا الرجوع إلى الاحتياط فهو إن كان حرجياً لكن أدلّته لا تشمل المقام لاختصاصها بالفعل الحرجي المحكوم بحكم شرعي و الاحتياط و إن كان حرجياً لكنّه محكوم بحكم عقلي لا شرعي.

و الرجوع إلى الأُصول مثبتة للتكليف أو نافية خال عن الإشكال، لعدم لزوم المتناقض أوّلاً، كما هو مسلك الشيخ في عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون جمع الأطراف محلاً للابتلاء.

و لا المخالفة العملية ثانياً كما هو مبنى المحقّق الخراساني، لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف ينحل ببركة أُمور ثلاثة: العلم بالتكليف، قيام الدليل العلمي

ص:313

به، و الأُصول المثبتة له.

3. و لو قيل بعدم الانحلال، فلا مانع من الاحتياط في الصور الثلاث، أي مظنون التكليف، محتمله و موهومه، لا كلّ المحتملات حتى في موارد الأُصول المثبتة للتكليف، بل يكتفي فيها بنفس الأُصول، و لا يجب الاحتياط.

و بذلك يثبت انّ القياس عقيم و لا ينتج حجّية الظن المطلق أصلاً، فإذا بطل الدليل، فالبحث عن نتائجه على فرض الصحّة أمر غريب فتح بابه الشيخ الأنصاري و تبعه المحقّق الخراساني و المحقّق النائيني قدّس اللّه أسرارهم.

و لكن أرى ترك التعرض لها في هذه الأعصار أولى.

غير انّ المحقّق الخراساني ذيل التنبيهات بخاتمة ذكر فيها أمرين قابلين للبحث و الدراسة.

ص:314

خاتمة و فيها أمران:
الأمر الأوّل: هل الظن حجّة في العقائد أو لا؟
اشارة

قد ثبت بفضل البحوث السابقة انّ الظن الخاص حجّة في الفروع و انّ الظن المطلق ليس بحجّة أصلاً، بقي الكلام في حجّية الظن خاصها و مطلقها في الأُصول و العقائد، و إشباع البحث يتوقف على الكلام في محاور.

1. ما هي الأقوال في المسألة؟

قد اختلفت كلماتهم في اعتبار الظن في الأُصول على أقوال:

الأوّل: اعتبار العلم الحاصل من النظر و الاستدلال، و هو المعروف بين العلماء و ادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر إجماع العلماء.(1)

الثاني: اعتبار العلم و اليقين و إن حصل من التقليد أو من قول الفرد أو الجماعة.

الثالث: كفاية الظن مطلقاً.

الرابع: كفاية الظن المستفاد من النظر.

الخامس: كفاية الظن المستفاد من الخبر.

السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً، و لكنّه معفو عنه.

هذه هي الأقوال التي ذكرها الشيخ الأنصاري في المقام.(2)

ص:315


1- الباب الحادي عشر: 4.
2- الفرائد: 169.
2. هل يجوز العمل بالظن الانسدادي في العقائد؟

لا يجوز العمل بالظن الانسدادي و لا بالظن الخاص في القسم الثاني، أعني: ما يجب فيه عقد القلب إن حصل العلم، أمّا الانسدادي فلعدم جريان مقدماته الخمس في هذا القسم، لأنّ الواجب في هذا القسم هو التديّن بالواقع على تقدير حصول العلم و هو غير حاصل. هذا من جانب و من جانب آخر الاحتياط في المقام ممكن بلا محذور، و هذا بخلاف الفروع العملية، فانّ الاحتياط فيها لا يخلو عن أحد المحاذير.

أضف إلى ذلك من لزوم التشريع من التعبد بالظن الانسدادي، لأنّ المطلوب في الأُمور الجوانحية هو التديّن، و العمل بالظن الانسدادي فيها مخالفة قطعية، بالنسبة إلى حرمة التشريع و موافقة احتمالية بالنسبة إلى وجوب التديّن بالعقيدة الحقّة، و العقل لا يجوّز المخالفة القطعية لأجل الموافقة الاحتمالية، و هذا بخلاف الفروع فانّ المطلوب فيها هو العمل دون التديّن.

3. هل يجوز العمل بالظن الخاص؟

هل يجوز العمل بالخبر الواحد في الأُصول الاعتقادية؟ يظهر من الشيخ جوازه حيث قال: فلا مانع من وجوبه في مورد الخبر الواحد، بناء على أنّ هذا نوع عمل بالخبر الواحد، فانّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى عن ذلك.(1)

و يظهر أيضاً من صاحب مصباح الأُصول حيث قال: إنّه لا مانع من الالتزام بمتعلّقه و عقد القلب عليه، لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي.(2)

ص:316


1- الفرائد: 170، ط رحمة اللّه.
2- مصباح الأُصول: 2/238.

و لكن الاعتماد على خبر الواحد في أُصول الفقه، فضلاً عن أُصول العقائد، فرع وجود إطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد التي عمدتها أو وحيدها هو السيرة العقلائية، و القدر المتيقن منها هو ما يرجع إلى غير هذا القسم، على أنّه لم يعهد من أعاظم الأصحاب كالمفيد و المحقّق العمل بأخبار الآحاد في الأُصول، فالتوقف في هذا القسم و عقد القلب بما هو الواقع هو الأولى.

4. ما يجب فيه تحصيل العلم

إذا ثبت عدم جواز العمل بالظن في الأُصول الاعتقادية يجب تحديد دائرة ما يلزم تحصيل العلم به، فيظهر من العلاّمة في الباب الحادي عشر لزوم تحصيل العلم بتفاصيل التوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحق للعذاب الدائم.

و لكنّه غير تام، فانّ معرفة الصانع ببعض صفاته الثبوتية، مثل كونه عالماً، قادراً، حيّاً، سميعاً، بصيراً، و صفاته السلبية، مثل كونه غير جسم، و لا مرئي، و لا في مكان و زمان خاص، أو معرفة نبيّه، و إمامه، و يوم ميعاده، ممّا يمكن ادّعاء لزوم معرفته عقلاً، و انّه يجب تحصيل العلم فيها، لأنّ الآثار المتوخاة من التدين بها ليست حاصلة إلاّ بعد المعرفة، و لا يكفي فيها عقد القلب بالواقع، و إن لم يعرفه مشخصاً، و أمّا ما وراء ذلك فلزوم تحصيل العلم به و عدم كفاية عقد القلب ممّا يحتاج إلى الدليل السمعي.

و قد ادّعى الشيخ الأنصاري وجود بعض الإطلاقات في الأدلة الشرعية الحاكمة بلزوم تحصيل العلم في الأُمور الاعتقادية.

1. مثل قوله تعالى: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (1)أي

ص:317


1- الذاريات: 56.

ليعرفون.

2. قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس «(1)، بناء على أنّ الأفضلية من الواجب مثل الصلاة تستلزم الوجوب.

3. عمومات وجوب التفقّه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد(2) الإمام) عليه السلام (بها بوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق.

4. عمومات طلب العلم.(3)

فنتيجة هذه الإطلاقات هو لزوم معرفة ما جاء به النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (على كلّ قادر يتمكن من تحصيل العلم، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد، و إلاّ توقف و لم يتدين بالظن لو حصل.(4)

و لا يخفى انّ ما ذكره من الإطلاقات غير تام، لعدم ورودها في بيان ما يجب التدين و الاعتقاد به حتى يؤخذ بإطلاقها.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّ المراد منه هو معرفة اللّه سبحانه لا كلّ ما جاء به النبي في مجال المعارف بدليل انّ اللام للغاية، و النون للوقاية و المعنى: أي بعبادتي و عرفاني لا مطلق ما يجب معرفته.

و أمّا الثاني: فالحديث في مقام بيان أهمية الصلوات الخمس، لا في مقام بيان ما يجب معرفته حتى يؤخذ بإطلاق قوله بعد المعرفة.

ص:318


1- جامع أحاديث الشيعة: 4/3، الأحاديث 41.
2- نور الثقلين: 2/282، الحديث 406 و جاء فيه: أ فيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا يعني المدينة و أمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم أنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (وَ ما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً فَلَو لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين...).
3- بحار الأنوار: 2211/162.
4- الفرائد: 171، طبعة رحمة اللّه.

و أمّا الثالث: فبمثل ما أجبنا عن الثاني، فالآية في مقام الحث على النفر، و كيفيته، لا في مقام بيان ما يجب أن يتفقّه فيه، و قد تمسك الإمام بالآية لإثبات كيفية التعرّف على الإمام بعد تسليم لزوم معرفته.

و أمّا الرابع: فهو في مقام بيان لزوم تحصيل العلم لا في بيان ما يجب تعلمه.

هذا كلّه فيما يجب المعرفة مستقلاً، و قد عرفت أنّه لا دليل على وجوب معرفة ما ادّعى العلاّمة لزوم معرفتها، إلاّ معرفة الصانع و توحيده، و بعض صفاته و معرفة نبيّه) صلى الله عليه و آله و سلم (و إمامه و يوم ميعاده.

نعم يكفي تحصيل اليقين أو حصوله من دون حاجة إلى الاستدلال لعدم الدليل على اشتراطه.

حدّ ما يجب تحصيل العلم في الروايات

قد عرفت أنّ ما يدّعيه العلاّمة من وجوب تحصيل العلم بتفاصيل الأُصول الخمسة لا يمكن موافقته، إذ لم يدلّ دليل على هذا اللزوم لا من الكتاب و لا من السنّة و لا من العقل و لا من الإجماع.

و يظهر من غير واحد من الروايات انّ ما يجب تحصيل العلم به لا يتجاوز عن أُمور ثلاثة: التوحيد، و الرسالة و هما دعامتا الإسلام و الولاية و هي دعامة الإيمان و لم يذكر المعاد; لأنّ معرفة النبوة تلازم الاعتقاد بالمعاد، إذ لا يتحقّق الدّين بمعناه الحقيقي من دون اعتقاد بالمعاد.

روى سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أخبرني عن الإسلام و الإيمان، أ هما مختلفان؟ فقال:» إنّ الإيمان يُشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الإيمان «فقلت: فصفهما لي، فقال:» الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و التصديق برسول اللّه،

ص:319

به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس «.(1)

و في رواية سفيان بن السمط، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، و قال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا «.(2)

و بهذا المضمون ما ورد في صحاح أهل السنّة روى البخاري، عن عمر بن الخطاب أنّ علياً» صرخ « ) عند ما بعثه النبي لمقاتلة أهل خيبر (: يا رسول اللّه على ما ذا أُقاتل؟ قال:» قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه و انّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماؤهم و أموالهم إلاّ بحقها و حسابهم على اللّه «.(3)

كلّ هذه الروايات تحدّد الواجب من المعرفة و انّها لا تتجاوز معرفة الأصلين في تحقّق الإسلام و الولاية في تحقّق الإيمان.

هذه هي الضابطة و لو دلّ دليل على وجوب معرفة شيء آخر كمعرفة أحكام الصلاة فيكون أمراً رابعاً و خامساً.

في الجاهل القاصر

قد عرفت انّه يجب تحصيل العلم فيما تجب معرفته و لا يكفي الظن لعدم الدليل على كفايته.

فعلى ذلك فالمتمكن من المعرفة جاهل مقصر معاقب، إنّما الكلام في الجاهل القاصر، فيقع الكلام فيه من وجوه:

ص:320


1- أُصول الكافي: 2/25، باب انّ الإيمان يشارك الإسلام، الحديث 1.
2- المصدر نفسه: 24، باب انّ الإسلام يحقن به الدم، الحديث 4.
3- البخاري: الصحيح: 1/10، كتاب الإيمان; صحيح مسلم: 7/17 كتاب فضائل علي (عليه السلام); إلى غير ذلك من الروايات.
5. في وجود الجاهل القاصر و عدمه

لا شكّ في وجود الجاهل القاصر، إمّا لقلة الاستعداد و غموض المطلب أو وجود الغفلة و عدم احتمال خلل في معتقده، كما هو المشاهد في كثير من النساء و الرجال، و على ذلك فالجاهل القاصر معذور لقصوره أو غفلته.

نعم إنّما يكون معذوراً و غير معاقب على عدم معرفة الحقّ إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له لو عرفه.

و ربما يتصور عدم وجود الجاهل القاصر في العقائد لوجوه قاصرة:

1. الإجماع على أنّ المخطئ في العقائد غير معذور، و صحّة الإطلاق يتوقف على عدم وجود القاصر، و إلاّ لبطل مع كون القاصر معذوراً.

يلاحظ عليه: أنّ مصبَّ الإجماع هو الجاهل المتمكن، فلا يدل إطلاقه على عدم وجود القاصر.

2. انّ المعرفة غاية الخلقة، فلو قلنا بوجود الجاهل القاصر يلزم نفي الغاية مع أنّها لا تنفك عن فعل الحقّ سبحانه.

قال تعالى: (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ).(1)

يلاحظ عليه: أنّ الغاية غاية للنوع لا لكلّ فرد لبداهة وجود المجانين و الأطفال الذين يتوفون في صباهم.

3. قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (2)حيث جعل الملازمة بين المجاهدة و الهداية التي هي المعرفة، فلو لم يكن الطرفان ممكنين لم تصح الملازمة فعدم هداية الجاهل القاصر لعدم جهاده.

ص:321


1- الذاريات: 56.
2- العنكبوت: 69.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد بيان الملازمة بين المتمكن من الجهاد و الهداية و الملازمة بينهما مسلمة، و أمّا غير المتمكن كالقاصر فهو خارج عن الآية كخروج المجانين و الأطفال الذين يتوفون في صباهم.

و ربما يجاب عن الاستدلال بالآية بأنّ المراد هو مجاهدة النفس، و المراد هو الجهاد النفسي لا الجهاد في سبيل معرفة الرب و شتان ما بينهما، و لكنّه غير خال عن التأمل، لأنّ هذه الآية و ما قبلها تقسم الناس إلى أصناف ثلاثة:

الصنف الأوّل: المفتري على اللّه.

الصنف الثاني: المجاهد في سبيله.

الصنف الثالث: المحسن.

أمّا الأوّل: فوصفهم سبحانه بقوله: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) (1)و هذه الطائفة خارجة عن طريق الحقّ لا تُرجى هدايتهم و وصولهم إلى الحقّ، بل كلّما ازدادوا سيراً ازدادوا بعداً و جهلاً.

و الثاني: يهديهم ربّهم إلى سبله لقوله سبحانه: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) فمن أخطأ فلتقصير منه، إمّا لعدم إخلاصه في السعي، أو لتقصيره فيه.

و الثالث: وصلوا إلى قمّة الكمال في حقلي الإيمان و العمل و صاروا مع اللّه سبحانه لقوله: (وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ).

و مع ذلك فكيف قُصِّر مفاد الآية بالجهاد مع النفس مع ظهور إطلاقها؟! 4. قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (2)فانّ

ص:322


1- العنكبوت: 68.
2- الروم: 30.

قوله (فِطْرَتَ اللّهِ ) عطف بيان أو بدل من الدين، نصب بفعل مقدر، مثل أعني أو أخص، و إلاّ لكان الواجب أن يكون مجروراً بحكم البدلية، و لازم ذلك أن تكون معرفته سبحانه أمراً فطرياً و خلقياً، لا يقبل القصور كسائر الأُمور الوجدانية.

و الظاهر انّ الآية أوضح ما في الباب، و هي تدل على عدم وجود القاصر في معرفة الرب، و انّ للعالم خالقاً و صانعاً، و انّه واحد لا شريك له في ذاته، و هو أمر لا يقبل القصور إلاّ إذا عاند الإنسان فطرته و أنكر وجدانه لغاية مادية كالانحلال من القيود الشرعية، و لأجل ذلك لا يبعد ادّعاء عدم وجود القاصر في باب التوحيد.

إنّما الكلام في غيره كباب النبوة و الإمامة و المعاد، و الآية لا تدل على عدم وجود القصور فيها بشهادة انّ قوله: (حَنِيفاً ) تدل على أنّ التوحيد هو الموافق للفطرة لا الشرك.

نعم، أكثر الكبريات الواردة في مجال الفروع أُمور فطرية كالدعوة إلى الزواج و إكرام الوالدين ورد الأمانة و حرمة الخيانة لكن الكلام في الأُصول لا الفروع.

5. دلّت العمومات على حصر الناس في المؤمن و الكافر.

و دلّت الآيات على خلود الكافرين بأجمعهم في النار.

و دلّ الدليل العقلي بقبح عقاب الجاهل القاصر.

فإذا ضم الدليل العقلي إلى العمومات المتقدمة ينتج عدم وجود القاصر في المجتمع الإنساني، لأنّ ما في المجتمع بين مؤمن و كافر و كلّ كافر محكوم بالعذاب و لا تصدق الكبرى إلاّ مع عدم وجود الكافر الجاهل القاصر فيهم، و إلاّ لخص بغير القاصر و هو خلاف الظاهر.

يلاحظ عليه: أنّ حصر الخلق في المؤمن و الكافر غير حاصر لوجود الواسطة

ص:323

بينهم، أعني: القُصّر، كالسفيه و الصغير و المجنون.

و أمّا الكبرى الثانية فناظرة إلى المتمكن من المعرفة، لأنّ عقاب العاجز القاصر قبيح فضلاً عن خلوده في النار، فالكبرى كلية غير مخصصة لكنّها واردة في حقّ المتمكن، لا كلّ إنسان و إلاّ تمنع كليّتها.

6. هل الجاهل القاصر كافر؟

لا شكّ انّ الجاهل القاصر ليس بمؤمن و لا مسلم، إنّما الكلام في أنّه هو كافر، و المعروف بين المتكلّمين انّه لا واسطة بين الإيمان و الكفر إلاّ المعتزلة حيث ذهبوا إلى وجود الواسطة بينهما و جعلوا مرتكب الكبيرة واسطة بين المؤمن و الكافر و الكتاب العزيز يوافق الحصر قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1)و لكن قولهم كالآية ناظر إلى عالم الثبوت، فالناس بالنظر إليه غير خارجين عن الصنفين إنّما الكلام في الإطلاق و التسمية، فهل يصحّ إطلاقه على القاصر لفقدان الاستعداد، أو لوجود الغفلة أو المانع أو لا؟ يظهر من بعض الروايات كونهم متوسطين بين الكفر و الإيمان قال سبحانه:

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ).(2)

فقد استثنى سبحانه المستضعفين الذين ليس لهم قدرة الخروج و لا عرفان

ص:324


1- التغابن: 2.
2- النساء: 97 99.

الطريق فما آيسهم سبحانه من عفوه، و يظهر من غير واحد من الروايات انّهم غير محكومين لا بالكفر و لا بالإيمان.

روى العياشي عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: أتزوج المرجئة أو الحرورية أو القدرية؟ قال: لا عليك بالبله من النساء قال زرارة: ما هو إلاّ مؤمنة أو كافرة، فقال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» أين استثناء اللّه. قول اللّه أصدق من قولك: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ ) «.(1)

روى حمران بن أعين في تفسير قوله سبحانه: (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). (2)عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» إنّهم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكافرين، و هم المرجون لأمر اللّه «.(3) و المرجون، جمع المُرجى من أرجى، يرجي، يقال: أرجى الأمر: أخّره، و اسم المفعول منه: مرجى، و الجمع: مرجون، و هم المشركون، لكن يؤخّر أُمورهم رجاء شمول رحمته سبحانه لهم.

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في بحاره، فلاحظ.

7. الجاهل القاصر و الحكم الوضعي

هل الجاهل القاصر، محكوم بالأحكام الوضعية الثابتة للكافر، كنجاسته، و حرمة ذبيحته و تزويجه أو لا؟ التصديق الفقهي يتوقف على معرفة لسان الأدلة في هذه الروايات، فهل الموضوع، هو الكافر، أو غير المسلم أو غير المؤمن باللّه و رسوله؟ فعلى الأوّل لا يحكم بشيء من هذه الأحكام، بخلاف الثاني، و الحكم القطعي يتوقف على دراسة المسألة في الفقه.

ص:325


1- البحار: 69/164، باب المستضعفين، الحديث 24; و في الباب روايات بهذا المضمون.
2- التوبة: 106.
3- البحار: 69/165، باب المستضعفين، الحديث 29.
8. هل الجاهل القاصر معاقب؟

قد تبيّن ممّا ذكرنا حكم العقاب و انّه فرع التمكن و القدرة و المفروض عدمهما، و ما يظهر من المحقّق الخراساني في هامش كفايته من صحّة العقوبة، فهو مرفوض بالعقل و النقل، و احتمال انّه من لوازم الأعمال، أمر غير ثابت، لاحتمال كون العقاب من لوازم اعمال المتمكن لا القاصر.

هذا كلّه، حول الجاهل القاصر المعبّر عنه بالمستضعف الديني، و أمّا الكلام في المستضعف السياسي أو الاقتصادي فخارج عن هدف الكتاب.

الأمر الثاني: في كون الظن جابراً و موهناً و مرجحاً
اشارة

هل الظن غير المعتبر، يكون جابراً، أو موهناً، أو مرجّحاً، أو لا من غير فرق بين تعلّق النهي بالعمل به، و عدمه؟ و الأقسام المتصورة تناهز اثني عشر قسماً، لأنّ كلاً من الجبر و الوهن و الترجيح تارة يتعلق بالسند و أُخرى بالدلالة، فيضرب الاثنان في الثلاثة المذكورة، ثمّ تضرب النتيجة في الاثنين، لأنّ الظن تارة يكون منهياً عنه و أُخرى لا يكون كذلك، فيناهز اثني عشر.

أمّا الستة الأُولى من أقسام الظن المنهي عنه فلا تصلح لا للجبر، و لا للوهن، و لا الترجيح، لا في السند و لا في الدلالة، لأنّ فرض كونه جابراً أو موهناً أو مرجحاً نحو إعمال له و المفروض النهي عنه على وجه الإطلاق، فبذلك تخرج الأقسام الستة عن صلاحية الدراسة.

و أمّا الظن غير المعتبر و غير المنهى عنه فافتراض كونه مرجحاً لتقديم سند إحدى الروايتين على الأُخرى أو دلالتها كذلك، مبني على ما يأتي في مبحث التعادل و الترجيح من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو جواز التعدي

ص:326

عنها إلى غير المنصوص منها، ذهب الشيخ إلى الأوّل و غيره إلى الثاني، و هو المختار عندنا، لأنّ المحكم في باب تعارض الدليلين، هو روايات التخيير، فالخروج عنه يتوقف على الدليل و هو منفي في غير المنصوص كما سيوافيك.

فيبقى الكلام في الأقسام الأربعة: الجبر و الوهن بقسميهما:

1. كون الظن جابراً للسند

هل الظن غير المعتبر يكون جابراً لضعف السند، كالشهرة على القول بكونها غير حجّة بأن يكون عمل الأصحاب جابراً لضعف السند، كما إذا ورد في السند من لم يوثق لكن عمل الأصحاب بها؟ فلو قلنا بأنّ الحجّة هو خبر الثقة، فلا يكون جابراً، لأنّ عملهم بالخبر ليس دليلاً على كونه ثقة، و لو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره سواء كان الراوي ثقة أو لا، أو الموثوق بصحّة مضمونه فيصلح لأن يكون جابراً، لأنّ عمل الأصحاب يورث الوثوقَ بصدور الرواية أو الوثوق بصحّة المضمون.

2. كون الظن جابراً لضعف الدلالة

إذا كانت دلالة الرواية على الحكم المطلوب غير واضحة و لا محكمة و لكن حملها المشهور على معنى خاص، كالكراهة المشتركة بين الحرمة و الكراهة المصطلحة، فهل يكون الظن جابراً لضعفها؟ الظاهر لا، لأنّ الأمارة الخارجية لا تثبت ظهورَ اللفظ، و المفروض انّ الحجّة هو ظاهر اللفظ و ما هو المتبادر منه عرفاً بما هو هو لا بمعونة قرينة خارجيّة لم تثبت حجّيته، اللّهمّ إلاّ إذا حصل الاطمئنان باحتفاف الكلام ببعض القرائن الحالية المورثة في ظهور اللفظ في المطلوب، و إن كان اللفظ خالياً عنها.

ص:327

3، 4. كون الظن موهناً للسند أو الدلالة

إذا كانت الرواية تامة من حيث السند و الدلالة، لكن تعلّق الظن الخارجي بعدم صدورها أو عدم دلالتها، فالظاهر عدم نهوضه بذلك إلاّ إذا حصل الاطمئنان بأحدهما، لإطلاق حجّية الخبر سنداً و دلالة و شموله لما كان الظن على خلافه.

هذا كلّه حسب تقرير القوم، لكن للشهرة عندنا حساباً آخر، و قد عرفت أنّها حجّة بنفسها عند عدم التعارض، و مميّزة للحجّة عن غيره عنده، و لأجل ذلك تكون الشهرة جابرةً لضعف السند و ضعف دلالة الرواية، و موهنة لهما إذا كانت على خلاف الرواية، نعم ما ذكروه صحيح في غيرها.

ص:328

المقصد السابع: في الأُصول العملية

الأصل الأوّل:

اشارة

أصل البراءة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً.
الأوّل: تعريف أُصول الفقه

الأوّل: قد مرّ في تعريف أُصول الفقه: انّها عبارة عن القواعد التي تستنبط بها الأحكام الشرعية، أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل. و قد كان البحث في المقاصد الستة الماضية مركّزاً على تبيين الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي، كما أنّ البحث في هذا المقصد، مركّز على بيان ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس عن الدليل، و يعبّر عنه بالمباحث العقلية أو الأُصول العملية.

ثمّ إنّه يُسمّى الحكمُ المستنبط بالدليل حكماً واقعيّاً، لأنّ الدليل يكشف عنه إمّا كشفاً تاماً كما في صورة العلم أو كشفاً غير تام و لكن جعله الشارع حجّة على الواقع، كما في الأمارات المعتبرة من خبر الثقة و غيره; كما يسمى الحكم المستفاد، ممّا ينتهي إليه المجتهد عند الشك، حكماً ظاهرياً، لعدم كشفه عن الواقع، بل عن الوظيفة الفعلية فهو محكوم بمفاده ظاهراً إلى أن يرتفع العذر، و ما في بعض كلمات الشيخ و غيره من تسمية الأحكام المستنبطة بالأمارات المعتبرة، حكماً ظاهرياً مبني على التسامح، كما يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي دليلاً اجتهادياً، و الثاني دليلاً فقاهياً، و أمّا وجه التسمية، فقد ذكره المحقّق البهبهاني في تعريف الفقه و الاجتهاد، فلاحظ.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية، هو الشكّ في الحكم الواقعي، الكلي و الجزئي لا مطلق الشكّ

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا انّ الموضوع للأُصول العملية، هو الشكّ في

ص:329

الحكم الواقعي، الكلي و الجزئي لا مطلق الشكّ، فخرج الشكّ في عدد الركعات الذي هو موضوع للبناء على الأكثر، فالحكم المبني عليه ليس حكماً ظاهرياً، بل هو حكم واقعي.

ثمّ الشكّ في الحكم تارة يتعلق بالكلي كالشكّ في حرمة التدخين، و أُخرى بالجزئي كالشكّ في كون مائع خاص حراماً لاحتمال انّه خمر، أو حلالاً لاحتمال كونه خلاً، فيسمى الأوّل بالشبهات الحكمية، و الثاني بالشبهات الموضوعية، و بما انّ الفرض بيان ما هو الوظيفة عند الشكّ في الحكم الكلي، يكون البحث عن بيان حكم الشكّ في الأمر الجزمي استطرادياً.

الثالث: الأُصول المقررة لوظيفة الجاهل على قسمين:

قسم يختص لبيان وظيفة الجاهل بالموضوعات الخارجية، كما هو الحال في الأُصول التالية:

1. أصالة الصحّة في فعل الغير، 2. أصالة الصحّة في فعل النفس المعبّر عنها بقاعدة الفراغ و التجاوز، 3. الإقراع عند التخاصم.

و أُخرى ما يعمّ الشبهات الحكمية، و عمدتها الأُصول الأربعة: الاستصحاب، و التخيير، و البراءة، و الاشتغال; و أمّا ما عدا تلك الأُصول، كأصالة الطهارة فهي و إن كانت جارية في مورد الشبهتين لكن علل المحقّق الخراساني خروجها عن المسائل الأُصولية باختصاصها بباب الشكّ في الطهارة و لا تعم سائر الأبواب، و لذلك لم تعد من الأُصول العملية العامة السيالة في جميع أبواب الفقه.

يلاحظ عليه: أنّه لو كان سبب الخروج عن الأُصول العملية هو عدم كونها سيالة يلزم خروجُ قسم من المسائل عن علم الأُصول كالبحث عن دلالة النهي على الفساد في العبادات و المعاملات.

ص:330

و الظاهر انّ وجه الخروج كونها قاعدة فقهية كقاعدة كلّ شيء حلال، لما ذكرنا في الأمر الأوّل من مقدمة الكتاب من الميزان لكون المسألة فقهية أو أُصولية، فلاحظ.

الرابع: بيان مجاري الأُصول

إنّ للشيخ الأنصاري في بيان مجاري الأُصول تعابير مختلفة ذكرناها في مبحث القطع، و قد سبق هناك انّ ما ذكره في مبحث البراءة أتقن، قال ما هذا توضيحه:

ثمّ إنّ انحصار موارد الاشتباه في الأُصول الأربعة عقلي، لأنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه، و إمّا أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان و لم يلحظ.

و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط) خصوص الموافقة القطعية (فيه ممكناً أو لا، و الثاني مورد التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول و إمّا أن لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة.(1)

يظهر حال التقسيم بذكر أُمور:

1. بما انّ الشيخ يشترط في الاستصحاب أن يكون من قبيل الشكّ في الرافع دون المقتضي لم يقتصر في بيان مجرى الاستصحاب على وجود الحالة السابقة بل أضاف لحاظها أيضاً حتى لا يتداخل الأُصول في الشكّ في المقتضي، إذا اقتصر على مجرّد الحالة السابقة، إذ عندئذ يكون مجرى للاستصحاب لوجود الحالة

ص:331


1- فرائد الأُصول: 192، طبعة رحمة اللّه. و ما بيّنه في هذا المقام من جلائل أفكاره، تعلم قيمته بقياسه على البيانين اللّذين ذكرهما في أوّل رسالة القطع.

السابقة و لغيره لعدم اعتبارها.

2. انّ مجرى التخيير عبارة عمّا إذا لم يمكن الاحتياط، كما إذا دار الأمر بين الوجوب و الحرمة في شيء واحد، فهو على هذا التقسيم ليس من أقسام الشكّ في التكليف و لا الشكّ في المكلّف به، بل له مجرى خاص و له أصل خاص.

3. اشترط في مورد الاشتغال وجود دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول و لم يقل أن يكون الشكّ في المكلّف به، و ذلك لأنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به، كما في الشكّ في التكليف قبل الفحص حيث يجب الاحتياط و إن لم يكن من قبيل الشكّ في المكلّف به، فيكفي في الاحتياط وجود دليل عقلي أو نقلي، و هذا يشمل الأقسام الثلاثة:

أ: الشكّ في التكليف قبل الفحص.

ب: العلم بنوع التكليف مع تردّد المكلّف به، كالعلم بوجوب إحدى الصلاتين.

ج: العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط، كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر، فالعلم بالإلزام أي الجنس الجامع بين الوجوب و الحرمة متحقّق فيلزم التكليف لإمكان الاحتياط.

و بذلك علم أمران:

1. انّ دوران الأمر بين المحذورين الذي هو مجرى التخيير، أمر مستقل ليس بداخل في الشكّ في التكليف و لا في الشكّ في المكلّف به، لاختصاصهما بما إذا أمكن الاحتياط دون ما لا يمكن.

2. انّ الشكّ في المكلّف به لا يختص بما إذا علم النوع(1)، كما إذا تردّد

ص:332


1- كما يظهر من الشيخ حيث قال: لأنّ الشكّ في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الإلزام. لاحظ طبعة رحمة اللّه ص 192.

الواجب بين الظهر و الجمعة، بل يعمّ ما إذا علم الجنس و دار الأمر بين الوجوب و الحرمة لكن على وجه يمكن الاحتياط كما مثلنا، أعني: إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر، فانّ المعلوم في المقام هو الجنس، أي مطلق الإلزام لا النوع، أعني: الوجوب أو الحرمة، و مع ذلك يجب فيه الاحتياط: الإتيان بمحتمل الوجوب، و ترك محتمل الحرمة.

نعم ليس كلّ مورد علم فيه جنس التكليف داخلاً في الشكّ في المكلّف به كما إذا أمر الشيء بين الوجوب و الحرمة و ذلك لعدم إمكان الاحتياط فيه، و لذلك قلنا بكفاية العلم بالجنس إذا أمكن الاحتياط، فلاحظ.

و الحاصل: انّه إذا دار أمر شيء واحد بين الوجوب و الحرمة، فهو المسمّى بدوران الأمر بين المحذورين، و بما انّه لا يمكن الاحتياط تكون الوظيفة هي التخيير، و أمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر، فلا يعدّ من دوران الأمر بين المحذورين، و يكون العلم بالإلزام لأجل إمكان الاحتياط ملزماً للاحتياط، فالعلم بالجنس إذا لم يمكن الاحتياط داخل في مجرى التخيير، كما أنّ العلم به إذا أمكن داخل في مجرى الاحتياط.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني في تقرير مجاري الأُصول بياناً آخر، قال: إمّا أن تلاحظ الحالة السابقة للشكّ أو لا; و على الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله، أو نوعه، أو جنسه، أو لا; و على الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط، أو لا; و الأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى الاحتياط، و الثالث مجرى التخيير، و الرابع مجرى البراءة.(1)

و الفرق بين التعبيرين هو انّه جعل مجرى التخيير من أقسام الشكّ في المكلّف به، غاية الأمر انّ الشكّ في المكلّف به على قسمين: قسم يمكن فيه

ص:333


1- فوائد الأُصول: 3/325.

الاحتياط، كما إذا دار الواجب بين الظهر و الجمعة، أو دار المكلّف به بين وجوب شيء و حرمة شيء آخر; و آخر لا يمكن فيه الاحتياط، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمته و لكن الشيخ جعله أمراً مستقلاً في مقابل الشكّ في المكلّف به.

يلاحظ عليه: أنّ مجرى الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به كما في الشكّ قبل الفحص، و لأجل ذلك قلنا: إنّ تقسيم الشيخ أوفق بالأقسام.

الخامس: جعل الشيخ الأعظم الشكَّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثنتي عشرة مسألة باعتبار أنّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما، فهذه مطالب ثلاثة، و كلّ مطلب يشتمل على أربع مسائل، و ذلك لأنّ منشأ الشك في الجميع، إمّا فقدان النص، أو إجماله، أو تعارض النص، أو خلط الأُمور الخارجية(1)، و على ذلك فما أفاده صاحب مصباح الأُصول من أنّ الشيخ قسّم الشكّ في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على أقسام ثمانية(2) مخالف لتصريح الشيخ، فلاحظ.

و أمّا على ما سلكناه تبعاً له في تقسيمه أوّل البراءة فمسائله لا تتجاوز عن ثمان، ذلك لما عرفت من أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين خارج عن مجرى البراءة و داخل تحت أصل التخيير، و كان على الشيخ أن يجعلها ثمانية حيث إنّه عند تحرير مجاري الأُصول جعل صورة الدوران خارجة عن مجرى البراءة و الاشتغال حيث قال: إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه، و إمّا أن لا يكون، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا، و الثاني مورد التخيير; و الأوّل إمّا أن يكون دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول، أو لا يدلّ; و الأوّل مورد الاحتياط و الثاني مورد

ص:334


1- الفرائد: 192، طبعة رحمة اللّه.
2- مصباح الأُصول: 2/248.

البراءة.(1)

ثمّ إنّ الوجه لعنوان كلّ مطلب على حدة أمران:

1. اختصاص النزاع بين الأُصولي و الأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية و دون الموضوعية منها، و دون دوران الأمر بين الأمرين.

2. اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية و لا تعم الوجوبية و الموضوعية، مثل قوله:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.

نعم أدخل المحقّق الخراساني جميع المسائل تحت عنوان واحد و بحث عن الجميع بصفقة واحدة» و هو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب و الحرمة و كان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية «و لكلّ من السلوكين وجه.

السادس: أخرج المحقّق الخراساني صورة تعارض النص عن مجرى البراءة، و ذلك لقيام الحجّة على لزوم تقديم ذات الترجيح على غيره، و التخيير عند عدمه فلا مجال لأصالة البراءة و غيرها لمكان النصّين فيهما.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان التعارض بين الدليلين الظنيّين، أمّا إذا كان بين القطعيين، أو بين الظنيين و لكن كانت النسبة بينهما عموماً و خصوصاً من وجه، فلا يرجع فيه إلى المرجحات.

أمّا الأوّل كقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ )(2). و قوله: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً )(3)، حيث دلّت الآية

ص:335


1- الفرائد: 192.
2- البقرة: 240.
3- البقرة: 234.

الأُولى على مقدار التربّص و هو تربّص الحول، و الأُخرى على أربعة أشهر و عشراً، و بما أنّه لا موضوع للترجيح، فيدخل الزائد على المقدار المتيقن فيما لا حجّة فيه، فيرجع إلى أصل البراءة.

أمّا الثاني: ففيما إذا كانت النسبة بين الخبرين عموماً و خصوصاً من وجه، كما في قوله: أكرم العلماء ، و لا تكرم الفسّاق، حيث يتعارضان في مجمع العنوانين، فلا يرجع في مثله إلى الأخبار العلاجية و لا إلى أخبار التخيير، بل يدخل فيما ليس فيه حجّة، فإن كان هناك عام فوقهما يرجع إليه و إلاّ فإلى الأصل.

السابع: الظاهر انّ النزاع بين الأُصولي و الأخباري في المقام صغروي، فهما متّفقان على أنّ العقاب فرع البيان، لكن الأخباري يدّعي ورود البيان عن طريق أخبار الاحتياط و الأُصولي ينكره، و بذلك يعلم انّ الكبرى غنية عن البحث و الإطناب.

الثامن: انّ في الكتب الأُصولية للقدماء مسألة باسم هل الأصل في الأشياء، الحظر أو الإباحة؟(1) و قد حلّ محلها في كتب المتأخرين مسألة البراءة و الاشتغال فهل هما مسألتان أو مسألة واحدة؟ و الجواب: انّهما مسألتان لاختلاف موضوعهما مثل اختلاف جهة البحث فيهما، فالموضوع في المسألة الأُولى، هو الأشياء بما هي هي، هل الأصل فيه الحرمة و التصرف يحتاج إلى الإذن أو بالعكس بشهادة انّهم يقسمون الأفعال إلى ما يستقل العقل بقبحه، أو بحسنه، و إلى ما يتوقف العقل في تحسينها أو تقبيحها، فيختلفون في القسم الثالث إلى أقوال ثلاثة: الحظر، و الإباحة، و الوقف.

فعلى الأوّل تنحصر وظيفة الأنبياء في بيان المحلّلات، و على الثاني على بيان المحرّمات، فعند عدم النص على واحد من الطرفين يحكم عليه بالحرمة الواقعية

ص:336


1- لاحظ التذكرة بأُصول الفقه للشيخ المفيد: 43; و الذريعة: 2/808; و العدة: 2/741.

على الأوّل و بالحلية الواقعية على الثاني، و يتوقف عن الحكم على الثالث.

و الشاهد على ما ذكرنا من أنّ مصبّ البحث هو حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية استدلال القائل بالحظر بقوله:» إنّ هذه الأشياء لها مالك و لا يجوز لنا التصرف في ملك الغير إلاّ بإذنه «.(1)

و أمّا المسألة الثانية، فالبحث فيها عن حكم الأشياء عند الشكّ في الأحكام الواقعية المترتبة عليها بما هي هي، فللقائل بالحظر في المسألة الأُولى أن يقول بالبراءة في المسألة الثانية، كما أنّ للقائل بالإباحة فيها أن يقول بالاحتياط فيها لاختلاف موضوعهما، إذ لكل دليلهما.

ثمّ إنّ البحث عن نسبة الأمارات إلى الأُصول، و هل هي الورود، أو الحكومة موكول إلى باب التعادل و الترجيح، و إن طرحه المحقّق الأنصاري و تبعه النائيني و سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (في المقام. لكن نرجئ البحث عنها إلى المقصد الثامن بإذن اللّه.

أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف
اشارة

إذا علمت ذلك، فلنقدّم أدلّة القائلين بالبراءة عند عدم قيام الحجّة على التكليف، فنقول:

استدلوا بآيات أربع.
الآية الأُولى: التعذيب فرع البيان

إنّ هنا آيات تدل على أنّ التعذيب فرع تقدّم البيان نذكر منها آيتين:

قال سبحانه: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ).(2)

و قال تعالى: (وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا

ص:337


1- العدة: 2/744.
2- الاسراء: 15.

عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ ). (1)و يدل على المقصود آيات أُخرى بهذا المضمون، لاحظها.(2)

و أمّا الاستدلال بهما على البراءة فمبني على أمرين:

الأوّل: انّ صيغة (وَ ما كُنّا ) أو (ما كانَ ) تستعمل في إحدى معنيين إمّا نفي الشأن و الصلاحية لقوله تعالى: (وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ). (3)أو نفي الإمكان كقوله تعالى:

(وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً ).(4)

الثاني: انّ بعث الرسول) صلى الله عليه و آله و سلم (كناية عن إتمام الحجّة على الناس، و بما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان و الإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول، و إلاّ يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط و حصول الغاية المنشودة; و على ضوء ذلك، فلو لم يبعث الرسول بتاتاً، أو بعث و لم يتوفق لبيان الأحكام أبداً، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه و بين بعض الناس، لقبح التكليف، و ذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجّة.

و المكلّف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي كإيجاب التوقف ينطبق عليه قوله سبحانه (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) أي نبيّن الحكم و الوظيفة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر و يقول:

ص:338


1- القصص: 59.
2- الشعراء: 208، طه: 134.
3- البقرة: 143.
4- آل عمران: 145.

(وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ ).(1)

نعم دلالة الآية على البراءة فرع عدم ورود الحذر بالنسبة إلى مشتبه الحكم لا بالعنوان الأوّلي هو مسلم بيننا و بين الخصم، و لا بالعنوان الثانوي الذي لا يسلِّمه الخصم و يقول: بورود الحذر عن المشتبه بعنوان إيجاب الاحتياط و التوقف، فدلالة الآية معلّقة على إبطال دليل الأخبار.

و بما انّ المشايخ كالشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني و الميرزا النائيني لم يدرسوا تفسير الآية على وجه يليق بشأنها، أوردوا على الاستدلال بها بأُمور غير تامة، و إليك بيانها:

1. انّ ظاهرها الأخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأُمم السابقة.(2)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الآية بصدد بيان سنن اللّه سبحانه في تعذيب الأُمم العصاة و مثلها آبية عن الاختصاص بالأُمم السابقة و لذلك تكون الأفعال في مثل ذلك منسلخة عن الزمان.

ثانياً: انّ العذاب الدنيوي إذا كان متوقفاً على البيان و الحجة، فالعذاب الأُخروي الذي سجّره الجبار أولى بذلك.(3)

2. انّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجّة كما هو الحال في الأُمم السابقة، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم حيث هو مشتبه الحكم، فهي أجنبية عمّا نحن فيه.(4)

ص:339


1- الشعراء: 208.
2- الفرائد: 192، ط قديم.
3- اقتباس عن قول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كلامه مع أخيه عقيل. لاحظ نهج البلاغة: الخطبة 224. قال (عليه السلام):» سجرها جبّارها لغضبه «.
4- فوائد الأُصول: 3/333.

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد بيان تعليق أي عذاب بالبيان، فإذا كان هذا مفادها، فلا يفرق بين حكم الشيء بما هو هو أو حكمه بما هو مشتبه الحكم، فكما أنّ التعذيب على الخمر فرع البيان فهكذا التعذيب على مشتبه الحكم مثله كشرب الدخان.

3. انّ مفاد الآيتين نفي الفعلية و عدم الوقوع في الخارج لا نفي الاستحقاق، و المطلوب للأُصولي هو نفي الاستحقاق ليطابق حكم الفعل.

و أجاب عنه الشيخ الأنصاري) قدس سره (بأنّه يكفي عدم الفعلية في هذا المقام، لأنّ الخصم يعترف بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية في منهج الخصم.

و أرد عليه المحقّق الخراساني بوجهين:

الأوّل: انّ الاستدلال عندئذ يُصبح جدلاً، و هو عبارة عن الأخذ بمسلمات الخصم و الرد بها عليه مع أنّنا في مقام البرهنة على عدم الاستحقاق و المفروض انّ الآية قاصرة الدلالة.

الثاني: منعُ اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية و الاستحقاق، بشهادة انّه ليس في معلوم الحرمة إلاّ استحقاق العقاب لا فعليّته، لاحتمال شمول غفرانه سبحانه لمرتكبي الحرام مع عدم التوبة أيضاً قال سبحانه: (وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ). (1)ففي مثله، الاستحقاق دون الفعلية فإذا كان معلوم الحرمة محكوماً باستحقاق العقاب لا بالفعلية، فليكن مشتبه الحرام كذلك فيكون محكوماً باستحقاقه دون فعليته، فلا يكون عدمها، دليلاً على عدم الاستحقاق.

ص:340


1- الرعد: 6.

و الأولى أن يجاب عن أصل الإشكال بوجهين آخرين:

الأوّل: انّ الهدف من الاستدلال بالآية ليس إثبات عدم الاستحقاق ليكون موافقاً لما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان، بل الهدف تحصيل المؤمِّن لمرتكب الشبهة سواء أ كان مستحقاً للعقاب لكنّه صار معفوّاً أو لم يكن، و ظاهر الآية كفيل بإثبات مثل هذا.

و الحاصل: انّ البحث في المقام ليس كلامياً دائراً مدار الاستحقاق و عدمه، بل أُصولي يدور حول المؤمّن للعذاب و المسوّغ للارتكاب و عدمهما، و الآية وافية بإثباتهما.

و بذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه، لأنّ النزاع في البراءة إنّما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة و عدم استحقاقه لا في فعلية العقاب.(1)

أقول: إنّ ما يهمّ الفقيه هو تحصيل المسوّغ لارتكاب مشتبه الحرمة، و تحصيل المؤمّن من العذاب، و يصلح لإثباته، ما دلّ على نفي الفعليّة و إن لم يدل على نفي الاستحقاق.

الثاني: انّ الآية ظاهرة في نفي الاستحقاق خصوصاً إذا فسر قوله: (وَ ما كُنّا ) بمعنى نفي الإمكان، و ما هذا إلاّ لأجل عدم استحقاقه العذاب ما لم يصل إليه البيان.

4. النقض بالمستقلات العقلية كقبح الظلم نظير النفس و الخيانة بالأمانة حيث يصحّ العذاب و إن لم يكن هناك بلاغ سماوي.

ص:341


1- فوائد الأُصول: 3/334.

و الإجابة عنه واضحة، لأنّ الآية ناظرة فيما يحتاج إلى البيان، على وجه لولاه لما وقف عليه الإنسان و لما كان واضحاً له. و أين هذا من المستقلات العقلية؟! أضف إليه انّه مبيّن بالرسول الباطني و إن لم يكن مبيّناً بالرسول الظاهري.

و ربما ذكرنا علم انّ الآية وافية لما يرومه الأُصولي في المقام، نعم إنّما يتم الاعتماد عليها إذا لم يرد بيان على لزوم الاجتناب، و لو بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط و التوقف.

الآية الثانية: التكليف فرع الإيتاء

قال سبحانه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ).(1)

و الاستدلال مبني على كون المراد من الموصول: التكليف، و من الإيتاء هو الإعلام و التعريف، فيكون معنى الآية لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ تكليفاً أعلمها إيّاه.

أقول: إنّ الموصول في قوله: (إِلاّ ما آتاها ) يحتمل أحد الأُمور الثلاثة:

1. المال.

2. العمل، أي موضوع التكليف.

3. التكليف.

فعلى الأوّل يكون المراد من الإيتاء هو الإعطاء، و كأنّه قال:» لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ بقدر المال الذي أعطاها «.

و على الثاني يكون المراد من الإيتاء هو الإقدار و التمكين، فيكون المراد لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ الفعل الذي أقدرها عليه.

و على الثالث يكون المراد من الإيتاء هو الإعلام و التعريف.

ص:342


1- الطلاق: 7.

و لكن سياق الآية يؤيد الوجهين الأوّلين لأنّها وردت في سورة الطلاق التي تعرضت لحقوق النساء، ففي الآية المتقدمة عليها أمر الأزواج بالقيام بالوظائف التالية:

1. (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ).

2. (وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ).

3. (وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).

4. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ).

5. (وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ).(1)

فهذه الجمل التي تحكي عن الحقوق المالية للزوجة على الزوج تكون قرينة على أنّ المراد أحد المعنيين الأوّلين و إن كان الثاني أظهر لكونه عاماً شاملاً للأوّل و غيره.

و حاصل الآية: انّ ما سبق من الأحكام و الحقوق يقوم به كلّ إنسان حسب وسعه، لأنّ اللّه سبحانه لا يكلّف نفساً إلاّ ما أتاها من المقدرة و الإمكان، و لا يكلّف فوقه، و على ذلك لا صلة للآية بباب انّ التكليف فرع البيان.

فإن قلت: إنّ الإمام استشهد بالآية في باب المعرفة، ففي رواية عبد الأعلى، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قلت له: هل كلّفوا) الناس (المعرفة؟ قال:» لا، على اللّه البيان، (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (2)و (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها ) (3)«.(4)

ص:343


1- الطلاق: 6.
2- البقرة: 286.
3- الطلاق: 7.
4- الكافي: 1/163، كتاب الحجّة، باب البيان و التعريف، الحديث 5.

قلت: إذا كان المراد من المعرفة الأُمور الغيبية الخارجة عن حدود علم الإنسان العادي، فالتكليف به مع عدم البيان داخل في التكليف بغير المقدور، و على ذلك فيكون الإيتاء أيضاً بمعنى الإقدار و التمكين، لا الإعلام، فتكون الآية ردّاً لمن يجوز التكليف بما لا يطاق.

حتى لو قلنا أيضاً بأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه و انّ إيتاء المال إنّما يتحقّق بالإعطاء و إيتاء الشيء فعلاً أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللّه تعالى عليه، و إيتاء التكليف، بالوصول و الإعلام، فلا يصلح للاستدلال إلاّ في التكاليف التي يكون التكليف بها بلا إعلام تكليفاً بغير المقدور كأحوال الحشر و النشر و معرفة الأنبياء و المعارف الغيبيّة التي لو لا لحوق البيان بها يلزم التكليف بغير المقدور، إذ لا طريق لمعرفتها، و أين هذا من ترك مشتبه الحرام الذي أمر مقدور بالنسبة إلى المكلّف الملتفِت، المحتمِل للحرمة.

الآية الثالثة: الإضلال فرع البيان

قال سبحانه: (وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ).(1)

وجه الاستدلال: أنّ التعذيب من آثار الضلالة، و الضلالة معلّقة على البيان في الآية، فيكون التعذيب معلّقاً عليه، فيُنتج أنّه سبحانه لا يُعاقب إلاّ بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت: ما هو المراد من إضلاله سبحانه، فإنّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه؟! قلت: إنّ الإضلال يقابل الهداية و هي على قسمين، فيكون الإضلال أيضاً

ص:344


1- التوبة: 115.

مثلها.

توضيحه: انّ للّه سبحانه هدايتين: هداية عامة تعمُّ جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة و الفراعنة، و هي تتحقق ببعث الرسل و إنزال الكتب و دعوة العلماء إلى بيان الحقائق مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني، و إلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.

و أمّا الهداية الخاصة، فهي تختصُّ بمن استفاد من الهداية الأُولى، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفيّة التي نعبّر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.

قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ).(1)

و قال تعالى: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ).(2)

و أمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى، فلا يكون مستحقّاً للاستفادة من الهداية الثانية، فيضل بسبب سوء عمله، فإضلاله سبحانه، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض عن الاستضاءة بالهداية الأُولى.

قال سبحانه: (فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ).(3)

فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغه و انحرافه و كبره و تولّيه عن الحق.

و بذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه، فالمراد هو انقباض الفيض لأجل تقصيره، فيصدق انّه أضله سبحانه و إن كان

ص:345


1- محمد: 17.
2- العنكبوت: 69.
3- الصف: 5.

عن تقصير، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ ) (1)أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب، و في آية أُخرى: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) (2)فإضلاله نفس عدم هدايته و قبض فيضه لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه و كذبه و ارتيابه.

الآية الرابعة: الهلاك و الحياة بعد إقامة البيّنة

قال سبحانه: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ).(3)

و الاستدلال بالآية فرع توضيح مفرداتها و مقاطعها:

1. (بِالْعُدْوَةِ ) بمعنى الناحية من كلّ شيء، و المراد منها في الآية ناحية الوادي، فكان النبي و المسلمون في الناحية المنخفضة من الوادي، و لذلك وصفها سبحانه بقوله: (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ) و هي الأدنى ، كما كانت قريش في الناحية العليا منه، لأنّ الوافد من مكة إلى المدينة إذا وصل إلى قريب من وادي بدر تنخفض الأرض لأجل قربها من ساحل البحر.

2. (اَلرَّكْبُ ) جمع الراكب، و المراد منه العير، و هي قافلة قريش التجارية التي كان يسوقها أبو سفيان فكانت على ساحل البحر الذي هو أسفل من مقام الطائفتين الأُولتين.

3. (وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ )، فهو يشير إلى أنّ اجتماع

ص:346


1- غافر: 28.
2- غافر: 34.
3- الأنفال: 42.

الطائفتين في تلك المنطقة كان بتقدير من اللّه لا بإرادة من الجماعة و لو تواعدوا على اللقاء لاختلفوا، إذ كان بين صفوف المسلمين من يخوِّفهم من سطوة قريش و كثرة عدّتهم.

4. (لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ) أي جمع سبحانه الطائفتين في ذلك المكان لأمر قضاه و أوجبه، و هو ظهور معاجز الإسلام على المشركين التي منها غلبة الفئة القليلة التي لم يكن لهم عدَّة و عُدّة أمام المشركين، و لكنّهم غلبوا الفئة الكثيرة و قتلوا عدّة منهم و أسروا آخرين.

5. فَعلَ ذلك (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) فلو كان المراد من الهلاك و الحياة الهلاك و الحياة الأُخرويين، فيدل انّ العذاب فرع إتمام الحجّة و إقامة الدليل على صدق دعوة النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (.

نعم لو كان المراد من الهلاك و الحياة، هو الموت و البقاء، فيدل على أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه بأنّ الكافر سواء قتل أو بقى، أن يكون على بصيرة من الأمر و هو غير المطلوب. و ليست الآية ظاهرة في المعنى الأوّل لو لم نقل بظهورها في المعنى الثاني.

إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات، و إليك الاستدلال بالسنّة.

الاستدلال بالسنّة
1. حديث الرفع

روى الصدوق في التوحيد و الخصال عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن سعد ابن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ،

ص:347

و النسيان، و ما أُكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة «.(1)

و رواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» وضع عن أُمّتي تسع خصال:

الخطأ، و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد «.(2)

و رواة الحديث الأوّل كلّهم ثقات، و الرواية صحيحة.

و أمّا أحمد بن محمد بن يحيى، فهو و إن لم يوثّق ظاهراً، و لكن المشايخ أرفع من التوثيق، فهو من مشايخ الصدوق، فهو ثقة قطعاً.

نعم الرواية الثانية مرفوعة، مضافاً إلى أنّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه، كما ذكر النجاشي في حاله.

و توضيح الاستدلال بالحديث يتوقف على بيان أُمور:

الأوّل: الفرق بين الرفع و الدفع

الرفع: عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده و تحقّقه، و لكن الدفع هو المنع عن تقرر الشيء و تحقّقه عند وجود مقتضيه، هذا هو المعروف، و يؤيده اللغة و موارد الاستعمال.

قال في القاموس: رفعه ضد وضعه، فإذا كان الوضع هو وجود الشيء في مكان، فيكون الرفع إزالة وجوده، بعد وضعه.

قال سبحانه: (وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ).(3)

ص:348


1- الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2- الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
3- يوسف: 100.

و قال: (اَللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ).(1)

فكانت السماء و الأرض ملتصقتين، ففصل السماء عن الأرض، فأزالها عن مكانها.

و أمّا الدفع، فقال في المصباح المنير: دفعته دفعاً أي نحيته فاندفع، يقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (2)أي يحفظهم أن يصل إليهم شرّ الأعداء، و قال سبحانه: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ * ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) (3)أي ما له من شيء يمنع عن وقوعه و تحقّقه بعد تعلّق إرادته على الوقوع.

فإن قلت: إذا كان الرفع ممّا لا يتعلّق إلاّ بالأمر الموجود، فما هو الأمر الموجود الذي تعلّق هو به؟ قلت: الأمر الموجود عبارة عن نفس هذه الأُمور التسعة، فلا شكّ أنّها أُمور متحقّقة في صفحة الوجود، فالرفع تعلّق بها باعتبار كونها أُمور وجودية. و بالجملة المصحح لاستعمال الرفع في الحديث هو تعلّقه بالأُمور التسعة الوجودية من دون حاجة إلى تقدير مقدَّر في هذا الباب.

و على ضوء ما ذكرنا، فالرفع استعمل في معناه الحقيقي، أي رفع التسعة بعد وجودها، نعم رفعها ليس بالحقيقة بل بالادّعاء كما سيوافيك.

هذا كلّه حسب الإرادة الاستعمالية، و أمّا حسب الإرادة الجدية فلا شكّ من لزوم تقدير مقدّر ليصحّ رفعه حقيقة لا ادّعاء مصححاً لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة، و هذا ما سيأتي في الأمر الثالث.

ص:349


1- الرعد: 2.
2- الحج: 38.
3- الطور: 87.

ثمّ إنّ الرفع إن استعمل مجرّداً عن حرف الجرّ، فالمراد رفعه مع الاعتداد به دون فرق بين كونه حسيّاً أو معنوياً، قال سبحانه: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ).(1)

و أمّا إذا استعمل معها كما في المقام، فيراد منه عدم الاعتداد بالمرفوع كما يقال: رفعت عنه الضريبة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام فيما هو المصحح لنسبة الرفع إلى المكرَه و المضطرّ و الخاطئ، و الناسي و الجاهل مع وجودها في الحياة، و هذا هو الذي نطرحه في الأمر الثاني.

الثاني: في تصحيح نسبة الرفع إلى التسعة مع وجودها

إذا كان الرفع بمعنى إزالة وجود الشيء، فكيف نسب إلى هذه الأُمور مع أنّها متوفرة في صفحة الوجود؟ و الجواب: انّ الرفع و إن تعلّق برفع نفس الأُمور، لكن الكذب إنّما يلزم إذا كان اخباراً عن عالم التكوين، و أمّا إذا كان إخباراً عن عالم التشريع بمعنى رفع هذه الأُمور بلحاظ عدم آثارها فلا يلزم الكذب نظير قوله: لا ضرر و لا ضرار، و لا بيع إلاّ في ملك، و لا طلاق إلاّ على طهر، و لا يمين للولد مع والده، و لا يمين للمملوك مع مولاه، و للمرأة مع زوجها، و لا رضاع بعد فطام، و لا نذر في معصية اللّه، و لا يمين للمكره، و لا رهبانية في الإسلام.

فهذه الأُمور المرفوعة موجودة في الحياة و لكن لما كان إخباراً عن صفحة التشريع، و كانت هذه الأُمور مسلوبة الأثر فيها، يصحّ الإخبار عن عدمها، باعتبار عدم آثارها.

ص:350


1- البقرة: 253.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني صحح نسبة الرفع إلى الأُمور التسعة بأنّ الرفع تشريعي لا بالملاك الذي ذكرناه من أنّ رفعها بملاك رفع آثارها بل بملاك آخر و هو انّه ليس إخباراً عن أمر واقع، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع و النفي، كقوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» لا ضرر و لا ضرار «، و كقوله:» لا شكّ لكثير الشكّ «و نحو ذلك ممّا يكون متلوُّ النفي أمراً ثابتاً في الخارج.(1)

يلاحظ عليه مضافاً إلى ما ذكره السيد الأُستاذ من أنّ النبي ليس بمشرع، فلو استعمل النفي لغاية التشريع يلزم كونه مشرعاً(2): أنّ ما ذكره خلاف المتبادر من أمثالها، بل ربما يكون الحكم المنشأ غير واضح لدى العرف في مثل» لا رضاع بعد فطام «أو لا يمين للزوجة مع زوجها، فالحقّ انّ الجملة خبرية و المصحح لنسبة الرفع كونها ناظرة إلى عالم التشريع و الغاية من رفعها، هو الإخبار عن رفع آثارها.

الثالث: ما هو المرفوع ثبوتاً

قد عرفت أنّ الرفع يتعلّق بالشيء الموجود المتحقّق، و ليس هو إلاّ نفس هذه الأُمور الوجودية فهي مرفوعة ادّعاء، لكن الرفع الادّعائي رهنُ وجود رفع أمر حقيقة ليكون مسوِّغاً للرفع الادّعائي المجازي، و هذا ما نعبر عنه بما هو المرفوع ثبوتاً.

و بالجملة تارة يقع الكلام في تعيين ما هو المرفوع إثباتاً، و أُخرى ما هو المرفوع ثبوتاً الذي هو المصحح للرفع الإثباتي؟ فنقول:

أمّا إثباتاً، فلا شكّ انّ مقتضى البلاغة، هو تعلّق الرفع بنفس هذه الأُمور

ص:351


1- فوائد الأُصول: 3/343.
2- تهذيب الأُصول: 2/148.

الوجودية المتحقّقة، و تقدير أيّة كلمة بعد الرفع، يوجب سقوط الكلام عن ذروة البلاغة كتقدير لفظ » الأهل «قبل القرية في قوله سبحانه: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها )(1)، أو قبل» البطحاء «في شعر الفرزدق، أعني قوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته و البيتُ يعرفه و الحلّ و الحرم

فانّ القائل يدّعي أنّ الأمر بلغ من الوضوح إلى درجة حتى أنّ القرية واقفة بما نقول، أو أنّ سيد الساجدين بلغ من المعروفية إلى درجة حتى أنّ البطحاء تعرفه، فتقدير أيّة كلمة في تلك المواضع يوجب سقوط الكلام. و قد عرفت انّ المصحح لاستعمال كلمة الرفع هو كون هذه الأُمور التسعة أُموراً وجودية.

و مع الاعتراف بذلك و انّ متعلّق الرفع هو نفس هذه الأُمور، لكن لما كان نسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازيّاً و ادّعائياً تتوقف نسبة الرفع إلى هذه الأُمور، إلى مسوِّغ بمعنى رفع أمر حقيقة لا ادّعاء ليكون مصححاً لنسبته إلى هذه الأُمور التسعة ادّعاءً، و ما هو إلاّ كون هذه الأُمور مسلوبة الأثر في عالم التشريع، و عندئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر الذي صار سلبه، مسوِّغاً لنسبة الرفع إلى هذه الأُمور مجازاً و ادّعاء؟ فقد اختلفت كلمتهم في تعيينه.

فمن قائل بأنّ المرفوع ثبوتاً هو المؤاخذة; إلى آخر، بأنّ المرفوع هو الأثر المناسب كالضرر في الطيرة و الكفر في الوسوسة، و المؤاخذة في الباقي; إلى ثالث، بأنّ المرفوع جميع الآثار. و إليك دراسة الاحتمالات:

1. المرفوع المؤاخذة

إنّ رفع هذه الأُمور كناية عن رفع المؤاخذة، فمن ترك الواجب أو ارتكب الحرام عن جهل و نسيان لم يؤاخذ، و أورد عليه بوجوه:

ص:352


1- يوسف: 82.

1. المؤاخذة أمر تكويني، لا يناسب وضعُها و لا رفعُها، مقام التشريع، فانّ ما يعود إلى الشارع في ذلك المقام رفع الحكم الشرعي و وضعه، لا رفع الأمر التكويني أو وضعه.

يلاحظ عليه: أنّ المؤاخذة لما كانت من توابع الحكم استحقاقاً، أو جعلاً صحّ للشارع حتى في مقام التشريع وضعها و رفعها.

و بعبارة أُخرى: كان للشارع حفظ إطلاق الحكم، و فعليته في حقّ الجاهل الشاك بإيجاب الاحتياط عليه، المستلزم للعقوبة لدى المخالفة، فالدليل على رفع الحكم الواقعي بمعنى عدم فعليته، دليل على عدم إيجاب الاحتياط المستلزم لعدم العقوبة، فالعقوبة و عدمها ممّا يترتبان على الحكم الواقعي بتوسط إيجاب الاحتياط و عدمه، و هذا المقدار من الترتب يصحح رفعها و وضعها من جانب الشارع.

و إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني» انّها و إن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلاّ أنّها ممّا يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره إيجاب الاحتياط فالدليل على رفع الحكم، دليل على رفع إيجاب الاحتياط المستتبع عدم استحقاق العقوبة لدى المخالفة.

2. انّ المؤاخذة من آثار الحكم المنجّز، و المفروض عدم تنجّزه فكيف يصح الإخبار عن رفعها؟ يلاحظ عليه: أنّه يكفي في استحقاق العقاب قابلية المورد لجعل الحكم الفعليّ منجزاً و إن لم يكن منجّزاً، و ذلك لصحّة تكليف الجاهل بالحكم، الملتفت إليه، بالاحتياط، و المكره، بتحمل الضرر، و المضطرّ بقبول المشقة، فقابلية الحكم الفعلي للتنجّز، كاشف عن وجود المقتضي للعقاب، و هو كاف في صدق الرفع.

3. انّه على خلاف إطلاق الحديث، و لعلّه أتقن الإشكالات المتوجهة إلى هذا الوجه، و سيوافيك دعمه.

ص:353

2. المرفوع هو الأثر المناسب

إنّ المتبادر من الوضع و الرفع في محيط التشريع هو ما يعدُّ أثراً مناسباً للشيء فمع وجود الخصيصة الظاهرة للشيء يُحسن الاخبار عن وضعها، و مع عدمها يحسن الاخبار عن عدمها، و لأجل ذلك صحّ للشاعر أن يقول:

» أسد عليّ و في الحروب نعامة «.

كما صحّ للإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (أن يصف المتقاعدين عن الجهاد بقوله:

» يا أشباه الرجال و لا رجال «.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ إذا كان الأثر المناسب للشيء، أمراً واحداً يدور عليه رحى الوضع و الرفع، كما هو الحال في الأسد، و أمّا إذا كانت للشيء آثار متعددة و كلّها بالنسبة إلى الشيء على حدّ سواء فلا معنى لجعل واحد منها ملاكاً للرفع، دون بعض كما في المقام.

3. المرفوع هو عموم الآثار

إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع، إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل بأنّه مرفوع، و إلاّ فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر و وجوب جلده، أو الوضعية كالجزئية و الشرطية عند الجهل بحكم الجزء و الشرط أو نسيانهما و كالصحّة في العقد المكره.

و يؤيّد ذلك، إطلاق الحديث أوّلاً، و كونه حديث المنّة، و مقتضاها رفع تمام الآثار ثانياً، و مقتضى صحيحة البزنطي ثالثاً.

ص:354


1- نهج البلاغة: الخطبة 27.

روى البرقي، عن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً، عن أبي الحسن ) عليه السلام (في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال:» لا، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: وضع عن أُمّتي: ما أكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ما أخطئوا «.(1)

و قد تمسك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق و عدم ترتّب الصحّة التي هي حكم وضعي، فيكشف عن أنّ المرفوع أعمّ من المؤاخذة و الحكم التكليفي و الوضعي.

فإن قلت: إنّ الحلف بالطلاق و قرينيه باطل اختياراً فضلاً عن الاضطرار، لأنّه قد تقرر في محلّه، انّ الطلاق و أضرابه لا يتحقق إلاّ بصيغة خاصة، و لا يقع بقولنا: أنت خلية أو برية أو بالحلف به، و على ذلك فلا حاجة في الحكم بالبطلان إلى حديث الرفع، و هذا يكشف عن أنّ التمسك به كان من باب الجدل و إقناع الخصم بما هو معتقد به، و لا يستفاد منه، أنّ أصل التمسك به صحيح على مذهب الحقّ.

قلت: المتبادر من الرواية هو كون حديث الرفع صالحاً لرفع كلّ أثر تكليفي أو وضعي و كان هذا أمراً مسلّماً بين الإمام و المخاطب، نعم كان تطبيق الكبرى على الصغرى من باب الجدل. و الدليل على ذلك انّ الاعتقاد بعمومية المرفوع لم يكن أمراً معنوناً في فقه العامة في ذاك الأعصار حتى يكون ذاك من مذهبهم و معتقدهم، بل كان التمسك به من باب كونه هو المتبادر عند الافهام، لا من باب كونه مقبولاً عندهم.

ص:355


1- الوسائل: 16، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 12، نقلاً عن المحاسن: 136.
الرابع: عموم الموصول للحكم و الموضوع المجهولين

قد عرفت أنّ المجوّز لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة ادّعاءً، هو رفع جميع الآثار الشرعية حقيقة بلا ادّعاء، من غير فرق بين كون الحكم الشرعي كلياً، كما في الشبهات الحكمية; أو جزئياً، كما في الشبهات الموضوعية، و لكن ربما يتصور اختصاصه بالأمر الثاني و عدم عمومه بالأوّل، و هذا ما ندرسه في هذا الأمر، و على ثبوت هذا الأمر تدور دلالة الصحيحة على البراءة في الشبهة الحكمية و عدمها.

و قد استدل الشيخ الأعظم(1) بها على المقام بالنحو التالي: إنّ حرمة شرب التتن مثلاً ممّا لا يعلمون، فهي مرفوعة عنهم، و معنى رفعها كرفع الخطأ و النسيان، رفع آثاره أو خصوص المؤاخذة فهو كقوله) عليه السلام (:» ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم «. و قال المحقّق الخراساني: الإلزام المجهول ممّا لا يعلمون، فهو مرفوع فعلاً و إن كان ثابتاً واقعاً.

ثمّ إنّ هنا محاولات لتخصيص الحديث بالموضوع و إخراج الجهل بالحكم عنها، و إليك بيانها واحدةً تلو الأُخرى.

1. وحدة السياق

إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول» فيما لا يعلمون «هو الموضوع المجهول كالمائع المردّد بين الخمر و الخل، بشهادة أنّه المراد من الموصول في الفقرات المعطوفة، أعني:» و ما لا يطيقون «و» ما اضطروا إليه «، فانّ ما لا يطاق، أو ما يضطرّ إليه الإنسان، عبارة عن الفعل كالصوم للشيخ و الشيخة

ص:356


1- الفرائد: 195 بتوضيح.

و شرب الخمر للتداوي.

و قد أجاب المحقّق النائيني عن الإشكال بقوله: إنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعي، و إضافة الرفع في» غير ما لا يعلمون «إلى الأفعال الخارجية، إنّما هو لأجل انّ الإكراه و الاضطرار و نحو ذلك إنّما يعرض الأفعال لا الأحكام و إلاّ فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي، كما أنّ المرفوع في» ما لا يعلمون «أيضاً هو الحكم الشرعي و هو المراد من» الموصول «و الجامع بين الشبهات الحكمية و الموضوعية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ المرفوع هو الأحكام مطلقاً حكمية كانت أو موضوعية صحيح حسب الإرادة الجدية، و لكن مصبَّ الإشكال هو الإرادة الاستعمالية بأنّ الرفع حسب هذه الإرادة اسند إلى الموضوع في سائر الفقرات، فليكن كذلك في الفقرة الأُولى، أعني:» فيما لا يعلمون «، و القول بأنّ المرفوع جداً هو الحكم الشرعي في الجميع، لا يدفع الإشكال.(2)

و الأولى أن يجاب بما أجاب به شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (، و حاصل ما أفاد بتوضيح منّا: أنّ الإشكال مبنيّ على استعمال الموصول في المصاديق الخارجية، فبما انّ المستعمل فيه في الفقرتين، منحصرة في الموضوعات، فليكن قرينة على اختصاصها في الأوّل بها، و لكنّه أمر غير تام، بل المبهمات مستعملة في المفاهيم المبهمة و إنّما تعلم سعته أو ضيقه من صلته، و بما انّ العلم و الجهل يعرضان الحكم و الموضوع، فتكون الفقرة الأُولى شاملة لهما، و لكن الاضطرار و الإكراه لا يعرضان إلاّ الموضوعات الخارجية فتختصان بهما فاختصاص مصاديق الصلة بالموضوعات، لا يكون دليلاً على تخصص صلة الأوّل بها.(3)

ص:357


1- فوائد الأُصول: 3/345.
2- لاحظ تهذيب الأُصول: 2/149.
3- درر الفوائد: 2.
2. عدم صحّة نسبة المؤاخذة إلى الحكم

إذا اخترنا في الأمر السابق بأنّ المرفوع جداً هو المؤاخذة، فالظاهر انّ المراد المؤاخذة على نفس هذه المذكورات، و على هذا لو أُريد من الموصول في قوله:» ما لا يعلمون «الفعل المجهول الحقيقة تصح نسبة المؤاخذة إليه، و إن أُريد الحكم المجهول، لا تصح نسبتها إليه، إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحرمة المجهولة.

يلاحظ عليه أوّلاً: عدم صحّة المبنى، و إنّ المقدّر ليس المؤاخذة بل عموم الآثار.

و ثانياً: لو سلمنا تقدير المؤاخذة، فإن أُريد من صحّة النسبة، هي الصحّة بالدقة العقلية، فالحقّ انّه لا تصح نسبة المؤاخذة لا على الحكم و لا على الموضوع.

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فانّه لا معنى للمؤاخذة على الخمر و إنّما تصحّ المؤاخذة على شربها و استعمالها، و إن أُريد منها، الصحّة بالمسامحة العرفية، فتصح النسبة إليهما عرفاً.

3. المرفوع هو الأمر الثقيل

إنّ الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع، و الأمر الثقيل هو فعل الواجب أو ترك الحرام، و أمّا الحكم فهو أمر صادر من المولى فلا ثقل فيه.

يلاحظ عليه: الأحكام من مصاديق التكليف، و هو من الكلفة، فلو لم يكن فيها ثقل فكيف يطلق عليها التكليف؟ و الشاهد على ذلك وصف الأحكام بالحرج قال سبحانه: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(1)، أي لم يجعل حكماً حرجياً.

ص:358


1- الحج: 78.
4. ما هو الموضوع هو المرفوع

و هناك محاولة رابعة لتخصيص الحديث بالشبهة الموضوعية، و حاصله: انّ المرفوع في الحديث عبارة عمّا هو الموضوع في سائر الأدلّة، و بما انّه فيها عبارة عن نفس الفعل لا الحكم فيكون المرفوع أيضاً هو نفسه. و الدليل على أنّ الموضوع هو الفعل قوله سبحانه: (وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(1)، فالموضوع هو فعل الرزق و فعل الكسوة، و قوله سبحانه: (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ )(2)، فالموضوع هو الفدية، و قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ )، أو قوله: (وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(3)، فالموضوع هو الصيام و الحجّ.

يلاحظ عليه أولاً: أنّ الرفع كما يتعلّق بالفعل كذلك يتعلّق بالتكليف أيضاً، كما في قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع القلم عن ثلاثة «(4)، فانّ المراد رفع قلم التكليف، و المراد انّه لم يكتب عليه شيء من التكاليف، و لذلك عدّ الفقهاء العقل و البلوغ من شرائط التكليف.

و ثانياً: أنّ ما ذكره إنّما يصحّ في غير النسيان، لأنّه يرتكب في غيره عملاً، له حكم خاص فيكون نفس الفعل مرفوعاً، و أمّا فيه فانّه ربما يكون مبدأ لترك الفعل، كنسيان الصلاة في الوقت، أو نسيان أجزاء الواجب فلم يصدر من المكلّف أمر

ص:359


1- البقرة: 233.
2- البقرة: 184.
3- آل عمران: 97
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2 و مرّ الحديث عن صحيح البخاري.

ثقيل حتى يكون هو المرفوع بل لم يصدر منه شيء.

و ثالثاً: أنّ الظهور المتبع عبارة عن الظهور العرفي الذي يستظهره غالب أهل اللسان، لا الظهور المبني على هذا النوع من الدقائق، و على هذا فإنكار إطلاق الحديث بالنسبة إلى الجهل بالحكم أو نسيانه، أمر لا يقبله الذوق السليم.

الخامس: اختصاص الحديث بالرفع الامتناني

قد عرفت في الأمر الثالث انّ المسوغ لنسبة الرفع إلى الأُمور التسعة، إنّما هو رفع آثارها، لكن لما كان الحديثُ حديثَ امتنان بقرينة قوله:» عن أُمّتي «يختص الرفع بما يكون في رفعه منَّة عليهم، لا ضرراً و حرجاً و ضيقاً، و إلاّ فلا يعمه. و على هذا، يجوز إكراه القاضي المدينَ المتمكن من أداء الدين، و لا يحرم، و بالتالي يتملّك الدائن ما أخذه، كما يجوز إكراه المحتكر في عام المجاعة على البيع فيجوز تكليفاً و يصحّ بيعه الطعام ثانياً، كما لا يرتفع بالإكراه ضمان العين التالفة عن جهل و نسيان، إذ ليس في رفعه امتنان عليهم، و لا يرتفع صحّة بيع المضطر إذ ليس في رفعه أيّ امتنان على الأُمّة، بل الامتنان في صحّة المعاملة.

و لكن القدر المتيقن من الحديث هو إذا كان ترتيب الأثر على خلاف الامتنان، و عدمه على وفاقه.

و على ضوء هذا ففيما إذا اضطر إلى أكل الميتة لأجل حفظ الحياة، فالوضع أي كونه محرّماً و موجباً للعقاب على خلاف الامتنان و رفعه، و عدم كونه كذلك على وفاقه، و أمّا إذا اضطر لمعالجة ولده إلى بيع داره، فالوضع أي ترتيب الأثر على بيعه يكون على وفاق الامتنان و رفعه على خلافه، إذ على الرفع يكون بيع الدار باطلاً و التصرّف في الثمن حراماً فلا يتمكن من الوصول إلى مقصوده و هو معالجة ولده.

و مثله» ما أكره عليه «لو أكره على بيع داره، فالوضع أي الحكم بصحة البيع

ص:360

و تملّك المكرِه المبيع على خلاف الامتنان و رفعه و كونه باطلاً لعدم طيب نفسه على وفاقه.

و أمّا إذا أُكره على الحكم التكليفي، كما إذا أُكره على الزنا أو شرب الخمر و إلاّ فيهان، أو يجبر بدفع مال غير مهم بالنسبة إليه، فلا يكون الوضع، أي حفظ حرمة الفعل على خلاف الامتنان بعد كون ما توعد به أمراً قابلاً للتحمّل، و لذا قالوا ليس كلّ إكراه مسوّغاً لمخالفة الحكم التكليفي، بخلاف الإكراه في مورد المعاملات فإنّ الأقل منه الملازم لعدم طيب النفس ملازم للبطلان.

نعم لو كان ما توعد به أمراً مهماً لا يُتحمل عادة، فهو مرفوع، بدليل الإكراه أوّلاً و دليل» لا حرج « ثانياً كما لا يخفى.

السادس: المرفوع آثار المعنون لا آثار العناوين

اعلم أنّ الآثار الشرعية على قسمين:

قسم يترتب على نفس الفعل بما هو هو من دون تعنونه بعنوان خاص كالأحكام الواردة في الآيات التالية:

1. (وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً ).(1)

2. (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ).(2)

3. (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ).(3)

4. (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا ).(4)

ص:361


1- الاسراء: 32.
2- الاسراء: 33.
3- الاسراء: 34.
4- المائدة: 38.

5. (اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ).(1)

فالحكم المجعول في هذه الموارد على فعل المكلف بما هو هو عالماً كان أو جاهلاً، مختاراً كان أو مكرهاً، مضطراً أو غير مضطر.

و قسم يترتب الحكم على الفعل بما هو معنون بعنوان خاص، كترتب الدية على القتل الخطأ، كما في قوله سبحانه: (وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ). (2)و كالإتيان بسجدتي السهو إذا تكلم ناسياً، كقوله) عليه السلام (عن الرجل يتكلّم ناسياً في الصلاة؟ فأجاب:» يسجد سجدتين «(3).

فالحكمان مترتبان على الفعل الصادر عن خطأ و نسيان.

إذا علمت ذلك، فاعلم أنّ المرفوع هو القسم الأوّل من الآثار لا الثاني، و ذلك لوجهين:

الأوّل: انّ المتبادر من أخذ العناوين التالية: الإكراه و الاضطرار و النسيان في حديث الرفع، هو أخذها طريقاً إلى متعلّقاتها، فأطلق رفعها و أُريد رفع متعلّقاتها، أعني: الأفعال المكره و المضطر إليها و المنسية و رفعها كناية عن رفع آثار متعلّقاتها التي رتبت في الأدلّة على مطلق الفعل من غير تقييد بعنوان خاص، مثلاً حكم في الآيات السابقة على الزنا و السرقة بالحرمة، و بالقتل بجواز الاقتصاص، و بالعهد بلزوم الوفاء من غير تقييد بعنوان مثل العمد و الاختيار و الذكْر، و مقتضى إطلاق الدليل ثبوتها في جميع الحالات، فإذا ضمّ إليها حديث الرفع، يكون مقتضى الجمع بين الدليلين هو رفع تلك الآثار إذا كان الفاعل مكرهاً أو مضطرّاً، أو ناسياً أو جاهلاً.

ص:362


1- النور: 2.
2- النساء: 92.
3- الوسائل: الجزء 5، الباب 4 من أبواب الخلل، الحديث 1.

و هذا بخلاف الحسد و الطيرة و الوسوسة، فالظاهر انّها عناوين موضوعية، فالمرفوع آثار نفسها.

و على هذا، فلو رتب أثر شرعي على خصوص الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان، فلا يكون مرفوعاً بحديث الرفع، لأنّ الخطأ و أمثاله فيه أخذا موضوعاً لا طريقاً إلى المتعلّق.

الثاني: إذا كان حديث الرفع حاكماً على مثل القسم الثاني يلزم التناقض بين الأدلّة الدالة على ثبوت هذه الأحكام في هذه الأحوال، و حديث الرفع النافي لها فيها و لا محيص عن صرفه عن مثل هذه الأحكام.

السابع: عدم اختصاصه بالأُمور الوجودية

إذا كان المرفوع جدّاً هو عموم الآثار، كما مرّ; تكون النتيجة، عدم اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية، بل يعمّ الأُمور العدمية. مثلاً لو نذر أن لا يدَّخِنَ، لكن دخّن عن إكراه أو نسيان، فالفعل مرفوع برفع آثاره. و لو نذر، أن يشرب من ماء زمزم فنسي أو أُكره على الترك، فلا يعدّ حنثاً و لا تجب الكفارة.

لكن ذهب المحقّق النائيني) قدس سره (إلى اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية، و قال: و إن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال مثلاً لو نذر أن يشرب ماء دجلة فأُكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث و مخالفة النذر عن إرادة و اختيار، لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً و المفروض انّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه و نسيان، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع، و لا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً و جعله كالشرب حتى يقال انّه لم تتحقق

ص:363

مخالفة النذر فلا حنث و لا كفارة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ كلامه إمّا في عالم الإثبات و الاستعمال أو عالم الثبوت و الجد، فإن كان في المقام الأوّل فقد مرّ انّ مصحح الرفع إثباتاً عبارة عن تعلّقه بهذه العناوين الوجودية، من غير فرق بين تعلّقها بأُمور وجودية أو أُمور عدمية، و ما ذكره) قدس سره (نظير ما ذكره الشيخ الأعظم في بيان وجه اختصاص أخبار الاستصحاب بالشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي، و ذلك لأنّ النقص لا يناسب إلاّ المعنى الأوّل الذي أحرز فيه اقتضاء البقاء و إنّما شكّ في رافعه دون الثاني الذي لم يحرز فيه اقتضاء البقاء.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ المصحح لاستعمال النقض في كلا الموردين هو تعلّقه باليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم و ليس مثل الظن سواء تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي و شكّ في رافعه أو بما شكّ في وجود الاقتضاء فيه.

و نظيره المقام، فانّ المصحّح في مقام الإثبات، كون متعلّق الرفع عبارة عن الأُمور التسعة التي هي أمر وجودي، فهي في عالم التشريع مرفوعة، من غير نظر إلى تعلّقها بأمر وجودي أو أمر عدمي.

و إن كان كلامه في المقام الثاني، فالمرفوع هو الأحكام الوجودية المترتبة على الموضوعات الشرعية من غير فرق بين ترتبه على أمر وجودي أو أمر عدمي، فالحنث و الكفارة في مثاله الذي ذكره مترتب على ترك الشرب، فالحديث يرفع وجوب الكفارة الذي هو أمر وجودي.

و على ذلك لو أكره على ترك السورة في الصلاة أو نسيها، فيجري فيه حديث الرفع، و سيوافيك تفصيله في أحد الأُمور الآتية.

ص:364


1- فوائد الأُصول: 3533/352.
الأمر الثامن: المرفوع هو المترتب على فعل المكلّف

إنّ المرفوع هو الأثر المترتب على فعل المكلّف، لأنّ هذه العناوين ممّا لا تعرض إلاّ على فعله، فلو ترتب أثر على فعله فهو مرفوع، و أمّا إذا كان الأثر مترتباً على وجود الشيء كالنجاسة بواسطة ملاقاة، جسم لجسم، فلا يرتفع به، فلو أُكره على شرب الخمر ترتفع الحرمة دون نجاسة ملاقيه من اليد و الفم، أو أكره على الزنا، فالأثر المترتب على فعله من حرمة التزويج إذا كانت محصنة مرتفعة بشرط أن يكون كلّ مكرهاً عليه، و بذلك يعلم انّه لو أكره على ترك الفريضة أو اضطر إلى الترك، لا يسقط القضاء، لأنّه مترتب على الفوت بما هو هو لا بما هو فعل المكلّف، فلو نام عن فريضة فعليه القضاء مضافاً إلى وجود الملاك. و لا ينافيه قوله:

» رفع القلم عن ثلاثة... النائم حتى يستيقظ «.

هذه هي الأُمور الكلية التي تسلط الضوء على المقصد إذا عرفتها، فنقول يقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في عنواني» ما لا يعلمون «و» النسيان «

قد عرفت أنّ المرفوع جدّاً هو عموم الآثار الشرعية، و على ذلك كما يكون الحكم التكليفي مرفوعاً بالجهل و النسيان، كذلك يكون الحكم الوضعي، كالجزئية و الشرطية مرفوعاً بهما أيضاً.

فلو جهل بحرمة الشيء بعد الفحص عن مظانّه أو نسي الحكم الشرعي فارتكبه فلا يترتب عليه شيء; فلو نذر أن يصلّي الغفيلة فنسيها، و لم يصل لا يترتب عليه الحنث. و أمّا لزوم القضاء، فالبحث عن لزومه و عدمه يطلب لنفسه مجالاً آخر.

ص:365

إنّما الكلام في رفع الحكم الوضعي كالجزئية و الشرطية، فلنركز الكلام على النسيان و منه يعلم حال الجهل به.

أقول: إنّ النسيان قد يتعلّق بالجزئية، و الشرطية، فهو يكون مساوقاً لنسيان الحكم الكلي، و قد يتعلّق بنسيان الجزء و الشرط مع العلم بحكمهما; و على كلّ تقدير، فلا مانع من عمومية الحديث لكلا القسمين تحت عنوان واحد، و رفع المنسي باعتبار رفع النسيان سواء كان المنسيّ، الحكم الكلي، أو الجزئي بماله من الأثر الشرعي) الوجوب (. و على ضوء ذلك، يكون الواجب في حقّ الناسي الأجزاء الباقية، و تكون الصلاة صحيحة، و التفصيل بين نسيان الحكم، و نسيان الجزئية و الشرطية تحكم بعد تعلّق الرفع برفع النسيان و رفع ما نسي، و هو أعم من الحكم و الجزئية و الشرطية.

نعم استشكل على التمسك بالحديث بأُمور ذكر بعضها المحقّق الخراساني في باب الشكّ في المكلّف به عند الجهل بالجزئية و الشرطية(1)، و بعضها الآخر المحقّق النائيني في المقام، و نحن نشير إلى الجميع بصورة موجزة.

1. الجزئية أمر انتزاعي و ليس حكماً شرعياً و لا موضوعاً لحكم شرعي، فكيف يتعلّق به الرفع التشريعي؟ يجاب: يكفي في جواز الرفع كونها منتزعاً من أمر مجعول، و هو وجوب السورة، و هذا المقدار كاف في صحّة الرفع.

2. انّ رفع الجزئية، يلازم رفع وجوب السورة، و أمّا كون الواجب هو الباقي و تعلّق الأمر به فهو لا يستفاد من حديث الرفع.

يجاب: بأنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء و الشرائط، هو نسبة

ص:366


1- كفاية الأُصول: 2/235.

الاستثناء، فكما أنّ استثناء شيء من العموم، يلازم اختصاص الحكم الباقي، فهكذا استثناء جزئية السورة في حال النسيان، يلازم انحصار الأمر بالباقي، و بذلك يكون حديث الرفع من أدلّة الأجزاء.

بعبارة أُخرى: تحديد دائرة المأمور به، ليس على عاتق حديث الرفع بل على عاتق أدلّة الأجزاء، فإذا اختص وجوب السورة بغير حال النسيان، يكون الواجب في حقّ الناسي هو الصلاة بغير السورة، و ينطبق عنوان المأمور به على الباقي انطباقاً قهرياً، و يكون سقوط الأمر و الأجزاء مثله.

3. ما ذكره المحقّق النائيني من أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء و الشرائط، لنسيان أو إكراه و نحو ذلك بحديث الرفع، فانّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسيّة في الصلاة مثلاً لخلو صفحة الوجود عنها.(1)

يجاب عنه بما عرفت من أنّ الرفع تعلّق في عامة الموارد بأُمور وجودية، و هو العناوين الواردة في الحديث، و قد تقدّم أنّها أخذت فيه بعنوان الطريقية فيكون المرفوع هو المنسي.

4. ما ذكره هو أيضاً) قدس سره (لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء و الصحّة، فانّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء و فساد العبادة و ينتج عكس المقصود.(2)

يلاحظ عليه: ليس المرفوع هو الإجزاء و الصحّة، بل المرفوع هو الجزئية و الوجوب الذي لها، و هذا ينتج نفس المقصود.

5. إنّما تصحّ عبادة الناسي و يكون المركب الفاقد تمام المأمور به في حقّه إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب، و أمّا مع عدم إمكانه لأجل كون الخطاب بقيد انّه ناس، لوجب انقلاب الموضوع إلى الذاكر فلا يمكن تصحيح عبادته.

ص:367


1- فوائد الأُصول: 3/353.
2- فوائد الأُصول: 3/353.

يجاب: انّ تصحيح عبادته لا تتوقف على تخصيصه بالتكليف، بل الأمر المتعلّق بالصلاة في الكتاب و السنّة كاف في التصحيح، فانّ الذاكر و الناسي يقصدان امتثال قوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1)و الصلاة أمر مقول بالتشكيك، تصدق على الفرد الواجد للسورة، و الفاقد لها و كلاهما بما هما فردان للطبيعة، غير انّ الواجب على الذاكر إيجادها في ضمن الفرد الكامل، و على الناسي إيجادها في ضمن الفرد الناقص إيجاد لنفس الطبيعة و امتثال للأمر الوارد في الكتاب و السنّة بلا حاجة إلى تخصيص الناسي بالتكليف.

و على ذلك فلو ذكر الناسي بعد أداء الصلاة انّه ترك السورة فصلاته صحيحة، مجزئة لانطباق عنوان المأمور به على ما أتى، و قد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد.

6. انّ هذا التقريب يوجب سقوط الأمر الظاهري، و أمّا الأمر الواقعي المتعلّق بالصلاة بعامة أجزائها و شرائطها فهو باق.

يجاب: انّك قد عرفت في باب الإجزاء انّه ليس لنا إلاّ أمر واحد، و هو بوحدته يبعث الذاكر و الناسي و المصحّ و المريض و الحاضر و المسافر، و لأجل ذلك يعبر سبحانه عن صلاة المسافر، بالتقصير و يقول:

(وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (2)فالواجب في حقّ المسافر، هو نفس الواجب في حقّ الذاكر، غير أنّ له أن يقصّرها و يقلِّلها من ركعاتها.

نعم يمكن امتثال هذا الأمر الواحد بصور مختلفة حسب اختلاف أحوال المصلي، من الذكر و النسيان و الصحّة و المرض.

ص:368


1- الإسراء: 78.
2- النساء: 101.
تعلّق النسيان بالسبب

ما ذكرناه في نسيان الجزء و الشرط و المانع يأتي بعينه في نسيان السبب لكن بالتفصيل الآتي.

و هو انّه إن تعلّق النسيان بأصل السبب أو بشرط يعد عند العقلاء من مقومات العقد، كما إذا تقاولا على الزوجية، و دخل بالمرأة بلا عقد عن نسيان أو عقد هازلاً، فلا ريب في بطلان مثل هذا الزواج، إذ لم يصدر من المكلّف أيُّ عمل حتى يوصف بالصحّة، و هذا بخلاف ما إذا تعلّق النسيان بشروط السبب و موانعه، كما إذا عقد فارسياً على القول بشرطية العربية، فيحكم بالصحّة لرفع شرطيتها في حال النسيان فيكون العقد الفارسي قائماً مكان السبب التام، و ليس المرفوع إلاّ شرطية العربية.

و بما ذكرنا يظهر، عدم تمامية ما أفاده المحقّق النائيني حيث قال ببطلان العقد الفارسي إذا صدر عن نسيان قائلاً: بأنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي.(1)

لما عرفت من أنّ المرفوع هو شرطية العربية في العقد، و هو كاف في الصحّة، لا العقد الفارسي.

المقام الثاني: في الاضطرار و الإكراه

قد استقصينا البحث في الفقرتين الماضيتين: ما لا يعلمون، و النسيان; فلنعطف عنان الكلام إلى الفقرتين الأخيرتين: الاضطرار و الإكراه.

فيقع الكلام تارة في الحكم التكليفي، و أُخرى في الحكم الوضعي.

ص:369


1- فوائد الأُصول: 3/357.
تعلّق الإكراه بالحكم التكليفي

إذا تعلّق الإكراه بارتكاب المحرم، فلا يرتفع بمجرّد عدم طيب النفس إلاّ إذا كان المتوعد به أمراً حرجياً، غير قابل للتحمل عادة، و هذا يختلف حسب اختلاف الأشخاص و الأحوال. و قد فصّل الشيخ في الموضوع في المكاسب المحرمة فليرجع إليها.

و أمّا ما رواه المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في رجل أتى امرأته و هو صائم و هي صائمة فقال:» إن كان استكرهها فعليه كفارتان، و إن كان طاوعته فعليه كفارة... «.(1) فضعيف السند جدّاً، لأنّ الكليني يرويه بسند لم نجد أيّ توثيق في حقّ واحد منهم، و على فرض الثبوت يحمل على المرحلة التي ربما تسلب الطاقة عرفاً عن الزوجة.

إذا علمت انّه ليس كلّ إكراه مسوِّغاً لارتكاب المحرم بل مرتبة خاصة منه، فاعلم انّه إذا بلغ الإكراه إلى الدرجة المسوِّغة، و أُكره على ارتكاب محرم فعليه الاقتصار به دون تجاوز إلى الفرد الآخر، كما أنّه إذا أكره على ترك فرد من الواجب كالصلاة في المسجد فليس له ترك الصلاة في البيت.

تعلّق الإكراه بالحكم الوضعي

هذا كلّه حسب الحكم التكليفي و أمّا الوضعي، فتارة يتعلّق بالسبب، و أُخرى بالمسبب. أمّا الأوّل فكما لو أُكره على ترك السبب أو ترك ما يعد من مقوماته كالتزويج بلا عقد، أو هازلاً، فلا شكّ في بطلان التزويج غاية الأمر يعدّ معذوراً من جانب المخالفة التكليفية، كالنظر و اللمس إذا استمر الإكراه.

ص:370


1- الوسائل: 7، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

أمّا إذا تعلّق الإكراه بترك الجزء و الشرط أو إيجاد المانع، فالظاهر صحّة العبادة على غرار ما ذكرناه في نسيان الجزء و الشرط و إيجاد المانع إذا كان العذر مستوعباً، و أمّا إذا لم يكن كذلك، فالإجزاء و عدمه رهن جواز البدار مع احتمال ارتفاع العذر أو لا. فعلى الأوّل يجزي لوحدة الأمر و قد امتثله و انطبق عليه عنوان الواجب دون ما إذا قلنا بعدم الاجزاء و مثله إذا أكره على المانع كما إذا أكره على الصلاة في الثوب النجس.

فتلخص من ذلك أنّ مطلق الإكراه لا يسوِّغ مخالفة الحكم التكليفي إلاّ إذا بلغ درجة غير قابلة للتحمل عادة، و معه يجب الاقتصار على مورده.

و أمّا الإكراه على الحكم الوضعي، فلو أُكره على ترك السبب من رأس أو ما يعد مقوماً فلا يجدي في صحّة السبب لعدم السبب.

و أمّا إذا أُكره على ترك الشرط و الجزء و المانع في المعاملة و العبادة، فالظاهر رفع الجزئية و الشرطية و المانع، و بالتالي التكاليف الوضعية و الحكم بصحّة العمل عبادياً كان أو معاملياً.

نعم فصّل سيدنا الأُستاذ) قدس سره (في باب الإكراه بين تعلّقه بالمانع و تعلّقه بترك الجزء و الشرط، بجريان حديث الرفع في الأوّل و صحّة العمل، دون الأخير، و ذلك لأنّ الإكراه في الأوّل تعلّق بشيء ذي أثر و هو المانع كالصلاة في الثوب النجس، دون الأخيرين إذ الإكراه تعلّق بترك الجزء و الشرط، و هما ليسا متعلّقين بالحكم الشرعي.

هذا بخلاف ما إذا نسي الجزء و الشرط بأنّ متعلّق النسيان ذو أثر شرعي، و على ضوء ما ذكر يجزي حديث الرفع في مورد النسيان في جميع الموارد الثلاثة، دون الإكراه فهو يجري في إيجاد المانع، دون ترك الجزء و الشرط.(1)

ص:371


1- تهذيب الأُصول: 1682/167.

يلاحظ عليه: أنّه يكفي في جريان الحديث أحد الأمرين إمّا كون متعلّق العنوان ذا أثر شرعي كنسيان الجزء، أو كون متعلّقه ملازماً عرفاً للحكم الشرعي، فانّ ترك الجزء في نظر العرف ملازم لبقاء الأمر بالمركب فإذا تعلّق الإكراه بترك الجزء و صار المكلّف معذوراً في تركه يكون نظر العرف ملازماً لعدم بقاء الأمر بالمركب و سقوط الأمر النفسي، و هذا المقدار من الملازمة العرفية كاف في التمسك به، هذا كلّه حول الإكراه على السبب.

الإكراه على المسبب

و أمّا إذا أكره على المسبب، فإن كان من الأُمور الاعتبارية المترتبة على فعل المكلّف كالزوجية و الملكية إذا أمكن الاكراه عليه، فهو مرفوع، و أمّا إذا كان من الأُمور المترتبة على وجود السبب بما هو هو لا بما هو فعل اختياري للمكلّف فلا يرتفع بالإكراه كالغسل لمن أكره بالجنابة، و تطهير الثوب و البدن للصلاة لمن أكره على الجنابة.

حكم الاضطرار

الاضطرار إمّا أن يتعلّق بالأمر المشروع كبيع الدار لمعالجة الولد، فلا شكّ انّه غير مؤثر في رفع الأثر، لأنّه على خلاف الامتنان، و أمّا إذا تعلّق بأمر محرم فهو رافع له بعامة مراتبه خلافاً للإكراه، و قد عرفت أنّه لا يرتفع به الأثر إلاّ إذا كان ما توعد به أمراً غير قابل للعمل.

و أمّا إذا تعلّق بإيجاد المانع أو ترك الجزء و الشرط فهو كالإكراه، مختاراً و إشكالاً و جواباً.

ص:372

إكمال

لا يخفى انّ مفاد ما مرّ من الآيات السابقة، مفاد البراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان فلو تم دليل الأخباري على لزوم الاحتياط يكون وارداً على أدلّة الأُصولي، إنّما الكلام في مفاد حديث الرفع، فهل مفاده نفس مفاد البراءة العقلية، أو انّ مفاده رفع الواقع المجهول سواء أ كان حكماً أم موضوعاً و معنى ذلك أنّ المكلّف في سعة من جانبه و ليس له أيّ حرج من جانبه، فلو دل دليل على لزوم الاحتياط و انّ المكلّف مأخوذ من جانب الحكم المجهول يقع التعارض بينهما.

و على ضوء هذا، يجب إمعان النظر في مفاد كلّ دليل يقام على البراءة، فهل يتحد مفاده مع مفاد البراءة العقلية أو لا؟

2. حديث الحجب

روى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» ما حجب اللّه عن العباد، فهو موضوع عنهم «.(1)

و محمد بن يحيى شيخ الكليني ثقة، يروي عن شيخه أحمد بن محمد بن عيسى، و هو ثقة جليل; يروي عن ابن فضال، و هو الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإمام الهادي و العسكري) عليهما السلام (، كوفي ثقة، و هو شيخ أبي النضر محمد بن مسعود العياشي قال التلميذ: فما لقيتُ بالعراق و ناحية خراسان أفقه و لا أفضل من الحسن بن علي بالكوفة(2); و هو يروي عن داود بن فرقد الثقة; و هو يروي عن زكريا بن يحيى هو الواسطي، قال النجاشي: إنّه ثقة. و الحديث لا غبار عليه، لكن

ص:373


1- الكافي: 1/164، باب حجج اللّه على خلقه، الحديث 3.
2- رجال النجاشي: 1/127، برقم 71.

لوقوع ابن فضال الفطحي في السند، يوصف بالموثق، و قد مات عام 221 أو 224 ه و يمكن وصفه بالصحّة لأنّ ابن فضال كان خصيصاً بالرضا) عليه السلام (و هو يدل على توفّيه على الحقّ و إلاّ لما كان خصيصاً به و اللّه العالم.

و أمّا الدلالة، فتقرر بأنّ حرمة شرب التتن على فرض حرمتها ممّا حجب اللّه علمه عن العباد، فهي مرفوعة عنهم، فليس من ناحيتها أيّ حرج، فيكون على فرض تمامية الدلالة معارضاً لأدلّة الأخباري الدالة على وجود المسئولية للعباد فيما جهلوا من الأحكام و لو بالاحتياط.

إنّما الكلام في تمامية الدلالة، و ذلك لأنّ في الموصول احتمالات:

1. المعارف و الأُمور الغيبيّة التي لم يكلف العباد بالتعرف عليها ككيفية البرزخ و الميزان و الصراط و الشجرة الخارجة من أصل الجحيم(1)، فانّ ذلك كلّه من الأُمور الغيبية التي لا تصل إلى دركها أفهام العباد في هذه النشأة، و يؤيد ذلك المعنى عدّة من الروايات.(2)

2. الأحكام التي لم يُبيّنها الشارع أصلاً، لأجل التسهيل، و يؤيده ما عن أمير المؤمنين) عليه السلام (:» إنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهِكُوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها «.(3)

3. المعنى العام الشامل للمعارف و الأحكام لكن بجامع انّه ممّا لم يبيّنه أصلاً.

ص:374


1- إشارة إلى قوله سبحانه: (إنّها شَجَرَة تَخْرُج في أَصْلِ الجَحيم * طَلْعُها كأنّهُ رُءوس الشَّياطين) (الصافات/ 64 65).
2- الكافي: 1/92، الحديث 1، و ص 103، الحديث 12.
3- نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 105.

4. ذلك المعنى لكن الأعم ممّا لم يبيّنها، أو بيّنها لكن أخفاها الظالمون، أو خفي لأجل حوادث مرّة من التقية و غيرها.

و الاستدلال مبني على كون المراد من الموصول هو الأعم من المعارف و الأحكام، كما أنّه مبنيّ أيضاً على أنّ المراد من الحجب هو الأعم من حجبه سبحانه مباشرة، أو حجب عباده الذي يصحّ اسناده إلى اللّه أيضاً كإسناد سائر أفعال العباد إليه إسناداً بالمباشرة.

فإن قلت: إنّ ظاهر الحجب هو الحجب المباشري فيختص بما لم يُبيّن.

قلت: إنّ ظاهره معارض بظهور لفظ الوضع الذي هو بمعنى الرفع لمكان لفظة» عن «و الرفع فرع وجود الحكم و تشريعه و لولاه لما صحّ رفعه، فيكون الحديث محتمل الوجهين، فيسقط عن الدلالة، بل يمكن ترجيح الأوّل بادّعاء كفاية وجود المقتضي للوضع لكنّه سبحانه لم يضعه تسهيلاً للعباد، كما يمكن ترجيح الثاني بادّعاء انّ الحجب الناشئ من ناحية العباد منسوب إلى اللّه سبحانه كنسبة سائر الأفعال إليه. يقول سبحانه: (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى )(1)، على أنّه ربّما يكون الحجب معلولاً للحوادث المرّة كجريان السيل، و وقوع الزلزال اللّذين يسببان زوال الكتب فتصحُّ نسبته إلى اللّه سبحانه.

3. حديث السعة

استدل الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني بقوله) عليه السلام (:» الناس في سعة ما لا يعلمون «.

وجه الاستدلال: انّ» ما «في قوله» ما لا يعلمون «يحتمل أحد وجهين:

1. انّها موصولة: و» لا يعلمون «صلة و الضمير العائد إلى الموصول محذوف،

ص:375


1- الأنفال: 17.

و المعنى: الناس في سعة من جانب شيء لا يعلمونه، فالحرمة المجهولة في شرب التتن شيء بما انّها غير معلومة للناس فهم من ناحيتها في سعة، أي ليس عليهم حرج و ضيق، من إيجاب الاحتياط و التحفّظ، أو ثبوت العقاب و العذاب على فرض كونه حراماً، و يكون مضمونه موافقاً لحديث الرفع، و لو تمّ دليل الأخباري يكون معارضاً معه، لأنّه يدل على عدم السعة و انّه لو كان حراماً ليُؤخذ به الإنسان و لذلك يوجب الاحتياط.

2. مصدرية زمانية(1) مثل قوله تعالى: (وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (2)أي مدة حياتي، و المعنى الناس في سعة في زمان عدم علمهم.

فإن قلت: إنّما تتم دلالته و يكون معارضاً لدليل الأخباري إذا افترضنا أنّها موصولة، دون ما إذا كانت ظرفية، فيكون معناه: الناس في سعة ما دام لم يعلموا، فيكون الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان و تكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليه.

قلت: هذا ما ذكره المحقّق النائيني حسب ما نقله المحقّق الخوئي في تقريراته(3)، و قد أشار إليه المحقّق الخراساني بقوله: لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط، ثمّ أجاب عنه بما هذا توضيحه:

انّ المراد من العلم فيه، هو العلم بالواقع من غير فرق بين العلم بالحكم الشرعي أو العلم بهوية المشتبه في الشبهة الموضوعية و العلم بالاحتياط ليس علماً به و إنّما علم بحكم وقائي لئلا يخالف الواقع، نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسياً، لا يكون بعد العلم به سعة، و لكنّه غير تام، فانّ وجوب الاحتياط لحفظ

ص:376


1- في مقابل المصدرية غير الزمانية مثل قوله: (فَضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) (التوبة: 118).
2- مريم: 31.
3- مصباح الأُصول: 2/278.

الواقع، و لذا لو خالفه و لم يكن في الواقع حراماً، لما استحق العقاب.

فظهر انّه لو تمّ دليل الأخباري لوقع التعارض بينهما، فهذا يدل على السعة ما لم يعلم الواقع بما هو هو، و ذاك يدل على لزوم الاحتياط و إن جهل الواقع.

نعم الظاهر كون» ما «موصولة، لأنّ المصدرية تدخل على الماضي الحقيقي، أو ما بحكمه و هما منتفيان. و لكن ما نقله الشيخ و غيره من النصّ غير وارد في الأُصول الحديثية، و إنّما الوارد أحد التعبيرين:

أ: هم في سعة حتى يعلموا.(1)

ب: الناس في سعة ما لم يعلموا.(2)

أمّا الأول فإليك نصه: انّ أمير المؤمنين) عليه السلام (سُئل عن سفرة وجدت في الطريق، كثير لحمها و خبزها و جبنها و بيضها، و فيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين) عليه السلام (:» يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد و ليس له بقاء، فإن جاء طالبها، غرموا له الثمن «قيل: يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال:» هم في سعة حتى يعلموا «.

و الحديث مروي عن طريق النوفلي عن السكوني، و الأصحاب عملوا برواياتهما كما ذكره الشيخ في العدة و لكن مورده هو الشبهة الموضوعية، لأنّ الشكّ في حلية اللحوم الموجودة فيها لاحتمال كونها للمجوسي الذي لا تحل ذبيحته و الإمام حكم بالحلية، و المقصود هو إثبات الجواز في الشبهة الحكمية.

أضف إلى ذلك، انّ تطبيق الكبرى على موردها مشكل، لأنّ الأصل في

ص:377


1- الوسائل: الجزء 2، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 11; و الجزء 16، الباب 38 من أبواب الذبائح، الحديث 2.
2- المستدرك: الجزء 18، الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث... نقلاً عن غوالي اللآلي للاحسائي.

اللحوم هو عدم التذكية، فكيف حكم عليها بالحلية؟ و لو كان الحكم لأجل كون الأرض للمسلمين و الغالب عليها هو الإسلام، تكون مستندة إلى قاعدة أُخرى لا إلى أصالة الحلية.

أمّا الثاني: فهو المروي مرسلاً عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (:» الناس في سعة ما لم يعلموا « و الظاهر انّ» ما «ظرفية، دخلت على ما هو بحكم الماضي، دلالته جيدة يعم الشبهتين الموضوعية و الحكمية، لكن السند غير تام.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

الحديث الأوّل: من مراسيل الكتب الأُصولية.

الحديث الثاني: السند قابل للاعتماد لكن الدلالة غير تامّة.

الحديث الثالث: تام دلالة غير تام سنداً.

4. حديث الحل الأوّل

روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه ) عليه السلام (قال: سمعته يقول:» كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «.(1)

و الرواية من ثلاثيات الكليني حيث يروي عن المعصوم بثلاث وسائط، و من ثنائيات القمي حيث يروي عن المعصوم بواسطتين.

ص:378


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

أمّا السند، فلا غبار عليه إلاّ في آخره، فانّ القمي من المشايخ الإثبات.

و هارون بن مسلم أنباري، سكن سامراً، يكنّى أبا القاسم، ثقة، وجه، و كان له مذهب في الجبر و التشبيه، لقي أبا محمّد و أبا الحسن) عليهما السلام (.(1)

و التعبير بلفظ:» كان «حاك عن عدوله عنه، و إلاّ كيف يكون معه ثقة؟! و أمّا مسعدة بن صدقة العبدي; فقد وصفه الشيخ في رجاله بأنّه عامي(2)، و عدّه الكشي من البترية(3)، و لو لا تصريح النجاشي برواية هارون بن مسلم عن مسعدة لكان لاحتمال سقوط الواسطة بينهما مجال.

و السند و إن كان غير نقي، لكن تلوح على المضمون علائم الصدق.

و على كلّ تقدير، فليس في المقام إلاّ رواية واحدة ورد فيها قوله:» كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه فتدعه «.

و يظهر من الشيخ الأعظم انّ هنا رواية مستقلة وراء رواية مسعدة غير مشتملة على لفظة » بعينه «.(4) و لم نقف على ما ذكره.

و نقلها المحقّق الخراساني مشتملة على لفظة» بعينه «، من دون أن يذكر مصدر الرواية.

و على كلّ تقدير فالرواية مختصة بالشبهة الموضوعية، و ذلك لوجوه:

1. لفظة» بعينه «فانّه تأكيد للضمير في قوله:» انّه حرام «، و المعنى حتى تعرف انّه بشخصه حرام، و يتميّز عن غيره; و لا يتصور ذلك إلاّ في الشبهة الموضوعية، فإذا اختلط الخمر بالخل و عرف الخمر، فهناك حرام غير مشخص،

ص:379


1- رجال النجاشي: 2/405، برقم 1181.
2- رجال الشيخ: 146 برقم 40، باب أصحاب محمد بن علي الباقر (عليهما السلام).
3- رجال الكشي: 333، باب عد جماعة من العامة و البترية.
4- الفرائد: 301 و 220 في المسألة الرابعة من الشبهة التحريمية.

فإذا عرفه يقال: عرف الحرام بعينه; و أمّا الشبهة الحكمية، فليس عند الشك، حرام لا بعينه، حتى إذا زال الشكّ يكون الحرام معلوماً بعينه.

و يؤيد انّه بمعنى بشخصه رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة، و غنم الصدقة و هو يعلم انّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم؟ قال: فقال:» ما الإبل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(1)

و احتمل سيدنا الأُستاذ) قدس سره (كونه تأكيداً لقوله: حتى تعرف، و هو كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفاً علمياً لا يأتيه ريب.(2)

2. الأمثلة التي وردت فيها بعد ضرب القاعدة كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية، فتصلح لأن تكون قرينة للمراد، أو مانعة عن انعقاد الإطلاق.

3. قوله:» و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة «و يعني من البيّنة:

شهادة العدلين، و التي يتوقف عليها ثبوت الموضوعات لا الأحكام، لأنّه يكفي في ثبوتها خبر العدل، و حمل البيّنة على مطلق ما يتبين به خلاف المتبادر منها في عصر الرسول فضلاً عن عصر الأئمّة قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان «(3)مضافاً إلى تفسيرها بالشاهدين في رواية عبد اللّه بن سلمان حيث روى عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في الجبن قال:» كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان على أنّ فيه ميتة «.(4)

ص:380


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به الحديث 5، و لاحظ الحديث 2 من الباب 53.
2- تهذيب الأُصول: 2/175.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
4- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
5. حديث الحل الثاني

هناك حديث حل ثان يفترق عمّا سبق باشتماله على جملة:» فيه حلال و حرام «، و قد وردت في روايات ثلاث، و لعلّ الرواية الثالثة نفس الثانية كما نستظهره.

1. ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» كلّ شيء فيه حلال و حرام، فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(1)

2. ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر عن الجبن فقال لي:» لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّينا معه إلى أن قال:» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام، فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه «.(2)

و الأُولى مروية عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (، و الثانية عن أبي جعفر) عليه السلام (، فتكونان روايتين، غير انّ الأُولى مشتملة على لفظة» منه «دون الثانية.

3. ما رواه معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبي جعفر) عليه السلام (، فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يعجبني، و سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(3)

و لعلّ السائل الذي عبر عنه» فسأله رجل «هو» عبد اللّه بن سليمان «الوارد في الحديث الثاني، كما يحتمل انّه المراد في رواية أُخرى لعبد اللّه بن سنان قال:

ص:381


1- الوسائل: 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1 و 7.
3- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1 و 7.

سأل رجل أبا عبد اللّه عن الجبن، فقال: إنّي آكله ليعجبني، ثمّ دعا به فأكل.(1) و على ذلك فقد سأل عبد اللّه بن سليمان كلاً من الإمامين أبي جعفر و أبي عبد الله) عليهما السلام (.

و الرواية الأُولى صحيحة رواتها كلّهم ثقات، بخلاف الثانية فانّ عبد اللّه ابن سليمان لم يوثّق، و الثالثة مرسلة لوجود» رجل «في السند، و على كلّ تقدير فالمضمون يلوح عليه علائم الصدق.

الاستدلال بالرواية على الشبهة الحكمية مبني على أمرين:

أ: المراد من الشيء في قوله:» كلّ شيء «، هو الأمر الكلي، كشرب التتن أو لحم الأرنب.

ب: المراد من قوله:» فيه حلال و حرام «بمعنى فيه احتمال الحلال و الحرام.

و عندئذ يقال: إنّ شرب التتن و لحم الأرنب فيهما احتمال الحلية و الحرمة، فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

يلاحظ عليه بأُمور:

1. أنّ الظاهر من قوله:» فيه حلال و حرام «هو فعليتهما لا احتمالهما كما في قوله سبحانه: (وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ).(2)

2. لو أُريد هذا المعنى، لكان الأنسب أن يقول: حتى تعلم، بدل» حتى تعرف «، فانّ العرفان يستعمل في الأُمور الجزئية، لا الكلية، يقال: عرفت اللّه لا علمت اللّه، بخلاف العلم.(3)

ص:382


1- المصدر نفسه، الحديث 2 و قد نقل الحديث مبتوراً.
2- النحل: 116.
3- نعم هذا هو الغالب، و إلاّ فربما يستعمل العلم في الجزئيات، كما مرّ في مسعدة بن صدقة حيث قال: حتى تعلم انّه....

3. لو أُريد ذلك لزمت لغوية قوله:» بعينه «لأنّ الإنسان إذا وقف على حرمة شرب التتن أو لحم الأرنب وقف على حرمة ذلك الشيء لا حرمة شيء آخر، حتى يؤكد بقوله بعينه.

و ربما يصحّح الاستدلال به على الشبهة الحكمية، بأنّ المراد من الشيء هو الجنس البعيد كالشرب بالنسبة إلى الماء و الخمر، و اللحم بالنسبة إلى الغنم و الخنزير ففيه حلال و حرام بالفعل، و لكن نشك في الجبن و الأرنب فهما حلالان حتى تعرف الحرام منه بعينه.

و قد رد عليه الشيخ بوجهين:(1)

1. انّ اللام في قوله:» حتى تعرف الحرام «للعهد الذكري إشارة إلى الحرام المتقدّم، مع أنّه إذا عرفت حرمة شرب التتن، فقد عرفت حرمة مستقلة لا الحرمة المتقدمة المحمولة على الخمر، و لو قلنا بعموم الحديث للشبهة الحكمية يكون معنى الحديث هكذا: انّ من الشرب حلالاً كالماء، و حراماً كالخمر، فشرب التتن لك حتى تعرف الحرمة المتقدمة.

2. ظاهر الرواية انّ التقسيم سبب للشك في حرمة شرب التتن، مع أنّه ليس كذلك فليس حلية شرب الماء، و حرمة شرب الخمر سبباً للشكّ في حرمة التتن.

و الظاهر انّ المراد من الشيء، هو الكلي المنتشر في الخارج المتكثر فيه، بمعنى انّ قسماً منه حلال و قسماً آخر حرام، و قسماً منه مشتبه كالجبن. فالمشكوك محكوم بالحلية، حتى تعرف انّه في قسم الحرام الذي جعل فيه الميتة، فيكون منطبقاً على الشبهة غير المحصورة.

و يؤيد ذلك، حديث أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن،

ص:383


1- الفرائد: 201.

فقلت له: أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة؟ فقال:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين، إذا علمت انّه ميتة فلا تأكل، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل «.(1)

و هناك احتمال ثالث:

و هو أن يراد من الشيء، الجزئي الخارجي كالمال المختلط بالربا، و كالصدقات المشتراة من السلطان و جوائزه المختلط بالحرام، فقد تضافرت الروايات على حليّتها ما لم يعرف الحرام بعينه، و هذان الموردان ممّا أخذ العلم التفصيلي موضوعاً للحرمة.(2)

و لكن جعل الضابطة لأجل ذينك الموردين لا يخلو من بعد.

6. حديث إطلاق الأشياء

روى الصدوق مرسلاً عن الصادق) عليه السلام (قال: و قال الصادق:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.(3) و الاستدلال يتوقف على تماميته سنداً و دلالة.

أمّا الأوّل، فهو مرسل و هو لا يصلح للاحتجاج به.

لكن المشايخ يفرّقون بين قولي الصدوق، أعني قوله:» روى عن الصادق) عليه السلام («و قوله:» و قال الصادق) عليه السلام («، حيث إنّ النسبة إليه تحكي عن جزم الصدوق بصدور الرواية عن المعصوم. و قال بحر العلوم: إنّ مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية و الاعتبار. و قد ذكرنا كلمات القوم في

ص:384


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.
2- و قد ذكرنا رواياته في المحصول فلاحظ 3/386.
3- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.

كتابنا» كليات في علم الرجال «.(1)

أقول: إنّ ظاهره هو جزمه بصدورها عن الإمام، و لكنّه كما يكون مستنداً إلى اعتقاده بعدالة رواته يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المفيدة للعلم بالصحة. و على كلا الوجهين لا يصحّ الاستناد، أمّا على الثاني فواضح، لعدم حجّية علم المجتهد على مجتهد آخر; و أمّا الأوّل، فلأنّ غايته توثيقه لمن ورد في السند، و توثيقه إنّما يكون حجّة إذا لم يكن له معارض، و هو فرع الوقوف على أسمائهم و المفروض انّه ترك ذكر السند أصلاً، و مع ذلك لا يمكن ترك هذا النوع من المراسيل.

أمّا الدلالة فهي مبنية على ثبوت أُمور ثلاثة:

1. المراد من الشيء، هو الموضوع المجهول الحكم لا بمعنى انّه استعمل في المعنى المركّب، بل القيد مفهوم من الغاية أعني:» حتى يرد «.

2. المراد من المطلق، هو الإباحة الظاهرية.

3. المراد من الورود، هو الوصول إلى المكلّف.

و قد حمل الشيخ الرواية على هذا المعنى و جعلها من أدلّة البراءة التامة، و انّها تصلح أن تكون معارضةً لدليل الأخباري على فرض تماميته، و ذلك لأنّ الضمير في قوله:» يرد فيه «يرجع إلى ذات الشيء المجهول الحكم، و انّه ما لم يرد ذاك النهي الكذائي فالمكلّف من ناحيته في سعة و إطلاق و انّه محكوم بالإباحة ظاهراً، و على ضوء هذا يكون معارضاً لدليل الأخباري الدالّ على كفاية ورود النهي بالعنوان الثانوي.

و قد فسر المحقّق الخراساني الأُمور الثلاثة بغير هذا النحو.

ص:385


1- كليات في علم الرجال: 383 384.

ففسر الشيء، بما هو هو، من دون وصفه بمجهول الحكم، و الإطلاق بالإباحة الواقعية و الورود بالصدور من قلم التشريع لا الوصول إلى يد المكلف.

فعلى نظرية الشيخ، فالرواية ناظرة إلى بيان حكم مشتبه الحرمة و الحلية، و على نظر المحقّق الخراساني ناظرة إلى بيان حكم الأشياء قبل تشريع الشرائع أو الشريعة المحمدية.

و إليك تحليل النظريتين في الموارد الثلاثة:

أمّا الأوّل: فلا يمكن اختيار واحد من القولين إلاّ بلحاظ الأمرين الأخيرين.

أمّا الثاني: فنظر الشيخ هو الأقرب، لأنّ الإمام بصدد الإفتاء و رفع حاجة المكلّفين في حياتهم، و لا يتم ذلك إلاّ بتفسير الإطلاق بالإباحة الظاهرية، و ذلك لأنّ تفسيره بالإباحة الواقعية للأشياء قبل الشرائع أو قبل مجيء الرسول الأعظم، يوجب كون الإمام بصدد بيان مسألة كلامية، لا مسألة فقهية مفيدة لحال المتكلّم إلاّ بضمّ الأصل و بقاء الإباحة قبل الشرع، و هو كما ترى.

و أمّا الثالث: فالقرائن تشهد على أنّ المراد، هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من قلم التشريع و لو لم يصل. و ذلك أوّلاً: أنّه استعمل الورد في القرآن في الوصول قال سبحانه: (وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ) (1)أي وصل إلى الموضع الذي فيه ماء باسم» ماء مدين «.

و ثانياً: أنّ اللغة يفسره بمعنى الحضور و الإشراف حتى أنّ الورود في مصطلح البلاد العربية شيء يقابل الصدور يستعملون الاستيراد مقابلاً للتصدير; فجلب الأمتعة من خارج البلد إلى داخل البلد، هو الاستيراد، و عكسه هو التصدير.

ص:386


1- القصص: 23.

و ثالثاً: أنّ تفسير الحديث على النحو الآخر يوجب اختصاص الرواية بعصر الرسول، و انّ الأشياء محكومة بالإباحة و الإطلاق حتى يصدر من الشارع نهي، و تكون الرواية إخباراً عن حكم زمان حياة الرسول، و هو خلاف ظاهرها، فانّ ظاهرها إنشاء حكم بلا تقييد بزمان، و انّ هذا الإطلاق سائر في جميع الأزمنة.

و يؤيد التعبير بلفظ: (حتّى يرد) الدال على المعنى الاستقبالي، و مفاده انّ هذا الحكم سائد في عصر الصادق و بعده إلى أن تتحقق الغاية، و من المعلوم ان لو كان المراد من الورد الصدور من قلم التشريع، فالغاية تمت و تحققت قبيل رحيل الرسول، و لم يبق أي ترقّب إليها بعد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني وجّه إلى مختاره إشكالات ثلاثة، و أجاب عنها غير انّ في جوابه عن الإشكال الثالث إبهاماً، فليلاحظ.

7. حديث الجهالة

روى الكليني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم) عليه السلام (:

1. قال سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدّتها بجهالة، أ هي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال:

» لا أمّا إذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضي عدتها، و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك «.

2. فقلت: بأي الجهالتين يعذر، بجهالته انّ ذلك محرم عليه أم بجهالته انّها في عدّة؟ فقال:» إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى: الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه، و ذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها «.

3. فقلت: و هو من الأُخرى معذور؟ قال:» نعم إذا انقضت عدتها، فهو معذور في أن يتزوجها «.

ص:387

4. فقلت: فإن كان أحدهما متعمداً و الآخر بجهل؟ فقال:» الذي تعمد لا يحل له أن يرجع إلى صاحبه أبداً «.(1)

و مجموع الأسئلة و الأجوبة لا تتجاوز عن أربعة، و محل الشاهد في الثاني منهما، حيث عدّ الجاهل بحرمة تزويج المعتدة معذوراً و له أن يتزوج بعد ما عرف بطلان عقده، و الرواية محمولة على مجرّد العقد بلا دخول و إلاّ فتحرم مطلقاً جاهلاً كان أو عالماً.

و أمّا فقه الحديث فهنا سؤال، فهل السؤال عن الجاهل الملتفت الشاك أو عن غير الملتفت؟ فعلى الأوّل، فكلا الرجلين متمكنان من الاحتياط بأن لا يعقد حتى يسألا فكيف حكم الإمام على أحدهما بالتمكن منه دون الآخر؟ و على الثاني، فكلاهما غير متمكنين، و حمل الأوّل على غير الملتفت و الثاني على غيره تفكيك بين الجهالتين.

و أمّا الاستدلال فيرد عليه: انّ الظاهر من المعذورية هو المعذورية في الحكم الوضعي و انّه لا يحرم عليه، و يدل على ذلك انّ الإمام أجاب في الجواب عن السؤال الرابع بعدم جواز رجوعه إلى صاحبه أبداً، و كلام السائل و جواب الإمام كلّه يدور حول المعذورية و عدمها، أي يكون الجهل عذراً لئلا تحرم الزوجة عليه أبداً، لا المعذورية في أمر العقاب اللّهمّ إلاّ أن تدّعي الملازمة.

و ما ذكرنا من الأحاديث السبعة، هو المهم من السنّة التي استدل بها على البراءة، و هناك روايات أُخرى يمكن الاحتجاج بها عليها، و قد ذكر بعضها الشيخ الأعظم، فليرجع إلى الفرائد و غيرها.

ص:388


1- الوسائل: الجزء 14، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.
الثالث: الاستدلال بالإجماع

إنّ دعوى الإجماع على البراءة على وجوه:

الأوّل: ادّعاء إجماع العلماء من المجتهدين و الأخباريين على أنّ الحكم فيما لم يرد فيه نهي لا بعنوان أوّلي و لا بعنوان ثانوي، أي كونه مجهول الحكم، هو البراءة.

و هذا النوع من الادّعاء صحيح كبرى و باطل صغرى، لأنّ الأخباري يدّعي ورود النهي بعنوان ثانوي.

الثاني: تحصيل الإجماع المحصل على البراءة في مشتبه الحرمة من تتبّع الفتاوى في موارد الفقه من عصر ثقة الإسلام الكليني إلى زماننا هذا، و قد نقل الشيخ شيئاً من كلماتهم.

الثالث: الإجماعات المنقولة في كلمات الصدوق و الحلّي كما نقلها الشيخ.

الرابع: الإجماع العملي و سيرة المسلمين على الارتكاب حتى يدل دليل على الحرمة، و أمر غير بعيد و يظهر من غير واحد من الآيات(1). انّ شأن النبي هو التنصيص على المحرمات دون المحللات و على ذلك درج المسلمون بعد رحيله، فلا يتوقفون في الارتكاب عند الشكّ إلاّ بعد العلم بالحرمة إلى أن ظهر الأمين الاسترابادي فطرح هذه المشتبهات.

و يرد على الجميع: انّ الاعتماد على الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل، لاحتمال استناد المجمعين على الأدلة النقلية و العقلية، فيكون الإجماع مدركياً غير مفيد لشيء، كما هو في الإجماع المنقول.

ص:389


1- (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أن يكونَ مَيْتَةً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير أَوْ دَماً مَسْفُوحاً بِهِ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْر باغ وَ لا عاد فَإنَّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.) (الأنعام: 145).
الرابع: الاستدلال بحكم العقل

استدل القائل بالبراءة بالحكم القطعي للعقل من قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة و اليأس عن الظفر به في مظانّه، و انّ وجود التكليف مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب. و انّ وجوده كعدمه في عدم ترتّب الأثر، و ذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين، أمّا إذا لم يكن هناك بيان أصلاً، فمعلوم، و أمّا إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إليه إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف و مع تركه، يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى حيث اقتصر في بيان المراد، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي، و لو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك و عدم الظفر بعد الفحص، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفظ، و مع عدمه، يحكم العقل بالبراءة و انّ العقاب قبيح و يشكّل قياساً بالشكل التالي:

العقاب على محتمل التكليف بعد الفحص التام و عدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي عقاب بلا بيان.

و العقاب بلا بيان بالنحو المذكور أمر قبيح.

فينتج: العقاب على محتمل التكليف بالنحو المذكور أمر قبيح.

ثمّ إنّ في المقام إشكالين أحدهما متوجه إلى الكبرى و الآخر إلى الصغرى.

أمّا الأوّل: فربما يقال: انّ العقاب بلا بيان ليس أمراً قبيحاً إذا كان المكلّف شاكاً فانّ قيمة أغراض المولى ليست بأقلَّ من قيمة أغراض العبد، فكما أنّه يهتم العبد بأغراضه حتى المحتملات و المشكوكات فيسلك سبيل الاحتياط، كذلك

ص:390

يجب عليه الاحتياط في سبيل تحصل أغراض المولى المحتمل، ففي صورة الشكّ يحكم العقل بوجوب الاحتياط.

نعم هنا قاعدة عقلائية جرت عليها سيرتهم و هي عدم عقاب العبد العرفي إلاّ بعد بيان المولى و لو لا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان و عدم إمضاء الشارع له، لم يقبح العقاب بلا بيان، و المؤاخذة بلا بيان، فوقع الخلط بين الأحكام العقلائية و الأحكام العقلية المبنية على الحسن و القبح.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ مرجع إنكار القاعدة، إلى أنّ احتمال التكليف منجّز للواقع عند العقل، و إن لم يستوف المولى البيان الممكن، و الاعتماد في التعذيب و المؤاخذة على مثل هذا إنّما يصحّ إذا كان من الأحكام العقلية الواضحة. و من المعلوم خلافها، إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي و الأخباري، و سيوافيك انّ النزاع بين الأخباري و الأُصولي إنّما هو في الصغرى أي ورود البيان و عدمه لا في الكبرى.

و ثانياً: إنّ اتّفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى و لم يجد بياناً بأحد العنوانين، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً و إلاّ يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي و هو كما ترى.

و ثالثاً: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدل بها الوحي على الناس و يقول: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(1)، و يذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل، حجّة الكفار و العصاة حيث قال: (وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى ).(2)

ص:391


1- الإسراء: 15.
2- طه: 134.

فتبيّن بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل و العقلاء بشرط التقرير على ما ذكرناها:

أمّا الأوّل أي الإشكال على الصغرى، فهو الإشكال المعروف الذي ذكره الشيخ و المحقّق الخراساني و من جاء بعدهما من أنّه يكفي في مقام البيان، حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية. و يكون شكل القياس بالنحو التالي: الشبهة البدوية التحريمية فيها ضرر محتمل، و كلّ ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه فينتج: الشبهة التحريمية ما يجب تركها.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة:

1. العقاب. 2. الضرر الدنيوي) الشخصي (. 3. المصالح و المفاسد الاجتماعية.

أمّا الأوّل: فهو بين قطعي الإحراز، كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه فينطبق الكبرى على الصغرى، و لذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية، و قطعي الانتفاء كما في المقام، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي بحكم قبح العقاب بلا بيان و مع العلم بعدمها، فلا يصحّ الاحتجاج بالكبرى.

و الحاصل انّ لاحتمال الضرر بمعنى العقاب مناشئ كلّها محكومة بالانتفاء، و هذه عبارة عن الأُمور التالية:

1. تقصير العبد في الفحص عن تكاليفه من مظانّها.

2. كون المولى غير حكيم أو غير عادل.

3. وجود البيان بأحد العنوانين.

و المفروض انّ الكلّ منتف، فليس هنا منشأ لاحتمال العقاب، بل العقل

ص:392

قاطع بعدم الضرر) العقاب (و مع انتفائها، لا يحتج بمجرّد الكبرى، ما لم تنضمّ إليها الصغرى و هو احتمال العقاب.

و بذلك يعلم أنّه لا تعارض بين الكبريين و انّ لكلّ موضعاً خاصاً، فمورد قبح العقاب هو الشبهة البدوية كما أنّ موضع وجوب دفع الضرر إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.

و هذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على القاعدة الثانية أمر غير صحيح، فإنّ الورود فرع التعارض و لا معارضة بينهما، بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه.

فمورد قاعدة القبح، هو إذا لم يكن من المولى بيان كما أنّ مورد القاعدة الثانية، هو إذا تم البيان، و إن كان المتعلّق مجهولاً بين الأمرين.

هذا كلّه إذا أُريد من الضرر العقوبة المقرّرة للعصاة في الآخرة.

فإن قلت: إنّ الآثار الأُخروية القهرية للعمل أي ارتكاب المحرم الواقعي ممّا لا ينفك عنه فلا تدور وجوداً و عدماً على وجود البيان و عدمه، فيجب الاجتناب دفعاً لهذا النوع من العقاب الأُخروي.

قلت: إنّ ما ذكر من الآثار، من تبعات الإطاعة و العصيان لا مطلق الارتكاب فإذا مارس العبد الإطاعة و العصيان يكتسب ملكة خاصة، فإذا فارقت الجسد تخلق الملكة صوراً متناسبة لما اكتسبتها من الملكات، و ليس كلّ فعل مؤثراً في حصول الملكة و إنّما المؤثر الفعل المعنون بعنوان الطاعة و المعصية، و المفروض عدمهما.

هذا كلّه إذا أُريد منه الضرر الأُخروي بقسميه.

و أما الثاني: أي الضرر الدنيوي فالإجابة عنه واضحة، لأنّ الأحكام الشرعية

ص:393

لا تدور مدار الضرر، أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة، ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم و الروح، بل الأحكام تابعة لمصالح و مفاسد نوعية، و ربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا، و الظلم على الناس، نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة الاجتماعية كشرب المسكر، و لكنّه ليس أمراً كلياً.

و مع التسليم فليس دفع الضرر الدنيوي أمراً واجباً عقلاً إذا كان في ارتكابه غايات، و الغاية في المقام دفع عسر الاحتياط.

و أمّا الثالث: أي الضرر بمعنى المصالح و المفاسد، فقد أجاب عنه الشيخ عند البحث في الدليل الأوّل على حجّية مطلق الظن و حاصله: انّ حكم الشارع بالبراءة يكشف إمّا عن عدم الأهمية، أو لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة.(1)

ص:394


1- الفرائد: 109.
أدلّة الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية
اشارة

استدلّ الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلّة الثلاثة: الكتاب و السنّة و العقل دون الإجماع لعدم كونه من الحجج عنده، و إليك دراستها،

أمّا الكتاب فبعدّة من الآيات، تجمعها العناوين التالية:
الأوّل: الحكم بالبراءة قول بغير علم

إنّ الحكم بجواز الارتكاب قول بغير علم لافتراض أنّ الواقع غير معلوم، و معه كيف يُحْكَم على الموضوع بجواز ارتكابه، مع أنّه سبحانه قال: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(1)؟ و الإجابة عن الاستدلال واضحة: لأنّ الجهل بالواقع، يستلزم عدم الحكم عليه بالحلية الواقعية، و لكنّه لا يلازم عدم الحكم عليه في الظاهر إذا قام الدليل على سعة المكلّف فيه، كما أنّ الحكم بالضيق في الظاهر ليس قولاً بغير علم استناداً على ما توهمه الأخباري من دلالة الأدلّة عليه.

ص:395


1- الإسراء: 36.
الثاني: الآيات الآمرة بالتقوى

دلّت الآيات على لزوم التقوى بقدر الوسع و الطاقة و الاستطاعة قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(1). و قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).(2)

وجه الدلالة: انّ الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى، و كلّ ما كان كذلك واجب بحكم الأمر بها فينتج: الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب.

يلاحظ عليه: منع كلّية الكبرى، أي كلّ ما كان من مصاديق التقوى هو واجب، لأنّ التقوى يستعمل تارة في مقابل الفجور، و بما انّ الثاني حرام يكون الأوّل واجباً، قال سبحانه: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ ) (3)، (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها )(4). و أُخرى في كلّ مرغوب سواء كان واجباً أم مستحباً، قال سبحانه:

(وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى ) و الإتيان بالمستحبات و ترك المكروهات كلّها من مراتب التقوى، مع انّهما غير واجبين. و مما يدل على انّ التقوى ليس خصوص الإتيان بالواجبات و الاجتناب عن المحرمات بل الأعم منهما قوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) (5)فقد كانت الهداية الأُولى غير منفكة عن التقوى و مع ذلك، يقول سبحانه: (وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) بعد زيادة الهداية.

ص:396


1- آل عمران: 102.
2- التغابن: 16.
3- ص: 28.
4- الشمس: 8.
5- محمد: 17.
الثالث: النهي عن الوقوع في التهلكة

نهى سبحانه عن إيقاع النفس في التهلكة قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1)و في ارتكاب الشبهة مظنة الوقوع في التهلكة و هي واجبة الاجتناب.

يلاحظ عليه: أنّ الآية واقعة في سياق آيات الجهاد:

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ).(2)

قال سبحانه: (وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ).(3)

قال سبحانه: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ).(4)

قال سبحانه: (وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا تُلْقُوا ).(5)

و على ذلك يكون المراد من التهلكة هو ما يترتب على ترك الجهاد و الإنفاق في سبيله من تسلط الأعداء على الأُمّة الإسلامية، و أين هو من ارتكاب الشبهة التحريمية؟! و لو قلنا بأنّ الآية لا صلة لها بالجهاد و انّها ضابطة كلية يعمّ ما فيه الهلاك الأُخروي، فالإجابة واضحة، لأنّ الاستدلال بالكبرى فرع إحراز الصغرى أي الهلاك الأُخروي، و هو في مورد العلم التفصيلي قطعي الوجود، و في أحد طرفي الشبهة المحصورة محتملة، و في الشبهة البدوية قطعي العدم فكيف يستدل بالكبرى مع القطع بعدم الصغرى.

***

ص:397


1- البقرة: 195.
2- البقرة: 190.
3- البقرة: 191.
4- البقرة: 193.
5- البقرة: 195.
الاستدلال بالسنّة
اشارة

استدلّ الأخباري من السنّة بطوائف، و قد قسمها الشيخ إلى أربع طوائف، و تبعه المحقّق الخراساني، و يظهر من المحقّق المشكيني انّها خمس. فالطائفتان الأوّلتان، واضحتا الإجابة، إنّما المهم الطوائف الثلاث أي:

1. أخبار التوقّف.

2. أخبار الاحتياط.

3. أخبار التثليث.

و إليك الكلام في الطائفتين الأُولتين.

الأُولى: حرمة الإفتاء بغير علم

تضافرت الروايات على حرمة القول و الإفتاء بغير علم، مثل صحيحة هشام ابن سالم، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال:» أن يقولوا ما يعلمون، و يكفّوا عمّا لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك، فقد أدّوا إلى اللّه حقّه «.(1)

و يظهر جوابها بما ذكرناه جواباً عن الاستدلال بالآيات الناهية عن الإفتاء بغير العلم فلا نعيد.

الثانية: وجوب الردّ إلى اللّه و رسوله

دلّت الروايات المتضافرة على وجوب الردّ إلى اللّه و رسوله في مشاكل الأُمور، ففي مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:» أمر بيّن رشده فيتبع و أمر بيّن

ص:398


1- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4; و بهذا المضمون روايات كثيرة، نظير: 5، 10، 11، 27، 31، 44.

غيه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه إلى اللّه و إلى رسوله «.(1)

إنّ مرجع هذه الروايات التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، إلى النهي عن الاستقلال بالفتوى بالمعايير التي ما أنزل اللّه بها من سلطان من القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة، دون الرجوع إلى أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (و يوضحه قول الرضا) عليه السلام (حسب رواية الميثمي في اختلاف الحديث عنهم) عليهم السلام (:» و ما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، و لا تقولوا فيه بآرائكم، و عليكم الكفّ و التثبت و الوقوف، و أنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا «(2).

الثالثة: وجوب التوقف

الروايات الآمرة بالتوقف على قسمين: تارة تأمر بالتوقّف بلا تعليل، و أُخرى تأمر به معللة بأنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

أمّا القسم الأوّل فظاهر في الاستحباب نذكر منه ما يلي:

1. ما كتبه الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (في وصيته لولده الحسن) عليهما السلام (:» لا ورع كالوقوف عند الشبهة «.(3)

2. مرفوعة شعيب رفعه إلى أبي عبد اللّه) عليه السلام (: قال:» أورع الناس من وقف عند الشبهة «.(4)

3. ما ورد في رسالة الإمام أمير المؤمنين) عليه السلام (إلى عامله في البصرة» عثمان بن حنيف «:

» فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه،

ص:399


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12، الحديث 9 من أبواب صفات القاضي. و الاستدلال بحيثية الرد إلى اللّه سبحانه، لا من جهة تثليث الأُمور.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 31.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 22.
4- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 22.

و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه «.(1) و القضم كسر الشيء بالأسنان. و المورد شبهة موضوعية يكون النهي فيه للتنزيه.

4. و ما في عهد الإمام) عليه السلام (لمالك الأشتر:» اختر للحكم... و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج «.(2)

و الأوّلان ظاهران في الاستحباب، و مورد الثالث كما عرفت شبهة موضوعية، و الرابع وارد في شرائط القاضي المستحبة. فيدل الجميع على حسن الاجتناب لا على لزومه.

و أمّا القسم الثاني، أي ما جاء الأمر بالتوقف معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة، فتارة ورد في مورد يكون الاجتناب فيه مستحباً باتّفاق الكلّ، و أُخرى فيما يكون الاجتناب واجباً كذلك، و من النوع الأوّل الحديثان التاليان:

5. ما رواه أبو سعيد الزهري، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، و تركك حديثاً لم تروه، خير من روايتك حديثاً لم تحصه «.(3)

6. ما رواه مسعدة بن زياد، عن أبي جعفر) عليه السلام (، عن آبائه، عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (أنّه قال:» لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة يقول إذا بلغك انّك قد رضعت من لبنها و انّها لك محرم و ما أشبه ذلك، فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة «.(4)

و من المعلوم أنّ ترك الحديث الذي لم يُرو بطريق صحيح ليس واجباً، كترك تزويج من اتّهم بالرضاع، لأنّ الشبهة موضوعية و المراد من الهلكة، هو التعب

ص:400


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
3- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17، 18، 2.
4- الوسائل: الجزء 14، الباب 17 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2، و لاحظ الحديث 15 فقد نقل ملخصاً.

المترتب على النكاح إذا ثبت وجود الرضاع بين الزوجين.

و من النوع الثاني، أي طُبِّقت القاعدة على مورد يكون الاجتناب واجباً، إليك بيانه.

7. روى جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، انّ على كلّ حقّ حقيقة و على كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فردّوه «.(1)

8. روى عمر بن حنظلة في الخبرين المتساويين من أجل المرجحات عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (:

» إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات «.(2)

و مورد الأوّل هو الخبر المخالف للكتاب، و مورد الثاني هو إمكان الفحص عن الدليل و التوقف في كلا الموردين واجب.

و إذا كانت القاعدة منطبقة تارة على مورد يكون التوقف مستحباً، و أُخرى على مورد يكون واجباً لا يمكن الاستدلال به على المورد لعدم العلم بأنّه من أيّ القسمين أوّلاً. و يكون الدليل، حكماً إرشادياً تابعاً لمورده ثانياً، ففي المورد العلم الإجمالي، و الشبهة قبل الفحص يكون الحكم منجّزاً و يكون الاجتناب واجباً، و في غير ذلك المورد يكون الوقوف مستحباً.

و الحاصل: انّ وزان قوله:» الوقوف عند الشبهات خير... «وزان قوله:» أطيعوا اللّه «فوجوب الإطاعة و استحبابها تابع لكون المورد ممّا تجب فيه الطاعة، و قد عرفت في المقام انّه يجب في الموردين دون المورد الآخر.

إلى هنا تمّ الكلام في الطوائف الثلاث بقي الكلام في الطائفتين المهمتين:

ص:401


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35 و 2.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35 و 2.

الأُولى: أخبار الاحتياط.

الثانية: أخبار التثليث.

و إليك الكلام في الأُولى.

الرابعة: الأخبار الآمرة بالاحتياط في الشبهة

إنّ هناك ست روايات تأمر بالاحتياط في الشبهات، و قد أجاب الشيخ و المحقّق الخراساني عنها على وجه الإجمال من دون أن يدرس الأخير كلّ واحدة على حدة، فلنذكر كلامهما، ثمّ ندرس الروايات واحدة تلو الأُخرى.

قال الشيخ في جواب سؤال وجّهه إلى نفسه ما هذا لفظه: إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول و هو قبيح، و إن كان حكماً ظاهريّاً نفسياً، فالهلكة الأُخروية مترتبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع، و صريح الأخبار إرادة العقوبة على الواقع على تقدير الحرمة.(1)

و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ وجوب الاحتياط لا مقدّمي و لا نفسي بل طريقي يصحّ أن يحتج المولى بالواقع على العبد عند المخالفة كما هو الحال في مهام الأُمور التي يجب الاحتياط فيها كالدماء و الأعراض و الأموال، فما هو الفرق بين هذه الموارد، و الاحتياط في الموارد الأُخرى؟ ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب بوجوه ثلاثة:

1. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه صريح في معناه و دليل الاحتياط ظاهر في الوجوب فيتصرف فيه بالنص.

ص:402


1- الفرائد: 207 208.

2. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخص ممّا دلّ على وجوب الاحتياط فيقدّم الأخص على الأعم.

3. انّه للإرشاد و لا يعلم وجوبه أو استحبابه إلاّ بتنجز الحكم الواقعي عليه و عدمه قبل تطبيق أخبار الاحتياط عليه، فالحكم الواقعي مع العلم الإجمالي منجز فيكون الاحتياط في أطرافه واجباً، بخلاف الشبهة البدوية فبما انّ الحكم غير منجز يكون الاحتياط حكماً استحبابيّاً.

4. انّ روايات الاحتياط تحكي عن ثبوت العقوبة المنجزة قبل إيجاب الاحتياط، مع أنّ العقوبة على الحكم الواقعي غير المنكشف يكون عقاباً بلا بيان، فتحمل على مورد العلم الإجمالي.

ثمّ ذكر إشكالاً و أجاب عنه بما يتبادر في بدء النظر انّه عود إلى كلام الشيخ الذي نقده و رده أوّلاً. لكنّه غيره يعلم بالتأمل، و الأولى دراسة الروايات واحدة تلو الأُخرى، فنقول:

إنّ روايات الاحتياط على أقسام:

أ: ما هو ظاهر في الاستحباب

إنّ في روايات الاحتياط ما هو ظاهر في كونه أمراً مستحباً، نظير:

1. كلام الإمام علي) عليه السلام (لكميل بن زياد:» أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت «.(1) فانّ لفظ» بما شئت «دليل على الاستحباب إذ الواجب لا يكون معلّقاً بالمشيئة.

2. مرسلة الشهيد:» ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل

ص:403


1- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.

الاحتياط «.(1) و اللسان: لسان النصح.

و هاتان الروايتان ظاهرتان في الاستحباب.

ب: ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي

إنّ فيها ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي، و المراد منه هو الإفتاء بالمعايير الاختراعية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان، نظير ما وجد بخط الشهيد عن جعفر بن محمد يقول:» سل العلماء ما جهلت، و إيّاك أن تسألهم تعنّتاً و تجربة، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، و خذ بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد «.(2)

إنّ مدرسة أهل الرأي، تقابل مدرسة أهل الحديث، و الطائفة الثانية لا يصدرون إلاّ عن دليل نقلي بخلاف الطائفة الأُولى، فأُولئك يصدرون عن المقاييس و الاستحسانات، و أين هذا من عمل فقهائنا الذين لا يصدرون إلاّ عن الأدلّة الأربعة و قد شطبوا على هذه الظنون بقلم عريض؟! و المراد من نهيه) عليه السلام (من الفتوى، هو الفتوى بتلك المعايير، لا الإفتاء عن دليل شرعي. و لذا أمر الإمام أبو جعفر أباناً أن يجلس في مسجد النبي و يفتي الناس و قال:» إنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك «.(3)

ج: ما هو ظاهر في الاحتياط قبل الفحص

قد ورد الأمر بالاحتياط لإمكان الفحص، و المراد من الاحتياط هو عدم

ص:404


1- نقله الشيخ في الفرائد عن الشهيد.
2- الوسائل: 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 54.
3- رجال النجاشي: 1/73 برقم 6.

الإفتاء بشيء حتى يسأل الإمام فيرجع لبها إلى الطائفة الثانية; روى عبد الرحمن ابن الحجاج، قال:

سألت أبا الحسن) عليه السلام (عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال:» لا، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد «. قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه؟ فقال:» إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا «.(1)

إنّ المشار إليه في قوله:» هذا «هو مطلق الشبهة الحكمية غير المختصة بموردها الذي هو من قبيل الشبهة الحكمية الوجوبية، فوجوب الاحتياط لأجل إمكان الفحص من الدليل بسؤال المعصوم عنها.

د: اتخاذ الاحتياط ذريعة لبيان الحكم الشرعي

روى عبد اللّه بن وضاح أنّه كتب إلى العبد الصالح) عليه السلام (يسأله عن وقت المغرب و الإفطار؟ فكتب إليه:» أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «.(2)

الظاهر من كلام السائل) ما هو وقت المغرب و الإفطار (انّ الشبهة عنده كانت شبهة حكمية بمعنى انّه كان متردّداً في أنّ وقت صلاة المغرب، هل هو استتار القرص أو زوال الحمرة المشرقية؟ فالعامة على الأوّل، و المشهور عند الشيعة هو الثاني، و لمّا كانت الظروف غير مساعدة لبيان الحكم الشرعي و التصريح بأنّ وقتهما هو زوال الحمرة، توصل الإمام في بيان الحكم الشرعي بالاحتياط، و قال:» أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «، و العبارة تتحمل معنىً ظاهرياً أي الانتظار لأجل حصول القطع باستتار القرص، و معنىً واقعياً

ص:405


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.

و هو الانتظار لذهاب الحمرة وراء استتار القرص، لأنّه الوقت رهن زوالها. فمثل هذه الرواية لا تكون دليلاً على لزوم الاحتياط.

الخامس: التثليث الوارد في المقبولة

قد عدّه الشيخ الأنصاري من أهمّ أدلّة الأخباريين. و حاصل الاستدلال:

إنّ الراوي سأل الإمام عن اختلاف القضاة، فأجاب:

» ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمهما، و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فانّ المجمعَ عليه لا ريب فيه. و إنّما الأُمور ثلاثة:

أمر بيّن رشده فيُتبع، و أمر بيّن غيُّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه، قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (: حلال بيّن، و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات، و هلك من حيث لا يعلم «.(1)

وجه الاستدلال

إنّ الفقرات الثلاث ترمي إلى أمر واحد.

أ: يترك الشاذ الذي ليس بمشهور.

ب: أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه.

ج: و شبهات بين ذلك.

فبما انّ طرح الشاذ و ردّ المشكل إلى اللّه واجبان، يكون الاجتناب عن المشتبه أيضاً مثلهما. و لو كان الاجتناب عن المشتبه مستحباً لا واجباً دون الخبر الشاذ

ص:406


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، و الحديث 9 من الباب 12، و قد جزّأ (رحمه الله) الحديث.

و الأمر المشكل يكون الاستشهاد بكلام الرسول أمراً غير صحيح لعدم انطباقه عليهما.

يلاحظ عليه أوّلاً:

أنّ طرح الشاذ واجب لا لدخوله فيما فيه الريب كما زعمه الشيخ و لا لكونه من مصاديق الأمر المشكل و لا لدخوله في الشبهات، بل لكونه ممّا لا ريب في بطلانه ضرورة انّه إذا كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته يكون نقيضُه ممّا لا ريب في بطلانه، و إلاّ يلزم جواز اجتماع النقيضين.

ثانياً: افترضنا أنّ الشاذّ من أقسام ما فيه الريب و معادِلاً للأمر الثالث في كلام الوصيّ و النبيّ، لكن يكفي في الاستشهاد أن يكون الأوّل) طرح الشاذ (و الثاني) ردّ المشكل إلى اللّه (واجبين، و الاجتناب عن الشبهات أمراً مرغوباً لاشتراكهما في أمر و هو انّ في الاجتناب عن الشبهات تخلّصاً من الوقوع في مفسدة الحرام، كما أنّ في طرح الخبر الشاذ، تخلّصاً من الوقوع فيما فيه الريب.

و ثالثاً: ما عرفت عند البحث في أخبار التوقف من أنّ هذه الفقرة، طُبِّقت على ما يجب فيه الاجتناب و على ما لا يجب باعتراف الأخباريين فيكون قرينة على أنّه حكم إرشادي لا يستفاد منه الوجوب و لا الحرمة بل يتبع في ذلك المرشَد إليه أي حكم العقل في المورد.

و رابعاً: انّ هنا روايات تفسّر الذيل:

1. روى النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (يقول:» لكلّ ملك حمى، و إنّ حمى اللّه حلاله و حرامه و المشتبهات بين ذلك، كما لو انّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبُت غنَمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات «.(1)

ص:407


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.

2. روى الصدوق انّ أمير المؤمنين) عليه السلام (خطب الناس فقال:» حلال بيّن، و حرام بيّن، و شبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، و المعاصي حمى اللّه و من يرتع حولها يوشك أن يدخلها «.(1)

3. رواية فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قلت له: مَن الورع من الناس؟ قال:

» الذي يتورّع من محارم اللّه و يجتنب هؤلاء، فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه «.(2)

و على ضوء هذه الأحاديث يكون وجه النهي عن الشبهات، هو الوجه في النهي عن المكروهات، و الجامع بينهما هو انّ ارتكاب القسمين يُسهِّل للنفس ارتكاب الحرام، كما أنّ اجتنابهما يورث ملكة في النفس يسهل للإنسان اجتناب المحارم.

***

الثالث: الاستدلال بالعقل

قد عرفت أنّ الأخباريين استدلّوا بوجوه ثلاثة: الكتاب، و السنّة، و العقل. و قد مضت دراسة الأوّلين، فلندرس ثالث أدلّتهم، أعني: العقل.

استدل الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية بوجوه:
الأوّل: العلم الإجمالي بالمحرّمات
اشارة

إنّا نعلم إجمالاً بمحرمات كثيرة يجب الخروج عنها قطعاً بمقتضى قوله سبحانه: (وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(3)، و بعد مراجعة الأدلّة لانقطع بالخروج عن

ص:408


1- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 25.
2- الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 و 25.
3- الحشر: 7.

جميع تلك المحرّمات الواقعية فيلزم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن دليل شرعي.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم و غيره. و حاصله: انّ هنا علمين:

1. العلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة الغرّاء.

2. العلم التفصيلي بوجود محرّمات في الطرق و الأُصول بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد.

فإذا أخذنا ما فيهما من المحرّمات و عزلناها عن موارد العلم الأوّل، لم يبق فيما سواها، علم بالتكليف بل غايته احتمال التكليف و هو مجرى البراءة.

و هذا نظير ما إذا علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع غنم، ثمّ علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في الغنم السود منها، و نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال أوّلاً على المعلوم بالتفصيل أو الإجمال في العلم الثاني على وجه لو عزلنا الغنم السود عن القطيع لم يبق علم إجمالي بالمحرم فيها بل يكون احتماله.

ثمّ إنّ هنا إشكالين تعرض لهما المحقّق الخراساني، و الأولى بالدراسة هو الإشكال الأوّل، و حاصله: انّ العلم الثاني بما انّه علم حادث، و إن كان يوجب الانحلال، لكنّه لا يزيل أثر العلم الإجمالي السابق، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما معيّناً لأجل وقوع قطرة من الدم فيه، ففي مثله يلزم الاجتناب عن الآخر أيضاً، لأنّ العلم الإجمالي السابق و إن كان منحلا، لعدم التردد بعد العلم بنجاسة أحدهما بعينه، لكنّ أثر العلم الإجمالي و هو وجوب الاجتناب عن الآخر باق و وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق، لا الموجود فعلاً حتى يقال قد انحلّ بالعلم التفصيلي، و لذلك لو أهرق أحدهما، كان لزوم الاجتناب عن الآخر باقياً بحاله.

ص:409

الجواب: انّ العلم الحادث على قسمين:

تارة يكون العلم و المعلوم حادثين و متأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل كما في المثال، ففي مثله لا يكون العلم الثاني مؤثراً في رفع التنجز عن الإناء المشكوك و إن كان مؤثراً في انحلال العلم الإجمالي، و أُخرى يكون العلم متأخراً لكن المعلوم سابقاً على العلم الإجمالي الأوّل أو مقارناً معه: فمثل هذا العلم، يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي الأوّل علماً منجّزاً و إن كان حامل العلم الأوّل قبل الوقوف على العلم الثاني يتصوره علماً منجزاً لوجوب الاجتناب.

مثلاً إذا علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم في أحد الإناءين عند طلوع الشمس، ثمّ وقف على أنّ أحد الإناءين معيّناً كان نجساً عند طلوع الفجر، فمثل هذا العلم التفصيلي و إن كان متأخراً عن العلم الأوّل لكن معلومه و مكشوفه متقدّم على الأوّل و يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي منجزاً، مثل ما إذا كان التفصيلي متقدماً علماً و معلوماً كما إذا علم انّ أحد الإناءين معيّناً نجس في أوّل الليل، ثمّ حدث علم إجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحدهما فالمؤثر في سلب التنجيز عن العلم الإجمالي إنّما هو سبق معلوم العلم الثاني عليه سواء كان العلم أيضاً سابقاً كالمثال الثاني أو لا كالمثال الأوّل.

وجهه: انّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير و هذا الشرط غير موجود في الموردين لسبق وجوب الاجتناب عن الإناء المعيّن قبل طروء العلم الإجمالي، فلا يكون العلم الإجمالي عندئذ مؤثراً و يكون الإناء الثاني مشكوك الاجتناب.

و المقام من قبيل هذه الصورة لأنّ العلم بقيام أمارات و طرق، على الأحكام الشرعية و إن كان متأخراً لكن معلومه، و هو تنجز مواردها متقدم على العلم الإجمالي و مثله يمنع عن انعقاد العلم الإجمالي منجّزاً حيث إنّ التكليف كان في

ص:410

مواردها منجّزاً قبل حدوث العلم الإجمالي و إن كان غير عالم به، و في مثله لا ينعقد العلم الإجمالي منجزاً و مؤثراً، لأنّه وجب الاجتناب قبله عن أحد الطرفين معيناً، فيكون الطرف الآخر مشكوك الاجتناب.

هذا ما ذكره الأعلام.

أقول: الحقّ التفصيل بين العلم الوجداني بوجود تكاليف في البين بحيث لا يرضى المولى بتركه و بين العلم بتكاليف اكتفى الشارع في امتثالها بقيام الأمارة على ثبوتها و نفيها. فعلى الأوّل، لا محيص عن الاحتياط و لا يجوز الترخيص في محتمل الحرمة أبداً حتى و لو قام الدليل على عدمها، بل يلزم الاحتياط و ترك التعبد بالأمارة القائمة على عدمها.

و على الثاني: أعني العلم بتكاليف على وجه يقتصر المولى في كيفية الامتثال بقيام الأمارة على وجودها أو نفيها، ففي مثله يكون العلم الثاني بوجود محرمات في مورد الطرق و الأُصول، موجباً لانحلال العلم الإجمالي الأوّل، انحلالاً حقيقياً، لا انحلالاً حكمياً، كما يظهر من المحقّق الخراساني، و ذلك ببيانين:

1. انّ قوام العلم الإجمالي بالترديد، على وجه يكون كلّ من الطرفين محتملَ الحرمة أو محتمل وجوب الاجتناب، فإذا صار أحد الطرفين واجب الاجتناب بعينه، و زال التردد فكيف يكون العلم الإجمالي باقياً.

2. انّ مرجعَ العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة يتقوم بلفظة» إمّا «أو لفظة» أو «كما يقول العدد إمّا زوج أو فرد، فلا يكون الحكم في واحد من الطرفين قطعياً، و ما دام الحكم كذلك يكون العلم الإجمالي باقياً بحاله، و أمّا إذا انقلب بفضل العلم الثاني، إلى قضية بتيّة و إلى قضية مشكوكة يكون العلم الإجمالي منقلباً إلى علم تفصيلي و شك بدوي و ذلك فيما إذا لم يعلم بانطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال و إلاّ تنحل إلى قضيتين بتيّتين فيقال: هذا طاهر، و هذا نجس.

ص:411

و في المقام علمان إجماليان، أحدهما واسع الأطراف يعم مورد قيام الأمارات و الطرق و غيره، و ثانيهما ضيقها لا يعم إلاّ مواردهما. و بعبارة أُخرى: في المقام علم إجمالي بالمحرمات واسع الأطراف و هو العلم الإجمالي الأوّل و علم إجمالي بها مع ضيق أطرافها فمع قطع النظر عن العلم الثاني، كان التردّد و الانفصال قائمين، و أمّا مع لحاظه و إخراج مورده عن تحت العلم الإجمالي الأوّل، ينقلب التردّد إلى قضية بتّية و هو الحكم بحرمة ما قام الدليل على حرمته، و قضية مشكوكة و هي الموارد التي لم يقم الدليل على حرمتها، و هذا هو المراد من انحلال العلم الإجمالي.

أقسام الانحلال

إذا عرفت ما ذكرنا اعلم أنّ الانحلال على أقسام:

1. أن يعلم بالانطباق و هو انّ ما علم إجمالاً، هو نفس ما علمه تفصيلاً.

2. أن يظن بالانطباق، كما في موارد الطرق و الأمارات.

3. أن يحتمل الانطباق، كما إذا علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين معيناً على وجه نحتمل أن يكون ذاك النجس هو نفس ما علم إجمالاً بنجاسته كما يحتمل أن يكون غيره.

ففي جميع الموارد، الانحلال حقيقي، و ذلك لما عرفت من أنّ قوام العلم الإجمالي بالترديد،) على ما قرر في الوجه الأوّل (أو تكون القضية بصورة المنفصلة، و على كلّ تقدير فإذا حصل العلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين على الوجه البتّ، يرتفع الترديد، و تنقلب القضية المنفصلة إلى حملية، قطعية و مشكوكة.

نعم الانحلال مشروط بعدم تأخر العلم الثاني عن الأوّل، معلوماً، سواء

ص:412

أ كان معلومه متقدماً على معلوم العلم الإجمالي، أم مقارناً مع معلومه، نعم لا يشترط تقدّم العلم.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقّق الخراساني من كون الانحلال حكمياً لا حقيقياً و قد ذكره في جواب الإشكال الذي أورده على نفسه، و إليك الإشكال و الجواب.

أمّا الأوّل: انّ الانحلال يتم على القول بالسببية و أنّ قيام الأمارة موجب لثبوت التكليف و هو تصويب، و أمّا على القول بالطريقية و أنّ مفاد أدلّة حجّية الخبر الواحد، هو التنجّز إذا أصاب و العذر عند ما أخطأ فلا انحلال لما علم إجمالاً.

و أمّا الثاني فلانّه يكفي في الانحلال نهوضُ الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف و انّه يكون عقلاً بحكم الانحلال. و لو لا ذلك، لما يجدي القول باعتبار الأمارات من باب السببية ضرورة انّ كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية، إنّما تكون كذلك بسبب حادث و هو كونها مؤديات الأمارات الشرعية.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه و إن كان متيناً، لكن وصفه الانحلالَ بالحكمي ليس بتام، لما عرفت من بقاء العلم الإجمالي فرع أحد الأمرين إمّا الترديد أو بقاء القضية بصورة المنفصلة، و المفروض ارتفاعهما، مطلقاً سواء كان المعلوم بالتفصيل، معلومَ الانطباق على المعلوم إجمالاً أو مظنونه أو محتمله، كما لا يخفى.

نعم لو كان الميزان في الانحلال هو العلم بالواقع و انّ الحرام في ذاك الطرف دون الآخر كان للقول بالانحلال الحكمي مجال، و ذلك لعدم العلم بأنّ الواقع

ص:413


1- كفاية الأُصول: 2/188.

في أيّ طرف من الأطراف، و أمّا إذا كان الميزان هو تنجز الحكم في أحد الطرفين، فالانحلال حقيقي لتنجز الحكم في أحد الطرفين، دون الآخر فيكون الانحلال حقيقياً.

الثاني: استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية

و اعلم أنّ في كتب الأُصوليين القدماء مسألة باسم:» هل الأصل في الأشياء هو الحظر أو الإباحة؟ « و الفرق بينها و بين مسألتنا من وجوه:

1. انّ الحظر و الإباحة في المسألة الأُولى ينسبان إلى ما قبل مجيء الشرع بخلاف المقام، فانّ البراءة و الاحتياط يلاحظان بالنسبة إلى حكم الشارع بعد مجيئه.

2. انّ الحكم بأحدهما هناك واقعي مترتّب على الشيء بما هو هو، بخلاف المقام، فانّ الحكم بأحدهما ظاهري لأخذ الشكّ في موضوعه.

3. انّ التحريم أو الترخيص هناك مالكيان معتمدان على مالكيته سبحانه، بخلاف البراءة أو الاحتياط في المقام فانّهما شرعيان معتمدان على تشريع الشارع أحدهما، و كم فرق بين الإباحة المالكية كإذن الإنسان لشخص التصرف في ماله، و الإباحة الشرعية كإذن الشارع الشرب و التوضّؤ من الأنهار التي لها مالك معيّن.

إذا عرفت ذلك، فإليك محصل استدلال الأخباري بهذا الوجه: انّ الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف، و ما دلّ على أنّ الأصل فيها بعد مجيء الشرع هو الإباحة معارض بما دلّ على أنّ الأصل الاحتياط أو التوقف، فإذا تعارضا يرجع إلى الأصل المذكور.

و أورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة:

1. كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف أحد الأقوال

ص:414

و يقابله القول بالإباحة، و هو المشهور بين القدماء، فلا يستدل بما هو محلّ الخلاف على المقام.

2. سلمنا ذلك، لكن الدليل بعد مجيء الشرع دلّ على الإباحة، و ما ذكره من وجود التعارض بين الأدلّة بعد الشرع قد عرفت خلافه و عدم تمامية أدلّة القائلين بالاحتياط.

3. لا ملازمة بين القول بالتوقف في تلك المسألة، و الاحتياط في مسألتنا، و ذلك لأنّ كون الحظر هو المحكّم قبل مجيء الشرع، لا يكون دليلاً على أنّه المحكم بعد مجيء الرسل و إنزال الكتب، فإذا لم نجد دليلاً على الحرمة يكون المحكّم هو العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان، لا القاعدة المختصة بما قبل الشرع، و هذا هو الوجه لعدم الملازمة. و لكن ذكر المشكيني وجهاً آخر له و هو اختلاف المسألتين في الموضوع، فانّ الموضوع في الأوّل هو فعل المكلِّف و الأفعال الصادرة عن المكلّفين بخلافه في الثانية، فانّه عبارة عن فعل المكلّف، و انّه هل يجوز العقاب على الحكم المجهول أو لا.(1)

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ دليل الأخباري مركّب من صغرى و هو كون العالم ملكاً للّه سبحانه، و كبرى و هو انّ التصرف في ملك الغير بلا إذنه قبيح.

أمّا الصغرى فالحقّ فيها التفصيل، فإن أُريد منها، المالكية التكوينية النابعة من خالقيته سبحانه فهو موضع اتّفاق قال سبحانه: (وَ لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ). (2)و قوله:» يخلق «كأنّه بمنزلة التعليل لقوله (مُلْكُ السَّماواتِ ).

و إن أُريد المالكية الاعتبارية العقلائية فغير صحيح، لأنّه إنّما يتم في حقّ

ص:415


1- هذا ما نقله المشكيني عن أُستاذه في درسه الشريف.
2- المائدة: 17.

من يعيش في ظل التقنين لا في حقّ من يكون فوقه، و بالجملة المالكية الاعتبارية، إنّما تقوم باعتبارها العقلاء، لغايات عقلائية و أمّا الموجود، الخارج عن محيطهم فلا معنى، لاعتبارها في حقّه.

و بعبارة أُخرى: من كان مالكاً تكويناً بالذات، فهو في غنى عن اعتبار المالكية له اعتباراً و الاستدلال عليها بقوله سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى )(1)، غير تام، لأنّ إضافة الخمس إليه سبحانه من باب المشاكلة في التعبير، مثل قولهم: (وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ ).(2)

و أمّا الكبرى: أعني قبح التصرف في ملك الغير بلا إذن، فهي مردودة بوجهين:

الأوّل: فبالمنع من استقلال العقل بالقبح في المقام بالفرق بين المالكين، فانّ المالك في أحدهما غنيّ بالذات لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً و كرماً، و الآخر فقير بالذات حريص على ما في يده، و التصرف في الأوّل لا يُزاحم سلطانه بخلاف التصرف في الثاني فانّه يزاحم سلطانه، فكيف يقاس هذا بهذا.

الثاني: صدور الإذن من المالك بالنسبة إلى العبد، حيث دَلَّت الآيات على أنّ الغاية من وضع الأرض، و ما فيها، انتفاع الإنسان منها، قال سبحانه: (وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ) (3)و (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْض جَميعاً).(4)

ص:416


1- الأنفال: 41.
2- النور: 33.
3- الرحمن: 10.
4- البقرة: 29.
الثالث: في ارتكاب الشبهة احتمال المضرّة

هذا هو الدليل الثالث للأخباريين و حاصله: انّ دفع الضرر المحتمل واجب.

و قد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين:

1. التفريق بين محتمل المفسدة، و قطعيّها، فالواجب دفعها هو الثاني دون الأوّل.

2. انّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد النوعية، دون النفع و الضرر الشخصيين، و لو استقل العقل بدفع الضرر المحتمل، لا يستقل بدفع المفسدة المحتملة، لأنّ الأوّل على فرض وجوده شخصي و الثاني نوعي.

و قد استوفينا البحث في هذا الدليل عند البحث في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فليرجع إليه.

بقيت هنا تنبيهات جاءت في كلام الأعلام و نحن نقتفيهم:
التنبيه الأوّل: في حكومة الأصل الموضوعي على الحلية
اشارة

إنّ أصالة البراءة أو الحلية و غيرهما من الأُصول الحكمية إنّما تجريان إذا لم يكن في المورد أصل موضوعي ينقح حال الموضوع و تكون نسبتهما إليه نسبة الأصل المسببي إلى السببي، و إلاّ يكون الأصل الموضوعي مقدماً على الحكمي تقدَّم الأصل السببي على المسببي، و على ذلك فتقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة و الحلية، من فروع قاعدة كلية و هي تقدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي مطلقاً، سواء كان الأصل الحكمي هو البراءة أو الحلية أو غيره.

مثلاً إذا غاب الزوج و ترك زوجته و شككنا في حياته، فهنا أصلان و إن كانا متوافقي المضمون:

أحدهما: استصحاب حياته و هو أصل موضوعي جار في

ص:417

ناحية الموضوع) حياة الزوج (. ثانيهما: استصحاب وجوب الإنفاق من ماله و هو أصل كلي جار في ناحية الحكم، فالأوّل مقدّم على الثاني لكون الشكّ في الثاني نابع من الشكّ في الأوّل و مع جريانه في الأوّل و إلزام الشارع بالتعبد به، لا يبقى مجال لجريانه في جانب الآخر.

ثمّ إنّ المثال الدارج في مورد تقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة و الحلية هو تقدّم أصالة عدم التذكية على أصالتي الطهارة و الحلية و قد قسم المحقّق الخراساني الشبهة في المقام إلى حكمية و موضوعية، و ذكر لكلّ صوراً ثلاث مع أنّ صور الكلّ أربع، و إليك بيان الصور الأربع إذا كانت الشبهة حكمية.

صور الشبهة الحكمية الأربع

1. إذا شكّ في الطهارة و الحلية، لأجل الشكّ في كون الحيوان واجداً للخصوصية و القابلية التي تكون مؤثرة في الطهارة و الحلية كالحيوان المتولد، من حيوانين أحدهما يقبل التذكية و الآخر يقبلها، و في الوقت نفسه لا يشبههما.

2. إذا شكّ في الحلية دون الطهارة للعلم بكونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الطهارة و الشكّ في كونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الحلية كما في مورد الثعلب.

3. إذا شكّ فيهما، لأجل الشكّ في اعتبار كون آلة الذبح حديداً وراء ما يعتبر من فري الأوداج الأربعة و التسمية و الاستقبال و كون الذابح مسلماً.

4. إذا شكّ فيهما لاحتمال مانعية شيء في المورد، كما إذا كان الحيوان جلاّلاً أو موطوءاً و شككنا في مانعيتهما.

الصورة الأُولى: إذا شكّ في وجود خصوصية مؤثرة في الطهارة و الحلية.

إذا ذبح الحيوان، مع جميع الخصوصيات المعتبرة في التذكية، لكن شكّ في

ص:418

وجود الخصوصية في الحيوان المؤثرة في الطهارة و الحلية، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حيث إنّه عند ما كان حيّاً كان غير مذكى فبعد الذبح يشكّ في ارتفاعه فالأصل بقاءه على ما كان عليه.

و قد أشكل على هذا القول بوجهين:

الإشكال الأوّل: انّ الغرض من استصحاب عدم التذكية هو إثبات انّ المذبوح ميتة، و من المعلوم انّ إثبات عنوان الميتة بأصالة عدم التذكية من قبيل نفي أحد الضدين و إثبات الضدّ الآخر و هو من الأُصول المثبتة كإثبات كون الجسم متحركاً بنفي كونه ساكناً.

و إن شئت قلت: الميتة أمر وجودي و هو ما مات حتف أنفه، و إثبات ذلك الأمر الوجودي بأصالة عدم التذكية لا يجوز إلاّ على القول بحجّية الأصل المثبت.

و قد أُجيب عن الإشكالين بوجهين:

1. ما أجاب به الشيخ بأنّ الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهو ميتة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الميتة أمر وجودي بمعنى ما مات حتف أنفه، و لا يعم المذبوح الفاقد للشرائط الشرعية بدليل انّها جعلت في الكتاب في مقابل ما أهلّ لغير اللّه به قال سبحانه: (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (2)و قال أيضاً: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما

ص:419


1- الفرائد: 223، طبعة رحمة اللّه.
2- الأنعام: 145.

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1)و الإهلال رفع الصوت بالشيء و المراد ذكر اسم الأصنام.

و يشهد لما ذكر ما ذكره الأعشى في قصيدته التي أنشأها و جاء بها مكة المكرمة لكن حالت قريش بينه و بين إسلامه، و قال.

و إياك و الميتات لا تقربنّها و لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا(2)

و لم تكن الميتة في العهد الجاهلي سوى ما مات حتف أنفه، و لم يكن من الميتة الشرعية عندهم أثر.

2. ما أجاب المحقّق الخراساني و يوجد في بعض كلمات الشيخ و حاصله:

إنّ النجاسة و الحرمة كما تعلّقتا بالميتة فهكذا تعلّقنا، بغير المذكى، و لا يحتاج في ترتّب النجاسة و الحرمة على الحيوان بإثبات كونه ميتة بالمعنى اللغوي بل يكفي كونه غير مذكى في ترتيب الأثرين، و ذلك بشهادة قوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) إلى أن قال: (وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ).(3)

فإذا كانت التذكية موضوعاً للحلية، يكون رفعها موضوعاً لرفعها و هو الحرمة و قوله تعالى: (وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (4)و قوله سبحانه: (لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ )(5)، و قوله تعالى:

(فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ )(6)، و قوله من موثقة ابن بكير: لا إذا كان ذكياً و ذكاه الذابح إلى غير ذلك من الأخبار.

ص:420


1- النحل: 115.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 1/387.
3- المائدة: 3.
4- النحل: 115.
5- الأنعام: 121.
6- الأنعام: 118.

و لا منافاة في ترتيب النجاسة و الحرمة على موضوعين، أحدهما: خاص، أي الميتة; و الآخر: عام ) غير المذكى (و إن كان العام يغني عن الآخر، و ذلك لأنّ الاحناف قبل الإسلام كانوا يجتنبون الميتة، كما ورد في شعر الأعشى، و لمّا كان الموضوع أعم أُضيف إلى الميتة عنوان آخر و هو غير المذكّى بطريق شرعي.

و على ضوء ما ذكرنا يكفي استصحاب عنوان غير المذكّى في ترتّب الحرمة فقط، لأنّها المترتبةُ على غير المذكّى في الآيات و الرواية دون النجاسة و لذا قلنا في محله بأنّ المذبوح على غير الوجه الشرعي، حرام لكونه غير مذكّى و ليس بنجس.

الإشكال الثاني: اختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة

و يمكن تقريره بوجوه مختلفة:

أ: انّ موضوع القضية الأُولى هو الحي، و موضوع القضية الثانية الميت، و لا يصحّ أن تعد الحياة و الموت من حالات الموضوع، و لا وحدة بين الحيوان و الجماد.

ب: انّ الاستصحاب في المقام من قبيل استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، كاستصحاب الإنسانية فيما إذا كان في الدار زيد، ثمّ علمنا بخروجه و احتملنا قيام فرد آخر مكانه عند الخروج و مثله المقام فإنّ عدم التذكية كان قائماً بالحي، و قد ارتفع و احتملنا حلول فرد آخر مكانه عند زهوق الروح لأجل احتمال اختلال بعض الشروط) القابلية (فيستصحب الكلي.

و حجّية مثل هذا النوع من الاستصحاب محلّ تأمل، لأنّ الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الأوّل غير الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الثاني.

ج: انّ القضية المتيقنة من قبيل القضية الموجبة، لكن سالبة المحمول و هي عبارة عن جعل القضية السالبة المحصلة، نعتاً للموضوع، كما إذا قيل زيد هو ليس بقائم و في المقام:» الحيوان، الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة المخصوصة «كان محكوماً بعدم التذكية، لكن القضية المشكوكة، عبارة عن القضية المعدولة، أعني:

ص:421

الحيوان الذي، زهق روحه بغير الشرائط المطلوبة، و استصحاب القضية الأُولى و إثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.

و إن شئت قلت: إنّ ما له حالة سابقة عبارة عن الحيوان الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة و هو قطعي الارتفاع للعلم بزهوق روحه، و ما هو مشكوك الارتفاع، أعني: الحيوان الذي زهقت روحه، بغير الكيفية الشرعية، فاقد للحالة السابقة، لأنّ الشكّ في حدوثه و تحقّقه.

هذه صور مختلفة لإشكال واحد و هو عدم وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة.

استصحاب عدم القابلية

ثمّ إنّ المعروف في المقام استصحاب عدم التذكية لكن نقل سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري قدّس سرّهما انّه كان يتمسك في المقام بأصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة عدم التذكية حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، لأنّ الشكّ في التذكية و عدمها، نابع عن الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية.

و حاصل ما أفاده: انّ العوارض على قسمين، عارض الماهية سواء كان لازماً كالزوجية للأربعة، أو مفارقاً كالوجود بالنسبة إلى الماهية، و عارض للوجود، سواء كان لازماً كالنور بالنسبة إلى الوجود، و مفارقا كالبياض و السواد بالنسبة إلى الجسم.

ثمّ إنّ القابلية من عوارض وجود الحيوان، و لكن تعرض للماهية بواسطة الوجود، و يقال ماهية الغنم الموجود قابلة للتذكية، و ماهية الكلب الموجود غير قابلة، و إذا شككنا في قابلية حيوان للتذكية أشرنا إلى ماهيته، و نقول انّها قبل أن

ص:422

توجد لم تكن قابلة للتذكية و لو لأجل عدم الوجود، و لكن انتقض العدم في جانب الوجود و علمنا انّه صار موجوداً و لكن نشكُّ في انتقاض عدم القابلية إلى القابلية و الأصل بقاؤه بحاله.

يلاحظ عليه: أوّلاً: قد ثبت في الفن الأعلى بأنّ ما لا وجود له لا ماهية له، و الماهية حدّ الوجود تنتزع من الشيء بعد تحقّقه، و على ضوء هذا، كيف يصحّ لنا الإشارة إلى ماهية الشيء المعدوم؟ و ثانياً: أنّ الأثر مترتب على التذكية و عدمها، القابلية و عدمها، غاية الأمر انّ القابلية جزء من أجزاء التذكية، فحينئذ استصحاب نفي الجزء، يلازم عقلاً، نفي الكل، و لا يلازمه شرعاً و يكون أشبه بالأصل المثبت.

و ثالثاً: أنّ الإشكال الثاني باق بحاله بصوره الثلاث، لأنّ القضية المتيقنة، قضية أشبه بالسالبة المحصلة فماهية هذا الحيوان لم تكن قابلة للتذكية لعدم وجودها و الغرض إثبات استمرار العدم، حتى بعد وجودها و استصحاب النفي التام لغاية إثبات النفي الناقص من الأُصول المثبتة.

تفصيل للمحقق النائيني

(1)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل في جريان أصالة عدم التذكية بين النظريتين:

الأُولى: أن تكون التذكية أمراً وجودياً بسيطاً مسبَّباً عن الذبح بشرائطه نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل، و الملكية الحاصلة من العقد و الإيجاب.

فعلى هذه النظرية تجري أصالة عدم التذكية عند الشكّ، لأنّه أمر بسيط مسبوق بالعدم و الأصل بقاؤه على ما هو عليه.

ص:423


1- فوائد الأُصول: 2/281.

الثانية: أن تكون التذكية أمراً مركباً من أُمور ستة، سادسها قابلية الحيوان للطهارة و الحلية، فعلى ذلك لا تجري أصالة عدم التذكية، لأنّ الشكّ لو كان من ناحية الأُمور الخمسة فقد تحققت قطعاً، و إن كان من جهة القابلية فليست لها حالة سابقة وجوداً و عدماً، إلاّ باعتبار استصحاب العدم الأزلي.

يلاحظ على ذلك التفصيل: أنّ الظاهر جريان الأصل مطلقاً سواء كانت التذكية أمراً بسيطاً أو أمراً مركباً من أُمور ستة، أو كانت هي الفري مشروطاً بالأُمور الباقية، و ذلك لأنّ الموضوع للطهارة و الحلية ليس هو الأُمور الكثيرة بكثرتها و تفرقها، بل الموضوع هو الأمر الموحّد من اجتماع الأُمور الستة، أو الفري المشروط بالأُمور الخمسة و الأمر الواحد بما هو واحد كان مسبوقاً بالعدم فيستصحب عدمه، و ما ذكره من التفصيل مبني على عدم اعتبار الوحدة في جانب الموضوع و لو بصورة الوحدة الحرفية التي ليس لها شأن إلاّ جمع المتفرقات و جعلها في إطار واحد، مع أنّها أمر لا مناص عنها، لأنّ الحكم الواحد يطلب لنفسه الموضوع الواحد لا المتفرق الذي لا ارتباط بين أجزائها.

و بذلك ظهر جريان أصالة عدم التذكية على جميع التقادير مع غض النظر من الإشكال المتقدم.

هذا كلّه حول الصورة الأُولى، و إليك الكلام في الصورة الثانية.

الصورة الثانية إذا شكّ في وجود القابلية للحلية، بعد إحراز وجودها للطهارة

فقد منع المحقّق الخراساني عن جريان أصالة عدم التذكية بخلاف الصورة الأُولى و قال بجريان أصالة الحلّ للشكّ في هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام و لا أصل فيه، إلاّ أصالة الإباحة.

ص:424

أمّا جريان الأصل: فلعدم اعتبار الخصوصية الموجبة للحل مأخوذة في التذكية فلا تجري أصالة التذكية للعلم بوجودها، و أمّا الثاني فلأنّه مشكوك الحلية و الحرمة.

يلاحظ على الأمر الأوّل: عدم وضوح الفرق بين الصورتين، فلأنّ الظاهر من تقسيم الشارع الحيوان إلى طاهر و نجس، و حلال و حرام، انّ للتذكية مراتب، فمرتبة منها مؤثرة في الطهارة و مرتبة أُخرى مؤثرة في الحلية، فمع الشكّ في تحقّق القابلية للحلية، تجري أصالة عدم التذكية بالمعنى الثاني.

نعم يرد على جريانه في هذه الصورة ما أوردنا على الصورة الأُولى.

و يلاحظ على الأمر الثاني: أنّ أصالة الحلّ إنّما تجري فيما إذا كان الموضوع محكوماً حسب طبيعته بالحلية و شكّ في حرمته لعروض طوارئ خارجية، و مثله الطهارة، و أمّا إذا كان الموضوع حسب طبيعته محكوماً بالحرمة و كانت الحلية أمراً عارضاً عليه فلا تجري في مثله و لذلك ذهب الشيخ الأعظم و غيره إلى عدم جريان أصالة الإباحة في الدماء و الأعراض و الأموال و إن كانت الشبهة بدوية و ذلك لأنّ الأصل فيها، هو الحرمة و إنّما تعرض الحلية لها بأسباب خاصة فلا يجوز قتل إنسان باحتمال انّه مرتدّ، أو النظر إلى المرأة باحتمال انّها من المحارم، أو التصرف في مال لاحتمال انّه ماله.

و الفقيه إذا تتبع في الفقه وقف على تلك الضابطة و لذلك ذهب المشهور إلى عدم جريان أصالة الصحة في تصرّف غير الولي في مال اليتيم، أو بيع الوقف لاحتمال عروض مسوّغ له و ما ذلك إلاّ لأنّ الأصل في هذه الأُمور، هو الحرمة.

و من هنا يعلم عدم جريان أصالة الحلية في كلتا الصورتين، مع جريان أصالة الطهارة فيهما، لأنّ الأصل في اللحوم هو الحرمة و إنّما يحكم عليها بالحلية لدليل خاص.

ص:425

فتلخص من مجموع ما ذكرناه: أنّه لا تجري أصالة التذكية في كلتا الصورتين لاختلاف القضيتين المتيقنة و المشكوكة، و عندئذ تصل النوبة إلى الأُصول الحكمية فلا تجري أصالة الحلية، لأنّ الأصل في اللحوم الحرمة، و تجري أصالة الطهارة لأنّ الأصل في الأشياء الطهارة الذاتية فتتبعها الطهارة الشرعية.

الصورة الثالثة و الرابعة

إذا شكّ في شرطية شيء في التذكية ككون آلة الذبح حديداً، أو شكّ في مانعية لها كالجلل مع ورود الذبح على الحيوان بعامة ما ثبت اعتباره، فيقع الكلام في مقامين:

1. ما هو مقتضى الدليل الاجتهادي؟ 2. ما هو مقتضى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي؟ أمّا الأوّل: فالظاهر صحّة التمسّك بالإطلاق في نفي الشرطية و المانعية، لأنّ الحلية تعلّقت بالمذكّى في الآية و الرواية، قال سبحانه: (وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (1)و قوله:» إلاّ ما يكون ذكياً ذكّاه الذابح «(2)، و ليست التذكية في اللغة إلاّ الفري مع قابلية في الحيوان، و المفروض صدق الأمرين و تحقّقهما، فإذا شكّ في شرطية زائد أو مانعيته فالأصل عدمهما.

نعم من قال بأنّ التذكية أمر بسيط حاصل من الأُمور الستة، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في المحصِّل، نظير ما إذا قلنا بأنّ الطهور عبارة عن الطهارة النفسانية، و تكون الغسلات و المسحات مع سائر الشرائط من قبيل المحصِّلات، فيكون المرجع هو الاشتغال في كلّ ما شكّ في شرطيته أو مانعيته.

ص:426


1- المائدة: 3.
2- الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1.

لكن لا دليل على أنّه كذلك، و قد مرّ انّ التذكية عبارة عن الفري مع أجزاء و شروط خاصة، و قد ثبت شرطية ما ثبت، و يكون المرجع في غيره، هو البراءة.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ذهب إلى عدم صحّة الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي المشكوك قائلاً بأنّها ليست أمراً عرفياً كي ينزل الدليل عليه و يُدفع احتمال التقييد بالإطلاق، كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(1).(2)

يلاحظ عليه: بعدم وضوح الفرق بين الأمرين بعد شيوعهما في العرف، فكما أنّ تقييد البيع بشروط لا يخرجه من كونه أمراً عرفياً فهكذا تقييد التذكية ببعض الأُمور كذلك، و لعلّ منشأ الخلط بين التذكية بالذال المعجمة، و التزكية بالزاء أُخت الراء، فالأُولى بمعنى الفري و الذبح، و الثانية بمعنى الطهارة و التنزيه، قال سبحانه: (وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها )(3). فهي بالمعنى الثاني ليس أمراً عرفياً، بخلاف التذكية في المقام فهو أمر عرفي غاية الأمر أضاف الشارع إليها شروطاً كنفس البيع.

أمّا الثاني: أي مقتضى الأصل، فالأصل البراءة لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر فيرفع شرطية الأمر المشكوك أو مانعيته بالأصل.

فإن قلت: لما ذا لا يجري الأصل في ناحية التذكية، فيتمسك بأصالة عدم التذكية؟ قلت: لا شكّ في تحقّق التذكية إنّما الكلام في اشتراطها بوجود شيء أو عدمه الذي هو عبارة أُخرى عن مانعية الشيء الموجود.

ص:427


1- البقرة: 275.
2- مصباح الأُصول: 2/313.
3- الشمس: 7 9.

و إن شئت قلت: إنّ الشكّ في تحقّق التذكية الشرعية و عدمها نابع عن شرطية شيء أو مانعيته، فإذا جرى الأصل في جانب الأصل السببي، ارتفع الشكّ عن جانب الأصل المسببي كما لا يخفى.

صور الشبهة الموضوعية

قد وقفت على أقسام الصور الأربع من الشبهة الحكمية، و إليك الكلام في الشبهة الموضوعية، و صورها أيضاً كالحكمية أربع.

الصورة الأُولى: في اللحم المردّد بين الغنم و الكلب

إذا دار أمر اللحم بين كونه لحمَ غنم أو كلب، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حسب ما قرّره في الصورة الأُولى من الشبهة الحكمية فيكون محكوماً بالنجاسة و الحرمة.

و قد عرفت الإشكال في جريان الأصل و انّ الحقّ عدم جريانها، و عندئذ تصل النوبة إلى الأصل الحكمي، و هو أصالة الطهارة دون الحلية لما عرفت في المقام الأوّل، و سنشير إليه في القسم الثاني.

فإن قلت: لما ذا لا نتمسك بعموم العام، و هو انّ كلّ حيوان قابل للتذكية بمعنى الطهارة إلاّ الكلب و الخنزير؟ قلت: وجه عدم التمسك واضح، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام مع كون الشبهة مصداقاً للمخصص لدوران اللحم المذكور بين كونه داخلاً تحت العام أو داخلاً تحت المخصص. فلا مناص من التمسك بأصالة الطهارة و يكون الحكم بطهارته حكماً ظاهرياً.

ص:428

الصورة الثانية: في اللحم المردّد بين الغنم و الأرنب

إذا دار أمر اللحم بين كونه لحم غنم أو لحم أرنب مع العلم بفري أوداجه بشرائطه الخاصة، فقد عرفت عدم جريان أصالة عدم التذكية، فينتهي الأمر إلى الأُصول الحكمية.

أمّا طهارته فلا شكّ فيها لفرض انّ الحيوان على كلّ تقدير واجد للقابلية التي تؤثر في الطهارة إنّما الكلام في حلّيته، و بما انّ الأصل الأوّلي في اللحوم هو الحرمة، فلا تجري أصالة الحلية، و قد عرفت تفصيلها في الصورة الثانية من الشبهة الحكمية.

و أمّا التمسّك بأصالة الصحّة في فعل المسلم فهو يثبت الطهارة لا الحلية، إذ لا منافاة بين صحّة فعل المسلم و حرمة لحمه، لأنّ للتذكية مراتب مختلفة، و لها آثار فيكفي في صيانة فعل المسلم من اللغوية ترتّب الأثر عليه و هو صحّة التذكية المؤثرة في الطهارة.

الصورة الثالثة: فيما إذا شكّ في وجود الشرط

إذا علمنا بورود التذكية على الحيوان القابل للطهارة و الحلية لكن شكّ في تحقّق الشرط و عدمه فالحقّ فيه التفصيل.

فلو شكّ في كون الذابح مسلماً فلا تجري أصالة الصحّة في فعله.

و أمّا إذا كان الذابح مسلماً و شككنا في رعايته سائر الشرائط، فالأصل الصحّة و يترتب عليه الطهارة و الحلية.

ص:429

الصورة الرابعة: فيما إذا شكّ في وجود المانع

إذا علمنا بورود التذكية على حيوان قابل للطهارة و الحلية و لكن شككنا في اقتران الحيوان بالمانع كعروض الجلل و غيره، فالأصل العدم فيقال: إنّ هذا الحيوان لم يكن جلاّلاً، فالأصل بقاؤه على ما هو عليه.

فقد خرجنا بهذه النتيجة: إنّ اللحم المطروح طاهر في الصورة الأُولى و الثانية فحسب، و طاهر و حلال في الصورتين الأخيرتين على غرار ما ذكرناه في المقام الأوّل.

***

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب و غير الاستحباب
اشارة

اتّفقت كلّمتهم على الأُمور التالية:

1. يحسن الاحتياط في الأُمور التوصلية، كدفن الميت المردّد بين كونه مسلماً أو كافراً.

2. يترتب الثواب على الاحتياط مهما تحقّق، و لعلّه لاستقلال العقل على ترتّب الثواب على الانقياد و إن لم يستقل بالعقاب في التجري المجرّد عن الهتك، و ذلك لأنّ الإنسان المحتاط بصدد تعظيم المولى و تكريمه، و خضوعه له حتى فيما لم يعلم انّه واجب أو حرام فيستحق الثواب أكثر ممن لا يُحركه إلاّ العلم بالوجوب، بخلاف الثاني فانّه مجرد عن أيّ هتك و إطاحة بالمولى غاية الأمر شرب الماء بتصور انّه خمر، مع عدم كونه بصدد هتكه. و إلاّ خرج عن باب التجري.

ص:430

3. إمكان الاحتياط في العمل العبادي المردد بين الوجوب و الاستحباب لإحراز الأمر و إن كانت الخصوصية مجهولة.

4. اختلفت أنظارهم في إمكان الاحتياط في العمل العبادي عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب باعتبار أنَّ مقوم العبادة هو قصد القربة، بامتثال أمر المولى و المفروض عدم إحرازه فلا يمكن الاحتياط، قال الشيخ: و في جريان الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب وجهان، أقواهما العدم، لأنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً و إجمالاً.(1) فالكلام في هذا التنبيه في تصحيح الاحتياط في هذا النوع من العمل و قد ذكروا في وجه تصحيحه وجوهاً ندرسها واحداً تلو الآخر:

1. كشف الأمر عن حسن الاحتياط

يكفي في تصحيح العمل، حسن الاحتياط عقلاً و هو يكشف عن تعلّق الأمر به شرعاً، فيقصد المكلّف ذاك الأمر المستكشف.

أورد عليه بأمرين:

1. ما أورده الشيخ و تبعه المحقّق الخراساني بأنّ الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي و الإطاعة الواقعية في معلوم التكليف إرشاديّ محض لا يترتب على موافقته و مخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس المأمور به أو عدمه، كما هو شأن الأوامر الإرشادية فلا طاعة لهذا الأمر الإرشادي و لا ينفع في جعل الشيء عبادة، إذ لا إطاعة له حتى يقصد إطاعته.

2. ما ذكره المحقّق الخراساني من استلزام هذا التصحيح الدور، و ذلك لأنّ حسن الاحتياط متوقف على نفس الاحتياط توقفَ العارض على معروضه

ص:431


1- الفرائد: 228.

و إمكان الاحتياط في المورد موقوف على وجود الأمر، المتوقف على الحسن، لأنّ المفروض استكشاف الأمر بالحسن، و إلى ذلك يشير بقوله: بداهة توقف الحسن على الاحتياط توقفَ العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون الحسن من مبادئ ثبوت الاحتياط؟!(1)

2. استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب

و هذا هو الجواب الثاني الذي أشار إليه المحقّق الخراساني من استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب على الاحتياط، الكاشف عن وجود الأمر، و الفرق بينه و بين كشفه بحسن الاحتياط، انّ الكشف في المقام إنّي، لأنّ الثواب من آثار الأمر، و هناك لمّي، لأنّ حسن الاحتياط صار سبباً للأمر به، و يرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل من عدم كونه أمراً مولوياً فلا إطاعة له حتى يقصد إطاعته، أضف إليه انّ ترتّب الثواب أوّل الكلام فانّه فرع إمكانه و المفروض وجود الشكّ في إمكانه.

3. الاحتياط مجرّد الفعل عدا نيّة القربة

و هذا هو الجواب الثالث الذي أشار إليه الشيخ أيضاً بقوله: إنّ المراد من الاحتياط هو مجرّد الإتيان بجميع ما يعتبر فيها ما عدا قصد القربة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ البحث هو الاحتياط في محتمل العبادة، فلو أتى بالعمل مجرّداً عنها، فلا يكون احتياطاً كاملاً بل احتياطاً نسبياً غير مقيد، لأنّه لو كان عبادة لا يفيد إلاّ إذا صدر عن المكلّف عن نيّة القربة.

ص:432


1- كفاية الأُصول: 2/194، و قد جعل المراجع مكان الضمائر في عبارته طلباً للإيضاح.
2- الفرائد: 229، و تركنا ذيل كلامه تبعاً للكفاية.
4. كفاية الإتيان باحتمال الأمر

و هذا هو الجواب الرابع، و قد أشار إليه الشيخ في ضمن كلماته و قال: و التحقيق انّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية و لو إجمالاً.(1)

و حاصله: انّه يكفي في تصحيح العبادة، الإتيان بها رجاء و باحتمال تعلّق الأمر به، و ذلك لأنّ الكلام في العبادة المحتملة و يكفي فيها احتمال الأمر.

و بعبارة أُخرى: انّ قصد الأمر من القيود التي يستقل بها العقل و ليس من القيود التي يمكن أخذها في المتعلق لما عرفت وجهه تفصيلاً في الجزء الأوّل و العقل مستقل بكفاية قصد الأمر الاحتمالي في العبادة المحتملة.

5. و هنا جواب خامس، و هو انّه لا يعتبر في صحّة العبادة قصد الأمر، بل يكفي الإتيان بها للّه سبحانه، و هذا هو الذي اعتمدنا عليه في باب العبادات، فلو كان ما ذكرنا كافياً في العبادات القطعية و مغنياً عن قصد الأمر القطعي فليكن كافياً في العبادات المحتملة.

و هناك جواب سادس، و هو قصد الأمر الاستحبابي المستنتج من أخبار» من بلغ «على القول بدلالتها على استحباب نفس العمل، إذ أتى به الإنسان رجاء درك الثواب و حيث إنّ هذه الأخبار وقعت مورداً للنقاش من هذا الجانب نفرّدها بالبحث.

***

ص:433


1- الفرائد: 229.
التنبيه الثالث: التسامح في أدلّة السنن
و لنقدم أُموراً:
1. في السير التاريخي للمسألة

اشتهرت بين الأصحاب مسألة:» التسامح في أدلّة السنن «و يراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها و العمل بها، ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات و المحرمات من كون الراوي ثقة ضابطاً، بل يكفي وروده و لو عن طريق ضعيف و المسألة معنونة في كلمات الفريقين، غير انّهم يعبِّرون عن المسألة بقولهم:» العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال «و قد ألمع إليها الشهيد (734 786 ه (في الذكرى، و ابن فهد الحلي ) المتوفّى 841 ه (في عدة الداعي، و الشهيد الثاني) المتوفّى 966 ه (في درايته، و بهاء الدين العاملي ) المتوفّى 1030 ه (في أربعينه، إلى أن وصلت النوبة للشيخ الأنصاري، فألّف رسالة مستقلة فيها طبعت في آخر كتاب المتاجر له. و أدرجها تلميذه الشيخ موسى التبريزي في حاشيته على الفرائد، باسم» أوثق الوسائل « فلاحظ.

2. وجود ملاكات مختلفة في المسألة

و هل المسألة أُصولية أو فقهية، أو كلامية لكلّ وجه و لا يترتب ثمرة لذلك، فلو كان الكلام مركزاً على عدم اعتبار شرائط الحجية في العمل بالسنن المروية، بل يكفي مجرّد ورود الخبر، فالمسألة أُصولية، و لو كان الكلام دائراً حول ثبوت الاستحباب بمجرّد الورود، و إن لم يكن مطابقاً للواقع بتصور عروض مصلحة غير إلزامية على الفعل عند ذاك و يكشف عنها ترتّب الثواب على الفعل، تكون المسألة فقهية، و أمّا إذا كان الكلام حول ثبوت الثواب و عدمه تكون المسألة كلامية.

ص:434

3. الاستدلال عليها بطرق مختلفة

ثمّ إنّه ربما يستدل على القاعدة بالإجماع و حكم العقل و الأولى الاستدلال عليها بالروايات، لأنّ الإجماع على فرض ثبوته، مدركيّ مستند إلى نفس الروايات، و أمّا العقل فلا يستقل إلاّ بالرجحان، و ترتّب الثواب بما هو مصداق للانقياد، و لا يستقل على خصوص الثواب الوارد في الرواية، كما لا يستقل باستحباب نفس العمل

فالأولى ذكر الروايات،

و التكلّم في حدود دلالتها. و قد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في مقدمات وسائل الشيعة.

أ: رواية هشام بن سالم

إنّ لهشام بن سالم رواية واحدة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (يرويها تارة بلا واسطة، و أُخرى بواسطة صفوان، و الأقرب انّها رواية واحدة، و انّ التعدّد أيضاً محتمل.

1. روى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه، كان له و إن لم يكن على ما بلغه «.(1)

روى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:

» من بلغه عن النبي) صلى الله عليه و آله و سلم (شيء من الثواب، فعمله كان أجر ذلك له، و إن كان رسول اللّه لم يقله «.(2) و علي بن الحكم الكوفي من أصحاب الإمامين: الرضا و الجواد) عليهما السلام (، و هو ثقة كما في الفهرست و هو متحد مع علي بن الحكم الأنباري، و ابن الزبير، بشهادة انّ الصدوق ذكر طريقه إليه و لم يصفه بأحد الأوصاف الثلاثة: الكوفي، الأنباري أو ابن الزبير، و هذا يكشف عن الاتحاد، و هناك قرائن أُخرى للاتحاد لاحظ المصادر.(3) و الروايتان متحدتان لوحدة المرويّ

ص:435


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6، 3.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6، 3.
3- لاحظ قاموس الرجال، و معجم رجال الحديث: 12/411، 426.

عنه، أعني: هشاماً، غاية الأمر يرويها عنه تارة ابن عمير و أُخرى علي بن الحكم إنّما الكلام في اتحاد الثالثة معهما.

2. ما رواه هشام، عن صفوان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه لم يقله «.(1)

و في السند علي بن موسى، و هو علي بن موسى الكمنداني أحد» عدّة الكافي «إلى أحمد بن محمد بن عيسى حيث يكرر قوله: عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى فهو أحد العدة، و بذلك يعلم انّ المراد من أحمد بن محمد في سند الرواية، هو ابن عيسى: و لم يوثق علي بن موسى، و في معجم البلدان انّ كمندان اسم قم في أيّام الفرس، فلما فتحها المسلمون اختصر اسمها.(2)

و بما انّ الإمام المروي عنه واحد، يحتمل تعدد الروايتين و انّ هشاماً تارة سمع الحديث من الإمام مباشرة، و أُخرى من الراوي عنه أعني صفوان، و لم يكن هشام حاضراً عند ما كان الإمام يحدث صفوان.

ب: روايتا محمد بن مروان

و هنا روايتان لمحمد بن مروان يرويهما عن إمامين.

3. روى البرقي عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من بلغه عن النبي شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب و إن كان النبي لم يقله «.(3) و الرواية صحيحة و أحمد بن

ص:436


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 1.
2- معجم البلدان: 5/305.
3- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 4.

النضر، كمحمد بن مروان ثقة.

4. روى الكليني بسنده عن محمد بن سنان، عن عمران الزعفراني، عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر) عليه السلام (يقول:» من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه و إن لم يكن الحديث كما بلغه «.(1) و السند لا يخلو من ضعف.

و بما انّ الإمام المروي عنه مختلف، فيحكم عليهما بالتعدّد. إلى هنا وقفنا على روايات أربع، و أمّا سائر الروايات فهي إمّا راجعة إليها، أو لا صلة لها بالمقام.

أمّا الأوّل، مثل ما رواه أحمد بن فهد) المتوفّى 841 ه (في عدّة الداعي عن الصدوق بطرقه إلى الأئمّة.(2) أو ما رواه ابن طاووس) المتوفّى 664 ه (في كتاب الإقبال عن الصادق) عليه السلام ((3)، فانّ هذه المراسيل ليست شيئاً مستقلاً بل متخذات من المسانيد السابقة.

و أمّا الثاني، أي ما لا صلة له بالمقام مثل ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن حمدان بن سليمان في تفسير قول اللّه عزّ و جلّ: (فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ )(4)، فجاء فيه» يشرح صدره للتسليم للّه و الثقة به و السكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه «(5)، و أين هو ممّا نحن فيه؟! و مثله مرسلة علي بن محمد القاساني ففيها: من وعده اللّه على عمل فهو منجزه، و من أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار.(6)

وجه عدم الصلة في رواية» حمدان «فانّ السكون إلى ما وعد اللّه، التي ثبت

ص:437


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
3- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 7، 8، 9.
4- الأنعام: 125.
5- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب العبادات، الحديث 2، 5.
6- الوسائل: الجزء 1، الباب 18 من أبواب العبادات، الحديث 2، 5.

بالدليل الصحيح من علائم الإيمان كما أنّ المراد من الحديث الثاني هو التفريق بين الوعد و الوعيد، فانّ الأوّل لازم الوفاء دون الثاني فهو ناظر إلى مسألة كلامية فالمعتزلة على لزوم الوفاء بالوعيد مثل الوعد، و الإمامية على خلافهم.

نعم روى ابن فهد في عدّة الداعي عن غير طرقنا مرفوعاً إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: قال رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (:» من بلغه من اللّه فضيلة فأخذ بها إيماناً باللّه، و رجاء ثوابه أعطاه اللّه ذلك و إن لم يكن كذلك «.(1)

هذا ما وقفنا عليه من الروايات و إنّما المهم دراسة دلالتها، و تحقيق مضامينها،

و قد اختلفت كلمتهم في تفسيرها إلى وجوه و احتمالات

لا يساعد أكثرها الفهم العرفي، فنذكر المهم.

1. نظرية الشيخ الأنصاري

و حاصل نظريته: انّ هذه الأخبار لا تدل إلاّ على ثبوت الأجر للعامل، و لا يدل على استحباب العمل، و بالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردّد بين الاستحباب و غير الوجوب بهذه الأخبار.

ثمّ إنّه) قدس سره (أخذ في توضيح مقصوده و قال: إنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعاً على البلوغ، و كونه الداعي على العمل، و يؤيّده تقييده في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي و التماس الثواب الموعود، و من المعلوم انّ العقل مستقل باستحقاق هذا العامل، المدحَ و الثواب و حينئذٍ إن كان الثابت في تلك الأخبار، هو أصل الثواب كانت مؤكدة لحكم العقل بالاستحقاق إلى أن قال: و إن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو و إن كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل، إلاّ

ص:438


1- عدة الداعي: 13.

أنّ مدلول هذه الأخبار أخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع، و على كلّ تقدير فلا يدل على صيرورة العمل مستحباً.(1)

و يؤيّد كلام الشيخ أمران:

الأوّل: هو انّ مورد الرواية ليس مختصاً بالمستحبات، بل يعمّ الثواب الموعود على الواجب كما هو أعمّ من أن يرد بدليل واجد لشرائط الحجّية أو لا، فتخصيص مورد الروايات بالمستحبات أوّلاً، و كون الوارد غير حائز لشرائطها ثانياً، أمر لا دليل عليه.

و الحاصل: انّ الرواية إمّا مؤكّدة لحكم العقل إذا كان المقصود أصل الثواب أو أخبار عن تفصيله إذا كان المقصود، هو الثواب الموعود.

الثاني: انّ الظاهر من الروايات أنّ ترتب الثواب، لأجل هذه العناوين:» من بلغه شيء من الثواب، أو بلغه عن النبي شيء من الثواب، أو سمع شيئاً من الثواب «:) كما في روايات هشام بن سالم (ففعل ذلك طلب قول النبي، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب «) كما في روايتي محمد بن مروان (، و هذا دليل على ترتّب الثواب، لأجل انقياده لا على نفس العمل، فلا يكشف ترتّب الثواب على الانقياد عن استحباب نفس الفعل.

2. نظرية صاحبي العناوين و الكفاية

إنّ المحقّق السيّد فتاح المراغي صاحب العناوين، ذهب إلى أنّ مفادها هو انّه لا يشترط في الخبر الوارد في المستحبات، ما يشترط فيما دلّ على الحكم الإلزامي، و استدل على ذلك بأنّ أغلب المندوبات و المكروهات ليس لها دليل قويّ مع أنّ الفقهاء يُفتون بالندب و الكراهة، فيعتمدون على الخبر الضعيف و فتوى

ص:439


1- الفرائد: 230.

الفقيه الواحد و الشهرة المجردة.(1)

و حاصل النظرية: انّ هذه الأخبار بصدد إعطاء الحجّية للخبر الضعيف في مجال خاص، و يكون الفعل مستحباً بالذات.

يلاحظ عليه: أنّ لسان الحجّية هو إلغاء احتمال الخلاف و البناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع كما في قوله:» ما أدّيا عنّي فعني يؤدّيان «لا احتمال عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما يحكي عنه قوله: و إن كان رسول اللّه لم يقله، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجّية و لا يصلح لها.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اختار تلك النظرية، و كلامه مؤلف من أمرين:

1. الردّ على استدلال الشيخ.

2. استظهاره مختاره من صحيحة هشام بن سالم.

أمّا الأوّل، فقال في بيانه: إنّ كون العمل متفرعاً على البلوغ، و كونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنّما يكون مترتباً عليه فيما إذا أتى برجاء أنّه مأمور به و بعنوان الاحتياط، بداهة انّ الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً و عنواناً يؤتى به بذلك الوجه.

و حاصله: انّ الإتيان لغاية طلب قول النبي أو الثواب الموعود فيه قيد تعليلي لا تقييدي، فليس المأتي مقيداً به، حتى يكون الثواب على الفعل المقيد به.

يلاحظ عليه: أنّ الجهات التعليلية في الأحكام جهات تقييدية لبّاً فلو قال:» لا تشرب الخمر لأنّه مسكر «يكون الموضوع لبّاً هو الخمر المسكر، و لو قال:» أكرم زيداً لعلمه «، يكون الموضوع لبّاً هو زيد العالم، و لو فرضنا ظهور الروايات في ترتّب الثواب على العمل لأجل كون الداعي التماس قول النبي أو إدراك الثواب

ص:440


1- عناوين الأُصول: 133.

الموعود به، يكون الموضوع مركّباً من نفس الفعل و الغاية و هو عبارة أُخرى عن كون الثواب مترتّباً على الانقياد، لا على نفس العمل مجرّداً عنها.

و أمّا الثاني، أي كيفية استظهاره من صحيحة هشام فحاصله: انّ الثواب في صحيحة هشام رتب على نفس العمل حيث قال: كان أجر ذلك، فالمشار إليه بلفظة» ذلك «، هو نفس العمل، و بما انّ الاستحباب لا ينفكّ عن المصلحة، فيكشف عن حدوث مصلحة فيه عند طروء عنوان البلوغ أو السماع فيصير مستحباً و يترتّب عليه آثاره و يصير نظير قوله:» من سرّح لحيته فله كذا «.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. ليس المراد من أجر العمل في الرواية هو الأجر الواقعي المكتوب على العمل بما هو هو، و ذلك لأنّه كما يحتمل صدقه، يحتمل كذبه، فليس الأجر الواقعي أمراً محرزاً، بل المراد الأجر الوارد في الخبر الأعمّ من أن يكون موافقاً للواقع أو لا، و هذا النوع من الأجر لم يثبت للعمل بما هو هو، بل ثبت للعمل في الظرف الذي يأتي به المكلف بنيّة درك الثواب الموعود، و من المعلوم انّ ثبوت هذا النوع من الأجر لا يكشف عن استحباب العمل بما هو هو و إنّما يكشف إذا ترتّب عليه الثواب في عامّة الظروف لا في ظرف خاص، و هو خلاف ظاهر الرواية، و أقصى ما يستفاد منه هو عدم حرمان العامل من الأجر تفضّلاً منه سبحانه.

2. ما استظهره إنّما يصحّ لو كان الدليل منحصراً برواية هشام، و لكن هناك روايتان عن طريق محمد بن مروان صريحتان في الثواب لغاية طلب قول النبي، أو التماس ذلك الثواب و معه لا يمكن الاعتماد بالظهور البدائي في صحيحة هشام.

و بذلك يتضح الفرق بين المقام و ما ورد من قوله: من سرح لحيته فله عشر حسنات، أو من صام نصف شعبان فله كذا. فانّ الثواب في الموردين ترتّب على نفس العمل، بخلاف المقام فانّه مترتب على الطاعة الحكمية أي احتمال الأمر، و في مثله لا يكشف الثواب عن وجود الأجر القطعي.

ص:441

3. نظرية المحقّق النائيني

إنّ هذه النظرية مبنية على كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء و معنى قوله:» فعمله أو فعله «: هو الأمر بالفعل و العمل كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام، و على هذا يصحّ أن يقال أنّ أخبار من بلغ مسوقة لبيان انّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحباً فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها أو قبحها و المقتضية لتفسير أحكامها، كالضرر و العسر و النذر و الإكراه و غير ذلك من العناوين الثانوية، فيصير حاصل معنى قوله) عليه السلام (:» أو بلغه شيء من الثواب فعمله «بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية، هو انّه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه، كما يجب العمل عند نذره، ثمّ استقرب هذا الوجه قائلاً: إنّ ما عليه المشهور حيث إنّ بناءهم في الفقه على التسامح في أدلّة السنن.(1)

و الفرق بين النظريتين الثانية و الثالثة واضح، حيث إنّ العمل على الأوّل يصير مستحباً ذاتياً، بخلافه على هذا القول، يكون مستحباً عرضيّاً لعروض عنوان البلوغ، و قد أوضحه بقوله: إنّ الوجه الأوّل مبني على أن يكون مفاد أخبار من بلغ حجّية قول المبلغ، و أنّ ما أخبر به هو الواقع، فيترتب عليه كلّ ما يترتب على الخبر الواحد للشرائط، و يكون العمل بما هو هو مستحباً، و أمّا على هذه النظرية فانّ مفاده مجرّد إعطاء قاعدة كلية و هي: استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب، فيكون مفاد أخبار من بلغ قاعدة فقهية كقاعدة» لا ضرر «و» لا حرج «.(2)

ص:442


1- فوائد الأُصول: 4163/415.
2- فوائد الأُصول: 3/415.

و بعبارة أُخرى يكون المستحب هو العمل بعنوانه الثانوي الطارئ عليه.

و إن شئت قلت: إنّ البلوغ في الأوّل جهة تعليلية لعروض حكم الاستحباب على العمل دون نظريته، فهو جهة تقييدية، و تظهر ثمرة هذا الاختلاف في الآثار التي تترتب على المستحبات الذاتية دون المستحبات العرضية.

يلاحظ عليه: أنّ حمل الجمل الاخبارية على الإنشاء إنّما يصحّ في الواجبات و المستحبات المؤكدة حيث تكون شدّة العلاقة بالمطلوب سبباً عن الإخبار عن وجوده في الخارج فيخبر عنه، مكان الانشاء، و أمّا المقام فليس كلّ مستحب يبلغ هذه المكانة من الأهمية حتى يصحّ الاخبار عنه.

ثمرات المسألة

تظهر الثمرة في موارد:

1. ترتّب الآثار المترتبة على المستحبات الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به.

فعندئذ لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في ظرف خاص كدخول المسجد فعلى القول الأوّل، لا يترتّب عليه إلاّ الثواب، خلافاً للنظريتين الأخيرتين، فيعامل معه معاملة المستحب فيكون رافعاً للحدث واقعاً.

يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّ الاستحباب لا يلازم رفع الحدث كاستحباب الوضوء للحائض عند أوقات الصلاة: أنّه إنّما يتم لو لم يكن الوضوء مستحباً نفسياً، كما هو ظاهر عدّة من الروايات; روى المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال:» من جدّد وضوءه لغير حدث، جدّد اللّه توبته من غير استغفار «(1)

ص:443


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

فاستحباب الوضوء ثابت مطلقاً، سواء كان هنا إخبار» من بلغ «أو لم يكن، كان مضمونها ما اختاره الشيخ أو غيرهما.

2. لو ورد الأمر باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّ يده، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.

يلاحظ عليه: أنّ ثبوت استحباب غسل اللحية المسترسل، لا يلازم جواز المسح من بلّتها، لاحتمال اختصاص الأخذ بالأجزاء الأصلية.

3. تظهر الثمرة بين نظرية المحقّق الخراساني، و المحقّق النائيني فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب شيء، و ورد خبر ثقة على نفيه، فعلى القول بأنّ هذين الخبرين بصدد جعل الحجّية للخبر الضعيف يقع التعارض بين الخبرين و يقع التعارض بين الحجّتين، و أمّا إذا قلنا بأنّهما بصدد إثبات استحباب واقعي على الفعل بما أنّه ينطبق عليه عنوان البلوغ فلا تعارض بين الخبرين، لأنّ الثاني، ينفي كون العمل مستحبّاً بذاته و نفسه، و الخبر الضعيف لا ينافيه و إنّما يثبت الاستحباب عليه لأجل انطباق عنوان ثانوي عليه.

و بما انّك عرفت انّ النظرية الأُولى هي الحقّ، فلا يصحّ أن يعامل معه معاملة المستحب، بنحو من الأنحاء لا ذاتياً و لا عرضياً و بذلك يعلم انّ التعبير بالتسامح في أدلّة السنن، ليس تعبيراً واقعياً في مضمون الروايات، بل الحقّ هو الإخبار عن تفضّله سبحانه بالثواب على العمل بخبر ورد فيه الثواب سواء أ كان واجباً أم مستحباً، جامعاً للشرائط أو لا.

ص:444

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية
اشارة

قد عرفت أنّ الشبهة الحكمية التحريمية مجرى للبراءة إنّما الكلام في جريانها في الموضوعية منها، كما إذا شكّ في كون مائع خمراً، فهل يستقل العقل و النقل على البراءة أو لا؟ منشأ الشبهة ما ذكره الشيخ في المسألة الرابعة من مسائل الشبهة التحريمية حيث قال: و توهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظراً إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية بالعقل و لا يقبح العقاب خصوصاً على تقدير مصادفة الحرام.(1) ثمّ أجاب عنه) قدس سره (و سيوافيك توضيحه.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية التحريمية

ربما يقال(2) بعدم جريانها فيها، لأنّ وظيفة الشارع هو بيان الكبرى و المفروض انّه بيّنها و قال: الخمر حرام، و ليس بيان الصغريات من وظائفه، حتى يقال انّ العقاب على الفرد المشكوك من الخمر غير مبيّن فيكون العقاب عليه قبيحاً، لما عرفت من أنّ وظيفته هو بيان الأحكام الكلية لا بيان الصغريات، و عندئذ يأتي ما ذكره الشيخ من لزوم الاجتناب من باب المقدمة العلمية.

يلاحظ عليه: أنّ البحث ليس مركّزاً على لفظ البيان حتى يقال انّ بيان الموضوع ليس من وظائفه بل هو مركّز على العقاب بلا حجّة، و هي تتشكل من

ص:445


1- الفرائد: 221.
2- القائل: المحقّق البروجردي في درسه الشريف.

صغرى و كبرى، و لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجرّدة ما لم ينضمّ إليها العلم بالصغرى و المفروض انّها غير معلومة.

و على ضوء ما ذكر فتجري البراءة العقلية بشرط تقريرها على النحو الذي عرفت.

الثاني: في جريان البراءة الشرعية

أمّا البراءة الشرعية، فقد فصّل المحقّق الخراساني، بين كون النهي عن الشيء، بصورة العام الأفرادي، و كونه بصورة العام المجموعيّ، فتجري البراءة في الأُولى دون الثانية، و المراد من الأوّل أن يكون كلّ عدم من اعدام الطبيعة مطلوباً مستقلاً بحيث يكون لكلّ عصيان و امتثال، فمرجع الشكّ في فردية الشيء للطبيعة، إلى الشكّ في تعلّق حكم تحريمي بهذا الفرد و عدمه، فيكون من قبيل الشبهة البدوية فتجري فيه البراءة، بخلاف الثاني، فانّ هناك حكماً واحداً متعلّقاً بمجموع الاعدام و الترك، بحيث يكون ترك كلّ فرد جزء من المطلوب على نحو التركيب.

يلاحظ عليه: أنّه تجري البراءة حتى على النحو الثاني، لأنّ مرجع الشكّ فيه إلى الأقل و الأكثر الارتباطيّين حيث يتردّد الجزء المأخوذ في ناحية متعلّق النهي بين الأقل لو لم يكن هذا الفرد خمراً و الأكثر إذا كان خمراً و في مثله يكون المرجع إلى البراءة، حيث إنّ مرجع الشك في كونه مصداقاً أولا، إلى انبساط النهي إليه و عدمه.

و على ما ذكرنا تجري البراءة في كلتا الصورتين.

نعم لا تجري في الصورتين التاليتين:

1. إذا كان المطلوب عدماً بسيطاً متحصلاً من تلك الاعدام بحيث يكون

ص:446

الأوّل المحصَّل) بالفتح (مغايراً مع الثاني تحقّقاً، لا مفهوماً فقط، نظير الطهارة النفسانية الحاصلة من الغسلات و المسحات، و هذا ما يسمّى بالشكّ في المحصِّل، فلو صحّت الشبهة التي نقلناها في أوّل التنبيه فإنّما تصحّ في هذه الصورة.

2. أن يتعلّق النهي بالشيء على وجه يكون ناعتاً، فيكون الواجب كون الإنسان موصوفاً بأنّه» لا شارب الخمر «ففي هذه الصورة» يجب الاجتناب عن الفرد المشكوك ليحرز كونه لا شارب الخمر «.

و بذلك يعلم ضعف الشبهة التي ذكرنا في أوّل التنبيه من حيث المقدمة العلمية، فانّها لو صحّت فإنّما تصحّ في هاتين الصورتين الأخيرتين، لا الأُوليين فانّ الواجب في الأخيرتين، أمر بسيط و ترك الفرد مقدمة له، فلا يعلم بحصول الواجب إلاّ بترك الفرد المشكوك مقدمة، و أمّا في الأُوليين فليس هناك مقدمة و ذوها، بل المكلّف به عبارة عن العام الأفرادي أو العام ذي الأجزاء، و بما انّ التكليف ينحلُّ إلى الأفراد و الأجزاء، فالشكّ في الفرد، شكّ في تعلّق الحكم المستقل به، في العام الافرادي، أو في انبساط الحكم المتعلّق بسائر التروك، إلى ترك هذا الفرد أيضاً كما في العام المجموعي.

و أمّا ما أفاده الشيخ) قدس سره (من أنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً أو إجمالاً. و أمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يظهر من النهي تحريمه و ليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم بحسن العقاب عليه(1) و إن كان صحيحاً لكنّه ليس بقالع للشبهة لأنّ القائل بالاحتياط لا يقول بأنّ الاجتناب عن المشكوك مقدمة للاجتناب عن الفرد المحرّم القطعي، بل يقول: إنّ الاجتناب عنه مقدمة للاجتناب عن امتثال الحكم الكلي القطعي أعني لا تشرب

ص:447


1- الفرائد: 220.

الخمر الذي لا يحصل العلم بامتثاله، إلاّ باجتناب الفرد.

و الأولى الإجابة، بما ذكرنا من حديث الانحلال.

و مع ذلك كلّه فلا نقول بجريان البراءة في مطلق الشبهة الموضوعية، بل في كلّ مورد يسهل العلم بالواقع، فالحقّ عندئذ وجوب الفحص و التوقف عن إجراء البراءة كالمائع المردّد بين الخمر و الخل الذي يسهل تحصيل العلم بالشم و الرؤية، و لذلك أفتى المشهور بوجوب الفحص في موارد من الشبهة الموضوعية، كبلوغ المال الزكوي حدَّ النصاب أو لا، أو حصول الاستطاعة للكاسب أو لا.

التنبيه الخامس: في تحديد رجحان الاحتياط
اشارة

قد تقدم من المحقّق الخراساني في التنبيه الثاني حسن الاحتياط عقلاً و شرعاً، و الكلام في المقام في تحديد حسنه، و في المقام أمران:

1. حسن الاحتياط مطلقاً

أ: كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة أو أمارة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام، أو لم يكن.

ب: كان من الأُمور المهمة كالدماء أو لا.

ج: كان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً.

الاحتياط في هذه الموارد المتقدمة حسن بلا إشكال.

2. في تحديد حسن الاحتياط

قد حدّد الشيخ حسن الاحتياط بأن لا ينتهي إلى إخلال النظام، و يحصل هذا بترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً على بعض:

أمّا الأوّل: كتقديم الاحتياط في الظن على الحرمة في مورد، على الاحتياط في

ص:448

الشكّ في الحرمة في مورد آخر.

أمّا الثاني: كتقديم الأهم محتملاً و إن كان أضعف احتمالاً على غير الأهم محتملاً، كما في الموارد الثلاثة من الأموال و الأعراض و الدماء، فيقدم الاحتياط فيها على غيرها و إن كان الغير أقوى احتمالاً منهما.

يلاحظ عليه: أنّ الاحتياط محدد بالأقل من الإخلال بالنظام إذ يكفي أن ينتهي إلى العسر و الحرج خصوصاً على القول بحرمة العمل الحرجي، أو أن ينتهي إلى ترك الأهم، كالاحتياط المستلزم ترك التحصيل أو تشويه سمعة الدين، أو نفرة الناس عنه إلى غير ذلك من العناوين الثانوية كما لا يخفى.

و ربما يستدل على عدم حسن الاحتياط برواية أبي الجارود حيث سأل أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن و قال له: أخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتة فقال) عليه السلام (:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل «.(1)

و لكن الاستدلال غير تام إذ الأمر بالأكل لا يدل على حرمة تركه، لأنّ الأمر ورد في مقام توهم الحظر بشهادة قوله:» أ من أجل مكان واحد، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ «. فلا يدل على وجوب ترك الاحتياط كما لا يخفى.

ص:449


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.

الأصل الثاني:

اشارة

أصالة التخيير

قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

1. هذا الفصل منعقد لبيان مجرى أصالة التخيير التي هي من الأُصول الأربعة العامة و لم يخصها الشيخ الأنصاري بفصل خاص، مع أنّ الأنسب تخصيص فصل لها مثل أصالة البراءة و الاشتغال، و لعلّ قلّة موارده دعته إلى ترك عقد الفصل المستقل.

2. انّ الشيخ بحث في كلّ من البراءة و الاشتغال، في مطالب ثلاثة، و جعل منشأ الشكّ في كلّ مطلب أحد أُمور أربعة: فقدان النص، أو إجمال النص، أو تعارض النص، أو خلط الأُمور الخارجية.

فالمطالب الثلاثة في الشكّ في التكليف عبارة عن: التحريم المشتبه بغير الوجوب، أو وجوب مشتبه بغير التحريم، أو تحريم مشتبه بالوجوب. فسمّي الأخير بدوران الأمر بين المحذورين.

كما أنّ المطالب الثلاثة في الشكّ في المكلّف به عبارة عن: دوران الأمر بين الحرام و غير الواجب، و دورانه بين الواجب و غير الحرام، و دورانه بين الواجب و الحرام. فسمّي الأخير أيضاً بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا سؤال يطرح نفسه و هو انّه ما الفرق بين المطلب الثالث في التكليف، و المطلب الثالث في الشكّ في المكلّف به؟

ص:450

و الجواب: إذا كان التكليف واحداً مردداً بين المحذورين، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار، أو تردد الرجل بين كونه مؤمناً أو محارباً يجب قتله يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين من قسم الشكّ في التكليف; بخلاف ما إذا كان التكليف متعدداً و اشتبه موضوعهما، كما إذا علم انّ واحدة من الصلاتين واجبة و الأُخرى محرمة و تردد أمرهما بين الظهر و الجمعة.

و إن شئت قلت: إنّ نوع التكليف مجهول في الأوّل دون الآخر، فالنوع معلوم و هو انّ هنا واجباً و محرماً غير انّ الموضوع مردّد بين الجمعة و الظهر، يجمعها، عدم إمكان الموافقة القطعية.

3. إذا كان نوع التكليف مجهولاً; فتارة يكون المورد من قبيل التوصليات، كتردد الإنسان بين كونه محقون الدم أو واجب القتل; و أُخرى يكون من قبيل التعبديات، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار، فلو كانت حائضاً فالعبادة محرمة توصلية، و أمّا إذا كانت طاهراً من الحيض، فالعبادة واجبة تعبدياً، فأحد الحكمين على فرض ثبوته تعبدي.

4. الميزان في جريان أصالة التخيير كما سيوافيك امتناع الموافقة القطعية سواء كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة و كانت الواقعة واحدة، كشرب مائع مردّد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة معينة; أو كانت ممكنة، كتردده بينهما مع تعدد الواقعة كلّ ليلة جمعة إلى شهر.

5. التقسيم الصحيح في بيان مجاري الأُصول هو ما ذكرنا سابقاً، من أنّ الشكّ أن يكون فيه اليقين السابق ملحوظاً أو لا.

و الأوّل مورد الاستصحاب. و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط بمعنى الموافقة القطعية ممكنة أو لا; و الثاني مجرى التخيير، و الأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني

ص:451

مورد البراءة.(1)

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة:

أ: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التوصلي.

ب: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التعبدي.

ج: دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به.

و إليك الكلام في واحد بعد آخر.

المقام الأوّل: إذا كان نوع التكليف مجهولاً مع كون الحكم توصلياً
اشارة

إذا دار أمر التكليف بين المحذورين، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان، أو حرمته. و منشأ التردد كونه مجهول الهوية، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً. فعلى الأوّل يحرم قتله، و على الثاني يجب، لأنّ أمر الحد دائر بين الحرمة و الوجوب و لكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب و الحرمة على فرض ثبوته، توصّلي.

لا شكّ انّ المخالفة و الموافقة القطعيتين غير ممكنة لكن يقع الكلام في كون المقام محكوماً بحكم ظاهريّ أو لا، فقد ذكر المحقّق الخراساني وجوهاً خمسة:

1. جريان الأُصول النافية كالبراءة العقلية و النقلية دون المثبتة كأصالة الإباحة.

2. وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً و هو الحرمة.

3. وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً.

4. ليس المورد محكوماً بحكم ظاهريّ من النافي و المثبت و يكفي كون

ص:452


1- فرائد الأُصول: 192.

الإنسان مخيراً تكويناً و هو خيرة المحقّق النائيني.

5. الحكم بالتخيير عقلاً، مع جريان الأُصول المثبتة كالإباحة دون النافية على خلاف القول الأوّل و هو مختار المحقّق الخراساني.

6. جريان جميع الأُصول النافية دون المثبتة كأصالة الإباحة و هو المختار، فلنأخذ كلّ واحد من الأقوال بالبحث.

القول الأوّل: جريان البراءة العقلية و الشرعية

ذهب هذا القائل إلى أنّ الحكم الظاهري الذي يجب التعبد به هو البراءة العقلية أوّلاً، و الشرعية ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ كلاً من الوجوب و الحرمة مجهولان، فيقبح المؤاخذة عليهما.

و أمّا الثاني: فلعموم قوله:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «و شموله للمقام.

و قد أورد المحقّق الخراساني على القول بجريان البراءة العقلية، بأنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فانّه لا قصور فيه هاهنا، و إنّما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من البيان، هو ما يكون باعثاً أو زاجراً و يخرج المكلّف من الحيرة فيجنح إلى الفعل، أو إلى الترك و الخطاب المردد بين» افعل «و» لا تفعل «فاقد لهذه الخصوصية.

كما أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان و في باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجز و التأثير، فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.(1)

ص:453


1- الفوائد: 3/448.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتم بالنسبة إلى الحكم الواقعي، لأنّ العلم الإجمالي في المقام لا يكون منجّزاً له. و لكن هنا احتمالاً آخر، و هو احتمال لزوم التعبّد في الظاهر بأحد الحكمين تعييناً أو تخييراً، كما اختاره بعضهم، فالغاية من البراءة العقلية هو رفع هذا الاحتمال، ببيان انّ لزوم الأخذ به احتمال لم يقم عليه دليل، فالعقاب عليه، عقاب بلا بيان، و بذلك بان عدم الإشكال في جريان البراءة العقلية.

و قد أورد) قدس سره (أيضاً على القول بجريان البراءة الشرعية بأنّ مدركها هو قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «و الرفع فرع الوضع، و في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب و الحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين لاستلزامه التكليف بغير المقدور و لا على سبيل التخيير لكونه تحصيلاً للحاصل و مع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعم المقام.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الممتنع هو وضع كلّ في عرض الآخر، و أمّا وضع كلّ واحد مستقلاً وحده، بلا نظر إلى وضع الآخر و عدمه، فأمر ممكن لا مانع من وضعه كما لا مانع من رفعه، فيشير المكلّف إلى الوجوب وحده، و يقول: إنّه مشكوك و غير معلوم، فهو مرفوع و مثله الحرمة.

و بعبارة أُخرى: انّ المكلّف ينظر إلى الوجوب و يحتمل أن يكون هو الحكم الظاهري الذي يجب الأخذ به، معيناً أو مخيراً، فيرفع ذلك الاحتمال، فيكون أثر الأصل العقلي أو الشرعي رفع لزوم التعبد بأحد الحكمين في الظاهر، فلا قصور في شمول الدليل، و أمّا مخالفة النتيجة للعلم الإجمالي بالإلزام، فسنرجع إليه في المستقبل.

ص:454


1- الفوائد: 3/448.
القول الثاني: الأخذ بأحدهما تعييناً
اشارة

المراد من الأخذ هو الأخذ بجانب الحرمة قائلاً بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

يلاحظ عليه بأمرين:

1. انّ الضابطة ليست بتامة، بل ربما يكون جلب المنفعة أولى من دفع المفسدة، كنجاة النفس المحترمة إذا استلزمت التصرف في مال الغير.

2. انّ القاعدة فيما إذا علم المكلّف بوجود الملاك في كلا الموردين لا في مثل المقام الذي لم يثبت إلاّ ملاك واحد في أحد الطرفين.

و تصور لزوم الأخذ بأحدهما لأجل الموافقة الالتزامية، مدفوع بأنّ المراد منها هو لزوم الاعتقاد بما جاء به النبي إجمالاً أو تفصيلاً إذا علم لا الأخذ بمحتمل التكليف بجد و حماس، فانّه أشبه بالتشريع.

القول الثالث: الأخذ بأحدهما تخييراً

و حاصل هذا القول: إنّ الحكم الظاهري عبارة عن الحكم بالتخيير الشرعي بين الفعل و الترك و الفرق بين القول الثاني و الثالث واضح بعد اشتراكها في لزوم التعبد بحكم من الحكمين، غير انّ الأوّل يُلْزم التعبد بأحدهما معيّناً كالقول بأنّ الفعل حرام مثلاً، و هذا يلزم التعبد بالتخييري الشرعي، و ليس له دليل صالح سوى قياس وجود الاحتمالين بالخبرين المتعارضين، فانّ المجتهد مخيّر بينهما إمّا من أوّل الأمر، أو بعد عدم الترجيح المنصوص في أحدهما.

يلاحظ عليه: أنّه قياس، لأنّ الحكم بالتخيير فيما إذا كانت هناك حجّتان متعارضتان لا يكون سبباً للحكم به فيما إذا كان هناك احتمالان، و لعلّ لوجود

ص:455

الخبر تأثيراً في الحكم بالتخيير و ليس في مقام الاحتمال.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالاً على هذا القول، هذا حاصله:

إنّ التخيير إمّا شرعي واقعي كخصال الكفارات، أو شرعي ظاهريّ كالتخيير في باب تعارض الطرق و الأمارات، و إمّا عقلي كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم. و الكلّ في المقام منتف.

أمّا الشرعي بكلا قسميه، فانّ الهدف من جعل التخيير هو سوق المكلّف إلى المجعول، و لكنّه في المقام حاصل تكويناً بلا حاجة إلى جعل التخيير.

و أمّا العقلي فإنّما يجري فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه و لم يتمكن المكلّف من الجمع بين الطرفين كما في موارد التزاحم، و ليس الأمر في المقام كذلك، لعدم ثبوت الملاك إلاّ في أحدهما.

فخرج بهذه النتيجة: انّ التخيير في المقام، ليس بشرعي و لا عقلي بل تكويني، حيث إنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك، فأصالة التخيير في المقام ساقطة.

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ التخيير التكويني راجع إلى التخيير في المسألة الفرعية، فهو مخيّر بين الفعل و الترك تكويناً، و أمّا التخيير في المقام فهو تخيير شرعي ظاهري، غايته، دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الوجهين.

و من ذلك يعلم أنّ ما أفاده من أنّ الغاية من التخيير الشرعي الظاهري هو سوق المكلّف إلى المجعول و هو في المقام حاصل، ليس بتام بل الغاية منه، هو دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الخبرين، كما في باب التعارض، أو أحد الاحتمالين كما في المقام و هو غير التخيير التكويني المجرّد عن الإفتاء بأحد الأمرين.

و بالجملة التخيير التكويني، تخيير في المسألة الفرعية، و التخيير الشرعي

ص:456

الظاهري، تخيير في المسألة الأُصولية.

و ثانياً: أنّ التخيير العقلي، لا يختص بما إذا كان الملاك موجوداً في كلا الطرفين، بل يكفي العلم بوجوده في أحدهما أيضاً كما في الواقف بين الطريقين، و لا يعلم أنّ أيّاً منهما موصل إلى المقصد، فالعقل يحكم بانتخاب واحد منهما، إذ فيه احتمال الوصول بنسبة الخمسين بالمائة بخلاف التوقف فانّه غير موصل.

القول الرابع: التخيير التكويني من دون الالتزام بحكم ظاهري

قد منع المحقّق النائيني من جريان الأُصول لكن لا بملاك واحد، بل بملاكات مختلفة فقد عرفت وجه عدم جريان البراءة العقلية، و الشرعية و أصالة التخيير الشرعية.

لكن بقي الكلام في منعه جريان أصالة الإباحة، و الاستصحاب. أمّا الأُولى فسيوافيك وجه المنع عند بيان القول الخامس، و أمّا الثاني فقد أفاد في وجه منعه انّ الاستصحاب من الأُصول المتكفلة للتنزيل، فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه و العلم الإجمالي، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل، و عدم حرمته واقعاً كما هو مفاد الاستصحابين، لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته سواء لزمت منه المخالفة العملية أو لا.

يلاحظ عليه: بمثل ما ذكرناه في جريان أصالة البراءة و حاصله: أنّ كلّ استصحاب بشخصه، لا يخالف العلم الإجمالي، و كون نتيجة الاستصحابين مخالفة مع العلم الإجمالي لا يكون سبباً لعدم إجراء كلّ واحد في محلّه.

نعم يلزم من جريان الأصلين، المخالفة الالتزامية، و سوف يوافيك الكلام فيه.

ص:457

القول الخامس: التخيير العقلي مع جريان أصالة الإباحة

و المدّعى مركّب من جزءين، و استدل على الجزء الأوّل بقوله:» لعدم الترجيح بين الفعل و الترك فيستقل العقل بينهما «، و على الثاني بقوله: و شمول مثل قوله: كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام، و لا مانع عنه عقلاً و نقلاً.

و أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال، لأنّ مفاد أصالة الإباحة، الرخصة في الفعل و الترك و ذلك يُناقِضُ العلم بالإلزام و هو لا يجتمع مع جعل الإباحة و لو ظاهراً(1).

الحقّ انّ الإشكال وارد و أمّا الفرق بين البراءة العقلية و الشرعية حيث قلنا بجريانهما و أصالة الإباحة حيث منعنا عن جريانها فواضح، ذلك لأنّ كلّ واحد من البراءتين، لا يخالف العلم الإجمالي بالإلزام و إنّما المخالف نتيجتهما و هي ليست من مداليل دليل الأصل، و أمّا أصالة الإباحة فهو بمضمونها المطابقيّة تضاد الإلزام على وجه الإطلاق فالأصل يدعي عدم الخروج عن حدّ الاستواء مع انّا نعلم أنّه خرج عنه و حكم عليه بالإلزام.

و من هنا تبين قوة القول السادس، و هو جريان الأُصول الأربعة: البراءتين و التخيير و الاستصحاب، و عدم جريان أصالة الإباحة.

بقيت هنا أُمور:
1. ما فائدة جريان الأُصول و جعل الحكم الظاهري مع أنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك.

الجواب: انّ الرجوع إلى الأصل لغاية احتمال لزوم التعبد بأحدهما المعيّن أو

ص:458


1- فوائد الأُصول: 3/445.

أحدهما المخيّر فلا رافع لهذا الاحتمال إلاّ الأصل.

2. انّ الرجوع إلى الأصل في كلا الجانبين يخالف وجوب الموافقة الالتزامية.

الجواب: انّ الموافقة الالتزامية ترجع في المقام إلى أحد الأُمور التالية:

أ: الالتزام بما جاء به النبي في مجالي العقيدة و الشريعة، من فرائض و مندوبات و محظورات، و مكروهات و مباحات على ما هو عليه، و هذا أمر لا سترة في وجوبه و يُعدّ من شرائط الإيمان، لقوله سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).(1)

ب: لزوم الالتزام بخصوص أحدهما تعييناً أو تخييراً، و هذا أمر لا دليل عليه بل يستلزم التشريع المحرم و إدخال ما لم يعلم من الدين فيه.

ج: الالتزام بالإلزام الجامع بين الفعل و الترك، فيجب أن يكون مفاد الأصل غير مخالف له. لكن الالتزام أمر محقّق، و لأجل ذلك منعنا عن جريان أصالة الإباحة لكونها بالمفهوم المطابقي تضادّ العلم بالإلزام، و أمّا غيره كأصل البراءة بكلا قسميه أو الاستصحاب، فكلّ أصل في حدّ نفسه لا يخالفه.

و لعلّ نظر القائل بمنع جريان البراءة إلى أنّ كلّ واحد من الأصلين و إن كان مجتمعاً مع الإلزام، لكن نتيجة الأصلين تضاد العلم بالإلزام.

و الجواب: ارتفاع التضاد، باختلاف مرتبة الحكمين، فانّ مفاد الأصلين هو انّه لم يقم دليل على واحد من الوجوب و الحرمة في الظاهر، و هو لا يهدف إلى أنّه ليس هنا إلزام في الواقع، بل يعترف به و يُضيف بأنّه ليس هنا دليل على تحقق الإلزام في ضمن هذا الفرد أو ذاك و لا مانع عن كون الفعل محكوماً بالإلزام واقعاً. و لا يكون محكوماً بأحد الإلزامين ظاهراً.

ص:459


1- النساء: 65.
3. هل التخيير بدئي أو استمراري

قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه إذا دار الأمر بين المحذورين فالإنسان مخيّر بين الفعل و الترك، مع جريان البراءة من الحكمين ظاهراً، فلو كانت الواقعة واحدة فلا موضوع للبحث عن كون التخيير بدئياً أو استمرارياً، إنّما الكلام إذا تعدّدت الواقعة، كما إذا تردد شرب مائع في ليالي الجمعة إلى شهر بين كونه محلوف الفعل أو الترك، فعلى القول بأنّه بدئي، ليس له في الواقعة الثانية اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأُولى، بخلاف ما لو كان استمراريّاً. ذهب المحقّق النائيني إلى الثاني و استدل بما هذا حاصله:

إنّ أمره في كلّ ليلة الجمعة دائر بين المحذورين، فكون الواقعة ممّا يتكرر لا يوجب خروج المورد عن دوران الأمر بين المحذورين، و لا يلاحظ انضمام الليالي بعضاً إلى بعض، لأنّ الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف و التكليف بها، فلا بدّ من ملاحظتها مستقلة، ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين و يلزمه التخيير الاستمراري.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المسألة ليست مبنيّة على ضمّ الليالي بعضها إلى بعض حتى يقال: إنّ كلّ ليلة موضوع بحيالها، و ليس الموضوع المجموع منها، بل مبنيّة على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات مثل الدفعيات، فلو تردد وجوب شيء في وقت و حرمته في وقت آخر، تجب عليه الحركة على وفق العلم الإجمالي، فلو ترك الفعل في الأوّل و أتى به في الثاني فقد ارتكب المبغوض القطعي للمولى، و مثله المقام، فلو اختار في الواقعة الثانية خلاف الأُولى علم انّه ارتكب المبغوض إمّا في الواقعة الأُولى أو الثانية، و العقل كما يستقل بقبح ارتكاب المبغوض دفعة كذلك يحكم بقبحه تدريجاً.

ص:460


1- فوائد الأُصول: 3/463.
4. في تقديم محتمل الأهمية

إذا قلنا بالتخيير فهل يستقل العقل به مطلقاً، سواء كان أحدهما أقوى احتمالاً، كما إذا كان الوجوب أقوى احتمالاً من الحرمة، أو أقوى محتملاً، كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية على فرض كونه مطابقاً للواقع من متعلّق الحرمة كما إذا دار أمر شخص بين كونه محقون الدم أو مهدوره أو لا؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني، و استدل عليه بوجهين:

الأوّل: انّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و الأصل فيه هو التعيين، لأنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين و مع إجماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.

و أورد عليه سيّدنا الأُستاذ) قدس سره (: بأنّه إذا جرت البراءة في أصل التكليف، فخصوصيته أولى بأن يكون مجرىً لها.(1)

يلاحظ عليه: أنّ البحث على أساس أن يكون الحكم الظاهري هو التخيير لا البراءة، وعليه لا يستقل به عند إجمال المزية احتمالاً أو محتملاً.

الثاني: قياس المقام بالمتزاحمين، فكما لا يستقل العقل بالتخيير إذا احتمل في أحد المتزاحمين الأهمية كاحتمال كونه إماماً فهكذا في المقام.

و أورد عليه صاحب المصباح بالفرق بين المقامين، بأنّ الأهمية المحتملة في المقام تقديريّة إذ لم يثبت أحد الحكمين بخصوصه، إنّما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة، غاية الأمر أنّه لو كان الإلزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهميته، و هذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت الحكم في كلا الطرفين، و إنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز و عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما.(2)

ص:461


1- تهذيب الأُصول: 2/246.
2- مصباح الأُصول: 2/334.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره لا يتجاوز عن بيان الفرق بين المسألتين و هو غير منكر، و أمّا انّه يجب مراعاة احتمال المزية في المتزاحمين دون المقام فلم يُبيِّن وجهه، و الحقّ انّ العقل لا يستقل بالتساوي إذا كان أحد الطرفين أقوى احتمالاً أو محتملاً.

و إن شئت قلت: كما لا يحكم العقل بتساوي المرجوح القطعي مع الراجح القطعي كذلك لا يحكم بتساوي المرجوح احتمالاً مع الراجح احتمالاً، من غير فرق بين أن يكون الحكم ثابتاً و الأهمية محتملة، أو يكون كلاهما محتملين، غاية الأمر على فرض ثبوت الحكم فأهميته محتملة.

المقام الثاني: في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات

كان الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المحذورين مع كون الحكمين توصليين، و قد عرفت الأقوال و جريان الأُصول سوى الإباحة، و أمّا إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة، حرمة توصلية و أمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ محل الأقوال السابقة ما لو كان كلّ من الوجوب و الحرمة توصليين بحيث يسقط بمجرّد الموافقة، و أمّا لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف و كان أحدهما المعيّن كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلى الإباحة لأنّه مستلزم للمخالفة القطعية.

توضيح ذلك: كان الكلام فيما سبق منصبّاً فيما لو كانت الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ممتنعة، و أمّا المقام فالموافقة القطعية و إن كانت ممتنعة، لكن المخالفة القطعية ممكنة، فلو صلّت بلا نيّة القربة فقد أتت المبغوض، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة، و لو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة

ص:462

العبادة محرمة عليها أيضاً.

أقول: ما ذكره إنّما يمنع عن جريان الأُصول، و لكن لا يمنع من جريان أصل التخيير فهو كالصورة السابقة مخير بين الأمرين إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً، و الميزان في جريانها هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

المقام الثالث: أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به

إنّ أصالة التخيير لا تختص بصورة الشكّ في التكليف، بل تعمه و الشكّ في المكلّف به، لأنّ الملاك هو دوران الأمر بين المحذورين و عدم إمكان الموافقة القطعية، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما مرّ في المقام الثاني أو لم يمكن، و بذلك تقف على أنّ أصل التخيير كما يجري في الشكّ في التكليف، كما إذا كان نوع التكليف مجهولاً، كذلك يجري في الشكّ في المكلّف به، كما فيما إذا كان نوع التكليف معلوماً لكن كانت الموافقة القطعية غير ممكنة، و إليك بعض الأمثلة:

1. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب و الآخر حرام في زمان معيّن و اشتبه أحدهما بالآخر، فهو مخيّر بين فعل أحدهما و ترك الآخر، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

2. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان، و ترك ذاك في زمان آخر، و اشتبه زمان كلّ منهما، كما إذا حلف بالإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم، و الصيام في يوم آخر، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

3. نعم لا يجري أصل التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحة أو مانعاً كالجهر، و ذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة و إن كانت غير

ص:463

ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين في إحداهما.

و قد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية و هو ليس بموجود في هذا المورد.

تمّ الكلام في أصالة التخيير

ص:464

الأصل الثالث:

اشارة

أصالة الاحتياط

و قبل الدخول في المقصود نذكر أُموراً:
الأمر الأوّل: انّ حصر الأُصول العملية العامّة في الأربعة، استقرائي، و حصر مجاريها في الأربعة عقلي،

لكن اختلفت كلمة الشيخ في بيان المجاري، فقرّره في أوّل رسالة القطع بوجهين مختلفين، كما قرره في أوّل رسالة البراءة بوجه ثالث، فلأجل دراسة الفرق بين الشكّ في التكليف و الشكّ في المكلّف به، نأتي بالبيانين الواردين في أوّل رسالة القطع ثمّ نذكر فيها البيان الثالث قال) قدس سره (:

انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، و على الثاني، إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا، و على الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى الاحتياط.

ففي هذا التعريف عدّ مجرى التخيير قسيماً لمجرى الشكّ في التكليف و الشكّ في المكلّف به، فمورده، دوران الأمر بين المحذورين الذي تمتنع فيه الموافقة القطعية، فهو ليس من قبيل الشكّ في التكليف و لا في الشكّ في المكلّف به.

بخلاف التعريف الثاني، فانّه جعل مجرى الاحتياط من أقسام مجرى الشكّ في المكلّف به، و قسمه إلى ما لا يمكن الاحتياط فيه، و ما يمكن، و الأوّل مجرى

ص:465

التخيير، و الثاني مجرى الاحتياط، قال:

و بعبارة أُخرى: الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو لا، فالأوّل مجرى البراءة، و الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا، و الأوّل مجرى الاحتياط و الثاني التخيير.

الأمر الثاني: المراد من التكليف أحد التكاليف الخمسة

المعروفة من الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة، و الإباحة بالمعنى الأخص، أي ما فيه اقتضاء التساوي.

و على ذلك فكون المورد من قبيل الشكّ في التكليف عبارة عن كون النوع مجهولاً، سواء كان الجنس أيضاً مجهولاً، كشرب التتن حيث إنّ النوع و الجنس) الجواز و المنع (مجهولان، أو كان الجنس معلوماً و النوع مجهولاً كما في دوران الأمر بين المحذورين و العلم إجمالاً بكون الشيء إمّا حراماً أو واجباً.

كما أنّ المراد من الشكّ في المكلّف به هو كون التكليف بنوعه معلوماً، و إنّما الشكّ في المتعلّق، كتردد الواجب بين الطهر و الحرام، و الخمر بين الإناءين.

إذا علمت ذلك فاعلم انّه يرد على البيانين الماضيين إشكالان:

الإشكال الأوّل انّ حصيلة كلا التعريفين: انّ الشكّ في التكليف مجرى للبراءة مع أنّه ربّما يكون المورد من قبيل الشك في التكليف و لكن تكون الوظيفة الاحتياط كما في الموارد الثلاثة التالية:

1. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

2. الشبهة البدوية و لكن كان للمحتمل أهمية بالغة، كما في الدماء و الأعراض و الأموال.

ص:466

3. إذا دار الأمر بين وجوب فعل، و ترك فعل آخر، فانّه من نوع الشكّ في التكليف لعدم العلم بنوع التكليف لكن يجب الاحتياط.

و يمكن الذبُّ عن الأوّل: بأنّ الفحص ليس من شرائط العمل بالأصل، بل من شرائط جريانه، فلا يجري الأصل قبل الفحص.

و عن الثاني: بأنّ مقتضى القاعدة هو البراءة، و لكن دلّ الدليل الثانوي على الاحتياط، من الإجماع، أو ما ذكرناه سابقاً من أنّه إذا كان الحرمة أو الفساد هو مقتضى طبع الموضوع، فلا تجري فيه البراءة و لا أصالة الصحة.

نعم النقض الثالث باق بحاله حيث يجب الاحتياط مع كونه من قبيل الشكّ في التكليف على تفسير الشيخ، و إرجاعه إلى الشكّ في المكلّف به بأنّه عالم إمّا بوجوب فعل هذا أو ترك ذاك، تكلّف واضح.

الإشكال الثاني إذا كان الملاك في الشكّ في التكليف هو عدم العلم بالنوع، و في الشكّ في المكلّف به هو العلم به، يلزم أن يكون مجرى التخيير داخلاً في الشكّ في التكليف، مع أنّه جعله قسيماً لمجرى البراءة في التعريف الأوّل، و قسماً من الشكّ في المكلّف به في التعريف الثاني، و هذا إشكال لا يمكن الذبّ عنه.

البيان الثالث جعل الشيخ ملاك البراءة و الاحتياط كون الشكّ في التكليف، و الشكّ في المكلّف به، و فسر التكليف بالعلم بالنوع توجه إليه هذان الإشكالان، و لكنّه) قدس سره (أتى ببيان آخر في أوّل أصالة البراءة هو أتقن من ذينك البيانين إذ لم يعتمد فيه لا على عنوان الشكّ في التكليف و لا على الشكّ في المكلّف به، بل بقيام الدليل على العقاب و عدمه، و قال: إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو

ص:467

لا سواء لم يكن يقين سابق أو كان و لم يكن ملحوظاً، و الأوّل مورد الاستصحاب، و الثاني إمّا أن يكون الاحتياط ممكناً أو لا، و الثاني مجرى التخيير. و الأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع، و إمّا أن لا يدل، و الأوّل مورد الاحتياط، و الثاني مورد البراءة.

و هذا البيان يشارك البيان الأوّل في بيان مجرى الأصلين: الاستصحاب و التخيير، لكن يفارقه في بيان الأصلين في الأخيرين، البراءة و الاشتغال، فالملاك على هذا البيان هو قيام الدليل على العقاب و عدمه، من غير فرق بين الشكّ في التكليف أو المكلّف به، فإن قام الدليل على العقاب لزم الاحتياط. و إن كان الشكّ في التكليف كما في الموارد الثلاثة التي أوردناها نقضاً على البيانين، و إن لم يدل جرت البراءة و إن كان الشكّ في المكلّف به كما في موارد الشبهة غير المحصورة.

و بذلك ظهر أمران:

1. انّ لأصل التخيير مجرى مستقلاً.

2. انّ الميزان في الاشتغال و البراءة قيام الدليل على العقاب و عدمه.

الأمر الثالث: انّ المطالب المبحوث عنها في الشكّ في المكلّف به، كالشكّ في التكليف ثلاثة،

و الفرق، انّ الاشتباه كان هناك في الحكم و هنا في المكلّف به و هي عبارة:

1. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع.

2. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع.

3. اشتباه الواجب بالحرام بمسائله الأربع.

و أمّا المطلب الثالث فقد عرفت انّه مجرى التخيير، فينحصر البحث في الشبهة التحريمية و الشبهة الوجوبية.

ص:468

الكلام في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به
اشارة

إذا اشتبه الحرام بغير الواجب و مسائلها أربع، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النصّ، أو إجماله، أو تعارضه، أو خلط الأُمور الخارجية، و لما لم يكن للمسائل الثلاث الأُولى، تطبيقات كثيرة في الفقه، انصبّ البحث في هذا المطلب على الشبهة الموضوعية، كما إذا دار أمر المائع النجس بين إناءين مشتبهين، و هو ينقسم إلى محصورة، و غير محصورة، فلنتاول الأُولى بالبحث.

حكم الشبهة التحريمية المحصورة

اختلفت أنظارهم في حكم الشبهة التحريمية المحصورة إلى أقوال:

1. حرمة المخالفة القطعية، و وجوب الموافقة القطعية، و هذا هو المشهور بين الأُصوليين.

2. التفصيل بين المخالفة القطعية و الموافقة القطعية، فتحرم الأُولى دون الثانية، و هو المنسوب إلى المحقّق القمي) قدس سره (.

3. جواز المخالفة القطعية، فضلاً عن الاحتمالية، و هو المنسوب إلى العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه.

و منشأ الأقوال الثلاثة هو اختلاف أنظارهم في مدى تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأمرين.

ص:469

فمن قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية و الاحتمالية، و لذلك اختار القول الأوّل.

إلى آخر قائل بأنّه علّة تامّة بالنسبة إلى المخالفة القطعية فلا تجوز، و مقتض بالنسبة إلى المخالفة الاحتمالية فلا تجوز الأُولى دون الثانية، و للشارع جعل حكم ظاهري مؤد إلى المخالفة الاحتمالية.

إلى ثالث بأنّه مقتض بالنسبة إلى كلتا المخالفتين، فيجوز للشارع جعل حكم ظاهري مؤدّ إلى كلتيهما.

و على هذه المباني تدور الأقوال الثلاثة.

و على كلّ تقدير يقع الكلام في مقامين.

المقام الأوّل: إمكان جعل الترخيص ثبوتاً
اشارة

إنّ المحقّق الخراساني قد قسّم متعلّق العلم إلى قسمين، لا يجوز في أحدهما جعل الترخيص عقلاً بخلاف الآخر، فقال ما هذا حاصله:

إنّ التكليف المعلوم إجمالاً على قسمين:

1. ما كان التكليف فعلياً من جميع الأبواب بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامة للبعث أو الترك الفعليّين مع ما هو من الإجمال و التردّد كقتل المؤمن و إراقة دمه بلا وجه، فلا محيص عن تنجزه و صحّة العقوبة على مخالفته، و حينئذٍ لا تشمل أدلّة الأُصول أطراف مثل هذا العلم، لاستلزامه التناقض بين التشريعين.(1)

2. ما كان فعليّاً من سائر الجهات، و لا يكون فعليّاً مطلقاً إلاّ إذا تعلّقها لعلم التفصيلي، بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله و صحّ العقاب على مخالفته، ففي هذه الصورة لم يكن هناك مانع عقلاً و لا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعية للأطراف، نظير الأموال المخلوطة بالربا، أو إبل

ص:470


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب ما فيه الربا، الحديث 3; و الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5; و الباب 4 من هذه الأبواب، الحديث 21.

الصدقة(1) المخلوطة بالحرام، فلا يحرم شيء من تلك إلاّ إذا علم تفصيلاً انّه ربا أو انّه مال الغير، كما وردت في الروايات.

يلاحظ عليه: أنّ الصورة الأُولى خارجة عن محطّ البحث، بشهادة أنّ الاحتمال فيه أيضاً منجّز فضلاً عن العلمين التفصيلي أو الإجمالي، و ينحصر الكلام في الصورة الثانية.

بيانه انّه إذا دلّ دليل قطعي على أصل الحكم، دون حكم صوره، و إنّما دلّ على حكمها إطلاق الدليل الشامل للمعلوم تفصيلاً و المعلوم إجمالاً و المشكوك وجوداً، مثل قوله:» اجتنب عن الخمر «فانّ أصل الحكم ثابت بالدليل القطعي، لكن حرمته في عامة الصور إنّما يثبت بإطلاق الدليل، فلا شكّ في إمكان تقييد الدليل، بصورة العلم التفصيلي، و إخراج صورة العلم الإجمالي بالموضوع عن تحته، كإخراج صورة الشكّ عنه في وجود الموضوع، فهذا أمر ممكن فيجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم التفصيلي.

و يمكن استظهار كون الأحكام من قبيل القسم الثاني، من كونها محدّدة بعدم طروء عناوين ثانوية، كالضرر، و العسر، و الحرج، و الاضطرار، و الإكراه و التقية، و عدم الابتلاء بالأهم، إلى غير ذلك من العناوين الثانوية، التي تكون مانعة عن تنجز الأحكام الواقعية، فلو كانت الأحكام منجزة على كلّ تقدير فما معنى تحديدها بهذه الحدود.

نعم انّ هنا أُموراً ربّما يتخيل أنّها من جعل الترخيص حتى في القسم الثاني من الأحكام، و قد أشار إليها الشيخ الأنصاري، و نحن نأتي بها على وجه التفصيل حتى يتبين عدم كونها مانعاً عقلياً من إمكان الترخيص.

ص:471


1- كفاية الأُصول: 2/208.
أ. جعل الترخيص، ترخيص في المعصية

إنّ جعل الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها، ترخيص في المعصية الاحتمالية أو القطعية.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر إنّما يجري في الحكم المنجّز على كلّ حال، دون المنجز بشرط تعلّق العلم التفصيلي. و بعبارة أُخرى: إنّما يتوجه إلى الحكم المعلوم بالوجدان، لا المعلوم بالإطلاق، فالترخيص في صورة العلم الإجمالي كالترخيص في صورة الشك، كاشف عن رفع اليد عن الحكم الواقعي على فرض وجوده، نظير ارتفاعه في مورد الحرج و الضرر و سائر العناوين الثانوية.

ب. جعل الترخيص، تصويب

إنّ جعل الترخيص لبعض الأطراف أو كلّها، يرجع إلى تحليل الخمر في حقّ العالم به إجمالاً، و هو يساوي مع نفي وجود حكم مشترك بين المكلّفين.

يلاحظ عليه: بما مرّ في الجمع بين الأحكام الواقعية، و ما قامت عليه الأمارات و الأُصول التي ربما تتخلف عن الواقع، فانّ الأمر بالعمل بها، يلازم رفع اليد عن الواقع فعلاً، مع التحفظ عليه إنشاء.

ج. جعل الترخيص إلقاء في المفسدة

إنّ جعل الترخيص، إلقاء في المفسدة القطعية أو المفسدة الاحتمالية، و كلاهما قبيح.

يلاحظ عليه: بما ذكر من باب الجمع بين الأحكام الواقعية و الظاهرية، و قلنا ربما يكون في الترخيص مصلحة غالبة على مفسدة الواقع.

ص:472

المقام الثاني: في وقوع الترخيص
اشارة

قد عرفت إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي و عدم وجود مانع عقلي، إنّما الكلام في وقوعه. و قبل الخوض في بيان مقدار دلالة الأُصول نبيّن ما هو مقتضى الأدلة الاجتهادية حتى يكون هو المتبع عند عدم الدليل على الخلاف.

لا شكّ انّ مقتضى إطلاق الدليل عدم الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الإجمالي. لأنّ إطلاق قوله:

» اجتنب عن الخمر «يشمل الأفراد الثلاثة: المعلوم تفصيلاً، و إجمالاً، و المصداق الواقعي المشكوك في الظاهر، لكن دلّ الدليل على وجوب الاجتناب في الصورة الثالثة، بقي القسمان تحته، و إلى ذلك يشير شيخنا الأعظم بقوله: بوجود المقتضي للحرمة و عدم المانع عنه، فقال:

أمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه، فانّ قول الشارع:» اجتنب عن الخمر « يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين، و لا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً، و أمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أُمور.

إذا عرفت مقتضى الدليل الاجتهادي فلنبحث في وقوع الترخيص في أحد الطرفين أو كليهما في الشرع.

1. الترخيص بالاستصحاب

ذهب الشيخ الأعظم إلى عدم شمول أدلّة الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي، و إلاّ تلزم مناقضة صدرها مع ذيلها، و قال في توضيحه ما هذا لفظه: إنّ العلم الإجمالي بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجها عن مدلول لا تنقض، لأنّ

ص:473

قوله:» لا تنقض اليقين بالشك، و لكن تنقضه بيقين مثله «، يدل على حرمة النقض بالشك، و وجوب النقض باليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من اليقين في الجملة الثانية هو اليقين التفصيلي دون الأعم منه و من الإجمالي، و ذلك لأنّ المتبادر من حرمة نقض اليقين إلاّ بيقين آخر مثله(2)، هو كون اليقين الثاني ناقضاً للأوّل و رافعاً له من رأس و اليقين الإجمالي بورود النجس في أحد الإناءين ليس كذلك، أي ليس ناقضاً لليقين السابق من رأس، و ذلك لأنّ اليقين السابق عبارة عن اليقين بطهارة كلّ من الإناءين، و لا ينقض إلاّ بيقين مثله، و هو اليقين بنجاسة كلا الطرفين، لا اليقين بنجاسة واحد لا بعينه.

و إن شئت قلت: المراد هو رفع اليقين السابق من أصله، و لا يرفع اليقينُ الإجمالي، اليقينَ السابق، غاية الأمر يحدده بأحد الإناءين و يضيقه. و هو غير مفاد الذيل.

نعم يمكن أن يقال بانصراف أدلّة الاستصحاب عن أطراف العلم الإجمالي، و الترخيص ثبوتاً و إن كان ممكناً، لكن ليس كلّ ممكن واقعاً، و مدلولاً للرواية، بل ترخيص الأطراف بعضاً أو كلاّ يحتاج إلى دليل صريح كما في الحلال المختلط كالربا، و الزكاة المختلطة بالحرام.

و بعبارة أُخرى: أنّ الترخيص في أطرافه يتلقاه العرف، ترخيصاً في المعصية و إن لم يكن في الواقع كذلك و لذلك لا تسكن نفسه إلاّ بدليل صريح كما سيوافيك.

ص:474


1- الفرائد: 429، ط رحمة اللّه، مبحث تعارض الاستصحابين.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1، و في التهذيب: 1/174، لفظة» مثله «.
2. الترخيص بالبراءة العقلية

و هل يجوز التمسّك بالبراءة العقلية و الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي؟ الظاهر لا، لأنّها مركّبة من صغرى و كبرى، فيقال: هذا المورد لم يرد فيه بيان، و كلّ مورد لم يرد فيه بيان فالعقاب قبيح، فينتج هذا المورد العقاب فيه قبيح، و لكن الصغرى منتفية، للعلم الوجداني أو قيام البيّنة على وجود الخمر في البين، و مع عدم الصغرى كيف يستدل بالكبرى المجرّدة عنها؟

3. الترخيص بالبراءة الشرعية

إنّ ما يستدل به على البراءة الشرعية على قسمين، قسم منه ظاهر في الشبهة البدئية و لا يتبادر منه العموم. و قسم منه ربما يستظهر منه العموم و الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

أمّا الأوّل فهي عبارة عن الأحاديث التالية:

1. حديث الرفع:» رفع عن أُمّتي تسعة... و ما لا يعلمون «.

2. حديث الحجب:» ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم «.

3. حديث السعة:» الناس في سعة ما لا يعلمون «.

4. حديث التعريف:» انّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم و عرفهم «.

5. حديث الإطلاق:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «.

أمّا عدم اختصاصها بالعلم التفصيلي، فلأنّ المراد من العلم، و هكذا البيان، و التعريف في الحديث الرابع، هو الحجّة، و هي موجودة بصغراها و كبراها في مورد العلم الإجمالي.

ص:475

و أمّا الرواية الخامسة، فالغاية حصلت حيث علم المكلّف بورود النهي، و إن كان متعلّقه مردّداً بين المصداقين; و لا دليل على تفسيره بالورود على الموضوع المشخص.

ثمّ إنّ هنا نكتة: و هي إنّا و إن أثبتنا إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بتقسيم الأحكام إلى قسمين، لكن العرف يتلقى الترخيص فيه، ترخيصاً في المعصية، و لا يقتنع بتلك الإطلاقات لو ثبت إطلاقها بل يراها منصرفة عن مورده، إلاّ أن يرد نصّ في المورد كما ورد في باب الربا، و غيره.

و أمّا القسم الثاني الذي ربما يستظهر منه العموم و الشمول لأطراف العلم الإجمالي فليس إلاّ حديثان:

1.» كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه «.(1)

وجه الاستدلال: انّ في قوله:» بعينه «احتمالين:

أ. انّه تأكيد للفعل و قوله:» بعينه «بمعنى جزماً لا تخميناً، فيكون معناه» أي حتى تعلم جزماً، لا ظناً انّه حرام «. و الغاية بهذا المعنى حاصلة في مورد العلم الإجماليّ.

ب. انّه تأكيد للضمير المنصوب في» انّه «و قوله:» بعينه «بمعنى» بشخصه «فيكون المعنى» أي حتى تعلم انّه بشخصه، حرام في مقابل المردد «.

و الأوّل خيرة السيد الأُستاذ) قدس سره (. و الظاهر هو الثاني، و يؤيده ما ورد في اشتراء إبل الصدقة المخلوطة مع الحرام، روى أبو عبيدة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال: فقال:

» ما الإبل إلاّ

ص:476


1- الوسائل: 12/60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(1) و مثله غيره.(2)

و على ضوء ما ذكرنا تصلح الرواية في بادئ الأمر للاستدلال في المقام.

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: أنّه ليس حديثاً مستقلاً و إنّما هو جزء من رواية مسعدة بن صدقة و إن كان الظاهر من المحقّق الخراساني) قدس سره (انّه رواية مستقلة، و الأمثلة الواردة فيها كلّها من قبيل الشبهة البدئية، و الإمام) عليه السلام (طبَّقَ الضابطة عليها فقط و هذا دليل على اختصاصها بها.

و ثانياً: أنّ الحلية في الأمثلة الواردة فيها ليست مستندة إلى الضابطة، بل إلى قواعد أُخرى، قال:

» و هذا مثل الثوب يكون عليك و قد اشتريته و هو سرقة. و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِعَ فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك «(3)فالحلية في الثوب و العبد المشترى مستندة إلى قاعدة اليد، و في المعقودة، إلى أصالة الصحّة في العقد، أو استصحاب عدم تحقّق النسب و الرضاع بينهما; و هذا يورث الضعف في الاستدلال بالرواية، إلاّ أن يكون الغرض هو الاستئناس.

ب. روى عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(4)

و قد رواها المشايخ الثلاثة بسندهم إلى عبد اللّه بن سنان و السند صحيح.

ص:477


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 3.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
4- الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

و قد ذكرناها عند البحث عن أدلّة البراءة، و ذكرنا الاحتمالات الموجودة فيها، لكن الذي يمكن أن يقال إنّ إجمال الحديث يرتفع بالرواية الثانية و هي....

ج. ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقال لي:» لقد سألتني عن طعام يعجبني «ثمّ أعطى الغلام درهماً، فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «ثمّ دعا بالغذاء فتغذينا معه فأتى بالجبن فأكل و أكلنا، فلما فرغنا من الغذاء، قلت: ما تقول في الجبن؟ إلى أن قال:

» سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه «.(1)

و الفرق بين الروايتين هو انّ عبد اللّه بن سنان يروي الأُولى عن الإمام الصادق) عليه السلام (بلا واسطة، و لكنّه يروي الثانية بواسطة عبد اللّه بن سليمان، عن الإمام الباقر) عليه السلام (فتعدّان روايتين لتعدد الإمام المروي عنه.

د. نعم ثمة رواية ثالثة رواها معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر) عليه السلام (فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يعجبني، و سأخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(2)

و الرواية الثالثة تتحد مع الرواية الثانية، و الظاهر انّ المراد من قوله فسأله رجل هو عبد اللّه بن سليمان.

ه. و يظهر من رواية رابعة انّ عبد اللّه بن سنان كان في مجلس الإمام الصادق) عليه السلام (و سأله رجل عن الجبن، و هل هو عبد اللّه بن سليمان لروايته عنه أيضاً سواء أ كان المراد هو الصيرفي أو العامري فكأنّه سأل الإمامين عن الجبن، أو غيرهما و هو أقرب إذ لا وجه لسؤال شخص واحد الإمامين عن موضوع واحد.

ص:478


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.
2- المصدر نفسه، الحديث 7.

روى البرقي في المحاسن عن عبد اللّه بن سنان: سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الجبن:

فقال:» إنّ أكله ليعجبني «ثمّ دعا به فأكله.(1)

فالمجموع من حيث المجموع يرفع الإبهام عن الرواية الأُولى، و هي أنّ صناعة الجبن من الميتة أوجد مشكلة في عصر الإمامين الباقر و الصادق) عليهما السلام (، و قد حاولا إزالة الشكوك عن أذهان شيعتهم بجواز الانتفاع ما لم يعرف الحرام بعينه.

و على ضوء ذلك يكون مورد الضابطة، الشبهة المحصورة، و يؤيد ذلك ما رواه أبو الجارود، قال:

سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة، فقال:» أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّه ما أظن كلّهم يُسمُّون هذه البربر و هذه السودان «.(2)

و على ما ذكرنا يكون المراد من» شيء «في قوله:» كل شيء «هو الشيء المنتشر في الخارج، المتكثّر أفراده و مصاديقه، فمثله حلال إلى أن يعرف الحرام منه بشخصه.

و بهذا ثبت انّه لم يثبت أيّ ترخيص في أطراف العلم الإجمالي من الشبهة التحريمية. بقي هنا أمران:

الأوّل: انّ البحث في جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو إذا كان لدليل التحريم إطلاق يعمّ الصورتين التفصيلية و الإجمالية و أمّا إذا لم يك للدليل إطلاق فلا موضوع للبحث، فيجري الأصل بلا معارض، و عندئذ يطرح في مورد البحث السؤال التالي:

ص:479


1- المصدر نفسه، الباب 61 برقم 3.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 5.

إذا ثبت للدليل إطلاق فكيف يمكن تقييد الدليل الاجتهادي بالأصل العملي؟ و هل هذا عمل بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي؟ يلاحظ عليه: أنّ التقييد بدليل الأصل لا بنفسه و ما يدلّ على الأصل دليل اجتهادي مثل ما دلّ على حرمة الخمر في كلتا الصورتين، فقوله:» لا تنقض اليقين بالشك «دليل اجتهادي ثبتت به حجية الأصل، فلو ثبت ترخيص في ناحية المعلوم بالإجمال فإنّما يثبت بدليل اجتهادي لا بالأصل العملي.

الثاني: انّ العلم الإجمالي في التدريجيات كالعلم الإجمالي في الدفعيات، فلا فرق عند العقل بين العلم بربوية أحد البيعين الحاضرين أو بربوية البيع الحاضر أو البيع الآخر في المستقبل. و لا تضرّ استقبالية الفعل مع كون الحكم فعليّاً لا إنشائياً.

هذا كلّه حول الشبهة المحصورة من التحريمية. و أمّا حكم الشبهة التحريمية غير المحصورة فيأتي الكلام عنه في ضمن التنبيهات.

ص:480

تنبيهات
التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى أحد الأطراف

إذا طرأ الاضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف، فهل يجب الاجتناب عن الطرف الآخر أو الأطراف الأُخر، أو لا؟ فيه أقوال: و صور المسألة ست: لأنّ طروء الاضطرار إمّا قبل حدوث العلم الإجمالي، أو معه، أو بعده، و على كلّ تقدير، فالاضطرار إمّا إلى الطرف المعيّن، أو إلى واحد لا بعينه.

أمّا الأقوال فنشير إلى الأقوال المعروفة و هي ثلاثة:

1. إنّ الاضطرار مانع عن فعلية التكليف، سواء طرأ قبل العلم أو معه أو بعده، و كان المضطر إليه واحداً معيناً أو واحداً لا بعينه; و هذه خيرة المحقّق الخراساني في الكفاية.

2. الفرق بين الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و واحد معيّن فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و هو خيرته في هامش الكفاية.

3. القول بالاجتناب إذا اضطر إلى واحد منها لا بعينه مطلقاً، سواء كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو معه أو بعده، و أمّا الاضطرار إلى المعيّن ففيه التفصيل بين طروئه قبل العلم أو معه فلا يجب الاجتناب عن الآخر، و طروئه بعده فيجب الاجتناب، و هو خِيرة الشيخ الأعظم في الفرائد، و إليك توضيح الأقوال و بيان مداركها.

ص:481

أ: عدم وجوب الاجتناب مطلقاً

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف مطلقاً يوجب عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، و ذلك لأنّه كما يكون مانعاً عن العلم بفعليّة التكليف لو كان إلى واحد معيّن، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معيّن، ضرورة أنّه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف لو تركه تعييناً أو تخييراً، و هو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو وجوبه بينها.

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، و حاصله:

انّ ما ذكرت إنّما يصحّ إذا كان الاضطرار سابقاً على حدوث العلم أو مقارناً، فإنّه يمنع عن تعلّق العلم بتكليف فعلي بأحد الطرفين، و أمّا إذا كان لاحقاً للعلم المتقدّم فلا، لأنّ مقتضى وجود العلم الإجمالي السابق المتعلّق بتكليف فعلي، هو الاجتناب عن الباقي، لأنّ المفروض عند تعلّق العلم الإجمالي بتكليف فعلي للامتثال، عدم الاضطرار إلى ارتكاب أحد من الطرفين، و هو كاف في لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه، فالاجتناب من الطرف الآخر من آثار العلم السابق على الاضطرار.

و أجاب عنه: بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، و التكليف من أوّل الأمر محدّد بعدم عروض الحرج و الضرر، فعروضه كاشف عن عدم وجود تكليف فعليّ لازم للامتثال، و انّ ذاك العلم لم ينعقد منجّزاً، و إن زعم صاحبه أنّه منجزٌ لاحتمال أن يكون مورد التكليف هو المضطر إليه، فيما إذا اضطر إلى المعيّن، أو يكون هو المختار إذا اضطر إلى واحد لا بعينه.

ثمّ أورد إشكالاً آخر: بأنّه أيّ فرق بين عروض الاضطرار بعد العلم بالتكليف إلى أحد الأطراف معيّناً أو غير معين، و بين إراقة أحد الأطراف بعد تعلّق العلم الإجمالي؟ إذ يجب الاجتناب عن الطرف الباقي، و ما هذا إلاّ

ص:482

لأنّ الاجتناب عنه من آثار العلم الإجمالي السابق، و إن لم يكن موجوداً بالفعل.

ثمّ إنّه أجاب عنه: بوجود الفرق بين الاضطرار و فقدان الموضوع، بأنّ الاضطرار من حدود التكليف، فالتكاليف محدّدة إلى حدّ الاضطرار، فإذا طرأ الاضطرار ارتفع التكليف، و هذا بخلاف وجود الموضوع، فليس التكليف محدّداً و مقيّداً به.

هذا توضيح ما ذكره في الكفاية.

يلاحظ عليه:

بأنّ الاضطرار يُطلق و يراد منه: تارة الاضطرار العقلي الملازم لعجز المكلّف عن القيام بتكليفه، فهذا ليس من حدود التكليف، بل هو من مسوغات التكليف، إذ لا يصحّ التكليف إلاّ بعد وجود الأُمور العامة التي منها القدرة العقلية.

و أُخرى الاضطرار العرفي الملازم للحرج و التعب، فهو من حدود التكليف جمعاً بين إطلاق قوله:

» اجتنب عن النجس «و قوله:» رُفع عن أُمّتي ما اضطرّوا إليه «، لكن التفريقَ بينه و بين فقد المكلّف به، بلا وجه، لأنّه كالاضطرار من حدود التكليف إذ لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى من دون ضمِّ الصغرى، و لذلك، لو فقد بعض الأطراف قبل حدوث العلم الإجمالي ثمّ علم إجمالاً بأنّ النجس إمّا الإناء المفقود، أو الإناء الموجود، لا يؤثر العلم الإجمالي أبداً.

ب: التفصيل بين الاضطرار إلى المعيّن و الاضطرار إلى واحد لا بعينه.

و قد عدل المحقّق الخراساني في هامش الكفاية عمّا ذكره فيها، إلى التفصيل بين الاضطرار إلى إناء معيّن من الإناءين، و الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، ففي الأوّل يكون العلم الإجمالي منجزاً بالنسبة إلى الطرف الآخر دون الثاني فلا يكون منجزاً، و قد أفاد في وجه التفصيل ما هذا توضيحه:

ص:483

لو اضطر إلى أحدهما المعيّن يجب الاجتناب عن الطرف الآخر، و ذلك لأنّ التكليف فيه محدود بحدّ الاضطرار، فلو كان هو المحرّم يكون التكليف فيه محدوداً بحدّ الاضطرار، لافتراض حصول الاضطرار بالنسبة إليه، بخلاف ما إذا كان المحرّم هو الطرف الآخر، فالتكليف لا يكون فيه محدوداً بحدّ الاضطرار، بل يبقى التكليف فيه على إطلاقه، لافتراض عدم الاضطرار إليه، و العلم الإجمالي المردّد بين التكليف المحدود الساقط، و المطلق غير المحدود الباقي، يكون منجّزاً، و يكون أشبه بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير و الطويل، فلو علم بوجوب قراءة آية مردّدة بين القصير كقوله سبحانه: (مُدْهامَّتانِ ) أو الطويلة كآية الدين، يكون العلم الإجمالي فيه منجزاً.

و أمّا إذا كان الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فلا يلزم الاجتناب عن غير المختار أيضاً، لأنّ الاضطرار يمنع عن فعلية التكليف في البين، لما مرّ من أنّ الاضطرار حدّ التكليف، من غير فرق بين كونه مضطراً إلى واحد بعينه، أو إلى أحدهما، و المفروض صلاحية كلّ إناء، لرفع الاضطرار.

يلاحظ عليه: أنّ الضابطة في تنجّز العلم الإجمالي هو أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، حتى يحصل العلم بالتكليف القطعي، و إلاّ فلو كان موجباً له على فرض دون فرض، فلا يكون هناك علم به، مثلاً إذا دار سقوط قطرة من الدم بين الماء الكر و القليل، فلا يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بإحداث التكليف، و على ضوء ذلك، يجب عليه القول بعدم وجوب الاجتناب إذا اضطر إلى ارتكاب المعيّن من الإناءين، و الاجتناب إذا اضطر إلى الواحد غير المعيّن، على خلاف ما اختاره، و ذلك لأنّه لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن من الإناءين فالعلم الاجمالي يحدث التكليف على وجه) إذا كان الحرام في غير الإناء المضطر إليه (و لا يحدث على وجه) إذا كان الحرام في الإناء المعيّن (بخلاف ما

ص:484

إذا كان الاضطرار إلى واحد منهما، فيحدث على كلّ تقدير ثبوتاً، لإمكان معالجة الاضطرار بغير الحرام.

و بعبارة أُخرى: إنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي أن يتعلّق العلم الإجمالي بشيء لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز عليه التكليف الموجود في البين على كلّ تقدير، و هذا غير صادق عند الاضطرار إلى واحد معيّن، فإنّه لا ينجز إذا كان الحرام في الإناء المعين، و ينجز إذا كان في غيره، و هذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار إلى واحد لا بعينه، فالتكليف الموجود في البين منجزاً و لا يجوز له شرب النجس بحجّة الاضطرار على كلّ تقدير، إذ في سعة المكلّف معالجة الاضطرار، بغير الحرام.

ج: وجوب الاجتناب عند الاضطرار إلى غير المعيّن، و التفصيل في المعيّن

ذهب الشيخ الأعظم في الفرائد إلى التفصيل بين الاضطرار إلى واحد منهما لا بعينه فيجب الاجتناب عن الآخر سواء كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف، أو معه، أو بعده، و الاضطرار إلى واحد معيّن، ففيه التفصيل بين طروء الاضطرار قبل العلم، أو معه، فلا يجب الاجتناب عن الآخر، و طروئه بعد العلم فيجب الاجتناب عن الآخر.

فهنا دعويان:

الأُولى: لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً عند الاضطرار إلى واحد لا بعينه.

الثانية: التفصيل عند الاضطرار إلى واحد بعينه، بين عروض الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو معه، و بين عروضه بعده، فلا يجب في الأوّلين دون الثالث.

أمّا الدعوى الأُولى فقال في توضيحها: إذا كان الاضطرار إلى فرد غير معيّن،

ص:485

وجب الاجتناب عن الباقي، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه أو بعده، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من الأُمور، لو علم حرمته تفصيلاً، وجب الاجتناب عنه، و ترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي.

حاصله: أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي، هو أن يتعلّق بشيء لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز عليه التكليف، و لا يكون الاضطرار مانعاً عن تنجّزه، و هذا متحقّق في الاضطرار إلى الواحد لا بعينه، فهو لا يزاحم تنجّز العلم التفصيلي، إذ في وسعه رفع الاضطرار بغيره، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد كاف في منع الاضطرار. هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.

و أمّا الدعوى الثانية فقال في توضيحها:

و أمّا الدعوى الثانية: و هي انّه إذا اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات معيّناً، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إذا كان الاضطرار قبل العلم أو معه، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي لاحتمال كون المحرّم هو المضطر إليه.

نعم لو كان الاضطرار بعد العلم فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر لأنّ الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض الشبهات.

هذه عبارات الشيخ و توضيحها، و نزيد توضيحاً بطرح القواعد الثلاث التي يتميّز بها العلم الإجمالي المنجّز عن غيره، و هي قواعد ثلاث، روحها واحدة و صورها متعدّدة.

الأُولى: يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدثاً للتكليف على كلّ

ص:486

تقدير، و إلاّ فلو أحدث على تقدير دون تقدير لا يكون منجزاً، إذ لا يتولد منه علم بالتكليف و إن كان هناك علم بالموضوع، فلو دار أمر وقوع الدم بين ماء الكر و الماء القليل، لا يكون هناك علم بالتكليف و إن كان هناك علم بوجود الموضوع، و لذلك نقول يجب أن يكون محدثاً على كلّ تقدير ليتولّد منه العلم التفصيلي بأصل التكليف، و إن كان المتعلّق مجملاً.

الثانية: انّ المنجز من العلم الإجمالي هو الذي لو انقلب إلى العلم التفصيلي لكان منجّزاً، و أمّا إذا كان التفصيلي منه غير منجّز و محدث للتكليف فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً.

الثالثة: العلم الإجمالي إنما ينجز إذا أحرز عدم التنافي ثبوتاً بين الحكم الواقعي للنجس و حكم الاضطرار المسوّغ للارتكاب، فعند ذلك يكون العلم الإجمالي منجزاً لإحراز عدم التنافي.

و أمّا إذا لم يحرز عدم التنافي فلا يتولّد من ذلك العلم الإجمالي خطاب صالح للاحتجاج و عندئذ لا يكون منجزاً.

إذا وقفت على تلك القواعد فهلم معي نطبقه على الصورتين:

الصورة الأُولى: إذا كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن، فالقواعد الثلاث منطبقة عليه، لأنّه يحدث التكليف على كلّ تقدير ثبوتاً، إذ لو كان النجس في أيّ طرف يجب عليه الاجتناب عنه ثبوتاً، و لا يزاحمه الاضطرار لإمكان رفعه بالماء الآخر.

و لأنّه لو تبدّل العلم الإجمالي إلى التفصيلي و وقف بأنّ الإناء الواقعي في جانب يمينه هو النجس لكان منجزاً و لا يزاحمه الاضطرار إذ في وسعه رفعه بالإناء الآخر.

ص:487

كما لا مزاحمة بين الخطاب ب» اجتنب عن النجس «و رفع الاضطرار ثبوتاً، فالقواعد الثلاث. متفقة على لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه.

ربّما يقال: إنّ رفع الاضطرار بالإناء الطاهر واقعاً يتوقف على العلم بالنجس الواقعي بعينه، و أمّا إذا كان مجهولاً فلا يمكن الجمع بين قوله:» اجتنب عن النجس «و قوله:» رفع ما اضطروا إليه «لاحتمال انطباق ما يختاره على النجس الواقعي، و حينئذٍ لا يكون لنا علم بالتكليف على كلّ تقدير إذا كان الاضطرار متقدّماً على العلم.

يلاحظ عليه: بأنّ مجرّد الاضطرار إلى الارتكاب، ليس سبباً لرفع التكليف ما لم ينته إلى العمل، و لذلك لو ارتفع الاضطرار صدفة بعامل آخر، لأثر العلم الإجمالي الحادث بعد الاضطرار.

و عندئذ يكون لنا حكمان فعليّان، يحكم العقل بامتثالهما، و حيث إنّ الامتثال القطعي غير ممكن يحكم بالامتثال الظني، و الاقتضاء بأحد الإناءين و ترك الإناء الآخر.

و أمّا الصورة الثانية ففيما إذا كان الاضطرار مقدّماً على العلم أو مقارناً معه، ففيه لا يجب الاجتناب عن الآخر، لعدم دخول المورد تحت القواعد الثلاث، و ذلك لأنّه لا يحدث مثل هذا العلم التكليف على كلّ تقدير، إذ لو كان النجس في الجانب المعيّن لما وجب عليه الاجتناب، و معه لا يحصل هناك علم بالتكليف مائة بالمائة.

كما أنّه لو انقلب العلم الإجمالي إلى التفصيلي لا يكون منجزاً مطلقاً، إذ لو كان النجس في الإناء غير المعيّن يكون منجزاً، و أمّا إذا كان في الإناء المعيّن فمع العلم التفصيلي بأنّه نجس يجوز ارتكابه للاضطرار.

كما أنّ عدم التنافي غير محرز بين الحكمين، إذ لو كان النجس في جانب

ص:488

الخل فعدم التنافي محرز، و أمّا إذا كان في جانب الماء فالتنافي محقق، و مع الاحتمال لا يكون عدم التنافي محرزاً.

نعم يستثنى من هذه الصورة ما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الاضطرار و كان الاضطرار طارئاً و حادثاً فلو عالج الاضطرار بارتكاب الإناء المعيّن يجب عليه الاجتناب عن الإناء الآخر، و ذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن النجس بعد طروء الاضطرار و إن كان مشكوكاً لكن العلم الإجمالي لما انعقد مؤثراً، و حكم العقل قبل الاضطرار بوجوب الاجتناب عن الطرفين تحصيلاً لليقين، فإذا طرأ الاضطرار لا ترفع اليد عن التنجيز السابق إلاّ بقدر الضرورة، فوجوب الاجتناب ليس من آثار وجود العلم الإجمالي الفعلي بالتكليف بعد الاضطرار، بل من آثار وجود العلم الإجمالي السابق للتكليف، و لذلك لو أهرق أحد الإناءين وجب الاجتناب عن الإناء الآخر.

التنبيه الثاني: في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء

يشترط في صحّة الأمر و النهي كون المتعلّق أمراً مقدوراً عقلاً، و يشترط في صحّة النهي كون المنهي عنه مورداً للابتلاء و واقعاً في متناول المكلّف، و الشرط الأوّل اعتبره الجميع، و أمّا الشرط الثاني فقد اشترطه الشيخ الأنصاري و تبعه المحقّقون.

فقالوا: بعدم صحّة النهي التفصيلي فيما إذا كان المنهي عنه خارجاً عن الابتلاء عادة، فالإناء النجس إذا كان في البلاد النائية و كانت الدواعي مصروفة عنه يقبح النهي عن ارتكابه.

فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الإجمالي مثله بطريق أولى، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين، و كان أحدهما خارجاً عن محلّ ابتلائه يكون الخطاب

ص:489

بالاجتناب عمّا هو خارج عن محلّ الابتلاء إذا كان نجساً واقعاً قبيحاً، و يعود الإناء الآخر مشكوك الحكم من حيث الحرمة فيرجع إلى أصل البراءة.

هذا ما اختاره شيخنا الأنصاري في بداية البحث.

و أشكل عليه بعض العلماء.

منهم: المحقّق الاصفهاني، فقال في تعليقته: إنّ حقيقة التكليف الصادر من المولى المتعلّق بالفعل الاختياري لا يعقل أن يكون إلاّ جعل الداعي بالإمكان فيجتمع مع الامتناع بالغير بسبب حصول العلّة فعلاً أو تركاً من قبل نفس المكلّف.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الإمكان العقلي لا يدفع الاستهجان العرفي فلو افترضنا صحّة صدور المعصية من العبد، و لكن دلّت القرائن على أنّه لا يقع في متناول يده، فالخطاب بالاجتناب و إن لم يكن قبيحاً عقلاً لكنّه مستهجن عرفاً.

و منهم المحقّق الخوئي على ما في مصباح الأُصول و حاصله: انّ الغرض من الأوامر و النواهي ليس مجرّد تحقّق الفعل و الترك خارجاً، بل الغرض صدور الفعل استناداً إلى أمر المولى، و كون الترك مستنداً إلى نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفساني كما أُشير إليه بقوله تعالى: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) و لا فرق في هذه الجهة بين التعبّدي و التوصلي، لأنّ الغرض منها هو الاستناد في الأفعال و التروك إلى أمر المولى و نهيه، بحيث يكون العبد متحركاً تكويناً بتحريكه التشريعي و ساكناً كذلك بتوقيفه التشريعي.

و بعبارة أُخرى: الغرض هو الفعل المستند إلى أمر المولى، و الترك المستند إلى نهيه لا مجرّد الفعل و الترك فلا قبح في الأمر بشيء حاصل عادة، و لا في النهي عن

ص:490


1- نهاية الدراية: 2/253.

شيء متروك بنفسه، و ليس الغرض مجرّد الفعل و الترك حتى يكون الأمر و النهي لغواً و طلباً للحاصل.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الغرض المفروض إنّما يحصل إذا لم يكن هناك عامل طبيعي يصدُّ الإنسان عن الفعل أو يدفعه إليه، فعند ذلك يكون الفعل و الترك مستندين إلى العامل الداخلي لا إلى العامل التشريعي، و الإنسان مهما حرص لا يصحّ أن ينسب ترك الخبائث و الإنفاق على ولده، و فلذة كبده إلى نهيه و أمره سبحانه، بل هو بطبيعة ذاته يترك الأوّل و يندفع نحو الثاني، فلا يحصل الغرض المطلوب في هذين الموردين.

و ثانياً: أنّ هذا الغرض إمّا أن يكون لازم الرعاية في حصول الطاعة و تحقّق الامتثال أو لا، فعلى الأوّل تكون الأوامر و النواهي كلّها تعبدية، و يختل التقسيم إلى توصلي و تعبدي.

أو لا يكون لازم الرعاية، و عند ذلك لا يصحّ أن تقع غرضاً و علّة غائية لجميع الأوامر و النواهي، لعدم تحقّقه إلاّ في قسم خاص.

و ثالثاً: أنّه لا صلة لقوله تعالى: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ ) بما ذكره من أنّ الغاية من جميع الأوامر هي العبادة، و رتّب على ذلك أنّه يجب أن تكون جميع حركات الإنسان و سكناته تابعة لأمر المولى و نهيه، مع أنّ الآية المباركة مع اختلاف صغير تهدف إلى أمر آخر، و ذلك لأنّه ورد في آيتين لكلّ هدف خاص يغاير ما جعله تفسيراً للآية.

أمّا قوله: (اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2)فهو

ص:491


1- مصباح الأُصول: 2/395.
2- التوبة: 31.

ناظر إلى ردّ شرك اليهود و النصارى و انّهم أمروا بعبادة اللّه سبحانه و لم يؤمروا بعبادة الأحبار و الرهبان و المسيح.

و أين هذا المعنى ممّا ذكره من أنّ الغرض من الأوامر و النواهي هو الاستناد في الأفعال و التروك إلى أمر المولى و نهيه؟! و أمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه: (وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1)فهي ناظرة إلى المشركين حيث عبدوا مكان عبادة اللّه الأوثان و الأصنام و أطاعوا مكان طاعة اللّه، الطاغوت و لم يُخلِصُوا له الدِّينَ أي الطاعة بل نحتوا له شريكاً في الطاعة، فأين مفاد الآيتين ممّا يرومه المحقّق الخوئي) قدس سره (؟!

الخطابات القانونية و الخطابات الشخصية

و منهم الإمام السيد الخميني) قدس سره (حيث نقد مقالة الشيخ و من تبعه و قال: بأنّ شرطية الابتلاء مبنيّ على كون خطابات الشرع، خطابات شخصية فيأتي حديث الاستهجان، و أمّا على القول بأنّها خطابات قانونية فلا يشترط الابتلاء إلاّ لجمع من الناس، و عندئذ يصحّ خطاب الكلّ بالاجتناب بملاك ابتلاء نوعهم، و إليك التوضيح.

يشترط في الخطاب الشخصي، أمور ثلاثة، القدرة على الامتثال، و كون مورد التكليف مورد الابتلاء للشخص و أن تكون مورداً للرغبة و لا تكون الدواعي عنه مصروفة كالنهي عن عضِّ رأس الشجرة أو المنارة، و ذلك لأنّ المقصود من التكليف كالنهي في المقام هو إيجاد الداعي في ذهن المكلّف للاجتناب عنه، فإذا لم يكن المكلّف قادراً عقلاً على الفعل، أو كان قادراً و لكن كان غير متمكن

ص:492


1- البيّنة: 5.

عادة، أو كان الداعي مصروفاً عن الارتكاب، كان التكليف عبثاً، هذا كلّه في الخطابات الشخصية التي يتلقى المكلّف من المكلّف خطاباً مختصّاً به.

و أمّا الخطابات القانونية من غير فرق بين الوضعية) العرفية (أو الشرعية فهناك خطاب واحد، متعلّق بعنوان عام، و هو حجّة على جميع المكلّفين، و يشترط فيها وجود هذه الأُمور في أغلب الأفراد، لا في كلّ واحد منهم، فلو كان عدّة لا يستهان بهم قادرين على شرب الخمر، و متمكنين منه، و كانت فيهم رغبة طبيعية إلى شربه، كفى في توجيه الخطاب إلى عامّة الناس أو المؤمنين و إن كان فقد بعضهم بعض تلك الشرائط.

و ذلك لأنّ الخطابات التشريعيّة، ليست خطابات كثيرة، بحيث يستقلّ كلّ بخطاب خاص، بل هناك إرادة واحدة متعلّقة بإنشاء واحد، و خطاب فارد، متعلّق بعنوان عام، حجّة على الجميع بحجّة أنّ عنوان الناس و المؤمن منطبق عليه، و هذا معنى الحكم المشترك بين الناس ففي المقام خطاب واحد متعلّق بعنوان عام و هو في وحدته حجّة على الجميع ففي مثل قوله سبحانه: (لا تَقْرَبُوا الزِّنى ) الخطاب واحد، و الزنا، هو المتعلّق التام، و الناس تمام الموضوع للخطاب، و هذا الخطاب الواحد حجّة على عامّة المكلّفين من غير حاجة إلى إنشاء تكاليف أو توجيه خطابات.

فإن قلت: إنّ الخطاب الواحد، المتعلّق بالزنا، المتوجه إلى عنوان الناس، ينحلّ إلى أحكام و خطابات حسب تعدد أفراد المكلّفين، فيكون حكم الخطابات القانونية حكمَ الخطابات الشخصية.

قلت: إن أُريد من الانحلال، قيام الحجّة على كلّ واحد من أفراد المكلّفين، فهو صحيح، لكن لا يستلزم تعدد الخطاب، و إن أُريد وجود إرادات كثيرة، و خطابات متوفرة، حسب عدد الأفراد، فهو ممنوع، بداهة أنّه ليس في ذهن المولى

ص:493

إلاّ إرادة واحدة تشريعية متعلقة بالخطاب الواحد، المتعلق بعامة المكلّفين، و على ذلك يختلف ملاك الاستهجان فيها مع الخطابات الشخصية فلو كانت الأغلبية الساحقة واجدة للشرائط العامة يكفي في توجيهه إلى عامّة المكلّفين، و إن كان بعضهم عاجزاً، أو جاهلاً، أو فاقداً الداعي إلى الفعل، أو لم يكن في متناوله فالخطاب العام شامل له، لأنّه غير مقيّد بقيد، و المصحِّح هو وجودها في غالب الأفراد، غير أنّ الفاقدين للشرائط معذورون عند اللّه سبحانه، لا أنّهم غير مكلّفين.

ثمّ إنّه) قدس سره (استدل على وحدة الخطاب العام، بوجوه سيأتي التعرض إليها، و هذا كلامه و هو من المتانة بمكان و من له أدنى إلمام بالقوانين الوضعية) العرفية (يقف على أنّ ما ذكره) قدس سره (هو الحقّ القراح، مثلاً انّ وكلاء الشعب و نوّابهم، إذا صوّبوا قانوناً، فليس فيما صوبوا إلاّ إنشاء واحد و خطاب واحد، حجّة على الكلّ لا أنّ فيها خطابات انحلالية حسب تعدد الأفراد.

ثمّ إنّه أورد عليه بما يلي:

ما ذا يراد من توجيه الخطاب إلى العنوان؟ فهل أُريد منه العنوان الذهني بما هو هو فهو واضح البطلان، و إن أُريد العنوان الذهني بما هو مرآة إلى الأفراد الخارجية، فعندئذ يكون المخاطب هو المصاديق لا العنوان، و هذا عين القول بالانحلال، و عندئذ يتعدد التكليف بتعدد المكلّفين و إن كان إنشاءً واحداً.

يلاحظ عليه: أنّ العناوين المأخوذة موضوعاً للحكم على قسمين، تارة يكون عنواناً مشيراً، مثل قوله:

يجب على هؤلاء الأمر بالمعروف، فعندئذ يكون العنوان مغفولاً عنه، و الأفراد مورداً للالتفات، و يكون الحكم موضوعاً على الأفراد جداً، لا على العنوان، و يصحّ ادعاء انحلال الخطاب، و أُخرى يكون عنواناً انتزاعياً صادقاً على الكثير، منطبقاً عليه، ففي مثله يكون الحكم مجعولاً على

ص:494

العنوان باقياً عليه، غير منحدر عنه إلى الأفراد الخارجية، لكنّه على وجه كلّ من وقف عليه يتخذه حجّة على نفسه، و في مثله لا يصحّ الانحلال، لعدم كون العنوان، مشيراً مغفولاً عنه.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ كان في درسه الشريف يدعم ما اختاره، بالوجدان حيث إنّه لا يجد المقنن في نفسه إرادات كثيرة حسب تعدد المكلّفين، و لا خطابات كثيرة بل يجد في نفسه إرادة متعلقة بعنوان، و خطاباً متوجّهاً إليه، قابلاً لأن يكون حجّة على الجميع. هذا تقرير كلامه مع ذب ما أورد عليه.

ثمّ إنّه) قدس سره (ذكر أنّ للقول بالانحلال، مضاعفات سلبية لا يلتزم الفقيه بها لكنّها بين واضح و غير واضح.

أمّا الأوّل: فأمران:

1. يلزم على القول بالانحلال عدم صحّة خطاب العصاة و الكفار، فإنّ خطاب من لا ينبعث قبيح، أو غير ممكن، لأنّ الإرادة الجزئية لا تنقدح في لوح النفس إلاّ بعد حصول مبادئ، و منها احتمال الانبعاث، و المفروض عدمه.

قد أورد عليه: بأنّ الغاية من التكليف أحد الأمرين إمّا الانبعاث أو إتمام الحجّة، و خطاب الطائفتين من قبيل الأخير.

يلاحظ عليه: إذا كانت الغاية من التكليف هي إتمام الحجّة مع القطع بعدم انبعاثه من بعثه يكون التكليف عندئذ صوريّاً فاقداً للإرادة الجدّية، و الطاعة من لوازم الإرادة الجدية، كما أنّ العقاب أيضاً من آثارها.

2. يلزم اختصاص الأحكام الوضعية بمحل الابتلاء، فالخمر نجس لمن يبتلي به دون غيره، و هو على خلاف ضرورة الفقه من غير فرق بين القول بكونها تابعة للأحكام التكليفية و منتزعة عنها، كما هو واضح لأنّ المتبوع إذا كان مختصّاً بالمبتلي فالتابع مثله أو كونها مستقلة بالجعل فانّه إنّما هو بلحاظ الآثار، و مع

ص:495

الخروج عن محل الابتلاء لا يترتب عليها آثار، فلا بدّ من الالتزام بأنّ النجاسة و الحلّية و الأُمور النسبية بلحاظ المكلّفين.

و ربّما يقال بأنّ الإشكال يرد على القول بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية.

و أمّا على القول بأنّها مستقلة بالجعل فهي تنحلّ حسب عدد موضوعاتها لا حسب عدد المكلّفين، فإذا قال: الخمر نجس فهو حكم على نجاسة كلّ خمر في سطح الأرض، و يكفي في عدم لزوم اللغوية ابتلاء بعض المكلّفين بكلّ واحد منها.

أقول: إنّ الحكم الوضعي مثل التكليف أمر إضافي له إضافة بالنسبة إلى الجاعل و هو الحقّ سبحانه، و إلى متعلّقه و هو الخمر، و إلى من جُعل له الحكم، أعني: المكلّف، فالقول بالانحلال في الثاني دون الأوّل تفكيك بلا جهة.

و أمّا القسم الثاني فوجهان:

1. لو قلنا بالانحلال في القضايا لزم أن يحكم على القائل بأنّ النار باردة، بأنّه كذب حسب أفراد النار.

يلاحظ عليه: أنّ الصدق و الكذب من آثار القضايا الملفوظة أو المكتوبة، و المفروض أنّها واحدة لا كثيرة.

2. لو قلنا بتخصص كلّ واحد بالخطاب، لزم عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة الفعلية، لأنّ الشكّ في القدرة شكّ في وجوب الخطاب، و مورده البراءة.

يلاحظ عليه: بما نبّه هو) قدس سره (عليه غير مرّة بعدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التي يسهل للمكلف الاطلاع على واقعها. و لذلك يجب الفحص عن الاستطاعة العقلية و الشرعية و بلوغ الغلة حد النصاب، و مقدار

ص:496

الدين المكتوب في المذكرات، و ذلك لانصراف أدلة البراءة عن مثل هذا الجاهل الذي يسهل رفع الجهل عن وجه الحقيقة.

ثمّ إنّ الشيخ استدلّ على اعتبار الابتلاء بصحيح(1) علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر ) عليه السلام (قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قِطَعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصحّ له الوضوء منه؟ قال:» إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضأ منه «.(2)

ظاهر الرواية أنّ الدم أصاب الماء الموجود في الإناء، و الإمام فصّل بين المستبان و غيره فأمر بعدم التوضؤ في الأوّل دون الثاني، و عندئذ تكون الرواية دليلاً على عدم انفعال الماء القليل بالدم الذي لا يُدرك بطرف العين، و تكون عندئذ مُعرضاً عنها، لكن عمل بها الشيخ فأفتى بالعفو عمّا لا يدركه الطرف من الدم.

و لما كان مضمون الرواية مخالفاً لما ذهب إليه المشهور من انفعال الماء القليل مطلقاً بإصابة الدم مُدرَكاً كان أو لا، حملها الشيخ الأنصاري على أنّ إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء، فهو عالم بإصابة الدم على الإناء إمّا نفسه أو باطنه الحاوي للماء، ثمّ جعله دليلاً على مدّعاه في المقام حيث إنّ عدم تنجيز العلم الإجمالي في المقام لأجل خروج بعض الأطراف أعني: الإناء عن محلّ الابتلاء، و إن كان الطرف الآخر محلاً له.

يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير مخالف لظاهر الرواية، فإنّ إصابة الإناء كناية عن إصابة الماء الموجود فيه، و عندئذ ينطبق على مختار الشيخ الطوسي.

ص:497


1- رواه الكليني عن شيخه الثقة محمد بن يحيى، عن العمركي; و هو العمركي بن علي البوفكي، شيخ من أصحابنا ثقة كما قال النجاشي، عن علي بن جعفر الثقة عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، و ما ربّما يقال إنّه ضعيف، لا وجه له.
2- الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

أضف إلى ذلك كيف يكون الماء مورداً للابتلاء دون الإناء؟ و لم يكن الإناء يومذاك يستخدم مرّة واحدة بل مرّات عديدة، و أغلب الأواني التي كانت تستخدم في حيازة الماء كانت من قبيل الخابية أو الكوز و الإبريق المصنوع من الخزف و لم تكن خارجة عن محلّ الابتلاء.

مسائل ثلاث

إنّ هنا مسائل ثلاث أشار إليها الشيخ الأعظم بعبارة وجيزة و قال:

1. نعم يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجزي عرفاً بالاجتناب، و عدم حسنه إلاّ معلّقاً، الأصل البراءة من التكليف المنجّز، كما هو المقرر في كلّ ما شكّ فيه، في كون التكليف منجَّزاً أو معلقاً على أمر محقق العدم.(1)

2. أو علم التعليق على أمر لكن شكّ في تحقّقه.(2)

3. أو كون المتحقّق من أفراده.(3)

و إليك الكلام في الجميع:

الأُولى: إذا شكّ في شرطية الابتلاء و عدمها

إذا شكّ في اعتبار الابتلاء في صحة الخطاب و عدمه، فهل المرجع الاشتغال و لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر، أو البراءة و عدم لزومه؟ ذهب الشيخ و المحقّق النائيني و تلميذه الجليل إلى الأوّل، و المحقّق الخراساني إلى الثاني.

ص:498


1- إلى هنا تمّ بيان المسألة الأُولى.
2- إشارة إلى المسألة الثانية، أعني: الشكّ في وجود الابتلاء مصداقاً بعد معلومية مفهومه.
3- إشارة إلى المسألة الثالثة، أعني: الشكّ في الابتلاء لأجل احتمال مفهوم الابتلاء.

و ليس للشيخ دليل صالح سوى التمسّك بالإطلاق الشامل لمورد الابتلاء و عدمه.

و أجاب عنه المحقّق الخراساني: بعدم صحّة التمسّك به، إذ هو فيما إذا تحقّق الخطاب، و شكّ في التقييد بشيء، لا في ما إذا شكّ في تحقّق ما يُعتبر في صحّة الخطاب.

و أورد عليه المحقّق الخوئي: بأنّ بناء العقلاء على حجّية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية على إرادة خلافها، و مجرّد احتمال الاستحالة لا يعدُّ قرينة على ذلك فانّه من ترك العمل بظاهر خطاب المولى لاحتمال استحالة التكليف، و مثله لا يعدّ معذوراً عند العقلاء.

ثمّ مثل مثالاً: إذا أمر المولى بالعمل بخبر العادل و احتملنا استحالة العمل به لاستلزامه تحليل الحرام و تحريم الحلال، لا يكون مثل ذلك عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى، و المقام من هذا القبيل، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة التكليف.(1)

يلاحظ عليه، بوجود الفرق بين المثال و الممثَّل، فانّ كلامه في المثال وارد في خصوص مورد الشكّ، فهو نص في بيان حكمه، و هذا بخلاف المقام، فانّ كلامه ليس وارداً في مورد الشك) الخارج عن الابتلاء ( غاية الأمر احتمال وجود إطلاق يعم الموردين لعدم شرطية الابتلاء، أو عدمه، لشرطيته فلا يرجع إلى الإطلاق و مع الشكّ في الموضوع كيف يُتمسّك به.

الثانية: إذا شكّ في الابتلاء مصداقاً

إذا شكّ في كون أطراف الشبهة مورداً للابتلاء أو لا، لأجل تردّد طرف

ص:499


1- مصباح الأُصول: 398.

العلم الإجمالي بين كونه داخلاً فيه قطعاً، و خارجاً قطعاً فيشك في كون أطراف العلم الواقعية مورداً له كما إذا تردّد الإناء الآخر، بين كونه في البلد الذي يعيش فيه أو البلد الواقع في أقصى نقاط الهند، فهل يصحّ التمسّك بالعام و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الإناء الموجود أمامه أو لا؟ مقتضى القاعدة عدمه، لما بيّن في محلّه من أنّ المخصص المتّصل، يتصرّف في موضوع العام و يجعله مركباً من أمرين كقولك: أكرم العالم العادل، و أمّا المخصص المنفصل سواء كان لفظيّاً أو لُبيّاً فهو لا يتصرف في عنوان العام ظاهراً، لكنّه يجعله حجّة في غير عنوان الخاص لبّاً كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفساق من العلماء، فالموضوع للعام بما هو حجّة هو العالم غير الفاسق، فإذا شككنا في عدالة عالم و عدمها، لا يصحّ التمسّك بالعام لأنّه و إن كان مصداقاً للعام أعني العالم، لكنّه ليس مصداقاً له بما هو حجّة فيه أعني العالم غير الفاسق.

و مثله المقام فانّ الموضوع للاجتناب و إن كان هو النجس ظاهراً، لكنّ الموضوع لبّاً هو النجس المبتلى به عادة و الشكّ في الابتلاء مصداقاً شكّ في وجود جزء الموضوع و عدمه فلا يصحّ التمسّك به فيرجع في الإناء الموجود إلى البراءة للشكّ في التكليف.

الثالثة: إذا شكّ في الابتلاء مفهوماً

إذا شكّ في صدق عنوان الابتلاء على أحد طرفي العلم الإجمالي لأجل عدم وضوح مفهومه، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم إمّا في الإناء أو الأرض التي يمكن أن يسجد عليها أو يتيمّمه في المستقبل، فهل المرجع هو إطلاق الخطاب أو أصل البراءة و المقام من مصاديق دوران أمر المخصص أو المقيّد بين الأقل

ص:500

و الأكثر مصداقاً فالابتلاء له مصداق قطعي، كما إذا دار أمر الماء بين الإناءين اللّذين يريد استعمال مائهما و مصداق مشكوك لأجل إجمال مفهوم الابتلاء، كما في المثال المزبور، نظير عنوان الفاسق إذا خُصِّص به عموم أكرم العلماء فمرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، و مرتكب الصغيرة مشكوك جدّاً، فهل المرجع في الثاني إطلاق العام أو أصل البراءة؟ ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المرجع إطلاقات الخطابات، و قال: إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة، و المعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء.

و أمّا إذا شكّ في قبح التنجيز، فيرجع إلى الإطلاقات، فالأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلاّ ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم) التفصيلي (بكونه الحرام.(1)

أقول: إنّ الخارج عن تحت العام ليس خصوص ما علم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء، بل خصوص ما كان الخطاب فيه قبيحاً في نظر العقلاء في الواقع سواء علمنا قُبْحَه أو لا.

و عند ذلك فإذا تردد الأمر بين كون الخطاب مستهجناً فيه أو غير مستهجن فيدور أمره بين بقائه تحت العام و خروجه عنه، و معه كيف يصحّ التمسك بالخطاب؟ و العجب أنّ الشيخ قد سلك في المقام خلاف ما سلكه في المواقع الأُخرى.

فإذا شكّ في سعة مفهوم العام المخصص و ضيقه مثل قولك: أكرم العالم غير الفاسق، حيث دار أمره بين مرتكب خصوص الكبيرة أو الأعمّ منه و من الصغيرة، و بالتالي شكّ في خروج زيد المفروض انّه مرتكب للصغيرة عن تحت

ص:501


1- الفرائد: 252.

العام إذا كان شاملاً لكلا القسمين، و عدمه إذا كان مختصّاً بالكبيرة فقط فلا يصحّ أن يتمسّك بالعام، بحجّة أنّ الخارج هو معلوم الفسق و هو مرتكب الكبيرة، دون مشكوكه و هو مرتكب الصغيرة.

و الحاصل: أنّ الملاك في عدم التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية و به في الشبهة المفهومية للمخصص الدائر أمره بين الأقل و الأكثر، واحد، و هو الشكّ في انطباق العام بما هو حجّة فيه على المورد.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أوضح مقالة الشيخ و قال: إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر و شموله لكلتا صورتي الابتلاء و عدمه، و القدر الثابت من التقييد هو إذا كان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف، فإذا شكّ في استهجان النهي فالمرجع هو إطلاق الدليل لما تبين في مبحث العام و الخاص من أنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً، المردد بين الأقل و الأكثر لا يمنع عن التمسك.(1)

ثمّ إنّه) قدس سره (أورد على نفسه و قال ما هذا حاصله:

فإن قلت: المخصص المجمل المتصل يسري إجماله إلى العام و لا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيّاً أو لبيّاً ضروريّاً لا نظريّاً، و المقام من قبيل الثاني فيجعل العام حجّة فيما عدا عنوان المخصص سواء كان صدقه على مورد قطعياً أو احتمالياً.

قلت: إنّ إجمال المخصص المتصل سواء كان لفظياً أو عقلياً إنّما يسري إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب، و تردّد مفهومه بين الأقل

ص:502


1- و الفرق بين البيانين طفيف، فالبيان الأوّل يعتمد على أنّ الخارج هو خصوص ما علم أنّه خارج عن محلّ الابتلاء دون ما شكّ فيه، و لكن الثاني يعتمد على أنّ الخارج خصوص ما علم استهجانه، لا ما شكّ فيه.

و الأكثر، كما في تردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه، و أمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة، و علم بخروج بعض أفراده و شكّ في خروج بعض آخر، فإجمال المخصص و تردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ التفريق بين الفسق و الابتلاء و جعل الثاني من أقسام ذات المراتب دون الأوّل غير تام، لأنّ الأوّل مثل الثاني، لأنّ الفسق كالكفر ذو مراتب فالمسلم القاتل فاسق و المسلم الكاذب أيضاً فاسق و أين هذا من ذاك؟! و ثانياً: أنّما أفاده من أنّ المخصص إذا كان ذا مراتب فعلمنا بخروج مرتبة، و شككنا في خروج مرتبة أُخرى فإجمال المخصص لا يسري إلى العام، لأنّ مرجع الشكّ إلى التخصيص الزائد، غير تام. لأنّه إنّما يتم لو خرجت كلّ مرتبة بوجه على حدة، و أمّا إذا كان الكلّ خارجاً بعنوان واحد يعمّ جميع المراتب فإنّ كثرة الخارج و عدمها، لا توجب كون التخصيص أزيد من واحد كما لا يخفى.

تأييد آخر للعلاّمة الحائري

إنّ لشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري مقالاً في تأييد الشيخ.

و حاصله: انّه لا يصحّ التمسّك بالخطاب، لأنّ المفروض الشكّ في أنّ خطاب الشرع في هذا المورد حسن أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع إلى القاعدة، و لكن القاعدة في المقام هي الاحتياط و الاشتغال لا البراءة لأنّ البيان المصحح للعقاب عند العقل هو العلم بوجود مبغوض من المولى بين أُمور، حاصل; و إن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف و عدمه، و هذا المقدار

ص:503


1- الفوائد: 602/57 نقل بتلخيص.

يكفي حجّة عليه، نظير ما إذا شكّ في قدرته على الإتيان بالمأمور به و عدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى و مطلوباً له ذاتاً، و ليس له أن لا يُقْدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الناشئ من الشكّ في قدرته. و الحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال.(1)

و أظن انّ الجواب للسيد المحقّق الفشاركي أُستاذ المحقّق الحائري بشهادة وجود ما يقرب من هذا الجواب في تقريرات المحقّق النائيني، و قد تتلمذا على السيد الفشاركي قدس اللّه أسرارهم، فقد جاء في تقريرات الثاني: انّ القدرة العقلية و العادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأوّلية، بل هي من شرائط حسن الخطاب، لقبح التكليف عند عدمها، و لكن الملاك محفوظ في كلتا الصورتين:

وجود القدرة و عدمها، و العقل يستقل بلزوم رعاية الملاك و عدم لغويته مهما أمكن، و مع الشكّ في القدرة تلزم رعاية الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع، كما هو الشأن في المستقلات العقلية، فلو صار المشكوك فيه طرفاً للعلم الإجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الإجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية، و لا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في محلّ الابتلاء.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لازم هذا البيان الاجتناب عن الطرف المشكوك حتى في ما إذا علم خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء قطعاً، للتحفظ على الملاك بقدر ما أمكن، و هؤلاء لا يقولون به.

و ثانياً: انّ العلم بالملاك مع الشكّ في حسن الخطاب، يحتاج إلى دليل، لأنّ

ص:504


1- درر الأُصول: 2/121.
2- الفوائد: 4/55.

الملاك إنّما يستكشف من خطاب المولى، و مع عدمه، كما في الخروج القطعي عن محلّ الابتلاء، و مع الشكّ فيه، كما في المقام، لا علم لنا بوجود ملاك قطعي لازم الإحراز، فلعلّ للقدرة العادية تأثيراً في تمامية الملاك كما هو الحال في القدرة الشرعية كما في الاستطاعة.

التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة

خصّص المحقّق الخراساني التنبيه الثالث لبيان حال الشبهة غير المحصورة، و كان الأولى عليه أن يخصصه بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، ثمّ يخوض بعد إنهاء البحث عن المحصورة في بيان حكم غير المحصورة.

و إنّما جعل ذلك لنكتة، و هو انّ كون الأطراف محصورة أو غير محصورة لا يؤثر في نظر المحقّق الخراساني بل الملاك عندئذ فعلية التكليف و عدمها، فعلى الأوّل يتنجّز الحكم الواقعي من غير فرق بين المحصورة و غيرها.

ثمّ أفاد: إنّ كثرة الأطراف ربّما تكون سبباً لعسر الموافقة القطعية في المحرّمات و الواجبات، أو طروء ضرر، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كما هو الحال في قلّة الأطراف المعبّر عنها بالمحصورة.

و على كلّ تقدير فليس الميزان كثرة الأطراف أو قلّتها، بل فعلية التكليف و عدمها، لأجل طروء العناوين الثلاثة و لو شكّ في عروض واحد منها، فالمتبع هو إطلاق الدليل.

هذا ما أفاده، و لذلك لم يولِ لغير المحصورة من الشبهة عناية وافرة خلافاً للآخرين.

و لكن تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في مقامين:

1. ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة، و ما هو حدّها؟ 2. ما هو حكمه من التنجّز و عدمه، على فرض صدق الحد؟

ص:505

المقام الأوّل: ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة؟

قد ذكروا لتمييز المحصورة عن غيرها معايير مختلفة:

1. ما نقله الشيخ عن المحقّق و الشهيد الثانيين و الميسي و صاحب المدارك من أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعد.

و أُورد عليه بأنّ الألف معدود من الشبهات غير المحصورة مع أنّ عدّه غير متعسّر.

2. نفس التعريف لكن بإضافة قيد، و هو تعسّر العد في زمان قصير، لئلاّ يخرج الألف عن تحت التعريف.

3. المرجع في تمييز المحصورة عن غيرها هو العرف، و لعلّ مرجعه إلى الأوّل، لأنّ المراد من الأوّل ما يعسر عدّه عرفاً و ما لا يعسر عدّه كذلك.

4. ما ذكره الشيخ الأنصاري: إنّ غير المحصورة ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها، أ لا ترى انّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً و إن صادف الواقع، و قد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال، ما لا يؤثّر مع الانتشار و كثرة الاحتمال، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد و هو تارة مردّد بين اثنين و ثلاثة، و أُخرى بين أهل بلدة و نحوها.(1)

و ما ذكره الشيخ هو خيرة المحقّق العراقي حيث قال: إنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في

ص:506


1- الفرائد: 261.

كلّ واحد من الأطراف بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، بل ربّما يحصل الاطمئنان بالعدم.(1)

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً، حاصله: انّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، فكيف يجتمع العلم بوجود الحرام و المبغوض في الأطراف، مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلي؟ و أجاب ما هذا توضيحه: انّ الأفراد إذا لوحظت دفعة واحدة، فليس فيها إلاّ العلم بالحرام و لا خبر عن الظن فضلاً عن الاطمئنان بعدمه، فهذه الصورة هي معقد العلم لا معقد الظن بالعدم.

و أمّا إذا لوحظت الأفراد واحدة بعد واحدة، ففي كلّ واحد ظن أو اطمئنان بعدمه، و الموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلية، أعني: ما إذا لوحظت الأفراد دفعة واحدة، لكنّها تجتمع مع السالبة الجزئية، أعني: ما إذا لوحظ كلّ فرد بلحاظ مستقل منقطع عن لحاظ آخر.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي نقل عن شيخه النائيني أنّه أورد على التعريف المختار عند الشيخ بوجهين:

الأوّل: أنّه احالة إلى أمر مجهول، فإنّ للوهم مراتب كثيرة، فأيّة مرتبة منه تكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.

الثاني: انّ موهومية التكليف لا تمنع عن تنجّز التكليف، و لذا يتنجّز التكليف المردّد بين طرفين و لو كان احتماله في أحدهما ظنياً و في الآخر موهوماً.(2)

يلاحظ على الأوّل: المعيار هو كون التكليف موهوماً في كلّ واحد من

ص:507


1- نهاية الأفكار: 3/330.
2- مصباح الأُصول: 3/373.

الأطراف من دون التزام بمرتبة خاصة من الوهم، فما دام وجود الحرام في كلّ واحد إذا لوحظ وحده موهوماً، لا يعتني به العقلاء و لا يترتب على العلم بالتكليف في المجموع أثر.

و يلاحظ على الثاني: أنّ السبب لعدم تنجيز التكليف ليس مجرّد الموهومية بل الموهومية المستندة إلى كثرة الأطراف، التي تُسبّب قلّة اهتمام العقلاء بالنسبة إلى ذلك الاحتمال، فيكون الحجّة في الواقع هو بناء العقلاء في هذا القسم على موهومية التكليف، لا مطلق الموهومية و إن كان مسبباً عن أمر آخر كما في مثاله.

5. ما ذكره المحقّق النائيني بأنّ إذا بلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال في أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك، ثمّ قال: و ليس عدم التمكن من الاستعمال عادة هو الملاك، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما إذا كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لا بدّ من اجتماع الأمرين، كثرة العدد، و عدم التمكن من جمعه في الاستعمال، و بهذا تمتاز الشبهة المحصورة عن غير المحصورة.(1)

و بالإمعان في كلامه يظهر انّ ما أورد عليه تلميذه الجليل غير وارد حيث قال: إنّ عدم التمكّن من ارتكاب الجميع لا يلازم كون الشبهة غير محصورة، فقد يتحقّق ذلك مع قلّة الأطراف و كون الشبهة محصورة، كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين فانّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت، و كذلك لو تردّد الحرام بين الضدين في وقت معين.(2)

وجه عدم الورود: انّ الإشكال إنّما يرد لو كان الميزان عدم التمكّن العادي

ص:508


1- فوائد الأُصول: 1184/117.
2- مصباح الأُصول: 3/375.

من المخالفة القطعية و هو) قدس سره (صرّح بأنّه وحده ليس هو الميزان و إلاّ ربما تكون الشبهة محصورة و لا يتمكن المكلّف عادة من المخالفة، كما في الخارج عن محلّ الابتلاء، بل عدم التمكن المستند إلى كثرة الأطراف و مورد النقض ليس كذلك.

نعم أورد عليه سيدنا الأُستاذ) قدس سره (بأنّه إن أراد من عدم التمكن، الاستعمال دفعة، فيلزم أن تكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة، و إن أُريد الأعم منه و هو التدريج فيلزم أن يكون أكثر الشبهات غير المحصورة، محصورة، إذ قلّما يتفق أن لا يمكن الجمع بين الأطراف و لو في ظرف سنين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد الأعم من الدفعي و التدريجي، لكن المقصود من الإمكان هو العادي لا الفعلي، و الأوّل غير موجود في الشبهة غير المحصورة حتى في أزمنة مختلفة إلاّ ما شذّ و ندر.

إلى هنا تبيّن انّ التعريف الحقّ هو ما عرف به الشيخ الأعظم و تبعه الشيخان: الحائري و العراقي، و لا بأس بتعريف المحقّق النائيني.

المقام الثاني: ما هو الدليل على عدم تنجّز العلم بالتكليف في غير المحصورة؟

و ربما يقال: لم يرد عنوان المحصورة و غيرها في النصوص فما هو الوجه لتحديدهما؟ و الجواب: انّ العنوانين أُخذا مشيرين إلى القسمين من العلم الإجمالي، أي ما تكون قلّة الأطراف و كثرتها مؤثرتين في اعتناء العقلاء بالعلم و عدمه، أو كون التكليف موهوماً في كلّ طرف و عدمه.

ص:509


1- تهذيب الأُصول: 2/294; مصباح الأُصول: 2/374.
المقام الثالث: ما هو الدليل على سقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة؟

قد استدل على سقوطه بوجوه مذكورة في الفرائد:

الأوّل: الإجماعات المنقولة المستفيضة، و قد حكاه الشيخ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد، و روض الجنان للشهيد الثاني، و المحقّق البهبهاني في فوائده، لكنّه غير مفيد، لاحتمال أن يكون اتّفاقهم، مستنداً إلى الروايات التي وردت في مختلف الأبواب، فيكون الاتّفاق مدركياً غير كاشف عن دليل وصل إليهم و لم يصل إلينا.

الثاني: ما استدل به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب، و حمله الشيخ على لزومه في أغلب أفراد هذا النوع من الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين، فيشمله أدلّة نفي العسر و الحرج، حتى بالنسبة إلى غير الأغلب.

يلاحظ عليه: أنّ العسر و الحرج موجب لسقوط العلم الإجمالي في المحصورة أيضاً، فلا وجه لعنوان غير المحصورة بخصوصها، مضافاً إلى أنّ الميزان في باب العسر و الحرج هو الضيق الشخصي لا النوعي، فلو كان ضيقاً على الأكثر و سهلاً للأقل فلا وجه لعطف الأقل على الأكثر.

وجهه انّ حديث العسر حديث امتنان، و لا امتنان لتفويت المصلحة على من له إمكان القيام بالتكليف بسهولة.

الثالث: انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معين من محتملات الشبهة غير المحصورة و يكون الباقي خارجاً عن محلّ الابتلاء.

يلاحظ عليه: أنّ الخروج من الابتلاء يوجب سقوط العلم الإجمالي مطلقاً في المحصورة و غيرها، فما هو الوجه لعنوان المحصورة برأسها فلا بدّ أن يستدل بدليل يختص به؟

ص:510

الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني استنتاجاً من الضابطة التي قرّرها لتميز غير المحصورة عنها، و حاصله: انّه إذا كانت المخالفة القطعية غير محرمة، لعدم التمكن العادي من استعمالها، فإذا لم تحرم المخالفة كما هو المفروض لم يقع التعارض بين الأُصول، و مع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية و تجوز المخالفة الاحتمالية.(1)

يلاحظ عليه: أنّ عدم حرمة المخالفة القطعية لو كان مستنداً مباشرة إلى ترخيص الشارع، فهو يلازم عدم وجوب الموافقة القطعية، أو جواز المخالفة الاحتمالية، و أمّا إذا كان مستنداً إلى عجز المكلّف فلا يلازم عدم حرمتها، عدمَ وجوبها، و جواز مخالفتها احتمالاً.

أ لا ترى أنّه لو كان له عدّة زوجات منقطعات يعلم حرمة مسّ واحدة منهن لأجل الحيض، فمع أنّه غير قادر على مسّهن في ليلة واحدة و مع ذلك لا تجوز المخالفة الاحتمالية بمسّ واحدة منهنّ.

و أمّا جريان الأُصول الشرعية في الأطراف لأجل عدم حرمة المخالفة فلا يكون مجوزاً، لجواز المخالفة الاحتمالية، لما عرفت من أنّه إذا كان السبب الحقيقي لجريان الأُصول هو العجز عن المخالفة، لا ينتج جواز المخالفة الاحتمالية.

إذا عرفت أنّ هذه الوجوه غير كافية، فاعلم أنّ الصالح للاستدلال هو الوجهان الآتيان.

الخامس: بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم النابع من كثرة الأطراف كما أوضحناه، و قد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه.

السادس: الروايات الواردة في أبواب أربعة:

1. ما ورد حول الجبن.

ص:511


1- الفوائد: 4/119.

2. ما ورد حول شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم.

3. روايات قبول جائزة الظالم.

4. روايات المال الحلال المختلط بالربا.

و إليك دراسة هذه الروايات:

روايات الجبن

قد ورد عن أبي جعفر) عليه السلام (في الجبن روايات بظاهرها ثلاث، و لكنّها في الواقع اثنتان:

1. ما رواه عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن؟ فقال لي:» سألتني عن طعام يُعجبني «ثمّ أعطى الغلام درهماً، فقال:» يا غلام ابتع لنا جبناً «، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل و أكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال:» أو لم ترني آكله «قلت: بلى، و لكن أُحبّ أن أسمعه منك فقال:» سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه «.(1)

و السند نقيّ غير عبد اللّه بن سليمان فإنّه لم يوثَّق، و لكن روايات الجبن متضافرة كما ستظهر، مضافاً إلى نقل المشايخ عنه كأبان، و صفوان، و ابن أبي عمير، و هذا يلحقه بالحسان.

ثمّ إنّ قوله:» فيه حلال و حرام «ليس بمعنى احتمال الحلال و الحرام، حتى ينطبق على الشبهة البدئية بل فعلية القسمين، فينطبق على المحصورة و غير المحصورة، و المورد قرينة على الثانية، مضافاً إلى أنّ الترخيص في المحصورة يحتاج إلى التنصيص القاطع للاحتمال لأنّ الترخيص فيه بنظر العرف، ترخيص في

ص:512


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

المعصية، فلا يصار إليه إلاّ بالدليل الحاسم.

2. صحيحة معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّه لطعام يُعجبني و سأُخبرك عن الجبن و غيره، كلّ شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه «.(1) و من المحتمل انّ الرجل السائل هو عبد اللّه بن سليمان، و يشهد بذلك تقارب ألفاظهما، و قد عرفت مفاد الضابطة.

3. ما رواه محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر) عليه السلام (عن الجبن، فقلت له:

أخبرني من رأى انّه يجعلُ فيه الميتة، فقال:» أ من أجل مكان واحد، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كُلْ، و اللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر و هذه السودان «.(2)

و السند مخدوش بأبي الجارود، كالراوي عنه، أعني: محمد بن سنان، لكن عرفت أنّ روايات الجبن متضافرة. نعم أورد الشيخ الأعظم على دلالته بوجهين:

الأوّل: أنّه ظاهر في الشبهة البدئيّة ببيان انّ المراد: انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان.

يلاحظ عليه: أنّ مجموع الروايات الواردة في الجبن حاكية عن ابتلاء الناس بظاهرة جعل الميتة في الجبن و عقد اللبن بها، أعني: الانفحة المأخوذة عن المعز الميّت، و انّها كانت متفشية فيها، فكان مردّداً بين كونه من الميتة و عدمه، ففي ذلك المورد حكم الإمام بالجواز، و مثله لا ينطبق إلاّ على الشبهة غير المحصورة.

الثاني: انّ الحلية لأخذه من سوق المسلم بناء على أنّ السوق أمارة شرعية

ص:513


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7، 5.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7، 5.

لحلّ الجبن المأخوذ منه و لو من يد مجهول الإسلام.(1)

يلاحظ عليه: ان لو كانت الحلية مستندة إلى سوق المسلم و أمارة لها، فما معنى:» و اللّه ما أظن كلّهم يُسمّون هذه البربر و هذه السودان «؟ فانّها على طرف النقيض من كون مثل هذا السوق أمارة للحلّية، فانّه بصدد تضعيف كونه أمارة، فلا وجه للحلية إلاّ كون الشبهة غير محصورة.

إلى هنا تمّ ما روي عن أبي جعفر) عليه السلام (و قد عرفت أنّه لا يتجاوز عن كونه حديثين، و أمّا ما روي عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (حول الجبن فهي خمسة و يحتمل وحدة الخامس مع الرابع، و إليك نقلها:

4. روى عبد اللّه بن سليمان، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (في الجبن، قال:» كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة «.(2)

5. روى عبد اللّه بن سنان: قال سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (عن الجبن، فقال:» إنّ أكله ليعجبني «ثمّ دعا به فأكله.(3) و يحتمل اتحاده مع سابقه، و قد نقلا بالمعنى و الاختصار بأن يكون المراد من قوله:

» رجل «هو عبد اللّه بن سليمان، كما يحتمل تغايرهما.

6. ما رواه بكر بن حبيب، قال: سئل أبو عبد اللّه عن الجبن و انّه توضع فيه الأنفحة من الميتة، قال:

» لا يصلح «ثمّ أرسل بدرهم، فقال:» اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شيء «.(4)

و المسبب للحلّية هو كون المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة، و أمره بالشراء من مسلم، لأجل رفع غبار الشكّ عن قلب السائل ليتّخذه دليلاً على كونه مذكّى و إن كان الدليل واقعاً غيره، و لذلك قال:» و لا تسأله عن شيء «.

ص:514


1- الفرائد: 259.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.
3- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.
4- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2، 3، 4.

7. صحيح حماد بن عيسى، قال: سمعت أبا عبد اللّه) عليه السلام (يقول:» كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جبناً و يسمّي و يأكل و لا يسأل عنه «.(1)

8. خبر عمر بن أبي شبيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عن الجبن؟ قال:» كان أبي ذكر له منه شيء فكرهه ثمّ أكله، فإذا اشتريته فاقطع و اذكر اسم اللّه عليه و كل «.(2)

فمجمل القول في هذه الروايات أنّ فيها احتمالات:

1. راجعة إلى الشبهة غير المحصورة.

2. راجعة إلى الشبهة المحصورة و غيرها خرجت الأُولى بالدليل و بقيت الثانية.

3. راجعة إلى الشبهة البدئية كما احتملها الشيخ في خبر أبي الجارود.

4. انّ الحلّية مستندة إلى سوق المسلم و يده.

و الترجيح مع الأوّل خصوصاً مع ملاحظة المجموع من حيث المجموع مع ملاحظة تفشّي ظاهرة جعل الميتة في الجبن.

نعم هنا إشكال آخر.

إنّ كلّ شيء من الميتة حرام إلاّ الانفحة خلافاً لأهل السنّة، و مع كونها حلالاً، فما هذا الاضطراب في أكل الجبن؟ و تصور انّ الطهارة مختصة بالرضيع لا ما إذا كان معلوفاً فانّها نجسة، مدفوع بانّ عقد اللبن بها يختص بما إذا كان رضيعاً و إلاّ فلا يعقد به.

و لعلّ الظروف لم تكن مساعدة لبيان الحكم الواقعي للسائلين، فحاولوا أن يبيّنوا وجه الحلية من طريق آخر.

ص:515


1- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 8، 6.
2- الوسائل: الجزء 17، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 8، 6.
2. جواز شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم

هناك لفيف من الروايات يدل على جواز شراء الطعام و الأنعام من العامل الظالم، و المبيع إمّا زكاة و صدقة أخذه من الفلاّحين، و إمّا خراج الأراضي المفتوحة عنوة، المسمّى باسم المقاسمة و من المعلوم انّ أموالهم كانت غير نقية من الحرام، و مع ذلك سوّغ الإمام المعاملة معه. و إليك بعض الروايات:

1. صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو الحسن موسى) عليه السلام (:» مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيقاً «قال: قلت: نعم، فإن شئت وسعت عليّ، قال:» اشتره «.(1)

و لعلّ المراد من» عليّ «هو علي بن يقطين كما ذكره المجلسي في ملاذ الأخيار.

و قوله:» فإن شئت وسعت «ليس دليلاً على أنّ الحلّية من باب الولاية، لأنّه واقع في كلام الراوي.

2. مرسل محمد بن أبي حمزة، عن رجل، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول ظلمني، فقال:» اشتره «.(2)

3. صحيح أبي عبيدة) الحذّاء (عن أبي جعفر قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال: فقال:» ما الإبل إلاّ مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه «.(3)

و احتمال انّ التسويغ من باب الولاية يردّه صحيح الحذَّاء حيث ضرب القاعدة و هو جواز الشراء ما لم يعلم بعينه.

4. صحيح معاوية بن وهب) البجلي الثقة (قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (:

ص:516


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، 3، 5.

أشتري من العامل الشيء و أنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال:» اشتر منه «.(1)

5. ما رواه إسحاق بن عمّار مضمراً.(2)

6. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري مضمراً.(3)

و لفظ العامل قرينة على أنّ المبيع كان زكاة و صدقة، أو خراجاً و مقاسمة، فقد جوز الشراء إلاّ إذا علم الحرام مشخصاً، و من المعلوم كون الحرام بالنسبة إلى الحلال كان قليلاً، أشبه بالشبهة غير المحصورة.

3. ما يدل على أخذ جوائز العامل للظالم

و هناك روايات تدل على جواز أخذ جوائز العامل للظالم و أكل طعامه، نذكر منها ما يلي:

1. صحيحة أبي ولاّد، قال: قلت لأبي عبد اللّه) عليه السلام (: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلاّ من أعمالهم و أنا أمرّ به فأنزل عليه فيُضيّفني و يُحسن إليّ و ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك، فقال لي:» كل و خذ منه فلك المهنّا وعليه الوزر «.(4)

2. صحيحة أبي المغراء قال: سأل رجل أبا عبد اللّه) عليه السلام (و أنا عنده فقال: أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال:» نعم «، قلت: و أحجُّ بها؟ قال:» نعم «.(5)

4. التصرف في مال مختلط بالربا

وردت روايات في باب الربا من أنّ من ورث مالاً فيه ربا، لا يحرم عليه إلاّ

ص:517


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
3- الوسائل: الجزء 12، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4; و الباب 53 من نفس الأبواب الحديث 2 و 3.
4- الوسائل: الجزء 12، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2، و لاحظ الحديث 3 و 5.
5- الوسائل: الجزء 12، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2، و لاحظ الحديث 3 و 5.

إذا عرفه بعينه نقتصر بروايتين صحيحتين:

الأُولى: صحيحة أبي المغراء قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:»... لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً و قد عرف أنّ في ذلك المال رباً، و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالاً طيّباً فليأكله، و إن عرف منه شيئاً أنّه رباً فليأخذ رأس ماله و ليردّ الرّبا «.(1)

الثانية: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: أتى رجل أبي) عليه السلام (فقال: إنّي ورثت مالاً و قد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي، و قد عرف أنّ فيه رباً و استيقن ذلك و ليس يطيب لي حلاله، لحال علمي فيه، و قد سألت فقهاء أهل العراق و أهل الحجاز فقالوا: لا يحل أكله، فقال أبو جعفر) عليه السلام (:» إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً ربا و تعرف أهله فخذ رأس مالك و ردّ ما سوى ذلك، و إن كان مختلطاً فكله هنيئاً، فإنّ المال مالك و اجتنب ما كان يصنع صاحبه، فإنّ رسول اللّه: قد وضعَ ما مضى من الربا و حَرّمَ عليهم ما بقي، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه، فإذا عرف تحريمه، حرم عليه «.(2)

و الروايتان ظاهرتان في الشبهة المحصورة، فإذا جاز التصرف فيها ففي غيرها أولى. نعم ليس لها شمول لغير مورد الربا، و لعلّ التسويغ لأجل التسهيل، و قد كان السيد الأُستاذ يحمل ما دلّ على الحلّية ما لم يعلم بعينه على خصوص الشبهة المحصورة من باب الربا و قد نوّهنا بذلك عند تفسير روايات باب البراءة.

و لعلّ هذه الروايات، مع بناء العقلاء و السيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة انتشار الحرام بين الكثير.

ص:518


1- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 2.
2- الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب الربا، الحديث 3.
بقي هنا أُمور:
الأوّل: جواز ارتكاب الكلّ و عدمه

هل يجوز ارتكاب عامة المشتبهات في غير المحصورة، أو يجب إبقاء مقدار الحرام، أو يفصّل بين ما قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدمة له، أو قصد الجميع من أوّل الأمر، و بين ما إذا انجر الأمر إليه، فلا مجوز في الصورتين الأُولتين دون الثالثة، مستدلاً على ذلك بأنّهما تستلزمان طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي، و التكليف لا يسقط من المكلَّف مع العلم غاية ما ثبت في المقام، الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات فيكون البعض المتروك بدلاً عن الحرام و إلاّ فإخراج الخمر الموجود يقيناً بين المشتبهات عن عموم قوله:» اجتنب عن الخمر «اعتراف بعدم حرمته واقعاً و هو معلوم البطلان.(1)

الظاهر انّه لا يختلف الحكم باختلاف المباني.

فلو كان المستند ما اختاره الشيخ من كون التكليف موهوماً بكثرة الأطراف، فيكون مفاده الجواز مطلقاً لأنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم التكليف فيجوز اجتنابه، و إن كان ينجر الأمر عند الانتهاء إلى مخالفة التكليف غير انّ الترخيص في كلّ واحد يكون دليلاً على رفع الشارع اليد عن التكليف الواقعي و صيرورته إنشائيّاً في تلك المرحلة.

و ما ربما يقال: من» انّ الجائز من أوّل الأمر، هو ارتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً و أمّا الأزيد فلا «، غير تام إذ ليس الموضوع

ص:519


1- الفرائد: 260.

للجواز، الكميّة الخاصة التي يكون التكليف فيه موهوماً ليتوقف الجواز إذا انتهى إلى مقدار لا يكون كذلك، بل الموضوع للجواز هو كلّ واحد واحد، لأجل كون التكليف فيه موهوماً، و هذا صادق عند ارتكاب كلّ واحد إلى نهايته.

كما أنّه لو كان الدليل هو الروايات المتقدمة، فالظاهر جواز الارتكاب حتى يعلم الحرام بعينه.

إنّما الكلام على مبنى المحقّق النائيني، فالظاهر جواز ارتكاب الجميع أيضاً، لأنّه جعل عدم المتمكن العادي موضوعاً لعدم حرمة المخالفة القطعية، و سقوط العلم عن التأثير فعند ذلك يجوز ارتكاب الجميع، لأنّ التمكّن الشخصي لا ينافي عدم التمكّن العادي، و المسقط للعلم عن الحجية هو الثاني سواء كان هناك تمكّن شخصي أو لا. لأنّه إنّما قال بعدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن العادي من المخالفة و فرع عليه جواز المخالفة الاحتمالية.

الثاني: حكم الكثير في الكثير

إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفراداً كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأُمور المحسوسة، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن ألف شاة فانّ نسبة المائة إلى الألف، نسبة الواحد إلى العشرة، و هذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير، فهل العلم منجّز في هذه الصورة أو لا؟ الظاهر انّه يختلف الحكم حسب اختلاف المباني.

فعلى مبنى الشيخ من موهومية التكليف فالعلم منجّز، لأنّ التكليف في كلّ واحد من الشياه ليس بموهوم و ذلك ينجّز العلم الإجمالي و لا ينافي ما قلنا بأنّ الميزان عامة مراتب الوهم فإنّ المراد من الوهم ما لا يعتد به العقلاء و مع فرض مراتب له لكن الجميع محكوم عندهم بعدم الاعتداد، و هذا بخلاف المقام

ص:520

فالعقلاء يعتدون بواحد في مقابل العشرة.

و أمّا على مبنى المحقّق النائيني و هو عدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن من المخالفة القطعية، فالظاهر عدم تنجيز العلم الإجمالي لكون المقام ممّا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية عادة، فهو جعل عدم التمكن العادي دليلاً على جواز المخالفة القطعية، فلو كانت المخالفة القطعية غير ممكنة عادة كما هو المفروض، فيجوز الارتكاب.

الثالث: في كون الساقط هو العلم أو هو مع الشكّ

لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام في الأطراف ينتج الشكّ في كل واحد منها، فالشكّ نابع من العلم و من نتائجه.

و على ذلك فلو قلنا بسقوط العلم، فهل الساقط هو نفس العلم فقط على وجه لو كان للشكّ أثر شرعي من الاشتغال يجب ترتيب أثره عليه لكون المفروض انحصار السقوط بالعلم دون الشكّ، أو الساقط هو العلم و الشكّ معاً؟ و تظهر الثمرة في ما إذا علم بماء مضاف بين الأواني الكثيرة غير المحصورة، فالعلم بوجود الماء المضاف يوجب وجود الشكّ في كلّ واحد من الأواني، فلو قلنا بسقوط العلم و الشكّ معاً يجوز التوضّؤ بواحد منها و الاقتصار عليه، لكون الشكّ ساقطاً عن الاعتبار فيصبح كلّ واحد من الأواني محكوماً بالإطلاق.

و أمّا لو قلنا بأنّ الساقط هو العلم دون الشكّ فيكون الشكّ هنا موضوعاً للاشتغال مثل ما إذا شكّ في إطلاق ماء على نحو الشبهة البدوية، فلو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف لا يجوز له الاقتصار بالتوضّي بهذا الماء، و يكون المقام مثله إذا قلنا بسقوط العلم دون الشكّ.

و التحقيق انّه على مبنى الشيخ يسقط العلم و الشكّ معاً، لأنّ إلغاء العلم

ص:521

و جعله كالمعدوم إلغاء لأثره الناتج منه، أعني: الشك، فليس هنا شك تعبّداً حتى يكون موضوعاً للاشتغال.

و بعبارة أُخرى: انّ الحكم بموهومية التكليف عند العقلاء يلازم وجود أمارة على كون الماء مطلقاً لا مضافاً و معه لا موضوع للاشتغال.

و أمّا على مبنى المحقّق النائيني، فقد ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ الساقط هو العلم دون الشكّ، و قال:

إنّ الملاك في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية، لعدم القدرة عليها، و انّ وجوب الموافقة القطعية متفرّع عليها، فالعلم بالتكليف المردّد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه.

و أمّا الشكّ في كلّ واحد من الأطراف فهو باق على حاله، و هو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال، إذ يعتبر في صحّة الوضوء إحراز كون ما يتوضّأ به ماء مطلقاً، فنفس احتمال كونه مضافاً كاف في الحكم بعدم صحّة الوضوء به، و لو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف، فلا بدّ حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم منه وقوع الوضوء بماء مطلق.(1)

و لكن المحقّق الكاظمي نقل في تقريره لدروس أُستاذه أنّه كان يميل إلى سقوط حكم الشكّ، و هو الظاهر طبقاً لمبناه، و ذلك لأنّه قال: لا تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن العادي عليها، و بما انّ المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية، فإذا لم تحرم تجري الأُصول بلا معارض، فاستصحاب الإطلاق في الماء الذي يريد التوضّؤ به محرز للموضوع و لا يعارضه أصل آخر، و معه يكون الشكّ فاقد الأثر لوجود الأصل المحرز.

و أمّا ما ذكره المحقّق الخوئي من وجود الشكّ في قرار ذهنه، فيرد عليه أنّ الموضوع ليس مطلق الشكّ بل الشكّ الذي لم يحكم عليه بحكم، و هذا نظير:

ص:522


1- مصباح الأُصول: 2/378.

» لا شكّ لكثير الشكّ «، أو» لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام «، فمثل هذا الشكّ المحكوم بحكم، خارج عن أدلّة الشكوك، أعني قوله: إذا شككت فابن على الأكثر، و مثله المقام فإنّ الشارع بما أنّه لم يُحرِّم المخالفة القطعية و حكم بجريان الأُصول في كلّ آنية، صارت النتيجة كون الماء مطلقاً، و معه لا شكّ تعبداً حتى يحكم بالاشتغال.

الرابع: لزوم كون العلم الإجمالي محدثاً للتكليف على كلّ تقدير؟

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون مبدأ لحكم فعلي يطلبه الشارع على كلّ حال، فهذا الحكم الفعلي النابع من العلم الإجمالي فرع أن يكون العلم محدثاً للتكليف على كلّ تقدير، و إلاّ فلو أحدث التكليف إذا كان المعلوم في هذا الطرف و لم يكن محدثاً له إذا كان المعلوم في الطرف الآخر لا يكون هناك علم فعلي بالحكم أوّلاً، و لا تتعارض الأُصول في الطرفين ثانياً، إذ لا يجري فيما لم يحدث تكليفاً و يبقى جارياً فيما نحتمل إحداث التكليف فيه.

و على ذلك فلو علم بنجاسة أحد الثوبين و في الوقت نفسه علم بغصبية الثوب المعيّن منهما، فليس لمثل هذا العلم تأثير على كلّ تقدير، لأنّ النجاسة لو كانت في غير الثوب المغصوب يحدث تكليفاً و يمنع عن استعماله في الصلاة. و أمّا لو كان في الثوب المغصوب فالعلم بنجاسته لا يحدث تكليفاً لأنّه ممنوع الاستعمال سواء كان طاهراً أم نجساً(1)، و لذلك لا تجري أصالة الطهارة في الثوب المغصوب إذ لا أثر للطهارة فيه لما عرفت من أنّه ممنوع الاستعمال في كلتا الصورتين و عندئذ تجري أصالة الطهارة في جانب الثوب الآخر بلا معارض.

ص:523


1- فعدم إحداث التكليف فيه صار سبباً لأمرين: 1. فقدان العلم بالحكم الفعلي المنجّز. 2. عدم تعارض الأُصول في ناحية ما يحتمل حدوث التكليف فيه.

و إن شئت قلت: ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الاجتناب عن الثوب المغصوب قطعاً، إمّا لكونه مغصوباً فقط، أو لكونه مغصوباً و نجساً; و إلى شكّ بدوي في ناحية الثوب الآخر.

الخامس: كفاية اندراج الطرفين تحت عنوانين

لا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي اندراج الطرفين تحت عنوان واحد كالنجاسة، بل يكفي اندراجهما تحت أحد عنوانين محدثين للتكليف، كما إذا علم بنجاسة هذا الثوب أو غصبية الآخر لما عرفت من أنّ الميزان كون العلم الإجمالي محدِثاً للتكليف الفعلي على كلّ حال.

و على ضوء ذلك، فلو كان ذلك الثوب نجساً فهو يحدث التكليف، كما أنّه لو كان الآخر غصباً فكذلك، فالعلم بتحقّق أحد العنوانين في أحد الطرفين يُنتج حكماً فعلياً قطعياً باسم الاجتناب عن المغصوب للشارع و لا يحصل إلاّ باجتنابهما و يتعارض الأصلان.

و على ضوء ذلك، فإذا علمنا بخروج بلل مردّد بين البول و المني يكفي في التنجيز في بعض الظروف فلو كان متطهراً من الحدث الأصغر و الأكبر فعلم بوجود ناقض للطهارة على كلّ تقدير، فمثلاً لو كان البلل بولاً في الواقع فقد نقض طهارته على وجه يوجب التوضّؤ، و لو كان منيّاً تنقض طهارته أيضاً على وجه يورث الغسل.

و بالتالي وقف على حكم فعلي مردّد بين التوضّؤ و الغسل، فيجب الامتثال على وجه تحصل الموافقة القطعية.

نعم لو كان محدثاً بالحدث الأصغر فخرج مثل ذلك البلل، فهو يحدث التكليف على فرض، أعني: إذا كان منيّاً دون ما إذا كان بولاً، لأنّ المفروض أنّه

ص:524

محدث بالحدث الأصغر، و على ذلك لا ينتج العلم الإجمالي حكماً فعلياً قطعياً يجب امتثاله بل ذلك العلم مؤثر على وجه و غير مؤثر على وجه آخر، ففي مثله ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي و هو وجوب الوضوء على كلّ حال و شكّ بدوي و هو وجوب الغسل.

و إن شئت قلت: ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب رفع الحدث الأصغر، و إلى شكّ في وجود الحدث الأكبر. و مع الشكّ تجري البراءة في الناحية الثانية.

لا يقال انّ الأثر مترتب أيضاً على فرض كون الخارج بولاً، للزوم غسل المخرج، لأنّا نقول إنّ العلم بوجوب الغَسْل نتيجة علم تفصيلي بنجاسة المخرج لخروج النجس منه سواء أ كان منياً أم بولاً، لا على خصوص كون الخارج بولاً.

التنبيه الرابع: في حكم ملاقي الشبهة المحصورة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: انّ محل البحث في لزوم الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة و عدمه، إنّما هو فيما إذا لاقى الشيء أحد الطرفين مثلاً، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الطرفين من السجادة، ثمّ لاقى شيء رطب أحد الطرفين; و أمّا إذا لاقى كليهما مع الرطوبة فهو يعد ملاق للنجاسة، و ليس ملاقياً للمشتبه.

و مثله ما إذا لاقى شيء رطب أحد الطرفين و شيء آخر، الطرف الآخر، فيحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على العلم الإجمالي المتعلّق بنفس الشيئين.

الثاني: انّ الكلام في ما إذا لاقى أحد الطرفين، و أمّا إذا انقسم أحد الطرفين بالملاقاة قسمين فهو خارج عن محط البحث، كما إذا غمس إحدى يديه في الإناء و أخرجها منه و كانت القطرات عالقة عليها، فما دام الحال كذلك، فهي تعد من

ص:525

أطراف العلم حيث يعلم بنجاسة هذا الإناء أو ذاك مع ملاقيه، لأنّه أشبه بما إذا قسم ماء أحد الإناءين إلى إناءين فيتوسع طرف العلم، فيدور العلم بين نجاسة ذاك الإناء أو هذين الإناءين.

و الحاصل انّ الكلام فيما إذا كان هناك مجرّد الملاقاة، من دون أن ينتقل شيء من الملاقى إلى الملاقي كما في المقام.

و من هنا يعلم حكم ما إذا علم بغصبية إحدى الشجرتين ثمّ أثمرت إحداهما دون الأُخرى، فربّما يقال بجواز التصرف في الثمرة تكليفاً و لعدم ضمانها وضعاً، باعتبار انّ الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء المغصوب و هو مشكوك فيه و الأصل عدمه كما أنّ موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير و هو أيضاً مشكوك و الأصل عدمه.

يلاحظ عليه: بأنّ الثمرة، عصارة الشجرة و جزء منها، فهي أشبه بما إذا كبرت الشجرة و أورقت و ارتفعت أغصانها، فتكون الشجرة مع ثمارها و أوراقها طرفاً للعلم، نظيره ما إذا علم بغصبية إحدى الشاتين فانتجت إحداهما، فلا يعد الولد خارجاً عن طرف العلم.

و أمّا الأصل الذي أُشير إليه فهو غير تام، لأنّه من قبيل الأصل الأزلي الذي لا نقول به، و لا عبرة عند العقلاء و لا يعد عدم الاعتداد به عند العقلاء، نقضاً لليقين السابق.

الثالث: لا إشكال في وجوب ترتيب كلّ ما للمعلوم من الأحكام و الآثار، على كلّ واحد من الطرفين من باب المقدمة العلمية، فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين فبما انّه لا يجوز التوضّؤ بالنجس، و لا بيعه لا يجوز التوضّؤ بأحدهما و لا بيع أحد منهما، فما للمعلوم من الآثار يترتّب على كلّ واحد لتحصيل البراءة القطعية إنّما الكلام في ترتّب أثر المعلوم بالإجمال على ملاقي الطرفين كوجوب

ص:526

الاجتناب المترتب على الملاقي، فهل يترتب على ملاقي أحد الأطراف أو لا؟ و استنباط حكمه رهن الوقوف على حكم ملاقي النجس الواقعي، فهل الاجتناب عنه من جهة انّه من شئون الاجتناب عن النجس و ليس هنا تعبد وراء التعبد بلزوم الاجتناب عن النجس، أو انّه موضوع مستقل له حكم خاص و امتثال و عصيان مستقل، نسب الأوّل إلى ابن زهرة و الثاني إلى المشهور؟

و قد استدل للقول الأوّل بوجهين

الأوّل: قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ).(1)

قال ابن زهرة قوله: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) و قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (2)يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقاً.(3) ترى أنّه استدل على تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة، بما دلّ على لزوم هجرها، فالآية تدل على هجر نفس العين النجسة، لكنّه جعلها دليلاً على هجر مخالطها أيضاً.

أقول: إنّ الرِّجْز بكسر الراء ورد في القرآن الكريم تسع مرّات، أُريد منه في ثمانية موارد، العذاب; و في مورد واحد، القذارة، و هي أثر الاحتلام الذي ابتلى به بعض الحاضرين في وقعة بدر، قال سبحانه:

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ).(4)

ص:527


1- المدثر: 51.
2- المائدة: 3.
3- الغنية: 1/46، الطبعة المحقّقة.
4- الأنفال: 11.

و أمّا الرُّجز، فقد ورد مرة واحدة، و فسّر بالعذاب تارة و المراد الابتعاد من أسبابه، و الوثن أُخرى، و القذارة ثالثة. فعلى التفسيرين الأوّلين لا صلة للآية بالمقام و يكون خطاب الآية للنبي، بمنزلة قولهم: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، و قوله سبحانه: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ).(1)

و على المعنى الثالث يمكن أن يراد القذارة المعنوية كالحسد و البخل و يكون مساقها مساق المعنيين السابقين، كما أنّه يمكن أن يراد منه القذارة الظاهرية، و قد ورد في تفسيره انّ رجلاً بإيعاز من أبي جهل ألقى شيئاً قذراً على النبي، فلو أُريد منه نجس العين فلا صلة لها بالمقام، و لو أُريد منه الأعم منه و من المتنجس فيصحّ الاستدلال، لأنّه سبحانه أمر بهجرهما بكلمة واحدة و أمراً واحداً، و هذا يدل على أنّ هجر المتنجس من شئون هجر النجس موضوعاً مستقلاً.

يلاحظ عليه: بعد تسليم المقدّمات، لا مانع من أن يكون كلّ من النجس و المتنجس مهجوراً بأمر مستقل، و مع ذلك يصحّ الأمر بهجرهما بمفهوم جامع بينهما و ذلك مثل ما إذا كان شخصان محرّمي الإكرام كلّ بملاك خاص، و مع ذلك صحّ أن يقعا موضوعاً لحكم واحد، كما إذا قال: لا تكرم العاصيين أو لا تكرم الجالسَين.

الثاني: ما رواه الشيخ، عن محمد بن أحمد بن يحيى) الأشعري القمي صاحب كتاب نوادر الحكمة المتوفّى حوالي 290 ه (عن محمد بن عيسى اليقطيني) المعروف بالعبيدي الثقة عند الجميع إلاّ عند أُستاذ الصدوق ابن الوليد (عن النضر بن سويد) الذي وثّقه النجاشي (عن عمرو بن شمر بن يزيد) الذي ضعّفه النجاشي، و لم يوثّقه أحد من القدماء و إن سعى العلاّمة المجلسي و البهبهاني في إثبات وثاقته (عن جابر) بن يزيد الجعفي من أصحاب الباقر الثقة

ص:528


1- الزمر: 65.

على الأقوى (عن أبي جعفر) عليه السلام (قال: أتاه رجل، فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر) عليه السلام (:» لا تأكله «، فقال له الرجل: الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي من أجلها.

قال: فقال له أبو جعفر) عليه السلام (:» إنّك لم تستخف بالفأرة، و إنّما استخففت بدينك انّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء «.(1)

و يمكن تقريب الاستدلال بوجهين:

1. انّه فسر أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافاً بالدين و فسّره بتحريم الميتة، فلو كانت نجاسة الملاقي للميتة فرداً آخر وراء التعبد بنجاسة الميتة، لم يكن أكل السمن أو الزيت استخفافاً بالدين المفسّر بتحريم الميتة بل كان استخفافاً بالدين المفسّر بوجوب الاجتناب عن الملاقي.

2. انّ الإمام) عليه السلام (فسّر الاجتناب عن السمن أو الزيت بأنّ اللّه حرم الميتة من كلّ شيء، و لو لا كون الاجتناب عن الملاقي) بالكسر (من شئون الاجتناب عن الملاقى فقط لما كان لهذا التفسير وجه، بل كان عليه أن يقول: إنّ اللّه حرم كلّ شيء لاقى النجس.

و بالجملة نجد انّ الإمام يجعل الفأرة و الميتة موضوعاً للحكم من الاستخفاف و التحريم مع أنّ المطروح للراوي هو الزيت و السمن اللّذين وقعت فيهما الفأرة.

كلّ ذلك دليل على أنّ حكم السمن و الزيت مندك في حكم الميتة و الفأرة، و لذلك جعل أكل السمن استخفافاً بالدين و ردّاً لتحريم الميتة.

ص:529


1- الوسائل: 1، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّ الرواية ضعيفة السند و إن كان يلوح عليها أثر الصدق بأنّ وجه التركيز على الفأرة و الميتة مكان التركيز على السمن و الزيت لأجل تفسّخ الميتة في السمن و الزيت و انحلالها فيه، فكان أكلها ملازماً لأكله.

أضف إلى ذلك انّ دلالة الرواية لا تخرج عن حدّ الإشعار، و لعلّ التركيز على الأمرين مكان السمن و الزيت لأجل الحفاظ على الانسجام بين كلام الراوي و الإمام) عليه السلام (حيث إنّ الراوي لمّا قال: الفأرة أهون علي، فركّز الإمام على الفأرة و أجاب: بأنّ عدم الاعتناء بها ليس استخفافاً بها و إنّما هو استخفاف بالدين، ثمّ قال: كيف تقول الفأرة أهون مع أنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء.

على أنّ التدقيق في الرواية يرشدنا إلى أنّها بصدد أمر آخر، و هو انّ الراوي تعجب من أن تكون الفأرة الصغيرة سبباً لحرمة زيت أو سمن الخابية، فأجاب الإمام) عليه السلام (بأنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء من غير فرق بين الصغير و الكبير، و أمّا كون نجاسة الملاقي من شئون الملاقى أو فرد آخر فليس بصدد بيانه.

إلى هنا تمّ دراسة قول ابن زهرة، و إليك دراسة دليل المشهور، فيدل على قولهم أُمور:

1. قوله) عليه السلام (في الخبر المستفيض:» و إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء «(1)فإنّ مفهومه انّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه شيء، و ظاهره هو العلّية و صيرورة الملاقي موضوعاً لأحكام النجاسة لا انّ نجاسة الملاقي نفس نجاسة ذلك الشيء و من توابعها و شئونها و أطوارها.

2. انّ الظاهر من مطهرية الماء و الأرض و الشمس هو كون مسألة الطهارة و النجاسة داخل تحت عنوان السببية و العلّية، فالمطهرات علّة لزوال النجاسة، كما أنّ النجاسات سبب لعروضها على شيء.

ص:530


1- الوسائل: 1/17، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1، 2 و 5.

3. اختلاف الملاقي في كثير من الأحكام عن الملاقى، فلو ولغ كلب في إناء يجب تعفيره، و لو لاقاه شيء لا يجب إلاّ الغَسْل، و مثله وجوب غسل ما لاقى البول مرتين، دون ما إذا لاقى الماء الملاقي له، فيجب مرّة واحدة، و على ذلك جرى مذاق المشهور في أبواب الطهارات و النجاسات، كلّ ذلك يؤيد نظرية المشهور.

الرابع: إذا كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم شرعي يترتب أثر المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين، فلا يجوز بيعهما، و لا بيع أحدهما و لا التوضّؤ بواحد منهما، و ذلك لأنّ الخمر وحده موضوع لحرمة البيع و التوضّؤ فيترتب حكم المعلوم على كلّ من الطرفين من باب المقدمة العلمية.

الخامس: إذا كان المعلوم بالإجمال جزء الموضوع للحكم الشرعي فلا يترتب الحكم عليه، كما إذا شرب أحد المائعين المردّدين بين الخمر و الماء، فلا يحكم على الشارب بالحدّ، لأنّ الموضوع للحدّ هو شرب الخمر، و المعلوم بالإجمال هو نفس الخمر فلا يترتب أثره على شرب أحد الطرفين، و مثله ما إذا علم وجداناً بكون أحد الجسدين ميِّتَ إنسان و الآخر جسد حيوان مذكّى مأكول اللحم، فلا يجوز بيعهما و لا واحد منهما، لعدم ترتّب منفعة محللة مع العلم الإجمالي، و لكن لو مسّ واحداً من الجسدين لا يجب عليه غسل المس، لأنّ المحرز هو مسُّ أحد الجسدين المردّد بين ما يجب على من مسّه الغسل، و عدمه، و الأثر مترتّب على مس ميت الإنسان، و المعلوم بالإجمال هو وجود الميت بين الجسدين.

هذه هي المقدّمات الخمس المؤثرة في استنباط حكم الملاقي و الأقوال فيه ثلاثة:

1. كونه محكوماً بحكم الملاقى في لزوم الاجتناب و الاشتغال.

2. إجراء البراءة و الحكم بطهارة الملاقي.

3. التفصيل الظاهر من المحقّق الخراساني في الكفاية.

ص:531

دليل القائل بلزوم الاجتناب

إنّ محط البحث فيما إذا حصل الملاقاة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين، فعندئذ يحصل بعد الملاقاة علوم ثلاثة:

1. العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر.

2. العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر.

3. العلم بنجاسة الملاقي و الملاقى أو ذاك الطرف، و ذلك لاتحاد حكمها، فيجب الاجتناب عن الجميع بغية الاجتناب عن النجس في البين.

يلاحظ عليه بما مرّ في الأمر الأخير: من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي، كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير، حتى يحصل منه علم بتكليف فعليّ، و إلاّ فلو أحدث على فرض دون فرض، لا يحصل منه العلم به قطعاً، و لذلك لا يكون العلم الإجمالي منجِّزاً في الفروع التالية:

1. لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في أحد الإناءين اللّذين كان أحدهما محكوماً بالنجاسة و وجوب الاجتناب بدليل شرعي، و بما أنّ العلم الإجمالي لا يُحدِث تكليفاً في الإناء المحكوم بالنجاسة، لأنّه محكوم بها و إن لم يكن هناك علم إجمالي، فلا يجري فيه الأصل، للعلم بنجاسته و وجوب الاجتناب عنه، و يجري في الإناء الآخر بلا معارض.

2. لو علم إجمالاً انّه فات منه إحدى الصلاتين: صلاة العصر مع انقضاء وقته، و صلاة العشاء مع بقاء وقته، و بما انّ العلم الإجمالي بفوت إحداهما لا يُحدث تكليفاً في جانب صلاة العشاء، لأنّ صرف الشكّ في الوقت، و إن لم يكن هناك علم إجمالي كاف في لزوم الإتيان بها، فلا يجري فيها الأصل، و إنّما تجري أصالة البراءة أو قاعدة التجاوز في جانب صلاة العصر بلا معارض.

ص:532

3. لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين، ثمّ علم إجمالاً بوقوع نجاسة إما في أحدهما أو في الإناء الثالث، و بما انّ العلم الإجمالي لا يؤثر في جانب الإناءين، لأنّ المفروض وجوب الاجتناب عنهما و لو لم يكن هناك علم إجمالي، فلا يجري الأصل في جانبهما، و يجري الأصل في جانب الإناء الثالث بلا معارض.

هذه الأمثلة و ما ضاهاها داخلة تحت الضابطة السابقة من أنّه يشترط في تنجّز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير و إلاّ فلا يحصل علم فعلي لازم الامتثال على كلّ تقدير، كما لا يجري الأصل في جانب الموضوع المحكوم سابقاً و يجري في جانب الطرف الآخر المشكوك.

و على ضوء هذا، يعلم جواب الاستدلال، لأنّ مورد البحث فيما إذا تقدّم العلم الإجمالي على الملاقاة، و في مثله يكون العلم الإجمالي الأوّل منجِّزاً، و الثاني غير منجِّز، و الثالث ليس علماً جديداً بل تلفيقاً من الأوّلين اللّذين اتضح حكمهما.

أمّا منجِّزية العلم الأوّل فواضح، و أمّا عدم منجِّزية العلم الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الدائر بين وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، أو الملاقى، ليس محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير لافتراض انّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب ببركة العلم الأوّل، و إن لم يكن هناك علم إجمالي ثان، فلا يكون الثاني مؤثراً فيه، كما لا تجري فيه أصالة الطهارة لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الأوّل، و يكون الشك في الملاقي من قبيل الشكّ في الشبهة البدوية و يجري فيه الأصل.

و أمّا العلم الثاني فهو ليس علماً جديداً، بل هو تلفيق من العلمين اللّذين تبيّن حكمهما.

هذا هو الحقّ القراح في الجواب، و إليك دراسة إجابة الشيخ الأنصاري) قدس سره (.

ص:533

تحليل إجابة الشيخ الأنصاري

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بقوله: قلت: إنّ أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقي بالكسر سليم عن معارضة أصالة الطهارة في المشتبه الآخر، و حلّيته، بخلاف أصالة الطهارة و الحلّ في الملاقى) بالفتح (فانّ جريان الأصلين فيه يعارض جريانهما في المشتبه الآخر، و السرّ في ذلك انّ الشكّ في الملاقي) بالكسر (ناش عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين، فالأصل فيهما أصل في الشكّ السببي، و الأصل فيه أصل في الشكّ المسببي، و قد تقرّر في محلّه انّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي، و مع جريان الأصل في الملاقى لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي) بالكسر (و المفروض انّ الأصل في الملاقى سقط لأجل التعارض مع أصل الطرف الآخر، فتصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي بلا معارض.(1)

يلاحظ عليه: أنّه مبنيّ على أنّ الرتب العقلية موضوعة للأحكام الشرعية، فعندئذ يقدم الأصل المتقدّم رتبة على الأصل المتأخر كذلك، فإذا سقط الأصل في الرتبة المتقدمة بالتعارض، تصل النوبة إلى الأصل في الرتبة المتأخرة بلا معارض.

و لكنّه أمر غير صحيح، و ذلك لأنّ المخاطب بقوله:» كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر «هو العرف لا الفيلسوف العارف بدقائق المسائل العقلية، و على ذلك فالخطابات ناظرة إلى المصاديق الخارجية للشك، و المفروض انّ كلّ واحد من الطرف الآخر و الملاقى و الملاقي، مشكوك الطهارة معاً، فيجري فيهما الأصل في عرض واحد، لأنّ المكلّف عند ما يشكّ في طهارة الملاقي) بالكسر (يشكّ في طهارة العدلين الآخرين، فلا وجه لجريان الأصل فيهما قبل جريانه في الملاقى.

ص:534


1- الفرائد: 253.

و بذلك يعلم عدم صحّة الشبهة الحيدرية التي حاولت إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي، ببيان جديد، و حاصلها: انّ كلاً من الطرف و الملاقى و الملاقي) بالكسر (صالح لجريان أصلين في كلّ واحد منها:

1. أصالة الطهارة 2. أصالة الحلية.

و منشأ الشكّ في الحلّية، هو الشكّ في طهارته، فلو ثبتت طهارته، ثبتت حليته، كما لو ثبتت نجاسته، ثبتت حرمته.

و على ذلك فأصالة الطهارة في الطرف و الملاقى) بالفتح (في رتبة واحدة.

و لكن أصالة الطهارة في الملاقي في مرتبة ثانية.

كما أنّ أصالة الحلية في الطرف الآخر هي أيضاً في رتبة متأخرة.

و عندئذ فأصالة الطهارة في الملاقي) بالكسر (و إن كان لا يعارض أصالة الطهارة في الملاقى لما عرفت من أنّ الأصل يجري في الملاقى في رتبة متقدمة على الأصل الجاري في الملاقي، لكن أصالة الحل في جانب الطرف الآخر مع أصالة الطهارة في الملاقي في درجة واحدة فيتعارضان و يتساقطان، و تكون النتيجة انّ الطرف الآخر يكون محكوماً بالحرمة، كما يكون الملاقي محكوماً بالنجاسة.

وجه عدم الصحّة: انّ التعارض مبني على حفظ الرُّتَبِ في جريان الأُصول و انّ أصالة الطهارة تجري في الملاقى و طرفه قبل جريانها في الملاقي، ثمّ في مرتبة متأخّرة تجري فيه أصالة الطهارة التي تعارضها أصالة الحلية في الطرف الآخر بما أنّها أيضاً في درجة ثانية، لأنّها مسببة من أصالة الطهارة فيه.

و قد عرفت أنّ الموضوع لقوله:» كلّ شيء طاهر، كلّ مشكوك «في زمان واحد و المفروض انّ الملاقى مشكوك الطهارة و الحلية في عرض الشكّ في الطرفين.

و الجواب ما ذكرناه فلاحظ.

ص:535

القول بالتفصيل للمحقّق الخراساني

إلى هنا عرفت دليل القولين، أعني: وجوب الاجتناب و عدمه، و إليك دليل القائل بالتفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني في كفايته و حاصل كلامه: إنّ هنا صوراً ثلاث:

الأُولى: ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف و الملاقى دون الملاقي، و ذلك فيما إذا كان العلم الإجمالي متقدماً على الملاقاة و العلم بها، و هذا هو الذي فرغنا من البحث فيه و وجهه واضح كما تقدّم بالبيانين السابقين.

أ: انّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو الظرف الآخر غير منجِّز لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير، لأنّ الطرف الآخر كان واجب الاجتناب فلا يجري فيه الأصل و يجري في الملاقي بلا معارض.

ب: ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري من تقدّم جريان الأصل في السببي أي الملاقى على المسببي أي الملاقي فإذا تعارض الأصلان في ناحية السببي تصل النوبة حينها إلى المسببي فتجري بلا معارض.

الثانية:(1) ما يجب فيه الاجتناب عن جميع الأطراف: الملاقى و الملاقي و الطرف الآخر. و ذلك إذا علم بالملاقاة، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر فعندئذ يحدث العلم الإجمالي متعلّقاً بالجميع و تكون الثلاثة معاً طرفاً للعلم.

الثالثة: ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي و الطرف الآخر دون الملاقى.

و قد مثّل لذلك مثالين:

ص:536


1- هذه هي الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني قدمناها لأجل وضوح حكمها بخلاف الصورة الآتية التي جاءت في كلامه لبيان الصورة الثانية فإنّ فيها غموضاً بياناً و إشكالاً.

الأوّل: لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي(1) و نجاسة شيء آخر ثمّ حدث العلم بالملاقاة و العلم بنجاسة الملاقى و ذاك الشيء أيضاً، فانّ حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال الملاقي في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي و انّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة أصلاً لا إجمالاً و لا تفصيلاً.

مثلاً علم نجاسة يده أو نجاسة الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بملاقاة اليد للجانب الأيمن منها على وجه يكون العلم متأخراً و المعلوم) الملاقاة (متقدماً ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها، فالعلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين غير منجّز و لا مؤثر، و ذلك لأنّ الجانب الأيسر قد وجب الاجتناب عنه بحكم العلم الإجمالي الأوّل، فلا يجري فيه الأصل و يجري في طرفه أي الجانب الأيمن بلا معارض.

فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد و الجانب الأيسر، بحكم العلم الإجمالي الأوّل و عدم وجوب الاجتناب عن الجانب الأيمن لعدم منجّزية العلم الثاني، و هذا هو الذي قال فيه المحقّق الخراساني: يجب الاجتناب عن الملاقي و الطرف الآخر دون الملاقى.

الثاني: لو علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي و لكن كان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء في حال حدوث العلم الإجمالي و قد وقع محلاً للابتلاء بعد حدوث العلم، مثلاً، لو لاقت يده إحدى السجادتين ثمّ علم إجمالاً بنجاسة هذه السجادة أو السجادة الأُخرى و لكن كانت السجادة الأُولى حين حدوث العلم الإجمالي خارجة عن محل الابتلاء بأن سرقها سارق و أخرجها من البلد، ثمّ عثر

ص:537


1- الملاقاة متقدمة وجوداً و متأخرة علماً و لذلك قال: حدث العلم بالملاقاة، فالحادث هو العلم لا المعلوم، فتدبر.

عليها و صارت محلاً للابتلاء.

و بما انّ الملاقى عند حدوث العلم كان خارجاً عن محلّ الابتلاء لم يكن العلم الإجمالي محدثاً للتكليف بالنسبة إليها، و عندئذ يقوم الملاقي بحكم وحدة حكمهما في الواقع مكانه و يكون طرفاً للعلم الإجمالي و تُصبح النتيجة وجوب الاجتناب عن اليد و السجادة الثانية و يكون العلم الإجمالي منجِّزاً.

و لكن عودة السجادة الأُولى إلى محل الابتلاء لا يجعلها طرفاً للعلم الإجمالي لخروجها عند حدوث العلم الإجمالي.

هذا توضيح ما في الكفاية.

و لنا معه نقاش في كلا الموردين من الصورة الثالثة.

أمّا النقاش في المورد الأوّل فنقول: إنّ هنا تصويرين:

التصوير الأوّل: أن يكون العلم الإجمالي الأوّل ثابتاً غير زائل عند حدوث العلم الثاني، مثلاً إذا علم نجاسة يده أو الجانب الأيسر من السجادة ثمّ علم بالملاقاة على وجه يكون العلم و المعلوم) الملاقاة (متأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل ثمّ علم بنجاسة أحد الجانبين منها من دون أن تكون نجاسة اليد مستندة إلى الملاقاة، ففي مثل هذه الصورة يصحّ ما ذكره من وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، لأنّ العلم الإجمالي نجّز وجوب الاجتناب عن الجانب الأيسر مع اليد، فلا يكون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة أحد الجانبين محدثاً للتكليف في الأيسر لكونه محكوماً بوجوب الاجتناب من قبل، و لأجل ذلك لا يجري فيه الأصل، و بالتالي يجري في الجانب الأيمن بلا معارض.

و من المعلوم انّ هذه الصورة خارجة عن محطّ البحث، لأنّه فيما إذا كان للملاقاة أثر في وجوب الاجتناب و تأثير في نجاسة الملاقي أمّا في هذه الصورة فليس للملاقاة أي أثر، فلا معنى لطرحه في البحث، و ليس هذا أيضاً مقصوده،

ص:538

و يشهد بذلك انّه فرض كون الملاقاة متقدمة وجوداً و متأخّرة علماً و ليس لهذا الفرض) تقدّم الملاقاة وجوداً (وجه سوى كونه أساساً للعلم الإجمالي الأوّل و إلاّ يكون وزانه وزان ما علم بنجاسة أحد الإناءين الأصغر و الأكبر ثمّ علم إجمالاً أيضاً بنجاسة الإناء الأكبر أو الإناء الثالث، و من المعلوم انّ هذا النوع من العلم الإجمالي لا يؤثر، لأنّ الإناء الأكبر صار محكوماً بوجوب الاجتناب بتنجز العلم الإجمالي الأوّل، فلا يكون للعلم الإجمالي الثاني تأثير بالنسبة إلى الإناء الأكبر و يكون الإناء الثالث مجرى للأصل بلا معارض.

التصوير الثاني: تلك الصورة و لكن كان للملاقاة تأثير و انّه لو كان الملاقي نجساً فإنّما هي لأجل ملاقاته للجانب الأيمن من السجادة، ففي مثل هذه الصورة ينهار العلم الإجمالي الأوّل و يظهر خطؤه، لأنّ نجاسة الملاقي على فرضها ناجمة من نجاسة الملاقى و انحصار سبب نجاسة الملاقى بالملاقاة و إن لم يصرّح به في متن الكفاية إلاّ أنّه صرّح به في حاشيتها و وجه الحاجة إلى القيد واضح.(1)

و عندئذ ينقلب العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين نجاسة اليد و الجانب الأيمن إلى علم إجمالي آخر و هو نجاسة أحد الجانبين من السجادة، فلو كانت اليد نجسة فإنّما هو لملاقاتها فيزول العلم الإجمالي الأوّل، و يبقى العلم الإجمالي الثاني و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الجانبين على خلاف ما ذكره المحقّق الخراساني.

و أمّا الملاقي فبما انّ العلم بالملاقاة كان متحقّقاً قبل العلم الإجمالي الثاني الذي هو العلم الحقيقي فينضم الملاقي إلى الملاقى و يكونان معاً طرفاً للعلم الإجمالي و الطرف الآخر هو الجانب الأيسر و يشبه هذا المورد الصورة الثانية في كلامنا أو الصورة الثالثة في كلام المحقّق الخراساني. و تكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى و الطرف الآخر، و إليك الكلام في المورد الثاني.

ص:539


1- فوائد الأُصول: 4/85.

تحليل المورد الثاني: أعني ما إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر قبل الملاقاة لكن كان الملاقى حين حدوث العلم خارجاً عن محلّ الابتلاء، فحينئذ يقع الملاقي طرفاً للعلم و يحلّ محلَّ الملاقى و بالتالي: لا وجه للاجتناب عن الملاقى و لو دخل محل الابتلاء ثانياً.

يلاحظ عليه: أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إنّما يكون مانعاً عن جريان الأصل إذا لم يترتب عليه أثر، دون ما إذا كان له أثر حتى في هذه الحالة أيضاً، و الأثر المترتب على الأصل الجاري في الملاقى الخارج عن محلّ الابتلاء هو طهارة ملاقيه، و عند ذلك، يجري الأصل في الملاقى و إن كان خارجاً عن محلّ الابتلاء و يتعارض مع جريانه في الطرف الآخر، و يتساقطان، و على ذلك لو عاد الملاقى إلى محلّ الابتلاء وجب الاجتناب عنه، لأنّه لأجل ترتّب الأثر عليه لم يخرج عن كونه طرفاً للعلم.

و أمّا الملاقي، فالظاهر وجوب الاجتناب عنه، لأنّه لمّا كانت الملاقاة متقدمة على العلم الإجمالي وجوداً و علماً فقد حدث العلم الإجمالي و المكلّف عالم بملاقاة اليد بإحدى السجادتين، فيتعلق العلم الإجمالي بالثلاثة مرّة واحدة غاية الأمر يشكِّل مجموع الملاقى و الملاقي طرفاً و الشيء الآخر طرفاً آخر.

هذا هو حال التفصيل للمحقّق الخراساني و النتيجة هي الموافقة معه في الصورة الأُولى و الثانية، و أمّا الثالثة، فحكمها هو الاجتناب عن جميع الأطراف حتى الملاقى على ما عرفت.

ثمّ إنّه ينبغي طرح ضابطة يعلم بها حكم الموارد التي لا يجب الاجتناب عن الملاقي عمّا يجب، و سيوافيك قريباً.

ص:540

بقيت هنا أُمور:
الأوّل: ما هي الضابطة لتميز موارد الاجتناب عن غيرها

إنّ الضابطة لتمييز موارد الاجتناب عن غيرها عبارة عن وقوع الملاقي طرفاً للعلم حين حدوثه سواء كانت الطرفية محرزة حين حدوث العلم أو صارت مكشوفةً بالعلم الثاني، و لأجل إيضاح القاعدة نأتي بأمثلة:

1. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقدماً على الملاقاة و العلم بها، فلا شكّ انّه يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى لما عرفت من البيانين:

أ: انّ العلم الإجمالي الأوّل منجز دون العلم الإجمالي الثاني الدائر بين نجاسة الملاقي و الطرف الآخر.

ب: تقدّم الأصل السببي على المسببي فيتعارض الأصل في السببي) الملاقى (مع طرف الآخر و يجري في المسببي) الملاقي (بلا تعارض.

2. لو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين متقارناً مع العلم بالملاقاة، فلا شكّ أنّ الملاقي طرف للعلم ضرورة حدوث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى و الملاقي و الطرفِ الآخر.

و على ذلك فكلّما كانت الملاقاة وجوداً و علماً بها متأخرة لا يجب الاجتناب عن الملاقي لانعقاد العلم الإجمالي مؤثراً قبل الملاقاة، فلا يكون الملاقي طرفاً للعلم، بخلاف ما إذا حصل العلم الإجمالي و الملاقاة و العلم بها دفعة واحدة فيقع الملاقي باعتبار وحدة الزمان طرفاً للعلم لا خارجاً عنه.

3. لو كان العلم الإجمالي متأخّراً عن الملاقاة علماً لا معلوماً) وجوداً (كما إذا

ص:541

وقعت قطرة من الدم بين الإناءين يوم الخميس و لم يقف عليه، ثمّ علم بملاقاة الثوب لأحد الإناءين يوم الجمعة، ثمّ علم يوم السبت بوقوع قطرة بين الإناءين يوم الخميس على وجه يكون المعلوم) وقوع القطرة ( متقدماً، و العلم بها متأخراً، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أو لا؟ الظاهر نعم، إذ لا أثر لتقدم المعلوم) وقوع القطرة في أحد الإناءين يوم الخميس (و لذلك لم يتنجّز الحكم بالاجتناب عن الإناءين لعدم العلم و التنجز من آثار العلم لا من آثار المعلوم، و المفروض انّ العلم بالملاقاة كان متقدّماً على العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين، فإذا طرأ العلم الإجمالي يكون الملاقي طرفاً للعلم و يشبه الصورة الثانية التي قلنا بوجوب الاجتناب عن الجميع.

4. إذا تقدّم حدوث النجاسة وجوداً و تحقّقت الملاقاة وجوداً كذلك بلا علم بهما، ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين و الملاقاة مترتباً.

و في المقام تحقّقت الملاقاة قبل العلم الإجمالي و لكن حصل العلم بها بعده، فالعلم الإجمالي بنجاسة المشتبهين متوسط بين وقوع الملاقاة، و العلم بها.

فهل يلحق بالصورة الأُولى بحجّة انّ العلم بالملاقاة متأخّر أو يلحق بثانية الصور و ثالثتها؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ العلم بالملاقاة و إن كان متأخّراً عن العلم الإجمالي لكنّه كشف عن وجود الملاقاة واقعاً قبل العلم الإجمالي، و العلم الإجمالي و إن تعلق بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر لكن بعد العلم بالملاقاة و تحقّقها قبل العلم الإجمالي ينقلب متعلّق العلم و يصير أحد طرفيه مركباً و الآخر بسيطاً و انّ العلم كان ناقصاً من حيث بيان الطرف فيجب الاجتناب عن الجميع.

و بذلك اتّضحت الضابطة الكلية في حكم الملاقى و انّ المقياس هو كون الملاقي طرفاً واقعياً للعلم حين حدوثه أو علم طرفيّته بعد حدوثه.

ص:542

الثاني: في شرطية العزم على الإتيان بالجميع في صدق الامتثال

ذهب الشيخ في الشبهات البدئية إلى أنّه يكفي في تحقّق الامتثال مجرد قصد الأمر المحتمل و لكنّه اشترط في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لزوم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، و لازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين، قاصداً للإتيان بالآخر، و لو لا ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، قال: إنّ النيّة في كلّ من الصلوات المتعدّدة بالنحو التالي: ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً لإحراز الواجب الواقعي المردّد بينها و بين صاحبها تقرباً إلى اللّه على أن يكون القرب علّة للإحراز الذي جعل غاية للفعل، و يترتّب على هذا انّه لا بدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر إذ النيّة المذكورة لا تتحقق بدون ذلك، لأنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي، على كلّ تقدير بل هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ اللازم في امتثال الأُمور العبادية هو الإتيان بها لأجله سبحانه، إمّا لأجل أمره قطعياً كان أو احتمالياً و لأجل ذلك يصح الاغتسال للجنابة و إن لم يعلم بها، و هذا الملاك متحقّق في الأمرين اللّذين يعلم بوجوب أحدهما، و ما ذكره من» أنّه يجب أن يأتي لإحراز الواجب الواقعي تقرباً إلى اللّه و هو لا يتحقّق عند الاقتصار بأحد الفعلين «غير تامّ، لأنّ لإحراز الواجب مرتبتين، تارة تكون الغاية من الإتيان، هو الإحراز على كلّ تقدير، و أُخرى الإحراز على بعض التقادير، و على كلّ تقدير فهو بصدد إحراز الواجب لأجله سبحانه غير انّ الإحراز تارة يكون قطعياً و أُخرى ظنّياً و الإحراز الظنّي قسم منه.

ص:543


1- الفرائد: 270 و 271، طبعة رحمة اللّه.
الثالث: في تقدّم الامتثال القطعي على التعليقي

إذا كان الواجب المشتبه، أمرين مترتبين شرعاً كالظهر و العصر المردّد بين القصر و الإتمام أو المردّد بين الجهات الأربع، فهل يعتبر في صحّة الدخول في محتملات الواجب اللاحق، الفراغ اليقيني من الأوّل بإتيان جميع محتملاته كما صرح به في الموجز و شرحه، و المسالك، و الروض و المقاصد العلية أو يكفي فعل بعض محتملات الأول بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الإتيان بمجموع محتملات المشتبهين كما عن نهاية الأحكام و المدارك فيأتي بظهر و عصر قصراً، ثمّ يأتي بهما تماماً، و قد ذكر الشيخ لكلّ من الاحتمالين وجهاً.(1)

و قوّى القول الثاني بقوله: إنّ أصالة عدم الأمر بالنسبة إلى الإتيان ب» محتملات العصر «إنّما تقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به و محتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعاً كما إذا صلّى العصر إلى غير الجهة التي صلّى الظهر.

و أمّا ما لا يحتمله إلاّ على تقديره وجود الأمر، كما إذا صلّى العصر إلى الجهة التي صلّى إليها الظهر، فلا يقتضي الأصل المنع عنه.(2)

و لكن ذهب المحقّق النائيني إلى عدم الجواز قائلاً: إنّ الامتثال التفصيلي مقدّم على الامتثال الإجمالي، فإنّ إحراز القبلة على وجه التفصيل و إن كان غير ممكن إلاّ أنّ إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع في العصر و انّ العصر واقع بعده أمر ممكن فيجب تحصيله.(3)

يلاحظ عليه بوجهين:

1. انّه مبني على تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي، و هو ممنوع، لما عرفت

ص:544


1- الفرائد: 270 و 271، طبعة رحمة اللّه.
2- الفرائد: 272.
3- فوائد الأُصول: 1404/139 بتلخيص.

من جواز العمل بالاحتياط و ترك الاجتهاد و التقليد.

2. انّ ما يتوخّاه المستدل) إحراز فراغ ذمّته عن صلاة الظهر عند الشروع بالعصر و انّ العصر واقع بعده (حاصل في كلتا الصورتين، لأنّ ما بيده من محتملات العصر لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون إلى القبلة، فعندئذ يعلم أنّ ذمته فرغت عن صلاة الظهر و يكون ما بيده واقعاً بعد الظهر حتماً و يكون كلا الأمرين حاصلين، غاية الأمر بصورة تعليقية; أو لا يكون إلى القبلة، فتكون الصلاتان، أشبه بالحركات الفارغة أو الصلوات التمرينية التي لا يترتب عليها أثر حتى يحتاج إلى إحراز شرطه و هو فراغ ذمّته عن الظهر أوّلاً، و كون العصر واقعاً بعده إذ المفروض انّه ليس بصلاة بل صورتها.

و الحاصل انّ الشرط إمّا حاصل تفصيلاً و لكن تعليقاً، و إمّا لا حاجة إلى إحراز الشرط.

الرابع: في حكم الخنثى المشكل

العلم الإجمالي بالتكليف تارة يكون ناجماً من الترديد في المكلَّف به، كدوران الواجب بين الظهر و الجمعة، و الحرام بين أحد الإناءين، و أُخرى من الترديد في نفس المكلَّف، و أنّه هل هو رجل أو امرأة، كما هو الحال في الخنثى المشكل، بناء على انّه ليس طبيعة ثالثة، بل هو إمّا رجل أو امرأة.

لا شكّ أنّ هناك أحكاماً مشتركة بين الجنسين كالصلاة و الصوم و الخمس و الزكاة فيجب عليه امتثالها سواء أ كان رجلاً أم امرأة، لكنّ هناك أحكاماً مختصة بكلّ جنس، فهو يعلم أنّه مخاطب بحكم أحد الجنسين كالأحكام التالية:

أ: حرمة لبس أحد لباسي الرجل أو المرأة المختصين بهما.

ب: حرمة النظر إمّا إلى الرجل أو المرأة.

ص:545

ج: حرمة التكلّم مع الرجل أو المرأة بناء على حرمته إلاّ في الأُمور الضرورية.

د: حرمة استماع كلام الرجل، أو المرأة على القول به.

ه. حرمة كشف أحد قبليه، و أمّا الدبر فهو محرّم الكشف مطلقاً.

و: حرمة التزويج أو التزوج لوجوب إحراز الرجولية في الزوج أو الانوثية في الزوجة.

و لكن يجوز لكلّ من الرجل و المرأة النظر إليه، و التكلّم معه و استماع صوته لكون المورد بالنسبة إليهما من قبيل الشبهة الموضوعية.

نعم مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط، و الجمع بين التكليفين، و لكنّه يتوقف على ثبوت أمرين:

الأوّل: انّ الخنثى هو الذي له ذكر و فرج امرأة، و ينقسم إلى مشكل و غير مشكل، فما فيه علامات الذكورية أو الأُنوثية يحكم عليه حسب العلامات، و إنّما الكلام في القسم المشكل الذي حاول الفقهاء أن يبيّنوا الحكم الشرعي في حقّه.

و اعلم أنّ المحاولة في المقام لحلّ مشكلة الخنثى على أساس أنّه ليست طبيعة ثالثة، و انّه إنّما هو ذكر أو أُنثى، و يمكن استظهاره من قوله سبحانه: (أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى ) (1)فالآية تبيّن أنّ الإنسان إمّا ذكر أو أُنثى، حيث جعل المقسم، الإنسان، و الخنثى داخل في المقسم فيكون داخلاً في أحد القسمين، فكان قوله سبحانه: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ) بمعنى صيّره و قسّمه إلى قسمين: الذكر و الأُنثى:

ص:546


1- القيامة: 36 39.

و يؤيده أيضاً قوله سبحانه: (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ )(1)، و الآية ظاهرة في حصر الولد في أحد الأمرين و لو كان طبيعة ثالثة يبطل الحصر و تؤيده الروايات حيث ورّثوه حسب الاختبارات المذكورة في كتاب الإرث.

ففي صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (: سئل عن مولود ولد، له قبل و ذكر، كيف يُورث؟ قال:» إن كان يبول من ذكره فله ميراث الذكر، و إن كان يبول من القبل فله ميراث الأُنثى «.(2)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في اختباره.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الإسلام يعامله أحد الجنسين لا جنساً ثالثاً.

و أخيراً قد أصبح معرفة الخنثى و أنّه هل هو ذكر أو أُنثى من السهولة بمكان، و ذلك بفضل التقدم العلمي الهائل في مجال الطب، حتى أصبح بالإمكان إجراء عملية جراحية بغية التعرّف على أنّه من أيّ واحد من الجنسين.

الثاني: انّ مقتضى القاعدة الأوّلية في حقّه هو الاحتياط فلا يتزوج أبداً، و لا ينظر إلاّ إلى المحارم، و لا يُرى بدنه إلاّ لهم و يتجنب عن مختصات الجنسين، لكنّها إنّما تتم إذا لم يوجب حرجاً و إلاّ فله الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقاً أو بقيد القرعة و يستمرّ، عليه إذ التخيير بدويّ لا استمراريّ.

ص:547


1- الشورى: 49.
2- الوسائل: 17، الباب 1 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 1.
المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل و الأكثر

و قبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:

1. قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلى شبهة تحريمية و شبهة وجوبية، و منشأ الشكّ في كلّ، تارة فقدان النص، و أُخرى إجمال النص، و ثالثة تعارض النصين، و رابعة اختلاط الأُمور الخارجية.

و بما أنّ تقسيم الشبهة التحريمية إلى المسائل الأربع، تصوير ذهني ليس لها واقع خارجي، سوى الشبهة الموضوعية ركّزنا البحث في الشبهة التحريمية عليها و قسمناها إلى محصورة و غير محصورة.

و أمّا الشبهة الوجوبية فلها وراء المسائل الأربع تقسيم آخر، و هو أنّ الواجب يدور تارة بين المتباينين و أُخرى بين الأقل و الأكثر، و بما انّ حكم المتباينين واضح و هو وجوب الاحتياط بين المشتبهين ركزنا البحث على الأقل و الأكثر.

2. انّ الأقل و الأكثر ينقسمان إلى الاستقلاليين و الارتباطيين، و الفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي على فرض وجوبه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، كالفائتة المرددة بين الواحد و الكثير، و الدّين المردّد بين الدرهم و الدرهمين، بخلاف الأقلّ الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر، متّحد معه حكماً و وجوباً، ملاكاً و غرضاً، طاعة و امتثالاً، و لا استقلال له في شيء من الأُمور الثلاثة، كالشكّ في وجوب الصلاة مع السورة و عدمها.

ص:548

و بما ذكرنا يعلم أنّ ما هو المقصود من الشبهة التحريمية أعني: الشبهة الموضوعية ليس له إلاّ قسم واحد، و هو الأقل و الأكثر الاستقلاليين، و لا يتصوّر له إلاّ قسم واحد، بخلاف الشبهة الوجوبية فبما انّ البحث فيها لا ينحصر بالموضوعية بل يعمّ المسائل الثلاث، ينقسم إلى الأقلّ و الأكثر الاستقلاليين أو الارتباطيين، و قد أشار الشيخ إلى ما ذكرنا في الفرائد، قال: إنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشكّ في المكلّف به صورة دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشكّ في أصل التكليف، لأنّ الأقلّ حينئذ معلوم الحرمة و الشكّ في حرمة الأكثر.

3. انّ (1) المشكوك من الشبهة الوجوبية، تارة يكون الجزء الخارجي كالسورة و القنوت، و جلسة الاستراحة بعد السجدتين، و أُخرى الخصوصية الموجودة في العبادة، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات و المسحات بنية التقرب، و ثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال، أو المردّد بين الأُمور الثلاثة.

و سيوافيك انّ التقسيم الأخير، لا تأثير له في الحكم، و لكن المحقّق الخراساني طرح أمر الجزء في المقام و أحال البحث عن الأمرين إلى التنبيهات، و لكن الشيخ قد بحث في كلّ قسم مستقلاً.(2) و نحن إثر الشيخ ) قدس سره (و نبحث في مقامين نقدّم البحث في الجزء على البحث في الشرط و القيد المشكوك:

4. انّ الأقوال في الأقل و الأكثر الارتباطيين، لا تتجاوز عن ثلاثة:

أ: جريان البراءة العقلية و الشرعية.

ب: القول بالاحتياط و عدم جريانهما.

ج: التفصيل بين العقلية و الشرعية تجري الأُولى دون الثانية.

ص:549


1- الفرائد: 262.
2- لاحظ الفرائد: 272 في القسم الأوّل و 284 في القسم الثاني.
المقام الأوّل: في الجزء المشكوك

إذا عرفت ذلك، فاعلم أن القائلين بجريان البراءتين في الجزء المشكوك استدلوا بوجوه:

الأوّل: الأقل واجب إمّا نفسيّاً أو غيرياً

قال الشيخ الأعظم: إنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل مطلقاً وجب الأقل أو الأكثر، و شك بدويّ في وجوب الأكثر، فتجري البراءة في المشكوك دون المعلوم، أمّا كون الأقل واجباً على كلّ تقدير، لأنّه لو كان الواجب هو الأقل، يكون واجباً نفسياً و لو كان الواجب هو الأكثر يكون الأقل واجباً غيرياً، فإلزام المولى في مورده مقطوع و في غيره مشكوك.(1)

يلاحظ عليه بأُمور:

1. أنّه مبني على وجوب مقدّمة الواجب، و قد فرغنا من عدم وجوبها بل لغوية وجوبها، و لأنّ الهدف من إيجابها هو إيجاد الداعي، فلو كان الأمر بذي المقدمة كافياً في الدعوة إلى ذيها، لكفى في الدعوة إلى المقدّمة و إلاّ لما كان الأمر المقدمي داعياً إلى المقدمة.

2. إذا قلنا بوجوب المقدّمة فإنّما نقول بوجوبها في المقدمات الخارجية، أعني: فيما إذا كانت هناك اثنينية بين المقدمة و ذيها، دون ما إذا كانت المقدّمة نفس ذي المقدمة و كانت المغايرة بينهما اعتبارية.

3. انّ غايته هو العلم بالوجوب الجامع بين النفسي و المقدّمي، و مثل هذا وجوب انتزاعي يدركه العقل، و مثل هذا لا يكون سبباً للانحلال، لأنّ المراد من الانحلال هو العلم لوجوب الأقل شرعاً وجوباً مجعولاً لا وجوباً منتزعاً.

ص:550


1- الفرائد: 274.
الثاني: الأقل واجب إمّا استقلالي أو ضمني

إنّ الكل واجب بوجوب استقلالي، و الأجزاء واجبة بوجوب ضمني، و على هذا لو كان الواجب هو الأقل يكون وجوبه استقلالياً و لو كان الواجب هو الأكثر يكون وجوبه ضمنياً واجباً في ضمن الأكثر، و على كلّ تقدير يكون التكليف بالأقل معلوماً، و العقاب على تركه عقاباً مع البيان.

و الحاصل انّ هنا أمراً واحداً متعلّقاً بالمركب بما هو هو، غير انّ انبساط الأمر عليه يوجب وجوب كلّ جزء جزء بوجوب ضمني، و الأمر الضمني هو مقتضى انبساط الأمر على الأجزاء، و لذلك يكون الآتي بكلّ جزء موجباً لسقوط الأمر الضمني المتعلّق، دون الأمر المتعلّق بالمركب، على ذلك يكون العقاب على ترك المركب لأجل ترك الأجزاء المعلومة) الأقل (عقاباً مع البيان لكن العقاب على تركه بترك الجزء المشكوك، عقاباً بلا بيان.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ لازم أو صريح ذلك التقريب وجود أمرين في كلّ مركب أحدهما استقلالي و الآخر ضمني، و يتعدّد الضمني حسب تعدّد الأجزاء لكنّه غير تام، و ذلك لأنّ الإتيان بالأجزاء بنفس دعوة الأمر المتعلّق بالكلّ لا بأمر ضمني كما في التقرير الثاني و لا بأمر غيري كما في التقرير الأوّل، بل بنفس الأمر المتعلّق بالمركب.

فإذا قال المولى: ابن مسجداً، فالإتيان بالمواد الأوّلية و وضعها في مكانها إنّما هو بدعوة الأمر ببناء المسجد و يعد امتثالاً لذلك الأمر المتعلّق بالعنوان، لكن امتثالاً تدريجياً و ليس لبنائه حقيقة وراء الامتثال التدريجي.

ص:551


1- نسبه المحقّق الخوئي في مصباح الأُصول: 2/428 إلى الشيخ الأنصاري، و لم أعثر عليه في كلماته، نعم كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي يعتمد على ذلك الوجه في درسه الشريف.

و ثانياً: أنّ الجمع بين الأوامر الضمنية الحقيقية و الأمر الاستقلالي جمع بين المخالفين، فانّ الأمر الاستقلالي المتعلّق بالعنوان الوحداني يتوقف على ملاحظة الأجزاء فانية في العنوان و لا تتوجه النفس إلاّ إلى العنوان، و لكن تعلّق الأمر الضمني بكلّ جزء يلازم لحاظ كلّ واحد من الأجزاء مستقلاً غير فان في العنوان و هما لا يجتمعان.

و الحاصل: أنّ الأمر الضمني في هذا التقرير ليس أمراً وهميّاً بل أمر واقعي، و الجمع بينه و بين الأمر الاستقلالي جمع بين لحاظين مختلفين، فتعلّق الأمر الاستقلالي رهن فناء الأجزاء في العنوان و عدم لحاظها إلاّ فانية فيها، لكن تعلّق الأمر الضمني رهن لحاظ الأجزاء مستقلة كلّ واحدة تلو الأُخرى.

و هذا التقرير سمعناه من سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في بحث الصلاة و الفرق بينه و بين التقرير السابق واضح. و هناك تقرير ثالث للقول بالبراءة العقلية أبدعه سيدنا الأُستاذ بترتيب مقدّمات مختلفة، و نأتي به في ضمن أمرين.

الثالث: الأقل واجب نفسيّاً

و هذا الوجه ممّا أبدعه سيدنا الأُستاذ، و توضيحه مبني على مقدّمات نأتي بملخّصها:

المقدّمة الأُولى: انّ المركب إمّا حقيقي أو صناعي أو اعتباري،

ففي الأوّل تتفاعل الأجزاء بعضها مع بعض و تخرج الأجزاء عن الاستقلال و الفعلية و يحصل من التفاعل صورة وحدانية تفنى فيها الأجزاء و لا يبقى لها فعلية.

و هذا كالمحاليل الكيمياوية و المعاجين فانّ أجزاءها تفقد فعليّتها و يؤثّر كلّ في الآخر بنفي صورته و يحصل من ذلك التفاعل، صورة ثالثة تعرف بها، كالماء المركب من جزءين هما الأوكسيجين و الهيدروجين، و كالملح المركب من

ص:552

الصوديوم و الكلور، إلى غير ذلك من الأمثلة.

و في الثاني تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها التكوينيّة، غير انّها لا تلحظ بهذا الوصف عند ملاحظتها تحت عنوان واحد، و هذا نظير البناء فانّ كلّ جزء فيه باق على فعليته لكنّه غير ملحوظ بشخصه عند ملاحظته تحت عنوان واحد كعنوان البناء.

و يقرب من الثاني مثل الفوج و العشرة و الصلاة، فانّ كلّ جزء باق على فعليته، غير فان في الكلّ، و لكنّه غير ملحوظ بحياله و استقلاله عند لحاظ جميع الأجزاء تحت عنوان واحد كالفوج و غيره.

و بعبارة أُخرى: انّ المركب الاعتباري الذي هو موضوع البحث له صورة اعتبارية تنحلّ فيها الأجزاء في مقام الاعتبار تحليلاً اعتبارياً حقيقياً، و في الوقت نفسه تبقى الأجزاء محتفظة بفعليتها.

المقدمة الثانية: انّ وحدة الإرادة تابعة لوحدة المراد،

فإذا كان المراد واحداً حقيقة أو متكثراً و لكن ملحوظاً تحت عنوان واحد، تتعلّق به إرادة واحدة، و هذا بخلاف ما إذا كان متكثراً حقيقة فلا يعقل تعلّق إرادة واحدة به.

و بصياغة فنية انّ تشخص الإرادة بتشخص المراد فيتبع في وحدتها و كثرتها، وحدته و كثرته.

و منه يعلم حال الأمر فانّ وحدة الأمر و تعدّده تابع لوحدة المتعلّق و كثرته، فلو كان المتعلق كثيراً بالذات فلا يمكن أن يتعلّق به أمر واحد.

اللّهمّ إلاّ إذا لوحظت الكثرات في ثوب الوحدة و يتخذ لنفسه عنواناً واحداً، فعندئذ يتعلّق به أمر واحد.

المقدّمة الثالثة: انّ الصور في المركبات الاعتبارية ليست أمراً مغايراً للأجزاء بالأسر

بل هو عينها حقيقة، إذ ليس المراد من الصورة إلاّ الأجزاء في لحاظ

ص:553

الوحدة، كما أنّ الأجزاء عبارة عن الأُمور المختلفة في لحاظ الكثرة، و هذا لا يوجب أن يكون وجود الصورة غير وجود الأجزاء.

و بتعبير آخر: انّ الصورة هي نفس الأجزاء بلحاظ الوحدة كما أنّ الأجزاء نفس الصورة لكن بلحاظ الكثرة، فالأجزاء تفصيل الصورة البسيطة كما أنّ الصورة إجمال الأجزاء المفصّلة المختلفة.

و من هنا يعلم أنّ المقام يختلف عن باب المحصِّل) بالكسر (و المحصَّل) بالفتح (الذي اتّفق المشهور على جريان الاشتغال فيه، حيث إنّ الأجزاء باسم الأجزاء المحصّلة) بالكسر (غير الواجب المحصّل) بالفتح (، مثلاً:

لو قلنا بأنّ الوضوء اسم للطهارة النفسانية، و الغسلات و المسحات محقِّقة لها و محصّلة إيّاها، و عندئذ لو شككنا في وجوب شيء خامس كالمضمضة أو الاستنشاق وراء الغسلتين و المسحتين يجب الاحتياط، لأنّ ما تعلّق به الأمر ليس فيه قلّة و لا كثرة، حتى ينحل العلم الإجمالي و تجري فيه البراءة، و ما فيه القلة و الكثرة، ليس متعلّقاً للأمر و إنّما هو محصِّل للواجب و العقل عندئذ يحكم بأنّ الاشتغال اليقيني بأمر معلوم الجزء المشكوك يحصل اليقين بحصول الحالة النفسانية.

و هذا بخلاف المقام فإنّ الأجزاء عين الصورة لكن في لحاظ الكثرة كما أنّ الصورة عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة، فليس بينهما فرق إلاّ بالإجمال و التفصيل، كما هو الحال في العشرة، فهي نفس الأفراد لكن بصورة الجمع في التعبير، و الأفراد نفس العشرة لكن بصورة التفصيل في البيان، فليس هناك اثنينية و تعدّد حتى يكون أحدهما محصِّلاً و الآخر محصَّلاً، فيدور أمر الواجب بين القليل و الكثير.

ص:554

المقدّمة الرابعة إنّ دعوة الأمر إلى إيجاد الأجزاء إنّما هو بعين دعوتها إلى الطبيعة

لا بدعوة مستقلة و لا بدعوة ضمنية و لا بأمر انحلاليّ و لا بحكم العقل الحاكم بأنّ الإتيان بالكل لا يحصل إلاّ بالإتيان بالأجزاء، و ذلك لأنّ الطبيعة تنحل إلى الأجزاء انحلال المجمل إلى مفصَّله، المفروض انّها عين الأجزاء لكن في لحاظ الوحدة، لا شيئاً آخر، فالدعوة إلى المركب الاعتباري عين الدعوة إلى الأجزاء، مثلاً الأمر بصيام عشرة أيام نفس الأمر بصوم هذا اليوم و ذاك اليوم، كما أنّ الدعوة إلى رفع الجدار بنفس الدعوة إلى بناء البيت لا بدعوة ثانية، و الأمر كما هو حجّة على إيجاد الكلّ فهو بنفسه حجّة على إيجاد الجزء، كما أنّ القيام بكلّ جزء جزء تدريجياً امتثال لنفس الأمر بالكل، و ليس امتثالاً للأمر الضمني المتعلّق به كما قيل و الامتثال كما يكون فوريّاً، يكون تدريجيّاً أيضاً.

المقدّمة الخامسة إنّ مصب الوجوب إنّما هو نفس العنوان لا ذات الأجزاء المردّدة بين الأقل و الأكثر بنعت الكثرة

و إن كان العنوان عين الأجزاء في لحاظ الوحدة، و مع ذلك فمتعلّق الأمر إنّما هو العنوان.

نعم التعبير بأنّ الواجب دائر بين الأقل و الأكثر يومي إلى تعلّق الحكم بالأجزاء رأساً و انّ الواجب بذاته مردّد بينهما، و هو خلاف التحقيق، بل الحكم تعلّق بعنوان غير مردّد في نفسه بين القليل و الكثير، و إن كان ما ينحل إليه العنوان مردّداً بينهما.

إذا عرفت هذه المقدّمات يتضح لك جريان البراءة العقلية.

و ذلك لأنّ الحجّة قامت على وجوب العنوان نحو قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ )،

ص:555

و قيام الحجّة عليه نفس قيامها على الأجزاء، لما عرفت من نسبتها إليه ليس من قبيل نسبة المحصَّل إلى المحصِّل، بل نسبة المفصَّل إلى المجمل، لكن الاحتجاج بالأوّل على وجوب الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء و جزء حتى يكون داعياً إليه، و أمّا مع الشكّ من كونه جزءاً لا يكون الأمر به حجّة عليها و داعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم، و العلم بتعلّق الأمر بالمركب، إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم بتركب المركب إليها دون ما ما لا يكون.

و إن شئت نزّل المقام على ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان، فكما أنّه لا يحتج إلاّ على الأجزاء المعلومة دون المشكوكة، فهكذا المقام فإنّ الأمر و إن تعلّق بالعنوان مباشرة دونها، لكن عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل، فالأجزاء في مرآة الإجمال عنوان، و في مرآة التفصيل أجزاء.

و الحاصل أنّ العبد إذا بذل جهده للعثور على الأجزاء، التي ينحلّ العنوان إليها، فلم يقف إلاّ على التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل، يستقل العقل بأنّه ممتثل حسب قيام الحجّة و يعدّ العقاب على ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.

فإن قلت: إنّ الحجّة قد قامت على العنوان الإجمالي فلا بدّ من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بالإتيان لما قامت الحجّة عليه، و بالجملة إذا قام الدليل على وجوب عنوان، مجمل يجب علينا العلم بالبراءة العقلية و هي رهن الإتيان بالأكثر.

قلت: الإشكال مبني على الخلط بين المقام و الشك في المحصِّل، فانّ ما ذكرته صحيح في الثاني حيث إنّ المحصِّل كالغسلات و المسحات، غير المحصَّل كالطهارة النفسانية، و لو شككنا في اعتبار شيء في المحصِّل بنحو لولاه، لما حصل المحصَّل، يحكم العقل بالاشتغال إلاّ إذا أتى بالمشكوك، و هذا بخلاف المقام فانّ

ص:556

العنوان بالنسبة إلى الأجزاء من قبيل الجمع في التعبير مثلاً تارة يقول: زيد، عمرو، بكر، سعد، خالد; و أُخرى يقول: خمسة أشخاص، فلا فرق بين التعبيرين سوى بالإجمال و التفصيل، و قد قامت الحجّة على المقدار المعلوم انحلاله إليه، دون المشكوك انحلاله إليه، فيكون العقاب بالنسبة إليه من قبيل العقاب بلا بيان.

أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يقال لتصحيح جريان البراءة العقلية، بقي الكلام في أدلّة القائلين بالاشتغال عقلاً، و هي عشرة، نأتي بالمهم منها:

التقريب الأوّل لمنع البراءة:

ما أفاده المحقّق الخراساني

من استلزام جريان البراءة العقلية أمرين:

1. يلزم من فرض تنجز الأقل، عدم تنجزه.

2. يلزم من فرض الانحلال عدمه.

و بيان الأمرين و إن كان لباً واحداً و هو الخلف يحتاج إلى مقدمة، و هي انّ كلّ علم تفصيلي إذا كان متولّداً من علم إجمالي فلا يكون سبباً لانحلاله و إلاّ يلزم أن يكون المعلول هادماً لعلّته و باقياً بعد فنائها، لأنّ المفروض انّه نابع من ذاك العلم الإجمالي، فكيف يمكن أن يكون باقياً بعد إفنائه؟ فالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، نتيجة العلم الإجمالي بأنّه واجب نفسي أو غيري، فلو صار ذاك العلم سبباً لنفي أحد العِدْلين، و هو كونه واجباً للغير، يلزم كون المعلول هادماً لعليّته و باقياً بعد انتفائها.

فلو شككنا في وجوب نصب السلم، و دار الأمر بين كونه واجباً لنفسه أو لغيره، أي للصعود إلى السطح، فالعلم التفصيلي حاصل بوجوب نصب السلم، و لكن الاحتفاظ به فرع حفظ علّته، و هو العلم الإجمالي لوجوبه إمّا نفسياً أو لغيره،

ص:557

و لا يمكن أن يكون محفوظاً مع رفض كونه واجباً للغير و الاكتفاء بوجوبه النفسي.

إذا علم ذلك، فنقول:

يلزم من القول لوجوب الأقل و عدم وجوب الأكثر إشكالان و انّ روحهما واحداً:

يلزم من تنجّز الأقل عدم تنجّزه.

يلزم من الانحلال عدم الانحلال.

و كلاهما خلف.

أمّا الأوّل، فبيانه أنّه يلزم من فرض تنجّز التكليف بالأقل فعلاً عدم تنجّزه كذلك، لأنّ فرض تنجّزه فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره فرع تنجّز التكليف بالأكثر أيضاً، حتى يصحّ أن يقال: انّه واجب إمّا نفسياً أو غيرياً، فلو كان وجوبه كذلك، سبباً لوجوبه، دون وجوب الأكثر، يلزم عدم تنجز الأقل أيضاً كذلك، أي على كلّ حال إمّا لنفسه أو لغيره لذهاب المعلول بذهاب علّته.

و أمّا لزوم عدم الانحلال من الانحلال، فلأنّ الانحلال يستلزم عدم تنجّز التكليف المتعلّق بالأكثر على فرض وجوبه، و هو يستلزم عدم العلم بوجوب الأقلّ مطلقاً، و هو يستلزم عدم الانحلال، فيلزم من فرض وجوده عدمه، و هذا هو المقصود من الدور هنا أي مفسدته، أي عدم الشيء من فرض وجوده.

يلاحظ عليه: أنّ الخلف بكلا الوجهين نابع من كون وجوب الأقلّ مقدميّاً أو ضمنياً ناشئاً من وجوب الأكثر، و عندئذ يلزم من القول بتنجّز الأقل مطلقاً عدم تنجّزه كذلك شأن كلّ علم تفصيلي ناجم من العلم الإجمالي، إذا صار الأوّل سبباً لانهدام الثاني، و أمّا إذا كان وجوب الأقل نابعاً من الوجوب المتعلّق بالعنوان، المحرز بالوجدان، فلا يلزم الخلف لأنّه من قبيل علم تفصيلي نابع من علم تفصيلي آخر، ثابت غير متزلزل، و الشكّ إنّما هو في مقدار ما ينحلّ إليه العنوان الواجب، فهل ينحلّ إلى الأقل فقط أو الأكثر أيضاً.

ص:558

و إن شئت قلت: إذا كان وجوب الأجزاء بعين وجوب الكل و كان امتثال كلّ جزء امتثالاً تدريجياً له، فوجوب الأقل على كلّ تقدير لا يتوقف على إحراز وجوب الأكثر و حفظ العلم الإجمالي، بل يتوقف على العلم بوجوب العنوان أو المركب و المفروض انّ العلم بوجوبهما أمر محرز ثابت، لقوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ).(1)

و على ضوء ذلك فهو يأتي بالأجزاء المعلومة بنية الأمر بالكلّ من أوّلها إلى آخرها فلا إشكال، سواء أ كان الواجب هو الأقلّ أم كان هو الأكثر، لأنّ العنوان على وجه ينطبق على كليهما.

فظهر انّ العلم بوجوب الأقل مطلقاً يتوقف على العلم بوجوب العنوان المحرز، لا على وجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً، أو نفسياً أو ضمنياً حتى لزم المحذور.

و منه يعلم اندفاع المحذور الثاني إذ لو كان الانحلال مبنياً على وجوب الأقل مطلقاً إمّا نفسياً أو غيرياً لزم المحذور، لأنّ الانحلال يستلزم عدم وجوب الأكثر، المستلزم لعدم وجوب الأقل مطلقاً، المستلزم لعدم الانحلال، لا ما إذا كان الانحلال نابعاً من العلم بوجوبه النفسي سواء أ كان الأكثر واجباً أم لا، و ذلك لأنّ الانحلال يلازم عدم وجوب الأكثر، لكن عدم وجوبه لا يلازم عدم وجوب الأقل حتى يلزم عدم الانحلال، لما عرفت من أنّ وجوب الأقل ليس نابعاً من العلم الإجمالي حتى يتوقف بقاؤه على حفظ العلم الإجمالي، بل وجوبه يتوقف على وجود العلم بوجوب العنوان، الصادق على الأقل و الأكثر، فوجوب الأقل يتوقف على صدق العنوان، و وجوبه لا يتوقف على شيء، لأنّه محرز بالوجدان، لكن لا يحتج به على وجوب الجزء المشكوك بل يحتج على المتيقن منه.

و العجب انّ عصارة الجواب موجودة في كلام المحقّق النائيني قال:

ص:559


1- الإسراء: 78.

إنّ وجوب الأقل لا يكون إلاّ نفسياً على كلّ تقدير سواء كان متعلّق التكليف هو الأقلّ أو الأكثر، فإنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكل و لا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي و الغيري.(1)

و لو أنّ المحقّق النائيني سار على هذا الجواب لاستغنى عن كثير ممّا ذكره نقضاً و إبراماً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الخلف بوجه آخر، قال: إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجز الأكثر) لأنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر (إنّما يتوقف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجّز التكليف به، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً و إن لم يبلغ مرتبة التنجّز.

و كذا تنجّز التكليف بالأقل، لا يتوقّف على تنجز التكليف بالأكثر بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه، فانّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقف على العلم بذلك التكليف، و لا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك.(2)

و حاصله: أنّ وجوب الأقل مقدّمة تابع لوجوب الأكثر واقعاً، و البراءة رافعة لتنجّز التكليف بالأكثر لا واقع وجوبه و إن كان غير منجز و الانحلال و إجراء أصل البراءة إنّما ينافي تنجّز التكليف بالأكثر، لا وجوبه الواقعي، و ما هو العلّة لوجوب الأقل مطلقاً هو وجوب الأكثر واقعاً و هو باق، و إن كان تنجّز الأكثر مرفوعاً بالبراءة.

و أمّا وجوب الأقل نفسياً فهو يتوقف على العلم بوجوبه، و هو حاصل من دون توقّف على تنجز التكليف بالأكثر.

يلاحظ عليه: أنّ الشق الأوّل غير تام، لأنّ المقصود إثبات التنجّز بالأقل

ص:560


1- الفوائد: 4/157.
2- الفوائد: 4/158.

على كلّ تقدير و هو فرع حفظ تنجّز الأكثر، و أمّا حفظ الوجوب الواقعي له الأعم من الإنشائي أو الفعلي غير المنجز فلا يكون منتجاً لتنجّز الأقل مطلقاً، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين، و عندئذ لا يحصل منه العلم بتنجّز الأقل مطلقاً بل أمره دائر بين كونه واجباً غير منجز، و واجباً منجزاً.

إلى هنا تمّ تحليل ما ذكره المحقّق الخراساني، و هناك تقريبات أُخرى لمنع جريان البراءة العقلية و قد ذكر المحقّق النائيني تقريبين نأتي بهما.

التقريب الثاني لمنع البراءة العقلية

لا إشكال في أنّ العقل يحكم بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة انّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضي التكليف الاحتمالي، و أمّا التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً و لا يكفي احتمال الفراغ فانّه يتنجز التكليف بالعلم به و لو إجمالاً و يتمّ البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحّة العقاب عليه، فلو كان التكليف في الطرف الآخر غير المأتي به، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.

ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً، لأنّه يشكّ في الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين و لا يحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.

ثمّ إنّه) قدس سره (أتى في كلامه بشيء آخر، و هو تقريب مستقل لا صلة له بما ذكر بل هو مأخوذ من تقريب المحقّق صاحب الحاشية الذي نقله عنه قبل هذا التقريب.(1)

ص:561


1- لاحظ الفوائد: 1554/152.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الضابطة ممّا لا غبار عليها، لكن يجب الخروج عمّا اشتغلت الذمّة قطعاً، لا ما اشتغلت به الذمّة احتمالاً، و الأقل ممّا اشتغلت به الذمّة قطعاً فيجب الإتيان به، دون الأكثر لعدم العلم بالاشتغال فيه.

فكما إذا تعلّق الأمر بنفس الأجزاء و دار الأمر بين وجوب الأقل و الأكثر تجري البراءة في الأكثر، فهكذا إذا تعلّق الأمر به بواسطة عنوان، إذ لا فرق بينهما سوى انّ الأمر بالاجزاء على الأوّل في حال الكثرة، و في الثاني في حال الوحدة.

و أمّا ما أفاده من أنّ العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً و لا يكفي احتمال الفراغ، فانّه قد تنجّز التكليف بالعلم به و لو إجمالاً، كلام تام، لكن إذا كان العلم الإجمالي قائماً بحاله، بأن يكون الترديد موجوداً في النفس و يُشكّ في أنّ الواجب هل هذا أو ذاك و هذا إنّما يصحّ في المتباينين لا في مثل المقام فانّ العلم بوجوب الأقلّ حاصل وجوباً، سواء أوجب الآخر أم لا؟ و إنّما الشكّ في وجوب الأكثر و الاحتمال المجرّد، لا يكون منجِّزاً باعثاً للمكلّف نحو الامتثال.

التقريب الثالث و هذا التقريب أيضاً للمحقّق النائيني،

و حاصله:

الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط، و إن كان عقلاً لا يقتضي التنجيز، و استحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو، للجهل بتعلّق التكليف به، فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان، إلاّ أنّ هناك جهة أُخرى تقتضي التنجّز و استحقاق العقاب على ترك الخصوصية، على تقدير تعلّق التكليف بها، و هي احتمال الارتباطيّة و قيديّة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز و استحقاق العقاب عقلاً، فانّه لا رافع لهذا الاحتمال، و ليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو

ص:562

رفعها، بل ذلك من وظيفة الشارع، و لا حكم للعقل من هذه الجهة فيبقى حكمه بلزوم الخروج من عهدة التكليف المعلوم، و القطع بامتثاله على حاله فلا بدّ من ضمّ الخصوصية.(1)

يلاحظ عليه: أنّه صرّح في صدر كلامه بأنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصية الزائدة لا يقتضي التنجّز و استحقاق العقاب على مخالفته، و إذا كان الأمر كذلك فأيّ فرق بين كون الخصوصية وجوب الجزء و كونها احتمالَ الارتباطيّة، مع اشتراك الأمرين في أنّ العقاب عليهما من قبيل العقاب بلا بيان.

و ما ذكره في ذيل كلامه من أنّه ليست وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها بل ذلك من وظيفة الشارع و إن كان صحيحاً، لكن الهدف من إجراء البراءة العقلية ليس وضعها أو رفعها، بل شأن العقل نفي العقاب المحتمل من ترك القيد المحتمل سواء أ كان ذلك القيد، هو وجوب الجزء، أو الارتباط بين الأقل و الأكثر. و أمّا الرفع أو الوضع فيأتي الكلام فيهما عند البحث في البراءة الشرعية.

و بالجملة فالغرض من إجراء البراءة العقلية تحصيل الأمن من العقاب من ترك الأكثر، لا رفع القيد و إنّما هو من شئون البراءة الشرعية كما سيوافيك.

فإن قلت: لو كان الأقل في نفس الأمر مرتبطاً بالأكثر حيث جعل الشارع الجميع بنعت الوحدة موضوعاً للحكم، فلا يفيد الإتيان بالأقل.

قلت: إحراز كون الأقل مفيداً في نفس الأمر أو غير مفيد ليس من وظائف العبد، بل ذمته رهينة لما ثبت تعلّق الأمر به و المفروض انّ الثابت هو الأقل لا الأكثر.

ص:563


1- فوائد الأُصول: 4/161.
التقريب الرابع:

ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم بصورة الإشكال

و قال:

إن قلت: إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به فالمصلحة إمّا من قبيل العنوان في المأمور به، أو من قبيل الغرض، و بتقرير آخر المشهور بين العدلية: أنّ الواجبات الشرعية، إنّما وجبت لكونها ألطافاً في الواجبات العقلية، فاللطف هو المأمور به حقيقة، أو غرض للأمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف و لا يحصل إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.(1)

و قرّره في الكفاية معتمداً عليه و قال: إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلاّ بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهيّ عنها.

و قد مرّ اعتبار موافقة الغرض و حصوله عقلاً من إطاعة الأمر و سقوطه، فلا بدّ من إحرازه في إحرازها.(2)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الاستدلال بوجهين:

الأوّل: انّ جريان البراءة و عدمه في المقام ليس مبنيّاً على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد، بل يجري على القول بعدم التبعية كما عليه الأشاعرة.

الثاني: انّ الإتيان بالأكثر ليس محصِّلاً للغرض على وجه اليقين، لاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله، مع عدم التمكّن منه لاستلزامه التشريع، و على ذلك لا قطع بحصول الغرض على كلا التقديرين.

ص:564


1- الفرائد: 3/273.
2- كفاية الأُصول: 2/232.

و أنت خبير بعدم إتقان الجوابين، أمّا الأوّل فلأنّ الاستدلال عندئذ يكون جدليّاً، لا برهانياً، لأنّ المستدل و المجيب قائلان بالتبعية، فكيف يكون المجيب في مقام الإجابة أشعرياً.

و أمّا الثاني فللاتفاق على عدم وجوب قصد الوجه و إلاّ لامتنع الاحتياط، و من قال بوجوبه فإنّما قال عند التمكّن، لا في مثل المقام.

و لذلك نرى أنّ المحقّق الخراساني نقد كلام الشيخ الأنصاري بوجه مبسّط لم يعرف منه ذلك التبسيط في مقام آخر.

و الأولى في مقام الجواب أن يقال: إذا كان الغرض، متعلقاً للأمر كما إذا أمر المولى بصنع معجون يقوّي الأعصاب، فشك العبد في الأجزاء المحصلة لهذا الغرض هل هي تسعة أو عشرة فلا شكّ في وجوب الاحتياط، لأنّ المأمور به أمر بسيط، غير دائر أمره بين الأقل و الأكثر، و ما يدور أمره بينهما غير مأمور به.

و أمّا إذا تعلّق الأمر بمركب ذي أجزاء أمر المولى به لأجل غرض له، و شكّ في أنّ الغرض المحصِّل له هو الأجزاء التسعة أو العشرة، ففي مثل ذلك لا يجب الاحتياط، لأنّ الواجب على العبد في مجال الإطاعة، الإتيان بما تعلّق به الأمر كاملاً، سواء أ كان محصلاً للغرض أم لا، و ذلك انّه لو لم تكن الأجزاء المعلومة محصلة لغرضه كان عليه البيان إمّا بالعنوان الأوّلي، كأن يبيّن الجزء المشكوك و يكون البيان واصلاً، أو بالعنوان الثاني، كأن يقول: إذا شككت في جزئية شيء للمأمور به فعليك بالاحتياط.

و على ضوء ذلك فالزائد على الأقل لم تقم الحجّة عليه لا تكليفاً و لا غرضاً.

أضف إلى ذلك انّه لو كان مانعاً من جريان البراءة العقلية، يجب أن يكون مانعاً من جريان البراءة الشرعية، مع أنّ المحقّق الخراساني الذي اعتمد على هذا الدليل، قد ذهب إلى جريان البراءة النقلية كما سيوافيك.

ص:565

التقريب الخامس إنّ الأمر المتعلّق بالأقل دائر بين كونه صالحاً للتقرّب إذا كان نفسياً و غير صالح له إذا كان مقدمياً توصلياً

و أمّا الأكثر فأمره صالح للتقرّب، لأنّه إمّا هو الواجب، أو كونه مشتملاً عليه و يقصد التقرّب بما هو المقرّب في الواقع.

يلاحظ عليه: أنّ الأمر المتعلّق بالأقل نفسي لكونه مصداقاً للصلاة إنّما الشكّ في انحلال العنوان الجامع للكثرات، إلى الجزء المشكوك و غيره، و على كلّ تقدير فسواء أثبت الانحلال أم لم يثبت فهو يأتي الاجزاء بالأمر المتعلّق بالعنوان، لا بالأمر المتعلّق بالأجزاء قليلة كانت أم كثيرة، فالأمر المقصود على كلتا الصورتين، أمر نفسي، و الشكّ في مقدار انحلال المتعلّق، لا يجعل الأمر متعدّداً.

التقريب السادس إنّ نفي العقاب من جانب ترك الأكثر، لا يُثبت تعلّق الأمر بالأقل و الغاية إثبات تعلّقه به.

أقول: هذا الإشكال مشترك بين البراءتين: العقلية و الشرعية، فنحيل الجواب إلى البحث التالي:

أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية

ذهب الأُصوليون إلى جريان البراءة الشرعية، حتى أنّ من منع جريان البراءة العقلية قال بجريان البراءة الشرعية، و في مقدّمهم المحقّق الخراساني فقد أفاد ما هذا توضيحه:

إنّ جزئية السورة مجهولة و محجوبة، فترفع بفضل حديثي الرفع و الحجب.

ص:566

فإن قلت: يشترط في الرفع التشريعي كون المرفوع أثراً مجعولاً شرعياً كالوجوب، أو موضوعاً ذا أثر شرعي كنجاسة الثوب فانّ أثر نجاسته عدم جواز الصلاة فيه، و الجزئية في المقام ليس من أحد القسمين، و أمّا لزوم الإعادة فهو أثر عقلي لجزئية السورة، أو هو من آثار بقاء الأمر بعد التذكر، فالعقل عندئذ يستقل بلزوم الإعادة.

قلت: إنّ الجزئية أمر انتزاعي ينتزع من تعلّق الوجوب الشرعي بالسورة و هذا كاف في تعلّق الرفع بها.

فإن قلت: إنّ حديث الرفع، حديث رفع لا وضع، فما الدليل على تعلّق الأمر بالعبادة الخالية عن الجزء؟ قلت: هذا هو الإشكال الذي مضى عند الكلام في جريان البراءة العقلية أيضاً، و قد تكرّر هذا الإشكال في كلمات المحقّق النائيني من أنّ حديث الرفع، حديث رفع لا وضع فلا دليل على تعلّق الأمر بالخالي.

فأجاب المحقّق الخراساني بقوله: إنّ نسبة حديث الرفع إلى الأدلّة الدالة على بيان الأجزاء إليها، نسبة الاستثناء و عندئذ يكون المجموع دالاًّ على جزئيتها إلاّ مع الجهل بها.

توضيحه: انّ الواقع لا يكون خالياً من أحد أمرين إمّا أن لا تكون السورة جزء الواجب، أو تكون; فعلى الأوّل، فالأمر متعلّق بالخالي واقعاً و إن لم يكن المكلَّف واقفاً عليه.

و على الثاني: يكون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء كأنّه يقول: أقم الصلاة بجميع أجزائها إلاّ السورة في حالة الجهل، فالأمر تعلّق بحكم الاستثناء بالطبيعة الخالية عن الجزء.

ص:567

و على ما ذكرنا لا حاجة إلى ما ذكره، لما قلنا من أنّ تعلّق الأمر بالعنوان عين تعلقه بالأقل، إنّما الكلام في انحلاله إلى الجزء المشكوك و عدمه فتعلّقه بالأقل محرز. و لعلّ ما ذكره) قدس سره (يرجع إلى ما ذكرنا.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم حسب عادته طرح الشكّ في جزئية الشيء ضمن مسائل أربع.

أنّ الشكّ في الجزئية تارة يكون ناشئاً من عدم النصّ، و أُخرى من إجمال النصّ، و ثالثة من تعارض النّصين، و رابعة من خلط الأُمور الخارجية و الذي يسمّى بالشبهة الموضوعية، و بما أنّ الدليل واحد في الجميع نقتصر بهذا المقدار تبعاً لصاحب الكفاية، و لا نعقد لكلّ مسألة عنواناً مستقلاً.

نعم سيأتي الكلام في الشبهة الموضوعية بمناسبة البحث في الشكّ في المحصِّل.

المقام الثاني: في الشكّ في الأجزاء التحليلية

قد عرفت في صدر البحث في الأقل و الأكثر أنّ الشك في الجزء على قسمين: تارة يكون للجزء المشكوك وجوبه، وجود خارجي مستقلّ تحتمل مدخليته في الواجب، و هذا هو الذي مرّ البحث فيه في المقام الأوّل.

و أمّا المقام الثاني: فهو عبارة عمّا إذا لم يكن للجزء المشكوك وجوبه، وجود مستقل، و إن كان في بعض المواضع له منشأ انتزاع مستقل، و لكن الجميع داخل تحت عنوان الجزء التحليلي أي ما يحتمل دخله في الواجب و ليس له وجود مستقل، و له أقسام.

الأوّل: ما يكون الجزء التحليلي منتزعاً من أمر خارجي كالتستر من إلقاء الستر على الرأس، و الطهور من الغسلات و المسحات، فالشرط أمر تحليلي باسم

ص:568

التقيّد، و إن كان المنشأ أو القيد ذا وجود مستقل.

الثاني: ما يكون الجزء التحليلي قائماً بالموضوع دون أن يكون مقوّماً له نظير الإيمان بالنسبة إلى الرقبة.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى القسمين الأُوليين بقوله:» إنّه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء و مطلقه «و إلى القسم الثالث بقوله:» و بين الخاص و عامه كما في الحيوان «.

ثمّ إنّه) قدس سره (منع من جريان البراءة العقلية في الأقسام الثلاثة بوجهين تطرّق إليهما الشيخ أيضاً.

الأوّل: انّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب من باب المقدمة، و قد أشار الشيخ إلى هذا الدليل أيضاً حيث قال: إنّ ما كان متّحداً في الوجود الخارجي كالإيمان في الرقبة المؤمنة لا يتعلّق به وجوب و إلزام مغاير لوجوب أصل الفعل، و لو مقدمة، فلا يندرج فيما حجب اللّه عن العباد «(1)فلا يصحّ أن يقال: إنّ وجوب الإيمان في الرقبة لم يرد فيه بيان فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.

و قد فسّرنا كلام الشيخ في المحصول(2) بوجه آخر فلاحظ، و ما ذكرنا هنا هو الأوفق لظاهر كلامه.

الثاني: انّ وجود الطبيعي في ضمن الواجد للمشكوك، مباين لوجوده في ضمن الفاقد له وعليه فلا يكون هناك قدر متيقن في البين لينحلّ به العلم الإجمالي و تجري أصالة البراءة.

و قد أشار الشيخ إلى هذا الدليل بقوله: إنّ الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه، معذور في ترك التسليم لجهله، و أمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم

ص:569


1- الفرائد: 284.
2- المحصول: 3/557.

يأت من الخارج ما هو معلوم تفصيلاً حتى يكون معذوراً من الزائد المجهول، بل هو تارك للمأمور رأساً، و بالجملة فالمطلق و المقيّد من قبيل المتباينين.(1)

و حاصل الدليل الأوّل: انّه ليس هنا وجوب ليقع مصبّاً للبراءة، لأنّ الأجزاء التحليلية لا توصف بالوجوب، كما أنّ حاصل الدليل الثاني، انّ وجود المطلق و المقيّد في الخارج لما كانا متباينين، فلو كان الواجب هو المقيّد، لم يكن الآتي بالمطلق آتياً بالأقل و تاركاً للأكثر، بل لم يأت منه شيء.

و قبل دراسة هذين الدليلين نقدّم أمراً يعلم به ملاك جريان البراءة العقلية و هو:

انّ ملاك جريانها عبارة عن حاجة المورد إلى البيان الزائد، فكلّ مشكوك كان الوقوف عليه رهن بيانه فهو مجرى للبراءة العقلية.

و يقال: إنّ وجوب هذا الشيء لم يرد فيه بيان و كلّ ما كان كذلك و كان واجباً في الواقع لكن تركه المكلّف يكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان، هذا، من غير فرق بين أن يتعلّق الوجوب بعنوان كالصلاة و شكّ في انحلاله إلى الشرط المشكوك كالطهارة و التستر أو يتعلّق الحكم بالمطلق و نشك في تقيّده بالقيد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، أو يتعلّق الأمر بالعام و نشك في دخل الخاص المقوّم فيه كما إذا تردد الواجب بين كونه ذبح حيوان أو غنم، أو تردد وجوب التيمم على الشيء بين الأرض و التراب، فالملاك في الجميع هو حاجة الشيء المشكوك إلى البيان الزائد، فلو لم يرد و كان واجباً لكن لم يصل إلى المكلّف يكون العقاب على تركه عقاباً بلا بيان.

إذا علمت ذلك فلندرس الدليل الأوّل في الموارد الثلاثة:

ص:570


1- الفرائد: 284.

أ: المطلق و المشروط.

ب: المطلق و المقيد.

ج: العام و الخاص.

أمّا الأوّل: فلأنّ مصب الشكّ ليس وجوبهما الغيريين بل المصب هو الوجوب النفسي لهما مثل سائر الأجزاء، حيث إنّ واقع الشكّ يتعلّق بانحلال الصلاة إليهما و عدم انحلاله، فلو كانا دخيلين في الموضوع له فهي تنحل إليهما و إلاّ فلا.

و من المعلوم أنّ الأمر بالعنوان إنّما يكون حجّة فيما علم انحلاله إليه لا ما شك.

أمّا الثاني: فلأنّ القيد و إن لم يكن داخلاً في مفهوم المقيّد كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، لكن لو كان الواجب هو الرقبة المؤمنة فالإيمان يكون واجباً وجوباً نفسياً كوجوب الرقبة، و الشك في مثل هذا الوجوب يكون مصححاً لجريان البراءة.

و أمّا الثالث: فلأنّه لو كان الواجب وراء الحيوان شيء آخر، و هو كونه غنماً، وجب بنفس وجوب الحيوان، و الشكّ في مثل هذا الوجوب مجرى للبراءة، نعم الاستدلال يتمُّ لو قلنا بوجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب المقدمي و قد سبق اختصاصه على فرض صحّته بالأجزاء الخارجية لا التحليلية العقلية.

و أمّا الوجوب النفسي فهو يعمّ الشرط و القيد و الخاص بلا فرق بينها.

هذا كلّه حول الدليل الأوّل.

و أمّا الدليل الثاني: فلأنّ ما ذكره مبني على تعلّق الأوامر بالموضوع الخارجي فعندئذ يصحّ ما ذكره من أنّ الصلاة مع الخصوصية غير الصلاة بدونها،

ص:571

لأنّ الفاقد لا يتحقّق إلاّ مع خصوصية أُخرى لامتناع تحقّق الجامع بلا فصل و خصوصية.

و مثله الأرض فإذا شككنا في لزوم كون التيمم على التراب، أو مطلق الأرض، نجد أنّ الثاني لا يتحقّق إلاّ في ضمن فصل آخر ككون الأرض حجراً أو رملاً، و من المعلوم أنّ الحجر و التراب متباينان.

و لكنّ الأوامر لا تتعلّق إلاّ بالطبائع الكلية، و المفاهيم المجرّدة، و عندئذ يكون الموضوع من قبيل الأقل و الأكثر، حيث يشكّ في أنّ المأمور به هو مطلق الصلاة، أو الصلاة المشروطة بشيء، و عندئذ يكون من قبيل الأقل و الأكثر، و يقع الثاني مجرى للبراءة، و بعبارة أُخرى يشك في انحلال الموضوع إلى الطهور و التستر أولا.

و خلاصة القول: إنّ الدليل مبني على وجوب الأجزاء التحليلية بالوجوب الغيري، و قد عرفت خلافه، كما أنّ الدليل الثاني مبني على تعلّق الوجوب بالخارج، و قد عرفت أنّه متعلّق بالأُمور الكلية.

إلى هنا تمت دراسة الموارد الثلاثة و أنّها تقع مصبّاً للبراءة العقلية، و أنّ المكلّف لو تركها كان العقاب عليه عقاباً بلا بيان.

في جريان البراءة النقلية

هذا كلّه حول البراءة العقلية، و أمّا البراءة النقلية، فقد فصّل المحقّق الخراساني بين المشروط و شرطه، و المطلق و قيده، و بين العام و الخاص، فقال بجريانها في الأوّلين و عدمه في الثالث.

أمّا جريانها فيهما فلدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية و قيديّة ما شُكّ في شرطيّته، أو قيديّته، و ليس كذلك خصوصية الخاص.

ص:572

و الفرق بينهما أنّ الشرط و القيد من الأُمور الزائدة على الطبيعة المأمور بها، فيدخل المورد تحت الأقل و الأكثر دون خصوصيّة الخاص، فانّها أمر منتزع من نفس الخاص على وجه لولاه لما كان للعام تحقّق فلا يدور الأمر بين الأقل و الأكثر، بل بين المتباينين، لأنّ الخاص نفس العام تحقّقاً، و ليس شيئاً زائداً عليه.

توضيح مراده: انّ العام في كلّ مورد يتحقّق بفصله، و لا تحقق للعام بدون الخاص، كما قال السبزواري:

إبهامَ جنس حسب الكون خذا إذ هو الدائر بين ذا و ذا

و على ذلك فكما أنّ الأكثر يتحقق في ضمن خاص أعني الغنم، و هكذا الأقل أعني الحيوان لا يتحقّق مجرّداً عن الفصل، بل لا بدّ في تحقّقه من فصل، و يتحصل العام في ضمن الإبل و البقر و المعز، و النسبة بينها و بين الغنم هو التباين فيدخل المورد تحت دوران الأمر بين المتباينين.

يلاحظ عليه: أنّه من باب خلط المسائل الفلسفية بالأُمور الاعتبارية، فانّ ما ذكره صحيح حسب الأُصول الفلسفية في المقام، و ذلك لأنّ مدار كون المورد من قبيل الأقل و الأكثر، هو كون ما وقع تحت دائرة الطلب، هو مطلق الحيوان، أو الحيوان الخاص، أعني: الغنم، فبما أنّ الخصوصية مجهولة تقع مجرى للبراءة، و يكون مرفوعاً حسب حديثي الرفع و الحجب.

و إن شئت قلت: إنّ المعيار وجود الكلفة الزائدة في أحد الطرفين دون الآخر، و لا شكّ في الالتزام بكون المذبوح غنماً كلفة زائدة ليست في الطرف الآخر، لأنّه في الخيار بذبح أيّ حيوان.

ثمّ إنّه كان على الشيخ الأنصاري أن يبحث في هذا القسم عن مسائل أربع، لأنّ الشكّ في الجزء التحليلي يكون نابعاً تارة عن فقدان النص، و أُخرى عن

ص:573

إجمال النص، و ثالثة عن تعارض النصين، و رابعة عن خلط الأُمور الخارجية، لكنّه) قدس سره ( اعتماداً على ما سبق، طوى الكلام عنها و اختصر على أصل البحث.

الشكّ في المحصل

ثمّ إنّه كثيراً ما يدور في لسان الأُصوليين مصطلح الشكّ في المحصل، أو الشكّ في السقوط، و لم يذكره المحقّق الخراساني في الكفاية، و ذكره الشيخ في المسألة الرابعة من الشكّ في الأقل و الأكثر، فزعم أنّ الشكّ في المحصِّل عبارة عن الشكّ في الأقل و الأكثر من باب خلط الأُمور الخارجية. فقال: إذا شكّ في جزئية شيء المأمور به من جهة الشكّ في الموضوع الخارجي، كما إذا أمر بمفهوم مبين، مردّد مصداقه بين الأقل و الأكثر، و منه ما إذا وجب صوم هلالي، و هو ما بين الهلاليين فشكّ في أنّه ثلاثون، أو ناقص، و مثل ما لو أمر بالطهور لأجل الصلاة، أعني: الفعل الرافع للحدث أو المبيح لها، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين) أو المبيحين (، و اللازم في المقام الاحتياط، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً، و إنّما الشكّ في تحقّقه بالأقل، فمقتضى أصالة عدم تحقّقه و بقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به و لزوم الإتيان بالأكثر....(1)

يلاحظ عليه: أنّ هنا مسألتين:

إحداهما: ما هو الموسوم بالشكّ في المحصّل، أو الشكّ في السقوط؟ ثانيهما: ما هو الموسوم بالشكّ في الشبهة الموضوعية من قسم الأقل و الأكثر؟ و الفرق بين المسألتين كالتالي:

إذا كان متعلّق الأمر واضح المفهوم مبيّن المعنى لا تردّد و لا قلّة و لا كثرة و إنّما الإجمال و التردد في محقِّقه و سببه، و هذا كما في الأمر بالطهور إذا فسر بالحالة

ص:574


1- الفرائد: 283 284.

النفسانية الحاصلة للمتوضئ بعد الوضوء، فلا إجمال و لا إبهام في المأمور، و إنّما الإبهام في أمر خارج عن المأمور به، و هو أنّه هل تتحقّق تلك الحالة بنفس الغسلات و المسحات، أو يتوقف وراءها على غسل الاذن أيضاً؟ فالأقل و الأكثر في ناحية السبب، لا المسبب.

و أمّا إذا كان متعلّق الأمر و النهي مردّداً بين الأقل و الأكثر كما في الشبهة الحكمية كإجمال جزئية السورة في الأُولى، أو كان مصداق المتعلّق مردّداً بينهما فاحتمال كون زيد عالماً وراء سائر الأفراد المعلومة، فهو من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر حكمياً أو موضوعياً.

و منه يظهر أنّ ما مثل به الشيخ من قبيل القسم الأوّل كالطهور أو صوم ما بين الهلالين ليس بصحيح ، لأنّ الشكّ في المثالين ليس في متن المأمور به، و إنّما الشكّ في محقّقه، و انّه هل يتحقّق بنفس الغسلات و المسحات، أو بتسعة و عشرين يوماً، أو لا؟ إذا عرفت ذلك فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.

الكلام في الشكّ في المحصِّل

الشكّ في المحصِّل بالمعنى الذي عرفته من خصائص الشبهة الحكمية، فإذا أمر المولى بمسبب توليدي، و دار الأمر في سببه المولّد بين جزئية شيء أو شرطيته، فالحقّ وفاقاً لأهله لزوم الاحتياط، و قد أوضح ذلك الشيخ في كلامه السابق بقوله: إنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم بيّن معلوم تفصيلاً، إنّما الشكّ في تحقّقه بالفعل، فمقتضى أصالة الاشتغال عدم الاكتفاء و لزوم الإتيان بالأكثر.

فما هو المأمور به، ليس فيه قلّة و لا كثرة حتى تجري فيه البراءة، و ما فيه القلّة و الكثرة ليس بمأمور به.

ص:575

فإن قلت: هذا إذا كان السبب عقليّاً، أو عاديّاً، كما إذا أمر المولى بقتل المرتد، و دار السبب بين ورود ضربة عليه أو ضربتين، أو أمر بتنظيف البيت، و دار أمره بين كنسه فقط، أو كنسه و رشّه، ففي تلك الموارد يجب الاحتياط، إذ ليس بيان السبب من وظائف الشارع، و أمّا إذا كان السبب شرعيّاً، كالوضوء بالنسبة إلى الطهور فتجري فيه البراءة و تحكم بعدم دخله في السبب.

قلت: إنّ أصالة البراءة و إن كان يعالج الشكّ في ناحية السبب فيحكم بعدم دخله في السببية، لكن لا يعالج الشكّ في ناحية المسبب، فالشكّ فيه باق بحاله فالعقل يحكم بأنّ ذمة المكلّف مشغولة بالمفهوم المبيّن، و لا يحصل الفراغ إلاّ بضم المشكوك إلى المتيقن.

فإن قلت: إنّ الشكّ في تحقّق الظهور و عدمه ناجم من شرطية غسل الاذن في المسبب و عدمها، فإذا جرى الأصل في ناحية السبب، و قلنا بأنّ شرطية غسل الاذن مجهولة مرفوعة بحديث الرفع لا يبقى شكّ في ناحية المسبب و انّه حاصل قطعاً.

قلت: إنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك دليل اجتهادي يتخذ نتيجة الأصل السببي صغرى لنفسه فيتركب الدليل من صغرى و كبرى و يكون الكبرى حاكماً على الأصل المسببي، و هذا كما في المثال المعروف: إذا غسل النجس، بماء مستصحب الطهارة، فانّ استصحاب طهارة الماء حاكم على استصحاب نجاسة الثوب، و ذلك لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة و عدمه نابع عن طهارة الماء، فإذا كان الماء محكوماً بالطهارة، و الثوب النجس مغسولاً به، يكون مفاد الأصل السببي صغرى لكبرى اجتهادية، و يقال هذا الثوب النجس غسل بماء طاهر) بحكم الاستصحاب (و كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر و هذا هو الكبرى، فينتج هذا الثوب المغسول بماء طاهر طاهر،

ص:576

و ليس المقام كذلك فانّ استصحاب عدم وجوب غسل الاذن لا يحقق موضوعاً لكبرى شرعية، و هي كلّما لم يكن غسل الاذن واجباً يكون الوضوء متحققاً بالغسلتين و المسحتين.

و إن شئت قلت: إنّ الأصل في المقام مثبت، لأنّ رفع وجوب غسل الاذن يلازم عقلاً انحصار الواجب في الأجزاء المتبقية، و هو يلازم تحقق الوضوء المسببي بحكم العقل بأنّه كلّما تحققت العلّة يتحقق المعلول أيضاً، و الكلّ من الأُصول المثبتة.

الشبهة الموضوعية في الأقل و الأكثر الارتباطيين
اشارة

قد عرفت أنّ الشكّ في الأقلّ و الأكثر من جهة المصداق، غير الشكّ في المحصّل، و إن خلط الشيخ الأعظم) قدس سره (بينهما، و قد مرّ حكم الشكّ في المحصِّل و بيانه، و لنأخذ الشكّ في المصداق بالبحث فنقول:

إنّ العناوين الواقعة تحت دائرة الطلب تتصوّر على وجوه:

1. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام الاستغراقي.

2. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو العام المجموعي.

3. أن يتعلّق الحكم بالعنوان بنحو صرف الوجود، و نقض العدم.

و الفرق بين الأوّلين واضح.

إذ على الأوّل: فيه أحكام، و بالتالي امتثالات و عصيانات لكلّ فرد.

بخلاف الثاني ففيه حكم واحد، و بالتالي امتثال و عصيان واحد، فلو قال: أكرم مجموع العلماء، و كان عددهم مائة فأكرم تسعة و تسعين عالماً، و ترك إكرام واحد منهم لما امتثل أصلاً، لكون المجموع موضوعاً واحداً.

ثمّ الحكم المتعلّق بالعنوان تارة يكون الوجوب، و أُخرى الحرمة، و على

ص:577

التقديرين فالوجوب أو الحرمة تارة نفسيان و أُخرى غيريان فيقع الكلام في مقامات أربعة:

1. حكم الشبهة المصداقية في الواجب النفسي

إذا شككنا في مصداقية فرد لعنوان تعلّق به الوجوب النفسي، فإن كان العنوان مأخوذاً بنحو الاستغراقي فالمرجع هو البراءة، للشكّ في أصل التكليف في حقّ الفرد المشكوك، و يكون العام من قبيل الأقل و الأكثر الارتباطيين.

و أمّا إذا كان مأخوذاً بنحو العام المجموعي، كما إذا قال: أكرم مجموع علماء البلد، فشكّ في كون فرد عالماً أو لا، فذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المرجع، البراءة، و السيد الأُستاذ) قدس سره (إلى الاشتغال، و لعلّ الحقّ التفصيل بين مورد و مورد.

أمّا الأوّل: فلأنّ مرجع الشكّ في عالمية بعض، إلى الشكّ في الأقل و الأكثر الارتباطيين، لأنّه ليس هنا إلاّ تكليف واحد تعلّق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع، فيكون إكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لإكرام العلماء كجزئية السورة للصلاة، فيرجع إلى الشكّ بين الأقل و الأكثر الارتباطيين.(1)

و أمّا الثاني: فبوضوح الفرق بين المقامين، فانّ الأمر في الأقل و الأكثر الارتباطيين تعلّق بالاجزاء بلحاظ الوحدة و ليست الصلاة عنواناً متحصّلاً منها بحيث يشكّ في تحقّقها مع ترك الجزء و الشرط، فالشكّ في الجزئية يرجع إلى الشكّ في انبساط الأمر بالنسبة إليها. بخلاف المقام فانّه تعلّق بعنوان خاص أعني المجموع بما هو هو، و قد قامت الحجّة بما هو هو، و مرجع الشكّ إلى انطباق المأتي به على المأمور به، فالشكّ في المقام، شكّ في تحقّق العنوان المأمور به، بخلاف الآخر

ص:578


1- فوائد الأُصول: 4/202.

فإنّه شكّ في تقيد الصلاة بشيء.

و يمكن أن يقال: إنّه إذا أخذ العنوان موضوعاً بما هو هو فالمرجع هو الاشتغال، لأنّ الذمة مشغولة بإيجاده فإذا شكّ في عالمية فرد، يجب إكرامه إذ مع ترك إكرامه يشكّ في حصول العنوان، و فراغ الذمة، فلا تجري البراءة في مشكوكها، بخلاف ما إذا كان العنوان مأخوذاً بنحو المرآتية إلى الخارج فيكون الشكّ راجعاً إلى قلّة الاجزاء و كثرتها فتجري البراءة.

و أمّا إذا كان تعلّق الحكم بنحو صرف الوجود و ناقض العدم و إيجاد الطبيعة فقط، فإذا شكّ في كون فرد عالماً أو لا، لا يجوز الاكتفاء بإكرام المشكوك بل يجب إكرام من يعلم أو مصداقه.

2. حكم الشبهة المصداقية في الواجب الغيري

هذا كلّه إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية في الواجب النفسي، و أمّا إذا كان الشكّ في الشبهة الموضوعية من الواجبات الغيرية بناء على القول بالوجوب الغيري ككون الشيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا، فالأقسام الثلاثة الماضية و إن كانت متصوّرة في المقام، لكن الواقع هو القسم الثالث، أعني:

صرف الوجود و ناقض العدم إذ لم يعهد في الشريعة، اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي.

فإذا دار أمر شيء مصداقاً للجزء أو الشرط أو لا، كما إذا شككنا في سورة الانشراح هل هي سورة كاملة بناء على وجوب قراءة السورة الكاملة في الصلاة أو لا، أو في كون مائع خارجي أنّه ماء أو خل، فلا يجوز الاكتفاء بالمشكوك، بل يجب إحراز كونها سورة كاملة، أو ماء مطلقاً.

هذا كلّه حول الحكم الوجوبي النفسي و الغيري.

ص:579

3. حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي

إنّ حكم الشبهة المصداقية في التحريم النفسي، مطلقاً هو البراءة، سواء أُخذ العنوان بنحو العام الاستغراقي أو بنحو العام المجموعي، أو ترك الطبيعة.

أمّا الأوّل: فكما إذا قال: لا تكرم الفسّاق، فشكَّ في كون زيد فاسقاً أو لا، فرجع الشكّ إلى تعلّق الحكم المنحل به، و هو أشبه بالأقل و الأكثر الاستقلاليين.

و أمّا الثاني: فكما إذا قال: لا تكرم مجموع الفساق من العلماء، فيجوز إكرام من علم فسقه فضلاً عن إكرام المشكوك، و يكفي في صدق الامتثال ترك واحد ممن علم فسقه، حتى يصدق أنّه: لم يكرم المجموع من حيث المجموع.

و أمّا الثالث: فكما إذا قال: لا تشرب الخمر، فصرف الترك، و إن كان يتحقق، بترك فرد من الطبيعة عقلاً، لكن العرف لا يساعده بل يرى صرف الترك، بترك عامّة أفراده، لكن الكبرى حجّة في معلوم الفردية دون مشكوكها، فيجوز شرب مشكوكه.

4. حكم الشبهة المصداقية في التحريم الغيري

يتصوّر الحكم التحريمي الغيري فيما إذا كان الشيء مانعاً أو قاطعاً، و المراد من الأوّل، ما يكون وجوده مضاداً للمأمور به كنجاسة الثوب أو بدنه، و من الثاني ما يكون وجوده قاطعاً للهيئة الاتصالية للفرد المتحقق من الطبيعية كالأكل و الشرب و الضحك.

إنّ العنوان المأخوذ في التحريم الغيري و إن كان يمكن أن يؤخذ بنحو العام الاستغراقي أو المجموعي أو صرف الوجود، لكن الموجود منه في الشريعة هو القسم الأوّل فتكون البراءة هي المحكم للشكّ في تعلّق النهي الانحلالي بذاك الفرد.

ص:580

و على ذلك يترتّب جواز الصلاة في اللباس المشكوك لاحتمال كونه مصنوعاً من وبر أو شعر ما لا يؤكل لحمه، لأنّ المأخوذ في لسان الدليل هو أخذه مانعاً بنحو العام الاستغراقي، فكلّ ما صدق عليه أنّه ممّا لا يؤكل فهو مانع، لا المشكوك كونه، و ذلك لأنّ الشكّ في كونه منه أو من غيره راجع إلى انحلال النهي التحريمي الغيري إلى ذاك الفرد أو لا، و قد عرفت أنّه لا يحتج بالكبرى بدون إحراز الصغرى، و مثله الشكّ في كون شيء كحمل الطفل حال الصلاة قاطعاً أو لا فالبراءة هي المحكم.

هذا من غير فرق بين تفسير المانعيّة بكون وجوده ضداً للفرد المتحقّق منه، أو أخذ عدم المانع شرطاً، لأنّ مرجع الشكّ في كونه ممّا لا يؤكل لحمه على الثاني أيضاً إلى أخذ عدم هذا الفرد، في الصلاة أو لا فتجري البراءة.

ثم لإكمال البحث نعقد تنبيهات:
التنبيه الأوّل: في النقيصة السهوية
اشارة

و قبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

الأوّل: هذا التنبيه منعقد لبيان حكم النقيصة السهوية، كما أنّ التنبيه الآتي منعقد لبيان الزيادة العمدية و السهوية، و أمّا النقيصة العمدية فلا حاجة إلى البحث فيها لأنّ البطلان لازم الجزئية.

ثمّ إنّ الشيخ عنون التنبيه بقوله:» إذا ثبتت جزئية شيء و شكّ في ركنيته، فهل الأصل كونه ركناً أو لا؟ و بما انّ هذا التنبيه مختص لبيان حكم النقيصة السهوية فيلزم أن يفسر الركن بالمعنى اللغوي، أي ما يكون نقصه مخلاً.

و أمّا تفسير الركن بما يخلّ نقيصه و زيادته، فهو اصطلاح خاص للفقهاء و لا بأس به إذا جعلنا التنبيهين تنبيهاً واحداً.

ص:581

الثاني: أنّ لسان دليل الجزء على أقسام:

1. ما يكون لسانه، لسان الحكم الوضعي كقوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «الظاهر في الجزئية المطلقة.

2. ما يكون بلسان الحكم التكليفي، لكن إرشاداً إلى الجزئية، كقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1)و هذا أيضاً مثل السابق ظاهر في الجزئية أو الشرطية المطلقة.

3. ما إذا ثبتت جزئية الشيء بدليل لبي، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة، فإنّ عمدة دليله هو الإجماع، و لا إطلاق له، بل القدر المتيقن منه حال الذكر دون النسيان و الغفلة.

الثالث: انّ صور المسألة أربع:

1. إمّا أن يكون لدليل المركب عند نسيان الجزء إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي، و لدليل الجزء و الشرط و القاطع و المانع إطلاق، يطلبه الشارع في عامة الحالات و لا ترفع عنه اليد.

2. أن يكون لدليل الجزء المنسي إطلاق، دون دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

3. أن يكون الأمر بالعكس.

4. أن لا يكون إطلاق لا في دليل الجزء، و لا في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في مقتضى الدليل الاجتهادي، و أُخرى في مقتضى الأصل العملي.

و البحث في حكم الصور الثلاث الأُول بحث في مقتضى الدليل

ص:582


1- المائدة: 6.

الاجتهادي، كما أنّ البحث عن حكم الصورة الرابعة بحث عن مقتضى الأصل العملي.

و ليعلم أنّ البحث في المقام مركّز على تبيين مقتضى القواعد الأُصولية العامة من غير فرق بين باب دون باب أو كتاب دون كتاب.

و أمّا التصديق الفقهي في كلّ مسألة فموكول وراء ذلك إلى ملاحظة سائر ما ورد في المورد من الروايات المرخِّصة أو المانعة. و على ذلك فلو قلنا ببطلان الصلاة مثلاً في بعض الصور، فإنّما هو حسَب مقتضى القواعد، و في الوقت نفسه يمكن تصحيحه بقواعد أُخرى مختصة بباب خاص كقاعدة» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «أو غيرها.

إذا علمت ذلك فلنتناول مقتضى القواعد الاجتهادية بالبحث و له صور ثلاث:

الصورة الأُولى: إذا كان لكلا الدليلين، أعني دليل جزئية الجزء، أو شرطية الشرط، أو مانعية المانع، أو قاطعية القاطع، إطلاق كالإطلاق الموجود في دليل المركّب بالنسبة إلى ما عدا المنسي.

ثمّ إنّ معنى الإطلاق في دليل الجزء هو كونه مطلوباً في حالتي الذكر و النسيان، و أنّ المولى لم ترفع اليد عنه، فهو مقوّم للطبيعة، فيكون مقتضاه بطلان الصلاة عند نسيانه.

كما أنّ معنى إطلاق دليل المركب بالنسبة إلى ما عدا المنسي، هو كون الباقي مطلوباً في حالة النسيان و إن لم يكن معه الجزء المنسي.

و بعبارة أُخرى: الباقي مطلوب مع الجزء في حال الذكر، و أمّا في حال النسيان فهو مطلوب أيضاً و إن لم يكن معه الجزء المنسي.

ص:583

و على ذلك فالإطلاقان يتعارضان، فمقتضى الإطلاق الأوّل بطلان الصلاة عند نسيان الجزء و مقتضى الإطلاق الثاني صحّته، لكن يقدّم إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب لأنّه أخصّ منه، فتكون النتيجة هي البطلان.

مثلاً إذا ورد: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(1). أو ورد: لا صلاة لمن لم يقم صلبه(2)، الظاهر في مطلوبية الفاتحة، أو إقامة الصلب في كلتا الحالتين. و ورد أيضاً: لا تترك الصلاة بحال، المنطبقة على الأجزاء الباقية فيقدّم دليل إطلاق الجزء على الثاني.

اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ قوله:» الصلاة لا تترك بحال «حاكم على أدلّة القيود، لأنّه تعرض لما لم يتعرض له تلك الأدلة و هو مقام الترك المتأخر عن اعتبارهما و هذا أيضاً نحو من الحكومة.(3)

نعم سيوافيك تصحيح الصلاة من طريق آخر فانتظر.

الصورة الثانية: إذا كان لدليل الجزء و غيره إطلاق دون المركب، كما هو الحال في قوله:» لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب «بالنسبة إلى قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) فيدل إطلاقه على كونه مطلوباً للمولى في حالتي الذكر و النسيان، فمقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الاكتفاء بالمأتي به.

فإن قلت: إنّ الجزئية، و الشرطية، أو القاطعية، و المانعية من الأحكام الوضعية المنتزعة من الأحكام التكليفية، و هو فرع صحّة خطاب الناسي بالمنسي، و من

ص:584


1- الوارد من طرقنا: كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهو خراج أي ناقص، نعم ورد من غير طرقنا عن أبي هريرة قال: أمرني رسول اللّه أن أُنادي لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللآلي، لاحظ: جامع أحاديث الشيعة: 5/322.
2- الوسائل: 4، الباب 16 من أبواب الركوع، الحديث 1 و 2.
3- تهذيب الأُصول: 2/392.

المعلوم عدم صحّته، فكيف يصحّ انتزاع الجزئية في حقّ الناسي مع عدم وجود منشأ الانتزاع؟ قلت: ما ذكر من الإشكال مبني على كونها منتزعة من الأحكام التكليفية، و أمّا على القول باستقلالها بالجعل فلا، كما هو مفاد قوله:» لا صلاة إلاّ بطهور «و غيره، فإنّ لسانها جعل الجزئية في كلتا الحالتين، فتكون النتيجة بطلان الصلاة كالصورة الأُولى.

أضف إلى ذلك: أنّ ما ورد بلسان التكليف كقوله:» كبّر «،» اسجد «،» تشهّد «أيضاً إرشاد إلى الجزئية، فيعم الدليل كلتا الحالتين.

فإن قلت: يمكن التمسك بحديث» ما لا يعلمون «لرفع جزئية الجزء في حال النسيان أو لا؟ قلت: الأصل دليلٌ حيث لا دليل، و المفروض وجود الدليل الاجتهادي على الجزئية في حال النسيان، و خطابه و إن كان ممتنعاً بالنسبة إلى المنسي و لكن أثر الجزئية إنّما هو بطلان الصلاة و لزوم قضائها بعد رحيله.

تصحيح الصلاة في الصورتين من طريق آخر

يمكن تصحيح الصلاة في هاتين الصورتين من طريق آخر و هو: أنّ نسبة الرفع إلى» ما لا يعلمون « و إن كان رفعاً ظاهرياً مشروطاً بفقد الدليل الاجتهادي، و المفروض وجوده، و لكن نسبة الرفع إلى النسيان و الاضطرار و الإكراه رفع واقعي، و ليس الرفع مقيّداً بعدم وجود الدليل الاجتهادي، بل مشروط بوجوده حتى يكون حاكماً عليه كسائر العناوين الثانوية من الضرر و الحرج، فيتمسك بها مع وجود الدليل الاجتهادي على خلافها، فيقدّم حكم العنوان الثانوي على حكم العنوان الأوّلي.

ص:585

و على ضوء ذلك نقول: جزئية السورة المنسية مرفوع بالنسيان، كما أنّه مرفوع بالاضطرار و الإكراه، نظير رفع وجوب الوضوء الضرري و الحرجي بقاعدتي لا ضرر و لا حرج.

الصورة الثالثة: إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة إلى ما عدا المنسي، كما هو الظاهر من قوله:

» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «: الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود و لم يكن لدليل الجزء إطلاق مثله، كما هو الحال في الاستقرار في حال الصلاة الذي ليس له دليل سوى الإجماع، و المتيقن منه حال الذكر، فلو نسي و صلّى بلا استقرار يصحّ الإتيان بما عدا المنسي لافتراض وجود الإطلاق بالنسبة إليه.

و أمّا احتمال جزئية الجزء أو الشرط فيجري فيهما البراءة لفرض عدم الدليل الاجتهادي الدال على وجوبه.

فقد خرجنا بتلك النتيجة: أنّ مقتضى القواعد في الصورتين مع قطع النظر عن حديث الرفع بالنسبة إلى الفقرات الباقية هو بطلان الصلاة في الصورتين الأُولتين، و لكن بالنظر إلى نسبة حديث الرفع إلى النسيان و الاضطرار و الإكراه هو الصحّة فيهما.

و أمّا الصورة الثالثة: فالصلاة صحيحة لجريان البراءة في احتمال جزئية الجزء و شرطية الشرط، فالصحّة في الأُوليين برفع النسيان، و في الثالثة برفع ما لا يعلمون.

إلى هنا تمّ الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي.

و إليك الكلام في المقام الثاني.

ص:586

الكلام في مقتضى الأُصول العملية

الكلام في مقتضى الأُصول العملية يختص بما إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي، و ليس هو من هذه الصور إلاّ الصورة الرابعة: أعني إذا لم يكن لدليل المركب و لا لدليل الجزء إطلاق فأتى بالواجب ما عدا المنسي، ثمّ ذكر بعد الفراغ من العمل، و المورد مجرى للبراءة لعدم الدليل الاجتهادي، في كلا الطرفين إذ الواقع لا يخلو عن أحد أمرين: إمّا أن تكون الجزئيّة مطلقة فتلزم إعادتها، أو مختصة بحال الذكر، فيكفي ما أتى به، فيكون مرجع التردد بين الأمرين إلى الشكّ في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان و عدمه، و معه يكون المرجع هو البراءة.

إلى هنا علم أنّ حكم الصورتين الأُولتين هو البطلان و لزوم الإعادة لو لا حديث رفع النسيان كما أنّ حكم الصورتين الأخيرتين هو الصحّة لجريان البراءة عن جزئية الجزء و شرطية الشرط.

الصحّة رهن التكليف بما عدا المنسيّ

ثمّ إنّ هنا إشكالاً، أشار إليه الشيخ، و غيره في كلماتهم. و هو: أنّ رفع الجزئية و الشرطية، أو رفع وجوب الجزء و الشرط برفع النسيان، أو رفع ما لا يعلمون، لا يضفي على العمل الناقص الصحة، فما دام لم يتعلّق الأمر بما عدا المنسي فالصحّة رهن تعلّقه به و هو أمر غير ممكن، لأنّ تكليف الناسي به، و إيجاب العبادة الخالية عن ذلك، أمر غير ممكن، لأنّه لا بدّ أن يكون الخطاب به بعنوان الناسي، فإن التفت إليه ينقلب إلى الذاكر، فلا يكون الحكم الثابت بعنوانه فعليّاً في حقّه، و إن لم يلتفت فلا يعقل انبعاثه، و يكون الجعل لغواً.

ص:587

نعم ما يمكن أن يقال: إنّه لا حاجة إلى إحراز الأمر بما عدا المنسي، إذا كان لدليل المركب إطلاق بالنسبة إلى الأجزاء الباقية، و لم يكن لدليل الجزء إطلاق كما هو الحال في الصورة الثالثة إذ معنى إطلاق دليل المركب أنّ سقوط وجوب المنسي و عدم الإتيان به في حالة النسيان لا يُخلّ بمطلوبية الأجزاء الباقية فانّها مطلوبة مطلقاً كان المنسي معه أو لا، و هذا يلازم وجود الأمر، فالحاجة إلى إحراز الأمر بما عداه إنّما هو في الصور الثلاث، أعني الأُولى و الثانية و الرابعة بحالها.

فإن قلت: فعلى هذا يكون الحكم بصحّة العمل المركب المنسي بعضُ أجزائه، أمراً غير ممكن، مع أنّ حديث» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «دل على صحّة الصلاة المنسي بعض أجزائها غير الخمسة.

قلت: إنّ القائل بامتناع خطاب الناسي يصحح العمل من جانب آخر و هو: إحراز وفاء المأتي به بالملاك الملزَم و سقوط الأمر باستيفاء ملاكه، و إن كان إحرازه أمراً مشكلاً.

ثمّ المحقّق الخراساني حاول أن يصحح تعلّق الأمر بما عدا المنسي بوجهين:

الأوّل: أن يكون الواجب في حقّ الذاكر و الناسي ما عدا المنسي، و يختص الذاكر بخطاب يخصّه بالجزء المنسي، و المحذور في تخصيص الناسي بالخطاب، لا تخصيص الذاكر، به. و هذا كما إذا كان الواجب في حقّ الذاكر و الناسي ما يتقوم به العمل، أعني: الأركان الخمسة، ثمّ يكلّف خصوص الذاكر ببقية الأجزاء و الشرائط، و هذا بالنظر إلى» حديث لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس «الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود، غير بعيد.

و إن كان الإذعان به يتوقف على دليل قاطع.

و قد أشار المحقّق الخراساني إلى هذا الجواب بقوله: كما إذا وجّه الخطاب على نحو يعم الذاكر و الناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، و قد دلّ دليل

ص:588

آخر على دخله في حقّ الذاكر.

فإن قلت: إنّ المحاولة و إن صححت إمكان تعلّق الأمر بما عدا المنسي ثبوتاً، لكنّها لا تجدي في مقام الإثبات، و ذلك لأنّ الناسي، قصد الأمر المتوجه إلى الذاكر المتعلّق بالمنسي و غيره، مع أنّ الأمر المتوجه إليه، هو الأمر المتعلّق بما عدا المنسي، فما قصده ليس أمر الناسي، و ما هو أمره لم يقصده.

قلت: إنّ الناسي قصد أوّلاً و بالذات الأمر الفعلي المتوجه إليه، لكنّه تخيّل أنّ الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إلى الذاكر، غفلة عن حقيقة الحال، و مثل هذا لا يضرّ، لأنّه من قبيل الخطأ في التطبيق، و هذا نظير من اقتدى بالإمام الحاضر جداً، لكن زعم أنّه زيد فبان أنّه عمرو، فصلاته محكومة بالصحّة، لأنّ المقصود الواقعي هو الاقتداء بالإمام الحاضر زيداً كان أو عمراً، و التطبيق ناش عن الغفلة و الجهل بالواقع.

الثاني: انّ الخطاب يتوجه إلى الناسي لا بعنوانه، بل بعنوان عام ملازم، كما إذا قال: أيّها البارد مزاجاً صلّ كذا; أو خاص، كما إذا قال: يا زيد صلّ كذا، أي يذكر الأجزاء دون السورة، و إليه أشار المحقّق الخراساني بقوله: أو وجّه إلى الناسي بخطاب يحضه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي لكي يلزم استحالة إيجاد ذلك عليه بهذا العنوان لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة.

يلاحظ على هذا الجواب: أنّه مجرّد زعم و خيال لا واقع له لعدم وجود خطاب شخصي في الشريعة، و أمّا العنوان العام أعني البارد مزاجاً فليس يلازم الناسي، بل النسبة بينهما عموم و خصوص من وجه.

ثمّ إنّ المطلوب في المقام، إثبات تعلّق الأمر بما عدا الناسي حتى يحكم بصحّة صلاة الناسي، و عدم لزوم الإعادة عليه بعد رفع النسيان و ما أُفيد من

ص:589

الجوابين، لا يتكفلان ذلك، و أقصى ما يُثبتان إمكان التعلّق و عدم استحالته، و أين هو من إثبات الوقوع في الشريعة، حتى تترتب عليه صحّة الصلاة.

فلا محيص عن محاولة ثالثة تتكفل إثبات الوقوع، و هذا ما سنذكره في الجواب الثالث الذي أخذنا لُبَّه عن العلمين الجليلين السيد البروجردي في درسه الشريف و السيد الإمام الخميني قدّس سرّهما و إليك البيان و حاصل كلامهما بتوضيح منّا:

تصحيح تعلّق الأمر بخطاب واحد

إنّ الناسي لا يحتاج إلى خطاب خاص يبعثه إلى الخالي عن المنسي، بل الذاكر و الناسي، مثل الحاضر و المسافر و الصحيح و المريض، محكوم بنفس الخطاب الموجّه إلى الذاكر، كما أنّ المسافر و المريض محكومان بنفس الخطاب الموجّه إلى الحاضر و الصحيح، فالكلّ محكوم بالإرادة الاستعمالية بالصلاة الجامعة(1)للأجزاء و الشرائط، و أمّا حسب الإرادة الجدّية فالمسافر و المريض و الناسي محكوم بأقلّ ممّا حكم على مقابليهم، و هذا على طرف النقيض من الجواب الأوّل، حيث إنّه على أساس أنّ الجميع في المرحلة الأُولى محكومون بالأركان الخمسة، ثمّ يختص الذاكر، بأُمور زائدة عليها بالأمر الثاني.

و أمّا على هذا الجواب فليس هنا إلاّ أمر واحد و هو متعلّق بالعنوان الجامع للأجزاء و الشرائط المجردة عن الموانع و القواطع حسب الإرادة الاستعمالية، لكن الإرادة الجدّية تعلق في حقّ المسافر و المريض و الناسي بأقل من ذلك، كاستثناء الركعتين في مورد المسافر حيث قال: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

ص:590


1- و بهذا يفترق هذا الجواب عن الجواب الأوّل، حيث إنّه كان مبنياً على أنّ الأمر متعلّق بالأركان، و الأمر الثاني مختص بالذاكر، و هو الإتيان بها، مع أجزاء و شرائط أُخرى.

جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (1)فلفظة (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) دالّ على أنّ المسافر محكوم بنفس الأمر المتوجه إلى الحاضر، لكن يجوز له قصرها، و نظيره المريض و الناسي، الذي يجمعهما المعذور فقد دلّ الدليل على رفع الجزء الحرجي و المنسي عنهما، و مرجع رفعه في حقّهما إلى استثنائهما من دون أن يمس الاستثناء، كرامة الأمر، أو يحوج الآمر، إلى أمر آخر بالخالي عنه.

و يؤيد ذلك ما سبق من أنّ الأمر المتعلّق بالمركب يدعو جميع الأصناف إلى العنوان الذي تعلّق به الأمر لكن بالإرادة الاستعمالية، و لما دلّ الدليل الخارجي على عدم مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية في بعض الأجزاء لطروء عنوان مانع عن الامتثال كالمرض و النسيان، تسقط دعوة الأمر بالنسبة إليه بحكم العقل، و مع ذلك تبقى دعوة الأمر إلى الأجزاء الباقية، لأنّه يدعوه إلى العنوان، و هو أمر مقول بالتشكيك يصدق على الجامع للجزء المنسي و الخالي عنه، و ليست دعوة الأمر إلى الباقية مشروطة بدعوته إلى الأجزاء المنسية لما علمت من وجود المرونة في صدق العنوان على كلا الفردين من الصلاة، و ليس صدق عنوان الصلاة على الصلاة المقصورة أولى من صدقها على الصلاة الرباعية المنسية سورتها.

هذا هو الحقّ القراح في المسألة الذي عليه، سيد مشايخنا المحقّق البروجردي، و السيد الإمام الخميني قدّس اللّه سرّهما.

فإن قلت: ما هو السرّ في الإصرار على إحراز الأمر بما عدا المنسي، مع كفاية الملاك في صحّة العبادة؟ قلت: إنّ إحراز الملاك أشكل من إحراز تعلّق الأمر بما عدا المنسيّ، للشك في وفاء ما أتاه الناسي بغرض المولى، فلا مناص عندئذ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، و قضاء الواجب بعد رفع النسيان.

ثمّ إنّه ما قررناه، يعلم أنّ الاشكال الذي أثاره المحقّق النائيني و تبعه تلميذه

ص:591


1- النساء: 101.

الجليل ليس بمهمّ، و إليك كلامهما:

قال الأُستاذ) قدس سره (: إذا كان لدليل المنسي إطلاق يشمل صورة النسيان، فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الأجزاء، فإنّه ليس في البين إلاّ تكليف واحد تعلّق بجملة الأجزاء و منها الجزء المنسي، و هذا التكليف الواحد سقط بنسيان بعضها فلا بدّ من سقوط التكليف المتعلّق بجملة العمل، فلو ثبت التكليف ببقية الأجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلّقاً بجملة الأجزاء، و لا بدَّ من قيام دليل بالخصوص على ذلك فالتكليف بما عدا المنسي يحتاج إلى دليل غير الأدلّة المتكفلة لبيان الأجزاء.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاشكال مبني على أنّ متعلّق الأمر هو الأجزاء مباشرة، فكأنّ بأمر المولى، بالتكبير، و القراءة، و الحمد و السورة، كما إذا نسي الحمد سقط التكليف المتعلّق بهذه الأجزاء فتعلّقه بغير المنسي يحتاج إلى دليل.

و لكنّك عرفت أنّ متعلّق التكليف هو العنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء، و الأجزاء وجود تفصيلي له، فمتعلق الأمر هو العنوان، لا الأجزاء بلا واسطة، و قد عرفت أنّ الإرادة الاستعمالية تعلّقت بالعنوان الذي هو عبارة إجمالية عن الأجزاء و الشرائط بأجمعها، لكن المولى أشار بدليل آخر إلى سقوط الإرادة الجدّية في حقّ المنسي، و إخراجها عن تحت الأمر، لكن إخراجها، لا يوجب سقوط الأمر عن العنوان، لما عرفت من صدق العنوان على الواجد و الخالي، فالأمر باق على العنوان و له دعوة إلى الأجزاء إلاّ ما خرج بالدليل.

بذلك تقف على عدم تمامية ما أفاده تلميذه الجليل حيث قال: إنّ نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلاّ برفع منشأ انتزاعهما من الأمر بالمركب أو المقيّد، و لا يترتب عليه ثبوت الأمر بالمنسي كما هو المدعى و قد علم ممّا ذكرنا عدم تماميته فلاحظ.

ص:592


1- فوائد الأُصول: 4/216.
التنبيه الثاني: في حكم الزيادة عمداً أو سهواً
اشارة

و تحقيق المقام يتوقف على البحث في أُمور:

الأوّل: في تصوير الزيادة في الجزء و الشرط مع أنّه إن أخذ» لا بشرط «لا تتحقق الزيادة و يكون الزائد من مصاديق المأمور به، و إن أُخذ» بشرط لا «يكون تكراره موجباً لنقص الشرط.

الثاني: هل يعتبر في تحقّقها أن يكون المزيد من سنخ المزيد عليه أو لا؟ و بعبارة أُخرى: هل يعتبر كون المزيد من سنخ أجزاء الواجب قولاً و فعلاً، أو لا؟ الثالث: هل يعتبر قصد الزيادة إذا كان المزيد من سنخ أجزاء الصلاة أو لا، بل يكفي مطلق الإتيان به و إن لم يكن عن قصد؟ الرابع: حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية.

الخامس: حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية.

و إليك دراسة الكل واحداً بعد الآخر.

الأوّل: تصوير زيادة الجزء و الشرط

فصّل المحقّق الخراساني في تصوير الزيادة ثبوتاً، بين أخذ الجزء في الواجب لا بشرط، و اعتبار عدم الزيادة في أصل المركّب لا في جزئية الجزء و شرطيّة الشرط، و بين أخذهما بشرط لا، فعلى الأوّل تكون الزيادة من قبيل زيادة الجزء، و على الثاني فهو يكون من قبيل نقص الجزء أو الشرط لعدم الإتيان به بوصفه، أعني بشرط كونه وحده.

يلاحظ عليه: أنّ المحاولة غير ناجحة في كلا الوجهين:

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا كان الجزء مأخوذاً لا بشرط، و لم تكن الزيادة قيداً في

ص:593

جزئيته، و إنّما تكون قيداً مأخوذاً في المركب، لا يكون الفرد الثاني زيادة في الجزء، لأنّ المفروض أخذ طبيعي الجزء، جزءاً للصلاة، و هو يجتمع مع الواحد و الكثير، فالفرد الثاني لا تنطبق عليه زيادة الجزء، و لو كان مخلاً فإنّما هو لاعتبار أخذ عدم الزيادة جزءاً أو شرطاً في المركّب، فيكون الفرد الثاني موجباً لفقدان الشرط أو الشطر.

و أمّا الثاني: فانّ الجزء فيه مركّب من جزءين، ذات الجزء و قيد الوحدة، و الفرد الثاني بالنسبة إلى ذات الجزء زيادة، و بالنسبة إلى قيد الوحدة منشأ للنقيصة، و لا مانع من أن يكون شيء واحد منشأ للزيادة و النقصان.

و أجاب المحقّق الخوئي بوجه آخر و هو: أن يكون مأخوذاً بنحو صرف الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ففي مثل ذلك و إن كان انضمام الوجود الثاني و عدمه على حدّ سواء في عدم الدخل في جزئية الوجود الأوّل، إلاّ أنّه لا يقتضي أن يكون مصداقاً للمأمور به و حينئذٍ تتحقق الزيادة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ أخذه على نحو صرف الوجود لا يخلو من حالتين، إمّا أن يكون مأخوذاً» لا بشرط « فلا يكون زيادة في الجزء، لأنّ المأخوذ هو ذات الجزء من غير تقييده بوحدة و لا كثرة فيكون الفرد الثاني، كأذكار الركوع و السجود كلما زادت يكون الزائد، جزءاً لا زيادة، و إن كان مأخوذاً بشرط لا فيكون من قبيل النقيصة.

و الأولى أن يجاب: بأنّ الموضوع في المقام و في الروايات عرفي، و الزيادة تصدق على الفرد الثاني من غير نظر إلى هذه الدقة العقلية و قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «ناظر إلى الاستعمالات العرفية حتى لو أُخذ الجزء بنحو بشرط لا، و يرشدك إلى هذا أنّ الركعة الثالثة زيادة في صلاة الفجر، و الركعة الرابعة زيادة في صلاة المغرب، و مثله الركوع و السجود الثاني، مع أنّ الجميع أخذ بشرط لا.

ص:594


1- مصباح الأُصول: 2/467.

نعم لا تتصور الزيادة فيما إذا كان الجزء طبيعي الجزء، بلا تحديد في جانب القلّة و الكثرة، كما ذهب إليه بعضهم في أذكار الركوع و السجود، فما أُتي فهو من مصاديق الجزء.

الثاني: في شرطية كون المزيد من سنخ المزيد فيه و عدمها

هل يشترط في صدق الزيادة كون المزيد من سنخ المزيد فيه، أو لا؟ أو يفرّق بين الإتيان، بقصد الجزئية فتصدق الزيادة أو لا معه، فلا تصدق؟ لا شكّ انّ الزيادة في التكوين رهن كونه مسانخاً للمزيد فيه، فلو أضاف عموداً، جنب عمود آخر، أو زاد في كمية جزء لمعجون، يطلق انّه زاد فيه، دون ما إذا لم يكن مسانخاً، كما إذا أدخل في الدواء المحدّد أجزاؤه، شيئاً لا يمتّ له بصلة كطحين الحنطة.

و أمّا الأُمور الاعتبارية فلو كانت الزيادة مسانخة للمزيد فيه فسيأتي الكلام فيه في الأمر الثالث، إنّما الكلام في صدقها فيما إذا لم يكن مسانخاً كحركة اليد في الصلاة، و التأمين و التكتّف، فالظاهر الفرق بين الإتيان به بقصد الجزئية فتصدق الزيادة دون ما إذا لم يقصد، و لذلك لا تصدق الزيادة على الأُولى دون الأخيرين حيث إنّ أهل الخلاف يأتون بهما بنية الجزئية.

الثالث: في شرطية قصد الجزئية في الجزء المسانخ و عدمها

هل يشترط في صدق الزيادة الإتيان بالجزء المسانخ بقصد الجزئية أو لا يشترط، أو يفصل بين الأقوال و الأفعال؟ و الأخير مختار المحقّق النائيني) قدس سره (، كما أنّ الأوّل مختار المحقّق الخوئي، و لعلّ الأظهر هو الوجه الثاني، و إليك بيان الوجهين ثمّ المختار.

ص:595

قال المحقّق النائيني: ما كان من سنخ الأقوال كالقراءة و التسبيح فيعتبر في صدق الزيادة قصد الجزئية و إلاّ كان من الذكر و القرآن غير المبطل، و أمّا ما كان من سنخ الأقوال كالقيام و الركوع فلا يعتبر في صدقها قصد الجزئية فانّ السجود الثالث زيادة في العدد، المعتبر من السجود في الصلاة في كلّ ركعة و إن لم يقصد بالسجود الثالث، الجزئية.(1)

يلاحظ على الشق الأوّل: أنّ عدم الصدق عند عدم قصد الجزئية لورود الدليل على أنّ ذكر اللّه حسن في كلّ حال، أو قراءة القرآن جائز في تمام الأحوال، و إلاّ لصدق الزيادة سواء قصد الجزئية أو لا.

و قال المحقّق الخوئي في لزوم قصد الجزئية: إنّ المركّب الاعتباري كالصلاة مثلاً مركّب من أُمور متباينة مختلفة وجوداً و ماهية، و الوحدة بينهما متقومة بالقصد و الاعتبار، فلو أتى بشيء بقصد ذلك المركب كان جزءاً له و إلاّ فلا، و ما ورد من أنّ الإتيان بسجدة التلاوة في أثناء الصلاة زيادة فيها، تعبّد شرعي و إن لم يكن من الزيادة حقيقة.

و الأولى أن يقال: انّ المركب الاعتباري و إن كان مؤتلفاً من أُمور مختلفة وجوداً و ماهية و لكن تكبيرة الافتتاح يعدّ دخولاً في عمل واحد مستمر عرفاً إلى أن يأتي بما جعله الشارع خروجاً عنه، و الهيئة الاتصالية المستمرة هي التي تبلع تلك المواد المختلفة، و تضفي عليها صورة وحدانية، و عند ذلك لو كان الزائد من غير جنس المزيد لا يعد زيادة في الفريضة لعدم التسانخ بين المزيد و المزيد عليه كحركة اليد أو وضع اليد اليمنى على اليسرى بل يعدّ أمراً أجنبياً، اللّهمّ إلاّ إذا قصد الجزئية، و أمّا إذا كان المزيد من جنس المزيد فيه، فالعرف لا يتوقف في وصفه بكونه زيادة في الفريضة و إن ادّعى المصلّي أنّه ما أتى به، بعنوان انّه جزء من

ص:596


1- فوائد الأُصول: 4/241.

الصلاة، بل يرى المماثلة العرفية كافية.

و يشهد بذلك ما رواه زرارة عن أحدهما) عليهما السلام (قال:» لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فإنّ السجود زيادة في المكتوبة «.(1) و حمل ذلك على التعبد و المجاز، غريب مع ورودها في غير واحد من الروايات.

الرابع: ما هو مقتضى القواعد الأوّلية في الزيادة؟

المراد من القواعد الأوّلية في المقام، ما يكون مرجعاً عند فقد الدليل الاجتهادي الدال على الصحّة أو البطلان و ليس هو إلاّ الأُصول العقلية و الشرعية كما أنّ البحث ليس مركزاً على الزيادة السهوية بل يعمّ العمدية منها ذلك لأنّها تفارق النقيصة، حيث إنّ العمدية من النقيصة مبطلة قطعاً، لأنّ البطلان من لوازم الجزئية عند ترك الجزء عمداً و ليست كذلك الزيادة العمدية.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّه لا شكّ في بطلان العمل بالزيادة في القسمين التاليين:

1. إذا أخذ الجزء لا بشرط و اعتبر عدم الزيادة قيداً للمركب لا للجزء.

2. إذا أخذ الجزء بشرط لا.

لأنّ الزيادة توجب عدم مطابقة المأتي به للمأمور به فلا كلام في بطلان المركّب في هذين القسمين و خروجهما عن محطّ البحث.

إنّما الكلام في القسم الثالث، هو انّه لم تُحْرز كيفية اعتبار الجزء و دار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم الثالث و هو أخذ الجزء لا بشرط في جانب الزيادة على نحو لو أتى بها يكون من مصاديق المأمور به لا أمراً زائداً عليه.

ص:597


1- الوسائل: الجزء 4، الباب 40 من أبواب القواعد، الحديث 1 و غيره.

فمرجع الشكّ عندئذ إلى أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء، أو أخذ الزائد مانعاً أو قاطعاً و الأصل في الجميع هو العدم.

فإن قلت: إذا دار الأمر بين أخذ الجزء» لا بشرط «و أخذه» بشرط لا «، فقد دار الواجب بين المتباينين، لأنّهما قسمان من أقسام اللابشرط المقسمي و الحكم فيهما هو الاحتياط، أي ترك الزيادة، و الإعادة معها.

قلت: الميزان في كون المورد مجرى للبراءة أو لا، كون أحد الطرفين أقلّ مئونة من الطرف الآخر، و وجود السعة فيه دون الآخر، و الحكم في المقام كذلك، لأنّ في أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء ضيقاً ليس في جانب الآخر أي أخذ الجزء لا بشرط. نظير ذلك، دوران الأمر بين كون الخصال ترتيبيّاً أو تخييراً إذ لا شكّ انّ في الثاني سعة دون الأوّل(1) و على ذلك يصحّ العمل مع الزيادة العمدية أو السهوية لعدم الدليل على أنّ عدمها مأخوذ في الصلاة في جانب الجزء أو المركب.

لكن الحكم بالصحّة فيما إذا كان قاصداً للامتثال مطلقاً سواء كان الزائد دخيلاً أو لا، كما إذا كان قاصداً لامتثال الأمر الفعلي المتوجه إليه لكنّه يتصوّر انّ الواجب هو المشتمل على الزائد، فيأتي به، فيكون المقام من قبيل الخطأ في التطبيق.

أمّا لو لم يكن قاصداً إلاّ في صورة خاصة و هي ما إذا كان الزائد دخيلاً في العبادة على نحو لو لم يكن جزءاً للواجب لما قصد الامتثال، فهو محكوم بالبطلان لعدم قصد امتثال الأمر الواقعي و إن كان ذلك نادر الوجود.

و ربما يتمسك مكان البراءة بالاستصحاب لإثبات الصحّة قد قُرر بوجوه مختلفة نذكر ما هو الصحيح عندنا.

ص:598


1- و هذا غير ما مرّ في الأوامر من أنّه إذا دار كون الواجب تعينياً أو تخييرياً، فالأصل كونه تعينياً، فلاحظ.
الأوّل: استصحاب الهيئة الاتصالية

اعلم أنّ الموجود ينقسم إلى: قار الذات، و غير قارها. و المراد من الأوّل ما يتحقّق عامة أجزائه في زمان واحد، كالأنواع الجوهرية، و المراد من الثاني خلافه، أي لا تجتمع أجزاؤه دفعة واحدة في زمان واحد على الرغم من كونه موجوداً وجدانيّاً لا كثرة فيه، و ذلك لأنّ لوجوده سيلاناً عبر الزمان، فكما أنّ الزمان موجود غير قار الذات فهو أيضاً يسايره و ذلك كنفس الحركة و سيلان الماء إلى غير ذلك من الموجودات المتدرّجة الذات.

و الصلاة من المقولة الثانية فرغم انّ لها وجوداً وحدانياً لكنّها توجد متدرجة بأوّل جزئها، أعني:

التكبيرة، و تنتهي بآخر جزء منها بلا تخلّل عدم بينهما، غير انّ الاتصال في الصلاة اعتباري و في غيرها كسيلان الماء و الحركة حقيقي.

ثمّ إنّ الصلاة عبارة عن الأقوال و الأفعال و أمّا السكنات المتخلّلة فخارجة عنها، غير انّ الهيئة الاتصالية لهذا الموجود الاعتباري تجعل السكنات داخلة فيها، فليس المصلي حال كونه ساكناً غير قارئ و لا فاعل، خارجاً عن الصلاة بل هو فيها، فكأنّ الهيئة الاتصالية كخيط يضم شتات الأجزاء و يوصل بعضها ببعض فالآتي بالمركب داخل فيه من أوّله إلى آخره حتى في السكونات المتخلّلة.

و الذي يدل على أنّ الشارع اعتبر الهيئة الاتصالية فيها هو انّه يعبر عن كثير من المفسدات بالقواطع(1)إذ لولاها لما كان لاستعماله وجه.

مضافاً إلى ذلك انّ ارتكاز المتشرعة يدل على تلك الهيئة.

ص:599


1- الوسائل: الجزء 4، ص 1240، أبواب قواطع الصلاة إلى ص 1484. روى أبو بكر الحضرمي عنهما (عليهما السلام):» لا يقطع الصلاة إلاّ أربعة.... لاحظ باب 1، الحديث 2. كان علي (عليه السلام) يقول:» لا يقطع الصلاة الرعاف «) الباب 2/8).

إذا عرفت ذلك، فلو أتى المصلّي بشيء يشك في قاطعيته كالتجشّؤ فيستصحب بقاء الهيئة الاتصالية و هذا يكفي في صحّة الصلاة.

الثاني: استصحاب عدم وقوع القاطع و المانع في الصلاة

توضيحه: أنّ مشكوك المانعية و القاطعية، إمّا أن يكون مقروناً مع الصلاة من افتتاحها، ففي مثله، لا يجري ذاك الاستصحاب لعدم حالة سابقة مقطوعة; و أمّا إذا لم يكن كذلك و كانت الصلاة في افتتاحها مجردة عنه ففي مثله يجري الاستصحاب المذكور، كما إذا حمل اللباس المشكوك في أثنائها، أو أتى بجزء زائد فشك في وقوع القاطع و عروض المانع على الصلاة و عدمهما، فيقال لم تكن الصلاة في مفتتحها مشتملة عليه و الأصل بقاؤها على ما هي عليها، و تكون النتيجة كون الصلاة بلا مانع و الهيئة الاتصالية بلا قاطع. و لو كان التقرير الأوّل مختصاً بالشكّ في عروض القاطع، لكن هذا التقرير يعمّ الشكّ في حدوث المانع.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ) قدس سره (أورد على هذا الاستصحاب بأنّه مثبت، و حاصل ما أفاد: إنّ الأثر ربما يترتب على كون الشيء موصوفاً بعنوان كما إذا قال: صلّ خلف الرجل العادل، و أُخرى على الموضوع المقيد بالشيء كما إذا نذر التصدّق إذا قامت البيّنة على عدالة زيد، و لكلّ أثر خاص، فلو أراد أن يأتم بزيد فشك في كونه عادلاً وقت الائتمام أو لا، فله أن يستصحب الموضوع الموصوف و يقول: كان زيد عادلاً و الأصل كونه كذلك، و لا يصحّ له استصحاب القيد بأن يقول: عدالة زيد كانت ثابتة و الأصل بقاؤها، و ذلك لأنّ استصحاب القيد لا يثبت كون زيد عادلاً إلاّ على القول بالملازمة العقلية بين بقاء عدالته و كونه عادلاً.

و على ذلك فجريان الاستصحاب في نفس القيد، أي القول بعدم تحقّق القاطع لا يثبت كون الصلاة غير مقرونة بالمانع و القاطع.

يلاحظ عليه: أنّ عدّ مثل هذا من المثبتات يوجب إدخال كثير من الاستصحابات في الأصل المثبت، مثلاً، استصحاب بقاء الوقت لا يثبت كون

ص:600

الصلاة واقعة في الوقت و أداءً، أو استصحاب الطهارة لا يثبت كون المصلي متطهراً مع أنّ الإمام اكتفى به و قال: لأنّه كان على يقين من طهارته و لم يقل انّه كان متطهراً.

و الحاصل انّ استصحاب الوصف المرتبط بالموصوف نفس كون الموضوع موصوفاً به عرفاً.

و إن شئت قلت: إنّ الواسطة ضعيفة.

عدم الحاجة إلى الاستصحاب

ما ذكرنا من الصورتين هو الصحيح من التمسّك بالاستصحاب في المقام، و مع ذلك لا حاجة إليه في إثبات صحّة الصلاة، و ذلك لأنّ البراءة تكفي من دون حاجة إلى الاستصحاب، و البراءة متقدمة عليه إذا كان الأصلان متوافقي المضمون، و ذلك لأنّ صرف الشكّ في كون الشيء قاطعاً كاف في الحكم بعدم كونه قاطعاً، و عندئذ يستغنى عن الاستصحاب الذي هو مركّب من شيئين صرف الشكّ و لحاظ الحالة السابقة، و من المعلوم تقدّم البسيط على المركّب.

فإن قلت: قد تكرّر منّا انّ الاستصحاب مقدّم على أصل البراءة لكونه أصلاً محرزاً، فكيف تقدّم البراءة عليه في هذا المقام؟ قلت: هذا إذا كانا متخالفي المضمون و كان الاستصحاب على خلاف مضمون البراءة دون المقام الذي كلا الأصلين يتّحدان في النتيجة.

الخامس: حكم الزيادة حسب القواعد الثانوية

هذا كلّه حول القواعد الأوّلية، و إليك الكلام في القواعد الثانوية، فقد ورد حول الزيادة روايات بين كونها عامة أو خاصة و الذي يهمنا هو القسم الأوّل.

ص:601

الأوّل: قاعدة من زاد في صلاته

1. ما رواه الكليني بسند صحيح عن زرارة و بكير بن أعين، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها و استقبل صلاته استقبالاً، إذا كان استيقن يقيناً «.(1)

2. ما رواه الشيخ بسنده إلى علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الثقة، عن أبان بن عثمان) الذي هو ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه) عليه السلام (:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «.(2)

3. ما رواه الشيخ عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (قال:» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:

الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود، ثمّ قال: القراءة سنّة، و التشهد سنّة فلا تنقض السنّة الفريضة «.(3)

و سند الشيخ إلى زرارة في التهذيبين غير صحيح، لكن رواه الكليني بسند صحيح رواه شيخنا الحرّ العاملي في أبواب القبلة باللفظ التالي: عن زرارة، سألت أبا جعفر) عليه السلام (في الفرض في الصلاة، فقال:

» الوقت، و الطهور، و القبلة، و التوجه، و الركوع و السجود، و الدعاء «قلت: ما سوى ذلك؟ فقال: سنة في فريضة.(4)

ثمّ إنّ البحث فيما أوردنا من الروايات يتم في ضمن أُمور:

1. شمول الرواية الأُولى لمطلق الزيادة

لا شكّ انّ الرواية تصدق على الموردين:

1. إذا أتى بغير المسانخ بنية الجزئية كالتأمين، و وضع اليد اليمنى على اليسرى.

ص:602


1- الوسائل: الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
2- الوسائل: الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
3- الوسائل: الجزء 4، الباب 1 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4.
4- الوسائل: الجزء 3، الباب 1 من أبواب القبلة، الحديث 1.

2. إذا كان الزائد على وجه بحيث يطلق عليه الصلاة، كالركعة.

إنّما الكلام في صدقه على أجزاء الصلاة و إن لم تصدق انّه صلاة بالحمل الشائع، كالسورة و التشهد، نظير ما إذا أمر المولى بصنع معجون مركب من أجزاء معينة كماً و كيفاً فخالف العبد أمر المولى في كمية بعض الأجزاء فزاد في المعجون، و على ذلك يكون معنى قوله:» من زاد في صلاته شيئاً فعليه الإعادة «.

لكن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري خصّ مفاد الحديث بما إذا كان الزائد مصداقاً للصلاة كالركعة و الركعتين، فاستدل على ذلك بما هذا حاصله:

إنّ الظاهر أنّ متعلّق الزيادة في المقام من قبيل الزيادة في العمر في قولك: زاد اللّه عمرك، فيكون القدر الذي جعلت الصلاة ظرفاً له، هو الصلاة، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقداراً يطلق عليه الصلاة مستقلاً كالركعة و الركعتين، مضافاً إلى أنّه القدر المتيقن في بطلان الصلاة بالزيادة أضف إليه أنّ رواية زرارة و بكير تشمل على لفظ الركعة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ العمر أمر بسيط لا تتصور فيه الزيادة إلاّ من جنسه، فلو زيد عليه يكون الزائد شيئاً يصدق عليه أنّه عمر، و هذا بخلاف الصلاة المركبة من أُمور شتى مختلفة وجوداً و ماهية فيكفي في صدقها كون الزائد مسانخاً لجزء من أجزائها أو غير مسانخ لكنّه أتى به بنيّة كونه جزءاً لها، و أمّا حديث زرارة فسيوافيك الكلام فيه.

الثاني: في قاعدة لا تعاد

القاعدة الثانية: هي قاعدة لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة كما عرفت.

و يقع الكلام فيها من جهات:

ص:603


1- الصلاة: المقصد الثالث: 210 ط 1353 ه ق.
الجهة الأُولى: في سند القاعدة

روى الصدوق في الفقيه، و الشيخ باسنادهما عن زرارة، عن أبي جعفر) عليه السلام (أنّه قال:

» لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود «، ثمّ قال:» القراءة سنّة، و التشهد سنّة، فلا تنقض السنّة الفريضة «.(1)

و سند الصدوق في مشيخة الفقيه إلى زرارة صحيح، بخلاف سند الشيخ في مشيخة التهذيب إليه فليس بصحيح، و هذا المقدار يكفي في الاعتماد عليها، مضافاً إلى اشتهارها بين الأصحاب، و إلى رواية الصدوق لها في الخصال بالسند التالي الذي هو في غاية الصحة، قال: حدثنا أبي) رض (قال: حدثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (و السند صحيح و رواته ثقات عدول.

الجهة الثانية: في سعة موضوعها و ضيقه

ينقسم المكلف حسب الحالات إلى» عامد «و» شاك «و» جاهل مركب «و» ناس «فهل القاعدة تشمل الجميع أو لا؟ فلنتناول الأقسام الأربعة بالدراسة.

أمّا العامد: فلا ريب في خروجه عن حريم القاعدة، إذ معنى شمولها له جعل الترخيص للعامد أن يتلاعب بالصلاة بالزيادة و النقيصة في غير الخمسة، و هذا باطل بالضرورة، و قد مرّ أنّ مفاد الجزئية هو البطلان بترك الجزء عامداً.

و أمّا الشاك، الذي يعبّر عنه بالجاهل الملتفت: فتارة يشك في جزئية شيء أو مانعية الزيادة و قاطعيته قبل الشروع في الصلاة، و أُخرى بعدها. أمّا الأوّل: فالرواية

ص:604


1- الفقيه: 1/255; التهذيب: 2/152.

منصرفة عنه، لأنّ موضوعها من دخل في العبادة عن يقين و قطع بالصحة ثمّ عرض له الشك بعد الفراغ عن العمل من جهة احتمال الإخلال بالصلاة من جانب النقيصة و الزيادة، فيقال له أعد، أو لا تعيد، فلا يصدق على الشاك قبل الإتيان بالعمل.

و أمّا الشاك بعد الصلاة، فوظيفته التعلّم و رفع الشكّ، و إلاّ فيرجع إلى القواعد المقررة للشاك لا التحفظ بالشك مطلقاً و العمل بالقاعدة.

و الحاصل أنّ الشاك أعني: الجاهل الملتفت خارج عن مصب الرواية، أمّا قبل الدخول في العمل فلاختصاص القاعدة بنحو لا يمكن معه تدارك المتروك، كمن نسي القراءة و لم يذكر حتى ركع، فلا تكون القاعدة مستندة لجواز الدخول في الصلاة مع الشكّ، بل هي مستندة لمن دخل في الصلاة و قصد امتثال الأمر الواقعي ثمّ تبين الخلل في شيء من الأجزاء أو الشرائط.

و أمّا بعد الدخول فلا تهدف القاعدة إلى تثبيت الجاهل على جهله و الاكتفاء بالقاعدة، بل وظيفته التعلّم و رفع الجهل و إلاّ فالرجوع إلى الأُصول العملية.

فعلى كلّ تقدير فالجاهل الملتفت خارج عن مصب الرواية قبل الدخول أو بعده.

بقي الكلام في الجاهل بالموضوع أو الحكم، و كذا الناسي.

فالظاهر أنّ القاعدة تشملهما بكلا قسميهما دون فرق بين تعلّقهما بالموضوع أو بالحكم، فالأوّل كما لو جهل أنّ ثوبه نجس، و الثاني كما لو جهل بحكم عدم جواز الصلاة فيها، و مثله النسيان بكلا قسميه، فالظاهر أنّ القاعدة تشمل كلا القسمين سواء كان المتعلّق موضوعاً أو حكماً. غير أنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري منع عن شمول القاعدة في الجهل بالحكم و نسيانه. و بنى مختاره على أمرين:

ص:605

أ: انّ ظاهر قوله:» لا تعاد «هو الصحّة الواقعية، و كون الناقص مصداقاً واقعياً لامتثال أمر الصلاة.

ب: انّ القول بشمول القاعدة لما إذا اعتقد عدم وجوب شيء أو عدم شرطية شيء، أو كان ناسياً لحكم شيء من الجزئية و الشرطية يستلزم التصويب الممتنع لما ظهر من المقدمة الأُولى أنّ ظاهر الصحيح الحكم بصحة العمل واقعاً، و مقتضاه عدم كون المتروك جزءاً أو شرطاً، و لا يعقل أن يقيد الجزئية و الشرطية بالعلم بهما، بحيث لو صار عالماً بعدمهما بالجهل المركب لما كان الجزء جزءاً و لا الشرط شرطاً.

نعم يمكن على نحو التصويب الذي ادّعى الإجماع على خلافه.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ظاهر الحديث هو الاكتفاء بالفرائض عند ترك السنن عن عذر، لا الصحة الواقعية، بشهادة قوله في ذيل الحديث:» و لا تنقض السنّة الفريضة «أي لا يجعل الفريضة كأن لم تكن فيكون معذوراً في ترك السنن.

ثانياً: لا يلزم من سعة الحديث للجاهل بالحكم و ناسيه، التصويب الممتنع و لا التصويب الذي ادّعي الإجماع على خلافه، و ذلك لأنّ التصويب الممتنع عبارة عن خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و الذاكر و الناسي، و هو غير لازم إذا قلنا بعموم عدم الإعادة في الجهل بالحكم و نسيانه، لأنّ الحكم الإنشائي مشترك بينهما، و إنّما يختص الفعلي بالعالم و الذاكر، و على ما قلنا من أنّ الحكم الفعلي عبارة عن إعلان الحكم و إبلاغه و إن لم يصل إلى المكلّف فهما مشتركان في الإنشائي و الفعلي، و إنّما يفترقان في التنجّز ، فالحكم منجّز في حقّهما

ص:606


1- المحقّق الحائري، الصلاة: 316، باب الخلل، الطبعة الثانية. و مراده من التصويب الممتنع هو التصويب الأشعري، كما أنّ مراده من التصويب المجمع على بطلانه هو التصويب المعتزليّ و قد تعرّضنا لهما في مبحث إمكان التعبد بالظن، فلاحظ.

دون الجاهل و الناسي.

فخرجنا بالنتيجة التالية: انّ القاعدة تعم الجاهل و الناسي بكلا قسميه، و انّه إذا انكشف الخلاف برفع الجهل و عود الذكر، يحكم على الصلاة بالقبول من دون إعادة إلاّ في الأُمور الخمسة.

الجهة الثالثة: في سعة دلالتها من حيث المتعلّق

الظاهر انّ الرواية بصدد ضرب القاعدة لمن وقف بعد الصلاة على خلل في صلاته بعد ما دخل فيها عن مجوز شرعي، فعلم أنّه نقص جزءاً أو زاد شيئاً.

فعلى ضوء هذا تكون القاعدة صدرها و ذيلها عامةً لكلا القسمين، فلا يعاد في غير الخمسة لأجل طروء أيّ خلل عليها سواء كان الخلل مستنداً إلى الزيادة أو النقيصة، كما أنّه يعاد في مورد الخمسة لأي خلل فيها من النقيصة و الزيادة.

نعم ربما يخصّص ذيل القاعدة بالنقيصة و ذلك بوجهين.

إنّ المستثنى لا يشمل سوى النقيصة أي ترك الأركان الخمسة و أمّا زيادتها فليست داخلة في المستثنى .

وجه ذلك: أنّه لو قلنا إنّ زيادة الركوع مبطلة، فهذا لأجل أخذ عدمها في جزئية الجزء أو في ضمن المركب، فلو زاد ركوعاً أو سجوداً فهو زيادة في الظاهر، لكن مرجعها إلى النقيصة أي الإخلال بوصف الركوع و السجود، أعني) كونها بشرط لا (. فظهر من هذا البيان أنّ القول ببطلان الصلاة لأجل زيادة الأركان يرجع في الواقع إلى الإخلال بالنقيصة أي إخلال وصف الجزء. هذا من جانب و من جانب آخر انّ الإخلال بالنقيصة منحصر في موارد خمسة، أعني ترك نفس الأركان من رأس كترك الطهور و عدم إقامة الصلاة في الوقت....

فلو قلنا بأنّ زيادة الركوع موجبة للإعادة و قد عرفت أنّ مرجع الزيادة إلى

ص:607

النقيصة يكون الإخلال بالنقيصة غير منحصر بالخمسة بل يتجاوز عنها إلى سادس و هو الإخلال بوصف الركوع) بشرط لا (و سابع و هو الإخلال بوصف السجود) بشرط لا (مع أنّ الرواية تنص على أنّ الإخلال بالنقيصة منحصر في خمسة.

يلاحظ عليه: أنّ مرجع زيادة الجزء المأخوذ بشرط لا، و إن كان إلى النقيصة و فقدان الوصف أي ) بشرط لا (، لكنّه خلط بين حكم العرف و العقل، و العرف يعدّ الركوع المكرّر زيادة في الجزء لا نقيصة في الوصف و إن كان الأمر في نظر العقل كذلك.

و على ضوء ذلك فلو قلنا بعمومية المستثنى للزيادة و النقيصة، يدخل الركوع المكرّر في المستثنى لأجل كونه زيادة لا نقيصة حتى يتجاوز عدد الموجب للإعادة في النقيصة عن الخمسة، و نكون عندئذ في غنى من إضافة أمر سادس في جانب النقيصة.

و استدل المحقّق النائيني باختصاص الذيل بالنقيصة بأنّ بعض ما جاء فيه مختص بها و لا يتصوّر فيه الزيادة كالوقت و القبلة و الطهور.

يلاحظ عليه: أنّ عدم تحقّق الزيادة في البعض لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة بعد قابلية الركوع و السجود للزيادة و النقيصة.

الجهة الرابعة: في نسبة صدر القاعدة مع الحديث

إنّ صدر القاعدة يتضمّن حكماً سلبياً، و ذيلها حكماً إيجابياً.

أمّا السلبي، فهو عبارة عن الحكم بعدم الإعادة في غير الأركان الخمسة فقوله:» لا تعاد الصلاة « بمنزلة القول: لا تعاد الصلاة عند ورود الإخلال بغير الأركان بالنقص و الزيادة.

ص:608

و أمّا الإيجابي فهو عبارة عن الاستثناء عن الحكم السلبي الذي يكون إيجابياً فقوله:» إلاّ الخمسة « بمنزلة القول: تعاد الصلاة عند ورود الإخلال بأركانها بالنقص و الزيادة.

و الغرض في المقام بيان النسبة بين مفاد الصدر، و حديث أبي بصير، أعني قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «لا بين ذيل القاعدة و الحديث.

و بعبارة أُخرى: بيان النسبة بين الحكم السلبي الوارد في صدر القاعدة، و الحكم الإيجابي في الحديث، فذكر مفاد الذيل عند بيان النسبة خروج عن محط البحث، فنقول: بما انّ المشهور لما فهموا من القاعدة عمومها للزيادة كشمولها للنقيصة، صارت النسبة بينهما عندهم عموماً و خصوصاً من وجه، ثمّ إنّه اختلفت كلمتهم في بيان وجه أخصية القاعدة فذكروا وجهين:

الوجه الأوّل: اختصاص القاعدة بغير الأركان

ذهب شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري) قدس سره (إلى أنّ وجه الأخصية هو اختصاص القاعدة للزيادة غير الركنية قال) قدس سره (: فالنسبة بينها و بين ما دلّ على أنّ من تيقن أنّه زاد في صلاته فعليه الإعادة عموم من وجه، لافتراق الدليلين في النقيصة، و الزيادة الركنية، و اجتماعهما في الزيادة غير الركنية.(1)

توضيحه: أنّا نعبر عن مفاد القاعدة بالصحة، و عن مفاد الحديث بالبطلان، فنقول: القاعدة عامة لأنّها تحكم بصحّة الصلاة في صورتي الزيادة و النقيصة، و خاصة لأنّها تحكم بالصحة في صورة الإخلال بغير الأركان.

و الحديث عام لأنّه يحكم بالبطلان بالزيادة في الركن و غيره، و خاص لأنّه يحكم بالبطلان في صورة الزيادة فقط.

ص:609


1- كتاب الصلاة: 312.

و بما أنّ مصبّ النسبة بين القاعدة و الحديث، هو صدر القاعدة أعني:» لا تعاد «الذي عبّرنا عنه بالصحّة لا ذيل القاعدة، أعني:» إلاّ في خمسة «الذي مفاده بطلانها في الإخلال بتلك الأُمور.

و منها يظهر وجه أخصية القاعدة و هو: انّ الصحّة فيها مختصة بغير الأركان، نعم هي عامة من جهة شمولها للإخلال بالنقيصة و الزيادة.

و بذلك يظهر التسامح في تقرير وجه الأخصية في كلام المحقّق الخوئي حيث جعل وجهها اختصاص الحكم بالبطلان بالأركان و قال: إنّ حديث» لا تعاد «و إن كان خاصاً من جهة انّ الحكم بالبطلان فيه مختص بالأركان إلاّ أنّه عام من حيث الزيادة و النقصان.(1)

و أنت خبير انّ مصب لحاظ النسبة هو الحكمان المختلفان، أعني:» لا تعاد «في القاعدة و» عليه الإعادة «في الحديث، و مخالفة الثاني للأوّل إنّما هو في المستثنى منه، أعني: غير الأركان، حيث تحكم القاعدة بالصحة و الثاني بالفساد، لا في المستثنى، أعني: الأركان، فانّهما متوافقان في الحكم بالفساد و البطلان فيها و الصحيح في وجه الأخصية ما قرّرناه من اختصاص الصحّة بغير الأركان.

الوجه الثاني: اختصاص القاعدة بصورة السهو

يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري انّ وجه الأخصية اختصاص القاعدة، بصورة السهو(2) و عمومية الحديث للعمد و السهو، قال:» مقتضى لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة «هو عدم قدح النقص سهواً و الزيادة سهواً، و مقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة، قدح الزيادة عمداً و سهواً و بينهما تعارض العموم من وجه في

ص:610


1- مصباح الأُصول: 2/269.
2- و لعلّ مراده من السهو، هو عدم العمد، فيدخل فيه الجاهل المركب و الناسي معاً.

الزيادة السهوية [غير الركنية] بناء على اختصاص لا تعاد بالسهو.(1)

و حاصله: انّ القاعدة أخصّ لاختصاصها بالسهو، و أعم لعمومها للزيادة و النقيصة، و الحديث أخص لاختصاصه بالزيادة و أعمّ لعمومه العمد و السهو، فيقع التعارض في الزيادة السهوية غير الركنية، فلا تعاد على القاعدة، و تعاد على الحديث.

وجه تقديم القاعدة على الحديث

ثمّ إنّ الظاهر هو اتّفاقهم على تقديم القاعدة على الحديث، و ذكر الشيخ انّ وجه التقديم هو حكومة القاعدة على الحديث قال:» و الظاهر حكومة قوله:» لا تعاد «على أخبار الزيادة، لأنّها كأدلّة سائر ما يُخلُّ فعله و تركه بالصلاة، كالحدث و التكلّم و ترك الفاتحة، و قوله:» لا تعاد «يفيد انّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به، إذا وقع سهواً لا يوجب الإعادة و إن كان من حقّه أن يوجبها «.(2)

ثمّ إنّ المحقّق النائيني و تلميذه الجليل تبعا الشيخ في وجه التقديم.

قال المحقّق الخوئي في توضيحه: إنّ حديث» لا تعاد «حاكم على أدلّة الزيادة بل على جميع أدلّة الأجزاء و الشرائط و الموانع كلّها، لكونه ناظراً إليها و شارحاً لها، إذ ليس مفاده انحصار الجزئية و الشرطية في هذه الخمسة، بل مفاده انّ الاخلال سهواً بالأجزاء و الشرائط التي ثبت جزئيتها أو شرطيتها لا يوجب البطلان إلاّ الإخلال بهذه(3) فلسانه لسان الشرح و الحكومة فيقدّم على أدلّة

ص:611


1- الفرائد: 293.
2- الفرائد: 294، طبعة رحمة اللّه.
3- مصباح الأُصول: 2/470. و لاحظ الفوائد: 4/239.

الأجزاء و الشرائط بلا لحاظ النسبة بينه و بينها.

أقول: إنّ ما ذكره من حكومة القاعدة على أدلّة الأجزاء و الشرائط أمر لا غبار عليه إنّما الكلام في حكومتها على قوله:» من زاد في صلاته فعليه الإعادة «و ذلك لأنّه ليس في عداد أدلّة الأجزاء و الشرائط بل هو و القاعدة على مستوى واحد ناظران إلى أدلّتهما. و ليس مفاد الحديث» الزيادة مبطلة «حتى يكون في عدادهما و تكون القاعدة حاكمة عليه، بل الكلّ شارح لأحوال الأجزاء و الشرائط في الإبطال و عدمه.

و الحاصل أنّ في مورد الاجتماع دليلين:

أحدهما: مع الزيادة السهوية غير الركنية لا تعاد الصلاة.

ثانيهما: مع الزيادة السهوية غير الركنية تعاد الصلاة.

فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.

و مع ذلك فالقاعدة مقدمة على الحديث بوجوه:

الأوّل: قوّة الدلالة، لاعتمادها على العدد، و هذا كاشف عن كون المتكلّم بصدد بيان ما هو الموضوع للإعادة و عدمها لوجه دقيق غني عن التخصيص و التقييد.

الثاني: وجود التعليل في القاعدة دون الحديث حيث تعلّل عدمها بأنّ السنّة لا تنقض الفريضة، و مقتضاه عدم لزوم الإعادة فيما إذا زاد شيئاً مع عدم الإخلال بالأركان.

الثالث: لسان الامتنان في القاعدة دون الحديث الموجب، لتقديم ما هو ظاهر في المرونة و السهولة على غيره.

فإن قلت: لو كان الحاكم في مورد الاجتماع هو القاعدة، يلزم تخصيص مورد

ص:612

الحديث بالأركان مع أنّ طروء الخلل فيها قليل، لأنّ الوقت و القبلة لا تتصوّر فيها الزيادة، و الزيادة في الطهور بمعنى الطهارة النفسانية لا تقبل الزيادة و بمعنى تجديد أسبابها غير مخل قطعاً، فتأسيس قاعدتين لموردين غريب جداً.

قلت: إنّ مورد الحديث أوسع من ذلك، لأنّه يعم الزيادة العمدية و السهوية ركناً كان أو غير ركن.

فإن قلت: إنّ الزيادة العمدية قليلة جداً، إذ من البعيد أن يقوم المصلّي المريد لإفراغ ذمّته بالزيادة العمدية، منه فينحصر مصداقه في زيادة الركنين السهوية، و هي أيضاً قليلة، فيلزم تخصيص الأكثر و تأسيس قاعدة كلية لأجل زيادة الركوع و السجود.

قلت: هنا طريقان للتخلّص من هذا المأزق:

أحدهما: القول بعدم شمول القاعدة لصورة الزيادة مطلقاً و اختصاصها بصورة النقيصة.

ثانيهما: اختصاص الحديث بزيادة الركن و الأركان.

أمّا الأوّل فهو مخالف لفهم الأصحاب أولا، لأنّهم تلقّوها ضابطة لمعالجة أي خلل طرأ على الصلاة من غير فرق بين النقيصة و الزيادة، فلا محيص، عن اختيار الثاني و انّ المراد من قوله:» من زاد «هو زيادة الركن أو الركعة كما لا يخفى.

الجهة الخامسة: في بيان نسبة القاعدة مع حديث زرارة

روى الكليني في» باب من سها في الأربع و الخمس و لم يدر زاد أو نقص «عن زرارة، عن أبي جعفر أنّه قال:» إذا استيقن أنّه قد زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها و استقبل صلاته استقبالاً إذا كان استيقن يقيناً «.(1)

ص:613


1- الكافي: 4/354.

و روى أيضاً في باب» السهو عن الركوع «بإضافة قوله:» ركعة «بعد قوله:» المكتوبة «(1)و عنوان الباب حاك عن وجود لفظ» ركعة «، و انّه فهم من قوله:» ركعة «، الركوع. بخلاف الباب السابق فلم يرد فيه لفظ» ركعة «.

و أخرجه صاحب الوسائل عن الكليني في موضعين، مع الزيادة و لم يشر إلى عدم لفظة» ركعة «: في موضع من الكافي، و لعلّ نسخته في كلا البابين كانت مشتملة عليها، أو أنّه رجع إلى باب» السهو عن الركوع «دون الآخر.(2)

و أمّا الشيخ فقد أخرجه في التهذيب في باب» أحكام السهو في الصلاة «عن الكليني بلا هذه الزيادة.(3)

و أمّا المجلسي فقد تبع الكليني في كلّ مورد فنقله في باب» من سها في الأربع و الخمس «بلا زيادة، و في باب السهو عن الركوع معها.

هذا حال المتن، و أمّا وجه الجمع بين القاعدة و الحديث فملخّص الكلام: انّه لو قلنا بوجود لفظ:

» الركعة «في الحديث كما هو الموافق للقاعدة، لأنّ الأمر إذا دار بين النقص السهوي و الزيادة السهوية فالأوّل هو المتعيّن، لأنّه أمر عادي دون الزيادة و عندئذ تصبح النسبة بينهما هو العموم و الخصوص المطلق و يكون الإخلال بالركعة ملازماً للإخلال بالركوع الوارد في المستثنى.

و أمّا لو قلنا بعدم ثبوت الزيادة فيكون حالها حال حديث أبي بصير في النقض و الإبرام و النتيجة فلا نطيل الكلام.

ص:614


1- الكافي: 3/348.
2- الوسائل: الجزء 4، الباب 14 من أبواب الركوع، الحديث 1; و الجزء 5، الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1.
3- التهذيب: 2/206 ح 64، طبعة الغفاري; و ص 194، طبعة النجف.
التنبيه الثالث: في الاضطرار إلى ترك الجزء و الشرط
اشارة

لو تعذر أحد قيود المأمور به، ففي سقوط التكليف عن المركب قولان مبنيّان على ثبوت التقييد مطلقاً فيسقط التكليف عن الباقي، أو في حال التمكّن فيبقى الأمر على المركب.

و أمّا صور المسألة فهي أربع كالجزء المنسي، غير أنّ الشكّ هناك يتعلّق بوجوب الإعادة بعد الذكر و عدمه، و في المقام بلزوم الإتيان بالباقي عند تعذّر بعض القيود و أمّا الصور فهي:

1. ما يكون لكلّ من دليل المركب و الجزء إطلاق.

2. ما يكون لدليل الجزء إطلاق دون دليل المركب.

3. ما يكون على العكس، بأن يكون لدليل المركّب إطلاق دون دليل الجزء.

4. ما لا يكون لواحد منهما إطلاق.

و معنى الإطلاق في المقام هو المطلوبية في حالتي التعذر و عدمه، و تكون نتيجة الإطلاق في جانب الجزء هو سقوط الأمر بالمركب، و في جانب المركّب، هو لزوم الإتيان بالباقي عند التعذر.

و المناسب للمقام هو الصورة الرابعة، أعني ما إذا لم يكن في المقام إطلاق من الجانبين حتى يكون البحث ممحّضاً للأُصول العملية، و أمّا إذا كان في البين إطلاق فهو خارج عن محطِّ البحث لوجود الدليل الاجتهادي الذي لا تصل معه النوبة إلى الأصل، و لأجل ذلك نبحث في المقامين.

1. مقتضى الدليل الاجتهادي

الكلام في مقتضى الدليل الاجتهادي في المقام هو نفس الكلام في الجزء

ص:615

المنسي، غير أنّ الشكّ في الثاني بعد العمل، و في المقام قبله كما تقدم، و قد عرفت أنّه لو كان لكلا الدليلين إطلاق، أو كان لدليل الجزء إطلاق، يحكم بتقديم إطلاق الجزء، إمّا لأخصيته كما في الصورة الأُولى، أو لعدم الإطلاق في دليل المركب كما في الصورة الثانية، فيحكم بسقوط وجوب المركّب أخذاً بإطلاق الجزء الذي هو بمعنى عدم رفع اليد عنه في تلك الحالة.

و مع ذلك كلّه يمكن تقييد إطلاق دليل الجزء بحديث الرفع، لما عرفت من أنّ تعلّق الرفع بما لا يعلمون تعلّق ظاهري، و بما اضطروا و استكرهوا، تعلّق واقعي، فيكفي في رفع وجوب الجزء، تعلّق الاضطرار بتركه.

نعم إنّما يثبت وجوب الباقي، إذا كان لدليل المركّب إطلاق دون الصورة الثانية. بل يكون حكمها حكم الصورة الرابعة كما ستوافيك.

و أمّا الصورة الثالثة، أعني: ما إذا كان لدليل المركب إطلاق دون دليل الجزء، فيحكم بوجوب الباقي، و قد مرّت الأمثلة عند البحث في حكم الجزء المنسي.

إلى هنا تمّ بيان حكم الدليل الاجتهادي.

2. مقتضى الأُصول العملية

إذا لم يكن لواحد من الدليلين إطلاق، تصل النوبة إلى الأُصول العملية، فيقع الكلام في

مقتضى القاعدة الأوّلية أوّلاً،

ثمّ في مقتضى الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص المورد ثانياً.

لا شكّ انّ وجوب الجزء المضطر إليه سقط بالاضطرار، و إنّما الكلام في تعلّق الوجوب بالباقي و الأصل البراءة، و صدق العنوان على الباقي لا يلازم تعلّق الأمر به بعد كون المقيد مغايراً للمجرّد عنه، هذا من غير فرق بين طروء التعذّر

ص:616

قبل تعلّق الوجوب كما إذا بلغ غير عارف بالقراءة، أو بعده، كما إذا عجز عن القراءة بعد دخول الوقت.

نعم لو كان لدليل المركب إطلاق، لما كان للبراءة مجال.

لا يقال: إنّ مقتضى حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلاّ في حال التمكّن منه، و عندئذ يبقى الحكم على الأجزاء الباقية.

لأنّا نقول: الحكم بعدم وجوب الباقي ليس مستنداً إلى حديث الرفع حتى يقال: إنّ مقتضاه عدم الجزئية و الشرطية إلاّ في حال التمكّن، بل إلى فقد المقتضي، و هو عدم وجود الإطلاق في دليل المركب.

و بذلك تقف على أنّه لا حاجة للجواب عن الإشكال المزبور بما في الكفاية من أنّ حديث الرفع ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته(1) و ذلك لأنّ عدم الوجوب مستند إلى فقد الدليل على الوجوب، لا إلى حديث الرفع حتى يقال: بأنّه رافع للتكليف لا مثبت، فلاحظ.

ثمّ إنّه ربما يستظهر وجوب الباقي بالاستصحاب الحاكم على أصل البراءة و يقرّر بوجوه:

1. استصحاب الوجوب الجامع بين الضمني و الاستقلالي

لا شكّ انّ هنا وجوبين: أحدهما: الوجوب الاستقلالي بالكل و قد ارتفع، و الآخر: الوجوب الضمني لكلّ جزء و هو أيضاً قد ارتفع بارتفاع الأوّل، و مع ذلك كلّه فنحن نحتمل أن يتعلّق وجوب استقلالي ثان بالأجزاء الباقية، فنفس هذا الاحتمال يكفي في احتمال بقاء الوجوب الجامع بين الوجوبين: الاستقلالي و الضمني، فانّهما و إن ارتفعا قطعاً، لكن الجامع بينهما محتمل البقاء، لاحتمال

ص:617


1- كفاية الأُصول: 2/240.

حدوث وجوب استقلالي ثان متعلّق بالأجزاء الباقية فيُستصحب.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ خطاب لا تنقض متوجه إلى العرف العام الدقيق و لا يشمل إلاّ الأفراد التي يلتفت إليها ذلك المخاطب بما انّه عرف عام، و من المعلوم أنّ هذا الفرد من المستصحب فرد عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الأوحدي، فشمول أدلّة الاستصحاب لهذا النوع من المصداق مورد تأمّل.

و ثانياً: أنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، و الجامع بين الوجوبين ليس مجعولاً شرعياً و إنّما هو حكم منتزع عن الحكمين، و المنتزع فعل العقل و ليس مجعولاً للشرع.

2. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة

بيانه أن يقال قبل تعذر الأجزاء كان هناك وجوب استقلالي و نشك في بقائه فيستصحب البقاء.

يلاحظ عليه: أنّ المطلوب هو وجوب الأجزاء الباقية لا بقاء أصل الوجوب و استصحاب الأخير لإثبات وجوب الأجزاء الباقية، من الأُصول المثبتة، و ذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ الوجوب الباقي عرض، و العرض لا يقوم إلاّ بالموضوع، و ليس هو إلاّ الأجزاء الباقية، فهو الموضوع للوجوب.

3. استصحاب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان الناقصة

بيانه: انّ الأجزاء الباقية كانت واجبة بالوجوب النفسي غاية الأمر مقيّداً بالجزء المتعذر، فإذا كان الجزء المتعذر مقوّماً للموضوع، و موجباً لانعدامه فلا يجري الاستصحاب، و أمّا إذا كان معدوداً من حالات الموضوع و عوارضه عند العرف، فيجري الاستصحاب بحكم بقاء الموضوع عرفاً.

ص:618

و بعبارة أُخرى: نشك في أنّ هذا الجزء المتعذّر لو كان دخيلاً في الحكم حدوثاً و بقاءً لا يجري الاستصحاب و لو كان دخيلاً حدوثاً لا بقاءً يجري الاستصحاب، و نفس هذا الشكّ مصحّح لجريان الاستصحاب بعد بقاء الموضوع و نسبة الواجد للجزء المتعذر، بالنسبة إلى الفاقد له كنسبة موضوع طرأ عليه التغيير في بعض أحواله.

يلاحظ عليه: أنّ الوجوب السابق كان على عشرة أجزاء، و المقصود الآن إبقاء ذلك الوجوب على التسعة، و من المعلوم انّ إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر هو نفس القياس المنكر في مذهبنا، و أيّ عرف يتسامح و يقول إنّ العشرة هو نفس التسعة.

و إن شئت قلت: إنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة، فكلّ عنوان في عالم المفاهيم يضاد العنوان الآخر، و على ذلك لو ثبت الحكم على عنوان لا يمكن إسراؤه إلى عنوان آخر، و ذلك لأنّه نفس القول بالقياس.

فإذن الحكم المتعلّق بالعشرة كيف يستصحب و يتعلّق بالتسعة؟! فإن قلت: على هذا ينسد باب جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية و يختص بالموضوعات الخارجية، مثلاً الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه يحكم عليه ببقاء النجاسة مع أنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع) الماء المتغير (إلى موضوع آخر) الماء الذي زال تغيره (.

و مثله استصحاب الحرمة لعصير الزبيب، فإنّ الحكم ثبت على العصير العنبي إذا غلى، فإسراء ذلك الحكم إلى العصير الزبيبي عند الغليان أشبه بالقياس، فلو ثبت ما ذكرنا من الإشكال لانسدَّ باب الاستصحاب في الأحكام الكلية.

ص:619

قلت: ليس الهدف من الاستصحاب في المثالين المذكورين إسراء حكم من عنوان) الماء المتغيّر (إلى عنوان آخر) الماء غير المتغيّر (حتى يكون من باب القياس، كما أنّه ليس الهدف إسراء حكم الحرمة من العصير العنبي إلى العصير الزبيبي، فانّ ذلك أشبه بالقياس و لا نقول به.

بل الهدف تسرية الحكم بعد انطباقه على الخارج من موضوع واجد لبعض الخصوصيات إلى موضوع فاقد لها، بشرط أن تكون الخصوصية عند العرف بالنسبة إلى الموضوع الخارجي معدودة من الحالات لا من المقوّمات، و ذلك بالبيان التالي:

إنّ الحكم الشرعي، أعني: الماء المتغير نجس، غير قابل للاستصحاب إلى موضوع آخر، أعني: الماء إذا زال تغيره، لأنّ الموضوعين متغايران و المفاهيم مثار الكثرة، و لكن بعد ما انطبق الدليل الكلي على ماء خارجي يكون الموضوع للاستصحاب هو المصداق الخارجي و هو هذا الماء لا العنوان الكلي، و عندئذ يتخذ الفقيه المصداق الخارجي موضوعاً للحكم، فلو كان التبدّل معدوداً من عوارض الموضوع و حالاته يشير إلى ذلك الموضوع) لا إلى العنوان الكلي (و يقول: كان هذا محكوماً بالنجاسة و الأصل بقاؤه.

و بذلك يظهر صحّة الاستصحاب في العصير العنبي، فليس الهدف إسراء حكم العنب إلى الزبيب، فإنّه قياس واضح.

نعم لمّا انطبق الدليل الأوّل على مصداق خارجي و عنب معين، يتخذه الفقيه موضوعاً و يشير إليه بهذا و يقول: كان هذا في بعض الحالات) عند ما كان رطباً (إذا غلى يحرم، و الأصل بقاء حكمه عند ارتفاع تلك الحالات، و المستشكل خلط بين الأمرين إسراء حكم من عنوان إلى عنوان آخر، و بين إسراء حكم موضوع خارجي انطبق عليه الدليل في بعض الحالات، إلى الحالة التي فقدها و لم تكن الحالة من مقوّماته فالأوّل قياس و الثاني ليس من قبيله بل يعد استصحاباً.

ص:620

و بما أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الكلّي المتعلّق بعنوان العشرة فلا يمكن تسريته إلى عنوان التسعة.

4. استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان

هناك بيان آخر يختلف مع ما مرّ، و ذلك لأنّ التقرير السابق كان مبنياً على تعلّق الحكم بالأجزاء مباشرة، و عندئذ يتوجّه إشكال مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقّنة. و انّ العشرة، تغاير التسعة، و أمّا لو قلنا كما مرّ في المركب المنسي بعض أجزائه بأنّ الأمر يتعلّق بالعنوان الذي هو وجود إجمالي للأجزاء، و هي وجود تفصيلي له، و له مع وحدة مفهومه عرض عريض، يصدق على الواجد و الفاقد، بقرينة صدقه على صلاة الحاضر و المسافر، و القادر و العاجز، فإذا تعذّر بعض الأجزاء و شككنا في كيفية دخله في الموضوع، فهل هو مطلوب مطلقاً، أو عند التمكن يصحّ لنا، استصحاب الوجوب المتعلّق به إلى أن يعلم ارتفاعه، لوحدة القضيتين، لصدق العنوان على الفاقد و الواجد و هذا المقدار من الوحدة يكفي في جريان الاستصحاب.

و على ضوء ذلك يكون المحكّم هو الاستصحاب لا البراءة.

حكم القواعد الثانوية

هذا حكم القواعد الأوّلية و دونك الكلام في حكم الأدلّة الثانوية الواردة في خصوص هذا الموضوع.

أدلة هذه القواعد
الحديث النبوي

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول اللّه) صلى الله عليه و آله و سلم (فقال:

ص:621

أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا، فقال رجل: أ كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً قال: لو قلت نعم لوجب و لما استطعتم، ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فدعوه «.(1)

و رواه النسائي في كتاب الحجّ باب وجوبه بالنحو التالي:

» فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه «.(2)

و رواه البيهقي في سننه(3) بلفظ قريب ممّا نقله مسلم.

هذا ما لدى السنّة و أمّا الشيعة فلم يروه أصحاب الكتب الأربعة و لا غيرها، إلاّ ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللآلي و هو من علماء القرن التاسع الهجري.

قال: روي أنّه) صلى الله عليه و آله و سلم (قال:» إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ «قال فقام الأقرع بن الحابس فقال: في كلّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت، ثمّ قال:» لو قلت نعم لوجب، ثمّ لا تسعون و لا تطيعون، و لكنّه حجّة واحدة «.(4)

و استدلّ به السيد عميد الدين على ما حكاه الشهيد في الذكرى في مسألة صلاة العاري، حيث كان يقوِّي صلاته جالساً ليومئ للسجود عارياً استناداً إلى أنّه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله: فأتوا به ما استطعتم.(5)

ص:622


1- التاج الجامع للأُصول: 2/100، كتاب الحج.
2- سنن النسائي: 5/111، و معها تعليقات السيوطي.
3- سنن البيهقي: 4/326.
4- غوالي اللآلي: 1/169.
5- بحار الأنوار: 80/214.

و على أيّ حال فالرواية عندنا مرسلة و عند غيرنا مسندة ينتهي سندها إلى أبي هريرة الذي لا يركن إلى رواياته، و لكن إتقان المضمون يشهد على صدقه و لذلك يعلوه سمو النبوة و نورها.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّها غير صالحة للاستدلال به للمقام بوجهين:

1. موردها الحجّ على ما عرفت، فيكون دليلاً على لزوم الإتيان في ذوي الأفراد، لا في ذوي الأجزاء خصوصاً انّ النسائي رواه:» فخذوا به «مكان» فأتوا منه «، و الأوّل صريح في ذوي الأفراد، هذا لو فسرنا الرواية بملاحظة الصدر أمّا مع الغض عنه فنقول: قوله:» فأتوا به ما استطعتم «فيه احتمالات:

فإنّ لفظة» ما «إمّا مصدرية، أو موصولة.

و على الأُولى إمّا مصدرية غير زمانية، أو مصدرية زمانية، و» من «للتعدية بمعنى» الباء «و على الثانية فلفظة» من «إمّا بيانية أو تبعيضية.

فتلك احتمالات أربعة:

1. أن تكون مصدرية غير زمانية و الجار بمعنى الباء للتعدية: نظير قوله سبحانه: (فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا ). (1)أي فأتوا به قدر الاستطاعة، و تكون النتيجة محبوبية تكرار العمل الواجب أو المستحب بقدر الوسع، و لا صلة لهذا المعنى بالمقام.

2. أن تكون مصدرية زمانية فالجار أيضاً بمعنى الباء للتعدية مثل الأُولى، و يكون المعنى فأتوا به زمان الاستطاعة، و هذا خيرة السيد الأُستاذ و المحقّق الخوئي، و عندئذ يكون إرشاداً لحكم العقل و لا يفيد معنى جديداً.

3. أن تكون» ما «موصولة مفعولاً لقوله:» فأتوا «و الجار بيانيّة و المعنى فأتوا

ص:623


1- التغابن: 16.

الذي استطعتم من إفراد ذلك الشيء و يتحد مع المعنى الأوّل.

4. أن تكون» ما «موصولة مفعولاً لقوله» فأتوا «و الباء تبعيضية.

و المعنى: فأتوا الذي استطعتم من بعض ذلك الشيء و هذه المحتملات الأربعة و لا صلة لها بالمقام إلاّ المعنى الرابع.

و الحقّ انّ المعنيين الأخيرين بعيدان لاستلزامهما تقدّم عائد الموصول) منه (على الموصول أعني:

» ما «و هو غير جائز إلاّ عند الضرورة.

و الظاهر أنّ المتبادر هو المعنى الأوّل، و هو منطبق على المورد) الحج (.

العلويان
الحديث الأول روى صاحب غوالي اللآلي: و قال (عليه السلام): «لا يُترك الميسور بالمعسور»

. و قال) عليه السلام (:

» ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه «.

و قد استدلّ به الوحيد البهبهاني في كتاب» مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع «في باب الوضوء عند قول المصنف:» و ترك الاستعانة «فقال ما هذا لفظه: نعم مع الاضطرار يجوز ان يولّي طهارته غيره، و استدلّ بالعلويين.

و قال بحر العلوم في منظومته:

و في اضطرار يسقط المعسور في الكلّ فالفرض هو الميسور

و ليس في كتب القدماء من الحديثين عين و لا أثر، و على ذلك فالاعتماد عليهما في إثبات الحكم الشرعي مشكل.

و أمّا دلالة الأوّل على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية فمبني على أنّ المراد: الميسور من أجزاء المركب لا يسقط بالمعسور من أجزائه.

ص:624

و قد أُورد على الاستدلال بالحديث وجوه:

1. ما أشار إليه المحقّق الخراساني في عدم ظهور الرواية في ذي الأجزاء من الواجب، لاحتمال كون المراد هو ذي الافراد كالحج.

يلاحظ عليه: أنّ الأولى بالذكر هو الأوّل، لأنّ توهم السقوط في المركبات ذات الأجزاء المتلاحمة أقوى من توهم السقوط في الأفراد المتباينة، فاحتمال سقوط الجلّ لأجل سقوط الكلّ أكثر من احتمال سقوط بعض الأفراد لسقوط البعض الآخر، فالأوّل أولى بالذكر.

و يمكن أن يقال: انّ إطلاق لفظة» الميسور «يعم ميسور كلّ شيء، سواء كان ذا أفراد أو ذا أجزاء.

2. انّ الرواية تعمّ الواجبات و المستحبات، و معه يحمل قوله:» لا يسقط «على مطلق المحبوبية، و لا يتم الاستدلال على لزوم الإتيان بالأجزاء الباقية في الواجب.

يلاحظ عليه: بما أشار إليه المحقّق الخراساني من أنّ المراد هو ما لا يسقط بما له من الحكم إن كان واجباً فيبقى الوجوب، و إن كان مستحباً فيبقى الاستحباب.

3. ما أشار إليه المحقّق الخوئي انّ السقوط فرع الثبوت، فالرواية مختصة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار انّ غير المتعذّر منها كان وجوداً ثابتاً قبل طروء التعذّر فيصدق انّه لا يسقط بتعذّر غيره، بخلاف بعض أجزاء المركب فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من حيث المجموع، فلو ثبت وجود بعد ذلك فهو وجوب استقلالي حادث، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره.(1)

ص:625


1- مصباح الأُصول: 2/184.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتم لو قلنا بوجوب الأجزاء الباقية بوجوب ثان، و لكن عرفت أنّ كلّ جزء، واجب بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ، و لمّا سقطت دعوة الأمر إلى الكلّ، بقيت دعوته إلى الأجزاء الباقية بحالها، و الحديث كشف عن بقاء الدعوة.

أضف إلى ذلك انّا نفترض أنّ الأجزاء الباقية وجبت بوجوب ثان و لكن لما كانت النتيجة واحدة يصحّ أن يقال عرفاً انّ الوجوب لم يسقط.

4. انّ التمسك بهذا الحديث و إثبات مطلوبية الباقي مستلزم الدور، لأنّ كون الأجزاء الباقية ميسوراً للمكلّف فرع كونها واجدة للملاك و إثبات الملاك فرع تعلّق الأمر بالباقي، و تعلّق الأمر فرع إحراز كونه ميسوراً للسابق و مطلوباً ثانوياً له.

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الميسور ما يعد ميسوراً في العرف للعمل المتعذر، و يكفي في صدقه عدّه منزلة نازلة للمعسور، من دون نظر إلى كونه ذا ملاك حتى يتوقف صدق الميسور على إحرازه، و إحراز الملاك، على إحراز الأمر المتوقّف على صدق الميسور.

و بالجملة ليس المراد من المماثلة هو المماثلة في الملاك الذي هو أمر غيبي، بل المماثلة في الشئون الظاهرية بحيث يعد الباقي عرفاً انّه ميسور ذلك، كالتسعة بالنسبة إلى العشرة، لا الاثنين بالنسبة إليها.

ذكر سيدنا الأُستاذ انّ في الحديث احتمالات أربعة:

1. أن يراد من الميسور و المعسور، معسور الطبيعة و ميسورها.

2. أن يراد منهما، معسور الأجزاء، من الطبيعة و ميسورها.

3. أن يراد من الأوّل، معسور الطبيعة و من الثاني ميسور الأجزاء.

ص:626

4. عكس الاحتمال الثالث.

أقول: لا سبيل إلى الأخيرين بحكم وحدة السياق، فالأوضح هو الاحتمال الأوّل لو لم نقل انّ هنا احتمالاً خامساً و هو إرادة الجامع بين معسور الطبيعة و معسور الأجزاء أخذاً بإطلاق لفظ الميسور.

الحديث الثاني العلوي الثاني عبارة عن قوله (عليه السلام): «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»

و فيه احتمالات تستخرج من كون المراد من لفظ» كل «في كلا الموردين، العامّ الاستغراقي أو العام المجموعي.

و إليك الاحتمالات المفروضة في هذا المجال:

1. أن يراد من لفظة» كل «في كلتا الجملتين العام الاستغراقي.

2. أن يراد منهما العام المجموعي.

3. أن يراد من الصدر العام الاستغراقي و من الذيل العام المجموعي.

4. عكس الاحتمال الثالث.

لا شكّ انّ المعنى الأوّل، أعني: إرادة العام الاستغراقي من كلتا الفقرتين، أمر غير معقول، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بكلّ فرد و جزء من الواجب، فكيف يؤمر بأن لا يترك كلّ فرد و جزء منه، و هل هذا إلاّ كون الذيل مناقضاً للصدر؟ أمّا الثاني: أي إذا أُريد من كلتا الجملتين، العامُّ المجموعي، فهو أمر معقول بشرط أن يُفسَّر الذيل بعدم ترك المجموع لا بالإتيان بالمجموع، و معنى الحديث: إذا لم يمكن الإتيان بمجموع الأفراد أو الأجزاء فلا يترك المجموع بمعنى سلب

ص:627

العموم، و يحصل الامتثال بالإتيان ببعض الأفراد أو الأجزاء، لأنّه يصدق انّه لم يترك المجموع.

نعم لو فسّرنا النهي عن ترك المجموع بالإتيان بالمجموع كما عليه السيد الأُستاذ في تهذيبه و السيد الخوئي في مصباح الأُصول كان مفاده غير معقول(1) لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع كيف يؤمر بالإتيان به؟ و أنت خبير بأنّ النهي تعلّق بترك المجموع، أي لا تترك المجموع، و عدم تركه يحصل بالإتيان بالبعض; و أمّا تفسير النهي عن ترك المجموع بالإتيان به، فلا يدل عليه اللفظ بالدلالة العرفية.

و أمّا الثالث: أعني إذا أُريد من الصدر: العامُّ الاستغراقي، و من الذيل: العام المجموعي، فهو معنى معقول، أي إذا لم يمكن الإتيان بكلّ فرد أو جزء، فلا يترك مجموع الأفراد و الأجزاء.

و أمّا الرابع: أعني ما إذا أُريد من الأوّل العام المجموعي و من الآخر الاستغراقي، فهو أيضاً غير معقول، لأنّه إذا لم يتمكن من الإتيان بالمجموع فكيف يتمكن من عدم ترك كلّ واحد أو جزء؟ و ليعلم أنّ ملاك الامتناع جعل لفظة» كل «في الذيل لعموم الاستغراق، و على ذلك فالصورتان: الأُولى و الرابعة، باطلتان; و الثانية و الثالثة، مقبولتان. و لعلّ المتبادر هو المعنى الثالث، و هو صادق على ذي الأفراد وذي الأجزاء، بل ظهوره في ذي الأجزاء أوضح من ظهوره في ذي الأفراد، و ذلك لأجل لفظة» كل «، بما انّه مقابل للجزء.

ص:628


1- تهذيب الأُصول: 2/406; مصباح الأُصول: 2/480.
الإشكالات الواردة على الاستدلال بالحديث

ثمّ إنّه استشكل على الاستدلال بالحديث بوجهين:

1. عموم القاعدة للواجب و المستحب

إنّ عموم الموصول يقتضي شموله للواجب و المستحب، و على ذلك لا بدّ من حمل النهي في قوله:» لا يترك «على مطلق المحبوبية، فلا يدل على وجوب الإتيان بالباقي، بل يدل على رجحان عدم الترك.

يلاحظ عليه: بما ذكرنا في مبحث الأوامر من أنّ الوجوب و الحرمة خارجان من مداليل الأمر و النهي، فالأمر يدل على البعث، و النهي على الزجر، و أمّا كون البعث إلزاميّاً أو كون الزجر كذلك، أو غير إلزامي، فإنّما يستفاد من دليل خارج، فالعقل يدل على أنّ بعث المولى لا يترك بلا جواب فيحكم بلزوم الامتثال بالفعل في الأمر و الترك في النهي إلى أن يدل دليل على الرخصة فيهما.

و على ذلك فحمل النهي على رجحان عدم الترك لا يكون منافياً لوجوب الأجزاء الباقية أو الأفراد الممكنة، فلأنّه على كلّ تقدير مستعمل في مطلق البعث أو الزجر الشامل للواجب و المستحب.

و إن شئت قلت: إنّ الحديث ظاهر في أنّ ما يمكن من الأفراد و الأجزاء لا يترك بما له من الحكم، كما مرّ ذكره في تفسير قوله:» لا يسقط «.

2. ورود التخصيص الكثير عليها

إنّ الأصحاب لم يعملوا بها في غير باب الصلاة، فلا تكون سنداً إلاّ إذا عمل بها الأصحاب.

ص:629

يلاحظ أنّ الأصحاب عملوا بها في كتاب الطهارة، و الصلاة في مختلف أبوابها، و أمّا عدم العمل به في باب الصوم فلأنّه عمل بسيط يدور أمره بين الوجود و العدم و مثله لا يعد تخصيصاً في القاعدة.

ما هو الشرط لجريان القاعدة؟

ثمّ إنّه يشترط في جريان القاعدة، عدّ الميسور، ميسوراً للطبيعية، فتعد الجبيرة في بعض الأجزاء ميسوراً للوضوء و لا تعد الجبيرة في معظمها ميسوراً من غير فرق بين الموضوعات العرفية و الشرعية.

و أمّا دلالة العلويين على هذا، فلو قلنا بأنّ المراد هو ميسور الطبيعية و معسورها، فمعناه انّ للطبيعة فردين، ميسوراً و معسوراً، و كلاهما من مصاديقها.

و أمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني، أي أجزاء المعسورة من الطبيعة و ميسورها منها، فلا وجه لاشتراط صدق الطبيعة على الميسور بل يكفي عدّ الميسور جزء من المعسور، لا مصداقاً له، و لكن بما أنّ القاعدة إرشاد إلى ما عند العقلاء من الإتيان بميسور المطلوب عند معسوره لا محيص عن شرطية صدق ميسور الطبيعة.

و أمّا العلوي الثاني فدلالته غير واضحة، لأنّ المراد من الموصول هو الشيء، و الضميران في لفظة » كلّه «في الموضعين يرجع إليه، و المعنى ما لا يدرك كلّ أجزاء الشيء فلا يترك كلّها، و اللازم كون المأتي به، من أجزاء المعسور، أمّا لزوم صدق الشيء عليه فلا. و يجري فيه ما ذكرناه في العلوي الأوّل من كونها إرشاداً إلى بناء العقلاء، فيحمل على ما إذا عدّ فرداً نازلاً للطبيعة.

و على ذلك فلو دلّ الدليل الخارجي على لزوم الإتيان و إن لم يصدق عليه ميسور الشيء المعسور كما في المسح على المرارة في رواية عبد الأعلى مولى

ص:630

آل سام(1)، أو دلّ على السقوط و إن عُدَّ ميسوراً عرفاً نأخذ به و إلاّ فلا يصحّ التمسّك بإطلاق القاعدة إلاّ فيما إذا صدق على المورد عرفاً انّه ميسوره، و مثلاً لا ينتقل إلى الصلاة قاعداً ما دام متمكناً من القيام، فلو دار الأمر بين القيام معتمداً على شيء، أو القيام غير مستقر، و بين القعود بلا اعتماد أو مع الاستقرار، يقدّم الأوّلان لأنّهما ميسورا القيام، و المرجع هو العرف.

التنبيه الرابع: في دوران الأمر بين الجزئيّة و المانعيّة...

إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته، و بين مانعيته أو قاطعيته، بمعنى انّا علمنا اعتبار شيء في المأمور به، و دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة، أو كون وجوده مانعاً عنها، و قد تقدّم الفرق بين المانعية و القاطعية و قلنا إنّ الاعتبار الصحيح فيهما كون وجودهما مزاحمين لا اعتبار عدمهما.

و هذا كالجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة لمن لم يصلّ الجمعة فدار أمر الجهر في الحمد بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً عنها، و نظيره تدارك الحمد لمن نسيه بعد ما أتمّ السورة أو دخل فيها، حيث إنّ التدارك يدور أمره بين كونه شرطاً في الصحّة أو مانعاً عنها، فهل المقام من مجاري التخيير أي من قبيل دوران الأمر بين المحذورين فيأتي فيه كلّ ما قلناه في ذلك المقام من إجراء البراءة عن جميع المحتملات من الجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية، كما عليه الشيخ الأنصاري؟ أو من مجاري الاحتياط، أي من قبيل دوران الأمر بين المتباينين كدوران الواجب بين الظهر أو الجمعة، فيجري فيه الاحتياط كما عليه المحقّق الخراساني؟ و لنذكر دليل الشيخ فقد استدل بوجهين:

الأوّل: انّ العلم الإجمالي غير منجّز في المقام، لأنّ آية منجِّزيته لزوم المخالفة

ص:631


1- الوسائل: الجزء 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.

القطعية عند جريان الأصل، و المقام خارج عن تحت تلك القاعدة لعدم لزومها مع جريان أصل البراءة من جميع المحتملات، لأنّ الإنسان في صلاة واحدة لا يخلو من فعل و ترك و المخالفة القطعية غير ممكنة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الميزان في تنجّز العلم الإجمالي إمكان الاحتياط لا لزوم المخالفة القطعيّة، و هو أمر ممكن بتكرار الصلاة كما سيوافيك بيانه، و قد مرّ في بيان مجاري الأُصول أنّ الموضوع للتخيير هو عدم إمكان الاحتياط، لا عدم إمكان المخالفة، و قلنا هناك إمّا أن يلاحظ الحالة السابقة أو لا، و على الثاني إمّا أن لا يمكن الاحتياط أو يمكن، و على الثاني إمّا أن يكون في التكليف أو في المكلّف به، فالأوّل مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى التخيير، و الثالث مجرى البراءة، و الرابع مجرى الاحتياط فلاحظ.

الثاني: انّ المسألة مبنية على ما هو المختار في الأقل و الأكثر، فلو قلنا بالبراءة هناك، تجري البراءة في المقام، و إن قلنا بالاحتياط هناك فيكون المقام مثله و تعيّن الجمع بالاحتياط. قال) قدس سره (ما هذا لفظه:

التحقيق أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية و الجزئية و عدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية، فالأقوى التخيير هنا و إلاّ تعيّن الجمع بتكرار العبادة.(2)

يلاحظ عليه: وجود الفرق بين المقامين إذ ليس هناك علم يأخذ شيء في المأمور به، و إنّما الموجود هو الشك، و هذا بخلاف المقام لوجود العلم بأخذ شيء فيه، إمّا بما أنّ وجوده مؤثر، أو بما أنّ وجوده مانع.

أمّا القول الثاني: فهو خيرة المحقّق الخراساني، و وجهه وجود العلم الإجمالي و إمكان الاحتياط بتكرار الصلاة و لكن بالتفصيل الآتي:

ص:632


1- الفرائد: 298 طبعة رحمة اللّه.
2- الفرائد: 298 طبعة رحمة اللّه.

1. إذا كان الواجب واحداً شخصياً و لم يكن له إلاّ فرد واحد، كما إذا ضاق الوقت و انحصر الثوب في النجس منه، فدار الأمر بين الصلاة عارياً إذا كان الستر المذكور مانعاً في هذه الحالة أو مع الثوب، إذا كان شرطاً، فالمرجع هو التخيير، لعدم إمكان الموافقة القطعية، و المخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة، فلم يبق إلاّ الموافقة الاحتمالية و هي تحصل لكلّ واحد من الفردين.

2. إذا كانت الوقائع متعددة و لكن لم يكن لكلّ واقعة إلاّ فرد واحد، كما إذا دار أمر الجهر في صلاة الجمعة بين كونه شرطاً أو مانعاً. فالمرجع هو التخيير لكن تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً، لانتهاء التخيير الاستمراري إلى المخالفة القطعية و قد تقدّم حكمه.

3. إذا كانت الوقائع متعددة و للواجب أفراد طولية، كدوران الأمر بين التمام و القصر للشكّ في كون الركعتين الأخيرتين شرطاً أو لا، للشكّ في جزئيتهما و مانعيتهما، فالمرجع هو الاحتياط بتكرار الصلاة.

ص:633

خاتمة في شرائط جريان الأُصول

اشارة

و قبل الخوض في المقصود لا بدّ من تفسير العنوان، و هو انّ الشرط في مورد الأُصول على قسمين:

تارة يكون شرطاً لجريان الأصل بحيث لولاه لما يكون المورد مجرى له، و هذا كالفحص عن البيان الشرعي الذي لولاه لما تجري البراءة العقلية و النقلية، إذ لا يصدق الموضوع أي العقاب بلا بيان، بلا مخصص.

و أُخرى يكون شرطاً للعمل بالأصل، و هذا كعدم التعارض في العمل بالأصل، فالعمل بالأصل المسببي مشروط بعدم وجود أصل سببي آخر.

و ما عن المحقّق المشكيني من جعل الفحص عن البيان شرطاً للجريان في البراءة العقلية و شرطاً للعمل في البراءة الشرعية، غير تام، لأنّ الدليل المهم للثانية هو حديث الرفع، أعني قوله:» ما لا يعلمون « و لا يصدق قوله إلاّ لغير المتمكن من تحصيل العلم، أعني: الحجة الشرعية لا المتمكن فانّ العالم بالقوة بحيث إذا رجع علم، لا يعدّ غير عالم.

إذا علمت ذلك فتارة نبحث عن شرائط جريان الاحتياط، و أُخرى عن شرائط سائر الأُصول.

أمّا الاحتياط فلا شكّ انّه حسن، لكونها مجاهدة في طريق درك الحقّ و العمل به و العقل حكم بحسنه في العبادات و المعاملات لكن بشرطين:

ص:634

1. عدم استلزامه اختلال النظام و إلاّ يصبح أمراً مبغوضاً لا حسناً.

2. عدم مخالفته لاحتياط آخر، و إلاّ لا يصدق عليه عنوان الاحتياط.

و أمّا موارده فتحصر في المواضع التالية:

1. الاحتياط المطلق في الشبهات و إن لم يكن في المورد علم إجمالي و لا حجّة شرعية.

2. الاحتياط فيما إذا كان في المورد علم إجمالي.

3. الاحتياط فيما إذا كان في المورد حجّة شرعية.

ثمّ إنّه لا فرق في الاحتياط في العبادات بين ما يتوقف على التكرار و عدمه، لما عرفت من أنّ الاحتياط بنفسه أمر حسن، لأنّ الهدف إحراز الواقع على ما هو عليه ما لم يستلزم الاختلال في النظام، بل لم يستلزم العسر و الحرج و لم يكن مخالفاً للاحتياط الآخر، و على ذلك فللعامي أن يترك التقليد و الاجتهاد و يعمل بالاحتياط في العبادات و المعاملات.

و ربما يمنع عن الاحتياط مطلقاً لأنّه مفوِّت لقصد الوجه و التمييز من غير فرق بين كونه مستلزماً للتكرار و عدمه.

يلاحظ عليه: أنّ الواجب في العبادات هو قصد الأمر، بل إتيان الفعل للّه سبحانه، و كلاهما حاصلان في العمل بالاحتياط في العبادات، لأنّه يأتي مثلاً بالتسبيحة الثانية أو الثالثة في الركعتين الأخيرتين للّه سبحانه أو لأمره المحتمل. و هكذا يأتي بالصلاة الثانية إذ دار الأمر بين القصر و الإتمام لذلك الغرض، و إنّما الفائت هو الإتيان بالفعل بوصف وجوبه أو لغايته و هو أمر ليس بواجب.

ص:635

في شروط جريان البراءة
اشارة

يقع الكلام في تحقيق شروط جريان البراءة العقلية في مواضع ثلاثة:

الأوّل: في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي قبل التمسّك بها.

الثاني: في استحقاق تارك الفحص العقاب و عدمه.

الثالث: في صحّة عمل تارك الفحص إذا وافق الواقع.

الموضع الأوّل: في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي
اشارة

اتّفقت كلمتهم على لزوم الفحص في جريان البراءة العقلية و النقلية، أمّا البراءة العقلية فقد استدل على لزوم الفحص بوجوه نذكر منها وجهين:

الوجه الأوّل: عدم استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان إلاّ بعد الفحص و اليأس من الظفر بالحجّة.

توضيحه: أنّ البيان الرافع لقبح العقاب بلا بيان ليس هو وجود البيان عند اللّه سبحانه أو عند حججه ) عليهم السلام (، بل المراد هو البيان الواصل إلى المكلّف هذا من جانب، و من جانب آخر ليس المراد من الوصول هو وصوله إلى كلّ واحد شخصاً، بل المراد وجوده في مظان البيان بحيث لو رجع إليها لعثر عليه، كما هو حال السيد بالنسبة إلى عبده و الحكومات بالنسبة إلى شعوبها في الوقوف على تكاليفهم و وظائفهم أمام السيد و الدولة، و عند ذلك يكفي وجود البيان عند الرواة

ص:636

و حملة العلم أو الكتب و الجوامع الحديثية التي حفظت بيان الشارع) أوامره و نواهيه (.

و إن شئت قلت: إنّ تنجّز التكليف رهن أحد أمرين:

1. العلم بالتكليف 2. احتمال العثور على التكليف في مظانّه، و على ضوء ذلك فلا يكون الجهل عذراً إلاّ إذا رجع إليها و لم يعثر على البيان، قال سبحانه: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ). (1)فقبل الفحص عن الحجّة، فالمولى هو صاحب الحجّة على عبيده، و بعد الفحص و عدم العثور عليه ينقلب الأمر و يحتج العبد على مولاه.

و إن شئت فعبّر بعبارة ثالثة: انّ المراد من البيان هو البيان الصالح لقطع العذر في وجه العبد لمخالفته للتكليف، و ليس هو إلاّ وجود البيان على نحو لو تفحّص عنه لعثر عليه، و هذا النوع من البيان قاطع لعذر المكلّف في مخالفة التكليف. و لا يعلم وجود العذر و عدمه إلاّ بالفحص عن مظانّه.

الوجه الثاني: ما استدل به المحقّق الاصفهاني و قال: إنّ الاقتحام في المشتبه مع أنّ أمر المولى و نهيه لا يعلم عادة بالفحص خروج عن رسم العبودية و زي الرقية.

و الفرق بين البيانين واضح، لأنّ الباعث إلى الفحص، في البيان الأوّل هو نفس التكليف الواقعي إذا احتمل انّه يعثر عليه إذا فحص، و على الثاني الباعث هو انّ الاقتحام في المشتبه قبل الفحص ظلم و تعد على حقّ المولى فيجب الانتهاء عنه.

ثمّ لو خالف الواقع فالعقاب على البيان الأوّل عقاب التكليف، و على

ص:637


1- النساء: 165.

البيان الثاني العقاب على نفس التجرّي و تحقّق عنوان الظلم.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحكم الواقعي في صورة احتمال وجوده إمّا منجّز أو لا، فعلى الأوّل فالباعث هو احتمال التكليف و صحّة العقاب عليه لا على كون الاقتحام بلا فحص ظلماً، للإجماع على أنّ المعصية الواحدة ليست لها إلاّ عقاب واحد، و على الثاني لا وجه لانطباق الظلم عليه إذ لا تكون مخالفة الحكم الواقعي الشأني ظلماً حتى يعاقب عليه.

هذا كلّه في الشبهات الحكمية، و أمّا الموضوعية، فالمشهور انّ التمسّك بها ليس رهناً للتفحص، فلو دار أمر المائع بين كون خلاً أو خمراً يجوز ارتكابه بلا فحص و إن انتهى إلى شرب الخمر.

و احتجّوا عليه بأنّ الاحتجاج فرع ثبوت الصغرى و الكبرى، و الثانية و إن كانت متحقّقة أي تعلم انّ كلّ خمر حرام و لكن الصغرى غير محرزة فلا يحتج بالكبرى المجرّدة عن الصغرى.

يلاحظ عليه: أنّ الاحتجاج و إن كان فرع إحراز الصغرى، لكنّه لو كان إحرازه أمراً سهلاً غير موجب للعسر و الحرج يصحّ الاحتجاج بالصغرى التي لو تفحص عنها لعثر عليها.

و لذلك أفتى الأصحاب بلزوم الفحص في بعض الشبهات الموضوعية حتى أنّ الشيخ استثنى الموارد الثلاثة: الدماء و الأعراض و الأموال، كما أنّ الفقهاء أفتوا بوجوب الفحص في الموارد التالية:

1. إذا شكّ في مقدار المسافة هل هي مسافة شرعية أو لا؟ 2. إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية إلى حدّ النصاب.

ص:638


1- نهاية الدراية: 2/305 بتصرّف يسير.

3. إذا شكّ في زيادة الربح على المئونة حتى يخمس.

4. إذا شكّ في حصول الاستطاعة إلى الحجّ.

5. إذا شكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجل إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه، فالأولى لزوم الفحص في التمسّك بالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية و الموضوعية معاً إلى حدّ لا ينتهي إلى العسر و الحرج أو المشقة و ربما يظهر من بعض الروايات انّ الأمر في باب الطهارة و النجاسة سهل.

في شرط جريان البراءة النقلية

اتّفقت كلمتهم على أنّه لا مجال للبراءة النقلية موضوعاً قبل الفحص و إن اختلفوا في كيفية إقامة الدليل، و نحن نقدّم ما هو الأمتن من الأدلّة:

الأوّل: ترك الفحص و لغوية بعث الرسل

إنّ العقل مستقل بلزوم بعث الرسل و إنزال الكتب، إذ لو لا البعث، لبقي الإنسان في تيه الضلال و لم يتحقق غرض الخلقة، فلو وجب على اللّه سبحانه بعث الرسل من باب اللطف، وجب على الناس سماع كلامهم بعد ثبوت نبوّتهم بالطرق المألوفة، و لو جاز الإعراض عنهم، لكان البعث لغواً، و عادت الخلقة سدىً، تعالى عنه سبحانه قال: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (1)و قال سبحانه: (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) (2)و قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ). و على ذلك فقد أتم سبحانه

ص:639


1- المؤمنون: 115.
2- البقرة: 213.

ببعث الرسل الحجّة على العباد، فلا عذر لهم في ترك ما أمروا به، و فعل ما نهوا عنه، فهو سبحانه يحتج عليهم بما بلّغه أنبياءهم و رسلهم، فليس لهم الصفح عن تلك الحجج بترك التعلم و الفحص عن الحكم الشرعي و التمسك بإطلاق قوله) صلى الله عليه و آله و سلم (:» رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون «أو:» انّ الناس في سعة ما لا يعلمون «من غير فرق بين مَنْ لم يتعلم شيئاً، أو تعلم أشياء و شكّ في مورد خاص، فلا محيص عن إنكار الإطلاق أو انصرافه إلى ما بعد الفحص، و إلاّ يلزم الأمر بأمرين متنافيين فمن جانب يأمر الرسل، بالتبشير و الإنذار، و من جانب يرخّص في ترك التعلم و يعدُّ جهل العباد عذراً لهم و لا محيص في مقام الجمع عن حمل الحديثين و ما أشبهها، على ما إذا تفحّص و لم يعثر على شيء، فبما أنّه أدّى الوظيفة، فلو كان هناك بيان فهو معذور في تركه، لأنّه سبحانه رفع عن الأُمّة ما لا يعلمون، و لم يلزمهم بالاحتياط.

و إن شئت قلت: إنّ حديث الرفع و أمثاله، حديث امتنان، فأيّ امتنان للجاهل بالإذن له في البقاء على الجهل؟ أ ليست الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و إقرار الجاهل على جهله، مفوّت للمصلحة أو موقع له في المفسدة؟ و لأجل ذلك لا مناص من القول بانصراف أدلّة الأُصول كلّها عن مثل المتمكن من التعلم.

الثاني: المورد قبل الفحص شبهة مصداقية

إنّ المراد من» عدم العلم «المأخوذ موضوعاً في لسان أدلّة البراءة ليس العلم المنطقي، أعني: الاعتقاد الجازم، بل المراد الحجّة، كما هو الحال في لفظ» اليقين «، الوارد في أدلّة الاستصحاب فالمعنى رفع عن أُمّتي ما لم تقم الحجّة عليه، و من المعلوم أنّ الحجّة هو الكتاب و السنّة، فإذا لم يرجع إليهما مع التمكن، يكون المورد شبهة مصداقية لأدلّة البراءة، لأنّه يشك في كونه ممّا قامت به الحجّة أم لم تقم، و منه

ص:640

يظهر حال سائر الأدلّة، أعني قوله:» إنّما يحتج على العباد ما آتاهم و عرفهم «، و قال:» كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «، فإذا احتمل وجود التعريف في الكتاب و ورد النهي في السنّة، يكون التمسك بأدلّة البراءة من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية.

و لعلّ في هذين الدليلين غنى و كفاية عن سائر الأدلّة، و إن شئت التوسّع فاستمع لما يلي.

الثالث: ما دلّ على وجوب السؤال فيما لا يعلم

دل الذكر الحكيم على لزوم السؤال عند عدم العلم، لا الصفح عنه قال سبحانه: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1)و الآية ضابطة كلية جارية في حقلي العقائد و الأحكام، و ما روي في شأن نزولها ليس بمخصص لها ككون المورد، علائم النبي الخاتم، كما أنّ ما ورد في تفسير أهل الذكر من أنّ المراد أئمّة أهل البيت) عليهم السلام (لا ينافي الاستدلال بها على المقام، لأنّ تفسيرها بهم من باب الجري و التطبيق، لا الحصر، و الحاصل أنّ وظيفة الجاهل هي السؤال لا الثبات على الجهل، و الرجوع إلى العالم، لا إلى البراءة، و الفحص عن الدليل الاجتهادي، داخل في الآية، لأنّه سؤال عن أهل الذكر و الحجج.

الرابع: ما دلّ على وجوب التعلم في الروايات

هناك قسم وافر من الروايات يدل على لزوم التعلم، و المقام لا يسع بنقل جميعها، فلنقتصر على بعضها:

1. روى الفضلاء من أصحاب الإمام الصادق عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (، أنّه

ص:641


1- الأنبياء: 7.

قال لحمران بن أعين في شيء سأله:» إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون «.(1)

2. روى ابن أبي عمير عن محمد بن سكين و غيره، عن أبي عبد اللّه) عليه السلام (قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور فغسّلوه فمات، فقال:» قتلوه، ألاّ سألوا ألاّ يمّموه، شفاء العي السؤال «.(2)

3. ما ورد في تفسير قوله سبحانه: (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (3)عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد) عليهما السلام (يقول: إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي كنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له:

أ فلا عملت بما علمت، و إن قال: كنت جاهلاً، قال: أ فلا تعلّمت حتى تعمل فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة.(4)

الخامس: ما دلّ على أنّ الواجب هو السؤال في خصوص الشبهة الحكمية

يظهر من الروايات الواردة حول الشبهة الحكمية أنّ وجوب السؤال كان أمراً مفروغاً عنه عند أهل البيت، و قد ذكرنا قسماً منها عند البحث في أدلّة الأخباريين، و قد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي.

منها: ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء إلى أن قال:» إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا فتعلموا «.(5)

و فيما ذكر من الأدلة غنى و كفاية و بعد هذا، لا حاجة إلى الاستدلال

ص:642


1- الكافي: 1/40، الحديث 2.
2- الكافي: 3/68، الحديث 5.
3- الأنعام: 149.
4- البرهان في تفسير القرآن: 1/560، الحديث 2.
5- لاحظ الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1، 3، 31، 43، 49.

بالإجماع مع احتمال أنّ مصدر المجمعين هو ما ذكرنا من الأدلّة، و لا إلى الاستدلال بالعلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية، و معه لا يجوز الرجوع إليها، و قد أورد عليه بأنّه أخصّ من المدعى، لأنّه لا يثبت وجوب الفحص بعد انحلاله مع أنّ المدّعى هو الفحص في مورد الشبهة البدئية حتى بعد انحلال العلم الإجمالي.

و بعبارة أُخرى: أنّ مورد ما ذكر من الدليل، هو العلم الإجمالي بأصل التكليف و معه لا يجري البراءة، إلى أن ينحل العلم الإجمالي، و معه لا يكون له أيّ أثر، لانعدامه، و المدّعى هو الفحص الثاني في الشبهات الحكمية الطارئة بعد انحلاله، و لزومه يحتاج إلى دليل آخر.

وجوب الفحص في الأصلين: التخيير و الاستصحاب

لا شك أنّ التخيير أصل عقلي للمتحيّر الذي لا حيلة له، و من له حيلة لرفع التحيّر فلا يستقل العقل فيه بالتخيير.

و أمّا الاستصحاب فهو أصل مجعول في حقّ الشاك و أدلّته منصرفة إلى الشكّ المستقر لا الزائل بالمراجعة و الفحص، وعليه استقرت سيرة العلماء.

مضافاً إلى ما ذكر من الأدلّة على لزوم السؤال و التعلّم فانّها تعمّ موارد الأصلين.

مقدار الفحص

و هل يجب الفحص إلى أن يحصل اليقين لعدم الدليل أو يكفي الاطمئنان أو يكفي الظن؟ لا سبيل إلى الأخير، لأنّه لا يُغني من الحقّ شيئاً، و الأوّل مستلزم للعسر و الحرج، فتعيّن الثاني.

ثمّ إنّ الفحص صار في الأزمنة الأخيرة أمراً سهلاً بعد جمع الروايات

ص:643

و تبويبها على وجه يسهل للمستنبط الوقوف على الدليل الاجتهادي بعد الرجوع إلى مظانّه في الكتب الحديثية، و إذا ضمّ إلى هذا تتبع المجتهدين بعد تأليف الكتب الأربعة و غيرها و اعترافهم بعدم العثور على الدليل لحصل الاطمئنان بعدمه في مظانه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما فرغ من لزوم الفحص عن الدليل، قال ما هذا لفظه:» و لا بأس بصرف الكلام في بيان بعض بالعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الأحكام و مراده انّه بقي هنا بحثان و هما:

1. إذا ترك الفحص فهل يعاقب أو لا؟ 2. صحّة عمل الجاهل التارك للفحص.

و هذان البحثان هما الموضع الثاني و الثالث اللّذين أشرنا إليهما في صدر المقام، و إليك الكلام فيهما.

الموضع الثاني: في عقوبة تارك الفحص
اشارة

إذا ترك الجاهل الفحص فهل يعاقب مطلقاً أو لا يعاقب، أو يفصل بين مخالفة الواقع المنجّز و عدمه؟ فلنذكر صور المسألة:

الأُولى: إذا ترك الفحص و اقتحم الشبهة و لم يكن مؤدِّياً إلى مخالفة الواقع.

الثانية: لو ترك الفحص و اقتحم الشبهة و أدّى إلى مخالفة الواقع، و كان في المورد دليل لو تفحص عنه لعثر عليه.

الثالثة: تلك الصورة، و لكن لو تفحّص عنه لم يقف عليه.

الرابعة: نفس الصورة أيضاً لكن لو تفحّص لوقف على ما يضادّ الواقع.

الخامسة: تلك الصورة، لكن إذا تفحص عن دليل المورد لم يقف عليه، لكن

ص:644

وقف على دليل مسألة أُخرى. كما إذا ترك الشاك في حكم التدخين و شربه، و لكنّه لو تفحص عنه لوصل إلى دليل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال الذي كان مغفولاً عنه في هذه الحالة.

و إليك بيان أحكام الصور:

أمّا الصورة الأُولى: فخارجة عن موضوع البحث، لأنّ الكلام فيما إذا ترك الجاهل الفحص و أدّى إلى مخالفة الواقع، و المفروض في هذه الصورة عدمها.

نعم يكون عمله تجرّياً، و لو قلنا بعقاب المتجري يكون معاقباً و إلاّ فلا.

أمّا الصورة الثانية: فلا شكّ أنّه يصحّ العقاب، لأنّه خالف الواقع بلا عذر، بل خالفه مع وجود الحجّة من جانب المولى على العبد لتمامية البيان الواصل عنه، و إنّما قصر العبد في الوصول إليه، و يكفي هذا في تصحيح العقاب، و كونه جاهلاً بالمخالفة عند العمل لا يعدّ معذوراً.

و إن شئت قلت: إنّ الواقع كما يتنجز بالعلم كذلك يتنجز بالاحتمال قبل الفحص، و ليس التنجز من خصائص العلم، بل يكفي في ذلك احتمال العثور على الدليل إذا تفحص عنه، فما في الأفواه من أنّ التنجّز من شئون العلم فمحمول على الغالب أو على ما بعد الفحص.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني طرح سؤالاً و هو كون المخالفة مغفولة حين العمل؟ فأجاب عنه بأنّها منتهية إلى الاختيار و هو كاف في صحّة العقوبة.

يلاحظ عليه: أنّ البحث في الجاهل الملتفت، التارك للفحص، فكيف تكون المخالفة مغفولة؟ نعم المخالفة ليست قطعية و إنّما هي محتملة، و يكفي في كونه منجزاً قبل الفحص، فالإشكال غير وارد حتى يحتاج إلى الجواب.

و أمّا الصورة الثالثة، و الرابعة: فالظاهر عدم العقاب على نفس مخالفة الواقع لأنّ المفروض أنّه لو تفحص لم يقف على الدليل، أو وقف على ما يؤدي إلى خلاف

ص:645

الواقع.

و قد عرفت أنّ العقاب فرع البيان الواصل، و المفروض أنّه لم يكن كذلك.

فإن قلت: إنّه ترك الواقعة بلا عذر و لا حجّة، و كون المقام خالياً عن الدليل، أو وجود الدليل المخالف للواقع لا يعد عذراً ما لم يستند إليه المكلّف.

قلت: ليس العقاب مترتباً على مطلق ترك الواقع بلا عذر، بل هو مترتب على ترك الواقع المنجز، و هو رهن وجود البيان الواصل، و المفروض عدمه، و بالجملة كونه معذوراً في نفس الأمر لأجل عدم البيان الواصل يكفي في معذوريته عند العقلاء.

نعم كان سيدنا الأُستاذ غير جازم بكون العذر الواقعي المغفول عنه، غير الملتفت إليه رافعاً للعقاب، و لكن الرائج بين العقلاء هو المعذورية، و قد ذكر الشيخ في مبحث التجري ما يفيد المقام، حيث قال: إنّ عدم العقاب لأجل أمر غير اختياري ليس بقبيح و إنّما القبيح هو العقاب لأمر اختياري.(1)

و أمّا عدم التفاته إلى ذلك، أو عدم استناده إليه فإنّما يحقّق عنوان التجري، و هو خارج عن موضوع بحثنا.

و أمّا الصورة الخامسة: فالحقّ صحّة العقوبة لتمامية البيان في المورد الذي خالفه و قد كان بيان المولى فيه تاماً، أعني: وجوب الدعاء عند رؤيته لأنّه خالف الواقع عن اختياره لافتراض أنّه لو فحص لوصل إلى ذلك البيان.

نعم لا يصحّ العقاب بالنسبة إلى التدخين الذي لم يكن هناك بيان واصل.

ص:646


1- الفرائد: 5.
في المقدمات المفوِّتة

ثمّ إنّ هنا إشكالاً معروفاً و هو: انّ التكاليف المشروطة و الموقتة إنّما تتنجز بعد تحقّق الشرط و حصول الوقت، و لا تكون المقدمة العلمية أعني الفحص واجباً إلاّ بعد حصول الشرط، فلو افترضنا أنّ المكلّف لم يتعلم قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة، و لم يتمكن عنه بعد وجوبه فيلزم عدم صحّة العقاب مع أنّه على خلاف ما اتّفقوا عليه، نظير ذلك أحكام الشكوك حيث لم يقم دليل على تعلّم أحكامها قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، و أمّا بعد دخوله و وجوب ذيها فربما لا يتمكن خصوصاً إذا دخل الصلاة.

و أمّا الجواب فبوجوه:
الوجه الأوّل: نختار انّ التعلم لو قلنا بوجوب المقدمة واجب قبل حصول الشرط،

و ذلك لأنّ كون وجوب المقدمة تابعاً لوجوب ذيها ليس بمعنى ترشح وجوبها عن وجوبه، أو ترشح تعلّق الإرادة بها عن إرادته، بل لكلّ من الوجوبين و الإرادتين مباد و مقدمات بها يتكون وجوبهما و إرادتهما، و على ذلك فلو وجدت المبادئ في مورد المقدمة قبل الوقت يحكم بوجوبها سواء وجب ذوها أم لا، و المقام من هذا القبيل، فانّ المولى لما وقف على توقف امتثال الواجب المشروط على الفحص قبل حصول الشرط، و أنّ ترك التعلم يوجب سلب القدرة عنه حال تحقّق الشرط، تنقدح في نفسه إرادتها و إيجابها، و إن لم تكن تلك المبادئ موجودة في ذيها. و لا يراد من الملازمة تحقّق الإرادتين أو الوجوبين في زمان واحد مثل الزوجية و الأربعة، بل المقصود عدم جواز التفكيك بينهما في مجال الطلب و الإرادة فلو تقدم طلب أحدهما على طلب الآخر لا تنثلم به الملازمة.

الوجه الثاني: حكم العقل بوجوب التعلم و إن لم يتعلق به الوجوب شرعاً

ص:647

لاستقلال العقل بذلك، فلو ترك أو تساهل في التعلم و انتهى إلى ترك الواجب يعدُّ مقصراً في مجال المولوية و العبودية، و لأجل ذلك أفتى الفقهاء بوجوب تعلّم أحكام الشكوك المتعارفة التي تعم بها البلوى.

و بالجملة المقدمات المفوِّتة لغرض المولى يحكم العقل بوجوب تحصيلها و إن لم تكن واجبة شرعاً، لأنّ حفظ غرض المولى ليس بأقل من حفظ غرض العبد فكما هو يقدم على المقدمات المفوتة في محلها فكذلك في أغراض المولى.

و لذلك يجب على الجنب، الغسل قبل الفجر لأجل عدم إمكان درك الفجر بالطهارة إلاّ بالإتيان به قبل وجوب ذيه، كما أنّه يجب السير إلى الحج قبل الموسم لأجل عدم إمكان امتثال أمر المولى إلاّ بالسير قبله، ففي جميع تلك الموارد يحكم العقل بلزوم تحصيل المقدمة المفوتة.

هذان الجوابان موافقان للتحقيق غير أنّ الجواب الأوّل مبني على وجوب المقدمة، دون الثاني فأنّه يمشي و إن لم تكن المقدمة واجبة.

الوجه الثالث: إرجاع الواجب المشروط إلى المعلّق

و حاصل هذا الوجه، هو إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً و الواجب استقبالياً.

و على ذلك فوجوب صلاة الظهر قبل دلوك الشمس فعلي و إن كان الواجب استقبالياً، كما التزم بعضهم به في الحجّ و أنّ الوجوب قبل موسم الحجّ فعلي و إن كان الواجب استقبالياً، و على ذلك يجب تحصيل المقدمات لكون الوجوب فعلياً.

فإن قلت: إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق، يوجب لزوم تحصيل عامة المقدمات قبل الوقت، سواء كانت المقدمة علمية كالتعلم، أو وجودية

ص:648

كالستر و الطهارة الخبثية و الحدثية، إلى غير ذلك من المقدمات الوجودية.

قلت: إنّ الواجب المعلق عبارة عن كون الوجوب فيه فعلياً و الواجب استقبالياً، و لزوم تحصيل المقدمات قبل الوقت، تابع لكيفية دخلها في الملاك، فتارة تكون دخيلاً فيه بنحو التحصيل، و أُخرى بنحو الحصول، ففي الأوّل يجب التحصل دون الثاني، و لذلك يجب التعلّم و لا يجب سائر المقدمات.

و إلى ما ذكرنا من الإشكال و الجواب يشير المحقّق الخراساني بعبارته التالية: و لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت، غير التعلم فيكون الإيجاب حالياً و إن كان الواجب استقبالياً قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه) كالاستطاعة (و لا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.(1)

يلاحظ على هذا الجواب: انّه على خلاف ظاهر الأدلّة فقوله سبحانه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (2)فالمتبادر دخول تعلّق الوجوب بدلوك الشمس، و انّه لا وجوب قبل الدلوك كما هو المتبادر من آية الصوم: (كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ).(3)

الوجه الرابع ذهب المحقّق الأردبيلي و تلميذه إلى أنّ وجوب التعلم واجب نفسي تهيئي،

و بهذا تخلص عن الإشكال في الواجب المشروط، فوجوب التعلّم ليس وجوباً

ص:649


1- كفاية الأُصول: 2/259.
2- الاسراء: 78.
3- البقرة: 187.

مقدّمياً حتى يتبع حدوثاً و بقاءً حدوث وجود ذيها، بل واجب نفسي، غاية الأمر المطلوب تهيّؤ المكلّف للعمل بالأحكام، و على ذلك فالعقاب على ترك التعلم فانّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي و عندئذ يرتفع الإشكال.

يلاحظ عليه بوجوه:

1. انّ القول بأنّ التعلّم واجب نفسي تهيئي جمع بين الضدين، إذ لو كان الملاك قائماً به فلما ذا وصف بأنّه تهيئي للغير؟ و إن لم يكن الملاك قائماً به، فلما ذا يكون واجباً نفسياً؟ فإن قلت: إنّ صلاة الظهر واجب نفسي و في الوقت نفسه مقدمة لصحّة صلاة العصر.

قلت: إنّ صلاة الظهر بما هي هي واجب نفسي فقط، نعم تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر مقدمة لصحّة الصلاة الثانية، فما هو الموضوع للوجوب النفسي، غير الموضوع للوجوب المقدّمي بخلاف المقام فانّ التعلم بما هو هو واجب نفسي، و في الوقت نفسه تهيئي.

2. لو ترك الفحص و خالف الواقع مع وجود البيان الواصل فالقول بأنّ العقاب لترك السؤال و التعلم دون مخالفة الواقع، بعيد جداً، و القول بالعقابين أبعد، فلا محيص عن كون العقاب على ترك الواقع و مخالفته المنجز بمجرّد احتمال وجود البيان الواصل.

3. انّ ما ذكراه مخالف لظهور الأدلّة و قد مضى قوله) عليه السلام (في تفسير قوله تعالى: (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) انّه يقال للعبد هل علمت؟ فإن قال: نعم. يقال: فهلاّ عملت؟ و إن قال: لا. قيل هلا تعلّمت حتى تعمل؟ إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ ذكرها، التي تنادى بوضوح كون العلم مقدمة للعمل نعم معرفة

ص:650

اللّه و صفاته و أفعاله، خارجة عن الموضوع فانّها واجبة عقلاً و المطلوب فيها هو العقيدة.

الموضع الثالث: في صحّة عمل تارك الفحص
اشارة

عنوان البحث يعرب عن اختصاصه بالمجتهد الذي عمل بالأصل قبل الفحص، فهل يحكم على عمله بالصحة أو لا، أو فيه تفصيل؟ و لكنّ ملاكه يعمّ المقلِّد الذي عمل بلا تقليد و لا احتياط. و قد طرح السيد الطباطبائي كلا العنوانين في كتابه العروة الوثقى في أحكام التقليد في المسألة السابعة، غير أنّه خصّها بما إذا لم ينكشف الخلاف، كما خصّ المسألة السادسة عشرة بما إذا انكشف الخلاف، و المقصود في المقام هو ما إذا انكشف الواقع، لأنّ حكم الموضوع قبل الانكشاف واضح، و هو أنّه لا يصحّ له أن يقتصر بما عمل بحكم العقل، لعدم المُؤمِّن من العقاب، و هذا هو المراد من حكم السيد الطباطبائي على عمله بالبطلان.

ثمّ الصور المتصورة فيما إذا انكشف الخلاف أربع:

الصورة الأُولى إذا انكشف أنّ العمل كان مخالفاً لفتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل و فتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً،

فيحكم بالبطلان لعدم الدليل على الصحّة، فيجب تحصيل المؤمِّن من العقاب، و لا يحصل إلاّ بتطبيق العمل على الحجّة الفعلية.

الصورة الثانية إذا كان العمل موافقاً لفتوى من كان عليه الرجوع حين العمل، و فتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً

ص:651

و ذلك لموت الأوّل و تعيّن الرجوع إلى المجتهد الحي فيحكم بالصحة، كما في المعاملات مطلقاً، و في العبادات إذا تمشّت منه القربة، لأنّ الصحّة في الأُولى رهن المطابقة، و في الثانية كذلك بشرط حصول قصد القربة.

الصورة الثالثة أن يكون العمل موافقاً لفتوى من كان الرجوع إليه واجباً حين العمل، و مخالفاً لفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً،

ففيه وجهان:

الأوّل: الصحّة، لكونه موافقاً لرأي من كان الرجوع إليه واجباً، لأنّها تدور على موافقة العمل للواقع و الكاشف عنها رأي المجتهد آنذاك.

الثاني: البطلان، و ذلك لأنّ الحكم بالصحة فرع الاستناد إلى الحجّة الشرعية حين العمل حتى يدخل في معقد الإجماع على صحّة عمل العامي المستند لرأي المفتي فلا يضرّه تبدل رأيه أو موته و رجوعه إلى من يخالفه في الرأي، لوجود الإجماع على الإجزاء و المفروض أنّه لم يستند إليه، حتى يدخل في معقد الإجماع، و انحصر الطريق إلى كشف الموافقة و المخالفة في رأي المجتهد الحيّ، أعني: من يجب عليه الرجوع، و المفروض أنّ العمل حسب نظره باطل، فلا بدّ من تطبيق العمل على وفق رأيه.

و بذلك يعلم حكم ما إذا فاتت فريضة الإنسان و أراد القضاء، فانّه يجب عليه تطبيق العمل على رأي من يجب الرجوع إليه حين القضاء، لا على رأي من كان عليه الرجوع حين الفوت، و ذلك لأنّ الفائت و إن كان هو الواجب الواقعي إلاّ أنّ الطريق إليه هو رأي المجتهد الحي، لا رأي من مضى و تُوفِّي فانّه ليس بحجّة.

ص:652

الصورة الرابعة عكس الثالثة،

فيحكم على العمل بالصحة لقيام الطريق على كون العمل مطابقاً للواقع.

و بذلك يعلم حكم المجتهد، فإذا كان عمله مطابقاً لما استنبطه من الحكم بعد العمل فيحكم بالصحة دون ما إذا كان مخالفاً له.

و ما ذكرنا هو الضابطة في الحكم بالصحة و البطلان لكن اتّفق الأصحاب على صحّة عمل الجاهل في موضعين إذا خالف الواقع و عدم جواز الإعادة مع الحكم بالعقاب.

1. الإتمام موضع القصر دون العكس.

2. الجهر في موضع المخافتة و بالعكس.

فوقع الكلام في كيفية الجمع بين الصحّة و استحقاق العقاب، فانّ الحكم بالصحّة، آية القبول و لا معنى معه للعقاب.

و بعبارة أُخرى، انّ الجمع بين عدم الإعادة و القضاء، و استحقاق العقاب، جمع بين المتناقضين، لأنّ الحكم بالأوّل دليل على أنّ العمل واف بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع، و لذلك حكم عليه بعدم الإعادة و القضاء، كما أنّ الحكم بالعقاب دليل على عدم وفاء العمل المأتي به، بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع. و مع ذلك فكيف يجمع بين الأمرين.

و قد حاول المحقّقون من عصر الشيخ الكبير كاشف الغطاء، إلى عصرنا، أن يجمعوا بين الصحّة و العقاب بوجوه، نذكر ما ذكره الشيخ الأنصاري، ثمّ نردفه ببعض الكلمات.

قد أجاب الشيخ عن الإشكال باحتمالات ثلاثة:

ص:653

أ: منع تعلّق التكليف فعلاً بالواقع المتروك، و أنّ المأتي به هو المأمور به.

ب: منع تعلّقه بالمأتي به، و انّ الواجب هو الواقع المتروك.

ج: منع التنافي بينهما، بالأمر بالواقع المتروك أوّلاً، و المأتي به ثانياً عند عصيان الأمر الأوّل، و هذا هو المسمّى بالترتب.

و ردّ الأوّل: بأنّه خلاف ظاهر المشهور، حيث إنّهم يقولون ببقاء التكليف المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

و ردّ الثاني: بأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المأتي به هو المأمور به، حيث ورد في من جهر محل المخافتة أو بالعكس،» و قد تمّت صلاته «.(1)

و الثالث: مبني على صحّة الترتّب أوّلاً، و ليس المقام من موارده ثانياً.(2)

و قد اختار المحقّق الخراساني الوجه الثاني من هذه الوجوه أي انّ الواجب هو الواقع المتروك و أوضحه بقوله: إنّما حكم بالصحة لأجل اشتمال غير المأمور به على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها، مهمة في حدّ ذاتها، و إن كانت دون مصلحة الجهر و القصر، و إنّما لم يؤمر بها، لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل الأتم.

و أمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة فلأنّها بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في

ص:654


1- إشارة إلى ما رواه الصدوق عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، و أخفى فيما لا ينبغي الإخفات، فقال: أيّ شيء ذلك فعل تعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، و إن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، و قد تمت صلاته. الوسائل: 4، الباب 26 من أبواب القراءة، الحديث 1.
2- الفرائد: 408، وجه عدم كونه من موارده لأنّه فيما إذا كان هناك أمران أحدهما أهم و الآخر مهم، و كان الاشتغال بالمهم عصياناً للأوّل و ليس المقام كذلك.

المأمور به.(1)

و هو) قدس سره (دفع الإشكال بحذافيره.

أمّا الصحّة فلأجل عدم توقفها على الأمر، بل يكفي فيها الملاك و هو اشتمال العمل على مصلحة تامة و لازمة الاستيفاء، و إن كانت دون الأُخرى، و أمّا عدم الإعادة فللتدافع بين الملاكين، كما إذا أمر المولى عبده بإطعام الضيف باللحم المشويّ فأطعمه بالخبز و الجبن، فلا يبقى مجال لإعادة الإطعام، و أمّا العقاب فلأنّه ترك المأمور به المشتمل على المصلحة الكاملة عن تقصير.

و أمّا ما استظهره الشيخ من أنّ ظاهر الأوّل هو كونه مأموراً به، فلا ظهور لقوله:» تمّت صلاته « سوى في الصحّة و القبول، لا في كونه مأموراً به، و يؤيده ما ورد في نفس الرواية و في رواية أُخرى قوله:

» إذا فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه «فهو ظاهر في قبول المأتي به مكان الواقع إرفاقاً و منّة.

و هذا الجواب أوضح الوجوه الثلاثة.

ما هو المختار عندنا في حلّ الإشكال

الظاهر أنّ الأجوبة الثلاثة نابعة من عدم الرجوع إلى الروايات، إذ معه يظهر ما هو الحقّ في الجواب فنقول:

إنّ الجواب الماضي كان مبنيّاً على أنّ الرباعية أقلُّ مصلحة من الثنائية، و لكن الظاهر من الروايات تساويهما في المصلحة، و إنّما أمر المسافر بالثنائية لغاية التخفيف، روى الصدوق بسند معتبر عن الفضل بن شاذان في حديث العلل التي سمعها من الرضا) عليه السلام (قال: إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً هي عشر ركعات، و السبع إنّما زيدت فيها فخفّف اللّه عزّ و جلّ عن

ص:655


1- الكفاية: 2/161.

العبد تلك الزيادة لموضع سفره و تعبه و نصبه، و اشتغاله بأمر نفسه و ظعنه و إقامته، لئلاّ يشتغل عمّا لا بدّ منه من معيشته، رحمة من اللّه عزّ و جلّ و تعطفاً عليه....(1)

و على هذا لما لم تكن الرباعية بأقلّ مصلحة من الثنائية و كان الأمر بالإعادة يناقض غرض الشارع، قَبِلَ الرباعية مكانها فيختلف هذا الجواب عن السابق بأمرين:

1. تساوي الصلاتين في المصلحة.

2. عدم الأمر بالإعادة لأجل كونها مخالفة لغرضه الذي هو التسهيل و تنافيه الإعادة.

و أمّا العقاب، مع إمكان الإعادة في الوقت، فلم يرد فيه دليل صالح، و إن ادعي الإجماع و ليس في الروايات منه عين و لا أثر، و الأصل في ذلك صحيحة زرارة و محمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر) عليه السلام (رجل صلى في السفر أربعاً أ يعد أم لا؟، قال:» إن كان قرئت عليه آية التقصير، و فسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه «.(2)

فإن قلت: لو كانت المصلحة متساوية، فلما ذا لا يجوز الإتمام للعالم بالحكم مع وجود الملاك به؟ قلت: إنّ العقل يحكم بحفظ أغراض الشارع، و قد عرفت ما هو الغرض له في الأمر بالقصر، و كون الغرض عائداً إلى صالح العبد لا يسوِّغ المخالفة، و في بعض الروايات ما يشير إلى أنّ العالم المتم رادّ لهدية الشارع و هو قبيح.(3)

هذا و كان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي) قدس سره (يقول حول أجوبة الشيخ

ص:656


1- الوسائل: الجزء 3، الباب 24 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الحديث 5.
2- الوسائل: الجزء 5، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
3- الوسائل: الجزء 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3، 4، 8، 11.

الأنصاري في هذا المقام: بأنّ تذليل العقبات الصعاب في مباحث البراءة و الاشتغال عاقه عن إعطاء النظر الدقيق للبحث. ثمّ أشار إلى الأجوبة الثلاثة الماضية.

شرطان آخران للبراءة
اشارة

ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين آخرين:

الشرط الأوّل: أن لا يكون إعمال الأصل موجباً لثبوت حكم شرعي آخر من جهة أُخرى

مثل أن يقال:» في أحد الإناءين المشتبهين، الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فانّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر، أو فيما علم بحدوث الكرية و ملاقاة الماء بالنجاسة و شكّ في تقدّم أحدهما على الآخر، فانّ إعمال الأُصول في عدم تقدّم الكرية على الملاقاة يوجب الاجتناب عن الملاقي.(1)

إنّ ما ذكره ممنوع صغرى و كبرى.

أمّا الأوّل: فلأنّ الأصل الجاري في هذه الأمثلة هو الاستصحاب لا البراءة و مع غض النظر عن هذا، فانّ الأُصول لا تجري في أطراف العلم الإجمالي إمّا لعدم شمول أدلّة الأُصول لأطرافه، أو شمولها و لكنها تسقط لأجل التعارض، أو لاستلزامه المخالفة العملية.

و أمّا الثاني: فقد أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الإباحة الظاهرية، أو رفع التكليف، إذا كان موضوعاً أو ملازماً لثبوت حكم آخر فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه كما لو نذر أن يعطي للفقير المال الحلال ظاهراً فوجد مالاً تحت يده يحتمل أنّه لغيره نعم لو كان مترتباً على نفي التكليف واقعاً له، لا يترتب عليه، و ذلك لعدم الموضوع لا للاشتراط، كما إذا نذر أن يعطي للفقير الحلال الواقعي، فلا يجب إذا ثبتت حليته بالأصل.

ص:657


1- الفرائد: 311.

أقول: ترتّب حكم على حكم على أقسام:

1. إذا لم يكن بين الحكمين ترتّب شرعي كما في الأمثلة التي ذكرها الفاضل التوني، فانّ الترتب هناك عقلي، فانّ إجراء الطهارة في أحد الإناءين يلازم عقلاً بحكم العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين نجاسة الإناء الآخر، أو نفي تقدّم أحد الحادثين يستلزم تقدّم الآخر للعلم بتقدّم أحدهما.

2. إذا كان بين الحكمين ترتّب شرعي، لكن كان الحكم الثاني مترتباً على الوجود الواقعي منه، كما إذا نذر أنّه لو صلى بماء طاهر واقعاً فعليه أن يطعم الفقير فتوضّأ بماء مشكوك محكوم بالطهارة ظاهراً.

3. أن يكون الحكم مترتّباً على الأعم من الطهارة الواقعية و الظاهرية كوجوب الوضوء للصلاة المترتّب على الماء الطاهر واقعاً أو ظاهراً.

4. و ربّما يتصوّر وجود قسم رابع و هو أن يكون الحكم الواقعي مترتّباً على الحليّة الواقعية، و الظاهري على الحلية الظاهرية، كوجوب الحجّ المترتّب على إباحة المال الذي يكون به مستطيعاً فلو حكم على إباحة المال ظاهراً حكم بوجوب الحجّ ظاهراً و لو انكشف الخلاف ينكشف عدم وجوب الحجّ عليه واقعاً، و هذا بخلاف وجوب التوضّؤ فأنّه مترتّب على الإباحة الأعم.

يلاحظ عليه: بعدم وجود إلزامين في المقام، إلزام ظاهري، و إلزام واقعي، بل إلزام واحد مترتّب على الاستطاعة الواقعية، فإذا كشف الخلاف، كشف عن عدم الاستطاعة واقعاً، نعم يحكم العقل بلزوم الحجّ عند ثبوت إباحة المال ظاهراً لأجل تحصيل المؤمن و ليس هو حكماً شرعياً.

الشرط الثاني لأصل البراءة أن لا يضرّ بإجرائها شخص آخر
اشارة

ذكر الفاضل التوني شرطاً ثانياً لأصل البراءة، و هو أن لا يضرّ بإجرائها

ص:658

شخص آخر، و مثّل بالأُمور التالية:

1. فتح قفص طائر، فطار.

2. حبس شاة فمات ولدها.

3. أمسك رجلاً، فهربت دابته.

فانّ إعمال البراءة فيها موجب لتضرر المالك فيندرج تحت قاعدة الإتلاف أو قوله:» لا ضرر و لا ضرار «.

يلاحظ عليه بأمرين:

الأوّل: انّه لا موضوع للأصل مع وجود الدليل الاجتهادي، لحكومة قاعدة» من أتلف مال الغير فهو له ضامن «أو قاعدة» لا ضرر و لا ضرار «على أصل البراءة أو ورودهما عليها.

الثاني: انّ حديث الرفع الذي هو من أهم أدلّة البراءة النقلية، حديث امتنان فلا موضوع له إذا كان على خلافه، و أيّ امتنان بالحكم بعدم الضمان على فاتح القفص، أو حابس الشاة، و ممسك الرجل.

ثمّ إنّ القوم تبعاً للشيخ الأنصاري ذيّلوا المقام، بالبحث عن قاعدة» لا ضرر «سنداً و مفاداً و تفريعاً، فبما أنّ البحث فيها طويل الذيل أفردناها بالتأليف و أفرزناها عن سائر المباحث.

تمّ الكتاب بحمد اللّه تبارك و تعالى في ثامن شهر شوّال المكرّم من شهور عام 1419 من الهجرة النبوية و الحمد للّه أوّلاً و آخراً و ظاهراً و باطناً قم المشرفة محمد الحسين الحاج العاملي عُفي عنه

ص:659

ص:660

فهرس المحتويات

كلمة شيخنا المحاضر مدّ ظلّه 5 كلمة المقرّر 7 المقصد السادس: في الحجج الشرعية أ 9 في تقسيم حالات المكلّف أو المجتهد أ 10 التقسيم الثُنائي في كلام المحقّق الخراساني 11 القضاء بين الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني أ 13 انحصار الأُصول العملية في الأربعة، استقرائيّ أ 14 حصر مجاري الأُصول في أربعة حصر عقلي أ 14 الأمر الأوّل: في أحكام القطع أ 20 في وجوب متابعة القطع أ 20 القطع حجّة لغوية لا منطقية و لا أُصولية أ 23 عدم جواز المنع عن العمل بالقطع، و الأحكام الأربعة للقطع أ 26

ص:661

الأمر الثاني: في التجرّي أ 28 التجرّي لغةً و اصطلاحاً و هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية؟ أ 28 الأوّل: حكم نفس التجري و حكم المتجرّى به 30 أسئلة ثلاثة و أجوبتها 38 السؤال الأوّل: حكم التجرّي في الآيات و الروايات أ 38 السؤال الثاني: في تفصيل صاحب الفصول أ 47 السؤال الثالث: هل ممارسة التجرّي تنافي العدالة؟ أ 48 الأمر الثالث: في أقسام القطع 49 تقسيمه إلى طريقي و موضوعي أ 49 تقسيمه إلى طريقي و وصفي أ 49 تقسيمه إلى تمام الموضوع و جزئه أ 51 قيام الأمارات مكان القطع أ 53 في إمكان التنزيل، و وقوعه أ 54 في قيام الأُصول العملية مقام القطع أ 57 صحّة الجمع بين التنزيلين بنحو الملازمة العرفية أ 59

ص:662

الأمر الرابع: في القطع و الظن الموضوعيين أ 64 في أقسام القطع الموضوعي أ 64 في أقسام الظن المأخوذ في الموضوع أ 68 الأمر الخامس: في وجوب الموافقة الالتزامية أ 71 تحرير محلّ النزاع و وجوب الموافقة الالتزامية 72 ثمرات المسألة أُصولية و فقهية 76 الأمر السادس: حكم قطع القطاع أ 80 الأمر السابع: حجّية العقل في مجالات خاصة أ 83 مقدمات تمهيدية للدخول في صلب الموضوع 84 المقام الأوّل: استكشاف حكم الشرع في المستقلات العقلية 86 المقام الثاني: استكشاف الحكم الشرعي من طريق درك مناطات الأحكام 88 تطبيقات أ 89 ما استدل به على عدم حجيّة العقل و نقده أ 91 الأمر الثامن: العلم الإجمالي تنجيزاً و امتثالاً أ 97 حكم الامتثال الإجمالي في مقابل الظن التفصيلي أ 105

ص:663

الحجج و الأمارات الشرعية المقام الأوّل: إمكان التعبّد بالظن و ما هو المراد من الإمكان أ 110 دليل القائل بامتناع التعبّد بالظن أ 112 الجواب عن أدلة القائلين بامتناع التعبد أ 113 محاذير التعبد بالظن مبدأً و ملاكاً و خطاباً 119 تحليل جديد للمحاذير أ 120 المقام الثاني: في وقوع التعبّد بالظن أ 124 1. حجّية الظواهر حجّية الظواهر و فيها جهات: 128 الجهة الأُولى: في أنّ الظواهر من القطعيات أ 129 الجهة الثانية: في تقيّد الحجّية بالظن أ 133 الجهة الثالثة: حجّية الظواهر لمن قصد إفهامه و من لم يقصد أ 133 الجهة الرابعة: في حجّية ظواهر الكتاب أ 137 الأدلة الثمانية على حجّية ظواهر الكتاب 138 أدلة الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب أ 145

ص:664

2. حجّية قول اللغوي ما هو المراد من أصالة الظهور؟ أ 153 انعقاد السيرة على الرجوع إلى قول اللغوي 156 تقسيم المعاجم اللغوية إلى قسمين 157 الاستدلال بالانسداد الصغير و جوابه 159 3. الإجماع المنقول بخبر الواحد المقام الأوّل: الإجماع المحصّل عند أهل السنّة أ 161 مكانة الإجماع في الفقه السنّي أ 162 الإجماع عند السنة من مصادر التشريع و أدلته 165 حجّية الإجماع حسب أُصول الإمامية أ 169 استكشاف قوله) عليه السلام (بقاعدة اللطف أ 170 استكشاف قول المعصوم من طرق أُخرى 173 كشف الإجماع عن وجود الدليل المعتبر أ 175 كشف الإجماع عن شهرة الحكم عند أصحاب الأئمّة أ 176 المقام الثاني: في حجّية الإجماع المنقول أ 177 أقسام الإجماع المنقول 178 تقييم الإجماعات الواردة في كتب القدماء أ 180 حكم الإجماع المنقولة المتعارضة 185

ص:665

4. الشهرة الفتوائية أقسام الشهرة: روائية و عملية و فتوائية 188 الاستدلال على حجّية الشهرة الفتوائية أ 189 الشهرة العملية من مميزات الحجّة عن اللاحجّة أ 192 الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية أ 192 إعراض المشهور عن الرواية كاسر لحجّيتها أ 194 الشهرة الفتوائية المجرّدة عن الرواية حجّة أ 195 5. في حجّية الخبر الواحد الاحتجاج يقوم على أُسس أربعة 199 أدلّة نفاة الحجّية أ 203 1. الاستدلال على حجّية خبر الواحد من الكتاب 215 الآية الأُولى: الاستدلال بآية النبأ وصفاً و شرطاً أ 216 إشكالات مثارة حول الاستدلال بآية النبأ 222 الآية الثانية: آية النفر و كيفية الاستدلال بها 237 الآية الثالثة: آية الكتمان أ 248 الآية الرابعة: آية السؤال أ 249 الآية الخامسة: آية الأُذن أ 254

ص:666

2. الاستدلال على حجّية خبر الواحد من السنة 258 ذكر طوائف خمس من الروايات الدالة على حجّية خبر الواحد 259 كيفية الاستدلال بها أ 265 3. الاستدلال على حجّية الخبر الواحد من الإجماع أ 269 الاحتجاج بالسيرة العقلائية أ 270 4. الاستدلال على حجّية الخبر الواحد من العقل أ 275 إجراء الانسداد الصغير في مورد الأخبار أ 275 إجراء دليل الانسداد في خصوص الأجزاء أ 279 6. العرف و السيرة شرط الاستدلال بالسيرة على الحكم الشرعي 285 العرف مرجع في تبيين المفاهيم و تشخيص المصاديق أ 287 الأعراف الخاصة حجة أ 289 إمضاء النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لبعض الأعراف أ 291 تفسير خاطئ أ 291 حجّية مطلق الظن و عدمها أ 293 1. تقرير دليل القدماء على حجّية مطلق الظن و نقده أ 293

ص:667

2. تقرير دليل المتأخرين على حجّية مطلق الظن و نقده أ 298 3. تقرير شريف العلماء على حجّية مطلق الظن أ 299 4. دليل الانسداد على حجّية مطلق الظن أ 300 تقرير مقدماته الخمس و تحليلها 301 عدم حجّية الظن في العقائد 315 حكم الجاهل القاصر في تحصيل العلم أ 320 هل الجاهل القاصر كافر؟ أ 324 الجاهل القاصر و الحكم الوضعي أ 325 هل الظن جابر و موهن و مرجح؟ أ 326 المقصد السابع: في الأُصول العملية أ 329 الأصل الأوّل: أصل البراءة أ 329 بيان مجاري الأُصول أ 331 الاستدلال على البراءة بآية التعذيب أ 337 الاستدلال على البراءة بآية الإيتاء أ 342 الاستدلال على البراءة بآية الاضلال فرع البيان أ 344 الاستدلال على البراءة بآية الهلاك بعد البيّنة أ 346 الاستدلال على البراءة بالسنّة أ 347

ص:668

1. حديث الرفع أ 347 الفرق بين الرفع و الدفع أ 348 تصحيح نسبة الرفع إلى التسعة مع وجودها أ 350 ما هو المرفوع ثبوتاً أ 351 المرفوع هو عموم الآثار أ 354 عموم الموصول للحكم و الموضوع المجهولين أ 356 اختصاص الحديث بالرفع الامتناني أ 360 المرفوع آثار المعنون لا آثار العناوين أ 361 عدم اختصاصه بالأُمور الوجودية أ 363 الكلام في النسيان أ 365 الكلام في الاضطرار و الإكراه أ 369 2. حديث الحجب أ 373 3. حديث السعة أ 375 4. حديث الحل الأوّل أ 378 5. حديث الحل الثاني أ 381 6. حديث إطلاق الأشياء أ 384 7. حديث الجهالة أ 387 الاستدلال بالإجماع أ 389 الاستدلال بحكم العقل أ 390

ص:669

أدلّة الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية أ 395 الاستدلال بطوائف من الآيات أ 396 الاستدلال بالسنّة على وجوب الاحتياط أ 398 الاستدلال بالعقل و العلم الإجمالي أ 408 انحلال العلم الإجمالي و أقسامه أ 412 استقلال العقل بالحظر في الأفعال أ 414 احتمال المضرة في ارتكاب الشبهة أ 417 تنبيهات 417 التنبيه الأوّل: حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي أ 417 استصحاب عدم التذكية بصوره المختلفة في الشبهة الحكمية 419 استصحاب عدم القابلية أ 422 استصحاب عدم التذكية في الشبهة الموضوعية أ 428 التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب و غير الاستحباب أ 430 التنبيه الثالث: التسامح في أدلّة السنن أ 434 دراسة مدلول روايات التسامح 435 نقل نظريات الشيخ حول القاعدة 438 ثمرات المسألة أ 443

ص:670

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية أ 445 التنبيه الخامس: في تحديد رجحان الاحتياط أ 448 الأصل الثاني: أصالة التخيير أ 450 المقام الأوّل: دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات أ 452 الأقوال المختلفة حول دوران الأمر بين المحذورين أ 453 هل التخيير بدئي أو استمراري أ 460 في تقديم محتمل الأهمية أ 461 المقام الثاني: في دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات أ 462 أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به أ 463 الأصل الثالث: أصالة الاحتياط أ 465 تبيين مجرى أصالة الاحتياط 466 الشبهة التحريمية المحصورة من الشكّ في المكلّف به أ 469 المقام الأوّل: إمكان جعل الترخيص ثبوتاً أ 470 المقام الثاني: في وقوع الترخيص أ 473 تنبيهات أ 481 التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى أحد الأطراف أ 481 التنبيه الثاني: في خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أ 489

ص:671

التنبيه الثالث: في الشبهة غير المحصورة أ 505 التنبيه الرابع: في حكم ملاقي الشبهة المحصورة أ 525 دوران الأمر بين الأقل و الأكثر أ 548 جريان البراءة العقلية 549 أدلّة القائلين بالاشتغال أ 557 أدلّة القائلين بجريان البراءة الشرعية أ 566 الشكّ في الأجزاء التحليلية أ 568 الكلام في الشكّ في المحصِّل أ 575 الشبهة الموضوعية في الأقل و الأكثر الارتباطيين أ 577 تنبيهات 581 التنبيه الأوّل: في النقيصة السهوية أ 581 التنبيه الثاني: في حكم الزيادة عمداً أو سهواً أ 593 التنبيه الثالث: في الاضطرار إلى ترك الجزء و الشرط أ 615 الاستدلال على قاعدة الميسور كتاباً و سنة 621 خاتمة في شرائط جريان الأُصول أ 634 الشرط الأوّل: لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي أ 636 شرطان آخران للبراءة أ 657

ص:672

المجلد 4

اشارة

سرشناسه:سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور:ارشاد العقول الی مباحث الاصول: یبحث عن الحجج الشرعیة و الاصول العلمیة/ تقریرا لمحاضران جعفر السبحانی؛ تالیف محمد حسین الحاج العالمی

مشخصات نشر:بیروت : دارالاضواآ ، 2000م. = 1420ق. = 1379.

مشخصات ظاهری:4ج

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 - -- معلومات اصول فقه

شناسه افزوده:حاج عاملی، محمد حسین

رده بندی کنگره:BP159/8/س2الف4 1379

شماره کتابشناسی ملی:م 81-35421

ص :1

اشارة

ص:2

إرشاد العقول

إلى مباحث الأصول

يبحث عن الحجج الشرعيَّة والأصول العملية

تقريراً لمحاضرات

العلّامة المحقّق

آية اللّه جعفر السبحاني دام ظلّه

تأليف

محمد حسين الحاج العاملي

الجزء الثاني

دار الاضواء

بيروت - لبنان

ص:3

مقدمة المحاضر:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي أوضح لعباده سبل معرفته، وسهّل عليهم طاعته ببعث أنبيائه وسفرائه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه وسيد أصفيائه محمد وعترته الطاهرة، والنجوم الزاهرة والحجج اللّامعة.

أمّابعد:

فقد سرحت النظر في الجزء الثاني من كتاب «إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول» لولدنا الروحي العلاّمة الحجة الفاضل الشيخ محمد حسين الحاج العاملي (حفظه اللّه) فوجدته كالجزء الأوّل حاوياً لما ألقيناه، وجامعاً لما أوضحناه، كيف وقد حضر بحوثنا الأُصولية والفقهيّة مدة لايستهان بها، فأشكره لما بذل من جهود مضنية في جمع شتات البحث، وترصيف أطرافه، ببيان رائق من غير إيجاز مخلّ ولا إطناب مملّ، فأسأله سبحانه أن يسدّد خطاه، ويوفِّقَه لما يحبُّه ويرضاه، ويجعله ذخراً للإسلام والمسلمين بفضله ومنّه.

جعفر السبحاني

8 ذي الحجة الحرام / 1420 ه

ص:4

مقدمة المؤلّف:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه كلّما وقب ليل ووسق، والحمدللّه كلّما لاح نجم وخفق، والحمد للّه غير مفقود الانعام ولا مكافأ الافضال.

والصلاة والسلام على أفضل سفرائه وأشرف بريتّه محمّد، الّذي بعثه لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته وآله الذين هم موضع سرّه، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، صلاة تامّة، مادامت السماء ذات أبراج، والأرض ذات فجاج.

أمّا بعد؛ فلا شكّ في حاجة الفقه إلى الأُصول، لأنّ استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة رهن قواعد كلّية يستند إليها الفقيه، وهذه القواعد لايبحث عنها إلّافي علم الأُصول، ولأجل ذلك بادر علماء الأمصار وفضلاء الأعصار في كلّ دور من الأدوار، إلى تمهيد قواعده وتقييد شوارده، وتبيين ضوابطه، وترتيب فصوله، ليستسهل الأمر على المستنبط في مختلف المجالات.

وممّن خاض غمار هذا العلم، وسبر أغواره شيخنا الأُستاذ العلاّمة الحجّة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني (مدّ ظله) فقد جدّ وأجاد، وصنّف وأفاد، حتى تخرّج على يديه جيل كبير من روّاد العلم.

وكنت ممّن يتردّد على أندية دروسه للانتهال من نمير علمه، حتى حالفني

ص:5

التوفيق بتحرير ما أفاده في الدورة الأُصولية الرابعة، فجاء ما أفاده فيما يُسمّى بالأُصول العقليّة متمثّلاً في هذين الجزءين، وقد سمّيته «إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول».

وهذا هو الجزء الثاني يزفّه الطبع إلى الطلاّب الكرام من بغاة الفضيلة والاجتهاد، وقد أشرف شيخنا الأُستاذ «مدّ ظلّه» على ما حررته وكتبته، فجاء الجزءان كصحيفة كاملة في المباحث العقلية.

وفي الختام أتقدّم إليه بالشكر الجزيل وابتهل إلى الله سبحانه أن يطيل عمره، ويسدّد خطاه في سبيل نشر العلم والهدى، فانّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

محمد حسين الحاج العاملي

26 / رمضان المبارك من شهور عام 1420 ه

ص:6

تتمة المقصد السابع

الأصل الرابع من الأُصول العملية

الاستصحاب
اشارة

قد تقدّم أنّ حصر الأصول العملية الكلية في الأربعة حصر استقرائي؛ وقد تقدّم الكلام في الأُصول الثلاثة:

البراءة، والاشتغال، والتخيير؛ وبقي الكلام في الاستصحاب، ومجراه هو وجود الحالة السابقة ولحاظها واعتبارها.(1)

ونذكر أُموراً تمهيدية:

الأمر الأوّل: في تعريف الاستصحاب

عرّف الاستصحاب بوجوه مختلفة، نذكر منها ما يلي:

أ: ما ذكره الشيخ بهاء الدين العاملي: إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل.(2)

وقد أشار في تعريفه إلى ركني الاستصحاب، أعني: اليقين والشك، بقوله: «تأويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل» حيث إنّ ثبوته في الزمان الأوّل، لأجل قيام

ص:7


1- . قيد اللحاظ أو الاعتبار لأجل انّه ربّما تكون هناك حالة سابقة ولا تكون ملحوظة ومعتبرة كما في الشكّ في المقتضي عند الشيخ، أو الحكم الشرعي الكلي عند المحقّق النراقي ومن تبعه كالسيد المحقّق الخوئي.
2- . زبدة الأُصول: 87.

الحجّة عليه أي «اليقين»، وإثباته في الزمان الثاني تأويلاً عليه، يدل على عدم الدليل عليه فيه سوى ثبوته في الزمان الأوّل وهو يلازم الشك. فما أورد على هذا التعريف بأنّه لم يُشر إلى ركني الاستصحاب كما ترى.

ب: ما ذكره المحقّق القمي: كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق.(1)

ج: ما أفاده الشيخ الأعظم: إبقاء ما كان. وقال: بأنّه أسدّ التعاريف وأخصرها.(2)

وأورد عليه المحقّق النائيني، بأنّ لليقين والشك دخلاً في حقيقة الاستصحاب، ولو باعتبار كون اليقين طريقاً إلى المتيقن، كما أنّ للشكّ في البقاء دخلاً فيه.

د: ذكره المحقّق النائيني: عدم انتقاض اليقين السابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلّق اليقين.(3)

يلاحظ عليه: أنّه تعريف للشيء بنتيجته، فانّ عدم الانتقاض نتيجة الاستصحاب لا نفسه، فحكم الشارع بحرمة نقضه يُنتج عدمَ الانتقاض.

ه: ما ذكره به المحقّق الخراساني: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه.(4)

والحقّ انّ تعريف الاستصحاب يختلف حسب اختلاف المباني في حجية الاستصحاب، فانّ في كيفية حجيته آراء ثلاثة:

ص:8


1- . قوانين الاصول: 53/2.
2- . الفرائد: 318، ط رحمة اللّه.
3- . فوائد الأُصول: 307/4.
4- . كفاية الأُصول: 2/273.

1. انّه أمارة عقلائية لكشف حال الشيء في الآن اللاحق، واليقين السابق أمارة ظنية لبقائه في ظرف الشك.

وليس المراد من الشكّ هو تساوي الطرفين حتى ينافي الظن بالبقاء، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن، وبعبارة أُخرى المراد الشك الأُصولي لا الشكّ المنطقي.

2. انّه أصل عملي اعتبر لصيانة الواقع وحفظه، فكما أنّ المولى يحتفظ بمطلوبه بإيجاب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة تحريمية كانت أو إيجابية، فهكذا يحتفظ به في إيجاب العمل على وفق الحالة السابقة، لأنّ الغالب على ما كان، هو البقاء.

3. انّه أصل عملي تعبدي محض كأصالتي الطهارة والحلية وليس ناظراً إلى صيانة الواقع.

فعلى الرأي الأوّل، يدخل الاستصحاب في عِداد الأمارات العقلائية التي تفيد الاطمئنان بمفاده، وليست الأمارة إلّاكون حكم أووصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق، فعندئذ يصبح تعريفُ المحقّق القمي أحسنَ التعاريف، وإن وصفه الشيخ بأنّه من أزيفها. ويكون تعريفه بالإبقاء تعريفاً بعيداً عن حقيقة الاستصحاب. وتسمية كون الشيء «يقيني الحصول» بالاستصحاب من باب تسمية الشيء بنتيجته فانّه إذا عمل بالأمارة فكأنّه استصحب شيئاً من الماضي إلى الآن اللاحق.

وأمّا على الرأيين الأخيرين - أعني: كونه أصلاً شرعياً صيانة للواقع، أو تعبدياً محضاً - فأحسن التعاريف ما ذكره المحقّق الخراساني، ولكن أقربها إلى النص هو «النهي عن نقض اليقين السابق المتعلّق بالحكم الشرعي أو بموضوع ذي أثر، بالشك اللاحق نقضاً تشريعياً لا تكوينياً».

ص:9

الأمر الثاني: الاستصحاب مسألة أُصولية لا قاعدة فقهية

ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية مسألة أُصولية، والجاري في الموضوعية - كعدالة زيد ونجاسة ثوبه - قاعدة فقهية كأصالة الطهارة وقاعدة الفراغ.

وجهه: هو اختصاص تطبيق المسألة الأُصولية على صغرياتها بالمجتهد دون القاعدة الفقهية، فانّ تطبيقها يعمّ المجتهد والمقلّد. والاستصحاب في الشبهات الحكمية رهن شروط كالفحص عن الدليل الاجتهادي وغيره، ولا يقوم به إلّاالمجتهد، دون الشبهات الموضوعية، واختاره المحقّق النائيني وقال: إنّ نتيجة المسألة الأُصولية إنّما تنفع المجتهد ولا حظّ للمقلِّد فيها، وإنّ النتيجة في القاعدة الفقهية تنفع المقلِّد.(1)

وما ذكره من التفصيل وإن كان صحيحاً، ولكن الفرق بين المسألة الأُصولية والقاعدة الفقهية أمر آخر، لانتقاض ما ذكراه بكثير من القواعد الفقهية التي لا يقوم بتطبيقها إلّاالمجتهد، نظير: قاعدة ما يُضمن وما لا يُضمن، وقاعدة الإلزام، وقاعدة الخراج بالضمان، إلى غير ذلك من القواعد التي لا يستفيد منها إلّاالمجتهد.

ويمكن التفريق بين المسألة الأُصولية والقاعدة بوجهين:

1. ما قدمناه في صدر الجزء الأوّل وهو أنّ المحمول في المسألة الأُصولية ليس حكماً شرعياً عملياً كقولنا:

خبر الواحد حجّة، والظواهر حجّة، والأمر يدل على المرة أو التكرار. وهذا بخلاف القواعد الفقهية فالمحمول فيها حكم شرعي

ص:10


1- . فوائد الأُصول: 309/4.

مأخوذ من نفس الشرع كقوله عليه السلام: «إذا شككت ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»، أو حكم شرعي منتزع من الأحكام الشرعية الكلية كما في قولنا: «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، فإنّه حكم شرعي كلّي منتنزع من الحكم بالضمان في أبواب البيع والإجارة والمزارعة والمساقاة، والدليل على الضمان في هذه الموارد هو قاعدة الإقدام، أو قاعدة على اليد، فهذه القاعدة الكلية منتزعة من حكم الشرع في كلّ من هذه الموارد بالضمان.

ومن هنا يعلم أنّ نتيجة المسألة الأُصولية - بعد التطبيق - لا تكون حكماً شرعياً بل تكون حكماًجزئياً من سنخ المسألة الأُصولية كقولنا: هذا قول الثقة، وقول الثقة حجّة، فينتج هذا حجّة.

بخلاف القاعدة الفقهية فانّ نتيجتها تكون حكماً شرعياً، كقولنا: هذا مشكوك الطهارة، وكلّ مشكوك الطهارة طاهر، فينتج هذا طاهر.

2. انّ إعمال المسألة الأُصولية من قبيل الاستنباط، بخلاف القاعدة الفقهية فانّ إعمالها من قبيل التطبيق، والفرق بين الاستنباط والتطبيق واضح، وهو أنّ الأوّل يكشف عن حكم شرعي مجهول لم يكن معلوماً له قبل الإعمال، لا إجمالاً ولا تفصيلاً، بخلاف الثاني فليس فيه كشف عن حكم شرعي مجهول غير معلوم، بل تبديل للعلم الإجمالي إلى التفصيلي، ولنذكر مثالاً:

قول الثقة حجّة مطلقاً، مسألة أُصولية، فإذا طبّق على مورده، يقف الإنسان على حكم شرعي لم يكن معلوماً لا إجمالاً ولا تفصيلاً وهو وجوب السورة في الصلاة، أو حرمة ذبيحة الكافر الكتابي، إذ ليس الحكمان مندرجين في الكبرى الأُصولية «قول الثقة حجّة» لا إجمالاً ولا تفصيلاً بخلاف القاعدة الفقهية، أعني: كلّ شيء طاهر، فقد كان العلم بطهارة الثوب المشكوك مندرجاً فيه إجمالاً

ص:11

لاتفصيلاً، وليس للتطبيق دور سوى انّه ينحل به العلم الإجمالي إلى التفصيلي.

والحاصل: انّ الحكم الشرعي المستنبط لم يكن موجوداً في الكبرى الكلية الأُصولية لا إجمالاً ولا تفصيلاً، بخلاف الحكم الشرعي في القاعدة الفقهية، فانّه كان موجوداً إجمالاً في الكبرى الكلية الفقهية غير انّه يبدل بالتطبيق إلى العلم التفصيلي.

وبذلك يعلم أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» مسألة أُصولية، لأنّ النتيجة بعد التطبيق على المورد - أعني:

وجوب صلاة الجمعة، أو نجاسة الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه - لم تكن مندرجة في الكبرى.

وهذا هو الفرق بين المسألة الأُصولية والقاعدة الفقهية.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الاستصحاب من المسائل الأُصولية، أمّا إذا قلنا بأنّه من الأمارات العقلائية، فلأنّ مآل البحث إلى حجّية الظن وعدمها. ومن الواضح أنّ المحمول حكم غير شرعي ويحصل من تطبيقه على مورده علم جديد بالنسبة إلى الحكم الشرعي.

وأمّا إذا قلنا بأنّه من الأُصول الشرعية لحفظ الواقع، أو للتعبّد، فهو أيضاً من المسائل الأُصولية، لأنّ المحمول - أعني: حرمة نقض اليقين بالشك - ليس حكماً شرعياً نظير الأحكام الخمسة، وآية ذلك أنّ الإنسان إذا خالف الاستصحاب ولم يعمل بمقتضى الوجوب في الزمان السابق لا يعاقب مرّتين، وهذا يكشف عن أنّ حرمة النقض أشبه بإعطاء الحجية لليقين السابق حتى في زمان الشك، كما أنّه لا يلازم العلم به العلم بالنتيجة لا تفصيلاً ولا إجمالاً.

هذا كلّه إذا كان المورد حكماً شرعياً كلياً، وأمّا إذا كان المورد موضوعاً جزئياً

ص:12

كطهارة ثوب زيد أو عدالته، فعلى ما ذكره الشيخ من اشتراط كون النتيجة حكماً كلياً يصبح قاعدة فقهية، لأنّ النتيجة حكم جزئي.

وأمّا على ما ذكرنا فالشرطان - كون المحمول حكماً غير شرعي، والنتيجة غير مندرجة في الكبرى - و إن كانا موجودين، لكن شأن المسألة الأُصولية وقوعها مقدمة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي، وبما انّ النتيجة حكم جزئي، فلا يقع في عداد المسائل الأُصولية بل في عداد القواعد الفقهية التي ربما تكون نتيجتها أمراً جزئياً.

الأمر الثالث: أركان الاستصحاب

يشترط في الاستصحاب من حيث اليقين و الشكّ أُمور ثلاثة:

1. اجتماع اليقين والشكّ سواء اجتمعا في النفس معاً، أو كان اليقين متقدماً والشكّ متأخراً، أو بالعكس.

فإن قلت: كيف يجتمع اليقين والشكّ في زمان واحد، مع أنّ الشكّ ينقض اليقين تكويناً، فلا يقين مع الشكّ؟

قلت: هذا إذا كان متعلّق اليقين والشكّ واحداً بالذات، والزمان، وأمّا إذا كان متعلّقهما واحداً بالذات، مختلفاً زماناً فلا مانع من اجتماعهما، كما إذا أذعن بعدالة زيد يوم الجمعة، وشكّ في عدالته يوم السبت، فالمسوغ لاجتماعهما هو اختلاف المتعلّقين زماناً، وإن كانا متحدين ذاتاً.

2. سبق زمان المتيقّن على زمان المشكوك، وهو مورد الروايات لا العكس، كما يأتي في الاستصحاب القهقري.

ص:13

3. وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ذاتاً، كأن تكون العدالة بما هي هي متعلّقاً لليقين والشكّ معاً، وإلّا فلو كان المتعلّق مختلفاً لكان خارجاً عن الاستصحاب وداخلاً تحت قاعدة المقتضي والمانع كما ستوافيك، وبذلك علم أنّه يشترط في الاستصحاب أُمور ثلاثة:

1. اجتماع اليقين والشكّ أو فعليتهما.(1)

2. سبق زمان المتيقّن على زمان المشكوك.(2)

3. وحدة متعلّق الشك واليقين.(3)

وكلّ واحد من هذه القيود الثلاثة يميز الاستصحاب عن القواعد الثلاث التي سنبيّنها.

الأمر الرابع: في القواعد الثلاث
اشارة

قد عرفت حقيقة الاستصحاب وتعريفه، وهناك قواعد أُخرى يجب التعرّف عليها، وبيان الفرق بينها و بين الاستصحاب.

أ: قاعدة اليقين أو الشكّ الساري

إنّ قاعدة اليقين أو الشكّ الساري تقارب قاعدة الاستصحاب، وإنّما يختلفان في أمرين:

الأمر الأوّل: انّ متعلّق اليقين والشكّ يتّحدان ذاتاً ويختلفان زماناً في

ص:14


1- . خرجت قاعدة اليقين.
2- . خرج الاستصحاب القهقري.
3- . خرجت قاعدة المقتضي والمانع، كما سيوافيك تفصيله.

الاستصحاب، بخلاف قاعدة اليقين فيتحدان ذاتاً وزماناً. مثلاً إذا كان متيقّناً بعدالة زيد يوم الجمعة وشكّ في بقائها يوم السبت، فهذا ينطبق على الاستصحاب؛ وأمّا إذا شكّ في نفس عدالته يوم الجمعة على وجه سرى الشك إلى اليقين فتنطبق عليه قاعدة اليقين.

الأمر الثاني: لمّا كان الحدوث في الاستصحاب أمراً متيقّناً، والبقاء مشكوكاً، يكون الشكّ واليقين فعليّين لعدم التزاحم بينهما، وهذا بخلاف قاعدة اليقين حيث إنّ المتعلّقين كانا متّحدين ذاتاً وزماناً يزول اليقين بعد عروض الشك. ويقع الكلام في صحّة الأعمال التي أُتي بها في ظرف اليقين بعد طروء الشك. وإلى هذا يرجع كلامهم: الشكّ في الاستصحاب شكّ في البقاء بعد الفراغ من ثبوته حدوثاً، وفي قاعدة اليقين شكّ في الحدوث دون نظر إلى البقاء على فرض الحدوث.

وبذلك يعلم أنّ اليقين والشكّ من الحالات النفسية التي لا تجتمع في النفس أبداً ولكن المسوِّغ اجتماعهما في المقام هو اختلاف متعلّقي اليقين والشكّ من حيث الزمان في الاستصحاب، واختلاف ظرفي اليقين والشكّ في قاعدة اليقين، فالذي يزيل المشكلة هو وجود المغايرة إمّا في المتعلّق أو في ظرف حدوث اليقين والشكّ.

ويترتب على ذلك أنّ اللازم في الاستصحاب تقدم متعلّق اليقين على متعلّق الشك، وأمّا اليقين والشكّ فيمكن أن يحصلا معاً، أو لا يحصلا إلّابالترتب سواء قُدِّم اليقين أو قُدّم الشك، فالمعيار التغاير بين المتيقّن والمشكوك من حيث الزمان، وتقدّم الأوّل على الثاني، وأمّا قاعدة اليقين فبما أنّ حلّ المشكلة كان رهن اختلاف اليقين والشكّ زماناً فلا مناص من تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ وحصولها مترتبين.

ص:15

ب: قاعدة المقتضي والمانع

إذا تعلّق اليقين بشيء والشكّ بشيء آخر يغايره ذاتاً وزماناً، كما إذا أيقن بصب الماء على اليد، وشكّ في وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة، فهذا هو مورد القاعدة المعروفة بقاعدة المقتضي والمانع، فالمقتضي هو صبّ الماء الذي يقتضي غسلَ البشرة، والمانع هو احتمال وجود عائق عن وصول الماء إلى البشرة، كاللون، ففي المقام اختلف متعلقا اليقين والشكّ لا زماناً بل جوهراً.

وعلى ضوء ذلك تقف على الفرق الواضح بين الاستصحاب والقاعدتين المذكورتين في ناحية المتعلّق.

ما يتّحد متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً وزماناً، فهو مجرى لقاعدة اليقين.

ما يتّحد متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً لا زماناً، فهو مجرى لقاعدة الاستصحاب.

ما يختلف متعلّقا اليقين والشكّ ذاتاً، فهو مجرى لقاعدة المقتضي والمانع.

فعلى حجّية قاعدة المقتضي والمانع إذا شككنا في وجود العائق عن وصول الماء، نقول: المقتضي موجود والمانع مرفوع بالأصل.

ج: الاستصحاب القهقري

الاستصحاب القهقري نفس الاستصحاب الرائج، غير أنّ الفرق بينهما تقدّم زمان المتيقن على زمان المشكوك في الاستصحاب المتعارف، وأمّا إذا انعكس فصار زمان المتيقن متأخراً زماناً، والمشكوك متقدماً زماناً، فهذا مورد للاستصحاب القهقهري، كما إذا علمنا أنّ الصلاة والصوم كانا حقيقة في لسان الصادقين في الماهيات العبادية، وشككنا في كونهما كذلك في عصر الوصي أو

ص:16

النبي، فهل يصحّ لنا إطالة عمر اليقين وجره تعبّداً إلى الزمان السابق حتى يثبت بذلك كونهما حقيقتين في الماهيات العبادية في عصرهما أيضاً، على وجه لو وردا في كلامهما يحمل على هذه المعاني الشرعية لكونهما حقيقة في لسانهما في المعنى الذي صار حقيقته فيه في عصر الصادقين عليهما السلام؟

وبما أنّ أدلّة الاستصحاب ظاهرةً فيما إذا كان المقتضي متقدماً زماناً والمشكوك متأخراً زماناً على عكس الاستصحاب القهقري فلا تشمله أدلّته.

نعم ربّما يتمسك في إثبات وحدة المعنى في العصرين بوجه آخر غير الاستصحاب القهقهري وهو أصالة عدم النقل وهو من سنخ الاستصحابات الدارجة، فتثبت بها وحدة المعنى في العصرين، وإلّا يلزم النقل وهو منفيّ بالأصل.

وسيوافيك الكلام في حجّية الأُصول اللفظية ولوازمها عند البحث في الأصل المثبت.

وأمّا شمول أدلّتها القاعدة المقتضي والمانع، فالمتبادر من الأدلّة وحدة المتعلّقين ذاتاً، على خلاف مورد قاعدة المقتضي والمانع.

الأمر الخامس: في تقسيمات الاستصحاب

ينقسم الاستصحاب، حسب المستصحب تارة، والدليل الدال على حكمه أُخرى، ومنشأ الشك ثالثة، وإليك بيان الجميع على وجه الإيجاز.

أمّا التقسيم باعتبار المستصحب: فإنّه تارة يكون أمراً وجودياً، وأُخرى أمراً عدمياً.

ص:17

وعلى التقدير الأوّل قد يكون حكماً شرعياً، وأُخرى موضوعاً لحكم شرعي.

ثمّ الحكم الشرعي قد يكون كلياً، وقد يكون جزئياً، وعلى كلا التقديرين قد يكون من الأحكام التكليفية، وأُخرى من الوضعية، وأمثلة الكل واضحة.

وأمّا التقسيم باعتبار الدليل الدال عليه: فتارة يكون دليله نقلياً كالكتاب والسنّة، وأُخرى لبيّاً كالإجماع والعقل.

وأمّا التقسيم من جهة الشكّ المأخوذ فيه: فالشكّ تارة يكون في مقدار استعداد المستصحب للبقاء، ويسمى بالشكّ في المقتضي كالحيوان المردّد بين طويل العمر وقصيره، وكنجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه، فمرجع الشكّ إلى استعداد المستصحب للبقاء، ونظيره استصحاب الليل والنهار، فالشكّ في بقاء النهار يرجع إلى الشكّ في قابلية بقائهما في الفترة المشكوكة.

وأُخرى يكون استعداده للبقاء أمراً محرزاً لكن يحتمل طروء رافع يرفع المقتضي، كالطهارة فهي قابلة للبقاء ما لم يعرض هناك عارض ورافع كالنوم والبول. أو كعقد النكاح فالعلقة المنشأة قابلة للبقاء ما لم يطرأ رافع. فإذا شككنا في أنّ قولنا: «أنت خلية» رافع لحكم المقتضي أو لا، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في الرافع.

ثمّ إنّ الشكّ في الرافع على أقسام، لأنّ الشكّ تارة يتعلّق بأصل وجود الرافع كالحدث بعد الوضوء، وأُخرى برافعية الأمر الموجود، وهو على أقسام لأنّ منشأ الشكّ في رافعية الأمر الموجود أحد الأُمور التالية:

1. تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعاً له، وما لا يكون رافعاً له، كشغل الذمّة المستصحب يوم الجمعة بعد الإتيان بصلاة الظهر، فانّ الشكّ في

ص:18

رافعية الأمر الموجود (صلاة الظهر) لأجل عدم تعيّن المستصحب وتردّده بين كون الواجب هوالظهر أو الجمعة، فعلى الأوّل ارتفع الاشتغال بالذمّة دون الثاني.

2. الجهل بحكم الموجود، كالمذي الخارج عن الإنسان، فهل هو رافع شرعاً للطهارة مثل البول، أو لا؟

3. الجهل بمصداقيته لرافع معلوم المفهوم كالبول، كالبلل المردّد بين البول والوذي.

4. أو الجهل بمصداقيته لرافع مجهول المفهوم كالتيمّم على الحجر، المجهول كونه مصداقاً للصعيد المجهول المفهوم.

وقد وقع الخلاف في حجّية الاستصحاب في هذه الموارد.

هذه التقسيمات الرئيسيّة ذكرناها تمهيداً.

ص:19

حجّية الاستصحاب
اشارة

استدلّ على حجّية الاستصحاب بوجوه:

الأوّل: بناء العقلاء

استقرّ بناء العقلاء على العمل على وفق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضياً، والاستدلال مبني على ثبوت أمرين:

1. استكشاف بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة تعبّداً، أولأجل الدواعي الأُخر، كما سيوافيك.

2. عدم الردع من جانب الشارع.

أمّا الأوّل: فغير ثابت، إذ لا يبعد أن يكون عملهم عليه لأجل وجود الاطمئنان، أو الظن ببقاء الحالة السابقة، أو لغفلتهم عن الشك إن كان موجوداً في خزانة النفس.

فعلى الأوّل والثاني: يختص جواز العمل بحصول الاطمئنان أو الظن ببقاء الحالة السابقة، لا مطلقاً، كما هو المطلوب.

وعلى الثالث: لا يجوز العمل به عند الشكّ مع الالتفات، لأنّ بناء العقلاء على الجري على الحالة السابقة، إنّما هو في صورة الغفلة عن الشكّ، والمجتهد

ص:20

المستصحِب ملتفت إلى شكّه.

نعم لو ثبت كونه أصلاً تعبدياً عندهم وانّهم يعملون به لحفظ النظام، كان دليلاً على حجّية الاستصحاب، ولكنّه غير ثابت.

وهناك مشكلة أُخرى وهي أنّهم إنّما يعملون به في الأُمور الحقيرة لا الخطيرة بل يتوقّفون حتى يحصل لهم الاطمئنان.

وأمّا الثاني: فقد أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه يكفي في الردع ما دلّ في الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم، أو ما دلّ على البراءة والاحتياط في مورد الشبهات.

وأورد عليه المحقّق النائيني: بأنّ ما ذكره هنا ينافي ما تقدّم منه في باب حجّية الخبر الواحد حيث قال هناك:

بأنّ ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتباع غير العلم لا يكون رادعاً لبناء العقلاء على العمل بخبر الواحد لاستلزامه الدور، ولكنّه سلّم في المقام بأنّها صالحة لردع بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب مع أنّ بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد فلا أقلّمن التساوي بين المقامين.

يلاحظ على هذا الإشكال: بوجود الفارق بين قول الثقة والأخذ بالحالة السابقة، فإنّ الأوّل عند العرف مساوق للعلم بمعنى الاطمئنان، وهذا بخلاف الأخذ بالحالة السابقة، إذ لا يفيد إلّاالظن دون الاطمئنان.

وعلى ضوء ذلك فلا ينتقل العرف من قوله سبحانه: (وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) إلى قول الثقة المفيد للعلم العرفي، بخلاف الاستصحاب فبما أنّه مفيد

ص:21


1- . الإسراء: 36.

للظن الضعيف ينتقل إليه من هذه الآية ونظائرها إلى أنّها بصدد الرد على العمل بهذا الظن.

والأولى أن يجاب بأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن أو العمل بغير العلم ناظرة إلى ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي، حيث كان ديدنهم العمل، وفق الخرص والتخيّل، ولذلك يقول سبحانه: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (1)، وقوله سبحانه: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ) (2). ففي الآية الأُولى عطف (وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) ، على الظن، كما أنّه في الآية الثانية فسّر (الظَّنَّ) بالخرص، كلّ ذلك شاهد على أنّ الآيات الناهية بصدد نفي ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي من العمل بموازين موهومة، فكانوا يقولون: بأنّ الملائكة بنات اللّه، أو انّ عيسى ابن اللّه، إلى غير ذلك وأين هذا من بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة الذي يدور عليه نظام الحياة في غالب الأُمور؟ فبناء العقلاء خارج عن مدلول الآيات تخصصاً وموضوعاً.

الثاني: الاستقراء

قال الشيخ: إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع فلم نجد مورداً إلّاوقد حكم فيه الشارع بالبقاء، إلّامع أمارة توجب الظن بالخلاف. وهي لا تتجاوز عن موارد ثلاثة:

أ: الحكم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء، فانّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة، وإلّا لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء

ص:22


1- . النجم: 23.
2- . يونس: 66.

جزء حتى البول أو المني في المخرج فرجّح الظاهر على الأصل، وهو أصالة الطهارة.

ب: غسالة الحمام عند بعض، فانّ مقتضى الاستصحاب أو قاعدة الطهارة، طهارة الماء، إلّاأنّ الظاهر هو انفعال هذه المياه القليلة بالنجاسة، فقدّم الظاهر على الأصل.

ج: ظهور فعل المسلم في الصحّة، حيث يقدّم على أصالة الفساد التي هي مفاد الاستصحاب.

يلاحظ عليه: أنّ الاحتجاج بالاستقراء على حجّية قاعدة يتوقف على تتبع الأحكام الشرعية من الطهارة إلى الديات حتى يعلم بعلم قطعي أنّه يحكم بالأخذ وفق الحالة السابقة في مورد الشك، وتحصيل هذا العلم أمر مشكل.

والاستدلال على الاستقراء بما ورد في الحديث: «يستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة»، وقوله عليه السلام: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» لا يكون استقراء ناقصاً، فكيف استقراء كاملاً؟

نعم حَكَم الشارع في مسألة استظهار الحائض قبل تجاوز العشرة، أو يوم الشكّ على وفق الاستصحاب وهما موردان لا يفيان بالمقصود.

الثالث: الاستصحاب مفيد للظن

إنّ الثبوت السابق مفيد للظن به في اللاحق، وإليه استند شارح المختصر الحاجبي، فقال: معنى استصحاب الحال: انّ الحكم الفلاني قدكان ولم يظن عدمه، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء.

ص:23

يلاحظ عليه: بعدم ثبوت الكبرى أوّلاً، لمنع إفادته للظن في كلّ مورد، وبعدم الدليل على حجّية هذا الظن ثانياً.

الرابع: الإجماع المنقول

استدل صاحب المبادئ على حجية الاستصحاب بالإجماع، فقال: الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أو لا وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلاً، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت إجماع العلماء على الحجية، وعلى فرض ثبوته لعلهم اعتمدوا على أحد هذه الوجوه المذكورة من سيرة العقلاء، أو الاستقراء، أو كونه مفيداً للظن، ومعه لا يبقى اعتمادعليه، لأنّ مدارك حكمهم عندنا ضعيفة.

الخامس: الأخبار المستفيضة
اشارة

تضافرت الأخبار على عدم جواز نقض اليقين بالشك، وهي أوضح الوجوه في المقام، وقد استمرّ الاستدلال بها من عصر الشيخ الجليل حسين بن عبد الصمد (918-984 ه) والد الشيخ بهاء الدين العاملي - قدّس سرّهما - إلى يومنا هذا، واستدل بها في كتاب «العِقْد الطهماسبي»، وإليك الروايات:

1. مضمرة زرارة الأُولى

روى الشيخ في التهذيب باسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن

ص:24


1- . مبادئ الوصول في علم الأُصول: 56، ط طهران.

حريز، عن زرارة قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوءٍ أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: «يا زرارة قد تنام العينُ ولا ينام القلب والأُذن، فإذا نامت العين والأُذن والقلبُ وجب الوضوء».

قلت: فإن حُرِّك الى جنبه شيء و لم يعلم به؟ قال: «لا، حتى يستيقن أنّه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر».(1)

والاستدلال يتوقف على صحّة السند، والدلالة.

أمّا السند، فقد أخذ الشيخ الطوسي الحديث عن كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي الثقة، وهو يروي عن حمّاد، أي حمّاد بن عيسى (المتوفّى عام 209، أو 208 ه) المعروف بغريق الجحفة، صاحب الرواية التعليميّة في الصلاة لا عن حمّاد بن عثمان (المتوفّى عام 190 ه) لعدم رواية الحسين بن سعيد عنه، وهويروي عن حريز بن عبد اللّه السجستاني الثقة، عن زرارة، عن أحدهما.

وأمّا سند الشيخ إلى سعيد، فهوصحيح في المشيخة والفهرست، فقد ذكر في الأُولى إلى كتبه أسانيد مختلفة منها: انّه يرويها عن مشايخه الثلاثة: المفيد، الغضائري، وابن عبدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه محمد بن الحسن بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد.(2) وكلّهم ثقات على الأظهر، والطريق صحيح.

وأمّا الإضمار فلا يضر بالاستدلال لجلالة زرارة، فهو لا يصدر إلّاعن

ص:25


1- . الوسائل: الجزء 1، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1، والخطاب في قوله: «ولا تنقض» من قبيل الالتفات، حيث عدل من الغيبة إلى الخطاب.
2- . التهذيب: 386/10.

أحاديث الأئمّة المعصومين، ومشاركة هذه الرواية مع سائر الروايات في التعبير، ومع ذلك فقد رواه المحدّث الاسترآبادي وصاحب الحدائق والفصول عن الإمام الباقر عليه السلام، ولعلّهما وقفاً على مالم نقف عليه.(1)

وأمّا الدلالة فيتوقف البحث فيها على عدّة أُمور:

أ: ما هو محور السؤال؟

لا شكّ انّ قوله: «فإن حرّك في جنبه شيء، ولم يعلم به»، سؤال عن شبهة موضوعية، والشكّ في تحقّق النوم وعدمه بعد الوقوف على الحدّ الناقض منه.

إنّما الكلام في السؤال الأوّل، أعني قوله: «أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟» ففيه احتمالات ثلاثة:

1. أن يكون السؤال عن مفهوم النوم، لا عن مفهومه الإجمالي بل عن مفهومه الدقيق، فحاول التعرّف عليه حتى يطبقه على مورد الشبهة، فتكون الشبهة عندئذ، شبهة مفهوميّة.

2. أن يكون عارفاً بمفهوم النوم، إجمالاً وتفصيلاً، وكان السؤال عمّا هو الموضوع للناقضية، فهل هو مطلق تعطيل حاسّة من الحواس كالعين؟ أو المرتبة الوسطى منه، لتحصيل العين والسمع أو المرتبة العليا منه؟ فأجاب الإمام بأنّ الموضوع هو المرتبة العليا، أعني: إذا تعطّلت الحواس الثلاث.

3. أن يكون السؤال عن ناقضية الخفقة، مع العلم بعدم دخولها في النوم، ولكن يحتمل أن تكون ناقضة برأسها.

ص:26


1- . الفوائد المدنية: 142، مبحث التمسّك بالاستصحاب؛ الحدائق: 143/1، المقدمة الحادية عشرة؛ و حكي عن رسال المحقّق البهبهاني انّه أيضاً أسندها إلى الإمام الباقر عليه السلام.

والثالث غير مراد قطعاً، لأنّ النواقض محدودة و من البعيد أن لا يعرف زرارة نواقض الوضوء، مع أنّ جواب الإمام لا يوافق هذا الاحتمال، فدار الأمر بين الأوّل حيث تكون الشبهة عندئذٍ مفهومية تستعقب شبهة حكمية، والثاني فتكون الشبهة شبهة حكمية محضة، ولعلّه المتعيّن حيث إنّ الإمام بشرحه مفهوم النوم، عيّن الناقض، وانّه عبارة فيما إذا نامت فيه الحواس الثلاثة.

ب: ما هو الجزاء لقوله: وإلّا فإنّه على يقين؟

إنّ قوله «وإلّا» قضية شرطية، أي «وإن لم يجئ من ذلك بأمر بيّن» فيحتاج إلى الجزاء. فما هو الجزاء؟ هنا احتمالات ثلاثة:

1. أن يكون الجزاء محذوفاً: أي فلا يجب الوضوء.

2. أن يكون الجزاء قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه».

3. أن يكون الجزاء قوله: «ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ».

أمّا الاحتمال الأوّل، فهو أوضح الوجوه حيث حذف الجزاء وأُقيمت العلّة المركبة من صغرى وكبرى مكانه، أعني قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه و لا تنقض اليقين أبداً بالشك» وله نظائر في التنزيل مثل قوله سبحانه:

(إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (1)، وغير ذلك.

وأورد عليه المحقّق النائيني: إنّ فرض الجزاء مقدّراً كقوله: «فلا يجب الوضوء» يستلزم التكرار لسبق نظيره في قوله: «لا حتى يستيقن»، أي لا يجب الوضوء حتى يستيقن.

ص:27


1- . يوسف: 77.

يلاحظ عليه: أنّ نكتة التكرار هو التركيز على عدم الوجوب، مضافاً إلى أنّه إنّما يستهجن لو كان الجزاء مذكوراً لا محذوفاً مقدّراً.

وأمّا الاحتمال الثاني أي كون الجزاء، قوله: «فإنّه على يقين»، فهولا يخلو إمّا أن يكون باقياً على ظاهره من الإخبار عن كونه على يقين من وضوئه، أو غير باقٍ بل يكون مؤوّلاً إلى الإنشاء، أي «وليكن على يقين من وضوئه»، فالأوّل لا يصلح أن يقع جزاء، لعدم الصلة عندئذٍ بين الشرط والجزاء، وعدم ترتّبه على الشرط؛ والثاني بعيد عن ظاهر الكلام حيث أطلق الجملة الخبرية وأُريد بها الإنشاء بلا قرينة.

وأمّا الاحتمال الثالث بأن يكون الجزاء قوله: «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك»، ويكون قوله: «فهو على يقين» توطئة للجزاء فهو أبعد، إذ لا يدخل حرف العطف على الجزاء.

نعم الجزاء عند الأُدباء هو قوله: «فانّه على يقين» لكنّهم يدرسون الظاهر وإلّا فالجزاء محذوف.

ج: دلالة الرواية على حرمة النقض في جميع الأبواب

إذا قلنا بكون الجزاء محذوفاً تكون الجملة الواقعة بعده تعليلاً مركباً من صغرى وكبرى، أعني:

1. انّه على يقين من وضوئه، 2. ولا تنقض اليقين أبداً بالشك.

فدلالة التعليل على حرمة نقض اليقين في باب الوضوء لا غبار عليه، إنّما الكلام في دلالته على حرمته مطلقاً في جميع الأبواب.

ص:28

فربما يحتمل اختصاص التعليل بباب الوضوء حيث إنّ اليقين في الصغرى تعلّق بالوضوء حيث قال: «وإلّا فانّه على يقين من وضوئه»، وعندئذٍ يكون الحدّ الوسط في الكبرى هو أيضاً اليقين بالوضوء، أي ولا تنقض اليقين بالوضوء أبداً بالشكّ، فلا يعمّ الحديث عامة الأبواب.

وبعبارة أُخرى: تكون «اللام» في الكبرى للعهد لا للجنس.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ قوله: «من وضوئه»، في الصغرى ليس من متعلّقات اليقين حتى يكون اليقين مقيداً به، بل هو ظرف مستقر متعلّق بلفظ مقدّر، أي هو من طرف وضوئه على يقين فيكون الحدّ الأوسط في الصغرى كالكبرى هو نفس اليقين.

ولكنّه بعيد عن الذوق العربي إذ المتبادر من العبارة تعلّق الظرف باليقين، والأولى أن يجاب بأنّ العرف يساعد على إلغاء التقيّد به، وذلك للوجوه التالية:

أ: انّ التعليل بأمر ارتكازي غير مختص بباب دون باب، ومفاده: انّ اليقين أمر مبرم مستحكم لا ينقض بالأمر الرخو.

ب: قوله: «أبداً» يناسب عدم اختصاصه بباب.

ج: ورود الكبرى في غير باب الوضوء أيضاً، كما سيوافيك.

وبذلك يعلم أنّه لو قلنا: إنّ الجزاءمحذوف تكون الجملتان أظهر في العموم والشمول، بخلاف ما لو قلنا: إنّ الجزاء هو الصغرى، أو الجزاء هو الكبرى، فإنّ استفادة الشمول يكون أمراً مشكلاً كما لا يخفى.

2. الصحيحة الثانية لزرارة

روى في «علل الشرائع» في الباب الثمانين تحت عنوان «علّة غَسْلِ المنيّ إذا

ص:29

أصاب الثوب» عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:...

ورواه الشيخ في «التهذيب» مضمرة عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة قال: قلت له...

وعلى ذلك فلا غبار على الرواية سنداً، أضف إليه ما ذكرناه في المضمرة السابقة في حقّ زرارة، والرواية مشتملة على ستة أسئلة، وسبعة أجوبة، فإنّ للسؤال السادس شقين في كلام الإمام بهما صارت الأجوبة سبعة، وإليك الأسئلة والأجوبة واللفظ للتهذيب.

1. أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من مني، فعلّمتُ أثره إلى أن أصيب له من الماء، فأصبتُ وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيتُ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك.

قال: «تعيدُ الصلاة وتغسله».

2. قلت: فإنّي لم أكن رأيتُ موضِعَه، وعلمتُ أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صلّيت وجدته؟ قال:

«تغسله وتعيد»

3. قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرتُ فلم أر شيئاً ثمّ صليتُ فرأيت فيه؟

قال: «تغسله ولا تعيد الصلاة».

قلت: لم ذلك؟

قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

4. قلت: فإنّي قد علمتُ أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟

ص:30

قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك».

5. قلت: فهل عليّ إن شككتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟

قال: «لا، ولكنّك إنّما تريد أن تُذْهِبَ الشكَ الذي وقع في نفسك».

6. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

فأجاب الإمام بأنّ له صورتين.

أ: قال: «لاتنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته».

ب: «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّبنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك».(1)

إنّ الكلام في مقامات:

الأوّل: في سند الحديث

إنّ سند الرواية صحيح، فقد رواه الشيخ بسنده الماضي، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، قال قلت له:... وهي أيضاً كسابقتها مضمرة، ولكن لا يضر الإضمار كما مر. أضف إليه انّ الصدوق نقله مسنداً.

الثاني: في توضيح الأسئلة الواردة فيها

إنّ الرواية مشتملة على أسئلة وأجوبة ستة غير انّ للسؤال السادس شقّين -

ص:31


1- . التهذيب: 1/446 ح 1335، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات؛ الوسائل: 1053/2 و 1061 و 1605، ح 1 و 2، الباب 41 و 44 و 37 من أبواب النجاسات.

كما يظهر من جواب الإمام - و الفرق بين الأسئلة واضح.

فالأوّل من الأسئلة يركز على وجود العلم التفصيلي بإصابة النجس الثوبَ مع العلم بمحله مشخصاً، لكنّه صلّى فيه نسياناً.

والثاني منها يركز على العلم الإجمالي بإصابة النجس الثوبَمع عدم العلم بمحله مشخصاً، فقد حكم الإمام بالإعادة في كلتا الصورتين، وانّ النسيان ليس بعذر مع سبق العلم تفصيلاً أو إجمالاً.

والثالث منها ناظر إلى الظن بوجود النجاسة دون العلم حيث ظن ونظر ولم ير شيئاً، ثمّ صلّى فرأى فيه النجاسة. وفي السؤال احتمالان كما سيوافيك.

والرابع منها ناظر إلى كيفية تحصيل البراءة اليقينية إذا علم بإصابة النجس الثوب ولم يعرف مكانه مشخصاً، فأجاب الإمام بأنّه تغسل الناحية التي قد أصابها.

والخامس ناظر إلى وجوب الفحص عن إصابة النجاسة وعدمه، فأجاب الإمام بعدمه، مع أنّ مقتضى القاعدة هو وجوب الفحص لسهولة تحصيل العلم بالواقع، لكن الجواب حاك عن وجود السهولة في باب النجاسات.

وأمّا السؤال السادس بكلا شقيه فسيوافيك الكلام فيه.

الثالث: في إيضاح السؤال الثالث

جاء في السؤال الثالث قول الراوي: «فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَشيئاً، ثمّ صلّيت فرأيت فيه» فقد فسر بوجهين:

1. انّه ظن الإصابة دون أن يتيقّن، وبعد الفراغ عن الصلاة رأى فيه

ص:32

النجاسة التي ظن بها قبل الصلاة، وهذا هو أحد الاحتمالين عند الشيخ حيث قال: أن يكون مورد السؤال إن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة، فالمراد من اليقين هو اليقين قبل ظن الإصابة، ومن الشك هو الشكّحين إرادة الدخول في الصلاة، فيكون ظرف الاستصحاب هو قبل الدخول في الصلاة.

2. أن يكون مورد السؤال رؤيةَ النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها (لا مع العلم بوجودها قبل الصلاة كما في الاحتمال الأوّل) فالمراد أنّه ليس ينبغي - بعد الفراغ عن الصلاة - أن تنقض اليقين بالطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة، فالعلم بطهارة الثوب قبل الصلاة، لا يُنقض بالشك إلى الفراغ منها. نعم لا يثبت بالأصل، تأخّرها عن الصلاة، فيكون ظرف الاستصحاب هو بعد الصلاة، بخلافه على الاحتمال الأوّل فانّ ظرفه هو قبلها.

يلاحظ عليه: انّه مخالف لقول السائل: «فصلّيت فيه فرأيت فيه» أي رأيت النجاسة التي ظننت إصابتها للثوب قبل الدخول في الصلاة.

الرابع: في كيفية الاستدلال بالفقرة الثالثة

إذا كان المراد هو ما اخترناه، فالمراد انّه كان قبل ظن الإصابة على يقين من طهارة ثوبه، فإذا شكّ حين الدخول في الصلاة فليس له أن ينقض اليقين بالطهارة، بالشك في الإصابة حين الدخول.

وهنا إشكال واضح: انّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ حين الدخول، صالح لتجويز الدخول في الصلاة المشروطة بالطهارة، حيث إنّ الامتناع عن الدخول فيها نقض لآثار تلك الطهارة المحرزة قبل الدخول، ولا يصلح علة

ص:33

لعدم الإعادة إذ ظرف الإعادة إنّما هو بعد الصلاة، ولو حكم بها يكون من قبيل نقض اليقين بالطهارة، باليقين بالنجاسة حيث إنّ المفروض أنّه رأى بعد الصلاة نفس النجاسة التي خفيت عليه حين الدخول.

وحاصل الإشكال: انّ كلام الإمام - أعني: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» - راجع إلى إحدى الحالتين:

أ: حالة ما قبل الدخول في الصلاة، وهناك يقين بالطهارة وشكّ في طروء النجاسة، فأركان الاستصحاب موجودة، لكنّه يصلح أن يكون علّة لجوازالدخول في الصلاة. وليس هناك موضوع للإعادة.

ب: حالة الفراغ من الصلاة، فهناك تبدّل اليقين بالطهارة إلى اليقين بالنجاسة، فلا يصحّ تعليل عدم الإعادة باستلزامه نقض اليقين بالشكّ، لأنّ المفروض تبدّل يقينه إلى يقين آخر فأركان الاستصحاب مختلّة.

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

1. ما نقله الشيخ الأعظم عن بعضهم: أنّ عدم الإعادة بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء، فتكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلاً على القاعدة وكاشفة عنها.

يلاحظ عليه: أنّ الرواية لا تعلّل الصحة بالقاعدة وهو انّ ثوب المصلّي حين الدخول كان محكوماً بالطهارة وكان المصلي مأموراً بالصلاة معها، وامتثال الأمر الظاهري مجز عن امتثال الأمر الواقعي، بل تعلل بأنّه لو أعاد الصلاة لكان هذا نقضاً لليقين بالشكّ مع أنّه لو حكم بالإعادة لزم نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة.

ص:34

2. انّ ظاهر قوله: «صلّ في الثوب الطاهر» هو لزوم إيقاع الصلاة في الطاهر الواقعي، فلو تبيّن الخلاف وانّ الثوب كان نجساً، تبيّن فقدُ الصلاة، الشرط اللازم.

لكن بعد ضمِّ قاعدة الطهارة أو الاستصحاب إلى الدليل المذكور، تتسِّع دائرةُ الشرطِ ويكون المأخوذ في صحّة الصلاة، هو إحراز الطهارة من حين الدخول إلى الفراغ عنها، كان الثوب طاهراً في الواقع أم لا.

وعلى ضوء هذا فلو صلّى الرجل في ثوب كان محكوماً بالطهارة بحكم الأصل أو القاعدة، فقد صلّى في ثوب جامع لشرط الصحة، وبذلك يعلم أنّ ظرف الاستصحاب إنّما هو حالة الدخول في الصلاة لا الفراغ عنها.

إذا علمت هذا فنرجع إلى فقه الرواية فنقول:

إنّ الإمام عليه السلام فرّق بين الصورتين الأُوليين والصورة الثالثة، فحكم بالبطلان في صورة نسيان النجاسة والصحة في صورة الجهل بها، مع اشتراك الصور في شيء واحد، وهو إيقاع الصلاة في ثوب نجس، ولذلك تعجب زرارة عن التفريق، فصار الإمام بصدد الجواب بوجود الفرق بين الأُوليين والثالثة، وذلك بعدم الاستصحاب المحرز فيهما، لسبق العلم بالنجاسة وإن عرض له النسيان، ومعه لا موضوع للاستصحاب، بخلاف الصورة الثالثة فانّ الأصل المحرِز كاف في إحراز الشرط (الطهارة المحرِزة) ولا يلزم الطهارة الواقعية، فلو وجبت الإعادة يلزم عدم حجّية الاستصحاب وجواز نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها والمفروض عدم جوازه.

وبعبارة أُخرى: انّ لازم الأخذ باليقين السابق هو كون الصلاة مشتملة على الشرط اللازم، ومعه لا وجه للإعادة، والحكم بها يعد دليلاً على عدم الاعتبار.

ص:35

ثمّ إنّ صاحب الكفاية بعد الإشارة إلى هذا الجواب بوجه موجز أعقبه بذكر إشكالين وجوابين بما لا حاجة إليهما.

3. انّ صحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة رهن أمرين حاصلين:

أ: كون الثوب محكوماً بالطهارة شرعاً، بفضل الاستصحاب الجاري حين الدخول فيها.

ب: امتثال الأمر الظاهري المتعلّق بإقامة الصلاة فيه مقتضياً للإجزاء وسقوط الأمر الواقعي به.

وعلى هذا، يصحّ تعليل صحّة الصلاة بالأمر الأوّل، وحده، وبالثاني كذلك، وبهما مجموعاً كما في تعليل حدوث العالم، فتارة يعلّل بأنّه متغيّر، وأُخرى بأنّ كلّ متغيّر حادث، وأُخرى يؤتى بكليها. والإمام عليه السلام اقتصر في المقام بالأمر الأوّل وانّ المصلي كان حين الدخول محرزاً لها، والصلاة جامعة للشرط، وكان مأموراً بإقامة الصلاة معه، ولو ضُمَّ إليه الأمر الثاني وهو أنّ امتثال الأمر الظاهري موجب للإجزاء، يكون التعليل كاملاً مركباً من صغرى وكبرى.

ولعلّهذا مراد من قال بدلالة الرواية على إجراء الأمر الظاهري.

الخامس: دراسة الفقرة السادسة بكلا شقيها

إنّ زرارة تابع الأسئلة الخمسة المتقدمة بسؤال سادس، وهو:

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

فأجاب الإمام بأنّ له صورتين:

أ: «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته».

ص:36

ب: «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك». يقع الكلام في موضعين:

الأوّل: ما هو المقصود من الشقّ الأوّل؟

هل المراد منه السؤال عمّا سبق العلم الإجمالي بالنجاسة، بأن علم طروء النجاسة على ثوبه إجمالاً، ثمّ عرض النسيان؟ أو السؤال عن الشكّ البدوي، وانّه شكّ قبل الدخول في الصلاة ولم ير شيئاً، ثمّ رآه في أثناء الصلاة؟ الظاهر هو الأوّل، بالقرائن التالية:

أ: تعبيره في الشقّ الثاني بقوله: «وإن لم تشك» الظاهر في أنّ الفرق بين الشقين هو وجود الشكّ في الأوّل دون الثاني، لا سبق العلم الإجمالي في أحدهما دون الآخر.

ب: ظاهر الرواية أنّ الحكم بالإعادة لأجل رؤية النجاسة في أثناء الصلاة دون العلم الإجمالي المتقدّم، ولو كان هناك علم إجمالي متقدّم لكان البطلان مستنداً إليه كما في السؤال الثاني حيث قال: قلت: فإنِّي لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟

ج: انّ السؤال السادس ترتب على السؤال الخامس، وكان السؤال في الخامس عن الشبهة البدوية حيث قال:

قلت: فهل عليّ إن شككتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ فقال: «لا».

فعندئذٍ خطر بباله أنّه لو كان الوضع كذلك فلو شكّ قبل الدخول، ولم يجد شيئاً ودخل في الصلاة فرآه في أثنائها فما هو واجبه؟ فأجاب الإمام: لو علم

ص:37

بأنّ المرئي، هو المشكوك الذي احتمله قبل الدخول فيها ولا يحتمل أنّه شيء أُوقع عليه في الأثناء، فيعيد وإلّا فلا.

وهذا الوجه يقتضي حمل الفقرة الأُولى من الجواب على الشكّ البدئي حين الدخول في الصلاة ثمّ تبدّله إلى العلم في أثنائها.

الثاني: ما هو الفرق بين هذا الشق ومورد السؤال الثالث؟

إنّ الشقّ الأوّل من السؤال السادس يشارك مورد السؤال الثالث في أمرٍ ويفارقه في آخر.

يشاركه في الدخول في الصلاة مع الشكّ في كون الثوب نجساً أو لا.

ويفارقه في أنّ الشكّ تبدّل إلى اليقين بعد الفراغ في مورد السؤال الثالث، وفي الأثناء في هذا الشق.

وعندئذٍ يتوجّه إشكال على الجواب بوجوب الإعادة في هذا الشقّ وعدمه في مورد السؤال الثالث مع اشتراكهما في وقوع الصلاة في النجس إمّا كلاً أو بعضاً مع أنّ الثاني أولى بالصحة.

الجواب عن الإشكال

إنّ بين الصورتين وراء اختلافهما في وقوع جميع الصلاة أو بعضها في النجس، فرقاً آخر، وهو أنّ من المحتمل أن يكون المانع عن صحة الصلاة هو النجاسة المعلوم حالها، وهو موجود في الصورة الأُولى دون هذا الشقّ.

وبعبارة أُخرى: ادّعاء الأولوية ممنوعة، إذ من الممكن أن تكون النجاسة المكشوفة حال الصلاة، المقترنة معها من أوّلها إلى زمان الوقوف عليها، مانعة، دون

ص:38

ما إذا لم تنكشف إلّابعد الصلاة.

بقي الكلام في الشقّ الثاني من السؤال السادس، أعني: ما إذا دخل في الصلاة، متيقناً بطهارة ثوبه فإذا رأى الدم الرطب في ثوبه، فقال الإمام: «قطعت الصلاة وغسلته، ثمّبنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك».

فظرف الاستصحاب في هذا الشق إنّما هو حالة عروض الشك، لا قبله فتستصحب طهارة ثوبه إلى زمان الرؤية فلم يثبت كون الصلاة مقرونة بالمانع، فلا وجه للبطلان والإعادة، فله أن يقطع الصلاة ويغسل الثوب على وجه لا يكون العمل ماحياً لصورتها ويبني على ما مضى.

ويبقى اقتران جزء صغير من الصلاة بها ولعلّه لصغرها معفو عنه، واللّه العالم.

السادس: الرواية تهدف إلى الاستصحاب

قد عرفت الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين، وأنّ اليقين محفوظ في ظرفه حين الشكّ في الاستصحاب دونه في قاعدة اليقين، فانّ الشكّ يسري إليه في ظرفه.

وبعبارة أُخرى: انّ في الاستصحاب في ظرف الشكّ يقيناً فعلياً وشكاً كذلك، بخلاف قاعدة اليقين إذ ليس في ظرف الشكّ أي يقين.

فعلى هذا فلابدّ لنا من دراسة قوله: «لا تنقض» في السؤال الثالث والشقّ الثاني من السؤال السادس، فهل ينطبق على الاستصحاب أو على قاعدة اليقين؟

ص:39

واعلم أنّ الكبرى الكلية وردت في الصحيحة في موردين: أحدهما: جواب السؤال الثالث، والأُخرى: جواب الشقّ الثاني من السؤال السادس، فنقول:

أمّا الوارد في جواب السؤال الثالث من قوله: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت» فهنا احتمالان:

1. اليقين الحاصل قبل ظن الإصابة.

2. اليقين الحاصل بعده، وبعد الفحص وعدم الرؤية شيء.

فقال المحقّق الخراساني: لو كان المراد من اليقين هو الوجه الأوّل لانطبق على الاستصحاب، وأمّا لو كان المراد اليقين الحاصل بعد الفحص، فينطبق على قاعدة اليقين لزواله بعد الرؤية.

الظاهر هو الوجه الأوّل، لما قلنا من أنّ ظرف الاستصحاب إنّما هو قبل الدخول في الصلاة، لما مرّ عند بيان كون الاستصحاب سبباً لعدم الإعادة، من أنّ المصلّي في تلك الحالة مخاطب بعدم نقض اليقين بالشك، وليس هذا اليقين، إلّااليقين قبل ظن الإصابة.

أضف إلى ذلك، عدم حدوث اليقين بعد الفحص غاية الأمر عدم رؤية شيء بعد الفحص، لا الإذعان بالعدم كما هو واضح.

وأمّا الوارد في الشقّ الثاني من السؤال السادس، أعني: قوله: «وإن لم تشك ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك أبداً»، فلا شكّ أنّه ليس فيه إلّايقين واحد، لافتراض أنّه لم يشكّ إلى زمان رؤية الدم في ثوبه أثناء الصلاة، لكنّه يحتمل طروءه قُبَيل الصلاة، أو أثناءها، فيستصحب اليقين السابق، لأنّه كان

ص:40

متيقِّناً بطهارة ثوبه في زمان، لكنّه يشكّ انتقاضه قبيل الدخول في الصلاة، والأصل بقاؤه فينطبق على الاستصحاب.

3. الصحيحة الثالثة لزرارة

روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن حمّاد ابن عيسى، عن حريز، عن زرارة قلتُله: مَنْ لم يدرِ في أربعٍ هو أم في ثنتين، وقد أحرز الثنتين؟ قال: «يركع بركعتين، وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه؛ وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يُدخل الشكَّ على اليقين، ولا يُخْلِطْ أحدهما بالآخر، ولكنّه يَنقُض الشكّ باليقين ويُتمُّ على اليقين، فيَبني عليه، ولا يَعتدُّ بالشكّ في حال من الحالات».(1)

وتحقيق المقام يتوقف على البحث في أُمور:

1. صحّة السند

رواها الكليني تارة بالسند المذكور، عن حمّاد بن عيسى؛ وأُخرى بسند آخر، أعني: عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى. وقد ذكرنا في محله أنّ المراد من محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني ويروي هو عن الفضل، هو محمد بن إسماعيل النيسابوري الثقة، فالرواية على كلا السندين صحيحة.

ص:41


1- . الوسائل: الجزء 5، الباب 13 من أبواب الخلل الحديث 4؛ والباب 10 منها، الحديث 3.
2. كيفية الاستدلال

الاستدلال مركّز على بيان متعلّق اليقين في قوله: «ولا ينقض اليقين بالشك» في الفقرة الثانية، فقد استظهر غير واحد أنّ المتعلّق عبارة عن عدم الإتيان بالأكثر، أو اليقين بالأقلّ، الملازم لليقين بعدم إتيان الأكثر، فعندئذٍ ينطبق على الاستصحاب، وتكون الكبرى المذكورة دليلاً لقوله المتقدّم عليه، أعني: «قام وأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه» وكأنّ قائلاً يقول لماذا؟ فقال: لأنّه لا ينقضُ اليقين بعدم الإتيان بالشكّ فيه.

وقد أُشكل على الاستدلال بوجوه أربعة:

الأوّل: الحمل على الاستصحاب لا يوافق المذهب

إنّ مقتضى الاستصحاب عندئذٍ الإتيان بالمشكوك موصولاً، مع أنّ المذهب المتفق عليه هو الإتيان به مفصولاً، فتكون الرواية معرضاً عنها، ويؤيد الاتصال لفظا: «الإضافة» و «النقض» فانّ مقتضاهما هو الاتصال، فانّ الأوّل يدل على أنّ المضاف من جزء المضاف إليه، ومقتضى الجزئية الإتيان به موصولاً كما أنّ كلمة النقض حاك عن الاتصال، قال تعالى: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (1)، فلو قلنا: إنّ معناه لا تنقض المتيقّن بالمشكوك، تكون النتيجة ضمه إلى المتيقّن.

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

1. ما أجاب به المحقّق الخراساني: انّ أصل الإتيان بالمشكوك هو مقتضى

ص:42


1- . النحل: 92.

الاستصحاب، غاية الأمر إتيانه موصولاً، لا ينافي الاستصحاب بل ينافي إطلاق النقض، وقد قام الدليل على أنّ المشكوك لأنّه أن يؤتى بها مفصولاً.

2. ما أجاب به المحقّق النائيني، حاصله: انّ الاتصال مقتضى إطلاق الاستصحاب وليس مقتضى مدلوله قال:

إنّ الموجب لتوهّم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب ليس إلّاتخيّل أنّ الاستصحاب في مورد الرواية يقتضي الإتيان بالركعة الموصولة، وذلك ينافي ما عليه المذهب، ولكن هذا خطأ، فانّ اتصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنّما يقتضيه إطلاق الاستصحاب، لا انّ مدلول الاستصحاب ذلك، بل مدلول الاستصحاب إنّما هو البناء العملي على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة، وأمّا الوظيفة بعد ذلك هو الإتيان بها موصولة فهو ممّا لا يقتضيه عدم نقض اليقين بالشك.(1)

والفرق بين الجوابين واضح: فانّ الاستصحاب على الأوّل لا يمس كرامة المذهب، وإنّما ينافيه لفظ النقض، بخلاف الثاني فانّه يمس كرامته، لكن المنافي إطلاقه، لا أصل مدلوله.

يلاحظ على كلا الجوابين: أنّ الاستصحاب من الأُصول التنزيلية، أي تنزيل الشاك في الإتيان، بمنزل المتيقّن بعدمه، والتنزيل التشريعي رهن ترتّب أثر عليه وإلّا يكون لغواً، وليس الأثر إلّاما يقوم به المتيقّن وهو الإتيان به موصولاً، فيكون الحكم بالإتيان مفصولاً مخالفاً لمدلوله.

نعم يمكن توجيهه بالنحو الثاني.

إنّ لتنزيل الشاك منزلة المتيقن أثرين:

ص:43


1- . فوائد الأُصول: 362/4.

1. الحكم بعدم الإتيان بالمشكوك أصلاً.

2. الحكم بالإتيان به موصولاً.

فنأخذ بالأثر الأوّل ونرفع اليد عن الأثر الثاني بحكم ضرورة المذهب، وعلى كلّ تقدير فالإتيان موصولاً كنفس الإتيان من آثار الاستصحاب.

3. ما أجاب به الشيخ الأنصاري، وحاصله: انّه ربما يتوهم ورود الرواية تقيّة، لأنّ مقتضى الاستصحاب هو الإتيان بالمشكوك موصولاً، ولكن التقية في تطبيق الكبرى على المورد لا في نفس الكبرى، وكم لها من نظير في الفقه.

منها قوله عليه السلام لمنصور الدوانيقي: «ذلك إلى الإمام إن صمتَ صُمنا وإن أفطرتَ أفطرنا»(1) فالحكم بوصفه الكلي صحيح، وليس فيه التقية، وإنّما التقية في تطبيقه على الحاكم السائد آنذاك.

ومنها: قوله عليه السلام في صحيحة البزنطي، في الرجل يُستَكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة مايملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: «لا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: وُضِعَ عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه، وما لم يُطيقوا، وما أخطأوا».(2)

فانّ الحلف بالطلاق، وماعطف عليه باطل في كلتا الحالتين اختياراً واضطراراً، والإمام استدل على البطلان بحديث الرفع، إذ لم يكن في وسعه، القول ببطلان الحِلْف مطلقاً فتطرق إلى بيان الحكم عن طريق قاعدة مسلمة، وتطبيقها على المورد تقية.

إلى هنا تمّ الإشكال الأوّل مع أجوبته الثلاثة، وإليك الكلام في سائر الإشكالات المتوجهة إلى تطبيق الحديث على الاستصحاب.

ص:44


1- . الوسائل: الجزء 7، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 5.
2- . الوسائل: الجزء 16، الباب 12 من أبواب الايمان، الحديث 12.
الثاني: الحمل على الاستصحاب يستلزم التفكيك

إنّ لازم حمل قوله: «لا تنقض» على الاستصحاب لزوم التفكيك في الفقرات الست أو السبع حيث انّه يحمل اليقين والشك في قوله عليه السلام «لا ينقض اليقين بالشك» وقوله: «ولكن ينقض الشكّ باليقين» على نفس معانيهما، أعني:

الحالة النفسانية، و لكنّهما في سائر الفقرات تُحمل على الركعات المتيقّنة والمشكوكة، أعني:

«ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يُخلِطُ أحدهما بالآخر، ويُتمّ على اليقين، فيبني عليه - أي الركعة المتيقّنة - ولا يعتد بالشك - بالركعة المشكوكة -» وهذا النوع من التفكيك، يوجب القدح في ظهور الرواية.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه لمّا كان الإمام بصدد بيان أمرين:

1. البناء على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة.

2. الإتيان بها مفصولة لا موصولة.

أوجب ذلك استعمال اللفظين (اليقين والشك) تارة في الحالة النفسانية، وأُخرى في الركعات المتيقّنة والمشكوكة.

الثالث: الصحيحة مختصة بباب المشكوك

إنّ الصحيحة لو تمّت دلالتها على حجّية الاستصحاب، تختص بباب شكوك الصلاة وأين مفادها من إثبات قاعدة كلية في عامّة الأبواب؟

وربما يقال بتوجّه الإشكال إذا قرئت الأفعال بصيغة المعلوم الظاهرة في

ص:45

كون الموضوع هو اليقين المتعلّق بالركعة، لا فيما إذا قرئت بصيغة المجهول الظاهرة في أنّ الموضوع هو ذات تعلّق اليقين والشكّوأنّ ذكر المتعلّق لأجل بيان حكم المورد.

والأولى أن يجاب بأنّ المتبادر من الرواية أنّ الحكم ثابت لنفس اليقين، لا للمتيقّن، وذلك لأنّ اليقين لاستحكامه وإبرامه، لا ينقض بمثل الشكّ الذي هو شيء رخو غير صلب.

ويؤيد ذلك قوله: «ولا يعتد بالشكّ في حال من الحالات» مضافاً إلى ورود الكبرى المذكورة في غير واحد من الروايات التي هي صريحة في بيان الاستصحاب.

الرابع: الاستصحاب مثبت

وهذا آخر الإشكالات على هذا التفسير وحاصله: أنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يُثبت كون ما يأتي به ركعة رابعة حتى يترتب عليها أثرها الشرعي، أعني: وجوبَ التشهد والتسليم، إذ يشترط في وجوب الإتيان بهما إحراز وقوعهما في تلك الركعة.

والحاصل: انّ بين المستصحب، وهو عدم الإتيان بالرابعة، وأثرها الشرعي، أعني لزوم الإتيان بالتشهد والتسليم، واسطة، وهي كون ما يأتيه بحكم الاستصحاب هو الركعة الرابعة.

يلاحظ عليه: - مضافاً إلى خفاء الواسطة عند العرف وإنّما تتوجّه إليه الأذهان الدقيقة - أنّ الموضوع لوجوب الإتيان بالتشهد والتسليم ليس هو الركعة الرابعة، بل الموضوع الإتيان بهما بعد الفراغ عن الركعات، والمفروض أنّه محرز بالوجدان.

ص:46

التفسير الثاني للرواية

قدعرفت أنّ استفادة دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب مبنيّة على كون متعلّق اليقين والشك هوعدم الإتيان بالركعة الرابعة، وهناك احتمال آخر لها - ذكره الشيخ الأنصاري - و هو أنّ المراد من اليقين هو «اليقين بالبراءة» الذي هو رهن العمل في باب الشكوك بالطريقة المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، لا على الطريقة التي عليها أهل السنّة، والذي يشهد بذلك أمران:

1. موثقة إسحاق بن عمّار: قال: قال لي أبو الحسن الأوّل عليه السلام: «إذا شككت فابن على اليقين» قال: قلت: هذا أصل؟ قال: «نعم».(1)

2. ما رواه عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «ألا أُعلّمك شيئاً إذا فعلتَه ثمّ ذكرتَ أنّك أتممت أو انقضت لم يكن عليك شيء؟» قلت: بلى: قال: «إذا سهوتَ فابن على الأكثر، فإذا فرغتَ وسلّمت، فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت، فإن كنتَقد أتممتَ لم يكن عليك في هذه شيء، وإن ذكرتَ أنّك كنتَ نقضتَ كان ما صلّيتَ تمام ما نقصت».(2)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على أنّ البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك مفصولاً هو المحصِّل لليقين بالبراءة، وعلى ذلك فالمراد من عدم نقض اليقين، والبناء على اليقين، هو الأخذ باليقين والاحتياط بالبناء على الأكثر، دون الأقل.

يلاحظ عليه: أولاً: أنّه لا دليل لحمل الأولى على باب الشكوك في الركعات، بل هو قاعدة تعمّ جميع أبواب الفقه، ومفاده: كلّما شكّ المكلّف في شيء فعليه

ص:47


1- . الوسائل: الجزء 5، الباب 8 من أبواب الخلل، الحديث 2.
2- . الوسائل: الجزء 5، الباب 8 من أبواب الخلل، الحديث 3.

البناء على اليقين، غاية الأمر خرج عنه باب الشكوك حيث يبنى فيها على الأكثر، نعم ذكره صاحب الوسائل في باب الشكوك، وذكره في ذلك الباب لا يُضفي عليها الظهورَ فيها.

وأمّا الموثقة الثانية فلا وجه للاستشهاد بها في تفسير الصحيحة لعدم الصلة بينهما.

وثانياً: وجود تلك الكبرى في غير واحد من الروايات الظاهرة في الاستصحاب يمنع عن حملها على غيرها أي على اليقين بالبراءة.

وثالثاً: لا يقين بالبراءة في كلا المذهبين، فانّ في طريقة أهل السنّة مظنّة زيادة الركوع، وفي طريقنا، مظنّة زيادة التشهد والسلام والتكبيرة، وغيرها، كقيام الركعتين جالساً مكان الركعة الواحدة، حيث لا يجوز في حال الاختيار إبدالها بهما، نعم المحذور في طريقتنا أقلّمن طريقتهم، إذ أين زيادة التشهد والسلام والتكبيرة، من زيادة الركعة التامة؟! فالطريقة المألوفة عندنا أقلّ محذوراً.

4. موثّقة إسحاق بن عمّار

روى إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: «إذا شككت فابن على اليقين» قال: قلت هذا أصل؟ قال: «نعم». وسند الصدوق إلى إسحاق بن عمّار صحيح في المشيخة، لكنّه نقل الرواية بصورة الإرسال حيث قال:

روي عن إسحاق بن عمار، وهو ظاهر في الإرسال لا أنّه أخذه من كتابه وذكر سنده إليه في آخر الكتاب.

وعلى كلّ تقدير ففي الرواية احتمالات:

1. الرواية ناظرة إلى ما عليه العامّة من البناء على الأقل، والإتيان بالركعة

ص:48

المشكوكة موصولة، وعلى هذا وردت تقيّة.

يلاحظ عليه: أنّه لا دليل على أنّ الرواية واردة في باب شكوك الصلاة، وذكرها في الوسائل في باب الشكوك لا يضفي عليها الظهور في هذا المورد، بل هي رواية عامة سارية في جميع الأبواب غير أنّه خرج عنها باب الشكوك.

2. الرواية ناظرة إلى لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر، والإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بناء على أنّه أكثر تحصيلاً لليقين بها، وهوخيرة الشيخ الأنصاري.

ويرد عليه - مضافاً إلى ما أوردناه على الوجه الأوّل -: أنّ ظاهر الرواية البناء على اليقين الموجود بالفعل، وعلى ما ذكره فليس اليقين موجوداً بالفعل بل يجب عليه أن يكتسبه.

3. الرواية ناظرة إلى الاستصحاب كما قوّيناه.

4. الرواية ناظرة إلى قاعدة اليقين.

والظاهر هو الثالث لظهورها في فعلية اليقين والشك، وهذا متحقّق في الاستصحاب دون قاعدة اليقين، لعدم فعلية اليقين هناك، وما هذا لأنّ متعلّقهما في الأوّل متعدّد فيبقيان بحالهما، بخلاف الثانية فانّ الشكّ يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين فيزول.

5. حديث الأربعمائة

حديث الأربعمائة من الأحاديث المعروفة الذي علّم به أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه، وقد نقله

ص:49

الصدوق في «الخصال» في أبواب المائة فما فوقه، وقال:

حدّثني أبي رضى الله عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، قال: حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، وجاء في هذا الحديث قوله:

«احسبوا كلامَكم مِنْ أعمالكم، ليقلَّ كلامكم إلّافي خير. أنفقوا ممّا رزقكُم اللّه عزّوجل فانّ المنفِق بمنزلة المجاهد في سبيل اللّه، فمن أيقن بالخلف جادّ، وسخت(1) نفسه بالنفقة. من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه فانّ الشكّ لا ينقض اليقين».(2)

أمّا رجال السند فكلّهم ثقات على الأقوى.

نعم تكلّم ابن الوليد أُستاذ الصدوق في محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني فاستثناه من رجال نوادر الحكمة، لمحمد بن أحمد بن يحيى الأشعري، ولكن ردّ عليه من جاء بعده، نقل النجاشي عن شيخه أبي العباس بن نوح أنّه قال: ولقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه وتبعه أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في ذلك إلّا في محمد بن عيسى بن عبيد، فلا أدري ما را به فيه، لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة.(3)

كما تكلّم ابن الغضائري في القاسم بن يحيى، حيث قال: القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد مولى المنصور، روى عن جدّه وهو ضعيف. وتبعه في ذلك العلاّمة فذكره في الخلاصة، وابن داود في رجاله.

ص:50


1- . من السخاء بمعنى الجود.
2- . الخصال: 619.
3- . رجال النجاشي: 242/2 برقم 940 ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى.

نعم سعى الوحيد البهبهاني في إصلاح حاله، وقال: ما في الخلاصة مأخوذ من الغضائري ولا وثوق به، ورواية الأجلة مثل أحمد بن محمد بن عيسى عنه تشير إلى الاعتماد عليه.(1)

وعلى كلّ حال فالحديث تعلو هامته آثار الصدق، فمن لغير علي عليه السلام مثل هذا الحديث.

هذا كلّه حول السند، وأمّا الدلالة فقد فسرت الرواية بوجهين:

الأوّل: أنها ناظرة إلى قاعدة اليقين

إنّ الرواية ناظرة إلى قاعدة اليقين، ويدّل عليه بوجوه ثلاثة:

أ: تقدّم اليقين على الشكّ

إنّ الرواية ظاهرة في تقدّم اليقين على الشكّ، بشهادة لفظ «كان»، وهويناسب قاعدة اليقين، إذ فيها يتقدّم اليقين على الشكّ زماناً، بخلاف الاستصحاب فلا يشترط فيه التقدّم، بل يصحّ العكس، وربما يحصلان معاً.

ب: وحدة متعلّق اليقين والشكّ

إنّ الرواية ظاهرة في وحدة متعلّق اليقين والشكّ من جميع الجهات ذاتاً وزماناً، وهذا ينطبق على القاعدة دون الاستصحاب لاختلافها زماناً.

ص:51


1- . تنقيح المقال: 26/2 برقم 9618.
ج: زوال اليقين

إنّ قوله: «ثمّ شكّ» ظاهر في زوال اليقين و هو ينطبق على قاعدة اليقين لزوال اليقين فيه دون الاستصحاب، ولا يخفى ضعف الوجوه:

أمّا الأوّل: فلأنّ اليقين يتقدّم على الشكّ غالباً في الاستصحاب، ودائماً في قاعدة اليقين، فلعلّ القيد في الرواية قيد غالبي لا احترازي، إذ قلّما يتقدّم الشكّ على اليقين أو يحصلان معاً.

فإن قلت: الأصل في القيد أن يكون احترازياً فيخرج الاستصحاب عن الرواية.

قلت: ما ذكر صحيح، لولا وجود المشابهة بين هذه الرواية والروايات السابقة الصريحة في الاستصحاب.

وأمّا الثاني: فلأنّ الرواية ظاهرة في وحدة متعلّق اليقين والشكّ، وهو متحقّق في الاستصحاب والقاعدة معاً، لأنّ متعلّقهما واحد ذاتاً وجوهراً.

نعم إنّما يختلفان زماناً، وليس في الرواية ما يدل على وحدتهما زماناً أيضاً.

وأمّا الثالث: فهو مجرّد ادّعاء لا يدعمه الدليل، إذ ليس معنى قوله: «ثمّ شك»: هو زوال اليقين من رأس بل يحتمل أن يكون زواله بقاءً لا حدوثاً.

والحاصل: انّ اليقين زائل في قاعدة اليقين حدوثاً، وفي الاستصحاب بقاءً، وليس قوله: «ثمّ شكّ» ناظر إلى الزوال حدوثاً، بل يحتمل زواله بقاء.

هذا هو الوجه الأوّل وقد عرفت ضعف ما أيّد به.

ص:52

الثاني: ناظرة إلى الاستصحاب

ربما يقال بأنّ الرواية ناظرة إلى الاستصحاب من خلال التمسّك بذيل الرواية «فليمض على يقينه» حيث إنّه ظاهر في فعلية اليقين وتحقّقه في ظرف الشكّ، وهذا ينطبق على الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

يلاحظ عليه: أنّ المضيّ على اليقين كما يقال أن يكون بملاك وجوده بعد الشك، كذلك يمكن أن يكون المضي بملاك وجوده قبل الشك.

والحاصل: أنّ المضي على اليقين يشير إلى وجود يقين إمّا بعد الشك، كما في الاستصحاب؛ أو قبل الشك، كما في قاعدة اليقين.

فهذه الوجوه الاستحسانية لا تُثبت للرواية ظهوراً، والأولى أن يقال: إنّها ظاهرة في الاستصحاب، بقرينة الصحاح السابقة فانّ التشابه في اللفظ و التعبير كاشف عن وحدة المعنى.

ويؤيده أنّ الهدف في قاعدة اليقين هو إضفاء الصحة على الأعمال السابقة، كما أنّ الهدف من الاستصحاب إضفاؤها على الأعمال اللاحقة، والرواية ظاهرة في الثاني.

وربما يقال: بأنّ الرواية بصدد بيان حجّية كلتا القاعدتين، بمعنى إذا شكّ فليمض على يقينه سواء شكّ في الحدوث فيرتب عليه أثر الحدوث، أو شكّ في البقاء فيرتب عليه أثر البقاء.

ولكنّه بعيد عن الأذهان العرفية، ولعلّ ظهورها في إحدى القاعدتين، أعني: الاستصحاب، أظهر.

ص:53

6. مكاتبة القاساني

روى الشيخ في «التهذيب» باسناده إلى محمد بن الحسن الصفّار، عن علي بن محمد القاساني، قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: «اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية».(1)

الاستدلال يتوقف على صحّة السند ووضوح الدلالة.

أمّا الأوّل: فسند الشيخ إلى الصفّار، صحيح، وأمّا الصفّار فهو من مشايخ الحديث والرواية، فهو ثقة بلا كلام، إنّما الكلام في علي بن محمد القاساني: فعرّفه النجاشي بقوله: علي بن محمد بن شيرة القاساني كان فقيهاً، مكثراً في الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة. وليس في كتبه ما يدل على ذلك، له كتاب التأديب وهو كتاب الصلاة وهو يوافق كتاب ابن خانبه و فيه زيادات في الحجّ، وكتاب الجامع في الفقه كبير.

يروي عنه: محمد بن علي بن محبوب، و سعد بن عبد اللّه القمي، وإبراهيم بن هاشم.

وفي نقل هؤلاء المشايخ عنه، وإعراض النجاشي(2) عن غمز أحمد بن محمد بن عيسى، دليل على وثاقته؛ نعم ضعّفه الشيخ في رجاله حيث عدّه من أصحاب الهادي عليه السلام، وقال: علي بن محمد القاساني ضعيف، اصبهاني.

ولعلّ السبب في

ص:54


1- . الوسائل: الجزء 7، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 13.
2- . رجال النجاشي: 79/2 برقم 667.

تضعيفه غمز ابن عيسى، ولعلّ هذا المقدار يكفي في الاعتماد.

أمّا الدلالة: فللرواية تفسيران:

أحدهما: ما اختاره الشيخ قال: إنّ الرواية أوضح ما في الباب، فانّ تحديد كلّ من الصوم والإفطار على رؤية هلال رمضان وشوال لا يستقيم إلّابإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشكّ أي مزاحماً به.(1) وعلى ما ذكره يكون المراد من اليقين هو اليقين بشهر شعبان، أو اليقين بشهر رمضان، فهذان اليقينان لا ينقضان بالشكّ في شهر رمضان في الأوّل أو شهر شوال في الثاني.

ولعلّ تفسير «الدخول» بالنقض لأجل أنّ دخول شيء من شيء يوجب انتقاض وحدته وتفرّق أجزائه فيكني به عنه.

ثانيهما: ما اختاره المحقّق الخراساني من أنّ المراد من اليقين، هو: اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، لا اليقين بشهر شعبان، وأين هذا من الاستصحاب؟

وحاصله: انّه يستفاد من الروايات أنّ لشهر رمضان خصوصية بها يمتاز عن سائر العبادات، فانّ الصلاة تقبل الظن والشك، ولكن صوم رمضان لا يقبلهما، بل يبتدئ باليقين ويختتم به.

وبعبارة أُخرى: انّ الشارع اعتبر أن يكون الدخول في شهر رمضان والخروج منه عن يقين.

وهذا التفسير يعتمد على ما ورد في شهر رمضان من الروايات المؤيدة:

1. روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا رأيتم الهلال

ص:55


1- . الفرائد: 334.

فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية».(1)

2. روى سماعة: «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن».(2)

3. روى إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن كتاب علي عليه السلام: «صم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظن... فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأوّل بثلاثين».(3)

وعلى ذلك، قوله: «اليقين لا يدخله الشك» ناظر إلى اليقين بشهر رمضان لا اليقين بشهر شعبان حتى ينطبق على الاستصحاب.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لا وجه لجعل هذه الروايات قرينة على تفسير هذه الرواية، إذ ليست مجملة حتى نستعين بها في رفع إجمالها، وذِكر صاحب الوسائل الجميعَ في باب واحد لا يضفي عليه الظهور، ولو أراد الإمام من قوله: «اليقين لا يدخل فيه الشك» ما استظهره المحقّق الخراساني: من لزوم تحصيل اليقين حتى يصام، وانّ الشكّ لا يكفي، يلزم أن تكون العبارة غير وافية بمقصدها، بخلاف ما لو حمل على الاستصحاب فيكون مفاده: اليقين (السابق) لا يدخله الشك، فعليك البقاء عليه.

وثانياً: لا منافاة بين القاعدتين، أي قاعدة استصحاب الشهر السابق، وقاعدة لزوم تحصيل اليقين، بكون اليوم من شهر رمضان، أو من شوال، لأنّ الأوّل، دليل الثاني، فلا غرو في أن تتكفّل هذه الرواية ليبيان سبب مفاد القاعدة الثانية.

وربما يورد على الاستصحاب في المقام بأنّه مثبت، لأنّ وجوب الإمساك، أو

ص:56


1- . الوسائل: الجزء 7، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 2.
2- . الوسائل: الجزء 7، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 6.
3- . الوسائل: الجزء 7، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 11.

الإفطار مترتبان على كون ذلك اليوم من شهر رمضان أو كونه من شوال، على مفاد كان الناقصة، فيترتب على نفي ذاك الموضوع بالنفي الناقص، عدم ذينك الأثرين.

لكن النفي الناقص ليس له حالةً سابقة، إذ لم يكن اليوم متحقّقاً في طرف وموصوفاً بأنّه من غير رمضان حتى يستصحب، والنفي التام وإن كانت له حالة سابقة، لكنّه لا يجدي في وصف اليوم بأنّه ليس من رمضان، أو من شوال.

أقول: المثبت هو الاستصحاب العدمي، وأمّا الوجودي فليس بمثبت أي استصحاب بقاء شعبان، فيترتب عليه الإفطار به أو استصحاب بقاء رمضان فيترتب عليه الإمساك. وأمّا جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات مع أنّها متدرجات ومقتضيات غير قارة الذات، فسيأتيك بيانه في التنبيهات.

7. صحيحة عبد اللّه بن سنان

روى الشيخ باسناده، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، قال:

سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا حاضر: إنّي أُعيرُ الذمّيّ ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ فأغسلَه قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «صلّ فيه ولا تَغسله من أجل ذلك، فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصل فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه».(1)

إنّ سند الشيخ إلى سعد بن عبد اللّه القمي صحيح في التهذيب، والرواة كلّهم ثقات، والرواية صحيحة سنداً.

ص:57


1- . الوسائل: الجزء 2، الباب 74 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

وأمّا الدلالة حيث إنّ الإمام لم يعلّل طهارته بعدم العلم بالنجاسة حتى تنطبق على قاعدة الطهارة الّتي يكفي فيه الشك في النجاسة، بل علّلها بأنّك دفعته إيّاه، وهو طاهر ولم تستيقن الخلاف فعليك الأخذ باليقين السابق حتى تستيقن أنّه نجّسه.

نعم الرواية خاصة بباب الطهارة، وإلغاء الخصوصية يحتاج إلى دليل، وهذه هي مهمات روايات الباب، وهناك روايات ثلاث قد حاول بعض المتأخرين أن يفسرها بالاستصحاب، وإليك الروايات.

8. موثّقة عمّار

روى الشيخ في «التهذيب» باسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار قال: «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك».(1)

وسند الشيخ إلى محمّد بن أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة صحيح، والرواة كلّهم ثقات، وإن كان غير واحد منهم من الفطحية، والمراد من أحمد بن الحسن، هو أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال، بقرينة روايته عن عمرو بن سعيد، قال النجاشي: يقال: إنّه كان فطحياً وكان ثقة في الحديث.

9. معتبرة حمّاد بن عثمان

روى الشيخ في «التهذيب» باسناده، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أبي داود المنشد، عن جعفر بن محمد، عن يونس،

ص:58


1- . الوسائل: الجزء 2، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر».(1)

وأبو داود المُنْشِد هو سليمان بن سفيان المسترق الذي توفّي عام 431 ه - كما أرَّخه النجاشي - وثّقه الكشي.

وأمّاجعفر بن محمد، فلعل المراد منه جعفر بن محمد الأشعري كما في حاشية التهذيب(2) والسند لا غبار عليه، غير جعفر بن محمد، وهو من رجال نوادر الحكمة ولم يُستثن، ولعلّه آية الوثاقة.

واحتُمل أن يكون حماد بن عثمان مصحّف حمّاد بن عيسى، لقلّة رواية الأوّل عن الإمام الصادق عليه السلام بخلاف الثاني.

10. موثّقة مسعدة بن صدقة

روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك».(3)

وهارون بن مسلم بن سعدان ثقة. وأمّا مسعدة بن صدقة العبدي، وهو عامي أو زيدي بتري، لم يوثّق، والقرائن تدل ّ على وثاقته.

هذه هي الروايات التي ربّما حاول بعضهم أن يستدلّ بها على الاستصحاب، وقد فسّرت بوجوه تالية:

1. انّها بصدد إفادة قاعدتي الطهارة والحلية الظاهرتين، وهذا هو المشهور.

ص:59


1- . الوسائل: الجزء 7، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.
2- . تهذيب الأحكام: 228/1.
3- . الوسائل: الجزء 12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

2. انّ الصدر بصدد إفادتهما، والذيل بصدد إفادة الاستصحاب، اختاره صاحب الفصول.

3. انّ الصدر ورد لبيان الحكم الواقعي للأشياء، أعني: الطهارة والحلّية بما هي هي، والذيل لبيان استصحاب الحكم الواقعي، وهو خيرة المحقّق الخراساني في «الكفاية».

4. الحديث بصدد بيان القواعد الثلاث: الحكم بالطهارة والحلية الواقعيتين، والظاهريتين واستصحابهما، وهو خيرة المحقّق الخراساني في تعليقته على «الفرائد». وإليك دراسة المعاني الثلاثة واحداً تلو الآخر.

النظرية الأُولى: جعل الطهارة الظاهرية و...

إنّ الحديثين بصدد جعل الطهارة والحلية الظاهريتين.

وبعبارة أُخرى: جعل الطهارة والحلية على المشكوكة طهارته أو حليته، وعلى هذا يكون المراد من الشيء في الحديثين: الشيء المشكوك، ولا مناص لاستفادة ذلك إلّابجعل الغاية قيداً للموضوع فقط، وكأنّه قال:

كلّ شيء حتى تعلم أنّه قذر، نظيف؛ أو كلّ شيء حتى تعلم أنّه حرام، حلال، و هذا هو المعنى المتبادر من الحديثين، ويؤيده ذيل الحديث حيث أكّد على الاجتناب عند العلم دون غيره، وقال: «فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم ليس عليك» فيكون مفادهما جعل الطهارة أو الحلية الظاهريتين اللّتان يعبّر عنهما بقاعدتي الطهارة والحلّية.

النظرية الثانية: جعل الطهارة الظاهرية واستصحابها

اختارها صاحب الفصول، ونسبت إلى المحقّق النراقي أيضاً، وحاصلها:

ص:60

إنّ الصدر بصدد بيان قاعدتي الطهارة والحلية، والذيل بصدد بيان استصحابها، قال: إنّ الرواية تدل على أصلين:

أحدهما: انّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهراً هي الطهارة إلّامع العلم بالنجاسة، وهذا لا تعلّق له بالاستصحاب.

الثاني: انّ هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاستصحاب عبارة عن جرّ الحكم الواقعي الثابت للموضوع بما هوهو، إلى ظرف الشكّ حتى يحصل اليقين بخلافه، لا جرّ الحكم الظاهري الثابت للموضوع بما هو مشكوك الحكم، كما في المقام، مثلاً إذا توضّأ الإنسان لصلاة الفجر يكون متوضئ واقعاً، ثمّ شكّ بعد فترة في بقاء الطهارة، يُحكم عليه بجرّ الطهارة الواقعية إلى ظرف الشك. فلو قلنا: بأنّ الصدر لبيان حكم مشكوك الطهارة والحلية، تكون الطهارة أو الحلية المجعولتان طهارة أو حلّية ظاهريّة، فلا يكون استمرارها استصحاباً وكأنّه زعم أنّ كلّ استمرار استصحاب وغفل عن أنّ الاستصحاب عبارة عن إطالة الحكم الواقعي الذي تعلّق به اليقين، إلى ظرف الشك.

وثانياً: أنّ قاعدتي الطهارة والحلية كافيتان لإثبات الحكم الظاهري في الآنات المتلاحقة إلى أن يعلم خلافه ولا يحتاج إلى الاستصحاب أبداً، وذلك لأنّ كلّ شيء يكفي صرف الشك في الحكم عليه بالطهارة والحلية لغنيّ عن لحاظ السابقة وجرّها إلى الحالة اللاحقة، وهذه ضابطة كلية في الفقه، لأنّ قاعدتي الطهارة والحلية أقل مؤونة، والاستصحاب أكثر مؤونة لاحتياجه وراء الشك، إلى لحاظ الحالة السابقة وجرّها.

ص:61

ومنه يعلم تقدّم قاعدة الاشتغال على استصحاب الاشتغال، فإذا شكّ قُبيلَ الغروب أنّه صلّى الظهر أو لا، فصِرْفُ الشكّ كافٍ في حكم العقل بالاشتغال، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ولا حاجة إلى استصحاب الاشتغال.

وثالثاً: أنّ قوله: «طاهر» إذا كان من متمّمات القاعدة يكون معناه محكوماً بالطهارة، وإذا كان راجعاً إلى الاستصحاب يكون معناه انّه مستمرّ في طهارته، وإطلاق اللفظ وإرادة المعنيين منه يحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة في المقام.

اللّهمّ إلّاأن يقدّر هناك كلام بأن يقال:

كلّ شيء طاهر (وهذه الطهارة مستمرة) حتى تعلم أنّه قذر. وهو كما ترى.

ورابعاً: أنّ الحديث لو كان بصدد بيان قاعدتي الطهارة والحلية تكون الغاية قيداً للموضوع، ويكون معناه، كلّ شيء (حتى تعلم أنّه قذر) طاهر.

ولو كان بصدد بيان الاستصحاب يكون قيداً للمحمول (أي طاهر حتى تعلم أنّه قذر) وكيف يمكن أن تكون كلمة واحدة قيداً للموضوع، وقيداً للمحمول فانّ مقتضى الأوّل تقدّم الغاية على الحكم (طاهر) ومقتضى الثاني (تأخّرها عنه).

وبعبارة أُخرى: انّ الحكم باستمرار الطهارة أو الحلية المستفادتين من القاعدتين يتوقف على تماميتهما من حيث المغيّى والغاية، فلو جعلت الغاية متمّمة للقاعدة لما صحّ جعلها غاية للاستصحاب، ولو جعلت غاية للاستصحاب تكون القاعدة بلا غاية، وبالتالي يكون الاستصحاب أيضاً بلا موضوع.

ص:62

النظرية الثالثة

هذه النظرية هي التي أكّد عليها المحقّق الخراساني في «الكفاية»، فانّه لمّا وقف على الإشكالات الواردة على نظرية صاحب الفصول، عدل عنها إلى نظرية ثالثة وحاصلها:

إنّ الصدر لبيان جعل الطهارة والحلية الواقعيتين لذات الأشياء، والذيل لبيان الاستصحاب، وبما انّ ما ذكره في «الكفاية» غير خال عن التعقيد نشرح مراده في ضمن أُمور أربعة:

1. انّ الموضوع في قوله: «كلّ شيء طاهر» أو «كلّ شيء حلال» هو العناوين الأوّلية التي يصدق عليه عنوان الشيء، و كأنّ القائل يقول: إنّ كلّ ما صدق عليه عنوان الشيء كالجماد والنبات والحيوان، فهو بهذا العنوان الأوّلي طاهر أو حلال.

وليس الموضوع، الشيء المشكوك الحكم من حيث الطهارة والحلية، وعلى هذا ليست الغاية مأخوذة في ناحية الموضوع أصلاً، ولو قال القائل: «كلّ شيء طاهر» وسكت أو قال: «كلّ شيء حلال»، ولم ينطق بشيء كان الكلام تامّاً، وكان ظاهراً في جعلهما على ذوات الأشياء.

2. إذا كان الصدر ظاهراً في جعل الطهارة الواقعية للشيء بما هوهو فغايتها هو ملاقاة الشيء بالنجس، أو طروء عنوان يوجب كونه حراماً، كانقلاب الخل، خمراً أو غليان العصير العنبي كما هو كذلك في صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن الرضا عليه السلام قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّاأن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب ريحه ويطيب طعمه». حيث جعلت الغاية نفس

ص:63

التغيّر(1) لا العلم، ولو أراد الإمام أن يصرّح بالغاية في الحديثين كان عليه أن يقول: كلّ شيء طاهر إلى أن يلاقي نجساً، أو كلّ شيء حلال إلى أن ينطبق عليه أحد العناوين المحرّمة، ولو قال كذلك، لا يعد مثل هذا الاستمرار استصحاباً، إذ ليس كلّ استمرار استصحاباً، بل الاستمرار في ظرف الشكّ، والمفروض كون الموضوع الشيء بما هوهو.

3. انّ الغاية الواردة في الحديث، لا تصلح أن تكون غاية للطهارة الواقعية لما عرفت من أنّ غايتها الملاقاة بالنجس، لا العلم به، فيجب أن تكون الغاية الواردة فيه ناظرة إلى تأسيس حكم ظاهري مبني على أنّه لو شكّ في حصول غاية الطهارة الواقعية وعدمها كالملاقاة وعدمها، فالأصل هو بقاء الطهارة الواقعية، وعندئذٍ يكون الذيل ناظراً لبيان استمرار حكم الطهارة الواقعية في ظرف الشكّ في حصول غايتها.(2) ويكون الذيل ناظراً لبيان الاستصحاب.

4. لا يتوجه إلى هذه النظرية ما سبق من الإشكالات الأربعة وذلك:

أ: لما عرفت من أنّ الذيل لبيان جرّ الحكم الواقعي لا الظاهري.

ب: انّ ثبوت الحكم في جميع آنات الشكّ رهن الاستصحاب فقط، لا رهن القاعدة إذ المجعول هو الاستصحاب لا قاعدة الطهارة.

ج: انّ قوله: «طاهر» جزء من القضية الأُولى، ولا صلة له بالقضية الثانية ليلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين.

ص:64


1- . الوسائل: الجزء 1، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6، 7.
2- . وإلى هذا أشار في «الكفاية» بقوله: ظاهره في استمرار الحكم الواقعي ظاهراً ما لم يعلم بطروء ضده (إذاكانت الطهارة والنجاسة من قبيل الضدين) أو نقيضه (إذاكانتا من قبيل النقيضين).

د: انّ الغاية ليست من قيود الموضوع وحدوده، بل غاية لاستمرار الحكم الواقعي في ظرف الشكّ في طروء الملاقاة أو عروض ما يحرّم، فلا يلزم كون الشيء متقدماً ومتأخراً.

يلاحظ عليه بأُمور:

الأوّل: انّ ظهور الحديثين في جعل الطهارة أو الحلية الواقعيتين، إنّما يتم فيما إذا كان العنوان الأوّلي موضوعاً للحكم كما إذا قال: «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر»(1) فالموضوع طبيعة الماء، ويناسبها جعل الطهارة الواقعية، لا فيما إذا أخذ العنوان المبهم كلفظ الشيء الفاقد لذلك الظهور. بل يمكن أن يقال انّ الموضوع هو الشيء بما هو مشكوك الطهارة والنجاسة، أو مشكوك الحلية والحرمة بشهادة أنّ الغاية الواردة فيها هو العلم بالنجاسة لا نفسها، وهو مناسب لحمل الصدر، على جعل الحكم الظاهري للشيء المشكوك لا للشيء بما هوهو.

الثاني: انّ تفكيك القضية الثانية عن الأُولى، وانّها ليست غاية لها بل بصدد إفادة جعل حكم ظاهري في ظرف الشك في طروء ما يوجب النجاسة أو الحرمة، مخالف للظاهر، فانّ المتبادر انّها غاية للصدر، وبما انّ الغاية هو العلم بالنجاسة نستكشف أنّ الصدر بصدد بيان أصل الحكم الظاهري لمشكوك الطهارة أو مشكوك الحلية، فانّ حمل الصدر على أنّه بصدد بيان الطهارة الواقعية، مبنيّ على التفكيك، وأمّا مع ملاحظته مع الذيل يكون الصدر، ظاهراً في غيرها.

الثالث: سلمنا كلّ ما أفاده، لكن استفادة الحكم الظاهري أي استمرار الطهارة الواقعية في ظرف الشكّ في طروء ما ينجس أو يحرم يتوقف على تقدير جملة: بأن يقول: «وهذه الطهارة مستمرة حتى تعلم أنّه قذر، أو هذه الحلية

ص:65


1- . الوسائل: الجزء 1، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2 و 5.

مستمرة إلى أن تعلم أنّه حرام»، إذ المفروض في كلامه أنّ قوله: «طاهر» من متمّمات القضية الأُولى ولا صلة له بالجملة الثانية ومن المعلوم أنّ الجملة الثانية بوحدتها لا تقيد استمرار الطهارة إلّابتقدير جملة، نظير ما ذكرناه وهو خلاف الظاهر.

النظرية الرابعة

وحاصل هذه النظرية: إمكان استفادة القواعد الثلاث من الحديثين، بيانه:

أنّ الصدر بصدد بيان أمرين:

1. الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية.

2. الطهارة الظاهرية لها عند طروء ما ينجسه أو يحرّمه.

أمّا الذيل فهو بصدد بيان استمرار الطهارة الواقعية إلى العلم بطروء ما ينجسه.

وقد اختاره صاحب الكفاية في تعليقته على الفرائد.(1)

أمّا استفادة جعل الطهارة الواقعية واستمرارها دون الطهارة الظاهرية فقد تقدّم برهانه في كلامه المنقول عن الكفاية، إنّما تختص هذه باستفادة الطهارة الظاهرية وراء الطهارة الواقعية، فاللازم بيان كيفية استفادتها فنقول:

إنّ قوله عليه السلام: «كلّ شيء طاهر» - مع قطع النظر عن الغاية - يدل بعمومه على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية كالماء والتراب وغيرهما ليكون دليلاً

ص:66


1- . تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد: 191-192.

اجتهادياً على طهارة الأشياء، ويدل بإطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه مشتبه الطهارة والنجاسة بالشبهة الحكمية أو الموضوعية على قاعدة الطهارة فيما اشتبهت طهارته كذلك.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ استفادة الطهارة الواقعية والظاهرية من قوله: «طاهر» متعسر، لأنّ الموضوع في الأوّل، هو الشيء بما هوهو، وفي الثاني هو الموضوع بما هو مشكوك الحكم، فيلزم أن يكون الشيء عارياً من القيد، وجامعاً معه موضوعاً للحكم في آن واحد.

ثانياً: أنّ جعل الطهارتين: الواقعية على الأشياء بما هي هي، والطهارة الظاهرية في ظرف الشك في طروء ما ينجّسه، يغني عن جعل الاستصحاب، أي استصحاب الطهارة الواقعية، لما عرفت من أنّ نفس الشكّ كاف في الحكم بالطهارة من دون حاجة إلى جرّ الحكم الواقعي في ظرف الشكّ.

ثالثاً: انّ معنى الإطلاق، كون ما وقع تحت دائرة الطلب، تمام الموضوع للحكم، وانّ الشيء بما هوهو من دون مدخلية أي قيد، محكوم بالطهارة، وأمّاتفسير الإطلاق بأنّ الشيء بما هوهو موضوع للطهارة الواقعية و انّها بعنوان مشتبه الحكم والموضوع، موضوع للطهارة الظاهرية، غير تام لما ذكرنا غير مرّة: أنّ الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود، وثبوت الحكم في تلك الأحوال، ليس دليلاً على أنّه محكوم بالطهارة بهذا العنوان، وإلّا لزم تكثّر الأحكام حسب تكثر الأحوال، وهي كثيرة لا تحصى.

تمّ الكلام في أدلّة الاستصحاب، بقي الكلام في مفادها من حيث دلالتها على حجّية الاستصحاب مطلقاً، أو في بعض الصور. ولذلك مسّت الحاجة إلى التعرّض لبعض التفاصيل في حجية الاستصحاب.

ص:67

تفاصيل في حجّية الاستصحاب
اشارة

قد ذكر الشيخ أحد عشر قولاً في حجّية الاستصحاب، وأطنب الكلام في بيان أدلّة الأقوال، ونحن نذكر ما هو المهم من التفاصيل:

الأوّل: التفصيل بين الشكّ في الرافع والشكّ في المقتضي والقول بحجّية الاستصحاب في الأوّل دون الثاني، وهو خيرة الشيخ الأعظم.

الثاني: ذلك التفصيل، لكنّه حجّة في قسم خاص من الشكّ في الرافع، وهو الشكّ في وجود الرافع لا في رافعية الأمر الموجود، فلو شكّ المتطهر في أصل النوم أو البول يجري الاستصحاب، دون ما إذا شكّ في رافعيّة الأمر الموجود، كالبلل المردّد بين البول والمذي.

الثالث: الاستصحاب حجّة، إلّاإذا كان منشأ الشك هو إجمال الغاية، فليس الاستصحاب حجّة، كما إذا دار مفهوم المغرب أو الليل في قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (1) بين استتار القرص أو مع ذهاب الحمرة المشرقية، فلا يجوز استصحاب النهار عند الشكّ في رافعية الاستتار.

الرابع: التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية، وكونه حجّة في إحداهما دون الأُخرى.

ص:68


1- . البقرة: 187.

الخامس: التفصيل بين الحكم الشرعي المستنبط من دليل شرعي فيستصحب دون المستنبط من حكم عقلي.

السادس: التفصيل بين الأحكام الشرعية الكلية فلا يجري الاستصحاب فيها و بين الحكم الجزئي، والموضوع الخارجي كوجوب النفقة على زيد، أو بقاء حياة زيد فيجري الاستصحاب.

وهذا هو خيرة المحقّق النراقي وتبعه المحقّق الخوئي - قدّس سرّهما -، و بذلك صار الاستصحاب عندهما قاعدة فقهية تعالج الشبهات الموضوعية نظير قاعدة الطهارة والفراغ.

ونحن نذكر منها في المقام التفاصيل الأربعة الأُولى ونحيل البحث في التفصيل الخامس والسادس إلى التنبيهات.

ص:69

التفصيل الأوّل التفصيل بين الشكّ في المقتضي والرافع

ذهب الشيخ إلى حجّية الاستصحاب عند الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي، وأمّا ما هو مراده من الشكّ فيهما فيظهر ممّا ذكره الشيخ عند تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه قال: إنّ الشكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي، و المراد به الشكّ من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشكّ في بقاء الليل والنهار، وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل وقد يكون من جهة طروء الرافع مع القطع باستعداده للبقاء.(1)

أ: انّ الشيخ أخذ هذا التقسيم عن طريق النظر إلى الكون، فإنّ عالم الكون مليء بالموجودات وهي على قسمين، فتارة يُحرز اقتضاء بقاء الموجود ويُشكّ في حدوث الرافع، كالمصباح المشتعل المليء بالزيت فنشكّ في إصباحه لأجل هبوب الرياح عليه، فالمقتضي موجود والشكّ في رافع أثر المقتضي، بخلاف ما إذا شككنا في إصباحه لأجل وجود الزيت فيه، أو لا.

ونظير ذلك ما إذا شككنا في بقاء حياة الفيل في حديقة الحيوانات أو الغابات والأحراش لأجل طروء مرض عليه، فالمقتضي موجود والشكّ في الرافع، بخلاف ما إذا تردّد الحيوان بين كونه فيلاً أو بقّاً بعد مضي زمن لا يعيش فيه البقُّ،

ص:70


1- . الفرائد: 327، طبعة رحمة اللّه.

فالشكّ في قابلية الموجود للبقاء، لتردّده بين الفيل والبق، إلى غير ذلك من الأمثلة التكوينيّة، وعلى غرار ذلك الأحكام التشريعية، فتارة يحرز اقتضاء بقائها إلى أن يرفعها رافع كالملكيّة والطهارة والزوجية في الأُمور الجزئية فهي باقية إلى أن ترفَع بالرافع كالبيع في الملكية، والحدث في الطهارة أو الطلاق في الزوجية.

وأُخرى يكون اقتضاء البقاء مشكوكاً غير محرز كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن، وتمكّنه من إعمال خياره، والمسامحة فيه فنشكّ في بقائه لا لأجل وجود رافع بل للشكّ في قابلية بقائه، لأنّ ملاك الخيار هو الضرر، والضرر مدفوع لجعل الخيار له في الزمان الأوّل. ولا ملاك لبقائه في الزمان الثاني والثالث.

إلى غير ذلك من الأمثلة الشرعية، ولو أردنا أن نذكر ضابطة لكلا القسمين، فنقول: كلّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي إلى أن يرفعه الرافع، فلو شكّ في وجود الرافع فهو من قبيل الشكّ في الرافع، وكلّ حكم أو موضوع لو ترك لانتهى بنفسه، وإن لم يكن هناك رافع، فلو شكّ فيه فهو من قبيل الشكّ في المقتضي، إذا عرفت ذلك فقد ذهب الشيخ إلى عدم الحجّية بوجهين:

الوجه الأوّل: الاستدلال بمادة النقض في قوله: «لا تنقض» فإنّ النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية، فيقال نقضت الحبل، قال سبحانه: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) .(1)

فإذا كان هذا هو المعنى الحقيقي فهو غير متوفر في مورد اليقين والشكّ، ويكون ممّا يتعذر فيه المعنى الحقيقي، فلابدّ أن يقوم مقامه المعنى المجازي، وله معنيان مجازيّان أحدهما أقرب إلى الحقيقة (رفع الهيئة الاتصالية) والآخر أبعد عنها أي مطلق رفع اليد عن الشيء.

ص:71


1- . النحل: 92.

أمّا الأقرب فهو حمله على ما أحرز فيه المقتضي للبقاء وشكّ في تحقّق الرافع كالوضوء إذا شكّ في حدوث النوم.

وأمّا الأبعد فهو رفع اليد عن مطلق الشيء وإن شكّ في أصل اقتضائه للبقاءه مع غض النظر عن الرافع.

وبما أنّ المعنى الأوّل أقرب إلى الحقيقة فيتعيّن هو دون المعنى الثاني الذي هو أبعد، وقد قيل: «إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى».

الوجه الثاني: الاستدلال من جانب الهيئة، وهو أنّ النهي عن نقض اليقين بالشك تكليف بالمحال لانتقاض اليقين بحدوث الشكّ فلا تصل النوبة إلى النقض، لانتقاضه قبلاً، وإن لم يرده المكلف، فعلى ذلك لابدّ أن نقول بأنّ اليقين في الروايات بمعنى المتيقّن أي لا تنقض المتيقّن بالشك، سواء كان المتيقّن هو الحكم الشرعي، كما إذا كان المستصحب حكماً كذلك، أو موضوعاً ذا حكم شرعي كما إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية ذات الآثار.

فإذا كان المنهي عنه هو نقض المتيقن بما أنه أثر شرعي أو له أثر شرعي فالأقرب إلى المعنى الحقيقي هو المتيقّن الذي أحرز وجود المقتضي فيه وشكّ في الرافع، لا ما إذا كان أصل الاقتضاء مشكوكاً مع غض النظر عن الرافع، وبذلك يكون النقض بمادته وهيئته قرينة على تحريم نقض ما يكون ذا اقتضاء، كالطهارة وحياة زيد.(1)

يلاحظ على الوجه الأوّل: بأنّه لا دليل على أنّ النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية الحسية، بل هوحقيقة في رفع الأمر المبرم والمستحكم، سواء أكان أمراً

ص:72


1- . فرائد الأُصول: 336، بتقرير منّا.

حسيّاً كالغزل، أم قلبيّاً كاليمين والميثاق و العهد، بشهادة أنّه سبحانه نسب النقض إلى هذه الأُمور الثلاثة التي تفقِد الهيئة الاتصالية ولكن فيها الإبرام والاستحكام قال سبحانه: (وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) .(1) وقال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (2) وقال سبحانه: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ...) (3) إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ اليقين أمر فيه إبرام واستحكام - كالأُمور الثلاثة السالفة الذكر تصح نسبة النقض إليه بلا تجوّز، ولا حاجة إلى تفسير اليقين بالمتيقن، ويكون المقصود، حرمة نقض مطلق اليقين سواء تعلّق بما أحرز فيه المقتضي أم لا.

وأمّا الوجه الثاني: فاليقين والمتيقن في امتناع التكليف بعدم نقضها سواء، أمّا اليقين فكما مرّ، وأمّا المتيقن فهو لا يخلو إمّا أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً خارجياً؛ أمّا الحكم الشرعي فرفعه بيد اللّه سبحانه، وأمّا الموضوع الخارجي كحياة زيد فهو على عاتق العلل التكوينية، ولا صلة لها بالمكلف.

نعم إذا أُريد من حرمة نقض المتيقّن حرمة نقض آثار المتيقّن كالصلاة مع الوضوء المستصحب فهو أمر داخل تحت الاختيار ولكنّه لا يختص بآثار المتيقّن، بل يعمّ حرمة آثار اليقين أيضاً، فهي أيضاً أمر اختياري.

فإن قلت: إذا كان الهدف إبقاء اليقين بما له من الآثار فتنحصر حجّية الاستصحاب باليقين الموضوعي، دون الطريقي، إذ ليس لليقين أثر شرعي إلّافي اليقين الموضوعي، فإذا قال: للّه عليّ أن أُصدِّق إذا علمتُ بحياة زيد، فالأثر

ص:73


1- . النحل: 91.
2- . الرعد: 25.
3- . النساء: 155.

مترتب على اليقين بالحياة، لا على نفس الحياة، فليس لليقين الطريقي أثر حتى يكون حرمة النقض بلحاظ إبقاء أثر اليقين؟

قلت: المراد من اليقين في الروايات هو اليقين الطريقي بمعنى أنّ اليقين غير ملتفت إليه، وإنّما الملتفت هو المتيقّن بماله من الآثار، فيكون المراد من إبقاء اليقين إبقاء المتيقّن بما له من الآثار، ولكن حرمة النقض متعلّق باليقين وإن كان اليقين طريقاً إلى المتيقّن. وبعبارة أُخرى المراد الجدي غير المراد الاستعمالي.

هذه هي الإشكالات التي وجّهها المحقّق الخراساني إلى الشيخ الأنصاري، وهناك إشكالات أُخرى نذكرها تباعاً.

الأوّل: انّ هذا التفصيل مبني على أنّ التعبير المنحصر في حجّية الاستصحاب هو نقض اليقين، ولكنّه غير تام، وقد عبّر عنها بجمل خالية عن لفظ «النقض».

أ: ففي ذيل الصحيحة الثالثة لزرارة: «ويتمّ على اليقين، فيبني على اليقين، ولا يعتدّ بالشكّ من الحالات».

ب: وفي حديث الأربعمائة: «من كان على يقين ثمّ شكّ، فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» والموضوع هو المضيّ على اليقين، لا نقض اليقين.

ج: وفي رواية القاساني: «اليقين لا يدخل في الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية» ومورد الاستصحاب في هذا الحديث من قبيل الشكّ في المقتضي للشكّ في اقتضاء شهر شعبان في بقائه إلى يوم الشكّ.

د: وفي رواية عبد اللّه بن سنان: «أنت أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه

ص:74

نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن».

نعم قد قورنت هذه التعابير في أكثر هذه الروايات بقوله: «لا تنقض» إمّا في صدر الروايات، أو في ذيلها، لكنّه لا يكون دليلاً على تقييد المطلق، لأنّه ليست قرينة واضحة لصرف المطلقات عن إطلاقها وإرجاعها إلى المقيدات.

وبذلك ظهر أنّه ليس لاختصاص حجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع دليل.

نعم قد أيّد مقالة الشيخ، المحقّق الهمداني في تعليقته على فرائد الشيخ، وقال ما هذا نصّه:

إنّ إضافة النقض إلى اليقين في الاستصحاب ليس باعتبار وجوده السابق، بل باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المسامحة والاعتبار، إذ لا ترفع اليد عن اليقين السابق وإن قلنا بعدم حجّية الاستصحاب، بل غاية الأمر ترفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ (إذا قلنا بعدم حجّيته) فلابدّ في تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري لليقين بحيث يصدق عليه بهذه الملاحظة: أنّ الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين، ورفع اليد عنه، نقض له. و من المعلوم أنّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفاً، بل لوجوده التقديري حينئذٍ وجود حقيقي يطلق عليه لفظ اليقين، ألا ترى أنّ العرف يقولون: ما عملت بيقيني، أمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد لا يساعد عليه استعمال العرف أصلاً.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ التعبد بلحاظ اليقين الفعلي الاعتباري،

ص:75


1- . الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية: 151.

ينافي ما في صحيحة زرارة الأُولى، فانّ التعبد فيها بملاك اليقين السابق الحقيقي، قال: «فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً»، واللام في قوله: اليقين في الكبرى إشارة إلى اليقين الماضي في الصغرى.

وثانياً: أنّ التأكيد على تعدّد اليقين: (حقيقي باق في ظرفه، واعتباريّ أُمر بحفظه) ينافي ما عليه المشايخ من لزوم وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة بإلغاء قيد الزمان والنظر إلى المتيقّن بما هوهو من غير تقسيمه إلى السابق واللاحق، والإصرار على تعدّد اليقين بجعل القضيتين متباينتين، وهو يمنع عن جريان الاستصحاب وصدق مفهوم النقض.

ص:76

التفصيل الثاني التفصيل بين الشكّ في الرافع والرافعية

ذهب المحقّق السبزواري إلى أنّ الاستصحاب حجّة فيما إذا تعلّق الشكّ بأصل الوافع كما إذا شكّ في أنّه نام أو لا، لا فيما إذا تعلّق بوصف الأمر الموجود، كالشكّ في أنّ البلل الموجود بول حتى يكون رافعاً له، أو مذي حتى لا يكون كذلك، ومثله إذا شكّ في أنّ الرعاف ناقض للوضوء أو لا.

حاصل دليله: انّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ إنّما يعقل في الشكّ في الرافع دون غيره، لأنّه لو نقض الحكم في الثاني - بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعاً - لم يكن النقض بالشكّ، بل إنّما يحصل باليقين بوجود ما شكّ من كونه رافعاً، أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه لا بالشك.(1)

يلاحظ عليه: ليس الاستصحاب محدَّداً، بحدِّ مطلق اليقين بوجود الشيء، بل اليقين الذي يزيل الشكّ في البقاء، ويبدّله إلى اليقين بعدم البقاء، وهذا الشرط غير موجود، ولم يتبدّل اليقين السابق، المتعلِّق بالطهارة إلى اليقين بالحدث، بل صار حدوث اليقين الثاني مبدأ الشكّ في بقاء الحالة السابقة.

ومنشأ الاشتباه: الخلط بين كون الغاية مطلق حدوث اليقين، أو اليقين المزيل للشكّ في البقاء، وما هو الحادث هو الأوّل، وما هو الغاية لعدم جريان

ص:77


1- . الفرائد: 362 عند بيان القول العاشر.

الاستصحاب هو الثاني.

وإن شئت قلت: إنّ الغاية هي اليقين الآخر المتعلّق بضدّ ما تعلّق به اليقين الأوّل كما إذا تعلّق اليقين بالرافع القطعي، دون الرافع المشكوك كالبلل في الشبهة الموضوعية أو دم الرعاف في الشبهة الحكمية، فقد تعلّق اليقين الأوّل بالطهارة، والثاني بوجود البلل أو دم الرعاف، ولم يثبت كون البلل أو دم الرعاف ضدّاً للطهارة، بل يحتمل الضدية.

ص:78

التفصيل الثالث عدم الحجّية إذا كان منشأ الشكّ إجمال الغاية

ذهب المحقّق الخوانساري إلى كون الاستصحاب حجّة مطلقاً إلّافي قسم واحد، وهو: ما إذا كان منشأ الشكّ إجمال مفهوم لفظ جُعل غاية للحكم.

وعلى هذا هويفصل في الشكّ في الرافعية بين كون منشأ الشكّ، خلط الأُمور الخارجية كما إذا دار أمر البلل بين البول والمذي، فالاستصحاب حجّة، و ما إذا كان منشؤه إجمال مفهوم لفظ جعل غاية للحكم، كما إذا وجبت الصلاة إلى المغرب أداءً ولكن تردّد مفهومه بين كونه هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية ففي مثله لا يجوز استصحاب بقاء النهار ولا يترتب عليه الأثر الشرعي و هو كون إقامة الصلاة فيه أداءً، أو وجوب الإمساك. وقد نقل الشيخ الأنصاري عبارة المحقّق الخوانساري، فلاحظ. وعلى أيّ تقدير فالتفصيل عندي وجيه وذلك:

لأنّ الاستصحاب عند العقلاء والذي أمضاه الشارع بنفس المعنى الموجود عندهم عبارة عن جرّ الحالة السابقة وامتداد عمر اليقين، عند الشكّ إذا كان منشؤه الإبهام السائد على الخارج، كما إذا شكّ في بقاء حياة زيد، أو طهارة زيد، فمنشؤه في الجميع، هو كون الخارج مستوراً على المستصحِب، والغاية من الاستصحاب رفع الإبهام عن الخارج.

ص:79

وأمّا إذا كان الخارج أمراً معلوماً له، كما في مثال النهار، فإنّ الإنسان يرى بعينه استتار القرص و بقاء الحمرة المشرقية، وليس هنا أي شك يرتبط بالخارج وإنّما طرأ الشك عليه في بقاء النهار لأجل الجهل بما وضع له لفظ المغرب، فهل الموضوع له استتار القرص، أو هو مع زوال الحمرة؟ فالإبهام في ناحية الموضوع له صار سبباً للشكّ في بقاء النهار لا الإبهام السائد على الخارج، ففي مثله لا يكون الاستصحاب حجّة، عند العقلاء وتكون الروايات منصرفة عنها.

نظير ذلك إذا علمنا بأنّ زيداً كان عالماً ولكن طرأ عليه النسيان فشكّ في كونه مصداقاً له أو لا، والشكّ في كونه عالماً أو ليس بعالم ليس نابعاً من إبهام الخارج، بل نابع من الجهل بالموضوع له، وأنّ المشتق موضوع للمتلبس، أو للأعم منه و من انقضى عنه المبدأ، ومثل هذا النوع من الشكّ غير الناجم من الإبهام السائد على الخارج، خارج عن مدلول أدلّة الاستصحاب.

ص:80

التفصيل الرابع بين الأحكام التكليفية والوضعية
اشارة

وقبل الخوض في المقصود، نقدّم أُموراً:

1. الحكم لغة واصطلاحاً

الحكم في اللغة بمعنى المنع، قال الشاعر:

أبني حنيفة حكِّموا سفهاءَكم إنّي أخاف عليكم أن أُغْضِبا

أي امنعوا سفهاءَكم من التعرّض لعشيرتي، وبهذه المناسبة استعملت في المعاني التالية:

1. حَكَمَة الفرس، لأنّها تمنعه من مخالفة راكبه.

2. الحكمة لأنّها تمنع الإنسان عن الضلال.

3. الحكيم لأنّه بإعمال القواعد يمنع عن تطرّق الفساد إلى فعله.

وأمّا إطلاقه على الحكم الشرعي، فلأنّه يمنع المكلّف من التجاوز عن الحدّ المقرر له.

وربّما يطلق الحكم في اللغة ويراد منه الفصل، وبهذه المناسبة يطلق على القاضي الحاكم، لأنّه يفصل الخصومات والمنازعات، ويطلق على التشريع،

ص:81

الحكم، لأنّه يفصل بين الحقّ و الباطل.

وأمّا اصطلاحاً، فهو ينقسم إلى تكليفي ووضعي.

أمّا الأوّل: فهو ما يشتمل على إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص. ثمّ البعث تارة يكون مع المنع من الترك، وأُخرى لا معه، كما أنّ الزجر أيضاً كذلك، وبذلك تنحصر الأحكام التكليفية في الخمسة: الوجوب، الاستحباب، الحرمة، الكراهة، والإباحة.

وإن شئت قلت: الحكم التكليفي عبارة عمّا يحدِّد فعل المكلّف من حيث الاقتضاء فإمّا فيه اقتضاء الفعل بقسميه، أو اقتضاء الترك بقسميه أيضاً، أو اقتضاء التساوي.

وبذلك يعلم أنّ الإباحة الشرعية عبارة عن الفعل الذي فيه اقتضاء المساواة، وأمّا إذاكان الفعل متجلّياً بصورة اللا اقتضاء، فالإباحة فيه عقلية لا شرعية.

وأمّا الثاني: فهو ما لا يشتمل على بعث ولا زجر ولا اقتضاء المساواة، بل جعل حكم، له صلة بفعل المكلّف بلا و اسطة كالملكية والزوجية أو مع الواسطة مثل طهارة الماء ونجاسة الدم.

2. تقسيم المفاهيم إلى مراتب أربع

تنقسم الماهيات إلى أربعة أقسام:

1. الجوهر: وهو ماهية إذا وجد في الخارج وجد لا في موضوع، كالإنسان.

2. العرض: وهو ماهية إذا وجد في الخارج وجد في موضوع، كالبياض

ص:82

والسواد.

3. الانتزاعيات: وهي ماهية ليس لها مصداق في الخارج، ولكن الخارج مشتمل على خصوصية وجودية تؤهّل الذهن لانتزاع ذلك المفهوم من تلك الخصوصية، وهذا كالفوقية والتحتية، إذ ليس لهما مصداق في الخارج، كالجوهر والعرض، ولكن الخصوصية الوجودية للفوق والتحت تصحّح انتقال الذهن من مشاهدتها إلى انتزاع ذينك المفهومين، وهذا ما يقال في لغة الفلسفة بأنّ الانتزاعيات لها حظ من الوجود.

والحقّ انّ الحظ لمنشأ الانتزاع لا للمفهوم الانتزاعي وإنّما هو مفهوم يصنعه الذهن بعد الإحاطة بما في الخارج والاطّلاع على الخصوصية.

4. الاعتباريات: وهي المفاهيم التي يصنعها الذهن لأغراض وهمية أو عقلائية، ولا يقوم الذهن بصنعها إلّابعد التشبيه والمحاكاة.

أمّا الوهمي كتصوير إنسان له مائة رأس، أو غول له ناب؛ وأمّا العقلائي كالرئيس، وهي مأخوذة من الرأس، وله مصداق تكويني وهو رأس الإنسان الذي يدير البدن، ومصداق اعتباري وهو تنزيل من يدير دفة المؤسسة منزلة الرأس من البدن.

والزوجية فلها مصداق تكويني كالغصنين النابتين على أساس واحد، ومصداق اعتباري، وهو تنزيل الزوجين منزلة ذينك الغصنين. وهكذا سائر المفاهيم الاعتبارية.

وبذلك يعلم أنّ كلّ مفهوم اعتباري، ذو منشأ واقعي، بمعنى أنّ الواقع يكون سبباً لانتقال الذهن إلى صنع مفاهيم لأجل غايات اجتماعية.

ص:83

ومن ذلك يعلم أنّ الشرطية والجزئية والمانعية والقاطعية للصلاة أُمور اعتبارية تنزل ما هو الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع للصلاة منزلة الجزء والشرط والمانع والقاطع التكوينيين. فكأنّ الخارج نموذج لصنع الذهن مثله لغايات اجتماعية وسياسية.

3. ذكر الأقوال في مجعولية الأحكام الوضعية

هل الحكم الوضعي يناله الجعل؟

لا شكّ انّ الحكم التكليفي ممّا تناله يد الجعل، كالأمر بالصلاة والزكاة والنهي عن الكذب والغيبة، ففي الأوّلين إنشاء البعث إلى الفعل وفي الأخيرين إنشاء الزجر عنه. إنّما الكلام في الأحكام الوضعية، فهل هي منتزعة من الأحكام التكليفية فلا تنالها يد الجعل إلّاتبعاً، أو انّها أيضاً مجعولة مستقلة مثل التكليفية، أو انّ قسماً منها لا تناله يد الجعل التشريعي لا تبعاً ولا أصالة وقسماً منها منتزعة تنالها يد الجعل تبعاً وقسماً منها مجعولة بالأصالة؟

والأوّل مختار الشيخ، والثاني لشارح الوافية، والثالث للمحقّق الخراساني، وإليك دراسة الأقوال واحداً تلو الآخر.

أمّا الأوّل: فقد أفاد الشيخ في توضيحه: أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وانّ كون الشيء سبباً لواجب، هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء، فمعنى قولنا: إتلاف الصبي سبب لضمانه:

أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها.

ص:84

وإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «اغرم ما أتلفته في حال صغرك»، انتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببية الإتلاف للضمان، ويقال انّه ضامن بمعنى انّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف.

وكذا الكلام في غير السبب فانّ شرطية الطهارة للصلاة، ليست مجعولة بجعل مغائر لإنشاء وجوب الصلاة الواقعية حال الطهارة، وكذا مانعية النجاسة ليست إلّامنتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في هذه الموارد، أعني: السببية والشرطية والمانعية، كلام تام، ولكنّه استقراء ناقص، ولا يكون دليلاً على أنّ الحكم الوضعي في عامّة الموارد منتزع من التكليفي، كيف؟ وربما يكون الحكم الوضعي مجعولاً بالأصالة في قولك: «زوّجت موكّلتي»، أوقوله: «أنت حرّ» فالأوّل ناظر إلى إنشاء الزوجية، والثاني لإنشاء الحرية.

أمّا القول الثاني: فإن أراد انّهما متلازمان معاً وانّ انشاء أحدهما يلازم إنشاء الآخر، كما هوالظاهر من كلامه المنقول في «الفرائد».(2)

ففيه: انّ القول بتعدد الجعل مع أنّ جعل أحدهما يغني عن الآخر، أمر لغو، فهنا جعل واحد هو الأصيل والآخر أمر منتزع، فالمجعول إمّا سببية الدلوك لوجوب الصلاة، فوجوب الصلاة أمر منتزع، أو وجوب الصلاة لدى الدلوك، فالسببية أمر منتزع.

وإن أراد انّ هنا جعلاً واحداً، وهو متعلّق بالحكم الوضعي مطلقاً،

ص:85


1- . الفرائد: 351.
2- . الفرائد: 349-350.

والتكليفي منتزع، فهو ليس بصحيح على إطلاقه، إذ ربّما يكون الكلام ظاهراً في جعل الحكم التكليفي دون الوضعي، كما في قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، فالآية ظاهرة في جعل الوجوب للصلاة لدى دلوك الشمس.

وإن أراد انّ الجعل ربما يتعلّق بالوضع ويكون التكليف تابعاً له، فهو صحيح كما مثلنا في إنشاء الزوجية والحريّة.

وأمّا القول الثالث: فقد قسّم الوضعي إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: مالا تناله يد الجعل التشريعي لا تبعاً التكليفي) ولا استقلالاً:

وحاصل كلامه في هذا القسم: انّ الحكم الوضعي، لا منتزع من الحكم التكليفي ولا مجعول بالاستقلال، وهكذا كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه أو مانعه ورافعه، حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتاً، حدوثاً وارتفاعاً.

كما أنّ اتصافها بها ليس إلّالأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكويناً، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها ربط خاص، به كان مؤثراً في معلولها لا في غيره ولا غيرها فيه، وإلّا لزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كلّ شيء وتلك الخصوصية لا تكاد توجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين مثل قول: «دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاءً لا اخباراً» ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له، من كونه واجداً لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقداً لها، وانّ الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك مالم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلاً.

ص:86

ومنه انقدح عدم صحّة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.(1)

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ السببية وما عطف إليها، غير مجعولة لاتبعاً ولا أصالة مبني على مقدمتين:

المقدمة الأُولى: أنّ السبب، والشرط والمانع، والرافع، كالدلوك، والطهارة، والحيض، والإغماء في أثناء الصلاة، متقدمة على التكليف - أي وجوب الصلاة - أمّا الثلاث الأُول فلأنّها من أجزاء العلة متقدّمة على المعلول (وجوب الصلاة).

وأمّا الرافع فلأنّه علّة لعدم وجوب الصلاة، ومتقدّم عليه بحكم العلية، وعدم وجوب الصلاة في رتبة وجوب الصلاة، لأنّ المتناقضين في رتبة واحدة، فينتج أنّ الرافع متقدّم على وجوب الصلاة.

وبذلك علم أنّ الأُمور الأربعة متقدمة على التكليف، بمعنى وجوب الصلاة غير أنّ الثلاثة الأُولى مؤثرة في حدوث التكليف، والرابع مؤثر في ارتفاع التكليف، وإلى ذلك يشير بقوله حدوثاً وارتفاعاً.

المقدمة الثانية: انّ وصف الأُمور الأربعة المذكورة سالفاً بالسببية والشرطية والمانعية والرافعية، لأجل خصوصية كامنة في جوهر هذه الأُمور الأربعة التي بها تكون مؤثرة في وجوب الصلاة حدوثاً، أو ارتفاعاً، ولولا تلك الخصوصية لما أثّرت في التكليف ورفعه، لما ثبت في محله من أنّه يجب أن يكون بين العلة والمعلول ربط وخصوصية لا توجد في غيرها، وإلّا يلزم أن يكون كلّ شيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو رافعاً لكلّ شيء.

ص:87


1- . الكفاية: 303/2-304.

والدليل على أنّ تأثير هذه الأُمور رهن خصوصية كامنة فيها هو أنّك لو قلت: دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة بصورة الإنشاء لا يكون الدلوك سبباً، بل لو كانت الخصوصية موجودة لاستغنت عن الإنشاء، وإلّا فهذا النوع من الإنشاء غير مؤثر في حدوث الخصوصية.

إذا تضح ذلك فنقول: إنّ للمحقّق الخراساني دعويين:

الأُولى: انّ هذا النوع من الأحكام الوضعية غير منتزع من الأحكام التكليفية، أي ليست مجعولة تبعاً.

الثانية: انّ هذا النوع من الأحكام الوضعية غير مجعول على نحو الاستقلال.

أمّا الدعوى الأُولى فتستنتج من كون السبب والسببية، أو الشرط والشرطية وغيرهما من الأُمور المتقدمة على الحكم التكليفي، فكيف ينتزع المتقدّم (السبب والسببية) من المتأخّر (أي وجوب الصلاة)؟

أمّا الدعوى الثانية: فقد استنتجها من القول بأنّ السببية أمر تكويني لا تناله يد الجعل التشريعي، فلو كانت الخصوصية موجودة فإنشاء السببية مستقلاً أمر لغو لا يؤثِّر فيه شيء، وإن كانت فاقدة لتلك الخصوصية لا يضفي إنشاء السببية عليه وصف السببية.

وبذلك علم أنّ المحقّق الخراساني أثبت كلا الدعويين، وأنّ الحكم الوضعي فيه غير منتزع، بحكم تقدّم السبب والسببية على الحكم التكليفي، ولا مجعول مستقل، لأنّه أمر تكويني لا يقبل إلّاالجعل التكويني لا التشريع.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من البيانين صحيح، لكن في العلل والأسباب التكوينيّة، والسبب وسببيته متقدّمان على المعلول كالنار بالنسبة إلى الإحراق، كما

ص:88

أنّ السببية رهن خصوصية كامنة في صلب العلّة وجوهرها.

فعند ذلك يأتي كلا البيانين:

أ: لا يصحّ انتزاع وصف السببية التي في جوهر العلة عن المعلول المتأخّر.

ب: لا يصحّ جعل السببية جعلاً تشريعياً بعد تحقّقها تكويناً.

فيترتب على ذينك البيانين أنّ السببية والشرطية والمانعية والرافعية في العلل التكوينية ليست منتزعة من المسببات والمعاليل، ولا مجعولة بالجعل التشريعي بعد تحقّقها تكويناً.

وأمّا إذا كانت الأسباب والشرائط للتكليف أُموراً اعتبارية من دون توفّر رابطة تكوينية بين السبب والمسبب سوى لحاظ الشارع أو المقنِّن أحدهما بعد الآخر في عالم الاعتبار واللحاظ، فمثل ذلك قابل للجعل استقلالاً، كما هو قابل للجعل تبعاً وانتزاعاً.

أمّا استقلالاً: كما إذا قال: جعلتُ الدلوك سبباً لوجوب الصلاة، أو جعلتُ الإيجاب والقبول سبباً للملكية، أو قول القائل: «أنت طالق» سبباً لحل عقدة النكاح.

كما أنّه يجوز انتزاعُ تلك الأُمور من الحكم التكليفي بالصلاة عند الدلوك، فإذا قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ينتزع منه سببيّة الدلوك بوجوب الصلاة، فتكون مجعولة جعلاً تبعياً.

ويرشدك إلى ذلك أمران:

الأمر الأوّل: انّ النطق بهذه الأسباب ليس مؤثراً في إيجاد المسببات قبل جعل الشارع أو العقلاء، وهذا خير شاهد على فقدان الرابطة التكوينية بين ما

ص:89

جعل سبباً وما جعل مسبباً.

الأمر الثاني: انّ سنخ الأثر يكشف عن سنخ المؤثر، فإذا كان المعلول في قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ) وجوب الصلاة أو كان المعلول اعتبار الملكية فلابدّ أن يكون السبب من سنخ ذلك الأثر لا سبباً تكوينياً.

وخلاصة القول: إنّ الذي حدا بالمحقّق الخراساني إلى القول بامتناع الجعل في هذه الأقسام هو قياس العلل الاعتبارية بالعلل التكوينية مع البون الشاسع بين العلّتين.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني برهن على عدم مجعولية السببية بوجهين.

وحاصل الوجه الأوّل: أنّ المجعول بالوجدان هو الحكم التكليفي لا الوضعي قال:

لو قلنا بجعل السببية في التكليف، كجعل السببية للدلوك، أو في الوضع، كجعلها للعقد المركب من الإيجاب والقبول، يلزم أن لا يكون الوجوبُ في الأوّل، والملكية في الثاني، فعلاً اختيارياً للشارع، بل كانا من الأُمور الحاصلة قهراً بلا إنشاء من الشارع، فانّ ترتب المسبب على سببية أمر قهري لا يعقل فيه التخلّف ولا يمكن أن يدخله الاختيار.

يلاحظ عليه: المدّعى هو امتناع تعلّق الجعل بالسببية ولكن الدليل لا يثبت أزيد من عدم الوقوع، حيث نعلم وجداناً أنّ الوجوب بعد الدلوك، والملكية بعد الإيجاب والقبول، فعل للشارع، ولو قلنا بجعل السببية يلزم الغنى عن جعل المسببات والأحكام.

أضف إلى ذلك أنّه لا مانع من نسبة الوجوب والملكية إلى الشارع حتى على

ص:90

القول بجعل السببية، فانّهما من أفعال الشارع، غاية الأمر فعلاً تسبيبيّاً لا مباشرياً.

وحاصل الوجه الثاني: انّ السببية غير مجعولة لا تشريعاً (خلافاً للمشهور) ولا تكويناً (خلافاً للمحقّق الخراساني) على وجه الاستقلال، بل جعلها، بجعل ذات السبب قال:

انّ المجعول إنّما هو ذات السبب، أمّا السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة، فانّ السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني، فضلاً عن الجعل التشريعي، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنّما يكون بتكوين الماهية، وإفاضة الوجود إلى الذات، فعلّية العلّة وسببيّة السبب كوجوب الواجب وإمكان الممكن وامتناع الممتنع، إنّما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء، لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار، فالعلية لا تقبل الإيجاد التكويني فضلاً عن الإنشاء التشريعي.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره صحيح في السببية التكوينية حيث إنّ السببية بالنسبة إلى المسبب من قبيل ذاتي باب البرهان والخارج المحمول، و ما هو مثله لا تتعلّق به يد الجعل، لأنّ مناط الجعل الفقر والحاجة، والسببية بعد جعل السبب متحقّقة ضرورة فلا حاجة إلى جعل آخر، وهذا من خواص ذاتي باب البرهان حيث إنّ جعل الموضوع يلازم جعل المحمول الذاتي، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة.

وأمّا المقام فليست السببية أمراً ذاتياً بالنسبة إلى السبب أي الدلوك حتى لا

ص:91


1- . فوائد الأُصول: 394/4-395.

تتعلّق بها يد الجعل، لإمكان التفكيك بين الدلوك والسببية، وعلى ذلك فلا مانع من تعلّق الجعل التشريعي بالسببية، بعد إيجاد الدلوك تكويناً.

القسم الثاني: ما تناله يد الجعل تبعاً لا استقلالاً

إنّ القسم الثاني عبارة عن الجزئية والشرطية و المانعية والقاطعية، لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعه وقاطعه، فقد اختار أنّه لا يتطرق إليها الجعل التشريعي بالأصالة، فلا يصحّ جعلها ابتداء وإنّما يجعل تبعاً للأحكام التكليفية - قال: وجه ذلك انّ اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّابالأمر بجملة أُمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي، ولا يتصف شيء بذلك أي كونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به إلّابتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيداً بأمر آخر، وما لم يتعلّق به الأمر كذلك لما صحّ وصفه بالجزئية أو الشرطية وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ابتداءً.

وجعل الماهية وأجزائها ليس إلّاتصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بها، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له، وبدون الأمر به لا اتصاف بها أصلاً وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة.(1)

وحاصل ما أفاده: أنّ أمر هذه الأُمور دائر بين كون الجعل فيها محالاً، أو تحصيلاً للحاصل، فلو استقل بالجعل قبل الأمر بالمأمور به، فهو محال، لعدم اتصاف الأجزاء بالمأمور به قبل الأمر ولو قام بالجعل بعد الأمر بالكل، فهو أمر

ص:92


1- . الكفاية: 305/3.

لغو وتحصيل للحاصل لاتصافها بها بعد الأمر بالكل.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ جعل الجزئية الفعلية لجزء من أجزاء المأمور، فرع تعلّق الأمر بالمركّب المأمور به، وبعد تعلّق الأمر بالكلّ الذي يدخل فيه هذا الجزء، يكون جعل الجزئية له أمراً لغواً وتحصيلاً للحاصل، وأمّا جعل الجزئية الشأنية للمركب المأمور به شأناً لا فعلاً بمكان من الإمكان كأن يقول الحمد جزء للصلاة التي سوف أمر بها.

وثانياً: يكفي في جعل الجزئية الفعلية تعلّق أمر بعنوان، وضع لاجزاء لا يشمل الجزء الذي نحن بصدد جعلها له، كما إذا كانت الصلاة أسماء للأركان، غير شامل للحمد، أو للمنع عن بعض الموانع كإقامتها مع ما لا يؤكل لحمه، إلى غير ذلك، فيقول: جعلت الحمد جزءاً للصلاة المأمور بها، وهكذا المانع.

بل يمكن أن يقول إنّ قوله سبحانه: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (1) وقوله: «لا تصل في وبر مالا يؤكل لحمه» إرشاداً إلى جعل الشرطية للاستقبال، والمانعية لما لا يؤكل لحمه، فعندئذ يتعلّق الجعل الاستقلالي بالجزئية والشرطية والمانعية للمكلّف به.

القسم الثالث: ما تناله الجعل استقلالاً

فقد مثّل المحقّق الخراساني لهذا القسم بالحجّية والقضاوة، والولاية والنيابة والحريّة والرقيّة والزوجيّة والملكيّة، وقال: إنّ من الممكن انتزاع هذه الأُمور من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها كما يمكن جعلها بإنشاء أنفسها، إلّاأنّه لا شكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى أو مَنْ بيده الأمر من قبله - جل

ص:93


1- . البقرة: 144.

وعلا - بإنشائها بحيث يترتب عليها آثارها، وذلك بوجوه ثلاثة:

1. صحّة انتزاع الملكية والزوجيّة والطلاق والحرّية بمجرد العقد والإيقاع ممّن بيده الاختيار من دون ملاحظة التكاليف والآثار، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلّابملاحظتها.

2. لو كانت هذه العناوين منتزعة من الأحكام التكليفية في موردها لزم أن لا يقع ما قُصِد ووقع ما لم يقصد، فانّ العاقد لا يقصد إلّاجعل الزوجية، لا شيئاً آخر.

3. لا ينبغي أن يشكّ في عدم حجية انتزاعها من مجرّد التكليف في موردها فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات، والزوجية من جواز الوطء لأنّ النسبة بين إباحة التصرّف والملكية، وهكذا بين جواز المس والزوجيّة عموم من وجه، وهكذا سائر الاعتبارات من أبواب العقود والإيقاعات.

تحقيق فيه تفصيل

أقول: إنّ المحقّق الخراساني ذكر نماذج من هذا القسم ولم يستقص، وزعم أنّ الجميع مجعول بجعل استقلالي، ولكن الظاهر أنّ الأحكام الوضعية الباقية غير الداخلة في القسمين الأوّلين على أصناف أربعة:

1. ما لا يقبل الجعل أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً للأحكام التكليفية، وذلك كالتنجّز والتعذّر، والطريقية والكاشفية، والنظافة والقذارة العرفيتين.

أمّا الأوّلان فلأنّهما يدوران حول إصابة القطع - مثلاً - الواقع، فلو أصاب يكون منجزاً الواقع وإلّا معذِّراً، وهذا حكم عقلي، ومعه لا حاجة إلى جعلهما استقلالاً أو بتبع الأحكام التكليفية.

ص:94

وأمّا المتوسطان: أعني: الكاشفية والطريقية، فهما من الأُمور التكوينية لا تنالهما يد الجعل التشريعي فلو كان الشيء طريقاً بالذات، سواء كان طريقاً كاملاً أو ناقصاً، لاستغنى عن إفاضتهما عليه، وإلّا فلا يكون إفاضتهما عليه، طريقاً ولا كاشفاً.

نعم كان بعض مشايخنا السادة(1) يقول بأنّ المجعول في باب الأمارة هو تتميم الكشف أو إكمال طريقيته، فلو أراد تتميمها تكويناً فهو غير ممكن بالجعل الاعتباري، وإن أراد تتميمها بالاعتبار فهو و إن كان أمراً ممكناً، لأنّ الاعتبار خفيف المؤنة، لكنّه بعيد عن الأذهان، أعني: تتميم الأمر الحقيقي بالأمر الاعتباري.

أمّا الأخيرتان: أي النظافة والقذارة العرفيتين، فهما بهذا المعنى من الأُمور التكوينية الخارجة عن حدود الجعل والاعتبار قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (2)(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (3).

2. ما تناله يد الجعل استقلالاً، وليس منتزعاً من الأحكام التكليفية الموجودة في مورده، وهذا كالزوجية والملكية، وقد برهن المحقّق الخراساني على كونهما مجعولين مستقلاً لا تبعاً للأحكام الشرعية بوجوه ثلاثة كما عرفت.

3. ما يكون منتزعاً من الأحكام التكليفية، غير مجعول استقلالاً، وهذا كالرخصة والعزيمة فانّهما أمران انتزاعيان من حكم الشارع بجواز الترك أو لزومه، والأوّل كسقوط الأذان والإقامة لمن دخل وقد أُقيمت صلاة الجماعة، والثاني

ص:95


1- . السيد الحجّة الكوهكمري قدس سره في درسه الشريف.
2- . الفرقان: 48.
3- . البقرة: 57.

كسقوط الركعتين في حال السفر.

4. ما يصحّ فيه كلا الأمرين: جعله مستقلاً، وانتزاعه من الأحكام التكليفية لكن الأظهر انّه مجعول مستقلاً وهو المتبادر من الروايات، وإليك بيان أفراد هذا الصنف، أعني:

1. الخلافة، 2. الحكومة، 3. القضاء، 4. الولاية، 5. الحجية، 6. الضمان، 7. الكفالة، 8. الصحة، 9 و 10. الطهارة، والنجاسة الشرعيتين، وإليك بيانها:

أمّا الخلافة: فيكفي في تعلّق الجعل الاستقلالي بها قوله سبحانه: (يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ) .(1)

أمّا الحكومة: فقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً».(2)

وأمّا القضاء: فقد ورد في رواية سالم بن مُكْرَم المعروف بأبي خديجة عن الصادق عليه السلام: «ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم فانّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه».(3)

وأمّا الولاية: فيكفي قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ علي يوم الغدير: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» وقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا علي أنت وليُّ كلّ مؤمن ومؤمنة».

أمّا الحجّية: بمعنى إفاضة الحجية للشيء بعدما لم يكن حجّة بالفعل، فهذا

ص:96


1- . ص: 26.
2- . الكافي: 68/1، ط دار الكتب الإسلامية.
3- . الوسائل: الجزء 18، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

يقبل الجعل الاستقلالي كما إذا قال: خبر الثقة حجّة، كما يمكن انتزاعها من الأحكام التكليفية في مورده، كما إذا أوجب العمل على وفق خبره في مقام الطاعة.

أمّا الضمان والكفالة: فيتقبلان الجعل الاستقلالي كما في قوله سبحانه: (وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (1) يمكن انتزاعهما من الأحكام التكليفية في موردهما، أعني: إلزام الشخص برد مثل ما اشتغلت به ذمّة المضمون عنه، أو إلزام الشخص بتسليم المكفول عنه.

أمّا الصحّة: فالعقلية منها غير قابلة للجعل، أعني: مطابقة المأمور به للمأتي به، وأمّا الشرعية منها أعني: قبول الناقص مكان الكامل كما في مورد قاعدتي الفراغ والتجاوز، فيصح جعلها استقلالاً، كما في قوله: «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فامضه ولا إعادة عليك»(2) فالمتبادر جعل الصحة الشرعية على العمل الناقص كما يمكن انتزاعها من الحكم التكليفي الوارد في موردها كالحكم بعدم الإعادة.

أمّا الطهارة والنجاسة الشرعيتان: فهما أعم من العرفية، إذ قد يعدّ الشرعُ القِذر طاهراً، كما في عرق الإنسان، والديدان والوذي والمذي والدم المتخلّف في عروق الحيوان، أو يحكم بنجاسة ما لا يعدّه العرف قذِراً كنجاسة الكفّار وأولادهم، ونجاسة الخمر، فهما قابلتان للجعل استقلالاً، مثل قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (3) بناء على أن الآية بصدد جعل النجاسة عليهم، كما هما قابلتان للجعل تبعاً للآثار والأحكام التكليفية، كوجوب الاجتناب عن الخمر

ص:97


1- . يوسف: 72.
2- . الوسائل: الجزء 1، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 6.
3- . التوبة: 28.

والكافر.

ومن هنا تبيّن أنّما عدّه من القسم الثالث ليس على نمط واحد بل هو على أقسام أربعة:

1. مالا يقبل الجعل أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً.

2. ما يقبل الجعل التبعي، لا الاستقلالي.

3. ما يقبل الاستقلالي دون التبعي.

4. ما يقبل كلا الأمرين.

فلاحظ

وأمّا ثمرة البحث: فتظهر في جريان الاستصحاب في كلا الحكمين إذا كان مجعولاً مستقلاً أو تبعاً للحكم التكليفي، إذ يلزم أن يكون المستصحب إمّا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، والحكم الشرعي عبارة عمّا يكون مستنداً إليه ومجعولاً بنحو من أقسام الجعل.

تمّ الكلام حول التفاصيل في حجّية الاستصحاب وبقي هناك تفصيلان:

1. التفصيل بين استصحاب الحكم الشرعيّ المستنبط من الكتاب والسنّة والمستنبط من حكم العقل، فيجري في الأوّل دون الثاني، اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره.

2. التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي، والحكم الجزئي، والموضوعات الخارجية، فلا يجري في الأوّل دون الأخيرين وهو خيرة المحقّق النراقي والمحقّق الخوئي - قدّس سرّهما وسيأتي الكلام فيهما في ضمن التنبيهات.

ص:98

التنبيهات
1- جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية

1 جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية(1)

لا شكّ في جريان الاستصحاب إذا تعلّق الشكّ بالأمر الحالي - كما إذا شكّ المتطهّر في بقاء طهارته - إنّما الكلام في جريانه إذا كان متعلّقه أمراً استقبالياً، كما إذا كان أوّل الوقت فاقداً للساتر أو واجداً له وكان نجساً وشكّ في بقاء العذر إلى آخر الوقت فيستصحب بقاءه إلى آخره ويترتّب عليه جواز البدار كما إذا علم بقاءه على نفس الحالة.

يظهر من السيد المحقّق الخوئي قدس سره جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي كجريانه في الأمر الحالي.

وقد أفتى على وفق الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية، نذكر منها ما يلي:

1. إذا كان جنباً في شهر رمضان في الليل لا يجوز له أن ينام قبل الاغتسال إذا علم أنّه لا يستيقظ قبل الفجر للاغتسال، فلو شكّ في الاستيقاظ فقال: الصحيح حرمته، لأنّ النوم المحتمل فيه عدم الاستيقاظ، محكوم بالاستمرار إلى الفجر، بمقتضى الاستصحاب، فهذا نوم مستمر إلى الصباح متعمّداً وقد صدر باختياره فهو عامداً إليه.(2)

ص:99


1- . هذا التنبيه من إضافات شيخنا الأُستاذ - مدّظلّه -.
2- . مستند العروة الوثقى: كتاب الصوم: 207.

ومثله إذا عجز عن خصال الكفّارة، ولكن يحتمل تجدّد القدرة. فهل يجوز أن ينتقل إلى البدل، أعني: صيام ثمانية عشر يوماً، أو التصدّق بما يطيق؟ فقيل نعم استناداً إلى استصحاب العجز بناءً على جريانه في الأُمور الاستقبالية كما هو الصحيح.

فالمحكّم في الأُمور الاستقبالية هو الحكم باستمرار ما سبق إلى المستقبل فيترتب عليه البدار إلّاإذا دلّ الدليل على عدم الجواز، كما هو الحال في المعذور في الطهارة الحدثية كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سمعته يقول: «إذا لم تجد ماء وأردتَ التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض».(1) فمقتضى الاستصحاب هو بقاء العذر والبدار إلى البدل لكن منع عنه النص.(2)

يلاحظ عليه: أنّ أدلّة الاستصحاب إمضاء لما عليه العقلاء في حياتهم ومعاشهم وهو عندهم الحكم ببقاء ما مضى إلى زمان الحال، وأمّا الحكم بالبقاء من زمان الحكم إلى الوقت المستقبل فليس بمعهود عندهم.

ولو صحّ ما ذكر يلزم أن يحكم على الدم في أيّام الاستظهار، بالحيض تارة والاستحاضة أُخرى، فلو قذفت الدم في غير أيام العادة ولكن تحتمل انقطاعها قبل الثلاثة، فمقتضى الاستصحاب استمرارها فلابدّ أن تكون محكومة بالحيض.

وإذا تجاوز الدم عن أيّام العادة ولم يتجاوز العشرة، فمقتضى الاستصحاب الحكم باستمرارها بعد العشر ولابدّمن الحكم عليها بالاستحاضة، لأنّ دم الحيض لا يتجاوز أيّام العادة إلّاإذا انقطعت قبل العشرة.

ص:100


1- . الوسائل: الجزء 2، الباب 22 من أبواب التيمم، الحديث 1.
2- . مستند العروة: كتاب الصوم: 355.

نعم لو كان الموضوع مجرّد اليقين والشكّ سواء كان اليقين متعلّقاً بالماضي والشك بالحال، أو كان اليقين متعلّقاً بالحال - كما في المثالين - والشكّ بالاستقبال كان لما ذكره وجه، لكن الموضوع عندهم هو القسم الأوّل لا غير.

فالمرجع في المثالين إطلاق دليل البدل، لو كان، وإلّا فالأصل العملي، أعني: الاشتغال إذا ارتفع العذر.

ص:101

التنبيهات

2- في اشتراط فعلية اليقين والشكّ
اشارة

يشترط في جريان الاستصحاب أُمور أربعة:

1. اليقين بالحدوث.

2. الشكّ في البقاء.

3. وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة بإلغاء الزمان.

4. ترتب الأثر على بقاء المتيقّن.

والمهم في المقام هو الأمران الأوّلان، أعني:

1. لزوم اليقين بالحدوث، ولا يكفي نفس الحدوث واقعاً وإن لم يتعلّق به اليقين لظهور قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» في لزوم فعلية اليقين في ذهن المستصحب.

مضافاً إلى أنّ العبد يحتج بالاستصحاب على المولى ومن أركان الاحتجاج هو اليقين بالحدوث، ولا معنى للاحتجاج بثبوت الشيء، مع عدم اليقين به، وعدم الاطّلاع عليه.

وبعبارة أُخرى: ما يصلح للاحتجاج هو العلم واليقين بوجود الشيء سابقاً، لا ثبوته وإن لم يعلم.

ص:102

فإن قلت: إنّ اليقين في مورد الاستصحاب مأخوذ بنحو الطريقية، والمراد منه المتيقّن أي لا تنقض المتيقّن، فإن كان المتيقّن حكماً شرعياً، يجب إبقاؤه، وإن كان موضوعاً ذا حكم شرعي، يجب ترتيب آثاره عليه في ظرف الشكّ، وإلّا فاليقين بمجرد طروء الشكّ يكون منقوضاً، ومعنى كونه طريقاً، العناية بالمتيقّن لا اليقين.

قلت: لا مانع من أخذ اليقين في مقام ترتيب الأثر طريقياً إلى التعلّق، وأخذه موضوعياً في مقام الاحتجاج.

ففي مقام ترتيب الأثر يكون اليقين مغفولاً عنه، وفي مقام الاحتجاج على المولى يكون ملحوظاً استقلالاً، وأمّا قوله في صحيحة ابن سنان: «فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجسه»، فليس دليلاً على عدم شرطية فعلية اليقين بتوهم أنّه قال: «وهو طاهر» ولم يقل «انّك متيقّن أنّه طاهر» وذلك لأنّ الذيل، أعني: «ولم تستيقن» دليل على تقدير اليقين في الصدر أي انّك كنت متيقّناً بطهارته ولم تستيقن أنّه نجّسه.

2. لزوم الشكّ، وذلك لنفس الدليل المذكور في اعتبار فعلية اليقين، وانّ ملاك الاحتجاج على المولى هو عدم نقض اليقين بالشك.

أضف إلى ذلك أنّ مفاد الاستصحاب حكم ظاهري وهو يتقوّم بالشك، ولذلك قالوا: تعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشكّ، فلا استصحاب مع الغفلة عن اليقين أو الشكّ، ولو فرض انّه لو التفت لأيقن، أو لشك، لا يكون مصحّحاً لجريان الاستصحاب.

ثمّ إنّه يترتب على ما ذكرنا فروع فقهيّة.

ص:103

الفرع الأوّل

إذا أحدث ثمّ غفل وصلّى، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصلاة أو لا؟

قالوا بصحّة الصلاة، لأنّ الشكّ بعد الصلاة مجرى لقاعدة الفراغ، ولا يجري استصحاب الحدث حين الصلاة، لغفلته وعدم شكّه فيه حين الصلاة.

ولكن الحقّ بطلان الصلاة، لجريان الاستصحاب وعدم جريان قاعدة الفراغ.

أمّا الثاني أي عدم جريان قاعدة الفراغ فلاختصاصها بما إذا كانت الغفلة محتملة فترتفع احتمالها بأذكريّة المصلّي حينَها، وأمّا إذا كانت الغفلةُ معلومَة كما في المقام واحتمل وقوع العمل صحيحاً (باحتمال التوضّؤ) من باب الصدفة، فالأدلّة منصرفة عنه.

ولأجل ذلك قالوا: ببطلان الوضوء في الصورتين التاليتين:

1. لو توضّأ والخاتم على اصبعه ولم يُحرّكه، وشكّ بعد العمل في أنّه هل جرى الماء تحته أو لا؟ فلا تجري قاعدة الفراغ للعلم بالغفلة حين العمل، وانّه لو جرى عليه الماء لكان من باب الصدفة.

2. لو علم بأنّ أحد الماءين مضاف، ثمّ توضّأ غفلة وشكّ بعد العمل في أنّه هل توضأ بالماء المطلق أو بالماء المضاف، فلا تجري القاعدة بنفس البيان السابق.

وأمّا جريان الاستصحاب فلكفاية الشكّ بعد الصلاة في أنّه هل تطهر بعد الحدث وقبل الصلاة أو لا؟ فيحكم - بعد الصلاة - ببقاء الحدث السابق من لدن حدوثه إلى الحالة التي توجّه فيها إلى كيفية وقوع العمل، وليس هذا من قبيل

ص:104

الاستصحاب القهقريّ، لأنّه عبارة عن جر المتيقّن بالفعل إلى الأزمنة الماضية ككون الأمر حقيقة في الوجوب فعلاً فيحكم بكونه كذلك إلى عصر الرسالة، ولكن المقام على عكسه أي من قبيل جرّ الحالة السابقة (الحدث المتيقّن قبل الصلاة إلى الحالة اللاحقة) أي من قبلِ الصلاة إلى حالها، وبعدها، والشكّ وإن كان حادثاً بعد الصلاة لكن المشكوك هو الحدث المتقدّم على الصلاة المشكوك بقاؤه فيحكم ببقائه إلى ما بعد الصلاة.

الفرع الثاني

إذا أحدث ثمّ شكّ في ارتفاعه ثمّ غفل وصلّى ثمّ شكّ في أنّه توضّأ أم لا؟

قال الشيخ والمحقّق الخراساني ببطلان الصلاة لحدوث الشكّ قبل الصلاة، وإن غفل عنه لكنّه كان موجوداً في صقع ذهنه، وعدم جريان قاعدة الفراغ لاختصاصها بما إذا كان الشكّ حادثاً بعد العمل والمفروض حدوثه قبله ولكنّه غفل عنه.

أقول: الصلاة باطلة كما صرّحا به، لجريان الاستصحاب إمّا لكفاية الشكّ المذهول عنه الموجود في صقع النفس، أو لكفاية التوجّه إلى الشكّ المذهول عنه بعد الصلاة، فيحكم ببقاء الحدث من لدن وجوده إلى زمان الفراغ من الصلاة كما تقدّم في الفرع الأوّل.

وأمّا عدم جريان قاعدة الفراغ فلوجهين:

أحدهما: ما أفاده من أنّ مجراها هوالشكّ الحادث بعد العمل لا المتقدّم عليه، الموجود في صُقع النفس.

ثانيهما: أنّ مجراها إنّما هو احتمال ترك الجزء أو الشرط مستنداً إلى احتمال

ص:105

الغفلة فيدفع بالأذكريّة حين العمل لا في مثل مقامنا الذي تكون الغفلة فيه محرزة، واحتمال الصحّة مستنداً إلى الصدفة.

فظهر ممّا سبق أنّ الصلاة في كلتا الصورتين باطلة.

الفرع الثالث

إذا كان المكلّف عالماً بالطهارة، ثمّ شكّ في بقائها، ثمّ غفل وصلّى، ثمّ شكّ في بقاء الطهارة حال الصلاة.

إنّ هذا الفرع كسابقه بيد انّ المتيقّن هنا الطهارة وهناك المتيقّن هو الحدث.

فيجري فيها استصحاب الطهارة بأحد الوجهين كما عرفت في الفرع الثاني إمّا لكون الشكّ فعلياً موجوداً في صقع النفس - و إن لم يكن ملتفتاً إليه - و إمّا لكفاية التوجّه إلى الشكّ المذهول عنه بعد الصلاة.

وعلى كلّ حال فاستصحاب الطهارة يلازم صحّة الصلاة.

نعم لا تجري قاعدة الفراغ وإن كانت تتحد في النتيجة مع قاعدة الاستصحاب للوجهين السابقين في الفرع الثاني، أعني:

1. انّ ملاكها هو الشكّ الحادث بعد العمل لا الشكّ الموجود قبل العمل.

2. انّ مجراها هوا حتمال ترك الجزء أو الشرط مستنداً إلى احتمال الغفلة لا في مثل المقام الذي كانت الغفلة محرزة فيه.

الفرع الرابع

إذا كان عالماً بالطهارة ثمّ شك في بقائها، ثمّ غفل، وصلّى، وحصل له بعد الصلاة العلم بتوارد الحالتين عليه من الطهور والحدث قبل الصلاة مع عدم معرفة المتقدم منهما عن المتأخّر. فربما يقال بجريان استصحاب الطهارة إمّا لكون

ص:106

الشكّ فعلياً - على ما عرفت - أو لكفاية التوجّه إليه بعد الصلاة، وعدم جريان القاعدة لأنّ الشكّ ليس حادثاً بعد الصلاة، بل هو نفس الشكّ السابق.

ولكن الظاهر عدم جريان الاستصحاب أيضاً لانقطاع اليقين بالطهارة وعلم المكلّف بارتفاعها قطعاً، وذلك بسبب العلم الإجمالي بتوارد الحالتين عليه بعد الشكّ، فالطهارة السابقة المتيقّنة منتفية قطعاً، إمّا لتوسط الحدث بين الطهارتين، وإمّا لوقوعه بعدهما وعلى كلّ حال فالطهارة المتيقّنة الأُولى قطعية الارتفاع فكيف تستصحب.

فإن قلت: فما هو المرجع عندئذٍ بعد عدم إمكان استصحاب الطهارة المتيقّنة الارتفاع؟

قلت: سيوافيك انّه يجب الأخذ بضد الحالة السابقة، أعني: الحدث و الحكم بكون الإنسان محدِثاً والصلاة باطلة، لأنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي تعلّقه بأمر يكون على كلّ تقدير مؤثراً ومحدثاً للتكليف كالعلم بوقوع الدم في أحد الإناءين الطاهرين، لا ما إذا علم بوقوعه في أحد الإناءين نعلم بنجاسة أحدهما معيناً، فانّه لا يحدث التكليف إلّاإذا وقع في الإناء الطاهر دون النجس.

ومثله المقام حيث علم بتوارد إحدى الحالتين بعد الطهارة الأُولى، فلو كان الوارد عليها هو الحدث لأثّر قطعاً، ولو كان الوارد هو الطهارة لما أثّر بل كان مؤكداً، فتعلّق العلم بتوارد إحدى الحالتين ليس من قبيل تعلّقه بشيء مؤثر على كلّ تقدير، وعلى هذا فالعلم الإجمالي بحدوث أحد الأمرين بعد الطهارة: إمّا الوضوء أو الحدث أشبه بما إذا علم إجمالاً بحدوث أحد الأمرين بعدها: إمّا العطسة أو الحدث، فلو كان الحادث هو العطسة لما أثّر، ولو كان الحادث هو الحدث لأثّر، فيؤخذ بما هوالمؤثر على كلّ تقدير حتى ارتفاعه وهو الحدث وسيوافيك بيانه في تنبيه خاص.

ص:107

التنبيهات

3- إذا كان المتيقّن محرزاً بالأمارة

قد عرفت أنّ اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء من أركان الاستصحاب ففيما إذا كان المتيقّن محرزاً بالوجدان، فالركن الأوّل موجود بالوجدان، وأمّا إذا كان محرزاً بدليل غير قطعي كالأمارة والبيّنة فشكّ في بقاء حكم أو موضوع، قاما عليه، فهل يجري فيه الاستصحاب؟ قيل: لا، لعدم إحراز الثبوت فلا يقين ولا بدّ منه بل ولا شكّ فانّه على تقدير لم يثبت.

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني وهو أنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل إمكان التعبد والتنزيل شرعاً في البقاء لا في الحدوث، فيكفي فيه الشكّ على تقدير الثبوت فيتعبد به على هذا التقدير، فيترتب عليه الأثر فيما كان هناك أثر - و أضاف - وبذلك يُذبُّ عمّا في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارة المعتبرة على مجرد ثبوتها وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها حيث أشكل عليه بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي ولا يكون هناك حكم آخر فعلي - وجه الذب - انّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق، حينئذٍ محكوم بالبقاء فيكون الحجّة على ثبوته، حجّة على بقائه تعبّداً للملازمة بينه و بين ثبوته.

ثمّ أورد على نفسه: أخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار، ولا يقين

ص:108

في فرض تقدير الثبوت.

وأجاب بأنّ الظاهر انّه أخذ كشفاً عنه ومرآتاً لثبوته ليكون (ليتمكن) التعبّد في بقائه، والتعبّد في فرض ثبوته إنّما يكون في بقائه.

يلاحظ عليه: إذا كان اليقين بالثبوت من أركان الاستصحاب وكان المراد منه، هو اليقين المنطقي فمعنى ذلك، هو جريان الاستصحاب، مع عدم بعض أركانه.

وما ذكره من أنّ اعتبار اليقين بالحدوث، لأجل إمكان التعبد في البقاء فيكفي الشكّ على تقدير الثبوت، بمعنى نفي ركنية اليقين في جريان الاستصحاب.

فإن قلت: إذا كان اليقين مأخوذاً على نحو الطريقية إلى المتعلّق ليتمكن من الحكم بالبقاء وعليه يكفي فرض ثبوته مع الشكّ في البقاء.

قلت: إنّ اليقين وإن كان مأخوذاً على نحو الطريقية إلى المتعلّق، لكنّه في مقام الاحتجاج أخذ على نحو الموضوعية فيحتجّ على المولى باليقين السابق، وانّه أمر صلب لا ينقصه الشك. ومثله يتوقف على اليقين الفعلي، لا التقديري.

الثاني: انّ اليقين بالحكم الواقعي وإن لم يكن موجوداً لكن اليقين بالحكم الظاهري متحقّق بما على القول بأنّ مآل حجّية الأمارات إلى جعل الحكم الشرعي المماثل لمؤدّى الأمارة.

يلاحظ عليه: أنّ المجعول في الأمارة ليس إلّاإمضاء ما بيد العرف والعقلاء، وحجّية الأمارة عندهم ليس إلّا لكونه منجِّزاً عند الإصابة، ومعذِّراً عند المخالفة، فلو صادفت الواقع، فالحكم المجعول هو الواقع الذي تنجّز بالأمارة وإن خالف

ص:109

يبقى الحكم الواقعي على شأنيته من دون جعل حكم ثانوي بل يكون المكلّف معذوراً.

الثالث: ما أجاب به المحقّق النائيني وقال: إنّ منشأ الإشكال توهم كون المجعول فيها المنجّزيّة والمعذِّرية، لا الإحراز والوسطية في الإثبات فإذا كان المجعول فيها هو الثاني، تكون حال الأمارات، حال العلم في صورة المطابقة والمخالفة، ويكون المؤدّى محرزاً، ويجري فيه الاستصحاب عند الشكّ كما لو كان محرزاً بالعلم الوجداني بلا إشكال أصلاً.(1)

وحاصله: انّ الشارع جعل الأمارة منزلة العلم، فكما أنّ العلم محرز للواقع فكذا الأمارة محرزة للواقع، تعبّداً، فصار للعلم فردان: وجداني وتعبدي، فيكون المكلّف بعد قيام الأمارة محرِزاً للواقع وعالماً به، وبما أنّ اليقين في أدلّة الاستصحاب لم يؤخذ بما هو وصف قائم في النفس بل أخذ طريقاً صحّ قيام الأمارة مقام اليقين.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّما ذكره من أنّ المجعول في باب الأمارات هوالوسطية في الإثبات والطريقية والإحراز، مبني على وجود الجعل فيها، وأمّا على القول، بأنّ حجّية الأمارات إمضائي لا تأسيسيّ، أي إمضاء ماعليه العقلاء بما انّها مفيدة للإطمئنان، أو مصيب للواقع غالباً فيكون الجواب أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

وثانياً: نفترض انّ حجّية الأمارة مجعولة لكن الطريقية أو الوسطية في الإثبات وما يشابهما غير صالحين للجعل، لأنّهما بالمعنى التكويني غير قابلين للجعل، لأنّ الشيء في التكوين إمّا طريق أو غير طريق، فالقطع و الظن

ص:110


1- . فوائد الأُصول: 404/4 بتصرف.
2- . مصباح الأُصول: 99/3.

طريقان، والشكّ والوهم ليسا بطريقين، وبالمعنى الاعتباري وإن كانا قابلين للجعل، لكن لا حاجة إليه بعد كون الأمارة واجدة له ناقصاً نسبيّاً تكويناً وبمعنى تتميم الكشف غير معقول، لأنّ التتميم إنّما يتصوّر إذا كان المتمم والمتمم من سنخ واحد لا من سنخين كما في المقام.

الرابع: أن يقال: إنّ اليقين يستعمل في موردين:

1. اليقين المنطقي، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، كما في قوله: (وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ) .(1)

2. الحجّة أي ما يحتج به العبد على المولى، والمولى على العبد، سواء كان اعتقاداً جازماً، أو ما جعله الشارع حجة في دائرة إطاعة أوامره ونواهيه.

وقد استعمل العلم واليقين بهذا المعنى في الأبواب التالية:

1. باب النهي عن القول بغير علم.

2. باب النهي عن الاستيكال بالعلم.

3. باب النهي عن الإفتاء بغير علم.(2)

ومن المعلوم جواز القول والإفتاء بالحجج الشرعية، واليقين الوارد في أخبار الاستصحاب هو اليقين بمعنى الحجّة، لا اليقين المنطقي.

والذي يدل على أنّ اليقين الوارد في صحاح زرارة ليس هو اليقين بالمعنى المنطقي، بل بمعنى الحجّة الشرعية، هو أنّ المستند، لطهارة بدن زرارة وثوبه، والماء الذي توضأ به، هو أصالة الطهارة، أو إخبار زوجته، أو غير ذلك من

ص:111


1- . المدثر: 46-47.
2- . الكافي: 43/1-46.

الأمارات الجارية في الموضوعات فلم يكن له يقين بالمعنى المنطقي، وعلى ذلك فمعنى لا تنقض اليقين بالشك، أي لا تنقض الحجّة باللا حجة.

هذا كلّه حول الأمارات، وأمّا مفاد الأُصول فلا حاجة في إحراز حكمها إلى الحالة اللاحقة بالاستصحاب، بل دليل الأصل كاف لإثبات حكمه في ثواني الحالات وثوالثها، لأنّ الموضوع هو الشكّ وهو كاف في الحكم بالطهارة والحلية في الآن الثاني والثالث، ولذلك تكون أصالة الطهارة والحلية متقدمتين على استصحابهما، لما مرّ من أنّهما أقل مؤنة حيث يكفي في جريانهما الشكّ من دون حاجة إلى لحاظ الحالة السابقة، بخلاف الاستصحاب، فالموضوع فيه هو الشكّ الملحوظ فيه الحالة السابقة.

ص:112

التنبيهات

4- في استصحاب الكلّي
اشارة

ولنقدّم أُموراً:

1. ما هو المراد من الكلّي في المقام؟

المراد من الكلّي في المقام، هو ذات الطبيعي، والذي يعبّر عنه بالكلّي الطبيعي الذي تعرضه الكلية ويسمّى العارض والمعروض كلياً عقلياً، وعليه يكون المراد من استصحابه هو استصحاب الجامع بين الفردين من الحكم إذا كان الاستصحاب حكمياً، أو الجامع بين الموضوعين إذا كان الاستصحاب موضوعياً.

2. في بيان أقسام استصحاب الكلي

ذكر الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني له أقساماً ثلاثة، وزاد المحقّق الخوئي عليها قسماً رابعاً، وإليك البيان:

الأوّل: إذا علم بتحقّق الكلّي (الإنسان) في ضمن فرد، كزيد وشكّ في بقائه، فكما يجوز استصحاب الفرد، كذلك يجوز استصحاب الجامع بينه و بين فرد آخر وهو الإنسانية، لأنّ العلم بوجود زيد في البيت، يستعقب علمين. علماً بوجود فرد من الإنسان فيه، وعلماً بوجود الإنسان بلا لحاظ الخصوصية، فعند الشكّ يجوز استصحاب الفرد كما يجوز استصحاب الكلّي.

ص:113

الثاني: إذا علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد مردّد بين متيقّن الزوال و متيقّن البقاء، كما إذا علم بوجود إنسان في الدار مردّد بين زيد الذي هو قطعي الزوال وعمرو الذي هو متيقّن البقاء.

وأمّا المثال الفقهي، فكما إذا علم بخروج رطوبة مردّدة بين البول والمني فتوضأ ولم يغتسل، فلو كان الفرد الحادث، الحدثَ الأصغر فقد ارتفع قطعاً، ولو كان الحدث الأكثر فهو باق قطعاً فيُستصحَب بقاءُ الحدث.

ومثله ما إذا عكس، أي اغتسل ولم يتوضأ، فلو كان الحدث هو الأكبر، فقد ارتفع، ولو كان هو الأصغر فهو باق، لأنّ الغسل إنّما يُزيلَ الحدثَ الأصغر إذا كان الحدثُ الأكبر أمراً قطعياً، لا ما إذا كان مشكوكاً.

وربّما يكون المستصحب مردّداً بين متيقّن الارتفاع، ومحتمل البقاء، ففي المثال المزبور إذا توضأ ومع ذلك احتمل الاغتسال أيضاً، فالحدث الأصغر قطعي الارتفاع، ولكن الأكبر محتمله، فيستصحب الكلي والجامع بين الحدثين.

الثالث: إذا علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معين قطعي الزوال ولكن يحتمل أن يكون في البيت، فرد آخر أيضاً مقارناً، مع وجود الأوّل، أو مقارناً مع زواله.

وأمّا مثاله الفقهي، فكما إذا نام و احتمل احتلامه في النوم فتوضّأ بالفرد المتحقّق في ضمنه الكلّي قطعي الارتفاع لكن نحتمل بقاء الكلي في ضمن فرد آخر مقارن معه وهو الجنابة فيستصحب مطلق الحدث.

الرابع: إذا علم بوجود فرد معين وعلمنا بارتفاع هذا الفرد، ولكن علمنا بوجود معنون بعنوان يحتمل انطباقه على هذا الفرد المرتفع، وعلى الفرد الآخر الباقي، كما لو علم بوجود زيد في الدار وعلم بوجود قرشي فيها، يحتمل أن يكون

ص:114

هذا القرشي هو نفسَ زيد، ويحتمل أن يكون غيره.

والفرق بين القسم الثالث والرابع هو وحدة العلم في الثالث حيث يعلم بوجود زيد في الدار ولكن يحتمل أن يكون معه فرد آخر؛ بخلاف المقام، فإنّ هنا علمين مستقلين: علم بوجود زيد في الدار، وعلم بوجود القرشي فيها، لكن يحتمل اتحادهما مصداقاً، فلو خرج زيد منها، شك في بقاء الإنسان فيستصحب الكلّي. أضف إليه أنّ البقاء في القسم الثاني رهن تعدّد الفردين قطعاً، لكن البقاء في القسم الرابع رهن احتمال تعدّد الفردين.

ومثاله الفقهي: إذا علم بالجنابة ليلة الخميس واغتسل منه، ثمّ رأى المني في ثوبه يوم الجمعة يحتمل أن يكون أثراً للجنابة المرتفعة، كما يحتمل أن يكون أثراً للجنابة الجديدة، فيستصحب الحدث الجامع حيث يعلم بحدوث الجنابة حين خروج المني المرئي.

3. ترتب الأثر على الجامع

انّ الأثر تارة يترتب على الفرد بما له من الخصوصية، كحرمة المكث في المسجد والعبور عن المسجدين، فانّه مترتب على عنواني الجنابة والحيض.

وأُخرى على مطلق الحدث، كحرمة مس القرآن والدخول في الصلاة، فاستصحاب الكلّي إنّما ينفع إذا كان الأثر مترتباً على الجامع دون الفرد.

إذا عرفت هذه الأُمور، فلنأخذ كلّ واحد من الأقسام بالبحث.

القسم الأوّل من أقسام استصحاب الكلّي

إذا علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد، كالحدث في ضمن الجنابة، ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه فكما يجوز استصحاب الفرد فيترتب عليه أثره، كالمكث في

ص:115

المساجد، والعبور من المسجدين، يجوز استصحاب الجامع بين الأحداث ويترتب عليه حرمة مسِّ كتابة القرآن.

فإن قلت: إذا تحقّق الكلّي في ضمن فرد كالإنسان في ضمن زيد، والحدث في مثل الجنابة، فقد تحقّق في مصداق خاص، وخرج عن كونه كليّاً، وعلى ضوء هذا يرجع استصحاب الكلي إلى استصحاب الفرد.

قلت: ما ذكر وإن كان صحيحاً، لأنّ الطبيعي يتكثر بتكثر أفراده ويكون عين الفرد ونفسه، و - مع ذلك - لا مانع من النظر إلى الطبيعي بمنظارين: النظر إليه بما هو متحقّق في الخارج مع المشخّصات الفرديّة التي تُمثِّل زيداً، و النظر إليه بما هوهو مع قطع النظر عن الخصوصيات الشخصية، والعناوين المفرِّدة، وهذا هو المراد من استصحاب الكلي، من غير فرق بين كون الجامع جامعاً للموضوعات كالإنسانية، أو جامعاً للأحكام، فإذا دلّ الدليل على وجوب الشيء، فكما يصحّ استصحاب الفرد، أعني: الوجوب، يصحّ استصحاب الطلب الجامع بين الوجوب والندب.

وتصوّر أنّ المجعول هو الفرد، أعني: الوجوب دون الجامع، مدفوع، لانّ جعل الفرد، هو عين جعل الطبيعي، فإيجاد زيد في الخارج عين إيجاد الإنسان، وإنشاء الوجوب في عالم الاعتبار عين إنشاء الطلب.

استصحاب الكلي لا يُغني عن استصحاب الفرد

لا شك في أنّ استصحاب الكلي لا يُغني عن استصحاب الفرد، فلو قال «للّه عليّ التصدق بدرهم إذا كان إنسان في البيت» وقال أيضاً: «للّه عليّ التصدق بدينار إذا كان فيه زيد» فاستصحاب بقاء الإنسان لا يثبت شرعاً،

ص:116

وجود زيد فيه، فلا يجب عليه إلّاالدرهم، وأمّا الدينار فإنّما يجب إذا كان بقاء زيد، مجرى للاستصحاب.

إنّما الكلام في العكس وهو إغناء استصحاب الفرد عن استصحاب الكلي، وترتيب أثر الكلّي عند استصحاب الفرد، كإيجاب التصدّق بالدرهم والدينار باستصحاب بقاء زيد في الدار، وعند ذاك يكون استصحاب الكلي أمراً لغواً لقيام استصحاب الفرد مكانه هذا فقد اختلفت كلمتهم في ذلك.

فيظهر من المحقّق الخراساني كونه مغنياً، حيث قال: فإن كان الشكّ في بقاء ذات العام من جهة الشك - في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه - كان استصحابُه، استصحابَه.

واختار في تعليقته خلافه، وقال: إنّ الفرد وإن كان عين الكلّي بالدقة، إلّاأنّه غيره عرفاً، إلّاأن يقال انّ العرف ربّما يتسامح ويرى أثر الكلي، أثر الفرد.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الفرد عينُ الطبيعي عرفاً وعقلاً، فليس الإنسان عنده شيئاً، والمصداق شيئاً آخر، بل الفرد الخارجي، مصداق العنوانين عند العرف أيضاً.

ومع ذلك فيمكن أن يقال انّ استصحاب الفرد لا يغني عن استصحاب الكلّي إذا كان الأثر مترتباً على عنوان الإنسان، كما إذا قال: للّه علي التصدّق بدرهم إذا كان في البيت إنسان، وذلك لما أفاده سيدنا الأُستاذ قائلاً بأنّ حيثية الكلي غير حيثية الخصوصيات الفردية في عالم الاعتبار ومقام تعلّق الأحكام بالموضوعات، فإيجاب إكرام كلّ إنسان، غير إكرام زيد وعمرو، فالحكم تعلّق في الأوّل بحيثية إنسانية كلّ فرد و هو غير الخصوصيات الفرديّة، فإسراء الحكم من

ص:117


1- . درر الفوائد في شرح الفرائد بتلخيص منّا.

أحد المتحدين في الوجود والمختلفين في الحيثية إلى الآخر، بالاستصحاب لا يمكن إلّابالأصل المثبت.(1)

وحاصل ما أفاده انّ عنوان الإنسانية، غير عنوان الفردية، ففي مقام جعل الحكم، ترتب التصدّق بالدرهم بالعنوان الأوّل، والتصدّق بدينار بعنوان الفرد كزيد، فلا يصحّ إثبات أحد العنوانين الملازمين باستصحاب الآخر.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان الأثر مترتباً على عنوان الإنسان، فلا يثبت باستصحاب الفرد، وأمّا إذا كان الأثر مترتباً على مصداقه وواقعه فيثبت باستصحاب الفرد، لأنّ العلم بوجود زيد في البيت علم بأمرين: الإنسانية، والخصوصية الفردية، فاستصحاب الكلّ وإثبات أحد جزئيه، ليس من الأُصول المثبتة، لأنّ العلم بالفرد منحل إلى العلم بشيئين، والعلم بذات الطبيعي مندرج في العلم بالفرد فلا يكون مثل هذا من قبيل استصحاب أحد المتحدين وإثبات المتحد الآخر، بل من قبيل استصحاب الكلّ وإثبات أحد الأجزاء.

القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي

إذا علمنا بوجود الكلّي في ضمن فرد مردّد بين متيقّن الارتفاع، ومتيقّن البقاء، أو مردّد بين متيقّن الارتفاع ومحتمل البقاء، وقد تقدّم مثالهما، فهل يجوز استصحاب الجامع أي الحدث، ليترتب عليه لزوم الغُسْل للدخول في الصلاة؟

ثمّ أثر أحد الفردين بالنسبة إلى الآخر قد يكون من قبيل الأقل والأكثر، كما إذا علمنا بإصابة ثوبه نجس، مردّد بين الدم والبول، فغسله مرّة، فلو كان المصيب هو الدم فقد طهر الثوب، وإن كان البول فلا يطهر إلّابغسل ثان، وقد

ص:118


1- . رسائل الإمام الخميني: 1/126.

يكون من قبيل المتباينين، كما إذا تردّدت الرطوبة بين البول والمني، حيث إنّ أثر البول لا يرتفع إلّابالوضوء، بخلاف أثر المنيّ فلا يرتفع إلّابالغسل.

ومثله ما إذا شرب حيوان نجس من الإناء، وتردّد بين الكلب و الخنزير، فعلى الأوّل يجب غسله مرّتين مع التعفير، وعلى الثاني يجب الغسل سبع مرّات، فلو غسله مرتين مع التعفير، يستصحب بقاء نجاسة الإناء.

نعم استصحاب الجامع لا يثبت أثر الفرد بل يثبت الاشتغال فقط لكن العقل يحكم بأنّ البراءة اليقينية رهن ترتيب أثر كلا الفردين. فاستصحاب الجامع يثبت الاشتغال، والعقل يتّخذه موضوعاً لحكمه وهو وجوب تحصيل البراءة، ولا تحصل إلّابالقيام بعملين: الوضوء والغسل، هذا وقد أشكل على هذا القسم من استصحاب الكلّي، بوجوه:

الأوّل: اختلال أركان الاستصحاب

إنّ من أركان الاستصحاب هو القطع بالحدوث، والشكّ في البقاء، ولكنّ الأمر في هذا المورد على العكس، لأنّ الفرد القصير - على فرض كونه الموجود في الدار - قطعيّ الارتفاع، والفرد الطويل مشكوك الحدوث، والأصل عدم حدوثه، ومع نفي الفردين فلا يبقى مورد لاستصحاب الكلي، لأنّه متحقّق بين ذا وذا، وقد تبيّن أنّ الأوّل على فرض حدوثه قطعيّ الزوال، والثاني مشكوك الحدوث.

والجواب: انّ ما ذكر صحيح لكنّه يحول دون استصحاب الفرد لابتلاء استصحاب كلّ من الفرد الطويل والقصير بالإشكال كما عرفت، لكنّه لا يمنع من استصحاب الكلي، ويكفي فيه أنّ حدوث الجامع قطعيّ وارتفاعه

ص:119

مشكوك.

الثاني: حكومة الأصل السببي على المسببي

إنّ الأصل السببيّ حاكم على الأصل المسببيّ دون ريب، فلو شككنا في طهارة ماء قليل مسبوق بالطهارة وغَسَلْنا به الثوبَ النجس يُحكم بطهارة الثوب، ولا يجري استصحاب نجاسته، لأنّ الشكّ في طهارة الثوب ونجاسته مسبّب عن طهارة الماء، فإذا حكم الشارع بطهارته فكأنّه نفى الريب والشكّ عن ناحية الثوب لقوله مثلاً: «كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر».

والمقام مثله لأنّ الشكّ في بقاء الجامع وارتفاعه مسبب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه، فبقاء الجامع معلول لحدوث الفرد الطويل، وعدمه معلول لعدم حدوث الفرد الطويل، فإذا جرى الأصل في ناحية الفرد الطويل وأنّ الأصل عدم حدوثه، يرتفع الشكّ في ناحية الجامع يحكم بعدمه.

لا يقال: إنّ جريان الأصل في ناحية الفرد الطويل، معارض بجريانه في ناحية الفرد القصير، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل، يعارض أصالة عدم حدوث الفرد القصير.

لأنّا نقول: إنّ الأصل في جانب الفرد القصير فاقد للأثر الشرعي، لأنّه على فرض وجوده قد زال فلا يترتب عليه أثر بعد مضيّ مدّة لا يعيش فيها، بخلاف الفرد الطويل إذ يترتب على وجوده الأثر فيصحّ نفيه لنفي أثره.

الأجوبة الثلاثة عن الإشكال الثاني

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

ص:120

1. انّ بقاء الكلّي وإن كان مسبباً عن كون الحادث هو الفرد الطويل، لكن ارتفاعه ليس من لوازم عدم حدوث الفرد الطويل، لأنّ عدم حدوثه لا يلازم ارتفاع الحيوان لوضوح أنّ نفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام، بل ارتفاع الحيوان مسبب عن كون الحادث هو الفرد القصير ولكن ليس له حالة سابقة حتى يُستصحب كون الحادث هو الفرد القصير ويترتب عليه ارتفاع بقاء الحيوان.

2. انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على الأصل المسببي إذا كان هناك تعدد واثنينية كطهارة الماء الحاكمة على نجاسة الثوب، وأمّا المقام فنفي الفرد الطويل عين نفي الجامع، لأنّ الجامع نفس الفرد وجوداً وعدماً، فليس بين الجامع والفرد - وجوداً وعدماً - سببيّة ومسببيّة.

3. انّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على المسببي إذا كانت الملازمة بينهما شرعية كالمثال المذكور، فانّ طهارة الماء المغسول به الثوب النجس، يلازم طهارة الثوب، لقولهم: «كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر» وأمّا المقام فوجود الجامع، وعدمه يترتب على وجود الفرد وعدمه، عقلاً لا شرعاً، لأنّ العقل يحكم بأنّ الطبيعي يُوجد وينعدم بوجود الفرد وعدمه.

تطبيقات

ثمّ إنّه يلزم طرح فروض لترويض الذهن وإيجاد ملكة الاجتهاد بغية وقوف الطالب على كيفية ردّ الفروع إلى الأُصول:

الأوّل: لو كان متطهراً وخرج منه بلل مردّد بين البول والمني، ثمّ توضأ، فلو كان الحدث هو الأصغر فهو قطعيّ الارتفاع بالوضوء، ولو كان الحدث هو الأكبر فهو قطعي البقاء، فما هو المرجع في هذا الفرض؟

ص:121

الجواب: انّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير، وهذا الشرط موجود في المقام، لأنّه لمّا كان متطهراً فلو كان البلل بولاً لأثّر في إيجاب الوضوء، ولو كان منيّاً لأثّر في إيجاب الغسل، ولأجل ترتب الأثر على كلّ واحد من طرفي العلم صار الأصلان في كلا الجانبين، متعارضين فأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر معارض بأصالة عدم حدوث الحدث الأكبر، فيتساقطان، ويكون المرجع بعد سقوطهما هو استصحاب الحدث المؤثِّر الذي تعلّق به العلم، وعندئذٍ يستقل العقل بالجمع بين الطهورين: الوضوء و الغسل، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، ولا يحصل إلّابالجمع.

الثاني: لو كان محدثاً بالحدث الأصغر وخرج منه بلل مردّد بين البول و المني فما هو المرجع عندئذ؟

أقول: إنّ العلم الإجمالي بخروج أحد البللين في المقام غير مؤثِّر على كلّ تقدير، لأنّه لو كان البلل هو البول لم يؤثّر قطعاً لافتراض كونه محدِثاً بالحدث الأصغر، فلا يجري فيه الأصل لعدم ترتب الأثر على وجوده، حتى ينفى بالأصل ولو كان الحادث هو المنيّ لأثر، فيجري الأصل في ناحية الحدث الأكبر بلا معارض لترتب الأثر على وجوده فينفى بالأصل.

هذا كلّه حول الأصل وعدم جريانه.

وأمّا عدم جريان استصحاب الجامع بين الحدثين فلأنّ العلم لم يتعلّق بالحدث المؤثِّر حتى يصحّ استصحابه لما عرفت من أنّ الحدث لو كان صغيراً فلا يؤثِّر لكونه محدِثاً به من ذي قبل.

نعم لو كان حدثاً كبيراً لأثّر، ولكنّه مشكوك مرفوع بالأصل، ففي هذا المورد يقتصر على الوضوء ولا يجب الجمع.

ص:122

الثالث: إذا علم أنّه محدث بالحدث الأكبر ثمّ خرجت منه رطوبة مردّدة بين البول والمني فليس هذا العلم الإجمالي منجّزاً بل هو أسوأ حالاً من الصورة الثانية. لكون العلم فيها مؤثراً على تقدير دون تقدير، بخلاف المقام فإنّه ليس مؤثراً على كلا التقديرين لعدم ترتّب الأثر على خروج البول ولا على خروج المني بعد كونه جُنباً.

الرابع: لو كانت الحالة السابقة مجهولة وخرج منه بلل مردّد بين البول والمني فتوضأ، فهذه الصورة من قبيل الشبهة المصداقية للعلم الإجمالي، لأنّه لو كان متطهراً كان العلم الإجمالي منجِّزاً فيجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل.

ولو كان محدِثاً بالحدث الأصغر، كان منجِّزاً على تقدير، دون تقدير، واستصحاب الجامع استصحاب لحدثٍ غير مؤثر فيكفي الوضوء.

ولو كان محدثاً بالحدث الأكبر، لم يكن العلم الإجمالي منجِّزاً أصلاً لتعلّقه بحدث غير مؤثر مطلقاً، سواء أكان بولاً أم منيّاً.

وبما أنّه مردّد بين إحدى الصور السابقة فلا محيص من الاحتياط بالجمع بين الطهارتين، إذ لا تحصل البراءة اليقينية إلّابها.

الخامس: إذا تردّدت نجاسة شيء بين الذاتية والعرضيّة، كالصوف المردّد بين كونه صوف خنزير، أو صوف غنم متنجس، فلو غسله يتردّد الأمر بين كونه قطعيّ الارتفاع وقطعي البقاء، فيرجع إلى استصحاب الجامع بين النجاستين للعلم بالجامع في زمان واحد.

السادس: لو شكّ في نجاسة صابون لاحتمال اتخاذه من دهن حيوان غير مذكّى، فبما انّ الشبهة موضوعية يحكم بطهارته، ثمّ إذاعرضت عليه النجاسة، وأُزيلت، فهل يجري استصحاب النجاسة بوجه كلّي، لأنّه من قبيل تردّد الجامع

ص:123

بين تحقّقه بين فرد مقطوع الارتفاع (النجاسة العرضية) ومقطوع البقاء (النجاسة الذاتية) أو لا يجري؟ والتحقيق هو الثاني، لأنّه إنّما يجري إذا كان علم بالجامع في زمان واحد، كما في مسألة الصوف وإن كان مردّداً بين كونه نجساً ذاتياً أو عرضياً، بخلاف المقام ففي طرف احتمال النجاسة الذاتية لم يكن أيّ احتمال للنجاسة العرضية فضلاً عن العلم بها، وعند عروض النجاسة العرضية القطعية، كان الصابون محكوماً بالطهارة من ناحية النجاسة الذاتية، وإن كان محكوماً بالنجاسة العرضية، فإذا زيلت، أُزيل الفرد والجامع المتحقّق فيه.

فإن قلت: العلم بالنجاسة العرضية، يلازم العلم بالجامع، فما المانع من استصحاب الجامع.

قلت: نعم ولكن تعلّق العلم بالجامع من خلال العلم بالنجاسة العرضية فإذا زالت زال الجامع.

السابع: إذا علم بنجاسة أحد طرفي العباءة ثمّ غسل طرفه الأعلى، ومسح بيده كلا الطرفين فيلزم على القول بجريان استصحاب النجاسة على الوجه الكلي، الحكم بنجاسة الملاقي قطعاً، مع أنّه لاقى مشكوك النجاسة ومقطوع الطهارة.

وأيضاً يلزم زيادة الفرع على الأصل، حيث إنّ ملاقي أحد الطرفين في الشبهة المحصورة، طاهر كما مرّ، ولكن مقتضى استصحاب الجامع نجاسة الملاقي، وهو كما ترى.

فهذه هي الشبهة العبائية التي طرحها السيد إسماعيل الصدر والد آية اللّه السيد صدر الدين أحد زعماء الحوزة العلمية بعد رحيل مؤسسها الحائري - قدّس اللّه أسرارهم - وهو بظاهره أحد الإشكالات على استصحاب الجامع في القسم الثاني.

ص:124

وقد أُجيب عن الإشكال بوجوه نذكر اثنين منها:

الأوّل: نلتزم بنجاسة الملاقي، لأنّ القول بطهارته فيما إذا لم يمكن هناك أصل حاكم على نجاسته كما في المقام حيث إنّ استصحاب الجامع يقتضي نجاسة ملاقيه.

نعم يلزم منه التفكيك بين الحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة الملاقى وهو ليس بمحذور لإمكان التفكيك بين المتلازمين في مؤدّيات الأُصول فيحكم بنجاسة الملاقي دون الملاقى.(1)

يلاحظ عليه: أنّ جريان الاستصحاب في مثل هذا المورد الذي لا يخضع له الوجدان، قيد نصّ يفرض على الفقيه التعبّد به بالخصوص ولا يمكن الاقتصار فيه بإطلاق «لا تنقض» الذي هو منصرف عن مثل هذا المورد الذي يزيد فيه الفرع على الأصل، لأنّ نجاسة الملاقى إنّما هو من الملاقي فكيف يحكم بنجاسة الفرع دون الأصل؟

جواب السيد الصدر

قد أجاب السيد الشهيد الصدر انّ استصحاب الجامع وإن كانت أركانه تامّة لكن لا يترتب على مؤدّاه نجاسة اليد الملاقية مع الطرفين إلّابالملازمة العقلية، لأنّ نجاسة الجامع لو فرض محالاً وقوعها على الجامع وعدم سريانها إلى هذا الطرف أو ذاك، لا تسري إلى الملاقي، لأنّ نجاسة الملاقي موضوعها نجاسة هذا الطرف أو ذاك الطرف لا الجامع بما هو جامع (فما هو محكوم بالنجاسة، أعني الجامع ليس موضوعاً لنجاسة الملاقي، وأمّا ما هو موضوع لنجاسة

ص:125


1- . مصباح الأُصول: 112/3.

الملاقي فليس محكوماً بالنجاسة إلّابالملازمة العقلية) فإثبات نجاسة أحد الطرفين بخصوصه بنجاسة الجامع يكون بالملازمة العقلية.

حاصله: انّ استصحاب الجامع وبقاءه يلازم عقلاً نجاسة الملاقى، لأنّ المفروض تطهير الطرف الأسفل، فلو كان الجامع باقياً فلابدّ أن يكون باقياً في الجانب الأعلى (الملاقى) وبعد ثبوت نجاسته بالملازمة، يصحّ الحكم بنجاسة الملاقي (أي اليد) لما عرفت من أنّ نجاسة الملاقي من آثار نجاسة الملاقى.

يلاحظ عليه: أنّه ما الفرق بين استصحاب الجامع والمنع من الدخول في الصلاة به وبين نجاسة الملاقى، فلماذا يترتب الأوّل دون الثاني؟

اللّهمّ إلّاأن يقال: انّ منع الدخول من آثار استصحاب الجامع، وأمّا نجاسة الملاقي فمن آثار نجاسة هذا الطرف وذاك فلم يثبت.

ما هوالمختار في الجواب؟

استصحاب الجامع غير جار هنا، وذلك لأنّ من شرائط جريانه وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة، وليس المقام كذلك، لأنّ العلم بالجامع في الطرف السابق كان مقروناً بالعلم لوجود النجس في البين، وانّه إمّا في هذا الطرف أو ذاك الطرف على نحو كان يصحّ لنا القول بأنّ هذا الثوب نجس إمّا أعلاه وإمّا أسفله، وأمّا بعد غَسل الطرف الأسفل لا يصحّ ترديد النجاسة بين الطرفين بل يكون الطرف الأسفل طاهراً قطعاً، والطرف الآخر مشكوك النجاسة فأين الحالة الثانية من الحالة المتيقّنة؟ فكيف يستصحب حكم الحالة السابقة ويجرّ إلى الحالة الثانية مع اختلافهما؟

ص:126

وهذا نظير العلم بنجاسة أحد الإناءين في زمان واحد مع إراقة واحد منهما فلا يصحّ لنا استصحاب النجاسة، لأنّ العلم بالجامع في السابق كان على نحو يصحّ لنا القول بأنّ النجس إمّا في هذا الإناء أو في ذاك وبعد الإراقة لا يصحّ لنا هذا التعبير.

نعم يجب الاجتناب عن الإناء الآخر، وذلك لا لاستصحاب الجامع، بل لأجل أنّ الاجتناب أثر العلم الإجمالي السابق.

القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي

ومورد هذا القسم هو الشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم الارتفاع، وقد ذكروا انّ لهذا القسم صوراً ثلاث:

الأُولى: إذا كان الشكّ في بقاء الكلي لأجل احتمال معية فرد مع الفرد المعلوم الارتفاع، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، ولكن احتملنا مصاحبة عمرو معه في ذلك الوقت، ثمّ علمنا بخروج زيد فيستصحب بقاء الإنسان بعد الشكّ.

الثانية: تلك الصورة، ولكن احتملنا قيام فرد مقامه عند خروجه، كما إذا علمنا بخروج زيد واحتملنا دخوله إلى البيت عند خروجه.

الثالثة: إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال حدوث مرتبة من مراتب وجودها بعد العلم بارتفاع مرتبة أُخرى، كما إذا علمنا بارتفاع السواد الشديد واحتملنا حدوث مرتبة ضعيفة، أو ارتفاع السواد بعامّة مراتبه، وإليك دراسة الأقسام:

ص:127

الصورة الأُولى

ربّما يقال بجريان الاستصحاب بأنّ العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج يلازم العلم بحدوث الكلّي فيه، وبارتفاع الفرد الخاص يشكّ في ارتفاع الكلّي، وذلك لاحتمال قيام فرد آخر مكانه لأجل مصاحبته معه، فلم تختل أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق.

وقد ذهب الشيخ إلى التفصيل بين هذه الصورة والصورة التالية فقال بحجية الاستصحاب في الأُولى دون الثانية، قال: أو التفصيل بين القسمين فيجري في الأوّل (دون الثاني) لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً فيتردّد الكلي المعلوم سابقاً، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشكّ حقيقة إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من الكلّي كما عرفت هو ذات الطبيعي، والمفروض أنّه يتكثّر مع تكثّر الأفراد، فليس الطبيعي موجوداً شخصيّاً قائماً بجميع الأفراد، بل هو أمر واحد نوعي يتكثّر مع تكثّر الأفراد، فنسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء إلى الأولاد فعند ذلك فالمتيقّن هو الطبيعي الموجود في ضمن الفرد الأوّل، والمحكوم بالبقاء هو الطبيعي الموجود في ضمن الفرد الثاني فكانت القضية المشكوكة غير القضية المتيقّنة.

ومنشأ الخلط هو خلط الوحدة المفهومية النوعية، مع الوحدة المصداقية فالإنسان واحد بالنوع أي مفهوماً وليس هو المستصحب، ومتعدد مصداقاً

ص:128


1- . الفرائد: 372.

وخارجاً وهذا هو المستصحب.

وما أفاده من الفرق بين الصورتين، غير فارق، لأنّ احتمال كون الفرد مع الفرد الأوّل أو نائباً عنه لا يوجب وحدة القضيتين ولا تغائرهما، بعد كون الطبيعي الموجود في ضمن زيد، غيره في ضمن عمرو.

الصورة الثانية

إذا كان احتمال بقاء الكلي مستنداً إلى قيام فرد آخر مقامه، عند زواله وبما أنّك عرفت عدم جريانه في الصورة الأُولى، فعدم جريانه في هذه الصورة أوضح لما عرفت: أنّ بين زيد الخارج عن البيت وعمرو المحتمل دخوله وحدة مفهومية ولكنّها ليست موضوعاً للاستصحاب، وإنّما الموضوع له هو الوحدة الخارجية. وهي غير متحقّقة، لأنّ هناك إنسانين، وإنسانية كلّ تغاير إنسانية الآخر ومعه كيف يصحّ استصحابه؟

نعم لو قلنا برأي الرجل الهمداني في الكلّي الطبيعي من أنّه واحد شخصي قائم بجميع الأفراد لكان لما ذكروه مجال، لأنّ الإنسانية عندئذٍ واحد بالعدد، لا بالنوع، أضف إليه أنّ جريان الاستصحاب في أمثال المورد ربّما ينتهي إلى أُمور لا يلتزم بها الفقيه، وإليك المثال:

1. لو قام من النوم واحتمل جنابته فيه وتوضّأ، فعلى القول باستصحاب الحدث يلزم الاغتسال، مع أنّه لا يلتزم به فقيه.

2. لو علم أنّه مدين لزيد، بعشرة دنانير، ولكن يحتمل أن يكون الدين هو، لكن مع إضافة حُقَّة من الحنطة، فلو أدّى العشرة فلازم بقاء الدين باستصحابه، لزوم أداء حُقّة من الحنطة، مع أنّه لا يلتزم به فقيه.

ص:129

الصورة الثالثة

إذا احتمل تبدّل الفرد المتيقّن - حدوثاً وارتفاعاً - إلى مرتبة أُخرى وعدم تبدّله كما مثلنا في السواد، ومثله استصحاب كون الرجل كثير الشك حيث احتملنا زوال هذا العنوان أو تبدّله إلى مرتبة خفية، فهل يجوز استصحابه أو لا؟ ذهب الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني إلى الجريان، والمحقّق الخراساني إلى خلافه.

والحقّ أن يقال إنّه إذا عُدّت المرتبة المشكوكة غير مغايرة عرفاً للمرتبة السابقة بحيث تُعد استمراراً لوجود المرتبة السابقة يجري الاستصحاب وإلّا فلا لاختلال أركانه.

مثال الأوّل كالسواد الضعيف بالنسبة إلى السواد الشديد، فإنّ الضعيف من مراتب الشديد وليس فرداً مغايراً، بخلاف ما إذا عُدَّت المرتبة اللاحقة مغايرة للمرتبة السابقة، كما إذا علمنا بوجوب الشيء ثمّ نسخ ولكن نحتمل تبدّله إلى الندب فلا يجوز لنا استصحاب الطلب، وذلك لأنّ العرف لا يعد الندب مرتبة حقيقية من الوجوب بل يتلقّاها أمرين متباينين وإن كان العقل يعدّهما أمراً واحداً ذا مراتب.

الصورة الرابعة

وإذا علم بوجود إنسان في الدار وعلم أيضاً بوجود القرشي فيها أيضاً ولكن احتمل قيام العنوانين بوجود واحد أو بوجودين.

والفرق بين هذا القسم والقسم الثاني هو انّ الفرد الذي قام به الجامع فيه

ص:130

مردّد بين نوعين كالبق والفيل، بخلاف المقام فانّ الفرد معيّن من حيث النوع وهو انّه إنسان.

كما يمتاز، عن الصورة الثالثة أنّه ليس في الصورة الثالثة علمان، بل علم واحد متعلّق بوجود فرد معيّن، نهاية الأمر يحتمل معيّة أو تقارن فرد آخر، بخلاف هذا القسم فانّ فيه علمين: علم بوجود فرد معين، وعلم بوجود ما يحتمل انطباقه على هذا الفرد؛ ومثاله: إذا علمنا بالجنابة يوم الخميس وقد اغتسلنا منها ثمّ رأينا يوم الجمعة منيّاً في الثوب فعلم بكوننا جنباً لخروج هذا المني، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي اغتلسنا منها، أو يكون من غيرها، فيستصحب كلّي الجنابة مع إلغاء الخصوصية.

نعم هو معارض باستصحاب الطهارة الشخصية، فانّ المغتسل يوم الخميس على يقين بالطهارة حينما اغتسل من الجنابة ولا علم بارتفاعها لاحتمال كون المني المرئي من تلك الجنابة فيقع التعارض فيتساقطان ولابدّ من الرجوع إلى أصل آخر.

هذا كلّه فيما له معارض وأمّا ما لا معارض له، كما إذا علمنا بوجود زيد وعلمنا بوجود قارئ يحتمل انطباقه عليه وعلى غيره فلا مانع من استصحاب الإنسان الكلي مع القطع بخروج زيد عنها إذا كان له أثر شرعي.(1)

يلاحظ عليه: موضوعاً وحكماً، ومثالاً واستدلالاً.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّه ليس قسماً مستقلاً، بل هو داخل في القسم الثالث، والتفاوت المذكور من وحدة العلم في القسم الثالث، وتعدّده في المقام غير مؤثر،

ص:131


1- . مصباح الأُصول: 118/3.

لأنّ هنا علماً بالجنابة القائمة بفرد متيقّن الارتفاع والشكّ في بقائه، لأجل احتمال بقائها بفرد آخر فلا يرتفع الكلّي بارتفاع الفرد الأوّل. والعلم بوجود عنوان آخر وإن كان متحقّقاً في هذا القسم، لكنّه غير مؤثر في الاستصحاب، لأنّ المستصحب ليس عنوان القرشي بل ما ينطبق عليه، أعني الإنسان الخارجي، فعندئذٍ يشاركان في العلم بتحقّق الكلّي في ضمن فردٍ مرتفع والشكّ في بقائه في ضمن فرد آخر.

وأمّا الثاني: أعني: حكماً، فلأنّ ما أوردناه على القسم الثالث من عدم وحدة القضيتين موجود في المقام، لأنّ الطبيعي الموجود في النوم غير الطبيعي الباقي بالجنابة فإبقاؤه باحتمال نيابة هذا الفرد لا يعد إبقاء للمتيقّن.

أمّا الثالث: فلأنّ الفارق بينه و بين القسم الثالث، هو وجود علم بعنوان ثان غير العنوان الأوّل وإن كان يحتمل وحدة مصداقهما كما في الإنسان، والمثال الفقهي الذي ذكره فاقد لهذا الميزة، فليس فيه علم بعنوان مغائر لما علم به أوّلاً، مثلاً إذا علم بالجنابة يوم الخميس فهنا علم بعنوان وهو العلم بالجنابة ولمّا اغتسل ورأى يوم الجمعة المني في ثوبه فهو و إن علم بالجنابة أثر خروجه لكن هذا ليس علماً بعنوان ثان بل تعلّق العلم بنفس العنوان الذي تعلّق به العلم الأوّل غاية الأمر يحتمل اتحادهما في المعنون كما يحتمل تغايرهما، وهذا بخلاف العلم بوجود الإنسان والقرشي أو الإنسان والقارئ في البيت، فهناك علمان مختلفان غير أنّه يحتمل وحدة مصداقهما.

أمّا الرابع: أي الإشكال على أساس الاستدلال، فلأنّ التمسّك بعموم «لا تنقض» في هذا المقام من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية، لأنّه كما يحرم نقض اليقين بالشك يجب نقض اليقين باليقين، وعلى ضوء هذا فالجنابة

ص:132

المرئية يوم الجمعة لا تخلو من حالتين.

الأُولى: أن تكون أثراً للجنابة الحاصلة ليلة الخميس، فعندئذ يدخل في القضية الثانية لافتراض انّه اغتسل.

الثانية: أن تكون أثراً لجنابة جديدة تحقّقت ليلة الجمعة، فعندئذٍ يدخل في القضية الأُولى، ومع تردّده بين الأمرين يكون التمّسك بالقضية الأُولى للمورد، من قبيل التمسّك بالشبهة المصداقية للدليل «لا تنقض»، فتلخص انّ استصحاب الكلّي عقيم إلّافي القسم الأوّل، والصورة الثالثة من القسم الثاني.

ص:133

التنبيهات

5- استصحاب الزمان والزمانيات والأُمور القارة المقيّدة بالزمان
اشارة

هذا التنبيه منعقد لبيان الاستصحاب في الأُمور التدريجية، ولها أقسام ثلاثة:

1. استصحاب نفس الزمان إذا كان معنوناً بعنوان وجوديّ ككونه ليلاً أو نهاراً.

2. استصحاب الأمر غير القار بالذات كالحركة وجريان الماء وسيلان الدم، وبقاء التكلّم والمشي، فإنّ ذات الأفعال في هذه الأمثلة أُمور متدرجة بالذات، متقضية بالطبع.

3. استصحاب الأمر القار بالذات، المقيّد بالزمان كالجلوس في المسجد إلى الظهر، فيقع الكلام في مواضع ثلاثة:

الموضع الأوّل: استصحاب نفس الزمان المعنون بعنوان وجودي

إذا كان الزمان المعنون بعنوان وجودي، موضوعاً للحكم كالنهار والليل فشككنا في بقائه، فهل يصحّ استصحاب نفس الزمان من خلال استصحاب عنوانه كبقاء النهار، و تترتب عليه إقامة الصلاة أداءً وحرمة الإفطار، وهكذا من

ص:134

جانب الليل؟

فقد أورد عليه بوجوه، وقبل أن نشير إليها نذكر كلمة في حقيقة الزمان.

اختلف المتكلّمون في حقيقة الزمان، فمن قائل: إنّه بعد موهوم ليست له واقعية خارجيّة؛ إلى قائل آخر بأنّه بعد حقيقي كالمكان، وهو مخلوق مستقل، وظرف لفعله سبحانه، كان اللّه ولم يكن معه شيء فخلق العالم في زمان لم يكن فيه شيء.

ولكن البحوث الفلسفية أثبتت بطلان كلتا النظريتين، وانّه مقدار الحركة، وانّ كلّ حركة فهي بسيلانها وجريانها تُولّد زماناً، فكلّ سيلان وجريان، بما انّه يتضمن خروج ما بالقوة إلى الفعل كحركة اليد، وانتقال القطار من نقطة إلى نقطة، وغيرهما يسمّى حركة، وبما انّه يستغرق مقداراً حتى ينتقل من المبدأ إلى المنتهى فهو زمان، وعليه فليس الزمان إلّامقدار الحركة الذي ينتزع من نفسها، لا من أمر آخر.

وبما انّ لكلّ حركة زماناً، وكانت حركة الشمس أو الأرض من أعم الحركات وأوسعها اتّخذت العامة مقدار حركتهما مقياساً وزماناً لسائر الأفعال وإلّا فالزمان وليد عامة الحركة من غير فرق بين متحرك ومتحرك، ولكلّ حركة زمان خاص بها، يتولّد منها ويتدرج مع تدرّجها.

إذا عرفت ذلك، فلنذكر الإشكالات في استصحاب الزمان.

الأوّل: عدم تصوّر البقاء فيه

إنّ الزمان شيء غير قار الذات ولا يتصوّر له البقاء، لأنّ سنخ تحقّقه هو

ص:135

الوجود بعد العدم، وما هذا شأنه لا يتصوّر فيه البقاء، والليل والنهار من الأُمور ذات الأجزاء كلّ جزء، يعد جزء من الكل والأجزاء سنخها الوجود بعد عدم الجز ءالمتقدم، ومثل هذا لا يتصور له البقاء.

وقد أجاب عنه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس سره: بأنّه يكفي في الاستصحاب، اليقين بالشيء، والشكّ فيه، ولم يرد في الأدلة عنوان البقاء فعدم صدقه غير مخلّ بجريانه.

يلاحظ عليه: أنّه وإن لم يرد عنوان الشكّ في البقاء في لسان الأدلّة لكنّه لازم إمكان اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد، وذلك بتعلّق اليقين بالحدوث، والشكّ بالبقاء، ولولا هذا القيد لامتنع اجتماعهما فيه ضرورة انتقاض اليقين بالشكّ، فهو مدلول التزامي لاجتماعهما وعدم انتقاض الأوّل بالثاني.

والتحقيق أن يقال: المراد من البقاء هو البقاء لدى العرف الذي هو المخاطب بهذه الخطابات لا البقاء العقلي، ولو كان الميزان هو الثاني، لما صدق إلّافي مورد نادر، وعلى ذلك، فالليل والنهار موجود شخصي، لهما حالات كأوّله ووسطه ونهايته، كالإنسان الذي تطرأ عليه حالات مثل الصبا والشباب و الكبر، فكما أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان بقاءً وإن كبر وشابَ أو شاخ، فهكذا للنهار والليل بقاء، وإن وصلا إلى القمة.

والذي يصحّح صدق البقاء، هو اتصال الأجزاء وتلاصقها الذي يجعل الأجزاء المتلاحقة، كشيء واحد، ويشك الإنسان في طوله وقصره، والقائل بعدم البقاء يصب النظر إلى كلّ جزء من الزمان مستقلاً عن الجزء الآخر، ويغفل عن أنّ ملاك صدق البقاء هو تلاصق الأجزاء وتلاحمها على وجه يعد جميع البعد الزماني كالبعد المكاني شيئاً واحداً.

ص:136

الثاني: عدم بقاء الموضوع

من شرائط جريان الاستصحاب بقاء الموضوع، إذ لولاه لعاد الاستصحاب قياساً ويكون من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وبما انّ الزمان أمر غير قارّالذات، متصرّم الحقيقة، فالجزء الموصوف بالنهار المتيقّن غير الجزء المشكوك كونه نهاراً.

يلاحظ عليه: أنّه ليس إشكالاً جديداً بل تعبيراً ثانياً عن الإشكال الأوّل، ويعلم جوابه ممّا ذكرناه حول الإشكال الأوّل.

وحاصله: انّ الموصوف بالنهارية، ليس الجزء المنفك عن الجزء الأول بل الوجود الشخصي الذي يتحقّق بطلوع الفجر وأخذ يتحرّك فنشكّ في بقاء ذلك الموجود الشخصي، وعلى ضوء ذلك يكون الموضوع باقياً.

الثالث. الاستصحاب مثبت

إنّ استصحاب بقاء الليل والنهار يتصوّر على وجهين:

الأوّل: استصحابه على نحو القضية التامة بأن يقال: كان الليل موجوداً، والأصل بقاء الليل.

الثاني: استصحابه على نحو القضية الناقصة، بأن يقال: هذا الجزء كان ليلاً، والأصل بقاؤه.

فالأوّل منهما وإن كان له حالة سابقة، لكنّه يلازم عقلاً كون الجزء المشكوك نهاراً، ويترتب عليه أثره الشرعي وهو حرمة الأكل في اليوم وجواز إقامة الصلاة أداء.

ص:137

وعلى ذلك فهناك أُمور ثلاثة:

أ: المستصحب: بقاء النهار أو الليل.

ب: الأثر العقلي: هذا الجزء من النهار أو من الليل.

ج: الأثر الشرعي: حرمة الأكل أو إقامة الصلاة أداء المترتب على كون هذا الجزء نهاراً أو ليلاً، والهدف من الاستصحاب هو ترتّب الأثر الشرعي، ولكنّه لا يترتب على المستصحب إلّابواسطة عقلية، وهذا هو الأصل المثبت.

وأمّا الثاني فهو وإن كان غيرَ مثبِت ولكنّه فاقد للحالة السابقة، إذ لم يكن هذا الجزء موجوداً في السابق وموصوفاً بكونه من اللّيل أو من النهار حتى يُستصحب.

يلاحظ عليه: انّا نختار الشق الأوّل، ولكنّ الأصلَ هنا حجّة وإن كان مثبتاً، وذلك لخفاء الواسطة على وجه يرى العرفُ الأثرَ الشرعي مترتِّباً على المستصحب لا على الواسطة.

وإن شئت قلتَ: يرى العرفُبقاء الليل على النحو الكليّ، عين وصف الجزء المعيّن بالنهارية فيترتب عليه أثره.

ونختار الشقّ الثاني، ونقول: إنّ الإشكال مبني على فصل الجزء المشكوك عن الجزء السابق ولحاظه مستقلاً، وأمّا إذا قلنا انّ الجزء المشكوك بقاء للجزء السابق المحكوم بالنهارية أو الليلية فيصحّ لنا أن نقول: كان هذا الزمان موصوفاً بالنهارية، والأصل بقاؤه، لأنّ المفروض انّ الزمان أمر واحد متلاصق، متلاحم. فالجزء الذي نشكّ في وصفه هو امتداد لنفس اليوم الطالع عند الفجر الصادق إلى الآن الذي نشكّ فيه.

ص:138

وربما يتمسك باستصحابات أُخرى غير السابق:

1. ما ذكره المحقّق الخراساني، وهو استصحاب المقيّد (الإمساك) فيقال: كان إمساكي قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان، ثمّ أمر بالتأمّل.

ولعلّ وجه التأمّل انّ التعلّق عقلي نظير قولك في الصلاة بأن يقال: لو كنت أُصلّي قبل هذا كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان، والاستصحاب التعليقي حجّة فيما إذا كان التعليق شرعياً، كما في قولنا: «العصير العنبي إذا غلييحرم» لا في المقام، فإنّه عقلي فانّ ترتّب قوله: «كانت صلاتي واقعة في النهار» على المقدّم عقلي.

2. استصحاب عدم الغروب أو عدم الطلوع.

يلاحظ عليه: أنّه مثبت، فلا يُثبت كون الجزء المشكوك نهاراً أو ليلاً إلّابالملازمة العقلية، ولو قيل بخفاء الواسطة فلا حاجة إليه بعد تصحيح استصحاب النهار أو الليل به. لو كان لهما أثر شرعي يترتب عليهما.

3. استصحاب وجوب الإمساك أو جواز الأكل الذي هو استصحاب حكمي، وهذا لا بأس به.

الموضع الثاني: جريان الاستصحاب في الأُمور التدريجية غير الزمان

إنّ التدريج تارة يكون أمراً ثابتاً بالبرهان وأُخرى بالحس، والأوّل كمجموع عالم المادة فانّه بناء على القول بالحركة الجوهرية أمر غير ثابت متجدّد في كلّ آن، والجوهر والعرض في الآن الأوّل غيرهما في الآن الثاني، ومثله النور المتلألأ من المصابيح الكهربائيّة أو الدهنيّة، وأُخرى يكون أمراً حسياً، كنبع الماء وقذف الرحم

ص:139

الدمَ، والمشي والتكلم إلى غير ذلك، والكلام إنّما هو في القسم الثاني، وأمّا الأوّل فالبقاء فيه واضح وعدم تصوّر البقاء فيه عند العقل الخاضع لبرهان الحركة الجوهرية لا ينافي صدق البقاء في نظر العرف الدقيق، من غير فرق بين أن لا يتخلّل العدم بين أجزائها المتلاحقة كسيلان الماء وقذف الدم، أو يتخلّل بصورة لا تخل بوحدة الفعل كالقراءة والتكلّم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا صوراً:

الصورة الأُولى: إذا أحرز المتيقّن وشكّ في الرافع

إذا أُحرز انّه كان قاصداً للسفر إلى أربعة فراسخ ولكن يحتمل عروضَ مانع من برد أو حرّ، ومثله ما إذا أحرز كون القناة قابلة لنبع الماء سنين ولكن يُشكّ في سيلانها ونبعها، لأجل احتمال حدوث مانع يمنع عن جريانه، كسقوط الصخرة على المجرى، أو امتلاء الطريق بالطين، أو غير ذلك من الموانع، ومثله ما إذا علمنا وجود واع في نفس المتكلّم يدفعه إلى أن يتكلّم ساعة لكن يحتمل انصرافه عنه لأجل طروء رادع يصرفه عن الاستمرار في الكلام ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب لما عرفت من وجود الوحدة العرفية وصدق الشكّ في البقاء.

وإن شئت قلت: إنّ لكلّشيء بقاء واستمراراً، فلو كان الشيء أمراً قارّاً فبقاؤه باجتماع جميع أجزاء وجوده في زمان واحد أو مكان واحد، وأمّا إذا كان أمراً غير قار فبقاؤه استمراره وامتداده فهو باق بامتداده ووجوده التصرمي وثابت بوجوده التجدّدي، ولولا ذلك بطلت هويّته وزالت شخصيته.

وبذلك يعلم النظر فيما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الشكّ ليس في بقاء جريان شخص ما كان، بل في حدوث جريان جزء آخر شكّ في جريانه من جهة

ص:140

الشكّ في حدوثه.(1)

وجه النظر واضح انّ المستشكل نظر إلى الموجود التدريجي من منظار العقل فهو عنده شكّ في الحدوث، لا من منظار العرف الدقيق فهو أمر واحد شخصي شكّ في طول وجوده وقصره.

الصورة الثانية: إذا شكّ في استمراره لأجل الشكّ في بقاء المقتضي

كأن لم يعلم مقدار ما نواه من السفر، فهل نوى السفر فرسخين أو أربع فراسخ، وجريان الاستصحاب يتوقف على وجود الإطلاق في أدلّة الاستصحاب حتى يعم الشكّ في النقض، وقد مرّ.

الصورة الثالثة: في احتمال نيابة داعٍ آخر مكانه

إذا شكّ في الاستمرار بعد العلم بانتفاء الداعي الأوّل واحتمال نيابة داع آخر مكانه، كما إذا علمنا أنّه نوى السفر إلى فرسخين ولكن يحتمل عروض داع آخر، لأنّ يستمر في سفره إلى أربعة فراسخ، وربّما يقال بعدم الجريان، لأنّ وحدة السير بوحدة الداعي فلو تعدّد، يتعدّد السير، فإذا شك في حدوث داع ثان يوجب استمراره في السير، فهو في الحقيقة شكّ في حدوث سير آخر والأصل عدمه.

يلاحظ عليه: أنّه في نظر العرف استمرار لوجود واحد وإن اختلف الداعي، والمقام أشبه بحفظ خيمة واحدة بدعامتين، فتعويض الدعامة الأُولى بنصب الثانية لا يوجب تعدّداً في جانب البقاء، فهكذا المقام.

والحاصل: أنّ وحدة العمل تابع لتلاصق أجزائه، وتعدّد الداعي بعد

ص:141


1- . الكفاية: 316/2.

تلاحقها لا يؤثّر في كيفية العمل الخارجي.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أشار إلى تصوير استصحاب الكلّي بأقسامه الثلاثة في المقام وقال: إنّ استصحاب بقاء الأمر التدريجي إمّا يكون من قبيل استصحاب الشخصي أو من قبيل استصحاب الكلّي بأقسامه، فإذا شكّ في أنّ السورة المعلومة - التي شرعت فيها - تمّت قراءتُها أو بقي شيء منها صحّ استصحاب الجزئي والكلّي وإذا شكّ فيه من جهة تردّدها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني، وإذا شكّ من أنّه شرع من أُخرى مع القطع بأنّه قد تمّت الأُولى كان من القسم الثالث.

الموضع الثالث: الفعل (القارّ) المقيّد بالزمان

إذا أمر المولى بالإمساك إلى الغروب، أو الجلوس في المسجد إلى الظهر، فتارة تكون الشبهة موضوعية، وأُخرى حكميّة.

أمّا الأوّل: فكما إذا شكّ في تحقّق المغرب والظهر، وهذا ما فرغنا منه في الموضع الأوّل فانّه كان مخصَّصاً لاستصحاب الزمان كالليل والنهار فيما إذا كان قيداً للواجب.

وأمّا الثاني: وهو كما إذا قطع بتحقّق الظهر لكن يشكّ في بقاء الحكم لاحتمال أن يكون التعبّد به إنّما هو بلحاظ كمال المطلوب، لا أصله.

وبذلك يعلم أنّ الموضع الأوّل والثالث من مقولة واحدة وهو كون الزمان قيداً للفعل غير أنّ الشبهة تارة تكون موضوعية ويكون الشكّ متعلّقاً ببقاء الزمان و عدمه، وأُخرى حكميّة، ويكون الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم لأجل احتمال بقائه، حتى بعد القطع بانتفاء الزمان، والمتكفل لبيان حكم الشبهة الموضوعية هو

ص:142

الموضع الأوّل، والمتكّفل لبيان حكم الشبهة الحكمية هوالموضع الثالث، ولقد قدّم المحقّق الخراساني البحث في الزمانيات (الموضع الثاني) ثمّ طرح البحث في الموضع الأوّل والثالث معاً.

وبذلك يعلم أنّ ذكره استصحابَ الليل والنهار عند البحث في الموضع الثاني في غير محله، لأنّه من قبيل استصحاب الزمان لا الزمانيات.

وإلى ما ذكرنا (استصحاب الزمان والفعل المقيد به) ينظر قول المحقّق الخراساني: «وأمّا الفعل المقيد بالزمان فتارة يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده(1) وطوراً مع القطع بانتفائه، من جهة أُخرى كما إذا احتمل أن يكون التعبد، إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله ومع احتماله يصحّ استصحاب الحكم بشرط آخر إذ انّ القيد - أي الزمان - ظرف لا قيد، وذلك لأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيداً له (للوجوب) أو لمتعلّقه (الجلوس) بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيد بكونه إلى الزوال شيئاً، والمقيد بكونه بعد الزوال شيئاً آخر متعلّقاً للوجوب فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ في حدوث ما عداه، ولذا لا يجوز الاستصحاب في صم يوم الخميس إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة، وإن لوحظ الزمان ظرفاً لوجوب الجلوس فيجري استصحاب وجوب الجلوس.

فإن قلت: إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته فلا مجال للاستصحاب لتبدّل الموضوع.

قلت: العبرة في تعيين الموضوع هو العرف لا العقل، والفعل في كلا الزمانين

ص:143


1- . أي تكون الشبهة موضوعية، وهذا هوالموضع الأوّل حسب تقسيمنا.

واحد، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل وشكّ في بقائه في الزمان الثاني.

هذا ما يرجع إلى المقام.

ثمّ الشيخ الأنصاري نقل عن المحقّق النراقي شبهة في جريان استصحاب الحكم الشرعي المجعول، بأنّه معارض باستصحاب عدم جعله في الزمان المشكوك وأطال الكلام، كما أنّ المحقّق الخراساني نقل نفس الشبهة في ضمن إشكال أورده على نفسه وقال: لا يقال كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين، ثمّ أجاب:

ولكنّ الحقّ أنّ البحث حول تعارض الاستصحابين لا صلة له باستصحاب الفعل المقيّد بالزمان، بل هو شبهة كلية له صلة بمبحث آخر وهو منع جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية من رأس، وذلك لتعارض استصحاب بقاء الحكم في زمان الشكّ مع أصالة عدم جعله فيما عد المتيقّن، وكان اللازم على الشيخ وتلميذه عقد تنبيه خاص لهذا الموضوع ونقد إشكال المحقّق النراقي بعده، ولأجل ذلك خصصنا تنبيهاً مستقلاً له كالآتي.

ص:144

التنبيهات

6- في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية أو جريانه في الفعل المقيّد بالزمان
اشارة

كان التنبيه السابق معقوداً لبيان جواز استصحاب الزمان والزمانيّات، و قد عرفت حقيقة الحال فيهما، و بقي البحث في استصحاب القسم الثالث، أي الفعل المقيّد بالزمان، كالإمساك في النهار إذا شكّفي بقاء وجوبه بعد غروب الشمس، وقد جعله الشيخ ذيلاً للتنبيه السابق، وتبعه المحقّق الخراساني.

وبما انّ الأعلام خصُّوا الكلام بما إذا كان القيد زماناً كالنهار بالنسبة إلى الإمساك جعلوه ذيلاً للتنبيه السابق، وبما أنّه لا خصوصية لكون القيد زماناً، يأتي البحث في سائر القيود أيضاً عند ارتفاعها والشك في بقاء الحكم الكلّي كما في المثالين التاليين:

أ: إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر نجس، فلو زال تغيّره بنفسه، يقع الكلام في بقاء النجاسة بعد ارتفاع القيد.

ب: إذا ورد الدليل على أنّه يحرم مسُّ الحائض، فلو حصل النقاء ولم تغتسل، يقع الكلام في بقاء حرمة المس.

ص:145

وبذلك يظهر أنّ ملاك البحث هو استصحاب الحكم الشرعي الكلّي بعد ارتفاع بعض قيوده سواء أكان القيد زماناً أم غيره.

وعلى ضوء ذلك: كان اللازم على الشيخ عقدَ تنبيه خاص لجواز جريانه فيه وعدمه، لكنّه اكتفى بما في ذيل التنبيه السابق، ولأجل الحفاظ على النظام السائد في كتاب «الفرائد» و «الكفاية» نقتفي أثر الشيخ والمحقّق الخراساني أوّلاً، ثُمّ نوسِّع البحث في استصحاب كل حكم كلّي شرعي عند انتفاء بعض قيوده ثانياً.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ منشأ الشك في بقاء الحكم الشرعي، تارة يكون خلط الأُمور الخارجية، وهو المعبَّر عنه بالشبهة الموضوعية، وأُخرى فقدان النص أو إجماله أو تعارضه، وهذا ما يعبَّر عنه بالشبهة الحكمية.

أمّا الأوّل: فلا شكّ في جريانه عند قاطبة الأخباريّين والأُصوليّين، فمثلاً إذا شُك في بقاء النهار يُستصحب بقاؤه، ومثله إذا شُكّ في بقاء الليل.

إنّما الكلام إذا كان الشكّ في الشبهة الحكمية، فهناك أقوال خمسة:

الأوّل: التعارض بين الاستصحابين، أي استصحاب العدم واستصحاب الوجود. وهذا هو خيرة المحقّق النراقي والمحقّق الخوئي.

الثاني: التفصيل بين كون القيد المرتفع ظرفاً فيجري استصحاب الوجود. أو قيداً فيجري استصحاب العدم.

وهذا هو خيرة الشيخ الأنصاري و المحقّق الخراساني.

الثالث: عدم جريان الاستصحاب العدمي، وجريان خصوص الاستصحاب الوجودي. وهو خيرة المحقّق النائيني. وقد قوّيناه لكن بطريق آخر.

ص:146

الرابع: جريان الاستصحاب الوجودي والعدمي بلا منافاة بينهما. و هو خيرة شيخ مشايخنا الحائريّ والسيّد الأُستاذ قدّس سرّهما.

الخامس: عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الكلّية أصلاً، واختصاصه بالحكم الجزئي والشبهة الموضوعية. وهو خيرة الأخباريين.(1) وإنّما أخّرنا هذا القول عن الأقوال الأربعة، لأجل انطباق البحث على «الفرائد» و «الكفاية»، وإلّا فطبع الحال كان يقتضي تقديمه على الأقوال كلّها.

القول الأوّل: جريان الاستصحابين وتعارضهما

ذهب المحقّق النراقي إلى جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي، لكن تكون النتيجة هي تعارض الاستصحابين، وقال: إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة، وعلم انّه واجب إلى الزوال، ولم يعلم وجوبه فيما بعده، فاستصحاب وجوبه بعده، معارض بعدم وجوبه مطلقاً قبل التكليف، فخرج الجلوس قبل الزوال وبقي ما بعده تحت عدم الوجوب الأزلي.(2)

وحاصل الاستدلال: وجود التعارض بين جرّ وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال، و استصحاب عدم جعل الوجوب بتاتاً، لا قبل الزوال و لا بعده، خرج عنه، الجلوسُ إلى الزوال بالدليل الشرعي، فيُستصحب عدم الوجوب المطلق من بعد الزوال إلى الغروب.

ص:147


1- . هذا هو القول الخامس من بين الأقوال البالغة أحد عشر قولاً في حجية الاستصحاب في الفرائد، لاحظ ص 347.
2- . الفرائد: 376 ط رحمة اللّه.
القول الثاني: التفصيل بين كون الزمان ظرفاً و قيداً

ذهب الشيخ و المحقّق الخراساني إلى جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي من دون أن يكون هنا تعارض، وذلك لأنّ الزمان في دليل المستصحب لا يخلو إمّا أن يكون قيداً للموضوع ومفرِّداً له، و بين كونه ظرفاً للفعل(1) فإن كان قيداً للموضوع، بمعنى أنّ الجلوس المقيد إلى الزوال واجب، فلا يجري استصحاب الحكم الوجودي، لتبدّل الموضوع، وعدم صدق النقض لو لم نقل بجريانه، بل يكون أشبه بالقياس، بل يجري استصحاب عدم الوجوب لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق، والأصل عدم الانتقاض كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره.

وإن أُخذ الزمان ظرفاً للفعل، بتصوّر أنّ الجلوس فعل لا يتحقّق إلّافي الزمان، فلا يجري إلّاالاستصحاب الوجودي، لأنّ العدم المطلق انتقض بالوجود المطلق و قد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلة الاستصحاب.(2)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني بعد ما ذكر - في مقام الإجابة عن التعارض - خلاصة كلام الشيخ أورد على نفسه إشكالاً ليس في كلام الشيخ، وهو: انّه لما كان كل من النظرين (كون الزمان قيداً أو ظرفاً) أمراًمحتملاً، يجري كلا الاستصحابين، لأنّ كلاً منهما محتمل البقاء.

فأجاب عن الإشكال بأنّه إنّما يصحّ إذا كان في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّ كلا الاستصحابين، وإلّا فلا يكون هنا إلّااستصحاب واحد لما عرفت من أنّ

ص:148


1- . وما في الكفاية: ظرفاً للحكم لا يخلو من تسامح.
2- . الفرائد: 377، ط رحمة اللّه.

استصحاب الأمر الوجودي فرع لحاظ الزمان ظرفاً، واستصحاب الأمر العدمي فرع لحاظه قيداً ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في دليل واحد.

نقد تفصيل الشيخ

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أنكر احتمال أن يكون الزمان المأخوذ في لسان الدليل ظرفاً، وقال: بأنّه قيد دائماً، وعلى هذا يكون المورد صالحاً للاستصحاب العدمي دون الوجودي، و قال ماهذا حاصله:

إنّ الإهمال في مقام الثبوت غير معقول، فالأمر بالشيء إمّا أن يكون مطلقاً، أو يكون مقيداً بزمان خاص، ولا نتصور الواسطة، ومعنى كونه مقيَّداً بزمان خاص عدم وجوبه بعده، فأخذ الزمان ظرفاً للمأمور به - بحيث لا ينتفي المأمور به بانتفائه في مقابل أخذه قيداً للمأمور به - مما لا يرجع إلى معنى معقول، فانّ الزمان بنفسه ظرف لا يحتاج إلى الجعل التشريعي، فإذا أخذ زمان خاص في المأمور به فلا محالة يكون قيداً له، فلا معنى للفرق بين كون الزمان قيداً أو ظرفاً، فانّ أخذه ظرفاً ليس إلّاعبارة أُخرى عن كونه قيداً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ معنى كون الزمان أو مطلق القيود ظرفاً ليس بمعنى عدم مدخليته حدوثاً و بقاءً، وإلّا يكون أخذه في لسان الدليل لغواً، بل المراد مدخليته حدوثاً لا بقاءً مقابلَ مدخليته حدوثاً وبقاءً.

فعلى الأوّل يكون الزمان ظرفاً وعلى الثاني قيداً.

وبذلك صحّحنا استصحاب نجاسة الماء المتغيّر الذي زال تغيّره بنفسه، فانّ النجاسة ليست محمولة على مطلق الماء، ولا على الماء مادام متغيّراً حتى تلزم

ص:149


1- . مصباح الأُصول: 3/131.

طهارته إذا زال تغيره بنفسه، بل على الماء الذي صار متغيّراً في آن من الآنات فهو محكوم بالنجاسة إلى أن تثبت طهارته.

وإن شئت قلت: إنّ القيود بعامتها سواء أكانت زماناً أم غيره من قبيل الواسطة في الثبوت، التي تكفي في استمرار الحكم وجود القيد آناً ما (كالتغيّر) لا الواسطة في العروض التي يدور استمرار الحكم على وجود الواسطة حدوثاً وبقاءً كجريان الماء على الميزاب المصحّح لنسبة جريانه إلى الميزاب مادام الجريان حاصلاً بالفعل.

إلى هنا تمت النظريتان: نظرية التعارض، ونظرية التفصيل، وإليك النظرية الثالثة، وهي تعني جريان خصوص الاستصحاب الوجودي دون العدمي.

القول الثالث: جريان خصوص الاستصحاب الوجودي

ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المورد صالح للاستصحاب الوجودي دون العدمي، حتى ولو كان الزمان قيداً، وحاصل ما أفاد هو مايلي:

إنّ العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كلّ حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كلّ حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليّته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد وجوده، فهذا العدم غير العدم الأزلي، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشيء.

وذلك لأنّ العدم المقيّد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد، كما أنّ الوجود المقيّد بقيد خاص إنّما يكون متقوّماً بوجود ذلك القيد، ولا يعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عليه(1)، بل يكون

ص:150


1- . في النسخة المطبوعة أخيراً «عنه» والظاهر «عليه» أي على الزمان.

العدم بعد الزوال كالوجود المقيّد به، ويكون قوامه و تحقّقه بعد الزوال، ولا يكون له تحقّق قبل الزوال فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلّاإذا آن وقت الزوال، و من المعلوم ليست لهذا العدم المقيد حالة سابقة آن وقت الزوال.

فتكون النتيجة، أنّ العدم المطلق و إن كان ذا حالة سابقة، لكنّه انتقض بوجوب الجلوس إلى الزوال، وأمّا العدم المضاف إلى الزوال الذي لا يتحقّق إلّابتحقّق الزوال فليس له حالة سابقة إلّابنحو السالبة بانتفاء الموضوع.(1)

يلاحظ عليه: أنّ حدوث كلّ فرد مسبوق بعدم نفسه، فكما أنّ وجوب الجلوس إلى الزوال كان مسبوقاً بعدم نفسه، فهكذا وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بعدم نفسه، بشهادة أنّه حادث، و كلّ حادث مسبوق بالعدم، وعلى ذلك يكون عدمه نفس العدم الأزلي.

وما ذكره من أنّ هذا العدم إنّما يتحقّق عند الزوال، فهو خلط بين العدم المضاف إلى «الزوال» والعدم المقيّد بالزوال، فالأوّل مضاف إلى المعدوم و هو عدم أزلي سابق، والثاني أي ما يكون العدم مقيّداً بالزوال فهو عدم مقارن مع الزوال وليس أزلياً.

فالأوّل منه متحقّق قبل الزوال مع إضافة العدم إليه، بخلاف الثاني فانّه يتوقف على حلول الزوال.

نظرية النراقي بثوبها الجديد

ثمّ إنّ المحقق الخوئي أحيا نظرية المحقّق النراقي ببيان آخر، وحاصله: أنّ للأحكام مرحلتين:

ص:151


1- . فوائد الأُصول: 4/445-446.

1. مرحلة الإنشاء والجعل.

2. مرحلة الفعلية والتحقّق.

أمّا الأُولى: هو عبارة عن إنشاء الحكم على العنوان إذا لم يكن هناك مصداق له، كإنشاء وجوب الحج على المستطيع مع عدم مصداق له.

وأمّا الثانية: فهي عبارة عن تحقّق الموضوع، أي وجود المستطيع مع عامة شرائطه. هذا و بإمكاننا أن نعبّر عن الأُولى بمرحلة الجعل، وعن الثانية، بمرحلة المجعول.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الشكّ في المجعول في الشبهات الحكمية على قسمين:

أ: ما كان الزمان مفرِّداً للموضوع، و كان الحكم انحلاليّاً، كحرمة وطأ المرأة الحائض حسب أفرادها، وكوطئها قبل النقاء أو بعده قبل الاغتسال، ففي مثله لا يجري استصحاب الحرمة، لأنّ الفرد المحقّق بعد النقاء وقبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر، فيكون الاستصحاب في المقام من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ب: ما إذا لم يكن الزمان مفرِّداً للموضوع، أو لم يكن الحكم انحلالياً، كنجاسة الماء القليل المتمَّم كرّاً، فانّ الماء شيء غير متعدد حسب امتداد الزمان في نظر العرف، ونجاسته حكم مستمر لكنّه مبتلى بالمعارض، فلنا يقين متعلّق بالمجعول، و يقين متعلّق بالجعل، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدمها، إذ المتيقن جعلها للماء النجس غير المتمَّم كراً، وأمّا جعلها مطلقاًحتى للقليل المتمَّم فهو مشكوك فيه،

ص:152

فيستصحب عدمه، فتقع المعارضة بين بقاء المجعول وعدم الجعل، ومثله استصحاب الملكية والزوجية إذا رجع البائع وشككنا في بقاء الملكية به، أو طلَّق الزوج بلفظ نشك في كونه صيغة طلاق، مثل قوله: أنتِ خلية.

فباعتبار المجعول يجري استصحاب الملكية والزوجية، وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدمهما، ويكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ويجري الأصل في الأكثر.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تفسير الحكم الإنشائي والفعلي بما ذكر خلاف ما هو المصطلح الدارج من عصر الشيخ إلى يومنا هذا، فالحكم الإنشائي هو الحكم المجعول الذي لم يصل إلى حد الإعلام للناس والفعلي هو الحكم المجعول الذي بلّغه النبي صلى الله عليه و آله و سلم على نحو لو تفحَّص المكلف مظان الحكم لوصل إليه.

فالحكم الشرعي الذي بلّغه الرسول ولم يعثر عليه المكلّف، فعلي غير منجز، فإذا وقف عليه أو على طريقه صار الحكم منجزاً.

وثانياً: أنّ لازم ما ذكره القول بعدم جريان استصحاب عدم النسخ، مثلاً اتّفق الفريقان على مشروعية المتعة قبل عام الفتح، أو عام خيبر، فادّعت السنّة منسوخيتها، والشيعة على استمرارها أخذاً بأصالة عدم النسخ، مع أنّ لازم ما ذكره عدم جريانه لأنّ الأصل عدم جعل الجواز عليها بعد عام الفتح، مع أنّ استصحاب عدم النسخ مما اتّفق عليه الأخباري والأُصولي كما نقله الشيخ الأعظم في فرائده من الأمين الاسترابادي.(2)

وثالثاً: أنّ الجمع بين استصحابي الجعل والمجعول جمع بين المتنافيين، فانّ استصحاب المجعول مبنيّ على أخذ الجلوس بما هو هو موضوعاً للحكم حتى

ص:153


1- . مصباح الأُصول: 3/37-39.
2- . الفرائد: 347.

يصح استصحابه إلى ما بعد الزوال. ولكن استصحاب عدم الجعل مبني على تقسيم الجلوس إلى قبل الزوال ومابعده حتى يقال بأنّ القدر المتيقّن هو الأوّل دون الثاني، وهو نفس أخذ الزمان قيداً وجعله موضوعاً مستقلاً. فلم يكن الأصلان جاريين في ظرف واحد.

وأظن انّه قدس سره لما لم يتصوّر معنى واضحاً لظرفية الزمان، لم يكن له بدّ إلّامن جعل الزمان قيداً ومعه لا يجري إلّا الاستصحاب العدمي فقط.

إلى هنا تمّ بيان الأقوال الثلاثة، وإليك بيان القول الرابع.

القول الرابع: لا تعارض بين الاستصحابين

وحاصله: انّه لا تعارض بين الاستصحابين، إذ لا مانع من أن يكون الجلوس بما هوهو «كما هومقتضى الاستصحاب الوجودي» واجباً و بما هو جلوس مقيدٌ بالزوال إلى المغرب غير واجب، ولأجل اختلاف الموضوعين يختلف الحكمان، لأنّ لازم الاستصحاب الوجودي أخذ الجلوس بما هوهو موضوعاً للحكم، و جعل الجلوس من الزوال استمراراً للجلوس السابق من دون نظر استقلاليّ إليه حتى يتسنَّى استصحاب الحكم السابق، واسراؤه من الزمان السابق إلى الزمان اللاحق. فيحكم على مطلق الجلوس بالوجوب.

ولكن لازم الاستصحاب العدمي هو أخذ الجلوس منقطعاً عن السابق ومحدّداً بالزوال إلى المغرب، موضوعاً للوجوب، ومن المعلوم انّ الحكم بعدم الوجوب للمقيّد لا ينافي الحكم بالوجوب على المطلق.

وهذا - كما عرفت - خيرة شيخ مشايخنا العلّامة الحائري، قال قدس سره: لا مانع من جريان الاستصحابين، وكون الجلوس بعد الزوال محكوماً بحكمين مختلفين،

ص:154

فهو بما انّه جلوس وأنّه من مصاديق مطلق الجلوس وأفراده، محكوم بالوجوب، وبما انّ جلوسه مقيّد، محكوم بعدمه، وهذا بمكان من الإمكان، بل لا مانع من حصول القطع بذينك الحكمين فلا غرو في أن نقطع بوجوب الجلوس بعد الزوال بما هو جلوس، وبعدمه بما انّه جلوس مقيد.(1) وقد اختاره السيد الأُستاذ.

وحاصل كلامهما يرجع إلى اختلاف الحيثيتين، فمن حيثية يحمل عليه بالوجوب، ومن حيثية أُخرى يحمل عليه بعدمه، فلا تعارض في مقام الجعل، لكن يبقي الكلام في مقام الامتثال.

فهل يصح للعبد أن يترك الجلوس بعد الزوال محتجّاً باستصحاب عدم الوجوب؟

الظاهر: لا، وذلك لعدم التزاحم في مقام الامتثال، فانّ عدم الوجوب لحيثية لا ينافي الوجوب من حيثية أُخرى، فليس هناك أيّ تزاحم بين الحكمين في مقام الامتثال، فللمولى أن يحتج على العبد بالاستصحاب الوجودي.

نظرية المحقّق النائيني بثوبها الجديد

و هذا القول يُشاطر القول الثالث، أعني: قول المحقّق النائيني، في اختصاص المقام بالاستصحاب الوجودي دون العدمي، ولكن يختلف معه في الدليل.

وحاصل دليل هذا القول، هو: انّ أدلّة الاستصحاب لا تشمل استصحاب العدم الأزلي، ولا يعدُّ عدمُ الاعتداد بهذا النوع من اليقين نقضاً له، وذلك لأنّ الظاهر من الأدلّة هو الأمر بحفظ اليقين في الأُمور التي لها مساس بالحياة العملية

ص:155


1- . درر الفوائد: 2/159.

سواء أكانت أمراً تكوينياً أم تشريعياً، فلو تعلّق اليقين بواحد من هذه الأُمور فلا يصح نقضها.

وأمّا الأمر الخارج عن هذا الإطار والذي يرجع إلى ما قبل الخلقة، فلا يشمله قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» و لا يعدّ عدم العمل به نقضاً لليقين، لأنّ المفروض أنّ المتيقن هو الأُمور الخارجة عن إطار الحياة العملية.

وبالجملة: انّ استصحاب العدم الأزلي وإن كان فرداً عَقلانياً لليقين ولكنّه ليس فرداً عُقلائياً عرفياً له، و لذلك لا يتبادر من أدلة الاستصحاب هذا الفرد من اليقين و المتيقن.

وبذلك تبين انّه لا يجري في المورد إلّاالاستصحاب الوجودي.

إيقاظ

عقد المحقّق الخراساني في المقام عنواناً أسماه «إزاحة وهم» فحاول به دفع نظرية النراقي في تعارض الاستصحابين، وقد أخذ ما ذكره من الشيخ الأنصاري في ذيل التنبيه الثاني، حيث قال الشيخ في جواب ما أورد على نفسه:

قلت: لابدّأن يلاحظ انّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي [هل هو] الشكّ في مقدار تأثير الوضوء؟ أو في رافعية ما أحدثه الوضوء من الأمر المستمر....(1)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني تناول الشقَّ الثاني بالبحث وقال ما حاصله: من انّه إذا كان المقام من قبيل الشكّ في الرافع فلا مجال لاستصحاب العدم الأزلي، وذلك لأنّه بعد ما وقفنا على أنّ الوضوء سبب للطهارة المستمرة التي لا ترتفع إلّا

ص:156


1- . لاحظ الفرائد: 377، طبعة رحمة اللّه.

بما جعله الشارع سبباً، أو جعل ملاقاة النجس مع الماء القليل سبباً للنجاسة المستمرة، لا يكون هنا أيّ شكّ في المقتضي، و لو كان هنا شك فإنّما هو في الرافع، وهو هل المذي رافع للأمر المستمر أو انّ إتمام الماء كراً رافع للنجاسة أو لا؟

فإذا كان كذلك، فليس هناك مجال إلّالاستصحاب الأمر المستمر المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً، ولا يصحّ التمسّك بعدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، أو عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرة. إذ لا نشكّ في إنشاء الأمر المستمر من دون تحديد بحدّ. وعلى ضوء ذلك فليس هناك شكّ في تأثير مقدار المقتضي، بل العلم حاصل في أنّه أثر بلا تحديد وتقييد، وإنّما الشكّ في القاطع والرافع فليس المرجع إلّاأصالة عدم الرافع.

القول الخامس: عدم الحجية في الحكم الشرعي الكلّي

إلى هنا تمّت التفاصيل في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلّي بعد البناء على حجيته في ذلك المجال. وهناك من يمنع حجيته في الشبهة الحكمية بتاتاً، ومعه لا تصل النوبة إلى التعارض، واستدلّ على ذلك بوجهين:

الأوّل: اختصاص مورد روايات الاستصحاب بالشبهات الموضوعية كما هو الحال في صحاح زرارة الثلاث وغيرها. فانّ السؤال والجواب منصبَّان على الشبهة الموضوعية، ومعه كيف يمكن التمسّك بها لتصحيح استصحاب الحكم الكلّي؟

والجواب: انّ المورد غير مخصّص كما هو واضح، والمسوّّغ للاستصحاب هو اليقين الذي هو أمر مبرم لا ينقضه الشك الذي هو أمر موهون من غير فرق بين تعلّقه بالموضوع أو بالحكم، والمجوِّز للاستصحاب هو استحكام اليقين و وهن الشك وهو موجود في كلا المقامين.

ص:157

الثاني: انّ استصحاب الحكم الكلّي أشبه بالقياس، لأنّ الموضوع في المتيقّن غير الموضوع في المشكوك، فالموضوع في الأوّل:

المرأة الحائضة التي لم تزل ترى الدم.

أوالماء القليل قبل الإتمام بكرٍّ.

ولكن الموضوع في الثاني هو:

المرأة التي حصل لها النقاء من الحيض.

أو الماء القليل المتمم كرّاً.

فكيف يصح إسراء العنوان الأوّل إلى العنوان الثاني مع أنّ الماهيات والعناوين مثار الكثرة والوجود مثار الوحدة؟

قال الأمين الاسترابادي: إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته، نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه فما سمُّوه استصحاباً راجع في الحقيقة إلى إجراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.(1)

وسوف نرجع إلى حلّ هذا الإشكال في التنبيه القادم.

ص:158


1- . الفرائد: 347، نقلاً عن الفوائد المدنية.

التنبيهات

7- في الاستصحاب التعليقي
اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً:

1. إذا كان الحكم الشرعي محمولاً على الموضوع بلا قيد ولا شرط، فالحكم تنجيزيّ وإلّا فتعليقي، سواء عُبِّر عنه بالجملة الخبرية التي قصد منها الإنشاء في نحو قولك: العصير العنبيّ حرام إذا غلى، أو بالجملة الإنشائية نحو قولك: اجتنب عن العصير العنبي إذا غلى، و قد مرّ الكلام في إمكان تقييد الهيئة في الأوامر.

وإن شئت قلت: محل الكلام إنّما هو في استصحاب الوجوب المشروط بالمعنى الذي اختاره المحقّق الخراساني خلافاً للشيخ الأعظم الذي ارجع القيد إلى الواجب على ما مرّ.

2. انّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي تارة ينشأ من الشكّ في بقاء موضوعه كحياة زيد، أو بقاء المائع على الخمرية وعدم تبدّله إلى الخلّية، وأُخرى من الشكّ في بقاء نفس الحكم الشرعي.

أمّا الأوّل: فلا شكّ في جريان الاستصحاب فيه، إنّما الكلام في جريانه في الثاني وهو على قسمين:

تارة يكون الشك متعلِّقا بسعة الجعل، كما إذا احتملنا استمرار مشروعية

ص:159

حلّية المتعة إلى عام الفتح فقط.

وأُخرى نعلم سعة الجعل وشموله لعامّة الأزمان و الأجيال، لكن حصل التغيير في جانب الموضوع بارتفاع بعض القيود كصيرورة العنب زبيباً، والماء المضاف مطلقاً، فجريانه في القسم الأوّل منهما مورد اتفاق، إنّما الكلام في جريانه في القسم الثاني.

وإن شئت فسمِّه الشك في سعة المجعول - حسب اصطلاح السيد الخوئي - حيث صار الحكم فعلياً بتحقّق موضوعه وفعليته في برهة من الزمان، لكن طرأ التغيّر على بعض القيود فتعلّق الشك بسعة المجعول.

3. انّ العنوان المأخوذ في الموضوع على أقسام: فتارة يدور الحكم مداره، كما في قولنا: الكلب نجس، والخمر حرام، فلو انقلبا ملحاً أو خلّا، ارتفع الحكمان.

وأُخرى يدور مدار ذات الشيء لا عنوانه، كالحنطة، فهو حلال ومملوك وإن انقلب دقيقاً و خبزاً.

وثالثة يُشك في أنّه من أي من القسمين، كما هو الحال في الماء المتغيّر بالنجاسة. والحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو في القسم الأخير دون الأوّلين، لوضوح ارتفاع الحكم في الأوّل وبقائه في الثاني قطعاً، وطروء الشك في الثالث فلو كان الموضوع هو الماء، والتغيّر دخيلاً ثبوتاً لا بقاءً، يبقى الحكم و إن زال تغيّره، وإن كان الموضوع هو الماء المتغيّر مادام متغيراً يرتفع الحكم بارتفاع القيد.

4. المثال المعروف للاستصحاب التعليقي هو قولهم: «العنب حرام إذا غلى»، فلو طرأ التغيّر في جانب الموضوع وصار زبيباً، فهل تستصحب الحرمة التعليقية بحجة أنّ الرطوبة و الجفاف من حالات الموضوع كالخبز الناعم و اليابس أو لا؟

ص:160

لكن التمثيل به في غير محله، إذ لم يقع العنب موضوعاً للحكم في لسان النص، على ما مثّلنا، بل الوارد هو العصير العنبي إذا غلى، بأن يكون المغليّ ماء العنب، لا الماء الخارجي، و إذا صار زبيباً وجفّ ماؤه، فالمغلي هو الماء الخارجي الذي يختلط مع أجزاء الزبيب ومثله خارج عن محط النص.

ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه».(1)

وفي صحيحة حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي».(2) فلم يقع العنب موضوعاً للحكم حتى يستصحب حكمه وإن صار زبيباً.

ومع ذلك فالمثال غير عزيز: فلو هدم المسجد وصار شارعاً يقع الكلام في حرمة تنجيسه ووجوب ازالة نجاسته. فإن قلنا: إنّ أحكام المسجد مترتبة على ما يقال انّه مسجد بالفعل، فإذا أُزيل عنوانه، لا يترتب عليه شيء من أحكامه فيجوز تنجيسه ولا تجب إزالة نجاسته، كما يجوز جلوس الجنب والحائض فيه.

وإن قلنا: إنّها مترتبة على ما كان مسجداً وإن لم يكن بالفعل كذلك، فتترتّب عليه عامة الأحكام. إنّما الكلام إذا شككنا فيما هو الموضوع فيرجع فيه إلى الأصل ومقتضاه هو حرمة التنجيس تنجيزاً، ووجوب الإزالة تعليقاً، فيقال في الأوّل كان تنجيس هذا المكان حراماً و الأصل بقاؤه، و في الثاني، كان هذا المكان - إذا تنجس - وجب تطهيره و الأصل بقاؤه، و لأجل كون الاستصحاب في الأوّل تنجيزياً وفي الثاني تعليقيّاً، ذهب المحقّق النائيني في تعليقته إلى حرمة التنجيس،

ص:161


1- . الوسائل: الجزء 17، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1.
2- . الوسائل: الجزء 17، الباب 3 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1.

وعدم وجوب الإزالة.(1) لعدم حجية الاستصحاب التعليقي عنده.

5. انّ جريان الاستصحاب مبني على جريانه في الأحكام الشرعية الكلّية وعدم اختصاصه بالشبهات الموضوعية، و أمّا جريانه في الموضوعات فربّما يعطف عليه أيضاً، فيقال في الصلاة في اللباس المشكوك: لو صلّى المصلي قبل لبس هذا اللباس لكانت صلاته صحيحة، فالأصل بقاء الموضوع على ما كان عليه.

والظاهر عدم صحة العطف، إذ التعليق ليس في كلام الشارع وإنّما هو بتعمل وتدقيق من المستصحِب.

6. العصير العنبي إذا غلى بنفسه أو بالشمس فهو مسكر لا يطهر ولا يحل بالتثليث، إلّاإذا انقلب خلّا و هذا النوع من الغليان خارج عن مصب البحث، وأمّا إذا غلى بالنار ونحوه فهو طاهر وشربه حرام إلى أن يذهب ثلثاه و يقلّ ماؤه، لئلّا يتبدل على مرّ الزمان مسكراً.

7. انّ أوّل من تمسّك بالاستصحاب التعليقي في حرمة العصير العنبي هو السيد الطباطبائي المعروف ب «بحر العلوم»، و ردّعليه تلميذه السيد علي صاحب الرياض في درسه كما نقله ولده السيد محمد المجاهد في «المناهل»، وبما انّ الموافق والمخالف اتخذ العصير العنبي مثالاً للبحث، فنحن نقتفيه، و قد عرفت خروجه عن كونه مثالاً للمقام.

إذا عرفت هذه الأُمور، فاعلم أنّ الشيخ الأعظم ذهب إلى جريانه و تبعه المحقّق الخراساني و خالفهما المحقّق النائيني. واستدل القائل بجريانه بتمامية أركانه من اليقين السابق، والشكّ اللاحق، وبقاء الموضوع فانّ عنوان العنبية من الحالات لا من المقومات.

احتج المخالف بوجوه نذكرها على الترتيب الذي ذكره صاحب الكفاية.

ص:162


1- . العروة الوثقى: أحكام النجاسات، فصل «لا يشترط في صحة الصلاة إزالة النجاسة عن البدن» المسألة 13، تعليقة النائيني وتلميذه جمال الدين الگلپايگاني.
1. لا وجود للمعلَّق قبل وجود ما عُلِّق عليه

نقل الشيخ عن صاحب المناهل أنّه ردّ الاستصحاب التعليقي بأنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوتُ أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من الأزمنة قطعاً ثمّ حصول الشك في ارتفاعه بسبب من الأسباب، ولا يكفي مجرد قابلية الثبوت باعتبار من الاعتبارات، فالاستصحاب التقديري باطل.(1)

وقد أجاب عنه الأعاظم بما هذا حاصله:

ما ذا يريد من عدم وجوب المستصحب (الحرمة المعلّقة)؟ فإن أراد انّه ليس بموجود فعلاً فهو حق، ولا يشترط في الاستصحاب أن يكون موجوداً بالفعل، بل يكفي أن يكون له نوع ثبوت و تحقّق حتّى يصح معه التعبد بالبقاء، و إن أراد انّه ليس بموجود أصلاً لا فعلاً ولا تعليقاً، فهو غير صحيح، إذ المفروض انّ الحرمة المعلَّقة وقعت تحت الإنشاء وتعلّق بها اليقين، ثمّ الشكّ ببقائها. وقد قلنا في محله انّ واقع الأحكام المشروطة هو إنشاء حكم على فرض وجود الشرط، فالشارع ينظر إلى صفحة الوجود و يرى أنّ العصير العنبي على قسمين: قسم غير مغليّ، و قسم منه مغليّ فيُنشأ الحرمة عليه على ذلك الفرض، و معه كيف يمكن أن يقال: انّه لا و جود للمعلّق. وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني بقوله: إنّ المعلّق قبل الغليان إنّما لا يكون موجوداً فعلاً لا انّه لا يكون موجوداً أصلاً ولو بنحو التعليق....

نظرية صاحب المناهل بثوبها الجديد

إنّ المحقّق النائيني ممن وافق صاحب المناهل وأنكر الاستصحاب

ص:163


1- . الفرائد: 380.

التعليقي وقال بعدم الوجود للحرمة التعليقية حتى يُستصحب في زمان الشك، و الأساس لإنكاره هو إرجاع عامّة الشروط إلى الموضوع، فالاستطاعة والغليان وإن أخذا في لسان الدليل شرطين للوجوب والحرمة، لكن القيدين يرجعان إلى الموضوع، فكأنّه قال: المستطيع يجب عليه الحج، والعصير المغليّ يحرم، وقد كان من شعاره قدس سره: «كل شرط موضوع».

وعلى هذا الأساس أنكر الاستصحاب التعليقي وقال - بعد تسليم أنّ الشرط يرجع إلى الموضوع -، انّ نسبة الموضوع إلى الحكم، نسبة العلّة إلى المعلول، ولا يعقل أن يتقدّم الحكم على موضوعه، و الموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنّما يكون مركباً من جزءين: العنب والغليان، فقبل فرض الغليان لا يمكن فرض وجود الحكم، و مع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه، لأنّه يعتبر في المستصحب نوع تقرر له، فوجود أحد جزئي الموضوع المركب كعدمه لا يترتب عليه الحكم الشرعي مالم ينضمّ إليه الجزء الآخر.

ثمّ إنّه قدس سره ردّ على المحقّق الخراساني بقوله: وما ربما يقال: انّ العنب قبل غليانه و إن لم يكن معروضاً للحرمة والنجاسة الفعلية - لعدم تحقّق الموضوع - إلّاأنّه معروض للحرمة والنجاسة التقديرية، لأنّه يصدق على العنب عند وجوده قبل غليانه، انّه حرام ونجس على تقدير الغليان، فالحرمة والنجاسة التقديرية ثابتتان للعنب قبل غليانه، فيشك في بقاء النجاسة والحرمة التقديرية عند صيرورة العنب زبيباً.

مدفوع: بأنّ الحرمة والنجاسة التقديرية من العنب غير المغلي عبارة أُخرى عن أنّ العنب لو انضمّ إليه الغليان لترتبت عليه الحرمة والنجاسة، و هو - مضافاً إلى أنّها أمر عقلي - مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابه.(1)

ص:164


1- . فوائد الأُصول: 4/467-469.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره مبني على إرجاع القيود كلّها إلى الموضوع، وإرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية، فلا يكون الحكم الشرعي (الحرمة) فعلياً إلّابعد تحقق عامة أجزاء الموضوع ومنه الغليان، والمفروض عدمه.

لكن التحقيق أنّ الشروط على أقسام ثلاثة حسب كيفية دخالتها في المصالح والمفاسد:

1. ما هو قيد للحكم كدلوك الشمس في وجوب الظهرين.

2. ما هو قيد للمتعلَّق، كما في قولك: في سائمة الغنم زكاة.

3. ما هو قيد المكلَّف كما في الشرائط العامة من العقل و البلوغ والقدرة.

ومع ذلك فلا وجه لإرجاع عامة القيود إلى الموضوع سواء فُسر بالمكلّف، أو بالمتعلّق، حيث إنّه قدس سره ارجعه في المقام إلى المتعلَّق و قال: العنب المغلي، و في غير هذا المورد ارجعه إلى المكلف، وقال: العاقل البالغ المستطيع، يجب عليه الحج.

و على كلّ تقدير فبما انّ مدخلية الشروط مختلفة، فتارة تكون مؤثراً في فعليّة الحكم، و أُخرى في كون المتعلّق ذا مصلحة أو مفسدة، أو كون المكلّف صالحاً للخطاب، تكون الشروط من حيث المرجع مختلفة ولا تكون على وزان واحد - كما زعم -.

وثانياً: أنّ المستفاد من كلامه: انّه لو كان الشرط في لسان الشارع جزءاً للموضوع كما إذا قال: العنب المغليّ حرام، لا يكون للمعلَّق أيّتحقّق قبل تحقّق الشرط.

وإن كان قيداً للمعلّق وشرطاً له في لسان القائل كما إذا قال: العنب حرام إذا غلى، يكون له تحقق وواقعية

ص:165

ولكنّه دقة فلسفية والعرف لا يفرّق بين القضيتين، فقول القائل: العنب المغلي حرام، كقوله: العنب حرام إذا غلى، فهو يتخذ العنب موضوعاً والغليان شرطاً من دون فرق بين التعبيرين المصرَّح والمؤول.

وبذلك يعلم ضعف ما أفاده الشيخ في كتاب الخيارات فيما إذا باع فرساً عربياً فبان فرساً غير عربي، فتارة حكم ببطلان المعاملة، وهذا فيما إذا قال البائع بعتك الفرس العربي، و أُخرى بجواز المعاملة ووجود الخيار وذاك فيما إذا قال: بعتك الفرس بشرط كونه عربياً، و تصور انّ التخلّف في المثال الأوّل من قبيل تخلّف الموضوع، كما إذا باع قطناً فبان حديداً، و في الثاني من قبيل تخلّف الشرط فيكون المشتري ذا خيار.

وقد ذكرنا في محله أنّ هذا التفسير ليس عرفياً وانّ العرف يتلقى القضيتين بمعنى واحد، وانّ ما ذكره دقة عقلية لا يلتفت إليها العرف الذي هو المدار في فهم الأدلّة.

وثالثاً: أنّ محط البحث هو بقاء القضية التعليقية بحالها، و انّه هل يجوز استصحابها أو لا؟ و أمّا منع الاستصحاب لأجل إرجاع القضايا التعليقية إلى التنجيزية، وجعل الشرط جزء الموضوع وبالتالي عدم فعلية الحكم لعدم تمامية الموضوع فهو خروج عن طور البحث، لأنّ المستصحَب حسب الفرض هو الحكم الشرعي التعليقي لا الحكم التنجزي حتى يعتذر بعدم الفعلية لأجل فقدان بعض أجزاء الموضوع.

ورابعاً: أنّ ما ذكره ردَّاً للمحقّق الخراساني بأنّه لا معنى لكلامه «إلّا أنّ العنب لو انضم إليه الغليان لترتب عليه الحرمة وهو أمر عقلي أوّلاً، ومقطوع البقاء ثانياً» غير تام.

ص:166

أمّا الأوّل: فلأنّه خلط بين المُنشأ والمنتزع، والمنشأ هو الحكم الشرعي الشرطي، أي حرمة العنب عند الغليان، وهو أمر حقيقي، وأمّا ما ذكره من أنّ معناه أنّ العنب لو انضم إليه الغليان لترتب عليه الحرمة فهو أمر انتزاعي من الحكم الشرعي.

وأمّا الثاني: فلأنّ مقطوع البقاء هو الحكم الكلّي (العنب إذا غلى يحرم)، و أمّا عند التطبيق على الخارج و طروء بعض الحالات على القضية فتصبح مشكوكة، كما إذا جفّ العنب المعين و صار زبيباً، فحينئذٍ يشك في بقاء الحكم الشرعي، فيستصحب.

إجابة أُخرى عن إشكال صاحب المناهل

ثمّ إنّ المشايخ أجابوا عن إشكال المناهل بجواب آخر، و هو: أنّ المستصحب ليس هو الحكم التكليفي، أعني:

الحرمة، حتى يقال بأنّه لا وجود للمعلّق، وإنّما المستصحب هو الحكم الوضعيّ، أي الملازمة بين الغليان والحرمة، فنقول كانت الملازمة بين العنب والغليان موجودة فنشك في بقائها عند تبدّل العنب بالزبيب وهي محقّقة وليست بمعدومة.

وأورد عليه المحقّق النائيني: بأنّ الملازمة والسببية لا تنالها يد الجعل الشرعي فلا يجري الاستصحاب فيها، لأنّه يشترط في المستصحب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي و ليست الملازمة منهما.

يلاحظ عليه: بأنّه يشترط في المستصحب أن يكون أمره بيد الشارع وضعاً و رفعاً، والمقام كذلك، لأنّ الملازمة منتزعة من حكم الشارع بالحرمة عند الغليان، وهذا المقدار كاف في كون المستصحب من الأُمور الشرعية كاستصحاب الجزئية

ص:167

والشرطية والمانعية من الأحكام المتعلّقة بالشرط والجزء والمانع.

2. الاستصحاب التعليقي معارض للتنجيزي

هذا هو الإشكال الثالث في كلام الشيخ الأعظم، والإشكال الثاني في «الكفاية» وحاصله: انّ استصحاب الحرمة المعلّقة بعد صيرورة العنب زبيباً، يعارضه استصحاب الطهارة والحلّية الثابتتين للعنب قبل الغليان حيث كان العنب قبله حلالاً، فصار زبيباً وغلى، فنشك في بقاء الحلية السابقة و الأصل بقاؤه.

وقد أُجيب عنه بوجهين:

الأوّل: ما أجاب به الشيخ وحاصله:

انّ استصحاب الحرمة على تقدير الغليان حاكم على استصحاب الإباحة قبل الغليان.(1) لكون الأصل الأوّل سببياً والثاني مسببياً.

توضيحه: أنّ الشكّ في بقاء الحلّية السابقة وعدمها نابع عن الشكّ في كيفية جعل الحرمة للعنب المغليّ وانّ الشارع هل رتبها على العنب المغلي بجميع مراتبه التي منها صيرورته زبيباً، أو رتبها على بعض مراتبه وهو كونه عنباً غير جافّ؟ فإذا ثبت بالاستصحاب التعليقي بقاء الحرمة وانّها مترتبة على العنب بعامة مراتب وجوده، لا يبقى شكّ في ارتفاع الحلية السابقة.

وأورد عليه: بأنّ الأصل السببي إنّما يكون حاكماً على المسببي إذا كان الترتب بينهما شرعياً ويكون التعبّد بالسببيّ تعبّداً بنقض الأصل المسببي، مثلاً إذا غسل ثوب نجس بماء مستصحب الطهارة فالتعبد بطهارة الماء، يلازم شرعاً، بطهارة الثوب ونقض النجاسة المستصحبة، لما دلّ الدليل على أنّ كلّ نجس

ص:168


1- . الفرائد: 380.

غُسل بماء طاهر فهو طاهر، بخلاف المقام إذ لم يدل دليل شرعي على أنّ كلّ ما حكم عليه بالحرمة فهو غير محكوم بالحلية، وإن كانت الملازمة ثابتة عقلاً.

ويمكن أن يقال: انّ التعبد بوجود أحد الضدين وإن كان لا يلازم التعبد بعدم الضد الآخر، لكن يستثنى منه ما إذا كان التعبّد بوجود الضد، عين التعبد بعدم الآخر عرفاً كما في المقام، فانّ التعبّد ببقاء الحرمة المعلّقة عين التعبّد بإلغاء احتمال الحلية إذ لا معنى لكون الشيء حراماً، مع احتمال كونه حلالاً. ففي مثله يكون الأصل المثبت حجّة.

الثاني: ما أجاب به المحقّق الخراساني و حاصله: أنّه لا تعارض بين الاستصحابين.

توضيحه انّ الزبيب عندما كان عنباً كان محكوماً بحكمين غير متعارضين.

1. الحلية قبل الغليان، 2. الحرمة بعده، فكما أنّ الغليان شرط للحرمة، هكذا هو غاية للحلية، فإذا صار زبيباً يكون محكوماً أيضاً بنفس الحكمين فالزبيب حلال إلى أن يغلى، و حرام إذا غلى، فإذا حصلت الغاية لا يبقى مجال لاستصحاب الحلية وتكون الساحة خاصة لاستصحاب الحرمة.

و إن شئت قلت: إنّ الحلية مغيّاة بعدم الغليان، والحرمة مشروطة به أيضاً، فما كان كذلك لا يضر ثبوت الأمرين بالقطع فضلاً عن الاستصحاب لعدم التضاد بينهما فيكونان بعد صيرورته زبيباً، كما كانا معاً بالقطع بلا منافاة غير انّ المتكفل لإثبات الحلية المغياة، والحرمة المعلقة مادام كونه عنباً هو الدليل الاجتهادي، و المتكفل لإثباتهما كذلك عندما صار زبيباً هو الاستصحاب.

وبالجملة: حكم الزبيب - حلية وحرمة - نفس حكم العنب، فكما لا تعارض بينهما مادام عنباً فهكذا لا تعارض بينهما إذا صار زبيباً.

ص:169

فإن قلت: إنّ حلية العنب كانت مغياة بالغليان لا حلية الزبيب ولم يثبت كونها مغيّاة به حتى يحكم بارتفاعها بحصول الغاية.

قلت: لا شكّ انّ حلية الزبيب ليست أمراًجديداً طرأ عليه بل هي استمرار للحلية السابقة العارضة على العنب وعليه تكون الحلية في كلتا المرحلتين مغيّاة، واحتمال كونها مغياة حدوثاً (مادام عنباً) لا بقاء (إذا صار زبيباً) يدفعه الاستصحاب إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه من الحكم المغيّى.

3. تبدل الموضوع

هذا هو الإشكال الثالث الذي تعرض به الشيخ الأعظم دون المحقّق الخراساني، وهو أُمّ الإشكالات المتوجهة إلى استصحاب الحكم الشرعي الكلّي، مطلقاً.

قال الشيخ: و ربّما يناقش الاستصحاب التعليقي بانتفاء الموضوع وهو العنب.

ثمّ أجاب عنه بوجه موجز و قال: إنّه لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل و الثابتة له على تقدير دون آخر.(1)

والحقّ انّ المشايخ استسهلوا هذا الإشكال مع أنّه من أهم الإشكالات، وعليه بنى الأمين الاسترابادي، إنكار الاستصحاب في الحكم الشرعي الكلي و قال: إنّه من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر و هو أشبه بالقياس، وذلك لأنّ العنب والزبيب مفهومان متغايران وكيف يمكن أن يقال إنّ الثاني عين الأوّل مفهوماً؟

ص:170


1- . الفرائد: 2/654، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

وما ربّما يقال انّه يشترط في جريان الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً لا عقلاً، و الزبيب نفس العنب حقيقة وماهية غير أنّه جفّ، فإنّما يصحّ في استصحاب الحكم الجزئي، للعنب المشخص، فيقال: هذا كان كذا و الأصل بقاؤه فيكون الموضوع هو «هذا»، وأمّا إذا كان المستصحب الحكم الشرعي، فالموضوع في القضية المتيقّنة هو مفهوم العنب، وفي القضية المشكوكة هو مفهوم الزبيب فكيف يصحّ لأحد أن يدّعي وحدة المفهومين عرفاً مع أنّ المفاهيم والماهيات مثار الكثرة؟ ومن هنا يظهر الإشكال في سائر الموارد من استصحاب الحكم الشرعي الكلّي كالماء المتغيّر وجرّ حكمه إلى الماء غير المتغيّر، و الماء النجس غير الكرّ وجر حكمه إلى المتمم كراً، والحائض، و جرّ حكمها إلى ما إذا نقت من الدم و هكذا.

والجواب: انّ لاستصحاب الحكم الشرعي الكلّي صورتين لا تشذ إحداهما عن القياس قيد شعرة، والأُخرى موافقة لضوابط الاستصحاب.

الصورة الأُولى: اتخاذ المفاهيم و العناوين مصبّاً للاستصحاب وإسراء حكم عنوان إلى عنوان آخر، وهذا نظير إسراء حكم العنب والماء المتغيّر والحائض، إلى الزبيب، والماء غير المتغير، والنقية من الدم إذا لم تغتسل، والاستصحاب بهذا المعنى نفس القياس ولذلك تلقّاه الأمين الاسترابادي قياساً.

وما ربّما يقال من أنّ المرجع في تشخيص وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة هو العرف لا العقل، لا يفيد في المقام لأنّ العرف مهما تسامح أو تساهل لا يرى المفهومين مفهوماً واحداً، والعنوانين عنواناً فارداً، فلذلك لو باع سلفاً العنبَ ودفع الزبيب عند حلول الأجل، لم يف بواجبه وللمشتري الرد، قائلاً بأنّ المبيع غير المقبوض.

ص:171

الصورة الثانية: اتخاذ المصاديق الخارجية مصبّاً للاستصحاب، وهذا النوع يتوقف على تحقّق أمرين:

أ: الدليل الاجتهادي.

ب: الأصل العملي.

والحاجة إلى الأوّل إنّما هو في فترة خاصّة وهو مادام الموضوع موصوفاً بالعنبية، كما أنّ الحاجة إلى الأصل العملي بعد صيرورته زبيباً.

إذا عرفت ذلك، فللمستنبط أن يستفيد من كلا الدليلين واحداً تلو الآخر، فيقول: هذا عنب، و كلّ عنب إذا غلى يحرم، فهذا إذا غلى يحرم.

فتكون النتيجة انقلاب الموضوع من كونه عنباً إلى كونه هذا، ولذلك قلنا في النتيجة: «هذا إذا غلى يحرم».

وبعبارة أُخرى: انّ الموضوع في لسان الدليل - أي الكبرى - و إن كان هو العنب لكن بعد تطبيقه على الخارج، يكون الموضوع للحرمة الجزئية هو هذا الموجود الخارجي الذي هو أمامنا ونشير إليه بهذا، ونقول: «هذا إذا غلى يحرم».

إلى هنا تمّت رسالة الدليل الأوّل، وبعد تمامية الاستنتاج لا نرجع إلى ذلك الدليل أبداً.

ثمّ إذا كان الموضوع الخارجي موصوفاً بأنّه إذا غلى يحرم، فإذا مضت أيّام وجفّ ماؤه و صار زبيباً، فالقول باستمرار الحكم و جر الحكم السابق إلى اللاحق فرع حفظ الهوية الخارجية (لا العنوان)، و كون المشار إليه بهذا في الفترة الأخيرة نفس المشار إليه بهذا في الفترة المتقدمة.

فان وافقه العرف على هذه الوحدة كما هو الموافق للتحقيق يجري

ص:172

الاستصحاب من دون رائحة قياس، فيقال: هذا كان في السابق إذاغلى يحرم، والأصل بقاؤه على ما عليه، فيكون المرجع هو الأصل العملي في الفترة الأخيرة مادام كونه زبيباً.

وبهذا يظهر كيفية جريان الاستصحاب في الماء المتغيّر الذي زال تغيره بنفسه، أو المرأة الحائض إذا نقت من الدم ولم تغتسل، إلى غير ذلك من الأمثلة، فلو اتخذنا العناوين والمفاهيم مصبّاً للاستصحاب فهو أشبه بالقياس، ولا صلة له بالاستصحاب. وأمّا لو اتخذنا الموضوع الخارجي مصبّاً له بعد تطبيق الدليل الاجتهادي عليه، يكون من مقولة الاستصحاب، فيشار إلى الماء المحكوم بالنجاسة والمرأة المحكومة بحرمة المسّ، فيقال: هذا كان نجساً أو هذه كانت محرّمة المس فالأصل بقاؤه، و الموضوع في كلتا الحالتين هو المشار إليه ب «هذا» الباقي في كلتا الحالتين.

هذه عصارة ما نقله سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري في درسه الشريف، فاعلم قدره واغتنمه.

ص:173

التنبهات

8- استصحاب أحكام الشرائع السابقة
اشارة

إذا ثبت حكم شرعي في إحدى الشرائع السابقة فهل يصحّ استصحابه، في الشريعة اللاحقة أو لا؟ وقبل الخوض في المقصود نقدّم بحثاً حول الشكّ في بقاء الأحكام في الشريعة الإسلامية.

إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارة يرجع إلى الشكّ في سعة الجعل وضيقه، و أُخرى إلى الشكّ في مدخلية بعض القيود في بعض الآثار و إن كان الحكم مجعولاً إلى يوم القيامة.

أمّا الصورة الأُولى: أي الشك في سعة الجعل وضيقه فالمرجع هو إطلاق الدليل اللفظي، وإلّا فاستصحاب عدم النسخ، فلو شككنا في سعة جعل الحلية للمتعة بعد عام الفتح، فإن كان هناك إطلاق لفظي كقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (1)، فيحكم بفضل الإطلاق على بقاء الحكم، وإن لم يكن هناك إطلاق لفظي بل إجماع على الحكم لم تُعلم سعة جعله وضيقه، فيستصحب عدم النسخ.

وأمّا الصورة الثانية: أي الشكّ في مدخلية بعض القيود في فعلية الحكم و إن كان التشريع عاماً إلى يوم القيامة، فهذا ما يعبّر عنه بالشكّ في سعة المجعول في

ص:174


1- . النساء: 24.

بعض الفترات. هذا كما إذا شككنا في فعلية وجوب صلاة الجمعة عند الغيبة لأجل الشكّ في أنّ الحضور شرط لفعلية الحكم، فلو كان كذلك يصير الحكم إنشائياً إلّاعندما يظهر الإمام وأخذ بزمام الأمر، ففي هذا المقام ربما يستصحب وجوب الجمعة إلى زمان الغيبة. إذا لم يكن للدليل اللفظي إطلاق ينفي شرطية الحضور، كما إذا كان مهملاً من هذه الجهة فيرجع إلى الأصل العملي وهو الاستصحاب.

ثمّ إنّ هنا إشكالاً ذكره صاحب الفصول في استصحاب أحكام الشرائع السابقة، وهو مشترك بينه و بين المقام فنذكره هنا ويُعلم حاله هناك أيضاً.

قال: إنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ آخرين لتغاير الموضوع، فانّ ما ثبت في حقّهم مثلُه لا نفسُه، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين والمعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب.(1)

وأجاب عنه الشيخ الأعظم بوجهين:

الأوّل: انّا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشريعتين(2)، فإذاحرم في حقّه شيء سابقاً وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة، فلا مانع من الاستصحاب أصلاً [إذ الموضوع واحد ويتم الحكم في الباقي بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة].

يلاحظ عليه: أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين عامة المكلّفين، وأمّا الحكم الظاهري الثابت في حقّشخص فإنّما يحكم بالاشتراك في حقّ من يكون مثل الفرد

ص:175


1- . الفرائد: 381.
2- . أو للعصرين لينطبق على المقام.

السابق في الصفات والخصوصيات (أي يكون على يقين بالحكم فيشك)، فمن أدرك عصري الحضور والغيبة يحكم عليه بالوجوب، ويشاركه كلّ من حاز على هذا الوصف دون غيره كالمدرك لعصر الغيبة فقط. و ما هذا إلّا لأنّ الأوّل ذو يقين و شك، بخلاف الثاني فهو شاك فقط.

وإلى هذا الإشكال أشار المحقّق الخراساني بقوله: إنّ قضية الاشتراك ليست إلّاأنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ لا انّه حكم الكلّ و لو لم يكن كذلك.

الثاني: ما ذكره هو قدس سره أيضاً انّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعاً غاية الأمر احتمال مدخلية بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم، ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب، لقدح في أكثر الاستصحابات، فتسرية الحكم من الموجودين إلى المعدومين تصحُّ بالاستصحاب باعتبار انّ المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه.

وأورد عليه المحقّق الخوئي ما هذا حاصله: انّ كون الأحكام موضوعاً على نحو القضايا الحقيقية، معناه عدم مدخلية خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم، لا عدم اختصاص الحكم بحصّة دون حصة، فانّا نشك في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلّفين أو مختص بمدركي زمان الحضور، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه، فإن كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق فهو المّتبع، أو كان هناك دليل من الخارج يدل على

ص:176

استمرار الأحكام فيؤخذ به، و إلّافلا يمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ.

يلاحظ عليه: أنّ الاشكال مبني على تفسير القضايا الخارجية والحقيقية بجعل الحكم على الأفراد المحقَّقة كما في الأُولى، أو الأعم منها و من المقدَّرة كما في الثانية، فعندئذٍ يصحّ ما ذكره من أنّ جعل الحكم على بعض الحصص يكون شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه، ولكنّه خلاف التحقيق، بل الحكم في كلتا القضيتين موضوع على العنوان، غير أنّه في الأُولى لا يصدق إلّاعلى المحققة، وفي الثانية على الأعم من المحقّقة والمقدرة.

فإن قلت: إنّ العنوان بما هو عنوان، أمر ذهني، لا يتَحمَّل الحكم كما في القضايا الخارجية، مثل قولك: قتل كلّ من في العسكر؛ ولا في القضايا الحقيقية، كما في قولك: أكرم كلّ عالم، أو يحرم كلّ خمر، وإنّما المتحمل له هو الأفراد فيعود الإشكال.

قلت: فكم فرق بين الموضوع و ما هو المقصود من جعل الحكم على الموضوع، فالموضوع في الدليل هو الأوّل و إن كان المقصود منه هو ما ينطبق عليه الأفراد به، نظير تعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد، فالموضوع هو ذات الطبيعة و إن كانت الغاية من تعلّقه بها، هو إيجادها و تكوينها.

وعلى هذا فالحكم الموضوع على عنوان «كلّ مكلّف» شامل لمن أدرك عصر الحضور، و من أدرك عصر الغيبة، فنستصحب. نعم لو قلنا بأنّ الموضوع هو الافراد الخارجية المحقّقة أو المقدرة ينقسم الموضوع إلى متيقّن الحكم ومشكوكه، ولكنّه كما ترى، بل الموضوع العنوان الكلّي، مثلاً «الذين آمنوا» في قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى

ص:177

ذِكْرِ اللّهِ) .(1)

ثمّ إنّ المحّقق الخراساني لمّا ذهب في مبحث اجتماع الأمر والنهي إلى الامتناع بحجة أنّ الأحكام تتعلّق بالمصاديق الخارجية ومعه يمتنع أن يكون الفرد الخارجي متعلّقاً للأمر والنهي، حاول تفسير القضية الحقيقية في المقام بما اتخذه المحقّق الخوئي ذريعة للإشكال وقال: إنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة كان ثابتاً لأفراد المكلّف، كانت محقّقة وجوداً أو مقدرة كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة، وهي قضايا حقيقية لا خصوص الأفراد الخارجية كما هو قضية القضايا الخارجية، وإلّا لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها، كان(2) الحكم في الشريعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المكلّف مما وجد أو يوجد.(3)

ثمّ إنّه حاول أن يطبق ما ذكره الشيخ في مقام الجواب على ما ذكره.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الحكم في كلتا القضيتين: الحقيقية والخارجية، على العنوان لا على الأفراد، وعدم صدق الخارجية إلّاعلى الأفراد المحقّقة لا يكون دليلاً على تعلّق الحكم بالأفراد، بل الحكم متعلّق بالعنوان، غير انّ العنوان على قسمين: قسم له سعة، وقسم له ضيق.

وثانياً: لو صحّما ذكره لتوجه إليه الإشكال الماضي في كلام المحقّق الخوئي من انحلال القضية إلى أفراد محكومة بالحكم قطعاً، وأفراد مشكوكة. فتجري البراءة في الثاني مكان الاستصحاب لعدم سبق اليقين السابق.

ص:178


1- . الجمعة: 9.
2- . جواب لقوله «حيث كان».
3- . الكفاية: 2/234-235.

وثالثاً: أنّ كلام الشيخ أكثر انطباقاً على ما ذكرنا دون ما ذكره.

إلى هنا تمّ بيان الإشكال المشترك بين استصحاب أحكام شريعتنا وأحكام الشرائع السابقة، وحاصل هذا الاشكال هو: عدم القضية المتيقّنة بالنسبة إلى المستصحب في كلا المقامين، وقد عرفت كيفية تصحيح وجودها.

استصحاب أحكام الشرائع السابقة

إنّ استصحاب أحكام الشرائع السابقة يشارك استصحاب أحكام شريعتنافيما تقدّم إشكالاً وجواباً، فها نحن نذكر جميع ما أورد عليه من الإشكالات من غير فرق بين المشترك بين المقامين والمختص بهذا المقام.

الأوّل: عدم اليقين بالحكم السابق

هذا الاشكال هو الذي قدّمنا ذكره عند البحث في استصحاب أحكام شريعتنا، وقد قلنا: إنّه إشكال مشترك بين البابين، وقد عرفت مفاد الإشكال والجواب فلا نعيد.

الثاني: عدم الشكّ في البقاء

إنّ الشريعة الإسلامية لمّا كانت ناسخة لجميع الشرائع السابقة فلا يجوز الحكم بالبقاء بعد العلم بالنسخ.

يلاحظ عليه: إن أُريد من النسخ، نسخ كلّ حكم إلهي في الشريعة السابقة، فهو ممنوع، لبقاء قسم من تلك الأحكام في شريعتنا.

وإن أُريد نسخ بعض الأحكام، فهذا لا يمنع إلّااستصحاب ما علم كونه

ص:179

منسوخاً لا ما كان مشكوك النسخ، فيبقى غير المعلوم على حاله.

الثالث: العلم الإجمالي مانع من جريان الاستصحاب

كان الجواب عن الاشكال الثاني مبنياً على أنّ الأحكام بين متيقّن النسخ ومشكوكه، فيجري الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

فأورد عليه المستشكل بأنّ في القسم الثاني ما علم كونه منسوخاً بالإجمال، ومعه كيف يجري استصحاب النسخ في كلّ واحد واحد منه مع ذلك العلم الإجمالي؟

والجواب ما ذكرناه في باب الاشتغال من أنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع عن جريان الأصل إذا كانت جميع الأطراف مورداً للابتلاء، وأمّا إذا خرجت بعض الأطراف قبل العلم الإجمالي عن محل الابتلاء فلا يمنع عن جريان الأصل في مورد الابتلاء وذلك لعدم تعارض الأصلين حين ما لا يجري في الفرد الخارج عن الابتلاء لعدم ترتب الأثر عليه ويجري في الداخل بلا معارض.

والمقام أيضاً من هذا القبيل حيث نفترض أنّ عدد الأحكام قرابة ألف حكم وقد علمنا بطروء النسخ على 100 حكم تفصيلاً، فناهز مالم يعلم تفصيلاً إلى 900.

ثمّ إنّ 850 حكماً من هذه الأحكام معلوم لنا بالتفصيل من طريق القرآن والسنة سواء أوافق الشريعة السابقة أم خالف، ولأجل ذلك لا نحتاج إلى أصالة عدم النسخ فيها فيبقى في المقام 50 حكماً ولا نعلم بوجود النسخ فيها لا إجمالاً ولا تفصيلاً، فيكون مجرى لأصالة عدم النسخ، وذلك لأنّ العدد الكبير غني عن أصالة عدم النسخ للعلم بالتفصيل بحكم اللّه فيها وإن لم نعلم كونها موافقة أو

ص:180

مخالفة للشريعة الإسلامية.

الرابع: النسخ إبطال للشريعة السابقة

ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين أنّ معنى نسخ الشريعة هو نسخ جميع أحكامها سواء أكانت مخالفة لما في الشريعة الناسخة أو موافقة، وعلى هذا لا يبقى مجال لاستصحاب أحكام الشرائع السابقة، فانّه فرع احتمال بقاء بعض الأحكام السابقة، وقد عرفت أنّ معنى النسخ هدم الشريعة وبناء شريعة جديدة، وافقت الأولى أم خالفتها، فالنسخ أشبه بتغيير نظام إلى نظام آخر، لا إحلال دولة محل أُخرى.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره هو نفس الإشكال الثاني لكن بثوب جديد، غير أنّ اللائح من الذكر الحكيم أنّ دور الشريعة اللاحقة تتجلّى تارة في بيان موارد الاختلاف وأُخرى في نسخ بعض دون بعض.

أمّا الأوّل: فكقول المسيح عندما بعث رسولاً إلى بني إسرائيل: (وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ) .(1)

فأين بيان موارد الاختلاف من محق الشريعة وبناء شريعة أُخرى؟ ولذلك لا تجد في الأناجيل حكماً شرعياً ويذكر وما ذلك إلّالأنّ المسيح لم يبعث إلّالبيان مواضع الاختلاف بين بني إسرائيل.

وأمّا الثاني: أي نسخ بعض وإبقاء بعض آخر، فهو الظاهر من كون النبي مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، قال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ

ص:181


1- . الزخرف: 63.

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ) .(1)

فمعنى التصديق هو إبقاء ما ثبت في الشريعة السابقة غاية الأمر لا كلّها بل بعضها، ويؤيد ذلك وجود المشتركات في المحرمات والواجبات في عامّة الشرائع.

وما ربّما يقال من أنّ تشريع هذه المشتركات في الشريعة الإسلامية دليل على محق الشريعة السابقة وهدمها، غير تام، لأنّ الهدف من التشريع هو بيان الأحكام وإغناء المسلمين عن الرجوع في المشتركات إلى العهدين وغيرهما، وليس هذا دليلاً لهدم الشريعة السابقة.

الخامس: بناء الاستصحاب على الحسن الذاتي

هذا الإشكال طرحه المحقّق القمّي وقال: إنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بالحسن والقبح الذاتي، وهو ممنوع، بل الحسن والقبح بالوجوه والاعتبار.

يلاحظ عليه: أنّ الاستصحاب مبني على وجود الملاك السابق في الآن اللاحق سواء أكان الملاك هو الحسن الذاتي أم الوجوه والاعتبار.

السادس: عدم سعة الشرائع السابقة

هذا الإشكال نفس الإشكال الأوّل لكن بصيغة أُخرى، وحاصله: انّ الظاهر من بعض الآيات انّ الشرائع السابقة كانت مختصة بأقوام خاصة.

ص:182


1- . المائدة: 48.

أمّا شريعة موسى عليه السلام فكانت لقومه لقوله تعالى: (وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ) (1)، وأمّا شريعة عيسى عليه السلام فكانت مختصة لبني إسرائيل لقوله: (وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ...) .(2)

ويؤيده قوله سبحانه: (وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّا لَصادِقُونَ) .(3)

يلاحظ عليه: أنّ ما ورد في هذه الآيات لا يخلو من إشعار بالاختصاص ولا يعد مثل ذلك دليلاً عليه بعد اتّفاق المسلمين على عموم شريعتهما وشمولها لعامة البشر.

هذا ما ذكر في المقام من الإشكال حول استصحاب أحكام الشرائع السابقة وقد عرفت انتفاءها.

بقي الكلام في التطبيقات التي ذكرها الشيخ الأنصاري في فرائده، وإليك البيان:

تطبيقات

ذكر الشيخ الأعظم في المقام تطبيقات ستة، ولكن ثمرات البحث أكثر ممّا ذكر، ولنأت بما هو المهم من الثمرات:

ص:183


1- . الصف: 5.
2- . الصف: 6.
3- . الأنعام: 146.
1. زواج غير المعينة بمهر غير معين

ذهب المشهور إلى لزوم تعيين المرأة عند التزويج أوّلاً، وتحديد مهرها بما يخرجه عن الجهالة ثانياً، وانّ المهر ملك للبنت لا للأب ثالثاً، ولكن المستفاد مما دار بين شعيب و موسى - بعد ما ورد ماء مدين - غيرها، قال سبحانه حاكياً عن لسان شعيب: (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ * قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) .(1)

فقد زوّج إحدى بنتيه بلا تعيين أوّلاً، وجعل المهر غير محدَّد بل مردّداً بين ثماني أو عشر حجج، وانتفع شعيب بمهر بنته وهو عمل موسى ورعيه غنمَ شعيب، بل يستفاد من ذلك أمر رابع وهو جواز كون العمل مهراً.

يلاحظ عليه: أنّ في دلالة الآية على الحكم الأوّل والثالث خفاء دون الثاني والرابع، وذلك لاحتمال أن يكون الترديد في مراسم الخطوبة والتعيين في مراسم عقد الزواج، فلا يكون الترديد دليلاً على جوازه في العقد.

نعم الظاهر بقاء الترديد في مقدار المهر إلى آخر الأجل بشهادة قول موسى: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) ، فانّ الظاهر انّ الترديد إنّما يزول عند اختتام العمل.

وأمّا انتفاع الأب بمهر البنت فلأجل انّه لم يكن انتفاعه منفكاً عن انتفاع البنت باعتبارهما من أعضاء أُسرة واحدة. ولعلّ ما كان يصرف الأب على البنت لم

ص:184


1- . القصص: 27-28.

يكن أقلّممّا ينتفع بمهرها، مضافاً إلى إذن الفحوى، وأمّا الحكم الرابع فلا بأس به فقد ورد فيه النصّ في رواياتنا.

2. الجهل بالعوض في الجعالة وضمان مالم يجب

ذهب المشهور إلى لزوم تعيين العوض في الجعالة كذهابهم إلى بطلان ضمان ما لم يجب، و مع ذلك فربما يستفاد من بعض الآيات جواز كلا الأمرين في الشرائع السابقة. قال سبحانه حاكياً عن لسان أحد عمال يوسف عليه السلام حيث اتّهم العيرَ الذي جاء من كنعان بالسرقة، و قال: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) فعند ذلك ضجت العير، فسألوهم عما يفقدون فأجيبوا بقولهم: (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (1). فالآية الأخيرة مركبة من فقرات ثلاث:

أ: (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) و تتعرض هذه الفقرة إلى المال المفقود.

ب: (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) وهو كعقد جعالة يشير إلى أنّ العوض حمل بعير و هو مجهول المقدار.

ج: (وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) فهذه الفقرة تشير إلى ضمان شخص ثالث عن هذا الحمل، ولذلك تغيّرت صيغة الكلام الوارد في قوله: (نَفْقِدُ) إلى قوله: (أَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، وهذا دليل على أنّ عاقد الجعالة غير ضامن العوض.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ قوله: (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من باب الجعالة ولعلّه من باب الوعد، فلا محذور في ما وعد به.

وعلى فرض جعالته، فالظاهر تعيّن حمل بعير يومذاك خصوصاً في عام

ص:185


1- . يوسف: 70 و 72.

المجاعة فقد كانوا يقتسمون البرَّ باحمال البعير والأكيسة المعينة.

هذا كلّه حول مجهولية العوض، وأمّا جواز الضمان بما لم يجب، فقد فصل المشهور بين ما إذا لم يكن هناك مقتض للضمان فلا يجوز، وما يكون هناك مقتض وسبب وإن لم يكن هناك علّة تامة، ولذلك جوّزوا ضمان الدرك و هو تضمين المشتري المتاع الذي يشتريه من البائع حيث يضمنه شخص ثالث لاحتمال كونه مالاً للغير، فالمقتضي موجود، و هو العقد و شراء المال، و هذا المقدار يكفي في صحة التضمين، والمقام أيضاً من هذا القبيل، لأنّ عقد الجعالة صار مقتضياً لاشتغال ذمة الجاعل بالأُجرة فيصح أن يضمنه شخص ثالث.

3. جواز الضرب بالضغث مكان الضرب بالسوط

روى المفسرون أنّ أيّوب عليه السلام حلف على امرأته لأجل إبطائها «لئن عوفي ليضربنّها مائة جلدة» فلما عوفي عليه السلام، خوطب بقوله: (خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ) .(1)

والضغث ملء الكف من الحشيش و الشماريخ و ما أشبه ذلك، فاستدل بالآية على أنّه يجوز لمن حلف أن يضرب مائة سوط، أن يبدلها إلى ضغث من الحشيش والشماريخ.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على سدّ باب بعض الاحتمالات، وهو انّ إجراء الحد مشروط بقابلية المحدود عليه، فلو انتهى إجراء الحد إلى موته أو إلحاق الضرّ الكثير به سقط الحد، ولعلّ زوجة أيّوب كانت من هذا الصنف، إذ عند ما حلف أيّوب لم يكن بأس من إجراء الحدّعليها، وبما انّ مرضه قد طال فصارت

ص:186


1- . ص: 44.

الزوجة طاعنة في السنّ فلربما أدى إجراء الحد إلى موتها. فلذلك بدله سبحانه بالضغث، و أمّا عدم سقوط الحدّفلأجل صيانة حرمة الحلف باللّه سبحانه.

ويدل على ذلك ما رواه العياشي باسناده: انّ عبّاد المكي قال: قال لي سفيان الثوري: إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه عليه السلام منزلة فأسأله عن رجل زنا وهو مريض، فان أُقيم عليه الحد خافوا أن يموت، ما تقول فيه؟ فقال لي: «هذه المسألة من تلقاء نفسك، أو أمرك بها إنسان؟» فقلت: إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها، فقال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أوتي برجل أحبن(1) قد استسقى بطنه و بدت عرق فخذيه وقد زنا بامرأة مريضة، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأوتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة، و ضربها به ضربة، و خلّى سبيلهما، وذلك قوله: (خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ) ».(2)

وهناك احتمال آخر وهو أن يكون ذلك من خصائص أيوب و بما أنّ زوجته قد تحملت مشقة كبيرة في طول مرضه عفا اللّه سبحانه عنها فبدّل الحدّ إلى ضغث، ومع هذه الاحتمالات لا يصح الاحتجاج بالآية.

4. جواز إجراء القصاص على من له عين واحدة

اختلف الفقهاء في أنّ الجاني إذا كان ذا عين واحدة وقد جنى على من له عينان، وفقأ إحدى عينيه، فهل يجوز القصاص أو لا؟ فمن قائل بجوازه، إلى قائل آخر بالانتقال إلى الدية، إلى ثالث قائل بجواز القصاص مع دفع نصف الدية.

فيمكن الاحتجاج على القول الأوّل بقوله سبحانه: (وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ

ص:187


1- . الأحبن الّذي عظم بطنه وورم.
2- . مجمع البيان: 4/448.

اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ) (1)، فإطلاق الآية يدل على جواز القصاص وإن انتهى إلى فقد بصر المجني عليه من رأسها.

يلاحظ عليه: بأنّ الآية في مقام أصل التشريع و ليس في مقام بيان الخصوصيات حتى يتمسك بإطلاقها، ولو غض النظر عن ذلك فيمكن الاستدلال عليه بقوله: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) .(2)

على أنّه لو تمّت دلالة الآيات فلا حاجة إلى الاستصحاب، فانّ نقل هذه التشريعات بلا رد عليها يتضمن إمضاءً وتصويباً لها، إذ ليس القرآن بصدد سرد القصص والحكايات وإنّما هو كتاب هداية للبشر وحكمة، فكلّما ينقل ويذكر فهو حجّة عينا إلّاإذا ما ردّ عليه.

مشروعية القرعة

تدل بعض الآيات على انّ بني إسرائيل ونبيهم زكريا كانوا يعملون بالقرعة حيث شارك زكريا معهم في تعيين كافل مريم فخرجت القرعة باسمه، يقول سبحانه: (وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) .(3)

وبالتالي خرجت القرعة باسم زكريا فتكفل مريم قال سبحانه: (وَ كَفَّلَها

ص:188


1- . المائدة: 45.
2- . البقرة: 194.
3- . آل عمران: 44.

زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) .(1)

يلاحظ عليه: انّ دلالة الآية على كونها أمراً مشروعاً عندهم لا خفاء فيها، بل يظهر من بعض الآيات أنّ القرعة كانت أمراً شائعاً بين البشر حيث ينقل في قصة يونس عندما استقل بسفينة وكادت تغرق بهم إلّابتفريغ السفينة من أحد الركاب، فاقترعوا وخرجت القرعة باسم يونس، قال سبحانه: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) .(2)

وبما انّ الروايات الدالة على مشروعية القرعة في الشريعة الإسلامية تغنينا عن استصحاب هذه الأحكام، على أنّك قد عرفت انّا في غنى عن الاستصحاب في عامّة هذه الموارد، بل يكفي ورودها في القرآن الكريم.

بقيت هناك تطبيقات أُخرى تعرض إليها الشيخ الأعظم في الفرائد فراجع.

ص:189


1- . آل عمران: 37.
2- . الصافات: 140-141.

تنبيهات

9- في الأُصول المثبتة
اشارة

قد اشتهر على لسان المتأخرين عدم حجية الأصل المثبت، وحجية مثبات الأمارة، والمسألة من المسائل المعنونة في عصر المحقّق البهبهاني (1118-1206 ه) أو بعده بقليل، و نجد في ثنايا أجزاء الجواهر(1) إشارات إلى تلك المسألة، و ما ربما يتوهم كونها من مبتكرات الشيخ الأعظم ليس بصحيح.

مضافاً إلى أنّ الشيخ ينقل أنّه اشتهر على ألسنة أهل العصر نفي الأُصول المثبتة.(2)

وتحقيق هذه المسألة يستدعي الكلام في مقامات خمسة:

المقام الأوّل: تعريف الأصل المثبت.

المقام الثاني: الدليل على عدم حجّية الأُصول المثبتة.

المقام الثالث: موارد الاستثناء في كلمات الفقهاء.

المقام الرابع: في حجّية مثبتات الأمارات دون الأُصول.

المقام الخامس: التطبيقات.

ص:190


1- . لاحظ الجواهر: 30/354؛ 31/134 و 264؛ 32/156 و 270.
2- . الفرائد: 383.
المقام الأوّل: تعريف الأصل المثبت

عرّف الشيخ الأعظم الأصل المثبت: بأنّه إثبات أمر في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي.

توضيحه: انّ الأمر الخارج عن صميم المستصحب، إمّا أن يكون من لوازمه، أومن ملازماته، أو ملزوماً له، كاستصحاب الحياة وإثبات نبات لحية زيد الذي هو لازمه، أو إثبات ضربان القلب الذي هو ملازم للحياة. واستصحاب بقاء الدخان لإثبات ملزومه وهو النار.

وباختصار ما يعد مترتباً على المستصحب بحكم العقل والعادة دون حكم الشرع.

نعم لو كان نفس اللازم أو الملازم مصبّاً للاستصحاب كما إذا كان ملتحياً وشككنا في بقائه في هذه الحالة، يصحّ استصحاب كونه كذلك، لترتيب الأثر الشرعي كالتصدق على الفقير إذا نذر.

المقام الثاني: الدليل على عدم حجّية الأُصول المثبتة

إنّ القول بحجّية الأصل المثبت وعدمها متفرّع على تحديد مفاد أخبار الاستصحاب.

وبعبارة أُخرى: البحث في المقام إثباتي مبنيّ على تحديد دلالة الروايات بعد الفراغ عن إمكانه ثبوتاً، إذ لا مانع للشارع أن يعبِّدنا باستصحاب الحياة على كلا الأمرين، نبات اللحية ووجوب الصدقة، غير انّ الظاهر من الشيخ انّ البحث ثبوتي وانّ التعبّد على النحو الذي ذكرناه أمر غير معقول.

ص:191

وعلى كلّ تقدير فقد استدل على عدم الحجيّة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما استدل به الشيخ و قال: إنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقن. ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يُعقل إلّافي الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء لأنّها القابلة للجعل، دون غيرها من الآثار العقلية والعادية، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد، ترتيب آثار الحياة في زمان الشك، هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع.

نعم لو وقع نفس النمو و نبات اللحية مورداً للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعية أفاد ذلك جعلَ آثارهما الشرعية دون العقلية والعادية، لكن المفروض ورود الحياة مورداً له.(1)

حاصله: انّ الغاية من إبقاء المتيقن في حالة الشكّ جعل الأثر له في تلك الحالة وهناك آثار ثلاثة:

أ: الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة كحرمة التصرّف في مال المستصحب.

ب: الأثر العقلي أو العادي المترتب عليه بلا واسطة كنموِّه ونبات لحيته.

ج: الأثر الشرعي المترتب على الأثرين: العقلي والعادي كالتصدّق إذا نذر دفع شيء للفقير، في صورة نبات اللحية.

فالأوّل يترتّب بلا إشكال.

ص:192


1- . الفرائد: 383، طبعة رحمة اللّه.

والثاني لا يترتب، لأنّه أمر تكويني غير قابل للجعل الاعتباري.

والثالث وإن كان قابلاً للجعل لكنّه ليس أثراً للمتيقن بل أثر الواسطة، والمفروض أنّ الواسطة غير قابلة للجعل ولم تقع مورداً للتنزيل.

يلاحظ عليه: أنّ ظاهر كلامه وجود الاستحالة في عالم الثبوت بالتقرير الذي عرفت، ولكن الظاهر بل المتيقّن إمكان التعبّد بالأصل المثبت ثبوتاً، وإنّما الكلام في دلالة الأخبار عليها، وذلك لأنّ تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن يتصوّر على قسمين:

أ: تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن بما له من أثر شرعي مترتب عليه بلا واسطة.

ب: تنزيله منزلة المتيقّن في مطلق الأثر وطبيعته، سواء ترتب عليه بلا واسطة أو مع واسطة الأثر العادي أو العقلي، وهذا من الإمكان بمكان، وعلى ذلك فنجب الدقة في كلام الشيخ وتعيين وجه المغالطة فيه، وبذلك يعلم أنّ البحث إثباتي لا ثبوتي، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني ويقول: إنّ مفاد الاستصحاب هل هو تنزيل المستصحب بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة، أو بلحاظ مطلق الأثر ولو بالواسطة؟

الوجه الثاني: ما استدل به المحقّق الخراساني(1) من أنّ القدر المتيقن هو التعبّد بما كان على يقين منه فشك بلحاظ ما لنفسه بلا واسطة من الآثار الشرعية، قال قدس سره:

إنّ الأخبار إنّما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشكّبلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا تكون كذلك، ولا

ص:193


1- . أعرضنا عمّا ذكره في ذيله فانّه غير مقبول عندنا كما سيوافيك.

على تنزيله بلحاظ ما له من الأثر الشرعي مطلقاً ولو بالواسطة، فانّ المتيقّن هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه، فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً.

وأمّا حجّية مثبتات الأمارة فلأنّها تحكي عن الواقع وتشير إليه، وعليه فهي تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته، ولذلك كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها، لزوم تصديقها في حكايتها وحجّية مثبتاتها، وهذا بخلاف الاستصحاب إذ لا دلالة له إلّاعلى التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره.(1)

أقول: انّ ظاهر كلامه ربّما يشير إلى ما سنذكره من الوجه الرابع، غير أنّ ذيل كلامه صريح في أنّه اعتمد في عدم حجّية الأُصول المثبتة على عدم الإطلاق في أحاديث الباب، وذلك لوجود المتيقّن في المقام، و هو ترتيب آثار نفس المستصحب لا آثار لوازمه العادية والعقلية ولا آثارهما الشرعية.

يلاحظ عليه: أنّ القدر المتيقّن إنّما يزاحم الإطلاق إذا كان موجوداً في مقام التخاطب، فيكون كالقرينة المتصلة مانعة عن انعقاد الإطلاق ويصحّ للمتكلّم أن يعتمد عليه في عدم سعة موضوع الحكم، لا القدر المتيقن الخارج عن مقام التخاطب، إذ لو كان ذلك لبطل التمسك بالإطلاق إذ ما من مطلق إلّاو فيه قدر متيقن. ولكن إثبات وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مشكل جداً، لأنّ تقسيم الأثر إلى المترتب على المستصحب والمترتب على لازمه العقلي تقسيم حادث ظهر عصر المحقّق البهبهانى أو بعده بقليل، وأين هذا من عصر صدور الروايات التي لم يكن فيه أثر لهذا التقسيم؟ إلّاأن يقال انّه يكفي في كونه قدراً متيقناً عدم انتقال زرارة إلّاإلى المترتب على نفس المستصحب.

الوجه الثالث: ما أفاده شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وحاصله انصراف

ص:194


1- . كفاية الأُصول: 2/326، 327، 329.

أخبار الباب إلى الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بلا واسطة، لأنّ الإبقاء العملي ينصرف إلى ترتيب ما يقتضي ذلك بلا واسطة.

يلاحظ عليه: أنّه قريب ممّا ذكره المحقّق الخراساني، وإثبات الانصراف مشكل كإثبات القدر المتيقّن، لأنّ سبب الانصراف إمّا كثرة الوجود، أوكثرة الاستعمال، والثاني منتف إذ لم يستعمل قوله: «لا تنقض اليقين...» في لسان الإمام كثيراً في الأثر المترتب على نفس المستصحب، كما أنّ الأوّل غير ثابت.

الوجه الرابع: ما يمكن استفادته من صدر كلام المحقّق الخراساني.

وحاصله: انّ الظاهر من الأخبار هو إبقاء ما تعلّق به اليقين بماله من الأثر الشرعي لا ما لم يتعلّق به اليقين وإن كان ربما يترتب عليه الأثر الشرعي.

توضيحه: انّ هنا موضوعين تعلّق بأحدهما اليقين دون الموضوع الآخر.

أمّا الأوّل: فهو الحياة تعلّق به اليقين فيجب إبقاؤه لأجل أثره الشرعي.

وأمّا الثاني: وهو نبات اللحية، فلم يتعلّق به اليقين حتى يبقى لأجل أثره الشرعي وهو الصدقة.

فإن قلت: التعبد ببقاء الحياة تعبّد ببقاء أثره الشرعي وهو حرمة تقسيم أمواله، وتعبد بنبات لحيته بلحاظ أثره الشرعي، أعني: الصدقة، فإذا كان كذلك يترتب عليه وجوب الصدقة.

قلت: إنّ الشارع إنّما يحكم ببقاء الحياة بما هو شارع أو مبيّن للشرع، و من المعلوم أنّ مناسبة الموضوع و الحكم هو إبقاء الحياة لغاية أثره الشرعي لا التكويني، فلا يكون التعبّد بالحياة دليلاً بالتعبد بنبات اللحية الذي هو خارج عن إطار تعبد الشارع.

ص:195

و من جانب آخر انّه موضوع لم يتعلّق به اليقين فلا يكون الاستصحاب دليلاً على إبقائه.

وإن شئت قلت: إنّ التعبد بنبات اللحية يتحقّق من خلال أحد أمرين:

أ: أن يتعلّق به اليقين وراء تعلّقه بالحياة، و هو مفروض الانتفاء.

ب: أن يكون التعبد ببقاء الحياة ملازماً للتعبد بنبات اللحية، وقد عرفت انّ الملازمة غير ثابتة، لأنّ الشارع يأمرنا بإبقاء اليقين بالحياة بما هو شارع، و في إطار الشرع، وهذا يقتضي أن يترتب على التعبد بالحياة أثره الشرعي لا أثره التكويني.

يلاحظ عليه: نحن نختار الشق الثاني، وهو انّ التعبد بنبات اللحية إنّما يتحقّق من خلال التعبد ببقاء الحياة وكونه أمراً تكوينياً لا شرعياً انّما يمنع عن الالتزام به إذا لم يترتب على التعبد به أثر شرعي حتى يكون الالتزام به أمراً لغواً، وأمّا إذا ترتب عليه أثر شرعي كالتصدق فلا مانع من التعبد بالحياة والالتزام بنبات اللحية لغاية أثره الشرعي، إذ يكون التعبد عندئذٍ أمراً غير لغو لغاية ترتّب الأثر ولو بالواسطة.

الوجه الخامس

انّ دور الاستصحاب في مورد الأحكام غير دوره في الموضوعات، إذ يكفي في استصحاب الأُولى كون المستصحب نفسَ الحكم الشرعي، وأمّا الثانية، فلا يصحّ التعبد ببقاء الموضوع إلّاإذا ترتب عليه أثر شرعي مستفاد من دليل اجتهادي، على وجه يكون المستصحب صغرى له ويكون دور الاستصحاب بالنسبة إليه، دور إحراز الصغرى للكبرى الكلية، وعلى ضوء هذا، لا يصحّ التعبد ببقاء موضوع إلّاأن يكون معه دليل شرعي يتخذ المستصحب موضوعاً لنفسه

ص:196

ويترتب عليه الأثر، ولو فقد هذا الشرط لكان استصحاب الموضوع لغواً.

فلو صحّ استصحاب طهارة الماء الموجود في الإناء فإنّما هو لأجل وجود كبريات شرعية تتخذ طهارة الماءالمحرزة صغرى لنفسها ويُستنتج منها حكم شرعي فيقال:

هذا ماء طاهر؛ و كلّ ماء طاهر يجوز شربه، بيعه، شراؤه، وبه يطهر النجس، إلى غير ذلك فتستنتج من ضمّ الكبريات إلى الصغرى المحرزة بالاستصحاب، الأحكام التالية.

فهذا يجوز شربه، بيعه، وشراؤه، ويطهَّر النجس به.

وفي مورد المثال (الحياة) تترتب الآثار الشرعية دون العقلية والعادية، وذلك لوجود الكبرى الشرعية في الأُولى، دون الثانية والثالثة، فلو أحرزت حياة زيد بالاستصحاب وحكم عليه بكونه حيّاً تترتب عليه، حرمة تقسيم أمواله، وتزويج زوجته، ويرث أباه لو مات، وذلك للضابطة الكلية الواردة في الشريعة في ذلك المجال من:

انّ الإنسان الحيّ، يملك ماله، ولا تقسم أمواله بين ذريته ولا تزوج زوجته ويرث أباه أو أُمّه.

وهذا بخلاف الآثار العقلية والعادية إذ ليس هناك ضابطة شرعية حتى يكون المستصحب المحرز موضوعاً لها، إذ لم يدل دليل على أنّه إذا كان الإنسان ابن عشرين سنة، فقلبه ينبض أو لحيته نابتة.

وبذلك يتضح عدم حجّية الأُصول المثبتة، وذلك لفقدان الشرط اللازم في جريان الاستصحاب في الموضوعات.

ص:197

ولعلّ القوم زعموا انّ الاستصحاب بنفسه كاف في ترتب الأثر الشرعي، فحاولوا إبداء الفرق بينه و بين غيره بالوجوه التي عرفت ضعفها، و أمّا على ما قلنا من أنّ دور الاستصحاب إحراز الموضوع فقط، وأمّا ترتّب الأثر فهو رهن الدليل الاجتهادي الذي يكون المستصحب المحرز موضوعاً، فيظهر الفرق بين الأثر الشرعي وغيره

وبذلك يظهر أنّه إذا كان الأثر الأوّل موضوعاً لدليل اجتهادي ثان يترتب عليه أثر ذلك الدليل أيضاً وهكذا.

مثلاً: إذا كانت عدالة زيد مستصحبة، وشهد - مع شاهد آخر - برؤية هلال رمضان قبل ثلاثين يوماً يكون المستصحب صغرى لكبرى شرعية، وهي «إذا شهد عند الإمام شاهدان [عادلان] انّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين، أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم».(1) فتكون النتيجة كون اليوم يوم الفطر، فيترتب عليه شرعية صلاة العيدين لقوله عليه السلام:

«صلاة العيدين فريضة»(2)، أو لزوم دفع الفطرة لقوله: «إعطاء الفطرة قبل الصلاة أفضل».(3)

المقام الثالث: الفرق بين الأُصول و الأمارات

ذهب المشهور إلى أنّ مثبتات الأمارات حجّة دون الأُصول، ووقع الكلام في وجه الفرق، نشير إليه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني: انّ الأمارة كما تحكي عن المؤدى

ص:198


1- . الوسائل: 7، الباب 6، من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
2- . الوسائل: الجزء 5، الباب 1 من أبواب صلاة العيدين، الحديث 1.
3- . الوسائل: الجزء 6، الباب 12 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 1.

و تشير إليه كذلك تحكي عن ملزومها ولازمها وملازمها، وعلى ذلك كان مقتضى إطلاق أدلّة اعتبار الأمارة تصديقها في جميع حكاياتها وقضيته حجّية الأصل المثبت.(1)

توضيحه: أنّ الأمارة لها حكاية باعتبار الدلالة المطابقية، كما أنّ لها حكاية حسب الدلالة التضمنية و الالتزامية، ولازم حجّية الأمارة الأخذ بجميع الدلالات.

يلاحظ عليه: أنّ حكاية الأمارة عبارة عن حكاية المخبر، ولكنّه ربما يكون غافلاً عن الدلالة التضمنية والالتزامية، وقد عرفت في الجزء الأوّل أنّ الدلالة التصديقية (أي نسبة الحكاية إلى المتكلم) فرع إرادته و التفاته، والمفروض انّه ربما يكون غافلاً عن الدلالتين.

نعم هناك كلام آخر وهو انّه إذا قامت البينة على موضوع كان شرب زيد سمّاً، ربما يحصل للمخاطب الاطمئنان بألوازم المؤدّى ككونه مقتولاً بالسم، ولكنّه لا صلة له بحجّية مثبتات الأمارة وإنّما هو لأجل حجّية الاطمئنان الذي هو علم عرفي يؤخذ به من أي مصدر حصل.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني وأساسه ما اختاره في معنى حجّية الخبر الواحد من أنّها بمعنى جعل وصف المحرزية والكاشفية له، قال: إنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّى وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً، والشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة و محرزة كالعلم، وبعد انكشاف المؤدّى يترتب عليه جميع ما للمؤدّى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل و المعلولات و اللوازم و الملزومات كما هو الحال إذا أحرز

ص:199


1- . كفاية الأُصول: 2/329.

الملازم بالعلم الوجداني.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ المحرزية والكاشفية والطريقية من الأُمور التكوينية التي لا تقبل الإنشاء والجعل وإنّما القابل له هو الأُمور الاعتبارية كالملكية والزوجية والسببية، وعلى ذلك فما أُدُعي انّه المجعول أمر غير قابل للجعل، كجعل المعدنية والحجرية لما ليس معدن وحجر.

وثانياً: أنّ ما ذكره مبني على وجود لسان في مقام الحجية وليس في باب الأمارات دليل يتكفّل على جعل الحجّية، وإنّما الموجود هو إمضاء ما بيد العقلاء إمضاءً عملياً أو قولياً، وأين هو من جعل المحرزية والطريقية؟! فانّ جعلهما - بعد تسليم قبولهما الجعل - إنّما يتصوّر فيما إذا كان الجاعل مؤسساً في الجعل لا تابعاً ممضياً لما في يد العقلاء.

نعم، أورد المحقّق الخوئي إشكالين على أُستاذه، ذكرناهما في المحصول مع الدفاع عنهما، فلاحظ.(2)

الوجه الثالث: ما يستفاد من كلام سيدنا الأُستاذ قدس سره، وحاصله: انّ ما بأيدينا من الأمارات كلّها أمارات عقلائية أمضاها الشارع لمصالح في العمل بها، ومن المعلوم أنّ عملهم بها ليس أمراً تعبدياً لأجل رفع التحيّر، بل لأجل كونها طرقاً إلى الواقع، فإذا كان كذلك فكما يثبت بالأمارة نفس الشيء، يثبت لازمه وملزومه وملازمه، ولا معنى للتبعيض في الطريقية.

وإن شئت قلت: كما أنّ العلم بالشيء يلازم العلم بالأُمور الثلاثة، فهكذا الوثوق به يوجب الوثوق بها.(3)

ص:200


1- . فوائد الأُصول: 4/487-488.
2- . المحصول: 4/159-160.
3- . الرسائل: 178.

والفرق بين هذا البيان و البيانين المتقدمين، هو انّ المحقّق الخراساني اعتمد على حكاية الأمارة عن الموضوع ولوازمه، كما أنّ المحقق النائيني اعتمد على لسان حجية الأمارة وانّه عبارة عن إفاضة الطريقية وجعل الكاشفية، وقد عرفت إشكال كلّ واحد منهما.

وأمّا هذا البيان فهويعتمد على أنّ الأمارة مفيدة للوثوق والاطمئنان، والمراد من الوثوق هو النوعي لا الشخصي، والوثوق بالشيء موجب للوثوق بلوازمه وانّ عمل العقلاء لأجل هذا الملاك و انّ الشارع أمضى العمل بالأمارة لأجله أيضاً.

وهذا البيان لا غبار عليه، وبذلك يتبيّن الفرق بين الأمارة و العمل بالأصل، فانّ الاولى طريق إلى الواقع في ظرف الشك رافع له، بخلاف الأصل فانّه حجّة في ظرف الشك مع التحفظ عليه كما هو ظاهر قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، فيأمر بعدم نقض اليقين مع حفظ الشكّ.

المقام الرابع: مستثنيات الأُصول المثبتة

قد استثني من عدم حجّية الأُصول المثبتة موردان:

الأوّل: خفاء الواسطة

قد استثنى الشيخُ الأعظم من عدم حجّية الأُصول المثبتة خفاءَ الواسطة و قال: إنّ بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب والحكم الشرعي، من الوسائط الخفية بحيث تعدُّ الأحكامُ الشرعية المترتبة عليها، أحكاماً لنفس المستصحب عرفاً، وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الواسطة عن أنظار العرف، ثمّ ضرب المثال التالي:

ص:201

إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيُحكم بنجاسته مع أنّ نجاسته ليس من أحكام رطوبة الملاقى المستصحبة، بل من أحكام سراية النجاسة إليه وتأثره بها، واستصحاب رطوبة النجس في الملاقى لا يثبت تأثر الثوب وتنجسه بها، وبالجملة فالمحرز بالاستصحاب هو الملاقاة بالنجس الرطب، والموضوع للتنجيس سراية النجس، والملازمة بين الملاقاة والسراية تكويناً، صار سبباً لخفاء الواسطة و الانتقال من الملاقاة إلى التنجيس.

يلاحظ عليه: بما مرّمن أنّ دور الاستصحاب، دور إحراز الموضوع وإثبات الصغرى للكبرى الشرعية، فلولا الكبرى الكلية لما ترتب على إحراز الصغرى أثر شرعي، وعلى ذلك فلو كان الموضوع في الكبرى مجرد الملاقاة مع النجس الرطب فقد أُحرز الموضوع وترتب عليه الأثر وهو نجاسة الملاقي الجاف، و أمّا ما لو كان الموضوع هو السراية والتأثر بها، فلا يحكم عليه لعدم إحراز الموضوع.

وبالجملة: ليس لخفاء الواسطة دور في المقام، ولعلّ إلى ما ذكر يرجع ما أفاده المحقّق النائيني حيث يقول: إنّ استصحاب رطوبة النجس من أحد المتلاقيين مع جفاف الآخر لإثبات نجاسة الطاهر منها لا يخلو إلّامن صورتين:

1. إمّا أن يدل الدليل على كفاية مجرّد مماسّته للنجس الرطب في ثبوت النجاسة أو يدل على أنّه لابدّ من انتقال النجاسة إلى الطاهر.

فعلى الأوّل: يدخل المثال في باب الموضوعات المركبة المحرز بعض أجزائها بالوجدان كالملاقاة، و الآخر (النجس الرطب) بالأصل، وعلى الثاني: لا يكفي الاستصحاب، لأنّ ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين فالواسطة جليّة ويكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت.(1)

ص:202


1- . فوائد الأُصول: 4/494-495.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الموضوع هو الثاني و لكن يرى العرف ما ليس مصداقاً للدليل مصداقاً له لأجل وجود الملازمة العرفية بين الملاقاة والسراية والعرف كما هو مرجع في تحديد المفاهيم فهكذا مرجع في تحديد المصاديق.

الثاني: وجود الملازمة العرفية

قداستثنى المحقّق الخراساني - وراء خفاء الواسطة - مورداً آخر أيضاً و قال: كما ما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب كما لا تفكيك بينهما واقعاً لأجل وضوح لزومه أو ملازمته معه بمثابة عدّ أثره أثراً لهما فانّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً حسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً.(1)

والأوّل كاستصحاب عدم الإتيان بالفريضة الملازم عرفاً لعنوان الفوت الذي هو الموضوع في لسان الدليل، ولكن كما كان التفكيك بينهما غير ممكن يغني استصحاب العدم، من إثبات عنوان الفوت.

والثاني كالأُبوة والبنوة المعلولين لعلة ثالثة، و هي تخلّق أحدهما من ماء الآخر، فانّ تنزيل أُبوة زيد لعمرو مثلاً يلازم تنزيل بنوة عمرو له، فيدلّ تنزيل أحدهما على تنزيل الآخر كما هو كذلك في المتضائفين.

يلاحظ على القسم الثاني: بأنّه إذا كان أبوة زيد متيقنة في فترة من الزمان، تكون بنوة عمرو أيضاً كذلك، فكلّ منهما صالح للاستصحاب من دون حاجة لاستصحاب أحدهما لاثبات ملازمه وترتيب أثره، على أنّ هذا المثال لا يقبل الشك الاستصحابي وإن كان يقبل الشك الساري فلابدّ من تمثيل آخر.

ص:203


1- . كفاية الأُصول: 2/327.
المقام الخامس في التطبيقات

أفتى الفقهاء في موارد بأحكام لا تصحّ إلّاعلى القول بالأصل المثبت، ولعلّ منشأ الإفتاء كون الاستصحاب عندهم حجّة ظنية كسائر الأمارات، والظن بالشيء ظنّ بآثاره فرتبوا عليه كلّ الآثار الشرعية وغيرها، وإليك بعضها:

الأوّل: إذا شكّ في وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة حين الاغتسال، صحّ غسله، لأنّ الأصل عدم المانع والحاجب من وصوله إليها.

أقول: إنّ هنا أُموراً ثلاثة:

1. المستصحب: وهو عدم الحاجب، 2. ولازمه العقلي: غسل البشرة 3. أثره الشرعي: أي رفع الحدث، والثالث متفرع على لازم المستصحب لا على نفسه فرتبوا أثر اللازم على المستصحب ولذلك قلنا في محله يجب على الشاك حين الاغتسال، الفحصُ عن المانع، فهذا الأصل أي استصحاب عدم المانع عقيم على مذهب المشهور لأنّه مثبت، كما هو كذلك على المختار في باب الأصل الموضوعي فقد مرّ انّه لا دور له إلّاإحراز الصغرى ولا ينتج إلّا بضم الكبرى وهي مفقودة، إذ لم يدل دليل على أنّه إذا لم يكن الحاجب موجوداً، فالحدث مرتفع بل الموجود إذا غسلت البشرة بعامتها فهو مرتفع.

الثاني: لو اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعين في أوّل شعبان والآخر في غرة رمضان، ولكن اختلفا في موت المورِّث، فادّعى الأوّل انّه توفّي في منتصف شعبان حتى لا يرثه الوارث الثاني لأنّ الكافر لا يرث المسلم، وادّعى الآخر انّه توفّي في منتصف رمضان حتى يرثه، فذهب المحقّق وجماعة قبله وبعده إلى أنّهما يرثان لأصالة حياة المورث إلى غرّة رمضان.

ص:204

يلاحظ عليه: أنّه لا يتم إلّاعلى القول بالأصل المثبت، لأنّ موضوع الوراثة أحد الأمرين التاليين:

أ: موت المورّث عن وارث مسلم.

ب: إسلام الوارث في حياة مورثه.

أمّا الأوّل: فهو موضوع مركب لا يثبته مجرد حياة المورث إلى غرّة رمضان، وإنّما هو حصيلة علوم ثلاثة:

1. إسلام الوارث في الغرّة، وهو ثابت بالوجدان.

2. حياة المورث إلى الغرّة، وهو ثابت بالأصل.

3. موت المورث بعدها وهو لازم الأمرين الأوّلين.

فباجتماع هذه الأُمور يحصل الموضوع أي موت المورث عن وارث مسلم فلا يكفي الاستصحاب أي ثاني الأُمور في تحقّق ذلك الموضوع المركب.

وأمّا الموضوع الثاني، فقد قال الشيخ والمحقّق النائيني بأنّ الأصل غير مثبت، وأوضحه المحقّق النائيني بقوله:

إنّ الموضوع هو التوارث الناشئ من اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث فيندرج في الموضوعات المركبة المحرز أحد جزئيهما بالوجدان، وهو إسلام الوارث في غرّة رمضان، والآخر بالأصل وهو حياة المورث إلى غرّة رمضان، فيجتمعان في الزمان، وهذا يكفي في التوارث ويلزم تنصيف المال بين الوارثين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ اجتماع الجزءين في الزمان غير كاف في تحقّق موضوع الدليل، إذ ليس الدليل كلّ من الجزئين ولو كانا متفرقين، بل الموضوع هو المركب

ص:205


1- . فوائد الأُصول: 4/501.

منهما: أعني: إسلام الوارث مقروناً بحياة المورث، وهو مركب من أُمور ثلاثة وهذا ليس له حالة سابقة، والاقتران لازم الاستصحاب، وهو استصحاب حياة المورث إلى غرّة رمضان.

وبعبارة أُخرى: لو كان لنا علم تكويني بالاقتران لكفى مجرد الاجتماع في الزمان في الحكم بالوراثة ولكنه لازم عقلي لبقاء حياة المورث إلى غرّة رمضان.

اللّهمّ إلّاأن يقال بخفاء الواسطة أو ظهور اللزوم مما يخرجه من عدم الحجّية إلى الحجّية.

الثالث: لو ادّعى الجاني انّ المجني عليه مات بمرض السِّل، وادّعى الولي انّه مات بسراية الجناية إلى اعضائه الرئيسيّة، فهناك احتمالان:

1. الضمان.

2. عدم الضمان لأصالة عدم سبب آخر.

يلاحظ عليه: أنّ المرجع هو عدم الضمان، وأمّا الضمان فهو فرع ثبوت الموضوع في لسان الدليل، والموضوع هو القتل في الدية والقصاص، قال سبحانه: (وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا) (1)، وقال عزّ من قائل: (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (2) ومن المعلوم انّ ذلك الموضوع البسيط، أي القتل لا يثبت باستصحاب عدم سبب آخر، لأنّه لازم عقلي لهذا الاستصحاب كما لا يخفى.

الرابع: إذا تلف شيء تحت يد شخص آخر فادّعى المالك الضمان وانّه

ص:206


1- . النساء: 92.
2- . الإسراء: 33.

استولى عليه بلا إذن، وادعى الآخر انّه كان أمانة تحت يده فلا ضمان، وقد استدل على الضمان بوجوه ثلاثة:

الأوّل: التمسك بعموم قوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

يلاحظ عليه: أنّه مخصص باليد غير العادية، والتمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص غير صحيح.

الثاني: التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، لأنّ اليد مقتض للضمان، والاذن مانع والأصل عدمه.

يلاحظ عليه: عدم الدليل على حجّية تلك القاعدة كما قرر في محله.

الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني من أنّ الموضوع للضمان مركب من اليد وعدم إذن صاحب المال، و هما عرضان لمحلين: أحدهما: صاحب اليد، وثانيهما: صاحب المال، ولا جامع بينهما إلّاالاجتماع في الزمان فيكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان، فاليد محرزة بالوجدان، وعدم الإذن محرز بالأصل، فيتحقق موضوع الضمان.(1)

يلاحظ عليه: ما ذكرناه في مسألة الوارث حيث إنّ الموضوع للضمان ليس ذات الأمرين بما هما هما - و إن لم يكن بينهما صلة ولا ربط - بل الموضوع هو الاستيلاء على الشيء المقترن بعدم رضاه، وهذا الأمر المركب ليست له حالة سابقة، وإنّما هو لازم إحراز عدم الرضا بالأصل والاستيلاء بالوجدان في زمان واحد، ولو كان كلّ من الجزءين محرزاً بالعلم فيكون الاقتران محرزاً كذلك، وأمّا إذا كان أحد الجزءين - أي عدم الاذن - محرزاً بالأصل، فالاقتران يكون لازماً

ص:207


1- . فوائد الأُصول: 4/503.

عقليّاً له فلا يكون حجّة، وقد ذكرنا في مورده انّ الحكم الواحد يحتاج إلى موضوع واحد ولا يكون المتكثران واحداً إلّاإذاكان بينهما صلة وربط.

والذي يمكن أن يقال في أنّ صاحب اليد ضامن، هو أن الحكم الطبيعي في الأموال هو الضمان، والقول بعدم الضمان رهن الدليل وله نظائر في الفقه.

أ: الأصل في بيع الوقف هو البطلان، ولا يجري فيه أصالة الصحة، والقائل بالصحة رهن إثبات مجوز له.

ب: الأصل في النظر إلى المرأة هو الحرمة، فالمرأة المرددة بين الأجنبية وغيرها يحرم النظر إليها لهذا الأصل، وإنّما الجواز رهن الدليل.

ج: إذا اتفقا على إذن المالك، فقال صاحب المال: بعتك مالي بكذا، وقال الآخر: وهبتني إياه، فهو محكوم بالضمان لأنّ الأصل في الأموال الضمان.

وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صاحب المصباح حتى أنّه بعد ما قال: فيتعارض عدم البيع مع عدم الهبة، قال:

بأنّ الأصل الجاري هو عدم الضمان، فانّه غفلة عما ذكرناه من القاعدة في باب الأموال.

بقيت هناك أمثلة ذكرها الشيخ وغيره فلاحظ.

ص:208

تنبيهات

10- فيما خرج عن الأصل المثبت موضوعاً
اشارة

قد عرفت ما استثناه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني من عدم حجّية الأُصول المثبتة وهو عبارة عن:

أ: خفاء الواسطة.

ب: وضوح اللزوم أو الملازمة. وقد وقفت على شرحهما.

وهذان الموردان استثناء من حكم الأُصول المثبتة دون الموضوع.

وهناك موارد أُخرى ربّما يتوهم أنّها من الأُصول المثبتة وليست منها موضوعاً، وقد أوضح حالها المحقّق الخراساني في التنبيه الثامن والتاسع، ولذلك كان عليه أن لا يفصلهما عن البحوث السابقة لصلتهما بها، وإليك ما أشار إليه في التنبيهين ونذكرها في مقاطع أربعة تبعاً لعبارات الكفاية، وبذلك يدغم التاسع في الثامن، ويكون الجميع تنبيهاً واحداً.

أ: استصحاب الفرد وترتيب الأثر الكلي عليه

إنّ الأثر تارة يترتب على نفس الفرد كإكرام زيد، فإذا شك في بقائه يُستصحب ويترتب عليه حكمه، وأُخرى يترتب عليه باعتبار انطباق عنوان كلي عليه على وجه يكون الموضوع للأثر هو الكلي، لكن يُستصحب الفرد لغاية ترتيب

ص:209

أثر الكلي على الفرد، وقد اختلفت فيه أنظارهم، فمن قائل بعدم الصحة مطلقاً، إلى آخر قائل بالصحة كذلك، إلى ثالث مفصِّل حسب ما يأتي، وهو خيرة المحقّق الخراساني.

وحاصل نظريته: أنّ الكلي إذاكان منتزعاً من حاق الذات، أو كان حمله على الفرد من قبيل المحمول بالصميمة (الخارج المحمول) يصح استصحاب الفرد و ترتيب أثر الكلي عليه، دون ما إذا كان من قبيل المحمول بالضميمة فلا يصحّ استصحاب الفرد وترتيب أثره عليه، هذا إجمال مرامه في المقطع الأوّل وإليك توضيحه:

إنّ الكلي بالنسبة إلى الفرد أو ما ينتزع منه على أقسام ثلاثة:

1. ما ينتزع من مقام الذات بما هي هي، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده.

2. ما ينتزع من الشيء لا من حاق ذاته، بل باعتبار طروء حالات عليه على نحو لا يكون بحذائها شيء في الخارج، و ذلك كنسبة الممكن إلى زيد، فهو ينتزع لا من مقام الجنس والفصل بل باعتبار انّ نسبة الماهية إلى الوجود والعدم سواسية، ومع ذلك ليس في مقابل هذه الحيثية مصداق في الخارج. ولكن المحقّق الخراساني مثّل بالملكية والغصبية، والمحقّق الخوئي بالزوجية والولاية وسيوافيك عدم صحّة تلك الأمثلة.

3. ما ينتزع من الفرد باعتبار طروء حالات عليه يكون بحذائها شيء في الخارج وذلك كالأسود والأبيض اللّذين ينتزعان من الجسم باعتبار عروض البياض والسواد عليه اللّذين لهما حيثية عينية وحقيقة في الخارج وإن كان لا يمكن الإشارة إلى الحيثية منفكة عن الإشارة إلى الجسم بل يكونان موجودين في ضمن شيء واحد.

ص:210

إذا عرفت ذلك، فقد قال المحقّق الخراساني بجريان الاستصحاب في الأوّلين دون الثالث.

أمّا الأوّل فلأنّ الطبيعي في الخارج عين الفرد فلا اثنينية بينهما في الخارج فاستصحاب بقاء زيد عين استصحاب بقاء الإنسان.

وأمّا الثاني فلأنّه لا وجود للكلي إلّابمنشأ انتزاعه، فالفرد - و إن شئت قلت: منشأ الانتزاع - في الخارج نفس العنوان المنتزع الذي هو الموضوع للحكم فاستصحاب العين (الذي ملكه أو غصبه عمرو) كاف في استصحاب آثار الملكية والغصبية عليه، ونظير ذلك استصحاب بقاء الولي والزوج فيترتب عليه بقاءً آثار الولاية والزوجية.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأوّلين.

وأمّا الثالث فلا يصحّ استصحاب الفرد أي الجسم وإثبات عنوان الأسود وترتيب أثر الكلي على الفرد، وذلك لأنّ نسبة الفرد إلى العنوان الكلي كنسبة المباين إلى المباين، فهو أشبه باستصحاب الحياة وإثبات نبات اللحية.

هذا توضيح كلامه في المقطع الأوّل.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره في المقطع الثالث صحيح، إنّما الكلام في جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين وترتيب الأثر الكلي على الفرد المستصحب، وذلك أمّا لا حاجة إلى هذا الاستصحاب أو انّه مثبت.

أمّا الأوّل: فهو جارٍفي القسم الأوّل، وذلك لأنّه إذا كان كل من الفرد والكلي مسبوقاً باليقين فيجري الاستصحاب في كل منهما مباشرة ولا حاجة إلى استصحاب الفرد لغاية إثبات أثر الكلي على الفرد إذ هو أمر لغو.

ص:211

وأمّا الثاني: فالضابطة صحيحة، ولكن الإشكال في الأمثلة فانّ ما مثل به لهذا القسم من قبيل المحمول بالضميمة وليس من المحمول بالصميمة، لما تبيّن في محله من أنّ الميزان في الخارج المحمول هو ما يكون وضع الموضوع كافياً في وضع المحمول كالإنسان بالنسبة إلى الممكن، وليس المقام كذلك، إذ ليس فرض الموضوع في الخارج كالفرس كافياً في انتزاع الملكية أو الغصبية مالم تنضم إليه حيثية عقلائية، وهي دخول الشيء في حيازته أو خروجه منها مع استيلاء الغير عليه.

ومن هنا يعلم أنّ الزوجية والولاية من قبيل المحمول بالضميمة، لأنّ فرض الإنسان لا يلازم فرض الزوجية والولاية. ومنشأ الخلط انّ المحقق الخراساني جعل الضابطة في الفرق بين القسمين الأخيرين وجودَ ما يحاذيه في الخارج وعدمه، فجعل ما لا يحاذيه من المحمول بالصميمة، وما يحاذيه من المحمول بالضميمة، مع أنّ المقياس ليس ذلك، بل المقياس كفاية فرض الموضوع في وضع المحمول وعدمها.

هذا كلّه حول المقطع الأوّل، وإليك الكلام في المقطع الثاني.

ب: لا فرق بين المجعول بنفسه أو بمنشأ انتزاعه

لا يشترط في الأثر أو المستصحب - إذا كان المستصحب حكماً شرعياً - أن يكون مجعولاً بنفسه، بل يكفي كونه مجعولاً بمنشأ انتزاعه، وعلى ذلك فالجزئية والشرطية والمانعية وإن كانت أُموراً انتزاعية عقلية لكنّها تنتزع من الحكم التكليفي بالشرط أو الجزء أو المانع، فإذا قال سبحانه: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (1)ينتزع منه الشرطية، فإذا قال

ص:212


1- . المائدة: 6.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب»، أو قال: «يا علي لا تصلِّ في جلد ما لا يشرب لبنه، وما لا يؤكل لحمه»(1) تنتزع منه الجزئيّة والمانعية.

وعلى ذلك فنفس هذه الأحكام يصحّ أن تقع مصبّاً للاستصحاب، لأنّها أحكام شرعية بمعنى انّ وضعها ورفعها بيد الشارع ولو باعتبار منشأ انتزاعها، كما يصحّ أن تقع أثراً للمستصحب كاستصحاب الجزء والشرط والمانع لغاية ترتب هذه الآثار: الجزئية، الشرطية، المانعية.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ استصحاب هذه العناوين كاستصحاب جزئية السورة وشرطية الشرط أو مانعية المانع في حال التعذر لا غبار عليه، فتكون النتيجة كونها شرطاً أو جزءاً أو مانعاً مطلقاً في عامة الأحوال حتى حال التعذر فيسقط الأمر بالباقي، إنّما الكلام في جريان استصحاب الفرد و ترتيب أحد هذه الآثار عليه حيث قال: «فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية والمانعية بمثبت»، لأنّ ما ذكره لا يعود إلى معنى صحيح، لأنّ استصحابهما بما هما شرط أو مانع عبارة أُخرى عن استصحاب نفس الشرطية و المانعية، فلا حاجة إلى ذلك الاستصحاب مع جريانه مباشرة في الأثر المترتب عليه أي الشرطية والمانعية.

وثانياً: لا حاجة حتى إلى استصحاب هذه الأُمور (الجزئية والشرطية والمانعية) بعد إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية كاستصحاب وجوب الوضوء ووجوب السورة وحرمة لُبْس غير المأكول في الصلاة.

ج: عدم الفرق بين وجود الأثر وعدمه مستصحباً وأثراً

لا فرق بين كون المستصحب أو الأثر المترتب عليه بين أن يكون وجود

ص:213


1- . الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 6.

الحكم الشرعي أو عدمه فكلّ من وجود الحكم الشرعي وعدمه يصلح لأن يكون مستصحباً، كما يصلح أن يكون أثراً مترتباً على الموضوع، فكما أنّ نفس التكليف يقع مستصحباً أو أثراً مترتباً على المستصحب هكذا يكون عدم التكليف وعدم المنع من الفعل، يقع مستصحباً وأثراً مترتباً على المستصحب و ذلك لأنّ الحكم وجوداً وعدماً بيد الشارع.

ثمّ أشار إلى إشكال الشيخ على استصحاب البراءة عن التكليف، وحاصل إشكاله عبارة عن: أنّ استصحابها إمّا أن يكون بلحاظ نفسه، فالعدم ليس مما تقع عليه يد الجعل التشريعي، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب والعقاب فهي من الآثار العقلية.(1)

وأجاب بوجهين:

الأوّل: انّا نختار الشقّ الأوّل، وهو أنّ الاستصحاب بلحاظ نفسه، وقد عرفت أنّ عدم المنع أيضاًحكم شرعي ولا حاجة في استصحاب الحكم الشرعي إلى ترتيب أثر آخر عليه حتى يقال انّ الثواب والعقاب من الأُمور التكوينية.

الثاني: انّا نختار الشق الثاني لكنّ الأثر العقلي أو العادي إنّما لا يترتب إذا كان أثراً لوجود الشيء واقعاً أو لعدمه كذلك، وأمّا الأثر المترتب على مطلق وجود الشيء أو عدمه ولو في الظاهر فيترتب عليه لكون الأثر لازم أعم وذلك كعدم العقاب فهو ليس من آثار عدم الحكم واقعاً، بل يكفي في عدمه عدم الحكم ظاهراً لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، لأنّ وجود الحكم واقعاً - مع عدم وصوله - لا يكفي في ترتب الأثر أي العقاب، بل عدم وصوله كاف في عدم صحة العقاب سواء أكان الحكم موجوداً في الواقع أو لا، وسيوافيك توضيحه في

ص:214


1- . الفرائد: 204 طبعة رحمة اللّه بعد الفراغ من دليل العقل على البراءة.

الاستثناء الآتي.

د: فيما يعد أثراً للوجود الأعم من الواقعي و الظاهري

(1)

ما ذكرنا من أنّه لا يثبت بالاستصحاب الأثر العقلي والعادي، فإنّما هو فيما إذا كان كلّ منهما من آثار وجود المستصحب واقعاً، وأمّا إذا كان أحد ذينك الأثرين من آثار مطلق وجود المستصحب من غير فرق بين وجوده الواقعي أو التعبدي الظاهري، فلا شك أنّه يترتب عليه وإن كان عقلياً أو عادياً وذلك في الأمثلة الآتية:

1. نظير ترتب الأجزاء على استصحاب طهارة الثوب في الصلاة و إن تبين بعد عدمها، وذلك لما ثبت من محله من أنّ الشرط في حال الصلاة أعم من الطهارة الواقعية أو الظاهرية، وعليه تكون الصلاة واجدة لشرطها واقعاً، لأنّ الشرط أعم منهما، فيترتب عليه الإجزاء، لأنّه من الآثار العقلية التي ترتب على مطلق وجود الشيء ولو ظاهراً.

2. وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة من أنّه يترتب على مطلق الحكم المحرز بدليل شرعي بإحراز الوجوب ولو بالاستصحاب فهو كاف في ترتب هذه الآثار.

3. ما عرفت في الاستثناء الثالث من أنّ قبح العقوبة من الأحكام العقلية اللازمة لمطلق عدم المنع ولو ظاهراً.

إلى هنا تم ما رآه المحقّق الخراساني من التنبيه على الموارد التي توهم أنّها من الأصل المثبت وليس منها.

ص:215


1- . هذا العنوان ناظر إلى التنبيه التاسع.

التنبيهات

11- في كفاية ترتب الأثر بقاءً

يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا أثر شرعيّ، وهل يشترط أن يكون كذلك حدوثاً وبقاءً، أو يكفي بقاءً؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ الاستصحاب نوع إعمال تعبّد من الشارع وهو رهن ترتب الأثر عليه وكونه مصوناً عن اللغو، وفي مثل هذا يكفي كون المستصحب حكماً شرعياً بقاءً لا حدوثاً، أو ذا أثر شرعي كذلك.

فالأوّل: نظير استصحاب عدم التكليف، فانّه ليس مجعولاً شرعياً من الأزل إلّاانّه حكم مجعول فيما لا يزال، لما عرفت من أنّ عدم التكليف بقاء مجعول شرعاً.

والثاني: نظير استصحاب حياة الولد الصغير، فانّه ربّما لا يترتب عليه الأثر المخصوص، أعني: وراثته من أبيه في حياة أبيه إلّاشأناً، فإذا تُوفي الأب تستصحب حياة الولد، ليرثه فعلاً.

والوجه في الجميع واضح، لأنّ صحة الاستصحاب رهن ترتب الأثر ليصون فعل العاقل عن اللغو، ويكفي في ذلك مطلق الأثر ولو بقاءً فقط، وقد أوضحنا حال المثال الأوّل وقلنا إنّه لا يخلو من إشكال من وجهين:

1. عدم وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة كما في مثال عدم القرشية، فانّ المتيقّن منه هو القضية بصورة السالبة بانتفاء الموضوع، والمشكوك هو السالبة

ص:216

بانتفاء المحمول.

2. عدم كونه مصداقاً لنقض اليقين بالشك عرفاً، فلو لم يُحكم على المرأة المردّدة بين القرشية وغيرها، بعدم القرشية، لا يقال انّه نقض يقينه بالشك.

ص:217

التنبيهات

12- في تأخّر الحادث
اشارة

إذا حصل اليقين بوجود الشيء ثمّطرأ الشك في بقائه فالمحكَّم هو استصحاب بقائه، كما أنّه إذا حصل اليقين بعدم الشيء ثمّ طرأ الشكّ في انقلابه إلى الوجود فالمحكّم هو استصحاب عدمه، و أمّا إذا كان وجود الشيء محققاً وكان الكلام في تقدّمه وتأخّره فهنا مقامان:

الأوّل: فيما إذا قيس تقدّم الشيء الموجود أو تأخّره إلى أجزاء الزمان، كما إذا مات زيد قطعاً وشك في تحقّقه يوم الخميس أو يوم الجمعة.(1)

الثاني: إذا قيس وجود الحادث بالنسبة إلى حادث آخر، كما إذا علم بموت المتوارثين و شك في المتقدّم والمتأخر منهما، وله أقسام ستوافيك. وإليك الكلام في المقام الأوّل:

المقام الأوّل: في القياس إلى أجزاء الزمان

إذا علمنا بموت زيد يوم الخميس، أو يوم الجمعة، فهنا موضوعات ثلاثة:

1. عدم موته إلى يوم الجمعة.

ص:218


1- . أو إذا علم بحدوث الكرّية إمّا يوم الخميس أويوم الجمعة، وافترضنا غسل ثوب نجس فيه يوم الخميس، فعلى الأوّل يحكم عليه بالطهارة، دون الثاني.

2. تأخّر موته عن الخميس.

3. حدوث موته يوم الجمعة.

فبما أنّ المستصحب هو بقاء حياته، أو عدم موته إلى يوم الجمعة، فتترتب عليه آثار عدم موته أو حياته إلى ذاك الزمان، ولا يثبت به الموضوعان الآخران، لأنّهما لازمان عقليان للمستصحب، لأنّه إذا كان حيّاً إلى فجر يوم الجمعة بحكم الاستصحاب، وعلمنا بموته قطعاً في أحد اليومين يحكم عليه عقلاً ب:

تأخر موته عن الخميس.

حدوث موته في الجمعة.

وبما انّهما من الآثار العقلية للمستصحب فلا يثبتان به، وبالتالي لا تترتب عليه الآثار المترتبة على ذينك الموضوعين، كما إذا نذر إعطاء درهم إذا تأخر موته عن الخميس أوحدوثه يوم الجمعة.

نعم يمكن تصحيح الأوّل (إثبات تأخّر موته عن الخميس وترتيب أثره عليه) بالوجهين التاليين:

1. خفاء الواسطة وانّ الأثر المترتب عليها في نظر العرف يترتب على نفس المستصحب.

2. دعوى الملازمة بين التنزيلين، وأنّ التعبّد بعدم موته إلى يوم الجمعة يلازم عرفاً بالتعبد بتأخر موته عن الخميس أو حدوثه في الجمعة. فلا يصحّ التعبّد بأحد التنزيلين دون التعبّد بالآخر.

وأمّا الثاني (حدوث موته) فيمكن تصحيحه بالوجه التالي:

3. انّ الحدوث ليس أمراً منتزعاً من الوجود المسبوق بالعدم حتّى يكون

ص:219

لازماً عقلياً للأمرين، بل هو أمر مركب من أمرين: أحدهما محرز بالأصل، و هو عدم موته إلى يوم الخميس، والآخر بالوجدان.

ولكن المساعدة مع هذه الوجوه أمر مشكل كما لا يخفى.

المقام الثاني: في القياس إلى حادث آخر

إذا علمنا بحدوث حادث لكن شككنا في سبقه أو لحوقه أو تقارنه بحادث آخر، فهو على قسمين:

فتارة يكون كلّ واحد من الحادثين مجهول التاريخ، وأُخرى أن يكون أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً، فهاهنا موضعان من البحث.

الموضع الأوّل: فيما جهل تاريخهما

إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ، فهو على أقسام أربعة، لأنّ الأثر إمّا يترتب على نوع وجود الحادث عند وجود الحادث الآخر، أو على نوع عدمه عند وجود الحادث الآخر.

وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يترتب على نوع وجود الحادث أو عدمه بالمعنى التام، أو بالمعنى الناقص، فتكون الأقسام أربعة، وإليك التفصيل:

1. أن يترتب الأثر على نوع وجود الحادث عند وجود الحادث الآخر على نحو مفاد كان التامة.

2. أن يترتب الأثر على نوع وجود الحادث عند وجود الحادث الآخر على نحو مفاد كان الناقصة.

ص:220

3. أن يترتب الأثر على نوع عدم الحادث عند وجود حادث آخر على نحو مفاد النفي الناقص.

4. أن يترتب الأثر على نوع عدم الحادث عند وجود حادث آخر على نحو مفاد النفي التام. فهذه هي الأقسام الأربعة للموضع الأوّل.

وها نحن نتناول كلّ واحد من هذه الأقسام بالبحث.

القسم الأوّل: ما إذا ترتّب الأثر على نوع وجود الحادث عند وجود الحادث الآخر على نحو مفاد كان التامة، وله صور ثلاث:

الصورة الأُولى: أن يترتب الأثر على الحالة الخاصة من وجود أحد الحادثين دون الحادث الآخر، وأن يترتب الأثر على حالة واحدة منه كالسبق مثلاً، دون الحالات الأُخر من التقارن والتأخر.

الصورة الثانية: أن يترتب الأثر على الحالة الخاصة لوجود كلّ واحد من الحادثين.

الصورة الثالثة: أن يترتب الأثر على الحالتين من أحد الحادثين دون الحادث الآخر، دون أن يقتصر ترتب الأثر على حالة واحدة، بل يترتب على حالتين منه كالسبق والتأخّر.

إذا عرفت هذه الصور من القسم الأوّل، فلنذكر حكم كلّ صورة على حدة.

الصورة الأُولى: إذا علمنا بموت أخوين أحدهما غير عقيم وله أولاد والآخر عقيم.

أمّا غير العقيم منهما فيرثه أولاده سواء أكان متقدّماً موته على موت الأخ

ص:221

العقيم أو مقارناً أو متأخراً، فهذا لا يترتب أثر على أية حالة من حالاته.

وإنّما يترتب الأثر على سبق موت الأخ العقيم على ذاك الأخ الذي له ولد، حيث لو سبق موت العقيم على غيره لورثه الأخ ثمّ أولاده، فالأثر يترتب على حالة واحدة من وجود أحد الحادثين دون الآخر فتجري - إذا كان الأثر مترتباً على مفاد كان التامة كموت الأخ المتقدّم على موت الأخ الآخر - أصالة عدم سبق موت الأخ العقيم على غيره، فتكون النتيجة انّه لا يرثه غير العقيم لاحتمال تقارنهما أو تأخر موت العقيم عن غيره.

الصورة الثانية: أن يترتب الأثر على نوع وجود كلّ من الحادثين، كما إذا علمنا بموت الولد والوالد، والمفروض انّ سبق موت كلّ واحد على الآخر موضوع للأثر، فلو سبق موت الولد يرثه الوالد، ولو كان العكس يرثه الولد، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جريان الأصلين، والتساقط لأجل التعارض، فيقال عدم سبق موت الأب على موت الابن وبالعكس.

والحقّ أن يقال: انّه إمّا أن يكون هناك علم بسبق أحد الموتين على الآخر أو لا.

فعلى الأوّل يتساقط الأصلان للعلم بكذب أحدهما.

وعلى الثاني لا مانع من جريانهما لعدم العلم بكذبهما لاحتمال تقارن موتهما ويترتب على كلّ أصل أثره.

الصورة الثالثة: ما إذا كان الأثر يترتب على أحد الحادثين لكن دون أن يقتصر على حالة واحدة، بل يترتب على كلتا الحالتين منه. مثلاً إذا نذر أحد انّه لو سبق زيد على عمرو فعليه أن يعطيه ديناراً إلى الفقير وان تأخر عن عمرو فعليه أن يعطي درهماً إليه.

ص:222

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى تعارض الأصلين وتساقطهما، فأصالة عدم سبق زيد على عمرو معارضة بأصالة عدم تأخره عنه فيتساقطان، لكن بناء على ما ذكرنا يجري فيه التفصيل السابق في الصورة الثانية، وهو انّه لو علمنا بالسبق والتأخر وانّ زيداً إمّا كان سابقاً على عمرو أو متأخراً عنه ففي ذلك يجري الأصلان فيتعارضان فيسقطان للعلم بكذب أحد الأصلين.

وأمّا لو لم نعلم بوجود أحد الوصفين بل احتملنا التعارض فيجري الأصلان بلا تعارض لاحتمال تقارنهما فلا يجب عليه دفع شيء.

هذا كلّه حول القسم الأوّل بصوره الثلاثة، وإليك الكلام في غيره.

القسم الثاني: أن يترتب الأثر على نوع وجود الحادث عند وجود حادث آخر على مفاد كان الناقصة.

فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم جريانه وقال: «فلا مورد هاهنا للاستصحاب، لعدم اليقين السابق فيه بلا ارتياب» ولأجل ذلك لم يذكر فيه الصور الثلاث التي ذكرها في القسم الأوّل، وذلك كما إذا قال: «إذا كان موت الوالد متقدّماً على موت الابن يرثه الابن»، فلا يجوز فيه الاستصحاب لعدم اليقين السابق فيه، كما ذكره في الكفاية.

أقول: إنّ هناك موضوعاً للأثر في لسان الدليل، ومستصحباً.

فالأوّل: عبارة عن موت الوالد السابق على موت الولد الذي يستلزم إرث الولد، فلا شكّ انّه فاقد للحالة السابقة لأنّ القضية موجبة، وصدق الموجبة فرع وجود الموضوع، ولم يكن لنا علم بموت الأب، بل كان العلم متعلّقاً بحياتهما.

والثاني: عبارة عن سلب هذه الموجبة المحصلة، بأن يقال: لم يكن موت

ص:223

الوالد سابقاً على موت الولد، ومن الواضح أنّ نقيض الموجبة المحصلة هو السالبة المحصلة، وهي لا تحتاج في صدقها إلى الموضوع بل تصدق مع عدمه.

فإذاً للمستصحب حالة سابقة، وهي السالبة المحصلة، وما ليس له حالة سابقة هو الموضوع للأثر، والغاية سلب الموضوع الموصوف لغاية سلب أثره.

القسم الثالث: إذا ترتب الأثر على عدم أحدهما في ظرف حصول الآخر على نحو النفي الناقص كأن يكون موضوع الأثر «الماء غير الكر في زمان حدوث الملاقاة». وعلمنا بحدوث الكرية والملاقاة، ولم نعلم المتقدّم و المتأخر فلا يجري فيه الأصل (أصالة عدم كرية الماء إلى زمان الملاقاة) لإثبات كون الماء موصوفاً بالعدم المذكور، لأنّه يتوقف على اليقين بكونه موصوفاً بالعدم في وقت ثمّ يُشك في بقائه على ما كان من الوصف المذكور، إذ الماء من الأوّل غير معلوم الاتصاف، لأنّ الوصف (الكريّة) إن كان وجد متأخراً عن زمان حدوث الآخر (الملاقاة) كان الماء موصوفاً بالعدم المذكور وإن كان متقدّماً أو مقارناً له فهو غير موصوف، وحيث لم يعلم أنّه متأخر أو متقدّم فقد شكّ في اتصافه بذلك في جميع الأزمنة.

وأمّا استصحاب عدم الماء بصورة السالبة بانتفاء الموضوع، بأن يقال: لم يكن ماء ولا كرّية، فقد انقلب العدم في الماء إلى الوجود ونشك في انقلابه في جانب الكرّية فنستصحب عدم الماء الكرّ، فهو لا يثبت موضوع الأثر، أي الماء غير الكرّ.

القسم الرابع: إذا كان الأثر مترتباً على عدم وجود حادث عند وجود حادث آخر لكن على مفاد النفي التام كالنجاسة المترتبة على عدم كرّية الماء عند الملاقاة، فقد منع المحقّق الخراساني من جريان الأصل وعلله بعدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ص:224

وقد اختلفت كلمة الشرّاح والمحقّقين في بيان مراده، فقد أوضحه المحقّق النائيني بالبيان التالي بتصرّف منّا:

وحاصله: انّ هنا ساعات ثلاث:

الساعة الأُولى: وهو ظرف اليقين بعدم الكرّية والملاقاة.

الساعة الثانية: و هو ظرف اليقين بتحقّق إحداهما وليس هناك أيُّ شك.

الساعة الثالثة: العلم بوجود الكرية والملاقاة، وهذه الساعة هي ظرف الشك، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لا يحصل إلّابعد العلم بالملاقاة، ولا يحصل العلم بها إلّافي الساعة الثالثة، ويكون الشكّ حاصلاً حين العلم بالملاقاة، وليس إلّاالساعة الثالثة، فتكون الساعة الثانية خالية عن اليقين التفصيلي والشكّ.

أمّا اليقين التفصيلي أي اليقين بأحدهما المعين فواضح.

وأمّا الشكّ فلأنّه فرع حصول المتعلّق، أعني: الملاقاة.

وباختصار

1. انّ الشكّ في المتقدّم والمتأخر لا يحصل إلّابعد العلم بحدوث الحادثين.

2. العلم بحدوث الحادثين حاصل في الساعة الثالثة، فيكون موطن الشك هو الساعة الثالثة.

3. فالاستصحاب يتبع الشك ولا يتقدّم عليه، فاستصحاب عدم تقدّم كلّ إنّما يجري في الساعة الثالثة.

4. وعلى ذلك لا يكون زمان الشكّ متصلاً بزمان اليقين، لأنّ موطن اليقين هو الساعة الأُولى و موطن الشكّ هو الساعة الثالثة، فالساعة الثانية تكون فاصلة

ص:225

بين اليقين والشكّ.

يلاحظ عليه

أوّلاً: أنّ مفاد استصحاب «عدم الكرّية إلى زمان وجود الملاقاة» ليس بمعنى استصحابه إلى زمان العلم بالملاقاة حتى لا يتحقق الشكّ بهذا النحو إلّافي الساعة الثالثة فتكون الساعة الثانية خالية عنه. بل المراد استصحابه في كلّ زمان احتمل فيه تحقّق الملاقاة، ومن المعلوم أنّه كما يحتمل تحقّق وجودها في الساعة الثالثة كذلك يحتمل تحقّقها في الساعة الثانية.

وبعبارة أُخرى: نحن نحتمل فرض وجود كلّ منهما في الساعة الثانية، فيكون الشكّ في كلّ من الحادثين متصلاً بيقينه، ويجري استصحاب عدم كلّ منهما في زمان الشكّ في كلّ من الحادثين.

ثانياً: انّه لا دليل على اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين، فلو أيقن إنسان بطهارة ثوبه ثمّ أغشي عليه، فلما أفاق شك في بقاء طهارة ثوبه، واحتمل أنّه صار نجساً عندما أغشي عليه، فظرف الشكّ غير متصل بظرف اليقين مع أنّه لا شكّ في استصحابه.

ولذلك نقول بجريان الاستصحاب في الأمثلة التالية إذا كان الأثر متعلّقاً بالعدم التام.

أ: إذا أذن المرتهن لبيع العين المرهونة ثمّ رجع عن إذنه، وشكّ في تاريخ كلّ من البيع والرجوع عن الاذن، فيجري استصحاب العدم في كلّ منهما فيقال أصالة عدم البيع إلى زمان الإذن أو أصالة عدم صدور الرجوع إلى زمان البيع.

ب: نفس المثال السابق، أي استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة، أو استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّية.

ص:226

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي قد أضاف شيئاً إلى بيان أُستاذه، وقال: إنّه لما كان المستصحب في ظرف الشك وهو يوم السبت متيقناً بحدوث الكرّية، ومعه كيف يمكن استصحاب عدمها إلى الزمان الذي يعلم بحدوثها؟ وعليه لا يجري الاستصحاب، لوجهين: انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين أوّلاً، وتبدّل الحالة السابقة إلى أمر مقطوع به ثانياً ، ومعه لا يكون رفع اليد نقضاً لليقين بالشكّ، بل نقضاً بيقين مثله.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الساعة الثالثة ظرف اليقين بنقض الحالة السابقة، ولكنّه لا يضر بالاستصحاب، إذ لا يعني الاستصحاب الحكمَ بعدم الكرّية في الساعة الثالثة، بل الهدف هو إسراؤه إلى الساعة الثانية، وهو يجتمع مع العلم في الكرية في الثالثة.

وبعبارة أُخرى: أنّ الغاية من الاستصحاب هو زمان الملاقاة حسب ظرفه الواقعي لا العلم بالملاقاة، فالخلط حصل بين كون استصحاب عدم الكرّيّة إلى حصول العلم بوجود الملاقاة، وبين استصحابه إلى زمان تحقّق الملاقاة، وغاية الاستصحاب هو الثاني دون الأوّل، وليس فيه علم بحصول الكرّيّة.

وعلى كلّ تقدير: هذا التقرير الذي جنح إليه المحقّق النائيني يطابق عبارات الكفاية الواردة بصيغة الإشكال والجواب، ولكنّه لا ينطبق على العبارات الواردة قبل الإشكال والجواب فالذي ينطبق عليه هو تقرير المحقّق المشكيني، حيث قال ما هذا إيضاحه:

تقرير المحقّق المشكيني لعدم الاتصال

انّ الظاهر من قوله: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»، هو

ص:227


1- . مصباح الأُصول: 3/200.

اعتبار اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين في حرمة نقضه بالشك، فلا يصحّ التمسّك به في الموارد التي لم يحرز فيها اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين، سواء أحرز عدم الاتصال بأن توسط يقين ثان بين اليقين الأوّل والشكّ الطارئ، أم شكّ في توسطه.

أمّا الصورة الأُولى: فواضح، لأنّه يكون من قبيل نقض اليقين بمثله، ولأجل ذلك لو أذعن بوجوب الجلوس إلى الزوال، ثمّ شك في بقائه بعده فلا يصحّ عند القوم استصحاب عدم الوجوب المعلوم أزلاً، لفصل اليقين الثاني بين اليقين الأوّل والشكّ الطارئ.

وأمّا الصورة الثانية: فلأنّ احتمال توسّط يقين ثان بين الأوّل والثاني، يجعله من قبيل الشبهة المصداقية، لقوله:

«لا تنقض اليقين بالشكّ» ويكون مآله إلى الشكّ في أنّه هل هو نقض اليقين باليقين أو بالشكّ ومع هذا لا يصحّ التمسك بالعام، ومورد المثال من قبيل الصورة الثانية، وذلك لأنّ زمان الملاقاة لو كان هو الساعة الثانية لكان زمان الشك في بقاء عدم الكرّيّة متصلاً بزمان اليقين به، وأمّا لو كان هي الساعة الثالثة فلا اتصال في البين، لتخلّل وجود الكرّية حينئذٍ بين المتيقّن والمشكوك.

وعلى هذا الوجه ينطبق قول المحقّق الخراساني حيث يقول: لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان حدوث الآخر (أي الملاقاة) بزمان يقينه أي اليقين بعدم كلّ من الحادثين، لاحتمال انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقّن باتصال حدوثه أي وجود الكرّيّة.

يلاحظ عليه: انّه لو تم ذلك يلزم سدّ باب الاستصحاب بتاتاً، إذ ما من استصحاب إلّاويحتمل معه انقلاب المتيقّن فيه إلى ضده في زمان الشكّ، ولولا

ص:228

هذا الاحتمال لما حصل الشكّ، فاحتمال حدوث الكرّيّة في الساعة الثانية وانقلاب عدمها إلى نقيضه، لا يضرّ به إذ ليس أزيد من احتمال عدم بقاء المتيقّن وانقلابه إلى ضدّه أو نقيضه الذي هو الحاكم في جميع الموارد.

وبالجملة: المعتبر في الاستصحاب وجود يقين وشكّ فعلي، وأنّه لو رجع المستصحب القهقرى لا يقف على متيقّن متضادّ مع المتيقّن السابق، لا أن لا يحتمله، وهذا الشرط حاصل، واحتمال تقدّم الكرّيّة وإن كان حاصلاً لكنّه ليس بأمر متيقّن، بل محتمل، فلا يعتنى به، إذ الاعتناء يستلزم رفع اليد عن الأمر اليقيني بأمر مشكوك.

ولعلّ منشأ هذا الاشتباه، شدّة اتصال اليقين بالمتيقّن فيكون احتمال انفصال المتيقّن بين زمان اليقين والشكّ، موجباً لزعم احتمال انفصال اليقين.

على أنّ ما ذكره لا ينطبق على أكثر عبارات الكفاية خصوصاً ما ذكره من الإشكال والجواب.

وعلى كلّ تقدير فقد رفض المحقّق الخراساني الاستصحاب في مجهولي التاريخ في عامّة الأقسام إلّاالصورة الأُولى من القسم الأوّل، وقد عرفت جريانه في عامة صور القسم الأوّل إذا لم يعلم السبق، وجريانه في القسم الثاني والرابع.

الموضع الثاني: فيما إذا علم تاريخ أحدهما

إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهوله، فقد قسّمه المحقّق الخراساني إلى أقسام أربعة على غرار مجهولي التاريخ، وإليك البيان:

القسم الأوّل: أن يكون الأثر مترتباً على حالة من وجود الشيء على نحو مفاد كان التامة، كإرث الولد المترتب على سبق موت الوالد، فإذا كان موت الولد

ص:229

معلوم التاريخ، كما إذا تُوفِّي يوم الجمعة، وموت الوالد مجهوله، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان الاستصحاب فيما إذا كان لأحد الوجودين أثر دون الوجود الآخر ولحالة واحدة منه على النحو الذي سبق في مجهولي التاريخ.

وبعبارة أُخرى: إذا كان الأثر لواحد من الوجودين، ولحالة واحدة منه يجري الاستصحاب فيه فقط، وفي غيره يتعارضان فيتساقطان.

إلّا أنّ في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ إشكالاً، وهو: انّه إذا كان موت الولد معلوماً من حيث الزمان فلا إبهام في الخارج، و ليس للاستصحاب دور إلّافي رفع الإبهام، و مع عدمه لا مورد للاستصحاب.

اللّهمّ إلّاأن يقال: انّ موت الولد وإن كان معلوماً من حيث الزمان ولكنّه بالإضافة إلى زمان الآخر - أعني: موت الوالد - مجهول، فيكفي في صحّة التعبّد ترتب الأثر عليه. ولكن الاعتماد على هذا أمام الارتكاز العرفي مشكل، فانّ العرف يستخدم الاستصحاب لكشف الواقع وهو في المقام واضح لا سترة فيه وكونه مجهولاً بالنسبة إلى حادث آخر، لا يجعله مجهولاً.

القسم الثاني: إذا ترتّب الأثر على حالة لأحد الحادثين بالنسبة إلى الحادث الآخر على نحو كان الناقصة، كترتب الإرث على موت الوالد السابق على موت الولد، فقد تقدّم أنّ المحقّق الخراساني قال بعدم جريان الاستصحاب لعدم الحالة السابقة.

وقد قلنا هناك: إنّ في كلامه خلطاً بين موضوع الأثر والمستصحب، فالأوّل عبارة عن الموجبة المحصلة كقولنا: موت الوالد السابق على موت الولد، ومن المعلوم أنّه فاقد للحالة السابقة.

ص:230

وأمّا المستصحب، فهو عبارة عن نقيض الموجبة المحصلة، أعني: السالبة المحصلة، بأن يقال: لم يكن موت الوالد السابق على موت الولد، ومن الواضح أنّ السالبة المحصلة تصدق مع عدم الموضوع، مثلاًعندما كان كلّ من الوالد والولد حيّين، يصدق لم يكن موت الوالد سابقاً على موت الولد. غير انّه انتقضت الحالة السابقة في الموت و بقي الشك في انتقاضها في السبق. فيصحّ الاستصحاب.

القسم الثالث: ما إذا ترتب الأثر على عدم الشيء بصورة النفي الناقص، كالماء غير الكرّ إلى زمان الملاقاة، فإذا كان هناك ماء قليل تعاقب عليه حالتان: الكرّيّة والملاقاة بالنجس، وكان زمن الملاقاة يوم الجمعة، فلا يجري الاستصحاب في جانب الكرّيّة، وذلك لعدم الحالة السابقة أي الماء غير الكر إلى وقت الملاقاة، والفرق بين هذا القسم وما سبق واضح، لأنّ الموضوع هناك أمر إيجابي يتوجه إليه السبق فيكون المستصحب السالبة المحصّلة، وهذا بخلاف المقام فانّ السلب جزء للموضوع وهو نفس المستصحب، أعني: الماء غير الكر.

وبعبارة أُخرى: ما يترتب عليه الأثر شيء والمستصحب شيء آخر بخلاف المقام فكلاهما واحد.

والعجب انّ المحقّق الخراساني لم يذكر هذا القسم اقتصاراً بما ذكره في القسم الثاني، وقد عرفت الفرق بينهما.

القسم الرابع: إذا ترتب الأثر على الحالة الخاصة من عدم الحادث على وجه النفي التام، كعدم سبق الكرّيّة على الملاقاة التي علم تاريخها، فقد فصل المحقّق الخراساني بين معلوم التاريخ ومجهوله. فقال: بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ لعدم اتصال الشك بزمان اليقين، وجريانه في مجهول التاريخ لاتصال

ص:231

الشكّ به.

أمّا الأوّل أي عدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين إذا كان أجري الاستصحاب في معلوم التاريخ.

وذلك لأنّ هناك ساعات وفترات من الزمان.

الساعة الأُولى: لم يكن هناك كرّيّة ولا ملاقاة.

الساعة الثانية: مبهمة غير معلومة يحتمل فيه حدوث الكرّية.

الساعة الثالثة: نعلم بملاقاة النجس بالماء.

أمّا الساعة الرابعة: فيحتمل حدوث الكرّيّة فيها أو الساعة الثانية.

فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة إنّما ينفع في صورة واحدة، وهو إذا حدثت الكرّيّة في الساعة الثانية، فيقال: بأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة، وأمّا إذا حدثت في الساعة الرابعة، فكيف يمكن أن يقال بعدم حدوث الملاقاة إلى زمان الكرّيّة، أعني: الساعة الرابعة، مع حدوثها قطعاً في الساعة الثالثة؟

فعلى الاحتمال الأوّل لم تنتقض الحالة السابقة في الملاقاة، بخلاف الفرض الثاني حيث نعلم بانتقاضها في الساعة الثالثة، ومع ذلك نستصحبه إلى الساعة الرابعة.

أقول: لو صحّ هذا البيان مع قطع النظر عمّا ذكرنا من الإشكال يجري نفس هذا البيان في مجهول التاريخ أيضاً، سواء اعتمدنا في تفسير مراد الكفاية على ما ذكره المحقّق النائيني، أو ما ذكره المحقّق المشكيني.

أمّا الأوّل: فيقال: انّ الشكّ فرع حصول العلم بكلا الحادثين: الكرّيّة والملاقاة، ولا يحصل العلم بهما إلّافي الساعة الرابعة، فيكون الشكّ في تلك الفترة

ص:232

مع كون اليقين في الساعة الأُولى، فيلزم الفصل بين زماني اليقين والشك.

وأمّا الثاني: فلأنّ الكرّية لو حدثت في الساعة الرابعة صحّ أن يقال: أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة الذي هو الساعة الثالثة، وأمّا لو حدثت في الساعة الثانية، كيف يمكن أن يقال الأصل عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في الساعة الثانية؟

وعلى كلّ تقدير: انّ المحقّق الخراساني يعود ويخلّص كلامه، بأنّه لا فرق في الصور بين المعلوم والمجهول، وإنّما الفرق بين التام والناقص سواء أكان وجودياً أو عدمياً.

إلى هنا تم ما أردنا من استعراض الأقسام الثمانية التي تعرض إليها المحقّق الخراساني، بقيت هنا تطبيقات:

ص:233

تطبيقات

يترتب على مسألة تأخّر الحادث فروع مختلفة نذكر قسماً منها، و قبل الإشارة إليها نشير إلى ما أوضحنا حاله في مبحث الاشتغال، وهو:

إنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه مؤثراً على كلّ تقدير، وموجباً للأثر على كلّ فرض، وإلّا فلو كان مؤثراً على فرض دون فرض آخر، فلا يكون مثل ذلك العلم منجِّزاً للتكليف، لعدم العلم به على كلّ تقدير بل العلم به على تقدير دون تقدير، وهو يساوق الشك دون العلم.

وعلى ضوء ذلك فلندرس الفروع التالية:

الفرع الأوّل: إذا كان ثوبه نجساً بالدم، وعلم بطروء دم آخر عليه مع غسل الثوب بالماء الطاهر، وتردّد الدم بين كونه بعد الدم الأوّل، أو بعد الغَسْل، فالثوب يكون محكوماً بالطهارة المستصحبة، لأنّ العلم بطروء الدم على الثوب ليس علماً بالسبب المؤثِّر وإنّما هو علم بالسبب المردّد بين الفعلي والشأني، وذلك لأنّه لو طرأ قبل الغسل لا يكون سبباً مؤثراً، لأنّ طروء الدم بعد الدم لا يحدث تكليفاً وإن كان متأخراً عن الغسل فهو مؤثر، فيدور أمره بين المؤثر وغير المؤثر، فلا يكون منجزاً للتكليف.

وأمّا الطهارة فقد علمنا بطروئها على الثوب بعد الدم مؤثرة سواء كانت

ص:234

بين الدمين أو بعد الدم الثاني فنشكُّ في انتفائها فيحكم بالبقاء ويكون الثوب محكوماً بالطهارة.

الفرع الثاني: إذا كان ثوبه نجساً بالدم، ثمّ علم بطروء نجاسة شديدة كالبول الذي يحتاج إلى الغَسْل مرّتين، وافترضنا غَسْل الثوب مرّة واحدة، وهذا الفرع يختلف عما سبق، لأنّ كلاً من شقِّي العلم الإجمالي مؤثر، وذلك امّا في جانب البول فلأنّه لو كان طرأ على الثوب بعد عروض الدم فقد شدّد حكم الغسْل، لأنّ ملاقي الدم لو غسل مرّة واحدة يطهر، بخلاف ملاقي البول فيحتاج إلى غسلتين، فكذلك لو طرأ البول بعد غسل الثوب مرة واحدة يؤثر أيضاً فيجب غسل الثوب مرتين.

هذا هوحكم البول، وأمّا الغسل فلو توسط بين الدم والبول فقد ارتفع أثره بطروء البول، ولو تأخّر بعد طروء البول يجب غسل الثوب مرة أُخرى.

فالأصلان - أي أصالة عدم تقدّم البول على الغسل و أصالة عدم تقدم الغسل على البول - لأجل ترتب الأثر عليهما يتعارضان فيتساقطان، ولكن لما كان العلم بوجود النجاسة المشدّدة حاصلاً فلا يرتفع اليقين بالنجاسة بالغسل مرّة واحدة، بل يجب الغسل مرتين.

الفرع الثالث: لو كان هناك ماء طاهر قليل، ثمّ علم بعروض كلّ من الكرّيّة والنجاسة عليه، وشكّ في تقدّم عروض الكرّية على عروض النجاسة حتى يكون طاهراً، أو تقدّم عروض النجاسة على الكرية حتى يحكم بنجاسته، لأنّ تتميم الماء النجس كرّاً لا يوجب طهارته.

فالظاهر جريان الاستصحابين وتساقطهما، لأنّ لكلّ من العلمين أثراً شرعياً، فلو كان عروض الكرّيّة متقدّماً على الملاقاة تثبتت له العاصمية، ولو

ص:235

تأخرت تكون الملاقاة مؤثرة، وكذلك لو كانت الملاقاة متقدمة أثَّرت في النجاسة، ولو كانت متأخرة كان الماء معتصماً لا ينجسه شيء، وهو حكم شرعي لقوله: «الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لم ينجسه شيء»، فيتعارضان ويتساقطان، ويرجع في مورد الماء إلى قاعدة الطهارة، في جميع الصور سواء أكانا مجهولي التاريخ أو كان أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً.

والمقام من أمثلة ما يكون الأثر مترتباً على وجود الشيء حسب مفاد كان التامة.

غير أنّ المحقّق النائيني ذهب إلى نجاسة الماء في جميع الصور، وحاصل ما أفاده:

إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسّه شيء» هو انّه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة، سبقُ الكرّيّة ولو آناً ما، لأنّ الظاهر منه كون الكرّيّة موضوعاً للحكم بعدم تنجيس الملاقاة، وكلّ موضوع لابدّ وأن يكون مقدَّماً على الحكم، فيعتبر في الحكم بعدم تأثير الملاقاة، إحرازُ سبق الكرية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هنا أصلين:

أ: أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة.

ب: أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة.

أمّا الأصل الأوّل فيكفي في الحكم بالانفعال، لأنّ مدلوله عدم إحراز الكرّيّة إلى زمان الملاقاة، فتكون النتيجة عدم الموضوع للعاصمية إلى زمانها ويكون مقتضاه نجاسة الماء.

وأمّا الأصل الثاني فهو عقيم لا يثبت عاصمية الماء من التأثر، لأنّها من آثار

ص:236

سبق الكرّيّة على الماء كما هو اللائح من الحديث، ولا يثبت بهذا الأصل، سبقُ الكرّيّة عليها ولا تأخر الملاقاة عن الكرّيّة.

وبعبارة أُخرى: الأثر مترتب على مفاد كان الناقصة «الماء الموصوف بالكرّيّة لا ينجس بالملاقاة» وأصالة عدم الملاقاة إلى حين الكرّيّة لا يثبت وصف الماء بها حين الملاقاة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الحديث بصدد بيان انّ الكرّيّة تعصم الماء عن الانفعال، وأمّا لزوم سبقها على النجاسة فلا يستفاد من أمثال هذا التركيب. مثلاً يقال: الرطوبة تمنع من اشتعال الحطب، أو انّ الريح تمنع عن اشتعال المصباح، فالمقصود هو بيان التضاد بينهما، لا شرطية سبق الرطوبة والريح.

وعلى هذا فكما أنّ أصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة تستلزم الحكم بنجاسة الماء، هكذا أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة تستلزم عاصمية الماء من التأثر بالملاقاة، فيتعارضان ويتساقطان، ويكون المرجع جريان قاعدة الطهارة في الماء.

الفرع الرابع: إذا تطهّر عن حدث وأحدث ولم يعلم حال كلّ منهما من التقدّم والتأخّر، فيقع البحث في مقامين:

أ: أن تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين مجهولة.

ب: أن تكون الحالة السابقة على عروضهما معلومة.

وعلى كلّ تقدير فإمّا أن يكونا مجهولي التاريخ، أو يكون أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً، فيقع الكلام في مقامين:

ص:237


1- . فوائد الأُصول: 4/528-530، بتصرف يسير.
المقام الأوّل: فيما إذا كانت الحالة السابقة مجهولة

إذا كانت الحالة السابقة مجهولة وعلم بالطهارة والحدث، فالظاهر جريان الاستصحاب في كلتا الحالتين، سواء أكانتا مجهولتي التاريخ، أو كانت إحداهما معلومة والأُخرى مجهولة، وقد عرفت جريانه في جانب معلوم التاريخ على قول، ويكون المرجع بعد التعارض لزوم إحراز الطهارة الحدثية للصلاة.

المقام الثاني: فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة

إذا كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة، فهناك صور:

الصورة الأُولى: إذا كانت الحالة السابقة معلومة وكانت الحالتان مجهولتي التاريخ.

الصورة الثانية: فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة، وكان تاريخ إحدى الحالتين معلوماً.

فلنأخذ الصورة الأُولى بالبحث، فنقول:

اختلفت كلمتهم في حكمها إلى قولين:

1. لزوم إحراز الطهارة الحدثية للدخول في الصلاة لتعارض الاستصحابين فلا مناص عن لزوم إحراز الطهارة للدخول فيها. وهذا هو المشهور.

2. يؤخذ بضد الحالة السابقة. وهو خيرة المحقّق في المعتبر، وحكي عن المحقّق الثاني وجماعة المختار عندنا.

وذلك لأنّه إذا كان في أوّل النهار متطهّراً ثمّ علم بطروء الحالتين من الطهارة والنوم يحكم عليه بكونه محدثاً، وذلك للعلم التفصيلي بالحدث وانتقاض

ص:238

الطهارة قطعاً بلا إشكال، إمّا بتوسط النوم بين الطهارتين، أو بوقوعه بعد الطهارة الثانية، وعلى كلّ تقدير يعلم بعروض الحدث، ويشك في ارتفاعه، فيستصحب.

وأمّا استصحاب الطهارة فلا علم بها لا تفصيلاً ولا إجمالاً، فانّ الطهارة المعلومة أوّل النهار قد زالت يقيناً فهو قطعي الارتفاع، وأمّا عروضها مجدّداً بعد النوم فهو مشكوك بالشكّ البدوي، لأنّه يحتمل أن تكون الطهارة الثانية بعد الطهارة الأُولى بلا فاصل زماني، فارتفاع الطهارة قطعي وعروضه مجدداً مشكوك وهو فرع أن تكون الطهارة بعد النوم.

وتختلف النتيجة عمّا سبق إذا عكسنا المثال السابق بأن كان أوّل النهار محدثاً ثمّ علم بطروء الحالتين من الطهارة والنوم، فيحكم بطهارته للعلم بالطهارة تفصيلاً، وذلك للعلم بأنّ الحالة الأُولى قد زالت وانقلبت إلى الحالة الأُخرى أي الطهارة، فهي محقّقة الحدوث، وإنّما الشكّ في ارتفاعها.

وأمّا الحالة الحدثية فلا علم تفصيلي بها ولا إجمالي للعلم بانّها زالت بالعلم بطروء الطهارة، وعروضها بعد الطهارة مشكوك بدوي، لأنّه رهن أن يكون النوم بعد الطهارة، وهو غير ثابت لاحتمال أن يكون النوم بعد النوم بلا فاصل زماني، وقدعرفت في مقدمة البحث انّ العلم الإجمالي إنّما ينجِّز إذا كان منجزاً على كلّ تقدير، فالنوم في المثال الأوّل منجز على كلّ تقدير سواء وقع بين الطهارتين أو بعد الطهارة الثانية، ولذلك نأخذ به، وقلنا إنّه فيها محدث.

كما أنّ الطهارة في المثال الثاني محدثة للأثر على كلّ تقدير سواء وقع بين النومين أو بعد النوم الثاني.

فعلى غرار هذه القاعدة يجب أن نأخذ بالشق المؤثر على كلّ تقدير للعلم الإجمالي، وليس هو إلّاضدّ الحالة السابقة.

ص:239

فإن قلت: إنّ هناك استصحاباً آخر لا يمكن إنكاره، مثلاً في المثال الثاني يعلم إجمالاً بوجود الحدث بعد السبب، وإن لم يعلم أنّه من السبب الأوّل أو الثاني، فيستصحب، ومثله في الصورة الأُولى حرفاً بحرف.

قلت أولاً: إنّ هنا علماً بالسبب، لا علماً بالسبب المؤثر، إذ لو كان السببان متعاقبين لما كان للسبب الثاني تأثير.

وثانياً: إنّ العلم الإجمالي (العلم الإجمالي بالحدث بعد السبب الثاني) ينحل إلى: علم تفصيلي وشك بدوي، إذ الحدث الذي دلّ السبب على وجوده لو كان هو الحدث السابق فقد ارتفع قطعاً وحدوثه بعد الوضوء مشكوك فيه.

والقول بأنّه يعلم بوجود الحدث بعد السبب الثاني مرجعه إلى القول بأنّه يعلم بطروء الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده، فلو طرأ قبله فقد ارتفع قطعاً، ولو طرأ بعده يكون مؤثراً ولكنّه مشكوك جداً.

ونظير ذلك انّه لو رأى الجنب المغتسل عن جنابته، أثرَ الجنابة في ثوبه، فلا يجب عليه الاغتسال وإن كان يعلم بحدوث الجنابة بعد هذا الأثر، وذلك لأنّ الأثر الحاصل في ثوبه إن كان من الجنابة السابقة فقد ارتفع، وإن كان من الجنابة الجديدة، فهو و إن كان مؤثراً لكنّه مشكوك الحدوث، فليس هناك علم بالجنابة الحادثة بعد ذلك الأثر.

الصورة الثانية: فيما إذا كانت الحالة السابقة معلومة، و كان تاريخ أحدهما معلوماً، فالأقوى أنّ حكمها حكم الصورة الأُولى على غرار ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي، مثلاً: إذا كان في أوّل النهار محدثاً وعلم بالطهارة في أوّل الظهر وعلم بالنوم امّا قبل الطهارة أو بعدها، فبما أنّ العلم بالنوم ليس علماً بالسبب الفعلي بل اقصاه العلم بوجود الحدث بعده إمّا من السبب السابق أو منه نفسه،

ص:240

والمسبّب الأوّل مقطوع الارتفاع، وحدوثه من السبب الثاني مشكوك، فلا يكون مؤثراً، وهذا بخلاف الطهارة الحاصلة في أوّل الظهر، فالعلم بها علم بالسبب الفعلي، وانّها أزالت الحالة السابقة إمّا بتوسطها بين النوعين أو تعقبها بعد النوم الثاني.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ ذهب في هذه الصورة «إذا كان أحدهما معلومي التاريخ» إلى التفصيل، وهو أنّه إذا كان المعلوم تاريخه ضداً للحالة السابقة المعلومة كما في المثال السابق، فيؤخذ بالضد حيث كانت الحالة السابقة هي الحدث والمعلوم تاريخه هو الطهارة.

وأمّا إذا كان المعلوم تاريخه مماثلاً للحالة السابقة، كما إذا كان المعلوم تاريخه هو الحدث وكانت الحالة السابقة أيضاً هي الحدث يؤخذ بقول المشهور من لزوم إحراز الطهارة، وذلك بحجّة انّ استصحاب الكلي لا مانع عنه، لأنّ الكلي في أوّل الزوال معلوم التحقّق ومحتمل البقاء، لأنّه يعلم في أوّل الظهر انّه محدث فيستصحب كلّي الحدث.(1)

يلاحظ عليه: بأنّه لا مجال لاستصحاب الكلّي، لأنّه مردّد بين فرد قطعي الارتفاع (الحدث الأوّل) و مشكوك الحدوث (أي النوم بعد الطهارة).

فإن قلت: ما الفرق بين المقام و بين استصحاب الكلّي من القسم الثالث إذا علمنا بوجود إنسان في الدار ثمّ علمنا خروجه واحتملنا دخول فرد في الدار حين خروجه و مثله المقام، فانّ الحدث الأوّل مقطوع الارتفاع ولكنّه نحتمل ببقائه في ظل الفرد الثاني؟

ص:241


1- . الرسائل: 203.

قلت: الفرق بين الموردين واضح، فانّ تقارن الفرد في استصحاب الكلّي محقّق للاستصحاب ولا يضرّ به، ولكن التقارن هنا (أي تقارن الحدثين) موجب للعلم بارتفاع الحالة السابقة، واحتمال الانفصال أي تحقّق الحدث بعد الطهارة يوجب الفصل بين زوال الفرد الأوّل وتحقّق الفرد الثاني المحتمل وعندئذٍ لا يكون المورد شكّ في البقاء.

فالحقّ انّه يؤخذ بضدّ الحالة السابقة مثل الصور السابقة، إذ لا علم في أوّل الزوال بالسبب المؤثّر، غايته كونه أمارة على وجود الحدث في هذا الزمان، لكنّه لو كان مستنداً إلى السبب الأوّل، فهو مقطوع الارتفاع. وحدوثه بالسبب الثاني مشكوك فينحلّ العلم الإجمالي.

وفي الجملة: فكلّ سبب نعلم بكونه محدثاً للأثر على كلّ تقدير يؤخذ بأثره وهو الطهارة في هذا الفرض. وأمّا السبب الذي يؤثّر على تقدير دون تقدير كالنوم، فبما انّه ليس بمنجّز، فلا يصحّ الأخذ بأثره إذ لا علم به.

وهناك فروع أُخرى نذكر عناوينها بلا تفصيل:

1. إذا ادّعى الزوج الرجوع في عدّة المطلقة الرجعية وادّعت الزوجة تأخّره عنها.

2. إذا ادّعى أحد المتعاملين في بيع الحيوان كون الفسخ في الثلاثة، والآخر كونه بعد انتهاء الثلاثة.

3. إذا أذن المرتهن في البيع ثمّ رجع عن إذنه، وباع الراهن، فاختلفا في كون البيع قبل الرجوع أو بعده.

4. إذا تطهّر وصلّى وعلم بصدور حدث منه وشكّ في تقدّم الحدث على

ص:242

الصلاة أو بعدها إذا لم يمكن إجراء قاعدة الفراغ، لأجل اشتراط الأذكرية المفقودة في المقام.

إلى غير ذلك من الفروع التي يمكن استخراج أحكامها ممّا ذكرنا.

ص:243

التنبيهات

13- في جريان الاستصحاب في العقائد والمعارف
اشارة

وقبل الخوض في المقصود نذكر أُموراً:

الأوّل: يشترط في صحّة التعبد بشيء، ترتّب الأثر عليه حتى لا يكون لغواً، والتعبد ببقاء اليقين أو المتيقّن رهن ترتّب الأثر عليه.

فعلى ذلك فالمستصحب إمّا حكم شرعي أو موضوع ذو أثر شرعي من دون فرق بين أن يكون الموضوع خارجياً أو لغويّاً أو اعتقادياً.

فالأوّل كاستصحاب حياة زيد، والثاني كاستصحاب ظهور لفظ في معنى ثمّ شك في بقائه، وأمّا الثالث فهذا هو الأمر الباعث لعقد هذا التنبيه وسيتضح لك جريان الاستصحاب فيه.

الثاني: ذهب المحقّقون إلى أنّ النسبة بين الإيمان واليقين عموم و خصوص من وجه، فربما يكون يقين ولا إيمان بمعنى التسليم القلبي، كما في آل فرعون حيث إنّهم رأوا آيات ربّهم التي جاء بها موسى واستيقنوا بأنّ موسى مرسل من ربّهم ومع ذلك أصرّوا على طغيانهم، قال سبحانه: (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) .(1)

وكان سيدنا الأُستاذ يمثل بالإنسان الخائف من الميت، فانّه على يقين بأنّه

ص:244


1- . النمل: 14.

لا يضر ومع ذلك يخاف منه، بخلاف الغسّال فانّه على يقين وإيمان.

وأُخرى يكون إيمان ولا يقين، كما يقول سبحانه: (أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) .(1)

نزلت الآية في حقّ أهل الكتاب الذين يدّعون انّهم على دين إبراهيم ومع ذلك قالوا إنّ الوثنيين أهدى سبيلاً من المؤمنين، تفوّهوا بتلك الكلمة في جواب سؤال قريش إيّاهم: نحن أميّون لا نعلم، فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحقّ، أنحن أم محمد؟

فقالوا: أنتم واللّه أهدى سبيلاً ممّا عليه محمّد، فنزلت الآية.(2)

فقد عقدوا قلوبهم بما تفوّهوا به وقد عبّر عنه سبحانه بالإيمان وكانوا على يقين ببطلان كلامهم.

وثالثة: يجتمعان كما هو واضح.

الثالث: قد مضى عند البحث في حجيّة الظن، كفاية الظنّ في الاعتقادات وعدمها، وقد أشبعنا الكلام فيه، فلم يكن هنا حاجة إلى التكرار، لكن الباعث لعقد هذا التنبيه في المناظرة الواقعة بين بعض الفضلاء من السادات و بعض أهل الكتاب في منطقة بين النجف وكربلاء تسمى بذي الكفل حيث تمسّك الكتابي في بقاء شريعته بالاستصحاب، فدار الجدل بينهما بنحو مذكور في الكتب، فصار ذلك سبباً لطرح ذلك في مبحث الاستصحاب، فطرحه القمّي في قوانينه، و الشيخ في فرائده، ومن جاء بعده.

ص:245


1- . النساء: 51.
2- . مجمع البيان: 2/59.

إذا عرفت ذلك، فيقع الكلام في مقامات ثلاثة:

الأوّل: جريان الاستصحاب في ا لأُمور الاعتقادية.

الثاني: جريان الاستصحاب في بقاء النبوة.

الثالث: في انتفاع الكتابي بالتمسّك بالاستصحاب وعدمه.

وإليك البحث في كلّ واحد من هذه المقامات:

المقام الأوّل: جريان الاستصحاب في الأُمور الاعتقادية

إنّ جريان الاستصحاب في الأُمور الاعتقادية مبني على جواز الفصل بين اليقين والعقيدة، وإلّا فلا معنى للاستصحاب في الأُمور التي ينوط وجودها باليقين، وبما انّك عرفت جواز الفصل فنذكر ما ذكره المحقّق الخراساني على وجه الإيجاز.

وحاصل كلامه: انّ الأُمور الاعتقادية على قسمين:

قسم يكون المطلوب فيها هو الانقياد والتسليم وعقد القلب فقط وإن لم يكن معه يقين، فهذا ما يجوز فيه الاستصحاب موضوعاً وحكماً.

أمّا الأوّل: كما إذا كان سؤال القبر من دين اللّه فشككنا في بقائه على ما كان عليه، فيستصحب انّه من دين اللّه.

وأمّا الثاني: إذا قلنا بوجوب الالتزام بحكم اللّه سبحانه و شككنا في بقاء حكم المتعة من الجواز وعدمه حتى نلتزم به، فيستصحب الجواز استصحاباً حكمياً ويقع موضوعاً لوجوب الالتزام.

وقسم آخر يكون المطلوب فيه هو القطع بها ومعرفتها معرفة علمية، فلا

ص:246

يجوز الاستصحاب فيها موضوعاً، وإن جاز حكماً.

أمّا الأوّل: كمعرفة الإمام إذا شككنا في بقاء حياته، فلا يثبت بقاء حياته بالاستصحاب وجوب معرفته، لأنّ المطلوب المعرفة اليقينية كما في قوله: «من مات و لم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية».

وأمّا الثاني: كما إذا كان الإنسان على يقين بوجوب تحصيل العلم بتفاصيل القيامة وشك في بقاء وجوبه، فيستصحب وجوبه.

الفرق بين الأمرين هو أنّ الاكتفاء بالاستصحاب في الأوّل موجب للخلف، إذ اللازم هو معرفة الإمام معرفة يقينيّة والاستصحاب لا يفيد إلّاالظن، بخلاف الثاني، فانّ الاستصحاب يؤيد لزوم المعرفة اليقينية حيث إنّ المستصحب هو لزوم تحصيل اليقين بتفاصيل القيامة فاستصحابه يدعم تحصيل العلم.

هذا هو خلاصة التفصيل في المقام الأوّل.

المقام الثاني: استصحاب النبوة

فقد ذكر المحقّق الخراساني لهذا الاستصحاب وجوهاً ثلاثة:

الأوّل: النبوّة بمعنى بلوغ النفس مرتبة من الكمال يوحى إليها، والنبوّة بهذا المعنى غير قابلة للاستصحاب، لعدم الشك في زوالها بعد بلوغ النفس إليها.

مضافاً إلى كونها أمراً تكوينياً غير قابل للجعل.

الثاني: النبوة بمعنى المنصب المجعول للنبيّ كالوكالة للوكيل، والنبوة بهذا المعنى إذا شك في بقائها قابلة للاستصحاب، ولكن يحتاج إلى دليل غير منوط بتلك النبوة، وغير مأخوذ من ذلك الشرع، كما إذا كان الاستصحاب حجّة من

ص:247

باب العقل، وإلّا فالشكّ في بقاء النبوة المنصبيّة يلازم الشك في بقاء حجّية الاستصحاب الذي ورد في شريعته، فالتمسّك في بقاء النبوة بالاستصحاب الوارد في دينه مستلزم للدور.

الثالث: استصحاب النبوة بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من وصف بالنبوة، وقد عرفت جوازها.

الرابع: وهناك معنى رابع وهو استصحاب مجموع الأحكام الواردة في الشريعة السابقة، وهذا المعنى قابل للاستصحاب، ولكن يحتاج إلى الدليل في غير نفس الشريعة السابقة فإنّه لا يمكن التمسك به لإثبات بقاء أحكام تلك الشريعة، لأنّ حجّية الاستصحاب من جملة تلك الأحكام، فيلزم التمسّك بالاستصحاب لاستصحاب بقاء نفسه وهو دور واضح.

المقام الثالث: هل ينتفع الكتابي بالاستصحاب أو لا؟

إن تمسّك الكتابي بالاستصحاب لا يخلو من حالتين:

إمّا أن يكون لإلزام المسلم، أو لإقناع نفسه.

أمّا الحالة الأُولى فلا ينفع الاستصحاب فيها إلّاإذا ثبتت الأُمور الثلاثة التالية:

1. إذا كان الخصم شاكاً في منسوخية نبوة النبي السابق.

2. إذا كان معترفاً بحجّية الاستصحاب في الأُصول.

3. إذا كانت هناك حالة سابقة.

والكل غير موجود، لأنّ المسلم ليس شاكاً في منسوخية النبي السابق، ولا

ص:248

معترفاً بحجّيته في الأُصول، ولا معترفاً بنبوة النبي السابق إلّاعن طريق القرآن الكريم وأخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّا التواتر فإنّما ثبت به وجود الكليم والمسيح وادّعائهما النبوة لا صحة نبوتهما.

وعلى ذلك فليس عند المسلم دليل على صحة نبوتهما إلّاأخبار القرآن بأنّهما نبيّان مضت هذه رسالتها ونسخت شريعتهما، ومع ذلك كيف يمكن لليهود استصحاب نبوة الكليم أو المسيح؟

وإلى ما ذكرنا ينظر كلام الإمام الرضا عليه السلام في مناظرته مع الجاثليق، حيث سأله الجاثليق بقوله: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه، وهل يلتزم منها شيئاً؟

فأجاب: «إنّا نقرّ بنبوة عيسى وكتابه وما بشّر به أُمته وأقرّت به الحواريون، وكافر بنبوة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وكتابه ولم يبشر به أُمّته».(1)

هذا كلّه إلزاماً، وأمّا إقناعاً. فلأنّ تمسّكه بالاستصحاب لإقناع نفسه يعرب عن كونه شاكاً والواجب عليه هو الفحص عن نبوة النبي اللاحق، والنظر إلى حالاته ومعجزاته.

ثمّ التمسّك بالاستصحاب رهن وجود الدليل، ثمّ الدليل على حجّيته إمّا نفس الشريعة السابقة أو اللاحقة، فلو كان الأوّل يلزم الدور، لأنّ التمسّك به فرع بقاء الشريعة السابقة، فلو ثبت بقاؤها به لزم الدور، ولو كان الثاني يلزم الخلف، لأنّ التمسّك بحكم شريعته فرع الاعتراف بكونه حقّاً، والاعتراف بها يستلزم منسوخية الشريعة السابقة، وهوخلاف ما يدّعيه المتمسك.

ص:249


1- . الاحتجاج: 2/202، ط النجف.

التنبيهات

14- في استصحاب حكم المخصص
اشارة

إذا ورد التخصيص على عموم وعلم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان، ولكن شكّ في أنّ خروجه يختص بها أو يعمُّ ما بعدها، كما في قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) وقد خرج منه العقد الغبني، فالمغبون ذو خيار بين الإمضاء والفسخ، فشككنا في أنّ الخيار فوري أو ثابت إلى زمان لا يتضرر البائع من تزلزل العقد.

هذا هو عنوان البحث، وهو مركَّز على ما إذا كان التخصيص زمانياً لا فرديّاً بمعنى عدم إخراج الفرد من تحت العام بتاتاً، بل كان باقياً تحته في فترة وخرج عنه في فترة خاصة كزمان الغبن وشكّ في استمرار حكم المخصص أو عموم حكم العام، كما أنّ محلّ الكلام عبارة عمّا إذا لم يكن للمخصص إطلاق، أو عموم أزماني، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

وهناك أقوال بين المحقّقين سنشير إليها:

1. الفرق بين كون الزمان قيداً أو ظرفاً

ذهب الشيخ إلى ثنائيّة التقسيم وانّ الزمان في جانب العام تارة يُؤخذ قيداً

ص:250


1- . المائدة: 1.

للموضوع وأُخرى ظرفاً، والمراد من الأوّل ما إذا كان الفرد في كلّ زمان فرداً خاصاً مغايراً له في الزمان الآخر، فيكون عندئذٍ للفرد الواحد اطاعات وعصيانات حسب اختلاف زمانه.

كما أنّ المراد من الثاني ما إذا كان الزمان غير دخيل في موضوعية الموضوع، وإنّما ذكر لأجل انّ الفعل المادي لا ينفصل عن الزمان، وإلّا فالفرد في الزمان الأوّل نفس الفرد في الزمان الثاني، وكلاهما موضوع واحد، فلا يكون لكلّ فرد إلّاطاعة أو عصيان واحد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه إذا كان الزمان في دليل العام قيداً للموضوع يُتمسك بالعام ولا يتمسّك بالاستصحاب، وذلك لأنّ خروجه عن تحت العام في الفترة الثانية تخصيص ثان والأصل عدم التخصيص، حتى لو لم يكن المرجع هو العام لا يصلح الاستصحاب للدليلية لعدم وحدة القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة، لكون الزمان مفرداً للموضوع.

وأمّا إذا كان الزمان في جانب العام ظرفاً على نحو يكون خروج الفرد في قطعة أو قطعات من الزمان تخصيصاً واحداً فيتمسك باستصحاب حكم المخصص لوحدة القضية المتيقّنة و المشكوكة، ولا يتمسك بالعام لعدم استلزام الاعراض عنه تخصيصاً زائداً.

2. رباعية التقسيم

ذهب المحقّق الخراساني إلى رباعيّة التقسيم، وذلك لأنّ المخصص أيضاً كالعام ربما يكون الزمان فيه قيداً وأُخرى ظرفاً مثل دليل العام فتكون الصور أربع:

ص:251

الصورة الأُولى: أخذ الزمان ظرفاً في العام والخاص

إذا كان الزمان مأخوذاً في كلا الجانبين لبيان استمرار الحكم فشك في بقاء حكم المخصِّص بعد مضيِّ الزمان القطعي، فلا يرجع إلى العام لخروجه عنه وعدم استلزام الإعراض عنه تخصيصاً زائداً، ويرجع إلى استصحاب حكم المخصص لوحدة القضيتين حتى لو لم يكن المرجع هو ذاك لا يرجع إلى عموم العام، لخروجه عنه وعوده إليه يتوقف على الدليل.

الصورة الثانية: أخذ الزمان قيداً في العام والخاص

إذا كان الزمان قيداً في كلّ من العام والخاص، مكثِّراً للحكم، ومفرِّداً للموضوع حسب تعدّد الآنات، فالمرجع هو عموم العام، وذلك لأنّ الفرد في الآن الثاني فرد مستقل كان العام شاملاً له ولم يعلم خروجه فيتمسك بعموم العام، ولا يرجع إلى استصحاب حكم المخصص، لعدم وحدة القضيتين.

الصورة الثالثة: أخذ الزمان ظرفاً في العام دون الخاص

إذا كان الزمان مأخوذاً لبيان استمرار الحكم في ناحية العام، ولكن قيداً في جانب المخصص حيث يكثِّر الحكم ويفرّد الموضوع فيه، فلا يصحّ التمسّك لا بالعام ولا بالخاص.

أمّا العام: فلخروجه عنه وعدم استلزام الاعراض عن العام، تخصيصاً جديداً.

وأمّا الخاص: فلتعدّد القضيتين، المتيقّنة والمشكوكة، لافتراض انّ الزمان قيد يميِّز الفرد في الآن الأوّل عن الفرد في الآن الثاني.

ص:252

الصورة الرابعة: أخذ الزمان قيداً في العام دون الخاص

إذا أخذ الزمان في جانب العام قيداً للموضوع ومفرِّداً له ومكثِّراً له على نحو يكون لكل فرد حسب الآنات طاعة وعصيان ولكن يكون الزمان في جانب المخصِّص لبيان استمرار الحكم، فيرجع إلى العام، لأنّ الاعراض عنه يستلزم تخصيصاً زائداً على التخصيص المتيقّن ولا يرجع إلى استصحاب حكم المخصص، لعدم اجتماع شرائط العمل بالأصل، فانّه حجّة إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي، والخاص دليل اجتهادي رافع لموضوع حجّية الأصل.

وعلى هذا فالمحقّق الخراساني خالف الشيخ الأعظم في موردين:

المورد الأوّل: انّ الشيخ اكتفى في تجويز استصحاب المخصص بكون الزمان مأخوذاً على نحو الظرفية في جانب العام، مع أنّه غيركاف إلّاإذا كان الزمان مأخوذاً في جانب الخاص أيضاً كذلك، ففي مثله يترك الدليل العام، ويُستصحب حكم المخصص.

وأمّا إذا كان الزمان ظرفاً في جانب العام وقيداً في جانب الخاص فلا يتمسّك بهما.

أمّا العام فلخروج الخاص منه، والاعراض عنه لا يستلزم تخصيصاً زائداً، وأمّا الخاص فلعدم وحدة القضيتين.

وفي الحقيقة خالف المحقّق الخراساني في الصورة الثالثة من الصور الأربع حيث إنّ مقتضى إطلاق كلام الشيخ هو التمسّك بعموم العام، وصريح المحقّق الخراساني عدم التمسك بواحد منهما.

المورد الثاني: انّ استصحاب حكم المخصص فيما إذا كان الزمان في ناحية

ص:253

العام، لبيان الاستمرار إنّما يصحّ إذا كان التخصيص زمانياً، كما إذا ورد التخصيص لا من الأوّل بل بعد فترة، يكون العام منطبقاً على ذلك الفرد ثمّ يعرضه التخصيص في فترة أُخرى كخروج عقد المغبون عند ظهور الغبن.

وأمّا إذا كان التخصيص ابتدائيّاً كما هو الحال في خيار المجلس، فانّ البيّعان بالخيار من زمان عقد البيع، فلو شكّ في بقائه بعد الافتراق الإكراهي، يصحّ التمسك بعموم العام وإن كان الزمان ظرفاً، وإلّا يلزم أن يكون الفرد خارجاً بتاتاً، قبل الإكراه لأجل خيار المجلس المتصل بزمان العقد، و بعده لأجل الاستصحاب، ويكون التخصيص افرادياً لا أزمانياً، وهو خلف.

فتلخص ممّا ذكرنا أنّ المحقّق الخراساني وافق الشيخ في جميع الصور إلّافي صورتين:

أحدهما: إذا كان الزمان ظرفاً في جانب العام وقيداً في جانب الخاص فلا يرجع إليهما.

ثانيهما: فيما إذا كان التخصيص ابتدائياً، كخروج مجلس الخيار عن تحت الآية، ففي مثله لا يرجع إلى المخصص، بل إلى العام وإن كان الزمان ظرفاً، لأنّ الاعراض عنه يستلزم خروج الفرد عن تحت العام بتاتاً، وهو خلاف الفرض.

3. التفريق بين كون الزمان قيداً للمتعلّق أو للحكم

ذهب المحقّق النائيني كالشيخ الأعظم إلى أنّ صور المسألة ثنائيّة وفرّق بين كون الزمان قيداً للمتعلّق فالمرجع هو عموم العام، وكونه قيد للحكم فالمرجع هو استصحاب حكم المخصص.

وبعبارة أُخرى: الفرق بين كون مصبِّ العموم الزماني متعلّق الحكم وكان

ص:254

الحكم وارداً على العموم الزماني، فيكون العموم تحت دائرة الحكم، وبين كون مصبِّه نفس الحكم بحيث كان العموم الزماني محمولاً على الحكم وواقعاً فوق دائرة الحكم، فالأوّل مجرى التمسّك بالعام، والثاني مجرى التمسّك بالاستصحاب.

أمّا الأوّل: فكما إذا قال: لا تشرب الخمر أبداً، وصم إلى الليل، فإذا خرج حال الضرورة والمرض وشكّ بعد ارتفاعهما في جواز الشرب، فيتمسك بعموم الدليل، ولا تصل النوبة إلى استصحاب حكم المخصِّص.

ومثله قوله سبحانه: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ) (1) خرجت عنه أيام العادة، فإذا شكّ في خروج غير تلك الفترة فالمحكم هو عموم العام.

وذلك هو أنّ الدليل الاجتهادي قد تكفّل لبيان حكم كلّ زمان من أزمنة ظرف وجود متعلّق الحكم فقوله: «أكرم العلماء في كلّ يوم» دليل على وجوب إكرام كلّ فرد من أفراد العلماء في كلّ يوم من أيّام السنة أو الشهر، فكان لكلّ يوم حكمٌ يخصّه لا ربط له باليوم السابق أو اللاحق.

وأمّا الثاني: أي إذا كان مصبُّ العموم الزماني نفسَ الحكم، فلا مجال للتمسّك فيه بالعموم إذا شكّ في مقدار التخصيص، بل لابدّ من الرجوع إلى الاستصحاب، كما إذا قال: شرب الخمر حرام والحرمة مستمرّة في كل آن آن، و شككنا في بقاء التحريم بعد ارتفاع زمان المرض، والسر في ذلك لأنّ الشكّ في مقدار التخصيص يرجع إلى الشكّ في الحكم، وقد تقدّم أنّ الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني ولا يمكن أن يتكفّل العموم الزماني وجود الحكم (الحرمة) مع الشك فيه، لأنّه يكون من قبيل إثبات الموضوع بالحكم، فانّ العموم الزماني

ص:255


1- . البقرة: 223.

يكون دائماً مشروطاً بوجود الحكم ولا يمكن أن يدل قوله «الحكم مستمر كلّ زمان» على وجود الحكم مع الشكّ فيه.

وهذا نظير قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) إذا كان معناه «يجب الوفاء بالعقود والوجوب مستمر في كلّ زمان» فإذا خرج زمان العلم بالغبن وشكّ في حكم العام، فلا يصح التمسك، لأنّ الحكم بالاستمرار فرع إحراز الموضوع وهو الحكم مع أنّه مشكوك فلا يستدل بالمحمول «مستمر في كلّ زمان» على وجود الموضوع أي «وجوب الوفاء».(2)

يلاحظ عليه بوجهين:

أوّلاً: انّ ما ذكره من التفريق بين الصورتين تقسيم عقلي، لا يلتفت إليه العرف، فهو يتلقّى الزمان قيداً، للمتعلّق وواقعاً تحت دائرة الحكم، لا محمولاً على الحكم و واقعاً فوق دائرة الحكم، فلو كان قوله سبحانه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) متضمناً لعموم زماني فهو من قيود المتعلّق أي الوفاء، لا انّه محمول على الوجوب حتى يكون معنى الآية:

الوفاء بالعقد واجب وحكمي بالوجوب ثابت في كلّ زمان.

وثانياً: سلمنا انّ مصب العموم الزماني هو الحكم والعموم الزماني محمول عليه، لكن قوله: انّ الشك يرجع إلى وجود الموضوع (الحكم)، و مع الشكّ فيه لا يثمر العموم الزماني، لأنّه لا يثبت موضوعه، منظور فيه، لأنّ الموضوع (الحكم) إمّا أن يكون الطبيعة السارية، أي الحكم في كلّ الأحوال، أو الطبيعة المهملة (الحكم في الجملة)، والأوّل يستلزم أخذ الاستمرار في جانب الموضوع فيكون حمل مستمر عليه، مستلزماً للتكرار ويرجع إلى كون القضية من قبيل الضرورة بشرط المحمول.

ص:256


1- . المائدة: 1.
2- . فوائد الأُصول: 4/531-540 بتلخيص.

فيبقى الأوّل وهو أمر محرز، لأنّ الحكم بنحو الموجبة الجزئية التي تلازم المهملة محرز قطعاً وإلّا يلزم عدم صدق الآية بتاتاً.

4. المرجع هو العام مطلقاً

الحقّ انّ المرجع في ظرف الشكّ هو العام مطلقاً إذا كان الدليل ظاهراً في استمرار الحكم الواحد، وعمومه لجميع الأزمنة فيجب التمسك به في غير ما علم خروجه قطعاً، ويعلم ذلك بتوضيح الأقسام التالية:

إنّ العام يتصوّر على أقسام:

1. أن يكون الزمان قيداً للموضوع بحيث يكون الفرد في كلّ زمان مصداقاً مستقلاً.

2. أن لا يكون الزمان مأخوذاً في العام لا بنحو الظرفية ولا بنحو القيدية.

3. أن يكون الزمان قيداً للفرد على نحو العام المجموعي بحيث يكون الفرد في مجموع الأزمنة فرداً واحداً على نحو يكون خروج الفرد في قطعة من الزمان سبباً لانهدام أصل الحكم المتعلّق بذلك الفرد، لأنّ ذلك مقتضى كون الزمان مأخوذاً في جانب الفرد على نحو العام المجموعي.

4. أن يكون الزمان مأخوذاً في جانب العام على نحو الظرفية.

أقول: محلّ النزاع هو القسم الرابع فقط.

أمّا الأوّل: فلا شكّ انّ المرجع هو العام، لاستلزام الاعراض عن العام، التخصيصَ الزائد.

كما انّ القسم الثاني: وهو خلو الدليل عن أخذ الزمان فيه لا ظرفاً ولا قيداً

ص:257

خارج عن محط البحث، إذ عندئذٍ لا يتصوّر التخصيص الزماني الذي هو محط البحث، ويكون التخصيص أفرادياً لا أزمانياً.

وأمّا القسم الثالث: فحكمه معلوم، لانّه إذا كان مجموع الأزمنة مأخوذاً بنحو العام المجموعي في مورد فرد من الافراد يكون خروجه في فترة خاصة موجباً لانتفاء الحكم عن الفرد بتاتاً في بقية الأزمنة، وهو خلف الفرض.

فتعين الباقي وهو أن يكون الزمان ظرفاً.

وحاصله: انّه إذا كان الشيء مطلوباً في زمان كالوفاء بالعقد على نحو يكون له طاعة واحدة وعصيان واحد، كما هو مقتضى كون الزمان ظرفاً ولكنّه على نحو يكون مطلوباً أيضاً لو خالف وعصى، أو خرج بدليل في فترة من الفترات لكن لا مطلوباً بدليل ثان بل بنفس الدليل الأوّل.

مثلاً انّ الإفطار محرّم في شهر رمضان، فلو أفطر عصياناً يكون الإمساك أيضاً مطلوباً إلى الغروب بنفس الأمر بالصوم لا بأمر آخر، ومثله الوفاء بالعقد فهو مطلوب في تمام الأوقات بحكم كون الزمان ظرفاً، ولكن بما انّ الوفاء بالعقد أساس الحياة فهو مع عدم وجوبه في فترة من الزمان، يكون مطلوباً أيضاً بنفس الكلام السابق لأجل الملاك الذي ذكرناه، فعندئذٍ لو لم يجب الوفاء بالعقد في فترة خاصة أعني: زمن ظهور الغبن، ولكنّه مطلوب حتى بعد ذلك الزمان، وإن لم يكن واجباً بوجوب مستقل مغاير للوجوب الخاص.

فتلخص ممّا ذكرنا أنّ المرجع هو العام سواء كان الزمان قيداً أو ظرفاً، وكفى كون الفرد داخلاً فيه من أوّل الأمر وخارجاً عنه في ظرف خاص.

فإن قلت: إنّ الفرد قد خرج في فترة من الزمان، فعوده إلى تحت العام يحتاج

ص:258

إلى دليل، فما هو جوابكم أمام هذا الدليل؟

قلت: إنّ هذه مغالطة، وذلك لأنّ التخصيص أزماني لا أفرادي، والفرد لم يخرج من تحت العام بل هو باق تحت العام وإنّما رُفع عنه حكمه في فترة يسيرة من الزمان، فيتمسك بعموم العام في غير تلك الفترة ولا يجوز التمسك بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي.

ص:259

التنبيهات

15- ما هو المراد من الشكّ في الاستصحاب؟

قد يطلق الشك ويراد به اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وهذا هو الشكّ في مصطلح المنطقيّين، وعليه الراغب في مفرداته وعلى هذا تقسم الحالات الطارئة على الإنسان بأربعة أقسام، أعني: اليقين، والظن، والشكّ، والوهم.

وقد يطلق ويراد به، خلاف اليقين وعليه الجوهري في صحاحه، وعندئذ يعم الأقسام الثلاثة الأخيرة غير اليقين، وقد استعمل الشكّ في الكتاب العزيز بالمعنى الثاني، أي مطلق التردد، في موارد قال سبحانه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) .(1) وقال تعالى: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) (2)، إلى غير ذلك من الآيات التي أُريد من الشك مطلق التردد الجامع مع الظن والوهم وتساوي الطرفين.

إذا عرفت ذلك انّ الشكّ الوارد في أخبار الاستصحاب إن أُريد به: اعتدال النقيضين في النفس، تختص حجية الاستصحاب بما إذا كان النقيضان على حدّ سواء، ولا يعم ما إذا كان هناك ظن على خلاف الحالة السابقة على وجه تكون

ص:260


1- . يونس: 94.
2- . إبراهيم: 10.

الحالة السابقة موهومة وخلافها مظنونة، وأمّا إذا أُريد به مطلق التردد و خلاف اليقين فيعمّ جميع الأحوال إلّا إذا كان هناك يقين على الخلاف.

وقد استدل الشيخ في الفرائد(1) على انّ المراد هو الوجه الثاني، لوجوه ثلاثة أوضحها هو الوجه الثاني، أعني:

الرجوع إلى روايات الباب واستظهار المراد بها، حيث إنّ فقرات الصحاح الدالّة على المقصود وهي كالتالي:

1. قوله عليه السلام: قال: «حرك في جنبه شيء و هو لا يعلم...»، فانّ ظاهره فرض السؤال بما كان معه أمارة النوم.

2. قوله عليه السلام: «لا حتى يستيقن» حيث جعل غاية وجوب الوضوء، الاستيقان بالنوم و مجيء أمر بيّن منه.

3. قوله عليه السلام: «ولكن تنقضه بيقين آخر» فانّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين.

4. قوله عليه السلام: في الصحيحة الثانية لزرارة: «فلعلّه شيء أوقع عليك وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» فانّ كلمة «لعل» ظاهرة في مجرد الاحتمال مع وروده في مقام إبداء ذلك، كما في المقام فيكون الحكم متفرعاً عليه.

5. قوله عليه السلام في مكاتبة القاساني حيث فرّع قوله: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» على قوله «اليقين لا يدخل فيه الشك» والمراد عدم كفاية الظن بدخول رمضان أو شوال.

وهناك وجه آخر قد سبق منّا عند البحث في روايات الباب وهو أنّ المراد من اليقين، ليس هو اليقين المنطقي، أعني: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بل

ص:261


1- . الفرائد: 398.

المراد هو الحجّة الشرعية، وبذلك يعلم معنى الشكّ لأجل التقابل فيكون معنى قوله: «لا تنقض اليقين بالشك»، لا تنقض الحجّة باللاحجة، ويكون الملاك عدم وجود الحجّة، من دون نظر إلى كون بقاء المتيقّن، راجحاً أو مرجوحاً أو متساوياً.

والظن على خلاف المسألة السابقة إذا لم يقم دليل على حجّيته، يدخل تحت قوله «باللاحجة» سواء قام الدليل على عدم حجّيته كالقياس والاستحسان، أو شك في حجّيته، فإنّ الشكّ في الحجّية كاف في الحكم بعدم الحجّية على ما مرّفيكون الجميع داخلاً في قوله: «بالشك» أي اللاحجة، فلا ينقض بها اليقين.

ثمّ إنّ الشيخ استدل بوجهين آخرين:

الأوّل: الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار.

يلاحظ عليه: انّ هذا النوع من الإجماع المحصَّل، ليس بحجة، لاحتمال اعتماد المجمعين على الدليل الماضي.

الثاني: انّ الظنّ المخالف للحالة السابقة إمّا أن يكون من الظنون المنهية كالقياس فمعناه انّ وجوده كعدمه، أو يكون من المشكوكة حجّيتها، فرفع اليد عن الحالة السابقة بهذا النوع من الظن، من مقولة نقض اليقين بالشكّ.(1)

وأورد عليه في الكفاية: بأنّ مرجع عدم اعتباره لأجل الغاية، أو لعدم الدليل على اعتباره إلى عدم إثبات مظنونه به تعبّداً، لا ترتيب آثار الشكّ عليه مع عدمه.(2)

ص:262


1- . الفرائد: 398.
2- . كفاية الأُصول: 2/345.

توضيحه: انّه لو غُضّ النظر عمّا أقمنا من الدليل على أنّ المراد من الشكّ، هو خلاف اليقين، وصرنا إلى انّ المراد به هو حالة تساوي النقيضين، بكون الظنون غير المعتبرة هادماً لهذه الحالة فهي وإن لم تكن حجّة مثبتة لمظنونه، لكنّها تصلح تكويناً لرفع موضوع الاستصحاب، أعني حالة التساوي بين الأمرين، فكونها هادمة لا يلازم حجّيتها واستعدادها لاثبات متعلّقه.

والحقّ أن الباحث لغني بما ذكر من تفسير اليقين والشكّ عن ذينك الدليلين، فتدبّر.

ص:263

خاتمة في شرائط جريان الاستصحاب أو العمل به
اشارة

ذُكر للاستصحاب شروط وصفها بعضهم بشروط العمل به، وجعلها الشيخ شروطاً لجريانه، والفرق بينهما واضح، حيث إنّها على القول الثاني شرائط تحقّقه ولولاها لا يكون هناك موضوع للاستصحاب، بخلافه على الأوّل فالاستصحاب بدونها متحقق غير انّه لا يعمل به.

ولكن الحقّ انّ أكثرها من شروط جريانه كوحدة الموضوع، واتحاد متعلّقي اليقين والشكّ، وبقاء اليقين في طرف الشكّ، وبعضها كعدم أصل معارض من قبيل شروط العمل، وسيتضح حال الجميع في البحوث التالية:

الشرط الأوّل: بقاء الموضوع أووحدة القضيّتين
اشارة

وقد عُبِّر عن هذا الشرط تارة ببقاء الموضوع، وأُريد به معروض المستصحب، وأُخرى باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقّنة.

نقول إنّ هنا مقامات ثلاثة:

1. هل الشرط بقاء الموضوع أووحدة القضيتين؟

2. ما هو الدليل على هذا الشرط؟

ص:264

3. ما هو الملاك لوجود هذا الشرط وعدمه؟

وإليك الكلام فيها:

المقام الأوّل: هل الشرط بقاء الموضوع أووحدة القضّيتين؟

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ الشرط هو بقاء الموضوع، والمراد به موضوع المستصحب، فاستصحاب وجود زيد، أو قيامه رهن تحقّق الموضوع (زيد) في الزمن اللاحق على النحو الذي كان معروضاً في السابق سواء أكان تحقّقه في السابق بتقرره ذهناً أو لوجوده خارجاً، فزيد بوصف تقرره ذهناً معروض للوجود، وبوجوده خارجاً معروض للقيام.(1)

وبعبارة أُخرى: المستصحب لو كان مفاد كان التامة (أي وجود زيد) فالموضوع هو ماهيته التي عرضها الوجود، والتي يصلح لأن يحكم عليها بالوجود والعدم، ولو كان هو مفاد كان الناقصة كحياته فالموضوع هو وجوده الخارجي التي يصلح لأن يحكم عليه بالحياة تارة والموت أُخرى.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ اللائح من عبارته انّ المستصحب هو المحمول دون مجموع القضية وهو غير تام، لأنّ المفروض انّ المستصحب هو الذي يتعلّق به اليقين في السابق، وهو لا يتعلّق بالمفرد، أعني: نفس المحمول أو النسبة التصوّرية، وإنّما يتعلّق بمفاد القضية ومفهومها، سواء أكانت مصاغة على نحو مفاد كان التامة نحو كان زيد موجود أو مفاد كان الناقصة نحو كان زيد قائماً، فلابدّ أن يكون المستصحب نفس القضية، لا محمولها ولا النسبة التصوّرية فيها.

وثانياً: انّ اشتراط بقاء الموضوع إنّما يصحّ في الوجود الرابط أي مفاد كان

ص:265


1- . الفرائد: 399.

الناقصة كاستصحاب حياة زيد وعدالته القائمتين بوجوده الخارجي، لا في الوجود المحمولي ومفاد كان التامة كوجود زيد، فإذاكان المستصحب هو وجود زيد، فما هو الموضوع وراءه وليس هنا وراء المستصحب شيء؟! ولذلك التجأ الشيخ إلى تصوير موضوع لوجوده باسم الماهية والتقرر الذهني، ومن المعلوم انّه فكر فلسفي غير مطروح في الخطابات العرفية.

وبذلك يعلم أنّ اشتراط وحدة الموضوع إمّا هو غير جامع كما في الوجود المحمولي، أو أمر مستدرك كما في الوجود الرابط حيث يغني عنه اشتراط وحدة القضيتين، بخلاف الثانية فانّها تعمّ كلا النحوين من الوجود، فالاولى التعبير عن هذا الشرط بوحدة القضيتين.

المقام الثاني: ما هو الدليل على هذا الشرط؟

استدل الشيخ على اعتبار هذا الشرط بأنّ نسبة المستصحب إلى الموضوع نسبة العرض إلى موضوعه، فإذا لم يكن الموضوع باقياً وأُريد إبقاء المستصحب فله حالتان:

الأُولى: أن يبقى العرض بلا موضوع ومحل، وهو محال.

الثانية: أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، فيرد عليه أمران:

1. انّ هذا ليس إبقاء لنفس العارض، وانّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد، و الحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد، ليس نقضاً للمتيقّن السابق.

2. انّه يستلزم انتقال العرض الذي هو محال لاستلزامه كون العرض بلا

ص:266

موضوع في حالة الانتقال.

يرد عليه أوّلاً: إنّما ذكره من قبيل إسراء حكم الحقائق إلى الأُمور الاعتبارية، فلو أُريد إثبات وجود العرض تكويناً فهو لا محالة رهن تحقّق الموضوع وإلّا يلزم أحد الأمرين: إمّا بقاء العرض بلا موضوع، أو بقاءه في موضوع آخر، و كلاهما باطلان، و أمّا إذا أُريد به التعبّد ببقاء العرض حتى يترتب عليه الأثر الشرعي فهو رهن عدم العلم بارتفاع الموضوع إذ العلم به يلازم حدوث اليقين بارتفاع المتيقّن ولا يتوقف على إحراز وجود الموضوع.

ثانياً: إذا كان المستصحب أمراً وجودياً فهو رهن وجود الموضوع، دون ما إذا كان عدمياً كما في السلب التحصيلي: إذا قلت: ليس زيد قائماً، فانّ عدم القيام يصدق تارة مع وجود الموضوع، وأُخرى مع عدمه فاستصحاب مثله لا يتوقّف على الموضوع، نعم يتوقّف على وحدة القضيتين.

فالأولى الاستدلال عليه بما يلي:

إنّ صدق الشك في البقاء، و كون رفع اليد نقضاً لليقين السابق فرع وحدة القضيتن، فلو كان هناك تغاير في الموضوع كما إذا تعلّق اليقين بعدالة زيد وشك في عدالة عمرو، أو في المحمول كما إذا تعلّق اليقين بعدالة زيد و الشكّ باجتهاده فلا يعد مثل هذا الشكّ، شكاً في البقاء، ولا رفع اليد، نقضاً لليقين السابق، فانّ صدق الأمرين اللّذين يعدان ركنين للاستصحاب رهن وحدة القضيتين موضوعاً و محمولاً ونسبة، كما لا يخفى.

المقام الثالث: ما هو الملاك لوحدة القضيتين؟

إذا كان الشرط لجريان الاستصحاب هو وحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً

ص:267

ونسبة، أو كان الشرط بقاء الموضوع، فما هو الملاك لتميّز وحدتهما عن كثرتهما؟ هاهنا احتمالات:

أ: الملاك قضاء العقل بأحد الأمرين

ربما يحتمل أنّ الملاك هو قضاء العقل بوحدة القضيتين أو كثرتهما، ومن المعلوم أنّ قيود القضايا وشروطها ترجع عند العقل إلى الموضوع وتشكِّل برمتها موضوعاً واحداً، فلو قال: إذا جاء زيد وسلَّم عليك وأكرمك، فاطعمه، فالموضوع في لسان الدليل وإن كان هو زيد ولكنّه عند العقل هو المركب منه ومن سائر القيود، كأنّه قال: زيد الجائي غداً المُسلِم المُكرم، يُطعَم. ولذلك يقول الحكماء: «الجهات التعليلية عند العقل جهات تقييدية»، فلو كان أكرم زيداً لعلمه، فالموضوع زيد العالم لا زيد فقط.

فلو صحّ ذلك الاحتمال وكان المرجع هو العقل فهو قاض دقيق الملاحظة يجعل كلّ القيود جزء الموضوع، وعندئذٍ يمتنع جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية، لأنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلي نابع عن اختلال قيد من قيود الحكم، فلو كانت القيود محفوظة لما تسرّب الشك.

مثلاً: الشك في بقاء نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره نابع عن زوال التغيّر بنفسه، فهو عند العقل قيد لموضوع الحكم، و مع زواله يكون الموضوع في الآن اللاحق مختلفاً كما تكون القضيتان متعدّدتين فلا يصدق الشك في البقاء، ولا يعد رفع اليد نقضاً لليقين السابق، فيختصّ جريانه بالشبهات الموضوعية كاستصحاب حياته.

فإن قلت: على هذا الاحتمال يختص عدم الجريان بالشبهات الحكمية إذا

ص:268

كان الشك فيها، شكاً في المقتضي كالمثال السابق، وأمّا إذا كان الشك في الرافع ذاتاً أو وصفاً فلا يمنع عن جريانه كما أفاده الشيخ الأعظم في فرائده.(1)

قلت: بل لا يجري في الشكّ في الرافع بكلا قسميه أيضاً، لأنّ الموضوع في قوله «المتوضئ متطهر» عند العقل هو المتوضئ الذي لم يصدر منه الحدث يقيناً، وهذا النوع من العلم الذي هو قيد للموضوع مرتفع في الآن اللاحق لكونه شاكاً في صدور الحدث وجوداً أو وصفاً، كما إذا تردّد البلل بين كونه بولاً أو مذيّاً.

فتبين انّه لو كان الملاك هو قضاء العقل بالوحدة والكثرة فلا يجري في الشبهات الحكمية وإنّما تجري في الشبهات الموضوعية فقط، كما مثّلناه.

هذا هو عصارة الوجه الأوّل، ولكنّه غير صحيح بالمرة. لأنّ العقل هو المرجع الوحيد في أحكامه، فهو الحاكم الذي يعيِّن موضوع حكمه وحدوده وسائر خصوصياته، كقولنا العدل حسن والظلم قبيح.

وأمّا الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة فالمخاطب فيها هو العقل الحاكم في العرف لا الحاكم في الفلسفة: النظرية والعملية.

وهذا ليس بمعنى الازدراء بالعقل الفلسفي، بل مع ما نكنّ له من التبجيل والتكريم فله مجال واسع في باب المعارف والعقائد، لا الخطابات العرفية التي صدرت لإفهام عامة الناس.

ب: الملاك هو لسان الدليل

إنّ الملاك لإحراز الوحدة أو الكثرة هو ملاحظة لسان الدليل، مثلاً إذا قال: الماء المتغيّر نجس، فإذا زال تغيّره يرتفع موضوع الدليل، بخلاف ما إذا قال

ص:269


1- . الفرائد: 401، ط رحمة اللّه.

: الماء نجس إذا تغيّر، فزوال التغيّر لا يثبت زوال الموضوع، لأنّه في لسان الدليل هو الماء والمفروض بقاؤه.

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الاعتماد على لسان الدليل الوارد في مجال الأحكام والأخلاق أمر من الصعوبة بمكان، وذلك لأنّ الرواة لم يلتزموا بنقل ما سمعوه من الإمام بحذافيره وكيفيته، بل كان اهتمامهم منصباً على أداء المفاهيم التي تلقّوها من الإمام سواء أوافقت لفظ الإمام كماً وكيفاً أو لا، ولذلك لما سأل محمد بن مسلم أبا عبد اللّه عليه السلام عن نقل الحديث بالمعنى، فقال: «إن كنت تريد معانيه فلا بأس».(1)

نعم كان الرواة ملتزمين بنقل الخطب والأدعية بنصوصها، لأنّ روعتها تكمن في ألفاظها الناصعة وتراكيبها الخلاّبة، وهذا بخلاف ماله صلة بالأحكام والأخلاق، ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد كلياً على لسان الدليل.

وثانياً: أنّ هذا الاحتمال إنّما يتميّز عن الاحتمال الثالث إذا كان المراد الجمود على ظاهر اللفظ من دون ملاحظة المناسبات بين الموضوع والحكم الموجودة في أذهان العرف، وأمّا مع هذه الملاحظة فهو يرجع إلى الاحتمال الثالث الذي سنذكره.

ج: المرجع فهم العرف من الدليل

المرجع هو الدليل الاجتهادي المتكفّل للحكم الأوّلي الكلّي، لكن حسب ما يفهم العرف منه، فسواء أورد، قوله: الماء المتغيّر نجس، أم ورد قوله: الماء ينجس إذا تغيّر.

ص:270


1- . بحار الأنوار: 2/164.

فإن استظهر العرف حسب المناسبات المغروسة في ذهنه انّ الموضوع هو الماء، والتغيّر علة لعروض النجاسة عليه، ويكفي في السببية وجوده آناً ما، يكون المورد صالحاً للاستصحاب، أخذاً بوحدة القضيتين.

وإن استظهر كون الموضوع هو الماء المقيّد بالتغيّر، فلا يكون صالحاً له، وعلى ضوء ذلك فليس ظاهر الدليل مقياساً للوحدة وخلافها، بل ما يفهمه العرف منه حسب ارتكازه.

وعلى ذلك تستطيع أن تميّز بقاء الموضوع وعدم بقائه في الأمثلة التالية:

1. إذا صار الخشب النجس رماداً.

2. إذا صار الخمر خلاً.

3. إذا باع الفرس فبان بغلاً.

4. إذا باع الفرس الأصيل فبان غير أصيل.

فالعرف يتلقّى الأمثلة الثلاثة الأوّلية انّه من قبيل انتفاء الموضوع واختلاف القضيتين، لأنّ الصورة الجسمية وإن كانت مشتركة لكن المهم هو الصورة النوعية، وأين هي في الرماد والخل والبغل؟ ولكن العقل يقضي في المثال الرابع بخلاف ذلك فيرى الصورة النوعية محفوظة وإنّما الاختلاف في الشرط، وهو كونه أصيلاً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني صحّح استصحاب الأحكام الكلية، من عنوان إلى عنوان آخر، وقال: إذا ورد: العنب إذا غلى يحرم، كان الموضوع هو خصوص العنب، لكن العرف حسب مرتكزاته وما يتخيل من المناسبات بين الحكم والموضوع يتلقّى الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب، ويرى العنبية والزبيبية من حالات الموضوع المتبادلة، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بحكم العنب كان من قبيل ارتفاع الحكم بموضوعه.

ص:271

أقول: ما ذكره من المناسبات والارتكازات صحيح، لكن ظرف اعمالها إنّما هوبعد عروض الحكم على العنب الخارجي وحكم عليه بأنّه إذا غلى يحرم، فعندئذٍ يشير إليه ويقول:

هذا ما إذا غلى يحرم، والأصل بقاؤه على ما كانت على النحو الذي أوضحناه عند البحث في استصحاب الأحكام التعليقية.

وأمّا اعمال المناسبات قبل تطبيق الحكم على الخارج فممّا لا يقبله فهم العرف، إذ كيف يتحد مفهوم العنب مع مفهوم الزبيب. فانّهما مفهومان متغايران لا يكون واحد منهما نفس الآخر؟

والحاصل: انّه لا شكّ أنّ العرف يتلقّى الموضوع أعمّ من العنب والزبيب، لكن لا في مجال الأحكام الكلية، فانّ العناوين الكلية مثار الكثرة، بل يتلقّى بعد تطبيقه على الخارج على وجه تدعوه المناسبات إلى الغاء الخصوصيات، ومن تلك المناسبات هي أنّ الحامل للحكم هو الصورة النوعية المحفوظة في العنب والزبيب، وإنّما اختلفا في الرطوبة والجفاف، نظير ما قلناه في الماء المتغيّر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أسقط الشرط الثاني والثالث لجريان الاستصحاب واكتفى بذكر الشرط الرابع، كما أنّ الشيخ الأعظم أسقط الشرط الثاني فقط، ونحن نذكرمجموع الشروط الثلاثة الباقية لجريان الاستصحاب.

الشرط الثاني: وحدة متعلّق الشك واليقين

يفترق الاستصحاب عن قاعدة المقتضي والمانع بوحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب، فالرجل يكون على يقين من وضوئه فيشكّ في نفس الوضوء بقاءً كما هو المتبادر من قوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «فانّه على يقين من

ص:272

وضوئه ولا تنقض اليقين أبداً بالشك» أي بالشك فيما تعلّق به اليقين.

بخلاف قاعدة المقتضي والمانع التي ابتكرها المحقّق الشيخ محمد هادي الطهراني قدس سره، فانّ متعلّق اليقين فيها، غير متعلّق الشكّ، فالأوّل يتعلّق بالسبب الذي يُعبِّر عنه بالمقتضي، والثاني بالمانع عن تأثيره، كما إذا صبّ الماء على البشرة و يعد صبّ الماء سبباً لغسلها، لولا المانع، وتعلّق الشك بوجود المانع فيها، فالقائل بحجية هذه القاعدة يقول المقتضي محرز بالوجدان وعدم المانع بالأصل فيثبت غَسْل البشرة.

ونظيره إذا رمى إنساناً بالسهم، على وجه لولا المانع لقتله، فاليقين تعلّق بالسبب وهو الرمي، والشكّ بالمانع، فيقال المقتضي محرز بالوجدان وعدم المانع بالأصل فيثبت كونه مقتولاً.

وعلى كلّ تقدير سواء أقلنا بحجية تلك القاعدة أم لا، فلا صلة لها بالاستصحاب لوحدة المتعلّقين فيه وتغايرهما في القاعدة، وقد اهمل الشيخ الأعظم هذا الشرط، ووجهه واضح، لأنّ القاعدة من إبداعات تلميذه الطهراني و لم يكن منها أي أثر في عصره. وأمّا المحقّق الخراساني فقد أهمله في المقام، لكنّه طرحه في تعليقته على الفرائد وأدّى حقّ المقال.(1)

ص:273


1- . درر الفوائد في شرح الفرائد: 195، ط عام 1318 ه. وأقصى ما عنده من الدليل على تطبيق روايات الاستصحاب على قاعدة المقتضي والمانع، جعل غاية عدم الوضوء في الصحيحة الأُولى، الاستيقان بالنوم الّذي يكون رافعاً له. يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه من خصوصيات المورد، وهو لا يلازم كونها بصدد جعل القاعدة. وثانياً: أنّ نفي إيجاب الوضوء مع الشكّ في النوم إنّما هو لتحقيق الشكّ في الوضوء وارتفاعه الّذي يكون صغرى لقوله: «لا تنقض». وثالثاً: أنّ الظاهر وحدة متعلّق اليقين والشكّ: لا تنقض اليقين بشيء بالشك فيه لا بالشك في رافعه. لاحظ درر الفوائد.
الشرط الثالث: بقاء اليقين في ظرف الشك
اشارة

وهذا الشرط أهمله المحقّق الخراساني و ذكره الشيخ بتفصيل، وخلاصة القول فيه: إنّ الاستصحاب يعتبر فيه أمران:

الأوّل: أن يكون الشكّ في البقاء دون الحدوث، كما إذا تعلّق اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة، وتعلّق الشك بعدالته يوم السبت، فالشك في جميع الأحوال متعلّق بالبقاء دون الحدوث.

الثاني: أن يكون اليقين بالحدوث محفوظاً في ظرف الشك في البقاء فهو في وقت واحد يكون مذعناً بعدالة زيد يوم الجمعة، شاكاً في عدالته يوم السبت.

وبذلك يظهر الفرق بينه و بين القاعدة، حيث إنّ اليقين فيه يتعلّق بالبقاء، وفي القاعدة بنفس الحدوث، كما أنّ اليقين يكون محفوظاً فيه حالة الشك، بخلافه فيها فانّه يكون زائلاً في ذلك الظرف مثاله: إذا أذعن بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ سرى الشكّ إلى نفس اليقين فتردد في عدالته في نفس ذلك اليوم، وانّه هل كان علمه مطابقاً للواقع أو كان جهلاً مركباً، فشكّ في أصل العدالة، وبالتالي، زال اليقين بها في ظرف الشك لامتناع اجتماعها مع وحدة متعلّقهماعقلاً.

هذا هو حال الاستصحاب والقاعدة والفارق بينهما، إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:

1. إمكان الجمع بينهما ثبوتاً في اللحاظ

لا شكّ انّ عامّة ما ورد من الروايات ناظر إلى الاستصحاب بشهادة موردهما، غير ما ورد في حديث الأربعمائة المروي عن علي عليه السلام أعني قوله: «من

ص:274

كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه» فهل هو ناظر إلى الاستصحاب أو قاعدة اليقين أو إلى كليهما؟ فاستفادة حجّية كلا الأمرين فرع إمكان الجمع بينهما ثبوتاً، ولذلك عقدنا بحثاً خاصاً لذلك تبعاً للشيخ الأعظم فقد ذهب الشيخ وغيره إلى امتناع الجمع بينهما لحاظاً، وذكروا هناك وجوهاً نشير إلى بعضها:

الأوّل: انّ المضيّ في الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقاً من غير تعرّض لحال حدوثه، والمضي في القاعدة هو الحكم بحدوث ما تيقّن من غير تعرّض للبقاء، فلا تصح إرادة المعنيين من قوله: «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» لتغاير معنى المضيّ فيهما.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يلزم ذلك لو استعمل لفظ المضيّ في كلا المعنيين أي المضي حدوثاً والمضي بقاء، دونما إذا استعمل في الجامع وهو عدم التوقف لأجل الشكّ وفرضه كالعدم، غير انّه يختلف باختلاف متعلّقه، فلو تعلّق الشكّ بالبقاء يكون معناه الحكم بالبقاء، ولو تعلّق بالحدوث يكون معناه الحكم به.

الثاني: ما ذكره أيضاً وحاصله: انّ شمول الحديث للاستصحاب والقاعدة متفرّع على تعدّد اليقين حتى يشمله شمولَ القضية الحقيقية لافرادها المختلفة، ولكن اليقين واحد، لوحدة متعلّقه وهو العدالة، وليس هنا يقينان مختلفان حتى يعمّ الحديثُ عموم القضية، لافرادها.

نعم يختلف اليقين في الاستصحاب عن اليقين في القاعدة بالعوارض المتأخرة عنه وهو أخذ الزمان قيداً في القاعدة وظرفاً في الاستصحاب، وليس اليقين بتحقق مطلق العدالة يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة فردين من اليقين، داخلين تحت عموم الخبر، ضرورة انّ الطوارئ المتأخرة عن اليقين لا توجب تعدّد اليقين مع وحدة المتعلّق.

ص:275

يلاحظ عليه: انّ تعدّد اليقين كما يمكن بتعدّد المتعلّق، كما إذا أيقن بعدالة زيد، وفسق عمرو، كذلك يمكن تعدّده فيه باختلاف المحلِّ القائم به وإن كان المتعلّق واحداً كما إذا تعلّق يقين زيد على عدالة شخص مقيّدة بيوم الجمعة، ثمّ شكّ في حدوثها، وتعلّق يقين عمرو على عدالته المطلقة يوم الجمعة وشكّ في بقائها، فلا شكّ انّ هنا فردين من اليقين فيعمّهما قوله «من كان على يقين» عمومَ القضايا الحقيقية لافرادها.

الثالث: ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري قدس سره و نقله المحقّق الخوئي عن أُستاذه النائيني قدّس سرّهما، ولعلّ العلمين تلقياه عن شيخهما السيد الفشاركي - قدّس اللّه أسرارهم - وحاصله: انّ الزمان إمّا يلاحظ قيداً للمتيقّن، أو يلاحظ ظرفاً له، و إمّا أن يُهمل رأساً، فعلى الأوّل ينطبق على القاعدة، لأنّ الشكّ في الحدوث، والبقاء لا يكون ملحوظاً، وعلى الأخيرين ينطبق على الاستصحاب، لأنّ الزمان ملغى فيه وإلّا لم يصدق النقض ولا اتحدت القضيتان.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أمرين:

الأوّل: انّ اليقين بمعنى المتيقّن، فيدور كون الزمان قيداً أو ظرفاً ولا يمكن الجمع بينهما.

الثاني: انّ التفاوت بين القاعدة والاستصحاب بكون الزمان في الأُولى قيداً وفي الآخر ظرفاً أو مهملاً، وكلا الأمرين غير تامين.

أمّا الأوّل: فلأنّ اليقين بمعنى نفسه والنقض منسوب إليه وبذلك صحّحنا عموم الروايات للشك في المقتضي، وعند ذلك يصح الزمان ظرفاً مطلقاً، لعدم المعنى لكونه قيداً لليقين.

ص:276

وأمّا الثاني: فهو مبني على كون الزمان قيداً في القاعدة، وظرفاً أو غير ملحوظ في الاستصحاب، لكنّه غير صحيح، لأنّ الفرق بينهما يرجع إلى تعلّق الشك في القاعدة بالحدوث - مع قطع النظر عن البقاء وفي الاستصحاب على البقاء، مع تسليم الحدوث، وتعلّقه بالحدوث ليس بمعنى تقيّده به، بل بمعنى كونه الملحوظ دون غيره، وعدم لحاظ الغير غير كون الملحوظ مقيّداً بعدم لحاظ الغير، فانّك إذا رأيت زيداً اليوم فقد رأيته اليوم لا أمس، لأنّ الرؤية مقيّدة بعدم الرؤية في الأمس.

وقد تسرّب كون الزمان قيداً في القاعدة من كلام الشيخ الأنصاري كما سبق.(1)

الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني وهو انّ المتيقّن في مورد الاستصحاب مفروض الوجود وإنّما الشكّ في بقائه، وهذا بخلاف مورد القاعدة فانّ المتيقّن فيه ليس بمفروض الوجود، إذ المفروض انّ أصل حدوثه فيه مشكوك، وعليه فلا يمكن التعبد بالمتيقّن في مورد كلّ من الاستصحاب والقاعدة في دليل ضرورة عدم إمكان الجمع بين تصوّر الشيء مفروض الوجود، وتصوّره مشكوكاً فيه في لحاظ واحد لرجوعه إلى الجمع بين المتناقضين.(2)

يلاحظ عليه: انّه مبني على تفسير اليقين بمعنى المتيقّن فعند ذاك يأتي ما ذكره من عدم صحة تصوّر الشيء بصورتين متضادتين، وأمّا إذا كان اليقين بمعنى نفسه والنهي متوجهاً إلى نقضه، من دون نظر إلى المتيقّن، فلا مورد للإشكال، إذ ليس لليقين إلّاصورة واحدة، وعند ذاك يشمل الحديث القاعدة و الاستصحاب

ص:277


1- . الفرائد: 405.
2- . مباني الاستنباط: 279.

بملاك «من كان على يقين فشك» من دون نظر إلى انّ المتيقّن كان مفروض الوجود أو لا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذكر وجهاً آخر، لعدم إمكان الجمع بين القاعدتين، نقلناه في الدورة السابقة.(1)

والحقّ انّ هذه الوجوه، غير صالحة لإثبات امتناع الجمع بين القاعدة والاستصحاب في لحاظ واحد وانما المهم هو المقام الثاني.

المقام الثاني: في تحديد دلالة الرواية

قد عرفت إمكان الجمع بين الأمرين ثبوتاً إنّما الكلام في تحديد دلالة الروايات الواردة في المقام.

قد عرفت سابقاً انّ أكثر الروايات الواردة في المقام ظاهر في الاستصحاب لأجل أمرين:

1. كون المورد من مقولة الاستصحاب، كالوضوء وغيره.

2. ظهور الروايات في فعلية اليقين ووجوده، وهو كذلك في الاستصحاب دون القاعدة.

نعم يقع الكلام في حديث الخصال، أعني قوله:

«من كان على يقين فشكّ، فليمض على يقينه، فانّ الشكّ لا ينقض اليقين».

وفي رواية أُخرى: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه».

ص:278


1- . لاحظ المحصول: 4/232.

وربما يتوهم ظهوره في القاعدة دون الاستصحاب، لأنّ تخلّل «الفاء» يعرب عن تأخر الشك عن اليقين، وهو كذلك في القاعدة دون الاستصحاب، إذ من الممكن أن يحصل اليقين والشك فيه معاً، بل يتقدم الشكّ على اليقين كما لا يخفى.

يلاحظ عليه: بأنّه لا شكّ في أنّ الغالب في الاستصحاب هو تأخر الشكّ عن اليقين، وانّ حصولهما معاً، أو تقدّم الشكّ على اليقين نادر جداً، وعلى ذلك فيُحمل القيد على الغالب، فيكون القيد غالبياً لا احترازياً، فتتحد الروايات مضموناً وغاية.

قد سبق انّ لجريان الاستصحاب شروطاً قدّمنا ذكر ثلاثة منها، وهي:

1. وحدة القضيتين.

2. وحدة متعلّق اليقين و الشكّ.

3. فعلية اليقين في ظرف الشك.

وبقي الرابع، وهذا هوالذي ندرسه.

الشرط الرابع: عدم أمارة في مورده
اشارة

اتّفقت كلمة الأُصوليّين المتأخرين على تقدّم الأمارة على الاستصحاب - خلافاً للمتقدّمين منهم - من غير فرق بين كون الشبهة حكمية أو موضوعية، ولكنّهم اختلفوا في وجه التقدّم، فهناك أقوال أو وجوه:

1. أن يكون تقدّمها عليه من باب الورود. وعليه المحقّق الخراساني قدس سره، وهو المختار.

ص:279

2. أن يكون تقدّمها عليه من باب الحكومة، وهو خيرة الشيخ الأنصاري والمحقّق الخوئي قدس سره.

3. أن يكون من باب التخصيص، أي تخصيص دليل حجّية الاستصحاب بدليل حجّية الأمارة.

4. أن يكون من باب التوفيق العرفي.

وإليك دراسة الوجوه واحداً بعد الآخر:

1. دليل الأمارة وارد على دليل الاستصحاب

إنّ دليل حجّية الأمارة وارد على دليل حجّية الاستصحاب ويتضح ذلك بذكر أُمور:

أ: انّ النسبة بين دليلي حجّيتهما - مع قطع النظر عن كون أحدهما أظهر - هو العموم والخصوص من وجه، فما دلّ على حجّية الأمارة ظاهر في وجوب العمل بها، سواء أوافق مدلُولها مقتضى الاستصحاب أم خالفه، كما أنّ ما دلّ على حجّية الاستصحاب ظاهر في لزوم العمل على وفق الحالة السابقة، سواء أكانت موافقة لمفاد الأمارة أم لا، فلابدّ من العلاج بتقديم أحد الدليلين على الآخر.

ب: انّ نسبة كلّ من الأمارة والاستصحاب بالنسبة إلى المورد، متساوية، فلو كانت المرأة غير ذات بعل وشكّ ثمّ قامت الأمارة على كونها ذات بعل، فلا يمكن استظهار تقدّم أحدهما على الآخر إلّاعن طريق لحاظ دليل حجّيتهما وملاحظة لسانهما، وإلّا فليس في مضمون الأمارة، ومفاد الاستصحاب ما يقتضي تقدّمَ أحدهما على الآخر إذا قلنا بحجّية الاستصحاب من باب الأخبار.

ص:280

ج: انّ الورود والحكومة من المصطلحات الحديثة، وسيوافيك توضيحهما في مبحث التعادل والترجيح، وموجز القول فيهما هو: إنّ «الورود» عبارة عن كون أحد الدليلين ناظراً إلى عقد الوضع وكان رافعاً لموضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية الشرع، كما هو الحال إذا قيس دليلُ حجّية الأمارة إلى دليل الأُصول العقلية، فانّ موضوع دليل البراءة العقلية مثلاً هو عدم ورود البيان من الشرع، والأمارة التي هي حجّة شرعية رافع لموضوعها حقيقة لكونها بياناً من الشارع في موردها، فهي بيان بعناية الشرع، إذ لولا إضفاء الشارع الحجّيةَ عليها لما كان بياناً واقعاً، بل كان مظنون البيان.

إذا عرفت هذه الأُمور الثلاثة، فاعلم: أنّه ذهب المحقّق الخراساني إلى كون تقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب من باب الورود، وأفاد في وجهه: انّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه، ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين.

توضيحه: انّ المأخوذ في دليل الاستصحاب ليس صرف الشكّ كما في سائر الأُصول، بل هو مع اليقين السابق، منضماً إلى كون رفع اليد عنه نقضاً لليقين بالشكّ، وإذا دلّ الدليل على حجّية الأمارة، فلا يكون رفع اليد عنه نقضاً له بالشكّ، بل نقضاً باليقين، حيث إنّ الأمارة حجّة يقيناً - و إن كان مفادها أمراً ظنيّاً - فيكون دليلها وارداً على دليله.

ولما كانت هنا مظنة سؤال، و هو انّ هذا البيان لا يتم فيما إذا اتحد مضمونه مع مضمون الأمارة، حيث يعمل على وفق الحالة السابقة.

فأجاب عنه: بأنّ العمل على وفق الحالة السابقة في هذا المورد ليس لأجل أن لا يلزم نقضه بالشك، بل من باب لزوم العمل باليقين الثاني.

ص:281

ثمّ أورد على نفسه بأنّه لم لا يجوز العكس وتقديم دليل الاستصحاب على دليل حجّية الأمارة عن طريق التخصيص، بأن يكون دليل حجّية الاستصحاب مخصِّصاً لدليل حجّية الأمارة؟

وأجاب عنه: بأنّه لا يصحّ احتماله إلّابوجه دائر، فانّ كونه مخصِّصاً يتوقف على اعتباره معها، وكونه حجة في مقابل الأمارة، واعتباره في هذه الحالة، يتوقف على تخصيص دليل حجّية الأمارة، بدليل حجّية الاستصحاب، هذا هو الدور الصريح.

والحاصل: انّه إذا دار الأمر بين تقديم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود، وتقديمه على الأمارة من باب التخصيص يلزم الدور، لكون حجّية الأمارة متوقفة على كونها واردة عليه والشرط حاصل، بخلاف حجّية الاستصحاب في مقابلها، فهي متوقفة على كونه مخصصاً، وهو يتوقّف على حجّيته في مقابلها فيدور.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أورد على مقالة صاحب الكفاية وقال:

1. إنّ الغاية عبارة عن نقض اليقين باليقين، لا بالشك، والأمارة غير مفيدة له، بل الشك موجود في مورد الأمارة، والقول بتعلّق اليقين بحجّية الأمارة دون مضمونها، لا يكفي في تحقّق الغاية، لأنّ الظاهر وحدة متعلّق اليقين، كما إذا تعلّق اليقين السابق بطهارة الثوب والآخر بنجاسته، وأمّا المقام فأحدهما تعلّق بنجاسته والآخر بحجّية البينة، وهما مختلفان متعلّقاً.(1)

يلاحظ عليه: انّه إذا تعلّق اليقين بحجّية البيّنة، يتولّد منه يقين آخر، بكون

ص:282


1- . مباني الاستنباط: 288-289.

الثوب نجساً شرعاً، فيكون المورد من باب نقض اليقين باليقين، ويكون متعلّقهما أمراً واحداً، إلّاأنّهما يختلفان إيجاباً (الطهارة) وسلباً (النجاسة).

ويؤيد القول بالورود عمل العقلاء، حيث لا يعتدّون به مع الأمارة وإنّما يعملون به في مورد الحيرة، وعدم الحيلة بتحصيل الواقع، فإذا كان هناك طريق إليه، يكون الاستصحاب مرتفعاً بارتفاع موضوعه.

2. دليل الأمارة حاكم على دليل الاستصحاب

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ تقدّم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة، وفسّرها في المقام بالعبارة التالية: أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لولا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في مورد بحكم (المحكوم) لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم.

ثمّ إنّه جعل نسبة دليل حجية البيّنة إلى دليل حجّية الاستصحاب من قبيل القسم الأوّل، وقال: إذا قال الشارع:

اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك، والمفروض انّ الشكّ موجود مع البيّنة على نجاسة الثوب، فانّ الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبيّنة، برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبيّنة التي منها استصحاب الطهارة.

يلاحظ عليه: أنّ الحكومة عبارة عن تصرّف أحد الدليلين في موضوع الدليل الآخر بالتضييق أو التوسعة، ويتحقّق ذلك تارة بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما في قوله: «لا ربا بين الولد والوالد» والغاية هي رفع الحرمة لكن بادّعاء عدم الموضوع.

وأُخرى بإثبات الموضوع على وجه لولا الحاكم لما يعمّه المحكوم، كما في

ص:283

قوله: «الطواف على البيت صلاة»، فهو ناظر إلى سعة ما يدل على اشتراط الصلاة بالطهارة، للطواف، أعني قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) .(1)

هذا إذا كان الدليل الحاكم متصرفاً في جانب الموضوع، وربما يكون متصرفاً في عقد الحمل، وهو أيضاً على صورتين: التضييق، والتوسعة. والتفصيل سيوافيك في أوّل مباحث التعادل والترجيح.

وعلى جميع التقادير فحقيقة الحكومة قائمة بلسانه، وهو أن يكون ناظراً إلى دليل المحكوم على وجه لولا الدليل المحكوم لكان جعل الحاكم أمراً لغواً.

ومن المعلوم أنّ هذا الشرط غير موجود في دليل البيّنة بالنسبة إلى الاستصحاب، فلا دليل، حجّيتها ناظر إلى دليل حجّية الاستصحاب، ولا هو من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وليس جعل الحجّية لها لغواً، لولا دليل الاستصحاب.

فتبين أنّ تقدّم البيّنة على الاستصحاب من باب الورود.

ولكن الأولى تقرير الورود بشكل آخر، وهو: انّ المراد من اليقين هو الحجة الشرعية لا اليقين المنطقي، وقد عرفت أنّ الاستصحاب متقوّم بالشك أوّلاً، ووجود الحالة السابقة ثانياً، وتحديد نقض اليقين بيقين آخر، و من المعلوم أنّ رفع اليد عن الاستصحاب ليس من قبيل نقض اليقين بالشكّ، بل من قبيل نقض اليقين باليقين، أي نقض الحجّة بالحجّة، فالاستصحاب حجّة حيث لا حجة، فإذا ثبت حجّية الأمارة، فقد حصلت الغاية، وبذلك ارتفع موضوعه، ولو كان المحقّق الخراساني سلك هذا الطريق لكان أحسن.

ص:284


1- . المائدة: 6.
3. تقديم دليل الأمارة على الاستصحاب من باب التوفيق العرفي

ربما يحتمل أن يكون التقديم من باب التوفيق العرفي، فانّ العرف يوفِّق بينهما بتقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب. وقد سلك هذا الطريق المحقّق الخراساني في تقديم «لا ضرر» على أدلّة الأحكام الأوّلية.

أقول: إنّ التوفيق العرفي فرع وجود ملاك لهذا الوفق، فإن كان الملاك وجود الاطمئنان في مورد البيّنة دون الاستصحاب، فهذا إنّما يتمُّ لو قلنا بحجّية الاستصحاب من باب الظن، فالظن الحاصل في الأمارة أقوى بكثير من الظن الحاصل بالاستصحاب، ولكنّا لا نقول به، لأنّ حجّيته عندنا من باب الاخبار.

وإن كان الملاك قائماً باللسان، فالملاك القائم باللسان إمّا التخصيص، أو الحكومة، أو الورود، أو الأظهرية، فكان عليه قدس سره أن يصرّح بملاك التوفيق العرفي، وانّه أي واحد منها.

4. تقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب من باب التخصيص

ربما يحتمل أن يكون تقديم الأمارة على دليل الاستصحاب من باب التخصيص، أي يكون دليلها مخصصاً لدليله، بأن يقال: لا تنقض اليقين بالشك إلّاإذا قامت الأمارة فيجوز نقضه به، لكنّه غير صحيح لاستهجان التخصيص، لأنّ عدم نقض اليقين بالشك أمر فطري لا يقبل التخصيص، فدليل الاستصحاب آب عنه.

***

ص:285

إلى هنا تم الكلام في الشرط الرابع لجريان الاستصحاب.

بقيت هناك بحوث استطرادية وهي أُمور أربعة:

1. ما هي نسبة الاستصحاب مع الأُصول العقلية؟

2. ماهي نسبة الاستصحاب مع الأُصول الشرعية؟

3. ما هو المرجع في تعارض الاستصحابين؟

4. ما هي النسبة بين الاستصحاب والقواعد الأربع؟

وقد اختصر المحقّق الخراساني مقالة في البحثَ الأخير، ولكن بسط الشيخ الكلام فيها. ومسلك الشيخ أفضل من مسلك المحقّق الخراساني، إذ الأُصول يجب أن يكون مزيجاً بالفقه حتى يُورث ملكة الاجتهاد في نفس الإنسان، وإليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: النسبة بين الاستصحاب والأصل العقلي

إنّ النسبة بين دليل الاستصحاب، ودليل الأُصول العقلية هي الورود، لأنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، وموضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في ارتكاب أو ترك أحد الطرفين، وموضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال. فالاستصحاب بما هو حجّة يكون بياناً للمورد، ومؤمِّناً من العقاب المحتمل، ومرجّحاً لأحد طرفي الاحتمال.

وليس المراد من البيان في قوله: «العقاب بلا بيان» هو البيان الواقعي حتى يقال: انّ مؤدّى الاستصحاب، ليس بياناً للحكم الواقعي، بل المراد الحجّة، والاستصحاب حجّة من جانب الشارع.

ص:286

الثاني: النسبة بين الاستصحاب والأصل الشرعي

المراد من الأصل الشرعي، البراءة النقلية كحديث الرفع، وأصالة الطهارة مثل قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر»، وأصالة الحليّة مثل قوله: «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» فهل الاستصحاب وارد عليها أو لا؟

تقدّمه عليها من باب الورود

ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النسبة هي الورود، وهو وإن لم يصرّح بذلك، لكن قال ما يستفاد منه ذلك، حيث قال: النسبة بينه و بينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه، فيقدّم عليها.

ثمّ قال: ولا مورد معه لها [وإلّا] يلزم محذور التخصيص، إلّابوجه دائر في العكس، وعدم محذور فيه [أي تقدم الاستصحاب على الأُصول] أصلاً.

ثمّ إنّ كلامه في الفقرة الثانية واضح، وسيوافيك نقده عند البحث في الأصل السببي و المسببيّ، ولكنّه في الفقرة الأُولى غير واضح، إذ لم يعلم وجه ورود الاستصحاب على هذه الأُصول، لكنّه قدس سره أشار إلى وجهه في تعليقته على الفرائد و قال: إنّ الموضوع في الأُصول الثلاثة هو المشكوك من جميع الجهات الأوّلية والثانوية، فالمشكوك من كلّ جهة، حكمه البراءة والطهارة والحلية، ومع جريان الاستصحاب يرتفع الموضوع حيث يكون معلوم الحكم من حيث العنوان الثاني، أعني: نقض اليقين بالشك، بخلاف الاستصحاب فانّ الموضوع فيه الشكّ من حيث العنوان الأوّلي، وهو باق بعد جريان الأُصول الثلاثة.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا دليل على أنّ الشكّ في دليل الاستصحاب هو الشكّ

ص:287


1- . درر الفوائد على الفرائد: 241، بتلخيص منّا.

بالعنوان الأوّلي الواقعي، وفي الأُصول هو الشكّ من جهة كلّ عنوان. كيف و ربما يحصل اليقين بالطهارة النفسانية من خلال الأُصول الشرعية، كجريان أصل الطهارة في الماء و اللباس، فيتوضأ بمثل هذا الماء ويحصل له اليقين بالطهارة الحدثية الظاهريّة، فكيف يمكن أن يقال: انّ الشكّ في موضوع الاستصحاب، الشكّ من جهة العنوان الواقعي، في الحالة اللاحقة مع تبيّنه في الحالة السابقة، مع أنّ الواقع لم يكن مبيّناً سابقاً حتى يُتطلب لاحقاً.

تقدّمه عليها من باب الحكومة

ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ تقدمه عليها من باب الحكومة، وأفاد في وجه ذلك ما هذا نصه:

إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمِّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق [كما لو كان المانع خمراً وشكّ في بقائه] فقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يدل على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق - إلى أن قال: - فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وكلّ نهي ورد في شيء فلابدّ من تعميمه لأزمنة احتماله» فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغَيّى بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان، فكانَ مفادُ الاستصحاب نفيَ ما يقتضيه الأصل الآخر (البراءة) في مورد الشكّ لولا النهي [المسوق بالاستصحاب] وهذا معنى الحكومة.(1)

يلاحظ عليه أوّلا: أنّ الظاهر من قوله: «حتى يرد فيه نهي» بحكم رجوع الضمير إلى الشيء نفسه هو ورود النهي عليه بما هو هو، لا بما هو مشكوك الحلية

ص:288


1- . فرائد الأُصول: 423، بعد الفراغ عن بيان النسبة بينه وبين القرعة.

والحرمة فلا تشمل الغاية للنهي الوارد عليه بما هو مشكوك، المستفاد من إبقائه عند الشك.

وثانياً: لو صحّ ما ذكره، يكون الاستصحاب وارداً عليه، لارتفاع الغاية بجريانه وأين هو من حكومة أحد الدليلين على الآخر ونظارته له، برفع حكمه برفع موضوعه، أو بقاء حكمه، بتوسيع موضوعه.

والحقّ أن يقال: انّ كون الأمارة واردة على الأُصول لا يلازم ورود الاستصحاب على الأُصول الشرعية الثلاثة، بل لابدّ من تقديمه عليها من التمسّك بأظهرية دليله من أدلّتها، وذلك للتأكيد الوارد في دليل الاستصحاب، ففي الصحيحة الأُولى لزرارة: «لا حتى يستيقن انّه قد نام، حتى يجيء من ذلك من أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر».(1) ولو قلنا بأنّ التقديم للتوفيق العرفي لكان أولى، وقد عرفت أنّ من ملاكات التوفيق العرفي هو الأظهرية كما مرّ. و أمّا ما ذكره من أنّ تقديم الأُصول على الاستصحاب من باب التخصيص يستلزم الدور، فسيوافيك نقده في البحث التالي.

الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة

يظهر من المحقّق الخوئي انّ الاستصحاب أمارة، حيث لا أمارة، وقال: الوجه فيه انّه كاشف عن الواقع، ومثبت له في ظرف الشكّ وانّ المجعول فيه هو الطريقية وتتميم الكشف، لأنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك» و قوله عليه السلام: ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات، هو إلغاء احتمال

ص:289


1- . الوسائل: 1، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.

الخلاف وفرض المؤدّى ثابتاً واقعاً كما هو كذلك في الأمارات، وهذا بخلاف الأُصول، فانّها ليست كاشفة عن الواقع أصلاً، فانّ المجعول فيها إمّا تنزيل أحد طرفي الشك منزلة الواقع، والبناء والعمل على ثبوته كما في الأُصول المحرزة، وإمّا مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل والجري على طبقه ظاهراً عند الشك.(1)

يلاحظ عليه: أنّ مؤدّى الأمارة - كما أفاده - هو إلغاء احتمال الخلاف وانّ المخاطب ليس بشاك تعبّداً وفرض المؤدّى ثابتاً، ولكن الظاهر من لسان دليل الاستصحاب، حفظ الشكّ وانّه شاكّ، لكنّه لا يعتدّ به، فكم فرق بين إلغاء الشكّ وفرض المؤدّى واقعاً وادّعاء انّك لست بشاك، وبين عدم الاعتداد بالشك مع حفظه، نظير الشكوك التي لا يعتد بها، كالشكّ بعد تجاوز المحلّ مع حفظ كونه شاكاً، وعلى ذلك فلسانه لسان الأصل لا الأمارة.

المقام الثالث: في تعارض الاستصحابين

الترتيب المنطقي أو حفظ المناسبة بين المسائل يقتضي تقديم البحث عن تعارض الاستصحابين على بيان نسبة الاستصحاب مع القواعد الأربع كما صنعه المحقّق الخراساني خلافاً للشيخ، حيث أخّر الأوّل و قدّم الثاني، وبما انّا نمشي على ضوء الكفاية قدّمنا هذا البحث، ثمّ نركز على القواعد الأربع، وبيان النسبة، بعد الفراغ من أحكام الأُصول العملية.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:

الأوّل: الفرق بين التعارض والتزاحم اللّذين يجمعهما عنوان التنافي، هو انّ التنافي تارة يكون راجعاً إلى مقام الجعل والإنشاء بحيث يلزم من صدق أحدهما

ص:290


1- . مباني الاستنباط: 293.

كذب الآخر، ومن تعلّق الإرادة بأحدهما، عدم تعلّقها بالآخر، كما إذا قال: ثمن العذرة سحت، ثم قال: لا بأس بثمن العذرة، وهذا النوع من التعارض في الأمارات يبحث عنه في باب التعارض والترجيح، وأُخرى يكون راجعاً إلى مقام الامتثال من دون تناف في مقام الإنشاء، كإيجاب إنقاذ الغريقين مع أنّه لا يستطيع إلّاإنقاذ أحدهما، فالتنافي هنا يرجع إلى مقام الامتثال من دون تكاذب في مقام الجعل، ولذلك لو ابتلى بهما في وقتين مختلفين لم يكن بينهما أيّ تناف. وهذا ما يبحث عنه في باب الترتّب.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ موضوع البحث في المقام هو تنافي الاستصحابين في مقام الإنشاء والجعل، كما إذا علمنا بإصابة قطرة من الدم في أحد الإناءين، فاستصحاب طهارة كلّ من الاناءين، يتنافى مع العلم الإجمالي بنجاسة واحد منهما، فيعلم بكذب أحد الجعلين: طهارة هذا الإناء، أو ذاك.

وأمّا إذا كان التنافي بين الأصلين راجعاً إلى مقام الامتثال دون الجعل و الإنشاء، كما إذا ابتلى بإنقاذ النبي والوصي، أو المسلم و الذمّي أو وجوب الصلاة وإزالة النجاسة من المسجد، ولم تسع قدرته أو وقته إلّالأمتثال أحد الأمرين فهو خارج عن محط البحث بعلاج استصحاب وجوبهما مع عدم سعة القدرة لهما، بتقديم ما هو الأهم على المهم.

الثاني: انّ الأصلين المتعارضين على قسمين: تارة يقع أحد الأصلين في طول الآخر، ويسمّى الأصلان الطوليان، فيكون الشك في بقاء أحدهما ناشئاً من الشكّ في بقاء الآخر.

وأُخرى يقع كلّ في عرض الآخر، ويسمّى الأصلان العرضيان، ويكون الشكّ في بقاء كلّ ناشئاً من أمر ثالث خارج عنهما.

ص:291

أمّا الأوّل، كما إذا غُسل الثوب النجس، بماء مستصحب الطهارة، فكلّ من استصحاب طهارة الماء و نجاسة الثوب و إن كانا متناقضين، لكن الشكّ في نجاسة الثوب نابع من الشكّ في طهارة الماء بحيث لو علم شرعاً طهارة الماء، لزال الشكّ من ناحية الثوب.

والثاني، كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم في الإناءين الطاهرين، فانّ الشك في طهارة كلّ منهما، نابع من أمر ثالث وهو العلم الإجمالي بوقوع قطرة دم فيهما ولولاه لم يكن هنا أي شك.

الثالث: انّ الميزان في الأصل السببي، هو ما ذكرنا وهو أن يكون الشكّ في أحدهما مسبّباً من الشكّ في الآخر، بحيث لو أُزيل الشك في ناحية السبب لزال الشكّ في ناحية المسبب شرعاً. ومقتضى ذلك أن يكون الترتب بينهما شرعياً، كما إذا رتّب الشارع إزالة الشك في ناحية الثوب، على طهارة الماء، و قال: «كلّ ثوب غُسل بماء طاهر فهو طاهر» فخرج ما إذا كان الترتب عقلياً، كاستصحاب الإنسان الكلّي، فهو يلازم وجود الفرد، لأنّ بقاء الكلّي في ضمن بقاء الفرد، لكنّ الترتّب عقلي لا شرعي حيث يحكم العقل بأنّ الكلّ لا يتحقق إلّافي ضمن أفراد.

إذا عرفت ذلك فلنركِّز البحث على الأصلين الطوليين، فنقول: استدل الشيخ الأنصاري على تقديم الأصل السببي بوجوه أربعة، والمحقّق الخراساني بوجه واحد وهو:

تقدّم الأصل السببي على المسببي

إنّ الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي، فانّ من آثار

ص:292

طهارة الماء، طهارةُ الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته، بخلاف استصحاب طهارته، إذ لا يلزم منه نقض اليقين بنجاسة الثوب بالشك، بل باليقين بما هو رافع للنجاسة هو غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته وبالجملة فكلّ من السبب والمسبب وإن كان مورداً للاستصحاب إلّاأنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه، إلّابنحو محال فلازمه الأخذ بالاستصحاب السببي.

نعم لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه، لكان الاستصحاب المسببي جارياً، فانّه لا محذور فيه مع وجود أركانه.

أقول: إنّ الدليل ينحلّ إلى دليلين أو تقريرين لدليل واحد:

1. انّ استصحاب نجاسة الثوب أي المسبّب، موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في جانب السبب [ويتحقّق ذلك النقض] بعدم ترتيب أثره الشرعي، أعني: طهارة الثوب، فانّها من آثار طهارة الماء بخلاف استصحاب طهارة الماء، فانّه لا يلزم منه نقض اليقين بنجاسة الثوب بالشكّ، بل باليقين بما هو رافعها وهو غسله بالماء المحكوم بطهارته.

2. انّ تقديم الأصل السببي بلا محذور، و أمّا تقديم الأصل المسببي ففيه التخصيص على وجه دائر، لأنّه يتوقف على اعتبار الأصل المسببي، وهو متوقف على اعتباره.

أقول: كلا التقريرين لا يخلو من إشكال.

أمّا الأوّل، فانّه مبني على أنّ الأصل السببي حجّة بلا كلام وإنّما الشكّ في حجّية الأصل المسببي في مقابل الآخر، فعندئذٍ يصحّ ما أفاد من استصحاب

ص:293

نجاسة الثوب مستلزم لنقض آثاره طهارة الماء التي منها، طهارة الثوب المغسول به بالشكّ، بخلاف استصحاب طهارة الماء فانّه غير مستلزم لنقضه بالشكّ بل باليقين ولكن الكلام في المبنى فانّ الأصلين فردان للعام، لا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، فنقض كلّ بالآخر، نقض الشكّ باليقين ولا يختصّذلك بالأصل السببيّ بل يعمّ المسبّبي، فانّ القول بطهارة الثوب نقض لليقين بالنجاسة بالشكّ حيث إنّ طهارة الماء مشكوكة.

فإن قلت: إذا كان الشكّ في أحدهما نابعاً عن الآخر يكون شمول العام له مانعاً عن شموله للفرد الآخر الذي دونه في الرتبة، لامتناع شمول حكم العام لفردين متضادين على وجه يكون كلّ مطارداً الآخر. وبذلك يصبح الأصل السببي حجّة بلا منازع في الرتبة المتقدمة ويكون تقديمه على المسببي نقضاً لليقين بالنجاسة باليقين بالطهارة، بخلاف العكس فانّه بعد لم تثبت فرديته وشمول العام له في رتبته.

قلت: هذا ما ذكره الشيخ الأعظم في الفرائد بتقريرين مختلفين نقلناهما في الدورة السابقة وأجبنا عنهما . وحاصل الجواب عن تقريره، و ما قررناه هنا هو انّ الرتب العقلية ليست موضوعاً للأحكام الشرعية، حتى يكون شمول العام للمتقدّم رتبة أقدم من شموله للآخر، بل المقياس تحقّقهما في زمان واحد والمفروض انّهما كذلك.

وأمّا الدليل الثاني للمحقّق الخراساني من حديث التخصيص بلا وجه، فقد اعتمد عليه هو في مقامات ثلاثة، في وجه تقديم الأمارة على الأُصول، وتقديم الاستصحاب على الأُصول الشرعية، وتقديم الأصل السببي على المسببي، ولكنّه صحيح في المورد الأوّل، فانّ تقدم الأمارة على الأُصول مسلم فتقديمها على

ص:294

الأصل من باب الورود، بخلاف العكس فانّه من باب التخصيص الدائر بخلاف الموردين الأخيرين، إذ لم يُثبت بعد، تقدم الاستصحاب على الأُصول النقلية، ولا الأصل السببي على المسببي، فالتخصيص في كلّ جانب مستلزم للدور.

ما هو وجه تقديم السببي على المسببي؟

إنّ تقديم الأصل السببي على المسببي ليس لأجل مزية في الأوّل على الثاني من حيث هوهو، بل لأجل انّ الأوّل ينقِّح موضوع الدليل الاجتهادي ويكون الحاكم هو عليه، لا الأصل السببي وقد أشار إليه الشيخ الأعظم في ثنايا كلماته، ولكنّه لم يأكد عليه حيث قال: «وثانياً انّ نقض يقين النجاسة، بالدليل الدال على انّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهراً به....(1)

توضيحه: انّه لا دور للاستصحاب إلّاإحراز نفس المشكوك شرعاً، فلو كان المحرز حكماً شرعياً يستقل العقل بامتثاله وإطاعته مثل الأحكام المحرزة بالعلم، وإن كان موضوعاً فلابدّ أن يكون موضوعاً لحكم شرعي وإلّا يكون التعبد به أمراً لغواً.

مثلاً انّ استصحاب الحياة، أصل موضوعي يصحّ التعبد بها إذا كان موضوعاً لحكم شرعي، حيث يترتب عليه بقاء زوجته في حبالته، وبقاء أمواله في ملكه، حيث إنّ التسريح لا يتحقّق إلّابأسباب كلّها قطعي الانتفاء إلّاالموت والمفروض ورود التعبد بعدمه، كما أنّ الأموال لا تُقسَّم إلّاإذا صدق له

ص:295


1- . الفرائد: 425، ضمن تقرير الدليل الثاني.

سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) ولكنّه ورد التعبد على خلافه.

ومثله استصحاب العدالة، فانّه يقع موضوعاً لقوله: «صلّ خلف كلّ عادل، أو من تثق بدينه»(1)، أو لقوله تعالى في مورد الطلاق: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (2) وإذا ثبت ببركة الأصل والبينة انّها طلقت عند شهود عدل، تقع المرأة المطلقة عند شهود عدل موضوعاً لقوله سبحانه (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (3) وإذا تربصت ثلاثة قروء تقع المرأة المتربصة ثلاثة قروء موضوعاً لسائر الحجج الشرعية من جواز تزويجها بعد خروج عدتها، وهكذا فلا دور للاستصحاب الموضوعي إلّاأنّه ينقح موضوع الكبريات الشرعية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ تقدّم الأصل السببي على المسببي إنّما هو لأجل انّه يُنقِّح موضوعاً لكبرى شرعية وهي الحاكمة على الأصل المسببي، فاستصحاب طهارة الماء أو الحياة والعدالة كلّها من هذا القبيل، فالأوّل يُنقِّح موضوعاً لمثل قوله «كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر» وأمّا استصحاب نجاسة الثوب فلا يترتب عليه أثر سوى نجاسة الملاقي للدليل الاجتهادي ان ملاقي النجس الرطب، نجس، وأمّا نجاسة الماء الذي غُسل به فليس هناك دليل اجتهادي على نجاسته إلّاانّه غسالة النجس، فهو يطهِّر و إن كان يصير غسالة له.

المقام الثاني: إذا كان الشكّ مسبباً من أمر ثالث

إذا كان الشكّ في كلّ من الموضوعين ناشئاً من أمر ثالث كما هو الحال في

ص:296


1- . الوسائل: الجزء 5، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.
2- . الطلاق: 2.
3- . البقرة: 228.

الإناءين المشتبهين فانّ الشكّ في طهارة كلّ، مسبب عن العلم الإجمالي بورود النجاسة على واحد منهما، فهناك آراء مختلفة:

1. عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً. و هو خيرة الشيخ الأنصاري.

2. التفصيل بين استلزامه المخالفة العملية القطعية أو الاحتمالية فلا يجري، دونما إذا استلزم مخالفة التزاميّة فيجري. وهو خيرة المحقّق الخراساني.

3. التفصيل بين الأصل المحرز وغيره، فلا يجري الأوّل بخلاف الثاني. وهو مختار المحقّق النائيني.

4. التفصيل بين العلم الوجداني، والعلم المولَّد من إطلاق الدليل. وهذا هو المختار.

وإليك دراسة الأقوال واحداً بعد الآخر.

أمّا التفصيل الأوّل فقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى عدم جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي قائلاً بأنّه يستلزم تعارض الصدر مع الذيل، لأنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر» يدل على حكمين:

1. حرمة نقض اليقين بالشكّ.

2. وجوب نقض اليقين بيقين مثله.

فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز ابقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك، لأنّه مستلزم لطرح ذيل الحديث، و هو الحكم بنقض اليقين بمثله.(1)

ص:297


1- . الفرائد: 429.

وقد أورد على استدلال الشيخ بوجهين:

الأوّل: انّ الذيل ورد في الصحيحة الأُولى لزرارة دون الثانية والثالثة، و المحذور إنّما هو في الأُولى دون الأخيرتين.

يلاحظ عليه: أنّ المطلق يُقيّد، و المجموع كسبيكة واحدة، تشير إلى مفهوم واحد. وهو القضيتان المذكورتان.

الثاني: انّ ظاهر قوله: «بيقين آخر» هو وحدة متعلّقها، حتى يكون اليقين الآخر مثل اليقين الأول، فاليقين الأوّل تعلّق بواحد معين دون الثاني حيث تعلّق بأحدهما فلا يكونان مماثلين من جميع الجهات.

يلاحظ عليه: بأنّه ليس في الصحيحة أثر من لفظ «المثل» وإنّما الوارد «بيقين آخر» ويكفي في صدقه اشتراكُهما في الإذعان والجزم وان تعلّق أحدهما بمعين والآخر بأحدهما لا بعينه، فكلام الشيخ لا يخلو من جودة وإتقان.

أمّا التفصيل الثاني فهو للمحقّق الخراساني قائلاً بعدم جريانه فيما إذا استلزم المخالفة القطعية، كما إذا كان الاناءان محكومين بالطهارة فعلم بنجاسة أحدهما، فلا يجري فيه لمحذور المخالفة القطعية كما في ارتكاب كلا الطرفين، أو الاحتمالية كما في ارتكاب واحد منها.

وأمّا إذا لم يستلزم، كما إذا كان الاناءان نجسين وعلم بوقوع نجاسة في واحد منهما، فالمقتضي موجود، و هو إطلاق الخطاب وشموله لأطراف المعلوم بالإجمال؛ والمانع مفقود، لأجل انّ جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّاالمخالفة الالتزامية، وهو ليس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً.(1)

ص:298


1- . كفاية الأُصول: 2/357-358.

وبذلك ظهر روح الفرق بين الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني فقد اختار الأوّل عدم جريان الأُصول بتاتاً، وانّ العام لا يشمل المتعارضين، ولكن الثاني قال بالشمول ودخولهما تحت العموم، لكنّهما يتساقطان - عند استلزام المخالفة العملية - بالتعارض.

يلاحظ عليه: أنّ العلم بالتكليف على قسمين تارة يكون في المورد علم وجداني، ومن المعلوم انّ مثل هذا العلم لا يقبل الترخيص في طرف واحد فضلاً عن الطرفين، كما إذا علم بإسلام أحد الأخوين الكافرين، فقد علم عندئذ بوجوب صيانة دم المسلم منهما، على نحو لا يقبل النقاش ومعه لا يجوز استصحاب جواز قتلهما، وأُخرى يكون في المورد إطلاق الدليل يعم المعلوم تفصيلاً وإجمالاً، كإطلاق «اجتنب عن الخمر» الشامل للخمر المعلوم تفصيلاً وإجمالاً، فمثل هذا التكليف المستفاد من الإطلاق قابل للتقييد بأن يخص الدليل بالخمر المعلوم تفصيلاً دون المعلوم إجمالاً ولا يعد مثل ذلك ترخيصاً في المعصية بل تقييداً للموضوع.

وأمّا التفصيل الثالث، أعني: التفصيل بين الأصل المحرز، فلا يجري في أطراف العلم دون سائر الأُصول والمراد من الأصل، المحرز هو ما يكون المجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك كالاستصحاب، وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة، والمراد من غيرها ما يكون المجعول فيها هو مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون أن يكون البناء متكفّلاً لثبوت الواقع في أحد الطرفين كالبراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة.

وجه التفصيل انّ التعبد ببقاء الواقع في كلّ واحد من أطراف العلم ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما، وهذا بخلاف الآخر، فانّ المجعول

ص:299

هو مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ بلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم مخالفة عملية.

يلاحظ عليه: أنّه لم يثبت عندنا كون الأصل محرزاً أو غير محرز، وليس في أدلّة الاستصحاب ما يشير إلى أنّ العمل من باب البناء العملي على أنّه الواقع، بل الثابت والمفهوم من دليل الاستصحاب عدم جواز نقض اليقين بالشك، وتقدّم الاستصحاب على سائر الأُصول ليس دليلاً على أنّه أصل محرز، بل ملاك التقدّم هو الذي عرفت من قوّة الدلالة في ناحية الاستصحاب دون سائر الأُصول.

وبعبارة أُخرى: إذا كان مفاد الدليل تنزيل المشكوك منزلة الواقع فيكون أمارة، لا أصلاً، والحال انّه يعامل مع الاستصحاب معاملة الأصل، وإلّا فلا وجه لتسميته أصلاً محرزاً.

ثمّ كيف يصحّ لنا إجراء الأصل غير المحرز في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم مخالفة عملية مع حصول الغاية في قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر» أو قوله: «كلّ شيء حلال حتى تعلم انّه حرام» اللّهمّ إلّاأن يقال انّ الغاية هو العلم بنجاسته وحرمته بعينه بقرينة ضمير «انّه» في كليهما الظاهر في التعيين.

وأمّا التفصيل الرابع، وهو الذي اختاره سيّدنا الأُستاذ قدس سره في المقام وفي مبحث القطع والاشتغال، وحاصله: انّ العلم الإجمالي بالتكليف على قسمين:

1. ما يكون العلم بالتكليف محصول العلم الوجداني على وجه لا يرضى المولى بتركه على فرض وجوده بدئياً، كما هو الحال في مورد الدماء والأعراض والأموال، أو مقروناً بالعلم الإجمالي، كما إذا اشتبه المسلم بالكافر الحربي ففي

ص:300

مثله، لا يجري الأصل للتنافي بين طلب الشيء مطلقاً والترخيص في تركه في بعض الأحايين.

2. ما يكون العلم بالتكليف حصيلة إطلاق الدليل، مثل قوله: «اجتنب عن النجس»، حيث إنّه يشمل المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال، ففيه يقع الكلام في إمكان الترخيص في مقامين ثبوتاً وإثباتاً.

أمّا الثبوت فهل يمكن تقييد الدليل الاجتهادي، بدليل اجتهادي مثله، وتخصيصه بصورة تعلّق العلم التفصيلي بالمكلّف به أو لا؟ والظاهر هو الإمكان بل الوقوع، وورد في غير واحد من أبواب دوران الحكم الشرعي على وجود العلم التفصيلي، وقد قدّمنا بيانها عند البحث عن أدلة البراءة كما هو الحال في الربا والمظالم حيث إنّ المنجز هو العلم التفصيلي لا الإجمالي.

وأمّا الإثبات، فهل هناك دليل على ذلك التقييد، أو لا؟ الظاهر لا، بل الدليل على خلافه، لما ورد في الإناءين المشتبهين من أنّه «يهريقهما ويتيمّم».(1) وما ورد في الصحيحة الثانية لزرارة انّي قد علمت انّه قد أصابه الدم و لم أدر أين هو فاغسله؟ قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك».(2)

وما ورد في الثوبين المشتبهين من تكرار الصلاة في كلّ منهما على الانفراد.(3)

وهذا ونظائره يدل على عدم ورود الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إلّا

ص:301


1- . الوسائل: الجزء 1، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 82.
2- . التهذيب: 1/421، الحديث 135.
3- . الوسائل: الجزء 2، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

القليل النادر. وبذلك يمكن أن يقال بعدم جريان الأُصول أيضاً في أطراف العلم الإجمالي لوجهين:

1. انصرافه عن أطراف العلم الإجمالي.

2. وعلى فرض عدم انصرافه حصول الغايات المحددة وتخصيص الغاية بالعلم التفصيلي خلاف إطلاق الدليل، وقد عرفت عدم تمامية ما يستظهر من لزوم وحدة متعلّقها التي لا تتحقّق إلّابالعلم التفصيلي.

ص:302

القواعد الأربع

ص:303

ص:304

بسم اللّه الراحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين الهداة المهديّين.

أمّا بعد؛ فقد ذيّلنا مبحث الاستصحاب بالبحث عن نسبته إلى الأُصول العقلية والشرعية وكيفية علاج تعارض الاستصحابين، لكن بقي هناك بحث يبيّن نسبة الاستصحاب مع القواعد الأربع، أعني:

1. قاعدة اليد.

2. قاعدة التجاوز والفراغ.

3. قاعدة أصالة الصحّة في فعل الغير.

4. قاعدة القرعة.

فقد أفاض شيخنا الأُستاذ - مدّ ظلّه - القول في حقيقة هذه القواعد، ودلائل حجّيتها، و ما يترتّب عليها من الفروع، وناقش جملة من الآراء، ولمّا كان ما أفاده طويل الذيل، مترامي الأطراف، أفردناه بالتأليف على أمل أن يكون نافعاً للفضلاء الكرام و لم آلُ جهداً في تحرير ما أفاده، وتبيين ما قرّره، والمرجو من اللّه تعالى أن يجعله ذخراً في الدارين، انّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

محمد حسين الحاج العاملي

قم - عشّ آل محمّد

رجب المرجب 1420 ه

ص:305

القواعد الأربع
1 قاعدة اليد
اشارة

إنّ الحافز لطرح هذه القاعدة وما يليها من القواعد إنّما هو لبيان النسبة بينها و بين الاستصحاب، وانّه في مورد التعارض هل تقدّم تلك القواعد عليه أو يقدّم الاستصحاب عليها؟ فصار ذلك سبباً لطرح هذه القواعد الأربع في ذيل

الاستصحاب في الكتب الأُصولية استطراداً.

والقواعد الأربع عبارة عن:

1. قاعدة اليد، 2. قاعدة أصالة الصحة في فعل الغير، 3. قاعدة أصالة الصحة في فعل النفس، 4. قاعدة القرعة.

وهذه القواعد أدوات بيد الفقيه في أبواب مختلفة، فلنشرح القاعدة الأُولى، أعني: «قاعدة اليد»، وهي غير قاعدة «على اليد»؛ فالأُولى آية الملكية، والثانية سبب الضمان. فقاعدة اليد تشير إلى أنّ الاستيلاء سبب أو دليل الملكية، وعليه سيرة العقلاء؛ كما أنّ القاعدة الثانية تشير إلى أنّ الاستيلاء على مال الغير موجب للضمان، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي». وكلتا القاعدتين من أدوات القضاء.

فبالأُولى يُعرف المدّعي عن المنكر، وبالثانية يحكم على ضمان من أتلف العين أو المنافع المستوفاة بل غيرها أيضاً.

ص:306

ثمّ إنّ قاعدة اليد قاعدة فقهية وليست مسألة أُصولية، وتتميّز المسألة الأُصولية عن القاعدة الفقهية بأمرين:

أ: انّ محمول المسألة الأُصولية لا يكون حكماً شرعياً عمليّاً ولا منتزعاً عن أحكام شرعية، مثل قولنا: الأمر يدلّ على الوجوب، أو النهي يدلّ على التحريم، أو وجود الملازمة بين المقدّمة وذيها في الحكم، فالمحمول في هذه المسائل الثلاث ليس حكماً شرعياً، بخلاف القاعدة الفقهية فالمحمول فيها إمّا حكم شرعي مثل الصلح جائز بين المسلمين؛ أو منتزع من أحكام شرعية عملية، مثل قولنا: كلّ ما يضمن بصحيحه - كالبيع والإجارة - يضمن بفاسده.

«وأمّا المقام» فالمحمول في قولنا: «اليد سبب الملكية» أو آيتها، حكم شرعي إمضائي. والأوّل كما في الحيازة فإنّه سبب الملكية فتحدث رابطة اعتبارية عقلائية بين المحيز والمحاز ولا تنتفي إلّابالإعراض أو بالنقل بأحد الوجوه الناقلة أو الانتقال القهري كالإرث، والثاني كما في مورد الاستيلاء الحاصل عن سبب شرعي كالإرث والنقل فهو عند الشكّ آية الملكية ودليل عقلائي عليها.

ب: انّ المجتهد والمقلّد أمام القاعدة الفقهية سواء، بخلاف المسألة الأُصولية فانّ إجراءها بيد المجتهد دون المقلّد، لأنّ الفحص عن المعارض وتشخيص موارد الأمارات والأُصول من وظائف المجتهد، بخلاف القاعدة الفقهية فانّ العمل بها يعمّ كلا الفريقين.

وهذا الميزان أمر غالبي لا دائمي، إذ ليس كلّ قاعدة فقهية رمية لكلّ رامٍ، وربّما يتوقف العمل بها على مؤهّلات لا تتوفر إلّافي المجتهد كما هو غير خفيّ على أهله.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فلندخل في صلب الموضوع ضمنَ مقامات:

ص:307

المقام الأوّل ما هو المقصود من اليد في القاعدة؟

اليد في اللغة هي الجارحة، ولكنّها استعيرت في المقام للاستيلاء، وما ذلك إلّالأنّ الاستيلاء يتحقّق غالباً باليد دون سائر الأعضاء، ولذلك نرى أنّه سبحانه ينسب المعاصي إلى اليد مع أنّها تتحقّق بغيرها أيضاً، يقول سبحانه:

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) .(1)

ويوضح ذلك انّ اليد كانت هي الوسيلة الوحيدة لحيازة الأشياء للإنسان البدائي، فكان يصيد باليد ويحوز بها، وبها يجتني الثمرة من الشجرة ويعدّ نفسه أولى، ولذلك نرى أنّ الإمام عليّاً عليه السلام يعبر عن استيلاء المجاهدين على الغنائم بالاجتناء باليد ويقول لعبد اللّه بن زمعة: «إنّ هذا المال ليس لي ولا لك، فإن شركتَهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلّا فجَناةُ أيديهم لا يكون لغير أفواههم».(2)

وعلى ذلك صار العقلاء وجعلوا اليد آية الملكية، ويراد منها مطلق الاستيلاء سواء تحقّق باليد الجارحة أو غيرها، مع العلم بأنّ استيلاء كلّ شيء بحسبه، فالاستيلاء على الفرس بالركوب عليه لا بوضع اليد، والاستيلاء على البيت بالإسكان فيه، والاستيلاء على الحديقة والمعدن والسيارة بحسبها، وكلّ ما

ص:308


1- . آل عمران: 182. ولاحظ الروم: 41؛ البقرة: 195 وغيرها.
2- . نهج البلاغة، الخطبة 232.

تطورت الحضارة اختلفت أساليب الاستيلاء، و ربما لا يُصدَّق قول المستولي إلّابتسجيل العقار في دائرة ثبت الأملاك.

وعلى كلّ تقدير فالملاك هو صدق الاستيلاء العرفي حتى يكون مصداقاً لليد المتسلّطة.

المقام الثاني في اعتبار اليد

اتّفق العقلاء على حجّية اليد وعليها دعامة الحياة ونظام المعاملات ولو أُلغيت لانهار نظام حياتهم التجاريّ، إذ من المتعذّر أن يقيم كلّ إنسان شاهداً على ملكية ما تحت يده أو أن يسجِّل كل ما يستولي عليه في دائرة رسمية.

ثمّ من المحتمل أن تكون الفلسفة الاجتماعية لاعتبار اليد دليلاً على الملكية وأمارة بها، هي انّ الطابع الغالب للاستيلاء في القرون الغابرة كان هو الاستيلاء بأساليب قانونية معترفاً بها عرفياً، وأمّا الاستيلاء ظلماً وعدواناً فلم يكن بتلك الدرجة من الكثرة، فصار ذلك سبباً لإمضاء العقلاء مطلق الاستيلاء وجعله كاشفاً عن الملكية طيلة قرون كما أمضاه الشارع قولاً و تقريراً. وتبعه المتشرّعة والفقهاء عبْر القرون، فالدليل المهم لكونه كاشفاً عن الملكية هو السيرة.

نعم ليس للسيرة لسان، فاستصحاب كونه أمارة أو أصلاً محرزاً أو أصلاً تعبّدياً يتوقف على لحاظ الروايات الممضية لها.

ص:309

المقام الثالث في أنّ اليد أمارة

قد عرفت أنّ الطابَع الغالب للاستيلاء هو الاستيلاء المشروع، فصار ذلك سبباً لكاشفيته عن الملكية، إلّاإذا كان الغالب عليه عدم الملكية، كما في يد السارقين واللصوص والغاصبين والسماسرة فلا يتعامل معهم معاملة اليد المالكة.

هذا هو حال السيرة، وأمّا الأخبار فهي على طوائف:

1. ما يدلّ على اعتبارهامن دون دلالة على كونها أمارة أو أصلاً.

2. ما يدلّ على أنّها أمارة للملكية.

3. ما يستظهر منها انّها أصل.

وإليك دراسة هذه الطوائف:

الطائفة الأُولى: ما هي ظاهرة في اعتبارها فقط

وهي ثلاث روايات:

1. ما رواه العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن مملوك ادّعى أنّه حر ولم يأت ببيّنة على ذلك أشتريه؟ قال: «نعم».(1) وما ذلك إلّالأنّ استيلاء المالك عليه، آية كونه مالكاً له، ولا يُسمع قول مدّعي الحرّية إلّا ببيّنة.

2. ما رواه حمزة بن حمران، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أدخل السوق

ص:310


1- . الوسائل: 30/13، الباب 5 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.

وأُريد اشتري جارية، فتقول: إنّي حرّة؟ فقال: «اشترها إلّاأن يكون لها بيّنة».(1) والاستدلال بها مثله في الرواية السابقة.

3. مكاتبة محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: رجل كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطِّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام:

«يتّقي اللّه، ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن».(2) فإنّ وجود الرحى دليل على استيلائه على أنّ له حقّ الانتفاع بالماء.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على كونها أمارة للملكية

4. روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق؟ فقال: «إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به».(3)

5. وفي رواية أُخرى له عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: وسألته عن الورق يوجد في دار؟ فقال: «إن كانت الدار معمورة فهي لأهلها، وإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت».(4) ولعلّها نفس الرواية السابقة غير انّ المسؤول في الأُولى مشخص وهو أبو جعفر عليه السلام دون الأُخرى.

6. صحيحة جميل، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل وجد في منزله ديناراً؟ قال: «يَدْخل منزلَه غيرُه؟» قلت:

نعم، كثير، قال: «هذا لقطة».

ص:311


1- . الوسائل: 31/13، الباب 5 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 2.
2- . الوسائل: 343/17، الباب 15 من كتاب إحياء الموات، الحديث 1.
3- . الوسائل: 354/17، الباب 5 من أبواب اللقطة، الحديث 1.
4- . الوسائل: 355/17، الباب 5 من أبواب اللقطة، الحديث 2.

قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً» قال: «يُدخِل أحد يدَه في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئاً؟»

قلت: لا، قال: «فهو له».(1)

ترى أنّ الإمام فرّق بين الدار غير المختصة لأهلها، فجعل الورق الذي يوجد فيها لقطة، لعدم دلالة اليد في ذلك المكان على المالكية، لكثرة تردّد الأفراد واختلافهم إليها، كالديوانية للعلماء، وبين الصندوق الذي لا يُدْخل غيرُ المالك يدَه فيه فجعله له، فقوله: «فهو له» ظاهر في الملكية.

7. عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة؟ قال: «ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيء منه فهو له».(2)

ترى أنّ الإمام جعل الاستيلاء دليلاً على الملكية، فالضمير المجرور، أعني: «منه»، في قوله: «فمن استولى على شيء منه فهو له» يرجع إلى مطلق المتاع حتى و إن كان من مختصّات النساء، واللام في قوله: «له» للملكية، فالاستيلاء دليل

ص:312


1- . الوسائل: 353/17، الباب 3 من أبواب اللقطة، الحديث 1. ولاحظ مستدرك الوسائل: 128/17، الباب 4 من أبواب اللقطة، الحديث 1، رواية القاضي نعمان المصري عن أمير المؤمنين؛ ولاحظ المقنع: 127، حيث أفتى بنص الحديث الخامس.
2- . الوسائل: 525/17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3. ولم يرد فيه الصنف المختص بالرجال كالسيف والقلنسوة والميزان وكأنّه مفهوم من قرينة التقابل، ولكن وردت في الرواية الناقلة لفتوى إبراهيم النخعي لاحظ الحديث 1 من ذلك الباب. ولاحظ أيضاً الوسائل: 523/17، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1. فقد اعتمد الإمام فيه على أنّ متاع البيت للمرأة على الشهود الذين رأوا انّ المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الزوج لا على اليد.

الملكية مطلقاً حتى في مختصّات النساء.

وإنّما يستدل بالخصوصية إذا لم يكن لأحدهما استيلاء، وعليه فما يختصّ بالرجل فهو له و ما يختصّ بالمرأة فهو لها إلّاإذا استولى أحدهما عليه.

ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى خصوص متاع البيت المشترك الذي حكم فيه الإمام بالتقسيم بالمناصفة وأنّ الاشتراك دليل على ملكيتهما لولا استيلاء واحد منهما على شيء منه و إلّافهو للمستولي، وعلى ذلك فيستدل بالاستيلاء بعد إخراج ما يختصّ بأحدهما على نفي الاشتراك.

والعجب ممّن يفسر قوله «فهو له» على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه وانّ هذا المعنى يجتمع مع الأمارية والأصلية.

يلاحظ عليه: أنّ المتبادر منه انّه ملك له واقعاً لأجل الطريق لا انّه يُبنى على كونه مالكاً ويؤخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّه الواقع كما هو حال الأصل المحرز.

هذا بعض ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على الملكية، وفي الحوار الذي دار بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأبي بكر عندما سأل الإمام عن بيّنته على ملكية «فدك» الّتي كانت تحت يد الإمام، ما يدلّ على أنّ اليد أمارة الملكية.(1)

الطائفة الثالثة: ما يستشم منه كونها أصلاً

8. ما رواه حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم».

قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره؟

ص:313


1- . الوسائل: 215/18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3 وسيوافيك الكلام فيه.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أفيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه. ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟».

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».(1)

وجه الاستدلال: انّ الإمام عليه السلام علّل تنفيذ اليد بأنّه لولاه يلزم العسر والحرج فأنفذها الشارع لرفع الحرج وهذا يناسب كونها أصلاً.

ولكن الإمعان في صدر الرواية يعرب عن كونها أمارة عند الإمام، لأنّ شبهة السائل كانت ناشئة عن كون الشهادة مأخوذة من الشهود وهو المعاينة، والذي يعاينه الإنسان كونه في يده لا أنّه ملْكُه. فأجاب الإمام بأنّه إذا اشتريت منه هل يصحّ لك أن تقول ملكتُ وهل يصحّ أن تحلف على أنّك مالك؟! فإذا جازت الشهادة على ملكية المشتري وجاز الحلف عليها فلِمَ لا تجوز الشهادة على الأصل وهو ملكية البائع مع أنّ ملكية المشتري فرع ثبوتها للبائع، فهل يصح أن يشهد على الفرع دون الأصل؟

ولما كان شبهة الراوي في جواز الشهادة على الملكية، لأجل تصوّر انّ الشهادة لا تجوز إلّاعلى الأمر الواقعي وهو بعد لم يثبت أوضح الإمام بأنّ الشهادة تجوز بأحد أمرين:

أ: العلم الجزمي وهو منتف في المقام.

ب: باليد والاستيلاء بشهادة انّ الرجل بعد الشراء يعرف نفسه مالكاً ويحلف عليه، وليس هذا إلّاكون اليد أمارة عليها في كلا الموردين.

ص:314


1- . الوسائل: 215/18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

وأمّا تعليل الشهادة على الملكية باختلال أمر الحياة عند عدم التنفيذ، فهو من قبيل الحِكَم لا العلّة، لأنّ الحكمة في اعتبار أكثر الأمارات هو انّ عدم تنفيذها موجب لاختلال النظام، كحجية الظواهر وحجّية قول الثقة وحجّية قول أهل الخبرة و التخصّص.

9. ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك، قد اشتريته وهو سرَقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِعَ فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة».(1)

إنّ الصدر، أعني قوله: «هو لك»، يمكن أن يكون ناظراً إلى قاعدة اليد كما يمكن أن يكون ناظراً إلى أصل البراءة، فلو جعلنا قوله: «هو لك» وصفاً لقوله «كلّ شيء»، وقولَه «حلال» خبراً للمبتدأ يكون دليلاً على قاعدة اليد فيكون المعنى: كلّ شيء مفروض انّه لك (مفروض انّه باختيارك كالثوب والعبد والزوجة) حلال حتى تعلم أنّه حرام، وعلى هذا جعل الاستيلاء في ظرف الشك حجة على الملكية وهذا يناسب كونه أصلاً.

نعم لو جعلنا قوله: «هو» ضميرَ فصل و مبتدأً ثانياً، وجعلنا قوله: «حلال» خبراً له، والجار والمجرور، أعني قوله: «لك» من متعلّقات الخبر، ينطبق على قاعدة البراءة، فيكون المعنى: «كلّ شيء - هو - حلال لك حتى تعلم أنّه حرام بعينه» فعندئذٍ ينطبق على أصل البراءة لا على قاعدة اليد.

ص:315


1- . الوسائل: 60/12، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة، الحديث 4. و في السند هارون بن مسلم بن سعدان، وهو ثقة. ولم يوثق مسعدة بن صدقة بالخصوص.

فلو قلنا بالتفسير الأوّل يكون الاستيلاء في ظرف الشكّ موضوعاً للحكم بحلّية التصرّف فيكون أصلاً لا أمارة، إذ لو كان أمارة لكان طارداً للشكّ لا حافظاً له.

إنّما الكلام في تعيّن التفسير الأوّل فإنّه على خلاف الظاهر، والظاهر هو التفسير الثاني، كما عليه المشهور في تفسير الرواية.

المقام الرابع في الاستيلاء على الحقوق

قد عرفت أنّ الاستيلاء على العين أمارة الملكية وربّما لا تكون العين ملكاً للمستولي ولكن يكون له حقّ فيها، كحقّ الاختصاص بالخلّ المتبدَّل إلى الخمر، ومثله الميتة، فيقال: إنّ مالك الخل والحيوان الذي مات حتف أنفه ذو حقّ بالنسبة إلى الخمر وميتة الحيوان، فيكون الاستيلاء على العين دليلاً على الاستيلاء على الحقوق، نظير ذلك، ما رواه محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: رجل كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويُعَطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: «يتّقي اللّه، ويعمل في ذلك بالمعروف، ولا يضرّ أخاه المؤمن».(1)

فإنّ استيلاء صاحب الرحى على الانتفاع بالماء عرفاً حيث إنّه كان يمرّ عن طريق رحاه يعدّ دليلاً على كونه ذا حق.

وبذلك يتبيّن جريان الاستيلاء وقاعدة اليد في النسب والأعراض، فلو

ص:316


1- . الوسائل: 343/17، الباب 15 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1.

تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يدهما، أو ولد في بيته، فيحكم على الزوجة والولد بأنّها زوجة من هي تحت يده، ومثله الولد.

وقد عرفت أنّ فلسفة اعتبار اليد هو أنّ مناشئ الاستيلاء في العصور السابقة كانت مناشئ صحيحة، خصوصاً بالنسبة إلى الأعراض و الأولاد، فإنّ الاستيلاء على عرض الغير وولده أمر نادر، فاعتبر الاستيلاء على الحقوق وصار دليلاً عليها كما هو الحال في الأعيان.

المقام الخامس الاستيلاء على المنافع

إنّ العين رمز المنافع ووجود إجمالي لها ولولا اشتمالها على المنافع لم يرغب أحد في الاستيلاء عليها.

إنّما الكلام في صحّة الاستيلاء على المنافع، فهل الاستيلاء على المنافع في طول الاستيلاء على العين أو في عرضها أو لا استيلاء عليها؟

فالحقّ هو الأوّل بمعنى أنّ الاستيلاء على العين عند التحليل يُعد استيلاء للمنافع، فمالك العين في ضمن الاستيلاء عليها، مستولٍ عند التحليل على منافعها.

وبعبارة أُخرى: انّ العين لمّا كانت رمزاً للمنافع يعدُّ التسلّط عليها تسلّطاً على المنافع في ضمنها، وهذا هو المراد من أنّ الاستيلاء على المنافع في طول الاستيلاء على العين، لا بمعنى أنّ هنا استيلاءين مستقلّين أحدهما بعد الآخر، بل

ص:317

استيلاء واحد على العين ظاهراً وعلى المنافع عند التحليل، فالاستيلاء الثاني هو الوجود التفصيلي للاستيلاء الأوّل.

وربما يقال بعدم إمكان الاستيلاء على المنافع وذلك لأنّ المنفعة من الأُمور التدريجية غير قارّة الذات لا يوجد جزء منها إلّابعد انعدام جزء آخر، ومثل ذلك لا يمكن أن يقع طرفاً للإضافة بينها و بين الإنسان، لامتناع تحقّق الإضافة بين الموجود والمعدوم.

يلاحظ عليه: أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المنافع تقع تحت الاستيلاء في عرض الاستيلاء على العين، وأمّا إذا كان الاستيلاء عليها من خلال الاستيلاء على العين فلا يرد الإشكال، لأنّ مصحّح الاستيلاء على المنافع هو وجود الاستيلاء على العين وكونها رمزاً لوجود المنافع وتحقّقها، وكأنّ العين في نظر العقلاء هو المنافع المتجسّدة في الخارج.

وبما ذكرنا يعلم أنّ الإجارة عبارة عن تسليط الغير على العين لغاية الانتفاع وليس تسليطاً على المنافع مجرّدة عن تسليطه على العين، فصاحب العين يسلّط المستأجر على العين بما هي رمز للمنافع، و بما انّها وجود جمعي لها حتى فيما لو كانت المنفعة من الأعيان كالثمرة على الشجرة والزرع على الأرض فالاستيلاء عليها في ضمن الاستيلاء على العين.

ثمّ إنّ الاستيلاء على المنافع إنّما ينفع في مقابل الأجنبي الذي يدّعي ملكية المنافع فيكون المستولي على المنافع منكراً والآخر مدّعياً لا في مقابل المالك فانّ اعتراف المستولي على المنافع بكونه مالكاً يوجب انقلاب الدعوى فيكون المستولي مدّعياً والمالك منكراً.

ص:318

المقام السادس إذا شكّ ذو اليد في مالكيته

إنّ اليد حجّة لغير ذي اليد في حال الشكّ، إنّما الكلام في اعتبارها بالنسبة إلى نفس صاحب اليد إذا شكّ في كون ما استولى عليه، ملكاً له أو أمانة.

ذهب المحقّق النراقي في «عوائده» إلى عدم اعتبارها عند شكّ المستولي واستدلّ على ذلك بوجوه:

الأوّل: انصراف العمومات عن هذه الصورة وقصورها عن الشمول لها، وإلى ذلك أشار بقوله: إنّ السابق من اقتضاء اليد الملكية غير ذلك المورد.

الثاني: ما رواه جميل بن صالح في الصحيح قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل وجد في بيته ديناراً؟ قال:

«يدخل منزله غيره؟» قلت: نعم كثير، قال: «هذا لقطة».

قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟، قال: «يُدخل أحد يدَه في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟» قلت: لا، قال: «فهو له».(1)

وجه الدلالة من وجهين:

1. انّه حكم فيما هو في داره الذي لا يعلمه انّه له، مع كونه في يده ومستولياً عليه، انّه ليس له.

2. علّل كون ما وجد في الصندوق له، بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره،

ص:319


1- . الوسائل: 353/17، الباب 3 من أبواب اللقطة، الحديث 1.

وذلك من خلال عدم إدخال غيره يده فيه ولم يعلِّله باليد.

الثالث: ما رواه إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: «يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها».

قلت: فإن لم يعرفونها، قال: «يتصدّق بها».(1)

وجه الدلالة: انّه لا شكّ أنّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل على ما عرفت، ولو انّهم قالوا انّا لا نعلم أنّها لنا أو لغيرنا، فيصدق انّهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم.

ومن ذلك يعلم أنّ اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه إن لم تعلم ملكيته.(2)

يلاحظ على الأوّل: أنّه لا قصور في قوله: «من استولى على شيء منه فهو له»، فهو يعم صورة الشكّ، وعلى ذلك فالإطلاق محكم.

وأمّا الاستشهاد برواية جميل بن صالح بكلا شقّيها فضعيف.

أمّا الشقّ الأول، أعني: «جعل الإمام ما وجد في منزله بحكم اللقطة»، لا لأجل عدم اعتبار اليد عند الشك، بل لأجل خصوصية في المنزل حيث إنّه فرض انّه يدخله غيره، وانّه كان كديوانية العلماء أو كالفنادق المؤجّرة والمنازل المعدّة لنزول الزائر، ففي هذه المجالات لا يحكم بالملكية لا لأنّ القاعدة ليست حجّة في

ص:320


1- . الوسائل: 355/17، الباب 5 من أبواب اللقطة، الحديث 3.
2- . عوائد الأيام: 255-256، ط عام 1321 ه.

ظرف الشكّ، بل لعدم صدق الاستيلاء التام لفرض انّ الدار كانت مفتوحة لكل وارد، فكيف يحكم بكون ما فيه لصاحب الدار؟

وأمّا الشقّ الثاني، فانّ تعليل الإمام بكون ما وجد في الصندوق لصاحبه بالاختصاص ليس لكونه مفيداً للعلم، إذ لا ينافي أن يكون الصندوق مختصّاً لصاحبه مع أنّه يضع صاحب الصّندوق فيه أمانات الناس، فمن المحتمل أن يكون الموجود فيه للغير حيث أخذه منه و تركه فيه من دون أن يضع علامة عليه.

بل لأجل أنّ الاستيلاء دليل على الملكية سواء أكانت مفيدة للعلم أو لا.

هذا كلّه حول رواية جميل بن صالح.

وأمّا رواية إسحاق بن عمار، فالجواب عنه واضح بالإمعان فيما ذكرناه حول رواية «جميل»، لأنّ بيوت مكة يومذاك كان حكمها حكم الفنادق والمضائف، فلا يعدّ الاستيلاء دليلاً على الملكية لصاحب البيت.

ص:321

المقام السابع في حجّية اليد فيما إذا علم عنوانها حدوثاً

لا شكّ في حجّية اليد إذا لم يعلم حالها حدوثاً واحتمل الاستيلاء عليها بانتقال المال عن مالكه إليه وهذا هو القدر المتيقّن من حجّية اليد فتكون اليد حاكمة على الاستصحاب، أي استصحاب كونها باقية في ملك المالك السابق، وسيوافيك بيان كيفية حكومة اليد على الاستصحاب في آخر القاعدة.

إنّما الكلام فيما إذا علم عنوان حدوثها وكان غير مفيد للملكية، وذلك كما في الصورتين التاليتين:

الصورة الأُولى: إذا استولى عليها في حال كونها عادية أو عارية أمانة ولكن يحتمل انتقال المال إليه بناقل شرعي.

الصورة الثانية: أن لا يعلم حال اليد عند الاستيلاء ولكن علم أنّه كان قبل الاستيلاء عيناً موقوفة ولكن يحتمل انتقال العين إليه ببعض المجوِّزات لبيع الوقف.

فهل تعد اليد أمارة الملكية في هاتين الصورتين أو لا؟

أمّا الصورة الأُولى: فقد حكم فيها المحقّق النائيني بسقوط اليد والعمل بما يقتضيه استصحاب حال اليد، فانّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة أو الغصب ونحوهما، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب، فلا تكون كاشفة عن الملكية.(1)

ص:322


1- . فوائد الأُصول: 604/4.

وحاصل ما أفاده أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها والاستصحاب يرفع موضوع اليد ويبيّن حالها فيكون الاستصحاب حاكماً على اليد إذا كان المستصحِب صاحبُ اليد.

والأولى أن يقال: انّه إنّما يحتج باليد إذا لم يحرز فساد الاستيلاء كالغصب، أو لم يحرز انّه بطبعه غير مقتض للملكية كالعارية، ولو أحرز انّه كان من أوّل الأمر كذلك فلا يحتج باليد على الملكية لقصورها من أوّل الأمر فتسقط اليد عن الاعتبار ويرجع إلى الأصل.

وبعبارة أُخرى: تقديم الاستصحاب على اليد ليس من باب حكومته عليها، بل من باب قصور قاعدة اليد في المقام، لما عرفت من عدم استقرار بناء العقلاء على الملكية في الموارد التي من طبعها عدم الملكية كما هوالمفروض من أنّ الاستيلاء كان استيلاءً عادية أو عارية.

وأمّا الصورة الثانية: فلا يعدّ الاستيلاء دليلاً على الملكية، إذ كما يشترط أن لا يكون الاستيلاء محرز الفساد كذلك يشترط أن يكون المستولى عليه بطبعه قابلاً للتملّك، فخرجت العين الموقوفة لأنّها بطبعها غير صالحة للتملّك، واحتمال عروض مجوّز الانتقال شاذ لا يُعبأ به حسب الطبع الغالب.

وسيوافيك في قاعدة أصالة الصحّة انّها إنّما تجري فيما إذا كان المورد غير مقتض للفساد بطبعه وإلّا فلا تجري أصالة الصحّة، مثلاً لو باع شخص العين الموقوفة واحتملنا انّه يبيع بالمجوز الشرعي فلا تجري أصالة الصحّة، لأنّ المورد بطبعه يقتضي الفساد، واحتمال عروض المجوِّز شاذ لا يعبأ به، ومثله المقام فانّ احتمال انتقال العين الموقوفة بمجوّز شرعي إلى صاحب اليد شاذ.

ص:323

وأمّا الاستيلاء على الأراضي المفتوحة عنوة فإن قلنا بما جاء في رواية محمد الحلبي من أنّها محبوسة موقوفة في أيدي المسلمين لا يجوز بيعها وشراؤها وإنّما يؤخذ الخراج، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد»(1) ولكن احتملنا عروض مجوّز للبيع كالوقف يكون حاله حال الوقف في عدم الاعتبار لليد، ويكون المستولى عليه بالطبع غير قابل له إلّافي فترات خاصّة؛ وأمّا إذا قلنا إنّه ملك للمسلمين ويقبل النقل والانتقال غاية الأمر الناقل هو الولي العام حسب ما اقتضته المصلحة النوعية، فهو يفارق الوقف، لأنّ صلاحية المستولى عليه محرزة ولم يحرز فساد نفس الاستيلاء لكون الحدوث مجهول العنوان حتّى يمنع الاستناد إليه.

ص:324


1- . الوسائل: 346/17، الباب 18 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1.
المقام الثامن مدّعي الملكية في مقابل ذي اليد

إذا كان لرجل يد على العين فادّعاها آخر، فله صور:

1. إذا كان للمدّعي بيّنة على أنّه انتقل من ذي اليد إليه بإحدى المملِّكات الشرعيّة فعندئذٍ تُقدَّم البيّنة على ذي اليد أخذاً بقوله عليه السلام: «البيّنة للمدّعي واليمين على من أنكر».(1)

2. إذا كان الحاكم عالماً بأنّه كان للمدّعي سابقاً ولكن يحتمل انتقاله إلى ذي اليد بسبب من الأسباب الشرعية، فيقدّم قول ذي اليد ولا عبرة بعلم القاضي، إذ لا منافاة بين علمه بأنّ العين كانت للمدّعي في سالف الزمان، وكونه ملكاً لذي اليد فعلاً.

3. إذا قامت البيّنة على أنّ العين كانت للمدّعي في سالف الزمان و مع ذلك يحتمل انتقال العين إلى ذي اليد بسبب من الأسباب المملكة، فالحكم في هذه الصورة هو الحكم في الصورة السابقة. فيؤخذ بقول ذي اليد ولا عبرة ببيّنة المدّعي، إذ أقصى ما تثبته البيّنة انّه كان مالكاً في سالف الزمان من دون تعرّض للحالة الحاضرة فهي لا تنافي الملكية الفعلية لذي اليد.

واستصحاب بقاء الملكية في كلتا الصورتين مردود لحكومة قاعدة اليد عليه كما سيوافيك.

ص:325


1- . الوسائل: 215/18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء، الحديث 3.

4. لو شهدت البيّنة بالملكية الفعلية لكن عُلم أنّ مصدر شهادتها هو الاستصحاب حيث كانت عالمة بملكية المدّعي في سالف الزمان فشكّت واستصحبت بقاء الملكية فشهدت بها بوصف كونها ملكاً فعلاً للمدّعي. وحكم هذه الصورة كالصورتين الثانية والثالثة إذ لا عبرة بالشهادة لفساد مصدره، إذ لو تمّ الاستصحاب للبيّنة لتم للحاكم أيضاً، و من المعلوم انّ الشهادة على أساس الاستصحاب شهادة زور وتدليس في مقابل اليد.

نعم لو لم يكن هناك يد لأحد لصحّ للشاهد الاستصحاب والشهادة على أساسه، وبذلك يعلم مفاد ما يقال:

«تجوز الشهادة بالاستصحاب» فإنّها ناظرة إلى عين في يد ثالث لا ادّعاء له عليها ويدّعيها شخصان آخران وكان المال ملكاً لأحدهما سابقاً، فتجوز الشهادة بالملكية الفعلية لذي اليد.

5. إذا أقرّ ذو اليد بكون العين ملكاً للمدّعي في السابق من دون أن يقرّ بانتقالها منه إليه أو إلى غيره، فلا عبرة بهذا الإقرار، لأنّه لا يتجاوز عن علم القاضي بكونها ملكاً للمدّعي في السابق ولا عن قيام البيّنة كذلك، فانّ غاية ما يفيده إقرار المقر هو انّه كان ملكاً للمدّعي في سالف الزمان، ولكنّه لا ينافي كونه ملكاً للمقرّ فعلاً، فاليد حاكمة في هذا المقام.

6. إذا أقرّ ذو اليد بأنّ العين كانت ملكاً للمدّعي ومنه انتقل إليه بأحدى النواقل الشرعيّة، ففي مثل ذلك يكون ذو اليد المقرّ، مدّعياً والمدّعي منكراً، وذلك لأنّ ذا اليد اعترف بكونه ملكاً للمدّعي سابقاً وادّعى انتقاله منه إليه فصار مدّعياً بادّعاء الانتقال فعليه أن يثبت ادّعاءه بالبيّنة أو بالحلف إذا ردّ إليه المنكر.

وبما ذكرنا يعلم أنّ الذي صار سبباً للانقلاب هو ادّعاؤه بانتقالها منه إليه

ص:326

وإلّا فمجرّد إقراره بأنّه كان له لا يوجب الانقلاب لما عرفت من أنّ هذا الإقرار يجتمع مع كونه مالكاً فعلاً.

والحاصل انّ دعوى الانتقال بعد الإقرار بكونه للمدّعي على خلاف الأصل، لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان، فلا يثبت الانتقال عنه إلّابدليل.

ثمّ إنّ الظاهر من كلمات المشهور أنّ انقلاب الدعوى عند ادّعاء الانتقال وصيرورة المنكر مدّعياً والمدّعي منكراً تام مطلقاً، وعلى جميع المباني المطروحة في تمييز المدّعي عن المنكر، ولكن الظاهر انّ الحكم يختلف حسب اختلاف المباني المذكورة في تمييزهما وإليك بيانها.

أ: لو قلنا بأنّ المدّعي من خالف قوله الأصل و المنكر من وافقه، و كان محور الموافقة والمخالفة مآل الدعوى ونتيجتها لا ما يطرح أوّلاً، فالحقّ انقلاب الدعوى وصيرورة المنكر مدّعياً والمدّعي منكراً إذا ادّعى المنكر الانتقال، وذلك لأنّ مصبّ الدعوى و إن كان مالكية المدّعي للعين وإنكار ذي اليد لها، لكن هذا ليس هو المعيار لتمييز المدّعي عن المنكر، بل المقياس هو مآل الدعوى ونتيجتها وهي ادّعاء ذي اليد انتقال العين من المدّعي، إليه، و من المعلوم أنّ الأصل عدم الانتقال.

وإن شئت قلت: إنّهما وإن اختلفا في بدء الأمر في مالكية المدّعي وعدمها لكن لما انجرّ النزاع إلى اعتراف المنكر بأنّها كانت له وانّه اشتراها منه، استقرّ النزاع أخيراً على أمر آخر وهو تحقّق الانتقال وعدمه، فذو اليد مدّع للانتقال والطرف المقابل منكر له، وبذلك تنقلب الدعوى.

ب: لو قلنا بأنّ المدّعي من خالف قوله الأصل والمنكر من وافقه ولكن محور الموافقة والمخالفة مصب الدعوى لا ما انتهت الدعوى إليه، فعند ذلك تبقى

ص:327

الدعوى على حالها، لأنّ المدّعي يدّعي المالكية ولكنّ صاحبَ اليد ينكرها.

ج: لو قلنا بأنّ المدّعي والمنكر من المفاهيم العرفية، والعرف هو المرجع في تمييز أحدهما عن الآخر، والمعيار عنده هو أنّ المدّعي هو الذي لو ترك، تُركت الدعوى بخلاف المنكر، فعلى هذا تبقى الدعوى على حالها وإن ادّعى الانتقال ولا يلزم الانقلاب، وذلك لأنّ ذا اليد لو ترك لم تُترك الدعوى بخلاف الطرف المقابل إذ لو ترك تركت الدعوى.

د: لو قلنا بأنّ المدّعي هو من خالف قوله الظاهر والمنكر من وافقه لبقيت الدعوى على حالها ولا يلزم منها الانقلاب، لأنّ الظاهر هو مالكية المستولي على العين سواء أقرّ بمالكية المدّعي سابقاً أو لا، وعلى فرض الإقرار ادّعى انتقاله منه أو لم يدع.

وبذلك يظهر انّ القول بالانقلاب إنّما يصحّ على الوجه الأوّل دون سائر الوجوه.

ص:328

المقام التاسع في تحليل الحوار الدائر بين الإمام والخليفة

روى الطبرسي في «الاحتجاج» الحوار الذي دار بين الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام والخليفة أبي بكر حيث طلب الثاني من الإمام عليه السلام البيّنة على مالكيته لفدك فأجابه الإمام بما هذا نصّه:

«أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟»

قال: لا.

قال: «فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادّعيتُ أنا فيه، من تسأل البيّنة؟».

قال: إيّاك كنتُ أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين.

قال: فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي، وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبعده، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيتُ عليهم؟».

إلى أن قال: «وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر».(1)

فربما يقال بأنّ الإمام وإن كان مستولياً على فدك وكانت له يد عليها وبذلك كان منكراً والخليفة مدّعياً، و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: البيّنة على المدّعي

ص:329


1- . الوسائل: 215/18، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء، الحديث 3.

واليمين على من أنكر، و كان طلب الخليفة البيّنة منه على خلاف القاعدة، ولكن لمّا ادّعى الإمام عليه السلام بأنّه ملك فدك في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، اعترف عندئذ بأنّها كانت ملكاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وانّه نحلها له أو لبنته، فصار لازم ذلك الإقرار انقلاب الدعوى وصيرورة الإمام - الذي كان منكراً - مدّعياً والمدّعي منكراً، لأنّ الإمام يدّعي انتقال الملك إليه.

هذا كلّه مع تسليم ما رووه من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يورِّث، وعندئذٍ كان لمن تقمّص الخلافة طلب البيّنة من الإمام على الانتقال والتمليك في حال الحياة.

وقد أُجيب عنه بوجوه أوضحها: انّه إنّما يلزم الانقلاب لو كان الطرف الآخر منكراً لما يدّعيه ذو اليد، لا جاهلاً أو متردّداً، والقوم - حسب الظاهر - كانوا شاكّين ومترددين في النحل و التمليك لا مدّعين للعدم، وفي مثل ذلك يكون الاستيلاء حجّة ممضاة عند العقلاء والشرع، وليست قضيته مثل ما إذا كان الآخر منكراً للانتقال وذو اليد مدّعياً له.

المقام العاشر مستثنيات قاعدة اليد

قد مرّ سابقاً انّ اعتماد العقلاء على الاستيلاء لأجل انّ الطابَع الغالب عليه هو الملكية، فعلى ذلك فلو كان هناك مورد أو موارد كان الطابَع الغالب عليه هو عدم الملكية، فلا يحتج بهذا الاستيلاء سواء كان استيلاؤه عليه بلا سبب مشروع أو عن سبب مشروع، فالأوّل كيد السارق و الغاصب والمتهم في أمواله، فانّ الغالب على أموالهم هو عدم الملكية، فلا يعد ما تحت أيديهم عند الشكّ ملكاً لهم.

ص:330

والثاني كيد الأُمناء كالسمسار والدلاّل الذي يغلب على الأموال الواقعة تحت يده، كونها لغيره، فلو مات لا تقسم أمواله بين الورثة، ونظيره المال الواقع تحت يد الودعيّ أي من يودع الناس أموالهم عنده.

ومنه يظهر حكم جباة الزكاة والخمس ووكلائهم حيث إنّ الغالب على أموالهم كونها للغير، ولذلك لا تُقسّم أموال المرجع الديني بموته بين الورثة، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تعدّ اليد أمارة على الملكية.

خاتمة

إنّ النسبة بين اعتبار اليد والاستصحاب هو نسبة الأمارة إلى الأصل، و قد مرّ دلالة الروايات على كونها أمارة وعرفت أنّ الأمارة واردة على الأصل، لأنّ لسان الأمارة هو طرد الشك ومكافحته ولسان الأصل هو الحكم مع حفظ الشكّ، فالاستصحاب حكم في ظرف الشكّ بخلاف قاعدة اليد فإنّها أمارة للملكية ورافعة للشكّ.

مضافاً إلى أنّ اعتبار الاستصحاب في مقابل اليد يوجب لغوية القاعدة واختلال النظام المعيشي بين الناس، لأنّ أكثر ما يباع في السوق هو ما كان ملكاً للغير، فلو كان الحاكم عند الشكّ هو الاستصحاب لاختل نظام الحياة الاقتصادية.

تمّ الكلام في قاعدة اليد وله الحمد

ص:331

القواعد الأربع

2 قاعدة التجاوز والفراغ
اشارة

من القواعد الفقهية المهمة قاعدة التجاوز والفراغ ويستخدمها الفقيه في غير واحد من أبواب الفقه، ثمّ إنّ إيضاح مفاد القاعدة وبيان دلائلها وكيفية نسبتها إلى الاستصحاب رهن بيان أُمور:

الأمر الأوّل الفرق بين قاعدتي التجاوز وأصالة الصحّة

تشترك قاعدة التجاوز مع قاعدة أصالة الصحّة في المؤدّى وهو إثبات الصحة للعمل، لكن لو كان الموضوع للصحّة هو فعل نفس المجري يُسمّى قاعدة التجاوز كما إذا شك في صحّة صلاته بعد فراغه، وإن كان الموضوع لها فعل الغير يسمّى بأصالة الصحّة كما إذا شُكَّ في صحّة بيع صدر من الغير وإلى ذلك يشير فخر المحقّقين في إيضاحه ويقول: إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمَّته بفعل صحيح وهو يعلم الكمية والكيفية، الصحّة.(1) وإنّما عُدّتا قاعدتين لأجل ورود الروايات بكلا العنوانين الظاهرين في التعدّد.

ص:332


1- . إيضاح القواعد: 41/1، في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة.
الأمر الثاني قاعدة التجاوز قاعدة فقهية

قد عرفت أنّ القاعدة الفقهية تفترق عن المسألة الأُصولية في جانب المحمول، فالمحمول في الأُولى حكم شرعي تكليفي أو وضعي.

نظير قولك: «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام»، أو «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فالمحمول في المثال الأوّل حكم تكليفي وفي المثال الثاني حكم وضعيّ.

وأمّا المحمول في المسألة الأُصولية، فهو إمّا حكم عقلي نظير قولك: «الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها»، أو أمر لغوي أو عرفي نظير قولك: «الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة».

وإن شئت قلت: الأمر يدلّ على الوجوب والنهي على الحرمة أو غير ذلك.

والحاصل انّ بالمحمول تتميز القاعدة الفقهية عن المسألة الأُصولية.

فالمحمول في قاعدة التجاوز هو وجوب المضي الملازم للصحة، فالمحمول باعتبار حكم تكليفي وباعتبار آخر حكم وضعي.

وأمّا على المعيارين الآخرين في تمييز القاعدة الفقهية عن المسألة الأُصولية، فقاعدة التجاوز قاعدة فقهية، والمعياران هما:

1. القاعدة الفقهية يستخدمها الفقيه والمقلِّد بعد الإحاطة بحدودها عن طريق التعليم، بخلاف المسألة الأُصولية فإنّ إعمالها يختص بالمجتهد.

فعلى هذا المعيار فقاعدة التجاوز قاعدة فقهية، لأنّ المقلِّد أيضاً يستعملها

ص:333

في شكوكه في الصلاة والطواف والطهارة وغيرها.

2. انّ القاعدة الفقهية لا تقع في طريق الاستنباط بل يطبق على موردها، كتطبيق الإنسان على زيد في التصوّرات، أو انطباق كلّ نار حارّة على مواردها التصديقية، بخلاف المسألة الأُصولية إذ يستكشف منها آفاق جديدة لم تكن معلومة من ذي قبل لا إجمالاً ولا تفصيلاً. كما هو الحال بالقول بالملازمة بين المقدّمة وذيها فيستنبط منها وجوب الوضوء أو الغسل أو غير ذلك الذي لم يكن كل واحد معلوماً من ذي قبل أبداً.

وعلى ضوء ذلك يجب القول بأنّ قاعدة التجاوز مثل قوله: «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو» قاعدة فقهية لا يستنبط منها عند الإعمال شيء جديد إلّاتطبيق الأمر المجمل على الأمر المفصّل.

الأمر الثالث مدرك القاعدة ومصدرها

قد ورد في المقام روايات في الأبواب التالية تدلّ على اعتبار القاعدة:

أ: ما ورد في باب الوضوء و الغسل.

ب: ما ورد في باب الصلاة.

ج: ما ورد في باب الطواف.

وها نحن نذكر في ذلك أكثر ما وقفنا عليه وفقاً لهذه الأبواب.

ص:334

أ: ما ورد في باب الوضوء والغسل

1. موثّقة ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه».(1)

وذيل الحديث بصدد إعطاء الضابطة الكلّية من دون فرق بين باب الوضوء والصلاة، والمورد لا يكون مخصّصاً.

وأمّا الضمير في قوله: «وقد دخلت في غيره» يرجع إلى الوضوء في قوله «من الوضوء» لا إلى شيء في قوله:

«في شيء» و ذلك لوجهين:

الأوّل: أقربية الأوّل.

الثاني: اتّفاقهم على عدم جريان القاعدة في أثناء الوضوء، فلا يكفي التجاوز عن شيء من الوضوء، والدخول في شيء آخر منه في جريان القاعدة بل لابدّ من التجاوز من الوضوء و الدخول في غير الوضوء فلا محيص عن إرجاع الضمير في «غيره» إلى الوضوء، لأنّ التجاوز عن شيء من أجزاء الوضوء لا يكفي في جريان القاعدة. و سيوافيك شرح الحديث في موضعه.

2. موثّقة بكير بن أعين، قال: قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك».(2)

ومورد الرواية وإن كان هو الوضوء لكن التعليل بالأمر الارتكازي يجعله قاعدة كلّية تستخدم في عامّة الأبواب.

ص:335


1- . الوسائل: 330/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
2- . الوسائل: 331/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

3. ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة؟ فقال: «... فإن دخله الشكّ وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شيء عليه».(1)

ب: ما ورد في باب الصلاة

ما ذكرنا كان هو الوارد في بابي الوضوء والغسل، وأمّا الوارد في باب الصلاة فهو على طوائف ثلاث:

الطائفة الأُولى: ما ورد في المضي بعد خروج الوقت أو دخول الحائل

4. صحيحة زرارة والفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها، أو في وقت فوتها أنّك لم تصلّها، صلّيتها، وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتى تستيقن، فإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حالة كنت».(2)

وهذا يعرب عن أنّ عدم الاعتناء بالشكّ بعد الوقت من مصاديق القاعدة، ويشعر بذلك لفظ «الحائل».

5. ما رواه ابن إدريس في «مستطرفات السرائر» نقلاً من كتاب حريز بن عبد اللّه، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا جاء يقين بعد حائل، قضاه ومضى على اليقين ويقضي الحائل والشكّ جميعاً، فإن شكّ في الظهر فيما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها، وإن دخله الشكّ بعد أن يصلّي العصر فقد مضت،

ص:336


1- . الوسائل: 524/1، الباب 41 من أبواب الجنابة، الحديث 2.
2- . الوسائل: 205/3، الباب 60 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

إلّا أن يستيقن، لأنّ العصر حائل فيما بينه و بين الظهر، فلا يدع الحائل لما كان من الشكّ إلّابيقين».(1)

والمراد من الحائل في الرواية هو الصلاة المترتبة على الأُخرى كما هو ظاهر، والرواية من أدلّة القول بأنّه لو شكّ في الظهر بعد الإتيان بالعصر لا يجب عليه إتيان الظهر وإن كان الوقت باقياً، لأنّ صلاة العصر صارت حائلاً بينه و بين الظهر فلا يدع الحائل لما كان من الشكّ إلّابيقين.

6. ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذا شككت في شيء من صلاتك وقد أخذت في مستأنف، فليس بشيء، إمض».(2)

الطائفة الثانية: ما ورد في المضي بعد الفراغ من العمل

7. ما رواه محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كلّ ما مضى من صلاتك و طهورك و ذكرته تذكّراً فامضه، ولا إعادة عليك فيه».(3)

8. ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو».(4)

والحديث وإن كان يعم الشكّ في الأثناء أيضاً كما سيوافيك في الرقم 17، ولكنّه في الشكّ في الفراغ عن الصلاة أظهر.

9. صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يشكّ بعد ما

ص:337


1- . الوسائل: 205/3، الباب 60 من أبواب المواقيت، الحديث 2.
2- . مستدرك الوسائل: 417/6، الباب 20 من أبواب الخلل، الحديث 3.
3- . الوسائل: 331/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 6.
4- . الوسائل: 336/5، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

ينصرف من صلاته؟ قال: فقال: «لا يعيد، ولا شيء عليه».(1)

10. صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد».(2)

الطائفة الثالثة: ما ورد في المضي في أثناء العمل

11. روى زرارة بسند صحيح، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل شكّ في الأذان و قد دخل في الإقامة؟ قال:

«يمضي» قلت: رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال: «يمضي».

قلت: رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال: «يمضي».

قلت: شكّ في القراءة وقد ركع؟ قال: «يمضي».

قلت: شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال «يمضي على صلاته».

ثمّ قال: «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء».(3)

والرواية وإن وردت في مورد الصلاة لكن المستفاد من مخاطبة الإمام لزرارة بقوله: «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»، هو كونها ضابطة كلّية في مجالي العبادات والمعاملات.

12. صحيحة إسماعيل بن جابر، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض، كلّ شيء

ص:338


1- . الوسائل: 342/5، الباب 27 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
2- . الوسائل: 342/5، الباب 27 من أبواب الخلل، الحديث 1 و 2.
3- . الوسائل: 336/5، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1.

شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».(1)

والمتبادر من الذيل الضابطة الكلّية من غير اختصاص بباب الصلاة فضلاً عن اختصاصها بالركوع والسجود وليس ظهور قوله عليه السلام: «وكلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه» بأقل من ظهور قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» في ضرب القاعدة الكلية وإن كان مصدَّراً بالسؤال عن الوضوء.

13. رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك».(2)

14. ما رواه حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ قال:

«امض».(3)

15. ما رواه فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال: «بلى قد ركعت، فامض في صلاتك».(4)

16. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: «قد ركع».(5)

17. ما رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو».(6)

ص:339


1- . الوسائل: 937/4، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 4.
2- . الوسائل: 343/5، الباب 27 من أبواب الخلل، الحديث 3.
3- . الوسائل: 936/4، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 1.
4- . الوسائل: 936/4، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3.
5- . الوسائل: 937/4، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 6.
6- . الوسائل: 336/5، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.

18. دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه قال: «من شكّ في شيء من صلاته بعد أن خرج منه، مضى في صلاته، إذا شكّ في التكبير بعد ما ركع مضى، و إن شكّ في الركوع بعد ما سجد مضى، و إن شكّ في السجود بعد ما قام أو جلس للتشهّد مضى».

19. فقه الرضا عليه السلام: «وإن شككت في أذانك وقد أقمت الصلاة فامض، وإن شككت في الإقامة بعد ما كبّرت فامض، (وإن شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض)(1) وإن شككت في الركوع بعد ما سجدت فامض، وكلّ شيء تشكّ فيه و قد دخلت في حالة أُخرى فامض، ولا تلتفت إلى الشكّ إلّاأن تستيقن، فانّك (إذا استيقنت أنّك)(2)تركت الأذان - إلى أن قال: - و إن نسيت الحمد حتّى قرأت السورة، ثمّ ذكرت قبل أن تركع، فاقرأ الحمد وأعد(3)السورة، وإن ركعت فامض على حالتك».(4)

ج: ما ورد في باب الطواف

20. ما رواه محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف بالبيت فلم يدر أستّة طاف أو سبعة، طواف فريضة؟ قال: «فليعد طوافه»، قيل: إنّه قد خرج وفاته ذلك؟ قال: «ليس عليه شيء».(5)

21. ما رواه منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف

ص:340


1- . ما بين القوسين ليس في المصدر.
2- . ما بين القوسين ليس في المصدر.
3- . في المصدر: عدا.
4- . انظر فيما نقلناه عن دعائم الإسلام وفقه الرضا، مستدرك الوسائل: 417/6، الباب 20 من أبواب الخلل، الحديث 1-2.
5- . الوسائل: 433/9، الباب 33 من أبواب الطواف، الحديث 1.

طواف الفريضة فلم يدر ستّة طاف أم سبعة؟ قال: «فليعد طوافه» قلت: ففاته؟ قال: «ما أرى عليه شيئاً والإعادة أحبّ إليّ وأفضل».(1)

وثبوت الحكم في باب الطواف مضافاً إلى ثبوته في أبواب الوضوء والصلاة يشرف الفقيه على كون قاعدة التجاوز والفراغ، قاعدة مطّردة في أبواب الفقه، كما لا يخفى.

الأمر الرابع في وحدة القاعدتين أو تعدّدهما

اختلفت كلمة الأُصوليين المتأخّرين في وحدة قاعدة «التجاوز» مع قاعدة «الفراغ» إلى أقوال:

1. وحدة القاعدتين. وهي خيرة الشيخ الأنصاري وهي المختار.

2. تعدّد القاعدتين.

ثمّ إنّ القائلين بالتعدّد اختلفوا في ملاكه إلى أقوال:

أ: اختصاص قاعدة التجاوز بالشكّ في وجود الشيء، وقاعدة الفراغ بالشكّ في صحّة الشيء، وهذا هو الظاهر من أكثر القائلين بالتعدّد كالمحقّق النائيني والخوئي على اختلاف يسير بين مختاريهما.(2)

ص:341


1- . الوسائل: 435/9، الباب 33 من أبواب الطواف، الحديث 8.
2- . حيث خصّ المحقّق النائيني قاعدة الفراغ بالشكّ في الصحة بعد الفراغ عن العمل، وعمّمها المحقّق الخوئي لكلتا الصورتين سواء كان الشكّ في الصحة بعد الفراغ عن العمل أم في أثنائه، فلو شكّ في صحّة القراءة وهو في الركوع تعمّه قاعدة الفراغ عند المحقّق الخوئي دون المحقّق النائيني.

ب: اختصاص قاعدة التجاوز بالشكّ في الأثناء، وقاعدة الفراغ بالشكّ بعد العمل.

ج: اختصاص قاعدة التجاوز بالدخول في الغير دون الفراغ فلا يشترط فيه الدخول.

د: اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة وعمومية قاعدة الفراغ لعامة أبواب الفقه. وإليك دراسة الأقوال.

القول الأوّل: وحدة القاعدتين

يظهر من الأمعان في الروايات انّ الشارع جعل الحالة النفسيّة للعامل التي هي عبارة عن كونه بصدد إفراغ الذمّة، طريقاً إلى إتيانه بالواجب الجامع للأجزاء والشرائط، وإلى ما ذكرنا يشير فخر المحقّقين، وهو انّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح وهو يعلم الكمية والكيفية، الصحّة.

ويشير إلى ذلك قوله عليه السلام: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» كما في موثّقة بكير بن أعين(1). وقوله «وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّمنه بعد ذلك» كما في رواية محمد بن مسلم(2) إلى غير ذلك من التعاليل.

وعلى هذا فالمعيار هو كون المكلّف ذاكراً حين العمل وغير ذاكر عند الشكّ، فيؤخذ بالأوّل دون الثاني من غير فرق بين الشكّ في وجود الشيء أو صحته، أي سواء أشكّ في قراءة الحمد بعد الدخول في السورة أم في صحّة بعض

ص:342


1- . تقدم برقم 2.
2- . تقدّم برقم 13.

كلماته كذلك.

وعلى ذلك يكون جعل القاعدتين مستقلتين لغواً ثبوتاً وإثباتاً بعد اجتماعهما تحت ملاك واحد، وهو كون المكلّف أذكر بعمله حين العمل من حالة الشكّ، فيكون التجاوز عن الشيء على وجه الإطلاق ملاكاً لعدم الاعتداد بالشكّ لملاك الأذكرية حين العمل.

القول الثاني: تعدّد القاعدتين

ثمّ إنّ القائلين بتعدّد القاعدتين اختلفوا في ملاك التعدّد إلى أقوال أربعة كما عرفت، وإليك دراسة هذه الملاكات الأربعة.

الملاك الأوّل للتعدّد:

تخصيص قاعدة التجاوز بالشكّ في الوجود، وتخصيص قاعدة الفراغ، بالشكّ في الصحّة، واستدلّوا على اختلاف الملاكين بهذا النحو بوجوه:

1. انّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة، ومتعلّقه في قاعدة الفراغ هو وجوده بمفاد كان الناقصة، ولا جامع بينهما فلا يمكن اندراجهما تحت كبرى واحدة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ المجعول هو الأمر الكلّي العام الشامل لكلا الأمرين، وهو أنّ الشكّ بعد التجاوز عن الشيء بوجه عام لا يعتدُّ به، وأمّا كون الشكّ في إحداهما متعلِّقاً بالوجود وفي الأُخرى بالصحّة فهما من خصوصيات الموارد التي لا تلاحظ في إعطاء الضابطة، والملاك هو طروء الشكّ في الشكّ بعد التجاوز عنه،

ص:343


1- . فوائد الأُصول: 621/4.

وأمّا ما هو متعلّق الشكّ، فهل هو الوجود أو الصحّة؟ فغير ملحوظة في ضرب القاعدة كما هو الحال في عامة الضوابط، فلو قلنا: «كل ممكن فهو زوج تركيبي له ما هية ووجود»، فهي لا تهدف إلّاإلى كون الموضوع هو الظاهرة الممكنة وأمّا الخصوصيات من كونه مادياً أو مجرداً فغير ملحوظة في ضرب القاعدة.

وهذا هو الجواب الحقّ عن أصل الإشكال.

نعم أجاب الشيخ الأنصاري بوجه آخر وقال: «إنّ الشكّ في صحّة الشيء المأتيّ به، حكمه حكم الشكّ في الإتيان بما هوهو، لأنّ مرجعه إلى الشكّ في وجود الشيء الصحيح» وعلى هذا فقد أنكر الشيخ الأنصاري قاعدة الفراغ بالمرّة وأرجعها إلى قاعدة التجاوز، وأنّ الشكّ في صحّة العمل راجع إلى الشكّ في وجود العمل الصحيح وعدمه.

وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّه ربّما تمسُّ الحاجة لإثبات الصحة بمفاد كان الناقصة، كما في مورد الوضعيّات إذا شكّ في صحّة العقد في باب الأنكحة والبيوع فانّ المفيد هو إثبات صحّة العقد الموجود، لا إثبات وجود العقد الصحيح على الوجه المطلق.(1)

والحقّفي الجواب ما قررناه من أنّ المجعول هو الأمر الكلّي، والخصوصيات معلومة من خارج وغير دخيلة في الضابطة، وأمّا ما أجاب به الشيخ فيرد عليه مضافاً إلى ما ذكره المحقّق النائيني، انّ نفس الإرجاع أمر على خلاف الارتكاز، فانّ للإنسان نوعين من الشكّ تارة يتعلّق بنفس الوجود وأُخرى بوجوده صحيحاً، فلا ملزم لإدغام أحدهما في الآخر.

2. انّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو أجزاء المركب وفي قاعدة

ص:344


1- . فوائد الأُصول: 621/4.

الفراغ، هو نفس المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ولفظ «الشيء» في قوله عليه السلام: «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه»(1) لا يمكن أن يعمّ الكلّ والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد، فانّ لحاظ الجزء شيئاً بحيال ذاته، إنّما يكون في الرتبة السابقة على تأليف المركب، لأنّه في مرتبة التأليف لا يكون الجزء شيئاً بحيال ذاته في مقابل الكلّ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل، ويكون لحاظه تبعياً فلا يمكن أن يراد من لفظ «الشيء» في الرواية ما يعم الجزء والكلّ، بل إمّا أن يراد الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز، وإمّا أن يراد الكلّفتختص بقاعدة الفراغ.

وحاصله: انّ إرادة الجزء والكلّ بلفظ واحد مستلزم لاجتماع اللحاظين المختلفين فيه.(2)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّه مبني على اختصاص قاعدة الفراغ بالشكّ في وجود الشيء بعد الفراغ عن العمل مع أنّه على مذهب المحقّق الخوئي يعم الشكّ في وجود الشيء بعد الدخول في غيره كالشكّ في قراءة الحمد بعد الدخول في الركوع، فالجزء بوصف الجزئيّة ملحوظ في قاعدة التجاوز وفي قاعدة الفراغ أيضاً.

وثانياً: قد ذكرنا انّ الموضوع هو الشيء بمعناه الوسيع من دون تقييد بالجزئية والكلّية، وإنّما تعرضانه في مقام التطبيق فهو بإطلاقه يعمُّ القسمين، و قد قلنا في محله إنّ الإطلاق هو رفض القيود لا الجمع بين القيود، فقولنا: «إنّما الشك في شيء» أي ذات الشيء لا الشيء المتعنون بالجزئية والكلّية.

3. يلزم التناقض في مدلول قوله عليه السلام: «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» لو كان يعمّ الشكّ في الجزء والكلّ، فانّه لو شكّ المصلّي في الحمد و هو في الركوع

ص:345


1- . تقدّم برقم 1.
2- . فوائد الأُصول: 621/4.

فباعتبار الشكّ في الحمد بعد ما جاوز محله فلا يجب عليه العود، وباعتبار الشكّ في صحّة الصلاة لم يتجاوز عنها، لأنّه بعد في الأثناء فيجب عليه العود.

يلاحظ عليه: أنّ الأصل الجاري في جانب الجزء حاكم على الأصل الجاري في ناحية الكل.

وجه الحكومة انّ الشكّ في صحّة المجموع إذا كان ناشئاً من الشكّ في وجود الجزء في محلّه يكون التعبّد بوجوده رافعاً للشكّفي صحّة الصلاة.

4. التجاوز في قاعدة التجاوز إنّما يكون بالتجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه، وفي قاعدة الفراغ إنّما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله.(1)

يلاحظ عليه: أنّ التجاوز استعمل في المعنى الجامع الذي يصدق عليه أنّه تجاوز عن الشيء، وأمّا الخصوصيات، أعني: التجاوز عن نفس الشيء أو محله، فإنّما هو من خصوصيات المصاديق.

وبعبارة أُخرى: التجاوز عن الشيء بمعنى مضيِّ الزمان الذي كان المترقب كون الشيء فيه وهو يجتمع مع التجاوز عن وجوده أو محلّه.

والحاصل: انّ هذه الوجوه التي أقامها المحقّق النائيني على اختلاف القاعدتين لا تُثبت ما رامه.

وبذلك يعلم ضعف ما أفاده المحقّق الخوئي حيث إنّه سلّم إمكان جعل قاعدة واحدة تشمل جميع الموارد، لكن قال بأنّ مقتضى الإثبات هو التعدّد، وذلك لأنّ الشكّ في الشيء بمفاد كان التامّة أثناء العمل أو بعد الفراغ عن العمل هو مورد قاعدة التجاوز، والشكّ في صحّة الأمر الموجود، جزءاً كان

ص:346


1- . فوائد الأُصول: 623/4.

المشكوك أو كلاً، هو مورد قاعدة الفراغ، و قال: الفرق بينهما إنّما هو باختصاص قاعدة الفراغ بالشكّ في الصحّة مع فرض الوجود، واختصاص قاعدة التجاوز بالشكّ في الوجود دون الصحّة.

وأفاد في تبيين ذلك: أنّ الروايات الواردة في قاعدة الفراغ بين ما يختص بباب الطهارة، أو بباب الصلاة، أو لا يختص ويعمّ الطهارة و الصلاة وغيرهما، والظاهر من المضيّ فيما له مفهوم عام هو مضيّ الشيء المشكوك فيه حقيقة، كروايتي محمد بن مسلم:

1. سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «كل ما مضى من صلاتك وطهورك وذكرته تذكّراً فامضه ولا إعادة عليك فيه».(1)

2. و قال أبو جعفر عليه السلام: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو».(2)

فإذا كان اللفظ ظاهراً في مضي نفس الشيء فحمله على مضي محل المشكوك فيه بتقدير لفظ المحلّ أو من باب الاسناد المجازي يحتاج إلى قرينة، فيكون مفادهما، عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد مضي هذا الشيء المشكوك ولا يصدق المضي إلّابعد الوجود.

فيكون مفادهما قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز فلو لم يكن في المقام سوى هذين الخبرين لم نستفد منهما قاعدة التجاوز إلّاأنّه هناك، روايتان تدلاّن على تلك القاعدة: الأُولى صحيحة زرارة، والثانية موثّقة إسماعيل بن جابر. و من المعلوم أنّ المراد من الخروج في الصحيحة هو الخروج عن محلّه، كما أنّ المراد من

ص:347


1- . تقدّم برقم 7.
2- . تقدم برقم 8.

التجاوز هو التجاوز عن محلّه، فيكون مفادهما قاعدة التجاوز بمعنى عدم الاعتناء بالشكّ في شيء عند التجاوز عن محلّه.(1)

يلاحظ عليه: أنّ وحدة التعبير في كلا الموردين: (الشكّ في الصحّة، والشكّ في الوجود) آية وحدتهما ثبوتاً وإثباتاً فقوله: «كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فامضه كما هو» الذي هو عند القائل ناظر إلى الشكّ في الصحّة نظير قوله: «كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه» الذي هو ناظر عنده إلى الشكّ في وجود الشيء.

وما تصوّر من المانع في مقام الإثبات ليس إلّااختلاف متعلّق المضيّ فهو في قاعدة الفراغ نفس الشيء وفي قاعدة التجاوز محله، والاختلاف في المتعلّق من خصوصيات المورد، فلا مانع من أن يكون الموضوع هو المضي عن الشيء على وجه الإطلاق. ولكنّه في مقام التطبيق يختلف بعض المصاديق عن البعض بمضي نفس الشيء أو محله. هذا كلّه حول الملاك الأوّل كجعل القاعدتين، وأمّا الملاكات الأُخر فإليك دراستها:

الملاك الثاني للتعدّد:

تخصيص قاعدة التجاوز بالشك في الأثناء وقاعدة الفراغ بالشكّ بعد العمل.

وهذا الملاك غير تام في كلّه، فانّ رواية محمد بن مسلم أعني قوله: «كلّ ما مضى من صلاتك و طهورك وذكرته تذكّراً فامضه فلا إعادة عليك فيه».(2)

ص:348


1- . مصباح الأُصول: 278/3-279.
2- . مضى برقم 7.

وروايته الأُخرى: «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو»(1) يعم الموردين: الأثناء، و بعد العمل.

فالروايتان من أدلّة قاعدة الفراغ عند القوم وهو يعم الأثناء أيضاً.

الملاك الثالث للتعدّد:

اختصاص قاعدة التجاوز بالدخول في الغير دون الفراغ، فهو أيضاً غير ثابت، لما سيوافيك انّ الدخول ليس بشرط مطلقاً إلّاإذا كان محقّقاً للتجاوز، فالدخول في الغير ليس شرطاً مستقلاً وإنّما الميزان هو التجاوز.

نعم تجاوز كلّ شيء بحسبه، فالتجاوز في الشكّ في الوجود يتحقّق بالدخول إلى الغير و التجاوز في الشكّ في الصحّة يتحقّق بنفس الفراغ عن الشيء.

الملاك الرابع للتعدّد:

تخصيص قاعدة التجاوز بالصلاة، وعمومية قاعدة الفراغ لسائر أبواب الفقه، وهو كما ترى.

إلى هنا تبيّن انّ هنا قاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز عن الشيء بعامة أقسامه وانّ الخصوصيات من طوارئ المصاديق، ولا حاجة إلى جعل قاعدتين.

بقي هنا شيء وهو مفارقة قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا شكّ في أصل التسليم من قبل أن يدخل في شيء آخر، فلا تجري قاعدة التجاوز لعدم التجاوز عن محلّه و تجري قاعدة الفراغ.

والجواب عنه واضح، وذلك لأنّه لو كان الشكّ في صحّة السلام تجري

ص:349


1- . مضى برقم 17.

القاعدتان (التجاوز والفراغ) وإن كان الشكّ في الوجود لا تجريان.

أمّا الأُولى فلعدم التجاوز عن محلّ الشيء.

وأمّا الثانية فلأنّه لم يحرز الفراغ.

والحاصل انّه لا ملاك لجعل قاعدتين بعد إمكان التشريع لعامّة الموارد بملاك واحد.

الأمر الخامس في اشتراط الدخول في الغير وعدمه

هل يكفي التجاوز عن الشيء أو يشترط وراءه، الدخول في الغير؟ قولان:

أحدهما: اشتراط الدخول في الغير وراء التجاوز.

الثاني: انّ تمام الموضوع للصحّة هو التجاوز.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ عليه بصحيحة زرارة(1) وموثّقة إسماعيل بن جابر(2) حيث جاء في الأُولى: «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء».

وجاء في الثانية: «كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه».

ص:350


1- . تقدّمت الصحيحة برقم 11 والموثّقة برقم 12. ومورد الروايتين الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته، وسيوافيك انّ التجاوز في الشكّ في وجود الشيء، يتوقف على التجاوز عن محله وهو يتحقّق بالدخول في الغير وكأنّ حقيقة التجاوز رهن الدخول في الغير، فليس الدخول قيداً زائداً بل محقّقاً للتجاوز.
2- . تقدّمت الصحيحة برقم 11 والموثّقة برقم 12. ومورد الروايتين الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته، وسيوافيك انّ التجاوز في الشكّ في وجود الشيء، يتوقف على التجاوز عن محله وهو يتحقّق بالدخول في الغير وكأنّ حقيقة التجاوز رهن الدخول في الغير، فليس الدخول قيداً زائداً بل محقّقاً للتجاوز.

وبهما تقيّد سائر الروايات التي لم يرد فيها الدخول في الغير.(1)

وأمّا الثاني: فقد استدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: انّ نكتة التشريع في المقام هو كون الإنسان حين العمل أقرب إلى الحقّ وأذكر في الإتيان بالعمل على وجهه، وعلى ذلك فتمام الموضوع للقاعدة، كون الفاعل أذكر من حالة الشكّ وانّ المكلّف الذاكر يأتي بما هي الوظيفة فإذا تجاوز عن العمل لا يلتفت إلى شكّه سواء أدخل في الغير أم لا.

الثاني: انّ موثّقة ابن أبي يعفور مع أنّه ذكر فيها الدخول في الغير في صدرها، ولكن لم يذكر في الذيل واكتفى بنفس التجاوز، وقال: «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه».(2)

هذا هو دليل القولين، والحقّ هو القول الثاني، وانّ تمام الموضوع للقاعدة هو التجاوز، غير أنّه لمّا كان الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته، يتوقّف التجاوز عنه على الدخول في الغير، يُعتبر فيه الدخول إلى الغير، بخلاف ما إذا كان الشكّ في صحّة الشيء الماضي فانّ الفراغ عنه يكفي في التجاوز وإن لم يدخل في الغير.

وعلى ذلك لو شكّ في أصل التسليم وجوداً فلا يصدق التجاوز عن المحلّ إلّابالدخول في غير حالة الصلاة، وإذا شكّ في صحّته يكفي الفراغ عن التسليم وإن لم يشتغل بعمل غير الصلاة، وأمّا الاستدلال بصحيحة زرارة وإسماعيل بن جابر فليس بتام، لأنّ مصبّ القاعدة هو الشكّ في الوجود كما هو ظاهر قوله: شكّ في الركوع وقد سجد؟ قال: «يمضي على صلاته». ثمّ قال: «يا زرارة إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره».

ص:351


1- . مصباح الأُصول: 282/2.
2- . لاحظ الحديث برقم 1.

ومثلها صحيحة إسماعيل بن جابر حيث قال أبوجعفر: «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد».

وبما انّ القاعدة لا تجري في أثناء الوضوء اكتفى في ضرب القاعدة في موثّقة ابن أبي يعفور بنفس التجاوز و قال: «إنّما الشكّ في شيء إذا كنت لم تجزه»، ولمّا كان الشكّ في الوضوء يلازم غالباً الشكّ في صحّة غسل الأعضاء المغسولة، اقتصر فيه بالفراغ عن الوضوء وإن لم يدخل في غيره حتى أنّ الجزء الأخير إذا فرغ منه ثمّ شكّ في صحّته تجري فيه القاعدة.

ما هو المراد من الغير؟

لو قلنا بشرطية الدخول في الغير فما هو المراد منه؟ وجوه:

أ: التجاوز عن محلّ تدارك الأجزاء المنسية بحيث لو نسي لما كان له العود فيختص بالأركان.

ب: الأجزاء الواجبة الأصلية دون مقدّماتها.

ج: الجزء الذي عدّ في الشرع مترتباً على وجود الشيء المشكوك في لسان الأدلّة.

وعلى هذا فلا يكفي الذكر المطلق في الصلاة، كما إذا قال في أثناء الحمد: «الحمد للّه ربّ العالمين»، إذ ليس هو مترتباً على وجود الجزء السابق، ولكن يعمّ كلّ جزء واجب أو مستحب جاء في لسان الأدلّة مترتبين على المشكوك كالقنوت بالنسبة إلى السورة والتعقيبات بالنسبة إلى الصلاة.

د: ذلك الاحتمال مع تضييق خاص وهو الدخول فيما اعتبر الترتب بين

ص:352

المشكوك والدخول فيه بأن يكون سبق الأوّل على الثاني معتبراً في صحّة الثاني، وترتّب الثاني على الأوّل معتبراً في صحّة الأوّل كأجزاء الصلاة بعضها إلى بعض، والفرق بين هذا والثالث انّه لا يتحقّق المضي للجزء الأخير من الصلاة والوضوء أو الغسل بالدخول في الغير، سواء أكان المدخول فيه أمراً غير عبادي كالأكل والنوم، أم عباديّاً لكن غير مترتب كالتعقيبات.

ومنه يظهر انّ الدخول في الصلاة لا يكفي في الوضوء والغسل، فانّ صحّة الصلاة وإن كانت مشروطة بصحّتهما لكن صحّة الجزء المشكوك من الوضوء كالمسح على الرِجْل اليسرى ليس مشروطاً بصحّة الصلاة.

هذه هي الوجوه المذكورة.

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ قياس الشكّ في الشيء بنسيانه لا دليل عليه، بل هو مردود برواية زرارة حيث حكم بالتجاوز عند الشكّ في الأذان في حال الإقامة، أو في التكبير حال القراءة، مع أنّه يجب العود عند صورة النسيان.

وأمّا الوجه الثاني: أي اختصاص الغير بالواجب الأصلي دون المقدّمات، فقد استدلّ عليه الشيخ الأنصاري برواية إسماعيل بن جابر، وقال: إنّ الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل بن جابر إن شكّ في الركوع بعد ما سجد، وإن شكّ في السجود بعد ما قام، «فليمض» بملاحظة مقام التحديد و مقام التوطئة للقاعدة المقررة بقوله بعد ذلك:

«كلّ شيء شكّ فيه...» كون السجود والقيام حدّاً للغير الذي يعتبر الدخول فيه، وأنّه لا غير أقرب من الأوّل بالنسبة إلى الركوع، ومن الثاني بالنسبة إلى السجود، إذ لو كان الهويّ للسجود كافياً عند الشكّ في الركوع، والنهوض للقيام كافياً عند الشكّ في السجود، قبح في مقام التوطئة للقاعدة الآتية، التحديد بالسجود والقيام ولم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا

ص:353

شكّ قبل الاستواء قائماً.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه محجوج بالاكتفاء بالهوي إلى الركوع في حديثين:

أ: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: «قد ركع».(2)

والهوي إلى السجود بمعنى الانحدار إلى السجود دون الوصول إليه، وإلّا يقول: رجل سجد فلم يدر أركع أم لم يركع؟

ب: ما رواه فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أستتم قائماً فلا أدري أركعت أم لا؟ قال: «بلى قد ركعت، فامض في صلاتك، فإنّما ذلك من الشيطان».(3)

والمراد من الاستتام قائماً هو رفع رأسه من الانحناء إلى القيام ولكنّه شكّ هل ركع حال انحنائه أو لا؟

وثانياً: أنّ التحديد بالسجود عند الشكّ في الركوع جاء في سؤال زرارة ولم يرد في لسان الإمام.

نعم التحديد بالسجود عند الشكّ في الركوع وبالقيام عند الشكّ في السجود وإن ورد في لسان الإمام في رواية إسماعيل بن جابر، لكن عدم التعرض للهويّ في الأوّل وللنهوض في الثاني، لأجل عدم حصول الشكّ في هذه الحالات للإنسان إلّاإذا كان وسواساً وهذا لا يعني عدم كفايتهما إذا طرأ الشكّ وهو

ص:354


1- . الفرائد: 411، طبعة رحمة اللّه.
2- . تقدم برقم 16.
3- . تقدم برقم 15.

إنسان عادي أخذاً بالإطلاقات الواردة في الدخول في الغير.

فتلخص من جميع ما ذكرنا عدم اعتبار كون المدخول فيه واجباً أصلياً ويكفي كونه واجباً مقدمياً.

فإن قلت: إنّ لعبد الرحمن بن أبي عبد اللّه رواية أُخرى جاء فيها عدم كفاية النهوض عن السجود، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل رفع رأسه عن السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال:

«يسجد» قلت: فرجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: «يسجد».(1)

قلت: إنّ أقصى ما تثبته الرواية هو الالتزام بالتخصيص في مورد السجود وبقاء الباقي تحت الإطلاق، والقول باشتراك النهوض والهوية في الحكم غير ثابت لنا.

فإن قلت: إنّ الاستدلال بروايتي عبد الرحمن وفضيل بن يسار على كفاية الدخول في الجزء الواجب أصلياً كان أو تبعياً غير تام، وذلك لأنّ الشكّ في الركوع عند الهويّ إلى السجود أو عند رفع رأسه من الإنحناء إلى القيام أمر نادر، والشاك فيه يكون وسواساً، فلعلّ عدم الاعتداد لهذا الوجه لا لكونه دخولاً في الغير بشهادة انّ الإمام قال في رواية فضيل: «فامض في صلاتك فإنّما ذلك من الشيطان».

قلت: إنّ الشكّ مطلقاً من الشيطان بالمعنى المراد في الرواية عادياً كان أم غير عادي، وغاية ما هناك أنّ ثمّة إشعاراً بما ذكر وهو لا يقابل الإطلاق.

فظهر كفاية الجزء التبعي وإن لم يكن أصلياً.

ص:355


1- . الوسائل: 972/4، الباب 15 من أبواب السجود، الحديث 6.

وأمّا الوجه الثالث، أي الدخول في الشيء المترتب على المشكوك وإن كان مستحباً فهو أقوى الوجوه أخذاً بالإطلاق، وعلى ذلك لو شكّ في القراءة بعد ما قنت فقد دخل في الغير.

وأمّا الوجه الرابع، فلم أجد وجهاً له، فالأقرب هو ثالث الوجوه.

الأمر السادس ما هو المراد من المحل؟

إذا كان تمام الموضوع هو التجاوز عن الشيء، فلو كان الشكّ في صحّة الشيء الموجود فالتجاوز عنه بمعنى الفراغ عنه، الملازم غالباً للدخول إلى الغير وإن لم يكن مشروطاً به، وأمّا إذا كان الشكّ في وجود الشيء فالتجاوز عن الشيء المشكوك الوجود، هو التجاوز عن محلّه، فيكون التجاوز عن الشيء في القسم الأوّل حقيقيّاً وفي الثاني مجازياً، وقد اختلفت كلماتهم في تفسير المحلّ على وجوه:

1. المحلّ الشرعي.

2. المحلّ العقلي.

3. المحلّ العرفي.

4. المحل العادي.

فالمحلّ الشرعي عبارة عمّا جعله الشارع محلاً للجزء، فجعل محل التكبيرة قبل القراءة، وهي قبل الركوع.

كما أنّ المراد من الثاني هو المحل المقرر له بحكم العقل، وقد مثل له الشيخ

ص:356

الأنصاري بالراء الساكنة في التكبيرة بأنّ محلها بعد الباء بلا فصل ولولاه لزم الابتداء بالسكون.

كما أنّ المراد من الثالث هو الطريقة المألوفة عند العرف في إنجاز العمل الخاص، وذلك كالقراءة فإنّ الفصل الطويل بين المفردات أو الجمل، مرغوب عنه عرفاً، بل يوجب خروج الكلام عن كونه كلاماً.

ويمكن إرجاع المعنى الثاني والثالث إلى الأُولى، لأنّه إذا امتنع التلفّظ بالراء الساكنة إلّابوصلها بالباء المفتوحة فهو محلّ شرعي أيضاً، لأنّ الشرع أمرنا بالنطق بالتكبير بالصورة الممكنة كما أمرنا بالقراءة بالطريقة المألوفة، والمراد من العادي ما جرى عليه عادة الفرد أو الناس حيث إنّهم لا يفرّقون بين غسلات الغسل بل يأتون بها متوالياً، فإذا شكّ مغتسل في غسل الجزء الأخير بعد ما خرج من الحمام فقد مضى وقته العادي دون الشرعي، فإذا رجعت المعاني الثلاثة الأُولى إلى شيء واحد فإنّما يقع الكلام في كفاية التجاوز عن المحلّ العادي، فهل يكفي في تحقّق التجاوز أو لا؟

ذهب سيدنا الأُستاذ تبعاً لعدد من المشايخ بعدم الكفاية، قائلاً: إنّ المراد من المحل هو المحل الشرعي لا العادي، لأنّ الشارع المقنن إذا قرر للأشياء محلاً فجعل محل القراءة بعد التكبير وقبل الركوع، وهكذا، ثمّ جعل قانوناً آخر بأن ّ كلّ ما مضى محلّه فامضه، لا يفهم العرف والعقلاء إلّاما هو المحل المقرر الجعلي لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع فانّ العادة إنّما تحصل بالعمل وهي لا توجب أن يصير المحلّ العادي محلاً للشيء.(1)

ومع ذلك يمكن أن يقال بالكفاية في بعض الصور، وذلك لأنّ الملاك هو

ص:357


1- . الإمام الخميني: الرسائل: 297.

كون الفاعل أذكر و كونه حين ينصرف أقرب إلى الحقّ، و هذا يقتضي التعميم إلى التجاوز عن المحلّ الشرعي أو العادي.

وبعبارة أُخرى: إنّ تركه إمّا يستند إلى الغفلة وهي ممنوعة، أو إلى العمد وهو يخالف كونه بصدد إبراء الذمة.

نعم إنّما يكفي إذا أنجز عملاً وشكّ في كماله ونقصانه، وأمّا إذا احتمل بأنّه لم يأت أصلاً كما شكّ في إتيان صلاة الظهر قبيل الغروب مع جريان عادته على الصلاة في أوّل الوقت فإطلاقات الأدلّة في وجوب الإتيان عند الشكّ في الوقت متقدّمة على إطلاق قاعدة التجاوز.

ص:358

الأمر السابع هل المضي عزيمة أو رخصة؟

قد تضافر في الروايات الأمر بالمضي(1)، وعدم الإعادة.(2)

فهل المضي وعدم الإعادة على وجه الرخصة أو على وجه اللزوم؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ الظاهر من الروايات هو التعبّد بوقوع المشكوك أو صحته كما في قوله: «بلى قد ركعت» أو «قد ركع».(3) وعلى هذا يكون الرجوع زيادة بحكم تعبّد الشارع بوجوده أو صحته فيشمله قوله: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة».(4)

أضف إلى ذلك النهي عن الإعادة في صحيحة محمد بن مسلم حيث قال: «لا يعيد ولا شيء عليه».(5) أو «فامض ولا تعد».(6)

وأمّا الاستدلال بالأوامر الواردة مثل قوله: «امض»(7) فهو ضعيف، لأنّ الأمر في مظانِّ توهم الحظر (حرمة المضيِّ وعدم الاعتداد) ففي مثله لا يدلّ الأمر إلّاعلى الجواز.

نعم ورد جواز الإعادة في الطواف.(8) فيقتصر عليه.

ص:359


1- . لاحظ الأحاديث برقم 3، 6، 7 و 8.
2- . لاحظ الأحاديث برقم 9 و 10.
3- . تقدّم برقم 15 و 16.
4- . الوسائل: 5 /الباب 19 من أبواب الخلل، الحديث 1.
5- . تقدّم برقم 9.
6- . تقدّم برقم 10.
7- . تقدّم برقم 14.
8- . تقدم برقم 21.
الأمر الثامن في جريان القاعدة في الأجزاء غير المستقلّة

لا شكّ في جريان القاعدة في الأجزاء المستقلة، كالشكّ في الأذان عندما أقام، والشكّ في الركوع بعد ما سجد؛ إنّما الكلام في جريانها في غير المستقلّة من الأجزاء، كالشكّ في الشهادة الأُولى عند ما دخل في الشهادة الثانية، ومثله الشك في بعض فصول الإقامة أو بعض آيات سورة الحمد وقد دخل في غير المشكوك من سائر الفصول والآيات.

ذهب الشيخ إلى عدم الشمول وقال: إنّ الأظهر عند الفقهاء كون الفاتحة فعلاً واحداً، بل جعل بعضُهم القراءةَ فعلاً واحداً، وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود، والنهوض للقيام، وممّا يشهد لهذا التوجيه، إلحاق المشهور، الغسلَ والتيمم بالوضوء في هذا الحكم، إذ لا وجه له ظاهراً إلّاملاحظة كون الوضوء أمراً واحداً يُطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، أعني: الطهارة.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ النصّ لم يرد على عدم اعتبار الهويّ للسجود، بل ورد على كفايته كما في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه.(2) نعم ورد النصّ على عدم اعتبار النهوض للقيام.(3) و قد مرّ باختصاصه بالمورد ولا تصحّ تسرية

ص:360


1- . الفرائد: 413.
2- . تقدم برقم 16
3- . الوسائل 4، الباب 15 من أبواب السجود، الحديث 6.

حكمه إلى كلّ أمر غير مستقل.

وثانياً: ما استظهره من روايات الوضوء وإلحاق الآخرين به، أعني: أنّ الوضوء أمر واحد، يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، يستلزم عدم جريان القاعدة في الصلاة والحج وسائر الأعمال العبادية إلّاإذا ورد النصّ به، لأنّ المطلوب في الصلاة أمر واحد وهو كونها معراج المؤمن، وفي الحجّ أمر واحد وهو العروج والوفود إلى اللّه، وهو كما ترى.

وثالثاً: أنّ الموضوع للقاعدة كون الإنسان أذكر حين العمل، وأقرب إلى الحقّمن حالة الشكّ فلا فرق بين الجزء المستقل وغيره، و أقصى ما يمكن أن يقال هو شرطيّة محو صورة العمل عن ذهنه، ولذا لو شكّ في الكلمات المتقاربة لا تجري لحضور صورة العمل في ذهنه بل يعدُّ المصلي انّه في المحل بعدُ.

الأمر التاسع جريان القاعدة في الشكّ في صحّة الجزء المأتي به

إنّ الأسئلة الواردة في صحيح زرارة(1) وموثقة إسماعيل بن جابر(2) و إن كانت ظاهرة في الشكّ في الوجود، لكن الكبرى الواردة فيهما تعمّ الشكّ في الصحّة، أعني: قوله في الأُولى: «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» و قوله في الثانية: «كلّ شيء شكّ فيه وقد دخل في غيره فليمض». ومثلهما موثقة ابن أبي يعفور(3) حيث قال: «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه»

ص:361


1- . تقدّم برقم 11.
2- . تقدّم برقم 12.
3- . تقدّم برقم 1.

حيث فرض الشيء، محقّقاً ثمّ فرض التجاوز عنه.

أضف إلى ذلك انّ التعليل بالأذكرية والأقربية إلى الحقّ تعمّ القسمين، بل يمكن ادّعاء الأولوية في الشكّ في الصحّة، فإذا جرت القاعدة في الشكّ في أصل الوجود، فأولى أن تكون جارية في الشكّ في الصحّة بعد تسليم أصل الوجود.

الأمر العاشر في جريان القاعدة في الشروط

قد عرفت جريان القاعدة في الأجزاء مستقلة كانت أم غير مستقلة، إنّما الكلام في جريانها في الشروط الخارجة عن ماهية المأمور به، الدخيلة في صحّته أو كماله. وعلى كلّ تقدير فلها أقسام:

1. ما يكون سبباً لعروض عنوان الصلاة أو الظهر على العمل، كالنية. فلو شكّ في أثناء العمل في أنّه نوى الصلاة أو لا، أو صلّى بنيّة الظهر أو بنيّة النافلة، فالقول بجريان القاعدة أمر مشكل، لأنّ جريانها فرع إحراز كون العمل موصوفاً بالصلاة، أو بالمأمور به، و أمّا مع الشكّ في أصل العنوان فهو أمر مشكل. اللّهمّ إلّاأن يقال: يكفي في جريان القاعدة إحراز الموضوع في حال الشكّ، كما إذا رأى نفسه في حال الصلاة أو قاصداً للظهر في تلك الحالة وإن كان العنوان في ظرف الشكّ مشكوكاً.

2. ما يكون لذات القيد محل شرعيّ، كالأذان والإقامة بالنسبة إلى الصلاة حيث إنّ لهما دخلاً في صحّة الصلاة أو كمالها، فلو شكّ في تحقّقهما في محلّهما بعد التجاوز عنه، لا يُعتدُّ به.

ص:362

و من هذا القبيل إذا شكّ في الإتيان بالظهر وهو يصلّي العصر، فلا يعتدّ بالشكّ ويبني على أنّ صلاته الفعلية حائزة للشرط، وهو سبق الظهر على العصر. ومع ذلك كلّه إذا فرغ من الصلاة، فعليه الإتيان بالظهر، وذلك لأنّ مفاد القاعدة كون صلاة العصر، حائزة للشرط، وأمّا أنّه صلاّها في الواقع ونفس الأمر، فلا تثبته القاعدة.

وبذلك يعلم أنّ الصحّة الثابتة بالقاعدة، صحّة نسبيّة لا مطلقة، وانّ مفادها، كون صلاة العصر حائزة للشرط، لا انّ ذمّة المصلّي فارغة من صلاة الظهر مع بقاء الوقت، فيشمله إطلاق ما دلّ على وجوب الاعتداد بالشكّ في الشيء قبل دخول الحائل.

فإن قلت: المشهور انّ أصالة الصحّة أصل محرز للواقع، وانّه يُبنى على وجود الشرط في الواقع، ومعه كيف يجب عليه الإتيان بالظهر؟

قلت: إنّ أصالة الصحة وإن كانت أصلاً محرزاً، لكن الإحراز في إطار الشكّ الذي طرأ عليه وهو كون صلاة العصر واجدة للشرط.

وإن شئت قلت: المحرز هو سبق الظهر على العصر بما انّه شرط لصحة صلاة العصر، وأمّا إحرازها مطلقاً وفراغ ذمّته مطلقاً فلا تثبتة القاعدة.

3. ما لا يكون لذات القيد مكان خاص كالستر والقبلة، ولكن التقيّد بها معتبر من أوّل الصلاة إلى آخرها، فإذا شكّ في الشرط فله صور:

1. إذا شكّ في وجود الشرط أي التقيّد وقد فرغ من الصلاة، فالصلاة محكومة بالصحة بحكم القاعدة.

2. إذا شكّ في الأثناء بالنسبة إلى الركعة السابقة وهو واجد له حين الشكّ، فهي محكومة بالصحّة أيضاً.

ص:363

3. إذا شكّ في الأثناء بالنسبة إلى الركعة السابقة وهو غير واجد له حين الشك، فهي محكومة بالبطلان للعلم بعدم وجود الشرط فعلاً، سواء أصحّت الركعة السابقة أو لا.

4. إذا شكّفي الأثناء بالنسبة إلى الركعة السابقة، مع كونه شاكاً أيضاً حين الالتفات، فعليه الفحص فإن أحرز فهو وإلّا تكون محكومة بالبطلان.

وبذلك تبيّن الفرق بين الشكّ في الأذان والإقامة مع كونه في الصلاة، والشكّ في الاستقبال والستر وهو فيها، لأنّ للأوّلين محلاً معيناً، تجاوز عنه حين الشكّ بخلاف الأخيرين فهما معتبران في عامة آنات الصلاة، فالشكّ فيهما بالنسبة إلى الركعة الماضية وإن كان شكاً بعد المحل، لكنّه بالنسبة إلى حين الالتفات شك في المحل، فيجب إحرازه وإلّا يكون العمل محكوماً بالبطلان.

الشكّ في الطهارة الحدثية

إذا شكّ في الطهارة الحدثية وهو في أثناء الصلاة، فهل تجري القاعدة أو لا؟ وجهان:

1. انّ الشرط لصحّة الصلاة، هو الغسلات والمسحات مع قصد القربة، كما هو المتبادر من قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ...) (1). فإذا شكّ في الطهارة وهو في أثناء الصلاة، فقد شكّ بعد مضي الوقت، فيحكم بأنّ الصلاة حائزة لشرطها ومع ذلك يجب عليه تحصل الطهارة، بالنسبة إلى الصلوات الأُخرى، لما عرفت من أنّ

ص:364


1- . المائدة: 6.

مفاد القاعدة هو الصحّة النسبيّة، وانّ الصلاة واجدة لشرطها، وأمّا أنّ المصلّي متطهّر واقعاً فلا، ولذلك يجب إحرازها بالوجدان أو بالأمارة بالنسبة إلى الصلوات الآتية.

وكون الآية بصدد بيان اشتراط الصلاة بالطهارة وإرشاداً إلى شرطيتها لها لا يمنع أن تكون مبيّنة لمحلّها، فيكون حكم الطهارة الحدثية نظير الأذان والإقامة في أنّ محل إحرازها هو قبل الصلاة.

2. انّ الشرط هو الحالة النفسانية الحاصلة للنفس بالغسلات والمسحات المقرونة بقصد القربة، فهي شرط لمجموع العمل، فيكون حالها حال الستر والقبلة، فمادام المصلّي مشتغلاً بالصلاة، لا يصدق عليه انّه تجاوز عن محلّه.

والظاهر هو الأوّل، أخذاً بظاهر الآية، بل يمكن أن يقال بالصحّة حتى على الوجه الثاني، فإنّ الشرط وإن كان هو الطهارة النفسانية المعتبرة في الصلاة من أوّلها إلى آخرها لكن محلّ إحرازها شرعاً، هو أوّل الصلاة، فالشاكّ في الأثناء قد تجاوز عن المحل الذي أمر الشارع بتحصيله فيه، ولعلّ هذا المقدار (التجاوز عن محل التحصيل) يكفي في صدق التجاوز وإن كان نفس الشرط غير متجاوز عنه.

ص:365

الأمر الحادي عشر في خروج الطهارات الثلاث عن حريم القاعدة

حكى غير واحد الاتفاق على خروج أجزاء الطهارات الثلاث عن حريم القاعدة، وانّ الشكّ في الأثناء، موجب لبطلانها، وقد ورد النصّ في الوضوء وأُلحق به الغسل والتيمم، ومن الروايات:

1. صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

أ: «إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله و تمسحه، ممّا سمّى اللّه، ما دُمت في حال الوضوء.

ب: فإذا قمت عن الوضوء، وفرغت منه، وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة، أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه، لا شيء عليك فيه.

ج: فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللاً فامسح بها عليه، وعلى ظهر قدميك، فإن لم تُصب بللاً فلا تنقض الوضوء بالشكّ، وامض في صلاتك.

وإن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً، حتّى تأتي على الوضوء».(1)

ودلالة الرواية على المطلب واضحة. وأمّا قوله في الفقرة الثالثة: «فإن

ص:366


1- . الوسائل: 330/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 1.

شككت في مسح رأسك فأصبت في لحتيك بللاً» فالشكّ فيها شكّ بعد الفراغ، والمسح ببلل اللحية استحبابي، بقرينة قوله في الفقرة الرابعة: «وإن لم تصب بللاً، فلا تنقض الوضوء بالشكّ وامض في صلاتك». فإنّ المضيّ في الصلاة قرينة على حدوث الشكّ في تلك الحالة، إنّما هو بعد التجاوز عن المحلّ.

2. موثّقة بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ؟ قال: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ».(1) ودلالته بالمفهوم حيث خصّ السائل السؤال ببعد الوضوء وجاء الجواب على طبق السؤال. وبما أنّ التخصيص في كلام السائل تكون دلالتها على الرجوع في الأثناء ضعيفة.

3. مرسلة أبي يحيى الواسطي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت: جعلت فداك، أغسل وجهي ثمّ أغسل يدي ويشكّكني الشيطان أنّي لم أغسل ذراعي ويدي؟ قال: «إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد».(2)

وجه الدلالة: أنّه لو كان الشكّ في الأثناء مشمولاً للقاعدة، لما تمسّك الإمام في الحكم بعدم العود بالأمارة الظنيّة.

لكن في الرواية ملاحظتان:

أ: أنّها مرسلة لا يصحّ الاحتجاج بها.

ب: يمكن أن يقال: إنّ الشكّ في أثناء الوضوء مشمول لقاعدة التجاوز، وأمّا أنّ الإمام لم يتمسّك بها بل تمسّك بالأمارة الظنيّة، فإنّما هو لأجل إزالة شكّ السائل الّذي كان كثير الشكّ بشهادة قوله: «ويشكّكني الشيطان» وعندئذٍ لا يكون التمسّك بها دليلاً على عدم جريان القاعدة في الأثناء.

ص:367


1- . الوسائل: 331/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.
2- . الوسائل: 331/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 4.

4. موثّقة ابن أبي يعفور - ذكرها الشيخ في عداد ما يدلّ على لزوم الالتفات إذا شكّ في الأثناء - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه».(1)

والرواية جديرة بالبحث صدراً وذيلاً.

أمّا الصدر، أعني قوله عليه السلام: «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره».

فإن رجع الضمير إلى «شيء» يلزم كفاية التجاوز عن محلّ غسل العضو، وإن لم يفرغ من الوضوء، فيكون مخالفاً لما سبق من الروايات والإجماع المدّعى؛ وإن رجع إلى الوضوء كان الصدر موافقاً لما مرّ من روايتي زرارة وأبي يحيى الواسطي. ولعلّهما قرينتان منفصلتان على تعيّن عود الضمير إلى الوضوء.

وعلى هذا فالصدر خال عن الإشكال، إنّما الإشكال في الذيل، فانّ الضمير فيه يرجع إلى الشيء المشكوك من الوضوء، والشيء المشكوك هو غسل أحد الأعضاء، فلازم ذلك كفاية التجاوز عن الشيء المشكوك وإن لم يفرغ عن العمل. وهو يخالف الروايات السابقة والإجماع المدّعى.

وقد حاول بعض أساطين العلم كالشيخ الأعظم(2)، وغيره الإجابة عن الإشكال ولكن الأولى في الإجابة أن يقال: إنّ الذيل بإطلاقه يدلّ على كفاية التجاوز عن الشيء المشكوك وله مصداقان:

أ: التجاوز عنه بالاشتغال بعضو من أعضاء الوضوء.

ص:368


1- . الوسائل: 330/1، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
2- . الفرائد: 413.

ب: التجاوز عنه والدخول في عمل غير الوضوء.

ومفاد الإطلاق كفاية كلا التجاوزين إلّاأنّه يقيّد بما عرفت من الأدلّة على عدم كفاية الاشتغال بعضو من أعضاء الوضوء، بل لابدّ من الدخول في عمل آخر، وليس هذا إخراجاً للمورد بل تقييداً للمطلق.

الأمر الثاني عشر في اختصاص القاعدة بالإخلال عن سهو

لو احتمل كون الترك مستنداً إلى العمد، فهل يقع مجرى للقاعدة أو لا؟ يظهر من الشيخ كونه مجرى لها، قال في ذيل الموضع السابع ما هذا لفظه:

يمكن استفادة الحكم من قوله: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ» فانّه بمنزلة صغرى لقوله: فإذا كان أذكر فلا يترك ممّا يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمّته، لأنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر وعمداً خلاف إرادة الإبراء. (1)

يلاحظ عليه: أنّ الأذكرية إنّما تعالج احتمال الترك سهواً لا احتمال تركه عمداً بشهادة انّ كثيراً من الذاكرين يتركون الواجب، أصلَه وفرعَه.

فإن قلت: إذا أحرز انّه كان - وراء الأذكرية - بصدد إبراء الذمّة عن يقين لماذا لا تجري القاعدة؟

قلت: إنّ إحراز ذلك يوجب الاستغناء عن القاعدة، لأنّ إحراز ذلك لا يجتمع مع احتمال ترك الجزء عمداً.

ص:369

والذي يؤيد اختصاص القاعدة بصورة احتمال الترك سهواً وعدم عمومها لاحتمال الترك عمداً هو ارتكاز العقلاء، فإنّهم لا يعتدون بالشكّ فيما إذا كان احتمال الترك مستنداً إلى السهو لا إلى العمد فربما يكون ذلك الارتكاز قرينة لعدم الإطلاق الوارد في الروايات.

وعلى ضوء ذلك فلو احتمل ترك الجزء عمداً يجب الرجوع إلى القواعد الأُخر. مثلاً لو احتمل ترك الجزء عمداً، يجب عليه إعادة الواجب إذا كان الوقت باقياً دونما إذا خرج الوقت فانّ المرجع فيه هو البراءة عن القضاء، لما تُقرر في محلّه من أنّ القضاء بأمر جديد وهو مشكوك بعدُ، لا بالأمر الأوّل الذي سقط بخروج الوقت.

فإن قلت: يجب عليه القضاء في الصورة الثانية أيضاً بأصالة عدم الإتيان بالواجب في وقته.

قلت: إنّ الاستصحاب لا يثبت عنوان الفوت الذي هو أمر وجودي وموضوع لوجوب القضاء في الأدلّة، بل هو من العناوين اللازمة للمستصحب.

ص:370

الأمر الثالث عشر اختصاص القاعدة بالشكّ الحادث بعد العمل

إنّ مصبّ القاعدة هو الشكّ الطارئ بعد مضي العمل، وأمّا لو كان الشكّ موجوداً قبل العمل لكنّه ذهل عنه ثمّ التفت إلى الشكّ السابق بعد العمل، فلا تجري فيه القاعدة. وإليك أحكام الصور المترتبة عليه.

الصورة الأُولى

لو كان المكلّف محدِثاً وشكّ في ارتفاعها ثمّ غفل ودخل الصلاة وأتمها فشكّ في صحّتها ولا يحتمل انّه توضأ بين الشكّ والصلاة، فلا تجري قاعدة الفراغ، لأنّ مجراها هو الشكّ الحادث، والشكّ بعد الصلاة في المقام، هو نفس الشكّ الموجود قبل الصلاة، لكنّه غفل عنه عبْر الصلاة ثمّ عاد الشكّ نفسه.

والمرجع بعد عدم جريان القاعدة هو قاعدة الاشتغال ولزوم إفراغ الذمّة بإعادة الصلاة.

ويمكن أن يقال: إنّ المرجع استصحاب الحدث والنتيجة على كلا الوجهين واحدة، وهو عدم جواز الاقتصار بالصلاة السابقة.

نعم ذهب سيّدنا الأُستاذ إلى أنّ المرجع هو قاعدة الاشتغال ولا يجري استصحاب الحدث في حال الغفلة عن الشكّ، لأنّ حجّية الاستصحاب متوقفة على الشكّ الفعلي الذي يكون ملتفتاً إليه ليكون الاستصحاب مستنداً للفاعل في عمله كما هو الشأن في كلية الحجج عقلاً، وعلى ذلك لا يكون الاستصحاب حجّة

ص:371

وجارياً في حال الغفلة عن الشكّ أو اليقين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الشكّ ليس معدوماً في النفس بل مخزون فيها وموجود بالفعل لكنّه غافل عنه، وهذا المقدار من الشكّ كاف.

نعم ما أفاده من أنّ الالتفات إلى الشكّ شرط لحجّية الاستصحاب والمفروض انّه غير ملتفت إليه لا يخلو من وجه.

ويمكن أن يقال: انّ المصلّي وإن كان غير ملتفت إلى شكّه لكن المجتهد الذي يريد الإفتاء في المسألة يتّخذ يقين ذلك المصلّي وشكّه موضوعاً للحكم بعدم جواز نقض يقينه بالشك وينوب عنه في الاستصحاب فيكون محكوماً بكونه محدثاً.

وعلى ذلك فالقاعدتان: الاشتغال واستصحاب الحدث، جاريتان وإن كانت النتيجة واحدة.

الصورة الثانية

تلك الصورة ولكنّه يحتمل انّه توضأ بين الشكّ والصلاة. ذهب المحقّق النائيني إلى أنّه تجري قاعدة الفراغ، لكون الشكّ الحادث بعد الصلاة ليس نفس الشكّ الموجود المغفول عنه قبلها، بل طرأ لأجل احتمال انّه توضّأ وصلّى فلا يزيد حكمه عمّا إذا علم بالحدث واحتمل بعد الفراغ من الصلاة، انّه توضأ وصلّى، فكما تجري القاعدة هناك فهكذا المقام.

يلاحظ عليه: أنّ أركان استصحاب الحدث تامة في المقام لما عرفت من أنّ اليقين والشكّ موجودان في خزانة النفس وإن كان الإنسان غافلاً عنهما، وهذا

ص:372


1- . فرائد الأُصول: 413.

المقدار من الوجود لهما كافٍ في حكم المجتهد بحرمة نقض اليقين بالشكّ وصيرورته محكوماً بالحدث.

والشكّ الحادث بعد الصلاة وإن كان شكّاً جديداً مسوِّغاً لجريان قاعدة التجاوز وحاكماً على الاستصحاب الجاري بعد الصلاة، لكن الاستصحاب الجاري قبل الصلاة حاكم على القاعدة.

وما أفاده من أنّ حكمه لا يزيد على ما إذا علم بالحدث واحتمل بعد الفراغ من الصلاة انّه توضّأ وصلّى، فغير تام، للفرق بين المقيس والمقيس عليه، لعدم اكتمال أركان استصحاب الحدث في الثاني دون الأوّل، لأنّه ليس في المقيس عليه إلّااليقين فقط وهو غير كاف في الاستصحاب فتجري القاعدة، بخلاف المقيس إذ فيه وراء اليقين وجود الشكّ و إن ذهل عنه بعده فيجري الاستصحاب قبل الصلاة ويكون حاكماً على القاعدة الجارية بعدها.

الصورة الثالثة

لو كان متطهّراً ثمّ شكّ في الطهارة وذهل وصلّى وشك بعدها، فالاستصحاب قبل الصلاة وبعدها والقاعدة متوافقة المضمون ولا تترتب ثمرة عملية عليه لتعيين ما هو المرجع.

ص:373

الأمر الرابع عشر في اختصاص القاعدة بالذاكر دون الغافل القطعي

الظاهر اختصاص القاعدة بمن اشتغل بالعمل عن ذُكر إجمالي ولكنّه يحتمل عروض الغفلة عليه فيترك الجزء والشرط.

وأمّا لو علم بغفلته حين العمل ولكنّه يحتمل انطباق العمل على الواقع من باب الصدفة والاتّفاق، كما لو توضّأ ولم يحرّك خاتمه ولكن يحتمل وصول الماء إلى تحته صدفة، فلا تجري القاعدة، بل مجراه ما إذا كان انطباق العمل على الواقع معلولاً لكونه مريداً لإبراء ذمّته، لا لانطباقه عليه من باب الصدفة.

وبعبارة أُخرى: القاعدة تعالج الشكّ النابع من احتمال عروض الغفلة، وأمّا الشكّ النابع من واقع تكوينيّ، وهو: هل اتصال الخاتم بالاصبع على نحو يمنع من وصول الماء أو لا يمنع؟ فلا تعالجه، لأنّ الوصول وعدمه ليس له صلة بالأذكرية والأقربية، بل نسبته وعدمه إليهما على وجه سواء.

وبعبارة ثالثة: انّ مصب القاعدة ما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة حتى يختلف حال المكلّف إلى حين العمل وحين الشكّ، وأمّا إذا كانت صورة العمل محفوظة على وجه يكون شاكاً في كلتا الحالتين، فلا تكون مجرى للقاعدة وفي المقام لو التفت حين العمل بأنّه اغتسل من غير تحريك لخاتمه يشك كشكّه بعد العمل.

ويدلّ على ما ذكرنا أُمور:

الأوّل: ما دلّ على أنّ العامل حين العمل أذكر وأقرب إلى الحقّ من حين الشكّ، وهذا يستلزم أن تكون الحالتان مختلفتين من حيث الذكر والقرب إلى

ص:374

الحقّ، وأمّا إذا ساوت الحالتان كما في المقام فلا تجري فيها القاعدة، وذلك لأنّ الشكّ لا يختص بوقت الفراغ عن العمل بل يعمّ حينه فلو ألفته أحد حين العمل إلى كيفية عمله لشكّ.

فخرجنا بهذه النتيجة: انّه في كلتا الحالتين شاك وليس في أحدهما أذكر، واحتمال كون الأقربية من قبيل الحِكَم، لا مناط الحُكم وملاكه يكفي في صرف إطلاق الأدلّة عن هذه الصورة ولا يلزم العلم بكونهما ملاكين أو مناطين للحكم.

وعلى هذا لو صلّى إلى جانب من دون تحقيق وفحص، ثمّ شكّ بعد الفراغ في أنّ الجهة التي صلّى إليها هل كانت قبلة أو لا؟ لا تجري قاعدة الفراغ، لتساوي الحالتين في الأذكرية والأقربية، ولو صحّت صلاته وكانت الجهة قبلة، فإنّما صحّت من باب الصدفة والاتفاق، لا من باب انّه بصدد إبراء الذمّة.

ومثل ذلك لو توضأ من أحد الإناءين المشتبهين، فلا تجري قاعدة الفراغ، لأنّه لو صادف كونه ماءً مطلقاً، فإنّما هو من باب الصدفة لا من باب كونه مريداً للعمل.

وباختصار انّ الظاهر من الروايات انّ الحكم بالصحّة يجب أن يكون نابعاً من سعيه لإبراء ذمّته لا من باب احتمال كون المأتي به مطابقاً للواقع من باب الصدفة.

الثاني: انّ الظاهر من الروايات انّ مورد القاعدة عبارة عمّا لو كان الشكّ نابعاً من الجهل بكيفية العمل على وجه لو ارتفع الجهل، لارتفع الشكّ، وأمّا إذا كان الشكّ طارئاً حتى مع العلم بكيفية العمل - كما في المقام - حيث يعلم بأنّه لم يحرك خاتمه و مع ذلك يشكّ في وصول الماء، فلا تجري القاعدة.

الثالث: انّ القاعدة وإن لم ترد إمضاءً لما في يد العرف حتى تتبعه سعة

ص:375

وضيقاً كحجّية خبر الواحد، ولكنّها وردت في موضع فيه حكم العقلاء بعدم الالتفات، وبما انّ حكمهم مختص بما إذا كان المكلف ملتفتاً حين العمل إلى الحكم والموضوع وكان بصدد أداء ما في الذمّة ولكن يحتمل عروض الغفلة على التفاته، فيحكم بعدم الاعتناء ولا يعم ما إذا كان غافلاً حين العمل و لكن يحتمل انطباقه على الواقع صدفة ومن غير إرادة.

هذا هو مقتضى القاعدة، نعم ربما يظهر من بعض الروايات عدم وجوب الاعتناء إذا أتى بالعمل غفلة وساوت الحالتان من حيث الأذكرية وهي رواية الحسين بن أبي العلاء، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: «حوّله من مكانه» و قال في الوضوء: تُديره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة».(1)

ورواه الصدوق و قال: إذا كان مع الرجل خاتم فليدوّره في الوضوء ويحوّله عند الغسل، قال: وقال الصادق عليه السلام: «إن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا أمرك أن تعيد».(2)

وأجاب عنه المحقّق الخوئي بعدم دلالة الخبر على المدّعى إذ ليس فيه ما يدل على أنّ السؤال أيضاً كان من جهة الشكّ في وصول الماء، وانّ الحكم بالتحويل والإدارة إنّما كان من هذه الجهة، بل ظاهره كون التحويل - في الغسل والإدارة في الوضوء مطلوباً في نفسه لا لرفع الشكّ في وصول الماء، وإلّا لم يكن لذكر خصوص التحويل - في الغسل والإدارة في الوضوء - وجه، لكفاية العكس أيضاً في إيصال الماء، بل يكفي كلّ واحد من التحويل والإدارة فيهما، فاعتبار هذه

ص:376


1- . الوسائل: 329/1، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
2- . الوسائل: 329/1، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 3.

الخصوصية يشهد بكونهما مطلوبين في نفسهما. والحاصل ليس الخبر راجعاً إلى الشكّ في وصول الماء، فإذا شكّ في وصول الماء يجب تحصيل العلم بوصوله بنزع الخاتم أو تحريكه.(1)

أقول: ما ذكره احتمال عقلي لا يتبادر من الرواية، فانّ المتبادر من الأمر بالتحويل والتدوير لكونها مقدّمتين لاغتسال ما تحت الخاتم، فالسؤال عن نسيان التحويل والتدوير يرجع إلى الشكّ في اغتسال ما تحته والأمر بعدم الإعادة يرجع إلى الحكم بالصحة مع الشكّ في الانغسال.

وتوضحه رواية العمركي، عن علي بن جعفر في نفس الباب(2)، فاحتمال كون السؤال عن الوجوب النفسي والجواب عن نفيهما خلاف المتبادر. وأمّا التعبير في الوضوء بالتدوير وفي الغسل بالتحويل، فلعلّ كون الإسباغ في الغسل آكد من الوضوء، فاكتفى في الأوّل بالتدوير وأمر في الثاني بالتحويل.

والأولى أن يجاب: انّ السند غير وافٍ لإثبات الحكم، لأنّ الحسين بن أبي العلاء لم يوثّق و إن كان ممدوحاً وله إحدى وعشرين رواية.(3) و يحتمل انّ الإمام شاهد الخاتم و لم ير انّه مانع من الانغسال.

والحاصل انّه لا يمكن الاحتجاج بهذه الرواية في مورد يكون الحكم فيه على خلاف القاعدة.

ص:377


1- . مصباح الأُصول: 307/3-308.
2- . الوسائل: 389/1، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
3- . قاموس الرجال: 410/3.
الأمر الخامس عشر في كون الشكّ في الانطباق نابعاً من احتمال طروء السهو

الظاهر من الروايات انّ مصبّ القاعدة هو الشكّ في انطباق العمل للمأمور به وعدمه من أجل احتمال طروءالسهو و النسيان على المكلّف أثناء العمل، وأمّا إذا كان الشكّ في الانطباق معلولاً للجهل بحكم اللّه الشرعي فهو خارج عن مصب الروايات، والفرق بين هذا المقام والمقام السابق بعد اشتراكهما انّ الصحة في الموردين مسندة إلى الصدفة الخارجة عن الاختيار، هو انّ الشكّ في الصحّة هناك معلول الجهل بكيفية الموضوع وفي المقام نتيجة الجهل بالحكم الشرعي.

ويترتب على ذلك المسائل التالية:

1. إذا كان جاهلاً بوجوب القصر على المسافر فصلّى ثمّ شكّ في أنّه أتمّ أو قصر، فهو بطبع الحال يُتم، ولكن يحتمل التقصير لعلّة من العلل، كزعم أنّ ما بيده ركعة رابعة مع أنّها كانت ثانية، أو تقصير إمامه صلاته وهو تبعه صدفة، أو غير ذلك.

2. إذا اعتقد أنّ المسافر مخيّر بين التمام والقصر، ويحتمل أنّه اختار القصر لكونه أخف.

3. إذا صلّى باعتقاد انّه لا تجب السورة أو جلسة الاستراحة بين السجدتين وغفل عن صورة العمل، فلا يدري هل صلّى مع السورة أو لا؟ أو هل صلّى مع الاستراحة بين السجدتين أو لا؟ فهو بطبع الحال يصلّي بلا سورة أو جلسة

ص:378

الاستراحة لكنّه يحتمل انّه صلّى معهما لعلّة.

4. إذا قامت البيّنة على أنّ الجهة الخاصة قبلة فصلّى إليها، ثمّ تبيّن فسق الشاهدين، فشكّ في صحّة الصلاة وانطباقها على المأمور به، لاحتمال كذب قولهما أو عمل بخبر الواحد، ثمّ تبيّن كون الراوي ضعيفاً أو الخبر معارضاً بأقوى منه.

والوجه في عدم جريان القاعدة هو انّ مصبّه ما إذا كان مقتضى طبع العمل هو الصحّة بحكم ذاكرية العامل لا ما إذا كان الفساد راجحاً والصحّة مرجوحة كما في المثال الأوّل، أو كان احتمال الصحة والفساد متساويين.

وإن شئت قلت: إنّ مصب القاعدة ما إذا كان الشكّ نابعاً من أمر واحد، وهو عروض الغفلة على وجه لولاه لما كان هناك شكّ بخلاف المقام، فإنّ الشكّ فيه ليس نابعاً عن عروض الغفلة بل من الجهل بكيفية الموضوع، كما في مسألة الخاتم أو الجهل بالحكم كما في المقام.

نعم ذهب المحقّق الهمداني إلى جريان القاعدة في هذا القسم من الشكّ قائلاً: بأنّ العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلّف على الصحيح، هي السيرة القطعية، وأنّه لولا ذلك لاختلّ نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوق، فضلاً عن لزوم العسر والحرج المنفيين في الشريعة، إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصادرة منه في الأعصار المتقدمة من عباداته ومعاملاته إلّاويشكّ في كثير منها، لأجل الجهل بأحكامها واقترانها بأُمور لو كان ملتفتاً إليها لكان شاكاً، فلو لم يحمل عملهم على الصحيح وبنى على الاعتناء بالشكّ الناشئ من الجهل بالحكم ونظائره، لضاق عليهم العيش، وهذا الدليل وإن كان لبيّاً يشكل استفادة عموم المدعى منه، إلّاأنّه يعلم منه عدم انحصار الحمل على

ص:379

الصحيح بظاهر الحال، فلا يجوز رفع اليد عن الأخبار المطلقة بسبب التعليل المستفاد من قوله: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ»، لأنّ جعله قرينة على التصرّف في سائر الأخبار فرع استفادة العلية المنحصرة منه والمفروض عدم الانحصار هذا مع أنّ دلالته عليه في حدّ ذاته لا يخلو من تأمّل فلا ينبغي الاستشكال في جريان القاعدة في جميع موارد الشكّ.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا يلزم من عدم جريان القاعدة الاختلال في النظام.

أمّا العبادات فلأنّه لا يترتب على الشكّ في صحّة العبادات لأجل الجهل بأحكامها سوى احتمال القضاء، وبما انّه بأمر جديد وهو بعد مشكوك لا يلزم منه الحرج وإن لم تجر القاعدة، واستصحاب عدم الإتيان بالمأمور به في ظرفه لا يثبت عنوان دليل القضاء في الأدلّة الشرعية: أعني الفوت. بل العنوانان متلازمان.

وأمّا المعاملات ففي قسم الزكوات والأخماس لا يلزم الحرج وإن لم تجر القاعدة، لأنّ الغالب دفعهما إلى مراجع الدين وأصحاب الفتيا أو وكلائهم.

وأمّا المعاملات بالمعنى الأخصّ فلا يلزم من عدم جريان القاعدة الحرج إذا شكّ في فساد المعاملات، وذلك لأنّ أقصى ما يمكن أن يقال جريان استصحاب عدم تحقّق العقد الجامع، وهو إمّا فاقد للحالة السابقة إذا كان بنحو النفي الناقص، أو مثبت إذا كان بنحو النفي التام.

وعلى فرض جريان الأصلين وإثبات الفساد فالرضاء بالتصرف من الطرفين كاف في المقام حيث إنّهما راضيان بالتصرّف سواء أصحت المعاملة أم لا، وأمّا احتمال البطلان في الأحوال الشخصية لأجل الجهل بالأحكام فقليل، لأنّ المتصدّي لها غالباً هم العلماء والعارفون بالأحكام.

ص:380


1- . تعليقة المحقّق الهمداني على الفرائد.
الأمر السادس عشر في تقدّم القاعدة على الاستصحاب

لا شكّ في تقدّم قاعدة التجاوز، على الاستصحاب بشهادة انّ الإمام قدّمها عليها في صحيحتي زرارة(1) و إسماعيل بن جابر.(2) لأنّ الأصل انّ المصلّي لم يؤذن، ولم يُقم ولم يركع ولم يسجد، مع أنّ الإمام أمر بعدم الاعتداد بالشكّ.

إنّما الكلام في وجه تقدّمهاعليه، وقد ذكر في ذلك وجوه:

1. رائحة الأمارية في القاعدة، لكونه حين العمل أذكر.(3) أو أقرب إلى الحقّ.(4) من زمان الشكّ، وفي رواية عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه(5) الإخبار عن تحقّق المشكوك حيث سئل أبا عبد اللّه عليه السلام عمّن أهوى إلى السجود ولم يدر أركع أو لا؟ قال: «قد ركع» فانّ الإخبار عن تحقّق المشكوك آية انّ القاعدة طريق إلى إحراز الواقع ولا دليل له سوى كونه بصدد إبراء الذمّة، وكأنّ أصالة عدم طروء الغفلة أمارة عقلائية إلى تحقّق الواقع.

2. لولا تقديم القاعدة على الاستصحاب تلزم لغوية القاعدة أو اختصاصها بموارد نادرة، وذلك لأنّ الحالة السابقة إمّا هي الصحّة أو الفساد أو مجهولة لأجل تعاقب الحالتين، كما إذا توضّأ وأحدث ولم يعلم المتقدّم منهما ولا المتأخّر، ولم تكن الحالة المتقدّمة عليهما معلومة.

فالقاعدة في الصورة الأُولى غير محتاجة إليها، لأنّ المفروض انّ الحالة

ص:381


1- . تقدّم الجميع برقم 11 و 12.
2- . تقدّم الجميع برقم 11 و 12.
3- . تقدّم الجميع برقم 2 و 13 و 16.
4- . تقدّم الجميع برقم 2 و 13 و 16.
5- . تقدّم الجميع برقم 2 و 13 و 16.

السابقة هي الصحّة، فلو قدّم الاستصحاب على القاعدة في الصورة الثانية يلزم اختصاصها بالصورة الثالثة وهي نادرة جداً، ولا معنى لتشريع قاعدة على التفصيل لمورد نادر.

3. انّ لسان القاعدة لسان رفع الشكّ ولسان الاستصحاب هو الحكم بإبقاء اليقين في ظرف الشكّ فيقدّم الأوّل على الثاني.

أما الأوّل فلقوله: «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه».(1) أو قوله عليه السلام: «فشكك ليس بشيء».(2) أو «انّه قد ركع».(3)

وأمّا الثاني كقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» فهو «يفترض وجود اليقين والشكّ ثمّ يحكم بإبقاء اليقين لا على إلغاء الشكّ، فيكون تقدّم القاعدة على الاستصحاب من باب الحكومة كتقدم «لا شكّ لكثير الشكّ» على أحكام الشكوك.

فإن قلت: إنّ شرط الحكومة هو كون تشريع الحاكم لغواً لولا تشريع المحكوم كما في قوله: «لا ربا بين الزوج والزوجة» بالنسبة إلى أدلّة تحريم الربا، فلولا التحريم لكان تشريع الربا بين الزوج والزوجة أمراً لغواً.

قلت: ليست الحكومة مصطلحاً شرعياً حتى نبحث في تحديدها بل يكفي في الحكومة كون أحد الدليلين متصرفاً في موضوع الدليل الآخر بالتوسعة والضيق سواء أكان تشريع الحاكم من دون تشريع المحكوم لغواً أو لا.

وربما يتصور انّ التقديم من باب التخصيص، لأنّ أغلب موارد العمل بالقاعدة يكون مورداً لجريان الاستصحاب.(4)

ص:382


1- . تقدّم برقم 1 و 11 و 16.
2- . تقدّم برقم 1 و 11 و 16.
3- . تقدّم برقم 1 و 11 و 16.
4- . مصباح الأُصول: 264/3.

يلاحظ عليه: أنّ لسان المخصص لسان إخراج الموضوع عن الحكم مع التحفّظ عليه؛ كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العالم الفاسق؛ فالدليل الثاني يسلِّم كون الفاسق عالماً وواقعاً تحت موضوع العام إلّاأنّه خارج عنه حكماً، و هذا بخلاف لسان القاعدة، فانّ لسانها نفي الموضوع بلحاظ نفي حكمه؛ كما هو الظاهر من قوله: «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه».

ص:383

القواعد الأربع

3 أصالة الصحة في فعل الغير
اشارة

والغرض من طرح هذه القاعدة بيان نسبتها إلى الاستصحاب، ولكن انجرّ الكلام إلى البحث عن مفاد القاعدة ودلائلها وبعض الأُمور المترتبة عليها، فنقول:

إنّ تحقيق ما ذكر يستلزم تبيين أُمور:

الأوّل: ما هي الصلة بين أصالة الصحّة وقاعدة التجاوز؟

إنّ حملَ فعل الفاعل المختار على الصحّة، أصل عقلائي، فتارة يكون المجْرى فعل الإنسان نفسه فيطلق عليه «قاعدة التجاوز»، وأُخرى يكون المجرى فعل الغير فيطلق عليه «أصالة الصحّة»، فكلتا القاعدتين ترجعان في الواقع إلى أصل واحد هو حمل فعل الفاعل المختار على الصحة.

وأمّا اعتبار التجاوز عن المحل في قاعدة التجاوز دون المقام فلا يجعلهما قاعدتين مستقلتين، لأنّ موضوع الأصل في كلا المقامين هو الشكّ في صحّة العمل وهو فرع غيبوبة صورة العمل عن الذهن ولا تغيب صورة العمل عن النفس في فعل الإنسان نفسه إلّابعد التجاوز عنه؛ و هذا بخلاف فعل الغير،

ص:384

فانّ الغيبة متحقّقة مطلقاً سواء أكان الشكّ في الأثناء أم بعد الانتهاء من العمل لعدم وقوف الإنسان على سرائر الأشخاص.

الثاني: في مفاد أصالة الصحّة

إنّ لأصالة الصحّة في حقّ الغير معنيين:

1. حسن الظن بالمؤمن والاعتقاد الجميل في حقّه من دون أن ينسبه إلى اعتقاد فاسد أو صدور عمل فاسد، وهذا من التكاليف الإسلامية التي دعا إليها القرآن و السنّة، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) .(1)

وأمّا السنّة فقد ورد في المقام روايات نذكر بعضها:

أ: روى إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إذا اتّهم المؤمنُ أخاه، انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء».(2)

ب: روى الحسين بن المختار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه. ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً».(3)

ج: روي عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال لمحمد بن فضيل: «يا محمد! كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولاً، فصدِّقه وكذِّبهم».(4)

ص:385


1- . الحجرات: 12.
2- . الوسائل: 613/8، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 614/8، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
4- . الوسائل: 609/8، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.

وليس المراد من تكذيبهم وتصديق الأخ إلّاحسن الاعتقاد بالأخ المؤمن بأنّه صادق في تكذيبه مع حسن الاعتقاد بالقسامة، بالحكم بصدقهم في اعتقادهم؛ وأمّا ترتيب الأثر على قول الأخ أو القسامة، فخارج عن مصبّ الروايات، فهذه الأدلّة ناظرة إلى حكم أخلاقي لا صلة له بالحكم الشرعي.

2. ترتيب الأثر على الفعل الصادر من الغير بمعنى فرض فعله مطابقاً للواقع، فإذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحاً أو فاسداً لا على وجه قبيح، بل كان الأمران في حقّه مباحين لكن أحدهما فاسد والآخر صحيح يحمل على القسم الصحيح، كبيع الراهن العين المرتهنة مع رجوع المرتهن عن إذنه وعدم علم الراهن به، فدار بين كونه قبل رجوع المرتهن عن الإذن واقعاً أو بعده، فانّ كلا البيعين بحكم جهل الراهن أمر حسن، لكن يترتب الأثر على أحدهما، وهو البيع قبل الرجوع، لا على الآخر و هو البيع بعد الرجوع، فيحمل على الفرد الصحيح.

وفي المقام يفترق المعنيان، فإنّ أصالة الصحة بالمعنى الأوّل، أي عدم صدور الفعل القبيح عن الفاعل، تجري في كلتا الصورتين: البيع قبل الرجوع والبيع بعده، لفرض جهل الراهن البائع بالرجوع.

وأمّا أصالة الصحّة بالمعنى الثاني فيختص جريانها بصورة واحدة، وهي البيع قبل رجوع المرتهن، وأصالة الصحة بهذا المعنى رهن دليل آخر، ولا يكفيها ما ورد حول المعنى الأوّل. وهذا ما سنحيل دراسته إلى الأمر الثالث.

ص:386

الثالث: الدليل على أصالة الصحّة بمعنى ترتيب الأثر الشرعيّ

استدلّ الفقهاء منهم المحقّق النراقي في عوائده(1) والشيخ الأعظم في الفرائد على حجّية أصالة الصحة بالمعنى الثاني بوجوه، غير انّ الدليل الوحيد الذي يمكن أن يتمسّك به هو السيرة العقلائية على حمل فعل الغير على الصحة، بل مطلق حمل الفعل الصادر عن الفاعل المختار على الصحّة ليعمّ فعل النفس وفعل الغير. والداعي إلى اتخاذ العقلاء هذا الأصل سنّة في الحياة، هو ملاحظة طبع العمل الصادر عن إنسان مريد يعمل لغاية، أعني: الانتفاع بعمله آجلاً وعاجلاً، ومقتضى ذلك إيجاد العمل صحيحاً لا فاسداً، كاملاً لا ناقصاً، وإلّا يلزم نقض الغرض والفعل العبث.

وإن شئت قلت: كما أنّ الصحّة هي الأصل في الطبيعة دون المعيب فإذا بُشِّر أحد برزق الولد يتبادر الولد السويّ، أو إذا باع دابّة معينة، يحمل على الصحيح، لأنّ الأصل في الطبيعة هو الصحّة والنقص أمر طارئ عليه ولا يعدل عنه إلّابقرينة. هكذا الصحّة هي الأساس في فعل الإنسان فيحمل على الصحة، وذلك لأنّ الأصل في الفعل الصادر من الفاعل المختار الهادف، هو صحّة الفعل، والفاسد أمر طارئ نابع من الغفلة.

هذا هو الأصل المحقّق بين العقلاء، وعليه السيرة المتشرّعة بما هم عقلاء، وعلى ضوئهم مشى الفقهاء في الأحكام الشرعية، فانّك لا تجد بين القدامى من الفقهاء عنواناً لهذا الأصل: «أصالة الصحّة في فعل الغير»، لكنّهم بما هم عقلاء تبعوا في أحكامهم الأصلَ الدارج بينهم، وإليك سرد طائفة من الأحكام المبنيّة على الأصل المذكور:

ص:387


1- . عوائد الأيام: 73.

1. إذا قام المسلم بغَسْل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، أو قام بغسل الأواني واللحوم المتنجّسة، يحمل فعله على الصحة ويسقط التكليف عن الغير، ولا يحتاج إلى إحراز الصحّة بالعلم والبيّنة، بل لو شكّ يكفي في ترتّب الأثر كون الفعل صادراً عن المسلم.

2. إذا أذّن أحد المأمومين أو أقام، يسقط التكليف عن الغير، وإن شكّفي صحّة ما أتى به، يحمل على الصحّة.

3. إذا ناب المسلم عن رجل في الحجّ والعمرة أو في جزء من أعمالهما، وشُكّ في صحّة العمل المأتي به يُحمل على الصحة.

4. يحمل خرص الجابي في مورد الصدقات على الصحة إذا شكّ في صحّته.

5. يحمل ذبح الذابح على الصحّة.

6. يحمل عمل الوكلاء في الزواج والصلاة والبيع والشراء والإجارة عليها، ومثله فعل الأولياء كالأب والجدّ في النكاح، كما يحمل اتجارهم بمال اليتيم على الصحّة، ومثله حمل عمل المتولّي للأوقاف عليها، إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه، كيف، والأصل في باب التنازع هو الصحّة، والبيّنة على من يدّعي الخلاف، ويؤيد إجماع الفقهاء والسيرة ما ورد في بعض الأبواب.

1. ما ورد في ذم الخوارج لكثرة السؤال.

روى البزنطي مضمراً قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشري جبّة فرا، لا يدرى أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: «نعم. ليس عليكم المسألة، انّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، انّ الدّين

ص:388

أوسع من ذلك».(1)

2. ما ورد في الجلود المشتراة من السوق.

روى إسماعيل بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه».(2)

وربما يتوهّم انّ جواز الاشتراء مستند إلى سوق المسلم أو يده ولا صلة للرواية بأصالة الصحة.

يلاحظ عليه: أنّ السوق واليد إشارة إلى حال البائع بما انّه مسلم، وهو لا يقوم إلّابعمل صحيح، فإذا جُرّد المورد عن اليد والسوق يجوز الاشتراء أيضاً لكون البائع مسلماً.

ثمّ إنّ المحقّق النراقي ممّن رفض كلّية القاعدة وذهب إلى أنّ العمل في بعض الموارد لأدلّة خاصّة واستدل على مقصوده بالروايتين التاليتين:

أ: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سئل عن رجل جمّال اسْتُكري منه إبل وبُعث معه بزيت إلى أرض، فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق ما فيه؟ فقال: «إن شاء أخذ الزيت، وقال: إنّه انخرق، ولكنّه لا يصدّق إلّاببيّنة عادلة».(3)

قال المحقّق النراقي: يعني انّ الجمّال يمكن أن يأخذ الزيت، ويقول انخرق

ص:389


1- . الوسائل: 1071/2، الباب 50 في أبواب النجاسات، الحديث 3.
2- . الوسائل: 1072/2، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 7.
3- . الوسائل: 276/13، الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 1.

الزُّقّ فلا يُصدَّق قوله إلّامع البيّنة، وهذا صريح في عدم حمل قوله على الصدق.(1)

يلاحظ عليه: أنّ مورد الأصل فيما إذا صدر من الفاعل فعل له وجهان: الصحّة والفساد. فيحمل على الأوّل دون الثاني، وليس مورده تصديق ادّعاء كلّ من يدّعي شيئاً ينتهي إلى ضرر الغير، فليس الأصل صحّة قول كلِّ مسلم ولو انتهى إلى ضرر الغير.

على أنّ هناك أصلاً آخر هو أخصّ من حمل فعل الغير على الصحة وهو ضمان الأجير إلّاإذا ثبتت أمانته والمقام داخل في هذا الأصل، وبما انّه أخصّ يقدّم على أصالة الصحّة.

روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام يضمن القصّار والصائغ يحتاط به على أموال الناس، وكان أبو جعفر عليه السلام يتفضّل عليه إذا كان مأموناً».(2)

وروى معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال: «ليس يضمنان».

قال الشيخ: يعني إذا كانا مأمونين، فأمّا إذا اتُّهما ضمنا حسب ما قدمنا.(3)

وقد ظهر بذلك انّ مورد الرواية خارج عن مصبّ قاعدة أصالة الصحة في فعل الغير أوّلاً، ومحكوم بقاعدة أُخرى من ضمان الأجير.

ب: ما رواه عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث أنّه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ قال: «إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً فلا

ص:390


1- . عوائد الأيّام: 78.
2- . الوسائل: 274/13، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 12.
3- . الوسائل: 274/13، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 14.

بأس أن يشرب».(1)

يلاحظ عليه: أنّ اشتراط الإسلام والورع والإيمان لأجل كون الفاعل متّهماً وإلّا فيقبل، وتدلّ على ذلك عدّة من الروايات المفصّلة بين المستحلّ وغيره، فيشرب في الثاني دون الأوّل، وإليك بعضها.

عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يهدي إليّ البختج من غير أصحابنا؟ فقال: «إن كان ممّن يستحلُّ المسكر فلا تشربه، وإن كان ممّن لا يستحل فاشربه».(2)

ومثله رواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام.(3)

كلمة أخيرة للمحقّق النراقي

قال: ويكفيك في عدم الكلية ما ترى من اشتراطهم في الشهادة، العدالة، والتعدّد، وانضمام الحلف والاكتفاء في سقوط الدعوى عن ورثة الميت بيمين نفي العلم، والحكم بسقوطها مع عدم دعوى العلم على الوارث، وبلزوم الحلف فيما يدّعيه أحد ممّا هو موقوف على قصده، ونحو ذلك، ولا يعلم في الموارد التي يكون الحكم فيها موافقاً للقاعدة انّه لأجل ما تقتضيه تلك القاعدة، بل لعلّه إنّما هو لخصوص المورد أو علة أُخرى.(4)

يلاحظ عليه: أنّ مصبّ القاعدة ليس هو تصديق كلّ مدّع في عامّة الحالات عادلاً كان أم فاسقاً، واحداً كان أو متعدّداً، انضم الحلف إلى قوله أو لا، بل المراد

ص:391


1- . الوسائل: 235/17، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 6.
2- . الوسائل: 233/17، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.
3- . الوسائل: 234/17، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4.
4- . عوائد الأيام: 78.

انّه إذا صدر فعل عن إنسان مختار لغاية خاصة فيحمل على الفرد الصحيح منه دون الفاسد.

وما ذكره من الأمثلة خارج عن هذا الموضوع، إذ ليس المدّعى انّه يُسمع دعوى كلّ مدّع في حقّ الآخرين بمجرّد الشهادة، وإنّما موردها فعل صادر من فاعل مختار له وجهان صحيح وغير صحيح، فيحمل على الصحيح من دون أن يقع ذريعة لتصديق أحد وتكذيب الآخر.

وبالجملة: فإنكار هذا الأصل بين العقلاء والمتشرّعة والفقه غير تامّ.

الأمر الرابع هل المراد هو الصحّة عند الفاعل أو الحامل؟

هل أصالة الصحّة تثبت كون العمل صحيحاً عند الفاعل والعامل، أو تثبت كونه صحيحاً عند الحامل؟ ويعبر عن الأوّل بالصحّة الفاعلية، وعن الثاني بالصحّة الواقعية، لأنّ الحامل يتصور انّ ما يعتقده هو الواقع، فهنا وجهان:

الأوّل: انّ مقتضى التعليل هو الصحّة عند الفاعل لما قرّر من أنّ الفاعل المريد الهادف لا يترك ما هو المؤثر في العمل عمداً لكونه نقضاً للغرض، ولا سهواً لكونه نادراً، فلو اعتمدنا في أصالة الصحّة على هذا التعليل، فلا يثبت إلّا كون العمل صحيحاً عند الفاعل.

الثاني: انّ الغرض الذي لأجله أُسِّس الأصل هو ترتيب الآثار الواقعية عند الحامل، والمفروض انّ الأثر مترتب على العمل الصحيح عنده لا عند الفاعل.

وبذلك يظهر وجود التنافي بين التعليل والغرض الذي أُسِّس لأجله

ص:392

الأصل، ومع ذلك لا محيص إلّاعن تقديم الثاني وإلّا يكون الأصل قاصراً غير مفيد.

وعلى ذلك تختلف أحكام الصور من حيث إثبات الصحّة وعدمه.

1. إذا وقف الحامل على أنّ العامل جاهل بأحكام عمله من حيث الصحّة والفساد لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع، فلو جاء به صحيحاً فإنّما وقع ذلك صدفة لا لكون الصحّة مقتضى طبع العمل الصادر عن الفاعل المريد الهادف، فلا تجري هنا أصالة الصحّة.

2. أن يجهل الحامل بحال العامل من حيث العلم بالحكم والموضوع وعدمه، والظاهر جريان أصالة الصحّة لوجود السيرة حيث إنّ بناء الناس على حمل عمل الآخرين على الصحّة من دون تفحّص وتفتيش عن علمهم بالموضوعات والأحكام، وعدمه.

3. أن يعلم الحامل بعلم العامل بعمله حكماً وموضوعاً، وله صور:

أ: أن تُعلم الموافقة بينهما في موارد الصحّة والبطلان.

ب: أن يجهل حاله من حيث الموافقة والمخالفة.

ج: أن تعلم مخالفته مع الحامل.

فيجري في الأُولى لوجود الموافقة، كما يجري في الصورة الثانية للجهل بالمخالفة، وقد علمت أنّ الناس يحملون عمل الآخرين على الصحّة من دون تفتيش عن كونهم عالمين أو جاهلين، وعلى فرض كونهم عالمين كونهم موافقين للحامل أو مخالفين.

لكنّه لا يجري في الصورة الثالثة، لأنّ الصحّة هنا ليست مقتضى طبع إرادة

ص:393

الفاعل المريد، بل لو صحّت وكان العمل موافقاً للصحيح عند الحامل فإنّما هو من باب الصدفة.

إذا كان بين عقيدتي الحامل والفاعل تباين، كما إذا اعتقد العامل بوجوب القصر في السفر أي أربعة فراسخ وإن لم يرجع ليومه و اعتقد الآخر وجوب الإتمام في هذه الصورة فلا تجري أصالة الصحّة، وذلك لأنّ وقوع العمل صحيحاً حسب نظر الحامل: «الصلاة تامة» رهن السهو والغفلة، وإلّا فهو بطبع الحال يصلّي قصراً حسب ما يعتقد.

وإذا كان بين العقيدتين تخالف لا بالتباين، كما إذا اعتقد الفاعل بجواز الجهر والمخافتة في صلاة ظهر يوم الجمعة، واعتقد الحامل بوجوب خصوص المخافتة، فهل تجري أصالة الصحّة أو لا؟ الظاهر هو الثاني، لأنّ وقوع العمل صحيحاً حسب نظر الحامل ليس نتيجة إرادة الفاعل المريد الهادف، بل نتيجة الصدفة بأن يختار من طرفي التخيير ما هو الموافق لنظر الحامل.

وعلى ضوء الإحاطة بأحكام هذه الصور تُميّز الموارد التي تجري فيها أصالة الصحّة عمّا لا تجري.

ص:394

الأمر الخامس عدم جريان الأصل إلّابعد إحراز الموضوع

نقل الشيخ الأعظم عن المحقّق الثاني انّ الأصل في العقود، الصحة، لكن بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد، أمّا قبله فلا وجود له، وخصّ جريانها على ما إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الأُمور المعتبرة في العقد من الإيجاب والقبول الكاملين وجريانهما على العوضين المعتبرين، ووقع الاختلاف في شرط مفسد، فالقول قول مدّعي الصحّة بيقينه، لأنّه الموافق للأصل.(1)

وعلى ضوء ذلك فلا يجري الأصل في المسائل التالية:

1. لو ادّعى المشتري أنّه اشترى العبد، والبائع أنّه باع الحرّ.

2. لو قال الضامن: ضمنت وأنا غير بالغ، وقال المضمون له: ضمنتَ وأنت بالغ.

3. لو قال الضامن: ضمنتُ وأنا مجنون، وقال المضمون له: ضمنتَ وأنت عاقل.

يلاحظ على ما ذكره بأنّه إذا كان مصبُّ الأصل ما إذا أحرز الموضوع بتمام قيوده وحدوده وكان الشكّ ممحَّضاً في الاشتراط بالشرط الفاسد يكون الأصل عديم الفائدة، إذ يكفي عندئذٍ الاستصحاب، وهو أصالة عدم الاشتراط صحيحاً كان الشرط أم فاسداً.

هذا وقد أورد الشيخ على نظريّة المحقّق الثاني بوجوه:

ص:395


1- . فرائد الأُصول: 417.

الأوّل: بالنقض بما إذا شكّ المشتري في أنّ الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره أو لا؟ فهو يبني على الصحّة اتفاقاً، مع أنّه شكّ قبل العلم باستكمال العقد.

الثاني: بالحلّ بأنّه ماذا يريد من قوله: إنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانه؟ فإن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحّة، وإن أراد الوجود العرفي فهو متحقّق مع الشكّ بل مع القطع بعدم البلوغ.

الثالث: انّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا شكّ في بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ تستلزم صحّةُ فعله، صحّةَ فعل هذا الفاعل، كما إذا كان قائماً بطرف واحد كالإبراء والإيصاء فشكّ في أنّه صدر في حال البلوغ أو قبله. وأمّا إذا كان قائماً بشخصين فشكّ في ركن العقد كأحد العوضين أو في أهليّة أحد طرفي العقد، فيمكن أن يقال:

إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل، ومن الطرف الآخر في الثاني أنّه لا يتصرّف فاسداً.

وأمّا مسألة الضمان، فلو فرض وقوعه بغير إذن من المديون ولا قبول من الغريم فشك في بلوغ الضامن حينه وعدمه فلا يصحّ استكشاف صحّته من الطرف الآخر لعدم وجوده، وأمّا إذا كان مع إذن واحد منهما أوكليهما فيصحّ استكشاف صحّته، من الحكم بصحّة عمل الطرف الآخر.(1)

أقول: قد وقفت على مختار المحقّق الثاني كما عرفت خيرة الشيخ الأنصاري، وبين القولين بون شاسع، حيث إنّ الأوّل لا يقول بجريان الأصل إلّابعد إحراز الموضوع للصحّة عند الشرع بعامة قيوده وشروطه، وكان الشكّ نابعاً من اشتراط شرط مفسد وعدمه، ومن المعلوم انّ تخصيص الأصل بهذه الصورة

ص:396


1- . فرائد الأُصول: 418.

يوجب كونه غير مؤثر في باب المعاملات إلّانادراً.

كما أنّ الشيخ الأنصاري يقول بجريان الأصل مطلقاً سواء أحرز الموضوع أم لا، وسواء أحرزت صورة العمل أو لا، وعند ذلك يفقد الأصل الضابطة التي تُميز موقف الأصل عن غيره.

وعلى ذلك يجب التنبيه على تلك الضابطة فنقول: إنّ أصالة الصحّة أصل عقلائي لا يتمسّك به العقلاء إلّابعد إحراز الموضوع عرفاً، الذي ربما يكون هو موضوعاً للصحة والفساد شرعاً. فكلّ مورد أحرز الفقيه وجود الموضوع وكان قابلاً للحكم عليه بالصحة والفساد يجري الأصل، وإلّا فلا.

غير انّ مقتضى الأصل هو حمل الموضوع على القسم الصحيح دون الفاسد، فيكون أصل الموضوع محرزاً بالوجدان وصحته محرزة بالأصل، وبذلك تقدر على تمييز ما يجري فيه الأصل عمّا لا يجري. وإليك بعض الأمثلة:

أ: لو شكّ في كون البائع أو الضامن أو غيرهما عاقلاً أو مجنوناً حين البيع أو الضمان أو لا؟ فلا تجري أصالة الصحّة، لأنّ موضوعها هو العقد الذي يوصف بالصحة تارة وبالفساد أُخرى، والشكّ في كون البائع عاقلاً أو مجنوناً شكّ في وجود الموضوع (العقد) وانّه هل كان هناك عقد أو لا، فكيف يكون محكوماً بالصحة، بخلاف ما إذا أحرز انّ العقد صدر من المميّز لكن شكّ في بلوغه فيما انّ عقد المميّز موضوع للصحة والفاسد يحمل على القسم الصحيح وهو كونه مميّزاً بالغاً.

ب: لو رأينا إنساناً في حالة الركوع وشككنا في أنّه ركع لأجل الصلاة أو لأخذ شيء من الأرض فلا تجري فيه أصالة الصحّة، لعدم إحراز الموضوع، وهو كونه بصدد إقامة الصلاة، وإلى ذلك يشير قول الشيخ في الأمر الرابع حيث قال:

ص:397

لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة أو طهارة أو نسك حج ولم يعلم قصده تحقّق هذه العبادات، لم يحمل على ذلك.(1)

ج: لو أحرز انّ الفاعل بصدد الغَسل وشككنا في أنّه بصدد الغسل بعنوان التطهير أو الغسل بعنوان النظافة لا تجري أصالة الصحّة.

د: لو علمنا بصدور الإيجاب من الموجب وشككنا في صدور القبول من القابل، فأصالة الصحّة من الموجب لا يقتضي إلّاصحّة نفس الإيجاب بما هوهو بمعنى انّه لو انظمّ إليه القبول لتم العقد، ولا تنتج أصالة الصحة من جانب الإيجاب وجود العقد، حتى يحمل على الصحة، لعدم إحراز الموضوع (العقد)، وأمّا المحرز فإنّما هو جزء العقد (الإيجاب) لا تمامه، و قد سبق انّ الثابت بأصالة الصحّة في فعل النفس هو الصحّة النسبية، فلاحظ.

تفصيل للمحقّق النائيني

ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذكر تفصيلاً آخر، وحاصله: انّ دليل أصالة الصحّة في العقود هو الإجماع، والقدر المتيقن منه ما إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبباً عن الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.

وبعبارة أوضح: أهلية العاقد لإيجاد المعاملة، وقابلية المعقود عليه للنقل والانتقال إنّما يكون مأخوذاً في عَقْدِ وَضع أصالةِ الصحة، فلا محلّ لها إلّابعد إحراز أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه، فأصالة الصحّة إنّما تجري إذا كان الشكّ راجعاً إلى ناحية السبب من حيث كونه واجداً للشرائط المعتبرة أو فاقداً له، وأمّا

ص:398


1- . فرائد الأُصول: 419.

لو كان الشكّ راجعاً إلى أهلية العاقد أو قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال، فالمرجع هو سائر الأُصول العملية حسب ما يقتضيه المقام.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره متين فيما إذا كان الشكّ في قابلية العاقد أو المعقود عليه موجباً للشكّ في صدق الموضوع وصدق القدر المشترك بين الصحة والفساد، كما إذا شكّ في عقد العاقد أو تميّزه أو شكّ في كون المبيع ما يملك عرفاً أو لا.

وأمّا إذا كان الموضوع محرزاً عرفاً وكان الشكّ في تحقّق الشروط التي اعتبرها الشارع دون العرف، كما إذا شكّ في بلوغ العاقد أو كون المبيع ممّا لا يتملك شرعاً كالخمر وإن كان متملّكاً عرفاً، فلا وجه لعدم الجريان أخذاً بالضابطة الماضية من أنّ الإنسان المريد المختار الذي يعمل لغرض خاص، لا يصدر إلّاعن عمل صحيح فيترتب عليه انّه كان بالغاً و انّ المعقود عليه متملكاً شرعاً.

ص:399


1- . فوائد الأُصول: 657/4-658.
الأمر السادس الغاية إثبات الأثر المطلوب

إنّ الغاية من جريان الأصل هو إثبات الأثر المطلوب من كلّ شيء، فأصالة الصحّة في الإيجاب لا تثبت إلّا صحّة نفس الإيجاب بمعنى انّه لو انضم إليه القبول لتم العقد في مقابل الإيجاب الباطل، وأمّا أنّه هل انضم إليه القبول أو لا؟ فلا تثبته أصالة الصحّة، وهذا هو الذي مرّ ذكره في قاعدة التجاوز من انّه لا يثبت بها إلّاالصحّة النسبية لا المطلقة، وبذلك تقف على أحكام الصور التالية:

1. لو شكّ في تحقّق القبض في معاملة الصرف و السلم، فأصالة صحة العقد لا تثبت تحقّقه.

2. لو شكّ في إجازة المالك بعد صدور العقد من الفضول، فصحّة العقد الفضولي لا تثبت تحقّق الإجازة.

3. صحّة إذن المرتهن في البيع لا تثبت وقوع البيع قبل الرجوع إذا علمنا بوقوع البيع ورجوع المرتهن عن إذنه وشككنا في كونه قبل البيع أو بعده، كما أنّ صحّة الرجوع لا تثبت كون البيع بعده إلى غير ذلك من الأمثلة.

بقيت هنا فروع ذكرها الشيخ تحت هذا الأمر:

أ: إذا باع الوقف مدّعياً وجود المسوغ.

ب: إذا باع غير الولي مال اليتيم مدّعياً حصول الغبطة.

ج: إذا ادّعى الفضولي إجازة المالك حين بيعه للآخر.

ص:400

الظاهر انّ هذه المسائل داخلة تحت الأمر الخامس حيث حكما بعدم جريان أصالة الصحة إلّاعند إحراز الموضوع، وهو غير محرز في المقام لعدم إحراز المسوغ في الوقف والغبطة في بيع مال اليتيم، وإذن المالك في بيع ماله، وكان على الشيخ طرح هذه الأمثلة تحت الأمر الخامس لا السادس.

ويمكن أن يقال انّ عدم جريان الأصل لاختصاصه بما إذا كان طبع العمل مقتضياً للصحّة وكان الفاسد أمراً طارئاً، وأمّا الأمثلة فالأمر فيها على العكس، فانّ الأصل في هذه الموارد هو الفساد والصحّة أمر عرضي.

وبذلك يعلم عدم جريان الأصل في بيع الخمر والكلب والخنزير والسلاح في العدوان وغير ذلك.

ص:401

الأمر السابع شرطية إحراز العمل في جريان الأصل

قد سبق انّ مجرى الأصل هو العمل الصادر من إنسان عامل مريد لغرض دنيوي أو أُخروي، فلا تجري إلّافي مورد العمل المحرز وجوده، في ظرفه، سواء أكان ظرف العمل هو الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وبذلك تظهر كيفية جريان الأصل فيما إذا استأجر إنساناً للحجّ والعمرة، و شك فيه، فهنا صور:

أ: إذا شكّ في أصل الإتيان.

ب. إذا شكّ في قصده النيابة.

ج: إذا شكّ من جهة الإخلال ببعض الشرائط اللازمة.

أمّا الصورتان الأُوليان فلا يجري فيهما الأصل، نعم لو كان المخبر عادلاً وقلنا بحجّية الخبر الواحد في الموضوعات يقبل قوله لكونه خبراً عادلاً.

وأمّا الصورة الأخيرة فالظاهر جريان الأصل فيه ويحكم بالصحّة، ويُلزم الموجر بدفع الأُجرة، غير أنّه يظهر من الشيخ الأنصاري التفصيل بين دفع الأُجرة وحصول البراءة حيث قال بلزوم دفع الأُجرة وعدم حصول البراءة، فقال ما هذا نصه:

إنّ للفعل النائب عنوانين:

أحدهما: إنّه فعل من أفعال النائب، ولذا تجب عليه مراعاة أجزاء الواجب وشروطه، وبهذا الاعتماد يترتب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه، مثل استحقاق الأُجرة وجواز استئجاره ثانياً بناء على اشتراط فراغ ذمة الأجير في صحّة

ص:402

استئجاره ثانياً.

والثاني: من حيث إنّه فعل للمنوب عنه حيث إنّه بمنزلة الفاعل بالتسبّب أو الآلة وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائماً بالمنوب عنه، وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والإتمام في الصلاة، والتمتع والقران في الحجّ، والترتيب في الفرائض، والصحة من الحيثية الأُولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثية الثانية، بل لا بد من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبّب.

وبعبارة أُخرى: إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه من حيث إنّه فعل الغير كفت أصالة الصحّة في السقوط، كما في الصلاة على الميت وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلاً له ولو على وجه التسبيب، كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه أو ببدن غيره كما في استنابة العاجز للحج لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين فيحكم باستحقاق الفاعل الأُجرة وعدم براءة ذمة المنوب عنه من الحجّ وكما في استئجار الوليّللعمل عن الميت.(1)

وحاصل كلامه انّ في مورد النيابة عملين:

أ: العمل المباشري القائم بالفاعل.

ب: العمل التسبّبي للمنوب عنه.

فالأوّل موضوع لأداء الأُجرة، و بما انّه أمر ثابت، يجب أن تدفع الأُجرة للنائب في ظرف الشكّ أيضاً، لأصالة الصحّة في عمله.

وأمّا الثاني فهو عمل للمنوب عنه ولا تجري فيه أصالة الصحّة، لأنّ

ص:403


1- . فرائد الأُصول: 420.

موضوعه فعل الغير، وهو في المقام فعل نفس الحامل.

أقول: يلاحظ على ما ذكره من أنّه ليس في العمل النيابيّ إلّاأمر واحد وهو قيام الغير بالعمل المتعلّق بالغير لغاية إفراغ ذمّته، وهذا موضوع لكلا الأثرين: وجوب دفع الأُجرة، و براءة ذمّة المنوب عنه عمّا تعلّق بذّمته، فلو جرت أصالة الصحّة في المقام لترتّب عليه كلا الأثرين.

وأمّا تفسير النيابة بتنزيل النائب نفسه بمنزلة المنوب عنه، وفعلَه وطاعَته، منزلة فعلِه وطاعتِه؛ فهو تفسير ذوقيّ لم يدلّ على صحّته دليل شرعي، والعجب انّ سيّد مشايخنا البروجردي قدس سره كان يفتي على هذا المبنى بعدم جواز الاقتداء بإمام يصلّي الفرائض نيابة عن الميت، وذلك لأنّ النائب ينزّل نفسه منزلة الميت، فكأنّه الميت الذي يصلّي، الّذي لا يجوز الاقتداء به.

ص:404

الأمر الثامن أصالة الصحّة أمارة أو أصل

إنّ القضاء الباتّ في المقام يتوقف على دراسة أدلّة أصالة الصحّة، فانّ مفادها يختلف حسب اختلاف أدلّتها، وذلك:

فإن قلنا بحجيّتها من باب دفع العسر والحرج ولغاية حفظ النظام، تُصبح أصالة الصحّة أصلاً من الأُصول.

وأمّا لو قلنا بحجيتها من باب السيرة المستمرّة بين العقلاء المستندة إلى أصل، وهو انّ الإنسان العاقل المريد لغاية دنيوية أو دينية لا يقوم إلّابالعمل الصحيح لا الفاسد، فتصبح أصالة الصحة أمارة من الأمارات، فيكون قيام الفاعل المريد للعمل لأجل غرض، طريقاً إلى استكشاف صحته، وإلى ذلك الوجه يرجع ما قلنا من أنّ طبع العمل يقتضي أن يكون صحيحاً، وذلك لأنّ اقتضاء طبع العمل، الصحةَ رهن إرادة الفاعل المريد لغاية خاصة.

ولكن لا تترتب على ذلك ثمرة عملية، وما ربّما يتوهّم من أنّ ثمرة البحث هو حجّية مثبتاتها على الأمارية دون الأصل، غير تامّ. إذ لم يدلّ دليل على حجّية مثبتات الأمارات على الإطلاق إلّاالبيّنة وخبر الواحد، وفي غير هذين الموردين لم يدلّ دليل على التعبُّد بلوازمها العرفية أو العقلية.

مثلاً لو شككنا في أنّ الشراء الصادر من الغير كان ممّا لا يملك أو ممّا يملكه من الدرهم المعين، فأصالة الصحّة لا تثبت خروج الدرهم من ملكه.

ص:405

وخلاصة الكلام في حجّية الأمارات في مثبتاتها انّ طريقية الأمارة إذا كانت قوية بحيث لا ينفك التعبّد بالملزوم عرفاً عن التعبّد بلازمه تكون الأمارة حجّة في لوازمها، كما في البيّنة و خبر الواحد؛ وأمّا إذا كانت طريقيته خفيفة كالظنون الحاصلة من قاعدة اليد والفراغ و أصالة الصحّة، فلا يعد التعبّد بالملزوم، تعبداً باللازم. فما اشتهر بين المتأخرين من أنّ مثبتات الأمارات حجّة دون الأُصول ليس على إطلاقها دليل.

نعم ربما يكون الأصل أو الأمارة الضعيفة منقِّحاً لموضوع الدليل الاجتهادي فيترتب عليه الأثر، لا بفضل الأصل أو الأمارة الضعيفة، بل بفضل الدليل الاجتهادي الذي أخذ موضوعه من الأصل أو الأمارة الضعيفة، وهذا خارج عن مثبتات الأُصول والأمارات.

مثلاً: إذا طُلّقت المرأة وشككنا في صحّة طلاقها، جرت أصالة الصحة وثبت صحّة الطلاق، و عندئذٍ تصبح المرأة المطلقة صغرى، لقوله سبحانه: (وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (1)، فيجب عليها الاعتداد، فإذا خرجت من العدة يشملها الدليل الاجتهادي الآخر المسوّغ لتزويج المرأة المطلّقة التي انتهت عدتها، وهكذا....

ص:406


1- . البقرة: 228.
الأمر التاسع تقدّم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد

إنّ أصالة الصحّة مقدّمة على الاستصحاب سواء أكانت أمارة أم أصلاً.

أمّا على القول بأنّها أمارة، فلأنّها مزيلة للشك؛ وأمّا على القول بأنّها أصل، فللزوم اللغوية لو قُدِّم الاستصحابُ على أصالة الصحّة. لأنّ الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد، وذلك انّ سبب الشكّ فيهما إذا كانت الشبهة موضوعيّة هو احتمال تخلّف شرط أو جزء عن المشروط والمركب، والأصل عدم اقترانهما بالكلّ فتكون المعاملة محكومة بالفساد، والعبادة محكومة بوجوب الإعادة وبقاء اشتغال الذمّة، فلو قُدّم الاستصحاب على أصالة الصحّة يلزم أن لا يكون لأصالة الصحّة دور في باب المعاملات والعبادات، وهذا هو معنى لغويتها.

نعم لو كان الشكّ في الصحّة نابعاً عن احتمال اقتران المانع والقاطع، فمقتضى الأصل وإن كان عدمهما وتكون النتيجة صحّةَ العبادة والمعاملة، ولكن عند ذاك لا حاجة إلى أصالة الصحّة، فتُصبح أصالة الصحّة أصلاً قليل الفائدة أو عادمها، وذلك لأنّه بين مبتلى بمعارَض يقدّم عليه و بين خال عن المعارض لكن الفقيه في غنى عن مراجعتها.

ويؤيدما ذكرناه انّ سيرة العلماء والمتشرّعة على تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب.

ص:407

الأمر العاشر ما خرج عن تحت القاعدة

إنّ أصالة الصحّة أصل يحتج بها في أبواب الفقه قاطبة، لكن بشرط أن لا يكون طبع العمل مقتضياً للفساد وإلّا فلا تجري، ولهذه الضابطة فروع في الفقه:

أ: بيع الوقف مع احتمال المسوِّغ.

ب: بيع مال اليتيم - إذا لم يكن البائع ولياً - مع احتمال المسوِّغ.

ج: بيع العين المرهونة بدعوى إذن المرتهن.

د: إقامة الصلاة في المكان المغصوب مع احتمال المسوِّغ.

ه: إقامة الصلاة في الثوب المتنجس مع احتمال المسوِّغ.

ز: بيع مال الغير فضولاً بادّعاء صدور الإجازة بعد البيع.

ح: بيع المكيل والموزون بادّعاء انّه كاله أو وزنه في مدة لا تسعهما.

إلى غير ذلك من الموارد التي يتوقف العقلاء عن إجراء أصالة الصحّة فيها. أضف إلى ذلك انّ الاعتماد على أصالة الصحّة في هذه الموارد يوجب الهرج والمرج، ويدع الباب مفتوحاً أمام المفسدين والمنحرفين، فيقومون ببيع أموال الناس بحجّة إذنهم وإجازتهم.

وللسيد الطباطبائي قدس سره كلام في كتاب الوقف من ملحقات العروة ما هذا نصه:

إذا باع الموقوف عليه أو الناظر، العين الموقوفة ولم يعلم أنّ بيعه كان مع

ص:408

وجود المسوّغ أو لا، الظاهر عدم جريان قاعدة الحمل على الصحّة، فلو لم يثبت المسوّغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يد المشتري، فهو كما لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده ولم يعلم كونه وكيلاً عن ذلك الغير فانّه لا يصحّ ترتيب أثر البيع عليه، ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوّغ لا تكفي في الحكم بصحّة الشراء ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما.(1)

تمّ الكلام حول قاعدة أصالة الصحّة بفضل اللّه سبحانه، وبقي البحث حول قاعدة القرعة، وبها يكون ختام القواعد الأربع.

تمّ تحرير الرسالة بيد العبد محمد حسين الحاج العاملي

قم المشرّفة

ص:409


1- . ملحقات العروة: 63/1، من كتاب الوقف.

القواعد الأربع

4 القرعة
اشارة

القرعة في اللّغة بمعنى الدقّ و الضرب يقال: قرع الباب دقّه.

قال ابن فارس في المقاييس: الإقراع والمقارعة من المساهمة، وسمِّيت بذلك لأنّها شيء كأنّه يُضرَب، يقال قارعتُ فلاناً قرعتُه: أصابتني القرعة دونه.

والكلام في أدلّتها ومفادها وحدودها ضمن أُمور:

الأوّل: القرعة قاعدة عقلائية

القرعة قاعدة عقلائية يتمسّك بها العقلاء عند انغلاق جميع أبواب الحلول وانسداد جميع الطرق، وتشهد بذلك الآيات والروايات حيث إنّ عبّاد بني إسرائيل ساهموا في تعيين من يكفل مريم بنت عمران، كما أنّ أهل السفينة ساهموا لتشخيص العبد العاصي أو تعيين واحد من الركاب لإلقائه في البحر بغية تخفيف السفينة، إلى غير ذلك من الموارد التي ستمر عليك.

فإذا كانت القرعة من القواعد العقلائية تكون الآيات والروايات الواردة حولها إمضاءً لما بأيديهم كماً و كيفاً.

ومن تتبع سيرة العقلاء في موارد القرعة يقف على أنّهم يقارعون بشرط أمرين:

ص:410

أ: انغلاق أبواب الحلول.

ب: كون المورد من قبيل التنازع أو التزاحم، فلو كان هناك عموم في أبواب القرعة يُحمل على ذلك المورد، وبذلك يعلم انّه لا يصحّ الإقراع في الإناءين المشتبهين، ولا في القبلة المشتبهة بين الجوانب الأربعة، أو بين الإمامين اللّذين نعلم بعدالة واحد منهما، إلى غير ذلك.

وعلى ذلك يحمل قوله عليه السلام: «كلّ مجهول ففيه القرعة». وقوله عليه السلام: «القرعة سنّة». وذلك لأنّ السيرة العقلائية كالقرينة المتصلة بهذه المطلقات تمنع عن انعقاد إطلاقاتها في غير ذلك الباب، وبذلك يُصبح العمل بالقرعة في غير مورد التنازع والتزاحم أمراً فارغاً عن الدليل، لأنّ السيرة مختصة بذلك الباب والإطلاقات منزلة عليها، فيكون الإقراع في غير هذا الإطار متوقّفاً على الدليل.

الثاني: القرعة في الكتاب العزيز

جاء في محكم التنزيل حديث الإقراع مرّتين كما سيوافيك، والاستدلال بالآيات الحاكية لها على أساس انّ القرآن كتاب هداية، فلو كانت القرعة أمراً منبوذاً لشجبها القرآن، ولا يقتصر على مجرّد نقلها من بني إسرائيل أو من الآخرين بلا نقد ولا ردّ، فانّ النقل بلا ردّ آية انّه سنّة مرضيّة عند اللّه تعالى، وبذلك يصبح الكتاب دليلاً على صحّة القرعة من هذه الزاوية لا من زاوية استصحاب أحكام الشرائع السابقة، وإنّما نحتاج إلى الاستصحاب إذا ثبت الحكم فيها عن غير طريق القرآن، وإلّا فلو نقل القرآن حكماً أو سنّة بلا رد ولا شجب فيؤخذ به من دون حاجة إلى الاستصحاب، وهذه ضابطة كلّية فاغتنمها.

نقل القرآن الكريم حديث القرعة في موردين:

ص:411

أ: المساهمة في تعيين كفيل مريم عليهما السلام يقول سبحانه: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) .(1)

قال الطبرسي: في الرواية دلالة على أنّهم بلغوا في التشاحّ عليها إلى حد الخصومة، وفي وقت التشاحّ قولان:

أحدهما حين ولادتها وحمل أُمّها إيّاها إلى الكنيسة، فتشاحّوا في الذي يحضنها ويكفل تربيتها. وهذا قول الأكثر.

وقال بعضهم: كان ذلك وقت كبرها وعجز زكريا عن تربيتها، وفي هذه الآية دلالة على أنّ للقرعة مدخلاً في تمييز الحقوق.(2) والخصوصية الحافّة بالمقام أمران:

1. انّهم تقارعوا في مورد التزاحم حيث إنّ كلّ واحد من عبّاد الكنيسة كان يتبنّى حضانتها لنفسه، لينال شرف ذلك، فاتفقوا على المساهمة، فخرج السهم باسم خير الكفلاء لها، أعني: زكريا.

2. تقارعوا في مجهول ليس له واقع محفوظ، معلوم واقعاً ومجهول ظاهراً، وهذا يدلّ على أنّ القرعة لا تختص بما إذا كان له واقع معلوم، بل تستخدم فيما إذا لم يكن كذلك، لأجل تعيّن الحقّ في واحد منهم، لعدم إمكان التقسيم بينهم أو قيام الجميع به.

ب: المساهمة في تعيين من يُلقى في البحر، يقول سبحانه: (وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ

ص:412


1- . آل عمران: 44.
2- . مجمع البيان: 747/2 ط دار المعرفة.

اَلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) .(1) والمساهمة في الآية بمعنى المقارعة مأخوذة من إلقاء السهام، و «الدحض» الزلق ويطلق على السقوط.

وقد جاءت القصة أيضاً في سورة القلم من دون إشارة إلى المساهمة، قال سبحانه: (وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ * لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ) .(2)

قال الطبرسي: واختلفوا في سبب ذلك، قيل: إنّ السفينة اجتثت، فقال الملاّحون: إنّ هاهنا عبداً آبقاً، فإنّ من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، فلذلك اقترعوا، فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات.(3)

ولكن الظاهر انّ الإلقاء كان لأجل إيجاد الخفّة في السفينة، و يشهد على ذلك قوله «الفلك المشحون». فعلى الأوّل يكون المورد ممّا هو معلوم واقعاً ومجهول ظاهراً، بخلاف الثاني فيكون من قبيل المردّد واقعاً وظاهراً، فتعيّن العبد الآبق من قبيل الأوّل بخلاف طلب الخفة بإلقاء شخص في البحر من قبيل الثاني، وعلى كلّ تقدير فالمورد من قبيل تزاحم الحقوق، أي من قبيل تزاحم مصلحة الجميع مع مصلحة الفرد، فالأمر دائر بين غرق الجميع أو غرق واحد منهم فالثاني هو المتيقّن ويتمسّك في تعيين الفرد بالقرعة.

ص:413


1- . الصافّات: 139-141.
2- . القلم: 48-49.
3- . مجمع البيان: 716/8.
الثالث: القرعة في السنّة الشريفة

وردت القرعة في السنّة الشريفة وفيها روايات بصدد إعطاء الضابطة الكلية، كما فيها روايات خاصة لموارد معينة، وإليك بيان كلتا الطائفتين:

الروايات العامّة في القرعة

1. روى الصدوق باسناد صحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: أوّل من سُوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول اللّه عزّوجلّ: (وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) والسهام ستّة؛ ثمّ استهموا في يونس لمّا ركب مع القوم فوقفت السفينة في اللّجة، فاستهموا فوقع على يونس ثلاث مرّات، قال: فمضى يونس إلى صدر السفينة، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه؛ ثمّ كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه اللّه غلاماً أن يذبحه، فلمّا ولد عبد اللّه لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد اللّه، فخرجت السهام على عبد اللّه، فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج على عبد اللّه ويزيد عشراً، فلمّا أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطلب: ما أنصفتُ ربي، فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت على الإبل فقال: الآن علمت أنّ ربّي قد رضي، فنحرها.(1)

2. عن سيّابة وإبراهيم بن عمر جميعاً، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهوحرّ، فورث ثلاثة، قال: «يقرع بينهم، فمن أصابه القرعة أُعتق، قال: والقرعة سنّة».(2)

ص:414


1- . الوسائل: 189/18، باب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 12.
2- . الوسائل: 187/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

3. عن أبي جعفر عليه السلام قال: «بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول اللّه أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً فاحتجوا فيه، كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للّذي خرج سهمه وضمَّنته نصيبهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه، إلّاخرج سهم المحقّ».(1)

ورواه الصدوق هكذا: «ليس من قوم تقارعوا...»(2) ثمّ ذكر بقية الحديث كما في الوسائل. ولعلّ الأوّل أصحّ، لأنّ التقارع فرع التنازع، ولعلّه سقط من قلمه.

4. روى محمد بن حكيم (حكم) قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء فقال لي: «كلّ مجهول ففيه القرعة» قلت له: إنّ القرعة تخطئ، وتصيب، قال: «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ».(3)

ثمّ إنّ المراد من الموصول في قوله: «كل ما حكم اللّه فليس بمخطئ» أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون المراد حكمه سبحانه بإعمال القرعة، فهو بما انّه ذو مصلحة تامة مصيب ليس بمخطئ.

الثاني: أن يكون المراد هو نفس القرعة والمساهمة فهي مصيبة، كما هو الظاهر من الرواية التالية:

5. روى الصدوق، قال: قال الصادق عليه السلام: «ما تنازع قوم ففوّضوا أمرهم

ص:415


1- . الوسائل: 188/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 6.
2- . الوسائل: 188/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 6.
3- . الوسائل: 189/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.

إلى اللّه عزّوجلّ، إلّاخرج سهم المحقّ».(1)

6. روى الصدوق أيضاً: أيُّ قضية أعدل من القرعة إذا فوِّض الأمر إلى اللّه، أليس اللّه يقول: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) .(2)

وقد رواهما الصدوق بصورة حديث واحد، والظاهر انّ الجمع من فعل الراوي وهما حديثان، ولأجل ذلك جعلنا لكلٍ رقماً خاصاً.

7. روى منصور بن حازم، قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسألة: «فقال هذه تخرج بالقرعة - ثمّ قال: - فأي قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّوجلّ، أليس اللّه يقول: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) ؟».(3)

والحديث جَمَع بين مضمون الحديثين السابقين اللّذين نقلهما الصدوق.

8. روى الشيخ في النهاية قال: روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، وعن غيره من آبائه وأبنائه عليهم السلام من قولهم: «كلّ مجهول ففيه القرعة» فقلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، فقال: «كلّ ما حكم اللّه به فليس بمخطئ».(4) وهو نفس الحديث الماضي تحت الرقم 4.

9. العيّاشي في «تفسيره» عن الثّمالي، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يونس عليه السلام قال: «فساهمهم فوقعت السّهام عليه، فجرت السنّة: أنّ السّهام إذا كانت ثلاث مرّات أنّها لا تخطئ، فألقى نفسه، فالتقمه الحوت».(5)

ص:416


1- . الوسائل: 190/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.
2- . الوسائل: 190/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 13.
3- . الوسائل: 191/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 17.
4- . الوسائل: 191/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 18.
5- . الوسائل: 192/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 22.

10. ما رواه العبّاس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام، فأتيا محمّد بن عليّ عليه السلام، فقال لهما: «بما تقضيان؟» فقالا: بكتاب اللّه والسنّة، قال: «فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟» قالا: نجتهد رأينا، قال: «رأيكما أنتما؟! فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيّين في بيت، فسقط عليهما فماتتا، وسلم الصبيّان»؟ قالا: القافة، قال: «القافة يتجهّم منه لهما»، (وفي بعض النسخ القافة يلحقهما بهما) قالا: فأخبرنا، قال: «لا». قال ابن داود مولى له: جعلت فداك قد بلغني: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ وألقوا سهامهم، إلّاخرج السّهم الأصوب» فسكت.(1)

11. عن إسحاق العرزمي قال: سئل وأنا عنده - يعني: أبا عبد اللّه عليه السلام - عن مولود ولد وليس بذكر ولا أُنثى، وليس له إلّادبر، كيف يورث؟ قال: «يجلس الإمام عليه السلام ويجلس معه ناس، فيدعوا اللّه، ويجيل السّهام على أيّ ميراث يورّثه، ميراث الذّكر أو ميراث الأُنثى؟ فأيّ ذلك خرج ورثه عليه - ثمّ قال: - وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) .(2)

ورواه ثعلبة بن ميمون، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

كما رواه عبد اللّه بن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام. والجميع رواية واحدة وإن جاءت في الوسائل بصورة روايات متعدّدة.

هذه هي الروايات العامة وفيها كفاية، وقد نقلها صاحب الوسائل في

ص:417


1- . الوسائل: 593/17، الباب 4 من أبواب ميراث الغرقى، الحديث 4.
2- . الوسائل: 579/17-580، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 1، 3 و 4. و سيوافيك نقل هذه الرواية في ضمن الأخبار الخاصّة، والداعي إلى النقل هنا هو الذيل وهناك هو الصدر.

الأبواب التي أشرنا إليها، وإليك ما رواه المحدّث النوري في مستدركه.

12. روي في دعائم الإسلام: عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهم السلام أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل.(1)

والظاهر أنّ الحديث منقول بالمعنى، وأنّ الراوي انتزع هذا المفهوم من حكمهم بالقرعة في موارد مختلفة.

13. قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «وأيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة؟ أليس هو التفويض إلى اللّه جلّ ذكره؟!».(2)

14. روي في فقه الرضا: وكلّ ما لا يتهيأ الإشهاد عليه، فإنّ الحقّ فيه أنّ يستعمل القرعة. و قد روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: «فأيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه؟!».(3)

15. روى أحمد بن محمّد بن عيسى بسنده إلى عبد الرحيم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ عليّاً عليه السلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر به سنّة، رجم فيه - يعني ساهم - فأصاب - ثمّ قال: - يا عبد الرحيم وتلك من المعضلات».(4)

هذه هي الروايات العامة التي يستفاد منها انّ القرعة قاعدة عامة في مورد التنازع والتزاحم و يدل على ذلك التعابير التالية الواردة فيها:

أ: «تنازعوا».

ب: «فوّضوا».

ج: «سهم المحق».

ص:418


1- . مستدرك الوسائل: 373/17، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.
2- . مستدرك الوسائل: 374/17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 4.
3- . مستدرك الوسائل: 374/17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2 و 4.
4- . مستدرك الوسائل: 378/17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.

د: «السهم الأصوب».

وكلّها ظاهرة في التنازع، و بهذه التعابير يقيد ما ظاهره الإطلاق مثل ما رواه محمد بن حكيم قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء، فقال لي: «كلّ مجهول ففيه القرعة».(1) ولعلّ المراد من شيء في السؤال ما فيه التنازع أو التزاحم.

وبذلك يظهر ما نقلناه عن الدعائم انّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل.(2)

فلعلّ المراد من قوله: «فيما أشكل» ما أشكل لأجل التنازع والتزاحم، كما يظهر أيضاً مفاد ما نقلناه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي جعفر من أنّ عليّاً كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب، ولم تجر فيه سنّة، رجم فيه (يعني ساهم).(3) فالمراد الموضوعات التي لم يرد في علاج الشبهة فيها شيء من الكتاب والسنّة.

فهذه الأحاديث الثلاثة التي توهم الإطلاق تقيد بما تضافر من أنّ موضعها هو التشاح. نعم ورد في الكتب الفقهية من «أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه أو مشكل» فلم نجد لهما مصدراً. نعم عقد البخاري في صحيحه باباً في كتاب الشهادات أسماه «باب القرعة في المشكلات».(4) ولم ينقل في ذلك الباب حديثاً بهذا اللفظ، بل ذكر قضايا جزئية، وسيوافيك في القسم التالي.

الروايات الخاصة

قد ورد إعمال القرعة في موارد خاصة، وهي على طوائف، نذكر من كلّ طائفة حديثاً أو حديثين ونحيل محلّ الباقي إلى التعليقة.

ص:419


1- . تقدّم برقم 4.
2- . تقدّم برقم 12.
3- . تقدّم برقم 15.
4- . صحيح البخاري: 181/3، كتاب الشهادات.
الطائفة الأُولى: القرعة عند تعارض البيّنتين

16. عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام إذا أتاه رجلان (يختصمان) بشهود، عدلهم سواء وعددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين، وكان يقول: اللّهمّ ربّ السّماوات السّبع (وربّ الأرضين السّبع) أيّهم كان له الحقّ فأدّه إليه».

ثمّ يجعل الحقّ للّذي يصير عليه اليمين إذا حلف.(1)

17. عن داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في شاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه (شهد الأوّلان) واختلفوا قال: «يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين وهو أولى بالقضاء».(2)

الطائفة الثانية: القرعة فيما لو اشتبه الولد

18. عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إذا وقع الحرّ والعبد

والمشرك على امرأة في طهر واحد وادّعوا الولد، أُقرع بينهم، وكان الولد للّذي يُقرع».(3)

19. عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو

ص:420


1- . الوسائل: 183/18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 6. ولاحظ ما يرجع إلى هذه الطائفة الوسائل: الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 7 و 8 و 11 و 12.
2- . الوسائل: 183/18، الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5 و 6. ولاحظ ما يرجع إلى هذه الطائفة الوسائل: الباب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 7 و 8 و 11 و 12.
3- . الوسائل: 187/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1. ولاحظ أيضاً الوسائل: الجزء 14، الباب 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 2 و 3 و 5. وأيضاً الوسائل الجزء 17، الباب 10 من أبواب ميراث ولد الملاعنة، الحديث 1؛ والمستدرك، الجزء 17، الباب 11 من كيفية الحكم، الحديث 15.

ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت، فادّعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قُرع، كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية».(1)

ولا يخفى انّ العمل بالقرعة - كما مرّ - فيما لو استعصت الحلول، وأمّا لو تمكّن بطريق آخر معرفة ذلك، كإجراء الاختبارات الطبيّة لمعرفة فصيلة دم المولود كي يتم على ضوئه إلحاقه بالأب الذي ولد منه، تنتفي حينئذٍ الحاجة إلى القرعة.

الطائفة الثالثة: نذر عتق أوّل عبد يملكه

20. عن عبيد اللّه بن عليّ الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً، قال: «يقرع بينهم و يعتق الذي خرج سهمه».(2)

21. عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألته عن رجل، قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فلم يلبث أن ملك ستّة، أيّهم يعتق؟ قال: «يقرع بينهم، ثمّ يعتق واحداً».(3)

وقد عرفت رواية سيابة وإبراهيم بن عمر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في هذا المجال، وتقدمت ضمن الروايات العامّة برقم 2.

الطائفة الرابعة: الإيصاء بعتق ثُلث مماليكه

22. عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يكون له

ص:421


1- . الوسائل: 187/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.
2- . الوسائل: 190/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 15.
3- . الوسائل: 59/16، الباب 57 من كتاب العتق، الحديث 2.

المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم، فقال: «كان علي عليه السلام يسهم بينهم».(1)

23. وروى محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ أبي ترك ستّين مملوكاً، فأقرعت بينهم، فأخرجت عشرين، فأعتقتهم».(2)

الطائفة الخامسة: في اشتباه الحرّ بالمملوك

24. عن المختار، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه عليه السلام، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في بيت سقط على قوم، فبقي منهم صبيّان أحدهما حرّ والآخر مملوك لصاحبه، فلم يُعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبو حنيفة: يعتق نصف هذا ونصف هذا.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ليس كذلك، ولكنّه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا فيجعل مولى هذا».(3)

25. عن حمّاد، عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم، وبقي صبيّان، أحدهما حرّ والآخر مملوك، فأسهم أمير المؤمنين عليه السلام بينهما، فخرج السّهم على أحدهما فجعل له المال، وأعتق الآخر».(4)

ص:422


1- . الوسائل: 65/16، الباب 65 من أبواب العتق، الحديث 1 و 2. ولاحظ سنن الترمذي: 640/3، ومسند أحمد: 426/4، وسنن ابن ماجة: 59/2.
2- . الوسائل: 65/16، الباب 65 من أبواب العتق، الحديث 1 و 2. ولاحظ سنن الترمذي: 640/3، ومسند أحمد: 426/4، وسنن ابن ماجة: 59/2.
3- . الوسائل: 188/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 7.
4- . الوسائل: 189/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 8. وانظر أيضاً الوسائل: 37/16، الباب 24 من أبواب العتق، الحديث 1؛ والجزء 13، الباب 43 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 1؛ والجزء 17، الباب 4 من أبواب ميراث الغرقى، الحديث 5.
الطائفة السادسة: في ميراث الخنثى المشكل

26. روى إسحاق العزرمي، قال: سئل وأنا عنده - يعني أبا عبد اللّه عليه السلام - عن مولود ولد وليس بذكر ولا أُنثى، وليس له إلّادبر كيف يورّث؟ قال: «يجلس الإمام عليه السلام ويجلس معه ناس فيدعو اللّه ويجيل السهام على أيّميراث يورثه، ميراث الذكر أو ميراث الأُنثى؟ فأي ذلك خرج ورثه عليه - ثمّ قال: - وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) ».(1)

27. عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مولود ليس له ما للرّجال ولا له ما للنّساء؟ قال: «يقرع عليه الإمام أو المقرع، يكتب على سهم عبد اللّه، وعلى سهم أمة اللّه، ثمّ يقول الإمام أوالمقرع: اللّهمّ أنت اللّه لاإله إلّا أنت عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، بيّن لنا أمر هذا المولود كيف... ثمّ تجال السهام على ما خرج ورّث عليه».(2)

الروايات المتفرّقة

وثمة روايات في موضوعات مختلفة لا تدخل تحت عنوان واحد، نشير إلى قسم منها:

28. انّ النبي إذا كان سافر أقرع بين نسائه.(3)

29. «انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ساهم قريشاً في بناء البيت، فصار لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:423


1- . الوسائل: 579/17، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 1 و 2. وانظر ذلك الباب أيضاً الحديث 3، 4.
2- . الوسائل: 579/17، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 1 و 2. وانظر ذلك الباب أيضاً الحديث 3، 4.
3- . سنن ابن ماجة: 59/2، باب القضاء بالقرعة.

من باب الكعبة إلى النصف، ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود».(1)

30. انّ اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام انّ بعض أصحابك ينمّ بك فاحذره، فأمر اللّه سبحانه بالإقراع.(2)

31. أتى علياً عليه السلام من إصفهان مال فقسّمه، فوجد فيه رغيفاً، فكسّره سبع كُسر، ثمّ جعل على كلّ جزء منه كسرة، ثمّ دعا أُمراء الأسباع فأقرع بينهم.(3)

32. أقرع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بين أهل الصفة للبعث إلى غزوة ذات السلاسل.(4)

33. أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأوّل ثمّ لم يجدوا إلّاأن يَسْتَهِمُوا عليه لاستَهَمُوا.(5)

إلى غير ذلك من الروايات المتفرقة المثبتة في الأبواب، وكلّها واردة في موضع التنازع والتزاحم، إلّاحديث واحد وهو التالي:

عن محمد بن عيسى، عن الرجل عليه السلام أنّه سُئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال: «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً، حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، وقد نجت سائرها».(6)

ولعلّ هذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي أمر فيه بالعمل بالقرعة، وليس من موارد التنازع ولا تزاحم الحقوق.

ص:424


1- . المستدرك: 376/17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 10.
2- . المستدرك: 375/17، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.
3- . الوسائل: 11، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 13.
4- . إرشاد المفيد: 162، ضمن سلسلة مؤلّفات المفيد.
5- . صحيح البخاري: 182/3، كتاب الشهادات، الباب 30.
6- . الوسائل: 358/16، الباب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

والرواية واردة على خلاف القاعدة المقتضية للاجتناب عن الجميع، ولعلّ الاكتفاء بالقرعة، لأجل أنّ ترك الجميع مستلزم للضرر الهائل، وعلى ذلك فالرواية مختصة بموردها لا تتعدى عنها إلى غيرها.

الأمر الرابع في تحديد مفاد أدلّة القرعة

الإمعان في السيرة العقلائية في القرعة وما ورد حولها من الروايات يُشرف الفقيه على أنّ موضوع القرعة لا يتجاوز عن مورد التنازع والتزاحم، فإذا استعصت الحلول على العقلاء في أمر، يتشبّثون بالقرعة، لأنّها حل وسط يرضى به كافة الأطراف المتنازعة، وهذه السيرة تكون كالقرينة المنفصلة على صرف الإطلاقات على فرض وجودها في أدلّة القرعة إلى موضع التنازع والتزاحم.

هذا حول السيرة، وأمّا العناوين الواردة فيها فلا تتجاوز عن خمسة، والجميع ناظر إلى مورد التعارض والتزاحم إمّا بالتصريح، أو بإمعان النظر في مورده، وإليك هذه العناوين:

1. القرعة سنّة

2. كلّ مجهول ففيه القرعة

3. انّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل

4. كلّ مالا يتهيّأ الإشهاد عليه

5. أمر لم يجئ فيه كتاب ولم تجر به سنّة

الحديث 2

الحديث 4

الحديث 12

الحديث 14

الحديث 15

ص:425

أمّا العنوان الأوّل، فإنّه وإن دلّ على أنّها سنّة، لكنّها سنّة في المورد الذي وردت القرعة فيه، أعني: ما إذا نذر أن يعتق أوّل مملوك يملكه فورث أكثر من واحد، فإنّ المورد من قبيل التزاحم بين العبيد الثلاثة.

وأمّا الثاني، فانّ ظاهره وإن كان يعطي جواز إعمال القرعة في كلّ مجهول، لكنّه اقترن بلفظة «شيء» في صدر الحديث، وهو يصلح أن يكون قرينة على التخصيص، وليس هذا من قبيل كون المورد مخصصاً، بل من قبيل احتفاف المطلق بما يصلح للقرينية، وهو «الشيء» و الذي يحتمل أن يراد منه شيء خاص وهو التنازع ومعه لا يعبأ بالمطلق.

وأمّا العنوان الثالث، فقد رواه دعائم الإسلام على نحو يظهر انّه عبارة منتزعة من عدة أقضية، قال: عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهم السلام أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل. وهو ظاهر في أنّ التعبير للراوي لا للإمام.

وأمّا الرابع، فهو ظاهر في مورد التنازع على أنّ العنوان لفقه الرضا، وهو يصلح للتأييد لا للاحتجاج.

وأمّا العنوان الخامس، فهو راجع إلى أقضية الإمام علي عليه السلام، وفي الوقت نفسه لا صلة له بالشبهة الحكمية، لأنّ وظيفة الإمام بيان حكمها فينحصر بالشبهات الموضوعية، ولا يبعد حملها على صورة التنازع.

ونركّز في الختام على أنّه لم يرد عنوان «المشتبه» ولا «المشكل» ولا «الملتبس» في عناوين الباب، وإنّما الوارد هو ما ذكرناه.

وبما انّك وقفت على حصيلة الروايات واختصاصها بالتنازع لا نطيل البحث في هذه العناوين، و ممّا يؤيد اختصاصها بالتنازع عمل الأصحاب

ص:426

بالقرعة في الموارد التي لا تخرج عن إطار التعارض والتزاحم، إلّامورد واحد وهو اشتباه الشاة المنكوحة بغيرها.

1. باب قسمة الأعيان المشتركة.

2. باب تزاحم المدّعيين عند القاضي.

3. باب قسمة الليالي بين الزوجات.

4. باب تداعي الرجلين أو أكثر ولداً.

5. باب تعارض البيّنتين.

6. توريث الخنثى المشكل.

7. توريث المشتبهين في تقدّم موت أحدهما.

8. باب الوصايا المتعدّدة إذا لم يف الثلث بها.

9. باب إذا أوصى بعتق عبيده ولم يف الثلث بها بالخصوص.

10. باب اشتباه الشاة المنكوحة بغيرها.

ص:427

الأمر الخامس عدم ورود التخصيص على القرعة

قد اشتهر بين الأصحاب انّ عمومات القرعة، لأجل كثرة ورود التخصيص عليها لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم، وهذا ما يقف عليه المتتبع في غضون أبواب خصوصاً في كتب الشهيدين.

ولكن الحقّ انّ عمومات القرعة صالحة للاحتجاج في موردها ولا يحتاج العمل بها إلى شيء، وذلك لأنّ من زعم ورود التخصيص عليها جعل موضوعها كل «مجهول» أو «مشتبه» أو «ملتبس» من أوّل الطهارة إلى آخر الديات.

ثمّ رأى أنّ أكثر الموارد لا يعمل فيها بالقرعة بل يرجع إلى القواعد الأُخرى فخرج بالنتيجة التالية: انّ عمومات القرعة لأجل كثرة التخصيص لا يعمل بها إلّابعد عمل الأصحاب، وأمّا على ما قلناه من اختصاص عموماتها بالتنازع والتزاحم فلم يرد عليه أي تخصيص، ولذلك يكون العمل بالأُصول العملية مقابل القرعة عملاً بالحاكم أو الوارد، لما عرفت من أنّ القرعة في المجهول الذي أعيت العقول في حلّه فلم يُر أيّ حلول سوى الالتجاء إلى القرعة، وأمّا إذا كان هناك حلول من الشرع بأصل من الأُصول فأدلّة القرعة فاقدة لموضوعها.

ص:428

الأمر السادس هل القرعة أمارة أو أصل؟

قد عرفت أنّ القرعة يعمل بها في موردين:

1. إذا لم يكن واقع محفوظ معلوم للّه سبحانه وغير معلوم لنا.

2. فيما إذا كان هناك واقع محفوظ عند اللّه غير معلوم لنا.

أمّا المورد الأوّل فلا موضوع للبحث عن الأمارية والأصلية، بل تكون القرعة هناك أعذر الطرق، كما في بعض الروايات، وإلى ذلك ينظر قول الشهيد في قواعده: ثبت عندنا قولهم: كلّ أمر مجهول ففيه القرعة. وذلك لأنّ فيها عند تساوي الحقوق والمصالح ووقوع التنازع، دفع للضغائن والأحقاد، والرضا بما جرت به الأقدار وقضاء الملك الجبّار.(1)

إنّما الكلام في المورد الثاني كما في اشتباه الحرّ بالعبد(2)، فهل القرعة أمر فاصل للنزاع أو طريق إلى الواقع؟

أمّا عند العقلاء فالظاهر انّها أداة لفصل الخلاف من دون إثارة حقد أو ضغينة، وأمّا الروايات فربما يستظهر منها كونه طريقاً إلى الواقع إذا كان العامل مؤمناً موحداً مفوّضاً أمره إلى اللّه، فهو سبحانه يوصله إلى الحقّ ويصدّه عن الخطأ وإليه يشير قوله: «إلّا خرج سهم المحقّ» أو «السهم الأصوب» ولا تترتب على ذلك ثمرة عملية.

ص:429


1- . القواعد: 183، القاعدة 213.
2- . تقدم برقم 24 و 25.
الأمر السابع هل الإقراع وظيفة شخص خاص؟

إذا كانت القرعة لرفع التزاحم والتنازع فمن المتصدي للإقراع؟ فهل هو الإمام المعصوم كما هو اللائح من بعض الروايات؟، أو الأعم منه و من نائبه كما هو اللائح من النراقي في عوائده؟ أو التفصيل بين ما إذا كان المورد متعيّناً في الواقع كاشتباه الحرّ بالعبد وبين ما إذا لم يكن كذلك، فالأوّل من وظائف نائب الإمام، والثاني يقوم به كلّ الناس؟

وهناك وجه رابع وهو جواز قيام المتشاحّين بالقرعة إلّاإذا كان لفضّ الخصومة، فإنّ القضاء حسب الروايات من شؤون الإمام عليه السلام أو الجالس مجلسه كالنائب العام، فتكون القرعة مثل الحلف وإقامة البيّنة من الأُمور التي لها صلة بالقضاء والحكومة بين الشخصين ولا يقوم به إلّانبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ على ما في الروايات.(1)

وهذا القول هو الأقوى، إذ لو كان مجرى القرعة من قبيل التنازع والخصومة، فكما أنّ فصلها عن طريق إقامة البيّنة أو الحلف بيد الإمام أو المنصوب من قبله خصوصاً أو عموماً، فكذلك فصلها عن طريق القرعة، ولو لم يكن هنا رواية دالّة على اختصاصها به، لكفى في ذلك ما دلّ على أنّ الحكومة من شؤون الإمام.

وأمّا إذا لم يكن كذلك، كما إذا اتفق أرباب الأراضي المشتركة بالتقسيم عن طريق القرعة، فلا وجه لاختصاصها بالإمام بعد كون ذلك شائعاً بين العقلاء

ص:430


1- . الوسائل: 7/18، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

والمسلمين.

ويؤيد ذلك ما في رواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده».

فلمّا كان المورد من قبيل التخاصم وفصل الخصومة جعل القرعة من وظائف الوالي.

نعم لو اتّفق المتنازعان على التصالح عن طريق القرعة من دون المراجعة إلى القاضي، جاز لهما، إذ لا يشترط في التصالح سوى الرضا، وعدم تحريم الحلال، وتحليل الحرام لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الصلح جائز بين المسلمين، إلّاصلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً».(1)

ثمّ إنّ المحقّق النراقي ممّن ذهب إلى أنّ القرعة من وظيفة الإمام أو نائبه الخاص أو العام بمعنى انّه لا يترتب أثر على إقراع غيره، استثنى بعض الموارد فقال: ولا يخفى انّ ما ذكرناه من اختصاص القارع بالنائب العام في زمان غيبة الإمام إنّما هو من باب الأصل، وقد يخرج عنه بدليل دالٍ على أنّ الإذن لغيره أيضاً من إجماع أو غيره، كما في قرعة الشاة المنكوحة، واقتراع المدرس لتقديم بعض المتعلّمين، والزوج للزوجات.

وبالجملة الأصل الاختصاص بالنائب العام، إلّافيما ثبت جواز اقتراع الغير أيضاً.

ثمّ قال: إنّ صاحب الوافي من متأخّري المتأخّرين جمع بين ما دلّ على

ص:431


1- . الوسائل: 164/13، الباب 3 من أبواب الصلح، الحديث 2.

اختصاص القرعة بالإمام وبين ما يدلّ على العموم بحمل الأوّل، على ما إذا كان العمل فيما يقرع عليه متعيّناً في الواقع، والثاني على ما لم يكن متعيّناً وأريد التعيّن بالقرعة، ثمّ أورد عليه بأنّه جمع بلا شاهد.(1)

والسيرة العقلائية هنا أوضح طريق لكشف الحقيقة، فانّ الأمر المتنازع فيه كان يرجع إلى الحياة الشخصية للإنسان فهو يتصدى للقرعة، وأمّا إذا كانت القرعة من لوازم القضاء بعد إقامة البيّنة أو حلف المنكر فيكون من شؤون الوالي فيرجع إليه.

ويؤيد ذلك ما رواه العلاّمة المجلسي من أنّ أبناء يعقوب أقرعوا بينهم لمّا قال لهم يوسف عليه السلام: «إنّي أحبس منكم واحداً يكون عندي وارجعوا إلى أبيكم واقرؤوه مني السلام» وقالوا له:... فلمّا قال يوسف هذا، اقترعوا بينهم، فخرجت القرعة على شمعون، فأمر به، فحبس.(2) فإنّ القضية كانت أمراً شخصياً دائراً بين أبناء يعقوب.

ونظير ذلك ما رواه البخاري من اقتسام المهاجرين بالقرعة، أخرج البخاري عن خارجة بن زيد بن خالد أنّ أُمّ العلا امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخبرته انّه اقتُسِم المهاجرون قُرعةً فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفّي فيه.(3)

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّه إذا كان من شؤون القضاء يقوم به الإمام أو نائبه عدة روايات:

ص:432


1- . عوائد الأيام: 228.
2- . بحار الأنوار: 257/12.
3- . صحيح البخاري: 72/2، باب الدخول على الميت من كتاب الجنائز.

أ: ما رواه معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ الرجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية».(1)

ب: مضمرة يونس، قال في رجل كان له عدّة مماليك، فقال: أيّكم علّمني آية من كتاب اللّه فهو حرٌّ، فعلّمه واحد منهم، ثمّ مات المولى ولم يدر أيّهم الذي علّمه، أنّه قال: يستخرج بالقرعة، قال: ولا يستخرجه إلّاالإمام، لأنّ له على القرعة كلاماً ودعاءً لا يعلمه غيره.(2)

إنّ التعليل الوارد في الرواية كأنّه تعليل إقناعي، ولعلّ المراد انّه لا يصحّ كلّ دعاء وكلام بل دعاء خاص لا يعلمه ولا يقتدر على إنشائه غيره فيختص به وبمن علّمه. والسبب الحقيقي هو انّ المورد من شؤون القضاء.

ج: ما رواه إسحاق العزرمي والفضيل بن يسار في ميراث من ليس له إلّادبر، فقد جاء في الأوّل: «يجلس الإمام ويجلس معه ناس». وفي الثاني: «يقرأ عليه الإمام»(3). فإنّ الشبهة حكمية لا يقوم بحلها إلّاالإمام.

ص:433


1- . الوسائل: 190/18، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 14.
2- . الوسائل: 16، الباب 34 من أبواب العتق، الحديث 1.
3- . تقدما برقم 26 و 27.
الأمر الثامن العمل بالقرعة عزيمة أو رخصة

قد عرفت أنّ مورد القرعة، تارة يكون أمراً معيناً في الواقع مجهولاً عندنا، وأُخرى في كلّ أمر مردّد بين شيئين أو شخصين أو أكثر غير متعيّن في الواقع يطلب فيه التعيّن، وقد ثبت جواز القرعة شرعاً في كلّ من القسمين، بقي الكلام في أنّها عزيمة حتى يتعيّن بناء الأمر عليها أو رخصة حتى يجوز العدول عنها إلى غيرها؟

لا شكّ انّه لو كان مورد التنازع من الحقوق التي يجب تعيينها، سواء أكان معيناً في الواقع ومجهولاً عندنا كالخنثى المشكل بناء على أنّ الخنثى ليست طبيعة ثالثة، أو لم يكن معيناً في الواقع ولكنّه يجب تعيّنها كما لو نذر عتق أوّل مملوك ملكه فملك أكثر من واحد، أو يوصي بعتق رقاب أربعة من عبيده العشرين، فانّه لا يمكن عتق الأربعة المبهمة ولا خمس الكل مشاعاً، لعدم صدق الرقبة على الجزء بل بحسب عتق المعين.

ففي هذه الموارد التي فيها أمر إلزامي بالعمل بالحق، يكون العمل بالقرعة فيها عزيمة، والمفروض انّه لا طريق آخر هناك. وأمّا إذا لم يكن هناك حق يجب تعيينه أو العمل به، كتقديم أحد المتعلّمين في التدريس، أو تقديم إحدى الزوجتين في المتعة، أو كان فلا يجب العمل بالقرعة.

وبذلك يعلم أنّ العمل بالقرعة بشخصه ليس موضوعاً لوجوب العمل وعدمه، بل يتبع موردها في الحقوق التي يجب التحفّظ عليها وعدمها.

ص:434

ثمّ إنّ هنا بحثاً آخر وهو انّه إذا استخرج المحق بالقرعة، فهل يجوز العدول عنه؟ الظاهر لا، لأنّ الإقراع يجعل الخارج بالقرعة محكوماً بحكم شرعي، ففي الخنثى المشكل إذا خرج السهم باسم الذكر يكون محكوماً شرعاً بكونه ذكراً، وكذا في مورد النذر والإيصاء بالعتق فإذا خرج بالقرعة تعيّن عتقه، ومثله ما ورد النصّ بالعمل بالقرعة فيه، كمسألة الشاة المنكوحة.

هذا تمام الكلام في أحكام القرعة، وهناك بحوث استطرادية ترك شيخنا الأُستاذ - مدّ ظلّه - البحث فيها إلى رغبة الحاضرين حتى يخوضوا في غمارها على ضوء ما سبق.

نحمده سبحانه ونشكره على إتمام النعمة وإكمال الرسالة،

وقد لاح بدر تمامه في شهر شوال المكرّم

من شهور عام 1420 من الهجرة النبويّة

بيد مؤلّفها، محمد حسين الحاج العاملي

عامله اللّه بلطفه الخفيّ

ص:435

ص:436

المقصد الثامن في تعارض الأدلة الشرعيّة

اشارة

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً:

الأوّل: تعارض الأدلّة من المسائل الأُصولية

إنّ البحث عن تعارض الأدلّة وكيفية علاجها عند التعارض، من المسائل الأُصولية المهمَّة، أمّا كونها من المسائل الأُصولية فلما عرفت في مبحث حجية خبر الواحد أنّ روح البحث في أبواب الحجج، يرجع إلى البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه بعد تسليم أصل وجود الحجّة.

توضيح ذلك: انّ الفقيه يعلم أنّ بينه و بين ربّه حججاً قطعية في الأحكام الشرعية، تُنجّز الواقع وتَقطع العذر، ولكن لا يعرف خصوصيّاتها وتعيّناتها فيقع البحث في علم الأُصول عن خصوصياتها وتعيّناتها.

وعلى ضوء ذلك، فوجود الموضوع أي الحجّة بين العبد و المولى أمر محقّق معلوم لدى الفقيه، ولذلك لا يعود البحث في أبواب الحجية إلى البحث عن وجود الموضوع لما عرفت من أنّ وجود الحجّة أمر قطعي، وإنّما يرجع إلى البحث عن عوارض تلك الحجّة، أعني: تعيُّنها بالخبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو غيرهما، فالبحث عن تعيّن الحجة وخصوصياتها بحث عن عوارض الموضوع.

ص:437

ومن هذا الباب مسألة تعارض الأدلّة حيث يبحث فيها عن ما هو الحجّة عند تعارض الأدلّة، فهل الحجّة هو التخيير بين الدليلين مطلقاً؟ أو التخيير لدى التعادل، والترجيح لدى المزيّة؟ أو شيء غير التخيير والترجيح؟ فالبحث على كلّ تقدير بحث عن عوارض الحجّة في الفقه، المسلَّم وجودها.

إلى هنا تبيّن انّ مسألة التعارض وكيفية العلاج من المسائل الأُصولية، وأمّا كونها مهمَّة فلأجل أنّه قلّما يتفق باب لا توجد فيه أخبار متعارضة، ولذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب أسماه «الاستبصار فيما اختلف من الأخبار» لعلاج تلك الطائفة الكبيرة من الروايات، فما قام به المحقّق الخراساني من جعله ثامن المقاصد أولى ممّا قام به الشيخ الأعظم حيث جعل باب التعارض خاتمة الكتاب مشعراً بكونه ليس من العلم كمقدمة الكتاب، اللّهمّ إلّا أن يريد منها، خاتمة المسائل، لا خاتمة الكتاب.

ثمّ إنّ عنوان المسألة وإن كان يعمّ تعارض كلّ الأدلّة الشرعية كتعارض قول اللغويِّين أو مدعيي الإجماع، لكن البحث مُخصَّص بتعارض الخبرين فقط مقتصراً في غيرهما بما ذكروه في المقامات المختصّة للغير.

الثاني: التعارض لغة واصطلاحاً

التعارض لغةً من العرض و هو الإراءة، يقال: «عرضت الناقة على الحوض» وهو من الأمثلة المعروفة لوجود القلب في الكلام، والأصل هو: عرضت الحوض على الناقة وقال سبحانه: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) (1). وقال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ

ص:438


1- . البقرة: 31.

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) .(1)

فما في المقاييس لابن فارس من أنّ أصل العرض هو ضدّ الطول، فكأنّه في غير محلّه، فانّ استعمال العرض في مقابل الطول وإن كان رائجاً، لكنّه ليس أصل المعنى وإنّما اشتق هذا المعنى من الإراءة، لمناسبة من المناسبات، فانّ العرض في مقابل الطول معنى طارئ على المعنى الأصلي.

وأمّا تفسير العرض بالمبارزة والمعارضة فهو أيضاً تفسير في غير محلّه، وهو أيضاً من المعاني الطارئة على العرض، لأنّ كلّ مبارز يُري شجاعتَه لخصمه.

وأمّا اصطلاحاً: فقد عرّفه القوم: بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض والتضاد. وهو خيرة الشيخ في الفرائد.(2) وعلى هذا فالمراد من التنافي هو التنافي في المدلول مع قطع النظر عن مقام الإثبات والدلالة، وهذا بظاهره غير تام، إذ ربّما يكون بين الدليلين تنافٍ في المدلول ولا يكون بينهما تناف في الدلالة والإثبات، كما في العام والخاص، والحاكم والمحكوم، والوارد والمورود، والعناوين الثانوية والعناوين الأوّلية، فانّ التنافي بين مدلولي الدليلين فيها أمر واضح لا مرية فيه ولكنّه لا يُعدّ من التعارض في شيء، لعدم التنافي في مقام الدلالة حيث يقدّم الخاص على العام، والحاكم على المحكوم، والوارد على المورود، والعنوان الثانوي على العنوان الأوّلي على وجه لا يتردّد العرف الدقيق في رفع التعارض بعد الإمعان، ولا يعدّ مثل هذه من مسائل هذا المقصد إلّااستطراداً.

ولذلك عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بنحو آخر بحيث تخرج عن تعريفه هذه الموارد التي قد عرفت إمكان الجمع فيها من دون أن تصل النوبة إلى

ص:439


1- . غافر: 46.
2- . الفرائد: 431.

التعارض، وقال:

هو تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد.

وخروج هذه الموارد عن تعريفه واضح.

ثمّ إنّ المراد من تنافي الدليلين على نحو التناقض، كون أحد الحكمين وجودياً والآخر عدمياً، كما إذا ورد في أحد الخبرين انّه يحرم الشيء الفلاني و في الآخر لا يحرم، كما أنّ المراد من تنافيهما بنحو التضاد هو كون الحكمين وجوديين، كما إذا ورد في أحد الخبرين «يجب» وفي الآخر «يحرم» فيكون التنافي بالتضاد، و مع ذلك يمكن إرجاع التنافي بنحو التضاد إلى التنافي بنحو التناقض، فإنّ قوله «يحرم» وإن كان بالنسبة إلى قوله «يجب» متضادين ولكن لازم قوله: «يحرم» هو عدم الوجوب و من الواضح بمكان انّ نسبته إلى قوله «يجب» نسبة المتناقضين.

ثمّ إنّ التنافي بين الدليلين تارة يكون بالذات كما إذا قال: «ثمن العذرة سحت» و ورد في رواية أُخرى: «لا بأس بثمن العذرة». وأُخرى بالعرض كما إذا ورد «صلّ صلاة الجمعة في يومها» و ورد «صلّ صلاة الظهر في الجمعة» ولا تنافي بين إيجاب صلاتين في يوم واحد بالذات، إذ لا مانع من أن تجب صلاتان في يوم واحد، لكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوب أزيد من صلاة واحدة في ظهر يوم الجمعة وجد التعارض بين الحكمين.

الأمر الثالث: الفرق بين التعارض والتزاحم

الفرق بين التعارض والتزاحم بعد كون التنافي قدراً مشتركاً بينهما هو انّ مصبَّه في التعارض يختلف مع مصبِّه في التزاحم، فلو كان التنافي في مقام

ص:440

الجعل والإنشاء على وجه لا يمكن للحكيم إنشاء حكمين عن جدّ لمتعلّق واحد، ويمتنع أن تتعلّق إرادته الجديّة بجعل حكم لمتعلّق وفي الوقت نفسه بجعل حكم آخر لنفس ذلك المتعلّق كما إذا أنشأ ثمن العذرة سحت، ولا بأس ببيع العذرة، فهذا هو التعارض المصطلح في باب التعادل والترجيح.

وإن شئت قلت: التعارض عبارة عن تكاذب الدليلين في مقام الإنشاء بحيث يُكذِّب، ويطارد كلّ الآخرَ في ذلك المقام من دون أن تصل النوبة إلى مقام الدلالة والفعلية والتنجّز، سواء امتنع الامتثال بهما كما في المثال المتقدّم أو أمكن، مثل ما إذا قال: الدعاء عند رؤية الهلال واجب، و قال أيضاً: الدعاء عند رؤيته مستحب، فانّ الامتثال لكلا الدليلين أمر ممكن، بالدعاء عند رؤيته، فانّه امتثال للوجوب والندب معاً، لكن التكاذب موجود في مقام الإنشاء ولا يصحّ لحكيم أن يُنشئ ذينك الحكمين، ولا تتعلّق إرادته الجدية بإنشاء كلّ منهما، لأنّ لازم أحد الحكمين جواز الترك دون الحكم الآخر.

وأمّا لو كان التنافي في مقام الامتثال مع كمال الملائمة في مقام الجعل والدلالة والمدلول فهذا هو التزاحم، مثلاً إذا قال المولى: أنقذ الأب، وأنقذ العم، ففوجئ بغرق كليهما ولم تكن له قدرة إلّاعلى إنقاذ أحدهما، فالدليلان متلائمان في مقام الجعل، إذ لا مانع من أن يكون إنقاذ كلّ بل وغيرهما واجباً، وإنّما جاء التنافي عن طريق المصادفة حيث فوجئ بغرق كليهما معاً، فلم يجد بدّاً من إنقاذ واحد وترك الآخر. فالتنافي ليس في مقام الجعل ولا في مقام المدلول ولا الدلالة وإنّما هو في رتبة رابعة وهي مقام الامتثال.

وعلى هذا فعلاج المتزاحمين بالتصرّف في موضوع الحكم الفعلي بتعلّقه بالأهم دون المهمّ من دون تصرّف في مقام الجعل والمدلول والدلالة، ولذلك لو

ص:441

استطاع انقاذ كليهما بقدرة غيبيّة لوجب عليه ذلك، وهذا بخلاف العلاج في التعارض فلو أخذ بأحد الدليلين تخييراً أو ترجيحاً فإنّما يُتصرّف في مقام الجعل ويقال هذا هو الحكم الشرعيّ دون الآخر.

إلى هنا تبيّن الفرق بين التعارض والتزاحم.

بقي هنا نكتة وهي انّ للتزاحم مصطلحين، فتارة يراد منه التزاحم المصطلح في باب الترتب وباب التعادل والترجيح، وقد علمت مفاده والفرق بينه و بين التعارض.

وأُخرى يراد منه ما هو المصطلح في باب اجتماع الأمر والنهي، أي ما يكون التزاحم بين الملاكين بحيث لا يمكن حيازة ملاك أحد الحكمين في ظرف ملاك الحكم الآخر، فالملاك الموجود في الصلاة لا يمكن نيله مع المفسدة الموجودة في الغصب، فلو صلّى في الدار المغصوبة، فأحد الملاكين مغلوب للملاك الآخر، ولذلك يكون المجمع على القول بالامتناع من باب التزاحم فلا بدّ من تقديم أحد الملاكين المصلحة أو المفسدة على الأُخرى.

نعم على القول بالاجتماع لا تزاحم بين الملاكين كما لا تزاحم في مقام الدلالة والامتثال والتفصيل في محله، وليكن هذا على ذكر منك، لأنّ كثيراً ما يشتبه التزاحم في هذا الباب مع التزاحم في ذلك المقام. نعم حاول المحقّق النراقي أن يثبت وحدة الاصطلاحين.(1)

الأمر الرابع: أقسام التزاحم

إذا كان مرجع التزاحم إلى تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا

ص:442


1- . فوائد الأُصول: 750/4، قسم التعليقة.

تكاذب وتدافع في مقام التشريع فربما يكون امتثال أحدهما سبباً لترك الآخر بتاتاً، كمسألة إنقاذ الغريقين، وربما يكون سبباً لتأخير امتثال أحد الحكمين عن وقت الفضيلة إلى غيره كما هو الحال في الأمر بالإزالة والصلاة أوّل الوقت، فوجوب الإزالة يزاحم وجوب الصلاة في وقت الفضيلة، ولا يزاحمه في سائر الأوقات فعليه الإزالة وتأخير الصلاة إلى الوقت الثاني.

بل ربّما يكون التزاحم بين الواجب التعييني وأحد الأعدال من الواجب التخييري كما إذا كان عليه دين معجّل وفي الوقت نفسه كفارة رمضان، فلو أدّى دينه المطالَب لا يتمكن من إطعام ستين مسكيناً، بل يجب عليه العدول إلى فرد آخر و هو صوم ستين يوماً، كلّ ذلك من أقسام التزاحم.

وربّما يظهر من المحقّق الخوئي انحصار التزاحم في الأوّل حيث قال: إنّ ملاك التزاحم أن لا يكون المكلّف متمكّناً من امتثال الحكمين معاً بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر، كمسألة إنقاذ الغريقين.(1)

يلاحظ عليه: أنّ التزاحم في القسم الأوّل بين الحكمين، وفي الثاني بين واجب ومصداق من الواجب الموسّع، أو عِدْل من الواجب المخيّر، و ليس التزاحم اصطلاحاً شرعياً حتى نتبع تفسيره، بل الجامع عدم إمكان امتثال الأمرين إمّا مطلقاً أو في وقت خاص فيدخل الجميع تحت التزاحم.

الخامس: أسباب التزاحم

إنّ للتزاحم في مقام الامتثال أقساماً نشير إليها:

1. أن يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر،

ص:443


1- . مصباح الأُصول: 357/3.

كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في أرض الغير.

2. أن يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين المتعلّقين من باب المصادفة لا دائماً وإلّا لانتهى إلى التعارض، كمزاحمة إزالة النجاسة عن المسجد، ودخول الوقت.

3. ما يكون أحد المتعلّقين مترتباً في الوجوب على الآخر كالقيام في الركعة الأُولى والثانية، مع عدم قدرته إلّا عليه في ركعة واحدة، أو كالقيام في الصلاتين، الظهر والعصر مع عدم استطاعته إلّاعلى القيام في واحد منهما.

ومثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع وسجود أو الصلاة معهما من دون قيام في مخبأ آخر إلى غير ذلك من الموارد.

السادس: في مرجّحات التزاحم

اشارة

قد عرفت الفرق بين التعارض والتزاحم، وأنّ الأوّل عبارة عن تطارد الدليلين في مقام الجعل والإنشاء من دون أن تصل النوبة إلى المراتب الأُخرى. والثاني عبارة عن تطاردهما في مقام الامتثال حيث إنّ كلّ دليل يدعو إلى امتثال متعلّقه مع قصور القدرة، من دون تطارد في مقام الجعل والإنشاء، بل هناك كمال الملائمة.

وعلى ضوء ذلك تختلف الغاية من إعمال المرجِّحات في كلّ واحد منهما، فالمطلوب من إعمالها في المتعارضين هو تمييز الحجّة عن اللا حجّة، والحقيقة عن المجاز، والصادق عن الكاذب، والوارد عن جدّ عن الوارد عن تقيّة.

وأمّا المطلوب من إعمالها في المتزاحمين هو تمييز الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية وما هو الواجب فعلاً عن الواجب شأناً، مع كون الدليلين حجتين شرعيتين صادقتين واردتين لبيان الحكم الشرعي عن جدٍّ بلا تقيّة في واحد منهما.

ص:444

وبذلك يعلم انّ المرجح في التعارض يجب أن يكون شيئاً يؤمِّن تلك الغاية أي تمييز الحجّة عن اللاحجة، وهو عبارة عن موافقة الكتاب و مخالفته، ومخالفة العامّة وموافقتها، فمخالف الكتاب وموافق العامة ليس بحجّة، كما أنّ المرجِّحات في باب التزاحم يجب أن تكون على وضع تُميّز بها الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية من دون أن يكذّب أحد الدليلين الآخر، وإليك بيان تلك المرجّحات وهي خمسة، وروح الجميع واحد وهو تقديم الأهم المطلق أو النسبيّ على المهمّ.

1. تقديم مالا بدل له على ما له بدل

إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر، كالصلاة عند ضيق الوقت وهو جنب، والصلاة مع الطهارة المائية، فلو صلّى مع الطهارة المائية لخرج الوقت بخلاف ما إذا صلّى بالطهارة الترابية، فتُقدم الصلاة بالطهارة الترابية على الصلاة بالطهارة المائية، وذلك لأنّ الصلاة بالطهارة المائية تستلزم خروج الوقت وليس للوقت بدل، بخلاف الصلاة بالطهارة المائية فلو تركها فانّ له بدلاً وهو التيمّم على الصعيد.

مثال آخر: لو كان عليه دين معجّل مطلوب وكفّارة رمضان، فلو صرف ما حصّله من الثمن في أداء الدين لا يتمكن من إطعام ستين مسكيناً وهكذا العكس، ولكن يُقدَّم الأوّل لأنّ أداء الدين ليس له بدل، فلو تركه فيُترك بتاتاً، بخلاف إطعام ستين مسكيناً فلو تركه ينتقل إلى بدله وهو الصوم ستين يوماً.

2. تقديم المضيّق على الموسع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره كإزالة

ص:445

النجاسة عن المسجد، والموسَّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالمضيّق إلّافضيلة الوقت، يحكم العقل بتقديم الأوّل - أي إزالة النجاسة - على الثاني و هو الصلاة. وربما يقال بخروج المورد عن التزاحم، لأنّه عبارة عمّا لا يمكن الجمع بينهما، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق.

يلاحظ عليه: أنّ المراد هو عدم التمكّن إمّا مطلقاً، أو نسبيّاً كما في المقام حيث لا يتمكن من درك فضيلة الوقت الأوّل مع الابتلاء بإزالة النجاسة.

نعم يمكن إرجاع هذا المرجِّح إلى المرجِّح السابق بالقول بأنّ المضيّق ليس له بدل اختياري ولكن الصلاة في الوقت الأوّل له بدل اختياري.

3. تقديم الأهم من المتزاحمين على المهم

إذا كان هناك واجبان أحدهما أهم من الآخر، كما إذا دار الأمر بين نجاة المسلم والكافر الذميّ، أو المسلم والمؤمن فالعقل يحكم بتقديم الأهم.

4. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان امتثال أحد الواجبين سابقاً على الآخر زماناً كما إذا وجب عليه صوم الخميس والجمعة، ولم يتمكن إلّا من صوم يوم واحد فعليه أن يقدِّم صوم الخميس على صوم الجمعة، لأنّه لو صام الخميس وأفطر في الجمعة فقد صام وأفطر عن حجة، بخلاف ما إذا عكس فقد أفطر يوم الخميس بلا مجوِّز في ظرف الإفطار، و قس على ذلك ما إذا قدر على القيام في ركعة واحدة فتقدَّم الركعة الأُولى على الثانية إذ لو عكس فقد ترك القيام في الركعة الأُولى بلا عذر، والمراد من التزاحم هو عدم التمكّن من القيام بكلا الواجبين.

ص:446

5. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا كان هناك واجب مطلق وآخر مشروط لم يحصل شرطه يقدّم المطلق على المشروط وهو واضح، كما إذا أجنب المعتكف حيث إنّ مكْثُ الجنب في المسجد حرام، وخروج المعتكف في اليوم الثالث حرام مشروط بعدم الحاجة، ولكن الشرط العدمي غير حاصل، فيقدّم الخروج على البقاء، إنّما الكلام في تطبيق الضابطة على مورد خاص ذكره السيد الطباطبائي في العروة الوثقى، وقال:

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه السلام في كلّ عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره ان يعطي للفقير كذا مقداراً، فحصل له ما يكفيه لأحدهما (الأمرين) بعد حصول المعلّق عليه، بل وكذا إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك، فانّ هذا كلّه مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري.(1)

أقول: كان على السيّد أن يقدّم الحجّ على الزيارة أخذاً بالضابطة التي أشار إليها في ذيل كلامه وهو تقديم الواجب المطلق على الواجب المشروط، لأنّ وجوب الحجّ مطلق لكن وجوب النذر مشروط بوجود الرجحان في متعلّقه حين العمل، وهو غير موجود، توضيحه:

انّه لو صحّ النذر لكان تعجيزاً شرعياً للمستطيع، والعجز الشرعي كالعجز العقلي فيكون مأموراً بالوفاء بالنذر ومعذوراً في ترك الحجّ لعجزه شرعاً عن امتثال أمر الحجّ والمفروض انّ المتعلّق راجح في حدِّ نفسه.

ص:447


1- . العروة الوثقى، كتاب الحج، فصل الاستطاعة، المسألة 31.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلام السيد، ولكنّه غير تام، وذلك لأنّ مصبَّ الإطلاق هو متعلّق النذر، أعني:

زيارة الحسين عليه السلام يوم عرفة، فعندئذ يسأل عمّا هو المتعلّق للنذر فهل المتعلّق - قبل تعلّق النذر - هي الزيارة المطلقة سواء أصار مستطيعاً أم لا؟ أو الزيارة في غير حالة الاستطاعة للحج؟ فعلى الثاني يكون الأمر منحصراً بالحجّ ولا يكون هناك أمر بالزيارة، و على الأوّل فالمتعلق بسعته على نحو يشمل حالة الاستطاعة غير راجح لاستلزامه ترك الواجب، نظير ما إذا نذر إنسان أن يقرأ القرآن من الفجر إلى طلوع الشمس، حيث إنّه لا ينعقد النذر، لأنّ المتعلّق مستلزم لترك الواجب فالنذر غير منعقد.

وبعبارة أوضح: انّ متعلّق النذر يجب أن يكون ذا رجحان عند الامتثال والمفروض انّ المورد ليس كذلك، لأنّ المستحب بما هو مفوِّت للواجب لا يكون راجحاً.

وربما يقاس المقام بالدين إذا استطاع وهو مديون، فكما أنّ خطابه بأداء الدين المعجَّل يوجب عجزه شرعاً، فهكذا المقام فإنّ انعقاد النذر يجعله عاجزاً شرعاً عن الحجّ وإن لم يكن عاجزاً تكويناً.

يلاحظ عليه: بأنّه قياس مع الفارق، لأنّ أداء الدين من الواجبات الأصلية التي أوجبها اللّه سبحانه، فإذا انشغلت ذمّة الإنسان به وخوطب بالأداء من جانبه سبحانه يصير فاقداً للاستطاعة، ويكون عجزاً تشريعياً، وأمّا زيارة الحسين عليه السلام فهي مستحبة في نفسها، وإنّما يجب بالعرض أي بتعلّق النذر به وليس له إيجابه على نفسه إلّاإذا كان راجحاً عند الإتيان به و المفروض عدمه.

وبعبارة أُخرى: فرق بين أن يكون التعجيز من جانبه سبحانه كأداء الدين غير المشروط بشيء، و بين أن يكون التعجيز بفعل الإنسان كأن ينذر على وجه

ص:448

يصير عاجزاً عن الحجّ في أوانه، فانّ تنجّزه مشروط بوجود الرجحان في العمل.

الأمر السابع: في تفسير المصطلحات الأربعة

اشارة

إنّ التعارض بين الدليلين في مقام الدلالة تارة يكون غير مستقر بحيث يقوم العرف الدقيق بإرجاع بعضه إلى بعض ورفع المعارضة، وأُخرى يكون مستقراً لا يرتفع ولو بإمعان النظر فالأوّل هو مصب الجمع الدلالي الذي هو خارج عن تعارض الأدلّة اصطلاحاً.

ثمّ إنّ بعض(1) الأُمور التي توجب رفع التعارض عرفاً عبارة عن الأُمور التالية:

1. التخصص، 2. الورود، 3. الحكومة، 4. التخصيص. 5. التوفيق العرفي الذي اصطلحه المحقّق الخراساني بتقديم العناوين الثانوية على الأوّلية، وإليك شرح هذه المصطلحات:

فنقول: إنّ الورود قريب من التخصّص، وكما أنّ الحكومة قريبة من التخصيص، فاللازم هو التعرّف على الفرق الحاكم على كلّ من القسمين، وتطبيقهما على مواردهما، وإليك البيان:

1. التخصّص

هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر حقيقة بعناية التكوين، بمعنى انّه لم يكن داخلاً حتى يحتاج إلى الإخراج، أو لم يكن موضوعاً حتى يحتاج إلى الرفع، بخلاف الأقسام الآتية، ففيه الإخراج والرفع، و هذا نظير

ص:449


1- . سيوافيك البعض الآخر في المقام الأوّل.

قولك: «أكرم العالم» بالنسبة إلى قولك: «لاتكرم الجاهل» فالحكمان وإن كانا متناقضين، لكنّه صوريّ، لعدم وحدة موضوعهما نظير قولك: الخلّ حلال، و الخمر حرام، فالحكمان متضادان، لكنّ التضاد صوري لعدم وحدة الموضوع.

2. الورود

هو رفع أحد الدليلين، موضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية التشريع على نحو لولا عنايته لما كان للوارد هذا الشأن، وذلك مثل الأمارات بالنسبة إلى الأُصول العقلية والشرعية.

أمّا الأُولى فلأنّ موضوع أصالة البراءة العقلية، هو عدم البيان، وموضوع أصالة الاشتغال، هو احتمال العقاب مع العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به، وموضوع أصالة التخيير هو التحيّر وعدم المرجح، لكن الأمارة الشرعية لثبوت حجّيتها بالدليل القطعي، تكون بياناً في مورد الأُولى، ومؤمِّنةً عن العقاب في مورد الثانية، ومرجّحةً ورافعةً للتحيّر في مورد الثالثة، وعند ذاك لا موضوع لهذه الأُصول الثلاثة العقلية.

وبالجملة: انّ الأمارة و إن كانت حجّة ظنيّة غير مفيدة للعلم الوجداني كما في مورد التخصّص، لكن لمّا قام الدليل القطعي على حجيتها وصار مصداقاً لقوله عليه السلام: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدِّيان» صارت بياناً في مورد عدم البيان، و مؤمِّنةً عن العقاب، ومرجحةً لأحد الطرفين، فتكون رافعة لموضوع الأُصول الثلاثة العقلية حقيقة، لكن بعناية التشريع وإضفاء الحجّية عليها، بحيث لولا الإضفاء و العناية لكانت في عرض الأُصول العقلية.

ومنه يظهر حالها بالنسبة إلى الأُصول الشرعية سواء كانت غير محرزة كأصل البراءة الشرعية، ومثلها أصالتا الحلّية والطهارة، أم محرزة كالاستصحاب وأصالة

ص:450

الصحة في فعل النفس أو الغير.

أمّا غير المحرز منها، فلأنّ المراد من العلم في قوله «رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون»، أو قوله: «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام»، أو قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر»، هو الحجّة سواء كانت وجدانية، أم شرعية اعتبرها الشارع حجّة، فإذا قامت الأمارة على حرمته أو نجاسته فقد انقلب عدم الحجة إلى وجودها، بقيام الحجّة الشرعية على الحكم.

ومنه يظهر حال الأُصول المحرزة، لما مرّ في الاستصحاب من أنّ المراد من اليقين في أدلّته ليس هو اليقين الوجداني، ضرورة انّ زرارة لم يقف على طهارة ثوبه أو طهارته من الحدث بواسطة الأدلة القطعية، بل وقف عليها من طريق الحجج الشرعيّة كإخبار ذي اليد، أو من إجراء أصالة الطهارة في الماء الذي توضأ به، بل المراد هو الحجّة الشرعية، فإذاً يكون المراد من اليقين الثاني، هو الحجّة فإذا قامت الأمارة، فقد حصلت الغاية الواردة في أدلّة الاستصحاب.

وأمّا غير الاستصحاب، فاليد أمارة الملكية لو لم تكن هناك بيّنة أقوى كما في رواية العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن مملوك ادّعى انّه حرّ ولم يأت ببيّنة على ذلك، أشتريه؟ قال: «نعم» و مثلها رواية حمزة بن حمران.(1)

أمّا أصالة الصحّة في مثل النفس فالموضوع لها هو الشكّ كما في صحيح زرارة: رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة؟(2) و صحيح إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض»(3)والأمارة رافعة للشكّ بعد إضفاء الشارع الحجيّة لها - مضافاً إلى ما عليه العقلاء، من كون

ص:451


1- . الوسائل: الجزء 12، الباب 5 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1-2.
2- . الوسائل: الجزء 5، الباب 23 من أبواب الخلل، الحديث 1.
3- . الوسائل: الجزء 4، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 4.

الاطمئنان الحاصل من قول الثقة بحكم العلم، بحيث لا يقيمون معه لاحتمال الخلاف قدراً ولا قيمة.

فاتّضح ممّا ذكرنا كون الأمارات بفضل الأدلّة القائمة على حجّيتها، واردة على الأُصول مطلقاً عقلية أو شرعية محرزة وغير محرزة. والفرق بين المحرز وغيره - بعد اشتراكهما - في أنّ الغاية رفع التحيّر وجود نوع من الطريقية في المحرز دون غيره.

3. الحكومة

الحكومة من المصطلحات الجديدة التي لم يكن منها أثر بين المتأخرين من عصر العلاّمة الحلّي (648-726 ه) إلى عهد المحقّق البهبهاني (1118-1206 ه)، فضلاً عن القدماء وعرّفها الشيخ بقوله: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله، مسوقاً لبيان حاله، متعرضاً عليه، نظير الدليل على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة، أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم، أو بعد الفراغ من العمل فانّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك، فلو فرض انّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لا عموماً ولا خصوصاً لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور... ثمّ إنّه قدس سره بيّن الفرق بينه و بين التخصيص بأنّ التقديم في التخصيص بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص، ولكن الحاكم بيان بلفظه للمراد ومفسر للمراد من العام فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.(1)

ص:452


1- . الفرائد: 432 طبعة رحمة اللّه.

أقول: الحكومة عند الشيخ تتقوم بأمرين:

أ: أن يكون الحاكم متصرّفاً في موضوع الدليل المحكوم بإخراج بعض المصاديق بدعوى انّه ليس مصداقاً له.

ب: أن يكون الموضوع محكوماً بحكم قبل ورود الحاكم، على نحو لولا كونه كذلك كان تشريع الدليل الحاكم لغواً.

لكن كلاً من الشرطين غير لازم، أمّا الأوّل فلأنّ الحكومة لا تنحصر بالتصرّف في عقد الوضع، بل ربما يكون متصرفاً في عقد الحمل كأحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى الأحكام المتعلّقة على الموضوعات على نحو الإطلاق الذي يعم حالتي الضرر والحرج لوجوب الغسل في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (1) فقوله يعم حالتي الضرر والحرج غير انّ أدلّتهما، حاكمان على الإطلاق الموجود فيها فيختص وجوب الغسل بغير تينك الحالتين.

كما أنّ التصرف في عقد الوضع لا ينحصر بالتضييق، بل ربما يتصرّف بالتوسعة، كما هو الحال في قوله:

الطواف بالبيت صلاة، فهو يُدخل الطواف تحت الصلاة، فيكون محكوماً بحكمها مثل قوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وقوله: «التراب أحد الطهورين» بالنسبة إلى قوله: «لا صلاة إلّابطهور» لو كان الطهور فيه ظاهراً في الطهارة المائية.

وأمّا الثاني فهو منقوض بحكومة أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلّة الشروط في الصلاة، فلو قال: «صلّ في ثوب طاهر» فهو ظاهر في الطهارة الواقعية، لكن بعد

ص:453


1- . المائدة: 6.

انضمام قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» يكون الموضوع أعمّمنها و من الظاهريّة، ولكن ليس على وجه لولا أدلة الشروط لكان ورود الحاكم لغواً إلّاعلى وجه ذكرناه في الدورة السابقة.(1)

ولأجل بعض ما ذكر، عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بقوله: أن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر مقدماً كان أو مؤخراً.

ثمّ إنّه قدس سره عطف على الحكومة التوفيقَ العرفي وقال: أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وُفِّقَ بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما، كما هو الحال في الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية حيث يقدّم في مثلهما الأدلة النافية ولا تُلاحظ النسبة بينهما أصلاً.

يلاحظ عليه: أنّه لا وجه لجعله أمراً مغايراً للحكومة بل هو من أقسام الحكومة، غير انّه قدس سره لمّا خصَّ الحكومة ببيان الكميَّة في ناحية الموضوع أخرج هذا من تحتها، ولو قلنا بعمومها لما ورد لبيان الكمية في ناحية المحمول أيضاً، لما كان هنا وجه لإخراجها عن تحت الحكومة، لأنّ العناوين الثانوية تحدد شمول المحمول سعة وضيقاً.

ولقد أحسن بعض الأعلام حيث لم يخصها ببيان الكمية في ناحية عقد الوضع، بل جعلها الأعم منه و من بيانها في عقد الحمل، حيث قال: أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر أمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً، أو عقد حمله.

ص:454


1- . لاحظ المحصول: 423/4.

وبكلمة قصيرة فالمقوم للحكومة، هو تبادر الرقابة والنظارة من أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر، على وجه تكون تلك سبباً للتقدم، سواء أتحققت بالمدلول المطابقي أو الالتزامي وسواء أكانت بنحو التفسير، أو تكون النتيجة عند الاجتماع هي التفسير، وذلك لأنّ التفسير ربما يكون واضحاً كما في صحيحة الحلبي فيمن عليه شهران متتابعان، فانّ المتبادر منها صيام ستين يوماً متتابعاً لكنّه يفسرها بصيام شهر ويوم قال: «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أياّماً منه...».(1)

وربما يكون التفسير خفيّاً لكن يعلم بقياس أحدهما إلى الآخر كما في أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلة الشروط على ما مرّ. ولأجل انّ الحاكم له الرقابة والنظارة، يقدّم على المحكوم حتى في مورد يكون بين الدليلين عموم و خصوص من وجه، ولا يتوقف على وجود رجحان لأحد الدليلين في مورد الاجتماع.

4. التخصيص
اشارة

التخصيص عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن الحكم المحمول عليه مع حفظ الموضوع، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العالم الفاسق، فهو يشارك الحكومة في قسم التضييق، أي في مورد إخراج موضوع الخاص عن حكم العام، غير انّه يفترق عنها بأنّ التخصيص يخرجه عن حكم العام مع الاعتراف بأنّه من أفراده ومن مصاديقه، ولذلك يقول: لا تكرم زيداً العالم.

ولكن الحكومة في الموارد التي تشارك التخصيص في النتيجة يخرج المورد عن حكم العام لكن بلسان نفي الموضوع وانّه ليس من مصاديق العام إدعاءً، كما

ص:455


1- . الوسائل: الجزء 7، الباب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب، الحديث 9.

في مثل قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»، والغاية إنّما هي إخراج كثير الشكّ عن تحت العمومات الواردة حول الشاك، ولكن الإخراج بصورة نفي كونه من مصاديق الشاك فلا يكون محكوماً بحكمه.

إلى هنا تمّ تفسير المصطلحات الأربعة بل الخمسة إذا أُضيفت إليها حكومة العناوين الثانوية على الأوّلية، وقد عرفت أنّها ليست قسماً مغايراً للحكومة.

وجه تقدّم الخاص على العام

ثمّ إنّ تقدّم الأقسام الثلاثة على غيرها واضح لا يحتاج إلى البيان لعدم وجود الصلة بين الدليلين في التخصّص حتى يقدم أو يؤخر، وإعدام الموضوع في الورود، وللحكومة دور التفسير فيقدّم الدليل المفسِّر على المحكوم المفسَّر.

إنّما الكلام في وجه تقدّم الخاص على العام مع حفظ الموضوع، وهذا هو الذي نحن بصدد بيانه، ولأجل التوضيح نقدم أمراً، و هو انّ الاحتجاج بالعام أو الخاص رهن ثبوت أُمور ثلاثة:

الأوّل: كون الدليل صادراً عن الحجة.

الثاني: كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو ارادة استعمالية.

الثالث: كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.

أمّا الأمر الأوّل فإثباته يقع على عاتق أدلّة حجّية الخبر الواحد، كما أنّ المتكفّل لإثبات الأمرين الأخيرين هو الأصل العقلائي الجاري في المقام. فانّ الأصل عند العقلاء كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو إرادة استعمالية كما هو الحال في التورية والمزاح، فخرج ما يفقد أصل إرادة المعنى كما هو الحال في تعلم

ص:456

اللغات الأجنبية، أوحفظ الجمل حيث إنّ الغاية هو اكتساب المهارة في الكلام.

كما أنّ الضابطة عند العقلاء أيضاً هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلّاما خرج بالدليل، فخرج الكلام الملقى على وجه التورية والمزاح وما يشبههما حيث لا تتطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية.

إذا علمت هذه الأُمور، فاعلم أنّ كلاً من العام والخاص حائز للأُمور الثلاثة، فكما يجوز تقدّم الخاص على العام بالقول بانّ الإرادة الاستعمالية في مورد الخاص لم تكن مطابقة للإرادة الجدية و إنّما ألقاه المولى على وجه الضابطة ليرجع إلى العام المخاطب في مقام الشك، دون مقام اليقين بالخلاف. فهكذا يجوز تقديم العام على الخاص و إنّما التفاوت والاختلاف بأنّ في تقديم الخاص على العام نقضاً للتطابق في بعض أفراده، وفي تقديم العام على الخاص نقضاً للتطابق في الخاص من رأسه وأصله.

وعلى كلّ تقدير فما هو الوجه لتقديم الخاص على العام مع كونهما على حد سواء؟ هذا هو السؤال و أمّا الجواب فبوجهين:

أ: انّ في تقديم الخاص على العام عمل بكلا الدليلين، بخلاف العكس ففيه عمل بدليل واحد وهو العام وإلغاء الدليل الآخر من رأسه.

ب: انّ النظام السائد على التقنين و التشريع هو فصل الخاص عن العام وذلك لمصالح أهمها عدم احاطة المقنِّنين العاديين بالمصالح والمفاسد، فربما يشرِّعون حكماً عامّاً بزعم وجود المصلحة فيه ثمّ يتبين لهم عدم المصلحة في بعض الموارد فيخرجونه عن حكم العام بصورة ملحق قانوني، وصار هذا هو السبب في تقديم الخاص على العام في التشريعات البشرية.

ص:457

وأمّا التشريع الإلهي فهو منزّه عن هذه الوصمة، فهو سبحانه عالم بالمصالح والمفاسد قال سبحانه: (أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .(1)

غير انّ هناك نكتة جديرة بالإشارة وهي انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم دعا الناس في مكة المكرمة إلى التوحيد ونبذ الشرك ما يربو على ثلاثة عشر عاماً و لم تسنح له الفرصة لبيان الأحكام والتشريعات الهائلة في شريعته، ولما هاجر إلى المدينة شغلته الحروب والغزوات ومجادلة أهل الكتاب ومكافحة المنافقين إلى غير ذلك من الشواغل التي حالت دون بيان أحكام الشريعة بتفاصيلها. فبيّن ما بيّن وترك التفاصيل والجزئيات على عاتق العترة الذين هم أعدال الكتاب بتنصيص منه حيث قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي» فقامت العترة واحداً بعد واحد ببيان التفاصيل والمقيّدات والمخصّصات للتشريعات السابقة. فصار هذا سبباً لتقديم الخاص على العام والمقيّد على المطلق، و على ذلك جرت سيرة العلماء وديدنهم في أبواب الفقه.

***

الأمر الثامن: ما هو السبب لوجود الروايات المتعارضة؟

اشارة

إنّ السابر في أبواب الروايات الفقهية يقف على وجود الروايات المتعارضة في أكثر الأبواب وهذا يثير سؤالاً، وهو كيف تطرق التعارض إلى روايات أئمّة أهل البيت؟ وهناك احتمالان:

الأوّل: انّ أئمّة أهل البيت كانوا يفتون الناس عن طريق استنباط الأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية كسائر أئمّة المذاهب، فلذلك طرأ عليهم الاختلاف

ص:458


1- . الملك: 14.

في الآراء كما طرأ على غيرهم، فانّ الإمام الشافعي له آراء قديمة قبل أن يحطّ الرحل في مصر، وآراء جديدة بعد نزوله بها وهكذا عند غيره.

وهذا الاحتمال في حقّ أئمّة أهل البيت من الوهن بمكان، فإنّهم عليهم السلام عيبة علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وخزنة معارفه فلا يصدرون إلّاعن علم ورثوه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو يلقى في روعهم بما انّهم محدَّثون، وكون الإنسان محدَّثاً لا يلازم كونه نبيّاً طرفاً للوحي، فإنّ مريم البتول كانت محدّثة ولم تكن نبية وقد أوضحنا ذلك في بحوثنا العقائدية.

الثاني: انّ العامل الخارجي أوجد هذا القلق والاضطراب في الأحاديث، ولأجل ذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب مستقل في جمع ما اختلف من الأخبار، أسماه «الاستبصار فيما اختلف من الأخبار»، وهانحن نشير إلى تلك العوامل الخارجية التي أوجدت التعارض، وهي:

1. حدوث التقطيع في الروايات

روى أهل السنّة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته»، فصار ذلك مستمسكاً للمشبِّهة قائلين بأنّ الضمير في «صورته» يرجع إلى اللّه سبحانه مع أنّ الإمام الرضا عليه السلام كشف النقاب عن وجه الرواية وقال:

«قاتلهم اللّه حذفوا أوّل الحديث، انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رأى رجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه:

قبّح اللّه وجهَك ووجهَ من يُشْبِهُك، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا عبد اللّه لا تقُل هذا لأخيك فانّ اللّه عزّو جلّ خلق آدم على صورته».(1) وقد تطرّق هذا الأمر إلى

ص:459


1- . توحيد الصدوق: الباب 12، الحديث 10 و 11.

الأحاديث الفقهية.

روت العامة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال: لرجل أتاه فقدّم أباه، فقال له صلى الله عليه و آله و سلم: «أنت و مالك لأبيك».

وقد استدلّ بهذه الرواية على ولاية الأب على مال الولد ونفسه، وإنّما يصحّ الاستدلال لو صدرت الرواية بهذا النحو، ولكن الوارد من طرقنا يشرح مقصود الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الكلام ويعرب عن كونه صلى الله عليه و آله و سلم بصدد بيان حكم أخلاقي لا شرعي حتى يستفاد منه الولاية على الأموال بل النفوس، يقول الإمام الصادق عليه السلام بعد نقله:

«إنّما جاء بأبيه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمّي، فأخبره الأب، أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه، وقال: أنت و مالك لأبيك، ولم يكن عند الرجل شيء أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن؟!».(1)

والدقة في ألفاظ الرواية وقوله: «أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن؟!» تعرب عن كون الكلام وارداً لبيان أصل أخلاقي يجدر على الابن رعايته. وتكشف عن عدم ولايته على مال الابن وإنّما لم يحبسه لعدم الفائدة فيه لكونه معدِماً أوّلاً وترفّع مقام الأب عن الحبس بصرف مال الولد ثانياً.

2. أخذ عرف الراوي بنظر الاعتبار

انّ أكثر المتلقّين عن أئمّة أهل البيت كانوا عرباً ولكن كان لهم أعراف مختلفة، مثلاً الرطل - الذي هو عند الجميع حاك عن الوزن و المقدار يختلف مقداره عند المكي والعراقي، فالرطل المكي ضِعْف الرطل العراقي، وبذلك

ص:460


1- . الوسائل: 196/12-197، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

اختلفت الأخبار في بيان الكرّففي بعض منها الكرّ ستمائة رطل، و في بعض آخر الكرّ من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومائتا رطل، وهما في بادئ النظر مختلفان لكن بالنظر إلى العرف الذي تكلّم به الإمام ينحلّ به الاختلاف فانّ المخاطب في الخبر الأوّل هو محمد بن مسلم الثقفي الطائفي، والطائف قريب من مكة، ولكن المخاطب في الثاني هو محمد بن أبي عمير البغدادي وبذلك يتحد مضمون الروايات فانّ الكرّ حسب العرف الأوّل هو 600 رطل وحسب العرف الثاني 1200 رطل وفي الوقت نفسه هما أمر واحد قد عُبّر عنه بتعبيرين.(1)

3. ملاحظة مصلحة الراوي حين الإفتاء

إنّ الأخذ بمصلحة الراوي ممّا أوجب اختلاف الروايات، ففي الفقه الإمامي المتواتر عن الإمام الصادق عليه السلام هو انّ الرجل إذا مات و ترك ابنة واحدة فقط فالتركة جميعاً لها: نصفها بالفرض والنصف الآخر بالرد، على خلاف ما عليه الفقه السنّي فانّ النصف عندهم للبنت والنصف الآخر للعَصَبَة. فترى أنّ الإمام الصادق عليه السلام في الرواية التالية يُفتي بفتوى أهل السنّة رعاية لمصلحة الراوي، روى سلمة بن محرز، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ رجلاً مات و أوصى إليَّ بتركته وترك ابنته، قال: فقال لي: «أعطها النصف»، قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: اتّقاك إنّما المال لها، قال: فدخلت عليه بعدُ، فقلت: أصلحك اللّه إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني؟ فقال: «لا واللّه ما اتّقيتك ولكنّي اتقيت عليك أن تَضْمَنَ» فهل علم بذلك أحد؟ قلت: لا، فقال: فأعطها ما بقي».(2)

ص:461


1- . الوسائل: الجزء 1، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3، 1.
2- . الوسائل: 442/17، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين، الحديث 3.
4. الدسّ والتزوير في الروايات

كان بين أصحاب الأئمّة رجال غالوا في مقامات الأنبياء والأئمة عليهم السلام وبذلك وُصِفُوا ب «الغلاة» وهم عند الأئمّة شرّ الناس، فمنهم:

المغيرة بن سعيد، وأبو زينب الأسدي المعروف بأبي الخطاب تارة و أبي الذبيان أُخرى، وإليه تُنسب الفرقة الخطّابية، فقد دسَّ هؤلاء روايات منكرة في كتب أصحاب أبي جعفر الباقر عليه السلام وأبي عبد اللّه الصادق عليه السلام.

روى هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام انّه كان يقول: «كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويُسندها إلى أبي ثمّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم».(1)

ويؤيده ما رواه الكشي عن يونس بن عبدالرحمن، قال: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السلام ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام وقال لي: «إنّ أبا الخطاب كذّب على أبي عبد اللّه عليه السلام، لعن اللّه أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فانّا إن تحدثنا، حدَّثنا بموافقة

ص:462


1- . رجال الكشي: 196 برقم 103.

القرآن وموافقة السنّة.(1)

ثمّ إنّ الدس والتزوير لم ينحصر بهذين الرجلين، بل جاء بعدهما جماعة لهم دور في التزوير كفارس بن حاتم القزويني، والحسن بن محمد بن بابا، و محمد بن نُصَير النميري، و أبي طاهر محمد بن علي بن بلال، وأحمد بن هلال، والحسين بن منصور الحلاّج، و ابن أبي عذافر، و أبي دلف، و جمع كثير ممّن يتسمّى بالشيعة فإليهم تُسند المقالات الشنيعة من الغلو و الإباحات والتناسخ، وقد خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم عليهم السلام. وأورد الكشي أخبارهم.

5. النقل بالمعنى

إنّ من أسباب الاختلاف عدم عناية الراوي بنقل كلام الإمام بنصِّه والاكتفاء بمعناه، فعند ذلك تطرق الاختلاف بين الأحاديث، إذ ربما كان نصّ الإمام عليه السلام مشتملاً على قرينة على المراد، حذفها الراوي باعتقاد انّها غير دخيلة في المعنى، وها هو منصور بن حازم يقول: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل تزوج امرأة وسمَّى لها صداقاً، ثمّمات عنها ولم يدخل بها؟ قال: «لها المهر كاملاً، ولها الميراث».

قلت: فإنّهم رووا عنك انّ لها نصف المهر؟ قال: «لا يحفظون عنّي، إنّما ذلك للمطلّقة».(2)

نعم، كان لفيف من الأصحاب ملتزمين بنقل التعبير بنصّه حيث كانوا يكتبون الحديث في مجلس السماع كما جاء في بعض روايات زرارة.(3)

ص:463


1- . رجال الكشي: 195 برقم 103.
2- . الوسائل: 77/15، الباب 58 من أبواب المهور، الحديث 24.
3- . الوسائل: 110/3، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 33.
6. عدم إتقان اللغة العربية

إنّ من أسباب الاختلاف عدم إتقان اللغة العربية من قبل بعض الرواة غير العرب كعمّار بن موسى الساباطي، فهو فطحي ثقة، لكنّه من الموالي غير العرب، ولذلك نجد اضطراباً ملحوظاً في أغلب ما رواه، ولذلك قال الشيخ في الاستبصار: انّه لا يعمل بمتفردات عمّار.(1)

على أنّ عدة من الرواة لم يكن همّهم نقلَ الحديث ودراستَه ومذاكرتَه، وإنّما سألوا عن أشياء وأُجيبوا فنقلوه إلى الآخرين، وهذا كصفوان الجمّال الذي يرجع أكثر رواياته إلى السؤال عن أحكام السفر ولم يكن له همّ سوى ذلك.

وهذا الصنف من الرواة يختلف أحوالهم مع من كان مولعاً بتعلّم الحديث ونقله وضبطه، كزرارة ومحمد بن مسلم.

قال زرارة: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جعلني اللّه فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتُفتيني؟ فأجابه الإمام بما يزيل عنه هذه الحيرة.

فقال عليه السلام: «يا زرارة، بيت حُجَّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تُفنى مسائله في أربعين عاماً».(2)

وكم فرق بين راو اناخ مطيّته عند عتبة أئمّة أهل البيت أربعين سنة لأخذ الحديث، وراوٍ يسأل الأئمّة طول عمره مرّّة أو مرتين. ومن الواضح بمكان انّ روايات الراوي الأوّل أتقن بكثير من الراوي الثاني.

ص:464


1- . الاستبصار: 372/1. قال: لا يعمل على ما يختص بروايته وقد جمع ما تفرّد به المحقّق التستري في قاموس الرجال: 19/8-30 وقال: وأكثر ألفاظ أخباره معقّدة، مختلة النظام، ومنها في مكان الإمام والمأموم.
2- . الوسائل: الجزء 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ، الحديث 12.
7. التقية
اشارة

إنّ من أحد الأسباب لطروء الاختلاف في الأخبار المروية عنهم هو إفتاء أئمّة أهل البيت عليهم السلام على خلاف مذهبهم تقيّة من السلطان أوّلاً، والقضاة الذين كان بيدهم الأُمور ثانياً، وحفظ نفوس شيعتهم ثالثاً.

أمّا الأوّل والثاني فواضحان، إنّما الكلام في الثالث وهو انّ الإفتاء على خلاف مذهبهم كان سبباً لحفظ الشيعة، فبيانه:

إنّهم عليهم السلام لو كانوا مفتين على وفق مذهبهم دائماً كان ذلك سبباً لانتشار مذهبهم بين الشيعة وعملهم على فُتياهم، ولأضحى ذلك سمة مميّزة لهم وبالتالي مُثيراً لحفيظة الآخرين عليهم، تعقبها مضاعفات أُخرى خطيرة.

روى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن سالم بن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سأله إنسان وأنا حاضر، فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلُّون العصر، وبعضهم يصلُّون الظهر؟ فقال: «أنا أمرتهم بهذا لو صلُّوا على وقت واحد عُرفوا فأُخذوا برقابهم».(1)

ولأجل هذه الدواعي المختلفة كان أئمّة الشيعة تتقي بين الحين والآخر، وبذلك اختلفت الأخبار المأثورة عنهم، بما انّ بعضها إفتاء وفق الواقع، والآخر إفتاء وفق مذهب الآخرين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ إفتاء الأئمّة عليهم السلام على وفق التقية كان أمراً ذائعاً، ويدلّ على ذلك أُمور نذكر منها ما يلي:

الأوّل: انّ بعض الشيعة كانوا يكاتبون أئمتهم ويطلبون منهم الإفتاء وفق

ص:465


1- . الوسائل: 3، الباب 7 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

الواقع لا وفق التقية.

روى الصدوق عن يحيى بن أبي عمران أنّه قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام في السنجاب والفنك والخز، وقلت: جعلت فداك، أحب أن لا تجيبني بالتقية في ذلك؟ فكتب بخطه إليَّ: «صلّ فيها».(1)

الثاني: انّ أصحاب الأئمّة الذين كانوا بطانة لعلومهم ومذاهبهم، كانوا يميّزون الحكم الصادر عن تقيّة والصادر لا عن تقيّة، فإذا روى شخص عن الأئمة حديثاًوكان على وجه التقية، يخاطبونه بقولهم أعطاك من جراب النورة.

وأمّا إذا كان لا على نحو التقيّة يقولون: أعطاك من عين صافية.(2)

ثمّ إنّ الإفتاء على وفق التقية كان يتناسب مع حجم الأخطار المحدقة، فإذا كان الخطر دائماً بالنسبة إلى شخص، يفتيه الإمام على وفق التقية من دون أن يحدّد ظرف العمل به، وإذاكان الخطر مؤقتاً ومقطعيّاً يفتيه على وجه مؤقت ثمّ يرشده إلى من يهديه إلى الحكم الواقعي.

روى علي بن سعد البصري، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي نازل في قوم بني عديّ ومؤذِّنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانيّة يبرأون منكم و من شيعتكم، وأنا نازل فيهم فما ترى في الصلاة خلف الإمام؟ فقال عليه السلام : «صلِّ خلفه واحتسب بما تسمع، ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيتك فتأخذ بقول الفضيل وتدع قولي»، قال عليّ: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلاً بما قال: فقال: هو أعلم بما قال، ولكنّي قد سمعته وسمعت أباه

ص:466


1- . الوسائل: 3، الباب 3 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.
2- . الوسائل: 508/17، الباب 5 من أبواب ميراث الأعمام والأخوال، الحديث 2.

يقولان: «لاتعتدّ بالصلاة خلف الناصبيّ واقرأ لنفسك كأنّك وحدك».(1)

فمن أراد أن يقف على الدور الذي لعبته التقية في طروء الاختلاف على الأخبار المروية عنهم فليرجع إلى كتاب الحدائق الناضرة، قسم المقدمة، فانّه قد بلغ الغاية في ذلك.(2)

هذه هي الأسباب الموجبة لطروء الاختلاف في الأخبار المروية عن الأئمّة عليهم السلام، ولعل هناك أسباباً أُخرى لم نقف عليها.

إذا عرفت هذه الأُمور الثمانية فاعلم انّ الكلام في مبحث تعارض الأدلة يدور حول أمرين:

الأوّل: التعارض البدوي غير المستقر.

الثاني: التعارض المستقر.

والمراد من الأمر الأوّل هو التعارض الذي يتبادر إلى الذهن قبل الإمعان في القرائن الحافَّة بالخبرين ولكنّه بعد الإمعان يظهر عدم وجود الاختلاف بينها وذلك بتحكيم الأظهر على الظاهر.

كما أنّ المراد من الثاني هو التنافي المستمر الذي لا يزول مع الإمعان في الخبرين أو الأُمور الخارجة عنهما بل يبقى التنافي بحاله.

فمن القسم الأوّل تقديم الخاص على العام، والمقيد على المطلق، والوارد على المورود، والحاكم على المحكوم والعناوين الثانوية على العناوين الأوّلية، ولذلك لا نعد هذه الأُمور من المتعارضين اللذين يرجع فيهما إلى المرجحات.

ص:467


1- . الوسائل: 389/5، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.
2- . الحدائق: 5/1-8. ولاحظ الوسائل: الجزء 7، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

نعم ربما يقع البحث في الصغرى بأنّ أيّاً من الدليلين أظهر من الآخر، وسيوافيك الكلام فيه.

وأمّا القسم الثاني فهو ما يكون التنافي سائداً دائماً من دون أن تكون بينها الأظهرية.

فعلينا أن نبحث في المقام الأوّل ثمّ نعرج إلى المقام الثاني.

هذه هي المقدمات التي ينبغي الوقوف عليها قبل الدخول في صلب الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم أنّ الكلام يقع في فصلين:

1. التعارض البدويّ غير المستقرّ.

2. التعارض المستمرّ.

وإليك الكلام فيهما واحداً بعد الآخر.

ص:468

الفصل الأوّل في التعارض البدوي غير المستقر
اشارة

وفيه مباحث:

الأوّل: في قاعدة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»

قد اشتهرعلى الألسن قولهم: «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» والأساس لهذه القاعدة هو ابن أبي جمهور الأحسائي - حسب ما نقله الشيخ الأعظم عنه في فرائده، و استدل عليها بأنّ المتعارضين يجب الجمع بينهما مهما أمكن، وإلّا يلزم طرح كليهما أو طرح أحدهما والأوّل خلاف الأصل، والآخر يستلزم الترجيح بلا مرجح.

وإن شئت صياغة الدليل في قالب القياس فقل:

المتعارضان دليلان: والدليلان يجب إعمالهما، لا طرحهما ولا طرح أحدهما فينتج: المتعارضان يجب إعمالهما لا طرحهما ولا طرح أحدهما.

يلاحظ عليه: بمنع كلية الكبرى، وهو انّه يجب إعمال كلا الدليلين، وذلك لخروج الخبرين المختلفين عن تحت القاعدة حسب الروايات المتضافرة، حيث إنّهم عليهم السلام حكموا في الخبرين المختلفين على خلاف الإعمال بل الأخذ بأحدهما دون الآخر، ولو تمَّت تلك الضابطة بصورتها الكلية، يلزم طرح الروايات العلاجية

ص:469

المتضافرة التي ستمرّعليك في المقام الثاني أعني التعارض المستمرّ.

وعلى ضوء ذلك، فتكون الضابطة مختصّة بغير موارد الخبرين المختلفين اللّذين يكون المخاطب متحيّراً في صدورهما من متكلّم واحد، وراجعة إلى ما إذا كان لرفع الاختلاف بين الخبرين شاهد في نفس الخبرين أو الخارج عنهما، ففي ذلك المقام يكون المورد من مصاديق قاعدة الجمع دون الطرح، كما إذا كان دور أحد الخبرين إلى الآخر، هو التخصيص والتقييد، أو الحكومة أو الورود، فيكون في نفس الخبرين قرينة عرفية في التصرّف في العام والمطلق، والمحكوم والمورود، على نحو لا يتحيّر العرف الدقيق في الجمع بينهما وتعيين المراد منهما.

نعم ربما يتحيّر العرف الساذج بين العام والخاص أو المطلق والمقيّد، ويراهما مختلفين، لكن العرف الدقيق الذي هو المخاطب في تلك المقامات، يراهما غير مختلفين لأنّه جرت السيرة على القاء العام والمطلق وإرادة الخاص والمقيّد منهما في بيئة التقنين والتشريع، ولذلك عبرنا عن هذا القسم من التعارض، بالتعارض البدئي أو غير المستقرّ، فالعرف الساذج يتلقّاهما متعارضين والعرف الدقيق العارف بشؤون التقنين، يتلقّاهماغير مختلفين.

والحاصل انّ الضابطة الماضية تامة في غير الموارد التي أمر أئمّة أهل البيت بالرجوع إلى المرجحات وطرح أحد الدليلين، ولو قلنا بها حتى في تلك الموارد يلزم طرح تلك الروايات التي تقطع بصدور بعضها عنهم عليهم السلام.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ هنا ضابطتين:

1. ضابطة الجمع العرفي بين الدليلين.

ص:470

2. ضابطة الترجيح بين الدليلين.

وقد أُشير في الروايات إلى كلتا الضابطتين، أمّا الأُولى ففي روايات، نذكر منها ما يلي:

1. عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، انّ الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب».(1)

2. روى الميثمي في حديث طويل عن الرضا عليه السلام: «وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة، ثمّكان في الخبر الآخر خلافه، فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكرهه و لم يحرّمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم».(2) إلى غير ذلك من الروايات التي تصرّح بأنّ في الأخبار عاماً وخاصاً وناسخاً ومنسوخاً.

وأمّا الثاني فسيوافيك بيانه في المقام الثاني.

ص:471


1- . الوسائل: الجزء 2، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
2- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.
المبحث الثاني في شرائط الجمع الدلالي

يشترط في الجمع الدلالي المقدّم على الطرح بالترجيح عدة أُمور:

1. إحراز أصل الصدور، فلو كان هناك علم إجمالي بكذب أحد الخبرين، فلا تصل النوبة إلى الجمع، لأنّ المراد من الجمع، هو الجمع بين الحجّتين، فإذا عُلم كذب أحدهما وعدم صدوره عن الحجّة فلا يكون هناك جمع بين الحجّتين، بل يعدّ جمعاً بين الحجة واللاحجّة وهو أمر باطل، ولذلك يجب أن لا يكون هناك علم بعدم الصدور.

نعم لا يضرّ احتمال عدمه إذا دلّ الدليل على حجّيته كما في قول الثقة.

2. إحراز جهة الصدور وانّ المتكلّم ألقى خطابه بدافع بيان الحقيقة لا لدفع الشرّ والضرر ويكفي في إحرازه، كون الأصل عند العقلاء هو هذا، بخلاف ما إذا علم أنّ واحداً منهما صدر تقيّة فلا تصل النوبة إلى الجمع، لما عرفت من أنّ الغاية هو الجمع بين الحجّتين، وما صدر تقيّة ليس بحجّة بعد العلم بصدوره كذلك.

3. كون الكلامين لمتكلم واحد امّا حقيقة أو اعتباراً، كما هو الحال في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السلام حيث إنّهم لا يصدرون إلّاعن مَشْرَع واحد، فكلام الإمام الباقر عليه السلام نفس كلام الإمام الصادق عليه السلام، لأنّ الجميع ينقلون عن آبائهم

ص:472

عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن جبرئيل عن اللّه سبحانه.

4. صحة التعبّد بكلّ واحد من الدليلين بعد الجمع، وإلّا فلو اقتضى الجمع لغوية أحد الدليلين كما إذا انجرّ التخصيص إلى الخروج المستوعب لما عدّ محلاً للجمع.

5. وجود قرينة بين الدليلين أو في الخارج عنهما على التصرّف في أحدهما دون الآخر، وإلّا لا يكون الجمع مقبولاً، بل جمعاً تبرعياً لا قيمة له في سوق الاعتبار.

ثمّ إنّ ما قام به الشيخ الطوسي في كتاب الاستبصار من الجمع بين ما اختلف من الأخبار، بين مقبول و غير مقبول، فالجمع القائم على وجود القرينة في البين على التصرّف في أحدهما المعين جمعُ مقبول في مقابل التصرّف في أحدهما بلا قرينة، فهو جمع مطرود، وقد خلط الشيخ الطوسي في كتابه بين الجمعين، كما يظهر ممّا ينقله صاحب الوسائل عنه.

ص:473

المبحث الثالث في تقديم الأظهر على الظاهر

قد عرفت أنّ من الجمع المقبول هو تقديم الأظهر على الظاهر.

ثمّ إنّ الأظهرية ربما تكون واضحة لدى الكل، وذلك كما هو الحال في الموارد الخمسة من تقديم الخاص على العام، والمقيّد على المطلق، والحاكم على المحكوم، والوارد على المورود، و العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية، وربما تكون الأظهرية خفيّة ومورداً للنقاش، وذلك كالموارد الستة التالية:

1. إذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق.

2. إذا دار الأمر بين التصرّف في الإطلاق البدلي أو الشمولي.

3. إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ.

4. إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن دون الآخر.

5. إذا كان التخصيص في أحد الدليلين مستهجناً.

6. إذا دار الأمر بين التقييد و حمل الأمر على الاستحباب.

فالبحث في هذه الموارد صغروي، أي لتمييز الأظهر عن الظاهر، وإلّا فالكبرى أمر مسلّم وهو لزوم تقديم الأظهر على الظاهر، فإليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر:

ص:474

أ. إذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق

إذا قال المولى: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفاسق، فدار أمر العالم الفاسق بين دخوله تحت الحكم الأوّل أو الثاني، فعلى تقديم العام على المطلق يلزم التقييد في جانب الثاني، فيكون المراد لا تكرم الفاسق غير العالم، وعلى العكس يلزم التخصيص في العموم، فهل يقدّم تقييد المطلق على تخصيص العام أو لا؟

فقد اختار الشيخ الأعظم تقديم العام على المطلق ولزوم التصرّف في الثاني دون الأوّل، وقال ما هذا توضيحه ببيانين:

الأوّل: انّ المختار في باب المطلق انّه موضوع للماهية المهملة، لا الماهية المنتشرة، فلو قدّمنا العام على المطلق لا يلزم التصرّف في جانب المطلق، لأنّ الماهية المهملة تتحقّق في ضمن فردٍ ما، وهو الفاسق الجاهل، وهذا بخلاف ما لو قدمنا المطلق على العام، فالعام بما انّه يدل على الانتشار فإخراج صنف منه وهو العالم الفاسق يستلزم التصرّف في جانب العام ويجعله مجازاً.

يلاحظ عليه: أنّ التصرف في أيّ واحد من العام والخاص لا يستلزم المجازيّة، أمّا المطلق فلما بيّن من أنّه موضوع للماهية المهملة، فتقييده لا يخرجه عن معناه. وأمّا العام فلما مرّ في مبحث العام و الخاص من أنّ العام يستعمل بالإرادة الاستعمالية في معناه العام. والتخصيص إنّما يوجب التضييق في الإرادة الجدّية.

وبكلمة موجزة، انّ كلاً من العام والمطلق مستعمل في معناه اللغوي، وإنّما يشار إلى التخصيص والتقييد بدليل آخر لا انّ العام أو المطلق مستعملان من أوّل الأمر في المخصَّص والمقيَّد، وعلى ذلك فلا فرق بين تقديم العام على المطلق،

ص:475

أو بالعكس في عدم استلزام أي واحد منهما، المجازيّة.

الثاني: انّ دلالة العام على الشيوع والانتشار تامة لقوامها باللفظ، والمخصِّص مانع عنها، فعلى ذلك فالمقتضي تام والشكّ في التخصيص شكّ في المانع والأصل عدمه، وهذا بخلاف المطلق فانّ عدم البيان جزء لتحقّق المطلق، فإذا شكّ في كون العام بياناً للمطلق فهو شكّ في وجود المقتضي وانّه هل هنا مطلق أو لا؟

فتكون النتيجة انّ المقتضي في جانب العام محرز وإنّما الشكّ في جانب المانع، وأمّا المطلق فالشكّ فيه في وجود المقتضي قبل أن يصل الشك إلى وجود المانع فيكون تقييد المطلق مقدّماً على تخصيص العام، فيحفظ العام و يُقيَّد المطلق.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد، والمقتضي بهذا المعنى محرز فيكون مرجع الشكّ في كلّ منهما - بعد إحراز المقتضي - إلى وجود المانع أي مانعيّة كلّ للآخر ولا مرجّح.(1)

وبعبارة أُخرى: انّ الدلالة الإطلاقية تتوقّف على عدم البيان المتصل لا على عدم البيان مطلقاً متصلاً كان أم منفصلاً، وإلّا يلزم عدم انعقاد الإطلاق إذا عثرنا على المقيّد في دليل منفصل، ولازم ذلك عدم جواز التمسّك في سائر الموارد بحجة انّ العثور على المقيّد المنفصل، أبطل الإطلاق.

وبذلك اتضح أنّ عدم العثور على المقيد المتصل كاف في انعقاد الإطلاق

ص:476


1- . كفاية الأُصول: 404/2.

وتحقّق المقتضي، فإذا شككنا في تقييد المطلق بالعام فهو شكّ في وجود المانع والمزاحم، وليس شكّاً في انعقاد الإطلاق، كما هو الحال أيضاً في العام إذا شككنا في وجود المخصص.

وبما ذكرنا يعلم انّ العام و المطلق يسيران جنباً إلى جنب، فالمقتضي في كلا الطرفين محرز وإنّما الشكّ في وجود المانع عن حجّية العام أو حجّية المطلق، وليس الشكّ راجعاً إلى تحقّق العام أو تحقّق المطلق. فعند ذلك لا ترجيح لتقديم العام على المطلق ومثله العكس، إلّاأن يكون هناك ظهور عرفي في أحدهما أكثر من الظهور العرفي في الآخر.

وقد اخترنا في بعض الدورات السابقة تقديم ظهور العام على ظهور المطلق ولكن عدلنا عنه في الدورة الثالثة بحجّة انّ الظهور لا يثبت بالبرهان والدليل وإنّما هو أمر وجداني، فلوكانت هناك قوّة الدلالة في أحدهما يقدّم دون الآخر، وإلّا فالأمران متساويان.

ب. دوران الأمر بين التصرّف في الإطلاق الشمولي أو البدلي

هذا هو المورد الثاني الذي يرجع البحث فيه إلى البحث عن الصغرى، أي وجود قوّة الدلالة في أحدهما دون الآخر، فإذا قال المولى:

لا تكرم الفاسق، فهو بإطلاقه الشمولي ينفي إكرام كلّ فرد من أفراد الفاسق من غير فرق بين الجاهل والعالم.

وإذا قال: أكرم عالماً، فهو بإطلاقه البدلي يُلزم إكرام واحد من أفراد العلماء على البدل، من دون فرق بين كون ذلك الفرد عادلاً أو فاسقاً. فيتعارضان في الفاسق العالم.

ص:477

وقد ذهب المحقّق النائيني إلى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي وحفظ الأوّل، والتصرّف في الثاني فتكون النتيجة حرمة إكرام الفاسق العالم. وقد نقل كلّ من المقررين: الكاظمي و الخوئي - قدّس اللّه أسرارهما - عن أُستاذهما وجهاً خاصّاً، فلنقدم ما نقله المحقّق الخوئي عنه، حيث قال:

الحكم في الإطلاق الشمولي يتعدد بتعدّد الأفراد، لثبوت الحكم لجميع الأفراد على الفرض، المعبّر عنه بتعلّق الحكم بالطبيعة السارية، فينحلّ الحكم إلى الأحكام المتعدّدة على حسب تعدّد الأفراد، بخلاف الإطلاق البدلي فانّ الحكم فيه واحد متعلّق بالطبيعة المعبّر عنه بتعلّق الحكم بصرف الوجود، غاية الأمر أنّه يصحّ للمكلّف في مقام الامتثال، تطبيق الطبيعة في ضمن أيِّ فرد شاء وهو معنى الإطلاق البدلي، فتقديم الإطلاق البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى بعض الأفراد، بخلاف تقديم الإطلاق الشمولي، فانّه لا يوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق البدلي إذ لا تعدّد فيه بل يوجب تضييق دائرته، فتقديم قوله: «أكرم عالماً» على الآخر في مورد الاجتماع - و هو العالم الفاسق - يوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى هذا الفرد، بخلاف العكس فانّه لا يوجب رفع اليد عن الحكم المذكور في الإطلاق البدلي بالنسبة إلى المجمع، لأنّه ليس فيه إلّا حكم واحد، غاية الأمر أنّه يوجب تضييق دائرته، فيجب على المكلّف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة بالعالم غير الفاسق.(1)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ المستدل خلط الإطلاق الشمولي بالعام، فإنّ العام يدلّ بالدلالة اللفظية على الشمول فيسري الحكم إلى جميع الأفراد، كما إذا قال: أكرم العلماء، حيث يتّخذ عنوان العام مرآة إلى المصاديق فيسري إلى المعنون

ص:478


1- . مصباح الأُصول: 378/3.

بحجّة انّ العنوان مرآة إلى الخارج، فيكون كلّ واحد من أفراد العام ذا حكم خاص، فلو ورد عليه قيد يستلزم رفع اليد عن الحكم عن بعض الأفراد.

وأمّا الإطلاق الشمولي، فالشمول ليس مدلول اللفظ، لما قلنا في محلّه انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع، فمعنى الإطلاق في قولنا: «لا تكرم الفاسق» هو انّ تمام الموضوع للتحريم هو عنوان الفاسق، وأمّا انّ الحكم سارٍ إلى كلّ واحد من أفراده فليس اللفظ دالاً عليه، وإنّما يدل عليه العقل حيث إنّ رفع الطبيعة إنّما هي برفع جميع أفرادها، فيكون رفع جميع الأفراد مدلولاً عقلياً للجملة لا مدلولاً لفظياً، كما هو الحال أيضاً في العام البدلي، فإذا قال: أكرم عالماً فمعنى الإطلاق كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع، وأمّا الاقتصار بفرد ما الذي نعبّر عنه بالإطلاق البدلي فإنّما هو بحكم العقل الحاكم بأنّ الطبيعة توجد بإيجاد فردٍ ما، وعلى ذلك فالشمول والبدل خارجان عن المضمون، ومدلولان للعقل. فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، إذ ليس أحدهما مستنداً إلى اللفظ والآخر مستنداً إلى العقل.

وثانياً: أنّ سلب الحكم عن بعض الأفراد موجود في كلا التصرّفين، غير انّ الحكم في الإطلاق الشمولي على نحو الجمع كأنّه يقول: لا تكرم هذا الفاسق وذاك الفاسق و...، ولكن الحكم في الإطلاق البدلي على نحو الترديد فكأنّه يقول: أكرم هذا العالم أو ذاك العالم أو ذلك العالم.

فكما أنّ في تقديم الثاني على الإطلاق الشمولي رفع الحكم عن صنف من أفراد العام، فهكذا في تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي سحب الحكم عن بعض الأفراد المحكومة بالحكم على وجه التخيير، فالمدلول قبل التقييد هو أكرم ذلك العالم الفاسق أو ذلك العالم العادل، وبعد التقييد بالإطلاق الشمولي

ص:479

ينتفي الحكم الموضوع على العالم الفاسق.

هذا ما نقله المحقّق الخوئي عن أُستاذه، وإليك الكلام فيما نقله المحقّق الكاظمي عنه، قال: انّ الحكم في الإطلاق الشمولي ينحل عقلاً حسب تعدّد الأفراد، ولا يتوقف شموله على كون جميع الأفراد متساوية، فإذا قال: لا تقتل أحداً، يكون كلّ من صدق عليه لفظ «الأحد» محكوماً بحرمة القتل، وهذا بخلاف الإطلاق البدلي، فانّ الشمول فيه بمعنى الاجتزاء بكلّ فرد من الطبيعة، يتوقف على كون جميع الأفراد متساوية الأقدام، والإطلاق الشمولي الذي يدل على حرمة إكرام الفاسق مانع عن إحراز التساوي وانّ العالم الفاسق، كالعالم العادل في جواز الاجتزاء به في مقام الامتثال.(1)

يلاحظ عليه: أنّ التساوي كما هو محرز في الإطلاق الشمولي، فهكذا محرز في الإطلاق البدلي بفضل مقدمات الحكمة، وذلك إذ لو لم يكن الأفراد متساوية لزم عليه التقييد بأن يقول: أكرم العالم غير الفاسق، وفي سكوته عن القيد دلالة على كون جميع الأفراد فاسقاً كان أو عادلاً متساوية الاقدام أمام الحكم، وتصور انّ الإطلاق الشمولي بيان لعدم التساوي أوّل الكلام. إذ هو أشبه بتكرار المدّعى فلو كان الإطلاق الشمولي بياناً على الإطلاق البدلي فليكن العكس أيضاً مثله.

ج. في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

إنّ لدوران الأمر بين التخصيص والنسخ صورتين نتناولهما واحدة تلو الأُخرى:

الصورة الأُولى: إذا دار دليل واحد بين كونه ناسخاً وتخصيصاً، كما إذا ورد العام في القرآن الكريم والخاص في لسان الباقرين عليهما السلام، قال سبحانه: (وَ لَهُنَّ

ص:480


1- . فوائد الأُصول: 732/4، مصباح الأُصول: 380/2.

اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ) .(1)

فالآية بعمومها تدل على أنّ الزوجة ترث ربع أو ثمن ما ترك الزوج، لكن ورد الخاص في لسان الإمامين من اختصاص الحبوة بالولد الأكبر أو حرمان الزوجة من الأراضي السكنيّة، فيحتمل أن يكون الخاص مخصِّصاً كما يحتمل أن يكون ناسخاً للعام بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، فهناك احتمالات ذكرها الشيخ نذكرهما واحداً بعد الآخر:

الأوّل: كون الخاص ناسخاً للعام لوجود شرط النسخ، لأنّ المفروض وروده بعد العمل بالعام مدة مديدة.

الثاني: أن يكون مخصصاً وانّه كان مقترناً بالعام ولكنّه خفي علينا.

الثالث: انّ المخاطبين كانوا محكومين بالعام ظاهراً، وقد أُريد منه الخصوص واقعاً، وبما انّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً فأُودعت المخصصات عند الأئمة ليبيّنوها عبر الزمان.(2)

أقول: الوجه الأوّل بعيد جداً، لأنّه مبنيّ على إمكان نسخ الحكم بعد موت النبي صلى الله عليه و آله و سلم وانقطاع الوحي مع أنّ خبر السماء إلى الأرض انقطع بموت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما قال الإمام علي عليه السلام عند تجهيز النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «بأبي أنت و أُمّي يا رسول اللّه لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء».(3) ومعه كيف يُشرّع حكم بعد رحيله ويكون ناسخاً للعام.

وأمّا الثاني فهو أيضاً بعيد، لأنّ احتمال الاختفاء إنّما يتم في واحد أو اثنين

ص:481


1- . النساء: 12.
2- . فرائد الأُصول: 456.
3- . نهج البلاغة، الخطبة 235.

من المخصصات لا في المخصصات الكثيرة الهائلة الواردة على لسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فكيف يمكن القول بصدورها عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسماع الناس وغفلتهم عن النقل؟!

وأمّا الثالث فهو الأقرب إلى الذهن، والفرق بينه و بين الأوّل، هو انّ العمل بالعام على الوجه الأوّل بين فترة رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبيان الإمام عليه السلام يكون عملاً بالحكم الواقعي، بخلافه على الوجه الثالث فانّ العمل بالعام كان عملاً بالحكم الظاهري الخاطئ.

ولكن لا فائدة في البحث فسواء أكانت هذه الروايات مخصصات أو ناسخات فيجب العمل بها في هذه الفترات، وتصور انّ القول بالتخصيص يستلزم تأخير البيان إلى عصر الصادقين عليهما السلام مردود بأنّ قبحه ليس أمراً ذاتياً لا يتغيّر بل بالوجوه والاعتبارات بل ربما تكمن المصلحة في تأخير البيان، إذ لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم متمكناً من بيان المخصص، وإنّما المهم هو الصورة الثانية التي طرحها المحقّق الخراساني.

الصورة الثانية: أن يدور الاحتمال المذكور بين دليلين بأن نعلم بأنّ أحدهما إمّا مخصص، أو الآخر ناسخ، كما إذا ورد الخاص قبل العام، وعمل به مدة مديدة ثمّ ورد العام، كما إذا قال مثلاً: أكرم زيداً فأكرمه المكلّف ثلاثة أشهر ثمّ ورد لا تكرموا الفسّاق وافترضنا أنّ زيداً فاسق، فدار الأمر بين كون الخاص المتقدم مخصِّصاً للعام المتأخر أو كون العام ناسخاً له، والمفروض تحقّق شرط النسخ، وهو ورود العام بعد العمل بالخاص وتصويره فيما بأيدينا من الأدلّة هو ما إذا ورد الخاص في السنة الأُولى من الهجرة وورد العام في السنة العاشرة، أو ورد الخاص في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم ، و ورد العام في لسان العسكريين، فهل يجعل الخاص مخصصاً للعام أو يجعل العام ناسخاً للخاص؟

ص:482

وعلى كلّ حال فالمعروف هو تقديم احتمال التخصيص على احتمال النسخ، للوجه التالي:

التخصيص شائع حتى قيل ما من عام إلّاوقد خصّ، والنسخ نادر حتى أنّ بعض الأعلام كاد أن يُنكر وجود النسخ في القرآن الكريم فضلاً عن السنّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على الاستدلال بوجهين:

الأوّل: لو تمّ ما ذكره الشيخ سابقاً في تقديم التخصيص على التقييد، من أنّ الشكّ في الأوّل شكّ في وجود المانع وفي الثاني في وجود المقتضي، يجب أن يقدّم النسخ في المقام على التخصيص، وذلك لأنّ دلالة الخاص على الاستمرار والدوام إنّما هي بالإطلاق ودلالة العام على الاستيعاب بالوضع، فاللازم حفظ الشمول في جانب العام وتقديمه على استمرار حكم الخاص.

الثاني: انّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم، إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وإلّا فهي و إن كانت مفيدة للظن بالتخصيص إلّاأنّها غير موجبة لها.

يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّه يتم على مسلك الشيخ الأنصاري، و أمّا على مسلك المحقّق الخراساني الذي هو مسلك الآخرين أيضاً من تمامية الإطلاق، في هذه الموارد والشكّ إنّما هو في المانع لا يكون هناك مرجح لتقديم عموم العام على استمرار حكم الخاص لإحراز المقتضي في كليهما ووقوع الشكّ في المانع، فكما أنّ عموم العام يمكن أن يكون مانعاً لاستمرار حكم الخاص، كذلك استمرار حكم الخاص يمكن أن يكون مانعاً لشمول العام و عمومه.

ويلاحظ على الوجه الثاني: أنّ تقديم الخاص على النسخ ليس لملاك

ص:483

الأقوائية بل لملاك خارجي وهو انّ شيوع التخصيص وندرة النسخ يورث اطمئناناً بأنّ المقام من قبيل التخصيص لا النسخ. والقول بأنّ هذا الشيوع غير موجب للظن كما ترى.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أيّد مقالة المشهور بوجهين آخرين:

الأوّل: انّ احتمال كون العام المتأخر ناسخاً للخاص المتقدم إنّما يتصوّر إذا انعقد للعام ظهور في استغراق جميع الأفراد، ومع وجود الخاص المتقدم لا ينعقد له هذا الظهور، لأنّ الخاص المتقدّم يكون قرينة عرفية على عدم إرادة الاستغراق في العام.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مخالف لما اتفقت عليه كلمة الأُصوليّين من عصر المحقّق الخراساني إلى يومنا هذا، وهو انّ الخاص المنفصل لا يزاحم انعقاد الظهور له في العموم وإنّما يزاحم حجّيته فيه.

نعم انّ ما ذكره صحيح فيما إذا كان المخصص متصلاً، و على ذلك فالعام قد انعقد له الظهور والشكّ إنّما هو في كون الخاص مانعاً له أو لا فلم يثبت كون الخاص قرينة على عدم إرادة الاستغراق من العام.

الثاني: انّ كون العام ناسخاً مبني على القول بثبوت حكم العام من حين وروده في لسان الإمام العسكري عليه السلام، إذ لو دلّ على ثبوته في صدر الإسلام لا يكون ناسخاً لحكم الخاص ألبتة، و على ضوء ذلك فلا يحتمل النسخ في الاخبار التي بأيدينا الواردة عن الأئمّة، لأنّ ظاهرها بيان الأحكام التي كانت مجعولة في زمان النبي صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّهم عليهم السلام مبيّنون لتلك الأحكام لا مشرّعون إلّاأن تنصب قرينة على أنّ هذا الحكم مجعول من الآن. فإذا ورد عن الباقر عليه السلام انّ الطحال مثلاً

ص:484


1- . مصباح الأُصول: 384/3.

حرام، وورد عن الصادق عليه السلام، أنّ جميع أجزاء الذبيحة حلال، لا يحتمل كونه ناسخاً للخاص المتقدّم، لأنّ ظاهره أنّ أجزاء الذبيحة حلال في دين الإسلام من زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا أنّها حلال الآن فلا يكون العام المتأخر ناسخاً للحكم الصادر عن الباقر عليه السلام.(1)

أقول: إنّ ما ذكره مبني على امتناع النسخ بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وهو أمر لا يخلو من قوة كما سبق. وهو خيرة أُستاذه المحقّق النائيني في فوائد الأُصول.(2)

ولكنّه ليس أمراً قطعياً، إذ كما يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يودع المخصصات عند الوصي، كذلك يجوز أن يودع النواسخ - التي سيأتي وقت نسخها في عصر الصادقين - عنده، وعلى ذلك يدور أمر العام بين كونه مجعولاً في زمان النبي، فالنسبة هي التخصيص؛ أو مجعولاً في زمان صدوره من الإمام، فالنسبة هي النسخ، أي ناسخية العام للخاص.

والحقّ انّ ندرة النسخ قرينة خارجية على كون المقام من قبيل التخصيص والنسخ. والتقديم بملاك خارجيّ لا بملاك الأقوائية كما عرفت.

د. إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن

إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن دون الآخر، كما إذا قال: أكرم العلماء ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق وعلمنا من حال المتكلم أنّه يبغض العالم الفاسق، فهل يكون هذا قرينة على تقديم عموم النهي على عموم الآخر؟ لكن الحقّ أنّه لو بلغ القدر المتيقّن مرحلة أوجب الانصراف فهو و إلّافلا يوجب أقوائية أحد الظهورين على الآخر.

ص:485


1- . مصباح الأُصول: 385/3.
2- . فوائد الأُصول: 734/4.
ه. إذا كان التخصيص في أحد المتعارضين مستهجناً

إذا كان بين الدليلين من النسب الأربع، عموم من وجه، ولكن لو أخرجنا المجمع من تحت أحدهما لا ينطبق إلّا على عدد قليل على نحو يكون التعبير عنه بلفظ العموم مستهجناً، مثلاً إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، فالمجمع بين العنوانين مورد التعارض، لكن لو أخرجناه من تحت الدليل الأوّل يلزم أن ينتهي التخصيص فيه إلى أقل العدد كالاثنين والثلاثة، وعند ذلك يعكس الأمر لا بملاك الأقوائية في الظهور بل لصيانة كلام المتكلّم عن اللغو.

و. دوران الأمر بين التقييد وحمل الأمر على الاستحباب

إذا ورد خطاب «إذا أفطرت فأعتق رقبة» ثمّ ورد أيضاً خطاب «إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة» فالأمر دائر بين حمل المطلق على المقيد أو حمل المقيد على الاستحباب، والترجيح مع الأمر الأوّل، لأنّ كثيراً من المخصِّصات والمقيِّدات صدر في عصر الصادقين عليهما السلام مع تقدّم العمومات والمطلقات في الكتاب والسنّة النبوية، وقد سبق منّا القول: إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس أمراً ذاتياً بل بالوجوه والاعتبار فربما يكون التأخير لأجل انطباق بعض العناوين، حسناً وعلى فرض كونه كذلك تُتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الموجودة بالمصلحة الموجودة في تأخير البيان.

وأمّا حمل المقيد على الاستحباب لأجل شيوع استعماله فيه في الروايات فغير مفيد، لأنّ استعمال الأمر في الاستحباب في الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانت مقترنة بالقرينة الحالية أو المقالية لا مطلقاً - و ان ادّعاه صاحب المعالم - وعلى ذلك لا يصحّ لنا حمل المقيد على الاستحباب بلا دليل ولا قرينة.

ص:486

المبحث الرابع التعارض في أكثر من دليلين

كان الكلام في المبحث الثالث في التعارض بين اثنين وربما يكون التعارض ثلاثيّ الأطراف، كما إذا فرضنا عامّاً وخاصّين.

إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العالم الفاسق، ثمّ قال: لا تكرم العالم النحوي، فنسبة كلّ من الخاصين إلى العام نسبة الخصوص إلى العموم.

فقد وقع الخلاف في كيفية الجمع فيها.

فذهب المحقّق النراقي إلى أنّ العام يخصّص بأحدهما أوّلاً، ثمّ بالخاص ثانياً.(1) غير انّ الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني ذهبا إلى أنّ العام يخصص بهما معاً.

ففي المثال المذكور لو خصصنا العام بالخاصين معاً لا يكون هناك أيُّ انقلاب في النسبة، فيخرج العالم الفاسق والعالم النحوي عن تحت العام معاً ويختص العام بعدول العلماء غير النحاة.

وأمّا بناء على نظرية المحقّق النراقي، فلو خصصنا العام بإخراج العالم الفاسق، تكون نتيجة الدليلين بعد التخصيص كالتالي: أكرم العالم غير الفاسق، فتكون النسبة بينه و بين قوله: لا تكرم العالم النحوي عموماً من وجه، فالفقيه

ص:487


1- . العوائد: 119.

العادل داخل تحت الأمر، والنحوي الفاسق باقٍ تحت النهي، فيقع النزاع في النحوي العادل.

فعلى الأوّل يجب إكرامه وعلى الثاني يحرم إكرامه، فيدخل في باب «العامين من وجه» الذي هو من أقسام المتعارضين وليس بداخل في غير المستقر من التعارض.

وتحقيق المقام يقتضي البحث في مواضع ثلاثة:

الموضع الأوّل: إذا كانت نسبتهما إلى العام متماثلة

إذا كانت نسبة الخاصين إلى العام على نسق واحد، بأن يكون كلّ بالنسبة إلى العام خاصاً، غير انّ النسبة بين الخاصين على صور ثلاث: 1. التباين، 2. العموم والخصوص المطلق، 3. العموم والخصوص من وجه. وإليك بيان أحكام الصور واحدة تلو الأُخرى.

الصورة الأُولى: إذا كان هناك عام و خاصان، وكانت النسبة بين الخاصين هو التباين، كما إذا ورد أكرم العلماء، ثمّ ورد لا تكرم زيداً العالم، وورد ثالثاً لا تكرم عمرو العالم.

ونظيره في الشريعة قوله سبحانه: (وَ حَرَّمَ الرِّبا) (1) فإذا تعقبه قوله: «لا ربا بين الوالد والولد» وقوله: «لا ربا بين الزوج والزوجة»، فيخصّص العام بالخاصين معاً، لعدم الترجيح بتقديم التخصيص بأحدهما دون الآخر مع وحدة النسبة.

نعم، لا فرق بين مسلك الشيخ ومسلك المحقّق النراقي في المقام.

هذا كلّه إذا لم يلزم من تخصيص العام التخصيص المستهجن، مثلاً: إذا ورد قوله: يستحب إكرام العلماء، ثمّ دلّدليل على وجوب إكرام العادل ودلّ دليل

ص:488


1- . البقرة: 275.

ثالث على حرمة الفاسق، فالتخصيص بهما يوجب أن لا يبقى للعام فرد، لانّ العادل منهم يجب إكرامه، والفاسق يحرم وليس بين العادل والفاسق واسطة، فعندئذٍ يدخل المورد في المتعارضين، أحدهما العام و الآخرهما الخاصان، وحينئذٍ فإذا كان الترجيح معهما يطرح العام، وإن كان الترجيح مع العام يتخير في التخصيص بأيِّ واحد من الخاصين ولا يجوز طرحهما لعدم العلم بكذبهما معاً.

الصورة الثانية: إذا كان هناك عام وخاصان، وكانت النسبة بين الخاصين هو العموم والخصوص المطلق، كما إذا ورد: صلّ خلف كلّ مسلم، ثمّ ورد لا تصلّ خلف شارب الخمر، ثمّ ورد: لا تصلّخلف الفاسق.

وبما انّ نسبة الخاصين إلى العام نسبة واحدة حيث إنّ كلاً منهما أخص من العام - و إن كانت النسبة بينهما مختلفة حيث إنّ أحد الخاصين عام بالنسبة إلى الآخر. يخصّص العام بهما معاً، وتكون النتيجة: صلّ خلف كلّ مسلم غير الفاسق، وأمّا ذكر شارب الخمر فلأجل كون الحكم فيه آكد.

هذا على مسلك الشيخ، وأمّا على مسلك النراقي فلو خصّص العام بالخاص الأوّل تكون النتيجة صلّخلف كلّ مسلم غير شارب الخمر، فلو نسب هذا الموضوع إلى موضوع الخاص الثاني، أي قوله: «لا تصلّخلف الفاسق» تنقلب النسبة من الخصوص المطلق إلى العموم و الخصوص من وجه، وذلك لأنّ المسلم العادل داخل تحت الأمر ولا يشمله النهي، كما أنّ المسلم شارب الخمر داخل تحت النهي (الخاص الأوّل)، فيبقى الفاسق لأجل الغيبة والكذب فيتعارض فيه كلّ من الأمر والنهي.

فعلى الأوّل يجوز الصلاة خلفه، لأنّه يكفي فيه كون الإمام مسلماً غير شارب الخمر، وعلى الثاني يحرم الاقتداء لكون الموضوع هو الفسق.

ص:489

ولكن الحقّ مع الشيخ الأنصاري لما عرفت من عدم المرجح لتقديم أحد الخاصين على الآخر. ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي بعد التخصيص، والخاص الآخر، لأنّ المفروض انفصالهما عن العام، لا اتصال واحد وانفصال الآخر.

الصورة الثالثة: إذا كان هناك عام وخاصان، وكانت النسبة بين الخاصين هو العموم والخصوص من وجه، كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العالم الفاسق، ثمّ قال: ولا تكرم العالم الشاعر. لأنّ نسبة موضوعي كلّ من الخاصين إلى موضوع العام هو العموم والخصوص المطلق كما هو واضح، ولكن النسبة بين موضوعي الخاصين (العالم الفاسق، والعالم الشاعر) هي العموم والخصوص من وجه.

وطريقة الجمع في هذه الصورة نفس الطريقة في الصورة الثانية لوحدة البرهان، و ذلك لعدم الترجيح لتقديم التخصيص بأحد الخاصين على التخصيص بالآخر فانّ نسبتهما إلى العام على حدّ سواء، ولأجل ذلك يخصص العام بهما فيعمل بما بقي تحت العام بعد التخصيص بهما، إلّاإذا استهجن التخصيص بهما كما مرّنظيره في الصورة الأُولى.

إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل، وعلم أنّه إذا كان الخاصان أخصّ من العام يخصّص بهما مرّة، ويعمل بالعام في الباقي إلّاإذا كان هناك محذور.

الموضع الثاني: إذا كانت نسبتهما إلى العام مختلفة

إذا كان هنا عام و خاصان، و كانت نسبة أحد الخاصّين إلى العام، نسبة الخصوص إلى العام المطلق، ونسبة الخاص الآخر إليه نسبة العموم والخصوص من وجه كما إذا قال: أكرم العلماء، ثمّقال: ولا تكرم فسّاقهم ثمّقال:

ويستحب إكرام العدول، فالخاص الأوّل أخص من العام، والخاص الثاني أعمّ من وجه من

ص:490

العام، فالمختار عندنا في هذا المقام هو نظرية المحقّق النراقي، فيخصص العام بالخاص الأوّل ثمّ يلاحظ الباقي مع الخاص الثاني، وذلك لما عرفت من أنّ التعارض ليس إلّابين الحجّتين، والمفروض انّ العام ليس حجّة في مطلق العلماء بملاحظة الخاص الأوّل بل حجّة في العلماء غير الفسّاق منهم.

ثمّ تلاحظ النسبة بين الباقي والخاص الثاني، وعندئذٍ تنقلب النسبة وتكون نسبة الخاص الثاني (استحباب إكرام العدول) إلى العام المخصص (العلماء العدول) نسبة العام إلى الخاص بعد ما كانت النسبة عموماً وخصوصاً من وجه، وقد علّل الشيخ وجه هذا التقديم بقوله: ولولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النص (الخاص) أو طرح الظاهر المنافي له وكلاهما باطل.(1)

ولكن الأولى التعليل بما ذكرنا من أنّه لا تعارض بين الخاص الأوّل والعام، وليس العام بعد ورود الخاص حجّة في العام فيقدم الخاص عليه ثمّتؤخذ النسبة بين الباقي بعد العلاج والخاص الثاني.

الموضع الثالث: إذا كانت النسبة بين الجميع هي العموم والخصوص من وجه

إذا كانت النسبة بين كلّ من الخاصين إلى العام هي العموم من وجه، فيخرج هذا عن مورد الجمع ويدخل مورد التعارض، كما إذا ورد: أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق، ويستحب إكرام الشعراء، فيقع التعارض بين مجمع العناوين كالعالم الفاسق الشاعر. فعلى الأوّل يجب إكرامه وعلى الثاني يحرم، وعلى الثالث يُستحب. والحق عندنا انّ الدليلين أو الأدلّة التي تكون النسبة فيها هي العموم والخصوص من وجه داخل في المتعارضين وسوف نبحث عنه في الفصل التالي، بإذن اللّه سبحانه.

ص:491


1- . الفرائد: 461.
الفصل الثاني في التعارض المستقر
اشارة

قد عرفت أنّ التعارض على قسمين: تعارض بدويّ غير مستقر، وتعارض مستقر. فالمراد من الأوّل ما يزول التعارض بالتدبّر فيهما بنحو من الأنحاء التي مرّت في الفصل الأوّل، كما أنّ المراد من الثاني مالا يزول التعارض مهما أمعنّا النظر فيهما.

فالمرجع في الأوّل هو الجمع بين الدليلين على وفق القواعد التي تعرّفت عليها، وأمّا المرجع في الثاني فهذا ما نتناوله بالبحث في ضمن مباحث:

المبحث الأوّل ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين؟

إذا قلنا بأنّ الخبر حجة لكونه طريقاً إلى كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أي مصلحة سوى مصلحة درك الواقع، فما هو مقتضى حكم العقل؟

أقول: إنّ هنا صورتين:

الأُولى: فيما إذا لم يكن لدليل الحجّية إطلاق شامل لصورة التعارض، كما

ص:492

إذا كان دليل الحجية أمراً لبياً كالسيرة العقلائية أو الإجماع، فعندئذ يكون دليل الحجية قاصراً عن الشمول للمتعارضين، لأنّ الدليل اللبّي لا يتصوّر فيه الإطلاق فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض، فتكون النتيجة عدم الدليل على حجّية الخبرين المتعارضين وهو مساوٍ لسقوطهما.

الثانية: إذا كان هناك إطلاق شامل لصورة التعارض، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية النبأ والنفر، وقلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة المتعارضين، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية.

إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو التساقط، وإلّا فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة:

1. الأخذ بكليهما، وهو يستلزم التعدّد في المتناقضين.

2. الأخذ بأحدهما المعين، وهو ترجيح بلا مرجّح.

3. الأخذ بأحدهما المخير، وهو لا دليل عليه.

لأنّ الأدلّة دلّت على حجّية كلّ واحد معيّناً لا مخيّراً، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعيّن التساقط.

ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ذكر الاحتمالات المتصوّرة بنحو آخر:

1. أن تكون الحجّة أحدهما لا بعينه. وهو باطل، إذ ليس له مصداق إلّافي الذهن وكلّ ما بالخارج فهو أمر معيّن لمساوقة الوجود مع التشخّص.

2. أن تكون الحجّة في الخبرين ما يكون مطابقاً للواقع. وهو أيضاً باطل لعدم العلم بمطابقة واحد منهما لاحتمال كذب كليهما.

3. أن يكون كلّ منهما حجّة، وهو يستلزم التعبّد بالمتناقضين.

ص:493

4. عدم حجّية كليهما، وهو ملازم للتساقط وهو المتعيّن.(1)

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي حاول أن يثبت وجود الدليل على التخيير بين الخبرين، وذلك باستكشاف التخيير بتقييد أحد الإطلاقين بترك الآخر بأن يقال انّ الأخذ بكلا الخبرين لمّا كان مستلزماً للتعبّد بالمتناقضين، يكفي في رفعه تقييد الإطلاق بقيد عدمي، وهو حجّية كلّ، بشرط عدم الأخذ بالآخر، ومثله الحكم في الخبر الآخر، فتكون النتيجة هو التخيير، ولا نحتاج في استكشاف التخيير إلى دليل آخر سوى وجود الإطلاق لصورة التعارض والاكتفاء في تقييد الإطلاق بقيد عدمي.(2)

يلاحظ عليه: أنّ استكشاف التخيير إنّما يصحّ في المتزاحمين المشتملين على المصلحة القطعية كالغريقين، وبما انّ عجز المكلّف صار سبباً لسقوط التكليف، فعند ذلك يصحّ أن يقال: انّ رفع التزاحم يتحقّق بتقييد امتثال كلّ من الحكمين بترك الآخر، ولا يتوقف على طرح كلا الدليلين.

وأمّا المقام فالمفروض انّ الخبر حجّة من باب الطريقية لا من باب السببية، وعندئذٍفأحد الخبرين كاذب قطعاً والخبر الآخر محتمل الكذب، فليس هناك علم بالملاك فيهما حتى لا يجوز طرحهما ويزول الإشكال بتقييد إطلاقهما.

فإن قلت: المفروض انّ كلّ واحد من الخبرين حجّة ظاهرية شملهما دليل الحجّية، فالمحذور يرتفع بتقييد إطلاق الحجّية لا برفع اليد عنها.

قلت: فرّق بين العلم بوجود حكمين واقعيين كاشفين عن وجود الملاك في كلّ واحد منهما، و بين العلم بحكمين ظاهريين غير

ص:494


1- . نهاية الدراية: 285/5.
2- . مصباح الأُصول: 363/3.

كاشفين عنه فأحدهما غير كاشف قطعاً، والآخر محتمل الكشف، وفي مثله، لا يستقل العقل بحفظ الخبرين مهما أمكن بخلاف الغريقين. ولو سلّمنا لكن ادّعاء وجود الإطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد، افتراض محض حيث إنّها قاصرة عن الشمول لصورة التعارض.

المبحث الثاني في حجّية المتعارضين في نفي الثالث

قد عرفت أنّ الأصل في المتعارضين على القول بحجّيتهما من باب الطريقية، هو التساقط، لكن يقع الكلام في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمَّ المدلول الالتزامي أيضاً.

فعلى الوجه الأوّل يحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني، فلو كان هناك خبران متعارضان أحدهما يدل على أنّ نصاب الغوص دينار، و الآخر على أنّ نصابه عشرون ديناراً، فعلى الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون نصابه عشرة دنانير.

ذهب المحقّق الخراساني، و المحقّق النائيني وشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري - قدّس اللّه أسرارهم - على الاختصاص وانّهما حجّتان في نفي الثالث، لكن المختار عندنا هو الثاني.

ثمّ إنّ محل الكلام فيما إذا لم يعلم صدق أحدهما، وإلّا فيكون العلم بصدق أحدهما دليلاً على نفي الثالث قطعاً.

1. احتجّ المحقّق الخراساني على مختاره بقوله:

ص:495

التعارض وإن كان لا يوجب إلّاسقوط أحد المتعارضين عن الحجّية رأساً حيث لا يوجب إلّاالعلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجّية الآخر، إلّاأنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً (فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك وإن احتمل كذب كلّ واحد منهما في نفسه)، لم يكن واحد منهما بحجّة في خصوص مؤدّاه لعدم التعيين في الحجة أصلاً. نعم يتحقّق نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّية، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعيين لذلك لا بهما.(1)

حاصله: أنّ الساقط عند التعارض واحد منهما وهو ما كان كاذباً، وأمّا الآخر، أعني: محتمل الصدق، فهو باق على حجّيته، لكن لمّا لم يكن متعيّناً، لا يحتجّ به على المدلول المطابقي، لتوقف الاحتجاج به على التعيّن، ولكن يحتج به - على إبهامه - على المدلول الالتزامي، لعدم توقّف الاحتجاج به على التعيين.

يلاحظ عليه: أنّ الحجّية في الأمارات من الأُمور الاعتبارية العقلائية التي يتوقف اعتبارها لأحد الخبرين غير المعيّن على ترتب الأثر، فعندئذٍ نسأل القائل، عما هو الحجّة عند التعارض؟

فهل الحجّة هو الواحد غير المعيّن ذهناً؟ فهو غير صالح لجعل الحجّية عليه أو الواحد غير المعيّن خارجاً، فهو غير متحقق خارجاً، أو الواحد المعيّن عند اللّه فليس ما عنده محتملاً لأحد الأمرين، فما عنده إمّا صادق قطعاً و إمّا كاذب كذلك.

أضف إلى ذلك انّ الحجّية من الأُمور العقلائية، و الغاية من جعلها هو الاحتجاج ولا معنى لجعلها لواحد لا يُلمس ولا يُرى ولا يُتعيّن عند المخاطب.

فإن قلت: كيف يحتج بالحجّة الإجمالية في باب العلم الإجمالي كما في الإناءين

ص:496


1- . كفاية الأُصول: 382/2-385.

المشتبهين؟

قلت: إنّ الحجّة في المقيس عليه، متعيّنة بصورة كلية وهو قوله: اجتنب عن الدم وإنّما الإجمال في مصداق المتعلّق، و أين هو ممّا نحن فيه حيث إنّ الحجّة بأصلها غير متعيّنة؟

2. احتجّ المحقّق النائيني بأنّ المتعارضين يشاركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية والتعارض إنّما هو في الدلالة المطابقية، فلا وجه لسقوط الأُولى منهما عن الحجّية، وتوهّم انّ الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية فاسد، لأنّ الأُولى فرع الثانية في الوجود لا في الحجّية.(1)

يلاحظ عليه: ما ذكره مبني على الخلط بين الدلالة التصوّرية التي لا يتوقف حصولها على إرادة المتكلم والدلالة التصديقية التي تتوقف على إرادة المتكلم. ففي الأُولى تتوقف الدلالة الالتزامية على وجود الدلالة المطابقية، لا على حجّيتها، فلو سمع الإنسان لفظ الحاتم من طائر كالببغاء، ينتقل إلى الجود والسخاء بخلاف الثانية فانّها متوقفة على ثبوت الإرادة في ناحية المعنى المطابقي، فانّ مفاد الدلالة الالتزامية فيها عبارة عن إرادة المتكلم المعنى اللازم لأجل وجود الملازمة بين الإرادتين، فإذا سقط المعنى المطابقي عن الحجّية ولم تثبت إرادة المتكلم الملزوم، فكيف تنسب إليه، إرادة المعنى اللازم؟

فبذلك تبيّن وجه ما هو المختار من عدم نهوض الخبرين ولا واحد منهما على نفي الثالث.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي قد أورد على أُستاذه بنقوض غير واردة قد أوردناها في الدورة الثالثة وأجبنا عنها فلاحظ.(2)

ص:497


1- . فوائد الأُصول: 755/4.
2- . المحصول: 470/4.
المبحث الثالث في بيان مقتضى الأصل على القول بالسببية

الحقّ - كما تدل عليه السيرة العقلائية - حجّية قول الثقة من باب الطريقية، ويحتمل أن يكون حجّة من باب السببيّة بمعنى انّ قيام الأمارة يحدث مصلحة إمّا في المؤدّى أو في سلوكها والعمل بها. وبذلك ظهرت مذاهب في السببية نشير إليها:

الأوّل: ما نسب إلى الأشاعرة، وهو انّ الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ، ليس فيها واقع محفوظ.(1) وإنّما خُوِّّل الحكم الشرعي فيه على رأي المجتهد حسب ضوء القواعد الشرعية، وعلى ذلك يكون المجتهد في فتواه مصيباً على كلّ تقدير لا مخطئاً، لأنّ الخطأ إنّما يتصوّر فيما إذا كان هناك واقع محفوظ والمفروض خلافه، ومعنى ذلك انّ قيام الأمارة كالخبر الواحد والقياس والاستحسان وسدّ الذرائع وغيرها تحدث مصلحة في المؤدّى ويترتب عليه جعل الحكم الشرعي على وفق المؤدّى.

والسببية بهذا المعنى باطلة لاستلزامها الدور، وذلك لأنّ الجهد والاستنباط يتوقف على وجود الحكم الواقعي في مظانّه ليكون بذل الجهد طريقاً للوصول إليه،

ص:498


1- . الغزالي: المستصفى: 363/2. وما ينسب إلى الأشاعرة من أنّهم ينكرون الحكم المشترك بين الجاهل والعالم على إطلاقه ليس بتام، بل انّهم ينكرون ذلك فيما إذا لم يتوفرنص من الكتاب والسنّة، كما هو الظاهر من الغزالي في مستصفاه.

والمفروض انّ الحكم الواقعي من نتاج الاستنباط أو قيام الأمارة.

الثاني: انّ للّه تبارك و تعالى حكماً مشتركاً بين العالم والجاهل مطلقاً ولا يختص الحكم المشترك بما ورد فيه الكتاب والسنّة غير انّه إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع تحدث مصلحة في المؤدّى وينقلب الواقع عمّا هو عليه إلى مؤدّى الأمارة فيكون مفادها حكماً واقعياً قائماً مقام الحكم الواقعي.

وهذا هو التصويب المنسوب إلى المعتزلة، وهو أيضاً باطل، لأنّ المفروض انّ التشريع مختص باللّه سبحانه دون أن يشاركه المجتهد في هذه المهمة. مضافاً إلى تضافر الأخبار على وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل مطلقاً سواء أقامت الأمارة على خلافه أو لا.

الثالث: انّ للّه تبارك و تعالى حكماً واقعياً مشتركاً بين العالم والجاهل محفوظاً مطلقاً سواء أقامت الأمارة عليه أو لا، وسواء كان مؤدّى الأمارة موافقاً له أم مخالفاً. لكن لمّا كان الأمر بالعمل بالأمارة فيما إذا أخطأت سبباً لتفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة وهو أمر قبيح حاول الشيخ الأنصاري لدفع الإشكال المذكور بإحداث القول بالسببيّة السلوكيّة، وهي انّ في سلوك الأمارة والعمل وفقها جبراً للمصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة، وليس لهذه المصلحة دور سوى الجبر والتدارك من دون جعل حكم على وفقها، والسببية بهذا المعنى نسبها الشيخ إلى الإمامية، وقد فصّل الكلام فيها في حجّية الظن، وتبعه المحقّق النائيني في تقريراته، فلاحظ.

الرابع: ما يظهر من الشيخ الأنصاري في هذا الباب وهو انّ السببية السلوكية تكون سبباً لجعل حكم ظاهري (لا واقعي حتى يلزم التصويب)، قال قدس سره: إذا قلنا بأنّ العمل بالخبرين من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على

ص:499

وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه، ظاهراً على المكلّف، يصير المتعارضان من باب السببين المتزاحمين إلى آخر ما ذكره، فعلى ما ذكره تكون ملازمة بين حجّية الأخبار من باب السببية وكون المتعارضين من باب المتزاحمين مطلقاً فيتبعه كون الأصل في الخبرين المتعارضين هو التخيير.(1)

وهذا النوع من السببية أمر جديد من الشيخ، ولذلك اشتهر بعدها القول بالحكم الظاهري، وكأنّ لنا حكمين أحدهما واقعي والآخر ظاهري، ولكن الحقّ انّه ليس للأمارة دور سوى الإيصال إلى الواقع، فإن وافقت فيكون المؤدّى نفس الواقع، وإلّا تكون معذّرة من دون أن تستعقب جعل حكم ظاهري.

إذا اتضح ذلك فلنذكر حكم مقتضى القاعدة على القول بالسببية، فهناك أقوال ثلاثة:

الأوّل: دخولهما تحت المتزاحمين، كما عليه الشيخ الأعظم قدس سره.

الثاني: التفصيل بين صور التعارض، كما عليه المحقّق الخراساني قدس سره.

الثالث: عدم دخولهما تحت المتزاحمين مطلقاً، وهو المختار وإليك البيان:

1. ذهب الشيخ إلى أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية هو التخيير، فقال: إنّ الحكم بالتخيير ثابت على تقدير كون العمل بالخبرين من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ظاهراً على المكلّف، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين فيلغى أحدهما مع وجود السببية فيه لاعمال الآخر كما في كلّ واجبين متزاحمين.

وكان الأولى أن يقول بالتخيير عند مساواة الملاك والأخذ بالأهم إذا كان

ص:500


1- . فرائد الأُصول: 439.

الملاك في أحدهما أقوى من الآخر.

2. ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين الصور:

الأُولى: إذا كانت السببية المقتضية للحجّية مختصة بما إذا لم يعلم كذب الخبر لا تفصيلاً ولا إجمالاً، يكون مقتضى القاعدة هو التساقط لفقدان الشرط، وهو عدم العلم بكذب أحد الخبرين، فتخرج هذه الصورة من أقسام السببية وتدخل في الطريقية. وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله: «لو كان الحجّة خصوص مالم يعلم كذبه...».

الثانية: لو قلنا بأنّ المقتضي للحجّية هو مطلق الخبر وإن علم كذب أحدهما إجمالاً، فيكون المتعارضان من باب تزاحم الواجبين، سواء أدّيا إلى وجوب الضدين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون، أو إلى لزوم المتناقضين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الشيء والآخر على عدمه.

الثالثة: لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على حكم غير إلزامي كالإباحة، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم التزاحم ضرورة عدم صلاحية مالا اقتضاء فيه (الإباحة) أن يزاحم ما فيه الاقتضاء (كالوجوب)، وإلى هذه الصورة أشار بقوله: «لا فيما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي».(1)

الرابعة: هذا إذا كانت الإباحة بمعنى عدم الاقتضاء لحكم من الأحكام، وأمّا لو كانت الإباحة عن اقتضاء بأن كانت المصلحة مقتضية للتساوي بحيث تكون الإباحة عن اقتضاء التساوي لا عن عدم الاقتضاء فيزاحم حينئذٍ ما يقتضي الإلزام، فيتعامل معهما معاملة المتزاحمين.

ص:501


1- . والفرق بين هذه الصورة و ما في الصورة الثانية من لزوم المتناقضين، هو انّ عدم الوجوب فيها ليس حكماً شرعياً بخلاف الإباحة فانّه حكم شرعي.

الخامسة: هذا إذا كان موضوع المصلحة مؤدّى الأمارة، وأمّا لو كان موضوعها هو الإلزام القلبي بكلّ من التكليفين بأن يجب الالتزام بالوجوب كما يجب الالتزام بالإباحة، فتدخل في باب المتزاحمين ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام.

هذه هي الصورة التي ذكرها المحقّق الخراساني فأدخل بعضها في التزاحم وأخرج بعضها الآخر عنه.

يرد على كلامه أمران:

الأوّل: اختصاص المصلحة السلوكية بالخبر الذي يحتجّ به، أعني: غير المعارض، لا بالخبرين المتعارضين اللّذين لا يحتج بهما حسب ما عرفت.

الثاني: عدم انطباق حدّ التزاحم على الصور التي جعلها منه.

وإليك بيان الأمرين:

أمّا الأوّل: فلأنّ معنى المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض (الحجة) دون الخبرين المتعارضين، ويعلم ذلك من الدافع الذي دفع الشيخ إلى تصويره حيث إنّ الشارع أمر بالعمل بالأمارة مطلقاً مع أنّها ربما تخطأ في بعض الموارد. وهي مستلزمة لتفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة.

فهذا ما دفع الشيخ إلى التخلّص عنه بتصوير المصلحة السلوكية الجابرة، وعلى ذلك فالمصلحة السلوكية لها إطار ضيق لا يعم إلّاالخبر غير المعارض الذي أمر الشارع بالعمل به.

وأمّا الخبران المتعارضان فالمفروض عدم حجّيتهما، لما دلّت المنفصلة السابقة على عدم صحة الاحتجاج بهما، وذلك لأنّ التعبّد بهما تعبّد بأمرين مختلفين في

ص:502

زمان واحد، والتعبّد بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح وبأحدهما المفهومي لا معنى له، وبأحدهما المصداقي لا واقعية له. فصارت النتيجة عدم صحّة الاحتجاج بالمتعارضين، ومعه كيف يمكن تصوير المصلحة السلوكية فيهما، التي تختص بالخبر الذي أمر الشارع بالعمل به؟!

وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ التزاحم عبارة عن عدم الاحتكاك والتدافع في مقام الجعل والملاك وإنّما يرجع التدافع إلى ظرف العمل والامتثال، فإذا كان هذا حد التزاحم، فكيف ينطبق ذلك التعريف على الموارد الثلاثة التي جعلها من أقسام التزاحم؟!

أ: الخبران المؤدّيان إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين، والمفروض انّ التدافع قائم على قدم وساق في كلتا الصورتين، فإذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون في زمان واحد، فهما يتكاذبان في الجعل والإنشاء، كما أنّ بينهما تدافعاً في محل الملاك.

ب: إذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الإباحة عن اقتضاء، فقد جعله المحقّق من قبيل المتزاحمين مع عدم انطباق تعريفهما على المورد لوجود التدافع في مقام الجعل أوّلاً والملاك ثانياً، فالوجوب يكذب الإباحة وبالعكس، كما أنّ كونه واجباً بمعنى وجود المصلحة الملزمة في الفعل وكونه مباحاً بمعنى عدم وجود المصلحة الملزمة في الفعل.

ج: إذا كان موضوع المصلحة هو الالتزام القلبي، فكيف يدخل في باب المتزاحمين، وذلك لاستلزامه التدافع في مقام الجعل فإيجاب الالتزام القلبي بالوجوب يطارده وجوب الالتزام القلبي بالحرمة.

ص:503

فقد ظهر ممّا ذكرنا أمران:

الأوّل: انّ المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض ولا تعمّ المتعارضين.

الثاني: انّ حد التزاحم لا ينطبق على الصور الثلاث التي جعلها من المتزاحمين.

وبذلك يظهر المذهب المختار في الخبرين المتعارضين على القول بالسببية.

نعم والذي يسهل الخطب عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا البحث، لأنّ القول بالسببية افتراض عقلي لا دليل عليه.

المبحث الرابع مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين

قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط، على كلا المسلكين: الطريقية والسببية.

ويقع الكلام في المقام في مقتضى القاعدة الثانوية، وانّه هل ورد دليل يخالف مقتضى القاعدة الأوّلية أو لا؟ فعلى الأوّل يؤخذ بمقتضى الدليل الوارد، وقد ذهب الأصحاب إلى عدم سقوط الخبرين من رأس اعتماداً على روايات وردت عنهم عليهم السلام تشهد على عدم سقوطهما من رأس، ولكنّها مع التأكيد على ذلك يختلفان في جهات أُخرى، ولذلك تشعبت الروايات إلى طوائف ثلاث:

ص:504

الطائفة الأُولى: ما يدل على التخيير

إنّ هنا لفيفاً من الروايات تدلّ على أنّ المرجع عند التعارض بين الخبرين في مقام العمل، وقد ادّعى الشيخ تواترها في الفرائد، ومع ذلك ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ التخيير عند فقد المرجح ممّا لا دليل عليه، بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه، فانّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم.(1)

وكان سيدنا الأُستاذ يقول بتضافر الروايات الدالة على التخيير، وقد ظفرنا بروايات ثمان في هذا الصدد، ولكن أكثرها لا تخلو من ليت و لعل، حيث إنّ بعضها واردة في المستحبات، إلى أُخرى غير ظاهرة في المتعارضين، إلى ثالثة ضعيفة السند، وإليك نقل ما عثرنا عليه مع هذه الجهات:

1. ما رواه الحسن بن جهم(2)، عن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبهها فليس منّا».

قلت: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال: «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».(3)

وروى صدره العياشي عن الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح.(4)

فإن قلت: تدل على التخيير بعد فقد الترجيح والمطلوب هو إثبات التخيير مطلقاً.

ص:505


1- . مصباح الأُصول: 426/3.
2- . الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الشيباني، الثقة، ترجمه النجاشي والشيخ في رجالهما.
3- . الوسائل: 87/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
4- . الوسائل: 89/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 48.

قلت: المطلوب هو ثبوت التخيير على وجه الإجمال ولا مانع من تخصيص ما دلّ عليه بالروايات الدالّة على الترجيح بالمرجِّحات. والرواية حجّة على خلاف ما اختاره المحقّق الخوئي حيث حكم بالتخيير عند فقد المرجّح.

2. ما رواه الحارث بن المغيرة(1)، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم عليه السلام فترد عليه».(2)

وربما يقال بأنّ الحديث ناظر إلى حجّية قول الثقة وليس بناظر إلى الحديثين المختلفين، ويمكن أن يقال: بأنّ الحديث ناظر إلى الخبرين المتعارضين بشهادة انّ قول الإمام عليه السلام: «فموسع عليك...» حيث إنّه ورد في الحديث المتقدم الذي مورده هو تعارض الخبرين، كما أنّه ورد أيضاً في حديث علي بن مهزيار الآتي ومورده أيضاً الخبران المتعارضان.

أضف إلى ذلك أنّ الغاية «حتى ترى القائم» تناسب حجّية الخبرين المتعارضين، وأمّا الخبر الواحد فهو حجّة إلى يوم القيامة.

وأمّا قوله: «فكلّهم ثقة» فاشتراط وثاقة الجميع، لأجل تعدّد الروايات، وإلّا فلو كانت الرواية واحدة لا يشترط فيه سوى وثاقة راويها، لا وثاقة جميع الأصحاب.

3. ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلّها في المحمل، وروى

ص:506


1- . الحارث بن المغيرة النصري، قال النجاشي: ثقة، ثقة، وله أكثر من أربعين رواية.
2- . الوسائل: 87/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.

بعضهم لا تصلّها إلّاعلى الأرض؟ فوقّع عليه السلام: «موسّع عليك بأيّة عملت».(1)

ولكن موردها هو النافلة، لأنّ ركعتي الفجر كناية عن نافلة الفجر، فالتخيير في المستحبات بين الخبرين لا يكون دليلاً على التخيير في غيرها، ومع ذلك يحتمل أن يكون المراد نفس صلاة الفجر.

واحتمل المحقّق الخوئي أنّ التخيير في الرواية تخيير واقعي وليس تخييراً ظاهرياً بمعنى جواز العمل بالخبرين، وذلك لأنّه لو كان الحكم الواقعي غيره كان عليه البيان لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره مخالف لظاهر قوله: «موسّع عليك بأيّة عملت» حيث إنّه ظاهر في الجواب عن المسألة الأُصولية، وأمّا لماذا لم يُجب بالحكم الواقعي واكتفى بالحكم الظاهري، وهو جواز العمل بالروايتين فليس وجهه بمعلوم.

4. ما رواه الطبرسي في «الاحتجاج» مرسلاً في جواب مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري(2) إلى صاحب الزمان - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف -.

أدام اللّه عزّك يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر، فانّ بعض أصحابنا، قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد؟

ص:507


1- . الوسائل: 88/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 44.
2- . محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عرّفه النجاشي بقوله: أبو جعفر القمي كان ثقة وجهاً، كاتب صاحب الأمر عليه السلام. وأمّا والده، أعني: عبد اللّه بن جعفر، فعرّفه النجاشي بقوله: أبو العباس القمي، شيخ القميّين ووجههم قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين وسمع أهلها منه فأكثروا، فهو مؤلّف كتاب «قرب الاسناد» إلى الرضا عليه السلام.

الجواب: إنّ فيه حديثين:

أمّا أحدهما فانّه إذا انتقل من حالة إلى أُخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فانّه روي: أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية، وكبّر، ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً.(1)

ودلالة الحديث على التخيير بين الخبرين المتعارضين فرع كون السؤال عن المسألة الأُصولية والإجابة على وفقها، وأمّا لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكم الواقعة فلا يكون دليلاً على ما نحن فيه.

ذهب سيدنا الأُستاذ إلى الثاني، ولكن القرائن تشهد على الأوّل وذلك:

أوّلاً: لأنّه لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكمها كان على الإمام تخصيص الرواية الأُولى بالثانية، لأنّ نسبة الثانية إلى الأوّل نسبة المخصص إلى العام، وهذا يدل على أنّ الإمام لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي للمسألة.

وثانياً: لو كان الإمام بصدد بيان الحكم الواقعي، لما كان هناك أي ملزم لبيان انّه وردت هناك روايتان إحداهما كذا والأُخرى كذا، بل كان عليه أن يفتي بالحكم الواقعي.

وثالثاً: أنّ التعبير «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» قد ورد في الخبرين المختلفين كما عرفت في رواية الحسن بن الجهم وعلي بن مهزيار، فيكون قرينة على أنّ الغرض هو بيان حكم المسألة الأُصولية.

نعم يرد على الاستدلال بالرواية بأنّ موردها هو المستحبّات والتخيير فيها

ص:508


1- . الوسائل: 87/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 39.

بين الخبرين لا يكون دليلاً عليه في غيرها.

5. ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن أحمد بن الحسن الميثمي(1)، انّه سأل الرضا عليه السلام يوماً، إلى أن قال:

«فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً، فاتّبعوا ما وافق الكتاب، ومالم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فما كان في السنّة موجوداً منهياً عنه نهي حرام، و مأموراً به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر إلزام، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمره، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة، ثمّ كان الخبر الأخير خلافه، فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكرهه، ولم يحرِّمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم».(2)

يلاحظ على الاستدلال: أنّ التخيير في المقام بين ترك المكروه وفعله والمستحب تركه، فيكون التخيير فيه تخييراً واقعياً راجعاً إلى حكم الواقعة، ويشهد على ذلك قوله: «وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً».

ويمكن أن يقال بخروج الرواية عن محطّ البحث.

6. ما رواه الكليني في ذيل حديث سماعة(3) الذي سيوافيك في الطائفة

ص:509


1- . أحمد بن الحسن الميثمي، قال النجاشي: أحمد بن الحسن بن إسماعيل، كان واقفاً. وقال الطوسي: كوفي، ثقة.
2- . الوسائل: 81/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.
3- . الوسائل: 77/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

الآمرة بالتوقّف حيث قال الكليني، وفي رواية أُخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك».(1)

والظاهر انّها ليست رواية مستقلة، بل هي نفس رواية محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري بتبديل قوله:

«كان صواباً» إلى قوله: «وسعك».

7. ما في الفقه الرضوي: والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضها - إلى أن قال: وقد روي ثمانية عشر يوماً، وروي ثلاثة وعشرين يوماً، وبأيّ هذه الأحاديث أخذ من باب التسليم جاز.(2)

والحديث يصلح للتأييد لا للتأسيس.

8. ما رواه صاحب «غوالي اللآلي» عن العلاّمة، عن زرارة، قال: سألت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ... فقلت: إنّهما معاً موافقان للعامة أو مخالفان فكيف أصنع؟ فقال: «إذاً فخذ ما فيه الحائطة لدينك، واترك ما خالف الاحتياط».

فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: «إذن فتخيّر أحدهما، وتأخذ به وتدع الآخر».(3)

يلاحظ على الرواية بأنّها من المراسيل التي لا يقام لها وزن حيث رواه صاحب المستدرك (المتوفّى عام 1320 ه) عن «غوالي اللآلي» الذي ألّفه ابن أبي جمهور (المتوفّى حوالي 900 ه) عن زرارة (المتوفّى عام 150 ه).

مضافاً إلى أنّ التعبير عن الخبرين المختلفين بالمتعارضين اصطلاح جديد

ص:510


1- . الوسائل: 77/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
2- . المستدرك: 306/17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
3- . المستدرك: 303/17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

بين الفقهاء ولم يكن له ذكر في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام وإنّما الوارد في كلماتهم «المختلفين».

فتلخص من ذلك: انّ ما يدل على التخيير قليل جداً وأوضحها هو رواية الحسن بن الجهم ثمّ الحارث بن المغيرة مع ما في الضعف في الاسناد. ولعلّ المجموع من حيث المجموع كاف في إثبات المطلوب.

الطائفة الثانية: ما يدل على التوقّف

هناك طائفة من الروايات تدلّ على أنّ الأصل في الخبرين المتعارضين هو التوقّف إلى أن يلتقي الإمام عليه السلام، وإليك ما يدلّ عليه:

1. روى الكليني عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال: «يُرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه».(1)

2. ما رواه صاحب الاحتجاج عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه، قال: «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله»، قلت: لابدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: «خذ بما فيه خلاف العامة».(2)

ويحتمل وحدة الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام وإن اشتمل الحديث الثاني على زيادة.

ص:511


1- . الوسائل: 77/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
2- . الوسائل: 88/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.

3. ما رواه الكليني عن عمر بن حنظلة(1) في مقبولته المعروفة عند ما يفترض الراوي مساواة الخبرين في المرجّحات، فأجاب: «إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».(2)

4. ما رواه صاحب السرائر عن كتاب «مسائل الرجال» انّ محمد بن علي ابن عيسى(3) كتب إلى الإمام الهادي عليه السلام يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك وقد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟

فكتب عليه السلام: «ما علمتم أنّه قولنا فألزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا».(4)

وروى صاحب المستدرك عن محمد بن علي بن عيسى القمي ما يقرب من هذا.(5)

5. ما رواه صاحب غوالي اللآلي في مرسلة عن العلاّمة، عن زرارة عند ما يفترض الراوي مساواة الروايتين في المرجحات، فقال الإمام: «إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر». قال: وفي رواية أنّه عليه السلام قال: «إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله».(6)

ص:512


1- . عمر بن حنظلة أبو صخر العجلي البكري الكوفي، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، تلقّى المشهور روايتَه بالقبول، وله أكثر من سبعين رواية.
2- . الوسائل: 76/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
3- . محمد بن علي بن عيسى القمي، كان وجهاً بقم وأميراً عليها من قبل السلطان، وكذلك كان أبوه يعرف بالطلحي، له مسائل لأبي محمد العسكري.
4- . الوسائل: 86/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.
5- . المستدرك: 305/17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10. وفيه محمد بن عيسى مكان محمد بن علي بن عيسى، ولعلّهما شخصان، أو سقط «علي» من قلم الناسخ.
6- . المستدرك: 303/17، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

إلى هنا تمّ ما وقفنا عليه. نعم ورد الأمر بالتوقّف في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السلام لكن مورده هو تشابه الحديث بين المعنيين لا الخبرين المتعارضين، فلاحظ.(1)

الجمع بين الطائفتين

قد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين بوجوه، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف على صورة التمكّن من لقاء الإمام، ويشهد على ذلك أُمور:

1. قوله عليه السلام في حديث سماعة: يُرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه.

2. قوله عليه السلام في حديث آخر عنه: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله.

3. ما في رواية عمر بن حنظلة: فارجئه حتى تلقى إمامك.

4. وفي كتاب مسائل الرجال: فردّوه إلينا.

5. وفي رواية غوالي اللآلي: فارجئه حتى تلقى إمامك فتسأله.

وهذه التعابير تحكي عن أنّ ظرف الأمر بالوقوف هو تمكّن الراوي من الرجوع إلى من يُوقفه على جليّة الحال. وهذا بخلاف أخبار التخيير، فهي واردة إمّا في الأعم من المتمكن وغيره، أو في خصوص صورة العجز العرفي.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أورد على هذا الجمع ما هذا حاصله:

إن أُريد من التمكّن في أخبار التوقّف هو التمكّن الفعلي بأن يكون الإمام

ص:513


1- . الوسائل: 86/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.

حاضراً في البلد، فهو مخالف لسياق الأخبار، حيث إنّ الظاهر من بعضها انّه لم يكن للراوي طريق إلى حكم الواقعة يحسم مادة الخلاف، ولذا أمر الإمام عليه السلام سماعة بالتوقّف في حال لم يكن متمكّناً من لقاء الإمام، بشهادة أنّه لمّا قال سماعة إنّه لابدّ من العمل بأحدهما، فأجاب الإمام بالأخذ بما خالف العامة.(1) ولو كان متمكناً أمره بالسؤال لا العمل بما خالف العامة.

وإن أُريد من التمكّن الأعم من الحال والاستقبال في مقابل عدم التمكّن مطلقاً يلزم حمل أخبار التخيير على الفرد النادر، وأمّا حمل أخبار التخيير على زمان الغيبة فبعيد، لصدورها في عصر الحضور، كما هو الحال في حديث الحسن بن جهم و الحارث بن المغيرة.(2)

يلاحظ عليه: أنّ المراد من التمكّن وعدمه ليس هو التمكّن العقلي حتى يرد عليه ما ذكر، بل المراد التمكّن العرفي وعدمه، فانّ الرواة حسب ظروفهم كانوا على صنفين:

فصنف كان يتمكّن من لقاء الإمام ولو بطيّ مسافة يسيرة.

وصنف آخر لا يتمكّن من لقاء الإمام إلّابطيّ مسافة بعيدة، كما هو الحال في شأن علي بن المسيب(3) قال:

قلت للرضا عليه السلام: شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: «من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا».(4)

ص:514


1- . لاحظ الحديث الثاني.
2- . الإمام الخميني: الرسائل: 51/2.
3- . علي بن المسيب عربي تيمي ينسب إلى قبيلة هَمْدان، وثّقه الطوسي في رجال الرضا عليه السلام.
4- . الوسائل: 106/18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.

وعلى ضوء ذلك فأخبار التخيير محمول على غير المتمكّن عرفاً، وما أكثره بين الناس، وعندئذ لا يلزم حملها على الفرد النادر.

وأمّا حديث سماعة فقد أمره الإمام بالتوقّف، لأنّه كان متمكّناً من لقاء الإمام، ولو بعد أيام وكان تكليفه التوقّف، ولكن لمّا كان المورد من الأُمور المضيّقة التي لا تقبل الاستمهال ولو مدّة يسيرة رخّص الإمام أن يعمل بمخالف قول العامة.

ثمّ إنّ هناك وجوهاً أُخرى ذكرت للجمع بين الروايات ليس لها شاهد يدعمها، وقد أشرنا إلى بعضها.(1)

وقبل أن نذكر الطائفة الثالثة نشير إلى نكات في أخبار التخيير:

الأُولى: هل الأخذ بأحد الخبرين لازم؟

هل الأخذ بأحد الخبرين لازم أو لا؟ وجهان:

1. لزوم الأخذ، لأنّ الظاهر منها إفاضة الحجّية على المتعارضين بعد سقوطهما عند العقل والعقلاء، وما هذا شأنه لا يوصف بالجواز، بل يكون منجِّزاً لو أصاب و معذِّراً لو خالف.

2. عدم اللزوم، لأنّه المتبادر من قوله: «فموسَّع عليك بأيّهما أخذت».

الظاهر هو الأوّل، لما ذكرنا من أنّ المتبادر إفاضة الحجّية على الخبرين عند التعارض لمن لم يتمكن عرفاً من لقاء الإمام، فيكون العمل به واجباً.

وأمّا قوله: «فموسّع عليك»، فليس بصدد بيان انّ الأخذ بأحدهما جائز

ص:515


1- . لاحظ الكافي: 66/1، وقد ذكرناها على التفصيل في الدورة الثالثة.

وليس بواجب، بل هو لدفع توهّم الحظر، وذلك لأنّه لمّا كان حكم الخبرين المتعارضين عند العقلاء هو السقوط وعدم الاعتماد على واحد منهما، وكان الحكم الشرعي غير ذلك، حاول الإمام تخطئة ذلك الرأي، فعبَّر بالتوسع لردّ الحظر والمنع، لا لتحديد الموضوع من حيث لزوم الأخذ وعدمه

الثانية: هل مصبّ التخيير هو المسألة الأُصولية أو الفقهية

إذا قلنا بالتخيير بين المتعارضين، فهل مصبّه هو المسألة الأُصولية (التخيير بين الحجّتين) فيكون المجتهد هو المخاطب، أو المسألة الفقهية (التخيير بين المضمونين)، فيعم الخطاب للمجتهد والمقلّد غير انّ الأوّل ينوب عن الثاني، فيكون التخيير في المقام نظير التخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة. فعلى الأوّل يجب على المفتي الإفتاء بما أخذوا بالتخيير بين مضموني الخبرين، بخلاف الثاني إذ يجب عليه الإفتاء بالتخيير بين المضمونين؟ وجهان والمشهور هو الثاني كما حكاه شيخنا الأنصاري قدس سره.

استدل للوجه الأوّل بأنّ التخيير حكم للمتحيّر، وهو المجتهد، ولا يقاس هذا بالشك الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي «ببيان انّ حكمه - البناء على الحالة السابقة - مشترك بينه و بين المقلِّد» وذلك لأنّ الشكّ هناك في معنى الحكم الفرعي المشترك، والتخيير هنا في الطريق إلى الحكم فعلاً، فالتخيير مختص بمن يتصدّى لتعيين الطريق كما أنّ العلاج بالترجيح مختص به.

استدل للوجه الثاني بأنّ نصب الشارع للأمارات يشمل كلا الصنفين، إلّاأنّ المقلد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ورفع موانعها، فإذا أثبت ذلك المجتهد جوازَ العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين

ص:516

المشترك بين المقلّد و المجتهد، تخيّر المقلّد كالمجتهد، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم دليل عليه فهو تشريع.

هكذا ذكر الشيخ الأنصاري دليل كلا الوجهين وأضاف: «والمسألة محتاجة إلى التأمّل، وإن كان وجه المشهور أقوى».(1)

وجه كونه أقوى هو ظهور روايات التخيير في التخيير بين مضمون الخبرين في مقام العمل مثل قولهم:

«بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» وقد تكرّر لفظه أو مضمونه فيها، غير انّ الظاهر من مرفوعة العلاّمة كون التخيير في المسألة الأُصولية حيث قال: «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» وهو لا يخرج عن حدّ الإشعار مع ضعف سنده كما مرّ.

ومع الاعتراف ببعض الظهورات المقتضية لكون مصب التخيير هو الحكم الفرعي، يمكن أن يقال انّ مصبَّه هو المسألة الأُصولية، وذلك لأنّ الروايات بصدد إفاضة الحجّية لكلّ من المتعارضين في الظاهر، لأجل صيانة الحجّة الواقعية مهما أمكن، فلو حكم بالتخيير، فمعناه هو التخيير بين الحجّتين لا بين المضمونين إلّاإذا كان هناك ملازمة بين التخييرين.

ولو شك في مصبِّه ولم تَظهر قوة أحد الوجهين يدخل المقام في باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير، حيث نعلم بحجّية ما اختاره المجتهد وأفتى به ونشك في حجيّة الآخر، فالعقل يحكم بالأخذ بالأوّل، وتكون النتيجة خلاف ما عليه المشهور.

ص:517


1- . الفرائد: 440.
الثالثة: هل التخيير بدوي أو استمراري؟

هل التخيير بين الخبرين بدوي بمعنى انّه إذا طبق العمل على مضمون أحد الخبرين، فليس له العدول عنه في الواقعة الثانية، أو استمراري بمعنى ثبوته طيلة عمره، فلو صلّى صلاة الجمعة في يومها فله أن يصلّي صلاة الظهر في يومها الآخر؟ والأوّل خيرة الشيخ الأعظم، والثاني خيرة المحقّق الخراساني، وفصّل المحقق النائيني بين كون مصب التخيير هو المسألة الأُصولية فالتخيير بدوي، وكونه المسألة الفقهية فالتخيير استمراريّ.(1)

استدل الشيخ بأنّ مصدر التخيير إمّا الأخبار أو الاستصحاب. فالأُولى مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما: والثاني غير جار، لأنّ الثابت سابقاً ثبوت الاختيار لمن تحيّر فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضعه الأوّل.(2)

يلاحظ على الأوّل: بأنّ الموضوع للتخيير من حضر عنده الخبران ولم يُميِّز الصادق عن الكاذب، والموضوع بهذا الوصف باق حتى بعد الأخذ بأحدهما.

وعلى الثاني بمثل ذلك، فانّ الموضوع، للتخيير هو من حصره عند الخبران المتنافيان، وهو أيضاً باق بعد الأخذ بأحدهما.

والأولى أن يستدل على التخيير البدوي بأنّ القول بالاستمرار ربّما يستلزم المخالفة العملية التدريجيّة و المخالفة العملية عندما إذا كان أحد الخبرين صادقاً وهي قبيحة من غير فرق بين الدفعية والتدريجية.

ص:518


1- . فوائد الأُصول: 768/4.
2- . الفرائد: 440.

وأمّا التفصيل الذي حكيناه عن المحقّق النائيني، فقد أفاد في وجهه انّه إذا كان التخيير في المسألة الفقهية يكون التخيير في المقام كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الأُصولية يكون التخيير في المقام بمعنى جعل أحد المتعارضين حجّة شرعية وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلي الواقعي المتعلّق بأفعال المتكلّمين فلا معنى لاختيار الآخر.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لا ملازمة بين كون التخيير في المسألة الأُصولية، و كونه بدوياً، لأنّ معناه على هذا هو كونه مخيّراً في الإفتاء بإحدى الحجّتين، وهو كما يمكن أن يكون بدوياً، يمكن أن يكون استمراريّاً، وأمّا تفسيره بأخذه طريقاً محرزاً للواقع وجعل مؤدّاه هو الحكم الواقعي، فلا دليل عليه.

الطائفة الثالثة: الآمرة بالأخذ بذي الترجيح

إذا كانت الطائفة الأُولى دالة على التخيير، والثانية على التوقّف (و قد عرفت الجمع بينهما) فهناك طائفة ثالثة تدل على الأخذ بذي الترجيح، وما ورد من الأخذ بأحوط الخبرين، كما في مرفوعة زرارة(2)، أو بالأحدث منهما كما في رواية معلى بن خنيس(3)، فليس طائفة مستقلة، لأنّ الأخذ بالخبر الموافق للاحتياط لأجل كونه مرجحاً، أو الأخذ بالأحدث، لكونه يدل على أنّ غير الأحدث صدر تقية، وعلى هذان فليس هذان الصنفان طائفة مستقلة، في مقابل الطوائف الثلاث، وإذاعرفت ذلك فنقول: يقع الكلام في هذا الطائفة في جهات:

ص:519


1- . فوائد الأُصول: 768/4.
2- . غوالي اللآلي: 133/4؛ المستدرك: 303/17.
3- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8 وغيره.

1. التعرّف على أقسام المرجحات.

2. كون الأخذ بذات المزية لازم أو لا.

3. هل يقتصر على المنصوص أو يتعدّى عنه إلى غيره؟

وإليك دراسة هذه الجهات واحدة تلو الأُخرى.

الجهة الأُولى في أقسام المرجّحات

إنّ المرجحات الواردة في الروايات على أقسام، وبما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة، ونعرض عمّا ورد في مرفوعة العلاّمة عن زرارة، لما ذكرنا من أنّها ليست برواية، وإنّما هي منتزعة من عدّة روايات:

1. الترجيح بصفات الراوي.

2. الترجيح بالشهرة العملية.

3. الترجيح بالكتاب والسنّة.

4. الترجيح بمخالفة العامة.

5. الترجيح بالأحدثية

هذه هي المرجحات الواردة في المقام، وإليك البحث فيها على وجه التفصيل:

ص:520

1. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي في عدة من الروايات، إلّاأنّ الكلام في كونها مرجّحة للخبر في مقام الإفتاء أو مرجّحة لحكم القاضي عند الاختلاف.

وعلى كلّ تقدير فقد ورد الترجيح بها في الروايات التالية:

أ: رواية عمر بن حنظلة

ما رواه الكليني بسند صحيح عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه أن يُكفر به، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ».

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنّما استخف بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرّادّ علينا، الرادُّ على اللّه، وهو على حدّالشرك باللّه».

قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما،

ص:521

ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر».(1)

وقد أخذنا الحديث من كتاب الكافي لا من الوسائل، لأنّه جزّأ الحديث إلى مقاطع أورد كل جزء في باب خاص. وقد آثار الحديث جدلاً واسعاً في السند والمتن.

أمّا السند، فلانتهائه إلى عمر بن حنظلة الذي لم يرد في حقّه مدح ولا توثيق، وقد حاول بعض المتأخرين إثبات وثاقته بروايتين تاليتين:

الأُولى: ما رواه محمد بن يعقوب بسند صحيح عن يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد اللّه: إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذاً لا يكذب علينا».(2)

ولكن الكلام في يزيد بن خليفة فانّه لم يوثّق. قال النجاشي: له كتاب، يرويه جماعة. وقال الطوسي: إنّه واقفي، إلّاأن يوثّق لأجل رواية صفوان بن يحيى عنه،(3) وهو لا يروي إلّاعن ثقة.

الثانية: ما رواه الكليني بسند صحيح عن علي بن الحكم، عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «يا عمر لا تُحملوا على شيعتنا وأرفقوا بهم، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحملون».(4)

ص:522


1- . الكافي: 67/1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10، وسيوافيك ذيل الحديث في أقسام المرجحات.
2- . الكافي: 3، باب وقت الظهرو العصر من كتاب الصلاة، الحديث 1. وما في معجم رجال الحديث: 27/13 يونس بن يزيد بن خليفة مصحّف تبدّلت لفظة «عن» إلى «بن».
3- . الكافي: 76/2.
4- . روضة الكافي: 8، الحديث برقم 334؛ ولاحظ أيضاً الوسائل الجزء 4، الباب 5 من أبواب القنوت، الحديث 5 ففيه: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: القنوت يوم الجمعة: فقال: أنت رسولي إليهم في هذا إلى غير ذلك من الروايات التي نقلها في قاموس الرجال: 167/8.

وإثبات الوثاقة بها دوري، لأنّ الراوي هو نفس بن حنظلة.

والعمدة ما ذكرنا من نقل صفوان بن يحيى وابن مسكان عنه، مضافاً إلى اتّفاق المشهور على قبول تلك الرواية ولذلك وصفت بالمقبولة.

وأمّا الإشكالات على المتن فربما تناهز العشرة أو يقرب منها، وقد ذكرنا بعضها في مبحث القضاء، وسيوافيك بعضها الآخر في مبحث الاجتهاد والتقليد ولا حاجة لنذكرها هنا. فالأولى عطف عنان الحكم إلى تحليل الرواية.

لا شكّ انّ الإمام عليه السلام رجّح حكم الأعدل و الأفقه والأصدق والأورع في الحديث على ما ليس كذلك.

لكن مورد الترجيح هو تقديم حكم أحد القاضيين على الآخر، وهو لا يدل على تقديم رواية أحد الراويين على الآخر، وذلك للفرق بين باب القضاء والإفتاء، فإنّ الأوّل شُرّع لرفع المنازعة وفضّ الخصومة، وهو لا يقبل التأخير، إذ فيه مظانة النزاع والنقاش في حين انّ الإفتاء ليس كذلك.

وإلى ذلك يشير المحقّق الخراساني بقوله: لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة، ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره كما لا يخفى.(1)

ب: رواية داود بن الحصين

ما رواه الصدوق بسند كالصحيح(2) عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف،

ص:523


1- . كفاية الأُصول: 392/2.
2- . لما في طريقه إلى داود، الحكم بن مسكين وهو من رجال ابن أبي عمير.

فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر».(1)

ويرد على الاستدلال ما أوردناه على سابقتها من أنّ مورد الترجيح هو حكم أحد القاضيين على الآخر، ولا يكون دليلاً على المقام.

ج: رواية موسى بن أكيل

ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح عن ذُبيان بن حُكَيم، عن موسى بن أُكْيَل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سُئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما، قال: «وكيف يختلفان؟» قال: حكم كلّ واحد منهما للّذي اختاره الخصمان، فقال: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه، فيمضي حكمه».(2)

والحديث أجنبي عن المقام، لأنّ الضمائر ترجع إلى الحكمين اللّذين اختار كلّ واحد من المتحاكمين، وبما انّ القضاء أمر لا يخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون الأورعية من المزايا، بخلاف الإفتاء.

نعم اختلاف الحكمين وإن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما عليهما السلام، لكنّه سبب الاختلاف في القضاء وليس هو مورداً للترجيح.

إلى هنا تم الكلام في المرجح الأوّل، وثبت انّه لا يمت إلى ترجيح الرواية بصلة.

ص:524


1- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
2- . الوسائل: 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45. ولم يوثّق ذُبيان لكن موسى بن أُكيل النميري كوفي ثقة.
2. الترجيح بالشهرة العملية

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية في رواية واحدة، وهي نفس رواية عمر بن حنظلة الآنفة الذكر، وقد سبق نقل صدرها في المرجح الأوّل، وإليك نقل مقطع آخر من الرواية يمت إلى هذا المرجح بصلة.

قلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضَّل واحد منهما على الآخر.

قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به، المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الأُمور ثلاثة: أمرٌ بيّن رشده فيُتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لايعلم».(1)

ويرد على الاستدلال بالحديث انّ الشهرة العملية تُميِّز الحجة عن اللاحجة، بخلاف المرجح فانّه يرجح إحدى الحجّتين على الحجة الأُخرى، ويعلم ذلك من تحليل ذلك المقطع من الرواية في ضمن أُمور:

1. المراد من «المجمع عليه» ليس ما اتّفق الكل على روايته، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور، والدليل على ذلك قول الإمام عليه السلام: «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك».

2. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء

ص:525


1- . الكافي: 1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

بمضمونها، إذ هو الذي يمكن أن يكون مصداقاً لما لا ريب فيه، وإلّا فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفقَ مضمونها ففيه كلّ الريب والشك.

3. المراد من قوله: «لا ريب فيه» هو نفي الريب على وجه الإطلاق، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالرواية المشهورة نقلاً وعملاً ليس فيها أي ريب وشك.

وأمّا ما يقابلها، أعني: الشاذ، فبما انّه نقيضه يكون محكوماً بحكم خلافه، فلو كان المشهور ممّا لا ريب فيه يكون الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه، وذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدى القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً، وهذا هو المهم فيما ترتئيه.

4. إنّ هذا البيان يثبت انّ الخبر المشهور المفتى به داخل في «بيّن الرشد» في تثليث الإمام عليه السلام والخبر الشاذ داخل في «البيّن الغي» من تثليثه، وذلك لما تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته والمخالف لا ريب في بطلانه.

ويظهر من ذلك ما ذكرنا في صدر البحث، وهو انّ الشهرة العملية إذاكانت سبباً لطرد الريب عن نفسها وإلصاقه بمخالفها تكون أمارة على تمييز الحجة عن اللاحجة، وبيّن الرشد عن بيّن الغيّ. ومثل ذلك لا يعد مرجحاً أصلاً.

3. الترجيح بالكتاب والسنّة

لا شكّ انّ الرواية الموافقة للكتاب والسنّة قد تخلو من رواية معارضة وقد لا تخلو منها، وها نحن نذكر في هذا المقام الروايات التي ترجع إلى المتعارضين:

1. مقبولة عمر بن حنظلة، وجاء في مقطع منها قلتُ: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

ص:526

قال: «ينظر فما وافق حكمه حكمَ الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ماخالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة».(1)

فإن قلت: قد تقدّم انّ مورد الترجيح في المقبولة، هو تقديم حكم أحد القاضيين على الآخر، لا ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى.

قلت: إنّ الإمعان في المقبولة يثبت بأنّ صدر الحديث وإن كان بصدد بيان مرجّحات القضاء وانّه يقدّم القاضي الأعدل، والأفقه، والأصدق والأورع على غيره، لكن لمّا فرض السائل تساويهما في الصفات وانّه لا يُفضّل واحد منهما على الآخر، أرجعه الإمام إلى أنّه يؤخذ بقول من يكون مستنده ذا مزية من كونه مشهوراً أو موافقاً للكتاب والسنّة، فانتهى الكلام إلى بيان مرجّحات نفس الخبرين المتعارضين أنفسهما، فقال السائل: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة...» فكون الصدر بصدد بيان مرجّحات القضاء، لا يمنع عن كون سائر الفقرات لبيان مرجّحات الخبر في الأثناء.

2. ما رواه الميثمي، عن الرضا عليه السلام أنّه قال: «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً، فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فما كان في السنّة موجوداً منهيّاًعنه نهي حرام، ومأموراً به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر إلزام، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمره».(2)

3. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا ورد

ص:527


1- . الكافي: 68/1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.
2- . الوسائل: 81/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.

عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه».(1)

4. ما رواه الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟

فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّوجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا».(2)

5. ما رواه الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح عليه السلام أنّه قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما على كتاب اللّه وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حقّوإن لم يشبهها فهو باطل».(3)

وذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تقديم الموافق للكتاب والسنّة القطعية من باب تمييز الحجّة عن اللاحجة، فقال ما هذا حاصله:

إنّ في كون موافقة الكتاب من المرجّحات نظراً، وجهه: قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل وليس بشيء، أو انّه لم نقله - إلى أن قال: - إنّ الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً بحيث لا تعمه أدلّة اعتبار السند ولا الظهور، فتكون هذه الأخبار في مقام تمييز الحجّة عن اللاحجة لا ترجيح الحجّة على الحجّة.(4)

ص:528


1- . الوسائل: 84/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
2- . الوسائل: 87/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
3- . الوسائل: 89/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 48.
4- . كفاية الأُصول: 393/2-395.

قد عرفت أنّ الأخبار الواردة حول الخبر المخالف للكتاب على صنفين:

1. ما يصف الخبر المخالف - و إن لم يكن له معارض - بكونه زخرفاً.(1) وانّه ممّا لم أقله.(2) أو لا يصدق علينا إلّا ما وافق كتاب اللّه.(3) إلى غير ذلك، و ما ذكره المحقّق الخراساني من العناوين فانّما ورد في هذا الصنف، وكان عليه الاستظهار لمختاره، بما ورد في الصنف الثاني أي في الخبر المخالف للكتاب، مع وجود المعارض له و الحقّ انّ عناوين ذلك الصنف أيضاً، تناسب كون المخالفة من قبيل تمييز الحجّة عن اللاحجة لا ترجيح أحد الخبرين على الآخر، وذلك بشهادة قوله عليه السلام «فردّوه» أو «فليس منّا» أو «فهو باطل» فإنّ هذه التعابير تناسب كون غير المخالف، ممّا لم يصدر عن الأئمة عليهم السلام.

أضف إلى ذلك انّ العناوين الواردة في الخبر المخالف، المجرّد عن المعارض يفيدنا هنا أيضاً، فانّ وصفه بالزخرف وما شابهه، لأجل كونه مخالفاً، وهذا الملاك موجود في المخالف الذي له معارض، فقوام هذه الأوصاف هو مجرّد المخالفة ولا دور للمعارض وعدمه فيها كما لا يخفى.

فإن قلت: ما هي الثمرة العملية بين كونه مميّزاً أو مرجّحاً إذ على كلّ تقدير يجب الأخذ بذات المزية؟

قلت: تظهر الثمرة في أنّه لو كان مميّزاً لا يعاد له شيء، فيقدم الموافق على المخالف وإن كان في جانب الآخر مرجحات كثيرة، بخلاف ما إذا كان مرجّحاً، فعندئذٍ يلاحظ الخبران من حيث كثرة المرجّح وقلّته في جانب المخالف، فربما يقدّم المخالف إذا كانت فيه مرجّحات كثيرة.

وهل المراد من المخالفة للكتاب والسنّة، هي المخالفة على وجه التباين

ص:529


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، 15، 47.
2- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، 15، 47.
3- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، 15، 47.

الكلّي، أو المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق؟ الظاهر هو الثاني، لصدور الخبر المخالف على النحو الثاني عنهم عليهم السلام في مختلف الأبواب، فانّ دور الخبر الواحد غالباً هو تقييد المطلقات أو تخصيص العمومات. والخبر المخالف على نحو التباين الكلي قليل في الأحكام جداً ولكنّه في مجال العقائد والمعارف غير عزيز، كما هو الحال في مجال الرؤية والقضاء والقدر ومقامات الأنبياء والأولياء من روايات الغلوّ.

4. الترجيح بمخالفة العامّة

تضافرت الروايات على أنّه إذا اختلفت الأخبار، يُقدَّم ما خالف العامة، وما ذلك إلّالأنّ الظروف القاسية دفعت بالأئمة إلى الإفتاء وفقَ مذاهبهم صيانة لدمائهم وصيانة نفوس شيعتهم، ولذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية.(1)

وإليك نقل ما ورد في هذا المجال:

1. ما رواه عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في مقبولته: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟

قال: «ما خالف العامة ففيه الرَّشاد».

فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟

قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».(2)

ص:530


1- . الوسائل: الجزء 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.
2- . الكافي: 68/1، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، الحديث 10.

وقد مرّ آنفاً انّ صدر الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على حكم الآخر، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائلَ إلى ملاحظة مصدر فتاواهما وإنّه يقدّم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب، على من قضى بمصدر شاذ.

ومن هنا توجه كلام الإمام إلى بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً، وكلّ ما جاء بعد كلامه في المجمع عليه يرجع إلى مرجحات الرواية.

2. ما رواه سعيد بن هبة اللّه الراوندي بسنده إلى عبدالرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الصادق عليه السلام في الخبرين المختلفين أنّه قال: «فأعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه».(1)

3. رواية الحسين بن السري، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم».(2)

4. روى الحسن بن الجهم، قال: قلت للعبد الصالح عليه السلام: «فيروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام شيء و يروى عنه خلافه، فبأيّهما نأخذ؟ فقال: «خذ بما خالف القوم و ما وافق القوم فاجتنبه».(3)

5. ما رواه محمد بن عبد اللّه، قال: قلت للرضا عليه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: «إذا ورد عليكم خبران مختلفان، فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه».(4)

ص:531


1- . الوسائل: 84/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
2- . الوسائل: 85/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 30.
3- . الوسائل: 85/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 31.
4- . الوسائل: 85/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34.

هذه بعض ما ورد في الترجيح بمخالفة العامة، و لو كان هناك مرجّح لتقديم إحدى الروايتين على الأُخرى فليس هو إلّاهذا المرجّح، وأمّا الباقي فقد عرفت أنّ الترجيح بصفات الراوي يرجع إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على الآخر.

وأمّا الترجيح بالشهرة العملية أو موافقة الكتاب والسنّة، فقد عرفت أنّها من قبيل تمييز الحجة عن اللاحجة، وانّ لسان الروايات صريحة في ذلك، فلم يبق فيما يمكن عدّه مرجِّحاً إلّامخالفة العامة.

ولكن في النفس من كونها من هذا الباب أيضاً شيء، لأنّ المتبادر أيضاً من لسان الروايات هو نفس ما يتبادر من المرجّحات الأُخرى فقوله: «ما خالف العامة ففيه الرشاد» معناه انّ ما وافقهم ففيه الضلال، ويقرب منه قوله: «فما وافق أخبارهم فذروه» أو «فدعوه» وهذه التعابير أنسب لتمييز الحجة عن اللا حجّة.

5. الترجيح بالأحدثية

هناك روايات عديدة تدل على لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين، وإليك بعض ما يدل عليه:

1. روى المعلّى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: «خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحيّفخذوا بقوله».(1)

ولكن هذا القسم لا صلة له بباب المرجّحات، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس

ص:532


1- . الوسائل: 78/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8 وانظر أيضاً الحديث 9 و 17 من نفس الباب.

لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي والآخر على خلافه بل يمكن أن يكون على العكس، وإنّما وجب الأخذ بالأحدث، لأجل انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلى بيان الحكم الواقعي وعدمه سواء، وعلى هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر الغيبة، لأنّه بالنسبة إلى الخبرين متساو.

نعم الأخذ بالأحدث إذا كان في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأول، وأمّا في كلام الإمامين أو الإمام الواحد فلا يتصور فيه ذلك. وهنا كلام لصاحب الوافية يقول:

«ولا أعلم أحداً عمل بهذه الروايات غير ابن بابويه في الفقيه في باب «الرجل يوصي إلى رجلين» فقال: لو صحّ الخبران جميعاً، لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه السلام، وذلك لانّ الأخبار لها وجوه ومعان، و كلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس.

وقال أيضاً: العمل بالروايات الدالّة على العمل بالأحدث في الأحاديث النبوية قريب، لما ورد منه انّ الأحاديث ينسخ بعضها بعضاً، وأمّا في أخبار الأئمّة عليهم السلام بالنسبة إلى مكلّفي هذه الأعصار فمشكل غاية الإشكال.(1)

إلى هنا تمّ الكلام في الجهة الأُولى وهي التعرف على المرجِّحات، وحان البحث في الجهة الثانية، وهي لزوم الأخذ بالمرجِّحات وعدمه.

ص:533


1- . لاحظ الوافية: 301، 335؛ والفقيه: 151/4 برقم 524.
الجهة الثانية في لزوم الأخذ بالمرجِّح وعدمه

المشهور هو لزوم الأخذ بذات المزية من الخبرين. وعليه الشيخ الأنصاري، غير انّ المحقّق الخراساني حمل الروايات على الاستحباب.

وقد استدلّ على القول المشهور بوجوه نشير إلى بعضها بوجه موجز:

أ: دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين.

ب: لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

إلى غيرها من الوجوه التي ربما ترتقي إلى خمسة، كما أشار إليها المحقّق المشكيني، وقد ناقش المحقّق الخراساني في هذه الوجوه بما لا ملزم لذكرها وما في مناقشاته، والأولى أن يُستدلّ على وجوب الأخذ بالوجه التالي:

إنّ لسان الروايات هو لزوم الأخذ لا استحبابه، أمّا على القول بأنّ الجميع يرجع إلى مميّز الحجة عن اللاحجة فواضح، وأمّا على القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين بالحجية، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل والاستحباب.

أ: انّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ب: ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ويترك ما خالف.

ص:534

ج: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

د: ما وافق القوم فاجتنبه.

إلى غير ذلك من العناوين الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجّح وترك الآخر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لمّا لم يدرس الروايات واحدة تلو الأُخرى وإنّما نظر إليها نظرة عابرة ذهب إلى عدم لزوم الأخذ بذي المزية، واستدل على ذلك بوجوه أربعة، وإليك تحليل تلك الوجوه:

الأوّل: إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة هو المقبولة والمرفوعة - مع اختلافهما - و ضعف سند المرفوعة جداً، والاحتجاج بالمقبولة مشكل، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها في مورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح بالنسبة إلى الترجيح بالصفات وأمّا بالنسبة إلى غيرها فلا، وذلك لأنّه قد انتهى كلام الإمام أخيراً إلى بيان مرجِّحات الرواية التي بها أيضاً يقدّم أحد الحكمين على الآخر، وذلك بأن يكون مستند حكمه مجمعاً عليه أو موافقاً للكتاب والسنّة أو مخالفاً للعامة، فتكون النتيجة هو انّ ما أشار إليه من المرجِّحات مرجِّحاً للخبر بما هوهو سواء استخدمه القاضي أو المفتي.

الثاني: لا مجال لتقييد إطلاقات أخبار التخيير في مثل زماننا ممّا لا يتمكن من لقاء الإمام عليه السلام بهما، وذلك بوجهين:

أ: قصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالة لاختصاصها بزمان التمكّن

ص:535


1- . الكفاية: 392/2.

من لقائه عليه السلام، والشاهد عليه عدم حكم الإمام بالتخيير بعد فقدان المرجّح، بل أمره بالإرجاء حتى يلقى إمامه.

ب: لو قلنا بلزوم التقييد يلزم حمل أخبار التخيير على مورد نادر إذ قلّما يتفق أن لا يكون هناك مرجِّح.(1)

يلاحظ على الأوّل: أنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق في الحكم بين الزمانين، مضافاً إلى أنّه إذا كان الترجيح واجباً في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام يكون الترجيح في زمان الغيبة وعدم التمكّن من الإمام أمراً أولى.

ويلاحظ على الثاني: أنّه إنّما يلزم إذا قلنا بالتعدّي من المنصوص، إلى غير المنصوص وبما انّ غير المنصوص من المرجحات متوفِّر بكثرة، فلو كان العمل بذات المزية واجباً يلزم حمل أخبار التخيير على الفرد النادر، وأمّا إذا قلنا باختصاص الترجيح بمورد النص وهو لا يتجاوز عن أربعة مرجِّحات فلا يلزم حملها على الفرد النادر.

الثالث: انّ الأخذ بموافق الكتاب أو مخالف القوم يحتمل أن يكون من باب تمييز الحجة عن اللاحجة.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً ولكنّه يكون دليلاً على لزوم الأخذ بذي المزية، سواء أكان مرجّحاً لأحد الخبرين أو مميّزاً للحجة منهما.

نعم هناك ثمرة بين القولين قد بيّناها فيما مضى.

الرابع: ما أشار إليه بقوله: إنّه لولا الحمل على الاستحباب للزم التقييد في

ص:536


1- . كفاية الأُصول: 393/2.

أخبار المرجِّحات، وهي آبية عنه، إذ كيف يمكن تقييد مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل.(1)

ولا يخفى انّ كلامه مجمل، والمراد انّ الترجيح بالشهرة العملية ورد في المقبولة قبل الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، ولو قلنا بلزوم العمل بالمرجّحات يلزم تقييد الترجيح بموافقة الكتاب، بما إذا لم يكن في الجانب المخالف شهرة، وإلّا فيقدّم المخالف، وذلك لأنّ المقبولة قدّمت الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب، فيكون الترجيح بالشهرة مقدّماً على الترجيح بموافقة الكتاب، وتكون النتيجة أنّ مخالف الكتاب الموافق للشهرة يكون مقدَّماً على موافق الكتاب وتختص مرجحيته بما إذا لم يكن المخالف موافقاً للشهرة، فيلزم تخصيص مرجّحية الكتاب بغير صورة وجود الشهرة مع أنّ لسان الأخبار في طرد مخالف المخالف آب عن التقييد، إذ معناه انّ مخالف الكتاب زخرف إلّاإذا كان موافقاً للمشهور.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من لسان الروايات، أعني قوله: «زخرف»، أو «ما خالف قول ربّنا لم نَقُلْه» لم يردا في الخبرين المتعارضين و إنّما وردا في الخبر المخالف للقرآن، المجرّد عن التعارض وقد خلط المحقّق الخراساني بين هذين الصنفين، كما نبهنا به سابقاً.

وثانياً: أنّ التقييد إنّما يلزم إذا قلنا بكونها مرجِّحات للرواية، و أمّا لو قلنا بكونها مميزات للحجة فالتقييد غير لازم ولا معقول، لأنّ الجميع على هذا الفرض على صعيد واحد ليس لواحد منها مزية على الآخر، بل الكل يجعل الخبر الآخر في مدحرة البطلان.

ص:537


1- . كفاية الأُصول: 395/2.

وثالثاً: أنّ ما ذكره من الفرض أمر ذهني ليس له مصداق في الخارج، إذ كيف يتصور أن يكون المخالف المبائن للقرآن، مُجْمعاً عليه، و الموافق شاذاً؟؟!

ورابعاً: أنّ أقصى ما يلزم هو إلغاء الترتيب الوارد في رواية ابن حنظلة وبما انّ الترتيب ورد في كلام الراوي بمعنى انّه هيّأ الأرضية بسؤالاته لأن يذكر الإمام كلاً بعد الآخر فلا يعبأ بذلك الترتيب. وبالتالي يكون كلّ من الأُمور الأربعة أو الثلاثة أمارة لتشخيص الحقّ عن الباطل، في مستوى واحد كما لا يخفى.

الجهة الثالثة في التعدّي من المنصوص إلى غيره

لو افترضنا انّ ما ذكر من المزايا مرجِّحات للرواية، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدى عنه إلى غيره كموافقه الأصل أو موافقة الإجماع المنقول وغيرهما؟ ذهب الشيخ الأعظم إلى لزوم التعدّي خلافاً للمحقّق الخراساني، واستدلّ الشيخ الأنصاري على التعدّي بوجوه أربعة:

الوجه الأوّل: انّ الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة ليس إلّالأجل كونهما موجبتين للأقربية ويجب الأخذ بكلّ ما يوجب أقربية أحدهما من الآخر، وعلى ضوء هذا ينتقل إلى الترجيح بكلّ صفة في الراوي والرواية توجب أقربية أحد الخبرين، ككون الراوي مُجيداً للغة العربية دون الآخر، أو كون إحدى الروايتين منقولة بالمعنى دون الأُخرى.

ص:538

يلاحظ عليه: أنّ الترجيح بهذين الوصفين لا يوجد إلّافي المرفوعة والمقبولة، فالمرفوعة لا سند لها، وأمّا المقبولة فموردها ترجيح رأي أحد القاضيين على الآخر، فلو قيل بالتعدّي فإنّما يصحّ التعدّي في مورد القضاء أي يتعدّى من الأوصاف المنصوصة في القاضي إلى غير المنصوصة فيه لا إلى مورد الإفتاء الذي هو خارج عن موضوع البحث.

أضف إلى ذلك انّ إيجاب الترجيح في القضاء لأجل انّ فصل الخصومة لا يتم إلّابصدور الرأي القاطع من القاضي ولا يصح تخيير المتحاكمين بين مضموني الروايتين، إذ عندئذٍ لا يحسم النزاع وأمّا باب الإفتاء فلا يجب فيه الترجيح لجواز الإفتاء بالتخيير بين الخبرين ولا يترتب عليه الفساد المترتب عليه في باب القضاء.

الوجه الثاني: ليس المراد من المجمع عليه - الذي وصفه الإمام بأنّه لا ريب فيه - الروايةَ المتواترة بل المراد الخبر الواحد المعروف بين الرواة، وعليه يكون المراد من قوله: «لا ريب فيه» هو عدم الريب بالإضافة إلى الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند الأصحاب، فتكون المشهورة أقرب من الشاذة إلى الصدور، إذ يحتمل فيه مالا يحتمل في المجمع عليه، ولازم ذلك هو التعدّي إلى كلّ مزية توجب نفي الريب في واحدة دون الأُخرى، ويؤيد انّ المراد من الريب هو الريب النسبي لا الريب المطلق أمران:

1. فرض الراوي خبرين مشهورين، إذ لا يصحّ فرض خبرين مشهورين ممّا لا ريب فيهما على وجه الإطلاق.

2. إنّه لو كان المراد هو نفي الريب على وجه الإطلاق لم يكن وجه لتقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة، فانّ الإرجاع إلى الأمارة الظنية إنّما يصحّ إذا فقدت الأمارة القطعية.

ص:539

يلاحظ عليه: بأنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الريب المنفي هو الريب النسبي لا الريب على وجه الإطلاق، بمعنى انّ الريب الموجود في الشاذ ليس بموجود في المشهور وإن كان المشهور محتمل الريب من جهات أُخرى، فعلى هذا يصحّ التعدي لكن الظاهر انّ المنفي هو الريب على وجه الإطلاق كما هو مقتضى «لا النافية للجنس».

يقول ابن مالك في نكته على مقدمة ابن الحاجب بأنّ «لا» قد تكون نافية للجنس ويُفرَّق بين إرادة الجنس وغيره بالقرائن وإنّما أعملت «اعمال ما و لا» لأنّها لما قصد بها نفي الجنس على سبيل الاستغراق اختصت بالجنس.(1)

وعلى هذا فاحتمال انّ الريب المنفي هو الريب النسبي على خلاف الظاهر. غير انّ «لما لا ريب فيه» مصداقين :

أحدهما: الخبر المتواتر، وليس هو المراد في المقام، لأنّ الراوي افترض بعد هذا السؤال خبرين مشهورين، ومن المعلوم عدم إمكان فرض خبرين متواترين متعارضين ولا وجه للسؤال عن غير الممكن.

وثانيهما: الخبر الواحد الذي تطمئن به النفس وتسكن إليه، لنقل الأصحاب وعملهم به دون الآخر الذي أعرض عنه الأصحاب نقلاً وعملاً أو عملاً فقط، فالأوّل لا ريب فيه عرفاً، والثاني فيه كلّ الريب ولا يدخل مثل ذلك في عنوان الخبر المتواتر، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لو قلنا بالتعدي فانّما يصحّ لو كان المتعدَّى إليه مثل الشهرة العملية للرواية التي تجعل الخبر مسكوناً إليه لا مطلق المرجِّح الذي لا يجعل الخبر بلا ريب.

إلى هنا تبيّن ما هو المراد من الحديث، وإليك تحليل ما استشهد به من

ص:540


1- . البهجة المرضية: 67، طبعة المكتبة الإسلامية.

الوجهين:

أمّا الوجه الأوّل فحاصله: انّ فرض خبرين مشهورين دليل على أنّ المنفي هو الريب النسبي لا المطلق، وإلّا لما أمكن فرض خبرين متعارضين ممّا لا ريب في كلّ واحد على الإطلاق، لاستلزامه العلم بالمتناقضين. ولكن الاستشهاد مبنيّ على كون المراد من خبرين مشهورين هو اشتمالهما على تلك المزية، وأمّا لو كان الفرض رمزاً لخلوهما من تلك المزية فلا يصحّ الاستشهاد، كما إذا عملت طائفة بخبر وطائفة أُخرى بخبر آخر.

وأمّا الوجه الثاني فلأنّ تقديم صفات الراوي على صفات الرواية كالشهرة - مع أنّ القاعدة تقتضي العكس لكون صفات الرواية ظنّية بخلاف الشهرة فانّها قطعية - هو انّ مورد السؤال هو اختلاف الحكمين، وطبع القضية يقتضي تقديم صفات الحاكم على غيره، وإلّا فلو كان مورده السؤال عن الفتوى لكان اللازم تقديم الشهرة على صفات الراوي.

وبالجملة تقديم الترجيح بصفات الراوي لا يكون دليلاً على أنّ الريب المنفي هو الريب النسبي، بل المنفي هو الريب المطلق المفيد لليقين، وأمّا تقديم المرجح الظني عليه فلخصوصية في المورد.

الوجه الثالث: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامة بأنّ الرشد في خلافهما، ومن الواضح انّه ليس المراد انّ كلّ ما يكون مخالفاً للعامة فهو الحقّ القراح، وكلّ ما يكون موافقاً لهم فهو الباطل المحض ضرورة بطلان ذلك، لوجود الاشتراك في كثير من الأحكام، بل المراد وجود احتمال التقية في الموافق دون المخالف، ففي المخالف أمارة الحقّ والرشد بخلاف الموافق، ولازم ذلك الأخذ بكلّ مزية فيه أمارة الحقّ والرشد وترك ما فيه مظنة الحقّوالصواب.

ص:541

يلاحظ عليه: أنّ الرواية المزبورة وردت عن طريق أحمد بن محمد السياري(1) و هو ضعيف الحديث فاسد المذهب.(2)

نعم ورد في المقبولة ما خالف العامة ففيه الرشاد، وأقصى ما يمكن أن يقال: انّه إذا بلغت المزية غير المنصوصة هذا الحد يجب الأخذ به، وهو غير الأخذ بكلّمرحِّج ظني.

الوجه الرابع: قوله: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك» دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به، وليس المراد نفي الريب المطلق.

يلاحظ عليه: أنّ الرواية ضعيفة مرسلة رواها الشهيد في «الذكرى» عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وقال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك». كما رواه الكراجكي في «كنزه»، قال: «دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فانّك لن تجد فقد شيء تركته للّه عزّ وجلّ».(3)

لكن المراد من الريب هو احتمال الحرمة، كما هو الظاهر من قوله «تركته للّه».

هذا كلّه حول دليل القائل بالتعدّي، وأمّا دليل القائل بعدمه فهو مقتضى إطلاقات التخيير إلّاما خرج بالدليل، ويؤيد ذلك أمران:

الأوّل: انّه لو لزم العمل بكلّمزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع، لكان على

ص:542


1- . الوسائل: 82/18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
2- . رجال النجاشي: 211/1، برقم 190.
3- . الوسائل: 124/18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 47.

الإمام بيان الضابطة الكلية من دون حاجة إلى بيان الخصوصيات.

الثاني: انّ الإمام بعد فرض الراوي في المقبولة تساوي الخبرين في جميع المرجحات المنصوصة أمر بالإرجاء حتى يلقى إمامه، فلو كان الواجب هو تقديم ذي المزية على غيرها كان عليه أن يقول: اعمل بالخبر الذي فيه مزية توجب الأقربية.

تمّ الكلام في الجهة الثالثة، بقي هنا شيء، وهو ما هو الواجب في المتعارضين بنحو العموم والخصوص من وجه؟ ونجعله خاتمة المطاف.

ص:543

خاتمة المطاف في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه

قد وقفت بفضل البحث الضافي في الفصلين على أمرين:

أ: الجمع المقبول بين الروايتين، مقدّم على الأخبار العلاجية من التخيير والترجيح.

ب: إذا كانت النسبة بين الخبرين هو التباين، فيجب العمل بالرواية ذات المزية، وإلّا فالتخيير.

بقي الكلام فيما إذا كان التعارض بين الخبرين على نحو العموم من وجه، كما إذا دلّ الدليل على نجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه، و دلّ دليل آخر على طهارة عذرة كلّ طائر، فيفترق الدليلان في موردين أحدهما: عذرة الوحوش، فإنّها داخلة تحت إطلاق الدليل الأوّل، وثانيهما: عذرة الطائر الذي يؤكل لحمه، فإنّها داخلة تحت إطلاق الدليل الثاني، وإنّما يتعارضان في الطائر غير المأكول لحمه كما فيما إذا كان له مخالب، فهل المرجع هو التساقط والرجوع إلى دليل آخر من اجتهادي كالعموم والإطلاق، وأصل عمليّ إذا لم يكن دليل اجتهادي؛ أو المرجع هو الأخبار العلاجية من الترجيح أوّلاً والتخيير ثانياً؟

استدل للقول الأوّل بأنّ المتبادر من الأخبار العلاجية هو دوران الأمر بين الأخذ بالشيء بتمامه، وترك الآخر كذلك، أو بالعكس كما هو الظاهر من قوله:

ص:544

«أحدهما يأمر والآخر ينهى» والأمر في العامّين من وجه ليس كذلك، إذ لا يدور الأمر بين الأخذ بواحد منهما وترك الآخر أو بالعكس، بل يؤخذ بكلّ في موردي الافتراق، وإنّما الاختلاف في مورد الاجتماع، فالعُقاب بما انّه حيوان غير مأكول يحكم عليه بالنجاسة. وبما انّه طائر يحكم عليه بالطهارة.

ومنه يعلم حكم أخبار العرض على الكتاب والسنّة وفتاوى العامّة، فانّ الظاهر هو الأخذ بتمام ما وافق كتاب اللّه وترك تمام ما خالفه، ومثله ما وافق العامّة أو خالفها، فإنّ المتبادر هو أخذ تمام ما خالف العامة و ترك كلّ ما وافقهم، والأمر في العموم من وجه ليس كذلك، لأنّه يؤخذ بكلا الدليلين، ولا يترك الآخر بتاتاً.

ثمّ إنّ الشيخ ذهب إلى القول الثاني قائلاً: إنّ التعارض يصدق عرفاً وانّ العامين من وجه داخل في الأخبار العلاجية، إذ تخصيصهما بخصوص المتعارضين اللّذَين لا يمكن الجمع بينهما إلّابإخراج كليهما عن ظاهريهما خلاف الظاهر.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الظاهر خلاف ما ادّعاه، لما عرفت من أنّ قوله: «أحدهما يأمر و الآخر ينهى» ظاهر في دوران الأمر بين الأخذ بأحدهما تماماً وترك الآخر كذلك، وهذا الشرط مفقود في العامّين من وجه، ومثله قوله: خذ ما وافق الكتاب أو خذ ماخالف العامة، فانّه ظاهر في الأخذ بتمام الخبر الموافق للكتاب أو الخبر المخالف للعامة وترك الآخر من رأس لا تركه في مورد الاجتماع والعمل به في مورد الافتراق.

نعم يمكن تقريب ما أفاده الشيخ من وجه آخر وهو التمسّك بالملاك بأن يقال انّ الأخبار العلاجية بصدد إعطاء الضابطة، فلو لم تكن شاملة للعامين من وجه بلفظها، فإنّها شاملة لهما بمناطها إذ أيّ فرق بين المخالفة بتمام المضمون أو

ص:545


1- . فرائد الأُصول: 453.

ببعضه، فانّ أحد الحكمين في مورد التصادق مخالف للكتاب أو موافق للعامة فيؤخذ بغيره.

أقول: هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه نظرية الشيخ، ولكنّ العلم بالملاك أمر صعب، إذ فرق واضح بين المخالفة بنحو التباين، والمخالفة بنحو العموم من وجه. فالمخالفة في الأوّل قوّية بخلاف المخالفة في الثانية فإنّها أضعف ولا يمكن إسراء حكم القوي إلى الضعيف إلّاإذا كان هناك دليل قاطع، والقول بأنّ الملاك صرف المخالفة، وهي موجودة في العامين من وجه يحتاج إلى الدليل.

والذي يؤيد القول المختار هو ما عرفت أنّ تقديم الخبر المجمع عليه أو كونه موافقاً للكتاب والسنّة من قبيل تقديم الحجة على اللاحجة لا من باب الترجيح، وهذا إنّما ينطبق على المخالفة بنحو التباين لا على نحو العامين من وجه، إذ ليس كلّ من الدليلين في موردي الاختلاف أمراً باطلاً، والتفكيك بين مورد الاتفاق بوصفه حجّة ومورد الاختلاف بوصفه لا حجة أمر لا يقبله الذوق.

سؤال وإجابة

بقيت هنا كلمة وهي انّه ربّما يبحث عن العامّين من وجه في مبحث اجتماع الأمر والنهي، وأُخرى في المقام:

وعندئذٍ يطرح هذا السؤال وهو: انّه كيف يعدُّ شيء واحد تارة من باب التزاحم، كما هو الحال في طرحه في باب اجتماع الأمر والنهي؛ وأُخرى في باب التعارض، كما هو الحال في طرحه في المقام؟

والحاصل انّ قولنا: «صلّ ولا تغصب» نظير قولنا: «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق»، حيث يعد الأوّل من باب التزاحم بخلاف الآخر حيث يعدّ من باب

ص:546

التعارض، ولم نجد أحداً يعالج المثال الأوّل من باب التعارض، كما أنّه لم نجد من يعالج المثال الثاني من باب التزاحم مع أنّ المثالين من باب واحد.

قلت: إنّ هذه المسألة وصفها الشيخ المظفر بأنّها من المسائل العويصة، مشكلة التفرقة بين باب التعارض و بين باب التزاحم ثمّ بينهما وبين مسألة الاجتماع.

وقد أجاب بالنحو التالي:

إنّ العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من جهة عمومه على وجهين:

1. أن يكون ملحوظاً في الخطاب، فانياً في مصاديقه على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات فيكون شاملاً في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم الآخر ولا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم، العموم الاستغراقي، فيكون كلّ دليل متعرضاً لحكم كلّ فرد من أفراده، فلو قال: أكرم العلماء، فهو بمنزلة أن يقول: أكرم العلماء حتى الفسّاق منهم؛ ولو قال: لا تكرم الفسّاق، فهو بمنزلة أن يقول: لا تكرم الفسّاق حتى العلماء منهم، فيكون كلّ، نافياً بالدلالة الالتزامية لكلّحكم مناف لحكمه.

2. أن يكون العنوان ملحوظاً في الخطاب فانياً في مطلق الوجود، المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد، أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأُخرى، فيكون المطلوب من كلّ، هو صرف الوجود ولنسمِّ هذا العموم العمومُ البدلي كما صنع بعضهم.

فلو كان العنوان مأخوذاً على النحو الأوّل، فهو من مصاديق المتعارضين،

ص:547

لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامية في مقام الجعل و الإنشاء.

وإن كان العنوان مأخوذاً على النحو الثاني، فهو مورد التزاحم أو مسألة اجتماع الأمر والنهي، وبما انّ الأمر بالصلاة لم يكن ظاهراً في طلبها حتى في مورد الغصب، وهكذا النهي عن الغصب حيث لم يكن ظاهراً في النهي عنه حتى في مورد الصلاة. فلا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل والإنشاء، بل المنافاة لأجل عدم قدرة المكلّف بين الامتثالين، فيدور الأمر بين امتثال الأمر و امتثال النهي، إذ لا يمكنه امتثالهما معاً من جهة عدم المندوحة.(1)

يلاحظ عليه: أنّ تفسير المتعارضين في العامين من وجه بالعام الاستغراقي، وتفسير المتزاحمين بالعام البدلي غير تام لا في جانب الأوّل ولا في ناحية الثاني.

أمّا المتعارضان منهما فربما يكون المأمور به والمنهي عنه في كلا الدليلين صرف الطبيعة من دون دلالة على الكثرات والمميزات حتى يعمّ كلّ فرد فرد حتى المقارن، بالعنوان الآخر، كما في قولك: «أكرم العالم، ولا تكرم الفاسق» فانّهما بمنزلة قولنا: صلِّ، ولا تغصب، وإنّما يصحّ ما ذكره إذا كان الدليل مقروناً بما يدل على الكثرات، كالجمع المحلّى باللاّم، مثل العلماءُ الفسّاق، دون المفرد المحلّى بها، الدال على الطبيعة.

وأمّا المتزاحمان، فقولنا: «صل» وإن كان بحكم العام البدلي، فانّ المطلوب فرد من أفراد الصلاة، إلّاأنّ قولنا: «لا تغصب» ليس كذلك، إذ المطلوب ترك جميع أفرادها وقد ارتكز في أذهان العرف انّ نفي الطبيعة إنّما هو بنفي جميع

ص:548


1- . أُصول الفقه: 285/1-290.

أفرادها.

والحق ما أفاده المحقّق الخراساني في الفرق بين البابين من أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلّاإذا أحرز في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم، مناط حكمه مطلقاً حتى في مورد التصادق والاجتماع، وأمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحكمين بلا تعيين بالمورد، فهو من باب التعارض للعلم الإجمالي حينئذٍ بكذب أحد الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضاً.(1)

أقول: إنّ إحراز المناط في كلّ من المتعلّقين فرع إحراز صدورهما شرعاً من الشارع بالتواتر وبالخبر الواحد المحفوف بالقرائن، وإلّا لا يكون هناك علم باشتمالهما على المناط، لاحتمال كذب واحد منهما أو كليهما. فيختصّ التزاحم بما إذا علم صدور الحكمين.

بخلاف باب التعارض، إذ ليس هناك علم بصدور واحد منهما فضلاً عن كليهما، وإنّما قام الدليل القطعي على كون الدليلين حجة شرعية مع احتمال كذب أحدهما أو كليهما، ولذلك لم يحرز وجود المناط حتى في واحد منهما.

وممّا ذكرنا يظهر النظر في قول المحقّق الخراساني حيث قال مع العلم بمناط أحد الحكمين بلا تعيين. فإنّ محط البحث في المتعارضين في الأعمّ منه وممّا إذا لم يحرز وجوده في واحد منهما وإن قام الدليل على كونهما حجة، وقد أوضحنا ما ذكرناه عند البحث عن اجتماع الأمر والنهي فلاحظ.(2)

ص:549


1- . كفاية الأُصول: 241/1 بتصرف يسير.
2- . المحصول: 191/2.

بلغ الكلام إلى هنا ليلة الأحد ثاني شهر صفر المظفّر من شهور

عام 1421 من الهجرة النبوية.

وتمّ الكتاب بيد مؤلِّفه محمد حسين الحاج العاملي،

عامله اللّه بلطفه الخفيّ أحمده سبحانه وأشكره على نشر

ما أفاده شيخنا الأُستاذ - مدّ ظله -

في المباحث العقلية وأرجو منه

سبحانه أن يوفقني لنشر ما كتبته

في حقل الفقه انّه بذلك قدير

وبالإجابة جدير.

ص:550

فهرس المحتويات

ص:551

ص:552

ص:553

ص:554

ص:555

ص:556

ص:557

ص:558

ص:559

ص:560

ص:561

ص:562

ص:563

ص:564

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.